وقيل في أحد الربيعين سنة ثلاث وستمائة وتوفي إلى رحمة الله تعالى بمدينة الفيوم من أعمال الديار المصرية في العشر الأخر من جمادى الأولى كان فاضلاً مقتدراً على النظم وهو من أعيان شعراء الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله وكان في أول عمره يخدم جندياً ثم ترك الجندية وتزهد وصار أحد مشايخ الصوفية المشار إليهم ومن شعره وقد سير إلى بعض الأمراء هدية وكتب معها:
هدية عبد مخلص في ولائه ... لها شاهد منها على عدم المال
وليست على قدري ولا قدر مالكي ... ولكنها جاءت على قدر الحال
وكتب إلى شرف الدين أبي البركات بن المستوفي وزير إربل وقد طلبه علاء الدين بن صالح الأربلي وتحدث معه في أن يلي البيمارستان:
يا أيها المولى الوزير ذي الرعاية والعناية
إن العلاء أضلني ... بالقول عن طرق الهدايه
لألى لمارستانكم ... وأقوم فيه بالكفايه
إني لمحتاج إليه متى أجبت إلى الولاية
وله:
تنال نوال الناس ثم تنيله ... فدهرك مطلوب بما أنت طالبه
سخاؤك عما في يد الناس فوق ما ... تنيل من المال الذي أنت واهبه
وله:
قيل تهوى الجمال قلت لهم ما ... فيه عيب إن لم يكن فيه ريبه
كيف لا أعتني بمن يعتني الله به إن ذى عقول عجيبه(2/481)
وله في الشربات:
عبد لكم في داركم كالدرة البيضاء إن أهملتموه تبدداً
عريان يقلقه الهواء فكلما ... مرض النسيم أتوا إليه عودا
وله:
انظر بعين عناية ... وأعطف فعطفك مستفاد
وأقل بحلمك عثرتي ... فلربما عثر الجواد
وله:
يقولون من تهواه زاد ملالة ... ومال فلا وصل لديه ولا وعد
إذا ألف ذنب من حبيب تجمعت ... يقوم بها من حسنه شافع فرد
وله في النرد:
رجال من بني سام وحام ... لهم بالضرب والإيقاع رقص
قيام في سماعهم عراة ... ليس عليهم في ذاك نقص
وله:
ارض بما قدر إلاله ولا ... تحرص فماذا يفيدك الحرص
قد قسم الرزق في العباد فلا ... زيادة تنبغي ولا نقص
وله:
إني لأعرف في الرجال مخادعاً ... يبدي الصفاء ووده ممذوق
مثل الغدير يريك قرب قرارة ... لصفائه والقعر منه عميق
وله:
كل ما تبتغيه من هذه الدنيا ... يعنيك منه ما يغنيك(2/482)
وإذا كانت الكفاية لا تكفيك لا شيء بعدها يكفيك
وله في شربة الماء:
وخادم يخدم حتى إذا ... قصر صب الماء في حلقه
ما فسح الشارع في ضربه ... فما لكم تفتون في شنقه
وله:
وإذا ضاق قلب المرء عما يجنه ... تبين منه في اتساع لسانه
وصمت الفتى عما يجن ضميره ... أثم ولو أن اللهي في بيانه
وله:
عرفتكم فجهلت الناس عندكم ... فلم أعرج على أهل ولا وطن
وفزت منكم بما أبغي ولي أسف ... باق لسالف ما ضيعت من زمني
وله:
كف عن الناس إذا شئت أن ... تسلم من قول جهول سفيه
من قذف الناس بما فيهم ... يقذفه الناس بما ليس فيه
وله في الشربات:
وبيض الوجوه رقاق الشفاه ... تجمعن والحب في داريه
يبعن على الناس بيع الرقيق ... ولم أر فيهن من جاريه
وله من أبيات:
وسكنت قلبي يا محرك وجده ... فعجبت كيف سكنت وهو مقلقل
والقلب منزلة البدور وإنما ... خالفتها في كونها تنتقل(2/483)
حل العزائم عقد بندك مثلما ... فتح الصبابة حاجب لك مقفل
فلأن صبرت فما اصطباري عن رضاً ... وجميل وجهك أنى أتجمل
وله من أبيات:
لعبت خلفه الذؤابة فاستكبر تيهاً ... فقبلت أقدامه
جمع العاشقين بالواو والنو ... ن ولكن جمعاً لغير السلامه
علي بن عمر بن نبا أبو الحسن نور الدولة اليونيني كان رجلاً غزير المروءة كريم الأخلاق شجاعاً بطلاً مقداماً على الأهوال كثير التعصب لمن يقصده يبذل في ذلك نفسه وماله وكان له اليد الطولى في قتل الوحوش الضارية تصدى لتقل الأدباب فأفنى منهم شيئاً كثيراً لا يحصر بحيث كان يقتل في الليلة الواحدة عدة أدباب وكان سبب تصديه لقتلهم دون غيرهم من الوحوش أنه كان له أخ صغير وكان للملك الأمجد مجد الدين بهرام شاه رحمه الله صاحب بعلبك دب في بيت بقلعة بعلبك فدخل أخو علي المذكور ليتفرج عليه وقرب منه فافترسه وقتله فكان نور الدولة المذكور يرى أنه يقتلهم يستوفي ثأراً وكانت وفاته بمنزله بمدينة بعلبك ليلة الأربعاء خامس وعشرين جمادى الآخرة ودفن من الغد قريباً من تربة الشيخ عبد الله اليونيني الكبير قدس الله روحه وقد نيف على ستين سنة من العمر رحمه الله وهو بن عمتي وتزوج لي ثلاث أخوات كلما ماتت واحدة زوجه والدي رحمه الله بأختها وتوفي وعنده الأخيرة منهن وكان عند والدي في محل الولد وهو رباه وأسمعه الحديث فسمع عليه وعلى الشيخ بهاء الدين المقدسي وابن(2/484)
رواحة رحمهما الله وغيرهم وحكى لي ناصر الدين علي بن قرقين رحمه الله ما معناه أن الخوارزمية لما طرقوا البلاد استولوا على ضواحي بعلبك ولم تبق إلا المدينة والقلعة وأما ظاهر البلد من القرايا فخرج عن الطاعة وأطاعهم فولوا على ضواحي بعلبك شخصاً من أعيانهم وتركوا عنده جماعة يسيرة منهم فكان يتصرف في البر وأهل البلاد في طاعته وهو ينتقل من مكان إلى مكان وكان متولي القلعة والمدينة إذ ذاك الأمير سيف الدين المعروف بأبي الشامات رحمه الله.
قال ناصر الدين فقال لي والله إن هذا غبن عظيم يستولي على بلاد بعلبك وأعمالها رجل واحد من الخوارزمية ونحن كالمحصورين معه فقلت له تشتهي أن أحضره لك بنفسه ومن معه قال ومن لي بهذا قلت أنا أسعى لك فيه إن شاء الله تعالى فسر بهذا القول ولم تطمئن نفسه إلى وقوعه فاجتمعت بنور الدولة وحدثته في ذلك وقلت له تقدر نحضره قال نعم إن شاء الله تعالى قلت متى قال الليلة أمسكه وغداً أحضره فقلت كم تختار من الخيالة والرجالة قال سير لي خمس رجالة يلقوني بعد المغرب إلى تل بسقي فجردت عشرين راجل على أنهم يتوجهون إلى حصن اللبوة في شغل وكان لنا بحصن اللبوة وال لا يتعدى أمره باب الحصن وكتبت مع مقدم الرجالة ورقة وختمتها(2/485)
مضمونها نور الدولة بن الحرامي مقدمكم فإذا وصلتم إليه افعلوا ما يقول لكم ولا تخالفوه وقلت للمقدم إذا وصلت تل بسقى افتح الورقة وافعل ما فيها فلما وصل التل قرأها ورأى نور الدولة هناك فجاء إليه وقال قد سيرونا إليك فقال ما لي بكم كلكم حاجة يروح منكم عشرة ويبقى عندي عشرة وكان قد أخذ خبر والي الخوارزمية أنه في قرية بنحة فتوجه بالعشرة إليها وتركهم خارج القرية ودخل بمفرده إلى القرية قريب الثلث الآخر من الليل فوجد شخصاً من أهل القرية قد خرج من بيت لقضاء حاجته فسأله عن الوالي فقال هو في تلك العلية نائم سكران هو ومن معه فقصد نور الدولة العلية وفتح بابها ودخل ووجد الوالي نائماً سكران فجذب سكينه وأيقظه بهدوء ففتح عينيه فرأى السكين مشهورة على حلقه وقال له إن تكلمت ذبحتك فلم ينطق فأخذه وأخرجه إلى الرجالة وسلمه إليهم ثم عاد وفعل كذلك بمن معه من أصحابه وجاء بهم إلى القلعة فأوعدوا السجن وتصرف النواب في البر على عادتهم بأيسر مؤونة وله أمور كثيرة من هذا الجنس من الأقدام والشجاعة رحمه الله تعالى.
محمد بن سالم بن الحسن بن هبة الله بن محفوظ بن الحسن بن محمد ابن الحسن بن أحمد بن الحسين بن صصرى أبو عبد الله عماد الدين الربعي التغلبي البلدي الأصل الدمشقي المولد والدار والوفاة العدل الرئيس الصدر الكبير مولده سنة ثمان وتسعين وخمسمائة تخميناً سمع من الكندي(2/486)
وغيره وحدث وكان شيخاً جليلاً كريم الأخلاق لطيف الأوصاف حسن العشرة متفضلاً على من يعرفه باراً بمن يقصده محتملاً صبوراً كثير الإغضاء والحياء من بيت العلم والحديث والرياسة والعدالة والتقدم وقد حدث هو وأبوه وجده وجد أبيه وجد جده وغير واحد من أهل بيته وكانت وفاته في العشرين من ذي القعدة ودفن بسفح قاسيون رحمه الله تعالى.
محمد بن علي بن أبي طالب بن سويد التكريتي أبو عبد الله وجيه الدين التاجر المشهور بسعة المال والجاه ولم يبلغ أحد من أمثاله من الحرمة ونفاذ الكلمة ما بلغ بحيث كانت النجابين ترد عليه من بغداد إلى دمشق في مهمات تتعلق الخلافة فينجز ما قدموا لأجله ويسفرهم وكانت متاجره لا يتعرض لها متعرض وكتبه عند سائر ملوك الأطراف وملوك الفرنج بالساحل نافذة ومن ينتسب إليه مرعي الجانب وهو من خواص الملك الناصر رحمه الله وأصحابه ويده مبسوطة في دولته وكلمته مسموعة ورسالته مقبولة عند ديوان الإنشاء ومع هذا كله فانقضت الدولة ولا يكتب له سوى الصدر الأجل وما يناسب ذلك من الألقاب لا غير وفي آخر الأيام الناصرية كانت عنده فضة كثيرة مروك وخشر فاستأذن الملك الناصر في ضربها دراهم فأذن له وجعل دار الضرب بيده فضرب منه شيء كثير جداً وهذا النقد من الدراهم التي ضربها(2/487)
معروف ولما ملك التتار البلاد الشامية في شهور سنة ثمان وخمسين ذكر عنه أنه وصله فرمان هولاكو يتضمن الأمان له على نفسه وماله وأصحابه ولم يعرج على ذلك ولا وثق به ودخل الديار المصرية وغرم فيها جملة طائلة تقارب ألف ألف درهم فلما عاد الشام إلى المسلمين وتملك الملك الظاهر ركن الدين رحمه الله قربه غاية التقريب وأدناه وعظم محله عنده بحيث أوصى إليه على أولاده وجعله ناظر أوقافه وما يتعلق به وأصغى إلى أقوله وزاد في حرمته فيما يكتب له وخوطب بالمجلس السامي وكان له من التمكن ما لا مزيد عليه غير أنه كان تمكنه في الأيام الناصرية أكثر وحكى لي الحاج فخر الدين إياز رحمه الله وكان رجلاً صادقاً قال حججت في السنة التي حج فيها الملك الظاهر فلما رأني فراشينه بمكة طلبوا مني ملازمتهم لمعرفة بيني وبينهم فلازمتهم فلما كان يوم عرفة بسطت بسط كثيرة على الجبل للملك الظاهر وحضر إليه أمراء العرب وملوك الحجاز وغيرهم وقعدوا في خدمته فحضر نصير الدين ولد وجيه الدين المذكور للسلام عليه فحين وطئ البساط قام له وبالغ في أكرامه والمساءلة له عن طريقه واستعراض حوائجه وتفخيمه في المخاطبة والنصير يتشكر ويدعو بما يناسب وهو يقول أبصر مهما كان لك من حاجة حتى نقضيها ولا يقول لوجيه الدين أبصروني في مكة وما التفوا إلي فقال ما للمملوك حاجة سوى أن هذا الركب لم يكن له أمير فتعبنا بهذا السبب والمملوك يسأل أن يعين مولانا السلطان(2/488)
للركب الشامي أميراً فقال هؤلاء المصريين والشاميين من اخترت منهم بروح في خدمتك قال أريد جمال الدين بن نهار فطلبه السلطان وقال له هذا المولى نصير الدين قد اختارك على جميع من معي فتروح معه إلى الشام وتخدمه مثل ما تخدمني ولا تزال بين يديه حتى توصله إلى والده فقال السمع والطاعة وانفصل والناس يتستعظموا ذلك من مثل الملك الظاهر وأنه لعظيم منه وكان وجيه الدين كثير المكارمة للأمراء والوزراء وأرباب الدولة يهاديهم ويقضي حوائجهم ويتجر لهم فكان مدار الأمور أو أكثرها عليه وعنده بر للفقراء وصدقة ويعمل في كل سنة من التراييق والمعاجين والأكحال ما يغرم عليه جملة كبيرة ويفرقه للثواب وكان عنده دماثة أخلاق ورقة حاشية وينظم المواليا على رأي البغاددة قال كان صبي من القيمرية حسن الصورة قد تزوج وزف ليلة عرسه بدمشق فنظمت:
لما جلو ذا الصبي كالبدر في حالو ... سبى المواشط وقالو ما قالو
صبي وكردي وكردية من أشكالو ... لولا نبات عذاره لالتبس الحالو
وأنشدته للملك الناصر فأعجبه وكان أقارب ذلك الصبي أكابر أمراء القيمرية فكانوا إذا حضروا يقول على سبيل المباسطة يا وجيه لولا يوهمني أنه ينشد البيتين قدامهم فأضع أصبعي على فمي أي أسكت عني فيضحك وكانت وفاة الوجيه رحمه الله بدمشق في العشر الآخر من شوال أو الأول من ذي القعدة ودفن بسفح قاسيون وقد ناهز السبعين من العمر.(2/489)
نصير بن تمام بن معالي أبو الذكر المقيسي المؤذن كان حسن الصوت مليح الشكل يطرب حسه السامع وهو رئيس المؤذنين في وقته بدمشق وتوفي بها في ليلة التاسع عشر من المحرم ودفن في غده بباب الفراديس ومولده سنة سبع وثمانين وخمسمائة سمع من أبي المنجا عبد الله بن عمر ابن اللتي وغيره وحدث رحمه الله.
يعقوب بن إبراهيم بن موسى بن يعقوب بن يوسف أبو يوسف شرف الدين بن المعتمد العادلي الدمشقي الحنفي مولده في رابع شهر رمضان المعظم سنة سبع وثمانين وخمسمائة بدمشق سمع من حنبل وحدث وتوفي في ثالث عشر شهر رجب بجبل قاسيون ودفن به رحمه الله تعالى، ووالده المبارز إبراهيم المعتمد متولي دمشق في الأيام العادلية وهو من أعيان الناس مشكور السيرة محمود الطريقة ينطوي على دين متين وبر كثير وحسن اعتقاد في الفقراء والصلحاء ومحبة لهم، صحب الشيخ عبد الله اليونيني الكبير قدس الله روحه وانتفع به وكان الشيخ يثني عليه رحمه الله تعالى.(2/490)
//بسم الله الرحمن الرحيم
السنة الحادية والسبعون وستمائة
دخلت والخليفة والملوك على لقاعدة المستقرة والملك الظاهر بالشام متجددات الأحوال في هذه السنة.
في ثامن عشر المحرم أفرج ن الأمير عز الدين أيبك النجيبي وعز الدين أيدمر الغوري وكانا محبوسين بالقاهرة. وفي يوم الأحد سابع عشر المحرم توجه الملك الظاهر على البريد إلى الديار المصرية، وفي صحبته الأمير بدر الدين بيسري وجمال الدين آقوشي الرومي وسيف الدين جرمك الناصري؛ فوصل إلى قلعة الجبل يوم السبت ثالث وعشرين منه، فأقام إلى ليلة الجمعة التاسع والعشرين منه، ثم توجه إلى دمشق فدخل قلعتها ليلة الثلاثاء رابع صفر.(3/1)
وفي الحادي والعشرين من المحرم وصلت جماعة من النوبة وصاحبها فهجموا ثغر عيذاب ونهبوا ما كان وصل من تجار جاؤوا من عدن ومصر وقتلوا منهم خلقاً وقتلوا واليها وقاضيها وأسروا ابن حلى، وكان مشارفاً على ما ترد به التجار. ثم ورد كتاب علاء الدين ايدغدي الحربدار متولي قوص يخبر بأنه رحل من قوص إلى أسوان فوصلها سادس عشر صفر وأقام ستة أيام؛ ثم رحل طالباً بلاد النوبة، فوصل إلى بلد يقال له الجون حادي وعشرين صفر، فقتل من به وأحرقه؛ ثم رحل منه إلى بلد أرمنا، فوصله في الخامس والعشرين منه فقتل من به وأحرقه؛ ثم رحل منه إلى اطميث فوصله في السابع والعشرين منه فقتل من فيه وأحرقه ودوخ بلادهم وأخذ بثأر من قتلوا.
وفيها خرجت العساكر من الديار المصرية إلى الشام.
وفي خامس جمادى الأولى اتصل بالملك الظاهر وهو بدمشق إن فرقة من التتر قصدت الرحبة، فبرز إلى القصير بالعساكر فبلغه أنهم عادوا عن الرحبة ونزلوا على البيرة، فسار إلى حمص وأخذ مراكب الصيادين بالبحيرة على الجمال للجسور؛ ثم سار حتى وصل إلى الباب من أعمال حلب وبعث جماعة من المماليك والعربان لكشف أخبارهم وسار إلى منبج فعادوا وأخبروا أن طائفة من التتر مقدارها ثلاثة آلاف فارس على شط الفرات مما يلي الجزيرة، فرحل من منبج يوم الأحد ثامن عشر(3/2)
جمادى الأولى ووصل شط الفرات وتقدم إلى العسكر بخوضها، فخاض الأمير سيف الدين قلاوون والأمير بدر الدين بيسري في أول الناس؛ ثم تبعهما بنفسه وتبعته العساكر فوقعوا على التتر فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وأسروا تقدير مائتي نفس ولم ينج منهم إلا القليل وتبعهم الأمير بدر الدين بيسري إلى قريب سروج؛ ثم عادوا الذين كانوا على البيرة شرف الدين بن الخطير، وأتابك رسلان دعمش، وأمين الدين ميكائيل النائب بقونية، وأمراء الروم تقديراً ثلاثة آلاف فارس ومقدم المغل درباي؛ ولما اتصل بهم خبر الوقعة رحلوا عن البيرة بعد أن أشرفوا على أخذها وتركوا ما لهم من الأسلحة والعدد والمجانيق والأمتعة والحشارات ونجوا بأنفسهم، فسار الملك الظاهر إلى البيرة ووصلها في الثاني والعشرين من الشهر وصعدها وخلع على مستحفظها وفرق في أهلها مائة ألف درهم وأنعم عليهم ببعض ما تركه التتر عند هربهم؛ ثم رحل قاصداً دمشق. وقد ذكر خوض الفرات المولى شهاب الدين محمود الكاتب - أيده الله - في قصيدة أولها:
سر حيث شئت لك المهيمن جار ... واحكم فطوع مرادك الأقدار
منها:
لم يبق للدين الذي أظهرته ... يا ركنه عند الأعادي ثأر
لما تراقصت الرؤوس وحركت ... من مطربات قسيك الأوتار
خضت الفرات بسابح أقصى منى ... هوج الصبا من نعله الآثار(3/3)
حملتك أمواج الفرات، ومن رأى ... بحراً سواك تقله الأنهار؟
وتقطعت فرقاً ولم يك طودها ... إذ ذاك إلا جيشك الجرار
منها:
رشت دماؤهم الصعيد فلم يطر ... منهم على الجيش السعيد غبار
شكرت مساعيك المعاقل والورى ... والترب والآساد والأطيار
هذي منعت وهؤلاء حميتهم ... وسقيت تلك وعمّ ذا الإيثار
فلأملأن الدهر فيك مدائحا ... تبقى بقيت وتذهب الأعصار
وقال ناصر الدين حسن بن النقيب الكناني رحمه الله في واقعة الفرات - وأظنه حضرها -:
ولما ترامينا الفرات بخيلنا ... سكرناه منا بالقوى والقوادم
فأوقفت التيار عن جريانه ... إلى حيث عدنا بالغنى والغنائم
وعمل صاحبنا موفق الدين عبد الله بن عمر رحمه الله ذكره إن شاء الله تعالى في ذلك:
الملك الظاهر سلطاننا ... نفديه بالأموال والأهل
اقتحم الماء ليطفي به ... حرارة القلب من المغل
وعند اجتياز السلطان بحمص تقدم بعمارة الدور التي بالقلعة فعمرت وجدد له طارمة وسماط وتوجه إلى مصر، وخرج ولده الملك السعيد من قلعة الجبل لتلقيه يوم الثلاثاء تاسع عشر جمادى الآخرة، فاجتمع به(3/4)
بين القصير والصالحية يوم الجمعة الحادي والعشرين منه فترجلا واعتنقا طويلاً؛ ثم ركبا وسارا إلى القلعة وأدخل أسراء التتر ركاباً على الخيل.
وفي سابع هذا الشهر أفرج عن الأمير عز الدين أيبك الدمياطي وكانت مدة اعتقاله تسع سنين وعشرة أيام، وفي يوم الثلاثاء ثالث شهر رجب خلع على جميع الأمراء ومقدمي الحلقة وأرباب الدولة وأعطى كل واحد منهم ما يليق به من الخيل والذهب والحوائص والثياب والسيوف، وكان ما صرف فيهم فوق الثلاث مائة ألف دينار.
وفي سادس عشر من شعبان أفرج الملك الظاهر عن الأمير علم الدين سنجر العتمي المعزي وأثبت موالي أيبك الأسمر أنه باق على ملكهم فاشتراه منهم.
وفي العشر الآخر من الشهر سفر الملك الظاهر رسل منكوتمر ابن أخي بركة وبعث معهم هدية سنية من حوائص، وسيوف محلاة، وجواهر، وثياباً منوعة، وصحبتهم بدر الدين عزيز الكردي وغيره.
وفي يوم الأربعاء ثامن شهر رمضان اشترى الملك الظاهر عز الدين أيبك النجيبي من مولاه الأمير جمال الدين آقوش النجيبي.
وفي يوم الاثنين ثاني عشر شوال استدعى الملك الظاهر الشيخ خضر إلى القلعة وأحضره بين يديه مع جماعة حاقوه على أشياء كثيرة، كثر بينه وبينهم فيها القيل والقال ورموه بفواحش كثيرة فتقدم باعتقاله، وهذا المذكور كانت له عند الملك الظاهر منزلة لم يظفر بها أحد منه بحيث(3/5)
كان ينزل إلى عنده كل جمعة المرة والمرتين ويباسطه ويمازحه ويقبل شفاعاته ويقف عند ما يرسم به ويستصحبه في سائر سفراته. ومتى فتح مكاناً فرض له منه أوفر نصيب، فامتدت يده في سائر المملكة يفعل ما يختار ولا يمنعه أحد من النواب، ودخل إلى كنيسة قمامة وذبح قسيسها بيده وأنهب ما كان فيها تلامذته وهجم كنيسة اليهود بدمشق ونهبها، وكان فيها ما لا يعبر عنه من الآلات والفرش، وصيّرها مسجداً، وعمل بها سماعاً ومدّ بها سماطاً؛ ودخل كنيسة الإسكندرية - وهي عظيمة عند النصارى - فنهبها وصيرها مسجداً وسماها المدرسة الخضراء، وأنفق في تغييرها مالاً كثيراً من بيت المال؛ وبنى له الملك الظاهر زاوية بالحسينية ظاهر القاهرة ووقفها عليه وحبس عليها أرضاً تجاورها تحكر لمن ينبني فيها يستغلها في كل سنة جملة كبيرة، وبنى لأجله الجامع بالحسينية.
ذكر استيلاء الملك الظاهر على ما بقي من قلاع الإسماعيلية
كانت طائفة منهم عصوا بقلعة القدموس على واليها وقتلوه وعلى من بقلعة المنيقة وقلعة الكهف وكاتبوا الملك الظاهر وسلموها له، فبعث إليها نائباً وكتب إلى من بالقلعتين في تسليمها على أن يعوضهم إقطاعاً بمصر، فأجابوا، وكان المتوسط بينهم الملك المنصور صاحب حماة. فلما أجابوا بعث سيف الدين دواداره ومعه رسلهم فوصلوا قلعة الجبل يوم الجمعة سابع عشر ذي القعدة فخلع عليه وكتب للرسل أماناً وأعطاهم مناشير بما(3/6)
وعدهم من الأقطاع وعادوا يوم الأحد تاسع ذي القعدة.
ذكر هرب عمرو بن مخلول من آل فضل
كان الملك الظاهر قد حبسه وحامداً قريبه في برج من أبراج قلعة عجلون، فحفرا حفيرة قريبة من السور وأداما فيها وقيد النار حتى تكلس حجر السور فنقباه وخرجا منه وكانا قد أعدّا لهما خيلاً فهربا عليها وقصدا التتر، ثم ندما فكتبا إلى الملك الظاهر يستعطفانه، فحلف أنه لا يرضى عنهما حتى يعودا بأنفسهما إلى قلعة عجلون ويجعلا القيود في أرجلهما، ففعلا ذلك، فعفى عنهما.
ذكر عزل الصاحب خواجا فخر الدين وزير الروم
وسبب ذلك أن معين الدين البرواناة بلغه أن فخر الدين سيّر كتاباً إلى السلطان عز الدين كيكاووس - وهو نازل بصوادق - وذهبا؛ فسير: أحضر الوزير إلى مجلس آجاي وصمغرا ووجوه الدولة. وذلك في شهر رمضان من هذه السنة، وقال له: أنت سيرت ذهباً إلى السلطان عز الدين وكاتبته، قال: نعم! بالأمس كان عز الدين سلطاننا وصاحب البلاد وهو الذي أنشأك وأنشأني والآن فقد كتب إلي كتاباً يشكو ضرره وأنا أقل مملوكاً له فلا أقل من مراعاة بعض نعمتهم بالقدر اليسير الذي سيرته له هذا ما اعتمدته ولم أعتمد شيئاً غيره مما يوجب الإنكار عليّ. فقبض عليه وعلى ولده تاج الدين محمد واعتقلهما في قلعة يقال لها عمان جق، واحتاط على موجوده وأملاكه وكانت عظيمة جداً، والذي قبض عليه ضياء الدين(3/7)
بن الخطير في داره وحمله إلى البرواناة. وأما ولده الصغير نصير الدين محمود فإنه نجا بنفسه وقصد أبغا وصار من خواصه، وولى البرواناة مكان فخر الدين مجد الدين الحسين ختنه. وأما نصير الدين فأحسن التوصل واستنجز يغلغا بالإفراج عن أبيه فخر الدين وعن أملاكه والوقوف التي عليه والتي وقعها لوجوه البر وأفرج عنه. وأقام ملازماً بيت ولده بغير خبر.
وفي هذه السنة أمر الملك الظاهر بإنشاء جسورة في الساحل غرم عليها مبلغاً عظيماً وحصل للمسافرين بها الرفق الكثير.
وفي هذه السنة هلك افرناط مقدم الداوية وكان أخذ أسيراً في كسرة الداوية مع عسكر حلب على بغراس سنة أربع وأربعين وستمائة؛ ثم خلص من الأسر بسبب كسر الخوارزمية لعسكر حلب على بزاعا أطلق مع مائة فارس وتسع من الداوية والاسبتار.
وفيها قبض سالم بن إدريس بن محمود بن محمد الحضرمي على أخيه موسى صاحب ظفار واستبد بها.
فصل
وفيها توفي إبراهيم بن محمد بن هبة الله بن أحمد بن قرناص أبو إسحاق مخلص الدين الخزاعي الحموي، كان أديباً فاضلاً وله اليد الطولى في(3/8)
النظم؛ وكانت وفاته بحماة يوم الأحد رابع شوال ودفن بتربة بني قرناص ظاهر حماة - رحمه الله تعالى - ومن شعره:
ليلى وليلك يا سؤلي ويا أملي ... ضدان هذا به طول وذا قصر
وذاك أن جفوني لا يلمّ بها ... نوم وجفنك لا يحظى بها السهر
وله:
ولما علا المنصور لا حطّ قدره على البلغة الدهماء سار بإسعاد
جرت تحته كالموج حرّكه الصبا ... ووجه صباح الملك من ليلها بادى
فأيقنت أن البحر تحت أبحر ... وسؤدد أهل الأرض فوق سواد
وقال على وزن قصيدة الشريف الرضي رحمه الله ورويّها ولقد أجاب في ذلك:
يا جنة الطرف نار القلب مأواكي ... وما توقّدها من برد ذكراكي
ويا مهاة الدمى كل الدماء لكم ... حلّ فمن بحرام الفتك أفتاكي
حاشاك يا ظبية الأنس التي افترست ... أسد العرين من التأثيم حاشاكي
ومن تناسيك من أضحى لديك لقى ... ملق إليك فؤاداً ما تناساكي
وقد علمت غرام القلب من دنف ... ما كان يعلم ما الأشواق لو لاكي
وليس يعجبه مرأى سواك ولا ... يشفى غليلاه إلا ريّ رؤياكي
وأنت جنته يا برء علته ... مما تنوب يد الأيام مضناكي
وأنت من جوهر الأشياء صوّرك ال ... رحمان ثم بروض الحسن انشاكي
يثنى بثنيك قصب البان عابسة ... وتبسم الدر عجباً من ثناياكي(3/9)
وما بدا البدر في أنوار بهجته ... إلا وعاد حياءً من محيّاكي
والشمس ما طلعت في الحجب وانتقبت ... بغيمها خجلاً إلا للقياكي
وعيد حبل من أثنى عليك بها ... لسانه طرباً من لفظه الحاكي
يدعى عليا يناديه فتى حسن ... يشكو إليك وما المشكى كالشاكي
فعطفه يا مناه وارحميه فمن ... يمته طرفك لا يحييه إلا كي
وواصليه قد أودى الصدود به ... وعامليه بلا مطل بحسناكي
فالله يشكر مسعاك لديه غداً ... إذا شكرت مساعي الواله الباكي
وله:
فإن لم تجدني مخلص القول صادق ال ... وداد إذا جربتني في العظائم
فلا تسدين بعدي صنيعاً إلى امرىء ... سواي وقل قد مات أهل المكارم
وله:
وإذا قصدت سواكم بشكاية ... وقف الإباء المحض لي عن مقصدي
وإذا انتقدت بني الزمان لحاجتي ... قال النجاح هدى إلي بأحمد
هبت له نسمة من نحو أرضكم ... فأنشأت سحباً خلنا بها المطرا
حتى إذا ما وردناه على ظمأ ... لم نلق ماء فأمطرنا لها النظرا
وله:
لك في الصدود عنى فدع يوم النوى ... لا تعجلن به فذاك المغرم
فلتعلمن إذا افترقنا أيّنا ... تبّت يداه ومن على من يندم(3/10)
وله:
ليس الظريف الذي تبدو خلائقه ... للناس ألطف من النسيم سرى
لكنه رجل عفّت ضمائره ... عن المحارم بالمنى ظفرا
أحمد بن عثمان بن سياوش أبو العباس الأخلاطي المقرىء المنعوت بالتقى أمام الكلاسة، قرأ القرآن الكريم بالقراءات وأقرأه، وسمع من الشيخ علم الدين السخاوي ومن غيره وحدث؛ وكان مشهوراً بالخير والدين والصلاح، وتوفي في خامس شهر رمضان المعظم بدمشق، ودفن من يومه بجبل قاسيون - رحمه الله - وقد نيف على السبعين سنة من العمر، أحمد بن علي بن حمير أبو العباس صفي الدين البعلبكي المعروف بابن معقل، كان من أماثل أهل بعلبك وله جدة متوسطة وعنده مكارمة وسعة صدر وحسن عشرة وكان متشيعاً متغالياً في ذلك؛ وتوفي بمنزله ببعلبك العصر من نهار الخميس ثالث شعبان وقد نيف على الأربعين سنة من العمر - رحمه الله -. وخال والده هو عز الدين أبو العباس أحمد بن علي بن معقل بن أبي العلاء بن محمد بن معقل الأزدي ثم المهلبي الحمصي، كان شاعراً مقتدراً على النظم، عالماً بفنون الأدب والأصول والفقه على رأي الإمامية، غالياً في التشيع، وله ديوان يختص بمدح أهل البيت عليهم السلام لكنه قد حشاه بثلب الصحابة رضي الله تعالى عنهم، والتعريض بهم، والتصريح في بعض القصائد؛ وكان من شعراء الملك الأمجد صاحب بعلبك، وانتقل إلى حماة مدو ثم عاد إلى بعلبك وتزهد وانقطع إلى أن توفي بدمشق سنة أربع وأربعين وستمائة؛(3/11)
ونظم عدة كتب من كتب النحو وغيره. وله في أهل البيت رضي الله تعالى عنهم:
يا قوم كم هذا التحير والغمى ... وضح النهار لمقلة وبدا لها
فاختر لنفسك أيها الإنسان ما ... يهدي النعيم لها وينعم بالها
واعمد إلى بحر العلوم وخل في ... بر الجهالة والضلالة آلها
متعمداً سبل الهدى متجنباً ... سبل الردى وظلامها وضلالها
فالموت منتظر بلا شك لتج ... زى كل نفس قولها وفعالها
وولاء آل محمد أمن لمن ... خاف الجحيم عذابها ونكالها
هم حجة الله العليّ على الورى ... وبهم أبان حرامها وحلالها
وهم المسيمو سرحها والممطر و ... جرازها والممسكو أحبالها
لولاهم في الأرض أوتاداً لما ... ثبتت بهم وزلزلت زلزالها
فعليهم صلواته سحباً غدت ... كالنيبّ ترأم بالعشي إفالها
وله:
رأتني سعاد حليف السهاد ... وقد كنت قدماً حليف السرور
فغضت عن الشيب لما رأت ... برأسي طرفاً شديد الفتور
فقلت لها قذىً في العيون ... فقالت نعم وشجىً في الصدور
وله:
وجنة أعطاف أغصانها ... تميس في أوراقها الخضر
ظلنا وقد أهدى لنا ظلها ... يجني علينا بجنى التمر
تفاحها كالراح في طعمه ... وطيبه واللون والنشر
لو يحمد الخمر حكاه ولو ... يذوب أغنانا عن الخمر(3/12)
وله:
إذا رمت أمراً في ذراه صعوبة ... فرفقاً تقده ممكناً مصحباً طهرا
ولا تأخذن بالعنف ذا نخوة ... وذا إباء تهج ناراً مضرمة شرا
فلطمة طرف هيجت حرب داحس ... ولطمة ملك نصرت أمةً كثرا
وله من قصيدة يفتخر فيها ودس فيها العظائم على عادته من ثلب الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين:
ماذا سؤالك صم ربع مقفر ... لولا ضلالك بالغزال الأعفر
منها:
أنى وقوفك من سراة الأزد في اله ... امات منها والسنام الأكبر
آل المهلب خير قحطان إذا ... ما عد كل متوج ومسور
كانوا حلى ممالك فتخرموا ... والآن ذكرهم حلى الأعصر
ولأوسهم فخر وخزرجهم ما ... نصروا النبي وغيرهم لم ينصر
ووقفوا بأنفسهم جميعاً نفسه ... من كل عاد مفترى أو مقترى
حتى غدا الإسلام بين بيوتهم ... بادى السنا للقابس المتنور
لله در أبيهم لو أنهم ... لم يهدموا ما شيدوا من مفخر
بدءوا نزيلهم بكأس لذة ... معسولة وثنوا بكأس ممقر
نقضوا عهودا أبرمت أسبابها ... بتحير من بعده وتجبر
فغدا به سيان رب تقدم ... من بعده يوماً ورب تأخر
غن الخلافة لم تكن لتحل في ... متهود يوماً ولا متنصر
ومنها:
فاستحى من نسب إليهم أنهم ... غدروا لحينهم بمن لم يغدر(3/13)
واطو الفؤاد على الذي أضمرته ... منهم ولا ينشره ما لم تنشر
إذا مدحت فتىً قواداً ماجداً ... فامدح أبا حسن الجواد العسكري
عبد الرحيم بن محمد بن محمد بن يونس بن محمد بن منعة بن محمد أبو القاسم تاج الدين الموصلي. مولده بالموصل سنة ثمان وتسعين وخمسمائة، كان إماماً عالماً فاضلاً شافعي المذهب اختصر كتاب الوجيز للغزالي رحمه الله اختصاراً حسناً وسماه التعجيز في اختصار الوجيز؛ واختصر كتاب المحصول في أصول الفقه، واختصر طريقة ركن الدين الطاووسي في الخلاف. ووالده رضي الدين من أعيان العلماء، وجده الشيخ عماد الدين أبو حامد محمد بن يونس أمام وقته في مذهب الشافعي رحمة الله عليه وفي الأصول والخلاف. وله صيت عظيم في الآفاق؛ قصده الفقهاء من بلاد الشافعية للآشتغال وتخرج عليه خلق كثير صاروا أئمة ومدرسين يشار إليهم، وصنف كتباً في المذهب، منها: كتاب المحيط في الجمع بين المهذب والوسيط، وشرح الوجيز للغزالي، وصنف جدلاً وعقيدة وتعليقة في الخلاف ولكنه لم يتممها. وترسل إلى الخليفة وإلى الملك العادل وغيره من الملوك، وناظر في ديوان الخلافة، وتولى القضاء بالموصل في رابع شهر رمضان المعظم سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة ثم انفصل عنه لضياء الدين(3/14)
ابن الشهرزوري. وكان دمث الأخلاق، لطيف الخلوة، محاضراً بالحكايات والأشعار، مكمل الأدوات؛ وتصانيفه وإن كانت مفيدة ولكنها منحطة عن فضيلتها. وكانت ولادته بقلعة اربل سنة خمس وثلاثين وخمسمائة في بيت صغير منها. ولما وصل إلى اربل في بعض رسائله دخل ذلك البيت وأنشد:
بلاد بها نيطت عليّ تمائمي ... وأول أرض مس جلدي ترابها
وتوفي يوم الخميس تاسع عشر جمادى الآخرة سنة ثمان وستمائة بالموصل - رحمه الله - وأما حفيده تاج الدين صاحب هذه الترجمة فإنه لما استولى التتار على الموصل سنة ستين وستمائة كان بها، ثم انتقل عنها إلى بغداد فدخلها في شهر رمضان سنة سبعين وستمائة؛ وتوفي في جمادى الأولى سنة إحدى وسبعين وستمائة هذه السنة؛ وبيته بيت فضيلة وتقدم ورئاسة، ولما مات رثاه جماعة منهم شمس الدين محمد الواعظ المعروف بابن الكوفي قال:
أرى الدهر يبدأ للبرية أسهما ... فتقصد منهم من تقصد أو رمى
ويعتمد الأعيان منهم بصرفه ... وإن كان لا يبغي سواهم مصمما
فما ترك الموت النبي محمدا ... ولا سالم الدهر المسيح بن مريما(3/15)
وفي حال تاج الدين موعظة لمن ... رأى ما دهى الحبر العليم المعظما
هو الحاكم العدل الذي شاع فضله ... فأنجد بالذكر الجميل وأتمها
لدنياه هارون استخار مساعدا ... وموسى لأخراه شفيعاً مكرما
وحاز دعاء الخلق إذ كان محسناً ... فلما قضى صار الدعاء ترحما
وليس يبالي من يخلف بعده ... جميل الثنا إن لا يخلف درهما
وفي الجانب الغربي كان قضاؤه ... وفيه قضى أمر له كان مبرما
وجيء فما رد القضاء قضاؤه ... ولا صد عند الحكم ما فيه حكما
أيا صاحب التعجيز عجزك الردى ... فلم نستطع عند الخطاب التكلما
ولا معجم الأقران عند جداله ... أبى الموت أن يلقاه إلا مسلماً
عنيت بتخليص العلوم مخلص ال ... ردى لك من كل العلوم معلما
ومختصر سير من الأرض قد غدا ... لمختصر الكتب الطوال تحكما
ألا يا غريب الدار أنى كلما ... ذكرتك زادت نار وجدى تضرما
وآبى على الأحزان إلا تجلدا ... ويأبى على الحزن إلا تصرما
فأمسيت من حر الفراق معذبا ... وأصبحت من برد الجنان منعما
وبشرني بالفوز في حشرة اسمه ... ونسبته لما عدت أحسن اللما
فعبد الرحيم من الرضي بن يونس ... بيونس في العقبى رضى وترحما
ألا فليراجع قلبه كل ذي حجى ... فمن راجع العقل استكان وسلما
وأيقن أن المرء يفنى وماله ... من الذخر إلا ما من الخير قدما
؟ عبد القاهر بن عبد الغني بن محمد بن أبي القاسم بن تيمية أبو الفرج(3/16)
فخر الدين الحراني الخطيب. مولده سنة اثنتي عشرة وستمائة، سمع من جده أبي عبد الله محمد وعبد الله بن عمر بن اللتى بدمشق، وخطب بجامع حران وكان فاضلاً ديناً، وتوفي بدمشق في حادي عشر شوال ودفن من الغد بمقابر الصوفية - رحمه الله؛ وبيته معروف بالفضيلة والعلم والحديث والرئاسة والتقدم.
عبيد الله بن عمر بن عبد الرحيم بن عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن الحسن بن عبد الرحمن بن طاهر بن محمد بن محمد بن الحسين بن علي أبو صالح شهاب الدين الحلبي المعروف بابن العجمي. مولده في السابع والعشرين من ربيع الأول سنة تسع وستمائة بحلب، سمع من جماعة وحدث وكتب بخطه كثيراً، وكان فاضلاً من بيت الرئاسة والجلالة والعلم والحديث والسنة، وتوفي بحلب فجأة في تاسع عشر جمادى الأولى رحمه الله تعالى.
علي بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد أبو الحسن القيسي التلمساني المالكي الفقيه الإمام العلامة جامع الفضائل الذي لا يجاري في مضماره ولا يسبح ماهر في تياره، صاحب التصانيف والمبرز بسيفه على الأقران؛ أنشده الكاتب أبو زيد عبد الرحمن الفارقاني لنفسه فيه:
أنا في الوداع مقدم ... ومحبتي ما تعلم
وتعصبي لك كالذي ... تدريه لا بك أكرم(3/17)
ولدي من إجلال قد ... رك ما يجل ويعظم
ويكن قلبي رقة ... ما ليس يشرحه الفم
ويهيج وجدي عارض ... يبكي وبرق يبسم
وصوادح تشكو الغرا ... م بنغمة لا تفهم
يا من أرى تكريمه ... وهو الأعز الأكرم
ومن الحضيض مكانه ... والقدر حيث الأنجم
أعييت حتى قيل أن ... ك لائم متاوم
وتركتني في خجلة ... عن أصلها استفهم
هذا وقلبي سائل ... عن حالكم ومسلم
ولئن عتبت فأنت في ... رعى الوداد مقدم
فلك السماح مصور ... ولك الوفاء مسلم
ولكم خبرتك قبلها ... فإذا الحسام المخذم
والمرء ما لم يختبر ... فالأمر أمر مبهم
ذاعت محاسنك العلى ... والمسك ما لا يكتم
حسب البرية مفخرا ... إن كان مثلك منهم
مات علي بن التلمساني المذكور رحمه الله تعالى بدار الحديث الكاملية من القاهرة المصرية ليلة الأربعاء ثالث عشر جمادى الأولى من هذه السنة ودفن بظاهر باب النصر خارج القاهرة رحمه الله تعالى.
؟ عمر بن إبراهيم بن محمد بن أيوب بن شاذي أبو الفتح فتح الدين بن الملك(3/18)
الفائز أبي إسحاق سابق الدين بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر. مولده في صفر سنة سبع وستمائة. حدث بالإجازة عن أبي روح عبد المعز بن محمد الهروي، وتوفي مسجوناً بخزانة البنود بالقاهرة في السابع والعشرين من ذي الحجة وأخرج منها في يومه ودفن بتربتهم المجاورة لضريح الشافعي رحمة الله عليه بالقرافة الصغرى رحمه الله وكان يلقب بالمغيث.
محمد بن رضوان بن علي بن أبي المظفر بن أبي الغنائم أبو عبد الله شرف الدين الحسيني المعروف بالشريف الناسخ. مولده في سابع جمادى الآخرة سنة اثنتين وستمائة، وتوفي في الساعة السابعة من يوم الاثنين ثالث عشر ربيع الآخر بدمشق؛ وكان من الفضلاء، له مشاركة جيدة في كثير من العلوم، واشتغل بعلم الأدب وله اليد الطولى في النظم والنثر مع حسن المحاضرة وكثرة الاطلاع على التواريخ والوقائع وأيام الناس لا تمل مجالسته، وخطه في غاية الحسن والجودة رحمه الله تعالى. أنشدني كثيراً من شعره بدمشق وبعلبك وسمعت منه بعض تواليفه، وأشعاره كثيرة فمنها:
يا من يعيب تلوني ... ما في التلون ما يعاب
إن السماء إذا تلو ... ن وجهها رجي السحاب
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:(3/19)
كرد على الغصن حديث الهوى ... على سماه بعد صحو تغيم
ولا تخف أن له نفرة ... وطالما أونس ظبي الصريم
ولا تقل إن له صحبة ... مع غيرنا دهراً وعهد قديم
فالماء ربى الغصن في حجرة ... ومال عنه برسول النسيم
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
عقد الربيع على الشتاء مآتما ... لما تقوض للرحيل خيامه
نظم الشقيق خدوده فتضرجت ... حزناً وناح على الغصون حمامه
والزهر منفتح العيون إلى خيو ... ط المزن حيث تفتقت أكمامه
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
لحاظ مراض دون فتكتها الفتك ... بها صح في دين الهوى لدمى السفك
ومن عجب أن اللحاظ فواتر ... ومن عادة فيها التبتت والبتك
وما كل سهم من لحاظ بقاتل ... سوى رشقات ريش أسهمها الترك
ولى رشأ أن فهت يوماً بسلوة ... له فهي دعوى أصلها المين والإفك
فلا لوم لي أن بعت ديني وأصبحت ... سجية مثلي في محبته الشرك
له مبسم عذب إذا افتر ضاحكاً ... تداعى أصيحاب الغرام ألا فابكوا
تجلى لنا ليلاً فلم ندر وجهه ... أم القمر الوضاح فاعترض الشك(3/20)
صعقت لما استنار جماله ... فطور فؤادي مذ تجلى له دك
طما بحرأ جفاني فيانوح غفلتي أنت ... به فلهذا البحر يصطنع الفلك
وقال أيضاً رحمه الله:
يا نفحة البان هذي نفحة السحر ... تهدى إلينا شذى من عرفك العطر
ويا بريقاً بأفق الشام مطلعه ... محرر بحقك إيماضاً على بصري
ونبه الحي فالسمار قد رقدوا ... لعل بالجزع أعواناً على السهر
وقال أيضاً في مليح يلقب بالجدي:
رأيت في جلق أعجوبة ... ما إن رأينا مثلها في بلد
جدي له في صدغه عقرب ... وفي مطاوي الجفن منه أسد
وخلفه سنبلة تطلب المي ... زان لا ترضى بأخذ العدد
وقال في حسين الصواف:
لست أخشى حر الهجير إذا ... كان حسين الصواف في الناس حيا
فببيت من شعره اتقى الحر ... وبظل من أنفه أتفيا
وقال أيضاً من قصيدة:
كم استعذنا بهم من شر بينهم ... فما شعرنا بهم إلا وقد بانوا
وكم حرصنا أن لا نفارقهم ... ففارقونا وبعض الحرص حرمان
وما ألوم النوى في قبح ما صنعت ... لأن بعدكم والقرب هجران
لانت صلاد الصفا من فيح ما جزعى ... يوم الوداع ولا رقوا ولا لانوا(3/21)
وحنت النيب من وجد أنازلها ... شوقي المبرح والمشتاق حنان
وأقبلت سمرات الجفن عاطفة ... على حنيني ومال الطلح والبان
وأقبل الركب كل ذاكر شجنا ... له فؤاد بحر الوجد ولهان
وما النياق وأهل الركب والحجر الأ ... صم مع سمرات الحي صنوان
وإنما جمعتنا مع تباعدنا ... مناسب الحب والعشاق إخوان
وقال في حسين الصواف وقد خلع عليه الشمس العذار فرجية صوف وكان حسين يلازم في منزله رجلاً مقدسياً:
يهنيكم الصواف أصبح عابداً ... للرب غير مداهن ومدلس
خلع العذار عليه خلعة ناسك ... سوداء من شعر خشين الملبس
طويت له الأرض الفسيحة فاغتدى ... يجب المهامه في ظلام الحندس
فهو الصقيم بجلق وركوعه ... وسجوده أبداً ببيت المقدس
وسأل بدر الدين الأسعردي الشريف الناسخ الوقوف على بيتين من الشعر عملهما. فكتب إليه الشريف يقبل اليد وينمى أنه وقف على البيتين اللذين أسسا على التقوى وخلا كل بيت غيرهما من المعاني وأقوى فوجدهما في سبكهما كالإبريز وعزا على الناظمين فأمنا من التعزيز، وأما سؤاله عن التوطئة فقد ضاقت على غيره فيها المسالك وعلم بذلك الموطأ بأنه مالك، وللشريف رحمه الله تعالى:(3/22)
عاتقته عند الوداع وقد جرت ... عيني دموعاً كالفجيع القاني
ورجعت عنه طرفه في فترة ... تملى عليّ مقاتل الفرسان
وقال رحمه الله تعالى:
غازلني الظبي وغازلته ... في لحظة أخفى من الطيف
ومكن الإصبع من عينه ... فكدت أن أقضي من الخوف
وكيف لا أجزع من ظالم ... بنانه يؤمى إلى السيف
وكتب إلى عماد الدين الدنيسري يذكر حمى عرضت له:
يا من نداه وحسن صورته ... يستفزعان الحسن والكرما
ناديتني ورفعت منزلتي ... وأضفتني بمصيبتي عزما
وأعدت عصر مشيبتي نضرا ... من بعد ما أخلفته هرما
وأفدت جسمي صحة ضمنت ... أن لا يرى من بعدها سقما
فغدوت أتلو عند صنعك بي ... يا ليت قومي يعلمون بما
فكتب عماد الدين جواباً على غير القافية:
يا من فوائده إذا ... عدت غدت مثل المطر
ومهذباً في نظمه ... ومزيناً فيما نثر
مولاي دعوة مغرم ... لو لاك ما عرف السهر
وافاك منك مشرف ... ألفاظه تحكي الدرر(3/23)
فنفى عن العين الكرى ... ونفى عن القلب الضجر
يا سيداً أخلاقه ... قد أخجلت كل الزهر
لو لاك ما عرف القري ... ض ولا رأينا من شعر
أوليتني منناً بقي ... ت بها وحقك مفتخر
فغدوت منها باكياً ... ومنادياً بين البشر
يا ليت قومي كلهم ... لو يعلمون بما غفر
وقال الشريف أيضاً رحمه الله تعالى:
رب طرف أدهم سابقه ... أصفر يختال عجباً ويميل
وجهه صبح وهاديه دجىً ... كيف لا يسبقه وهو الأصيل
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
حدث ولا حرج عن بانة العلم ... ففي حديثك لي برء من الألم
وأجر في مسمعي ذكراك ما جر إذ ... فيها الشفاء ومنها مبدأ السقم
منازل حل فيها من هويت فمذ ... فارقته فنديمي بعده ندمي
معاهد هي أحلى حين أذكرها ... عندي وفي مسمعي من بانة العلم
لم أنس فيها غضيض الطرف ينشدني ... سهم أصاب وراميه بذي سلم
وبي من الترك ألمي قد بذلت له ... روحي وبعت وجودي فيه بالعدم
جسمي إلى جفنه يشكو جنايته ... هيهات كيف يداوى السقم بالسقم
رجعت فيه إلى الدين القديم وما ... زالت قريش قديماً عابدي صنم(3/24)
طلائع الحسن تسري في مواكبه ... وسقره فوق رمح القد كالعلم
قامت لواحظه عيني فمذ رقدت ... أيقنت أن جفوني فيه لم تنم
إذا وردت بطرفي ماء وجنته ... جيا الرقيب فدائي البارد الشبم
ليت الرقيب ابتلاه الله فانبجست ... منه الجفون بدمع هامل بدم
أوليت ناظره المزور من حنق ... نحوي إذا رمت مرأى من أحب عمي
إن لم أذد عن حياضي من يكدرها ... جهلاً بسمر القنا والصارم الخذم
فلا عقلت بحبل الود من حسن ... رب الفضائل بدر الدين ذي الكرم
محمد بن عبد المنعم بن عمار بن هامل أبو عبد الله شمس الدين الحراني - الحنبلي -، كان عالماً فاضلاً كثير الديانة والتحري في حديثه، سمع الكثير ببغداد، ودمشق، ومصر، والإسكندرية وغيرها من جماعة كثيرة من أصحاب أبي الوقت السجزي وأبي طاهر السلفي وغيرهما، وحدث بدمشق وغيرها، وكان أحد المعروفين بالطب والإفادة. وتوفي بدمشق ليلة الثامن من شهر رمضان المعظم هذه السنة ودفن بجبل قاسيون وهو في عشر السبعين - رحمه الله تعالى -.
محمد بن عثمان بن منكورس بن جردكين أبو عبد الله الأمير سيف الدين(3/25)
بن الأمير مظفر الدين بن الأمير ناصر الدين بن الأمير بدر الدين صاحب صهيون. كان تملك صهيون بعد وفاة أبيه - الأمير - مظفر الدين في سنة تسع وخمسين وست مائة في ثاني عشر ربيع الأول - منها ولم يزل مستقلاً بذلك إلى أن توفي في شهر ربيع الأول - من هذه السنة؛ فكان مدة تملكه لها اثنتي عشرة سنة، ودفن بتربة أبيه بصهيون؛ وتسلم صهيون وبرزية ولده الأمير سابق الدين وكان الملك الظاهر بدمشق؛ فطلب سابق الدين منه دستوراً ليحضر فأذن له، فلما حضر أقطعه خبز أربعين فارس وأقطع عمه جلال الدين مسعود خبز عشر طواشية، وعمه الآخر مجاهد الدين إبراهيم عشر طواشية، وتسلم صهيون وبرزية واستناب فيهما؛ وكان سيف الدين عند وفاته قد نيف على الستين - رحمه الله تعالى -.
محمد بن عمر بن يوسف بن يحيى بن عمر بن كامل - بن يوسف بن يحيى بن قابس بن حابس بن عمرو بن معدي كرب - أبو عبد الله الزبيدي، المقدسي الأصل، الدمشقي الدار والمولد، الشافعي الخطيب، المنعوت بالموفق، المعروف بابن خطيب بيت الآبار. مولده ليلة العشرين من شوال سنة خمس وتسعين وخمس مائة، سمع من ابن طبرزد، وحنبل، والكندي وغيرهم؛ وحدث وهو من بيت الحديث والخطابة والعدالة، وكانت وفاته في سابع عشر صفر ببيت الآبار ودفن بها - رحمه الله تعالى -.
يحيى بن محمد بن أحمد بن حمزة بن علي بن هبة الله بن الحسن بن علي(3/26)
أبو الفضل الثعلبي الدمشقي المعروف بالتاج المحبوبي، مولده سنة عشرين وست مائة - أحضر علي أبي القاسم عبد الصمد بن الحرستاني والشريف أبي الفتوح محمد بن أبي سعد البكري؛ وسمع أبا عبد الله محمد بن غسان وأبا الحسن بن المقير وأبا الحسن بن الصابوني وأبا القاسم عبد الله بن رواحة وغيرهم، وأجاز له خلق كثير من بلاد شتى وحدث هو وجماعة من بيته وهو من بيت الحديث والرواية - ولي نظر - مخزن الأيتام بدمشق ثم ولي الحسبة مدة، ثم ولّي وكالة بيت المال في آخر عمره وباشرها مدة يسيرة، وتوفي بدمشق في الرابع والعشرين من شهر ربيع الآخر ودفن بسفح قاسيون - رحمه الله تعالى - والثعلبي بالثاء المثلثة.
يوسف بن الحسن بن بدر بن الحسن بن مفرج بن بكار أبو المظفر شرف الدين النابلسي الأصل، الدمشقي المولد والدار والمنشأ والوفاة، المشهور بعلم الحديث، روى عن أبي الحسن محمد بن أحمد بن عمر بن الحسن بن خلف القطيعي بقراءته بمنزله ببغداد وغيرها، وسمع بدمشق أبا اليمن - الكندي وأبا الغنائم سالم بن الحسن - بن هبة الله بن صصرى، وأبا محمد الحسن بن علي بن البن الأسدي وأبا محمد عبد الرحمن بن إبراهيم المقدسي(3/27)
والحافظ ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي قرأ عليه الكثير، وأبا الحسن علي بن محمد بن عبد الصمد السخاوي وزين الأمناء أبا المكرمات الحسن بن محمد بن الحسن بن عساكر، وآخرين يطول ذكرهم: وببغداد أبا محمد عبد السلام بن بكران، وأبا حفص عمر بن كرم الدينوري، والحسن بن المبارك الزبيدي، والشيخ شهاب الدين عمر بن محمد بن عبد الله الهروردي. وقرأ عليه كتاب المعارف، وكتب عنه بخطه ولبس منه خرقة التصوف، ولهذا المذكور نظم حسن فمنه:
رأى البرق نجدياً فحن بمن يهوى ... ولاحت له نار فحن إلى حزوى
وهبت له من جانب الغور نفخة ... أتته برياً ساكني السفح من رضوى
محب لهم مغري بهم كلف فنوى ... إلى اللوم فيهم ما أصاخ ولا ألوى
يناجي نسيم الصبح عند هبوبه ... وأخبار ذاك الحي باطنها نجوى
ويشكو إليهم ما يلاقي من النوى ... كذا كل صب يستريح إلى الشكوى
فيا راحة الروح التي شغفت بكم ... ويا منتهى المأمول والغاية القصوى
رويتم حديث الصد عال مسلسلاً ... فلم لا أحاديث التواصل لا تروى
أرى كل خلق يدعيكم وينتمي ... إليكم ولكن من تصح له الدعوى
مراتع ذكراكم بقلبي أواهل ... ومغنى التسلي عن محبتكم أقوى
عذاب الهوى مستعذب عند أهله ... وغلته فيهم مدى الدهر لا تروى(3/28)
سكارى قد أدارت على القوم خمرة ... سوى أن خمر الحب طرحهم نشوى
سلام على أهل الغرام جميعهم ... وخفف عنهم ما يلاقوا من البلوى
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى -:
عرّج بعيسك واحبس أيها الحادي ... عند الكثيب وعرّس يمنة الوادي
وأقر السلام على سكان كاظمة ... منى وعز بتهيامي وتسهادي
وقل محب بنار الشوق محترق ... أودي به الوجد خلفناه بالنادي
وقال وكتب بها إلى الشيخ أمين الدين عبد الصمد بن عساكر المجاور للشريف - رحمه الله تعالى:
على قدر أشواقي إليك سلامي ... وإن بعدت داري وعزّ لمامي
تروح تحياتي عليك وتغتدي ... كأرواح مسك عند فض ختام
إليك ارتياح كل حين ولحظة ... كما الوجد وجدي والغرام غرامي
ألا هل يعود الشمل مجتمعاً بكم ... وأنظركم من قبل يوم حمامي
وأغفر زلات الزمان التي مضت ... بفرط تناسيكم وفوت مرامي
وأرتع طرفي في رياض جمالكم ... فيا نيل آمالي وبدء أوامي
وقال يمدح الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام - رحمه الله تعالى -:
ألا إن عز الدين ابن حقيقة ... وخير إمام في الأنام رأيناه
سلكت سبيل المجتبين لربهم ... بصدق وإيمان وذاك علمناه(3/29)
وجاهدت في ذات الإله مصمماً ... ولم تخش هولاً حين غيرك يخشاه
وأرديت فيه مرة بعد مرة ... وكم نال جهداً في الذي تتبعاه
فجوزيت خيراً عن شريعة أحمد ... وأعطاك رب الناس ما تتمناه
السنة الثانية والسبعون وست مائة
دخلت هذه السنة والخليفة والملوك على القاعدة في السنة الخالية خلا سيف الدين صاحب صهيون وبرزية - فإنه توفي وانتقلت صهيون وحصن برزية - إلى الملك الظاهر، وخلا موسى بن إدريس صاحب ظفار، فإن أخاه سالم بن إدريس قبض عليه وجلس مكانه، - والملك الظاهر بالديار المصرية -.
متجددات الأحوال
في يوم الاثنين سابع المحرم جلس الملك الظاهر في دار العدل وحضر إليه الأكراد الواصلون من الشرق وخلع على مقدمهم.
وفي العاشر هدمت غرفة على باب قصر من قصور المصريين بالقاهرة، ويعرف هذا الباب قديماً بباب البحر، وهو من بناء الخليفة الحاكم، فوجد فيها صورة امرأة في صندوق منقوش، عليها كتابة ترجمت، فكانت اسم الملك الظاهر وصفته وبقي منها ما لم يمكن قراءته.
ذكر أخذ بيلوس أمير عرب برقة
كان الملك الظاهر قد جرد عسكراً من ابن عزاز وتقدم إليه بالدخول(3/30)
إلى برقة لأخذ العداد، فوصل إلى طلميثة، وهي مدينة تسكنها اليهود، ولهم بها أموال كثيرة، فحماها منه بيلوس فقاتله، ووقع بين العسكريين وقعة، وأسر فيها بيلوس، وهو شيخ قد نيف على المائة سنة، وقد حمل إلى القلعة فاعتقل بها في ثامن المحرم وبقي إلى أن خلص بعد شروط شرطها على نفسه في غرة شهر رمضان.
وفي ليلة السبت سادس عشر المحرم توجه الملك الظاهر إلى الشام وصحبته الأمير شمس الدين سنقر الأشقر والأمير بدر الدين بيسري والأمير سيف الدين أتامش السعدي وجماعة يسيرة؛ فلما وصل عسقلان بلغه أن أبغا بن هولاكو وصل إلى بغداد وخرج إلى الزاب متصيداً، فكتب إلى القاهرة واستدعى عسكراً، فخرج منها يوم السبت حادي عشر صفر أربعة آلاف فارس مع أربع مقدمين، وفيهم الأمير علاء الدين طيبرس الوزيري وجمال الدين آقوش الرومي وشمس الدين آقوش المعروف بقطليجا وعلم الدين طرطج، ورحلوا قاصدين الشام. ثم برز الأمير بدر الدين الخزندار - يوم السبت ثامن عشر صفر إلى مسجد التين، وأقام الملك السعيد يقلعة الجبل، وفي خدمته الأمير شمس الدين الفارقاني، ورحل الأمير بدر الدين الخزندار - وصحبته الصاحب بهاء الدين، فوصل الدهليز إلى غزة يوم الاثنين رابع ربيع الأول وسافر فنزل بيافا يوم السبت تاسعه، فوجد الملك الظاهر قد سبق إليها في جماعة من الأمراء. ومن الغد رتب العساكر ثم توجه(3/31)
إلى دمشق فوصلها يوم السبت سادس عشره. ورحل الأمير بدر الدين الخزندار من يافا يوم الجمعة خامس جمادى الأولى، فلما كان يوم الثلاثاء سادس عشره ورد عليه سيف الدين أتامش السعدي على البريد بكتاب السلطان يأمره بعود العسكر إلى مصر، فرحل يوم الأحد الحادي والعشرين ودخل القاهرة يوم الخميس تاسع جمادى الآخرة.
وفي جمادى الأولى كمل بناء جامع دير الطين وصلى فيه.
ذكر قبض الملك الكرج
كان قد خرج من بلاده قاصداً زيارة القدس الشريف في زي الرهبان ومعه جماعة يسيرة من خواصه، فسلك بلاد الروم إلى سيس وركب في البحر إلى عكا؛ ثم خرج منها إلى بيت المقدس فأطلع الأمير بدر الدين خزندار - وهو على يافا - على أمره، فبعث إليه من قبض عليه؛ فلما حضر بين يديه بعث به مع الأمير ركن الدين منكورس إلى السلطان. فوصل دمشق في رابع عشر جمادى الأول، فأقبل عليه السلطان وسأله واستنزله حتى اعترف، فحبسه في برج من أبراج قلعة دمشق، وأمره أن يبعث من جهته إلى بلاده من يعرفهم بأسره، فبعث نفرين. وخرج الملك الظاهر من دمشق ثالث عشر جمادى الآخرة وقدم القاهرة يوم الخميس سابع شهر رجب.
وفي يوم الخميس خامس عشرين شهر رمضان أمر الملك الظاهر(3/32)
العسكر أن يركب بالزينة الفاخرة ويلعب في الميدان تحت القلعة بالقاهرة، فاستمر ذلك إلى يوم عيد الفطر وختن السلطان الملك الظاهر ولده خضراً ومعه جماعة من أولاد الأمراء وغيرهم.
وفي يوم الأربعاء ثالث شهر رمضان توجه الملك السعيد - وصحبته الأمير شمس الدين الفارقاني وأربعون نفراً من خواصه - إلى دمشق على خير البريد وعاد إلى القاهرة يوم الخميس الرابع والعشرين من شوال.
وفي يوم السبت عاشر ذي القعدة حضر متولي القرافة إلى الأمير سيف الدين متولي مصر واخبره أن شخصاً دخل إلى تربة الملك المعز وجلس عند القبر باكياً؛ فسأله عن بكائه من بالمكان، فأخبره أنه قال: أنا ابن الملك المعز. وقد كان قطز نفاه مع أخيه الملك المنصور إلى بلاد الأشكري لما ملك فأحضر وقيد وطولع به إلى الملك الظاهر؛ فأحضره وسأله عن أمره فذكر أن له في البلاد نحو ست سنين يتوكل الأجناد فحبس بحبس اللصوص بمصر وحنا عليه بعض مماليك أبيه فأجرى عليه نفقة.
؟؟ ذكر مراسلة دارت بين الملك الظاهر ومعين الدين البرواناة
لما توجه البرواناة مع رسل الملك الظاهر - كما تقدم - واجتمع بأبغا في(3/33)
أمر الرسالة خلا به سراً وقال له الملك عقيم؟ وإن أخاك أجاي عازم على قتلي والاستيلاء على ملك الروم والانتماء إلى صاحب مصر، وحمل البرواناة على ذلك بحيلة من أجاي، فإنه كان يكلفه ما يعجز عنه ويتوعده؛ فأمره أبغا أن يخفي ذلك وأمره أن يستدعي أجاي وصمغرا - وسرتوقونوين بدلاً منهما - فلما عاد البرواناة إلى الروم رأى أجاي أعرض إعراضاً مفرطاً؛ فاضطر إلى أن كاتب الملك الظاهر سراً وبعث إليه قاصداً وطلب منه أن يحلف له ولغياث الدين بن ركن الدين على ملك الروم وشرط أن يكون له عسكر في البلاد مقيماً يستعين به على قتال أجاي وصمغر ومن معهما من التتر؛ فوافى القاصد الملك الظاهر بمصر قد عاد من دمشق فبلغه الرسالة فقال: إذا حلفنا له على ما أراد وسيرنا عسكراً يقيم عنده فلا بد للعسكر من شيء فتعين لي بلاداً أرصدها لذلك أو ما يستخرج من الأوقاف والصدقات والأملاك التي له، فإذا كسرت التتر أفرجت عن ذلك وأعدته إلى أربابه مع أننا لا نكلف خيلنا سلوك الدرب في هذا الوقت وفي العام القابل نحن عند إن شاء الله. فلما عاد القاصد وجد أبغا قد استدعى أجاي وصمغر وحالة البرواناة قد صلحت فتلكى في إجابة الملك الظاهر إلى ملتمسه ونكل عنه.
فصل
وفيها توفي أحمد بن علي بن محمد بن سليم أبو العباس محي الدين بن(3/34)
الصاحب بهاء الدين أبي الحسن بن القاضي السديد أبي عبد الله الشافعي المصري في ثامن شعبان بمصر ودفن من الغد بسفح المقطم. سمع من جماعة وحدث ودرس بمدرسة والده التي أنشأها بزقاق القناديل بمصر مدة إلى حين وفاته وكان منقطعاً عن المناصب الدنياوية، محباً للتخلي والانفراد، مؤثرأ لأهل الخير والدين، كثير الصدقة والمعروف؛ بنى رباطاً حسناً بمصر ووجد عليه والده وجداً شديداً وعملت له الأعزية والختم في سائر البلاد المعتبرة من المملكة - رحمه الله تعالى.
أحمد بن محمد بن عمر بن يوسف بن عبد المنعم أبو العباس الأنصاري المعروف بضياء الدين ابن القرطبي، مولده سنة اثنتين وست مائة. سمع وحدث وكان فاضلاً، وله النظم الحسن والنثر الجيد مع ما كان عليه من الكرم والإيثار والإحسان إلى من يرد عليه، وكانت وفاته في النصف من شوال هذه السنة بقنا من صعيد مصر. ووالده الشيخ أبو عبد الله أحد المشايخ المعروفين بالعلم والصلاح وشهرته تغني عن الإطناب في ذكره - رحمه الله تعالى. ومن نظمه - رحمه الله:
ما افتر عن ثغره البسام في غسق ... إلا أضاء سبيل السالك الساري
يا للعجائب قد عاينت مغربة ... بيتاً من النور في أرض من النار
وقال أيضاً رحمه الله:
انظر إلى سندس في الروض حين بدا ... مطرزاً بطراز النور كالذهب(3/35)
وفي حشا الماء من مصفره لهب ... فاعجب لضدين جمع الماء واللهب
كأنه في ضمير البحر مضطرباً ... لمع من البرق في صاف من الذهب
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى -:
يأبى خيالك إذ سرى متوجساً ... والأفق يسحب فضل ذيل الغيهب
في حلة الخفر الذي ستر الحيا ... فتنقبت والحسن لم يتنقب
فاصطاده إنسان عين ساهر ... متمكن من جفنه في مرقب
أسعد بن المظفر بن أسعد بن حمزة بن أسد بن علي بن محمد بن أبو المعالي مؤيد الدين التميمي المعروف بابن القلانسي، مولده بدمشق سنة ثمان أو تسع وتسعين وخمس مائة، سمع من أبي حفص عمر بن محمد بن طبرزد وحنبل بن عبد الله بن الفرج، وحدّث بدمشق والديار المصرية، وهو من ذوي البيوتات المشهورة بالحديث والعدالة والتقدم. وكانت وفاته - رحمه الله تعالى - في ثالث عشر المحرم ببستانه ظاهر دمشق - ودفن في التربة المعروفة به بجبل قاسيون بالقرب من قبة جهاركش - رحمه الله تعالى -. وكان صدراً رئيساً، وافر الحرمة، ضخم النعمة، كثير الأملاك، واسع الصدر، متأهلاً للوزارة وغيرها من المناصب الجليلة، من رجال الدهر خبرة وحزماً، وعنده قوة نفس وأهلية المناصب الجليلة غير أنه يتعاطاها في عمره، وإذا عرضت عليه يأباها ويمتنع منها كل امتناع. فلما توفي وجيه الدين(3/36)
محمد بن سويد التكريتي في سنة سبعين وست مائة التزم مؤيد الدين بمباشرة متعلقات الملك الظاهر وأولاده وخواصه بالشام على ما كان عليه الوجيه. فباشر نظر ذلك مكرها بغير جامكية ولا جراية ولم يزل على ذلك إلى حين وفاته. وكان رجلاً سعيداً لم يتقرب إليه أحد ويلازمه إلا ونال منه نفعاً كثيراً من ماله وبجاهه، وكان باراً بأهله، يضع الأشياء في مواضعها، وهو من بيت الرئاسة والوزارة والحديث، سمع الحديث وأسمعه؛ والرئاسة في بيته قديمة، وبيته من البيوت المشهورة بالتقدم بدمشق. وجده مؤيد الدين أبو المعالي أسعد بن حمزة وزير الملك الأفضل بن السلطان صلاح الدين - رحمهما الله تعالى. وكان فاضلاً رئيساً عالماً، له كتاب الوضيئة في الأخلاق المرضية وغير ذلك. وله يد في النظم والنثر. ومولده يوم الجمعة سابع شهر رمضان المعظم سنة سبع عشرة وخمس مائة - وتوفي بها في ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وخمس مائة - ومن شعره:
يا رب جد لي إذا ما ضمني جدثي ... برحمة منك تنجيني من النار
أحسن جواري إذا أصبحت جارك في ... لحدي فإنك قد أوصيت بالجار
ووالده حمزة بن أسد هو العميد، حدث عن سهل بن بشر وأبي أحمد حامد بن يوسف التنيسي، وكان فاضلاً أديباً، له خط حسن ونثر ونظم؛ وصنف تاريخاً للحوادث بعد سنة أربعين وأربع مائة إلى حين وفاته.(3/37)
ومات يوم الجمعة سابع ربيع الأول سنة خمس وخمسين وخمس مائة، ودفن بسفح قاسيون - رحمه الله تعالى.
إسحاق بن خليل بن غازي بن علي عفيف الدين الحموي، كان فاضلاً في الفقه والعربية، متقناً للقراآت السبع، مشاركاً في عدة علوم؛ ولّي التدريس بحماة وخطابة القلعة، وكان له حلقة يشغل بها العلوم والقراآت، وله شعر يسير. مولده سنة سبع وثمانين وخمس مائة، وتوفي في ذي الحجة بحماة - رحمه الله تعالى.
إسماعيل بن إبراهيم بن أبي اليسر شاكر بن عبد الله بن سليمان أبو محمد تقي الدين التنوخي المعري الأصل. الدمشقي المولد والدار والوفاة. مولده في سابع عشر المحرم سنة تسع وثمانين وخمس مائة، سمع الكثير من الخشوعي، وابن طبرزد، وحنبل، والكندي وغيرهم؛ وحدث مدة بدمشق ومصر وغيرهما، وتفرد برواية أشياء من مسموعاته. وكان شيخاً فاضلاً نبيلاً من بيت كتابة وعدالة وجلالة، توفي إلى رحمة الله تعالى في السادس والعشرين من صفر. وكان له يد في النظم والنثر، كتب الإنشاء للملك الناصر صلاح الدين داود - بن الملك المعظم - وتولى نظر المارستان النوري وغيره - ذكره الحافظ شرف الدين الدمياطي في تاريخه فقال:(3/38)
إسماعيل بن إبراهيم بن شاكر بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد بن أحمد بن سليمان بن داود بن المطهر بن زياد بن ربيعة بن الحارث بن ربيعة بن أنور بن أرقم بن أنجم؛ ورفع نسبه إلى عمران بن إسحاق بن قضاعة. أبو محمد بن أبي إسحاق بن أبي اليسر بن أبي محمد بن أبي المجد التنوخي الدمشقي الشافعي العدل. أنشد لنفسه:
خاب رجاء امرئ له أمله ... بغير رب السماء قد وصله
يفعل للمرء كل مكرمة ... ثم يثب الفتى بما فعله
أيبتغي غيره أخو ثقة ... وهو ببطن الأحشاء قد كفله
ذكره الصاحب كمال الدين بن العديم - رحمه الله تعالى - في تاريخ حلب، قال: نشأ أبو محمد بدمشق واشتغل بالعلم والأدب وسمع بها أبا طاهر بركات بن إبراهيم الخشوعي، وأبا اليمن زيد بن الحسن الكندي، والقاضي أبا القاسم عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل الحرستاني، وأبا حفص عمر بن محمد بن طبرزد، وسمع أباه أبا إسحاق بن أبي اليسر وجماعة غير هؤلاء من شيوخ دمشق، وكتب الإنشاء للملك الناصر داود بن عيسى بن أبي بكر بن أيوب مدة في أيام ولايته، وسيره رسولاً إلى مصر وقدم علينا حلب في سنة أربع وأربعين وست مائة، وزارني في داري وأنشدني شيئاً من شعره وأخبرني أن مولده بدمشق يوم السبت سابع عشر المحرم سنة تسع وثمانين(3/39)
وخمس مائة، ثم اجتمعت به بدمشق وعلقت عنه بفوائد، أنشدني لنفسه بحلب في جمادى الأولى سنة أربع وأربعين وست مائة، قوله:
ليلى كشعر معذبي ما أطوله ... أخفى الصباح بفرعه إذ أسبله
وأنار ضوء جبينه من شعره ... كالصبح سل عن الدياجي منصله
قصصي بنمل عذاره مكتوبة ... بأحسن ما خط الجمال وأجمله
والله قد أهملت لام عذاره ... يا عاذلي ما كل لام مهمله
اقرأ على قلبي سباً في حبه ... والذاريات لمدمع قد أهمله
آيات تحريم الوصال أظنها ... وطلاق أسباب الحياة مرتله
ما هامت الشعراء في أوصافه ... إلا وفاطر حسنه قد كمله
ثبت الغرام بحاكم من حسنه ... وشهادة الألفاظ وهي معدله
كم صاد من صاد بعين دونها ... أسياف لحظ في الجفون مسلله
إن أبعدته يد النوى عن ناظري ... فله بقلبي إذ ترحّل منزله
بالعاديات قد اعتدى عنا ضحىً ... وبدا له في كل قلب زلزله
شمس النفوس لبينه قد كورت ... والنار في الأحشاء منه مشعله
قال وأنشدني لنفسه ابتداء مكاتبة كتبها إلى القاضي بدر الدين السنجاري:
لولا مواعيد آمال أعيش بها ... لمت يا أهل هذا الحي من زمن
وإنما طرف آمالي به مرح ... يجري بوعد الأماني مطلق الرسن(3/40)
وذكره أبو البركات المبارك بن أبي بكر بن حمدان المعروف بابن الشعار في كتابه عقود الجمان في شعراء هذا الزمان فقال في نسبه: أبو محمد إسماعيل بن إبراهيم بن أبي اليسر شاكر بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سليمان بن أحمد بن سليمان - ورفع نسبه إلى قحطان التنوخي المعري الدمشقي المنشأ والدار من بيت الأدب والكتابة والشعر والقضاء - أبو محمد شاعر أديب. سأله الأمين أبو حفص بن أبي المعالي أن يحل أبيات أبي الحسن علي بن العباس الرومي في شهر رمضان سنة ثمان وعشرين وست مائة:
وحديثها السحر الحلال لو أنه ... ولم يجن قتل المسلم المتحرز
إن طال لم يملل وإن هي أوجزت ... ود المحدث أنها لم توجز
شرك النفوس وفتنة ما مثلها ... للمطمئن وعقلة المتوفز
فنثرها وقال: وحديثها - الحديث - لا كالحديث العذب فهو كالماء الزلال، وأسكر فأشبه العتيق من الجريال، واستملى من غير ملل ولا إملال، وشغل عن عذر من واجب الأشغال وجنى من قتل المسلم المتحرز ما ليس بحلال، وصادت بشركه النفوس، ومالت إلى وجهه الأعناق والرؤوس. فهو نزهة العيون، وعقال العقول، والموجز الذي ود المحدث أن يطول؛ ثم أنشد لنفسه:(3/41)
حديث حديث العهد يفتح نوره ... فمن نوره قد زاد في السمع والبصر
يخرّون للأذقان عند سماعه ... كأنهم من شيعه وهو منتظر
يلذ به طول الحديث لسامر ... ولا يعتريه من إطالته ضجر
به طرف للطرف تجنى وعقلة ... لغافل ركب سبقن إلى سفر
هي البدر فاسمع ما تقول فإنه ... غريب وحدث بالرواية عن قمر
- انتهى كلام ابن الشعار وقال - قال أبو محمد: كتبت رقعة على لسان سيف الدين مقلد بن الكامل بن شاور إلى الملك الأشرف أبي الفتح موسى بن الملك الكامل على سبيل الإنجاز - وكان أبطأ عليه عطاءه - وذلك في سنة ثلاث عشرة وست مائة، مضمونها: يقبل الأرض بين يدي الملك الأشرف - أعز الله نصره! وشرح ببقائه نفس الدهر وصدره! - وهو ينهي أنه وصل إلى باب مولانا، كما قال المتنبي:
حتى وصلت بنفس مات أكثرها ... وليتني عشت منها بالذي فضلا
ويرجو ما قاله في البيت الآخر:
أرجو نداك ولا أخشى المطال به ... يا من إذا وهب الدنيا فقد بخلا
فأعطاه صلة سنية وقرر له جامكية وأحسن قراه ورتب له ما كفاه.
وأنشد له أو لغيره:
ما لي أرى ناقتي في سرحة الوادي ... تشكو الكلال ولا يحدو لها حادي(3/42)
إذا ونت من كلال السير أذكرها ... عهد القدوم فتحيا عند ميعادي
ونقل من خطه قوله: وقال أنه عملها سنة اثنتين وستين وست مائة:
لي فيك يا غاية الآمال آمال ... إذا تذكرتها أمشي وأختال
أميل من طرب إن عز ذكرك لي ... كأنني ثمل تثنيه جريال
وأستمد نداكم من يلاحظني ... ما عندكم من جميل فيه إجمال
لا أطلب الخير إلا من معادنه ... راجي سواك له فقر وإذلال
أنا الفقير إليكم والغنى بكم ... فقري غناي ولي في الغيب آمال
لحبك العفو أضحت في وسائلنا ... ذنوبنا ومحب العفو مفضال
عمرت بالي لما أن سكنت به ... فالآن فليتنعم منى البال
وصرت أوثر قلبي وهو منزلكم ... لأنكم فيه بالإجلال نزال
لا حوّل الله من قلبي محبتكم ... ما دمت حياً ولا حالت بي الحال
جدتم علينا ولم نشكر نوالكم ... والشكر موهبة منكم وإفضال
وهبتمونا هبات ليس نقدرها ... منها اليقين ومنها الوجد والحال
وكيف ما ملت مالت بي عواطفكم ... إليكم والهوى بالصب ميال
ما زلت أرفل من نعماك في حدل ... لهن من سابغ المعروف أذيال
أعيش بالحب إذ مات الأنام به ... فلي حياة كما للناس آجال
لا مال لي غير آمال يحقق لي ... منك الغنى فهي في التحقيق أموال
هتكت ستري ببلبالي بحبكم ... وطالما هتك العشاق بلبال(3/43)
تلذ لي فيك أقوال فتطربني ... إن الهوى لذ فيه القيل والقال
لي في النهار أحاديث ملفقة ... مع الأنام ولي في الليل أحوال
يا هادي الركب قد بتنا يسربنا ... قوم همو عن طريق الرشد قد مالوا
لهم عيون عن الآثام مائلة ... وهم عن الرشد والإحسان ضلال
وللشريعة حظ إذ نقيم به ... من سار قصداً وللمعوج أوجال
أيبتغي الخير إنسان وقد كثرت ... فتونه وهو مغتال ومختال
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
إذا كنت لي لم أبك ليلي ولا سعدي ... ولا دار هند بالعقيق ولا هندا
ولم أتشوق نحو بارق بارق ... ولم أتشوق لا العقيق ولا نجدا
ولم يشفني مر النسيم من الجوى ... إذا اعتل مشتاق وهاج به وجدا
إليك تناهى الحب وانقطع الهوى ... فلست أرى قبلاً سواك ولا بعدا
وقال رحمه الله: كان قد ركبني دين فوق عشرة آلاف درهم وبقيت منه في قلق، فرأيت في النوم والدي فشكوت إليه ثقل الدين، فقال: امدح النبي صلى الله عليه وسلم فقلت - يا سيدي! وماذا عسى أقول؟ قال: امدح النبي صلى الله عليه وسلم: فقلت! قدري يعجز عن مدحه صلى الله عليه وسلم، فقال: امدحه يوفي الله عنك دينك؛ فعملت وأنا نائم في النوم فقلت:(3/44)
أجد المقال وجد في طول المدى ... فعساك تظفر أو تنال المقصدا
هي حلبة للمدح ليس يجوزها ... بالسبق إلا من أعين وأسعدا
قال: فانتبهت فأتممت القصيدة فوفى الله عني ديني في تلك السنة ومن شعره - رحمه الله:
خرس اللسان وكل عن أوصافكم ... ماذا أقول وأنتم ما أنتم
الأمر أعظم من مقالة حائر ... قد تاه فيكم أن يعبر عنكم
العجز والتقصير وصفي دائماً ... والبر والإحسان يعرف منكم
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
أراك إذا ما امتد طرفي حاضر ... بكل مكان عند كل عيان
ولست أرى شيئاً سواك حقيقة ... لأنك لا تفنى وغيرك فاني
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
يا أحمد إن فترة الأجفان ... بليت بها في آخر الأزمان
والمعجز منك واضح البرهان ... تحيي بالوصل ميت الهجران
وأشعاره ومحاسنه كثيرة، وعمّر حتى روى معظم مسموعاته ولم يزل على ذلك إلى أن توفي يوم الأحد السادس والعشرين من صفر - سنة اثنتين وسبعين وست مائة - بدمشق، ودفن بجبل الصالحية بتربة والده، قريباً من مغارة الجوع - رحمه الله.
أقطاي بن عبد الله بن عبد الله الأمير فارس الدين الأتابك المعروف(3/45)
بالمستعرب الصالحي النجمي، كان مملوكاً لنجم الدين محمد بن يمن، ثم انتقل إلى ملكية الملك الصالح نجم الدين أيوب - رحمه الله - وأمّره ثم ترقى بعد وفاته إلى أن عد من الأعيان الأمراء أكابرهم، ثم لما تملك الملك المظفر سيف الدين قطز - رحمه الله - رفع من شأنه وجعله أتابك العساكر وعلق أمور المملكة جميعها به، فكان مدار الدولة بأسرها عليه وهو المتحكم فيها لا يضاهيه أحد ولا يعارضه فيما يفعل. ثم لما قتل الملك المظفر - رحمه الله - على الصورة المشهورة تشوف إلى السلطنة أكابر الأمراء فقدم الأمير فارس الدين الملك الظاهر ركن الدين وسلطنه وحلف له في الوقت فلم يسع بقية الأمراء إلا الموافقة، فتم أمره ورأى له ذلك واستمر على حاله عنده في علو المنزلة ونفاذ الأمر وكثرة الإقطاع والرواتب، وبقي على ذلك مدة سنتين، لكن الملك الظاهر يختار الراحة منه في الباطن ولا يسعه ذلك لافتقاره إليه ولعدم وجود من يقوم مقامه، فإنه كان من رجال الدهر حزماً وعزماً ورأياً وتدبيراً وخبرة ومعرفة ورئاسة ومهابة، فلما نشي الملك الظاهر الأمير بدر الدين بيليك الخزندار - رحمه الله - أمره بملازمته والاقتباس منه والتخلق بأخلاقه، فلازمه مدة. فلما علم الملك الظاهر منه الاستقلال بذلك جعله مشاركاً له في أمر الجيش، وقطع الرواتب التي كانت للأتابك واقتصر به على ما له من الإقطاعات؛ فجمع نفسه وتبع مراد الملك الظاهر، ثم قبل وفاته بمدة - لعل قريب(3/46)
السنة أو ما حولها - أمره أن يتداوى؛ وقيل له أنه ربما ابتدأ به طرف جذام ولم يكن به شيء من ذلك، فلزم منزله وحصل له من الغبن ما كان سبباً لوفاته. ثم إن الملك الظاهر عاده قبل وفاته غير مرة، فعاتبه الأتابك - بلطف ومت بخدمته - وبكى بين يديه، فبكى الملك الظاهر لبكائه ولم يزل متمرضاً إلى أن توفي إلى رحمة الله بالقاهرة في جمادى الأولى - أظن في الثاني والعشرين - وقد نيف على السبعين سنة من العمر، رحمه الله تعالى.
لما كان عند ابن يمن بدمشق كان يعاشره أحد بني بردويل، وهم ثلاثة نفر أخوة جيرانه بالقصاعين؛ لكن كان أحدهم كثير الاختصاص به يعاشره؛ ولا يكاد يفارقه. فلما انتقل إلى الملك الصالح نجم الدين كان الأتابك من جملة من كان بدمشق من مماليكه حين أخذها الملك الصالح إسماعيل، فاعتقله وتمرض بالحبس فنقل إلى البيمارستان النوري. فلما أبل أفرج عنه وفسح له بالتوجه إلى الديار المصرية وهو في عافية في رقة الحال؛ فسير غلامه بورقة إلى ابن بردويل صاحبه يطلب منه ما يستعين به على سفره قرضاً. فلما قرأ الورقة قال للغلام صاحبها: ما أعرفه فبقى الغلام كلما عرفه به ويقول هو صاحبك وعشيرك يقول ما أعرفه فرجع الغلام إليه وعرفه ذلك، فتحيل وسافر وتنقلت به الأحوال. فلما جفل الناس في سنة ثمان وخمسين كان أولاد بردويل من جملة من توجه إلى(3/47)
الديار المصرية، فقصدوا باب الأتابك، فدخل الحاجب وأخبره بهم؛ فقال: من هم؟ قال: فلان وفلان وفلان، قال: أما فلان وفلان فأدخلهم، وأما فلان فما أعرفه. فدخل أخواه فسلم عليهما ورحب بهما؛ فقالا: يا خوند! مملوكك فلان، قال: ما أعرفه. وهو يقولون: يا خوند! مملوكك الذي كان لا يزال في خدمتك وبين يديك وهو يقول: ما أعرفه ولا أعرف أولاد بردويل إلا أنتما لا غيركما. ثم بعد جهد أذن له في الدخول فحكى له الحكاية، فخجلوا واعتذروا بما ناسب الوقت، ومع هذا أحسن إليهم كلهم إحساناً كثيراً غمرهم به - رحمه الله تعالى.
أقوش بن عبد الله مبارز الدين المنصوري استاد دار الملك المنصور صاحب حماة، كان متحكماً في دولته، متمكناً منه، لا يخالفه في ما يشير به، وله الإقطاعات الوافرة والكلمة النافذة، في مملكة مخدومه، ولم يزل على ذلك إلى أن توفي يوم الخميس رابع ذي الحجة من هذه السنة، وقد نيف على الأربعين سنة من العمر رحمه الله وحزن عليه مخدومه حزناً كثيراً وأقر خبزه بيد أولاده، ولم يتعرض إلى شيء من تركته. وكان المبارز موصوفاً بشجاعة، وكرم طباع، ولين جانب رحمه الله.
الحسين بن بدران بن أحمد بن عمرو بن مفرج بن عبد الله بن الفتح بن خاقان بن شيخ السلامية أبو عبد الله نجم الدين، كان رجلاً جيداً،(3/48)
لين الجانب، رئيساً، مسارعاً إلى قضاء الحوائج لمن يقصده؛ وولي مشارفة ديوان بعلبك وشهادته ومشارفة قلعتها سنين كثيرة، لم يشك منه أحد من خلق الله تعالى، وجميع أهل البلد يثنون عليه بحسن سيرته ومعاملته لهم. توفي إلى رحمة الله تعالى بعلبك ليلة الثلاثاء رابع شعبان وهو في عشر التسعين، ودفن بمقابر باب سطحاء ظاهر باب دمشق من مدينة بعلبك رحمه الله تعالى.
سليمان بن الخضر بن بحتر شهاب الدين، كان والده الأمير سعد الدين الخضر من الأمراء الجبليين، وأمره الملك الصالح عماد الدين رحمه الله، واستمر على إمريته إلى حين وفاته في الأيام الناصرية الصلاحية. فأعطى خبزه لولديه شهاب الدين المذكور وأخيه شجاع الدين بحتر، وكاتن شهاب الدين هو الرئيس الكبير السن، فلما قصد التتر حلب في سنة سبع وخمسين ورجعوا منها جهز الملك الناصر رحمه الله إليها جماعة، كان شهاب الدين من جملتهم وكان ممن اعتصم بقلعة حلب، فلما فتحت على الصورة المشهورة فاستحضره هولاكو في جملة من استحضر ممن كان في القلعة؛ فقيل له: هذا له صورة في بعلبك وبلادها، وربما يحصل به مقصود من تسليم القلعة واستنزال من في الجبال فإنهم أقاربه ويصغون إلى قوله، فخلع عليه وسيره إلى بعلبك صحبة بدر الدين يوسف الخوارزمي رحمه الله المتولى لها من جهته، ووعد من جهتهم بأقطاع فلما لم يكن لهم أثر في حصول مقصودهم أطرحوه وبقي في بيته إلى أن فتح الملك المظفر(3/49)
سيف الدين قطز رحمه الله الشام، فلم يحصل في أيامه على طائل، وكذلك في الأيام الظاهرية إلى حين وفاته. وكان توجه إلى الديار المصرية فأدركته منيته هناك في سابع ذي القعدة، وقد نيف على الخمسين سنة من العمر رحمه الله تعالى.
عبد الرحمن بن عبد الله بن بخدكين أبو محمد الجرزي المنعوت بالشمس، كان رجلاً حسناً، له معرفة بالنجوم وعلم الهيئة، ويتلو القرآن العزيز في غالب أوقاته، وكان خطيب مشهد علي رضي الله عنه الذي ظاهر باب الفقاعية من مدينة بعلبك، وعلى ذهنه من الأشعار والحكايات والنوادر شيء كثير، حسن المجالسة لا يذكر أحداً إلا بخير. وكانت وفاته ببعلبك ليلة الأحد ثامن ربيع الآخر من هذه السنة وهو في عشر السبعين رحمه الله تعالى.
عبد اللطيف بن عبد المنعم بن علي بن نصر بن منصور بن هبة الله أبو الفرج نجيب الدين النميري الحراني الحنبلي المعروف والده بابن الصيقل، ولد بحران سنة سبع وثمانين وخمس مائة، سمع الكثير من جماعة من الشيوخ، منهم أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي، ومن جماعة من أصحاب أبي القاسم الخضر الشيباني، وأصحاب القاضي أبي بكر محمد بن عبد الباقي الأنصاري؛ وأجازه جماعة من الفقهاء كأبي جعفر الطرسوسي(3/50)
وأبي الحسين الجمال وأبي الفتح الرازي والقاضي أبي المكارم المعروف باللبان وغيرهم. وحدث بالكثير ببغداد ودمشق والقاهرة ومصر وغيرها، وبقي حتى تفرد بالرواية عن كثير من شيوخه، وازدحم عليه أصحاب الحديث ولازموه للسماع واتفقوا عليه وخرجوا له، ولم يبق في زمنه من يجري مجراه في علو الإسناد وكثرة المرويات. وتولى مشيخة دار الحديث الكاملية بالقاهرة، فحدث بها مدة إلى حين وفاته، وجرى عليه محن؛ شارك فيها الصلحاء، وزاحم من يقتدي به في ذلك من أولياء توفي في مستهل صفر بقلعة الجبل ظاهر القاهرة ودفن بأول القرافة خارج السور رحمه الله تعالى.
عبد الله بن غانم بن علي بن إبراهيم بن عساكر بن حسين أبو محمد الأنصاري المقدسي الشيخ العارف الصالح، كان من أعيان المشايخ، مشهوراً بالخير والعبادة ومكارم الأخلاق، جمع الله له بين حسن الصورة والمعنى، وله الصيت المشهور والآثار الجميلة ومعظم مقامه بنابلس، وله فيها زاوية معمورة بالفقراء الأخيار والواردين، ويتردد إلى البيت المقدس ويكثر المقام به، وله فيها زاوية مشهورة وأتباع ومريدون، وعنده فضيلة ومعرفة بطريق القوم.(3/51)
وله نظم جيد، فمنه:
لك في القلوب منازل ومقام ... لا العقل يدركها ولا الأفهام
ولروح من يهواك فيه إشارة ... لا الطرف يلحظها ولا الأرهام
ولقلبي المشتاق فيك صبابة ... لا الدهر ينفدها ولا الأيام
وسرت إلى الأرواح منك نسيمة ... سكرت بها العشاق فيك وهاموا
من أصبحت خطرات ذكراك قوته ... وفؤاده مأواك كيف ينام
ومن التجت بجناب عزك روحه ... واستمسكت بعراك كيف يضام
ومن أحرقت نيران حبك قلبه ... شوقاً إليك وهام وكيف يلام
ما الوجد وجداً إن عداك ولا الهوى ... إلا هواك ولا الغرام غرام
وإذا خلت منك الخيام وأصبحت ... تؤوي سواك فما الخيام خيام
وقال: رحمه الله تعالى:
فاء الفقير فناؤه عن ذاته ... وفراغه من نفسه وصفاته
والقاف قوة قلبه بحبيبه ... وقيامه بالصدق في مرضاته
والياء يرجو ربه ويخافه ... ويقوم في التقوى بحق تقاته
والراء رقة قلبه وضياؤه ... ورجوعه لله عن شهواته
وكتب الشيخ جمال الدين عبد الرحمن والد الشيخ فخر الدين الحنبلي يذم السماع وأهله:
يا سائلي عن طريق الفضل والأدب ... عن معشر عقلهم أدى إلى العطب(3/52)
قوم بلا راحة أستانسوا وبلوا ... عن التكسب بين الناس والتعب
قالوا بلا سبب الله رازقنا ... والله رازقنا بالسعي والسبب
أليس مريم رب العرش قال لها ... إليك هزي بجذع يانع الرطب
ولو يشاء أتاها رزقها رغداً ... من غير ما تعب منها ولا نصب
وكان رزق رسول الله جاعله ... رب البرية تحت القصر والقصب
وباكروا اللهو واللذات واتخذوا ... لهو الحديث لهم ديناً مع الطرب
إذا أتوا منزلاً قالوا لصاحبه ... قبّل يد الشيخ ذا الأفضال والأدب
هذه له نظر هذا له همم ... له المكرمات بين العجم والعرب
يمشي على الماء يطوي الأرض قاطبة ... وفاتح كل باب مغلق أشب
اطلب رضا الشيخ وانظر أين مذهبه ... وليس مذهبه إلا إلى الذهب
هذا وقد جاء بالمعلوم فابتدر ... وا محسرين عن الأيدي على الركب
كل امرئ منهم في الأكل معطله ... وترجف الأرض يوم الروع بالهرب
إذا تغنى مغنيهم سمعت لهم ... صراخ قوم رموا بالويل والحرب
ما زال ليلهم رقصاً فإن تعبوا ... تساندوا في زوايا البيت كالخشب
ضرب القضيب مدى الأيام شغلهم ... والرقص دأبهم والضرب في الطرب
قالوا لنا مذهب وهي الحقيقة لا ... تقول بالشرع ثم الدرس في الكتب
ولا نريد من الرحمن جنته ... ولا نخاف لظىً جاءت على غضب
وما بهذا كتاب فيه أخبرنا ... وجاءت الرسل بالترغيب والرهب(3/53)
زاروا النساء وآخوهن هل عصموا ... منهن أم أمنوا من طارق النوب
نسوا قضية هاروت وصاحبه ... ماروت إذ شربا كأساً من العطب
وهمّ يوسف لما أن رأى عجبا؟ ً ... برهان خالقه أعجب من العجب
ونظرة تركت داود ذا خرق ... على خطيئته باك أخا كرب
أبرأ إلى الله من قوم فعالهم ... هذا وإن دينهم ما عشت لم أتب
فأجابه الشيخ عبد الله رحمه الله:
يا منكراً فضل أهل الفضل والأدب ... وناسباً فعلهم ظلماً إلى اللعب
قوم لهم عند ذكر الله أفئدة ... تطير شوقاً لفرط الحب والطلب
قلوبهم بالغنى بالله قد ملئت ... فما لهم حاجة في الخلق والسبب
قد أصبحت في رياض القرب ساكنة ... أرواحهم فغدت بالأنس والطرب
قد علت سبعة الأفلاك همتهم ... مع السماوات والكرسي مع الحجب
فلم تزل في ظلال العرش سائرة ... فيا لها رتبة جلت على الرتب
هم الرجال وأهل الله نعرفهم ... من خصه الله بالتوفيق والقرب
فيهم ودائع أدحال وأودية ... وبين أظهرنا في العجم والعرب
لذكرهم ينزل الرحمن رحمته ... كما سمعناه في الأخبار والكتب
يراهم الجاهل العاني فيحسبهم ... من التعفف أهل المال والحسب
فالفقر فخرهم والحق عزهم ... واللطف وصفهم والغبر في تعب
هذا هو الفضل لا بالدرس في كتب ... هذا هو الفخر لا بالمال والحسب
تقدست وصفت أسرارهم فرأت ... معنى يجل عن الإدراك والسبب
لما انجلت وتجلت في سرائرهم ... قاموا لها وجثوا منها على الركب(3/54)
وصاح صائحهم صوتاً لو انفلقت ... له الصخور لما كانت من العجب
ورب صرخة وجد لو تلبثها ... لمات منها لفرط النار واللهب
ولو حدا لهم الحادي وأنشدهم ... باسم الحبيب بصوت طيب دأب
تراهم بين سكران ومطرح ... وهائم واله ملقى ومضطرب
وبين باك وذي وجد وذي حرق ... وبين شاك وأواه ومنتحب
صرعى من الوجد لامس ولا عرض ... سكرى من الحب لا من خمرة العنب
إن بشروا بالوفا فالقوم في مرح ... أو خوفوا بالجفا فالقوم في حرب
هذا السماع الذي اذكرتموه على ... أهل السماع وأنتم منه في نصب
والله ما فعلوه أهله عبثاً ... ولا لحظ ولا دنيا ولا سبب
وإنما نسمة مرت بهم فسرت ... في كل قلب دميث طاهر لجب
ويفهم القول والمعنى ويدركه ... ذوو البصائر أهل العقل والرتب
عجبت منكم وأنتم أيها الفقها ... أهل الحديث وأهل الفضل والأدب
دحضتم القول في أهل السماع فلم ... تبقوا على أحد في السب والغضب
فكيف حرمتم كل السماع ولم ... تفرقوا بين أهل الصدق والكذب
فكم رجال وأبدال وقد حضروا ... هذا السماع من السادات والنجب
قوم تعم بقاع الأرض دعوتهم ... بالنضر والأمطار والسحب
فهل ذكرتم بتصريح كما ذكرت ... أسماؤهم في كتاب الله بالعربي
لو كان إنكارهم لله يا فقها ... لكان خال من الأهواء والغضب(3/55)
نهيتم الناس عن أهل السماع وما ... والله صاحبهم عنهم بمنجذب
وقد تعبتم وأتعبتم بذمكم ... أهل السماع وما هذا بمنتحب
لكن نشبتم فلم يمكن رجوعكم ... عنهم فيا رب خلصهم من النشب
وربما كان فيهم من له أسف ... على السماع ولكن خافكم فعبي
وبعد هذا فإني ناصح لكم ... وحرمة المصطفى الهادي النبي العربي
لا تهلكوا دينكم بالذم للفقرا ... أهل السماع فهذا غاية العطب
هذا السماع لهم أهل يخص بهم ... وغيرهم منه في لهو وفي لعب
فاللهو منه حرام ليس يحضره ... إلا العوام وأهل اللغو والتعب
والحق منه حلال طيب نفس ... خال من اللهو والأهواء واللعب
كم بين قلب منيب طاهر يقظ ... وبين قلب مبيد مظلم حرب
ما أحسن العدل والإنصاف يا فقها ... ما تفرقوا بين غصن البان والحطب
قلبان قلب لطيف كالنسيم إذا ... سرى وقلب إذا أقسى من الخشب
هذا يعادل هذا في تحركه ... عند السماع فافتوا واكشفوا كربي
فارجع إلى الله عن كسر القلوب وعن ... ذم الرجال ولا تغتبهم وتسب
ما بدعة أحدثت خيراً وعافية ... وتوبة وصلاحاً يا أخا العرب
كبدعة أحدثت شراً ومعصية ... وفتنة وفسادا يا أبا العتب
ما ثم إلا النفوس إلا أظهرت حسداً ... فأظهرت بعض ما فيها من التعب
إني لأرجو بحبي في الرجال غداً ... وبالبشر أرجوه من فعلي ومن نصبي
أهل الصفا والوفا والحب للفقرا ... والصدق والرفق والأخلاق والأدب
ورحم الله أهل الفقر والفقها ... والمسلمين جميعاً فادعه يجب(3/56)
حكى قاضي القضاة عز الدين محمد بن الصائغ رحمه الله عن الشيخ عبد الله المذكور رحمه الله ما معناه قال: كنت يوماً بجامع دمشق مع الفقراء، فحضر شخص ومعه كتاب وذهب في خرقة، وقال للفقراء: أفيكم من يروح إلى الديار المصرية مع هذا القفل ليتصدق بحمل هذا الكتاب والذهب إلى أصحابه مثاباً في ذلك؟ قال الشيخ عبد الله: فلم يتكلم من الجماعة أحد. فحضر لي إجابة سؤال ذلك الرجل والتوجه إلى الديار المصرية للتفرج، فقلت له: أنا أروح. فأعطاني الذهب والكتاب، فخرجت مع القفل، وبقيت في الطريق تعباناً جائعاً أصل الأيام بلا أكل. فلما توسطنا الطريق جعت جوعاً شديداً فعاينت الموت، وإذا بالقفل يقولون: قد طلع علينا حرامية، فأخذت قوسي وتبعتهم، فانهزموا عن آخرهم. قال: فعظمني أهل القفل وأطعموني وأكرموني غاية الإكرام؛ فلما وصلنا الديار المصرية نزلنا في خان، فلما استقرينا في الخان سمعت غلبة عظيمة وإذا بشخص من الجماعة يقول: قد زاح لي ذهب عدده كذا ووزنه كذا وهو في خرقة صفتها كذا. قال: فقلت في نفسي: والله وكذلك الذهب الذي معي، وتألمت لذلك وتوكلت على الله تعالى. فشكى ذلك الرجل إلى الوالي وأحضر رجاله، وأخذ جميع من في الخان إلى دار الوالي ليفتشونا، فرحت معهم، وقد انقطع قلبي. فلما صرنا في دار الوالي أحضروا واحداً، ثم أنه أحضر شخصاً وصمم عليه؛ ثم قال له: هات الذهب بعينه وإلا فعلت بك وصنعت.(3/57)
فأخذه منه وسلمه إلى صاحبه، ففرحت بذلك. ثم إنه قال لي الوالي من غير معرفة بيني وبينه ولا بأحد من خدمه في ذلك الوقت: يا عبد الله! أيش هذه العمائل؟ الله عليك! ما العدد العدد والوزن الوزن والخرقة الخرقة؟ فارتعت من كلامه وإطلاعه على ما هو مغيب عنه، فرميت روحي على أقدامه؛ فعانقني وقال: لا تعود إلى مثلها؛ قال: فقلت له: يا سيدي! هذا وأنت وال. قال: نحن قوم نرى أن نتستر بذلك؛ قال: فودعته ومضيت وآليت على نفسي أن لا أخرج من مكان إلا بإذن؛ وحكى ولده الشيخ محمد - رحمه الله - قال: قال لي والدي - رحمه الله: يا محمد! أنا في كل سنة أزور القدس والخليل، فاتفق أنني زرت الخليل صلى الله عليه وسلم وخطر لي أني أبيت داخل المسجد لأتملى بالخليل عليه السلام وأقرأه عنده ختمة. فلما كان بعد العشاء جاء الشحاني وقالوا لي: ما تخرج يا سيدي أو نغلق عليك؟ فقلت: أغلقوا علي. فلما أغلقوا قمت عند رأس الخليل عليه السلام وجعلت أصلي عند رأسه وأقرأ. فلما صليت وقرأت البقرة وشرعت في آل عمران سمعت قائلاً يقول: ما تتأدب تقف عند رأس الخليل! قال: فزمعت فلما أفقت تأخرت؛ فلما كان بعد قليل وإذا بالأبواب قد فتحت ودخل قوم كثيرون لا أعرفهم؛ قال: فاقعدت وامتدت الصفوف بحيث أنهم ساووني وما أقدر أن أنطق بكلمة، ثم إن شخصاً منهم طلع إلى المنبر وخطب ونزل وصلى بهم، ثم انصرفوا فغلقت الأبواب كما كانت وما قدرت على كلام أحد منهم. ثم بقيت كذلك إلى الصباح. وللشيخ(3/58)
عبد الله - رحمه الله - أشعار كثيرة وكلام حسن على طريق القوم، وكان صحب والده وأخذ عنه وانتفع به، وكان لوالده عدة أولاد جميعهم أخيار صلحاء. والشيخ عبد الله المشار إليه منهم والمتعين من بينهم اجتمعت به بدمشق غير مرة؛ ورأيته يملأ العين والقلب ويقصر عن محاسنه الوصف ودرج إلى رحمة الله تعالى ورضوانه في شعبان سنة اثنتين وسبعين وستمائة وهو في عشر السبعين بنابلس، ودفن بالطور وصلى عليه بالتيه بجامع دمشق يوم الجمعة العشرين من شعبان. رثاه ولده أبو الحسن الآتي ذكره إن شاء الله تعالى:
أأرض بها قبر الحبيب يزار ... لك الدمع من جفني القريح نثار
لقد أنس الرحمن أرضاً ثوى بها ... وأصبح فيها معهد ومزار
وطاب ثرى البطحاء من طيب نشره ... وحسبك قبر للخليل جوار
فلا تسألن الصبر عمن أحبه ... ففي القلب من فقد الأحبة نار
فلا تذكر إلى الدار من بعد أهلها ... فما الدار من بعد الأحبة دار
لقد أوحشت تلك المنازل بعدهم ... وكان عليها هيبة ووقار
سلام على تلك الخيام وأهلها ... لقد خلفوني في الخيام وساروا
وأما والده الشيخ غانم فكان من سادات المشايخ وأعيانهم وأعلمهم بطريق القوم، وله بقرية نورين من عمل نابلس زاوية أقام بها عشرين سنة، ولما فتح البيت المقدس سنة ثلاث وثمانين وخمس مائة استوطنه وأقام به نحواً من خمسين سنة، ثم قدم دمشق فتوفي بها في غرة شعبان(3/59)
سنة اثنتين وثلاثين وست مائة عشية الأحد، ودفن يوم الاثنين في الحضيرة التي بها السادة المشايخ عبد الله البطائحي وعبد الله الأرموي - رحمهما الله تعالى - بسفح قاسيون، وبلغ من العمر سبعين سنة وكان الشيخ غانم في السنة التي فتح فيها بيت المقدس على يد رجل رآه مرة واحدة، ثم لم يزل يراه بظنه من الأبدال، وانقطع إلى العبادة تحت صخرة بيت المقدس في الأفياء السليمانية ست سنين، وصحب بعد ذلك المشايخ: عمر المدني، ومحمد الديسني، وأبا بكر العين سرياني، ومحمد الكيلاني، ومحمد القرشي، وأبا عمران المغربي وغيرهم، وصحب الشيخ عبد الله الأرموي صحبة كبيرة، ولازمه إلى حين وفاته. وماتا جميعاً - رحمهما الله - في مدة قريبة. وسبب توبته وانقطاعه إلى الله تعالى أنه تمرض عام فتح المقدس مرضة عظيمة، فلما أبلّ سأل عن أصدقائه الذين كان يصحبهم قبل توبته، فوجد أكثرهم قد مرضوا وماتوا، فحزن عليهم وأقلع من وقته وأكب على العبارة والإقبال على الله تعالى وحج ثلاث حجات محرماً من بيت المقدس، وفتح عليه في الحجة الثالثة بما فتح. وقال: خرجت حاجاً ثم عزمت بعد الحج على السياحة بأرض تهامة، فجاءني رجل سلّم عليّ وقال: لهذا الأمر رجال غيرك أنت في صلبك ذرية ولك أصحاب ينتفعون بك؛ وأخبرني ببعض ما أنا فيه، ثم غاب عني فلم أره؛ فرجعت إلى الشام. وقال: رجعت سنة من الحجاز إلى الشام وأنا مريض، لا أستطيع الكلام ولا القيام ولا أكل الطعام، فبينما أنا مطروح في البرية - قد ذهب عني رفقتي بعد(3/60)
اليأس مني - جاءني رجل مغربي أشقر، فسلم عليّ ثم سار يحدثني بما أنا فيه وبما يكون مني، وأنا لا أشك أني سائر في الهواء، غير أني قريب من الأرض ساعة؛ ثم قال: اجلس. فجلست؛ ثم قال: نم. فنمت. فنام إلى جانبي، فاستيقظت فلم أجده. ووجدت نفسي قريباً من الشام ولم أجد بي مرضاً، ولا أحتاج إلى طعام ولا شراب، حتى دخلت بيت المقدس. وأما أخلاقه فلم ير ساخطاً على أحد، ولا سمع مغتاباً لأحد ولا ذاماً له، ولا أسقط لأحد حرمة، ولا كسر قلباً، ولا نسى وداً، ولا رأى لأحد فعلاً ومن توجه إلى الله تعالى لم يسأل من الدنيا شيئاً ولا تعرض له، وإذا فتح الله عليه بشيء من الدنيا لم يرده، وإذا أخذه لم يبقه ولم يدخر، ولم يفرح بما أوتي منها ولا تأسف على ما فاته منها، وكان كثير الأمراض والابتلاء، ولم يسمع منه أنين ولا شكاية، وإذا سئل عن حاله ظهرت عليه أعلام الرضاء. وقال ولده الشيخ عبد الله: أخبرني والدي عن سبب توبته ما تقدم، وقال: لما وضعت يدي على يد الشيخ الذي توبني نزعت الدنيا من قلبي كما تنزع الشعرة من العجين، فلما نهضت قائماً تلا عليّ " وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ". قال: فجعلت هذه الآية قدوتي إلى الله تعالى وسلكت بها في طريقي وجعلتها نصب عيني لكل شيء منها. قالت لي نفسي: أو أمرني به هواي فعلت بخلافه. فهذه أخلاق كريمة ومواهب جسيمة لا يقوى عليها أحد إلا بتأييد رباني. وللشيخ غانم رحمه الله كلام كثير مدون، وأشعار(3/61)
على طريق القوم، ليس هذا موضع ذكرها، نفعنا الله به وبالصالحين إنه جواد كريم.
علي بن عبد الكافي بن عبد الملك بن عبد الكافي أبو الحسن نجم الدين الربعي الشافعي، كان شاباً محصلاً مجتهداً، عنده فضيلة وأهلية وديانة، لم يزل منذ نشأ مكباً على الاشتغال والتحصيل والسماع، فسمع كثيراً من المشايخ، واخترمته المنية شاباً، فتوفى في يوم الخميس ثاني عشر ربيع الآخر بدمشق، ودفن يوم الجمعة بسفح قاسيون رحمه الله، ولعله لم يبلغ من العمر ثلاثين سنة، وكان عالماً بالفقه والأدب والحديث، وله نظم حسن، فمنه هذه يقول:
أعاهد قلبي في اجتناب وصالكم ... ويغلبني شوقي إليكم فأنكث
واحلف لا واصلتكم ما بقيتموا ... واعلم أن الوصل خير فأحنث
وقال يمدح شيخه الشيخ تاج الدين عبد الرحمن الفزاري رحمه الله حين أملى عليه كتابة المسمى بالإقليد لذر التقليد في شرح التنبيه لأبي إسحاق الشيرازي رحمه الله:
يا إماماً فاق كل إمام ... وفقيهاً أزرى بكل فقيه
أنت حبر صان الإله بك الدي ... ن من الترهات والتمويه
أنت تاج لمفرق الدين تحميه ... من كل جاهل وسفيه(3/62)
أنت أوضحت مشكلات المعاني ... يا إمام الدنيا من التنبيه
أنت ألبسته بألفاظك الغر ... لباساً يرد ما قيل فيه
كم تصدى لذاك قوم قصدوا ... عن بديع وغامض تحويه
ما رعوه حق الرعاية حتى ... أخذ السهم بعدهم باريه
فأنار الكنوز منه وأدنى ... غصن أثماره لمن يجتنيه
فبدا واضح كشمس النهار ... نازعاً يده لمن يجتليه
وأعلمنا أن الجهالة كانت ... عن مبادي أفهامنا يخفيه
فوقاك الإله من كل ما تخ ... شى وآتاك كل ما ترتجيه
وقال يمدح الإقليد المذكور وشيخه:
ما زال للتنبيه باب مغلق ... عن فهم قوم ثاقب وبليد
أغنى عن الشراح طراً فتحه ... فلذلك قد ذهلوا عن المقصود
حتى أرى شيخ البرية كلها ... علامة العلماء بالإقليد
شرح وجيز بالإبانة كامل ... حاوي هدى التقريب والتمهيد
فيه النهاية في البيان وضمّ ... نه إحكام ورد عقود
كاف بتلقيح الفهوم مهذب ... تهذيبه عار عن التقليد
فأبان منه كل معنى مشكل ... خاف وقرب منه كل بعيد
وأزال عنه كل شبهة قائل ... ساه ورد مقال كل حسود
بعبارة متعذر أسلوبها ... إلا على ذلق اللسان حديد
فرأيت وجه الحق أبيض ناصعاً ... ما بين هاتيك الحروف السود(3/63)
يا أيها المولي الإمام ومن له ... الثناء باق على التأييد
أبشر فقد فقت البرية كلها ... علماً بلا شك ولا ترديد
عمر بن بندار بن عمر أبو الفتح كمال الدين التفليسي، مولده بتفليس سنة اثنتين وست مائة
- تخميناً - تفقه على مذهب الشافعي رحمة الله عليه، وقرأ الأصولين وغيرهما من العلوم، وبرع في ذلك، وسمع وحدث ودرس وأفتى وولي القضاء بدمشق مدة زمانية، وكان محمود السيرة، مشكور الطريقة؛ وقدم القاهرة وأقام بها مدة يشغل الطلبة بعلوم عدة في غالب أوقاته، ووجد الناس به نفعاً كثيراً. وتوفي ليلة الرابع عشر من شهر ربيع الأول بالقاهرة، ودفن من الغد بسفح المقطم. وكان إماماً عالماً فاضلاً متبحراً في العلوم مع الديانة الوافرة والعفة المفرطة وشرف النفس مع عدم المال رحمه الله تعالى. ولما تملك التتر الشام في سنة ثمان وخمسين وست مائة، سير له تقليد بقضاء الشام بأسره والجزيرة والموصل وغير ذلك من البلاد المجاورة لها، وباشر ذلك مدة يسيرة إلى حين قدم قاضي القضاة محي الدين يحيى بن الزكى رحمه الله متولياً من جهة هولاكو، فتوجه القاضي كمال الدين إلى حلب وأعمالها متولياً لها، وكان في تلك الأيام اليسيرة قد فعل من الخير والإحسان والذب عن الرعية ما يقصر عن الوصف، وكان مسموع القول عند نواب التتر بدمشق، لا يخالفونه:(3/64)
فبالغ في الإحسان إلى الخاص والعام، والسعي في حقن الدماء وحفظ الأموال لم يتدنس في تلك المدة بشيء من الدنيا مع فقره وكثرة عائلته، ولا استضاف في زمن ولايته مدرسة ولا غيرها، بل اقتصر على ما كان مباشره من تدريس العادلية الكبيرة إلى حين سفره إلى حلب، وجرى عليه تعصب كثير ونسب إليه أشياء برأه الله منها، ونزهه عنها، فعصمه الله ممن أراد ضرره. وكان نهاية ما نالوا منه أنهم ألزموه بالسفر إلى الديار المصرية، فتوجه إليها على ما تقدم شرحه، ولم يزل بها معززاً مكرماً إلى حين وفاته رحمه الله تعالى ورضي عنه. فلقد كان من حسنات الدهر. وصل إلى دمشق في سادس عشرين ربيع الأول، ومنه قضاء ماردين وميافارقين، ونظر جميع الأوقاف والجامع، وكان القاضي قبله صدر الدين بن سنى الدولة في سنة ثلاث وأربعين، وكان كمال الدين ينوب عنه بدمشق.
أنشده بهاء الدين محمد بن الدجاجية قوله فيه بديهاً بمجلس الحكم بالعادلية أيام مباشرته الحكم بها، خلافة عن قاضي القضاة صدر الدين رحمه الله تعالى يقول:
يا من شرفت بفضله تفليس ... قد سار بحسن العدل عنك العيس
ما للعمرين نالت غيرك يا ... من زين به القضاء والتدريس
عمر بن الياس بن العنطوري، كان رجلاً صالحاً، كثير العبادة وقيام(3/65)
الليل، وحج غير مرة على قدميه، وحال عوده من الحجاز يلبس كلوتة صفراء جديدة، توفي إلى رحمة الله تعالى ورضوانه بجبل لبنان في شهر ربيع الآخر هذه السنة وقد نيف على الستين سنة من العمر رحمه الله تعالى.
عيسى بن موفق بن المزهر مبارك سيف الدين التنوخي، كان من أعيان الأمراء الحلبيين، ووالده الأمير ناصر الدين كان خصيصاً بالملك الصالح عماد الدين رحمه الله تعالى، وكان هذا سيف الدين كثير الخير والمروءة، صادق اللهجة، لا يذكر أحداً بسوء، كثير البر بمعارفه وأصحابه والمكارمة لهم، توفي ببعلبك ليلة الأحد خامس صفر، وحمل إلى قرية بحوشية من قرى البقاع البعلبكية، وهي شمالي كرك نوح عليه السلام، فدفن بها عند أهله؛ وقد نيف على الستين سنة من العمر رحمه الله تعالى.
كيكاووس بن كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن قطلمش بن أنر بن إسرائيل بن سلجوق بن دقاق السلطان عز الدين بن السلطان غياث الدين بن السلطان علاء الدين السلجوقي، قد ذكرنا أن والده لما مات اقتسم هذا عز الدين وأخوه ركن الدين بلاد الروم بينهما مناصفة، وأن أخاه ركن الدين تغلب على مملكة الروم، فلما تغلب هرب عز الدين بجماعة من خواصه وأهله، واستصحب معه مالاً(3/66)
وذخائر، وقصد القسطنطينية. فلما حل بها خافه ملكها، فقبض عليه وحبسه في بعض قلاعه، فلم يزل محبوساً بها إلى أن بعث بركة ملك التتر عشرين ألف فارس إلى بلاد صاحب القسطنطينية، فأغاروا عليها من سائر نواحيها فراسلهم في طلب الهدنة، فأجابوه على أن يسلم لهم السلطان عز الدين وما أخذ معه، فسلمه إليهم وما كان أخذ معه، وذلك في سنة ستين وست مائة، وساروا به إلى بركة، فأكرمه وقدمه على عسكره، وأمره بقصد صاحب قسطنطينية. فلما نزل على بلاده كان عنده فارس الدين أقوش المسعودي رسولاً من جهة الملك الظاهر، فخرج إليه وأمره بالرحيل وقال له: هذا قد صار من أصحاب السلطان الملك الظاهر ولا سبيل لك عليه، فرحل ولم يزل عند بركة إلى أن مات. وانتقل الملك إلى ابن أخيه منكوتمر، فأقام عنده إلى أن توفي في هذه السنة. وخلف من الأولاد ثلاثة ذكور، وهم: الملك المسعود، مقيم في سوداق في خدمة منكوتمر، والآخران عند بالعوش ملك الأشكر في اسطنبول في كتّاب الروم، لا يعرفان الإسلام. وكانت وفاة السلطان عز الدين بصوداق من بلاد الترك، ومولده سنة ست وثلاثين وست مائة رحمه الله تعالى.
لاجين بن عبد الله الأمير حسام الدين الإيدمري الدوادار المعروف بالدرفيل، كان مفرط الذكاء، كثير المعرفة والخبرة بالأمور، محباً للعلماء والفقراء، حسن الظن بهم، يقبل عليهم ويقضي حوائجهم، ويبالغ في إكرامهم وتعظيمهم، وعنده مشاركة وإلمام بالفضيلة، ويكتب خطاً جيداً(3/67)
حسناً، وله همة عالية، وصدر واسع، وتجمل تام، وكان الملك الظاهر يحبه ويؤثره كثيراً، ويعتمد عليه ويثق به، وحرمته وافرة وأوامره عند سائر ولاة الأطراف ونواب السلطنة ممتثلة، وهو محبوب إلى الخاص والعام، وأمر المكاتبات وجميع ما يتعلق بذلك معزوق به، وبالأمير سيف الدين بلبان الرومي، لكنه كان أكثر تنفيذاً للأشغال من الرومي، ولم يزل على ذلك إلى أن تمرض في هذه السنة. وتوفي إلى رحمة الله تعالى في رابع عشر شهر رمضان منها ببستان الخشاب ظاهر القاهرة، ودفن من يومه بسفح المقطم رحمه الله تعالى. سمع من أبي القاسم عبد الرحمن بن مكي السبط وجماعة غيره، وتوفي وهو في عشر الأربعين رحمه الله تعالى.
مجاهد بن سليمان بن مرهف بن أبي الفتح التميمي المصري الخياط ويعرف بابن أبي الربيع، توفي يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من جمادى الآخرة هذه السنة بالقرافة الكبرى لأنها كانت سكنه، ودفن بها أيضاً وقد ناهز سبعين سنة من العمر رحمه الله تعالى كان فاضلاً أديباً ومن شعره في أبي الحسين الجزار، وكان بينهما مهاجاة:
أبا الحسين تأدب ... ما الفخر بالشعر فخر(3/68)
وما ترشحت منه ... بقطرة وهو بحر
إن جئت بالبيت منه ... وما لبيتك قدر
لم تأت بالبيت إلا ... عليه للناس حكر
وقال يهجوه:
لا تلمني إذا غسلت تعاشي ... ر كغسل الكروش مما خباه
فسأشويه بالهجاء ولا أت ... ركه باقياً بشحم كلاه
وقال فيه أيضاً يهجوه:
إن تاه جزاركم عليكم ... بفطنة عنده وكيس
فليس يرجوه غير كلب ... وليس يخشاه غير تيس
وقال أيضاً فيه يهجوه:
ما للأديب تعاشير بلا سبب ... في خده صعر في أنفه شمم
وسوق وردان لم يدرس بوالده ... حياً ولما ماتت الأبقار والغنم
وقال فيه أيضاً يهجوه:
ما لتعاشير حلاقيمه ... عليّ قامت من مواعينه
فلا يلمني وليلم نفسه ... إذ هو مذبوح بسكينه
والله ما عصيتها فعله ... إلا بتقطيع مصارينه
وكتب إلى الوزير يعاتبه على التقرب إليه:
قل لوزير العصر لا تطرح ... أمراً به أعني بك العتب(3/69)
واجزر عن الجزار نفساً فقد ... تجني به ذنب ولا ذنب
ولا تجالس طرفاً نازلاً ... يا طال ما جالسه كلب
وقال أيضاً يهجوه من أبيات:
يجحدني ما لم يفد جحده ... دعه فما ينفعه مينه
كذلك الرجس لما ذوي ... وكاد يقضي ودنا حينه
ما إن صببت الماء في قاعه ... وقام إلا قويت عينه
وقال أيضاً يهجوه:
أعد يا برق ذكر أصيل نجد ... فإن لك اليد البيضاء عندي
أشيمك بارقاً فيضلّ عقلي ... فوا عجباً تضل وأنت تهدي
ويبكيك السخاء ولست ممن ... تحمل بعض أشواقي ووجدي
بعثت مع النسيم لهم سلاماً ... فما عنوا عليّ له بردّ
وقال أيضاً:
فوق خده بنفسج وشقيق ... كيف حملتموه ما لا يطيق
وفم فيه ما يجلّ عن الو ... صف ونخوة قلبه فيضيق
وقوام يزيد فيه قلوب ... كلما قام فيه للعشق سوق
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
وظبي تظلمت من خصره ... لقلبي عليه حقوق ودم
أخذت القصاص بتعضيضه ... ولم يجر بعد عليه قلم(3/70)
وقال أيضاً ملغزاً في الإبر والكستبان:
ثلاثة في أمر خصمين ... ألفين لكن غير ألفين
هما قرينان وإن فرقت ... بينهما الأيام فرقين
فواحد يعضده واحد ... ويعضدد الآخر باثنين
تراهما بينهما وقعة إذ ... تقع العين على العين
محمد بن سليمان بن عبد الله بن يوسف أبو عبد الله جمال الدين الهواري الفقيه المالكي المذهب المعروف بابن أبي الربيع، كان فاضلاً أديباً. قال قاضي القضاة شمس الدين أبو العباس أحمد بن خلكان أنشدني لنفسه قال:
لولا التطير بالخلاف وانهم ... قالوا مريض لا يعود مريضا
لقضيت نحبي خدمة بفنائكم ... لأكون مندوباً قضى مفروضا
ولجمال الدين محمد المذكور:
أحباب قلبي إن تحكمت النوى ... في بيننا وجرى القضاء بما جرى
فلقد غضضت عن الورى من بعدكم ... طرفاً يرى من بعدكم أن لا يرى
توفي المذكور في شهر رمضان هذه السنة بالقاهرة وقد جاوز ستين سنة من العمر وذكر الحافظ شرف الدين الدمياطي - رحمه الله - في معجمه، فقال عنه التونسي المحتد المصري المولد والدار الفقيه الأديب، أنشدني لنفسه في صديق له انتقل من السواد إلى السويداء:(3/71)
سريت من السواد إلى السويدا ... سير البدر من طرف لقلب
قضيت من النوى وطراً وهاقد ... قضيت لك البقا في البعد نحبي
وقال: وأنشدنا لنفسه في موسى بن يغمور:
لك الله يا موسى فأنت محمد ال ... صفات وذهني فيك حسان مدحه
إذ ما دجى ليل من الخطب مظلم ... فمن يدك البيضاء إسفار صبحه
وقال: وأنشدنا وكتب بها إلى صديق له يدعى الصدر:
مازلت في بعد وفي قرب ... صبّاً إليك وأي صبّ
جزت القلوب بأسرها ... والصدر موضع كل قلب
وأنشدنا أيضاً فيه:
وتوسوست بأسياف إلى الصد ... ر وما زال موضع الوسواس
قال: ومولده بالقاهرة سنة ست مائة، ووفاته بها ليلة الخميس السادس والعشرين من شهر رمضان. وحدث بشيء من الحديث - رحمه الله تعالى.
محمد بن سليمان أبو عبد الله المعافري، الشاطبي الشيخ الصالح، مولده سنة خمس وثمانين وخمس مائة، وتوفي بظاهر الاسكندرية في العشرين من شهر رمضان ودفن بمرج سوار. كان أحد مشايخ الفقراء المعروفين بالصلاح والانتفاع مقصوداً للزيارة والتبرك به، مشهوراً في ناحيته - رحمه الله تعالى.
محمد بن عبد القادر بن ناصر بن الخضر بن علي أبو عبد الله الأنصاري(3/72)
الخزرجي الشافعي الملقب شهاب الدين، الدمشقي الأصل والمولد والمنشأ، قرأ القرآن العظيم لسبع سنين وصلى بالناس به بجامع دمشق بالحائط القبلي في شهر رمضان المعظم صلاة التراويح، ثم اشتغل بالفقه على الخطيب جمال الدين عبد الكريم بن الحرستاني خطيب جامع دمشق، فقرأ عليه التنبيه والمعالم، واشتغل في حفظ الوسيط، فقرأ منه مقدار ربعه، ثم ارتحل إلى حلب، أقام بها مدة، وبها لبس الخرقة من الشيخ شهاب الدين عمر السهروردي حين وفد عليها رسولا، ثم قصد الموصل وأقام بها سنين، وفيها كمل حفظ الوسيط، فجمع بين طرفيه واجتمع بفضلاء بيت يونس وغيرهم بها، وأخذ عنهم ثم ارتحل إلى بغداد وأقام بالمدرسة النظامية مدة، ثم ارتحل إلى بلاد العراق فطاف أكثرها وحصل العلوم من علمائها، وأقام في رحلته ما يزيد على اثنتي عشرة سنة، ثم عاد إلى أهله(3/73)
بدمشق أقام بها سنين. منقطعاً عن الناس، لا يتردد إلى باب أحد ولا يجتمع إلا بمن يأخذ عنه شيئاً من العلم تعوضاً عن العريض للولايات، ثم طلب لولاية الحكم بمدينة الخليل عليه السلام، فأقام مديدة. وطلب الديار المصرية واجتمع بالوزير بهاء الدين - رحمه الله - ورغبه في المقام بمصر، وذكره للملك الظاهر - رحمه الله، فوافق على أن يولي بمصر ما يقوم به.
قال: فكرهته لما فيه من تركي مجاورة الخليل عليه الصلاة والسلام وإقبالي على الدنيا وأهلها. وقلت: أتشوق إلى الخليل صلى الله عليه وسلم وأهله:
أترى أعبش أرى العريش وشامه ... فبمصر قد سئم المحب مقامه
أم هل تبلّغ عنه أنفاس الصبا ... يوماً إلى أهل الخليل سلامه
يا سادة خلفت قلبي عندهم ... هل يحفظون عهوده وذمامه
أسعرتم نار الغرام بمهجتي ... وسلبتم طرفي الكئيب منامه
إن لم يجد مطر على مغناكم ... أغناكم دمعي ويقوم مقامه
يا هل يعيد الله أيام الحمى ... من قبل أن يلقى المحب حمامه
فاشتهرت الأبيات وبلغت الصاحب بهاء الدين، فأخذ في تجهيزه وأعاده إلى الخليل عليه السلام، فأقام بها إلى أن توفي ليلة الجمعة سابع وعشرين جمادى الأولى هذه السنة - رحمه الله تعالى - ودفن بجبل حرى بالقرب من البلد، ومولده سنة ست مائة، وكان يعرف بابن العالمة، فإن أباه توفي وهو صغير، فربّته والدته وهذّبته، وكان سبب تسميتها بالعالمة: أن الملك العادل الكبير لما توفي في سنة خمس عشرة وست مائة نظروا وامرأة(3/74)
تتكلم في العزاء فذكروها وإنها من الصلحاء، فأتوا في طلبها فتبرأت من ذلك لعدم خبرتها بما يليق بذلك الحال، فألزموها وأخذوها مكرهة وكانت تحفظ كثيراً من الخطب النباتية، قالت: وكنت أسأل الله تعالى في الطريق أن لا يفضحني في ذلك المحفل وأنا أرجف فرقاً من ذلك.
قالت: فلما حضرت وصعدت المنبر سرّي عني، فقرأت شيئاً من القرآن وخطبت بخطبة الموت التي أولها: الحمد لله الذي هدم بالموت مشيد الأعمار وهي من طنانات الخطب. فاتفق في ذلك المجلس من البكاء والوجد والحال ما لم يتفق في غيره، واشتهرت تسميتها بالعالمة، وصار لها بذلك لياذ ببيت العادل وحصلت منهم دنيا طائلة.
وكان شهاب الدين المذكور من العلماء الأعيان وعلى خاطره من الشعر والحكايات وأخبار الناس وأحوال السلف وأهل الطريق شيء كثير، وكان يستحضر الأحياء ونهاية المطلب لإمام الحرم، لا يكاد يطالع في الفقه سوى ذلك، وكان قد اشتهر اختصاصه بمعرفة الوسيط، فقال بعض الفضلاء: لم لم تعرج على طريق العراق؟ فاختصر المهذب في مدة يسيرة في مجلد واحد بعبارة سلسة فصيحة وافية بالمقصود، وزاد على الأصل فوائد جليلة، وقيد ما أهمله المصنف، ونازعه في تعليله في مواضع عديدة، وهو من نفائس الكتب. وكان رحمه الله ناقص الحظ من الدنيا ومناصبها، فإنه أقام ببعلبك مدة يكتب الشروط، وهو كاتب الحكم لقاضيها القاضي صدر الدين عبد الرحيم رحمه الله ومقيد عنده بالمدرسة النورية، ثم ولي صرخد، ولم يكن من مناصبه،(3/75)
وكذلك بلد الخليل صلى الله عليه وسلم، وهذه الولايات بالنسبة إلى فضيلته وأهليته لعلها صغيرة على أحد تلامذته، وكان الحكيم نجم الدين أحمد بن المفتاح رحمه الله الطبيب المشهور أخاه لأمه، وكذلك الشرف إسماعيل المقيم ببعلبك والمتوفي بها رحمهم الله تعالى.
محمد بن عبد الله بن مالك أبو عبد الله الإمام العلامة جمال الدين الطائي الجياني النحوي اللغوي، أوحد عصره وفريد دهره في علم النحو والعربية مع كثرة الديانة والصلاح والتعبد والاجتهاد، سمع وحدث، وكان مشهوراً بسعة العلم والإتقان والفضل موثوقاً بنقله حجة في ذلك، وله عدة تصانيف حسنة مفيدة، وإليه انتهى علم العربية. ولم يكن في زمنه من يجري مجراه في غزارة علمه ووفور فضله، وله نظم كثير يشتمل على فوائد جمة؛ وكانت وفاته بدمشق في ثاني عشر شعبان، ودفن بسفح قاسيون، وهو في العشر الثمانين رحمه الله ورثاه غير واحد، منهم الشيخ محمد الحنفي رحمه الله بقوله:
أم دهى الخطب من أصابت سهامه ... واستخف الحلوم حزناً حمامه
أم درى رائد المنيسة إذ ... أقدم ماذا إذا فتى أقدامه
بالإمام ابن مالك فجمع الدي ... ن فغشى ضوء النهار ظلامه(3/76)
بإمام أفنى الليالي والأيا ... م وفي البر والكتاب إمامه
شاركت في مصابه العرب والعج ... م فمالت بالدوح نوحاً حمامه
وشكا الجامع اشتياقاً إليه ... وبكاه مقامه ومقامه
روضه حفرة أعدت لمثوا ... هـ يزهر أعماله أكمامه
زخرفت القدوم منه قصور ... وجنان ولدانها خدامه
جمع الناس والملائكة في التشي ... يع والملتقى له أعظامه
كان زين الوجود منه وجود ... كامل شوه الوجوه اخترامه
كان حليا لدهره وبنيه ... فوهى سلك دره ونظامه
كان نعمى لم يوف موليها الشك ... ر فبالشكر كان منا انتقامه
كان ركناً تأوي إليه بنو الف ... ضل فأخنى على العلوم انهدامه
كل صعب من المعاني جليل ... بيدي فكره الدقيق زمامه
نحو علم أدنى من الفضل من طا ... ل إني عذبه الثمير إدامه
خلّدت ذكره الجميل علوم ... خلدتها من بعده أقلامه
كم سقيم من الكلام شفاه ... بعد ما أيأس الأساة سقامه
وبفهم من الدقائق ما مس ... كن منها المفهوم إلا اهتمامه
نال بالجد في المعارف حداً ... لم ينله أحلامه
خلّف الفاضل الفريد أبا بش ... ر وأنسب أيامه أيامه
كان للنحو قبل شمل بديد ... وبمسعاه أحكمت أحكامه(3/77)
لو حواه ومن تقدم عصر ... لأقرت بفضله أعلامه
من لأهل الآداب ومن بعده ها ... ذاك منهج الصواب كلامه
قعدوا منه زاعمين ... عطوفاً فكلهم أيثامه
لو درى حاملوه ماذا أق ... لوا ما استقلت بحامل أقدامه
إنما الموت نافذ الح ... كم فمن كان للكرام اغتنامه
أولع النقص بالكمال فما أو ... جب هذا السرار إلا تمامه
أعضل الداء في نواه فلا سل ... وان لرجالنا ولا إلمامه
ونقيض النفوس وهو قليل ... لا تفيض الدموع يقضي ذمامه
إن قبراً حواه لا غرو إن را ... ح ذكياً كالمسك ريحاً رغامه
آنس الله روحه برحم ... ته عليها وروحة وسلامه
ورثاه تقي الدين حسين بقوله:
وافى مصاب يقتضي إلمامه ... هملان طرف لا يقل سجامه
وخفوق قلب ما أراه ساكناً ... يوم ابن مالك إذ أتاه حمامه
لهفي عليه لقد مضى مستسلماً ... لقضاء ربه يفيه مرامه
قد كان بحراً في العلوم وشامخاً ... في الحلم واهاً لو يطول مقامه
المانح الأدب الجزيل الشارح الت ... نزيل كما يجتلي أحكامه
رحم المهيمن روحه فضريحه ... يعتاده صوب يسحّ غمامه
أعني ابن مالك الموسد في الثرى ... وعلومه بين الورى أعلامه(3/78)
إن يطرأ النقص الشنيع لفقده ... فإذا أبيد الدين صح تمامه
خلف رضي بالوقار مسربل ... وبروق مرأى فعله وكلامه
ورث الفضائل كابراً عن كابر ... دامت لنا في نعمة أيامه
محمد بن محمد بن الحسن أبو عبد الله نصير الدين الطوسي صاحب علوم الرياضة والرصد وغير ذلك من علوم الأوائل، كان إماماً منفرداً بذلك فاق أهل عصره، وانتهت إليه معرفة هذا الشأن، وتوفي بالجانب الغربي من بغداد في يوم الإثنين ثامن عشر ذي الحجة، ودفن في مقابر موسى بن جعفر رحمة الله عليهما وقد نيف على ثمانين سنة، وقيل كانت وفاته في صفر سنة أربع وسبعين والأول أظهر رحمه الله. قرأ العلم على المعين سالم بن بدران بن علي المعتزلي المتشيع المصري وغيره. وكانت له مصنفات كثيرة في أنواع من العلوم العقلية وإليه المرجع فيها، وله أشعار كثيرة، فمن ذلك ما كتبه من شعره على مصنف في أصول الدين لكمال الدين الطوسي، سيّره إليه ليجيب عن مسائل فيه، سأله إياها فأجاب عنها أحسن جواب ومدحه بهذه الأبيات:
أيأتي كتاب في البلاغة منته ... إلى غاية ليست تقارب بالوصف
فمنظومه كالدر جاد نظامه ... ومنثوره مثل الدراري في اللطف
دقيق المعاني في جزالة لطفة ... يخبّر في ضم الغموض إلى الكشف(3/79)
كفايته حار العقول بحسنها ... فأمرض عيناها وملثمها يشفي
أتى عن كثير ذي فضائل جمة ... عليم بما يبدي الحكيم وما يخفي
فأصبحت مشتاقاً إليه مشاهداً ... بقلبي مخباه وإن عز عن طرفي
رجا الطرف أيضاً كالفؤاد لقاءه ... وإن لا يوافي قبل إدراكه حتفي
قرأت من العنوان لما فتحته ... وقبّلت تقبيلاً يزيد على اللف
ولما بدا لي ذكركم في مسامعي ... تعشّقكم قلبي ولم يركم طرفي
وصادفت هذا البيت في شرح قصتي ... وإيضاح ما عانيته جملة يكفي
وردت رسالة شريفة ومقالة لطيفة مشحونة بفرائد الفوائد مشتملة على صحائف اللطائف مستجمعة لفرائس النفائس مملوءة من زواهر الجواهر من الجناب الكريم السيدي العالمي الفاضلي السندي المحققي الكمالي أدام الله جماله وحرس كماله إلى الداعي الضعيف المحروم المتلهف محمد بن محمد الطوسي، فاقتبس من شرار ناره نكت الزبور وآنس من جانب جناب طوره أثر النور، فوجدتها بكراً حلت حلة كريمة، وصادفتها صدقة تضمت درة يتيمة هي أوراق مشتملة على رسائل في ضمنها مسائل أرسلها وسأل عنها من كان أفضل زمانه وواحد أقرانه الذي نطق الحق على لسانه ولوح الحقيقة من بنانه ورأيت المورد أدام الله فضله قد سألني الكلام فيها، وكشف القناع عن مطاويها؛ وأين أنا من المبارزة مع فرسان الكلام والمعارضة مع البدر عند التمام، وكيف يصل الأعرج إلى قلة الجبل(3/80)
المنيع وأتى الظالع شأو الضليع، ولكني بحرصي على طلب التوصل الروحاني إليه بإجابة سؤاله، وشغفي بنيل التوصل الحقيقي لديه بإيراد الجواب عن مقابلة اجترأت، فامتثلت أمره واشتغلت بمرسومه، فإن كان موافقاً كما أراد فقد أدركت طلبي وإلا فليعذرني إذ قدمت معذرتي والله المستعان وعليه التكلان، والأخذ في تصفح الرسالة فصلاً فصلاً، وتقريرما يتقدر عندي منه أو برد عليّ مستعيناً بالله ومتوكلاً عليه إنه الموفق والمعين.
محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان بن عبد الله بن علوان بن رافع أبو المكارم الأسدي الشافعي محي الدين قاضي القضاة بحلب؛ مولده بها في خامس شعبان سنة اثنتي عشرة وست مائة بحلب، سمع وحدث ودرس بالمدرسة المسرورية بالقاهرة، وتولى القضاء بحلب وأعمالها إلى حين وفاته؛ وبيته معروف بالعلم والدين والتقدم والسنة والجماعة، وتوفي في ثالث عشر جمادى الأولى بحلب، ودفن بتربة جده رحمه الله تعالى؛ وقيل في وفاته غير ذلك. وقد ولي القضاء بحلب من بيتهم غير واحد رحمهم الله أجمعين.
محمد بن الموفق بن الزهر مبارك أبو عبد الله الأمير نجم الدين، وقد تقدم ذكر أخيه الأمير سيف الدين عيسى رحمه الله، ووفاته في أوائل هذه السنة. وتوفي نجم الدين محمد المذكور ليلة السبت سابع عشر شهر(3/81)
رجب بقرية بحوشية، ودفن بها عند أهله وهو في عشر الستين رحمه الله تعالى. وكان عنده ديانة وتشيّع ومعرفة بمذهبه وتغالى فيه كثير المكارم حسن الصحبة والأدب مع من يصحبه رحمه الله تعالى.
محمد بن أبي الرجاء بن أبي الزهر بن أبي القاسم أبو عبد الله التنوخي الدمشقي المتطبب المعروف بابن السلعوس، مولده في العشر الأوسط من شهر رجب سنة تسع وتسعين وخمس مائة، سمع من عبد الصمد الحرستاني وحدث عنه بالقاهرة، وتوفي في الخامس والعشرين من شعبان بالقاهرة، ودفن من الغد بمقابر باب النصر رحمه الله تعالى.
نعمان بن حمدان بن نعمان التكريتي الملقب بشجاع الدين من التجار المشهورين بالثروة وكثرة الجد، وعنده سعة صدر فيما يقدمه للملوك والأمراء من التقادم والتحف، وكانت له مكانة عند الملك الظاهر، رحمه الله وقرب أوجب تغير خاطر وزيره الصاحب بهاء الدين عليه، فلم تنفعه مكانته وقربه، وكان صهر وجيه الدين محمد بن سويد التكريتي وزج ابنته وأولاده منها وتوفي ليلة الجمعة ثاني جمادى الآخرة بدمشق، ودفن من الغد بسفح قاسيون رحمه الله.
أبو بكر بن أحمد بن عمر البعلبكي المعروف بابن الحبال ويعرف بابن(3/82)
دشينية توفي ببعلبك ليلة الجمعة تاسع وعشرين شهر ربيع الأول، ودفن يوم الجمعة بعد الصلاة ظاهر باب نخلة، وهو في عشر السبعين، وخلف تركة عظيمة؛ قيل أنها تقارب بمائة ألف دينار، ولم يرزق ولداً، وإنما كان له زوجة وابنا عم، فاحتاط الملك الظاهر على تركته، وكان بدمشق وأخذ منها قريب أربع مائة ألف درهم وأفرج لورثته عن الوثائق والأملاك فتمحق أكثر ذلك، وكان وقف في حال حياته وقفاً على وجوه البر يتحصل منه في السنة قريب خمسة آلاف درهم وقفه على نفسه مدة حياته، ثم من بعده يصرفه في مصارفه، فجرى فيه فصول واستقر بعد وفاته وقفاً كما وقفه، وكان أراد الرجوع فيه قبل وفاته واستفتى على ذلك، فوجد كتاب الوقف قد كتب به نسخة وحكم الحكام بصحته فلم يجد إلى ذلك سبيلاً، وكان يشح على نفسه بأيسر الأشياء. وكان سبب وقفه لهذا الوقف أن الحوطة لما حصلت في سنة أربع وستين ورسم أنه لا يفرج لأحد إلا بعد ثبوت كتابه بدمشق في وجه وكيل بيت المال نظر المشار إليه ووجد عنده فوق المائة كتاب وأنه يغرم على الإثبات بدمشق وبعلبك على كل كتاب تسجيل وشهود الطريق قريب الخمسة عشر درهماً، فرأى ذلك يشق عليه ولم تسمح نفسه به، فقيل له: أنت ليس لك نية تبيع هذا الملك ولا ترهنه، والمصلحة أنك توقفه على نفسك مدة حياتك، ثم بعدك على أولادك إن كان لك ولد وإلا على وجوه البر، فتجمع هذه الأملاك(3/83)
في كتاب واحد وتحصل الأفراج به فجنح إلى ذلك وعمله، ثم أراد نقضه كما تقدم فتعذر عليه، وكان فيه رفق بمن يعامله ويدانيه بصبر بعد الاستحقاق المدة الطويلة، وقل إن كان يحبس له غريم رحمه الله وإيانا وكان في بداية أمره ضعيف الحال لا شيء له وإنما اكتسب ذلك بالأسفار ونماه بالمعاملة مع قلة الخرج وكثرة الدخل فصار له جملة طائلة وبعض الناس يقول أنه ربما وجد شيئاً مدفوناً ولا أصل لذلك، وفي الجملة لم ير بعده من أرباب الأموال ببعلبك مثله رحمه الله.
السنة الثالثة والسبعون وست مائة
دخلت هذه السنة والخليفة والملوك على القاعدة المستقرة والملك الظاهر بالديار المصرية.
متجددات الأحوال
في خامس عشر المحرم يوم السبت جهزت الشواني من دار الصناعة إلى دمياط.
وفي يوم الأحد سادس عشره وصل الملك المنصور من حماة إلى القاهرة وصحبته أخوه الأفضل وولده المظفر محمود، فنزل بالكبش وبعث إليه الملك الظاهر السماط بكماله صحبة الأمير شمس الدين الفارقاني أستاذ الدار فوقف في وسطه لما مد، فلم يتركه الملك المنصور وسأله حتى جلس(3/84)
ثم وصلت الخلع وغيرها، وأباح له ما لم يبحه لأحد من خواصه من شرب الخمر وسماع الغناء وسائر الملاهي مبالغة في إكرامه واحترامه.
وفي سادس صفر ولدت امرأة نصرانية بقصر الشمع محلة بمصر ثلاث بنات في بطن واحد لكل واحدة منهن مشيمة ومتن لوقتهن.
وفي يوم الأحد سابع صفر توجه الملك الظاهر إلى الكرك على الهجن، وفي صحبته الأمير بدر الدين بيسري وسيف الدين أتامش السعدي وسبب توجهه أنه وقع بالكرك برج فأحب أن يكون إصلاحه بحضوره، وكان بالكرك بساتين محكرة بشيء يسير، فأمسكها جميعها ثم عاد إلى مصر، فدخلها يوم الثلاثاء ثاني وعشرين ربيع الأول، ولقيه صاحب حماة على الغرابي ليلاً، فودعه وسار إلى حماة. وقبل توجه الملك الظاهر إلى الكرك أعطى الأمير شهاب الدين يوسف بن الأمير حسام الدين الحسن بن أبي الفارس القيمري خبز أربعين طواشياً بدمشق، وكان من أعيان الأمراء في الدولة الصالحية النجمية والدولة الناصرية، وكان بطالاً قد أطلق له من بيت المال في كل يوم عشرين درهماً لنفقته وكلفته.
ذكر هرب رئيس الإسكندرية ومن معه من عكا
قد تقدم القول بكسر الشواني وأسر من كان فيها، ولما أسروا(3/85)
بعث بهم إلى عكا طلباً للفداء، فامتنع الملك الظاهر من فدائهم، وقال: إني قد استغنيت عنهم. وكتب إليهم أن يسعوا في فداء أنفسهم. ومن فدى نفسه شنقته ودام الحال على ذلك، فمات من مات وهرب من هرب، فكتب الملك الظاهر إلى الأمير عز الدين العلائي نائب السلطنة بقلعة صفد بأن يوسع الحيلة في خلاصهم، فكتب إلى ابن جعفر من الفرنج بعكا ووعد ألف دينار إن سعى في خلاصهم فدسّ المذكور إليهم مبارداً قطعوا بها شبّاكاً في البرج الذي هم فيه، ثم أخرجوا من الباب ليلاً، وعليهم زي الفرنج إلى مركب قد أعدوا لهم، فركبوه إلى ساحل عيّن لهم، فوجدوا خيل البريد معدة لهم، فركبوا وغيروا زيهم وتلثموا ودخلوا صفد سراً لم يشعر بهم أحداً وبعث بهم العلائي ملثمين بحيث لا يعرفون، فوصلوا إلى القاهرة في ربيع الأول، وهم الرئيس شهاب الدين أبو العباس المغربي وشهاب الدين محمد بن الموفق رئيس الاسكندرية وزين الدين أخوه، والرئيس سيف الدين أبو بكر بن إسحاق. وكان توفي من المأسورين بعكا وقبرس سيف الدين محمد بن المجاهد وسيف الدين بن أبي سلامة رئيسا الاسكندرية، وشرف الدين علوي رئيس دمياط، ومن رؤساء مصر نجم الدين نجم بن سيف الدولة الجبلي، وسيف الدين أبو بكر بن المخلص إبراهيم بن إسحاق، وجمال الدولة يوسف بن المخلص وسيف الدين محمد بن نور الدولة علي بن المخلص وغيرهم، والباقون منهم(3/86)
من تحيل وهرب ومنهم من توفي ومنهم من بقى في الأسر بجزيرة قبرص، ولما وصل الرؤساء الذين سلموا كان الملك الظاهر بالكرك، فلما عاد أحضرهم ووبخهم على تفريطهم، فقال له شهاب الدين رئيس الاسكندرية: قضاء الله لا يرد بحيلة. فاستحسن منه ذلك وخلع عليهم.
وفي سابع عشر ربيع الآخر عاد ابن غراب وصارم الدين أزبك وجماعة من الأجناد والعرب والمماليك من برقة، ومعهم منصور صاحب قلعة طلميثة ومفاتيحها معه.
وفي سادس وعشرين ربيع الآخر خرج الملك الظاهر لرمي البندق، وترك في القلعة نائباً عنه الأمير بدر الدين أيدمز الوزيري، فأقام خمسة أيام ثم عاد إلى القلعة. وسبب عوده أن بعض العرب اطلع على أن جماعة من التتر يكاتبون، ثم ردف ذلك أن والي غزة أمسك ثلاثة نفر، ومعهم بدوي في خان حماق قد خرجوا من القاهرة لقصد التتر، فأنكر الخاني كلامهم، فعرّف الوالي بهم فأخذهم ووجد معهم كتباً، فسيرها إلى القاهرة ووقف الملك الظاهر على الكتب، فوجدها من عند قجقار الحموي وموغان بن منكورس وسربغا وطنغري برمش وأنوك وبرمش وبلبان محلى والمعلاني المرتد(3/87)
وبلاغاً وطعبني وأيبك وسنجر الحواشي التركي؛ فقيض عليهم وقابلهم بما فعلوا؛ فأقروا فكان آخر العهد بهم.
وفي يوم الاثنين حادي عشر جمادى الأولى توجه الملك الظاهر وولده الملك السعيد إلى جهة البحرية للصيد في الخراريق ودخل الاسكندرية فشكى إليه وإليها شمس الدين بن باخل، فضربه وأخذ خطه بخمسين ألف دينار، وهدم له بستاناً كبيراً وقف عليه بنفسه حتى هدمته العامة، وأقره على الولاية فقط، وفوض أمر الجيش والديوان إلى الطواشي بهاء الدين صندل فشيد دار الطراز، وعاد نهار الخميس خامس جمادى الآخرة.
وفي رابع شعبان رحل الملك الظاهر بالعساكر نحو الشام، فوصل دمشق يوم الخميس تاسع عشرين منه، ثم خرج قاصداً بلد سيس وعبر إليها الدربند، فملكها وملك إياس والمصيصة وأذنة، وكان دخول العساكر إلى سيس يوم الاثنين حادي عشرين شهر رمضان، وخروجهم منها في العشرين من شوال بعد أن قتلوا من الأرمن وأسروا خلقاً كثيراً لا يحصى، وغنموا من البقر والغنم ما بيع بالمجان، وأقام الملك الظاهر بجسر الحديد إلى أن انقضى شوال وذو القعدة، ورحل في العشر الأول من ذي الحجة، فدخل دمشق يوم الثلاثاء خامسه، وأقام بدمشق إلى أن دخلت سنة أربع وسبعين.
أعجوبة: في السابع والعشرين من شعبان وقع رمل بمدينة الموصل(3/88)
ظهر من القبلة وانتشر يميناً وشمالاً حتى ملأ الأفق وعميت الطرق، فخرج العالم إلى ظاهر البلد بتلعها وبمشهد يحيى بن قاسم، ولم يزالوا يبتهلون إلى الله تعالى بالدعاء إلى أن كشف الله ذلك عنهم.
وفي هذه السنة بعث أبغا إلى الروم تقونوين عوضاً عن أجاي ومعه أربعين رجلاً من خواصه، وأمره أن يكتب جميع أموال الروم ويضبطها، ولا يحكم البرواناة ولا غيره من أمراء الروم إلا بحضوره، ولا يصدرون إلا عن رأيه، فلما وصل حضر مجلسه جميع امراء الروم وقدموا له الهدايا والتحف خصوصاً البرواناة، وطاف تقونوين جميع بلاد الروم وحصل منها أموالاً جسيمة وحملها إلى أبغا، ولما رأى البرواناة تمكن تقونوين ذل له واستكان وبذل له الطاعة.
وفيها توفي إبراهيم بن يوسف بن جعفر بن عرفة بن المأمون بن المزمل بن قاسم بن الوليد بن عتبة بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف أبو إسحاق المعروف بظهير الدين بن شيخ الإسلام القرشي الأموي، ومولده بدمشق في ثالث عشر ربيع الأول سنة خمس وعشرين وست مائة، سمع وحدث، وبيته معروف بالحديث والرواية والديانة والرئاسة والأمرة والتقدم، وكانت وفاته في رابع عشرين جمادى الآخرة، ودفن من يومه بمقابر باب النصر - رحمه الله تعالى.
إبراهيم بن شروة بن علي بن مرزبان بن كلول جكو أبو إسحاق الأمير(3/89)
سيف الدين الزهيري الجاكي توفي ببعلبك قبل طلوع الشمس من يوم الخميس رابع عشرين شهر رجب، ودفن من يومه ظاهر باب حمص من مدينة بعلبك، وقد نيف على السبعين سنة من العمر - رحمه الله تعالى. وكان من الأمانة والحشمة وشرف النفس وصدق اللهجة على طريقة لا يدانيه فيها غيره. حكى لي غانم بن العشيرة أنه كان متولي حلب عند فقد التتار لها، ولما هجمت المدينة صعد إلى القلعة وأحضر غلمانه صناديق من داره رموها في خندق القلعة لضيق الوقت عن ادخالها إلى القلعة وكذلك غيره، ثم سير غلمانه ليحضروا له شيئاً من تلك الصناديق، فخرجوا والقتال يعمل، فقاتلوا ولا زالوا حتى أحضروا صندوقاً، فلما فتحه وجد فيه ذهباً ودراهم وحوائص وأشياء فاخرة وما هوله؛ فقال له غلمانه: أنت محتاج خذ منه شيئاً ولو على سبيل القرض. فأبى ولا زال ينبشه حتى وجد فيه شطفة رنك بعض الأمراء، فسير اليه عرّفه فحضر وتسلّمه، وكان ولي حران في الأيام الناصرية وأمير جندار العزيز بن عبد الملك الناصر، وتوجه معه إلى هولاكو وبعد أخذه قلعة حلب جعله هولاكو أمير شكار وسلم إليه الجوارح وغيرها، وكان عنده محترماً خلاف وكان الملك الظاهر يحترمه ويثني عليه ويصفه بالعفة والأمانة(3/90)
والحشمة - رحمه الله تعالى، وخلف أولاداً منهم الأمير علاء الدين أحمد أخذ خبزه وولي بعده مكانه وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
أحمد بن موسى بن يغمور بن جلدك أبو العباس الأمير شهاب الدين بن الأمير جمال الدين، كان معروفاً بالشهامة والصرامة، ولاه الملك الظاهر رحمه الله تعالى المحلة وأعمالها من الغربية، فهذبها ومهّد قواعدها وأباد من بها من المفسدين والدعار، وقطع من الأيدي والأرجل ما لا يحصى كثرة وشنق ووسط وأباد بحيث أفرط في ذلك، فخافه البريء والسقيم وتمكنت مهابته في صدور أهل عمله ومن جاورهم. توفي بالمحلة في رابع عشرين جمادى الأولى، وحمل إلى القرافة. فدفن بتربتهم في الثامن والعشرين منه، وكان عنده كرم ورياسة وحشمة وسعة صدر وبر بمن يقصده، وله نظم وعنده إلمام بالفضيلة رحمه الله وتجاوز عنه، فمن شعره:
وبي أهيف واف وفيه محاسن ... بدت وعليها للعيون تهافت
ممشي في ضياء الدين كالبدر وجهه ... وبينهما للناظرين تفاوت
وأعجب ما شاهدته فيه أنه ... يكلم قلبي لحظه وهو ساكت
وقال في غلام عنبري من أبيات:
تحكم في الألباب حتى رأيته ... ينظّم حبات القلوب قلائدا(3/91)
وقال في غلام يمد الشريط:
وبي زيّنا كالبدر والظبي بهجة ... وجدّا بقلبي ناره وهو جنتي
منعم خده كاللجين بياضه ... يمد نضاراً كاصفراري ودقتي
وقال وكتب بها إلى الأمير بدر الدين بيليك الخزندار الظاهري وقد أهدى إليه شاهيناً بدرياً:
يا سيد الأمراء يا من قد غدا ... وجه الزمان به جميلاً ضاحكا
وافى لك الشاهين قبل أوانه ... ليفوز قبل الحائمات ببابكا
حتى الجوارح قد غدت بدرية ... لما رأت كل الوجود لذالكا
وله يخاطب صاحباً الملك الظاهر له ورد عليه من الاسكندرية إلى المحلة:
إن صدرتم عن منزل فلكم ... فيه ثناء كنشر روض بهى
أو وردتم فاللمحب الذي من ... آل موسى في الجانب الغربي
بيمند بن بيمند بن بيمند متملك طرابلس توفي بها في العشر الأول من شهر رمضان المعظم، ودفن في كنيستها، وتملك ولده بعده كان حسن الشكل مليح الصورة، رأيته ببعلبك في سنة ثمان وخمسين وست مائة، وقد حضر إلى خدمة كتبغا نوين وصعد إلى قلعة بعلبك وداراها وحدثته نفسه أنه يطلبها من هولاكو ويبذل له ما يرضيه وشاع ذلك عند بعلبك، فشق على أهلها وعظم لديهم فحصل بحمد الله ومنته من كسرة التتار ف آخر الشهر المذكور ما أمنهم من ذلك ثم لما ملك الملك المنصور(3/92)
سبف الدين قلارون رحمه الله طرابلس وفتحها في سنة ثمان وثمانين وست مائة نبش الناس عظام بيمند المذكور من الكنيسة وألقوها في الطرقات وطرابلس في الحقيقة عند الفرنج إنما هي لامرأة من أولاد صنجيل الذي افتتحها أولاً وأخذها من بني عمار وهي في الجزائر في قلعة لها هناك، واستنابت هي أو جدها جد هذا، فاستولى لبعدها عنه، وكان من شياطين الفرنج ودهاتهم وتداولها أولاده من بعده، وكان ابن صنجيل خرج من قلاعها لأمر أوجب ذلك وركب البحر، فتوفقت عليه الريح ونفد زاده، وكاد يهلك هو ومن معه وقرب من طرابلس فسيّر إلى صاحبها إذ ذاك وسأله أن يأذن له في النزول في أرضه والإقامة في البر بمقدار ما يستريح ويتزود فأذن له. فنزل بمكان الحصن المعروف به الآن وهو حيث بنيت طرابلس الجديدة وباع واشترى فنزل إليه أهل حبه يشري وسائر تلك النواحي وجميعهم نصارى وأطمعوه في البلد وعرّفوه ضعف صاحبه وعجزه عن دفعه، فأقام وبنى الحصن المعروف به وتكثر بأهل بلاد طرابلس واتفق اشتغال ملوك الشام ونواب الدولة المصرية به فغنم وتم مراده وصابر طرابلس مدة زمانية فتوجه ابن عمار إلى السلطان ملك شاه السلجوقي يستنجد منه، فلم يحصل له مقصود فأخذت منه طرابلس وانتقل بأمواله وذخائره إلى عرقا.(3/93)
واستفحل أمر الفرنج بالساحل فلم يمكنه مجاورتهم فانتقل إلى حصن الخوابي وكان له فأخذ عرقاً متملك طرابلس والله أعلم.
سعد الله بن سعد الله بن سالم بن واصل زين الدين الحموي، كان فاضلاً في الطب مجرباً حاذقاً حسن المعالجة متديناً ذا مروءة غزيرة، وله تقدم في الدولة، مولده سنة خمس وثمانين وخمس مائة، وتوفي في شوال رحمه الله تعالى.
عبد الرحمن بن محمد بن إدريس بن إبراهيم بن عبد الكريم بن قرناص أبو محمد جمال الدين بن الشيخ نجم الدين أبي علي بن مخلص الدين أبي إسحاق الخزاعي الحموي، توفي بحماة عشية يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الآخر، ودفن من الغد بالتربة المعروفة بهم رحمه الله وهو في عشر السبعين. وذكره القاضي جمال الدين بن واصل رحمه الله؛ فقال: جمال الدين أبو البركات عبد الرحمن بن الشيخ نجم الدين أبي علي الحسن بن إبراهيم بن قرناص كان رئيساً كبيراً كريماً ذا نعمة واسعة، وداره مأوى القاصدين إليه والواردين عليه واللازمين من الأصحاب له مع ديانة تامة، وحسن طوية، وطلاقة وجه لم يكن في بلده في وقته من يضاهيه في ذلك، مولده سنة عشرين وست مائة، وتوفي في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين وست مائة، ودفن بالمدرسة التي أنشأها جده الرئيس مخلص الدين إبراهيم بن عبد الكريم بن قرناص ظاهر حماة رحمه الله تعالى.(3/94)
عبد الله بن محمد بن عطاء أبو محمد شمس الدين الحنفي توفي بدمشق يوم الجمعة ثامن جمادى الأولى، كان والده شرف الدين محمد حنبلي المذهب، وكان يتغالى في والدي رحمه الله ويحبه محبة عظيمة مفرطة وبسببه انتقل إلى بعلبك واستوطنها مدة سنين، وقرأ ولده شمس الدين القرآن العزيز على والدي واستأذنه والده شرف الدين محمد فيما يشتغل به ولده المذكور، فأشار عليه أن يشغله في الفقه على مذهب أبي حنيفة رحمة الله عليه؛ فاشتغل وحفظ القدوري ورحل إلى دمشق وتفقه بحيث صار المشار إليه في الحنفية، وتولى تدريس مدارس عدة، وناب في الحكم بدمشق عن قاضي القضاة صدر الدين أحمد بن سنى الدولة رحمه الله، ومن بعده من القضاة، فلما رتب الملك الظاهر رحمه الله القضاة من المذاهب الأربعة سيّر له تقليدا بقضاء القضاة بدمشق المحروسة وأعمالها، فباشر ذلك وانتقل من النيابة إلى الاستقلال، وذلك في سنة أربع وستين، واتفق حوطة الملك الظاهر على الأملاك وبساتين دمشق، وقعد في دار العدل وجرى الحديث في هذا المعنى بحضور القضاة وجماعة من العلماء والمشايخ وغيرهم، فكل ألان القول وخشي سطوة الملك الظاهر إلا القاضي شمس الدين المذكور رحمه الله، فأنه بالغ في الصدع بالحق ولم يخش إلا الله تعالى، وقال: لا يحل لمسلم أن يتعرض إلى هذه الأملاك ولا البساتين فإنها بيد أربابها ويدهم ثابتة عليها. فغضب الملك الظاهر لهذا القول، وقام من دار العدل، وقال: إذا كنا ما نحن مسلمين أيش قعودنا. فشرع(3/95)
الأمراء يتلافوه وقالوا: لم يقل أن مولانا السلطان ما هو مسلم وإنما قال ما يحل لمسلم التعرض إلى أملاك الناس. فلما سكن غضبه قال: اثبتوا كتبنا عند هذا القاضي الحنفي وتحقق صلابته في الدين فعظم في عينه. وأما القاضي شمس الدين رحمه الله فلم يتأثر ولا التفت وعصمه الله منه بحسن قصده، وكان القاضي شمس الدين من العلماء الأعيان تام الفضيلة وافر الديانة كريم الأخلاق حسن العشرة كثير التواضع عديم النظير قليل الرغبة في الدنيا، يقتنع منها باليسير ولا يحابي أحداً في الحق، واشتغل عليه خلق كثير وجم غفير كان مرضه وهو صغير ببعلبك مرضاً أشفى منه والده بدمشق في شغل له، فسيرت والدته إليه تقول: إلحق ولدك عبد الله فإنه هالك. فبطّل ما كان بصدده وحضر إلى بعلبك، فرآه في حال اليأس منه فحضر عند والدي فسلم عليه وأخبره بما شاهده من حال ولده، فقال له: طيب قلبك فإن ولدك يبرأ بإذن الله تعالى وما عليه بأس. فقام لوقته وسافر ولم يبت تلك الليلة ببعلبك، فقالت له زوجته: تسافر وولدك على هذه الحال! قال لها: قال لي الشيخ الفقيه: إنه يهدى وما عليه بأس. وتم سفره ومدفنه يجبل قاسيون رحمه الله ورضي عنه.
عثمان بن محمد بن منصور بن أبي محمد بن عبد الله بن سرور أبو عمرو فخر الدين الأميني ويعرف بابن الحاجب، والحاجب هو جده منصور بن أبي، ومولده بدمشق سنة اثنتين وست مائة. سمع من جماعة من(3/96)
المشايخ الكثير وحدث وتوفي في الرابع من ربيع الآخر، ودفن من الغد ظاهر باب النصر رحمه الله؛ وللأميني نسبة إلى أمين الدولة صاحب صرخد.
محمد بن أحمد بن عبد العزيز بن محمد بن عبد الرحيم أبو عبد الله عز الدين الحلبي الأصل المعروف بابن العجمي، قد تقدم ذكر والده كمال الدين في سنة سبع وستين وست مائة، ولما توفي والده رتب عز الدين ولده في كتابة الإنشاء، وكان عنده أهلية تامة وفضيلة كثيرة ومروءة غزيرة ومثابرة على قضاء حوائج الناس، وتوفي بدمشق في هذه السنة ودفن بمقابر الصوفية إلى جانب قبر أبيه رحمه الله تعالى ولعله لم يبلغ ثلاثين سنة من العمر رحمه الله تعالى، وكان عارفاً بالفقه على مذهب الشافعي رحمه الله، مشاركاً في علوم كثيرة، متفنناً أكثرها مع كثرة الديانة وسعة الصدر، كثير التعبد والانقطاع عن الناس، حفظ شيئاً كثيراً من الكتب المشهورة في فنون العلوم ودرّس بعدة مدارس بالقاهرة وغيرها، وصنف وأفاد وبرع نظراءه، وله نظم كثير فمنه:
حكم الغرام وحكمه مقبول ... إني بسيف لحاظه مقتول
فعلام تنكر ما جنت ألحاظه ... ودمي على وجناته مطلول
بدر وغصن قدّه ورضابه ... ذا عاسل يثني وذا معسول
لا غرو أن أضحى القوام مثقفاً ... فسنانه من جفنه مسلول
حل اصطباري عقد مبسمه ... وما عقد الوداد لودّه محلول(3/97)
أرادفه مثل الكثيب بحالها ... لكن محل وشاحه مجدول
كيف السبيل إلى وصال حبيبه ... وصدوده ببعاده موصول
وله ملغزاً في عقرب:
وما اسم رباعي إذا ما عددته ... تراه بلا شك يزيد على عشر
له منزل إن شئت في أبرج السماء ... ومنزله في الأرض باد لدى حجر
إذا أدركته الشمس يذهب شخصه ... وتبصره في الشمس يسعى إلى الوكر
معكوسه ستر إذا ما رفعته ... رأيت جمالاً حل باريه كالبدر
وتصحيفه أرجوه من خالق الورى ... يمن به قولاً إذا حفت من وزري
وقال أيضاً رحمه الله:
أتراه يذري في الهوى ولهن به ... أم عنده خبر الجوى ولهيبه
أم هل ترى ترتي النوى لمقاطع ... ما زال يوصل دمعه بنحيبه
صب تسربل في قميص سقامه ... لما كساه الحب ثوب شحوبه
عجباً له عذبت بفيه مشارب ... وعذابها سبباً إلى تعذيبه
فنحيبه لحبيبه وسراره ... لرقيبه وسقامه لطبيبه
حكم الهوى أن لا يمر بربعهم ... إلا ستاه بدمعه وغروبه
ويظل يطلب منه عن سكانه ... خبراً وذاك الرسم غبر مجيبه
بالله ما يجري السؤال لمعهد ... أفنى الزمان رسومه بخطوبه
درست معالمهم فلست مفرقاً ... في الرسم بين وهاده وكثيبه(3/98)
هب النسيم على محل ديارهم ... فشممت من رياه عند هبوبه
آبجاً لأجلهم صبوت له كما ... يصبو المحب إلى لقاء حبيبه
أنسيته لما بدا بدر الدجى ... يحكيه صافي نهره وقليبه
فنظرت عند شروقه وغروبه ... ورأيته بين طلوعه ومغيبه
بدري الذي قد همت فيه ولم ... أخف من كيد عذله ووشي رقيبه
فلئن عفا فلطالما قد مر لي ... زمن نعمت بحسنه وبطيبه
ولئن حلا فلكم جوى من شادن ... يحتال بين حزونه وسهوبه
ومشنف كحل اللحاظ منعم ... ومهفهف علا القوام رطيبه
غنى الربيع بربعه فكساه من ... تفضيضه حللاً ومن تذهيبه
نبأ لدهر ما تبسم ساعة ... إلا وأعقبها بعام قطوبه
لم أبك إطلالاً له ولكنني ... أبكي على عيش تقضي لي به
وقال رحمه الله ملغزاً في قاسم:
سألت محبوبي عن اسمه ... فقال ما عندي له علم
لكنني أبدي له كنية ... يعرفها من عنده فهم
ترخيمه وصف لقلبي فإن ... أسقطت منه أولاً فاسم
وعكسه عضو إذا رخموا ... منى اللحم والعظم
فقلت لا نبعث من لفظه ... تصحيفه تجلى بها الوهم
فحله وانظم يا ذا الفتى ... بفضله قد شهد النظم(3/99)
وقال أيضاً ملغزاً:
يا أولي الفضل والفضيلة قد أع ... وزني في حل وفي كشف
خبروني عن اسم جمع وطرف ... ومعكوسه إذا شئت حرف
وهو أن صحفوه في الصدر بعض ... وهو أن حرفوه في القلب ألف
وتراه فلا تشك بأني ... قلت حقاً إذا بدا منه وصف
وهو معتل طالما صحح ال ... مرء معروف بالخفافة عطف
ينبي العكس منه عن كل واحد ... هو إذا خففوه كم فيه ألف
أي عذر وقد أتاك صريحاً ... لك إن كان في جوابك خلف
وكتب إليه شخص من أصحابه لغزاً:
رأيت صبياً قارئاً ذا فصاحة ... يريك آيات النساء ويجوّد
فقلت له ما الاسم أطرق ساعة ... يصوب نحوي طرفه ويصوّد
فقال إذا ما رمته فهو ظاهر ... بأول ما أتلوه حين أردد
فصحفه بعد العكس منه فإنه ... تراه صحيحاً واضحاً حين يقصّد
فأجابه عنه يقول:
أظنك تعني خادماً ما لبيباً ... ومن تنقل الأخبار عنه وتسند
إذا عكسوه فهو ضوء لبارق ... وإن حرفوه فهو للصب مسعد
وتصحيفه انبئت حقاً بفضله ... فما ارتاب فيه لا ولا أتردد
فخذه ودم ما ناح في الجو طائر ... وما دام أدوار وما دام فرقد(3/100)
وقال رحمه الله ملغزاً أيضاً:
ما اسم كلتا بفضيلة سماه نعترف ... متصرف كان في ملكه غير منصرف
فحرفان منه فعل أمر لمذكر وثلاثة أمر لمؤنث أن حرف وباقيه فعل ماض معناه الكذب، والمشار إليه بالصدق قد عرف له خصائص صفات قد باين بها الحيوان بالبشر ورحيل مشهور كاد أن يضاهي برحيل الشمس وبتسيير القمر وسلوك في الجو أعجب من كل عجيب وهو أن صحفته وقلبته تام تكتيب، وله رحمه الله مجيباً:
هو النبي سليمان الذي ظهر ... إيمان في عصره واستخبأ الشرك
هذا الجواب بلا شك أتاك فإن ... صحفت حرفين منه جاءك الشك
محمد بن إسماعيل بن إسماعيل بن جوسلين أبو عبد الله شمس الدين، كان رجلاً حسناً، وعنده اشتغال بالفقه والنحو وغيره، وتوفي ببعلبك في بكرة نهار الجمعة خامس وعشرين شهر رجب، ودفن من يومه بتربة ابن قرقين بمقابر باب سطحاً ظاهر بعلبك، وهو في عشر الأربعين رحمه الله تعالى.
محمد بن علي بن موسى بن عبد الرحمن أبو بكر أمين الدين الأنصاري الخزرجي المحلي النحوي العروضي الكاتب، ولد في شهر رمضان المعظم سنة ست مائة، وتوفي ليلة الجمعة ثامن عشر ذي القعدة، ودفن يوم الجمة بين القرافقين بالديار المصرية، قرأ الأدب وبرع فيه، وانتفع به جماعة؛(3/101)
وله تصانيف، وكان أحد الفضلاء المشهورين، عارفاً بعلوم عدة؛ وله نظم حسن وأرجوزة في العروض وأخرى في القوافي وغير ذلك، كتب في مرضه إلى بعض معارفه الأكابر يشكو المضائقة وسوء الحال:
يا من الذي عم الورى نفعه ... ومن له الإحسان والفضل
العبد في منزله مدنف ... وقد جفاه الصحب والأهل
فزوجه البقل ويا ويح من ... فروجه في المرض البقل
ومات بعد قوله هذه الأبيات الثلاثة بثلاثة أيام، وكان له صاحب فمرض فلم يعده أمين الدين المذكور وكتب إليه:
إن جئت نلت ببابك التشريفا ... وإن انقطعت فأوثر التخفيفا
ووحق حبي فيك قدماً أنني ... عوفيت أكره أن أراك ضعيفا
محمد بن يحيى بن الفضل بن يحيى بن عبد الله بن القاسم بن المظفر أبو حامد محي الدين ابن الشهرزوري الموصلي، مولده في ثامن عشر شهر رمضان سنة تسعين وخمس مائة، كان من أولاد القضاة، وعنده فضيلة، وله نظم حسن، ووالده تاج الدين أبو طاهر كان قاضي الجزيرة العمرية، والمحيي المذكور ترك زي الفقهاء وتزيا بزي الأجناد، وكانت وفاته يوم الأحد ثاني عشر شهر ربيع الآخر من هذه السنة بالمقس ظاهر القاهرة من الديار المصرية، وبيته مشهور بالرئاسة والتقدم، وتولى القضاء فب الأقطار غير واحد منهم رحمه الله.(3/102)
مسلم البرقي البدوي شيخ الفقراء كان رجلاً صالحاً كثير التعبد، وله رباط بالقرافة الصغرى، وكان أحد المشايخ المشهورين مقصوداً للزيارة والدعاء والتبرك به وأصحابه معروفون. وتوفي في خامس ربيع الأول، ودفن من الغد بقرافة مصر الصغرى رحمه الله.
منصور بن سليم بن منصور بن فتوح الهمداني الاسكندري أبو المظفر وجيه الدين ابن الشافعي الشيخ الفقيه العالم المحدث الفاضل، مولده في صفر سنة سبع وست مائة، وولد بالاسكندرية، وسمع من جماعة وحدّث ووليّ الحسبة بالاسكندرية ودرس بها وجمع وصنف وخرّج وألّف تاريخاً لبلده الاسكندرية، وكان حافظاً صالحاً حسن الطريقة جميل السيرة محسناً إلى من يرد إليه من الطلبة عفيداً حسن الأخلاق ليّن الجانب؛ رحل إلى بغداد وأقام بها مدة، وله ذيل على ابن نقطة فيما ذيله على كتاب الأمير ابن ماكولا، وله تاريخ الاسكندرية وتاريخ لمنارة الاسكندرية وغير ذلك، وكانت وفاته بالاسكندرية في ليلة الحادي والعشرين من شوال، ودفن من الغد بين العشاوين رحمه الله تعالى.
نصر الله بن عبد المنعم بن نصر الله بن أحمد بن جعفر بن حواري أبو الفتح شرف الدين التنوخي الدمشقي الحنفي، مولده في سنة ثلاث أو أربع وست مائة، وتوفي في سادس شهر ربيع الآخر بدمشق، ودفن بمغارة(3/103)
الجوع بسفح قاسيون، وكان فاضلاً ديّناً حلو النادرة حسن المحاضرة، على ذهنه من الأشعار والحكايات والوقائع شيء كثير، وله يد في نظم وليس بذلك، وكان كبير النفس عالي الهمة كثير الكرم يتجمل فيما يصنعه لمعارفه وأصحابه من المآكيل ولعله يدعو النفر الواحد والنفرين، ويحضر من الأطعمة الفاخرة ما يكفي جماعة كثيرة، وكان في غالب أوقاته يمتنع من أكل طعام غيره وقبول هدية فلمته على ذلك؛ فقال: أشتهي أن أكون حراً لا يسترقني أحد بإحسانه. وكان في زمن أولاد شيخ الشيوخ رحمهم الله، قد تعرف بهم وصار له قرب منهم وحرمة وافرة بسببهم وعمّر في آخر عمره مسجداً عند طواحين الأشنان ظاهر دمشق وغرم عليه جملة كثيرة وتأنق في عمارته، وكان يدعو معارفه إليه ويبالغ في الاحتفال على عادته في سعة صدره وعلو همته، وسمع الكثير وكتب بخطه ما لا يحصى وحدّث رحمه الله تعالى؛ ومن نظمه يتغزل ويصف دمشق:
ما كنت أول مستهام مدنف ... كلف بممشوق القوام مهفهف
يردي لواحظه بكل مهند ... ماض وعطفاه بكل مثقف
مستعذب الألفاظ يفعل طرفه ... في قلب من يهواه فعل المشرف
شمس الضحى كسفت بنور جبينه ... خجلاً ولولا حسنه لم تكف(3/104)
أنا واله دنف بورد خدوده ... وبغض نرجس مقلتيه المضعف
فحذار من طرف كحيل أوطف ... يسبي ومن خصر نحيل مخطف
يا حائراً أبداً بعادل قده ... ما حيلتي في الحب إن لم ينصف
ديوان حبك لم يزل مستوفياً ... وجدي وأشواقي بحسن يصرف
لك ناظر فتّاك بالعشاق قد ... أضحى على الهلكات أعجل مشرف
ورشيق قد عامل في مهجتي ... من غبر حاصل أدمعي لم تصرف
يا من يروم الوصل من متمنع ... أبداً على عشاقه لم يعطف
أغرس غصون اللهو مهما تستط ... يع فإن بدت ثمرات لهوك فاقطف
وإذا طلائع عارضيه بدت فقل ... قف يا عذار بخده واستوقف
واكشف قناعك إن أردت لذاذة ... لاخير في اللذات إن لم يكشف
لا شي أعذب من تهتك عاشق ... في عشق معسول المراشف أهيف
إن يخف وجدك فالغرام يدعيه ... والوجد أقتل ما يكون إذا خفى
فإذا بلغت لما تحاول من منىً ... بحصاة همك عن فؤادك فاحذف
يا من على صنم الملاحة عاكفاً ... صنم يكون عليه من لم يعكف
أشرفت فيما قد أتيت وإنما ... قد يدرك اللذات غير المشرف
كلّفت نفسك حمل أعباء الهوى ... ومن العجيب خطاب غير مكلف
يا من يعنّف في دمشق ووصفها ... لو كنت تعقل كنت غير معنف
هي جنة الدنيا وتكفي منزهاً ... وفضيلة أوصافها في المصحف
بلد سبي الزمّر الذي حلوا به ... بمياهه ومروجه والزخرف(3/105)
يوسف بن أحمد بن محمود بن أحمد بن محمد بن أبي القاسم أبو المحاسن الأسدي الدمشقي الملقب جمال الدين التكريتي الجد، الموصلي الأب، الدمشقي المولد، المحلي الوفاة، المعروف بابن الطحان، المشهور بالحافظ اليغموري مولده بدمشق سنة ست مائة - تخميناً - سمع الكثير بالموصل ودمشق ومصر والاسكندرية وغيرها من جماعة من المشايخ وحصل الأصول والفوائد منهم أبو العباس أحمد بن سلمان بن أبي بكر بن سلامة بن الأصفر البغدادي، وكان عنده فهم وتيقظ، وله مشاركة جيدة في الأدب والتاريخ وغيره من علوم متعددة، وجمع جموعاً مفيدة، وكتب بخطه الكثير، وكان كثير البحث والتنقير، جامعاً لفنون حسنة، حسن الأخلاق لطيف الشمائل، مشغولاً بنفسه، وحدّث وصحب الأمير جمال الدين موسى بن يغمور رحمه الله ولازمه وعرف به، فلا يعرف إلا بالحافظ اليغموري، وكان حلو المحادثة مليح النادرة لا تمل مجالسته. توفي إلى رحمة الله تعالى في ليلة الأربعاء الحادي والعشرين من ربيع الآخر بمدينة المحلة من أعمال الغربية، وكان قد قصدها لرؤية الأمير شهاب الدين أحمد بن يغمور المقدم ذكره، فتوفي عنده في هذا التاريخ، وتوفي شهاب الدين من بعده بشهر ويومين على ما هو مذكور في ترجمته رحمهم الله تعالى، وكتب إليه الأديب شهاب الدين محمد بن عبد المنعم المعروف بابن الخيمي وكلاهما أرمد:
أبثّك يا خليلي إن عيني ... غدت رمداء تجري مثل عين(3/106)
حديثاً أنت تعرفه بيننا ... لأنك قد رمدت وأنت عيني
فأجابه الحافظ رحمه الله تعالى يقول:
كفاك الله ما تشكو وحيّا ... محاسن مقلتيك بكل زين
فإني من شفاك على يقين ... فإني قد شفيت وأنت عيني
وكتب إليه الأديب شهاب الدين - ابن الخيمي - المذكور:
يا أيها البحر الذي ... هو سائغ فيه الشراب
والحبر كعب حين ين ... سب في العلوم له كعاب
أأبا المحاسن أنت حا ... فظها فليس لها ذهاب
أضحت وصدرك لوحها الم ... حفوظ ما حفظ الكتاب
كل المحاسن والفضا ... ئل والعلوم به تصاب
وكذا الغرائب أنت مو ... طنها فليس لها اغتراب
أشكو إليك وربما ... يلّتذ بالشكوى المصاب
ذهب الصبا وزمانه ... ذاك الزمان المستطاب
وتغيرت منى الغري ... زة في علوم واكتساب
وتنكرت عندي المعا ... رف والمعارف والصّحاب
وسألت لذاتي الإيا ... ب فلم يكن منها إياب
وا خيبتي ما كان يجم ... ع بيننا إلا الشباب
وبدت عيوب كان من ... بون الشباب لها حجاب(3/107)
وخضبت أستر حالتي ... عنها فما نفع الخضاب
ومن القضايا في المشي ... ب وكلها فيه صعاب
كحقوق مخدومي جما ... ل الدين طاب به المآب
قد طال شغل خدمتي ... إياه وهو لها ثواب
دأبي له إما ثنا ... ء أو دعاء مستجاب
أو نظم جوهر وصفه ... في سلك نظم يستطاب
وبدائع من فضله ... يبدو بها العجب والعجاب
إلا اجتناب القرب من ... هـ فما يضر الاجتناب
إذا كان للإجلال والإجلال ... الأدوان دأب
ومع التجنب فالمو ... دة فوق ما معها اقتراب
فخليفتي في خدمتي ... وله فيها انتداب
قصد النزول بظله ... ليكون منه انتساب
في دار علم جنة ... تجري جواريها العذاب
وللحافظ اليغموري:
رجع الود على رغم الأعادي ... وأتى الوصل على وفق مرادي
ما على الأيام ذنب بعدها ... كفه القرب أساءت البعادي
وقال رحمه الله تعالى:
أنا مرآة فإن أبصرتمو ... حسناً أنتم بها ذاك الحسن(3/108)
أوتروا ما ليس رضوه فقد ... صدئت إن لم تروها من زمن
قال الحافظ اليغموري: ذكرت الأمير سيف الدين المشد رحمه الله زهر السفرجل وحرصته على رؤيته، فلما صار إليه ورأى بهجته كتب إلي يستدعيني:
زهر السفرجل ما علم ... ت فقد أشرت برؤيته
يدعوك دعوة شيق ... فاغنم إجابة دعوته
إن لم تعنه بنظرة ... أذبلت يانع نضرته
قال الحافظ: فأجزت هذه الأبيات ببيت تأدباً:
حاشاه أن يذوي وقد ... حل البذى في ساحته
مرض للأمير جمال الدين موسى بن يغمور رحمه الله بعض مماليكه، وكان يعز عليه معالجة بعض الأطباء واتفق أن ذلك المملوك توفي إلى رحمة الله تعالى فخرج في جنازته خلق عظيم من الأمراء والأعيان وغيرهم، وخرج الطبيب الذي عالجه في الجملة ووقف على شفير القبر، وجعل يقول للحفار: افعل كذا وكذا؛ فقال له الحافظ اليغموري: يا حكيم أنت قضيت ما عليه ووصلته إلى هنا وما لك بعد هذا حديث هذا يتولاه غيرك. فضحك بعض الحاضرين وخجل الطبيب وبلغ الأمير جمال الدين ذلك فطرب له.(3/109)
بسم الله الرحمن الرحيم
؟ السنة الرابعة والسبعون وستمائة
دخلت هذه السنة والخليفة والملوك على القاعدة في السنة الخالية والملك الظاهر بدمشق.
مجددات الأحوال
في رابع عشر المحرم بعث الملك الظاهر الأمير بدر الدين الخزندار على البريد إلى القاهرة لإحضار الملك السعيد فعاد به إلى دمشق في يوم الأربعاء سادس شهر صفر.
وفي الثالث والعشرين من جمادى الأولى فتح حصن القصير وهو بين حارم وأنطاكية وكان فيه قسيس عظيم عند الفرنج يقصدونه للتبرك به، وكان الملك الظاهر قلد أمراء التركمان وبعض عسكر حلب بمحاصرته وذلك في ذي الحجة سنة ثلاث وسبعين ثم بعث إليه الأمير سيف الدين الرومي الدوادار فحصل بينه وبين القسيس مراسلات فيها ضروب من الخداع ألجأه الجمالي فيها النزول إليه. فلما اجتمع به أكرمه سيف الدين وجعل عليه عيوناً تمنعه من التصرف والعود إلى الحصن من حيث لا يشعر ولك يزل يلاطفه بالمواعيد إلى أن سلمه وأطلعه ووفى له بما وعده.(3/111)
ذكر ما ورد من أخبار بلاد الروم
فمن ذلك أن أبغا طلب تقونوين والسلطان غياث الدين والبرواناة فخرجوا من الروم في ذي الحجة من السنة فصادفوا آجاي في أرزن الروم عائداً من عند أبغا إلى الروم، فخافوا منه وقدموا له هدايا كثيرة ثم فارقوه وكان في صحبتهم مرحسيا سركيس وهو قسيس يؤثره أبغا ويكرمه، فوصلوا إلى أبغا في أوائل المحرم وهو بأرموا من بلاد آذربيجان نازلاً في الدار التي أنشأها هولاكو وأنشأ إلى جانبها كنيسة عظيمة لزوجته طغز خاتون وبواطن جدرانها مصفحة بالذهب بأنواع الجواهر فلما مثلوا بين يديه أتحفوه بما معهم من الهدايا، فكان أول ما قبل هدية مرحسياً وكان من جملتها جواشن مبدعة الصفة فأعجبته وفرقها على خواصه ثم سأل السلطان غياث الدين عن أبيه فقال له أبوك مات أو قتل وكان قصده أن يأخذ به من قتله فقال مات وردد القول عليه مراراً وهو لا يغير الجواب الأول، وكان قد تقدمهم خواجا علي فاجتمع بهم عند أبغا فتوسط لهم تقونوين في عوده إلى الوزارة ولولديه تاج الدين ونصير الدين في أن برد عليهما أقطاعاً على أن يبذل في كل سنة ألفي بالشت وسبع مائة فرس يستظهر بها على ما كان يحمل إليه من بلاد الروم فأجاب إلى ذلك، وخلع(3/112)
عليه وعلى ولديه وعادوا، فلما جلسوا بسيواس بلغهم أن آجاي ضرب نواب البرواناة وضياء الدين بن الخطير، واستأصل أموالهم وتعرض لمن سواهم من الأعيان وعسفهم فكتبوا إلى أبغا بذلك فبعث إليه يطلبه.
ذكر ما دبر البرواناة في إخراج آجاي
على ما كاتب به البرواناة
اتفقا على أكل مال الروم وأنهما يشنآن بي ليخرجاني ويستبدان بها فكتب إليه من هو البرواناة حتى نسمع كلامه فيك، أمره إليك إن شئت أن تقتله وإن شئت أن تبقيه، وكان البرواناة لما بلغه أن آجاي بعث رسولاً في أمره جعل عليه عيناً عن عوده بالجواب فلما قدم الرسول أخذ إلى دار البرواناة وأنزل وأكرم وحمل إليه الخمر وأعطى بعض غلمانه دراهم وأمره أن يسرق الكتاب ويحمله إليه ليقف عليه ويعيده إليه ففعل ذلك، فلما وقف على الكتاب سارع في تجهيز هدية سنية بعث بها إلى أجاي ولاطفه بأعذار قبلها منه، ثم إن البرواناة أخذ خطوط وجوه أهل الروم بأن آجاي قد عزم على قتله وقتل تقونوين وتسليم البلاد لصاحب مصر فعاد الجواب باستدعاء آجاي وتقونوين والبرواناة ومرحسياً القسيس، والأمير سيف الدين طغان البكلربكي فخاف البرواناة من استصحاب سيف الدين فأقطعه أرزنكان وولاه كفالة السلطان غياث الدين ثم خرج فيمن بقي معه واستصحب معه كل من كان آجاي ظلمه وعسفه ليستصرخوا عليه عند أبغا فوصلوا إليه في ربيع الأول فلما مثلوا بين يديه وسمع شكوى(3/113)
المتظلمين أمر آجاي أن يقيم عنده وقتل من أصحابه سبعة أنفس وأنهى مرحسياً إلى أبغا أن البرواناة أقطع سيف الدين أرزنجان لكي لا أسكنها وإني إن أقتطعها حملت كل سنة خمس مائة فرس عليها خمس مائة فارس نجدة، فقال له تقونوين أنت تلبس البرنس ولا تليق الإقطاع إلا لمن يلبس السراقوج وإن كنت ترغب في الإقطاع فاخلع البرنس.
وقال للبرواناة هذا يضيع كل سنة من أموال الروم شيئاً كثيراً لأنه يحمي من الفلاحين خلقاً يلبسهم البرانس فلا يؤدون الخراج ولا الجزية، فأمر أبغا أن لا يحمي أحد في سائر البلاد لمرحسياً إلا في أرزنجان لا غير لكونه ساكناً بها ثم عاد إلى الروم في ربيع الآخر، لما عاد البرواناة وتقونوين ومن معهما إلى بلاد الروم ورد عليهم أمر أبغا بخروجهم ونزولهم على قلعة البيرة فرحلوا قاصدين البيرة فنزلوا عليها يوم الخميس ثامن جمادى الآخرة وعدتهم ثلاثون ألفاً، منهم خمسة عشر ألفاً من المغل مقدمهم تابشي وأقتاي نوين ومقدم عسكر الروم البرواناة، ومقدم عسكر ماردين وميافارقين شرف الدين عبد الله اللاوي، ومعهم من عساكر الموصل وشهرزور والعراق طوائف، فوصلوا إليها ونصبوا ثلاثة وعشرين منجنيقاً أفرنجياً والرامي به مسلم، ونصبوا من القلعة عليه منجنيقاً فلم يصبه حجره وكان يقع رائداً عنه فقال له الرامي المسلم، لو قطع الله من ساعدك ذراعاً كان أهل البيرة(3/114)
يستتركون منك لقلة معرفتك ففهم إشارته وقطع ذراعاً من ساعد المنجنيق ورمى به فأصاب المنجنيق فكسره، وخرج أهل البيرة في الليل وكبسوا العسكر فقتلوا الكثير ونهبوا وأحرقوا المنجنيقات وعادوا.
وكان البرواناة لما نزل على البية بعث أربعمائة فارس يتجسسون أخبار الملك الظاهر ليقتلهم ويعمل السير إلى البيرة فإذا سمع بقدومه كبس عسكر المغل بمن معه من عسكر الروم وتوجه إلى الملك الظاهر فلما عبرت الأربعمائة الفرات إلى الشام وجدوا ثلاثة قصّاد وكتب معهم من الملك الظاهر، كتب إلى البرواناة تتضمن أننا وقفنا على ما كتبت به إلينا، وها نحن على أثر رسلك، فكن على أهبة فيما عزمت عليه من اجتماع الكلمة على العدو المخذول، فأحضروا القصّاد عند أقتاي نوين فعزم على قتل من في العسكر من المسلمين فأشار سمعان عليه أن لا يفعل فإنهم يلجأون إلى أهل البيرة فيقووا بهم على قتالنا فتتركهم إلى أن ننفصل ونرحل ونقتلهم في بعض الأماكن ونقتل معهم البرواناة فأمر بحملتهم إلى البرواناة فأنكرهم، وقال هذه مكيدة من صاحب سيس فقبلوا ذلك منه في الظاهر وقالوا شأنك والقصّاد فقتلهم وطاف برؤوسهم في العسكر ثم سيرت الكتب إلى أبغا من غير علم البرواناة، ولما امتد حصار القلعة وعصيانها أرسل أقتاي نوين إلى سيف الدين بكلربكي وحسام الدين بيجار يستشيرهما فأجاباه هذه القلعة حصينة وعساكر صاحبها قريبة وفيها ذخائر كثيرة وعساكرنا قد ضعفت من الغلاء والوباء والرأي الرحيل فرحلوا يوم السبت سابع عشر جمادى الآخرة بعد أن أحرقوا(3/115)
مجانيقهم ونهبوا أسواقهم بأيديهم.
ولما بلغ الملك الظاهر وهو بدمشق نزول التتر على البيرة أنفق على العساكر فوق ستمائة ألف دينار، وخرج يوم السبت سابع عشر جمادى الآخرة وهو يوم رحيل التتر عن البيرة فاتصل به خبر رحيلهم بالقطيفة فنم إلى حمص وترادفت الأخبار عليه بتفريق شملهم فعاد إلى دمشق ودخلها يوم الخميس سلخه ثم خرج منها يوم السبت ثاني شهر رجب ومعه جميع العساكر ووصل القاهرة يوم الثلاثاء ثامن عشره وكان قد اجتمع بالقاهرة رسل الملك المظفر صاحب اليمن ورسل الأنبروز ورسل الجنوبين ورسل منكوتمر بن تولي خان بن جنكز خان ملك المسلمين من التتر ورسل العلان ورسل الأشكري وعدتهم خمسة وعشرون رسولاً فركبوا وتلقوا الملك الظاهر على بركة الجب ورجّلوا وقبلوا الأرض فسلم عليهم وأمرهم بالركوب ودخل القلعة.
وأما البرواناة وعساكر الروم فإنهم استشعروا من أقتاي بسبب القصّاد فلما رحلوا عن البيرة فارقوهم وعبروا الفرات قاصدين ملطية وبلاد الروم فلما وصلوا أوطانهم تيقنوا أن لا مقام لهم في الروم مع التتر فأجمعوا رأيهم مع البرواناة على منابذتهم فاستحلف البرواناة حسام الدين بيجار النابتري وولده بهاء الدين مقطع ديار بكر وشرف الدين الخطير وضياء الدين محمود أخاه وأمين الدين ميكائيل على أن يكونوا مع الملك الظاهر يعادون من عاداه ويوالون من والاه فلما بلغ ذلك مجد الدين أتابك وجلال الدين المستوفي أنكرا على البرواناة ولما اطلع(3/116)
الأمير سيف الدين بكلربكي على ذلك لزم بيته ثم سير البرواناة رسولاً بنسخة اليمين بدعاء نور الدين بريز يطلب من الملك الظاهر عسكراً يستعين به وأن يكون السلطان غياث الدين على ما هو عليه من الجلوس من التخت على أن يحمل له ما كان يحمله إلى التتر فأجابه الملك الظاهر بالشكر والاعتذار بأن العسكر لا يمكنه الدخول إلى هذه البلاد إلا بعد انقضاء الربيع ويقع العزم على التوجه إليك إن شاء الله تعالى.
ذكر استئصال شأفة النوبة
كان داود ملك النوبة أغار على سرح عيذاب سنة إحدى وسبعين وقتل من فيها من التجار ووفد على الملك الظاهر شكدة ابن عم داود متظلماً منه وزعم أن الملك كان له وأنه تغلب عليه فلما استقر الملك الظاهر بقلعة الجبل بعد عوده من الشام تقدم إلى الأميرين عز الدين أفرم وشمس الدين الفارقاني بالمسير إلى النوبة وأصحبهما ثلاثمائة فارس وشكندة وأمرهما بتسليم البلاد إليه على أن يكون ربعها للملك الظاهر فخرجوا يوم الاثنين مستهل شعبان فوصلوا دنقلة في ثالث عشر شوال فخرج إليهم ملكها داود وأخوه جنكو ومن عندهما على النجب الصهب بأيديهم الحراب وليس عليهم ما يقي من السهام غير أكسية سود تسمى الدكاديك فانهزموا وقتل منهم مالا يحصى وأسر أكثر مما قتل، وبيع الرؤوس من السبي بثلاثة دراهم وعزلوا منهم ألف نفر للسلطان، وانهزم داؤد وقطع النيل بأمه وأخته إلى البر الغربي،(3/117)
ثم هرب في أثناء الليل إلى بعض الحصون فركب الأفرم والفارقاني بمن معهما وسارا في طلبه ثلاثة أيام مجدين فلما أحس بهم ترك أمه وأخته وابنة أخيه جنكو ونجا بنفسه وابنه وأخذوا حريمه ورجعوا إلى دنقلة وملكوا شكندة ورتبوه على كل بالغ في البلاد ديناراً في السنة جزية وأن يحمل إلى السلطان في كل سنة عدة كثيرة من الهجن والبقر والعبيد وقرروا مع صاحب بلاد الجبل وكان مبايناً لداؤد أن يكون دووبريم، وهما قلعتان حصينتان بغرب أسوان بينهما سبعة أيام خاصاً للملك الظاهر، وفوضوا إليه نيابة السلطنة فيهما ومتى قصده عدو نجدته العساكر، ثم عاد الأميران ومن معهما إلى القاهرة في خامس ذي الحجة ومعهما أخو الملك داود في برج بقلعة الجبل ثم وصل بعد أيام أم داؤد وأخته وابنة أخيه فحبسوا، ثم وصل السبي فبيع بمائة وعشرين ألف درهم، وأمر الملك الظاهر أن لا يباع منهم شيء على يهودي ولا على نصراني وأن لا يفرق بين المرأة وأولادها، ولما هرب الملك داؤد قصد صاحب الأنواب وهو ملك ملوك النوبة فقبض عليه وسيّره إلى الملك الظاهر فوصل يوم الثلاثاء ثاني المحرم سنة خمس وسبعين فحبس في بعض أبراج القلعة وتقدم السلطان إلى الصاحب بهاء الدين باستخدام عمال على ما يستخرج من الجزية والخراج بدنقلة وأعمالها وأن يجمّل إليها من فوض الصناع والفلاحين والبياعين.
وفي العشر الآخر من شهر رجب شنق الطواشي شجاع الدين عنبر المعروف بصدر الباز، وسبب ذلك أنه كان من خواص الخدام المباشرين لدور الملك الظاهر فبلغه عنه أنه يشرب الخمر بالبلغة مع جماعة من الخدام(3/118)
فأحضره ليلاً وقام إليه بنفسه ولكمه وأمر بعض الفراشين بشد كتافه بطنب وشنقه بالميدان الأسود وشنق تلك الليلة خمسة من الأجناد كانوا تخلفوا عن العرض بحمص، وشفع في جماعة أخرى تخلفوا فحبسوا في خزانة البنود، وأمر بمن كان يحضر معه في الشراب من الخدام فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وسملت أعينهم وكانوا أربعة عشر نفراً فمنهم من مات ومنهم من سلم.
وفي يوم الخميس ثاني عشر ذي الحجة عقد نكاح الملك السعيد ناصر الدين محمد بركة بن الملك الظاهر على ابنة الأمير سيف الدين قلاوون الألفي الصالحي بالإيوان في القلعة على صداق خمسة آلاف دينار المعجل منها ألفا دينار معاملة، وتوكل في قبول النكاح عن الملك السعيد الأمير بدر الدين الخزندار، وتوكل عن الأمير سيف الدين قلاوون في العقد شمس الدين الفارقاني، وجزى العقد بحضور الملك الظاهر والوزراء والقضاة وأعيان الشهود والأمراء وأعيان الأجناد، وكتب الصداق محي الدين عبد الله بن عبد الظاهر وقرأه في المجلس فخلع عليه وأعطي مائة دينار.
مضمون الصداق وصورته: الحمد لله موفق الأملاك لأسعد حركة، ومصدق الفأل لمن جعل عنده أعظم بركة، ومحقق الإقبال لمن أصبح نسيبه سلطانه وصهره ملكه، الذي جعل للأولياء من لدنه سلطانه نصيراً، وميز أقدارهم باصطفاء تأهيله حتى حازوا بغنى أو ملكاً كبيراً، وأقر فخارهم بتقريبه حتى أفاد شمس آمالهم ضياء وزاد قمرها نورا، وسربه وصلتهم حتى أصبح فضل الله عليهم بهاء عظيماً وأفضاله كثيرا، فهي أسباب التوفيق(3/119)
الآجلة والعاجلة وجاعل ربوع كل أملاك من الأملاك بالشموس والبدور والأهلة آهلة، جامع أطراف الفخار لذوي الإيثار حتى حصلت لهم النعمة الشاملة، وحلت عندهم البركة الكاملة.
نحمده على أن أحسن عند الأولياء بالنعمة الاستيداع، وأجمل لتأملهم الاستطاع وكمّل لاختيارهم الأجناس من العز والانقطاع، وآتى آمالهم ما لم يكن في حساب من الابتداء بالتحويل والابتداع، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة حسنة الأوضاع، ملئة بتشريف الألسنة وتشنيف الأسماع، ونصلي على سيدنا محمد الذي أعلى الله به الأقدار، وشرف به الموالي والأصهار، وجعل كرمه داراً لهم في كل دار، وفخره على من استطلعه من المهاجرين والأنصار مشرف الأنوار، صلى الله عليهم صلاة زاهية الأزهار يانعة الثمار.
وبعد فلو كان اتصال كل شيء بحسب المتصل به في تفضيله لما استصلح البدر شيئاً من المنازل لنزوله، ولا الغيث شيئاً من الرياض لهطوله، ولا الذكر الحكيم لساناً لترتيله، ولا الجوهر الثمين شيئاً من التيجان لحلوله، لكن ليشرف بيت يحل به القمر، ونبت يزوره المطر، وكذلك تجملت برسول الله صلى الله عليه وسلم أصهاره من أصحابه، وتشرفت أنسابهم بأنسابه، وتزوج صلى الله عليه وسلم وتمت لهم قربة الفخار، حتى رضوا عن الله رضي عنهم.
والمترتب على هذه القاعدة إفاضة نور يستمده الوجود، وتقرير أمر يقارن الأخبية منه سعد السعود، وإظهار خطبة تقول الثريا لانتظام(3/120)
عقودها، وكيف وإبرام وصله يتجمل بترصيع جوهرها متن السيف، الذي يغبطه في إيداع هذه الجوهرة كل سيف، ونسيج صهارة يتم بها إن شاء الله كل أمر شديد ويتفق بها كل توفيق تخلق الأيام وهو جديد، ويختار لها أبرك طالع وكيف لا تكون البركة في ذلك الطالع وهو سعيد. وذاك بأن المراسيم الشريفة السلطانية أرادت أن تخص المجلس السامي الأميري ونعوته بالإحسان المبتكر تفرده بالموهبة التي يرهف بها منه الحد المنتضى ويعظم الجد المنتظر، وأن يرفع من قدره بالصهارة مثل ما رفعه النبي صلى الله عليه وسلم من قدر صاحبيه صهريه أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، فخطب إليه أسعد البرية، وأمنع من تحميها السيوف وأعز من تسبل عليها ستور الصون الخفية، وتضرب دونها خدود الجلالة الرضية، ويتجمل بنعوتها العقود وكيف لا وهي الدرة الألفية، فقال والدها المذكور، هكذا ترفع الأقدار وتزان، وكذا يكون قران السعد وسعد القران، وما أسعد روضاً أصبحت هذه المراحم الشريفة السلطانية له خميلة وأشرف سيفاً غدت منطقة بروج سمائها له حميلة وما أعظمها موهبة أبت للأولياء من لدنها سلطاناً، وزادتهم مع إيمانهم إيمانا، وما أفخرها صهارة يقول التوفيق لسرعة إبرامها ليت، ولسرفها عبودية كرمت سلماتها بأن جعلته من أهل البيت.
شوإذ قد حصلت الاستخارة في رفع قدر الملوك، وخصصته بهذه المرتبة التي يتقاصر عنها آمال أكابر الملوك، فالأمر لمليك البسيطة في رفع درجات عبيده كيف يشاء، والتصدق بما يتفوه به هذا(3/121)
الإنشاء، وهو: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب مبارك تحاسدت رماح الحظ وأقلام الخط على تحريره، وتنافست مطالع النوار ومشارق الأنوار على إبداء سطوره، فأضاء نوره بالجلالة وأشرق، وهطل نوره بالإحسان فأغدق، تناشبت فيه أجناس تجنيس لفظ الفضل، فقال الاعتراف هذا ما تصدق وقال العرف هذا ما أصدق، مولانا السلطان أصدقها بما يملأ خزائن الإحسان فخارا، وشجرة الأنساب ثماراً، ومشكاة الجلالة أنواراً، فبدل لها من الغير المصري ما هو أقاليم ومدائن أنوارا، وأضاف إلى ذلك ما لولا أدب الشرع لكان باسم والده قد تشرف، وبنعوته قد تعرف، وبين يدي هباته وتصدقاته قد تصرف.
وكان العقد قاضي القضاة صدر الدين الحنفي. وانفصل ذلك اليوم عن سرور تام فبشر بما بعده من التهاني والأفراح والأمور التي تزيد على الأفراح.
وفي العشر الأول من ذي الحجة بلغ الملك الظاهر أن جماعة من الذين استخدمهم بحصن الكرك من الخرخية والجندارية والخراسانية والإسباسلارية وغيرهم سولت لهم أنفسهم أن يثبوا في الحصن، ويقتلون من به من النواب ويسلمونه لأخ كان للملك القاهر بن الملك المعظم من أمه لكونه ينتسب إلى الملك الناصر داود وكان يقيم معهم بالكرك لا يؤبه به، فخرج الملك الظاهر من القاهرة يوم الخميس ثالث عشر ذي الحجة(3/122)
ودخل حصن الكرك بغتة يوم السبت ثاني وعشرين منه ثم استدعاهم وكانوا زهاء ستمائة نفر وهو على سطح وأمرهم بشنقهم فشفع فيهم من كان في خدمته من الأمراء فعفا عنهم وأخرجهم من الحصن خى ستة نفر فإنه قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ثم قال للجميع مالكم في بلادي مقام فسألوه أن يعاد لهم ما كان ارتجع من أموالهم فأمر لهم بذلك ونفاهم إلى مصر واستدعى شمس الدين صواب السهيلي وإلى صناعة الإنشاء بمصر، ويلم إليه حصن الكرك وفوض إليه النظر في حواصله وذخائره، واستدعى من مصر رجالاً رتبهم في الحصن عوض الذين نفاهم منه ثم خرج متوجهاً إلى دمشق يوم الجمعة ثامن وعشرين ذي الحجة.
وفي هذه السنة كان بخلاط زلزلة عظيمة أخربت الدور والخانات والأسواق، ومات الناس تحت الردم ولم ينج من أهلها إلا النفر القليل، واتصلت بأرجيش فأخربتها، وخسفت فيها مواضع ووصلت إلى ديار بكر فشعثت ميافارقين وماردين.
وكسر الخليج يوم الخميس ثامن وعشرين صفر وانتهت الزيادة إلى ثلاثة أصابع من ثمانية عشر ذراعاً.
وفي خامس عشر شوال جهز الملك الظاهر كسوة الكعبة صحبة الأمير عز الدين يوسف بن أبي زكرى، وخرد معه جماعة من الحجاج ووصل مكة شرفها الله تعالى، وكانت الوقفة يوم الاثنين وأقاموا بمكة ثمانية عشر يوماً وبالمدينة عشرة أيام، فذهب أكثر زاد الناس وحصل لهم من أيلة إلى مصر مشقة عظيمة ومات منهم خلق كثير.
وفي ثالث شهر رمضان ظهر بالموصل بحارة تعرف بسويقة ابن خليفة ضريح شخص من ولد الحسين بن علي عليهما السلام، وسبب ظهوره(3/123)
أن شخصاً يقال له محمدون بن الأقفاصي رأى في منامه شخصاً من ولد الحسين بن علي عليهما السلام وهو يقول له يا محمدون أنا مناد من تنور الخبز ومجرى الحمام الصغير، فلما أصبح قص المنام على بعض الأكابر واستشاره في نبشه فأشار عليه أن لا يفعل، فأمسك الرجل.
فلما كان في الليلة الآتية رأى الرؤيا بعينها وهو يقول له احفر ضريحي ولا تهمله وإنه ما أقول لك أن تراب الضريح يشفي من جميع الآلام والأسقام، فلما أصبح الصباح حفر المكان وظهر الضريح فأقبل الناس ينكرون عليه وإذ برجل أعمى قد أخذ من تراب الضريح شيئاً وتركه على عينه فأيصر فكبر الله وحمده، ورأى الناس تأثير الضريح فتهافتوا عليه وحظر محمدون بسببه، وتكاثر على الضريح أصحاب الآلام والعاهات وكل من جعل على ألمه شيئاً من ترابه برئ لوقته.
وسمع بذلك شخص من التتر يعتريه الصرع فأتى وطلب معالجته فشرط عليه من بالمكان أن يترك شرب الخمر ولحم الخنزير وقتل المسلمين فالتزم ذلك وأخذ من تراب الضريح فبرئ لوقته، فسر بذلك وخرج مسافراً فمر بتل زيار، وبه دير النصارى فنزل عندهم وحكى لهم صورة حاله فقال له النصارى أنت إنما برئت بما عولجت به وتداويت لا بهذا القبر، فأثر هذا القول بنفسه فعاوده الصرع فجاء إلى الضريح وطلب من ترابه فقيل له ألم تك قد أخذت منه وعوفيت فقال بلى ولكنني مررت بدير فيه نصارى فحكيت لهم فذكروا لي كيت وكيت فأثر ذلك عندي فعاودني ما كان بي فقيل له تلك المرة بطل حكمها، والآن فما ينفعك شيء من هذا الضريح إلا أن تسلم وتشهد(3/124)
أن جد هذا السيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى ذلك وبقي أياماً على ما به من الصرع وزاد به حتى أجاب إلى الإسلام فأتى المشهد وأسلم وتناول شيئاً من ترابه فبرئ ولم يعتاده بعد وحسن إسلامه، وأسلم جماعة كثيرة من التتر ونصارى البلاد بسبب ذلك.
قال عز الدين محمد بن أستاذ داره رحمه الله هذا حكاه لي ناصر الدين محمود بن عشائر بن حسين بن عبيد يعرف بابن الليالي الموصلي، والعهدة عليه فيما حكاه.
وفيها توفي إبراهيم بن عبد الرحيم بن علي بن إسحاق بن علي بن شيث أبو إسحاق كمال الدين القرشي الأموي، كانت وفاته آخر نهار الخميس رابع عشر صفر بالقرب من حلبا من بلاد الساحل، ونقل إلى ظاهر بعلبك فدفن بتربة سيدنا الشيخ عبد الله اليونيني رحمه الله وقد نيف على الستين، وكان من أعيان الناس وأماثلهم، خدم الملك الناصر صلاح الدين داؤد بن الملك المعظم وهو من أجل أصحابه، وأخصهم به وترسل عنه ثم اتصل بخدمة الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن محمد رحمه الله فأعطاه خبراً جيداً وقربه وأدناه واعتمد عليه في مهماته.
وفي الأيام الظاهرية ولي الرحبة وبلادها عقيب موت الملك الأشرف صاحب حمص مدة يسيرة، ثم نقل منها إلى بعلبك فولي مدينتها وقلعتها، وبقي بها مدة سنين وطلبه الملك الظاهر منها مع استمراره على ولايته فاستناب وتوجه إليه فسيره رسولاً إلى عكا وكان عنده خبرة تامة بادعاوى على الفرنج ومواصفاتهم وتفاصيل أحوالهم فكان يندب في المهمات المتعلقة بهم ويستضار بهم في ذلك وحرمته وافرة في الدولة(3/125)
ومكانته مكينة وسيرته حسنة، وعنده مكارم وحسن عشرة.
وتوفي رحمه الله ولم يخلف ما يقوم بنصف ما عليه من الديون رحمه الله تعالى، وكان عنده فضيلة وأهلية ومعرفة بالأدب والنحو يحفظ القرآن العظيم، ويتلوه في كثير من أوقاته وعلى ذهنه من الأحاديث النبوية صلوات الله وسلامه على قائلها جملة وافرة، ولعله يستحضر معظم موطأ مالك بن أنس رحمه الله، وكان يميل إلى مذهبه، وله عقيدة عظيمة في الفقراء والصالحين ومسارعة إلى قضاء حوائجهم رحمه الله، وكان ينظم الشعر، فمن شعره:
صب أسير في بلد الأشواق ... مذ آذنوا أهل الحمى بفراق
لا داره تدنو فيسكن ما به ... يوماً ولا هو بعد بعد فراق
يلقى جيوش الشوق وهي كثيرة ... أبداً بقلب واهن خفاق
أترى له من عودة يحيا بها ... أم هل للسعة قلبه من راق
يا نازلين على الكثيب برامة ... متعرضين لفتنة العشاق
أنتم ملاذ المستهام وذخره ... وهواكم من أنفس الأعلاق
أعيا الذي يصف المحبة والهوى ... ما قد لقيت بكم وما أنا لاق
ليلي طويل بعد بعدي عنكم ... وكذاك ليل فاقد المشتاق
وقال أيضاً رحمه الله:
برق بدا لك أم لاحت لك الدار ... فعاد قلبك تهيام وتذكار
أم ذكر أيام نجد والخليط بها ... وأنت فيها ومن تهواه زوار
أم قاسيون ومن فيه فكم قضيت ... بسفحه لك أوقات وأوطار
والشمل مجتمع والدار دانية ... ومن تحب بها جار وسمار
فبت رهن صبابات حليف هوى ... ودمع عينك منهل ومدرار(3/126)
يا نازلين وفي الأحشاء منزلهم ... وغائبين وهم في القلب حضّار
أم اصطباري فشيء عز مطلبه ... ونار شوقي إليكم دونها النار
وقال أيضاً رحمه الله:
سقاك الحيا من أربع ومنازل ... ومن لي بأن تهدي إليكم رسائلي
فلو قيل سل تعطى المنى وبقربه ... لكان منى قلبي وأقصى وسائلي
أمر بوادي النيرين محييا ... لناباته عند الضحى والأصائل
تريني القدود الهيف كثبان رمله ... وتبدو به الأقمار غير أوافل
ويصحبني من طيب رياه نفحة ... تهيّج أشجاني وتدني بلابلي
منازل أترابي ومربى أحبتي ... وأهل ودادي في الهوى وتواصلي
رعى الله دهراً مر لي في ظلاله ... حميداً فما وجدي عليه بزائل
صحبت به الأحباب واللهو والصبي ... فما قرب من عمري سواه بطائل
إذا القلب لا يثنيه تعنيف واشح ... ولا مسمعي مصغ لقول العواذل
ألا هل إلى تلك المعاهد عودة ... ويقضي ذنوبي مزملي ومماطلي
أأحبابنا بنتم فلا العيش بعدكم ... نضير ولا ربع السرور بآهل
أحن إليكم كلما هبّت الصبا ... وأجزع من طول المدى المتطاول
ولا تحسبوا أني نسيت عهودكم ... ولا كل ما في الكون عنكم بشاغل
إذا ما انقضى عام ببين وفرقة ... رجوت التلاقي عائداً عند قابل(3/127)
وقال أيضاً رحمه الله:
لا تلحه في وجده تغريه ... دعه فيقظ ولوعة تكفيه
حكم الغرام عليه فهو كما ترى ... مقري بتذكار الحمى يبكيه
يشتاق أيام العقيق وحبذا ... وادي العقيق وحبذا من فيه
ويعود يوماً ما يعود إلى الحمى ... بالوصل كان بعمره يشريه
وإذا النسيم روى سحيراً منهم ... خبراً فيا طيب الذي يرويه
يا أهل نجد دعوة من مغرم ... حلت شكايته عن التمويه
متستر في حبكم متهتك ... يخفي الغرام ودمعه يبديه
لا يبتغي أبداً سواكم بغية ... كلا ولا عنكم غنىً يغنيه
يهوى هواكم ما استطعت وكل ما ... يرضيكم في حبكم يرضيه
وقال أيضاً رحمه الله دوبيت:
بالخيف منزل لليلي عافي ... أهواه وإن خلا من الآلاف
يا سعد فقف بي ساعة تبديه ... ما ترك حقوقه من الإنصاف
وقال أيضاً رحمه الله دوبيت:
واها لأوقات تقضت وإنها ... لو ساعدني الزمان في لقياها
ما لذة أيام اجتماع بكم ... لا أذكر غيرها ولا أنساها
وله شعر غير هذا، وكان يترسل جيداً ويأتي بالمقاصد الكثيرة ويقع له(3/128)
القرائن المستملحة والاستشهادات الحسنة ويحاضر بالحكايات والنوادر والأشعار وأيام الناس والتواريخ، وعلى ذهنه من ذلك جملة طائلة. وسمع الحديث الكثير ورواه، وكان له عناية بهذا الشأن وإلمام بمعرفته.
ومن غريب الاتفاق أنني اجتزت بمدينة الكرك في عودي من الحجاز الشريف في أول صفر سنة أربع وسبعين، فاجتمع بي فقير من أهل الكرك يعرف بالجمال ابن الضياء، كان يصحبه ويكثر من التردد إليه والإقامة عنده ببعلبك، وعزاني فيه: فقلت له: أنت واهم، الرجل في خير وعافية وإنما المخبر لك سمع بوفاة الأمير سيف الدين الجاكي وهو متولي بلاد بعلبك وبرها فظن أنه كمال الدين، فقال: كذا أخبرني شخص أنه مات في هذه الأيام، فقلت: يحتمل واغتممت لذلك، فلما رحلنا من الكرك وقاربنا دمشق، لقينا جماعة من أهل بعلبك ودمشق في الطريق على مراحل من دمشق، فسألناهم عنه؛ فذكروا أنه في نهاية الطيبة والصحة وأنه يتوجه في مهم إلى بلد طرابلس صحبة الأمير سيف الدين بلبان الرومي الدوادار، فسررت بذلك، فلما دخلت دمشق جاءت الأخبار بوفاته على ما شرحناه رحمه الله تعالى؛ ولما توفي عمل عزاؤه في مقام إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه بقلعة بعلبك، وحضر صاحبنا الموفق عبد الله بن عمر الأنصاري رحمه الله تعالى وتكلم في العزاء بما يناسب، وأنشد هذه الأبيات:
يا منزلاً لم يبق فيه مقيم ... هذا المقام فأين إبراهيم
عجباً لعين عاينت آثاره ... من بارق الهاوي كيف يشيم
ولمهجة وما فنيت أسىً ... ولكل قلب فيه كيف يهيم(3/129)
يا مدعي نسب الوفاء لعهده ... نسب الوفاء كما علمت صميم
أين التمزق والتحرق والبكا ... هل شافع في رزية وجميم
عز العزاء الفرد في ذاته ... ولكل قلب منك فيه كلوم
أما والده جمال الدين أبو محمد عبد الرحيم فكان من سادات الناس ورؤسائهم وأعيانهم وصدورهم وفضلائهم، خدم الملك المعظم شرف الدين عيسى بن العادل رحمه الله تعالى، وكان عنده في محل الوزارة وكان من المتضلعين بالعلوم، وله أشعار كثيرة، ومصنفاته عديدة مفيدة، وكان بينه وبين والدي رحمهما الله تعالى صحبة أكيدة، وصحب سيدنا الشيخ عبد الله اليونيني الكبير رحمه الله تعالى، وكان كثير البر والصدقة معروفاً بأسد، المعروف إلى سائر من يعرفه ويقصده ويجتاز به، وكان بينه وبين الملك المعظم مداعبات كثيرة. كتب إليه مرة رقعة يداعبه فيها يعني أنه فارق الملك المعظم ودخل منزله، فطالبه أهله بما حصل له من بره وأنه قال: ما أعطاني شيئاً، فقاموا إليه بالخفاف وفعلوا به وصنعوا. ومن نظمها قولها:
وتحالفت بيض الأكف كأنها ... التصفيق عند مجامع الأعراس
وتطايرت سود الخفاف كأنها ... وقع المطارق من يد النحاس
فرمى المعظم الرقعة إلى فخر القضاة ابن بصاقة وقال له: أجبه عنه. فكتب نثراً ونظماً، فجاء في النظم:
فاصبر على أخلاقهن ولاتكن ... متخلقاً إلا بخلق الناس(3/130)
واعلم إذا اختلفت عليك فإنه ... ما في وقوفك ساعة من بأس
فلما وقف عليها الملك المعظم أعجبته غاية الإعجاب. ومن شعر جمال الدين رحمه الله تعالى قوله:
وإذا رآني الناس قالوا صالحاً ... غفر الإله لهم وغضوا الأعينا
ويقرني أقوالهم مع أنني ... أدري بما عندي فأسكت مذعنا
يا ليتهم عرفوا بقبح سريرتي ... فسلمت أو سلموا فكان الأحسنا
يا نفس ويحك من يرى حالي فما ... عذر امرئ مثلي تأخر أو دنى
أعني بتحسين الثياب فأغتدي ... مثل الحمار مجلاً ومرسنا
ماذا العناية ويك بالجسم الذي ... هو سجن من لا يرتضي أن يسجنا
هل ذاك إلا جيفة لو لم يكن ... أبداً يعاود بالنظافة أنتنا
وقال أيضاً من شعره:
كن مع الدعر كيف قلّبك الده ... ر بقلب راض وصدر رحيب
وتيّقن أن الليالي ستأتي ... كل يوم وليلة بعجيب
وكانت وفاته بدمشق سابع المحرم سنة خمس وعشرين وست مائة، ودفن بقاسيون رحمه الله تعالى.
أيبك بن عبد الله أبو محمد الأمير عز الدين الاسكندري الصالحي، كان من مماليك الملك الصالح نجم الدين وعتقائه، وكان الملك الصالح يثق به ويعتمد عليه؛ ولاّه الشوبك قلعتها وبلدها، وجعل عنده جماعة كثيرة من(3/131)
خواص مماليكه منهم: الأمير عز الدين ايدمر الحلي، والأمير علم الدين سنجر الحصني، والأمير عز الدين أيبك الزراد وغيرهم: وكان عنده كفاية وخبرة تامة، وصرامة شديدة، ومهابة عظيمة، يقيم الحدود على ما يجب، لا يحابي في ذلك. ولما ملك الملك المعز عز الدين أيبك التركماني الديار المصرية مان الأمير عز الدين المذكور من خواصه ولم يزل على ذلك إلى أول الأيام الظاهرية. فلما استولى الأمير علم الدين سنجر الحلبي الكبير رحمه الله على قطعة من الشام كمل تقدم شرحه. ثم تخلل أمره وخرج من دمشق وقصد قلعة بعلبك وحضر بحضرة بدر الدين محمد بن رحال وغيره، وجرت المراسلات بينه وبين الأمير علاء الدين البندقار رحمه الله في تسليم قلعة بعلبك والتوجه إلى باب الملك الظاهر بالديار المصرية، أنه لا يسلم القلعة إلى بدر الدين بن رحال، وأنه لا يسلمها إلا إلى أحد نفرين من خشداشيته سماها أحدهما الأمير عز الدين صاحب هذه الترجمة، فجهز إليه وتسلم القلعة منه. وكان متولياً قلعة شميميش فطلب منها لهذا المهم واستناب بقلعة شميميش، ولما طولع الملك الظاهر بذلك رسم باستمراره في قلعة بعلبك ومدينتها واستمر نائبه بشميميش وبقي على ذلك مدة إلى أن سأل الإعفاء عن شميميش، فاجيب وحضر نائبه إليه، وبقي الأمير عز الدين متولياً ببعلبك وقلعتها مدة أربع سنين كوامل، ثم طلب إلى الديار المصرية وولي قلعة الرحبة وأعمالها وما قاربها فتوجه إليها على كره وزاد الملك الظاهر أقطاعه. ولما وصل إلى الرحبة تجرد(3/132)
لكشف الأخبار وأخذ ما جاوره من بلاد العدو، فقام في ذلك المقام المحمود وفعل ما لا تسمو إليه همة غيره من أخذ بلاد العدو. فقام في ذلك ما يطول شرحه من شن الغارات عليهم، ونهب جشاراتهم وقطع الطريق على سفارتهم. ولم يزل على ذلك إلى حين وفاته. وكان عنده معرفة بالنجوم وإلمام بالفضيلة ومحبة لها ولأهلها، وديانة كثيرة، وغيرة مفرطة، وكرم طباع، وسعة صدر، وشدة حياء، لا يخيب من قصده في حاجة ولا يطلب أحد رفده إلا ويبره بأكثر ما في نفسه، وإن أهدى أحد له هدية كافأه بأكثر منها؛ وكان له عقيدة في الفقراء والصلحاء وإيمان بكراماتهم لا ينكر من ذلك ما يخرق العادات. وكانت وفاته في رابع عشرين رمضان المعظم بقلعة الرحبة ودفن بظاهرها رحمه الله تعالى وهو في عشر الستين.
ولما كان ببعلبك تزوج كريمتي واتفق توجهها إليه ومعها والدتي وأنا إذ ذاك في الحجاز الشريف وهي تتشوق إلي: فتوجهت في شهر رجب وأقمت، فتوفي المذكور وأنا هناك، فاستصحبت الأهل وولد الأمير عز الدين المذكور رحمه الله تعالى وغلمانه، وعدت بهم إلى دمشق فورد علي كتاب صاحبنا الموفق عمر بن عبد الله الآتي ذكره من بعلبك إلى دمشق يتضمن الشوق والتهنئة بالسلامة. وفي صدر الكتاب بيتان من الشعر من نظمه يقول:
مولاي قطب الدين موسى دعوة ... من نازح يخشى قطيعة أهله
أنسيت يا مولاي نار تشوقي ... يا من قضى أجلاً وسار بأهله(3/133)
الحسن بن علي بن الحسن بن ناهد بن طاهر بن أبي الحسن أبو محمد الحسيني الملقب فخر الدين نقيب الأشراف وابن نقيبهم. مولده سنة ثمان وست مائة، وتوفي إلى رحمة الله تعالى سحر يوم الأحد تاسع ربيع الأول ببعلبك، وكان عنده فضيلة ومعرفة بأنساب العلويين ونظم نظماً متوسطاً، وخلف له والده نعمة ضخمة فمحقها ولم يبق له إلا صبابة يسيرة ووالدته شريفة حسينية. حكي لي قال: كنت - وأنا شاب - أشتغل بالنحو والأدب. قال قرأت القرآن العزيز؟ قلت: لا؛ فقال: قال الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: " وإنه لذكر لك ولقومك " وانت من قومه، فما ينبغي أن تقدم على حفظ القرآن الكريم غيره؛ فشرعت في الختمة الشريفة وأكببت عليها حتى حفظتها، فأنا أعتقد ذلك من بركة الشيخ رحمه الله. وكان جمع تاريخاً لم يتممه. ولما قدم هولاكو الشام في سنة ثمان وخمسين توجه إليه وحضر بين يديه فلم يجد منه من الإقبال ما كان يرجوه فعاد على غير شيء من الولايات، وقدم بعلبك وتوعك بها، واتفق كسرة كتبغا وفتله على ما تقدم شرحه، فحمد الله إذ لم ينل عند التتر ولاية يتضرر عند ملوك المسلمين بسببها، ومن شعره في بعلبك:
بعلبك علت على البلدان ... وغدا دون نورها النيران
رق فيها الهواء إذ راق فيها ... الماء وافتر ثغرها الأقحوان
وتغني الأطيار فيها بصوت ... لذ للسامعين في الأغصان(3/134)
حصنها باذخ على كل طود ... ثابت الأس شامخ البنيان
مبني أنه بنته جن ... لا لروم تدعي ولا يونان
سار في الأرض ذكره وهو راس ... وسرى صيته بكل مكان
مثل ما سار في الدنيا جود موسى الشم ... لك رب الأفضال والإحسان
ملك قد علا الملوك جميعاً ... بعلو المكان والإمكان
خاص ترك الكبير ركن الدين المشهور بالشجاعة والإقدام والتقدم عند الملوك، وهو من غلمان الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل، وكانت وفاته بكرة الأحد ثاني عشر ربيع الأول برحبة خالد بدمشق، ودفن عند حمام النحاس بسفح قاسيون رحمه الله تعالى.
ع بن شكر بن علي اليونيني أبو محمد الشيخ الصالح الزاهد العابد الورع العارف. صحب المشايخ وأخذ عنهم وتأدب بهم، وكان أوحد عصره في الورع، وتحرى الحلال في أمر مطعمه وملبسه لم يسبقه أحد إلى ذلك، كان يتقوت في سنته بما يتحصل له من مغل قطعة ملك ورثها من أبيه بقرية يونين، لعل معلومها في السنة قريب خمسين درهماً، ويصبر على خشونة العيش وكثرة الجوع إلى أن حصل يبس، أورثه تخيلات فاسدة، فتارة يتخيل أن جماعة عزموا على اغتياله وقتله، وتارة يتخيل أنه اطلع على أماكن فيها كنوز واموال جليلة واتصل ذلك ببعض الولاة ببعلبك فأحضره وسأله عن ذلك، فذكر أنه يعرف أماكن فيها مدافن تحتوي على أموال(3/135)
جمة فسأل عنه، فقال من يعرفه هذا من الأولياء الأفراد ولا يتجوز في القول وإنما لكثرة الجوع والمجاهدة حصل له يبس أفسد مزاجه؛ دخل رباط بن الأسكاف بجبل قاسيون، فأعجبه وأخلى له به بيت فسكنه، ولم يتناول من المقرر لمن به شيئاً. فلما رأى خادم الرباط ما هو عليه من الاجتهاد والعبادة مع الزهد المفرط أخبر الوجيه بن سويد رحمه الله به وهو ناظر الرباط إذ ذاك، فحضر إليه ليلاً ومعه صحن فيه قطائف وقد تأنق فيه، فلما دخل عليه انقبض منه ولم يكلمه، فوضع الصحن بين يديه وشرع يستعرض حوائجه، فقال: أولها ارفع هذا الصحن وأنت لا تحضر إلي بعدها، ومتى حضرت تركت هذا المكان ورحت. فتعجب منه وسأله الدعاء فقال: أنا أدعو كل يوم للمسلمين، فإن كنت منهم وكان لدعائي أثر حصل لك منه نصيب. ومناقبه في هذا الباب كثيرة، وأدرك سيدنا الشيخ عبد الله اليونيني الكبير - رحمه الله - وصحبه مدة يسيرة فإنه كان صغير السن في حال حياته لكنه لازم كبار أصحابه وصحبهم وانتفع بهم، وكان فقيهاً في أمر دينه يعرف ما يحتاج إليه ويسأل عما أشكل عليه من ذلك. سمع الحافظ ضياء الدين ووالدي وغيرهما، وتوفي بدمشق يوم الاثنين مستهل رمضان المعظم، ودفن بسفح قاسيون، وقد نيف على الثمانين من العمر رحمه الله تعالى.
عبد الملك بن عبد الله بن عبد الرحمن بن الحسن بن عبد الرحمن بن طاهر بن محمد بن علي بن الحسن أبو المظفر زين الدين الحلبي الشافعي المعروف بابن العجمي.
مولده بحلب في منتصف ذي القعدة سنة إحدى ةتسعين وخمس مئة،(3/136)
سمع من الشريف افتخار الدين بن هاشم عبد المطلب بن الفضل وغيره وحدث، وكان شيخاً حسناً فاضلاً، وبيته مشهور بالعلم والتقدم والسنة؛ وكانت وفاته في خامس عشرين ذي القعدة بالقاهرة، ودفن من الغد يوم الأربعاء بسفح المقطم - رحمه الله تعالى، وهو خال قاضي القضاة كمال الدين أحمد بن الأستاذ. وله شعر جيد ومنه في مليح في عنقه شامة:
المعز بدر ولكن ليس شامته ... مسروقة من دجى صدغيه والغسق
وإنما حبة القلب التي احترقت ... في حبه علقت للطم في العنق
عثمان بن عبد الله الآمدي حطيم الحنابلة بالحرم الشريف اتجاه الكعبة المعظمة كان سيداً كبيراً شيخاً جليلاً صالحاً عالماً إماماً فاضلاً زاهداً عابداً ورعاً ربانياً منقطعاً متعكفاً على العبادة والاشتغال بالله تعالى في سائر أوقاته، وله المكرمات الظاهرة لم يكن له نظير في وقته؛ أقام بالحرم الشريف ما يقارب خمسين سنة. وكانت وفاته يوم الخميس ضحىً النهار الثاني والعشرين من المحرم رحمه الله ورضي عنه، وكنت أود رؤيته وأتشوق إلى ذلك وأخشى أن تحول المنية دون الأمنية. فاتفق أني حججت في سنة ثلاث وسبعين وست مئة، وزرته وتمليت برؤيته، وحصل لي نصيب وافر من إقباله ودعائه، وقدرت وفاته إلى رحمة الله تعالى ورضوانه عقيب ذلك. وكذلك كنت أود رؤية الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله، فاتفق سفري إلى الديار المصرية في شهر رمضان سنة تسع وخمسين وست مئة فرأيته وسمعت منه، ثم توفي بعد ذلك(3/137)
بمدة يسيرة على ما هو مذكور في ترجمته رحمه الله تعالى.
علي بن أحمد بن علي بن أبي الأسد أبو الحسن المعاوي الشيخ نور الدولة النحوي المعروف بابن العقيب، توفي ببعلبك ليلة الجمعة حادي عشرين ربيع الأول ودفن بعد صلاة الجمعة بمقابر باب نخلة، وهو في عشر الثمانين رحمه الله. اشتغل بالنحو على عز الدين أحمد بن معقل وغيره، واشتغل عليه جماعة كثيرة وانتفعوا به، وكان عنده فضيلة وديانة وافرة وصبر على الفقر مع شرف النفس. وكان لوالده مال جزيل، فقيل أنه دفنه وقيل أنه أودعه، فذهب وأخرب نور الدولة المذكور داره وحفر أساسها في طلبه فلم يظفر بشيء. وله يد في النظم، ومدح والدي رحمه الله بقصائد كثيرة، وكان من أصحابه يكثر غشيانه والتردد إليه والاستفادة منه. ومن شعره في فوارة:
وبركة رق ماؤها فغدا ... أرق من دمع عين مكتئب
تريك فوارة تفيض بها ... ماء لجين يسيل من ذهب
صبت إليها العيون حين غدت ... في صعد تارة وفي صبب
كراقص تارة يقوم على ... ساق وطوراً يجثو على الركب
وقال يمدح والدي رحمهما الله تعالى ويهنئه بشعبان:
فتنت بموهوب الصبي ومعاده ... على غير عند المشيب وعاره
وهبّت برسم كلما رمت ألفة ... إلى البين والغيران غير نفاره(3/138)
عزيز يغار الغصن من حركاته ... ويخجل بدر التم عند ابتداره
أحن إلى تقبيل أيد وخده ... وأخشى لهيب النار من جلناره
وما زارني إلا شكوت صبابتي ... إليه فيرضيني بزور اعتذاره
ويأمرني بالصبر عنه عواذلي ... وموت أخي الأشواق عند اصطباره
تهتك ستري في هواه وإنما ... يلذ الهوى في هتكه واشتهاره
وهل نافعي طي الهوى دون كاشح ... ينم ودمعي مولع بانتشاره
وما الغدر في تركي هواه وسلوتي ... وقد سال في خديه مسك عذاره
تباعد عني بالصدود مزاره ... وإن كنت مسلوب الكرى في جواره
وقد جل وجدي في هواه وإنما ... على قاتلي في الحب حل مداره
وما زلت الحي العاشقين على الهوى ... وازجرهم حتى صليت بناره
فسقياً الحمى...... ومن حل ... .......فيه رائح بقطاره
فتى لم تزل تغني به عن نظيره ... بعارفة من جاهه ونضاره
وحب ذا النادي تناءت صدوره ... وقد خفقت عيا قلوب كباره
وغن لهم مغنى فثارت لنقصه ... كواشر فهم فاختفى في وجاره
أتاهم به من قبل يرتد طرفه ... بلفظ يطول البحث تحت اختصاره
ودل عليه فاستبان خفاؤه ... ودل على تأبيده واقتداره
ومندرج بالعلم رام نزاله ... فلم ينجه إلا جواد نزاره(3/139)
أعزاً إذا ما هز في العلم والندى ... وفي البأس لا يخشى بني غزاره
يحف له علم الوقور مهابة ... إذا ما بدا في سمته ووقاره
وإن رفعت في حلبة المجد راية ... حواها بسبق آمناً من عثاره
تضوّع في الآفاق نشر ثنائه ... وهل من خفاء الصبح بعد انفجاره
فقل للمباري لست مدرك شأوه ... ولا لاحقاً يوماً غبار غباره
له الله كم أسدى إليّ أيادياً ... يميناً أزالت عسرتي من يساره
فما في عناني كسوة من ثيابه ... وما في دياري مؤنة من دياره
ما زال شعري كاسداً عند غيره ... فنفّقه لما غدا من تجاره
إليك تقي الدين أهديت غادة ... يغار عليها يعرب من نزاره
من البيض يحدوها الرواة كما حدت ... رعود الغوادي مثقلات عشاره
وخير من المال الثناء فإنه ... يخلّد ذكر المرء بعد بواره
فهنئت من شعبان ليلة نصفه ... ونلت المنى في ليله ونهاره
ولا زلت في عز وسعد ونعمة ... ومجد منا والشمس دون نهاره
وقال أيضاً يمدح والدي رحمهما الله تعالى:
أفدى بالنفس وإن حلت وبالنشب ... وإن أرب حفاها ربة النشب
ذهلية أذهلت من بات يعذلني ... فيها فأصبح معذولاً أخا حرب
ريا الخلاخل والزنار في ظمأ ... والقلب أخرس والقرطان في صخب
خود إذا ما بدت والشمس واجبة ... في الغرب من شرق ذاك الحي لم يجب(3/140)
وإن رنت أو تثنت في غلائلها ... تظل تهتز بالقضبان والقصب
يستثبت الطرف منها وهو مثبتها ... خالاً محباً بلا خال ولا ندب
تلبست رقة الأخلاق من حضر ... حتى أنالت ونالت فطنة العرب
فكم تقطعت أرضاً في محبتها ... وكم قطعت بها في اللهو من إرب
وكم ترشفت راحاً من عوارضها ... تفوق طيباً وريحاً خمرة العنب
والرفق لو لم تكن منها معنفة ... لما استدار بها ثغر من الجنب
لولا عذاب تجنيها وبهجتها ... والويل لم تعذب الدنيا ولم تطب
ومهمه طامس الأعلام كنت له ... تحت الدجى علماً بالرسم والنجب
خرق إذا الحرف ناجى فيه صاحبه ... وهو المجرب للأهوال لم يجب
وجاوزته بأمون جسرة أخذت ... لها أماناً من الإعياء والنصب
كأنها صعلة شامت سنا بارق ... فبادرته إلى بيض لدى كثب
أو ناشط راعه رام بأسهمه ... ففاتها هرباً والغضف في الطلب
أو أحقب رام أن يشأى القطا غاشياً ... للورد فهو من التعداء في لهب
تلك التي اتخذت عندي يداً حرمت ... بها فجلت على التصدير والحقب
وأوردتني بأمالي على ظمأ ... مني بحار تقي الدين ذي الرتب(3/141)
ذخر البرية من بدو ومن حضر ... فخر الأئمة من عجم ومن عرب
غدا لكسب العلى والعلم في تعب ... وراحة النفس في العلياء والتعب
نصر الحديث إذا غضت مجالسه ... تخاله ناظراً في أوجه الكتب
مشنفاً صدف الأسماع مقوله ... بجوهر من بحار الكفر منتخب
موقر حفة الأجفان من حزن ... ومستحف ونور القوم من طرب
فالناس ما بين سائل ومستمع ... ومستعيد وأواب ومنتخب
مجالس هي ريحان الجليس وقد ... يحوي عقود الآلئ غير مجتلب
بل الرياض بكاها القطر فابتسمت ... ثغور نوارها من أعين السحب
بل البحار طغاً تيارها وطما ... علمها فغرقت الألباب بالجذب
محمد أنت قطب الناس قاطبة ... ولست من ذاك في شك ولا ريب
شأوت عمراً وعمراً وابن أحمد في ... علم الحديث وفي التفسير والأدب
وقد تلوت أبا يعلى وحسبك ذا ... ود غفلاً في ضروب الفقه والنسب
وقد قسّاً وقيساً والكميت وإذا ... في حلبة الرأي والأشعار والخطب
وطلت بالعلم كعباً والنوال لنا ... كعباً وبالحلم قيساً ساعة الغضب
وأنت في العصر تاريخاً كأنك قد ... شاهدت ما تم في الإعصار والحقب
وقد حويت علوماً ما لو تحملها ... متالع لجثا منها على الركب
لله أنت فكم أدنيت من أمل ... نأى المحل وكم فرّجت من كرب(3/142)
وأنّستني أياد منك واضحة ... وقد هويت بأنياب من النوب
وصنت ماء مديحي أن يكدره ... بالحوض فيه وضيع غير متئب
إذا رأى سائلاً سالت حشاشته ... كأنه نطفة في ناظر كلب
أو جانحاً نحوه يرجو مساعفة ... بالجاه ضم جناحيه من الرهب
أو وارداً جوض علم بات يجهله ... يضن منه بماء منتن القلب
مولاي قد زاد بادي جودكم رحب ... شوقاً فبورك من زور ومن رحب
مبشرأ لك بالعمر الطويل كما ... تهوي وإدراك ما تبغيه من طلب
وإن سعيك سعي قد نجوت به ... وقد تقبل ما قربت من قرب
مولاي لا تنكرن تركي زيارتكم ... مع الدنو وكوني غير مقترب
فإن إقدام جدواكم علي وقد ... أوهي قوي الشكر يدعوني إلى الهرب
أين الذهاب عن اليم الخضم ولا ... يزال يتحفني بالجاه والذهب
ها أنت أترك فرضاً من مدائحه ... وقد أمنت من التأنيب والكذب
فدونك اليوم أعرابية نصفاً ... أزرت محاسنها بالخرد والعرب
نيطت صفاتك في لبانها درراً ... أربت على الدر بل أربت على الشهب
بالحفظ تصبح في الآفاق شاردة ... كذا إذالتها بالصون في الحجب
وقال يصف بعلبك ويعرض يذكر السلطان الملك الأشرف بن الملك العادل رحمه الله يقول:
إذا ما رمت إدراك الأمان ... وأحببت النجاة من الزمان(3/143)
فلذ من بعلبك ربع أنس ... تجد فيه حياتك في جنان
ولا شيء عنان النفس يوماً ... إلى غير المثالب والمثان
ونل مما تحب مناك منها ... وأنت من الحوادث في أمان
وقبل بالغداة خدود ورد ... علاها الدمع من عين القيان
أذلت الظل حاذر كف جان ... تساقط عنه ظناً بالجمان
وصن بنت الكروم إذا أذليت ... مشامشها وصبت في الصوان
وشاهد شهدها الممزوج منها ... بذوب الثلج من تلك الرعان
وزر منها البقاع تجد بقاعاً ... تروق لناظر وتشوق جاني
وزد تلك الضياع ترى ضياعاً ... مقامك في سواها من جنان
وسق أخاك من روض السواقي ... قبيل الصبح من قان القناني
وعاين فيه نرجسه عيوناً ... تفض لحسنها مقل الحسان
ولذ بالذلهمية إن كلاها ... تكامل وأدلهم بلا تواني
تجد روضاً وسنديد السواري ... فأصبح دونه البرد اليماني
وراجع بعلبك فكل ناء ... عن الأوطان منها اليوم داني
فقد أضحت بموسي في فخار ... ببهجته أنار النيران
فدامت في سعود من علاها ... مقيم ما أقام الفرقدان
وقال أيضاً في المعنى:
حي من أرض بعلبك ربوعاً ... لسوام السرور أضحت ربيعا(3/144)
وتعمد ما اللجوج فقلبي ... لم يزل نحوه لجوجاً نزوعا
لا تجاوز يا صاح جوزة بكا ... ر إذا كنت للنصيح سميعا
وانتجع قهوة إذا قبلوها ... شربت من طلا الكؤوس نجيعا
ومزج التبر باللجين صبوحا ... وغبوقاً فقد أذنباً جميعا
وأرت تلك الربا ودس جبهة الع ... ين تجد نزهة ومرأى بديعا
ثم قبل عند الجواهر عيناً ... لصفا مائها تظن دموعا
باسقاً صيت الجنادب حيا ... ني إذا ما سقى هناك الزروعا
وكأن الربا لزي بساط ... مدفن فوقه الشقيق نطوعا
فاقطفا الشهد من بطون جفان ... من قطوف تخالهن ضروعا
واسقياني في السقي شمس الحميا ... بيد البدر لا يغب طلوعا
في جنان من الجنان من ال ... هم فما روعه هناك مروعا
فأسمعنا بمثلها من جنان ... في مكان ولا رأينا ربوعا
وتوقع للصيد والصوت فيها ... صادحات على الغصون وقوعا
وأبركاً في رياض بركة عرو ... س تحلي ربعاً حصيناً مريعا
وانظر الطير فيه كيف تهادى ... صادرات طوراً وطوراً شروعا
جاريات في موجها كالجواري ... رافعات من الرقاب قلوعا
صوته كاليراع طيباً وقد أق ... لع مثل السحاب حين أريعا
وهلال من القسي رآه ... وبدر تم فانقض يهوى صريعا(3/145)
وتأمل منها ذوائب لسنا ... ن أصيلاً ترى لهن لموعا
جبل خاسر كأن عليه ... من بياض الثلوج ذرعاً منيعا
يا لها بلدة بموسى استطالت ... فاستكانت لها البلاد خضوعا
فابن أيوب كابن يعقوب فينا ... صدر هذا جوراً وذلك جوعا
فترانا إذا سمعنا مثاني ... ذكره سجداً له وركوعا
قد بسطنا إلى تناهي الأيادي ... وطوينا على هواه الضلوعا
وقال رحمه الله في المعنى:
لبلدة بعلبك على وفخر ... بناه لها على تلك المباني
أكب بقرها شوقاً إليها ... وقد منع الوصال اللولبان
كأنهما بأرض نير فيها ... على مر الليالي كوكبان
فلا يتفرقان لطول مكث ... وهل يتفرقان الفرقدان
ولما أصبحا فرسي رهان ... هوت كف العنان عن العنان
عدت بكراً حصاناً لم ينلها ... محب البيض بالسمر اللدان
ولما عز جانبها دلالاً ... وإدلالاً لثبته في الحسان
تملكها وواصلها اقتساراً ... مليك كل ناء منه دان
فأضحت بعلبك كطور موسى ... فلا برحاً على مر الزمان
وله أشعار كثيرة، وتوفي وهو في عشر الثمانين رحمه الله تعالى.(3/146)
؟ علي بن الأنجب أبو الحسن تاج الدين البغدادي، المعروف بابن الساعي المؤرخ، خازن كتب المستنصرية المدرسة المشهورة ببغداد. كان فاضلاً، وله تاريخ متأخر لم يزل يجمع فيه إلى أن مات. وكانت وفاته في العشر الآخر من شهر رمضان ببغداد. ودغن في الشونيزي بالجانب الغربي، وقد نيف على ثمانين سنة رحمه الله تعالى.
علي بن عبد الرحمن بن علي بن إسحاق بن علي بن شيث القرشي الأموي أبو الحسن علاء الدين. مان أسن من أخيه كمال الدين المذكور في هذه السنة؛ وكان قد استوطن في آخر عمره أعمال الديار المصرية، فأقام بأسنا. ومولده بالقدس سنة إحدى وست مائة، وتوفي في السادس والعشرين من شهر رجب بالقاهرة، ودفن من يومه بمقابر باب النصر رحمه الله تعالى.
علي بن محمد بن علي بن محمد أبو الحسين موفق الدين المذحجي الآمدي. كان من صدور الأعيان للوزارة المتأهلين لها، عنده الخيرة التامة بالكتابة والتصرف مع العفة المفرطة والأمانة العظيمة والصيانة؛ وولي نظر الأعمال الكبار ثم رتب في آخر عمره ناظر الكرك والشوبك واعمالها وما جمع إليها لعظيم عناية الملك الظاهر بالكرك، فباشر ذلك مكرها، واستمر إلى أن أدركته منيته بالكرك في ثامن عشر ذي الحجة، ودفن قريباً من مشهد جعفر الطيار - رضي الله عنه. ومولده في ثامن شعبان سنة تسع وثمانين وخمس مائة - رحمه الله تعالى.
علي بن محمد بن نصر الله أبو الحسن علاء الدين الحلبي. كان من(3/147)
خواص الملك الظاهر صلاح الدين يوسف بن محمد - رحمه الله - وذوي المكانة عنده والوجاهة في دولته. فلما نقضت الأيام الناصرية - سقى الله عهدها - استوطن المذكور حماة، فأقبل عليه صاحبها الملك النصور ناصر الدين محمد - رحمه الله - واستوزره، ولم يزل على ذلك إلى أن توفي الى رحمة الله تعالى بحماة في صفر هذه السنة. ومولده سنة ثماني عشرة وست مائة بحلب. وكان والده منتجب الدين من أعيان الحلبيين - رحمه الله تعالى. حكى علاء الدين المذكور أن الملك الناصر - رحمه الله - كان يكره الجبن ورائحته ولا يمكن من إحضار شيء منه في سماطه، وكنت أنا وأخي صفي الدين نشتهي أن نأكل منه، فقلت يوماً للجاشنكير: أحضر لي قطعة جبن خفية من السلطان فقد تاقت نفسي إلى ذلك. فأحضر منه شيئاً فجعلته تحت الخوان؛ فشمّ السلطان رائحته فغضب وقال: كم أنهاكم عن أكل الجبن وانتم تخالفوني. فقلت له: يا خوند! الله سبحانه وتعالى نهانا عن أشياء وأمرتنا أنت بها فأطعناك وعصينا الله تعالى فإذا عصيناك في هذا الشيء الواحد أي شيء يكون؟ فضحك وسكت. وكان علاء الدين المذكور مشهوراً بالمروءة والعصبية وقضاء حوائج الناس والسعي في مصالحهم - رحمه الله. قال في مملوك له ملكني بالعينين وملكته بالعين.
مبارك بن حامد بن أبي الفرج المنعوت بالتقى الحداد. كان من كبار الشعة المتغالين في مذهبه عارفاً به، وله صيت في الحلة والكوفة وتلك الأماكن، وعنده دين وأمانة وصدق لهجة وحسن معاملة. وكانت وفاته ببعلبك يوم الأحد ثامن عشر ذي القعدة، وهو في العشر السبعين -(3/148)
رحمه الله. ورثاه جمال الدين محمد بن يحيى الغساني الحمصي بقوله:
لو أن البكا يجدي على أثر هالك ... بكينا على الدهر التقي المبارك
بكينا على من كان في الحلة بيته ... مناخ ذوي الحاجات مأوى الصعالك
بكينا على من فيه للبذل للقرى ... فريداً وحيداً ما له من مشارك
جواداً إذا ما الغيث ضن فلم يجد ... روى جنوده بالوابل المتدارك
يؤمّ بها كل الكرام ويهتدي ... بحيث اهتدات أم النجوم الشوابك
تقيّ تقيّ لا محل ديانة ... بفرض ونفل من جميع المناسك
بريء وذاك المصطفى خير متجر ... وان صدّ عنه بالظبى والنيازك
وقد كان أحيى من فتاة حيية ... وأفتك في الهيجاء من كل فاتك
ستبكيه أبناء الفواطم سادة ... ألا ناصر إذا افتروا لعواتك
وتبكيه عدنان تميم وقيسها ... وطيء وحيا مذحج والكاسك
وإن غاب عنا وجها الطلق عندنا ... لندعوه في جنح من الليل حالك
وإن لم يزره المؤمنون فإنه ... تعوض واستغنى بزور الملائك
ولو انه مما يردّ بقوة ... رددناه بالبيض الرقاق البواتك
ولكنه الموت الذي فيه يستوي ... فقير ومسكين برب الممالك
ولسنا نبكّيه وقد فارق العنا ... وراحت به التقوى الى ما هنالك
فراحت إلى رضوان في عدن روحه ... وروح معاديه إلى عند مالك
ويدلّ من حمّى الحديد وضربه ... بولدانها والحور فوق الأرائك(3/149)
وممتحن لم يثنه عن ولاية ... مخوف وعيد بالردى والمهالك
رأى الهون فيما ناله الآن هيّناً ... فجاد ببذل النفس منه لسافك
فلا الخلق لما فارقوا الحق والهدى ... وفارق منهم كل غاو وآفق
وعاف البقا في دار دنيا دنيّة ... وحلّ قصوراً مهدت بدرانك
وماذا اغترار العارفين بمومس ... مخادعة مشهورة الغدر فارك
تعزّ بعيش برقه برق خلّب ... وعمر قصير ذي زوال مواشك
وقد قرّبت أفراحها وغمومها ... بكاء بواكيها بضحك الضواحك
محمد بن عبد القادر بن عبد الخالق بن خليل بن مقلّد الأنصاري أبو عبد الله عماد الدين ويسمى عبد العزيز أيضاً، أخوه قاضي القضاة عز الدين بن الصائغ لأبيه. كان إماماً عالماً فاضلاً متبحراً في مذهب الشافعي متصلقاً في فنون الأدب والعروض والحساب والجر والمقابلة وقسمة الأراضي، لم يكن في زمانه مثله في مجموعه، وكان صدراً كثير الخير عليه سكون ووقار إذا تكلم يحفظه صوته. وكان احد تلامذة الشيخ محيي الدين ابن العربي - قدس الله روحه ورضي عنه - لازمه دهراً طويلاً، وأخذ عنه وكتب من تصانيفه الفتوحات المكية ووقفها على المسلمين وكتب غير ذلك من تصانيفه، وكان يفهم كلامه ويعرف إرشادات الشيخ ورموزه بتوقيف منه على ذلك. درّس مدة بالمدرسة العذراوية وأفاد الطلبة إلى حين وفاته، وبشر ديوان الخزانة أيضاً. سمع من أبي عبد الله الحسين بن الزبيدي(3/150)
وأبي المنجا بن اللتى وأبي عبد الله محمد بن غسان الأنصاري وغيرهم، وحدّث بصحيح البخاري وغيره، وسمع أيضاً من مكرم وابن صباح وسمع من خلق كثير. وكانت وفاته يوم السبت ثامن رجب هذه السنة، ودفن بسفح قاسيون. ودرّس بالعذراوية أخوه قاضي القضاة عز الدين أبو المفاخر ولم يزل بها إلى أن مات - رحمهم الله تعالى.
محمد بن عبد الله بن أبي أسامة مفيد الدين بن الشيخ جمال الدين أبي صالح المعروف بابن الأحواضي، كان مفنناً ذا علوم كثيرة والغالب عليه المنطق والحكمة والفلسفة والميل إلى مذهبهم؛ توفي بقرية حراجل من جبل الحردبين ليلة الجمعة رابع جمادى الأولى ولم يبلغ أربعين سنة. ووالده شيخ الشيعة والمقتدى به عندهم والمشار إليه في مذهبهم وسيأتي ذكره - إن شاء الله.
محمد بن عبيد الله بن حزيل أبو عبد الله بهاء الدين، كان صدراً كبيراً عالماً فاضلاً رئيساً، توفي في هذه السنة بالقاهرة. ودفن بالقرافة الصغرى وهو في عشر الستين - رحمه الله تعالى. أخبرني بذلك صاحبنا تاج الدين عبد الله وهو ابن أخيه، ومن شعر بهاء الدين المذكور قوله:
إنما أشكو إلى الخلق هواناً ومذلّة ... فاترك الخلق واترك كل ما تارك الله(3/151)
وقال:
قالوا الحمام سيأتي هجماً عليك مصابه
فقلت أهلاً وسهلاً إن حاز اقترابه ... ما كان لا بدّ منه يهون عندي صعابه
الموت للناس حتم وذاك في الخلق دأبه ... لي خالق بي رؤوف للجود يقصد بابه
العفو منه يرجى جواداً ويخشى عقابه ... ولست أكره أني ألقاه لكن إهابه
وله مما يكتب في حياصة:
لقد غار مني العاشقون وأظهروا ... قلائي فلا نال الوصال غيور
ومن ذا الذي أضحى له كعلائقي ... لديه ولكنّ النفوس غرور
وقد ضاع مني خصره فوق ردفه ... فلا عجب أني عليه أدور
وله في المعنى في حياصة ذهب:
غار المحبون مني ... إذ درت حول نطاقه
ونلت ما لم ينالوا ... من ضمه واعتناقه
ما اصفرّ لوني إلا ... مخافة من فراقه
وله في جواب كتاب:
أهلاً وسهلاً بكتاب غدا ... كالروض جادته سماء السماح
وافى فمن فرط سروري به ... بات نديماً لي حتى الصباح
تمزج فيه بالعتاب الرضا ... وانما تمزج راحا براح
وله كتب بها إلى بعض أصحابه بالحجاز الشريف:
يا راحلاً قد كدت أقضي بعده ... أسفاً وأحشائي عليه تقطّع(3/152)
شطّ المزار فما القلوب سواكن ... لكنّ دمع العين بعدك ينبع
وقال وقد اشتد به المرض:
لا يجد همّي ولا حزني ... أم مفقود لها وله
ما بقاء الروح في جسدي ... غير تعذيب لها وله
وقال أيضاً:
يا بديع الجمال رقّ لمن ... ستر هواك عليك مهتوك
دموعه في هواك جارية ... وقلبه في يدك مملوك
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
ولقد شكوت لملتقى ... حالي ولطفت العباره
فكأنني أشكو إلى ... حجر وإن من الحجارة
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
وبي رشأ مصون في الفؤاد له ... ودّ فما أحد في الناس يشركه
مهابه في قلوب العاشقين له ... فكم دم منهم باللحظ يسفكه
يا من يروم وصالاً منه مت كمداً ... إن الوصال إليه عنه مسلكه
يا عاذلاً قد لحاني في محبته ... إليك عني فإني لست أتركه
وليس يقبلني إلا تعففه ... مع الأنام ولي وحدي تهتّكه
وهذا صدق قول بعضهم في مبذول:
وليس يقبلني إلا تهتكه ... مع الأنام ولا وحدي تعففه
ولزين الدين المذكور في شبابة:
وناحلة صفراء تنطق عن هوى ... فتعرب عما في الضمير وتخبر(3/153)
يراها الهوى والوجد حتى أعادها ... أنابيب في أجوافها الريح تصفر
ومما انقل من خطه على ديوان عز الدين أحمد بن معقل:
لسيدنا الحبر الإمام ابن مقبل ... قصائد شعر كالقلائد في النحر
هو البحر في جود وعلم نائل ... ولا عجب للبحر يقذف بالدرّ
هي الروضة الغناء يمهقها الحيا ... وأنبت في أرجائها يانع الزهر
عرائس أبكار المعاني يلفظه ... على الطرس يحلى منه في حبر الحبر
فما عقد السحر الحرام كنظمه ... ولم يحكه حسناً عقود على السحر
وله وقد أنشد:
قالوا تسلّ بغيره عن حبه ... يسليك عنك قلت لا وحياته
من أين لي وجه يكون كوجهه ... حسناً ومن أوصافه كصفاته
الحسن أجمع في حبيبي إنه ... أضحى يتيه على الوجود بذاته
يا غائباً عن ناظري وخياله ... أبداً يراه القلب في مرآته
عطفاً على دنف أجلّ مراده ... إن كنت تقبله على علاته
إن لم تجد بالوصل منك له فقد ... عاجلته بالموت قبل مماته
محمود بن عابد بن الحسين بن محمد بن الحسين بن جعفر بن عمارة بن عيسى بن علي بن عمارة أبو الثناء تاج الدين التميمي الصرخدي الحنفي. مولده سنة ثمان وسبعين وخمس مائة بصرخد، وتوفي ليلة الجمعة السادس(3/154)
والعشرين من ربيع الآخر بدمشق بالمدرسة النورية، ودفن بمقابر الصوفية خارج باب النصر عند قبر شيخه جمال الدين الحصيري - رحمه الله تعالى.
وكان تاج الدين المذكور من الصلحاء العلماء الفضلاء، لين الجانب، دمث الأخلاق، كريم الشمائل، كثير التواضع، قنوعاً من الدنيا بقدر الكفاية، معرضاً عن التكثر مع تمكنه من ذلك وقدرته عليه؛ وكانت له وجاهة عظيمة عنند الملوك والأمراء والوزراء والأكابر والقبول العظيم من الخاص والعام. وله اليد الطولى في النظم، فمن شعره:
حدث فقد حدثتنا دوحة السلم ... عنهم فما أنت في قول بمتّهم
أخيّموا بالكثيب الفرد أم نزلوا ... منابت الرمل بالوعساء من إضم
هل حدثوك فأضحى الدرّ من صدف ... الثغور ما بين منثور ومنتظم
أضحى النسيم عليلاً ما به رمق ... لما رموه من الجفان بالسقم
أهوى حديث قديم العهد إن نطقت ... به المعاهد عن أحبابنا القدم
ويزدهيني وميض البرق في سدف ... من الظلام بحالي ثغر مبتسم
بأمور ذا اللهو من أجزاع كاظمة ... نحن العطاش إلى سلسالك الشبم
أعابد فيك ما قضيت من وطر ... مع الظباء ولو في طارق الحلم
أفدى أناساً لووا عهد اللوى ونأوا ... عني وما حلت عن عهدي ولا ذمم
أحبة كلما اشتاق عن ادّكارهم ... تبدل الدمع من تذكارهم بدم
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
إن كان قصدي غيركم يا سادتي ... لا نلت منكم بغيتي وإرادتي(3/155)
من ذا الذي حاز الجمال سواكم ... فأحبه وتقوم فيه قيامتي
والله لا أنسى محبته سادة ... إحسانهم تمحو قبيح إساءتي
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
لقديم وجدي في هواك حديث ... تفنى به الأيام وهو حديث
ولطيب ذكرك في فؤادي خطرة ... ميت الغرام بنشرها مبعوث
أضحى الغرام يزيد وهو كمدمعي ... جار إلى جاري العيون حثيث
ولقد بكيت على زمان المنحنى ... أسفاً فدمعي للديار غيوث
يا أيها الصب الذي أجفانه ... وحش وأحداق العيون حثيث
بالله يا ميثاق سلع ضائع ... عندي ولا عهد الحمى منكوث
يثنيك عني مثل ودّ ماذق ... ويعوف طرفك إن أراد يغوث
ببلية صليت في شرع الهوى ... ما لي عليها في الأنام مغيث
حدق وأجفان سبت بسوادها ... قلبي وفرع كالظلام أثيث
لولا ابتسام الثغر ريع هذه ... هذا لكن أضلني التثليث
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
قسماً بتعريف الحجيج وليلة ال ... مسعىوأيام الحطيم وزمزم
والرمي والجمرات والتشريق وال ... بيت العتيق وكل أشعث محرم
وسعى إخوان الصفاء على الصفا ... وبما أريق على المحصب من دم(3/156)
لأحلت عن حييكم وبحبكم ... يلقى الإله حشاشتي بل أعظمي
هذا وقلبي ما غدا من حبكم ... صفراً ولا حبي لكم بمحرم
وإذا ذكرتكم غنيت بذكركم ... عن مشرب طول الزمان ومطعم
وإذا ابتسام البرق حرّك ساكنا ... في القلب حرّكتم بكل تبسم
لكم تعطرت الخمائل الربا ... بنسيمكم وحياتكم بمتيّم
فلأشكرن يد النسيم وواجب ... بين الورى تكرار شكر المنعم
علقت بروحي أو وقد علقتكم ... قلبي فمجموعي بكم وتقسمي
إن جنكم صب فليس بمدنف ... أو حازكم قلب فليس بمغرم
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
لا تقولوا سلا المحب هوانا ... لا ولو ذقت في هواكم هوانا
أنا صبّ أرى المذلة عزاً ... في رضاكم وذنبكم غفرانا
لست أسلوكم وحاشى هواكم ... أن يرى فيه عاشق سلوانا
أيها المعرضون ردوا على المش ... تاق قلباً عذبتموه زمانا
أفردوا الرقاد ثم مرّوا الطي ... ف مراراً لعله يغشانا
أين أيامنا ونحن وأنتم ... قد غدونا على الحمى جيرانا
تسرح العين فيكم فيرى النا ... ظر في كل نظرة بستانا
لا ولا ذقت وصلكم إن تطلّب ... ت خروجاً عن حبكم وأمانا
قال أيضاً - رحمه الله تعالى:
قضى ولم يقض من أهل الحمى إرباً ... صبّ متى شام برق الأبرقين صبا(3/157)
لاحت له في الدجى نار على علم ... وهناً فآنس منها قلبه لهبا
فحنّ وجدا إلى الوادي نزلوا ... به وبات بتلك النار مكتئبا
يهيجه نشر رند في النسيم على ... بعد ويصبو إذا برق الحمى وجبا
ويسأل البرق من نجد إعادة أيامه البيض والعيش الذي ذهبا
هيهات يا سرحة الوادي بشعبهم ... للشمل فيك التئام بعد ما انشعبا
وقال - رحمه الله تعالى -:
رعى الله ليلاً زارني في دجائه ... رشيق التثني مسرف في جماله
فمزق جلباب الدجى صبح وجهه ... وضوّع جمر الخد غنبر خاله
وبتّ ولي من ريقه العذب قرقف ... معتقة ممزوجة بدلاله
مضى وانقضى ذاك الوصول كأنما ... منام رأته العين طيف وصاله
لقد صدّ حتى لو تمنيت طيفه ... يضنّ على ضعفي بطيف خياله
واتبعه هجراً يرى الوصل عنده ... حراماً فوصلي لا يمرّ بباله
وما زال يوليني الصدود تدللاً ... فوا حرباً من صده ودلاله
وقال أيضاً - رحمه الله:
أنتم لأجسامنا الأرواح والمهج ... وللنواظر فيكم منظر بهج
أنتم لنا الحجة العظمى إذا انقطعت ... بنا الأدلة يوم البعث والحجج
لا نرتجي غيركم في كل نائبة ... إذا ذكرناكم بالذكر ينفرج
وما سلكنا إليكم في الدجى بهجاً ... إلا وأشرق نوراً منكم البهج
لنا الهداية منكم لا نضلّ ولا ... نخشى الضلال وأنتم للورى سرج(3/158)
لولاكم ما اغتدت منا القلوب هوا ... ء يتيه في نشر رياه وينبهج
منكم رأينا طريق الحق واضحة ... لا زيغ فيها ولا أمت ولا عوج
ففي القلوب لنا من ذكركم طرب ... وفي النسيم لنا من نشركم أرج
وفيكم نزه الأبصار ما نظرت ... إلا وعنّ لها من حسنكم فرج
وحبكم مذهب لولاه ما رفعت ... عنا المشقة والتكليف والحرج
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
سقى الله أيام الحمى ما يسرها ... وخصك يا عصر الشبيبة بالرضا
فعنك عرفت النفس غضّاً مطاوعاً ... ولكنه لما انقضى عصرك انقضا
فلولاك لم يسفح على السفح عبرة ... لعيني ولا صدّ السرور وأعرضا
ولا نلت برقاً بالثنية لامعاً ... ولا غاص دمع العين من قبقبة الأضا
ولا ترف الدمع المصون كآبة ... عليك لما أدى حقوقا ولا قضى
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
سلام على الدار التي قد تباعدت ... ودمعي بها طول الزمان سفوح
خليلي ما لي لا أرى بأن حاجر ... يلوح ولا نشر الأراك يفوح
يعز علينا أن تشط بنا النوى ... ولي عندكم قلب يذوب وروح
إذا نفحت من جانب الرمل نفحة ... وفيها غزار للغوير وشيح
وضاعت رياض الحزن في رونق الضحى ... وهب لنا من نحو رامة ريح
تذكرتكم والدمع يستر مقلتي ... وقلبي باستياف البعاد جريح
وقلت وبي من لاعج الشوق زفرة ... ولوعة وجد تغتدي فتروح
ألا هل يعيد الله أيامنا التي ... نعمنا بها والحادثات تروح(3/159)
وقال أيضاً رحمه الله:
قلبي بتذكار الأحبة مولع ... حيران من ألم الفراق مولع
كيف التصبر بعد فرقة سادة ... فارقتهم والقلب مني موجع
يا صاح لو أبصرتني لرثيت لي ... والقلب عند فراقهم يتقطع
وأنا أنادي والمدامع هطل ... يا رب قل تصبري ما أصنع
وقال أيضاً رحمه الله:
يا حادي العيس مر بي حيث ما ساروا ... أذابني لهم شوق وتذكار
ساروا وقلبي على جمر الغضا تركوا ... وكيف يصبر من في قلبه نار
تلك البدور سروا تحت الظلام دجى ... فهتكت تحت ذاك الستر أستار
دعني أمزق أسرار الحياء بهم ... فما عليّ إذا مزقتهم عار
وقال أيضاً رحمه الله:
ما نلت من حب من كلفت به ... إلا غراماً عليه أو ولها
ومحنتي في هواه دائرة ... آخرها ما يزال أولها
وقال أيضاً: أنشدها للشيخ شمس الدين الستي الواعظ البغدادي بجامع دمشق في الأيام المعظمية وكان يجلس يوم الثلاثاء:
أيها العالم الذي ورثته ال ... علم جداً أجداده ميراثا
والذي إن أتى بوعد وعهد ... كان لا مخلفاً ولا نكاثا
كل يوم نراك بحراً خضيماً ... نغرف الدر منه يوم الثلاثا(3/160)
قسم الدهر للتفحص في ال ... علم والنسك والندى أثلاثا
نام طرف الخليل ليلاً فنودي ... هب فاذبح مطهماً دلهاثا
والبشير النذير نام وما كا ... ن يذوق المنام إلا حثاثا
فأتاه آت فناداه قم فار ... كب متن البراق وامض مغاثا
واسر حتى ترى مقاماً كريماً ... تعجز سيرك البروق الحثاثا
أي فرق بين المنامين بين ... ما تراه بين البرية عاثا
؟ محمود بن عبيد الله بن أحمد أبو المجاهد ظهير الدين الزنجاني الصوفي الفقيه الشافعي، كان من أعيان الصوفية وأكابرهم وعنده فضيلة، ويفتي على مذهب الإمام الشافعي رحمه الله؛ وكان إمام المدرسة التقوية بدمشق وأكثر نهاره بها، وفي الليل يبيت بالخانكاة الشميساطية. سمع الكثير وحدث واشتغل عليه جماعة، صحب الشيخ شهاب الدين السهروردي وسمع عليه عوارف المعارف وغير ذلك، وحدث به وصنف تصانيف مفيدة، منها الرسالة المنقذة من الجمر في إلحاق الأنبذة بالخمر. وقال أيضاً رحمه الله: توفي بدمشق وقد نيف على السبعين سنة من العمر رحمه الله تعالى. وكان والده ركن الدين عبيد الله قاضي زنجان من الفضلاء. ومن شعر ظهير الدين رحمه الله:
إلهي! ذنوبي والخطايا كثيرة ... فأنت الذي تعفو وتمحو الكبائرا
متاعي من الطاعات والبر بائر ... فأنت الذي يسري وأشرك مآثرا(3/161)
وإن كنت تصلي النار نفسي بنورها ... وويل على النفس التي كنت بائرا
وقال أيضاً رحمه الله:
قد قال لي العين أعين الشيطان ... في الخلوة لم سكنت بين الاخوان
أشكر فرحاً وكل ونم قلت له ... بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان
مسعود بن عبد الله بن عمر بن علي بن محمد بن حموية الجويني الملقب سعد الدين، هو أسن من أخيه الشيخ شرف الدين، وكان أولاً يعاني زي الخدمة، ثم لما أسن ترك ذلك الزي ولبس القيار وصار شريكاً لأخيه في مشيخة الشيوخ بدمشق، وكان عنده إطلاع على التواريخ وأيام الناس، وجمع في ذلك جموعاً مفيدة. وقال أيضاً رحمه الله: توفي بدمشق ليلة الجمعة سابع وعشرين ذي الحجة، ودفن يوم الجمعة بسفح قاسيون؛ ومولده ليلة الأحد سادس عشر ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين وخمس مائة، وأمه عالية النسب ابنة الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد الواحد بن عبد الماجد القشيري.
سمع سعد الدين المذكور على الكندي المقامات وأجزاء أدبيات في سنة تسع وتسعين وخمس مائة، وسمع على القاضي جمال الدين عبد الصمد بن الحرستاني مسند الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه في سنة ثمان وتسعين وخمس مائة، وسمع البخاري بقراءة أبي الفضل الوليد على عبد السلام بن عبد الله بن بكران الداهري لحق سماعه من السجزي عن الداوودي عن(3/162)
السرخسي عن الفربري عن البخاري، وأجازه جماعة، منهم الشيخ يحيى بن عقيل بن شريف السعدي، ومجد الدين عمر بن دحية والشيخ محمود بن عبد الله الحاري وغيرهم وحدث. وله نظم لا بأس به فمنه - وقد رأى مملوكاً حسن المنظر في يده كلب صيد:
رأيت في الصحراء ظبياً غدا ... مرتعه لب قلوب الرجال
في يده كلب أسير له ... وعادة الكلب يصيد الغزال
وله أيضاً في الزهر:
رأيت أزاهير الرياض وقد حكت ... بياض مشيب المرء حين علاها
وقد ثملت أغصانها فهي تنثني ... وجاد عليها المزن ثم سقاها
ومن عجب أن يهرم الشيب دائماً ... وهذا مشيب الدوح بدر صباها
وله يتشوق إلى دمشق يمدح الملك المظفر صاحب ميافارقين:
غرامي إلى الأحباب ليس يحول ... وفرط اشتياق نحوهن طويل
أحن إلى ماذي دمشق ودوحها ... إذا رفحته بالأصائل قبول
أيا راكباً بلّغ هديت تحيتيإلى من هموا على الشئام نزول
وخبرهم أني حواني منزل ... بأكناف ميافارقين ظليل
أرى ملكاً الذي ملوك زمانه ... يميناً وناديه أعز جميل
من النفر الشم الذين سمعت بهم ... فروع إلى علياهم وأصول
هو الملك غاز ليس في الناس مثله ... كريم شجاع صادق وأصيل(3/163)
حباني وأحياني وقرّب منزلي ... وقابلني منه سناً وقبول
وما أنا والأشعار لولا صفاتكم ... تعلمني في الحال كيف أقول
فلا زلت في الدنيا سعيداً مهنأ ... ولا زلت منصور اللوى وتنيل
السنة الخامسة والسبعون وست مائة
دخلت هذه السنة والخليفة والملوك على القاعدة في السنة الخالية والملك الظاهر بالشام عائداً من الكرك.
متجددات الأحوال
في ثالث المحرم دخل الملك الظاهر دمشق، وافق يوم دخوله إليها وفد عليه من أعيان المغل سكتاي وأخوه جاروجي واخبراه أن الأمير حسام الدين بيجار التاتيري قد قطع خرت برت وولده بهادر عازمان على الحضور. وكان سبب وصول سكتاي وأخيه أن بهادر كان متزوجاً بأختهما. وكان لهما أخ كافر فوصل إليهما ومعه جماعة من أقاربهم. وطلبوا منهما مالاً وقالوا لهما: أنتما في راحة بسكنى المدن، ونحن في التعب بملازمة البكار فأعطونا شيئاً نستعين به، وإلا أحضروا معنا إلى أبغا ليفصل بيننا؛ فشاوروا البرواناة فأشار أن يدفعا لهم ما التمسوه، فأخذوه وتوجهوا، فقال البرواناة لبهادر: ما أنا ممن يدعو علينا عند أبغا إننا باعيه فنتضرر: فلحقهم بهادر وصهراه فقتلوهم وأخذوا ما معهم.(3/164)
وكانت رسل أبغا ترد على البرواناة تحثه على المصير إليه وهو يسوفهم منتظراً لعسكر الملك الظاهر. فلما يئس منه توجه إلى أبغا في حادي عشر ذي الحجة من السنة الخالية وصحبته أخت السلطان غياث الدين ليدخل بها إلى أبغا ومعه من الأموال والتحف ما لا يوصف كثرة، وتوجه خواجا على الوزير. ولما عزم على التوجه حضّ بهادر على التوجه إلى الملك الظاهر مع أبيه لأن أبغا ينقم عليه قبل من قتله من التتر. فتقدم بهادر إلى سكتاي وأخيه بالمسير إلى بين يده إلى الملك الظاهر ليعرفاه بعزمه وعزم أبيه على الوصول وتذكراه بما تقدم لبيجار من اليمن. فلما وصلا أحسن إليهما وبعث بهما إلى القاهرة ليجتمعا بولده الملك السعيد، فوصلاها يوم الجمعة ثاني عشر المحرم، فأحسن إليهما الملك السعيد وردّ بهما إلى أبيه بعد ثلاث.
وفي أواخر المحرّم سيّر الملك الظاهر الأأمير بدر الدين بكتوت الأتابكي ومعه ألف فارس وأمره إذا وصل حلب يستصحب عسكراً منها ويتوجه إلى بلاد الروم، وكتب على يده كتباً إلى أمراء الروم يحرضهم فيها على طاعته. وكان سبب هذه المكاتبة ان شرف الدين مسعود بن الخطير بعد سفر الرواناة في النسة الخالية إلى أبغا كتب إلى الملك الظاهر يحثّه على الوصول إلى الروم بعساكره لينظم إليه والسلطان غياث الدين ومن في بلاد الروم من العساكر، وبعث كتابه إلى سيف الدين جندر مقطع البلستين(3/165)
ليبعثه إلى الملك الظاهر، فدفعته إلى ولده بدر الدين أقوش وأمره أن لايبعثه فخالفه وبعثه.
واما شرف الدين فداخله الندم وخاف إن هو خرج من الروم لا يعود إليه، فكتب إلى سيف الدين جندر أن لا يبعث الكتاب فاستدعى بولده وطلبه منه فأخبره أنه بعثه. ولما وصل بدر الدين الأتابكي إلى البلستين صادف من عسكر الروم جماعة منهم الأمير مبارز الدين شورى الجاشنكير، وسيف الدين جندر، وبدر الدين لؤلؤ، وبدر الدين ميكائيل، وعند وقوع نظره عليهم لم ينزل ولا من معه على ظهور الخيل بعثوا إليهم بإقامة جليلة وركبوا إليه وسالوه الإبقاء عليهم على أن يقتلوا من بالبلستين من التتر ويصيروا معه إلى باب الملك الظاهر فأجابهم، فلما وفوا بذلك قفل بهم، فوافوا الملك الظاهر بحارم فأقبل عليهم.
ذكر وفود بيجار وولده بهادر
لما تواترت الأخبار بقربهما تقدم إلى الأمير نور الدين نائبه بحلب بالاهتمام بالإقامة له، ثم الخروجإلى لقائه إذا شارف البلاد. ولما قارب أرض دمشق سيّر جمال الدين محمد نهار لتلقيه ووصل بيجار إلى دمشق يوم الأربعاء تاسع عشر المحرم، فتلقاه السلطان وبالغ في إكرامه، وأنزله في النيرب. ثم وصل ولده بهادر إلى دمشق يوم السبت التاسع والعشرين من الشهر وكان تأخر بسبب جمع أمواله من البلاد، وكان مهذب الدين علي بن البرواناة نائباً عن أبيه في البلاد يومئذ. فلما بلغه رحيلهم جهز(3/166)
خلفهم عسكراً من التتر وقدم عليهم نيجى فسار إلى خرت برت فلم يلحق أحداً منهم غير أنه عشر على خمس مائة فرس عربية عريقة الأنساب، كان بهادر قدمها بين يديه فضلّت عن الطريق. لما قضى الملك من الاجتماع بهما بعث بهادر إلى القاهرة مع بيسرى وخطليجا فخرجوا من دمشق يوم الخميس تاسع صفر ووصلوا يوم السبت ثالث ربيع الأول ثم بعث أباه بيجار مع شرف الدين الحاكي فوصلاها يوم الاثنين ثالث ربيع الآخر فخرج الملك السعيد لتلقيه واحتفل به وحمل إليه أموالاً وخلعاً.
وفي الرابع والعشرين من صفر علق مشاء السلطان وكسر الخليج بكرة السبت الخامس والعشرين منه وركب الملك السعيد وباشر ذلك بنفسه وانتهت الزيادة إلى أربع عشرة إصبعاً من تسع عشرة ذراعاً.
وفي الخميس تاسع صفر توجه الملك الظاهر من دمشق إلى حلب، فوصل حمص ثالث عشر صفر فوافاه عليها ضياء الدين محمود بن الخطير، وسنان الدين بن الأمير سيد الدين طرنطاي بكلربيكي؛ وسبب وصولهما أن شرف الدين بن الخطير كان لما وردت كتب الملك الظاهر على امراء الروم شرع في تفريق العسكر الرومي، وأذن لهم في نهب من يجدونه من التتر وقتله وإنجاز الأمير محمد بن قرمان وإخوته واولاده بمن معه من التركمان إلى السواحل وأغاروا على من جاورهم. ثم كتب السلطان الملك الظاهر يعرفه مباينته التتر وإخراج السواحل من أيديهم، وبلغ السلطان غياث الدين ومهذب الدين ما اعتمده شرف الدين بعثاً في طلبه. فلما وصل(3/167)
إليهما أمر مهذب الدين أن يحضر بجمع رسل التتر ونوابهم ومن كان من المغل ممن كان مع ينجي على أسوأ حال، فأحضروا مكشفين الرؤوس وبسطت الرعية أيديهم فيهم، وحبس من قبض عليه منهم وبعث بمهذب الدين إلى شرف الدين مسعود، وكان ظاهر المدينة ليحضر فأبى. فخرج إليه تاج الدين كيوى ثم تبعه سيف الدين طرنطاي وسبق تاج الدين. فلما اجتمع بشرف الدين عنّفه، وأغلظ له فأمر به فقتل وقتل معه سنان الدين بن أرسلان طمغش زوباشي قونية. ولما قتلهما خاف من مهذب الدين فتوجه قاصد الملك الظاهر. وذلك يوم الجمعة ثالث عشر صفر وأدركه سيف الدين طرنطاي.
فلما رأى السيوف مجردة أنكر عليه فقال شرف الدين: فات ما فات فاستر عليّ بالمصلحة؛ فقال: الرأي أن أرجع إلى بيتي فرجع وتركه. ولما بلغ مهذب الدين ذلك بعث إلى سيف الدين يستدعيه فأتى فتحيّل أنه مع شرف الدين، ثم بعث شرف الدين إليه. فلما اجتمع به سأله أن يوفق بينه وبين مهذب الدين فعاد سيف الدين إلى مهذب الدين وسأله في ذلك وأجاب. وخرج السلطان غياث الدين إلى ظاهر قيسارية، فنزل بجمال طاسي في عشية النهار المذكور. فلما رآه شرف الدين وضياء الدين ومن معهما ترجّلوا وقبّلوا الأرض ونادوا في البلد بشعار الملك الظاهر. واتفقوا أن السلطان غياث الدين والعسكر يتوجهون إلى مدينة بكيدة يقيمون بها(3/168)
ويبعثون قصاداً إلى الملك الظاهر يستوثقون باليمين لغياث الدين ولأنفسهم فاستأذنهم مهذب الدين في أن يدخل إلى قيصارية ليخرج أثقاله فأذنوا له، فدخل وحمل منها أثقاله وخزينته وخرج منها ليلاً وقصد دوقات؛ فلما تحققوا ذلك، بعث شرف الدين بن الخطير أخاه ضياء الدين ومعه سبعة وثلاثون نفراً من أصحابه، وبعث الأمير سيف الدين طرنطاي بكلربكي ولده سنان الدين ومعه عشرون نفراً إلى الملك الظاهر ليستوثقوا منه باليمين لغياث الدين ولأنفسهم فاستأذنهم مهذب الدين في أن يدخل قيصارية ليخرج أثقاله فأذنوا له فدخل وحمل أثقاله وخزينته وخرج منها ليلاً وسار سيف الدين وشرف الدين والسلطان غياث الدين إلى بكيدة وقدروا مع رسلهم أن يحثوا الملك على المسير إليهم بعد أن يستحلفوه على ما تقرر.
فلما وصلوا إلى الملك الظاهر واجتمعوا به في حمص وأخبروه بما جرى وحثوه على المسير؛ قال: أنتم استعجلتم في الباينة فإني كنت قد عدوت معين الدين قبل توجهه إلى الأرد، وفي أواخر هذه السنة أطأ البلاد بعساكري فإنها بمصر وما يمكنني أن أدخل البلاد بمن معي الآن لقتلهم، وأما انفصال مهذب الدين إلى دوقات فنعم مافعل، فإنه كان مطلعاً على ما بيني وبين والده.
ثم أنزلهم وأكرمهم وطلب ضياء الدين أن يجتمع بالسلطان خلوة،(3/169)
فأجابه فلما اجتمع به قال: ليتني لم تقصد البلاد في هذا الوقت لم آمن على أخي أن يقتل ومن معه من الأمراء الذين خلفوا وغن كان لا بدّ من تصبّرك فابعث إلى بلاد من فيه قوة من عسكرك حتى يكونوا ردءاً السلطان غياث الدين ولأخي، فتمكنوا من الخروج من البلاد؛ فقال: أرى من المصلحة أن ترجعوا إلى بلادكم وتحصنوا قلاعكم ويحتموا بها على أن أرجع إلى مصر وأربع خيلي، وأعود في زمنالشتاء فإن آبار الشام في هذا الوقت قد غارت، ثم استصحبهم معه إلى حلب في العشرين من صفر؛ ولما مر بحماة استصحب صاحبها، ووصل حلب في الخامس والعشرين من صفر وجهز الأمير سيف الدين بلبان الزيني في عسكره، وبعث به إلى الروم ليحضر السلطان غياث الدين، وشرف الدين بن الخطير، وسيف الدين طرنطاي، وبقية من حلف له من الأمراء. فلما وصل كينوك - وهي الحدث المراء - وردت القصاد إليه بعود البرواناة إلى الروم في خدمة منكوتمر وإخوته في ثلاثين ألف فارس والأمراء، راجعاً إلى تتاوون، فكتب إلى الملك الظاهر يعرفه بذلك، فظن أن التتر إذا سمعوا به في عسكر قليل قصدوه؛ فرحل من حلب إلى دمشق ثم إلى مصر ثم عاد الأمير سيف الدين. ولما ترك الملك الظاهر حمص قدم عليه رسل صاحب سيس ومعهم هدية فقبل الهدية ولم يجتمع بالرسل، وكان دخوله مصر يوم الخميس ثاني عشر ربيع الأول.(3/170)
ذكر هروب شرف الدين بن الخطير
قد تقدم القول بوصول البرواناة ومنكوتمر ومن معهم من العساكر إلى الروم في أوائل ربيع الآخر، فلما قدموا ظهر لهم شرف الدين المباينة وعزم ان يلقيهم فسبقه من كان معه رأيه وقالوا: كيف يلتقي بأربعة آلاف ثلاثين ألفاً، فعلم أنه مقتول لا محالة فقصد قلعة لولوة ليتحصن بها، فلم يمكنه واليها من دخولها بجماعتهبل بمفرده، فدخلها ومعه أمير علمه وكان قد أذاه من مدة تزيد على ست عشرة سنة، فقال لوالي القلعة: احتفظ بشرف الدين حتى تسلمه إلى أبغا لتكون لك عنده اليد البيضاء؛ فبض عليه وبعثه إلى البرواناة. فلما وقع نظره عليه سبه وبصق في وجهه وأمر بالاحتياط به.
ذكر ما حدث ببلاد الروم عند وصول التتر
إليها لما عاد البرواناة - كما قلنا - بمن معه من العساكر التترية جلس وتنادوا مقدمي العساكر وكراي وتقو والبرواناة في الإيوان مجلساً عاما. وأحضروا
السلطان غياث الدين ومن رافقه على الانقياد إلى الملك الظاهر وقالوا له: ما حملك على ما فعلت من خلع طاعة أبغا وركونك إلى صاحب مصر؟ فقال: أنا صبي وما علمت الصواب، ولما رأيت أكابر دولتي قد فعلوا ذلك، خفت أن يسلموني إذا لم أوافقهم. فنهض البرواناة إلى شجاع الدين قاسا الخصى الالاء فقتله بيده. ثم أحضروا سيف الدين طرنطاي ومجد الدين أتابك، وجلال الدين المستوفى وسألوهم عن سبب إنفاذهم إلى صاحب(3/171)
مصر؛ فقالوا: شرف الدين بن الخطير أمرنا بذلك، وخفنا إن لم نجبه فعل بنا كما فعل بتاج الدين. فأحضروا شرف الدين وسألوه، فقال للبرواناة: أنت حرضتني على ذلك، وذكر له المكاتبات التي كاتب بها المظفر واتفاقه معه إلى التاريخ الذي عزم شرف الدين على قصد الملك الظاهر فيه، فأنكر ما ادعاه عليه، فكتبوا ما قاله شرف الدين وانكار البرواناة؛ ثم سألوا شرف الدين عن الأمير سيف الدين طرنطاي، ومجد الدين الأتابك - ختن البرواناة - هل كانوا موافقين بذلك؟ فأنكر وقال: أنا كلفتهم وألزمتهم بإرسال الرسل إلى الملك الظاهر فأمر تتاوون بضربه بالسياط ليقر بمن كان معه. فأقر على نور الدين حجا وسيف الدين قلاوون وعلم الدين سنجر الجمدار وغيرهم. فلما تحقق البرواناة أنه يقتل بإقرار شرف الدين عليه بعث إليه يقول له: متى قتلوني لم يبقوك بعدي، فاعمل على خلاص نفسك وخلاصي بحيث متى حضرت مرة ثانية وضربت وسئلت عن الحال، فارجع عما قلت واعتذر بأن اعترافك كان من ألم الضرب؛ ففعل ما أمره البرواناة، وطولع أبغا بصورة الحال، ثم رسم أن يضرب كل يوم مائة سوط إلى ان يعود الجواب، فعاد الجواب، فأمر بقتله في آخر ربيع الآخر، فقتل وبعث برأسه إلى قونية وإحدى يديه إلى أنكورية والأخرى إلى أرزنجان،(3/172)
وفرقوا أعضاءه في سائر بلاد الروم، وقتل معه سيف الدين بن قلاوون وعلم الدين سنجر الجمدار وش1 محمد قاتل شمس الدين الأصبهاني نائب الروم وجماعة كثرة من التركمان، وأثبتوا ديناً على طرنطاي ففدى نفسه بمائتي فرس وأربع مائة ألف درهم، وعلى أن يقيم بألف من المغل في زمن الشتاء، وصانع جماعة من امراء المغل حتى أبقوا عليه نفسه، ثم خرج البرواناة إلى البلاد فطافها بعسكره، وقتل من وجد في ضواحيها من المفسدين.
ولما اتصل خبر شرف الدين بن الخطير بأخيه ضياء الدين وهو بالقاهرة دخل على الملك الظاهر في ثوب غيار، فسأله عن سبب ذلك فذكر له أن أخاه قتل. وكان سبب قتله أنه شهد عليه بمتابعة السلطان ومنابذة أبغا سيف الدين طرنطاي ومجد الدين الأتابك وجلال الدين المستوفي وأصحابهم، وأمر الملك الظاهربالقبض على سنان الدين موسى بن طرنطاي ونظام الدين يوسف أخي مجد الدين الأتابك والحاجي أخي جلال الدين المستوفي، وحبسهم في برج من قلعة الجبل، وحبس أتباعهم في خزانة البنود، وذلك في يوم الثلاثاء سابع عشر جمادى الأولى ولم يزالوا محبوساً إلى شهر ربيع الآخر سنة سبع وسبعين، فأفرج عنهم الملك السعيد.
وفي تاسع ربيع الآخر كانت وقعة بين نجم الدين أبي نمي أمير مكة وبين عز الدين جماز أمير المدينة على ساكنهما أفضل الصلاة والسلام، وسببها أن إدريس بن حسن بن قتادة صاحب الينبع اتفق هو وجماز(3/173)
وقصدا أبا نمي، فخرج غليهما واكتفى بهما على مر الظهران، فكسرهما وأسر إدريس وهرب جمّاز، فألحق بالمدينة، وكان مع أبي نمي مائتا فارس وثمانون راجلا، ومع إدريس وجمّاز مائتان وخمس عشرة فارساً وست مائة راجل.
ذكر عرس المللك السعيد
لما عاد المللك الظاهر من الشام ودخل القاهرة يوم الاثنين ثالث ربيع الآخر أمر بالاهتمام بعرس ولده، فلما كان يوم الخميس خامس جمادى الأولى أمر العسكر بالركوب إلى الميدان الأسود تحت القلعة في أحسن زيّ، وأقاموا يركبون كل يوم كذلك، ويتراكضون في الميدان خمسة أيام، وفي اليوم السادس أفرق الجيش فرقتان، وحملت كل فرقة على الأخرى، وجرى من اللعب والزينة ما لايوصف، وفي اليوم السابع خلع الملك الظاهر على سائر الأمراء والوزراء والقضاة والكتاب وخواص الحاشية مقدار ألف وثلاثمائة خلعة، وبعث إلى دمشق الخلع ففرقت كذلك، ثم في اليوم الذي يلي ذلك وهو يوم الخميس مدّ الخوان في الميدان المذكور في أربعة دهاليز. وحضر السماط من علا ومن دنا ورسل التتر ورسل الفرنج وعليهم الخلع أيضاً، وجلس السلطان يومئذ في صدر الخيمة على تخت آبنوس وعاج مصفح بالذهب مسمّر بالفضة غرم عليه ألف دينار، ولما انقضى السماط قدم الأمراء الهدايا والتحف من الخيل والسلاح والمتاع وسائر الملابس وغير ذلك، فلم يقبل السلطان لأحد، فنهم ماله(3/174)
قيمة سوى ثوب واحد جبراً له. فلما كان وقت العصر ركب إلى القلعة وأخذ في تجهيز ما يليق بالزفاف والدخول، ولم يمكن إحدى من نساء المراء عللا الاطلاق من الدخول إلى البيوت، ودخل الملك السعيد الحمّام ثم دخل إلى بيته الذي هيىء لدخوله فيه بأهله، وحملت الجارية إليه، فدخل عليها. ولما بلغ الملك المنصور صاحب حماة ذلك توجه إلى القاهرة مهنئاً ومعه هدية سنيّة، فوصل القاهرة في ثامن عشر جمادى الأخرى، فركب الملك السعيد لتلقيه ونزل في الكبش وأقام مدة يسيرة بحيث ما استراح ثم عاد إلى بلده.
ذكر توجّه الملك الظاهر إلى الروم
خرج من قلعة الجبل بالقاهرة يوم الخميس العشرين من شهر رمضان بعد أن رتب الأمير شمس الدين اقسقر الفارقاني نائباً عنه في خدمة الملك السعيد، وترك معه من العسكر بالديار المصرية لحفظ البلاد خمسة آلاف فارس، ورحل من المنزلة يوم السبت ثاني وعشرين الشهر، وسار إلى دمشق فدخلها يوم الأربعاء سابع عشر شوال، وخرج منها متوجهاً إلى حلب يوم السبت العشرين منه، ودخل حلب يوم الأربعاء مستهل ذي القعدة وخرج منها يوم الخميس إلى حيلان، فترك بها بعض الثقل وتقدم إلى الأمير سيف الدين علي بن مجلى الناب بحلب أن يتوجه إلى الساجور؛ ويقيم على الفرات بمن معه من عسكر حلب لحفظ معابر الفرات لئلا يعبر(3/175)
منها أحد من التتر قاصداً الشام، ووصل إلى نور الدين الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا. فبلغ نوّاب التتر بالعراق نزولهم على الفرات. فجهزوا إليهم جماعة من عرب خفاجة لكبسهم، فحشدوا وتوجهوا نحوهم، فاتصل بالأمير نور الدين الخبر، فركب إليهم والتقى بهم فكسرهم وأخذ منهم ألفاً ومائتي جمل.
وركب الملك الظاهر من حيلان يوم الجمعة ثالث عشر إلى عين تاب ثم إلى دلوك ثم إلى مرج الديباج ثم إلى كينوك ثم إلى صو ومعناه النهر الأزرق، ثم رحل عنه إلى انحاء دربند فوصله يوم الثلاثاء من ذي القعدة قطعه في نصف النهار، فلما خرجت عساكره وملكت المغاور قدم المير شمس الدين سنقر الأشقر على جماعة من العسكر، وأمره بالمسير بين يديه، فوقع على كتيبة من التتر عدتهم ثلاثة آلاف فارس، مقدمهم كراي، فهزمهم وأسر منهم طائفة؛ وذلك يوم الخميس تاسع الشهر، ثم وردت الأخبار على الملك الظاهر بأن عسكر المغل والروم مع تتاوون والبرواناة على نهر جيحان. فلما صعد العسكر الجبال الشرف على صحراء البلستين فشاهد التتر قد رتبوا عساكرهم أحد عشر طلباً في كل طلب ألف فارس، وعزلوا عسكر الكرج طلباً واحداً، فلما رأى الجمعان حملت ميسرة التتر حملة(3/176)
واحدة فصدفوا سنجقة الملك الظاهر، ودخلت منهم طائفة بينهم وشقوها، وساقت إلى الميمنة؛ فلما رآهم الملك الظاهر ردفهم بنفسه ثم لاحت منه التفاتة؛ فرأى الميسرة قد انحت عليها ميمنة التتر، فكادت أن تثقل، فأمر جماعة من حماة أصحابه بإردافها، ثم حمل، فحملت العساكر برمّتها حملة واحدة، فترجّل التتر عن خيولهم، وقاتلوا أشد قتال، فلم يغن عنهم شيئاً، وأنزل الله بأسه بهم، فقتلوا وفرّ من نجا منهم، فاعتصموا بالجبال، فقصدوا وأحاطت بهم العساكر، فترجلوا عن خيولهم وقاتلوا وقتلوا حينئذ ممن قاتلهم الأمير ضياء الدين بن الخطير، واستشهد الأمير سيف الدين قيران العلائي والأمير عز الدين أخو المجدي وسيف الدين قلعق الجاشنكير وعز الدين إيبك الشقيقي - رحمهم الله تعالى؛ وأسر من كبراء الروميين مهذب الدين بن معين الدين البرواناة، وابن بنت معين الدين، والأمير تقي الدين جبريل بن خاجا والأمير قطب الدين محمود أخو مجد الدين الأتابك، والأمير سراج الدين إسماعيل بن خاجا، والأمير سيف الدين سنقرجا الزباشي، والأمير نصرة الدين بهمن أخو تاج الدين كيوي صاحب سيواس، والأمسر كمال الدين إسماعيل عارض الجيش، والأمير حسام الدين كاول، والأمير سيف الدين الجاويش، والأمير شهاب الدين غازي بن علي شير التركماني، ومن مقدمي التتر على الألف والمئتين زيرك صهر أبغا، وسرطق، وحيرلد، وسركده، وتماديه. ولما أسر من أسر وقتل من قتل نجا البرواناة، فدخل قيصرية سحر(3/177)
يوم الأحد ثاني عشر ذي الحجة واجتمع بالسلطان غياث الدين، والصاحب فخر الدين، والأتابك مجد الدين، والأمير جلال الدين المستوفي، والأمير بدر الدين ميكائيل النائب، فأخبرهم بالكسرة، وأوحى إليهم أن المغل المنهزمين متى دخلوا قيصارية فتكوا بمن فيها حنقاً على المسلمين، واشار عليهم بالخروج منها. فخرج السلطان غياث الدين بأهله وماله إلى دوقات، وبينها وبين قيصارية مسيرة أربعة أيام. ونظم الشعراء في هذه الواقعة عدة قصائد، فمن عقل في ذلك المولى شهاب الدين محمود كاتب الدرج بالشام:
كذا فلتكن في الله عز العزائم ... وإلا فلا تجفو الجفون الصوارم
عزائم حازتها الرياح فأصبحت ... مخلّفة تبكي عليها الغمائم
سرت من حمى مصر إلى الروم فاحتوت ... عليه سورات الظبا واللهاذم
بجيش تظل الأرض منه كأنها ... على سعة الأرجاء في الضيق خاتم
كتائب كالبحر الخضمّ جيادها ... إذا ما تهادت موجه المتلاطم
تحيط بمنصور اللواء مظفّر ... له النصر والتأييد عبد وخادم
مليك يلوذ الدين من عزماته ... بركن له الفتح المبين دعائم
مليك لأبكار الأقاليم نحوه ... حين كذا تهوى الكرام الكرائم
فلم قطبت طوعاً وكراً جياده ... معاقل قرطاها السها والنعائم
مليك له بالدين في كل ساعة ... بشائر وللكفارمنها مآتم(3/178)
حلا حين أقدى الكفر منه إلى الهدى ... ثغوراً بكى الشيطان وهي بواسم
إذا رام شيئاً لم يعقه لبعدها ... وشقتها عنه الأكام الطواسم
فلو نازع النسرين أنزلنا له ... وذا واقع عجزاً وذا بعد حائم
ولما رمى الروم المنيع بخيله ... ومن دونه سدّ من الصخر عاصم
بروم عقاب الجوّ قطع عقابه ... إليه فلا تقوى عليها القوادم
غدا وهو من وقع السنابك دائر ... تطاه فتستوطى ثراه المناسم
ولما امتطت أعلاه أعلام جيشه ... وقد لاح فيها للفلاح علائم
ترأت عيون الكافرين خلالها ... بروق سيوف صوبهن الجماجم
فلم يثن عنها الطرف خوفاً وحيرةً ... ومالت على كره إليها الغلاصم
وأبرزت الأرض الكمين وقد علت ... عليه طيور للحمام خوائم
فأهوى إليهم كل أجرد طائر ... تطير به نحو الهياج القوائم
يخوض الوغى لم تثنه اللجم راقصاً ... دلالاً ويغدو وهو في الدم عائم
وسالت عليهم أرضهم بمواكب ... لها النصر طوع والزمان مسالم
أدارت بهم سوراً منيعاً مشرفاً ... بسمر العوالي ما له الدهر هادم
من الترك أما في المعان فإنهم ... شموس وأما في الوغى فضراغم
غدا ظاهراً بالظاهر النصر فيهم ... تبيد الليالي والعدى وهو دائم(3/179)
فأهووا إلى لثم الأسنة في الوغى ... كأنهم العشاق وهي المناسم
وصالحت البيض الصفاح رقابهم ... وعانقت السمر القدود النواعم
فكم حاكم منهم على ألف دارع ... غدا حاسراً والرمح في فيه حاكم
وكم ملك منهم رأى وهو موثق ... خزائن ما تحويه وهي غنائم
توسوست السمر الدقاق فأصبحت ... لها من رؤوس الدارعين تمائم
فيا ملك الاسلام يامن بنصره ... على الكفر أيام الزمان مواسم
بهن بفتح سار في الأرض ذكره ... سرى الغيث تحدوه الصبا والنعائم
بذلت له في الله نفساً نفيسة ... فوافاك لا يثنيه عنك اللوائم
ولما هزمت القوم ألقت زمامها ... إليك الحصون العاصيات العواصم
ممالك حاطتها الرماح فكم سرت ... على رجل فيها الرياح النواسم
تبيت ملوك الأرض وهي مناهم ... وليس بها منهم مع الشوق حالم
ولولاك ما أومى إلى برق ثغرها ... لعزة مثواه من الشام شائم
أقمت لها بالخيل سوراً كأنها ... أساور أضحت وهي فيها معاصم
فلا زلت منصور اللواء مؤيداً ... على الكفر ما ناحت وأبكت حمائم
وحضر بعد الوقعة الأمير سيف الدين جالس بن إسحاق، والأمير ظهير الدين متوج، وشرف الملك الأمير نظام الدين بن شرف بن الخطير، وولد الأمير ضياء الدين، وأخوه الأمير سيف الدين بلبان المعروف لكجكنا، والأمير سيف الدين شاهنشاه، والأمير مظفر الدين حجافي،(3/180)
والأمير نصرة الدين جالش عارض ملطية.
ثم جرّد الملك الظاهر الأمير شمس الدين سنقر الأشقر في جماعة لإدراك من فات من المغل والتوجه إلى قيصارية، وكتب معه كتاباً بتأمين أهلها وإخراج السواق والتعامل بالدراهم الظاهرية. ثم رحل بكرة السبت حادي عشر ذي القعدة قاصداً قيصرية، فمرّ في طريقه بقرية لهل الكهف ثم على قلعة سمندو؛ فنزل إليه واليها مذعناً لطاعته؛ ثم على قلعة درندا وقلعة ذالوا، فولّفعل متيهاً كذلك، ونزل ليلة الأربعاة خامس عشر الشهر بقرية قريبة من قيصرية. فلما بات بها وأصبح رتب عساكره، وخرج أهل قيصرية بجملتهم مستبشرين بلقائه، وكانوا عدوا لنزوله الخيام بوطأة تعرف بكيخسرو. فلما قرب منها ترجّل وجوه الناس على طبقاتهم، ومشوا بين يديه إلى أن وصلها.
فلما كان يوم الجمعة سابع عشر الشهر ركب لصلاة الجمعة، فدخل قيصرية، ونزل دار السلطنة، وجلس على التخت، وحضر بين يديه القضاة والفقهاء والصوفية والقرّاء، وجلسوا في مراتبهم على عادة ملوك السلجوقية، فأقبل عليهم ومدّ لهم سماطاً فأكلوا وانصرفوا، ثم حضر الجمعة بالجامع، وخطب له، وحضّر بين يديه الدراهم التي ضربت باسمه، وحمل إليه ما كانت لزوجة البرواناة كرجى خاتون تركية من الأموال التي لم تستطع استصحابها حين خروجها، وماخلفه سواها ممن النتزح معها. وبعث إليه البرواناة ليهنئه بالجلوس على التخت، فكتب إليه يأمره بالوفود عليه ليوليه مكانه،(3/181)
فكتب إليه يسأله أن ينتظره خمسة عشر يوماً، وكان مراده أن يصل إليه أبغا يحثه المسير ليدرك الملك الظاهر بالبلاد، فاجتمع تتاوون وبالأمير شمس الدين سنقر الأشقر وعرّفه مكر البرواناة في ذلك، فكان ذلك سبباً لرحيل الملك الظاهر عن قيصرية، مع ما انضاف إلى ذلك من قلة العساكر؛ فرحل يوم الاثنين، وكان يومئذ على اليزك علاء الدين إيبك الشيخي وكان قد ضربه الملك الظاهر بسبب سبقه الناس فتسحّب يومئذ إلى التتر وكان أولاد قرّمان قد رهنوا أخاهم الصغير عليّ بك بقيصرية، فخرج الملك الظاهر فأنعم عليه وسأله تواقيع وسناجق له ولإخوته، فأعطاه فتوجه نحو إخوته مقيمين بجبل لارندا إلى أرمناك إلى السواحل. ونزل الملك الظاهر بقيرلو، فورد عليه رسول من جهة البرواناة، ومعه رجل يسمى ظهير الدين الترجمان يستوقف السلطان عن الحركة، وما كانوا يعلمون أين يريد، وكان الخبر شائعاً أن الحركة إلى سيواس. فكان جواب السلطان عن الرسالة أن معين الدين وما كانت تأتيني كتبهم شرطوا شروطاً لم يفوا بها، وقد عرفت الروم وطرفه وما كان جلوسنا على التخت رغبة فيه إلا لنعلمكم أنه لا عائق لنا عن شيء نريده بحول الله وقوته، ويكفينا أخذنا أمه وابنه وابن ابنته. ثم رحل ونزل خان كيقباد، وبعث الأمير علاء الدين طيبرس الوزيري في عسكر إلى الرمانة فحرقها وقتل من بها من الأرمن، وسبى حريمهم(3/182)
لأنهم كانوا أخفوا جماعة من المغل لما اجتاز السلطان عليهم، ثم رحل وأعمل السير في جبال وأودية وخوض أنهار حنى نزل إليه ليلة السبت السادس والعشرين منه عند قرا حصار قريباً من بازار، وهو السوق الذي يجتمع إليه الناس من سائر الأقطار. ثم رحل يوم السبت فعبر بالمعركة، فرأى القتلى فسأل عن عدتهم فأخبر أن المغل خاصة ستة آلاف وسبع مائة وسبعون نفساً. فلما بلغ أفحاء دربند بعث الخزائن والدهليز والسناجق صحبة الأمير بدر الدين الخزندار ليعبر بها الدربند، وأقام في ساقة العسكر بقية اليوم ويوم الأحد، ورحل يوم الاثنين فدخل الدربند، وأقام في ساقة العسكر بقية اليوم، ولما خلص منه عبر النهر الأزرق. ثم رحل فنزل قريباً من كينوك، ثم رحل وأعمل السير حتى نزل يوم الثلاثاء سادس ذي الحجة قريباً من حارم فوردت عليه قاصد الأمير شمس الدين محمد بن قرمان. ولما نزل حارم ركب وارتاد منزلة يرتضيها وعيّد هناك، ووافاه جماعة من امراء التركمان المقيمين بالروم، ومعهم خلق كثير، فخلع عليهم ورحل إلى دمشق، فوصلها في سابع المحرم سنة سبع وسبعين.
ذكر ما اعتمد عليه الأمير شمس الدين محمد بك بن قرمان
قد ذكرنا أنه انجاز معه إلى السواحل منابذاً لما خلع شرف الدين بن الخطير طاعة التتر، فلما بلغه كسرة الملك الظاهر للمغل في عاشر ذي القعدة حشد وجمع وقصد آقصرا، فلم ينل منها طائلاً، فرحل عنها وقصد قونية(3/183)
في ثلاثة آلاف فارس ونازلها، فغلق أهلها أبوابها في وجهه، فرفع على رأسه سناجق الملك الظاهر التي سيّرها مع أخيه علي بك من قيصرية، وبعث إليهم يعرّفهم أن الملك الظاهر كسر التتر ودخل قيصرية وملكها وخطب له فيها وضربت الدراهم باسمه وأنه من قبله، فلم يركنوا إلى قوله، فأحرق باب الفاخراني وباب سوق الخيل، ودخل قونية يوم عرفة الظهر وهو يوم الخميس، وكان النائب بها أمين الدين ميخايل فقصد من معه داره ودار غيره من الأمراء والأسواق والخانات، فنهبوها ثم إنهم ظفروا بأمين الدين، فأخرجوه ظاهر البلد وعذبوه إلى أن استأصلوا ماله، ثم قتلوه وعلّقوا رأسه داخل البلد. ولما لم يسلم أهل البلد القلعة رتب أن يلقى رجلاً شاباً عنوة في الطريق، فإذا رآه رمى نفسه عليه وقبّل رجليه. فإذا قال له الشاب: من أين تعرفني؟ يقول له: ما أنت علاء الدين كيخسرو بن السلطان عز الدين كيقباذ، أنسيت تربيتي وحملي لك على كتفي، وليكن ذلك بمشهد من العامة؟ فلما فعل ذلك ازدحم العامة عليهما، وإذ الجماعة من التركمان كانوا رؤيت معهم أنهم إذا رأوا العامة قد أحدقوا به يأخذونه من بين أيديهم ويحملونه إلى شمس الدين. فلما فعلوا ذلك أقبل عليه وضمّه إليه وعقد له لواء السلطنة وحمل السناجق على رأسه، وذلك في رابع عشر ذي الحجة. فحملت أهل قونية المحبة في آل سلجوق على المتابعة، ثم نازلوا القلعة فامتنع من فيها من تسليمها، فحاصروها حتى تقرّر بينهم الصلح على تسليمها، ويعطى(3/184)
من فيها سبعون ألف درهم فدخلوها وجلّسوا علاء الدين على التخت.
ثم بلغ شمس الدين بن قرمان والتركمان أن تاج الدين محمد ونصرة الدين محمود ابني الصاحب فخر الدين خواجا على أن حشدوا وقصداهم فساروا إليهما وعلاء الدين معه فالتقى بهما على اق شهر فكسرهما وقتلهما، وقتل خواجا سعد الدين يونس بن المستوفى صاحب أنطاكية، وهو خال البرواناة، وقتلوا جلال الدين خسروا بك بن شمس الدين بوتاش بكلاربكي، وأخذ رؤوسهم وعادوا إلى قونية في آخر ذي الحجة، واستمروا بها إلى أن دخلت سنة سبع وسبعين، فبلعهم أن أبغا وصل إلى مكان الوقعة، فرحلوا عن قونية وطلبوا الجبال، وكان مقامهم بقونية سبعة وثلاثون يوماً.
ذكر قصد أبغا الروم لأخذ النشاز
كان البرواناة لما رأى الدائرة على التتر كتب إلى أبغا يعرّفه ويستحثه على المبادرة ليدرك البلاد قبل أن يستولي عليها الملك الظاهر، ثم كان من دخوله قيصرية وخروجه إلى دوقات ما ذكرناه. فلما قضى غرضه من حفظ ما كان معه من الذخائر والأموال وترتيب أمر السلطنة، بلغه توجه أبغا طالباً بلاد الشام، فخرج غله فوافاه في الطريق، وسار معه بمن بقي من العساكر إلى ان وصل البلستين. فلما شارف المعركة ورأى القتلى بكى ثم قصد منزلة الملك الظاهر فقاسها بعصا الدبوس فعلم عدة من كان فيها من العساكر، فأنكر على البرواناة كونه لم يعرفه بجلية أمرهم، فأنكر ان يكون عنده علم منهم، وأنه ما أحس بهم غلا عند دخولهم، فلم يقبل منه هذا العذر، وحنق(3/185)
عليه، وقال بحق ما قالوا: إن لك باطناً مع صاحب مصر. ثم بعث إلى عسكره إلى الشام، وكان عز الدين إيبك السنجي قد عاد في خدمته فقال: أرني مكان الميمنة والقلب والميسرةفأوقف له في كل منزلة رمحاً. فلما رأى بعد ما بين الرماح قال: ما هذا عسكر يكفيهم هذه الثلاثين ألف الذين جاؤوا معي، ثم سيّر إلى العسكر الذي توجه إلى كينوك وطلبه. ثم بلغه أن الملك الظاهر بالشام متّهم بلقائه، وكان قد نفق أكثر خيل أبغا وخيل عسكره، فرأى من نفسه الضعف فرد إلى قيصرية، وسأل أهلها: هل كان مع صاحب مصر جمال؟ فقالوا: لم يكن معه إلا خيل وبغال. فقال: هل نهب منكم شيئاً؟ قالوا: لا. فقال: كم لهم عندكم يوم؟ فقالوا: خمسة وعشرون يوماً. فقالوا: هم الآن عند جمالهم وأموالهم.
ثم عزم على قتل من في قيصرية من المسلمين فاجتمع إليه القضاة والفقهاء. وقالوا: هؤلاء رعيى لا طاقة لهم بدفع عسكرهم مع الزمان في طاعة من ملكهم، فلم يقبل وأمر بقتل جماعة من أهل البلد وقاضي القضاة جلال الدين وأمر عسكره فانبسط في البلد، وقتل عالماً عظيماً من الرعية ما ينيف على مائتي ألف وقيل خمس مائة ألف من فلاح إلى عامي إلى جندي من قيصرية إلى ارزن الروم وما بينهما.
وفي اوائل هذه السنة تقدم فخر الدين طغاي البحري على جماعة من الغيارة وكبس دنيسر، ونهب من بها، وقتل نحواً من ثلاثين نفراً وأسر جماعة من النصارى، وفي رجوعه حصل بين مقدمي العسكر مشاجرة على(3/186)
المكاسب، ولم يظهر سوى القليل، وغضب صاحب ماردين لكونه حصلت الغارة على بلده.
وفي يوم الخميس حادي عشر شوال انتهت الكسوة برسم الكعبة الشريفة وطيف بالمحمل بالقاهرة فتوجه بها الطواشي محسن مشدّ الخزانة أمير الركب.
وفي سابع عشر شوال وجد إلى جانب دير البغل ظاهر مصر مكان فيه آثار محارب المسلمين فوقف عليه العدول والمهندسون، وأثبتوا أنه كان مسجداً وشرع في عمارته.
وفيها: توفي إبراهيم بن سعد الله بن جماعة بن علي بن جماعة بن حازم بن صخر أبو إسحاق الحموي الكناني بالقدس الشريف وهو من أصحاب الشيخ أبي البيان - رحمه الله - أعني من المنتمين إليه. سمع من فخر الدين بن عساكر وغيره، وحدث وكان من الصلحاء الذاكرين الله كثيراً، رافقته في طريق الحجاز سنة ثلاث وسبعين وست مائة قلّ أن صادفته إلا وهو يذكر الله تعالى. ومولده يوم الاثنين منتصف رجب سنة سبع وتسعين وخمس مائة وهو والد قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة. وكانت وفاته يوم عيد النحر - رحمه الله - واسم شيخه نبأ بن محمد بن محفوظ بن أحمد أبو البيان القرشي(3/187)
الشافعي شيخ فاضل مشهور كثير الاتباع بدمشق وغيرها. وكتب بخطه كثيراً من كتب الأدب وغيره، ولأصحابه من بعده بني في أيام الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي - رحمه الله - الرباط الذي ينسب إليه بدرب الحجر بدمشق سنة خمس وخسمين وخمس مائة. وكان أبو البيان يجلس بأصحابه في المسجد الكبير المعروف بمسجد درب الحجر وصنف لهم كتاب الذكر ذكر فيه نظوماً عجيبة واسجاعاً غريبة أثنى فيها على الباري سبحانه وتعالىأنواعاً من الثناء، وكان يوردها في المساجد والمشاهد ليلاً بين أصحابه وهم يكررونها بأصواتهم، وبقي بعد ذلك يفعلها أصحابه بدمشق وغيرها إلى زماننا هذا وله نظم حسن فمنه:
ولما لم اجد في الوسع شيئاً ... يليق به سوى ما كان منه
جعلت هديتي تمشي إليه ... وكيف أصون ما هو منه عنه
وقال أيضاً - رحمه الله:
أيها المغرور بالدنيا إلى كم ذا الغرور
كيف يغتر بالعيش من إلى الموت يصير
ثم بعد الموت عرض ... وحساب ونشور
قال الشيخ أبو البيان - رحمه الله: قد صنفت في القوافق كتاباً سميته كتاب قصيدة التاج الأدبي في علم قوافي الشعر العربي، وذكرت فيه من أحكام قوافي الشعر وضروبها وعيوبها وألقابها وشواهد ذلك ما لم أظن أحداً من العلماء صنع مثله، ولا ذكر ما ذكرته فيه؛ ولله الحمد، وتكلم على مواضع(3/188)
من نظمه وشرحها وبسط القول فيها، واستشهد على لفظ أصيلبمعنى مكين ثابت من قولهم فلان أصيل الرأي فقال: قال ابن صمصام الرقاش في آياي تسعة آخرها:
لا يعجبنك من خطيب قوله ... حتى يكون مع البيان أصيلا
شرّ البيان بيان أهوج مكثر ... في القول لا يلفى له معقولا
قال: ومن زعم ان هذا الشعر للأخطل التغلبي فقد أخطأ. وفيه البيت الذي استشهدت به الأشعرية على حقيقة الكلام على ما أنشده وهو:
إن من البيان من الفؤاد وإنما ... جعل السان لما يقول رسولا
ورواه الأشعرية:
إن الكلام من الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا
قال: والصحيح ما قدمناه لأن الآيات عندنا جميعها باسم قائلها وشاعرها محدث. قال: وليس هذا موضع الكلام على هذه المسألة، ونحن على المنهاج الأفضل وإجماع السلف الأول. توفي الشيخ أبو البيان - رحمه الله - بداره بدمشق في درب الحجر شمالي الرباط المنسوب إلى أصحابه في شهور سنة إحدى وخمسين وخمس مائة، ودفن بمقابر باب الصغير في مقبرة الصحابة - رضي الله عنهم. وقال أبو يعلى التميمي: توفي يوم الثلاثاء ثالث شهر ربيع الأول من هذه السنة المذكورة. نقلت ذلك من خط قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان - رحمه الله تعالى.
أحمد بن عبد السلام بن المطهر بن عبد الله بن محمد بن هبة الله بن علي بن(3/189)
أبي عصرون أبو المعالي قطب الدين التميمي الشافعي، مولده بحلب في شهر رجب سنة اثنتين وتسعين وخمس مائة. سمع من ابن طبرزد وعبد الصمد الحرستاني وغيرهم، وأجاز له جماعة من شيوخ بغداد، منهم عبد المنعم بن عبد الوهاب بن كليب، ودرس بالمدرسة الأمينية بدمشق مدة، وبالمدرسة العصرونية وقف جده. وبيته مشهور بالعلم والتقدم. وكانت وفاته بحلب يوم الأربعاء سادس عشر جمادى الآخرة من هذه السنة - رحمه الله تعالى.
ايدكين بن عبد الله علاء الدين الخزندار الصالحي متولي قوص، كان عنده شجاعة وإقدام وكفاية وضبط لعلمه على اتساعه؛ وله نكايات في المجاورين له من النوبة وغيرهم. وتوفي ثالث وعشرين ذي القعدة وقد ناهز خمسين سنة من العمر، وخلف تركة طويلة جليلة المقدار.
بحتر بن الخضر بن بحتر شجاع الدين، قد تقدم ذكر أخيه شهاب الدين، وكان هذا شجاع الدين حسن العشرة والمكارم، وخدم عند الملك المنصور ناصر الدين محمد صاحب حماة المحروسة؛ بقي في خدمته إلى أن أدركته منيته بحماة في العشر الآخر من جمادى الأولى هذه السنة، وهو في عشر الخمسين - رحمه الله - ثم نقل إلى بعلبك، ودفن عند والده بالقرب من قبة الزرزاري - رحمه الله.
جعفر بن محمد بن علي أبو محمد بدر الدين المذحجي الآمدي، مولده سنة سبع وتسعين وخمس مائة، وتوفي ليلة الأربعاء رابع عشرين شوال(3/190)
بدمشق. كان ناظر النظار بالشام، وهو في محلّ الوزارة يتعرف في الأموال والولاية والعزل، وكان حسن السيرة ليّن الكلمة كثير الرفق والستر لايكشف لأحد عورة، واما أمانته وعفّته فإليها المنتهى. وكان عنده تشيّع لكنه لم يسمع منه ما يؤخذ عليه - رحمه الله.
جندل بن محمد الشيخ الصالح العارف، كان زاهداً عابداً منقطعاً صاحب كرامات وأحوال ظاهرة وباطنة، وله جدّ واجتهاد ومعرفة بطريق القوم. وكان الشيخ تاج الدين عبد الرحمن الفزاري - رحمه الله - يتردد إليه في كثيرمن الأوقات وله به اختصاص كثير. قال ولده الشيخ برهان الدين - نفع الله به: كنت أروح مع والدي إلى زيارته بمنين، ورأيته يجلس بين يديه في جمع كثير يستغرق وقته في الكلام معه بما لا يفهمه احد من الحاضرين بألفاظ غريبة. وقال الشيخ تاج الدين المذكور - رحمه الله: الشيخ جندل من أهل الطريق وعلماء التحقيق، اجتمعت به في سنة اثنتين وستين فسمعته يقول: طريق القوم الواحد، وأنما ثبت عليه ذوو العقول الثابتة، وقال أيضاً رحمه الله: قال: الموله منفي، ويعتقد أنه واصل، ولو علم أنه منفي لرجع عما هو عليه. وقال أيضاً رحمه الله: قال: ما تقرب أحد إلى الله بمثل الذل والتضرع. وقال أيضاً رحمه الله: وقال الشيخ تاج الدين رحمه الله: اجتمعت به في سنة إحدى وستين وست مائة فأخبرني أنه قد بلغ من العمر خمساً وتسعين سنة، واجتمعت به في شعبان(3/191)
سنة أربع وستين، فقال: أنا أحق الملك العادل، وقد جاء من حلب عسكر يحاصره، وكان عمري إذ ذاك خمس عشرة سنة، وقال لي: دنا الموت ولم يبق إلا القليل، ثم قص على رؤية استدل بها على هذا، فسألته عن الرؤيا فقال: رأيت من زمان مقادم كأني أفرغت في بيتي جمل بصلي فأخذت منه بصلة بيدي فرأيت عليها عبد الرحمن مشملة، فجعلتها في حجري، وعرفت أن ذاك البصل كله مشايخ، أريد أن أجتمع بهم، وأراهم ويروني. فلما كان هذا القرب، رأيت كأني عبيت الجوالق البصل ولم يبق إلا القليل، فعلمت بذلك قرب الأجل. حدثني بذلك عنه يوم السبت ثامن شعبان من السنة. وكانت وفاته بقرية منين في شهر رمضان المعظم سنة خمس وسبعين وست مائة ودفن في زاويته المشهورة، وعلى ضريحه من الجلالة والهيبة ما يقصر الوصف عنه رحمه الله تعالى.
علي بن محمود بن علي أبو الحسن شمس الدين الشهرزوري الشافعي، كان تقياً حسناً، ولّي نقابة الحكم بدمشق عن قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله ولم يزل إلى حين صرف قاضي القضاة شمس الدين المذكور فانعزل بعزله مستنيبه. ولما وقف الأمير ناصر الدين القيمري مدرسته التي أنشأها بالمطرزين بدمشق فوض إليه تدريسها، وجعله في ذريته ما وجد ووجدت فيهم الأهلية، فباشر تدريسها منذ عمرت إلى أن توفي بها يوم الثلاثاء سادس عشر شوال، ثم باشر تدريسها ولده صلاح الدين إلى أن توفي، وترك ولده صغيراً، فباشر تدريسها قاضي القضاة بدر الدين بن(3/192)
جماعة مدة، فلما كبر ولده الصلاح أثبت رشده وأهليته للتدريس واستحقاقه له بمقتضى شرط الواقف رحمه الله فرسم له بذلك، وحصل من تعصب معه فباشر تدريسها واستمر به مع قلة بضاعته من الفقه لكنه لما درّس أكب على الاشتغال، فثبته وصار فيه أهلية، ثم أنه عامل الفقهاء، ومن بالمدرسة معاملة حسنة فأحبوه ومشي أمره في المدرسة على السداد، وحسنت طريقته من ذلك.
عمر بن أسعد بن عبد الرحمن بن ليفي بن عبد الرحمن أبو حفص الهمذاني الشيخ الصالح، كان ملازماً حلقة الحنابلة بجامع دمشق، يقرئ الناس القرآن العزيز، ويخيط ويشتري بما يتحصل له من الأجرة خبزاّ يتصدق به مع ملازمة العبادة، وقيام معظم الليل، والصيام غالب الأوقات، وفيه المسارعة إلى قضاء حوائج الناس حسن ما يمكنه، ولم يزل على هذا القدم إلى أن توفي إلى رحمة الله تعالى ورضوانه بمدرسة ابن الجوزي بدمشق يوم السبت بكرة النهار رابع ذي القعدة، ودفن من يومه بسفح قاسيون جوار قبر الشيخ موفق الدين رحمهم الله تعالى.
عمر بن أسعد بن أبي غالب عز الدين الأربلي الفقيه الشافعي، كان يعرف بين الفقهاء بالإطرفيل، وهو من أصحاب الشيخ تقي الدين ابن الصلاح رحمه الله، وناب في الحكم مدة، وقال أيضاً رحمه الله: توفي في العشرين من شهر رمضان المعظم وقد نيف على سبعين من العمر رحمه الله تعالى.
محمد بت إبراهيم بن أبي المحاسن بن رسلان أبو عبد الله شمس الدين(3/193)
الحكيم المتطبب المعروف بالكلي، كان فاضلاً في علم الطب وله مشاركة في الأدب والتاريخ، أقام مدة ببعلبك، وكان يغشي والدي رحمه الله تعالى كثيراً، ويلازمه وسكن في جواره وسمع عليه. ومولده بدمشق سنة سبع وتسعين وخمس مائة، سمع الكثير بدمشق من عبد الصمد الحرستاني وغيره وحدث وقال أيضاً رحمه الله: توفي بالقاهرة في رابع عشر المحرم رحمه الله تعالى، وقيل له الكلي لأنه اشتغل بالكتاب. وقال أبو العباس أحمد بن أبي أصيبعة الخزرجي في طبقات الأطباء: كان والده أندلسياً في أهل المغرب، قدم دمشق وأقام بها إلى أن توفي، ونشأ ولده المذكور واشتغل علي الحكيم مهذب الدين عبد الرحيم بن علي، ولازمه وأتقن عليه حفظ ما ينبغي، وهو جيد الفهم غزير العلم - لا يخلى - وقتاً من الاشتغال، حسن المحاضرة خدم الملك الأشرف بن الملك العادل رحمه الله إلى حين وفاته، ثم خدم بالمرستان النوري بدمشق. قلت: كان يعاني مشتري المماليك الصباح بأوفر الأثمان وعنده الخيول والغلمان، وهو كثير التجمل رحمه الله؛ وخلف عدة أولاد رأيت أحدهم بقلعة الرحبة في السنة الخالية.
؟ محمد بن أيبك بن عبد الله ناصر الدين بن الاسكندري، كان ممن جمع حسن الصورة وحسن الأوصاف ووفور العقل والرياسة والحشمة ومكارم الأخلاق وحسن العشرة. ولما توفي والده رحمهما الله تعالى في(3/194)
السنة الخالية على ما تقدم في شهر رمضان أراد غلمانه أن يجزوا شعورهم ويهلبوا أذيال الخيول على ما جرت به العادة؛ فمنع من ذلك وقال: والدي عليه ديون، ولا نأمن أن يخرّج عليه ديوان الجيش تفاوتاً فإذا فعلنا ذلك نقصت قيمة المماليك والخيول، ثم إن هذا فساد لا معنى له ولا يجوز فعله. ثم تقدم إلى الطباخ أن يذبح ويطبخ على العادة، فلام بعض الجماعة وقبّحوا فعله؛ فقال: هذا شهر رمضان وعندنا جماعة كثيرة من غلمان وغيرهم، فإذا لم يطبخ بقوا بلا عشاء. قيل: له الناس يحملون، قال: الذي كان يحمل من أجله مات. فلما أذن المغرب عمل السكر والليمون على العادة وأسقى الناس على ما كان يعمل والده، ومد السماط فأكل جميع الغلمان والحاشية وغيرهم، وشكره من كان لامه لأن أحداً لم يحمل شيئاً، ثم إنه باع موجود والده ووفى جميع أرباب الديون مالهم، ومن ادعى بشيء ولم يكن له بينة واستحلفه وأعطاه وسافر وجميع من بالرحبة داعون له. فلما وصل دمشق أقام بها وجمع أطرافه، وتاب عن أمور كان يعانيها، ولازم الصلاة والصوم في كثير من الأيام. فلما كان يوم الخميس ركب للصيد وهو صائم وخرج إلى أراضي الحرجلة، فمرّ بحصانه على جسر حجر على نهر قد قيد فنزل ونزل به الحصان في النهر وخرج الحصان سباحة فساق مملوكه إلى البلد ورمى السوط، فركب نائب السلطنة بنفسه وأخذ معه من يسبح ووقفوا على المكان الذي غرق فيه ودوّروا ما جاوره فلم يجدوا له أثراً، وبقوا على ذلك يومين ثم وجدوه على بعد من ذلك المكان، وقد علّق فردة مهمازة بسباحه فاستخرجوه غريقاً وغسلوه ودفنوه بسفح جبل قاسيون(3/195)
وتأسف الناس عليه لشبابه وموته على هذه الصورة - رحمه الله تعالى - وكان الخلال بن الصفار المارديني عنّاه بقوله:
يا أيها الرشأ المكحولناظره ... بالسحر حسبك قد أحرقت أحشائي
إن انغماسك في التيار حقق ... أن الشمس تغرب في عين من الماء
وإيراده بقوله أيضاً. وقيل: إنهما للشيخ أبي إسحاق الشيرازي افمام المشهور - رحمه الله:
غريق كأن الموت رقّ لحسنه ... فلان له في صفحة الماءجانبه
أبى الله أن يسلوه قلبي فإنه ... توفاه في الماء الذي أنا شاربه
وعناه عمران الطوابيقي بقوله:
ألا أيها البدر المغيّب شخصه ... بمثلك هذا الدهر يبخل عن مثلي
ولو كان حكمي في حياتي ومنيتي ... بمثلك هذا الدهر يبخل عن مثلي
ولو كان حكمي في حياتي ومنيتي ... إليّ لما جرعت كأس الردى قبلي
كأن صفاء الماء شاكل جسمه ... فجاد به فانقاد شكل إلى شكل
وأنى في تراب الأرض نور بمائه ... ولو كان من ترب لعاد إلى أصل
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: يا رسول الله من قتل في سبيل فهو شهيد. قال: إن شهداء أمتي إذاً لقليل! قالوا: فمن هم يارسول الله؟ قال: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد، والغريق شهيد.(3/196)
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله. رواهما مسلم. وتوفي إلى رحمة الله تعالى وهو ابن عشرين سنة وربما لم يستكملها - رحمه الله تعالى.
محمد بن أحمد بن عبد السخي بن يحيى بن أحمد بن طيب بن دحمان بن دكسون أبو عبد الله شرف الدين الشروطي الشافعي العمري، من ولد عمر بن الخطاب رضي الله عنه. كان واسطي الأصل، موصليّ المولد، دمشقي الدار، شيخاً جليلاً، إماماً عالماً، فاضلاً متقناً لما يعانيه؛ وروي عن ابن الحرستاني وغيره. وكانت وفاته يوم الأربعاء ثاني عشر جمادى الآخرة - رحمه الله تعالى.
محمد بن سعيد بن محمد بن هشام بن عبد الحق بن خلف بن مفرج بن سعيد أبو الوليد فخر الدين الكناني الشاطبي المعروف بابن الجنّان. مولده بشاطبة في منتصف شوال سنة خمس عشرة وست مائة، وتوفي يوم الأحد رابع عشرين شهر ربيع الآخر من هذه السنة بدمشق، ودفن بسفح قاسيون - رحمه الله. كان عالماً فاضلاً، دمث الأخلاق، كريم الشمائل، كثير الاحتمال، واسع الصدر، حسن المباسطة؛ صحب الصاحب كمال الدين بن العديم وأولاده فاجتذبوه إليهم، وصار حنفي المذهب، ودرّس بالمدرسة الاقبالية الحنفية بدمشق. وكان له يد في النظم ومشاركة في علوم كثيرة. أنشدني صاحبنا تقي الدين عبد الله بن تمام - حرسه الله - لفخر الدين(3/197)
المذكور:
ودوح بدت معجزات له ... تبين إليه وتدعو إليه
جرى النهر حتى سقى أرضه ... فقام يقبّل شكراًيديه
وكفّ الصبا صبغت حليه ... فقام الحمام ينادي عليه
كساه الأصيل ثياب الضنى ... فحل طبيب الدياجى لديه
وجاء النسيم لنا عائداً ... فقام له لائماً معطفيه
وأنشدني المذكور لفخر الدين - رحمه الله:
لله قوم يعشقون ذوي اللحى ... لا يسألون عن السواد المقبل
وبمهجتي نفراً وأنى منهم ... جبلوا على حبّ الطراز الأول
وأنشدني لفخر الدين المذكور أيضاً - رحمه الله:
حديث ذاك الحمى روحي وريحاني ... فكيف يصبر عن هذين جثماني
ويا فؤاد الأسى برّح بحبهم ... فقد أضر بجسمي طول كتماني
فمن هواي بذاك الحسن راح به ... في الحي كل خليّ القلب يهواني
وحقهم لو ملكت الكون أجمعه ... بذلته طمعاً في وصل هجراني
ثم انثنيت وبي سكرة طرب ... أجرّ عطفي به تيهاً وأرداني
وقال - رحمه الله تعالى:
يميل بذكر الحاجرية ركبان ... كأنهم على الركائب أغصان(3/198)
وقفت غداة النفر أنشد حذرها ... فباح به بين الهوادج كتمان
وما ذاك ذاك الحذر إلا لأنه ... بخمر دلال الحاجرية نشوان
وسلت أناجي العيس بعض صبابتي ... فأصبح فيها بالصبابة إعلان
عجبت لها أني هززت جمالها ... بوجدي ولم يهتز من قدها ألبان
يقولون عنوان المحب دموعه ... وصبك يا ليلى على الدمع عنوان
وقالت وروح الصب تحدو جمالها ... وقد ذاب منه بالصبابة جثمان
أرى روحه ولهى بركبي مسوقة ... فهل جسمه في غير ركبي ولهان
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
ما شأن هذا النسيم الرطب نشوان ... كانه من حديث القوم ريّان
روى لنا خبراً من أرض كاظمة ... لم تدر كاظمة عنه ولا البان
ماج الكثيب وماج الغصن منه فهل ... جرت لعطف الهوى في الكون أردان
أحباب قلبي ما حبي لكم عجب ... وكل شيء بذاك الحسن ولهان
بالله يا نسمة الأحباب هل خبر ... فعرفك اليوم لي روح وريحان
فديتكم هل رحمتم فيكم دنفاً ... لم يدن مسكنه صبر وسلوان
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
قم فاسقينا وجيش الليل منهزم ... والصبح أعلامه محمرّة العذب
والسحب قد نشرت في الأرض لؤلؤها ... فضمها الشمس في ثوب من الذهب
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
متيم ذاك الحيّ لا تعدّ حبهم ... لتظفر مثلي من جنونك بالوصل(3/199)
حنيت بهم حباً ولي في رحالهم ... تمائم وسواس بعيد من العقل
وقال أيضاً - رحمه الله -:
يا رعى الله يومنا بعد روض ... حيث ما السرور فيه يحول
تحسب النهر عنده يتثنى ... وتخال الغصون فيه تسبل
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
ولى كاتب أضمرت في القلب حبه ... مخافة حسادي عليه وعذالي
له صبغة في خط لام عذاره ... ولكن سها إذ نقط بالخالي
وقال أيضاً - رحمه الله:
بالله يا سرحة الوادي إذا خطرت ... تلك المعاطف حيث البان والغار
فعانقتها عن الصب اللبيب فما ... على معانقة الأغصان إنكار
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
ودوحة أطربت منها محاسنها ... أفق السماء فلم تبرح تنقطها
تحكي الكمامة منها راحة قبضت ... يلقى السحاب لها دراً فتبسطها
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
قم سقّينها وقعر الصبح مبتسم ... والليل تبكيه عين البدر بالشهب
والكأس قد خلتها حمراء مذهبة ... لكن ازرقها من لؤلؤ الحبب
وأعين الدهر من طول البكا رمدت ... فكحلتها يمين الشمس بالذهب
إن تهت بالشمس يا وجه السماء فلي ... شمسان وجه حبيبي وابنة العنب(3/200)
وقال أيضاً من أبيات:
عرف النسيم بعرفهم يتعرف ... وأخو الغرام بحبهم يتشرف
شرف المتيم في هواهم أن يرى ... طوراً ينوح وتارة يتلهف
لطفت معانيه فهب مع الصبا ... فرقيبه بهبوبه لا يعرف
وإذا الرقيب درى به فلأنه ... اخفى لديه من النسيم وألطف
ولأنه يغدو النسيم ديارهم ... وله على تلك الربوع توقف
وقال أيضاً من أبيات:
أرنة صوت العيس أم نغمة السارى ... دعت دمع عيني أم نسيمة اسحار
فأصبحت لا أثنى عنان تولهي ... واجرى جواد الدمع في كل مضمار
وقلت لقومي والغرام يحثني ... تناهت لباناتي لديكم وأوطاري
وبي عصبة لا يطعمون سرى الهوى ... فهم ندمائي في الغرام وسماري
فديتهم هل يذكرون عهودنا ... ونحن بذات الضال والشيح والغار
ونحن بها والوجد ينشر بيننا ... حديثاً واخبار الصبابة اخباري
وإن كنت إنساناً ترى كتم حبهم ... فإنسان أجفاني يبوح بأسراري
بذلت لهم في الحب مورد مقلتي ... واشكيتهم في البعد روضة أفكاري
فلا تعجبوا من يثمر الدار بعدهم ... فما أنا إلا من يكن حل في الدار
فلا تعذلوه في الغرام جهالة ... فليس عليه في الصبابة من عار(3/201)
بعيشك هذا لا تحب سواهم ... فهم عين أعلاني وهم عين أسراري
ومن كنت لولاهم ولولا هواهم ... لهم عزتي العشاق وجاهي ومقداري
وما أنا ممن أبصر الشمس مرة ... فيعتاض من ذاك الشعاع بأقمار
وإن كنتم زوار ليلى فمرحبا ... بقوم أتوا من عند ليلى وزواري
وهل كان تذكار لليلى بعهدنا ... ومن لي من ذاك الجناب بتذكار
سأفرش خدي سافحاً ماء أدمعي ... واقبس من حر الضلوع لكم ناري
فوالله ما لي غير حبك صابر ... ووالله ما لي غير وجدي من جار
وما لي سلاف غير دمعي ومطربي ... بأغصان أشواقي حمائم أشعار
وقال رحمه الله يصف مدينة حماة:
نهرها العاصي تندى مطيعا ... حيث مال النسيم أضحى يميل
ومحيا الحبيب شمسي فيه ... ووجوه العشاق فيه أصيل
وعليل السقام فيه صحيح ... وصحيح النسيم فيه عليل
عشق النهر لحسنها فلهذا ... دمع أجفانه عليها يسيل
وقال أيضاً - رحمه الله:
غدا مغرما أفق السماء بدوحنا ... فدمع الندى حزناً عليه أسأله
وهام رياض الدوح فيهفابرزت ... له نهرها حتي يصيد خياله
وقال أيضاً - رحمه الله:
يا بانة الوادي التي نادمتها ... باهتك بان المنحنى وكثيبه(3/202)
ما مال عطفك بالنسيم وإنما ... طرباً لطيب حديثه ونسيبه
يا حبذا فيك النحول فإنه ... بغناي فيه آمنت خوف رقيبه
ما كان في علم الغرام بأنه ... يطفى بماء الدمع نار لهيبه
وقال من نثره - رحمه الله: نحن سيدي - أطال الله بقاءك - في روض مجلس أغصانه الندماء وغمامه الصهباء؛ فبالله عليك إلا ما كنت لمجلسنا نديماً، ولزهر حديثنا شميماً، وللجسم روحاً وللطيب ريحاً، وبنيناً غدراً رجاجها حذرها وحبابها ثغرها، بل شقيقة حوتها أكمامه، أو شمس حجبتها غمامه، إذا طاب بها معصم الساقي فورده على غصنها، أونزيهاً مقهقهة، فحمامه على فننها، طافت علينا طواف القمر على منازل الحلول، وأنت وحياتك إكليلنا، وقد آن حلولها الإكليل - والسلام.
محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن حفاظ أبو عبد الله بدر الدين السلمي الحنفي المعروف بابن الفويرة. توفي بدمشق يوم السبت حادي عشرين جمادى الأولى ودفن بظاهرها - رحمه الله تعالى. صحب والدي - رحمه الله وسمع منه، وكان يحبه ويثنى عليه؛ وصحب جماعة من العلماء والمشايخ واشتغل في مذهب أبي حنيفة - رضي الله عنه - على الشيخ صدر الدين سليمان، وقاضي القضاة شمس الدين عبد الله السبت عطاء وغيرهم، وتميز(3/203)
وطلب لنيابة الحكم بدمشق فامتنع ودرس بالمدرسة الشبلية بجبل الصالحية وبمدرسة القصاعين بدمشق، وأفتى واشتغل بالعربية والنحو على الشيخ جمال الدين محمد بن مالك - رحمه الله، وحصل من ذلك طرفاً جيداً. وكان رئيساً وعنده ديانة كثيرة، ومروءة، ومكارم أخلاق، وحسن عشرة، وله بر، وصدقة على الفقراء وحسن ظن بهم، وسمع الكثير، وكان يكتب خطاً حسناً، وله معرفة بالأصول والأدب، وينظم نظماً جيداً.
نقلت من خط عز الدين محمد بن أبي الهيجاء لبدر الدين المذكور:
عاينت حبة خاله ... في روضة من جلنار
فغدا فؤادي طائراً ... فاصطاده شرك العذار
ونقلت من خطه المذكور:
كانت دموعي خمراً قبل بينهم ... فمدنا أقصرتها لوعة الحرق
قطفت باللحظ ورداً من خدودهم ... فاستفرطوا ماء ذاك الورد من حدقي
وأنشدني ولده جمال الدين لوالده بدر الدين المذكور - رحمه الله تعالى -:
ورياض كلما انقطفت ... نثرت أوراقها ذهبا
تحسب الأغصان حين شدا ... فوقها القمرى وانتحبا
ذكرت عسر الشباب وقد ... لبست إبراده قشبا
فانثنت في الدوح راقصة ... ورمت أثوابها طربا(3/204)
وأنشدني ولده جمال الدين المذكور لوالده في شاعر:
وشاعر يسحرني طرفه ... ورقة الألفاظ من شعره
أنشدني نظماً بديعاً فما ... أحسن ذاك النظم من ثغره
وحكى بدر الدين المذكور - رحمه الله - إنه رأى في المنام الشرف داود بن العرضي - رحمه الله - عقيب وفاته وكان هذا الشرف يلوذ ببدر الدين ويتوكل له ويخدمه. قال فقلت له: يا ابني داود إيش كان أو إيش؟ كأني أسأله عما لقي بعد الموت فكان جوابه لي:
ما كان لي من شافع عنده ... إلا اعتقادي أنه واحد
وحكى لي أخي - رحمه الله ورضي عنه - ما معناه أنه خرج إلى ظاهر دمشق ومعه بدر الدين المذكور - رحمه الله - عند عود طائفة من عساكر التتر من الجهات القبلية في شهور سنة ثمان وخمسين ومعهم السبي من تلك البلاد ليشتروا منهم من يستفدونه من أيديهم، فجرى بينهم ذكر الملاحم والأشعار الموضوعة فيها، فنظم بدر الدين المذكور - رحمه الله بيتاً من الشعر علي وزن بعض القصائد المنسوبة إلى ابن أبي العقب وهو:
ويملك الشام ملك اسمه قطز ... ويقتل الترك في حمص وفي حلب
فاتفق أن تملك الملك المظفر سيف الدين قطز - رحمه الله - بالشام ما قد علمتم. وقتلت التتار في حمص في أول سنة تسع وخمسين ثم في سنة ثمانين وست مائة فكأنه كان منطقاً بذلك.
وقال شرف الدين عمر بن خواجا أمام الناسخ: أنشدني الشيخ بدر الدين(3/205)
لنفسه:
أذاع لسان الدمع يوم النوى سرّى ... وحلّت أكفّ البين في عرى صبري
وظلّت على الأطلال أسياف نأيهم ... دمى واغتدى قلبي أسيراً مع السفر
وعطّل نأي الإنس من حلي حسنهم ... فحليته من أوسع العين بالدرّي
رعى الله ليلات تقضّت بوصلهم ... فقد كنّ كالخيلان في صفحة الدهر
وحيّا رياضاً بالحمى كنت منهم ... أنال المنى في ظل أغصانها النضر
؟ محمد بن عبد الوهاب بن منصور أبو عبد الله شمس الدين الحرّاني الحنبلي، كان فقيهاً إماماً عالماً بعلم الأصول والخلاف، تفقه فيه على القاضي نجم الدين المقدسي الشافعي - رحمهما الله تعالى - وجالس الإمام مجد الدين بن تيمية الحراني - رحمه الله - واستفاد منه أشياء كثيرة، وكان يستدل بين يديه بحران. ثم انتقل إلى الشام فأقام مدة بدمشق يشتغل على الشيخ علم الدين أبي القاسم - رحمه الله تعالى - في الأصول والعربية. ثم سافر إلى الديار المصرية فأقام مدة يحضر درس الإمام عز الدين بن عبد السلام فأقام مدة يحضر درس الإمام عز الدين ابن عبد السلام وتولى القضاء ببعض أعمال الديار المصرية نيابة عن قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب - رحمه الله تعالى - وهو باق على مذهبه، وهو أول حنبلي حكم بالديار المصرية في هذا الوقت، ثم لما فوض إلى الشيخ شمس الدين محمد بن الشيخ العماد الحنبلي - رحمه الله - القضاء والحكم بالديار المصرية على مذهبه(3/206)
ناب عنه مدة ثم ترك القضاء ورجع إلى دمشق فأقام بها مدة سنين، له حلقة يدرّس بها في الجامع ويكتب خطه في الفتاوى. وكان حسن العبارة طويل النفس في البحث كثير التحقق، باشر الإعادة بالمدرسة الجوزية بدمشق قبل سفره إلى الديار المصرية وبعد رجوعه. وكان حسن المجالسة والمذاكرة، ويتكلم في الحقيقة وهو غزير الدمعة رقيق القلب جداً، وافر الديانة كثير العبادة، صحب الفقراء مدة وله فيهم حسن ظن، وأمّ بحلقة الحنابلة بجامع دمشق مدة ثم ابتلي بالفالج فبطل جانبه الأيسر وثقل لسانه بحيث لا يفهم من كلامه إلا اليسير، وبقي على ذلك مدة أربع أشهر، ثم توفي إلى رحمة الله تعالى بدمشق ليلة الجمعة بين العشائين لستّ خلون من جمادى الأولى هذه السنة، ودفن بعد أن صلى عليه بجامع دمشق في مقابر باب الصغير - رحمه الله - وقد ميف على الستين سنة من العمر. وكان عنده معرفة بالأدب، وله يد جيدة في النظم؛ أنشدني صاحبنا تقي الدين عبد الله بن تمام له:
طار قلبي يوم ساروا فرقا ... وسواء فاض دمعي أو رفا
حار في سقمي من بعدهم ... كل من في الحي داري ورقى
بعدهم لا ظل وادي المنحنى ... وكذا بان الحمى لا أورقا
؟؟ محمد بن علي بن أبي القاسم أبو بكر بدر الدين العدوي المعروف بابن الكاكري كان من أعيان العدول بدمشق، كثير التحري في الشهادة والتحقيق،(3/207)
ظاهر العلم، حسن العشرة، لطيف الحركات، خبيراً بكتابة الشروط والفرائض، عنده ديانة وافرة ومروءة كبيرة. روى عن الشيخ موفق الدين المقدسي - رحمة الله عليه - وغيره، ومولده بدمشق في سنة أربع وتسعين وخمس مائة، وتوفي بدمشق يوم الأربعاء العشرين من ربيع الآخر، ودفن من يومه بسفح قاسيون - رحمه الله تعالى.
محمد بن عوض بن علي بن عوض أبو عبد الله عماد الدين العوضي الأصيل الدمشقي المولد والوفاة. مولده سنة تسع وست مائة ليلة الاثنين ثاني عشر ربيع الأول، وتوفي يوم الاثنين خامس عشر المحرم. سمع من والدي - رحمه الله - ومن أبي القاسم عبد الصمد بن محمد الحرستاني وأبي المنجا عبد الله بن عمر اللتي وغيرهم، وحدّث. صحب والده وجماعة من أعيان المشايخ وحدثهم وأخذ عنهم وانتفع بهم، وكان له من قلوبهم وأدعيتهم أوفر نصيب، ولم تزل حرمته وافرة عند الملوك والأمراء والوزراء والأعيان، وأقبل عليه الملك الظاهر - رحمه الله - قبل وفاته إقبالاً كثيراً. وكان عنده مكارم وحسن عشرة وسعة صدر وإكرام لمن يقصده من سائر الناس، ومسارعة إلى قضاء حوائجهم؛ وعلى ذهنه من أخبار الصالحين وحكاياتهم ما لا مزيد عليه ويعاني المراكب السنية والثياب الفاخرة ويخضب بالسواد، ودفن بسفح قاسيون - رحمه الله تعالى.
محمد بن مشكور بن.... أبو عبد الله شرف الدين المصري،(3/208)
كان رئيساًوفيه مكارم، وعنده معرفة تامة بالكتابة والتصرف، وولي المناصب الجليلة، منها نظرالجيوش بالديار، وكان بينه وبين الصاحب بهاء الدين مصاهرة ووحشة باطنة. وتوفي بدارهالتي على الخليج بالقرب من مصر ليلة الأحد خامس عشر جمادى الأولى، ودفن يوم الأحد بالقرافة الصغرى، ومولده على ما نقل عنه في سنة عشر وست مائة - رحمه الله تعالى.
محمد بن يحيى بن عبد الواحد بن عمر بن يحيى الأمير أبو عبد الله بن الأمير أبي زكريا ابن الشيخ أبي محمد بن أبي حفص الهنتاني صاحب تونس، قد اختلف النقل في تاريخ وفاته لبعد المسافة، فقيل في الثاني من شوال سنة خمس وسبعين وست مائة، وقيل في يوم عيد النحر منها، وقيل في الثالث والعشرين من ذي الحجة - والله أعلم. كانت وفاته بمدينة تونس، وسبب موته أنه خرج إلى الصيد وحصل له من كثرة الحركة انزعاج وتغير مزاجه، وزاد به الألم، فعاد إلى المدينة وهو ضعيف، فبقي على ذلك مدة أيام إلى أن توفي، وله من العمر اثنان وخمسون سنة تقريباً. وكان ملكاً جليلاً عظيم المقدار عالي الهمة، مدبراً سائساً كثير التحيل على بلوغ مقاصده شجاعاً مقداماً يقتحم الأخطار بنفسه، كريماً كثير العطاء، يستقل الكثير مما يعطيه ويعجبه فعل المعروف وينافس فيه، مغرماً بالعمائر، منهمكاً في(3/209)
اللذات تزف إليه كل ليلة جارية وكان ولّى عهد أبيه في حياته. فلما توفي والده في سنة سبع وأربعين ببلد العناب بمدينة يقال لها بونا وكان صحبته، ترك والده على حاله، وركب بغلاً يسمى الجيش ودخل به تونس في خمسة أيام والمسافة عشرون يوماً ومات البغل في تلك السفرة. وكان الحامل له على ذلك خوفه من عمّيه أن يسبقاه، فإنه كان له عمّان، أحدهما مجدور الوجه يدعى أبا عبد الله كثّ اللحية يعرف باللحياني. ولما دخل تونس، وجد الخبر قد سبقه والنوح في القصر فأبطله وأمر بضرب البشائر وسيّر مملوكاً له يقال له هلال إلى مدينة بونا يستدعي من بها من العسكر وأمر أن يسوق عمه أبو عبد الله اللحياني في مقدمة الجيش، وعمه أبو إبراهيم في ساقته، فوصل إلى المكان وذكر لعميه ما أمر به فساروا عشرين يوماً حتى وصلوا إلى السبخة على يوم من تونس. فتقدم لهم مرسومه أن يترجل العسكر بأسرهم خلا عمّيه فكشف منهم في ذلك اليوم خمسين مقدماً طائعين وسبعين مقدماً مخامرين. فلما دخلوا تونس مدّ لهم سماطاً فدخل الخلق طائفة بعد طائفة، والكوسات تضرب والخلع تفرق والأنعام تشمل القريب والغريب. واستقل على هذا المنهج سنة ونصفاً، وهو مع ذلك خائف من عميه وثلاثة رجال أخر مستبدين إليهما يقال لأحدهم ابن البرنمال، والآخر إبراهيم بن إسحاق.
وكان مدة السنة ونصف يجتمع كل ليلة بهؤلاء الخمسة، وينعم عليهم لكل واحد منهم بألف دينار عيناً ومركوباً(3/210)
وسيوفاً وعبيداً ويضبط ذلك أرقالا. ثم حصل بعمه أبي إبراهيم تغير في خاطره وعبط لونه، رأى غيره في منزله، ورأى مماليك السلطان على رؤوسهم قياماً بأسلحتهم من غير عادة تقدمت في البلاد بذلك. فقال أبو إبراهيم لأخيه والثلاثة الذين معهما: هذه حيلة علينا لنقتل في وسط المكان، ثم طلبوا دستوراً بالركوب للنزهة فأذن لهم ثم ركب متخفياً يسارقهم النظر وراءهم إلى ان دخلوا بستاناً يقال له الحريرية، فدخل الإخوان وتحيّل الأمير محمد إلى أن دخل بحيث لم يشعر به، وطلع إلى شجرة خرّوب مطلعة على المكان. فلما أن دخلا تعانقا، وقال أبو إبراهيم: أما أن تأخذها أو آخذها، فقال اللحياني: أنا قد زوجته ابنتي وحلفت له.
وإذا بالثلاثة قد دخلوا وقالوا: الملك عقيم فحلفوا للحياني وهو يشاهدهم من الشجرة، وخرجوا من البستان، ونزل الملك من الشجرة فرآه الخولي، فحل حياصته ودفعها إليه وأخذ يحادثه إلى ان وصل إلى جانب ساقية في البستان، فرفسه برجله رماه فيها، فمات ودخل من ساعته، فأركب مماليكه ستة آلاف فارس وأخرج ألفي حجيرة عراب أركبها السودان وطلب مملوكاً يدعى ظافراً، فقدمه على ألفي فارس ومملوكاً من مماليك أبيه يدعى مظفراً، فقدمه على ألفين من الترك، وخادماً يدعى مفتاح الطويل، فولاه على السودان، وقال لهم: البسوا سلاحكم وتمضوا إلى باب الدار التي هم بها. فتهجموا عليهم وتقطعوا رؤوسهم، فخرجوا وكان وافقهم من الموحدين أربعة آلاف(3/211)
فارس وهم في منزل جلوس في لعب ولهو، فما احسوا إلا وقد أحيط بالدار، فهرب الأولاد واختفوا. وقطعت رؤوس العمين وجعلت في طشت وتسلمهم نبيل السلوقي، ودخل على الملك بالرأسين وهو على مدورة سوداء، وبيده قضيب ذهب زنته عشرة أرطال مصرية، فقال: أين بقيتهم؟ قال: واصلون في الزناجير، وكان عنده القاضي وأربعة عدول، فقال لهم: تركبون وتحفظون خزائنهم ووجودهم، وتحضرون لي ما في هذه الورقة مما أصرف إليهم، فقبضها القاضي وساروا إلى ما رسم لهم بهم، ودخل الباقون في الزناجير، فضرب أعناق السبعين مقدماً المخامرين، ثم استدعى بالثلاثة الأخر، فقطع من لحومهم وشوى واطعموا وهرب أولاد عمّيه فقراء واختفوا واحتيط على ما كان لهم جميعه، وكل ذلك في ثلاثة أيام. ثم صعد الملك محمد علي منبر من العاج مصفح بالذهب، فذكر الله وأثنى عليه وذكر نبيه صلى الله عليه وسلم، وقال في آخر كلامه: عفا الله عنكم المجرم وغير المجرم. ثم أمر بهدم دور المخامرين إلى الأساس، وكذلك بساتينهم ولم يبق لهم أثر، ولم يظهر لها بعدهم غلام ولا مملوك إلا قبض عليه. وأقام محمد بعد قتل عميه سنة، ثم جمع العلماء والأكابر. وقال أيضاً رحمه الله: قال: أنتم مؤمنون أم لا؟ - وقال: ومن أنا؟ - فقالوا: أميرنا، قال: فإذا اجتمع بحثي وبحثكم كيف يكتب؟ قالوا: أمير المؤمنين؛ قال: فاكتبوه. وكتب إلى سائر بلاده ومسيرتها أربعة أشهر برّاً وشهران في البحر المالح، ثم أنه فصل الخلع(3/212)
من أنواع ثياب الصوف والحرير والعمائم المهدوية وخلع على مقدّمي العسكر والأعيان من الرعية والمتميزين من الناس، وكان بإفريقية من العربان خلق كثير لهم مقدم يعرف بسبع بن يحيى، وفخذه بنو كلب، وهم أشد العربان بإفريقية، فعصوا عليه، فلم يظهر لهم تغير، ورسله تتردد إليهم بالملاطفة إلى أن حضروا إليه، فضرب رقابهم عن آخرهم. فبلغ ذلك قوماً من العربان يقال لهم الخلوط والذبابيين والمعفوقيين، وفخذ من غيرهم يكون مجموعهم ستين ألف راكب لم يعطوا طاعة لأحد، فزاد عصيانهم فشاور أعيان دولته؛ فقالوا: نخرج العسكر بأسره إليهم، فقال: تذهب الخزائن وما نظفر بالجميع، ويستمر عصيان السالمين، ويقطعون الطرقات لكن نأخذهم بالرفق، فراسلهم وأعطاهم خمسة بلاد وهي طرابلس وجرباء وزواراً وزواغاً وقرقنا، ثم استعمل سيوفاً جدداً ورماحاً، وفصل جباباً منوعة ودراريع بيضاء وملابس النساء، وحمل ذلك هدية إليهم صحبة رجل يعرف بأبي يحيى بن صالح من كبراء دولته مشهوراً بالصدق عند العربان؛ وقال: إن اختاروا الحضور إلينا يحضروا، وإلا ما نكلفهم ذلك فسار إليهم. وكان عارفاً بشيء من السيمياء، فوعده الملك أن استمالهم بحانة. فلما حضر عندهم قدموا له الخيل والنياق وأحضروا المغاني، وبقي عندهم ثلاثة شهور يركب في جمهورهم، ثم إن الملك كتب إليه يأمره أن يخطب له ثلاث بنات من الثلاثة أفخاذ من كل أمير بنتاً، فعرّفهم ورفعت(3/213)
الرايات وقرّت في أحياء العرب البنات، وكان أبو يحيى قد احتوى على عقولهم. فكتبوا إلى الملك يسألونه أن يكون مقدمهم، فأجابهم إلى ذلك وأمر لمحضر الكتاب بألف دينار عيناً وعشرة أكسية حمر وعشرة من الإبل وخمس جمار خدمات، وجعل جامكية لمن يلود به وبلداً يباباً يقال لها الحماء يستغلها فعاد إليهم فاطمأنوا غاية الطمأنينة، وانكف شرهم عن البلاد، وحصل لها نهاية الأمن، ثم إن الملك كتب إلى الشيخ أبي يحيى يستدعيه وقال: من أراد من العربان أن يحضر معك فليحضر، فصحبه تسعة نفر من كل فخذ ثلاثة أولاد الأمراء، فدخل تونس، وخرج الملك بنفسه لتلقيه، ثم أنزل التسعة ومن
معهم وصاروا كل ليلة يحضرون مجلس الملك وينصرفون بالخلع والمال. هم وصاروا كل ليلة يحضرون مجلس الملك وينصرفون بالخلع والمال.
ثم إن الملك أحضر نقاشاً وقال له: افتح لي سكة تضرب عليها ديناراً مائة مثقال؛ فعمل السكة فضرب الملك عليها عشرة آلاف دينار، ثم دخل دار الطراز وأمر أن يعمل بها ثياب برسم بنات العربان اللاتي خطبهن، وأن يعمل سوار كل بنت رنك أبيها، وأخرج الذهب وجعل في الصناديق مقسوماً سوية، واخرج ستة من العدول صحبته والذهب وسيّر الجميع إلى العربان ليكونوا كتبة الصداقات عندهم. فلما رأت العربان أولادهم عادوا سالمين، ومعهم أموال جمة، ورأوا تلك الأموال الأخر والقماش قد فرش في البرية وهلت عقولهم، واشتدت أطماعهم وكتبت الصداقات. وعادت العدول إلى تونس. ثم بعد مدة يسيرة كتب كتباً(3/214)
تتضمن أنه قد طرى أمر يحتاج إليه إلى المشورة فليحضر. فأول من سارع التسعة المقدم ذكرهم، ووصل معهم نحو السبعين رجلاً من كبارهم. فأركب الملك ولده للقائهم، وأنزل كل عشرة منهم في دار، وأوسع عليهم من النفقات والمأكول والمشروب، وصاروا معه حيث كان. فأقاموا كذلك عشرة أيام، ثم قال لهم: إن الأمر الذي أحضرناكم قد مضى من غير مشورة ببركاتكم، فارجعوا إلى بلادكم. فخرجوا رافعي الرايات داعين للملك شاكرين، فأخذ رجل منهم في الطريق عشرة أرؤس من البقر، فقطعوه بالسيوف، وسيّروا رأسه إلى تونس، فشق ذلك على الملك وقال: البقر لي ولعله كانت له حاجة بها. فلم فعلتم ذلك؟ ثم أمر أن يعمل له جنازة ويدفن، فتضاعف أمنهم، وأقاموا على ذلك سنة، فحصل بسبب أمن البلاد أضعاف ما أنفق من المال. وورد على الملك من أكابر ملوك البربر رجل يعرف بابن عمراض فاحتفل به واستدعى أهل البلاد والعربان، فبادروا وأقبل جميع الناس وهم يومئذ سبعون أميراً، فخرج إلى لقائهم بنفسه، وضربت لهم الخيم وأخلي لهم في البلد عشر دور برسم راحتهم في النهار، واحترمهم حرمة تامة بحيث كان الرجل من أهل البلد يقتل قتيلاً ويلّم بأبياتهم، فلا يؤذى؛ ثم إن ابن عمراض قصد خدمة الملك فركبوا معه ودخلوا تونس، فقال لهم الملك وجعل يثني عليهم وعلى ابن عمراض، وأمر العربان يقبلون الأرض عقيب كل شكر، ثم طلبهم أن يدخلوا قصره ليلة واحدة ليشربوا معه، فدخلوا إلا عشرين نفراً(3/215)
تخيلوا. فسيّر لهم المأكول والمشروب وغرائب ما عنده وقال: إنما قصدت أن أريكم زخرف ما عندي، فمن خطر له الدخول فليدخل ومن اختار المقام مكانه فليقم. ثم أظهر للذين دخلوا من أنواع الزينة ما ذهل عقولهم وأخرج من جواريه نحو الخمسين جارية يتراقصن بين أيديهم، ومن خطر له جارية أعطيها، وأنعم عليهم بالذهب، ولم يسير للبرانيين شيئاً. ولما أصبح ركب معهم، وخرجوا إلى عند الجماعة المتأخرين وسلم عليهم، وقال: العذر باق فيكم، فلهذا تأخرتم، ولكن ما نؤاخذكم، بل نعمل لكم قبة في وسط القصر جديدة نسميها قبة العرب تجتمعون فيها على اختياركم، ومن حين نضع أساسها نشرب فيها. فرضوا بذلك، ثم أمر لهم بمثل ما أعطى من كان معه من الذهب، ثم ساق بخيله ومماليكه فدخل قصره، واستدعي بمعمار يقال له عمرون القرطبي، وقال له: أريد أن تبني لي في هذه الرحبة قبة أربعين ذراعاً في مثلها يكون جميعاً حجراً صامتاً، ويكون لها ثلاثة أبواب، باب يختص بالعرب وتكتب عليه أسماؤهم، وباب سرّ أدخل منه وأخرج، وباب للحاشية فرسمت القبة وقطعت الحجارة. ثم إن الملك عانق عمرون من غير عادة، وقال له: إني وقفت على سيرة بعض الخلفاء، فرأيت فيها إنه قتل جماعة في قبة أساسها ملح سيّب عليه الماء فسقطت، فهل لك في ذلك حيلة؟ قال: نعم؛ فتقدم يعمل في حيلة لإحضار الملح، ثم شقّ الأساس وردمه ملحاً، ولم يصبح إلا وقد دار بالحجارة دوراً واحداً، ثم طلب العرب، فحضروا وبسط المكان، وجعل العربان يشربون والصناع(3/216)
تعمل إلى العصر، وركب الملك وتركهم، فمنهم من خرج ومنهم من تأخر، وبقي على هذه الحال يشرب في ناحية القبة والصناع تعمل في الجهة الأخرى مدة أربعين يوماً، فكملت فمر ببياضها وتصوير العربان فيها، فكان البدوي ينظر إلى صورته كأنها تنطق، فتعجب من حذق الصانع. وكان بالقصر حمام عتيق مجرى مائها حاكم على أساس القبة، فخزن الماء من حين الشروع فيها في بركة معدة لها، فلما تمت القبة قال لهم: إني الليلة بائت في القبة معكم لا ينصرف منكم أحد. فشربوا إلى آخر النهار، واستقبلوا الليل بالسرور وهم على غاية الطمانينة، وأمر الملك أن يحفر التراب عن
الأساس إلى أن يظهر الملح، ويطرّق إليه ويستر بالبسط، وسأل في كم يذوب الملح إذا أطلق عليه ماء سخن؟ فقيل له: في تسع ساعات. فعلق الاسطرلاب، وأطلق الماء من المغرب في الأساس، فساح الماء على الملح إلى ثاني ساعة، قام الملك بعد أن جهزمن يعز عليه في الاشتغال، وترك من لا يريده معهم، وخرج فأوسع طريق الماء بالإسباغ إلى أن ذاب أكثر الملح، وقوي عليه الماء، فيقطت بدا واحداً فلم يسلم منهم أحد، وكان قد أمرهم أن يكتبوا إلى أولادهم ليحضروا ويحضروا البنات معهم، فكتبوا من حال وصولهم فاتفق وصولهم في صبيحة ذلك اليوم الذي سقطت فيه القبة. إلى أن يظهر الملح، ويطرّق إليه ويستر بالبسط، وسأل في كم يذوب الملح إذا أطلق عليه ماء سخن؟ فقيل له: في تسع ساعات. فعلق الاسطرلاب، وأطلق الماء من المغرب في الأساس، فساح الماء على الملح إلى ثاني ساعة، قام الملك بعد أن جهزمن يعز عليه في الاشتغال، وترك من لا يريده معهم، وخرج فأوسع طريق الماء بالإسباغ إلى أن ذاب أكثر الملح، وقوي عليه الماء، فيقطت بدا واحداً فلم يسلم منهم أحد، وكان قد أمرهم أن يكتبوا إلى أولادهم ليحضروا ويحضروا البنات معهم، فكتبوا من حال وصولهم فاتفق وصولهم في صبيحة ذلك اليوم الذي سقطت فيه القبة.
فلما حضروا رأوا الملك باك عليه ثوب قطن والحزن ظاهر عليه، فقال: ما ترون ما قد جرى على هؤلاء يعز والله عليّ، ولكن هذا أمر سماوي ليس فيه حيلة. ثم طلب المعمار فضرب عنقه لئلا يشيع(3/217)
باطن الحال، ونبش العربان فدفنوا وحلف أولادهم ثم بايعوه واستعاد ما كان أعطاهم من البلاد الخمس، وعوّض أولادهم عنها بالغلال. ومن سيرته أن سلاح جنده ولة الحرب عنده في خزائنه، وعلى كل سلاح اسم صاحبه لا يمكّن أحداً من التصرف في شيء منه، فإذا اتفق حرب حملت العدد على الجمال وأخرجت ففرقت على الرجال، فإذا قضى الشغل أعيدت إلى الخزائن، وكلما عتق منه شيء جدّد، وكلما فسد شيء منها أصلح من ماله، وإن مات الرجل ورتب لولده، وإن لم يكن له ولد ولا وارث تركت لرجل غيره، وهو أول من اعتمد ذلك في تونس بعد قتل عمومته خوفاً من الخروج عليه. وأما الأجناد فلم يكن لأحد منهم خبز بل نقد، وليس لأحد من الناس في البلاد شيء إلا من كان له ملك من أجداده فهو باق عليه، وارتفاع البلاد بأسرها يجمع ويحمل ثم يفرق في السنة أربع مرار كل ثلاثة شهور نفقة ومجموع المال الربع والثمن منه لللمؤمنين والنصف والثمن لبيت المال ما يصرف على الشواني للجهاد والعمائر وإصلاح ما يجب إصلاحه من البلاد من النصف والثمن بأمر قاضي القضاة وما يخص أمير المؤمنين من خيل وصلاح ولباس وعدة ومماليك ونفقات فهو من الربع والثمن، ومن خامر من الجند أو مات وليس له وارث عاد ما ترك إليه مع الربع والثمن.
محمد بن يوسف بن مسعود بنبركة بن سالم بن عبد الله بن خاس بن قيس بن مسعود بن محمد بن خالد بن مزيد بن زائدة بن(3/218)
مطر بن شريك بن عمر بن قيس بن شراحيل بن همام بن مرة من ذهل بن شيبان، ويعرف بابن عراج أبو المكارم الشيباني المنعوت بالشهاب ابن التلعفري الشاعر المشهور. مولده في الخامس والعشرين من جمادى الآخرة سنة ستين وخمس مائة بتلّ يعفر، وقرأ الأدب على الشيخ أبي الحزم بالموصل، وكان حافظاً للأشعار وأيام العرب وأخبارها. وتوفي في ثالث عشر المحرم سنة خمس وسبعين وست مائة بنصيبين، وكان حسن المعرفة بأخبار الفرس ومحاسن آثارهم. وكان شاعراً مطيلاً في قصائده يمدح أهل البيت رضي الله عنهم، وكان من المغالين في مذهب الشيعة، سافر إلى نصيبين، وأقام بها إلى أن مات، وانقطع إلى الملك الأشرف بن العادل، وصار أحد شعراء دولته، وسيّر فيه قصائد شتى، وكان وعده وهو معه في حمام بقلعة الرها سنة أربع وست مائة بألف دينار مصرية أي يوم ملك خلاط، فلما ملكها في ربيع الأول سنة عشر وست مائة أنشده:
سقى خلاط ملث الودق مدرار ... فإن فيها لباناتي وأوطاري
ماجت خراسان وارتجت قواعدها ... كأنها الدوح لاقى صوب الاعصار
وأضحت الكرّج في تفليس خائفة ... إذ جاورت منك جاراً أيما جار
غيثاً من الرعب ملأناً وليث شرى ... يظلّ ما بين فياض وزوار(3/219)
عليك تقوى ملوك الأرض قاطبة ... صحائف المجد في نجد وأغوار
والناس والطير أضياف وعائلة ... لله درّك من مقرى ومن قاري
بسطت لي يوم حمّام الرّها أملاً ... وأنت حر كريم نجل أحرار
كوعد عمّك إذ وافاه عرقلة ... يستنجز الوعد في نظم وأشعار
فقال بيت سرى كالشمس في مثله ... مولد من لباب الشعر سيار
قل للصلاح معيني عند إعساري ... يا ألف مولاي أين الألف دينار
وأنت لا شك من ذاك النجار ولي ... وعد عليك وهذا وقت تذكاري
ما انت دون صلاح الدين في كرم ... ولا أنا دون حسان بن عمار
فأعطاه الألف دينار. وكان الشهاب من الفضلاء قيّماً بالشعر مقدماً فيه عند أدباء عصره، ومدح خلقاً كثيراً من الملوك والأمراء والأعيان وغيرهم؛ وهو من شعراء الملك النصر صلاح الدين يوسف بن محمد، ومن شعره:
بانوا وخل بأبرق الجنان عن ... كثب عرى حيث الحيا الهزرور
واعد جمان الطلّ وهو منظم ... عقداً لجيد البانة الممطور
وإذا الثنية أشرق وشممت من ... أرجائها ارجا كنشر عبير
سل هضبها المنصوب أين حديثه المرفوع من ذيل الصبا المجرور(3/220)
وقال أيضاً - رحمه الله:
حلفت برب مكة والمصلى ... يميناً إنهم قد أوحشوني
فديتهم بروحي من أناس ... حفظتهم ولكن ضيعوني
وقال أيضاً - رحمه الله:
طال في حلبة الصدود جفاكم ... تم إلا روحي خذوها فداكم
أسأل الله إن قضيت اشتياقاً ... في هواكم يجني يطيل بقاكم
كنت قبل الهوى عزيزاً كريماً ... ما عرفت الهوان لولا هواكم
سادتي ما أطلت أسخاط عذّالي ... أبداً إلا طاعة في رضاكم
يطلبون السلو مني عنكم ... لا تملي قلبي بكم إن سلاكم
أيها المعرضون عني جفاءً ... ما أمرّ الجفا وما أحلاكم
طال بيني وبينكم أمد الب ... ين تراني أحيا ليوم لقاكم
أنتم بالخلاف مني فما أفق ... رني نحوكم وما أغناكم
وقال قاضي القضاة شمس الدين بن خلكان رحمه الله تعالى: أنشدني الشهاب لنفسه:
يا شيب كيف وما انقضى زمن الصبي ... عاجلت مني اللمة السوداء
لا تعجلن فما الذي جعل الدجى ... من طرقي الليل البهيم ضياء
لو أنها يوم الحساب صحيفتي ... ما سر قلبي كونها بيضاء
وقال أيضاً رحمه الله:
لك ثغر كلؤلؤ في عقيق ... ورضاب كالشهد أو كالرحيق(3/221)
وجفون كم يمتشق سيفها ... للمغدي بقدك الممشوق
تهب عجباً بكل حظ من الحس ... ن جليل وكل معنى دقيق
وتفردت بالجمال الذي خ ... لاك مستوحشاً بغير رفيق
حملتني عيناك ما لست يوماً ... في هواها لبعضه بمطيق
وسقيتني ما تدير كؤوساً ... أنا منها ما عشت غير مفيق
يا بخيلاً عليً حتى ينوّم ... مطمع منه في خيال طروق
باللحاظ التي بها لم تزل تر ... شق قلبي وبالقوام الرشيق
لا يغرن بالغرير إذ تثنى ... فيه أعطاف كل غصن وريق
وأثر بجمر خديك وايتر ... هـ وإلا ينشق قلب الشقيق
وقال أيضاً رحمه الله:
هذا العذول عليكم ما لي وله ... أنا قد رضيت بذا الغرام وذا الوله
شرط المحبة أن كل متيم ... صب يطيع هواه ويعصي عذله
آاخذتموني حين سار بذكركم ... مثلي ومثلي سره لن يبذله
ما أعربت والله عن وجدي بكم ... وصبابتي إلا دموعي المنهملة
جزتم مداكم في قطيعتكم فلا ... عطف لعائدكم يرام ولا صله
أألومكم في هجركم وصدودكم ... ما هذه في الحب منكم أوله
قسماً بكم قد جرت مما اشتكى ... حسبي الدجى فعدمته ما أطوله
ليلي كيوم الحشر معنى أن تكف ... لا ليلى ذاك له فذا الصبح له(3/222)
يا سائلي من بعدهم عن حالتي ... ترك الجواب هذي المسأله
حالي إذا حدثت لآلمع ولا ... جمل لا يضاحي من يشكله
عندي جوى يدع الصحيح مبلداً ... فاترك مفصله ودونك مجمله
يا نار وفي..... عيشهم ... رشأ عليه حشا المحب مقلقله
قمر له في القلب بل في الطرف بل ... في النثرة الحصداء أشرف منزله
الصدغ منه عقرب ولحاظه ... أسد وخلف الظهر منه سنبله
ما أحور الألحاظ منه إذ رني ... وإذا انثنى مقوامه ما أعدله
....في الألحاظ نضرة وجنة ... تسوي النواظر لاست مقبله
لله منه مهفهف أجنبته ... عسل الهوى فجنيت منه حنظله
لو كنت فيه قبلت نصح عواذلي ... ما أدبرت أيام حظي المقبله
وقال أيضاً رحمه الله:
لولا بروق بالعقيق تلوح ... تغدو على هضباته وتروح
ما ازداد قلبي لوعة كلا ولا ... أدمي خدودي دمعي المسفوح
ويح الصبا حتام تذكر في الصبا ... ........منها كالعنبر تفوح
خطرت وقد أهدي فيها الشذا ... غار الغوير وبانه والشيح
يا أهل ودي يوم كاظمة أما ... عن مثلكم صبري الجميل قبيح
سرتم وأسريتم بقلبي مهجة ... أردي بها الهجران والتبريح
قلبي يحفظكم لقلبي شاهد ... لا أرتضيه لأنه مجروح(3/223)
من لي بطيف منكم إن أغمضت ... عيني تعين على الأسى وتريح
هدأ الجفون وإنما أين الكرى ... منها وهذا الجسم أين الروح
أطمعتموني في الوصال وليس لي ... إلا صدود منكم ونزوح
وقال في الشرف بن يلمان:
سمعت لابن يلمان وبغلته ... أضحوكة خلتها إحدى قصائده
قالوا رمته وداست بالنعال على ... قفاه قلت لهم ذا من عوائده
لأنها فعلت في حق والدها ... ما كان يفعله في حق والده
وقال أيضاً رحمه الله:
قالوا بياض الشيب نور ساطع ... يكسو الوجوه مهابة وضياء
حتى سرت وخطاته في مفرقي ... فوددت أن لا أفقد الظلماء
وعدلت استبقى الشباب تعللاً ... بخضابه فخضبتها سوداء
وقال أيضاً في القمار:
ينشرح الصدر لمن لاعبني ... والأرض بي ضيقة فروجها
كم شوشت شيوشها عقلي وكم ... عهداً ستقتني عامداً بنوجها
وقال أيضاً رحمه الله:
تتيه على عشاقها كلما رأت ... حديث صفات الحسن عن وجهها يروى(3/224)
قتاة لها في مذهب الحب حاكم ... لقتل الورى أعطى لواحظها فتوى
يرنحها سكر الشباب فتنثني ... بقد إذا قامت يكاد بأن يلوى
ولو لم يكن في ثغرها بنت كرمة ... لها أصبحت أعطاف قامتها تشوى
وقال أيضاً رحمه الله:
لو لم يقضوا بالعراق جموعاً ... ما كان جفني بالمفيض دموعا
ساروا وأسروا بالرقاد وسارروا ... عندي جوّى إنساني التوديعا
سا سعد ساعدني وخف أن يغتدي ... مثلث بألحاظ الضياء صريعا
لاتأمنن بأن تبت بلوعتي ... تشكو أسىً وصبابة وولوعا
قل للصبا سراً فإن لها شذى ... يضحى لما يقضى إليه مذيعا
يا ذيلها المجرور عن هضب اللوى ... المنصوب هات حديثك المرفوعا
كم قد لهوت بمن بكى في منزلي ... حتى بكيت منازلاً وربوعا
بمدامع لو أن جعفرها له ... فضل لأنبت في الخدودربيعا
وقال أيضاً - رحمه الله:
أكحل أو طف أهيف أحمر أحور أغن ألمى رخيم العلس رشيق أسمر
ترف مذلل مليح كيس حلو سكر رخص البنان بهيّ المنظر شهيّ المخبر
وقد عكس ذلك بعض الأدباء وهو شمس الدين عمر بن المغيزل فقال:
أقرع سمج أحدب أعوج أفلج أعوى أعور أغث أشكع شنيع الوق ثقيل بخر
قذر مصفر ذلع دعاء نزق أقور ... من الكلام رزى المنظر ردى المخبر
وقال الشهاب بن التلعفري:
حظ قلبي في هواه الوله ... فعذولي فيه مالي وماله(3/225)
باسم عن برد منتظم ... لم يفز إلا فتى قبّله
حائر الألحاظ يثنى قامة ... قده المائل ما أعدله
شاهر صارم جفن لم يزل ... في فؤادي عامداً منصله
قا قضيباً حاملاً بدر الدجى ... ربه بالحسن قد كمّله
عند بسهم اللحظ عمن كلما ... رشته صاب له مقتله
وذي غرام لم يطع فيك الجوى ... والهوى حتى عصى في عذله
كلما طالت عليه ليلة ... صاح من فرط جوى في أشغله
هذه الليلة لا يوم لها ... مثل يوم الحشر لا ليل له
وكذا كل كثيب لم يزل ... ليله آخره أوله
حصرك الناحل من أضنائه ... بل خدعك المرسل من بليله
والذي خصّك بالحسن الذي ... آخذاً غيرك ما سربله
ما عرفت النوم مذ فارقتني ... نور وجه منك ما أجمله
كم أداري فيك لوامي ومن ... يعذل المشتاق ما أجهله
وقال أيضاً - رحمه الله:
لو لم تدر بيمينه الأقداح ... دارت بمقلته علينا الراح
قمرا لنا من حسن نبت عذاره ... وخدوده الريحان والتفاح(3/226)
ياجوهري اللفظ لا ومضاعف ... من كسر جفنك ما القلوب صحاح
عطفاً على ذي لوعة شبوبه ... متقاصر عن شرحها الإيضاح
قلبي بتكملة الغرام مفصل ... وأظن ليس لحاله إصلاح
لجمالك المنصور بل لجبينك ... الهادي فدا حفنى السفاح
شقّت بك الأجسام إلا أنها ... سعدت براحة عشقك الأرواح
وقال أيضاً - رحمه الله:
أراه يوري حين يسأل عن دمى ... وفي وجنتيه منه آثار عندم
كثير معاني الحسن قلّ نظيره ... فها....فيه بتوأم
له وهو مملوك تحكّم مالك ... كما هو ظبي فيه صولة ضيغم
يلوح كبدر ساطع النور مشرق ... بدا في دجى ليل من السعد مظلم
بصدغ يصان الخد منه بعقرب ... وفرع يزان القدّ منه بأرقم
فلا طرف إلا في نعيم وجنة ... ولا قلب إلا في لظى وجهنم
حوى فمه دريّ الكلام ومبسم ... هما برداء المستهام المتيم
فينطق عن لفظ كدرّ مبدد ... ويبسم عن ثغر كدرّ منظم
بريش لما قد أوترت من قسيها ... حواجبه من جفنه أي أسهم
ويضرب من لحظ بسيف مجرد ... ويطعن عن قدّ برمح ملهذم
ويسطو بآلات الجمال محارباً ... وما ثم شيء غير مقتل مغرم
وقال أيضاً - رحمه الله:
أحب الصالحين ولست منهم ... رجاء أن أنال بهم شفاعة(3/227)
وابغض من بهم أثر المعاصي ... وإن كنا سواء في البضاعه
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
إذا أمسى فراشي من تراب ... وبتّ مجاور الرب الرحيم
فهنوني أخلائي وقولوا ... لك البشرى قدمت على كريم
وله أيضاً - رحمه الله تعالى:
جاءت لوداعي وهي تشوى القدّ ... تبكي بجفون سيلها كالمدّ
مثلي لكن دمعها منصبغ ... بالخدّ ودمعي صابغ للخد
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
لو بات بما أحبه مكترثاً ... ما خان ولا كان لعهدي نكثا
يبدو فيقول كل من يبصره ... سبحانك ما خلقت هذا عبثا
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
من قال عني بأني ... يوم القيامة أخسر
وإنني بذنوبي ... إلى جهنم أحشر
مر يا جهول ودعني ... أنا بربي أخبر
محمد بن أبي بكر أبو عبد الله شرف الدين الأردويلي الصوفي الشيخ الصالح العارف المزني. كان من العلماء العارفين، كثير الزهد والعبادة والذكر، لازمه جماعة من الناس استغنوا به، وكان مقيماً بخانكاه الشميساطي بدمشق مدة إلى حين وفاته، وصلى عليه بجامع دمشق في بكرة نهار الخميس رابع المحرم، وأخرجت جنازته إلى ميدان الخصيّ ظاهر دمشق،(3/228)
فدفن إلى جانب شيخه برهان الدين الموصلي المعروف بابن الحلوانية - رحمه الله - مجاوراً لقبر صهيب الرومي رضي الله عنه - على ما يقال وقد نيف على السبعين من العمر - رحمه الله تعالى ورضي عنه. وكان صاحب خلوات ومجاهدات ورياضات تأدب به جماعة وعادت عليهم بركته - رحمه الله تعالى.
مرخسيا النصراني - لعنه الله - كان أثيراً عند أبغا ملك التتار، وله عليه دالة كثيرة وهو متمكن منه، فكان يحمله على المسلمين بما يسيء بهم عنده ويرغبه بهم ويرغبه في الايقاع بهم حتى ضاقوا به ذرعاً خصوصاً أهل الروم ومعين الدين البرواناة. فلما قوي جأش معين الدين كتب إلى قطب الدين محمود أخي أتابك ختن البرواناة، وكان نائباً عن أخيه بأرزنجان، يأمره بقتل مرخسيا القسيس فقتله وولده وشيعة من أهله واثنين وثلاثين نفراً من حاشيته. وكان هذا مرخسيا كبير العصبية على المسلمين، عضداً لأهل ملّته، محرضاً لملوك النصرانية المتأخمين لبلاد الروم والمجاورين لها على موافقة التتر في قصد بلاد المسلمين واجتماع الكلمة عليهم، فتقدم البرواناة بقتله مخاطراً، فقتل في الخامس والعشرين من شهر رمضان المعظم، وكان قتله حسنة البرواناة وفعلة جميلة.
مظفر بن رضوان بن أبي الفضل أبو منصور بدر الدين المنبجي ناب عن عبد الله بن عطاء الحنفي رحمه الله - بعد وفاة تاج الدين النخيلي واستمر في النيابة إلى حين وفاته، وكان مدرس المدرسة العينية بدمشق.(3/229)
وتوفي إلى رحمة الله تعالى في ليلة الخميس ثاني ذي القعدة بمدرسته، ودفن من الغد بسفح قاسيون، وهو في عشر السبعين. وكان عنده ديانة كثيرة وتعبد، ولين جانب، وفور عقل، وحسن تأتي وتواضع، ومحبة للفقراء والصالحين، وملازمة الفرائض في الجماعات - رحمه الله تعالى.
نوفل الزبيدي الملقب ناصر الدين أحد أمراء العرب المشهورين بالشام. وهو الذي أخذ الملك الناصر صلاح الدين يوسف - رحمه الله تعالى - يوم المصاف مع المصريين في سنة ثمان وأربعين وستمائة، ونجا به إلى دمشق فعرف له ذلك، وكان يتولى التحجب للعرب، ولم يزل وجيهاً في الدول، وله حرمة ومكانة لى حين وفاته، وصلى عليه يوم السبت ثالث عشرين شعبان، وقد نيف على ستين سنة - رحمه الله تعالى.
ولادمر بن عبد الله الأمير عز الدين إيغان الركني المعروف بسم الموت. كان من أعيان الأمراء وأكابرهم ومقدمهم وشجعانهم، وله المكانة العظيمة والحرمة الوافرة والكلمة النافذة في الدولة الظاهرية، يندبه في المهمات ويعتمد عليه من تقدمة العساكر وقود الجيش إلى أن يقيم عليه، فحبسه مضيقاً عليه وبقي في السجن مدة إلى أن أدركته منيته في محبسه بقلعة الجبل ظاهر القاهرة، فتوفي إلى رحمة الله تعالى، وسلم إلى أهله ميتاً يوم الخميس ثامن عشر جمادى الآخرة، فغسل وكفن وصلى عليه ودفن من يومه بمقابر باب النصر ظاهر القاهرة، وهو في عشر الخمسين وكان من أبطال المسلمين ومشاهير فرسانهم - رحمه الله تعالى.(3/230)
يحيى بن حاتم بن حمدان الملقب بالزكي. هو من أهل بعلبك، وعمر حتى قارب المائة سنة أو نيف عليها، وكان يزعم أنه من ذرية سيف الدولة بن حمدان الأمير المشهور، وتوفي يوم الخميس سابع ربيع الآخر ببعلبك ودفن بباب دمشق ظاهر مدينة بعلبك - رحمه الله تعالى.
يمن بن عبد الله أبو الفضل الحبشي الخادم العزيزي المنعوت بالقرش. كان رجلاً خيّراً، أديباً عدلاً، مقبول القول، صادق اللهجة؛ حج واستوطن مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتولى مشيخة الخدّام بالحرم الشريف النبوي صلوات الله عليه وسلامه على ساكنه، وتوفي بالمدينة الشريفة النبوية في تاسع عشر ربيع الآخر وهو في عشر السبعين - رحمه الله. وسمع من أبي محمد عبد الوهاب بن رواج وغيره، وحدّث، والعزيزي نسبة إلى الملك العزيز بن الملك الأمجد بهرام شاه صاحب بعلبك.
يوسف بن صدقة بن المبارك بن سعيد أبو المظفر تاج الدين البغدادي التاجر المشهور، مولده بالقاهرة في الثامن والعشرين من صفر سنة تسعين وخمس مائة. سمع ببغداد من جماعة وأجاز له جماعة من مشايخ نيسابور وغيرها وحدّث، وكانت وفاته يوم الجمعة سابع عشر ذي القعدة بالقاهرة ودفن يوم السبت بالقرافة الصغرى بسفح المقطم وكان من أرباب البيوت المشهورة بالعراق وأعيان التجار المتمولين مشهوراً بالثروة والوجاه والعدالة، واقعد في آخر عمره نحو ثمان سنة إلى حين وفاته - رحمه الله تعالى.(3/231)
حكي أن الملك الناصر صلاح الدين يوسف - رحمه الله - قال له بدمشق: يا تاج الدين بلغني أنك تقدر على ست مائة ألف دينار، فقال: لا وحياة رأسك ما أقدر على هذا. قال: فبحياتي على كم تقدر؟ قال: وحياتك أقدر على على أربع مائة ألف دينار. وكان له ببغداد أملاك جليلة وأموال ومتاجر وعنده شح شديد بالنسبة إلى كثرة أمواله ولم يشتهر عنه أنه فعل شيئاً يتقرب به أرباب الدنيا إلى الله تعالى من وقف أو صدقة ولا أوصى بذلك بعد وفاته - رحمه الله وإيانا، وتمزقت امواله وذهبت شر مذهب.
محمد بن أبي الحسن بن البعلبكي ليث الدولة مقدم بعلبك. كان رجلاً شجاعاً مقداماٌ خبيراً بالحروب وتقدمة الرجال صبوراً فيها، صادق اللهجة كثير الصوم، كان صومه أكثر من فطره، عنده ديانة وتعبد وتشيع. توفي ببعلبك ليلة الأربعاء مستهل صفر، ودفن يوم الأربعاء ظاهر باب حمص من مدينة بعلبك، وهو في عشر الثمانين - رحمه الله، وكان أمير عشرين فارساً، وإذا حضر في حرب ترجّل وقاتل راجلاً. لم يكن في وقته من يضاهيه في الرجلة والشجاعة وكرم الطباع وقوة النفس والصبر على المكاره.
السنة السادسة والسبعون وست مائة
دخلت هذه السنة يوم الجمعة والخليفة والملوك على القاعدة في السنة الخالية خلا صاحب تونس فإنه توفي وقد ذكرناه، وولى بعده ولده أبو زكريا يحيى.(3/232)
متجددات الأحوال
في يوم الخميس سابع المحرم دخل الملك الظاهر دمشق بعساكره، ونزل بالجوسق المعروف بالقصر الأبلق جوار الميدان الأخضر، وتواترت عليه الأخبار بوصول أبغا إلى مكان الوقعة فجمع الأمراء، وضرب مشورة فوقع الاتفاق على الخروج من دمشق بالعساكر وبلقائه حيث كان، فتقدم بضرب الدهليز على القصير. وأثناء هذا العزم وصل رجل من التركمان وأخبر أن أبغا عاد إلى بلاده هارباً خائفاً، ثم وصل الأمير سابق الدين بيسرى أمير مجلس الملك الناصر، وأخبر بمثل ذلك فتقدم الملك الظاهر بردّ الدهليز.
وفي يوم الجمعة منتصف شهر المحرم ابتدأ المرض بالملك الظاهر وتوفي وسنذكره - إن شاء الله تعالى.
وفي سادس عشر صفر وصل إلى القاهرة رسول من جهة الفنش من بلاد المغرب إلى الملك الظاهر ومعه تقدمة من بلاد المغرب حسنة وشق بها القاهرة.
وفي يوم الخميس سادس عشر منه وصل إلى القاهرة جميع العساكر من الشام ومقدمهم الأمير بدر الدين الخزندار، وهم يخفون موت الملك الظاهر في الصورة الظاهرة، وفي صدر الموكب مكان يسير السلطام تحت العصائب محفة وراءها السلحدارية والجمدارية وغيرهم من أرباب وظائف الخدمة على العادة توهم أن السلطان بها مرض، فلما وصلوا قلعة الجبل ترجّل الأمراء والعسكر بين يدي المحفة كما جرت العادة، وكانوا يعتمدون(3/233)
ذلك في طريقهم من حين خروجهم من دمشق، وصعدوا بالمحفة إلى القلعة من باب السر، وعند دخولها اجتمع الأمير بدر الدين الخزندار بالملك السعيد، وكان لم يركب لتلقيهم، وقبّل الأرض، ورمى عمامته وصرخ وقام العزاء في جميع القلعة، ولوقتهم جمع الأمراء والمقدمين والجند، وحلّفوهم بالإيوان المجاور بجامع القلعة للملك السعيد ناصر الدين أبي المعالي محمد بركة خان وأثبت له الأمر على هذه الصورة.
وفي يوم الجمعة التالية لذلك، خطب في جميع الجوامع بالديار المصرية للملك السعيد، وصلى على والده صلاة الغائب.
وفي ليلة الأحد سادس ربيع الأول توفي الأمير بدر الدين بيليك الخزندار - رحمه الله - وسنذكره - إن شاء الله تعالى - وباشر نيابة السلطنة عوضه الأمير آق سنقر الفارقاني.
وفي يوم الثلاثاء ثامنه كسر الخليج الكبير بالقاهرة، وقد غلق ماء السلطان على العادة وهو ستة عشر ذراعاً بالقاسمي.
وفي يوم الأربعاء سادس عشره ركب الملك السعيد بالعصائب على عادة والده، وسار إلى تحت الجبل الأحمر وهو أول ركوبه بعد قدوم العساكر وتحليفهم ولم يشق المدينة وبين يديه الأمراء والمقدمون والأعيان بالخلع وسرّ الناس به سروراً كثيراً، وعمره يومئذ تسع عشرة سنة فإن مولده سنة سبع وخمسين وست مائة ببلبيس.
وفي يوم الجمعة خامس وعشرين منه قبض الملك السعيد على الأمير(3/234)
شمس الدين سنقر وبدر الدين بيسرى، وحبسا بقلعة الجبل.
وفي يوم الخميس سادس عشر ربيع الآخر وصل رسل أولاد بركة وأنزلوا بالميدان اللوق، وكان قدومهم من الاسكندرية فإنهم جعلوا طريقهم البحر من مقرّ ملكهم وهو بر القفجاق.
وفي يوم السبت ثامن عشره قبض الملك السعيد على الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقاني، ومعه جماعة من الأمراء، وحبسوا بقلعة الجبل، ورتّب عوضه في نيابة السلطنة الأمير شمس الدين سنقر الألفي الصغير.
وفي يوم الأحد تاسع عشره أفرج الملك السعيد عن الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، وبدر الدين بيسرى، وخلععليهما، وأعادهما إلى مكانتهما في الدولة.
وفي يوم السبت ثاني جمادى الأولى انتهت زيادة النيل إلى ثمان أصابع من الذراع التاسع عشر.
وفي يوم الاثنين رابعه فتحت المدرسة التي أنشأها الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقاني بالقاهرة بحارة الوزيرية على مذهب أبي حنيفة - رحمة الله عليه - وعلى شيخ يسمع الحديث، وذكر الدرس بها في ذلك النهار.
وفي يوم الثلاثاء خامسه عقد بقلعة الجبل بجامعها عقد الأمير المستمسك بالله أبي المعالي محمد بن الإمام الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد أمير المؤمنين على ابنة الخليفة المنتصر بالله أبي العباس أحمد بن الإمام الظاهر ابن الإمام الناصر، وحضر والده والملك السعيد والقضاة ووجوه المملكة وأعيان الدولة.(3/235)
وفي يوم الجمعة رابع عشر جمادى الآخرة قبض الملك السعيد على خاله بدر الدين محمد بن حسام الدين بركة خان وحبسه بقلعة الجبل لأمر نقمه عليه.
وفي ليلة الثلاثاء خامس وعشرين منه أفرج عنه وخلع عليه وأعاده إلى منزلته المعروفة.
وفي ليلة الجمعة خامس شهر رجب نقل تابوت الملك الظاهر من قلعة دمشق إلى التربة التي أنشأها ولده الملك السعيد بدمشق داخل باب الفرج قبالة المدرسة العادلية الكبيرة، وهي دار الشريف العقيقي كانت انتقلت إلى ملك الأمير فارس الدين أقطاي المستعرب الأتابك - رحمه الله - فاشتريت من ورثته وهدمت وبني موضع بابها قبة الدفن لها شبابيك إلى الطريق، وإلى داخل المدرسة وجعل بقية الدار مدرسة على فريقين شافعية وحنفية، وكان دفنه بها في النصف من الليل، ولم يحضره سوى الأمير عز الدين ايدمر الظاهري نائب السلطنة بدمشق، ومن الخواص دون العشرة.
وفي يوم الخميس سادس عشر رمضان طيف بكسوة الكعبة الشريفة بالقاهرة ومصر وأمامها القضاة والولاة وغيرهم.
وفي هذا الشهر طلعت سحابة عظيمة بصفد صدر منها برق عظيم خارق للعادة، وسطع منها لسان كالنار وسمع صوت رعدها على منارة جامعها صاعقة شقها من رأسها إلى أسفلها شقاً تدخل فيه الكف.
وفي يوم السبت سابع ذي القعدة برز الملك السعيد بالعسكر إلى(3/236)
مسجد التين ظاهر القاهرة.
وفي يوم السبت حادي وعشرين منه انتقل بخواصّه إلى الميدان الذي أنشأه بين مصر والقاهرة، ودخلت العساكر إلىمنازلهم وبطلت الحركة.
وفي يوم الأربعاء ثامن عشره رفعت يد القاضي محيي الدين عبد الله بن قاضي القضاة شرف الدين محمد عرف بابن عين الدولة عن الحكم والقضاء بمدينة مصر والوجه القبلي، وباشر ذلك القاضي تقي الدين محمد بن زين الدين مضافاً إلى القاهرة والوجه البحري.
وفي ذي الحجة كتب تقليد قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان - رحمه الله - من الملك السعيد - رحمه الله - بقضاء دمشق وإعمالها من العريش إلى سلمية على ما كان عليه ثم حضر عند السلطان الملك السعيد لابساً الخلعة وقبّل يده وشافهه الملك السعيد بالولاية، وخرج في سابع وعشرين ذي الحجة متوجهاً إلى الشام المحروس.
وفيها توفي
إبراهيم بن أحمد بن إسماعيل بن فارس أبو إسحاق كمال الدين الاسكندري المقرئ. كان عارفاً بالقراآت واشتغل عليه خلق كثير بالقرآن الكريم، وولي نظر بيت المال بدمشق مدة سنين، ونظر الجيش مضافاً إلى نظر بيت المال في بعض المدة، وكان مشهوراً بالأمانة، وحسن السيرة، كثير الديانة والخير والتواضع؛ سمع الشيخ تاج الدين أبا اليمن الكندي وغيره وحدّث. وكانت وفاته بدمشق في تاسع صفر وقيل ثامن عشره، ودفن يوم الخميس ومولده(3/237)
بثغر الاسكندرية سنة ست وتسعين وخمس مائة - رحمه الله تعالى.
أقوش بن عبد الله الأمير جمال الدين المحمدي الصالحي النجمي. كان من أعيان الأمراء وأكابرهم وذوي الحرمة الوافرة منهم. وكان الملك الظاهر حبسه لأمر نقمه عليه. وبقي في الاعتقال مدة ثم أفرج عنه وأعاده إلى مكانته، وكان عديم الشر. وتوفي بالقاهرة ليلة الخميس ثالث ربيع الأول ودفن من الغد بتربته بالقرافة الصغرى، وقد ناهز سبعين سنة من العمر، وهو أول من قدم دمشق بعد كسرة التتار بعين جالوت في سنة ثمان وخمسين وهو الذي كان الملك الظاهر أرسله إلى الأمير علم الدين سنجر الحلبي لما استولى على دمشق عندما تملك الملك الظاهر الديار المصرية - رحمه الله تعالى.
إيبك بن عبد الله الأمير عز الدين الموصلي الظاهري. كان نائب السلطنة بحمص ثم نقله الملك الظاهر إلى حصن الأكراد وما جمع إليه، وجعله نائب السلطنة هناك، وكان له نهضة وكفاية وصرامة وذكاء ومعرفة، وكان عنده تشيع. قتل بحصن الأكراد في داره بالربض غيلة في ليلة الأربعاء سابع عشر شهر رجب - رحمه الله. واختلف في سبب قتله، فقيل: إن السلطان جهّز عليه من قتله، وقيل: قفز عليه بعض الإسماعيلية، وقيل غير ذلك، وطل دمه وهو في عشر الخمسين لم يستكملها.
إيبك بن عبد الله الأمير عز الدين الدمياطي الصالحي النجمي أحد الأمراء الأكابر المقدمين على الجيوش، قديم الهجرة بينهم في علوّ المنزلة وسموّ المكانة. وكان الملك الظاهر حبسه مدة زمانية ثم أفرج عنه وأعاده(3/238)
إلى امريته، وتوفي بالقاهرة ليلة الأربعاء تاسع شعبان، ودفن بتربته التي أنشأها بين القاهرة ومصر بالقبة المجاورة بحوض السبيل المعروف به وكان قد نيف على السبعين سنة رحمه الله.
ايدمر بن عبد الله الأمير عز الدين العلائي. كان نائب السلطنة بقلعة صفد، وكان الملك الظاهر يحترمه ويثق به، ويسكن إليه وإذا قلق من المقام بصفد لا يقبله. فلما توفي الملك الظاهر - رحمه الله - في أول هذه السنة جرى بينه وبين النواب من صفد مقاولة أوجب أنه طلب دستوراً للحضور إلى الباب السلطاني لمصالح ينهيها شفاهاً، ففسح له فتوجه إلى الديار المصرية وأقام بها مدة يسيرة، وأدركته منيته هناك ليلة الأربعاء سابع عشر شهر رجب، ودفن يوم الأربعاء بالقرافة الصغرى والفقرل. وهو أخو الأمير علاء الدين ايدكين الصالحي العمادي وسيأتي ذكره - إن شاء الله تعالى.
بهادر الأمير شمس الدين المعروف بابن صاحب شميساط، وكان هو صاحبها، قدم مهاجراً إلى الملك الظاهر - رحمه الله - قبل وفاته بثلاث سنين فأكرمه وأمّره وأقام في خدمته إلىان أدركته منيته بالقاهرة ليلة الأحد العشرين من شعبان، ودفن من الغد خارج باب النصر بتربته التي أنشأها وكان قد نيف على أربعين سنة - رحمه الله تعالى.
بيبرس بن عبد الله أبو الفتح ركن الدين السلطان الملك الظاهر الصالحي. قال عز الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن إبراهيم بن شداد - رحمه الله -:(3/239)
أخبرني الأمير بدر الدين بيسرى الشمسي - رحمه الله تعالى - أن مولد الملك الظاهر بأرض القبجاق سنة خمس وعشرين وست مائة تقريباً، وسبب انتقاله من وطنه إلى البلاد أن التتار لما أزمعوا على قصد بلادهم سنة تسع وثلاثين وست مائة بلغهم ذلك كاتبوا انرقان ملك أولاق أن يعبروا بحر سوداق إليه ليجيرهم من التتار، فأجابهم إلى ذلك، وأنزلهم وادياً بين جبلين له فوهة إلى البحر، وأخرى إلى البر، وكان عبورهم إليه سنة أربعين وست مائة. فلما اطمأن بهم المقام غدر بهم وشنّ الغارة عليهم، وقتل وسبى، وكنت أنا والملك الظاهر فيمن أسر وعمره إذ ذاك أربع عشرة سنة تقديراً فبيع فيمن بيع وحمل إلى سيواس، فاجتمعت به في سيواس، ثم افترقنا واجتمعنا في حلب بخان ابن فليح، ثم افترقنا فاتفق أن حمل إلى القاهرة فبيع إلى الأمير علاء الدين ايدكين البندقدار وبقي في يده إلى أن انتقل عنه بالقبض عليه في جملة ما استرجعه الملك الصالح نجم الدين أيوب منه. وذلك في شوال سنة أربع وأربعين وست مائة، فقدمه على طائفة من الجمدارية.
فلما مات الملك الصالح نجم الدين، وملك بعده ولده الملك المعظم، وقتل، وأجمعوا على عز الدين التركماني وولوه الأتابكية، ثم اشتغل وقتل فارس الدين أقطاي الجمدار، ركب الملك الظاهر والبحرية وقصدوا قلعة الجبل. فلما لم ينالوا مقصودهم خرجوا من القاهرة مجاهرين بالعداوة للتركماني مهاجرين إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف، وهم الملك الظاهر ركن الدين،(3/240)
وسيف الدين بلبان الرشيدي، وعز الدين آيدمر السيفي، وشمس الدين سنقر الرومي، وشمس الدين سنقر الأشقر، وبدر الدين بيسرى الشمسي، وسيف الدين قلاوون الألفي، وسيف الدين بلبان المستعرب وغيرهم. فلما شارفوا دمشق سيّر إليهم الملك الناصر طيب قلوبهم فبعثوا فخر الدين إياز المقرئ يستحلفه لهم فحلف ودخلوا دمشق في العشر الآخر من شهر رمضان فأكرمهم الملك الناصر وأطلق للملك الظاهر ثلاثين ألف درهم، وثلاث قطر بغال، وثلاث قطر جمال وخيلاً وملبوساً، وفرّق في بقية الجماعة الأموال والخلع على قدر مراتبهم، وكتب إليه الملك المعز يحذّره منهم ويغريه بهم، فلم يصغ إليه. وكان عيّن الملك الظاهر إقطاعاً بحلب فالتمس من الملك الظاهر أن يعوضه عن بعض ما كان له بحلب من الاقطاع بحسين وزرعين فأجابه إلى ذلك فتوجه ثم استغرق الملك الناصر وتوجه بمن معه ومن تبعه من حشداشيته وأصحابه إلى الكرك، فجهز صاحبها الملك المغيث عسكره مع الملك الظاهر نحو مصر، وعدة من معه ست مائة فارس، وخرج من عسكر مصر لملتقاه، فأراد كبسهم، فوجدهم على أهبة والتف عليه وعلى من معه عسكر مصر، فلم ينج منهم إلا الملك الظاهر، والأمير بدر الدين بيليك الخزندار؛ وأسر سيف الدين بلبان الرشيدي. وعاد الملك الظاهر إلى الكرك، فتواترت عليه كتب المصريين يحرّضونه على قصد الديار المصرية وجاءه جماعة كثيرة من عسكر الملك الناصر،(3/241)
وخرج عسكر مصر مع الأمير سيف الدين قطز والأمير فارس الدين أقطاي المستعرب. فلما وصل المغيث والظاهر إلى غزة انعزل إليهم من عسكر مصر عز الدين إيبك الرومي، وسيف الدين بلبان الكافري، وشمس الدين سنقر شاه العزيزي، وعز الدين إيبك الجواشي، وبدر دبن خان بغدى، وعز الدين إيبك الحموي، وجمال الدين هارون القيمري، واجتمعوا بالظاهر والمغيث بغزة، فقويت شوكتهم وتوجها إلى الصالحية، ولقوا عسكرمصر يوم الثلاثاء رابع عشر ربيع الآخر سنة ست وخمسين، فاستظهر عسكرهما أولاً ثم عادت الكسرة عليه، فانكسر. وهرب الملك المغيث ولحقه الملك الظاهر، وأسر عز الدين إيبك الرومي، وركن الدين منكورس الصيرفي، وسيف الدين بلبان الكافري، وعز الدين إيبك الحموي، وبدر الدين بلغان الأشرفي، وجمال الدين هارون القيمري، وشمس الدين سنقر شاه العزيزي، وعلاء الدين ايدغدي الاسكندراني، وبدر الدين بن خان بغدى، وبدر الدين بيليك الخزندار الظاهري. فضرب أعناقهم صبراً خلا الخزندار الجوكندار شفع فيه، وخيره بين المقام والذهاب، فاختار الذهاب إلى أستاذه فأطلق.
ثم إن المغيث حصل بينه وبين الملك الظاهر وحشة أوجبت مفارقته له وعوده إلى الملك الناصر، بعد أن استحلفه على أن يقطعه خبز مائة فارس من جملتها قصبة نابلس وحسين وزرعين فأجاب إلى نابلس لا غير. وكان قدومه على الملك الناصر في العشر الأول من شهر رجب سنة سبع وخمسين ومعه الجماعة الذين حلف لهم الملك الناصر، وهم: بيسرى الشمسي، والتامش(3/242)
السعدي، وطيبرس الوزيري، وأقوش الرومي الدوادار، وكشتغدي الشمسي، ولاجين الدرفيل، وايدغمش الحلبي، وكتشغدى المشرقي، وآيبك الشيخي، وبيبرس خاص ترك الصغير، وبلبان المهراني، وسنجر الاسعردي، وسنجر البهماني، وألبلان الناصري، وبلتى الخوارزمي، وسيف الدين طمان، وآيبك العلائي، ولاجين الشقيري، وبلبان الأقسيشي، وعلم الدين سلطان الألدكزى فأكرمهم ووفى لهم.
فلما قبض الملك المظفر قطز على ابن أستاذه، حرض الملك الظاهر للملك الناصر على التوجه إلى الديار المصرية ليملكها فلم يجبه، فرغب إليه أن يقدمه على أربعة آلاف فارس أو يقدم غيره ليتوجه بها إلى شط الفرات يمنع التتر من العبور إلى الشام، فلم يمكن الصالح لباطن كان له مع التتر.
وفي سنة ثمان وخمسين فارق الملك الظاهر الملك الناصر، وقصد الشهرزورية وتزوج منهم، ثم أرسل إلى الملك المظفر قطز من استحلفه له، ودخل القاهرة يوم السبت الثاني والعشرين من ربيع الأول سنة ثمان وخمسين، فركب الملك المظفر للقائه، وأنزله في دار الوزارة وأقطعه قصبة قليوب بخاصته. ولما خرج الملك المظفر للقاء التتر سيّر الملك الظاهر في عسكر ليتجسس أخبارهم، فكان أول من وقعت عينه عليهم، وناوشهم القتال.
فلما انقضت الوقعة بعين جالوت تبعهم يقتص آثارهم، ويقتل من وجد منهم إلى حمص، ثم عاد فوافى الملك المظفر بدمشق. فلما توجه(3/243)
الملك المظفر إلى جهة الديار المصرية، اتفق الملك الظاهر مع سيف الدين الرشيدي، وسيف الدين بهادر المعزى، وبدر الدين بكتوت الجوكنداري المعزى، وسيف الدين بيدغان الركني، وسيف الدين بلبان الهاروني وعلاء الدين آنص الأصبهاني على قتل الملك المظفر - رحمه الله؛ فقتلوه على الصورة المشهورة ثم ساروا إلى الدهليز، فتقدم الأمير فارس الدين الأتابك، فبايع الملك الظاهر، وحلف له، ثم الرشيدي ثم الأمراء على طبقاتهم وركب ومعه الأتابك، وبيسرى، وقلاوون، والخزندار، وجماعة من خواصه فدخل قلعة الجبل، وفي يوم الأحد سابع عشر ذي القعدة جلس في إيوان القلعة وكتب إلى جميع الولاة بالديار المصرية يعرفهم بذلك، وكتب إلى الملك الأشرف صاحب حمص، وإلى الملك المنصور صاحب حماة، وإلى الأمير مظفر الدين صاحب صهيون، وإلى الإسماعيلية، وإلى علاء الدين، وصاحب الموصل، ونائب السلطنة بحلب، وإلى من في بلاد الشام من الأعيان يعرفهم بما جرى. ثم أفرج عمن في الحبوس من أصحاب الجرائم وأقرّ الصاحب زين الدين يعقوب بن الزبير على الوزارة، وتقدم بالافراج عن الأحبار وزيادة من رأى استحقاقه من الأمراء، وخلع عليهم، وسير الأمير جمال الدين أقوش المحمدي بتواقيع الأمير علم الدين الحلبي، فوجدوه قد تسلطن بدمشق فشرع الملك الظاهر في استفساد من عنده فخرجوا عليه ونزعوه عن السلطنة، وتوجه إلى بعلبك فسيروا من حضره وتوجه به إلى الديار المصرية، وصفا الشام للملك الظاهر بأسره في سنة تسع وخمسين(3/244)
وقد ذكرنا في سياق السنين مما تقدم جملاً من أخباره وأحواله وفتوحاته وغير ذلك فأغنى عن إعادته.
ولما كان يوم الخميس رابع عشر المحرم من هذ السنة جلس الملك الظاهر بالجوسق الأبلق بميدان دمشق يشرق القمّز وبات على هذه الحال.
فلما كان يوم الجمعة خامس عشره وجد في نفسه فتوراً وتوعكاً فشكا ذلك إلى الأمير شمس الدين سنقر الألفي السلحدار فأشار عليه بالقيء فاستدعاه فاستعصى. فلما كان بعد صلاة الجمعة ركب من الجوسق إلى الميدان على عادته، والألم مع ذلك يقوى. وعند الغروب عاد إلى الجوسق. فلما أصبح اشتكى حرارة في باطنه، فصنع له بعض خواصه دواء، ولم يكن عن رأي الطبيب، فلم ينجع وتضاعف ألمه، فأحضرالأطباء، فأنكروا استعماله الدواء، وأجمعوا على استعمال دواء مسهل، فسقوه فلم ينجع، فحركوه بدواء آخر كان سبب الإفراط في الإسهال، ودفع دماً محتقاً، وضعفت قواه، فتخيل خواصه إن كبده تقطع، وإن ذلك عن سم سقيه، وخولج بالجوهر، وذلك يوم عاشره. ثم جهده المرض إلى أن قضى نحبه يوم الخميس بعد صلاة الظهر الثامن والعشرين من المحرم. فاتفق رأي الأمراء على إخفائه وحمله إلى القلعة لئلا يشعر العامة بوفاته، ومنعوا من هو داخل من المماليك من الخروج، ومن هو خارج من الدخول. فلما كان آخر الليل حمله من كبراء الأمراء سيف الدين قلاوون الألفي. وشمس الدين سنقر الأشقر، وبدر الدين بيسرى، وبدر الدين الخزندار، وعز الدين الأفرم(3/245)
وعز الدين الحموي، وشمس الدين سنقر الألفي المظفري، وعلم الدين سنجر الحموي، وأبو خرص، وأكابر خواصه؛ وتولى غسله وتحنيطه وتصبيره وتلقينه مهتاره الشجاع عنبر، والفقيه كمال الدين الاسكندري المعروف بابن المنبجي، والأمير عز الدين الأفرم. ثم جعل في تابوت، وغلّق في بيت من بيوت البحرية بقلعة دمشق إلى أن حصل الاتفاق على موضع دفنه. ثم كتب الأمير بدر الدين الخزندار إلى ولده الملك السعيد مطالعة بيده، وسيّرها على يد بدر الدين بكتوت الجوكنداري الحموي وعلاء الدين ايدغمش الحكيمي الجاشنكير. فلما وصلا، وأوصلا المطالعة، خلع عليهما وأعطى كل واحد منهما خمسين ألف درهم، على أن ذلك بشارة بعود السلطان إلى الديار المصرية.
ولما كان يوم السبت ركب الأمراء إلى سوق الخيل بدمشق على عادتهم ولم يظهروا شيئاً من زي الحزن. وكان أوصى أن يدفن على الطريق السابلة قريباً من داريا، وأن يبني عليه هناك، فرأى ولده الملك السعيد أن يدفنه داخل السور فابتاع دار العقيقي بثمانية وأربعين ألف درهم نقرة وأن يغير معالمها، وتبنى مدرسة للشافعية والحنفية ويبنى بها قبة، شاهقة يكون بها الضريح، ويعمل دار الحديث أيضاً. فلما تم بناء القبة ومعظم المدرسة ودار الحديث، جهز الملك السعيد الأمير علم الدين سنجر الحموي المعروف بأبي خرص والطواشي صفي الدين جوهر الهندي إلى دمشق لدفن(3/246)
والده. فلما وصلاها اجتمعا مع الأمير عز الدين أيدمر نائب السلطنة بدمشق، وعرّفاه المرسوم فبادر إليه وحمل الملك الظاهر - رحمه الله تعالى - من القلعة إلى التربة ليلاً على أعناق الرجال، ودفن بها ليلة الجمعة خامس شهر رجب الفرد من هذه السنة.
وفي سادس عشر ذي القعدة وقف الملك السعيد وهو عز الدين محمد بن شداد بإذنه وتوكيله وحضوره المدرسة المذكورة والقبة مدفناً وباقيها مسجداً لله تعالى برسم الصلوات وقراءة القرآن العزيز والاعتكاف، وباقي الدار مدرستين إحداهما شرقي الدار هي للشافعية، والأخرى قبليّ الدار إلى جانب القبة وهي للحنفية، دار حديث قبلي الإيوان المختص بالشافعية ووقف على ذلك جميع قرية الضرمان من شغل بانياس، وجميع قرية أم نزع من الحيدور، وبهمين من بيت رامة من الغور، ومزرعيتها الذراعة وشويهة، وتسعة عشر قيراطاً ونصف قيراط من قرية الأشرفية من الغوطة، وبساتين ابن سلام الثلاثة وبستان الستة وطاحونة والحمام على الشرف الأعلى الشمالي وكرم طاعة من بلد بانياس، وخان بنت جزوخان بحكر الفهادين، ورتب في التربة إماماً شافعياً، وجعل له في كل شهر ستين درهماً وزمّامين من عتقاء الملك الظاهر ناظرين في مصالح التربة، وحفظ ما بها من الآلات لكل واحد منهما في الشهر ستين درهماً، ومؤذناً له في الشهر عشرون درهماً وستة عشر مقرئاً لكل واحد منهم خمسة وعشرون درهماً، منهم نفسان يزاد كل واحد منهما عشرة دراهم. ويشتري في كل شهر شمع وزيت، وما تحتاج(3/247)
إليه التربة من الفرش والقناديل وآلات الوقيد بمبلغ ثمانين درهماً، ويرتب في كل مدرساً له في الشهر مائة وخمسون درهماً، ويعيدان لكل واحد منهما أربعون درهماً وثلاثين فقيهاً لأعلاهم عشرين درهماً، ولأدناهم عشرة دراهم وأن يصرف فيما تدعو الحاجة إليه من أجرة ساقي وإصلاح قنى وغير ذلك، وثمن زيت ومسارج وقناديل، وآلة الوقيد بالمدرستين في الشهر أربعون درهماً. وشاهداً ومشارفاً وغلاماً وجابياً وغيرهم لكل منهم ما يراه الناظر والنظر للملك السعيد مدة حياته ثم لولده وولد ولده.
وفي جمادى الآخرة من سنة سبع وسبعين وست مائة، سيّر الملك برسم تتمة العمارة ومصالح الوقف اثني عشر ألف دينار. وفي يوم السبت ثالث ذي القعدة سنة سبع وسبعين وقف عماد الدين محمد الشيرازي بطريق الوكالة عن الملك السعيد جميع أحد عشر سهماً وربع سهم، وثمن سهم من قرية الطرة من ضياع الجبيل من إقليم اذرعات من عمل دمشق إلى المدرستين والتربة، بعد أن انتقلت الحصة إلى ملك الملك السعيد على ثماني قرى مضافين إلى القرى الست عشرة، وتقر لكل منهم خمس وعشرون ويزاد لكل مدرّس رطلان خبزاً مثلثاً بالدمشقي، ولكل خادم من الخادمين. ولكل نفر بالتربة والفقهاء والمؤذنين والفراشين والبوابين في كل يوم ثلثي رطل خبزاً أسوة فراشي التربة، ويصرف إلى مباشر الأوقاف والشاهد والمشارف لكل واحد رطلاً خبز، وأشهد الحكام على(3/248)
نفوسهم وسجلوا بثبوت ذلك.
في يوم الاثنين سادس عشر ذي القعدة سنة سبع وسبعين شرع في عمل أعزية الملك الظاهر بالديار المصرية وتقرر أن يكون أحد عشر يوماً في أحد عشر موضعاً نصبت تربا الخيمة العظيمة السلطانية، وفرشت بالبسط الجليلة، وصنعت الأطعمة الفاخرة، واجتمع عليها الخواص والعوام. وحمل منها إلى الربط والزوايا. فإذا كانت ليلة اليوم الذي عمل فيه المهم حضر القراء والوعاظ، فانقضى الليل بين قراءة ووصل إلى صلاة الفجر، واول هذا الجمع بالبقعة المعروفة بالبقعة بجوار مسجد يعرف الأندلس، والثاني بالحوش الظاهري، والثالث بالمدرسة المجاورة لقبة الشافعي رحمه الله تعالى، والرابع بجامع مصر، والخامس بجامع ابن طولون، والسادس الجامع الظاهري بالحسينية، والسابع بالمدرسة الظاهرية بالقاهرة، والثامن بمدرسة الملك الصالح، والتاسع بدار الحديث الكاملية، والعاشر بالخانكاة برحبة العيد، والحادي عشر بجامع الحاكم وهو يوم الأحد. والثاني من شهر ربيع الأول. وأنشد الشعراء المراثي وخلع على جماعة من الوعاظ وغيرهم ومن لم يخلع عليه أعطاه جائزة حسنة.
وله أولاده وأزواجه كان له من الأولاد: الملك السعيد ناصر الدولة محمد بركة كان مولده بالعشر من ضواحي مصر في صفر سنة ثمان وخمسين وست مائة، وأمه بنت حسام الدين بركة خان بن دولة خان الخوارزمي،(3/249)
والملك نجم الدين خضر أمه أم ولد، والملك بدر الدين سلامش، وولد له من البنات سبع من بنت سيف الدين دماجي التتري. وأما زوجاته فأم الملك السعيد وهي بنت بركة خان، وبنت الأمير سيف الدين نوكاش التتري، وبنت الأمير سيف الدين نوكاي التتري، وبنت الأمير سيف الدين نوكاي التتري، وبنت الأمير سيف الدين دماجي التتري، وشهروزية تزوجها لما قدم غزة وخالف شهروزية، فلما ملك الديار المصرية طلقها.
وأما وزراؤه تولى السلطنة واستمر زين الدين يعقوب بن عبد الرفيع بن الزبير، ثم صرفه واستوزر بهاء الدين علي بن محمد بن سليم وفي وزارة الصحبة ولده فخر الدين أبا عبد الله محمد إلى أن توفي في شعبان سنة ثمان وستين، فرّتب مكانه ولده الصاحب تاج الدين محمد وزر له في الصحبة أيضاً أخوه الصاحب زين الدين أحمد ووزر له الصاحب عز الدين محمد بن الصاحب محي الدين أحمد بن الصاحب بهاء الدين نيابة عن جده. وكان له أربعة آلاف مملوك منهم أمراء أسفهسلارية، ومقادره، وخاصكية داخل الدور، وخاصكية خارجها، وجمدارية. وسلاح دارية وكتابية.
ومن عفته وشرف نفسه وعدله أن الملك الأشرف صاحب حمص كتب إليه يستأذنه في الحج. وفي ضمن الكتاب شهادة عليه أن جميع(3/250)
ما يملكه انتقل عنه إلى الملك الظاهر فلم يأذن له في تلك السنة، واتفق أنه مات بعد ذلك، فتسلم الحصون التي كانت بيده، ومكن ورثته من جميع ما تركه من الأثاث والملك، ولم يعرج على ما أشهد به على نفسه.
ومنها أن شعراء بانياس وهي إقليم يشتمل على قرى كثيرة عاطلة بحكم استيلاء الفرنج على صفد فلما فتحها أفتاه بعض فقهاء الحنفية باستحقاق الشعراء فلم يرجع إلى الفتيا، وتقدم أمره أن من كان فيها ملك يتسلمه، ولم يكلفهم بينة فعادت إلى أربابها وعمّرت.
ومنها أن بستان سيف الإسلام بين مصر والقاهرة، وكان ملكاً لشمس الملوك أحمد بن الملك الأعز شرف الدين يعقوب بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمهم الله تعالى. فتوفي المذكور بآمد، وبقي البستان في يد ولده شهاب الدين غازي. فلما ملك الملك الصالح نجم الدين الديار المصرية أخرج المذكور من مصر، واحتاط على البستان، فلم يزل تحت الحوطة. فلما ملك الملك الظاهر رفع ولد شهاب الدين غازي قصة أتهيأ فيها الحال، فأمر بحملها على الشرع فثبت ملك المتوفي بشهادة الأمير جمال الدين موسى بن يغمور وبهاء الدين بن ملكشوا والطواشي صفي الدين جوهر النوبي، وثبتت الوفاة، وحضر الورثة بشهادة كمال الدين عمر بن العديم، وعز الدين محمد بن شداد فسلم لهما البستان، ثم ابتاعه منهما بمائة وثلاثين درهم.(3/251)
ومنها أنها بنت الملك المعز صاحب حلب كان عقد عليها الملك السعيد نجم الدين أيل غزي صاحب ماردين على صداق مبلغه ثلاثون ألف دينار مصرية، فمات عنها ولم يدخل بها. وكان الملك المظفر قطز رحمه الله قد احتاط على أملاك الملك السعيد بدمشق لما تملكها، وبقيت تحت الحوطة. فلما ملك الملك الظاهر رفعت قصة تذكر الحال وسألت حملها على الشرع وأن يفرج عن الأملاك لتباع في مبلغ صداقها؛ فتقدم أن يثبت ما أدعته فثبت بشهادة كمال الدين بن العديم ومحمد بن شداد ولم يكن بقي في الصداق غيرها فأفرج لها عن الأملاك فبيعت وقبضت ثمنها.
ومن حكمه أنه كان له ركابي وهو بدمشق يسمى مظفراً كان يأخذ الجعل من الأمراء الناصرية على نقل أخبارهم إليهم، وتحقق ذلك منه وبقي معه إلى أن ملك واستمر به، فدخل يوماً إلى الركاب خانة، فوجدها مختلة، وفقد منها سروجاً محلاة، فالتفت إليه، فقال له: نحسن في دمشق ونحسن في القاهرة، متى عدت قربت الاسطبل شنقتك فقال: يا خوند إذا لم اقرب الاسطبل من أين آكل أنا وعيالي؟ فرّق له، وأمر أن يقطع في الحلقة بحيث لا يراه فأقطع، وبقي إلى أن توفي السلطان.
وكان يفرق في كل سنة أربعة آلاف أردب حنطة في الفقراء والمساكين وأصحاب الزوايا وأرباب البيوت، وكان موصفاً عليه لأيتام الأجناد ما يقوم بهم على كثرتهم، ووقف وقفاً على تكفين أموات الغرباء بالقاهرة ومصر، ووقفاً يشتري به خبز، ويفرق في فقراء المسلمين. وأصلح(3/252)
قبر خالد رضي الله عنه بحمص، ووقف وقفاً على من هو راتب فيه من إمام ومؤذن وقيم، وعلى من ينتابه من البلاد للزيارة، ووقف على قبر أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وقفاً لتنويره وبسطه وإمامه ومؤذنه؛ وأجرى على أهل الحرمين بالحجاز الشريف وأهل بدر وغيرهم ما كان قطع في أيام غيره من الملوك الذين تقدموه. وكان يسّفر ركب الحجاز كل سنة تارة عاماً، وتارة صحبة الكسوة، ويخرج كل سنة جملة مستكثرة يستفك بها من حبسه القاضي من المقلين، ورتب في أول ليلة من شهر رمضان المعظم بمصر والقاهرة وأعمالها مطابخ لأنواع الأطعمة، وتفرّق على الفقراء والمساكين.
وأما مهابته ومنزلته من القلوب أن يهودياً دفن بقلعة جعبر عند قصد التتر لها مصاغاً وذهباً وهرب بأهله إلى الشام واستوطن حماة. فلما نفد ما كان بيده كتب إلى صاحب حماة قصد يذكر أمر الدفين، ويسأله أن يسيّر معه من يحفره ليأخذه ويدفع لبيت المال نصفه، فلم يتمكن من إجابة سؤاله، وطالع الملك الظاهر بذلك فورد عليه الجواب أن يوجهه مع رجلين لقضاء غرضه. فلما توجهوا ووصلوا الفرات امتنع من كان معه من العبور فعبر هو وابنه. فلما وصل أخذ في الحفر هو وابنه وإذا بطائفة من العرب على رأسه، فسألوه عن حاله فأخبرهم، فأرادوا قتله، فأخرج لهم كتاب الملك الظاهر مطلقاً إلى من عساه يقف عليه فكفوا عنه، وساعدوه حتى استخلص ماله ثم توجهوا به إلى حماة وسلموه إلى الملك المنصور، وأخذوا(3/253)
خطه أنهم سلموا اليهودي إليه سالماً وما تبعه.
ومنها: أن جماعة من التجار خرجوا من بلاد العجم قاصدين أبواب الملك الظاهر، فلما مروا بسيس منعهم صاحبها من العبور وكتب فيهم إلى أبغا، فكتي إليه يأمره بالحوطة عليهم وإرسالهم إليه. واتفق أن هرب مملوك إلى حلب، واجتمع بالأمير نور الدين علي بن مجلي، وأخبره بحالهم، فكتب للملك الظاهر بذلك على البريد؛ فعاد الجواب يأمره أن يكتب إلى صاحب سيس أن هو تعرض لهم في شيء يساوي درهماً واحداً أخذتك عوضه، فكتب إليه بذلك، فأطلقهم وصانع أبغا بأموال جليلة.
ومنها: أن تواقيعه التي في أيدي التجار المترددين إلى بلاد القفجاق بإعفائهم من الصادر والوارد ويعمل بها حيث حلوا من مملكة بيت بركة ومنكوتمر وبلاد فارس وكرمان.
ومنها: أنه أعطى بعض التجار مالاً ليشري به مماليك وجواري من الترك، فشرهت نفسه إلى المال فدخل به قراقرم واستوطنها، فبحث الملك الظاهر حتى وقع على خبره، فبعث إلى بيت منكوتمر في أمره فأحضروه إليه تحت الحوطة.
ومنها: أنه كان بجزيرة صقلية في زمان الأنبرتور مقدار خمسة عشر ألف فارس مسلمين، وهم مهادنين لهم، وهم في خدمته، لهم الإقطاعات. فلما مات أشار من بها من الفرنج على من ملكها بعده بقتلهم فقتل منهم مفرقا(3/254)
نحو ثلاثة آلاف فارس، واتصل بالملك الظاهر قتلهم والعزم على قتال الباقين، فكتب إليهم أن هؤلاء المسلمين أقرهم الملك الذي كان قبلكم على بلادهم وأموالهم، فإما أن يقروهم على ما أقرهم من الهدنة، وإما أن يؤمنوهم ويوصلوهم بأموالهم إلى بلاد المسلمين ليبلغوا مأمنهم، فإن لم يقدروا على التوجه واختاروا الإقامة وجرى على أحد منهم أذى، قتلت على كل من تحت يدي من أسدى الفرنج، ومن في بلادي من تجارهم، وقتلت ما اشتملت عليه مملكتي من طوائف النصارى. فلما تحققوا ذلك اجتمع رأيهم على إبقائهم على عادتهم؛ وكان أخذ نفسه بالإطلاع على أحوال أمرائه وأعيان دولته حتى لم يخف عليه من حالهم شيء. وكثيراً ما كانت ترد عليه الأخبار وهو بالقاهرة بحركة العدو فيأمر العسكر وهم زهاء ثلاثين ألف فارس فلا يثبت منهم فارس في بيته، وإذا خرج لا يمكن من العود.
ومنها: ما أحدثه من البريد في سائر مملكته بحيث يتصل به أخبار أطراف بلاده على اتساعها في أقرب وقت. والذي فتحه من الحصون عنوة من أيدي الفرنج خذلهم الله قيسارية، أرسوف، صفد، طبرية، يافا، السقيف، انطاكية، بغراس، القصير، حصن الأكراد، حصن عكار القرين، صافيثا، مرقية، حلبا. وناصفهم على المرقب، وبانياس، وبلاد أنطرسوس، وعلى سائر ما بقي بأيديهم من البلاد والحصون. وولّي في نصيبه الولاة والعمال، واستعاد من صاحب سيس درب سأك، وديركوش، وبلمش،(3/255)
وكفر دبين، ورعبان والمرزبان. والذي صار إليه من أيدي المسلمين: دمشق، وبعلبك، وعجلون، وبصرى، وصرخد، والصلت وكانت هذه البلاد قد تغلب عليها الأمير علم الدين سنجر الحلبي بعد قتل الملك المظفر رحمه الله تعالى وحمص، وتدمير، والرحبة، وزلوبيا، وتل باشر؛ وهذه منتقلة إليه عن الملك الأشرف صاحب حمص في سنة اثنتين وستين وست مائة. وصهيون، وبلاطنس، وبرزية وهذه منتقلة إليه عن سابق الدين سليمان بن سيف الدين وعمه عز الدين. وحصون الإسماعلية وهي: الكهف، والقدموس، والمنيفة، والعليقة، والجوني، والرصافة، ومصيات، والقليعة. وانتقل إليه عن الملك المغيث فتح الدين عمر بن العادل: الشوبك، والكرك. وانتقل إليه عن التتر: بلاد حلب الشمالية، وشيز والبيرة. وفتح الله على يديه بلاد النوبة، وفيها من البلاد مما يلي أسوان جزيرة بلاق؛ ويلي هذه البلاد بلاد العلى، وجزيرة ميكائيل، وفيها بلاد وجزائر الجنادل وأنكوا وهي في جزيرة وإقليم مكس ودنقلة وإقليم أشو، وهو جزائر عامرة بالمدائن. فلما فتحها أنعم بها على ابن عم المأخوذة منه، ثم ناصفه عليها ووصف عليه أعبداً وجواري وهجناً وبقراً، وعن كل بالغ ديناراً في كل سنة. وكانت حدود مملكته من أقصى بلاد النوبة إلى قاطع الفرات.
ووفد عليه من التتر زهاء ثلاث آلاف فارس، فمنهم من أمّره بطبلخاناة،(3/256)
ومنهم من جعله أمير عشرة إلى عشرين، ومنهم من جعله من السقاة، وجعل منهم سلحدارية وجمدارية، ومنهم من أضافه إلى الأمراء.
وأما مبانيه فمشهورة: منها ما هدمه التتر من المعاقل والحصون. وعمّر بقلعة الجبل دارالذهب، وبرحبة الحبارج قبة محمولة على اثني عشر عموداً من الرخام الملون، وصوّر فيها سائر حاشيته وامرائه على هيئتهم وعمّر طبقتين مطلتين على رحبة الجامع وغشي لبرج الزاوية المجاور لباب السر، وأخرج منه رواشن، وبنى عليه قبة، وزخرف سقفها، وأنشأ جواره طباقاً للمماليك، وأنشأ برحبة القلعة داراً كبيرة لولده الملك السعيد، وكان في موضعها حفير، فعقد عليه ستة عشر عقداً، وأنشأ دوراً كثيرة برسم الأمراء ظاهر القاهرة مما يلي القلعة اسطبلات جماعة، وأنشأ حماماً بسوق الخيل لولده، وأنشأ الجسر الأعظم والقنطرة التي على الخليج، وأنشأ الميدان بالبورجي، ونقل إليه النخيل من الديار المصرية، فكانت أجرة نقله ستة عشر ألف دينار، وأنشأ به المناظر، والقاعات، والبيوتات. وجدد الجامع الأنور والجامع الأزهر، وبنى جامع العافية بالحسينية وأنفق عليه فوق ألف ألف درهم، وأنشأ قريباً منه زاوية الشيخ خضر وحماماً وطاحوناً وفرناً وعمّر على المقياس قبة رفيعة مزخرفة، وأنشأ عدة جوامع في أعمال الديار المصرية؛ وجدد قلعة الجزيرة وقلعة العامودين ببرقة وقلعة السويس، وعمّر جسر سهم الدين بالقليوبية، وجدد الجسر الأعظم على بركة الفيل، وأنشأ قنطرته وبنى على جانبيه حائطاً يمنع الماشي السقوط فيه، وقنطرة على بحر ابن منجا(3/257)
لها سبعة أبواب، وقنطرة بمنية الشيرج وقنطرتين عند القصير على بحر أبراس بسبعة أبواب أوسطها تعبر فيه المراكب، وأنشأ في الجسر الذي يسلك فيه إلى دمياط ستة عشر قنطرة، وبنى قنطرة على خليج القاهرة يمر عليها إلى ميدان البورجي، وبنى على خليج الاسكندرية قريباً من قنطرتها القديمة قنطرة عظيمة بعقد واحد، وحفر خليج الاسكندرية وكان قد ارتدم بالطين، وحفر بحر أشموم وكان قد غمر وحفر ترعة الصلاح وخورسرخشا، وحفر المجايري والكافوري، وترعة كنساد وزاد فيها مائة قصبة، كما كانت في الأول وحفر ترعة أبي الفضل ألف قصبة وحفر بحر الصمصام بالقليوبية، وحفر بحر السردوس. وتمم عمارة حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل منبره، وأحاط بالضريح درابزيناً وذهّب سقوفه وجددها وبيّض جدرانه. وجدد البيمارستان بالمدينة النبوية ونقل إليها سائر المعاجين والأكحال والأشربة وبعث إليه طبيباً من الديار المصرية. وجدد قبر الخليل عليه السلام، ورمّ شعثه وأصلح أبوابه وميضابه وبيّضه وزاد في راتبه المجرى على قوامه ومؤذنيه وإمامه، ورتب له من مال البلد ما يجري على المقيمين به والواردين عليه. وجدد بالقدس الشريف ما كان قد تداعى من قبة الصخرة وجدد فيها السلسلة وزخرفها وأنشأ خاناً للسبيل. نقل بابه من دهلنر كان للخلفاء المصريين بالقاهرة وبنى به مسجداً وطاحوناً وفرناً وبستاناً. وبنى على قبر موسى عليه السلام قبة(3/258)
ومسجداً، وهو عند الكثيب الأحمر قبل أريخا ووقف عليه وقفاً. وبنى على قبر أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه مشهداً ومكانه من الغور بعثما ووقف عليه وقفاً. وجدد بالكرك برجين كانا صغيرين فهدمهما وكبرهما وعلاهما. ووسع مسجد جعفر الطيار رضي الله عنه ووقف عليه وقفاً زيادة على وقفه على الزائرين له والوافدين عليه. وعمّر جسراً بقربة دامية بالغور على الشريعة، ووقف عليه وقفاً برسم ما عساه يتهدم منه. وأنشأ جسوراً كثيرة بالغور والساحل. وأنشأ قلعة قافوم وبنى بها جامعاً ووقف عليه وقفاً وبنى على طريقها حوضاً للسبيل. وجدد جامع مدينة الرملة وأصلح مصانعها، وأصلح جامعاً لبني أمية ووقف عليه وقفاً. وأصلح جامع زرعين وساعداه من جوامع البلاد الساحلية التي كانت في أيدي الفرنج. وجدد باشورة القلعة بصفد وأنشأها بالحجر الهرقلي وعمر لها أبراجاً وبدنات وصنع له بغلات مسفحة دائر الباشورة بالحجر المنحوت، وعمل لأبراجها طلاقات، وأنشأ بالقلعة صهريجاً كبيراً مدرجاً من أربع جهاته وبنى عليه برجاً زائداً للارتفاع. قيل: إن ارتفاعه مائة ذراع بحيث أن الواقف عليه يرى الماشي على الخندق دائر القلعة. وبنى تحت البرج الذي للقلعة حماماً، وصنع الكنيسة جامعاً وأنشأ ربضاً ثانياً قبله بغرب، وكان السقيف قطعتين متجاورتين فجمع بينهما وبنى به جامعاً وحماماً وداراً لنائب السلطنة. وكانت قلعة الصبيبة قد اختربها التتر ولم يبقوا
منها إلا الآثار فجددها وأنشأ لجامعها منارة وبنى بها داراً لنائب السلطنة، وعمل جسراً يمشى عليه إلى القلعة وكانت التتر هدموا شراريف قلعة دمشق ورؤوس أبراجها فجدد ذلك جميعه، وبنى فوق الزاوية المطلة على الميادين وسوق الخيل طارمة كبيرة. وجدد منظرة على قاعدة مستجدة على البرج المجاور لباب النصر، وبيّض البحرة وجدد دهان سقوفها وجعل بها درابزيناً يمنع الوصول إليها، وبنى حماماً خارج باب النصر، وجدد ثلاث اسطبلات على الشرف الأعلى، وبنى القصر الأبلق بالميدان وما حوله من العمائر، وجدد مشهد زين العابدين رضي الله عنه بجامع دمشق، وأمر بغسل الأساطين وتدهين رؤوسها، وأمر بترخيم الحائط الشمالي وتجديد باب البريد وفرشه بالبلاط. ورّم شعث قبة الدم وبيّضها، وبنى دور ضيافة للرسل والواردين والوافدين مجاورة للحمام وسوق الخيل، وجدد البنيان هدموه من قلعة صرخد، وأصلح جامعها ومساجدها، وكذلك فعل ببصرى وعجلون والصلت، وجدد ما كان التتر هدموه من قلعة بعلبك، وجدد بابها والدركاة. وجدد قبر نوح عليه السلام بقرية الكرك وعمل حول الضريح درابزيناً. وجدد أسوار حصن الأكراد وعمّر قلعتها، وكانت قد تهدمت من المجانيق، وعقدها حنايا وحال بينها وبين المدينة بخندق، وبنى عليها أبرجة شاهقة بطلاقات، وبنى بها جامعاً للجمعة، وأنشأ بالربض جامعاً ومساجد وخاناً كبيراً وأسواقاً عدة. وجدد من حصن عكار ما كان استهدم منه وزاد أبرجته وبنى به جامعاً وكذلك بربضه ومساجد أيضاً، وجدد خان المحدثة وجدد فيها حفراً وحماماً. ليقل ما يتجدد من أخبار المسافرين وبني من قصير القفول شرقي دمشق إلى المناخ إلى قارا إلى حمص عدة أبرجة رتب فيها الحمام والحفراء، وكذلك من دمشق إلى تدمر، والرحبة إلى الفرات. وجدد سفح قلعة حمص والدور السلطانية بها وبالبلد، وأنشأ قلعة شميميش بجملتها، وأصلح قلعة شيزر وقلعتي الشعر وبكاس وقلعة بلاطنس وأنشأ بها جامعاً، وبنى في قلاع الاسماعلية الثمان جوامع، وبنى ما هدمه التتر من قلعة عين تاب والراوندان، وبنى بأنطاكية جامعاً موضع الكنيسة وكذلك ببغراس، وأنشأ القلعة بألبيرة وبنى بها أبرجة ووسع خندقها وجدد جامعها وأتقن بناءها وشيدها، وأنشأ بالميدان الأخضر شمالي حلب مسطبة كبيرة مرخمة، وأنشأ داراً لخبز القلعة. وبني في أيامه ما لم يبن في أيام الخلفاء المصريين ولا الملوك من بني أيوب وغيرهم من الأبنية، والرباع، وغيرها، والخانات، والقواسير، والدور، والأساطبل، والمساجد، والحمامات، وحياض السبيل من قريب مسجد التتر إلى أسوار القاهرة إلى الخليج وأرض الطبالة، واتصلت العمائر إلى باب المقسم إلى اللوق إلى البورجي؛ ومن الشارع إلى الكبش وحوض قميحة إلى تحت القلعة ومشهد الست نفيسة رحمة الله عليها إلى السور القراقوشي. إلا الآثار فجددها وأنشأ(3/259)
لجامعها منارة وبنى بها داراً لنائب السلطنة، وعمل جسراً يمشى عليه إلى القلعة وكانت التتر هدموا شراريف قلعة دمشق ورؤوس أبراجها فجدد ذلك جميعه، وبنى فوق الزاوية المطلة على الميادين وسوق الخيل طارمة كبيرة. وجدد منظرة على قاعدة مستجدة على البرج المجاور لباب النصر، وبيّض البحرة وجدد دهان سقوفها وجعل بها درابزيناً يمنع الوصول إليها، وبنى حماماً خارج باب النصر، وجدد ثلاث اسطبلات على الشرف الأعلى، وبنى القصر الأبلق بالميدان وما حوله من العمائر، وجدد مشهد زين العابدين رضي الله عنه بجامع دمشق، وأمر بغسل الأساطين وتدهين رؤوسها، وأمر بترخيم الحائط الشمالي وتجديد باب البريد وفرشه بالبلاط. ورّم شعث قبة الدم وبيّضها، وبنى دور ضيافة للرسل والواردين والوافدين مجاورة للحمام وسوق الخيل، وجدد البنيان هدموه من قلعة صرخد، وأصلح جامعها ومساجدها، وكذلك فعل ببصرى وعجلون والصلت، وجدد ما كان التتر هدموه من قلعة بعلبك، وجدد بابها والدركاة. وجدد قبر نوح عليه السلام بقرية الكرك وعمل حول الضريح درابزيناً. وجدد أسوار حصن الأكراد وعمّر قلعتها، وكانت قد تهدمت من المجانيق، وعقدها حنايا وحال بينها وبين المدينة بخندق، وبنى عليها أبرجة شاهقة بطلاقات، وبنى بها جامعاً للجمعة، وأنشأ بالربض جامعاً ومساجد وخاناً كبيراً وأسواقاً عدة. وجدد من حصن عكار ما كان استهدم منه وزاد أبرجته وبنى به جامعاً وكذلك بربضه ومساجد أيضاً، وجدد خان المحدثة وجدد فيها حفراً وحماماً. ليقل ما يتجدد(3/260)
من أخبار المسافرين وبني من قصير القفول شرقي دمشق إلى المناخ إلى قارا إلى حمص عدة أبرجة رتب فيها الحمام والحفراء، وكذلك من دمشق إلى تدمر، والرحبة إلى الفرات. وجدد سفح قلعة حمص والدور السلطانية بها وبالبلد، وأنشأ قلعة شميميش بجملتها، وأصلح قلعة شيزر وقلعتي الشعر وبكاس وقلعة بلاطنس وأنشأ بها جامعاً، وبنى في قلاع الاسماعلية الثمان جوامع، وبنى ما هدمه التتر من قلعة عين تاب والراوندان، وبنى بأنطاكية جامعاً موضع الكنيسة وكذلك ببغراس، وأنشأ القلعة بألبيرة وبنى بها أبرجة ووسع خندقها وجدد جامعها وأتقن بناءها وشيدها، وأنشأ بالميدان الأخضر شمالي حلب مسطبة كبيرة مرخمة، وأنشأ داراً لخبز القلعة. وبني في أيامه ما لم يبن في أيام الخلفاء المصريين ولا الملوك من بني أيوب وغيرهم من الأبنية، والرباع، وغيرها، والخانات، والقواسير، والدور، والأساطبل، والمساجد، والحمامات، وحياض السبيل من قريب مسجد التتر إلى أسوار القاهرة إلى الخليج وأرض الطبالة، واتصلت العمائر إلى باب المقسم إلى اللوق إلى البورجي؛ ومن الشارع إلى الكبش وحوض قميحة إلى تحت القلعة ومشهد الست نفيسة رحمة الله عليها إلى السور القراقوشي.
ذكر ما كان ينوب دولته من الكلف المصرية خاصة
كانت عدة العساكر بالديار المصرية في الأيام الكاملية والصالحية عشرة آلاف فارس(3/261)
تضاعفها أربعة أضعاف، وكان أولئك مقصدين في الملبوس والنفقات والعدد، وهؤلاء بالضد من ذلك، وكانت كلف من يلوذ بهم من إقطاعه وهؤلاء كلفهم على الملك الظاهر؛ وكذلك تضاعفت الكلف. فإنه كان يصرف في كلف المطبخ الصالحي النجمي ألف رطل لحم بالمصري كل يوم، والمصروف في مطبخ الملك الظاهر عشرة آلاف رطل في كل يوم عنها وعن توابلها عشرون ألف درهم، ويصرف في الكلف الطارئة المتعلقة بالرسل والوفود في كل يوم عشرون ألف درهم، ويصرف في ثمن قرط دوابه ودواب من يلوذ به في كل سنة ثماني مئة ألف درهم، ويقوم بكلف الخيل والبغال والجمال والحمير من العلوفات خمس عشر ألف عليقة في اليوم منها ست مائة أردب؛ وما كان يقوم به لمن أوجب عليه نفقته وألزمها عليه بطنجير، وتحمل إلى المخابز المعدة لعمل الجرايات خلاماً يصرف على أرباب الرواتب في كل شهر عشرون ألف أردباً، وذلك بمصر خاصة. وذلك الحال في العلوفات وكلف الرسل والوفود والاستعمالات في الخزائن، والذخائر وأما الطواري التي كانت تطرأ عليه فلا يمكن حصرها؛ وكذلك ما كان عليه من الجامكيات والجرايات لأرباب الخدم رحمه الله تعالى.
بيليك بن عبد الله الأمير بدر الدين الخزندار الظاهري نائب السلطنة(3/262)
بالممالك كلها ومقدم جيوشها. كان أميراً عظيماً، جليل المقدار، عليّ الهمة، واسع الصدر، كثير البر والمعروف والصدقة، لين الكلمة، حسن المعاملة للناس، محباً للفقراء والصلحاء والعلماء، حسن الظن بهم كثير الإحسان إليهم، يتفقد أرباب البيوت ويسد خلتهم، وعنده ديانة كثيرة وفهم وإدراك وتيقظ وذكاء. سمع الحديث النبوي وطالع التواريخ وأيام الناس، وكان يكتب خطاً حسناً وأوقف على زاوية بالجامع الأزهر بالقاهرة وقفاً جيداً على من يذكر بها الدرس وعلى من يشتغل بالعلم بها على مذهب الإمام الشافعي رحمه الله. وله أوقاف على جهات بر، وكان له الإقطاعات العظيمة بالديار المصرية وبالشام، وله قلعة الصبيبة وبانياس وأعمالها وبيت جن والشعراء وغير ذلك. ولما مات الملك الظاهر ساس الأمور أحسن سياسة وسار بالجيوش إلى الديار المصرية على أجمل نظام بحيث لم يظهر لموت السلطان أثر لوجوده، فلما وصل إلى الديار المصرية من الشام تمرض عقيب وصوله ولم يطل مرضه، وتوفي إلى رحمة الله تعالى ليلة الأحد سادس ربيع الأول بقلعة الجبل. ودفن يوم الأحد بتربته التي أنشأها بالقرافة الصغرى، ووجد الناس عليه وجداً شديداً وحزنوه لفقده وشمل مصابه الخاص والعام، وكانت له جنازة مشهودة وأقيم عليه النوح بالقاهرة ليلاً بالشموع في القاهرة والقلعة ثلاث ليال متوالية، والخواتين ونساء الأمراء يدرن في شوارع القاهرة ليلاً بالشموع والنوائح بالملاهي، وصدع موته القلوب وأبكى العيون؛ وقيل: إنه مات مسموماً وهو الظاهر.(3/263)
ومنذ مات اضطربت أحوال الملك السعيد وظهرت إمارات الأدبار على الدولة الظاهرية وأخذت في النقص والتلاشي، وإذا أراد الله أمراً هيأ أسبابه. وكان عمره خمساً وأربعين سنة أو ما حولها، وخلف تركة عظيمة تجاوز الحصر ومن الوارث اثنين وزوجة. وأما الملك السعيد وأخوته نجم الدين خضر وبدر الدين سلامش أولاد معتقة رحمه الله تعالى فلقد كان من حسنات الدهر ومحاسن الدولة الظاهرية سقى الله عهد واقفها.
الحسن بن إسماعيل بن عبد الملك بن درباس أبو محمد ناصر الدين الهذباني الماراني. مولده بالقاهرة سنة ثماني عشرة وست مائة. وكان عنده فضيلة ومشاركة في الأدب والنظم وفيه مكارم أخلاق وحسن المحاضرة، وجده صدر الدين عبد الملك قاضي قضاة الديار المصرية في أيام السلطان صلاح الدين رحمه الله تعالى مشهور. وكان مدرس مدرسة سيف الإسلام بالبندقانيين بالقاهرة. وتوفي ليلة الاثنين ثامن شهر رجب، ودفن من الغد بالقرافة الصغرى بتربتهم المعروفة بهم رحمه الله تعالى.
خضر بن أبي بكر بن موسى أبو العباس المهراني العدوي. كان يقول: إنه من قرية المحمدية من أعمال جزيرة ابن عمر، وهو شيخ الملك الظاهر المشهور أمره. وسبب معرفة الملك الظاهر به واعتقاده فيه أن الأمير سيف الدين قشتمر العجمي أخبره عنه قبل أن يتسلطن أنه قال: إن ركن الدين بيبرس(3/264)
البندقداري لا يملك أن يملك. فلما ملك صار له فيه عقيدة عظيمة وقرّبه وأدناه، وكان ينزل إلى زيارته في الأسبوع مرة أو مرتين أو ثلاثاً على قدر ما يتفق؛ لكنه لم يكن يغب زيارته والاجتماع به ويطلعه على غوامض أسراره، ويستشيره في أموره، ولا يخرج عن رأيه، ويستصحبه في سائر أسفاره وغزواته. وفي ذلك يقول الشريف شرف الدين محمد بن رضوان الناسخ:
ما الظاهر السلطان إلا مالك ال ... دنيا بذاك لنا الملاحم تخبر
ولنا دليل واضح كالشمس في ... وسط السماء بكل عين تنظر
لما رأينا الخضر يقدم جيشه ... أبداً علمنا أنه الاسكندر
وكان يخبر الملك الظاهر بأمور قبل وقوعها فتقع على ما يخبر به.
ولما حاصر الملك الظاهر أرسوف وهي من أوائل فتوحاته سأله متى تؤخذ، فعين له اليوم الذي تؤخذ فيه فوافق، وكذلك في قيسارية وصفد.
ولما عاد الملك الظاهر رحمه الله تعالى من دمشق إلى جهة الكرك سنة خمس وستين استشاره في قصده. فأشار عليه أن لا يقصده وأن يتوجه إلى الديار المصرية، فلم يوافق قوله غرضه، فخالفه وقصده. فلما كان ببركة زيزاء تقنطر فانكسرت فخذه وأقام مكانه أياماً كثيرة، ثم حمل في محفة إلى غزة ثم أتى الديار المصرية على أعناق الرجال. ولما قصد الملك الظاهر منازلة حصن الأكراد ومحاصرته اجتاز الشيخ خضر ببعلبك ونزل بالزاوية التي عمّرت له بظاهرها، وخرج نواب السلطنة وبعض أهل البلد إلى خدمته، وكنت(3/265)
فيمن خرج، فسمعت كمال الدين إبراهيم بن شيث رحمه الله يسأله عن أخذ حصن الأكراد، فقال: ما معناه: يأخذه في مدة أربعين يوماً.
وقال عز الدين محمد بن شداد: سمعت الأمير سيف الدين قشتمر العجمي رحمه الله تعالى يقول: إن الملك الظاهر لما تغير عليه وأحضر من أصحابه من دمشق من يحاققه على أمور نقلت إليه عنه ويقابله عليها قعد الملك الظاهر في داره بقلعة الجبل وعنده من أكابر الأمراء: الأمير فارس الدين الأتابك، والأمير سيف الدين قلاوون، والأمير بدر الدين بيسري؛ وسيّر الأمير سيف الدين قشتمر العجمي لإحضاره، فلما طلبه إلى الحضور إلى القلعة أنكر ذلك، لأنه لم يكن له به عادة، فعرف بشيء مما هم فيه، فقام وحضر معه، فلما دخل لم يجد ما يعهده، فقعد عندهم منتبذاً منهم، فأحضر السلطان الذين أحضرهم من أصحابه من دمشق، فشرعوا ونسبوه إلى أمور عظيمة وقبائح لا تكاد تصدر من مسلم؛ فقال: ما أعرف ما يقولونه ومع هذا، فإني ما قلت لكم: إني رجل صالح، وأنتم قلتم هذا، فإن كان الذي يقولونه هؤلاء صحيح فأنتم كذبتم؛ فقام الملك الظاهر ومن معه من عنده؛ وقال: قوموا بنا لا نحترق بمجاورته وتحولوا إلى طرف الإيوان بعيداً منه؛ فقال الملك الظاهر للجماعة: أي شيء رابكم في أمره؟ فقال الأتابك: هذا مطلع على الأسرار وأسرار الدولة وبواطن أحوالها وما ينبغي إبقاؤه في الوجود، فإنه لا يؤمن أن يصدر منه ما لا يمكن تلافيه، ووافقه الحاضرون على ذلك وقالوا ببعض ما قد قيل عنه يباح دمه، ففهم ما هم فيه، فقال للملك الظاهر: اسمع ما أقول لك إذاً أجلي قريب من أجلك، وبيني(3/266)
وبينك مدة أيام يسيرة، من مات منا لحقه صاحبه عن قريب. فلما سمع الملك الظاهر ذلك وجم وقال للأمراء: ما ترون في هذا؟ فلم يمكن أحداً ان يقول شيئاً؛ فقال السلطان: هذا يحبس في مكان لا يسمع له فيه حديث فيكون مثل من قد قبر وهو حي. فقال: الذي يراه مولانا السلطان - يخشاه - فحبسه في مكان مفرد بقلعة الجبل ولم يمكّن أحداً من الدخول إليه إلا من يثق به السلطان غاية الوثوق، ويدخل إليه بالأطعمة الفاخرة والأشربة والفواكه والملابس تغيّر عليه في كل وقت، وكان حبسه في ثاني عشر شوال سنة إحدى وسبعين وست مائة. وتوفي يوم الخميس سادس المحرم أو ليلة الجمعة سابعه، وأخرج يوم الجمعة من سجنه بقلعة الجبل ميتاً، فسلم إلى أهله، فحملوه إلى زاويته المعروفة به بخط جامع الظاهر بالحسينية، فغسل بها، وحمل إلى الجامع المذكور وصلي عليه بعد صلاة الجمعة وأعيد إلى زاويته، ودفن بالتربة التي أنشأها بها، وكان قد نيف على خمسين سنة. وكان الملك الظاهر لما دخل دمشق بعد عوده من الروم قد كتب على البريد بالإفراج عنه، فوصل البريد بعد موته رحمه الله. وكان الملك الظاهر رحمه الله قد بنى له زاوية بالحسينية على الخليج محاذية لأرض الطبالة ووقف عليها أحكار الجبي في السنة منها ثلاثين ألف درهم نقرة، وبني له بالمقدس زاوية وبجبل المزة ظاهر دمشق زاوية وبظاهر بعلبك زاوية وبحماة زاوية وبحمص زاوية، وفي جميعها فقراء وعليهم الأوقاف، وصرفه في المملكة يحكم ولا يحكم عليه، ولا يخالف أمره في جليل ولا حقير، ويتقي جانبه الخاص(3/267)
والعام حتى الأمير بدر الدين الخزندار، والصاحب بهاء الدين ومن دونهما، وملوك الأطراف. وملوك الفرنج وغيرهم. ولقد هدم بدمشق كنيسة اليهود العظمى وبني بها المحاريب، وكذلك هدم بالقدس كنيسة النصارى تعرف بالمصلبة جليلة عندهم، وقتل قسيسها بيده وعملها زاوية، وهدم بالاسكندرية كنيسة الروم، وكانت كرسياً من كراسيهم يعتقدون فيها البركة، ويزعمون أنه رأس يحيى بن زكريا عليه السلام فيها، وهو عندهم يحيى المعمداني وصيرها مسجداً وسماها المدرسة الخضراء. وكان واسع الصدر يعطي ويفرق الدراهم والذهب، ويعمل الأطعمة في قدور مفرطة الكبر يحمل القدرة الواحدة جماعة من العتالين، وكانت أحواله عجيبة لا تكيف وهو غير متناسبة ولا منتظمة الأحوال فيها مختلفة. فمن الناس من يثبت صلاحه، ومنه من يرميه بالعظائم، والتوسط في معناه أنسب رحمه الله.
؟ سليمان بن عسلي بن حسن بن محمد بن حسن معين الدين البرواناة.
قد تقدم لمع من أخباره في هذا الكتاب فأغنت من الإعادة. كان والده مهذب الدين علي بن محمد الكاري، أصله من كار من عراق العجم. قد حفظ القرآن العزيز وأتقنه واشتغل بالعربية. فلما استولوا التتر على عراق العجم خرج منها، وقصد الروم، فرتب مقرئاً ببعض الترب فطلب معين الدين مستوفي الروم في أيام السلطان علاء الدين من يعلم أولاده، فتوسط له شخص كان يعرفه، فاتصل بخدمته وكان يحضر مجلسه في بعض الأوقات. فرآه(3/268)
معين الدين بارعاً في علم العربية، فقال له: لو تعلمت الحساب لكان أنفع لك في المكانة والرزق، فاشتغل بالحساب على معين الدين المستوفي، فلما رأى أنه قد برع فيه، وكان معين الدين يطلب الإقالة في كل وقت من السلطان علاء الدين فلا يجيبه، فاستناب لمهذب الدين المذكور، وأظهر أنه قد أضر، ولم يزل معين الدين إلى أن رتبه مستوفياً. فرأى منه السلطان علاء الدين الكفاية فاستوزره وعظم شأنه وتقدم عنده. وتوفي السلطان علاء الدين وولي ولده غياث الدين كيخسرو، فاستمر في الوزارة وتمكن إلى أن توفي في سنة اثنتين وأربعين وست مائة، ورتب ولده معين الدين مكانه وتدرج واستفحل أمره بحيث استولى على ممالك الروم بأسرها، وصانع ممالك التتر وملوكها، وداراهم بحيث صاروا بأمره وطوعه، وكذلك ملوك الروم، وكان الخوف يحمله على مكاتبة الملك الظاهر ليكون سنداً له وعوناً على بلوغ مقاصده. وكان من رجال الدهر حزماً ورأياً وشجاعة وقوة قلب وإقدام على الأهوال والأمور العظام، وكان يبذل في بلوغ مقاصده من الأموال العظيمة ما لا يسمح به نفس ملك، ولم يزل على ذلك إلى أن قتل في العشر الأوسط من المحرم هذه السنة. وسبب قتله أن أبغا بعد وقعة البلستين التي كانت في عاشر ذي القعدة سنة خمس وسبعين وست مائة، فرّق عساكره في الروم وطافها في النهب والقتل، ومعه البرواناة، فمرّ في طريقه على قلعة تسمى كوغرينا، وكانت خاصة للبرواناة، وفيها أكثر ذخائره وأمواله، وبها وال من جهته يسمى سيف الدين باريساره،(3/269)
وطلب أيضاً من البرواناة تسليم القلعة إليه، فأجابه وبعثه إلى واليها بأمره بتسليمها لنواب أبغا، ويحمل ما فيها من الأموال إلى البرواناة، فلم يجبه وعصى عليه، فظن أبغا أن ذلك بباطن من البرواناة، فقال البرواناة: أنت باغي، فسأل أن يسيره إليها ليسلمها من سيف الدين ويسلمها إلى نوابه، فأذن له، ووكلّ به جماعة من المغل يمنعونه من الوصول إلى القلعة. فلما قرب منها وطلبها من سيف الدين امتنع، فقال له: لهذا الوقت خبأتك سلم إلي القلعة وما فيها لأدرأ عن نفسي القتل بها، فإني مقتول لا محالة إن لم تسلمها إلى أبغا. فقال: إنما أسلمها إلى من سلمها إلي؛ فقال: أنا سلمتها إليك، فقال: إنما سلمها إلي معين الدين البرواناة، فقال: أنا هو، فقال: أنت أسير معهم وما لك حكم في شيء وما أسلمها إلا بأولادي الذين في مصر أسراء، وأنت كنت السبب في أسرهم وأسر غيرهم، فعاد البرواناة، وأخبر أبغا بذلك: فضاعف الموكلين عليه. فلما رأى من كان معه من الممالك والأتباع ذلك تحققوا أنه مقتول، فتفرقوا عنه ثم سار أبغا إلى أردوئه، فاجتمع الخواتين وبكوا وصرخوا وشققوا الجيوب بين يديه. وقالوا: هذا الذي أعان على قتل رجالنا، ولا بد من قتله، فوقفهم أياماً وهم يحرضونه. فلما أعياه دفاعهم أمر بعض خواصه بقتله وقال له: خذه إلى مكان كذا فاقتله به. فلما اجتمع به قال له: إن أبغا يريد الاجتماع بك لكي يصطنعك ويعيدك إلى البلاد؛ فقال: لو يريدني لخبّر بعض معارفي، ولكنه يريد قتلي مخادعة في القول حتى انصرف معه في جماعة من أصحابه عينوا للقتل وهم ثلاثون نفراً. فلما بلغ به الجهة التي عين له قتله فيها قتله ومن استصحبه معه منهم:(3/270)
الأمير سيف الدين بلا كوش الجاويش ومنكورس الجاشنكير وسيف الدين بن أكمثي. وجرى لسيف الدين المذكور أعجوبة وهي: أنه لم يحك فيه السيف ضاربه وتوهم أنه قتله، فلما انفصل عنه واتصل بأبغا قتلهم وجد سيف الدين في نفسه قوة، فنهض قائماً عرياناً، وقصد سوق العسكر وهو مجروح، وسأل منهم ثوباً يستتر به، فأخذه السوقي لما عرفوه وحملوه إلى أردو إلى قدام أبغا، فسأله أبغا عن قاتله هل يعرفه، فقال: نعم، فأمر بإحضار جميع من باشر قتل البرواناة وأصحابه، فحضروا، فلما رأى سيف الدين المباشر لقتله عرفه، فأشار إليه فسأله أبغا، فأقر
فأمر أبغا لسيف الدين فقتله وكان من أمراء المغل، فقام إليه وقتله. ثم أمره بجميع موجوده وما ملكته يده يتسلمه، وكتب له كتاباً بإقطاعه التي كانت له في بلاد الروم وأضعفه، وقتل البرواناة وهو في عشر الستين رحمه الله. فأمر أبغا لسيف الدين فقتله وكان من أمراء المغل، فقام إليه وقتله. ثم أمره بجميع موجوده وما ملكته يده يتسلمه، وكتب له كتاباً بإقطاعه التي كانت له في بلاد الروم وأضعفه، وقتل البرواناة وهو في عشر الستين رحمه الله.
؟ سنقر بن عبد الله الأمير عز الدين الرومي. كان من أعيان الأمراء وشجعانهم وذوي المكانة منهم، له الحرمة العظيمة في الدولة والتحكم في أول الأيام الظاهرية إلى حين قبض عليه واعتقله بقلعة الجبل، فبقي مدة سنين. فلما كان في جمادى الأولى من هذه السنة شاع بالقاهرة وفاته، وعمل عزاؤه بداره بالقاهرة، وقد نيف على خمسين سنة رحمه الله تعالى.
؟ عبد الكريم بن الحسن بن رزين بن موسى بن عيسى أبو محمد شمس الدين الحموي الشافعي. كان فقيهاً كثير الديانة والتعبد وإيثار العزلة والخمول والإعراض عن المناصب، وكان قد درّس في مدرسة سيف الإسلام(3/271)
بالقاهرة قبل موته بأشهر، وتوفي ليلة السبت السابع والعشرين من ذي القعدة، ودفن من الغد بتربة أخيه قاضي القضاة تقي الدين التي أنشأها بالقرافة الصغرى، وهو في عشر السبعين رحمه الله.
؟ عبد الملك بن عبد الكريم بن عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن محمد بن عبد القاهر بن هشام أبو محمد شرف الدين الربعي الأصل. كان إماماً فاضلاً ذا فنون وتفضل وتعطف وحسن عشرة. صحب الشيخ شهاب الدين الموصلي السهروردي، وأخذ عنه وعن غيره من المشايخ. وكانت وفاته ليلة الجمعة ثامن عشر جمادى الآخرة بحلب، ومولده بالموصل في يوم الجمعة خامس عشر المحرم سنة خمس وست مائة رحمه الله تعالى.
عبد الملك بن عيسى بن محمد بن أيوب بهاء الدين الملك القاهر بن الملك المعظم شرف الدين بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر. وقد تقدم نسبه في ترجمة عمه مجير الدين يعقوب سنة أربع وخمسين، ومولده سنة اثنتي وعشرين وست مائة، وكان رجلاً جيداً، سليم الصدر، حسن الأوصاف، كريم الأخلاق وليّن الكلمة، كثير التواضع؛ عنده حسن ظن بالفقراء والصالحين ومحبة لهم، ويعاني ملابس العرب ومراكيبهم، ويتخلق بأخلاقهم في كثير من أفعاله. وكان شجاعاً بطلاً مقداماً من الفرسان المعدودين والشجعان المذكورين. توفي يوم السبت خامس عشر المحرم فجاءة من غير مرض، بل كان راكباً بسوق الخيل بدمشق فاشتكى ألماً في فؤاده، فعاد إلى منزل كريمته زوجة الملك الزاهر مجير الدين داود ابن صاحب(3/272)
حمص، ومسكنها بدار صاحب حمص الكبيرة، لأنه استقرب ذلك عن منزله بالجبل، فأدركته منيته في باب الدار قبل دخوله إليها، ودفن بسفح قاسيون في منزله رحمه الله تعالى.
وحكي أن تاج الدين نوح بن إسحاق بن شيخ السلامية حكى عنه حكاية غريبة، معناها: أن الأمير علاء الدين ازدمر العلائي رحمه الله نائب السلطنة كان بقلعة صفد حدثه بها: قال: كان الملك الظاهر مولعاً بالنجوم وما يقوله أرباب التقاويم كثير البحث عن ذلك، فأخبر أنه يموت في سنة سبع وسبعين ملك بالسم، فحصل عنده من ذلك أثر كبير. وكان عنده حسد شديد لمن يوصف بشجاعته أو يذكر بذكر جميل في معناه. واتفق أن الملك القاهر لما دخل مع الملك الظاهر إلى الروم، وكان يوم المصاف، ورآه الملك الظاهر فتأثر منه، وانضاف إلى ذلك أن الملك الظاهر حصل منه في ذلك اليوم فتور على غير العادة، فظهر عليه الخوف والندم على تورطه في بلاد الروم؛ فحدثه الملك القاهر في ذلك الوقت بما فيه نوع من الإنكار عليه والتقبيح لفعاله، فأثر عنده أثر آخر. فلما عاد من غزاته وسمع الناس يلهجون بما فعله الملك القاهر زاد تأثره منه وحنقه عليه، فخيل في ذهنه أنه إذاً سمّه كان هو الذي ذكره أرباب النجوم، لأنه يطلق عليه اسم ملك، وله ذكر، فأحضره عنده ليشرب القمز، وجعل الذي قد أعد له في ورقة في جيبه من غير أن يطلع على ذلك أحداً من خلق الله تعالى وللسلطان هنابات مختصة ثلاثة مع ثلاثة من السقاة الذين(3/273)
لا يشرب إلا بها، ومن يكرمه بأن يناوله ذلك الهناب من يده. واتفق قيام الملك القاهر إلى البزال، فجعل الملك الظاهر ما في الورقة من هناب وأمسكه بيده. فلما عاد الملك القاهر ناوله إياه، فقبّل الأرض وشربه، وقام الملك الظاهر ليبزل فأخذ الساقي الكأس من يد الملك القاهر وملأه على العادة وأمسكه، ووقف مع السقاة رفاقه. فجاء الملك الظاهر من البزال، وتناول ذلك الكأس بعينه، فشربه وهو لا يشعر. فلما فرغ من شربه استشعر وعلم أنه شرب من ذلك الكأس الذي فيه آثار السم وبقاياه، فقام لوقته وحصل له ألم وتخيل، واشتد به المرض أياماً ومات كمل تقدم. وأما الملك القاهر فمات غد ذلك اليوم. هذا مضمون ما ذكره ابن المولى تاج الدين نوح، وذكر أن عز الدين العلائي بلغه ذلك من مطلع لا يشك في أخباره والله أعلم بحقيقة ذلك.
عتيق بن عبد الجبار بن عتيق أبو بكر عماد الدين الأنصاري الصقلي الأصل. كان من أعيان العدول بدمشق، ومن كتّاب الحكم عند قضاتها، كثير الديانة والصلاة والتعبد، مكباً على سماع الأحاديث النبوية، متواضعاً لين الكلمة. دخل بكرة نهار الجمعة ثامن شوال إلى المدرسة المقدمية التي داخل باب الفراديس بدمشق ليسبغ الوضوء من بركتها، فسقط في البركة وهي كبيرة، ولم يكن عنده من يخرجه منها، فتوفي إلى رحمة الله تعالى غريقاً شهيداً، ودفن من يومه بسفح قاسيون وهو في عشر السبعين رحمه الله تعالى.(3/274)
علي بن درباس بن يوسف أبو الحسن الأمير جمال الدين الحميري.
كان عالي الهمة، كثير الكرم والمروءة، واسع الصدر، وافر الصدقة والبر، ومكارمه على الأخوان والأصحاب، نفسه نفس الملوك. وله خبرة تامة بالولايات والتصرف، ومهابة شديدة وسطوة ظاهرة. ولّي عدة ولايات جليلة؛ منها: المرج والغوطة وما معها والبقاع العزيزي وبلد مشعزا وصل صيدا وبيروت ووادي اليتم وتولى غير ذلك ولم تزل حرمته وافرة عالية إلى أن توفي الملك الظاهر رحمه الله فقصده الأمير عز الدين أيدمر الظاهري نائب السلطنة بالشام لأمر كان في نفسه منه، فأحضره إلى دمشق واعتقله وغرمه جملة طائلة، وبقي في منزله بجبل الصالحية بطالاً من الولاية، وخبزه إلى أن أدركته منيته في سلخ شهر رجب أو مستهل شعبان. وكان صرفه من الولاية لطفاً من الله تعالى، فإنه لما صرف أقلع عن المظالم وتنصل منها، وتاب إلى الله تعالى من العود إليها. وكان يقوم الثلث الأخير من الليل دائماً، يصلي ويدعو ويبكي ويتضرع، وكانت طويته حسنة جميلة، وعنده فضيلة، وعلى ذهنه جملة من الأشعار والوقائع والتاريخ. ومولده سنة أربع وست مائة، وكان عنده حسن عشرة ومباسطة ومداعبة رحمه الله.
ولما كان متولي البقاع العزيزي وما هو مضاف إليه ولي نظر تلك(3/275)
الصفقة أو مشارفتها محي الدين بن الكويس، وكان قبل ذلك قد جنى لديوان السكر جناية كبيرة اتصل خبرها بالأمير جمال الدين أقوش النجيبي رحمه الله نائب السلطنة بالشام، فقام فيها حد القيام وسمّر أخذ من كان له فيها دخول على جمل وطاف به البلدان، فسميت تلك الواقعة وقعة الجمل لتسمير ذلك الشخص على جمل، وبقي ذلك على ألسن الناس.
وكان ابن الكويس المشار إليه ممن له دخول على ذلك، فتخلص بعد شدائد وغرامات، وولي هذه الجهة وكتب على يده بدر الدين جعفر بن محمد الآمدي ناظر النظار بالشام، كتاباً إلى الأمير جمال الدين المذكور يوصيه به، ولم يكن الأمير جمال الدين يختار مراقفته؛ وكان يكتب له أدلال صاحبنا الموفق عبد الله بن عمر الأنصاري الآتي ذكره في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. فقال له: تكتب جواب الصاحب بدر الدين المذكور متسع وهو مشور بذلك، فكتب الجواب وصدر بيتين وهما:
شكاية يا وزير العصر أرفعها ... ما كان يرضى بها من ولاك عليّ
لم يبق في الأرض مختار يرافقه ... إلا فتى قد بقي من وقعة الجمل
علي بن علي بن أسفنديار أبو الحسن نجم الدين الواعظ البغدادي البوشنجي الأصل.
كان فاضلاً وعلى خاطره أشياء حسنة، وله محفوظات كثيرة ويد طائلة في الوعظ والكلام في المحافل، وسمع كثيراً أخبار جماعة من كبار الشيوخ. وولي مشيخة خانكاة المجاهد إبراهيم رحمه الله ظاهر دمشق بشرف الميدان القبلي، وجلس للوعظ بجامع دمشق في الشهور(3/276)
الثلاثة رجب وشعبان وشهر رمضان في أيام السبوت، ويحضره خلق كثير من الأعيان والفضلاء وغيرهم، ومجالسة حسنة جميلة وعنده دماثة وحسن مباسطة، ويورد الأشياء في مواضعها، وأما الاحتمال فلا يكاد يضاهى فيها وبيته في العراق مشهور؛ وجده اسفنديار كاتب الإنشاء للإمام ناصر لدين الله رحمه الله. وكانت وفاته بخانكاته المذكورة آخر نهار الجمعة تاسع عشر شهر رجب، ودفن يوم السبت بمقابر الصوفية، وقد نيف على ستين سنة من العمر رحمه الله تعالى.
اسفنديار بن الموفق بن علي بن محمد بن يحيى بن علي أبو الفضل البوشنجي.
مولده بواسط سنة سبع أو ثمان وثلاثين وخمس مائة منتصف شهر رجب، وتوفي ببغداد في ليلة الخميس تاسع ربيع الأول سنة خمس وعشرين وست مائة، وقيل أن له نحو ثمانين تصنيفاً. قال المبارك بن أبي بكر بن حمدان في قلائد الجمان: لقيته ببغداد في ليلة الخميس سنة أربع وعشرين وست مائة، وهو شيخ كبير مسن، وهو مع ذلك صاحب فكاهة ومخاطرة. أنشدني لنفسه ما كتبه لقوم صحبهم يقول:
وقد كنت مغرى بالزمان وأهله ... ولم أدر أن الدهر بالغدر دائل
أرى كل من طارحته الود صاحباً ... ولكنه مع دولة الدهر سائل
ورب أناس كنت الحظ ودهم ... وما نالني منهم سوى المزق طائل
تغالوا ولائي ثم حلوا سآمة ... وحال بني الأيام لا شك حائل(3/277)
وأعدم شيء سامه المرء دهره ... حبيب مضاف أو خليل يواصل
أسادتنا قد كنت أحظى بوصلكم ... وأجني ثمار العيش والدهر غافل
وما خلت أن البين يصدع شملنا ... ولا أنني عنكم مدى الدهر راحل
وتالله ما فارقتكم عن ملالة ... ولكن نبت بي المقام المنازل
قطعت الفلا عنهن حين أضعنني ... فافقرن عن مثلي وهن أواهل
وإني إذا لم يقل جدي ببلدة ... هدتني إلى أخرى السرى والعوامل
إذا المرء لم يظمأ لورد مكدر ... فلا بد يوماً أن تروق المناهل
سيعلم قومي قدر ما بان عنهم ... وتذكرني إن عشت تلك المعاقل
وقال أيضاً رحمه الله:
كل له غرض يسعى ليدركه ... والمرء يجعل إدراك العلى غرضه
يهين أمواله صوناً لؤددة ... ولم يصبن عرضه من لم يهن عرضه
وقال أيضاً رحمه الله:
الدهر بحر والزمان ساحل ... والناس ركب راحل ونازل
كأنهم سيارة في مهمة ... مكاره الدهر لهم مناهل
وقال سعد الدين مسعود بن حموية الجويني: سألت نجم الدين الواعظ عن اسمه، فقال: علي بن علي بن اسفنديار المنشئ البغدادي وشيخ صحبتي جدي العلامة اسفنديار بن الموفق البوشنجي وشيخ خرقة تسموني شيخ(3/278)
الحقيقة ولسان الطريقة شهاب الدين عمر السهروردي، وحصل لي منه صحبة ونسب وشيخ فقري وتجريدي مريد بن نميه أبو الحسن علي بن الرفاعي وقصدته بأم عبيدة من البطائح يهديني، وأبوتي شيخ زمانه ومقدم أقرانه المعرض عن الفاني الدنيوي لهوانه وقصر زمانه المقبل على الباقي الأخروي لدوامه وعز سلطانه العالم العامل كمال الدين محمد بن طلحة القرشي العدوي: وسمعت الحديث على ثمانين شيخاً كما رويته عن بعضهم ملفقاً، قال: ما طلب الترفع في مجلس إلا من وجد الوضاعة في نفسه، قال سعد الدين أنشدني نجم الدين لبعضهم:
إذا زار بالجثمان غيري فإنني ... ازور مع الساعات ربعك بالقلب
وما كل ناء عن ديار بنازح ... ولا كل دان في الحقيقة ذو قرب
عمر بن شرف الدين النهاوندي الصوفي المعروف بالرمال.
كان شيخاً صالحاً زاهداً كثير العبادة، من أعيان الصوفية ومشاهد لهم، قديم الهجرة بينهم كثير الأسفار؛ صحب جماعة من أعيان المشايخ وتأدب بهم، وكانت وفاته بخانكاة سعيد السعداء بالقاهرة في يوم الجمعة سادس صفر، ودفن من يومه بمقابر باب النصر بالتربة المعروفة بالصوفية وقد ناهز السبعين رحمه الله تعالى.
محمد بن إبراهيم بن عبد الواحد بن علي بن سرور أبو عبد الله شمس الدين الحنبلي شيخ الحنابلة بالديار المصرية ومدرّسهم بمدرسة الملك الصالح(3/279)
نجم الدين بن أيوب التي بالقاهرة، وتولي قضاء القضاة بالديار المصرية وسائر أعمالها على مذهبه مدة سنين، وصرف عن ذلك في ثاني شعبان سنة سبعين وست مائة، واعتقل بقلعة الجبل مدة سنين، ثم أفرج عنه، ولزم بيته متوفراً على ذكر الدروس بالمدرسة الصالحية، وسبق إلى طلبه والتعبد إلى أن توفي إلى رحمة الله تعالى ورضوانه في يوم السبت ثاني عشرين المحرم، ودفن يوم الأحد بالقرافة الصغرى. ومولده بدمشق في يوم الأحد رابع عشرين صفر سنة ثلاث وست مائة رحمه الله ورضي عنه. كان من أحسن المشايخ صورة مع الفضائل الكثيرة التامة، والديانة العظيمة وسعة الصدر وأظنه جعفري النسب. وهو أول من درّس بالمدرسة الصالحية من الحنابلة، وأول من ولّي قضاء القضاة منهم بالديار المصرية؛ وتولّي مشيخة خانكاة سعيد السعداء بالقاهرة مدة. وكان مكملاً للأدوات، سيداً صدراً من صدور الإسلام وأئمتهم، متبحراً في العلوم مع الزهد المفرط واحتقار الدنيا وعدم الإلتفات إليها. وكان الصاحب بهاء الدين يتحامل إليه ويغرى الملك الظاهر به لما يرى عنده من الأهلية لكل شيء من أمور الدنيا والآخرة وهو لا يلتفت عليه ولا يخضع له رحمه الله تعالى.
محمد بن أحمد بن منظور بن عبد الله.
مولده في ذي القعدة سنة سبع وتسعين وخمس مائة، كان له زاوية بظاهر المقس بالديار المصرية، وبها جماعة من الفقراء مقيمون على الدوام وهو متكفل بأمرهم وخدمتهم والإقامة بهم، وكذلك يخدم من يرد عليه من المسافرين والزوار. ويعمل(3/280)
في كل سنة مولد النبي صلى الله عليه وسلم ويغرم عليها جملة كثيرة ويجتمع فيه خلق كثير عظيم، وكان يكتسب بعمل الحرير وغيره، ولا يقبل بر أحد إلا أن يكون صاحبه، فيقبله على سبيل الهدية. وكان له جدة كبيرة وصدقة وبر، ويتكلم في زاويته على طريق الوعاظ، وعنده فضيلة، وتعبد كبير، ولكثير من الناس به عقيدة حسنة، وكان موضعاً لذلك. وتوفي إلى رحمة الله تعالى بزاويته ليلة الاثنين ثاني وعشرين شهر رجب، ودفن من الغد بالقرافة الصغرى رحمه الله تعالى.
ومن العجب أنني كنت أجتمع به في السنة الخالية، وتحادثنا فشرع يتبرم بسكنى الديار المصرية، ويقول: وددت لو كنت بالشام - مقر الأنبياء - لأموت به. فقلت له: ما يمنعك من النقل إلى الشام؟ فقال لي: هنا معشوق لا أقدر على مفارقته ولا البعد عنه. فقلت: من هو؟ قال: الشيخ شمس الدين بن الشيخ العماد. فاتفق موت الشيخ شمس الدين رحمه الله في أوائل هذه السنة. وموت الفقيه ابن منظور رحمه الله في هذا التاريخ بينهما ستة أشهر جمع الله بينهما في دار كرامته.
محمد بن حياة بن يحيى بن محمد أبو عبد الله تقي الدين الرقي الفقيه الشافعي. كان رجلاً فاضلاً كثير الديانة من العلماء الأتقياء. تولى الحكم بعدة جهات، منها: حمص والقدس، وناب بدمشق ثم تولى قضاء القضاة بحلب وأعمالها، ودرّس في مدارس عدة، ثم استعفى من ذلك كله. وانتقل إلى دمشق وقنع بإمامة المدرسة العادلية الكبيرة مع حضور دروس يسيرة في بعض(3/281)
المدارس ملازماً للاشتغال بالعلم واشتغال الطلبة وإفادتهم. وسافر إلى الحجاز الشريف في أواخر سنة خمس وسبعين وقضى فريضة الحج وعاد، فتوفى بتبوك في يوم الأربعاء تاسع عشر المحرم، ودفن بكرة الأربعاء جوار مسجد هناك يعرف بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نيف على ستين سنة من العمر - رحمه الله تعالى.
محمد بن عبد الكريم بن عثمان أبو عبد الله عماد الدين المارديني الحنفي المعروف بابن الشماع. كان من فقهاء الحنفية، ودرّس بمدرسة القصاعين بدمشق وبغيرها. وكان عنده فطنة وتيقظ وتنبيه، مشهور بماردين بالحشمة والرئاسة، فتوفى بدمشق في يوم الثلاثاء تاسع شهر رجب وهو في عشر الخمسين - رحمه الله تعالى.
محمد بن علي بن شجاع أبو عبد الله محيي الدين القرشي. وهو سبط الشيخ الشاطبي صاحب القصيدة المشهورة في القراآت. وكان عنده أدب وفضيلة، وله يد في النظم والنثر، حسن المحاضرة دمث الأخلاق؛ ووالده الحاج كمال الدين الضرير كان من الصلحاء الفضلاء. وتوفى المحيي المذكور بالقاهرة ليلة الثلاثاء ثامن عشر جمادى الآخرة، ودفن من الغد بالقرافة الصغرى. مولده بالقاهرة سنة أربع عشرة وست مائة - رحمه الله تعالى.
محمد بن عمر بن هلال أبو عبد الله عماد الدين الأزدي. كان من أعيان الدمشقيين وصدورهم وبارز العدالة، مشهور بالإمامة والديانة. تولى(3/282)
نظر مخزن الأيتام بدمشق مدة سنين. وكان مشكور السيرة، لين الكلمة، حسن المجاورة؛ عنده مكارم وحسن أخلاق. سمع هو وحدّث عن غير واحد من أهل بيته. وكانت وفاته بدمشق يوم الجمعة رابع عشر جمادى الآخرة. ودفن من الغد بالتربة المعروفة بسفح قاسيون وهو في عشر السبعين - رحمه الله تعالى.
يحيى بن شرف بن مرى أبي الحسن بن الحسين بن محمد بن محمد بن جمعة بن حزام أبو زكريا محيي الدين النواوي الفقيه الشافعي المحدث الزاهد العابد الورع المتبحر في العلوم صاحب التصانيف المفيدة. كان أوحد زمانه في الورع والعبادة، والتقلل من الدنيا، والإكباب على الإفادة والتصنيف مع شدة التواضع، وخشونة الملبس والمأكل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى إنه واقف الملك الظاهر - رحمه الله - غير مرة في دار العدل بسبب الحوطة على بساتين دمشق وغير ذلك.
وحكى لي أن الملك الظاهر قال عنه: أنا أفزع منه - أو ما هذا معناه - ولقد شاهدته مرة طلع إلى زاوية الشيخ خضر بالجبل المشرف على المزة، وحدثه في أمر وبالغ معه وأغلظ له. فسمع الشيخ خضر كلاماً مؤلماً، فأمر بعض من عنده بإخراجه ودفعه، فما تأثر لذلك في ذات الله تعالى، ولا رجع عن قصده ليقع بجلية إلى بعض المسلمين، وكانت مقاصده جميلة وأفعاله لله تعالى. ودرس نيابة عن قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان - رحمه الله - في ولايته الأولى بالمدرسة الفلكية والمدرسة الركنية(3/283)
والمدرسة الإقبالية للشافعية. وولى مشيخة دار الحديث الأشرفية - رحم الله واقفها - اسقلالاً في شهر رمضان سنة خمس وستين بعد وفاة شمس الدين أبي شامة، ولم يزل مستمراً بها إلى حين وفاته، ونشر فيها علماً جماً وأفاد الطلبة وغيرهم. واختصر كتاب معرفة علوم الحديث للشيخ تقي الدين عماد بن الصلاح - رحمه الله، والمحرر لإمام الدين الرافعي في الفقه، وشرح صحيح مسلم؛ وجمع مسائل الخلاف التي في التنبيه من القولين والوجهين وبين الأصح منهما، وجمع غير ذلك مما يطول شرحه. وكان كثير التلاوة للقرآن العزيز والذكر لله تعالى، معرضاً عن الدنيا مقبلاً على الآخرة من حال ترعرعه.
قال الشيخ ياسين بن يوسف الزركشي: رأيته وهو ابن عشر سنين أو نحوها، والصبيان يكرهونه على اللعب معهم، وهو يهرب منهم ويبكي، ويقرأ القرآن في تلك الحال، فوقع في قلبي محبته وكان أبوه قد جعله في دكان لا يشتغل بالبيع ولا بالشرى غير تلاوة القرآن. قال: فأتيت الذي يقرئه القرآن فوصيته وقلت له: هذا الصبي يرجى أن يكون من أعلم الناس، فذكر ذلك لوالده، فحرض عليه إلى ختم القرآن، وقد ناهز الاحتلام.
قال الشيخ محيي الدين: لما كان عمري تسعة عشر سنة قدم بي والدي إلى دمشق سنة تسع وأربعين فسكنت الرواحية وبقيت نحو سنتين لم أضع جنبي إلى الأرض، وكان قوتي فيها جراية المدرسة لا غير.(3/284)
وحفظت التنبيه في أربعة أشهر ونصف، وحفظت ربع العبادات من المهذب في باقي السنة. وجعلت أشرّح وأصحح على الشيخ كمال الدين اسحاق بن أحمد بن عثمان المغربي معيد المدرسة إلى أن أمرني بإعادة دروسه في حلقته. فلما دخلت سنة إحدى وخمسين حججت مع والدي، وكانت وقفة الجمعة، وأقمنا بالمدينة نحواً من شهر ونصف. فلما وصلنا إلى دمشق لازمت الإشتغال، فلم أزل أشتغل بالعلم وأقتفي آثار العلماء الصالحين من العبادة والصلاة، وصيام الدهر وقيام الليل، والزهد والورع، وعدم إضاعة شيء من أوقاته إلى أن توفى إلى رحمة الله تعالى.
وكان لما قدم دمشق أول قدومه إليها للإشتغال لم يكن له معرفة بالشيخ جمال الدين عبد الكافي، فاجتمع به وعرّفه مقصده، فأخذه وتوجه به إلى حلقة الشيخ تاج الدين عبد الرحمن الفراري؛ فقرأعليه دروساً وبقي ملازمه مدة، ولم يكن له موضع يأوي إليه فسأل من الشيخ تاج الدين موضعاً يسكنه، ولم يكن بيد الشيخ تاج الدين إذ ذاك من المدارس سوى الصارمية، وليس لها بيوت؛ فدله على الشيخ كمال الدين إسحاق بالرّواحية، فتوجه إليه ولازمه واشتغل عليه وصار منه ما صار. واتفق أن الملك الظاهر عند ما فتح الفتوحات المشهورة، وغنم الناس الجواري وتسروا بهن، سئل الشيخ تاج الدين - رحمه الله - فرّخص في ذلك، وصنف(3/285)
جزءاً في إباحة ذلك من غير تخميس، واستدل بأشياء فيها قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم أهل بدر، وأعطى منها من لم يشهدها، وربما فضل بعض حاضريها على بعض.
ثم نقل بعد ذلك في الغنائم أحوال مختلفة تغلب على حب المصالحة، ثم ذكر حنين وقسم غنائمها، وأنه صلى الله عليه وسلم أكثر لأهل مكة من قريش وغيرهم حتى أن يعطي الرجل الواحد مائة ناقة، والآخر ألف شاة. ومعلوم أنه لم يحصل لكل حاضر في هذه الغزاة مثل هذه العدة من الإبل والشاة، ولم يعط الأنصار شيئاً، وكانوا أعظم الكتيبة والعسكر وأهل النجدة حتى عتبوا. وهذا حديث مخرج في جميع الأصول المعتمدة من كتب الحديث، وليس في شيء من طرقه: إني إنما نفّلت الناس من الخمس، أو أني قسمت فيهم ما أوجبت قسم الغنيمة وددت من استألفه من حال المصالح. وكان صلى الله عليه وسلم أعدل الناس في قسم الغنيمة وأعدلهم في بيان حق وأحقهم في إزالة شبهة. فلما اقتصر على مدح الأنصار بما رزقهم الله من المسابقة في الإسلام، وما خصهم به من محبته صلى الله عليه وسلم أتاهم وسلوك فجّهم دون فج غيرهم ورجوعهم إلى منازلهم به عوضاً عما رجع به غيرهم من الأموال والأنعام عليهم، علم كل ذي نظر صحيح أنه صلى الله عليه وسلم فعل في هذه الغنائم ما اقتضاه الحال من المصالحة من إعطاء وحرمان وزيادة ونقصان. ثم لم يعلم بعد هذا الحكم ناسخ ولا ناقص بل فعل الأئمة بعده ما يوكده. ثم قال: لولا خشية الإطالة لتقضينا الآثار الواردة في قسم الغنيمة من الأئمة(3/286)
الراشدين ومن بعدهم حتى أن المتأصل المتبع الآثار، لو أراد يبين غنيمة قسمت على جميع ما يقال في كتب الفقهاء والتنفل والرضخ والسلب، وكيفية إعطاء الفارس والراجل، وتعميم كل حاضر لمن لم يكن يجد ذلك منقولاً من طريق معتمد. واستدل بأشياء كثيرة فحصل للناس بقوله خير عظيم لأن الناس لم يرجعوا يغنمون ويستولدون الجواري ويبيعونهن بحكم الحكام لصحة بيعهم وشرائهم، وإجراء جميع ما يتعلق بهم على حكم الصحة. ولو فتحوا باب وجوب تخميس الغنائم يحرم ورطة كل جارية تغنم قبل تخميسها لأن نكاح الجارية المشتركة حرام. فتولى نقضه كلمة كلمة وبالغ في الرد عليه، ونسبه إلى أنه خرق الاجتماع في ذلك، وأطلق لسانه وكلامه في هذا المعنى. ولا شك أن الذي قاله الشيخ محي الدين هو مذهب الشافعي رحمة الله عليه، لكن لم يعمل به في عصر من الأعصار؛ ولا قيل: أن الغنيمة خمست في زمن من الأزمان بعد الصحابة والتابعين، ولولا القول بصحة ذلك وإلا كان الناس كلهم بسبب شرائهم الجواري واستيلادهم إياهم في محرم، وسائر عمل الناس قاطبة على ما أفتى به الشيخ تاج الدين، ولم يعمل أحداً بما أفتى به الشيخ محي الدين، وما كان ينبغي له أن يرد عليه هذا الرد الفاحش لعلمه أن بعض العلماء ذهب إليه.
وحكي لي أن الفتاوى كانت إذا جاءت إلى الشيخ محي الدين وعليها خط الشيخ تاج الدين رحمنا الله بهما امتنع من الكتابة فيها، وهذا منافي طريقه، وما كان عليه من الزهد والتواضع، لكن البشرية وحظوظ الأنفس(3/287)
قلّ أن تزول بالكلية إلا في النادر. وكان شديد الورع وعدم التطلع إلى الدنيا أقبلت أو أدبرت. ولما باشر مشيخة دار الحديث الأشرفية بمدينة دمشق لم يتناول من جامكيتها درهماً واحداً ولا من غيرها، وكان قوته من أرض يزرعها والده، ويرسل له منها ما يقتات به على سبيل الضرورة، ولم يجمع بين أدامين، ولا أكل فاكهة دمشق؛ فسئل عن امتناعه ذلك، فقال: دمشق كثيرة الأوقاف، وأملاك من هو تحت الحجر شرعاً لا يجوز التصرف لهم إلا على وجه الغبطة والمصلحة والمعاملة فيها على وجه المساقاة، وفيها خلاف بين العلماء. ومن جوزها قال..........الغبطة والمصلحة والناس لا يفعلونها إلا على جزء من ألف جزء من الثمر المالك، فكيف تطيب نفسي بأكل ذلك، وأيضاً فغالب من يطعم أشجاره إنما يأخذ الأقلام غصباً أو سرقة، لأن أحداً ما يهون عليه بيع أقلام أشجاره، وما جرت بذلك عادة فيؤخذ تلك الأقلام سرقة وتطعم في أشجار الناس فتطلع الثمرة في نفس القلم المغصوب، فيكون ملكاً لصاحب القلم لا لصاحب الشجرة، فيبقى بيعه وشراءه حراماً. وكان صائم الدهر لا يأكل إلا أكلة واحدة عند السحر ولا يشرب الماء البارد ذاكراً.
ولما صنف المنهاج في الفقه وقف عليه الشيخ رشيد الدين الفارقي رحمه الله وكتب على ظهره هذه الأبيات:
أعتني بالفضل يحيى فأغتني ... عن بسيط ووجيز نافع(3/288)
ويحلى ببقاه فضله ... فيحل بلطيف جامع
ناصباً أعلام علم حازماً ... بمقال رافعاً للرافعي
وكأن ابن الصلاح حاضر ... وكان ما غاب عني الشافعي
وكان الشيخ محي الدين يسأل الله تعالى أن يموت بأرض فلسطين، فاستجاب الله منه، فتوفي ليلة الأربعاء ثلث الليل الآخر في الرابع والعشرين من شهر رجب سنة سبع وسبعين بنوى بعد رجوعه مع والده من زيارة القدس والخليل. ومولده في العشر الأوسط من المحرم سنة إحدى وثلاثين وست مائة بنوى، ودفن بها رحمه الله. ولما وصل خبر وفاته إلى دمشق توجه قاضي القضاة عز الدين محمد بن الصائغ رحمه الله إلى نوى إلى قبره، وتوجه معه جماعة من أصحابه. ولما مات الشيخ محي الدين رثاه جماعة من فضلاء عصره، فمنهم الشيخ مجد الدين محمد بن الظهير الحنفي رحمه الله تعالى قال:
عز العزاء وعم الحادث الجلل ... وخاب بالموت في تعميرك الأمل
واستوحشت بعدما كنت الأنيس لها ... وسالها فقدك الأسحار والأصل
قد كنت للدين نوراً يستضاء به ... مدداً منك في الأقوال والعمل
وكنت تتلو كتاب الله معتبراً ... لا يعتريك على تكراره ملل
وكنت في سنة المختار مجتهداً ... وأنت باليمن والتوفيق مشتمل
وكنت زيناً لأهل العلم مفتخراً ... على جديد كساهم ثوبك الشمل(3/289)
وكنت أسبغهم ظلاً إذا استعرت ... هواجرالجهل والأظلال تنتقل
كساك ربك أوصافاً مجملة ... يضيق عن حصرها التفصيل والجمل
أسلي كمالك عن قوم مضوا بدلاً ... وعن كمالك لا مل ولا بدل
فمثل فقدك ترتاع العقول له ... وفقد مثلك جرح ليس يندمل
زهدت في هذه الدنيا وزخرفها ... عزماً وحزماً فمضروب بك المثل
أعرضت عنها احتفالاً غير محتفل ... وأنت في السعي في أخراك محتفل
عرفت عن شهوات ما لعزم فتى ... بها سواك إذا عبت له قبل
أسهرت في العلم عيناً لم تذق سنة ... إلا وأنت به في العلم مشتغل
يا لهف حفل عظيم كنت بهجته ... وحليه فعزاه بعدك العطل
وطالبوا العلم من دان ومغترب ... نالوا بيمنك منه فوق ما أملوا
حاروا لهيبة هاديهم وضاق بهم ... لفرط حزن عليك السهل والجبل
ترى ذرى تربة من غيبوه به ... أو نعشه من على أعواده حملوا
عناؤه شغله دهراً وعاد لهم ... بلاعج الوجد عن أشغالهم شغل
يا محمي الدين كم غادرت من كبد ... جزى عليك وعين دمعها هطل
وكم مقام كحد السيف لا جلد ... يقوى على هوله فيه ولا جدل
أمرت فيه بأمر الله منتضياً ... سيفاً من العزم لم يصبغ له حلل
وكم تواضعت عن فضل وعن شرف ... وهمة هامة الجوزاء تنشعل
عالجت نفسك والأدواء شاملة ... حتى استقامت وحتى زالت العلل
بلغت بالغت الفاني رضى ملك ... ثوابه في جنان الخلد متصل(3/290)
ضيف الكريم جدير أن يضاف له ... إلى الكرامة من ألطافه نزل
بررت أصلك في داريك محتبساً ... فقد تكافأ فيك الحزن والجدل
فجعت بالأنس ليلاً كنت ساهره ... لله والنوم قد حظت به المقل
وحال فور نهار كنت صائمه ... إذا تهجد بنار الشمس مشتعل
لا زال مثواك مثوى كل عارفة ... وروضة النصر من سحب الرضى خضل
إلى متى بعزو تطمئن ولا الم ... لوك رد الردى عنهم ولا الرسل
ولا حمى من حمام جحل نجب ... ولا حصون منيعات ولا قلل
يا لاهياً لاهياً عن هول مصرعه ... وضاحك البين منا يضحك الأجل
لا تحل نفسك من دار فإنك من ... حين الولاد مع الأنفاس مرتحل
وما بقي بنديم السير يتبعه ... إلى محل بلاه سابق عجل
ورثاه جماعة أخر لكن اقتصرنا على هذه القصيدة طلباً للاختصار.
وكان رحمه الله سمع الحديث على جماعة، منهم الحافظ شهاب الدين خالد النابلسي وغيره، واشتغل على جماعة لم يلتحق أحد منهم به والذي أظهره وقدمه على أقرانه، ومن هو أفقه منه كثرة زهده في الدنيا، وعظم ديانته رحمه الله تعالى.
يوسف بن الكردي العدوي المعروف بأبونا.
كان من الصلحاء المجتهدين في خدمة الفقراء والقيام بوظائفهم، والمبالغة في إيصال الراحة إليهم، مع كثرة العبادة والتخلي من الدنيا. وكان مقيماً بتربة الحاج ازدمر المعزي خارج باب القرافة الصغرى، وتوفي بها يوم السبت خامس عشر(3/291)
المحرم، ودفن بها من يومه، وقد نيف على السبعين سنة من العمر رحمه الله.
أبو الوحش بن القدسي أبي الخير بن أبي سليمان داود بن أبي المثنى بن أبي فانة المنعوت بالرشيد، المعروف بابن أبي حليقة النصراني والد علم الدين ابن رئيس الأطباء بالديار المصرية.
كان الرشيد له التقدم والشهرة في معرفة صناعة الطب بالديار المصرية، وتوفي ليلة الاثنين سابع ربيع الأول بالقاهرة، ودفن يوم الاثنين بمقابر باب الخندق، وله من العمر خمس وثمانين سنة.
وكان ولده علم الدين أسلم في حياته، ومن بعده إلى الملك الظاهر ركن الدين، وسبب الحلقة التي وضعت في أذنه أن والده لم يعش له ولد ذكر، فوصف له ووالدته حامل أن تهيأ حلقة فضة قد تصدق بفضتها، وفي الساعة التي يوضع فيها من بطن أمه يثقب أذنه، ويوضع الحلقة فيها، ففعل ذلك فعاش وعاهدته والدته أن لا يقلعها، وجاءه أولاد فماتوا، فعمل حلقة حلقة على الصورة لولده المهذب في سعد. وسبب اشتهاره بأبي حليقة أن الملك الكامل بن العادل قال لبعض الخدام: اطلب الرشيد الطبيب من الباب، وجماعة الأطباء بالباب، فقال الخادم: من هو منهم؟ قال: أبو حليقة، فطلب واشتهر بذلك.
السنة السابعة والسبعون وستمائة
استهلت يوم الأربعاء وافق ذلك الخامس والعشرين من حزيران(3/292)
من شهور الروم، والخليفة الإمام الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد؛ وهو بقلعة الجبل من الديار المصرية، وملك الديار المصرية والشام الملك السعيد ناصر الدين أبو المعالي محمد بركة قان بن الملك الظاهر بيبرس وهو بالديار المصرية.
ففي يوم الخميس بكرة النهار ثالث وعشرون المحرم دخل قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله مدينة دمشق، وخرج نائب السلطنة الأمير عز الدين ايدمر بجميع الموكب والأمراء لتلقيه إلى آخر الجسورة، وخرج أهل البلد إلى مسجد القدم، وأما رؤساء البلد وعدوله فتلقوه عدة مراحل بحيث أن وصل منهم جماعة رمح، ولم يزالوا متواصلين إليه في كل مرحلة، وسرّ الناس بولايته سروراً مفرطاً، ومدحه الشعراء وهنؤه بقدومه، ولم يبق من الأدباء من لا مدحه بغرر القصائد وهي مذكورة في دواوينهم. وانشده الشيخ رشيد الدين عمر بن إسماعيل الفارقي من لفظه لنفسه:
أنت في الشام مثل يوسف في مص ... ر وعندي أن الكرام جناس
ولكل سبع شداد بعد الس ... بع عام فيه يغاث الناس
وعمل الفقيه شمس الدين محمد بن جعوان النحوي رحمه الله في المعنى يقول:
لما تولى قضاء الشام حاكمه ... قاضي القضاة أبو العباس ذو الكرم
من بعد سبع شداد قال خادمه ... ذا العام فيه يغاث الناس بالنعم(3/293)
وقال سعد الدين سعد الله بن مروان الفارقي رحمه الله في المعنى وهو قوله:
أذقت الناس سبع سنين جدباً ... غداة هجرته هجراًجميلاً
فرزقه الإله بأرض مصر ... مددت عليه من كفيك نيلا
وعمل نور الدين أحمد بن مصعب في ولايته وعزل القاضي عز الدين:
رأيت أهل الشام طرّاً ... ما فيهم قط غير راضي
نالهم الخير بعد شر ... فالوقت بسط بلا انقباض
وعوضوا فرحة بحزن ... قد أنصف الدهر في التقاضي
وسرهم بعد طول غم ... قدوم قاض وعزل قاض
فكلهم شاكر وشاك ... بحال مستقبل وماضي
وفي يوم الأربعاء ثالث عشر صفر ذكر الدرس بالمدرسة الظاهرية بدمشق قبالة العادلية الكبيرة، وهي على فرقتين شافعية وحنفية، وحضر الأمير عز الدين ايدمر الظاهري نائب السلطنة هو والعلماء الأعيان، وكان مدرس الشافعية الشيخ رشيد الدين عمر بن إسماعيل الفارقي، ومدرس الحنفية صدر الدين سليمان الحنفي، ولم تكن عمارة المدرسة تكلمت إلى ذاك التاريخ.
وفي يوم الاثنين الرابع والعشرين من ربيع الأول كسر الخليج الكبير بالقاهرة وقد غلق ماء السلطنة على ما جرت به العادة لله الحمد.(3/294)
وفي يوم الخميس عاشر جمادى الأولى باشر الحكم بدمشق عوضاً عن القاضي مجد الدين عبد الرحمن بن العديم رحمه الله تعالى قاضي القضاة صدر الدين رسلان رحمه الله بمقتضى تقليد سلطاني ورد عليه في ذلك النهار من الديار المصرية.
وفي عشية الاثنين تاسع وعشرين من شهر رمضان المعظم باشر الأحكام الشرعية بدمشق عوضاً عن الشيخ صدر الدين سليمان بحكم وفاة قاضي القضاة حسام الدين أبي الفضائل الحسن بن القاضي تاج الدين أحمد بن القاضي جلال الدين الحسن بن أنوشروان الرازي الحنفي قاضي ملطية وما جاورها من بلاد الروم بمقتضى تقليد سلطاني سعيدي ورد عليه من الديار المصرية في هذا التاريخ، وكان خروجه من بلاد الروم إلى دمشق في سنة خمس وسبعين عندما عاد الملك الظاهر من قيسارية بعد كسرة التتر على البلستين، ومولده بأقصرا من بلاد الروم في ثالث عشر المحرم سنة إحدى وثلاثين وست مائة.
وفي العشر الأول من ذي القعدة تقدم قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله بفتح المدرسة التي أوقفها الأمير جمال الدين آقوش النجيبي رحمه الله تعالى جوار المدرسة النورية بدمشق، وبفتح الخانكاة التي أوقفها بالشرف القبلي المطلة على الميدان الأخضر بما إليه من الولاية الخاصة والعامة، وذكر الدرس بالمدرسة بنفسه مدة يسيرة، ثم نزل عنها لولده(3/295)
كمال الدين موسى، وكان سبب تأخر فتح المكانين عن تاريخ وفاة الواقف شمول الحوطة للتركة والأوقاف فحين تهيأ الإفراج عن المكانين فتحا.
وفي العشر الأوسط منه خرج الملك السعيد من الديار المصرية بجميع العساكر قاصداً دمشق، وكان دخوله إلى قلعتها في خامس ذي الحجة وخرج أهل دمشق كافة إلا القليل لملتقاه، وزينوا ظاهر البلد وباطنها وسروا بمقدمه سروراً عظيماً، وعمل عيد النحر بقلعة دمشق، وصلى صلاة العيد بالميدان الأخضر.
وفي يوم الثلاثاء خامس ذي الحجة وقعت الحوطة على الصاحب تاج الدين محمد بن محمد بن علي بن محمد بن سليم بدمشق لورود البريد مخبراً بموت جده الصاحب بهاء الدين، وكان تاج الدين وصل دمشق يوم الاثنين رابع ذي الحجة، ونزل بدار بني الزكي بباب البريد، وكانت وفاة جده ليلة الخميس سلخ ذي القعدة، فقال:
بنينا وعلّينا ورحنا كما ترى ... وأعمالنا مكتوبة سوف تعرض
فيا معشر الناس الذين تمولوا ... بأموالنا بالله لله أقرضوا
وفي يوم عرفة منه باشر الوزارة عن الملك السعيد بالديار المصرية الصاحب برهان الدين الخضر بن الحسن الزراري السنجاري بحكم وفاة الصاحب بهاء الدين رحمه الله بمقتضى تقليد سلطاني ورد عليه من دمشق. ومولد برهان الدين في سنة أربع عشرة وست مائة في جبال بلد إربل(3/296)
رحمه الله.
وفي الشهر المذكور قلد وزارة الشام الصاحب فتح الدين عبد الله بن القيسراني وبسط يده وأمر القضاة وغيرهم بالركوب معه أول مباشرته.
وفي العشر الآخر من الشهر المذكور جهّز الملك السعيد العساكر إلى بلاد سيس للنهب والإغارة، ومقدمهم الأمير سيف الدين قلاوون الألفي. وأقام الملك السعيد بدمشق في نفر يسير من الأمراء والخواص، وكان في مدة غيبة العسكر يكثر التردد إلى الزيبقية من قرى المرج يقيم بها أياماً ويعود.
وفي يوم الثلاثاء سادس وعشرين منه جلس الملك السعيد بدار العدل داخل باب النصر بدمشق، وأسقط في المجلس المذكور عن أهل دمشق ما كان قرره والده الملك الظاهر عليهم في كل سنة قطيعة على البساتين بجميع الغوطة، فسر الناس بذلك، وتضاعفت أدعيتهم له ومحبتهم فيه، كأن ذلك كان أجحف بأرباب الأموال والأملاك بحيث ود كثير منهم لو أخذ ملكه وأعفى من الطلب، فبادر الملك السعيد رحمه الله إلى اغتنام هذه الحسبة، وحاز أجرها وشكرها وبرّ وضجع والده وتعفيه أثرها.
وفيها:
؟ توفي إبراهيم بن أحمد بن أبي الفرج بن عبد الله أبو العباس زين الدين الحنفي المعروف بابن السديد أمام مقصورة الحنفية شمالي جامع دمشق وناظر(3/297)
وقفها.
كان رجلاً جيداً كثير الخير، عنده ديانة ومروءة ومكارم أخلاق وعدالة. وكانت وفاته يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من جمادى الأولى في بستاني بالمزة، ودفن بسفح قاسيون، وقد نيف على خمس وستين سنة وهو حمو الحاج أحمد المصري النحوي المقدم ذكره رحمه الله تعالى.
آقسنقربن عبد الله الأمير شمس الدين الفارقاني.
كان قديماً مملوك الأمير نجم الدين أمير حاجب الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن محمد بن خليل رحمه الله. ثم انتقل بعد مدة إلى الملك الظاهر، وتقدم عنده وجعله أستاد دار الكبير، فإن الملك الظاهر كان له عدة أستاد دراية، لكن لم يكن فيهم عنده أكبر من المذكور. وكان أكثر الاعتماد عليه والوثوق به يستنيبه في غيبته، ويقدمه على عساكره، ولم يزل عنده في أعلى المراتب إلى أن توفي الملك الظاهر، وهو على ذلك الحال. ثم إن الملك السعيد رحمه الله بعد وفاة الأمير بدر الدين الخزندار رحمه الله جعله نائب السلطنة في سائر الممالك على ما كان عليه الخزندار، فلم ترض حاشية الملك السعيد وخاصكيته ذلك، فوثبوا عليه وأمسكوه واعتقلوه، ولم يسع الملك السعيد إلا موافقتهم على قصدهم، وكان مسكه في السنة الخالية كما تقدم شرحه، فقيل أنه قتل عقيب مسكه، وقيل أن وفاته تأخرت إلى هذه السنة، وأنه مات حتف أنفه في مجلسه بقلعة الجبل من الديار المصرية رحمه الله وعمل عزاؤه تحت النسر بدمشق بجامعها في يوم الخميس ثالث جمادى الأولى من هذه السنة وهو في عشر الخمسين. كان وسيماً جسيماً شجاعاً مقداماً كريماً، كثير البر والصدقة، خبيراً بالتصرف حسن التدبير، عليه مهابة شديدة(3/298)
مع لين كلمة، وهو الذي توجع إلى الديار المصرية مبشراً بكسرة كتبغانوين والتتر على عين جالوت في شهور سنة ست وخمسين وست مائة.
حكى لي أن سبب ترقيه عند الملك الظاهر رحمه الله أنه سير عشرة هو مقدمهم لكشف بلاد الجزيرة وتلك النواحي. فلما شارفوا الفرات وجدوها زائدة جداً لا يمكن عبورها، فرجعوا إلا هو، امتنع من الرجوع وقال لهم: قد ندبني السلطان في مهم فإما قمت به أو مت دونه. ثم جعل ثيابه وعدته مشدودة وحملها على رأسه وسبح بفرسه حتى قطع الفرات وحده، وكشف الجزيرة وظفر بجاسوس معه كتب فأخذها منه، واجتمع بقوم هناك عيون للمسلمين، واستعلم منهم الأخبار وعاد بعد إقامته هناك أياماً، وخاض الفرات ثانياً كما خاضها أولاً. ورجع إلى الملك الظاهر فأخبره بالخبر فعظم محله عنده، وارتفعت منزلته لديه، وكان أمير عشرة؛ فاتفق في الحال الراهنة وفاة أمير بطبلخاناة بالديار المصرية، وأخبر الملك الظاهر بوفاته والفارقاني بين يديه يحدثه فأعطاه خبزه، وظهرت منه الكفاية، فضاعف الإحسان إليه وزيادته وترقيه إلى أن بلغ أعلى المراتب.
أقطون بن عبد الله الأمير علاء الدين المهمندار أحد أمراء الشام.
كان شاباً حسناً، عنده شجاعة ومعرفة وديانة. توفي بدمشق ليلة الأحد ثامن شعبان، ودفن من الغد بسفح قاسيون، وقد نيف على أربعين سنة. ولما حضرته الوفاة ادعى بثلث ماله تصرف في وجوه البر حيثما يراه(3/299)
الوصي، وكان من غلمان نجم الدين أمير حاجب الملك الناصر - رحمه الله تعالى.
آقوش بن عبد الله أبو سعيد جمال الدين النجيبي الأمير الكبير. هو من عتقاء الملك الصالح نجم الدين أيوب وذوي المكانة عنده، أمّره وجعله أستاد داره وكان معتمداً عليه ويثق به ويسكن إليه. مولده سنة تسع أو عشر وست مائة وجعله الملك الظاهر أستاد داره في أول الدولة، ثم جعله نائب السلطنة عنه بالشام مدة تسع سنين وعزل عن ذلك قبل وفاته بسبع سنين وانتقل إلى القاهرة، وأقام بداره بطالاً إلى حين وفاته، وحرمته في الدولة كبيرة ومكانته عالية. ولما تمرض عاده الملك السعيد، وتوفي ليلة الجمعة خامس شهر ربيع الآخر بالقاهرة المعزية بداره بدرب ملوخيا، ودفن يوم الجمعة قبل الصلاة بتربته التي أنشأها بالقرافة الصغرى؛ وكان لحقه فالج قبل موته بأربع سنين، واستمر به ثم عرض له قبل وفاته بأحد عشر يوماً احتباس الاذاقة. وكان كثير الصدقة، محباً في العلماء والفقراء، حسن الاعتقاد، شافعي المذهب، متغالياً في السنة وحب الصحابة - رضي الله عنهم؛ وعنده تحامل كثير على الشيعة لا يملك نفسه في ذلك. وأوقف أوقافاَ منها بمدرسته التي بدمشق جوار مدرسة الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي - رحمه الله. وبنى بها تربة حسنة، وفتح لها شباكين إلى الطريق، ولم يقدر دفنه بها. ووقف خانكاة ظاهر دمشق بالشرف القبلي غربي خانكاة المجاهد إبراهيم - رحمه الله. ووقف خانا ومداراً للسبيل على طريق الجسورة، ووقف على ذلك أوقافاً صالحة، وجعل النظر في ذلك لقاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان -(3/300)
رحمه الله. وكان من أعيان الأمراء وكبرائهم، وذوي الرأي والخبرة والمعرفة والدراية، متقدماً في الدول - رحمه الله.
ايدكين بن عبد الله علاء الدين الشهابي. أحد امراء دمشق الأعيان، مشهوراً بالشجاعة، تولى نيابة السلطنة بحلب وشدّ دواواينها مدة أخرى. وكان عنده معرفة وخبرة، ومحبة للفقراء وحسن ظن بهم وإحسان إليهم. فتوفي بدمشق ليلة الاثنين خامس عشر ربيع الأول، ودفن من الغد بسفح قاسيون بتربة الشيخ عثمان الرومي - رحمه الله - وهو في عشر الخمسين - رحمه الله. ووقف حديقته داخل باب الفرج بدمشق ففتحت، ورتب بها الصوفية وفتح بها شباكاً مطلاً على الطريق، وعمل عليه نصيبة مكتوب عليها اسم الواقف - رحمه الله - وتاريخه. والشهابي نسبة إلى الطواشي شهاب الدين الرشيد الكبير الصالحي النجمي - رحمه الله.
بلبان بن عبد الله الأمير سيف الدين الزيني الصالحي النجمي، أحد أمراء دمشق العيان. كان في أول دولة الترك بالديار المصرية مقدم البحرية، ثم حبس مدة سنين، وأفرج عنه وأعطى أمرية بدمشق فأقام بها إلى أن توفي ليلة الثلاثاء تاسع شهر رمضان المعظم بجبل الصالحية، ودفن من الغد بالقرب من تربة الملك المعظم - رحمه الله. وكان عنده نهضة وكفاية وشجاعة. والشهابي نسبة إلى الأمير شهاب الدين أحمد أمير خزندار الملك الصالح نجم الدين أيوب.(3/301)
سليمان بن أبي العز أبو الربيع صدر الدين الحنفي شيخ المذهب. كان إماماً عالماً عارفاً بمذهبه متبحراً فيه، وعنده فضائل أخر. درّس مدة بدمشق، وأفتى واشتغل، وقرأ عليه جماعة وانتفعوا به. ثم استوطن الديار المصرية ودرّس بالمدرسة الصالحية بين القصرين بالقاهرة للطائفة الحنفية، وتولى الحكم بمصر واعمالها مدة سنين. ثم انتقل إلى الشام قبل وفاته بيسير، وفارق الديار المصرية. فلما توفي قاضي القضاء مجد الدين عبد الرحمن بن العديم - رحمه الله - قلد القضاء بالشام على مذهبه في عاشر جمادى الأولى فلم يستكمل فيه ثلاثة شهور. وأدركته منيّته في سادس شعبان بدمشق ليلة الجمعة ودفن من الغد بعد صلاة الجمعة بداره بسفح قاسيون، وبلغ ثلاثاً وثمانين سنة - رحمه الله. كان الملك المعظم بن الملك العادل - رحمهما الله - قد زوّج مملوكه بجاريته، وكلاهما جميل الصورة، فعمل الشيخ صدر الدين يقول:
يا صاحباي قفا لي فانظرا عجباً ... أتى به الدهر فينا من عجائبه
البدر أصبح فوق الشمس منزله ... وما العلو عليها من مراتبه
أضحى يماثلها حسناً وصار لها ... كفواً وصار إليها في مواكبه
فاشكل الفرق لولا وشي يمنته ... بصدغه واخضرار فوق شاربه
وله نظم غير هذا. وسمع وحدث وصنف ولم يخلف بعده في مذهبه مثله فيما علمنا - رحمه الله تعالى.(3/302)
سنجر بن عبد الله الأمير علم الدين التركستاني. كان من أعيان الأمراء بالشام وأماثلهم. له حرمة وافرة، وعنده شجاعة وإقدام وتجمل في امريته.
توفي بدمشق يوم الثلاثاء ثامن جمادى الأولى ودفن بسفح قاسيون وقد نيف على خمسين سنة من العمر - رحمه الله تعالى - وهو أخو الأمير عز الدين ايبك الاسكندري المقدم ذكره - رحمه - لأبويه، وأخوه كندغدي الحسامي الجوكنداري لأبيه - والله أعلم.
طه بن إبراهيم بن أبي بكر بن أحمد بن بختيار جمال الدين الهذباني الاربلي. كان عنده فضيلة وأدب، ورئاسة وتوصل وحسن مداخلة. وله يد في النظم، وتحيل في الذهوب. توفي بالشارع من ضواحي القاهرة يوم الثلاثاء ثالث وعشرين جمادى الأولى. ومولده باربل سنة أربع وتسعين وخمس مائة - رحمه الله تعالى. أنشد الملك الصالح وقد تحدثا في أحكام النجوم والعمل بها لنفسه، فقال:
دع النجوم لطرقي يعيش بها ... وبالعزيمة فانهض أيها الملك
ان النبي وأصحاب النبي نهوا ... عن النجوم وقد أبصرت ما ملكوا
وكتب إلى بعض أصحابه - وكان يلقب بالشمس - وقد انقطع عن زيارته في رمد حصل له:
يقول لي الكحال عينك قد هدت ... فلا تشغلن قلباً عليها وطب نفسا
ولي مدة يا شمس لم أر كم بها ... وايّة برأي العين أن ينظر الشمسا(3/303)
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
البيض أقبل في الحشا ... وبهجتني منها الحسان
والسمر ان قتلت فمن ... بيض يصاغ لها لسان
وقال في زير اربل:
مولاي دعوة بائس عن عيلة ... لطفان بالاطلاق نار غياله
قعد الزمان به فقام يحمله ... نحو ابن موهوب عزى آماله
اي رب ابقى في المنازل واستجب ... مني دعائي يا نبي وآله
أولاني الأفراح أي صنيعة ... أولى واردفها بخالص ماله
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
ألا قف بالأجيرع والكثيب ... ونادي نحوه هل من مجيب
وحتى أهيلة عن مستهام ... أسير موثق صبّ كثيب
لعل الله يرجع لي زماناً ... قضيناه على رغم الرقيب
لممشوق القوام إذ تثنى ... رجعت عن المديح إلى النسيب
سقاني الراح من يده وفيه ... فكان لي الأمان من المشيب
يغيب عن النواظر خوف واش ... ويبرز في سويداء القلوب
له مني المصرّع والمقفّى ... ولي منه معالجة الكروب
وأخشاه ولا الأسد الضواري ... فيا لله من رشأ قريب
وأهون من صوارم مقلتيه ... ملاقاة الكتائب والحروب(3/304)
أسائل عن سواه وهو قصدي ... ولا يخفى مسائلة المريب
دعا لي بالتسلي عنه قومي ... فلا تك يا إله بمستجيب
فقد أنست فيه وفي زماني ... بجيش الملك من فرج قريب
وما ... لست فيه ... أعالج للردى داع النقيب
يجاءك من بلد خبيث ... فلست تطيب إلا للغريب
إربل! لا سقاك الله غيثاً ... فقد أفقرت من رجل لبيب
أرى العزاء قد ملئت لياماً ... وقد ضاقت على الشيخ الوهوب
فما في ماليكها من معين ... على صرف الزمان ولا الخطوب
ولا في قاطنيها أريحيى ... ولا في ساكنيها من طروب
ألا اجرى الإله بليد سوء ... تحكم فيه عبّاد الصليب
وحضر ليلة في جماعة عند الصاحب شرف الدين المبارك بن المستوفى في دكة بستان داره، فجاء الغيث فقام الصاحب مسرعاً، والجماعة معه فدخلوا الدار، فعمل طه على البديهة يقول:
دخول لاقبال الشتاء مبارك ... عليك ابن موهوب إلى آخر الدهر
ففر من القطر المسلم عشية ... فلم نر بحراً قط فرّ من القطر
ظافر بن مضر بن ظافر بن هلال أبو منصور جمال الدين الحموي الأصل، المصري الدار، الشافعي الفقيه، وكيل بيت المال بالديار المصرية. مولده(3/305)
بمصر في ثامن صفر سنة إحدى وست مائة، توفي بها في سابع عشر ذي القعدة من هذه السنة ودفن بسفح المقطم. روى عن ابن باقا وغيره، وله نثر ونظم ورئاسة، ولا يقدر على إمساك الريح ففشوا حاله في ذلك في مجالس الملوك وغيرها لعلمهم بعذره - رحمه الله تعالى. وكان له مكانة عند الملك الصالح نجم الدين أيوب - رحمه الله - بحيث كتب في وصيته التي عهد بها إلى غلمانه وولده إقراره على وكالة بيت المال، فلم يزل عليها إلى أن توفي - رحمه الله تعالى.
عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد الحسن بن عبد الله أبو الحسن بن عثمان جمال الدين ابن الشيخ نجم الدين البادرائي. درس بمدرسة والده - رحمه الله - بدمشق إلى حين وفاته. وكان حسن الأخلاق، كريم الشمائل توفي إلى رحمة الله تعالى بدمشق يوم الأربعاء سادس شهر رجب، ودفن من يومه بسفح قاسيون، وقد نيف على خمسين سنة من العمر - رحمه الله.
عبد الرحمن بن عمر بن أحمد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن زهير أبو المجد مجد الدين العقيلي الحلبي الحنفي، قاضي القضاة. كان فاضلاً إماماً عالماً عابداً ورعاً، كثير الديانة والورع، من صدور الاسلام، تام الرئاسة حسن المعاملة للناس، ليّن الجانب، كثير الأدب والسكون والحشمة، ذو عقل وافر ودين متين وبرّ كثير وإحسان شامل؛ وله عقيدة جميلة في الفقراء والصالحين. ووالده الصاحب كمال الدين عمر بن أحمد ابن العديم؛ -(3/306)
رحمه الله - قد تقدم ذكره. وبيته مشهور بالتقدم والرئاسة والفضيلة والعلم - رحمه الله. وقد تقدم ذكره بسماع العلم والحديث، سمع من جماعة من المشايخ وحدث ودرّس وأفتى، وولي الخطابة بجامع القاهرة الكبير، وهو أول حنفي ولي ذلك. ثم انتقل إلى الشام وولي قضاء القضاة على مذهبه، ولم يزل مستمراً فيه مع تدريس عدة بدمشق إلى أن توفي إلى رحمة الله تعالى ورضوانه بحوسقه الذي على الشرف القبلي ظاهر دمشق في يوم الثلاثاء سادس عشر ربيع الآخر، ودفن عصر النهار المذكور في تربة أنشأها قبالة الجوسق - رحمه الله - المشار إليه. ومولده مستهل جمادى الأولى سنة أربع عشرة وست مائة بحلب - رحمه الله.
وأسمعه والده صغيراً وكبيراً في كثير من البلاد الاسلامية على مشايخ وقته، فمنهم: أبو العباس أحمد بن تميم بن هشام بن جنون اللبلي الاندلسي، أحضره والده للسماع عليه بحلب سنة سبع عشرة وست مائة، وسمع من أحمد بن الخضر بن هبة الله بن أحمد بن عبد الله بن علي بن طاوس الخضر بن موسى بن عباس بن طاوس البغدادي في رابع شوال سنة ثلاث وعشرين وست مائة بدمشق؛ ومن أبي العباس أحمد بن علي بن محمد بن الحسن بن أحمد بن عبد الله بن الميمون القسطلاني الفقيه الزاهد تجاه الكعبة المعظمة في منتصف ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وست مائة؛ ومن أبي العباس أحمد بن محمد بن بختيار المعروف بابن المندائي تجاه الكعبة المعظمة - زادها الله(3/307)
تعالى شرفاً وتعظيماً - في سابع عشر ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وست مائة؛ وربما سمع منه مسنده إلى أحمد بن أبي الحواري. قال: تمنيت أن أرى أبا سليمان الداراني في المنام. فرأيته بعد سنة، فقلت ما تعلم ما فعل الله بك؟ قال: يا أحمد! جئت من باب الصغير فرأيت وسق شيح فأخذت منه عوداً ما اوري تخللت به وأوريت به، فأنا في حسابه من سنة إلى هذه الغاية.
وسمع من أبي الفضل أحمد بن محمد بن عبد العزيز بن الحسين بن عبد الله بن الجباب في العشر الثاني من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وست مائة بمكة - شرفها الله تعالى - تجاه الكعبة المعظمة وداخلها؛ ومن ابن العباس أحمد بن محمد بن محمود بن أحمد بن علي الحمودي في سادس شوال سنة ثلاث وعشرين وست مائة بجامع دمشق؛ ومن أبي المعالي أحمد بن محمد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن يحيى بن بندار بن ممسك الشيرازي في عاشر صفر سنة أربع وعشرين وست مائة بدمشق؛ ومن أبي العباس أحمد بن نصر بن أبي القاسم العميرة الازجي ببغداد؛ ومن الملك المحسن أبي العباس أحمد بن نصر بن أبي القاسم بن يوسف بن أيوب بن شاذي بحلب، ومن أبي إسحاق إبراهيم بن طاهر الخشوعي بحلب في رابع شوال سنة ثلاث وعشرين وست مائة بدمشق؛ ومن أبي إسحاق إبراهيم بن خليل بن عبد الله(3/308)
الدمشقي بحلب، ومن أبي إسحاق إبراهيم بن ربيع بن ريحان بن غالب الديري الضرير في سلخ جمادى الآخرة سنة خمس وعشرين وست مائة بحلب، وما حدثه به مشافهة.
قال: كنت بماردين في سنة سبع وستين وخمس مائة. فقيل لي: ان الرجل الحطاب الذي اختطف قد جاء، فمضيت إليه مع جماعة وسألناه عن اختطافه، فأخبر أنه كان في البستان يحتطب فوجد حية على شجرة فقتلها، قال: فاختطفت من وقتي وغاب رشدي عني، ولم أعلم بنفسي إلا وأنا بين قوم لا أعرفهم في أرض لا أعرفها، فرأيت شخصاً وقد أتى إلي، وأخذ بيدي وسحبني إلى بين يدي شخص شيخ جالس على تخت عال، فقال له: يا سيدي! هذا قتل أخي، فقال لي ذلك الشيخ: أقتلت أخاه؟ فقلت: لا، فكرر عليّ القول، وأنا أنكر، وقلت له في آخر الكلام: ما قتلت إلا حية. فقال ذلك الشخص: فذاك هو أخي. فقال: خلّ عنه فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: " من تزايا في غير صورته فقتل فلا دية عليه ولا قود ". قال: فأخذني شخص آخر وأجلسني في مكان، وكان يتردد إليّ في كل يوم ويجيئني بشيء آكله في هذه المدة، ثم أتى إليّ الشخص الذي كان يأتيني بالطعام، وقال: أتريد أن تمضي إلى أهلك؟ فقلت: نعم؛ فأخذ بيدي وأتى بي إلى بين يدي ذلك الشيخ، فقال لي الشيخ: أتريد أن تمضي إلى أهلك؟ فقلت: نعم، فقال: اذهبوا به إلى الموضع الذي أخذ منه. قال: فأخذ بيدي ذلك الشخص الذي كان يأتيني بالطعام لينصرف بي، فوقفت(3/309)
وقلت: يا سيدي! سمعتك تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات من زمان طويل، فقال: نعم، كنت مع الجن الذين كانوا في ليلة نصيبين فسمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: " من تزايا في غير صورته فقتل فلا دية ولا قود ". قال: ولم يبق معي من الذين كانوا ليلة الجن غيري وأنا أحكم بين الجن.
وسمع من أبي إسحاق إبراهيم بن شاكر بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عبد الله بن سليمان بن محمد بن سليمان بن أحمد بن سليمان بن داود بن المطهر المعرى بدمشق، ومن أبي إسحاق إبراهيم بن محمود بن سالم بن مهدي البغدادي بقراءة والده بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبمسجده الشريف سنة أربع وعشرين وست مائة، ومن خلق لا يحصون كثرة بالبلاد الاسلامية. وكان أوحد عصره في العلم والرئاسة، وسعة الصدر والاقبال على أهل الخير وتقريبهم، وكان كثير الصيانة وعديم التبذل إلى أرباب الدنيا، وهم على أبوابه. وكان مجموع الفضائل يعرف الفقه والأصول والعربية واللغة والحديث والأدب والشعر. وكان كثير التهجد وقيام الليل، وله الأوراد الشاقة سفراً وحضراً حتى إنه كان له ورد يقومه من المغرب إلى العشاء الآخرة. فاتفق أنه سافر إلى بغداد وعبر في الطريق على واد مخيف، فنزل عن فرسه وقت أذان المغرب، وشرع يصلي ويأتي بورده وسائر من معه خائفون وهو متوكل آمن.
وكانت له أحوال عجيبة، منها أن الملك الظاهر لما توجه إلى الروم(3/310)
توجه صحبته مجد الدين وأخوه جمال الدين، فاتفق إنهم في الطريق قلّ عليهم الزاد وحصل لهم جوع فسيروا بعض الغلمان بدراهم ليشتروا ما وجدوا في تلك القرية التي نزلوا بقربها شيء فوجدوا أبواب القرية مغلقة فدقوا بعض الأبواب فلم يجبهم أحد، فتسوروا الجدار ونزلوا إلى الدار فأخذوه وأعطوا ربتها دراهم كثيرة، فامتنعت من أخذها فوضعوها عندها وأخذوا البيض. فلما قدموا وعملوه وفرشوا السفرة وأحضروا ذلك البيض تقدم مجد الدين للأكل ومد يده إلى البيض، فلم يستطع الوصول إليه فقال لأخيه: يا أخي! هذا البيض حرام، فقال: اماله أنت، الدراهم وقد أرسلتها معهم، فمد يده ثانياً فلم يستطع فقال: هذا ما آكل منه، هذا حرام. فطلب أخوه الغلمان وألحّ عليهم في أمر شرى ذلك، فأخبروه أنهم اخذوه غصباً، ورموا لها الدراهم، ولم تأذن لهم في أخذ البيض، فتعجب من حضر من ذلك.
وكان له قدم صدق في الطاعات والقرب لا يضيع شيئاً من أوقاته إلا في العبادة مثل أشغال أو اشتغال أو تهجد أو تلاوة أو مطالعة أو جلب نفع إلى من يقصده، أو دفع ظلم عن مظلوم وإغاثة ملهوف، أجمع من يعرفه على علمه ودينه وفضيلته - رحمه الله تعالى. وكان مع هذه الفضائل له يد في النظم والنثر. فمن ذلك ما كتبه في وداع الملك الناصر صلاح الدين يوسف - رحمه الله:
أقول لصحبي حين ساروا ترفقوا ... لعلي أرى من بالجناب الممنّع
وآلثم أرضاً ينبت العز تربها ... وأسقي ثراها من سحائب أدمعي(3/311)
وينظر طرفي أين أترك مهجتي ... قد أقسمت أن لا تسير غداً معي
وما انا إن خلفتها متأسفاً ... عليها وقد حلّت بأكرم موضعي
ولكن أخاف العمر في البين ينقضي ... على ما أرى والشمل غير مجمعي
يميناً بمن ودعته ومدامعي ... تفيض وقلبي للفراق مودعي
لئن عاد لي يوماً بمنعرج اللوى ... وأصبح سرى فيه غير مروعي
غفرت ذنوباً أسلفتها يد النوى ... ولم أشك من جور الزمان المضيع
وسرت أمالي بيوم لقائنا ... ومتّعت طرفي بالحبيب ومسمعي
وفارقت أياماً تولّت ذميمة ... وقلت لأيام السرور ألا ارجعي
وله، وقد سير له الملك الناصر صلاح الدين يوسف - رحمه الله - فرجية ويسأل عن حاله فكتب إليه مع الرسول:
أقول لدمعي حين ساروا بمهجتي ... لقد خفت أن تبيض عيني الآقف
فقالت جفوني لا تجف فيض عبرتي ... فبشراك قد أوفى قميص ليوسف
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
يا كاتباً قبّلت ماخطّه ... إذ بعدت يد الكاتب
وغائباً في خاطري حاضر ... وغائباً أفديه من غائب
قد سرت يا مولاي في خجلة ... لأنني قصرت في الواجب
وإنما أذنبت كيما أرى ... فضلك في العفو عن التائب
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
أحن إلى قلب ومن فيه نازل ... ومن أجل من فيها تحب المنازل(3/312)
وأشتاق لمع البرق من نحو أرضكم ... ففي البرق من تلك الثغور رسائل
يريحني مرّ النسيم لأنه ... بأعطاف ذاك الرند والبان سائل
وإن مال بان الدوح ملت صبابة ... فبين غصون البان منكم شمائل
ولي أرب أن يترك الركب بالحمى ... لسيال دمعي وهو للركب سابل
وفي أنه لا ينقضي او أراكم ... وأنظر نجداً وهو بالحيّ آهل
ترى هل أراكم أو أرى من يراكم ... فأبلغ منكم بعض ما انا آمل
وأحظى بقرب الطيف منكم وإنه ... ليقنعني من وصلكم وهو باطل
أطالب جفني بالمنام وكم غدا ... مواعدني أن يلتقي وهو ماطل
يطيلون تعذيبي بكم وأطيله ... وما لي منكم بعد ذلك طائل
كتب إلى خاله عون الدين يروي لنا حديث المعالي عن عطاء ونافع:
أمولاي عون الدين يروى لنا ... حديث المعالي عن عطاء ونافع
بعيشك حدثني حديث ابن مالك ... فأنت له يا مالكي خير شافع
كتب لسعد الدين محمد بن عربي وقد عزموا على الخروج بملتقى والده الصاحب كمال الدين، وقد عاد من الموصل سنة ثلاث وخمسين وست مائة، كان مقيماً برفيق يعرف بنجم الدين بن أبي الطيب:
النجم مصاحبي قوى العزم ... ما عندي ما يركبه العدم
والعبد يرجى إن آتى صحبتنا ... إذ يسرع أدبر يا بشير النجم
فسيّر إليه بغلته وكتب إليه:
البغلة قد أضحت بحسن النظم ... سمعاً وانت مطيعه للرسم(3/313)
بشراي إذا يصحبه النجم لنا ... فالسعد مقارن لهذا النجم
وكتب القاضي مجد الدين إلى سعد الدين المذكور، وقد لاذ بابن المولى الكاتب للإنشاء في شغل له:
عجباً من صرف دهر فاعل ليس أولى ... جاهتي لاذ منه عزى بابن مولى
فأجابه سعد الدين:
لم ألذ بابن مولى إنما لذت بمولى ... فهو مجد الدين ذو الفضل الذي أخجل طولا
وكتب القاضي مجد الدين إلى بدر الدين عبد الواحد وهو غائب عن والده كمال الدين وكان خاله - رحمهم الله تعالى:
يا راقياً رتبة المعالي ... وجائزاً أشرف الخلال
حاشاك أن تلبي احتيالاً ... ترهب قدراً عن احتيالي
وأشكر لدهر حباك حالاً ... أنت به في الزمان خالي
من حاز حسناً بغير خال ... لم يك في غاية الجمال
فعد إلى كرم السخايا ... فبهجة البدر بالكمال
وله - رحمه الله - في غلام يلعب بالكرة:
لله ما احلى شمائل أغيد ... أجرى الدموع له عذار واقف
وكانما الكرة التي يسطو بها ... قلب لديه من جفاه واجف
وكأنما إنسان عين محبة ... وكأنما الجو كان برق خاطف
وقال - رحمه الله - وكتبها إلى الملك الناصر وقد حضر إليه في السماع فأصبح مجموعاً:
ومن بات يمرح في روضة ... فلم لا يحاكي غليل النسيم(3/314)
وقال - رحمه الله - وقد عشق الصدر البصري خيالته:
فلا تلم الصدر في عشقه ... فإن الملام بلا فائده
ومن ذي يرجى صلاح أمر ... غدا ذا مخيلة فاسده
وقال - رحمه الله تعالى:
مذ غدا الكهف له من يوسف ... صار بالنصر عزيزاً في الورى
قال بالإخلاص منه جنة ... وسقاها من يديه الكوثرا
بارك الله فيها دوحة ... لا يرى الطير فيها زمرا
فصلت للنور فيها قصص ... ما سمعنا مثلها للشعرا
وله، وكتب بها إلى خاله عون الدين وقد مات أخوه قطب الدين حسن - رحمه الله:
رحى الموت غدت بالقطب دائرة ... والصبر من بعده قد عز إلماما
فقلت للنفس ماهذا الغرور أما ... علمت حقاً بأن الكون أحلاما
ولست انسى لخال كان لي حسن ... فإن لي الآن خالاً جمّل الشاما
وكتب إليه نور الدين الاسعردي:
أمولاي مجد الدين شوقي زائد ... وفرط غرامي فيكم غير زائل
بحقكم ردّوا فؤادي فإنه ... يقدمكم يوم النوى بمراحل
فأجابه قاضي القضاة مجد الدين - رحمه الله - فقال:
فديتك نور الدين أتعبت خاطري ... وظل ينادي في جميع المنازل(3/315)
وينشد قلباً منك أصبح شارداً ... ومنى وأضحى هائماً في المراحل
ويا ليت شعري لم يقدم سائراً ... وهلا غدا في كل أرض بنازل
فأجابه نور الدين الاسعردي:
أيا ما جداً عمّ الورى بالفواضل ... وفاقهم في سودد وفضائل
ويا شاكياً من أين رحت ممتعاً ... له خاطراً حاشاه من كل باطل
لئن راح قلبي سابقاً فهواكم ... له سائق أو سابق غير غافل
غدا طائراً لما دخلت مبشراً ... أمامك من يلقى بأكرم واصل
ويوم النوى أبدى عليّ تعصباً ... لبعدي عن نادي العلا والفضائل
فعزّ لي الربع الذي تسكنونه ... مخافة أن يشكى إلى غير عادل
ومن خوفه من أن يصادف عائقاً ... يقدمكم يوم النوى بمراحل
وبعد جعلني فيك قلب مولّه ... يهم ولا يصغى إلى قول عاذل
على انه لما غدا من خيالكم ... تقدم إذ بنتموا بمنازل
فراجعه قاضي القضاة مجد الدين جواباً عن جوابه:
يميناً لقد أهديت نور نواظري ... وأعربت عن شوق تحن حمائري
وأعربت في فضل صفا لك وده ... واعربت بالوجد المبرح خاطري
أيا حبذا در يروق نظامه ... أتاني عن بحر من الفضل زاخر
لله روضه قد علا الطرف بهجة ... سقى من سحاب من بنانك ماطر
ومالك من زهر تضوّع نشره ... يبشر قبول من بنانك عاطر(3/316)
معانيه راح والسطور تساكر ... فإن رحت سكراناً فكن فيه عاذري
شموس معان بالمداد تبرقعت ... مخافة أن يغشى عيون النواظر
سرى في ظلام النفس طيف حديثكم ... فيا لك من طيف لعيني وناظري
رأى الطرس قفراً والسطور رواحلا ... فوافى إلى صبّ لبعدك ساهر
وكتب قاضي القضاة مجد الدين إلى النور الاسعردي صحبة فاكهة:
أيها النور الذي يجلو الغسق ... وجهك هذا قمر إذا اتسق
عيناك تدنو دنو من وفق ... نحو غلام وكتاب وطبق
وإن تشأ فاقرأ أوائل الفلق
فأجابه النور الأسعردي المذكور:
يا ماجداً إلى يدي الفضل سبق ... ومن سما نحو المعالي وسبق
يا حبذا منك كتاب وطبق ... وحبذا الغلام لو كان يقق
وقال قاضي القضاة مجد الدين - رحمه الله: رأيت في النوم ليلة الخميس تاسع جمادى الآخرة سنة تسع وستين وستمائة كاني قاصد الدخول إلى بلدة صغيرة، فقيل لي: إن نجم الدين محمد بن إسرائيل قد صار كاتباً عند الوالي بها، فعملت في النوم ارتجالاً:
إلى كم ذا تغررك الليالي ... وتبدي منك حالاً بعد حال
فطوراً شيخ زاوية وفقر ... وطوراً كاتب في باب وال(3/317)
وقال: ثم استيقظت وانا احفظها. وممن رثاه العالم الفاضل شهاب الدين محمود بن سليمان بن فهد الحلبي كاتب الدرج بقوله:
أقم يا ساري الخطب الدميم ... فقد أدركت مجد بني العديم
هدمت وكنت تقصر عنه بيتاً ... له شرف يطول على النجوم
قصدت ذوي الكمال فعاجلتهم ... بذاك يحلى عقدهم النظيم
وإن تكنّف بابهم الرزايا ... حللت من المعالي في الصميم
أتدري من أصبت وكيف أمست ... بل العلياء دائمة الكلوم
وكيف رفعت قدر الجهل لما ... حفظت منار أعلام العلوم
ومكنت الصغار من الأيامى ... وسلطت الشفاء على اليتيم
ولم ينزل بوفد الرفد أندى ... سطاك سوى البكاء على الرسوم
عبرت وقد ضللت بطود علم ... أما تمشي على السنن القويم
بمن أودى بصرف الدهر قرماً ... فثار عليه للثأر القديم
بمن بسط الندى فأفاض عدلاً ... يكف الليث عن ظلم الظليم
صحيح الزهد غادره تقاه ... وخوف الله كالنضو السقيم
فكم قد بات وهو من الخطايا ... سليم النفس في ليل السليم
وكم أورى هداه لمستضيء ... وكم أورى هداه على هشيم
مضى وسراج منزلة البرايا ... ومورد بيته قلب القيوم
وودّع والثناء على علاه ... يفوق مضاعف البيت العميم(3/318)
وساد وكان للفضلاء منه ... حنوّ المرضعات على الفطيم
وغاب فاسمع الاسماع لفظاً ... أرقّ من المدامة لنديم
أمجد الدين دعوة مستنيم ... لأنواع الكآبة مستديم
حللت من الجنان أجلّ دار ... وقلبي حلّ بعدك في الجحيم
فما لي غير حزني من صديق ... وما لي غير دمعي من حميم
إذا ما سام نوى الأنس طرفي ... ليمطرني همامي بالهموم
سقاك من الجنان رحيق لطف ... يدار عليك مفضوض الختوم
ولا برحت ركاب المزن تسري ... إلىمثواك مطلقة الرسيم
وقال أيضاً يرثيه:
رقاد أبى إلا مفارقة الجفن ... وقلبي نأى إلا عن الوجد والحزن
أبيت وراحي أدمعي وكآبتي ... لدوستي وحزني مؤنسي والأسى حزني
وأضحى وطرفي يحسد العمى إذ يرى ... حمى المجد يغشاه الخطوب بلا إذن
ألا في سبيل المجد مجد وادقع ... وهبتهما للبرق إن كل والمزن
لأنهما سنا الحدود وأقبلا ... يزوران في سود الملابس والدكن
ثوى المجد في حزن من الأرض فاعتدت ... تتيه على سهل الربى روضة الحزن
واسمع ناعيه أصم ضريحه ... فأضحى لما لاقى من الرعب كالعهن
سطا فقده بعد الكمال على العلا ... فهدت وأقوى الضعف وهي على وهل
وكان لوفد الجود مغناه كعبة ... يطوفون فيها من يمينه بالركن(3/319)
فأضحت وهذا القلب مرمى جمارها ... وأمست وهذا الطرف مجرى دم البدن
وكان يفوت البرق إن رام شاءه ... إلى جمع أشتات العلى وهو شنآن
وكانت فتاويه تخال فروعها ... لتحقيقه يثنى على القطع للبطن
غدت بعده كأس العلوم مريرة ... وكانت به من قبل أحلى من الأمن
وكأن سماء الدست من بعد شخصه ... تغشى محياها عيون من الدجن
كأن عروس الفضل عزت قطوفها ... وطالت وقد غاب المذلل والمدّن
أظن ربوع الدرس حان دروسها ... وقد غاب عنها حين غاب ومتقن
وأضحت معاني النظم بعد فراقه ... شوارد لا يأوي من اللفظ في كن
وأمسى صميم العلم إذ ذاك أعزلا ... يصول عليهالجهل بالرشق والطعن
أبحر الندى طود المعالي وإنه ... ليغني عن التصريح باسمك من يكنى
حللت بزعمي في الزعام وإنه ... لمن تحته يبل ومن فوقه يطنى
ووافيت بيتاً كنت حرف حلوله ... ووحشته ترك الكرى طاوي البطن
وأوحشت من قد أضحت الأرض داره ... وآنست من قد حل في جنتي عدن
أمرّ على مغناه كي يذهب الأسى ... لعادته الأولى فيغري ولا يغني
وتنثر عيني لؤلؤاً كان كلما ... يساقطه من فيه يلقطه اذني
وأحسد عجم الطير فيه لأنها ... تزيد على إعراب نظمي باللحن
وأقسم إن الفضل مات لموته ... ويخطر في إذني أخوه فاستثنى
؟ عبد الله بن الحسن بن إسماعيل بن محبوب أبو محمد بهاء الدين البعلبكي.(3/320)
كان من اعيان البعلبكيين ورؤسائهم وعدولهم، تولى جهات ديوانية، فمنها الحوائج خاناة في الأيام الصالحية والعمادية، ونظرها في الأيام الناصرية الصلاحية، ونظر بعلبك آخر الأيام الناصرية، واستمر إلى اوائل الدولة الظاهرية، وباشر نظر الجامع بدمشق مدة يسيرة، ونظر المارستان النوري - رحمه الله تعالى - بدمشق مدة أخرى، ونظر الأسرى بدمشق إلى حين وفاته، وباشر نظر الديوان للأمير فارس الدين الأتابك - رحمه الله - بالشام وغير ذلك.
وكان مشهوراً بالأمانة والخبرة ومعرفة صناعة الكتابة، حسن المجالسة؛ وتوفي بدمشق ليلة الجمعة سلخ ذي القعدة أو مستهل ذي الحجة، وصلي عليه بجامع دمشق عقيب صلاة الجمعة، ودفن لمقابر الصوفية، وقد ناهز ثمانين سنة وربما تعداها - رحمه الله تعالى.
؟؟ عبد الله بن الحسين بن علي بن عبد الله أبو عبد الله مجد الدين الكردي الرازي الشافعي. كان فقيهاً فاضلاً كثير الديانة والتعبد، عنده مواددة ولطف ولين جانب وتواضع، درّس بالكلاّسة شمالي جامع دمشق وأمّ بالتربة الظاهرية مدة يسيرة منذ فتحت إلى حين وفاته، وتوفي بدمشق يوم الجمعة سادس عشر ذي الحجة، ودفن من يومه بعد صلاة الجمعة والجنازة عليه بجامع دمشق بماقبر الصوفية وبلغ من العمر ستاً وستين سنة - رحمه الله تعالى.
عبد الله بن عمر بن نصر الله أبو محمد موفق الدين الأنصاري صاحبنا.(3/321)
كان اديباً فاضلاً مقتدراً على النظم، وله مشاركة في علوم كثيرة، منها الطب والكحل وغير ذلك من الفقه والنحو والأدب، ويعظ وهو حلو النادرة حسن المحاضرة، لا تملّ مجالسته، وعلى ذهنه من التواريخ والحكايات والأشعار وأيام الناس شيء كثير، وكان أقام بالديار المصرية مدة، ثم استوطن بالشام مدة أكثرها ببعلبك ثم عاد إلى الديار المصرية في السنة الخالية واستوطنها، فلم تطل مدته بها حتى ادركته منيته، فتوفي إلى رحمة الله ليلة الجمعة مستهلّ صفر بالقاهرة من غير مرض، بل عرض له قولنج ليلة وفاته، فمات من وقته، وقد نيف على خمسين سنة من العمر - رحمه الله. وشعره كثير جداً، ويقع له فيه المعاني الجيدة، وكان يكتب خطاً حسناً، ويترِسّل في مكاتباته، وعنده لطافة كثيرة ورقة حاشية، ودماثة إخلاق، ومدة مقامه ببعلبك لا يكاد ينقطع عني. من شعره:
يذكرني نشر الحمى بهبوبه ... زماناً عرفنا كل طيب بطيبه
ليال سرقناها من الدهر خلسة ... وقد امنت عيناي عين رقيبه
فمن لي بذاك العيش لو عاد وانقضى ... ليسكن قلبي ساعة من وجيبه
إلا ان لي شوقاً إلى ساكن الغضا ... أعيذ الغضا من حره ولهيبه
أحنّ لذيّال الجناب ومن به ... يشكرني ذاك الذى من جنوبه
أخا الوجد إن جاوزترمل محجّر ... وجزت بمأهول الجناب رحيبه(3/322)
دع العيس تقضي وقفة بربا الحمى ... ودع محرماً يجري بسفح كثيبه
وقل لغريب الحسن ما فيك رحمة ... لمفرد حزن في هواك غريبه
متى غرّد الحادي سحيراً على النقا ... أمال الهوى العذري عطف طروبه
وإن ذكرت للصبّ أيام حاجر ... هناك تقضي نحبه بنحيبه
وفي الحي نشوان المماثل عاشق ... محب له شكر بذكر حبيبه
إذا ما سبته في النسيم لطافة ... ينازعه أشواقه بنسيبه
وقال أيضاً - رحمه الله:
أسائل طرفي عن جنابك في الكرى ... فيخبر سهري أن جفنك راقد
ويحسب وكراً ناظري طائر الكرى ... وما هو إلا للسهاد مصائد
وقال أيضاً - رحمه الله:
هيفاء ما هذا النسيم قوامها ... إلا وقال الغصن لبنى قد سبى
هي نور عيني لا ترى ولها أرى ... فهي البعيدة في االمكان الأقرب
وقال - رحمه الله تعالى:
قلبي وطرفي في ديارهم ... هذا يهيم بها وذا يهمي
رسم الهوى لما وقفت بها ... للدمع أن يجري على الرسم
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
من سكره منك بقد وريق ... ماذا له يجدى كؤوس الرحيق
ومن يكن طرفك خمارة قل ... لي متى من سكرة يستفيق(3/323)
رق شرابي ونسيم الصبا فالعيش بالساقي عيش رقيق
إذا انقضى سكري وشاهدته ... حدد لي سكراً بخمر عتيق
مديرها مشمولة من كل ... شمائل القد القويم الرشيق
راح دع اللاحي على شربها ... يهوي به الريح مكاناً سحيق
ما العيش إلا أن تراني بها ... سكران لا أدري أين الطريق
إن قلت سكرى فنازلها ... هذا دم في الكأس منها أريق
تشابهت والصبح في نورها ... ففرق الساقي بفرق دقيق
ومرقب ثوب الضحى فانثنى ... من نزلها يرقى بخيط رقيق
لصاحبي موهت عن خانها ... فقلت قصدي نحو وادي العقيق
ومذ بدت كأساتها في الدجى ... غالظها عنها بثأر الفريق
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
يا عائباً ما جرى ذكراه عن جلدي ... إلا عدمت اشتياقي نحوه جلدي
ولا سرى في الصبا من جنة خبرا ... إلا تأوهت من وجدي ومن كمدي
ولا عزمت على سلوانه غلطاً ... إلا وجدت خيالاً منه بالرصد
ولا ما تذكرت أياماً به سلفت ... إلا وضعت يدي خوفاً على كبدي
يا عائباً أقسمت عيني بطلعته ... مذ غاب لا نظرت يوماً إلى أحد
ما كان أيامي مقرونة بقربكم ... والشمل مجتمع والعيش في رغد(3/324)
ترى تعّود أوقات بكم سلفت ... هيهات وا أسفى ما فات لم يعد
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
لي عند ساكنة الكثيب ديون ... أبداً تقاضيها جوى وحنين
من لم يكن في الوصل منها باذلاً ... للروح منه فإنه مغبون
يا فتية ما فاز منها بالمنى ... إلا فتى بجمالها مفتون
كيف السبيل إلى المزاروكل من ... في الحي غير أن عليك أمين
وقال أيضاً:
يا سعد إن لاحت هضاب المنحنى ... وبدت أثيلات هناك تبين
عرّج على الوادي فإن ظباءه ... للحسن في حركاتهن سكون
ايه نسيم البان من اخبارهم ... زدني حديثاً فالحديث شجون
إن ضيعوا عهدي فعهد هواهم ... بين الجوانح سره مكنون
وحياتهم إن السلوّ فإنه ... شك وأما حبهم فيقين
وقال أيضاً - رحمه الله:
لا غرو إن سلبت بك الألباب ... وبديع حسنك ما عليه حجاب
يا من يلذ على هواه تهتكي ... شغفاً ويعذب لي عليه عذاب
حسبي افتخاراً في هواك بأن لي ... نسباً به تسمو به الأنساب
أحبابنا وكفى عبيد هواكم ... شرفاً بأنكم له أحباب
يا سعد مل بالعيس حلة منزل ... أضحى لعزة ساكنيه يهاب(3/325)
ربع تودّ به الخدود إذا مشت ... فيه سليمى إنها اعتاب
كم في الخيام أهلذة هالاتها ... تبدو لعينك برقع ونقاب
وشموس حسن أشرقت انوارها ... أفلاكهن مضارب وقباب
شنّوا على العشاق غارات الهوى ... فإذا القلوب لديهم أسلاب
من كل هيفاء القوام إذا انثنت ... هز الغصون بقدها الإعجاب
تهب الغرام لمهجة في أسرها ... فجمالها الوهّاب والمنهاب
وغدت تجرّ على الكثيب برودها ... فإذا العبيرلدى ثراه تراب
رقّ النسيم لطافة فكأنما ... في طيّه للعاشقين عتاب
وسرى يفوح معطراً وأظنه ... لرسائل الأشواق فيه جواب
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
إذا لمعت من جانب الحي نارها ... فلا طالع إلا فيها استعارها
وإن سمعت أذناي نحوي خطابها ... خلا جملة الأشواق سراّ جهارها
فيسكر صحبي من صغار كؤوسها ... وأصحو إذا دارت عليّ كبارها
لي المقلة النجلاء كأس مزاجها ... غرام وما عين الفتور عقارها
وإن سفرت أطرقت صوناً لحسنها ... وكيف أرى من بالسفور استتارها
فما البدر إلا في سحاب نقابها ... وما الغصن إلا ما حواه إزارها(3/326)
سلا عن منى العشاق منها لواحظ ... تصحح أخبار السقام انكسارها
وميلاً إذا عاينتما بانة اللوى ... تميل فما غير القلوب ثمارها
علاقة حب من تقادم عهدها ... يجدد أثواب السقام أذكارها
منازل ليلى العامرية باللوى ... يخاف نواها حين يدنو مزارها
ليهن المطايا بالأراك منازلا ... مرابعها الفيحاء فاح عرارها
فعرّس بعيش الشوق يا عيس قد بدا ... بشيرا بأسفار الصلاح سفارها
ولذ من حمى الوادي بأكرم حلة ... يباح بها النادي وقد عز جارها
ملوك جمال خلد الله ملكها ... إذا عدلت جازت وطاب جوارها
أيا كعبة الحسن الذي بين أضلعي ... كما شاع شرع الحبير في خمارها
إليك قلوب العاشقين توجهت ... وأنت المنى لا حجبها واعتمارها
وقال أيضاً - رحمه الله:
طرفي على سنة الكرى لا يطرف ... وبخيله بخيالها لا يسعف
وأضالعي ما ينقضي زفراتها ... إلا وتدركها الدموع الذرف
شمت الحسود لأن ضنيت وما درى ... أني بأثواب الضنى أتشرف
يا عائبين وما ألذ نداهم ... وحياتكم قسمي وعز المصحف
إن بشّر الحادي بيوم قدومكم ... ووهبته روحي فما أنا منصف
قد ضاع في الآفاق نشر خيامكم ... وأرى النسيم بعرفها يتعرف
كيف المزار وما أتنت سمر الحمى ... إلا غدت سمر الرماح تقصف(3/327)
ويميتني في الحي أسمر قامة ... ومن الرماح مثقف ومهفهف
بدر تمنى البدر يحكي معجزاً ... من حسنه فبدا عليه تكلف
وقال أيضاً:
ولقد وقفت على منازل جيرة ... رحلوا فأجرى الدمع ذاك الموقف
وتعبت في طي النسيم رسائلي ... وسألته في نشرها يتلطف
حتى انثنى لشكايتي روح الحمى ... وغدت حمامته بشجوي تهتف
وقال أيضاً رحمه الله:
كم من أسير غرام في خيامهم ... طعين قدّ جريح الأعين النجل
من كل أسمر..... مبسمه ... بيض من البيض أو سمر من الأسل
وفي الهوادج من تهدي إذا أسفرت ... في الليل نوراً فتهدى الركب للسبل
وتخجل الشمس من إشراق طلعتها ... ألست تنظر فيها حمرة الخجل
وقال أيضاً رحمه الله:
خذاعنة الوادي فتلك زرود ... وميلاً عن الوادي فثم جدود
وإياكم سرب المها من تهامة ... فغزلانه يوم اللقاء أسود
ولا تردا ماء بمنعرج اللوى ... فليس به غير الدموع ورود
وعوجاً على تلك المعاهد بالحمى ... فلي عندها يوم الوداع عهود
أحن إليها والديار قريبة ... حنيني إليها والمزار بعيد(3/328)
وإني إذا زاد اشتياقي لأهلها ... وإن كان شوقي ما عليه مزيد
أعانق من نشر الشمال شمائلاً ... يرنحني تذكرها فأميد
وألثم من برد الثنايا مباسماً ... تجمع فيها الدر وهو فريد
وليلة حياني الخيال مسلماً ... وصحبي على شعب الرحال قعود
فعانقته حتى الصباح وبيننا ... حديث هوى أبديه وهو يعيد
ومائسة الأعطاف تذكي رضابها ... لهيباً لدى الأشواق وهو برود
تقول لرسلي كيف غاب وكم بدت ... بنار اشتياقي إن ذا لجليد
دعوه بغيري إن تشاغل قلبه ... فواجد غيري أنه لفقيد
ألفت وما أنوي الفراق بسلوة ... وإن فراقي من ألفت شديد
فلو مت عشقاً ثم عشت وقال لي ... تعود إلى ما كنت قلت أعود
وما الحب إلا أن تروح وتغتدي ... بثوب الضنا يبليك وهو جديد
وقال أيضاً رحمه الله:
طاب السماع فغنني يا مطربي ... وأعد نعيمي من حديث معذبي
لا تسقني إلا كؤوس حديثها ... فلقد حلا بالسمع منها مشربي
إني لأطرب كيف ما ذكر اسمها ... فأرى العذول على هواها مطربي
ويمليني السكر القديم إذا جرى ... صرف الحديث ومن فمي لم أشرب
أجني لكي أجني ثمار عتابها ... فمتى عفت أبدأت حالة مذنب(3/329)
هذي المصونة في خلال جمالها ... سفرت فأي حشاشة لم تسكب
هتكت ببارق ثغرها ستر الدجى ... وتسترت في شعرها من غيهب
هي نور عيني لا ترى وبها أرى ... فهي البعيدة في المكان الأقرب
تبدو فيسترها بظاهر نورها ... أرأيت محتجباً ولم يتحجب
وتريك من فوق النقاب محاسناً ... أضعاف ما تبدي بغير تنقب
في طرفها سحر أغيد كمالها ... الفتان من عين الغزال الربرب
سحبت على سفح الكثيب ذيولها ... فتمسك الوادي بذاك المسحب
ونشقت ترب الحي إذ خطرت به ... فإذا انتشاق الطيب ليس بطيب
يحمي الحمى بضرائب من لحظها ... حبي ولا لحظ يمر بمضربي
خف قربها وكن البعيد تأدباً ... ففظيعتي كانت لفرط تقربي
ولئن تمتعني خلا قرباً بها ... فبذكرها مهما حييت تسببي
أهنئ الليالي إن تبيت مسهداً ... ما دام نجم الكأس غير مغرب
والدهر يبخل أن يجود بلذة ... فمتى يبح جسمي الخلاعة فانهب
وقال أيضاً رحمه الله:
سروا ببدور ليلهن الغذائم ... مبرقعة بالحسن والحسن سافر
فبات على الأضغان حمر وإنما ... عليها من السمر الرماح ستائر(3/330)
وفيهن من يهدي الركاب بنورها ... ويمشي به بدر الدجى وهو حائر
من السمر هيفاء القوام لقدها ... حديث به سمر القنا تتسامر
يرنّحها سكر الشباب فينثني ... على كل صاح عطفها يتساكر
رأى قدها قلبي فطار صبابة ... ولا غروان يصبو إلى الغصن طائر
بألحاظها آيات بحر تبدلت ... فواتر تقري والصحيح تواتر
لقد قلب الأعيان سحر عيونها ... فأصبح فيها عاذلي وهو عاذر
أيا عائباً عن ناظري وجماله ... بناظر فكرى تختلسه الضمائر
تميّل لي حتى أميل معانقاً ... إليك اشتياقاً مثل ما أنت حاضر
بريق الحمى حدث بأخبار لوعة ... لها من فؤادي بالحقوق تواتر
ويا نسمات الصبح قولي لراقد ... هناك الكرى إني لبعدك ساهر
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
جميعي لسان وهو باسمك ناطق ... وكلي قلب عند ذكرك خافق
وإني وإن لم أقض فيك صبابة ... فما أنا في دعوى المحبة صادق
خليليّ ما للبرق يخفق غيرة ... إبرق حماها مثلي وقلبي عاشق
وما للمطايا قد حداها اشتياقها ... أحبي لها مثلي يحنّ الأبانق
إذا ما حدا الحادي وعرّض باسمها ... تاوّه محزون وحنّ مفارق
تميل غصون البان شوقاً لقدها ... فينطق إشفاقاً عليها المناطق(3/331)
وينشق قلب للشقائق غيرة ... إذا حدقت يوماً إليها الحدائق
وقال أيضاً - رحمه الله:
رويت يا نفحة الوادي برياك ... إخبار سعدي فحيا الله مرآكي
ياا طيبة الشرب يا من لحظ ناظرها ... يصيد أسد الشرى عمداً بأشراكي
تلك الجفون تسمى اسرب فلقد ... يرد لو انه من بعض اشراكي
اسقاك من لحظة الفتاك راشفة ... عسى أعدّ به من بعض فتاكي
دعا هواك لاتلاف النفس فما ... ابقى الضنا عاشقاً إلا ولبّاكي
كوني كما كنت لا عينا ولا ملذا ... فكل قلب على ما فيك بنواك
إني أعيد جنوناً فيك هينمتى ... من طارق العقل يا أسما باسماك
يشكو لها الخصر ظلماً من مناطقها ... فيعطف العطف منها رقة الشاكي
ومذ حكى وجهها بدر الدجى شبهاً ... أبدى الجمال عليه كلفة الحاكي
وقال أيضاً - رحمه الله:
يا نازلين برامة والمنحنى ... هل ترجع الأيام تجمع بيننا
أم هل لماضي عيشنا من مرجع ... ورى رونقات بكم عادت لنا
ومناد خلق الشامائل واللمى ... فضح القضيب قوامه لما انثنى
تجلوه أذكاري لعين ضمائري ... فيرى قريباً والتباعد بيننا
كم قد ضللت بحندس من شعره ... حتى اهتديت بوجهه الباري السنا(3/332)
قابلته بالبدر ليلة تمّه ... فرأيت أدنى التزين الأحسنا
اما هواه فإنه باضالعي ... متمكناً وسلوه ما امكنا
يا للعجائب مع دوام ملاله ... لم ذا ترى جعل القطيعة ديدنا
وقال أيضاً:
يا سعد إن جزت العقيق وعاينت ... عيناك أعلام الحمى فلك الهنا
أرح المطايا في ظلال جويلع ... فلقد عناها في سراها ما عنا
ولئن سئلت عن الكثيب وحاله ... إن قد قضى شوقاً وما بلغ المنى
وقال بديهاً عندما شاهد بناء قبر أصحابه:
سقى جدثا ضم الحبيب ترابه ... ندي كل وسمى من الغيث هطال
أقول وقد أضحى يجدد بالبنا ... لقد رعت بالي يا جديداً على بالي
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
ما بين نجد وبين المنحنى عزب ... رضيت فيهم بتعذيبي فلم غضبوا
وبين جفني وبرق السفح عهد هوى ... أن لا يزال له منأدمعي سحب
يحلو العتاب لسمعي من حديثهم ... فيحسن الريب عندي كلما عتبوا
شنوا الاغارة والاحداق سالبة ... وكل قلب تمنى إنه سلبوا
إذا تهيأ بسمر من قدودهم ... أعيت بحسن محيا إنها لهب
مبرقعات تراأت من خيامهم ... مصونة ما سوى أنوارها تعب
تحجبت وخلت حسناً سلبت به ... فكيف لو ترفع الأستار والحجب(3/333)
وقال أيضاً:
لاتغررن بسيف الغمد مغمده ... وخذ أماناً فمن أحداقها الرهب
تلك الجفون تسمى بالعمود كما ... تلك اللواحظ من أسرابها القضب
يا عائبين وأشواقي بمثلهم ... حتى يخيل طرفي إنهم قربوا
إذا تذكرت عيشاً باسماً بكم ... سررت قدماً به أبكي وانتحب
عرب الحمى كيف لا يحمى نزيلكم ... في حيكم وله في حبكم نسب
أم كيف يحسن يا جيراننا بكم ... جور وقاماتكم للعدل تنتسب
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
أي يد للواحدات عندي ... إن شارفت بي هضبات نجد
معاهد يشتاقها قلبي إن ... طال بها على البعاد عهدي
سل يا بريق الحي هل غزاله ... باق على عهد الغرام بعدي
يا أهل ودي أنتم قصدي وما ... أحلى نداكم يا أهيل ودي
غدي عزيم الشوق إن عز اللقا ... منكم بوصل وأمطلوا بوعد
يطول تردادي إلى أبوابكم ... حلا لقلبي فاسعفوا ببرد
أخفى الهوى من حبكم بباطني ... أضعاف ما أظهره وأبدى
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
ترى عند من بالسفح علم بأن لي ... لأجلهم دمعاً على السفح يسفح
قضى الحب في شرع الغرام لناظري ... يشاهد جفني منه وهو مجرح
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
وماء شجاني في الحمى ورياضه ... وقد شقني شوقاً قوام مهفهف(3/334)
حمام شكا للغصن وجداً بقده ... إلى أن غدا من رقة يتعطف
فإن راح نشر الروض في الأفق ضائعاً ... فإن به عزف النسيم يعرف
وما مالت الأغصان سكراً بطيبه ... فمن زهره قد دار ... قرقف
وقال أيضاً رحمه الله:
يا ليالي الحمى بعهد الكثيب ... إن تنأيت فارجعي عن قريب
أي عيش يكون أطيب من عي ... ش محب يخلو بوجه حبيب
يقطع العمر بالوصال سروراً ... في أمان من حاسد ورقيب
يتجلى الساقي عليه بكأس ... هو منها ما بين نور وطيب
كلما أشرقت ولاح سناها ... آذنت من عقولنا بغروب
خلت ساق المدام يوشع لما ... رد شمساً بالكأس بعد المغيب
نغمات الراووق يفقهها الكأ ... س ويوحي بنشرها للقلوب
فلهذت يميل من نشوة الكأ ... س طروباً من لم يكن بطروب
يا نديمي اسمأل أم شمول ... رق منها وراق بي مشروبي
أم قدود السقاة مالت فملنا ... طرباً بين واجد وسليب
أم نسيم من هاجرت هب وهنا ... فسكرنا بطيب ذاك الهبوب
أم سرى في الأرجاء من عنبر الج ... وأريج بالبارق الشبوب
ما ترى الركب قد تمايل سكرى ... وأمالوا مناكبها لجنوب(3/335)
لست أبكي على فوات نصيب ... من عطايا دهري وأنت نصيبي
وصديقي إن عاد فيك عدوي ... لا أبالي ما دمت لي يا حبيبي
وقال أيضاً رحمه الله:
حدّث فقد حدثتنا نسمة السحر ... عن جيرة بظلال الضال والسمر
واستودعت سرهم في طيها وسرت ... فأسكرتنا بنشر المندل العطر
موهت صحبي عنها إذ غرفت بها ... غرفاً فقلت نسيماً فاح عن زهر
فكيف يخفي وريّاها روى خبراً ... يشيم طيباً بها من ذلك الخبر
أمر بالدار من شوقي لمن رحلوا ... عنها فأقتنع بعد العين بالأثر
يا نسمة الغصن في لين وفي هيف ... لا كان قلب عليك الدهر لم يطر
أراك في كل مشهود لأنك في ... طرفي مقيم فقد أصبحت لي نظري
وقال أيضاً رحمه الله:
ذكرت مرابعها بجرعاء النقا ... فصبت لمغناها القديم تشوقا
فتفرقاً يا حادياها حسبها ... حاد من الأشواق أن يتفرقا
حنت لعهدة أنسها فتجردت ... وصبت إلى مرقي عزيز المرتقى
يا صاحبيّ تعرضا بي للحمى ... إن أنتما جاوزتما كثب النقا
وخذا إماماً من لحاظ ظبائه ... فيغير قلبي سهاماً لا يتقى(3/336)
آها لفتنة مقلة سحارة ... أعيت بقلبي ما يداوي بالرقى
راجعت في شرع الغرام صبابتي ... لما غدا صبري عليه مطلقا
أملت أن تدنو الديار وتكتفي ... هذي الديار دنت وعز الملتقى
أمرت قلبي بالتصبر طلة ... فوجدت باب الصبر عنه مغلقا
أحبابنا قسماً بليلة وصلنا ... وبغيرها وحياتكم لن أصدقا
عندي لعرفتكم حديث صبابة ... أودعتها سرى ليوم الملتقى
وقال أيضاً رحمه الله:
سفرت وقد ستر الجلال جمالها ... فاهجر منامك إن أردت وصالها
إياك يخدعك الحسود بقوله ... قلب هواك فقد تمل ملالها
ولربما عتبت عليك تذللاً ... فكن الذليل فما ألذ دلالها
شمس بقلبي ... أو ما ترى ... شفقاً بدمعي مذ بكيت زوالها
ونباله الأجفان درع تصبّري ... مما يعين على نفوذ نبالها
الورد يشبه أن يكون شقيقها ... في وجنة والمسك يشبه خالها
ما انطلق الخصر النطاق بسقمه ... إلا وأخرس ساقها خلخالها
غار النسيم وقد توهم قدها ... ألفاتميل لإلفتي فأمالها
لي مدمع دفق على جريانه ... بين المنازل سائل أطلالها
تلك المنازل إن أتاها سائل ... غير المدامع لا يجيب سؤالها
وحشاشة رضيت بأن تفنى اسى ... في حبكم ما للعذال ومالها(3/337)
وقال أيضاً - رحمه الله:
ما للركائب من نشر الصبى سكر ... هل جاء في طيها من رامة خبر
أولا فما لرجال القوم قد عبقت ... وفاح في الجو نشر عرفه عطر
لطيب نفحتها برد على كبدي ... ونار شوقي بها في القلب تستعر
أية سيري بأخبار الحمى كرماً ... كرّر عليّ فأخبارالحمى سمر
يا جيرة غدروا من غير ما سبب ... رقوا فأدمع عيني بعدكم غدر
أهلاً لأيام وصل كلها أصل ... ولّت وليلات قرب كلها سحر
أفدي بروحي الذي ما غاب عن بصري ... إلا وتجلوه لي الأشواق والفكر
ولا سرى البرق يهدي منه لي خبراً ... إلا وعند فؤادي ذلك الخبر
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
نقل الأراك بأرن ريقة ثغره ... من قهوة مزجت بماء الكوثر
قد صح ما نقل الأراك لأنه ... يرويه نصاً عن صحاح الجوهري
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى: أبياتاً سمعتها منه فطلبتها منه بعد صلاة المغرب، فراح يكتبها لي، فسيرها بعد عشاء الآخرة من تلك الليلة، وقد أضاف إليها على الوزن والروى ما يتضمن المدح، فأضربت عن معظم ذلك، وهذه الأبيات الأولة:
مقلقل القلب بكم ساهر ... ما آن أن يجبره الكاسر
ومشتك منكم إليكم متى ... ينظر في قصته الناظر
ووارد صار إلى وصلكم ... تراه عن رأي بكم صادر(3/338)
يا هاجراً أثبت لي رتبة ... من شرفي إنك لي هاجر
وجائر يطعمني عذله ... قلت له لا عدم الجائر
وواعد يعجبني مطله ... إن كنت أحرى أنني صابر
وما على حتفي من جفنه ... سل حسام لأنبأ باتر
يا غصناً قلبي على قده ... إذ انثنى غيرة طائر
بالله ما كان الحمى منزلاً ... حتى حماه طرفك الفاتر
وروضة ما طاب لولا سرى ... فيه سحيراً نشرك العاطر
بي حاجر عني لذيذ الكرى ... تشوقي من أجله حاجر
لا غزو إن حن فؤادي به ... وقد دعاني طرفه الساحر
أكن موسى عادني باسمه ... يا من شكا إني له شاكر
رب اليد البيضاء كم سودت ... مولى وأولى فضلها الغابر
أنامل عشر غدت آية ... أولها ليس له آخر
كم ضربت صخرة إعدامنا ... في سفره ناه بها الساتر
فانبجست منها عيون الندى ... فللوجا عين له ناظر
ترى سواد المجد مستيقظاً ... يرقبها إن هجع السامر
وقال منها أيضاً:
إذا حبال الحرب في سعيها ... حلها من سحره الكافر
تلففت يفتته إفكها ... فانقلب الساحر والساخر
بلاغة يسجد شكراً لها ... أن أنصف الناظم والناثر(3/339)
موروثة عن نسب طاهر ... يا حبذاك النسب الطاهر
مولاي قطب الدين يا ابن الذي ... بوجهه نور الهدى الباهر
ومن وجوه الحق إن أعطيت أبدى سناها كشفه السافر
ومن إذا ما هتكت حرمة ... غطى عليها ذيله الساتر
ينبوع حين الجمع واردها ... إن صدّ عنها وارد صادر
والمشرع العذب الذي صدره ... بحر من العلم به زاخر
مدير كأس الحب في حضرة ... يغيب فيها خاطر حاضر
إذا جلا من كشف عرفانه ... والعرف من أنفاسه عاطر
في مجلس التذكير من وعظه ... خير فيه فاهتدى الحائر
خطبت من عبدك يا مالكي ... عروس سقر صانها الشاعر
ولم يكن أهلاً لأمثالكم ... وإنما لطفكم الجابر
وهي على استخبائها أقبلت ... وذيلها من خجل عاثر
لا تبتغي مهراً سوى ودكم ... أشرف ما حصّله تاجر
لو رامها غيركم لانثنت ... وعطفها من صلف شامر
زارت حماكم في الدجى خلسة ... فقل لها يا حبذا الزائر
وليس بالقصد لها عادة ... لو اقتضاها جودك الآمر
إن كان في عصيانها فاطر ... يوماً ففي طاعتها غافر
وذكر - رحمه الله تعالى: إنه رأى الحسين بن علي عليهما السلام في المنام، فقال له: مدّ المقصورة؛ قال: فوقع في خاطري إنه يشير إلى مقصورة(3/340)
ابن دريد، فخمّسها ورثى بها الحسين رضي الله عنه وهي:
لما أبيح الحسين صونه ... وخانه يوم الطراد عونه
نادي بصوت قد تلاشى كونه ... أما ترى رأسي حاكي لونه
طرّة صبح تحت أذيال الدجى
معفراً على الثرى بخدّه ... لم يرع فيه حرمة لجده
والسيف من معرفه بغمده ... واستعل المبيض في مسوده
مثل اشتعال النار في جذل الغضا
ومنية بالله من مخلفي ... يا رائحاً بالهودج المشرفي
ما هتكوا من سترة المتحف ... وكان كالليل البهيم حلّ في
أرجائه ضوء صباح فانجلى
تلك الدماء أجرت من العين الدما ... لما سرى الليل وغارت أنجما
قاض لها دمع جرى منسجماً ... وغاض ماء شرتي دهر رمى
خواطر القلب بتبريح الجوى
حبائب اسمين لي أغاديا ... أمضى مصابي بهم البواكيا
إذ بات جسمي في التراب ناديا ... وآض روض اللهو يبساً ذاويا
من بعد ما قد كان مجاج الثرى
أصبح حالي عبرة بل قدوة ... بعد ديار كي تسمى ندوة
رماني الدهر فأقضى عدوة ... وضرم النأي المشت جذوة
ما تأتلي تسفع أثناء الحشا(3/341)
مبرقعاً على العقيق قد عفا ... إذ غدر الدهر به بعد الوفا
وقفت فيه باكياً على شفا ... واتخذ التسهيد عيني مألفا
لما جفا أجفانها طيف الكرى
هم أهل ودادي إن وفوا أو غدروا ... أفديهم إن وصلوا أو هجروا
إن كان يرضيهم دم قد هدروا ... فكل ما لقيته يغتفروا
في جنب ما أسأره شحط النوى
يا زمني عن مجتني ماذا العما ... فوقت لي من الرزايا أسهما
الماء طرق وأموت من ظما ... لو لابس الصخر الأصم بعض ما
يلقاه قلبي فض أصلاد الصفا
يا دهركم هذي الجفون والأحن ... صبراً لها صبراً عليها من محن
هو الهزال لا يغرنك سمن ... إذا رأى الغصن الرطيب فاعملن
أن قصاراه نفاد وتوى
أشكو إلى الله وتلك قصة ... وعزم مثلي ليس فيه رخصة
وفي الجواب المشاع خصة ... شجيت لا بل أجرضتني غصة
عنودها أقتل لي من الشجا(3/342)
أفاطم على مصابي عددي ... فلو رأيت مصرعي بمشهدي
مثال ما سرك يوم مولدي ... أن يحم من عيني البكا تجلدي
فالقلب موقوف على سبل البكا
وأحربا من جائر تحكماً ... فتياً فأضحى نفساً مقسماً
ما مر بي هذا القضاء توهماً ... لو كانت الأحلام نا جتني بما
ألقاه يقظان لأصماني الردى
إن الليالي تبارزت بحربها ... وأخفت بركبها لنهبها
وأنزلت أهل العلى من عربها ... منزلة ما خلتها يرضى بها
لنفسه ذو أدب ولا حجا
قوسي ليوم عاقتني عائقه ... وساقني إلى الردى سائقه
أخلفني من وعده صادقه ... شيم سحاب خلب بارقه
وموقف بين ارتجاء ومنى
يا عصبة الحلم علينا تجهلوا ... كذى بأعضاء النبي تفعلوا
كأن على سواكم يرسل ... في كل يوم منزل مستوبل
يشتف ماء مهجتي أو مجتوى
هتك وفتك وأسار وجلاً ... ونسبة تسبي على رأس الملا
لو أنني في الجاهلين الأولا ... ما خلت الدهر يثنيني على
ضراء لا يرضي بها ضب الكدا(3/343)
علقت في أشراك خطب وتهن ... أرجو أنشاطاً في زمان قد زمن
وربما كنت وخوفي قد أمن ... أرمق العيش على برض فان
رمت ارتشافاً رمت صعب المنتسا
أصبحت محمولاً وكنت حاملاً ... وعامل الرمح بكفي عاملا
أيام وصل كان شملي شاملاً ... أراجع لي الدهر حولاً كاملاً
إلى الذي عوّد أم لا يرتجى
بقي العدو في عنادي مجتهد ... وخان من كنت عليه أعتمد
لا أعتب الدهر فعتبي لم يعد ... يا دهر إن لم تك عتبي فاتئد
فإن أراودك والعتبي سوا
رجحت بالعدل فلم بغضتني ... وقمت في الحق فلم عصيتني
حفظ عليك بعض ما.. ... رفّه عليّ طالما أنصبتني
واستبق بعض ما غصن ملتجي
أنا الذي قارعت القوارع ... وشيّبت عذاره الوقائع
فلم يرعه بعد ذاك رائع ... لا تحسبن يا دهر أني ضارع
لنكبة تعرقني عرق المدى(3/344)
أوصى إلينا أوبة لما دفن ... قال إذا ما خشن الدهر فلن
فكنت جلداً بوصاياه فمن ... مارست من لو هوّت الأفلاك من
جوانب الجو عليه ما شكا
أصبحت من مس الأذى معوذاً ... مجدداً صبراً غدا مجذذا
فإن شكوت لمن ذاك عن أذا ... لكنها نفثة مصدور إذا
جاش لغام من نواحيها غما
لست لما يرضي الحبيب مبغضاً ... ولا على أحكامه تعرضا
إن كنت لا أرضى اختياراً بالقضا ... رضيت قسراً وعلى القسر رضى
من كان ذا سخط على صرف القضا
يا صاحبي واللذان استعليا ... عن مصرعي بالله لا تخليا
وبالبقاء بعدي فلا تمليا ... إن الجديدين إذا ما استوليا
على جديد أدنياه للبلا
يا سائق الظعن عساك ترجع ... يا ديارا فرقت هل تجمع
لما أنادي والنوى لا يسمع ... ما كنت أدري والزمان مولع
بشت ملموم وتنكيث قوى
ابداني بالضعف بعد قوة ... دهر في رجائي رجوة
فهل فتي يسعد عن فتوة ... إن القضاء قاذفي في هوة
لا تستبل النفس من فيها هوى(3/345)
لله أيام على الخيف خلت ... قد سالت النفس وعنها ما سكت
جهلت فيها غاية ما جهلت ... فإن عثرت بعدها وإن وألت
نفسي من هاتاً فقولا لالعا
لأنكصن جهلها مهولة ... فإن وصلت غاية مأمولة
عقدت من عروقها محلولة ... وإن تكن مدتها موصولة
بالحتف سلطت الأسى على الأسى
وإن حدا بمهجتي حادي الردى ... واقتاد مني مطلقاً مقيدا
ما خبرني مجرداً عن مبتدي ... إن امرئ القيس جرى إلى مدا
فاعتاقه حمامه دون المدى
هي المنون طالما هدّت القوى ... وأورثت داء وما أعطت دوا
أما هوى قبل تقابيل الهوى ... وخامرت بفس أبي الجبر الجوى
حتى حواه الحتف فيمن قد حوى
وحتف سمون أعاد شمسه ... كاسفة سود منها عرسه
حتى لقد غيبت عنها حسه ... وابن الأشج القيل ساق نفسه
إلى الردى حذار أشمات العدى(3/346)
إن راح رأسي مفرداً عن جثتي ... أو مت عن قصد العلا بغصتي
قد قتلت عثمان شبه قتلتي ... واخترم الوضاح من دون التي
أملها سيف الحمام المنتضى
كذا فتى الخطاب جاء خاطباً ... فردا مغلوباً وكان غالبا
قضى عليه الدهر حتفاً واجبا ... فقد سما قبلي يزيد طالبا
شأو العلا فما وهي ولا ونى
وقام قبلي من عليه المعتمد ... أي الذي بحكمه حل العقد
يدعو إلى الحق بطرف ما رقد ... فاعترضت دون الذي رام وقد
جد به الجد اللهيم الأربي
لا غرو أن ساهمت سادتي الأولى ... في كل ما مر وإن كان خلا
ألست من بيت له يعزى الولا ... هل أنا بدع من عرانين علا
جار عليهم صرف الدهر واعتدى
فإن أحب سعياً يخطو يحتذي ... صبراً على النار فلست باللذي
كان يرى الموت بطرف قد قذى ... فإن أنالتني المقادير الذي
أكيده لم آل في رأب الثأي
ولا يلام الحظ في إدباره ... والضرب ما قصر من تثاره
إن قام فاستعلى لأخذ ثأره ... وقد سما عمرو إلى أوتاره
فاحتط منها كل عالي المستمى(3/347)
فطاول الهول قصير وضمن ... الثأر أخذاً فوفى بمن ضمن
وساق خيراً فيه مر مكتمن ... فاستنزل الزباء قسراً وهي من
عقاب لوح الجو أعلى منتمى
ورب وعد ما ارتضت همته ... حتى دعت لنفسه أمرته
ولم يزل وانقضت مدته ... وسيف استعلت به همته
حتى رمى أبعد شأو المرتمى
وراح نهب المنى مسارعاً ... وهجرها قواضباً قواطعا
طافت كؤوساً قطفت مواقعاً ... فجرّع إلا حبوش سما ناقعا
واحتل من غمدان محراب الدمى
وابن الفتي الجعد غزت فرسانه ... هوازناً فانبسطت بنانه
وأدرجت في هودج أكفانه ... ثم ابن هند باشرت نيرانه
يوم أوارات تميماً بالصلا
لم يتعلق بالدنايا ذمتي ... ولم تدنس بالخطايا عصمتي
وفي ترقي كل عال رتبتي ... ما اعتن لي بأس يناجي همتي
إلا تحداه رجاء فاكتمي(3/348)
من مبلغ مواردي بزمزم ... فإنني ضرح الحمى ودمي
يا سائقاً بمنجد ومتهم ... إليه باليعملات يرتمي
بها النجاء بين أجواز الفلا
ذكرت رمل الكثيب الأعفر ... فانجذبت مع سائق التذكر
تضرب في الرمل بتر مضمر ... خوص كأشباح الحنايا ضمّر
يرعفن بالأمشاج من جذب البرى
مورها من دمعها لا يرتحى ... حزناً وإن كان لقوم مزحا
سفائن البر ترآى سبّحاً ... يرسبن في بحر الدجى وبالضحى
يطفون في الآل إذا الآل طفا
مل أيها الحادي بها معرجاً ... للسهل أن الحزن ضاق منهجا
فقد سراها في الشجا ما قد شجا ... أخفافهن من حفاً ومن وجا
مرثومة تخضب مبيض الحصا
حدا بها الحادي لأرض النجف ... عيس جهلن العبر عن معرف
فابتدرت من غير ما توقف ... يحملن كل شاحب محقوقف
من طول تدآب الغدوّ والسرى(3/349)
قد صافحت ترب الحمى أردانه ... وناح للبين فأختي بانه
ولم يفارق قلبه أشجانه ... برّ بري طول الطى جثمانه
فهو كقدح النبع محنى القرا
من الأولى ولي أرباب الولا ... حيا الحياء قتلاهم بكربلا
يتلو مديح نبيهم مزملاً ... ينوي اللتي فضلها رب العلا
لما دحا تربتها على البنى
راح لها يقطع أجواز الفلا ... مكبراً. بدلوها فهلهلا
مكفكف الدمع لها تجملاً ... حتى إذا قابلها استعبر لا
يملك دمع العين من حيث جرى
غني له الحادي بليلي سحرة ... فصيرته العبرات عبرة
لقد أصاب إذ رماها جمرة ... وأوجب الحج وثنّى عمرة
من بعد ما عج ولبّى ودعا
في موقف يجري به الدمع دماً ... أشكو الليالي عنده تظلما
كم واقف قابله مسلماً ... ثمت طاف وانثنى مستلما
ثمت جاء المروتين فسعى
دعاه داعي الحج من رب العلا ... فابتدر السعي لها مهر ولا
يا حسنه في الرمل جاء مزملاً ... ثمت راح في الملبين إلى
حيث تحجى المازمان ومنى(3/350)
يميل إن هبت صبا يلفتا ... يستنشق المسك بها تعنتا
عجبت منه محرماً موقناً ... ثم أتى التعريف يقرو مخبتا
مواقفاً بين إلال فالنقا
مذ قربت من كان يخشى بعدها ... ادى صلاة الوصل يتلو حمدها
وتلك نعمى ليس يحصى عدها ... واستأنف السبع وسبعاً بعدها
والسعي ما بين العقاب والصوى
بات يراعيها بطرف ما رقد ... مقدماً في الهدى روحاً قد تقد
أو حل من إحرامه ما قد عقد ... وراح للتوديع فيمن راح قد
أحرز أجراً وقلى هجر اللغا
أقسم ولو أقسم بها مفرطاً ... ولم أخف من لي خرج تورطا
وجبريل معنا تحت الغطا ... بذاك أم بالخيل تعدو المرطى
ناشرة أكتادها قب الكلى
خيل إذا اشتاقت إلى المناهل ... أعرضن إلا عن دم المقاتل
صواهل بعنية صوائل ... يحملن كل شمّرى باسل
شهم الجنان خائض غمر الوغى(3/351)
سوى لبان المجد يوماً ما اغتذى ... وفي طريق الحد بالحمد احتذى
في البأس والبأساً لا يشكو أذى ... يغشى صلا الموت بحديه إذا
كان لظى الموت كريه المصطلى
لا حكماً يرضي محكماً ... إلا حساماً هزه مصمما
يشق جدول بحر الدما ... لو مثل الحتف له قرناً لما
صدته عنه هيبة ولا انثنى
تبسم والأهوال تبكي فرجة ... وكلما ضاقت رآها فرجة
فلو أباحت لحامها فرجة ... ولو حمى المقدار عنه مهجة
لرامها ويستبيح ما حمى
صاح الدما........ سكره ... شاك على الطعن استحق شكره
رب حروب ما أعز نصره ... تغدو المنايا طائعات أمره
ترضي الذي يرضى وتأبى من أبى
أقسمت بالداعي قد ابتهل ... بفيئة سباقة على مهل
من كل من في الحرب شاب واكتهل ... بل قسماً بالشم من يعرب هل
لمقسم من بعد هذا منتهى(3/352)
أمدحهم أهل العبا وكيف لا ... ولم أخف من مقول تقوّلا
قوم على المدح علوا تنزلاً ... هم الأولى إن فخروا قال العلا
بفي امرئ فاخركم عفر البرى
السادة الأبرار أعلام الهدى ... قبيلهم لم يرض بالدنيا فدا
قف باشراً ربعهم أو منشراً ... هم الأولى أجروا ينابيع الندى
هامية لمن عرا أو اعتفى
بحار علم حملوا الدنيا سخاً ... عليهم الدين بكاء مصرخا
أجبال حلم راسيات شمخاً ... هم الذين دوّخوا من انتخى
وقوّموا من صعر ومن صغا
هم الغيوث والزمان ماحل ... أبحر جود ما لها سواحل
مروا لمن عاد ومن وجلوا ... هم الذين جرعوا فما حلوا
أفاوق الضيم ممراة الحسا
اما وأسرار لها مكنونة ... سفن النجاة بالولا مشحونة
بل بسيوف منهم مسنونة ... أزال حشو نثرة موضونة
حتى أواري بين أثناء الحثي(3/353)
يحلني مع المنى وأمنه ... واليل في سهل الرجا وحزنه
بناظر سل عذار جفنه ... وصاحبي صارم في متنه
مثل مدب النمل يعلو في الربا
سيف يشام البرق عند ندبه ... يأبى الدماء اكلي من كسبه
قرابه يشلو الحفي عن قربه ... كأن بين عيره وغربه
مفتأداً تأكلت فيه الجذى
في نهره ما يشب جمره ... أزرقه بالموت يجلو أحمره
يصل إذا سل فأندى فجره ... يرى المنون حين تقفو أثره
في ظلم الأكباد سبلاً لا ترى
إن صادرته هجمة صادرها ... أو بادرته صدفة بادرها
وكم له من وقعة بادرها ... إذا هوى في جثة غادرها
من بعد ما كانت خساً وهي زكا
ما أحمر إلا أبيض منه عرضه ... وأوجب المنون ندباً فرضه
عضب غدا يبسط باعاً قبضه ... ومشرف الأقطار خاط نحضه
حابي القصيري جرشع عرد النسا(3/354)
مضمّر يتبعه سرب القطا ... إذا تنزى في طلب طوى الوطا
.........مع قرب الخطا ... قريب ما بين القطاة والمطا
بعيد ما بين القذال والصلا
لا عوج في الأصل راح ينتمي ... ويحتمي بالذابل المقوم
كان في لينه من صلدم ... سامي التليل في دسع مفعم
رحب اللبان في أمينات العجي
كأنه من ملك أوجنة ... يحتال من ربا الوغى في حنة
فديتها حوافر في حنة ... ركبن في حواشب مكتنة
إلى نسور مثل ملفوظ النوى
برهاب أوصاف له مقسومة ... عشر وخمس عدة مضمومة
ومع ثمان أربع مضمومة ... يدير إعليطين في ملمومة
إلى لموحين بألحاظ اللأى
قد ثبت القلب منيعاً صدره ... وصير الشرح رفيعاً قدره
وغادر النهج وسيعاً كسره ... مداخل الخلق رحيباً شجره
مخلولق الصهوة ممسود وأي(3/355)
بمثله تدرك أسباب الرجى ... وينجلي ليل الخطوب إن دجا
من ركب الهوى به فقد نجا ... لا صكك يشينه ولا فجا
ولا دخيس واهن ولا شطا
كم يقصد أعجل من أناته ... وطائر أجمع من شتاته
إن طاب للحرب فهو عاداته ... يجري فتجري الريح في غاياته
حسرى تلوذ بجراثيم السحا
إن سمعت صهيله بيض الظبا ... تهتز في صليلها تطرّبا
ويطرف السمر له تهيباً ... تظنه وهو يرى محتجبا
عن العيون أن دأي أو أن ردى
يرد أطراف القنا بصدره ... ويلتقي حد الظبا بنحره
أعيده في كره وفرّه ... إذا اجتهدت نظراً في أثره
قلت سنا أومض لو برق حفا
يسير صفراً لما في مصاغه ... كانصل إذ يعمد في فراغه
فانظر إلى التحجيل في إسباغه ... كأنما الجوزاء في إرساغه
والنجم في جبهته إذا بدا(3/356)
مضمّر بين الهزال والسمن ... كميت حسن في العيون قد كمن
وصارفي الإحسان أذخان الزمن ... هما عتادي الكافيان فقد من
أعددته فلينأ عني من نأى
ما زال سعي الدهر في مثوبة ... اما لبرء عادة منهوبة
أو لأقر الحق في معصوبة ... فإن سمعت برحى منصوبة
للحرب فاعلم أنني قطب الرحى
من غير فضل لم يكن تلفظي ... ولا بغير عصمة تحفظ
يا نائماً عن نصرتي تيقظ ... وإن رأيت نار موت تالتظى
فاعلم بأني مسعر ذلك الظى
يا صاحبي لا تخشى مني فترة ... والحرب قد متنت بقلبي جمرة
دعني فإما قتلته أو مرة ... خير النفوس الخابرات جهرا
على ظبات المرهفات والقنا
قل للذي فار قعلمي جهله ... ما هكذا الخيل يخبن خله
بنى النفاق قد أنجزتم نزله ... إن العراق لم أفارق اهله
عن شنآن صدني ولا قلى
وبالحجاز فتية راضعتهم ... واصلت أحزاني مذ قاطعتهم
لم يصبني الأقمار مذ شاهدتهم ... ولا اطبى عيني مذ فارقتهم
شيء يروق الطرف من هذا الورى(3/357)
سرت وقلبي في ماهم ماسرى ... وما أرى عنهم أتاني مخبرا
قوم عليهم وقف دمعي قد جرى ... هو الشناخيب المنيفات الذرى
والناس ادحال سواهم وهوى
أبي الذي ناب الديار نأيها ... على أسبق له عليها
من يهدي الهدى مهديها ... هم الحروب زاخراديها
والناس ضحضاح ثعاب وأضى
ما خا با قط نائب بقصدهم ... بل آثروا بزادهم من زهدهم
فضلهم لم يحصى مثل عدهم ... إن كنت أبصرت لهم من بعدهم
شبهاً فأغضيت على وخز السفا
أبكى الحسين بل أخاه السيدا ... أفديهما وقل مثلي الفدا
ولا يد تمدني ولا مدا ... حاشا الميرين اللذين أوفدا
عليّ ظلاً من نعيم قد ضفا
الحسنان الطاهران استنزلا ... ذكرهما متصلاً ومجملا
أبغي الشهيد منهما بكربلا ... هما اللذان أثبتا لي أملا
قد وقف اليأس به على شفا(3/358)
مدحهما وفّق من وفقه ... فكل من أسمعه صدقه
أسكرني ساق سقى ريقه ... تلا فيا العيش الذي رنّقه
صرف الزمان فاستساغ وصفا
كم طوفا فأنطقا مغردا ... يستعيد الألحان منه معبدا
وأوقفاني للثناء منشدا ... وأجريا ماء الحيالى رغدا
فاهتز غصني بعد ما كان ذوي
عليهما أثنى بطيب عاطر ... زاه غداً يصبى الصبا بزاهر
ما بين باد في الورى وحاضر ... هما اللذان سموا بناظر
من بعد إغضائي على لذع القذى
حبهما فرض أراه واجباً ... بغضهما صبّ أراه راضبا
حابيت في حبهما أقاربا ... هما اللذان عمّرا لي جانبا
من الرجاء كان قدماً قد عفا
إليهما عيس تعاجى لا ونت ... وعنهما بيض حجاجى لانبت
قد حركا لي ألسنا لا سكنت ... وقلداني منه لو قرنت
بشكر أهل الأرض عني ما وفى(3/359)
ترى مؤونتي على قوم نزل ... في الذكر لا أسألكم أجراً وسل
تسمع بأنبائهم تشفي العلل ... بالعشر من معشارها وكان كل
حسوة في آديّ بحر قد طما
إن الحسين مدحه قد زانني ... من سواه ذكره قد رابني
فلم أقل الجد قول ما جن ... إن ابن ميكال الأمير انتاشني
من بعد ما قد كنت كالشي اللقا
والحسن السيد خوفي قد أمن ... منه بحب في الضمير مكتمن
إن قلت في التقصير للقولضمناً ... ومدّ ضبعي أبو العباس من
بعد انقباض الذرع والباع الوزى
إن الحسين والنقي الطهر الحسن ... إن لم أنافس فيهما يوماً فمن
هل بهما قيس يقاس أو يمن ... نفسي الفداء لأميريّ ومن
تحت السما لأميريّ الفدا
أصبح سحبان لديّ باقلاً ... إذ عنهما قمت خطيباً ناقلا
مفاضلاً أعد لهما مفاصلاً ... لا زال شكري لهما مواصلا
لفظي أو يعتاقني صرف المنى(3/360)
أبكي الحسين فيهما وكيف لا ... وقد غدا مفضلاً مفصلا
لما ذكرت قتله بكربل ... إن الأولى فارقت من غير قلى
ما زاغ قلبي عنهم ولا هفا
ولم يكن كفوى من ناويته ... حتى يعاطى فضل ما أعطيته
ولا جهلت الحزم ما عاديته ... لكن لي عزماً إذا امتطيته
فمبهم الخطب فاآه فانفأي
لم أرى في غير المعاليمأرباً ... وللعوالي لم ازل محببا
أهوى عليه مقعداً مطببا ... ولو أشاء ضم قطريه الصبا
عليّ في ظل نعيم وغنى
كأنني حمامة حنّانة ... حامت على الدوح وقال حبّانة
لم يصبني غير العلى مكانة ... ولا عبتني غادة وهنّانة
تضني وفي ترشافها برء الضنى ...
حفت فلأعرف من بعلها ... واعتدلت حيث الصبا ميلها
وجملة الأمر الذي فصلها ... لو ناحت الأعصم لانحط لها
طوع القياد من شماريخ الذرا
يبعد ان يرقى المهابة بقى ... أحداقها تفرى دلاص الحلق
نبالها لا يتقيها متقي ... أو صابت القانت في مخلولق
مستصعب المسلك وعز المرتقى(3/361)
مسلم نفس في يد حنينه ... راهب دير فان من كمينه
مستوحش كالليث في عرينه ... ألهاه عن تسبيحه ودينه
تأنيسها حتى تراه قد صبى
وخشية ألفه لعربها ... إذا حدا في الليل حادي ركبها
أسكرني وهل نسيم قربها ... كأنما الصهباء مقطوب بها
ماء جنى ورد إذا الليل عسا
يخالها النعمان أو شقيقها ... يا زيد أنعمت في حريقها
كالكأس تجلى في جلي رحيقها ... يمتاحها راشف برد ريقها
بين بياض الظلم منها واللمى
يا معجباً من دمع عيني مهملاً ... يذكر روضا بالحمى ومنهلا
ومنزلاً إلى العقيق قد خلا ... سقى العقيق فالحزيز فالملا
إلى النحيت فالقريان الدنا
ربع العلا أفقر من أربابه ... وسورة الفتح على أبوابه
ومبسم الأفواه الأمير يترابه ... فالمربد إلا على الذي تلقى به
مصارع الأسد بألحاظ المها
ربع على منزله بقربه ... وأشرقت أنواره بغربه
وقد زها نوارها بتربه ... محله كل مقرم سمت به
مآثر الآباء في فرع العلا(3/362)
لئن زرد يوماً مقدماً فما رزوا
أكم خلق الله حوراً وحوز ... من الأولى جوهرهم إذا اعتزوا
من جوهر منه النبي المصطفى
فهم بحار العلم أو سفن النجا ... أطواد حلم لم يخب فيه الرجا
وثبت وحي لهداه الملتجى ... صلى عليه الله ما جنّ الدجى
وما جرت في فلك شمس الضحى
عين يزيل الغيم منها حاجباً ... فيشيم البرق العبور قاضبا
ويرسل الغيث لدمعي ساكباً ... جون أغارته الجنوب جانبا
منها وواصت صوبه يد الصبا
الشمس في غيوبه قد كورت ... والوحش من بريمه قد حشرت
ينظم وهرا كالنجوم انثرت ... نأي يمانياً فلما انتشرت
أحضانه وامتد كسراه غطا
صفا بها شاباً من الشوائب ... بكل لطف شابت الذوائب
ممدودة الأطناب في المضارب ... فجلل الأفق فكل جانب
منها كأن من قطريه المزن حبا(3/363)
حار على السرح وما أعدله ... لما حمى السبل لما سبله
وأطفا النور بما أشعله ... إذا خبت بروقه عنّت له
ريح الصبا تشب منها ما خبا
قنطارة توسع في إغرابها ... فيبعد المحل من اقترابها
هذا مع الإسراع في إيابها ... وإن ونت رعوده حدابها
راعى الجنوب فحدت كما حدا
إن نثرت جواهر من سلكه ... وانحل عقد خيطه وفركه
هبت صبا تجمع شعل هتكه ... كان في أحضانه وبركه
بركاً تداعى بين سجر ووحى
طاهره يبدو لمن تأملاً ... ركب يوالي أولا فأولا
ولو تراه طالعاً يا ابن جلا ... لم تر كالمزن سوا ما بهلا
تحسبها مرعية وهي سدى
رأى حمولاً قد تأمن رفعة ... وأقبلت أنواره من دفعه
فاعرف البلدة نور هقعة ... فطبق الأرض فكل بقعة
منها تقول الغيث في هاتا ثوى
ما نافعي منها بفلك أو سقت ... من بعد قتلى الطف لطمت أو سقت
هل من سواء أنجزهم إن استقت ... تقول للأجراز لما استوسقت
بسوقه تسقي بريّ وحيا(3/364)
فأخرج الحب به بعد الجبا ... وأطلق السبت ما ها للحبا
وفرق اللطف به كف الصبا ... فأوسع الأحداب سيبا محسبا
وطبق البطنان بالماء الروى
وطالما استخرجه من عيبه ... مستسقياً غمامه بسيبه
فأضحك العباس فضل شيبه ... كأنما البيداء غبّ صوبه
بحر طما تياره ثم سجا
إذا أناخ في الثرى بركبه ... اطلع تبراً زاهراً من تربه
يعرب في النادي بداً عن عربه ... ذاك الجدا لا زال مخصوصاً به
قوم هم للأرض غيث وجدا
سقتني الاخلاص منه درة ... وبالرضا قد حيلت لي قطرة
فلي على الصبر بذاك فطرة ... لست إذا ما بهظتني غمرة
ممن يقول بلغ السيل الزبى
كم وقفة للرمح فيها خطرة ... لم يجر فيها من دموعي قطرة
كفكفها وتلك نفس حرة ... وإن ثوت تحت ضلوعي زفرة
تملأ ما بين الرجا إلى الرجا(3/365)
لمتها بعفتي تسترا ... أو يرجع المظهر منه مظهرا
وإن دهتني أزمة كما ترى ... نهنهتها مكظومة كما يرى
مخضوضعاً منها الذي كان طغى
لست وإن أرب حيا في كربة ... وأعوزتني لمساغي شربة
يخضع يوماً من تناهي هضبة ... ولا أقول إن عرتني نكبة
قول القنوط انقدّ في الحرب السلا
أنا الذي طود حياتي قد رسا ... فلا ألين للعدو إن قسا
ابسم والخطب يرى معبساً ... قد مارست مني الخطوب مارسا
يساور الهول إذا الهول عسا
واعتدلت أفعال بطشي في القوى ... وصح ميزاني فخلاني سوا
فلا أميل لهواء وهوى ... لي التواء إن معادي التوى
ولي استواء إن موالي استوى
خلائق قد جبلت طهارة ... خذ عن عبير عيرها عبارة
في الذي يخشى ويرجى عارة ... طمعي شريّ للعدو تارة
والأري والراح لمن ودي ابتغى
ساءني الأضداد في تألفي ... أبدع في تركيبها مؤلفي
تنكرا ضمّ إلى تعرفي ... لدن اذ لوينت سهل معطفي
ألوى إذا خوشنت مرهوب الشدا(3/366)
لم يتقلقل الرزايا ربتي ... ولا دنت طوع لدينا همتي
وكل فضل راسخ من فضلتي ... يعتصم الحلم بجنبي حبوتي
إذا رياح الطيش طارت بالحبي
شيطان دنياي لا يوسوس ... وباطني كظاهري مقدس
عفة طهر حرها لا تنجس ... لا يطبئني طمع مدنس
إذا استمال طمع أو اطبى
إن شرفت فلم يشنع شاربي ... إذا شرقت من الدماء معاربي
فطا لما أدنى المنى مآربي ... وقد علت بي رتبا تجاربي
أشفين بي منها على سبل النهى
صفوت أخلاقاً فذا ... معوداً من صغري معوذا
من كل ما يخشى الفتى إلا إذا ... إن امرؤ خيف لافراط الأذى
لم يخش مني نزق ولا أذى
سجية في غير دأبي لم يكن ... إن خانني دهر ظلوم لم أخن
أو هزّ خل..حقاً أحن ... من غير ما وهن ولكني امرؤ
أصون عرضاً لم يدنسه الطخا(3/367)
كم ليلة بت بها أحمي الحما ... أرعى بها نجمي سنان وسما
صوناً وبذلاً لدمي أو دما ... وصون عرض المرء أن يبذل ما
ضنّ به مما حواه وانتصى
إن أسمعت قوس الرزايا رنّه ... وأرسلت رسماً أصاب مجنّه
تلقه بالشكر تلق منّه ... والحمد خير ما اتخذت جنه
وأنفس الاذخار من بعد التقى
إن قعدت في كبوة من زمني ... وقام في العلياء منكوس دني
خلف الدنيا بالميل الدون مني ... وكل قرن ناجم في زمن
فهو شبيه زمن فيه بدا
لم تبد لي من مبسم بوارق ... إلا انجلت لي تحتها بوائق
يعرفها من هو مثلي ذائق ... والناس كالنبت فمنهم رائق
غض نضير عوده مرّ الجني
وكلما نجني على طرف الفطن ... بظاهر ببطن سرا؟ ً مكتمن
فمنه ما بان بمعنى لم يبن ... ومنه ما تقتحم العين فإن
ذقت جناه انساغ عذباً في اللها
رمى الذي أكفيت في طعانه ... قد كفت الأيام من سنانه
فليت لي عوداً إلى إبانه ... يقوم الشارخ من زيغانه
فيبستوي ما انعاج منه وانحنى(3/368)
هيهات إن يرجعه لهيفه ... يبعثه على الدماء وبيغه
وهو عليه قد قضى نبيغه ... والشيخ إن قومته من زيغه
لم يقم التثقيف منه ما التوى
قد كان والنصر به يحفه ... يشقى دماء فيميل عطفه
أعطشه الدهر وهان قصفه ... كذلك الغصن يصير عطفه
لدناً شديد غمزه إذا عسا
هو الذي أطمع حلماً خصمه ... حتى استباح السيف ظلماً قسمه
لو حارب القوم يبوء سلمه ... من أظلم الناس تحاموا ظلمه
وعزّ منهم جانباه واحتمى
هذا الزمان لا يرى ناجبه ... أو ليحيل للادى واجبه
وكلما أسند انتهى عاصبه ... وهم لمن لان لهم جانبه
أظلم من حيات أنباث السفا
ان اسمعوا داعي الهدى لم يسمعوا ... وحركوا إلى الضلال أزمعوا
لهم على العين عيون تدمع ... عبيد ذي المال وإن لم يطمعوا
من غمره في جرعة تشفي الصدى
لا يغترر منهم بوجه قد دهن ... ما نفاف من نفاق قد حزن
ما حبهم إلا لمهزول سمن ... وهم لمن أملق أعداء وإن
شاركهم فيما أفاد وحوى(3/369)
خالطت أرباب العصور والدمن ... وذقت من حال هزال وسمن
فما ثنى عن ناب الزمن ... عاجمت أيامي وما الغر كمن
تأزد الدهر عليه واعتدى
على الحظوظ فليكن معولاً ... وبعد ها كن معزلاً او معولا
من سلبت حطت ومن أعطت علا ... لا ينفع اللب بلا جد ولا
يحطك الجهل إذا الجد علا
كم ساقط علمت به إعلامه ... ولم تزل في الوغى أقدامه
وسائق آجره أقدامه ... من لم تفده عبراً أيامه
كان العمى أولى به من الهدى
وفي الليالي عبر فاعجب لما ... يأتي به في الأرض عن رب السما
ما فيه شك والمقال قلّما ... من لم يعظه الدهر لم ينفعه ما
راح به الواعظ يوماً أو غدا
ما زال مني دانياً من انثنى ... يخطو فكر كلما شاء شأي
وطرف رأي في العيون لا رأى ... من قاس ما لم يره بما رأى
أراه ما يدنو إليه ما نأى
فأعتق فديت النفس من رق الأمل ... وحيّ في الزهد على خير العمل
وأقنع من المهل وتاب لعل ... من ملك الحرص القياد لم يزل
يكرع في ماء من الذل سرى(3/370)
لي نفس حر الدنايا ما دنت ... وهمة على العلا قد أمنت
من أجلها عين الجنان لي عنت ... من عارض الأطماع باليأس رنت
إليه عين العز من حيث ما رنا
وكم لطمت الخيل في شدوهها ... فصدمه عراء في وجوهها
والحرب لم تعقل على معتوهها ... من عطف النفس على مكروهها
كلان الغنى قرينه حيث انتوى
عذر جوادي ما انتهى عن كرّه ... حتى التقى حد الظبا بنحره
وآل بعد مدة لحرزه ... من لم يقف عند انتهاء قدره
تقاصرت عنه فسيحات الخطا
السهم إن أطلقه من حبسه ... قوس شعيف النبض عند خبسه
أخطأ راميه مكان حدسه ... من ضيع الحزم جنى لنفسه
ندامة الذع من سفع الذكا
لم يحبس العنان في رباقه ... إلا الذي أطلق من وثاقه
فأسرع الإعداء في إلحاقه ... من ناط بالعجب عرى أخلاقه
نيطت عرى المقت إلى تلك العرى(3/371)
إن قصر الخطى في خطواته ... فلم يكد يخرج عن خطته
فطالما بالغ في رفعته ... من طال فوق منتهى بسطته
أعجزه نيل الدني بله القصا
وصارم قلل منه توقه ... لمورد من الوريد ذوقه
فلم ينل منه دروع شوقه ... من رام ما يعجز عنه طوقه
ملعبء يوماً آض مجزول المطا
لما تجلى ساعد المساعد ... ولم أجد لي صلة من عائد
لقيت وحدي جمعهم عوائدي ... والناس ألف منهم كواحد
وواحد كالألف إن أمر عني
نفس ترد غلانه لا سلمت ... في بذلها صون لها لو علمت
ستجمع الحمد إذا ما اقتسمت ... وللفتى من ماله ما قدمت
يداه قبل موته لا ما اقتنى
ولي سنان في الجلاد لسن ... كما لساني في الجدال ألسن
كلاهما تكليمه مستحسن ... وإنما المرء حديث حسن
فكن حديثاً حسناً لمن وعى
قل للذي أيقظن حرى ورقد ... فلا انطفا من حقده ما قد رقد
ولا أحذر الموت أحال أو فقد ... إني حلبت الدهر شطريه فقد
أمرّ لي حيناً وأحياناً حلا(3/372)
نشطت للحرب فسلى عن العقل ... وقمت فيها مستخفاً ما ثقل
وبالقرار فأولت فلم أقل ... وفرّ عن تجربة نابي فقل
في بازل راض الخطوب وامتطى
إن أصولاً الأمير يالتراب غرسهم ... عرائس يوم الممات عرسهم
سل عنهم الأقران هل يجسّهم ... والناس للموت خلا يلسّهم
وقلّما يبقى على اللّس الخل
يا من غدا في حربنا ثم اعتدى ... ما قد لقينا اليوم نلقاه غدا
أفق لما أنشأ الزمان منشدا ... عجبت من مستيقن إن الردى
إذا أتاه لا يداوي بالرقى
وذاهل عن سير مرويّة ... مفصحة عن عبر علوية
يوقع في أنشوطة ملويّة ... وهو من الغفلة في أهويّة
كخابط بين ظلام وعشا
ومعشر بعدي بكوا تندماً ... ظنوا أن يرووا إذا متّ ظما
حلواً فأجروا مثلاً تلوّما ... نحن ولا كفران لله كما
قد قيل للسارب أخلى فارتعي
والثابت الأروع والقلب الفطن ... من عثرات ما يخاف قد أمن
والحائر الجأش الذي إذا امتحن ... إذا أحسّ نبأة ريع وإن
تطامنت عنه تمادى ولها(3/373)
إنا وإن تقللت جموعنا ... ومزقت يوم اللقاء دروعنا
..... ... نهال للمسير الذي يروعنا
ونرتعي في غفلة إذا انقضى
وإن قضيت والقضاء لا يدفع ... فلي بجنات النعيم موضع
وقاتلي في قعر الجحيم موضّع ... إن الشقاء بالشقي مولع
لا يملك الردّ له إذا أتى
مع الكرام تصنع الصنائع ... وللملام عندهم مسامع
وفي اللئام ما غرست ضائع ... واللوم للحرّ مقيم رادع
والعبد لا يردعه إلا العصا
ما خاب سعياً في الرجا من عقلا ... ولم يزل بالعقل نجحا معقلا
ومن علا بالجهل يوماً سفلا ... وآفة العقل الهوى فمن علا
على هواه عقله فقد نجا
لي خلق زكية أعراقه ... راق لمن قد شمنى مذاقه
تجمع لي فاروقه فراقه ... كم من أخ مسخوطة أخلاقه
أصفيته الود لخلق مرتضى
وصاحب بعد الولا تململا ... وصارم بعد الوفا تقلقلا
حفظت للثاني الزمان والأولا ... إذا بلوت السيف محموداً فلا
تذممه يوماً تراه قد نبا(3/374)
ولئن أصاب الدهر مني صلدما ... فعاد بالى ثراه مقدما
وطال ما حليتها وقلما ... والطرف يجتاز المدى وربما
عنّ لمعداه عثار فكبا
اسمع أخي نصح قد غذى ... من فاطم صفو رضاع ما قذى
قائل بفضل المديح وااللفظ البذى ... من لك بالمهذب الندب الذي
لا يجد العيب إليه مختطى
وإن عصيت الحق مع خلّ ظلم ... كما اقتضى العلم وأجراه القلم
صفحاً فذو النقص بفضل لم يلم ... إذا تصفحت أمور الناس لم
تلف امرءاً حاز الكمال فاكتفى
وابك على ربع من الأهل خلا ... مطلع بدر صار بعدي منزلا
وناد في النادي به تمثلا ... إن نجوم المجد أمست افلا
وظله القالص أضحى قد أزى
ربع العلا والفضل والتكرم ... يبكي له الركن بدمع زمزم
ما فيه للسائر المسلم ... إلا بقايا من الناس بهم
إلى سبيل المكرمات يقتدى(3/375)
أرى النسيم يعتل في حماهم ... وغار في الروض على خلاهم
كأنما هواهم لهواهم ... إذا للأحاديث انتضت أنباهم
كانت كنشر الروض غاداه السدى
أبكي لشمل منهم مشتتاً ... وغنه المسك غدا مفتتا
من لي بطيب راح قد أتى ... ما أنعم العيشة لو أن الفتى
يقبل منه الموت أسناء الرشا
ولم يزل يجلو الليالي بدره ... ولم يخف من بعد وصل هجره
فكان يقضي في نشاط دهره ... أو لو تحلى بالشباب عمره
لم يستلبه الشيب هاتيك الحلى
ترى لأيام الشباب مرجع ... أم في البقا مع داء المصاب مطمع
أم لي خلع منهما تخلع ... هيهات مهما تشعبه يسترجع
وفي خطوب الدهر للناس أسى
وليلة كنت بها نجم السرى ... وكان فيها النصل سنخاً مسفرا
أيقظت طرفاً بات عنه مبصراً ... وفتية سامرهم طيف الكرى
فسامروا النوم وهم غيد الطلى(3/376)
والسير يطوى ويمد عركه ... وهنا وخيط الصبح وقت فركه
وستره ما حان بعد هتكه ... والليل ماق بالموامى بركه
والعيس ينبثن أفاحيص القطا
أهدت لعيني طيف ليلى هدأة ... حفت لها على الجفون وطأة
سرى فعادت من هيامى ندأة ... بحيث لا تهدى لسمع نبأة
إلا نئيم البوم أو صوت الصدى
وصحبتي من كل من تنبذا ... خمراً حلا لا من نعاس وشذا
قد أخذ النوم عليهم مأخذاً ... شايعتهم على السرى حتى إذا
مالت أداة الرحل بالجبس الدوى
مالت بهم تعريسه بحبها ... من هون البعد عليه قربها
فعند ما راق إليهم سربها ... قلت لهم إن الهوينا غبّها
وهن فجدّوا تحمد واغب السرى
إذا الرجا سالت بهم بطحاؤه ... في مهمه أسنة حصباؤه
إنسه مع الضنا ضناؤه ... وموحش الأرجاء طام ماؤه
مد عثر الآعضاد مهزوم الجبا(3/377)
لا يتأتى وارد لمائه ... في الأرض ما لم يأت من سمائه
أما ترى الطير من ارتمائه ... كأنما الريش على أرجائه
زرق نصال أرهفت لتمتهى
يستهول الخائض فيه هوله ... حيث الصدى فيه يعيد قوله
ويومه يحسب طولاً حوله ... وردته والذئب يعوي حوله
مستك سمّ السمع من طول الطوى
اعددت لليل الطويل همه ... عوناً أخوه إن نسيت عمّه
إذ كان منه جسمه وقسمه ... ومنتج أم أبيه أمه
لم يتخون جسمه مسّ الضوى
عنت له في الفرعين أو عنت ... أن يتوطا مع القرين أو طنت
فعند ما أسرّ ما قد أعلنت ... أفرشته بنت أخيه فانثنت
عن ولد يورى به ويشتوى
ورب واد كمنت أحشاؤه ... أفاعياً دانت له حصباؤه
سلكته ليلاً إذ ردى أرداؤه ... ومرقب مخلولق أرجاؤه
مستصعب الأقذاف وعر المرتقى(3/378)
في شقة قد اطلعت شقيقها ... وما عرب فارقت فريقها
لا عقّ أن يودى الندا عقيقها ... أوفيت والشمس تمج ريقها
والظل من تحت الحذاء محتذى
كم خائف أوسعه الدهر إذا ... ملّ على الذل البقا فانتبذا
رأى طريق الصبر وعراً فاحتذى ... وطارق يؤنسه الذئب إذا
تضوّر الذئب عشاء وعوى
دارت به في الليل طرف يقنف ... جرت عليه الليل ريح صفصف
حتى إذا لاح منار يعرف ... أوى إلى ناري وهي مألف
يدعو العفاة ضوءها إلى القرى
في ليلة طافت بنشر عابق ... فأسكرت بصائح وعائق
أدنت فأنشدت بها مفارقي ... لله ما طيف خيال طارق
تزفه للقلب أحلام الردى
عجبت منه كيف أهداه السرى ... والنجم قد بات به محيرا
وبيننا بحر وبرّ أقفرا ... يجولها جواز الفلا محتقرا
هول دجى الليل إذا الليل انبرى
يا ناظراً متع في إعفائه ... لئلا يطيف ضامن لألائه
ها قد بلغت السول من لقائه ... سائله إن أفصح عن انبائه
أنىّ تسدى الليل أم أنى اهتدى(3/379)
وهل ترى تخيل الوساوس ... ونفسه في مثلها ينافس
إن غزال حاجرى آنس ... أو كان يدرى قبلها ما فارس
وما مواميها القفار والقرى
ومجتنىً ذاق لذوق مجتن ... فارقته من سكن ومسكن
وأحزنني لفقد من حزن ... وسائلي بمزعجي عن وطني
ما ضاق بي جنابه ولا نبا
يسائلني وحقه أن يسكتا ... لم ولما وكيف حتى ومتى
كان له عند الجواب مسكتاً ... قلت القضاء مالك أمر الفتى
من حيث لا يدري ومن حيث درى
يا عاذلاً عن شرعه الحق عذل ... دع عنك عذلاً سبق السيف العذل
يسائلني لم أعتصم من الزلل ... لا تسألني واسأل المقدار هل
يعصم منه وزر ومذدرى
سعى الفتى بتعلّي قسطه ... أبداً رضاه عنده أو سخطه
فلا تطيل قبضه أو بسطه ... لا بد أن يلقى امرؤ ما خطّه
ذو العرش مما هو لاق ووحى(3/380)
إذ عاد نفع الدهر وهو ضائر ... فانفطرت من دونه مرائر
وراح بعد الجبر وهو كاسر ... لا غرو إن لجّ زمان جائر
فاعترق العظم الممخ وانتقى
فلا يغرنك انطفاء نور قد وقد ... يوماً لا نور إذا الحلّ انعقد
في كل عين لو نظرت منتقد ... فقد يرى القاحل مخضراً وقد
تلقى أخا الاقتار يوماً قد نما
قل للذين قد أباحوا قتلنا ... واستحسنوا على الرماح حملنا
في السبي سرب ظبية أصلنا ... يا هؤلي هل نشدتن لنا
رافعة البرقع عن عيني طلا
راحت بخشفين مما بحشرتي ... فراح بعضي معها بل جملتي
لامت من ريقها بغضتي ... ما انصفت أم الصبيين التي
أصبت أخا الحلم ولما يصطبي
يا صاحبي ومن له سرى علن ... كم بيع حر في الهوى بلا ثمن
وانقاد طوعاً جامح كالممتهن ... استحى بيضاً بين أفوادك أن
يقتادك البيض اقتياد المهتدي(3/381)
لئن جلوت للشباب حلة ... يحتمل العاقل فيها جهلة
فخذ بذا التفصيل مني جملة ... هيهات ما أشنع هاتا زلة
أطربا بعد المشيب والجلا
رجعت في الغزلان عن تغزلي ... إلى رثاء السيد الطهر الولي
به مستشفعاً توسلي ... يا رب ليل جمعت قطريه لي
بنت ثمانين عروساً تجتلي
عذراً في قتلي قبلت عذرها ... شمطاً لكن ما تعد عمرها
بشيعة الأكباد وقعاً حرها ... لم يملك الماء عليها أمرها
ولم يدنسها الضرام المحتضى
بكر إذا ما شق عن جذورها ... يستتر الأنوار من ظهورها
أما ترى البدر اختفى من نورها ... كأن قرن الشمس في ذرورها
بفعلها في الصحن والكأس اقتدى
من كأسها الملآن ما الدهر حلا ... من عدها بأول فأولا
قد شبه يثرب مع اهل الولا ... نازعتها أروع لا تسطو على
نديمه شرّته إذا انتشى
بات يراعى خاطري بلحظه ... حتى أفاد ذا الرقى من حظه
غيث ندى في ندبه ووعظه ... كأن نور الروض نظم لفظه
مرتجلاً أو منشداً أو إن شدا(3/382)
أمطرت وادي الحزن وأسبلته ... فحطّ عني بعض ما حملته
مقالة فانقضت ما نقلته ... من كل ما نال الفتى قد نلته
والمرء يبقى بعده حسن النثا
لا تجز عن بصري رفقتي ... إني فرحت راضياً بقتلتي
خذوا تفاصيل النهى من جملتي ... فإن أمت فقد تناهت لذتي
وكل شيء بلغ الحد انتهى
ما إثمي قد رجعت مواسماً ... وذا بلى قد اهتز غصناً ناعما
بجنّة فيها البقاء دائماً ... وإن أعش صاحبت دهري عالما
بما انطوى من صرفه وما انتشى
أليس من قربي أعلام الهدى ... الطاهرين مولداً ومشهدا
فكيف أرضى بأضاليل العدى ... حاشا لما سأره فيّ الحجا
والحلم أن أتبع روّاد الخنا
لا تحسبن دهر قضى بغربة ... إني إليه شاكياً من كربه
أو شاكراً لرفعه في ركبه ... أو أن أرى مختضعاً لنكبه
أو لابتهاج فرحاً ومزدهى
تمت بحمد الله(3/383)
علي بن محمد بن سليم أبو الحسن بهاء الدين الصاحب الوزير المعروف بابن حنّاء وزير الملك الظاهر ركن الدين وولده بعده إلى حين وفاته. مولده بمصر في سنة ثلاث وست مائة، وتوفي بها وقت العصر نهار الخميس سلخ ذي القعدة، وصلي عليه يوم الجمعة قبل الصلاة، ودفن بتربته بالقرافة الصغرى - رحمه الله - ومات وهو جد كان من رجالة الدهر حزماً وعزماً ورأياً وتدبيراً، تنقلت به الأحوال، وتنقل في المناصب الجليلة، وظهرت كفايته ودرايته وحسن تأنّيه، فاستوزره الملك الظاهر - رحمه الله - في أوائل دولته، وفوّض إليه أمور مملكته مما يتعلق بالأموال والولايات والعدل لا يعارض في ذلك، ولا يشارك بل هو المتصل بأعباء ذلك، والمرجع إليه فيه، ولم يزل مستمراً على ذلك إلى حين وفاة الملك الظاهر - رحمه الله - فدبّر الأمور أحسن تدبير، وساس الأحوال في سائر المملكة، واحمل خلقاً كثيراً ممن ناوله، وكان عنده حسن ظن بالفقراء والمشايخ يحسن إليهم - نفع الله بهم - ويقضي حوائجهم ويبالغ في إكرامهم وكان أرباب الحوائج يتوسلون بهم إليه فلا يرد لهم شفاعة. حكي لي أن بعض الصلحاء المتورعين قدم القاهرة في أواخر شعبان فكلف بالاجتماع به لسبب شخص مصادر فاجتمع به وحدثه في ذلك فأجابه ثم قال له: هذا شهر رمضان قد أقبل، واشتهى أن تصومه هنا وتفطر عندي وأقضي لك في كل ليلة عشر حوائج كائنة ما كانت، فنظر ذلك الرجل على ما يترتب في إجابته من المصالح فصام عنده شهر رمضان وأفطر عنده فوفى له بوعده، وكان كلّ ليلة يقضي(3/384)
له عشر حوائج من إطلاق محبوس وولاية بطال ومسامحة من عليه ماله وهو عاجز عنه إلى غير ذلك. وكان واسع الصدر لا يدري مقدار ما يلزمه من الكلف للأمراء والرؤساء ومن يلوذ بخدمته، وأما عفته من الأموال فإليها المنتهى لا يقبل لأحد هدية إلا أن يكون من المشايخ الصلحاء، ويهدي له ما لا قيمة له فقبله تبركاً ويبرّ الذي سيّره إليه، وقصده جماعة من أكابر الأمراء وغيرهم من أرباب الدولة فلم يبلغوا منه مقصودهم، ولم يجدوا ما يتعلقوا عليه به، ولما توفي الملك الظاهر استمرّ به ولده الملك السعيد - رحمه الله - وبالغ في إكرامه وإعظامه ولم تزل حرمته وافرة تامة ومكانته عالية، وكلمته نافذة، وأوامره مطاعة إلى حين وفاته، وله برّ وأوقاف وكان يتصدق بالجمل الكثيرة سراً وجهراً، وله متاجر تعود نفقتها إليه فمنها معظم نفقاته وصدقاته، ولما ابتلاه الله تعالى بفقد ولديه الصاحب فخر الدين والصاحب محيي الدين - رحمهما الله تعالى، وقد تقدم ذكرهما وحاز لأجر فقدهما، عوضه الله من ذريتهما بأولاد نجباء صدور رؤساء تقرّ بهم عينه وبهم في المعروف وفعل الخير طرائق لم يسبقوا إليها، وفيهم الأهلية التامة والوزارة وغيرها، غير أنهم كانوا يختارون العزلة، وكان الصاحب بهاء الدين - رحمه الله - ممدّحاً مدحه جماعة كثيرة من الشعراء بغرر القصائد، وكان يهش لذلك، ويجزيهم الجوائز السنية، عمل فيه الحاج رشيد الدين الفارقي الآتي ذكره في هذا الكتاب إن شاء الله.(3/385)
وقائل قال لي نبّه لها عمراً ... فقلت إن علي قدر تنبه لي
مالي إذا كنت محتاجاً إلى عمر ... من حاجة فليتم حتى انتباه علي
ولسعد الدين سعد الله بن مروان الفارقي كاتب الدرج المختص بملازمته فيه:
يمّم علياً فإنه يمّ الندى ... وناده في المضلع المعظل
فرفده مجد على مجدب ... ووفده مفض إلى مفضل
يسرع أن سيل نداه وهل ... أسرع من سيل أتى من علي
محمد بن أحمد بن عمر بن أحمد بن أبي شاكر أبو عبد الله مجد الدين. ولد سنة اثنتين وست مائة بإربل وتوفي بدمشق القيمازية ليلة الجمعة ثاني عشر ربيع الآخر، ودفن يوم الجمعة بمقابر الصوفية - رحمه الله تعالى. كان إماماً في علم الأدب ونقد الشعر ومعرفته، وله اليد الطويلة في النظم، فاق به نظراءه، وكان فقيهاً جيداً، درّس بالمدرسة القيمازية بدمشق مدة سنين، وكان وافر الديانة، كريم الأخلاق، واسع الصدر، محتملاً للأذى، يتصدق دائماً، يحسن إلى معارفه وتلامذته، ويكارم أصحابه وإخوانه. صحبته في طريق الحجاز في سنة ثلاث وسبعين، ورأيت من مكارمه وحسن عشرته وجميل أوصافه ما لم يجمع في غيره - رحمه الله تعالى ورضي عنه، وكان رقيق الحاشية دمث الأخلاق علوّ النادرة، قال شهاب الدين محمود كاتب الدرج أنشدني الشيخ مجد الدين لنفسه:
أواصل فيه لوعتي وهو هاجر ... ويؤنسني تذكاره وهو نافر(3/386)
ويعدى هواه ناظري بأدمع ... يوردها ورد بخديه ناضر
ويغتر في تيه الملاحة خاطراً ... فكلّ خليّ في هواه مخاطر
ويزوّر سخطاً ثاني العطف معرضاً ... فلا عطفه يرجى ولا الطيف زائر
محياه زاه بالمحاسن زاهر ... فقلبي فيه ساهر وساهر
يحيل على القد المهفهف معجباً ... جبالة شعركم بها صيد شاعر
غزال منيع الحذر دون مزاره ... مطللة بالبيض قدّ جؤاذر
جلا طلعة كالروض دبجه الحيا ... ترفّ بماء الحسن فيها أزاهر
وشهّر خدّا بالعذار مطرزاً ... فما لفؤاد لم يهم فيه غادر
فإن صاد قلبي طرفه فهو جارح ... وإن فتنت آياته فهو ساحر
وكم راح دلّ في الهوى لي شافعاً ... فعوضت عما ارتجى ما أحاذر
إذا كان صبري في الصبابة خاذلاً ... فما لي سوى دمعي على الشوق ناصر
على أن فيض الدمع لم يرو غلة ... من الوجد إذ كتمها العيون الفواتر
وقال - رحمه الله تعالى:
لولا الهوى اعدوا أصالي هاجر ... بسؤول منّاع ومرضى مسخط
ألف الجفاء وباع ودي مرخصاً ... فكتبت منه بمفرّط ومفرط(3/387)
وقال أيضاً رحمه الله:
كل حي إلى الممات مآبه ... ومدى عمره سريع ذهابه
معه سائق له وشهيد ... وعلى الحرص ويحه أكبابه
تخرب الدار وهي دار بقاء ... وهو يثني ما عن قليل خرابه
هو ضرب من الطيب كالخلوق كي ... ف يلّهيه طيبه وملابه
كل يوم يزيد نقصاً وإن عمّ ... ر خلت أو صابه وأصابه
والورى في مراحل الدهر ركب ... دائم السير لا يرجي إيابه
فتزود إن التقى خير زاد ... ويصيب اللبيب منه لبابه
وأخو العقل من يقضي يصدق ... شيبه في صلاحه وشبابه
وأخو الجهل يستلذ هوى الن ... فس فيغدو شهداً لديه أصابه
كم سلبت مني عقولاً وكم أو ... جب نقضاً لفاضل إعجابه
وأحال الهوى الحقائق حتى ... صار عذباً عند المحب عذابه
أجمل الفكر في الزمان وأهله ... اعتباراً في الكون جماً عجابه
وتحام الأقدار نطقاً وفكراً ... فهي في شاهق يشق عقابه
وإذا ما الجهول أغرق فيها ... أغرقته بالسيل فيه شعابه
رب أمر يريب العقل صعب ... بالتروي فيه يزول ارتيابه
لا تكن حاكماً بأول رأى ... فكثير بين الأمور التشابه
رب كأس من الجمال كما يؤ ... ثر عار من الجميل إهابه(3/388)
وعزيز بمنع ضيم حتى ... أصبحت كالوهاد ذلاً هضابه
ودني علا به الجد حتى ... أوطئت هامة الثريا ركابه
وسعيد يحظى بكسب سواه ... وشقي لغيره اكسابه
وغني صلاحه في غناه ... وفقير إعطاؤه أعطا به
وجواد بماله نال ذكراً ... كان ذاك الذكر الجميل ثوابه
وكريم يقتر للرزق من ك ... ف لئيم أمواله أربابه
وعدو يفيدك القرب منه ... وصديق من الصواب اجتنابه
وملولة بحاضر مثمن ... لخيال من غائب تنتابه
لا يغرنك قرب خلّ ولا يؤ ... نسك من خلة العدو جنابه
فلكم مصحب عزاه حزان ... وحزون أتى له أصحابه
وجهول مع الرضى وحكيم ... ليس يغني أعضاؤه أعضابه
ومقيم في السوق غير حريص ... وإمام شوق له محرابه
ومحل ثوى به غير بانيه ... وعلم أضاعه أربابه
وغريق في الجهل مستحسن ... اللحن وخير مستهجن أعرابه
موجز القول من أخي الفقر مملو ... ك وذو الجد مؤثر انتهابه
لا يضع قدر ذي النباهة إن ... قدّر إعساره ورثّت ثيابه
وتأمل فالبدر لانقص بعدوة ... إذا كان بالسحاب احتجابه(3/389)
زين ذي الفضل فضله وهو عار ... وأخو النقص زينه أثوابه
ومعاداة كل حر كريم ... ديدن الأخرق اللئيم ودابه
وإذا صادف الوضيع وضيعاً ... ليس يلقى إلا إليه أنصابه
ليس بدعا فوز الأراذل بالما ... ل وفوت الغنى الكريم نصابه
وبعيد من التوسع في الرز ... ق أذيبت من رزقه إذا به
كن قنوعاً بما تيسر فالطا ... مع عند ما ينقضي أرا به
وغنياً وأنت في غاية الف ... قر برب طاعاته أبوابه
وإذا كان خوفه لك دأباً ... لم تجد في الوجود شيئاً تهابه
إن رزقاً طلابه لك مكتوب ... من العجز والشقاة طلابه
ولقد يرزق المقيم ويكدي ... من سعي دهره وطال اغترابه
ولكم فارق الدنيّة مثر ... ووفى عرض مملق أحدابه
إن امرءاً لم يمضه القدر الما ... ضي لتعدو عوائقاً أسبابه
إن طول الحياة داء وما نف ... ع حياة لمن قضت أترابه
إذا المرء طال عمره أذاقه ... المنايا بفقدها أصحابه
وانتهى نقصه وعشش بازي ... المشيب في رأسه وطار غرابه
وإذا كان آخر الأمر هذا ... فلماذا على الحياة اكتئابه
أيها السائر المقيم على حرص ... مقيم ما يستقل ركابه
إن حيل الأعمال والحرص كالأعم ... ار طولاً فبالغنا انقضابه(3/390)
بالفاقد أوبق النفس لم يكثر ... عليها عويله وانتحابه
أمامنا موقف الحساب ولا أح ... سابه جنة ولا أنسابه
ولملك أمد في العمر والرز ... ق ومدت من ملكه أطنابه
يوسع الخطو في الخطاب أوا ... ن ضاق عليه ضاقت عليه رحابه
هل لعبت لاه على ظهر أرض ... وطويل في بطنها ألبابه
وغريق من لم يوفق لإقلا ... ع وبحر الذنوب طام عبابه
لم لا يعتدي بقلب سليم ... من إلى حضرة يحول انقلابه
لم لا تجزع النفوس منها ... رهينة رمس بيد المشفقين يحثى ترابه
وبأمر يخلو به كل دار ... من دونها يخلو من الليث غابه
يا مطيلاً آفال عمر قصير ... وخطيب الردى فصيح خطابه
مغرب معرب وليس بمجد ... فيه إغرابه ولا إعرابه
أنت ضعيف في الأهل فارتقب ... الرحلة والصيف لا يدوم سحابه
نحن في دار قلعة فاز منها ... من كان لدار المقام اكتسابه
دار حزن مريض عقل فتى ... عادته فيها مسرة أطرابه
لا تضيقن ذرعاً بعاجل مكرو ... هـ توافي حميدة أعقابه
وإذا علمت عاقبة الصب ... ر عليه هانت عليك صعابه
ولكم قرب البعيد لك الصب ... ر وكم بعد القريب ارتقابه
وإذا لم يكن من الأمر بد ... فارتكبه ولا يرعك ارتكابه(3/391)
ينصب الذلة الجبان ولا يد ... فع عنه المقدار استصعابه
يفرج الضيق باللطف في الأمر ويؤ ... دي بالعمر فيه اضطرابه
أومأ الماء وهو في باطن الصخ ... رة باللطف رشحه وانسيابه
وإذا ما أحس بالشرك الصي ... د دهاه نفوره وانجذابه
ومن الحزم أن يشاور في الأم ... ر فكم فات ذا صواب صوابه
ولقد يخرق اللبيب وقد يح ... سن من قد أخرق جهول مثابه
وينال الضعيف بالعجز أمراً ... يئست من حصوله أخطابه
وعسى أن يجر يوماً إليك ال ... رفع من طال العناد انتصابه
ولقد تحسن المجاور صنعاً ... وهو يؤذي من زاد منه اقترابه
أو ما النصل كافل لك بالنص ... ر شقي بالحد منه قرابه
والسر في الطباع ولي ولا ... عنه عز في الورى أعبابه
ومن الناس عاد بالشم والش ... مخ حزماً نسر الملا وعقابه
ومن الناس من يرضى بأوشا ... ل مياه من القطا أسرابه
ومن الناس مشبه الليث لا ير ... ضيه إلا عدوانه واغتصابه
ومن الناس عاقر الضيف كالكل ... ب ومنهم من لا تهر كلابه
حكم قدر......... عدلاً ... عم معروفه فخل جنابه(3/392)
فاستعذ بالإله من شر عاف ... في حبال الشيطان طال اختطابه
لم يرعه الإرهاب شرعاً ولا ... ألبسه ثوب طاعة أرغابه
يوحش الجاهل الإقامة في الأه ... ل ولا يوحش اللبيب اغترابه
والحليم الرشيد يخجله العت ... ب ولا يخجل السفيه سبابه
ويجد الفتى يعود وداداً ... وولاء من العدو ضبابه
وإذا ولت السعادة خانت ... هـ وصارت أعداؤه أحبابه
وإذا ما القضاء عاند عبداً ... حاربته سيوفه وحرابه
وغدا شمله شتيتاً واحزا ... ناً عليه لضده أحزابه
يعجل المنفى ويبقى سليباً ... من توالي طعناته وضرابه
لا يغرنك الوجوه فما كل ... سحاب يروق يرجى ذهابه
وتجنب عتب الملوك فما يج ... لب أعتابه إليك عتابه
وأصحب نصحاً من استشا ... ر فما أنكر في مشروع قلة إيجابه
وإذا قابل النصيحة بالعس ... ر فدعه فما عليك حسابه
وإذا اغتابك اللئيم فشكراً ... حيث أضحى جهل اللئيم اغتيابه
وإذا سال السفيه بما شا ... ء فترك الجواب عنه جوابه
وإذا الخطب ناب فاصبر فقد ... يفرج غماؤه ويكهم نابه
وافعل الخير ما استطعت فقد يع ... جز عن فعله ويغلق بابه
واخشين كاتب الشمال فيا خس ... ر امرئ في الشمال منه كتابه(3/393)
واغتنم لذة الخمول اختياراً ... فهنئ طعامه وشرابه
واجعل البأس للمطامع شرباً ... فكفيل برئهن شرابه
عش وحيداً ولو دعاك إلى صح ... بته مخلص الدعاء مجابه
وانظر الجمر وهو يطفي بالما ... أتجده به يزيد التهابه
وانتسب طائعاً إلى باب مولا ... ك فما خاب من إليه انتسابه
كيف يرجو الوفاء من أهل دهر ... قد تساوت أبناؤه وذبابه
طاف فيه العدول عن سنن العد ... ل وطالت رؤوسه أذنابه
كم قرب بإتيانه الهم قلباً ... وفرّت همام أهله أنيابه
وأباحت ملكاً منيعاً حماه ... وأذلت ملكاً عزيزاً جنابه
وأعادت حسن الثناء أخا قب ... ح ملاء من العيوب عتابه
وأعادت سعوده لاثم الت ... رب مهيباً ملثومه أعتابه
هذه سنّة الزمان قديماً ... وعلى مثلها مضت أحقابه
فقرين التوفيق من ذاته في ... كل ما شاء صبره واحتسابه
يا أسير الذنوب بت عائداً من ... ها بغفّارها المخوف عقابه
وخليق بعاجل الفوز من كا ... ن إلى الخالق الكريم مثابه
وقال رحمه الله تعالى: وكتب بها من العلاء عند عوده من الحجاز الشريف في سنة أربع وسبعين وستمائة إلى المولى شهاب الدين محمود كاتب الدرج رحمه الله تعالى:(3/394)
بلغنا العلى والشوق يحدو ركابنا ... وذكركم زاد لنا وسمير
لعل النوى ينجاب عنا ظلامها ... فيدنو ويبدو للعيون ستير
وتروى أحاديث الغرام صحيحة ... وتروى بكم بعد القليل صدور
ويحدث في اللقيا أمور عجيبة ... ويحدث من بعد الأمور أمور
وكتب إلى شهاب الدين محمود ملغزاً:
أيها العالم الذي يهز العا ... لم فضلاً وفاق طبعاً وذهنا
ابن أسماء مؤنثاً مفرداً وض ... عا ويعدو مذكراً إذا يثنى
وإذا شئت حال فعلاً وحرفاً ... وعن الجملتين في اللفظ أعني
وإذا ما تركته كان لفظاً ... وإذا ما عكسته صار معنى
فأجابه شهاب الدين رحمه الله تعالى:
يا إماماً أضحى حماه لأهل ال ... فضل مأوى من الضلال وحصنا
كلما قلت قد سلوت هوى الش ... عر بدت لي بروق نظمك وهنا
أنا من معشر إذا ما حبا الفك ... ر استبقنا إليك ثم اقتبسنا
لم يكن مغرماً بنعم فإني ... بمعانيك مستهام معنّى
أنت لغزت في اسم زنة حذر ... خذها مثل ما حماه المثنى
وأجبنا عما ذكرت سريعاً ... غير أنا على الأمور اقتصرنا
ولمجد الدين بن الظهير رحمه الله يقول:
أما والمطايا في الأزمة تمرح ... وقد شفها طول السرى فهي طلّح(3/395)
تيمم من أرض الحجاز منازلاً ... لها دونها مسرىً فسيح ومسرح
قسى عليها كالسهام سواهم ال ... وجوه كما أمسوا على النوق أصبحوا
يحجون من بطحاء كعبة مكة ... تحط بها الأوزار عنهم وتطرح
يميل بهم سكر السهاد....... ... على كل كور غصن بان مرنح
أضاء لهم من بارق لمع بارق ... فألحاظهم تدنو إليه وتطمح
لاسم منى الصب الكثيب وأنتم ... ملكتم أبيّاً من قيادي فاسجحوا
فصيح لساني أعجم جيرة بكم ... وأعجم دمعي بالصبابة مفصح
فإن لك بالشكوى إليكم معرضاً ... فشأني بشأني في هواكم مصرح
إذا لم يكن ذنباً سوى الحب فاعذروا ... وإن كان ذنباً فرط حي فأصفحوا
بمرتاح قلبي لوعة مطمئنة ... وأعلاق وجد برحها ليس يبرح
يلح عزيم في غرامي كلما ... لحاني عليكم عادل مستنصح
ومن بإخفاء الهوى مذيعة صبىً ... لنائلكم بالحزن يقرى ويفرح
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
غش المفند كامل في نصحه ... فاطلب وقوفك بالغوير وسفحه
واخلع عذارك في محل رأيه ... يزداد دمع العاشقين وشحه
وإذا أسرى سحراً طليع نسيمه ... مالت به سكراً ذوائب طلحه
ودع الوقار بحب ساكنه ولا ... تحفل بذم أخي الوقار ومدحه(3/396)
ما صادق في الحب من هو عالم ... فيه بحسن صنيعه أو قبحه
جهل الهوى قوم فراموا شرحه ... حل الهوى وحبابه عن شرحه
وبي الذي يغنيه فاتر طرفه ... عن سيفه وقوامه عن رمحه
صب يؤنس بالغرام نفاره ... ويجد في نهب القلوب بمدحه
ذو حبة شرقت بماء نعيمها ... كالورد أشرقه نداه برشحه
وكأن طرته ونور جبينه ... ليل تألق فيه بارق صبحه
استعذب التعذيب من كلفي به ... والحب لذة طعمه في برحه
يا ساهياً من جفنه غصناً غدا ... ماء المنية بادياً في صفحه
ومعربداً في صبحه ومباعداً ... في قربه ومحارباً في صلحه
ثم لا جناح عليك في سهري وما ... ألقاه في ليلي الطويل وجنحه
وسعى إليك بي العذول وإنني ... لأجيب أن ظفر العذول بنجحه
طرفي وقلبي ذا يفيض دماً وذا ... دون الورى أنت العليم بقرحه
وهنا يحبك شاهدان وإنما ... تعديل كل منهما في جرحه
والقلب منزلك القديم فإن تجد ... فيه سواك من الأنام لفتحه
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
إذا حان من شمس النهار غروب ... تذكر مشتاق وحن غريب
وإن صدعت أبكيه صدعت حبيباً ... بها من تباريح الغرام يذوب
أأحبابنا والدار منكم قريبة ... هل الوصل يوماً إن دعوت مجيب(3/397)
وهل عندكم حفظ بعهد متيم ... حليفاه منكم لوعة ونحيب
يحنّ إليكم والخطوب تنوشه ... ويشتاقكم والنائبات تنوب
لم أنه لا يملك الحلم ردهاً ... إذا هب من ذاك الجناب جنوب
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
طاف بدر الدجى بشمس النهار ... في رياض أنيقة الأزهار
مشرقات يضم شمل الأماني ... في رباها بفتحة النوار
وأتانا بها يقد أديم الل ... يل منها صوارم الأنوار
بنت كرم حفت بكأس زجاج ... ثم زفّت بنغمة الأوتار
جاء يسعى بها إلينا وقد حا ... طت يد النوم أعين السمار
وكأن النجوم نور رياض ... وكأن المريخ شعلة نار
ذو دلال ما زال يحيى ويجني ... زهر الحسن منه بالأبصار
رقّ جسماً حتى لقد كان يدمي ... هـ هبوب النسيم بالأسحار
خاف ألحاظنا فحط سباجاً ... حول ورد الخدين أس العذار
شنآن راضته لي سورة الرا ... ح وقد كان آنساً بالثغار
لابس حلتي جمال وتيه ... في هواه خلقت ثوب الوقار
كنت ذا عفة ونسك فآثر ... ت افتضاحي في حبه واشتهاري
وإذا رمت سلوة عن هواه ... خل عزمي بعقدة الزنار
مسكر باللحاظ يحسب في عين ... يه كأنها حانة الخمار(3/398)
ما رأينا من قبله بدر تم ... بادياً نوره من الأزرار
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
أنس الطرف بالرقاد مآقناً ... وأطعت العذول واللواما
وتناسيتكم وأقصر قلب ... لم يزل مغرماً بكم مستهاما
هدأت مني الضلوع فلا أت ... لف وجداً ولا أذوب غراما
والمحب الذي عهدتم جزوعاً ... خيّم الصبر عنده وأقاما
كم جنيتم وكم تجنيتم ظلماً ... وحلّلتم الدماء الحراما
لا دنا نازح الديار ولا ... قدّر الطيف أن يزور لماما
كان قربي بكم يزيد أوامي ... فغدا بعدكم يزيل الأواما
وقال من أبيات:
ما شأنه الألم الملم ولم يزل ... لأليم أدواء القلوب طبيبا
فالريح تزداد اعتلالاً كلما ... هبّت ولا تزداد إلا طيبا
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
قلة الحصن مانعي قصد أرض ... أنت فيها وكثرة الإفلاس
ولو أني ملكت أمري لوافي ... تك سعياً على قدمي وراسي
لو ترق بعدكم دمشق ولا ... ما يزيد كلاّ ولا بانياس
ولو أن النسيم يحمل شكري ... لأتاكم معطر الأنفاس
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
قد دفعنا إلى زمان لئيم ... لم تنل منه غير غلّ الصدور(3/399)
وبلينا من الورى بأناس ... تركتهم أعجازهم في الصدور
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
أكثر اللوم في الحبيب أناس ... عيّروني ببذله بعد منع
قلت شمس الضحى أشد ابتذالا ... وهي محبوبة إلى كل طبع
وكان مجد الدين المذكور قد كتب إلى محي الدين بن زيلاق قصيدة رأئقة صدر كتاب فأجابه على وزنها يقول:
يا أيها المولى الذي ما ونى ... عن حبه القلب ولا قصرا
ومن صحبنا العيش في قربه ... طلق المحيا ضاحكاً مسفرا
وافى كتاب منك وفيته ... غاية الفضل جلّ أن يحصرا
حلّ محل الوصل من عاشق ... شرّد عنه الهجر طيب الكرا
يميل في إنشاد ألفاظه ... كأنما ضمنته مسكرا
زيد من التقبيل حتى غدت ... شفاهنا مرقومة أسطرا
إذا أحال الشيء تكراره ... أعطاك حسناً كلما كررا
كأنه روض سقاه الندى ... ريّاً فأضحى بيته مزهرا
وما رأينا قبله روضة ... نمقها الحبر ولا خبرا
يخبرنا عن مثل أشواقنا ... أكرم به مستخبراً مخبرا
يذكرنا والعهد لم ننسه ... فيوجب النسيان أن يذكرا(3/400)
وكيف لا يرعى عهود امرئ ... ما شأنها شين ولا كدرا
لله أيام تدان غدا ... ليل المنى في ظلها مقمرا
أيام تدنو بك أفراحنا ... إذ اتقاها الهم أو نفرا
إذا وردنا مورداً للضنى ... لم يرض إلا مثله مصدرا
ما ينسى لا ينسى حمى جلّق ... مطرد إلا مواه رطب الثرى
كأنما الأسباط حلّوا بها ... ففجروا أحجاره أنهرا
في أي فصل زرت أوطانها ... قلت الربيع الطلق قد أخضرا
يقصر الواصف عن حسنها ... وإن غدا في وصفه مكثرا
ترى صباها نشراًعطرها ... كأنما قد ضمّنت عنبرا
والطير في مزهر عيدانها ... تحسب في ترجيعها مزهرا
يا حبذا الربوة من موطن ... الأنس ما أبهى وما أنضرا
وحبذا أخضر ميدانها ... حبت بصيد الصبي أسد الشرا
والشرف العلى الذي حسنه ... مستوقف ناظر من أبصرا
أرض دمشق لا أعب الحيا ... رياك إن راح وإن بكرا
لولا صروف الدهر ما خلتني ... للبعد عن أوطانها مؤثرا
يا مجدنا إن قيل مجد ويا ... سيدنا المستعظم الأكبرا
أمتى أخذ الدهر أمنية ... كنت المنى الصادق دون الورى(3/401)
وقال المولى شهاب الدين محمود أعزه الله يرثي الشيخ مجد الدين محمد بن الظهير رحمه الله:
تمكن ليلي واطمأنت كواكبه ... وسدت على صبحي فغاب مذاهبه
وولي بأنسي من أتى لطفه به ... ونازعني ثوب المسرة واهبه
إلا في سبيل من ضيم بعده ... حمى لي حتى لان للجهل جانبه
وفي ذمة الرضوان بحر ندي غدت ... مشرّعة للواردين مشاربه
ولله من فاق المجارين سعيه ... وإن أدرك المجد المؤثل طالبه
إمام مضى بالفضل والجود والحجي ... وكل إلى الميقات يرجع ذاهبه
بكته معاليه ومن ير قبله ... كريماً مضى والمكرمات نوادبه
ولا غرو أن تبكي المعالي بشجوها ... على المجد إذ أودي وهنّ صواحبه
فأي إمام في الهدى والندي عدت ... ولاملّه آرابه ومآربه
وأي كريم الأصل والنفس ينتمي ... إلى شرف العلم النسيب شاسبه
أظن الردى نشر السماء وأنه ... علا فوقه فاستنزلته مخالبه
أما والذي أرسى تيسر حكمه ... لقد طاش حلمي يوم رست ركائبه
وقد كدت أن أقضي غراماً كما قضى ... فؤادي الذي قد أدرك الفرض واجبه
سوى فوق أعواد المنايا وإنها ... وإن كرهت نحو النجاة نجائبه
وأمّ ثرى ما كان لولا حلوله ... به يكتسي ثوب السماء سباسبه(3/402)
ثوى منه في روض أريض أنيسه ... تقى كان في كل الأمور مصاحبه
مضى وينأى كالنجوم لأنه ... مدى الدهر لا ينفك يطلع غاربه
وولي ودمعي مثل جود يمينه ... وفيض إياديه سواد سواربه
أمرّ عليّ إيثاره ودياره ... فيلعب بي حزناً عليه ملاعبه
وترفع حجب الهدب عن ماء أدمعي ... ويخفض طرفي عن سواه مناصبه
ألا يا فؤادي دم حبيساً على الأسى ... فقد حقق الدهر الذي أنت راهبه
وقد أوجد الوجد المبرح فقده ... وشابت هنى العيش فيه شوائبه
وأصلى فؤادي فقده النار فالذي ... ترفّقه أجفان عينيّ ذائبه
تضعضع طود العلم والحلم بعده ... وحدّت عليه يوم مات ذوائبه
وأضحى أخياً إذ أتاه نعيه ... ودكت أعاليه ورجت جوانبه
وأصبح بحر الفضل ملحاً نميره ... وطاميه الطامي سواء وناضبه
إليه انتهى علم البلاغة وانتمى ... ومنه استعاد به فعاد أعاربه
وحين عذت عز الفضائل بعده ... يتامى علمنا أنهن ربائبه
وقفنا وقد جد الوداع عشية ... فممسك دمعاً يوم ذاك وساكبه
ليودع نفس المجد بيتاً مصرعاً ... طويلاً على زواره متقاربه
تولى وهل يلوى علينا وقد غدت ... تلقاه من حور الجنان حبائبه
ظننت باني مخلص في وداده ... وأخطأت لا بل أسوأ الذنب كاذبه
رجعت وأمسي الجود يصحب نفسه ... إلى رمسه فالجود لا أنا صاحبه(3/403)
وقد كان لي منه إذا الخطب أظلمت ... أوائله رأى رضىً عواقبه
وكنت إذا ما تهت في الجهل والصبى ... هداني لرشدي علمه وتجاربه
فمن لي بجفن مسعد لي في الأسى ... عليه فجفني عليه والجفن خاضبه
أمولاي مجد الدين دعوة مفرد ... غدوت على قرب المزار مجانبه
سلكت سبيلاً عشت خوف سلوكها ... وأنت خميص البطن بالصوم شاحبه
وعمرت داراً لم تزل لتحلّها ... تحن إلى يوم النوى وتراقبه
وخلّفت علماً يستضاء بنوره ... إذا الجهل سارت في الوجود غياهبه
ليهنك خير كنت قدماً تسره ... وتستره عنا ويحصبه كاتبه
وسر في سنا الذكر الذي كنت دائماً ... تحثّ على تكراره وتواظبه
وزر سيداً قد كنت إن رمت مدحه ... هدتك إلى النظم البديع مناقبه
ودونك ما أملته من رغائب ... فمدحك فيه باهرات غرائبه
إذا جئته تسعى إلى الحوض طامياً ... وطوبى لك العذب الذي أنت شاربه
ولا زال وفد العفو نحوك والرضى ... تفوض عادته وينزل آئبه
وقال إن مجد الدين محمد بن الظهير رحمه الله اجتاز بحماة ومعه بضاعة فطلب منه المكس، فكتب إلى الصاحب شرف الدين عبد العزيز رحمه الله وزير صاحب حماة، إذ ذاك يقول:
يا أيها الصدر الذي أضحى بإن ... كار العلى كلفاً بغير تكلّف
هل يعذروا النواب في تكليفهم ... حق الجوار لشاعر متصوف(3/404)
متسربل حلل الظلام مشمّر ... في جمعه الرزق الشتيت يطوف
صوناً لها لأحبابه عن بذله ... في ردّه أو في إجابة مسعف
يطرى ويطرب في الحديث كأنما ... في كل قافية عتيق القرقف
والألمعية وهي فيك خليقة ... تغني عن التعريف من لم يعرف
أنا واثق وجميل ظني فيك مه ... ديّ فكن بجميل شكري مكتف
ومتى توقف عنه أمرك ساعة ... بذل الذي طلبوا بغير توقف
فكن الكفيل بمنع باغ معتد ... عمر الزمان ومنح باغ معتف
محمد بن سوار بن إسرائيل بن الخضر بن إسرائيل بن الحسن بن علي بن الحسين أبو المعالي نجم الدين الشيباني الدمشقي. مولده بدمشق في الساعة الرابعة من نهار الاثنين ثاني عشر ربيع الأول سنة ثلاث وستمائة، وتوفي بدمشق ليلة الأحد رابع عشر ربيع الآخر من هذه السنة، ودفن خارج باب توما عند قبر الشيخ رسلان رحمة الله عليه. ذكر نجم الدين المذكور، أن أهله قدموا الشام مع خالد بن الوليد رضي الله عنه، واستوطنوا دمشق، وأنه صحب الشيخ أبا الحسن بن منصور اليسري الحريري رحمه الله سنة ثماني عشرة وستمائة بعد أن لبس الخرقة من الشيخ شهاب الدين أبي حفص عمر بن محمد السهروردي رحمة الله عليه وأجلسه في ثلاث خلوات، وكان المذكور أديباً فاضلاً قادراً على نظم الشعر مكثراً منه، نفع الله به الأبيات الجيدة والمعاني النادرة، ومدح الأمراء والكبراء وغيرهم،(3/405)
وأشعاره كثيرة منها مادحاً فيه جده والشيخ شرف الدين عمر بن الفارض رحمه الله تعالى، ومنها غير ذلك، فمن شعره يقول:
لقد عادني من لاعج الشوق عائد ... فهل عهد ذات الخال بالسفح عائد
وهل نارها بالأجرع الفرد يعتلي ... لمنفرد ساب الدجى وهو ساهد
نديميّ من سعد أديراً حديثها ... فذكر هواها والمدامة واحد
منعمة الأطراف دقت محاسنا ... كما جلّ في حبي لها ما أكابد
فللبدر ما لانت عليه خمارها ... وللغصن ما حالت عليه القلائد
فديتك هل المامة من خيالكم ... تعود لفاقد مل منه العوائد
وكيف يزور الطيف والليل عاكر ... عليه ولا الطرف المسهد راقد
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
رفقاً حنانيك بي يا أيها الحادي ... وأنزل بنجد متى ما رمت إيجادي
وأبلغ تحية من أودي الغرام به ... أهل الكثيب والإبانة الوادي
وقل لها يا فدتك النفس كيف بأن ... يغيب أعناك قلب الهائم الصادي
أطلت مدة هذا الهجر ظالمة ... ما كان أغناك عن صدي وأبعادي
قد ملّ صحبي ثوائي في منازلكم ... وطال في عرصات الدار تردادي
وشاع في الحي أني مغرم بكم ... فصرت فيكم حديث الرائح والغادي
يا هذه وأحاديث المنى صدع ... هل ينجز الدهر من لقياك ميعادي(3/406)
غادرت بالليل دمعي جعفراً فمتى ... أرى ولو بمنامي وجهك الهادي
وقال أيضاً:
يا من ثنائي وفؤادي داره ... مضناك قد أقلقه تذكاره
صددت عنه قبل ما وصلته ... وكان قبل سكره خماره
ما كان يا بدر الدجى أسعده ... لو هتكت في حبكم أستاره
لي غصن يحمل بستاناً غدت ... ناضره في ناظري أزهاره
نرجسه لحاظه وورده ... وجنته وآسسه عذاره
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
منكم إليكم مهربي ومآلي ... وبكم عليكم في الهوى إدلالي
يا من أردت بذلتي في حبهم ... وأخو لهوي من لد بالإذلال
إني أجلّ محبكم عن أن يرى ... مستوسلاً بسواكم بسؤالي
وأكاد أكتم عنكم وجدي بكم ... لولا أطالعكم على أحوالي
لا تحسبوني خائفاً من هجركم ... أو راجياً منكم دوام وصال
هيهات لي وحياتكم بهواكم ... شغل عن الأعراض والإقبال
لم تنعموا كرماًعليّ بودكم ... إلا لينعم بالمحبة بالي
أهلاً بأدواء الغرام وحبّذا ... برح الهوى ولواعج البلبالي
ما كان فيه رضاكم فهو المنى ... والقصد وهو نهاية الآمال
وله مما نقلته من خطه:
من لي ببرق من حماك لموع ... يقضي لبانة قلبي الموجوع(3/407)
يا شاكياً بمحل سرى من حمى ... قلبي ومن طرفي مكان هجوعي
مالي أذاد عن الورود وحوض ... كم عن وارد به ليس بالممنوع
أحبابنا لم أستمح مباخلاً ... منكم ولا ناديت غير سميع
عودوا تعود سقم من أو ... دعتم أعضاءه الأسقام بالتوديع
وصلوا محبكم فليس نوالكم ... عن طالبي الإحسان بالمقطوع
أيجوز أن أقضي وقد أحببتكم ... بالبعض من ذاتي وبالمجموع
منكم عليكم مهربي وترحلي ... عنكم بحكم الدهر غير رجوعي
مذ أشرقت في أفق ذاتي شمسكم ... أضحى غروبي عنكم كطلوعي
وله، مما نقلته من خطه:
يا رب من ليل خيال مسلم ... يجوب إلى البيداء والليل مظلم
فيا حبذا الوداد طرفاً مهوماً ... ومن أين للمشتاق طرف مهوم
وبي جيرة جاروا فأجروا مدامعي ... وبانوا ولكن في فؤادي خيموا
أشاهدهم حتى كان لقاؤهم ... يقين ومصدوق الفراق توهم
وأسمر معسول اللمى رمح قده ... يميل على العشاق وهو مقوّم
حوى خده وطرفى معينه ... وناراً ولكن في فؤادي تضرم
أموت به عشقاً وأنكر حبه ... وأسأل عن أخباره فأجمجم
وأحجم إجلالاً عن وصاله ... ويغلبني صدق الرجاء فأقدم
وأكتم حبي عنه ما بي تصرفاً ... فيا من رأى حباً عن الحب يكتم
وأبخل عن غيري بأسرار حبه ... ويحلى بأسرار الغرام تكرم(3/408)
وله مما نقلته بخطي منه:
صد تيهاً وأعقب الصد وصلاً ... ظالم رق لي فأحدث عدلا
إن من سفرة الصدود منيباً ... من ذنوب الجفا فأهلاً وسهلا
وثنى عطفه الرضى دون صب ... مال عنه مع الوشاة وملا
فأعاد السرور بل عاد مضناً ... مذ رآه من عائديه وبلا
ذو خيال الحبيب حلو ولكن ... هو من بعد روعة الصد أحلى
يا قضيب الأراك إذ يتثنى ... وهلال في السماء إذ يتجلى
كيف عادرني لديك دليلاً ... يا أعز الورى لدي وأجلى
وأطعت العذال في مستهام ... لم يطع فيك مذ أحبك عذلا
لا يليق الصدود وهو كثيف ... بك يا ألطف البرية شكلا
إن حالي في الحب يعجب منها ... كل من كان للمحبة أهلا
ربع جسمي بغيث دمع محيل ... من رأى الغيث فذا واجب محلا
يا عزيز الذات بالذل فيه ... وعزيز من في المحبة ذلا
حسدت مقلتي الثرى إن تطاها ... فتمنت لو أصبحت لك نعلا
وله مما نقلته من خطه أيضاً:
إن أم صحبي سمراً أو أراك ... فإنما مقصودهم أن أراك
وإن ترنمت بذكر الحما ... فإنما عقد ضميري حماك
وإن دعا غيرك داع فما ... عندي إلا أنه قد دعاك
وإن بكى صب حبيب فما ... أحسب إلا أنه قد بكاك(3/409)
يا جملة الحسن وتفضيله ... أجملت إذ قرعتني سواك
ويا غنياً عن غرامي به من لي ... بأن يرحم فقري غناك
أحبيت باللطف موات الهوى ... وجدت حتى عم كلا جداك
ما أعرضتك نعماك عن سائل ... في كل ناد عارض من نداك
وقد ملأت الكون عشقاً فما ... أعرف قلباً خالياً من هواك
وله مما نقلته من خطه أيضاً:
لعرفكم في كل شارقة نفح ... لنار اشتياقي منه في كبدي لفح
وبالسفح منكم بارق متألق ... لسحب جفوني كلما شمته سفح
وبالمنحنى ربع قديم يد البلى ... يجدد أحزاني عليه ما يمحو
ومنها أيضاً:
علام ترى للبين عيساً طلائحاً ... ولما يلح لي منكم البان والطلح
أبيت أشيم البرق من نحو أرضكم ... فمن ومضه لمع ومن ناظري لمح
واستشرح النكباء عنكم صبابة ... رموز حديث عند قلبي لها شرح
وحقكم ما قرح الدمع ناظري ... ولامسني للبين من بعدكم قرح
وكيف ولم يبرح فؤادي بعدكم ... يحلّ بدار قد أقمتم بها برح
وحبكم كالشمس في أفق باطني ... فمغربة ليلاً ومقبوضة صبح
فحتام استسقى الحيا لدياركم ... وفي سحبه شح وفي ناظري سمح
وله، مما نقلته من خطه أيضاً:
أقوت معالمهم وخف قطين ... ونأوا فطار فؤاده المحزون(3/410)
صب يلوم العيس في قطع الفلا ... بهم وحاديهم منه حنين
يا برق إن أهلّ شأن ربوعهم ... هملت لها من ناطريه شؤون
ما قيّد الأظعان مهجة نفسه ... إلا ليطلق دمعه المسجون
ظعن هتكن الليل حين سرينه ... وحبابهن عن العيون مصون
حجبن بالاشباه وهي ذوابل ... ومعاطف وصوارم وجفون
وجرعن نقب المنحني فتأرجت ... بنسيمهن أجارع وحزون
ولقد وقفنا للوداع عشية ... وعلى ملاحظة العيون عيون
أبكي الدما بين الذوابل شرعاً ... وكأنني في ناظري طعين
يا حيرتي بلوى الأراك دنا النوى ... وعليكم للمستهام ديون
ما كنت أعلم أن عهد فتاتكم ... مين ولا أن الفراق منون
بنتم فأخفاني الأسى من بعدكم ... سقماً فما أنا لا أكاد أبين
عجباً لطرفي كيف لم يجئ الكرى ... فيه وماء الدمع منه معين
وقال أيضاً رحمه الله:
أما آن أن تبدو لعينك نارها ... وهذي المطايا قد براها سفارها
شققت بها وهنا على الأين والوجا ... بطون موام كالظلام نهارها
وجئت بها والآل يلمع بالضحى ... ظهور فياف لا تجاب قفارها
إذا العتب قد أنكرتها بطويلع ... مرابع يزهو شيحها وعرارها(3/411)
وإن ظمئت منيتها ماء وحرة ... ومن دونه أدلاجها وابتكارها
طلائع دار العامرية قصدها ... وأين من البزل المصاعيب دارها
وهل قربتك العيس منها أترتجي ... زيارتها هيهات منه مزارها
ما هي إلا الشمس تحسب ضوءها ... قريباً وفي الأوج الرفيع منارها
ممنعة أشجار ساحتها الفنا ... يظل الأماني والمنايا ثمارها
تحف بها تحت العجاج كتائب ... إلى مضر الحمراء ينمى نجارها
تعيد الرجا صبحاً بلمع خدودها ... وتجعل ضوء الصبح ليلاً غبارها
فعد لا يمنيك الأماني غرورها ... فقد طال ما بالنفس أودي اعتبارها
يميناً بعهد سالف كان بيننا ... وأسرار حب لا يحل خمارها
لأقتحمن الهول فيها بعزمة ... إلى الفلك الأعلى يطير شرارها
فإن حان ميقاتي لديها ولم أفز ... بتقريبها فليهن نفسي افتخارها
وفيمن أخاف الموت فيها أهل لنا ... سواها وهل غيري تكن ديارها
وما الوصل إلا الفصل عن رسم منزل ... متى فارقته العيش قرّ قرارها
وهل حاجب عنها سواك فإن يبن ... عن المنزل الأدنى يزول استتارها
متى بان ما فارقت بعد فراقه ... بكتها بلا شك وجادك جارها
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
عسى الطيف بالزوار منك يزور ... فقد غاب عنه كاشح وغيور(3/412)
وكيف يزور الطرف طرفاً مسهداً ... له النجم بعد الظاعنين سمير
ظعائن تغزو الجيش وهي رديفة ... عليهن من سمر الرماح ستور
إذا نزلوا أرضاً تولّت محولها ... وأصبح فيها روضة وغدير
وإن فارقوا أرضاً غدت رمالها ... من الطيف مسك والتراب عبير
أأحبابنا النأون أدعوا بيننا ... سهول وغور قطعهن عسير
وداركم بالبان عن أيمن الحمى ... يلوح عليها نضرة وسرور
قريبة عهد بالخليط رسومها ... مواثل ما محت لهن سطور
كأن مواطي الخيل فيها أهلة ... وآثار أخفاف المطي بدور
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
يا هاجري وله خيال واصل ... أتراك تسمع بعض ما أنا قائل
ما كان ذنبي حين خنت مودتي ... وهجرتني ظلماً وهجرك قاتل
أصبحت تظلمني وظلمك بارد ... وتميل عن وصلي وقدك مائل
وأراك مقترب المزار وبيننا ... يخفاك يا أمل النفوس مراحل
أصبحت من ذهبي خدك في عنا ... عما سواه فلم عذارك سائل
ديوان حبك فيه طرفك ناظر ... والصبر مصروف وسقمي حاصل
وعذار خدك بالغرام موقع ... وهواك مستوف وقدك عامل
أذكي الصبي نار الجمال بخده ... فلذاك نرجس ناظريه ذابل
وله وكتب بها إلى كحّال:
يا سيد الحكماء هذي سنة ... أفنيتها في الطب أنت سننتها(3/413)
أو كلما كلت سيوف جفون من ... سفكت لواحظه الدماء سننتها
وقال أيضاً من أبيات:
أنت الأمير على الملاح بأسرهم ... وعليك من قلبي لواء خافق
وله أيضاً رحمه الله تعالى:
ما سر ناظره مذ غبتم نظر ... ففيم حكم فيه الدمع والسهر
قد كان يكفيه هجران الخيال له ... لكن قدرتم فلم تبقوا ولم تذروا
يا راحلين في أعقاب ظعنهم ... قلب يقلبه الأشواق والفكر
ما الدار بعدكم داري وإن حسنت ... مغنىً ولا أهلها أهلي وإن كثروا
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
أيها المعتاض بالنوم السهر ... ذاهلاً تسبح في بحر الفكر
سلم الأمر إلى مالكه ... واصطبر فالصبر عقباه الظفر
لا تكونن آيساً عن فرج ... إنما الأيام تأتي بالغير
كدر يحدث في وقت الصفا ... وصفا يحدث في وقت الكدر
وإذا ما شاء ذهن مرة ... سرّ أهليه ومهما شاء سر
فارض عن ربك في أقداره ... إنما أنت أسير للقدر
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
كتم الغرام ولج في كتمانه ... زمناً فخر بشأنه عن شانه
والصب من نصحي بجمر غرامه ... ثملاً يفوح الطيب من أردانه(3/414)
لا ترتجي فوزاً بجنة وصل من ... تهوى ولا تخشى لظى نيرانه
متلذذاً بالذل مغتبطاً بها ... يلقاه من إهماله وهوانه
وبمهجتي ريان من ماء الصبا ... نشوان لا يلوى على نشوانه
حلو الشمائل والمعاطف مطمع ... مضناه بعد الناس في إحسانه
شاكي السلاح ورمحه من قده ... وسنانه المفتاك من وسنانه
متلثم بعذاره متقلد ... بالصارم المصقول من أجفانه
بستان حسن في قضيب مائس ... ولقد عهدنا الغصن في بستانه
يدنو ويبعد رقة وتغررا ... ويظل يمزح حرفه بأمانه
وإمام ظعن الحي مهروب الشظى ... لا يتقي السطوات من سلطانه
يجلو تبسمه الدجى وجبينه ... فعلى تبسمه هدى ركبانه
ويميس في ظل الإراك قوامه ... فتخاله للبين من أغصانه
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
لصرف الليالي عندي الحمد والشكر ... وقد صار يعموراً بك السرّ والجهر
ظهرت وسيرت الوجود مظاهراً ... وكان الذي يجلو محاسنك الستر
ومعتذر بالحسن أمسيت عبده ... وأصبح لي مولى له النهي والأمر
معاطفه بالعطف تطمع صبّه ... وخط عذاريه لعاشقه عذر
وقامته النشوى وعيناه واللوى ... ثلاث خمور عال عقلي بها السكر
فعذبه يحلو..... لديه عذابه ... وما سورة العاني يلذ له الأسر
ونشوان من سكر الشباب قوامه ... يقر له الخطى والغصن النضر(3/415)
على غصنه بدر وفي فرعه دجى ... وفي ثغره خمر وفي طرفه سحر
وفي قربه بعد وفي وصله جفا ... وفي ظلمه جور وعندي له شكر
ومطرورة ترضى بوحشة طرده ... ومهجورة ظلماً يطيب لها الهجر
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
وحقك ما عنك لي مذهب ... وحبك لي أبداً مذهب
وفيك يلّذ لجسمي الضنا ... ويرتاح قلبي بما يتعب
ومحتلم الطرف في بهجتي ... يجور وفي عدله أرغب
غرير غريز له ناضر ... يقر له الصارم المقتضب
ونشوان من مسكرات الدلا ... ل توهم أن الحفي يحجب
ترى أنني راغب في رضاه ... وإني من صده أرهب
وإني إذا فاه لي منطق ... بذكر فضائله أخطب
ومن راح سكران من حبه ... فليس يصح له مطلب
ولي معرض لدى إعراضه ... وكل الذي يرتضى طيّب
وكم ليلة نلت من كفه ... مداماً ومن طرفه أشرب
صبرت على ما ساءني ... وأعتبه وهو لا يعتب
ويختلف الطرف والقلب فيه ... فيصدق هذا وذا يكذب
وبالمنحنى عرب بيضهم ... إلى أسود أجفانهم ينسب
نسيمهم يستتر الهوى ... وبرقهم للجوى يلهب(3/416)
وعن كل غارة جيش لهم ... قدود غدائرهم تغرب
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
وفي لي من أهواه جهراً بموعدي ... وأرغم عذالي عليه وحسّدي
وراد على شحط المزار تطولا ... على مغرم بالوصل لم يتعود
فيا حسن ما أبدي لعيني جماله ... ويا برد ما أهدى إلى قلبي الصدى
ويا صدق أحلامي ببشري وصاله ... ويا نيل آمالي ويا نجح مقصدي
تجلى وجودي إذ تجلى لباطني ... بجد سعيد وبسعد مجدد
لقد حق لي عشق وأهله وقد ... علقت بكفي جميعاً بموجدي
نديميّ من سعد أريحا ركائبي ... فقد أمنت من أن تروح وتغتدي
ولا تلزماني النسك فالحب شاغلي ... ولا تذكرا لي الورد فالراح موردي
ولا تقفاني في الرسوم التي عفت ... فقد طال حبسي بين نوء وموقد
ومرّا على حيّ بمنعرج اللوى ... فقولا لغزلان الصريم ألا ابعدي
ولا تسعداني بعدها لكما البقا ... فما لي بعد اليوم فقر لمسعدي
أمن بعد ما قد برّد الوصل غلتي ... وزاد الكرى أجفان طرفي المسهد
وهامت بي الصهباء وجداً فكل من ... سقاها له قلب إلى رؤيتي صدي
وأمسيت والكأسات شمى وأصبحت ... عروس حمياً الحان تجلّى على يدي
ونادمت في دير الخنيس غزالة ... وزخرف لي في هيكل الدير مقعدي(3/417)
وأضحت ظباء الحي صيد خلاعتي ... وإن صدن من أهل النهى كل أصيد
وصارت لقلبي قوة نبوية ... مميزة بين الهدى والتهود
أضلّ وفي نور الجمال تقلبي ... وأخشى وفي ظل الحلال ترددي
ويدركني نقص ومعنى كماله ... إذا سرت في بيداء قصدي مزودي
وأرضى بدين المانوية ملّة ... وديني في حييه دين موحد
ودأبي وعزمي والدجى وقراره ... فقد أبت العلياء إلا تفردي
وجدا وحدا في العلاء كل عائق ... ولا تصغيا يوماً لعذل مفند
ولا تيأسا من روحه وتأسيا ... فكم معرض في اليوم يقبل في غد
فتى الحي صبّ باع مهجة نفسه ... لجيرة ذاك الحي نقداً بموعد
هو الحب إما منية أو منية ... ودون العلى حدّ الحسام المهند
ألم تريا أني وجدت تلذذي ... برؤياه عقى جيرتي وتلددي
وقد عشت دهراً والجمال يهزني ... ويطربني الإلحان من كل منشد
وأغزو وفي ليل الغدائر دائباً ... أضلّ ومن صبح المباسم أهتدي
ويسقم جفني كل جفن وتارة ... يورّد دمعي كل خدّ مورّد
فطوراً أرى في الربع يبدو تولهي ... وطوراً وراء الظعن يوهن تجلدي
أحنّ للمع النار شبّ ضرامها ... بنعمان في ظل الطراف المعمّد
وأصبو متى هبّت صباحاً جدية ... يخبرني عن منجد غير منجّد
ويخجل أجفاني السحاب بوبلها ... حتى لاح برق برقة ثهمد(3/418)
أحال حضيض السكر أوج ترفعي ... وأحسب وادي الفوق مطلع فرقد
فلما تجلى لي على كل شاهد ... ساقرني بالرمز في كل مشهد
تجنبت تقييد الجمال ترفعاً ... وطالعت أسرار الجمال المبدد
وصار سماعي مطلقاً منه بدؤه ... وحاش لمثلي من سماع مقيد
ففي كل مشهود لقلبي شاهد ... وفي كل مسموع له لحن معيّد
فصل في المشاهد الجمالية:
أراه بأوصاف الجمال جميعها ... بغير اعتقاد للحلول المعبّد
ففي كل هيفاء المعاطف غادة ... وفي كل مصقول السوالف أغيد
وفي كل بدر لاح في ليل شعره ... على كل غصن مائس العطف أملد
وعند اعتناقي فيه قد مهفهف ... ورشفي رضاباً كالرحيق المبرّد
وفي الدر والياقوت والطيب والحلي ... على كل شاجى الطرف لدن المقلد
وفي حلل الأثواب راقت لناظري ... بزبرجها من مذهب ومعمد
وفي الراح والريحان والسمع والغنا ... وفي سجع ترجيع الحمام المغرد
وفي الدوح والأنهار والروح والندى ... وفي كلّ بستان وقصر مشيد
وفي الروضة الغنّاء غبّ سمائها ... تضاحك نور الشمس نوارها الندي
وفي صفو رقراق الغدير إذا حكى ... وقد جعلته الريح صفحة مبرد
وفي اللهو والأفراح والغفلة التي ... تمكن أهل الفرق من كل مقصد
وعند انتشاء الشرب في كل مجلس ... بهيج بأنواع الثمار منضّد
وعند اجتماع الناس في كل جمعة ... وعيد وإظهار الرياش المجدد(3/419)
وفي لمعان المشرفيات بالوغى ... وفي ميل أعطاف الفتى المتأود
وفي الأعوجيات العتاق إذا انبرت ... تسابق وفد الريح في كل مطرد
فصل في المظاهر العلوية:
وفي الشمس تجلى في تبرج نورها ... لدى الأفق الشرقي مرآة عسجد
وفي البدر بدر الأفق ليلة تمّه ... حلته سماء مثل صرح ممرد
وفي أنجم زانت دجاها كأنها ... فتار لآل في بساط زبرجد
وفي الغيث روى الأرض بعد همودها ... قبال نداه متهم بعد منجد
وفي البرق يبدو موهناً في سحابة ... كباسم ثغراً أو حسام محدّد
فصل في المظاهر المعنوية:
وفي حسن تنميق الخطاب وسرعة الجواب وفي الخط الأنيق المجرّد
وفي رقة الأشعار رقت لسامع ... بدائعها من مقصر ومقصّد
وفي عود عيد الوصل من بعد جفوة ... وفي أمن أحشاء الطريد المشرّد
وفي رحمة المعشوق شكوى محبّه ... وفي رقة الألفاظ عند التودد
وفي أريحيات الكريم إلى الندى ... وفي عاطفات العفو من كل سيد
وحالة بسط العارفين وإنسهم ... وتحريكهم عند المساع المقيّد
وفي لطف آيات الكتاب التي بها ... تبسم روح الوعد بعد التوعد
فصل في المظاهر الجلالية:
كذلك أوصاف الجلال مظاهر ... أشاهده فيها بغير تردد(3/420)
ففي صولة القاضي الجليل وسمته ... وفي سطوة الملك الشديد التمرد
وفي جلدة الغضبان حالة طيشه ... وفي نخوة القرم المهيب المسوّد
وفي سورة الصهباء حار مديرها ... وفي يبس أخلاق النديم المعربد
وفي الحر والبرد الذين تقسما الزمان وفي إيلام كل مجسد
وفي سر تسليط النفوس ونشرها ... عليّ وتحسين التعدي لمعتد
وفي عثر الغارات يستعرف الفضا ... ويكحل عين الشمس منه بإثمد
وعند اضطرام الخيل في كل مأزق ... يعثر فيه بالوشيج المقصد
وفي شدة الليث الهصور وبأسه ... وشدة عيش بالسقام منكد
وفي جفوة المحبوب عند وصاله ... وفي عذره من بعد عهد موكد
وفي روعة البين المشيب وموقف الوداع لحران الجوانح مكمد
ومن فرقة الألاف بعد اجتماعهم ... وفي كل تشتيت وشمل مبدد
وفي كل دار أقفرت بعد إنسها ... وفي ليل ناد أو دراس معهد
وفي هول أمواج البحار ووحشة القفار وسيل بالمذاهب مزبد
وعند قيامي بالفرائض كلها ... وحالة تسليم لسر التعبد
وعند خشوعي في الصلاة لعزة المناجى وفي الأطواف عند التشهد
وحالة إهلال الحجيج وحجهم ... وإعمالهم للعيس في كل فدفد
وفي عسر تخليص الحلال وفرّة الملال لقلب الناسك المتزهد
ويبدو بأوصاف الكمال فلا أرى ... برؤيته شيئاً قبيحاً ولا ردى(3/421)
فكلّ مسيء بي إليّ كمحسن ... وكل مضلّ إليّ كمرشد
ولا فرق عندي بين أنس ووحشة ... ونور وإظلام ومدن مبعد
وسيان إفطاري وصومي وفترتي ... وجهدي ونومي وادعاً وتهجدي
أرى تارة في حانة الخمر خالعاً ... عذارى وطوراً في حنية معبد
تجلى فسرى بالحقيقة مشرب ... ووقتي ممزوج بكشف سرمد
وقلبي مع الأشياء أجمع قلب ... وسرّى مقسوم على كلّ مورد
تعمرت الأوطان بي وتحققت ... كظاهرها عندي بعيني ومشهدي
فهيكل أوثان ودين لراهب ... وبيت لنيران وقبلة مسجد
ومسرح غزلان وخانة قهوة ... وروضة أزهار ومطلع أسعد
ومنبع عرفان وإسراج حكمة ... وأنفاس وجدان وقيظ تبلد
وجيش لضرغام وحذر لكاعب ... وظلمة حيران ونور لمهتدي
تقابلت الأضداد عندي جميعها ... كمحبة مجهود ومنحة مجتدي
وأحكمت تقرير المراتب صورة ... ومعنىً ومن عين التفرد موردي
فما موطن إلا ولي فيه مقصد ... على قدم قامت بحق التفرد
ولا غرو إن فتّ الأنام غلاّ وقد ... علقت بحبل من حبال محمد
عليه صلاة الله يشفع دائماً ... بروح تحيات السلام المسّود
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى:
جهد المحبة لوعة وغرام ... وكآبة وصبابة وسقام
ومدامع مسفوحة وأضالع ... مقروحة وتولّه وهيام(3/422)
وتذكره إن لاح برق بالغضا ... أو ناح في هدب الغصون حمام
ورضىً يزور رياضة طيفية ... يأتي بها وكفاك ذاك مقام
ومتى عدت للمرء من قضائه ... حجب فموطن كشفه الأحلام
وتذلّل وتصبّر وتجلّد ... إن عزّ مطلوب وشطّ مرام
ورضىً بأحكام الحبيب وإن جفا ... ونأى وعزّ من الخيال لمام
أوصاف باق لم تبن عن اسمه ... وبقاء أبناء الغرام حرام
والعاشقون على اختلاف شؤونهم ... عما تحققه الفناء نيام
كل تسيّر إلى سواه ولا سوى ... إلا إذا ما ظلت ... الأفهام
وذروا المعارف ما يكون لأهلها ... تجنى لهم بثمارها الأيام
وقوم بهم قام الوجود لأنهم ... قعدوا بعرفان الإله وقاموا
ظهروا وقد خفيت صفات نفوسهم ... فهم لأعلام الورى أعلام
وردوا بعين الجمع فاجتمعت لهم ... صور العوالم فالشتات نظام
وجهاتهم في العلم وجه واحد ... سيّان خلف عندهم وإمام
وحقائق الأشياء في ميزانهم ... ....فما بين الأنام خصام
فظلامهم عين الصباح حقيقة ... وصباح أبناء الرسوم ظلام
والعارفون بفضلهم وراثهم ... والجاحد إنعامهم إنعام
ووراءهم قوم معارفهم إلى ... حدّ الصفات تردّها الإعظام
وهم على رتب تفاوت قدرها ... وكذاك تقسّم فضله القسام(3/423)
فصل:
فمن اجتلى صفة الجمال فدهره ... عشق وقصف والغرام ملام
وتشوقه الريحان والأغصان والكثبان والغزلان والآرام
وبروقه غصن غلالة خدّه ... ورد وآس عذاره تمام
ولذلك يعجبه فتاة فضلها ... شمس عليها للسحاب لثام
ويحب إخبار الغرام وأهله ... وتهزّه الأوتار والأنغام
هش تراه للخلاعة باسماً ... كالبدر جلى عن سناه غمام
يرتاح عند وجود كل لطيفة ... في الكون فهو متى بدا بسّام
ويرى المليحة في القبيح فما له ... لسوى الجمال على المدى إلمام
فصل:
ومن انتحى صفة الجمال فإنه ... قبض وكل زمانه إحجام
ولديه عن كل اللطائف نفرة ... وله على أضدادها إقدام
ويلذه الإنعاب والأوصاب وال ... إنصاب والآلام والأسقام
وجميع آثار الجلال مظاهر ... لعلومه بظهورها إتمام
فترى على ضد فمن هو قبله ... فالوقت مزن والدموع سجام
أنى يرى شيئاً يلايم طبعه ... فلطرفه بدموعه إستحمام
فصل:
والسالكون أمان من يسرى على ... أثر الدليل فما عليه ملام(3/424)
بل حقه أن لا يقيم بمنزل ... إلا إذا ما الركب فيه أقاموا
ومعذر ركب المهابة راجياً ... بالجهد أن تبدو له الآرام
فلعل ذلك في خفارة قصده ... ولكل قصد حرمة وذمام
فصل:
والزاهدون بأسرهم صنف وفي ... إثبات زهد الزاهدين كلام
والزهد في ترك الفتى بحظوظه ... أولى فكيف تفوته الأقسام
فصل:
والعابدون عداد أربعة فمن ... عيد له ... إمام
ثاني عبادته عليها ينبغي ... التطهير والأركان والأحكام
وله وقد تمت ظواهر أمره ... بالعلم عن علل النفوس فطام
فتراه ليس يرى الرياء ولا له ... بالخلق إشراك وذاك همام
ويرى العبادة ... ... وفعالها من ربه إكرام
هذا للذي وفي العبادة حقها ... وله دلائل تقتفى وترام
منها إنارة وجهه وحصول ما ... يقضي بها الإخلاص وهو لزام
ومتى أتى بعبادة في مشهد ... أرضى بها من عقّد الاسلام
فصل:
ومثمر العلم لكن سرّه ... دنس وكل قصوده آثام
ومقصر في ظاهر من علمه ... والجهل مع لقيا التعلم ذام(3/425)
ولربما أهدى له إخلاصه ... بقبيض من يهدي به الإفهام
ومقصر في الحالتين فذاك من ... أربت عليه بفضلها الأنعام
صلى بلا علم وصام لأنه ... عظمت صلاة عنده وصيام
فتراه كالغضبان يشمخ أنفه ... ويقول كل العالمين عوام
ويقوم في الليل الطويل وربما ... أضحى بوجه قد علاه سخام
قد أنشدت رؤيا العبادة لبّه ... وكذاك رؤياها أذى وسمام
فافهم رسالة سرّ لاهوت أثر ... قد أنهكت ناسوته الأسقام
جاءت تقاد مطيعة فكأنما ... في كلّ قافية إليّ زمام
ما ظنها سن الشباب وربما ... قد كان كهل الحلم وهو غلام
حذرتها في بعض ليلة جمعة ... والفجر ما نشرت له أعلام
وعلام لا تعنوا المعارف لي ولي ... بمقام سيدنا الجليل مقام
صلّى عليه الله ما متع الضحى ... ومتع الصلاة تحية وسلام
على نبيه ومن هو على الهدى ... الهادي نبيّ الرحمة القوّام
من ليس ينقض ما تولى برمّه ... أبداً وليس لنقضه إبرام
وقال يمدح الشيخ علي الحريري - رحمه الله - نقلته من خطه:
حيّا الديار على علياء حورانا ... مستهزم الرعد تسكباً وتهتانا
وكيف أحمل فيها للسحاب يداً ... وربما عمّ كل الأرض إحسانا
داراً يلاقي بها العافون رحمة ... كما يلاقى بها الجانون غفرانا(3/426)
تهوى القلوب لها شوفاً فلو قدرت ... طارت إليها زرافات ووحدانا
حيث المواعيد لا تفضي المواهب لا ... تحصى وعين الرضى لم يعص إنسانا
ويورد الوصل مشروع لوارده ... لم يلق من دونه سداً وهجرانا
فطائر المدح غريد على فنن العلياء مورد أسجاعاً وألحانا
والمشرفيات لا تنبو مضاربها ... والسمر تحمل رايات وخرصانا
وللقرى النار على بالعلياء مضرمة ... يعشو إلى ضوءها من جاء عريانا
وكل غير أن يخشى الموت سطوته ... ويلبس الدهر ثوب الذل ألوانا
دار إذا حل ذو منّ بساحتها ... رأى غرائب لا تحصى وأفنانا
إن حلّها عابد الغيّ بساحتها ... ديراً يضمن تسبيحاً وتحيانا
حفت بهيكله العباد قد لبسوا ... تحت المسوح من الأحزان قمصانا
فعابد قد أسال الفقر مهجته ... دمعاً وأصلاه خوف النار نيرانا
وعابد يرتجي حيث الجزاء غداً ... فما يدين به حور وولدانا
فذاك في قبض خوف لا انبساط له ... وذا تروحه الآمال أحيانا
أو حلها مسالك ألقى بجانبها ... وكائب العزم لا يسأمن وجدانا
يحملن كل بعيد إليهم قد بذل القرار والنوم للعلياء إيمانا
كالسيف يقطع من تلقاه شفرته ... والنجم يهدي لدى الظلماء ركبانا
أو حلّها عارف مذلّ بمعرفته ... رأى معارفه جهلاً ونكرانا
حتى إذا ما ارعوى أهدى نسيم ريّا ... ذاك الحباب له عرفاً وعرفانا(3/427)
وقابتله بمعنى منه ناطقة ... بسرها بجوى وجداً ووجدانا
أو حلها عائق والخان مرتعه ... يلقى الندامى بها شيباً وشبانا
فواحد في رياض الإنس منبسط ... يجرّ للتيه أذيالاً وأردانا
بادي الخلاعة لا يرجو النعيم ولا ... يخشى الجحيم ولا تلقاه محزانا
وفاقد أرعشت كفيه مقلته ... وولته وهدّت منه أركانا
وصيرت بطشه عجزاً وصحته ... سقماً ووجدانه محواً وفقدانا
وصاحب لم يؤثر فيه قهوتها ... قد صار ... قصفاً وإدمانا
يقول رائيه إعجاباً بيقظته ... في السكر هل تسكر الصهباء نهلانا
خان حدسها حدثت عن عجب ... تمد تغازل آراماً وغزلانا
ونشوة لو بدت في الكون ما نزلت ... في عالم الكون لا إنساً ولا جانا
وإلى كؤوس عتيق الراح دائرة ... لما يصر بعدها الندمان ندمانا
راح لو أن ابن نوح شام بارقها ... لم يخش إذ نبع التنور طوفانا
ملك التي تلبس الأقداح شاربها ... حقاً وباباتها هما وأحزانا
يسعى بها مائس الأعطاف تحسبه ... قد ركب السحر في عينيه أجفانا
بادي الجمال ترى في كل جارحة ... منه شموساً وإقماراً وأغصانا
تبدو فتحسب بدر التمّ مقتبلاً ... وينثني فخيال الغصن ريّانا
يجلو عليك بما يحوي الوشاح وما ... يحوي المآزر ... ونعمانا(3/428)
مؤثر الخصر مطبوع على صلف ... تريك رؤيته روحاً وريحانا
يا مالكي والذي لا شيخ أعرفه ... سواه أدعوه إسراراً وإعلانا
أجللت مدحك عن ان أقوم به ... فعجت أبعث آثاراً وأوطانا
لا يقدر المرء أن يثني عليك ولو ... أعيت بلاغته قساً وسحبانا
أنت الذي يقحم التقصير مادحه ... إلا إذا أنزل الرحمن قرآنا
أنت الذي ما له ابن فنعرفه ... وليس يملك عنه الحرف بنيانا
سرادق العز مبنى عليك وهل ... يرضى لك الله غير العز تبيانا
أنت الذي تنزل الخيرات دعوته ... لنا ويعلم ما يخفي طوايانا
أنت تنشر الأموات قدرته ... لطفاً وينطق الصمت خرسانا
أنت الذي جزت صحو الجمع متنصحاً ... بالاتحاد مراداً للذي كانا
كم رمت كائن ما أوليت مجتهداً ... فما استطعت لنور الله كتمانا
أنت الذي كلّ ما في الكون مظهره ... حقاً أقيم على ما قلت برهانا
وأنت ... في موله فلا عجب ... إن فات إدراك نور الشمس عميانا
خفيت لبساً على أهل الرقاد كما ... ظهرت كشفاً لمن يلقاك يقظانا
مصداق قولي أن قد صرت محتجباً ... في عزنا وكفاني ذاك عنوانا
أنت الذي لم ينل ما نلته أحد ... ولا أحاشى من الأشياخ إنسانا
أنت الذي من حفت يمناك بعد رضى ... يمناه ألبسته يمناً وإيمانا(3/429)
أنت الذي من رأى مغناك واحده ... لم يخش الدهر إملاقاً وخسرانا
منحتها ليلاً إسعافاً لطالبنا ... بما يروم وعفواً عن خطايانا
ألبستنا وصف عزّ لا نفاد له ... فأصبح الدهر يرجونا ويخشانا
أحللتنا حيث لا ترمى لمرتفع ... إذ صرت.... برّاً وترعانا
ولا يزال الذي غلا بنا أبداً ... يعمّ بالفضل أقصانا وأدنانا
فالوقت يسعدنا والوصل يسعفنا ... والسمع والراح والألحان تهوانا
والمجد يصحبنا والعز يخطبنا ... وموجد الكلّ يرضينا ويرضانا
والعلم والكشف والأحوال أجمعها ... لمن يؤصلنا أدنى عطايانا
وكل عارفة من فيض أنعمنا ... وكل فضل يعار من سجايانا
فمن يفاخرنا أو من يساجلنا ... قد قلّ أكفاءنا قصرت مولانا
وتاه والحق لا يخفى لوائحه ... على أئمة هذا الشأن أدنانا
مكاشفون بأسرار الوجود يرى ... في كل كائنة في الكون معنانا
ونحن فرسان بيد القصد يقطعها ... عسفاً ويقبلها خيراً مطايانا
أنت الذي جئت عرض البيد معتسفاً ... إليك أحمل أشواقاً وأحزانا
وكيف لا يعسف الأخطار في مهل ... وأنت قائد مرآنا ومغدانا
يا واحد كلّ ما نلناه موهبة ... من فضله أنت محياها ومحيانا
رجاك لم تبق أشواقي على أذىً ... وهل يطيق النهي للشوق سلطانا(3/430)
أم هل يلام محب فيك مصطبح ... خمر المحبة إن وافاك سكرانا
قدمت نفسي علىأن لست ما قدمت ... ...بين يدي نجواك قربانا
فاغفر لجرمي وهب لي العفو عن زللي ... عما أتيت فقد فارقت طغيانا
أهوى المقام بجسمي في حماك كما ... معناي فيه فألقى منك حرمانا
ولي علائق آمال حضائضها ... السبع العلى وأعالي برج كيوانا
فارحم فتى في انتهاء الأوج همته ... قد أكرمته بقايا الحظ نقصانا
حتام أطوى الفلا عسفاً على قدم ... تحدىإذا احمرت الرمضاء صوانا
أخوض لجّ سراب القفر ذا ظما ... مود وأطوي ملاء البيد طيانا
ولا يراح فؤادي عن مفارقتي ... داراً وأهلاً وأحباباً وجيرانا
طوراً أرى لسفين البحر ممتشطاً ... إذ يرعش الرعيب ثوبنا وربّانا
وتارة يرتمي في كل مقفرة ... يهماء يستوقف الحريب حيرانا
أرخى قلائص عزم لا يعجن على ... ورود صدىً ولا يرعين سعدانا
كأنما أخذت أيدي الخطوب على ... عزمي بذرع بساط الأرض إيمانا
فتم إغرابي أسعى في اكتساب على ... أمر هل يشهد أمصاراً وبلدانا
أم هل لأطلب لا مهدي سواك إذاً ... فلا برحت عميد القلب حيرانا
حاشاي أرضى وقد وجدت حبك أن ... أشرك بحبك أنصاباً وأوثانا
أوردتني لجة البحر الخضيم فهل ... أرضى لوردي أنهاراً وخلجانا(3/431)
لولاك لم أشم لبرق الشآم ولم ... أودّ بالمنحنى أثلاً ولا بانا
ولا تمنيت من بطحاء خيف منى ... حزن الديار الذي غربي نجرانا
ولم يبق لي في نوى نعماك من أمل ... ففيم أستوثق الركبان نشدانا
الكلّ أنت وبرّ الأرض أجمعها ... وكأس فضلك لا يجتاز حمانا
فهب لتفرقتي جمعاً أعيش بها ... حباً لديك وهب لي منك رضوانا
أنت السلام فإن يهدي السلام إلى ... مهدي السلام مجازا صار مهدانا
كان نجم الدين، ناظم هذا القطع لا شك في جودة شعره ومعرفته بالأدب، لكنه أطلق لسانه في هذه القصيدة النونية بما ينبو عنه السمع، ورده الشرع، ولا يحتمل التأويل. والعجب أن مدحه بما لا ينبغي في حق بشر، ثم قال:
مصداق قولي أن قد صرت محتجباً ... في عزنا وكفاني ذاك عنوانا
وكان الشيخ عليّ الممدوح - رحمه الله تعالى - صاحب دمشق في ذلك الوقت بحصن عزتا قريب وادي بردا وبقي محبوساً به مدة سنين، فجعل الدليل على صحة ما ذكره من الصفات العظيمة المنسوبة إلى حبسه، وهذا في غاية التناقض والقبح، والعجب منه كونه خفي عنه ذلك، وإنه استشهاد ساقط لا مناسبة له ولا في غير هذه القصيدة ألفاظه ينقد عليه فيها غير أنها محتملة لها تأويل يحمل عليه، وكان مع هذه المبالغة يقول عنه، إذا ذكره صاحبنا كأنه يترفع أن يقول شيخنا ماذا قيل له في ذلك يقول: شيخي شهاب الدين السهروردي وإنما الشيخ صحبته بعد ذلك مدة زمانية إلى حين وفاته، هذا سمع منه وما هو في معناه غير مرة في آخر عمره - رحمه الله أجمعين.(3/432)
محمد بن عبد القادر بن عبد الكريم بن عطايا أبو عبد الله شرف الدين القرشي الزمري المصري الشافعي الفقيه العدل. كان من أعيان المصريين وهو ناظر الخزانة بالديار المصرية، وكان عنده ديانة وافرة وعبادة وتعاني الرياضة والمجاهدة، والذكر، ومحبة الفقراء وبرّهم ومخالطتهم، فتوفي في هذه السنة ودفن بالقرافة الصغرى، وقد نيف على ثمانين سنة - رحمه الله تعالى.
محمد بن عربشاه بن أبي بكر أبو عبد الله ناصر الدين الهمداني الدمشقي. كان رجلاً فاضلاً له معرفة بالحديث، سمع الكثير على مشائخ عصره، واسمع وكتب من كتب الحديث شيئاً كثيراً، وكان متقناً متفنّناً محرراً لما يكتبه. كتب صحيح البخاري في ثلاث مجلدات، وقابلها، وحررها، وسمعها على المشائخ، وصارت من الأصول المعتمد عليها بعد وفاته إلى الشيخ علاء الدين علي بن غانم - أعزه الله - فوقفها بدار الحديث المعيدية ببعلبك المحروسة على الشرط المكتوب بخطه عليها. وكانت وفاة ناصر الدين المذكور يوم الجمعة رابع جمادى الأولى من هذه السنة، ودفن بسفح قاسيون - رحمه الله تعالى.
محمد بن علي بن يوسف بن شاهنشاه المنعوت بالتاج المعروف بابن المصري. كان فاضلاً، صنف تاريخاً للقضاة، وتوفي يوم السبت ثامن عشر المحرم بمصر، ودفن بسفح المقطم - رحمه الله.
محمد بن محمد بن بيدار أبو الثناء عز الدين المعروف بابن النوري. كان فقيهاً فاضلاً، دمث الأخلاق، عنده كرم وسعة صدر، واحتمال، وحسن(3/433)
عشرة، وحسن المحاضرة، ناب عن القاضي صدر الدين ببعلبك مدة طويلة إلى حين وفاة صدر الدين، فتولى الحكم بعجلون وغيرها، وتوفي ببعض بلاد الاسماعيلية، وقد تولى الحكم بها بحصن الكريف وهو في عشر الثمانين - رحمه الله تعالى.
أبو بكر بن عبد الله بن مسعود جمال الدين اليزدي البغدادي التاجر المقيم بدمشق. يعرف بالأمير جمال الدين أقوش النجيبي - رحمه الله - إذ كان نائب السلطنة بالشام المحروس، فولاه نظر الجامع الأموي، والمارستان النوري، والخوانك بدمشق، وجعله شيخ الشيوخ، ورفع من قدره فبقي على ذلك مدة. وفي مباشرته للجامع أذهب رؤوس العمد ورخّم الحائط الشمالي، وأعجله العزل فلم يتمه، وأصلح كثيراً من المواضع المتشعثة. وكذلك فعل في غيره، وكان عنده نهضة في ذلك، ثم صرف بعد عزل الأمير جمال الدين وسفره إلى الديار المصرية، وغرم مبلغاً، ولزم بيته إلى أن توفي ليلة الخميس سابع صفر، ودفن يوم الخميس بسفح قاسيون، وهو في عشر الثمانين - رحمه الله تعالى.
أبو القاسم بن الحسين بن العود نجيب الدين الأسدي الحنبلي الفقيه على مذهب الشيعة. كان إماماً يقتدى به في مذهبهم، ويرجع إلى قوله عندهم، وعنده فضيلة ومشاركة في علوم شتى، وحسن عشرة، ومحاضرة بالأشعار والحكايات والنوادر، رافقته من ظاهر بعلبك إلى ظاهر دمشق فوجدته نعم الرجل، يقوم كثيراً من الليل في السفر على صعبه، وصار بيني وبينه إنسة شديدة، وكانت وفاته ليلة الاثنين نصف شعبان بقرية جزين،(3/434)
وبها دفن في المجلس الذي كان يجلس فيه بداره، وجدت بخط الفقيه شمس الدين محمد الأنصاري المقيم بنحوسية ما كتب به إلى أن وفاة المذكور كانت ليلة الاثنين سادس عشر شعبان سنة سبع وسبعين وستمائة، ومولده في سنة إحدى وثمانين وخمس مائة، ورثاه الفقيه جمال الدين إبراهيم بن الحسام أبي الغيث العاملي بقوله:
عرس بجزين يا مستعبد النجف ... ففضل من حلها يا صاح غير خفي
نور ثوى في ثراها فاستنار به ... وأصبح الترب فيها معدن الشرف
نجل الحسين الذي فاق العلى شرفا ... وطود علم هوى من حيرة السلف
حتى إذا عبثت أيدي المنون به ... فأوردته سريعاً مورد التلف
لا تلزموني وإن خفتم على كبدي ... صبراً ولو أنها ذابت من الكهف
لمثل يومك كان الدمع مدخراً ... بالله يا مقلتي سحي لا تقف
لا تحسبن جود عيني بالبكا سرفا ... بل سحّ عيني محسوب من السرف
سارى مصابك بين الناس في حزن ... كان يساق له قسط من الأسف
ما زلت تهدي لهم ما عشت مجتهداً ... نوراً فما لك من فضل لمعترف
فأظلمت بعدك الأيام قاطبة ... لما اعترى شمسها خطب من الكسف
وقد يبقى لنا من بعده خلف ... يا حبذا لك من أصل ومن خلف
كأنهم حين طافوا حول تربته ... بدور تم بدت من مطلع السدف
صلى الإله على ترب تضمنه ... لقد تبوأ أنواعاً من التحف(3/435)
ترب تناكره الآمال زائرة ... من وارد نحوه يهوى ومنصرف
ولما بلغت هذه الأبيات جمال الدين محمد بن يحيى بن مبارك بن مقبل الغساني الحمصي قال:
لقد تجاوز حل الكفر والسحب ... من قاس مقبرة ابن العود بالتحف
ما راقب الله أن يرمي بصاعقة ... من السموات أو يهوي بمنسخف
واعجب بجزين ما ساحت بساكنها ... مجاهل لعظيم الوزر مقترف
وقد تحيرت فيما فاه من سفه ... ومن ضلال وإلحاد ومن سرف
أتيت ويك يقول لا يفارقه ... مقال مفترش الحراء ملتحف
جهلت مقدار ما فاقت فضائله ... على النبيين والأملاك في الصحف
وقال ما ازددت إتقاناً ولو كشف ... الغطاء ورفع مسدول من السجف
وما أنت إلا كمن قد قاس منطقه ... البيت المحرم ذا الأستار بالكنف
ولا أقول لمن قاست جهالته ... الدر الثمين بمكسور من الخزف
أو من يقيس الجبال الشامخات بمن ... حط الحضيض وعرف المسك للجيف
أو من يقيس النجوم الزاهرات إذا ... سمت إلى أوجها والسعد بالحرف
ودون ذا قست نفسي قول مبتهج ... أراه فوق محلي غير ذي أنف
إني وكيف ومن أين القياس إلى ... ضوء الذي كان للرب الودود صفي
هو الذي شرفت رجلاه إذ علتا ... كيف البناء فبالله من شرف
وكان وعده خوض الحروب وقد ... ألقاه فيها بحمد الله حدّ وفيّ(3/436)
وأي ما بطل لاقاه في رهج ... عنه تولى جباناً غير منتصف
أم أي ما.. قد حل في يده ... ما راح منقصفاً في صدر مقتصف
يعان طعن المولّى عنه مزدلفاً ... وليس يطعن غير المقبل الدلف
ليوم صفين نجا عمرو حين هوى ... عن الجواد بدبر منه منكشف
وكان إن زاد فقر ومسكنة ... يحنو عليه حنوّ الوالد الترف
وهو الذي إذا دعى يوماً إليها سما ... الأنام من منكر منهم ومعترف
فتب إلى الله وأسرع وابتهل لعسى ... تنال منه الرضى في عرصة النجف
ولم أوقك ما استوجبت من فزع ... ولست أجمع سوء الكيل والخشف
وما أردت بهذا العض من رجل ... بمثله خلف من غابر السلف
ما كان مجرىً له إلا ليقطع عن ... تكفير أهل التقى والدين والصلف
وإن عتبت عليه وهو يسمعني ... لقد بكيت عليه وهو في الحذف
ومن يكن بينا من أخيه يبحث عن ... التنازع في الأموال والتحف
وكان صاحبنا بالأمس في حلب ... صدقاً وكنت به بالله حدّ خفي
كم مجلس جمعتنا فيه مسألته ... ثم افترقنا بشمل غير مؤتلف
وكان يحملني طوراً وأحمله ... طوراً وأكرمه بالبرّ واللطف
فلا عدت قبره في رحمة سمحت ... تجود تربته بالوابل الذرف
ما كان إلا كمصباح أضاء وخبا ... صاف ذبالته ما عاش ثم طفى(3/437)
وقد أتيت بها شنعاء منكرة ... في أخريات القوافي بغتة السلف
وكان من خلفه عن نفيه عوضاً ... لو كنت تفرّق بين الباء والألف
وإن حملتم على ما قلته غرضي ... فقد يحام من الحنيّ إلى كنفي
وإن ظننتم بي السوء فلست إذا ... أرضيت جيرة الهادي بذي أسف
وقال الجمال إبراهيم المذكور المشار إليه يرثي نجيب الدين المشار إليه بقول:
جد بالدموع فلست تلقى مثله ... خطباً فتدّخر الدموع لأجله
لا تلجأن إلى التصبر إنما ... كان التصبر ملجأ من قبله
تبغي السلوّ به وتلك شريعة ... نخت وغير حكمها من أصله
هذا نجيب الدين أصبح ثاوياً ... في لحده منفرداً من أهله
مات الهدي وتهدمت أركانه ... إذ مات واندرست معالم فضله
فالآن قد طاب البكاء ولذّ لي ... ما كنت أحرس مقلتي من مثله
فلأبكينك ما حييت بكاء من ... قرحت حشاشته بحرقة ثكله
متسربلاً جلباب حزن لم يزل ... ولهان لم يحفل بوافر عدله
من للضعيف أتاك مقتبساً هدىً ... يشكو العناية هارباً من جهله
حتى إذا ما حلّ ربعك غلّة ... في ريقه فأرحته من غله
من للدروس مبيناً أشكالها ... تبدو غوامضها بواضح فضله
ما زلت للدين الحنيف مكابداً ... حتى استبان حرامه من حلّه
فجزيت خيراً من إمام عصابة ... وضح السبيل بقوله وبفعله(3/438)
جعلوك سبلهم إلى باريهم ... فأريتهم حقاً معالم سبله
ومقسماً لحظاته ما بينهم ... كل يرى ما يرضى من عدله
ومراقباً حال الضعيف معاهداً ... لا يزدريه لضعفه ولعلّه
جعلوك ظهرهم فكلّ منهم ... يرجو قواك بأن تقوم بحمله
فازت مصابيح الهداية بعد ما ... ركض الضلال بخيله ورجله
فالآن قد صار الزمان جميعه ... ليلاً يحير في يسير بطله
كذباً يموت صبابة في شؤمه ... لولاه لترجى في أفاضل نسله
حاشى علاه أن يموت وإنما ... علم الإله نعيمه في نقله
ودّت قلوب العارفين بأنها ... دون التراب مجله لمحله
صلى الإله على قرى حلب ... صلواته من فرضه ونفله
كلاّ ولا برح الغمام مداوماً ... يهمى عليه بطلّه وبوبله
وحكى لي أن الشيخ النجيب - رحمه الله - لما كان بحلب كان يكشر غشيان السيد عز الدين المرتضى رحمه الله نقيب الأشراف، وكان من سادات الأشراف، له رياسة، وجلالة، وديانة، وفضيلة، وعظم محل، فاسترسل مع الشيخ النجيب يوماً، وذكر أبا بكر الصديق، وعمر، وعثمان - رضوان الله عليهم - بما نبى عنه سمع المرتضى وأكبره، فأمر بالشيخ النجيب فجرّ من بين يديه وركب حماراً مقلوباً، وطيف به شوارع حلب وأسواقها،(3/439)
وهو يضرب بالدرة، فعظم محل المرتضى في صدور الناس، وتحققوا ماكان ينطوي عليه من حب الصحابة - رضي الله عنهم - ومعرفته بمحلهم، وكان ذلك من آكد أسباب انتقال الشيخ النجيب عن حلب، وعمل في هذه الوقعة أشعار كثيرة، ليس هذا موضع ذكرها، وكان هذا الشريف عز الدين له المكانة العالية، والمنزلة الرفيعة عند الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن الملك العزيز - رحمه الله تعالى - ويحضر عز الدين محمد بن القيسراني - رحمه الله تعالى - المقدم ذكره في هذا الكتاب سنة ست وخمسين فيروم للترفع على المرتضى، فيتمعض المرتضى من ذلك، ويشق عليه، فلما كان في بعض الأيام حضر مجلس الملك العزيز أحفل ما كان، فسلك عز الدين ابن القيسراني ذلك، وقعد أعلى منه قال عز الدين المرتضى للسلطان: يا مولانا هذا يقعد أعلى منّي، وأنا رجل شريف من سلالة النبي صلى الله عليه وسلم، وجدّي علي بن أبي طالب - رضوان الله عليه - وفي أحد أجدادي يقول أبو العلاء ابن سليمان المعري:
يا ابن مستعرض الصفوف ببدر ... ومبيد الجموع من غطفان
أحد الخمسة الذين هم الأغ ... راض في كل منطق والمعاني
والشخوص الذين خلقن طيباً ... قبل خلق المريخ والميزان
وقبل أن تخلق السموات أو تؤ ... مر أفلاكهن بالدوران(3/440)
وفي جدّ هذا يقول ابن منير الطرابلسي:
أتراني أكلت جور عيالي ... مثل ما كان يفعل القيسراني
أو.. الفلوس من خالد ... أنى قادت عليه أمّ سنان
فخجل ابن القيسراني، وأمر السلطان أن لا يترفع على الشريف في مجلس. والأبيات الأولى من قصيدة طويلة مدح بها أبو العلاء الشريف أبا إبراهيم محمد بن أحمد بن الحسين بن إسحاق المؤتمن بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وهو جدّ النقيب عز الدين، مجيباً له عن أبيات نظمها الشريف أبو إبراهيم المذكور، وسيرها إلى أبي العلاء يقول:
غير مستحسن وصال الغواني ... لابن ستين حجة وثمان
وكان الشريف أبو إبراهيم محمد بن أحمد يعرف بالحراني، وهو من سادات أهل بيته في عصره، وبينه وبين أبي العلاء مكاتبات، ومراسلات، وهو معدود من الفضلاء - رحمه الله، توفي يوم الجمعة ثالث عشر ربيع الأول سنة تسع وأربعين وأربعمائة بالمعرة. وأما ابن القيسراني الشاعر، فذكره قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان - رحمه الله تعالى - في وفيات الأعيان ونسبته فقال هو أبو عبد الله محمد بن نصر بن صغير بن داغر بن نصر بن داعر(3/441)
بن محمد بن خالد بن نصر بن داغر بن عبد الرحمن بن المهاجر بن خالد بن الوليد، المخزومي، الخالدي، الحلبي، الملقب شرف الدين أبو المعالي عدة الدين المعروف بابن القيسراني، ولد سنة ثمان وسبعين وأربعمائة بعكاً وتوفي ليلة الأربعاء الحادي والعشرين من شعبان، سنة ثمان وأربعين وخمسمائة بمدينة دمشق، ودفن من الغد بمقبرة باب الفراديس - رحمه الله - هكذا ذكر بعض حفدته في نسبه، وأكثر المؤرخين وعلماء النسب يقولون: إن خالد بن الوليد - رضي الله عنه - لم يتصل نسبه، بل انقطع من زمان، والله أعلم. والقيسراني نسبة إلى قيسارية. بليدة بالشام على ساحل البحر. وذكر أيضاً ابن منير في الوفيات وهو أبو الحسين أحمد بن منير بن أحمد بن مفلح الطرابلسي، الملقب مهذب الدين، عين الزمان، الشاعر المشهور، وكان بينه وبين ابن القيسراني مكاتبات، وأجوبة، ومهاجاة، وكانا مقيمين بحلب، ومتنافسين في صناعتهما، ومولد ابن منير سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة وتوفي في جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة بحلب، ودفن في جبل جوشن بقرب المشهد الذي هناك، وقيل إنه توفي بدمشق، ونقل إلى حلب فدفن بها - والله أعلم - انتهى كلام قاضي القضاة رحمه الله. وعز الدين هو أبو حامد محمد بن خالد بن محمد بن نصر بن نصير بن داغر رحمه الله، وقد تقدم ذكره في هذا الكتاب، والشريف عز الدين فهو أبو الفتوح المرتضى بن أبي طالب أحمد بن محمد بن جعفر(3/442)
بن أبي إبراهيم محمد بن أحمد بن محمد بن الحسين بن إسحاق المؤتمن بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن زين العابدين بن الحسين السبط الشهيد بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضوان الله عليه - بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف.
توفي عز الدين بحلب فجاءة ليلة السادس عشر منشهر شوال سنة ثلاث وخمسين وستمائة، ودفن بعد ثلاثة أيام بجبل جوشن، ومولده سنة تسع وسبعين وخمسمائة بحلب، سمع من ابن النقيب أبي علي محمد بن أسعد النسابة والشريف أبي هاشم بن الفضل الهاشمي والشيخ أبي محمد عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان والقاضي أبي المحاسن يوسف بن رافع بن تميم وغيرهم - رحمهم الله تعالى.(3/443)
//بسم الله الرحمن الرحيم
السنة الثامنة والسبعون وستمائة
استهلت هذه السنة يوم الأحد، والخليفة والملوك على القاعدة المستقرة في السنة الخالية والملك السعيد بدمشق ففي شهر المحرم منها ترتب بدمشق حاكم مالكي المذهب بعد خلوها منه مدة، فإن الشيخ زين الدين الزواوي رحمه الله كان يباشر الاحكام بها ثم استعفى فأعفى.
وفي العشر الأوسط من ربيع الأول وقع بين المماليك الخاصكية الملازمين بخدمة السعيد عن تلاقي ذلك، وخرج عن طاعته سيف الدين كوكندك الظاهري نائب السلطنة بالمماليك، ومقدم العساكر مغاضباً له،(4/1)
ومعه أربعمائة من الظاهرية، منهم جماعة كثيرة أمراء مشهورين بالشجاعة ونزلوا بمنزلة القطيفة في نظرة العساكر التي ببلاد سيس.
ففي العشر الآخر منه عادت العساكر إلى جهة دمشق من بلاد سيس، فنزلوا بمرج عذراء إلى القصير، وكان قد اتصل بهم سيف الدين كوكندك ومن معه ولم يدخل العسكر دمشق، وأرسلوا إلى الملك السعيد في معنى الخلف الذي حصل، وكان كوكندك مائلاً إلى البيسرى، ولما اجتمع بالأمير سيف الدين قلاوون الالفي، والأمير بدر الدين بيسرى، والأمراء الكبار، وأوحى إليهم ما غلت صدورهم، وخوفهم من الخاصكية، وعرفهم أن نيتهم له غير جميلة، وأن الملك السعيد موافق لهم على ذلك، وكثر من القول المختلق بما يعديهم وينفرهم، وكان من جملة ما اقترح الأمراء الكبار على الملك السعيد إبعاد الخاصكية عنه وتفرقهم، وأن لايكون لهم في الدولة والتدبير حديث، بل يكون على ذلك أخيارهم ووظائفهم مقيمين فلم يجب الملك السعيد إلى ذلك، ولا اقدر عليه، اتوه شوكتهم، واجتماع كلمتهم. فرحل العسكر من مرج عذراء إلى ذيل عقبة سحوراء بأسرهم، ولم يعبروا على المدينة، بل جعلوا طريقهم من المرج، وأقاموا بهذه المنزلة ثلاثة أيام، والرسل تتردد إليهم، وبينهم وبين الملك السعيد؛ ثم رحلوا من هناك، ونزلوا بمرج الصفر، وعند رحيلهم رجع الأمير عز الدين ايدمر الظاهري نائب السلطنة بالشام، وأكثر عسكر دمشق، ودخلوا البلد من وقتهم في طاعة الملك السعيد. وفي رحيلهم إلى مرج الصفر سير الملك السعيد والدته(4/2)
ابنة بركة خان في محفة، وفي خدمتها الأمير شمس الدين قرا سنقر الأشقر فإنه كان مقيماً عند الملك السعيد بدمشق، لم يتوجه إلى بلاد سيس، ولحقوا العسكر، فلما سمعوا بوصولها، خرج الأمراء الأكابر المقدمون لملتقاها، وقبلوا الأرض أمام المحفة وبسطوا العتابى وغيره تحت حوافر البغال كما جرت العادة، فلما استقرت بالمنزلة تحدثت معهم في الصلح، والانقياد، واجتماع الكلمة فذكروا ما بلغهم من تغريبة الملك السعيد فيهم، وموافقته الخاصكية على ما يرمونه من ابعادهم، وامساكهم وغير ذلك، فحلفت لهم على بطلان ما نقل إليهم من ذلك، وعدم صحته فاشترطوا شروطاً كثيرة ألزمت لهم بها، وعادت إلى ولدها، وعرفته الصورة، فمنعه من حوله من الخاصكية من الدخول تحت تلك الشروط، وقالوا له: ما القصد إلا إبعادنا عنك ليتمكنوا منك، وينزعوك من الملك فأبى قبول تلك الشروط، فرحل العسكر من مرج الصفر قاصداً إلى الديار المصرية، فخرج الملك السعيد بنفسه جريدة، وساق في طلب اللحاق بهم، ويلاقي الأمراء في معناهم إلى أن بلغ رأس الماء، فوجدهم قد عبروه وبعدوا، فعاد من يومه، ودخل قلعة دمشق في الليل، وذلك ليلة الخميس سلخ ربيع الأول.
وفي يوم الجمعة بعد الصلاة مستهل ربيع الآخر، خرج الملك السعيد بجميع من يخلف عنده من العساكر المصرية والشاميين إلى جهة الديار المصرية في طلب العساكر المتقدمة، وجهز والدته وخزانته إلى الكرك،(4/3)
ووصل الملك السعيد بلبيس يوم الجمعة خامس عشرة فوجد العسكر المتقدم ذكره قد سبقه إلى القاهرة، فلما رحل من بلبيس بعد العصر من النهار المذكور فارقه الأمير عز الدين ايدمر الظاهري نائب السلطنة بدمشق، وصحبته أكثر أمراء دمشق.
وفي ربيع الأول وربيع الآخر من هذه السنة جرى بين صاحب طرابلس وصاحب جبيل والداوية اختلاف، وأغار بعضهم على بلد بعض، وقتل بينهم جماعة كثيرة، وكذلك التتار اختلفوا، وقتل بينهم ما لا يحصى عدده إلا الله. وفي داخل البحر اختلفت الفرنج وقتل بينهم خلق كثير. واختلفوا في عكا، والكرج، وفي سائر الأطراف، واختلفوا في العراق واختلف العرب، والقبائل والفلاحون؛ وقتل بين هذه الطوائف خلق كثير. وأما الملك السعيد فوصل بمن معه إلى ظاهر قلعة الجبل، ونائبه بها وبالديار المصرية الأمير عز الدين ايبك الأفرم. وهو بالقلعة فوجد العساكر محدقة بها فحصل بينهم مقاتلة يسيرة، وكان الذين مع الملك السعيد جماعة قليلة بالنسبة إلى من في مقاتلته فحمل الأمير علم الدين سنجر الحلبي بدمشق، وشق الأطلاب، ودخل إلى قلعة الجبل بعد أن قتل الفريقين نفر يسير. فلما استقر بها، ورفع علمه عليها انضاف جميع من بقي ظاهر القلعة ممن كان معه اليهم، وأما الأمير شمس الدين سنقر الأشقر بقي في المطر لم يدخل معه إلى القلعة، ولا انضاف إلى العسكر المباين له، وأحاطت العساكر بالقلعة، وضايقوها، وقطعوا الماء الذي يطلع إليها في المرارات عنها(4/4)
ورجعوا إليها وجدوا في ذلك السعيد يخلى من كان يرجو نصره عنه، وتخاذل من بقي من الخاصكية، وأنه لا طاقة له بهم، وكان المشار إليه في هذه الأمور والمخاطب إنما هو الأمير سيف الدين قلاوون فجرت المراسلات بأنهم ينصبوا في السلطنة أخاه بدر الدين سلامش، ويعطون للملك السعيد وأخيه نجم الدين خضر الحلبي، الكرك، والشوبك، واعمالها فسير الأمير علم الدين سنجر الحلبي والمولى تاج الدين أحمد بن الأثير رحمهما الله تعالى إلى الأمير سيف الدين قلاوون وأعيان الأمراء ليستوثق منهم فحلفوا له على الوفاء بما التزموه. ونزل من قلعة الجبل يوم الأحد سابع عشر الشهر المذكور إلى دار العدل التي على باب القلعة. وكانت مركز الأمير سيف الدين قلاوون حال المضايقة للقلعة فلما نزل حضر أعيان الأمراء والقضاة والمفتيين وخلعوه من السلطنة، ورتبوا مكانه أخاه لأبيه بدر الدين سلامش ونعتوه بالملك العادل، وتقدير عمره يوم ذاك سبع سنين، وجعلوا اتابكه الأمير سيف الدين قلاوون الالفي الصالحي، وهو حمو الملك السعيد، وحلف الأمراء، والعسكر له، ولأتابكه بعده في اليمين وضربت السكة أحد الوجهين باسم العادل، والآخر باسم اتابكه، وذكر الاتابك في الخطبة، ودعى له على المنابر، واستقر الأمر على هذه الصورة، وتصرف الاتابك في المملكة والعساكر، والخزائن، وعامله الأمراء، وجميع الجيش بما يعاملون به السلطان وعمل بخلع الملك السعيد مكتوب شرعي متصل باستفتاء، ووضع الأمراء خطوطهم، وشهادتهم فيه، وكتب فيه المفتيون، والقضاة، وجعلوا نسخاً(4/5)
عدة وعوضوا الملك السعيد الكرك، وعملها، وأعطوا أخاه نجم الدين خضر الشوبك وعملها.
وفي ليلة الاثنين ثامن عشرة خرج الملك السعيد إلى بركة الحجاج ونزل بها متوجهاً إلى الكرك، ومعه جماعة من العسكر، صورة ترسيم مقدمهم سيف الدين بيدغان الركني ثم أعيد إلى القلعة نهار الاثنين لأمر أرادوه وقدروه، ثم توجه ليلة الثلاثاء إلى الكرك بمن معه فوصلوها يوم الاثنين خامس عشرين منه، ودخلوها، وتسلم أخوه الأمير نجم الدين خضر الشوبك وكان بيدغان، ومن معه قد فارقه من غزة، ورجع إلى الديار المصرية.
وأما الأمير شمس الدين سنقر الأشقر فإنه اجتمع بخشداشيته الاتابك سيف الدين قلاوون وصار في جملته. وأما الأمير عز الدين ايدمر فإنه وصل بمن معه إلى ظاهر دمشق يوم الأحد مستهل جمادى الأولى فخرج لملتقاهم من كان تخلف بدمشق من الأمراء والجند، والمقدم عليهم، والمشار إليه فيهم الأمير جمال الدين اقوش الشمسي فلما وصلوا إلى مصلى العيد بقصر حجاج، احتاط بالأمير عز الدين ايدمر الأمير جمال الدين الشمسي، والأمراء الذين معه، وأخذوه بينهم، وفصلوه عن العسكر الذي حضروا معه، ودخلوا به من باب الجابية، وحملوه إلى الدار المعروفة باستاد دار الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله بقرب ماذنة فيروز، واستمروا عليه بها إلى آخر النهار ثم نقلوه إلى قلعة دمشق تحت الحوطة، واعتقلوه بها، وكان الملك السعيد لما خرج من قلعة دمشق متوجهاً إلى الديار المصرية، سلمها إلى(4/6)
الأمير علم الدين سنجر الدواداري، وجعله النائب عنه بالبلد وبها، فاستمر الحال على هذه الغاية، ولما اعتقلوه طلبوا التضييق عليه، فلم يوافق الأمير علم الدين على ذلك، ثم طلبوه منه فلم يسلمه إليهم، وقال: أنتم حبستموه بيد الاتابك وهو في حبسه لا أسلمه إلا بأمره ودفعهم بذلك.
وفي العشر الأوسط منه وصل إلى دمشق من الديار المصرية جمال الدين اقوش الباخلي، وشمس الدين سنقر حاالكجي، وعلى ايديهما نسخة الأيمان بالصورة التي استقر الحال عليها بمصر، وأحضروا الأمراء والجند والقضاة والعلماء وأكابر البلد للحلف، وكان مع القادمين من الديار المصرية نسخة بالمكتوب المتضمن خلع الملك السعيد وكتبه إلى الأمراء وغيرهم من الاتابك بصورة الحال فقرئ ذلك على الناس، وحلفوا واستمر التحليف أياماً.
وفي هذا الشهر عزل قضاة الديار المصرية الثلاثة دفعة واحدة، وهم تقي الدين محمد بن رزين، ونفيس الدين بن شكر المالكي، ومعز الدين الحنفي؛ وباشر الأحكام عوض تقي الدين القاضي صدر الدين عمر بن القاضي تاج الدين عبد الوهاب المعروف بابن بنت الأعز.
وفي يوم الأربعاء ثالث جمادى الآخرة صار الأمير شمس الدين سنقر الأشقر إلى دمشق نائب السلطنة بها وبأعمالها وما أضيف إليها من البلاد، ومعه جماعة من الأمراء والعسكر خرجوا في خدمته من القاهرة، فخرج الناس من الشام لتلقيه احتفالاً عظيماً وعاملوه قريباً من معاملة الملوك،(4/7)
ونزل بدار السعادة، وكانت له بسطة عظيمة في الخزائن والقلاع والعساكر والأموال خلاف من تقدمه، وتقدم عند وصوله إلى الأمير علم الدين الدواداري بالنزول من القلعة فنزل إلى داره، وأقام بها مباشراً لتنفيذ الأشغال، وتدبير الأحوال، وشد الدواوين وبدار المملكة بأسرها عليه، وقرأ تقليد الأمير شمس الدين سنقر الأشقر بمقصورة الخطابة عقيب الفراغ من الجمعة، وحضروا أعيان الدولة، ولم يحضر هو قراءته.
وفي يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من شهر رجب اجتمع الأمراء والأعيان بقلعة الجبل من الديار المصرية، وخلعوا الملك العادل بدر الدين سلامش بن الملك الظاهر من السلطنة ورتب عوضه اتابكه سيف الدين قلاوون الصالحي ونعت بالملك المنصور، وحلفوا له بأسرهم، ولم يكن لسلامش في مدة سلطنته غير الاسم وكان السبب في توليته أولاً تسكين ثورة الظاهرية، فإنهم كانوا معظم عسكر الديار المصرية، وأيضاً فكانت بعض القلاع في نواب الملك السعيد فأرادوا استنزالهم منها، فلما تم معظم المقصود خلعوه واستقل الملك المنصور بالسلطنة، ووصلت البرد إلى دمشق يوم الأحد سادس وعشرين منه، ومعهم نسخة يمين لتحليف الأمراء والجند وأرباب الدولة وأعيان الرعايا فأحضروا إلى دار السعادة بدمشق، وحلفوا، وقيل أن الأمير شمس الدين سنقر الأشقر لم يحلف، ولم يرضه ما جرى.
وفي يوم الجمعة ثاني شعبان خطب الملك المنصور سيف الدين قلاوون(4/8)
بجامع دمشق، وجوامع الشام بأسرها، خلا مواضع يسيرة جداً توقفوا ثم خطبوا بعد ذلك، وكان الكتاب الوارد من الملك المنصور على الأمير شمس الدين سنقر الأشقر بخط المولى تاج الدين أحمد بن الأثير رحمه الله وفيه: " لا زالت أيامه عجابها. تهتنى وترى من النصر ما كانت تتمنى. ويتأمل آثارها. فيملأها حسناً. ويشاهد من أمائر الظفر ما يوسع العباد أمناً. ويستزيد الحمد على ما وهب من الملك الذي أولى كلاً منا مناً. المملوك يهدي من لطيف أنبائه، ووظائف دعائه. وما استقر من عوارف الله لديه. وما جناه من النعم التي ملأت يديه ما يستروح به، ويستفتح لسان الحمد بتقديمه، ويزداد به مسرة نفسه ابتهاجاً وتزدان به عقود السعود، وإنما تزين انسلاك في العقود ازدواجها، ويقوى به قوى الغرائم وبمثله الأعدء في أوكارها. فيكاد يتجرد ذيول الهزائم. وتبعث الآمال على تمسكها بالنصر، ويظهر منه المحاب التي لو قصدت الأقلام بحصرها، لعجزت عن الحصر، وهو أن العلم الكريم قد أحاط بالصورة التي استقرت من دخول الناس في طاعة المملوك، واجتماع الكلمة عليه، واستقلاله بأمر السلطنة المعظمة ".
ولما كان يوم السبت الثالث من شعبان المبارك سنة ثمان وسبعين وستمائة ركب المملوك بشعار السلطنة وأبهة المملكة، وسلك المجالس العالية والأمراء الأكابر، والمقدمون، والمفاردة والعساكر المنصورة من آداب الخدمة، واخلاص النية، وحسن الطاعة كل ما دل على انتظام الأمر واتساق عقد النصر، ولما قضينا من أمر الركوب وطراً وأنجزنا(4/9)
الأولياء وعداً من السعادة منتظراً، عدنا إلى قلعة الجبل المحروسة والأيدي بالأدعية الصالحة لنا مرتفعة، والقلوب على محبة أيامنا محترمة، والآمال قد توسعت بالعدل واستمراره، والأبصار قد استشرق من التأييد مطلع أنواره، وشرعنا من الآن في أسباب الجهاد، وأخذنا في كل ما يؤذن ان شاء الله تعالى بفتح ما في أيدي العدو من البلاد، ولم يبق إلا أن نثنى الأعنة ونسدد الأسنة. ونظهر ما في النفوس من مضمرات المقاصد المسكنة، والمولى أدام الله نصرته يأخذ بحظه من هذه المسرة، وهذه المواهب التي ظهرت منها خفايا الاقبال المستسرة، ويتقدم بأن يزين دمشق المحروسة، ويضرب البشائر في البلاد. وأن يسمعها كل حاضر وباد. والله يجعل أوقاته بالتهاني مفتتحة، وبشكر مساعيه التي ما زالت في كل موقف ممتدحة إن شاء الله تعالى.
وفي السادس والعشرين من شهر رمضان عزل الصاحب برهان الدين السنجاري عن الوزارة بالديار المصرية، ولزم مدرسة أخيه قاضي القضاة بدر الدين بالقرافة الصغرى، ورتب مكانه في الوزارة الصاحب فخر الدين إبراهيم بن لقمان صاحب ديوان الانشاء الشريف.
وفي يوم الخميس حادي عشر ذى القعدة توفي بالكرك الملك السعيد رحمه الله وسنذكره إن شاء الله تعالى.
وفي يوم الثلاثاء سادس عشرة حمل الأمير عز الدين ايدمر الظاهري(4/10)
من قلعة دمشق في محفة إلى الديار المصرية لمرض لحقه في أطرافه منعه من الركوب بمرسوم ورد من هناك، وعند وصوله إلى الديار المصرية اعتقل بقلعة الجبل بالديار المصرية، وحضره الملك المنصور سيف الدين قلاوون، وهو لابس البياض، وحضرت القضاة والعلماء وأرباب الدولة والوعاظ والمقربون على ما جرت العادة.
وفي يوم الجمعة الرابع والعشرين ركب الأمير شمس الدين سنقر الأشقر من دار السعادة بدمشق بعد صلاة العصر، ومعه جماعة من الأمراء والجند، وهم رجالة وهو راكب وحده، وقصد القلعة من الباب الذي يلي المدينة فهجمها بمن كان معه راكباً، وجلس بها من ساعته، فحلف الأمراء والجند ومن حضر وتسلطن، ولقب بالملك الكامل. وفي آخر النهار المذكور نادت المنادية بالمدينة بسلطنته واستقلاله. وفي بكرة السبت خامس وعشرين منه طلب القضاة والعلماء ورؤساء البلد واكابره واعيانه إلى مسجدأبى الدرداء رضى الله عنه بقلعة دمشق، وحلف بقية الأمراء والعسكر.
وفي يوم الأربعاء سبع وعشرين منه توجهت العساكر إلى غزة لحفظ البلاد ومنعها، ودفع من يتطرق إليها من الديار المصرية.
وفي هذه السنة جدد في قبة النسر بجامع دمشق خمسة أضلاع من الجهة الغربية بشمال.
وفيها تسلم نواب الملك المنصور سيف الدين قلاوون قلعة الشوبك من أربابها بالأمان، وهدموها، وذلك بعد أن حاصروها مدة، وكان(4/11)
انتقل منها الأمير نجم الدين خضر إلى عند أخيه الملك السعيد إلى حصن الكرك قبل منازلة على الملك المنصور لها من حين أحس بقصدهم بها ولم يحصن نفسه فيها.
وفيها توفى أحمد بن سلامة بن إبراهيم أبو العباس الحنبلي، وكان شيخاً صالحاً سمع الكثير، واسمع وروى بالاجازه من اصحاب الحداد وحدث بالكثير عن الكندي وغيره، واضر في آخر عمره، وكانت وفاته في عاشر المحرم، ودفن بسفح قاسيون رحمه الله.
إسحاق بن إبراهيم بن يحيى صفي الدين الشقراوي الحنبلي الفقيه المحدث. مولده بشقراء من ضياع برزاء من عمل دمشق سنة خمس وست مائة، وتوفى بدمشق يوم السبت تاسع عشر ذى الحجة، ودفن بسفح قاسيون، وكان عالماً فاضلاً دمث الأخلاق عنده كرم وسعة صدر، وقوة نفس، سمع الكثير وحدث، وكان ثقة رحمه الله تعالى.
اقوش بن عبد الله جمال الدين الركني المعروف بالبطاج. أحد أمراء دمشق، كان جرد مع العساكر إلى بلاد سيس، فتوجه صحبتهم، فلما عاد تمرض وتوفي بحلب يوم السبت ثامن عشر ربيع الأول، ونقل إلى حمص، فدفن بظاهرها بالقرب من قبر خالد بن الوليد رضي الله عنه، وهو في عشر الخمسين سنة من العمر رحمة الله عليه. والركني نسبة إلى الأمير الكبير الذي لقى الفرنج بأرض غزة، وكسرهم الكسرة المشهورة، وكان من أعيان الأمراء، وله عدة مماليك يعرفون به، منهم الأمير عز الدين أبغان المعروف(4/12)
بسم الموت، وعلاء الدين الركني الذي أضر في آخر عمره صاحب العمائر المشهورة بالقدس والخليل والحجاز الشريف وغيره رحمه الله تعالى.
اقوش بن عبد الله جمال الدين الشهابي السلحدار. أحد أمراء دمشق الأعيان كان صحبة العسكر بسيس، فتمرض وانقطع بحماة، فتوفي بها في تاسع وعشرين ربيع الآخر، ونقل إلى دمشق، ودفن عند خشداشه علاء الدين ايدكين الشهابي نسبة إلى الطواشي شهاب الدين رشيد الخادم الكبير الصالحي النجمي.
بلبان بن عبد الله الأمير ناصر الدين النوفلي العزيزي. أحد أمراء دمشق، كان من أعيان العزيزية، وافر الديانة، كثير البر والخير، عنده حشمة ورياسة، ولين جانب، وحسن عشرة، وتواضع، ومحبة في الفقراء والعلماء، وكان صحبة العساكر بسيس، فلما عاد إلى حلب، تمرض، وتوفي إلى رحمة الله تعالى بها يوم الجمعة رابع وعشرين ربيع الأول وعمره خمس وستون سنة رحمه الله. والعزيزي نسبة إلى الملك العزيز بن الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين الكبير رحمهم الله تعالى.
حبق بن صون بن إيل الأمير جمال الدين. أحد أمراء دمشق، وتوفي بها ليلة الأحد سادس جمادى الآخرة، ودفن من الغد، وعمره مقدار خمسين سنة رحمه الله. ويقال أنه من أولاد صول التركي ملك جرجان الذي أسلم على يد يزيد بن المهلب بن أبي صفرة لما حاصره بها، وأخذ بها منه، والله أعلم.
عبد السلام بن أحمد بن غانم بن علي بن إبراهيم بن عساكر بن حسين(4/13)
أبو محمد عز الدين الأنصاري المقدسي المولد، المصري الدار والوفاة، الواعظ المشهور. كان شاباً فاضلاً عالماً، اشتغل أول عمره بالكتاب العزيز، ثم بالعلم، فحصلت له مشاركة جيدة، ثم بعد ذلك لازم كلام جده الشيخ غانم رحمه الله فانتفع به، وكان مبدأ شروعه في الواعظ أنه طلب منه مجلس تذكير في حال الخلوة ابن عمه أبو الحسن في حياة عمه الشيخ عبد الله فأطربه، وبلغ الشيخ عبد القادر ذلك فطلبه إليه، وسأله الجلوس، فجلس واشتهر وقصد لسماع كلامه لا عن قصد منه، ثم توجه إلى الديار المصرية، فطلب منه الجلوس بها فجلس وحصل له قبول، فأقام بالقاهرة، وبنى له زاوية وبالغ جماعة في الناس في الاحسان إليه، فأقام بالديار المصرية على كره لفراق والده وأهله، وعقد بها مجالس، وفتح عليه في ذلك، قيل: إنه كان يعمل خطب المواعيد ارتجالاً، ولا يثبت شيئاً يقوله، وكان يتردد إلى القدس لزيارة والده وأهله، ويتردد من القدس إلى دمشق فيجلس بها في الجامع الأموي، ويحضر مجلسه جماعة من العلماء والفضلاء والزهاد وغيرهم، ويستحسنون كلامه، وينتفعون به، وعمل بدمشق مجلساً في حدود السبعين والستمائة فارتجل فيه خطبة، أولها:
" الحمد لله الذي ملأ الوجود جوداً وإحساناً. وأسبغ على كل موجود من سوابغ نعمه سراً وإعلاناً. وجعل السجود لقربان حضرته قرباناً. وأوفر القلوب بتحقيق شهوده اتقاناً. نور بصائر أوليائه، فشاهدوه بعين اليقين عياناً. كلما جليت عليهم صفاته، هاموا إليها ولهاناً. وإذا تليت عليهم آياته زادتهم(4/14)
إيماناً. زفت عليهم عروس محبته، فجعلوا النفوس عليها سكراناً. واستبدلوا من الملبوس أشجاناً وأحزاناً. ونثروا الدموع على الخدود فسالت غدرانها.
فلما وثقوا العقود وحفظوا العهود، أعطوا من الصدود أماناً. فلو رأيتهم وقد جن عليهم الليل، لحسبتهم في ثياب الخشوع رهباناً. وفي مصابرة الولوع فرساناً. صفوا على سرير الصفا إخواناً. لا تجد فيهم خواناً. وأصبحوا في خلوة الوفاء ندماناً. لا تعرف فيهم ندماناً. نصبوا للنصب أشباحهم، ورفعوا للرعب نواحهم. وخفضوا من الرهب جباهم، وفيهم نائح باك، وصائح شاك. يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً. قد تجلى لهم الجليل، ونادى يا جبريل! أنم فلاناً وأقم فلانا.
وقل يا طالبي وصلى هلموا ... فإنا لا نخيب من أتانا
حمانا للذي نهواه رحيب ... إذا ما جاءنا يبغي لقانا
يراق له شراب من وصال ... يمازجه رضاب من رضانا
هوانا للذي نهوى نعيماً ... فلا كان الذي يهوى سوانا
فلو كشفت الحجاب لعاشقينا ... وأيدينا الجمال لهم عيانا
لهاموا عند رؤيتنا وطابوا ... وطاشوا من تخلينا زمانا
ولكنا جعلنا الوصف سراً ... نصون بسره حسناً مصانا
يا جبريل! أكحل بالنوم أجفان من جفانا. فإنا لا نرضى لهوانا. من رضى لنفسه هوانا. ولا يدخل إلى حمانا. إلا من وقف على أبوابنا زمانا. ولا يفوز(4/15)
بلقانا. إلا من صرف وجهه تلقانا. فمن كان بالمحبة عنانا. أطلق في ميدان المحبة عنانا. ومن تفرد لهوانا. تجرد عمن سوانا. يا جبريل! ما ضر من فرقه الشوق ألوانا. إذا ما حشر تحت لوانا. ولا ضل من فتنة الوحد أفنانا. إذا ما انتهى إلى فنانا. يا جبريل! بعينا يعمل المتجملون سراً وإعلانا. وبسمعي ما لاقى المحبوب شيباً وشبانا. فمن بات بما قضيت له فرحانا. أهديت له روحاً وريحانا. ومن جعل قلبه لمحبتي ميدانا. ملأته عرفاً وعرفانا. ومن هجر في هواي أهلاً وأوطانا. أمنتهم عند لقائي صداً وهجرانا. ومن تحمل بالافتراق عصيانا. أنزلته بالاعتراف عفواً وغفرانا. ومن أبحته النظر إلى جمالي عيانا. فقد وجب الشكر عليه شكراً وسكرانا.
قم يا نديمي فإن الوقت قد حانا ... واسمع إذا ما دخلت الخان ألحانا
فثم ساقي الحميا في خصيرته ... يدنى إليك من الراووق نشوانا
واتلوا المثانى ووجدان عزمت ... على ذكر الحبيب فحبي ذاك قرآنا
وادخل إذا ما دخلت الخان منفرداً ... عن كل فرد وقف مسلوب عريانا
وسلم فؤادك للخمار مرتهماً ... واخلع ذلوقك للندمان شكرانا
وقل لمن كاس هات الكأس مصطحباً ... واسقني كي يراني الناس سكرانا
ان ظمآن لا الورى على عذل ... نشوان ولهان ما بقيت حيرانا
وقل لمن لا منى في حبها غلطاً ... قل ما تشاء فيها قد كان ما كانا
لو كنت تعرف ما أصبحت تنكره ... من سرها فجعلت السر إعلانا(4/16)
هي المدام التي في دنها قدمت ... وعتقت فيه أحياناً وأزمانا
هي التي في دياجي ليلها جليت ... في كأسها فاهتدى موسى بن عمرانا
هي التي جعلت نار الخليل له ... نوراً وقد أخطأت نمرود كنعانا
صهباء لما دنت من قلب شاربها ... ألفت أشعتها نوراً ونيرانا
ومن شعره:
سادتي لو وصلتم ... مغرماً قد قطعتم
قلبه قد أذبتم ... حبذا لو رحمتم
في يديكم قياده ... فاحكموا قد ملكتم
أنا راض وحقكم ... بالذي فيه تحكم
كيف لا أبتغي رضى ... بالذي قد رضيتم
ما رضائي ومن أنا ... أنتم الكل أنتم
إن يكن با أحبتي ... بعذابي قضيتم
فعلى كل ما جاء في الحكم منكم
يا عذولي عليهم ... حل مني ومنهم
يا صاحبي وجيرتي ... سلموا الأمر تسلموا
وقال أيضاً أثناء كلامه في مجلس وعظ ارتجالاً:
يا عذولي سلم إلى قيادي ... ثم دعني فما عليك رشادي
وفؤادي إذا لقيت فلمه ... قل لي بالله أين فؤادي
لا تلمني إذا سكرت فحبي ... قد سقاني صرفاً بكأس ودادي(4/17)
وحبيبي مواعدي بوصال ... فخماري من نشوة الميعاد
واستماعي لأمره إذ دعاني ... ما استماعي لنغمة الانشاد
حبه راحتي وروحي وراحي ... وكذا ذكره بلاغي وزادي
وإذا ما مرضت فهو طبيبي ... كلما عادني بلغت مرادي
وإذا ما طلت أو طل ركب ... عن حماه فوجهه لي هادي
يا عذولي فكن عليه عذيراً ... أو افعل لي ما حيلتي واعتمادي
إن تلمني أو لا تلمني فإني ... حبه مذهبي وأصل اعتقادي
وقدم مرة بدمشق، وبلغ قدومه قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله فكتب إليه:
لله در مبشري بقدومه ... فلقد أتى بأطائب المسموع
لو كان يقنع بالخليع وهبته ... قلباً يقطع ساعة التوديع
فأجابه رحمه الله بقوله:
حاشاك يا قاضي القضاة بأمرتي ... حكماً تخالف سنة التشريع
أهل القضية إنني عبد لكم ... والاصل لا ينفك بالتفريع
القلب يعمى كيف أملك رده ... من بعد ما ملك الغرام جميعي
وقال أيضاً رحمه الله:
زودزني بنظرة ... قبل يوم التفرق
هذه ساعة الفراق مهجتي ... في مطاياك فارفقي(4/18)
قف قليلاً على الحمى ... يشتكي الصب ما لقي
أودعوا حين ودعوا ... في فؤادي تحرقي
من جفاهم وصدهم ... شاب رأسي ومفرقي
سادتي بالذي قضى ... إن حظي هو الشقي
سامحوا في الذي مضى ... وارفقوا بالذي بقي
فأنا المغرم الذي ... دمعه في تدفق
يا عذولي فخلني ... لست عندي بمشفق
إن تردد تعرف الهوى ... ومعانيه فاعشق
وأجل في الكأس جمرة من شراب المعتق
بين ندمان حضره ... كل من خانهم شقي
بات ساقي مدامهم ... من محياه يستقي
وينادي عليهم ... بأنك أماني من بقي
وحكى الشيخ شرف الدين أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن سباع ابن ضياء الفزاري رحمه الله قال: حججت في سنة خمس وسبعين وست مائة، واجتمع في الحج من علماء الأقطار ابن العجيل من اليمن، وتقي الدين بن دقيق العيد من الديار المصرية، والشيخ تاج الدين الفزاري من الشام، وغيرهم، واجتمعوا في الحرم الشريف، وكان عز الدين عبد السلام المذكور قد حج من مصر، فجلس تجاه الكعبة المعظمة، وحضر أمير مكة(4/19)
وغيره، فارتجل خطبة أولها:
" الحمد لله ذى القدرة التي لا تضاهى. والحكمة التي لا تتناهى. والقسمة لا يطيق خلق أن يتعداها. الذي تعزز في أزليته. فلا يعرف الأول أولها. تسرمد في أبديته، فلا يدرك الآخر أخراها. وتقدس في أحديته فلا تتحيل العقول خلاها. كيف تعرفه العقول، وقد عقلها عن بلوغ مناها. وكيف تنكره النفوس، وقد ألهمها فجورها وتقواها. وكيف يمثله الجهول، وقد أعجزه عن معرفة نفسه كيف سواها. وكيف يعطله العطول، وقد أغطش ليلها وأخرج ضحاها. من ذا الذي سمك السماء، وعلى غير عمد بناها. من ذا الذي دور أفلاكها، وفي قضاء بيد مشيئته مشاها. ومن ذا الذي سخر أفلاكها وفي حمى حمايته حماها. من ذا الذي قال للسماوات ائتينا طوعاً وكرها، فأتت طائعة حين دعاها. من ذا الذي يعلم خفايا الغيوب وما في طواياها. من ذا الذي يبصر طوايا القلوب وما في رؤياها. من ذا الذي يسمع أنه العليل إذا هو في علته أبداها. من ذا الذي ينقع غلة الغليل إذا اشتكت ظماها. من ذا الذي يرحم ذلة الذليل إذا الخطب الجليل وافاها. من ذا الذي يستر زلة الخاطي وغطاها. من ذا الذي يغفر زلة العاصي، وفي صحائف السيئات محاها. من ذا الذي تجلى على قلوب أوليائه، ومن دون الشك جلاها. ومن ذا الذي أدار كؤوس محبته على ندمان حضرته يستقاها. من ذا الذي جعل خليقته في قبضتين،(4/20)
فهذه أسعدها وهذه أشقاها. من ذا الذي صورك. فأحسن صورك. وفتق سمعك، وخرق بصرك. ثم برحمته شملك. وعلى أكف رأفته حملك. وجعل عن يمينك ملك، وعن شمالك ملك، ينقلان عملك إلى من ملك. في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. انظر إلى الرياض، كيف أخباها. فاستخرج منها ماءها ومرعاها. وانظر إلى الغياض، كيف اهتزت رباها. إذ هو بلطيف حكمته رباها. انظر إلى الأرض، كيف دحاها. ونشرها من تحت هذه البقعة الشريفة بعد ما طواها. فسبحان من شرف هذه البنية واصطفاها. وجعلها حمى لمن حام حول حماها، وحرما امنا لمن وفى ما عليه حين وافاها. ووجهه لمن واجهها الجاها. وأراد عندها جاها. فهي التي هاجر منها الحبيب، ما هجرها ولا قلاها. وما انقلب قلبه سواها. حتى أنزل عليه جبريل في آيات تلاها: " قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها "
فول بوجهك الحسن المفدى ... إليها حيث وجهت اتجاها
فإن ابك إبراهيم قدما ... لأجل رضاك عنا قد بناها
وإسماعيل طاف بها ولبى ... وطهرها لمشتاق أتاها
هي البلد الأمين وأنت حل ... فطأها يا أمين فأنت طه
ولولا أنت حل في ذراها ... لما شرفت ولا حميت حماها
فوجه حيث كنت لها وكبر ... ولا تعدل إلى شيء سواها
ووجه الله قبلة كل قلب ... لمن شهد الحقيقة واجتلاها
هذا البيت قبلة كل قلب ... لمن شهد الحقيقة واجتلاها
هذا البيت بيت الله بشرى ... لنفس فيه قد بلغت مناها(4/21)
فهلل عند مشهد كفاحاً ... وزمزم عند زمزمه سقاها
فيا حجاج بيت الله طوفوا ... بكعبتها ولبوا في ذراها
فهذا الفخر إن حاولت فخراً ... وهذا الجاه إن حاولت جاها
وسئل عن السماع فأجاب بكلام طويل ليس هذا موضع ذكره، ثم أنشد لنفسه يقول:
ان يسكن عارفاً بشرح غرامي ... هات حدث عن سكرتي وهيامي
أو فقل لي إن كنت تعرف خمري ... أين خمار خمرتي ومدامي
يا فقيها إن كنت تفقه قولي ... هات قل لي ما سرد من كلامي
أنا اقرءيت بالمحبة حرفاً ... معرباً معجماً على الأفهام
هو معنى ليس في كل معنى ... بصلاة وقيام وصيام
هو سر وأنت عنه حجاب ... فهو نور مستر بظلام
فانخلع عنك وانتزع منك تشهد ... ثم معنى اعنى جميع الأنام
وتجرد عن الوجود وجاهد ... كي تشاهد سرائر الأحكام
قل لعراعرى بتلذيذ حالي ... ما لحالي من مشية ومقامي
قم فردد في الخان الحان ذكرى ... فسماع الألحان غير حرام
واسقني من مدامة الحب صرفاً ... تمح عني كبائر الآثام
واصطبح واغتبق بها وتهتك ... وتمرد تيها على اللوام
وإذا قيل من أباحك هذا ... قل بفتوى الفقير عبد السلام(4/22)
وخطر له قبل موته فصل أنشأه وهو: " إلهي أنت قلت، وقولك الحق: أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء. فأنت على لطفك دللتني. وفي جنب جودك أطعمتني. وإلى كرم حرمك أوصلتني. فقد حسن بك ظني. على ما كان مني. فحاشاك عن بوارد أوليائك تمنعني. وعن موارد نعمائك تدفعني. سيدي ان أقلعني تخليطي فعفوك ينهضني. وإن رماني تفريطي فجودك ينعشني. إلهي أنا في أسر نفسي، ولو شئت خلصتني. وفي حبس هواي، ولو شئت عتقتني. وفي رقدة غفلتي، ولو شئت أيقظتني. إلهي فهل لي منك توفيق يسعفني. وإلى طاعتك يعطفني. ومن هذه الأوزار ينقذني. إلهي أسألك رحمة تشملني. وأسبلك مغفرة تعتقني.
فخوفي منك يؤنسني ... وظني فيك يطعمني
وديني عنك يقعدني ... وسوء الفعل يقطعني
فلولا الفضل يعتقني ... لكان العذل يحرقني
وحقك أن تعذبني ... فعدلك ليس تظلمني
ولكني بتوحيدي ... أرتجي منك ترحمني
إلهي إنك أمرتنا بالوصية عند حلول المنية. وقد تهجمت عليك، وجعلت وصيتي إليك. عند قدومي لديك. فأول ما يبدأ به من أمري إذا نزلت قبري وخلوت بوزري. وأسلمني أهلي أن تؤنس وحشتي. وتوسع حفرتي. وتلهمني جواب مسألتي. ثم تكتب علي منصوب نصيبي. في لوح صحيفتي(4/23)
بقلم؛ يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين. فإذا جمعت رفاتي وحشرتني يوم ميقاتي ونشرت صحيفة سيئاتي وحسناتي. انظر عملي فما كان من حسن فاصرفه في زمرة أوليائك وما كان من قبيح فمد به إلى ساحل عتقائك واغفره في بحر عفوك وغفرانك. ثم إذا وقف عبدك بين يديك، ولم يبق إلا افتقاره إليك، واعتماده عليك. فقس مني بين عفوك ودينه، وبين غناك وفقره. بين حلمك وجهله، وبين عزك وذله. ثم افعل فيه ما أنت أهله. فهذه وصيتي إليك. تطفلاً بفضلك عليك، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبدك ورسولك، وأن الموت حق، وأن الحياة باطل، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور ".
وله رحمه الله تعالى:
يا من أناجيه في سري وفي علني ... ومن أرجيه في بؤسي وفي حزني
أفردتني عن جميع الناس يا سكني ... وأنت أنى إذا استوحشت من سكني
وأنت روحي إذا جردت عن بدني
وأنت راحة قلبي في تقلبه ... وأنت غاية قصدي في تطلبه
من لي من مغيث أستغيث به ... إذا تضايق أمر في تكربه
ومن أرجو إذا أدرجت في كفني
إذا ذكرتك زال الهم من فكري ... وإن شهدتك عاد الكل عن نظري
وإن حضرتك لا ألوي على بشر ... وإن مررت على شيء من السمر
فغير ذكرك لا يصغى له أذني(4/24)
ما لي وحقك عن جدواك منصرف ... ولا عناني إلى الأغيار منحرف
فامنى فإني بما قدمت معترف ... فإن عطفت فكل الناس منعطف
وإن وصلت فكل الناس يسعدني
وبحق حبك ما قلبي بمنقلب ... إلى سواك ولا حبلي بمنجذب
ولا أراك بدمع فيك منسكب ... حتى أراك بطرف غير محتجب
في حضرة القدس لا في حضرة الدمن
وقال:
إن كان أطماع قلبي فيك قد قطعت ... والعين عن حفظ ذاك العهد ما رجعت
وفي سواك فلا والله ما طمعت ... والاذن ما سمعت والعين لا هجعت
حتى أرى بارقاً للوصل يؤنسني
توفي إلى رحمة الله تعالى ورضى عنه شهيداً، لأنه وقع من موضع مرتفع، فتوجع قليلاً، ومات يوم الأربعاء ثامن عشر شوال سنة ثمان وسبعين وست مائة بالقاهرة، ودفن بمقبرة باب النصر، ولم يبلغ الخمسين سنة من العمر رحمه الله تعالى ورضي عنه وعن سلفه. ومن لطائفه:
أيا حادي العيس قف لي قليلا ... أطيب النجيب وأندى العليلا
على جيرة أودعوا في الحشا ... لهيباً يشب وحزناً طويلا
فيا ليتني يوم حد الرحيل ... لزمت الركاب حقيراً ذليلا
فيا جيرة الحي نوحوا معي ... فإن الخليل يواسي الخليلا
ويندب بكل شج شجوة ... فحادي الرحيل ينادي الرحيلا(4/25)
وقال أيضاً رضي الله تعالى عنه:
أأحبابنا إن جرتم أو هجرتم ... وحقكم لا حل عقد ولا كم
ولا استحسنت عيني جمالاً رأيته ... سواكم ولا سرت بغير لقاكم
قضيتم بوشك البين بيني وبينكم ... فما حيلتي إلا الرضا بقضاكم
وإن مناي أن يدوم لي الصفا ... وكان الجفا والهجر كل مناكم
ولي حرمة الجار القديم ومن له ... لحاظ ومن والاكم واصطفاكم
والله لا أنسى وقد مر لي بكم ... زمان رضي في ظلكم وحماكم
أتيه على الأكوان عجباً بحبكم ... وأغدو وقلبي آمن من جفاكم
وما كان ظني أنني بعد صفوتي ... أعد على حكم الهوى من عداكم
على شؤم بحتي كان عنوان شقوتي ... صدودكم عني ومالي سواكم
وكان رضاكم في رضائي وسخطكم ... علي فأهلا في الهوى برضاكم
وما حيلتي إلا وقوفي ببابكم ... لعلكم إن تعطفوا وعساكم
أمد إلى إحسان حسنكم يدي ... أرجي عن فقري بفضل غناكم
دعاني إليكم جودكم فأجبته ... وعادتكم أن تجيروا من أتاكم
فإن تحرموني نظرة من جمالكم ... فلا تحرموني عقبة من سراكم
وإني لآت أرضكم لا لحاجة ... لعلي أراكم أو أرى من يراكم
ومن تصانيفه: تفسير القرآن العظيم مجلد. خطب مجلد، ديوان شعر مجلدان، مختصر الشفا للقاضي عياض مجلد، الأثمار والأطيار مجلد،(4/26)
تفليس إبليس بما معه مجلد، شرح أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم مجلد، وعظ مجلدان، حل الكنوز مجلد، اعتذارات مجلد، مسائل في علم الطريق وأجوبة، ومجاميع مختلفة، وتفسير آيات كل آية بمجلس يتنبه عليها ولا يخرج عن حكمها في أول المجلس إلى آخر مجلد؛ وله غير ذلك مما أوقفه بزاوية مصر وكفى بالله حسيبا.
عبد الله بن عبد الله بن عمر بن علي بن محمد بن حمويه أبو بكر شرف الدين شيخ الشيوخ بن شيخ الشيوخ تاج الدين بن شيخ الشيوخ عماد الدين الجويني، وامه عالى النسب ابنة الامام عز الدين عبد العزيز بن عبد الواحد بن عبد الماجد القشيري. توفي الشيخ شرف الدين المذكور رحمه الله تعالى يوم الأحد ثامن شوال بجبل الصالحية. ودفن يوم الاثنين بسفح قاسيون بتربة الشيخ عبد الله البطائحي رحمة الله تعالى عليه، ومولده في المحرم سنة ثمان وست مائة. كان عنده فضيلة ورياضة، وحسن خلق ورياسة، وشرف نفس، ومعرفة بأخبار الناس والتواريخ، وعنده احتمال وصبر، وله نظم متوسط وإن لم يكن براكب، فمنه ما كتبه إلى أخيه سعد الدين مسعود:
أرى بك أفكاراً وأنت مروع ... وسرك مشغول وقلبك موجع
فاشرك أخاك اليوم فيمن تحبه ... من الأمر واعلم بأنه لك يطبع
ألم تسمع البيت الذي سار ذكره ... وقيت الردى والخوف والهم أجمع
ولابد من شكوى إلى ذى حفيظة ... يواسيك أو يسليك أو يتوجع(4/27)
فأجابه سعد الدين:
سواك الذي ودي إليه مضيع ... وغيرك في حسن الوفا يتضيع
ومثلك من يرجى لكل ملمة ... ويدرأ عن قلبي الهموم ويدفع
وحقك لو أبديت ما أنا كاتم ... لكان به صم الجبال تصدع
ولكنني رفهت سرك عالماً ... بأنك فيما مسني تتوجع
وكتب شرف الدين في صدر كتاب إلى أخيه سعد الدين:
فهبكم تباعدتم وآثرتم الجفا ... وملتم مع الواشي وما كان ذا ظني
فهلا حفظتم بعض ما كان بيننا ... من الود وفيتم صروف الردى أنى
أحبكم لا أبتغي بدلاً بكم ... فأنتم إلى قلبي ألذ من الأمن
وقال الشيخ شرف الدين في صنعة البساتين بدمشق، سنة ست وستين وست مائة:
قالت الأشجار يا قوم اسمعوا ... فكلامي كله صدق وحق
خلفنا أعد منا أحبابنا ... من غصون وثمار وورق
إنما الناس مع السلطان في ... كل ما يأمر أمراً تحت رق
فاجتهد يا صاحبي واسمع وطع ... فمتى خالفت يوماً تحترق
عبد الله بن محمد بن علي بن كرب أبو محمد زين الدين القرشي الزبيري الحنفي. كان إماماً عالماً فاضلاً محدثاً، سمع من الافتخار الهاشمي وغيره، ومولده في يوم الثلاثاء ثالث ذى الحجة سنة ثلاث وست مائة بدمشق، وتوفى يوم الأربعاء رابع شوال، ودفن بباب الفراديس رحمه الله تعالى.(4/28)
عبد الله بن محمد أبو الصلاح محيي الدين قاضي قضاة مصر ويعرف بابن عين الدولة الصفراوي الاسكندراني الأصل المصري الشافعي. باشر الحكم بمدينة مصر الوجه القبلي عقيب وفاة قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب المعروف بابن بنت الأعز رحمه الله مدة سنين، ولحقه الفالج وأقعد وعجز عن الكتابة، وأقام على هذا الحال مستمراً في الأحكام نحو خمس سنين، وكاتب الحكم يعلم عنه، ثم عزل في سنة ست وسبعين، فأقام بطالاً في بيته إلى حين توفي في احدى الجمادين، ودفن بالقرافة الصغرى، ومولده في سنة سبع وتسعين وخمس مائة. وكان عنده فضيلة ورياسة، ولطف أخلاق، وديانة كبيرة، وحسن مجالسة ومكارم. ووالده قاضي القضاة شرف الدين المشهور بالديانة والصلابة في الأحكام وتحرى الحق، ومعناه الذائد والنوادر الحسنة. قال له بعض العدول وهو في بيت قليل الهواء كثير البق، وهو البرغش، ويسمونه الناموس ما أقل الهواء في هذا البيت وأكثر الناموس فقال: هكذا ينبغي أن تكون مجالس الأحكام. ودخلت إليه امرأة في محاكمة فقال لها: ما اسمك؟ فقالت: ست من يراها، فوضع كمه على عينيه وكان ينشد، وقد بلغ ثمانين سنة:
إن الثمانين وبلغتها ... ما احوجت سمعي إلى ترجمان
الرواية إنما هي احوجت وإنما قال ذلك لئلا يؤخذ بقوله، والطرش قادح(4/29)
في ولاية الحكم عن بعض العلماء. ومن شعره أعني القاضي شرف الدين:
وليت القضاء وليت القضاء لم يل شيئا توليته
فأوقعني في القضاء القضا ... وما كنت قدما تمنيته
ومدح الشهاب محمد بن عبد المنعم الخيمي للقاضي محي الدين بقصيدة أولها:
سلام على معنى الجلالة والهدى ... وبادي الحجي والعلم والحلم والندى
أحن إليه معظم الود والولا ... ويمنعني الاخلاص أن أتوددا
وما زال عندي مضمر الشوق نحوه ... بظاهر وصف الحال منى موكدا
وقلبي محضور التسلي واجب ... مباح كبدت الحب فيه تعبدا
ويروي حديث الوجد عني بحبه ... بمتصل من مرسل الدمع مسندا
أحاول منه القرب زلفاً لعلني ... أفوز به الفوز المبين أسعدا
ومنها:
واعلم أني لست أهلاً لقربه ... ولكنني لا أستطيع التجلدا
ولولا ألتقي صبرت بابك قبلة ... وتربته استغفر الله مسجدا
وعفواً ففي كاف الخطاب تعلل ... لقلبي المعنى إن لي منك مشهدا
أدام لك السعادة والرضى ... عليك وعزا في المحلين سرمدا
ونوراً من العرفان بالله من رأى ... مخائله في حسن وجهك اهتدى
عبد الله بن محمد بن أبي الحسين أبو الفرج نجم الدين الشيخ الزاهد العارف المعروف بابن الحكيم. مولده سنة ثلاث وست مائة، وتوفى في ثالث عشر جمادى الأولى من هذه السنة بحماة رحمه الله تعالى، ويعرف(4/30)
بابن سطيح، ويقال أنه من ذرية سطيح الكاهن، وله فضيلة بطريق القوم، وكان له حرمة وافرة عند الملك المنصور، وصاحب حماة بحيث إذا صادفه في طريق ترجل وسلم عليه راجلاً ولا يركب حتى يبعد عنه، وله زاوية مشهورة بحماة يردها الفقراء وغيرهم رحمه الله تعالى.
علي بن عمر بن محمد أبو محمد بن مجلى أبو الحسن الأمير نور الدين الهكاري. ولى نيابة السلطنة بحلب، وأعمالها في سنة تسع وخمسين وست مائة إلى سنة ثمان وسبعين وست مائة، وكان حسن السيرة، عالي الهمة، لين الكلمة، كريم الأخلاق، كثير التواضع للعلماء والفقراء، والأصحاب محسناً إليهم. وعزل عنها قبل موته بالأمير علاء الدين ايدغدى الكبكي، وكانت وفاته بحلب بعد عزله بقليل يوم الأربعاء السابع والعشرين من ربيع الآخر، ودفن بها، وقد نيف على سبعين سنة من العمر، وكان والده الأمير عز الدين من أكابر الأمراء بحلب وأعيانهم، وشهرته تغني عن الأطناب في وصفه رحمه الله تعالى.
قالاجا بن عبد الله الركني الأمير سيف الدين أحد أمراء دمشق. كان توجه صحبة العساكر إلى مسيس، وتوفى بحلب عند عود العساكر في الرابع والعشرين من ربيع الأول، ودفن بالأنصاري، وقد نيف على أربعين سنة من العمر رحمه الله تعالى. والركني نسبة إلى الأمير ركن الدين بيبرس العلائي وقد تقدم البينة عليه.
لولو بن عبد الله حسام الدين. أحد كتاب الجيوش بالشام، وهو عتيق(4/31)
بدر الدين جعفر بن محمد الآمدي أو عتيق أخيه موفق الدين علي بن محمد وهو ممن استفاد صناعة الكتابة والتصرف وبرع في ذلك، وخدم الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن الملك المنصور إبراهيم صاحب حمص، وتوفه عنده حتى كانت مداراة أموره عليه وهو في رتبة وزير صغير، فلما توفى الملك الأشرف انتقل من حمص إلى دمشق، واستوطنها، واستخدم في مشارفة ديوان الجيش بها، وكان الديوان بأسره عبارة عنه والرفقة تبعاً له، وكان غزير المروءة طاهر اللسان، متفضلاً على معارفه وأصحابه، كثير البر لمن يقصده في حاجة والمسارعة إليها حسبما يمكنه، وكان شيعياً متغالياً في التشيع داعية إليه، ركناً لأهل مذهبه، يلجأون إليه في أمورهم ولم يسمع عنه ملاعنة كلمة يؤخذ عليها فيما بلغني عنه، وكنت أسمعه إذا ذكر أحداً من الصحابة رضي الله عنهم يترضى عنه، ويذكره بأجمل ذكر، وأما أهل البيت عليهم السلام فيوفيهم حقهم من الموالاة والمبالغة في ذلك. وتوفي بدمشق يوم الأحد سادس وعشرين ربيع الأول، ودفن بسفح قاسيون رحمه الله، وهو في عشر الستين.
محمد بن بركة بن دولة خان الأمير بدر الدين. هو خال الملك السعيد ومن أعيان الأمراء بالديار المصرية، وحصل له عند ما أوصى الملك السعيد إلى ابن أخيه تقدم كثير في الدولة، ومكانة عالية، وقدم معه إلى دمشق، فتمرض بها، وكان نزوله في دار صاحب حماة داخل باب الفراديس(4/32)
المجاورة لمدرسة ابن المقدم، وبها توفي في ليلة الخميس تاسع ربيع الأول، وصلى عليه يوم الخميس الثالثة من النهار بالمصلى خارج باب الفرج، ودفن بسفح قاسيون بالتربة المجاورة لرباط الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن محمد رحمه الله بعد أن جعل في تابوت لينقل وقعدا معمره يومئذ خمسون سنة، وعمل له في هذا الشهر عدة اعزية وقرى بالتربة التي دفن بها عدة ختمات حضر احداها الملك السعيد رحمه الله ومد خوان فيه من عظيم فاخر الأطعمة والحلاوات فأكل من حضر وتناهبه الفقراء وغيرهم، وخلع السلطان على والدته ومماليكه وخواصه، وهو في العزاء، فلبسوا الخلع وقبلوا الأرض، ثم نقل تابوته إلى القدس الشريف في العشر الأول سنة تسع وسبعين، فدفن عند قبر والده رحمهما الله تعالى.
محمد بن بيبرس بن عبد الله أبو المعالي الملك السعيد ناصر الدين محمد بركة ابن الملك الظاهر ركن الدين رحمهما الله تعالى. قد تقدم في هذا الكتاب نبذة من أخباره، وما جرى له وآل أمره إليه، ولما استقر بالكرك قصده أجناد من الناس، وكان ينعم على من يقصده ويعطيه ويستخدمه، فتكاثروا عليه بحيث نفذ كثير مما كان عنده، ولما بلغ ذلك الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله تأثر منه، فقيل أنه سم، وقيل غير ذلك، وتوفي إلى رحمة الله تعالى ورضوانه يوم الجمعة حادي عشر ذى القعدة بقلعة الكرك، ودفن من يومه بأرض موته عند قبر جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم نقل بعد ذلك إلى دمشق في سنة ثمانين وست مائة فدفن إلى جانب والده بالتربة التي أنشأها قبالة المدرسة العادلية السيفية، وألحده قاضي(4/33)
القضاة عز الدين محمد بن الصائغ رحمه الله تعالى. ولما توفى ترتب مكانه في مملكة الكرك أخوه لابنه نجم الدين خضر ولقب بالملك المسعود. ومولد الملك السعيد رحمه الله بالعر من ضواحي القاهرة سنة ثمان وخمسين وست مائة، وكان ملكاً جليلاً كريماً، سخي الكف، كثير العدل، محسناً إلى الخاص والعام، لا يرد سائلاً، ولا يخيب آملاً، ولا في خلقه عسف ولا ظلم، كثير الشفقة والرحمة للرعية، لين الكلمة، محباً لفعل الخير رحمه الله تعالى وقيل أنه ولد له مولود ذكر يوم دخوله قلعة الجبل على الصورة المذكورة في شهر ربيع الآخر من هذه السنة وابن أم ولد، وكانت ابنة المنصور سيف الدين قلاوون زوجته فوجدت لفقده ولمأتم عليه وجداً شديداً، ولم تزل باكية حزينة إلى أن توفيت إلى رحمة الله تعالى بعده بمدة في مستهل شهر رجب سنة سبع وثمانين وست مائة، وكانت شقيقة الملك الأشرف صلاح الدين خليل، ودفنت في تربة معروفة بوالدها بين مصر والقاهرة. ولما مات الملك السعيد بالكرك، صلى عليه بجامع دمشق يوم الجمعة رابع وعشرين ذى الحجة سنة ثمان وسبعين رحمه الله تعالى.
يحيى بن أبي المنصور بن أبي الفتح بن رافع بن علي أبو زكرياء الحراني الحنبلي المنعوت بجمال الدين المعروف بابن الصيرفي. كان إماماً عالماً فاضلاً مفتياً عارفاً بالفقه متبحراً فيه، كثير الافادة والأشغال، وللطلبة به نفع كثير، روى عن الحافظ أبي محمد عبد الرحمن بن عمر بن أبي نصر بن علي بن عبد الدائم المعروف بابن الغزال الحنبلي وغيره، وحصل العلوم، كان كثير(4/34)
الديانة والتعبد، عارفاً بالحديث وعلومه، وسمع منه الكثير وحدث واشتغل وأفاد، وانتفع به الناس وأخذوا عنه، ومولده بحران سنة ثلاث وثمانين وخمس مائة، وتوفي بدمشق آخر نهار الجمعة رابع صفر، ودفن يوم السبت بمقابر باب الفراديس رحمه الله تعالى، وكانت له جنازة حفلة مشهودة جداً.
السنة التاسعة وسبعون وستمائة
استهلت يوم الخميس وافق ذلك ثالث أيار والخليفة الامام الحاكم بأمر الله وهو بقلعة الجبل من الديار المصرية، وصاحب الديار المصرية وبعض الشام الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي، ودمشق وما والاها بيد الملك الكامل شمس الدين سنقر الأشقر، وصاحب الكرك الملك المسعود نجم الدين الخضر بن الملك الظاهر وصاحب اليمن الملك المظفر شمس الدين يوسف بن عمر، وصاحب مكة شرفها الله تعالى الشريف نجم الدين أبو نمى الحسني، وصاحب المدينة الشريفة صلوات الله وسلامه على ساكنيها الأمير عز الدين جماز بن شيحة الحسيني وصاحب حماه والمعره الملك المنصور ناصر الدين محمد بن الملك المظفر تقي الدين محمود، والعراق والجزيرة والموصل وأربل وآذربيجان وديار بكر وخلاط وخراسان والعجم وما وراء ذلك بيد التتر، والروم بيدهم أيضاً قربة غياث الدين بن السلطان ركن الدين ولا حكم له.
وفي يوم الخميس مستهل السنة في الساعة السادسة منه ركب الملك(4/35)
الكامل شمس الدين سنقر الأشقر نائب السلطنة من قلعة دمشق، ودخل الميدان الأخضر وبين يديه الأمراء ومقدمي الحلقة رجاله بالخلع يحملون الغاشية، والقضاة والأعيان ركاب بالخلع، وسير في الميدان لحظة يسيرة، وعاد إلى القلعة. وقد ذكرنا في أواخر حوادث السنة الخالية تجريده بعض عسكر دمشق إلى غزة، وكان بها طائفة من عسكر الديار المصرية مقيمين بها لمطابقة الكرك، وعند وصول العسكر الشامي إليها في أوائل شهر المحرم من هذه السنة اندفع عسكر الديار المصرية من بين أيديهم، ودخلوا الرمل، فنزل الشاميون غزة واطمأنوا بها ساعة من النهار، وكان فيهم قلة فكر عليهم عسكر الديار المصرية وكبسوهم ونالوا منهم منالاً كثيراً، ورجع عسكر الشام منهزماً إلى مدينة الرملة.
وفي يوم الاثنين خامسه وصل إلى خدمته في طاعة الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا ملك العرب بالبلاد الشرقية والشمالية، ودخل عليه وهو على السماط، فقام له الملك الكامل، فقبل الأرض وجلس على يمينه فوق الحاضرين.
وفي يوم السبت عاشره وصل الأمير شهاب الدين أحمد بن حجي بن يزيد ملك العرب بالبلاد الحجازية إلى طاعة الملك الكامل، فأكرمه غاية الاكرام، وكان وصوله من جهة العراق، وذكر أنه كان انتهى في يقظته هذه إلى بلاد البصرة وأغار وانتهب.(4/36)
وفي العشر الآخر منه تقدم الملك الكامل بإضافة الأعمال الحلبية إلى قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان، وأن يعطي تدريس المدرسة الأمينية بدمشق، وكان ذلك بيد قاضي القضاة نجم الدين محمد بن سنا الدولة، وكتب له بالمدرسة الأمينية تقليد من إنشاء كمال الدين أحمد بن العطار نسخة، مضمونة: " الحمد لله الذي اطلع في فلك ساداتنا شمس الدين بازغة الأنوار. وأقام بنا بناء الحق، مشيد الأركان على المنار. وجعل روض الفضل في أيامنا زاهراً. تصبو إليه الأبصار. وقلوب ونفوس فيما يحف منه نجم إلا نشف من بعده سناء نجوم وأقمار. وشموس ولا يذوى منه عود إلا يروى بماء الرعاية منه أصول وفروع وغروس. يبر بها لأيامنا أن يبذل فيها الحسنات. أو يتعطل فيها مدارس آيات. والصلاة على سيدنا محمد ذى الحسيب الصميم. والدين القويم. والشرع الهادي إلى الصراط المستقيم. صلاة يحلى اللسان تكرارها. ويملأ سواد القلب أنوارها. وبعد فإن أحق من عمرت به ربوع العلوم الدارسة. وطلعت شموس فضله، فتجلت بها كلمات الجهل الدايسة. من كانت آية فضله شمسية، إذا طلعت حجب النجم سناها. وإذا تناهى في إشادة عليائه أعربها بمساعيه، وحسن بناها. وإذا تسابقت جياد الأفكار في حلبة جدال عطف اعنتها إلى الصواب وثناها. طالما حل الرتب العالية بجليل مقداره ودقيق أفكاره. وجلا الرتب العالية بخفي تدبيره وجلى أنواره. وماضت على معاطف مناقبه(4/37)
ذوائب فخاره. وهامت الأفكار في أودية محامده، وما بلغت وصف محله ومقداره. وافتخر قلم الفتيا براحته وتباعد السيف عن قربه خوفاً من مهابه. وسدد الحق سهام أحكامه. فأصابت الأغراض، وشيد الصدق نظام كلامه. فشفى صحيحه الأمراض، فإن شرع في علم الشرع شفى إنسان عن الجهل الارمداء. روى الحديث النبوية بإسناده، فيما يصل أحد إلى مسند أحمد، وإن صال في الأصول فإليه منتهى فخار الفخر الرازي. أو حكم في الحكمة، فابن سينا غير مساو له ولا موارى له، وإن نطق في المنطق، فهو أنير زمانه وسراجه المنير، أو يحدث في علم العربية، فهو أبو العباس تحقيقاً غير تقدير، أو تكلم في علم الخلاف، فهو الأوحد على الحقيقة، وكم له إلى الحق من طريق وطريقه، وإن قص أبناء السلف والخلف، وكل خطيب يثني عليه، وابن عساكر لا تتخذه عساكر معلوماته لو كان بين يديه ".
ولما كان المجلس العالي القضائي الأجلي الصدري الكبيري الأوحدي الرئيسي الأفضلي العالمي العاملي الكاملي الناسكي العارفي الأثري الحافظي الشيخي الامامي الحاكمي الشمسي، شرف الإسلام فخر الأنام زين العلماء أوحد الفضلاء وارث الأنبياء محبة العرب العرباء بقية السلف مفتي الفرق صدر الحفاظ شمس الشريعة قاضي القضاة سيد الحكام صفي الملوك والسلاطين ولي أمير المؤمنين أبو العباس أحمد بن الشيخ الامام أبي عبد الله محمد بن إبراهيم ابن أبي بكر بن خلكان البرمكي الشافعي ضاعف الله جلاله، وحقق في الدارين آماله، نظام هذا العقد المليح. ومعنى هذا اللفظ الفصيح.(4/38)
وثمرة هذه الدوحة النضرة. ونشر هذه الروضة الخضرة. رسم الأمر العالي المولوي السلطاني الملكي الكاملي الشمسي لا زال يقر الحق في يد مستحقه، ويوضع لسالكه في سبيله. وطرفه أن يفوض إليه تدريس المدرسة الامينية. ويجري باسمه العلوم الشاهد به كتاب وقفها المبرور، وذلك لما تعين سرف مباشرها عند تبين إجلاله بشروط واقفها، فتقدم على خيرة الله تعالى، ويذكر بها دروس فضله التي لا تدرس للأنام آثارها. ويغرس في قلوب طلبتها حب فرائده، ليجتني ساعة غرسها ثمارها. ويحلو وجوه معارفه على خطابها، ليبلى بمحاسنها، ويتمتع، ويغذى أطفال الأذهان الرضع بلبان فضله إلى أن يتسنى بين يديه، ويترعرع، ويعمر معناها بالعلم الذي تنكرت فيها معالمه، وخفى سناه، حتى لا يدركه شاتمه، ليجني بها فضله الحسن السهل خالداً ويغذو كل ظام من جعفره المعروف، ومعروف جعفره وارداً، وتصبح هذه المدرسة كنيفاً ملئ علماً وقليباً حشي فهماً وفلكاً يبدى شمساً، ويخفى نجماً وكنانة يخرج من طلبتها في كل حين سهماً يراه متأمله شهماً. والله تعالى يحيى ببقاء علمه ما أماته الجهل، ويؤنس بأنفاسه ما استوحش من معاهد الخير والفضل ان شاء الله تعالى. كتب في ثالث عشرين المحرم سنة تسع وسبعين وست مائة، وذكر الدرس بها في هذا الوقت وكان القاضي نجم الدين مدرسها بحلب وقد استناب ولده بها ولم يكن تام الأهلية لمباشرة مثلها.(4/39)
وفي أواخر شهر المحرم وردت الأخبار أن الملك المنصور أرسل جيشاً كثيفاً إلى دمشق، ومقدمه الأمير علم الدين سنجر الحلبي، ولما اتصل ذلك العسكر بعسكر الملك الكامل الذين بالرملة تأخروا قليلاً ولما تقدم المصري تأخر الشامي لقلته إلى أن وصل أوائلهم دمشق في أوائل صفر.
وفي يوم الأربعاء ثاني عشر صفر خرج الملك الكامل بنفسه وبجميع من عنده من العساكر، وضرب دهليزه بالجسورة وخيم هناك بجميع الجيش، واستخدم وأنفق هو جمع خلقاً عظيماً، وحضر عنده عرب الأميرين شرف الدين عيسى بن مهنا، وشهاب الدين أحمد بن حجي، ونجدة حلب، ونجدة حماة، مقدمها الملك الأفضل نور الدين علي أخو صاحب حماة، ورجالة كثيرة من جبال بعلبك.
وفي يوم الأحد سادس عشره وقت طلوع الشمس، التقى الجيشان في المكان المذكور وتقاتلا أشد قتال، وثبت الملك الكامل، وقاتل قتالاً كثيراً، واستمر المصاف إلى الرابعة من النهار، ولم يقتل من الفريقين إلا نفر يسير جداً، وخامر أكثر عسكر دمشق، وانهزموا من أنضاف إلى العسكر المصري وعند ما وقعت العين في العين قبل أن يلتحم القتال انهزم الحمويون، وتخاذل عسكر الشام وتفرقوا، فمنهم من دخل بساتين دمشق واختفى بها، ومنها من دخل خواطر دمشق، ومنهم من ذهب إلى بعلبك، ومنهم من سلك طريق المرج والقطيفة وعذراء والدرب الكبير إلى القطيفة، واجتمع جميع العسكر على القصب من عمل حمص، ثم عاد أكثر(4/40)
الأمراء إلى دمشق، وطلبوا الأمان من الأمير علم الدين الحلبي، فأمنهم ودخلوا في أيام متفرقة، ثم حضر الأمير شهاب الدين أحمد بن حجي إلى دمشق بالأمان، ودخل في طاعة الملك المنصور، وأما الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا فإنه توجه صحبة سنقر الأشقر، ولازم خدمته ونزل به وبمن معه من الأمراء والعسكر في نوبة رحبة مالك بن طوق ونصب لهم بيوت شعر وأقام بهم، وبدوابهم مدة مقامهم عنده، وأما الجيش المصري، فإنه ساق من ساعته إلى المدينة وأحاط بها، ونزلوا في الخيم ولم يتعرضوا إلى زحف، وراسلوا من بالقلعة إلى العصر من ذلك النهار، ففتح من المدينة باب الفرج، ودخل منه بعض مقدمي الجيش، وفتحت القلعة فدخلوا إليها من الباب الذي داخل المدينة، وكان التسليم بالأمان وأفرج عن جماعة كان اعتقلهم سنقر الأشقر، منهم الأمير ركن الدين بيبرس العجمي المعروف بالجالق، وتقي الدين توبة التكريتي، والأمير حسام الدين لاجين المنصوري وغيرهم، وكتبت المطالعات إلى الملك المنصور بصورة ما جرى وسيرت على البريد.
وفي بكرة يوم الاثنين سابع عشرة جهز الأمير علم الدين الحلبي قطعة جيدة من الجيش المصري(4/41)
تقارب ثلاثة آلاف فارس في طلب شمس الدين سنقر الأشقر ومن معه من الأمراء والجند.
وفي هذا اليوم ركب قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان للسلام على الأمير علم الدين الحلبي، فقبض عليه واعتقله بعلو الخانكاة النجيبة.(4/42)
وفي يوم الخميس العشرين منه صرفه عن قضاء الشام كله، وتقدم إلى القاضي نجم الدين محمد بن سنى الدولة، وكان قدم من حلب بمباشرة الحكم بدمشق فباشره.
وفي يوم الخميس سابع عشرين منه أعادت الأجوبة من الملك المنصور فجلس الأمير علم الدين الحلبي في دهليز ضرب له بالميدان الأخضر الصغير، وحضر عنده الأمراء، والأعيان من عسكر الشام ومصر، وأعيان الناس، وقرئ عليهم كتاب الملك المنصور، ومضمونه: " التهنئة للإسلام بدفع هذا الضرر والعتب على كل طائفة بما يليق بهم ". وفي آخره: " وإنا قد عفونا عن جميع الناس الخاص والعام، أرباب السيف والقلم، ولم نؤاخذ أحداً منهم، وأمناهم على أنفسهم وأهلهم وأموالهم، ورسمنا أن لا نغير على أحد منهم وظيفته إلا إن ورد في حقه تخصيص ". فارتفعت الأصوات بالدعاء وانصراف الناس مسرورين.
وفي أوائل ربيع الاول، ترتب في نيابة السلطنة بالشام الأمير حسام الدين لاجين السلحدار المنصوري، ودخل دار السعادة ودخل معه الأمير علم الدين الحلبي ورتبه بها، وفي خدمته سائر أمراء مصر والشام، وهذا الأمير حسام الدين كان الملك المنصور سيره إلى دمشق أميراً ونائباً لقلعتها في أواخر السنة الخالية، فبقي بالقلعة مدة يسيرة وجرى ما جرى من سلطنة شمس الدين ينقر الأشقر واعتقله، وبقي في الاعتقال إلى أن حضر الأمير علم الدين الحلبي، واستولى على المدينة والقلعة، فأفرج عنه وبقي في خدمته(4/43)
إلى أن ورد المرسوم بمباشرة نيابة السلطنة فباشرها، وهو شاب له خير كثير، الدين والكرم والشجاعة، محب للعلماء والصلحاء، مؤثر للعدل في الرعية.
وفي يوم الثلاثاء تاسع ربيع الأول أفرج عن قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان وضرب إلى منزله، ثم تقدم إليه الأمير علم الدين الحلبي بعد أيام بالانتقال من المدرسة العادلية الكبيرة، وتسليمها إلى قاضي القضاة نجم الدين، فشق عليه ذلك وتكرر عليه القول بسرعة النقلة فبينا هو في ذلك قد أحضر جمالاً لنقل قماشه إلى جبل الصالحية، وإذا بكتاب الملك المنصور قد ورد على الأمير علم الدين الحلبي، ومن مضمونه: " إن عفونا قد شمل الخاص والعام، وما يليق أن تخصص بسخطنا أحداً على انفراده، وغير خاف مما يتعين من حق المجلس السامي القضائي شمس الدين أحمد بن خلكان أعزه الله تعالى وقديم صحبته لها وحدته عليها، وأنه من بقايا الدولة الصالحية سقى الله عهدها، وقد رسمنا بإعادته إلى ما كان عليه بقضاء القضاة بالشام، وبسطنا يديه في القبض والإبرام وما هذا معناه ". فركب القاضي شمس الدين من ساعته، وطلع إلى الأمراء وسلم عليهم، ونزل وقت الظهر باشر الأحكام وأحضر له تشريفه لنسبه، وصلى به الجمعة، وكتب مطالعة إلى الملك المنصور يدعو له ويتنصل بما نسب إليه ويعتذر؛ فورد عليه الجواب بالشكر وقبول العذر.
وفي أوائل ربيع الآخر خرج من دمشق عسكر من الجيش المصري، مقدمهم الأمير عز الدين الأفرم، ولحق بالذين كانوا توجهوا قبل ذلك في طلب سنقر الأشقر، فأدركوهم على حمص، ورحلوا بأسرهم طالبين المذكور ومن معه، فلما بلغه ذلك فارق الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا وتوجه بمن معه في البرية إلى الحصون التي كانت بقيت بيد نوابه فتحصن هو ومن معه بها في أواخر الشهر المذكور وهي: صهيون، وكان بها أولاده وخزائنه ودخلها هو أيضاً، وبلاطنس وحصن برزية وحصن عكار وجبلة واللاذقية والشعر وبكاش وشيزر. وكان يوم المصاف قد انهزم الأمير عز الدين ازدمر إلى جبل الحرديين، وأقام عندهم هذه المدة كلها تحصن بهم وحموه، فلما بلغه وصول سنقر الأشقر إلى القلاع المذكورة وصل إليه بجماعة من الجبليين، وأقام شيزر يحفظها، ولما بلغ العسكر دخولهم القلاع واعتصامهم بها، نازلوا شيزر مضائقة لأبقية العسكر المنازلين لشيزر مصممين على حضرتها، وترددت الرسل بينهم وبين شمس الدين سنقر الأشقر في تسليمها، فبينا هم في ذلك، وردت الأخبار في أوائل جمادى الآخرة أن التتار خذلهم الله تعالى قد قصدوا بلاد الشام، فخرج من كان بدمشق من العسكر المصري والشامي، ومقدمهم الأمير ركن الدين أباجي، ولحق بقية العساكر التي على شيزر وكانوا قد تأخروا عنها، ونزلوا بظاهر حماة، ووصل من الديار المصرية عسكر مقدمه الأمير بدر الدين بكتاش النجمي فلحق بهم، واجتمع الجميع على حماة وأرسلوا كشافة إلى بلاد التتر في العشر الأوسط منه، ووصل(4/44)
إلى دمشق وبعلبك خلق عظيم من الجفال من حلب وبلادها وحماة وحمص والبلاد الشمالية جافلين من التتر، ولم يتخلف في تلك البلاد إلا من عجز عن السفر، وأخليت حلب من العساكر التي لها والتجؤا إلى حماة، وعزمكثير من أهل دمشق والبلاد الشامية أن يتوجهوا إلى الديار المصرية، واضطرب الناس لذلك اضطراباً شديداً، وكان سبب حركة التتر لما بلغهم من اختلاف الكلمة، وظنوا أن نقر الأشقر ومن معه يتفقون معهم وأن يكونوا جميعاً على العسكر المصري، فأرسل أمراء العسكر المصري إلى سنقر الأشقر يقولون: هذا العدو قد دهمنا وما سببه إلا الخلف بيننا، وما ينبغي أن نهلك الاسلام في الوسط، والمصلحة أن نجتمع على دفعه. فنزل عسكر شمس الدين سنقر الأشقر من صهيون والحاج ازدمر من شيزر، وخيمت طائفة تحت قلعتها، ولم يجتمعوا بالمصريين، واتفقوا على اجتماع الكلمة ودفع العدو عن الشام.
وفي يوم الجمعة حادي وعشرين منه وصل طائفة عظيمة من عساكر التتار، وأحرقوا الجامع والمدارس المعتبرة ودار السلطنة ودور الأمراء الكبار، وأفسدوا فساداً كثيراً، وكان أكثر من تخلف بها قد استتر في المغائر وغيرها، وأقاموا بحلب يومين على هذه الصورة.
وفي يوم الأحد ثالث وعشرين منه رحلوا منها راجعين إلى بلادهم بعد أن تقدمهم الغنائم التي كسبوها ونقلوا من الغلال شيئاً كثيراً إلى أماكنهم، وكان سبب رجوعهم إلى بلادهم لما بلغهم من اتفاق الطائفتين(4/45)
على دفعهم، وحكى أن سبب خروجهم من حلب أن بعض من استتر بها يئس من الحياة، فطلع منارة الجامع وكبر بأعلى صوته على التتر، وقال: جاء النصر من عند الله، وأشار بمنديل كانمعه إلى ظاهر البلد، وأوهم أن إشارته إلى عسكر المسلمين، وجعل يقول في خلال ذلك: اقبضوهم من بيت البيوت مثل النساء، فتوهم التتر من ذلك وخرجوا من البلد على وجوههم، وسلم الذي فعل ذلك، ولما رجعوا عن حلب ظهر من كان مستتراً بها، ورجع من كان يجفل عنها، وحصلت الطمأنينة للناس. وفي هذه الأيام هرب من عند شمس الدين سنقر الأشقر جماعة من الأمراء ودخلوا في طاعة الملك المنصور وتوجهوا إلى خدمته.
وفي أواخر هذا الشهر خرج الملك المنصور بجميع العساكر لنصرة الإسلام ودفع العدو عن البلاد. وفي يوم الجمعة الثامن والعشرين منه قرئ على المنبر بجامع دمشق بعد صلاة الجمعة مثال سلطاني ورد على الأمير حسام الدين لاجين نائب السلطنة بدمشق، مضمونه: أن الملك المنصور جعل ولده علاء الدين علياً ولي عهده، ولقبه الملك الصالح، وخطب له على المنبر، وعقيب الفراغ من قراءة هذا المثال وردت البشائر برجوع التتر من حلب، وخلوا البلاد منهم، فاستبشر الناس بعزة ولي العهد. ولما وصل الخبر برجع التتر تفرقت العساكر في طلبهم، فمنهم من توجه إلى عين تاب وتلك النواحي، ومنهم من توجه إلى جهة الفرات والبيرة، وجاسوا خلال الديار في تلك الجهات، ثم رجعوا. وكان الملك المنصور(4/46)
لما رجع ولده ولي العهد، كتب له تقليد بخط محي الدين عبد الله بن عبد الظاهر من انشائه، مضمونه: " الحمد لله الذي شرف سور الملك بعلية. وحاطه منه بوصية. وعضد منصوره بولاية عهد مهدية، واسمى حاتم جوده بمكارم حازها بسبق عدية. وأبهج خير الآباء من خير الأبناء عن سموا أبيه منه، ومسارعة وليه بحمده على نعمه التي جمعت إلى الزهر الثمر، وأضافت إلى نور الشمس هداية القمر، وداركت بالبحر، وباركت في النهر، وأجملت المبتدأ وأجنت الخبر، وجمعت في لذاذة الأوقات وطيها بين رونق الأصائل، ورقة البكر. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تلبس الألسنة منها كل ساعة جديداً، ويتفيأ ظلاً مديداً، ويستقرب من الآمال ما يراه سوانا بعيداً. ونصلي على سيدنا محمد الذي طهر الله به هذه الأمة من الأدناس. وجعلها بهداية زاكية الغراس. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين منهم من فهم حسن استخلافه بالأمر له بالصلاة بالناس. ومنهم من بنى الله به قواعد الدين، وجعله موطد الآساس. ومنهم من جهز جيش العسرة، وواسى بما له حين الطراء والباس. ومنهم من قاله عنه صلى الله عليه وسلم لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، فحسن الالتماس بذلك الاقتباس. وزاد في شرفه بأن طهر أهل بيته، وأذهب عنهم الأرجاس. صلاة لا تزال(4/47)
تتردد الأنفاس. ولا تبرح في الابناء حسنة الأنباس. وبعد، فإن خير من شرفت مراتب السلطنة بحلوله. وفوقت ملابس التحكيم لقبوله. ومن تزهى مطالع الملك باشراقه. وتبادر الممالك مذعنة لاستحقاقه. ومن يزدهى ملك منصوره، نصرة الله موطدة وولي عهده مكنه الله بأبيه. ومن يتشرف ايوان عظمة أن غاب والده في مصلحة الاسلام فهو صدره. وان حضر فهو ثانية. ومن يتحمل عاب الابالة منه بحيرسل كفيل لثناء. ويتكمل غوث الأمة بخير وابل خلف..... ومن الهم الاخلاق الملوكية وأوفى حكمها صبياً. ومن خصصته أدعية الأبوة الشريفة بصالحها. ولم يكن بدعائها شقياً. ومن رفعت به هضبة الملك حتى أمسى مكانها علياً. ومن هو أحق بأن يبحث للأمل وينجح. وأولى بأن تبلى له أخلفني في قومي وأصلح. ومن هو بكل خير ملى. ومن إذا فوضت أمور المسلمين كان أشرف من لا نورهم بلى. ومن يتحقق من والده الماضي الغزار. ومن اسمه عالي المنار. ان
لا سيف إلا ذو الفقار ... ولا فتى إلا علي ".
ولما كان المقام العالي الولدي السلطاني الملكي الصالحي العلائي عضد الله به الدين، وجمع إذعان كل مؤمن على إيجاب طاعته لمباشرة أمور المسلمين حتى يصبح وهو صالح المؤمنين. هو المرجو لتدبير الأمور والمأمول لمصالح البلاد والثغور. والمدخر من النصر لشفاء ما في الصدور. والذي تشهد الفراسة لأبيه، وله بالتحكم أليس الحاكم أبو علي هو المنصور. فلذلك(4/48)
افضيت الرحمة والشفقة على الأمة أن ينصب لهم ولي عهد يتمسكون من الفضل بعروة كرمه. ويسعون بعد الطواف بكعبة أبيه لحرمه. ويقطفون أزهار العدل وثمار الجود من علمه وقلبه. ويستشعر الأمة منه بالملك الصالح الذي يقسم الأنوار بجبينه، وتقسم المبار بكراماته وكرمه. فذلك خرج الأمر العالي المولوي السلطاني الملكي المنصوري السيفي أخدمه الله القدر. ولا زالت الممالك تتناهى منه، ومن ولى عهده بالشمس والقمر. أن يفوض إليه ولاية العهد وكفالة السلطنة الشريفة ولاية تامة عامة شاملة. كافلة جامعة وارعة قاطعة ساطعة شريفة منيفة. عطوفة رؤوفة لطيفة عفيفة. في سائر أقاليم الممالك الشريفة. وعساكرها، وجندها، وعربها، وتركمانها، وأكرادها، ونوابها، وولاتها، وأكابرها، وأصاغرها، ورعايتها، وحكامها، وقضاتها، وسارحها، وسائحها بالديار المصرية، وثغورها، وأقاليمها، وبلادها وما احتوت عليه؛ ومملكة الحجازية، وما احتوت عليه، ومملكة النوبة، وما احتوت عليه؛ والفتوحات الصفدية، والفتوحات الاسلامية الساحلية، وما احتوت عليه؛ والممالك الشامية، وحصونها، وقلاعها، ومدنها، وأقاليمها، وبلادها، والمملكة الحمصية، والمملكة الحصنية، والأكرادية، والجبلية وفتوحاتها، والمملكة الحلبية وثغورها، وبلادها وما احتوت عليه؛ وسائر القلاع الاسلامية براً وبحراً سهلاً ووعراً. شاماً ومصراً ويمناً وحجازاً. شرقاً وغرباً بعداً وقرباً. وأن يلقى إليه مقاليد الأمور في هذه الممالك الشريفة.(4/49)
وأن يستخلفه سلطنة والده خلد الله دولته ليشاهد الأمر منه في وقت واحد سلطاناً وخليفة وولاية واستخلافاً، يسندها الرواة، ويترنم بها الحداة وتفهمها الاسماع. وتنطق بها الأفواه. وتفويضها يعلن لكافة الأمم. ولكل رب سيف وقلم. ولكل ذى علم وعمل بما قاله صلى الله عليه وسلم لسمية رضي الله عنه حين أولاه من الفخار ما أولاه. من كنت مولاه فعلي مولاه. فلا ملك اقليم إلا وهذا الخطاب يصله، ويوصله، ولا زعيم جيش إلا وهذا التفويض يسعه ويشمله. ولا اقليم إلا وكل به يقبله ويقبله. ويتمثل بين يديه ويمثله. ولا منبر إلا وخطيبه يتلو فرقان هذا التقدم ويرتله. وأما الوصايا فقد لقنا ولدنا. وولي عهدنا منها انطبع في صفاء ذهنه وسرت تعديته في سماء غصنه. ولابد من لوامع الوصايا للتبرك بها في هذا التقليد الشريف تنير. وجوامع يصير الخير بها حيث يصير. وودائع سك بها ولدنا أعزنا الله ببقائك، ولا ينبئك مثل خبير، فاتق الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. وانصر الشرع فإنك إذا نصرته، نصرك الله على أعداء الدين وعداك. واقض العدل مخاطباً وكاتباً حتى تستبق إلى إلا يغازيه لسانك ويمناك. وأمر بالمعروف وانه عن المنكر عالماً أنه ليس يخاطب غداً بين يدي الله تعالى عن ذلك سوانا وسواك. وأنه عن نيل الهوى حتى لا يراك حيث نهاك، وحط الرعية ومر النواب تحملهم على القضايا المرعية، وأقم الحدود(4/50)
وجند الجنود، وابعثها براً وبحراً من الغزو إلى كل مقام محمود، واحفظ الثغور ولاحظ للأمور. وازدد باسترشاد بأرائنا نوراً على نور. وأمر للإسلام للأكابر وزعماؤه فيهم بالجهاد. والذب عن العباد، وأصفياء الله وأحباؤه فضاعف لهم الحرمة والاحسان، واعلم أن الله قد اصطفانا على العالمين وإلا فالقوم إخوان. لا سيما أولى السعي الناجح والرأي الراجح ومن إذا فخروا بنبسة صالحة قيل لهم: نعم السلف الصالح. فشاورهم في الأمر وجاورهم في مهمات البلاد كل سر وجهر، وكذلك غيرهم من أكابر الأمراء الذين هم نحايا الدول وذخائر الملوك الاول، اجرهم هذه المجرى. واشرح لهم بالاحسان صدراً. وجيوش الاسلام هم البنان البنيان فوال إليهم الامتنان، واجعل محبتك في قلوبهم بإحسانك إليهم حسنة المدى وطاعتك في عقائدهم وقد شغفها حباً ليصبحوا لك بحسن نظرك إليهم طوعاً، وليحصل كل جنس منهم من التقرب إليك بالمناصحة نوعاً والبلاد وأهلها فهي وهم عندك
الوديعة فاجعل أوامرك بها بصيرة، ومنهم سميعة. وأما غير ذلك من الوصايا فستنجو لك منها ما ينشأ معك يوماً ويلقنك من آياتها محكماً فمحكماً والله تعالى ينهى هلالك حتى توصله إلى درج الابدار ويغذى غصتك حتى تراه قد انبع بأحسن الأزهار وأطيب الثمار، ويرزقك سعادة سلطاننا الذي نعت بنعته تبركاً، ويلهمك الاعتضاد بشيعته، والاستنان بسنته حتى تصبح كتمسكنا بذلك متمسكاً، ويجعل الرعية بك في أمن وأمان، وعدل وإحسان، حتى لا يخشى سوءاً ولا تخاف دركاً إن شاء الله تعالى. يعة فاجعل أوامرك بها بصيرة، ومنهم سميعة. وأما غير ذلك من الوصايا فستنجو لك منها ما ينشأ معك يوماً ويلقنك من آياتها محكماً فمحكماً والله تعالى ينهى هلالك حتى توصله إلى درج الابدار ويغذى غصتك حتى تراه قد انبع بأحسن الأزهار وأطيب الثمار، ويرزقك سعادة سلطاننا الذي نعت بنعته تبركاً، ويلهمك الاعتضاد بشيعته، والاستنان بسنته حتى تصبح كتمسكنا بذلك متمسكاً، ويجعل الرعية بك في أمن وأمان، وعدل وإحسان، حتى لا يخشى سوءاً ولا تخاف(4/51)
دركاً إن شاء الله تعالى.
وفي أواخر هذا الشهر أعيد الصاحب برهان الدين السنجارى إلى الوزارة بالديار المصرية على عادته الأولى، ورجع فخر الدين إبراهيم بن لقمان إلى ديوان الانشاء على عادته.
وفي العشر الأوسط من شهر رجب وصلت العساكر المصرية والشامية من حلب، والبلاد الشمالية من تطلب التتر والسير في آثارهم، وتوجه الجيش المصري إلى خدمة الملك المنصور بغزة، وأقام عسكر الشام بدمشق. وفي حدود منتصف الشهر وصل الملك المنصور غزة، وكان بلغه رجوع العدو وهو بالرمل فأقام بها، وتوقف عن الوصول إلى دمشق لعدم الحاجة إلى ذلك وقصد تخفيف الوطأة عن بلاد الشام.
وفي يوم الخميس عاشر شعبان رحل الملك المنصور عن غزة راجعاً إلى الديار المصرية.
وفي أواخر شهر رمضان المعظم أعيد القاضي تقي الدين محمد بن رزين الشافعي إلى القضاء بالديار المصرية وصرف القاضي صدر الدين عمر بن بنت الأعز عن ذلك وكان قبل ذلك قد أعيد القاضي نفيس الدين بن شكر المالكي، ومعز الدين الحنفي، ورتب معهما حاكم حنبلي وهو عز الدين المقدسي فاستمر البلد مع القاضي تقي الدين كل منهم يباشر الحكم استقلالاً على مذهبه. وفي شهر ذى القعدة كان طائفة من عسكر الشام نازلين بمرج المرقب(4/52)
الحصن المعروف مضائقين لمن فيه، وداخلهم طمع فيه، فركبوا من الليل وصبحوا المرقب صباحاً للغارة إليه فأحس الفرنج المقيمون به بهم، وكان قد وصلهم نجدة في البحر المالح فخرجوا بأجمعهم، وكروا على عسكر المسلمين فانهزموا بين أيديهم في أودية وعرة لا خبرة لهم بها، فنالوا منهم منالاً عظيماً، وأسروا خلقاً كثيراً، وغنموا غنائم عظيمة، وعندما انبرم الصلح بين الملك المنصور وبين الفرنج في شهر المحرم سنة ثمانين وست مائة، استنقذ أكثر من حصل بالمرقب من أسرى المسلمين في هذه الواقعة، وأخفوا من أمكنهم إخفاءه، وسفروهم إلى الجزائر.
وفي يوم الأحد مستهل ذى الحجة خرج الملك المنصور من الديار المصرية بالعساكر كلها قاصدا الشام، وترك ولده الملك الصالح يباشر الأمور عنه بالديار المصرية.
وفي يوم الأحد ثامنه أضيف إلى قاضي القضاة شمس الدين بن خلكان رحمه الله الحكم بمدينة حلب وأعمالها معها بنده، وأذن له أن يستنيب عنه في ذلك.
وفي يوم عرفة منه وقع بالديار المصرية برد من كبار الحجم فأهلك من الغلال والزراعات ما لا يحصى، وكان معظم ذلك بالوجه البحري، ووقع بظاهر القاهرة تحت الجبل الأحمر صاعقة على حجر فأحرقته فأخذ من ذلك الحجر قطعة وسبكت فاستخرج منها قطعة حديد بلغت زنتها أربع أواقي من المصري، ووقع في ذلك اليوم بعينه صاعقة بثغر الاسكندرية.(4/53)
وفي يوم الثلاثاء سابع عشره نزل الملك المنصور بجميع عساكره على منزلة الروحاء من عمل الساحل، قبالة عكا في معنى تجديد الهدنة، فراسله الفرنج من عكا في معنى تجديد الهدنة، فإنها كانت قد انقضت مدتها، وأقام بهذه المنزلة حتى استهلت سنة ثمانين وست مائة.
وفي هذا الشهر قدم من جهة العراق الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا ملك العرب بالبلاد الشمالية وبرية العراق، داخلاً في الطاعة ووصل إلى خدمة الملك بمنزلة الروحاء. فركب السلطان في موكبه وتلقاه على بعد، وبالغ في إكرامه وإحترامه، وعامله بالصفح والاحسان.
وفيها توفي أحمد بن عبد الواحد بن السابق أبو العباس محيي الدين الحلبي العدل. من أكابر بيوت حلب. كان رجلاً كثير التحري في شهاداته، وعنده ديانة وعقل وسداد، وكتب لحكام حلب مدة، ولحكام دمشق أيضاً مدة أخرى. ومولده بدمشق سنة ثمان وتسعين وخمس مائة، وتوفي بها يوم الأربعاء بعد العصر ثامن ذى الحجة، ودفن من الغد بجبل قاسيون، وكان صلى العصر من يوم الأربعاء، ولحقه قولنج فمات من ساعته رحمه الله.
ازبك بن عبد الله صارم الدين الحلبي كان من أعيان أمراء دمشق وهو منسوب إلى الامير عز الدين الحلبي الكبير، وقد ذكرناه في سنة ست وخمسين وخمس مائة، وكان جرد هذا صارم الدين إلى بعلبك، فتمرض بها، وحمل منها في محفة على بغال إلى دمشق، فوصلها، وأقام بها أياماً، وتوفي في تاريخ ليلة الأحد الرابع والعشرين من شوال، ودفن يوم الأحد بسفح قاسيون، وقد نيف على خمسين سنة من العمر رحمه الله تعالى.(4/54)
اقوش بن عبد الله الأمير جمال الدين الشمسي. كان من أعيان الأمراء وأماثلهم وشجعانهم، وهو الذي أمسك الأمير عز الدين ايدمر الظاهري وهو الذي باشر قتل كتبغانوين مقدم عساكر التتر بعين جالوت، وقد تقدم ذكر ذلك كله، وولى نيابة السلطنة بحلب في السنة الخالية، فأدركته وفاته يوم الاثنين خامس شهر المحرم من هذه السنة، ودفن هناك، وهو في عشر الخمسين رحمه الله تعالى. والشمسي نسبة إلى الأمير بدر الدين بيسرى وغيره من الشمسية رحمهم الله.
داوود بن حاتم بن عمر بن الحبال. كان شيخاً صالحاً، وله كرامات وأحوال وأخبار صادقة. قال أخي رحمه الله أخبرني مراراً عديدة بأشياء تأتي، فكان الأمر كما أخبر. ولما توفي عمه بكر بن الحبال، طلب إلى دمشق، فنزل واجتمع بالصاحب بهاء الدين، فأقبل عليه إقبالاً كثيراً، وأحسن به الظن، ولم يزل بعد ذلك يكاتبه، ويقضي حوائجه، ويقبل إشاراته إلى أن توفى الصاحب بهاء الدين رحمه الله وهو على ذلك. وكان الحاج داود حنبلي المذهب، وأصل أجداده من حران. وتوفي ليلة الأربعاء بين المغرب والعشاء في شهر ذى الحجة من هذه السنة، وعمره يومئذ خمس أو ست وتسعون سنة، ودفن في قبر حفره لنفسه في عقبة عمشكا شرقي بعلبك. قال أخي رحمه الله تعالى: ذكر لي أنه أمر أن يحفره هناك رحمه الله تعالى. حدثني ابن عمه الحاج أبو بكر، قال: كنت معه في بستانه باللجوج، وجرى ذكر التتر وما الناس فيه من أمرهم، فقال لي: متى نثرت هذه الفستقة إنكسروا قال: ونحن تحت شجرة فستق. قال:(4/55)
فطلعت إلى ذلك البستان، وتذكرت قوله، وجئت إلى تحت تلك الشجرة، فوجدت ثمرها قد قاربت أن تنثر فلم يبق بعد ذلك إلا دون أسبوع، وكسروا بعين جالوت، وصح قوله رحمه الله تعالى.
عبد الرحمن بن محمد بن عطاء أبو محمد كمال الدين الحنفي. كان من أعيان العدول، كثير الديانة والخير والتعبد، وعنده مكارمه، وحسن عشرة، صحبته في طريق الحجاز الشريف، فوجدته نعم الرجل، وهو أخو قاضي القضاة شمس الدين الحنفي رحمه الله تعالى.
علي بن عمر أبو الحسن الأمير نور الدين الطوري. كان من أبطال المسلمين وشجعانهم المشهورين وفرسانهم المعدودين، وله صيت عظيم عند الفرنج، وله فيهم بالبلاد الساحلية نكايات كثيرة، وآثار جميلة، ومواقف محمودة، جمع الله له بين قوة البدن والقلب، كان.... من حديد، ثقيل الوزن، عظيم القدر، يعجز كثير من الشبان عن حمله، وكان يقاتل به بلا كلنه، وما برح هو وعشيرته مرابطين ببلاد الساحل في وجه العدو سنين كثيرة، وكان من كرماء الناس، ونقل في الولايات الجبلية في عدة جهات من بلاد الشام، ونيف على تسعين سنة، ولم يزل محترماً في الدول، مكرماً عند الملوك يعرفون مقداره، وحضر المصاف الذي بين سنقر الأشقر وعسكر مصر، فجرح في المصاف المذكور ووقع بين حوافر(4/56)
الخليل، وبقي إلى أواخر صفر أو أوائل شهر ربيع الأول، فتوفى بجبل الصالحية، ظاهر دمشق، ودفن بسفح قاسيون رحمه الله تعالى.
عمر بن موسى بن عمر بن محمد بن جعفر أبو حفص محي الدين قاضي غزة وما جمع إليها. مولده سنة ثمان وست مائة، توفي بغزة ليلة الثلاثاء ثالث ذى الحجة، ونقل إلى القدس، ودفن به يوم الخميس خامسه بالمقبرة المعروفة بساهرة، الشمالي القدس رحمه الله تعالى. كان والده حاكماً بغزة مدة سنين، وتولاها محي الدين، واضيف إليه عدة أماكن يستنيب فيها من جهته، وهي: لد، والرملة، وفاقون، وبيت جبرين وغيرها. سمع وحدث ودرس بالمدرسة الصلاحية بالقدس، وكان وافر الديانة، كثير الكرم، لا يكاد يمر بغزة أحد يعرفه إلا ويكارمه، ويضيفه حسبما يمكن، وهو مشهور بالشجاعة والاقدام، وقوة النفس، وله حرمة وافرة في الدولة وكلمة مسموعة، وكان نزهاً عفيفاً حسن السيرة، وعنده تورع كثير. فمن ذلك أني سافرت مع أخي رحمه الله إلى الديار المصرية وأجزنا بالقدس في شهر رمضان المعظم سنة تسع وخمسين وست مائة وهو بالقدس الشريف إذ ذاك. فنزلنا عنده؛ فلما كان وقت الفطر أحضر شيئاً كثيراً من أنواع المأكول، ولم يكن فيه لحم، واعتذر عن ذلك بما معناه أن الشهرزورية لما مر في هذه البلاد في السنة الخالية نهبوا أغنام الناس ومواشيهم، ثم باعوا لأهل البلاد فاختلطت، وتعذر تمييز الحلال من الحرام(4/57)
في ذلك، فتركت اللحم لهذا السبب، وهذا غاية الورع، فقلت له: المولى قد قارب بفعله ما يروى عن أمير المؤمنين، لم نعهد لي بخيلاً. فقال: ما أفعل هذا بخلاً، لكنني منذ قتل عثمان رضي الله عنه ونهبت داره وما فيها لا آكل شيئاً إلا أتحقق حله، وأعلم أصله أو ما هذا معناه. وكان القاضي محي الدين المشار إليه من أصحاب والدي رحمه الله. سمع عليه الكثير ولازمه لما نزل دمشق في أواخر سنة خمس وخمسين، وكان والدي يكرمه ويحبه ويثني عليه. وكان أهلاً لذلك، وحضر عدة مصافات مع الفرنج وحصارات لبلادهم، وله المواقف المشهورة والآثار المذكورة في ذلك رحمه الله تعالى. حكى لي أخي رحمه الله عنه ما معناه، قال: لما قصد الفرنج غزة، جهز إليهم الملك الصالح نجم الدين عسكراً، مقدمه ركن الدين بيبرس الصالحي، وهو من أكابر الأمراء وأعيانهم، ثم بلغه أنهم في كثرة لا يقاومهم العسكر المسير إليهم، فكتب بطاقة إلى ركن الدين مقدم العسكر يأمره بالتأخر، وأنه لا يلقاهم بمن معه إلى حين يصله مدد يقوى به عليهم، وحضر الفرنج، وركب الأمير ركن الدين ومن معه لملتقاهم، ووقف العين في العين، وبقي بين العسكرين مقدار شوط فرس، فحضرت البطاقة إلى ركن الدين في ذلك الوقت، وأنا إلى جانبه فقال لي: تقف على هذه البطاقة وتعرفني مضمونها، فلما وقعت عليها، قلت في نفسي: متى عرفته اندفع، وطمعوا فيه وفيمن معه، والكذب في مثل هذا الموطن(4/58)
فيه مصالح، فقلت له: مضمونها، أنك تجتهد وتفعل ما تصل قدرتك إليه، ولا يهولك كثرتهم. وقلة من معك. وأنتم بين الظفر والجنة، وقلت ما أمكنني في هذا المعنى، فقوى قلبه والتقاهم، وكسرهم الكسرة المشهورة، بحيث أتى على معظمهم قتلاً وأسراً، فقتلوا عن آخرهم، وكانوا الوفا كثيرة فلما انقضى المصاف، هنأته بالنصر، وقلت: لو كان في البطاقة أنك تتأخر عنهم بعد وقوع العين، قال: كنت أتأخر، فأخرجت البطاقة، وقرأتها عليه، فوجم وقال: ما كان يؤمنك والعياذ بالله إن هم كسرونا أين كنت تروح من السلطان؟ قلت: والله والعياذ بالله إن هم كسرونا ما كان يراني السلطان ولا غيره يعني أنني كنت أقتل. وهذا ركن الدين هو أستاذ الأمير عز الدين سم الموت، وعلاء الدين ايدغدى الأعمى، وبيدغان، وقلاجا، وعدة أمراء أكابر رحمهم الله تعالى.
محمد بن أيوب بن أبي رحلة أبو عبد الله شمس الدين الحمصي مولداً ومسكناً، البعلبكي وفاة. كان يحضر بالأشياء اللطيفة، والأشعار الحسنة. قال أخي رحمه الله: أنشدني المشار إليه يوم الجمعة ثالث وعشرين شهر شوال سنة تسع وسبعين وست مائة ببعلبك:
والدهر كالطيف بؤساه وأنعمه ... عن غير قصد فلا تحمد ولا تلم
لا تسأل الدهر في البأساء يكشفها ... فلو سألت دوام البؤس لم يدم
توفى بكرة السبت تاسع وعشرين ذى القعدة من هذه السنة، ودفن من يومه خارج باب القفاعة في مقبرة برتيا رحمه الله.
محمد بن داود بن الياس أبو عبد الله البعلبكي المنعوت بالشمس. سمع(4/59)
الكثير من الشيخ موفق الدين وطبقته، والشيخ تاج الدين الكردي وابن الزبيدي، وحنبل وغيرهم، وخدم وادي رحمه الله تعالى ولازمه واشتغل عليه، وسمع على المشايخ الكبار ما لا يحصى كثرة واسمع، وكان عنده ديانة وافرة وتحر في الشهادات والأقوال، كثير الأمانة والعدالة والعبادة وقيام الليل بالقرآن العزيز. خدم والدي رحمه الله فوق أربعين سنة، وانتفع به دنيا واخرى، وحفظ المقنع، وعرف الفرائض، ورحل في طلب الحديث، وحدث بكثير من مسموعاته. ومولده في جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين وخمس مائة، وتوفى ببعلبك يوم السبت حادي عشر شهر رمضان المعظم، ودفن بالجبل قريباً من قبر سيدنا عبد الله اليونيني رحمه الله تعالى.
محمد بن سالم أبو عبد الله نجم الدين المعروف بقاضي نابلس. كان صدراً رئيساً كاملاً حسن المثاني كريم الأخلاق، مبسوط اليد، له وجاهة عند الملوك، وتقدم في الدول، ترسل عن الملوك وعن الملك الصالح نجم الدين أيوب إلى دار الخلافة، وكانت منزلته كبيرة عنده، وحرمته وافرة لديه. وقد أشرنا إلى ذلك في ترجمة الشيخ نجم الدين عبد الله البادرائي رحمه الله. سمع نجم الدين هذا الحديث واسمعه، وأقعد في آخر عمره، وانقطع عن ولده جمال الدين أحمد قاضي نابلس بها إلى أن توفي في ثالث وعشرين ربيع الآخر، ودفن بنابلس؛ ومولده سنة تسعين وخمس مائة. ووالده القاضي شمس الدين، كان كبير القدر، له مكانة عند الملك الكامل، ولما سلم القدس إلى الأنبرتور(4/60)
سيره معه ليسلم إليه ما وقع الاتفاق عليه بينهم، وبيتهم بيت كبير مشهور بالحشمة والمكارم، ولما ترك قاضي نابلس بأيديهم من سنين متطاولة وإلى الآن، وكان هذا القاضي نجم الدين قد اشتغل، وعنده فضيلة حسنة رحمه الله تعالى.
يحيى بن عبد العظيم بن يحيى بن محمد بن علي أبو الحسين جمال الدين المصري المعروف بابن الجزار. ذكر أن مولده سنة إحدى وست مائة والله أعلم، وتوفى يوم الثلاثاء ثاني عشر شوال بمصر، ودفن بإحدى القرافتين رحمه الله تعالى. سمع أبا الفضل أحمد بن محمد بن الحباب، وروى عنه، وسمع من غيره أيضاً، كان إماماً أديباً فاضلاً، جيد البديهة، حلو المجون، دمث الأخلاق، حسن المحاضرة، وله أشعار كثيرة مدح الملوك والأمراء والوزراء والأعيان وغيرهم، وكان من محاسن الديار المصرية، وله نوادر مستطرفة، ووقائع مستملحة، ومداعبات ظريفة، ومكاتبات إلى الأدباء وغيرهم. كتب إلى قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان في عيد النحر:
مولاي شمس الدين يا من سمت ... با خمصيه الرتب العاليه
يا منعماً راجيه بالندى ... لم يبق في أمواله باقيه
قد أصبع الملوك لا تشتهي ... شيئاً سوى لقياك والعافيه
والعيد عيد النحر قد جاءه ... وهو من الأمرين في ناحيه
لم يلف جزاراً ولا شاعراً ... ولا الحرفة الأولى ولا الثانيه(4/61)
قال أبو الحسن الجزار المذكور: لما قدم الصاحب كمال الدين عمر بن العديم رحمه الله تعالى إلى الديار المصرية، نخبت شيئاً من أشعار أجداده ومضيت به إليه، فصادفت الأمير ناصر الدين حسن بن شاور الكناني، فأخذني وأدخلني الدار، فوجدت عنده السراج عمر الوراق، فتذاكرنا ما كتب من ذلك فقلت:
للصاحب ان في جرادة معشر ... فضلوا الورى في السلم والهيجاء
ببراعة ويراعة ودراسة ... ودراية وخطابة وقضاء
فقال السراج الوراق:
لم يهجو بالشعر إلا حيلة ... منهم على الاحسان للشعراء
يتواضعون لكي يفدى منهم ... حتى كأنهم من الأكفاء
فقلت:
حاكت فزوعهم الكرام أصولهم ... ما أشبه الأبناء والآباء
لهم الفتوة والفتوى إذ هم ... خير الكرام وجلة الأدباء
فقال ناصر الدين حسن بن شاور الكناني:
فاصغ بسمعك حين تتلى أنهم ... ان كنت ذا فهم وذا إصغاء
واسمع لما يوحى هناك من العلى ... وثناء أفعال وطيب ثناء
فقال السراج الوراق:
يصلون بالأدب إحساناً لهم ... كالفجر متصلاً بنور ذكاء
هم دوحة مخضرة الأفنان إن ... حف النداء مخضل الأفناء(4/62)
فقال ناصر الدين حسن بن شاور:
بيت تسامى قدره ومحله ... عن أن يسامى في ندى وغلاء
فيه المواطن والزواهر منهم ... وسل الحيا وكواكب الجوزاء
وللجزار أيضاً من أبيات:
أدركوني فبي من البرد هم ... ليس ينسى وفي حشائي التهاب
ألبستني الأطماع وهماً فها ... جسمي عار ولى قرى وثياب
كلما ازرق لون جسمي من البرد تخيلت أنه سنجاب
وقال أيضاً:
من منصفي من معشر ... كثروا علي وكشروا
صادقتهم وارى الخروج من الصداقة يعسر
كالخط يسهل في الطروس ومحوه يعتذر
ومتى أردت كشطته ... لكن ذاك يؤثر
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
ألا أيها السائل عن قومي وعن أهلي
لقد سائلت عن قوم ... كرام الفرع والأصل
يريقون دماء الأنعام في الحزن والسهل
يرجيهم بنو كلب ... ويخشاهم بنو عجل(4/63)
وقال من أبيات:
تزداد بالذم إسرافاً عراضهم ... وكل أيامهم تشريق
وكتب إلى شرف الدين صاحب ديوان البيوت:
لا تلمني يا سيدي شرف الدين إذا ما رأيتني قصابا
كيف لا أشكر الجزارة ما عشت زماناً وأهجر الآدابا
فيها كانت الكلاب ترجيني ... وبالشعر صرت أرجو الكلابا
وقال أيضاً رحمه الله:
أكلف نفسي كل يوم وليلة ... سروراً على من لا أفوز بخيره
كما سود القصار بالشمس وجهه ... ليجهد في تبييض أثواب غيره
وقال أيضاً وقد ذكر الشواء الشاعر:
إن النجوم وإن تكامل ضوءها ... ليست كشمس الأفق في الأضواء
ومحاسن الجزار في أقواله ... نسيت بذكر محاسن الشواء
وقال أيضاً:
تزوج الشيخ إلى شيخة ... ليس لها عقل ولا ذهن
كأنها في فرشها ورمة ... وشعرها من حولها قطن
وقائل قال لي كم سنها ... فقلت ما في فمها سن
لو سفرت غرتها في الدجى ... ما حسرت تبصرها الجن(4/64)
وقال: وقد توجه إلى عند الأمير شهاب الدين أحمد بن يغمور رحمه الله تعالى يتقاضاه برسم له عليه، وأخذ معه هدية سمك:
لي تهيأت أمور قط ما اتفقت ... قبلي لسوقة مثلي ولا ملك
بالخير يصطاد أسماك البحار وقد ... أصبحت وحدي أصيد الخير بالسمك
وقال: وكتب بها إلى ضياء الدين القرطبي، وأهدى له ابلوجين سكر في قدر نحاس:
وأبيات تسامح حين تلقى القدر نهدين
ففي العربة والعربة ... ما يهدى كهاذين
وبات ليلة في شهر رمضان عند الصاحب بهاء الدين أحمد بن حناء رحمه الله، فصلى عنده التراويح، وقرأ الامام في تلك الليلة سورة الأنعام في ركعة واحدة؛ فقال:
ما لي على الأنعام قدرة ... لا سيما في ركعة واحده
فلا تسوموني حضورا سوى ... في ليلة الأنفال والمائده
وجلس السراج الوراق في باذهنج ينظم فقال الجزار:
إن السراج نسيم الريح يوقظه ... إلى فوائد كالابريز ينتقد
يزيده الريح ايقادا لخاطره ... وما رأينا سراجاً في الهوى يقد(4/65)
وقال يمدح جمال الدين يحيى بن مطروح رحمه الله بقصيدة أولها:
هو ذا الربع ولى نفس مشوقه ... فاحبس الركب عسى أقضي حقوقه
فقبيح بي في شرع الهوى ... بعد ذاك البر أن أرضى عقوقه
لست أنسى فيه ليلات مضت ... مع من أهوى وساعات أنيقه
ولئن أضحى مجازاً بعدهم ... فغرامي فيه ما زال حقيقه
يا صديقي والكريم الحر في ... مثل هذا الوقت لا ينسى صديقه
صبح بدا منك على قلبي عسى ... أن يهدى بين جنبي خفوقه
فاض دمعي مذ رأى ربع الهوى ... ولم فاض وقد شام بروقه
يقد اللؤلؤ من أدمعه ... فغدا ينثر في الترب عقيقه
قف معي واستوقف الركب فإن ... لم يقف فاتركه يمضي طريقه
فهي أرض قلما يلحقها ... آمل والركب لم أعدم لحوقه
طالما استجريت في أرجائها ... من بيته البدر إذ يدعى شقيقه
يفضح الورد احمراراً خده ... ويود الخمر لو يسبقه ريقه
فيه الحسن خليق لم يزل ... والمعالي بابن مطروح خليقه
ولما ورد فخر القضاة ابن بصاقة رسولاً إلى مصر من الملك الناصر داود رحمه الله، دخل عليه وأنشده في قصة جرت له مع صاحب كان يألفه:(4/66)
لمثلها كان رجائي انصرك ... فأدرك فتى من الخطوب في درك
لم أخش خذلاناً وأنت ناصري ... وإنما يخذل من لا استنصرك
عليك يا فخر القضاة عمدتي ... فانظر إلي لا عدمت نظرك
واسأل كما عودتني عن خبري ... بلطفك المعهود حتى أخبرك
هيهات أن أشرح ما قد حل بي ... أن لم يقل حلك لا تخش درك
مثلك من قام بنصر عاشق ... مثلي أن العشق أمر مشترك
فقل من قام بنصر عاشق ... مثلي أن العشق أمر مشترك
فقل لطرف بات مثلي هاجعاً ... يا طرف لا تنس قديماً سهرك
ونار قلبي قد تناسى وجده ... يا قلب خف ذاك الجوى أن يذكرك
ولا يغرنك امهال الهوى ... فالحب قد يأخذ بعد ما ترك
إياك أن تهزأ بالعشق فقد ... أعذرك الآن به من أنذرك
جار على الدهر في أحكامه ... فليته في العذل يقفو إثرك
تم على العبد وأنت هاهنا ... ما لا يتم لو تكون في الكرك
وقال في بعض مشايخ الأدب، وقد أدهن بالكبريت لجرب ظهر به:
أيها السيد الأديب دعاء ... من محب خال من التسكيت
أنت شيخ قد قربت من النار فكيف إذا دهنت بالكبريت
وقال أيضاً:
سر الجفون بديعة الأجفان ... هيهات ينفع مغرماً كتمان
طرف المحب فم يذاع به الجوى ... والدمع إن صمت اللسان لسان
تبكي الجفون على الكرى فأعجب لمن ... يبكي عليه إذا نأى الأوطان(4/67)
أتلفت روحي في رضاك وأنني ... راض بذلك أيها الغضبان
يا مسقمي مهلاً على جسد الذي ... لم يبق فيه للسقام مكان
حاشى معاليك التي أنا عبدها ... أن لا يكون لحسنها إحسان
وقال أيضاً:
أقاموا بأرحاء الحشا عندما ساروا ... فكيف يضام القلب وهو لهم جار
بروحي من ودعتم وبمقلتي ... لتوديعهم ماء وفي كبدي نار
ولست بناسيهم وللقلب نحوهم ... حنين على بعد المزار وتذكار
أيا عاذلي إني وإن بعد المدى ... على عهدكم باق فدعهم وما اختاروا
إذا وصولوا حبلى فبالفضل منهم ... وإن أعرضوا عني فللناس أعذار
ترى ترجع الأيام تجمع بيننا ... وللنفس حاجات إليهم وأوطار
بذكر منهم كل غصن مهفهف ... وكل هلال أشرقت منه أنوار
ولولا تثنيهم وحسن وجوههم ... لما خدعت عيني غصون وأقمار
وقال أيضاً:
بهذا الفتور وهذا الصلف ... يهون على عاشقيك التلف
أطرف قلبي بهذا الجمال ... وأوقعتها في الأسى والأسف
يكلف بدر الدجى إن حكى ... محياك لو لم يشنه الكلف
وقام بعذري فيك العدى ... وأجرى دموعي لما وقف
وقالوا به صلف زائد ... فقلت رضيت بذاك الصلف(4/68)
بجوهر ثغرك ماء الحياة ... فماذا يضرك لو يرتشف
أكاتم وجدي حتى أراك ... فيعرف بالحال من لا عرف
وقال أيضاً:
عاقبتني بالصد من غير جرم ... ومهاجرها بقية رسمي
وشكوت الظمأ من ريقها العذب فجادت ظلماً بمنع الظلم
ورأتني أصبو إلى ذلك الخصر فاهدت منه السقام لجسمي
أنا حكمتها فجارت وشرع الحب يقتضي أن أحكم خصمي
ذات ثغر نحميه من طرفها الفتاك سحر يصبى الفؤاد ويصمي
حدت عنها لما انتضت صارم اللحظ حذاراً من تبوء باثمي
يا زماني أراك من بخلك المفرط وفرت من خطوبك سهم قسمي
لست ممن يرى بذم بني الدهر لمعى والدهر أولى بذمي
قصدتني أيامه ولياليه ... بشهب تعدو على ودهم
وقال منها في المدح:
يا أميراً يرجى ويخشى لبأس ... ونوال في يوم حرب وسلم
أنت موسى وقد تفر عن ذا الخطب فغرقه من نداك بسيم(4/69)
وقال أيضاً:
يا مالك القلب رفقاً ان ثاركفي ... أضالع الصب لا تبقى ولا تذر
فضحت غصن النقا لينا فراح إذا ... ما ماس قدك الأغصان تستر
ما أنكر الطرف أن الشعر منك دجى ... وإنما عزه من وجهك القمر
إني لأعجب من جفن يدير به ... على ندامك خمر وهو منكسر
سمح إذا خل معناه أخا أدب ... فالمدح ينظم والأموال تنتثر
يثنى على فعله أخلاقه وكذا ... يثنى على حسن أفعال الندى الزهر
وقال أيضاً:
وأهيف يحكي الغصن لين قوامه ... ويفعل أفعال الشمول شمائله
يلين إلى أن يخرج الوهم جسمه ... ويعرف في ماء النسيم غلائله
إذا ما بدا من شعره ذوائب ... رأيت غزالاً لا ترعه حبائله
وقال منها أيضاً:
وإن علياً إن أردت مديحه ... لاأعظم قدراً أن تعد فضائله
أقول لشعري مرحباً ليبقيني ... بأن علياً بالمكارم قاتله
وقال يهجو كحالاً رجع صيرفيا:
عهدت أبا البشر الحكيم بطبه ... مدى الدهر ما بين الورى طالب الرزق
فأصبح ذا شغل جديد لأنه ... غدا صيرفياً يصرف العين بالورق
وقال أيضاً:
قفا نبك من ذكرى قميص وسروال ... ودراعة قد عفا رسمهما البالي(4/70)
وما أنا من يبكي لأسماء أن نأت ... ولكنني أبكي على فقر أسمالي
لو أن امرء القيس بن حجر رأى الذي ... أكابده من فرط هم وبلبال
لما مال نحو الخدر خدر عنيزة ... ولا يأت إلا وهو عن حبها سالي
ولي من هوى سكنى القياس عن الهوى ... بتوضح فالمقراة أعظم أشغالي
ولا سيما بالبرد وافى يزيده ... وحالي على ما اعتدت من عسرة خالي
ترى هل تراني الناس في فرجية ... أجربها تيهاً على الأرض أذيالي
ويمشي عدوي غير خال عن الاسى ... إذا بات من أمثالها بيته خالي
وإني قد أسعى لتفصيل جبة ... كفاني ولو أطلب قليل من المال
ولكنني أسعى لمجد يحوجه ... وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
وقال منها أيضاً:
وكم ليلة أستغفر الله منها ... بحد وريق بين ورد وجريال
تبطنت فيها بدر تم مسنف ... ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال
وقال يمدح الصاحب تاج الدين محمد بن حناء رحمه الله من أبيات:
ذو همة يفتخر النجم إذا ... ما لاح من تحت حضيض تربها
وعزمه حين حكته في الوغى ... بيض الصباء تباعدت عن قربها(4/71)
وقال في المداعبات:
حسبي حرافاً يحرفني حسبي ... أصبحت منها معذب القلب
موسخ الثوب والصحيفة من ... طول القسابى ذنباً على ذنب
أعمل في اللحم العشاء ولا ... أنال منه العشاء فما ذنبي
ذاب فؤادي وجسمي قد وسخ ... كأنني في حراري كلبي
وقال في محتجب عنه:
ماذا يفيدك أن تكون محجباً ... ولعبد بات للكريم يلوذ
إن أنت إلا في الحصار معي فلا ... تعب فكل ما حاصره مأخوذ
وأراد الدخول على الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ فضربه البرددار وأخرجه لعدم معرفته به فعمل أبياتاً مزحاً بها:
أمولاي ما من طباعي الخروج ... ولكن تعلمته الخمول
وجئت لبابك أبغي الغنى ... فأخرجني الضرب قبل الدخول
وقال القاضي جمال الدين محمد بن واصل: اجتمعت بالجمال بن عبيد وكنت سمعت أنه دخل دار بعض الأكابر فأخرجه البرددار فقال:
معن ويخرج بعد الدخول ... وأقبح شيء خروج المعنى
ذلك فأنشدته بيت الجزار فأعجبه وقال إلا أنا
أخرجت وما ضربت. وللجزار:
إن كنت ممن راعه هجركم ... أو ضقت ذرعاً بتجنيكم
فلا أدام الله لي سلوة ... ورد قلبي عاشقاً فيكم(4/72)
وأنشدني أيضاً:
لقد رضى الرحمن عن كل منفق ... فما بالنا نلقى رضا الله بالسخط
قبيح على الانسان يعطيه ربه ... بغير حساب وهو يحسب ما يعطي
وقال يمدح الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ رحمه الله:
بذل وجهي إلا لمثلك بذله ... واغتراري إلا بجاهك ذله
يا جواد سحاب كفيه بالجود على كل قاصد مستهله
والذي لو حكاه في دسته ... الفضل بن يحيى سخا يطلب فضله
لي نصفيه تعد من العمر شيئاً غسلتها ألف غسله
لا تسألني عن مشتراها ففيها ... منذ فصلتها نشا يحمله
كل يوم يحوطها العصر والدف ... مراراً وتقر بعمله
نسف الريح صدرها والمرازب ... فباتت تشكو هزاء نزله
أين عيشي بها القديم وذاك التيه فيها وخضرتي والشمله
قال لي الناس حين أطنبت فيها ... بس أكثرت حلها فهي تقله
وأطلق بعض الرؤساء قمحاً مترباً مسوساً فقال:
أتاني برك المقبول براً ... وقصداً للثناء وللثواب
فكدر صفوه الكتال حتى ... عذرنا منه في أمر عجاب
رضيناه وقد وافى عتيقاً ... إلينا فاستحال أبا تراب
وأهدى إلى سراج الدين عمر الوراق تفاحاً وكمثرى ونرجساً، وكان أرمد(4/73)
وبينهما مداعبة وكتب إليه:
أكافيك عن بعض الذي قد فعلته ... لأن لمولانا على حقوقا
بعثت خدوداً مع نهود وأعينا ... ولا غرو أن يحرى الصديق صديقا
وإن حال عنك البعض عما عهدته ... فما حال يوماً عن ولاك وثوقا
بنفسج تلك العين صار شقائقا ... ولؤلؤ ذاك الدمع عاد عقيقا
وكم عاشقاً يشكو انقطاعك عندما ... قطعت على المزار منه طريقا
فلا عدمتك العاشقون فطال ما ... أقمت لأوقات المسرة سوقا
يقبل الأرض، ويسأل بسط عذره في التهجم على مولانا بما هو من وظائفه. والبحث في العلم الذي هو من معارفه. وأنه قد فاق الأصاغر والأكابر، وأنسى الأوائل والأواخر. وعجيب كون مولانا يبدي عند من يباسطه ويداعبه. ويماجنه ويلاعبه. ويصبح متعجباً من هذا السبب المقيل. وهو المتقن لعلم الجليل. وما أظنه عافاه الله بذهيل. عن أن الشباب قد قوضت خيامه. وانقضت أيامه. ومضى ذلك الزمان. ونقص ذلك الادمان. والذي يشكوه مولانا في العين، يشكوه المملوك في الأثر. وما برح المملوك يتكرم به، والله آخذ بيد الكريم إذا عثر. ومولانا يحرض أن لا يتكلف الجواب عن هذه الخدمة خال. ورودها عليه، ولا يجيب المملوك عليها سفاهاً عند مثوله بين يديه، بل إذا صلح مزاجه وتم سروره وابتهاجه. حمى على العباد فيها لعادته، وألقى على المملوك أشعة(4/74)
سعادته. فأجابه سراج الدين المذكور:
أعيني يا بشراكما هجعتما ... وزاد كما طيف الخيال طروقا
وجاء بأمثال الخدود تصرحت ... تذوب نفوس العاشقين خلوقا
يعار بها مثل النهود تحققت ... وكان باهداء النهود حقوقا
ونرجس روض كاللحاظ نواعسا ... وكان جديراً بالنعاس خليقا
وقد جاءنا من جامع الشمل والذي ... بداكم من وجدنا للوصال طريقا
فكم راض من صعب وذلك جامحا ... ولين قاس ورد مروقا
يقبل الأرض وينهي ورود الملجئين من فاكهة، والمتحيين من هديته وهدايته وقد سقاهما در بنابه، وأبدى فيهما عزائم إحسانه. من يده ولسانه. فلثمت تلك الخدود. وضممت تلك النهود. وهممت بالأعين لو أنهن سود. وقد كانت النفوس صدفت عن هذه اللذات. ووقعت بمعزل عن الشهوات، وأنشد:
فانتهى طبه.... عارفه ... يخلط الجد مراراً باللعب
يغلظ القول إذا لانت.... ... ويراجي عند سورات الغضب
رسالة تقود السمع بغير خطام. ويدعوك بالسحر الحلال إلى الأمر، ذلك سهمه. وأعلى في درجات المؤلهين اسمه. ومحا أهل هذه الصناعة، وأثبت رسمه، والعجب أن يتفرس في سبب الرمد. ويعتقد أني وجدت ما وجد. كلا أن الأسباب لتخلف. وإنما لكل أمر ما ألف. والناس تعرف. من أين توكل الكتف. ولا ينجو أحد مع الأوراق مثل هذه الأنحاء(4/75)
ولا يقول له ما أريد إلا من الالجاء أرشد. وفق الله الشيخ للصواب وسدد رأيه تسديد هذا الجواب:
أعانتنا لهذا يا فلان ... تأمل ليس كالخبر العيان
أماني بالنفوس لها خداع ... وليس من الحتوف لها أمان
ومن بعد الحراك لها سكون ... وصمت بعد ما مرج اللسان
أيا من حبذ الآمال ركضا ... بأمن قفي به الأجل العنان
تزوفد زاهر الدنيا ومنها ... جنى ثمر الردى إنس وجان
ويخدع لامس منها بلين ... أيؤمن إذ تميس الاقحوان
محاذر مكرهاً حلا تحاذر ... فما يبقى الشجاع ولا الجبان
لو وضع الزمان لو اتعظنا ... وبالغ في نصائحه الزمان
ونحن على اغترار من هوانا ... وليس مع الهوى إلا هوان
بلغت أبا الحسين مدى إليه ... لمستبق ومستبق رهان
وكنت وطالما قد كنت أيضاً ... تقول ... سيقول كانوا
الأعز القوا في اليوم عمن ... بكته البكر منها والعوان
وسقت بما منعناه حبيباً ... عليه والبيان لها بنان
لها أيضاً لحزن بعد حزن ... وألفنا لدمع لا يصان
واقذاء برفع فوق نعش ... وخفض في اللحود له مكان(4/76)
وناح النحو بعده والمعاني ... لها مع كل نائحة حنان
ولا بذل بحل عنك يرجى ... ولا عطف لمن غدروا وخانوا
فلا تحتج إلى تمييز حال ... لنا حفظت فقد سخن الزمان
ولو رقت بحور الشعر دمعاً ... وكان على الخليل لها الضمان
لما أدت ولا وأبيه حقاً ... ولو بسلوكها نظم الجمان
كفاها ذوقة التقطيع فيما ... يجوزه ويأباه الوزان
ولجج سالكاً في كل بحر ... تعين به الرفاق ولا تعان
فنالت منه فاصلة الرزايا ... ودائرة الحمام ولا اعتنان
ويا أسف البديع على بديع ... وكل فنونه منه افتنان
إذا التفت استطال على جرير ... وأخرس من فرزدقه اللسان
ويستعر استعارته بنار ... وغيلان اسعار به دخان
فلا تنسى به سحبان يوماً ... ولا قسا إذا ذكر البيان
ولو هرم رآه سلا زهيراً ... وكان له عليه ثم شان
وكم عادت محافلنا عكاظاً ... به وله بها ذاك الجنان
فأذنته الملوك فكان منها ... بحيث السمع ينصت والعيان
واسنت من جوائزه فلولا ... غناه غدا نداه يستعان(4/77)
له بالله حالفه وفوق ... يعز به ودرهمه يهان
وفي خير الورى أبيات مدح ... جوائزه عليهن الجنان
وكل بديعة الالفاظ تعزى ... لحسان بدائعها الحسان
جمال الدين أنت جميل ظن ... بربك جل ديا يدان
وعفو الله أكثر من ذنوب ... لنا وعلى الشفيع لنا الضمان
يوسف بن نجاح بن موهوب أبو الحجاج الزبيري المعروف بالفقاعي. هو من أهل عقربا قرية من أعمال نابلس، وله بها زاوية، وكان يتردد إليها في كثير من الاوقات، وله زاوية ورباط بسفح قاسيون. بناه له الامير جمال الدين موسى بن يغمور رحمه الله. كان كثير العبادة والزهد، وحسن التربية، كريم الأخلاق، لطيف الحركات. كثير التواضع، لين الكلمة من المشايخ المشهورين بالعرفان، ولكثير من الناس فيه عقيدة صالحة. وتوفى ليلة الأربعاء بجامع الجبل، واعيد إلى زاويته، فدفن بتربته التي أنشأها جوار زاويته، وقد نيف على ثمانين سنة رحمه الله تعالى. قال الشيخ تاج الدين عبد الرحمن الفزاري رحمه الله تعالى: اجتمعت به فسمعته يقول: الطالب المشيخة جاهل بحقيقة. الأمر مستور عليه، إن أهل الله تعالى يكرمون بها، فيسألون الله تعالى الاقالة. قال: وسمعته يقول: ليس أبناء المشايخ كغيرهم فإن الحاصل للطالب المريد من غيرهم أكثر وأجل فإن أولاد المشايخ عندهم اذلال بآبائهم، فلا تزال نفوسهم مرتفعة، وغيرهم يطلب بالذل(4/78)
والانكسار، وإنما حصل الناس على الخير بهما. قال: وسمعته يقول: لقد جرى لهؤلاء الذين عندي وقت اجتهدت على ادخال أولادي فيه بكل طريق فلم أقدر. قال: وسمعته يقول: إنما نهى الشيخ الشخص من صحبة غيره إذا كان مريداً مشتغلاً قد سلكه. وعرف مزاجه، لأنه ربما لاذ بجاهل لحاله ففسد عليه امره، ومثال هذا كالمريض الذي له طبيب قد خبر عليه، وعرف دواءها، وعالجها مدة، ولو شاركه في تعليله طبيب آخر، ربما أدى إلى هلاك المريض. وقال: وسمعته يقول: كان ابن محمد يرى الغنم مدة طويلة لم يأخذ الذئب له شيئاً قط، فلما كان بعد تلك المدة أخذ الذئب منه سخلة، فقلت له: قد أخذت شيئاً فأنكر، فكشفت عن حاله فإذا به قد أكل طعاماً من وقائع بعض الصبيان الرعيان، فقلت بهذا أخذ الذئب منك ما أخذ.
أبو بكر بن محمد بن إبراهيم عرش الدين الاربلي. كاد ديناً خيراً صالحاً، حسن العقيدة، كثير الذكر والتلاوة، عنده فضيلة تامة، ومعرفة بالنحو والعربية. وحل المترجم، مقتدر على نظم الشعر، وعمل الألغاز. ومن نظمه الألفية في الألغاز المخفية. وهي ألف لغز في ألف اسم. توفى بدمشق ليلة الجمعة ثالث عشر ذى القعدة سنة تسع وسبعين وست مائة، وصلى عليه بالجامع الأموي بعد صلاة الجمعة، ودفن بمقابر الصوفية رحمه الله تعالى.
وله أشعار كثيرة، فمنها:
قلت لما بدا بيته كبدر ... فوق غصن على كثيب مهيل(4/79)
عجباً من سقام حصر نحيل ... كيف يقوى لحمل ردف ثقيل
ومريض الأجفان بلبل عقلي ... بعذار من فوق خد أسيل
جؤذري اللحاظ حلو الثنايا ... طاب سقمي في حبه ونحولي
مقلة الروم من بني الروم رام ... بسهام تصمى قلوب الفحول
ما عليه لو جاد لي برضاب ... من لماه عساه يشفى غليلي
أو عساه يرد قلباً رهيناً ... في يديه من وقت يوم الرحيل
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
ولى رشأ أحوى حوى الحسن كله ... بمشرف صدغيه بمائل قده
تبدى فخلنا البدر تحت لثامه ... وماس فخلنا الغصن في طي برده
وقفت له أشكو إليه توجهي ... وما نال قلبي من مرارة صده
وسعرت الأنفاس نار صبابتي ... فمن حرها أثر الحريق بخده
ولولا ارتشافي من برود رضابه ... لأحرقت نبت الآس من حول ورده
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
ما زال يرميني بكل بلية ... ويتحفني من هجره بالعظائم
إلى أن رماه الله بالحب بغتة ... وأصغر ممشاه إلى غير راحم
وقفت له كالمشفى في طريقه ... وأنشدته بيتاً كضرب الصوارم
وقد كنت أرجو ان أراك معذباً ... بنار الهوى يشجيك نوح الحمائم
وقلبك ملآن من الهم والأسى ... وطرفك مسلوب الكرى غير نائم
بليت بما قد كنت لي مبتلى به ... ولا ظالماً إلا سيبلى بظالم(4/80)
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
لا تائسي يا نفس إن عتبت بنا ... أيدي الخطوب وخانت الأيام
وتضايقت أوقاتنا فلربما انفرجت شدائدنا ونحن نيام
كم قد رأينا من مريض فصلوا ... أكفانه حر عليه همام
يشفى وقام ومات من قد فصلوا ... أثوابه للعيد وهو مهام
والدهر يرفع الفتى ويحطه ... والعمر فيه صحة وسقام
والبدر يكمل بعد نقصان به ... ويحل فيه النقص وهو تمام
والموت يأتي بعد ذاك وتخرب الدنيا ويذهب بعدها الأقوام
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
شبت وجزت السبعين وارتحل ... الصبى فصبحي من بعده غلس
لا معدتي تقطع الطعام ولا ... الوسيط فيه روح ولا نفس
فكيف يرجو طيب الحياة أخو ... شيب بيوت السقام يلتمس
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
أقول إذا عزى جزع لقلبي ... لبعدكم وضاق بي الفضاء
ولم أملك لوقع البين صبراً ... أعيش به إذا غلب الهواء
تصبر أيها القلب المعنى ... وكن راض بما حكم القضاء
وقال أيضاً في السلو:
ها أنت قد سلوت ولد طرفي بالكرى ... وسمعت من قول العواذل ما جرى
وأجابني قلبي إلى سلوانكم ... وأبت جفوني بعدكم ان تسهرا(4/81)
بناكم بنتم وخنا مثلما ... خنتم وها حبل الوداد انبرا
كذب الذي قال البعاد مرارة ... ما ذقت طعم البعد إلا سكرا
إني لأبغض من يمر بذكركم ... متعرضاً وأراه شيئاً منكرا
ما في فؤادي موضع لعتابكم ... كلا ولا بحديثكم أن يذكرا
أنا قد سلوتكم وكنتم أضلعي ... فيعلم العادي ويدري من درا
وقال أيضاً في هذا المعنى:
سطا جيش السلو على غرامي ... وكنتم بعد فترتها عظامي
أناس كنت اعشقهم قديماً ... وأهجر فيهم سمع الملام
تناسوا بعد وصل واتفاق ... وبانوا بعد قرب والتيام
وطنوا بعد حسن الظن فيهم ... على الصب المتيم بالسلام
ولما أن نأوا عني عنادا ... بلا جرم ولم يرعوا ذمامي
رفضت هواهم وسلوت عنهم ... بلا جزع كذا فعل الكرام
وها أنا قد هجرت النوم كيلا ... أرى منهم خيالاً في المنام
ولو أن الليالي ساعدتني ... جعلت بغير أرضهم مقامي
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
ومورد الوجنات معسول اللمى ... يزهو كغصن الثاية المياس
ريان من ماء الشباب معقرب ... الصدغين قد جعل السقام لباسي
ساجي اللحاظ مريضة أجفانه ... عذب المراشف طيب الأنفاس
لما رأى ورد الملاحة تجتني ... باللحظ سبح خده بالآس(4/82)
عجباً له حمل الثياب وجسمه ... كالماء كيف يضمر قلباً قاسي
ما زال يعذلني عليه عاذلي ... ويزيد في عذلي وينقب رأسي
حتى رآه فصار من عشاقه ... فأقام عذري فيه بين الناس
فإذا انثنى خلناه غصن اراكة ... وإذا دنا خلناه ظبي كناس
أنا من هواه من الصبابة في غنى ... ومن التصبر عنه في إفلاس
يبدو فتحسبه هلالاً مشرفاً ... من تحت طرة شعره الدعاس
وقال أيضاً في الشيب:
قل للذي لبس السواد والبس الشعر السوادا
ضيعت عمرك في المحال ولم تنل أبداً مرادا
لو مت في رجع الشباب ولو فرشت له الرمادا
وزمان لهوك والصبا ... ولى وارائك الكسادا
أفسدت صنعتها وما ... حب الفساد فنى فسادا
فافعل بنفسك ما تشا ... واجعل لك الاحزان زادا
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
بنفسي حبيب كامل الحسن وافر ... الجمال سريع السخط عند عقوقه
إذا ماس حار الغصن من شرف به ... وإن لاح غار البدر عند شروقه
فما السحر إلا من نفاثة طرفه ... وما الخمر إلا من سلافة ريقه
لقد عمه بالحسن خال بخده ... تحامى عن الازهاء فوق شقيقه
على مثله يرض أخو الشكر هتكه ... ويجفو الصديق المرتضى لصديقه(4/83)
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
يا كامل الحسن الذي ... حزني طويل فيه وافر
أمرضتني بجفونك المرضى الصحيحات الفواتر
وقبلتني بالحال وهو سواد عيني فيه حائر
وأسلت بالخد الأسيل الدمع من أنف النواظر
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
الحمد لله إني في مجاهدة ... مما أقاسي وحسبي ذاك يكفاني
إني لأعجب من حال ولا عجب ... من أمروي فليت الله عافاني
أموت في الليل من داء يكابده ... قلبي واحيى إذا ما الصبح وافاني
والعمر ينقص والآمال زائدة ... والحرص يأمرني والشيب ينهاني
ولست أبغي سوى عفو ومغفرة ... من الاله إذا ما الموت فاجأني
فإن بلغت الذي أرجو وآمله ... زالت همومي وأوجاعي وأحزاني
وقال وذكر أسماء جماعة من الخدام:
قد مضى عنبر وولى ... وتولى من بعده كافور
وغدا جوهر الصبا ورشيق القد مني انحنى وعيش مرير
فصديقي بكى لذاك عفيف ... لما رأى ومسرور
كدر العيش بعد ما كان صافي مذ أتاني من المشيب نذير
فانحرافي عن الملاهي صواب ... وانصرافي عن الغرور سرور
واكترافي بخالص العمل المرضي فمثقال ذرة مسطور(4/84)
والهدايا تهدى لم شكر ... الله ومسعاة صالح مسرور
ويجازي في الحشر روح وريحان فذو العرش منصف وغفور
يا صبيح الوجه اتعظ بمقالي إن اقبالاً فضله مشهور
ما يفي ما أقول إلا رشيد ... فهو هاد ومرشد ونذير
وقال رحمه الله تعالى:
رنا نافراً عنا كخشف غزال ... وماس فخلنا الغصن تحت هلال
وأسبل ليلاً من غدائر شعره ... وأبدى بذاك الشعر نور كمال
رب الجمال قد حاز في الحسن خده ... ورب جمال فاق كل جمال
يزيد سواد العين في صحن خده ... فتحسبه خالاً فليس يخال
واعجب من ذا أن من رقة به ... يؤثر فيه وهو طيف خيال
أبو بكر بن هلال بن عباد عماد الدين الحنبلي الحنفي، معيد المدرسة الشبلية. كان عالماً صالحاً منقطعاً عن الناس، مشتغلاً بنفسه وأشغاله، ونفع لمن يقرأ عليه، ومولده في العشرين من شهر رجب سنة خمس وسبعين وخمس مائة، وتوفى في تاسع عشر رجب من هذه السنة أعني سنة تسع وسبعين وست مائة، وكمل له مائة سنة وأربع سنين. روى عن ابن الزبيدي وروى بالاجازة العامة عن السفلي، وحدث رحمه الله تعالى.
أبو القاسم بن محمد صفي الدين الحنفي والد قاضي القضاة صدر الدين علي قاضي دمشق، كان كبير السن خيراً صالحاً، منقطعاً ببصرى، وكانت وفاته بها ليلة نصف شعبان رحمه الله تعالى.(4/85)
أبو بكر سيف الدين المعروف بابن اسباسلار. ولى مصر مدة سنين ثم ولى القاهرة في آخر عمره، وكان عنده فتوة، ومروءة، تعصب، وكرم مفرط، ومحبة للفقراء، واعتقاد في المشايخ، وبر لهذه الطائفة، وله في تكرمه غرائب تفرد بها في وقته، وكان حصل له سمن مفرط جداً، وعانى شدة، وأشار عليه الأطباء بعدم النساء متى استعرف النساء ولى عليه التلف فبقي مدة لم يقربها، وتوفى في شهر ربيع الأول بمصر، ودفن بإحدى القرافتين، وهو في عشر الستين رحمه الله تعالى.
السنة الثمانون وستمائة
استهلت يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من نيسان، والخليفة والملوك على القاعدة المستقرة في السنة الخالية، والملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله نازل على منزلة البروحا من عمل الساحل بعساكره.
وفي يوم الخميس عاشر المحرم رحل منها ونزل اللجون، وعاد رسوله من عكا صحبه من صحبه من رسل الفرنج من عكا والمرقب، فاستحضرهم يوم الجمعة حادي عشره بمنزلة اللجون بحضور الأمراء، وسمع رسالتهم، وحصل الاتفاق، وحلف الملك المنصور على الصورة التي وقع الاختيار عليها، واقتضتها المصلحة، وانبرم الصلح، وانعقدت الهدنة.
وفي يوم الأحد ثالث عشره قبض الملك المنصور على سيف الدين كوندك الظاهري وعلى جماعة من الأمراء الظاهرية لمصلحة اقتضاها بمنزلة(4/86)
حمراة بيسان وقت الظهر بالدهليز، وعند قبضهم هرب الأمير سيف الدين بلبان الهاروني، ومعه جماعة، وقصدوا صهيون، وركبت الخيل في طلبهم فلم يدركوهم.
وفي ليلة الأربعاء سادس عشره هرب الأمير سيف الدين ايتمش السعدي، ومعه جماعة إلى صهيون من منزلة خربة اللصوص، وركبت في طلبهم جماعة من الأمراء، منهم الأمير ركن الدين بيبرس الناصري المعروف بطقصو، فأدركه، وجرح طقصو، ولم يقدر على رده فعاد عنه.
وفي يوم السبت تاسع عشره دخل الملك المنصور سيف الدين قلاوون دمشق ونزل بقلعتها، وخرج الناس كافة إلا من قل لتلقيه.
وفي عشية يوم الاثنين تاسع وعشرين منه صرف قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله عما كان يباشره من الحكم بالبلاد الشامية، وولى القضاء عز الدين محمد بن عبد القادر المعروف بابن الصائغ عوضه.
وفي العشر الأول من صفر ترتب بدمشق حاكم على مذهب الامام أحمد ابن حنبل رحمة الله عليه بعد خلوها منه مدة، والذي ولى القضاء نجم الدين أحمد بن الشيخ شمس الدين عبد الرحمن بن الشيخ أبي عمر المقدسي.
وفيه خرج قطعة جيدة من العسكر، مقدمهم الأمير علاء الدين كشتغدى الشمسي، وأعقبهم مجانيق عدة جهزت على العجل لحصار شيزر.
وفي العشر المذكور من صفر أيضاً ولى بحلب وأعمالها القاضي تاج الدين يحيى بن محمد الشافعي مستقلاً من جهة الملك المنصور.(4/87)
وفي هذا الشهر جاء الملك المنصور صاحب حماة إلى دمشق لخدمة السلطان الملك المنصور والسلام عليه، فخرج لتلقيه في موكبه، ونزل بداره المعروفة بابن المقدم داخل باب الفراديس، وترددت الرسائل بين الملك المنصور وشمس الدين سنقر الأشقر في تقرير قواعد الصلح، فلما كان يوم الأحد رابع ربيع الأول، وصل من جهة سنقر الأشقر الأمير علم الدين الدويداري، ومعه خزندار سنقر الأشقر في معنى إبرام الصلح والوقوف على اليمين، فحلف الملك المنصور يوم الاثنين خامسه، ونادت المنادية في دمشق بانتظام الصلح واجتماع الكلمة، فرجع الذين حضروا من جهة سنقر الأشقر، وصحبتهم الأمير فخر الدين اياز المقرى ليحضر يمين شمس الدين سنقر الأشقر، فحلفه، وعاد إلى دمشق يوم الاثنين ثاني عشره فضربت البشائر بالقلعة، وسر الناس بذلك غاية السرور، وصورة ما انتظم عليه الصلح: أن سنقر الأشقر يرفع يده عن شيزر، ويسلمها إلى نواب الملك المنصور وعوضه عنها فامية، وكفرطاب، وأنطاكية، والسويدية، ولا سفر، وبكاس، ودركوش بأعمالها كلها، وعدة ضياع معروفة، وأن يقيم على ذلك، وعلى ما كان استقر بيده عند الصلح، وهو: صهيون وبلاطنس، وحصن مرزية، وجبلة واللاذقية، وست مائة فارس، وخوطب بالمقر العالي المولوي السيدي العادلي الشمسي، ولم يصرح في مخاطباته بالملك ولا بالأمير، وكان يخاطب قبل ذلك في مكاتباته من الملك المنصور بالجناب العالي الأميري الشمسي.(4/88)
وفي العشر الأوسط منه دارت الجهة المفردة بدمشق وأعمالها، وضمنت، وأقام لها ديوان، ومشد، وكانت أبطلت من الشام في الأيام الظاهرية من مدة تزيد على خمس عشرة سنة، وأعيدت هذه الحالة في الديار المصرية قبل هذا التاريخ بمدة، فلما كان يوم الأحد الخامس والعشرين منه، خرج مرسوم السلطان بإبطال الجهة المفردة من دمشق، والبلاد الشامية، وباراقة الخمور، وإقامة الحدود على مرتكب ذلك، وبتعظيم الانكار في ذلك، فركب الولاة، وطافوا على مظان ذلك بدمشق وظاهرها، وأراقوا الخمور، وأزالوا ما يناسب ذلك، وشددوا غاية التشديد في ذلك، وتضاعفت الأدعية للسلطان على ذلك.
وفي بكرة يوم الأحد تاسع وعشرين منه عادت العساكر الشامية بكمالها، ويسير من العساكر المصرية من جهة سيزر إلى دمشق للاستغناء عنهم بالصلح. وفي اليوم المذكور انبرم الصلح بين الملك المنصور سيف الدين قلاوون والملك المسعود نجم الدين خضر بن الملك الظاهر صاحب الكرك، وحلف الملك المنصور على الصلح بما استقر عليه الحال، ونادت المنادية بذلك، ففرح الناس باجتماع الكلمة، ولله الحمد.
وفي الشهر المذكور قبض بالديار المصرية على وزيرها برهان الدين السنجاري، وصرف عن الوزارة، واعتقل بقلعة الجبل، وكان قد تقدم بأيام قلائل، قبض ولده وحاشيته، وخواصه، وأتباعه، وغلمانه، وحبسوا عن آخرهم، وطولب برهان الدين بمال كثير.(4/89)
وفي العشر الوسط منه عاد الملك المنصور ناصر الدين صاحب حماة إلى حماة، وخرج السلطان لوداعه إلى القابون.
وفي يوم الأربعاء تاسع عشر ربيع الآخر وصل إلى ظاهر دمشق زوجة الملك الظاهر ابنة بركة خان الخوارزمي من الكرك، وصحبتها تابوت ولدها الملك السعيد ناصر الدين محمد رحمه الله نقل من مشهد جعفر الطيار رضي الله عنه، فلما كان ثلث الليل من ليلة الخميس العشرين منه استبقى تابوته بالحبال من الصور الذي لباب الفرج، وحمل إلى تربة أبيه الملك الظاهر، أنزلوه من ساعته على ضريح والده بالتربة المذكورة رحمهما الله تعالى، ونزلت والدته بدار صاحب حمص تجاه المدرسة العزيزية، وأكرمت غاية الاكرام، وأجرى لها الاقامات الوافرة.
وفي بكرة الجمعة حادي وعشرين منه عقد عزاءه بالتربة المذكورة وحضر الملك المنصور سيف الدين قلاوون، وأعيان الأمراء وأرباب الدولة، والوعاظ والقراء.
وفي يوم الخميس العشرين من جمادى الأولى أحضر إلى الملك المنصور سيف الدين، وهو بالميدان الأخضر أمير منكوتمر بن هولاكو أسير تحت الحوطة، وأخبر أن التتر على عزم الحركة والركوب، فخرج أمر السلطان من ساعته بعرض الجيوش والاهتمام بأمر الجهاد، وملتقاهم، وكان المذكور أسره الكشافة الذي للسلطان من كينوك.
وفي يوم السبت ثامن عشر جمادى الآخرة وصل إلى دمشق خلق عظيم(4/90)
من العربان صحبة الأمير شهاب الدين أحمد بن حجي ملك العرب ببرية الشام والحجاز، وعبر معهم نجدة الملك المسعود صاحب الكرك في تجمل عظيم، وكان الملك المنصور ققد تقدم إلى جميع الأطراف بالحضور إلى دمشق بسبب قرب العدو من أطراف البلاد، وحضر في هذا الشهر أيضاً من تأخر من العساكر بالديار المصرية، ولم يتأخر أحد من العربان والتركمان وسائر الطوائف وكثرت الأراجيف بقرب العدو، وخرجت العساكر في هذا الشهر كل يوم طائفة بالعدد.
وفي العشر الوسط منه تقدم العدو إلى أطراف حلب، فخلت حلب من أهلها وجندها، ونزحوا إلى جهة حماة وحمص، وتركوا الغلال، والحواصل، والأمتعة، وخرجوا جرائد على وجوههم، وترادف لذلك خروج العساكر من دمشق.
وفي العشر الآخر منه وصل منكوتمر بن هولاكو إلى عين تاب وما جاورها من المرج، ونازلت طائفة منهم قلعة الرحبة يوم الأحد سادس وعشرين منه نحو ثلاثة آلاف فارس. وكان ابغا ملك التتر معهم مستخفياً بنواحي الرحبة على شاطئ الفرات ينتظر ما يكون من الملتقى.
وفي يوم الأحد سادس وعشرين منه خرج الملك المنصور سيف الديت قلاوون بنفسه من دمشق، وخيم بالمرج، ولم يتخلف أحد من العساكر والجموع بدمشق، ووصل العدو إلى بغراس، وقنب الخطيب بجامع دمشق، وسائر الأئمة في الصلوات.(4/91)
وفي يوم الخميس سابعه رحل السلطان من المرج لاحقاً بالعساكر المتقدمة إلى ظاهر حمص.
وفي هذا الشهر وهو جمادى الآخرة خرج مرسوم الملك المنصور سيف الدين قلاوون بأن يعرض على أهل الذمة من المستوفيين والدواوين الاسلام، فان أبوا صلبوا، فجمع جماعة من ديوان الجيش والمستوفيين نصارى وسامرة، وعرض عليهم الاسلام فأبوا، فأخرجوا إلى سوق الخيل ظاهر دمشق، ونصبت لهم المشانق، وجعلت الحبال في أعناقهم فأسلموا، وأحضروا إلى الحاكم بدمشق، فجددوا إسلامهم على يده.
وفي يوم الأحد ثالث شهر رجب نزل السلطان وجميع العساكر والجموع على حمص، وراسل سنقر الأشقر بالحضور إليه بمن عنده من الأمراء والعسكر، وكذلك الأمير سيف الدين ايتمش السعدي ومن معه، فوصل سنقر الأشقر أولاً واجتمع بالسلطان، واستحلفه لسيف الدين ايتمش يميناً ثانية ليزداد طمأنينة، ثم أحضره، وتكامل حضورهم يوم الجمعة ثامن رجب، وحصل الاجتماع والاتفاق على العدو المخذول، وعومل سنقر الأشقر ومن معه بالاحترام التام، والخدمة البالغة، والاقامات العظيمة والرواتب.
وفي بكرة الأربعاء ثالث عشره فزع الناس كافة إلى جامع دمشق بالضعفاء والصغار والشيوخ متضرعين إلى الله تعالى في نصرة الاسلام وهلاك عدوهم، وأخرج المصحف الكريم العثماني وغيره من المصاحف العظيمة على رؤوس الناس، وصحبتها الخطيب والقراء والمؤذنون إلى المصلى(4/92)
بقصر حجاج يسألون الله تعالى النصر والظفر، وكذلك فعل أهل بعلبك وصعدوا إلى ضريح الشيخ عبد الله اليونيني رحمه الله.
وفي هذه الأيام ما برحت التتار تتقدم قليلاً قليلاً على خلاف عادتهم، فلما وصلوا إلى حماة فسدوا في ضواحيها، وشعثوا وأحرقوا بستان الملك المنصور صاحبها، وجوسقه، وما به من الأبنية، وعسكر المسلمين بظاهر حمص على حاله، فلما كان يوم الخميس رابع عشره التقى الجمعان عند طلوع الشمس، وكان عدد التتار على ما قيل مائة ألف فارس أو يزيدون، وعسكر المسلمين على مقدار النصف من ذلك أو أقل، وتواقعوا من ضحوة النهار إلى آخره، وكانت وقعة عظيمة لم يشهد مثلها في هذه الأزمان، ولا من سنين كثيرة، وكان الملتقى ما بين مشهد خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى الرستين والعاصي، واضطربت ميمنة المسلمين، وحمل التتار على ميسرة المسلمين، فكسروها وانهزم من بها، وكذلك جناح القلب الأيسر، وثبت الملك المنصور سيف الدين قلاوون في جمع قليل بالقلب ثباتاً عظيماً، ووصل جماعة كثيرة من التتر خلف المنكسرين من المسلمين إلى بحيرة حمص، وأحدق جماعة من التتر بحمص، وهي مغلقة الأبواب، وبذلوا نفوسهم وسيوفهم في من وجدوه من العوام، والسوقة، والغلمان، والرجالة المجاهدين ظاهرها، فقتلوا منهم جماعة كثيرة، وأشرف الاسلام على خطة صعبة، ثم أن أعيان الأمراء ومشاهيرهم وشجعانهم؛ مثل شمس الدين سنقر الأشقر، وبدر الدين بيسرى، وعلم الدين الدويداري، وعلاء الدين طيبرس الوزيري، وبدر الدين(4/93)
أمير سلاح، وسيف الدين ايتمش السعدي، وحسام الدين لاجين المنصوري، والأمير حسام الدين طرنطاى وأمثالهم لما رأوا ثبات السلطان ردوا على التتار وحملوا فيهم عدة حملات فكسروهم كسرة عظيمة، وجرح منكوتمر مقدمهم، وجاءهم شرف الدين عيسى بن مهنا في عربة عرضا، فتمت هزيمتهم، وقتلوا مقتلة عظيمة تجاوز الوصف، واتفق أن ميسرة المسلمين انكسرت كما ذكرنا والميمنة ساقت على العدو، ولم يبق مع السلطان إلا النفر اليسير، والأمير حسام الدين طرنطاى قدامه بالسنجقية، فعادت الميمنة الذين كسروا الميسرة في خلق عظيم، ومروا به وهو في ذلك النفر اليسير تحت السناجق، والكوسات تضرب، ولقد مررت به في ذلك الوقت، وما حوله من المقاتلة ألف فارس إلا دون ذلك، فلما مروا به ثبت لهم ثباتاً عظيماً، فلما بعدوا قليلاً ساق عليهم، فانهزموا لا يلوون على شيء، وكان ذلك تمام النصر، واكن انهزامهم عن آخرهم قبل الغروب، وافترقوا فرقتين، ففرقة أخذت جهة سلمية والبرية، وفرقة جهة حلب والفرات. فلما انقضى الحرب في ذلك النهار عاد السلطان إلى منزلته.
وفي بكرة يوم الجمعة خامس عشره جهز السلطان وراءهم جماعة كثيرة من العسكر والعربان، مقدمهم الأمير بيليك الايدمري؛ ولما ماج الناس نهب المسلمون من الأقمشة، والأمتعة، والخزائن، والسلاح ما لا يحصى كثرة، وذهب ذلك كله، أخذه الحرافشة والغلمان وغيرهم.
وبعد صلاة الجمعة خامس عشره جاءت بطاقة إلى دمشق من القريتين(4/94)
يتضمن الظفر والنصر وانهزام العدو، فضربت البشائر على قلعة دمشق وسر الناس، وزينت القلعة والمدنية، وأوقدت الشموع. فلما كان ليلة السبت سادس عشره بعد منتصف الليل وصل إلى ظاهر دمشق جماعة كثيرة من جيش المسلمين منهم جماعة من الأمراء الأعيان، وأخبروا بما شاهدوه في أول الأمر وأن الكسرة كانت عليهم، ولم يعلموا ما تجدد بعدهم بعدهم، فحصل لأهل البلد قلق عظيم وخوف شديد، وتجهز منهم خلق للهزيمة، وفتح بعض أبواب الميدنة، ولم يبق إلا الشروع في الانتزاح، فوصل في تلك الساعة بريدي من جهة السلطان يخبر بالنصر، وكان وصوله عند آذان الصبح، فقرئ كتاب السلطان المتضمن البشارة في تلك الساعة بالجامع، فطابت قلوب الناس، ثم ورد بريدى آخر موكداً لما جاء به الأول فتكامل السرور، وتم الأمن، وعاد الناس إلى ما كانوا عليه من الزينة، ومضمون بعض الكتب الواردة: نصر من الله وفتح قريب، وبشر المؤمنين، صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس، نعلمه أننا صربنا مصافاً مع العدو المخذول على ظاهر حمص في يوم الخميس رابع عشر رجب الفرد سنة ثمانين وست مائة، وكان العدو المخذول على ظاهر حمص في مائة ألف فارس أو يزيدون، والتحم القتال من ضحوة النهار إلى غروب الشمس، ففتح الله ونصر، وساعدنا بمساعفة القدر، ونصرنا، والحمد لله على أن أذل الأعداء وكسرهم، وظفر المسلمون ونصرهم، وكتابنا هذا والنصر قد ضربت بشائره، وحلق طائره وامتلأت القلوب سروراً، وأولى الله الاسلام من تفضله علينا وعليهم(4/95)
خيراً كثيراً، والمجلس فيأخذ حظه من هذه البشرى العظيمة، ويتقلد عقودها النظيمة، والله تعالى يخصه بنعمه العميمة إن شاء الله تعالى، وأجلت هذه الوقعة عن قتل جم غفير من التتر لا يحصون كثرة، واستشهد من عسكر المسلمين دون المائتين على ما قيل. منهم الحاج ازدمر، وسيف الدين الرومي، وشهاب الدين بويل الشهرزورى، وعز الدين بن النضر، من بيت اتابك صاحب الموصل المشهور بالسيرة المفرطة، والبأس الشديد والصرامة، وكان يسكن جبل الصالحية، وغيرهم رحمهم الله أجمعين وسنذكر أعيانهم إن شاء الله تعالى.
ثم إن السلطان انتقل من منزلته بظاهر حمص إلى البحيرة التي لها ليبعد عن الجيف ثم توجه عائداً إلى دمشق، فدخلها يوم الجمعة الثاني والعشرين منه قبل الصلاة، وخرج الناس إلى ظاهر البلد للقائه، ودخل بين يديه جماعة من أسرى التتار، وبأيديهم رماح، عليها شعف رؤوس القتلى منهم، وكان يوماً مشهوداً، ودخل في خدمته جماعة، منهم: سنقر الأشقر، والأمير سيف الدين التميش السعدي والامير علم الدين سنجر الدواداري وسيف الدبن بلبان الهاروني وغيرهم، ودخل قلعة دمشق، وكان سنقر قد ودعه من حمص، وعاد إلى صهيون. ولما استقر الملك المنصور بدمشق. جرد عسكراً عظيماً إلى الرحبة لدفع من عليها من التتر. فلما كان يوم الاثنين خامس وعشرين منه وصلت قصاد الرحبة، وأخبروا برحيلهم عنها في يوم الجمعة ثاني وعشرين منه، ووصل الأمير بدر الدين الايدمرى(4/96)
دمشق بمن معه من العسكر عائداً من تتبع التتار. وقد أنكى فيها نكاية عظيمة، ووصل إلى حلب وأقام بها وسير أكثر من معه فتبعوهم إلى الفرات فهلك منهم خلق عظيم، غرقوا بها عند عبورهم، وأنكوا فيهم نكاية عظيمة، وتفرقت شملهم، وما برحت الأسرى في هذه الأيام متواصلة إلى دمشق، والأخبار مترادفة بما نالهم من الضعف والمشقة، وهلاك خيولهم، وتخطف أهل البلاد لهم، وأنهم تمزقوا في البراري والجبال وهلكوا جوعاً وعطشاً.
وفي يوم الأحد ثاني شعبان خرج الملك المنصور من دمشق متوجهاً إلى الديار المصرية، وخرج الناس لوداعه مبتهلين بالدعاء له، ودخل الديار المصرية يوم السبت ثاني وعشرين منه، وعقيب وصوله اعتقل الأمير ركن الدين اباجى الحاجب، وبهاء الدين يعقوب مقدم الشهروزورية بقلعة الجبل.
وفي سلخه باشر الأحكام بالقاهرة ومصر وأعمال الديار المصرية القاضي وجيه الدين البهنسي الفقيه الشافعي.
وفي هذا الشهر بعد سفر السلطان ترتب الأمير علم الدين سنجر الدوادارى مشدا على الدواوين بالشام منطلق في المهام، والمصالح، والأموال، والاستخدام والعزل، وله مشاركة في الجيش، وكان خرج مع السلطان، ووصل معه إلى قريب غزة، ثم عاد من خدمته على هذه الصورة، وعين له خبز سبعين فارساً.(4/97)
وفي يوم الأحد سابع شهر رمضان المعظم فتحت المدرسة الجوهرية وذكر بها الدرس قاضي القضاة حسام الدين الحنفي وذلك في حياة منشئها وواقفها نجم الدين محمد بن عباس بن مكارم التميمي الجوهري وهو بقرب المدرسة الريحانية بدمشق.
وفي سحر يوم الأربعاء عاشره وقع بدمشق ثلج كثير بهواء عاصف، وبقى إلى ضحى يوم الخميس مستمراً بحيث بقى على الأرض منه في بعض الأماكن قريب نصف ذراع، وكان قارنه برد مفرط يلبس، وجليد، وطالت مدة بقائه على الأرض وضعفت الخضروات، وفسدت الفواكه من الجليد في المخازن، وأما بعبلك فجمد فيها كيزان الفقاع، وذلك غير منكر بها، وأما دمشق فقل أن يقع بها الثلج على هذه الصورة.
وفي شوال وصل إلى دمشق صاحب سنجار مقفراً من جهة التتر في طاعة الملك المنصور سيف الدين قلاوون، وكان وصوله بأهله وحريمه وأمواله، فخرج نائب السلطنة لتلقيه، واحترمه، ثم جهزه إلى الديار المصرية.
وفي شوال أيضاً استفتى أهل الكتاب الذين أسلموا على ما تقدم شرحه بأنهم أسلموا مكرهين، وعقد لهم مجلس، ورسم القاضي جمال الدين المالكي أن يسمع كلامهم، ويحكم فيهم بما يوافق مذهبه، فكتب لهم محضر، وشهد فيه جماعة من المسلمين بأنهم كانوا مكرهين، وأثبت المحضر، وعاد أكثرهم إلى دينه، وضربت على من عاد الجزية، وقيل إنهم غرموا(4/98)
جملة كثيرة حتى تم مقصودهم من ذلك.
وفي يوم الاثنين خامس ذى القعدة قبض السلطان الملك المنصور على سيف الدين ايتمش السعدي بقلعة الجبل وحبسه.
وفي يوم السبت عاشره قبض نائب السلطنة بدمشق على سيف الدين بلبان الهاروني بمرسوم ورد عليه بذلك، وكان في الصيد مع نائب السلطنة بمرج دمشق فقيده، وحمله إلى قلعة دمشق.
وفي بكرة يوم الخميس ثامن وعشرين منه خرج أهل دمشق إلى المصلى، ونائب السلطنة، والأمراء، والجند، رجاله جميعهم، وصلوا صلاة الاستسقاء، وحضروا الخطبة، وابتهلوا إلى الله تعالى بالدعاء، وطلب الغيث، وذلك بعد أن صام كثير من الناس ثلاثة أيام عملاً بالسنة، وكان هذا اليوم الثاني عشر من آذار، وسبب ذلك انقطاع الغيث، وعوزان المياه واستمرار الضحو.
وفي شهر ذى القعدة أخرج السلطان الملك المنصور لبدر الدين سلامش مملوك الظاهر، وجميع العترة الظاهرية من النساء، والأتباع لهم من الخدام وغيرهم من الديار المصرية، وجهزهم إلى عند الملك المسعود نجم الدين الخضر بالكرك.
وفي يوم السبت ثاني ذى القعدة وقع الغيث بدمشق ولله الحمد.
وفي عشية عرفة أفرج عن برهان الدين السنجاري من الانتقال، ولزم بيته بعد مكابدة مشاق كثيرة.(4/99)
وفي هذه السنة تربت جزيرة كبيرة ببحر النيل تجاه قرية بولاق واللوق، وانقطع بسببها مجرى البحر ما بين قلعة المقس، وساحل باب البحر، والرملة، وبين جزيرة النيل الوقف على الشافعي رحمه الله تعالى وهو المار تحت منية الشيرج، وانسد ونشف بالكلية، واتصل ما بين المقس وجزيرة النيل، ولم يعهد هذا فيما تقدم، وحصل لأهل القاهرة مشقة يسيرة من نقل الماء الحلو لبعد البحر عنهم.
وفيها توفى إبراهيم بن سعيد الشيخ الصالح المولد الشاغوري المعروف بجيفانة، وكانت وفاته يوم الأحد سابع جمادى الأولى بدمشق، ودفن من يومه بمقبرة المولهين بسفح قاسيون، وله من العمر نحو سبعين سنة، وكانت له جنازة حفلة، ولجماعة من أهل البلد فيه عقيدة حسنة، ويذكرون عنه كرامات، ومكاشفات، مع تولهه، وعدم صلاته وصيامه رحمه الله تعالى.
إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن محمد بن يحيى شرف الدين بن القاضي محي الدين بن الزكى القرشي الأموي العثماني. كان شاباً فاضلاً عالماً من بيت العلم والدين والرياسة، توفى يوم الجمعة رابع عشر شعبان المبارك رحمه الله تعالى.
ابغا بن هولاكو. كان ملكاً عظيماً، جليل المقدار، عالي الهمة، شجاعاً، مقداماً، خبيراً بالحروب، لم يكن بعد والده مثله، وهو على مذهب التتار، واعتقادهم، ومملكته متسعة جداً، وعساكره جمة، وأمواله غزيرة، وكلمته(4/100)
في جنده مع كثرتهم مسموعة. وله رأي وحزم وتدبير. ولما توجه أخوه منكوتمر إلى الشام بالعساكر، لم يكن ذلك عن رأيه بل أشير عليه به، فوافق ونزل في ذلك الوقت بالقرب من الرحبة في جماعة من خواصه المغل ينتظر ما يكون، فلما تحقق الكسرة رجع على عقبه إلى همذان، فمات غماً وكمداً بين العيدين، ووصل الخبر إلى دمشق بموته في أوائل سنة احدى وثمانين، وله من العمر نحو من خمسين سنة، وكان سبب موته أنه دخل الحمام، وخرج منه فسمع أصوات جملة من الغربان، وهي تنعق. فقال: هذه الغربان تقول مات ابغا، وركب من الحمام، فإذا كلاب صيد قد صادفها في طريقه، فعوت كلها في وجهه فتشاءم بذلك، وبلغه أنه خزانته وخزانة أبيه وكانتا في برج على البحر، وأنه قد خسف بالبرج، وغار في الأرض بجميع ما فيه، فلم يسلم سوى قطعة منه، فمات في نصف ذى الحجة سنة ثمانين وستمائة في قرية من قرى همذان إسمها بابل، وقيل: في بلدة إسمها كرمانشهان من بلاد همذان، ودفن في قلعة تلا عند أبيه، ومات بعده بيومين أخوه اجاى.
أحمد بن عبد الصمد بن عبد الله بن أحمد أبو العباس محيي الدين المصري الأصل الشافعي المعروف بقاضي عجلون ويعرف والده برشيد الدين قاضي قليوب. وكان فقيهاً فاضلاً. رئيساً، كثير الكرم، واسع الصدر، حسن الخلق، أقام حاكماً بعجلون وما أضيف إليها مدة طويلة، يكرم المجتازين به، ويضيفهم ويزودهم، ويتنوع في المكارم، وله شهرة بالكرم، وعلو الهمة، وكان له عند الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن محمد(4/101)
رحمه الله مكانة كبيرة، ولما ملك الشام أقطعه عدة قرى، وكذلك كانت حرمته عند أكابر أمراء الدولة، وأعيانها من أرباب السيوف والأقلام، وخدم الملك الظاهر ركن الدين بيبرس في الدولة الناصرية كثيراً عند تردده في تلك الأرض، فلما ملك ترجى محي الدين أن يجازيه على خدمته، ومعرفته له، فلم ينل في أيامه ما أمله، وقد قيل لا تتمنوا الدول فتحرموها، ولما ملك الملك الظاهر جعل محيي الدين المذكور وكيل بيت المال بالشام في أول الدولة، وأعطاه تدريس الشامية البرانية على قاعدة الشيخ تقي الدين محمد ابن رزين وكيل بيت المال في الأيام الناصرية، ثم صرف عن ذلك سريعاً، وطلبه إلى الديار المصرية، ومنعه من العود إلى الشام، وحصل له في إقامته هناك ضرر عظيم، وربما عوق في بعض تلك المدة، ثم جلس مع الشهود بين القصرين، وميز عليهم بأن فوض إليه عقد الأنكحة ثم ولى في آخر عمره قضاء دمياط، وكانت وفاته بها في شهر ذى القعدة، ودفن بها، وقد نيف على الستين رحمه الله.
أحمد بن علي بن المظفر أبو العباس نجم الدين المعروف بابن الحلى التاجر. كان ذا نعمة ضخمة وثروة ظاهرة ومتاجرة متسعة ومعاملات كثيرة وأموال جمة، وله التقدم في الدول، والوجاهة عند الملوك، ويكثر من خدمتهم، ومعاملتهم، وكانت وفاته في أواخر شهر رمضان بالقاهرة سنة ثلاث وست مائة، وخلف تركة عظيمة، حمل منها جملة كثيرة إلى بيت المال، وكان شيخاً لطيف الشمائل، حسن العشرة، كثير المواددة، وعنده تشيع،(4/102)
وإليه أو إلى والده ينسب الأمير عز الدين ايدمر الحلى رحمه الله تعالى. وكان الصاحب بهاء الدين رحمه الله يتمغص منه لعدم تمكنه من الوصول إليه مع وجود الأمير عز الدين الحلى، فلما توفى الأمير عز الدين تمكن منه، فحدث الملك الظاهر في معناه، وعرفه كثرة أمواله ومتاجره وأنه لم يكن يقوم بما جرت العادة من الحقوق الديوانية والمكوس بطريق الأمير عز الدين، فأطلق يده فيه فغرمه مائة ألف دينار، فلما مرض الصاحب بهاء الدين بمرض الموت طلبه، فلما حضر قال: سيدي، وأخي، وصاحبي، واعتنقه وقبل ما بين عينيه، وقال له: يا سيدي نجم الدين، قد ترى ما أنا فيه، واشتهى أن تحاللني، فربما توهمت أن ما أخذ منك الملك الظاهر كان بإشارتي فتحاللني لطيب قلبي، فقال: أعيذك بالله يا مولانا من هذا القول، أنا رجل على تبعات كثيرة، ولي غريم ملى مولانا فإذا طولبت بما علي أحلت عليك، فلو أبريتك كنت تقول لهم أبراني، وما بقي له عندي حق فيعودون إلى مطالبتي والله! هذا لا فعلته أبداً، وخرج من عنده فعظم ذلك على الصاحب. وحصل له كمد كبير، وفكر عظيم إلى حيث فارق الدنيا والله يعفو عنا وعنهم وعن جميع المسلمين بكرمه ورحمته.
أحمد بن النعمان بن أحمد أبو العباس فخر الدين المعروف بابن المنذر الحلبي ناظر الجيوش بالشام. كان رئيساً عنده مكارم، وحسن عشرة، وهو من أعيان الحلبيين، ولى المناصب الجليلة، وله الوجاهة التامة مشكور السيرة بين الناس، لا يصدر منه في حق أحد إلا الخير، وكان عنده تشيع، ولم يسمع(4/103)
منه ما يؤخذ عليه، وكان ظاهر حمص وقت المصاف. واتفق وقوفه في الميسرة، فلما كسرت على ما تقدم شرحه، كان في جملة المنهزمين، ووصل إلى بعلبك وقد خامره الرعب، والتاث مزاجه من السوق، وشدة الحركة مع الخوف، فتوفى بدمشق ليلة الثلاثاء سادس عشر شهر رمضان المعظم، ودفن يوم الثلاثاء بسفح قاسيون، وقد ناهز ستين سنة من العمر رحمه الله.
أحمد بن يحيى بن محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن علي بن عبد العزيز بن الحسين بن محمد أبو العباس علاء الدين القرشي الأموي العثماني. كان رئيساً عالماً فاضلاً في علوم شتى، يعرف الفقه معرفة حسنة، واشتغل بالأصول، وعلم الأدب، وكتب الانشاء في الدولة الظاهرية بدمشق، وفي الدولة الناصرية، ودرس بالمدرسة العزيزية والتقوية بدمشق، ومولده بدمشق سنة اثنتين وثلاثين وست مائة، وكانت وفاته بها في ليلة الجمعة الثامن وعشرين شعبان، ودفن يوم الجمعة بسفح قاسيون بالتربة المعروفة بهم رحمه الله.
أحمد بن يوسف أبو العباس موفق الدين المعروف بالكواشي. الشيخ العالم صاحب التفسير الكبير والتفسير الصغير، وقد أجاد فيهما، وأحسن ما شاء وغير ذلك. كانت له اليد الطولى في التفسير والقرآآت، ومشاركة في غير ذلك من العلوم، وعمر مقدار تسعين سنة، وكان مقيماً بالجامع العتيق بالموصل منقطعاً عن الناس، مجتهداً في العبادة، قائماً بوظائفها، لا يقبل لأحد شيئاً، ويزوره الملك فمن دونه، فلا يقوم لهم. ولا يعبأ بهم، وله مجاهدات، وكشوف، وكرامات، ولأهل تلك البلاد فيه عقيدة عظيمة،(4/104)
وعمى قبل وفاته بأكثر من عشر سنين، وهو يتلقى ذلك بالرضى والتسليم، وكانت وفاته في سابع شهر رجب بالموصل، ودفن بها رحمه الله ورضي عنه.
كواشة قلعة من عمل الموصل.
الحاج ازدمر بن عبد الله الجمدار الأمير عز الدين. وهو من أعيان الأمراء وأماثلهم، وعنده فضيلة ومعرفة وحسن تدبير، وفيه مكارم كثيرة، ومراعاة لمعارفه، وتفقد لأحوالهم، وبر لهم، ولم يزل محترماً في الدول، ولما تملك الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله زاد اقطاعه، فلما قدم الأمير شمس الدين سنقر الأشقر إلى دمشق لازمه واختص به، وكان لا يصدر إلا عن رأيه، فلما تسلطن بدمشق، جعله نائب السلطنة عنه، ولما ضرب المصاف مع المصريين وحصلت الكسرة، قصد الأمير عز الدين الجبل، وأقام به مدة، ثم اتصل بسنقر الأشقر، وأقام بقلعة شيزر وقد أشرنا إلى ذلك فيما تقدم من هذا الكتاب، وبقى عند سنقر الأشقر وفي حضر مصاف التتار، وقاتل قتالاً شديداً، وأبلى بلاء حسناً، وقتل مقبلاً غير مدبر شهيداً يوم المصاف، وهو رابع عشر رجب من هذه السنة بظاهر حمص، ودفن في جوار مشهد خالد بن الوليد رضي الله عنه، وعمره نحو ستين سنة، وكانت نفسه تحدثه عن أمور قصر عنها أجله، وكان يزعم أنه شريف النسب والله أعلم رحمه الله.
ليبك بن عبد الله الأمير عز الدين الشجاعي الصالحي العمادي، والي الولاة بالجهات القبلية. كان ديناً خيراً أميناً صارماً عفيفاً، حسن السيرة(4/105)
لين الجانب، شديداً على أهل الريب، وجيهاً عند الملوك. ولى في حال شبابه استاد دارية الملك الصالح عماد الدين اسماعيل رحمه الله وتنقلت به الأحوال، وكان الملك الظاهر ركن الدين رحمه الله يتعمد عليه ويتحقق أمانته وهو مسموع الكلمة عنده، وعزل وقطع خبره بسؤاله اختياراً منه في أول هذه السنة، فلزم بيته إلى أن أدركته منيته بدمشق في يوم الخميس ثاني جمادى الآخرة من هذه السنة، ودفن من الغد بسفح قاسيون، وقد بلغ من العمر خمساً وثمانين سنة رحمه الله.
بكتون بن عبد الله الخزنداري الأمير بدر الدين. كان نائب الأمير بدر الدين الخزندار الظاهري رحمه الله بالشام، وتقدم الطلب الذي له بدمشق، واستولى على اقطاعاته، وأملاكه، وسائر تعلقاته بالشام، وأمره على قلعة الصبيبة، وبانياس، وتلك الأعمال، وكان مشكور السيرة، حسن المعاملة، لين الكلمة، كثير البر والصدقة، كريم الأخلاق، حسن الشكل، وقاتل يوم المصاف الذي ضربه المسلمون مع التتر، وأبلى بلاءً حسناً. وقاتل، وفقد، ولم يقع له أحد والظاهر: أنه استشهد والله أعلم وهو في عشر الخمسين رحمه الله.
بلبان بن عبد الله الرومي الأمير سيف الدين الدوادار. كان من أعيان الأمراء وأجلائهم، عمده معرفة، وحزم، ورياسة، ومكارم أخلاق، وإحسان لمن خدمه ويتصل به، وكان الملك الظاهر ركن الدين رحمه الله يعتمد عليه، ويثق به، ويسكن إليه، وهو المطلع على أسراره، وتدبير(4/106)
أمور القصاد، والجواسيس، والمكاتبات، وغير ذلك، لا يتركه في ذلك وزير ولا نائب سلطنة بل كان هو والأمير حسام الدين لاجين الايدمرى المعروف بالدرفيل، فلما توفى حسام الدين في التاريخ المقدم ذكره انفرد الأمير سيف الدين بذلك، وأضيف إليه عز الدين ايدمر الدوادار الظاهري تبعاً له، ولم يزل على ذلك إلى أن انقضت الدولة الظاهرية. ولم يؤمر فيه بطبلخاناة، فلما أفضى الملك إلى الملك السعيد رحمه الله أمره وأعطاه خمسين أو ستين فارساً بالشام، وهو ملازم خدمته، فلما انقضت الأيام السعيدية، بقى على خبزه وحرمته إلى أن حصل المصاف بين المسلمين والتتار في هذه السنة ظاهر حمص، حضر المذكور، وقاتل فيه قتالاً كبيراً، واستشهد إلى رحمة الله تعالى يوم الخميس رابع عشر شهر رجب، ودفن ظاهر حمص جوار مشهد خالد بن الوليد رضي الله عنه، وقد نيف على خمسين سنة من العمر رحمه الله تعالى.
بهادر بن بيجار بن بختيار الأمير بهاء الدين. كان من أعيان الأمراء وأكابرهم مشهوراً بالشجاعة والنجدة، وله مواقف معروفة، وهو الذي كان سبب حضور والده الأمير حسام الدين بيجار ومن معه إلى بلاد المسلمين وقد أشرنا إلى ذلك فيما تقدم. توفى بهادر المذكور بغزة. وهو متوجه صحبة العساكر إلى الديار المصرية في يوم الجمعة رابع عشر شعبان، ودفن من يومه بها، وهو في عشر السبعين تقريباً رحمه الله تعالى. ووالده الأمير حسام الدين بيجار في قيد الحياة يومئذ، وهو مقيم بالقاهرة، وقد كف بصره.(4/107)
بويل بن الأمير بهاء الدين الشهرزورى. من أمراء دمشق، كان من الأبطال الشجعان والفرسان المعدودين، استشهد يوم المصاف ظاهر حمص، وهو يوم الخميس رابع عشر شهر رجب من هذه السنة بعد أن قاتل قتالاً شديداً، وأنكى في العدو نكايات كثيرة، وقتل منهم عدة وافرة بيده رحمه الله تعالى وقد نيف على ستين سنة من العمر.
خضر بن محاسن موفق الدين الرحبي. كان من رجال الدهر شجاعة وإقداماً وحزماً وتدبيراً، ومكراً وحيلاً، ومداراة وسياسة، وتيقظاً وفطنة وذكاء، وكان في بدايته جماساً بالرحبة لشخص من أهلها فاتفقت وفاة ذلك الشخص، فتزوج زوجته، وكفل ولده منها، فحاز موجوده، فصلح حاله يسيراً، فتوصل إلى أن صار قزل غلام بالرحبة في حياة الملك الأشرف صاحبها، فلما توفى وانتقلت إلى الملك الظاهر ركن الدين، خدم نوابه فقربوه ووجدوا عنده كفاية تامة، وخبرة بالبلاد وأهلها، فزادوا معلومه، وتوفى عندهم، ويعرف بالأمير شرف الدين عيسى بن مهنا، واعتضد به، فلما ولى النيابة بتلك الناحية الأمير عز الدين ايبك الاسكندري رحمه الله تعالى زاد في معلومه، وأكرمه ورأى أنه مفتقر إلى مثله لما هو بصدده، فلما أخذ الأمير عز الدين قرقيسيا من نواب التتر، وأخربها، وكانت كثيرة الأذية والضرر لبلاد المسلمين، فسير التتر إلى الملك الظاهر رحمه الله لأخذها وعزمه أن الموفق سعى في ذلك، وطلب خبزاً فأعطى له خبزاً جيداً..... وعظم شأنه،(4/108)
وانبسطت يده، وكثر أتباعه، وزاد تمكنه، فلما توفى الأمير عز الدين رحمه الله وتولى عز الدين ايبك الموصلى من البحيرة الصالحية، وكان أصله قبجاقا تضاعف تمكنه، فلم تطل مدة المتولى، وتوفى فرتب الموفق مكانه مستقلاً، وأعطى خبزه فدبر الأمور، وجهز القصاد إلى بلاد العدو، وتضاعف اجتهاده، وظهرت ثمرت ثمرة ولايته، فلما تملك الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله، أقره على ذلك، وطيب قلبه، فلما كان المصاف بين سنقر الأشقر والأمير علم الدين الحلبي، وانكسر سنقر الأشقر لحق بالرحبة، ومعه جماعة كبيرة من أعيان الأمراء والأمير شرف الدين عيسى بن مهنا، فطلب منه تسليم القلعة، فجعل يخادعه، ويماطله، ويرسل في كل وقت الاقامات، وما يطلبه مما هو عنده، وهو في غضون ذلك يطالع الملك المنصور بأحواله، وأموره، ويرد عليه الأجوبة بما يعتمد، وأنه يسعى في افساد من عنده من الأمراء، واتصالهم ملاطفات ترد عليهم من الملك المنصور وأمانات، وهو يسعى في ذلك بتأني إلى أن حصل المقصود، وفارق سنقر الأشقر معظم من عنده من الأمراء، ووردت كتب الملك المنصور إلى الموفق يشكر سعيه، ويعده مواعيد جميلة، وأمره بطبلخاناة وغير ذلك، فلما حضر الملك المنصور إلى دمشق في هذه السنة سير الموفق يطلب الاذن في الحضور، فأذن له فحضر بتقدمه سنية وآماله تحدثه بنبيل نهاية مناه، فلما وصل أقبل عليه الملك المنصور، واتفق حضور تجار أخذوا في ذلك البر ووجدوا بعض قماشهم عنده، فشكوه، وعضدهم الأمير علم الدين الحلبي، فرسم(4/109)
عليه، وكان غاية الانعام عليه خلاصه من تبعتهم، فحصل له غم شديد، وتمرض بدمشق، ومات بها كمداً، ودفن بمقابر باب الصغير، وقد قارب سبعين سنة من العمر لم يستكملها، وكانت وفاته في أحد الربيعين من هذه السنة رحمه الله تعالى.
سلامة بن سليمان بن سلامة بهاء الدين الرقى الشيخ العالم. كان فاضلاً في علم العربية والتصريف، اشتغل عليه جماعة كثيرة، وانتفعوا به، وكانت وفاته في العشر الأوسط من صفر بالمقس ظاهر القاهرة، ودفن هناك، وقد ناهز ثمانين سنة من العمر رحمه الله تعالى.
سنقر بن عبد الله الأمير شمس الدين الألفي. كان من أعيان الأمراء الظاهرية، وممن له عنده مكانة مكينة، ومحل لطيف، وهو ممن ارتجع عن الملك المظفر سيف الدين قطز رحمه الله، وكان في بداية أمره أول دخوله البلاد قد اشتراه الشمس العذار، ثم باعه فتنقل عنه إلى أن اتصل بالملك المظفر قطز رحمه الله وهو صغير السن، وكان الملك الظاهر يوليه الولايات الكبار، لكنه لم يكن يؤثر مفارقته، ولما افضت السلطنة إلى الملك السعيد رحمه الله، ومات الأمير بدر الدين الخزندار رحمه الله، وأمسك الأمير شمس الدين الفارقاني رحمه الله على ما تقدم شرحه، رتب المذكور في نيابة السلطنة بالديار المصرية وسائر الممالك، وبقى على ذلك مدة، وكان حسن السيرة في مباشرته لذلك محبوباً إلى الجند والرعية، ثم استعفى فأعفى، ورتب عوضه الأمير سيف الدين كوندك، فكان ذهاب الدولة على يده، وكان شمس الدين هذا ديناً، عنده فضيلة(4/110)
ومعرفة بالأدب والكتابة، وتوفى معتقلاً بالاسكندرية، وقيل: بقلعة الجبل في هذه السنة، وله من العمر نحو من أربعين سنة رحمه الله تعالى.
عبد الرحمن بن عبد الملك بن يوسف بن محمد بن قدامة أبو محمد سبط الشيخ أبي عمر الزاهد. كان شيخاً جليلاً صالحاً زاهداً عابداً ورعاً، نير الوجه، ملحوظاً بالصلاح، مشهوراً بالعبادة والديانة، حضر على ابن خليل الرصافي، وسمع من ابن طبرزد، والكندى، وابن الحرستاني، والخضر ابن كامل، وداود بن ملاعب، وجماعة كثيرة، وأجاز له جماعة من العجم والعراق، منهم أبو جعفر الصيدلاني، وحدث بالكثير. مولده سنة تسع وتسعين وخمس مائة، وتوفى يوم الأربعاء عاشر جمادى الأولى سنة ثمانين وست مائة، ودفن بسفح قاسيون رحمه الله.
عبد العزيز بن الحسين بن الحسن أبو محمد مجد الدين الرازي عرف بابن الخليلي من ولد تميم الدارى الصحابي رضي الله عنه. كان رجلاً مباركاً كثير الدين والتعبد، وقصد المزارات، حسن الظن بالفقراء والصالحين، فيبرهم ويحسن إليهم ويخدمهم بنفسه، وله وجاهة في الدول وثروة، وعنده مكارم وحسن محاضرة بالكتابات والحكايات والنوادر، وعلى ذهنه من التواريخ وأيام الناس قطعة صالحة، ومولده سنة تسع وتسعين وخمس مائة بمصر، وتوفى ليلة الخميس ثالث عشر ربيع الآخر بدمشق، ودفن يوم الخميس بسفح قاسيون رحمه الله تعالى.
الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عثمان بن القاسم بن جعفر(4/111)
أبو محمد اليونيني السيخ الصالح شيخ الاسلام وأسد الشام. أما مناقب أبيه وجده رحمهما الله فأشهر من أن تذكر، وأما هو فكان رجلاً كثير التعبد، سليم الصدر، لين الكلمة، متواضعاً خير حسن الملتقى، كريم الأخلاق، واسع الصدر، عنده احتمال كثير وصبر ومروءة غزيرة وشجاعة وإقدام، وحضر مصاف حمص بين المسلمين والتتر، وقاتل قتالاً شديداً، واستشهد فيه رحمه الله تعالى، ودفن بقرب مشهد خالد بن الوليد رضي الله عنه. مولده ظاهر بعلبك سنة أربع وست مائة.
علي بن أحمد بن بدر أبو الحسن بن أبي القاسم ولي الدين الدين الشيخ الصالح الزاهد العابد الرباني العارف. أصله من بلد الجزيرة العمرية، اشتغل بالفقه في الموصل، ثم بحلب وبدمشق وبالديار المصرية، ثم أقبل على العبادة والتبتل لها، وبنى له معبد في جامع بيت لهيا من غوطة دمشق، وانقطع فيه سنين كثيرة وهو على قدم التوكل والتجرد من الدنيا، وللناس فيه عقيدة عظيمة، وتوفى إلى رحمة الله تعالى ورضوانه ليلة الخميس ثالث شوال بالمدرسة القيمرية الناصرية بدمشق، وقد نيف على خمسين سنة، ودفن يوم الخميس بعد الصلاة بجامع دمشق بسفح قاسيون بالقرب من مغارة الجوع، وهو كردي الأصل، قيل: أنه عباسي النسب لكنه لم يدع ذلك رحمه الله تعالى.
علي بن محمد بن غازي بن يوسف بن أيوب بن شاذى الأمير مجير الدين ولد الملك الظاهر بن السلطان الملك الناصر صلاح الدين رحمه الله تعالى. كان شاباً جميل الصوورة والأوصاف، تام الخلقة بارع الحسن،(4/112)
عنده عقل وسكون، ورياسة وكرم، وأخلاق ملوكية، ووالدته يومئذ زوجة الأمير بدر الدين بيسرى الشمسي، وكانت وفاته بالقاهرة فيشهر شوال، وله جنازة مشهودة لم يتخلف عنها من يعتبر حضوره، وحزن الناس كافة لفقده، وعمره يوم مات يقارب ستاً وعشرين سنة رحمه الله تعالى.
علي بن محمود بن الحسن بن نبهان بن سيد بشير أبو الحسن علاء الدين اليشكري ثم الربعي. مولده في مستهل ذى القعدة سنة خمس وتسعين وخمس مائة، وتوفى يوم السبت سابع وعشرين شهر رمضان المعظم من هذه السنة بدمشق. وصلى عليه بجامعهما، ودفن بسفح قاسيون، وكانت له اليد الطولى في علم الفلك وتفرد بحل الأزياج، وعمل التقاويم، وغلب ذلك عليه مع فضيلته التامة في علم الأدب وجودة النظم وحسن الخط رحمه الله تعالى.
قال المولى شهاب الدين محمود أنشدني علاء الدين المذكور لنفسه في مفتصد:
لا تضع بالفصاد من دمك الطيب واستبقه فما ذاك رشد
فهو إن حال ريقه كان خمرا ... وإذا جال في الخدود فورد
قال وأنشدني لنفسه:
إني أغار من النسيم إذا سرى ... بأريج عرفك خيفة من ناشق
وأود لو سهدت جفوني في الكرى ... حذراً عليك من الخيال الطارق
وله أيضاً يمدح الأمير مظفر الدين عثمان صاحب صهيون:
ما لليلي ما له سحرا ... أتراهم فقدهم مقلتي سحروا
غدروا ولا ذقت فقدهم ... فدموعي بعدهم عذروا(4/113)
همو أحبابي فديتهم ... وصلوا المشتاق أو هجروا
لا أبالي مذ كلفت بهم ... عذل العذال أم غدروا
وحفاظي والوفاء فما ... غيرته فيهم الغير
طاعتي فرض لحكمهم ... إن نهوا في الحب أو أمروا
حكموا في مهجتي فجنوا ... غير أني بت اعتذروا
هكذا حكم الهوى فما ... لك في العشاق معتبر
من عذيري من هوى قمر ... بات يحكي حسنه القمر
ماس في برد الشباب كما ... ماس خوط البانة النضر
ريقه ماء الحياة لمن ... ذاقه والشارب الخضر
حربي إذ راح مبتسماً ... من عقيق حشوه درر
وكحيل بات يفتك بي ... حين يرنو وهو منكسر
ظالمي هجرانه فمتى ... بوصال منه انتصر
أترى يحنو على دنف ... موارده السقم والسهر
فإذا ما الشوق أقلقني ... واعتراني الوجد والفكر
ليس لي غير الصبا رسل ... وهو لي من نحوه خبر
فإذا أجذبت منتجعاً ... فندى عثمان والمطر
فهو إن ضن الغمام على ... كل عاف بات ينهمر
من يد تولى ندى وردى ... فلذ بها الأرى والصبر
لأمير لا يساجله ... في الفخار البدو والحضر(4/114)
إن روى عن غيره خبر ... صح منه العين والأثر
فالندى والعدل ما رويا ... عنه لا عمرو ولا عمر
ليث غاب والفتى اجم ... بدر تم جوده بدر
كسيا من نور وجنته ... النيران الشمس والقمر
حار فكري فيه هل ملك ... ما أرى في الدست أم بشر
صدق المداح فاتفق ... السائران الخبر والخبر
فتحلت من فضائله ... بالصفات الكتب والسير
جللا أعداء نعمته ... المزعجان الخوف والحذر
أنفذا طوعاً أوامره ... الماضيان السيف والقدر
وإذا ما هم أنجده ... السعدان النصر والظفر
فهم شمس الجود لا أفلت ... وبنوه الأنجم الزهر
كل فياض اليدين له ... في العلى التحجيل والغرر
تحسد الأرض السماء بهم ... فتكاد السمت تنتثر
فلديهم منك شنشنة ... ظهرت بالجود إذ ظهروا
دوحة للمجد مورقة ... طاب منها الفرع والثمر
ليس إلا بابكم وطن ... للندى وجودكم وطر
أعين الحساد دونكم ... بضياء السعد تنحسر
دمتم للدين فهو له ... بكم دون الورى وزر
ما شدت ورقاء في فنن ... أو سرى برق له شرر(4/115)
وقال يمدح أيضاً:
يا برق عج بالحمى واستخبر السبانا ... هل خيم الحي بالجرعاء أم بانا
ويا نسيم الصبا عرج بحيهم ... واجرر على الربع أذيالاً وأردانا
ثم ائتني بشذى من طينهم عبق ... يكون رياه لي روحاً وريحانا
فبي تباريح وجد لو نقص على الواشي لرق لما ألقاه أولانا
قلب تقسمه أيدي الجوى فرقاً ... ومدمع الأسى ينهل ألوانا
وذات شجو عدت بالبان باكية ... مثلي واردفنا للدمع أجفانا
وذات شجو دعوى الحب ما لبست ... طوقاً ولا رجعت في الدوح ألحانا
أشكو إلى الله من بانوا بودهم ... عنى وإن أصبحوا بالسفح جيرانا
كأنما كان طيفاً حسن عهدهم ... أو هاتفاً قولهم لا كان من خانا
يا نافرين ولا والله ما ألفت ... روحي سواهم ولا أنست إنسانا
خذوا بقية ما أفناه حبكم ... أو فارددوه علينا مثل ما كانا
لا تحسبوا أن ما ظهرت من جلدي ... صبراً وأن الذي أظهرت سلوانا
سلوا عن الدمع إذ يهمى ووجدي ... إذ ينمى وحبكم بالسقم عنوانا
لا خير في العيش ما لم تسمحون به ... أو ترفقون بنا منا وإحسانا
كم أكتم الناس أشجاني ويظهرها ... دمع يغادر سر الحب إعلانا
وربما رمت أن أطفي بساجمة ... جمر الصبابة زاد القلب نيرانا
ردوا علينا ليالينا بكاظمة ... يا حبذا هي أوطاراً وأوطانا(4/116)
إذ نجتني ثمرات العيش يانعة ... ندنو ونعطف غصن الوصل ريانا
فغيرتنا الليالي في تلونها ... بنا وما زال هذا الدهر خوانا
أخشى الزمان وأرجو في تقلبه ... مظفر الدين رب الجود عثمانا
من بأسه يطرد اللاواء إن نزلت ... بنا ويصرف صرف الدهر إن آنا
فذاك معتصم اللاجي ومفترح ... الراجي وحسبي بما يوليه برهانا
يمنه نحو الأماني في ذرى ملك ... ومالك تلق من نعمان رضوانا
محجب لم يحجب عنك نائله ... يوليك منا ولا يوليك منانا
أجرى الندى بعد أن ملت مطامعنا ... من الكرام فأحياها وأحيانا
المبتدى بالعطايا قبل مسألة ... ما أن يشوب بها مطلاً وليانا
غيث إذا أخلف العيث الشحوح همت ... يمناه جوداً على العارفين هنانا
ما إن يخف له حلم يزينه ... ولو وزنت به رضوى وثهلانا
مهابة تذر الأكباد راجفة ... رعباً وتذهل ألباناً وأذهانا
خلائق كالصبا هبت معطرة ... فأرجت بشذاها الرند والبانا
ورأفة تمنح الجاني وإن عظمت ... منه جنايته عفواً وغفرانا
قد رام من رتب العلياء منزلة ... غدت تريك حضيضاً أوج كيوانا
هيهات يدرك من رام اللحاق به ... شأواً وقد جعل العلياء ميدانا
راموا مداه وما نالوا لأنهم ... ناموا عن المجد لما بات يقظانا(4/117)
مطعام جدب ومطعان بيوم وغى ... حبذا هو مطعاماً ومطعانا
كالسيل مدفقاً والسيف منصلتاً ... والغيث منسجماً والليث غضبانا
ورب يوم وغى كالليل عنترة ... تريك أنجمه في النقع خرصانا
أضحت كؤوس المنايا فينه دائرة ... فكم بها من كمى راح نشوانا
ترى النفوس رخاصاً في تلاحمها ... وربما قد علت في السلم إثمانا
وافى به أسد للحرب متخذ ... من الذوابل لا للخوف خفانا
أبدى البديع ولا بدع كسلوته ... فيهم ففارقت الأرواح أبدانا
راح ينثرهم بالضرب آونة ... بأساً وينظمهم بالطعن أحيانا
في فتية قد غذوا محصن الندى وسقوا ... من المكارم والعلياء البانا
وهذبته على فضل خلائقه ... حتى اغتدوا في اكتساب المجد أعوانا
قوم إذا سمعوا صوت الصريخ بهم ... طاروا إليه زرافات ووحدانا
مظفر الدين كم ظفرت ذا أمل ... فرداً فعاد عزيزاً بعد ما هانا
تكفي العفاة لدى ناديك إذ نزلوا ... سعداً ونزعوا قلاص الركب سعدانا
أرى مديح سوى عليك مختلفاً ... ميناً ومدحك لي أمناً وإيمانا
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
أحن شوقاً والنياق رزم ... لها من الوجد لسان أعجم
حنينها ترجم عن غرامها ... وعبرتي عن لوعتي تترجم
دعها تبيد البيدا عناقاً فقد ... لاح لها من الغوير علم(4/118)
وقد عداها طربي فأصبحت ... بنجد إن عن البريق المتهم
ريح الصبا إذا تحياني إلى ... حمى على ما التقيت خيموا
من كل بيضاء إذا ما نظرت ... كانت لها البيض الرقاق خدم
واسمر إذا بدا قوامه ... يحار منه الأسمر المقوم
كم من بها في تلك الخيام غارم ... وكم بذياك الغزال مغرم
وبي هوى من لو بدا جماله ... قال الأنام ملك لا صنم
يميل عطفيه الدلال مثل ما ... يميل غصن البانة المقوم
لا تعجبوا إني سليم حبه ... وقد بدا في الخد منه أرقم
يا عاذلي في حبه جهالة ... في أذني عما تقول صمم
دعه على ضعفي به تعمدا ... فإنه في مهجتي محكم
إن كان قتلي في الهوى مراده ... فإنني لأمره مستسلم
أو كان دهر قد طغا فرعونه ... فإن موسى الملك المعظم
وقال أيضاً:
ولما أتاني العاذلون عدمتهم ... وما منهم إلا للحمى قارض
وقد بهتوا لما رأوني شاحباً ... وقالوا به عين فقلت وعارض
عمر بن عبد الوهاب بن خلف بن أبي القاسم أبو حفص صدر الدين عرف والده قاضي القضاة تاج الدين بابن بنت الأعز العلامي المصري الشافعي.
تولى الحكم بالديار المصرية في سنة ثمان وسبعين وست مائة، وعزل(4/119)
في أواخر شهر رمضان سنة تسع وسبعين، وبقى بطالاً إلى حين وفاته، وكان فاضلاً عارفاً بالمذهب، يسلك طريقة والده في الصلابة في الأحكام، وتحرى الحق وأتباعه، ودرس بالمدرسة الصالحية بين القصرين بالقاهرة للطائفة الشافعية، وأفتى وسمع الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري، وأبا الحسين محمد بن علي المقرئ، وأبا الكرم لاحق الاتارحي، وغيرهم، وحدث. ومولده في سنة خمس وعشرين وست مائة بالقاهرة، وكانت وفاته بها يوم الخميس عاشر المحرم، ودفن بالقرافة الصغرى رحمه الله تعالى.
عمر بن مظفر جمال الدين الهكارى الحاجب. كان من أعيان مفاردة الحلقة بدمشق وأكابرهم كثير الديانة، والمروءة، والشجاعة، ومكارم الأخلاق، والترصد لقضاء حوائج الناس، والمثابرة على راحتهم، والبر بالفقراء والضعفاء، وحسن الظن بالصلحاء، مشكور السيرة، محمود الطريقة، سديد الأفعال والأقوال، ختم الله أفعاله بالشهادة، فقتل في المصاف بسيوف التتار في يوم الخميس رابع عشر شهر رجب ظاهر حمص، وقد نيف على الخمسين سنة رحمه الله تعالى.
القاسم بن محمد بن عثمان بن محمد التميمي الدارمى البصراوي الحنفي أبو محمد صفي الدين. كان من أعيان فقهاء الحنفية، ودرس بالمدرسة الأمينية ببصرى سنين متطاولة إلى حين وفاته، وكان فاضلاً، فيه مكارم ورياسة، ومولده ليلة السبت منتصف شعبان سنة ثمان وست مائة ببصرى، ودفن بها.(4/120)
القاسم بن أبي بكر بن القاسم الاربلي التاجر المنعوت بأمين الدين المعروف بالمقرئ. مولده سنة أربع وتسعين وخمس مائة باربل، وكان من أعيان التجار، وتردد إلى الديار المصرية وبلاد العجم مراراً، وانتهى إلى خوارزم، وسمع صحيح مسلم على المؤيد بن محمد بن علي الطوسي بنيسابور، وتوفى بالمدرسة العادلية الكبيرة بدمشق يوم الثلاثاء ثاني جمادى الأولى، ودفن بمقابر الصوفية ظاهر دمشق، وكان قد رق حاله، وقل ما بيده رحمه الله تعالى.
محمد بن أحمد بن مكتوم أبو عبد الله شمس الدين البعلبكي المعروف بابن أبي الحسين رحمه الله تعالى. كان فاضلاً مشاركاً في علوم كثيرة، مستقلاً بعلم الأدب والنظم، وحفظ القرآن العزيز، وأتقنه واشتغل بالفقه على مذهب الامام الشافعي رحمة الله عليه، وكان أولاً حنبلي المذهب ثم صار شافعياً وحفظ التنبيه، وكان معيداً بمدرسة أمين الدولة على بن العقيب رحمه الله بجامع بعلبك، وحفظ المقامات الحريرية، وأتقنها دراية، وكان يحفظ من الأشعار شيئاً كثيراً، وعلى ذهنه قطعة صالحة من التاريخ وأيام الناس، وأما حسن محاضرته، ودماثة أخلاقه، وشرف نفسه، وكثرة قنعه، فقل من يضاهيه فيه، وكان رحمه الله كثير الملازمة لي، لا يكاد يفارقني ليلاً ولا نهاراً إلا في النادر، وإذا عرض لي سفر صحبني فيه، فلما كان المصاف ظاهر حمص بين الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله وبين التتار في شهر رجب هذه السنة، توجهت لحضوره، وهو صحبتي فاستشهد إلى رحمة الله تعالى في ذلك اليوم، وهو يوم الخميس(4/121)
رابع عشر رجب، ولم يستكمل أربعين سنة من العمر. وله أشعار كثيرة فمن ذلك قصيدة كتبها في صدر كتاب وأنا بدمشق، أولها:
رام أن يترك الهوى فبدا له ... فرأى حسن وجهه فبدا له
كلما لمته على الجهل يزداد ضلالاً فخله والجهالة
كيف يرجى الشفاء وما لصب ... لم يخلى السقام إلا خياله
ناقص صبره كثير بكاءه ... لو رآه عدوه لرثى له
دنف ظل مستهاماً ببدر ... عمه الوجد حين عاين خاله
فاتر الطرف فاتن الوصف ألمى ... يفضح البدر حسنه والغزاله
يخجل الأسمر المثقف إن رأى ... حسن قده واعتداله
ويغير الغصن المهفهف ليناً ... كلما راح ينثني في الغلاله
يتجنى تدللاً صانه الله ... فما أحلاه وأحلى دلاله
قلت لما عاينته يا منى النفس إلى كم هذا الجفا والملاله
أي يوم أنال منك به الوصل فولى وقال لي لن تناله
أنا صب به وإن حال عني ... وعبيد له على كل حاله
فاق كل الورى جمالاً وحسناً ... ضاعف الله حسنه وجماله
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
فديتك لا تعجب لطرفك إن كبا ... وخامره ضعف وليس له ذنب
ومن فوقه طود وبحر سماحة ... ويعقل عن شامخ كيف لا يكبو(4/122)
محمد بن أحمد بن يحيى بن هبة الله بن الحسن بن يحيى بن محمد بن علي أبو بكر نجم الدين الثعلبي الشافعي ابن قاضي القضاة صدر الدين ابن قاضي القضاة شمس الدين بن أبي البركات المعروف بابن سنى الدولة. كان فقيهاً عارفاً بمذهب الشافعي رحمة الله عليه عالماً بأصوله وفروعه، متبحراً فيه، ناب عن والده بدمشق سنين كثيرة، وكان شديداً في أحكامه، يتحرى الحق ويقوم به، وشكرت سيرته في ذلك، ثم ولى في أول الدولة المظفرية، وهو بالديار المصرية، وقدم دمشق بعد سفر الملك المظفر قطز رحمه الله منها، وباشر الأحكام بها قريب سنة واحدة، ثم صرف، ورسم له بالتوجه إلى الديار المصرية، فتوجه إليها، وأقام بها سنين عديدة، وتولى بها تدريس الزاوية التي كان الشافعي رحمة الله عليه يذكر بها الدرس بجامع عمرو بن العاص رضي الله عنه بمصر، وحصل له نكد كثير، ومصادرات استوعبت معظم ما يملكه، ثم قدم الشام وباشر به تدريس المدرسة الأمينية بدمشق مدة، ثم ولى قضاء القضاة بحلب وأعمالها يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين وست مائة، فتوجه إليها، وأقام بها مدة يسيرة، ثم عاد إلى دمشق، وقارن ذلك كسرة سنقر الأشقر. وصرف الأمير علم الدين الحلبي قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله فرسم له بمباشرة الحكم، فباشر مدة أيام دون شهر، ثم أعيد قاضي القضاة شمس الدين، ونفى القاضي نجم الدين مقتصراً على تدريس الأمينية بدمشق، وكان معه تدريس الركنية أيضاً إلى أن توفى(4/123)
إلى رحمة الله بجبل الصالحية في يوم الثلاثاء ثامن المحرم. ودفن يوم الأربعاء بسفح قاسيون بعد الصلاة عليه بالجامع المظفري بالجبل في التربة المعروفة بجده جوار المدرسة الصاحبية، ومولده سنة ست عشرة وست مائة رحمه الله تعالى.
محمد بن الحسين أبو عبد الله تقي الدين الحموي الشافعي. كان فقيهاً إماماً عالماً عارفاً بمذهب الشافعي رحمة الله عليه، اشتغل على الشيخ تقي الدين عثمان ابن الصلاح، وتميز في حياته، وأفتى ودرس وتولى وكالة بيت المال بالشام في الأيام الناصرية، وتدريس الشامية البرانية ظاهر دمشق وغير ذلك، ثم سافر إلى الديار المصرية في حفل التتار سنة ثمان وخمسين وست مائة، واستوطنها، وتولى بها جهات جليلة دينية من تدريس، وكا جرى مجراه، ثم ولى الحكم بالقاهرة وأعمالها، ثم أضيف إليه مع ذلك في شهور سنة ست وسبعين مصر وأعمالها، فكمل له ولاية الاقليم، وولى تدريس الشافعي رحمة الله عليه مدة، وتدريس المدرسة الصالحية للطائفة الشافعية مدة أخرى، وتولى تدريس الظاهرية التي بين القصرين أيضاً، وتوفى بالقاهرة يوم الأحد ثالث شهر رجب من هذه السنة، ودفن بالقرافة الصغرى، ومولده سادس شعبان سنة ثلاث وست مائة رحمه الله تعالى. روى عن السخاوي، وكريمة، وابن الصلاح، والصريفيني وغيرهم، وحدث رحمه الله.(4/124)
محمد بن علي بن علون المنعوت بالشمس المزى مفسر الرؤيا. حفظ الكتاب العزيز وأتقنه، واشتغل بشيء من الفقه، وسمع الحديث، وتفرد بعلم تعبير الرؤيا، وبهر فيه، وفاق أهل عصره في ذلك، صحبته في طريق الحجاز الشريف، ورأيت منه في ذلك ما يحكى عن ابن سيرين واضرابه، وكان ضرير البصر، وتوفى بدمشق ليلة الأحد سابع عشر ذى الحجة، ودفن يوم الأحد بمقابر باب الصغير، وقد ناهز خمسين سنة رحمه الله تعالى.
محمد بن علي بن محمود أبو عبد الله جمال الدين المحمودي الصابوني الدمشقي المحدث. سمع الكثير وأسمع، وأفاد، وانتفع الناس به، وكان فاضلاً في فنه، نبيهاً عارفاً بالشيوخ، وتولى دار الحديث النورية بدمشق، وبها مات في ليلة الخميس خامس عشر ذى القعدة، ودفن يوم الخميس بسفح قاسيون، ومولده منتصف رمضان المعظم سنة أربع وست مائة رحمه الله تعالى.
المسلم بن محمد بن المسلم بن مكي بن خلف بن المسلم بن أحمد بن محمد بن علان أبو محمد شمس الدين القيسي الدمشقي. أحد أعيان دمشق، وكبرائها وأرباب البيوت المشهورة بها، كان من كرماء الناس، رئيساً، أصيلاً، وجيهاً في الدول وما أضيف إلى ذلك مدة، ونظر الجهات القبلية مدة أخرى، ونظر بعلبك وأعمالها غير مرة، وانفصل في آخر ذلك عنها، وترك الخدمة، وأقام بدمشق، ورتب بدار الأشرفية سمعاً للحديث، ولازمه الطلبة(4/125)
يسمعون عليه في منزله، وفي دار الحديث وغيرها؛ وكان له مسموعات كثيرة بسند عليه، وروى تاريخ بغداد عن الشيخ تاج الدين الكندي، وروى مسند الامام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه، وسمعه منه جماعة كثيرة. مولده بدمشق ليلة الأحد حادي عشر جمادى الأولى سنة أربع وتسعين وخمس مائة، وتوفى بدمشق في يوم الاثنين خامس عشرين ذى الحجة من هذه السنة، وصلى عليه بعد العصر بجامع دمشق، ودفن من يومه بسفح قاسيون رحمه الله تعالى. حكى لي الشمس محمد بن خالد رحمه الله قال: كنت بدمشق في عيد النحر، ومعي جماعة من بعلبك فوق العشرة، فصلينا في صحن جامع دمشق، فلما قضينا الصلاة صادفنا شمس الدين المذكور، فدعانا إلى منزله، فلما حضرنا منزله، وجدنا من الأطعمة الفاخرة والحلوى ما لا مزيد عليه، فلما فرغنا من الأكل أمر بإحضار غنم على عددنا فأحضرت وقال: تضحوا على هذه، فامتنعنا فحلف أنه لابد من أخذها، فسقناها إلى المكان الذي كنا به وتصرفنا فيها. وحكى لي ناصر الدين بن قرقين رحمه الله ما معناه أنه اشترى تبن بعض القرى الكبار، وأظنها عذراء بمبلغ عشرين ألف درهم، وكان في مشتراه غبطة ظاهرة قال: ولم يكن معي من الثمن إلا مقدار يسير جداً، فصادفته في الطريق، فتسالمنا وسألني عن قصدي، فحكيت له الصورة، وأنني أسعى إلى من أستدين منه ذلك، فأخذني إلى داره، وأعطاني المبلغ بكماله، وتوقف بيعه، وهو يلقاني ولا يذكر الدراهم، فشرعت له مرة في الاعتذار من التأخير فقال: والله!(4/126)
ما لي عزم أن آخذها بالكلية، واتفق بيع التبن، وكسبت فيه أكثر من مقدار ثمنه، وأحضرت له الدراهم فامتنع من أخذها فحلفت بمغالظات الأيمان أنه لا بد من أخذها فأخذها، وهو كاره رحمه الله. وسافرت مع أخي رحمه الله إلى الديار المصرية في سنة تسع وخمسين وست مائة، فاجتزنا بغزة في شهر رمضان المعظم، وهو ناظر تلك الأعمال، وكنت أنا مفطر لرخصة السفر، ونزلنا عنده أياماً فكان في كل نهار يتقدم إلى طباخه أن يطبخ في النهار طعاماً لأجلي، فكان يطبخ من الألوان الفاخرة ما يكفي جماعة كثيرة، وكنت أسأله اختصار ذلك فيأبى إلا كرماً وتفضلاً رحمه الله. ونسخ في آخر عمره من كتب الأحاديث الشريفة النبوية صلوات الله وسلامه على قائلها وغير ذلك شيئاً كثيراً، وكان يكتب في يومه الكراستين والثلاثة، وكان ينظم الشعر. وليس بذاك. فمن شعره ما نقلته من خط سبطه قاضي القضاة نجم الدين أحمد بن محمد بن سالم ابن صصرى الثعلبي أيده الله تعالى. قال: أنشدني جدي يشير إليه رحمه الله لنفسه:
يا شامتاً بمصاب من هو ضده ... كأس الردى من بعده هو عنده
لا تشمتن فقد مضى لسبيله ... وبقيت أنت تخافه وتعده
قال وأنشدني لنفسه، وقد سافر في شهر رمضان وكان زمن الخريف:
قالوا أتى شهر الصيام فصمه تنج من العقاب(4/127)
فأجبتهم قد صمته ... فوقعت في وسط العذاب
هذا وهو في زمن الخريف فكيف لو في شهر آب
قال وأنشدني لنفسه أيضاً:
خان دهري عند احتياجي إليه ... وجفاني من كنت أحنو عليه
ناظري ثم عقلي وفؤادي ... وكذا خلى الذي اعتمادي عليه
أذكر الشيء ثم أنسى لوقتي ... ما تذكرته وما أرتجيه
قد تجاوزت تسعة ثم سبعين ولم أرعوى لما أنا فيه
فالاله الكريم يعفو عني ... من ذنوب أسلفت بين يديه
لا تضره الذنوب مني ولا ... ينقصه العفو إذا تبت إليه
قال وأنشدني أيضاً لنفسه:
يا مليح القد والوجه الحسن ... بان لما بنت عن جفني الوسن
صل محباً مستهاماً مغرماً ... حائراً يسأل سكان الدمن
هل أهيل الحي أنا ارتحلوا ... ففؤادي بهواهم مرتهن
ليت دهراً جار في فرقتهم ... عادلاً بالوصل يوماً في الزمن
يا أصحابي أعينوني على ... صرف الأيام تقضت في المحن
مازجت روحي غادة فاغتدى ... حبه يا صاح روحاً للبدن
ليس لي عنهم خروج أبداً ... لا ولا أدرجت في طي الكفن
موسى بن داود بن شيركوه بن شاذى أبو الفتح الملك الأشرف(4/128)
مظفر الدين بن الملك الزاهر محي الدين بن الملك المجاهد أسد الدين. كان شاباً حسناً بهياً، جميل الصورة، واسع الصدر، كريم الأخلاق، حسن العشرة، لين الجانب، شديد الحب للفقراء، كثير الاحسان إليهم بنفسه وماله، وكان عنده رياسة وحشمة، وأخلاق ملوكية، وأمه بنت الملك العظيم شرف الدين عيسى بن الملك العادل، واقتبس هذه الصفات الجميلة منها، ولما توفى حزن عليه والده حزناً مفرطاً، وكانت وفاته يوم السبت العشرين من ذى القعدة، ودفن بتربتهم بسفح قاسيون رحمه الله وخلف ولداً ذكراً، وكان يعاشره المولى علاء الدين بن غانم حرسه الله تعالى فرثاه، يقول:
لو أستطيع قضيت حقك منصفاً ... وقضيت لما أن قضيت تأسفاً
ولو أن في إتلاف روحي فدية ... نفديك كنت لها بودي متلفا
بالرغم من أن أراك محجباً ... في الترب والفى جنابك قد عفا
من للعفاة وقد تقلص عنهم ... ظل النوال وطالما بك قد صفا
من للملوك ولم يزل بك مجدهم ... في العالمين مؤثلاً ومشرفا
من للعدى يوم الجلاد ولم تزل ... تروى المثقف منهم والمرهفا
كم من عدو من سطاك قد اغتدى ... في ليله ونهاره متخوفا
يخشاك في اليقظات منه وفي الكرى ... فإذا انتبه رعته وإذا غفا
ما عم رزؤ مثل رزءك قادح ... أضحى به كل الأنام على شفا
لا الدمع غار والتصبر منصف ... أسفاً عليك ولا التجلد لي وفا(4/129)
يا دهر كف فقد كفى ما قد جرى ... ما أدمعي ولقد جرى ما قد كفى
لم يبق في قوس الرزايا منزعا ... من ذا تركت وقد أصبت الأشرفا
ملكاً كان على الأنام فضائلا ... وفواضلا وتورعاً وتعففا
من سادة ورثوا المكارم كابرا ... عن كابر لم يخف منها ما خفا
ما زال ربعهم مآل مؤمل ... ومآل من وفاهم مستسعفا
كل تفرد بالمعالي منهم ... كلفا يرى بالمجد لا متكلفا
فالحلم منهم يهتدي والفضل منهم يقتدي والهدى منهم يعتفى
أبني المجاهد لا رأيتم بعدها ... خطبا تجوز ولا زماناً محجفا
لا تجزعوا وتثبتوا وتصبروا ... فلكم تأس بالنبي المصطفى
رحم الإله فقيدهم واحله ... الفردوس منه تحية وتعطفا
وكان يصحبه المولى شهاب الدين أحمد بن غانم أعزه الله تعالى فرثاه بقوله:
قد بنت بيناً لا لقاء بعده ... يا نائنا لو أن دنا مزاره
يا وارداً بالرغم مني مورداً ... عز على كل الورى اصداره
فالأرض قد أوحشها وأهلها ... كأنها جميعها دياره
فكل قلب بعده من جزع ... لفقده خفوقه شعاره
وكل طرف قد غدا من دمعه ... أنهاره وليله ونهاره
يا غصن لما تثنى ما يشا ... ء أتاه عند زهوره انكساره(4/130)
بكلى الحيا عليك والبرق غدت ... مشقوقة من الأسى أطماره
ومزقت ريح الصبا جيوبها ... والجو من دموعه أمطاره
وانشق قلب الأرض يوم دفنه ... وانصدعت من حزنه أعشاره
أعزز على أن أراك ثاوياً ... ببطن لحد نصبت أحجاره
لو كنت تفدى لفداك ناظري ... بكل ما يروقه ادخاره
أو كان يعني المدمع عنك لارتوى ... من كل مذروب الظبا غراره
أما وقد فارقت دار محنة ... وزمناً لم تصفه أكداره
وصرت جار الله والجار له ... رعاية أوجبها جواره
فلا عدا قبرك صوب رحمة ... وجاده من الرضى مدراره
هبة الله بن محمد بن هبة الله بن علي بن جرير لأيو محمد نفيس الدين الحارثي الشافعي قاضي الزبداني. كان صدراً، رئيساً، عالماً، فاضلاً، كثير الكرم، واسع الصدر، دمث الأخلاق، له وجاهة عند الخاص والعام، وحرمة وافرة عند أرباب الدول، وكان يختار الزبداني لكونها وطنه، وله بها ملك يعود نفعه إليه. ولما توفى القاضي صدر الدين عبد الرحيم قاضي بعلبك رحمه الله عرضت عليه بعلبك ويترك الزبداني فأبى وامتنع، وبالجملة فكان من حسنات الزمان مع وفور الديانة والتقوى، وتوفى ليلة الخميس تاسع صفر بدمشق فجاءة، ودفن يوم الخميس بسفح قاسيون، وقد نيف على سبعين سنة رحمه الله تعالى. حكى عنه ما معناه أنه احتاج إلى ثمان مائة درهم في أوائل فصل الشتاء، وكان له بالزبداني بستان، عادته أن(4/131)
يبيع ثمره في السنة بمبلغ ألف درهم أو ما يقاربها، فطلب بعض أهل الزبداني، وقال له: قد احتجت إلى ثمان مائة درهم تعطيني إياها، وهذا البستان ثمرته في هذه السنة لك، فأعطاه المبلغ؛ واتفق أن بساتين الزبداني ضعفت في تلك السنة سوى أماكن يسيرة من جملتها ذلك البستان، فلما أدرك مغله، حرص من دفع ثمرته ثلاثة آلاف درهم، فقال القاضي: ثمرته لفلان، وأما الشخص فإنه يئس منه لعلمه بفساد البيع، وأن ما قاله القاضي له لا يلزمه الوفاء به، وقنع بعود الدراهم إليه فحضر إلى القاضي وخاطبه في ذلك، فقال: البستان ثمرته لك كما وعدتك، بل لو صقع أعدت إليه دراهيمك فحرض به كل الحرض على أن يعطيه الدراهم ويتصرف في البستان، فأبى ذلك، فأباع ذلك البستان بما ينيف عن ثلاثة آلاف درهم وأخذها. فانظر إلى هذه النفس الشريفة واحتقارها للدنيا فرحمه الله ورضى عنه. ولقد أذكر في ذلك شيئاً وقع وهو أن بعض من ولى القضاء ببعلبك طلب خبازاً في فرن المدرسة النورية بها، وقال له: قد أستحق لي جراية شهر تشتريها وتقبضها من القلعة وفاصلها عليها بمبلغ ثلاثين درهماً، وقبضها منه، وطلع الخباز إلى القلعة وتسلمها، فوجدها رديئة لا توافقها فباعها في العرضة بثلاثة وثلاثين درهماً، وبلغ القاضي فطلبه وقال له: البيع لم يصح، فإني ما رأيت القمح؛ وأخذ منه الثلاثة الدراهم، فانظر إلى ما بين الرجلين رحمهما الله تعالى وإيانا وجميع المسلمين.(4/132)
يحيى بن عبد المنعم أبو زكريا جمال الدين الفقيه الشافعي المصري المعروف بقاضي الغربية. ناب في الحكم بمصر سنين عديدة، وتولى التدريس بمشهد الحسن رضي الله عنه بالقاهرة سنين كثيرة، وكان من أعيان القدماء الفقهاء المكثرين من النقل، المحققين في المذهب، ولم يزل محمود السيرة، وتوفى بمصر يوم الأحد عاشر شهر رجب، ودفن بإحدى القرافتين، وقد ناهز ثمانين سنة رحمه الله تعالى.
يحيى بن محمد بن إسماعيل أبو زكريا تاج الدين الكردي الاربلي الشافعي. كان فقيهاً فاضلاً ديناً، باشر الحكم ببلاطنس وحمص وبعلبك وغيرها من البلاد، وناب في الحكم بدمشق مدة عن القاضي عز الدين محمد بن الصائغ رحمه الله، ثم ولى القضاء بحلب وأعمالها بتقليد سلطاني في أوائل هذه السنة، وتوجه إليها وباشر أحكامها مدة شهرين فلما جفل الناس من حلب، انتزح إلى حمص، وخرج يوم الخميس بكرة النهار من البلد للاجتماع بالقاضي عز الدين محمد بن الصائغ بمشهد خالد بن الوليد رضي الله عنه، والتحم القتال وهو هناك، فقتل يوم الخميس رابع عشر شهر رجب، وقد نيف على الستين من العمر، ودفن بمقابر حمص جوار مشهد خالد بن الوليد رضي الله عنه ورحمة الله تعالى.
يوسف بن إبراهيم بن قريش أبو المحاسن شمس الدين المصري. أحد كتاب الدرج بالديار المصرية وهو من قدمائهم، كتب للملك الصالح نجم الدين فمن بعده من الملوك، وكان وافر الرحمة كثير النعمة، وله صلة(4/133)
بذرية القاضي الفاضل رحمه الله، وحضر شمس الدين المذكور المصاف وفقد، ثم أخبرني من شاهده مقتولاً بتل فروحية، وهذا التل قبلي حمص بفوق فرسخين، وقتل، وقد نيف على سبعين سنة رحمه الله.
يوسف بن لؤلؤ بن عبد الله بدر الدين الذهبي الأديب الفاضل والشاعر المحسن. كان أبوه عتيق الأمير بدر الدين دلدرم الياروقي صاحب تل باشر، ومولد البدر يوسف سنة سبع وست مائة، وتوفى يوم السبت ثاني عشرين شهر شعبان من هذه السنة بدمشق، ودفن يوم السبت ثاني عشرين شهر شعبان من هذه السنة بدمشق، ودفن من يومه بمقابر باب الصغير رحمه الله. كان فاضلاً نبيهاً شاعراً مجيداً يغوص على المعاني المبتكرة فيجيد فيها. كتب إلى نجم الدين محمد بن إسرائيل، وللنجم صاحب يميل إليه يقال له الجارح بقوله:
قلبك اليوم طائر ... عنك في الجوانح
كيف يرجى خلاصه ... وهو في كف جارح
ثم بلغه أنه تركه، فكتب إليه:
خلصت طائر قلبي العاني يرى ... من جارح يغدو به ويروح
ولقد يسر خلاصه إن كنت قد ... خلصته منه وفيه روح
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
وروضة دولابها ... إلى الغصون قد شكا(4/134)
من حين ضاع زهرها ... دار عليه وبكى
وقال أيضاً:
وجنان ألفتها حين غنت ... حولها الورق بكرة وأصيلا
نهرها مشرعاً جرى وتمشت ... في رباها الصبا قليلاً قليلا
وقال في قصة جرت:
يا شادناً أخطى السبيل بقصده ... وعصى النصيح فيمن عصى
قد كنت بلا خصى في نعمة ... فتركته غلطاً وجئت إلى خصى
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
إن الذين ترحلوا نزلوا بعين ساهرة ... أنزلتهم في مقلتي فإذا هم بالساهرة
وقال أيضاً:
ضممته في ساعدي ضمة ... في ليلة قد غاب واشيها
وفي يدي من شعره حية ... لم أخشها مذ صرت حاويها
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
يا عاذلي فيه قل لي ... عن حبه كيف أسلو
يمر بي كل حين ... وكلما مر يحلو
وقال أيضاً:
ومعذر قد بايتوه جماعة ... ولووا بما وعدوه كل الميل
واكتاله كل هناك وما رأى ... منهم سوى حشف وسوء الكيل
وأنشدني المولى تقي الدين عبد الله بن تمام حرسه الله تعالى للبدر يوسف(4/135)
المذكور يقول:
هلم يا صاح إلى روضة ... يحلو بها العاني صدى همه
نسيمها يعثر في ذيله ... وزهرها يضحك في كمه
وهذا مأخوذ من قول ابن عمار:
يا ليلة بها في ظل أكتاف النعيم ... من فوق أكمام الرياض أذيال النسيم
وقال في الزين البغدادي وقد لبس ثوب صوف أسود:
لبس السواد فخلته متعبدا ... ومشى قليلاً في الطريق قليلا
في هيئة الرهبان إلا أنه ... لا يعرف التحريم والتحليلا
وقال وقد احتيل على الحشر:
أمولاي شمس الدين طال ترددي ... بحائرة قد عيل من دونها صبري
وقد كنت قبل الحشر أرجو نجازها ... فكيف بها قد صيروها إلى الحشر
وقال يتذكر أيام شبابه:
هل ذاق برق بالغوير أنارا ... أم أضرموا بلوى المحصب نارا
وكلاهما إن لاح من هضب الحمى ... لي شائق ويهيج تذكارا
فيما التعلل والشباب منكث ... عنى وقد شط الحبيب مزارا
وقد استرد الدهر ثوب الصبا ... وكذلك يؤخذ ما يكون معارا
فارفق بدمعك في الفراق فما الذي ... يبقى لتشفى أربعاً وديارا
ودع النسيم يراوح القلب الذي ... أروى زناداً للتشوق نارا
مع أنني أصبو إلى بان الغضا ... إن شمت برقاً أو شممت عرارا(4/136)
فاليوم لا وار بمنعرج اللوى ... يدنو بمحبوب لنا فيزارا
كلا ولا قلبي المشوق بصابر ... عنهم فأندب دمنة أو دارا
فسقى اللوى لا بل سقى عهد اللوى ... صوب الغمائم هامياً مدرارا
ولقد ذكرت على الصراط مرامياً ... ينسى بحسن وجوهها الأقمارا
وعلى الحمى يوماً ونحن بلهونا ... نصل النهار ونقطع الأنهارا
في فتية مثل النجوم تطلعاً ... وتخيروا صدق المقال شعارا
من كل نجم في الدياجي قد لوى ... في كفه مثل الهلال فدارا
متعطفاً من حرم داود الذي ... فاق الأنام صناعة وفخارا
فالآن قد حن المشوق إلى الحمى ... وتذكر الأوطان والأوطارا
وصبا إلى البرزات قلب كلما ... طارت به حرز اللغالغ طارا
فلأى مرمى ارتميه وليس لي ... قوس رشيق مدمج خطارا
حيل على ضعفي إذا استعطفته ... الوى على العنف والدستارا
ثلاث له من كل صنف قد حوى ... أعنى الرماة تحسناً إكثارا
وبوجهه المنقوش أول ما بدا ... وبه أقام وأقعد الشطارا
وبدا بتحريمي بلا سبب بدا ... مني وأودعه الرماة مرارا
يا حسنه من مخلف ولكنه ... في الجو عال لا يسف مطارا
ويطير خطفاً عن مقامي عاضداً ... ولشقوتي لا يدخل المقدارا
لا بندقى مهما خطرت نباله ... أنى ينال مراوغاً طيارا
وسنان من حرز اللغالغ لم يزل ... يرعى الرياض وليس يرعى الجارا(4/137)
لا راحل بل قائم عني إلى ... ماء الفرات يخوض منه غمارا
وأما تراني فاقداً ومنعماً ... في الجو ليلاً خلفه ونهارا
دعني فقد برد الهواء وقد أتى ... أيلول يطفى للهجير جمارا
ووراء تشرين جاور عدة ... عجلان يحدو للسحاب وطارا
والبارق الهامي على قلل الحمى ... سرى هناك خيوطه كالتارا
والفيض طام ماؤه متدفق ... والطير فيه يلاعب التيارا
والنهر حن به فراح مسلسلاً ... صبا تحيراً لا يصيب قرارا
بهر النواظر حين أنبت شطه ... للناظرين شقائقاً وبهارا
والصبح في آفاقه يا سعد قد ... أخفى النجوم وأطلع العرارا
فانهض إلى المرنى الأنيق بنا وقد ... هب الصباح ونبه الأطيارا
وتباعث جناتها في أفقها ... مثل النعام قوادماً يتسارى
من جو زور للعراق قوادماً ... يا مرحباً بقدومها زوارا
فاصح إلى رشق القسى إذا ارتمت ... مثل الحريق أطار عنه شرارا
وأطرب على نغمات أطيار بدت ... في الجو وهى تجاوب الأوتارا
من كل طيار كأن له دما ... عند الرماة فثار يبغي الثارا
هل جاء في طلب العش لحتفه ... أم جاء يطلب عندها الآثارا
فاكتم يطرب بالجناح كأنه ... أيدي القيان تحرك الأوتارا
خاض الظلام وعب فيه فسود ... الرجلين منه وسود المنقارا(4/138)
وأتى يبشرها اللقاء فضمخت ... تلك المغارز عنبراً ونضارا
والكىء كالشيخ الرئيس مزمل ... في بردنيه هيبة ووقارا
والكئ على الأسماك يوماً كلما ... أذكى له حر المجاعة نارا
والوز كم قد هاجها تنغيمه ... ليلاً وكم قد ساقنا أسحارا
فإذا تباشر بالصباح بنى له ... عطفاً وصفح بالجناح وطارا
وترى اللغالغ تستهل بأعين ... خرزية صغر الجفون صغارا
وكأن ورشا ذاب في أجفانها ... فحكى النضار وخير النضارا
فترى الأنيسات الأوانس تنثني ... بين الرياض كأنهن عذارى
يسلبن أرباب العقول عقولهم ... ويرعن منه جيلة ونفارا
وترى الحبارج كالقطا أرياشها ... أو كالرياض تفتحت أزهارا
هجرت مناهلها على برح الظما ... واستبدلت من دونها وقفارا
والبر سلطان لها لكنه ... لم يلفه لدمائها هدارا
قد شاب منه رأس من طول ما ... كرت عليه عصوره أدوارا
أرخى جناحيه عليه كجوشن ... لو كان يمنع دونه الأقدارا
وإذا العقاب سطا وضال بكفه ... عاينت منه كاسراً جبارا
يعطي ويمنع عزة وتكرماً ... ويبيح ممنوعاً ويحفظ جارا
وترى الكراكي كالرماد وربما ... فرت فأذكت في القلوب نارا(4/139)
قد سطرت في الجو منها أسطرا ... وطوت سماء سجلها أسفارا
فإذا انصرعن فلا تكن ذا غفلة ... عن أن تيقظ حلهن مرارا
وبدت غرانيق لهن ذوائب ... لولا البياض لحلتهن عذارى
حمر العيون تدير من أحداقها ... فينا كؤوساً قد ملئن عقارا
والصوغ في أفق السماء محلق ... مثل الغمام إذا استقل وسارا
ذو مغرور ذرب فلو يسطو به ... نضح السنان واخجل التبارا
مرازم بيض وحمر ريشها ... كالورد بين الياسمين نثارا
خفقت بأجنحة على مجمرة ... كمراوح أضرمن منه جمارا
وعجت كيف صبت إلى صلبانها ... تلك الرماة وما هم بنصارى
وسبيطر ما أن يحل له دم ... مهما علا شجراً وحل جدارا
والأشرفية الفت لمنازل ... فاصبر له حتى يفارق دارا
وكأنما العناز لما أن بدا ... لبس السواد على البياض غبارا
وكأنه قد ضاق عنه مزورا ... فوق القميص فحلل الأزرارا
هل عب من صرف العقار بمغرز ... أم كان خاض من الدماء بحارا
يوسف بن يعقوب بن يعيش أبو المحسان جمال الدين السلمي المعري الاصل شيخ الغارة المعروفة بالعزيز بن الملك الاحمد صاحب بعلبك. كان شيخاً، صالحاً، ورعاً، محققاً، عارفاً بكلام المشايخ، مشتغلاً فيه، مسلكاً للمريدين والطلبة، خبيراً بالكتب المشكلة في هذا الفن، وكان يعرف كتاب(4/140)
خلع النعلين لابن قسى، ويتكلم على شرحه كلاماً مفيداً، وكان شيخنا تاج الدين عبد الرحمن الفزاري رحمه الله تعالى يعظمه، ويجتمع به، ويصفه بالتقدم الراسخ في معرفة طريق القوم. ومولده سنة اثنتي عشرة وست مائة، وكانت وفاته بالمغارة العزيزية بسفح قاسيون ليلة السبت ثالث عشر جمادى الأولى سنة ثمانين وست مائة، وحمل إلى مقابر الصوفية فدفن بها رحمه الله.
السنة الحادية والثمانون وستمائة
استهلت هذه السنة يوم السبت والخليفة والملوك على القاعدة المستقرة في السنة الخالية، والملك المنصور سيف الدين قلاوون مقيم بالديار المصرية.
وفي أوائل هذه السنة ترتب في مملكة التتار مكان ابغا أخوه لأبيه أحمد بن هولاكو وهو مسلم، حسن إسلامه على ما يقال عنه، وعمره يومئذ مقدار ثلاثين سنة، ووردت الأخبار إلى الشام بأن كتبه وأوامره وصلت إلى بغداد تتضمن إظهار شعائر الاسلام، وإقامة مناره وإعلاءكلمة الدين، وبنيان الجوامع، والمساجد، والأوقاف، وتنفيذ بالأحكام الشرعية، والوقوف معها، وتشيد قواعدها، وإلزام أهل الذمة لبس الغيار، وضرب الجزية عليهم، ويقال: إن إسلامه كان في حياة والده هولاكو.
وفي عشية يوم الأحد مستهل صفر قبض الملك المنصور سيف الدين قلاوون على الأمير بدر الدين بيسرى الشمسي، وعلاء الدين كشتغدى الشمسي، واعتقلهما بقلعة الجبل.(4/141)
وفي يوم الأربعاء عاشره فوض إلى قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله التدريس بالمدرسة الأمينية بدمشق، وذكر الدرس بها يوم الأربعاء ثامن عشره، وكان قد درس بها مدة، ثم انتزعت منه، وأعيدت إليه، وكتب له بها تقليد من إنشاء المولى القاضي شرف الدين بن فضل الله ديوان الانشاء، ومضمونه:
" الحمد لله الذي أقر الحق في نصابه وأعاد الأمر إلى من هو أولى به. ورد الفضل إلى وطنه بعد معاناة اغترابه. ورفع منار العلم للمسترشدين من طلابه. نحمده حمداً نستزيد به النعم، ونستفيد ونسترد به فائت الشكر ونستعيد. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من تيقن شهادته فأداها وأجزى الله المشيئة بتزكية نفسه فأتاها هداها، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خاتم رسله. ونبيه الذي أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام. أئمة الدين وخلفاء الاسلام. الذين سبقوا ونصروا وعلنوا بالاسلام، وصابروا في الله وصبروا. وطلقوا الدنيا وهجروا. ما توج مفرق الصبح من الشمس بتاج. وأمسى لذهب الأصيل الأفق امتزاج. وبعد! فأما الأمور الدينية أولى ما كانت عيون العناية بها متأملة، وركائب الأفكار نحوها متحملة. ليوضع الأشياء في مواضعها. ويقع الأمور في أحسن مواقعها. فلا يقع الاشتباه مع غير الانظار والاشباه. ولا يوضع غير التيجان بمكانها من المفارق والجباه. وإذا رقدت لحظة الخط أو سهت. وتخطت خطوة الخطأ(4/142)
فما وقفت حيث انتهت أيقظت، تلك العناية الخط من هجوعه. وصدت الخطأ عن قصده، وحكمت عليه برجوعه، فتمسى النجم له استقامة بعد الرجوع. ويصبح وللشمس من بعد الغروب طلوع. ولذلك رسم بالأمير العالي المولولى السلطاني الملكي المنصوري السيفي زاد الله شرفاً، وملأ بمحامده من الأيام صحفا. أن يفوض تدريس المدرسة الأمينية بدمشق المحروسة إلى الجناب العالي المولوي القضائي الأمامي الأوحدي الأفضلي الأرشدي الزاهدي العابدي الورعي الناسكي العلوي العلامي الشمسي ضياء الاسلام صدر الأنام بقية الكرام، علامة العلماء بمصر والعراق والشام، كهف الملة ركن الشريعة شيخ المذاهب مفتي الفرق قدوة العالمين ظهير الملوك والسلاطين، خالصة أمير المؤمنين أحمد بن الشيخ الامام العالم العلامة بهاء الدين بن خلكان ضاعف الله جلاله إذا كان المعنى بهذا المعنى. والأوحد الذي لا نظير له فما يجمع، ولا يتثنى وهو الأولى بأن ينعت بواحد الزمان. والمراد به من مفهوم هذه الخطاب وغيره هو الذي أردناه بقولنا مضى هذا من هذا الباب. لتزين سماء العلوم منها بشمسه المنيرة، ويحتوي صدرها من تصدره بها على حاوي العلوم الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة. وليفوض نظرها إليه فقد حكم له بها الاستحقاق، وأصبحت نظامية الشام لما درس بها، وقد أربت على نظامية العراق، وقد درس بها الشيخ أبو اسحاق. وشهادة فضله الآن مغنية عن فضل امسه. والأخبار عن الماضي من الأمر لا يفتقر إليه والعيان شاهد لنفسه. ومتى احتاج النهار إلى دليل مع طلوع فجره.(4/143)
وشروق شمسه. والواصف لمناقبه ما عساه أن يورد بين يدي فضائله وسماعه لدرسه. ويوجز ويطنب فلا يخلى ولا يملى، وكيف يمل وتوفيق مفيد العقول عليه تملى. فليقصر في هذا المقام على إفادته. وتحصيل الاكتفاء بابانته. عن تكرر المقال وإعادته. وليباشر ذلك على قاعدته فيه وعادته. والاعتماد على الخط الكريم اعلاه إن شاء الله تعالى ".
كتب في ثالث عشر صفر سنة إحدى وثمانين وست مائة وهذا التقليد من نائب السلطنة بالشام الأمير حسام الدين لاجين رحمه الله.
وفي يوم الأحد سابع صفر دخل الحجاج دمشق في تامه.
وفي يوم الأحد حادي عشر ربيع الآخر ترتب بالديار المصرية نجم الدين المعروف بابن الاصفواني وزيراً عوض برهان الدين السنجاري وباشر الوزارة في التاريخ المذكور وهو من أهل صعيد مصر من بليدة يقال لها اصفون من أعمال قوص، ولم يزل متنقلاً في الخدم والأقطار الكبار، ثم ترقى إلى الوزارة في هذا التاريخ ورفعت يد الأمير علم الدين الشجاعي أحد المماليك الكبار المنصورية عن شد الدواوين بالديار المصرية واستمر على إمرته.
وفي أواخر جمادى الآخرة ترتب بالقاهرة والوجه البحري القاضي شهاب الدين محمد بن القاضي شمس الدين الخوى عوضاً عن القاضي وجيه الدين البهنسي، وانفرد وجيه الدين بقضاء مدينة مصر والوجه القبلي على عادة من تقدمه، وكان شهاب الدين قاضياً بالغربية نيابة عن الحاكم بالقاهرة مدة، ثم أعفى عنها وتوجه إلى حلب حاكماً بها مستقلاً، وأقام بها مدة، ثم(4/144)
أعفى عنها وتوجه إلى الديار المصرية فأعيد إلى الغربية وأقام بها إلى حين استقلاله بالقاهرة على ما ذكرنا.
وفي ليلة الاثنين حادي وعشرين شهر رجب وصل إلى دمشق رسل من جهة الملك أحمد بن هولاكو ملك التتر قاصدين السلطان، فأنزلوا بدار رضوان بقلعة دمشق. واهتم بأمرهم غاية الاهتمام، وتلقاهم سيف الدين كبك أمير حاجب بجماعة من العسكر إلى حلب فتوجهوا إلى الديار المصرية ليلة الخميس رابع عشرين منه، ومعهم سيف الدين كبك المذكور، وكانت طريقهم على القدس والخليل لقصده الزيارة، ومسيرهم في الليل دون النهار في جميع بلاد المسلمين في المجيء والعود، وهم بهاء الدين أتابك الروم، وشمس الدين بن شرف الدين التبتي وزير صاحب ماردين، وقطب الدين قاضي شيراز، لديه فضيلة تامة في الهيئة وعلوم الأوائل من المعقولات.
وفي ليلة الجمعة حادي عشره دخل الأمير حسام الدين لاجين نائب السلطنة بالشام على زوجته ابنة الأمير ركن الدين بيبرس الناصري المعروف بطقصو حملت إليه من الديار المصرية، وكان دخولها عليه بدار السعادة، وعمل عرس عظيم حضره نائب السلطنة المذكور، وسائر الأمراء، والجند، وكثير من العوام، وأحضر فيه المطربون، وعند الفراغ منه أحضر الأمراء ومقدمو الحلقة تقادم جليلة من الخيول والثياب، الأطلس والنسيج، والعتابى وغير ذلك في البقج، والمماليك لابسين عدد الحرب على الخيول المثمنة وغير ذلك، واستمر عرض التقادم من بعد السماط إلى الظهر، ولم يقبل من(4/145)
ذلك إلا اليسير، وبعد الفراغ من عرضها، ركب إلى دار السعادة.
وفي يوم الأربعاء ثاني عشرين شعبان طافوا بالكسوة الشريفة التي عملت برسم الكعبة عظمها الله تعالى بمصر والقاهرة على العادة.
وفي ليلة الأحد عاشر رمضان المعظم احترقت اللبادين بدمشق الشمالية بكمالها، وجسر الكتبيين بأسره، وأكثر اللبادين القبلية العلو والسفل من ذلك جميعه، والفوارة والسوق الذي يليها للقماش المعروف بسوق عسا الله، وسقاية جيرون، ووصلت النار إلى الربع الملاصق لحمام الصحن من قبلية، فاحترق بعضه إلى باب درج العجم بوسط جيرون، وإلى جدر المسجد العمري الذي على درج باب الجامع الملاصق لسجن زين العابدين رحمة الله عليه إلى داخل مشهد علي رضوان الله عليه وإلى جدار دار الخشب وخزائن السلاح وإلى الرابع المستجد بجيرون قبالة درب العجم، واحترق أكثره، واحترق من الكتب ما يزيد على ستة آلاف مجلد، ومن عجيب الاتفاق أنه وجد وريقة عتيقة من كتاب وقد احترق أكثرها وبقي فيها مكتوب:
فوض الأمر راضياً ... جف بالكائن القلم
ليس في الرزق حيلة ... إنما الرزق بالقسم
ذل رزق الضعيف ... وهو لحم على وضم
وافتقار الغنى إذ ... يرهب الأسد في الأجم
إن للخلق خالقاً ... لا مرد لما حكم(4/146)
وبالجملة فكان حريقاً عظيماً لم يشهد مثله، وخيف على الجامع منه وكان بداية الحريق بين المغرب والعشاء، والناس على الفطر، واستمرت النار تعمل إلى الثلث الأخير من الليل، وهي في قوة وتزيد، ثم تناقصت وخمد لهبها قبل طلوع الشمس، وكان السبب في إخمادها الأمير حسام الدين لاجين نائب السلطنة رحمه الله فإنه لما بلغه خبرها، بطل الفطر وحضر بنفسه وخواصه ومماليكه مسرعاً، وحضر إليه جميع الأمراء ومماليكهم وكثير من الجند، وظهر من اهتمامه في إخمادها ما تضاعفت الأدعية له بسببها، وأقام الدخان يصعد من خلال الأبنية والردوم نحو أسبوع، وتقدم من غد يومه إلى الصاحب محي الدين محمد بن النحاس بعمارة ما احترق، وإعادته إلى ما كان عليه، وندب من جهته مشدا بين يدي الصاحب محي الدين لذلك، وقطعت رواتب الناس كافة على المصالح، وحصل الاهتمام التام من الصاحب محي الدين، فبنى أحسن مما كان، وأتم بالانقاش في مدة قريبة.
وفي ليلة الخميس حادي وعشرين منه وصل إلى دمشق رسل الملك أحمد بن هولاكو من مصر عائدين إلى مخدومهم، ونزلوا بدار رضوان بالقلعة، وسافروا ليلة الأحد رابع عشرين منه إلى بلادهم، ولم يتوجه معهم رسول من جهة الملك المنصور.
وفي يوم عيد النحر وهو يوم الخميس قدم الملك المنصور ناصر الدين محمد صاحب حماة إلى دمشق متوجهاً إلى الديار المصرية إلى خدمة السلطان(4/147)
الملك المنصور سيف الدين قلاوون، ونزل بداره داخل باب الفراديس، وسافر بعد يومين من مقدمه.
وفي يوم عرفة قبض بدمشق على زين الدين من ذرية الشيخ عيسى ابن أبي البركات، وأبو البركات هو أخو سيدنا عدى بن مسافر رحمة الله عليه، وسير إلى الديار المصرية، وصحبته أميران من أمراء دمشق مقبوض عليهما أيضاً حسبما ورد به مرسوم الملك المنصور سيف الدين قلاوون من الديار المصرية.
وفيها توفى: إبراهيم بن اسماعيل بن يحيى بن علوى أبو اسحاق الدمشقي الملقب بالبرهان المعروف بابن الدرجى المحدث. سمع الكثير وأسمع، وكان بالحجاز الشريف فمرض في عوده بالطريق، وتوفى يوم دخول الحجاج دمشق، وهو يوم الأحد سابع صفر، ودفن من يومه بمقبرة باب الفراديس، ومولده بدمشق يوم الثلاثاء رابع عشر شعبان سنة تسع وتسعين وخمس مائة رحمه الله تعالى.
أحمد بن غانم بن علي بن إبراهيم بن عساكر بن حسين أبو العباس الأنصاري المقدسي. كان شيخاً كبيراً جليلاً، منقطعاً عن الناس، مشتغلاً بأوراده وأذكاره وتلاوته على قدم السلف، لا يشتغل بما لا يعنيه، ولا يضيع أوقاته في شيء من أمور الدنيا، أجهد نفسه في العبادة والتقلل من الدنيا، وملازمته الورع والزهد، وعدم التطلع إلى مشيخة أو رياسة أو منصب، ربى صغيراً على قدم الانفراد، والتجريد، والعبادة؛ واستمر(4/148)
على ذلك إلى حين وفاته. قال والده الشيخ غانم رحمه الله: من أراد أن ينظر إلى عابد من عباد بني إسرائيل فلينظر إلى أحمد. وتوفى بالقدس في شعبان سنة إحدى وثمانين وست مائة، وقد تجاوز تسعين سنة رحمه الله تعالى وصلى عليه بجامع دمشق بالتيه يوم الجمعة سابع عشر شعبان.
فصل
وفيها توفى: أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان بن ناول بن عبد الله بن شاكل بن الحسين بن مالك بن جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك أبو العباس البرمكي الاربلي الشافعي شمس الدين قاضي قضاة الشام، وصدر صدور الاسلام. وله ليلة الأحد حادي عشر جمادى الآخرة سنة ثمان وست مائة باربل، وبها نشأ، وذكره الصاحب كمال الدين عمر بن العديم رحمه الله في تاريخ حلب، وساق نسبه رحمه الله إلى خالد بن برمك، وقال: فقيه شاعر من بيت معروف بالفقه والأدب والمناصب الدينية، قدم حلب وتفقه بها. أنشدني قصيدة يرثي بها الملك العزيز بن الملك الظاهر، وهي هذه:
طوى من نظام الملك واسطة العقد ... ولم يك من صرف المنية من يد
فما للرماح السمر مشرعة القنا ... وما للصفاح البيض مرهفة الحد
أمن بعد فقدان العزيز محمد ... تدور رحى الحرب على صافن نهد
إذا عطلت من بعده حومة الوغى ... فما تصنع الفرسان بالقصب الملد(4/149)
لقد جل هذا الذرء من وصف واصف ... كما جل عن إدراكه حد ذى حد
سقى جدثاً ضم المكارم تربه ... ولحداً حوى تلك المناقب من لحد
مواطر دمع ما يزال تمدها ... سحائب تحدوها بواسم من نجد
فلله ما أذكى ثراه كأنما ... تنفس في روض المرحم عن خد
لئن أظلمت دنيا الغفلة لفقده ... فقد أشرقت من وجهه جنة الخلد
عليك سلام الله يا خير مالك ... ويا غير مصحوب سوى الشكر والحمد
وتفقه بالموصل على الشيخ كمال الدين موسى بن يونس، وعلى القاضي بهاء الدين أبي المحاسن يوسف بن رافع عرف بابن شداد وغيره، وقدم دمشق في عنفوان شبابه، فأقام بها مدة، ثم توجه إلى الديار المصرية، فاستوطنها واشتغل بالعلوم، وحصل من كل فن طرفاً جيداً، وكان فقيهاً إماماً بارعاً متقناً، مجموع الفضائل، معدوم النظير في علوم شتى، حجة فيما ينقله، محققاً لما يورده، منفرداً في علم الأدب والتاريخ، تولى الحكم بالقاهرة مدة زمانية خلافة عن قاضي القضاة بدر الدين يوسف السنجاري رحمه الله، ودرس وأفتى، وصنف واشتغل جماعة كثيرة؛ ثم ولى قضاء القضاة بالشام من العريش إلى سلمية. وفوض النظر في سائر أوقافها، وبسطت يده في ذلك، وفوض إليه تدريس عدة مدارس بدمشق، فكان يذكر الدروس فيها بنفسه، وتارة نوابه، وأقام على ذلك مدة عشر سنين، ثم صرف وتوجه إلى الديار المصرية، فأقام بها سبع سنين بطالاً، وباشر في(4/150)
بعضها تدريس مدرسة فخر الدين عثمان رحمه الله بالقاهرة، ثم ولى الشام مرة ثانية، وقدم دمشق في أواخر سنة ست وسبعين، فباشر الحكم بدمشق إلى سنة ثمانين ثم صرف ولزم منزله متوفراً على العلم والافادة والاشتغال إلى حين وفاته، وقد أشرنا إلى بعض ذلك فيما تقدم من هذا الكتاب، وأما رياسته، وعلو همته، وشرف نفسه، وخبرته بقوانين الأحكام والحشمة فلم يكن له في ذلك نظير، وكان جواداً مفضالاً ممدحاً، مدحه شعراء عصره بغرر القصائد، وكان يجيزهم الجوائز السنية، وكان عنده صبر واحتمال وستر على العورات وعفو عن الزلات عفا الله عنه وأدخله في سعة رحمته التي وسعت كل شيء. حكى لي أنه حضر إليه وهو بالمدرسة العادلية الكبيرة بدمشق بعد عشاء الآخرة من أخبره أن ثم جماعة من أعيان العدول في مكان يشربون الخمر وعندهم نساء أجنبيات، وشنع شناعة كثيرة، فاستوقف المخبر عنده، وسير من باب السر من ثيق به إلى ذلك المكان، وعرفهم الصورة وأن والى الليل يحضر لكشف ذلك، وأمرهم برفع ما عندهم من المنكرات، والتأهب لمن يحضرهم، ثم احضر والى الليل، وعرفه ما ذكر الناقل، وأمره أن يأخذه، ويتوجه إلى المكان لكشف حقيقة ذلك، فتوجه والى الليل، وطرق الباب ففتح، ودخل فوجد جماعة يتحدثون وعندهم فقير مزمزم ومأكول لا غير، فعاد والى الليل، ومن معه وأخبروه بما شاهدوا فعزر الناقل(4/151)
فانحسمت مادة السعايات بمثل ذلك. ولما كان بالقاهرة بعد صرفه من الشام حضر عنده عز الدين محمد بن شداد رحمه الله بكتب..... وانتقالها إلى الملك الظاهر وهي نابتة عليه، ورام منه أن يشهد عليه بما فيها ليثبت عند الحكام بالديار المصرية، قال له: كيف أشهد على ذلك؟ قال: يأذن لك قاضي القضاة تقي الدين بن رزين، قال: والله! لو كنت متولياً ما كنت آذن له ولا أراه بهذه الصورة فأشهد عليك بإذنه، هذا ما لا يكون أبداً؛ فعرف الملك الظاهر فعظم في صدره، وعرف شرف نفسه، فأذن له أن يحكم بالديار المصرية، ويشهد عليه، ففعل ذلك على كره منه، كان حصل له طائفة عظيمة في تلك المدة؛ وبلغ الأمير بدر الدين الخزندار رحمه الله فأمر له بنفقة فوق ألفي درهم ومائة أردب قمح، وحضر إليه من جهة الأمير بدر الدين من أخبره بذلك فامتنع من قبوله، وقال للرسول: تجوع الحرة ولا تأكل تبد بها فلاطفه الرسول، وسأله وتضرع إليه، فلم ينفذ وأصر على الامتناع مع الحاجة المفرطة. كان وجيه الدين محمد بن سويد صاحبه، ومكانته مشهورة، فكان يحضر إليه ويسومه قضاء أشغال كثيرة، فيقضيها، فحضر إليه في بعض الأيام ورام منه ما هو معتذر، فاعتذر إليه بأن ذلك لا يجوز فعله، فقال الوجيه: ما يكون الصاحب صاحباً حتى يعرق جبينه مع صاحبه في جهنم، فقال له(4/152)
قاضي القضاة: يا وجيه الدين! نحن قد صرنا معك قتليش وما ترضى. قلت: من يذكر أن قاضي القضاة إنما خرج له النسب إلى البرامكة على ما تقدم شهاب الدين المعروف بأبي شامة، وليس الأمر كذلك، فإن قاضي القضاة أخبر بالأنساب من الشهاب وغيره، ثم وقفت على مجلد من تاريخ إربل لوزيرها شرف الدين بن المستوفى رحمه الله، وقد ذكر وفاة ابن عم لقاضي القضاة، وقد نسبه إلى البرامكة من ذلك الزمان، لعل قبل خروجه من إربل، ثم ذكره الصاحب كمال الدين رحمه الله في تاريخ حلب أعني قاضي القضاة ونسبه إلى البرامكة، وكانت وفاته بالمدرسة النجيبية جوار المدرسة النورية بدمشق عصر
نهار السبت سادس عشرين شهر رجب، ودفن يوم الأحد بسفح قاسيون رحمه الله ورضي عنه. وله نظم كثير، فمنه ما كتبه في صدر كتاب إلى بعض أصحابه وهو نبهان، يقول: نهار السبت سادس عشرين شهر رجب، ودفن يوم الأحد بسفح قاسيون رحمه الله ورضي عنه. وله نظم كثير، فمنه ما كتبه في صدر كتاب إلى بعض أصحابه وهو نبهان، يقول:
سكنمتم فؤادي لا تغيبون ساعة ... وقلبي على طول الزمان لكم مغنى
وما الدهر إلا لفظة مستعارة ... وأنتم له روح وأنتم له معنى
لئن نزحت أرواحنا ونفوسنا ... ففي أي أرض كنتم معكم كنا
وله أيضاً رحمه الله:
أحبابنا لو لقيتم في مقامكم ... من الصبابة ما لاقيته في ظعني
لأصبح البحر من أنفاسكم يبساً ... والبر من أدمعي ينسق بالسفن(4/153)
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
كأنني يوم بان الحي من إضم ... والقلب من سطوات البين مذعور
ورقاء ظلت لفقد الألف ساجعة ... تبكي عليه اشتياقاً وهو مأسور
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
يا جيرة القلب هل من عودة فعسى ... تفيق من سكرات الوجد مخمور
وإن ظفرت من الدنيا بوصلكم ... فكل ذنب جناه الدهر مغفور
وقال في محلاح أربعة يلقب أحدهم بسيف:
ملاك بلدتنا في الحسن أربعة ... بحسنهم في جميع الخلق قد فتكوا
تملكوا منهج العشاق وافتتحوا ... بالسيف قلبي ولولا السيف ما ملكوا
وقال في ملاح بسيحون:
ورب ظباء في الغدير تخالهم ... شموساً بأفق الماء تبدو وتغرب
يقول خليلي والغرام مصاحبي ... أما لك عن هذه الصبابة مذهب
وفي دمك المطلول خاضوا كما ترى ... فقلت لهم ذرهم يخوضوا ويلعبوا
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
كم قلت لما اصلعت وجناته ... حول الشقيق الغصن روضة آس
لعذاره الساري العجول بوجهه ... ما في وقوفك ساعة من باس
وقال أيضاً رحمه الله:
لما بدا في خده عارض ... بشرت قلبي بالسلو المقيم(4/154)
وقلت هذا عارض ممطر ... فجاءني فيه عذاب اليم
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
أعديتني بالهوى يا فاتر المقل ... فصح وجدي على ما بي من العدل
وملت عني إلى الواشي فلا عجبا ... فالغصن ما زال مطبوعاً على الميل
يا واحد الحسن عدني زورة حلما ... وها يدي إن نومي قد جفا مقلي
يا جيرة بأعالي الخيف من إضم ... خبيتم بجفاكم في الهوى أملي
وملتم بجميل الصبر عن دنف ... أجل ما يتمنى سرعة الأجل
تجري على الربع مذ بنتم مدامعه ... وما عسى ينفع البالي على الطلل
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
ولما إن تفرقنا ... وحاولت نوب الدهر
رأيت الشهد لا يحلو ... فما ظنك بالصبر
وقال أيضاً:
وما سر قلبي مذ شطت بك النوى ... نعيم ولا لهو ولا متصرف
ولا ذقت طعم الماء إلا وجدته ... سوى ذلك الماء الذي كنت أعرف
ولم أشهد اللذات إلا تكلفاً ... وأي سرور يقتضيه التكلف
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
يا رب إن العبد يخفى عيبه ... فاستر بحلمك ما بدا من عيبه
ولقد أتاك وما له من شافع ... لذنوبه فاقبل شفاعة شيبه(4/155)
وقال رحمه الله تعالى:
أي ليل على المحب أطاله ... سائق الظعن يوم زم جماله
يزجر العيس طاوياً يقطع المهمه عفا سهوله ورماله
أيها السائر المجد ترفق ... بالمطايا فقد سئمن الرحاله
وأنخنا هنيئة وأرحها ... قد براها فرط السرى والكلاله
لا تطل سيرها العنيف فقد ... برح بالصب في سراها الاطاله
قد تركتم وراءكم خلف وجد ... نادياً في محلكم إطلاله
يسأل الربع عن ظباء المصلى ... ما على الربع لو أجاب سؤاله
وحمال من النخيل جواب ... غير أن الوقوف فيها علالة
هذه سنة المحبين يبكون على كل منزل لا محاله
يا دار الأحباب لا زالت الأدمع في ترب ساحتيك مداله
وتمشي النسيم وهو عليل ... في مغانيك ساحباً أذياله
أين عيشي مضى لنا فيك ما ... أسرع عنا ذهابه وزواله
حيث وجه الشباب طلق نضير ... والتصابي غصونه مياله
ولنا فيك طيب أوقات أنس ... ليتنا في المنام نلقى مثاله
وبأرجاء جوك الرحب سرب ... كل عين تراه تهوى جماله(4/156)
من فتاة بديعة الحسن ترنو ... من جفون لحاظها مغتاله
ورخيم الدلال حلو المعاني ... تنثني أعطافه مختاله
ذى قوام تود كل غصون البان لو أنها تحاكي اعتداله
وجهه في الظلام بدر تمام ... وعذاره حوله كالهاله
ظبية تبهر البدور جمالاً ... وغزال تغار منه الغزاله
فرعى الله ذلك الغصن حفظاً ... وسقاه من الوفاء سجاله
يا خليلي إذا أتيت ربي الجزع وعاينت روضه وقلاله
قف به ناشداً فؤادي فلي ... ثم فؤاد أخشى عليه ضلاله
وبأعلى الكثيب بيت اغض الطرف عنه مهابة وجلاله
حوله غلمه تبرمن من ... الخوف عليه ذو بلاء عساله
كل من جئته لأسأل عنه ... أظهر الغي غيرة وتباله
أنا أدرى به ولكن صوناً ... أتعامى عنه وأبدي جهاله
كيف لي لو أطلت لشم ثراه ... وهات في الهجر ظلاله
منزل حقه على قديم ... في زمان الصبا وعصر البطاله
يا عريب الحمى اعذروني فإني ... ما تجنبت أرضكم عن ملاله
حاش لله غير أني أخشى ... من عدو يسيء فينا المقاله
فتأخرت عنكم قانعاً من ... طيفكم في المنام يهدى خياله(4/157)
أتمنى في النوم زور خيال ... وللأماني أطماعها قتاله
يا أهيل النقا وحق ليالي ... الوصل ما صبوتي عليكم ضلاله
لي مذ غبتم عن العين نار ... ليس تخبو وأدمع هطاله
فصلونا إن شئتم أو فصدوا ... لا عدمناكم على كل حاله
وقال رحمه الله تعالى:
أيا عاذرا خانت مواثيق عهده ... لقد جرت في حكم الغرام على الصب
وأقصيته من بعد أنس وصحبة ... وما هكذا فعل الأخلاء بالصحب
فلله أيام تقضت حميدة ... بقربك واللذات في المنزل الرحب
وإذ أنت في عيني ألذ من الكرى ... وأشهى إلى قلبي من البارد العذب
فلهفي على ذاك الزمان لقد غدت ... عليه دموع العين دائمة السكب
ومذ صرت ترضيني بقول منمق ... وتظهر لي سلماً أشد من الحرب
ثنيت عناني عن هواك زهادة ... وإن كنت في أعلى المراتب من قلبي
لأني رأيت القلب عندك ضائعاً ... تعذبه كيف اشتهيت بلا ذنب
ولم تحفظ الود الذي هو بيننا ... ولم ترع أسباب المودة والحب
ولا أنت في فيد المحب إذا غدا ... تقلبه الأشواق جنباً على جنب
ولا أنت ممن يرعوي لمقالتي ... فأشفى قلبي بالشكاية والعتب
ولا رمت منك القرب إلا جفوتني ... وأبعدتني حتى يئست من القرب(4/158)
وأصغيت للواشي وصدقت قوله ... وضيعت ما بيني وبينك بالكذب
فلم يبق لي والله فيك إرادة ... كفاني الذي قاسيته فيك من عجب
ولا لي في حبيك ما عشت رغبة ... أبى الله أن تسبى فؤادي أو تصبي
ومن ذا الذي يقوى على حمل بعض ما ... تجرعته بالذل من خلقك الصعب
فلا ترجها مني بعد حسن صحبة ... فحسبي سلو بعض ما قلته حسبي
ولا تعتبي قد قطعت مطامعي ... وخففت حتى في الرسائل والكتب
وقال رحمه الله تعالى في المعنى:
أيا معرضاً عني بغير جناية ... أما تستحي من فرط تيهك والعجب
سلوتك فاصنع ما تشاء فإنه ... محا كثرة التقبيح حبك من قلبي
وقال رحمه الله لغزاً في تاريخ:
ما اسم إذا صحفته الفتيه ... من بعد ذاك ولفظه تاريخ
في ضمنه نار إذا خففتها ... لا جمرها وار ولا منفوخ
يا ريح بلغ من أحب تحيتي ... إن الحبيب لما يقول مصيخ
قال ابن المستوفى: نقلت من خط أحمد بن خلكان لنفسه يقول:
وافى كتابك ساطعاً أنواره ... ومضمناً من كل فضل بارع
فغدوت أنشر طيبه بتلطف ... وأطيل لثم سطوره بتواضع(4/159)
وجعلته مني مكان تمائم ... نيطت على المجنون خوف التابع
وقال رحمه الله تعالى في الاستعطاف:
يا سادتي إني قنعت وحقكم ... في حبكم منكم بأيسر مطلب
إن لم تجودوا بالوصال تعطفاً ... وقصدتم هجري وفرط تجنبي
لا تحرموا عيني القريحة أن ترى ... يوم الخميس حمالكم في الموكب
لو كنت تعلم يا حبيبي ما الذي ... ألقاه من نكد إذا لم تركب
لرحمتني ورثيت لي من حالة ... لولاك لم يك حملها من مذهبي
ومن البلية والرزية إنني ... أقضي وما تدري الذي قد حل بي
يا من كلفت به فعذب مهجتي ... عطفاً على كلف الفؤاد المعذب
إن فاته منك اللقاء فإنه ... يرضى بلقيا طيفك المتأوب
إن كنت تسمح للجفون بهجعة ... فلقد أضر بها ارتقاب الكوكب
قسماً بوجدي في الهوى وتحرقي ... وتحيري وتلهفي وتلهبي
لو قلت لي جد لي بروحك لم أقف ... فيما أمرت وإن شككت فجرب
مولاي هل من عطفة تصغي إلى ... قصصي بطول شكايتي وتعتبي
من بعد ذاك القرب والاقبال قد ... أصبحت عندك كالغريب الأجنبي
قد كنت تلقاني بثغر باسم ... واليوم تلقاني بوجه مقطب
ما كان لي ذنب إليك سوى الهوى ... فعلام تهجرني إذا لم أذنب(4/160)
والهجر يقبح بالكرام تعنتاً ... من غير ما سبب ولا من موجب
قل لي بأي وسيلة أدلي بها ... إن كنت تبعدني لأجل تقربي
وإلى متى هذا الصدود وإنني ... ليطول من هذا الصدود تعجبي
ما كنت أحسب أن عهدك حائل ... حتى دهاني فيك ما لم أحسب
وحياة وجهك وهو بدر طالع ... وسواد طرتك التي كالغيهب
وبياض مبسمك النقي الواضح ... العذب الشنيب اللؤلؤي الأشنب
وبقامة لك كالقضيب ركبت من ... أخطارها في الحب أصعب مركب
لو لم أكن في رتبة ادعى لها ... العهد القديم صيانة للمنصب
لهتكت ستري في هواك ولذ لي ... خلع العذار ولج فيك مؤنبي
لكن خشيت بأن تقول عواذلي ... قد جن هذا الشيخ في هذا الصبي
فاستر فديتك حرقة قد قاربت ... كشف القناع بحق ذياك النبي
لا تفضحن بحبك الصب الذي ... جرعته في الحب أكدر مشرب
قد خانني جلدي وضاقت حيلتي ... وتقسمت فكري وعقل قد سبي
فانظر إلى رحمة أحيى بها ... وتريح قلبي من غرام متعب
وقال رحمه الله دوبيت:
بالأبريق منزل عفاه القدم ... فسقت دموعي إن جفاه الديم
لم أدر زماننا الذي كان به ... من لذة أيقظة أم حلم
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
ما شمت على الخيف بروقاً لمعت ... إلا وحسبتها لقلبي صدعت(4/161)
يا من يعدو لا تبعثوا طيفكم ... نحوي فجفوني بعدكم ما هجعت
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
يا من رحلوا فأودعوني الأسفا ... من بعدكم ما راق عيشي وصفا
ما افكر في طيب زمان سلفاً ... إلا وسألت الله عنه الخلفا
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
كم يخجل قدك القنا والبانا ... يا من فتنت لحاظه الغزلانا
عذبت قلوبنا فنادت قلقاً ... سبحان إله بك قد أشقانا
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
حتام وكم نسائل الركبانا ... عمن نزل الحمى وعمن بانا
أحبابي ما على من غيركم ... ما القصد سواكم كائناً من كانا
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
ليت النسمات عرجت بالعلمين ... واستقبلت الجزع وقرب بحنين
كي أسأل من أحب عن حالته ... أو يسألها عن حالتي كيف وأين
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
يا حادي عيسهم ويا سائقها ... أثقلت بطول سيرها عاشقها
ما ضرك لو رحمتها اليوم عسى ... نقضى وطر المغرم فارقها
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
قوم ألفوا طول الجفا والهجر ... في حبهم ضاع جميع العمر
أرجو بدلاً عنهم وإلا فعسى ... أن يرزقني الباري جميل الصبر(4/162)
وقال أيضاً رحمه الله:
يا مخترق البيد سهولاً وحزون ... في منن شمله على السير أمون
إياك وأيمن الحمى إن به عرب ... سهروا دون ظبي الهند عيون
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
العين عليك نومها ممتنع ... والقلب لما تقوله متبع
يا من سلب الفؤاد مني ... نادى من بعدك بالحياة ما انتفع
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
يا من لهم الجميل والانعام ... بنتم فتزايدت بي الآلام
عندي وحياتكم من الشوق لكم ... ما يعجز أن يشرحه الأقلام
هل تسمح لي بطيفك الاحلام ... يا من حكمت ببعده الايام
ما أطمع في وصلك هيهات بلى ... يكفني من خيالك الالمام
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
قاسوك ببدر التم قوم ظلموا ... لا ذنب لهم لأنهم ما علموا
من أين لبدر التم يا ويحهم ... جيد وعيون وقوام وفم
وقال أيضاً رحمه الله:
قاسوك بغصن البان لما وصفوا ... لا ذنب لهم لأنهم ما عرفوا
هب إن له ملامحاً منك بلى ... من أين لغصن البان هذا الهيف(4/163)
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
قد أعرض عني جيرتي وانتزحوا ... كم أصغي إلى العذال فيما نصحوا
ناشدتك ما عليك دعني وهم ... لا تدخل بيننا عسى نصطلح
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
هذا الصلف الزائد في معناه ... قد حيرني فلست أدري ما هو
كم يحمل قلبي من نجنيك ولا ... يدري أحد بذاك إلا الله
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
انظر إلى عارضه فوق جفونه ... يرسل منها الحتوف
فعاين الجنة في خده ... بارزة تحت ظلام السيوف
ولقاضي القضاة رحمه الله تعالى أشعار كثيرة، أضربنا عن ذكر بعضها طلباً للاختصار. وقال الشيخ شهاب الدين أحمد بن غانم لما صرف قاضي القضاة عن دمشق سنة تسع وستين:
وليت فأوليت الورى كل نعمة ... وزلت وما زال الثناء ولا الشكر
فإن عدت عاد الخير والفضل والندى ... وأن تكن الأخرى وحوشيت والصبر
وقال الشيخ شهاب الدين يرثيه:
يا شمس علوم في الثرى قد غابت ... كم بنت عن الشمس وما نابت
لم تأت بمثلك الليالي أبداً إما ... عجزت عنه وإما هابت(4/164)
وقال أيضاً فيه:
يا شمس علوم الدين والأحكام ... يا نادرة القضاة والحكام
أنساني كل الناس منه نظري ... إنسان سواد مقلتيه الاسلام
أحمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الجبار بن طلحة بن عمر أبو العباس أمين الدين الأشتري الحلبي الشافعي الامام العلامة ذو الفنون. كان إماماً عالماً فاضلاً بارعاً ورعاً زاهداً ناسكاً. كثير التلاوة، ظاهر الخشوع، كبير القدر، ممن جمع بين العلم والعمل، وأقرأ الفقه مدة، وكان أحد أصحاب الشيخ محي الدين النوراني، وانتفع به، وسلك مسلكه في العلم والعبادة والتدقيق في العلم والعمل، ووقف كتبه التي كتبها من تصانيف الشيخ محي الدين وغيره بدار الحديث الأشرفية، وكان سمع من أبي محمد بن علوان، وأبي الحسن بن روزبه، وأبي المجد القزويني، وعبد اللطيف بن يوسف، وأبي المحاسن بن شداد، وأبي الحسن بن الأثير، وابن يعيش النحوي صاحب شرح المفصل وغيرهم، وحدث بالكثير، وكان له مع الفقه وغيره اعتناء كثير بالحديث. وله بحلب سنة خمس عشرة وست مائة، وتوفى فجاءة في ربيع الأول سنة إحدى وثمانين وست مائة بدمشق المحروسة رحمه الله تعالى.
إدريس بن صالح بن وهيب الفقيه زين الدين المصري القليوبي. قرأ الفقه والمقامات الحريرية على قاضي القضاة شمس الدين أحمد ابن خلكان رحمه الله المقدم ذكره بمدرسة سيف الاسلام طغتكين بن أيوب صاحب اليمن،(4/165)
وكانت المدرسة المذكورة داره إذ كان بالقاهرة، ثم جعلها مدرسة وهي بخط البندقانيين بالقاهرة، وكان زين الدين المذكور إمام المدرسة إذ ذاك، وذلك في سنة سبع وثلاثين، ثم اتصل بخدمة الأمير عز الدين أيدمر الحلى، وكان الحلى يسكن جوار الجامع الأزهر بالقاهرة، فسعى في أمره حتى جعله تقام فيه الجمعة، ورتب زين الدين المذكور خطيباً به، وهو أول من خطب فيه، وغالب الظن أن ذلك كان في سنة اثنتين وستين وست مائة، ولم تزل طريقة زين الدين إدريس المذكور حسنة، وكان آدم شديد الأدمة، ومولده سنة ثمان عشرة وست مائة، وتوفى ليلة السبت الرابع والعشرين من شهر ربيع الآخر هذه السنة بالقاهرة، ودفن بالقرافة الصغرى رحمه الله تعالى، وكان ينظم نظماً متوسطاً، فمن شعره من قصيدة يمدح بها قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان رحمه الله إذ كان ينوب بالحكم في القاهرة:
تراءت له بالرقمتين مخائل ... فتمت عليه بالغرام بلابل
وأجرى دموع العين أو ملأ الملا ... ونمق في أكتاف سلع حمائل
وأصبحت.... الفراق منغصاً ... وحزني لا يحنو ودمعي هاطل
وجفني إذا نام الخليط مسهد ... وخدي مخلود وجسمي ناحل
تجلى دجى حزني سنا مدح أحمد ... ولون حياتي كاسف النور حائل(4/166)
فمن نور شمس الدين فضائل ... تضيء علينا نورها متكامل
إمام إمام المكرمات صفاته ... وقاض عليم فاضل الحكم فاضل
له قدم في المكرمات رفيعةفرائضهاخفت بهن نوافل
له من سجاياه وسيط مهذب ... وجيز مقال عامر الجود شامل
كريم بسيط الكف جوداً مديدة ... سريع العطايا وافر الحلم كامل
يبقى الثناء بالجود مستخرجاً له ... ومصروفه الموجود والفضل حاصل
إسماعيل بن إسماعيل بن جوسلين أبو الفداء عماد الدين. كان إماماً عالماً فاضلاً ورعاً عاملاً، لازم والدي رحمه الله من صغره، واشتغل عليه إلى حين وفاته، وسمع البخاري على الزبيدي، وسمع كثيراً على المشايخ، وحصل طرفاً جيداً من العربية، وكان ينظم الشعر، ويترسل ترسلاً حسناً، ويكتب خطاً منسوباً، وكان كثير العبادة والاجتهاد والاخلاص في أفعاله، يحرص على كتمان ما يفعله من ذلك وإخفائه عن الناس، حسن العشرة، كثير المروءة، كريم الأخلاق، تمرض أياماً، فلما دنت وفاته، لم يزل يتلو القرآن الكريم بحضور إلى حيث فارق بمنزله ببعلبك وهو في عشر الثمانين رحمه الله، ودفن بمقبرة جده لأمه شمس الدين محمود بن قرقين ظاهر باب سطحاء من بعلبك المحروسة. قال أخي رحمه الله: لم أر من مات وهو مستحضر كما ينبغي سواء.... دخلت عليه قبل موته(4/167)
بساعتين وهو يتلو القرآن العزيز وسمعته يردد الآية في سورة الواقعة " فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ". وكان رحمه الله قد صحب والدي خمسين سنة، واستفاد منه، وروى عنه، وأخذ وانتفع به ظاهراً وباطناً، وكان عنده علوم جمة، وآداب وفضائل، ومروءة يعجز الواصف عن وصفها، يسارع إلى الخيرات، ويتصدق سراً، كثير قيام الليل، يحب الخمول، ويلازم قعر بيته، يعاشر الناس بالمعروف، ويحسن إلى جيرانه ومعارفه، روى عن الشيخ موفق الدين بن قدامة الحنبلي، وبهاء الدين إبراهيم بن المقدسي، والقزويني، وابن رواحة، وغيرهم، وكانت وفاته ليلة الثلاثاء ثالث وعشرين صفر رحمه الله تعالى.
بيجار بن بختيار الأمير حسام الدين اللاوي الرومي، قد ذكرنا قدومه إلى الشام، وتروحه عن بلاد التتار، وكان له بتلك النواحي قلاع، وبلاد، وأموال جمة، فجرى لولده بهاء الدين بهادر المقدم ذكره ما اقتضى تروحه مع رغبته في الحضور إلى بلاد الاسلام، ومكاتبة الملك الظاهر له، ولما حضر وصل مع خلق كثير من أمراء الروم، وأعيانه، وطائفة كثيرة من غلمانه، وأتباعه، وذريته، ولما استقر بالديار المصرية قصد الحج فتوجه، وأدى فريضة الحج، وتصدق في الطريق، وبالحرمين الشريفين بصدقات كثيرة، وأنفق في حجته أموالاً جمة، وعاد ولزم بيته، وترك الإمرة، وكف بصرة قبل موته بدون ثلاث سنين وكان قد عمر عمراً طويلاً وتعدى المائة سنة بسنين كثيرة، وتوفى بالقاهرة في أوائل شهر شعبان من هذه السنة رحمه الله تعالى.(4/168)
الخضر بن عبد الرحمن بن الخضر أبو العباس سديد الدين الشيخ الصالح. مولده يوم الثلاثاء في إحدى الجمادين سنة أربع وثمانين وخمس مائة، وتوفى في رابع شوال سنة إحدى وثمانين وست مائة بحماة. ودفن ظاهرها في عقبة نفرين رحمه الله تعالى. قال أخي أبو الحسين علي بن محمد رحمه الله: أنشدني سديد الدين المشار إليه في الخانكاة النورية بحماة في يوم الاثنين تاسع شهر رمضان سنة اثنتين وسبعين وست مائة للشيخ أبي الحسين النوري رحمه الله:
وكم رمت أمراً حزت لي في انصرافه ... فلا زلت بي مني أبر وأرحما
عزمت على أن لا أحسن بخاطر ... على القلب إلا كنت أنت المقدما
وأن لا تراني عند ما قد كرهته ... لأنك في قلبي الكبير المعظما
قال وأنشدني أيضاً:
أنا من يراك وإن تباعد شخصه ... بنواظر القلب الذي لا تهجع
ولذاك أسمع ما تقول وبيننا ... مرمى تحث العيس فيه وتوضع
فعلام أقترح الدنو وقد أرى ... ما شئت منك على البعاد وأسمع
قال وأنشدني أيضاً:
طبع المحبوب على الجور فلو ... أنصف المحبوب فيه لسمح
ليس يستحسن في شرع الهوى ... عاشق يعرف تأليف الكحح
قال وأنشدني أيضاً:
تمنيت من أهوى فلما لقيته ... بهت فلم أملك لساناً ولا طرفا(4/169)
وأطرقت إجلالاً له ومهابة ... وحاولت أن يخفى الذي بي فلم يخفا
وقد كان في قلبي خطوب كثيرة ... فلما التقينا ما نطقت ولا حرفا
قال وأنشدني أيضاً:
رضينا من وصالك بالكلام ... ومن بذل المودة بالسلام
فهل شيء يكون أقل من ذا ... لمشغوف بحبك مستهام
فيوم لا أراك بألف شهر ... وشهر لا أراك بألف عام
قال أخي رحمه الله وأنشدني أيضاً:
تمر الليالي لا أراك وإنني ... جليد على حكم الهوى وصبور
لقد طال عهدي باللقاء ولم أزل ... أرجى لقاكم والمحب شكور
ولولا رجائي أن ذا البين ينقضي ... قضيت وأن الموت فيه يسير
وقال أنشدني رحمه الله تعالى:
سعاد تسبني ذكرت بخير ... وتزعم أنني مذق خبيث
وإن مودتي زور ومين ... وإني للذي ألقى تبوث
ولست كذاك لا ردا عليه ... ولكن الملول هو النكوث
ولي وجد يجادبني إليها ... وشوق بين أحشائي حثيث
رأت ولهي بها وقم تم وجدي ... فلمتني كذا كان الحديث
سليمان بن عبد الله بن ابرين، ويقال ابن عمران، أبو الربيع قطب الدين الزيلعي الحنفي خادم المصحف العثماني الشريف بمقصورة الخطابة. كان شيخاً صالحاً زاهداً حسن السمت؛ سمع من ابن الزبيدي، وابن اللتي،(4/170)
وأبي الحسن بن المقير، وحدث. توفى رابع ذى الحجة سنة إحدى وثمانين وست مائة عن سن عالية وخلف بنتاً واحدة رحمه الله تعالى.
شيتركى صاحب جبل. كان من الفرسان المشهورين عند الفرنج، محبوباً إليهم لشجاعته وكرمه، وكان من معظم الخيالة بطرابلس، وقد مالوا إليه وتغيروا على صاحبها، فكاتبهم شيركى وكاتبوه وتقرر بينهم أنه متى حضر سلموا إليه البلد، وكان بينه وبين صاحب طرابلس عداوة شديدة، وكان شيركى قد انتهى إلى الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله بواسطة الأمير سيف الدين بلبان الصالحي، وشرط على نفسه أنه متى ملك طرابلس تكون مناصفة بينه وبين الملك المنصور، وطلب أن يتعضد بجماعة من المسلمين الجبليين لقربهم منه، فسمح لهم النواب بذلك، وتردد إليه، وأخذوا خلعه، فلما كان في أواخر شوال، أو أوائل ذى القعدة من هذه السنة، ركب شيزكى في أصحابه وجماعة من الجبليين في البحر، ودخلوا ميناء طرابلس ليلاً، وخرجوا من المراكب. ودخلوا البلد، وطرقوا أبواب من كان كاتبهم، فلم يخرج إليهم لأن صاحب طرابلس قد نمى إليه الخبر، واحترز فجاء شيزكى إلى قصر صاحب طرابلس فقيل له: قد علم صاحب طرابلس علم صاحب طرابلس بباطن الحال فارجعوا فلم يفعل شيزكى: فلم احس صاحب طرابلس بدخولهم البلد، أخرج غلمانه وأصحابه وخيالته في طلبهم، فأمسكوا من ظفروا به، وأما شيزكى فقصد دار الدواية ليحتمي بها،(4/171)
فجاء صاحب طرابلس فقبضه منها بعد فصول يطول شرحها، وسيرهم لوقته إلى أنفه، وحبسهم بها، وأما شيزكى وأصحابه الخصيصون به فيقال إنه غرقهم في البحر بعد إمساكهم بثلاثة أيام، وسير غلمانه تسلموا جبيل فصارت له مع طرابلس وما معها، وأما الجبليون فبقوا في القيود إلى حيث نازل الملك المنصور المرقب، وحضر إليه رسول صاحب طرابلس فطلبهم منه، ولم يسمع له رسالة، فعاد إلى صاحبه، وأخبره ما رسم به السلطان فكساهم جميعهم وجهزهم إلى عند السلطان بظاهر المرقب فأطلقهم.
شاذى بن داود بن عيسى بن أبي بكر محمد بن أيوب بن شاذى الملك الظاهر غياث الدين بن الملك الناصر صلاح الدين بن الملك المعظم شرف الدين ابن الملك العادل سيف الدين رحمه الله تعالى. مولده في الخامس والعشرين من ذى الحجة سنة خمس وعشرين وست مائة بقلعة دمشق، ووالده إذ ذاك صاحبها، وأظنه أكبر ولد أبيه وأمه ابنة الملك الأمجد مجد الدين حسن بن الملك العادل وهو شقيق الملك الأمجد مجد الدين المقدم ذكره في سنة سبعين وست مائة، وتوفى الظاهر شاذى ليلة الخميس حادي وعشرين شهر رمضان المعظم من هذه السنة بقرية الناعمة من الغور، وحمل إلى القدس الشريف، فدفن بعد الصلاة عليه بالأقصى عقيب صلاة الجمعة ثاني وعشرين شهر رمضان المعظم رحمه الله تعالى. كان ديناً خيراً عاملاً شجاعاً صادق اللهجة، كريم الأخلاق، كثير التواضع، لين الكلمة، يعاني ملابس العرب ومراكبهم كعمه الملك القاهر رحمه الله تعالى، وكان شريف النفس،(4/172)
غير مبتذل إلى أحد من أرباب الدولة، ويسكن بسفح قاسيون ظاهر دمشق، وخلف أولاداً صغاراً رحمه الله تعالى.
عبد السلام بن علي بن عمر بن سيد الناس أبو محمد زين الدين الزواري شيخ المالكية وكبيرهم ومدرسهم والمتعين منهم. كان وصل إلى الديار المصرية في سنة خمس عشرة وست مائة قبل موت العادل بقليل. وانتقل إلى دمشق في سنة ست عشرة واستقر بها، وولى القضاء بدمشق والشام على مذهبه مستقلاً مكرهاً على ذلك في سنة أربع وستين وست مائة، ثم عزل نفسه يوم وفاة قاضي القضاة شمس الدين عبد الله بن عطاء الحنفي رحمه الله، وتوفى الشيخ زين الدين إلى رحمة الله تعالى ورضوانه ليلة الثلاثاء ثامن شهر رجب من هذه السنة بمدرسة أم الملك الصالح عماد الدين بدمشق، ودفن يوم الثلاثاء بعد صلاة الظهر بمقابر باب الصغير، وكانت له جنازة حفلة عظيمة حضرها الخاص والعام، ونائب السلطنة وغيره، ومولده سنة تسع أو ثمان وثمانين وخمس مائة بظاهر بجاية من أعمال إقريقية، وكان إماماً عالماً عاملاً ورعاً متقللاً من الدنيا، قانعاً منها بالكفاف، سالكاً، أنموذج السلف، يشتري حاجته بنفسه من السوق ويحملها، وهو قاضي قضاة الشام، وكان عارفاً بالقراآت، وإليه علم ذلك بالشام في وقته، وكان رحمه الله في غاية المعرفة بأمور الدنيا وتدبير أحوالها، وله العقل المعيشي الوافر مع كثرة الديانة، وكرم الطباع، ووفور الايثار للفقراء، والبر لهم، ولين الكلمة للخاص والعام، وشدة التواضع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على القانون شرعي، ولم يكن يثبت بالخطوط، ولم يكن(4/173)
يشهد عليه إلا جماعة يسيرة معدودين من الأعيان المعروفين ببروز العدالة. فكان للشهادة عليه في النفوس موقع كبير، ولما عزل نفسه على ما تقدم ذكره، استمر نائبه جمال الدين في مباشرة للطائفة المالكية، واستقل بذلك إلى حين وفاته رحمه الله تعالى.
علي بن عيسى بن أبي الحسن بن أبي الفوارس أبو الحسن الأمير عز الدين ابن الأمير ناصر الدين بن الامير سيف الدين بن الأمير أسد الدين القيمري، كان هو صاحب قلعة قيمر المشهورة انتقلت إليه عن سلفه، وكانت بيده إلى أن أخذها منه التتر وهي بالقرب من مدينة إسعرد، وانتقل إلى الديار المصرية وخدم بها ثم بطل الخدمة قبل وفاته بمدة ولزم السكن جوار البيمارستان الذي أنشأه جده الأمير سيف الدين أبو الحسن بسفح قاسيون، وكانت وفاته ليلة الأحد ثالث عشر شهر رجب من هذه السنة بالنيرب ظاهر دمشق، ودفن يوم الأحد بعد صلاة الظهر بتربة جده الأمير سيف الدين المذكور معه في الضريح والتربة تجاه المارستان المذكور، وعمره مقدار أربعين سنة رحمه الله.
لاجين بن عبد الله الأمير حسام الدين العينتابي. كان له مشاركة في نيابة السلطنة بحلب، وتقدم للعسكر بها، وكان شجاعاً بطلاً جواداً خيراً، حسن السياسة، جميل الصورة، تام الخلق، عنده رياسة وعقل ومعرفة، وكان قبل وفاته بمدة يسيرة ثبت أنه باق على الرق، فاشتراه الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله، وأعتقه وزاد في حرمته، وبسط يده وأقطاعه، وكانت وفاته بحلب ليلة السبت ثاني عشر ذى الحجة، ودفن(4/174)
يوم السبت ظاهرها، وهو في عشر الخمسين سنة من العمر رحمه الله تعالى.
محمد بن عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي الحسن بن محمد بن المهذب أبو عبد الله شرف الدين السلمي الشافعي. قد تقدم ذكر والده شيخ الاسلام عز الدين رحمه الله في سنة ستين وست مائة، وكان الشرف أكبر أولاده وأوجههم، يباشر إمام المدرسة الظاهرية بالقاهرة للطائفة الشافعية وغيرها من الجهات الدينية، وتوفى بالقاهرة يوم الاثنين سابع وعشرين شعبان من هذه السنة عقيب عوده من الشام إلى الديار المصرية، ودفن بالقرافة الصغرى بتربة والده، وقد نيف على تسعين سنة، وكانت له جنازة حفلة رحمه الله تعالى.
محمد بن علي بن محمود أبو عبد الله صلاح الدين الشهرزورى الشافعي مدرس المدرسة الناصرية القيمرية بدمشق، وناظرها الشرعي. كان شاباً، نبيهاً، حسن الشكل، لين الكلمة، كريم الأخلاق، حسن العشرة، ولى تدريس المذكورة بعد والده القاضي شمس الدين، واستمر بها إلى حين أدركته منيته بالمدرسة المذكورة في يوم الثلاثاء ثاني وعشرين شهر رجب من هذه السنة، ودفن من يومه إلى جاني والده بتربة الشيخ تقي الدين ابن الصلاح، ولم يبلغ من العمر أربعين سنة رحمه الله تعالى.
محمد بن سليمان أبو عبد الله المعروف بابن العلم الحموي. كان شيخاً صالحاً زاهداً عابداً ورعاً فاضلاً أديباً، حسن العشرة والفضيلة، تجاوز التسعين سنة، وكانت وفاته بدمشق بالمدرسة الرواحية ثامن عشر ذى القعدة هذه(4/175)
السنة، وصلى عليه بجامع دمشق، ودفن بمقابر باب الصغير رحمه الله تعالى. وقال أخي رحمه الله: أنشدني أبو عبد الله محمد المذكور يوم السبت رابع عشر شعبان سنة سبع وسبعين وست مائة ببعلبك لنفسه:
يمشي ويعثر بالعيون وراءه ... وإذا استدار تعثرت من خلفه
وحلى مكان نطاقه فكأنه ... شعبان كل حلاوة في نصفه
محمود بن سلطان بن محمود أبو الثناء البعلبكي الشيخ الصالح العارف الزاهد العابد. كان من الأولياء الأفراد وأرباب الأحوال والمعاملات، أقم أربعين سنة يجمع المباح ووالده من قبله ستين سنة، وكان كثير الذكر ليلاً ونهاراً، صحب والده الشيخ سلطان رحمة الله عليه كثيراً، وخدمه ولازمه وأخذ عنه كثيراً، وانتفع به، ويقال: إنه جمع بينه وبين رجال جبل لبنان رضي الله عنهم، فكانوا يجتمعون به في كل وقت إلى آخر عمره، وصحب والدي كثيراً، ولازمه إلى حين وفاة والدي، وصحب الشيخ إبراهيم بن جوهر البطائحي، ولبس منه خرقة تبركاً، وقصد الاتصال بخرقة سيدنا الشيخ محي الدين. وتوفى الشيخ محمود المذكور يوم الثلاثاء خامس شهر رمضان المعظم عند صلاة العصر، ودفن من الغد بتربة سيدنا الشيخ عبد الله الزمن إلى جانب قبر والده الشيخ سلطان نفع الله به، وقد ناهز المائة سنة من العمر رحمه الله تعالى ورضي عنه. قال: إن والده أخبره لما عاد من وقعة حطين، كان عمر الشيخ محمود أحد عشر شهراً، ووقعة حطين كانت في ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين وخمس مائة، ومات والده رحمه الله(4/176)
سنة أربعين وخمس مائة عن مائة وخمس عشرة سنة رحمه الله تعالى.
محمود بن عبد الله بن عبد الرحمن أبو الثناء برهان الدين المراغي الشافعي. كان إماماً عالماً عاملاً، كثير العبادة والتقوى، عليه آثار الصلاح ظاهرة، ولى تدريس المدرسة الفلكية بدمشق إلى حين وفاته، وعرض عليه أن يكون قاضي القضاة بالشام، فامتنع قنعاً وورعاً، وعرض عليه أن يكون قاضي القضاة بالشام، فامتنع قنعاً وورعاً، وعرض عليه أن يكون شيخ الشيوخ بالشام فامتنع أيضاً، وكان كريم الأخلاق، لطيف الشمائل، حسن العشرة، عارفاً بالمذهب والأصول، مكمل الأدوات من أعيان العلماء، له قلم راسخ في الفتيا، وتحقيق النقل، ومولده سنة خمس وست مائة، توفى بدمشق ليلة الجمعة ثالث وعشرين ربيع الآخر، ودفن يوم الجمعة بعد الصلاة بمقابر الصوفية رحمه الله تعالى.
المقداد بن أبي القاسم بن هبة الله بن المقداد بن عبد الله بن المقداد بن علي أبو المرهف نجيب الدين القيسي. كان من أهل الخير والعدالة والأمانة، سمع الكثير وتفرد بأشياء، وأسمع وانتفع بالسماع عليه جماعة من الطلبة، وتوفى بدمشق يوم الأربعاء ثامن شعبان، ودفن من الغد بسفح قاسيون، وهو في عشر الثمانين رحمه الله تعالى.
منكوتمر بن هولاكو بن قازان بن جنكز خان ملك التتار. وهو من بيت الملك، وهو مقدم الجيش الذي ضرب المصاف مع المسلمين في السنة الخالية ظاهر حمص، فكان عنده شجاعة وإقدام، وبطش وسفك للدماء،(4/177)
وهو نصراني الدين، وكان جرح يوم المصاف، والذي جرحه الأمير علم الدين الدويدار رحمه الله، وحصل له غم شديد على ما جرى عليه، وعلى عساكره، وكمد زائد، وحدثته نفسه بجمع العساكر من سائر مماليك بيت هولاكو، وقصد الشام، وأخذ بثأره، فقدر الله تعالى موت أخيه ابغا، فعبء ذلك في عضده، وتملك بعد أخيه أخوه الملك أحمد، وهو مسلم لا يرى محاربه المسلمين، فانكسرت همته، واعترته صرع متدارك، فتوفى في العشر الأول من المحرم ببلد الجزيرة العمرية يقال لها: تل خنزير، وقيل: كانت وفاته في آواخر سنة ثمانين والله أعلم وقيل: انه لم يمت حتى أكل لسانه بأسنانه، وأتى على أكثر من نصفه، وكفن في أربعة أثواب نسيج، وجعل في تابوت، وسير إلى تلا، فدفن بها، وقد نيف على ثلاثين سنة من العمر والله أعلم.
هبة الله الملقب بالسديد النصراني القبطي المنيوز بالماعز. مستوفى الديار المصرية وقوانينها وأحوال المملكية، لا يشاركه في ذلك مشارك، وكان مدار الوزارة عليه، والوزير يستضئ به في سائر الأحوال، وكان رجلاً جيداً، كبير المروءة، والخدمة للمسلمين، والتودد إليهم، والترصد لقضاء حوائجهم، وعنده رياسة وبراهة وعفة، وستر على عورات الكتاب، وعدم مؤاخذة لمن يقصده بضرر، متمسكاً بدينه وشريعته، كثير الصدقة على فقراء النصارى، ويتصدق على فقراء المسلمين أيضاً،(4/178)
ولم يكن في أهل ملته من يضاهيه في وقته، وكانت وفاته بالقاهرة يوم الاثنين عاشر المحرم وهو في عشر السبعين، ورتب ولد الأسعد جرجس مكانه، وتضاعفت منزلته، وفعله للخير، ومنافسته في المعروف، وفعل الجميل مع المسلمين بحيث أطلقت الألسن بشكره، والثناء عليه، ثم أسلم فيما بعد.
يعقوب بن غنائم الموفق الساوى. كان حكيماً فاضلاً حاذقاً في الصناعة الطبية، جامعاً للعلوم الحكمية، أتقن صناعة الطب علماً وعملاً، واحتوى على جملتها، لم يكن في زمانه أعرف منه بقوانين الطب ومعرفته، له اليد الطولى فيه، وله تأييد في اجتلاب الصحة، وتحرر في استقراء الأعراض، ومعرفة تامة بالبحث في علم الطب، والتفرد فيه، وله حلقة اشتغال فيه لكل من قصده، وله تصانيف جليلة، منها: شرح الكليات من كتاب القانون لابن سينا، وحل شكوك نجم الدين أحمد بن المفتاح على الكليات، وكتاب المدخل إلى علم المنطق والطبيعي والالهي وغير ذلك، وكانت وفاته يوم السبت في شهر رمضان سنة إحدى وثمانين، وهو دمشقي المولد والوفاة.
السنة الثانية والثمانون وستمائة
استهلت هذه السنة يوم الخميس، والخليفة الامام الحاكم بأمر الله أحمد العباس أمير المؤمنين، وسلطان الديار المصرية، والبلاد الشامية الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي، مقيماً بقلعة الجبل من الديار المصرية.
وفي يوم الأحد سابع وعشرين شهر صفر وصل إلى دمشق(4/179)
الملك المنصور صاحب حماة، وخرج نائب السلطنة، والموكب للقائه، ونزل بداره داخل باب الفراديس، وعزمه التوجه إلى الديار المصرية.
وفي يوم الاثنين عاشر ربيع الأول فوض إلى الصاحب برهان الدين السنجاري التدريس، والنظر بمدرسة الامام الشافعي رحمه الله بالقرافة الصغرى، ووقف السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب قدس الله روحه بالجامكية، والجراية، والرسوم، الشاهد بها كتاب الوقف على التمام والكمال وهي في كل شهرمن الجامكية أربعون ديناراً معاملة على التدريس، وعشرة دنانير على النظر، والرسوم في كل يوم من الخبز ستون رطلاً بالمصري، ومن الماء الحلو راويتان وهذا المدرسة خلت من مدرس بالكلية من مدة تزيد على ثلاثين سنة، والفقهاء يلازمزن الاشتغال بها، وحضور حلق معيديها فان بها عشرة معيدين، واستمر الحال على ذلك إلى سنة ثمان وسبعين، فرتب التدريس بها في نصف المعلوم المذكور القاضي تقي الدين محمد بن رزين الحموي عند صرفه من القضاء بالديار المصرية، وانتقلت بعد وفاته إلى غيره بالربع من أصل المعلوم، وبقي الامر كذلك إلى يوم تاريخه ففوضت إلى الصاحب برهان الدين المذكور بالمعلوم بكماله.
وفي يوم الجمعة حادي عشرين رجب ولى الخطابة بدمشق جمال الدين عبد الكافي واعتقل قاضي القضاة عز الدين ابن الصائغ رحمه الله تعالى في القلعة، ومنع من صلاة الجمعة بعد أن حضر الجامع لصلاة الجمعة، فأمسك ورسم لقضية برأه الله تعالى منها إدعى عليه أنه أودع حياصة مجوهرة،(4/180)
وأمور اتفقت عليه، وأثبتت بالزور والبهتان، وتعصب عليه وصرف عن الحكم بسببها، وولى قضاء القضاة بهاء الدين بن الزكي عوضه. وفي يوم الأحد ثالث عشرين رجب شافهه السلطان بالولاية وقعد للحكم، وتطاول أمر القاضي عز الدين، وعقد له مجالس كثيرة إلى العشرين من شهر رمضان أحضر ابن الحموي، والشهاب عازكي الأميني، والعز التبان، فأمر نائب السلطنة أن يركبوا حميراً ويحرضوا، ففعل بهم ذلك بدمشق، وحبس ابن الحموي بعد ذلك في حبس باب الصغير، بقي فيه يومين، وشفع فيه، فأطلق وظهر عند بهاء الدين البرزالي إشهاد مثبوت على الحكام ببراءة القاضي عز الدين مما ادعى عليه به، ولم يجسر على إخراجه.
وفي بكرة الأحد حادي عشر شوال ذكر الشيخ شمس الدين الايكي الدرس بالغزالية، وذكر قاضي القضاة بهاء الدين بن الزكي بالمدرسة العادلية الكبيرة بكرة الاثنين ثاني عشره، وحضر عنده أعيان البلد من القضاة والعلماء والفضلاء على اختلاف المذاهب، وذكر الدروس الفائقة، وتصدي لإيراد الأجوبة عليها وبحث بحثه الفائق إلى أن أطرب المسامع بعلومه التي فاق بها الأواخر والأوائل، وأتى بما عجز به الحاضرون.
وفي يوم الخميس منتصف شوال خرج محمل الحاج من دمشق، وأميرهم صارم الدين المطروحي، ودخل الملك المنصور صاحب حماة دمشق من القاهرة يوم الأحد رابع عشر صفر، وتوجه إلى حماة يوم الجمعة(4/181)
ثاني عشرين منه، ودخل الحاج دمشق في خامس صفر، وأميرهم الطواشي بدر الدين الصوابي.
وفيها توفى: إبراهيم بن جامع بن أبي البركات أبو إسحاق القفصي الضرير الامام المقرئ العلامة. كان إماماً فاضلاً، عارفاً بالقراآت، واللغة، والعربية، وله تصانيف كثيرة، أخذها عنه المقرئ أبي الحسن علي بن أحمد بن موسى الجزيري، وسمع منه أبو العلاء الفرضي، وروى عن عمر بن الناقد، وأخته تاج النساء عجيبة، ورحل إلى الشام، ومصر، والاسكندرية، وسمع من شيوخها، ومولده سنة ست وست مائة، وتوفى ببغداد في صفر رحمه الله تعالى.
إبراهيم بن عثمان أبو إسحاق العدوي. كان من أولاد المشايخ، وله صورة، وصيت وأتباع، وكان حسن الأخلاق، كثير المكارم، لطيف المحاضرة، حسن المذاكرة، جميل الصحبة، لم يجتمع به أحد إلا وانتفع به، وكان من حسنات الدهر من ذوي البيوت الكبيرة، عزيز النفس، كثير المروءة، عنده خير وصلاح وانقطاع بقرية دير ناعش عند ضريح والده الشيخ عثمان بن سادات المشايخ، اجتمع بمشايخ الشام في زمانه، وأخذ عنهم علم الطريق، وتخرج بهم، وكانت له الكرامات الظاهرة،(4/182)
والأحوال الباهرة، والمناقب المشهورة، وكان خصيصاً بالشيخ تقي الدين الفقيه اليونيني رضي الله عنه يكثر من زيارته ويحبه، وحكى عنه أن شخصاً قرأ عند قبره بعد موته القرآن فغلط فرد عليه من قبره، وهذا مشهور عند أهل قريته، وله غير ذلك، وكانت ولادته سنة إحدى وخمسين وست مائة، ودفن بدير ناعش عند جانب والده رحمهما الله.
أحمد بن حجي بن يزيد البرمكي الأمير شهاب الدين أمير آل مراء. وهو من الفرسان المشهورين، والشجعان المذكورين، كانت سراياه تغار إلى أقصى نجد، وبلاد الحجاز، ويودون له الخفر، وكذلك صاحب المدينة الشريفة النبوية يؤدي له القطيعة، وله المنزلة العالية عند الملك الظاهر والملك المنصور وغيرهما من الملوك يدارونه، ويتقون شره، ويزعم أنه من نسل جعفر بن يحيى البرمكي المشهور، وكان كتب إلى عيسى ابن مهنا كتاباً، وأغلظ له فيه، وكان عنده المولى شهاب الدين أحمد بن غانم، فسأله المجاوبة عنه، فكتب عنه إليه يقول:
زعموا أنا هجونا جمعهم كذبوا ... فيما ادعوه وافتروا بالأدعياء
إنما قلنا مقالاً لا كقول السفهاء ... آل فضل آل فضل أنتم آل مراء
فوقع ذلك عنده بموقع شديد وغضب.
إسماعيل بن أبي عبد الله بن حماد أبو الفداء الصالحي العسقلاني. أحد الشيوخ المتدينين والرواة المكثرين، كان شيخاً صالحاً زاهداً ورعاً، ولد(4/183)
في حدود سنة خمس وتسعين وخمس مائة، وسمع من حنبل المسند المكثر بمكاله، ومن ابن طبرزد، والكندي، وابن الحرستاني، وحدث، وأجاز له أبو جعفر الصيدلاني وغيره من أصبهان، توفى في ذى القعدة سنة اثنتين وثمانين وست مائة بقاسيون، ودفن به رحمه الله تعالى؟ شرف بن عمر بن أحمد الأصفهاني المعروف بالبلاسي. كان شيخاً صالحاً كريماً، خادماً للفقراء، متصدياً لخدمتهم، عمر قريباً من ثمانين سنة، ومات بالديار المصرية في يوم الاثنين ثاني عشر المحرم، كان قصدها مسترفداً، ودفن قرب قبة الامام الشافعي رحمه الله تعالى.
شرف بن مرى بن حسن بن حسين بن محمد الجذامي النواوي الحاج الصالح والد السيخ محي الدين النواوى، كان من الصالحين، مقتنعاً بالحلال، يزرع له أرضاً يقتات منها هو وأهله. وكان يمون الشيخ محي الدين رحمه الله تعالى منها يرسل له مؤنته وقتاً بوقت، ولا يأكل من عند غير أبيه، لما يعلمه من صلاحه، واستعماله الحلال الخالص، وكان خيراً لا يأكل شيئاً فيه شبهة، ولا يطعم أولاده إلا مما يعرف حله. قال الشيخ الصالح محي الدين يحيى الذهبي، وكان صاحبه: كنت أتردد أنا وأخوالي إلى نوى، وننزل عنده، ويخدمنا خدمة بالغة، فاتفق أن توجهنا إليها في شغل، وأخذنا معنا هدية لبعض الأصحاب، وفضل معنا سلة انجاص، فلما دخلنا بها بيت الحاج شرف، قلت لأخوالي، وقد حضر ولد صغير لولد شرف المذكور: أعطه إياها يداخلها للصغار، فقال له ذلك، فغضب وقال: متى رأيتنا نأكل(4/184)
هذا أو غيره أو أكلنا من مال أحد شيئاً، وتغير عليه، ولم يقبلها. ولما مات الشيخ محي الدين رحمه الله تعالى خلف كتبه التي صنفها، وغيرها من العلوم الاسلامية مما كتبه بخطه، واشتراه فلم يتعرض والده إليها، وهي تساوي جملة كبيرة، وجعلها عند الشيخ برهان الدين الاسكندري تلميذ الشيخ محي الدين ينفع بها المسلمين، ولم تزل عنده يعيرها لكل من قصد الانتفاع بها، وحصل للناس بها نفع كثير إلى أن مات شرف المذكور، وأولاده الكبار، ولا يتعرض أحد إليها فلما انقرضوا، ولم يبق منهم من له صورة، وافترقوا في سنة تسع وتسعين وست مائة عندما دخل العدو الشام، واحتاجوا إلى بيعها، فحضر من بقي من أولاد شرف، وذلك في سنة سبع مائة إلى التربة الأشرفية، وكانت الكتب في بيت الشيخ برهان الدين، فأخرجت وبيعت بجملة كثيرة، وبلغ ثمنها مبلغاً طائلاً، وتغالى الناس في شرائها، وهم من أثر الخوف، وأخذوا المال، فذهب منهم كله في تلك السنة، ولم يبارك لهم، وأبقوا عندهم من كتب الشيخ بخطه: رياض الصالحين، والأربعين في الأحكام بنوى، لأجل التبرك. وكانت وفاة الحاج شرف يوم الأحد سابع عشر صفر سنة اثنتين وثمانين وست مائة، ودفن بنوى رحمه الله تعالى. وكان قد حج مع والده القدس مراراً، وعادت بركة كل منهما على الآخر رحمهما الله تعالى.
عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية أبو محمد شهاب الدين الحراني الحنبلي.(4/185)
كان فقيهاً فاضلاً، قدم دمشق بعد استيلاء التتار على حران، واستوطنها إلى أن توفى بها ليلة الأحد سلخ ذى الحجة، ودفن يوم الأحد بمقابر الصوفية، وقد نيف على الستين رحمه الله وهو من بيت العلم، والحديث، والديانة، وله شهرة ببلده، وكان والده مجد الدين عبد السلام من الأعيان، وكذلك غير واحد من أهل بيته رحمهم الله تعالى.
عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة أبو محمد شمس الدين المقدسي الحنبلي، شيخ الاسلام علماً، وزهداً، وورعاً، وديانة، وأمانة، كبير القدر، جم الفضائل، إليه انتهت الرياسة في الفقه، على مذهب الامام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه، وشرح كتاب المقنع في الفقه تأليف عمه شيخ الاسلام موفق الدين رحمه الله تعالى. وكانت له اليد الطولى في معرفة الحديث، والأصول، والنحو، وغير ذلك من العلوم الشرعية مع العبادة الكثيرة، واللطف وكرم الأخلاق، ولين الجانب، والاحسان إلى القريب والبعيد، والاحتمال، وولى قضاء القضاة بالشام يوم الأحد ثامن عشر جمادى الأولى سنة أربع وستين وست مائة مكرها، وباشر ذلك مدة سنين، ثم عزل نفسه، وامتنع من الحكم، وبقي متوفراً على العبادة، والتدريس، والاشتغال، والتصنيف، وكان أوحد زمانه في تعدد الفضائل، والتفرد بالمحامد، وحج غير مرة، ولو يكن له نظير في خلقه، ورياضته، وما هو عليه، وتمرض أياماً، ثم توفى إلى رحمة الله تعالى ليلة الثلاثاء سلخ ربيع الآخر بمنزله بجبل قاسيون ظاهر دمشق. ودفن يوم الثلاثاء عند قبر والده الشيخ أبي عمر رضي الله عنهما. سمع الكثير وأسمعه، وانتفع به خلق كثير، وكان على(4/186)
قدم السلف رضي الله عنهم في معظم أحواله، ورثاه غير واحد، فمن رثاه شهاب الدين محمود كاتب الدرج بدمشق، وهو ممن اشتغل عليه، وانتفع به، بقوله:
ما للوجود وقد علاه ظلام ... أعراه خطب أم عداه مرام
أم قد أصيب بشمسه فغدا فقد ... لبست عليه حدادها الأيام
لم أدر هل نبذ الظلام نجومه ... أم حل للفلك الأثير نظام
فلقد تنكرت المعالم واستوى ... في ناظري الأشراق والأظلام
وذهلت حتى خلت أني ليس لي ... بعد الفراق سوى الدموع كلام
أترى درى صرف الردى لما رمى ... أن المصاب بسهمه الاسلام
أو أنه ما خص بالسهم الذي ... أصمى به دون العراق الشام
سهم يقصد واحداً فغدا وفي ... كل القلوب لوقعه آلام
ما خلت أن يد المنون لها على ... شمس المعارف والهدى إقدام
من كان يستسقى بغرة وجهه ... إن عاد وجه الغيث وهو جهام
وتنير المسرى لسرة فضله ... فكأنما هي للهدى إعلام
ما خلت أن الدين لولا فقده ... ممن يروع شربه ويضام
كانت تطيب لنا الحياة بأنه ... وبقربه فعلى الحياة سلام
كانت ليالينا بنور بقاءه ... فينا تضيء كأنها أيام
كانت به ترى العيون وتنثني ... ولها إليه تعطش وأوام
من للعلوم وقد علت وعلت به ... أضحت تسامى بعده وتسام(4/187)
من للحديث وكان حافظ سربه ... من أن يضم إلى الصحاح سقام
وله إذا ذكر العلوم نراتب ... تسمو فتقصر دونها الأوهام
تروى فيروى كل ذى ظمأ له ... بحمى الحديث تعلق وهيام
ببديهة في الفضل يقسم من رأى ... في ذاك شرعاً أنه إلهام
من للقضايا المشكلات إذا ثنت ... عنها العقول وحارت الأفهام
هل للفتاوى من إذا وافى بها ... قاضي القضاة وجفت الأقلام
من للمنابر وهو فارسها الذي ... يحي القلوب به وهن زمام
وله إذا أتم الدروس مواقف ... مشهودة ما نالهن إمام
يجلى بها صدى القلوب وترتوي ... منها العقول وتعقل الأحكام
ولديه في علم الكلام جواهر ... غرر يحير بحسنها النطام
من للزمان وكان طول حياته ... الليل يحي والهجير يصام
من للعفاة والغباة وهل لهم ... من بعد في ذاك المقام مقام
كانت لهم منه عواطف مشفق ... فمضى فيهم من بعده أيتام
لم يخل منهم بابه ولطالما ... عاينته ولهم عليه زحام
وذوو الحوائج ما أتوه لحادث ... إلا ونالوا عنده ما راموا
يلقاهم بشر يبشرهم بما ... قصدوا من الحاجات وهي جسام
من للطريد وهل له من بعده ... يوماً من الدهر الذميم ذمام
فجعت به الدنيا فإن لم تصف من ... أكدارها يوماً فليس تلام(4/188)
فعلام يبقى الطرف فيه بقية ... أيروم أن يرد الجفون منام
أو أن يصون الدمع كي يطفى الجوى ... ولناره بين الضلوع ضرام
أو أن يكون ذخيرة هيهات ما ... لملمة من بعدها إيلام
هذا الذي عفا المضاجع خشية ... من أن تخيله لنا الأحلام
فعلام تجزع للحوادث ما اشتهت ... من بعده فلتصنع الأيام
بتنا نودعه وقد جاءته ... دار السلام تحية وسلام
ويقوم إجلالاً لديه ولم يحل ... إن الملائكة الكرام قيام
وافته من خلع القبول ملابس ... شرفت فليس ترى وليس ترام
وسرت إليه من الجنان نسيمة ... في طيها كلف به وغرام
فليهنه الدار التي لنعيمه ... فيها إذا زال النعيم دوام
دار له فيها السرور محقق ... لا كالحياة فان تلك منام
حيا الحياة ذاك الزمان فإنه ... لملابس بك للمكرمات حتام
وسقى العهاد عهوده فإذا رثت ... فالدمع إن ظن الغمام غمام
إن كان عاندنا الزمان بفقده ... فله بمن أبقى لما أنعام
أو غالنا في الشمس وهي منيرة ... فلقد سخا بالبدر وهو تمام
نجم به ألف الهدى وبنوره ... عادت وجوه الدهر وهي وسام
أبقى لنا منه الزمان بقية ... أثنى عليه بتركها الاسلام
شرف القضاء بعلمه وتشرفت ... بوجوده الأحكام والحكام
وبه علينا الدهر لما أن مضى ... منا إمام قام منه إمام(4/189)
درت به ضرع العلوم وأنها ... لولاه بعد أبيه طال فطام
حسن الزمان به فألقت جيده ... له ما.... الأعوام
ولكم غدت من زلة وفريضة ... هدى يقال به وتلك تقام
من دوحة شرفت وكم ضرع بها ... زاك تأخر عنه وهو إمام
من كان في حجر العلوم وطالما ... سبق الكهول تقاه وهو غلام
مولاي نجم الدين دعوة من غدا ... الصبر الجميل عليه وهو حرام
طب عن أبيك فدتك نفسي أنه ... ولى ولم تعلق به الآثام
فلمثل هذا كان يتعب نفسه ... الليل ذكر والنهار صيام
لكم الكرامات الجليلات التي ... لا يستطيع جحودها الأقوام
في وقت دفن أبيك هب نسيمة ... في طيها كلف به وغرام
إن لم تكن روح الجنان فقبلها ... ما طابه من لفح الهجير مقام
فاسلم ودم تحي المائر والعلى ... ما ناح في فرع الاراك حمام
ذكر الشيخ محي الدين النواري رحمه الله تعالى فقال عنه شيخنا الامام العلامة ذو الفنون من أنواع العلوم والمعارف، وصاحب الأخلاق الرضية، والمحاسن واللطائف، أبو الفرج، وأبو محمد عبد الرحمن بن الشيخ الامام أبي عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة، سمع الكثير وأسمعه قديماً في حياة شيوخه، وهو الامام المتفق على إمامته، وبراعته، وورعه، وزهادته، وسيادته، والعلوم الباهرة، والمحاسن المتظاهرة. وذكره الشيخ زكي الدين(4/190)
أبو إسحاق إبراهيم بن عبد العزيز الكوري المالكي، فقال: شيخنا شمس الدين ممن يفتخر به دمشق على سائر البلدان، يزهو به عصره على متقدم العصور والأزمان، لما جمع الله تعالى فيه من المناقب، والفضائل، والمكارم. منها التواضع مع عظمته في الصدور وترك التنازع فيما يفضى إلى التشاجر والنفور كانت به صدور المجالس والمحافل. مع ما أمده الله تعالى به من سعة العلم، وفطره عليه من الرأفة، والحلم، ألحق الأصاغر بالأكابر في رواية الحديث. وحكى الشيخ أبو الفضل بدر بن برغارم الشاغوري قطب وقته في زمانه، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم وهو يقول صلى الله عليه وسلم: يا أبا الفضل! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: أبشر بالخير من الله تعالى، فإنك من أهل الجنة؛ فقلت: يا رسول الله! فقلت يا رسول اللهوأصحابي: فقال: وأصحابك أيضاً من أهل الجنة طيب قلبك: فقلت: يا رسول الله فالشيخ شمس الدين خطيب الجبل والشيخ عز الدين؟ ثم قال: يا أبا الفضل! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: قل لهما وبشرهما أنهما من أهل الجنة.
عبد الرحيم بن محمد بن عبد الملك بن عيسى أبو علي المادراني المصري الشافعي شمس الدين بن القاضي كمال الدين أبي حامد بن قاضي القضاة صدر الدين أبي القاسم. مولده بالقاهرة المعزية من الديار المصرية في ثالث عشر ربيع الأول سنة تسع وتسعين وخمس مائة، وتوفى بالقاهرة بالقرافة الصغرى في خامس شوال من هذه السنة أعني سنة اثنتين وثمانين وست مائة. سمع(4/191)
جده قاضي القضاة صدر الدين، وأبا محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله بن المحلى، وأبا إسحاق إبراهيم بن محمد بن الثبت، وهو آخر من روى عنهم بالسماع، وسمع أبا بكر بن باقا وغير واحد، وكانت له إجازات عالية من نيسابور، وأصفهان، وبغداد، وغير ذلك، وحدث. ومن نظمه رحمه الله تعالى يقول:
ألقاك بالفقر وبالذل ... إن لم يكن لي راحماً من لي
إذا أتى الناس بأعمالهم ... فحاصلي إفلاسي الكلي
فافعل معي ما أنت أهل له ... فأنت رب الجود والفضل
وارحم لمن في لحده مفرداً ... خال من الأموال والأهل
جفته أهلوه وأحبابه ... وقد غدا منصرم الحبل
فالويل لي إن لم تكن راحمي ... لا عملي ينجي ولا فعلي
علي بن يعقوب بن شجاع بن علي بن إبراهيم بن محمد بن أبي زهران أبو الحسن عماد الدين الموصلي الفقيه الشافعي المقرئ المجود. وكان فقيهاً فاضلاً، كرر على الوجيز في بداية اشتغاله، وحفظ الحاوي الصغير في آخر عمره، وله مشاركة في المنطق. والأصول. والخلاف، وكان إماماً مبرزاً في علم القراآت، والتجويد، وانتهت إليه الرياسة في ذلك بدمشق في آخر عمره، وصنف للشاطبية شرحاً يبلغ أربع مجلدات، ولم يكمله، ولا بيضه، وباشر التصدر للاقراء بتربة أم الصالح عماد الدين إسماعيل بن العادل بدمشق(4/192)
بعد وفاة الشيخ زين الدين الزواوي المقدم ذكره رحمه الله وشرط هذا المكان أن يتولاه أفضل من يوجد في علم القراآت. وتوفى العماد المذكور يوم الأحد سابع عشر صفر بدمشق، ودفن من يومه بمقابر باب الصغير، وهو في عشر الستين ومولده بالموصل رحمه الله، ووالده وجده فاضلان، لهما يد في النظم. قال المبارك بن أبي بكر بن حمدان في كتابه قلائد الجمان: يعقوب بن شجاع الموصلي أخبرني أنه ولد ليلة الجمعة ثاني عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين وخمس مائة، وهو شاب من حفاظ القرآن، والمتفقهة، وقرأ من النحو صدراً حسناً، ومن أهل الدين والخير والصلاح رحمه الله تعالى وأنشدني لنفسه:
قلت لما رق حالي ... وجفاني من أوالي
ورماني الدهر قصداً ... بسهام ونبال
ودعتني رقة الحال ... إلى ذل السؤال
لست إلا مستجيراً ... بك يا رب المعالي
قال وأنشدني لنفسه:
أمولاي محي الدين بادر إلى ... الوعد الكريم بلا فتور
فلست أفي بشكر يديك عفواً ... ولو عمرت أعمار النسور
وأنت ذخيرتي ما دمت حياً ... وأنك عدتي يوم النشور
قال وأنشدني أيضاً لنفسه:
صروف هذا الدهر قد صوبت ... سهامها نحوي فلم أجزع(4/193)
لأنني معتمداً إن سطت ... على إمام بطل افزع
الفارس الكرار يوم الوغى ... وصاحب الغوث إذا ما دعى
جدك يا محي دين الهدى ... وحامل الراية في المجمع
يا من إذا ما جئته راغباً ... رجعت والدنيا جميعاً معي
عمر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن هبة الله بن علي بن المطهر بن أبي عصرون أبو الخطاب محي الدين بن قاضي القضاة أبي سعد شرف الدين التميمي الشافعي، كان المذكور يلبس زي الجند في صدر عمره، ثم لبس زي الفقهاء في آخر عمره بعد وفاة أخيه شرف الدين عثمان، وادعى المشاركة في النظر على الأوقاف النورية، ثم أوصى قبل وفاته على ولده شمس الدين محمد بن سلمان ابن جمائل الشافعي سبط الشيخ غانم رحمه الله وتحدث في الأوقاف النورية، وتناول النصيب فيها أسوة من يدعى ذلك، وكانت وفاة المحي عمر المذكور في يوم الاثنين ثالث ذى القعدة بدمشق، ودفن من الغد بسفح قاسيون رحمه الله وقد نيف على سبعين سنة من العمر.
عيسى بن الخضر بن الحسن بن علي شمس الدين الزرزاري المعروف والده بالسنجاري. كان مليح الصورة، حسن الشكل، ناب عن والده برهان الدين في الوزارة، تقلده إياها في سنة ثمان وسبعين، ثم صرف عن ذلك في شهر رمضان سنة تسع وسبعين، وتولى نظر الاحباس بالديار المصرية، وخانقاة سعيد السعداء بالقاهرة، وعندما باشر والده الوزارة في المرة الثانية لم يمكن من استنابته، وباشر تدريس المدرسة المعروفة(4/194)
بزين التجار بعد وفاة الشريف السلماني مدة، ثم قبض عليه قبل وفاته بمدة، وامتحن محنة شديدة، ثم أفرج عنه، وأقام بطالاً في منزله بالمدرسة المعزية المطلة على النيل إلى أن توفى في سابع وعشرين المحرم، ودفن بالقرافة الصغرى بالتربة المعروفة بهم، ومولده بعد الأربعين وست مائة رحمه الله تعالى.
عيسى بن المظفر بن محمد بن إلياس بن عبد الرحمن الأنصاري المنعوت بعز الدين المعروف بابن الشيرجى. كان من أعيان أهل دمشق، ورؤسائهم، وعدولهم، ولى المناصب الجليلة. وآخرها حسبية دمشق، وكان عنده مكارم، وحسن ملتقى. وعلو همة، ومولده في أواخر سنة ثمان وعشرين وست مائة، وتوفى إلى رحمة الله تعالى بدمشق في رابع عشر رجب، ودفن بمقابر باب الصغير ظاهر مدينة دمشق رحمه الله تعالى.
كشتغدى بن عبد الله علاء الدين المشرفي الظاهري المعروف بأمير مجلس. كان من أعيان الأمراء وأكابرهم بالديار المصرية، وظهر قبل وفاته بمدة يسيرة أنه باق على الرق فاشتراه الملك المنصور سيف الدين قلاوون بجملة من المال ثم أعتقه، وكان شجاعاً بطلاً مقداماً، وله مواقف مشهورة، وتوفى بقلعة الجبل من الديار المصرية، وقد نيف على خمسين سنة من العمر، وحضر جنازته السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله.
محمد بن أحمد بن نعمة بن أحمد أبو عبد الله شمس الدين المقدسي الشافعي. اشتغل على الشيخ تقي الدين محمد بن رزين وغيره وناب عنه في تدريس(4/195)
المدرسة الشامية البرانية، ثم تشارك هو والقاضي عز الدين محمد بن عبد القادر في تدريسها ثم اشتغل بها إلى حين وفاته بها، وناب في الحكم بدمشق مدة سنين إلى أن توفى، وكان فقيهاً ديناً مشكور السيرة، سمع، وحدث، وأفتى. توفى يوم الاثنين ثاني عشر ذى القعدة بدمشق، ودفن من يومه ظاهر دمشق بباب كيسان بين باب الصغير، وباب شرقي، وقد نيف على الستين سنة من العمر رحمه الله تعالى.
محمد بن عبد القادر بن عبد الخالق بن خليل بن مقلد أبو المعالي علاء الدين الأنصاري الشافعي المعروف بابن الصائغ. كان من العدول وهو أخو قاضي القضاة عز الدين شقيقه، وتولى نظر الأسرى وغيره، وكان فيه أهله، وأمانة، وديانة، وحصل له مرض طال به، وتوفى يوم الأربعاء ثالث عشر ذى القعدة بدمشق، ودفن من يومه بسفح قاسيون، وقد نيف على الستين رحمه الله تعالى.
محمد بن عبد الكريم بن عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل أبو حامد الأنصاري الشافعي المنعوت بمحي الدين المعروف بابن الحرستاني. كان في حياة والده القاضي عماد الدين أبي الفضل مقيماً بصهيون مدة، ثم قدم دمشق، وولى الخطابة بجامعها بعد والده في سنة اثنتين وستين وست مائة، ودرس بالزاوية الغزالية بجامع دمشق، وكان وافر الديانة، كثير الخير، وفي سمعه ثقل، ودرس بالمدرسة المجاهدية التي بالقرب من النورية بدمشق، وتوفى إلى رحمة الله تعالى بدمشق يوم الأحد ثامن عشر جمادى الآخرة،(4/196)
ودفن من يومه بسفح قاسيون، ومولده في أحد الربيعين سنة أربع عشرة وست مائة بدمشق رحمه الله تعالى.... حصلت صعقة بساتين دمشق في سنة ست وستين وست مائة، وكان الملك الظاهر قد أوقع الحوطة عليها، نظم محي الدين في ذلك:
لما وقفت على الرياض مسائلاً ... ما حل بالأغصان والأوراق
قالت أتى زمن الربيع ولم أرى ... من كان بالمغنى من العشاق
تناشدت أطيارها في دوحها ... لما أضاء الجو بالاشراق
فتذكرت أيامهم في دوحها ... لما أضاء الجو بالاشراق
فتذكرت أيامهم فتنفست ... فأصابها لهب من الاحراق
أبلغهم عني السلام وقل لهم ... ها قد وفت بالعهد والميثاق
فغدوت أندب ما جرى متأسفاً ... والدمع يسبقني من الآماق
كان رحمه الله ديناً خيراً ملازم للخير، ولم يعرف له صبوة.
محمد بن محمد بن عباس بن أبي بكر بن جعوان شمس الدين الأنصاري الشافعي النحوي، كان فاضلاً ديناً، اشتغل بالنحو على الشيخ جمال الدين محمد بن مالك رحمه الله وأتقنه. وكان أمثل تلامذته. وسمع الحديث الكثير، وحصل من الفقه طرفاً، وكان له معرفة بالأدب، وله طبع مطاوع في النظم، وتوفى بدمشق ليلة الخميس سادس عشر جمادى الأولى، ودفن يوم الخميس بمقابر باب الصغير رحمه الله تعالى، ومن نظمه يمدح(4/197)
قاضي القضاة عز الدين ابن الصائغ:
لله در زمان عاد فيه إلى ... أحكامه العز عز الدين ذو النعم
أبو المفاخر فخر الشام حاكمه ... قاضي القضاة حليف الجود والكرم
ومن له مثل محي الدين حق له ... هذا التكني ففيه أفخر الشيم
أكرم بأصل وفرع دام فخرهما ... ففي علائهما أعلى أولى الهمم
يا ناصر الشرع قد أشبهت قومك في ... نصر الشريعة والأنصار كالعلم
كفاهم مشرفاً قول الرسول لهم ... وقوله الحكم في الأنصار في كلم
ملائك الله في تسديد حكمك إذ ... خطبت للحكم وعداً غير متهم
فالله يبقي لأهل الشام دولتكم ... ممتعين بها إبقاء ذى سلم
وقال أيضاً وكتب بها إلى أهله من تبوك سنة ست وسبعين وست مائة يقول:
كتبت من تبوك لتسعة ... مضت بعد عشر في المحرم ولت
وأنى بحمد الله أرجو لقاءكم ... إذا صفر عشرون منه تبقت
محمد بن محمد بن هبة الله أبو عبد الله عماد الدين الدمشقي الشافعي المعروف بابن الشيرازي. كان رئيساً، عنده فضيلة، ويكتب خطاً منسوباً تفرد به في آخر عمره، وهو من أعيان الدمشقيين، وأماثلهم وأولى الثروة منهم، والوجاهة فيهم، وكان والده القاضي شمس الدين أبو نصر قد ولى نيابة الحكم بدمشق مدة زمانية، وكان من العلماء العارفين بالمذهب، وكان عماد الدين المذكور طلب إلى الديار المصرية، ورتب ناظراً على الأملاك(4/198)
الظاهرية، والتعلقات السعدية، وذلك في أواخر الدولة الظاهرية بعد وفاة الرئيس مؤيد الدين أسعد ابن القلانسي رحمه الله وبقي على ذلك، فلما كان في شهر صفر ركب من المدينة. وقصد الخروج إلى بستانه بالمزة، فعرض له فالج في الطريق، وهو راكب فركب غلامه من ورائه، وأمسكه حتى أوصله إلى البستان، واستمر به الحال إلى بكرة يوم الاثنين ثامن عشر صفر، فتوفى إلى رحمة الله تعالى ببستانه بالمزة، ودفن من يومه بسفح قاسيون، ومولده في سادس عشر ذى القعدة سنة ست وست مائة في بستان كان لهم بسطرا ظاهر دمشق رحمه الله وإيانا.
محمد بن الحردتكي الشيخ الصالح، الحلبي المولد والمنشأ. كان له قدم راسخ في الفقر، والمجاهدة، وشهرة بين الفقراء في الأقطار، خدمهم في جميع عمره، وأنفق عليهم جميع ما ملكت يده من ميراث والده وغيره، وكان جملة عظيمة، وكان دمث الأخلاق، كثير الصمت والرياضة، محباً للعزلة، وهو من بيت كبير معروف بحلب بالامرة، وكبر القدر، وظهور الثروة. وخرج عن ذلك كله عن قدرة وتمكن، وفرغ منه طالباً لما عند الله تعالى، وخرقته ترجع إلى عند سيدنا محي الدين بن عبد القادر رضي الله عنه، وأقام في آخر عمره بدمشق، وحصل له طرف من فالج، ولازمه إلى حين وفاته، وتوفى إلى رحمة الله تعالى ليلة الأحد ثاني ربيع الأول بالقاعة التي داخل مقصورة الحنفية بالزاوية الشرقية من الحائط الشمالي بجامع دمشق، ودفن يوم الخميس بمقابر الصوفية رحمه الله تعالى، وقد نيف(4/199)
على ثمانين سنة من العمر، ولم يتخلف عن شهود جنازته أحد من الأعيان، ولا من الفقراء، ولم يخلف شيئاً من الدنيا ألبتة رحمه الله تعالى ورضي عنه.
محمود بن إسماعيل بن معبد أبو الثناء شرف الدين البعلبكي. كان من صدور بعلبك، وأولى الثروة بها، وله قبول عند الحكام، ومكانة عند كثير من الأمراء وغيرهم، وكان يعاني الزراعة في أملاكه، وعنده كرم نفس، وسعة صدر، وتحمل، ومكارمة، وتوفى وهو في عشر الستين، وخلف أولاد نجباء، وكان أوقف في حال صحته وقفاً جيداً على وجوه البر أثابه الله وتقبل منه وكانت وفاته ببعلبك ليلة الأربعاء العشرين من ذى القعدة، ودفن من الغد عند قبر أبيه برثيا ظاهر باب القطاعة رحمه الله وإيانا.
يحيى بن علي بن محمد بن سعيد أبو الفضل محي الدين التميمي المعروف بابن القلانسي الدمشقي المعروف. كان من أعيان الدمشقيين وأماثلهم، سمع الكثير، وأسمع، وتولى المناصب الجليلة، وكان عنده أدب وفضيلة، وله يد في النظم، وبيته مشهور بالرياسة والتقدم، وتوفى إلى رحمة الله تعالى يوم الأربعاء ثامن وعشرين شوال بدمشق، ودفن من يومه بجبل قاسيون. ومولده بدمشق في تاسع جمادى الأولى سنة أربع عشرة وست مائة. ومن شعره لما وقعت الحوطة على بساتين دمشق، وصعقت تلك الصعقة العظيمة التي لم يعهد مثلها، وكان ذلك في شهر أيار من شهور الروم:
يا جلق الخضراء وقيت الردى ... لم ذا كسوت الدوح ثوب سواد
قالت لقد فارقت أهل مودتي ... فلبست للهجران ثوب حداد(4/200)
ونظم محي الدين أشعاراً كثيرة وألغازاً يأتي شيء منها فيما بعد، في ترجمة العرز إن شاء الله تعالى.
أبو بكر بن داود بن عيسى بن أبي بكر محمد بن أيوب بن شاذى سيف الدين الملقب بالملك العادل. كان قد جمع بين حسن الصورة، والأوصاف، ومكارم الأخلاق، وسعة الصدر، وحسن العشرة، وكثرة الأفضال، واحتمال الأذى، وبذل المعروف، لا يضاهيه في ذلك أحد من أبناء جنسه، وكان له ميل إلى الاشتغال بالعلم، والأدب، وعنده ذكاء مفرط، وحدة ذهن، وعبارة حلوة، وآداب حسنة ملوكية، لم ير أكثر عقلاً منه في زمانه، ولا أكثر حشمة ووقاراً وسكوناً، ولا ألطف كلاماً، ولا أحسن بياناً، عليه هيبة وحشمة، وكان له ميل كثير إلى أصحاب القلوب، وأرباب الإشارات، يلازمهم، ويقتدي بهم، ويتأدب بآدابهم، ويتسلك بما يأمرونه به، يزور الصلحاء حيث سمع بهم، وكانت وفاته - رحمه الله - يوم الخميس عاشر شهر رمضان المعظم هذه السنة، وصلى عليه يوم الجمعة بالجامع الأموي، وحمل إلى تربة جده الملك المعظم عيسى بسفح قاسيون، فدفن بها، وهو في عشر الأربعين لم يبلغها رحمه الله تعالى.
السنة الثالثة والثمانون وستمائة
إستهلت هذه السنة والخليفة والملوك على القاعدة المستقرة، والملك المنصور سيف الدين قلاوون بالديار المصرية، وفي أثنائها خرج إلى الشام، ووصل إلى دمشق مع جماعة من عسكره، وخواصه يوم السبت ثاني عشر جمادى الآخرة.(4/201)
وفيها توفى الملك أحمد بن هولاكو ملك التتار، وسنذكره إن شاء الله تعالى.
وفي عاشر شوال توفى الملك المنصور ناصر الدين محمد صاحب حماة والمعرة، وسنذكره إن شاء الله تعالى. ولما اتصلت وفاته بالأمير حسام الدين لاجين نائب السلطنة بالشام، طالع بذلك الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله واستمطر صدقاته في إقرار ولده الملك المظفر محمود عوضه، فورد عليه الجواب بذلك، فكتب إلى الملك المظفر المذكور كتاباً بخط المولى شهاب الدين محمود من إنشائه، مضمونه: " أعز الله أنصار المقام العالي الملكي المظفري التقوى، وأطلع شمس ملكه مشرقة الأنوار. وألبس الدنيا من شعار سلطانه حلل الافتخار. وقلد المماليك من تقاليده ما يود ذهب الأصيل لورقه على صفحات النهار. وحلى أعطاف الملك من نعوته الشريفة بما هو أحسن من انتظام عقود الكواكب على هالة الأقمار. وشرف به التشاريف التي هو في لبسها كالحرم لا تكسى الأستار إلا ليشرف الأستار. وهنأه من حسن النظر الشريف بما بلغ به أول رتبة لا تطاول إليها زهر الكواكب إلا وهي شاخصة الأبصار. حتى يستقر الملك في مقامه المحمود. وينتظم عقد السلطنة لديه بين ذوائب الألوية وعصائب البنود. ويشرق من لألاء ملكه ما تضيء الآفاق بنوره. ويشرق بحد سطواته نحور الأعداء حتى يعجب لسفاح ورث الملك من منصوره. المملوك يقبل الأرض تقبيل تخلص تضاعفت(4/202)
لديه النعم. ووجب عليه أن يستعين على الشكر بكل لسان ناطق حتى لسان القلم. وتعبد ولى نذر الرجاء لديه واكتمل. ونال بإقبال ملك مولانا كل ما يؤمله، فأصبح يصحب الدنيا بلا أمل. وينهى أنه سطرها، ووفود التهاني تزدهم على ما قلمه. وعقود البشائر تتحذر من بين كلمه. وسماء الممالك قد أشرقت بالسعد كواكبها. وحدقت لتحدق ببدر ملكه مواكبها. وقلائد الجوزاء قد ترصعت لديه مناطقها. والفراقد قد توطأت لوطئ أجناده مفارقها، والبروق قد مرحت لتغالب الحاد على العلو بركابه سوابقها، والمنابر قد كادت تحضر للشرف باسمه أعوادها. والصوارم وقد انفت إذ جرت أن تكون سوى أعناق ملوك الأعداء أغمادها ".
وكان ورد كتاب السلطان بسببه من القاهرة إلى دمشق يوم الخميس الخامس والعشرين من شوال، وصحبه تقليد الملك المظفر من السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون باستقراره بحماة على قاعدة والده.
وفي يوم الأربعاء ثامن صفر دخل الحجاج دمشق، وأميرهم المطروحي.
وفي يوم الجمعة عاشر صفر جلس الشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية على المنبر برواق الحنابلة بجامع دمشق مكان والده يفسر القرآن الكريم وغير ذلك.
وفي هذه السنة توفيت الخاتون بنت بركة خان والدة الملك السعيد بمصر، وكانت من سادات النساء كثيرة المعروف، والاحسان، والصدقات،(4/203)
وقفت جميع الكتب التي بالخزانة الظاهرية، وجميع الربعات، والختم التي بالتربة الظاهرية، وشرطت أن لا يخرج شيء من ذلك من المدرسة، بل من أراد الانتفاع به ينتفع بالمدرسة، وكان وقفها كذلك في سنة إحدى وثمانين.
وفي جمادى الآخرة توفى بدمشق الأمير علم الدين سنجر بن زريق الخولاني، والأمير شمس الدين قراسنقر المعزى ببستانه ببيت لهيا، ودفن بالجبل رحمه الله تعالى.
وفي يوم الثلاثاء تاسع عشر شعبان سافر الأمير حسام الدين طرنطاى من دمشق إلى القاهرة متمرضاً. وفي ثامنه ليلة الأحد توفى الأمير بدر الدين بيليك الجاشنكير، ودفن يوم الاثنين بتربة سليمان الرقى بالجبل الغزير.
وفي ليلة الأربعاء العشرين مطرت السماء من نصف الليل، وتوالى المطر الشديد مع الرعد القاصف، والبرق الخاطف، إلى أول النهار، وجاءت الزيادة، وارتفع الماء على الأرض قامة، وفي بعض الأماكن أكثر، وكانت طائفة من العساكر المصرية نازلين ظاهر دمشق، فعمهم ذلك. وغرق خلق من الناس، وأما الجمال، والدواب، والغنم فما لا يحصى، ووقعت عدة بيوت على من فيها. وكانت آية عظيمة وأصبحت يوم الأربعاء الشمس طالعة، وجفت الماء.
وفي شعبان أقبل الأمير علم الدين الدويدارى رحمه الله من مباشرة المشد، وكان كثير القلق، وطلب الانفصال منه، والسعي في ذلك باطناً، فأجيب، وباشر الأمير شمس الدين سنقر الأعسر.(4/204)
وفي يوم الاثنين منتصف شوال توجه ركب الشام إلى الحجاز، وكان ركباً كبيراً، وأميرهم عز الدين القيمري.
وفي العشرين من جمادى الأولى وفي النيل ووردت البشرى بذلك إلى دمشق.
وفي ليلة السبت ثلث الليل الآخر ثالث وعشرين شعبان سافر من دمشق الملك المنصور سيف الدين قلاوون إلى الديار المصرية من جهة ولد المنصور صاحب حماة، وتوجه الأمير علم الدين الدوادارى إلى القاهرة يوم السبت حادي عشر ذى القعدة بطلب سلطاني.
وفي ثامن جمادى الأولى من سنة ثلاث وثمانين وست مائة ركب السلطان الملك المنصور من قلعة الجبل متوجهاً إلى الشام بسبب ما ورد عليه من جهة مصالحة الملك أحمد بن هولاكو، فلما وصل غزة وردت الأخبار عليه بأن الملك أحمد قد مات، وقيل أسر ثم عدم، وأن أرغون اتفق مع جماعة من المغل على إمساكه، وخلعه من الملك، وأن فرقة منهم تقدير أربعة آلاف فارس حضرت مفقرة طالبين الشام، فجد الملك المنصور في السير، فدخل دمشق يوم السبت ثاني جمادى الآخرة، فأحضر رسل الملك أحمد وهم الشيخ عبد الرحمن وسمداغو ومن معهم وكانوا منذ وصلوا أطراف البلاد، استعجمت عليهم الأخبار، وبقي كل من يحضر إليهم يمسك، ويؤخذ كتبه، فجلس الملك المنصور في الليل، وأوقدت شموع كثيرة، ولم يكن حوله سوى خواص مماليكه، وهم في أحسن زي، وأكمل(4/205)
صورة، فدخل الشيخ عبد الرحمن بزي الفقراء، فرسم له بتقبيل الأرض، فأبى فأهوى به إلى الأرض غصباً، وفعل برفاقه كذلك، وسمع كلامهم، أخذ الكتاب الوارد من الملك أحمد على يد الشيخ عبد الرحمن فقرأه، وقاموا بين يديه، فسير لهم الخلع الفاخرة، وتفقدهم، ثم أعلمهم بموت الملك أحمد، ثم أحضرهم مرة أخرى، وكان الشيخ عبد الرحمن قد أحضر هدية حسنة، فقبلت، واستقروا على حالهم، وكان قدوة الملك أحمد ومشيره، وتحكم في دولته تحكماً كبيراً، وتحدث في البلاد والأوقاف جميعها في العجم، وبلاد العراق، والشرق، والروم، وظهر للمغل من كراماته ما أخذ عقولهم، ووصل إلى ماردين في رابع ربيع الآخر، ثم وصل البيرة، وصحبه جماعة مغل وغيرهم يخدمونه ويحملون الخبز على رأسه، والسلحدارية وغيرهم وراءه، فتلقاهم جمال الدين أقوش الفارسي أحد الأمراء بحلب، فمنعهم من الخبز والسلاح، وركنهم في الليل، ومنعهم من الحديث مع أحد، وساق بهم منكباً على الطريق، فعز عليهم ذلك، ووصل بهم حلب في سادس عشرن شوال، وأخفى أمرهم، ثم أخرجهم ليلاً، ووصل بهم دمشق خفية ليلاً، وأنزلوا بدار رضوان بقلعة دمشق، وفصل عنهم غلمانهم إلى أن حضر السلطان من مصر، وجرى ما ذكرناه.
وفيها توفى:
أحمد بن محمد بن منصور أبو العباس ناصر الدين الخزامي المالكي المعروف بابن المنير قاضي الاسكندرية. مولده في ثالث ذى القعدة سنة(4/206)
عشرين وست مائة، وتوفى بالاسكندرية ليلة الخميس مستهل ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين، ودفن بتربة والده عند الجامع الغربي رحمه الله. كان إماماً عالماً فاضلاً متبحراً في العلوم، وله اليد الطولى في علم الأدب، مجيداً في النظم والنثر. كتب إلى قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان في صدر كتاب:
ليس شمس الضحى كأوصاف شمس ... الدين قاضي القضاة حاشا وكلا
تلك مهما علت محلا تبث ظلا ... وهذا مهما علا مد ظلا
وقال أيضاً يهنئ القاضي زين الدين بن أبي الفرج لما فوض إليه الحكم بالثغر واستنابه:
أذعن الدهر سامعاً ومطيعا ... لك يبدي تذللاً وخضوعا
فاحتكم في ريعان أشهره ... تلبس فيها غصناً وتلقى خليعا
كل يوم لك الهناء حقيق ... لا تراعى من الهلال طلوعا
ولنا إذ نلنا بدولتك العز ... وعشنا عيشاً هنيئاً وسيعا
واتخذنا شهر الولاية عيدا ... نمنح النفس منه مرعى مريعا
في ربيع كانت ودانت فلا تبرح أيامنا لديك ربيعا
وقال يهجوه لما نازعه الحكم:
قل لمن يبتغي المناصب بالجهل تنحى عنها لمن هو أعلم
إن يكن في ربيع وليت يوماً ... فعليك القضاء أمسى محرم(4/207)
وقال وكتب بها في صدر كتاب إلى الفائزين يسأله رفيع التصقيع عن الثغر:
إذا اعتل الزمان فمنك يرجو ... بنو الأيام عاقبة الشفاء
وإن ينزل بساحتهم قضاء ... فأنت اللطف في ذاك القضاء
وله تصانيف مفيدة في الأدب، وغيرها من العلوم الاسلامية، وله ديوان كبير، وخطب مشهورة، فمنها خطبة خطب بها يوم الجمعة خامس عشر ربيع الآخر سنة ثمان وخمسين وست مائة، والعدو المخذول قد ملك الشام بأسره: " الحمد لله الذي يرحم العيون إذا دمعت. والقلوب إذا خشعت. والنفوس إذا اتضعت. والعزائم إذا اجتمعت. والموجود إذا الأسباب انقطعت. والمقصود إذا الأبواب امتنعت. اللطيف إذا صدمت الخطوب وصدعت. رب أقضية نزلت بما تقدمت حتى جاءت ألطاف دفعت. فسبحان من وسعت رحمته كل شيء. وحق لها إذا وسعت. وسعت إلى طاعته السموات والأرض حين قال: " ائتيا طوعاً أو كرهاً " فأطاعت وسمعت. أحمده بصفات بهرت. وأشكره على نعم بطنت وظهرت. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عن اليقين صدرت. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بعثه والفتنة قد احتدت. والحاجة قد اشتدت. ويد الضلال قد امتدت. وظلمات الظلم قد اسودت. والجاهلية قد أخذت نهايتها. وبلغت غايتها. وحربت أحزانها. وهديت إحسانها. ونسيت أديانها. وجحدت ديانها. فجاء الله بمحمد صلى الله عليه وسلم، فملك عنانها. وكبت أعيانها. وظهرت آياته في الجبابرة، فأهلكت فرسانها. وفي(4/208)
القياصرة، فنكست صلبانها. وفي الأكاسرة، فصدعت أيوانها. وأوضح على يده محجة الحنيفية وأبانها. صلى الله عليه وعلى آله فروع الأصل الطيب فما أكرم الشجرة وأغصانها. وعلى أصحابه ومن حوى الحوزة وصانها. صلاة إذا أفضت صحيفة الحسنات كانت عنوانها. أيها الناس! خافوا الله تأمنوا من ضمان وعده الوفي. ولا تخافوا الخلق وإن كثروا، فإن الخوف من الخلق شرك خفي، ألا وإنه من خاف الله خاف منه كل شيء. ومن لم يخف الله خاف من كل شيء. وشأن أخي الدنيا أن يخاف عليها الذهاب. ولابد من أن يذهب كالفئ، وإنما يخاف عز الربوبية. من عرف نفسه ذل العبودية. واثنان لا يجتمعان في القلب، ولا تنعقد عليهما النية، فاختاروا لأنفسهم إما الله، وإما هذه الدنيا الدنية. فمن كانت الدنيا أكبر همته، لم يزل مهموماً. ومن كانت زهرتها نصب عينه، لم يزل مهزوماً. ومن كانت حدتها غاية وجده، ولم يزل معدماً حتى يصير معدوماً. فالله! الله! عباد الله! الاعتبار! الاعتبار! وأنتم السعداء إذا وعظتم بالاعتبار. أصلحوا ما أفسد، فإن الفساد مقدمة الدمار. إتقوا الله وأصلحوا تفلحوا. وأسلموا تسلموا. وصمموا على التوبة قبل أن لا ينفع أن تصمموا. فما أشقى من عقد التوبة بعد هذه العبر تم حلها. ألا وإن ذنباً بعد التوبة أقبح من سبعين قبلها ".
كان الشيخ ناصر الدين المذكور إماماً عالماً فاضلاً خيراً متقناً، جامعاً(4/209)
للعلوم الاسلامية: التفسير وعلومه، والحديث وعلومه، وأصول الفقه، والدين، والنحو، واللغة، والمعاني، والبيان، مستقلاً بالأدب نظماً ونثراً؛ صنف التصانيف الدالة على غزارة علمه، منها: الرد على الكشاف للزمخشري، وبين خطابه في اعتزاله والاجوبة عن شبهه وإبطالها لم يصنف مثله وكان أحد تلاميذ الشيخ عز الدين بن عبد السلام مع كونه مالكي المذهب، لازم الشيخ وقرأ عليه هذه العلوم كلها، وأتقنها، وكان الشيخ يقول عنه في أيامه ما معناه: أنه يمت به لكونه تلميذه، لأنه لم يكن مجموعه في زمانه في غيره، وكان بحراً لا يجاريه أحد في مناظرة، وله الصيت المشهور بسعة العلم وإتقانه رحمه الله تعالى.
أحمد بن محمد بن عبد القادر بن عبد الخالق بن خليل بن مقلد أبو العباس محي الدين الأنصاري الشافعي. كان فقيهاً فاضلاً بارعاً، متضلعاً في الفقه، وله مشاركة في غيره، وكان ديناً صالحاً ناسكاً سالكاً مسلك والده قاضي القضاة عز الدين ابن الصائغ في الصلابة في الدين والتحرز، ولما باشر والده الحكم ثانياً طلبه لنيابته، فعاقه عن ذلك ما جرت عليه من الأمور المشهورة، وكانت له صورة كبيرة عند القضاة والأعيان مشكوراً في فضيلته، وسمته، ودينه، ولما توفى والده قد ولاه خزانة الكتب بالمدرسة الأشرفية، فسلك فيها من الأمانة، والصيانة، والضبط، والتحرز ما لا يسلكه غيره بحيث أنه أعار منها نسخة لكتاب الصادح والباغم، جزء لطيف ما يسوى خمسة دراهم لشخص، فعدم فألزمته باستكتاب نسخة به، وأوقفها(4/210)
في الخزانة عوضها، وبالخزانة لهذا الكتاب قريب عشر نسخ، وكان كثير التحرز في ذلك والتشديد لم يفرط في شيء منها، وحصل بطريق لها ضبط عظيم، ولم يتولها مثله، لا قبله ولا بعده، ولا عمل أحد فيها ما عمل من الصيانة، وعدم إضاعة شيء منها، ولما توفى أخذ قاضي القضاة بهاء الدين الكلاسة، وولاها لأخيه كمال الدين عبد الرحمن، واستمر أخوه محي الدين في الدماغية والعمادية، وناب عنهم فيها الشيخ زين الدين الفارقي بغير معلوم إلى أن تأهل القاضي بدر الدين محمد ولد قاضي القضاة عز الدين، وذكر الدرس فيها بنفسه وحضر عنده شيخه الشيخ تاج الدين والأعيان، وكان يوماً مشهوداً. وكانت وفاة محي الدين المذكور ليلة الأربعاء ثامن رجب، ودفن يوم الأربعاء بالجبل إلى جنب والده رحمهما الله تعالى.
أحمد بن هولاكو بن قاآن بن جنكز خان ملك التتار. كان ملكاً شهماً خبيراً بأمور الرعايا، سالكاً أحسن المسالك، متبعاً دين الاسلام، لا يصدر عنه إلا ما يوافق الشريعة النبوية صلوات الله وسلامه على صاحبها وانقياده إليها، واعتماده عليها في جميع حركاته بطريق الشيخ عبد الرحمن فإنه كان قد أقبل عليه، وانقاد إليه، وامتثل ما يأمره به، فكان يأمره بمصالحة(4/211)
المسلمين والدخول في طاعتهم، والعمل على مراضيهم، وأن يكونوا كلهم شيء واحدا، ولم يزل به على ذلك إلى أن أجاب إلى مصالحة الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله فكتب على يد الشيخ عبد الرحمن كتباً بديعة دالة على دخوله في الاسلام، واتباعه أوامر الله تعالى في الحلال والحرام، وتوجه بها الشيخ عبد الرحمن، فلما وصل الشام بلغه خبر وفاة الملك أحمد، فبطل ما كان جاء بسببه وما كان أسسه، لكن وقع أجرهما على الله تعالى، وبقي الشيخ عبد الرحمن رحمه الله تعالى مدة يسيرة، وتوفى إلى رحمة الله تعالى. ولما مات ابغا، وقع الاختلاف فيمن يقعد في التخت، فتعصب جماعة لأحمد المشار إليه، واسمه الحقيقي تكدار، واسم أمه قو خاتون نصرانية، واتفقوا على إقعاده في تخت الملك، وما هان على بعض المغل قعود أحمد لأنه ادعى أنه مسلم، فحضر أخوه قنقرطاى، وقال لأرغون: إن ابغا شرط في الباسه أنه إذا مات ملك ما يقعد عوضه إلا الأكبر من أولاده، وقد رتبنا أحمد، ومن خالف يموت، فأطاعوه وسروا إلى الألجية لاحضار الملوك ليكتبوا خطوطهم بالارتضاء بملك أحمد، ولما جرى ذلك تحدثوا فيما بينهم في أن قدرتهم قد ضعفت، ورجالهم قتلت، وأن المسلمين كلما راحوا.... وأنه لا حيلة في هذا الوقت أتم من إظهار الاسلام، والتقرب إلى مراضي مولانا السلطان، واكتفاء بأسه بذلك، وسير في سبب ذلك(4/212)
رسل إلى الملك المنصور سيف الدين قلاوون يلتمس الصلح، وكان بين الملك رحمه الله وبين أرغون بن بغا عداوة شديدة، فسير أحمد عسكر نحو أرغون مقدار أحد عشر ألف فارس، وقدم عليهم على نياق أحد خواصه، فقصدوا أرغون، ونزلوا قريباً منه، فركب أرغون، وكبسهم، فقتل منهم ألفي فارس، وبلغ الملك أحمد، فركب في أربعين ألف فارس، وقصد جهة خراسان، فالتقى هو وأرغون، فقتل من عسكر أرغون أكثر من النصف، وضربت البشائر في بلاد العجم، وأمسك خمسة من الأمراء من المصاف وقررهم، فاعترفوا أن أرغون طلب العبور إلى ايلخان، فمنعه جماعة من أصحاب الملك أحمد، ومنعوه من الدخول في طاعة أحمد، فأمسك اثني عشر أميراً من كبراء المغل، وقيدهم، فعند ذلك قام المغل عليه، وجاهروه، فهرب، ثم أخذ، وأحضر إلى أرغون، فقتله، واستبد أرغون بالملك، وقيل في كيفية قتله غير ذلك والله أعلم.
الحسين بن عبد الرحمن بن هبة الله أبو محمد قطب الدين ابن المشترى رحمه الله. كان دمث الأخلااق، كثير الاحتمال، حسن العشرة والمحاضرة، له معرفة بالتاريخ، وإلمام بالأدب، ووالده الصاحب فلك الدين شهرته تغنى عن شرح حاله، ووالدته ابنة شيخ الشيخوخ تاج الدين ابن حمويه رحمه الله وكان قطب الدين المذكور قد خدم جندياً، وبقي على ذلك مدة، ثم ترك ذلك، وانتقل إلى بعلبك في أوائل سنة ثمان وخمسين،(4/213)
واستوطنها، وترك الجندية، ولبس البقيار، وخدم في ديوان بعلبك مدة سنين، ثم انتقل إلى مشارقة الضواحي في آخر عمره إلى أن درج إلى رحمة الله تعالى، وكان منذ قدم بعلبك إلى أن توفى شيخ الخانكاة النجمية، وتوفى في العشر الآخر من شهر رجب سنة ثلاث وثمانين وست مائة، وهو في عشر الخمسين تقريباً، ودفن بباب سطحاء ظاهر باب دمشق من مدينة بعلبك رحمه الله تعالى.
طالب بن عبدان بن فضائل الرفاعي، المقيم بقصر حجاج في زاويته المشهورة. كان من أصحاب الزوايا، والناس يترددون إليه، وكان رجلاً مباركاً. توفى بزاويته يوم الخميس سادس عشر صفر رحمه الله تعالى. قال أخي رحمه الله حدثني الشيخ طالب البطائحي قال: نزلت مع الشيخ موفق الدين رحمه الله من الجبل، فذهب نحو ميدان الحصاء، ودخل بعض الخانات، فصعد، ودخل بعض بيوت الخان، وتذاكرا نحو ساعة، فقال له الشيخ الموفق: يا شيخ أبا بكر! ما أحسنكم وأحسن طريقكم، لولا حضور السماع! فقال له الشيخ أبو بكر: وأي شيء في سماعنا مما ينكر؟ فدعا الشيخ أبو بكر بفقير عنده، وقال: أنشد شيئاً ليسمع الشيخ موفق الدين ويرى؛ فأنشد الفقير أبياتاً، فحصل للشيخ موفق الدين طيبة، ودمعت عيناه، فلما رأى ذلك الشيخ أبو بكر، أنشد:
إن أنكرت أهل الشريعة كلها ... أمر السماع فإنني لمحله
أو أغمدوا بسيف سنة أحمد ... إني ببدعة حبكم سأسله(4/214)
والله لو سمحت عليك بنظرة ... لتزعزعت أركان جسمك كله
فصار الشيخ موفق الدين يبكي، ويقول: أي والله، لو سمحوا على بنظرة، ويردد ذلك كله. خذا مضمون ما حكاه الشيخ طالب لأخي رحمه الله.
عبد الرحمن بن عبد الله رسول الملك أحمد بن هولاكو. حدثني الشيخ عبد الله الموصلي المتصوف، وكان ممن قدم معه، وله خبرة بحاله، أن المذكور كان من مماليك الخليفة المستعصم بالله رحمه الله، وكان يسمى قراجاً، فلما ملك التتر بغداد وتلك البلاد، تزهد، وتسمى بعبد الرحمن، واتصل بالملك أحمد بن هولاكو، وعظم شأنه لديه، وحصل له من المكانة عنده ما يقصر عنه الوصف بحيث كان الملك يحضر إلى زيارته، وإذا شاهده من بعد ترجل، فإذا وصل إليه قبل يده، وقعد بين يديه، وامتثل جميع ما يشير به، وكان معظم ما يصدر من الملك أحمد من الأفعال الجميلة، والمبالغة في الميل إلى المسلمين بطريقه، وأشار إليه أن يتفق مع الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله، ويجتمع كلمتهم، فندبه لذلك، وسير في خدمته جماعة كثيرة من المغل والأعيان من أهل الموصل، وماردين وغيرهما، من صدور تلك البلاد، فحضر إلى دمشق في العشر الأوسط من ذى الحجة سنة اثنتين وثمانين وست مائة، وأقام هو ومن معه في دار رضوان بقلعة دمشق، ورتب لهم من الاقامات ما لا مزيد عليه، وبولغ في إكرامهم، وخدمتهم بكل طريق، وقدم السلطان الملك المنصور إلى الشام في هذه السنة أعني ثلاث وثمانين وست مائة، ومن أعظم أسباب قدومه الاجتماع به، وأبرام ما قدم بسببه، فبلغ الملك المنصور عند وصوله(4/215)
إلى الشام أن الملك أحمد قتل، وتملك بعده أرغون بن أبغا بن هولاكو، فاستحضر الشيخ عبد الرحمن بقلعة دمشق ليلاً، واجتمع به، وسمع رسالته، ووعاها ثم أخبره بما اتصل به من قتل الملك أحمد مرسله، وعرفه أن رسالته انتقض حكمها بوفاة صاحبها، ثم أن الملك المنصور قضى إربه من سفرته تلك، وعاد إلى الديار المصرية، والشيخ عبد الرحمن ومن معه بقلعة دمشق في مكانهم، لكن اختصر شيء كثير مما كان يحضر إليهم، ورتب لهم قدر الكفاية التامة، فلما كان يوم الجمعة ثامن عشرين شهر رمضان المعظم من هذه السنة أعني سنة ثلاث وثمانين، توفى الشيخ عبد الرحمن المذكور رحمه الله تعالى بقلعة دمشق، فجهز وغسل بعد أن وقف عليه الأمير حسام الدين نائب السلطنة وغيره من الأعيان، ودفن بعد العصر بمقابر الصوفية، وقد نيف على الستين سنة من العمر، وبقى من معه على حالهم، وتطاول بهم الاعتقال، وأهمل جانبهم بالكلية، وضاق بهم الحال في المطعم والملبس، وكان معظمهم من أهل الموصل، فعمل النجم يحيى شعراً في معناهم، وبعث به إلى الأمير حسام الدين نائب السلطنة:
يا قاطع البيداء يرتقب الغنى ... ها قد بلغت مطالب النعماء
هذا المقام المولوى العادلي ... العالمي ... ملك الأمراء
قبل لديه الأرض تعظيماً وبلغه رسائل ساكني الحدباء
واجأر إليه وناده متضرعاً ... ومذكراً يا كاشف الغماء
الله قد أعطاك فضل عناية ... عقلاً وتبصرة وفرط ذكاء(4/216)
أحباك تأييداً ونور بصيرة ... وسياسة مقرونة بحياء
أولى بسجنك أن يحيط ويصطفى ... مبيد الملوك وأفخر العظماء
ما قدر فراش وحداد ... وتغاط خربند إلى سقاء
خدموا رسولاً ما لهم علم بما ... يخفى وما يندى من الأشياء
بل رغبة في نيل ما يتصدق السلطان من كرم وفيض عطاء
ويؤملون فواضلاً تأتيه من ... لحم وفواكه ومن حلواء
حاشاه أن يغشى حماة معشر ... قصدوه للاحسان والنعماء
نفروا من الكفار والتحوا إلى ... الاسلام واتبعوا سبيل نجاء
فيقابلون بطول سجن دائماً ... ويحشرون مجاعة وعناء
أخبارهم مقطوعة فكأنهم ... موتى وهم في صورة الأحياء
إن الذي منهم تولى كبره ... ولى وزال توهم الغوغاء
إن كان خيراً قد مضى أو كان ... شراً قد أمنت عواقب الأسواء
وإذا قطعت الرأس من نسر فلا ... تبخل بما يبقى من الأعضاء
هلا مننت عليهم بسراحهم ... يجزيك رب العرش خير جزاء
والله أعلم بالسرائر طالما ... أخذ البرئ بتهمة الأعداء
فلما عرضت هذه الأبيات إلى الأمير حسام الدين طالعه في أمرهم، وأطلق معظمهم، وبقى في الاعتقال نفرين أو ثلاثة، قيل: إن صاحب ماردين أشار بإبقائهم لأمر نقمه عليهم. وأما هذا الشيخ عبد الرحمن رحمه الله(4/217)
فكانت مقاصده جميلة، وظاهره وباطنه منصرف إلى نصرة الاسلام، واجتماع الكلمة على أعداء الدين، وكان له عدة سفرات إلى الحجاز والشام والديار المصرية، ولما تلقى إلى البلاد الفراتية وأحضر إلى حلب ثم إلى دمشق فكانوا يسيرون به في الليل، ويعرجون عن الطرق، فقال لهم: أنا قد سافرت في هذه الطريق عدة سفرات، ولعلي أخبر بها بكثير من الناس، وكانت منيته رحمه الله مقاربة لمنية صاحبه رحمه الله تعالى.
عبد الرحمن بن إبراهيم بن هبة الله بن المسلم بن هبة الله بن حسان بن محمد ابن منصور بن أحمد البارزى أبو محمد نجم الدين الجهنى الشافعي. وله بحماة سنة ثمان وست مائة، واشتغل بالعلوم الشرعية، والأدبية، والكلامية، والحكمية، وصنف في كثير من ذلك، وروى الحديث النبوي صلوات الله وسلامه على قائله عن جماعة، منهم: الحافظ ضياء الدين موسى بن سيدنا محي الدين عبد القادر الجبلي رضي الله عنهما بدمشق، والشيخ عبد الرحمن بن رواحة بحماة، والشيخ عبد المنعم بن الدقاق الدمشقي وغيرهم؛ وحدث وسمع منه الظاهري وغيره، وتولى القضاء الدمشقي وغيرهم؛ وحدث وسمع منه الظاهري وغيره، وتولى القضاء بحماة نيابة عن والده رحمه الله، وقد تقدم ذكر والده، ثم اشتغل بعد وفاة والده، ولم يأخذ على القضاء رزقاً، وصرف عن الحكم قبل وفاته بسنين يسيرة، وكان شديداً في أحكامه، موفقاً في نقضه وإبرامه، وافر الديانة، حسن الاعتقاد في الفقراء والصالحين، وقصد الحجاز الشريف في سنة ثلاث وثمانين وست مائة، فأدركته منيته في طريق مكة شرفها الله تعالى ليلة الخميس بعد عشاء الآخرة(4/218)
عاشر ذى القعدة بعد نزولهم من تبوك بفلاة تعرف بالديسة، وغسل، وكفن، وصلى عليه، وحمل إلى المدينة الشريفة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ودفن بالبقيع بين قبة سيدنا إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبة العباس رضي الله تعالى عنه، ضحى يوم الخميس الرابع والعشرين من ذى القعدة، وكان رجلاً فاضلاً، معروفاً بالديانة والعلم، وله يد طولى في النظم، فمن شعره ما اعتذر به عن زيارة قادم، يقول:
قدمتم فجاء الناس يسعون نحوكم ... وما عندهم لاعج الشوق ما عندي
فنكبت عنهم لا لأني مقصر ... ولكن لكي أحضر بخدمتكم وحدي
قال: وكتبت بها إلى الملك المنصور ناصر الدين محمد صاحب حماة رحمه الله:
خدمتك في الشباب وها مشيبي ... أكاد أحل منه اليوم رمسا
فراع لخدمتي عهداً قديماً ... وما بالعهد من قدم فينسى
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
وكم محنة لله في طي محنة ... وبالعكس لو أن امرأ يتيقظ
ومن قبل الأيام خيراً يعظنه ... بما قلت والأيام بالدهر توعظ
وقال أيضاً رحمه الله:
إذا شمت من تلقاء أرضكم برقا ... فلا أضلعي تهدأ ولا أدمعي ترقا
وإن ناح البان ورق حمائم ... سحيرا فنوحي في الدجى علم الوقا
وحقكم ما كان حبي تخلقاً ... فأسلوكم بل كان حبي لكم حقا(4/219)
فرقوا لقلب في ضرام غرامه ... حريق وأجفان بأدمعها غرقا
سميري من سعد خذا نحو أرضهم ... يميناً ولا تستبعدا نحوها الطرقا
وعوجا على أفق يوشح شيحه ... بطيب الشذى المكى أكرم به أفقا
فإن به المغنى الذي يبرأ به ... وذكراه يستسقى لقلبي ويسترقا
ومن دونه عرب يرون نفوس من ... يلوذ بمغناهم حلالاً لهم طلقا
بأيديهم بيض بها الموت احمر ... وسم لذا هيجانهم يحمل الرزقا
وقولا محب بالشام غدا لقا ... لفرقة قلب بالحجاز غدا ملقا
تعلقكم في عنفوان شبابه ... ولم يسل عن ذاك الغرام وقد أبقا
وكان يمنى النفس بالقرب فاغتدى ... بلا أمل إذ لا يؤمل أن يبقا
عليكم سلام الله أما ودادكم ... فباق وأما العهد عنكم فما أبقى
وإن أنتما استنشقتما طيب طيبه ... تضوع كعرق المسك احكمته سحقا
وعاينتما قبر النبي الذي غدا ... لفرط سناه الغرب بالنور والشرقا
فقولا فلان فوق ما تعهدونه ... غراماً بكم ما حبه لكم مذقا(4/220)
رفيقكم مملوككم عبد ودكم ... فصارا مناه تديموا له الرقا
ولا تعتقوه إن إرقاقكم له ... يؤمل من نار الجحيم به عتقا
يعود ندى القبر الذي قد حواكم ... إذا ما الجاهل السعادة أن يشقى
ووالده مع ولده وأبوهم ... محبك كل فاز بالعروة الوثقى
وقائلها كم رام نظماً فصده ... جلالك حتى ما يطيق به نطقا
أينطق مخلوق بمدحك بعد ما ... أتى منه في القرآن ما يعجز الخلقا
عليك صلاة الله تبرى فإنها ... إلى جنة المأوى لقائلها مرقا
أيا سيد العرب الكرام ومن ... غدت سيادتهم للناس كلهم حقا
أجرني فإني قد أحاطت بساحتي ... ذنوب لاثقال الرواسي عدت طبقا
والغرب عادات أجار بهم لمن ... إليهم على خوف مقاليده ألقى
إذا كنت في قلبي مقيماً وكنت لي ... غدا شافعاً حاشاي في النار ازلقا
فرفقاً بعبد ما تعود خفضكم ... وما زال في عليا إحسانكم يرقا
وخيرا له خيرا كما اعتاد منكم ... ولطفاً به لطفاً ورفقاً به رفقا
الهى على حب بشرع محمد ... أبو بكر الصديق قاتل من عقا
وسماه عمر الفاروق لم يبق ملبسا ... وأظهر بين الحق والباطل فرقا
وسماه في القرآن فنزل وحيه ... بصاحبه فخراً وسماه بالانقا
كذا عمر الفاروق لم يبقى ملبسا ... وأظهر بين الحق والباطل فرقا
بسطوته في نصرة الحق جاهداً ... غدا كل جبار بمد له العنقا(4/221)
فيا صاحبيه يا ضجيعيه أنتما ... وسيلة من يرجوه المنزل الأتقى
سلا خير مسحوب فريد عنائه ... بمن لم تزايله سهام الهوى رشقا
وعثمان ذو النورين بالمصحف اعتنى ... فأتققنه خطا وأودعه رقا
وفاق على من بعدهم كل صاحب ... وتربيتهم فضلاً كبير بهم سبقا
أدين بهذا والذي بخلافه ... يدين فلا حقا يراه ولا صدقا
فسقيا ورعيا للذي يبصر الهدى ... وسحقاً لمن يعمى بصيرته سحقا
ومشهدها عنى أعان تفضلاً ... بحسن أداء فالثواب له حقا
قال وأنشد قصيدة لبهاء الدين زهير المقدم ذكره، مطلعها:
رسول الرضى أهلاً ... وسهلاً ومرحبا
فعمل رحمه الله:
وكان الرضى منى إليه ولم يكن ... رسول فأخشى أن يتم ويكذبا
وناديت أهلاً بالحبيب ولم أقل ... رسول الرضى أهلاً وسهلاً ومرحبا
وقال أيضاً رحمه الله:
رسائل لو حلت على حسن فسحها ... بصنعاء استغنت بها عن برودها
ولو سمعتها الغانيات لروعت ... وما أمنت إلا بلمس عقودها
وقال أيضاً بعد فتح حصن الأكراد وحصن عكار:
ولما عبدا الأكراد خبث بقعة ... وعكار إذ عم الأنام بلاهما
حللت بها حلة ثم حلة ... فطاف بهذا الواديان كلاهما
وقال لما قدم مجير الدين محمد بن تميم من الحجاز الشريف:
أتى ابن تميم السامى بفضل ... تصرف في الحقيقة والمجاز(4/222)
حويت فصاحة الصنفين لما ... حججت بني تميم والحجاز
عبد الرحيم بن سعد بن أبي المواهب بن سعد أبو حمد زين الدين البعلبكي. كان فقيهاً عالماً ديناً خيراً، حسن العشرة، يحاضر بالحكايات، والأشعار، والنوادر، وسافر إلى بلاد متعددة، وسمع الكثير من الحديث، ثم استوطن بعلبك، وتوفى ببعلبك يوم الجمعة سادس جمادى الأولى، وقد نيف على الستين سنة من العمر رحمه الله تعالى.
.... بن عبد الله بن إسماعيل بن إبراهيم أبو نصر الجزيري الشافعي جمال الدين المعروف بابن العجمية الحاكم بالجزيرة العمرية. كان فاضلاً، حسن الطريقة، كثير المكارم، له حدة كثيرة يقتضى ثلاثين ألف دينار، وكان بينه وبين شخص يقال له القرقوى نسبة إلى أمه خاتون، وقال لها القاضي جمال الدين: سم ولدك عند عبوره إلى الجزيرة في الاقامة التي سيرها له؛ فصدقته، وأحضرت القاضي المذكور إليها، وقتلته بيدها ذبحاً، وسيرت إلى نوابها ببلد الجزيرة تأمرهم بالقبض على أولاده، وحريمه، وقتلهم عن آخرهم حتى كلابهم وقطاطهم، فذهبت أرواحهم وأموالهم، ثم عاد، انعكس الأمر على القرقوى، وحصل له من رافعه، وأخذوه نواب التتر، فقتلوه هو وأولاده وأتباعه أعظم مما فعلوه بالقاضي، وما ربك بظلام للعبيد. روى للقاضي منامات حسنة مبشرة بكل خير، ومن شعره قصيدة أطال فيها النفس يمدح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنها:
يا ساكني ربع قلبي لأعدمتكم ... صبري وحقكم من بعدكم أبق(4/223)
محبكم ليس ينساكم وبقلقة ... تذكاركم وهو من فرط الأسى قلق
لا يستطيع اعتماضاً بعد بعدكم ... فالعين ساهرة والغمض مفترق
من أبيات رحمه الله تعالى.
عبد الملك بن إسماعيل بن أبي بكر بن شاذى أبو محمد الملك السعيد فتح الدين بن الملك الصالح عماد الدين بن الملك العادل سيف الدين. كان من أعيان أولاد الملوك وأماثلهم، له الحرمة الوافرة، والمكانة الرفيعة، وكان حسن العشرة، دمث الأخلاق، وافر الحشمة، عنده رياسة، وتعدد، ومكارم أخلاق، وتأنق فيما يعانيه من المآكل والملابس وغير ذلك، وتوفى ليلة الاثنين ثالث شهر رمضان المعظم سنة ثلاث وثمانين وست مائة، ودفن عند جدته أم والده بتربتها داخل مدينة دمشق، وهو في عشر الخمسين. روى عن ابن اللتى، ومكرم بن أبي الصقر وغيرهما، وحدث رحمه الله تعالى بموطأ يحيى بن بكير عن مالك وغيره، ومولده تقريباً سنة ثلاثين وست مائة، وصنف كتاباً في المآكل وألوانها رحمه الله تعالى.
عطاء ملك بن محمد علاء الدين الجويني، صاحب الديوان ببغداد والبلاد الشرقية. كان إماماً عالماً فاضلاً، فقيهاً حنفياً، متبحراً في العلوم. نقالاً لمذهب أبي حنيفة رحمه الله، يعرف العربية، واللغة، والمعاني، وله استقلال بفن الأدب مع الرياسة العظيمة والوجاهة التامة، وله الأمر والنهي على سائر المملكة، يتصرف في الأموال والأقطاعات وغير ذلك،(4/224)
والناس يتردد إلى بابه وخدمته، ويحضر مجلسه فضلاء بغداد وغيرها، ويجازيهم في العلوم، ويبالغ في الاحسان إليهم، ويمد لهم السماطات الهائلة، وله أموال كثيرة، وآلات نفيسة، وكتب عظيمة، وكان مسكنه آخر وقت في دار الدوادار الصغير على الجسر الجديد، وله يد في النظم والنثر، وكان بين يديه من أمكانات الفضلاء جماعة كثيرة، وتفضلات على سائر الناس، ومكارم أخلاق، وطلاقة وجه، لا يعسف أحداً ولا يظلمه، والناس في أيامه كأيام الخلفاء، وأهل بغداد وغيرها عاكفون على محبته والدعاء له، وعمل في جامع الكوفة بركة عظيمة، ينزل إليها بدرج، وعمل مشهد على رضوان الله عليه رباطاً مزخرفاً، وساق إليه المياه العظيمة من النهر الذي حفره من الفرات مبدأه من الأنبار، وأوصله إلى المشهد، وعمر عليه نحو مائة وخمسين قرية. وغرم عليه من الأموال ما لا يحصى، وحصل بذلك للناس رفق عظيم، فإنهم كانوا يردون الماء قبل عمله من مسافة بعيدة كالصالحية من دمشق، وأبعد، وزرع على هذه المياه النخيل العظيمة، والبساتين، والكروم، والبقول، وكانت أولاً كأرض الحجاز، وكانت سيرته من أحسن السير وأجملها. وأعدلها بالرعية، وأنصفها للمظلوم. عمر البلاد جميعها، وأسقط عن المزارعين مغارم كثيرة كانت من زمن الخلفاء. وكان أخوه الصاحب شمس الدين وزير البلاد في خدمة الملك حيث كان، وكان من صدور الاسلام، وله الكلمة النافذة والأمر المطاع، إماماً عالماً فقيهاً في مذهب الشافعي(4/225)
رحمة الله عليه وكانت جوائزهما للعلماء المائة دينار فما فوقها إلى الألف. وكان قد عيد أبغا بن هولاكو بالعراق، وحضر علاء الدين، وشمس الدين أخوه إلى بغداد، فأحصيت الجوائز، والانعامات، والوظائف للعلماء والشعراء، وأرباب البيوت، فكانت فوق الألف جائزة. وكان كل فاضل يصنف كتاباً، وينسبه إليهما يكون جائزته ألف دينار، وأجازوا للشيخ شمس الدين بن الصقيل الجزرى ألف دينار على تصنيفه خمسين مقامة فضولها على مقامات الحريرى. وكان لهما حسن الظن في الفقراء والصالحين، وكذلك الأشراف. وكانت لهما عناية عظيمة بأوامر الشريعة. مدح بعض الشعراء لعلاء الدين صاحب الديوان بقصيدة أحسن نظمها، وأكثر فيها المعاني، والجناس اللفظي، والخطي، ثم شرع يمت بقصيدته، ويقول: لم يمدح في هذه الملة الاسلامية أحد بمثلها، ثم قال: أليس هذا أحسن من " قل أيها الكافرون "؟ فلما سمع علاء الدين منه ذلك، أمر غلمانه أن يأخذه بصورة أن يخلع عليه، فإذا خرج به ضرب عنقه، وأحضر رأسه إلى السماط، ففعل ذلك، ثم أنه شرع يعظم النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وقال: ما لكل مبتدع عندي إلا قتله. وكان في زمن هولاكو فما برح الصاحب علاء الدين أخو شمس الدين يعمل عليه حتى قتله. وكان قد قدم مجد الملك من ناحية العجم إلى بغداد قبل توجه العسكر المخذول صحبة منكوتمر بن هولاكو إلى الشام سنة ثمانين وست مائة بنحو من شهرين، فأخذ صاحب الديوان علاء الدين عطاء ملك بن الصاحب بهاء الدين الجويني،(4/226)
وغسله وعاقبه، فقال صاحب الديوان في ذلك:
لا تيأسن لما جرى فالخير فيه لعله ... قد كان عبداً آبقاً يعصى الاله فغله
فلما عاد العسكر مكسوراً، حمل صاحب الديوان في صحبتهم إلى همذان، وهناك مات أبغا بن هولاكو، وأخوه منكوتمر، فولى الأمر الملك أحمد باتفاق من صاحب الديوان علاء الدين، وأخيه الصاحب شمس الدين محمد ابن محمد الجوينى، فبعد أشهر يسيرة دون السنة هلك أحمد، وولى أرغون ابن أبغا، وطلب صاحبي الديوان؛ فاختفيا عنه، وتوفى علاء الدين بعد أشهر من ذلك مختفياً، وطلب شمس الدين، فأخذ له أماناً من أرغون وأحضر عنده فغدر به، وقتله بعد موت أخيه بمدة يسيرة، وكان لهذا شمس الدين ولدان رؤساء، لهم مكارم، واحتفال بالوظائف التي يعملوها. والناس على أبوابهم وهم في سعة صدورهم والاحسان الوافر، وإذا عملوا دعوة غرموا عليها الألوف، ودعوا إليها كل فقير وغني، ولم يكن مثلهم في رياستهم. فلما قتل أبوهم، فوض أمر العراق إلى جماعة مشركين، وهم: سعد الدين العجمي، ومجد الدين بن الأثير، والأمير المعروف بشكسان. فتعلق أحد أولاد شمس الدين المذكور الذي قتل وهو الأمير هارون على ارق وزير أرغون، وصاحب حساب العراق؛ فلما كان بعد سنة. حضر الجماعة عند الوزير ارق في منزلهم من تبريز، وعمل حسابهم، وأوجب عليهم القتل، وفعل ذلك بهم، وطلب كى خاتو أخو أرغون، وهو(4/227)
الذي كان قاتل مجد الدين بن الأثير، لأنه كان متعلقاً به. فاعتذر ارق إليه بأن هارون هو الذي فعل ذلك بالجماعة، وقتلهم، فأوجب الحال قتل هارون وأولاده مع صغارهم، ومن كان عمره دون التمييز فقتلوا كلهم. واتفق علاء الدين صاحب الديوان سعادات عظيمة، ونزلت به أمور عظيمة سلمه الله منها. فمن ذلك أنه كان معه ببغداد شحنة من تحت يده يعمل ما يأمره به، يقال له الطرغيا، وحديث الأموال، والمناصب، والأمر، والنهي في البلاد كلها راجع إلى علاء الدين، والشحنة ليس له من الأمر إلا إذا حضر بخدمة علاء الدين في دار العدل، ووجب قتل أحد شرعا أمر بقتله فامتثل، أو بتأديبه فأدبه، لا أمر له سوى ذلك. فحسد علاء الدين على ما هو فيه من إنفاذ الكلمة، والاستقلال بالمملكة، ورام أخذ موضعه بمكيدة يعملها في حقه. فكتب على لسان علاء الدين كتاباً إلى الملك المنصور قلاوون يذكر فيه ذلك مناصحة له، وأنه ليحضر هو أو أحد عسكره ليملكه البلاد، وما يناسب هذا الكلام ليدل على مواطأته. وسير الكتاب مع شخص يتوجه به إلى الشام، ويغير به في طريقه على جماعة من المغل ليأخذوه إذا رأوه. فلما توجه إلى ذلك المكان، وجده الفراغون، فأمسكوه وقالوا له: أيش معك؟ وقرروه، فقر أنه رسول صاحب الديوان إلى ملك مصر، فأحضروه إلى بغداد إلى الشحنة الذي كان أرسله، فأعطاه ألف دينار على توجهه به، فقرروه، وأخذ الكتاب منه، وجهزوه مع الفراغون(4/228)
إلى الملك أبغا، فطلب علاء الدين مقيداً مغلغلاً، وكان أخوه شمس الدين عند أبغا وزيره، فعندما بلغه الخبر، أرسل غلمانه من طريق أقرب من طريق الرسل الواصلين بإحضار أخيه بكتاب يقول فيه: يا أخي! يدك في الكتاب، ورجلك في الركاب، وتطوى المنازل، وكان لم يبرح عنده في الدهليز فرس مشدود، فمجرد ما وصله الكتاب، ركب ودخلوا البريدية الواصلين بسببه فلم يجدوه، وساق الليل والنهار إلى أن وصل إلى أبغا، وسأل المحاقة على ما قيل عنه، وطلب الرسول بالكتاب، وحاقه وسأله من غير ضرب، فقر على الشحنة، وأنه أعطاه ألف دينار على تأدية الكتاب إلى ذلك المكان الذي أمسكوه فيه، فرسم له بالبلاد على عادته، وتضاعف شكره، وخلع عليه، وتسلم الشحنة إليه، وحكموه في البلاد أكثر مما كان، وأما الذي حمل الكتاب المزور، فأخذه، وعاد به إلى بغداد، وتنوع في عذابه وصلبه وسمله، ودور به البلد، ثم أرمى بعد ذلك في الدجلة، وكتب إلى أهل بغداد كتاباً يقول فيه بعد البسملة: " إن لله تعالى ألطافاً خفية، يرى صورتها حسنة، يحسبها الجاهل بجهله نقمة، فإذا انتهت ونمت، عرف أنها نعمة "؛ وما هذا معناه. وعاد إلى بغداد، فاحتفلوا بدخوله احتفالاً عظيماً، وزين البلد، وعملت المغاني في الشوارع، والقباب المزينة. وكان يوم دخوله يوماً مشهوداً، ولما استقر بها وحضر الفضلاء لتهنئته، أنشدهم لنفسه مما عمله في هذه الواقعة أبياتاً خمسها، بعد أن نظم(4/229)
مصاريعها، وهي هذه:
ألا يا صاحبي لا تخش أمراً ... قليل الخطب سوف يعود فجرا
أقول وقد تقلت الدهر خبراً ... لأن نظر الزمان إليك شزرا
فلا تك ضيفاً من ذاك صدرا
فكيف ينال ما يختار مني ... عدو والاله يرد عني
فلا تحزن علي بما يعنى ... وكن بالله ذا ثقة لأني
أرى آيته في ذا الأمر سرا
فما أنا من يخاف من اغتيالي ... ويخشى من تصاريف الليالي
ألا قل للمعادي والمواي ... رماني إذ رماني لا أبالي
فقد مارسته عسراً ويسرا
أأجزع من حوادثه إذا ما ... قصدت إلى وفوقت السماما
وقد لامسته نوباً عظاما ... وقد صاحبته ستين عاما
مضين وذقته حلو ومرا
قطعت قفاره أقصى وأدنى ... وجئت بقاعه خوفاً وأمنى
وكم عاينته فرحاً وحزنا ... وسلكت فجاجه سهلاً وحزنا
وخضت بحاره مداً وجزرا(4/230)
أرحبه لكي يرتاح بالي ... فأتعب خاطري وأحل حالي
بحالي ذى اغتيال واحتبال ... رأيت الدهر لا يبقى بحال
يريك الوجه ثم يريك ظهرا
فما أنا من صروف الدهر شكا ... وإن لاقيت بعد الرحب ضنكا
ولا أخشى من البأساء فتكا ... وإن وجدت ريح الموت وجها
لقد عرفته سراً وجهرا
ومن شعره:
أحبابنا لو درى قلبي بأنكم ... تدرون ما أنا فيه لذ لي تعبي
وإن أيسر ما ألقاه من ألم ... أنى أموت وما تدري الأحبة بي
وكانت وفته في سنة ثلاث وثمانين مختفياً رحمه الله تعالى.
عيسى بن مهنا أبو مهنا الأمير شرف الدين أمير آل فضل العرب في وقته، والمشار إليه منهم. كان له منزلة عظيمة عند الملك الظاهر، ثم تضاعفت عند الملك المنصور سيف الدين قلاوون بحيث ضاعف حرمته وأقطاعه، وملكه مدينة تدمر بعقد البيع والشراء، وأورد عنه لبيت المال ليأمن غائلة ذلك فيما بعد، وكان المشار إليه كريم الأخلاق، حسن الجوار، مكفوف الشر، مبذول الخير، لم يكن في العرب وملوكها من يضاهيه، وعنده ديانة، وصدق لهجة، لا يسلك مسالك العرب في النهب وغيره، ولما توفى أقر الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله(4/231)
ولده الأمير حسام الدين مهنا على إمرته وأقطاعه وزاده، وضاعف حرمته، وبسطته، وكان بين وفاته ووفاة الأمير أحمد بن حجي دون السنة، وكان بينهما من المنافسة ما يكون بين النظراء، فكان أجلهما متقارب، وصلى على عيسى رحمه الله بجامع دمشق بالنية يوم الجمعة تاسع ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين رحمه الله تعالى.
محمد بن أحمد بن محمد أبو عبد الله عماد الدين الأنصاري المعروف بابن الشيرجى. من أعيان الدمشقيين، وأكابرهم، وعدولهم، وذوى الثروة والوجاهة والرياسة فيهم، وهو ناظر أوقاف ست الشام بدمشق المدرستين والخانقاة. سمع الكثير، وحدث، وبيته مشهور بالرياسة والتقدم. وكان عماد الدين موصوفاً بالخير، والديانة، وكثرة التواضع، وكرم الأخلاق، وحسن العشرة، والموادة، ولى عدة ولايات جليلة آخرها نظر الخزانة بدمشق. وتوفى ليلة الثلاثاء سادس ربيع الأول هذه السنة ببستانه، ودفن يوم الثلاثاء بتربتهم في مقابر باب الصغير. ومولده سنة ثلاث عشرة وست مائة.
محمد بن عبد القادر بن عبد الخالق بن خليل بن مقلد أبو المفاخر عز الدين الأنصاري الشافعي المعروف بابن الصائغ. لازم الاشتغال من صغره على جماعة من الفقهاء، ثم لازم القاضي كمال الدين عمر التفليسي رحمه الله وانتفع به، وتنبه عليه، وصار يعد في أعيان الفقهاء، وأكابرهم، وأشرك بينه وبين القاضي شمس الدين محمد بن أحمد بن نعمة المقدسي رحمه الله تعالى(4/232)
في المدرسة الشامية بعد فصول، ثم استقل بها شمس الدين، لما حضر الصاحب بهاء الدين رحمه الله إلى الشام في سنة تسع وستين، وولاه وكالة بيت المال المعمور بالشام، ورفع من قدره، فباشر ذلك مدة يسيرة، ثم ولاه قضاء القضاة شمس الدين ابن خلكان رحمه الله تعالى فباشر الأحكام الشرعية، وسلك الطرق المرضية، واجتهد على تمييز الأوقاف من حفظ أموال الأيتام، وأوقاف الأشراف، وتصدى لذلك، وطار صيته وحمدت طريقته، لولا ما كان يعانيه من التوبيخ، والمحاقة، وكشف العورات، وإطراح الأكابر، فمقته الناس لذلك، وكثرت الشكوى منه بسببه. وتغير عليه الصاحب بهاء الدين رحمه الله ولم يمكنه عزله لأنه كان أطنب في شكره عند الملك الظاهر رحمه الله عزله، وأعاد قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان رحمه الله فكانت ولايته سبع سنين، فسر معظم الناس بعزله، واقتصر على تدريس العذراوية، وأظن مدرسة أخرى. وكان صرفه عن الحكم في أول سنة سبع وسبعين، واستمر معزولاً إلى حيث تسلطن الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله وحضر إلى دمشق سنة ثمانين وست مائة، فأعاده إلى الحكم لأسباب اقتضت ذلك. فباشر في أول السنة المذكورة، وعاد إلى سجيته وما كان يعانيه من الغض من الناس، وكشف عوراتهم، وذكر مساويهم. فحصل التضافر عليه والسعي فيه، فاعتقل في شهر رجب سنة اثنتين وثمانين بقلعة دمشق، وصرف وولى مكانه قاضي القضاة بهاء الدين يوسف بن الزكي رحمه الله ولزم بيته(4/233)
وحصل له سوء مزاج، وتخليط في كلامه، ولم يزل ذلك يتزايد إلى أن توفى إلى رحمة الله تعالى في يوم الأحد تاسع ربيع الآخر ببستانه، ودفن يوم الاثنين بسفح قاسيون في التربة المعروفة به، وقد نيف على الخمسين سنة رحمه الله بعد أن صلى عليه مراراً، ولم يتخلف عنه أحد من المشهورين، وختم له بأنواع الصالحات، منها: موته خاملاً غير متول، ومنها: النكبة التي نكبها وحبس عليها شهراً ظلماً، وعدواناً، ومنها: مرضه الطويل حتى اضمحل، ولم يبق عليه من اللحم شيء، وآخر ما ختم له به أنه يوم مات توضأ بنفسه لصلاة العصر، وقال: هللوا معي، فهللوا، وخرجت روحه مع آخر التهليلات، فكان آخر كلامه: لا إله إلا الله؛ فنرجوا له الجنة للحديث في ذلك. وتولى عوضه في المدرسة العذارية زين الدين وكيل بيت المال، وذكر الدرس يوم الأحد سادس عشر الشهر، وعوض ولده محي الدين أحمد بالعمادية، وزاوية الكلاسة، وذكر بها الدرس يوم الأربعاء تاسع عشره. روى الحديث عن ابن اللتى، والسخارى، وابن الجميزى، وابن خليل، وجماعة كثيرة، وكان قد قرأ المحصول بحثاً، والحاصل، والتنبيه، والمفصل للزمخشري، وسافر إلى البلاد في طلب العلم، وحصل علماً كثيراً، وديناً وافراً رحمه الله ومولده سنة تسع وعشرين وست مائة.
محمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان أبو عبد الله بهاء الدين البرمكي الشافعي. مولده سنة ثلاث وست مائة، أظن باربل، سافر إلى البلاد، واشتغل بالفقه، وسمع الحديث، وكان رجلاً معدوم النظير في(4/234)
كثير من أوصافه، عنده تواضع مفرط، ولين الكلمة، ورقة القلب، وغزارة الدمعة، وسلامة الصدر، وحسن العقيدة في الفقراء والصالحين، وعدم الالتفات إلى الدنيا والاحتفال بأمرها، ولى الحكم ببعلبك وعملها، وباشر ذلك مدة سنين إلى حين وفاته رحمه الله ولم ينله من جميع ما كان باسمه من الجامكية، والجراية إلا قوته لا غير، ولا يسأل عما عدا ذلك، وأما بشره، وتلقيه بالترحب لمن يحضر عنده، فخارج عن الحد حتى لقد كنت أترك الاجتماع به مع كثرة إيثاري لذلك لما يعاملني به في المبالغة من الاكرام. وتوفى إلى رحمة الله تعالى ولم يترك درهماً ولا ديناراً سوى ثياب بدنه لا غير، وكانت يسيرة جداً، وترك عليه جملة من الدين بيعت كتبه، وفي ما عليه، ودفن في تربة سيدنا الشيخ عبد الله اليونيني رحمة الله عليه وهو أسن من قاضي القضاة شمس الدين رحمه الله ومنذ بلغه وفاة أخيه قاضي القضاة شمس الدين حصل له من الحزن ما لا مزيد عليه، ولم يكن دمعه يرقأ في غالب أوقاته، ولازم الحزن والبكاء إلى حيث لحق بهما رحمهما الله تعالى وأسكنهما غرف جنانه فلقد كانا من محاسن الدهر، وكانت وفاة القاضي بهاء الدين محمود المذكور رحمه الله في يوم الأربعاء ثاني عشرين شهر رجب سنة ثلاث وثمانين وست مائة ببعلبك، ودفن يوم الخميس.
محمد بن محمد بن يحيى بن محمد بن علي أبو عبد الله بدر الدين التغلبي. كان شاباً فاضلاً، أسمعه قاضي القضاة نجم الدين في صغره على مشايخ وقته، وأحضره(4/235)
على الشيخ تقي الدين بن الصلاح، فسمع منه بعد الأربعين كتاب الفتوى وغيره، ودرس بعد والده بالركنية إلى أن توفى في يوم الاثنين سابع عشرين رجب الفرد، ودفن من يومه بالجبل رحمه الله تعالى.
محمد بن محمود بن محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب بن شاذى أبو المعالي الملك المنصور ناصر الدين ابن الملك المظفر تقي الدين ابن الملك المنصور صاحب حماة والمعرة. تملك حماة وما معها عند وفاة والده في يوم السبت لثمان مضين من جمادى الأولى سنة اثنتين وأربعين وست مائة، ووالدته الصاحبة غازية خاتون ابنة الملك الكامل بن العادل، ومولده في الساعة الخامسة من يوم الخميس لليلتين بقيتا من ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثين وست مائة بقلعة حماة، وعملت عقيقة عظيمة بقلعة حماة في اليوم السابع من مولده، وتقلد الملك بعد وفاة والده، وعمره عشر سنين وشهر واحد وثلاثة عشر يوماً، وقام بتدبير ملكه الأمير سيف الدين طغريل أستاد دار والده، والمشير في الدولة الشيخ شرف الدين عبد العزيز الأنصاري، والطواشي مرشد، والوزير بهاء الدين بن تاج الدين، والجميع يرجعون إلى ما تأمر به الصاحبة غازية خاتون والدته.
محمد بن موسى بن النعمان أبو عبد الله التلمساني، الإمام العالم العارف شمس الدين. شهرته تغني عن الاطناب في ذكره، سمع بالإسكندرية أبا عبد الله عماد الدين الحزاني، وأبا القاسم الصفراوي، وأبا الفضل جعفر الهذاني،(4/236)
وخلقاً يطول ذكرهم، وسمع بمصر أبا الحسن بن الصابوني، وأبا القاسم ابن الطفيل، وأبا الحسن بن المقير، وجماعة سواهم، وحدث. مولده بتلمسان في سنة ست أو سبع وست مئة، وتوفي بمصر ليلة الأحد التاسع من شهر رمضان المعظم هذه السنة، ودفن يوم الأحد بالقرافة الكبري رحمه الله وكان يوماً مشهوداً، وله يد في النظم، فمن ذلك:
أتطمع أن ترى ليلى بعين ... وقد نظرت إلى حسن سواها
سواها لا يروق الطرف حسنا ... وأوصاف الجمال لها حماها
حماها منزل الأحباب قدماً ... وإن كان الجلال لها حماها
أتنظرها بعين بعد عين ... فتلك العين يمنعها قذاها
قذاها إن أردت يزول عنها ... بعين الغير دهرك لا تراها
ترى الحسناء تسفر عن لثام ... سحيق المسك يعبق من شذاها
شذاها عطر الأكوان طيباً ... ونشر الطيب ينفح من ثراها
ثراها للعيون خلا خلاء ... فحسبك لا دوا إلا دواها
سناها يعجر الأوصاف عنه ... وحسب الفكر يقصر لو ثناها
ففخر المرء في دنياه حقا ... برؤية من رأى من قد رآها
فأقسم لا يرى الحسناء إلا ... محب لا يرى إلا هواها
هواها يحجب الأبصار طرا ... عن الكونين لا تبصر سواها
وكانت له مصنفات جليلة مفيدة تدل على إطلاعه، ويذكر ما كان يعانيه(4/237)
من المعارف، منها: كتاب مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام في اليقظة والمنام. أتى فيه بكل شيء مليح بديع. ومن كلامه: " من قطع بشفرة السكوت لسانه، أسكن الله تعالى الحكمة جنانه. وعمر بطاعته جوارحه وأركانه. ورفع في الدارين قدره وشأنه. ووقاه منهما ما شانه. ونفع به أهله وإخوانه وجيرانه ".
ومن شعره:
تزود أخي التقوى فأنت به تقوى ... فليس يفيد المرء علم بلا تقوى
عليك بها واقبل نصيحة مرشد ... فإن أصول الخير أجمع في التقوى
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
إن كنت تقصد صحبة النصاح ... فاطلب حديث القوم في الأصحاح
أصحاب خير العالمين محمد ... رحماء بينهم فشمل صحاح
لا تقبلن سوى نصيحة مؤمن ... تحيا بها والفتح للفتاح
فاصحبهم ولا تصحب سواهم ... قد بان هذا النصح بالإيضاح
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
من أحمل النفس في دنياه أحياها ... نعم وروحها حقاً وزكاها
هدى الفلاح لنا قال الإله لنا ... قد خاب والله من في الخير دساها
نصر الله بن محمد بن نصر الله صفي الدين وزير حماة. وليها بعد وفاة أخيه علاء الدين سنة أربع وسبعين وست مائة، وكان حسن المعاملة للناس، لين الكلمة، توفي بحماة سلخ رجب رحمه الله وإيانا.(4/238)
يوسف بن عبد الله بن عمر أبو يعقوب جمال الدين الزواوي المالكي قاضي القضاة. كان إماماً عالماً فاضلاً، ديناً صالحاً مشتغلاً، كثير الكتب، عاقلاً، عارفاً بالأحكام والأمور، كريماً، ملازماً لبيته، قليل الحكومات والإثبات، يجلس في الجمعة مرة واحدة، وكان ابن عم الشيخ زين الدين الزواوي ناب عنه في الحكم مدة، ثم عزل الشيخ نفسه، فاستمر جمال الدين يحكم مدة سنين بإذن السلطان من غير تولية مستقلة، وكان يداري الشيخ زين الدين، ويخدمه، ويهاديه، ثم سعى لنفسه في الاستقلال، فأجيب إلى ذلك في حياة الشيخ، فاستمر واتفق له حج هذه السنة، فلما كان يوم الخميس ثالث ذي القعدة، توفي وهو راكب في المحارة ذاهباً في الطريق، ودفن بعد نزول الحاج في الفلاة بعد رحلتهم من حفر المعظم، وكان دفنه بعد عشاء الآخرة من ليلة الجمعة رحمه الله تعالى.
السنة الرابعة والثمانون وستمائة
إستهلت هذه السنة، والخليفة والملوك على القاعدة في السنة الخالية سوى الملك أحمد بن هولاكو، فإنه قتل، وترتب مكانه أرغون بن أبغا، وسوى الملك المنصور صاحب حماة، فإنه توفي في السنة الخالية على ما تقدم، واسنقر عوضه ولده الملك المظفر تقي الدين محمود، والملك سيف الدين قلاوون قد خرج من الديار المصرية إلى الشام، ودخل دمشق يوم السبت ثاني وعشرين من المحرم بالعساكر المصرية، وعرض العسكر الشامي مدة أيام، وخرجوا جميعاً يوم الاثنين ثاني صفر قاصدين المرقب، وكان قد بقي(4/239)
في يد الأمير شمس الدين سنقر الأشقر قطعة من البلاد، منها: صهبون وبلاطنس وبرزية وغير ذلك، والعمل في الباطن على انتزاع ما يمكن انتزاعه من يده، وإفساد نوابه، فاتفق الحال بين من ببلاطنس من النواب وبين نواب الملك المنصور على تسليم بلاطنس، فسلمت في أول صفر، ووافى الملك المنصور البشري بتسليمها، وهو على عيون القصب متوجه إلى حصار المرقب، فسر بذلك واستبشر بنيل مقصوده من المرقب، وقد تقدم ذكر ما فعله أهل المرقب بالعسكر النازل لهم، فأثر ذلك في نفس السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله وحضر بنية قصدهم، فلما كان في مستهل صفر، خرج من دمشق بالعساكر المنصورة لقصده، وتقدمته المجانيق، ونازل الحصن المذكور يوم الأربعاء العاشر منه، وشرع العسكر في عمل الستائر للمجانيق، فلما انتهت الستارة للمجانيق المقابل لباب الحصن، سقطت إلى بركة كبيرة فيها ماء مجتمع، وكان عليها جماعة كبيرة من أصحاب الأمير علم الدين الدواداري، منهم: شمس الدين سنقر أستاذ داره، وعدة من مماليكه، فاستشهدوا رحمهم الله تعالى.
وفي يوم الأحد رابع عشرة، راسل الفرنج من بيت الأسبتار، وسألوا السلطان الأمان لأهل المرقب على أنفسهم وأموالهم، ويسلمون الحصن المذكور، فلم يجبهم السلطان في ذلك، وكمل نصب المجانيق، ورمى بها، وشعث الحصن، وهدم معظم أحد أبراجه، واستمر الحال إلى سادس عشر ربيع الأول، زحف السلطان على الحصن، فأذعن من فيه بالتسليم، وحصلت(4/240)
المراسلة في معنى ذلك، فلما كان يوم الجمعة ثامن عشر الشهر المذكور سلم ورفعت عليه الأعلام الإسلامية، ونزل من به بالأمان على أرواحهم، فركبوا، وجهز معهم من أوصلهم إلى أنطرسوس. وبالقرب من هذا الحصن مرقية، وهي بلدة صغيرة على البحر، وكان صاحبها قد بنى في البحر برجاً عظيماً لا يرام، ولا يصله النشاب، ولا حجر المنجنيق، وحصنه، واتفق حضور رسل صاحب طرابلس إلى السلطان يطلب مراضيه، فاقترح عليه خراب هذا البرج وإحضار من كان فيه أسيراً من الجبليين الذين كانوا مع صاحب جبيل، فأحضر من بقي في قيد الحياة منهم، واعتذر عن البرج أنه ليس له، فلم يقبل اعتذاره عن ذلك، وصمم على طلبه منه، فقيل: إنه اشتراه من صاحبه بعدة قرى وذهب كثير، وهدمه، وحصل الاستيلاء في هذه الغزوة على المرقب، وأعماله، ومن فيه، وبليناس؛ وهذا المرقب هو من الحصون المشهورة بالمنعة والحصانة، وهو كبير جداً، ولم يفتحه السلطان الشهيد صلاح الدين رحمه الله بل ادخره الله تعالى للملك المنصور رحمه الله فحاز أجره وشكره، ولو لم يكن من ضرورة إلا ما فعل أهله بالمسلمين في شهور هذه السنة لكفى، وضرره لا يحد، وأبقاه الملك المنصور، ورم ما تشعث منه، واستناب فيه، ورتب أحواله، وهو لبيت الأسبتار، وأنشئت الكتب بالبشائر بفتحه، فمن ذلك كتاب من السلطان إلى ولده الملك الأشرف صلاح الدين خليل بخط المولى تاج الدين أحمد بن الأثير تغمده الله برحمته ومن إنشائه وهو:(4/241)
" أعز الله نصرة جناب العالي الملكي الأشرفي الصلاحي، ولا زالت جيوشه تفتتح من الممالك حصونها. وتبتذل مضمونها. وتستثمر من العادة غصونها. ويطوى لهم الأرض، فلا يبعد عليهم مرمى، يعملون العزائم المهمة ويصونها. وتحدث ألسنة العالم بنعم الله التي يرونها في أيامه ويروونها. ويقصون أجنحتها بالشكر ويقصونها. تهدى له كل ساعة خبر عن جنوده وما ملكت. وخيوله وما سلكت. وسيوفه وما قتلت. ومهابتها وما أخذت. ومواهبها وما تركت. هذه البشرى تقص عليه من غزوتنا أحسن القصص. وتمثل صورة الفتح التي انتهزنا فرصته، وقلما تنتهز الفرص. وتبدى لعلمه الكريم. أن الهمم بها تنال الممالك. وترتقي المسالك. وتجتني ثمرات النصر. وتطفئ جمرات الغدر. وقلما ظفر بالمراد وأودع. وكل أنف لا يأنف.... فهو أحق الأعضاء أن تجدع. ولم نزل نمثل في أفكارنا الصورة التي أقدم عليها أهل حصن المرقب في مبدأ الأمر عند اضطراب النيات وضعف البنيات. وغرور الآمال الكاذبة. واشتمالات الخيلات الجاذبة. حتى نالوا من عسكرنا بحصن الأكراد ما نالوه، وتخيلوا أن عزمنا قد صرفوه عن قصدهم، أو أمالوه بأخذ أمرهم في الظاهر بالرخصة دون العزيمة، ويعمل على ما لو تمثل لهم صورة لجروا منه ذيل الهزيمة. ويغضون من نواميس المجاورة، ويغضى ويمضون بما يبدو منهم، وتنزل المحاورة وتمضى. ويستر ما يسدده إلى نحورهم من سهم، ويريهم أنا ندفع في صدور الحقيقة بالوهم،(4/242)
ونعرض عن مناقشتهم في الحساب؛ ونمسك عنهم، " وترى الجبال تحسبها جامدة، وهي تمر مر السحاب ". ومن لم يؤاخذ المشئ بفعله ويعرف مقدار حمله، استدام طعمه. واستقام طلقه، وحركته دواعي الشره للسرة، والحيل السلامة في كل مرة، فلم يزل يتربص لهم ريب المنون، وينزل ما كان منهم في جنب ما يكون، ويرتقب فيهم الوقت المنتظر، ويدب لهم الضراء، وتمشي لهم الحمر إلى أن آن مكان الفرصة، جمعنا لهم بين الشرقة والغصة، فأبعدنا إليهم المدني، واعتدنا مسعانا في طاعة الله عما إذا كانت مساعي الملوك عزماً، ووصلنا المسير بالسرى، وطرقناهم كما يطرق الطيف الكرى، وأوطأنا بهم حوافر الخيل، وجئناهم مجيء السيل، وظللنا عليهم ظلل الغم. وغشيهم منا ما غشى فرعون وجنوده من أليم. مع كون مكانهم قد جمع له منعة البر والبحر. وحل منهم بين السحر والنحر. تحامت قصده الملوك. وحمته الإعادة، فلم تبق الأماني إليه طريق مسلوك. ولم يظفر به ملك من الملوك في الإسلام، ولا طرقته خيلهم في
اليقظة، ولا خيالهم في المنام، يصد الرياح الهوج عند مخافة، ويرجع عند الطرق حسيراً لبعد المسافة بأسرع من أن فاجأناه، وحللنا بعرصته، وهاجمناه، وأحاطت به رجال الحرب، وشافهته بخطاب بالخطب، وعسكرنا بحمد الله تعالى مثل البحر ذا طما. والغيث إذا هما. والطود إذا سما. والليث إذا حمى. قد ملأ الفجاج. واستعذب الأجاج. وقاسمهم الرياج. فأعطاهم الأسنة، وأبقى له الزجاج. يتعرض أبطاله المنايا، ولو كانت عرضاً، ويقول كل منهم " وعجلت إليك رب لترضى ". فلم يزل القتال ينوبهم. وسهام المنون تصيبهم. وسحابها يصوبهم. والسيوف تغمد في الطلى. والرماح تركف في الكلى. والمجانيق تدلك سورتهم، وتسلك فورتهم بنجومها. وتصميهم برجومها. ونقذفهم من كل جانب دحوراً. ونعيد كل منهم مذموماً مدحوراً. وتشير إليهم أصابعها بالتسليم لا بالتسلم وببنانهم فما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم. إلى أن فتحناها، ولله الحمد عنوة. وحللنا مكايدهم فيها عقدة عقدة، ونقضنا عروة عروة. وسطرنا هذه البشرى، وأعلام النصر قد خفقت بنودها. وذلت لها علوج الكفر وكنودها. والسيف من دمائهم يقطر. والصليب جريان ينظر. والأذان مكان الناقوس. والقراء موضع القسوس. والكنيسة قد عادت محراباً. والجنة قد فتحت للمجاهدين، فكانت أبواباً. وكنا نود أن الولد معنا في هذه المشاهد. وأن ينظرها بعين المشاهد. ونرجو أن يكون ممن يستكين المرقد. وإن لم يحضر هذه الغزوة فيتأهب للأخرى. فكان قذفاً لهمم تجعل ثمار النصر دانية القطوف، والسعيد من لا يستظل إلا بسيفه، فإن الجنة تحت ظلال السيوف ". ولا خيالهم في المنام، يصد الرياح الهوج عند مخافة، ويرجع عند الطرق حسيراً لبعد المسافة بأسرع من أن فاجأناه، وحللنا بعرصته، وهاجمناه، وأحاطت به رجال الحرب، وشافهته بخطاب بالخطب، وعسكرنا بحمد الله تعالى مثل البحر ذا طما. والغيث إذا هما. والطود إذا سما. والليث إذا حمى. قد ملأ الفجاج. واستعذب الأجاج. وقاسمهم الرياج. فأعطاهم الأسنة، وأبقى له الزجاج. يتعرض أبطاله المنايا، ولو كانت عرضاً، ويقول كل(4/243)
منهم " وعجلت إليك رب لترضى ". فلم يزل القتال ينوبهم. وسهام المنون تصيبهم. وسحابها يصوبهم. والسيوف تغمد في الطلى. والرماح تركف في الكلى. والمجانيق تدلك سورتهم، وتسلك فورتهم بنجومها. وتصميهم برجومها. ونقذفهم من كل جانب دحوراً. ونعيد كل منهم مذموماً مدحوراً. وتشير إليهم أصابعها بالتسليم لا بالتسلم وببنانهم فما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم. إلى أن فتحناها، ولله الحمد عنوة. وحللنا مكايدهم فيها عقدة عقدة، ونقضنا عروة عروة. وسطرنا هذه البشرى، وأعلام النصر قد خفقت بنودها. وذلت لها علوج الكفر وكنودها. والسيف من دمائهم يقطر. والصليب جريان ينظر. والأذان مكان الناقوس. والقراء موضع القسوس. والكنيسة قد عادت محراباً. والجنة قد فتحت للمجاهدين، فكانت أبواباً. وكنا نود أن الولد معنا في هذه المشاهد. وأن ينظرها بعين المشاهد. ونرجو أن يكون ممن يستكين المرقد. وإن لم يحضر هذه الغزوة فيتأهب للأخرى. فكان قذفاً لهمم تجعل ثمار النصر دانية القطوف، والسعيد من لا يستظل إلا بسيفه، فإن الجنة تحت ظلال السيوف ".
وكتب المولى تاج الدين رحمه الله عن السلطان رحمه الله في المعنى إلى الأمير علم الدين الشجاعي يقول:
" إذ أمر الله بهائي المجلس العلمي، وأحل البشائر بساحته. وسره(4/244)
باستيلائنا على كل ثغر واستباحته. وأسمعه من أنبائنا الجميلة ما يعجز عن التعبير عنه لسان القلم على فصاحته. ولا زال مهنأ بأيامنا التي تؤرخ بالفتوح. وتنجد في مواقف الحرب بالملائكة والروح. وتختص بالمدح دون كل ممدوح. وترى ما يطوى بجيوشنا من الأرض، ولا يبعد عليها مكان به طروح. قد علم المجلس حركتنا إلى الشام، وإنا أنشأناها عجالاً، وجئنا بها على البديهة، فلو كانت قصيدة لأنشدناها ارتجالاً. وكانت مباديها توجد بأطراف الأنامل. ومناديها يعود بحينة الأمل. ومهامها متلقاة بالهمم القاصرة، وعزائمنا فيها كلها توقدت جمراتها، صادفت نيات إن لم تكن باردة فهي قارة، وإذا مر ذكرها بمن له غرض أو في قلبه مرض ظن الظنون. وخيل له أن أمرها لا يتم، وسرعتها لا تكون. ونحن نوسع للجهال حلماً. ونزداد بعواقب التدبير علماً. وكان الباعث عليها أمور مهمة. ومرأى تستفرغ قوى الأفكار المستجمة. وكل وقت نصعد النظر ونصوبه. ونتصفح وجه الرأي ونقلبه. ونرتاد جهات القصد التي كان منها منشأ المفاسد. وبها لشياطين النفاق نفاق، وكل سوق كاسد. فلما أخذت الأناة مآخذها ونفدت الآراء منها منافذها. وتمحضت زبدة الحلب. وأسفر وجه الطلب، ولم يبقى إلا أن تزم الركائب وترى الكتائب وتشرع الاسنة وتبدو ضمائر النفوس المستكنة، أخلصنا النية لله عز وجل في نصرة الإسلام. وتقاضينا ديونه على الأنام. وجعلنا منهم مقدماً على ما عداه. وصممنا على جهاد من نازعه رداء ملكه وعاداه.(4/245)
تركنا حظ النفس بمعزل. وكان في عزمنا أن نرتاد منزلاً، فعرجنا على ذلك المنزل، وقلنا: يا خيل الله! اركبي. ويا ملائكة النصر! اصحبي. ويا أقلام البشرى! اكتبي. وصلنا إلى الشام في جنود تقبل مثل قطع الليل، وتندفع اندفاع السيل. وكلما مررنا بمملكة سالت بجموعنا أوديتها. وغصت بعساكرنا أنديتها. وانضم إلينا جنودها. وخفقت علينا بنودها، ولم نزل نطوي المراحل. ونتجاوز الخصب والماحل. إلى أن نزلنا بعيون القصب من عمل حمص، فوافاها البشير بما كان من أمر بلاطنس التي تقدمت بها البشرى. وفنيت فيها عضد من كان بها قد استطار شرر طعمه واستسرى. ولم تزل بعد السير. وتود لو استعرنا أجنحة الطير. إلى أن وافينا المرقب، وهي المقصد ومناخ ركائب العزم الذي هو لها مرصد، فكانت محط رحالنا. وإليها مطارح آمالنا. وأصحابها الذين بدأوا بالسنان، وقعقعوا لنا بالشنآن. وامتدت لهم الأيدي والألسنة، وجعلوا السيئة مكان الحسنة. وطمعوا بالبلاد وارتجاعها، وارتادوا موارد الحرب على بعد أشجاعها. واستلانوا من عسكر حصن الأكراد جانباً ظنوا به الغلب. وفعلوا أمراً عادوا منه بسوء منقلب. وصاروا يتكلمون من رؤوس ملأى من الجهل. ويأخذون في الحزن إذا أخذتهم إلى السهل. ونحن نعمل على الأمر الذي يلف العماء، ويعيرهم أذناً سميعة، لا أذناً صماً. ونرتاد منهم أمكنة الفرص، ونوحي لهم جمالة القنص. فلما رجمتهم(4/246)
الظنون. وتمحضت لهم المنون. وثبنا لهم وثبة الليث المغضب. وأوردناهم بأسيافنا " ماء " لا ينزح قليبه ولا ينضب. وما وردنا حتى قامت جيوش الجو على ساق، وجاءت بعوث الغمائم من الآفاق. ورشقت سهام السحائب. وتغلغت ريح الصبا والحبائب. وجفت الرعود بجنودها. وجردت البروق بيضها من غمودها. والقطر يرسل الحجارة إلا أنها من برد البحر إذا مرت به الريح صار كأنه درع موصونة الزرد، فنزلناها ونازلناها. وأمطنا حجب المهابة وأزلناها، وأحدقنا بها إحداق السوار وأحطنا بها. كما يحيط باليد السوار، وكانوا يغترون بمنعهم، ويعتزون بما يحرى من سيل قلعتهم، ويعتقدون أن المعتصم بمكانهم واثق بأن يمس السماء بكفه، ويرى النجم دونه إذا لمحه بطرفه، فلم تزل تعاديهم الفتك وتراوحهم، وتماشيهم الحرب وتصاحيهم، وترسل إليهم رسل المنايا، وتوقر سهامهم إلا أنها من الحبايا، ونرميهم بعذاب واصب، ونكلهم إلى هم ناصب، والمنجنيقات تفوق إليهم سهامها قسيها وتخيل لهم أنها تسعى إليهم حبالها وعصيها، وهي الحصون من ألد الخصوم، وإذا أمت معصماً، حكم أنه ليس بإمام معصوم، ومتى افترى خلق في آلات الفتوح لم يكن أحد من الممترين، وإذا نزلت بساحة قوم فساء صباح المنذرين، تدعي إلى الوغى، فتكلم، وما أقيمت صلاة حرب عند حصن إلا كان ذلك الحصن من يسجد لها، ويسلم
إلى أن أقوت ربوعهم، وصبت على مثل جمر الغضا ضلوعهم. وأخذناهم أخذاَ وبيلاً، وأوردناهم مهاوي المهالك، وساءت سبيلاً، وخسرت صفقة غدوهم وتراوحهم وتحللت أعقد أجسامهم من أرواحهم، ووجدوا من أنفسهم حداً كليلاً، وجداً عثورا، وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً، وملكناها بالأمان وهو في المعنى بالسيف، وهجمناها هجوم الطيف، وكانت هي الني قد بقيت للأسبتار رحلة شتائهم وصيفهم، فلم يبق لهم رحلة شتاء ولا صيف، وسطرنا هذه البشرى والحرب قد وضعت أوزارها، والنفوس قد قضت منهم أوطارها، والبلاء قد دهم بلادهم وأقطارها، والعلم يبني على العلم، والسيف يملي على القلم، والثغر قد جدد على أيدينا إسلامه، وأبدلنا بعد قطوبه ابتسامه، والدهر لمن عادانا عادى، ولمن ولانا والى، وسيوفنا قد أصبحت مفاتح المعاقل، فإذا ملكناها عادت لها أقفالاً، والبشائر مخترقة الأمصار، والعساكر التي هجرت أوطانها، ونصرة الله قد كتبت من المهاجرين والأنصار ". إلى أن أقوت ربوعهم، وصبت على مثل جمر الغضا ضلوعهم.(4/247)
وأخذناهم أخذاَ وبيلاً، وأوردناهم مهاوي المهالك، وساءت سبيلاً، وخسرت صفقة غدوهم وتراوحهم وتحللت أعقد أجسامهم من أرواحهم، ووجدوا من أنفسهم حداً كليلاً، وجداً عثورا، وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً، وملكناها بالأمان وهو في المعنى بالسيف، وهجمناها هجوم الطيف، وكانت هي الني قد بقيت للأسبتار رحلة شتائهم وصيفهم، فلم يبق لهم رحلة شتاء ولا صيف، وسطرنا هذه البشرى والحرب قد وضعت أوزارها، والنفوس قد قضت منهم أوطارها، والبلاء قد دهم بلادهم وأقطارها، والعلم يبني على العلم، والسيف يملي على القلم، والثغر قد جدد على أيدينا إسلامه، وأبدلنا بعد قطوبه ابتسامه، والدهر لمن عادانا عادى، ولمن ولانا والى، وسيوفنا قد أصبحت مفاتح المعاقل، فإذا ملكناها عادت لها أقفالاً، والبشائر مخترقة الأمصار، والعساكر التي هجرت أوطانها، ونصرة الله قد كتبت من المهاجرين والأنصار ".
وكتب الأمير حسام الدين لاجين رحمه الله نائب السلطنة بالشام إذ ذاك كتاباً إلى الملك الصالح علاء الدين علي ابن السلطان الملك المنصور رحمهما الله تعالى يهنئه بفتح المرقب، وهو من إنشاء المولى شهاب الدين محمود كاتب الدرج رحمهما الله تعالى من مضمونه:
" لا زالت آيات النصر تتلى على سمعه من صحف البشائر. ونفائس الظفر تجلى على سره في أسعد طالع، وأيمن طائر، وفواتح الفتح تملى لديه بما تزهى به الأسرة، وتزهر بنوره المنابر. ومحكمات التأبيد تنهي إليه بما يحد(4/248)
مثل الدجى عليه سواد المحابر. وينهي أنه سطرها والنصر قد لمعت بوارقه. ونصب بعد النصب على فرق الفرقد سرادقه. والظفر قد أسفر على الفتح المبين صباحه، والتأييد وقد طار به محلق البشائر، فخفق في الخافقين جناحه، والإسلام وقد وطئ هام الكفر بقدمه، والدين وقد عز بفتكات سيفه، فأنف أن يكون الشرك من خدمه، والأفلاك وقد علم أن لهذا الفتح افترقت كواكبها، والأملاك قد نزلت لتشهد أخت النصرة البدرية في صفوفها ومواكبها، وحصن المركب وقد ألفت عليه الملة الإسلامية أشعر سعدها، وأنجزت الأقدار التي ذللته الإسلام أن يتطاول إليه يد الحوادث من بعدها، وقد أحاطت العلوم الشريفة بأن هذا الحصن طالما سحت الأحلام أن تخيل فتحه لمن سلف في المنام، فما حدثت الملوك أنفسها بقصده إلا وتناهى الخجل، ولا خطبته ببذل النفس والنفائس إلا وكانت من روعة الحرمان على وجل، وحوله من الجبال كل شامخ بنهيب عقاب الجو قطع عقابه، ولفف الرياح حسرى دون التوقل في هضابه، ومن الأولى به خنادق لا تعلم منها الشهور إلا بأنصافها، ولا تعرف فيه الأهلة إلا بأوصافها، وهو مع ذلك قد تفرط بالنجوم، وتفرطق بالغيوم، وسما فرعه إلى السماء ورسا أصله في النجوم، تخال الشمس إذا علت أنها تنتقل في أبراجه، ويظن من سها إلى السها أنه ذبالة في سراجه، فكم ذي جيوش قد أمات بعضه، وذي سطوات أعمل الحيل على رؤيته، فلم يفز من نظره على البعيد بغرضه، ولا يعلوه من الطير سوى نسر الفلك ومرزمه. ولا يرمق متبرجات أبراجه غير(4/249)
عين شمسه، والمقل التي تطرق من أنجمه، وقد نصبت عليه من المجانيق ما سهامه أقتل من سهام الجفون، وخطراته أسرع من لحظات العيون، لا يخاطب إلا بواسطة رسله الصم الصلاب، ولا يرى لسان سهمه إلا كما يرى خطفات البرق إذا تألق في علو السحاب، فنزلت عليه الجيوش المنصورة نزول القضاء، وصدمته بهممها التي تستعير فيها الصوارم سرعة لمضاء وروعة الانتضاء، فنظرت منا حصناً قد رد عليه الجو جيب غمامه، وافتر بعزة، كلما حذر عليه البرق، فاضل لثامه، فذللت صعابه، وسهلت عقابه، وركزت الخبويات في سفحه، وطالما رامت الطير أدناه، فلم يقومها القوادم، وكم همت العواصف أن تبتسم رباه، فأصبحت محلقة تبكي عليها الغمائم، فعاد مصفحاً بصفاحها مشرفا بما علا من أسنة رماحها، وأرسلت إلى أرجائها ما أربى على العمائم، وزاد في لفحه على السمائم. وكان بها مثل الجنوب فأصبحت. ومن حيث القتلى عليها تمائم. ونصبت أمامه المجانيق المنصورة، فلم ترع حق حسبها، وسطت على نظائرها، فأصبح غدها في التحامل أبعد من أمسها، واستنهضها العدى، وأعلمتهم أنها لا تطيق الدفاع عن غيرها، بعد أن عجزت عن نفسها، وبسطت أكفها أمارة على الإذعان، ورفعت أصابعها، إما إجابة إلى بذل التشهد، وإما إنابة إلى طلب الأمان، فخوفوا من ظهور هذا الاستظهار، وعلموا أن المجانيق المنصورة فحول لا تثبت لها الإناث التي عريت من النفع بأيديهم، واستعانوا عليهم مع الغرى بطول الحذار، فعند ذلك غدت تكمن كمون الأوساد، ووثبت(4/250)
وثبات الأسود، وتبارى بها الحصن السماء، فكلما قذفت هذه بكواكبها الزهر، قذف هذا بكواكبه السود، ولم يكسر له منجنيق إلا نصبوا عشراً مكانه، ولا قطعت لأحدها إصبع إلا ومد لآخر بنانه، فتطلب بتجارب مثل الكماة، وتتحايل تحايل الرماة، حتى فتحت وفسحت الرحال مجالاً، ونالت ونيل منها، وكذلك الحرب تكون سجالاً، هذا، والنقوب قد دبت في بواطنه دبيب السقام، وتمشت في مفاصله كما يتمشى في مفاصل شاربها المدام، وحشت أخالعه ناراً تشبه نار الهوى تحرق الاحشاء ولا يبدو لها ضرام فقد أحل من حلة الوجل، وتحققوا حلول الأجل، وأيقن الحصن بالانتظام في سلك ممالك الإسلام، وكاد يرقصه ممن فيه فرط الجدل. وزاد شوقه إلى التشريف بوسمها، وما صبا به مشتاق على أمل اللقاء كمشتاق بلا أمل، لكنهم أظهروا الجلد. وأحفظوا إضرام نار الكمد. وكيف يخفى وقد انحلوا في أشراك إشراكهم، لعلمهم أنه لا مقاض من يد أهل التوحيد لأهل الأحد، وتدفقت إليهم الجيوش المنصورة، فملأت الأفق، وأحاطت بهم إحاطة الطوق
بالعنق، ونهضت إليهم مسندة من عزمات سلطانها، مستعدة لانتزاح أرواح العدى على يدها من أوطانها، فانقطعت بهم الظنون. ودارت عليهم رحى المنون. وأمطرت عليهم المجانيق أحجارها، فوقع الحق وبطل ما كانوا يعلمون، لمن بها من اللهب تلك الأحجار، فهدمت العمائر والأعمار، وأجرت في نواحيها أنهار الدماء، فهلكوا بالسيف والسيل والنار. ولما ركب مولانا السلطان خلد الله ملكه وسلطانه لأول الزحف في جيوشه الذي كاثرت البحر بأمواجه، وسقت العدى على ربها بالخوف كؤوساً أو من أجاجه. تزلزلت الحصن لشدة ركضه، وتضعضع من خوف غضبه، فلحقت سماؤه بأرضه، وتحللت قواعد ما شيد من أركانه، فانحلت وانشقت سماؤه من الجزع، فألقت الأرض ما فيها وتخلت، مشت النار من تحتهم وهم لا يشعرون، ونفخ في الصور بل في السور فإذا هم قيام ينظرون، وما كان إلا أن قابل مولانا السلطان خلد الله سلطانه ما شمخ من أبراجه حتى أهوى يلثم بين يديه التراب، وتأدب بآداب الطاعة حين نظرت إليه، فخر راكعاً وأناب. فهاجمهم الجيوش المنصورة مهاجمة الحتوف، وأسرعت المصاف الابتضاء، فلم يدر العدو أهم أم الذي في أيديهم السيوف، فحل بهم الذل ونزل، وخافوا فتكات تلك السيوف التي تسبق العذل، وثبت من لم يجد وراءه مجالاً، وهو يقول: مكره أخوك لا تبطل. فلجأوا إلى الأمان، وتمسك ذل كفرهم بعد الإيمان، تشبثوا بساحل العفو حين ظنوا أنهم أحيط بهم، وجاءهم الموج من كل مكان، فسألوا أن يكون العفو مولانا السلطان من بعض الصنائع، وتضرعوا في أن يجعل أرواحهم لسيوفه من جملة الودائع، فتصدق عليهم بنفوسهم كرماً، وظلوا على معنى الخير المأثور يرون الموت يقظة، والحياة حلماً، وأطلقتهم اليد التي لا يخيب لديها الأمل، وأعتقتهم اليمنى التي فجاج الأرض قبضتها، فمتى يشاء تجمع عليهم الأنامل، وخرجوا بنفوس قد تجردت حتى من الأجسام، ومقل طلقت الكرى خوفاً من سيوفه التي تسلها عليهم الأحلام، وسطرت والنضر قد يتسنم أعلاها، وشعر الإيمان قد جردها من وحشة لباس الكفر وأعرارها، والأعلام المتصورة قد سلكت إلى ذلك الترقب أعلى ترقي، والسعادة قد بدلت بيعه مساجد، ومحاريبه قبلة، وكانت شرفاً فأصبح يرفل في حلل الإيمان، وأذعن بالطاعة، فأجرس جرس الحرس به صوت الأذان، وعاد سهماً مسدداً في كنانة الإسلام، ودراً منضداً في عقد المملكة فحسن به فتم النظام، لا يسلك البحر طاغ إلا ويقذفه الموج إليه، لا يختلس أكبر باغ إلا " و " توقعه ضيق مسالكه في يديه، فهو أحسن من إرم، وأوضح من علم، وأنكى في الإصابة على البعد من السهم الذي أصاب وراميه بذي سلم، فيأخذ مولانا حظه من هذا النصر الذي هو إليه وأن بعد منسوب، والفتح الذي عددت الفتوح على كثرتها فهو بجميعها محسوب ". بالعنق، ونهضت إليهم مسندة من عزمات سلطانها، مستعدة لانتزاح أرواح العدى على يدها من أوطانها، فانقطعت بهم الظنون. ودارت عليهم رحى المنون. وأمطرت عليهم المجانيق أحجارها، فوقع الحق وبطل ما كانوا يعلمون، لمن بها من اللهب تلك الأحجار، فهدمت العمائر والأعمار، وأجرت في نواحيها أنهار الدماء، فهلكوا بالسيف والسيل والنار. ولما ركب مولانا السلطان خلد الله(4/251)
ملكه وسلطانه لأول الزحف في جيوشه الذي كاثرت البحر بأمواجه، وسقت العدى على ربها بالخوف كؤوساً أو من أجاجه. تزلزلت الحصن لشدة ركضه، وتضعضع من خوف غضبه، فلحقت سماؤه بأرضه، وتحللت قواعد ما شيد من أركانه، فانحلت وانشقت سماؤه من الجزع، فألقت الأرض ما فيها وتخلت، مشت النار من تحتهم وهم لا يشعرون، ونفخ في الصور بل في السور فإذا هم قيام ينظرون، وما كان إلا أن قابل مولانا السلطان خلد الله سلطانه ما شمخ من أبراجه حتى أهوى يلثم بين يديه التراب، وتأدب بآداب الطاعة حين نظرت إليه، فخر راكعاً وأناب. فهاجمهم الجيوش المنصورة مهاجمة الحتوف، وأسرعت المصاف الابتضاء، فلم يدر العدو أهم أم الذي في أيديهم السيوف، فحل بهم الذل ونزل، وخافوا فتكات تلك السيوف التي تسبق العذل، وثبت من لم يجد وراءه مجالاً، وهو يقول: مكره أخوك لا تبطل. فلجأوا إلى الأمان، وتمسك ذل كفرهم بعد الإيمان، تشبثوا بساحل العفو حين ظنوا أنهم أحيط بهم، وجاءهم الموج من كل مكان، فسألوا أن يكون العفو مولانا السلطان من بعض الصنائع، وتضرعوا في أن يجعل أرواحهم لسيوفه من جملة الودائع، فتصدق عليهم بنفوسهم كرماً، وظلوا على معنى الخير المأثور يرون الموت يقظة، والحياة حلماً، وأطلقتهم اليد التي لا يخيب(4/252)
لديها الأمل، وأعتقتهم اليمنى التي فجاج الأرض قبضتها، فمتى يشاء تجمع عليهم الأنامل، وخرجوا بنفوس قد تجردت حتى من الأجسام، ومقل طلقت الكرى خوفاً من سيوفه التي تسلها عليهم الأحلام، وسطرت والنضر قد يتسنم أعلاها، وشعر الإيمان قد جردها من وحشة لباس الكفر وأعرارها، والأعلام المتصورة قد سلكت إلى ذلك الترقب أعلى ترقي، والسعادة قد بدلت بيعه مساجد، ومحاريبه قبلة، وكانت شرفاً فأصبح يرفل في حلل الإيمان، وأذعن بالطاعة، فأجرس جرس الحرس به صوت الأذان، وعاد سهماً مسدداً في كنانة الإسلام، ودراً منضداً في عقد المملكة فحسن به فتم النظام، لا يسلك البحر طاغ إلا ويقذفه الموج إليه، لا يختلس أكبر باغ إلا " و " توقعه ضيق مسالكه في يديه، فهو أحسن من إرم، وأوضح من علم، وأنكى في الإصابة على البعد من السهم الذي أصاب وراميه بذي سلم، فيأخذ مولانا حظه من هذا النصر الذي هو إليه وأن بعد منسوب، والفتح الذي عددت الفتوح على كثرتها فهو بجميعها محسوب ".
وكتب المولى كمال الدين أحمد بن العطار عن الأمير حسام الدين لاجين نائب السلطنة إذ ذاك بالشام إلى الأمير علم الدين الشجاعي يهنئه بالفتح المذكور، يقول:
" نصر من الله وفتح قريب. يسره الله بعزائم الجناب العالي. لا زالت عزائمه تسهل من النصر مراداً. وهممه تفسح من الفتح مراداً. وسطوته تستأصل من الأعداء مراداً. ومسامعه الكريمة تستعذب معاداً من حديث(4/253)
البشائر إذا كان معاداً معاذاً، قد أحاط العلم الكريم بالحركة المباركة، والنزول على المرقب الذي كم تحته من مربأ زاد علوه على علو الرصد، و " ما " حل أحد بواديه، ورام رؤية الهلال في مغربه، والشمس في مشرقه إلا وصده عما قصد، فما ترى الهلال منه إلا بدار، ولا تشاهد الشمس المنيرة إلا ظهراً، ونازلنا منه القلعة التي مسامت السماء، فزاحمت البروج منها البروج، وحلت الجوزاء لسوارها المحكمة، متى اتصلت بدناءتها بمنازل الكوكب، وما لها من خروج، وإذا رام القطر سقا أهلها، عرج عن قصد النزول، وأخذ في تعاريج العروج، ولربما حاول منازلتها من تقدم من الملوك، فصده عنها قسى الرعود، ونبل الوبل، وأسوار الثلوج، وأرخت السماء عز اليها على جيشه وحال بينهما الموج فكان من المغرقين، والتفت عليها أشجارها فبات من المدبقين، وأصبح من الموبقين وعادت كل من قصد الصعود إليها يمشي على أربع بعد أن كان يمشي على رجلين، وردته عقابه ناكصاً على عقبيه، وكان يحجل في حجلين، فاستدارت عليها جنوباتنا، فشاهدنا منها منطقة البروج، واستجنت بها الجيوش من سهام الجروح، فأبقت كل سريع الخروج عن بدناتها إلى الأبدان سريع الولوج، وقامت المجانيق بسفراء من الحجارة عن السهام، وأشارت إليها بأصابع كفوفها بالانتقال عن ذل الكفر إلى عز الإسلام، وفي أول الحال عجل منجنيق الواحد كسر منجنيقهم الثلاثة، ونقلن من صورة الحال بسرعة، نصر الواحد على من يدين بالثلاثة، ولم تزل مناجيقنا ترقى القلعة بحجارة(4/254)
تطيل محلقة نحوها كالطيور، وتعلو نسور أحجارها طالبة قبة قلتها، والجبال الشاهقة، وكون النسور، فما رميت حجراً إلا أثرتها أثراً، ولا راجعتها ضرباً إلا أسمع وأرى بظاهرها وباطنها ندباً، لكنها على مراجعة الحرب، ومعاودة الضرب، كأنه تضرب من حجارة أسوارها في حديد بارد، وهي وإن لم تكن حديداً، فإنها حجارة حديدة لا تعمل فيها المعاول، ولا تؤثر فيها المبارد إلا أن نوازلها مصيبة فيها نازلة، وأما أشبه سهامها بسهام العيون يقضي بالمنون، ولا تفارق الجفون، أو بالنجوم في الرجوم تصيب وهي بمكانها المعلوم، ودامت ذمة حسناتها مطالبة المحاصرة بما في يدها للملة الإسلامية من الاعتصاب والفرض، والنقابة تعمل من خوارجها في داخل بنيانها عمل الخلد في الأرض حتى أخلد الله الأرض، وتقضت النقوب نظام أساساتها فانحلت، وألقيت النار في أحشائها، فألقت ما فيها وتخلت، هذا، والمجانيق منا ومنهم تارة وتارة، وأكفها ترمي من النفط أصابعها بشرر كالقصر، وقودها الناس والحجارة، إلى أن تمكن الهد من أحد أبراجها، فهدم بناءه المنظم، ولما أراد جداره ينقض، سارع إلى تقبيل الأرض، وبادر إلى الخدمة فسلم، وزحفت عليها الجيوش المنصورة من جوانبها، وأحاطت بها إحاطة الأغماد بقواضبها، وضمتها ضم الأطواق للأعناق، وأطبقت بها إطباق الجفون على الأحداق، إلا أن الله سبحانه وتعالى سهل أمرها، وأول الإسلام كفرها، وسلط المجانيق المسلمة على المجانيق الكافرة، فكفى المؤمنين شرها، فلم يزل كل منها يرميهم بأحجاره. حتى استنزلهم على(4/255)
اختياره. وسألوا الإجارة من الحجارة. وطلبوا الأمان من الإيمان. وأذعنوا بالاستسلام إلى الإسلام. وكتابنا هذا، وقد علت على قلعتها أعلام الإيمان، وصرح بها إعلان الأذان، ورمى بالحرس رجس الحرس، وأذهب ظهر الإيمان منها جرس النجس، واقترب عن فتحها ثغور الأيام، وغدت مغلقة بمسك المداد أصداغ الأقلام، فيأخذ حظه من هذه البشرى التي شرحت للإسلام صدراً، وجددت لكل صباح من تباشيره بشراً، وخلدت لأيام هذه الدولة فخراً، يبدو في صبيحة كل نهار فجراً، وهذا الفتح المبين وإن لم يكن الجناب من حضار حصارها ولا تضمخ درعه بردعه، ولا تمسك ذيله بعثاره، فإنه مجهز جيش كتائبه التي فتح الله على يدها، وأجراها من النضرة على جميل عوائدها، فله أجر الغازي وهو المقيم، والسهم إذ أصاب الغرض فراميه المصيب وهو بمكانه لا يريم ".
وقال المولى شهاب الدين محمود كاتب الدرج بدمشق يذكر فتح المرقب ويذكر قصيدة يمدح السلطان الملك المنصور قلاوون رحمه الله تعالى:
الله أكبر هذا النصر والظفر ... هذا هو الفتح لا ما يزعم السير
هذا الذي كادت الآمال إن طمحت ... إلى الكواكب ترجوه وتنتظر
فانهض وسر واملك الدنيا فقد نحلت ... شوقاً منابرها وارتاحت السرر
كم رام قبلك هذا الحصن من ملك ... فطال عنه وما في باعه قصر
وكيف يمنحه الأيام مملكة ... كانت لدولتك الغراء تدخر(4/256)
وكيف يسمو إليها من تأخر عن ... إسعاده متحد إلى القدر والقدر
غر العدى منك حلم تحته همم ... لأشقر البرق من تحجيلها عرر
لها وإن اشتهت لطف النسيم سرى ... معنى العواصف لا يبقى ولا يذر
أوردتها المرقب العالي وليس سوى ... ماء المجرة في أرجائها نهر
كأنه وكأن الجو يكنفه ... وهم ويمثله في طيها الفكر
يحتال كالغادة العذراء قد نظمت ... منه مكان الآلي الأنجم الزهر
لها الهلال سوار والسما سنف ... والقلب قلب وسود الدجى طرر
تعلو الرياح إليه كي تحيط به ... خبراً وتدنو وما في ضمنها خبر
ويومض البرق يهفو نحوه لدى ... أدنى رباه ويأتي وهو معتذر
وليس يروي بماء السحب مصعدة ... إليه من فيه إلا وهو منحدر
.... جنود الله تقدمها ... ما شك البدر إلا الخوف والحذر
فاستوطأت حزنه واستقربته ... وكان مكبواً حسيراً دونه البصر
وأضرمت حوله ناراً لها لهب ... من السيوف ومن نبل الوغا شرر
وألجأته سهام الجمته ... ... فاغتاله القائلان الخضر والخضر
وأمطرته المجانيق التي نشأت ... ولم يكن قبلها يهمي به المطر
فكان للكسر منها كلما صنعوا ... من جنسها ولا يدري الهم ما عمر(4/257)
كأنها ومجانيق الفرنج لها ... فرائس أسد أظفارها الظفر
وكم شكا الحصن ما يلقى فما كثرت ... يا قلبها أحديد أنت أم حجر
وللنقوب دبيب في مفاصله ... تثير سقماً ولا يبدو له أثر
أضحى به مثل صب لا يبين به ... نار الهوى وهي في الأحشاء تستعر
فحين أدرك فيه ما غرست به ... منها ولم يبق إلا أن يرى الثمر
ركبت في جندك الأولى إليه ضحى ... والنصر يتلوك منه جندك الأخر
قد زال ... تجلى عن قواعده ... وخر أعلاه نحو الأرض يبتذر
وساخ وانكشفت أفتاره وبدا ... لديك من مضمرات النصر ما ستروا
فمال يهوى إليهم كل ليث وغى ... له من البيض ناب والقنا ظفر
كأنهم وهم آساد معركة ... حمر براثنها عنت لها حمر
فاستصرخوا عمري الفتح واعتصموا ... بعفوه ورجاه من له عمر
؟ ولاذ بالصفح واستعطى الأمان لهم إحسان يقظان يعفو وهو مقتدر
فجدت حلماً وعلماً أنهم خول ... في جوزة القتل إن غابوا وإن حضروا
ومن غدا وفجاج الأرض قبضته ... فهم وإن أطلقوا منه فقد أسروا
فأبرزوا مثل ربات الحجال إذا ... ما غض أبصارهن الخوف والخفر
وقد علاهم شعار الذعر منك فلو ... حكمت بأسك في الأروح ما شعروا
وأصبح الحصن غلاً في نحورهم ... وعلة ما لهم في وردها صدر(4/258)
وقد تقلد من أشراف ملكك ما ... به على أنجم الجوزاء يفتخر
رفعت أعلاه إعلاماً معودة ... أن لا يزال بها الإسلام ينتصر
تبدو بها غرر الطلعات طالعة ... فكل ناحية من وجهها قمر
وكسوته عندما جردته حللاً ... من المهابة يعشى دونها النظر
جددت ربع الهوى حتى عدت بدلاً ... فيه من الصور المعبودة السور
إن لم ينوف الورى بالشكر ما فتحت ... يداك فالله والأملاك قد شكروا
ولما كان السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله على حصار المرقب، وردت عليه البشرى بولادة ولده السلطان الملك الناصر ناصر الدين محمد، فمولده في تلك السنة أيده الله تعالى. ودخل الملك المنصور عائداً من المرقب يوم الأحد ثالث جمادى الأولى، وطلب محيي الدين محمد ابن النحاس، وقلده الوزارة بدمشق والشام، وخلع عليه خلعة كاملة يوم الخميس سادسه، وصرف شرف الدين توبة من الوزارة موقراً، وسافر الملك المنصور إلى الديار المصرية بكرة الاثنين ثامن عشر جمادى الأولى، وسافر تقي الدين توبة إلى القاهرة يوم الأحد حادي عشر رجب، وتوجه شمس الدين الدمشقي إلى حلب حاكماً يوم الخميس حادي عشر شوال، وخرج ركب الحجاز من دمشق يوم السبت تاسع شوال، وأميرهم بدر الدين ابن أبي القاسم.
فصل
وفيها توفي: أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد أبو العباس الأندلسي الإشبيلي(4/259)
الأصل، المنعوت بزين الدين، المعروف بكتاكت المصري الواعظ المقرئ. مولده بتنيس سنة خمس وست مائة، وقيل في مولده غير ذلك، وتوفي بالقاهرة في ليلة الثالث عشر من ربيع الأول هذه السنة أعني سنة أربع وثمانين. كان إماماً في الوعظ، وعنده فضيلة، ومعرفة بالأدب، وله نظم حسن، فمنه:
ظهرت كالشمس لا يقوى لها بصر ... فلا تلم عنك من ولي ولا من نظرا
تزيد تفهمنا حرفاً وتعجمه ... وكيف يقرأه من لا عليك قرا
لكأس طرفك في يمناك بارقة ... تكاد لألاؤها إذ يخطف البصرا
وإن لم تروها فإن الكل قد قنعوا ... عمن سقاك بأن يروى لهم خبرا
وقال أيضاً رحمه الله:
أدارت خمرها الأحداق سراً ... على الأرواح واتصل النعيم
وبتنا واعتبقنا واصطحبنا ... ولم يشعر بوصلنا الجسوم
فها أنا والعروسة تحت ستر ... به ألقاب عفتنا رقوم
وما فهمت بروق الحي عنا ... إشارتنا ولا فطن النسيم
وقال أيضاً رحمه الله:
من أنت محبوبه ماذا يغيره ... ومن صفوت له ماذا يكدره
هيهات عنك ملاح الكون يشغلني ... والكل أعراض حسن أنت جوهره
وقال أيضاً رحمه الله:
اكشف البرقع عن بكر العقار ... داخل في ليلك مع شمس النهار
وانهب العيش ودعه ينقضي ... غلطاً ما بين هتك واستتار(4/260)
وإن تكن شيخ خلاعات الصبي ... فالبس الصبوة في خلع العذار
وارض بالعار وقل قل لذلي ... في هوى خمار كأسي ليس عاري
وقال أيضاً رحمه الله:
حضروا فمذ نظروا جمالك غابوا ... والكل مذ سمعوا خطابك طابوا
فكأنهم في جنة وعليهم ... من خمر حبك طافت الأكواب
يا سالب الألباب يا من حسنه ... لقلوبنا الوهاب والنهاب
القرب منك لم يحبك جنة ... قد زخرفت والبعد عنك عذاب
يا عامراً مني الفؤاد بحبه ... بيت العدول على هواك خراب
أنت الذي ناولتني كأس الهوى ... فإذا سكرت فما عليك عتاب
وتركتني في كل واد هائماً ... وأخذتني مني فأين أصاب
وعلى التقى حزم لعلوه ... آمن من حوله يختطف الألباب
لفريقها كيف الوصل ودونه ... نار لها بحشاشتي إلهاب
وبسمريات القدود على لحمى ... بحمى خيام شرعت وقباب
خاطرت مني بالفؤاد وزرته ... ليلاً ولم يشعر بنا مرتاب
قال: وأنشدني الشيخ سعد الدين سعد الله بن مروان الفارقي رحمه الله:
حثوا إلى نجد نياق الهوى ... فثم واد حوله معشب(4/261)
وانتظروا حتى يلوح الحمى ... والعيش فيه طيب طيب
إسماعيل بن إبراهيم بن علي المعروف بالفراء. كان شيخاً صالحاً زاهداً عابداً ورعاً ناسكاً قدوة ذاكراً، له كرامات، وأحوال باهرة، وعلوم ظاهرة، ويعرف اسم الله الأعظم وغيره من الأسماء الجليلة التي انتفع بمعرفتها، ونفع بها، وكان حنبلي المذهب صحيح الاعتقاد. قال أخي رحمه الله: صحبته من سنة إحدى وأربعين وست ومائة من المدينة الشريفة صلوات الله وسلامه على ساكنها فرأيت منه الكرامات الظاهرة، والأخلاق الطاهرة، والمعاملات الباطنة ما يقصر عنه الوصف، صحب والده رحمه الله من سنة ثمان وثلاثين إلى حين وفاته سنة ثمان وخمسين، وكان وفاة الشيخ إسماعيل المذكور رحمه الله يوم الخميس سابع شهر رجب بدمشق، ودفن من يومه بسفح قاسيون. وكان مخزومي النسب رحمه الله.
أيدكين بن عبد الله الأمير علاء الدين البندقدار الصالحي النجمي. كان في بداية أمره مملوكاً للأمير جمال الدين موسى بن يغمور، ثم انتقل عنه إلى الملك الصالح نجم الدين، فجعله بندقداره، وأمره، وكان من أكابر الأمراء وأعيانهم، وكان الملك الظاهر مملوكه، وعنه انتقل إلى الملك الصالح لما حبسه، واحتاط على موجوده، ولم يكن الملك الظاهر يعرف قبل السلطنة إلا البندقداري، وكان الملك لظاهر يعظمه، ويحترمه، ويرى له حق التربية، وكان هو يبالغ في خدمة الملك الظاهر، والنصح له، وهو الذي انتزع دمشق وقطعة من الشام من يد الأمير علم الدين الحلبي، وكان عنده حشمة، وحسن ترتيب ما لا مزيد عليه، توفي بالقاهرة في ربيع الآخر سنة(4/262)
أربع وثمانين، ودفن بتربته قريب بركة الفيل، وقد ناهز السبعين سنة من العمر، وصلى عليه بالنية بجامع دمشق يوم الجمعة مستهل جمادى الأولى رحمه الله وسبب انتقال الملك الظاهر إلى لملك الصالح أنه لما ملك قلعة عجلون في أواخر سنة ثلاث وأربعين، ترتب فيها الأمير علاء الدين البندقدار بعسكر. فلما استقر بها، تزوج سرية الأمير سيف الدين علي بن قليج النوري من غير مشاورة الملك الصالح فنقم عليه، وأمره أن يخرج من عجلون، ويذهب حيث شاء مالكاً لأمره، فخرج متوجهاً إلى العراق على البرية، فلما بلغ الملك الصالح خبره، ندم، وكتب إلى سعيد بن يزيد أمير آل مراء إذ ذاك يأمره بإدراكه، ورده تحت الحوطة، فلما رده وافى الملك الصالح بعمتا، قد خرج من مصر متوجهاً إلى دمشق في شوال سنة أربع وأربعين، فأمر بالقبض عليه، وأخذ ما كان معه من المماليك وغيرهم، وحبسه بعجلون، وكان فيمن أخذ منه الملك الظاهر، فقدمه على طائفة من الجمدارية، فلما مات الملك الصالح سنة سبع وأربعين، وملك بعد ولده الملك المعظم، وقتل، وأجمعوا على الأمير عز الدين أيبك التركماني، فولوه الأتابكية لأمر جليل؛ ثم ملكوا الملك الأشرف ابن الملك الناصر ابن الملك المسعود أقسيس ابن الملك الكامل، وكان صغيراً. وأقروا التركماني على الأتابكية، ثم خطب الأمير فارس الدين أقطاي الجمدار بنت صاحب حماة، وأجيب، فخشي التركماني إن هو دخل بها عظمت نفسه، وتاقت إلى الملك لقوة شوكته بالبحرية، فقتله يوم الاثنين سادس عشر شعبان سنة اثنتين(4/263)
وخمسين وست مائة.
الحسن بن محمد بن علي بن محمد أبو محمد نجم الدين الأنصاري الدمشقي. خدم الأمير عز الدين أيبك المعظمي رحمه الله صاحب صرخد، ثم الطواشي شهاب الدين رشيد، وتنقل في مباشرة سد الجهات والولايات، وآخر ما ولي قلعة بعلبك ومدينتها بعد وفاة كمال الدين إبراهيم بن شيث رحمه الله وقدمها مستهل شهر ربيع الآخر سنة أربع وسبعين، واستمر بها إلى أن استولى على دمشق وما معها الأمير شمس الدين سنقر الأشقر نائباً عن الملك المنصور رحمه الله فصرفه، وولى عوضه سعد الدين عمر ابن قليج، فلما اتصل ذلك بالملك المنصور أنكره، وأمر بإعادته فأعاده، واستمر إلى شهر رجب سنة اثنتين وثمانين، وطلب إلى دمشق، وصرف عن الولاية، ورسم عليها أياماً، ثم أفرج عنه، ولزم منزله بدرب الفراش بدمشق إلى أن خرج الملك المنصور رحمه الله لحصار المرقب، فخرج في جملة العساكر، وبعد فتوح المرقب حصل له مرض، وأدركته منيته في أرض القصب من أعمال حمص، ودفن هناك وهو في عشر الثمانين، وكان عنده أمانة وخبرة بالولاية والتصرف، وهو من كبراء رماة البندق، ويحاضر بالحكايات والأشعار والتورايخ، وله حدة، وكان يزعم أن بدر الدين بن نقادة الشاعر المشهور نسيبه من جهة والدته والله أعلم. وكانت وفاته يوم الأحد ثالث جمادى الأولى، وكان يتهم بمال كثير فلم يظهر له منه شيء، والظاهر أنه خفي والله أعلم. ثم بلغني بعد موته بقريب خمس وعشرين سنة(4/264)
وقد خربت داره أنه كان صبيان يمفرون في الدار فوجدوا شيئاً، واتصل ذلك بالدولة، فسيروا من استقصى في الحفر، فوجدوا مقداراً صالحاً من الذهب والدراهم. وحكى لي نجم الدين حسن المذكور ما معناه أن الملك المعظم عيسى رحمه الله رسم للأمير عز الدين أيبك صاحب صرخد أن يسير جماعة من حجي بن يزيد أمير آل مراء، فسير جماعة، وكان نجم الدين منهم، قال: فسيرنا في البرية، ومع حجي قداحة، إذا قدحها ينهر منها النار، ومع غيره من العرب وغيرهم قداحات، وهم يقدحون، والناس يتبعونهم، فبينا نحن نسير في أرض محجر، سقطت القداحة من يد حجي فتركها، ورحنا في المهم الذي نحن قاصدوه، وقضينا الشغل، وعدنا، ومررنا بتلك الأرض بالليل، فلما صرنا بالمكان الذي سقطت فيه القداحة، قال حجي: في هذا المطرح سقطت قداحتي؛ وضرب الأرض برمحه، فطنت القداحة. فأسرجنا ضوءاً. ووجدناها، وهذا من غريب الاتفاق.
سعيد بن علي بن سعيد أبو محمد رشيد الدين البصراوي الحنفي مدرس الشبلية. كان إماماً عالماً فاضلاً، كثير الديانة والورع، عرض عليه القضاء غير مرة فامتنع، وله معرفة تامة بالعربية، ويد في النظم، وكانت وفاته في شعبان بمنزلة المجاور للمدرسة الشبلية، ودفن بسفح قاسيون رحمه الله تعالى وقيل أنه توفي في ثالث شهر رمضان وصلى عليه بعد العصر بجامع الجبل. قال الشيخ علم الدين القاسم بن البرزالي أنشدني من لفظه لنفسه في ذي القعدة سنة ثمانين وست مائة:(4/265)
ألا أيها الساعي على سنن الهوى ... رويدك آمال النفوس غرور
أتدري إذا خان الرحيل وقربت ... مطايا المنايا منك أين تسير
أطعت دواعي اللهو في سكرة الصبا ... أما لك من شيب العذار نذير
كأني بأيام الحياة قد انقضت ... وإن طال هذا العمر فهو قصير
وفاجاك مرتاد الحمام وما لها ... زيارة من لا تشتهيه يزور
وأصبحت مصروع السقام معللاً ... يقولون داء قد ألم يسير
وهيهات بل خطب عظيم وبعده ... عظائم منها الراسيات تمور
ولما تيقنت الرحيل ولم يكن ... لديك على ما قد أتاك نصير
وما لك من زاد وأنت مسافر ... ولا من شفيع والذنوب كثير
بكيت وما يغني البكا على الذي ... جرى وتلافى المتلفات عسير
فبادر وأيام الحياة مقيمة ... وحالك موفور وأنت قدير
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
إلهي لك الحمد الذي أنت أهله ... على نعم منه الهداية للحمد
صحيحاً خلقت الجسم مني مسلماً ... ولطفك بي ما زال مذ كنت في المهد
وكنت يتيماً قد أحاط في الردى ... فأويت واستنقذت من كل ما يردي
وهبت لي العقل الذي يصبى به ... إلى كل خير يهتدي صاحب الرشد
ووقفت للإسلام قلبي ومنطقي ... فيا نعمة قد جل موقعها عندي
ولو رمت جهدي أن أحل فضيلة ... فضلت بما لم يمحو أطرافها حدي
ألست الذي أدعوك في كل كربة ... ففرجتها لولاك طارت بها كبدي
ألست الذي أرجو جنابك حيثما ... تخلفني الأهلون وحدي في لحدي(4/266)
فجد لي بلطف منك يهدي سريرتي ... وقلبي ويهديني إليك من البعد
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
يا عين سحي دماً وسحي ... غدا تخلين في الضريح
ويصبح النور منك يمحى ... والحسن من وجهك الصبيح
فتمسين والدود سوف يغشى ... سواد إنسانك المليح
يا طول غمى وما تلا في ... صفحة وجهي من الصفيح
كأنني بي وقد أتاني ... رسول ربي ليقبض روحي
ينزعها من يدي حريص ... على موالاتها شحيح
ضاق لخوف الورد صدري ... وساحة النهج الفسيح
وكل من في الورى عليل ... فأين أشكو إلى صحيح
أنطق بخير فسوف تأتي ... صمت على نطقك الفصيح
كل كتاب وما خلقنا ... له سينجاب بالضريح
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
قل لمن يحذر أن يدركه ... بكتاب الدهر لا يعني عن الحذر
أذهب الحزن اعتقادي أنه ... كل شيء بقضاء وقدر
ليت لا أصبح ليلى إنما ... ينطرق الآفات في وقت السحر
ما لي من يدري يقيناً أنه ... راحل يغفل عن زاد السفر
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
أرى عناصر طيب العيش أربعة ... ما زال منها فطيب قد زالا(4/267)
أمناً وصحة جسم لا يخالطها ... معاً نزف الشباب الغض والمالا
وقال أيضاً رحمه الله:
استجري دمعك ما استطعت معيناً ... فعساه يمحو ما جنيت شيئا
أنسيت أيام البطالة والهوى ... أيام كنت لدى الضلال قرينا
وقال أيضاً دو بيت:
أشر عليك اجتهد في فك انحلالك ... لا ترخصن حياتك في أغلالك
واصحب إذا شئت من لا يختفي حالك ... عنه ولازم حبابه ذو نصيحة لك
وقال أيضاً:
يا من يداري وما دارى مرض قلبه ... قد مات قلبك فقل لي كيف تصنع به
أقرن عليه الماثم في دجى نح به ... هذا الشقي المعذور قد قضى نحبه
وقال أيضاً موالياً:
كيف اعتمدت على الدنيا وتجريبك ... أراك فلك تراها كيف تجري بك
ما زالت الخادعة تدنو وتعتري بك ... حتى رمتك بأبعادك وتغريبك
عبد الله بن إسماعيل بن محمد بن أيوب بن شاذي بن محمد جلال الدين الملك المسعود ابن الملك الصالح عماد الدين أبي الفداء ابن الملك العادل سيف الدين أبي بكر. كان من اجمل الناس صورة مع مكارم الأخلاق، جمع بين حسن الصورة والمعنى. وتوفي إلى رحمة الله بقرية بالمرج. وحمل إلى جبل قاسيون، فدفن بتربة عمه الملك الأمجد تقي الدين عباس(4/268)
رحمه الله يوم الأحد خامس وعشرين جمادى الآخرة، وقد نيف على الخمسين من العمر رحمه الله.
عبد الله بن محمد بن أحمد بن عبيد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة شمس الدين المقدسي الحنبلي. مولده سنة خمس وثلاثين وست مائة، وتوفي بقرية جماعيل من عمل نابلس في يوم الاثنين ثامن وعشرين شعبان، ودفن بها رحمه الله. كان من الفضلاء الصلحاء الأخيار، سمع الكثير، وحدث، وكتب بخطه، وشرع في تأليف كتاب، وجمعه من الأحاديث النبوية مرتباً على أبواب الفقه. ولو تم لكان نافعاً. ورأى بعض الصلحاء بجبل الصالحية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام. وقد جاء إلى الجبل فقال له الرائي: يا رسول الله! فيما جئت إلى هنا؟ أو كلاما هذا معناه، فقال: جئنا نقيس عبد الله من نورنا، وكان شيخنا شمس الدين عبد الرحمن رحمة الله عليه يحبه كثيراً. ويفضله على سائر أهله وأولاده، وكان أهلاً لذلك رحمه الله ورضى عنه. فلقد كان من حسنات المقادسة كثير الكرم، والخدمة، والتواضع. والسعي في قضاء حوائج الإخوان والأصحاب.
علي بن بلبان بن عبد الله أبو القاسم علاء الدين الكركي المعروف والده بالناصري. سمع الكثير، وحدث، وتوفي بدمشق ليلة الخميس مستهل شهر رمضان المعظم، ودفن يوم الخميس بمقابر باب الصغير، وهو في عشر السبعين رحمه الله تعالى.
عمر بن إسحاق بن وفاء شمس الدين الناصري. كان له اختصاص بالملك(4/269)
الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله وملازمة له في خلواته، وعنده مروءة، ومثابرة على قضاء حوائج من يقصده من لطفه وكرمه وسعة صدره، وبقي بعد انقضاء الدولة الناصرية، وحرمته وافرة، وجانبه مرعى، وأقام بدمشق إلى أن أدركته وفاته بها يوم الاثنين منتصف صفر. وأخرج يوم الثلاثاء إلى الجامع. فصلى عليه، وحمل إلى سفح قاسيون، فدفن بتربته المجاورة لتربة ابن وداعة. والألسن مجمعة على شكره والترحم عليه، وهو في عشر السبعين رحمه الله تعالى.
كافور بن عبد الله أبو المسك شبل الدولة الصوابي الخادم. توفي بقلعة دمشق ليلة الخميس مستهل شهر رمضان، ودفن يوم الخميس، وقد نيف على الثمانين رحمه الله. كان من عقلاء الدينة الأخيار. سمع الحديث، وأسمعه، وتولى عدة ولايات، وكان في آخر عمره قد رتب خزندار بقلعة دمشق، والصوابي نسبة إلى الأمير شمس الدين صواب العادلي الأمير الكبير المشهور رحمه الله تعالى.
محمد بن إبراهيم بن علي بن شداد أبو عبد الله عز الدين الحلبي. مولده بحلب في سادس ذي الحجة سنة ثلاث عشرة وست مائة. وتوفي بمصر في سابع عشر صفر هذه السنة، ودفن بسفح المقطم. كان رئيساً، حسن المحاضرة، وصنف تاريخاً لحلب، وسيرة الملك الظاهر ركن الدين، وكان من خواص الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن محمد، وترسل عنه إلى هولاكو وغيره من الملوك، واستوطن الديار المصرية بعد أخذ التتار حلب في سنة(4/270)
ثمان وخمسين، وكان له مكانة عند الملك الظاهر ركن الدين، والملك المنصور سيف الدين رحمهما الله تعالى وحرمته وافرة، وله توصل ومداخلة، وعنده بشر كثير، ومسارعة إلى قضاء حاجة من يقصده رحمه الله تعالى.
محمد بن الحسن بن إسماعيل بن محمد بن عبد الله الملقب شرف الدين المعروف بالأخميمي الشيخ المشهور. كان كثير التعبد والاجتهاد، ولكثير من الناس فيه عقيدة حسنة، وبعض الناس ينسبه إلى التصنع، وكان يتحصل له من الأمراء والأكابر جمل كثيرة، وإذا قوبل بقدر يسير لا يقبله، وتوفي بمنزله بسفح قاسيون ليلة الأربعاء ثامن عشر جمادى الأولى من هذه السنة، ودفن بسفح قاسيون، وهو في عشر السبعين رحمه الله تعالى غسله الشيخ فخر الدين بن عز القضاة، والشيخ شرف الدين أحمد الفزاري، والشيخ برهان الدين الإسكندري، وصلى عليه الشيخ جمال الدين الشريشي، وحضر جنازته خلق كثير، وكان عليه روح، وسكون، وهيبة رحمه الله تعالى وهو الذي ذكره الشيخ كمال الدين بن طلحة في تصنيفه في علم الحروف من الحروف المفردة غير المكررة في القرآن المجيد، وأن الشيخ محمد رأى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضوان الله عليه وأنه أوراه دائرة الحروف. قال الشيخ كمال الدين بن طلحة رحمه الله في تصنيف أفرده لذلك: أما بعد، فإنه لما رزقني الله من مبار ألطافه، ورفده مؤاخاة عبد صالح من صلحاء عباده فيه، تحكم له فيه من قلبي منزلة ما وصلت إليه أخوة النسب من قبلها، ولا تصل إليها من بعدها، ونمت بيننا المحبة في الله تعالى وتقدس(4/271)
نمواً بلغت بها نهاية حدها، وأحرزت به اليقين حصل وحدها، ومنح الله جل وعلا كل واحد منا بصاحبه ما ظهرت له به زيادة عبادته، وثبت ذلك عنده بإقرار قلبه وشهادته، وكان كثيراً من مطالبه من ربه تعالى أن يمنحه ما يعرف به الاسم الأعظم، واقتدى بذلك ممن سلف من أئمة الطريق الأقوم، وتكرر لذلك تقلب وجهه في السماء، ورفع يديه إلى الله تعالى بأنواع الدعاء، فبينما هو في بعض خلواته مشتغل بصلواته تحت جلباب حندس الظلماء، إذ كشف له عن لوح شاهده بحيث لا يتطرق إليه شبه الشك ولا ريب الامتراء، فأعرض عنه مشتغلاً بذكر ربه في مقام قربه، فوكزه بدمع صوت يقول له: خذ ما ينتفع به، فأخذه، واستبث ما فيه، فوجده دائرة، وخطوطاً، وأسماء، وحروفاً، وأحاط علماً بصورها دون معانيها، ولم يعلم شيئاً من الأسرار المودعة فيها، فلما سمر الليل ذيل ظلمته، وتنفس الصبح لأسفار أنوار غرته، وقضى الواجب عليه من أداء حق الوقت وفريضته، عشيته غيبة صافحته بها يد سنته، فرأى أمير المؤمنين علي بن أبي طالبي رضوان الله عليه فسلم عليه وقال له: أين اللوح الذي أوتيته؟ فأخرجه فأخذه عليه السلام، فنظر فيه واستعظمه، ثم قال له في معناه: أشياء لم يفهمها ولا يعرف منها سوى كلمة واحدة، فقال: يا أمير المؤمنين! ما فهمت ما قلت لي. فقال له: إن فلاناً يعني الشيخ كمال الدين بن طلحة يشرحه لك إن شاء الله تعالى، فلما علا النهار، حضر عند الشيخ كمال الدين، وعرفه عين الواقعة بصورتها، وتلا عليه آيات صورتها، وخط صورة الدائرة، وما عليها(4/272)
خارجاً وداخلاً عنها وفيها، فوقف عليه تأملها، فرآها من عجائب الأقدار وضعاً. وغرائب الأسرار أصلاً وفزعاً، ونظر في حروفها المرتبة وتراً وشفعاً، وأسمائها المركبة تفرقة وجمعاً. قال الشيخ كمال الدين: فعلمت أنه لا يمكن الوقوف على كنه مقصدها. ولا الوصول إلى جل عقدها، ولا محض أوطان مطالبها باستخراج زبدها إلا بتأييد رباني، وتوفيق إلهي، فرفعت يدي متضرعاً إلى عالم السر والنجوى، وسألته أن يفتح لي رتاج مكنونها، ويمنحني بنتاج مصونها، ويوضح لي منها مخزونها ويشرح صدري باستخراج اسرار مضمونها فأحست نفسي بأنفاس إجابة دعائها، وتضرعها، ونشطت إلى استشراق أنوار الأسرار من مطلعها، فلما لاحت الأنوار، وظهرت الأسرار بأمر مبدئها ومبدعها، وتخبير مرها ومطلعها، علقت هذه الرسالة. قلت: ثم أثبت الشيخ ذكر الدائرة وتخطيطها وصفتها، وصورة ما في وسطها، وما أحاط بها محيطها، وكيفية وضع حروفها وأسمائها وخطوطها، ثم ذكر أنها سر من أسرار الاسم الأعظم، ثم شرع في حل تلك الحروف المفردة وتبيين أسرارها وإظهار معانيها بما يذهل العقل، ولقد حذا في استنباط المعاني من تلك الدائرة ما سلكه الإمام أبو الحكم ابن برجان في تفسير قوله: " وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين " وبين تدوير الحروف هناك، وسر البضع في كلام العرب. ثم ذكر أنه إن صح ذلك، فتح البيت المقدس في سنة ثلاث وثمانين وخمس مائة، فوقع الأمر كما قال. ومات هو قبل
فتحه في سنة ست وثلاثين وخمس مائة مغرباً عن وطنه بمراكش، فهؤلاء المشايخ الأطهار أطلعهم الله تعالى على أسرار العلوم، وبنى الشيخ كمال الدين أمر الدائرة على سر التوحيد، وبيان عظمة الله تعالى وقدرته، وسير أسرار الحروف بما يشرح الصدور ويسر القلوب، وسمى هذه الرسالة المتضمنة شرح هذه الدائرة " الدر المنظم في شرح الاسم الأعظم " فمن أراد الوقوف عليه فليراجعه والله تعالى يوفق للصواب. هـ في سنة ست وثلاثين وخمس مائة مغرباً عن وطنه بمراكش، فهؤلاء(4/273)
المشايخ الأطهار أطلعهم الله تعالى على أسرار العلوم، وبنى الشيخ كمال الدين أمر الدائرة على سر التوحيد، وبيان عظمة الله تعالى وقدرته، وسير أسرار الحروف بما يشرح الصدور ويسر القلوب، وسمى هذه الرسالة المتضمنة شرح هذه الدائرة " الدر المنظم في شرح الاسم الأعظم " فمن أراد الوقوف عليه فليراجعه والله تعالى يوفق للصواب.
محمد بن عثمان بن علي أبو عبد الله شرف الدين المعروف بابن الرومي، الشيخ الصالح الزاهد العارف. كان رحمه الله من أكرم الناس كفاً، لا يدخر شيئاً بل مهما فتح الله به ينفقه على الفقراء، وكان كبير النفس، عالي الهمة، كثير التواضع، لطيف الأوصاف، منقطعاً في زاويته بسفح قاسيون، لا يتردد إلى أحد إلا في النادر، ويعمل السماعات، ويصعد إلى الخلق الكثير من الفقراء وغيرهم، فيرقص من أول السماع إلى آخره، ويخلع جميع ثيابه على المغاني، ويرقص عرياناً ليس عليه إلا السراويل، وله الحرمة الوافرة عند الأمراء والملوك، ويحمل إليه من الفتوح شيء كثير، فيخرجه من وقته، وكان حضر حصار المرقب، ثم عاد إلى دمشق، وتوفى إلى رحمة الله تعالى عقيب عوده بأيام، ودفن بزاويته بسفح قاسيون رحمه الله تعالى وهو في عشر الثمانين، وكانت وفاته ثالثة نهار الجمعة العشرين من جمادى الأولى سنة أربع وثمانين وست مائة. وتوفي والده يوم الجمعة ثامن المحرم سنة ست وثلاثين وست مائة بمدينة حماة، وحمل على أكتاف مريديه، ودفن بزاويته بسفح قاسيون عشية الاثنين حادي عشرة،(4/274)
ودفن ليلاً، وقد جاوز السبعين رحمه الله تعالى.
محمد بن عبد الله أبو عبد الله ناصر الدين الحراني الحنبلي. ولي دمشق بعد وفاة والده رحمهما الله وأضيف إليه شد الأوقاف والنظر فيها مستقلاً من غير مشاركة، يولي ويعزل، ويصرف كيف شاء، وكان مدار أمور الدولة بدمشق وأعمالها عليه؛ ونائب السلطنة لا يخالفه، ولا يخرج عن رأيه. وله المكانة العالية عند الملك الظاهر ووزيره وأكابر أمراء دولته، وكلمته مسموعة في سائر المملكة، وكتبه نافذة في الأقطار، وعنده معرفة تامة، ورياسة كبيرة، وخبرة بسائر الأمور، ويكتب خطاً منسوباً، رأيته يكتب وهو ينظر إلى جهة أخرى، وكان كثير المكارم والستر، وقضى حوائج الناس، يصلح لكل شيء، ولقد سمعت بعض الأمراء الأكابر يقول عنه: والله يصلح لوزارة بغداد في زمن الخلفاء، ولا يقوم غيره مقامه، ثم استعفى من ولاية دمشق، وسأل ذلك فأجيب عليه، ثم رسم له الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله بنيابة السلطنة بحمص وأعمالها، فتوجه إلى كره منه، فهذب أمورها، وأصلح أحوالها، ولم تطل مدته بها، فأدركته منيته ليلة الثلاثاء منتصف شعبان، فغسل بها، وكفن، وصلي عليه، وحمل إلى دمشق، فوصل يوم الخميس سابع عشره، فصلي عليه، ودفن بسفح قاسيون بتربة الشيخ أبي عمر رحمة الله عليه ولم يبلغ الستين رحمه الله تعالى وكان وقف في حال حياته قبل موته بمدة سنين وقفاً كثيراً على عتقائه، وعلى وجوه البر، وأثبته، وحكم به الحكام، وصرف ريعه في حال حياته كما شرط، فنفعه بعض الكلمة فيه، وقال الواقف:(4/275)
أثبته على الشيخ في حال حياته كما شرط، ونل نظر الوقف عند عدم من أسند إليه الواقف إلى الإمام المجامع المظفري، وإمامه ابن الشيخ شمس الدين، فتمنع منه، وأبطل الوقف، واحتيط عليه، وباء بإثمه من سعى في ذلك مع أن جماعة كثير من أعيان العدول الذين شهدوا على الواقف رحمه الله أحياء مرزوقين، أما الواقف فوقع أجره على الله تعالى. سمع الأمير ناصر الدين الحديث الكثير، وكانت أوقاته معمورة بتلاوة القرآن العزيز، وسماع الحديث، ومصالح المسلمين، ولم يخلف ولداً رحمه الله تعالى.
محمد بن علي بن يوسف بن محمد بن يوسف أبو عبد الله رضى الدين الأنصاري الشاطبي الإمام العلامة في علم العربية واللغة. توفي بمصر، ودفن بالقرافة الصغرى في ثامن عشرين شهر جمادى الأولى وقد جاوز ثمانين سنة من العمر رحمه الله تعالى ومولده سنة إحدى وست مائة، روى عن ابن المقير وابن الجميزي، وجماعة يطول شرحهم. قال أخي رحمه الله أنشدني:
رب سهل على فتاتي لتراى ... هل سلا فتاها فتاها
علمته جفونها أي سحر ... ما تلاها عن حسنها مذ تلاها
وأنشده أيضاً:
لولا ثباتي وساتي ... لطرت شوقاً إلى الممات
لأني في جوار قوم ... تعصني قربهم وحياتي(4/276)
وأنشده أيضاً رحمه الله بمصر:
منغض العيس لا يأوي إلى دعة ... من كان في بلد أو كان ذا ولد
والساكن النفس من لم ترض همته ... مسكني مكان ولم يسكن إلى أحد
محمد بن يعقوب بن علي أبو عبد الله فخر الدين المعروف بابن تميم. وهو سبط ابن تميم، أظنه دمشقي الأصل والمولد والمنشأ، ونقل إلى حماة واستوطنها، وخدم صاحبها الملك المنصور ناصر الدين رحمه الله جندياً، وكان له به اختصاص وقرب. وكان فاضلاً عاقلاً شجاعاً، كريم الأخلاق، حسن العشرة، وحج إلى بيت الله الحرام، وهو من الشعراء المعدودين في عصره، وتوفي بحماة - رحمه الله تعالى - في هذه السنة. ومن شعره قوله في الحماسة:
صبح بنا أرض الفرنج بغارة ... تحوي بها أموالها ورجالها
محتادنا قد حرمت أوساطها ... نحو المسير وشمرت أذيالها
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
كم فارس صاحبته يوم الوغى ... وتركته إذ خانه أقدامه
حتى بلغت بحد سيفي موضعاً ... في الحرب لم تبلغ إلى سهامه
وقال أيضاً رحمه الله:
دعني أخاطر في الحروب بمهجتي ... إما أموت بها وإما أرزق
فسواد عيشي لا أراه أبيضاً ... إلا إذا احمر السنان الأزرق(4/277)
وقال أيضاً رحمه الله:
لو كنت تشهدني وقد حمس الوغى ... في موقف ما الموت عنه بمعزل
لترى أنابيب القناة على يدي ... تجري دماً تحت ظل القسطل
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
ألا من مبلغ المحبوب أني ... وقفت وللظبي حولي صليا
وأني جلت في جيش الأعادي ... برمحي وهو في فكري يجول
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
يا قوم قد بلغ قول الحيا ... عني إلى المحب بلا علم
من خنجري أطل من سيفي ... ورمحه أقصر من سهمي
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
لمنجنيق وللحصون وقائع ... فيها عجيب للذي يتفهم
يومي إليها بالركوع مخادعاً ... فتخر ساجدة له وتسلم
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
لا تحقرن قليل السر إن له ... زيادة كضوارم النار في القبس
فحرب وائل صرع الباب أسعرها ... وحرب قيس حسها لطمة الفرس
وقوله في صفة الرياض والأزهار ونحوه:
مولاي قد وافى زمان لم يزل ... بقدومه تستبشر الندماء(4/278)
زمن كأن الأرض فيه ألبست ... خلعاً أجادت صنعها صنعاء
....بلحظ عين لا ترى ... إلا غديراً حال فيه الماء
وترى بنفسك عزة في دوحة ... إذ فوق رأسك حيث سرت لواء
لا تهملن لذاذة الدنيا فقد ... رق النسيم وراقت الصهباء
واشرب من الحمراء في مبيضة ... ليحافل الصفراء والسوداء
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
رعى الله وادي النيرين فإنني ... قضيت به يوماً لذيذاً من العمر
درى أنني قد جئته متنزهاً ... فمد لأثوابي بساطاً من الزهر
وأقدمني الماء الفراح فحيثما ... سبحت رأيت الماء في خدمتي يجري
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
وحديقة بستان فيها جدول ... طرفي برونق حسنه مدهوش
تبدو ظلال غصونه في مائه ... فكأنما هو معصم منقوش
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
لم لا أهيم إلى الرياض وزهرها ... وأقيم منها تحت ظل صافي
والغصن يلقاني بثغر باسم ... والماء يلقاني بقلب صافي
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
شبهت نرجسه أهدي إلي بها ... خلي وقد جئت في التشبيه بالعجب(4/279)
كفا من الفضة البيضاء ساعدها ... زمرد حكيت كأساً من الذهب
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
عاينت ورد الروض يضم خده ... ويقول وهو على البنفسج محنق
لا تقربوا وإن تضوع نشره ... ما بينكم فهو العدو الأزرق
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
وناعورة شبهتها حين ألبست ... من الشمس ثوباً فوق أثوابها الخضر
بطاووس بستان تدور وتنجلي ... وتنفض عن أرياشها ثلل القطر
محمود بن الحمصي. كان إماماً عالماً فاضلاً، متقناً بارعاً، فقيهاً عارفاً، ورعاً زاهداً، متقللاً من الدنيا، صاحب معاملات وكرامات، مجاب الدعوات، صحيح الاعتقاد، له الكرامات الظاهرة، والأحوال الباهرة، صام أربعين سنة بصوم نهارها، ويقوم أكثر ليلها، ثقة حجة، ما أظن حافظيه كتباً عليه سيئة واحدة منذ سلك هذه الطريقة، وكانت بدايته أنه اجتاز بقرية يونين في حال صباه، فزار الشيخ عيسى اليونيني رحمه الله تعالى فلزمه وانتمى إليه، وصحبه إلى أن مات الشيخ رحمه الله تعالى فدخل مدينة بعلبك وأقام بمسجد الحنابلة مكباً على العبادة والاشتغال بالعلم إلى أن أدركته منيته في ليلة الاثنين حادي عشر جمادى الأولى هذه السنة، ودفن من الغد بمقابر باب سطحاء ظاهر بعلبك رحمه الله تعالى.(4/280)
السنة الخامسة والثمانون وستمائة
إستهلت هذه السنة والخليفة، والملك المنصور سيف الدين قلاوون، والملوك على القاعدة في السنة الخالية، والملك المنصور بالديار المصرية. أخذت الكرك من الملك المسعود نجم الدين خضر ابن الملك الظاهر ركن الدين بيبرس، ودقت البشائر بدمشق ثلاثة أيام، أولها يوم الجمعة سابع صفر. وحصل في شهر صفر من الرعود والبروق ما خرج عن العادة خصوصاً في الأطراف. وورد كتاب الأمير بدر الدين بكتوت العلائي إلى الأمير حسام الدين لاجين نائب السلطنة بالشام، ومن مضمونه أنه لما كان يوم الاثنين رابع عشر صفر سنة خمس وثمانين وست مائة وقت العصر حصل بالغسولة إلى عيون القصب غمامة سوداء إلى الغاية، وأرعدت رعداً كثيراً زائداً، وظهر من الغمامة شبه دخان أسود من السماء ومتصل بالأرض، وصور من الدخان صورة أصلها هائلة في مقدار العمد الكبير الذي لا يحضنه جماعة من الرجال، وهي متصلة بعنان السماء يلعب بذنبها، فتتصل بالأرض شبه الزوبعة الهائلة، وصارت تحمل الحجارة الكبار المقادير، وترفعها في الهواء كرمية سهم نشاب وأكثر، وما صادف شيئاً من الأشياء من السيوف، والجواشن، والعدد، والتراكيش، والغشى، والقماش، والشاشات، والنحاس، والأسطال إلا صار طائراً في الهواء كشبه الطيور، ومن جملة ذلك أنه كان في أسطبل بعض الناس خرج ادم ملآن تطابيق نعال بيطارية(4/281)
حمله في الهواء والجو كرمية نشاب، ورفع في جملة ما رفعه عدة من الجمال بأحمالها قدر رمح، وحمل جماعة من الجند، والغلمان، وأهلك شيئاً كثيراً من السروج التي صدفها في الرماح. وطحن ذلك إلى أن بقي لا ينتفع به، وأتلف شيئاً كثيراً مما صادفه في طريقه، وأضاع شيئاً كثيراً من العدد والقماش لمقدار ما بقي نفر من الجبد وأصحاب الأمر إلى أن صاروا بغير عدة، ولا قماش، وعاينت تلك الحية عن العين في عنان السماء، فتوجهت في البرية صوب الشرق، والذي عدم من قماش الجند منه ما راح في الغمامة السوداء، ومنه ما أخذه بعض الجند مع أن المملوك ركب بنفسه، ودار في العسكر المنصور، واستعاد كثيراً مما عدم، وبعد هذا عدم ما تقدم ذكره، وهذه الواقعة ما سمع بمثلها أبداً، ثم وقع بعد هذا يسير من مطر، ثم أن اللواحيق الكبار حملها الهواء، وهي منصوبة، وصارت مرتفعة في الجو وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وفيها وصل تقي الدين توبة إلى دمشق من الديار المصرية متولياً الوزارة بالشام يوم الثلاثاء سلخ ربيع الآخر.
وفيها توفي:
أحمد بن شيبان بن تغلب أبو العباس بدر الدين الشيباني. مولده سنة ست وتسعين وخمس مائة، وكانت وفاته بسفح جبل قاسيون في نهار الخميس ثامن عشرين صفر، ودفن يوم الجمعة بعد الصلاة رحمه الله. سمع، وأسمع، وكان رجلاً خيراً، وله نظم، فمنه يمدح قاضي القضاة شمس الدين الحنبلي عند ما ولى سنة أربع وستين وست مائة، قوله:(4/282)
شرف الزمان وساد بالإسعاد ... واضت ليالينا بغير زناد
ونور شمس الدين شيخ شيوخنا ... مفتي الشريعة أزهد الزهاد
سمح الزمان بما نؤمل منكم ... فيكم ترى الأيام كالأعياد
أنت الذي أسلكتها سيل الهدى ... وأقمت دنيا ثابت الأوتاد
من أبيات له. سمع من حنبل، وابن طبرزد، وأبي اليمن الكندي، وأبي القاسم الحرستاني، وأجز له أبو جعفر الصيدلاني، وأسعد بن روح، وعبد الواحد بن أبي المطهر الصيدلاني، وغيرهم، وقيل إن مولده سنة سبع وتسعين وخمس مائة.
خليل بن أبي بكر بن محمد بن صديق أبو الصفاء صفي الدين المراغي الفقيه الحنبلي. توفي بالقاهرة في يوم سابع عشر ذي القعدة، وقد نيف على الثمانين، ودفن من الغد رحمه الله تعالى. وكان فاضلاً، عارفاً بالمذهب، سمع الكثير، وأسمع، واستوطن دمشق ثم توجه إلى الديار المصرية، وأقام بها، وولي نيابة الحكم بالقاهرة مدة رحمه الله تعالى.
سعيد بن عمر بن إسماعيل بن مسعود سعد الدين بن الشيخ رشيد الدين أبي حفص الفارقي. كان شاباً فاضلاً، اشتغل على والده، وأتقن عليه فن الأدب، وكان له نظم حسن، فمنه:(4/283)
مشوق يا نيل له عليل ... وسوف يا نيل له غليل
وصب دمعه يجري مديد ... ولكن ليله ليل طويل
ولي رشأ يملكني عزيز ... غرير والمحب له ذليل
نأى عني فصد ولا وصال ... يرجى منذ بان ولا وصول
فشوقي ضحو طلعته كثير ... وصبري عند جفوته قليل
أيا قمراً له قلبي وطرفي ... منازل ما له عنها رحيل
ويا شمساً وليس له كسوف ... ويا نجماً وليس له أفول
فيا غصناً يملك قلب صب ... فديتك كم على ضعفي تميل
طبعت على هواه فكم عذول ... يلوم ولست أدري ما يقول
توفي رحمه الله تعالى ليلة الاثنين سابع عشرين المحرم، ودفن من الغد بمقابر باب الصغير رحمه الله تعالى.
طاهر بن عمر بن طاهر بن مفرج بن جعفر المصري الشيخ الصالح. كان كثير الزهد والعبادة، والتقلل من الدنيا، واشتغل بالفقه على الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله ولما عرف ما يدعو إليه ضرورته في أمر دينه، انقطع إلى رباط ابن يغمور بالصالحية، وكان من أخص أصحاب الشيخ يوسف الفقاعي رحمه الله وأجلهم عنده، وكان له كشف. قال النجم أبو بكر بن شرف رحمه الله: كنت واقفاً بدرب الوزير أريد الرواح إلى الخواصين، وجيش الإسلام حينئذ قبالة جيش التتار على حمص(4/284)
سنة ثمانين وست مائة، وذلك يوم الأحد فمر بي الشيخ الطاهر المذكور، وحدثني ما لم أفهمه لاشتغال خاطري، فقال: كأنك ما فهمت كلامي! قلت: لا والله، قال: كأنك خاطرك مشغول. قلت: ما هو لقلبي ولكل لآخذ أولادي قال: اسمع ما أقول، واعتمد عليه، اليوم أيش هو؟ قلت: يوم الأحد، قال: يوم الجمعة تكون في هذه البلدة بشارة بكسر التتار، وشموع توقد بالنهار، وسماعات، وتكسر التتار كسرة ما كسروا مثلها، فكان كما قال، ثم بات عندي بعد ذلك وانشرح، فسألته عما أخبرني به، قال: هل تراه يقظة أو مناماً؟ فقال: لا في اليقظة ولا في المنام، بل في حالة بينهما تسمى الواقعة تكون للفقراء؛ فسألته عن حقيقتها فنفر وغضب. قال النجم: وكان قال لي مرة: إن بيت هلاكو لا بد أن تكون، وخوارزمية لا يوجد منهم عشرة في مكان. قال: وكان به سعال مزمن فبقي سنين يأخذ في كوز مكسور ماء شعير مبزر من بكرة، يودعه عندي إلى العشاء يأخذه. قال: وأخبرني أنه يثرد فيه كسرة ويفطر عليها. قال النجم: ودخلت مع الشيخ يوسف إلى بيت طاهر بالرباط المذكور، فرأينا بيتاً لم يكنس قط. وقد نسج العنكبوت على حصيره رثة سوداء، فقال الشيخ يوسف: ما أعفشك يا طاهر! ثم خرج طاهر للوضوء. فقال لي الشيخ يوسف: طاهر يموت طيب. وتزوج طاهر امرأة جميلة جداً. وطلقها على كثرة تعجزه عنها، ولم يكن قربها ومات، ولم يعرف أنثى ولا غيرها، ولم يزل على هذا القدم من الاجتهاد وخشونة العيش والتقلل من الدنيا إلى أن توفي إلى رحمة الله تعالى(4/285)
في العشر الآخر من شهر رمضان، ودفن عند الشيخ يوسف رحمه الله بالرباط اليغموري بسفح قاسيون، وهو في عشر السبعين رحمه الله تعالى. وذكر الشيخ علم الدين البرزالي: أن وفاته كانت ليلة السبت خامس شوال رحمه الله تعالى.
عبد الدائم بن أحمد بن عبد الدائم بن نعمة أبو محمد تاج الدين المقدسي الحنبلي. كان كثير الصلاح، والتعبد، والاجتهاد، والتمسك بالكتاب والسنة، وتوفي بجبل قاسيون ليلة الثلاثاء ثالث وعشرين شهر رمضان المعظم، ودفن يوم الثلاثاء بمقبرة الشيخ أبي عمر رحمه الله، وقد نيف على السبعين رحمه الله.
عثمان بن سعيد بن عبد الرحيم بن أحمد بن تولو أبو عمرو ومعين الدين الفهري. مولده بتنيس سنة خمس وست مائة، وتوفي بمصر يوم الأحد سلخ ربيع الأول، ودفن من يومه بالقرافة الصغرى. سمع القاضي أبا نصر بن الشيرازي وغيره، وله معرفة بالأدب، ويد طولى في النظم، وشعره في غاية الجودة والإتقان، نقلت من خطه قوله بمدح الصاحب زين الدين ابن الزبير فيقول:
ماذا على بارق بالغور يأتلق ... لو لم يهج حزن قلب ملؤه حرق
ذكرت إذ لاح والذكرى مشوقة ... ثغر السلامي حكاه اللؤلؤ النسق
في ذمة الله أيام العقيق وإن ... تملك الليث فيها شادن خرق(4/286)
ترنو بألحاظ رئم قط ما رمقت ... فغادرت في البرايا من به رمق
أما وأهيف ذي خصر بأعيننا ... كما يشاء الهوى العذري ينطبق
تألفت فيه أصداد لها أبدا ... على هواه الخلق تتفق
فالخد والثغر ذا جمر وذا برد ... والوجه والشعر ذا صبح وذا غسق
ما حلت عن عهد سكان العقيق وهل ... يحول عنهم محب حبه خلق
كم زرتهموا في الكرى طيفاً واحسبني ... للسقم لو زرتهم شخصاً لما فرقوا
خوفاً عليهم من الواشين لا حذراً ... من بارق للصفاح البيض يأتلق
تسطو بها فتية غر سيوفهم ... بيض كأحسابهم مصقولة عنقوا
لا أدعي أن جفني سحبة مطرت ... من طول ما رعدوا وجداً وبرقوا
لكن سلمى لاح بارقه.... ... فكان من سحب جفني عارض يدق
ما للجديدين قد أبلى اختلافهما ... جديد حالي فصبري دائماً خلق
ألقى الظلام بصدر غير منشرح ... لما ألاقي وجفن ليس ينطبق
وأسأل الشمس عن أخت لها غربت ... فادمعي الدهر في آثارها شفق
قلبي وطرفي لنأي السائرين ضحىً ... كلاهما بنقاء منه لا أثق
ومن هذا كما شاء الجوى حرق ... وملء ذاك كما شاء البكا أرق
حبست دمعي فقالت لوعة غلبت ... لا تحبس الدمع إن الركب منطلق
وقلت للقلب صبراً بعد بعدهم ... فقال لي نحن قبل البعد نفترق
أشكو إلى الدهر قوماً من بنيه إذا ... محضتهم ود خل مخلص مذقوا(4/287)
يهوون موتي وما لي في بلادهم ... والحمد لله لا تبر ولا ورق
إني وإن كنت دهري مملقا لفتىً ... لا يعتري طبعه ميل ولا ملق
بذي يدٍ كم لها عند الكرام يدا ... من شينها الحر بعد الله يرتزق
بأبلج من قريش نور عز به ... مهما تحلى لأعداء الندى صعقوا
مولى تولى الورى حفظا ببذل يد ... لها على الوفي كي ترضى الورى حنق
من معشر لا يروق المجد غيرهم ... إن الكريم بما ترضى العلا لبق
إن الأولى في جدي كفي الحيا اختلفوا ... على جدي كفه الوهابة اتفقوا
بنو الزبير كما تهوى مكارمهم ... إن فوضلوا أو سوبقوا سبقوا
عزوا منالاً ونالوا كل مكرمة ... أقلها بنواصي النجم معتلق
وجه الزمان بيعقوب سليلهم ... كما تشاء المعالي نير شرق
حرى على أصلهم جوداً وفاقهم ... والفرع فيه الحياء الطول والورق
يا ابن اللاء ينطق العليا إن سكتوا ... عنهم وسكت أهل الفخر إن نطقوا
فتحت للناس باب الجود ودمت له ... مجداً حين دست دونه الطرق
وليتهم ما تولته الغيوث جدىً ... فكلهم لطلاب الحمد مستبق
أرقت كما ينتهى الوفراء في دعة ... كذا محب المعالي طرفه أرق
يفديك من كل ما تخشى عواقبه ... خلق لغير الخنا والبخل ما خلقوا
تخلقوا بالندى جهلاً أما علموا ... أن التخلق يأتي دونه الخلق(4/288)
كم زنت مرتبة رأيتهم زمناً ... وكم قلادة خود زانها عنق
أما وجود لياليها وعزتها ... وعرضك المحض كل أبيض يقق
وعقدها وثناياها ونظمي في ... مديح مدحك كل لؤلؤ نسق
حويت خلقاً وخلقا ضامنين معاً ... صدفي فلست وإن بالغت أختلق
قيدتني بحراً أطلقته فكذا ... أصبحت كالجود ما لي عنك منطلق
من لم يكن ساكناً في ظل جاهكم ... فقلبه لرزايا دهره قلق
لولاكم يا بني عبد الرفيع لما ... أصبحت في خفض عيش سله غرق
قال أخي رحمه الله تعالى أنشدني المذكور لنفسه:
قلت له إذ غاب عن مقلتي ... في يوم غيم ممطر مدجن
لو لم تكن في الحسن شمساً حجبت بالغيم عن الأعين
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
وليلة من ليالي البين واحدة ... وددت لو أنها ولت ولم تبن
زادت فؤادي فنوناً من صبابته ... بها مطوقة ناحت على فنن
ناديتها وكؤوس الشوق دائرة ... والوجد يطربها طوراً ويطربني
وإنني بالذي ألقى من حديثتها ... ونوحها بالذي تلقى تحدثني
حتى بدا الصبح كالواشي فريع له ... قلب عن بين حالي يخبرني
فما رأيت له عن جاهل مثلاً ... ولا رأيت له ميلاً إلى فطن
ولا رأيت لئيماً فيه ممتحناً ... ولا رأيت كريماً غير ممتحن
طار انتظاري حياً رزق يلين له ... مذموم عيش كما اشتهى خشن(4/289)
ديني إلى الرزق فضل كنت أحسبه ... مقدماً لي على غيري فأخرنى
ما أصدق القائلين العلم مخرقه ... والجهل والحظ مقرونان في قرن
ومن شعره وقد أمر قاضي مصر بقطع أرزاق الشعراء من الصدقات سوى الجزار الشاعر:
تقدم القاضي لنوابه ... بقطع رزق البر والفاجر
ووفر الجزار من بينهم ... فاعجب للطف التيس بالجازر
وقال أيضاً من شعره:
يا أهل مصر وجدت أيديكم ... من بسطها بالنوال منقبضه
قد عدمت الغذاء عندكم ... أكلت كتبي كأنني أرضه
وقال من شعره أيضاً:
أما السماح فقد أقوت معالمه ... فما على الأرض من يرجى مكارمه
ولا يغرنك من يلقاك مبتسماً ... فربما غر برق أنت شائمه
لا تتعب النفس في استخراج راحتها ... من باخل لونه في الجود لائمه
أخي المذلة اعزاز لدرهمه ... ويصحب الذل من عزت دراهمه
ماذا أقول لدهر عاش جاهله ... ومات فيه بسيف الفخر عالمه(4/290)
قد سالم النقص حتى ما يجاز له ... وحارب الفضل حتى ما يسالمه
وقال من شعره أيضاً:
لم أنسه إذ قال أين تحلني ... حذراً علي من الخيال الطارق
فأجبته قلبي فقال تعجبا ... أرأيت ويحك ساكناً في خافق
وقال من شعره أيضاً:
ذنبي إلى الصفح الجميل وسيلة ... فارحم فتى بذنوبه يتوسل
وقال من شعره أيضاً:
أعلمت أن الربيع حين دعاكا ... لنزوله جعل الشحون قراكا
لما وقفت به تسائل رسمه ... حزناً على رسم الطلول شجاكا
محمد بن أحمد أبو عبد الله جمال الدين المعروف بابن يمن العرضي. كان من أكابر رؤساء دمشق، ومن أهل الثروة الطائلة. لم يكن في زمانه من يضاهيه في كثرة المال، وكان كثير التواضع، غزير المروءة، له الصدقات الدائرة سراً، وكان قد أرصد عشرين ألف درهم يقرضها من غير ربح بل درهماً بدرهم لكل من قصد ذلك. ووقف على غلمانه وغيرهم أوقافاً حسنة، وجرى في تركته تخبيط كبير من ولده الشمس خطيب المزة فإنه أثبت أشياء توجب تخصيصه وحرمان أخواته، فصودر، وعكس في مقصوده، وذهب لوالده من الدفائن ما لا يحصى. ولم ينتفع بشيء مما خلفه أبوه، وهلك بعده بمدة يسيرة، وكانت وفاة والده يوم الجمعة سلخ جمادى الآخرة(4/291)
هذه السنة أعني سنة خمس وثمانين وست مائة بداره، ودفن بسفح قاسيون بتربة ابن نظيف المطلة على الجامع المظفري بسبب زوجته فإنها من ذرية ابن نظيف، ودفنت عنده رحمهما الله تعالى.
محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن سمحان أبو بكر جمال الدين الوائلي البكري الشافعي الشريشي. كان إماماً عالماً فاضلاً زاهداً ورعاً، طلب للقضاء بدمشق عوض الشيخ زين الدين الزواوي فامتنع، وكان من أعيان العلماء وأكابر المحدثين، ومولده بشريش بلدة بقرب إشبيلية من بلاد الأندلس سنة إحدى وست مائة، وتوفي إلى رحمة الله تعالى يوم الاثنين ثامن عشر رجب سنة خمس وثمانين وست مائة بالصالحية برباط الملك الناصر، وهو شيخه يومئذ. ودفن بسفح قاسيون تجاه الرباط الناصري يوم الثلاثاء، وكان مالكي المذهب، وله معرفة بالأدب، وله يد في النظم. وقال رحمه الله ورضي عن سلفه الصالح: لما أتى شهر رمضان الكائن سنة أربعين وست مائة، وأنا بدمشق حرسها الله تعالى أردت أن أريح نفسي من كد المطالعة والتكرار. وأصرف همتي إذ كنت كثير البطالة إلى المواظبة على نوافل الصلوات والأذكار، فحين شرعت في ذلك وجدت في قلبي قسوة. ورأيت في صارم عزيمتي عن المضاء فيها نبوة، وقدت نفسي إلى العبادة بزمام الحرص، فحزنت وما انقادت، وضربتها بسوط الاجتهاد، فمادت على جرانها بل زادت، فلما رأيت ذلك منها، علمت أن داءها صار عضالاً،(4/292)
وأن ما رمته من الهدى، صار ضلالاً، فسألت عن عالم بهذه الأمور خبير، وطبيب بدواء هذه العلة الدواء، فدللت على أوحد دهره وأفضل علماء عصره أحسنهم هدياً وسمتاً. وأروعهم نطقاً وصمتاً. وأوسعهم في جميع العلوم علماً، وأنعتهم في كل المعاني فهماً. وهو شيخنا العلامة سيد القراء، وحجة الأدباء، وعمدة الفقهاء، وقدوة الفضلاء، علم الدين أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الصمد السخاوي، فكتبت إليه بهذه الأبيات المبهرجة عند الامتحان العاطلة من حلي الإجادة والإحسان، أشكو إليه فيها بثي وحزني، وما استولت عليه هذه النفس العدوة مني، وأسأله كيف خلاص أسيرها من وثاقه، وكيف السبيل إلى هربه من جورها وإباقه، وهي هذه:
أيا عالماً في الناس ليس له مثل ... وحبراً على الأحبار أضحى له الفضل
أيا عالم الدين الذي ظل علمه ... بحوراً عذاباً منه يغترف الثكل
لقد حزت بين الأنام فضائلاً ... فمنها التقى والعلم والخلق السهل
وهديك هدى الصالحين ذوي الهدى ... وصيتك في المعروف ليس له مثل
تعلم دين الله ثم كتابه ... على سنن الماضين أهل الهدى قبل
نهارك تقريه لمن جاء قارئاً ... وليلك في التهجيد أجمعه يتلو
فأنشأ ربي في حياتك أنها ... حياة لها نفع من الخير ما يخلو
وبعد فإنني ذاكر لك سيدي ... أموراً قد أعيتني وعندي لها ثقل
ولا بد من شكوى إلى ذي بصيرة ... يربك سبيل الرشد إن حادت السبل
فأصغ إلى قولي أبث صبابتي ... إليك وأحزاني فقد مضني الكل(4/293)
أخي ما لقلبي قد قسا فكأنما ... عليه لذي وعظ وتذكرة قفل
فلا هو القرآن يخشع إن تلا ... ولا لأحاديث أتتنا بها الرسل
ولا يرعوى يوماً إلى وعظ واعظ ... ولا عذل ينهي وإن كثر العذل
يسوف بالطاعات مهما أردتها ... ويشرع في العصيان وللغي ما يسلو
وما ضعيف العزم في الجد هازلاً ... مجداً قوي العزم مهما بذ الهزل
جبان عن الطاعات وقت حضورها ... وإن حضر العصيان فالبطل الفحل
وكل عباداتي رياء وسمعة ... مشوب جميع القول فيهن والفعل
فإن رمت صوماً كان لغواً جميعه ... وعند صلاتي يعتري السهو والخبل
وكل الذي أتى من العرف منكر ... فماذا دهى عقلي أليس له عقل
فلا العقل يهديني ولا العلم رافعي ... بلى ليس ذا علماً ولكنه جهل
ولي أسأل الله الصلاح نفيسة ... ذليلة ليس يسيء لها الذل
تريد المعالي وهي لبست من أهلها ... ومن ضل يهوى في الخصيص متى يعلو
إلى الله أشكوها أريد صلاحها ... وتبغي فسادي بئس ما اختلف الفعل
إذا قلت يا نفسي إلى الله فارجعي ... تراجعني في القول من عنده الكل
فإن شاء يهديني اهتديت وإن ... يشاء يضل فمن ربي الهداية والعدل
وإن قلت للجنات والحور فاعملي ... تقل لي وهل معطي الجنان هو الفعل
بل الله يعطيني الجنان تفضلاً ... فمن ربي الإحسان والجود والبذل
وإن قلت خافي من أليم عقابه ... ومن ناره قالت له العفو والفضل
وقد قهرتني ثم أصبحت عبدها ... أسيراً أخا قيد وفي عنقي غل(4/294)
فكل الذي تبغيه مني حاصل ... وما أبتغي منها فمن دونها المطل
تريد الذي لا أستطيع لحظها ... وبعض الذي تبغيه أيسره القتل
تكلفني بذلي إلى الناس مهجتي ... وما عند حر بذل مهجته سهل
فكيف خلاصي يا أخي من وثاقها ... وهل لأسير النفس من قيدها حل
فوا أسفي لهفي لما بي لقد وهت ... قوى حيلتي وانسد بي وجهة السبل
لقد خبت إن لم يدركني بلطفه ... ورحمته رب له اللطف والفضل
وها أنا مستهد فكن لي راشداً ... أبا حسن فالرشد أنت له أهل
ولا زلت تهدي للرشاد سبيله ... على منهج عدل فأنت الرضى والعذل
وأبقاك رب الخلق تحيي كتابه ... مدى الليل والأيام تتليه وتتلو
فنحن إذا أبقاك للدين ربنا ... بخير وتحيي الفرض في العلم والنقل
قال الشيخ جمال الدين منشئها رحمهما الله تعالى: فكتب إلي رحمة الله عليه على كبره وضعفه مجيباً بهذه الأبيات التي حوت معاني رائقة، ولفظاً عجيباً، وهو يشكو ما شكوته، ويرجو من عفو ربه وغفرانه ما رجوته وهي:
إلى الله أشكو ما شكوت من اللتي ... لها عن هدى عدل وليس لها عدل
تجور عن التحقيق جوراً أخي عمى ... وقد وضحت منه لسالكها السبل
وكيف أرجى أن يتوب وللهوى ... عليها يد سلطانه ما له عزل
إلى غير مولاها توجه في الذي ... تريد وتخشى والخضوع له ذل
وقد سترت عنها العيوب فما لها ... بما هي فيه خبرة لا ولا عقل
وليس لها في طاعة الله لذة ... لقسوتها لا الفرض ترجى ولا النفل(4/295)
إلى باطل تجري وإن كان متعباً ... وما خف من حق ففيه لها ثقل
تعيب بما يأتي سواها كأنه ... لهم من قبيح النقص وهو لها فاضل
وتستبعد الموت الذي هو نازل ... وفي طلب الآمال عنه لها شغل
لها ظاهر ترضى بتزيينه الورى ... وعند الإله ليس يرضى لها فعل
تريد نعيماً منه أخرج آدم ... بذنب وأني للعصاة لها نزل
تحيل على المقدور في ترك طاعة ... فما بالها في الرزق ليس لها مهل
تعز بإطراء الأنام ومدحهم ... ولم يخف عنها أن أقوالهم بطل
تديم احتقار الناس نعياً كأنها ... على شامخ تعلو ومن دونها سفل
وتكذب إن قالت وتغضب تارة ... وتحرص أحياناً ومن شأنها البخل
تمن بما تعطي وإن كان تافهاً ... وتذكر معروفاً ومعروفها قل
بذلت لها نصحي وحاولت رشدها ... وبالغت في عذلي فما نفع العذل
فناولتها حبل التقى فتقاعست ... إلى أن نفانا العمر وانقطع الحبل
وأرسل رب الدار يطلب ثقلها ... وليس لها زاد وقد أعجل النقل
ونادى منادٍ يا مضيع حظه ... مما كان من تفريطه فله الثكل
فيا ويحها إن لم تسامح بعفوه ... ويا ويلها إن لم تجد من له البذل
أتبغي أبا بكر هدى عند مثلها ... وأنت الذي أضحى وليس له مثل
حفظت كتاب الله ثم قرأته ... بأقوال مأمون به ختم الرسل
ومثلك يرجى أن يعمر برهة ... فدونك فاغنمها فأنت له أهل
ولست كمثلي ذا ثمانين حجة ... بها فاتت الأيام وانقطع الوصل(4/296)
ولم للتأخير وجه وهكذا ... متى انتهت الآجال لم يسع الأجل
وأدنى الورى من رحمة الله مذنب ... أتى ما له في الخير عقد ولا حل
فقيراً ذليلاً جائراً متذللاً ... عرياً من التقوى كما جرد النصل
لدى ملك بر غفور لمن جنى ... ولم يعلم الغفران لم يكن جهل
وإن يكن السوأى فذلك عدله ... وإن تكن الحسنى فإحسانه جزل
قال الشيخ جمال الدين رحمه الله: أنشدنيها في شهر رمضان المعظم في الخامس والعشرين منه سنة أربعين وست مائة. قال الشيخ جمال الدين المذكور: ولما كانت الليلة السابعة والعشرين من هذا الشهر المبارك، وكانت ليلة الجمعة، حضرت فيها ختمة للكتاب العزيز بدار الحديث الأشرفية عند أوحد زمانه، وعلامة عصره وأوانه، الحبر الذي جمع أنواع العلوم ووعاها، ورقى في مراتب التحقيق إلى ذراها، العالم الذي قرن بعلمه العمل الخالص، ونصح في الله تعالى ليالي يوم القيامة، وهو من التبعات خالص، إمام آتاه الله علماً وحلماً، ورزقه في جميع الأمور بصيرة وفهماً، إن تفقه، ترك عند فقهه فقه أبي العباس بن شريح، وإن حدث نسي عند حديثه حماد بن زيد، وعبد الملك بن جريج مع جماعة كثيرة من أفاضل العلماء وسادة أخيار من أكابر الصلحاء، فقد تنورت بنور اليقين والإخلاص قلوبهم، وتجافت من خوف الله عن المضاجع جنوبهم، وصرفوا هممهم إلى أعمال الطاعة، وليس لهم عمل إلا فعل خير أو سماعه، فباتوا ليلتهم جميعها في صلاة، وخشوع، وتضرع إلى ربهم، وخضوع قد قسموها بين صلاة(4/297)
ذات تسبيح وتحميد، وقراءة ذات ترتيل وتجويد، يتقربون إلى الله تعالى في كلامه بالترتيل، ويجازون في تنزيهه بالتسبيح والتهليل، وكانت ليلة معتدلة هواءها بالأنوار، أرجاءها قد أزهرت مصابيحها ونجومها، واعتدل حتى طاب نسيمها، ولو لم يكن فيهم إلا من هو لنفسه ناصح، ولم يرتفع لهم في تلك الليلة إلا عمل من الله صالح، فلما ختموا الكتاب العزيز، ولصدورهم بالبكاء أزيز، وافق فراغهم للوقت الذي فيه ربنا إلى السماء ينزل فيستجيب لمن دعاه، فيتعطف عليه ويقبل دعاءه، إذ ذاك أخذ الحاضرون بدعاء خاشع القلب حزين دعاء ذرفت منه العيون، ووجلت منه القلوب، ورقت بعد قسوتها حتى كادت تذوب، ورجى الله تعالى بالتأمين يديه، وأسبل دموعه على خديه، فلما رأيت ما كان من جمعهم، وما صدر من جميل صنعهم، لم أشك أن الله قد استجاب دعاءهم، وحقق ظنهم به ورجاءهم، وغلب على ظني أنها ليلة القدر التي جعلها الله خيراً من ألف شهر، ففرحت إذ بت في هذه الليلة المباركة وأنا سهيرهم وأنيسهم، ورجوت أن يغفر الله لي بهم، فهم القوم لا يشقى بهم جليسهم، فعند ذلك جرت على لساني هذه الأبيات من غير فكر ولا روية، فجاءت غير مستحسنة ولا مرضية، ولولا ما جرى فيها من ذكر الحال، كان أن يكتم أولى من أن يقال، وهي:
يا ليلة طاب فيها الذكر والسهر ... ولد للقارئ الآيات والسور
يجلو دجاها مصابيح منورة ... كأنها أنجم في جوفها زهر(4/298)
لانت قلوب بذكر الله قاسية ... فيها ومن قبل كانت دونها الحجر
واستشعر القلب خوف الله وانسفحت ... فيها الدموع على الخدين تنهمر
في جمع صدق لدى الرحمن قد ضرعوا ... يبكون خوفاً وبالقرآن قد جهروا
فلست تبصر إلا خائفاً وجلاً ... ذا عبرة لرضى الرحمن ينتظر
في ليلة الجمعة الغراء مشرقة ... تضيء نوراً ولم يطلع لها قمر
تمت بها السبع والعشرون وافية ... من الصيام الذي قد صامه البشر
رجوتها ليلة خيراً لذي عمل ... من ألف شهر وفيها الذنب يغتفر
فقمت أدعو إلى الرحمن مبتهلاً ... فإنه لعظيم الذنب يغتفر
كان الشيخ جمال الدين الشريشي رحمه الله تعالى جامعاً لعلوم كثيرة، منفرداً بها كالنحو، وفنونه من علم التصريف، والعروض، والقوافي، والأصول وفنونه، والتفسير، والفقه على مذهب الإمام مالك، والاستقلال به علماً وإتقاناً، وإفادة لكل من قصده فيها، وكان أحد أفراد الزمان في العلم، لم يكن في زمانه مثله علماً وعملاً، وكان متضلعاً في معرفة الأدب معانيه، ومبانيه، وبديعه، وله الاستقلال بالنظم البديع، والنثر الصنيع، مع المشاركة في غير ذلك كالحديث النبوي، وأسماء رجاله، والكلام على صحيحه وضعيفه، وأحكامه، وله في ذلك التصانيف الفائقة، منها: شرح الألفية لابن معطى مجلدان، وفي أصول الفقه، وكان علماء عصره مجتمعين على علمه وعمله، واستقلاله بالعلوم الإسلامية، وكان حسن المناظرة، مليح المذاكرة، حسن العشرة، كثير الإنصاف، غزير الديانة، واسع الفضيلة،(4/299)
له الحرمة الوافرة عند الملوك فمن دونهم. ولما ورد دمشق في سنة ست وخمسين وست مائة، أقبل عليه الملك الناصر يوسف رحمه الله إقبالاً عظيماً، وفوض إليه مشيخة الرباط الذي بناه بالجبل. وكان كثير الاحترام له، والإقبال عليه، حتى أنه يحضر إليه، ويبادر معه ويقول: ما جعلناه شيخاً في هذا المكان إلا لنخدمه لا ليخدمنا. ولم يزل مباشره إلى أن توفي. لكن سافر إلى القدس وهو متوليه بعد الستين وست مائة، وتولى بالقدس مواضع. وتنقل في الديار المصرية، والحجازية، والحلبية: ثم عاد إلى دمشق، وباشر الرباط، وكان به من يقوم مقامه، فلم يزل مباشره حتى مات. وكان كثير الاعتناء بالحديث، رحل بسببه إلى البلاد، وأخذ الناس عنه، وانتفع به جماعة من العلماء، وسمع بالإسكندرية من محمد بن عماد الحراني وغيره، وبدمشق من أبي نصر بن الشيرازي ومكرم بن أبي الصقر، وبحلب من ابن يعيش النحوي، وباربل من الفخر الإربلي، وببغداد من أبي الحسن القطيعي، وابن روزبه، وابن سهرور، وابن اللتي، وابن السباك، ونصر بن عبد الرزاق الحنبلي، وقدم دمشق وطلب للقضاء فامتنع زهداً، وبقي المنصب شاغراً لأجله إلى أن مات رحمه الله.
محمد بن عبد المنعم بن محمد أبو عبد الله الأنصاري الشافعي الصوفي(4/300)
شهاب الدين المعروف بابن الخيمي الشاعر المجيد المشهور، والأديب الفاضل المبرز على نظرائه، والمتقدم على شعراء بلده مع مشاركة في كثير من العلوم، مولده في سنة اثنتين وست مائة، وتوفي بمشهد الحسين رضي الله عنه بالقاهرة في التاسع والعشرين من شهر رجب، ودفن بسفح المقطم، روى عن عتيق بن باقا وعن أبي عبد الله بن عبدون، وسمع من ابن البناء وغيره، وحدث. وكان يعاني الخدم الديوانية، ونظمه كثير، فمن ذلك قوله:
قسماً بكم يا جيرة البطحاء ... ما حال عما تعهدون وفائي
حبي لكم حبي وشوقي نحوكم ... شوقي وأدوائي بكم أدوائي
ما خانكم كلفي ولا نسيتكم ... روحي ولم يعهدكم أهوائي
وجدي بكم مجدي وذل عزتي ... والافتقار إليكم استغنائي
يا أهل ودي يا مكان شكايتي ... يا عز ذلي يا ملاء رجائي
كيف الطريق إلى الوصال فإنني ... في ظلمة التفريق في عمياء
ما ضركم إن تنقلوا بوصالكم ... سري من الضراء والسراء
روحي تدور على الورد نظماً وقد ... حباتكم تمشي على استحياء
أشكو عليلاً ليس يملك زيه ... برد النسيم ولا زلال الماء
لم يزرني إلا ضريح وصالكم ... فصبابتي لن ترو بالإيماء
قد حل حبكم عقود مدامعي ... وأجاد في أحكام عقد ولائي(4/301)
وإذا بكيت فمن سروري بالذي ... فيكم بلغت من الغرام بكائي
وقال أيضاً رحمه الله:
يا مطلباً ليس لي في غيره أرب ... إليك آل التقضي وانتهى الطلب
وما طمحت لمرأى أو لمستع ... إلا لمعنى إلى علياك ينتسب
وما أراني أهلاً أن تواصلني ... حسبي علواً فإني فيك مكتئب
لكن تنازع شوقي ناره أربي ... فاطلب الوصل لما يضعف الأرب
ولست أبرح في الحالين ذا قلق ... باد وشوق له في أضلعي لهب
وناظر كلما انكفت بأدمعه ... صوناً بحبك يعصيني وينكسب
ويدعي في الهوى دمعي مقاسمتي ... وجدي وحزني وبحري وهو مختضب
كالطرف يزعم توحيد الحبيب ولا ... يزال في ليله للنجم يرتقب
يا صاحبي قد عدمت المسعدين فساعدي على وصبي لأمسك الوصب
تالله إن جئت كثباناً بذي سلم ... قف بي عليها وقل لي هذه الكثب
ليقضي الحر في أجراعها وطراً ... من تربها ويؤدي بعض ما يجب
ومل إلى البان من شرقي كاظمة ... فلي إلى البان من شرقها طرب
وخذ يميناً لمغنى يهتدي بشذى ... نسيمة الرطب إن ظلت بك النجب
حيث الهضاب وبطجاها بروضها ... دمع المحبين لا الأنداء والسحب
أكرم به منزلاً تحميه هيبته ... عني أونواره لا السمر والقضب
دعني أعلل نفساً عز مطلبها ... فيه وقلباً لعذر ليس ينقلب(4/302)
ففيه عاهدت قد ما حب من حسنت ... به الملاحة واغترت به الرتب
دان وأدنى وعز الحسن يحجبه ... عني وذلي والإجلال والرهب
أحيى إذا مت من شوقي لرؤيته ... لأنني لهواه فيه منتسب
ولست أعجب من جسمي وصحته ... من صحتي إنما سقمي هو العجب
يا لهف نفسي لو يجدي تلهفها ... غوثاً وواجزنا لو ينفع الحرب
يمضي الزمان وأشواقي مضاعفة ... يا للرجال ولا وصل ولا سبب
هبت لنا نسمات من ديارهم ... لم يبق في الركب من لا هزه الطرب
كدنا نظهر سروراً من تذكرهم ... حتى لقد رقصت من تحتنا النجب
يا بارقاً بأعلى الرقمتين إذا ... لقد حلبت ولكن فاتك الشنب
أما خفوق فؤادي فهو عن سبب ... وعن جفونك لي ما هو السبب
ويا نسيماً سرى من جو كاظمة ... بالله قل لي كيف البان والغرب
وكيف جيرة ذاك الحي هل حفظوا ... عهداً أراعيه إن شطوا وإن قربوا
أم ضيعوا ومرادي منك ذكرهم ... هم الأحبة إن أعطوا وإن سلبوا
ولما نظم شهاب الدين هذه القصيدة بلغت الأديب نجم الدين محمد بن إسرائيل المقدم ذكره في هذا الكتاب فادعاها. حكى لي صاحبنا الموفق عبد الله ابن عمر رحمه الله أن ابن إسرائيل وابن الخيمي اجتمعا بعد ذلك بحضرة جماعة من الأدباء، وجرى الحديث في الأبيات المتقدمة، فأصر ابن إسرائيل(4/303)
على أنه ناظمها، فتحاكما إلى الشيخ شرف الدين عمر بن الفارض رحمه الله وهو المشار إليه في معرفة الأدب، ونقل الشعر في ذلك الوقت، فقال: ينبغي لكل واحد منكما أن ينظم أبياتاً على هذا الوزن والروى ليستدل بها، فنظم ابن الخيمي هذه الأبيات:
لله قوم بجرعاء الحمى غيب ... حنوا علي ولما أن حنوا عتبوا
يا قوم هم أخذوا قلبي فلم سخطوا ... وأنهم غضبوا عيشي فلم غضبوا
هم الكريب بنجد منذ أعرفهم ... لم يبق لي معهم مال ولا نسب
شاكون للحرب لكن من قدودهم ... وفاترات اللحاظ السمر والقضب
عهدت في دمن البطحا عهد هوى ... إليهم وتمادت بيننا حقب
فما أضاعوا قديم العهد بل حفظوا ... لكن لغيري ذاك العهد قد نسبوا
من منصفي من لطيف فيهم غنج ... لدن القوام لاسرايل ينتسب
مبدل القول ظلماً لا يفي بمواعيد الوصال ومنه الذنب والغضب
في لثغه الراء منه صدق نسبته ... والمن منه يزور الوعد والكذب
موحد فيرى كل الوجود له ملكاً ... ويبطل ما يقصي به النسب
فعن عجائبه حدث ولا حرج ... ما ينتهي في المليح المطلق العجب
بدر ولكن هلالاً لاح إذ هو بالوردى من شفق الخدين منتقب
في كأس مبسمه من حلو ريقته ... خمر ودر ثناياها بها خبب(4/304)
فلفظه أبداً سكران يسمعنا ... من معرب اللحن ما ينشى لها الأدب
تجنى لواحظه فينا ومنطقه ... جناية تجتني من مرها الطرب
قد أظهر السحر في أجفانه طرباً ... البرء منه إذا ما شاء والعطب
حلو الأحاديث والألفاظ ساحرها ... يلقى إذا نطق الألواح والكتب
فداؤها ما جرى في الدمع من مهج ... وما جرى في سبيل الحب محتسب
ويح المتيم شام البرق من اضم ... فهزه كاهتزاز البارق الحرب
وانسكف البرق من وجد ومن كلف ... من قبله فهو في الأحشاء به لهب
فكلما لاح منه بارق بعثت ... قطر المدامع من أجفانه سحب
وما أعادت نسمات الغوار له ... أخبار ذي الائل إلا هزه الطرب
واهاً له أعراض الأحباب عنه وما ... أخذت رسائله الحسنى ولا القرب
ونظم نجم الدين محمد بن إسرائيل قوله:
لم يقض من حبكم بعد الذي يجب ... قلب متى ما جرى تذكاركم يجب
ولي دمى لرسم الدار بعدكم دمع ... متى جاد صيب بالحيا السحب
أحبابنا والمنى تدني مزاركم ... وربما حال من دون المنى الأرب
ما رأيكم من حياتي بعد بعدكم ... وليس لي في حياة بعدكم أرب
قاطعتموني فأجراني مواضلة ... وحلتم محلاً لي فيكم التعب
ويا نسيماً سرى والعطر يصحبه ... أحرت حين مشين الخرد العرب(4/305)
أقسمت بالمقسمات الدهر يحجبها ... سمر العوالي والهندية القضب
لكدت تشبه برقاً من ثغورهم ... بادر دمعي لولا الظلم والشنب
وجيرة جار فينا حكم معتدل ... منهم ولم يعتبوا لكنهم عتبوا
ما حيلتي قربوني من محبتهم ... وحال دونهم التقريب والخبب
وعرضت القصيدتان على الشيخ شرف الدين بن الفارض، فأنشد مخاطباً لابن إسرائيل بيت ابن الخيمي، وهو:
لقد حليت ولكن فاتك الشنب
وحكم بالقصيدة الأولى لابن الخيمي، واستحسن بعض الحاضرين أبيات ابن إسرائيل، وقال: من ينظم مثل هذه! ما الحامل له على إدعاء ما ليس له؟ فقال ابن الخيمي: هذه سرقة عادة لا سرقة حاجة، وانفصل على ذلك، وسافر ابن إسرائيل لوقته من الديار المصرية. هذا مضمون حكاية الموفق رحمه الله.
محمد بن يحيى بن أبي منصور بن أبي الفتح أبو عبد الله محيى الدين الحراني المعروف بابن الصيرفي. مولده سنة ست وعشرين وست مائة، وتوفي بدمشق يوم السبت لليلتين خلتا من ذي الحجة، ودفن يوم السبت بمقابر باب الفراديس رحمه الله. كان عنده فضيلة، وحسن عشرة، وعلى ذهنه من الأشعار، والحكايات، وأخبار الناس، والتواريخ قطعة صالحة. سمع الكثير من صغره، وفي حال كبره، وتولى عدة جهات، وكان له حرمة، ومكانة، وملازمة للأمير افتخار الدين وولده الأمير ناصر الدين(4/306)
رحمه الله تعالى وتوكل للأمير علم الدين سنجر أمير خازندار الملك الظاهر وغيره رحمه الله.
يوسف بن محمد بن عبد الله أبو الفضائل مجد الدين المعروف بابن المهتار. مولده في حدود سنة عشر وست مائة، وتوفي بمسجده داخل باب الفراديس بدمشق بعد الظهر من يوم الاثنين تاسع ذي القعدة، ودفن يوم الثلاثاء بمقبرة باب الفراديس رحمه الله تعالى. كان رجلاً حراً أديباً، يكتب خطاً منسوباً، وجود عليه خلق كثير، وانتفعوا به، وسمع الكثير، وأسمع، وكف بصره قبل وفاته بمدة رحمه الله تعالى، ومن شعره:
تعالى الإله الواحد الصمد الفرد ... العليم بما يخفى من العبد أو يبدو
له المثل الأعلى على كل خلقه ... فليس له قبل وليس له بعد
سميع إذا دبت على الضحر نملة ... وينظر في الظلماء ما هو مسود
كريم حليم راحم متعطف ... فظن به الإحسان يا أيها العبد
فمن مثل مولى يغفر الذنب كلما ... عصيت إذا استغفرته فله الحمد
يوسف بن يحيى بن محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن علي بن عبد العزيز بن علي بن الحسين بن محمد بن عبد الرحيم بن الوليد بن القاسم بن عبد الرحمن بن أبان بن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه ابن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي العثماني الشافعي أبو الفضائل قاضي القضاة بهاء الدين بن قاضي القضاة محي الدين بن قاضي القضاة مجير الدين أبي المعالي بن قاضي القضاة زكي الدين أبي الحسن بن(4/307)
قاضي القضاة منتخب الدين أبي المعالي. مولده سنة أربعين وست مائة، وتوفي ليلة الاثنين حادي عشر ذي الحجة، ودفن بتربتهم المعروفة بسفح قاسيون، كان إماماً عالماً فاضلاً محجاجاً، مناظراً في سائر العلوم الإسلامية، لم يكن له في وقته نظير مع صغر سنه، جمع الله تعالى له في صغر السن حسن الشكل وشرف البيت والفضيلة التي لم تكن في غيره في زمانه ما كان عليه من اللطافة في المحاضرات، وإيراد الأشعار الفائقة الكثيرة من أشعار العرب، وأشعار المتأخرين، والحكايات الغريبة، وإذا أنشد أحد بحضرته بيتاً يستشهد به على شيء من المسائل اللغوية، أنشد هذه القصيدة بكاملها بأحسن إيراد، وكمل ذلك بمكارم الأخلاق، وكرم النفس وطلاقة الوجه، وحسن المحاضرة، وكثرة الديانة، وكان مدرساً بمدارس والده المشهورة، وكان قيماً بدروسها حفظاً، ومناظرة، وبحثاً على اختلاف علومها، وكان كثير الاشتغال لم يتفرغ لحفظ الدروس إلا في طريق الميدانية عند عبوره البلد، يطالع كل درس مرتين أو مرة وهو راكب فتعلق بذهنه، ويورده آخر إيراد، وهذا لم يعهد لغيره، وكان مقصوداً بالفتاوي من سائر الأقطار، وترجح وتفنن بالدليل القاطع، ويقوي بعض الأوجه الضعيفة في المذهب ويفتي بها، ويسأل من يناظره فيها، وكان فقهاء البلد ومشايخه في سائر العلوم فقهاء عنده في مدارسه، ولا يقدر أحد على مجازاته في بحوثه، وكان فاق رجال زمانه في العلوم العقلية، فإنها أتقنها على القاضي الإمام كمال الدين عمر التفليسي لما كان بمصر عند والده، وقال(4/308)
كمال الدين المذكور في حقه: لم أر أنبه منه ولا أحد ذهناً. هذا وهو في سن الصغر، وليس له عشرون سنة، ومن أغرب ما حدث في الدرس بالعزيزية أن شخصاً من علماء الخلاف حضر إلى درسه، وأورد عليه بلمة خلاف فتلقى الجواب بصدره، وشرع في حلها وعكسها عليه، فادعى الملقى لها عند ذلك بقصوره عن مضمان القاضي بهاء الدين المذكور، وقال: ما رأيت في بلاد العجم ولا العرب مثله. وتعجب الفقهاء الحاضرون من ذلك تعجباً عظيماً، وهذا دليل على غزارة علمه، وعظم قدره، وتوسعه في العلوم، ثم بعد ذلك خلع على الخلافي، وأحسن إليه، وأجازه جائزة سنية، وكان هذا الخلافي قد حضر مدارس الممالك الإسلامية، وأورد عليهم تلك النكيتة التي رتبها، فما أجابه أحد، فلما أجابه القاضي بهاء الدين من غير تفكير ولا تثبت، وعكسها عليه تحير في أمره. وسافر لوقته، وهذا من المناقب التي ما سمعت لأحد قبله. وكانت الشعراء تقصده بالمدائح من سائر الأقطار لكثرة جوائزه، وكرم نفسه، فمن مدحه بقصيدة بديعة الأديب شمس الدين محمد بن العفيف التلمساني، وأجازه عليها جائزة سنية وخلع عليه. ونقلت من خطه، وهي:
وافى وأرواح العذيب بواسم ... والليل فيه من الصباح مباسم
أهلاً بمن أسرى به وغدا له ... متأخر وهوى لنا متقادم
غصن الشبيبة والملاحة يعذر ... المضني به ويلام فيه اللائم
النضر من أعطافه وكتابه ... بلحاظه ولمهجتي هو هاشم(4/309)
أمعنفين على الغرام وقلما ... يصغي لأوهام العواذل هائم
هو ناظر متعشق وجوانح ... فيها مواطن للجوى ومعالم
وهوى لقلبي عامراً أبا عادم ... صبري وأخو الملامة راغم
هيهات أن أثني عناني والصبى ... نضر وغصن العمر رطب ناعم
أو أشتكي حالي ومن أحببته ... أبداً لا خلاف القبول ملازم
أو أختشي خطباً أراه ببلدة ... وبها بهاء الدين يوسف حاكم
شرف أقيم بعبد شمس أسه ... وله قريش ذو الفخار دعائم
لا يلتقي يوم المعاد سواهم ... متبسماً حيث الوجوه سواهم
يا خير من نيطت عليه العلى ... ومن المهابة والجلال تمائم
حاشا لعزمك أن تقوم لهمة ... والدهر عن إتمامها لك باسم
أو أن يلوح وليس يخفى جاهل ... أو أن يثير وليس بعدك ظالم
ما كان فداؤك من كريم ينثني ... كلا ولا ولدت سواك أكارم
أبني الزكي سقيتم ورويتم ... ونفيتم والأكرمون فداكم
... إذا ما قيل هو أعربت ... أحساب أعراب لكم ومكارم
من مثل جدكم ومثل أبيكم ... ما مثل جدكم ومثل أباكم
حسب المرجى في المعاد شفاعة ... منكم ومن قبل المعاد نداكم
يتسابق الأذهان في إدراككم ... ويفوت أسبقها أقل مداكم
من للخلاف وللوفاق مسائلاً ... وحصائلاً والمعلى إلاكم
لو أطلق اسم النيران لما سرى ... ذهن الذي هو سامع لواكم(4/310)
أو كان وحي بعد أحمد منزل ... لبدت لكم آى به وعلائم
عثمان جدكم وذلك حسبة ... وكفى وذلك حسبكم وكفاكم
فهذه الأبيات تدل على بعض ما يستحقه من المناقب، ولقد جمعت بعض مناقبه، وهي مليحة في بابها، مستوفية لبعض الترجمة رحمه الله تعالى. ومدحه المولى شهاب الدين محمود كاتب الإنشاء، وأرسلها إليه وقد سافر، وهي:
لولا تذكره الحي الذي بانوا ... ما عاج نحو الحمى واستخبر البانا
ولا رعى أنجم الجوزاء يحسبها ... لما استقلت بيوت العرب إظعانا
ولا صبى للصبا يهفو فيأخذها ... روحاً ويبعثها الأحشاء نيرانا
صب بكى الربع بعد الظاعنين وقد ... أبدى له القلب دون الطرف عرواناً
مثل الكتاب محا آثار أسطره ... عهد قديم وأبقى منه عنوانا
بانوا فلا زال دمع الطل بعدهم ... في الروض يملأ الأزهار أجفانا
ولا ونى فيه معتل النسيم إذا ... أخفى السرى ساقه الأغصان إعلانا
يحدث الدوح عن هز الصبي مرحاً ... أعطافهم فيميل الغصن نشوانا
وكلما عاد عنه نحوهم علقت ... به الرياض وجرت منه أردانا
وحملته إشارات لها نطقت ... معنى فرجع فيها الورق ألحانا
هل جاد معناكم دمعي فغادره ... من بعد ظنت الأمواه غدرانا
أعائد بعد ما شابت بشاشته ... على الحمى عيش غض كما كان(4/311)
إياهم ألثم جيد الرئم ملتفتاً ... نحوي وأعطف غصن البان ريان
وأجتلي من يكاد البدر يشبهه ... لو لم يكن يعتريه النقص أحيانا
يبيح طرفي حمى خديه عارضه ... فيجتني منهما ورداً وريحانا
وكلما وردت في روض وجنته ... مناهل الحسن عني عدت ظمآنا
فاليوم بعد الرضى في القرب أقنع أن ... يزورني في البعاد الطيف غضبانا
وكيف يرقد جفن بات ناظره ... أو يطوف الطيف طوفاً بات سهرانا
إن لان أظهر سر الوجد بعدكم ... وأنثني سوى الدمع أو اضمرت سلوانا
فعفت راح الهوى واخترت أن حليت ... كؤوسها وسها غير أهل الوجد خلانا
لله خيف هوى تلقاء التقائه ... حتى لقد حسد الأحياء قتلانا
نسخوا بأنفسنا فيه كأن ندى ... قاضي القضاة بهاء الدين إعلانا
أبو الفرج بن يعقوب بن إسحاق بن القف الملقب أمين الدولة الحكيم الفاضل من نصارى الكرك. مولده يوم السبت ثالث عشر ذي القعدة سنة ثلاثين وست مائة بالكرك، كان فاضلاً، ماهراً، بارعاً في الصناعة الطبية، ظهرت نجابته من صغره، وكان حسن السمت، كثير الصمت، وافر الذكاء، اشتغل بالطب على موفق الدين ابن أبي أصيبعة، وقرأ عليه حفظاً مسائل حنين والفضول، ومقدمة المعرفة لأبقراط؛ وعرف شرح معانيها من صغره، وقرأ عليه بعد ذلك في العلاج من كتب أبي بكر محمد بن زكريا الرازي ما عرف به أقسام الأسقام، وحشم العلل في الأجسام، وكان اشتغاله عليه بصرخد، ثم انتقل إلى دمشق، ولازم علماء عصره بدمشق،(4/312)
مثل الشيخ شمس الدين عبد الحميد الحروشاني، والعز الضرير، والنجم بن السفاح، والموفق يعقوب السامري، وقرأ كتاب أقليدس على مؤيد الدين العرضي، وخدم بصناعة الطب في قلعة عجلون، ثم عاد إلى دمشق وخدم بقلعتها، وكان والده حفظه الأشعار، ونقل التواريخ والأخبار، ولما توفي الحكيم أمين الدولة في جمادى الأولى سنة خمس وثمانين وست مائة، رثاه سيف الدين أبو بكر المنجم بهذه الأبيات:
يا مأتماً قد أتى بالويل والحرب ... رميت ركن الحجي والمجد بالعطب
شلت يداك لقد أصميت أي فتى ... رحب الذراعين رياناً من الأدب
أيتمت طلاب علم الطب قاطبة ... وعوضوا عنك بالأفعال في التعب
حق علينا بأن نفديك أنفسنا ... لو كان ذاك لبادرناك في الطلب
أبعد درسك يا ابن القف ينفعنا ... أقوال قوم عن التحقيق في حجب
قد مات إذ مت حقاً بحر فلسفة ... طماً وجامع العلم في اللحود خبى
وبالشفاء سقام مذ نويت وقد ... غدا لفجعتك القانون في صخب
والهف قلبي وواحزني ويا أسفي ... ويا مصاباً دهاني فيك واحربى
حزني عليك مذ الأيام متصل ... وكل عمري أقضيته مع الوصب
أأطمع الآن في درس ومدرسة ... إني إذاً لخؤون غير ذي حسب
لهفي على كهف علم كان يجمعنا ... دوي وأضحى رهين الحتف في الترب
من أبيات. ولأمين الدولة المذكور من التصانيف: كتاب الشافي في أربع مجلدات، شرح كتاب من كتاب القانون لابن سينا ست مجلدات، شرح الفصول لأبقراط مجلدان، جامع الغرض مجلد، المباحث العربية،(4/313)
مقالة حفظ الصحة، كتاب العمدة في صناعة الجراح في عشرين مقالة: عشرة علم وعشرة عمل. آخر الجزء.
السنة السادسة والثمانون وستمائة
إستهلت هذه السنة والخليفة والملوك على القاعدة المستقرة. والملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله بالديار المصرية، وقد جهز طائفة من العساكر صحبة الأمير حسام الدين طرنطاي إلى الشام لحصار صهيون، وبرزية، وانتزاعهما من يد الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، فوصل الأمير حسام الدين بمن معه من العسكر المصري دمشق في أثناء المحرم أو أواخره، واستصحب معه الأمير حسام الدين لاجين نائب السلطنة بالشام، وعسكر الشام، وتوجه إلى صهيون بالمجانيق، وقاسوا من الأوحال شدة فوصلوها، وشرعوا في حصارها، فكان الأمير شمس الدين قد استعد لهم، وجمع إلى القلعة خلق كثير من رعية بلده، وبعد منازلته بأيام توجه الأمير حسام الدين إلى حصن برزية، وحصره، واستولى عليه، وهو مما يضرب المثل بحصانته، ففتحه، ووجد فيه خيولاً منسوبة للأمير شمس الدين وغير ذلك، فلما فتح لانت عريكة الأمير شمس الدين، وأجاب إلى تسليم صهيون على شروط اشترطها، فأجابه الأمير حسام الدين طرنطاي إليها، وحلف له بما وثق به من الأيمان، ونزل من قلعة صهيون بعد حصرها شهراً واحداً، وأعين على نقل أثقاله بجمال كثيرة وظهر، وحضر بنفسه(4/314)
وأولاده، وعياله، وأتباعه، وأشياعه إلى دمشق، ثم توجه إلى الديار المصرية صحبة الأمير حسام الدين طرنطاي، ووفى له بجميع ما حلف عليه، ولم يزل يذب عنه أيام حياته أشد ذب، وأعطي بالديار المصرية خبز مائة فارس، وبقي وافر الحرمة إلى آخر الأيام المنصورية، وانتظمت صهيون وبرزية في سلك الممالك المنصورية، وهما من أحصن القلاع وأشدهما منعة.
وفي خامس عشر المحرم ولي قاضي القضاة شهاب الدين محمد بن الخوبي قضاء القضاة بالشام عوضاً عن قضاء القاهرة، وسافر إلى دمشق من القاهرة في ثالث عشر صفر، وكان وصوله دمشق يوم الاثنين ثالث عشر ربيع الأول، وحكم ليومه بالمدرسة العادلية، واستمر بنيابته الشيخ شرف الدين أحمد بن المقدسي، وقرئ تقليده يوم الجمعة بالجامع.
وفي سابع وعشرين شهر رجب سافر الملك المنصور سيف الدين قلاوون من القاهرة قاصداً الشام، فلما وصل غزة، أقام بتل العجول إلى شوال، ثم رجع إلى القاهرة، ودخل القلعة يوم الاثنين ثالث عشر شوال، وكان استناب الأمير علم الدين سنجر الشجاعي.
وفي شهر رمضان وصل إلى دمشق بريدي من الديار المصرية بمرسوم يتضمن طلب سيف الدين أحمد السامري بسبب مرافعة ناصر الدين محمد بن المقدسي له، فإنه كان توجه لمرافعة قاضي القضاة بهاء الدين يوسف ابن الزكي رحمه الله، فلما وصل الديار المصرية بلغه وفاته، فتوصل(4/315)
بشمس الدين الأتابكي، ودخل على الشجاعي، وحدثه في معنى ابنة الملك الأشرف موسى بن العادل رحمه الله وأنها باعت أملاكاً جليلة بأيسر ثمن، وعمل يسفهها محضراً شهد فيه أراذل، وثبت عند ابن مخلوف المالكي، ولم يوافق على ذلك غيره، ثم إن الملك المنصور سيف الدين قلاوون شهد عنده أن الملك الصالح نجم الدين أيوب حجر عليها، وأثبتوا ذلك في وجه السامري، وأبطلوا جميع ما باعته، وأخذوا من السامري حزرما. وادعوا عليه بمغلها عشرين سنة، وأخذوا منه بسبب المغل سبعة عشر سهماً بقرية الزنبقية بمبلغ قيمته تسعين ألف درهم، وأخذوا منه مائة ألف درهم تكملة مائتي ألف درهم.
وفيها توفي: إبراهيم بن عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن المحسن بن محمد بن المهذب أبو إسحاق السلمي الشافعي المنعوت بالشمس. ولي خطابة جامع التوبة ظاهر دمشق بعد وفاة أخيه بدر الدين المقدم ذكره في هذا الكتاب، ولم يزل مستمراً بها إلى حين وفاته. فكان يقول في خطبته: أين سام! وأين حام! وأين عز الدين بن عبد السلام! فتحدث الناس فيه بسبب ذلك، فدخل على قاضي القضاة محي الدين يحيى بن الزكي رحمه الله فكتب في حقه ورقة مضمونها: " الله ولي التوفيق، يقول الفقير إلى الله تعالى يحيى بن الزكي: إنني حضرت(4/316)
صلاة القاضي الأجل الإمام العالم شمس الدين ولد سيدنا قاضي القضاة شيخ العلماء عز الدين بن عبد السلام أيده الله تعالى، وأمتع ببقاء ولده فسمعته خطب خطبة حسنة بليغة وجلت لها القلوب، وذرفت العيون، وأدى أداء حسناً بفصاحة، وطلاقة لسان، وضبط الإعراب، ووقوف على مقاطع الكلام، وإتيان الفرائض، وتوفية السنن، ثم صلى صلاة حسنة، أكمل فروضها، وأتى بسننها، وأحسن أداء القراءة فيها، وأوجز في خطبته، وأطال الصلاة غير ممل في صلاته، وذلك ليس ببدع منه، فإنه نشأ في حجر العلم، وغذى بدر الورع والزهد، فنفع الله تعالى به، وألهم ولي الأمر، وأعانه الله تعالى على ما ولاه من الإحسان إليه، والعاطفة عليه، بمنه وكرمه ".
وكان الشمس المذكور يتكلم بكلام مسجوع يشبه سجع الكهان، ويدعي أنه يلقى إليه من الجن، وتمانى الوعظ، فكان فيه منحط الرتبة، وبلغ والده شيخ الإسلام عز الدين رحمه الله، فورد كتابه إلى بعض أصحابه، وفيه: بلغني أن هذا الولد المتخلف إبراهيم قد صار عضة للناس، فترك ما كان يعانيه من ذلك، وكان يترفع في المجالس بسبب والده رحمه الله، فعمل النجم ابن إسرائيل في ذلك:
تصدر البطرخل ... وهو الأقل الأذل
فلا رعى الله شيخاً ... به علينا بذل
وكان الشمس ينبز بالبطرخل وغيره من هذا الجنس، وكانت وفاته بالعقيبة ظاهر دمشق في ليلة الأحد تاسع عشر ربيع الأول، ودفن بمقابر باب الصغير(4/317)
رحمه الله تعالى، ومولده سنة إحدى عشرة وست مائة.
أحمد بن عمر أبو العباس شهاب الدين الأنصاري المرسي المالكي الشيخ العارف. كان قطب زمانه وعلامة أوانه في العلوم الإسلامية، وله القدم الراسخ في علم التحقيق، والكرامات الباهرة. وكان يقول: شاركنا الفقهاء فيما هم فيه، ولم يشاركونا فيما نحن فيه. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي: أبو العباس بطرق السماء أعلم منه بطرق الأرض. وقال أبو العباس: رأيت عمر بن الخطاب رضوان الله عليه في المنام، فقلت: يا أمير المؤمنين! ما علامة حب الدنيا؟ قال: خوف المذمة، وحب الثناء. وكان يقول: والله! ما دخل بطني حرام قط. وكان يقول: الورع من ورعه الله تعالى. وقال: عزم علينا بعض الصلحاء بالإسكندرية في بستان له بالرمل، فخرجت أنا وجماعة من صلحاء الثغر، ولم يخرج معنا صاحب البستان ذلك الوقت، بل وصف لنا المكان فتجارينا، ونحن خارجون الكلام في الورع، فكل قال شيئاً، فقلت لهم: الورع من ورعه الله تعالى. فلما أتينا البستان، وكان زمن التوت، كلهم أسرع إلى الأكل، وأكلت، وكنت كلما جئت لآكل أجد وجداً في بطني، فأرجع فينقطع الوجع عني، فعلت ذلك مراراً، فجلست فلم آكل شيئاً وهم يأكلون، وإذا بإنسان يصيح: كيف يحل لكم أن تأكلوا من ثمرة بستاني بغر إذني! فإذا هم غلطوا بالبستان، فقلت لهم: ألم أقل لكم: إن الورع من ورعه الله تعالى؟ وقال لرجل جاء من الحج: كيف كان حجكم؟ فقال ذلك الرجل: كثير الماء سعر كذا وكذا، فأعرض(4/318)
الشيخ عنه، وقال: تسألهم عن حجهم وما وجدوا من الله تعالى من علم ونور وفتح، فيجيبون برخاء الأسعار وكثرة المياه، حتى كأنهم لم يسألوا إلا عن ذلك! توفي إلى رحمة الله تعالى ورضي عنه بالإسكندرية في سنة ست وثمانين وست مائة.
الخضر بن الحسن بن علي أبو العباس برهان الدين السنجاري الزرزاري الشافعي. كان من الفضلاء الرؤساء الأعيان. مولده سنة ست عشرة وست مائة، وتوفي يوم الأربعاء عاشر صفر بمنزله بالمدرسة المعزية بمصر، ودفن بالقرافة الصغرى بمدرسة أخيه قاضي القضاة بدر الدين رحمه الله المجاورة للإمام الشافعي رحمة الله عليه. ولي القضاء بالقاهرة عشرين يوماً، وكان ولي القضاء بمصر في دولة الملك الصالح نجم الدين أيوب، وأخوه بدر الدين قاضي القاهرة، وبقي على ذلك إلى أيام الملك الظاهر، فتخيل منه الوزير بهاء الدين، وسعى إلى أن عزل عن القضاء، وضرب، وحبس، وبقي معزولاً فقيراً، ليس بيده سوى مدرسته المعزيه. فلما مات بهاء الدين في آخر سنة سبع وسبعين، كان الملك السعيد بالشام، فسير له تقليداً بالوزارة، ورسم له أن يستخرج من أولاد بهاد الدين ما قرر عليهم من الأموال فلم ينتقم منهم، ولا قابلهم بما فعل به الصاحب بهاء الدين، بل أحسن إليهم غاية الإحسان، وبقي على وزارته إلى أن سلطن الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله فأقره عليها إلى أن تولي الأمير علم الدين الشجاعي شد الدواوين، فسعى في عزله، وضربه، وبقي معزولاً إلى أن مات ابن الأصفوني الوزير، فأعيد إلى(4/319)
الوزارة وبقي مدة، ثم سعى الشجاعي في عزله، وضربه، وحبسه، ثم أفرج عنه، ولما توفي قاضي القضاة بهاء الدين يوسف إلى رحمة الله تعالى، عين لقضاء الشام، فحصل التعصب عليه، وولي شهاب الدين الجويني، وولوه عوض الخويي في قضاء القضاة. فبقي نحو عشرين يوماً، فتوفي، وقيل: إنه سم، وكان رحمه الله حسن السيرة والطريقة، متوفراً على قضاء حوائج الناس رحمه الله تعالى، قال قاضي القضاة نجم الدين أحمد بن صصرى: كتبت إليه في أثناء تهنئته عند ولايته القضاء بالديار المصرية في المحرم سنة ست وثمانين وست مائة هذه الأبيات:
وهنا مصر وأهلها وبلادها ... بالفضل والفخر الرفيع الشان
فهي التي شرفت وشرف أهلها ... بمليك رق الجود والإحسان
أضحوا متى جحدوا الحسود فخارهم ... قام الدليل عليه بالبرهان
وقال: ولي برهان الدين القضاء بالقاهرة وأعمالها. وتدريس المدرسة المنصورية القطبية مضافاً إلى ما بيده من تدريس المدرسة المعزية، ومدرسة الإمام الشافعي رحمة الله عليه بالقرافة الصغرى، ومدرسة القاضي بدر الدين، وخلع عليه. وباشر منتصف المحرم سنة ست وثمانين، وتوفي في تاسع صفر، فكانت مدة ولايته أربعة وعشرين يوماً، وولي بعده القضاء والتدريس بالمنصورية، والشافعي، والقطبية القاضي تقي الدين بن بنت الأعز يوم وفاته، وخلع عليه، وباشر ليومه مضافاً إلى ما بيده وهو القضاء بمصر وأعمالها، والخطابة بالجامع الأزهر، وتدريس الصالحية ونظرها، والشريفية،(4/320)
ونظر الخزانة، والنظر على أولاد الملك الظاهر ودواوينهم، وجميع ما كان للصاحب برهان الدين مباشرة من القضاء والمدارس سوى المعزية والبدرية بالقرافة، فإن نظرهما لورثته، ورتبهم أن يكون تدريسها لهم ويقيموا عنهم فيها نائباً إلى أن تأهلوا.
سليمان بن بليمان بن أبي الجيش بن عبد الجبار بن بليمان أبو الربيع شرف الدين الهمذاني الأصل الرعياني المولد الإربلي المنشأ الشاعر المشهور صاحب النوادر والزوائد. كان من شعراء الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن محمد رحمه الله تعالى قدم دمشق واستوطنها إلى أن توفي بها في ليلة الجمعة عاشر صفر سنة ست وثمانين وست مائة. مولده سنة ست وتسعين، وقيل: سنة تسعين وخمس مائة. ذكره شرف الدين بن المستوفي وزير إربل، وصاحب تاريخها. فقال: أبو الربيع سليمان بن بليمان بن أبي الجيش أبوه صائغ، وهو صائغ من أنشاء إربل، وهو ممن ولد بها، له طبع حسن في نظم الشعر، ويحفظ منه جملة، وله بديهة حسنة، وأجوبة مسكتة، أنشدني لنفسه:
رويدك إن عذلك غير مجد ... فلا تذكي بقولك نار وجدي
ففي أذني وقر عن سماع الملام وفي الهوى عني ورشدي
عذولي لا تزد بلواي بلوى ... فسقمي قد تجاوز كل حد(4/321)
وليس من المروءة عذل صب ... تطير بلبه نفحات نجد
أسير لا يفك له قياد ... بنرجس مقلة وبورد خد
يعيد غرامه ذكر الليالي ... التي سلفت بنعمان ويبدي
ألا يا صاحبي إن كنت ترعى ... مواثيقي الأولى وقديم عهدي
علام إذا تألق برق نجد ... يؤرقني خلاف الركب وجدي
واسكب في تلمعه شؤوناً ... تفوق السحب إذا هطلت برغد
وإن نسمت نسيم الغور تهدي ... إلى أرنج حوذان ورند
أو ارتفعت بأعلى الغور نار ... تؤرقني على قرب وبعد
أرحني صاح من ذكر البوادي ... وحل عن القباب قباب سعد
فقد ملكت بنو الأتراك رقي ... بهزل من تجنيهم وجد
ظباً صرعت أسود الغاب فاعجب ... لآرام لأسد الغاب تردي
يدور دجىً أقلتها غصون ... غنوا عن كل خطي بقد
تحل عزيمتي من أن يصدوا ... بحل من بنودهم وشد
كلفت بهم ولا كلفي بمولي ... أمير البدر في حل وعقد
جدير المكرمات أبو العطايا ... إلى طرق الندى من ضل يهدي
فكم ستر لعرس الدين سارت ... عن العافين من شكر وحمد
له أيد على كل البرايا ... ولا سيما خلاف الناس عندي(4/322)
سخا في المكرمات جدود صدق ... صناديد الوغى وثناة مجد
لهم في المبتدا حكم الرواسي ... ويوم الروع سطوة كل ورد
إذا ورد الذي لو لاه ضاقت ... لدي مذاهبي وأسبع وردي
ومن بمديحه ذهبت نحوسي ... وأقبل حيث يممت سعدي
أتاك العيد يأذن بالبقاء الطويل وكل إقبال وجد
تهن به ودم ما دام رضوى ... على رغم الحسود وكل ضد
قال أبو البركات: وأنشدني أيضاً لنفسه:
قم يا أخا المكارم.... نسعى ... لارتشاف الطلي وغصن الخدود
واغتنم غفلة الزمان وحاذر ... أن تبيع الموجود بالمفقود
وأنشدني الأمير عز الدين محمد بن أبي الهيجا رحمه الله للمذكور يهجو الشهاب بن التلعفري وقد بلغه أنه قامر بخفافه وأنشدها ابن بليمان الملك الناصر يوسف بن محمد رحمه الله تعالى:
يا مليكاً فاق الأنام جميعاً ... منه جود كالعارض الوكاف
والذي راش بالعطايا جناحي ... وتلافى بعد الإله تلافى
ما رأينا ولا سمعنا بشيخ ... قبل هذا مقامر بالخفاف
ونهاكم يدق في كل يوم ... في قفاه والرأس والأكتاف(4/323)
أسود الوجه أبيض الشعر في لو ... ن سحيم في قبحه وخفاف
يدعي نسبة إلى آل شيبا ... ن وتلك القبائل الأشراف
وهمو ينكرون ما يدعيه ... فهو والقوم دائماً في خلاف
مثل نجد لو استطالت لقالت ... ليس هذا الدعي من أكناف
فابسط العذر في هجاء رقيع ... عادل عن طريقة الإنصاف
من أبيات. وقال يمدح الملك الناصر صلاح الدين يوسف، ويهنئه بعيد النحر:
يا قمراً قلبي له منزل ... قد رق لي في حبك العذل
فضل معني فيك ذو لوعة ... يعرب عنها دمعه المهمل
وأرني لبلوى دنف حاله ... مفضل إيضاحه محمل
وأصغي لشكوى كلف ذي جوى ... يدبل من أيسره ويذبل
يا طلعة البدر المنير الذي ... في كل يوم حسنه يكمل
ومن له طرف إذا ما رنا ... يعار منه الظبية الغزل
قدك هذا أم غصن مائس ... تثني الصبا عطفيه والشمأل
إذا تثنى من دلال الصبي ... يحسده العسالة الذبل
ولحظك الساحر أم صارم ... مهند في جفنه يقبل
يا رشا الأتراك عطفاً على ... خلف غرام داؤه معضل
ناظرك الفاتك في ... ... فعلك أم حاجبك المقفل(4/324)
أم جاء في فترة أجفانك ... المرضى بقتلى صدغك المرسل
إلى متى تمطلني دائماً ... وحجة الموسر لا تقبل
وكم ديون لي تقتضي ... وعن غرامي فيك لا تسأل
هل لليالي سلفت عودة ... ونحن في برد الصبي نرفل
أيام لا يحذر من كاشح ... بسر أخبار الهوى ينقل
والعيش غصن مورق عوده ... وأنت يا كل المنى مقبل
وإذ معاني الهوى مأهولة ... وليل فودى حلل أليل
وعطرت أرجاؤه نسمة ... تضوع من أنفاسها المندل
وروضة منه الثرى ديمة ... ترضعه أخلافها الحفل
يحلى بذي نخل العزيز الذي ... يخجل منه العارض المسبل
الملك الناصر من جاره ... دون ملوك الأرض الميل
يجري ندى عذب لوراده ... ليس يضام دونه منهل
طوى الحجى ما لملوك الأرض ... غير حجاه أبداً معقل
شمس على أنجم حسارة ... عابرة من نوره أفل
يعدل في الحكم ولكنه ... عن طرق المعروف لا يعدل
كم سد ... لولاه وكم ... حل لنا من قوله المشكل
ليث إذا ما صار في معزل ... دان له لبث الشرى المشبل
تعيد ليل النقع أسيافه ... صبحاً إذا ما ازدحم الجحفل(4/325)
إذا التقى الجمعان في مأزق ... له سماء شادها القسطل
وطاشت الألباب في ساعة ... يراع فيها القلب والحول
وقامت الحرب على ساقها ... إذا كل قلب ثابت يذهل
أقبل كالسيل على سابح ... كأنه من تحته بر أجدل
فاعجب لبحر ضمه في الوغى ... نهى له في كفه جدول
ينقط في وجهه للعدى ... سمره وبيضه من بعدها يشكل
يا مالكاً راش جناحي ولي ... من جوده ماضٍ ومستقبل
ظلت ملوك الأرض طراً ... جئت أخيراً أو هم أول
وسدت من مجدك فوق الذي ... بناه آباؤك أو أثلوا
فالناس في عصرك في جنة ... قطوفها دانية ميل
قد بلغوا فيه الذي حاولوا ... وأدركوا منك الذي أملوا
فاستجل بكراً نظمها ... رائق بالفضل لها جرول
عذراء ينسيك الدمى حسنها ... بنفسها أعينها تكحل
لو اجتبت في آل حرب كما ... نكب عن ألفاظها الأخطل
وأقبل عن داع لكم مخلص ... رضاك يرجو وله يؤمل
سعى به ذو عزة قوله ... كل على الأسماع مستثقل
ورام أن يحمل من قدرة ... وعندك الباطل لا يقبل
وكيف يلغى عندكم شاعر ... كسيف أحسابكم صيقل(4/326)
عبد ولاه لم يزل شاكراً ... ليس له عن ظلكم معدل
فاسعد بعيد النحر واسلم له ... لا زلت في ثوب الهنا ترفل
وذكره الصاحب كمال الدين عمر بن العديم رحمه الله في تاريخ حلب، فقال: سليمان بن بليمان بن أبي الجيش بن عبد الجبار بن بليمان الهمذاني الأصل الإربلي المولد، أنشدني من لفظه لنفسه:
يا شرف الدين الذي لم يزل ... بمجده المنصوب في رفع
والكامل الخير الذي لم يزل ... يصدق فيه خبر المسمع
رب الصناعات الحسانات ... التي تجمعت في أحسن الصنع
طال ندى التذكار في مدة ... لخاطري في النظم أو طبع
مرهفة كالقضيب هندية ... تحيل بين الأصل والفرع
تسطو على أرقش ماضي السنا ... مؤهل الضر والنفع
إذا جرى في طرسه مسرعاً ... فات وميض البرق في اللمع
عذرك في تاريخها واضح ... وذاك محمول على الوضع
لو وصت كنت معجباً ... لأنها من آلة القطع
فحلها واستحل عينيه ... تفرق عن السفح والجزع
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
وما زالت الركبان تخبر عنكم ... أحاديث كالمسك الذكي بلا مين
إلى أن تلاقينا فكان الذي وعت ... من القول أذني دون ما أبصرت عيني(4/327)
عبد العزيز بن عبد المتعم بن علي بن الصيقل أبو العز عز الدين الحراني. كان مسند وقته، وله السماعات العالية، انفرد بها، وكان رجلاً جيداً خيراً، توفي بالقاهرة ظهر يوم الثلاثاء رابع عشر رجب، ودفن بالقرافة رحمه الله.
عبد الله بن محمد بن محمود بن الفقاعي صفي الدين المقريء. كان نادرة وقته في القراءة لم يسمع له ند بحسن قراءته وطيبها. وكان قد بلغ الثمانين ولم يتغير صوته، وكان يقرأ عشراً بدار الحديث كل ميعاد، والعجب أنه ما يقرأ الا ما يناسب ما يقرأ من الأحاديث، وهذا يعد من مناقبه، وكان إمام مقصورة الحنفية بدمشق، والناس يزدحمون على قراءته، وكانت وفاته يوم الأحد ثاني عشرين المحرم، ودفن من يومه بمقابر باب الصغير رحمه الله تعالى.
علي بن يوسف بن محمد بن غازي بن يوسف بن أيوب علاء الدين ابن الملك الناصر. كان شاباً حسناً، توفي في تاسع عشرين المحرم يوم الخميس، وأخرج ميتاً من قلعة الجبل بالقاهرة، ودفن بالقرافة، وكان محبوساً بها رحمه الله تعالى.
محمد بن عباس بن محمد بن أحمد بن عبد بن صالح أبو عبد الله الربعي الدنيسري المنعوت بالعماد. مولده بدنيسر في سنة ست وست مائة، وتوفي بدمشق في يوم الثلاثاء ثامن صفر سنة ست وثمانين وست مائة، ودفن يوم الأربعاء بمقابر باب الصغير. روى عن ابن المقير، وعن جماعة من أصحاب السلفي وغيرهم. وله معرفة بالطب، وإلمام بالأدب، وينظم الشعر،(4/328)
وعنده حسن المحاضرة، ومداخلة للرؤساء والأعيان، وعلى ذهنه قطعة من التاريخ وأيام الناس، ولازم بهاء الدين زهير المقدم ذكره رحمه الله، وكان له به اختصاص، اجتمعت به مراراً، ومن شعره:
من أعلم القلب أنى كلفت به ... حتى غدا منه في حزن وفي كرب
يشكو الغرام ولا يشكو مرارته ... مبلبل البال بين الجد واللعب
رام العواذل سلواني فقلت لهم ... والدمع يقطر من جفني عن لهب
يا للرجال أنا المضني بفرط هوى ... فلم عذولي لا تحملوا من التعب
لم أنس ليلة وافى وهي في يده ... حمراء قد عصرت من رائق العنب
جنى بها بعد ما جنى بطلعته ... وذاقها فحلت من ذلك الشنب
ودار بالطاس والكأسات في يده ... قد زينت بالحميا ثم بالحبب
ونحن في مجلس حف السرور به ... كأننا منه فوق الأنجم الشهب
ظبي أقام بقلبي وهو يطلبه ... مع الزمان وهذا غاية العجب
مورد الخد معسول المراشف ممشوق القوام كثير الدل والغضب
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
كم ليلة بت أستحلي المادم على ... وجه الحبيب وبدر التم في السجف
حتى إذا أخذت منه المدامة ... والواشون في غفلة عنا فلم نخف
عانقته عندما قبلت مبسمه ... حباً له كاعتناق اللام للألف
محمد بن محمد بن عبد الله بن مالك أبو عبد الله الطائي الكناني الأصل بدر الدين. الإمام العلامة في علوم النحو والعربية والبيان مع الذكاء المفرط(4/329)
وجودة الذهن، ولطافة الأخلاق، وحسن العشرة، وله مشاركة جيدة في الفقه، والأصول وغير ذلك، أقام ببعلبك مدة سنين ثم سكن دمشق وتصدر للاشتغال بعد وفاة والده الشيخ جمال الدين رحمه الله. وكان والده إمام عصره في هذا الشأن، وقد تقدم ذكره في سنة اثنتين وسبعين وست مائة، وسمعت جماعة من الفضلاء العارفين بهذا الفن إن ولده الشيخ بدر الدين المشار إليه التحق به، وبرز عليه في بعض هذه العلوم. وكان كثيراً ما يعتريه قولنج فيجد منه ألماً شديداً، واعتراه قبل وفاته بأيام فكان سبب موته، وتوفي بدمشق يوم الأحد ثامن المحرم. وكان دفنه يوم الاثنين، ودفن بمقابر باب الصغير رحمه الله تعالى ولم يترك بعده في هذا العلم مثله في الشام مما علمنا. وله تصانيف مفيدة مختصرة، وشروح حسنة رحمه الله تعالى.
محمد بن أحمد بن علي بن محمد بن الحسن بن أحمد بن عبد الله بن الميمون القيسي الشاطبي المعروف بابن القسطلاني، قطب الدين أبو بكر بن أبي العباس ابن أبي الحسن التوريزي الأصل، المصري المولد، المكي المنشأ، الشافعي الفقيه المحدث الإمام العلامة مجموع الفضائل. كان إماماً عالماً فاضلاً ورعاً زاهداً، لم يكن في وقته مثله. وكان في وقته مثله، وكان له صيت حسن، وتوجه وانقطاع إلى الله تعالى، وكان شيخ دار الحديث الكاملية بالقاهرة، وبيده الوظائف الدينية، وكان من مشايخ العصر المشهورين بسعة العلم. مولده يوم الاثنين السابع والعشرين من ذي الحجة سنة أربع عشرة وست مائة، وتوفي يوم السبت ثامن عشر المحرم بالقاهرة ودفن من الغد(4/330)
بالقرافة الصغرى، وكان قد سمع من مشايخ عصره، ونظم الشعر الحسن، فمنه ما أنشده الأمير علم الدين سنجر الدويداري في شهور سنة سبع وخمسين وست مائة:
إذا كان أنسى في التزامي لخلوتي ... وقلبي عن كل البرية خال
فما ضرني من كان لي الدهر قالياً ... ولا سرني من كان في موال
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
ألا هل لهجر العامرية إقصار ... فتقضي من الوجد المبرح أوطار
ويشفي عليل من عليل موله ... لنجم من الجوزاء في الليل سمار
أغار عليه السقم من جنباته ... وأعزاه بالأحباب نأي وتذكار
ورق له مما يلاقي عذوله ... وأرقه دمع يرقرق مدرار
يحن إلى برق الأبيرق قلبه ... ويخفق إن ناحت حمائم وأطيار
عسى ما مضى من حفظ عيشي على الحمى ... يعود قلبي فيه نجوم وأقمار
عدمت فؤادي إن تعلقت غيرها ... وإن زين السلوان لي فهو غدار
ولي من دواعي الشوق في السخط والرضى ... على الوصل والهجران ناه وأمار
أأسلو وفي الأحشاء من لاعج الأسى ... لهيب أسال الروح فالصبر منهار
كان والده قطب الدين من سادات المشايخ وزهادهم، روى عن ابن بري وغيره. سئل عن مولده فقال: في ربيع الآخر سنة تسع وخمسين وخمس مائة بمصر.(4/331)
وتوفي رحمه الله بمكة شرفها الله تعالى في ليلة الأحد مستهل جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين وست مائة، ودفن من الغد بالمعلى، وسمع من مشايخ الطريق، وأخذ عنهم، وكان خصوصه بالشيخ أبي عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم القرشي الهاشمي الصالح العارف المشهور الذي لم يكن في زمانه مثله. وكان كثير الابتلاء والرضى به، وروى عنه شيئاً كثيراً من كلامه مما رواه عنه أنه قال: من لم يدخل في الامور بالادب لم يدرك مطلوبه وسمعه يقول: الذم الأدب وحدك من العبودية، ولا تتعرض لشيء، فإن أرادك لشيء هيأك له. وسمعه يقول: العاقل يأخذ من الأمور ما صفا، ويدع التكلف فإنه تعالى يقول: " وإن يردك بخير فلا راد لفضله "، وسمعه يقول: إذا أخذت في الأمور فاختر أيسرها، وإلا أسأت الأدب. وسمعه يقول: النافلة لمن أكمل الفريضة. وسمعه يقول: من لم يعرف الزيادة من النقصان في هذه الدار فهو محجوب. وسمعه يقول: من لم يراع حقوق الإخوان يترك حقوقه وحرم بركة الصحبة. وسمعه يقول: من لم يكن له مقام من التوكل، كان ناقصاً في توحيده. وسمعه يقول: لا يصلح التعلم في هذا الشأن إلا لمن يعز عليه فرضه، وخاف العقوبة من ترك الكلام. وسمعه يقول: من نظر إلى المشايخ بعين العصمة حجب رؤيتهم. وروى عنه شيئاً كثيراً رحمة الله عليه. وكان الشيخ أبو عبد الله من السالكين الأبرار الأولياء، ذكره المرحوم تاج الدين بن الأثير في مختصره، فقال:(4/332)
أبو عبد الله محمد بن أحمد القرشي الهاشمي المغربي من أهل الجزيرة الخضراء، توفي بالقدس الشريف سنة تسع وتسعين وخمس مائة، وعمره خمس وخمسين سنة، وقبره بالقدس، والجزيرة الخضراء في بر الأندلس.
مفضل بن إبراهيم بن أبي الفضل رضي الدين الدمشقي الطبيب المشهور بالفضيلة التامة. كان طبيباً حاذقاً، حسن المعالجة ديناً ورعاً صالحاً، حسن الاعتقاد، كثير المحبة للخير، سافر إلى البلاد بركة وخدمة، وحصل منه أموالاً كثيرة نهبت عند عوده إلى دمشق، وعرضت عليه رياسة الأطباء فأباها، وكان روى عن مشايخ وقته، وخطه في الإجازات كثير، ومولده سنة عشر وست مائة، وتوفي ليلة الأربعاء ثالث عشر صفر، ودفن من الغد بسفح قاسيون رحمه الله تعالى، وكان له في النظم يد، فمن ذلك:
الشمعة قالت بلسان الحال ... البعد عن الشهد برء أوصالي
ها قلبي كيف حاله أنت ترى ... النار به تذيب قلبي البالي
آخر الجزء السابع عشر من ذيل تاريخ مرآة الزمان يتلوه الجزء الثامن عشر: السنة السابعة والثمانون وست مائة استهلت هذه السنة والخليفة والملوك على القاعدة المستقرة.
كان الفراغ من كتابة هذا الجزء في يوم الخميس لثمان خلون من شوال سنة 1115 من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، فغفر الله لكاتبه، ولقارئه، ولسامعه، ولوالديه، وللمسلمين، ومن دعا له بالمغفرة، آمين آمين آمين؛ وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم!(4/333)