بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله الحمد لله مصرّف الدهور، وخالق الأزمنة عن مر الأيام والليالي والشهور، أحمده على نعمه التي شملت الأمم جيلاً بعد جيل، وعرفت أخبار من سلف في القرآن والتوراة والإنجيل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تبصر بعواقب الطائعين والعاصين وتقضي بنجاة من أقر بها من الدانين والقاصين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي هدى الأمة إلى مناهج سبلهم، وندبوا على لسانه كيف نسير في الأرض فينظرون كيف كان عاقبة الذين من قبلهم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة دائمة ما بقيت الأيام والليالي، وعرفت أخبار الأمم السالفين في العصور الخوالي.(1/1)
أما بعد فإنه لما كانت الأذهان مصروفة إلى معرفة أخبار من مضى، والإطلاع على أحوال من قضى الله له بما قضى، ليستفاد بذلك سيرة الطراز الأول والوقوف عند نص أحاديثهم التي بها يعتبر وعليها يعوّل، صنف الناس في ذلك كتباً، وساروا بأفكارهم فجلبوا من أخبار الأمم حطباً وذهباً، ولما وقفت على بعض ما نصوه، وتأملت ما انبأوا به عن السالفين وقصّوه، رأيت اجمعها مقصداً وأعذبها مورداً وأحسنها بياناً وأصحها روايةً يكاد خبرها يكون عياناً الكتاب المعروف بمرآة الزمان تأليف الشيخ الإمام شمس الدين أبي المظفّر يوسف سبط الإمام الحافظ جمال الدين عبد الرحمن ابن الجوزي رحمه الله الذي ضمّنه ما علا قدره على كل نبيه، وفاق به على من يناويه، فشرعت في اختصاره وأخذت في اقتصاره فلما أنهيته مطالعةً وحررته اختصاراً ومراجعةً وجدته انقطع إلى سنة أر بع وخمسين وستمائة - وهي السنة التي توفي فيها المصنف رحمه الله في أثنائها فأثرت أن أذيله بما يتصل به سببه إلى حيث يقدره الله تعالى من الزمان، مع أني لست من فرسان هذا الميدان، وربما ذكرت وقائع متقدمة على سنة بع وخمسين أو من تقدمت وفاته على سبيل الاستطراد أو لمعنى اقتضى ذلك ولعل بعض من يقف عليه ينتقد الإطالة في بعض الأماكن والاختصار في بعضها، وإنما جمعت هذا الذيل لنفسي وذكرت ما اتصل بعلمي وسمعته من أفواه الرجال ونقلته من خطوط الفضلاء والعمدة في ذلك لا علي واسأل من الله تعالى التوفيق والهداية إلى سواء الطريق بمنّه وكرمه وخفي لطفه.(1/2)
سنة أربع وخمسين وستمائة
استهلت هذه السنة وخليفة المسلمين ببغداد دار ملكه وهو الأمام المستعصم بالله أبو أحمد عبد الله أمير المؤمنين أبن الإمام المستنصر بالله أبو جعفر المنصور بن الإمام الظاهر بأمر الله أبي نصر محمد بن الإمام الناصر لدين الله أبي العباس أحمد رحمه الله تعالى وملك الشام والبلاد الفراتية الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن محمّد وملك الديار المصرية الملك المعز عز الدين أيبك التركماني وصاحب الكرك والشوبك الملك المغيث فتح الدين عمر بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر ابن الملك الكامل وصاحب الموصل وبلادها الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ الأتابكي وصاحب ميافارقين وديار بكر وتلك الأعمال الملك الكامل ناصر الدين محمد بن الملك المظفر شهاب الدين غازي بن الملك العادل والمستولي على أربل وأعمالها وما أضيف إليها الصاحب تاج الدين محمد ابن صلايا العلوي من جهة الخليفة والنائب في حصون الإسماعيلية الثمانيّة بالشام رضي الدين أبو المعالي وصاحب صهيون وبرزيه وبلاطنس الأمير مظفر الدين عثمان بن الأمير ناصر الدين منكورس.
وصاحب حماة الملك المنصور ناصر الدين محمد بن محمود بن محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيّوب وصاحب تلّ باشر والرحبة وتدمر وزلوبيا(1/3)
الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن إبراهيم بن شيركوه - ابن محمد بن شيركوه - بن شاذي وصاحب المدينة الشريفة صلوات الله على ساكنها وسلامه الأمير عز الدين أبو مالك منيف بن شيحة بن قاسم الحسيني وصاحب مكة شرفها الله تعالى الشريف قتادة الحسيني وصاحب ماردين الملك السعيد إيلغازي الأرتقي وصاحب اليمن الملك المظفّر شمس الدّين يوسف بن عمر وخرا سان وما وراء النهر وخوارزم وخلاط وبلد فارس ومعظم الشرق بأسره بيد التتار وصاحب الرّوم السلطان ركن الدين وأخوه عز الدين والبلاد بينهما مناصفة وهما في طاعة هولاكو ملك التتار.
وفي هذه السنة ورد إلى دمشق كتب من المدينة صلوات الله على ساكنها وسلامه تاريخها خامس شهر رجب ووصلت في عاشر شعبان ونحوه تتضمن خروج نار بالمدينة وفيما تضمنته الكتب لما كانت ليلة الأربعاء ثالث جمادى الأخرى سنة أربع وخمسين ظهر بالمدينة دويٌ عظيم ثم زلزلة عظيمة رجفت منها المدينة والحيطان والسقوف والأخشاب ساعة بعد ساعة إلى يوم الجمعة الخامس من الشهر المذكور ظهرت نار عظيمة في الحرة بالقرب من قريظة نبصرها من دورنا من داخل المدينة كأنّها عندنا وهي نار عظيم إشعالها وقد سالت أودية منها(1/4)
بالنار إلى وادي شطا مسيل الماء وقد سدّت مسيل شطا وما عاد يسيل والله لقد طلعنا جماعة نبصرها فإذا الجبال تسيل نيراناً وقد سدّت الحرة طريق الحاج العراقي وسارت إلى أن وصلت إلى الحرة فوقفت بعدما أشفقنا أن تجئ إلينا ورجعت تسير في الشرق تخرج من وسطها مهود وجبال نيران تأكل الحجارة منها أنموذج عما أخبر الله في كتابه العزيز فقال عز من قائل - إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالات صفر - وقد أكلت الأرض وقد كتبت هذا الكتاب يوم خامس رجب سنة أربع وخمسين والنار في زيادة ما تغيرت وقد عادت إلى الحرارة في طريق قريظة طريق الحاج العراقي كلها نيران تشتعل نبصرها في الليل من المدينة كأنها مشاعل الحاج، وأما أم النار الكبيرة فهي جبال نيران حمر والأم الكبيرة النار التي سالت النيران منها من عند قريظة وقد زادت وما عاد الناس يدرون أي شيء يتم بعد ذلك والله يجعل العاقبة إلى خير وما أقدر صف هذه النار.
ومن كتاب أخر لما كان يوم الاثنين مستهل جمادى الأخرى وقع بالمدينة صوت يشبه الرعد البعيد تارة وتارة وأقام على هذه الحالة يومين فلما كان يوم الأربعاء ثالث الشهر المذكور تعقب الصوت الذي كنا نسمعه زلزال فتقيم على هذه الحالة ثلاثة أيام يقع في اليوم والليلة أربع عشر زلزلة فلما كان يوم الجمعة خامس الشهر المذكور أنتجت الأرض من الحرة بنار عظيمة يكون قدرها مثل(1/5)
مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي مرأى العين من المدينة نشاهدها وهي ترمي بشرر كالقصر كما قال الله تعالى وهي بموضع يقال له أجلين وقد سال من هذه النار واد يكون مقداره أربعة فراسخ وعرضه أربعة أميال وعمقه قامة ونصفا وهي تجري على وجه الأرض وتخرج منه امهاد وجبال صغار تسير على الأرض وهو صخر يذوب حتى تبقى مثل الآنك فإذا خمد صار أسود وقبل الجمود لونه أحمر وقد حصل بطريق هذه النار إقلاع عن المعاصي والتقرب إلى الله تعالى بالطاعات وخرج أمير المدينة عن مظالم كثيرة إلى أهلها.
ومن كتاب شمس الدين سنان بن عبد الوهاب بن نميلة الحسيني قاضي المدينة إلى بعض أصحابه لما كان ليلة الأربعاء ثالث شهر جمادى الآخرة حدث بالمدينة في الثلث الأخير من الليل زلزلة عظيمة أشفقنا منها وباتت باقي تلك الليلة تزلزل كل يوم وليلة قدر عشر نوبات والله لقد زلزلت مرة ونحن حول حجرة النبي صلى الله علي وسلم اضطرب لها المنبر إلى أن سمعنا منه صوتاً للحديد الذي فيه واضطربت قناديل الحرم الشريف وتمت الزلزلة إلى يوم الجمعة ضحى ولها دوي مثل دوي الرعد القاصف ثم طلع يوم الجمعة في طريق العنزة في رأس أجلين نار عظيمة مثل المدينة العظيمة وما باتت لنا إلا ليلة السبت وأشفقنا منها وخفنا خوفاً عظيماً وطلعت إلى الأمير وكلمته وقلت له قد أحاط(1/6)
بنا العذاب ارجع إلى الله فاعتق كل مماليكه ورد على جماعة أموالهم فلما فعل هذا قلت له أهبط الساعة معنا إلى النبي صلى الله علي وسلم فهبط وبتنا ليلة السبت الناس جميعهم والنسوان وأولادهم وما بقي أحد لا في النخيل ولا في المدينة إلا عند النبي صلى الله علي وسلم وأشفقنا منها فظهر ضوءها إلى أن أبصرت من مكة ومن الفلاة جميعها ثم سال منها نهر من نار وأخذ في وادي أجلين وسدّت الطريق ثم طلع إلى بحرة الحاج وهو بحر نار يجري سيل قط لأنها حرة تجيء قامتين وثلث علوها وبالله يا أخي إن عيشنا اليوم مكروه والمدينة قد تاب جميع أهلها ولا بقي يسمع فيها رباب ولا دف ولا شرب وتمت تسير إلى أن سدت بعض طريق الحاج وبعض البحيرة بحرة الحاج وجاء في الوادي إليها منا قتير وخفنا أنها تجئنا واجتمع الناس ودخلوا على النبي صلى الله علي وسلم وبات عنده جميعهم ليلة الجمعة وأما قتيرها الذي يلينا فقد طفئ بقدرة الله تعالى وأنها إلى الساعة ما نقصت إلا ترمي مثل الجبال حجارة من نار لها دوى ما يدعنا نرقد ولا نأكل ولا نشرب وما أقدر أصف لك عظمها ولا ما فيها من الأهوال وأبصرها أهل ينبع وندبوا قاضيهم ابن سعد وجاء وغدا إليها وما أصبح يقدر يصفها من عظمها وكتب الكتاب يوم خامس رجب وهي على حالها والناس منها(1/7)
خائفون والشمس والقمر من يوم طلعت ما يطلان إلا كاسفين فنسأل الله العافية، ومن كتاب بعض بني القاشاني بالمدينة يقول فيه وصل إلينا في جمادى الآخرة نجّابة من العراق أخبروا عن بغداد أنه أصابها غرق عظيم حتى دخل الماء من أسوار بغداد إلى البلد وغرق كثير من البلد ودخل الماء دار الخليفة وسط البلد وانهد مت دار الوزير وثلاثمائة وثمانون داراً وانهدم مخزن الخليفة وهلك من السلاح شيء كثير وعادت السفن تدخل إلى وسط البلد وتتخرق أزقة بغداد قال وأما نحن فإنه جرى عندنا أمر عظيم لما كان ليلة الأربعاء الثالث من جمادى الآخرة ومن قبلها - بيومين - عاد الناس يسمعون صوتاً مثل صوت الرعد ساعة بعد ساعة وما في السماء غيم حتى أنه منذ يومين إلى ليلة الأربعاء ثم ظهر الصوت حتى سمعه الناس وتزلزلت الأرض ورجفت بنا رجفة لها صوت كدوي الرعد فانزعج لها الناس كلهم وانتبهوا من مراقدهم وضج الناس بالاستغفار إلى الله تعالى وذكر بمعنى ما تقدم ثم قال والحجارة معها تتحرك وتسير حتى كادت تقارب حدة العريض ثم سكنت ووقفت أياماً ثم عاد تخرج من النار ترمي بحجار خلفها وأمامها حتى بنت لها جبلين خلفها ما بقي يخرج منها من بين الجبلين لسان لها أياماً ثم أنها عظمت الآن وشباها إلى الآن وهي تخرج كأعظم ما يكون ولها كل يوم صوت عظيم آخر الليل إلى ضحوة ولها عجائب ما أقدر(1/8)
أصفها لك على الكمال وإنما هذا منها طرف كبير يكفي والشمس والقمر كأنهما منكسفان إلى الآن وكتبت هذا الكتاب ولها شهر وهي في مكانها حتى قال فيها بعضهم
يا كاشف الضر صفحاً عن جرائمنا ... لقد أحاطت بنا يا رب بأساء
نشكو إليك خطوباً لا نطيق لها ... حملاً ونحن بها حقاً أحقاء
زلازلاً تخشع الشم الصلاب لها ... وكيف يقوى على الزلزال شماء
أقام سبعاً يرج الارض فانصدعت ... عن منظر منه عين الشمس عشواء
ترمى لها شرر كالقصر طائشة ... كأنها ديمة تنصب هطلاء
تنشق منها قلوب الصخر إن زفرت ... رعباً وترعد مثل السعف أضواء
منها تكاثف في الجو دخان إلى ... إن عادت الشمس منه وهي دهماء
قد أثرت سعفة في البدر لفتحها ... فليلة التم بعد النور ليلاء
تحدت النيران السبع ألسنها ... بما يلاقي بها تحت الثرى الماء
وقد أحاط لظاها بالبروج إلى ... أن كاد يلحقها بالأرض أهواء
فيالها آية من معجزات رسول الل ... هـ يعقلها القوم الألباء
فباسمك الأعظم المكنون إن عظمت ... منا الذنوب وساء القلب أسواء
فاسمح وهب وتفضل وانج واعف وجد ... واصفح فكل لفرط الحلم خطاء(1/9)
فقوم يونس لما آمنوا كشف ال ... عذاب عنهم وعم القوم نعماء
ونحن أمة هذا المصطفى ولنا ... منه إلى عفوك المرجو دعاء
هذا الرسول الذي لولاه ما سلكت ... محجة في سبيل الله بيضاء
فارحم وصل على المختار ما خطبت ... على علا منبر اللأوراق ورقاء
ونظم بعضهم في هذه النار وغرق بغداد
سبحان من أصبحت مشيئته ... جارية في الورى بمقدار
في سنة أغرق العراق وقد ... أحرق أرض الحجاز بالنار
وفيها ليلة الجمعة أول ليلة من رمضان احترق مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وكان ابتداء حريقه من زاويته - الغربية من الشمال - فعلقت في الأبواب ثم اتصلت بالسقف بسرعة ثم دبت في السقوف آخذة قبلة فاعجلت الناس عن قطعها فما كان إلا ساعة حتى احترقت سقوف المسجد أجمع ووقع بعض أساطينه وذاب رصاصها وكل ذلك قبل أن ينام الناس واحترق سقف الحجرة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ووقع ما وقع منه في الحجر وبقي على حاله لما شرع في عمارة سقفه وسقف المسجد واصبح الناس يوم الجمعة فعزلوا موضعاً للصلاة ونظم في حريق المسجد.
لم يحترق حرم النبي لحادث ... يخشى عليه ولا دهاه العار.
لكنما أيدي الروافض لامست ... ذاك الجناب فطهرته النار.(1/10)
وقال معين الدين بن تولوا المعزى
قل للروافض بالمدينة مالكم ... يقتادكم للذم كل سفيه.
ما أصبح الحرم الشريف محرقاً ... إلا لسبكم الصحابة فيه.
وعلى ما وقع من تلك النار الخارجة وحريق المسجد من جملة الآيات فقال شهاب الدين أبو شامة في ذلك وفيما تقدم
بعد ست من المئين وخمسين ... لدى أربع جرى في العام.
نار ارض الحجاز مع حرق المسجد ... معه تغريق دار السلام.
ثم أخذ التتار بغداد في أو ... ل عام من بعد ذاك بعام.
لم يعن أهلها والكفر أعوا ... ن عليهم يا ضيعة الإسلام.
وانقضت دولة الخلافة منها ... صار مستعصم بغير اعتصام.
رب سلم وصن وعاف بقايا ال ... مدن يا ذا الجلال والإكرام.
فحنانا على الحجاز ومصر ... وسلام على بلاد الشآم.
قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة وفي ليلة السادس عشر من جمادى الآخرة خسف القمر أول الليل وكان شديد الحمرة ثم انجلى وكسفت الشمس في غده واحمرت وقت طلوعها وقريب غروبها واتضح بذلك ما صوره الشافعي رحمة الله عليه من اجتماع الكسوف والخسوف واستبعده أهل النجامة.(1/11)
وفيها تواترت الأخبار بوصول عساكر هولاكو إلى أذربيجان قاصدة بلاد الشام فوردت قصاد الديوان العزيز على الشيخ نجم الدين البادرائي وهو إذ ذاك بدمشق تأمره أن يتقدم إلى الملك الناصر بمصالحة الملك المعز صاحب مصر وأن يثني عزمه عن قصده ويتفق معه على قتال التتار وأجاب إلى ذلك وأعاد العسكر إلى دمشق بعد أن كان قد وصل إلى غزة وأقام بها صحبة الملك المعظم توران شاه ابن صلاح الدين يوسف بن أيوب فدخل العسكر دمشق في العشر الأول من شوال وفي جملتهم الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري فاقطعه الملك الناصر مثل ما كان له بمصر من الإقطاع.
وفي شوال توّجه كمال الدين بن العديم رسولاً من الملك الناصر - صلاح الدين يوسف - رحمه الله إلى الخليفة المستعصم بالله على البرية بتقدمة كبيرة فوصل بغداد في الثاني والعشرين من ذي القعدة وطلب من الخليفة خلعه لمخدومه وكان قد قدم بغداد الأمير شمس الدين سنقر الأقرع وهو في الأصل من غلمان الملك المظفر شهاب الدين غازي ابن العادل رسولاً من الملك المعز صاحب مصر إلى الخليفة بسبب تعطيل الخلعة فتحير الخليفة فيما يفعل فاحضر الوزير مؤيد الدين بن العلقمي جمال الدين بن كمال الدين بن العديم وكان سافر مع أبيه وناوله سكينة كبيرة من نشم وقال له خذ هذه علامة على أنه(1/12)
لابد من الخلعة للملك الناصر في وقت آخر.
وفيها عزل القاضي بدر الدين السنجاري عن قضاء الديار المصرية ووليها القاضي تاج الدين عبد الوهاب المعروف بابن بنت الأعز.
ذكر ما تجدد للملك الناصر داود
بن الملك المعظم في السنة.
كان له وديعة سنية عند الخليفة من جواهر وغيرها فتوقف في ردها عليه وشرهت نفسه إليها واحتج بحجج لا معنى لها وجرى في ذلك خطوب يطول شرحها وكان الملك الناصر حج في السنة الخالية وعاد إلى العراق بسببها فانزل بالحلة وأجرى عليه راتب لا يليق به ولا يناسب محله وكان الخليفة قد عمر ببغداد قصراً فلما تم هنته الشعراء وهناه الملك الناصر بقصيدة تلطف فيها وعدد خدمه وخدم أسلافه فلم يجد ما يكافيه أن سير إليه من حاسبه على جميع ما وصل إليه طول المدة من النفقات وما أوصلوه إليه مفرقاً وما ضيفوه به في تردده وإقامته وظعنه من خبز ولحم وعليق - واصلوا بسائر.... - وقالوا قد وصل إليك قيمة وديعتك فاكتب خطك بوصوله وأنه لم يبق لك عند الديوان حق ولا مطالبة فلم يمكنه إلا الإجابة والمسارعة فكتب ولم يصله من ثمنها إلا دون العشر فانصرف ساخطاً واجتمع عليه جماعة من العرب أرادوا التوصل به إلى النهب والفساد فامتنع وأقام عند العرب وبلغ الملك الناصر صلاح الدين يوسف فأهمه مقامه عندهم فاحضر الملك الظاهر شادي أكبر أولاد الملك الناصر داود وحلف له اليمين(1/13)
المغلظة أنه لا يتعرض له بأذى فوصل شادي إلى والده وعرفه ذلك فقدم دمشق ووجد الملك الناصر يوسف قد أوغر صدره عليه فنزل بتربة والده الملك المعظم بسفح قاسيون وشرط عليه أن لا يركب فرساً ثم أذن له في الركوب بشرط أنه لا يدخل البلد ولا يركب في موكب فاستمر الحال على ذلك إلى آخر السنة.
فصل
وفيها توفي إبراهيم بن أونبا بن عبد الله الصوابي الأمير مجاهد الدين والي دمشق وليها بعد الأمير حسام الدين عرابي بن أبي علي في سنة أربع وأربعين وستمائة وكان في بداية سعادته أمير جاندار الملك الصالح نجم الدين وكان أميراً جليلاً فاضلاً عاقلاً رئيساً كثير الصمت مقتصداً في إنفاقه وكان بينه وبين الأمير حسام الدين مصافاة كثيرة ومودة أكيدة ولما مرض مرض موته أسند نظر الخانقاه التي عمرها على شرف الميدان القبلي ظاهر دمشق إلى الأمير حسام الدين المذكور فتوقف في قبول ذلك ثم قبله على كره منه وتوفي مجاهد الدين رحمه الله تعالى في أوائل هذه السنة وقيل في أواخر سنة ثلاث وخمسين ودفن بالخانقاه المذكورة رحمه الله وله نظم فمنه.
أشبهك الغصن في خصال ... القد واللين والتثني.
لكن تجنّيك ما حكاه ... الغصن يجنى وأنت تجني.(1/14)
وله في صبي اسمه مالك.
ومليح قلت ما الاسم ... حبيبي قال مالك.
قلت صف لي قدك الزا ... هي وصف حسن اعتدالك.
قال كالغصن وكالبد ... روما أشبه ذلك.
إبراهيم بن أيبك بن عبد الله مظفر الدين كان والده الأمير عز الدين أيبك المعظمى صاحب صرخد قد اشتراه الملك المعظم عيسى بن العادل سنة سبع وستمائة وترقى عنده حتى جعله أستاذ داره فكان عنده في المنزلة العلياء يؤثر على أولاده أهله ولم يكن له نظير في حشمته ورياسته وكرمه وشجاعته - 10ب - وسداد رأيه وعلو همته بحيث كان يضاهي الملوك الكبار واقطعه الملك المعظم صرخد وقلعتها وأعمالها وقرى كثيرة أمهات غيرها ولما توفي الملك المعظم بقي في خدمة ولده الملك الناصر صلاح الدين داود فلما حضر الملك الكامل كان الأمير عز الدين المذكور هو المدبر للحرب وأمور الحصار فلما حصل الاتفاق على تسليم دمشق كان هو المتحدث لذلك فاشترط للملك الناصر من البلاد والأموال والحواصل فوق ما أرضاه ثم اشترط لنفسه صرخد وأعمالها وسائر أملاكه بدمشق وغيرها وأن يسامح بما يأخذ من المكوس على سائر ما يباع ويبتاع له من سائر الأصناف ويفسح له في الممنوعات وأن يكون له حبس في دمشق يحبس فيه نوابه من لهم عليه حق فأجيب إلى ذلك جميعه بعد توقف وبقي على ذلك الأيام الأشرفية والكاملية والصالحية(1/15)
والعمادية وإلى أوائل الدولة الصالحيه النجمية فحصل له وحشة من الملك الصالح نجم الدين وكان مع الخوارزمية لما كسروا على القصب في يوم الجمعة مستهل المحرم سنة أربع وأربعين وستمائة فمضى إلى صرخد وامتنع بها ثم أخذت منه صرخد في أوائل السنة المذكورة وأخذ إلى الديار المصرية فاعتقل بها بدار صواب فكان إبراهيم هذا قد مضى إلى الملك الصالح نجم الدين ووشى به وقال أموال أبى قد بعث بها إلى الحبلين وأول ما نزل بها صرخد كانت ثمانين خرجا فأودعها عند الشيخ شمس الدين سبط ابن الجوزي وبلغ الأمير عز الدين اجتماعه بالملك الصالح فمرض ووقع إلى الأرض وقال هذا آخر عهدي بالدنيا ولم يتكلم بعدها حتى مات ودفن ظاهر القاهرة بباب النصر سنة خمس وأربعين ثم نقل بعد ذلك إلى القبة التي بناها برسم دفنه في المدرسة التي أنشأها على شرف الميدان ظاهر دمشق من جهة الشمال ووقفها على أًصحاب أبي حنيفة رحمة الله عليه وهي من أحسن المدارس وأنضرها وله مدرسة أخرى بالكشك داخل مدينة دمشق.
وبالجملة فكان من سادات الأمراء كثير البر والمعروف وإنعامه يشمل الأمراء والأكابر والفقراء والصلحاء والعوام رحمه الله ورضى عنه فلقد كان من محاسن الدهر ثم أن ولده هذا سعى بحاشيته مثل البرهان كاتبه وابن الموصلي صاحب ديوانه والبدر الخادم ومسرور(1/16)
وغيرهم فأمر الملك الصالح نجم الدين بحملهم إلى مصر فأما البرهان فإنه من خوفه يوم اخرج ليتوجه إلى مصر مات بمسجد النارنج والباقون حملوا إلى مصر ولم يظهر عليهم مما قيل درهم واحد فرجعوا إلى دمشق بعد وفاة الملك الصالح وقد لاقوا شدائد وأهوال - 11ب - وختم للأمير عز الدين بالشهادة رحمه الله تعالى.
وذكر الشيخ شمس الدين سبط ابن جوزي رحمه الله ما يدل على أن إبراهيم هذا ولد جاريته وانه تبناه وليس بولده وهو أخبر بذلك ويدل عليه ما فعله به وبحاشيته والله أعلم بذلك.
بشارة بن عبد الله أبو البدر الأرمني - الكاتب - مولى شبل الدولة المعظمى سمع من الشيخ تاج الدين أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي وغيره وكان يكتب خطاً حسناً وتوفي ليلة النصف من شهر رمضان بدمشق ودفن من الغد بسفح قاسيون رحمه الله وذريته يدعون النظر على المدرسة والخانقاه والتربة المنسوب ذلك إلى شبل الدولة رحمه الله تعالى.
طغريل بن عبد الله الأمير سيف الدين أستاذ دار الملك المظفر تقي الدين محمود صاحب حماة كان من أعيان الأمراء شجاعاً حسن التدبير والسياسة للأمور ولما توفي الملك المظفر قام بتدبير أمور ولده الملك المنصور ناصر الدين محمد بمراجعة والدته غازية خاتون بنت الملك الكامل ناصر الدين ابن أبي المعالي محمد بن الملك العادل ومشاورتها في الأمور(1/17)
وأخذ رأي الصاحب شرف الدين عبد العزيز محمد بن شيخ الشيوخ ولم يزل على ذلك وهو أتابكه إلى أن توفي في ثالث شوال رحمه الله تعالى.
عبد الرحمن بن احمد بن الحسن بن كاتب بن عبد الرحمن أبو المعالي شرف الدين القرشي البعلبكي العدل المعروف بابن الفارقي توفي ببعلك في سادس شهر رمضان هذه السنة ومولده بدمشق في شوال سنة تسعين وخمسمائة سمع من أبي طاهر الخشوعي وغيره وحدث بدمشق وكان فيه شرف وكان كاتب الحكم بعلبك وحصل بينه وبين قاضيها صدر الدين عبد الرحيم رحمه الله منافرة فوقّع في حقه واشتط عليه ورماه بما برأه الله منه وكان الشرف المذكور يمت بمعرفته قاضي القضاة صدر الدين أحمد بن سني الدولة رحمه الله تعالى فاستطال بذلك ولم يجد من القاضي صدر الدين عبد الرحيم مع ما صدر منه في حقه إلا الإحسان المتواتر إلى حيث توفي الشرف المذكور وكان القاضي صدر الدين عبد الرحيم من حسنات الزمان وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن حفاظ أبو محمد - زكي الدين - السلمي المعروف بابن الفويرة كان من أعيان عدول دمشق وتوفي بها ليلة نصف ربيع الآخر ودفن من الغد بجبل قاسيون ومولده نحو سنة إحدى وتسعين وخمسمائة تقديراً سمع من الشيخ تاج الدين أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي - وغيره - وحدث رحمة الله تعالى.(1/18)
عبد الرحمن بن نوح بن محمد أبو محمد شمس الدين - ص2 ورقة 6 ألف - المقدسي الشافعي تفقه وبرع ودرس وكان أحدا الفقهاء المشهورين بدمشق سمع من أبي عبد الله الحسين بن المبارك الزبيدي وغيره وحدث وتوفي بدمشق ليلة السادس عشر من شهر ربيع الآخر ودفن من الغد بمقابر الصوفية وكانت له جنازة حافلة رحمه الله.
عبد العزيز بن عبد الرحمن بن احمد بن هبة الله بن علي أبو بكر شرف الدين الحموي الشافعي المعروف بابن قرناص وقد كان قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله نسبه فقد هو عبد العزيز بن عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله بن أحمد بن علي بن الحسين ابن محمد بن جعفر بن عبيد الله بن عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب مولده في تاسع عشر ربيع الأول سنة ثمان وثمانين وخمسمائة كان من أعيان العلماء الفضلاء النبلاء الرؤساء المشهورين وله نظم حسن وتوفي في الثامن والعشرين من ذي القعدة بحماة وبيته - ص2 ورقة 6 ب - مشهور بالفضل والتقدم قال القاضي جمال الدين بن واصل أنه توفي في ذي الحجة وكان فاضلاً في الفقه والأدب مجيداً في النظم والنثر تزهد في صباه وامتنع من قول الشعر إلا ما يتعلق بالزهد ومدح النبي صلى الله عليه وسلم صنف ديوان رسائل مبتكرة بديعة فاعرض عنها وكان يأمر بإعدامها.
ومن شعره
يا من غدا وجهه روض العيون لما ... أعاره الحسن من أنواع أزهار.(1/19)
نعمت طرفي وأودعت الحشى حرقا ... فالطرف في جنة والقلب في نار.
وله
إذا لم ينر بالجد ليل شبيبتي ... سيظلم بالتقصير صبح مشيبي.
وله من أبيات في أوقات طلوع منازل القمر ينتفع بها جداً وهو.
إذا ما نلت بعد عشرين وقت ... لنيسان بالنطح ارتقبه مع الفجر.
وسادس أيار البطين ومحتل ... حنين الثريا تسع عشر من الشهر.
وللدبران من حريزان أوّل ... وهقعته تتلوه في رابع العشر.
وسابع عشريه لهنع ودونه ال ... ذراع يوافى عشر تموز ذي الحر.
وفي ثالث العشرين تطلع نثرة ... وخامس أن لا تنظر الطرف ذا شزر.
وثامن عشر منه مطلع جبهة ... وأول أيلول به مطلع الزبر.
ورابع عشر صرفة الحر والعوى ... من السبع والعشرين يأوي إلى الوكر.
وتشرنينا الأول سمّاك لعاشر ... وثالث عشريه فيه مطلع الغفر.
وتشرنينا الثاني زباني لخامس ... وثامن عشر منه ذلك بالزهر.
ويوم ترى كانونا الأول مقبلا ... بأول يوم يحقق القلب القر.
ورابع عشر شولة ونعائم ... من السبع والعشرين مجرتها تجري.
وكانوننا الثاني يوافيك بلدة ... لعشر تراها وهي كالبلدة القفز.(1/20)
وثالث عشريه كريح ورابع ... أتى من شباط بلعه أنزه نسرى.
وثامن عشر منه سعد سعوده ... وثاني آذار لا خيبة السفر.
وخامس عشر منه فرغ مقدم ... وثامن عشريه المؤخر بالأثر.
وعاشر بيسان لحوت بذا انقضت ... منازل لا ينفك به آب في الكر.
فسبحان لمن في طي حكمته لمن ... حباه بتوفيق دليل على الحشر.
عبد العظيم بن عبد الواحد بن ظافر بن عبد الله بن محمد بن جعفر بن حسن أبو محمد - ص 2 ورقة 7 ألف - العدواني المصري المعروف بابن أبي الإصبع كان أحد الشعراء المجيدين وله تصانيف في الأدب حسنة مفيدة ومولدة سنة خمس وقيل سنة تسع وثمانين وخمسمائة بمصر وتوفي بها في الثالث والعشرين من شوال ودفن من يومه.
ومن شعره
ليطف لهيب القلب وليذهب السقم ... فقد أنعمت بالوصل بعد الجفا نعم.
أشكى ظلمها قلبي فجادت بنظمها ... على ظمأ فاستعذب الظُلم والظَلم.
وقالت أرسلي حين بثوا صبابتي ... إليكم فعندي من صبابته علم.
أيا نعم إن شئت انعمي أو فعذبي ... فعرم الهوى عند المحب هو النعم.
وله
وساق إذا ما ضحك الكأس قابلت ... فواقعها من ثغره اللؤلؤ الرطبا.
خشيت وقد أمسى نديمي على الدجى ... فأسدلت دون الصبح من شعره حجبا.
وقسمت شمر الطاس في الكأس انجما ... ويا طول ليل قسمت شمسه شهبا.(1/21)
تبسم لما أن بكيت من الهجر ... فقلت ترى دمعي فقال ترى ثغري.
فديتك لما أن بكيت تنظمت ... بفيك لآلئ الدمع عقد من الدر
فلا تدعي يا شاعر الثغر صنعة ... فكاتب دمعي قال ذا النظم من نثري.
وله يمدح الملك الأشرف رحمه الله تعالى
أيا عبلة ألا لحاظك عنتر ... وما لي على غاراته في الحشا صبر.
نعم أنت ياخنساء خنساء عصرنا ... وشاهد قولي أن قلبك لي صخر.
غاية قصدي بطن يمناك غاية ... بها أندى المجدى ينبت التبر.
أغضت الحيا والبحر جودا فقد بكى ال ... حياء حياءً منك والنظم والبحر.
عيون معانيها صحاح وأعين ال ... ملاح مراض في لواحظها كسر.
أضاعت عقولا حين ضاعت فما درى ... أبابل أهدتها إليك أم السحر.
وله
إذا الوهم أبدى لي لماها وثغرها ... تذكرت ما بين العذيب وبارق.
وتذكرني من ادمعي وقوامها ... تجر عوالينا وتجر السواق.
وله يهجو
ولما رأيتك عند المديح ... جهم المحيا لنا تنظر.
تيقنت نحلك لي بالندا ... لأن الجهامة لا تمطر.(1/22)
وله في قيّم حمّام
وقيّم كلمت جسمي أنامله ... بغير السنة تكليم خرصان.
ص 2 ورقة 7 ب إن أمسك اليد مني كاد يخلعهاأو سرح الشعر عند الغسل أدماني.
فليس يمسك إمساكا بمعرفة ... ولا يسرح تسريحا بإحسان.
وله
تصدق بوصل إن دمعي سائل ... وزود فؤادي نظرة فهو راحل.
فخدك موجود به التبر والغنى ... وحسنك معدوم لديه الشمائل.
أيا قمراً من شمس وجنته لنا ... وظل عذاريه الضحى والأصائل.
تنقلت من طرف القلب مع النوى ... وهاتيك للبدر التمام منازل.
إذا ذكرت عيناك للصب درونها ... من السحر قامت بالدليل الدلائل.
جعلتك بالتمييز نصباً لناظري ... فهلا رفعت الهجر والهجر فاعل.
ولما أضفت السحر للجفن حسنت ... به الكسر منه غنج الجفون العوامل.
أعاذل قد أبطرت حبي وحسنه ... فإن لمتني فيه فما أنت عاقل.
محياه قنديل لديجور شعره ... تعلقه بالصدغ منها سلاسل.
غدا القد منه غصناً تعطفه الصبا ... ولا غرو إن هاجت عليه البلابل.(1/23)
عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن عبد الباقي بن محاسن أبو بكر الأنصاري المعروف بالشيخ عماد الدين - بن - النحاس الدمشقي كان من الفضلاء الصلحاء وله من المكانة العظيمة والحرمة الوافرة والكلمة المسموعة والقبول التام من الخاص والعام كان قد حصل له صمم فكان يحدث من لفظه بسبب ذلك ومولده في الثاني والعشرين من المحرم سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة بمصر سمع الشيخ شرف الدين أبي سعد عبد الله بن محمد بن أبي عصرون بدمشق وسمع من غيره بحلب وأصبهان ونيسابور وكانت وفاته بدمشق في الثاني والعشرين من صفر ودفن من يومه رحمه الله تعالى.
قال سعد الدين مسعود بن حمويه أنشدني عماد الدين عبد الله بن النحاس سنة إحدى وثلاثين وستمائة.
أحبة قلبي إن عندي رسالة ... أحب وأهوى أن تؤدى إليكم.
متى ينقضي هذا القطوع وينتهي ... وأحظى شفاها بالسلام عليكم.
عيسى بن أحمد بن إلياس بن أحمد بن خليل بن محمود بن محمد بن سالم بن الشيخ الصالح عيسى اليونيني يوسف بن خالد بن بركة بن مبارك بن داود بن شريف بن رميح بن رباح بن كرز بن - ص 2 ورقة 8 ألف - وبرة اليونيني الشيخ الصالح الزاهد العابد العارف المشهور صحب الشيخ الكبير عبد الله اليونيني رحمه الله وانتفع به وكان من أخص(1/24)
أصحابه وأعيانهم وانقطع بزاويته شمال قرية يونين من أعمال بعلبك متوفراً على العبادة معرضاً عن الدنيا وأهلها يقوم الليل ويسرد الصوم وبقي على ذلك سنين كثيرة إلى أن توفي رحمه الله تعالى في زاويته في قرية يونين في رابع ذي القعدة ودفن بها وهو في عشر الثمانين تقريبا وكان من الأولياء الأفراد لم يشتغل في عمره بغير العبادةً والتوجه إلى الله تعالى على الوجه المشهور الذي يشهد به الكتاب والسنة ومطالعة كتب الرقائق وما يجري مجراها ولم يتزوج في عمره لاستغراق أوقاته بذلك لكنه عقد عقدة على امرأة عجوز تدعى أم يوسف كانت تخدمه لاحتمال أنه يتناول منها شيئاً فتمس يده يدها.
وقال بعض الصلحاء قد قيل أن على قلب كل ولي نبي من أولي العزم رجلا كلما مات جعل مكانه غيره فإن صح فالشيخ عيسى على قلب عيسى ابن مريم عليهما السلام لسلوكه ما يناسب طريقه من الزهد والتحلي فكان لا يتردد إلى أحد البتة وإذا حضر إلى زيارته أحد من أرباب الدنيا والمراتب الجليلة في الدول كالأمراء والوزراء وغيرهم عاملهم بما يعامل به آحاد الناس، وبلغني أن الشيخ نجم الدين البادرائي قصد زيارته فوصل إلى زاويته عند صلاة المغرب فصلى الشيخ المغرب وقام ليدخل إلى خلوته على عادته فعارضه بعض أصحابه فقال يا سيدي هذا لرجل مجتاز وقد قصد زيارتك وانفرد عن أصحابه وجاء الشيخ نجم الدين فسلم عليه وسأله الدعاء وشرع في محادثته فقال الشيخ رحمه الله(1/25)
من زار وخفف وتركه ودخل إلى خلوته وكان كثير المطالعة لكتب الأحاديث النبوية وكتب الرقائق كقوت القلوب وصفوة الصفوة ومناقب الأبرار وغير ذلك وكان يستحضر من ذلك وغيره شيئاً كثيراً فإنه كان إذا طالع شيئاً علق بخاطره معناه وكانت عبارته حلوة لكن كان لفظه يناسب حديث أهل قريته فربما لحن في بعض كلامه وكان إذا كتب إلى أحد من أرباب الدول وغيرهم ورقة في حاجة سألها إما استغاثة ملهوف أو إعانة مظلوم أو تنفيس كربة أحد من المسلمين كتب من أول الورقة إلى حيث ينتهي الكلام أو يقطعها بحيث لا يكون فيها من البياض ما يكتب به كلمة واحدة اتباعا بما أمر به من عدم الإسراف فيما لا فائدة فيه فإذا وصلت ورقته سورع إلى امتثالها وحصل بها المقصود وكانت له الحرمة العظيمة عند - ص 2 ورقة 8 ب - سائر الناس على اختلاف طبقاتهم وتباين مراتبهم والمهابة الشديدة في صدورهم مع لطف أخلاقه ولين كلمته وله الكرامات الظاهرة وإذا حضر أحد من المشايخ وأرباب القلوب إلى يونين قصد زيارته وتأدب معه غاية الأدب أما هو فلا يمشي إلى أحد البتة ومن ورد من أرباب القلوب وسلك غير ذلك سلبه حاله ولقد سلب جماعة من الفقراء أحوالهم فيما بلغني وأدركت بعضهم وكان والدي رحمه الله إذا خرج إلى يونين طلع إلى زاويته من بكرة النهار ويدخلان إلى الخلوة بمفردهما ولا يدخل أحد عليهما ولا يزالان كذلك إلى قريب الظهر وكان بينهما وداد عظيم واتحاد زائد ومحابة في الله تعالى جمع الله بينهما في دار كرامته وكنت أيام مقام والدي
رحمه الله(1/26)
تعالى بقرية يونين اغشاه وأزوره كثيراً فيقبل عليّ ويتلطف خلاف ما عادته أن يعامل به غيري وأما إذا كنت ببعلبك فأتردد إلى زيارته في الأحيان فلما كانت هذه السنة كان والدي رحمه الله يأمرني كل وقت بقصد زيارته كأنه استشعر قرب أجله وأحس به فكنت بعد كل يوم أتردد إليه فقصدته مرة في أول شوال من هذه السنة ومعي ناصر الدين علي بن فرقين والشمس محمد بن داود رحمهما الله فدخلنا عليه وليس عنده غيرنا وشرع يحدثنا واسترسل في الحديث وغاب واستغرق وهو يحدثنا عن غير قصد منه لذلك ثم أفاق من غيبته فقطع الحديث فسألناه إتمامه وألححنا عليه في السؤال فانشد
من سارروه فأبدى السر مشتهرا؟ ... لم يأمنوا على الأسرار ما عاشا.
وأبعدوه فلم يحظ بقربهم ... وبدلوه مكان الأنس أيحاشاً.
وكان مضمون الحديث أنه جاءه من رجال الغيب من اخبره بدنو أجله أو ما هذا معناه وإن كنت الآن لا أحقق جميع الحديث على وجهه فاتفق مرضه في أواخر الشهر المذكور وبقي على ذلك أياماً وأهل البلد من الرجال والنساء يترددون إلى زيارته وإعادته ويغتنمون بركته إلى أن توفي رحمه الله ورضوانه في التاريخ المذكور فلما وصل خبر وفاته إلى بعلبك لم يبق في البلد إلا القليل وخرج الناس لشهود جنازته والصلاة عليه فكان الناس منتشرين والمدينة إلى يونين والمسافة فوق فرسخين أما والدي رحمه الله فأنه حصل له من الحزن والكآبة والوجوم لموته مالا مزيد عليه وأمرني بالمبادرة لحضور دفنه فبادرت(1/27)
إلى ذلك ولما اجتمع - ص 2 ورقة 9 ألف - غسل وكفن وصلى عليه ودفن إلى جانب عمه الشيخ عبد الخالق رحمه الله وكان الشيخ عبد القادر المذكور من الصلحاء الأولياء الزهاد العباد وهو من أعيان أصحاب الشيخ عبد الله الكبير رحمه الله تعالى وقد ذكرنا نسب الشيخ عيسى وسقناه إلى كرز بن وبرة رحمة الله عليه حسب ما كتبه لي محمد بن اسماعيل بن أحمد بن الياس بن أخي الشيخ عيسى رحمه الله وكان كرز بن وبرة الكوفي من الطبقة الرابعة من أهلها وكان زاهداً عابداً خائفاً مجتهداً يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيضربونه حتى يغشى عليه وسأل الله تعالى أن يعطيه الاسم الأعظم على أن لا يسأل به من الدنيا شيئاً فأعطاه الله ذلك فسأل الله أن يقويه على ختم القرآن فكان يختمه في اليوم والليلة ثلاث مرات ولم يرفع رأسه إلى السماء أربعين سنة حياء من الله تعالى وقال أبو سلمان المكتب صحبت كرزاً إلى مكة فكان ينزل فيصلي فرأيت يوماً سحابة تظله وكان يوما شديد الحر فقال أكتم علي فحلفت له وما حدثت به أحداً حتى مات، وروى أبو نعيم عنه أنه دخل عليه وهو يبكي فقيل له ما يبكيك فقال بابي مغلق وستري مرسل ومنعت حزبي أن أقرأه البارحة وما ذاك إلا من ذنب أحدثته وكانت وفاته في سنة تسع وأربعين ومائة ولما رأى رجل فيما يرى النائم كأن أهل القبور جلوس على قبورهم وعليهم ثياب جدد فقيل لهم ما هذا قالوا إن أهل القبور كسوا ثيابا جددا لقدوم كرز عليهم، أسند كرز عن طاوس وعطاء والربيع بن خثيم(1/28)
والقرظي وغيرهم وكان سكن جرجان رحمة الله عليه قلت والشيخ عيسى عريق في الصلاح نفع الله تعالى به وبالصالحين من سلفه، حدثني أبو طالب بن أحمد بن أبي طالب اليونيني غير مرة ما معناه أن الشيخ عيسى رحمه الله أخبره أن ملك بني أيوب يزول وتنقطع دولتهم قال فقلت له من يملك بعدهم قال الترك المماليك ويفتحون الساحل بحيث لا يبقى للفرنج في ساحل الشام شيء أصلاً وذكر كلاماً آخر وهذا سمعته من المذكور قبل فتوح صفد وغيرها وحكى لي المذكور ما معناه أن عبد الله بن الياس النصراني من أهل قرية الرأس قال له رحت إلى طرابلس فقال لي بعض الجبالة عندي أسير من بلادكم تشتريه فرحت معه إلى منزله فوجدت الأسير سهل من قرية رعبان فحين رآني تشبث بي وقال لا تخلي عني أشترني وأنا أعطيك ثمني حال وصولي إلى رعبان فاشتريته بستين ديناراً صورية وجبته إلى رعبان فلم يكن له ولأولاده ما - ص2 ورقة 9 ب - يأكلون تلك الليلة فندمت وحرت في أمري فقال لي أهل القرية نحن في البيدر نجمع لك ثمنه فضاق صدري واتفق أني جئت إلى يونين فرأيت الشيخ عيسى وهو خارج من الطهارة ولم أكن رأيته قبل ذلك فحين رآني قال أنت الذي اشتريت سهل قلت نعم فشرع يحدثني ويسألني عن الصورة وهو متوجه إلى زاويته وأنا معه(1/29)
فلما وصل إلى السياج الذي على ظاهر الزاوية طلب فقيراً من داخل السياج وقال له أبصر في الزاوية ورقة تحت اللباد الذي لي أحضرها قال النصراني فتوهمت أنها كتاب كتبه إلى من يعطيني شيئاً من وقف الأسرى أو غيره فأحضر ذلك الفقير ورقة ناولها الشيخ فناولني إياها فوجدتها ثقيلة فقال خذ هذا فأبعدت عنه وفتحت الورقة فوجدت فيها الستين ديناراً التي وجدتها في الأسير بعينها فتحيرت وأخذتها وانصرفت قال أبو طالب لم لا أسلمت فقال ما أراد الله وحكى لي الشيخ عمران حمل رحمه الله بقرية برصونا من حبل الطينين في شهر ربيع الآخر سنة ثمانين وست مائة بعد منصرفي من ظاهر طرابلس بعد فتحها وقد بت عنده وجرى حديث التفاح وقد أكلته الدودة ويبست معظم أشجاره عندهم فقال ما معناه كانت الدودة قد ركبت أشجار التفاح عندنا بحيث
أعطبتها فشكونا ذلك إلى الشيخ عيسى رحمه الله وسألناه أن يكتب لنا حرزاً فأعطانا ورقة مطوية صورة حرز فشمعناها وعلقناها على بعض الأشجار فزالت الدودة عن الوادي بأسره وأخصبت أشجار التفاح بعد يبسها وحملت حملاً مفرطاً وبقينا على ذلك سنين في حياة الشيخ وبعد وفاته ثم خشينا ضياع الحرز وقلنا ننسخه فأزلنا عنه الشمع وفتحناه فإذا هو قطعة من كتاب ورد على الشيخ من بعض أهل حماة فندمنا على فتحه ثم شمعناه وأعدناه إلى مكانه فجاءت الدودة وركبت الأشجار وأعطبتها واستمر الحال على ذلك وحكى لي الحاج علي بن أبي بكر بن دلفة اليونيني ما معناه قال كان والدي وابن عمك نور الدولة علي بن عمر بن نيار رحمه الله قد اتفقنا على عمارة حمام بقرية يونين وحصلوا بعض آلاته وهيئوا المكان الذي يعمر فيه واهتموا بذلك واتفق أنهما طلعا إلى عند الشيخ عيسى وأنا معهما فقال لهما الشيخ رحمه الله بلغني أنكم تريدون تعمرون حماماً في هذه القرية وهذا لا تفعلوه واتركوا - ص 2 ورقة عشرة ألف - عمارته فما وسعهم إلا أن قالوا السمع والطاعة وقاموا من عنده فلما بعدوا عنه قال أحدهما للآخر كيف نعمل بهذه الآلات فقال له صاحبه الشيخ عيسى رجل كبير ما يخلد نصبر فمتى مات عمرناه فطلبهما الشيخ إليه وقال كأني بكم قد قلتم كذا وكذا وأنكم تعمرون الحمام بعد موتي وهذا لا يصير ولا يعمر في القرية حمام لا في حياتي ولا بعد موتي فاعتذروا إليه مما قالوه وفارقوا على ذلك قلت فأنا والله رأيت الأمير جمال الدين التجيبي رحمه الله نائب السلطنة في الشام في أوائل الدولة الظاهرية وكان معهم مقطع معظم يونين قد اهتم بعمارة حمام في القرية واشترى القدور وسائر الآلات ولم يبق إلا عمارته ثم اتفق ما صرفه عن ذلك ثم انتقل الخبر إلى الأمير عز الدين أيدمر الظاهري متولي نيابة السلطنة بالشام بعده فشرع في ذلك واهتم به كهمة الأمير جمال الدين أو أكثر وحفر الأساس ثم بطل ذلك بموانع سماوية وأظن أميراً آخر غيرهما اقطع في القرية فعزم على مثل ذلك فلم يتم وصح قول الشيخ رحمه الله تعالى وحدثني المغربي عامر بن يحيى بنى ريان بمنزلي بقرية يونين في ثاني وعشرين ذي قعدة سنة اثنتين وتسعين وستمائة ما معناه قال قدم الشيخ عثمان رحمه الله من دير ناعر إلى بعلبك ووالدك رحمه الله في يونين وقصده وخرجت في خدمته فطرقت باب هذه الدار واستأذنت على والدك رحمه الله ودخلت إليه وقلت يا سيدي الشيخ عثمان قد حضر إلى خدمتك قال يدخل فلما دخل تلقاه والدك ورحب به وجلسا يتحدثان وحضر شيء للأكل فأكلا ومن عندهما فلما شيل السماط قال والدك للشيخ عثمان ما تطلع تزور أخاك الشيخ عيسى قال اطلع في خفارتك قال نعم في خفارتي قال وطلع وأنا معه فلما وصل إلى زاوية الشيخ عيسى تلقاه واعتنقه وبالغ في الترحيب به وجلسا يتحدثان زمنا طويلا وودعه الشيخ عثمان ونزل إلى عند والدك إلى هذه الدار فلما دخل عليه قال له والدك كيف رأيت قال له يا سيدي كل خير قال عامر فسألت الشيخ عثمان بعد ذلك عن توقفه عن الطلوع إلى الشيخ عيسى حتى أجاره والدك قال يا ولدي قدمت هذه القرية من سنين بعد وفاة الشيخ عبد الله الكبير رحمه الله بسنيات ونمت في المرح الذي في الزوايا فلما مضى بعض الليل قمت لأجدد الوضوء في الطهارة فحين خرجت إلى الطريق وجدت ثعباناً عظيماً فتح فاه وكاد يبتلعني فصرخت - ص 2 ورقة 10 ب - وقلت يا سيدي الشيخ عبد الله أنا في جيرتك وفي حسبك فلم أستتم كلامي إلا والشيخ عبد الله واقف بيني وبين الثعبان وبيده حربة وضرب الثعبان بين كتفيه بيده وقال مالك يا نحيس ضيف وارد عليك تفعل معه هذا وإذا بذلك الثعبان هو الشيخ عيسى فطلع إلى زاويته فهذا سبب قولي الذي سمعت ولو لم يجرني سيدي الشيخ الفقيه منه لما طلعت إليه وكرامات الشيخ عيسى كثيرة رحمه الله ورضي عنه. عيسى بن ظاهر بن نصر الله بن جميل أبو محمد الحلبي الحاجب - 12ب - وأظن لقبه القطب كان قيّماً بالفرائض والحساب والأوقاف وله مشاركة في غير ذلك من العلوم ولد بحلب في سادس محرم سنة أربع وثمانين وخمسمائة وانتقل إلى القدس الشريف وأقام به مدة ثم عاد إلى مدينة دمشق وأقام بها إلى سنة أربع وأربعين وستمائة ثم انتقل إلى مدينة حلب وأقام بها إلى أن توفي بها في ليلة الخميس مستهل شهر رمضان هذه السنة رحمه الله تعالى. بتها فشكونا ذلك إلى الشيخ عيسى رحمه الله وسألناه أن يكتب لنا حرزاً فأعطانا ورقة مطوية صورة حرز فشمعناها وعلقناها على بعض الأشجار فزالت الدودة عن الوادي بأسره وأخصبت أشجار التفاح بعد يبسها وحملت حملاً مفرطاً وبقينا على ذلك سنين في حياة الشيخ وبعد وفاته ثم خشينا ضياع الحرز وقلنا ننسخه فأزلنا عنه الشمع وفتحناه فإذا هو قطعة من كتاب ورد على الشيخ من بعض أهل حماة فندمنا على فتحه ثم شمعناه وأعدناه إلى مكانه فجاءت الدودة وركبت الأشجار وأعطبتها واستمر الحال على ذلك وحكى لي الحاج علي بن أبي بكر بن دلفة(1/30)
اليونيني ما معناه قال كان والدي وابن عمك نور الدولة علي بن عمر بن نيار رحمه الله قد اتفقنا على عمارة حمام بقرية يونين وحصلوا بعض آلاته وهيئوا المكان الذي يعمر فيه واهتموا بذلك واتفق أنهما طلعا إلى عند الشيخ عيسى وأنا معهما فقال لهما الشيخ رحمه الله بلغني أنكم تريدون تعمرون حماماً في هذه القرية وهذا لا تفعلوه واتركوا - ص 2 ورقة عشرة ألف - عمارته فما وسعهم إلا أن قالوا السمع والطاعة وقاموا من عنده فلما بعدوا عنه قال أحدهما للآخر كيف نعمل بهذه الآلات فقال له صاحبه الشيخ عيسى رجل كبير ما يخلد نصبر فمتى مات عمرناه فطلبهما الشيخ إليه وقال كأني بكم قد قلتم كذا وكذا وأنكم تعمرون الحمام بعد موتي وهذا لا يصير ولا يعمر في القرية حمام لا في حياتي ولا بعد موتي فاعتذروا إليه مما قالوه وفارقوا على ذلك قلت فأنا والله رأيت الأمير جمال الدين التجيبي رحمه الله نائب السلطنة في الشام في أوائل الدولة الظاهرية وكان معهم مقطع معظم يونين قد اهتم بعمارة حمام في القرية واشترى القدور وسائر الآلات ولم يبق إلا عمارته ثم اتفق ما صرفه عن ذلك ثم انتقل الخبر إلى الأمير عز الدين أيدمر الظاهري متولي نيابة السلطنة بالشام بعده فشرع في ذلك واهتم به كهمة الأمير جمال الدين أو أكثر وحفر الأساس ثم بطل ذلك بموانع سماوية وأظن أميراً آخر غيرهما اقطع في القرية فعزم على مثل ذلك فلم يتم وصح قول الشيخ رحمه الله تعالى وحدثني المغربي عامر بن يحيى بنى ريان بمنزلي بقرية يونين في ثاني(1/31)
وعشرين ذي قعدة سنة اثنتين وتسعين وستمائة ما معناه قال قدم الشيخ عثمان رحمه الله من دير ناعر إلى بعلبك ووالدك رحمه الله في يونين وقصده وخرجت في خدمته فطرقت باب هذه الدار واستأذنت على والدك رحمه الله ودخلت إليه وقلت يا سيدي الشيخ عثمان قد حضر إلى خدمتك قال يدخل فلما دخل تلقاه والدك ورحب به وجلسا يتحدثان وحضر شيء للأكل فأكلا ومن عندهما فلما شيل السماط قال والدك للشيخ عثمان ما تطلع تزور أخاك الشيخ عيسى قال اطلع في خفارتك قال نعم في خفارتي قال وطلع وأنا معه فلما وصل إلى زاوية الشيخ عيسى تلقاه واعتنقه وبالغ في الترحيب به وجلسا يتحدثان زمنا طويلا وودعه الشيخ عثمان ونزل إلى عند والدك إلى هذه الدار فلما دخل عليه قال له والدك كيف رأيت قال له يا سيدي كل خير قال عامر فسألت الشيخ عثمان بعد ذلك عن توقفه عن الطلوع إلى الشيخ عيسى حتى أجاره والدك قال يا ولدي قدمت هذه القرية من سنين بعد وفاة الشيخ عبد الله الكبير رحمه الله بسنيات ونمت في المرح الذي في الزوايا فلما مضى بعض الليل قمت لأجدد الوضوء في الطهارة فحين خرجت إلى الطريق وجدت ثعباناً عظيماً فتح فاه وكاد يبتلعني فصرخت - ص 2 ورقة 10 ب - وقلت يا سيدي الشيخ عبد الله أنا في جيرتك وفي حسبك فلم أستتم كلامي إلا والشيخ عبد الله واقف بيني وبين الثعبان وبيده حربة وضرب الثعبان بين كتفيه بيده وقال مالك يا نحيس ضيف وارد عليك تفعل معه هذا وإذا بذلك الثعبان هو الشيخ عيسى فطلع إلى(1/32)
زاويته فهذا سبب قولي الذي سمعت ولو لم يجرني سيدي الشيخ الفقيه منه لما طلعت إليه وكرامات الشيخ عيسى كثيرة رحمه الله ورضي عنه. عيسى بن ظاهر بن نصر الله بن جميل أبو محمد الحلبي الحاجب - 12ب - وأظن لقبه القطب كان قيّماً بالفرائض والحساب والأوقاف وله مشاركة في غير ذلك من العلوم ولد بحلب في سادس محرم سنة أربع وثمانين وخمسمائة وانتقل إلى القدس الشريف وأقام به مدة ثم عاد إلى مدينة دمشق وأقام بها إلى سنة أربع وأربعين وستمائة ثم انتقل إلى مدينة حلب وأقام بها إلى أن توفي بها في ليلة الخميس مستهل شهر رمضان هذه السنة رحمه الله تعالى.
المبارك بن أبي بكر بن أحمد بن حمدان بن غلبون بن ماجد بن الحسين بن علي بن حامد أبو البركات جمال الدين المعروف بابن الشعار المؤرخ الموصلي مولده بالموصل في مستهل صفر سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة وتوفي بحلب يوم الأحد سابع جمادى الآخرة هذه السنة وهو مؤلف عقود الجمان في شعراء هذا الزمان رحمه الله تعالى.
محمد بن الحسن بن عبد السلام بن عتيق بن محمد بن محمد أبو بكر التميمي السفافي الإسكندري المولد والدار المالكي العدل المعروف بابن المقدسية ولد في نصف المحرم سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة وحضر(1/33)
الحافظ أبا طاهر بن محمد السلفي وسمع من أبي القاسم هبة الله ابن البوصيري وغيره وهو آخر من بقي من أصحاب السلف وناب في الحكم بالإسكندرية مدة وتوفي بها في ثالث جمادى الأولى ودفن بمقبرة دعلة رحمه الله تعالى.
محمد بن خزرج بن ضحاك بن خزرج أبو السرايا الأنصاري الخزرجي الدمشقي الكاتب سمع من أبي اليمن الكندي وأبي القاسم عبد الصمد بن محمد الحرستاني وحدث وتوفي بتل باشر في الثاني والعشرين من جمادى الأولى ويسمى سرايا أيضاً رحمه الله تعالى.
محمد بن الفضل بن عقيل بن عثمان بن عبد القاهر بن الربيع بن سليمان بن حمزة بن طاهر بن محمد بن الحسن بن جعفر بن إبراهيم بن صالح بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب أبو طالب الهاشمي العباسي سمع من أبي طاهر بركات بن إبراهيم الخشوعي وحدث ولد في إحدى الجماديين سنة سبع وسبعين وخمسمائة بدمشق وتوفي بها في سادس عشر جمادى الآخرة رحمه الله تعالى.
محمد بن يونس بن بدران بن فيروز بن صاعد بن غالي بن محمد بن علي أبو حامد بن أبي الوليد القرشي العيدي السبتي المصري أبوه الدمشقي سمع من أبي علي الحسن بن عبد الله المكبر وحدث وحكم بدمشق نيابة عن أبيه ودرس بالمدرسة الشامية وكان والده قاضي القضاة جمال الدين أبو الفضائل المصري رحمه الله من أعيان الحكام وأماثلهم(1/34)
مشكور السيرة محمود الطريقة لين الجانب كثير التقوى والديانة وكان يباشر وكالة بيت المال بدمشق أولاً ثم ولي الحكم فيها بعد ذلك توفي أبو حامد في نصف شهر رجب بدمشق ودفن بجبل قاسيون ومولده في العشرين من صفر سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة قال شرف الدين عمر بن خواجا إمام الفارسي أنشدني تاج الدين أبو حامد - محمد - ابن يونس لنفسه دو بيت.
لما هجروا واصل جفني سهري ... قوم غدروا وأورثوني فكري.
عاتبتهم قالوا تعشق بدلا ... واختر عوضا فقلت ردوا عمري.
وله أيضا
يا عيسهم إن جزت وادي العلمي ... بالله قفي عساك تبري سقمي.
ورقى لصب ما كان يرضى أبداً ... بالوصل غدا يرقب طيف الحلم.
وله أيضاً
سحت بدموعها وسحت بدمعي ... أجفان ظنن اللبس ثوب السقم.
راض بغرامه ينادي أبداً ... في محنته يا نعمة الحب دمي.
وله
ما تم على المجنون ما تم على ... لما بعث الحبيب العتب على.
يا من عتبوا على كئيب دنف ... هل ينفع عتبكم إذا لم اك حي.(1/35)
وقال
اروي خبرا يعرفه كل فقيه ... الخمر حلال من ثناياه وفيه.
قد أرشدني الحاكم في عشقه ... إن اتركه يقال لي أنت سفيه.
وقال
بابي وبي طيف طرق ... عذب اللمى والمعتنق.
ما إن مددت يدي إل ... يه معانقا حتى أبق.
ثم انتبهت فما وجد ... ت سوى الصبابة والحرق.
فلأي عقل ما سبا ... ولأي قلب ما سرق.
وطفقت انشد بعده ... ولواء قلبي قد خفق.
أوحشت جفني يا كرى ... وحرمت انسك يا أرق.
يا شمس قلبي في هواك ... عطارد وقد احترق.
في نون صدغك حرف أي ... الكاتبين لها مشق.
أخجلت خد الورد من ... ك بوجنة مثل الشفق.
حتى تقطر دائبا ... وعلامة الخجل العرق.
يا قوم من لمتيم ... فتكت به سود الحدق.
وبقلبه من لم يدع ... رمقا له لما رمق.
شتان ما اشتملت لوا ... حظه عليه وما امتشق.
ملك الملاح ترى العيو ... ن عليه دائرة نطق.
ومخيم بين الجفو ... ن وفي الفؤاد له سبق.(1/36)
14 - ب فاز الوشاح بضمهوخليت أنا في القلق.
قيدت قلبي في هواه ... فخاف دمعي مانطلق.
يعقوب بن أبي بكر محمد بن أيوب بن شاذي أبو إسحاق الملك المعز محي الدين بن الملك العادل سيف الدين كان شقيق الملك المظفر شهاب الدين غازي وله الحرمة العظيمة في الدول وكان بخلاط لما أخذها خوارزم شاه من الملك الأشرف رحمه الله تعالى فأخذه أسيراً ثم أطلقه بعد ذلك وأجاز له جماعة من الحفاظ منهم أبو الحسن المؤيد بن محمد الطوسي وغيره وحدث وتوفي بدمشق في سادس عشر ذي القعدة ودفن من يومه بقبر والده الملك العادل بمدينة مشق رحمه الله تعالى قال سيف الدين مسعود بن حمويه أنشدني الملك المظفر نجم الدين يعقوب المذكور سنة تسع وعشرين وستمائة.
إذا ما جرى من جفن غيري أدمع ... جرت من جفوني أبحر وسيول.
ووالله ما ضاعت دموعي فيكم ... ولو أن روحي في الدموع تسيل.
اتفق أهل التاريخ على أن نجم الدين أيوب رحمه الله من دوين وهي في آخر عمل أذربيجان من جهة أرّان وبلاد الكرج وأنهم أكراد رواديه والروادية بطن من الهذبانية وهي قبيلة كبيرة وقيل أن على باب دوين قرية يقال لها أجدا يقال وجميع أهلها أكراد رواديه ومولد نجم الدين بها وكان شادي أخذ ولديه نجم الدين أيوب(1/37)
وأسد الدين شيركوه وخرج بهما إلى بغداد ومن هناك نزلوا تكريت ومات شادي بتكريت وعلى قبره قبة داخل البلد وقال قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله لقد تتبعت نسبهم كثيراً فلم أجد أحد ذكر بعد شادي أباً آخر حتى أني وقفت على كتب كثيرة بأوقاف وأملاك باسم شيركوه وأيوب فلم أر فيها سوى شيركوه بن شادي وأيوب بن شادي لا غير ورأيت مدرجاً رتبه الحسن بن غريب بن عمران الحوشي وقد سمعه عليه الملك المعظم عيسى وولده الملك الناصر داود رحمهما الله وهو يتضمن أن أيوب بن شادي بن مرون ابن أبي علي بن عنترة بن الحسن بن علي بن أحمد بن - أبي - علي بن عبد العزيز بن هدبة بن الحصين بن الحارث بن سنان بن عمرو بن مرة بن عوف بن أسامة بن - بيهس - بن الحارث صاحب الحمالة بن عوف بن أبي حارثة بن مرة بن نشبة بن غيظ بن مرة بن عوف بن سعد ابن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان ثم رفع في النسب إلى آدم عليه السلام ثم ذكر أن علي بن أحمد بن - أبي - علي بن عبد العزيز يقال أنه ممدوح المتنبي ويعرف بالخراساني وفيه يقول من قصيدة.
شرق الجو بالغبار إذا سا ... ر علي بن أحمد القمقام.
وأما حارثة بن عوف بن أبى حارثة صاحب الحمالة فهو الذي حمل(1/38)
الدماء بين عيسى..... وشاركه في الحمالة خارجة بن سنان أخو هرم بن سنان وفيهما يقول زهير بن أبي سلمى المدني قصائد منها قوله.
على مكثريهم حق من يعتريهم ... وعند المقلين السماحة والبدل.
وهل ينبت الخطى الأوشيجة ... وتغرس إلا في منابتها النخل.
قلت وقد كان المعز فتح الدين إسماعيل بن سيف الإسلام طغتكين بن أيوب بن شادي ملك اليمن أدعى نسباً في بني أمية وادعى الخلافة وبلغ ذلك عمه الملك العادل رحمه الله فأنكر ذلك وقال ليس لهذا أصل وسمعت الملك الأمجد تقي الدين عباس بن العادل رحمه الله وقد جرى ذكر نسبهم وقول بعض الناس أنهم من بني أمية ينكر أن يكون لهم نسب في بني أمية وقال ما معناه لو كان عمي صلاح الدين رحمه الله قرشياً لولي الخلافة فإن شروطها اجتمعت فيه ماعدا النسب وكان نجم الدين ِأيوب رحمه الله قد جعله عماد الدين زنكي دوادار ببعلبك لما فتحها وفي قلعة بعلبك ولد له الملك سيف الدين أبو بكر رحمه الله والد صاحب هذه الترجمة والله أعلم.
يوسف بن قزأوغلي بن عبد الله أبو المظفر شمس الدين البغدادي الواعظ المشهور سبط أبي الفرج بن عبد الرحمن بن الجوزي رحمه الله كان والده حسام الدين قزعلي من مماليك الوزير عون الدين يحيى بن هبيرة رحمه الله وكان عنده بمنزلة الولد فاعتقه وخطب له ابنة الحافظ(1/39)
جمال الدين وكانت قد تأيمت بوفاة زوجها - لبى عددها - فلم يمكن الشيخ جمال الدين إلا إجابة الوزير إلى ذلك فزوجها منه فأولدها شمس الدين المذكور فلما ترعرع اجتذبه جده إليه واشغله وتفقه واسمعه الكثير عليه وعلى غيره وكان أوحد زمانه في الوعظ حسن الإيراد ترق لرؤيته القلوب وتذرف لسماع كلامه العيون وتفرد بهذا الفن وحصل له فيه القبول التام وفاق فيه من عاصره وكثيراً ممن تقدمه حتى أنه كان يتكلم في المجلس الكلمات اليسيرة المعدودة أو ينشد البيت الواحد من الشعر فيحصل لأهل المجلس من الخشوع والاضطراب والبكاء ما لا مزيد عليه فيقتصر على ذلك القدر اليسير وينزل فكانت مجالسه نزهة القلوب والأبصار يحضرها الصلحاء والعلماء والملوك والأمراء والوزراء وغيرهم ولا يخلو المجلس من جماعة يتوبون ويرجعون إلى الله تعالى وفي كثير من المجالس يحضر من يسلم من أهل الذمة فانتفع بحضور مجالسه خلق كثير وكان الناس يبيتون ليلة المجلس في جامع دمشق ويتسابقون على مواضع يجلسون فيها لكثرة من يحضر مجالسه وكان يجري فيها من الطرف والوقائع المستحسنة والملح الغريبة ما لا يجري في مجالس غيره ممن عاصره وتقدم عصره أيضاً وكان له الحرمة الوافرة والوجاهة العظيمة عند الملوك وغيرهم من الأمراء والأكابر ولا ينقطعون عن التردد إليه وهو يعاملهم بالفراغ منهم ومما في أيديهم وينكر عليهم فيما يبدو منهم من الأمور التي يتعين فيها الإنكار وهم يتطفلون عليه(1/40)
وكان في أول أمره حنبلي المذهب فلما تكرر اجتماعه بالملك المعظم عيسى بن الملك العادل رحمهما الله اجتذبه إليه ونقله إلى مذهب أبي حنيفة رحمة الله عليه وكان الملك المعظم شديد التغالي في مذهب أبي حنيفة فغض ذلك الشيخ شمس الدين عند كثير من الناس وانتقدوه عليه حكى لي بعض الفقراء أرباب الأحوال قال له وهو على المنبر إذا كان الرجل كبيراً ما يرجع عنه إلا لعيب ظهر له فيه وأي شيء ظهر لك في الإمام أحمد حتى رجعت عنه فقال له اسكت فقال أما أنا فقد سكت وأما أنت فتكلم فرام الكلام فلم يستطعه ولا قدر عليه فنزل عن المنبر ومع ذلك كان يعظم الإمام أحمد رحمة الله عليه ويبالغ في المغالاة فيه وتوفيته بعض ما يستحق وعندي أنه لم ينتقل عن مذهبه إلا في الصورة الظاهرة والله اعلم - ومع هذا فكان له القبول التام من الخاص والعام من وأهل الدنيا أهل الآخرة وكان لطيف الشمائل، ظريف الحركات، حسن المعاملة لسائر الناس محبوباً إليهم معظماً في صدورهم وكان عنده فضيلة تامة ومشاركة في العلوم جمة ولو لم يكن من ذلك إلا التاريخ الذي ألفه وسماه بمرآة الزمان وهو بخطه في سبع وثلاثين مجلدا جمع فيه أشياء مليحة جداً وأودعه كثيرا من الأحاديث النبوية الشريفة صلوات الله وسلامه على قائلها - وجملة من أخبار الصالحين وقطعة من الأشعار المستحسنة وسلك في جمعه مسلكاً غريباً وهو من أول الزمان إلى أوائل سنة أربع(1/41)
وخمسين وستمائة هذه السنة التي توفي فيها إلى رحمة الله تعالى، وكنت اختصرته كما ذكرت في خطبة هذا المذيل ثم خطر لي أن أذيل عليه فشرعت في تعليق الحوادث والوفيات حسب ما نمى إلى علمي لاستقبال هذه السنة، وبالله التوفيق والله المستعان.
وللشيخ شمس الدين المذكور رحمه الله - 16ب - تصانيف آخر مفيدة في أنواع من علوم شتى ومولده سنة إحدى وثمانين وخمسمائة تقريباً وذكر قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله عنه أنه قال ذكرت والدتي أن مولدي في سنة أثنين وثمانين وخمسمائة وقال لي خالي محي الدين يوسف أنه في سنة إحدى وثمانين قال وكان مولدي في رجب سمع ببغداد من جده الإمام أبي الفرج عبد المنعم بن عبد الوهاب بن كليب وأبي محمد عبد الله بن أحمد بن أبي المجد وأبي حفص عمر بن محمد بن طبرزد والحافظ أبي محمد عبد العزيز بن محمود بن الأخضر وغيرهم وبالموصل من أبي طاهر أحمد وأبي القاسم عبد المحسن ابني عبد الله الطوسي وغيرهما وبدمشق من شيخ الإسلام موفق الدين أبي محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي ومن العلامة أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي وغيرهما وسمع بغير هذه البلاد من جماعة من المشايخ وحدث بدمشق وبالديار المصرية وغيرها وكان أحد العلماء المشهورين محمود الفضائل وتوفي ليلة الثلاثاء ثلث الليل العشر من ذي الحجة أوالحادي والعشرين منه بمنزله بجبل الصالحية ظاهر دمشق ودفن هناك وحضر(1/42)
جنازته الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله سلطان الشام إذ ذاك وسائر الأمراء والأكابر وغيرهم من الناس ودرس بالمدرسة الشبلية مدة وبالمدرسة - البدرية - الحسنية وبالمدرسة المعزية التي على شرف الميدان من جهة الشمال وكان إماماً عالماً فاضلاً منقطعاً عن الناس والتردد إليهم متواضعاً لين الكلمة لزم في آخر عمره ركوب الحمار من منزله بالجبل إلى مدرسته وإلى غيرها مقتصداً في لباسه مواظباً على المطالعة والاشتغال والتصنيف مصنفاً لأهل العلم والفضل مبايناً لأهل الزيغ والجهل ويأتي الملوك وأرباب الدول إلى بابه زائرين وقاصدين ومتأنسين بمحادثته والاقتباس من فوائده وعاش طول عمره في جاه طويل عريض وعيش رقيق الحواشي جعل الله ذلك مواصلاً بنعيم الآخرة وسعادتها السرمدية وولده عز الدين كان عنده فضيلة ووعظ بعده فلم يكن يدانيه في ذلك فبقي سنيات يسيرة ثم توفي إلى رحمة الله تعالى وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى وخلف ولداً صغيراً فلم يكن له من يربيه ويقوم بأمره فنشأ على غير طريقة سلفه وخدم بعض ذرية الملك المعظم عيسى رحمه الله كاتباً وغيرهم وهو إلى الآن على ذلك.
أبو الحسن يوسف بن أبي الفوارس بن موسك الأمير سيف الدين القيمري واقف الماستان بجبل الصالحية ومدفنه في القبة المقابلة له من جهة الشمال بينهما الطريق كان أكبر الأمراء في آخر(1/43)
عمره وأعظمهم مكانة وأعلاهم همة وجميع أمراء الأكراد من القيمرية وغيرهم يتأدبون معه ويقفون في خدمته وهم بين يديه كالأتباع مطاعاً فيهم ولم يزل على ذلك إلى أن توفي إلى رحمة الله تعالى في ليلة الاثنين ثالث شعبان من هذه السنة أعني سنة أربع وخمسين وستمائة رحمه الله تعالى وكان كثير البر والمعروف والصدقة ولو لم يكن له من ذلك إلا المارستان الذي ضاهى به مارستان نور الدين رحمه الله تعالى لكفاه.
حكى لي شجاع الدين محمد بن شهري رحمه الله ما معناه أن الأمير سيف الدين المذكور رحمه الله كان تزوج ابنة الأمير عز الدين بن المحلي رحمه الله على صداق كبير وجهزت بجهاز كثير واستصحبها معه إلى الديار المصرية فتوفيت هناك عن غير ولد فلما ملك الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن محمد رحمهما الله تعالى دمشق والشام حضر الأمير سيف الدين من الديار المصرية إلى خدمته وأخذ قماش زوجته المتوفاة وجهازها ومالها من الفضيات والمصاغ وغير ذلك وحمله على عشرين بغلاً ووزن باقي صداقها ومائتي ألف درهم وجعلها في صناديق وحملها على البغال وسير الجميع إلى الأمير نور الدين علي بن المحلي بحكم أنه وارثها مع زوجها فلما وصل ذلك إلى الأمير نور الدين أنكره غاية الإنكار ورده وقال لرسوله الأكراد ما جرت عادتهم يأخذون صداقاً ولا ميراثاً فلما عاد ذلك إلى الأمير سيف الدين قال هذا شيء خرجت عنه(1/44)
وما يعود إلى ملكي وصرفه جميعه في بناء المارستان وأوقافه وتصدق به.
سنة خمس وخمسين وستمائة
استهلت هذه السنة والخليفة والملوك على ما كانوا عليه في السنة الخالية وفي شهر رمضان منها توجه الملك العزيز بن الملك الناصر إلى هولاكو بهديةٍ سنيةٍ جليلةٍ وكان في خدمته الأمير سيف الدين إبراهيم الجاكي والحافظي وغيرهما وفيها أشتهر أن الملك المعز صاحب مصر قد عزم على أن يتزوج ابنة بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل وأن قد تردد بينهما الرسائل في ذلك وبلغ زوجته شجر الدر وكانت جارية الملك الصالح نجم الدين أيوب وأم ولده خليل فعظم ذلك عليها وعزمت على الفتك به وإقامة غيره في الملك فطلبت صفي الدين إبراهيم بن مرزوق وكان مقيماً في الديار المصرية وله تقدم في الدول ووجاهة عند الملوك فاستشارته في ذلك ووعدته أن يكون الوزير والحاكم في الدولة فأنكر عليها ذلك ونهاها عنه فلم تصغ إلى ذلك وطلبت مملوكها الطواشي محسن الجوجري الصالحي وعرفته ما عزمت عليه ووعدته الوعد الجميل إن قتله واستدعت جماعة من الخدام الصالحية وأطلعتهم على هذا الأمر واتفقت معهم عليه فلما كان يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من ربيع الأول لعب الملك المعز بالكرة في ميدان اللوق إلى آخر النهار ثم صعد إلى قلعة الجبل(1/45)
والأمراء في خدمته والوزير شرف الدين الفائزي والقاضي بدر الدين السنجاري فلما دخل القلعة وفارقه الموكب وصار إلى داره أتى إلى حمام الدار ليغتسل فيه فلما خلع ثيابه وثب عليه سنجر مملوك الجوجري والخدام فرموه إلى الأرض وخنقوه وطلبت شجر الدر الصفي بن مرزوق على لسان الملك المعز فركب حماره وبادر وكانت عادته يركب الحمار في الموكب السلطاني وغيره مع عظم مكانته وكثرة أمواله ودخل القلعة من باب سر فتح له وادخل الدار فرأى شجر الدر جالسة والملك المعز بين يديها ميتاً فأخبرته الخبر فعظم عليه وخاف خوفاً شديداً فاستشارته فيما تفعل فقال ما أعرف ما أقول وقد وقعت في أمر عظيم ما لك منه من مخلص وكان الأمير جمال الدين ايدغدي العزيزي معتقلاً في بعض الآدر مكرماً فأحضرته في تلك الليلة وطلبت منه أن يقوم بالأمر فامتنع وسيرت في تلك الليلة إصبع الملك المعز وخاتمه إلى الأمير عز الدين الحلبي الكبير وطلبت منه أن يقوم بالأمر فلم يجسر على ذلك وانطوت الأخبار عن الناس تلك الليلة ولما كان سحر يوم الأربعاء الرابع والعشرين منه ركب الأمراء والأكابر إلى القلعة على عادتهم وليس عندهم خبر بما جرى ولم يركب الفائزي في ذلك اليوم وتحيرت شجر الدر فيما تفعل فأرسلت إلى الملك المنصور نور الدين علي بن الملك المعز تقول له عن أبيه أنه ينزل إلى البحر في جمع من الأمراء لإصلاح الشواني التي تجهزت للمضي إلى دمياط ففعل وقصدت بذلك أن يقل من على الباب لتتمكن مما(1/46)
تريد فلم يتم مرادها.
ولما تعالى النهار شاع الخبر بقتل الملك المعز واضطربت الناس في البلد واختلفت أقاويلهم ولم يتفقوا على حقيقة الأمر وركب العسكر إلى جهة القلعة وأحد قوابها ودخلها مماليك الملك المعز والأمير بهاء الدين بغدي الأشرفي مقدم الحلقة وطمع الأمير عز الدين الحلبي في التقدم وساعده على ذلك جماعة من الأمراء الصالحية فلم يتم لهم مرادهم ثم استحضر الذين في القلعة الوزير شرف الدين الفائزي واتفقوا على تمليك الملك المنصور نور الدين علي بن الملك العز وعمره يومئذ نحو خمس عشر سنة فرتبوه في الملك ونودي في البلد بشعاره وسكن الناس وتفرقت الأمراء الصالحية إلى دورهم ولما كان يوم الخميس خامس وعشرين الشهر وقع في البلد خبط عظيم وركب العسكر إلى القلعة واتفق رأي الذين في القلعة على نصب الأمير علم الدين سنجر الحلبي المعروف بالمشد أتابكاً للملك المنصور واستحلفوا العسكر له وحلف له الأمراء الصالحية على كره من أكثرهم وامتنع الأمير عز الدين الحلبي ثم خاف على نفسه فحلف وانتظمت الأمور.
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ وفي يوم الجمعة سادس وعشرين منه خطب للملك المنصور بمصر والقاهرة وأما شجر الدر فامتنعت بدار السلطنة هي والذين قتلوا الملك المعز وطلب مماليك المعز هجوم الدار عليهم فحالت الأمراء الصالحية بينهم وبين ذلك فأمنها مماليك المعز وحلفوا أنهم لا يتعرضون لها بمساءة ولما كان يوم الاثنين التاسع والعشرين منه خرجت من دار السلطنة(1/47)
إلى البرج الأحمر وعندها بعض جواريها وقبض على الخدام واقتسمت الجواري فكان نصر العزيزي الصالحي هو أحد الخدام القتلة قد هرب يوم ظهور الواقعة إلى الشام واحتيط على الدار وجميع من فيها وكلن يوم ظهور الواقعة احضر الصفي بن مرزوق من الدار وسئل عن حضوره عند شجر الدر فعرفهم صورة الحال فصدقوه وأطلقوه وحضر الأمير جمال الدين ايدغدي العزيزي وكان الناس قد قطعوا بموته فأمر باعتقاله ثم نقل إلى الإسكندرية فاعتقل بها وفي يوم الاثنين المذكور صلب الخدام الذين اتفقوا على قتل المعز وهرب سنجر غلام الجوجري ثم ظفر به وصلب إلى جانب أستاذه محسن فمات سنجر وقت العصر من هذا اليوم على الخشبة وتأخر موت الباقين إلى تمام يومين.
وفي يوم الخميس ثاني ربيع الآخر ركب ودخل القاهرة من باب النصر وترجل جميع الأمراء خلا الأتابك علم الدين سنجر الحلبي وصعد القلعة ومد السماط للأمراء وتقرر في الملك ووزر له وزير أبيه شرف الدين الفائزي وفي يوم الجمعة ثالث ربيع الآخر خطب للملك المنصور وبعده لأتابكه علم الدين سنجر الحلبي.
وفي مستهل ربيع الآخر فوض القضاء بالقاهرة وأعمالها إلى القاضي بدر الدين السنجاري وعزل عن ذلك تاج الدين ابن بنت الأعز وأبقى عليه قضاء مصر وعملها.
وفي يوم الجمعة عاشر الشهر قبض الأمير سيف الدين قطز وعلم الدين سنجر الغتمي وسيف الدين بهادر وغيرهم من المعزية على الأتابك(1/48)
علم الدين سنجر الحلبي وأنزلوه إلى الجب بالقلعة لتخيلهم منه الاستيلاء على الملك فاضطرب الأمراء الصالحية وركب العسكر وخيف على البلد النهب ثم خاف الصالحية على أنفسهم فهرب أكثرهم إلى جهة الشام وتقنطر بالأمير عز الدين أيبك الحلبي الكبير فرسه وكذلك خاص ترك الصغير فهلكا خارج القاهرة وادخلا ميتين واتبع العسكر المنهزمين فقبض على أكثرهم وحملوا إلى القلعة واعتقلوا بها وقبض على الأمير شرف الدين الفائزي واعتقل وفوض أمر الوزارة إلى القاضي بدر الدين يوسف السنجاري مضافاً إلى قضاء القاهرة وما معها واحتيط على موجود الفائزي وكان له مال كثير ولكن كان أكثره مودعاً وأخذ خطه الأمير سيف الدين قطز بمائة ألف دينار واحتيط على بهاء الدين علي - بن محمد بن سليم - بن حنّا وزير شجر الدر وأخذ خطه بستين ألف دينار. وفي يوم الأربعاء منتصف الشهر المذكور رتب الأمير فارس الدين أقطاي المستعرب أتابكا للملك المنصور.
وفي رجب رفعت يد القاضي بدر الدين من الوزارة وأضيف إليه قضاء مصر وأعمالها فكمل له قضاء الإقليم بكامله وولي القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز الوزارة.
وفي هذه السنة وقعت وحشة في نفس الملك الناصر صلاح الدين يوسف من البحرية وأنهى إليه أنهم عزموا على اغتياله والتغلب على(1/49)
الملك فتقدم إليهم بالانتزاح عن دمشق ففارقوها على صورة العصيان والمشاققة ونزلوا غزة ثم انتموا إلى الملك المغيث فتح الدين عمر بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر ابن الملك الكامل صاحب الكرك وفي شعبان كثرت الأراجيف بالقاهرة بأن الأمراء والأجناد اتفقوا على إزالة أمر مماليك الملك المعز عن البلد وأن الملك المنصور تغير على الأمير سيف الدين قطز واجتمع أكثر الأمراء في دار الأمير بهاء الدين بغدي مقدم الحلقة ثم رضى الملك المنصور على قطز وخلع عليه وطيب قلبه.
وفي رابع شهر رمضان ركب الأمير بهاء الدين بغدي وبدر الدين بلغان بعد أن جرح بلغان وانهزم من كان معهما وحملا إلى القلعة ودخل المعزية القاهرة فقبضوا على الأمير عز الدين أيبك الأسمر وارزن الرومي وسابق الدين توزبا الصيرفي وغيرهم من الأشرفية ونهبت دورهم ووقع في البلد اضطراب عظيم ثم نودي بالأمان لمن دخل في الطاعة وسكن الناس.
وفي خامس شهر رمضان ركب الملك المنصور وفي خدمته الأمير سيف الدين قطز وباقي مماليك أبيه وشق القاهرة وفي عيد الفطر نزل الملك المنصور وصلى في المصلى ثم ركب إلى القلعة ومد السماط ووردت الأخبار إلى الديار المصرية بمفارقة البحرية للملك الناصر(1/50)
صلاح الدين يوسف فظن المصريون أن ذلك خديعة من الملك الناصر وأنه قد عزم على قصد البلاد فأخذوا في التحرز.
وفي ثالث شوال خرج من القاهرة جماعة أمراء مقدمهم الدمياطي وخرج غد هذا اليوم آخرون ونزلت العساكر بالعباسة وما حولها ثم وردت الأخبار بأن عساكر الملك الناصر وصلت نابلس لحرب البحرية وكانوا نازلين غزة ثم ورد الخبر أن البحرية كبسوا الملك الناصر وقتلوا منهم جماعة ليلاً ثم ورد الخبر أن عسكر الملك الناصر كسروا البحرية وأن البحرية انحازوا إلى ناحية زغر من الغور.
وفي الثالث عشر منه دخل جماعة من البحرية إلى القاهرة منهم الأمير عز الدين أيبك الأفرم فتلقوا بالإكرام وأفرج عن أملاك الأفرم ونزل بداره بمصر وترادفت الأخبار بالديار المصرية أن البحرية رحلوا من زغر طالبين بعض الجهات فاتضح من أمرهم أنهم خرجوا من دمشق على حمية وأنهم قصدوا القدس الشريف وهو مقطع الأمير سيف الدين ايبك من جهة الملك الناصر وطلبوا منه أن يكون معهم فامتنع فاعتقلوه وخطبوا للملك المغيث وجاءوا إلى غزة وقبضوا واليها وأخذوا حواصل الملك الناصر بغزة والقدس وغيره وقصدتهم عساكر الملك الناصر فجرى ما تقدم ذكره من كبسهم للعسكر الناصري ثم انتصر عليهم العسكر الناصري فانهزموا إلى البلقاء ثم إلى زغر ودخلوا في طاعة الملك المغيث وانفق فيهم جملة كثيرة من المال وطمعوا في أخذ مصر له(1/51)
وأنزل إليهم بعض عسكره والطواشي بدر الدين الصوابي وفي الثاني عشر ذي القعدة وردت الأخبار إلى الديار المصرية بأن البحرية عازمون على قصد البلاد فخرج الأمير علم الدين الغتمي - المعزي - وبعد العسكر وفي غد هذا اليوم وقع الانزعاج الشديد وخرجت الأمراء والحلقة واجتمع العسكر المصري بالصالحية فلما كان سحر ليلة السبت منتصف ذي القعدة وصلت البحرية ومن معهم من عسكر المغيث ووقعت الحرب بين الفريقين واشتد القتال وخرج جماعة من الناس والمصريون مع ذلك يزدادون كثرة وطلعت الشمس ورأت البحرية كثرة المصريين فانهزموا وأستوسر منهم سيف الدين الرشيدي وبه جراحات وهرب الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري وبدر الدين الصوابي إلى الكرك وبعض البحرية دخل في العسكر المصري ودخل العسكر إلى القاهرة وزين البلد لهذه الوقعة.
وفيها وصل الشيخ نجم الدين محمد البادرائي رسول الخليفة المستعصم بالله إلى دمشق المحروسة وأفاض الخلعة المكملة على الملك الناصر صلاح الدين يوسف والفرس والطوق الذهب ومعه التقليد بالسلطنة فركب بالخلعة الأمامية وكان يوماً مشهوداً.
ذكر ما تجدد للملك الناصر داود
كنا ذكرنا وصوله إلى دمشق وأقامته بتربة والده فلما رأى(1/52)
إعراض الملك الناصر صلاح الدين يوسف عنه وبلغه أنه ربما يقبض عليه مضى إلى - 22 ب - الشيخ نجم الدين البادرائي فاستجار به وسأله أن يتوجه صحبته إلى العراق فأجابه فتوجه ومعه جماعة من أولاده فلما وصلوا حلباً وكان بها الملك العزيز غياث الدين محمد بن الملك الناصر يوسف وكان أبوه قد أرسله إلى ملك التتر فورد إلى الملك العزيز ومن معه بكتاب الملك الناصر يوسف بأن تشيروا على الشيخ نجم الدين البادرائي أن لا يستصحب الملك الناصر داود معه وانهم يتحيلون في انقطاعه عنه ويقبضون عليه فلما خرج الشيخ نجم الدين متوجهاً إلى العراق ومعه الملك الناصر داود خرج الملك العزيز وجماعة من أعيان الدولة لوداعه وتقدم إليه بعضهم وحدثه في ذلك وأحس الناصر داود بالقضية فتقدم إلى الشيخ نجم الدين وأخذ بذيله وقال معاذ الله أن يمنعني مولانا من قصد الأبواب الشريفة والاستظلال بظلها وأنا معي كتاب السلطان الملك الناصر لما كنت المرة الأولى بالعراق أنه يقرر لي كل سنة مائة ألف درهم ويأذن لي في التوجه إلى حيث شئت ولم يصل إلي منه ذلك وأخرج خط الملك الناصر يوسف فقال للبادرائي هذا قد استجار بالديوان وطلب التوجه إلى الخدمة الشريفة فما يسعني منعه ومعه خط الملك الناصر أنه لا يمنع من ذلك فرجعوا الجماعة إلى حلب وسافر الملك الناصر داود فلما وصلوا قرقيسيا خاف الشيخ نجم الدين أن يصل به إلى العراق من غير تقدم فأشار عليه أن يقيم بقرقيسيا حتى(1/53)
يأخذ له دستوراً للوصول فأقام بها وأبطأ عليه الأذن فعدا الفرات إلى جهة الشام متوجهاً إلى تيه بني إسرائيل واجتمع عليه جماعة من العرب ثم كان من أمره ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
فصل
وفيها توفى أحمد بن مكي بن المسلم بن مكي بن خلف بن المسلم بن أحمد بن محمد بن خضر بن قر بن عبد الواحد بن علي بن غيلان أبو المظفر القيسي الدمشقي كان من أعيان الدمشقيين ومن البيوت المشهورة بها سمع من حنبل وحدث وتوفي بدمشق في السابع والعشرين من المحرم ودفن من الغد ببستانه من أرض بنيت لها رحمه الله.
اسمعيل بن عبد الله بن سعيد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن أبي المجد عماد الدين بن باطيش الموصلي الفقيه الشافعي كان من الأعيان الأماثل الأفاضل مولده بالموصل في السادس المحرم سنة خمس وسبعين وخمسمائة سمع من الحافظ أبي الفرج بن الجوزي وغيره وحدث وخرج لنفسه أحاديث ودرس وأفتى وصنف تصانيف حسنة مفيدة وكان أحد العلماء المذكورين وتوفي بحلب في رابع جمادى الآخرة رحمه الله تعالى.
- 23 ب - أيبك بن عبد الله الصالحي الملك المعز عز الدين المعروف بالتركماني كان في بداية أمره مملوكاً للملك الصالح نجم الدين - أيوب - اشتراه في حياة أبيه الملك الكامل وتنقلت به الأحوال عنده ولازمه في الشرق وغيره وجعله جاشنكيره ولهذا لما أمره كان(1/54)
رنكه صورة خوانجا فلما قتل الملك المعظم توران شاه ابن الملك الصالح نجم الدين وبقيت الديار المصرية بلا ملك تشوف إلى السلطنة أعيان الأمراء فخيف من شرهم وكان الأمير عز الدين التركماني معروفاً بالسداد وملازمة الصلاة ولا يشرب الخمر وعنده كرم وسعة صدر ولين جانب وهو من أوسط الأمراء فاتفقوا عليه وسلطنوه في أواخر شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين وستمائة وركب السناجق السلطانية وحملت الغاشية بين يديه وأول من حملها الأمير حسام الدين بن أبي علي ثم تداولها أكابر الأمراء وقالوا هذا متى أردنا صرفه أمكننا ذلك لعدم شوكته ولكونه من أوسط الأمراء ثم اجتمع الأمراء البحرية فاتفقوا على انه لابد من إقامة شخص في الملك من بني أيوب يجتمع الكل على طاعته وكان سبب ذلك أن الأمير فارس الدين أقطاي الجمدار والأمير ركن الدين بيبرس البندقداري والأمير سيف الدين بلبان الرشيدي والأمير شمس الدين سنقر الرومي واتفقوا أن التركماني سلطاناً عليهم واختاروا أن يقيموا صبيا من بني أيوب له اسم الملك وهم يدبرونه ويأكلون الدنيا بأسمه فوقع اتفاقهم على الملك الأشرف مظفر الدين موسى ابن الملك الناصر يوسف بن الملك المسعود بن الملك الكامل وكان عند عماته القطبيات وعمره نحو عشر سنين فأحضروه وسلطنوه وخطبوا له وجعلوا التركماني أتابك وذلك لخمس مضين من(1/55)
جمادى الأولى بعد سلطنة الملك المعز بخمسة أيام وكانت التواقيع تخرج وصورتها - رسم بالأمر العالي المولى السلطاني الملكي الأشرفي والملكي المعزى - واستمر الحال على ذلك والملك المعز المستولي على التدبير ويعلم على التواقيع والملك الأشرف صورة فلما ملك الملك الناصر صلاح الدين يوسف دمشق في سنة ثمان وأربعين خرج الأمير ركن الدين وجماعة من العسكر إلى غزة فلقيهم عساكر الملك الناصر فاندفعوا راجعين ونزلوا بالسابح وبه جماعة من الأمراء فاتفقت كلمة الجميع على مكاتبة الملك المغيث فتح الدين عمر بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر محمد بن الملك الكامل صاحب الكرك والشوبك وخطبوا له بالصالحية يوم الجمعة لأربع مضين من جمادى الآخرة فأمر الملك المعز بالنداء بالقاهرة ومصر بأن البلاد للخليفة المستعصم بالله والملك المعز نائبه بها وذلك يوم السبت لخمس مضين من جماد الآخر سنة ثمان وأربعون ووقع الحث في خروج العساكر وجددت الأيمان للملك الأشرف بالسلطنة وللملك المعز بالأتابكية ثم قصد الملك الناصر صلاح الدين يوسف الديار المصرية بالعساكر وضرب مصافاً مع العساكر المصرية وكسروا كسرة شنيعة ولم يبق إلا تملك الملك الناصر البلاد وخطب له في قلعة الجبل ومصر وغيرها من الأعمال على ما هو مشهور وتفرقوا منهزمين لا يلوون على شيء وتبعتهم عساكر الملك الناصر في شرذمة يسيرة من أعيان الأمراء والملوك تحت السناجق والكوسات تخفق وراءه وقد تحقق(1/56)
النصر والظفر وأما الملك المعز فتحيز في أمره إذ ليس له جهة يلتجئ إليها فعزم بمن كان معه من الأمراء على دخول البرية والتوصل إلى مكان يأمنون فيه على أنفسهم وظهر لهم بعد ذلك عليهم فاجتازوا إلى الملك الناصر على بعد وهم في نفر يسير - وهو في نفر يسير - فرموا أنفسهم عليه وحملوا عليه حملة رجل واحد وقتل الأمير شمس الدين لؤلؤ الأميني مدبر الدولة وأتابك العساكر والأمير ضياء الدين القيمري وغيرهما وهرب الملك الناصر لا يلوي على شيء وكسر الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن الملك العادل والملك الأشرف ابن صاحب حمص والملك المعظم توران شاه بن السلطان صلاح الدين وغيرهم واستمرت الكسرة على عساكر الشام وبلغ خبرها الأمير جمال الدين موسى بن يغمور وقد قارب بلبيس ومعه قطعة كبيرة من الجيش فقال ما علينا نحن قد ملكنا البلاد والسلطان يعود إلينا وكان بعض الأمراء قد توهم أن الملك الناصر ربما قتل فقال الأمير نجم الدين أمير حاجب لابن يغمور ياخوند جمال الدين حب الوطن من الأيمان كأنه نسبه إلى أنه أختار دخول الديار المصرية على كل حال وأنه ربما له باطن مع المصريين فغضب لذلك وثنى رأس
فرسه وعاد ولو كان دخل بمن معه لملك البلاد وعاد الملك المعز إلى الديار المصرية مظفراً منصوراً وخرج الملك الأشرف من قلعة الجبل للقائه ورسخ قدم الملك المعز وعظم شأنه واستمر الحال على ذلك إلى سنة إحدى وخمسين فوقع الاتفاق بينه وبين الملك الناصر على أن يكون له وللبحرية الديار المصرية وغزة والقدس وما في البلاد الشامية للملك الناصر وأفرج عن الملك المعظم توران شاه بن صلاح الدين وأخيه نصرة الدين والملك الأشرف بن صاحب حمص وغيرهم - 25ب - من الاعتقال وتوجهوا إلى الشام وعظم شأن الأمير فارس الدين أقطاي الجمدار والتفت عليه البحرية وصار يركب بالشاويش وحدثته نفسه بالملك وكان أصحابه يسمونه الملك الجواد فيما بينهم وخطب بنت الملك المظفر تقي الدين محمود صاحب حماة وهي أخت الملك المنصور صاحبها وتحدث مع الملك المعز أنه يريد يسكنها في قلعة الجبل لكونها من بنات الملوك ولا يليق سكناها بالبلد فاستشعر الملك المعز منه - بما عزم عليه - وعمل على قتله ولم يقدم على ذلك فكاتب الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله واستشاره على ذلك فكاتب الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله واستشاره في الفتك به فلم يجبه في ذلك بشيء مع كونه يؤثر ذلك لكنه علم أنه مقتول على كل حال وسير الأمير فارس الدين ليحضر بنت حماة إليه فخرجت من حماة ووصلت دمشق في تجمل عظيم وعدة محفاة مغشاة بالأطلس وغيره من فاخر القماش وعليها الحلي والجواهر ثم خرجت بمن معها من دمشق متوجهة إلى الديار المصرية، وأما الملك المعز فانه لما أبطأ عليه جواب الملك الناصر وتحقق أن بنت صاحب حماة في الطريق بقي بين خطتي خسف إن منعه من سكنى القلعة حصلت المباينة الكلية وإن سكنه قويت أسبابه بها ولا يعود يتمكن من إخراجه ويترتب على ذلك استقلال الأمير فارس الدين بالملك فعمل على معالجته فدخل إليه على عادته وقد رتب له الملك المعز جماعة للفتك به منهم الأمير سيف الدين قطز المعزي وغيره من مماليكه المعزية فقتلوه في دار السلطنة بقلعة الجبل في سنة اثنتين وخمسين ثم خلع بعد قتله الملك الأشرف من السلطنة وأنزله من قلعة الجبل إلى عماته القطبيات وركب الملك المعز بالسناجق السلطانية وحملت الأمراء الغاشية بين يديه واستقل بالملك بمفرده استقلالا تاما ثم أن العزيزية عزموا على قبضه في سنة ثلاث وخمسين فشعر بذلك فقبض على بعضهم وهرب بعضهم ثم تقرر الصلح بينه وبين الملك الناصر على أن يكون الشام جميعه للملك الناصر يوسف وديار مصر للملك المعز وحد ما بينهما بئر القاضي وهو فيما بين الواردة والعريش وذلك بسفارة الشيخ نجم الدين البادرائي وتزوج الملك المعز بشجر الدر في سنة ثلاث وخمسين فكان ذلك سببا لقتله وقد ذكرنا كيفية ذلك وما جرى عند ذلك وسلطنة ولده المنصور نور الدين فأغنى عن إعادته وكان الملك المعز كثير الكرم والبذل لا يمنع طالب حاجة إلا في النادر وأطلق في مدة سلطنته من الأموال والخيول وغير ذلك ما لا يحصى كثرة وكان عفيفا طاهر - 26ب - الذيل لا يشرب مسكراً ولا يرى العسف والجور كثير المداراة لخشداشيته والاحتمال لتجنيهم وشراسة أخلاقهم وخلف عدة أولاد منهم الملك المنصور نور الدين علي وناصر الدين قاآن ورأيت له ولداً آخر بالديار المصرية سنة تسع وثمانين وهو في زي الفقراء الحريرية وكان للملك المعز رحمه الله عدة مماليك أمراء نجباء منهم الملك المظفر قطز رحمه الله وسنذكره إن شاء الله تعالى وغيره، ومعظمهم كرماء على سجيته وكان قتل الملك المعز بقلعة الجبل عشية يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من ربيع الأول، وقيل السادس وعشرين منه، وكان له بر ومعروف وبنى المدرسة المعزية بمصر على النيل وهي من أحسن المدارس ووقف عليها وقفاً جيداً ولها دهليز عظيم متسع طويل مفرط في السعة والطول بلغني أن بعض الكبراء دخلها فرآها صغيرة بالنسبة إلى مجازها فقال هذه المدرسة مجاز بلا حقيقة وكان يلي تدريسها القاضي برهان الدين الخضر بن الحسن السنجاري رحمه الله إلى أن مات وهو على تدريسها وملك الملك المعز الديار المصرية نحو سبع سنين وتوفي وقد ناهز الستين سنة رحمه الله تعالى. سه وعاد ولو كان دخل بمن معه لملك البلاد وعاد الملك المعز إلى الديار المصرية مظفراً منصوراً وخرج الملك الأشرف من قلعة الجبل للقائه ورسخ قدم الملك المعز وعظم شأنه واستمر الحال على ذلك إلى سنة إحدى وخمسين فوقع الاتفاق بينه(1/57)
وبين الملك الناصر على أن يكون له وللبحرية الديار المصرية وغزة والقدس وما في البلاد الشامية للملك الناصر وأفرج عن الملك المعظم توران شاه بن صلاح الدين وأخيه نصرة الدين والملك الأشرف بن صاحب حمص وغيرهم - 25ب - من الاعتقال وتوجهوا إلى الشام وعظم شأن الأمير فارس الدين أقطاي الجمدار والتفت عليه البحرية وصار يركب بالشاويش وحدثته نفسه بالملك وكان أصحابه يسمونه الملك الجواد فيما بينهم وخطب بنت الملك المظفر تقي الدين محمود صاحب حماة وهي أخت الملك المنصور صاحبها وتحدث مع الملك المعز أنه يريد يسكنها في قلعة الجبل لكونها من بنات الملوك ولا يليق سكناها بالبلد فاستشعر الملك المعز منه - بما عزم عليه - وعمل على قتله ولم يقدم على ذلك فكاتب الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله واستشاره على ذلك فكاتب الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله واستشاره في الفتك به فلم يجبه في ذلك بشيء مع كونه يؤثر ذلك لكنه علم أنه مقتول على كل حال وسير الأمير فارس الدين ليحضر بنت حماة إليه فخرجت من حماة ووصلت دمشق في تجمل عظيم وعدة محفاة مغشاة بالأطلس وغيره من فاخر القماش وعليها الحلي والجواهر ثم خرجت بمن معها من دمشق متوجهة إلى الديار المصرية، وأما الملك المعز فانه لما أبطأ عليه جواب الملك الناصر وتحقق أن بنت صاحب حماة في الطريق بقي بين خطتي خسف إن منعه من سكنى القلعة حصلت المباينة الكلية وإن سكنه(1/58)
قويت أسبابه بها ولا يعود يتمكن من إخراجه ويترتب على ذلك استقلال الأمير فارس الدين بالملك فعمل على معالجته فدخل إليه على عادته وقد رتب له الملك المعز جماعة للفتك به منهم الأمير سيف الدين قطز المعزي وغيره من مماليكه المعزية فقتلوه في دار السلطنة بقلعة الجبل في سنة اثنتين وخمسين ثم خلع بعد قتله الملك الأشرف من السلطنة وأنزله من قلعة الجبل إلى عماته القطبيات وركب الملك المعز بالسناجق السلطانية وحملت الأمراء الغاشية بين يديه واستقل بالملك بمفرده استقلالا تاما ثم أن العزيزية عزموا على قبضه في سنة ثلاث وخمسين فشعر بذلك فقبض على بعضهم وهرب بعضهم ثم تقرر الصلح بينه وبين الملك الناصر على أن يكون الشام جميعه للملك الناصر يوسف وديار مصر للملك المعز وحد ما بينهما بئر القاضي وهو فيما بين الواردة والعريش وذلك بسفارة الشيخ نجم الدين البادرائي وتزوج الملك المعز بشجر الدر في سنة ثلاث وخمسين فكان ذلك سببا لقتله وقد ذكرنا كيفية ذلك وما جرى عند ذلك وسلطنة ولده المنصور نور الدين فأغنى عن إعادته وكان الملك المعز كثير الكرم والبذل لا يمنع طالب حاجة إلا في النادر وأطلق في مدة سلطنته من الأموال والخيول وغير ذلك ما لا يحصى كثرة وكان عفيفا طاهر - 26ب - الذيل لا يشرب مسكراً ولا يرى العسف والجور كثير المداراة لخشداشيته(1/59)
والاحتمال لتجنيهم وشراسة أخلاقهم وخلف عدة أولاد منهم الملك المنصور نور الدين علي وناصر الدين قاآن ورأيت له ولداً آخر بالديار المصرية سنة تسع وثمانين وهو في زي الفقراء الحريرية وكان للملك المعز رحمه الله عدة مماليك أمراء نجباء منهم الملك المظفر قطز رحمه الله وسنذكره إن شاء الله تعالى وغيره، ومعظمهم كرماء على سجيته وكان قتل الملك المعز بقلعة الجبل عشية يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من ربيع الأول، وقيل السادس وعشرين منه، وكان له بر ومعروف وبنى المدرسة المعزية بمصر على النيل وهي من أحسن المدارس ووقف عليها وقفاً جيداً ولها دهليز عظيم متسع طويل مفرط في السعة والطول بلغني أن بعض الكبراء دخلها فرآها صغيرة بالنسبة إلى مجازها فقال هذه المدرسة مجاز بلا حقيقة وكان يلي تدريسها القاضي برهان الدين الخضر بن الحسن السنجاري رحمه الله إلى أن مات وهو على تدريسها وملك الملك المعز الديار المصرية نحو سبع سنين وتوفي وقد ناهز الستين سنة رحمه الله تعالى.
ايبك بن عبد الله الأمير عز الدين الحلبي الكبير كان من أعيان الأمراء الصالحية النجمية وقدمائهم وممن يضاهي الملك المعز وله المكانة العظيمة في الدولة والمحل الكبير بين الأمراء يعترفون له بالتقدم عليهم والرياسة وكان له عدة مماليك أعيان نجباء صاروا بعده أمراء أكابر منهم ركن الدين أتاجي أمير حاجب وبدر الدين بيليك(1/60)
الجاشنكير وصارم الدين أزبك الحلبي وغيرهم ولما قتل الملك المعز على ما قدمنا ذكره حلف الأمراء لولده الملك المنصور وتوقف الأمير عز الدين المذكور وأراد القيام بالأمر ثم خاف على نفسه فحلف ووافق الأمراء في ذلك فلما كان يوم الجمعة عاشر ربيع الآخر وقبض الأمير سيف الدين قطز والمعزية على الأمير علم الدين سنجر الحلبي واعتقلوه ركب الأمراء الصالحية ومنهم الأمير عز الدين المذكور فتقنطر به فرسه فهلك خارج القاهرة وادخل إليها ميتاً وكذلك ركن الدين خاص ترك الصغير رحمهما الله تعالى.
شجرة الدر بنت عبد الله جارية الملك الصالح نجم الدين وأم ولده خليل كانت حظية عنده أثيرة لديه وكانت في صحبته لما كان بالكرك ولده خليلاً وحمل معها إلى الديار المصرية وبقي مديدة يسيرة يركب مع الخدام وتوفي صغيراً ولما قتل الملك المعظم توران شاه فملكت الديار المصرية وخطب لها على المنابر وكانت تعلم على المناشير وغيرها والدة خليل وبقيت على ذلك مدة ثلاثة شهور ثم استقر الأشرف والمعز على ما ذكرنا ثم تزوجها الملك المعز حسب ما شرحناه وكانت مستولية عليه ليس له معها كلام وكانت تركية ذات شهامة ونفس قوية وسيرة حسنة شديدة الغيرة فلما بلغها أن الملك المعز يريد أن يتزوج بنت الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل وقد عمل على ذلك وتخيلت منه أنه ربما عزم على إبعادها أو إعدامها لأنه(1/61)
سأم من تحجرها عليه واستطالتها فعاجلته وقتلته على ما ذكرنا فأخذها مماليكه بعد آن أمنوها واعتقلوها بالبرج الأحمر بقلعة الجبل وعندها بعض جواريها والملك المنصور ووالدته يحرضان المعزية على قتلها لأنها كانت غير مجملة في أمرهما وكان الملك المعز لا يجسر أن يجتمع بوالدة الملك المنصور ولده خوفاً من شجر الدر.
فلما كان يوم السبت حادي عشر ربيع الآخر وجدت مسلوبة مقتولة خارج القلعة فحملت إلى تربة كانت بنتها لنفسها بقرب مشهد السيدة نفيسة رحمة الله عليها فدفنت بها وكان الصاحب بهاء الدين علي بن محمد بن سليم المعروف بابن حنا وزيرها ووزارته لها أول درجة يرقى إليها من المناصب الجليلة ولما قتلت الملك المعز وأحيط بها وتيقنت أنها مقتولة أودعت جملة من المال فذهب وأعدمت جواهر نفيسة سحقتها في الهاون، عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن الحسين بن أبي الحديد أبو حامد عز الدين المدايني ولد بالمداين يوم السبت مستهل ذي الحجة سنة ست وثمانين وخمسمائة وتوفي ببغداد هذه السنة وكان فقيهاً أديباً فاضلاً وله أشعار حسنة فيها يمدح الإمام الناصر وهي هذه
قد بدا ما يسر فيما تقول ... إنما أنت عاشق لا عذول
رابني منك في ملامك تكث ... ير لصبري ببعضه تقليل
وحديث ملجلج فيه للقل ... ب على السر آية ودليل
قاتل الله شادنا أمست الأض ... داد فيه الحسين وهي شكول(1/62)
قسم البدر بيننا فله الن ... ور وعندي محاقه والذبول
أجد الناس ذا يماثل ذاك ... وفيه قد أعوز التمثيل
وارى الخلق عرضة لزوال ... وارى حسنه لا يزول
يا حميد الجفاء وهو ذميم ... وخفيف الدلال وهو ثقيل
هذه مهجتي بكفك فافعل ... ما ترى لست عن هواك احول
اسمح الناس ناصح مستخان ... ومحب على الحبيب بخيل
وتراني أروم عنك بديلا ... أنت أحلى وغيرك المملول
28ب - إنما أنت مهجتي واتخاذيبدلا عن حشاشتي مستحيل
لا تظنن جفوتي عن سلو ... عز ما خلته وسد السبيل
كم وصول هو القطوع نفاقا ... وقطوع هو المحب الوصول
لست أرضى بأن تجود بوصل ... وانتيابي عليك نزر قليل
إن يوماً أن يطلب العاشق الوصل ... ولم تسبق العيون الذيول
في التبرعات قبيح عند مثلي ... وفي القبيح جميل
ثروتي دون همتي وفراقي ... فوق طوقي وساعدي مغلول
فألام الرضا بما أنا فيه ... مشرع ميت وحي دليل
في نهوضي لها وترك اقتناعي ... مطلب منفس وكسب جليل
وانتجاع الإمام احمد عندي ... احمد الفعل والركام محيل
أنشدني أخي من أبيات رحمه الله تعالى لعز الدين عبد الحميد المذكور(1/63)
وحقك إن أدخلتني النار قلت لل ... ذين بها قد كنت ممن يحبه
وأفنيت عمري في علوم دقيقة ... وما بغيتي إلا رضاه وقربه
هبوني مسيئا أوقع الحلم جهله ... وأوبقه دون البرية ذنبه
أما يقتضي شرع التكرم عتقه ... أيحسن أن ينسى هواه وحبه
أما قلتم من كان فينا مجاهدا ... سيكرم مثواه ويعذب شربه
أما رد زيغ ابن الخطيب وشكه ... وتمويهه إذ جل في الدين خطبه
أما كان ينوي الحق فيما يقوله ... ألم تنصر التوحيد والعدل كتبه
فإن تصفحوا نغنم وإن تتجرموا ... فتعذيبكم حلو المذاق عذبه
وآية صدق الصب أن يعذب الأذى إذا كان من يهوى عليه يصبه
ولما صنف ضياء الدين أبو الفتح نصر الله بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني المعروف بابن الأثير الجزري ومولده بجزيرة ابن عمر ونشأ بها وانتقل إلى الموصل مع والده في رجب سنة تسع وسبعين وخمسمائة واشتغل بها وحصل العلوم وصنف التصانيف الدالة على غزارة علمه وفضله منها المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر جمع فيه فأوعب فلما فرغ من تأليفه كتبه الناس عنه فوصل إلى بغداد منه نسخة فانتدب له عز الدين عبد الحميد المذكور وتصدى لمؤاخذته والرد عليه وجمع هذه المؤاخذة في كتاب سماه الفلك الدائر على المثل السائر فلما(1/64)
أكمله وقف عليه أخوه موفق الدين أبو المعالي أحمد بن هبة الله فكتب إلى أخيه عز الدين المذكور يقول
المثل السائر يا سيدي ... صنفت فيه الفلك الدائرا
لكن هذا فلك دائر ... أصبحت فيه المثل السائرا
قال ابن المستوفي كانت ولادة ضياء الدين بجزيرة ابن عمر يوم الخميس العشرين من شعبان سنة ثمان وخمسين وخمسمائة وتوفي في إحدى الجماديين سنة سبع وثلاثين وستمائة ببغداد وقد توجه إليها رسولاً من جهة صاحب الموصل وصلى عليه بجامع القصر ودفن بمقبرة قريش في الجانب الغربي بمشهد موسى بن جعفر عليهما السلام وقال أبو عبد الله محمد بن النجار البغدادي في تاريخه لبغداد أنه توفي يوم الاثنين التاسع والعشرين من ربيع الآخر سنة سبع وثلاثين رحمه الله تعالى كان له تصانيف كثيرة وتواليف حسنة وترسل كثير أجاد فيه فمن رسائله ما كتبه عن مخدومه إلى الديوان من جملة رسالة - هي - ودولته هي الضاحكة وان كان نسبتها إلى العباس فهي خير دولة أخرجت للزمن كما أن رعاياها خير أمة أخرجت للناس ولم يجعل شعارها من لون الشباب إلا تفاؤلا بأنها لا تهرم وأنها لا تزال محبوة من أبكار السعادة بالحب الذي لايسلى والوصل الذي لا يصرم وهذا معنى اخترعه الخادم للدولة وشعارها وهو مما لم تخطه الأقلام في صحفها ولا أجالته(1/65)
الخواطر في أفكارها وله من رسالة في ذكر العصا التي يتوكأ عليها الشيخ الكبير وهذا لمبتدأ ضعفي الخبر ولقوس ظهري وتر وإن كان إلقاؤها دليلا على الإقامة فإن في حملها دليل على السفر وله في وصف المسلوبين من جملة كتاب يتضمن البشرى بهزيمة الكفار فسلبوا وعاضتهم الدماء عن اللباس فهم في صورة عار وزيهم زي كاس وما أسرع ما خيط لهم لباسها المحمر غير أنه لم يحط عليهم ولم يزر وما لبسوه حتى لبس الإسلام شعار النصر الباقي على الدهر وهو شعار نسخه السنان الخارق لا الصنع الحاذق ولم يغب عن لابسه إلا ريثما غابت البيض في الطلى والهام وألّف الطعن بين ألف الخط واللام.... وله يصف نيل مصر عند زيادته عذب رضى به فضاهى جنى النحل واحمر صفيحة فعلمت أنه قد قتل المحل وهذا مأخوذ من قول القائل
لله قلب لا يزال يروعه ... برق الغمامة منجدا أو مغورا
ما احمر في الليل البهيم صفيحة ... متجردا إلا وقد قتل الكرى
وكتب إلى مخدومه وقد سافر في زمن الشتاء وينهى أنه سافر عن الخدمة وقد ضرب الدجن فيه مضاربه وأسبل عليه ذوائبه وجعل كل قرارة حفيراً وكل ربوة غديراً وخط كل أرض خطاً وغادر كل جانب شطاً كأنه يوازي يد مولانا في شيمة كرمها والتياث(1/66)
صوب..... يستغفر الله من هذا التمثيل العاري عن فائدة التحصيل - 30ب - وفرق بين ما يملأ الوادي بمائه وما يملأ النادي بنعمائه وليس ما ينبت زهرا يذهبه المصيف، أو ثمرا يأكله الخريف، كمن ينبت ثروة تغوص الأعطاف ويأكل المرتبع منها والمصطاف ثم استمر على مسير بقاسي الأرض ووحلها والسما ووبلها ولقد جاد حتى أكثر وواصل حتى أضجر أسرف حتى أتصل بره بالعقوق وما خاف المملوك لمع البوارق كما خاف لمع البروق ولم يزل من مواقع قطره في حرب ومن شدة برده في كرب، والسلام.
ومن إنشائه في وصف دمشق اصدر هذه الخدمة من دمشق حرسها الله تعالى وعمرها وقد نزل بأرض خضراء ومدينة غراء وتربة زكية ونفحة ذكية وظل ظليل وماء سلسبيل ذات قرار ومعين وظباء عين فهي محل الرياض الناضرة وجنة الدنيا الزاهية على خير الآخرة تتبرج في ملابس عبقرية وتتأرج بأنفاس عنبرية فزمانها ربيع وجنابها مريع ونسيمها وان وجناها دان وقاطنها بحبها عان وليس لها في مزية الحسن ثان تطرب الحان أطيارها وتعجب ببنيان ديارها وبها قوم صميمة أنسابهم كريمة أحسابهم منيفة مناقبهم شريفة ضرائبهم فهم سحب الكرم وشهب الظلم ومعادن الحكم وعليهم من نعم الله(1/67)
السرية الأقدار العزية من الأكدار الفائضة فيض الغمام المذكور ما لا يفرق بين رئيسهم ومرؤسهم في زيهم وملبوسهم ولا يميز بين أماثلهم وأراذلهم في مشاربهم ومآكلهم وفيهم ظبيات وجآذر يلقى الإنسان في حبهم ما يحاذر في أعطافهم هيف وفي خصورهم ديف ينظرن من عقد سحر ويبتسمن عن عقود در فقد ودهم أغصان مثمرة وعيونهم سيوف مشهرة
فإذا شنت عليهم غارة ... اغمدوا البيض وسلوا الأعينا
وفي بلدهم من عجائب الآثار التي سارت بها شوارد الأخبار ما استفاض بين المنجد والمغور واستغرق وصف الواصف المكثر فمن ذلك بناء المسجد الجامع ذي العمارات الروائع والصنائع البدائع الذي حوى سعة الفناء وحسن البناء وكأنما فرشت أرضه بألوان الأزهار ونقشت سقوفه بخالص اللجين والنضار وبظاهر البلدة من أصناف الجواسق بين ألفاف الحدائق ما يلوح للموفي على مرابعها والمطل على مراتعها كأنها كواكب السماء ومراكب الداماء وكأنها غدران البرائك المتبرجة في وشائع الحبائك فلو جاز الرضا بجنابها الأنيق لم يتغزل برامة والعقيق
ولو بظبائها الخفرات ... لم يذكر يوما ظباء السمرات
بلدة قد خصها الل ... هـ بطيب الثمرات
وبها سرب ظباء ... لا ظباء السمرات(1/68)
يتهادين اختيالا ... بضروب الحبرات
31ب - ويذودن محبيهن فيض العبرات
وقد وافيتها في زمن المشمش الذي له الذكر الدائر والمثل السائر فرأيت منظرا بهياً ومخبراً شهياً ذا لون ذهبي وشكل كوكبي وعرف مندل وطعم عسل كأنما تألف من نسيم، وتجمع من تسنيم فهو يتمزق للطافة جلده ويزهو بلذة طعمه وعظم قده ولما حللت بمغناها واكتحلت بسناها سرت بين نضير الأشجار وخرير الأنهار من طلوع الشمس إلى انتصاف النهار فظللت بين ملعب ومرتع ومرأى ومسمع.
هذه المنازل لا وادي العقيق ولا ... رمل المصلى ولا أكناف يبرين
ومما لقيته بها من المسار العظيمة وشهدته فيها من المشاهد الكريمة أن جاءني بعض خواصها في يوم صفا ورده وأشرق سعده وتهلل بشره وغفل عنه دهره يقدم عصبة يعرف في وجههم نضرة النعيم ويهتدي بأنوار شيمهم في الليل البهيم فداني بإحسانه ودعاني إلى بستانه فنهضت معهم كأني أساير بدورا وأجاور بحورا حتى انتهينا إلى جنة معروشة وروضة مفروشة تنفجر عيونها وتتهادى غصونها يحيط بها نهر حصباؤه من الجوهر وماؤه من الكوثر.
أرض حصاها جوهر وترابها مسك ... وماء المد فيها قرقف
وبها قصر رفيع الذرى وسيع المذرى مفرق الشرفات مزخرف الغرفات وبعوته بركة مرصوفة الجدر بأنواع الصور فمن(1/69)
أشجار مائلة وأطيار غير هادلة ومن غزلان خلفها فهود وفيول عليها أسود وعلى جنباتها ألسنة من الماء مختلفة الصفات لا الأسماء فهي أعذب من حب الغمام وارق من فيض المدام فلما نزلنا بساحتها الفسيحة الأقطار وأخذنا بحظ الأسماع والأبصار سرحنا تحت الأشجار لاقتطاف الثمار فظللت اجتني من الغصون ثمرا واجتلي من أخلاق تلك العصبة درراً حتى حزت من أحديهما لذة هنيئة ونظمت من الأخرى عقوداً سنية وكان ذلك اليوم مما يعد بالأعمار الطوال ولا يأتي على وصفه جوامع الأقوال وورد بغداد معوناً بالإمام الناصر ومهنياً بولده الإمام الظاهر فقال العبد.
عبد الرحمن بن أبي الفهم أبو محمد تقي الدين اليلداني كان رجلا صالحا مشتغلا بالحديث سمّاعاً وكتابة وإسماعاً إلى أن توفي بقرية يلدا من غوطة دمشق في ثامن ربيع الأول وقد ناهز مائة سنة من العمر ذكر انه كان مراهقاً سنة سبع وستين وخمسمائة حين طهر الملك العادل نور الدين محمد بن زنكي رحمه الله ولده وانه حضر مع صبيان قريته الطهور ولعب الأمراء بالميدان وقال أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه وانه قال له يا رسول الله بالله ما أنا رجل جيد فقال بلى أنت رجل جيد رحمه الله.
- 32ب - عبد الله بن محمد بن الحسن بن عبد الله بن الحسن بن عثمان(1/70)
أبو محمد بن أبي الوفاء بن أبي محمد بن أبي سعد نجم الدين البغدادي البادرائي الشيخ الإمام العلامة مولده في أخر محرم سنة أربع وتسعين وخمسمائة سمع من جماعة وحدث ببغداد وحلب ودمشق ومصر وغيرها من البلاد وأفتى ودرّس بالمدرسة النظامية ببغداد وترسل عن الديوان إلى الشام ومصر وغيرها من البلاد إلى ملوك الأطراف ولم يزل يتردد في المهمات والرسائل إلى هذه السنة فعاد من الشام إلى بغداد فلما قدمها ولي قضاء القضاة بها وبجميع البلاد الإسلامية وتقلد ذلك وهو متمرض وتوفي بعد ذلك بأيام يسيرة قيل سبعة عشر يوماً وكانت وفاته في مستهل ذي القعدة وقيل في أواخر ذي الحجة والأول أصح وكان فاضلاً ديناً متواضعاً حسن المقاصد كثير التأني في بلوغ الآمال على أحسن وجه وحصل في ترسله إلى الملوك جملاً طائلة فابتاع من ذلك دار أسامة بدمشق وعمرها مدرسة للشافعية ووقف عليها أوقافاً كثيرة وذكر بها الدرس بنفسه أول ما فتحت وحضر درسه الملك الناصر صلاح الدين يوسف وسائر أرباب الدولة والعلماء والقضاة ومد بها سماطاً عظيماً في ذلك اليوم ثم رتب بها معيدين أحدهما الشيخ كمال الدين رسلان بن الحسن الأربلي والآخر الشيخ نجم الدين الموقاتي وجعلها محصورة على عدد معلوم وعين مقدار ما يصرف إلى كل نفر منهم من الجامكية والخبز وشرط - أن لا يكون الفقيه بها بمدرسة أخرى ولا يكون متأهلاً وشرط - عليه السكنى بها وشرط على(1/71)
المدرس أن لا يكون له مدرسة أخرى ثم ولي تدريسها بعد وفاته ولده جمال الدين عبد الرحمن فدرس بها مدة سنين وتوفي إلى رحمة الله تعالى بدمشق وهي من أحسن مدارس دمشق لا بل أحسنها على الإطلاق وكان المتحدث في نظرها وجيه الدين محمد بن سويد التكريتي ثم القاضي عز الدين محمد بن الصائغ ثم اثبت أن الوجيه جعل النظر لزوجته والمباشر لنظرها الآن حال تسطير هذه الأسطر ولدها نصر الدين ولد وجيه الدين المذكور.
وخلف جمال الدين ولداً ذكراً بقي بعده مدة يسيرة ومات وكان الشيخ نجم الدين حسن الاعتقاد في الصلحاء والفقراء يزورهم ويبرهم ويقضي حوائجهم وكان دمث الأخلاق حسن المحاضرة كثير المباسطة بلغني أنه قال للزين خالد النابلسي تذكر ونحن في النظامية والفقهاء يلقبونك خولتا قال نعم وكانوا يلقبونك بالدعشوش فضحك الشيخ نجم الدين واعجبه منه هذه المباسطة وكان يسلم على كل من يمر به وهو راكب يشير بإصبعه بالسلام وبلغني في موجب ترسله أن الملك الصالح نجم الدين سير إلى الديوان القاضي نجم الدين قاضي نابلس وكان عنده رياسة وفضيلة وله مكانة عند الملك الصالح نجم الدين وأمره أن يخاطب الخليفة في أداء الرسالة عنه بما كان السلطان صلاح الدين رحمه الله يخاطب به الإمام الناصر في كتبه ورسائله وهو الخادم فلما أدى قاضي نابلس الرسالة كما أمره مخدومه أنكر عليه ذلك وترك في المكان الذي وقف فيه لأداء الرسالة على حالته قائماً وبلغته الشمس فكاد(1/72)
يهلك فأدى الرسالة على ما أرضى الديوان وحصل عند الخليفة تأثر من ذلك وقال من هذا الرسول قالوا هو فقيه من أهل نابلس قال وما هي نابلس قيل بلدة لطيفة من أعمال دمشق فقال أبصروا لنا فقيهاً يكون من قرية ولقبه نجم الدين ليتوجه بجواب الرسالة فطلبوا بالمدرسة المستنصرية والمدرسة النظامية شخصاً بهذه الصفة فلم يجدوا سوى الشيخ نجم الدين فأحضروه وجهزوه وأرسلوه وصحبته قاضي نابلس فلما صارا في الطريق قيل لقاضي نابلس ينبغي أن تغير لقبك تأدبا مع رسول الديوان العزيز ومع مخدومك فأن لقبه نجم الدين فغير لقبه مسافة الطريق وكان ذلك بداية سعادة الشيخ نجم الدين وظهر منه كفاية تامة في ذلك وشكر أثره وجميل اعتماده وأما الملك الصالح فغضب على قاضي نابلس وقال كنت بقيت مكانك إلى أن مت ولا أديت عني ما لم أمرك به وانحطت رتبته عنده لذلك وقال شهاب الدين عبد الرحمن في يوم الأربعاء ثامن عشر ذي الحجة عمل عزاء الشيخ نجم الدين المذكور بمدرسته التي أنشأها بدمشق وقال القاضي جمال الدين بن واصل أنه ولي القضاء ببغداد في ثالث عشر ذي القعدة واستمر فيه مريضاً سبعة عشر يوما وتوفي وظاهر الحال أنه توفي في سلخ شهر ذي القعدة رحمه الله.
علي بن محمد بن الرضا بن محمد بن حمزة بن أميركا أبو الحسن الحسيني الموسوي الطوسي المعروف بابن دمير خان مولده في رابع صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة بحماة وله شعر حسن وتصانيف كثيرة وكان(1/73)
فاضلاً متفنناً توفي في رابع شهر ربيع الآخر كان ورد أربل في شهر ربيع الأول سنة خمس وعشرين وستمائة من بغداد وذكر انه مدح الإمام المستنصر بالله وأجازه جائزة سنية وأول القصيدة المشار إليها.
البيض أخلق بالفتى والأسمر ... إن خانه البيض الدمى والأسمر
إن المهند والمثقف ملجأ ... لمسهد لسوى العلي لا يسهر
أيسومني سلطان حبك ذلة ... وبي المهامة والمهاوى اجدر
ولأن قتلت بسهم لحظك طالما ... قتل الضراغمة الغزال الأحور
كم زرت حيك واللهاذم والظبي ... في النقع من مهج الفوارس تقطر
وخفيت سقماً عنهم وكأنني ... في خاطر الظلماء وهم يخطر
34ب - كم ذأ مني النفس عنك تجلداوالعاذلون بسر وجدي أخبر
كذب التجلد والعواذل والمنى ... لا كان صب عن حماك يصبر
من لي بوصلك والزمان مساعدي ... والعيش في سود الذوائب أخضر
والليل في عرس الوصال قميصه ... بالزاهرات مدرهم ومدنر
قد شد منطقة المجرة وامتطى ... بالتاج والإكليل فيها خنجر
- من أبيات مدحه بها - وقال
أعاتب عيني وهي أول من جنى ... وأزجر قلبي كي يحيد عن الحب
فإن قلت قلبي قال عيناك قد جنت ... وإن قلت يا عيني تحيل على القلب
وقد حرت بين اثنين كل بجهده ... يسوق بليات الغرام إلى لبي(1/74)
وقال شرف الدين ابن المستوفي وزير أربل رحمه الله أغار بهذه الأبيات على أبيات حفظها في المكتب وهي.
إذا لمت قلبي قال عيناك أبصرت ... وإن لمت عيني قالت الذنب للقلب
فعيني وقلبي قد تشاركن في دمي ... فيارب كن عوني على العين والقلب
غازية خاتون بنت الملك الكامل محمد بن الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن أيوب بن شادي والدة الملك المنصور صاحب حماة كانت صالحة دينة تحب الخير وأهله وأقامت منار العدل بحماة وهي المدبرة للأمور منذ توفي زوجها الملك - 35 ألف - المظفر ونصب مكانه ولده الملك المنصور والمرجع إلى ما ترسم به في الجليل والحقير وكانت وصلت إلى حماة في سنة تسع وعشرين وستمائة وولد لها من الملك المظفر ابنان وثلاث بنات أما الابنان فالملك المنصور ناصر الدين أبو المعالي محمد ومولده في ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثين وستمائة والأفضل نور الدين أبو الحسن علي ومولده سنة خمس وثلاثين وأما البنات فتوفيت الكبرى منهن قبل وفاة والدتها بقليل فدفنتها بقلعة حماة ولما توفيت الصاحبة دفنت إلى جانبها ثم لما توفيت الصاحبة عائشة خاتون بنت الملك العزيز غياث الدين محمد بن الملك الظاهر زوجة الملك المنصور ووالدة ولده الملك المظفر دفنت في التربة المذكورة ثم لما توفي الملك المنصور دفن في تربة عملت - له - إلى جانب الجامع الأعلى بحماة ونقل المدفونون بالقلعة ِإلى التربة المذكورة وكانت وفاة غازية خاتون ليلة الأحد تاسع عشر ذي القعدة أوذي الحجة هذه السنة(1/75)
رحمها الله تعالى.
محمد بن سيف بن مهدي أبو عبد الله اليونيني الشيخ الصالح كان صحب الشيخ عبد الله الكبير رحمة الله عليه وأخذ عنه وانتفع به ثم انقطع في زاوية اتخذها في كرم له قبلي قرية يونين متوفراً على العبادة ويتردد إلى القرية في بعض الأوقات وكان حلو العبارة حسن الحديث والمذاكرة - 35ب - بأخبار الصالحين رحمهم الله تعالى وعنده كرم وسعة صدر وإيثار ولم يزل على ذلك إلى أن توفي إلى رحمه الله تعالى في هذه السنة بقرية يونين وقد جاوز السبعين سنة من العمر ودفن في زاويته المذكورة رحمه الله تعالى وخلف عدة أولاد لم يقم أحد منهم مقامه بل أقام في الزاوية المشار إليها ابن أخيه وهو أبن زوجته أيضاً الشيخ سليمان بن علي بن سيف بن مهدي نفع الله به وهو من الصلحاء الأعيان العباد يسرد الصوم ويقوم معظم الليل ويبادر إلى السعي في قضاء حوائج الناس ويتجشم في ذلك المشاق وهو من ألطف الناس وأكرمهم وأكثرهم بشراً بمن يرد عليه مع شدة التواضع وملازمة الذكر والتلاوة وللكتاب العزيز وعدم الغيبة لأحد من خلق الله تعالى وسيأتي ذكره في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
محمد بن عبد الله بن محمد بن ِأبي الفضل أبو عبد الله شرف الدين السلمى الأندلسي المرسي المغربي النحوي المتكلم الأصولي الفقيه المالكي صاحب التصانيف المشهورة في التفسير وغيره مولده بمرسية في ذي الحجة سنة تسع وستين وقيل سنة سبعين وقيل سنة إحدى وسبعين(1/76)
وخمسمائة قرأ القرآن الكريم ببلده على أبى محمد غلبون بن محمد بن غلبون النحوي والنحو على أبى على الشلوبين وسمع - 36 ألف - بالمغرب والحجاز والشام والعراق وخراسان وحصل الأصول والنسخ وكان مكثراً شيوخاً وسماعاً وحدث بالكثير مدة بالحجاز وديار مصر والشام والعراق وجاور بمكة زمناً طويلاً وكان من أعيان العلماء الأئمة الفضلاء ذا معارف متعددة بارعاً في علم العربية وتفسير القرآن الكريم وله مصنفات مفيدة ونظم حسن وهو مع ذلك متزهد تارك الرياسة حسن الطريقة قليل المخالطة للناس كثير الصلاح والعبادة والحج مقتصد في أموره محقق البحث، محصل الكتب العلمية، مفتن بها، له قبول بسائر البلاد الإسلامية لا يحل ببلد إلا ويكرمه رؤساؤه وأهله وكان أكثر مقامه بالحجاز ومصر والشام وتوفي في منتصف ربيع الأول بين الزعقة والعريش وهو متوجه من مصر إلى دمشق ودفن بتل الزعقة رحمه الله تعالى، ومن شعره قال المبارك بن أبي بكر بن حمدان أنشدني لنفسه بحلب ملغزا باسم يحيى.
أتبكى وما بالقلب من لوعة الحب ... وما قد جنت تلك اللحاظ على لبى
أعارتني السقم الذي بجفونها ... ولكن عذا سقمي على سقمها يربى
على أنني في بثك الحب مثل ما ... يبوح بما في الصدر منه إلى القلب
أما وهواك المذهبي إن مهجتي ... تقسمه بين الصبابة والكرب
وإني ما ذقت الكرى مذ سلبتني ... وما حال من يصبو إذا صد من يسبي(1/77)
36ب - كتمت الذي في من هواك عن الورىعلى أن دمعي ذو ولوع بأن ينبي
ولكن سأبديه إليك لأنني ... أرى ذلك الإبداء من سنة الحب
صبا بفؤادي نحوك اثنان سودد ... وحسن فعذر واحد منهما يصبي
فديتك من قاض على لو انه ... تعدى أسمه لي ما قضيت أسى نحى
ودونكها بكرا لها وحيائها ... ردايت فيع مروعة السرب
؟ فمر لها كفا فمنك حياؤها ولا تبدنيها فهي من ذاك في رعب وقال أنشدني وقد تماروا عنده في الصفات.
من كان يرغب في النجاة فما له ... غير أتباع المصطفى فيما أتى
ذاك السبيل المستقيم وغيره ... سبل الغواية والضلالة والردى
فاتبع كتاب الله والسنن التي ... صحت فذاك إذا اتبعت هو الهدى
ودع السؤال ... وكيف فإنه ... من باب بحر ذوي البصيرة للعمى
الدين ما قال الرسول وصحبه ... والتابعون فمن منا هجهم قفا
وقال
تقبل أبا بكر كتابا وهبته ... كقلبي لا أبقي إلى إيابه
وطبت به نفسا فخذه بمثل ما ... عذا أحدا يجني النبي كتابه
وقال
قالوا محمد قد كبرت وقد أتى ... داعي الحمام وما اهتممت بزاد(1/78)
وقال الشيخ سعد الدين مسعود بن حمويه أنشدني الشيخ شرف الدين المذكور رحمه الله لنفسه في سنة خمسين وستمائة.
أيجهل قدري في الورى ومكانتي ... تزيد على مرقى السماكين والنسر
ولي حسب لو انه متقسم ... على أهل هذا العصر تاهوا على العصر
كما أن فضلي باهر لذوي النهي ... وهل يختفي عند البدور سنا البدر
وأعجب أن الغرب تبكي لفرقتي ... دما ومحيا الشرق يلقى بلا بشر
محمد بن عمر بن محمد بن عبد الله بن حمويه أبو جعفر التيمي البكري السهوردي المولد البغدادي الدار الصوفي ومولده بسهر ورد سنة سبع وثمانين وخمسمائة في صفر سمع من الإمام أبي الفرج بن الجوزي وغيره وكان والده الشيخ شهاب الدين شيخ وفقيه في الطريقة وتربية المريدين رحمه الله تعالى وكانت وفاة ولده أبي جعفر المذكور في عاشر جمادى الآخرة رحمه الله تعالى.
محمد بن محمد بن إبراهيم بن الخضر أبو نصر الحلبي الحاسب ويلقب بالمهذب كان والده يعرف بالبرهان المنجم الطبري ولد المهذب بحلب سنة ثمانين وخمسمائة وكان فاضلاً أديباً وله تواليف مفيدة وصنف زيجاً ومقدمة في الحساب وغير ذلك وله ديوان شعر في مجلدين واستوطن صرخد وتوفي بها ليلة السبت ودفن يوم السبت الظهر ثاني عشر شهر ذي الحجة في هذه السنة.
محمد بن أبى القاسم - قاسم - بن فيره بن خلف بن أحمد أبو عبد الل(1/79)
هـ - 37ب - الشاطبي الرعيني الأصل المصري المولد والدار المقرئ العدل ومولده في حادي عشر ذي الحجة سنة سبع وسبعين وخمسمائة بمصر وتوفي بالقاهرة في حادي عشر شوال ودفن من يومه بسفح المقطم سمع من أبيه وغيره وحدث وأبوه الإمام أبو القاسم أحد القراء المجودين والعلماء المشهورين والصلحاء المتورعين قرأ القرآن العزيز بالروايات وسمع من جماعة واقرأ وحدث وصنف القصيدة المشهورة في القراءات التي لم يسبق إلى مثلها ولم يكن في مصر في زمانه مثله في تعدد فنونه وكثرة محفوظه رحمه الله تعالى.
هبة الله بن صاعد الفائزي الملقب شرف الدين كان في صباه نصرانياً ويلقب بالأسعد وهو منسوب إلى الملك الفائز سابق الدين إبراهيم ابن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب لأنه خدمه أولا وفي الفائزي يقول جمال الدين يحيى بن مطروح وقيل بهاء الدين زهير.
لعن الله صاعداً ... وأباه فصاعداً
وبنيه فنازلاً ... واحدا ثم واحداً
ثم أسلم الفائزي وتوفي وكان عنده رياسة ومكارم ونفسه تسمو إلى الرتب العالية وخدم الملك الكامل بعد موت الفائز ثم خدم ولده الملك الصالح وغيرهما من الملوك - 38 ألف - وتنقلت به الأحوال حتى استوزره الملك المعز في أوائل ما تملك بعد أن صرف القاضي تاج الدين(1/80)
عبد الوهاب بن خلف المعروف بابن بنت الأعز وكان قد ولي الوزارة أول دولة الملك المعز فصرف بشرف الدين الفائزي فلما ولي الفائزي تمكن من الملك المعز تمكناً كثيراً بحيث تقدم على الجيش في الحرب وكان الملك المعز يكاتبه بالمملوك وكان في الفائزي كرم طباع وأريحية وحسن نظر في حق من يصحبه وينتمي إليه ولم تزل منزلته عند الملك المعز في تزيد إلى أن قتل وتملك ولده كما ذكرنا فباشر وزارة الملك المنصور ابن المعز أياماً يسيرة وهو مضطرب فتخيل توقع النكبة فقبض عليه الأمير سيف الدين قطز مدبر دولة الملك المنصور واخذ خطه بمائة ألف دينار لنفسه وبقي معتقلاً وكان يتهم بأموال كثيرة قال القاضي برهان الدين الخضر بن الحسن السنجاري دخلت إليه في مجلسه فسألني أن أتحدث في إطلاقه على أن يحمل في كل صباح ألف دينار فقلت له كيف تقدر على هذا فقال أقدر عليه إلى تمام سنة وإلى سنة يفرج الله عني فلم تلتفت مماليك المعز إلى ذلك وعجلوا هلاكه فخنق وحمل إلى القرافة فدفن بها رحمه الله تعالى وكانت ابنته زوجة فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين وبطريق هذه المصاهرة ترقى الصاحب بهاء الدين وولده فخر الدين فأولدها فخر الدين المذكور تاج الدين - المذكور - 38ب - محمدا وشهاب الدين أحمد وبنتاً أخرى هي زوجة عز الدين ابن محيي الدين أحمد بن الصاحب بهاء الدين المذكور ونالت ابنة الفائزي من السعادة في الأيام الظاهرية ما لا يوصف وتوفيت إلى رحمة الله وكانت(1/81)
كثيرة البر والمعروف مفرطة في السمن وبهاء الدين الفائزي اجتمعت به بمكة شرفها الله تعالى في آخر سنة ثلاث وسبعين وستمائة ورافقني إلى المدينة صلوات الله على ساكنها وسلامه في سنة خمس وسبعين - وسنة ست وسبعين - وهو معرض عن الخدم يظهر التزهد وينفق من بقايا بقيت.
له ثم رأيته بالقاهرة في سنة تسع وثمانين وقد ظهر عليه الفقر والاحتياح بحيث رغب أن يخدم في بعض الفروع بالإسكندرية فلمته على ذلك فذكر أن عنده عائلة كثيرة وليس له ما يقوم ببلغتهم فعذرته والله يلطف به وبنا.
وفي شرف الدين الفائزي يقول الشاعر.
خلف الأسعد ما خان وقد ... شهدت أفعاله المشتبهه
نقده ستون نقدا عدداً ... عن سسات الرشى منزهه
فالبغال الشهب من أين له ... والجوار الترك من أي جهة
وكانت وفاته في ربيع الآخر أو جمادى الآخرة رحمه الله تعالى كتب إليه ناصر الدين بن المنير قاضي الإسكندرية أبياتاً مدحه بها منها
ألا أيها البدر المنير وأنني ... لأخجل إن شبهت وجهك بالبدر
لأن غبت عن عيني وشطت بك النوى ... فما زلت أستجليك بالوهم في فكري
وحق زمان المذكور لي بطويلع ... وأنت معي ما سر من بعدكم سرى(1/82)
- ومنها -
ويا سيدا تأتي الوفود لبابه ... فيلقاهم بالبشر والنائل الغمر
ويا من له في الجود ضرب بلاغة ... يقابل منظوم المدايح بالنثر
متى ما أقمت العبد في الخمس نائبا ... غدا مستقلا بالدعاء وبالشكر
وقال يرثيه
عيل صبري وعز عندي عزائي ... بعد فقدي لسيد الوزراء
شرف الدين والذي شرف الد ... ين بفضل وعفة وتقاء
والوزير الذي أقام منار ال ... عدل في حال شدة ورخاء
جهل العلم بعده واستخف الح ... لم يا طول حسرة العلماء
كان فيه لله سر خفي ... دق معنى عن فطنة الأذكياء
والبليغ الذي إذا عم خطب ... ناب عنه اليراع عن خطباء
والفصيح الذي إذا ما امتطى القر ... طاس أزرى بسائر الفصحاء
- ومنها -
قلت لمن سره مصابك يوما ... قد كفى ما جرى على الخلفاء
وإذا ما عدا على الأعادي ... فالهنا إن أعد في الشهداء
- ومنها -
يا قريبا دفن الأقارب مني ... وولي من سائر الأولياء
خذ عروس الثريا مني تجلى ... في ثياب من صفوتي وولاء
- 39ب - يحيى بن سليمان بن هادي أبو زكريا السبتي كان أحد الأشيايخ المشهورين والصلحاء المذكورين سكن القرافة مدة وله بها زاوية(1/83)
معروفة وقيل أنه كان لا يأكل الخبز وكان له قبول من الخاصة والعامة توفي في منتصف شوال بالقاهرة ودفن من الغد بها رحمه الله تعالى.
أبو الحسن المغربي المورقي نور الدين الأمير هو من أقارب المورقي الملك المشهور ببلاد المغرب توفي نور الدين في أول ربيع الأول بدمشق ودفن بجبل قاسيون بمقبرة الأمير جمال الدين موسى بن يغمور رحمه الله تعالى وكان فاضلاً فمن المنسوب إليه من أبيات.
القضب راقصة والطير صادحة ... والشر مرتفع والماء منحدر
وقد تجلت من اللذات أوجهها ... لكنها بظلال الدوح تستتر
فكل وادٍ به موسى يفجره ... وكل روض على حافاته الخضر
ومن المنسوب إليه أيضاً.
وذي هيف راق العيون أنتباره ... بقد كريان من البان مورق
كتبت إليه هل تجود بزورة ... فوقع لا خوف الرقيب المصدق
فأيقنت من لا بالعناق تفاؤلا ... كما اعتنقت لاثم لم تتفرق
وهذا أحسن من قول ذي القرنين بن حمدان.
إني لأحسد لافي أول الصحف ... إذ رأيت اعتناق اللام للألف
وأحسن من هذا قول القيسراني
أستشعر الناس من لاثم يطمعني ... إشارة في اعتناق اللام للألف(1/84)
؟
سنة ست وخمسين وستمائة
دخلت هذه السنة والملك الناصر صلاح الدين يوسف بن محمد بدمشق والبحرية ومن انضم إليهم من الأمراء الصالحية وعلى بن الملك المغيث صاحب الكرك متفقون عل قصد الديار المصرية ووصل إليهم الملك المغيث ونزل بدهليزه بغزة وأمر البحرية كله راجع إلى الأمير ركن الدين البندقداري ووصل الأمير سيف الدين قطز وعساكر مصر ونزلوا حول العباسة مستعدين لقتالهم.
وفيها استولى التتار على بغداد والعراق بمكيدة دبرت مع وزير الخليفة قبل ذلك وآل الأمر إلى هلاك الخليفة وأرباب دولته وقتل معظم أهل بغداد ونهبوا وذلك في يوم الأربعاء عاشر صفر قصد هولاكو بغداد وملكها وقتل الخليفة المستعصم بالله رحمه الله وما دهى الإسلام بداهية أعظم من هذه الداهية ولا أفضع وسنذكر خبرها مجملاً إن شاء الله تعالى.
قد علم تملك التتر أكثر المماليك الإسلامية وما فعلوه من خراب البلاد وسفك الدماء وسبي الحريم والأولاد ونهب الأموال وكانوا قبل هذه السنة قد قصدوا إلا لموت بلد الباطنية ومعقلهم المشهور وكان صاحب إلا لموت وبلادها علاء الدين محمد بن جلال الدين حسن المنتسب - 40ب - إلى نزار بن المستنصر بالله العلوي صاحب مصر وتوفي وقام مقامه ولده الملقب شمس الشموس وكان الذي قصد الالموت هولاكو وهو من ذرية جنكيز خان الذي قصد بلاد الإسلام سنة ستة عشر وستمائة(1/85)
واندفع بين يديه السلطان علاء الدين محمد بن تكش وفعل تلك الأفاعيل العجيبة المسطورة في التواريخ وهو صاحب أمة التتر التي مرجعهن إليها وكان جنكيز خان عندهم بمنزلة النبي لهم ولما نازل هولاكو الالموت نزل ِإليه صاحبها ابن علاء الدين بشارة نصير الدين الطوسي عليه بذلك وكان الطوسي عنده وعند أبيه قبله فقتل هولاكو ابن علاء الدين وفتح الألموت وما معها من البلاد التي في تلك الناحية وكان لهم بالشام معاقل ولصاحب الالموت فيها أبدا نائب من قبله وسنذكر ما آل إليه أمرها فيما بعد إن شاء الله تعالى
واستولى هولاكو على بلاد الروم وأبقى ركن الدين ين غياث الدين كيخسرو فيها له اسم السلطنة صورة وليس له من الأمر شيء وفي سنة أربع وخمسين وستمائة تهيأ هولاكو لقصد العراق وسبب ذلك أن مؤيد الدين بن العلقمي وزير الخليفة كان رافضياً وأهل الكرخ روافض وفيه جماعة من الأشراف والفتن لا تزال بينهم وبين أهل البصرة فانه لسبب التعصب في المذاهب فاتفق أنه وقع بين الفريقين محاربة فشكى أهل باب البصرة وهم سنية إلى ركن الدين الداودار والأمير أبي بكر بن الخليفة فتقدما إلى الجند بنهب الكرخ فهجموا ونهبوا وقتلوا وارتكبوا العظائم فشكى أهل الكرخ ذلك إلى الوزير فأمرهم بالكف والتغاضي وأضمر هذا الأمر في نفسه وحصل عنده بسبب ذلك الضغن على الخليفة وكان المستنصر بالله رحمه الله قد استكثر من الجند حتى قيل أنه بلغ عدة عسكره نحو مائة ألف وكان منهم(1/86)
أمراء أكابر يطلق على كل منهم لفظ الملك وكان مع ذلك يصانع التتار ويهاديهم فلما ولي المستعصم أشير عليه بقطع أكثر الجند وإن مصانعة التتر وحمل المال إليهم يحصل به المقصود ففعل ذلك وقلل من الجند وكاتب الوزير ابن العلقم التتر وأطمعهم في البلاد وأرسل إليهم غلامه وأخاه وسهل عليهم ملك العراق وطلب منهم أن يكون نائبهم في البلاد فوعدوه بذلك واخذوا في التجهيز لقصد العراق وكاتبوا بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل في أن يسير إليهم ما يطلبونه من آلات الحرب فسير إليهم ذلك ولما تحقق قصدهم علم أنهم إن ملكوا العراق لا يبقون عليه فكاتب الخليفة سرا في التحذير منهم وأنه يعتد لحربهم فكان الوزير لا يوصل رسله إلى الخليفة ومن وصل إلى الخليفة منهم بغير علم الوزير أطلع الخليفة وزيره على أمره فكان الشريف تاج الدين ابن - 41ب - صلايا نائب الخليفة بإربل فسير إلى الخليفة من يحذره من التتر وهو غافل لا يجدي فيه التحذير ولا يوقظه التنبيه لما يريده الله تعالى فلما تحقق الخليفة حركت التتر نحوه سير شرف الدين بن محي الدين الجوزي رسولاً إليهم يعدهم بأموال يبذلها لهم ثم سير نحو مائة رجل إلى الدربند الذي يسلكه التتر إلى العراق ليكونوا فيه ويطالعوه بالأخبار فتوجهوا ولم يأت منهم خبر لأن الأكراد الذين كانوا عند الدربند دلوا التتر عليهم على ما قيل فقتلوهم كلهم وتوجه التتر إلى العراق وجاء بانجونوين في جحفل عظيم وفيه خلق من الكرخ(1/87)
ومن عسكر بركة - خان - ابن عم هولاكو ومدد من بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل مع ولده الملك الصالح من جهة البر الغربي عن دجلة وخرج معظم العسكر من بغداد للقائهم ومقدمهم ركن الدين الدوادار فالتقوا على نحو مرحلتين من بغداد واقتتلواُ قتالاً كثيراً وفتقت فتوق من نهر الملك على البر الذي القتال فيه ووقعت الكسرة على عسكر بغداد فوقع بعضهم في الماء الذي خرج من تلك الفتوق فارتطمت خيلهم وأخذتهم السيوف فهلكوا وبعضهم رجع إلى بغداد هزيماً وقصد بعضهم جهة الشام قيل كانوا نحو ألف فارس ثم توجه بانجونوين ومن معه فنزل القرية مقابل دور الخلافة وبينه وبينها دجلة وقصد هولاكو بغداد من جهة البر الشرقي عن دجلة وهو البر الذي فيه مدينة بغداد ودور الخلافة وضرب سوراً على عسكره وأحاط ببغداد فحينئذ أشار ابن العلقمي الوزير على الخليفة بمصانعة ملك التتر ومصالحته وسأله أن يخرج إليه في تقرير ذلك فخرج وتوثق منه لنفسه ثم رجع إلى الخليفة وقال إنه قد رغب أن يزوج ابنته من ابنك الأمير آبي بكر ويبقيك في منصب الخلافة كما أبقى سلطان الروم في سلطنة الروم لا يؤثر إلا أن يكون الطاعة له كما كان أجدادك من السلاطين السلجوقية وينصرف بعساكره عنك فتجيبه ِإلى هذا فإن فيه حقن دماء المسلمين ويمكن بعد ذلك أن تفعل ما تريد وحسن له الخروج غليه فخرج في جمع من أكابر أصحابه فأنزل في خيمة ثم دخل الوزير فاستدعى الفقهاء والأماثل ليحضروا(1/88)
عقد النكاح فيما أظهره فخرجوا فقتلوا وكذلك صار يخرج طائفة بعد طائفة ثم مد الجسر وغدا بانجونوين ومن معه وبذل السيف في بغداد فقتل كل من ظهر ولم يسلم منها إلا من هرب أو كان صغيراً فإنه أخذ أسيراً واستمر القتل والنهب نحو أربعين يوما ثم نودي بالأمان فظهر من كان اختفى وقتل سائر الذين خرجوا إلى هولاكو من القضاة والأكابر والمدرسين وأما الوزير ابن العلقمي فلم يتم له ما أراد ومات بعد - 42ب - مدة يسيرة ولقاه الله
تعالى ما فعله بالمسلمين ورأى قبل موته في نفسه العبر والهوان والذل ما لا يعبر عنه ثم ضرب هولاكو عنق بانجونوين لأنه قيل عنه أنه كاتب الخليفة وهو في الجانب الغربي وأما الخليفة فقتل ولكن لم يتحقق كيفية قتلته فقيل أنه خنق وقيل رفس إلى أن مات وقيل غرق وقيل لف في بساط فغطس والله أعلم بحقيقة الحال، ونعود إلى أخبار الشام ومصر كنا ذكرنا أن العساكر المصرية نزلوا حول العباسة لما بلغهم اجتماع البحرية وبعض أمراء مصر مع الملك المغيث ولما جاءهم الخبر بمحاصرة التتر لبغداد كتبوا بذلك إلى الديار المصرية وتقدموا بأن يدعى للمسلمين بالنصر فأمر الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله الأئمة والخطباء أن يقنتوا في الصلوات الخمس ثم ورد الخبر أن بغداد ملكت فاشتد أسف المسلمين وحزنهم. الى ما فعله بالمسلمين ورأى قبل موته في نفسه العبر والهوان والذل ما لا يعبر عنه ثم ضرب هولاكو عنق بانجونوين لأنه قيل عنه أنه كاتب الخليفة وهو في الجانب الغربي وأما الخليفة فقتل ولكن لم يتحقق كيفية قتلته فقيل أنه خنق وقيل رفس إلى أن مات وقيل غرق وقيل لف في بساط فغطس والله أعلم بحقيقة الحال، ونعود إلى أخبار الشام ومصر كنا ذكرنا أن العساكر المصرية نزلوا حول العباسة لما بلغهم اجتماع البحرية وبعض أمراء مصر مع الملك المغيث ولما جاءهم الخبر بمحاصرة التتر لبغداد كتبوا بذلك إلى الديار المصرية وتقدموا بأن يدعى للمسلمين بالنصر فأمر الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله الأئمة والخطباء أن يقنتوا في الصلوات الخمس ثم ورد الخبر أن بغداد ملكت فاشتد أسف المسلمين وحزنهم.(1/89)
ذكر الوقعة بين الملك المغيث وعسكر مصر
لما تكامل العسكر مع الملك المغيث دخل بهم إلى الرمل والتقى بعسكر المصريين فكانت الكسرة على المغيث ومن معه وقبض يومئذ على عز الدين ايبك الرومي وعز الدين ايبك الحموي الكبير وركن الدين الصرفي وبن أطلس خان الخوارزمي وأحضروا بين يدي الأمير سيف الدين قطز الغتمي وبهادر المعزية فأمروا بضرب أعناقهم فضربت وحملت رؤوسهم إلى القاهرة وعلقت بباب زويلة ثم أنزلت من يومها ودفنت لما أنكر على المعزية هذا الفعل الشنيع وهرب الملك المغيث والصوابي بدر الدين والأمير ركن الدين بيبرس البندقداري ومن معهم ووصلوا الكرك في أسوأ حال ونهب ما كان معهم من الثقل ودهليز الملك المغيث ودخل العسكر القاهرة بما حازوه وزين لذلك البلدان وكان المصاف يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من ربيع الآخر.
ذكر ما تجدد للتتر بعد أخذ بغداد
لما ملكوها نادوا بالأمان لأهل العراق كلهم وولوا في ولاتهم وكان الوزير ابن العلقمي قد أطمعته نفسه بأن الأمور تكون مفوضة إليه وكان قد عزم على أن يحسن لهولاكو أن يقيم ببغداد خليفة فاطمياً فلم يتم له ذلك واطرحه التتر وبقي معهم على صورة بعض(1/90)
الغلمان فمات بعد قرب كمداً وندم حيث لا ينفعه الندم ولقاه الله فعله ورحل التترعن بغداد إلى بلاد اذربيجان ثم رحل إليهم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل والشريف تاج الدين بن صلايا صاحب أربل فأكرم بدر الدين ورده إلى بلاده وأما ابن صلايا فقتل وقد ذكر والله اعلم أن بدر الدين لؤلؤ قال لهولاكو هذا شريف علوي وربما نطاول أن يكون خليفة ويبايعه على ذلك خلق عظيم فتقدم هولاكو لقتله ولما رجع بدر الدين إلى الموصل لم يطل مقامه - 43ب - وبها توفي.
وفيها قصد التتر ميافارقين فنازلوها وحصروها وكان المتولي لحصرها اشموط بن هولاكو وكان صاحبها الملك الكامل ناصر الدين محمد بن الملك المظفر شهاب الدين غازي بن العادل قد قصد الملك الناصر صلاح الدين يوسف مستنجداً به على التتر فوعده بذلك ولم يتمكن من إنجاده وفيها وردت رسل التتر إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف فوصلهم منه جملة كثيرة من المال.
وفيها اشتد الوباء بالشام وفني من أهل دمشق خلق لا يحصى وعزت الفراريج وغيرها مما يستعمل المرضى وبيع الرطل الدمشقي من التمر الهندي بستين درهما والحزة من البطيخ الأخضر بدرهم.
ذكر ما تجدد للبحرية بعد كسرتهم بمصر
لما رجعوا مع الملك المغيث مفلولين سير إليهم الملك الناصر جيشاً مقدمه الأمير محي الدين إبراهيم - بن أبي بكر - زكرى والأمير(1/91)
نور الدين عسلي بن الشجاع الأكتع والتقوا بغزة فكسرتهم البحرية وقبضوا على فخر الدين ونور الدين وحملوهما إلى الكرك فلم يزالا بها معتقلين إلى أن أخرجهما الملك المغيث فسيرهما إلى الملك الناصر لما اصطلحا كما سنذكره إن شاء الله تعالى فقوى عند هذه الكسرة أمر البحرية وامتدوا في البلاد فعند ذلك برز الملك الناصر للقائهم وضرب دهليزه قبلي دمشق وقربت البحرية من دمشق وجاء الأمير ركن الدين البندقداري مقدمهم في بعض الأيام وقطع أطناب خيمة الملك الناصر المضروبة وكثر الأرجاف بهم في دمشق.
وفيها توفي إبراهيم بن يحيى بن أبي المجد أبو إسحاق الأسيوطي الفقيه الشافعي مولده سنة سبع وخمسون تقريباً وتولى الحكم ببعض البلاد من الأعمال المصرية ودرس بالجامع الظافري بالقاهرة مدةً وأفتى وكان مشهوراً بمعرفة المذهب وحسن الفتوى وسعة الفضل كثير الإيثار مع الإقتار، والأفضال مع الإقلال، كريم الأخلاق لطيف الشمائل وله شعر فائق في توفي سابع ذي القعدة بالقاهرة ودفن من الغد بسفح المقطم رحمه الله.
أحمد بن أسعد بن حلوان أبو العباس نجم الدين الطبيب المشهور الحاذق المعروف بابن العالمة ولد بدمشق سنة أربع وتسعين وخمسمائة وقرأ الطب على الحكيم صدقة السامري وبرع فيه وصنف مصنفات كثيرة وخدم الملك المسعود صاحب آمد وتقدم عنده فلما فتح الملك(1/92)
الكامل أمد استخدامه مدة ثم خدم صاحب صهيون وغزة وانتقل إلى بعلبك وأقام بها مدة وله ترسل حسن، وتوفى بدمشق في هذه السنة أعني سنة ست وخمسين رحمه الله تعالى، وقد ذكره الحكيم موفق الدين أحمد بن أبي القاسم بن خليفة الخزرجي في طبقات الأطباء فقال هو الحكيم الأجل العالم الفاضل نجم الدين أبو العباس أحمد بن أبي الفضل أسعد بن حلوان ويعرف بابن العالمة لأن أمه كانت عالمة دمشق وتعرف ببنت دهين اللوز ومولده بدمشق في سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة كان أسمر اللون نحيف البدن حاد الذهن مفرط الذكاء فصيح اللسان كثير البراعة لا يجاريه أحد في البحث ولا يلحقه في الجدل واشتغل على شيخنا الحكيم مهذب الدين عبد الرحمن بصناعة الطب حتى أتقنها وكان متميزاً في العلوم الحكمية قوياً في علم المنطق مليح التصنيف جيد التأليف فاضلاً في العلوم الأدبية ويترسل ويشعر وله معرفة بالضرب بالعود حسن الحظ وخدم بصناعة الطب الملك المسعود صاحب أمد وحظي عنده واستوزره ثم بعد ذلك نقم عليه وأخذ جميع موجوده وأتى إلى دمشق واشتغل عليه جماعة بصناعة الطب وكان متميزاً في الدولة وكتب إليه الصاحب كمال الدين يحيى بن مطروح في جواب كان منه يقول.
لله در أنامل شرفت وسمت ... فأهدت أنجماً زهرا
وكتابة لو أنها نزلت على ... الملكين ما ادعيا إذاً سحرا(1/93)
لم أقرأ سطراً من بلاغتها ... إلا رأيت الآية الكبرى
فأعجب لنجم في فضائله ... أنسى الأنام الشمس والبدرا
وكان نجم الدين لحدة مزاجه قليل الاحتمال والمداراة وكان جماعة يحسدونه لفضله ويقصدونه بالأذية وأنشدني يوماً متمثلاً
وكنت سمعت أن الجن عند اس ... تراق السمع ترجم بالنجوم
فلما أن علوت وصرت نجما ... رميت بكل شيطان رجيم
وفي آخر عمره خدم الملك الأشرف ابن الملك المنصور صاحب حمص بتل باشر وأقام عنده مديدة يسيرة وتوفي رحمه الله تعالى في ثالث عشر القعدة سنة اثنين وخمسين وستمائة، أنشدني عز الدين أبو بكر المقدمي له يمدح الملك الأشرف وأظنه ابن صاحب حمص.
يا ريم حتى كم اكتم دائي ... أنت الحبيب وفي يديك دوائي
هذاهواك أذاب جسمي كم لنا ... أخفيه حتى فت في أحشائي
قلبكم أكني عن هواك بغيره ... حتى لقد أغربت في السماء
طوراً بسعدي أو بعلوة تارة ... وبنعم والسر في عفراء
وكذا بنجد والعقيق وشعبه ... والمنحنى والقصر من تيماء
لا أستطيع وصاله في بعده ... والوصل غاية راحتي وشفائي
ومع الدنو أكون من إجلاله ... مخف هواه فهو دان نائي
متقسم بين الهوى ويد النوى ... قلبي فما يخلو من البرحاء
يا أيها المملك الذي إن قسته ... بالبحر فاق البحر بالإنداء
إني أعيذك أن تغير عادة ... عودتها بمقالة الأعداء(1/94)
45ب - يا ابن الملوك الصيد من قد أورثواشرفا على الأباء بالأبناء
اشبهت يا موسى لموسى في الذي ... أوتيته كتشابه الأسماء
فله اليد البيضاء كانت آية ... ولكم لجودك من يد بيضاء
وحكى لي أخوه لأمه القاضي شهاب الدين محمد بن العالمة توفي مسموماً ولنجم الدين من الكتب كتاب التدقيق في الجمع والتفريق وذكر فيه الأمراض وما يتشابه في اكثر الأمر وكتاب هتك الأستار عن تمويه الدخوار وتعليق ما حصل له من تجارب وغيرها وشرح أحاديث نبوية تتعلق بالطب وكتاب المهملات في كتاب الكليات وكتاب المدخل إلى الطب وكتاب العلل والأعراض وكتاب الإشارات المرشدة في الأدوية المفردة وذكر قبله والده موفق الدين النفاح هو الحكيم العالم الأوحد أبو الفضل أسعد بن حلوان أصله من المعرة واشتغل بصناعة الطب وتميز فيها وتميز في أعمالها وخدم الملك الأشرف موسى بن أبي بكر بن أيوب في الشرق وبقي في خدمته سنين وانفصل أمره وكانت وفاته في حماة سنة اثنين وأربعين وستمائة.
أحمد بن عمر بن إبراهيم بن عمر أبو العباس الأنصاري القرطبي المالكي العدل المعروف بابن المزين ومولده بقرطبة سنة ثمان وسبعين وخمسمائة سمع من خلق كثير وقدم الديار المصرية وسكن الإسكندرية وحدث بها واختصر صحيحي البخاري ومسلم اختصاراً حسناً وشرح مختصره لصحيح مسلم بكتاب سماه المفهم وصنف غير ذلك(1/95)
وتوفي بالإسكندرية في الرابع عشر من ذي القعدة رحمه الله.
أحمد بن محمد بن أبي الوفا بن أبي الخطاب بن محمد بن الهزبر آبي الفضل شرف الدين الربعي الموصلي المعروف بابن الحلاوي الشاعر المشهور كان من احسن الناس صورة وألطفهم أخلاقاً وأكرمهم عشرةً مع الفضيلة التامة في الأدب والمشاركة مع غيره وامتدح الخلفاء والملوك والأعيان وأقام بالموصل عند صاحبها الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ ولبس زي الجند وشعره في نهاية الجزالة والرقة وجودة المعاني فمنه ما نظمه ليكتب على مشط للملك العزيز صاحب حلب رحمه الله تعالى وهو
حللت من الملك العزيز براحة ... غدا لثمها عندي أجل الفرائض
وأصبحت مفتر الثنايا لأنني ... حللت بكف بحرها غير غائض
وقبلت سامي خده بعد كفه ... فلم أدخل في الحالين من لثم عارض
وقال يمدح الملك الناصر داود رحمه الله تعالى.
أحيا بموعده قتيل وعيده ... رشأ يشوب وصاله بصدوده
تقمر يفوق على الغزالة وجهه ... وعلى الغزال بمقلتيه وجيده
يا ليته يعد الملال فإنه ... ما زال ذا لهج بخلف وعوده
46ب - يفتر عن عذاب الرضاب حياتنافي ورده والموت دون وروده
واعف عني عفو مقتدر ... أنا عبد مذنب وكفى
برد يذيب ولا يذوب وربما ... أذكى زفير الوجد رشف بروده(1/96)
لم أنسه إذ جاء يسحب برده ... والليل يخطر في فضول بروده
والصبح مأسور أحد لأسره ... جنح الظلام تأسفاً لفقيده
والليل يرفل في ثياب حداده ... والصبح يرسف في وثاق حديده
ولذاك لم تنم النجوم مخافة ... من أن يعاني الصبح فيك قيوده
بمدامة صفراء يحمل شمسها ... بدر يغير البدر عند سعوده
كأس كأن مدامها من ريقه ... وحبا بها من ثغره وعقوده
مازال يرشفنا شقيقة ريقه ... طيباً ويلثمنا شقيق خدوده
حتى تحكم في النجوم نعاسها ... والتذ كل مسهد بهجوده
ورأى الصباح تخلاً من أسره ... فأتى يكر على الدجى بعموده
قمر أطاع حسن سنة وجهه ... حتى كان الحسن بعض عبيده
أنا في الغرام شهيده ما ضره ... لو أن الجنة وصله لشهيده
يا يوسف الحسن الذي أنا في الهوى ... يعقوبه منى آل داوده
أشكو إليك من الزمان فإنه ... ملك يشيب سطاه رأس وليده
ملك إذا اللاواء لاح لواؤها ... هزمت كتائبها طلائع وجوده
غمرت مواهبه العفاة فأصبحت ... ترجو المواهب من وفود وفوده
آراؤه تغنيه في يوم الوغى ... والسلم عن راياته وبنوده
ملك يسير النصر تحت لوائه ... حتى كأن النصر بعض جنوده(1/97)
وإذا العدو يحت لدن رماحه ... فبكت ثعالبها بقلب أسوده
من كل أسمر في الملاحم طالما ... عاد الردى مهج الكماة بعوده
غصبت عواملها ظلام نجومه ... والبان قد سلبته لين قدوده
سمر إذ الجبار سام دفاعها ... وردت أسنتها نجيع وريده
عذباتها صفر كوجه عدوه ... بالنصر تخفق مثل قلب حسوده
ملك الآن لنا الزمان وإنما ... داود معجزه بلين حديده
وقال:
حكاه من الغصن الرطيب وريقه ... وما الخمر إلا وجنتا وريقه
هلال ولكن أفق قلبي محله ... غزال ولكن سفح عيني عقيقه
وأسمر يحكي الأسمر اللون قده ... غدا راشقاً قلب المحب رشيقه
على خده جمر من الحسن مضرم ... يشب ولكن في فؤادي حريقه
أقر له من كل حسن جليله ... ووافقه من كل معنى دقيقه
بديع التثني راح قلبي أسيره ... على أن دمعي في الغرام طليقه
على سالفيه للعذار جريره ... وفي شفتيه للسلاف عتيقه
يهدد منه الطرف من ليس خصمه ... ويسكر منه الريق من لا يذوقه
على مثله يستحسن الصب هتكه ... وفي حبه يجفو الصديق صديقه(1/98)
ولا حل في حي تلوح قبابه ... ولا سار في ركب يساق وسيقه
ولا بات صبا بالفريق وأهله ... ولكن إلى خاقان يعزى فريقه
له مبسم ينسى المدام بريقه ... ويخجل نوار الأقاحي بريقه
47ب - تداويت من حر الغرام ببردهفأضرم في ذاك الحريق رحيقه
إذا خفق البرق اليماني موهناً ... تذكرته فاعتاد قلبي خفوقه
حكى وجهه بدر السماء فلو بدا ... مع البدر قال الناس هذا شقيقه
وأشبه زهر الروض حسناً وقد بدا ... على عارضيه آسه وشقيقه
رآني خيالاً حين وافى خياله ... فاطرق من فرط الحياء طروقه
وأشبهت منه الخصر سقماً فقد غدا ... يحملني كالخصر ما لا أطيقه
فما بال قلبي كل حب يهيجه ... وحتام طرفي كل حسن يروقه
فهذا ليوم البين لم تطف ناره ... وهذا لبعد الدار ماجف موقه
ولله قلبي ما أشد عفافه ... إن كان قلبي مستمراً فسوقه
أرى الناس أضحوا جاهلية ودّه ... فما باله عن كل صبّ يعوقه
فما فاز إلا من يبيت صبوحه ... شراب ثناياه ومنها غبوقه
وكتب إليه لغزاً في شبابة:
وناطقة خرساء باد شحوبها ... تكنفها عشر وعنهن تخبر(1/99)
يلذ إلى الأسماع رجع حديثها ... إذا سد منها منخر جاش منخر
فكتب جوابه.
نهاني النهى والحلم عن وصل مثلها ... فكم مثلها فارقتها وهي تصفر
وقال:
كن كيف شئت فإن الله ذو كرم ... وما عليك بما تأتيه من بأس
إلا اثنتين فلا تقربهما أبداً ... الكفر بالله والأضرار بالناس
وقال يمدح الملك العزيز محمد بن الملك الظاهر غازي
تبدي له في الخد من نبط خط ... واخجل منه القد ما ينبت الخط
ولم ندر لما هز عامل قده ... وصارم جفنيه بأيهما يسطو
هو البدر وافى في الدجى ليل شعره ... يرينا الثريا منه ما حمل القرط
رحيقيّ ثغر بابلي لواحظ ... له سالف كالورد بالمسك مختط
من الترك لا وادي إلا ذاك محله ... ولا داره رمل المصلى ولا السقط
رشيق إلى خاقان يعزى نجاره ... فما مضر الحمراء يوماً له رهط
كليث الشرى في الحرب بساوسطوة ... وفي السلم كالظبي الغرير إذا يعطو
تحف به لين المعاطف مائساً ... فيمنعه ثقل الروادف أن يخطو
حمى ثغره من مشرف القد عامل ... له ناظر ما العدل في شرعه شرط
له حاجب كالنون خط ابن مقلة ... يزينها كالخال في خده نقط
فللبدر ما يثنى عليه لثامه ... وللغصن منه ما حوى ذاك المرط(1/100)
يقولون يحكي البدر في الحسن وجهه ... وبدر الدجى عن ذلك الحسن منحط
كما شبهوا غصن النقا بقوامه ... لقد بالغوا في المدح للغصن واشتطوا
وليل كجلباب الغراب أدرعته ... إلى أن بدا للصبح في فوده وخط
على محلم الأرساغ مستخضد القرى ... غدا لشواه في ظلام الدجى خبط
كمثل عقاب الجو لما تسرعت ... إلى الصيد من أعلى التباريح تنحط
48ب - سريت به والليل في عنفوانهفما صدني إلا ذوائبه الشمط
لكل رزين في الأمور مجرب ... خفيف على ظهر المطية إذ ينطو
أقول لصحب مدلجين تدرعوا ... جلابيب ليل عن سنا الفجر ينعطو
إذا جئتم أرض العواصم أو بدت ... لكم غرة الشهباء من حلب حطوا
ففي ساحة الملك العزيز فعرسّوا ... فما نافع في غير أبوابه الحط
مليك ينيل الدر بالجود باسماً ... فمن يديه سمط ومن لفظه شمط
فراحته قبض على السيف في الوغى ... ولكن لها في يوم نائله بسط
مليك سما عن كل شكل وأغربت ... مواهبه عن نائل ماله ضبط
إذا أنشد الحرمان أموال غيره ... لمن خيره يسمو النوال فلم ينطوا
فأمواله ما زال ينشدها الندى ... لأية حال حكموا فيك فاشتطوا
وقال:
وافي يخر قوامه غصن النقا ... خذلان مخذول القوام مقرطقا
ومنعم لولا مرارة هجره ... وصدوده لم أدر ما نظم الشقا
دقت معانيه ولكن خصره ... قد زاد في معنى النحول ودققا
بمراشف منها الأماني تشتهى ... ولواحظ منها المنايا تتقى(1/101)
رشأ لبارق ثغره ولشعره ... الملوى أحببت اللوى والأبرقا
لا غرو أن تصبى منازل رامة ... قلبي فاطرب نحوهن تشوقا
وشفاه مبسمه العقيق وريقه ... ماء العذيب وثغره جذع النقا
وله في مديح قصر شعره:
قصرت شعرك كي تقل ملاحة ... فكساك أبهى الحسن وهو مقصر
وقطعته ليقل عنا شره ... واللائم أقتله القصير الأبتر
وقال:
واضيعة القلب في هوى صنم ... جار على القلب وهو كافره
له عذار أقام في الخد حول ... ين وما حال منه ناضره
والإنماء والعيون مصرفها ... إليه والدمع فيه ماطره
وكيف يزكو نبات عارضه ... وفاتر بالسواد ناظره
وكتب إلى قاضي القضاة محيي الدين أبو الفضل يحيى بن الزكي يصف خطه ويقول:
كتبت فلولا أن ذاك محرم ... وهذا حلال قست خطك بالسحر
فوالله ما أدري أزهر خميلة ... بطرسك أم درّ يلوح على نحر
فإن كان زهراً فهو صنع سحابة ... وإن كان دراً فهو من لجة البحر
وقال:
أألقى من صدودك في جحيم ... وثغرك الصراط المستقيم(1/102)
وأسهرني لديك رقيم خد ... فواعجباً أأسهر بالرقيم
وحتام البكاء بكل رسم ... كأن علي رسماً للرسوم
وقال في غلام اسمه حسن:
لحاظ عينيك فاتنات ... جفونها الوطف فاترات
فرق بيني وبين صبري ... منك ثنايا مفرقات
49ب - يا حسن صده قبيحفجمع شملي به شتات
قد كنت لي واصلاً ولكن ... عداك عن وصلك العداة
لم يكن منك لي وفاء ... دنت لهجرانك الوفاة
حيات صدغيك قاتلات ... فما لملسوعها حياة
والثغر كالثغر في امتناع ... يحميه من لحظك الرماة
يا بدر تم له عذار ... بحسنه تمت الصفات
منمنم الوشى في هواه ... يا طالما نمت الوشاة
نبات حل حلاك حسناً ... والحلو في السكر النبات
وقال:
جاء غلامي فشكا ... أمر كميتي وبكا
وقال لي لاش ... ك برذونك قد تشبكا
قد سقته اليوم فما ... مشى ولا تحركا
فقلت من غيضي له ... مجاوباً لما حكى(1/103)
تريد أن تخدعني ... وأنت أصل المشتكى
ابن الحلاوي أنا ... خل الرياء والبكى
ولا تخادعني ودع ... حديثك المعلكا
لو أنه مسير ... لما غدا مشبكا
فمذ رأى حلاوة ... الألفاظ مني ضحكا
اجتمع بالموصل جماعة من الأدباء منهم ابن الحلاوي - عند - شخص لقبه الشمس فقالوا له أطعمنا شيئاً فقال ما عندي شيء أطعمكم فقال أحدهم الطامع في منال قرص الشمس وارتج عليه ابن الحلاوي كالطامع في مثال قرص الشمس.
ولما توجه الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل إلى بلاد العجم للاجتماع بهولاكو ملك التتر كان ابن الحلاوي المذكور في خدمته ولما وصلوا تبريز مرض بها وتوفي في شهر ربيع الآخر أو جمادى الأولى وقد ناهز الستين سنة من العمر وقيل أنه توفي بسلماس رحمه الله تعالى.
أحمد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن حسين بن أبي الحديد أبو المعالي موفق الدين ويدعى القاسم أيضاً ومولده في ربيع الأول وقيل في جمادى الأخرى سنة تسعين وخمسمائة بالمداين وتوفي ببغداد هذه السنة بعد أن أخذ التتر لها بقليل وكان أديبا فقيهاً فاضلاًَ شاعراً محسناً مترسلاً مشاركاً(1/104)
في أكثر العلوم وله أشعار كثيرة منها:
أسعد بدير سعيد أيها الساقي ... وامزج وخذ وأعطني من غير إشفاق
من خندريس كأني حين أشربها ... ملسوع هم تحسى كأسد درياق
نار ولكنها للماء عاشقةتزداد من وصله ضوءاً بإشراق 50ب
شجت فألبست الساقي بصبغتها ... ثوباً وألبسنيه ذلك الساقي
تجري الكؤوس فلا تجري محادثة ... مع الذي زاد في همي وأشواقي
لم أقض في عمري الماضي هوى حلب ... يا ليت شعري فهل أقضيه في الباقي
وذي قوام تثنى في غلائله ... مثل القضيب تثنى بين أوراق
نظمت من غزل في حسن صورته ... عقداً تقوم به الدنيا على ساق
يا عقرب الصدغ في الخد الأسيل أما ... لمن لبست شفاء منك أوراقي
وقال وهو بدير ميخائيل بالموصل:
كل الورى فيك حسادي وعذالي ... يا فاقد المثل ما العشاق أمثالي
بكائي وقف عليكم بعد فرقتكم ... لا للوقوف على ربع وأطلال
رضا العواذل سخطي في هواك وفي ... وفاقهم خلف أغراضي وآمالي
يا ساكني دير ميخائيل لي قمر ... لكنه بشر في شكل تمثال
قريب دار بعيد في مطالبه ... غريب حسن وألحان وأقوال(1/105)
سكرت من صوته لما أشار به ... ما لست أسكر من صهباء جريال
ما رمت أمسك نفسي عند رؤيته ... إلا تغيرت من حال إلى حال
يا ليلتي بفناء الدير لست كمن ... يقول يا ليلتي بالشيح والضال
قد صرت أنشد بيتاً صار لي مثلاً ... لولا وصالك لم يخطر على بالي
لو اشتريت بعمري ساعة سلفت ... من عيشتي معكم ما كان بالغال
وقال أيضاً:
مرحباً بالخيال إذ زار وهناً ... وشفى لوعة المحب المعنى
وقضى حاجة تسر وسرى ... همم القلب عن لبانا ولبنى
كلما قلت قد تسليت عنه ... عادني طيفه وعن ... فعسى
شادن لو بدا يفاخر بدراً ... خجل البدر بالملاحة حسناً
وإذا ما انثنى رأيت كثيباً ... بند القبا يحمل غصناً
ترك الرمح والحسام وأبدى ... سيف لحظ وهز بالقد لدنا
ليلة الدير حيث نسمع لحناً ... حسن النظم ما يقارب لحنا
سعدت ليلة رأيت بها الشم ... س وجنح الظلام ينجاب عنا
بين صرعى محاجر وعيون ... بات بحيهم إذا ما تغنا
أيها الشمس من يقل فيك معنى ... لم يصب فيك أنت كلك معنى
قد نمت جوارح الناس طراً ... أنها صيرت لأجلك أدنا
وله أيضاً:
لحظات طرفك أم شفار مهند ... هزمت جيوش تصبري وتجلدي(1/106)
ما رنقت عيناك من سنة الكرى ... إلا لشقوة عاشق لم يرقد
عجباً لطرفي لا يزال يعوم في ... ماء الملاحة وهو كالعطش الصدي
ولنور وجهك وهو قد هتك الدجى ... بضيائه إذ ضل فيه المهتدي
يا قاسم العشاق من متقلقل ... سكن الفناء وساكن مستسعد
15ب - ته كيف شئت فحسن وجهك قد غدامتودداً فينا بغير تودد
وكأن خط عذاره في خده ... سيح أذيب على صفيحة عسجد
قال الشيخ شرف الدين عبد المؤمن الدمياطي رحمه الله تعالى أنشدني موفق الدين المذكور له:
قمر عدمت عواذلي في عشقه ... بل ما عدمت تزاحم العشاق
يبدو فتسبقه العيون وإنها ... مأمورة بالغض والإطراق
عيناي قد شهدا بعشقك إنما ... لك أن تقول هما من الفساق
قال وأنشدني لنفسه ما كتبه إلى صديق له استعمل خاتماً
يمينك تبغض أموالها ... وتهوى شبا القلب الذابل
فكيف استقر بها خاتم ... على كثرة الجود والنائل
لقد كاد يغرق في بحرها ... ولكنه كان في الساحل
أراني جبلت على حبكم ... وتأبى الطباع على الناقل
وقلت لمن كان لي عاذلاً ... الأم الطماعة للعاذل(1/107)
وقال موفق الدين:
لو يعلمون كما علمت لما لحوا ... في حبه ولأقصروا إقصارا
هلا أحدثكم بسر لطيفة ... دقت إلى أن فاتت الأبصار
حاذت صقال خدوده أصداغه ... فتمثلت الناظرين عذارا
وله أيضاً:
بيت من الشعر في تشبيه وجنته ... لما أحاط به شطر من الشعر
كالظل في النور أو كالشمس عارضها ... خط من الغيم أو كالمحو في القمر
وقال الصاحب جمال الدين عمر بن العديم في تاريخه أنشدني موفق الدين لنفسه
على ليال حلب بعدنا ... مني سلام رائح باكر
وكيف أنسى حاضراً زارني ... فيها وقد طاب لنا الخاطر
قال وأنشدني لنفسه:
تقاسمت بي أقطار البلاد فقد ... أصبحت مجتمعاً في زي منشعب
في القدس عزمي وجسمي في دمشق بلا ... قلب وقلبي مع الأحباب في حلب
وقال يمدح تاج الدين محمد بن حسين الأرموي:
أردد لثامك حتى يستر اللعس ... وقف ليبعد عن أعطافك الميس
أني أغار على حسن حبيت به ... أصابه العين إن العين تختلس(1/108)
يا غاصب الخشف أوصافاً مكملة ... لم يبق للخشف إلا السوق والخنس
وفاضح البدر إن البدر مقتبس ... في الدهن من خديك يقتبس
معدل الخلق لا طول ولا قصر ... مكمل الخلق لا هين ولا شرس
يصحني حبه طوراً ويمرضني ... فكم أبل من الهوى وأنتكس
حموه عن كل ما يشفي العليل به ... حتى على طيفه من شكله حرس
قد كنت أبصر صبحاً في محبته ... فعاد وهو بعينين كله غلس
52 - مالي وللحب يلهو القلب عن مدحأوصافها فصح أضدادها خرس
كيف الذهول وتاج الدين خير فتى ... خير المديح بخير الناس يلتمس
حبر تفيض به نفس بهمتها ... لم يبق للشر لا روح ولا نفس
نور تلقته نفس منك طاهرة ... لولاه لم يبد فينا ذلك القبس
شاركت في الروح عيسى ما استبد بها ... كلاكما في البرايا روحه قدس
حكمت في العالم العلوي عن نظر ... صاف من الشك ما فكره دنس
ولو رأى منك جالينوس معجزةً ... ما قال في الكل إن الأمر ملتبس
وكاد يؤمن بقراط الحكيم بما ... يلقى إليه ولا يرتاب برقلس
وحومة مزجت شكا جوانبها ... فما درى الحبر فيها كيف ينغمس
أعيي الخواطر فيها حادث جلل ... وأستعبد النطق في أرجائها الخرس
حتى إذا جاء تاج الدين فرجها ... يغضى البيادق مهما عدت الفرس
وله في رجل جعل عارض الجيش بغداد وخرج من دار الوزير وعليه خلعة جديدة فعانقه موفق الدين وقبله وأنشده:(1/109)
لما بدا رائق التثني ... وهو بأثوابه يميد
قبلته باعتبار معنى ... لأنه عارض جديد
وقال:
يا هاجري لما رأى شغفي به ... ما كان حق متيم أن يهجرا
إن الذي خلق الغرام هو الذي ... خلق السلو فلا يغرك ما ترى
وقال:
أفدي الذي زارني والخوف يقلقه ... يمشي ويكمن في العطفات والطرق
قبلت أطراف كفيه على ثقة ... من منّه وخديه على فرق
وكان في أخريات السمر مضطرباً ... إذا أراد انتظام اللفظ لم يطق
لله ما أحسن الصهباء منعمةً ... علي إذا علمته طيبة الخلق
أهدت إليه سروراً نلت معظمه ... كالفعل ينصب مفعولين في نسق
وقال:
لو عاد وصلك لي لما عد الزمن ... واحسرتا مضت الشبيبة والسكن
لم ألق إلا من يذم زمانه ... قبل الممات فهذه الدنيا لمن
وقال:
معقل الحسن في محياك لا يطم ... ع فيه والثغر ثغر محصن
قد حماه عن الوصول إليه ... حاجب مقفل وصدغ مزرفن
وقال:
اللؤم فيك لجاجة من عاشق ... وافى يخادعني بلفظ العاذل(1/110)
53 - ب ما كنت مجهولا لديه فلم أقلأمط اللثام عن العذار السائل
تولى موفق الدين المذكور قضاء المداين في أيام الإمام الظاهر بأمر الله رحمه الله ثم أنتقل إلى بغداد وصنف كتاباً سماه الحاكم في اصطلاح الخراسانيين والعراقيين في معرفة الجدل والمناظرة وتولي كتابة الإنشاء وغير ذلك رحمه الله.
أسعد بن إبراهيم بن حسن بن علي أبو المجد مجد الدين الشيباني الأربلي النشابي ولد بأربل في صفر سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة كان في أول أمره يعمل النشاب فنسب إليه وبقيت النسبة عليه ولما كبر سافر من أربل وتنقل في بلاد الجزيرة الفراتية والشامية ثم عاد إلى أربل وتولى كتابة الإنشاء لملكها الملك المعظم مظفر الدين أبي سعيد كوكنوري ابن الأمير زين الدين علي بن بكتكين والظاهر أن ذلك كان في حدود سنة ثمان وعشرين وستمائة ولما توجه مظفر الدين إلى بغداد في سنة ثمان وعشرين وستمائة كان في خدمته ودخل مظفر الدين على الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور ابن الإمام الظاهر بأمر الله وهو بين يديه في نفر يسير من خاصته في يوم دخولهم بغداد ولما رفع الحجاب وقبلوا الأرض بين يديه تقدم المجد وقال:
جلالة هيبة هذا المقام ... تحير عالم علم الكلام
كأن المناجي به قائماً ... يناجي النبي عليه السلام
ولو كشف الخطا لرأينا الملائكة بك حافة ووجدنا الروح الأمين يجدد تلاوة الوحي المنزل على أبن عم النبي المرسل ويقول هذا أكرم(1/111)
الخلفاء وصلاة الله وسلامه يخصان الأكرم الأفضل.
ولو جمع الأئمة في مكان ... وأنت به لكنت لهم إماماً
فالله تعالى يؤيد هذه الدولة الشريفة بنصره ويرد كيد عدوها في نحره، ولما تولى وزارة أربل شرف الدين أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن حرب عرف بابن الموالي الموصلي وغالب الظن أن ذلك كان في سنة ثلاث وعشرين وستمائة أو ما يقاربها عمل فيها المجد المذكور وكان إذا حضر إلى الديوان يصبح الجاويش له
فرحنا وقلنا تولى الوزير ... وأفلح ديواننا بالوزارة
فما زادنا غير جاويشه ... وفي كتابنا كتب بالإشارة
وكان قد وقع اختلاف بين الأخوين البدر الكامل محمد والملك الأشرف موسى بن الملك العادل والكامل يومئذ صاحب مصر والأشرف صاحب بلاد الشرق وخلاط فمال ملوك الشام والشرق إلى الكامل وتحاملوا على الأشرف فقال المجد المذكور في ذلك:
صاحب مصر ثنى الملوك عن الأش ... رف من كل مسعد عون
واحتج كل به فقلت وهل يؤ ... خذ موسى بذنب فرعون
وعمل المجد المذكور في شرف الدين أبي البركات المبارك بن أحمد بن موهوب وزير اربل وصاحب تاريخها المكين ويعرف في اربل بابن المستوفي قال:
إن المبارك فيه توقف ولجاجه ... صديقه أنت ما لم تعرض إليه بحاجة
وأهدى المجد المذكور إلى شرف الدين المذكور في بعض الليالي(1/112)
طبقاً فيه تفاح مخضب وسفرجل على يد غلام وكان جميل الصورة فوصل إليه وعنده جماعة منهم الحسام عيسى بن سنجر الدين بهرام الحاجري فعمل كل واحد من الحاضرين في ذلك شعراً فعمل الحاجري:
أهدى لنا المجد تفاحاً وأحمره ... من خد من حمل التفاح مسترق
وللسفرجل من أعلاه رائحةً ... يضوع منها لمهديه ثنى وعبق
فظلت أعجب من حالين كيف حوى ... وصف الغلام ووصف السيد الطبق
ولم يزل المجد على رياسته وكتابته إلى أن نقم عليه مخدومه مظفر الدين فأخذه واعتقله في شهر رمضان سنة تسع وعشرين وستمائة في قلعة يقال لها الكرخيني من أعمال أربل بينها وبين بغداد ولم يزل محبوساً بها إلى أن مات مظفر الدين رحمه الله في شهر رمضان سنة ثلاثين وستمائة وأرسل الخليفة عسكره فأخذوا أربل وأفرجوا عن المحابيس فكان المجد في جملة من خلص وذلك في شوال من السنة فخرج وتوجه إلى بغداد وتنقل في خدمها إلى أن استولى التتار عليها في صفر هذه السنة وقتلوا من ظفروا به وكان المجد في جملة من استخفى فسلم وخرج بعد سكون الفتنة ومات في بقية سنة سبع وخمسين وستمائة رحمه الله.
ومن شعره:
ولما رأى بالترك هتكى ورام أن ... يكتم منه بهجة لم تكتم
تشبه بالأعراب عند التثامه ... بعارضه يا طيب لثم الملثم
شكا خصره من ردفه فتراضيا ... بفصلهما بند القباء المكتم(1/113)
ورد جيوش العاشقين لأنه ... أتاهم بخط العارض المتحكم
وقال:
تقلد أمر الحسن فاستبعد الورى ... وراحت له الأفكار تنظم ديوانا
وعامله ولي على القلب ناظراً ... فأصبح لما حل بالقلب سلطانا
غدا باحمرار الخد للحسن مالكاً ... ومن فيه أبدى للتبسم رضوانا
فأبدى لنا من ثغره ورضا به ... وعارضه راحاً وروحاً وريحانا
55 - برأى خده ميدان حسن وخاله به كرة فأستعطف الصدغ جوكانا
أجل نظرا في خده يا معنفي ... تجد فيه من إنسان عينك إنساناً
وقل لأسيلات الخدود أتيتنا ... تخاد عننا في الحب كان الذي كانا
وقال:
والأفق روض زهره ... يفتح لي كمامه
قبضت به كف الثريا ... فالهلال لها قلامه
والقلب من طعن الشمال ... برمحه فيه علامه
وأغن يشهد أن ريق ... ته الطلى عود البشامه
يصمى القلوب إذا رمى ... باللحظ يا رب السلامه
وقال من أبيات:
والبرق يخفق في خلال سحابه ... خفق الفؤاد لموعد من زائر
وقال من أبيات أيضاً:
كأن ائتلاف البرق من جنباتها ... سلاسل تبر أو سيوف قواضب
وكان مجد الدين المذكور من الفضلاء الرؤساء الأعيان غير أنه كان مذموم المعاملة لأهل بلده ومعارفه لا ينصفهم في الوداد ويتكبر عليهم(1/114)
فهجاه غير واحد بأهاجي قبيحة أضربنا عن ذكرها كان صدر الدين بن نبهان الآتي ذكره إن شاء الله تعالى صديق عارض الجيش ببغداد فعزل - 56 ألف - ثم صار صدر الدين صورة وزير الأمير شجاع الدين العزي فتوفي العزي فاتصل الصدر بعده بالملك فتح الدين ذكري رحمه الله فخرج فتح الدين من بغداد مغاضباً فعمل مجد الدين النشابي في ذلك.
رجل ابن نبهان الأعيرج شؤمها معلوم ... ما دار قط بأحد الألقي المحتوم
قلع ملك وعزل عارض بهذا الشؤم ... وعاد جرر زعيمه مبعراخت البوم
وله يمدح الملك المنصور زنكي ابن أرسلان شاه بن مسعود ابن مودود ابن زنكي رحمه الله.
يا لقومي قد جئتكم مستجيراً ... لا أرى منكم ولياً نصيرا
أنا ما بين عاذل ورقيب ... منهما خلت منكراً ونكيرا
بابي شادن تبدي فأبدي ... من محياه بهجةً وسرورً
وعذار في ذلك الخد أبدى ... ببها الحسن جنةً وحريرا
وثنايا كأنها من لجين ... قدروها في ثغره تقديراً
لا رعى الله يوم زموا المطايا ... أنه كان شره مستطيراً
أودعوا حين ودعوا الصب وجدا ... وتناءوا والقلب يصلي سعيراً
واسألوا الدموع من نرجس غض على الخد لؤلؤاً منثورا
فغدا الصب يرتضى الحب ديناً ... ويرى ناظر السلو حسيراً(1/115)
وهدى قلبه السبيل فإما ... صابراً شاكراً وإما كفورا
صم سمعي عن الكلام كما ص ... رت بمدحي زنكي سميعاً بصيرا
ملك أشرقت به ظلم الده ... ر فأضحى لنا سراجاً منيرا
وأرانا نواله وسطاه ... فرأينا منه بشيراً نذيرا
كل ساع داع له بدوام ال ... ملك ما زال سعيه مشكورا
كم سقى سيفه شراباً حميماً ... وسقى سيبه شراباً طهورا
سرح الطرف في ذراه ترى ث ... م نعماء وملكاً كبيرا
لم ير النازلون في ظله المغمو ... ر شمساً يوماً ولا زمهريرا
ويبيح الطعام والمال كم ع ... م يتيماً بزاده وأسيرا
قسم الدهر بين بأس وبذل ... فدعوناه سيداً وحصورا
إذ يعفى العفاة منه أجوراً ... يقذفون العداة منه دحوراً
وله في أصحاب الديوان:
قد قسمنا الديوان خمسة أقسا ... م عليها لكل قول دليل
رب حق فلا يطاع ومنسو ... ب إلى الظلم قوله مقبول
ثم شخص كأنه الحرف في النح ... ووفلا فاعل ولا مفعول
ومصر على التحيف والظلم ... بعيد عن الصواب جهول
وأخو حاجة يمشي أحوا ... لاً لديه أن جاءه البرطيل
أتراهم لم يعلموا أن كلاً ... منهم عن فعاله مسؤل
وله وقد حبس وزير أربل جماعة الديوان لعمل الحساب.(1/116)
جماعة الديوان في ... ليلة شحط مظلمه
وقد غدت أيدي الوز ... ير منهم منتقمه
لا رحم الله الذي ... يرحم قوماً ظلمه
وقال في المعنى:
جماعة ديواننا أصبحوا ... وهم في العذاب لسوء الحساب
فإن يرجو الوزير الثواب ... فقتلهم من جزيل الثواب
وقال لما حبس يعقوب النصراني مشرف ديوان أربل وتولى المختص النصراني مكانه.
فرحنا بيعقوب اللعين وحبسه ... وقلنا أتانا ما يطيب به القلب
فلما ولي المختص فالشر واحد ... إذا ما مضى كلب أتى بعده كلب
وكتب إلى مؤيد الدين وزير بغداد هذه نهاية أقدام على غاية أنعام وهداية أقلام إلى أعلام، أعلام. وفاتحة حمد. إلى خاتمة مجد، يتشعب منها شعب الإرجاء، إلى ابنة شعيب الرجاء، وقد جاءت تمشي على استيحاء، إلى عصم تأوى الطريدة، يبتغي غضارة عيدان السماحة، والمجد عرض يعرضها عارض مستمطر ألوية، وحامل ألوية، وكافل أدعية، لا يلوى إلى طمع، ولايأوى إلى طبع، يعتصم من طوفان الحرض لجودي العفاف، ويرهب الخشع بسطوة الكفاف.
إذا قيل هذا منهل قيل قد رأى ... ولكن نفس الحر تحتمل الظمأ
وإذا خامر الهوى قلب صب ... فعليه لكل سقم دليل(1/117)
اللهم غفرا من دعوة تفقر إلى برهان وقول لا يترجح له ميزان إلا بعيار الامتحان
زنى القوم حتى تعلمي عند وزنهم ... إذا رفع الميزان كيف أميل
فلا لا بعدها أن والت قريحة عاثرة أو تأولت بصحة قاصرة وهاهو مستدرك فارط ما أخره من حقوق خدم لو قدمتها لأضاءت شاكلة الصواب ومستغفر من زلة قهره إقدام مدح يرجو أن يدخل عليه مليكه العذر به من كل باب ولئن بقيت وإن بقيت لتسمعن مدحا تخب بها الرواة وتوجف حتى يقال صام نهار أدبه وغسق ليل هيدبه ولسعسع فم طرسه وجاء في عسه وبسه لتعدو أنفاسه علة مضغة من أرض الفلا وألوية مقاصده في الإطراء على تلك الآلاء كالعقاب العسراء يتلقى كل رائة منها عرابة مجد بيمين حمد يحف بذلك الموكب المؤيدي والنادي الندي ما لها كتيبة ثناء يقال معها جاء محمد والخميس وجحفل إطراء ينادي به الآن حمي الوطيس
واعتذاري إليك فرض وإن ك ... نت بريئاً لعظم قدرك عندي
وقد كان يجب على هذا العبد المقصر أن يرفعه في كل يوم بل في كل ساعة حدبه يقف بها كوقوف ابن حجر الكندي وطرفة العبدي وعمرو بن معد والنابغة في السؤال والأعشى بالأطلال والطائي ومديح للانه والشحيح الذي ضاع في الترب خاتمه بل كوقوف عبد المسيح على سطيح ووقوف وفد العرب باليمن على سيف ابن(1/118)
ذي يزن
وكنت جديراً حين أعرف منزلاً ... لآل سليمى أن يعنفني صحبي
وما صده عن مخاطرة الخاطر واقتحام حومة أقوال العواذل والعواذر سوى التحرز من الأستمهان والتهجم بنفاق ما قد كسد في هذا الزمان.
ولما تمادى قلت خذها عريقة ... فإنك من قوم جحاجة زهر
ولقد ناجاه فكره بهذه المناجاة وثقة ظنه بسلوك سبيل هذا النجاة متيقناً أن تلك الألمعية التي تدرك الأشياء بعين التحقيق وتنظر المغيبات من وراء ستر رقيق لا يخفى عنها لمن أولى من ولى وجه صدق يعيده إلى شطر تلك القبلة واستمسك بالعروة الوثقى من تلك الكعبة ودخل في زمرة الداخلين للسلام وزاحم في تلك الكتاب الكريم؟ لا يكاد يخلص من كثرة الزحام ولو ظفرت بلقياه لشاهدي وكل حاجة لي في الثناء فم لكنه علم أن ظاهر أمره يغنيه عن اعتذاره وإيثاره سد باب القول يبعث ذوي المكارم على المسامحة بهذا الإيثار
ومن يغو في امرأتاه فإنه ... إلى أن يصيب الرشد في الأمر جاهد
وهو كالطبيب الذي يرى حفظ الصحة على وجهين أحدهما ما يوافق الإنسان والثاني ما يضر بالأبدان وكمال الطب هو العلم بحفظ الصلاح وموضوعه التحرز من الخلل قبل وقوعه وأن آخره قدر عن مثوله بجسمه فإنه يرسل كل يوم قلبه إلى ذاك الباب العالي فيعود على بينة من علمه وربما سمع النداء أو وجد على النور هدىً(1/119)
ولولا أن القلوب تنتقل من مكان إلى مكان لما قيل أنها بين إصبعين من أصابع الرحمن وهذا قول له عند أخوان الصفا مثل معروف وكذلك قيل لسارية الجبل حتى كشف ما لم يكن لغيره بمكشوف وهاهو العبد يحافظ على شريعة تلك المحامل التي هي غير منسوخة ولا مبدلة ولا مستعارة ولا مهملة إذ لابد لكل شريعة من حافظ إما أن يكون معصوماً أو غير معصوم فإن كان معصوماً
فهو المطلوب وإن لم يكن معصوما كان عنده القوة وأمانة وحفظ قام مقام العصمة وبيان ذلك بالامتحان والتكلف لإثبات الحكمة فإن قيل ما الواسطة أيها المدعي في إقامة البرهان على أقدار هذا الصاحب الألمعي والصدر اللوذعي حتى تعاطيت ولاء الولاء ونصبت على التمييز والإغراء ورفعت الخبر والابتداء وشاركت حمزة والكسائي في إعدام اللام في الراء ولم تواط على الإيطاء ولا أسندت إلى النادي رواية الأكفاء ولا نكلت قوة وقيل عن الإقواء ولهجت بعروض شكره في كل مكان كأنه الضرب الكامل في الأوزان هذا ولم يخرجوا ذا ملك في مضار فضله ولا ضربت معلا قداحك لدى وارف ظله ولو نسي لك ذلك لكانت حياض بلاغتك بمر لهجة مترعة ورياض فصاحتك بأوصافه بمرعة وقد وجدت مكان القول ذا سعة.
وما على مادح أطراه من تعب ... فمدحه قبل نظم الشعر ينتظم
وقال يمدح الإمام المستنصر بالله أبا جعفر المنصور ويشير إلى ذكر الخلفاء:(1/120)
الجد يرتع في المقام الأفخر ... والعز يرتع في الجانب الأخضر
والدهر من بعض القطوب بدا لنا ... يزهو كوجه الضاحك المستبشر
وتجلت الدنيا على أبنائها ... تدعو بحي على الفلاح الأكبر
وغدا بها الإسلام يحمل رايةً ... سوداء راية منذر ومبشر
أعلى الأئمة من سلالة هاشم ... قدراً وأشرف محتداً من عنصر
ورث النبوة طاهراً عن طاهر ... إرثاً ينزه عن مقالة مفتري
وبحقه أرث اللواء وبرده ... وحسامه وقضيبه والمنبر
وإذا رأى الراؤن نور جلاله ... لم تلق غير مهلل ومكبر
أعطى إلى أن قالت الدنيا قد ... وحبا إلى أن قال سائله اقصر
جمعت مكارمه الشراق جميع أو ... صاف الخلائق مفخراً عن مفخر
فبكل وصف منه نعت خليفة ... كالفعل شق ثنائه عن مصدر
فنوا له السفاح والمنصور كالمن ... صور سيدنا الإمام الأنور
مهدي هذا العصر والهادي إلى ال ... أمر الرشيد بنور هدى مبصر
وأمين أمة أحمد وإمامها ... حقاً ومأمون لها في المحشر
لو بي بمعتصم به من واثق ... من فضله بأواصر لم تخفر
كم مقتر أضحى على أنعامه ... متوكلاً أمسى بمال مكثر
لم يرض منتصر ببعض عبيده ... أن شبهوه بتبع في حمير
ما بات غير المستعين بعزه ... في جنة من جوده أوعبقري(1/121)
لو شاء معتز به أن يملك ال ... دنيا رأها خاتماً في خنصر
نصب الصراط المستقيم لمهتد ... وأفاض نائله العميم لمعتر
ولكل معتمد يداً لم تقتر ... ولكل معتضد يداً لم تقهر
والمكتفى بعزيمة من بأسه ... يطأ البلاد بكل ليث مخدر
مازال مقتدر المرامي وقاهرال ... أعداء بالجد السعيد الأطهر
فالله راض بالذي يرضى به ... إن قال خلق غير هذا يكفر
فرضاه تقوى المتقي ولكل مس ... تكف بنائله كنور الأبجر
فاز المطيع له فطائع أمره ... يوماً متى أصفى السريرة يؤجر
ملك البلاد فكان اقدر قادر ... وبحكمه قد دان كل مقدر
ما شأنه إذ كان قائم هديه ... متقدما في عصره المتأخر
فالمحتذى من وجوده المتوفر ... كالمقتدي بعلائه المستظهر
وإذا استقل بقوة مسترشد ... وجد الهداية مثل لمحة منظر
هو راشد للمقتفي ومساعد للمعتفي ... ومعاند للمجتري
هذا الذي أضحى الزمان بعزمه ... مستنجداً في الحادث المستكبر
وإذا ادلهم الخطب كان مناره ... للمستضيء ضياء صبح مقمر
لله سيف منه ناصر دينه ... وبغيره دين الهدى لم ينصر
فاليوم برهان النبوة ظاهر ... بخلافة المستنصر المستبصر
ومنها في ذكر الوزير مؤيد الدين:(1/122)
سلطان كل معمم ومطيلس ... ومليك كل متوج ومسور
ورد مجد الدين المذكور دمشق سنة أربع وثلاثين وستمائة رحمه الله تعالى ذكر عز الدين محمد بن أبي الهيجاء رحمه الله تعالى أنه شيباني ورأيت بخط كمال الدين أحمد بن العطار أنه أنصاري والله أعلم.
إسماعيل بن محمد بن يوسف بن عبد الله أبو إبراهيم برهان الدين الأنصاري الأندلسي إمام الصخرة كان رجلاً صالحاً كثير الخير والعبادة أخبر عن بعض الأولياء المجاورين بيت المقدس أنه سمع هاتفاً يقول لما خرب القدس.
إن يكن بالشآم قل نصيري ... ثم خربت واستمر هلوكي
فلقد أتيت الغداة خرابي ... سمر العار في حياة الملوك
توفي البرهان إسماعيل المذكور ليلة الخميس الثالث والعشرين من المحرم بالقدس رحمه الله تعالى.
بكتوت بن عبد الله الأمير سيف الدين العزيزي أستاذ دار الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله كان من أكبر الأمراء بالدولة الناصرية وله الحرمة الوافرة والمكانة العالية والمهابة الشديدة ويده مبسوطة وآمره نافذ في المملكة وبيده الإقطاعات العظيمة وله الأموال الجمة والخيول والجمال والمواشي الكثيرة وغير ذلك ظاهر التجمل شجاعاً حسن السياسة والتدبير مليح الصورة بهي الشكل وكان مجرداً في الجهات التي قبلي دمشق فتوفي هناك ودخل غلمانه وحاشيته دمشق(1/123)
بالأعلام المنكسة والسروج المقلبة على الخيول المهلبة ومماليكه وقد قطعوا شعورهم ولبسوا المسوح السود فكانت صورة مؤلمة مبكية ووجد له من الحواصل ما لا يوصف وسمعت أنه سم وأن الذي تولى ذلك عز الدين عبد العزيز بن وداعة وأنه سمه في بطيخة خضراء وكان سيف الدين المذكور يحب البطيخ الخضر ويجلي إليه حيث كان فاتفق أني سألت حسام الدين اتش العزي رحمه الله أستاذ دار ابن وداعة إذ كان متولياً قلعة بعلبك عن ذلك فأنكر أن يكون أستاذه فعله بل قال أن الملك الناصر سير أستاذي في بعض المهمات فلما أجتاز بالعسكر قصد خدمة الأمير سيف الدين السلام عليه فقال له الأمير سيف الدين معك بطيخ أخضر؟ قال فعاد إلى خيمته وجهز له بطيخاً أخضر وغيره من هدية دمشق فأكل البطيخ وأمعن واتفق تغير مزاجه ومرضه ووفاته فقال الناس ما قالوا والله أعلم بالجملة فكان الأمير سيف الدين جليل المقدار من أركان الدولة ومنذ توفي حصل الخلل وتغير أحوال الدولة الناصرية رحمه الله تعالى.
الحسن بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن عمروك وهو عمرو بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن القاسم بن علقمة بن نصر بن معاذ بن عبد الرحمن ابن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضوان الله عليه أبو علي صدر الدين القريشي التيمي البكري النيسابوري الأصل الدمشقي المولد والمنشأ مولده بدمشق بكرة الحادي والعشرين من المحرم سنة أربع وسبعين وخمسمائة سمع من خلق كثير في بلاد متعددة وحصل كثيراً من الكتب(1/124)
وكتب العالي والنازل وكان حافظاً مغرماً بهذا الشأن وخرج تخاريج عدة وشرع في جميع ذيل التاريخ الذي بدمشق وحصل منه أشياء حسنة ولم يتمه وعدم بعده وكان عنده رياسة وفضيلة تامة وولي حسبة دمشق وسيره الملك المعظم عيسى بن الملك العادل إلى الشرق برسالة إلى السلطان جلال الدين خوارزم شاه ملك العجم باطناً وأظهر أن توجه ليحضر ماء من عين من تلك البلاد منن خاصية ذلك الماء أنه إذا حمل في قوارير زجاج وحمل على الرماح تبعه نوع من الطير يفني الجراد وكان قد حصل بالشام جراد كثير لم يعهد مثله فتوجه وصحبه جماعة صوفية واجتمع بجلال الدين منكيرني خوارزم شاه وقرر معه الاتفاق مع الملك المعظم وتعاضد به واستحلفه له وكان سبب ذلك أن الملك الكامل والملك الأشرف اتفقا على الملك المعظم فأراد أن يحصل له من يعتضد به وكان السلطان جلال الدين مجاوراً لخلاط وبلاد الملك الأشرف في الشرق فلما أبرم صدر الدين ما توجه بسببه أحضر الماء المطلوب على الصورة المقترحة وعاد إلى دمشق وكان الجراد قد قل فلما عاد البكري كثر فعمل الناس في ذلك الأشعار وظهر الناس ما توجه بسببه في الأمر وعلم الملك الكامل والملك الأشرف ذلك ولما عاد البكري ولاه الملك المعظم مشيخة الشيوخ مضافا إلى الحسبة ولهذا صدر الدين خانكاه بدمشق تعرف قيسارية الصرف وكانت وفاته في ليلة الاثنين حادي عشر ذي الحجة ودفن بالقاهرة ودفن من الغد بسفح المقطم رحمه الله تعالى.
الحسين الدين إبراهيم بن الحسين بن يوسف أبو عبد الله شرف الدين(1/125)
الهذباني الكوراني الأربلي الشافعي الصوفي اللغوي مولده في يوم الاثنين سابع عشر ربيع الأول سنة ثمان وستين وخمسمائة قرأ الأدب عن جماعة منهم الشيخ تاج الدين الكندي وسمع من أبي طاهر بركات بن إبراهيم الخشوعي وعمر بن محمد بن طبرزد وحنبل بن عبد الله المهرواني اليميني الكندي وآخرين وحدث بدمشق وغيرها وكان من الفضلاء المشهورين وأهل الأدب المذكورين عارفاً بما يروم حسن الأخلاق لطيف الشمائل كثير المحاضرة بالحكايات والنوادر والأشعار وسمعت عليه كثيراً من مروياته بدمشق وبعلبك وكانت وفاته رحمه الله عصر يوم الجمعة بدمشق ثاني ذي القعدة ودفن من الغد بمقابر الصوفية ظاهر دمشق رحمه الله تعالى.
داود بن عمر بن يوسف بن يحيى بن عمر بن كامل بن يوسف بن يحيى بن قابس بن حابس بدمشق مالك بن عمرو بن معد يكرب أبو المعالي عماد الدين زبيدي المقدسي الأصل الدمشقي الدار والوفاة الشافعي مولده بدمشق في ثاني عشر شوال سنة ثمانين وخمسمائة سمع من الخشوعي وابن طبرزد وحنبل وغيرهم وحدث وخطب بجامع دمشق مدة وأم الناس وخطب بجامع بيت الآبار وكان معروفاً بالإصلاح والتعبد وتوفي في حادي عشر شعبان ودفن من الغد رحمه الله تعالى.
داود بن عيسى بن أبي بكر بن محمد بن أيوب بن شادي أبو المظفر وقيل أبو المفاخر الملك الناصر صلاح الدين بن الملك المعظم شرف الدين بن الملك العادل سيف الدين ولد الملك الناصر المذكور في(1/126)
جمادى الآخرة سنة ثلاث وستمائة ولما ولد سماه الملك المعظم إبراهيم وأخبر والده الملك العادل بذلك فقال أخوك اسمه إبراهيم يشر إلى الملك الفائز فقال ما ترسم إن اسميه فقال سمه داود فسماه فلما حج الملك المعظم في سنة إحدى عشر وستمائة واجتاز بالمدينة صلوات الله وسلامه على ساكنها تلقاه أمير المدينة وخدمه خدمة بالغة وقال له يا خوند أريد أن افتح لك الحجر الشريفة لتزور زيارة خاصة لم ينلها غيرك فقال معاذ الله أن أتهجم وأقدم على هذا والله إني في طرف المسجد وأنا رجل من أساة الأدب فإني أخبر بنفسي ومثلي لا ينبغي له أن يداني هذا المقام الشريف إجلالاً له وتعظيما فرأى بعض الصلحاء النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وهو يقول له قل لعيسى إن الله قد قبل حجه وزيارته وغفر له ولام إبراهيم لتأدبه معي واحترامه لي وأما هذا معناه فحضر ذاك الرجل إلى الملك المعظم وقص عليه الرؤيا بمحضر من خواصه فبكى الملك المعظم لفرط السرور فلما قام من عنده قال ما أشك في صدق هذه الرؤيا إن شاء الله تعالى فقال له خواصه لكن ما يعرف لك ولد اسمه إبراهيم وحكى لهم صورة تسمية الملك الناصر أولا بإبراهيم وأنه هو الاسم الذي وقع عليه أولاً ونشأ الملك الناصر في حياة أبيه ملازماً للاشتغال بالعلوم على اختلافها وشارك في كثير منها وحصل منها طرفاً جيداً وسمع بالشام والعراق من جماعة منهم محمد بن أحمد القطيعي وغيره وكانت له إجازة من أبي الحسن المؤيد ابن محمد الطوسي(1/127)
وغيره وحدث وسأذكر من أحواله وأخباره وأشعاره وترسله ما يعلم به معظم أمره إن شاء الله كان الملك المعظم عيسى رحمه الله خلف من الولد عدة بنات وثلاثة بنين الملك الناصر أكبرهم فملك دمشق وسائر مملكة أبيه في عشر ذي الحجة سنة أربع وعشرين وستمائة واستقل بذلك.
وفي سنة خمس وعشرين وصل عماد الدين بن الشيخ من مصر إلى دمشق ومعه ابن جلدك بالخلع والتغايير على الملك المعظم من الملك الكامل.
وفي سنة ست وعشرين خرج الملك الكامل لقصده وانتزاع دمشق منه فسير الملك الناصر فخر القضاة بن بصاقة إلى الملك الأشرف يستصرخ به فحضر الملك الأشرف إلى دمشق لنصرته ونزل في بستانه بالنيرب فجرت أمور يطول شرحها لأن الملك الأشرف تغير عليه ومال إلى الملك الكامل وفارق الملك الناصر وتوجه إلى الملك الكامل ووصل إلى بيسان فلما بلغه وصول الملك الأشرف رجع إلى غزة وقال أنا ما خرجت على أن أقاتل أخي الملك الأشرف فلما بلغ ذلك الملك الأشرف قال للملك الناصر داود الملك الكامل قد رجع حردان والمصلحة أنني ألحقه وأسترضيه وأقرر القواعد معه وأما الملك الكامل فإنه نزل غزة وكان الأنبرور قد نزل الساحل بمقتضى مراسلة قديمة كانت من الملك الكامل إليه في حياة الملك المعظم فلما حضر على تلك القاعدة بجموعه بعد موت المعظم سير إلى الملك الكامل(1/128)
وقال له أنا قد حضرت بقولك وعرفت أن غرضك قد فات ومعي عساكر عظيمة وخلق كثير وما بقي يمكنني الرجوع على غير شيء فحدثني حديث العقال حتى أرجع إلى بلادي فقال الملك الكامل إيش تريد قال تعطينا القدس وترددت المراسلات بينهما أشهراً فاقتضى رأي الملك الكامل تسليم القدس - 64ألف - دون عمله وحصل الرضا بذلك فلما تردد الفرنج للزيارة اغتيل منهم في الطريق من انفرد فشكوا ذلك إلى الملك الكامل فأعطاهم القرايا التي على طريقهم من عكا إلى القدس ووقع الصلح والاتفاق على ذلك وحضر بعد إبرام الصلح مع الفرنج على هذه القاعدة لحصار دمشق فحصرها وأخذها على ما سنذكر إن شاء الله تعالى ولما اجتمع الملك الأشرف والملك الكامل اتفقا على انتزاع دمشق من الملك الناصر وأن يأخذها الملك الأشرف وينزل عن بلاد في الشرق عينها الملك الكامل ووقع الاتفاق عليها فحضرا لحصاره بعساكرهما وحصراه مدة أربعة شهور وتسلما دمشق في غرة شعبان سنة ست وعشرين وأبقى عليه قطعة كثيرة من الشام منها الكرك وعجلون والصلت ونابلس والخليل وأعمال القدس لأن القدس كان سلم إلى الأنبرور قبل ذلك سوى عشر قرى على الطريق من عكا إلى القدس فإنها سلمت إلى الفرنج مع مدينة القدس وأخذ منه الشوبك فبكى بين يدي الملك الكامل عليها فقال الملك الكامل أنا مالي حصن يحمي رأسي وأفرض أنك وهبتني إياه فسكت(1/129)
وخرج الملك الناصر بأمواله وذخائره جميعها وتوجه إلى الكرك والبلاد التي أبقيت عليه وعقد على عاشوراء خاتون ابنة الملك الكامل شقيقة العادل بن الكامل سنة تسع وعشرين وبقي على ذلك مدة ثم تغير عليه الملك الكامل تغيراً مفرطاً وأعرض عنه إعراضاً كلياً ووالزمه طلاق ابنته ففارقها قبل الدخول بها في سنة إحدى وثلاثين وكان سبب تغيره عليه أن الملك الكامل قصد دخول الروم والاستيلاء على ممالكه وكان ملك الروم إذ ذاك السلطان علاء الدين كيقباد بن كيخسرو فنوجه الملك الكامل وصحبته الملوك بستة عشر دهليزاً الملك الأشرف مظفر الدين موسى والملك المظفر شهاب الدين غازي صاحب ميافارقين والملك الصالح عماد الدين إسماعيل والملك الحافظ نور الدين رسلان شاه ابن صلاح الدين بعسكر حلب والملك الزاهد محيي الدين داود بن صلاح الدين صاحب البيرة وأخوه الملك المفضل قطب الدين صاحب سميساط والملك الصالح صلاح الدين أحمد بن الملك الظاهر غازي صاحب عين تاب والملك المظفر تقي الدين - 65 ألف - محمود صاحب حماة والملك المجاهد أسد الدين شيركوه صاحب حمص وغيرهم وسير صاحب الروم إلى الملك العزيز صاحب حلب يقول أنا راض بأن تمده بالرجال ولا تنزل إليه أبداً وأعفاه الملك الكامل من النزول فرضي الملكان بفعله ثم تقدم الملك الكامل بالعساكر إلى الدربند فوجد السلطان علاء الدين قد حفظ طرقاته بالرجال وهي طرق صعبة متوترة يشق سلوكها على العساكر فنزل(1/130)
الملك الكامل على النهر الأزرق وهو في أوائل بلد الروم وجاءت عساكر صاحب الروم وصعدت رجالاته إلى فم الدربند وبنوا عليه سوراً وقاتلوا منه وقلت الأقوات في عسكر الملك الكامل جداً ثم نمى إلى الملك الأشرف والملك المجاهد صاحب حمص أن الملك الكامل ذكر في الباطن أنه أن ملك بلاد الروم نقل سائر الملوك من أهل بيته إليها وانفرد بملك الشام مع الديار المصرية فاستوحشا من ذلك وإطلاعاً ملوك البيت الأيوبي فتغيرت نيات الجميع واتفقوا على التخاذل وعدم النصح فلما أحس الملك الكامل منهم بذلك مع كثرة الغلاء
وامتناع الدربند رحل بالعساكر إلى أطراف بلاد بهنسا وجهز بعض الأمراء إلى حصن منصور فهدمه ووصل إلى خدمته صاحب - 65 ب - خرتبرت داخلاً في طاعته وأشار عليه بالدخول إلى بلاد الروم من جهة خرتبرت فجهز معه الملك المظفر صاحب حماة والطواشي شمس الدين صواب العادلي وكان من أكبر الأمراء وفخر الدين البانياسي في ألفين وخمسمائة فارس فوصلوها جرائد بغير خيم فعند طلوع الفجر أقبلت عساكر الروم في اثني عشر ألف فارس مقدمهم القيمري وضربوا معهم مصافاً من أول النهار إلى آخره وظهر عسكر الروم ودخل الملك المظفر وشمس الدين صواب وفخر الدين البانياسي قلعة خرتبرت مع صحابها ونزل باقي العسكر في الربض فزحف عسكر الروم وملكوا الربض عنوة وأسروا أكثر من كان فيه من العسكر الكاملي ثم وصل السلطان علاء الدين في بقية عساكره وأحدقوا بالقلعة ونصبوا عليها تسعة عشر منجنيقاً وحصروها أربعة وعشرين يوماً وقل الماء والزاد من عندهم فطلبوا الأمان فأمنهم صاحب الروم وتسلم القلعة وما معها من القلاع وكانت سبعاً وتلقى الملك المظفر ومن معه أحسن ملتقى ونادمهم وخلع عليهم وقدم لهم التحف الجليلة وكان نزولهم من القلعة يوم الأحد لسبع بقين من ذي القعدة سنة إحدى وثلاثين فكان ذلك من أكد مقدمات الوحشة بين الملك الكامل والناصر وغيره من الملوك وكثر استشعار الملك الناصر من عمه الملك الكامل، فلما دخلت سنة ثلاث وثلاثين قوي عزم الملك الناصر على قصد الخليفة وهو المستنصر بالله والاستجارة به فحصل النجب والروايا وما يحتاج إليه لسفر البرية ثم توجه وصحبته فخر القضاة نصر الله بن بزاقة والشيخ شمس الدين عبد الحميد الخروشاهي والخواص من ممالكيه وإلزامه فلما قرب من بغداد أمر الخليفة بتلقيه وإكرامه ودخل بغداد ونزل بها مكرماً معظماً وقدم للخليفة ما كان استصحبه معه من الجواهر النفيسة والتحف والهدايا الجليلة وأمر الخليفة له بالإقامات الكثيرة ولأصحابه بالعطايا والخلع وكان آثر أن يأذن له الخليفة بالحضور بين يديه فيقبل يده ومشاهدة وجهه كما فعل بمظفر الدين كوكيري ابن بهاء الدين صاحب إربل فإنه كان قدم بغداد فطال الاجتماع بالخليفة فأذن له في ذلك فحضر وبرز له الخليفة فشاهده فرغب الملك الناصر أن يعامل بتلك المعاملة فإنه أكبر بيتاً من مظفر الدين وأعرق منه في الملك وسأل ذلك فلم يقع في الإجابة رعاية لخاطر الملك الكامل فعمل الملك الناصر قصيدة يعرض فيها بمطلوبه وبمظفر الدين وازن فيها قصيدة أبي تمام الطائي التي منها. ناع الدربند رحل بالعساكر إلى أطراف بلاد بهنسا وجهز بعض الأمراء إلى حصن منصور فهدمه ووصل إلى خدمته صاحب - 65 ب - خرتبرت داخلاً في طاعته وأشار عليه بالدخول إلى بلاد الروم من جهة خرتبرت فجهز معه الملك المظفر صاحب حماة والطواشي شمس الدين صواب العادلي وكان من أكبر الأمراء وفخر الدين البانياسي في ألفين وخمسمائة فارس فوصلوها جرائد بغير خيم فعند طلوع الفجر أقبلت عساكر الروم في اثني عشر ألف فارس مقدمهم القيمري وضربوا معهم مصافاً من أول النهار إلى آخره وظهر عسكر الروم ودخل الملك المظفر وشمس الدين صواب وفخر الدين البانياسي قلعة خرتبرت مع صحابها ونزل باقي العسكر في الربض فزحف عسكر الروم وملكوا الربض عنوة وأسروا أكثر من كان فيه من العسكر الكاملي ثم وصل السلطان علاء الدين في بقية عساكره(1/131)
وأحدقوا بالقلعة ونصبوا عليها تسعة عشر منجنيقاً وحصروها أربعة وعشرين يوماً وقل الماء والزاد من عندهم فطلبوا الأمان فأمنهم صاحب الروم وتسلم القلعة وما معها من القلاع وكانت سبعاً وتلقى الملك المظفر ومن معه أحسن ملتقى ونادمهم وخلع عليهم وقدم لهم التحف الجليلة وكان نزولهم من القلعة يوم الأحد لسبع بقين من ذي القعدة سنة إحدى وثلاثين فكان ذلك من أكد مقدمات الوحشة بين الملك الكامل والناصر وغيره من الملوك وكثر استشعار الملك الناصر من عمه الملك الكامل، فلما دخلت سنة ثلاث وثلاثين قوي عزم الملك الناصر على قصد الخليفة وهو المستنصر بالله والاستجارة به فحصل النجب والروايا وما يحتاج إليه لسفر البرية ثم توجه وصحبته فخر القضاة نصر الله بن بزاقة والشيخ شمس الدين عبد الحميد الخروشاهي والخواص من ممالكيه وإلزامه فلما قرب من بغداد أمر الخليفة بتلقيه وإكرامه ودخل بغداد ونزل بها مكرماً معظماً وقدم للخليفة ما كان استصحبه معه من الجواهر النفيسة والتحف والهدايا الجليلة وأمر الخليفة له بالإقامات الكثيرة ولأصحابه بالعطايا والخلع وكان آثر أن يأذن له الخليفة بالحضور بين يديه فيقبل يده ومشاهدة وجهه كما فعل بمظفر الدين كوكيري ابن بهاء الدين صاحب إربل فإنه كان قدم بغداد فطال الاجتماع بالخليفة فأذن له في ذلك فحضر وبرز له الخليفة فشاهده فرغب(1/132)
الملك الناصر أن يعامل بتلك المعاملة فإنه أكبر بيتاً من مظفر الدين وأعرق منه في الملك وسأل ذلك فلم يقع في الإجابة رعاية لخاطر الملك الكامل فعمل الملك الناصر قصيدة يعرض فيها بمطلوبه وبمظفر الدين وازن فيها قصيدة أبي تمام الطائي التي منها.
66 - ب لأمر عليهم أن تتم صدورهوليس عليهم أن تتم عواقبه
والقصيدة الناصرية مطلعها.
ودانٍ ألمت بالكثيب ذوائبه ... وجنح الدجى وحف تجول غيابهه
تقهقه في تلك الربوع رعوده ... وتبكي على تلك الطلول سحائبه
أرقت به لما توالت بروقه ... وحلت عزاليه وأسبل ساكبه
إلى أن بدا من أشقر الصبح قادم ... يراع له من أدهم الليل هاربه
وأصبح ثغر الأقحوانة حالكاً ... تدغدغه ريح الصبا وتداعبه
تمر على نبت الرياض بليله ... تحمشه طوراً وطوراً تلا عبه
فأقبل وجه الأرض طلقاً وطالما ... غدا مكفهراً موحشاة جوانبه
كساه الحيا وشياً من النبت فاخراً ... فعاد قشيباً غوره وغوار به
كما عاد بالمستنصر بن محمد ... نظام المعالي حين قلت كتائبه
أمام تجلي الدين منه بماجد ... تحلت آثار النبي مناكبه
هو العارض الهتان لا البرق مخلف ... لديه ولا أنواره وكواكبه
إذا السنة الشهبا شحت بطلها ... شجن وابل منه وسحت سواكبه(1/133)
فاخبأ ضياء البرق ضوء جينه ... كما نحلت جود الغوادي مواهبه
له العزمات اللائي لولا نضالها ... تزعزع ركن الدين وأنهد جانبه
بصير بأحوال الزمان وأهله ... حذور فما يخشى عليه نوائبه
حوى قصبات السبق مذ كان يافعاً ... وأربت على زهر النجوم مناقبه
تزينت الدنيا به وتشرفت ... بنوها فأضحى خافض العيش ناصبه
لإن نوهت باسم الإمام خلافة ... ورفعت الزاكي النجار مناسبه
فإن الإمام العدل والمعرق الذي ... به شرفت أنسابه ومناصبه
جمعت شتيت المجد بعد افتراقه ... وفرقت جمع المال فانهال كتابه
وأغنيت حتى ليس في الأرض معدم ... يجور عليه دهره ويحاربه
ألا يا أمير المؤمنين ومن غدت ... على كاهل الجوزاء تعلو مراتبه
ومن جده عم النبي وخدمه ... إذ صار منه أهله وأقاربه
أيحسن في شرع المعالي ودينها ... وأنت الذي تعزى إليه مذاهبه
وأنت الذي يعني حبيب بقوله ... ألا هكذا فليسكب المجد كاسبه
بأني أخوض الدوّ والدوّ مقفر ... سباريته مغبرة وسباسبه
وارتكب الهول المخوف مخاطراً ... بنفسي ولا أعي بما أنا راكبه
وقد رصد الأعداء لي كل مرصد ... فكلهم نحوي تدب عقاربه
وأتيك والعضب المهند مصلت ... طرير شباه فانيات ذوائبه
67 - ب وأنزل آمالي ببابك راجياًبواهر جاه يبهر النجم ثاقبه(1/134)
فتقبل مني عبد رق فيغتدي له ... الدهر عبداً طائعاً لا يغالبه
وتلبسني من نسج ظلك ملبسا ... يشرف قدر النيرين من جلائبه
وتنعم في حقي ما أنت أهله ... وتعلى محلي فالسها لا يقاربه
وتركبني نعماء أياديك مركباً ... على الفلك الأعلى تسير مواكبه
وتسمح لي بالمال والجاه بغيتي ... وما الجاه إلا بعض ما أنت واهبه
ويأتيك غيري من بلاد قريبة ... له الأمن فيها صاحب لا يجانبه
وما اغتر من جوب الفلا حر وجهه ... ولا أنضيت بالسير فيها ركائبه
فيلقى دنوا من لم ألق مثله ... ويحظى ولا أحظى بما أنا طالبه
وينظر من آلاء قدسك نظرة ... فيرجع والنور الأمامي صاحبه
ولو كان يعلوني بنفس ورتبة ... وصدق ولاء لست فيه أصاقبه
لكنت أسلي النفس عما ترومه ... وكنت أذود العين عما تراقبه
ولكنه مثلي ولو قلت إنني ... أزيد عليه لم يعب ذاك عائبه
وما أنا ممن يملأ المال عينه ... ولا بسوى التقريب تقضى مأربه
ولا بالذي يرضيه دفن نظيره ... ولو أنعلت بالنيرات مراكبه
وبي ظمأ رؤياك منهل رئيه ... ولا غرو أن تصفو لدى مشاربه
ومن عجب أني لدى البحر واقف ... وأشكو الظمأ والبحر جم عجائبه
وغير ملوم من يأتيك قاصدا ... إذا عظمت أغراضه ومذاهبه.
فلما وقف الخليفة المستنصر بالله على هذه القصيدة أعجبته إعجاباً(1/135)
كثيراً وقصد الجمع بين المصلحتين فاستدعاه سراً إجابة لسؤاله ورعاية في عدم الجهر للملك الكامل فحكى الملك الناصر قال واستدعاني الخليفة بعد شطر من الليل فدخلت من باب السر إلى إيوان فيه ستر مضروب والخليفة من ورائه فقبلت الأرض من بين يديه فأمرني بالجلوس فجلست ثم أخذ الخليفة يدثني من خلف الستر ويؤنسني ثم أمر الخدم فرفعوا الستر فقبلت الأرض ثانية وتقدمت فقبلت يده فأمرني بالجلوس فجلست بين يديه وجاراني في أنواع من العلوم وأساليب من الشعر ثم خرجت من عنده وعدت إلى منزلي ليلاً ثم حضر الملك الناصر بعد ذلك بالمدرسة المستنصرية على شاطئ دجلة وكان الخليفة في روشن ينظر ويسمع الكلام وحضر جماعة من الفقهاء المرتبين بالمدرسة وغيرهم من المذاهب الأربعة وبحث الملك الناصر واستدل واعترض وناظر الفقهاء مناظرة حسنة وكان جيد المناظرة صحيح الذهن له في كل فن مشاركة جيدة فقام يومئذ رجل من الفقهاء يقال له وجيه الدين اليرواني ومدح الخليفة بقصيدة يقول فيها مخاطباً للخليفة.
لو كنت في يوم السقيفة حاضراً ... كنت المقدم والإمام الأروعا
فغضب الملك الناصر لله تعالى لكون ذلك الفقيه لأجل سحت الدنيا أساء الأدب على أبى بكر الصديق رضوان الله عليه والخلفاء الراشدين وسادات المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم حاضرين يوم السقيفة وجعل المستنصر بالله مقدماً عليهم فقال لذلك الفقيه أخطأت فيما قلت كان ذلك اليوم جد سيدنا ومولانا الإمام المستنصر بالله العباس بن عبد المطلب(1/136)
رضي الله عنه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم حاضراً فلم يكن مقدماً ولا الإمام الأروع إلا أبي بكر الصديق رضي الله عنه فخرج المرسوم في ذلك الوقت بنفي ذلك الفقيه فنفي ثم وصل إلى القاهرة وولي بها تدريس مدرسة الصاحب صفي الدين بن شكر ثم أن المستنصر بالله خلع على الملك الناصر خلعة سنيّة عمامة سوداء وفرجية سوداء مذهبه وخلع على أصحابه ومماليكه خلعاً سنية وأعطاه مالاً جليلاً وبعث في خدمته رسولاً من أكبر خواصه إلى الملك الكامل يشفع إليه في إخلاص نيته له - 69ألف - وإبقاء بلاده عليه فوصل الملك الناصر والرسول إلى دمشق وبها الملك الكامل فخرج لتلقيهما إلى القصير وأقبل على الملك الناصر إقبالاً كثيراً وقبل شفاعة الخليفة وألبسه الخلعة هناك وكان قد قدم من بغداد ومعه أعلام سود وكان الخليفة لقبه الولي المهاجر مضافاً إلى لقبه فأمر الخطباء بلاده أن يذكروا في الدعاء له ذلك ثم خلع على الرسول وأعطاه شيئا كثيرا ورجع إلى بغداد وأقام الملك الناصر مطمئناً لانتسابه إلى الخليفة فلما حصلت المباينة بين الملك الكامل والملك الأشرف وعزما على المحاربة وانضم إلى الملك الأشرف جميع ملوك الشام سير إلى الملك الناصر داود يدعوه إلى موافقته على أن يحضر إليه ليزوجه ابنته ويجعله ولي عهده ويملكه البلاد بعده وسير الملك الكامل إلى الملك الناصر أيضاً رسولاً يدعوه إلى الاتفاق معه وأنه يجدد عقده على ابنته ويفعل معه كل ما اختار وتوافى الرسولان عند الملك الناصر(1/137)
بالكرك فرجع الميل إلى الملك الكامل وصرح لرسول الملك الأشرف بجواب إقناع فسير رسول الملك الكامل إليه يعرفه ميل الملك الناصر إلى جهته وكان قد حضر عند الملك الكامل بعض الأمراء الأكابر الذين مرت بهم التجارب - 69ب - ومارسوا الحروب وشهدوا المصافاة والوقائع فقال له الملك الكامل أشتهي أن تعرفني ما عندك في أمري وأمر أخي الملك الأشرف ومن يظهر لك أنه ينتصر ومن أقوى منا على لقاء صاحبه ولا تخفي ما في ضميرك من ذلك فقال أنت الآن وأخوك مثل الميزان لا يرجح عليك ولا ترجح عليه وقد بقي بينكما الملك الناصر داود فإلى أي جهة مال ترجحت وكان قد وصل الملك الكامل كتاب رسوله وهو القاضي الأشرف بن القاضي الفاضل يخبره بموافقة الملك الناصر له على ما قدمنا ذكره ولم يطلع عليه أحد فسر الملك الكامل بذلك ووقع منه قول ذلك الأمير أجمل موقع ثم أن الملك الناصر حضر بنفسه إلى الملك الكامل فتلقاه وبالغ في إكرامه وأعطاه الأموال وقدم له التحف واتفق موت الملك الأشرف رحمه الله واستيلاء الملك الصالح عماد الدين إسماعيل على بلاده التي بالشام وخروج الملك الكامل لانتزاعها منه فخرج الملك الناصر وصحبته وأخذ دمشق على الصورة المشهورة واتفق موت الملك الكامل عقيب ذلك والملك الناصر بدمشق نازل في داره المعروفة بدار أسامة فتشوف إلى مملكة دمشق فوافقه جماعة من المعضمية وغيرهم وجاءه الركن الهيجاوي والركن في الليل وبينا له وجه الصواب(1/138)
وأرسل له الأمير عز الدين أيبك صاحب صرخد يقول أخرج المال وفرقه في مماليك أيبك والعوام معك تملك البلد ويبقوا في القلعة محصورين فما فعل ثم أن الأمراء والأعيان أرباب الحل والعقد اجتمعوا بالقلعة وذكروا الملك الناصر والملك الجواد يونس بن داود بن الملك العادل فرجح عماد الدين بن شيخ الشيوخ الملك الجواد يونس بن داود بن الملك العادل وكان منحرفاً عن الملك الناصر لأنه كان يجري بينه وبينه في مجلس الملك الكامل مباحثات فيخطئه الملك الناصر فيها ويستجهله فبقي في قلبه من ذلك أثر كثير كان أقوى الأسباب في صرف السلطنة عنه وأما الأمير فخر الدين بن الشيخ فلم يكن في ذلك رأي وكان ميله إلى الملك الناصر أكثر من الجواد وأرسلوا إلى الملك الناصر الهيجاوي ليخرجه من دمشق فدخل عليه بدار أسامة وقال له أيش قعودك في بلد القوم فقام وركب وجميع من في دمشق من باب دار أسامة إلى القلعة وما شك
أحد أن الملك الناصر طالع إلى القلعة وساق فلما تعدى مدرسة العماد الكاتب وخرج من باب الزقاق عرج إلى باب الفرج صاحت العامة لا لا لا وانقلبت دمشق ونزل الملك الناصر بالقابون وفتح الجواد خزائن الكامل وفرق المال والخلع واستقر قدمه وأقام الملك الناصر أياماً بالقابون فعزم الجواد على مسكه وسير الأمير عز الدين أيبك الأشرفي ليمسكه وكان قد علم الأمير عماد الدين بن موسك بذلك فبعث إليه في السر من عرفه فسار في الليل إلى عجلون فوصل عز الدين أيبك إلى قصر أم حكيم وعاد إلى دمشق وأما الملك الناصر فإنه سار إلى الكرك وجمع وحشد ونزل إلى السواحل فاستولى عليها وخيم بعزمة طالباً للاستيلاء على مملكة والده فرحل الجواد فيمن بقي من العساكر المصرية مقدمهم عماد الدين بن شيخ الشيوخ وفي عساكر دمشق والمماليك الأشرفية وتوجه نحو الملك الناصر فرحل الملك الناصر غليه ليلقاه فوقع المصاف على ظهر حمار بين نابلس وجينين فانكسر الملك الناصر كسرة قبيحة ومضى منهزماً واحتوى الجواد على خزائنه وأثقاله على سبع مائة جمل فأخذت بأحمالها وأخذوا فيها من الأموال والجواهر والجنائب ما لا يحصى واستغنوا غنى الأبد وافتقر الملك الناصر فقرا الملك يفتقره أحد ووقع عماد الدين بن الشيخ بسفط صغير فيه اثنا عشر قطعة من الجوهر وفصوص ليس لها قيمة فطلبها من الجواد فأعطاه إياها وهذه الأموال هي التي كان الملك المعظم جهز بها دار مرشد ابنته لما زوجها بخوارزم شاه أخذها الملك الناصر ظناً منه أنه يعوضها إذا فتح البلاد ونزل الجواد في دار المعظم بنابلس داخل البلاد واحتوى على ما فيها وولي فيها وفي أعمال القدس والأغوار من قبله ورحل عماد الدين بن الشيخ ومن معه من عسكر مصر إلى الديار المصرية ولم تعجب هذه الواقعة الملك العادل خوفاً من تمكن الجواد واستيلائه على البلاد فأرسل إليه يأمره بالرجوع إلى دمشق ورد بلاد الملك الناصر إليه ففعل ورحل عائداً وفي هذه الواقعة يقول به جمال الدين بن عسل. أن الملك الناصر طالع إلى القلعة وساق فلما تعدى مدرسة العماد الكاتب وخرج من باب الزقاق عرج إلى باب الفرج صاحت العامة لا لا لا وانقلبت دمشق ونزل الملك الناصر بالقابون وفتح الجواد خزائن الكامل وفرق المال والخلع واستقر قدمه وأقام الملك الناصر أياماً بالقابون فعزم الجواد على مسكه وسير الأمير عز الدين أيبك الأشرفي ليمسكه وكان قد علم الأمير عماد الدين بن موسك بذلك(1/139)
فبعث إليه في السر من عرفه فسار في الليل إلى عجلون فوصل عز الدين أيبك إلى قصر أم حكيم وعاد إلى دمشق وأما الملك الناصر فإنه سار إلى الكرك وجمع وحشد ونزل إلى السواحل فاستولى عليها وخيم بعزمة طالباً للاستيلاء على مملكة والده فرحل الجواد فيمن بقي من العساكر المصرية مقدمهم عماد الدين بن شيخ الشيوخ وفي عساكر دمشق والمماليك الأشرفية وتوجه نحو الملك الناصر فرحل الملك الناصر غليه ليلقاه فوقع المصاف على ظهر حمار بين نابلس وجينين فانكسر الملك الناصر كسرة قبيحة ومضى منهزماً واحتوى الجواد على خزائنه وأثقاله على سبع مائة جمل فأخذت بأحمالها وأخذوا فيها من الأموال والجواهر والجنائب ما لا يحصى واستغنوا غنى الأبد وافتقر الملك الناصر فقرا الملك يفتقره أحد ووقع عماد الدين بن الشيخ بسفط صغير فيه اثنا عشر قطعة من الجوهر وفصوص ليس لها قيمة فطلبها من الجواد فأعطاه إياها وهذه الأموال هي التي كان الملك المعظم جهز بها دار مرشد ابنته لما زوجها بخوارزم شاه أخذها الملك الناصر ظناً منه أنه يعوضها إذا فتح البلاد ونزل الجواد في دار المعظم بنابلس داخل البلاد واحتوى على ما فيها وولي فيها وفي أعمال القدس والأغوار من قبله ورحل عماد الدين بن الشيخ ومن معه من عسكر مصر إلى الديار المصرية ولم تعجب هذه الواقعة الملك العادل خوفاً من تمكن الجواد واستيلائه على البلاد فأرسل إليه يأمره بالرجوع إلى دمشق(1/140)
ورد بلاد الملك الناصر إليه ففعل ورحل عائداً وفي هذه الواقعة يقول به جمال الدين بن عسل.
يا فقيهاً قد ضل سبل الرشاد ... ليس يغني الجدال يوم الجلاد
كيف ينحني ظهر الحمار هزيماً ... من جواد يكر فوق الجواد
ثم لما ملك الملك الصالح نجم الدين دمشق بعد الجواد ورد عليه فخر القضاة نصر الله بن بصاقة رسولاً من الملك الناصر يعده بمساعدته ومعاضدته على أخذ مصر له من العادل ويطلب منه تسليم دمشق وجميع البلاد التي كانت بيد أبيه فوعده الملك الصالح بذلك إذا ملك مصر فأبى الملك الناصر إلا أن ينجز له ذلك فلم يتفق بينهما أمر ثم أن الملك الصالح نجم الدين خرج لقصد الديار المصرية فاستولى الملك الصالح إسماعيل على دمشق وتعلل عسكر الملك الصالح نجم الدين عنه وبقي بنابلس فسير إليه الملك الناصر داود من أمسكه وطلع به إلى قلعة الكرك فاعتقله بها مكرماً على ما هو مشهور فلا حاجة إلى شرحه وكان الملك الكامل سلم القدس إلى الفرنج سنة ست وعشرين على أن يكون الحرم الشريف بما فيه من المزارات للمسلمين وكذا جميع أعمال القدس ما خلا عشر ضياع على طريق الفرنج من عكا إلى القدس وشرط أن يكون القدس خراباً ولا يجدد فيه عمارة البتة فلما مات الملك الكامل وجرى ما ذكرناه من الاختلاف بين الملوك عمر الفرنج في غربيه قلعة جعلوا برج داود عليه السلام من أبراجها وكان بقي هذا البرج لم يخرب لما خرب الملك المعظم أسوار القدس ولما اعتقل الملك الناصر داود(1/141)
الملك الصالح نجم الدين بالكرك توجه الملك الناصر بعسكره ومن معه من أصحاب الملك الصالح نجم الدين إلى القدس ونازل القلعة التي بناها الفرنج ونصب عليها المجانيق ولم يزل مصابراً لها حتى سلمت إليه بالأمان فهدمها وهدم برج داود عليه السلام واستولى على القدس ومضى من كان فيه من الفرنج إلى بلادهم واتفق وصول محي الدين يوسف بن الجوزي وصحبته جمال الدين يحيى بن مطروح فقال جمال الدين المذكور.
المسجد الأقصى له عادة ... سارت فصارت مثلاً سائرا
إذا غدا بالكفر مستوطناً ... أن يبعث الله له ناصرا
فناصر طهره أولاً ... وناصر طهره آخرا
وكتب عن الملك الناصر داود رحمه الله بالبشائر بذلك فمن كتاب كتبه عنه فخر القضاة نصر الله بن بصاقة رحمه الله تعالى إلى الديوان المستنصري فصل منه وقابلهم العبد بصليب من الرأي لا يعجم عوده وقاتلهم بجيش المصابرة لا تفل جنوده وجرد إليهم جماعة من عسكر الديوان تشهر عليهم الصواعق من نصالها وترسل عليهم البوائق من نبالها ونصب عليهم المجانيق التي تزاحم الحصون بمناكبها وتحرق شياطينها برجوم حجارتها بدلاً من نجوم كواكبها ومن شأنها أنها إذا قابلت بلدة أخذت بكضمها وفضت برغمها وأنزلها حكمها وأزتها أن السبق للمنجنيق وصخرها لا للقوس وسهمها فرمتها بثالثة الأثافي من جبالها وسحرت(1/142)
أعينهم إلا أن الله ما أبطل سحر عصبها ولا سحر حبالها وتقريبه لهم وإحسانه إليهم وإلى كل من تقدم إليه أوحد زمانه جواداً كريماً كثير العطاء ممدحاً وشعره في نهاية الجودة والفصاحة وكان في البيت الأيوبي جماعة ينظمون الشعر لم يكن فيهم من يتقدمه فيه إلا أن كان الملك الأمجد مجد الدين بهرام شاه صاحب بعلبك فإنه شاعر مجيد مكثر وكان قد أدركته حرمة الأدب كما أدركت عبد الله بن المعتز وغيره من الملوك الفضلاء ولم يزل منذ توفي والده رحمه الله في سنة أربع وعشرين وستمائة وإلى أن أدركته منيته في نكد وتعب ونصب لم يصف له من عمره سنة واحدة وقد أشرنا إلى ذلك فيما تقدم ولم يكن له رأي حازم في تدبير المملكة فإنه مع تقدير الله تعالى لما مات والده لو دارى الملك الكامل ونزل له عن بعض البلاد كان أبقى عليه دمشق ثم لما طلبه الملك الأشرف ليزوجه ابنته ويجعله ولي عهده على ما ذكرنا لو أجابه حضر إليه لاستقل بعد الملك الأشرف بالشام والتفت عليه المماليك الأشرفية مع المعظمية وكان قد دنا أجل الملك الكامل فاستقام أمره لما مات الملك الكامل لو قبل من رأي الأمير عز الدين أيبك صاحب صرخد - 73 ألف - وأنفق في المعظمية واستمالهم لملك دمشق ولم يلتفت على من بالقلعة ثم لما ضرب المصاف مع الجواد لو أحرز خزائنه وأمواله ببعض قلاعه لبقيت له وكانت عظيمة جليلة المقدار يمكنه أن يستخدم بها من العساكر جملة كثيرة ثم لما حصل الملك الصالح نجم الدين في قبضته لو أراد به أخذ الشام لأخذه وسلمه لأخيه العادل أو إلى عمه الصالح(1/143)
إسماعيل ثم اعتقله لم يحسن عشرته من كل وجه وكان يبد ومنه في بعض الأوقات أمور أثرت في قلب الملك الصالح نجم الدين ولم يحرج منه وكان الملك الصالح باطن والملك الناصر سليم الصدر ثم اقتضى رائه إطلاقه ومساعدته على تمليك الديار المصرية واشترط عليه أموراً لا يمكنه القيام بها ولا تسمح بها نفس بشر لو أمكنت واستحلفه على ذلك فلما تحقق الملك الصالح نجم الدين أنه لابد له من الحنث ضرورة في البعض حنث في المجموع قال الملك الصالح حلفني على أمور لا يقدر عليها ملوك الأرض منها أنني آخذ له دمشق وحمص وحماة وحلب والجزيرة والموصل وديار بكر وغيرها ونصف ديار مصر وما في الخزائن من المال والجواهر والثياب والخيول والآلات وغيرها فحلفت له - 73ب - من تحت السيف رحمه الله.
قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان كنت أسمعه يقول كثيراً إذا طلب منه حاجة تتعذر عليه إذا شئت أن تطاع، فامتثل ما يستطاع ثم معاملة الملك الصالح نجم الدين بعد أن تملك بما كان يعامله به وهو عنده معتقل بقلعة الكرك إلى أن حصل من الوحشة والمباينة بينهما ما آل به إلى انتزاع بلاده منه ثم لما توجه إلى حلب واستنابته لولده المعظم دون أخوته مع تميزهم عليه حتى أوغر صدورهم فكان ذلك من أسباب خروج الكرك عنه ثم لما توجه إلى حلب ترك بالكرك إسحاق المقدم ذكره مع إفراط ميله إليه ومحبته له فلو استصحبه لأمن مما(1/144)
ترتب على تركه من السبب الموجب لأخذ الكرك وحصول الوحشة والمنافرة بينه وبين ولده الملك الأمجد وكان يتسلى برؤيته وخفف عنه من أثقال همومه ثم إيداع تلك الجواهر النفيسة عند الخليفة فآل الأمر إلى كثرة تعبه ونصبه وتبذله وسفره ولم تعد إليه إلى غير ذلك من الأمور التي فارق فيها الحزم وذلك تقدير العزيز العليم وكان الملك الناصر داود رحمه الله معتنياً بالكتب النفيسة حصل منها جملة كثيرة ذهبت بعد وفاته وكان يجيز الشعراء بالجوائز السنية قدم عليه شرف الدين راجح الحلى شاعر الملك الظاهر غازي ابن السلطان صلاح الدين رحمه الله ومدحه بعدة قصائد فوصل إليه منه ما يزيد على أربعين ألف درهم وأجازه على قصيدة واحدة امتدحه بها وهو بنابلس بألف دينار مصرية والقصيدة من غرر القصائد وهي:
أمنكم عبقت مسكية النفس ... صبا تبسمت منها برء منتكس
تمت بما استودعت والفجر حمرته ... ما ذنب إيقادها من فحمة الغلس
ردت على مقلتي طيب الرقاد فها ... أنسانها بلذيذ النوم في أنس
فيا لها نفحة خالست نسمتها ... لما تيقنت أن العيش في الخلس
وللنسيم إشارات إذا التبست ... فسرها عند مثلى غير ملتبس
فما قعودك بي عن بيت وسكرة ... يغنيك آلاؤها في الليل عن قبس
يديرها ثمل الأعطاف قامته ... لو مثلت لغصون البان لم تمس
يسعى بها والدجى من حلى أنجمهعار ولكن بأنوار الكؤس كسى 74 ب(1/145)
والسحب تضحك بغر النور أدمعها ... والجوفى مآتم والأرض في عرس
بدر وقائع قلبي في محبته ... بين اللمى وفتور الجفن واللمس
نبهته ونجوم الأفق تسبح في ... بحر الظلام فمن طاف ومنغمس
فقام يمسح ما في الطرف من سنة ... وقد تمشى الكرى في الأعين النعس
فسكنت سورة الصهباء شرته ... واستودعت بعض ما في الخلق من شرس
فما ضممت الذي في العطف من هيف ... حتى استكف الذي في الطرف من شوس
فلا عدمت طلا صادته كأس طُلى ... فما ثنى عطفه عن نيل ملتمس
هذا وركب عفاة قد عدلت بهم ... إلى مغاني الغنى عن أربع درس
عافوا وردوا عود الباخلين فما ... أجروا مطالبهم منها على يبس
فقلت نصو راكاب الحمد واحدة ... إلى مقر العلى في رأرض نابلس
إلى مقر تناجيني جلالته ... كأني واقف في حضرة القدس
لوذوا بداود محيى الجود وانتجعوا ... عرائس على نعماه من حرس
نصوا إلى الناصر السلطان عيسكم ... فهو ملك الأيادي غير منبجس
لا تعدلوا عن ندى بدر أغريد ... طلق الأسرة مرهوب السطا تدمر(1/146)
إن خاب فادح ملث الغيث منهمراً ... أوصال فاخش وثوب الضيغم الشرس
ذو العلم يشرف والألباب مظلمة ... فاسلك مساقط ذاك النور واقتبس
فارضه تلق عباب اليم ملتطماً ... والعي قد ألجم الأفواه بالخرس
يضيء في ظلمات الشك مكرمة ... كما أضاء ظلام الليل بالقبس
ابان من كرم ملآن من همم ... ترفعت فهي لا تدنوا إلى دنس
حفت إلى بابه عيسى فأثقلها ... بأنعم أنقذت من جدبي التعس
أحلني ذروة العلياء مقترعاً ... والعزا وطال من صهوة الفرس
وردعني صروف الدهر حين طغت ... لها وقائع من أيامها الحمس
يهمى نداه إذا استصحبت ديمته ... كأنني قلت يا أمواهه انبجسي
لبيك يارئ آمالي التي ظمئت ... ويحسن الصنع عندي والزمان مُسى
لبيك فالعبد ما حالت مودته ... عما عهدت ولا عاهدته فنسى
تفديك نفسي وأبكار القريض وما ... مقدار نفسي وما أهديه من نفسي
أنت الذي رشني إذ خصني زمني ... بالأمس وأبيسى والدهر مفترسي
غرستني فاجتنيت الحمد من مدحي ... وليس يجني ثماري غير مغترسي
75 - ب فدم دوام الثريا فهي خالدةوطأ بنعليك أرقاب العدى ودس
فتلك قوم متى عاينُت أوجههم ... بكيت فاغتسلت عيني من النجس(1/147)
وانقطع إليه الشيخ شمس الدين عبد الحميد الخسرو شاهى تلميذ فخر الدين الرازي فوصل إليه منه أموال جمة وكذلك كل من انتمى إليه استفاد من ماله ومن علمه فكانوا معه كما قيل فأخذ من ماله ومن أدبه ومن نظمه رحمه الله أعني الملك الناصر داود رحمه الله تعالى.
لما بدا في مروزى قبائه ... وعليه من درب النضار تبهرج
مثلته قمراً عليه سحابة ... مزرورةً فيها البروق ترجرج
وله أيضاً:
إلى كم أخفى الوجد والدمع بائح ... وكم ارتجى صبراً وصبري نازح
خلعت عناني وانطلقت مع الصبي ... وشمرت عن ساق الهوى لا أبارح
وبي ظبية كحلاء قلبي كنا سها ... لذا جنحت منى إليها الجوانح
ولو لم يكن ظبياً نفاراً ومقلة ... وجيداً لما تاقت إليها الجوارح
على لين غصن البان منها مخايل ... وشمس الضحى منها عليها ملامح
ولولا سناها ما تألق بارق ... ولولا هواها ما ترنم صادح
حننت إليها والغزام يحثنى ... وقد ساقني شوق إليها يكافح
ولما أتاني طيفها يخبر الهوى ... ويوهمني بالكر أني مصالح
تذكرت ربع الأنس عن أيمن الحمى ... وأغصان بانٍ دونه تتناوح
فكادت بظهر النفس من فرط شوقها ... إلى عالم فيه النفوس سوانح
مقربة الأرواح في عالم البقا ... مقربة من ربها لا تبارح(1/148)
يطاف عليهم من رحيق ختامه ... من المسك ما تحييك منه الروائح
جنان عليهم دانيات قطافها ... وفي ظلها ما لا تمنى القرائح
هنالك من لم يأته فهو خاسر ... ومن حل فيه فهو لا شك رابح
وقال:
زار الحبيب وذيل الليل منسدل ... فانجاب عن وجهه داجى غياهبه
فقال لي صاحبي والضوء قد رفعت ... يداه من ليلنا مرخى جلا ببه
أما ترى الضوء في ليل المحاق لقد ... جاء الزمان بضرب من عجائبه
فقلت يا عاذلاً من نور طلعته ... أما ترى البدر يبدو في عقاربه
وقال:
لئن عاينت عيناي أعلام جلق ... وبان من القصر المشيد قبابه
تيقنت أن البين قد بان والنوى ... نأى شحطها والعيش عاد شبابه
- 76 ب - وقال:
طرفي وقلبي قاتل وشهيد ... ودمعي على خديك منه شهيد
يا أيها الرشأ الذي لحظاته ... كم دونهن صوارم وأسود
من لي بطيفك بعد ما منع الكر ... عن ناظريّ البعد والتسهيد
أما وحبك لست أضمر سلوة ... عن صبوتي ودع الفؤاد يئيد
والذ مالا قيت فيك منيتي ... وأقل ما بالنفس فيك أجود
ومن العجائب أن قلبك لم يلن ... لي والحديد الآنه داود(1/149)
وقال:
ما استصرخ الصبر قلبي وهو مذعور ... إلا وقد سلبته الأعين الحور
ولا سبأ عن خاطري جفن له غنج ... إلا وصارمه بالسحر مشهور
أفدي التي صيرت قلبي بها دنفاً ... فرق السوالف يلقى وهو مأسور
وردية الخد فيها معتقة ... من سكرها نرجس الأجفان مخمور
قد خيم السحر في أجفان ناظرها ... والسحر فما له في القلب تأثير
يجلو هواها وان أجرت دمي عبثاً ... ولا أبالي فإن الموت مقدور
لولا سناها وخداها لما عبدت ... كما تعبدتها نار ولا نور
وله من جملة قصيدة:
وإذا الملوك تكثرت بعد يدها ... للمقتنين بسواك لا أتكثر
وإذا طغت وبغت بما خولتها ... أقبلت نحوك خاضعاً أستغفر
مالي مراد في جنان زخرفت ... كلا ولا أخشى جحيماً تسعر
لكنني أبغي رضاك وخشيتي ... أني تخبط بي الذنوب فاهجر
وكتب إلى الملك المنصور إبراهيم صاحب حمص يستدعيه إلى مجلس أنس وذلك لما كانا نازلين ببيسان حين كانا متفقين على حرب الملك الصالح نجم الدين وهما إذ ذاك معاضد أن الملك الصالح عماد الدين وذلك يوم العيد في زمن الربيع.(1/150)
يا ملكاً قد جلا العصرا ... وفاق أملاك الورى طرا
وفاق في نائله حاتما ... وبذ في أقدامه عمروا
وباكر العلياء فاقبضها ... وكانت الناهدة البكرا
أما ترى الدهر وقد جاءنا ... مستقبلا بالبشر والبشرى
تجري الدنيا ما أتانا به ... أحسن وأكرم بالذي أجرى
العيد والنيروز في حالة ... وطلعة المنصور والنصرا
والأرض قد تاهت به واغتدت ... تختال في جدتها الحضرا
عبّست السحب على نورها ... فراح ثغر النور مفترا
الصوم قد ولى بالأمة وال ... فطر باللذات قد كرا
فانهض بلا مطل ولا فترة ... ترتشف المشمولة الحمرا
حبرية قد عتقت حقبة ... فأقبلت تخبر عن كسرى
واستجلها صفراء قدسية ... تحسبها في كأسها تبرا
اوذوب جمر حل في جامد ال ... سماء فألقى فوقه درا
وبادر اللذة في حينها ... وقم بنا ننتهب العمرا
في دوحة أترجها يانع ... يلوح في الأغصان مصفرا
كأنه إذ لاح في دوحها ... وجه سماء اطلعت زهرا
وأسلم ودم في عيشة رغدة ... تُبلى على جدتها الدهرا
وقال:
أحب الغادة الحسناء ترنو ... بمقلة جؤذر فيها فتور(1/151)
ولا أصبو إلى رشأ غرير ... وإن فتن الرشأ الغرير
وإني يستوى شمس وبدر ... ومنها يستمد ويستنير
وهل تبدو الغزالة في سماء ... فيظهر عندها للبدر نور
وقال:
وإني إذا ما الغرا بدى مودتي ... خداعاً وأخفى الغل بين الأضالع
لا ظهر جملاً بالذي أنا عالم ... بمكنونه فعل اللبيب المخادع
وأغدو إذا ما أمكنتني فرصة ... عليه بماضي الحد أبيض قاطع
بضربة مقدام ثبوت مجرب ... نعسه بين اللها والأخادع
وقال في معنى قصيدة
المسك بعض دم الغزال فلا ... تضع دم من بلحاظه الآراما
فلعله إما يحاول نجدة ... ورداً وإما في لماه مداما
وقال:
صنم من الكافور بات معانقي ... في حلتين تعفف وتكرم
فكرت ليلة وصله في هجره ... فجرت سوابق عبرتي كالعندم
فجعلت أمسح ناظري بسحره ... إذ شيمة الكافور إمساك الدم
وقال:
عيون عن السحر المبين ... لها عند تحريك القلوب سكون
تصول ببيض وهي سود فريدها ... ذبول فتور والجفون جفون(1/152)
إذا ما رأت قلباً خلياً من الهوى ... تقول له كن مغرماً فيكون
فقال:
جميعي حين أذكركم شجون ... وكلى حين أبكيكم عيون
وأنتم غاية الآمال عندي ... وإن بخلت تقربكم ظنون
وصالكم حياة الروح مني ... وهجركم الأليم لي المنون
أرى الأشواق تجذبني إليكم ... وسائقها الصبابة والحنين
بذلت لكم دموع العين لكن ... هواكم في حشاشتي المصون
يعز عليّ بعدكم ولكم ... مماتي في محبتكم يهون
أحبتنا أذيتم بالتنائ ... فؤادي فهو مكتئب حزين
هواكم لا تغيره الليالي ... وصبري عنكم قل لا يكون
- 78 ب - ومن إنشائه رسالة كتبها إلى المستعصم بالله بعثها على يد فخر القضاة بن بصاقة وهي.
أعز الله سلطان الديوان العزيز النبوي لا زال عزمه الشريف يستدرك فائة الأمور، وهممه العالية تصلح ما. . . الدهور، وسعيه الميمون في مصالح المسلمين هو السعي المشكور - العبد المملوك يقبل العتبة الشريفة الديوانية تقبيلاً يتقرب به إلى خالقه وخليقته ويتشرف به في حلية المساجلة على أهله وعشيرته، ويجعله في يوم المعاد من أسباب وسيلته وينهى أنه سير إلى الخدمة من ينوب عنه في آدابها، ويستنزل من كرمها مثعجر سمائها، وهو(1/153)
عبد الديوان نصر الله بن بصاقة وحمله من المشافهة ما هو مليء بإعادته، ومن الأدعية الصالحة ما هو من وظائف العبد وعادته، والمسؤول من صدقات الديوان العزيز الإقبال عليه بوجه القبول، والإصغاء إليه بالسمع الذي إليه يباح مصونات الأسرار إذا عومل غيره بالإحجام والنكول، وستر ما ينهيه في الخدمة ثبوت كرمه المسدول الذيول، لا زال كرم الديوان عالماً بخدمات عبيده، فخذا من محض النصيحة منهم بعدده وعديده إن شاء الله تعالى.
وكتب إلى الملك المنصور ناصر الدين إبراهيم صاحب حمص
أيا ملكاً يفلي الفلاة جواده ... تأيد على قلب لقاك مراده
رحلت به ثم انثنيت مكلفاً ... جواب بليغ لا يرام انتقاده
أتطلب أبكار المعاني وعونها ... لذي جسد قد سار عنه فؤاده
ألم بجسمي مذ رحلت نحوله ... وفارق جفني مذ نأيت رقاده
ولا عجب ممن نأت عنك داره ... إن اقتربت أسقامه وسهاده
أيا راحلاً ولى وخلّى بمهجتي ... أجيجاً يلاقى زنده وزناده
أسلت شؤون المقلتين فغادرت ... غدير دموعي لا يرجّى نفاده
وخلفتني كالوحش غير مؤانس ... خليلاً ولا يلقى إليه قياده
أعز الله أنصار السلطان المقام العالي الملكي المنصوري الناصري ولا أوحش مماليكه من خدمته، وأعاد لهم مشاهدته، ومن عانهم بعد(1/154)
عينيه بطلوع طلعته، المملوك يقبل الأرض خدمة متى تذكرها فاضت عبراته، وتوالت حسراته، ويشكو إلى مولاه ما لقي بعده من بعده من توالي أرقه، وتواتر قلقه، وتوحشه حتى من الصديق الحميم، ونفوره حتى من الملك العقيم، فلو نزل بسير ما نزل به لزلزل حتى استوت هضابه بوهاده، أوحلّ بثبير ما حلّ به أسف كما يتأسف في معاده، فالله تعالى يجمع له بمولانا بين الجسد وقلبه ويعيد أيام الأنس بعودة قريبة.
واتفقت له وقعة بالساحل مع الفرنج انتصر فيها فكتب في جملة كتاب كتب هذه الخدمة بعلمه بما من الله تعالى به من النصر والظفر ومهنيئة، باستعلاء الفئة المؤمنة على من حاد وكفر.
ومن كتاب آخر كتبت حيث أثرت مدادها، بمثار نقع جيادها، وبالمكان الذي صرعت فيه كماة أمجادها، بضرب صفاحها، وطعن صعادها، وكلمتهم السن الصفاح بفصيح أقوالها، وأشارت إليهم أنامل الرماح بسلاميات نصالها، فأصبحوا شارة لما أشار إليهم آنفاً وامتطوا أنف الحرب حتى صار أنف الخطى بهم راعفاً.
وكان الأمير سيف الدين علي بن فليح قد سار في خدمته واقطعه عجلون وأعمالها وكان أخوه عماد الدين قد قتل بالشرق في وقعة جرت بين الحلبيين وصاحب ماردين وصاحب الموصل في سنة سبع وأربعين(1/155)
فكتب إلى الملك الناصر يعرفه بمقتله فكتب إليه الملك الناصر وفي الجواب يقول الذي إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون كتب الله اسم المولى الأمير سيف الدين في جريدة المهتدين الذي هم بهذه الأخلاق يتخلقون وصيّره من الذين هم لهذه الآيات يتدبرون وأنزل عليه عند حدوث الحوادث صبراً، وأعظم له في الدارين أجراً، وأبقاه بعد معمري زمنه دهراً، وجعل من يتقدمه منهم له ذخراً، وهجم عل الأسماع والألباب فأصمها، وأصماها، بمصاب الأمير عماد الدين أفاض الله عليه ملابس رضوانه، وبوأه دار تجاوزه وغفرانه، ثبت الله عزائمه، وأقام ببقائه من بيته الكريم دعائمه، أهدى ممن يهدى إلى محجة الصبر، وإن يعرف ما فيه من جزيل الأجر، لأنه يعلم أن هذه الدنيا دار خسران، ومنزل أتراح وأحزان، لا يصفى لأحد عيشاً إلا كدرته، ولا تعاهده عهداً إلا نقضته ألا ترى أن المرء إذا متع بحياته كثرت مصائبه في أحبابه ولذاته وإن سبقهم إلى حلول رحمته كانت مصيبته في نفسه.
كن المعزى لا المعزي به ... إن كان لا بد من الواحد
والله تعالى يجعل المولى وارثاً لأعمارهم معمّراً من بعدهم ربوع ديارهم وليعلم أطال الله له مدة البقاء وأفاض عليه سابغ النعماء، إن العاقل كما يختار لنفسه خير الخيرين فكذلك يشكر إذ كُفى شر الشرين(1/156)
وهو ثبته الله وعمره، ووفقه للصبر الجميل وقدّره، أولى الناس أن يتصف بهذه الصفات، ويتسم بهذه السمات، ليكتب مع الصابرين، ويدّخر له إن شاء الله في أعلى عليين وعلى كل حال فالحمد لله رب العالمين ولما ملك الملك الصالح الديار المصرية وحصل بينه وبين الملك الناصر داود من الوحشة ما ذكرنا ورجع الملك الناصر إلى بلاده وأقام بالساحل مرابطاً للفرنج وقوي بسبب الخلف بين الملوك شأن العدو واهتمّوا في عمارة عسقلان وتشييد أسوارها وشنّ الغارات على ما حولها كتب الملك إلى ابن عمه الملك الصالح نجم الدين يستنجد به عليهم فلم ينجده وجمعت الفرنج جمعاً كثيراً وقصدوا نابلس فهجموها وبذلوا السيف في أهلها وأسروا من وجده بها من النساء والولدان وأقاموا بها ثلاثة أيام يسفكون وينهبون ونصبوا على المساجد صلبانهم وأعلنوا بكفرهم ومن سلم من أهلها تعلق برؤوس الجبال وبلغ الملك الناصر ذلك فقدم مسرعاً في عسكره فلما تحققت الفرنج إقباله رجعوا إلى حصونهم وقد فازوا بما استولوا عليه من القتل والأسر والنهب فكتب الملك الناصر إلى الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله وكان الملك الصالح نجم الدين قد قلده بمصر القضاء والخطابة كتاباً مضمونه أحسن الله عزاء المجلس السامي القضوى العزى في مصابه بالمسلمين وصبّرنا وإياه على ما ذهى به حوزة الدين وأثاب الذين استشهدوا بما وعد به الشهداء من رضوانه، عوضهم عن منازلهم بمنازل الأمن من قصور جنانه، وسامحنا وإياه بما أهملناه من حمية الدين وحفظ أركانه، وبما(1/157)
اعتدناه من إغفاله، وخذلانه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قول معترف بتقصيره، عن جهاد أعداء الله وأعداء دينه، جهراً بلسانه وسراً بيقينه، وذلك لمصيبة المسلمين بمدينة نابلس التي قتلت فيها المشايخ والشبان وسبيت الحلائل والصبيان، واستولت أيدي الكفار على ما كان فيها من خزائن الأموال، والغلال، وما جمعه المسلمون لازمتهم في السنين الطوال، فهو يوم ضرب الكفر بحرابه وتبختر بين أنصاره وأعوانه، وتزهى على الإسلام برونق زمانه، وهو اليوم الذي تقاتلا فيه فأحجم الإسلام ثم تولى، واقتسما فيه بالسهمان فكان سهم الكفر هو السهم المعلى، فيالها من فجيعة أبكت العيون، وأبكت الجفون، وهجمت على القلوب فودت لو أنها فودت لو أنها سقت بالمنون، فيا ليتني نبذت قبل سماعها مكاناً قصياً، أوليت ربي لم يجعلني بعباده حفيّا، أوليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسيّاً، ألا ليت أمي أيّم طول عمرها فلم يقضها ربي لمولى ولا بعل، وياليتها لما قضاها لسيد لبيب أريب طيب الفرع والأصل، قضاها من اللاتي خلقن عواقر فما بشرت يوماً بأنثى ولا قحل، - 81 ب - ويا ليتها لما غدت بي حاملاً أصليت بما احتفت عليه من الحمل، ويا ليتني لما ولدت وأصبحت لشد إلى الشد فبات بالرجل.
لحقت باسلاً في فلمت ضجيعهم ... ولم أر في الإسلام ما فيه من خبل
فيا أيها العز الذي كنا نظن أن الإسلام يتزيد بسعيه غداً، وأن رقّى عزائمة تكون عليه من سحر الكفار حرزاً، تيقن أن قد عمّ بالشام النفير، ووجبت(1/158)
الغزاة على الحدث الطرير، والشيخ الكبير، وجاز للحرة أن تبرز للقتال بغير إذن بعلها وللأمة أن تبارز برمحها ونصلها، ووجب على المجاهدين الإسعاد، والإنجاد، وتعين في طاعة الله الجهاد، فيالسان الشريعة أين الجدال فيه وأين الجلاد، وأين مهند لسانك الماضي، إذا كلّت المهندة الحداد، بعد سيف لسانك في غمده وقد هجرت سيوف الكفار جفونها، وأجرت عيون الأنام على الإسلام شؤونها، إلا وأن الإسلام بدا غريباً وسيرجع كما بدا، وتقاصرت الهمم عن إسعاده حتى لا يرى له مسعداً فأنا لله قول من عز عزاؤه في الإسلام وذويه، وبذل في الدفاع عنه ما تملكه يده وتحويه، وصبر في الله على احتمال الأذى وعدم دونه محاميه والله سبحانه وتعالى يتلا في الإسلام بتلافيه، ويحميه بحمايته، وحسن نظره فيه، أنه قريب مجيب ونظم الملك الناصر أبياتاً وسيرها إلى وزيره فخر القضاة أبي الفتح نصر الله بن هبة الله بن عبد الله بن عبد الباقي الغفاري المعروف بابن بصاقة لينظر فيها وهي:
يا ليلة قطّعت عمر ظلامها ... بمدامة صفراء ذات تأجج
بالساحل النائب روائح نشره ... عن روضة المتروح المتأرج
واليمّ زاه قد هدا تياره ... من بعد طول تقلقل وتموج
طوراً يدغدغه النسيم وتارةً ... يكرى فيوقظه بنان الخزرج(1/159)
والبدر قد ألقى سنا أنواره ... في لجه المتجعد المتدبج
فكأنه أذمدّ صفحة متنه ... بشعاعه المتوقد المتوهج
نهر تكون من نضار مائع ... يجري على أرض من الفيروزج
فوقف عليها فخر القضاة المذكور وكتب إليه وأما الأبيات الجيمية الجمة المعاني، المحكمة المباني، المعوذة بالسبع المثاني، فإنها والله حسنة النظام بعيدة المرام، متقدمة على شعراء من تقدمها في الجاهلية وعارضها في الإسلام، قد أخذت بمجامع القلوب في الإبداع، واستولت على المحاسن فهي نزهة الأبصار والأسماع، ولعبت بالعقول لعب الشمول إلا ان تلك خرقاء وهذه صناع، - 82 ب -.
ثم أن الملك الناصر أخرج الملك الصالح نجم الدين وتوجه معه إلى الديار المصرية فملكها وكان حصل الاتفاق بينهما قبل ذلك على أمور اشترطها الملك الناصر وحلف عليها الملك الصالح وهو عنده معتقل بالكرك وكانت مشقة يتعذر الوفاء بها لكثرتها من الأموال والبلاد فلما ملك الملك الصالح الديار المصرية حصل التسويف والمغالطة فيما حصل الاتفاق عليهم فحصلت الوحشة وتأكدت وعاد الملك الناصر إلى بلاده على غضب وشرع النفور يتزايد من الجهتين وتمادى الأمر على ذلك إلى أن حصلت المباينة الكلية فقصدت عساكر الملك الصالح جمع ما وصلت إليه أيديهم من بلاد الملك الناصر فاستولوا عليه ثم توفي الأمير(1/160)
سيف الدين قليج سنة أربع وأربعين وهو من أعيان الأمراء الأكابر.
وكان الملك الناصر أقطعه قلعة عجلون وعملها فتسلمها عمه الملك الصالح عماد الدين واستنزل أولاده من قلعتها وكان قد سير الأمير فخر الدين بن الشيخ لقصد الملك الناصر داود فقصده وأخذ منه القدس ونابلس وبيت جبريل والصلت والبلقاء وخرب ما حول الكرك والملك الناصر بها في حكم المحصور ثم نازلها الأمير فخر الدين وحاصرها أياماً ثم رحل عنها وقل ما عند الملك الناصر من المال والذخائر واشتد عليه الأمر فنظم معاتب الملك الناصر نجم الدين ابن عمه:
قولوا لمن قاسمته ملك اليد ... ونهضت فيه نهضة المستأسد
واقعت عليه كل أصيد من ذوي ... رحمي عريق في العلا والسودد
لا قيتم بسنان كل مثقف ... صدق الكعوب وحدّ كل مهند
غاضبت فيه ذوي الحجى من أسرتي ... وأطعت فيه مكارمي وتوددي
يا قاطع الرحم التي صلتي لها ... ألفت على الفلك الأثير بعسجد
شددت نحوى بالعتاب مقالة ... جاءت كتبهم للنضال مسدد
أتقول فيّ مقالة لك جرها ... إن انصفت أوكلها إذ يعتدى
إن كنت تقدح في صريح منابتي ... فاصبر بعرضك في اللهيب الموجد
عمي أبوك ووالدي عم به ... يعلو انتسابك كل ملك أصيد
صالا وجالا كالأسود ضوارياً ... وأبرير تيار الفرات المزبد
ورثا الحماسة والسماحة عن أب ... ورّاد حرب مورد المحتدي(1/161)
العادل الملك المؤيد بالتقى ... سيف الإله على البغاة محمد
دع سيف مقول البليغ يذبّ عن ... أعراضكم بفرنده المتوقد
فهو الذي قد صاغ تاج فخاركم ... بمفصل من لؤلؤي وزبرجد
وفلئن غدوت بما تقول مخصصي ... لأبرهنن على الصحيح المسند
إني الذي اشتهرت جميل خلائقي ... لفعال معروف وقول أحمد
83 - ب الناس أجمع يعلمون بأننيمن آل شادي في صميم المحتد
بيتي ونفسي في المعالي آية ... مثل السها ما أن تلامس باليد
سمح إذا ما شح موسر معشر ... في حالتي بطار في وبمتلدي
إني لأفضل والملوك كثيرة ... في حالتي خوف وعام أجرد
بيتي إذا ألف خاف حراً ورجا ... حرم الدخيل وكعبة المسترفد
حصن المطرد إن تعذر منعه ... من خوف جماع الجنود مؤيد
آوى المشدد لي وأعطى ما نعى ... وأقيل أعدائي وأرحم حسّدي
إن الغنى والجود من نفسي الفتى ... ليست بكثرة أنيق أوأعبد
ما كل مقلال ضنين يا للمى ... ما كل مكثار بذي كفّ ندى
كم من فقير كالغني بفعله ... وأخى غني كالمملق المتجدد
قلد الجود ووجهه متهلل ... ولذاك يأخذ وهو كالعاني الصدى
ما أمنى العافون إلا عاينوا ... بشراً بوجهى واخضلالاً في يدي
ما إن ربيت ولا أرى في مهلتي ... يوماً على أهلي بفظ أنكد(1/162)
إني لهم في النائبات كخادم ... والخادم الكافي لهم كالسيد
وأنا المجيب دعاهم إن أرهفوا ... علناً بصوتي في الحجاج الأربد
وأقيهم بحشاشتي متبرعاً ... من كل بؤس رائح أو مغتدي
أفديهم أن قوتلوا وأمدهم ... إن أعسروا وارد. . . السوددي
يا مخرجي بالقول والله الذي ... خضعت لعزته جبين السجّد
لولا مقال الهجر منك لما بدا ... مني افتخار بالقريض المنشد
إن كنت قلت خلاف ما هو شيمتي ... فالحاكمون بمسمع وبمشهد
والله يا ابن العم لولا خيفتي ... لرميت ثغرك بالعداة المرّد
لكنتى ممن يخاف حزامة ... ندماً تجرعني سمام الأسود
فأراك ربك بالهدى ما ترتجي ... ليراك تفعل كل فعل أرشد
لتعيد وجه الملك طلقاً ضاحكاً ... وترد شمل البيت غير مبدد
كيلا ترى الأيام فينا فرصة ... للخارجين وضحكة للحسد
لا زال هذا البيت مرتفع البنا ... يزهو بأمجد آخر أمجد
يحوى البنون المجد عن آبائهم ... إرثاً على مر الزمان الأطرد
حتى يكونوا للمسيح عصابة ... بهم يسوس المعتدي والمهتدي
وفي سنة ست وأربعين ورد الشيخ شمس الدين الخسر وشاهي على الملك الصالح وهو بدمشق رسولاً من الملك الناصر داود ومعه ولده الملك الأمجد مجد الدين حسن بن الملك الناصر ومضمون الرسالة أن(1/163)
يتسلم الملك الصالح الكرك ويعوضه عنها الشوبك وخبزاً بالديار المصرية فأجاب الملك الصالح إلى ذلك ثم رحل إلى الديار المصرية في المحفة لمرضه وسير تاج الدين بن المهاجر ليتسلم الكرك منه ويسلم الشوبك عوضها فتوجه لذلك فوجد الملك الناصر قد رجع عنه لما بلغه من حركة الفرنج إلى الديار المصرية ومرض الملك الصالح وتربص الدوائر فلما دخلت سنة سبع وأربعين ضاقت الأمور بالملك الناصر بالكرك فاستناب بها ولده الملك المعظم شرف الدين عيسى وأخذ ما يعز عليه من الجواهر ومضى في البرية إلى حلب مستجيراً بالملك الناصر صلاح الدين يوسف كما فعل عمه الملك الصالح عماد الدين إسماعيل فأنزله صاحب حلب وأكرمه وسير الملك الناصر داود ما معه من الجواهر إلى بغداد لتكون وديعه له عند الخليفة المستعصم بالله فلما وصل الجواهر إلى بغداد قبض وسير إلى الملك الناصر داود خط بقبضه وأراد أن يكون آمناً عليه لكونه مودعاً في دار الخلافة فلم ينظره بعد ذلك وكانت قيمته مائة ألف دينار إذا بيع بالهوان وكان المعظم الذي استنابه والده بالكرك أمه أم ولد تركية الملك الناصر يميل إليها ويحب ولدها أكثر من إخوته الباقين وكان للملك الناصر من ابنة عمه الملك الأمجد مجد الدين حسن بن الملك العادل أولاد منهم الملك الظاهر شادي أكبر أولاده والملك الأمجد مجد الدين حسن وكان فاضلاً نبيهاً مشاركاً في علوم شتى وكان للملك الناصر أيضاً أولاد أخر من أمهات أولاد شتى فلما قدم المعظم عليهم تعلموا خصوصاً الظاهر والأمجد لكبر سنهما(1/164)
وتميزهما في أنفسهما ولما كان الملك الصالح نجم الدين بالكرك كانت أمهما تخدمه وتقوم بمصالحه لكونها ابنة عمه وكان والداها المذكوران يأنسان به ويلازمانه في أكثر الأوقات واتفق مع ذلك ضيق الوقت وتطاول مدة الحصر فاتفقا مع أمهما على القبض على أخيهما المعظم فقبضاه واستوليا على الكرك وعزما على تسليمها إلى الملك الصالح نجم الدين وأن يأخذا عوضاً عنها فسار الملك الأمجد إلى العسكر بالمنصورة فوصل يوم السبت لسبع مضين من جمادى الآخرى سنة سبع وأربعين واجتمع بالملك الصالح فأكرمه وأقبل عليه وتحدث مع الملك الصالح في تسليم الكرك وتوثق منه ولنفسه ولأخوته وطلب خبزاً بالديار المصرية يقوم به فأجابه إلى ذلك وسير إلى الكرك الطواشي بدر الدين بدر الصوابي متسلماً لها ونائباً عنه بها ووصل إلى العسكر أولاد الملك الناصر جميعهم وأخواه الملك القاهر عبد الملك والملك المغيث عبد العزيز ونساؤهم وجواريهم وغلمانهم وأتباعهم واقطعوا اقطاعات جليلة ورتب لهم الرواتب الكثيرة وأنزل أولاد الملك الناصر الأكابر وأخواه في الجانب الغربي قبالة المنصورة وفرح الملك الصالح بأخذ الكرك فرحاً عظيماً معما هو فيه من المرض العظيم الذي لا يرجى برؤه وزينت القاهرة ومصر وضربت البشائر بالقلعتين وكان تسلم الكرك يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرى سنة سبع وأربعين وستمائة وحكى لي أن آكد الأسباب في تسليم الكرك معماً تقدم ذكره من الأسباب أن الملك الناصر كان يميل إلى شخص من أولاد غلمانه يدعى إسحاق(1/165)
وكان بارع الجمال مفرط الحسن وله فيه أشعار مشهورة فلما توجه إلى حلب تركه بالكرك فمال إليه الملك الأمجد بن الملك الناصر نيلاً مفرطاً واستحوذ الشاب إلى الملك الأمجد وكلاهما جميل الصورة والأمجد أسن منه بسنين يسيرة وجرى في ذلك فصول يطول شرحها فتخيل الأمجد أن والده متى تمسكن منه فرق بينهما قطعاً وربما أعدم الشاب بالكلية لأنه كان شديد الغيرة عليه ولا يخلو الأمجد من أذية تناله ومكروه يوقعه به فكان هذا آكد الأسباب في تسليمها ولو تأخر تسليمها لبقيت لهم مع تقدير الله تعالى فإن الملك الصالح كان قد اشتغل عنهم وعن غيرهم بنفسه وما به من الأمراض العظيمة المهولة وبما دهمه من قصد الفرنج الديار المصرية واستيلائهم على طرق بلادها وأعقب ذلك موته ثم قدوم الملك المعظم ولده وقتله ثم تفرق المماليك وإنفراد الشام عن مصر وإشتغال الملك الناصر صلاح الدين يوسف بالمصريين واشتغالهم به ثم قصد التنر البلاد الشامية واستيلاؤهم
عليها ثم كسرتهم وقصر مدتهم لله الحمد والمنة لكن إذا أراد الله أمراً بلغه. ها ثم كسرتهم وقصر مدتهم لله الحمد والمنة لكن إذا أراد الله أمراً بلغه.
وأما الملك الناصر داود فبقي في حلب عند الملك الناصر صلاح الدين يوسف وبلغه ما جرى فعظم عليه جداً فمات الملك الصالح وتملك البلاد الملك المعظم ولده وقتل وأخرج الطواشي بدر الدين الصوابي الملك المغيث فتح الدين عمر بن الملك العادل وملكه الكرك والشوبك وملك الملك الناصر صلاح الدين يوسف دمشق والشام على ما هو مشهور فلا حاجة إلى شرحه فلما أستقر قدم الملك الناصر صلاح الدين يوسف(1/166)
بدمشق في سنة ثمان وأربعين ومرض بها مرضاً يؤس منه فيه.
وكان معه بدمشق في سنة ... الملك الصالح عماد الدين إسماعيل والملك الناصر داود فقيل أن الملك الناصر داود سعى في أيام مرض الملك الناصر يوسف والأرجاف في أن يتملك دمشق فلما عوفي الملك الناصر بلغه ذلك فتقدم بالقبض عليه وسيره تحت الحوطة إلى حمص فاعتقله في قلعتها فقال الملك الناصر داود أبياتناً أولها.
إلهي إلهي أنت أعلى وأعلم ... بمحقوق ما تبدي الصدور تكتم
وأنت الذي ترجى لكل عظيمة ... وتخشى وأنت الحاكم المتحكم
86ب - إلى علمك الفصل أشكو ظلامتيوهل بسواه ينصف المتظلم
أبث جنايات العشيرة معلناً ... إلى من بمكنون السرائر يعلم
أتيتهم مستصرخاً مستجرماً ... كما يفعل المستصرخ المتظلم
فلما يئسنا نصرهم ونوالهم ... رمونا بإفك القول وهو مرجم
وقطع مني ما أمرت بوصله ... وإحلال أبعاد القرابة يحرم
مليكي أتعلوني الملوك بقهرها ... وأنت ملاذي منهم وهم هم
فحسبي اعتصاماً إنني بك لائذ ... إذا هز خطى وجرد مجرم
أغثنا اغثنا من عانا يكن لنا ... بك النصر حتى يخذلوا ثم يهزموا
لندركهم من باسنا بكتائب ... تهد صناديد الملوك وتهدم
لنسقيهم كأساً سقونا بمثلها ... ونعفو ونسخو إذ سطوا وتلوموا(1/167)
طلبنا جليلاً من عظيم وإنما ... يجود على المكرمات المعظم
يجدد نعماك القديمة عندنا ... حديث إياد لفظها يترنم
فنصرك مجعول لنا ومعجل ... وبرك معلوم لنا فهو معلم
وبقي في الاعتقال مدة ثم أفرج عنه بشفاعة وردت من الديوان فتوجه إلى العراق فلم يؤذن له في دخول بغداد مراعاة لخاطر الملك الناصر صلاح الدين يوسف وطلب الوديعة فلم تحصل له وجرى له خطوب يطول شرحها وآخر الأمر وقعت شفاعة في حقه على أن يكون في خدمة الملك الناصر صلاح الدين يوسف ويطلق له ما يقوم بكفايته فحصلت الإجابة إلى ذلك وورد دمشق وأقام بها فلما وردت سنة ثلاث وخمسين طلب من الملك الناصر دستوراً ليمضي إلى العراق ليأخذ الوديعة ثم يتوجه إلى مكة شرفها الله تعالى لقضاء فريضة الحج فأذن له وطلب منه أن يكتب كتاباً إلى الخليفة يشفع له في رد وديعته إليه ويخبره بالرضا عنه لينقطع بذلك ما يحتج به عليه من جهته فأجابه إلى ذلك وكتب له فسافر إلى العراق وجعل طريقه على كربلاء مشهد الحسين بن علي عليهما السلام وأقام به وسير إلى الخليفة المستعصم بالله قصيدة يمدحه بها ويتلطف ويمت بقصده وخدمة وهي:
مقامك أعلى في الصدور وأعظم ... وحلمك أرجى في النفوس وأكرم
فلا عجب أن غص بالقول شاعر ... وفوه مصل اللها بين مفحم
وأني يقول والمحل معظم ... ولم لا وما يرجى من الحلم أعظم(1/168)
إليك أمير المؤمنين توجهي ... بوجه رجاء عنده منه أنعم
إلى ماجد يرجوه كل ممجد ... عظيم ولا يغشاه إلا المعظم
ركبت إليه ظهر تيماء قفرة ... بما تسرج الأعداء خيلاً وتلجم
فأشجارها ينع وأحجارها ظبي ... وأعشابها نبل وأمواهها دم
رميت فيافيها بكل نجيبةبنسبتها يعلو الجديل وشذقم 87 ب
يجاذبنا فضل الأزمة بعد ما ... براهن موصول من السير مبرم
تساقين من خمر الكلال مدامة ... فلا هن أيقاظ ولا هن نوم
يطسن الحصى في جمرة القيظ بعد ما ... غدا يتبع الجبار كلب ومرزم
تلوح سباريت الفلاة مسطر ... بأخفافها منه فصيح وأعجم
تخال ابيضاض القاع تحت احمرارها ... قراطيس وراق علاهن عندم
فلما توسطن المساواة واعتدت ... تلفت نحو الدار شوقاً وبرزم
وأصبح أصحابي نشاوي من السرى ... يدور عليهم كوبه وهو مفعم
تنكر للخريت بالبيد عرفه ... فلا علم يعلو ولا النجم ينجم
فظل لا فراط الآسي متندماً ... وإن كان لا يجدي الأسى والتندم
لشوف الرغامة صلة لهداية ... ومن بالرغامة يهتدي فهو يرغم
يناجي فجاج الدو والدو صامت ... ولا يسمع النجوى ولا يتكلم
على حين قال الظبي والظل قالص ... وأوقدت المعزاء فهي جهنم(1/169)
وجف مزاد القوم فهي أشنة ... وخف لورد الموت كف ومعصم
ووسع ميدان المنايا بخيله ... فضاق مجال الريق والتجم الفم
فوحش الرزايا للرزية حصر ... وطيرالمنايا بالمنية حوم
فلما تبدت كربلا وتبينت ... قباب بها السبط الزكي المكرم
ولذت به مستشفعا متحرما ... كما يفعل المستشفع المتحرم
وأصبح لي دون البرية شافعاً ... إلى من به معوج أمري يقوم
أنخت ركابي حيث أيقنت أنني ... بباب أمير المؤمنين مخيم
بباب يلاقي البشر آمال وفده ... بوجه إلى أرفادهم يتبسم
بحيث الأماني للأماني قسيمة ... وحيث العطايا بالعواطف تقسم
وحيث غصون المجد تهتز للندى ... تزعزج جواداً من سجاياه يثجم
عليك أمير المؤمنين تهجمي ... بنففس على الجوزاء لا تتهجم
تلوم بأن تغشى الملوك لحاجة ... وللتهابي عنك لا تتلوم
تضن بماء الوجه لكن وفدكم ... له شرف ينتابه المتعظم
فصن ماء وجهي عن سواك فإنه ... مصون يصوناه الحيا والتكرم
الست بعيد حرمتي عن وراثة ... له عندكم عهد تقادم محكم
ومثلي يحيى للفتوق ورتقها ... إذا هز خطي وجرد مخذم
فلا زلت للآمال تبقى مسلما ... لتنتابك الآمال وهي تسلم
فلم يجد شيئاً ثم توجه إلى مكة شرفها الله تعالى وقضى فرائض الحج(1/170)
وسننه ووقعت فتنة بمكة بين أهلها والركب العراقى فركب أمير الحاج العراقي بمن معه من عسكر الخليفة وكاد يقع بينهم ملحمة عظيمة فقام الملك الناصر داود في الإصلاح حسن قيام واجتمع بالشريف قتادة أمير مكة واخضر إلى أمير الحاج مذعناً له بالطاعة وقد جعل عمامته في عنقه فرضي عنه أمير الحاج وخلع عليه وذاده على ما جرت به العادة من الرسم وقضى الناس مناسكهم وتفرقوا إلى أوطانهم وهم شاكرون لجميل صنع الملك الناصر وإصلاحه لذات البين وحفظه بما فعل لأموالهم وأرواحهم وكثر دعاؤهم له وثناؤهم عليه ثم توجه أمير الحاج العراقي فلما قدم مدينة سيدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم قام بين يدي الحجرة الشريفة وأنشد مادحاً للنبي صلى الله عليه وسلم وفرائصه ترتعد ولسانه من هيبة ذلك المقام تتلجلج
عليك سلام الله يا خير مرسل ... أتاه صريح الحي من خير مرسل
إليك امتطينا اليعملات رواسما ... يجبن الفلا ما بين رضوى ويذبل
إلى خير من أطرته بالمدائح السن ... فصدقها نص الكتاب المنزل
إليك رسول الله قمت مجمجماً ... وقد كل عن ثقل البلاغة مقولي
وأدهشني نور تألق مشرقاً ... يلوح على سامي ضريحك من على
ثنتني عن مدحي لمجدك هيبة ... يراع لها قلبي ويرعد مفصلي
وعلمي أن الله أعطاك مدحة ... مفصلها في مجملات المفصل
فماذا يقول لمادحون بمدحهم ... بمن مدحه يعلو على كل معتلي
ثم أحضر شيخ الحرم وخدامه ووقف بين يدي النبي صلى الله(1/171)
عليه وسلم متمسكاً بأذيال الحجرة المقدسة وقال بمشهد وإن هذا مقامي من رسول الله صلى الله عليه وسلم داخلاً عليه مستشفعاً به إلى ابن عمه الإمام المستعصم بالله أمير المؤمنين في أن يرد علي وديعتي فأعظم الناس هذا المقام الشريف وجرت عبراتهم وكثر بكائهم وكتب في الحال بصورة ما جرى إلى الخليفة وحمل المكتوب إلى أمير الحاج وحدثه الحاضرون بصورة ما جرى في تلك الحضرة المقدسة وكان ذلك يوم السبت الثامن والعشرين من ذي الحجة سنة ثلاث وخمسين ثم توجه الركب العراقي وصحبتهم الملك الناصر فلما صاروا ببعض المنازل خرج عليهم جمع عظيم من العرب يريدون نهبهم وأخذ أموالهم وأشرعوا لهم الأسنة وأخذوا في مقاتلتهم ومحاربتهم واشتد القتال بينهم وكادوا يظفرون بأمير الحاج ومن معه فخرج الملك الناصر وشق الصفوف واستدعى بأمير السرية وهو أحمد بن حجي بن زيد من آل مري وكان أبوه الأمير حجي صاحب الملك الناصر داود وص والده الملك المعظم للناصر عليه أياد عظيمة فدنا أحمد من الملك الناصر فحذره سوء عاقبة فعله وإقدامه على ركب الخليفة وأخذ في محادثته تارة بالترهيب وتارة بالترغيب إلى أن انقاد له وأجاب إلى الكف ولما رجع الحاج وصحبتهم الملك الناصر إلى العراق خرج أمر الخليفة بإنزال الملك الناصر - 89ب - بالمحلة فنزل بها وقرر له راتب لا يكفيه وجرى له ما ذكرنا من محاسبته على ما وصل إليه من الضيافة وغيرها فعاد إلى الشام ولم يحصل له المقصود وأخر أمره أنه وصل(1/172)
إلى قرقيسياتم عاد منها إلى تيه بني اسرائيل كما ذكرنا وانضم غليه جماعة من العرب ورام فيما قيل أن يتصل بالبحرية وذلك في أوائل سنة ست وخمسين وبلغ الملك المغيت فتح الدين عمر صاحب الكرك فخاف منه أن يكثر جمعه من العرب والترك فيقصده فراسله مخادعاً له بإظهار المودة ثم أرسل إليه عسكر فقبضوا عليه وعلى من معه من أولاده فلما وصلوا بهم إلى اللاجية من غور زغراء أفردوه منهم وأذنوا للأولاد أن ينصرفوا حيث شاؤا ومضى أصحاب الملك المغيث بالملك الناصر داود إلى بلد الشوبك وكان تقدم الملك المغيث بأن يهيئ به مطمورة يحبس فيها لينقطع خبره فلما وصلوا به إلى ذلك المكان وجدوا المطمورة لم يتم عملها فأنزلوه في طور هارون عليه السلام فلجأ إليه مستشفعاً به وبأخيه موسى صلى الله عليهما وسلم واتفق أن الخليفة لما قصده التتر في هذه السنة أعني سنة ست وخمسين كما ذكرنا اضطر إلى الانتصار بكل أحد فأرسل إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف يستمده بالرجال ويطلب منه أن يسير إليه الملك الناصر داود مقدماً على من يبعثه من العساكر الذي يستخدمهم لنصرة الإسلام فوصل الرسول من الخليفة بذلك إلى دمشق ثم توجه إلى الكرك لإحضار الملك الناصر داود لهذا المهم فأتاه الفرج من حيث لا يحتسب بعد أن أقام في طور هارون عليه السلام ثلاث ليال فقال في ذلك.
تبارك الله إخلاصاً وأيماناً ... سبحانه خالقاً بالجود مناما(1/173)
هو الذي يقاسي من قعر هاوية ... أقمت فيها مطار اللب حيرانا
موسى بن عمران بل هارون صاحبه ... تكفلاني إشفاقاً وتحنانا
هما إلى الله قاما بالشفاعة لي ... تلطفا فيهما براً وإحسانا
فأفرج الملك المغيث عنه وتوجه إلى دمشق ونزل بالبويضاء شرقي دمشق وأقام بها يتجهز لنصرة الخليفة وقصر الصلاة مدة إقامته بالبويضاء وتواترت الأخبار بمضايقة التتر بغداد فأشار عله جماعة من أصحابه أن يتأنى في الحركة فقال إني قد بعت نفسي من الله تعالى وما توجهي لطلب دنيا وإنما مقصودي أن أبذل نفسي في سبيل الله لعل الله تعالى يجعل على يدي نفعاً للمسلمين - 90ب - أو تحصل لي الشهادة في سبيله وبينما هو على هذه النية وردت الأخبار بأن التتر ملكوا بغداد وشاع أيضاً خبر لا حقيقة له وهو أن الخليفة لحق بالعرب فقال لا بد لي من اللحاق به فله في عنقي بيعة وقد لزمني الوصول إليه وأخذ بغداد منه لا يسقط وجوب اتباع أمره والذي يخشاه الناس القتل وأنا لا أخشاه وعرض في هذه السنة عم الشام وديار مصر وغيرها وحكى عبد الله بن فضل أحد من كان في خدمته قال لما اشتد الوباء والطاعون عقيب أخذ التتر بغداد تسخطنا به فقال لنا الملك الناصر لا تتسخطوا به فإن الطاعون لما وقع بعمواس في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال بعض الناس هذا وجه هذا الطاعون الذي بعث على بني إسرائيل فبلغ ذلك معاذ بن جبل رضي الله عنه فقام في(1/174)
الناس خطيباً وقال أيها الناس لا تجعلوا دعوة نبيكم صلى الله عليه وسلم ورحمة ربكم عذاباً وتزعمون أن الطاعون هو الطوفان الذي بعث على بني اسرئيل إن الطاعون رحمة ربكم رحمكم بها ودعوة من نبيكم لكم اللهم أدخل على معاذ منه النصيب الأوفى قال ثم افيض علينا موت معاذ وابنه وأهل بيته بالطاعون ثم ابتهل وقال اللهم اجعلنا منهم وارزقنا ما رزقتهم وأصبح من الغد أو بعده مطعونا فلما سمعت بمرضه جئت إليه وهو يشكو ألماً مثل الطعن بالسيف في جنبه الأيسر بحيث يمنعه من الأضطجاع وحكى ولده شهاب الدين غازي عنه أنه نام بين الصلاتين ثم انتبه فقال إني رأيت جنبي الأيسر يقول لجنبي الأيمن أنا قد جاءت نوبتي والليلة نوبتك فاصبر كما صبرت فلما كان عشية النهار شكى ألماً خفيفاً تحت جنبه الأيمن وأخذ في التزايد وتحققنا أن ذلك الطاعون فبينما أنا عنده بين الصلاتين وقد سقطت قواه إذ أخذته سنة فانتبه وفرائصه ترتعد فأشار إلي فدنوت منه فقال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم والخضر عليه السلام قد جاءا إلى عندي ثم انصرفا فلما كان آخر النهار قال ما في رجاء فتهيئ في تجهيزي فبكيت وبكى الحاضرون فقال لا تكن إلا رجلاً ولا تعمل عمل النساء ولا تغير هيئتك وأوصاني بأهله وأولاده ثم اشتد به الضعف ليلاً وقمت في حاجة فحدثني بعض من كان عنده من أهله أنه افاق مرعوباً وقال بالله تقدموا إلى جانبي فإني أجد وحشة فسئل لما ذلك فقال أرى صفاً عن يميني - 91ب -(1/175)
وصورهم جميلة وعليهم ثياب حسنة وصفاً عن يساري وصورهم قبيحة فيهم أبدان بلا رؤوس وهؤلاء يطلبوني وهؤلاء يطلبوني وأنا أريد أن أروح إلى أهل اليمين وكلما قال لي أهل الشمال مقالتهم قلت ما أجيئ إليكم خلوني من أيديكم ثم أغفى إغفاءة ثم استيقظ وقال الحمد لله خلصت منهم وكانت وفاته رحمه الله تعالى صباح تلك الليلة وهي ليلة السبت السادس والعشرين من جمادى الأولى هذه السنة وعمره نحو ثلاث وخمسين وقد استولى عليه الشيب استيلاء كثيرا وفي صبيحة موته جاء الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله في أقاربه وعساكره إلى البويضاء وأظهر التأسف والحزن عليه ورأى على بعض أقاربه ملبوسا ملونا فأنكر عليه ذلك غاية الإنكار وقال هذا يوم تلبس فيه هذه الثياب وقد مات كبيرنا وشيخنا وأجلنا قدرا ومكانة ثم حمل إلى الصالحية فدفن هناك في تربة والده الملك المعظم رحمهما الله تعالى وكانت والدة الملك الناصر داود رحمه الله تعالى أم ولد خوارزميه وعمرت بعد وفاته دهراً حكى لي عز الدين محمد بن أبي الهيجاء رحمه الله ما معناه أنه قال خرج الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله إلى البويضاء؟ لشهود جنازة الملك الناصر داود رحمه الله وكنت في من خرج في خدمته فلما وصل السلطان خرجت والدة الملك الناصر داود حاسرة وقالت اشتفيت بولدي أو هذا معناه من كلام النساء في حال الحزن وسفههن فقال الملك الناصر يا مرة مسلمة والله لقد عز علي فقده وتألمت لوفاته وهو ابن عمي وقطعة من لحمي فكيف(1/176)
تقولين هذا القول ثم قعد وتأسف عليه وبكى ولم يتأثر لمقالها وعذرها لما نزل بها ولم يحضر أحد من
أعيان الدمشقيين سوى قاضي القضاة صدر الدين أحمد بن سني الدولة وولده القاضي نجم الدين رحمهم الله تعالى لا غير فالتفت السلطان إلى القاضي صدر الدين وقال ما أقل وفائكم يا دمشقيين يموت مثل الملك الناصر وهو سلطانكم وأبوه سلطانكم وجده سلطانكم وما يخرج أحد إلا أنت وولدك والله كان الواجب على أهل دمشق أن يكونوا من المدينة إلى هنا مكشفي الرؤوس يندبونه ويبكون عليه وشرع في توبيخ الدمشقيين ولومهم على ذلك بما هذا معناه وكان في الملك الناصر داود رحمه الله فضيلة وبقية في الآداب والعلوم ومحبة في العلماء فإذا اعتبرت ألفاظها كانت دراً منظوماً وإن اختبرت معانيها كانت رحيقاً مختوماً جلت بعلوها عن المعاني المطروقة والألفاظ المسروقة ودلت بعلوها على أنها من نظم الملوك لا السوقة فلو وجدها بان المعتز لاجرى زورقة الفضة في نهرها وألقى حمولة العنبر في بحرها وألقى تشبيهاته باسرها في أسرها ولو لقيها ابن حمدان لاعتم في موسى الغمام وانبرى بري السهام وتغطى من أذبال الغلائل المصبغة بذيل الظلام ولو سمعها امرؤ القيس لعلم أن فكرته قاصرة وكرته خاسرة وأيقن أن وحوشه غير مكسورة وعقابه غير كاسرة فأين الجزع الذي لم يثقب من الذي قد تنظم وأين ذلك الحشف البالي من هذا الشرف العالي فالله يكفي الخاطر الذي سمح بها عين الكمال الشحيحة ويشفي القلوب العليلة بأدوية هذه الأنفاس الصحيحة. الدمشقيين سوى قاضي القضاة صدر الدين أحمد بن سني الدولة وولده القاضي نجم الدين رحمهم الله تعالى لا غير فالتفت السلطان إلى القاضي صدر الدين وقال ما أقل وفائكم يا دمشقيين يموت مثل الملك الناصر وهو سلطانكم وأبوه سلطانكم وجده سلطانكم وما يخرج أحد إلا أنت وولدك والله كان الواجب على أهل دمشق أن يكونوا من المدينة إلى هنا مكشفي الرؤوس يندبونه ويبكون عليه وشرع في توبيخ الدمشقيين ولومهم على ذلك بما هذا معناه وكان في الملك الناصر داود رحمه الله فضيلة وبقية في الآداب والعلوم ومحبة في العلماء فإذا اعتبرت ألفاظها كانت دراً منظوماً وإن اختبرت معانيها كانت رحيقاً مختوماً جلت بعلوها عن المعاني المطروقة والألفاظ المسروقة ودلت بعلوها على أنها من نظم الملوك لا السوقة فلو وجدها بان المعتز لاجرى زورقة الفضة في نهرها وألقى حمولة العنبر في بحرها وألقى تشبيهاته باسرها في أسرها ولو لقيها ابن حمدان لاعتم في موسى الغمام وانبرى بري السهام وتغطى من أذبال الغلائل المصبغة بذيل الظلام ولو سمعها امرؤ القيس لعلم أن فكرته قاصرة وكرته خاسرة وأيقن أن وحوشه غير مكسورة وعقابه غير كاسرة فأين الجزع الذي لم يثقب من الذي قد تنظم وأين ذلك الحشف البالي من هذا الشرف العالي فالله يكفي الخاطر الذي سمح بها عين الكمال الشحيحة ويشفي(1/177)
القلوب العليلة بأدوية هذه الأنفاس الصحيحة.
قلت كان فخر القضاة صاحب هذا الكلام من أعيان الفضلاء مستقلاً بالعلم والأدب والترسل وله النظم الحسن ومشاركة في كثير من العلوم مع ما عنده من الرياسة والمكارم وحسن العشرة ودماثة الأخلاق خدم الملك المعظم ابن الملك العادل ثم ولده الملك الناصر المذكور ووزر له وترسل عنه إلى دار الخلافة وإلى جماعة من الملوك بالديار المصرية وغيرها من البلاد وسمع وحدث وجالس المشايخ والعلماء واعترفوا بغزارة علمه وكثرة فضله وتوفي في منزله بسفح قاسيون ظاهر دمشق يوم الجمعة ثامن جمادى الآخرة سنة خمس وستمائة ودفن هناك رحمه الله وأظنه قد نيف على الستين.
ومن كلامه: قتيل الجفون الفواتر في سبيل حبه كقتيل السيوف البواتر في سبيل ربه إلا أن هذا يغسل بدموعه وهذا يزمل بنجيعه وهذا في حال حياته حتى يرمق وهذا في مماته حتى يرزق وقد الّم ابن الأثير الجزري بهذا المعنى فقال: دمع المحب ودمع القتيل متساويان، في التشبيه والتمثيل إلا أن بينهما بوناً، لأنهما يخلفان لوناً.
ولفخر القضاة:
له الراية السوداء يشرق نورها ... وتكحل عين النصر منها بأثمد
وله في الملك المعظم عيسى بن العادل:
غبت عن القدس فأوحشته ... وقد غدا باسمك مأنوسا(1/178)
فكيف لا تلحقه وحشة ... وأنت روح القدس يا عيسى
وله أيضاً:
لقد عدم الفضل والمفضلون ... وأمسى مريدهما مستريحا
فلا شاعر يستحق النوال ... ولا باذل يستحق المديحا
وقال ملغزاً في الرمح:
ولي صاحب قد كمل الله خلقه ... فليس به نقص يعاب فيذكر
عصي صقيل إن أطيل عنانه ... مطيع خفيف الكل حين يقصر
يسابقني يوم النزال إلى العدى ... فإن لم أؤخره فما يتأخر
ويؤمن منه الشر ما دام قائماً ... ولكن إذا ما نام يخشى ويحذر
أنال به في الروع مهما اعتقلته ... مراما إذا أطلقته يتعذر
تعدى إلى أعدائه متنصلاً ... إليهم وما أبدى اعتذارا فيعذر
ترى منه دمياً إلى الخط ينتمي ... ومغرى بغزو الروم وهو مزنر
عجبت له من صامت وهو أجوف ... ومن مستطيل الشكل وهو مدور
ومن طاعن في السن ليس بمنحنى ... ومن أرعن مذ عاش وهو موقر
ففكر إذا ما رمت إفشاء سره ... فها أنا قد أظهرته وهو مضمر
وكتب إلى شمس الدين بن النعماني كاتب الجيوش ببغداد لغزا في جميل:
ولي صاحب مازال يحسن صحبتي ... وليس له في المخبتين عديل(1/179)
تساوى اسمه بين الأنام وفعله ... فكل إذا فكرت فيه جميل
متى تلقى حرفاً أولاً تلقه ... منيعاً يرد الطرف وهو كليل
وإن تلقى منه ثانياً فهو أمة ... مقيم يقضي عمرها ويزول
وإن تلق منك ثالثاً فهو صابر ... لما لد من ثقل الرجال حمول
وإن تلق منه رابعاُ فارتحل إذا ... تصحف عنه ليس فيه نزول
وقد رضته حتى طفا وهو راسب ... بلحج وغصّ فالبحر منه طويل
فأجابه ابن النعماني والغز في اسم سعيد:
أمولاي يا من فضله وبيانه ... وصاحبه كل يقال جميل
ومن حاز أفكار المعاني وفضله ... لسودده بالمكرمات كفيل
إنا ذلك المومى إليه ومجدكم ... يبين قياسا لي عليه دليل
ولي صاحب من كان في الناس كاسمه ... يقول بحد صارم ويصول
متى تلق حرفاً أولاً منه تلقه ... يهني به كل الورى ويزول
وإن عد حرفاً واحد من حروفه ... فللنجم منه منزل وحلول
وإن يكن المحذوف حرف انتهى به ... فليس لإنسان سواه عديل
كذا جاء في التنزيل يا قوم فاعلموا ... لتأويل ما قد قلته وأقول
فأجابه فخر القضاة:
أمولاي شمس الدين لازلت هكذا ... تفيد الصديق والعدو تبيد
ولا برحت يمناك في كل عزمة ... تجود على الراجي وأنت تسود(1/180)
أبى الله أن يشقى بمثلك صاحب ... ولكنه مهما يراك سعيد
فدامت ذلك النعماء في ظل مالك ... له الخلد دار والملوك عبيد
سمع فخر القضاة وحدث وأجازه الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي ويحيى بن سعد بن بؤس وأبو الفرج عبد المنعم بن كليب الحراني وغيرهم وكتب فخر القضاة إلى الشيخ جمال الدين بن الجوزي رحمه الله لغزاً في مقصورة ابن دريد وهو ما يقول سيدنا إمام أئمة الأنصار وصدر صدور الأقطار، وجامع مسانيد السير والأخبار، والعالي كعبه في تحبير العلوم على كعب الأحبار، في عروس جليت في ساعة على بغلين وزفت في ليلة إلى محلين خطباها بظهور السماح لا بصدور الرماح وملكاها بحل الصحاح لا بعقد النكاح وافترعاها في الملأ فلم يكن عليها ولا على أبيها من عيب ولا جناح وهي من المشهورات بين الأنام والمقصورات لا في الخيام باسقة الفرع ثابتة الأصل فائزة عند النضال بالخصل، جامعة المناقب والفضائل ساحبة ذيل الفصاحة على سحبان وائل.
وكتب إلى جمال الدين يوسف بن العنائفي مشرف ديوان بغداد ما يقول سيدنا واصل جناح قاصديه وقاطع جماح معانديه في مطية صامتة جوفاء تارة بدينة وتارة هيفاء إذا كانت ضئيلة صغيرة فهي قائمة على ثلاث متنقلة تنقل الأثاث وإذا كانت عظيمة كبيرة فهي عادية الأرجل والإنبعاث دائمة الإقامة واللباث فإن قصرت وصغرت(1/181)
كانت مطية صامت جاهل وإن طالت وكبرت كانت مطية ناطق فاضل على أن الصغيرة تباع وتشترى والكبيرة يحرم فيها ذلك ويمتنع ربها بأن يمتطيها ويقتنع وقد خشينا الجمع بين هاتين مع أنه حلال وظمئنا إلى رشف جوابك في ذلك لأنه زلال، فإن أسأنا في السؤال فتجاوز عنا وأحسن إلينا وإن جئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا وكتب إلى ابن النعماني.
ومنصوبة مرفوعة عند نصبها ... ولكنه رفع يؤول إلى خفض
تعين على حر الزمان وبرده ... بلا حسب ذاك ولا كرم محض
ويصبح للاجي إليها وقاية ... لبعض الأذى الطاري على الجسم لا العرض
تقوم على رجلين طوراً وتارةً ... تقوم على رجل بلا غرض منض
إذا حضرت كانت عقيلة خدرها ... وإن تبد لم تلزم مكاناً من الأرض
قصدت كريماً خيمه ليبينها ... وقصد الكريم الخيم من جملة الفرض
يا رافع لواء الأدباء ودافع لأواء الغرباء هذا اللغز ممهد موطأ مكشوف لا مغطأ وقد سطر مفرداً ومجموعاً وذكر مقيساً ومرفوعاً إلا أنه(1/182)
قد استخفى وهو مظهر وأستسر وهو مجهر وتعامى وهو بصير وتطاول وهو قصير وتصامم وهو سميع وتعاصى وهو مطيع ومثل مولاي من عرف وكره ولم يعمل فيه فكره والآمر له على أمره وأطال للأولياء عمره إن شاء الله تعالى.
كان فخر القضاة رحمه الله كثير المباسطة لأصحابه واحتمال تبسطهم عليه طلب منه التاج عثمان الدمشقي حمارة فاشتراها له فكتب إليه يتشكر ويقول:
اشترى لي فخر القضاة حماره ... ذات حسن وبهج ونضاره
صان عرضي بها وعمر داري ... عمر الله بالحمير دياره
فأجابه على ذلك: قال قاضي القضاة شمس الدين بن خلكان رحمه الله هو أبو الفتح نصر الله بن أبي العز هبة الله بن عبد الباقي بن أبي البركات بن الحسين بن يحيى بن علي المعروف بابن بصاقة الغفاري من كنانة المصري الملقب فخر القضاة رحمه الله.
قلت قد بسطت القول في هذه الترجمة واستوفيت معظم مقاصدها وذكرت بعض المقاطيع بكمالها وذلك لتعذر حصول ديوانه فإنه قليل الوجود أما رسائله فليست كذلك لكنها مليحة من مثله(1/183)
وفيها أشياء حسنة ومعاني جيدة وخلف الملك الناصر عدة أولاد ذكوراً وإناثاً وسنذكر أعيان من درج منهم إلى رحمه الله إن شاء الله تعالى.
زهير بن محمد بن علي بن يحيى بن الحسن بن جعفر بن منصور بن عاصم أبو الفضل وقيل أبو العلاء بهاء الدين الأزدي المولد القوصي المنشأ القاهري الدار الكاتب المشهور والشاعر المجيد مولده بوادي نخلة بقرب مكة شرفها الله تعالى لخمس مضين من ذي الحجة سنة إحدى وثمانين وخمسمائة وربى بصعيد مصر وقوص قرأ الأدب وسمع وحدث وله النظم الفائق والنثر الرائق وكان رئيساً فاضلاً كريم الأخلاق حسن العشرة جميل الأوصاف واتصل بخدمة الملك الصالح نجم الدين بالقاهرة في حياة أبيه الملك الكامل فلما توجه الملك الصالح إلى الشرق سافر في خدمته وأقام معه فلما مات الملك الكامل وتسلم الملك الصالح نجم الدين دمشق من الملك الجواد كان بهاء الدين المذكور صحبته فلما اعتقل الملك الصالح بالكرك أقام بهاء الدين بنابلس عبد الملك الناصر داود فلما خرج الملك الصالح من الأعتقال وسار إلىالديار المصرية كان بهاء الدين المذكور في صحبته وأقام عنده في أعلى المنازل وأجل المراتب هو المشار إليه في كتاب الدرج والمتقدم عليهم وأكثرهم اختصاصاً بالملك الصالح واجتماعاً به وسيره رسولاً في سنة خمس وأربعين إلى الملك الصالح يوسف رحمه الله صاحب حلب يطلب منه إنقاذ الملك الصالح عماد الدين اسماعيل إليه فلم يجب الملك الناصر رحمه الله(1/184)
إلى ذلك وأنكر هذه الرسالة غاية الإنكار وأعظمها واستفضعها وقال كيف يسعني أن أسير عمه إليه وهو خال أبي وكبير البيت الأيوبي ليقتله وقد استجار بي والله هذا شيء لا أفعله أبداً ورجع بهاء الدين إلى الملك الصالح نجم الدين بهذا الجواب فعظم عليه وسكت على ما في نفسه من الحنق وقبل موت الملك الصالح نجم الدين بمدة يسيرة وهو نازل بالمنصورة تغير على بهاء الدين وأبعده لأمر لم يطلع على فحواه حكى لي أنه سبب تغيره عليه أنه كتب عن الملك الصالح كتابا إلى الملك الناصر داود فلما وقف عليه الملك الصالح كتب بخطه بين الأسطر أنت تعرف قلة عقل ابن عمي وهو يحب من يعظمه ويعطيه من يده فاكتب له ما يعجبه من ذلك وسير الكتاب إليه وهو مشغول فأعطاه لفخر الدين إبراهيم بن لقمان وأمر بختمه فخيمه وجهزه ولم يتأمله وأعطاه للنجاب فسافر به لوقته ولما استبطأ الملك الصالح عود الكتاب إليه ليلم عليه سأل عنه بهاء الدين وقال ما وقفت على ما كتبت بخطي بين الأسطر قال ومن يجسر أن يقف على ما كتبه السلطان بخط يده إلى ابن عمه وأخبره أنه سيره مع النجاب فسيروا في طلبه فلم يدركوه ووصل الكتاب إلى الملك الناصر بالكرك فعظم عليه وتألم له وكتب إلى الملك الصالح يعتبه العتب المؤلم ويقول له والله ما بي ما يصدر منك في حقي وإنما بي أطلاع كتابك على مثل ذلك فعز على الملك الصالح وغضب على بهاء الدين زهير وبهاء الدين لكثرة مرؤته نسب ذلك إلى نفسه ولم(1/185)
ينسبه إلى فخر الدين إبراهيم بن لقمان رحمه الله تعالى وكان الملك الصالح كثير التخيل والغضب والمؤاخذة على الذنب الصغير والمعاتبة على الوهم لا يقيل عثرة ولا يقبل معذرة ولا يرعى سالف خدمة والسيئة عنده لا تغفر والتوسل إليه لا يقبل والشفائع لديه لا تؤثر ولا يزداد بهذه الأمور التي تسل سخائم الصدور إلا حقداً وانتقاماً وكان ملكاً جباراً متكبراً شديد السطوة كثير التجبر والتعاظم يتكبر على أصحابه وندمائه وخواصه ثقيل الوطأة لا جرم أن الله تعالى قصر مدة مملكته وابتلاه بأمراض عدم فيها صبره وقتل مماليكه ولده توران شاه من بعده لكنه كان عنده سياسة حسنة ومهابة عظيمة وسعة صدرفي إعطاء العساكر والإنفاق في مهمات الدولة لا يتوقف فيما يخرجه في هذا الوجه وكانت همته عاليةً جداً وآماله بعيدة ونفسه تحدثه بالإستيلاء على الدنيا بأسرها والتغلب عليها وانتزاعها من يد ملوكها حتى لقد حدثته نفسه بالإستيلاء على بغداد والعراق وكان لا يمكن القوي من الضعيف وينصف المشروف من الشريف وهو أول من استكثر من المماليك من ملوك البيت الأيوبي ثم أقتدوا به لما آل الملك إليهم فاقتنى الملك الظاهر ركن الدين بيبرس رحمه الله أكثر منه ثم اقتنى الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله منهم أكثر من الملك الظاهر ولما مات الملك الصالح نجم الدين لم يحزن لموته إلا القليل مع ما كان الناس فيه من قصد الفرنج الديار المصرية واستيلائهم على قطعة منها وسر معظم الناس(1/186)
بموته حتى خواصه فإنهم لم
يكونوا يأمنون سطوته ولا يقدرون على الاحتراز من كل ما ينتقده عليهم ويؤاخذهم به فإنه كان يؤاخذ على أيسر هفوة بأعظم عقوبة ولم يكن في خلقه الميل إلى أحد من أصحابه ولا أهله ولا أولاده ولا المحبة لهم والحنو عليهم على ما جرت به العادة وكان يلازم في خلواته ومجالس أنسه من الناموس ما يلازمه إذا كان جالسا في دست السلطنة وكان عفيف الذيل طاهر اللسان قليل الفحش في حال غضبه ينتقم بالفعل لا بالقول رحمه الله وبالجملة فقد خرجنا عن المقصود ونعود إليه إن شاء الله تعالى. ونوا يأمنون سطوته ولا يقدرون على الاحتراز من كل ما ينتقده عليهم ويؤاخذهم به فإنه كان يؤاخذ على أيسر هفوة بأعظم عقوبة ولم يكن في خلقه الميل إلى أحد من أصحابه ولا أهله ولا أولاده ولا المحبة لهم والحنو عليهم على ما جرت به العادة وكان يلازم في خلواته ومجالس أنسه من الناموس ما يلازمه إذا كان جالسا في دست السلطنة وكان عفيف الذيل طاهر اللسان قليل الفحش في حال غضبه ينتقم بالفعل لا بالقول رحمه الله وبالجملة فقد خرجنا عن المقصود ونعود إليه إن شاء الله تعالى.
وأما بهاء الدين زهير رحمه الله فاتصل بعد موت الملك الصالح بخدمة الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله وله فيها مدايح حسنة يتضمنها ديوانه ثم فارقه ورجع إلى الديار المصرية ولزم بيته يبيع كتبه وموجوده وينفقه وانكشف حاله بالكلية ولما عرض بالبلاد الوباء العام عقيب أخذ التتر بغداد مرض أياماً ثم توفي إلى رحمة الله تعالى قبل المغرب من يوم الأحد رابع ذي القعدة وقيل خامسه هذه السنة عن خمس وسبعين سنة غير شهر واحد ودفن بالقرافة الصغرى وفضيلته أشهر من أن تحتاج إلى الأطناب في ذكرها وأما مروئته وكرم طباعه وعصبيته لكل من يلوذ به ويقصده فذلك أمر مشهور وكان في أول أمره كاتباً عند المكرم بن اللمطي متولي قوص والصعيد في الأيام الكاملية وله فيها مدايح حسنة منها من قصيدة:(1/187)
يا منسك المعروف احرم منطقي ... زمناً وقد لباك من ميقاته
هذا زهيرك لا زهير مزينة ... وافاك لا هرماً على علاته
دعه وحولياته ثم استمع ... لزهير عصرك حسن ليلياه
لو أنشدت في آل جفنة اضربوا ... عن ذكر حسان وعن جفناته
قلت وهذه الأبيات قد يقف عليها من لا يعرف مقصوده فيها فينبغي أن نشرح ما ينبهم على بعض الناس منها قوله: زهير مزينة يعني زهير بن أبي سلمى المزني وكان يمدح كثيراً هرم بن سنان المدايح المشهورة وكان زهير أحد الشعراء الأربعة الذين فضلوا في الجاهلية على سائر الشعراء زهير إذا رغب والنابغة إذا رهب والأعشى إذا طرب وامرؤ القيس إذا ركب وكان هرم الدين سنان من المشهورين بالكرم وقوله: دعه وحولياته يعني بها القصائد التي كان زهير المزني ينظمها في سنة فقصد زهير هذا ما ينظمه في ليلة على ما كان ينظمه زهير في سنة وهذا على سبيل التجوز واللغة على عادة الشعراء لا الحقيقة فإن بهاء الدين لم يكن ممن يغالط نفسه وسره أنه أجود شعراً من زهير بن ابي سلمى، وقوله لا هرماً على علاته يشير إلى قول زهير بن أبي سلمى رحمه الله.
من يلق يوماً على علاته هرماً ... يلق السماحة والندى خلقا
معناه أن يلقه عديم المال والجدة يلقه سمحاً خلقاً لا تحلقاً فكيف إذا لقيه على غير تلك الحال، وقوله: لو أنشد ت في آل جفنة البيت معناه أن حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه كان يمدح آل(1/188)
جفنة ملوك الشام القصائد المشهورة ويذكر عظم جفانهم على ما كانت العرب تمدح به في ذلك الزمان فأراد بهاء الدين بهذا البيت لو سمع آل جفنة شعره لأعرضوا عن حسان ووصفه جنفاتهم هذا خطر لي في معنى البيت ثم وثق بعض الفضلاء على ذلك فقال إنما أراد بقوله اضربوا عن ذكر حسان وعن جفناته إشارة إلى قول حسان:
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
ورثنا بني العنقاء وابني محرق ... فأكرم بنا خالاً وأكرم بنا أبنما
وهو الصواب إن شاء الله تعالى.
وكان بهاء الدين في خدمة الملك الصالح نجم الدين بالشرق فأرسله مرة إلى الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل فلما قدمها حضر عنده شعراؤها ومدحوه ومن جملتهم شرف الدين أبو الطيب أحمد بن الحلاوي فلما عاد بهاء الدين إلى مخدومه حضر عنده أصحابه مسلمين عليه وسألوه عن شعراء الموصل فأخبرهم بما جرى وأنشدهم البيت وكان من جملة الحاضرين جمال الدين يحيى بن مطروح رحمه الله فلما خرجوا من عنده أرسلوا إلى كل واحد مما استصحبه من الهدية نصيباً فكتب جمال الدين مع الرسول الذي أحضر نصيبه من الهدية ورقة فيها.
أقول وقد تتابع منه بر ... وأهلاً ما برحت لكل خير
ألا لا تذكروا هرماً يجود ... فما هرم بأكرم من زهير
وكتب إليه جمال الدين المذكور مرة يستدعي منه درج ورق.(1/189)
أفلست يا سيدي من الورق ... فابعث بدرج كعرضك اليقق
وإن أتى بالمداد مقترنا ... فمرحبا بالخدود والحدق
فأجابه بهاء الدين:
مولاي سيرت ما رسمت به ... وهو يسير المداد والورق
وعز عندي تسير ذاك وقد ... شبهته بالخدود والحدق
وسنذكر طرفاً من أخبار جمال الدين بعد الفراغ من هذه الترجمة إن شاء الله وإن كانت وفاته رحمه الله متقدمة لكن إذ قد جرى ذكره فلا بأس بالتنبيه عليه ولبهاء الدين أشعار كثيرة وديوان مشهور وترسل فمن شعره ملغزاً في مدينة يافا.
بعيشك خبرني عن اسم مدينة ... يكون رباعياً إذا ما كتبته
على أنه حرفان حين تقوله ... ويرجع حرفاً واحداً إن عكسته
وله يقول
حبذا نفحة من ريح ... فرجت عني غمه
ضربت ثوب فتاة ... أكثرت تيها وحشمه
فرأيت البطن وال ... رة والخصر وثمه
وقال:
أيا معشر الأصحاب ما لي أراكم ... على مذهب والله غير حميد(1/190)
فإن لم تكونوا قوم لوط بعينهم ... فما قوم لوط منكم ببعيد
فهل أنتم من قوم لوط بقية ... فما فيكم من فعله برشيد
وقال:
يا روضة الحسن صلي ... فما عليك ضير
فهل رأيت روضةً ... ليس بها زهير
وقال:
كيف خلاصي من هوى ... مازج روحي فأختلط
وتائه أقبض في ... حبي له وما أنبسط
يا بدر إن رمت به ... تشبهاً رمت الشطط
ودعه يا غصن النقا ... ما أنت من ذلك النمط
قام بعذري وجهه ... عند عذولي وبسط
لله أي قلم ... لواو ذاك الصدغ خط
ويا له من عجب ... في خده كيف نقط
يمر بي ملتفتاً ... فهل رأيت الظبي قط
ما فيه من عيب سوى ... فتور عينيه فقط
يا قمر السعد الذي ... لديه نجمي قد هبط
يا ما نعي حلو الرضا ... ومانحي السخط(1/191)
حاشاك أن ترضى بأن ... أموت في الحب غلط
وقال:
أغصن النقا لولا القوام المهفهف ... لما كان يهواك المعنى المعنف
أيا ظبي لولا أن فيك محاسناً ... حين الذي أهوى لما كنت توصف
كلفت بغصن وهو غصن ممنطق ... وهمت بظبي وهو ظبي مشنف
ومما دهاني أنه من حيائه ... أقول كليل طرفه وهو مرهف
وذلك أيضاً مثل بستان خده ... به الورد يدعى مضعفاً وهو مضعف
فيا ظبي هلا كان فيك التفاته ... ويا غصن هلا كان فيك عطف
ويا حرم الحسن الذي هو آمن ... وألبابنا من حوله تتخطف
عسى عطفة للوصل يا واو صدغه ... وحقك أني أعرف الواو تعطف
وقال يمدح الملك الصالح نجم الدين أيوب
وعد الزيارة طيفه المتملق ... وبلاء قلبي من جفون تنطق
إني لأهوى الحسن أين وجدته ... وأهيم بالقد الرشيق وأعشق
وبليتي كفل عليه ذؤابة ... مثل الكثيب عليه صل مطرق
يا عاذلي أنا من سمعت حديثه ... فعساك تحنو أو لعلك ترفق
لو كنت منا حيث تسمع أو ترى ... لرأيت ثوب الصبر كيف يمزق
ورأيت ألطف عاشقين تشاكيا ... وعجبت ممن لا يحب ويعشق
أيسوموني العذال عنه تصبراً ... وحياته قلبي أرق وأشفق
إن عنفوا إن سوفوا إن خوفوا ... لا أنتهي لا أنتهي لا أفرق(1/192)
أبداً أزيد مع الوصال تلهفاً ... كالعقد في جيد المليحة يقلق
يا قاتلي إني عليك لمشفق ... يا هاجري إني عليك لشيق
وأذاع أني قد سلوتك معشر ... يا رب لا عاشوا لذاك ولا بقوا
ما أطمع العذال إلا انني ... خوفا عليك إليهم أتملق
وإذا وعدت الطيف منك بهجعة ... فاشهد علي بأنني لا أصدق
فعلام قلبك ليس بالقلب الذي ... قد كان لي منه المحب المشفق
وأظن خدك شامتا بفراقنا ... فلقد نظرت إليه وهو مخلق
ولقد سعيت إلى العلى بعزيمة ... تقضي لسعيي أنه لا يخفق
وسريت في ليل كأن نجومه ... من فرط غيرتها إلي تحدق
حتى وصلت سرادق الملك الذي ... تقف الملوك ببابه تسترزق
ووقفت من ملك الزمان بموقف ... ألفيت قلب الدهر منه يخفق
فإليك يا نجم السماء فإنني ... قد لاح نجم الدين لي يتألق
الصالح الملك الذي لزمانه ... حسن يتيه به الزمان ورونق(1/193)
ملك يحدث عن أبيه وجده ... نسب لعمري في العلى لا يلحق
سجدت له حتى العيون مهابة ... أوما تراها حين يقبل تطرق
رحب الجناب خصيبة أكنافه ... فلكم سدير عنده وخورنق
فالعيش إلا في ذراه منكد ... والرزق إلا من نداه مضيق
يا عز من أضحى إليه ينتمي ... وعلو من أمسى به يتعلق
أقسمت ما الصنع الجميل بضائع ... فيه ولا الخلق الكريم تخلق
يدعو الوفود لما له فكأنما ... يدعو عليه فشمله يتفرق
أبداً تحن إلى الطراد جياده ... فلها إليه تشوف وتشوق
يندى لسطوته الخميس تطرباً ... فالسمر ترقص والسيوف تصفق
في ثني لامته هزبر باسل ... تحت التريكة منه بدر مشرق
يروي القنا بدم الأعادي في الوغى ... فلذاك تثمر بالرؤس وتورق
يمضي فيقدم جيشه من هيبة ... جيش يغص به الزمان ويشرق
ملأ القلوب مخافة ومحبة ... فالبأس يرهب والمكارم تعشق
ستجوب آفاق البلاد جياده ... ويرى له في كل فج فيلق
لبيك يا من لا مرد لأمره ... فإذا دعا العيوق لا يتعوق
لبيك يا خير الملوك بأسرهم ... وأعز من تحدى إليه الأنيق(1/194)
لبقيك ألفاً أيها الملك الذي ... جمع القلوب نواله المتفرق
فعدلت حتى ما بها متظلم ... وأنلت حتى ما بها مسترزق
أنا من دعوت وقد أجابك مسرعاً ... هذا الثناء له وهذا المنطق
ألفيت سوقاً للمكارم والعلى ... فعلمت أن الفضل فيها ينفق
يا من إذا وعد المنى قصاده ... قالت مواهبه يقول ويصدق
يا من رفضت الناس حين لقيته ... حتى ظننت بأنهم لم يخلقوا
؟ قيدت في مصر لديك ركائبي غيري يغرب تارة ويشرق
وحللت عندك إذ حللت بمعقل ... يلفي إليه مارد والأبلق
وتيقن الأعداء أني بعدها ... ابداً إلى رتب العلى لا أسبق
فرزقت ما لم يرزقوا ولحقت ما ... لم يلحقوا ونطقت ما لم ينطقوا
وقال من أبيات:
وأنت يا نرجس عينيه كم ... تشرب من قلبي وما أذبلك
مالك في حسنك من مشبه ... ما تم للعالم ما تم ذلك
وقال:
يا من لعبت به شمول ... ما أحسن هذه الشمائل
نشوان يهزه دلال ... كالغصن مع النسيم مائل
لا يمكنه الكلام لكن ... قد حمل طرفه رسائل
مولا ي يحق لي بأني ... عن حبك في الهوى أقاتل(1/195)
لي فيك كما علمت وجد ... لا يعلم سره العواذل
ذا العام مضى فليت شعري ... هل يحصل لي رضاك قابل
وقال وكتب بها إلى الصاحب كمال الدين عمر بن العديم رحمه الله تعالى
دعوتك لما أن بدت لي حاجة ... وقلت رئيس مثله من تفضلا
لعلك للفضل الذي أنت ربه ... تغار فلا ترضى بأن تتبدلا
إذا لم يكن إلا تحمل منة ... فمنك وأما من سواك فلا ولا
ومن خلقي المشهور في الناس أنني ... لغير حبيب قط لن أتذللا
وقد عشت دهراً ما شكوت لحادث ... بلى كنت أشكو الأغيد المتدللا
وما هنت إلا للصبابة والهوى ... ولا خفت إلا سطوة الهجر والقلا
أحب من الظبي الغرير تلفتا ... وأهوى من الغصن النضير تفتلا
أروح وألفاظي تذوب حلاوة ... وأغدو وأعطافي تسيل تغزلا
ويا رب داع قد دعاني لحاجة ... فعلت له فوق الذي كان أملا
سبقت صداه باهتمامي بكلما ... أراد ولم أحوجه أن يتمهلا
سبقت له وجها حيياً ومنطفاً ... وفياً ومعروفاً هنيئاً معجلا
ورحت أراه منعماً متفضلاً ... وراح يراني المنعم المتفضل
وله أيضاً:(1/196)
أنا ذا زهيرك ليس إلا ... جود كفك لي مزينه
أهوى جميل الذكر ع ... ك كأنما هو لي بثينه
وأما جمال الدين عيسى بن يحيى بن إبراهيم بن مطروح رحمه الله المقدم ذكره فكان من حسنات الدهر تام الفضيلة متنوعاً في العلوم متفنناً في الآداب مع مكارم كثيرة ودماثة أخلاق ولين جانب وحسن عشرة وكان كثير السعي في مصالح إخوانه وأصحابه ومن يلوذ به متلطفاً في قضاء حوائج الناس على الإطلاق لا يرى التوقف في صلة رزق وكان كثير الصحبة والصداقة لبهاء الدين زهير وبينهما مودة عظيمة واشتراك في الفضيلة ومكارم الأخلاق وخدمة الملك الصالح وشاركه أيضاً في تغيير الملك الصالح عليه وانحرافه عنه فإنه تغير عليه تغيراً مفرطاً قبل وفاته وأبعده إبعاداً كلياً وسبب ذلك علمه بموت الملك الصالح نجم الدين فإن الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ كان يعرف محل جمال الدين وما هو عليه من الأهلية لكل شيء وأن الدول تفتقر إلى تدبيره فلما اتفق موت الملك الصالح وبقي الأمير فخر الدين يدبر الأمور وهو في مقابلة الإفرنج قرب جمال الدين المذكور وجعله في محل الوزارة وكان يستشيره في الأمور ولا يكاد يفارقه فعلم الناس بهذه القرينة موت الملك الصالح وأنه لو كان في قيد الحياة لم يقدم الأمير فخر الدين على تقريب من أبعده وكان جمال الدين اتصل بخدمة الملك الصالح حين كان ولي عهد أبيه ولما سافر إلى الشرق سافر معه ثم قدم معه دمشق حين ملكها بعد الجواد وكان ناظر(1/197)
جيشه فلما أعتقل بالكرك مضى أبن مطروح إلى الخوارزمية وحرضهم على القيام بنصرة مخدومه ثم توجه إلى حماة وأقام بها لعلمه بميل صاحبها إلى الملك الصالح نجم الدين فلما خرج الملك الصالح من الاعتقال وملك الديار المصرية توجهه جمال الدين إلى خدمته وولي الخزانة ثم استنابه الملك الصالح بدمشق مع الطواشي شهاب الدين رشيد الكبير وجعله صورة وزير ثم تغير عليه في سنة ست وأربعين لما قدم الشام وعزله واستصحبه معه إلى الديار المصرية في أوائل سنة سبع وأربعين فأقام بالمنصورة إلى أن توفي الملك الصالح وهو متغير عليه معرض عنه بالكلية فلما قام الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ بتقدمة العساكر صحبه وقربه غاية التقريب وكان لا يصدر إلا عن رأيه في غالب الأمور فلما استشهد الأمير فخر الدين رحمه الله انتقل جمال الدين إلى مصر ونزل بدار كان بناها على النيل وكتب على بابها.
دار بنيناها بإحسان من ... لم تخل دار قط من رفده
الملك الصالح رب العلى ... أيوب زاد الله في مجده
اليمن والتوفيق من حزبه ... والنصر والتأييد من جنده
أغنى وأقنى فالذي عندنا ... من نعمة الله ومن عنده
فقل لحسادي ألا هكذا ... فليصنع السيد من عبده
وقد سبق جمال الدين إلى ذلك أبو الفتيان بن حيوس شاعر(1/198)
بني مرداس فإنه بنى دار بحلب وكتب إلى بابها هذه الأبيات.
دار بنيناها وعشنا بها ... في نعمة من آل مرداس
قوم نفوا بؤسي ولم يتركوا ... علي في الأيام من بأس
قل لبني الدنيا ألا هكذا ... فليصنع الناس مع الناس
هذا كان على خاطري أن الأبيات لابن حيوس ثم وقفت على المجلد الثالث من تاريخ حلب للصاحب كمال الدين عمر بن العديم رحمه الله فوجدته قد قال وجدت في كتاب نزهة الناظر وروضة الخاطر لقاضي معرة مصرين الكمال بن عبد القادر بن علوي المعري قيل امتدح أبو الفتح بن حصين المعري نصر بن صالح بحلب فقال له تمن فقال له أتمنى أن أكون أميراً فجعله أميراً يجلس مع الأمراء ويخاطب بالأمير وقربه وصار يحضر في مجلسه في زمرة الأمراء ثم وهبه أرضاً بحلب قبلي حمام الواساني فعمرها دراً وزخرفها وقرنصها وتمم بنيانها وكمل زخارفها ثم نقش على دائر الدار بزين.
دار بنيناها وعشنا بها ... في دعة من آل مرداس
قوم محوا بؤسي ولم يتركوا ... علي في الأيام من بأس
قل لبني الدنيا ألا هكذا ... فليفعل الناس مع الناس
فلما أنهى العمل بالدار عمل دعوة وأحضر نصر بن صالح بن(1/199)
مرداس فلما أكل الطعام رأى الدار وحسنها وحسن بنيانها ونقوشها ورأى الأبيات فقرأها فقال يا أمير كم خسرت على بناء الدار فقال والله يا مولانا ما للمملوك علم بل هذا الرجل تولى عمارتها فأحضر معمارها وقال له كم لحقكم غرامة على بناء هذه الدار فقال ألفا دينار مصرية فأحضر من ساعته ألفي دينار مصرية وثوب أطلس وعمامة مذهبة وحصاناً بطوق ذهب وسرج ذهب وسرفشار ذهب ودفع ذلك جميعه إلى الأمير أبي الفتح وقال له.
قل لبني الدنيا ألا هكذا ... فليفعل الناس مع الناس
قال وبعد أيام حضر رجل من أهل المعرة يلقب بالزقوم وكان من أراذلها وفيه رحلة فطلب خبز جندي فأعطوه وجعلوه من أجناد حصن المعرة فلما وصل عمل الشيخ أبي الحسسن أحمد بن محمد بن الدويدة
أهل المعرة تحت أقبح خطة ... وبهم أناخ الخطب وهو جسيم
لم يكفهم أن أمر ابن الحصين ... حتى تجند بعده الزقوم
يا قوم قد سئمت لذاك نفوسنا ... يا قوم أين الترك أين الروم
واشتهرت الأبيات بالمعرة وحلب فسمعها الأمير أبو الفتح ابن حصينة فعبر على باب ابن الدويدة فسلم عليه أبو الحسين فقال له الأمير(1/200)
ويلك يا ابن الدويدة هجوتني والله ما بي من الهجو مثل ما بي من كونك تقربني إلى الزقوم وتذكرني معه فضحك ابن الدويدة وقال والله الآن كان عندي الزقوم وقال والله ما بي من الهجو ما بي تذكرني مع ابن الحصينة وتقربني إليه فقال له ابن الحصينة قاتلك الله وهذا هجو ثان.
ولجمال الدين المذكور ترسل حسن وديوان مشهور وكان لطيف الشعر جيد المعاني ومولد جمال الدين المذكور بأسيوط صعيد مصر يوم الإثنين ثامن شهر رجب سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة وتوفي بالديار المصرية يوم الأربعاء مستهل شعبان سنة تسع وأربعين وستمائة ودفن بسفح المقطم رحمه الله تعالى.
ومن شعره:
يا من إليه اتكالي ... في العسر والإملاق
سؤال غيرك عندي ... شرك على الإطلاق
لا تسأل الرزق إلا ... من قاسم الأرزاق
وله رحمه الله تعالى:
يا ملاذ المستجير به ... لا تؤاخذني بما سلفا(1/201)
وله أيضا
قد اثقلت ظهري أوزاري ... لي الويل إن ناقشني الباري
كم ليلة أسرعت منها الخطا ... إلى الخطايا حلف إصراري
وكم تجرأت على فاحش ... ولا أجير الأسد الضاري
كيف يكون العذر في موقف ... يذلّ فيه كل جبار
وتشخص الأبصار في حيث لا ... دار سوى الجنة والنار
يا رب عفوا عن ذنوبي فما ... سألت إلا عفو غفار
وقال عند قبر ابراهيم الخليل صلوات الله عليه
خليل الله قد جئناك نرجو ... شفاعتك التي ليست ترد
أنلنا دعوة واشفع تشفّع ... إلا من لا يخيب لديه قصد
وقل يا رب أضياف ووفد ... لهم بمحمد صلة وعهد
أتوا يستغفرونك من ذنوب ... عظام لا تعد ولا تحد
ولكن لا يضيق العفو عنهم ... وكيف يضيق وهو لهم معد
وقد سألوا رضاك على لساني ... ألهي ما أجيب وما أرد
فيا مولاهم عطفاً عليهم ... فهم جمع أتوك وأنت فرد
وله رحمه الله:
يا مالك الملك يا من لا شبيه له ... عطفا على عبد سوء قد أساء الأدبا
أحسنت مدة أيام الحياة له ... فما قضى ذلك يوما بعض ما وجبا(1/202)
وله رحمه الله:
ذكر الصبا فصبا وكان قد ارعوى ... صب على عرش الغرام قد استوى
تجري مدامعه ويخفق قلبه ... فترى العقيق على الحقيقة واللوى
وإذا تألق بارق من بارق ... طفقت تنم عليه أسرار الجوى
لا يستطيع إذا جرى ذكر اللوى ... أن يطمئن فلا سقى الله اللوى
وأنا نذير العاشقين فمن يرد ... طول الحياة فلا يذوقن الهوى
فخذوا أحاديث الهوى عن صادق ... ما ضل في شرع الغرام ولا غوى
وبمهجتي رشأ أطالت عذلى ... فيه الملام وقد حوى ما قد حوى
ما أبصرته الشمس إلا واكتست ... خجلاً ولا غصن النقا إلا التوى
قالوا فعيه سوى رشاقة قده ... وفتور عينيه وهل موتى سوى
وروى الأراك محاسناً عن ثغره ... يا طيب ما نقل الأراك وما روى
ولقد يعز علي موتي ضامياً ... لمقبل منه الأراك قد التوى
وله رحمه الله:
قد رأيناك والغزالة تسنح ... فرأينا حلاك أحلى واملح
وترنحت والقضيب ولكن ... لم يدع ناظراً إلى الغصن يطمح
ولقد غض ناظر النرجس الغض ... حياء من مقلتيك وأفلح
أي عين ترى له عيني ... ك فترنو من بعد ذاك وتفتح
وادعى الورد أنه لون خدي ... ك ولا شك أنه كان يمزح(1/203)
فلهذا صبا بحسنك قلب ... كان يدعى إلى الغرام فيجمح
وعهدت الرقاد يألف جسمي ... فرأى جفنك المليح فرجح
وله أيضاً رحمه الله:
عانقته فسكرت من طيب الشذا ... غصن رطيب بالنسيم قد اغتذى
نشوان ما شرب المدام وإنما ... أضحى بخمر رضابه متنبذا
يا ناظري أما وقد عاينته ... والله لا رمدا تخاف ولا قذا
مهما اكتحلت بخده وعذاره ... لم تلق إلا عسجدا وزمردا
جاء العذول يلومني من بعد ما ... أخذ الغرام علي فيه مأخذا
لا أرعوى لا انثنى لا انتهى ... عن حبه فليهذ فيه من هذا
والله لا خطر السلو بخاطري ... ما دمت في قيد الحياة ولا إذا
إن عشت عشت على هواه وأن أمت ... وجدا به وصبابة ياحبذا
وقصد جمال الدين المذكور الأجتماع بالصاحب معين الدين ابن الشيخ فقيل له أنه يزور الشافعي رحمة الله عليه فقصده واجتمع به في قبة الشافعي فقال.
زرت الإمام الشافعي ولم أكن ... لزيارتي يوماً له بالتارك
فوجدت مولانا الوزير يزوره ... فظفرت عند الشافعي بمالك
وقال
حلفتم لنا أن لا تخونوا فخنتم ... وأن لا تميلوا للوشاة فملتم
فإن كان هذا الغدر فيكم سجية ... فمن كان الجأكم إلى أن حلفتم(1/204)
عفا الله عنكم ما أقل وفاكم ... ومن كرمى قولي عفا الله عنكم
فيا ساكني قلبي المعنى بحبهم ... أما لكم قلب يرق ويرحم
بحقكم ألا جنحتم إلى الرضا ... وقد طال هذا العتب منا ومنكم
أحبكم في حالة السخط والرضا ... وأهواكم أحسنتم أو أسأتم
ولي عاذل في حبكم ليس ينثني ... ولكنني عنه أصم وأبكم
وله أيضا رحمه الله:
ولما جفاني من أحب وخانني ... حفظت له الود الذي كان ضيعا
ولو شئت قابلت الصدود بمثله ... ولكنني أبقيت للصلح موضعا
وقد كان ما قد كان بيني وبينه ... أكيداً وكنت رعيت وما رعى
سعى بيننا الواشي ففرق بيننا ... ذلك الذنب يا من خانني لا لمن سعى
وله أيضا رحمه الله:
يا قلب جاءك من تحبه ... وحنا ورقّ عليك قلبه
فاغفر له ما قد جنا ... هـ وإن تعاظم منه ذنبه
حب الحبيب إذا متفضلا ... يا قلب حسبه
مستسلما بيساره ... كفن وفي يمناه عضبه
أرضى وزاد على الرضا ... فحسيب من أغراه ربه
وكتب إلى بهاء الدين زهير رحمه الله من آمد وهو محصور بها يقول
سطرتها والسمهرية شرع ... من حولنا والمشرفية تلمع
وعلى مكافحة العدو ففي الحشى ... شوق إليك تضيق عنه الأضلع(1/205)
ومن الصبا وهلم جرا شيمتي هذا الوفاء فكيف عنه أرجع وله في المعنى:
أصدرتها والعو إلى شرع ترد ... في موقف فيه ينسى الوالد الولد
وما نسيتك والأرواح سائلة ... على السيوف ونار الحرب تتقد
وله أيضاً:؟ هي رامة فخذوا يمين الوادي وذروا السيوف تقر في الأغماد
وحذار من لحظات أعين عينها ... فلكم صرعن بها من الآساد
من كان منكم واثق بفؤاده ... فهناك ما أنا واثق بفؤادي
ياصاحبي ولي بجرعاء الحمى ... قلب أسير ماله من فادي
سلبته من يوم رامة مقلة ... مكحولة أجفانها بسواد
وبحي من أنا في هواه ميت ... عين على العشاق بالمرصاد
وأغن مسكي اللمى معسوله ... لولا الرقيب بلغت منه مرادي
كيف السبيل إلى وصال محجب ... ما بين بيض قنا وسمر صعاد
في بيت شعر نازل من شعره ... فالحسن منه عاكف في بادي
حرسوا مهفهف قده بمثقف ... فتاشبه المياس بالمياد
قالت لنا ألف العذار بخده ... في ميم مبسمه شفاء الصادي(1/206)
وله أيضاً:
علقته من آل يعرب لحظه ... أمضى وأفتك من سيوف عريبه
أسكنته بالمنحني من أضلعي ... شوقا لبارق ثغره وعذيبه
يا عائبي ذاك الفتور بلحظه ... خلوه لي أنا قد رضيت بعيبه
لدن وما مر النسيم بعطفه ... أرج وما نفح العبير نجيبه
وقال وهو متمرض
يا رب إن عجز الطبيب فداوني ... بلطيف صنعك واشفني يا شافي
أنا من ضيوفك قد حسبت وإن من ... شيم الكرام البر بالأضياف
وله أيضا رحمه الله:
من لي بغصن باللحاظ ممنطق ... حلو الشمائل واللمى والمنطق
مثرى الروادف مملق من خصره ... أسمعت في الدنيا بمثر مملق
وغريرة زارت على بخل بها ... لما بعثت لها زيارة مشفق
لم أدر ما قالت وقد لمست يدي ... ماذا لقينا منه أو ماذا لقي
خافت عواقب محنتي من أجلها ... فبكت لشمل دموعي المتفرق
لا شيء أكتم من دجنة شعرها ... لو أن صامت حليها لم ينطق
حتى الحنى لحسنها متوسوس ... فاعجب لحنى الجماد المنطق
خد توقد إذ ترقرق ماؤه ... لهفي على المتوقد المترقرق
ويروقني منها أخضرار خضابها ... والغصن ليس يروق ما لم يورق(1/207)
فبحسنها هي زهرة للمشتري ... وبطيبها هي زهرة المستنشق
ونظيرها الغصن النضير إذا انثنت ... في حلة حضراء من استبرق
تعصى العذول عن الهوى وتطيعني ... فأنا السعيد بها وعاذلي الشقي
فلكم بها من حلوه كرضا بها ... كعتا بها كتملقي
وأقول يا أخت الغزالة ملاحة ... فتقول لا عاش الغزال ولا بقي
يا شمس قلبي في هواك عطارد ... لولا تعلقه بها لم تحرق
وأجل ذنبي عندها عدم الغنى ... فكأنه شيب ألم بمفرقي
قالت سل الأملاك قلت أنا امرؤ ... يأبى السؤال خلائقي وتخلقي
وإذا سألت سألت رباً رازقاً ... قطعت يد مدت إلى مسترزق
لا كلفن الجرد ما لم تستطع ... صبراً عليه بيعملات الأنيق
من كل ضامرة إذا سرت الصبا ... في إثرها عادت بسعي مخفق
إن لم أنل بالمغرب الأقصى المنى ... حاولت ذلك ولو بأرض المشرق
وكيف وكفى يسيرا من حسامك أن يرى ... قدم الفوارس وهو جد مخلق
من معشر نسقوا سطوراً في العلى ... وغدا سواهم مثل دف ملحق
وإذا الحديد حمي عليهم أبردوا ... بالمسح في بحر الحديد الأزرق
لولا تكذبني قوائم بيضهم ... أقسمت أن أكفهم لم تطبق
لم تقتطع يد السارق من مالهم ... إذ كان بيت المال ليس بمغلق(1/208)
وقال وأمر أن تكتب على قبره
أصبحت بعقر حفرة مرتهنا ... لا أملك من دنياي إلا كفنا
يا من وسعت عباده رحمته ... من بعض عبادك المسيئين أنا
وقال يمدح الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن العادل رحمه الله.
وافي وأقبل في الغلالة ينثني ... فأراك خط المجتلى والمجتنى
ورنا فما تغنى التمائم والرقي ... وأبيك من فتكات تلك الأعين
رشأ من الإعراب مسكنه الفلا ... ولكم له في مهجتي من موطن
أغناه ذابل قده عن ذابل ... وبشعره عن بيت شعر قد غنى
قل للعواذل في هواه ألا انتهوا ... لاأرعوى لا انتهى لاانثنى
يا لائمي في العشق غير مجرب ... أنا في الصبابة قدوة فاستفتني
لا يخدعنك لفظ طرف فاتر ... أبداً ولا تأمن لعطف لين
فالخمر وهي كما علمت لطيفة ... ولها من الألباب أي تمكن
وبليتي من صائد لي نافر ... ومتى ينال الوصل من متلون
ألبستني يا سالبي ثوب الضنى ... وأخذتني يا تاركي من مأمني
حتى فؤادي خانني ووفى له ... وكذا الرقاد صبا إليه وملني
سيا قلب ماآنست بعدك راحة ... فمتى أراك ويا كرى أوحشتني
عهدي به ويدي مكان وشاحه ... والوجد باق والتجلد قد فنى(1/209)
وشدا بشعري فافتتنت ويالها ... من فتنة شنعاء لو لم افتن
شعري ومحبوبي يعنيني به ... فهناك تحسن صبوة المتدين
لا شيء يطرب سامعاً لحديثه ... إلا الثناء على علام شاه أرمن
الأشرف الملك الكريم المصطفى ... موسى وتمم بالكريم المحسن
ملك إذا أنفقت عمرك كله ... في نظرة من وجهه لم تغبن
ومتى انتخبت له دعاء صالحاً ... لم تلق غير مشارك ومؤمن
يا أيها الملك الذي من فاته ... نظرإليه فما أراه بمؤمن
أفنيت خيلك والصوارم والقنا ... وعداك والآمال ماذا تقتني
أبقت ذلك الذكر الجميل مخلداً ... شيم لها الأملاك لم تتفطن
وشجاعة رجف العدو لذكرها ... وشهامةً وبلاد عبد المؤمن
ولى الخوادذمي منها هارباً ... وخلم جراً قلبه لم يسكن
ودعاؤه في ليله ونهاره ... يا رب من سطوات موسى نجني
ما كان أشوقني للثم بنانه ... ولقد ظفرت بلثمها فليهنني
ودخلت من أبوابه في جنة ... يا ليت قومي يعلمون بأنني
يا مكثري الدعوى أخفضوا أصواتكم ... ما كل رافع صوته بمؤذن
أنا من تحدث عنه في أقطارها ... من كان في شك فليتقن
هذا مقام لا الفرزدق ماهر ... فيه ولا نظراؤه لكنني
إن شئت نظماً فالذي أمليته ... أو شئت نثراً فاقترح واستمحن(1/210)
عاشت عداك ولا أشح عليهم ... عمى النواظر عنك خرس الألسن
وله قصيدة يمدحه بها رحمهما الله تعالى
يا شمس قلبي في هوا ... ك عطارد وقد احترق
يثنى عليه عدو ... هـ فيقول حاسده صدق
وقال عند اجتماعه بشمس الدين صواب العادلي بحران.
ولماتيممناك قال رفاقنا ... إلىأين تبغي قلت خير جناب
وقلت لصبحي شرقوا تبلغوا المنى ... فغير صواب قصد غير صواب
وقال أيضاً في كتاب ورد عليه من أبيات.
ولم ترى عيناي من قبله ... كتاباً حوى بعض ما قد حوى
كأن المباسم ميماته ... ولاماته الصدغ لما التوى
وأعينه كعيون الحسان ... تغازلنا عند ذكر الهوى
كتاب نسينا بألفاظه ... زود وذكر الحمى واللوى
وقال في دارا والشهاب ابن قاضيها المشهور
ولا سقيت داراً ولا أهلها ... ولا ابن قاضيها الوقاح البذي
ولا رعى الله له ذمة ... أعنى شهاب الدين ذاك الذي
وقال وقد أمر بالسفر من دمشق.
يقولون سلفر من دمشق ولا تقم ... وذلك أمر ما علي به بأس(1/211)
فقلت على عيني وسمعا وطاعة ... فما جلق الدنيا ولا أنتم الناس
وقال من جملة أبيات.
فنعم فتى الأحيا ومستنبط الندى ... ومفرغ محزون وملجأ لاهث
عباد بن عمرو بن الحليس بن صالح بن ... زيد بن منظور بن زيد بن وارث
وله أيضاً رحمه الله
خذوا قودى من أسير الكلل ... ويا عجبا لاسير قتل
وقولوا على إذا نحتم ... طعين القدود جريح المقل
وما كان يعلم أن العيون ... وأن القدود الظبا والاسل
ولي جلد عند بيض الظبا ... وبالأعين السود مالي قبل
وبي قمر ما بدا في الدجى ... وقابله البدر إلا أفل
يضل بطرته من يشا ... ويهدي بغرّته من أضل
وقد أخجل الشمس من حسنه ... ألم تر فيها اصفرار الخجل
ويا فرحة الظبي لما غدا ... شبيهاً له في اللّمى والكحل
لقد عدل الحسن في خلقه ... على أنه جار لما عدل
فعمّ معاطفه بالنشاط ... وخص روادفه بالكسل
وجاد الزمان به ليلة ... وعما جرى بيننا لا تسل
فانحلت قامته بالعنا ... ق وذبلت مرشفه بالقبل
وما أثرالمسك في راحتي ... وهذا فمي فيه طعم العسل
وكم تهت في غور خصر له ... وأشرفت في نجد ذاك الكفل(1/212)
وأذنت حين تجلّى الصبا ... ح بحى على خير هذا العمل
وقد علم الناس أني امرؤ ... أحب الغزال وأهوى الغزل
على. . قدرة الله سبحانه ... بإيجاد مثلك فليُستدل
وله رحمه الله
أجبتكم من قبل رؤياكم ... لطيب ذكر عنكم قد جرى
كذلك الجنة محبوبة ... بوصفها من قبل أن تبصرا
وله أيضاً
بابي غزال تائه متصلف ... لانت معاطفه ولا يتعطف
حلو الشمائل والتثنى واللمى ... من يجتلى من يجتنى من يرشف
سكران لا يصحو وليس بمنكر ... قد صح أن الريق منه قرقف
شاكي السلاح وما تكلف حمله ... اللحظ سيف والقوام مثقف
هجر الكرى جفنى وواصل جفنه ... يا قوم حتى النوم لي يستضعف
وسرى إلى جسدي ضنى أجفانه ... لا ياضنى جسدي أرق وأضعف
لما بدا للغانيات وقد بدا ... من حسنه للعين ما لا يوصف
قطعن أيديهن حين رأينه ... لما افتتن وقلن هذا يوسف
اشكو إليه وما عسى أن اشتكي ... هو بالذي ألقاه مني أعرف
كبد يفيض نجيعها من أدمعي ... حتى كأني من جفوني أرعف
ووحقه لم يبق في بقية ... ولقلما يلقى الكئيب المدنف
ولربما أخلو به متعففاً ... والنفس من وجد به تتلهف(1/213)
وإذا سمعت بعاشق متعفف ... فاعلم باني العاشق المتعفف
وله أيضاً
ما زلت نحو لقا ... ئه متشوفا
اذكى العيون عليه ... حتى زارني متخوفا
فظفرت منه بزورة ... يوماً وقد برح الخفا
وشكوت ما ألقى إل ... يه فرقّ لي وتعطّفا
وعتبته حتى استقال ... وقال مثلك من عفا
وغدا يلاطفني ولم ... أر مثله متلطفا
يومى الى بخده ... فإذا هممت تصلّفا
ويهز نحوى عطفه ... فإذا عزمت تأففا
إني لعف في هوا ... هـ وأعشق المتعففا
وقال في غرض عرض
سمعتها تشتكي لدايتها شكوى ... تذيب القلوب والمهجا
تقول يا دايتي بليت به ... وما أرى من هواه لي فرجا
ومثل ما بي به ولا عجب ... هوى بقلبي وقلبه امتزجا
أهل سبيل إلى الوصول له ... ولو ركبت القفار واللججا
وان درى والدي بقصتنا ... أراق يا دايتي دمى حرجا
فُرحت بما سمعت في طرب ... كشارب الراح راح مبتهجا(1/214)
وله رحمه الله
أهواه أسمر في اعتدال الأسمر ... يختال في روق الشباب الأخضر
مترنح كالغض أو متألق ... كالبدر أو متلفت كالجؤذر
من لم يشاهد شعره وجبينه ... ما فاز ناظره بليل مقمر
لعبت ذوائبه على أردافه ... كالأقحوان على كثيب أعفر
صدقت أن بوجنية جنة ... لما وجدت رضا به من كوثر
ولقد غنيت بخده وبثغره ... ما شئت من ذهب وقل من جوهر
ويقال أن الطرف مني فاسق ... صدقوا ولكني عفيف المئزر
وقال واظنها في الملك المعظم توران شاه بن الملك الصالح.
يا بعيد الليل من سحره ... دائماً يبكي على قمره
خل ذا واندب معي ملكاً ... ولّت الدنيا على أثره
كانت الدنيا تطيب لنا ... بين باديه ومحتضره
سلبته الملك أسرته ... واستووا غدراً على سُرره
حسدوه حين فاتهم ... في الشباب الغض من عمره
وله أيضاً
سيف بجفنيك إذا ما انتضى ... فلّ شبا الأسمر والأبيض
قتلاه من أكبر عشاقه ... والحب من أعجب شتى قضى(1/215)
من عجب الدنيا وما تنتهي ... عجائب الدنيا ولا تنقضي
توفر الرغبة في زاهد ... وشدة الميل إلى معرض
تغاير الورد على خده ... فامتزج الأحمر بالأبيض
وله في الملك الناصر داود
ثلاثة ليس لهم رابع ... عليهم معتمد الجود
الغيث والبحر وعززهما ... بالملك الناصر داود
وله في بدر الدين صاحب الموصل وقد ركب في شبارة
لله شبارة حوت ملكاً ... كأنما الأرض في يديه كره
فاعجب لها اذجرت به ... وبها انمله وهي أبحر عشره
وله أيضاً
انتبه من نوم سكرك ... واسقني من خمر ثغرك
فإذا ما شئت فانبذ ... ني ولكن خلف ظهرك
وله رحمه الله
بات في أثناء صدري ... غصن نيط ببدر
بدوى نازل من شع ... ره في بيت شعر
حامل نجداً وغورا ... منه في ردف وخصر
ما رنا واهتزالا ... كان في بيض وسمر
حبذا ليلة وصل منه ... بل ليلة قدر(1/216)
أشرفت عن نور وجه ... وسنا كأس وثغر
وتعانقنا فما ظن ... ك في ماء وخمر
وتعاتبنا فقل ما ... شئت من ذل وسحر
ثم لما أدبر اللي ... يل وجاء الفجر يجري
قال إياك رقيبي بك يدري قلت يدري
وله رحمه الله:
وافي كتابك بعد فتره ... فنفى المساءة بالمسره
وفضضته فلثمته ... لما غدا في الحسن نُدره
واوية الأصداغ والألفات ... قامات به والسين طرّه
فطربت حين قرأته ... وسكرت لكن ألف سكره
فحسبت أن الطرس من ... هـ زجاجة واللفظ خمره
وله رحمه الله
قسماً بفيك وما حوى ... قسمٌ عظيم في الهوى
ما ضلّ صاحب مهجةٍ ... ذابت عليك وما غوى
يا أيها القمر الذي ... نجم السلوبه هوى
ماذا أثرت على القلوب ... من الصبابة والجوى
واغن في أعطا فه ... هزوء بأغصان اللوى
أفدى الذي فاديته ... وركابه بيد النوى(1/217)
مولاي حبّك نيتي ... ولكل عبد مانوى
وله رحمه الله
ما كنت أحسب أني بين أظهركم ... أني وأهلي مع مالي من الخدم
وكان عهدي بسيف الدين يذكرني ... والسيف يقطر حدّاه عبيط دم
فما له اليوم والأيام تخدمه ... أضاع حقي على ما فيه من كرم
وله أيضاً
وما للجمال بوجنتيك معين ... لو كان لي عندا الورود مُعين
لكن حمته أسنّة واعنّة ... فلكم قتيل حولها وطعين
كيف الورود حولها من تغلب ... أسدٌ لها زرق النصال عيون
سقط الجياد تحاورت أجسادهم ... وتراحمت أسد الشرى والعين
يفرى المهاة وما يليها ضيغم ... وترى الكناس وما يليه عرين
فهناك فوق الأرض أقمار الدجى ... يسعى بها تحت البرود غصون
فالليل ثم عبارة عن طرة ... إن كنت تفهم والصباح جبين
من كل ضاربة اللثام وإنما ... تحت اللثام محاسن وفنون
في خدها ورد ونسرينٌ ولا ... ورد حقيقي ولا نسرين
ولقد يلين لي الصفا وفؤادها ... كالصخرة الصماء ليس تلين(1/218)
يا قلب ويحك ما تفيق من الجوى ... أمع الزمان توله وجنون
ذلك كل يوم صبوة عذرية ... أعليك نذر أم عليك يمين
وبكل قلب أنت صبٌ هائم ... وبكل خد مغرم مفتون
سُئل الضرائر عن حقيقة ثغرها ... يوماً فقلن اللؤلؤ المكنون
وأفادني المسواك أن رضا بها ... شهد ومسك والأراك أمين
وإذا تساقطك الحديث فإنما ... سحرواى نهُى هناك يكون
محجوبة في خدرها محبوبة ... إن الجمال يُحب وهو مصون
قارنت معترك المنايا فاتئد ... ودع التصابي عنك يا مسكين
ودنا رحيلك فاتخذ زاداً ولا ... تقلل فإن الشوط منك بطين
وبباب مولاك الكريم فقف ولا ... تسأم فإنك بالنجاح قمين
وله رحمه الله
هزوا القدود ورهّفوا سمر القنا ... واسترهفوا بدل السيوف الأعينا
وتقدموا للعاشقين فكل من ... أخذ الضمان لنفسه إلا أنا
لا إن لي جلداً ولكني أرى ... في الحب كل دقيقة ان افتنا
لا خير في جفن إذا لم يكتحل ... أرقاً ولا جسم تحاماه الضنى
وأنا الفد البابلي لحظه ... لا تستطيع الأسد تثبت إن دنا
إن البدور هوت من أفقها ... حتى يرى منها أتمّ وأحسنا(1/219)
لما انثنى في حُلة من سندس ... قالت غصون البان ما أبقى لنا
هذا على إن الغصون تعلمت ... منه الرشاقة بينها لما أنثنى
وبخده وبثغره وعذاره ... عرف العقيقى وبارق والمنحنى
أقسى علي من الحديد فؤاده ... ومن الحرير تراه خدا إلينا
شبهته بالبدر قال ظلمتني ... يا عاشقي والله ظلما بيننا
وهذه القصيدة النونية وازن بها قصيدة القاضي ناصح الدين أبي بكر أحمد بن محمد بن الحسين الأرجاني رحمه الله وتلك من غرر القصائد فلا بأس بإيراد شيء منها ومن غيرها من شعر الأرجاني فإنه من جيد الشعر وأول القصيدة النونية المذكورة.
وردُ الخدود ودونه شوك القنا ... فمن المحدث نفسه أن يجتنى
لا تمدد الأيدي إليه فطالما ... شنّوا الحروب لأن مددنا الأعينا
ورد تخيّر من مخافة نهبه ... باللحظ من ورق البراقع مكمنا
يُلقى الكمام مع الظلام إذا دجا ... ويعود فيه مع الصباح إذا دنا
ولطالما وجد الخلاف وإلفه ... دينا لعمرك للحسان وديدنا
قل للتي ظلمت وكانت فتنة ... ولو أنها عدلت لكانت أفتنا
لما سألت الثغر عنها لؤلؤاً ... قالت أما يكفيك جفنك معدنا(1/220)
إيراد صونك بالتبرقع ضلة ... وأرى السفور لمثل حسنك أصونا
كالشمس تمتنع اجتلاؤك وجههافإن اكتست برقيق غيم امكنا
غدت البخيلة في حمى من بخلها ... فسلوا حماة الحيّ عمّ صدّنا
رأيت طروق خيالها قالت متى ... جرّ الرماح من الفوارس نحونا
هل عند حيّ العامرية قدرةٌ ... أن يفعلوا فوق الذي فعلت بنا
ما هم بأعظم فتكة أو بارزوا ... من طرف ذات الخال إن برزت لنا
إن كان قتلى قصدهم فليرفعوا ... كل الضغائن وليخلوا بيننا
ماذا لقونا من لقاء فواتن ... لولا مراقبة العيون اربننا
في ليلة حسدت مصابيح الدجى ... كلمى وقد كانت لها هي ازينا
قلمى بها حتى الصباح وشمعتي ... بتنا ثلاثتنا ومدحك شغلنا
حتى هزمنا للظلام جنوده ... لما تشاهرنا عليه الا اسنا
أفناهما قطى وأفنيت الدجى ... سهراً وأصبحنا وأسعدهم أنا
زرع الطعان فسنبلت في ساعة ... من هامهم وشعورهم سمر القنا
أما الرجاء فلم يزل متغرباً ... حتى إذا وافى ذراك استوطنا
يا ماجداً عبق الزمان بذكره ... والذكر في الأيام نعم المقتنى(1/221)
يزداد عندك حسن ما نثني به ... كمزيد ما توليه حسناً عندنا
فبلغت قاصية المدى وملكت نا ... صية العُلى وحويت عاصية المنى
وبقيت من غير انقطاع ماضياً ... وبلا تغير آخر متمكناً
وقال أيضاً على هذه القافية
قف يا خيال وإن تساوينا ضنى ... أنا منك أولى بالزيارة موهنا
وعقلت ناجيتي بفضل زمامها ... لما رأيت خيامهم بالمنحنى
وتطلعت فأضاء غرة وجهها ... بالليل أيسر منهجي والإيمنا
لما طرقت الحي قالت خيفة ... لا أنت إن علم الغيور ولا أنا
فدنوت طوع مقالها متخفياً ... ورأيت خطب القوم عندي أهونا
ومعي وليس معي سواه صاحب ... عضب أذود به الخميس الأرعنا
حتى رفعت عن المليحة سجفها ... يا صاحبي فلو أن عينك بيننا
سترت محياها مخافة فتنتي ... بنقابها عني فكانت أفتنا
وتكاملت حسناً فلو قرنت لنا ... بالحسن إحساناً لكانت أفتنا
قسماً بما زار الحجيج وما سعوا ... زُمراً وما نحروا على شطي منى
ما اعتاد قلبي ذكر من سكن الحمى ... إلا استطار وملّ صدري مسكناً
أما الشباب فقد تعاهدنا على ... أن لا نزال معافكان الإخونا(1/222)
وتلون الأيام علّم مفرقيفعل الأحبة في الهوى فتلونا
يا طالب الثأر المنيم وسيفه ... في الغمد لا تحسب مرامك هينا
أتراك تملأ من غرار أجفنا ... حتى تفرغ من غرار أجفنا
أوما رأيت السيف هو مُصلت ... ما زالت يحكم بالمنايا والمنى
لما ادعى الأقلام فضلاً عنده ... غضب الحديد فشق منها الألسنا
حتى إذا زادت بذاك فصاحة ال ... أقلام حار النصل لما إن دنا
وأراد أن يُضحى لسانا كله ... حتى يقر بفضله فتلسّنا
ولقلما غرى الحسود بفاضل ... متيقضاً الأوزيد تمكنا
ولقد نزلت من الملوك بماجد ... فقر الرجال إليه مفتاح الغنى
وله أيضاً:
صوتُ حمام الأيك عند الصباح ... جدد تذكاري عهد الصباح
علمننا الشجو فيامن رأى ... عُجما يعلمن رجالاً فصاح
ألحان ذات الطوق في غصنها ... تذكرني أزمان ذات الوشاح
لا أشكر الطائر إن شاقني ... على نوى من سكنى وانتزاح
وإنما أشكر لو أنه ... أعارني أيضاً إليه جناح(1/223)
أكلما اشتقت الحمى شفني ... لاح إذا برق من الغو لاح
يريد اغرائي إذا لامني ... وربما أفسد باغي الصلاح
ماذا عسى الواشون أن يصنعوا ... إذا تراسلنا بإيدي الرياح
وربّ ليلٍ قد تدرّعته ... رهين شوق نحوكم وارتياح
يروي غليل الأرض من عبرتي ... وبي إليكم ضماً والتياح
حتى بدت تطلق طير الدجى ... من شرك الأنجم كفّ الصباح
لا غرو إن فاضت دماً مقلتي ... فقد غدت ملأ فؤادي جراح
بل يا أخا الحي إذا زرته ... فحيّ عني ساكنات البطاح
وارم بطرف من بعيد فمن ... دون صفاح اليبض يبضُ الصفاح
وآخر العهد بأضعانهم ... يوم حدوا تلك المطى الطلاح
وعارض الركب على رقبة ... مدير الحاظ مراض صحاح
لما جلا لي عند توديعه ... رياض حسن لم تكن لي تباح
جعلت مما هاج بي شوقها ... وجهي وقاحاً وجنيت الأقاح
فكيف ألقى الدهر قرناً وقد ... أصبحت لا أملك ذاك السلاح
يا كعبة للمجد ما هولة ... إذا غدا الوفد إليها وراح(1/224)
يفديك قوم حاولوا ضلة ... تناولوا المجد بأيدٍ شحاح
معاشر أموالهم في حمى ... وعرضهم من لؤمهم مستباح
امّلتهم ثم تأملتهم ... فلاح لي أن ليس فيهم فلاح
لولاك يا شمس ملوك الوري ... لم يبق في طرق الرجا انفاح
إلى ذراك الرحب وجهتها ... وقد براها السير برى القداح
من بلد ناء ولم اعتد ... بعد المدى إلا لقرب النجاح
فاسمع ثناءً ذلك أبدعته ... كأنه المسك إذا المسك فاح
من كلماتٍ كلما نُظمت ... فللآلئ عند هن افتضاح
وسوف أهدى لك أمثالها ... إن كان في مدة عمري انفساح
فدم لأهل الفضل تغنيهم ... فواضلاً ما شعشعت كأس راح
لا عرفو غيرك مولىً لهم ... ما اتصلت منهم بنانٌ براح
وقال:
لولا رجائي للقائه ... ما كنت أحيا ساعة في نائه
ومقرطق لو مدّ حلقة صدغه ... من قبله نمّت بعقد قبائه
غصنٌ إذا ما ماد في ميدانه ... أسدٌ إذا ما هاج في هيجائه
في جفن ناظره وجفن حسامه ... سيفان مختلفان في أنحائه(1/225)
فبواحد يسطو على أحبابه ... وبواحد يسطو على أعدائه
قمر غدا روحي وراح مفارقي ... والجسم والروح امتساك بقائه
فتعجبي إن عشت بعد فراقه ... وتحسُّري إن مُت قبل لقائه
وقال:
إذا الحمام على الأغصان غنانا ... في الصبح هيّج للمشتاق أحزانا
وُرق يُرددن لحناً واحداً أبداً ... من الغناء ولا يُحسن ألحاناً
ظلم من الإلف ينسانا ونذكره ... حتام نذكر إلفا وهو ينسانا
قل للبخيلة أن تهدي على عجل ... تحيّة حين نلقاها وتلقانا
ماذا عليك وقد أصبحت مالكةً ... أن تخرجي من زكاة الحسن إحساناً
استودع الله قوماً كيف أبعدنا ... تقلب الدهر عنهم حين أدنانا
يمناه بعد من التسليم ما فرغت ... اذمدّ يسراه للتوديع عجلانا
لم يملأ العين من أحبابه نظراً ... إذ غادر الدمع منه الجفن ملآنا
جيراننا رحلوا والله جارهم ... مستبدلين بحكم الدهر جيرانا
وإن نسر فدواعي الشوق تأمرنا ... وإن نقم فعوادي الدهر تنهانا
يا من غدا مبدئاً شكوى أحبته ... لما رأى حيث يرجى الوصل هجراناً
ما إن أرى سحب هذا الدمع مقلعة ... حتى تغادر في خديك غدرانا(1/226)
تخاله الشمس وجهاً والسماء ندىً ... والغيث عند الرضا والليث غضباناً
تعلو فناك نسور الجو آلفة ... إلف الحمام علت للأيك أغصاناً
حيث الغبار يسد الجو ساطعه ... والخيل تحمل للأقران أقراناً
والطعن يحفر في لبّاتها قُلُبا ... تظل فيها رماح القوم اشطانا
غرٌّ تظل تبارى في أعنتها ... يحملن أغلمة في الروح غرّانا
تفل كتبك إن سارت كتائبهم ... إذا العدى عاينوا منهن عنواناً
وقال:
وعدت باستراقة للقاء ... وبإهداء زورة في خفاء
ثم غارت من أن يماشيها الظ ... ل فزارت في ليلة ظلماء
ثم خافت لما رأت أنجم اللي ... ل شبيهات أعين الرقباء
فاستعارت طيفاً يلمّ ومن ... يملك طرفاُ يهمّ بالإغفاء
هكذا نيلُها إذ نوّلتنا ... وعناء تسمّح البخلاء
يهدم ألا نتهاء باليأس منها ... ما بناه الرجاء في الابتداء
وأرت أنها من الوجد مثلى ... ولها للفراق مثل بكائي(1/227)
قتباكت ودمعها كسقيط الط ... ل في الجلنارة الحمراء
وحكى كل هدبة لي فتاة ... انهرت فتق طعنة نجلاء
فترى الدمعتين في حمرة الل ... ون سواء وما هما بسواء
خدها يصبغ الدموع ودمعي ... يصبغ الخد قانيا بالدماء
خضب الدمع خدّها باحمرار ... كاختضاب الزجاج بالصهباء
وقال:
قلبُ المشوق بان يساعد اجدر ... فإذا عصاه فالأحبّة اعذر
لا طالب الله الأحبة أنهم ... ناموا عن الصب الكئيب واسهروا
هجروا وقد وصّوا بهجري طيفهم ... يا طيف حتى أنت ممن يهجر
دون الخيال ودون من تشتاقه ... ليلٌ يطول على جفون تقصر
ومخيمون مع القطيعة إن دنوا ... هجروا وإن راحوا إلينا هجروا
فصروا الزمان على صدود أو نوىً ... والعمر من هذا وذاك أقصر
وغدوا ومن عيني لهن منيحة ... تُمرى ومن قلبي وطيس يسعر
أعقيلة الحي المطنب بيتها ... حيث القنا من دونها تتكسر
كالبدر إلا أنها لا تجتلى ... والظبي إلا أنها لا تذعر
أخفى إذا فارقت وجهك من ضنى ... فادق عن درك العيون فاصغر(1/228)
وأرى بنورك كل ما ادنيتني ... وكذا السُها ببنات نعش يبصر
وغدت مودعة فقلبُ يلتظىحتى تعود ومقلة تستعبر
وكأنما تركت بخدي عقدها ... ليكون تذكرة به تتذكر
وقال رحمه الله:
إلى خيالٍ خيالٌ في الظلام سرى ... نظيره في خفاء الشخص إن نظرا
سارْ ألمّ بسارٍ كامنين معاً ... عن النواظر في ليل قد اعتكرا
كلاهما غاب هذا في حجاب ضنى ... عن العيون وهذا في حجاب كرى
تشابها في نحول وادراع دجى ... وخوض أهوال بيدو اعتياد سُرى
فليس بينهما إلا بواحدة ... فرق إذا ما أعاد الناظر النظرا
بإنه ما درا الطيف الطروق بما ... لاقى من الليل والصبر المشوق درى
سرى إلى ولم يشتق ومن عجب ... إلى المشوق إذا غير المشوق سرى
ظبي من الإنس مجبول على خُلُق ... للوحش فهو إذا آنسته نفرا
معقرب الصدغ يحكي نور غرّته ... بدراً بدا بظلام الليل مُعتجرا
مذ سافر القلب من صدري إليه هوى ... ما عاد قط ولم أعرف له خبرا(1/229)
وهواً لمسيء اختيار اذنوى سفراً ... وقد رأى طالعاً في العقرب القمرا
وله يقول:
أقول وقد ذم الوزير زمانه ... من العجز ذمّ العاجز المتحير
تذم زمان السوء يا صدر ظالماً ... ولولا زمان السوء لم تتصدر
وقال أيضاً:
حيث انتهيت من الهجران بي فقف ... ومن وراء دُمى سمر القنا فخف
يا عابثاً بعدات الوصل يُخلفها ... حتى إذا جاء ميعاد الفراق يفي
إعدل كفاتن قدّ منك معتدل ... واعطف كسائل غصن منك منعطف
ويا عذول ومن يصغي إلى عذل ... إذا رنا أحمر العينين ذوهيف
تلوم قلبي إن أصماه ناظره ... فيم اعتراضك بين السهم والهدف
سلوا عقائل هذا الحي أي دم ... للأعين البخل عند الأعين الذرف
يستوصفون لساني عن محبتهم ... وأنت أصدق يا دمعي لهم فصف
ليست دموعي لنار الشوق مطفيئة ... فكيف والماء بادٍ والحريق خفى
لم إنس يوم رحيل الحيّ وقفتنا ... والعيس تطلع أولاها على شرف(1/230)
والعين من لفتة الغيران ما حظيت ... والدمع من رقبة الواشين لم يكف
وفي الحدوج الغوادي كل آنسة ... إن ينكشف سبحفها للشمس تنكسف
تبين عن معصم بالوهم ملتزم ... منها وعن مبسم باللحظ مرتشف
في ذمة الله ذاك الركب إنهم ... ساروا وفيهم حياة المغرم الدنف
فإن أعش بعدهم فرداً يا عجبي ... وإن أمت هكذا وجدا فيا أسفي
قل للذين رمت بي عن ديارهم ... أيدي الخطوب إلى هذا النوى القذف
إن أبق ارجع إلى العهد القديم وإن ... الق الوزير من الأيام انتصف
ملك تطوف البرايا حول سدته ... ومن يجد للأماني كعبة يطف
ظل من الله ممدود سرادقه ... مدّا من الطرف الأقصى إلى الطرف
تطعية الشهب في الأفلاك دائرة ... والبيض في الهام والأقلام في الصحف
تلوح بين بني الدنيا فضائله ... كما تبرجت الأقمار في السدف
بادى التواضع للزوار من كرم ... أن التواضع أقصى غاية الشرف
في كفّه قلمٌ يعنو الزمان له ... ويسمن الخطب منه وهو ذو عجف
الدين والملك منه كوكبا أفقوالجود والبأس منه درتا صدف
ومن ورائي أصحاب تركتهم ... في منزل بخطوب الدهر مكتنف(1/231)
لاذوا بستر رقيق من تجملهم ... إن لم ينلهم وشيك الغوث ينكشف
وقد رأوني بسعد الأرض متصلاً ... وينظرون بما ذاعنه منصرفى
فابسط يميناً كصوب المزن ماطرةً ... واسمع ثناءً كنشر الروضة الأنف
ما في بني زمني الآك ذو كرم ... يظل يأوي الفتى منه إلى كنف
فاسلم ففيك لنا ممن مضى خلف ... وليس عنك فلا نعدمك من خلف
في ظل عمر كعمر الدهر متصل ... وشمل ملك كنظم العقد مؤتلف
وله دوبيت:
مني قلقٌ ومن سيلمى ملق ... من مفرقها دجى وفرق فلق
لا غرو إذا رأيتنا نفترق ... الليل مع النهار لا يتفق
وقال:
هم نازلون بقلبي أيةً سلكوا ... لو أنهم رفقوا يوما؟ ً بمن ملكوا
ساقوا فؤادي وابقوا في الحشا حرقاً ... حزني لما أخذوا مني وما تركوا
لما بكوا لا بكوا والركب مرتحل ... من لوعة ضحك الواشون لاضحكوا
زمّوا وقد سفكوا دمعي ركائبهم ... فكدت أغرق ما زمّوا بما سفكوا
وراغى يوم تشييعي هوادجهم ... والعيس من عجل في السير ترتبك(1/232)
ستران ستر على الأقمار منفرج ... يبدو وآخر للعشاق منهتك
أضمّ جفى عليه حين يطرقني ... كما يضم على وحشية شرك
ما روضة اضحكت صبحا مباسمها ... دموع قطر عليها الليل ينسفك
فالنرجس الغض عينٌ كلها نظر ... والاقحوانة ثغر كله ضحك
وللشقائق ذي وسطها عجب ... إذا تمايلن والأرواح تأتفك
حمر الثيات تطير الريح شائلة ... إذيالها وهي بالأزرار تمتسك
إذا الصبّا نبهت أحداقها سحرا؟ ً ... حسبت مسكاً على الآفاق ينفرك
أنمّ طيبا؟ ً وحلياً من ترائبها ... إذا اعتنقنا وخيل الليل تعترك
وللسماء نطاق من كواكبها ... عقدن منه على أعطافها حبك
قد أشعل الشيب رأسي للبلى عجلاًوالشمع عند اشتعال الرأس ينسبك
فإن يكن راعها من لونه يققٌ ... فطالما راقها من قبله حلك
يظل ينفح من أعراضهم عبق ... وللحديد على أثوابهم سهك
كأن أوجههم والروع يبذلها ... غرا دنانير لم تنقش لها سكك
من كل أزهر مثل النجم يحمله ... طودٌ له الليل مسك والضحى مسكُ(1/233)
حتى رأها أسودا ما بها عزل ... برزن فوق جياد ما بها صكك
طرقن حي العدى في عقر دارهم ... والنوم ملء جفون القوم لو تركوا
والطعن ينسج أشطان القنا ظللا ... يلقى على فرج الحجب التي هتكوا
إلى ذراك قوام الدين سار بنا ... خوص كما اصطف من نخل القرى سكك
قد ثوروهن أدنى خطوها سفر ... شوقا إليك وأبطأأمرها رتك
تسري طوالب أيديها بأرجلها ... مد الليالي فلا فوت ولا درك
حتى ترى ملكا يشفي بروئيته ... من الزمان صدوراً كلها حسك
وهاكها توقر الحساد من كمد ... كأنما هي في أسماعهم سكك
قوافيا بدويات وما بعثت ... بها من البدو لاعرض ولا أرك
جاءت بهن يد بيضاء فانتظمت ... زهرا تلقف للأقوام ما أفكو
سحر من الشعر اعجزت الفحول به ... وأعجزتني حتى بعتها الرمك
لما دفعت إلى دهر تنمر لي ... برائعات فأمري بينها لبك(1/234)
العقل فيه عقال والسداد سدى ... والفضل فيه فضول والنهى نهك
قد بعت طرفي وهذا مطرفي وغدا ... ابيعه ولطرفي أدمع سفك
مدحي الملوك وأكلي الكف مقتنعا ... هذا لعمرك في أبائكم هتك
فاعطف فإن حمى العلياء منتهب ... إن لم تغث وحريم المجد منهتك
وله يقول:
هو ما علمت فاقصري أو فاعذلي ... وترقبي عن أي عقبى تنجلي
لا عار إن عطلت يداي من الغنى ... كم سابق في الخيل غير محجل
صان اللئيم وصنت وجهي ماله ... دوني فلم يبذل ولم أتبذل
أبكي لهم صافني متأدبا ... إن الدموع قرى الهموم النزل
لا تنكري شيبا ألم بمفرقي ... عجلاً كأن سناه سلة منصل
فلقد دفعت إلى الهموم تنوبني ... منها ثلاث شدائد جمعن لي
أسف على ماضي الزمان وحيرة ... في الحال منه وخشيةالمستقبل
ما إن وصلت إلى زمان آخر ... إلا بكيت على الزمان الأول
لله عهد بالحمى لم أنسه ... أيام أعصى في الصبابة عذلي
ومدلة بالحسن لا تبدي الرضا ... حتى أحكم سهمها من مقتلي
رحلت وناب خيالها في ناظري ... عن وجهها فكأنها لم ترحل(1/235)
وآبى خلاصي من طويل عذابها ... قلب متى يعد التسلي يمطل
يعفو عن الجاني وإن لم يعتذر ... ويجود للعافي وإن لم يسال
وقال:
أهلا بوجهك من صباح مقبل ... وبجود كفك من سحاب مسبل
وإذا الصباح مع السحاب ترافقا ... متسايرين إلى معالم منزل
سعدت فأشرق كل ناد مظلم ... منها وأخصب كل واد ممحل
قل للعيون وللشفاه من الورى ... لما بدا كالعارض المتهلهل
السعد في ذاك الجبين فطالعي ... واليمن في تلك اليمين فقبلي
أضحى قرار الدولتين بسعيه ... وبعزمه الماضي مضاء المنصل
والارض ساكنة لدور دائم ... يعتاده فلك عليه يعتلي
وذراه مزدحم الوفود تؤمه ... أبدا لأن نداه غدب المنهل
فإذا أتى الممتاح حقق بالندى ... منه الأماني ثم قال له أسأل
تلك البقية بعد باقية كما ... كانت وعقدة أمرها لم تحلل
ولقد كلفت بها ورأيك وحده ... حسبي به سببا وإن لم تكفل
فاعدلها نظر الكرام فليس في ... تحصيلها إلى عليك معولي
فإذا أردت الجاه كنت مناولي ... وإذا أردت المال كنت منولي(1/236)
وأنا الذي مالي سواك ذخيرة ... ولقد خبرتك في الزمان الأول
من أي وجه كنت أقبل راغبا ... قابلت تطويلي بفرط تطولي
لازلت تخطر في عراص سعادة ... وتجر أذيال البقاء الأطول
وقال:
هم منعوا مني الخيال المسلما ... فلا وصل إلا أن يكون توهما
إذا ما سرى ركب النسيم أعترضته ... لأخبار من أحببته متنسما
فياليل نجد ما صباحك عاندا ... ولكن من في الغور فيك تبسما
تمزقت الظلماء عن ثغر غادة ... أضاء من الآفاق ما كان مظلما
إذا وجهها والبدر لاحا بليلة ... فما أحد يدري من البدر منهما
فاقسم لو لم يدن من برد ريقها ... لاوشك جمر الخد أن يتضرما
وقد نسجت كف الثريا على الثرى ... من الروض وشيا بالاقاحي منمنما
ورقرق فيه دمعها كل ديمة ... ولو أنه من مقلتي كان أدوما
وما الجود في صوب السحاب سجية ... ولكنه من دمع عيني تعلما
فياليت لا ينفك طرفي وخاطري ... مدى الدهر يلقي الدر فذاو توأما
لملاك قلبي بالهوى ولمالكي ... بسالفة النعمى التي كان أنعما
فاذرى لهم در البكاء مبددا ... وأهدي لهم در المديح منظما(1/237)
لأعلى الورى في قنة المجد مطلعا ... وأكثرهم في قنية الحمد مغنما
هلال بدا نجم سما قدر سطا ... سحاب همي طود رسا أسد حمى
لاوسعت أنعاما فلا زلت منعما ... وبالغت إكراما فلا زلت مكرما
ولا خفض الأقدار ما كنت رافعا ... ولا نقض الأيام ما كنت مبرما
وقال رحمه الله:
يامودع السرسرا عند أجفاني ... ومتبع السر إيصاء بكتماني
لله بدر وأطراف القنا شهب ... يجلوه فيهن من صدغيه ليلان
تقول للبدر في الظلماء طلعته ... بأي وجه إذا أقبلت تلقاني
وجه السماء مرآة لي أطالعها ... والبدر وهنا خيالي فيه لا قاني
لم أنسه يوم أبكاني وأضحكه ... وقوفنا حيث أرعاه ويرعاني
كل رأى نفسه في عين صاحبه ... فالحسن أضحكه والحزن أبكاني
قد قوس القد توديعا وقربني ... سهما فابعدني من حيث أدناني
وكنت والعشق مثل الشمع معتلقا ... بالنار أبقيته جهلا فأفناني
يامن بطرف وقد منه غادرني ... متعتعا بين مخمور وسكران
كم فتل صدغيك طول الدهر تلبسه ... أذنيك قيدا وقلبي عندك العاني(1/238)
والساحران هما العينان منك لنا ... فكم تعاقب بالتنكيس قرطان
أغر يمتاح من قلب القلوب له ... خمر المياه دراك اسمر أشطان
تكل إن سار عين الشمس عنه سنىً ... حتى تود لو انصانت بأجفان
لكن مظلته تضحي مسدتها ... فيتقي نورها منه بأكنان
إذا بدا طالعا في سرج سابقه ... في يوم هيجاء أو في يوم ميدان
فالطرف حاكى رياح أربع حملت ... قصرا وفارسه حاكى سليمان
يقرى الولي ويقرى بالعدو إذا ... ما ضافه جائعاً نسر وسرحان
كم يفتدي كلما شاء القنيص له ... غر على الغر من خيل وغلمان
وفي الكنائن منهم وفي الأكف معا ... إلى وحوش الفلا جندا خليطان
من كل سهم وسهم طائر بهمامن مستعار ومملوك جناحان
زرق جوارح أو زرق جوارح قد ... علقن منهم بأيسار وأيمان
وكل مستردف يعدو الحصان به ... مثل السبايا قعودا خلف فرسان
يقول خاطت له ثوبا أديم نقي ... من فار مسك فتيق أدم غزلان
كأن في كل عضو منه من شره ... إلى التقنص مفتوحات أعيان(1/239)
واغضف مثل نجم القذف من سرع ... إذا عدا لاحق الأحشاء طيان
يعود في كفه خطفا وسيقته ... كأنها قبسة في كف عجلان
ما بال تصوير أسد في سرادقه ... وليس يملأ خوفا منه عينان
ليس السعادة إلا كالكتاب ولا ... حسن أختيار الفتى إلا كعنوان
كان ناصح الدين الأرجاني ناظم هذه المقطعات من الفضلاء الأعيان تولى قضاء تستر وعسكر مكرم وسلفه من الأنصار رضي الله عنهم ومولده سنة ستين وأربعمائة وتوفي بتستر في شهور ربيع الأول سنة أربع وأربعين وخمسمائة رحمه الله تعالى وقد تقدم ذكر ابن حيوس في صدر هذه الترجمة وهو محمد بن سلطان بن محمد بن حيوس بن محمد بن مرتضى بن محمد بن الهيثم بن عثمان الغنوي الملقب مصطفى الدولة ولد بدمشق سنة أربع وتسعين وثلاثمائة وتوفي بحلب في شعبان سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة رحمه الله تعالى.
سليمان بن عبد المجيد بن الحسن بن عبد الله بن الحسن بن عبد الرحمن أبو المظفر عون الدين بن أبي القاسم بهاء الدين بن أبي علي بن غالب الكرابيسي الأديب الكاتب المعروف بابن العجمي الحلبي الشافعي ناظر(1/240)
الجيوش في الأيام الناصرية، مولده بحلب ليلة الثالث عشر من شهر ربيع الأول سنة ست وقيل سنة خمس وستمائة سمع من القاضي بهاء الدين بن أبي المحاسن يوسف بن رافع بدمشق تميم المعروف بابن شداد وغيره، وحدث وتولى بحلب الأوقاف الدينية ثم حظي عند الملك الناصر رحمه الله تعالى فقربه وأدناه وكان رئسياً عالماً فاضلاً جليل القدر كريم الأخلاق حسن العشرة لطيف الشمائل جيد الكتابة خبيراً بقوانينها متأهلاً للوزارة وغيرها من الرتب الجليلة وبيته مشهور بالعلم والحديث والرياسة والكتابة والتقدم والسنة والجماعة وتوفي عون الدين المذكور بدمشق في نصف ربيع الأول ودفن من الغد بعد المغرب بسفح قاسيون رحمه الله تعالى، وله نظم جيد.
حضر مجلس مخدومه الملك الناصر يوماً وأدار ظهره إلى الطراحة فقال له أستاذ الدار السترة وراءك فقال الملك الناصر سليمان من أهل البيت فأنشد عون الدين في الحال لنفسه.
رعى الله ملكاً ماله من مشابه ... يمن على العافي ولم يك منانا
لأحسانه أمسيت حسان مدحه ... وكنت سليمانا فاصبحت سلمانا
ومن شعره:
لهيب الخد حين بدا لعيني ... هفا قلبي عليه كالفرش(1/241)
فأحرقه فصار عليه خالا ... وها أثر الدخان على الحواشي
ومن شعره:
يا سائقا يقطع البيداء متعسفاً ... بظامر لم يكن في سيره وإني
إن جزت بالشام شم تلك البروق ولا ... تعدل بلغت المنى عن دير مران
وأقصد علالي قلاليه تلاق بها ... ما تشتهي النفس من حور وولدان
من كل بيضاء هيفاء القوام إذا ... ماست فواخجلة المران والبان
وكل أسمر قد دان الجمال له ... وكمل الحسن فيه فرط إحسان
ورب صدغ بدا في الخد مرسله ... في فترة فتنت من حسن أجفان
فليت ريقته وردى ووجنته ... وردى ومن صدغه آسى وريحاني
وعج على دير متى ثم حيي به ال ... ربان بطرس فالربان رباني
فهمت منه إشارات فهمت بها ... وصنت منشورها في طي كتمان
واعبر بدير حنينا وانتهز فرص ال ... لذات ما بين قسيس ومطران
واستجل راحا بها تحيا النفوس إذا ... دارت براح شماميس ورهبان
حمراء صفراء بعد المزج كم قذفت ... بشهبها من همومي كل شيطان
كم رحت في الليل اسقيها وأشربها ... حتى أنقضى ونديمي غير ندمان
سألت توماس عمن كان عاصرها ... أجاب رمزاً ولم يسمح بتبيان
وقال أخبرني شمعون ينقله ... عن ابن مريم عن موسى بن عمران(1/242)
بأنها سفرت بالطور مشرقة ... أنوارها فكفوا عنها بنيران
وهي المدام التي كانت معتقة ... من عهد هرمس من قبل ابن كنعان
وهي التي عبدتها فارس فكنى ... عنها بشمس الضحى في قومه ماني
سكرت منها فلا صحو وجدت بها ... على الندامى وليس الشح من شأني
وسوف أمنحها أهلا وأنشده ... ما قيل فيها بترجيع وألحان
حتى تميل لها أعطافه طربا ... وينتشي الكون من أوصاف نشوان
خير الملوك صلاح الدين ليس له ... في الجود ثان ولا عن جوده ثاني
كان والده بهاء الدين من الأجواد المشهورين والأعيان المتمولين بحلب رحمه الله.
عبد الرحمن بن عوض بن محبوب أبو البركات عفيف الدين الكلبي المعري روى عن أبي المعالي محمد بن عبد الواحد بن المهذب وغيره توفي رحمه الله في بعض شهور سنة ست وخمسين وستمائة، وكان أديباً فاضلاُ رئيساً ذا مكارم من بيت كبير نظم الشعر صغيراً وله فيه اليد الطولى فمنه.
جميع حديثي عنكم حين أنطق ... وجملة فكري فيكم حين أطرق
وعهدكم عندي على ما عهدتم ... وموثقكم في حبة القلب موثق
فكل صباح لي إليكم تشوف ... وكل مساء لي إليكم تشوق
وإن نحت في أفنان وجدي يحق لي ... لاني بما أوليتموني مطوق(1/243)
قطعتم ولم أسرقكم الود كتبكم ... وكيف يجازي القطع من ليس يسرق
صلوا واقصدوا واقربوا وتباعدوا ... وأولوا وقولوا واعتقوا وترفقوا
فقلبي قلب لم يشنه تغير ... وودي ود لم يشه تملق
وله أيضاً
ودوحة بات بدري تحت أنجمها ... من العشاء نديما لي إلى السحر
تخبر بورد ورد طول ليلته ... من خده ولماه البارد الخصر
حتى إذا اسكرتني خمر ريقته ... غنى بشجو فأغناني عن الوتر
ما العيش إلا اصطباح الراح أوشنب ... يغني عن الراح من سلسال ذي أشر
عبد الرحمن بن نصر بن يوسف أبو محمد صدر الدين الشافعي قاضي بعلبك كان فقيهاً عالماُ فاضلاً زاهداً عابداً ورعاً جواداً ممدحاً لا يقدم بعلبك قادم إلا ويكرمه ويضيفه وكان كثير البر والصدقة وإطعام الفقراء والمساكين مقتصراً في ملبسه ولم يقتن في عمره دابة قط إلا مرة واحدة اشترى بغلة فماتت قبل أن يركبها فكان إذا أضاف أحداً من أرباب الدنيا جعل من ذلك الطعام جزءاً وافراً يتصدق به على الفقراء فإن ضاق الطعام عن ذلك استأنف طعاماً للفقراء كأنه يكفر بذلك ما أنفقه لغير الله تعالى وكان يقوم الليل كثيراً ويصلي من المغرب إلى العشاء الآخرة نافلة ويتلو القرآن الكريم في غالب أوقاته ويصوم نافلة في(1/244)
كثير من الأوقات وكان متواضعاً حتى أنه كان يحمل طبق العجين من منزله إلى الفرن بنفسه في بعض الأوقات ويلقاه من يسأله حمله عنه فيأبى ذلك ويشتري الحاجة بنفسه ويحملها إلى منزله وكانت له الحرمة الوافرة في الدولة وإذا خلع عليه كان في خلعته طيلسان وكان لا يخلع بطيلسان الأعلى قاضي القضاة وآحاد الأكابر وله المكانة العالية عند الخاص والعام وبقي في القضاء مدة إلى حين وفاته لم يؤخذ عليه في حكم وكان متحرياً عفيفاً شديد التقوى سريع الدمعة وكان لرقة حاشية طبعه يميل إلى الصور الجميلة مع شدة العفاف والشح بدينه ولا ينال من ذلك إلا الرؤية مع جمع من غير خلوة فكان من لا يعلم باطن حاله ينتقد عليه ذلك ولعل الذي يناله من الأجر بوقوع بعض الناس فيه بسبب ذلك على ما يلحقه من الإثم بسببه - وحكى لي أنه قال مرة لزوجته اعملي لي صحناً من قطائف فعملته على ما أراد وتوهمت أنه يريد إطعامه لأحد من الشباب وكانت ليلة ثالجة شديدة البرد فجاء إلى منزله بعد العشاء الآخرة وأخذ الصحن ومضى فسيرت بعض الزامها في أثره ليخبرها حقيقة الحال فذكر لها بعد عوده أنه لا زال يمشي وراءه على بعد إلى أن وصل إلى مسجد مهجور داخل باب حمص من مدينة بعلبك ففتحه وإذا فيه ثلاثة نفر فقراء غرباء من أثر مرض وهم في الظلمة فجعل الصحن بين أيديهم وبيده طوافة يريد بها الضوء عليهم وهم يأكلون إلى أن أتوا على ما في الصحن فأخذه وعاد(1/245)
إلى منزله - وبالجملة فكانت مكارمه كثيرة وغالب أفعاله لله تعالى وكان صحب والدي رحمه الله من حال صغره إلى أن توفي إلى رحمة الله فوجد والدي عليه كثيراً وحزن لفقده وسمعته يثني عليه غير مرة في حال حياته وبعد وفاته وكان للقاضي صدر الدين رحمه الله يد في النظم والنثر واشتغل بالفقه على الشيخ تقي الدين بن الصلاح رحمه الله وغيره وفي العربية على والدي رحمه الله وعلى غيره وسمع على الشيخ تاج الدين الكبدي وغيره ولم يخلف شيئاً من الدنيا سوى دار عمرها وكان يسكنها وحصة يسيرة في حوانيت ورثها من أبيه ولعل مجموع ذلك مع ثياب بدنه وفى بما عليه من الديون وفضل مقدار يسير لورثته رحمه الله وكانت وفاته ببعلبك في تاسع ذي القعدة ودفن ظاهر بعلبك في مقبرة الأمير شمس الدين محمود رحمه الله بباب شطجا وهو في عشر السبعين تقريباً ورثاه غير واحد من أصحابه ومعارفه فمنهم الشيخ شرف الدين أحمد بن أحمد بن نعمة المقدسي رحمه الله تعالى قال:
لفقدك صدر الدين أضحت صدورنا ... تضيق وجاز الوجد غاية قدره
ومن كان ذا قلب على الدين منطو ... تفتت أشجانا على فقد صدره
وكتب إليه الصاحب شرف الدين عبد العزيز رحمه الله وكان بينهما مودة عظيمة:
رب الندى عبد الرحيم استمع ... مقالةً من مغرم صب
لولا بعادي عنك ما كان لي ... على صروف الدهر من عتب(1/246)
والقلب في الصدر علمنا به ... وأنت صدر حل في القلب
ومن شعر القاضي صدر الدين في مدح بعلبك:
لله عيش في بعلبك قد مضى ... قضيت فيه مع الصبا غرضا
أيام جفن السرور منتبه ... مني وجفن الهموم قد غمضا
أسعى إلى رأس عينها طرباً ... أركض طرفاً للهوما ركضا
ومدّ لهم الشباب يُونس ما ... أوحش مني سناه حين أضا
وروضة في لجوجها أنف ... لو مُقعدٌ حلّ أرضها نهضا
قصدتها والحبيب في غلس ... وبارق الثغر منه قد ومضا
وسقم جفن قد صح منه لمحزو ... ن كئيب في حبه مرضا
لقيت من هجره وفرقته ... ما راح جسمي به لقى حرضا
ولا ثم لي محرقي رمضا ... على هواه مجرعى مضضا
فقلت أنى اسلوه في زمن ... عادته السخط للأنام رضا
وللأشراف الملك من به بسط الخص ... ب لدينا والجذب قد قبضا
وأصبح عن مساءتنا منحرفاً ... والسرور. . . معترضا
وآض ما غاض من مسرتنا ... وإيجاب غيم الغموم واندحضا
ووقفت على ورقة بخطه إلى شخص من الفقهاء كان يميل إليه وفي صدرها أبيات وغالب ظني أنها من نظمه وهي:
يا حبيباً جار لما ان منك ... لا تخيب قصد من قد أملك
كنت لا تصبر عنا ساعة ... علموك الهجر حتى لذلك(1/247)
أيها البين الذي فرّقنا ... أي ثار كان عند الصب لك
لا تزدني فوق هذا ألماً ... قد بلغت اليوم فيه أملك
يا لمأسور هوىً صيّره ... مع من قد مات شوقاً وهلك
مستهام لم يزل يتبع ... تابع من حبكم أني سلك
لم يصغ سمعاً إلى العذل فلا ... تسمع اليوم به من عذلك
ما تبدّ لنا بخل بعدكم ... أترى أي خليل بدّلك
ثم وقفت على مجموع بخط بعض الفضلاء وفيه مصاريع من مخمس ونسبه إلى الباسلوى منها:
يا حبيبي بالذي قد أرسلك ... بشر الناس في زي ملك
ساو بالوصل محباً سالك ... أيها المالك لي فيما ملك
من إلى تعذيب قلبي ميّلك
يا عصيّا ليس ينوي طاعة ... كنت لا تصبر عنا ساعة
لا يرى لي أذناً علك سماعه ... فيك للعواذل ولأمر تاعه
علموك الهجر حتى لذلك
عبد الرشيد بن محمد بن أبي بكر النها وندى الصوفي ويسمى مسعود توفي بدمشق في رابع وعشرين شهر رمضان ودفن من يومه بمقابر الصوفية عن مائة وأربع عشرة سنة كما ذكر رحمه الله تعالى.
عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله بن سلامة بن سعد بن سعيد(1/248)
أبو محمد زكي الدين المنذري الإمام الحافظ الشامي الأصل المصري المولد والدار والوفاة الفقيه الشافعي مولده بمصر في غرة شعبان سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، قرأ القرآن الكريم بالروايات على أبي الثناء حامد بن أحمد بن حمد الارتاحي وتفقه في مذهب الشافعي رحمة الله عليه على الإمام أبي القاسم عبد الرحمن بن محمد بن إسماعيل القرشي وقرأ العربية على ابي الحسين يحيى بن عبد الله النحوي وسمع منهم ومن خلق كثير وحج وسمع بمكة شرفها الله تعالى وبمدينة النبي صلى الله عليه وسلم ورحل إلى دمشق فسمع ومشائخه مذكورون في معجمه الذي خرجه لنفسه في ثمانية عشرة جزأً ودرس بالجامع الظافري بالقاهرة مدة وعلق على التنبيه في مذهب الشافعي كتاباً نفيساً يدخل في أحد عشر مجلداً وتولى مشيخة دار الحديث الكاملية التي بين القصرين بالقاهرة وانقطع بها نحو العشرين سنة عاكفاً على التصنيف والتاريخ والإفادة وصنف تصانيف مفيدة وخرج تخاريج حسنة وأملى وحدث بالكثير إلى حين وفاته واختصر صحيح مسلم ابن الحجاج والسنن لأبي داود وتكلم على أحاديثها وكان عديم النظير في معرفة الحديث على اختلاف فنونه عالماً بصحيحه وسقيمه ومعلوله وطرق مسانيده متبحراً في معرفة أحكامه ومعانيه ومشكله قيماً بمعرفة عربيه وإعرابه واختلاف ألفاظه ماهراً في معرفة رواية جرحهم وتعديلهم ووفياتهم(1/249)
ومواليدهم وإخبارهم إماماً حجة ثتا ورعا متحرياً فيما يقوله وينقله متثبتاً فيما يرويه ويتحمله عدلاً ورعا طاهر اللسان مأمون الجانب سمحاً كثير الإيثار وكانت وفاته في رابع ذي القعدة بالقاهرة ودفن من الغد بسفح المقطم رحمه الله قال أنشدني الأديب الفاضل أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي النحوي الكاتب لنفسه.
لعمرك ما أبكى على رسم منزل ... ودار خلت من زينب ورباب
ولكنني أبكي على زمن مضى ... تسود فيه بالذنوب كتابي
وأعجب شيء أنه لا يصدني ... عن اللهو شيب حال دون شبابي
وقد حل بازي المشيب بعارضي ... وما طار عن وكر الذنوب غرابي
فيا رب جد بالعفو منك فإنني ... مريض حريص بالذنوب لما بي
ولا لي أهل في بلاد ومعشر ... يغدون أيامي لوقت إيابي
وإن سرت عن دار فما من مشيّع ... ولا ملتق إن جئتها لركابي
ولا سكن اعتدّه لملمة ... ولا أحد يرجى لدفع مصابي
وقد رثى الشيخ زكي الدين رحمه الله صاحبنا الموفق عبد الله ابن عمر الأنصاري رحمه الله.
بالصحيحين مذ فقدت صحاح ... صحّ معنى ولفظه. . . الام
درست بعدك الدروس وصارت ... نكراتٍ لفقدك الاعلام(1/250)
والمواعيد بعد ما غبت عنها ... ليس فيها كما عهدت ازدحام
من سواك السماع لا يطرب السم ... ع وفيه بعد السرور وجام
من لكشف النقاب عن غررال ... الفاب يجلو الوجوه وهي وسام
من لضبط الأعراب جزماً عرا ... ب فصيح أن أبهم الإعجام
من لفصل الخطاب يجلو به الخط ... ب ويجلو بالسمع منه كلام
من لحفظ الأنساب ضاع بنوها ... يا أباها فكلهم أيتام
هذه أعين المحاير تبكي ... بدموع جرت بها الأقلام
يا لها من رزية ذهب الفضل ... بحذ الطروس منها سحام
فالمعالي عيونهن دوام ... حيث لم يهنها لديك دوام
والمواليد بعد موتك أمست ... وولود التاريخ منها عقام
ووفاة الرجال بعدك فأتت ... فجدير بها البكى واللطام
والفتاوى حلت عليك فروعاً ... فإنها منك حلّها والحرام
والأماني مذغبت ملّت بقاها ... وهي أن تفن حسرةً ما تلام
وعليك الصحاح تبدى انكساراً ... وكذا العين وحشة ما تنام
وإليك الغريب زاد حنيناً ... أغراه بالفراق الغرام
ولدار الحديث عهد قديم ... مستجد على البلى مستدام
كم بها قد قعدت مقعد صدق ... قمت فيه يا حبذاك القيام
حرباً لمحراب أصبح يشكو ... من أماليك وحشة يا إمام(1/251)
لك مني الصلاة يا جامع الفض ... ل كما عن سواك عندي صيام
أسند الحزن بعد موتك عني ... من رجال الحديث قوم كرام
طوقتهم منك الأيادي فلولا ... نوحهم معرب لقلت حمام
يا رجاي القطوع منه برغمي ... مرسل الدمع من جفوني سجام
دمع عيني إن جرح الجفن جوراً ... فهو عدل وما عليه أثام
وكذا اضلعي إذا أورت اليا ... رفعنها يورى اللهيب الغرام
يا زكياً عقلاً ونقلاً وأصلاً ... ليس يأتي بمثله الأيام
يا طراز الزهاد يا عالي الإسن ... اد يا من له الأيادي الجسام
يا ظليلاً له بقلبي نار ... وهي برد بأدمعي وسلام
لو أفاد الفدى فدتك نفيس ... ات نفوس لها عليك هيام
إن نمتُ صورةً فذكرك حيّ ... لملم الأملا به المام
طبت ذكراً وطاب تربك حتى ... حسدت مصرنا عليك الشآم
كيف استمطر الغمام لقبر ... حلّ فيه يا بحر منك الغمام
باكرتك الصّبا بنشر سلام ... لك تهديه في النسيم السلام
ورثاه أيضاً الأديب أبو القاسم بقصيدة أولها:
مصاب زكي الدين ليس يهون ... لقد سكبت فيه العيون عيون
مصاب به الأجفان قرحى من البكى ... وكل كلام فيه فهو أنين
لقد اقفرت منه المدارس وانفضت ... مجالس منها للحديث شجون(1/252)
لك الله يا علم الحديث فقدته ... فكم لك شوق نحوه وحنين
وكم حسرات للبخاري بعده ... وما مسلم إلا عليه حزين
يميناً لقد ساء القلوب مصابه ... اليّة برٍ ليس فيه يمين
على بعده وجدٌ بحر زفيره ... يعلم صخر الصم كيف يلين
لقد حملوه والأمانات والتقى ... تزف على نعش له وتبين
وراح وللإسلام في كل مهجة ... بمصرعه داء عليه دفين
وقد كان للأنوار فيه طليعة ... وللمجد منه طلعة وجبين
ويا حسرات للنفوس تأكدت ... لقد كان ما خفناه أن سيكون
ويا عبرات للعيون اذرفي دماً ... فما كل طرف في البكاء طعين
ظناه للأيام يبقى ذخيرةٌ ... على أن جود الدهر فيه ضنين
لإن لم أقم حقاً بواجب حقه ... بقية عمري إنني لخؤون
سقى الله صوب الغاديات ضريحه ... ورواه غيث للسحاب هتون
ولو بخلت عنه السحائب بالحيا ... لروته منا بالبكاء جفون
عبد الله الإمام المستعصم بالله أبو أحمد أمير المؤمنين بن المستنصر بالله أبي جعفر المنصور ابن الظاهر بأمر الله أبي نصر محمد بن الناصر لدين الله أبي العباس أحمد بن المستضيء بأمر الله أبي محمد الحسن بن المستنجد(1/253)
بالله أبي المظفر يوسف بن المقتفي بأمر الله أبي عبد الله محمد بن المستظهر بالله أبي العباس أحمد بن المقتدي بأمر الله أبي القاسم عبد الله بن الأمير الذخيرة أبي العباس محمد بن القائم بأمر الله أبي جعفر عبد الله بن القادر بالله أبي العباس أحمد بن الأمير إسحاق بن المقتدر بالله أبي الفضل جعفر ابن المعتضد بالله أبي العباس أحمد بن الأمير الموفق أبي أحمد طلحة بن المتوكل على الله أبي الفضل جعفر بن المعتصم بالله أبي إسحاق محمد بن الرشيد أبي محمد هارون بن المهدي بالله أبي عبد الله محمد بن المنصور أبي جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب رحمه الله مولده سنة تسع وستمائة وبويع له بالخلافة لما توفي والده في العشرين من جمادى الأول سنة أربع وستمائة فكانت الخلافة خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأياماً ومقدر عمره سبع وأربعون سنة واستجاز له ولجماعة من أهله أبو عبد الله بن النجار في رحلته إلى خراسان جماعةً كثيرة منهم أبو روح عبد المعز بن محمد الهروى وأبو الحسن المؤيد بن محمد الطوسي وأبو بكر القاسم بن عبد الله ابن الصفار وأم المؤيد زينب بنت عبد الرحمن الشعري وغيرهم وحدث فسمع منه صدر الدين شيخ الشيوخ أبو الحسن علي بن محمد وحدث عنه وأجاز الإمام محي الدين أبي المظفر يوسف بن الإمام أبي الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي والشيخ نجم الدين أبي محمد عبد الله بن محمد البادرائي وحدثا عنه بهذه الإجازة وكان المستعصم بالله متديناً متمكناً متمسكا؟ ً(1/254)
بمذهب أهل السنة والجماعة على ما كان عليه والده وجده رحمهما الله تعالى ولم يكن على ما كانا عليه من التيقظ وعلو الهمة فإن والده المستنصر بالله كان ذا همة عالية وشجاعة وافرة ونفس أبية وعنده إقدام عظيم واستخدم من العساكر ما يزيد على مائة ألف وقصدت التتر بلاد العراق في أيامه فلقيهم عسكره وانتصف منهم وهزمهم وكان للمستنصر بالله أخ يعرف بالخفاجي يزيد عليه في الشهامة والشجاعة وكان يقول إن ملكني الله تعالى أمر الأمة لاعبرن بالعساكر نهر جيحون وأنتزع البلاد من يد التتر وأفنيهم قتلاً واسراً وسبياً فلما توفى المستنصر بالله لم ير الدوادار والشرابي وكانا غالبين على الأمر ولا بقية أرباب الدولة تقليده الخلافة خوفاً منه ولما يعلمون منه أستقلاله بالأمر واستبداده بالتدبير دونهم وآثروا أن يليها المستعصم بالله لما يعلمون من لينه وأنقياده ليكون الأمر إليهم فاتفق رأي أرباب الدولة على تقليد المستعصم بالله الخلافة بعد أبيه فتقلدها وأستبدوا بالتدبير ثم ركن إلى وزيره مؤيد الدين العلقمي فأهلك الحرث والنسل وحسن له جمع الأموال والأقتصار على بعض العساكر وقطع الباقين فوافقه على ذلك وكان فيه شح وحب لجمع المال فوافق ما أشار به الوزير وغيره عليه من ذلك ما في نفسه فأجابهم وبذل الوزير جهده في بوار الإسلام فبلغ قصده كما ذكرنا وكان المستعصم بالله قليل التدبير والتيقظ نازل الهمة محباً لجمع المال مهملاً للأمور يتكل فيها على غيره ويقدم على فعل ما يستقبح ولا يناسب منصبه ولو لم يكن من ذلك إلا ما فعله مع الملك(1/255)
الناصر داود في أمر الوديعة لكفاه ذلك عاراً وشناراً حتى لو كان الملك الناصر من بعض الشعراء وقد قصده وتردد إليه على بعد المسافة وامتدحه بعدة قصائد كان يتعين عليه أن ينعم عليه بقريب من قيمة وديعته من ماله فقد كان في أجداد المستعصم بالله من أستفاد منه آحاد الشعراء أكثر من ذلك إلى غير ذلك من الأمور التي كانت تصدر عنه مما لا يناسب منصب الخلافة ولم تتخلق به الخلفاء قبله فكانت هذه الأسباب كلها مقدمات لما أراد الله تعالى بالخليفة والعراق وأهله وإذا اراد الله أمراً هيأ أسبابه ومن الأتفاقات العجيبة أن أول الخلفاء من آل سفيان أسمه معاوية وآخرهم معاوية وأول الخلفاء من آل الحكم ابن أبي العاص اسمه مروان وآخرهم مروان والخلفاء العلويين بالغرب والديار المصرية اسمه عبد الله وآخرهم اسمه عبد الله وأول الخلفاء من بني العباس عبد الله السفاح وآخرهم عبد الله المستعصم
بالله وعددهم سبعة وثلاثون خليفة ومدة ملكهم خمسمائة وأربع وعشرون سنة منذ بويع السفاح بالخلافة إلى هذه السنة فسبحان من لا يزول ملكه ولا يحول سلطانه وقال القاضي جمال الدين أبو عبد الله محمد بن واصل رحمه الله أخبرني من أثق بنقله يوم ورود الخبر بتملك التتر بغداد أنه وقف على كتاب عتيق فيه ما صورته عن علي بن عبد الله بن العباس بلغ بعض خلفاء بني أمية عنه أنه يقول أن الخلافة تصير إلى ولده فأمر به فحمل على جمل وطيف به وضرب وكان يقال عند ضربه هذا جزاء من يفتري ويقول أن الخلافة تكون في ولده فكان علي بن عبد الله رحمه الله يقول أي والله لتكون الخلافة في ولدي ولا تزال فيهم حتى يأتيهم العلج من خراسان فينتزعها منهم فوقع مصداق ذلك وهو ورود هولاكو ملك التتر من خراسان وإزالة ملك بني العباس. له وعددهم سبعة وثلاثون خليفة ومدة ملكهم خمسمائة وأربع وعشرون سنة منذ بويع السفاح بالخلافة إلى هذه السنة فسبحان من لا يزول ملكه ولا يحول سلطانه وقال القاضي جمال الدين أبو عبد الله محمد بن واصل رحمه الله أخبرني من أثق بنقله يوم ورود الخبر بتملك التتر بغداد أنه وقف على كتاب عتيق فيه ما صورته عن علي بن عبد الله بن العباس بلغ بعض خلفاء بني أمية عنه أنه يقول أن الخلافة تصير إلى ولده فأمر به فحمل على جمل وطيف به وضرب وكان يقال(1/256)
عند ضربه هذا جزاء من يفتري ويقول أن الخلافة تكون في ولده فكان علي بن عبد الله رحمه الله يقول أي والله لتكون الخلافة في ولدي ولا تزال فيهم حتى يأتيهم العلج من خراسان فينتزعها منهم فوقع مصداق ذلك وهو ورود هولاكو ملك التتر من خراسان وإزالة ملك بني العباس.
يحيى بن يوسف بن يحيى بن منصور بن المعمر بن عبد السلام أبو زكريا جمال الدين الصرصري الشيخ الصالح الحنبلي كان من العلماء الفضلاء الزهاد العباد وله اليد الطولى في نظم الشعر وشعره في غاية الجودة رحمة الله عليه.
امدح رسول الله صلى الله عليه وسلم بأشعار كثيرة قيل أن مدائحه فيه صلوات الله عليه وسلامه تقارب عشرين مجلداً وأضر في آخر عمره وأستشهد ببغداد في واقعة التتار بها في أوائل هذه السنة اعني سنة ست وخمسين ووستمائة وأظنه قد نيف على السبعين من العمر والله أعلم وسأذكر من مديحه لرسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل التبرك وتشريف هذا الكتاب ما يتيسر إن شاء الله تعالى فمن ذلك قوله.(1/257)
زار وهنا ونحن بالزوراء ... في مقام خلا من الرقباء
من حبيب القلوب طيف خيال ... فجلا نوره دجى الظلماء
يا لها زورة على غير وعد ... بت منها في ليلة سراء
نعمت عيشتي وطابت حياتي ... في دجاها يا طلعة الغراء
يا طراز الجمال يا حلة المج ... د وتاج الكمال للعلياء
يا هلال السرور ياقمر الأن ... س نجم الهدى وشمس البهاء
يا ربيع القلوب يا قرة العي ... ن وباب الإحسان والنعماء
يا لباب المعنى ونور المعاني ... يا شفاء الصدور من كل داء
إن يوماً أراك فيه ليوم ... آرج النشر ساطع اللألاء
كم إلى كم أخفي الإشارة فيمن ... فضله ظاهر بغير خفاء
سيد حبه فخار وتشري ... ف وعز باق لأهل الصفاء
أحمد الممصطفى السراج المنير ال ... فاتح الخير خاتم الأنبياء
ولعمري لولا تقدمه الأشر ... ف يرويه سادة العلماء
إنه واجب على الكامل الإيم ... ان تقديم حبه والولاء
لعلى الأنفس العزيزة والما ... ل جميعا والأهل والأبناء
ارعدت دونه الفرائض إج ... لالا حبيب الرحمن رب السماء
أكرم العالمين أصلاً وفصلاً ... وجلالا وسيد البطحاء
خص بالخاتم العزيز وشرح ال ... صدر والقرب ليلة الإسراء(1/258)
والكتاب المبين والنصر بالرع ... ب وريح الصبا على الأعداء
ثم بالحوض والشفاعة في الح ... شر لكل الورى ورفع اللواء
والمقام المحمود والسبق للنا ... س دخولاً في الجنة الفيحاء
ثم يعطى وسيلة هي أعلى ... درجات الجنان دار البقاء
يا نبي الهدى عليك سلام ... يبقى غضاً على الأناء
وعلى صاحبيك ثمة صهري ... ك وعميك السادة النبلاء
والصحاب الكرام خير صحاب ... ناصري الدين بالقنا النجباء
والحسين الشهيد والحسن المس ... موم والبضعة الرضا الزهراء
وجميع الأزواج والتابعين ال ... غر أهل الهداية النصحاء
انت جاري وعدتي ونصيري ... وعمادي في شدتي ورخائي
فاعى علي زمان فظيع الخ ... طب في أهله شديد العناء
وأسأل الله حين تعرض أعما ... لي عليك الغفران لي يا رجائي
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم:
يا سائق الركب لا تعجل فلي إرب ... فوق الرواحل حالت دونه الحجب
لعل بدر الدجى يرخى اللثام لنا ... عن عارضيه فيشفىالواله الوصب
ماذا على ظاعن شط المزار به ... لو أنه في الدجى يدنو ويقترب
فربما وجدت بردابه كبد ... جرى بنار الجوى والشوق تلتهب(1/259)
أحبابنا إن تكن أيدي النوى عبثت ... بشملنا فهو بالتفريق منتهب
فإن حبكم وسط الحشاشة لا ... تناله غير الأيام والنوب
أولا عطفتم على صب بكم فعلت ... به سطا البين ما لا تفعل القضب
فؤاده نازح مستأنس بكم ... وجسمه وهو بين الأهل مغترب
ما هب من نحوكم في الصبح ريح صبا ... إلا وهز إليكم عطفه الطرب
ولا ترنم قمري على فنن ... إلا وظل من الأشواق ينتحب
يحن نحو الحمى إذ تنزلون به ... وليس بينهما لولاكم نسب
وإن جرى ذكر سلع في مسامعه ... فإنه لدواعي وجده سبب
سحت غمائم أنوار المزيد على ... فبابه البيض سحا دونه السحب
فهي الشفاء لاسقامي وساكنها ... هو الحبيب الذي أبغى وأطلب
هل تبلغني إليها جسرة أجد ... يحلو لها في الفلا الإرقال والخبب
يا ناقتي لا يغشاك الضلال ولا ... مس القوائم منك الأين والنصب
وأمتد خصبك من ورد ومن كلأ ... ولا تمكن من أخفافك النقب
سيري إلى ان تحلي أرض أفضل من ... في الأرض شد إلى أقطاره القتب
محمد خير مبعوث بمرحمة ... من خير بيت عليه أجمع العرب
مهذب طاهر طابت أرومته ... وطاب بين الورى أم له وأب(1/260)
هدى به الله قوماً صدهم سفهاً ... عن الهدى الخمر والأزلام والنّصُب
أتاهم بكتاب صدّق الصحف ال ... أولى كما صدقت آياته الكتب
فيه بيان وإيجاز وموعظة ... وهو الشفاء لقلب شفّه الوصب
فاخرج الناس من ليل الضلال به ... إلى صباح رشاد ليس يحتجب
دعا إلى الله رب العرش وهو على ... بصيرة لا تغطّي نورها الريب
فمن أجاب فقد حاز الرضا ولمنأبى وصدّ الوها والويل والحرب
وجاهد المعتدين الناكثين عن الح ... ق المبين بعزم ليس ينقضب
وجنده السابقون الأولون أولو ... البأس الذي رهبته البيض واليلب
وأصبحت زمر الأملاك نازلة ... لنصره والصبا الحرقاء والرعب
حتى استقل عماد الدين وارتفعت ... أعلامه وانجلت عن أهله الكرب
صلى عليه آله العرش ثم على ... أصحابه فهم الأعيان والنجب
أزكى صلاة وأنماها وأدومها ... وأجر ذلك عند الله احتسب
وارتجى بمديحي فيه مكرمة ... من دونها الفضة البيضاء والذهب
لكنني لو قطعت الدهر ممتدحاً ... للمصطفى ما قضى بعض الذي يجب
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم وكان يومئذ متوجهاً إلى زيارة سلمان الفارسي رضي الله عنه فعرّض بذكره وبذكر حذيفة رضي الله عنه.
خذ للحجاز إذا مررت بركبه ... مني تحيّة مخلص في حبّه(1/261)
واسأله هل حيّا مرابعه الحيا ... وكسا الربيع شعابه من عشبه
واستمل من خير الصبالاخ الهوى ... ما صحّ من إسناده عن هضبه
فلنشر أنفاس النسيم عبارةٌ ... في رمزها معنىً يلذ لقلبه
يغريه مسراها بأيام الحمى ... إذ كان منشأ عرفها من تربه
ولعمرها لولا تذكر عهده ... فيها لما عبث النسيم بلبه
هل لي إلى ليلات مجتمع المنى ... بمنىً رجوعٌ استلذ بقربه
ويضمني وبني الوداد بجوّه ... سربال وصل لا أراع بسلبه
حلو الجنى فيه الأمان لمن جنى ... وبه الكرامة والرضا لمحبه
بدر الكمال على بروج قبابه ... سامٍ يجل عن المحاق وحجبه
يزداد نوراً كلما طال المدى ... بمحمد فلك الجمال وقطبه
نالت يداه من المراتب منصباً ... يعلو على عجم الزمان وعربه
جمعت له متفرق الفضل الذي ... في المرسلين عنايةً من ربه
وله الخصائص حازها من دونهم ... فاستمل من لفظي مقال منبه
منها نبوته وآدم طينةٌ ... فازداد نوراً حين حلّ بصلبه
ورأى بعينيه على العرش اسمه ... فدعا به حين استقل بذنبه
وله المقام المرتضى وشفاعة ... تنجي المحرق من بوائق كسبه
وله اللواء وحوضه العذب الذي ... يروي جميع المؤمنين بشربه
وله الوسيلة ما لخلق فوقها ... نزل تفرد في علاه وقربه(1/262)
لما علا عن مشبه مختاره ... أضحى وليس لفضله من مشبه
هو خاتم للأنبياء وفاتح ... للأولياء وشربهم من شربه
من أين للأمم الذين تقدموا ... طرّا كأمته الكرام وصحبه
ما كان منهم سيد في موطن ... إلا وكان هو الزعيم لحزبه
منهم حذيفة ذو الأمانة والرضا ... سليمان حلا بالعراق وشعبه
فهما به نور لمن رام الهدى ... وحمىً من الحدث الملم وخطبه
يا سيد البشر الذي هو غوثنا ... في حالتي جدب الزمان وخصبه
زرنا صحابتك الكرام تعرضا ... لننال من فضل خصصتهم به
فافض علينا نعمة من ذاقها ... أضحى معافىً آمناً في سربه
وأتم عقباها بخاتمة الرضا ... والأمن في يوم يصول برعبه
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم:
ما بال أنفاس النسيم إذا سرت ... سحراً على ميتٍ الصبابة انشرت
ما ذاك إلا أنها مرت ... على رند الحجاز وبانه فتعطرت
حملت إلى المشتاق منه رسالةً ... عن عرف من تهوى بصدق اخبرت
نفت الأسى عنه فيالك نفحة ... دأرت ثقيل الخطب عنه وما درت
واهاً لأيام يفوق نهارها ... ليلاتها اللاتي بحيي أقمرت
قضيتها بحمى تهامة آمنا ... تهم العواذل عارفاً ما أنكرت(1/263)
ولّت على عجل فكم قلب سها ... بوداع جيرتها وكم عين جرت
لو أنها ردت عليّ لأبرأت ... جسدا باسقام الفراق له برت
أالاء في شغفى بمن شرفي بها ... جبرت بعطف أم بحتف أخبرت
أوبي جناح إن سمحت بعبرة ... عما تضمنت الحوانح عبّرت
وإذا القلوب أتت بصدق لم تبل ... بمقال واشٍ أظهرت أو اضمرت
يا سائق البكرات ما حنّت إلى ... تحصيل بكر المجد إلا بكرت
تعتاض في طلب العلى عن ريفها ... بمهامه أغبرت وبيدٍ أقفرت
تتجشم الأهوال لولا نُور من ... جعلته غاية قصدها لتخيّزت
تهوى إلى الحرم الشريف ركابها ... عند الصباح هوى ربد نفرت
إما حللت بذلك المغنى الذي ... فيه عيون المكرمات تفجرت
فقل السلام عليك يا حرم الهدى ... من مهجة بك أفلحت وتبصرت
يا منزلاً عكفت به غرر النهى ... وبقدس ساكنه القلوب تطهرت
هل لي بحضرتك العزيزة وقفةً ... تحيي الذي بالبعد مني اقبرت
أحرزت غاية كل مجد كامل ... وزكت أصول الفضل فيك وأثمرت
بمكرم شهد الملائك فضله ... هذا وطنة آدم ما صورت
وتكور الشمس المنيرة جهرةً ... وشموس شرعة دينه ما كُورت(1/264)
وهو الذي ينشق عنه ضريحة ... وقبور سكان الثرى ما بعثرت
وهو المشفع يوم محتبس الورى ... وإذا الجحيم على بنيها سعرت
هو أحمد الآتي بخير شريعة ... بيضاء عن وجه الهداية أسفرت
عبدا تخيره المهيمن مرسلاً ... بشراً بطلعته السماء استبشرت
تالله لو أن الوجوه بأسرها ... نظرت بإيمان إليه أبصرت
لكنه من ذي المعارج رحمة ... عظمى لأمته الكرام تيسرت
رأت اليهود صفاته ثم امتروا ... فيه وأمته رأته فما امترت
عين رأته وما اهتدت لرشادها ... لبياض سنة وجهه ما أبصرت
ومحاجر اكتحلت بنور وذاده ... قرت بنيل مرادها وتظفرت
يا من ظلال المكرمات به صفت ... وصفت مشارب بالضلال تكدرت
وبنور بهجته انجلى غسق الهوى ... وبه السحائب في الجدائب أمطرت
والماء أصبح من أصابع كفه ... يهمى فأوردت الظلماء وأصدرت
وله لواء الحمد والحوض الروى ... وله المقام ومعجزات أغزرت
عطفاً على نفس إلى خلاقها ... بك في الخطوب توجهت واستنصرت
ليست تشك بأن مدحك قربة ... بسناه أوزان القريض تنورت
ولقد درت وتيقنت أن لو بغت ... حصراً لبعض الفصل فيك لقصرت(1/265)
لكنها لعظيم جاهك ترتجى ... في حالتيها أقبلت أو أدبرت
فكن الشفيع لها لتنجيها ... إذا علمت غداة معادها ما أحضرت
فلأنت من أقسامها العظمى إذا ... ما نابها قتر وأما اقترت
فجزيت أفضل ما يُجازى مرسل ... عن أمة رشدت به وتبررت
حيت جنابك نفحة قدسية ... في كل يوم أين حلت عطرت
ونمت به من ذي العلا بركاته ... وزكت به صلواته وتكررت
وقال رحمه الله يمدحه صلى الله عليه وسلم وآله وأصحابه وأزواجه.
لمن طللٌ دون الربا والتنائث ... يُعفى بأيدي العاصفات العوائث
ومنخرق السربال يخترق الفلا ... ويقدم أقدام الشجاع الدلاهث
حسام طويل الساعدين شرنبثله بطش دلاهث هصور شرابث
جريء إذا لاقى يُرى خصمه الردى ... إذا صال في أنيابه والمضابث
تساوت وحوش البر في الأنس عنده ... فصيرها كالعاويات العوابث
يخوض أهاويل الدجى بجلاعد ... أمون السرى بادي النشاط جثاجث
يحثحثه حتى ينال مراده ... فطالب أسباب العلى ذو حثاحث
نصحت له نصحاً بريئاً من القذى ... إذا شاب قوم نصحهم بالعبائث(1/266)
فقلت له إن رمت أمناً وعزةً ... فعذ من عوادي النائبات الكوارث
بأفضل مبعوث إلى خير أمةٍ ... بخير كتاب جاء من خير باعث
وأيمن مولود وأبرك مرضع ... يدر له ثدي وأنجب مارث
وأكرم مأمول لرفد توجهت ... إليه نجيبات المطايا الحثائث
أبي القاسم الهادي البشير محمد ... سليل الكرام الأطيبين الملاوث
أعز الورى بيتاً وأشرف عنصراً ... وأطهر عرضاً من عميرة ماعث
بني لبني سام منار سموا به ... حمى آل حام في الفخار ويافث
تسنم من غر المناقب ذروة ... أبى شاؤها أن يستكن لضابث
تخيّره الرحمن من آل هاشم ... صفياً نبياً وارثاً خير وارث
وأنزل أملاك السماء لنصره ... على كل خوان السريرة ناكث
وآزره في كل هيجاء بسلةٍ ... بأصحابه الشوس الكماة الممارث
بكل كريم الأصل شهم مهاجر ... وأنصاره الموفين عند النكائث
هم حفظوا ميثاقه في حياته ... وفي موته لم ينقضوا عهد والث
ولما أتى الأحزاب بدد شملهم ... بريح وجند باهر للولايث
ويوم حنين حين جاءت هوازن ... بكل غوى ذى شذاة ملايث
فولوا على الأعقاب حين رماهم ... فأغشاهم من قبضة من كثاكث(1/267)
هو الأول المختار أفضل مرسل ... هو الآخر المبعوث خير المباعث
أتى بصراط مستقيم من الهدى ... له نبأ بادي البيان لباحث
فصادف عمياً يعمهون قلوبهم ... من الغي غلفٌ تابعي كل عائث
يتيهون في ديمومة مدلهمة ... يطوفون بالأحجار تطواف عابث
فاخرجهم من ظلمة الجهل نوره ... وأنقذهم من موبقات الهثاهث
أحلّ لهم ما طاب من كل مطعم ... وخص بتحريم جميع الخبائث
وعلّمهم سبعاً مثانى آذنت ... بمحق مثاني لهوهم والمثالث
ونزّه رب العرش عن والد وعن ... قرين ومولود وثانٍ وثالث
وبلغ تبليغ النصيح وجاهد ال ... عداة أولى التكذيب مأوى العثائث
وأطفأ نيران الضلالة وامتحت ... معالمها وانجاب ليل الهنابث
وأضحت شموس الحق مشرقة السنا ... قد اتضحت آثارها للمباحث
ومازال محفوظاً رضيعاً وناشئاً ... إلى أن وقاه الله كيد النوافث
وقبلُ وقاه الله في أرض مكة ... أذى كل حلاف من القوم حانث
إلى أن رماهم يوم بدراً ذلة ... بقعر قليب للأساود مائث
وأقبل يوم الفتح نحو ديارهم ... بجيش لا كباد المعادين فارث(1/268)
سقى قبره الرحب الشريف وجاده ... سحائب للرضوان غير دثائث
وزفت رياض الأنس في عرصاته ... فاربت على نبت الرياض الحثاحث
وصبّحه الرحمن في كل بكرة ... بنور رضابين الصفائح ماكث
وعمّ قبور الأكرمين صحابه ... بكل غمام بالمواهب غائث
وعترته والطاهرات نساءه ال ... لواتي جميعاً كن غير خبائث
وتابعهم من كل ازهر طاهر ... لنفع الورى والاخفياء الأشاعث
وقال رحمة الله عليه يسبح الله تعالى ويمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم ويثني على الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
سبح لربك في الظلام الداجي ... واذكره ذكر مواظب لهاج
سبحان من رفع السموات العلى ... سبعا وزان السقف بالأبراج
وأطاح بالقمر المنير ظلامها ... وأضاءها بسراجها الوهاج
وأحلها زمر الملائك خضعاً ... لجلاله من ساجد ومناجي
والأرض مهدّها وأرسى فوقها ال ... اطواد تمنعها من الإزعاج
فتذللت سُبُلاً فجاجا منةً ... منه على السّلاك بين فجاج
وبدت شواهد صنعة فيها بما ... أبداه من مستحسن الأزواج
والبحر سخره ولولا لطفه ... لطغا بفرط تلاطم الأمواج(1/269)
وبأمره البحران يلتقيان لا ... يبغي على عذب مرور أجاج
والفلك سخرها لمنفعة الورى ... فجرين فوق المُزبد العجاج
والليل يخلفه النهار ويخلف ال ... ليل النهار بغيهب متداج
ويطول هذا ثم يقصر ضده ... متعاقبين بحكمة الإيلاج
فهما وتصريف الرياح ومنشأ ال ... سحب الثقال أدلةٌ لمناجي
أعظم بها آياتٌ انقطعت بها ... أسباب كل معاند محجاج
والله أحيا الأرض بعد مماتها ... بجدوبها بالوابل الثجاج
فاهتز هامدها فأخرجت الذي ... قد أودعت من نبتها البهّاج
فكسا الربيع بقاعها من نشره ... حللا تفوق ملابس الديباج
من أحمر قانٍ وأصفر فاقعٍ ... نضرٍ وأبيض ناصع كالعاج
فتبارك الله المهيمن مخرج ال ... أموات منها أحسن الإخراج
واختار آدم من تراب بارئاً ... أولاده من نطفة أمشاج
ثم اصطفى منهم عباداً خصّهم ... بنبوة هي عصمة للآجي
واختار منهم أجمعين محمداً ... لظهور دين واضح المنهاج
وكأن كل الأنبيان لسره ... تاجٌ وأحمد درة للتاج
وهو المسمى في القرآن بشاهدٍ ... وبمنذر ومبشر وسراج
أسرى من البيت الحرام به إلى ... أقصى مساجده بليل ساج
فعلا على ظهر البراق معظماً ... ورأى عجائب ليلة المعراج(1/270)
كشف الحجاب له وكلمه فما ... اشقى معارض فضله بحجاج
لا زال ممتد المزيد مواصلاً ... بصلاته صلة بغير خداج
فلقد شفا سقم الصدور وعالج ال ... ادواء بالتبليغ خير علاج
واختار أمته وفضلها على ... ماضي القرون وسالف الأفواج
واختار منها آله وصحابه ... للنصر عند كريهة وهياج
واختار أربعة هم خلفاؤه ... فحموا شريعته من الأعلاج
منهم أبو بكر عتيق سيد ال ... أصحاب أفضل مخبت نشاج
صديقه الأتقى الوقور ومنفق ال ... مال الجزيل عليه عند الحاج
واختار عائشة الطهور لوصله ... بكراً سمت شرفاً على الأزواج
وأنيسه في الغار عند تتبع ال ... أعداء بالطلبات والإرهاج
وأقام في يوم اليمامة دينه ... بقواضب وبعامل وزجاج
وخليفة الصدق الإمام المرتضى ... عمر المفتح قفل كل رتاج
جمّاع كل خليقةٍ مرضيه ... قماع كل مجاهر ومداجي
ولطالما نزل الكتاب بوفق ما ... يقضيه فيما يعتر ويفاجى
وبحفصة اختص النبي المصطفى ... صوامة قوامة بدياج
والبر عثمان الذي في ركعة ... لله بالقرآن كان يناجي
لصابر الثبت الشهيد قتيل أهل ... البغي في الإلجام والإسراج(1/271)
هجموا عليه وما رعوا في قتله ... الآفاصيح شاخب الأوداج
ولقد رآه لابنتيه محمد ... كفؤاً حليماً لم يعب بلجاج
ثم الإمام علي العلم الرضا ... حلال مشكل كل أمر داج
كشاف كل ملمة بحسامه ... أكرم به من كاشف فرّاج
وسقته كفّ وداده كأس العلى ... بإخائه صرفاً بغير مزاج
وحباه بالطهر البتول فزاده ... شرفاً على شرف بخير زواج
وكفاه بالحسنين فخراً لم يخب ... راجيهما ولنعم ذخر الراجي
ومن الصحابة ستة لم تعترض ... شبه الشكوك مقامهم بخلاج
سعد وطلحة والزبير وباذل الب ... كرات بالأحمال والأحداج
وأبو عبيدة وابن زيد واعتقد ... فضل ابن صخر واعص ذا ارهاج
ولأهل بدر والحديبية أعترف ... بالفضل واحذر من يسيء ويداجي
والفضل في كل الصحابة فاعتقد ... فلأنت إن أضمرت ذلك ناجي
ثم الذي اعتقد ابن حنبل اتبع ... تأمن غداً من الحشر من إزعاج
حبرٌ تمسك بالحديث فلم يزغ ... عنه إلى من عاج شر معاج
واستخرج الأخبار في السنن التي ... ثبتت وصحت أحسن استخراج
نصر الآله به القرآن فلم يكن ... في نصره بالعاجز اللجاج(1/272)
هو في الحياة وسيلتي وذخيرتي ... لهجوم موت للأنام مفاجي
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم.
ربع المنى بمنى نعمت صباحاً ... وتبلجت فيك الوجوه صباحاً
وسقتك أخلاف الغمام عشية ... دراً يروي من حماك بطاحاً
وعلا سحيق المسك نشرك كلما ... نشر الربيع على ثراك جناحاً
ولبست من زهر الرياض ملأه ... وعقدت فوق الجيد منه وشاحاً
قد طالما سامرت في جنح الدجى ... أقمار حسنك لا أخاف جناحاً
وحلبت من رياك روح حشاشتي ... وشربت فيك من المحبة راحاً
لله أيام مضت محمودة ... طابت بجوك غدوةً ورواحاً
آنست فيها نور عطف أحبتي ... ونشقت عطر رضاهم النفاحا
يا موسم الأحباب يا عيد المنى ... وهلال سعد بالبشارة لاحا
هل لي عليك مع الأحبة وقفة ... وجه النهار تجدد الأفراحا
بالله يا من عزمه أهدى لنا ... طرفاً إلى نيل العلى طماحا
فصل السرى بعد السرى بنجائب ... يطوين أكناف الحجاز مراجا
بلغ إلى ذات الستور رسالة ... عمن إذا ذكرت صبا وارتاحا
يا ربة الحرم الممنع كم دمٍ ... لبني الأماني دون وصلك طاحا(1/273)
كيف السبيل إلى لقائك والفلا ... قد حف دونك ذبلا وصفاحا
وإذا وصلت قباب سلع جادها ... صوب المواهب هاطلاً سحاحا
فاجلس بإشراف موطن علقت به ... غرر المعالي لا تروم براحا
فلقد نزلت من البسيطة منزلاً ... رحب الجوانب للوفود فساحا
جمع المفاخر كلها بمحمد ... أوفى الورى حلماً وأكرم راحا
أضحى به علماً لكل هداية ... ولباب كل فضيلة مفتاحا
طابت بأحمد طيبة فأريجها ... أذكى وأطيب من عبير فاحا
وسمت به أنوارها فلقد غدت ... لمن استضاء بنورها مصباحا
هو سابق الأعيان إذ كتب اسمه ... بالعرش ثمت أودع الألواحا
وهو الذي ختم النبوة فهي عن ... اكتافه العطرات كن سراحا
ودعا إليها الخلق لا يألوهم ... نصحاً وأوضحها لهم إيضاحا
فمن استجاب له فقد حاز الرضا ... والأمن والتأييد والاصلاحا
ومن اعتدى ظلماً وخالف أمره ... كانت عقوبته ظبا ورماحا
ماضي الأوامر لا مردّ لحكمه ... فيما نهى عن فعله وإباحا
هو طاهر الأنساب لما يجتمع ... أبوان في وقت عليه سفاحا
من عهد آدم لم يكن آباؤه ... يرضون إلا بالعقود نكاحا
أكرم به بشراً نبياً مرسلاً ... طلق المحيا بالندى نفاحا(1/274)
ثبتا قوياً في الجهاد مؤيداً ... ثقة أميناً في البلاغ نصاحا
يسمو على الشمس المنيرة وجهه ... والبدر يحسد ثغره الوضاحا
ولبعض معجزه لتسبيح الحصا ... والماء من بين الأصابع ساحا
والشرح والمعراج والذكر الذي ... أعيا الباء القلوب فصاحا
وله اللواء وحوضه وشفاعة ... تكفي المرهق جماحاً لواحا
ولسوف يعطيه الآله مقامه ال ... محمود جل مهيمناً مناحا
يا خير من وقف المطى به ولو ... جعل الوجى أجسامها أشباحا
وأحق من بذل الورى في حبه ... ومزاره الأموال والأرواحا
إني وإن بعد المدى اشتاقه ... أهدي السلام عشية وصباحا
وأود لو أني بحضرتك التي ... شرفت فامنحك السلام كفاحا
أعددت مدحك في الحوادث جُنّة ... وعلى الذنوب الموبقات سلاحا
فامنن عليّ بنظرة يحيي بها ... قلبي ويصبح راضياً مرتاحا
فلأنت ملجؤنا الذي ما أمّه ... منا فتىً إلا ونال نجاحا
وسأل لي الرحمن ثم لعترتي ... صوناً وجاهاً شاملاً وفلاحا
وسلامة طول الحياة وراحة ... بعد الممات وفي المعادر باحا
واسأل لأمتك الحيا غدقا فقد ... فقد المزارع ماءها السحاحا
والأمن والعيش الرغيد ونضرةً ... كاماقهم ومعونة وصلاحا(1/275)
واسأل الهك أن يكون بقهره ... لعدوهم مستأصلا مجتاحا
فلكم تملك جيشك المنصور من ... ملك وجدك فارساً جحجاحا
صلى عليك الله ما سرت الصبا ... وشدا حمام في الغصون وناحا
وقال يمدحه صلوات الله عليه وسلم.
وقال يمدحه صلوات الله عليه وسلم.
لمن المطايا في رباها تنفخ ... كالفلك تعلو في السراب وترسخ
فسل الذي لا ينثني إخفافها ... عن سريخ ألا تعوض سريخ
حملت على الأكوار كل مشمر ... للمجد عن طلب العلى لا يربخ
بلغت به أسباب همته إلى ... ما دونه يقف الأعز الأبلخ
من دون موماة الفراة وبابل ... والقادسية والعذيب ومربخ
لكن رامة والعقيق وبانة ... وقباب سلع قصده المترسخ
فبماله شجن تملك قلبه في ... مثله ذو الشجو ليس يوبخ
مأواه جنات القلوب فلا أبٌ ... يحتل موضعه العزيز ولا أخ
هو حاكم الحسن المطاع وعنده ... للمحبة ثابت لا ينسخ
شمخ الملاح جميعهم بجماله ... وجماله على الورى لا يشمخ
من كل معنى عنده لذوي الحجى ... عين بمكنون الحقائق تنضخ
علم وجود كالخضم عن أمره ... وتقي وحلم من ئبير أرسخ
سامي المرام عزيزة أنصاره ... وافي الذمام عقوده لا تفسخ(1/276)
رحب الجناب نسيمه متوضع ... فكأن ثراه بالعبير مضمخ
ربع يجود على العفاة برفده ... وبه يغاث العائذ المستصرخ
ولعزه التيجان تخضع ذلةً ... وبعطفه روع المخوف يفرخ
يا سيد البشر الكريم نجاره ... يا من بنسبته سما متوشلخ
أصبحت في رأس النبوة تاجها ... وطراز حلتها التي لا تسلخ
وبجاهك الجاه المديد على المدى ... ولك المقامات التي لا تبذخ
يشكو إليك مروّع قلق له ... بأدناس الهموم ملطخ
يمسي ويصبح وهو يخشى فتنة ... صماء للصعب اللواتي تدنخ
إذ كنت ضراماً محمود قده ... يغشى تلهبها القلوب فتطخ
قد حومت منها على أهل القرى ... للعرب عقبان كواسر فنخ
إبليس ملتهج بها مستبشر ... بوعيدها في كل وادٍ يصرخ
هجمت على أرض العراق فأصبحت ... كالسيل يذهب بالغثاء ويلدخ
قد شتت شمل الأنام فبين من ... قد كنت لكفه وبيني برزخ
لولا جنودك قابلوها حجرة ... فكأنهم صبراً جبالٌ رسخ
لوهت عرى الإسلام لكن وعدك ال ... ميمون واضح رسمه لا يمسخ
والبيت بيتك والحريمي حريمك ال ... منصور يعلو من بغاه ويشمخ
فاعطف علينا واسئل الرحمن في ... عفوٍ به عنا الذنوب تسبخ(1/277)
ويكف عنا فتنة كادت لها ... منا عرى إيماننا تتفسخ
أصبحت فرداً في الديار مروعاً ... وحليلتي عني نأت والأفرخ
فأجز مديحي بالرضا وكفاية ... لهم ولي في كل عام يرضخ
لا تلقني من بعد صوني واقفاً ... بجنابه بادي القطوب موبخ
واسأل لي الله العظيم سلامة ... ولهم وستراً شاملاً لا يسلخ
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم.
ماذا أثار بقلبي السائق الغرد ... لما غدت عيسه نحو الحمى تخد
وددت لو أنني أصبحت متبعاً ... آثارها أرد الماء الذي ترد
أهوى الحجاز ولولا حب ساكنه ... لما حلا لي به التهجير واللحد
ولا لهاني برق في أبارقه ... كأنه صارم في متنه زبد
هل من سبيل إلى ذات الستور ولو ... أن القنا والظبا من دونها رصد
ففي هواها قليل أن يطل دمي ... وكم لها من قتيل ماله قود
وبالعقيق حبيب لو بذلت له ... روحي لكان يسيراً في الذي أجد
تراب مربعه الرحب المنير به ... شفاء عيني إذا ما شفها الرمد
يا راكباً تطس البيد القفار به ... هو جاء عيس أمون جسرة أجد
إذا وصلت حمى سلع وطاب به ... لك المقيل وزال الأين والعند
فقف بتلك القباب البيض دام لها ... من ذي الجلال السنا والقرب والمدد(1/278)
وأد بعد سلام نشره عطر ... عني قصيدة مثن وهو مقتصد
وقل فقد أمكن التبليغ في وطن ... ما خاب عبد إليه قاصداً يفد
أشكو إليك رسول الله ما أجد ... من الخطوب التي أعيا بها الجلد
عمر أناف على الستين خالطه ... سقم لأعبائه وسط الحشى كمد
ضعف أضيف إلى ضعف وبعضهما ... يوهي قوى الجسم مني وهو منفرد
شهدت أنك خير الناس ما ولدت ... انثى نظيرك في الدنيا ولا تلد
ولم ينافسك في أصل سما بشرٌ ... ولم ينل رتبة نالت يداك يد
نقلت من كل صلب طاب محتده ... إلى بطون زكت ما شأنها نكد
حللت صلب أبينا عند مهبطه ... وصلب نوح وقد غشي الورى الزبد
وكنت في صلب إبراهيم مستتراً ... ونار نمرود أشقى الخلق تتقد
وحاز نورك إسماعيل يودعه ... أبناءه الغرّ حتى حازه أدد
ونال عدنان في الأنساب منزلة ... علياً بذكرك لم يخفض لها عمد
ولم يزل في معد ثم في مضر ... وهاشم بك تاج الفخر ينعقد
حتى تسلم عبد الله منصبه ... من شيبة الحمد لما استوسق الأمد
ومذ حملت بدا في وجه آمنة ال ... أنوار وهي لثقل الحمل لا تجد
وأشرقت مذ ولدت الأرض وابتهج ال ... بيت الحرام وحاز الجنة المرد
وكنت خير نبي عند خالقنا ... وروح آدم لم ينهض بها الجسد(1/279)
فابصر اسمك فوق العرش مكتتباً ... وتلك منزلة لم يعطها أحد
فحين تاب دعا رب العباد به ... فتاب حقاً عليه الواحد الأحد
وأنت يوم نشور الناس سيدهم ... أتباعك الغر لا يحصي لهم عدد
وأنت فيه بشير القوم إن يئسوا ... وأنت فيه خطيب القوم إن وفدوا
وفي يديك لواء الحمد ثم لك ال ... حوض الروي إذا ما أعوز الثمد
لك الشفاعة عند الكرب والعرق الط ... اغي وعند جحيم حرها يقد
وبالوسيلة تحظى وهي منزلة ... علياً حباك بها ذو العزة الصمد
وإن حبك من إيماننا سبب ... من دونه النفس والأموال والولد
فبالذي أجزل النعما عليك إلى ... يوم المعاد فلا نقص ولا بدد
أنعم عليّ برؤيا منك تنعشني ... وتنقذ القلب مني فهو مضطهد
واشفع إلى الله في إحسان خاتمتي ... فإنني بك بعد الله اعتضد
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم:
قفا بحمى سلع فساكنه الذي ... من الحادث المرهوب أصبح مُنقذي
حبيب إذا ما جاد منه بنظرة ... نعمت برؤياه وطال تلذذي
وإن غاب عن عيني أنكرت عيشتي ... وضاق علي الرحب من كل منفذ
وكيف اصطبار القلب عن وجه سيد ... جميل بآيات الكتاب معوذ
بنفسي شموس الصحو في رونق الضحى ... على غصن بالسلسل العذب قد غذى
رضيت بأن يرضى بأني عبده ... وليس على ذي الصدق هذا بمأخذ(1/280)
وما فخر عبد لا يكون ولاؤه ... لأكرم خلق الله حافٍ ومحتذى
وأحسنهم وجهاً وأحلى شمائلاً ... إذا ما تثنى في رداء ومشوذ
أبي القاسم المختار أفضل مرسل ... وأزكى أمين للأوامر منفذ
هو الرحمة المهداة والنعمة التي ... بها حبر الرحمن كل موقذ
وذو النقمات الموبقات عدوه ... بكل حسام ذي غرار مشحذ
تعطفه برد وروح وراحة ... على كبد حرى وقلب مفلذ
وأغراضه ترمى فتصمى حشى الفتى ... من الضر والبلوى بسهم مقذذ
ومشربه عذب لوراده روى ... تقدس واستعلى عن المشرب القذى
له الحوض يوم الحشر يفضل ماؤه ... على عسل للشارب المتلذذ
وأكوابه مثل النجوم وسبقه ... لكل حفى متق متبذذ
ويخرج من نار الجحيم بجاهه ... من العصب العاصين كل محنذ
به سعدوا بعد الشقاء وكم له ... من النار من مستخلص متنقذ
ويسكن من أضحى مطيعاً لأمره ... قباباً من الياقوت أو من زمرذ
بطاعته حازوا وحسن اتباعه ... عطاءً من الرحمن غير مجذذ
هو المصطفى من ولد آدم كلهم ... برغم عمٍ عن رشده حائر بذى
تنقل من شيث إلى متوشلخ ... ونوح وسام نجله وارفخشذ
إلى صلب إبراهيم والصادق ابنه ... وأصبح من عدنان في خير أفخذ(1/281)
وخيم في علياء كنانة وانتهى ... إلى هاشم جار الفتى المتعوذ
إلى شيبة الحمد المعظم وابنه ال ... ذبيح الكريم بن الكريم المنجذ
مناسب في العلياء طاب نجارها ... ومن يبتذر ذا اللحد بالسبق يبذذ
له معجزات ليس يدرك شأوها ... تتابع فيها كل أزهر أوحذ
أتى بصريح الحق ليس بكاهن ... وليس بسحّار ولا بمؤخّذ
بدعوته في المحل حُلت حيا الحيا ... فجاد بغيث مغدق غر مشحذ
ولما دعا بالصحو أقلع غيها ... وأجفل أجفال النعام المفذد
ولاح لكسرى القهر عند ولاده ... ومن حوله من مرزبان وهربذ
فيا قلب إن رمت الغداة سلامة ... من الفتن الصم الصلاب به عذ
وإن رمت عزاً شاملاً وصيانة ... وعوناً على الدنيا بجانبه لُذ
وإن شئت أن تحيى سعيداً مهذباً ... بسنته الزهراء ذات الهدى خُذ
عليك بها فاشدد يديك بحبلها ... ومن يطرحها نابذاً فله انبذ
وذر كل شيطان يخالف أمرها ... غوى على أحزابه متحوذ
وتابع على تحصيلها كل ناقد ... بصير بآفات الكلام مجرذ
يؤم أحاديث الرسوم فيهتدي ... بأنوارها نحو الرشاد ويحتذى
وكن مستقيماً للجماعة تابعاً ... ومن لم يتابع سنة الله يشذذ
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم.
حيتك السنة الحيا من دار ... وكستك حلتها يد الأزهار(1/282)
وتعطرت نفحات تربك كلما ... فض النسيم لطيمة الأسحار
لله ما أبقى الأحبة مودعاً ... بثراك للمشتاق من آثار
لا صرّحن اليوم فيك بلوعة ... كفلت بما في الطول ونار
ما كنت بدعا في الصبابة والأسى ... حتى أواري زفرتي وأواري
ما الحب إلا حرقة تلج الحشى ... أو مدمع جار لفرقة جار
ومصونة حوت البهاء ستورها ... سمراء يُطرب وصفها سماري
عرببية الأنساب قام بحسنها ... عذرى وطاب عليه خلع عذاري
زارت على بعد المسافة بعدما ... هوت النجوم ولات حين مزار
إني طوت شعب الفلا وديارها ... بحمى الحجاز وبالعراق دياري
أهلاً بطيف زائر أهدى لنا ... ريا ممنعة الحمى معطار
جادت بوصل وانثنت ومحبها ... عاري المعاطف من ملابس عاري
هل وقفة للركب في عرصاتها ... وله جوار في أعز جوار
فأقبل الحصباء منها مطفياً ... جمر الجوى مني برمي جمار
فهناك لا حجر ولا عارٌ على ... ذي الحجر في التقبيل للأحجار
أم عائد زمني بأجدر تربة ... بالقصد في أكناف خير جدار
ربعاً؟ به غرر العلى مبذولة ... للمشتري واللاري للمشتار
وبه تبين للقلوب حقائق ال ... أسرار بدر لم يُشن بسرار
هو أحمد المختار أحمد مرسل ... قتّال كل معاند ختار(1/283)
ندب إذا بث الجياد مغيرة؟ ... علقت بحبل للثبات مغار
بيمينه في الحرب حتف الممترى ... وحياتها في السلم للممتار
غمر الندى بجلاء أعمار الورى ... متكفل وهداية الأغمار
جعل المهيمن في مسامع خصمه ... وقراً وزان صحابه بوقار
وهو المظل بالغمائم من أذى ال ... أسفار والمنعوت في الأسفار
وبه تنشر حين سار مهاجراً؟ ... للغار ذكر فاق نشر الغار
وانهل إكراماً له صوب الحيا ... والقطر محتبس عن الأقطار
فضل البرية كلها وسار به ... طود العلى في هاشم ونزار
يا هادياً شد الإله بدينه ... أزرى وشدّ على العفاف أزاري
يا من به إن عذت من سنة حمى ... أو زار في سنة محا أوزاري
يا من حباء يديه محلول الحُبا ... لسناء سارٍ أو لفك إساري
لو لم يكن مدحك من عددي لما ... أضحى شعاري صنعة الأشعار
نشر الثناء عليك أطيب نفحة ... من مسك داري يضوع بداري
ملأ المهيمن مذ قصدتك مادحاً ... يساره يمناي ثم يساري
ونفى بجاهك يا أعز وسائلي ... قتر الهوى عني مع الأقتار
وغدوت محروس الحمى من صفقة ال ... إعسار عند تواتر الأشعار
حسبي رجاءً أنني من أمة ... بك أصبحت موضوعة الآصار(1/284)
أنت الزعيم لها وأنت سفيرها ... إن أقبلت من أطول الأسفار
ويزيد فيك رجاء قلبي قوةً ... أن صار بي نسب إلى الأنصار
قوم حللت بدارهم فتدرعوا ... ببدارهم لرضاك ثوب فخار
فاسأل الهك لي بعشر محرم ... جبراً لقلب واجف الأعشار
وشهادتي حق عقيب شهادة ... فيها الوفاق لأهلك الإطهار
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم.
سلوان مثلك للمحب عزيز ... وعليك لوم الصب ليس يجوز
قلبي ذلول في هواك ومسمعي ... فله عن العذال فيك نشوز
يا من شأى بجماله شمس الضحى ... ولقدّه دان القنا المهزوز
هل للمتيم في وصالك مطمع ... فلعله بالقرب منك يفوز
أنا عبدك الراضي برقي فارضني ... عبداً فلي في ذلك التمييز
لا أبتغي مولى سواك من الورى ... إني وجانب من ملكت حريز
لا عار يلحق في هواك لعاشق ... ومحب غيرك عرضه مغموز
لا أدعي فيك الغرام مغمغماً ... في مثل حبك يكُشف المرموز
يا سيد الأشراف يا من حبه ... في كل قلب صادر مغروز
يا خاتم الرسل الكرام ومن به ... حلل النبوة زانها التطريز
ذل الخلاف على عداتك ظاهر ... ومطيع أمرك بالقبول عزيز
أبداً وليك لا يزال مقمصاً ... عزا وضدك داحض معروز(1/285)
نظم القريض بمدح غيرك نقده ... زيفٌ ونظم مديحك الأبريز
كل العروض بحسن مدحك كامل ... يحلى به المقصور والمهموز
أنت المصفى من قبائل هاشم ... بك أصبحت للمكرمات تحوز
أنت الذي رفع المهيمن قدره ... وعدوك الواهي العرى الملموز
أنت الذي بصرتنا بعد العمى ... فبنور رشدك نهتدي ونميز
أنت المخصص بالشفاعة للورى ... طراً وأنت على الصراط مجيز
برزت في نيل المقامات العلى ... ولمثل مجدك يثبت التبريز
ولقد خشيت الله أعظم خشية ... فلصدرك العطر الرحيب أزيز
ونصحت إذا بلغت نصحاً شافياً ... ما فيه لا وهن ولا تعجيز
حتى استقام الدين وارتفعت له ... عمدٌ لها في الخافقين بُروز
فأجاب واقترب المنيب المتقي ... ونأى وصد الخاسر المحجوز
كسرت جنودك قاهراً سلطانها ... كسرى وأُنفق ماله المكنوز
ولحزبك الأعلون حتى يخرج ال ... طاغي ويمنع درهم وقفيز
ولسوف يبعثك المهيمن مقعداً ... فيه لك التقريب والتعزيز
أشكو إليك جماح نفس ترتمى ... في الغي وهي عن الرشاد ضموز
مخدوعة بخداع دنيا شهدها ... سمٌ وتبدي الدر وهي عزوز
فتنت قلوب الخلق وهي فتيةً ... ودهتهم بالخدع وهي عجوز(1/286)
أنا في حبائلها رهين الأسراذ ... أنا للضرورة نحوها مكزوز
فأعن ضعيفاً يتقي بك كيدها ... فلنبلها وسط القلوب حزوز
بك أستجير وأستغيث وأرتجي ... أني بجاهك في المعاد أفوز
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم.
طال في شرك المضايق حبسي ... واستقالت من العوائق نفسي
إن أرادت إلى المعالي نهوضاً ... نكستها حظوظها أي نكس
وبعيني للحقيقة شرب ... عز ورداً على حوائم خمس
ونفيس فمن الجواهر غال ... سومه جلّ أن يباع ببخس
وأرى عنه كل شيء حجاباً ... لي ولو ناظري وسمعي وحسي
أي وقت تدور كأس المعاني ... في رياض البشرى بنفحة قدس
ويهب القبول من جوه الرح ... ب لمستوحش بروح وأنس
وتجول الأسرار في حلبة العل ... م فتجلو من الهوى كل لبس
ما إلى ما وصفته من سبيل ... لأخي فطنة بحذق وحس
بل بماضي عناية وبعزم ... صادق واجتناب غير الجنس
واقتداء بشيخ صدق عليم ... سالك قد بنى على خير أس
قلدته أيدي الولاية سيفاً ... لم تباشره كف قينٍ بمس(1/287)
بعد أن ألبسته من خلع القر ... ب ملأ تعلو ملأ الدمقس
هو عين السعد التي أين حلت ... من عراص الدنيا نفت كل بخس
تابع سنة الرسول بها يصبح مستمسك اليدين ويمسي
هي في صنجة الرجال محل ... لا يضاهي الدنيا نقداً بفلس
نقد من بهرجته زيفٌ ولو كا ... ن كبشرٍ زهداً ونطقاً كقس
سنة المصطفى سراج أضاءت ... فعلى نورها ضياء الشمس
جاء بالنور والطهارة والشر ... ع المصفى من كل غش ورجس
إن أردت الزهد الصريح فمنه ... يقبس المتقي عفاف النفس
حين رد الكنوز علما بأن ال ... مال يلهي عن المعاد ويُنسي
أو أردت الصبر الجميل ففيه ... للصبور الشكور حسن التأسي
حين آذاه أقربوه وأقصو ... هـ وهموا بقتله أو بحبس
لو جزاهم بفعلهم فلقد كا ... ن عليهم جبال مكة يرس
وهو الأصل في التقى لم يباشر ... أيدياً للمبائعات بلمس
وله الصوم والوصال ولا يف ... تر في الليل عن قيام ودرس
وله الحلم والندى وندى القطر ... ضنينٌ في عام محل ويبس
وله الفقر والتوكل إذلاً ... يوجد اليوم عنده زاد أمس(1/288)
معدن الخوف والرعاية الخش ... ية والشكر والرضا والأنس
وهو المؤثر الوجيه إذا قا ... ل كرام الأنام نفسي نفسي
غرس الخير للورى فلقد فا ... ز محبٌ جنى ثمار الغرس
فعليه من المهيمن أزكى ... صلوات برمسه خير رمس
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم:
قم فبادر قبيل رفع النعوش ... حلبة السبق ذا إزار كميش
وتدبر خلق السماء ففيها ... عبرٌ جمةً لذي التفتيش
كيف قامت بلا عماد وفكر ... في معاني ديباجها المنقوش
زُينت بالنجوم تزهر فيها ... كالقناديل أو كخط رقيش
جل من شادهن سبعاً طباقاً ... ليس في خلقهن من تشويش
جعل النيرين فيها سراجاً ... وحماها من الرجيم الغشيش
وتفكر في خلقه الأرض تنظر ... عجباً في مهادها المفروش
بث فيها من كل زوج من النا ... س وما طار من ذوات الريش
وصنوف الأنعام من رائحات ... سارحات ونافرات الوحوش
وضروب الزروع والنخل والأعناب من مهمل ومن معروش
ثم أرسا الجبال فيها إلى يو ... م تراها كعهنك المنفوش
وهو المرسل اللواقح بشرىً ... بسحاب بادي الوميض خشيش(1/289)
وكسا الأرض بعد محل بروداً ... من أزاهير غضةٍ وحشيش
وأعدّ الفلك المواخر تجرين بنا فوق زاخر مستجيش
وهدانا بعد العمي فانتعشنا ... بالنبي المبجل المنعوش
والمصفى من الخليل ومن سام ... بن نوح وقينن بن أنوش
وهو عند الطوفان صاحب نوح ... والخليل الرضا بنار بن كوش
وله في المعاد رفع لواء الح ... مد إذ أنه زعيم الجيوش
وهو للأمة المجيز على متن الصراط مزلة المخدوش
كل من لم تنشه ثم يداه ... زل في النار وهو غير منوش
وهو الشافع المنجي ذوي العص ... يان من قعر جاحم مخشوش
أحمد الهاشمي أفضل خلق الل ... هـ عبد صفا من التغشيش
جامع المنقبات ذو الخلق المح ... مود من بعضه حديث الجيوش
فاتح الخير والمؤيد بالأم ... لاك وهو العزيز فوق العريش
جاهد الجاحدين حتى أنابوا ... واستكانوا كالأنف المخشوش
فاستنب الإسلام في الشرق والغر ... ب إلى أن علا جبال شريش
يا غياث الملهوف يا كاشف الكر ... ب ويا مرشد البليد الدهيش
قيدتني فأوثقتني الخطايا ... ورماني الهوى بسهم مريش
حصر الكاتبان قولي وفعلي ... في كتاب محبّر مرقوش(1/290)
ثم مالي وجه إليك سواه ... فاجعلن التقوى لباسي وريشي
وارزقني الإخلاص في ساعة المو ... ت وأنساً في لحد قبر نبيش
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم:
إلام على الآثام أنت حريص ... وعن طاعة الرحمن فيك نكوص
أغداً إذا أحضرتُ عريان حافياً ... وأرعد مني للحساب فريص
ولائي للهادي البشير محمد ... معاداً إليه في المعاد أحيص
أبي القاسم المختار أفضل من غدت ... تخب به نحو الحجيج قلوص
وخير مزور في البسيطة أرقلت ... إليه تجيبات ضوامر خوص
نبيٌّ له من ربه بكلامه ... ورؤيته في المرسلين خصوص
وأيده الله المهيمن بالصبا ... ورعب له في الدار عين أصيص
حليم عن الجاني رؤف مؤلف ... رحيم على نفع الأنام حريص
سراج منير ذو بلاغ وحكمة ... لما فتقت أيدي الضلال يخوص
وجاء الورى من ربه بشهادة ... فكان عليها للأنام بليص
إلى أن سمعت أنوارها مستطيلة ... فكان لها في الخافقين نشوص
ألا يا رسول الله يا من زكت له ... مناقب في العصر القديم وعيص
فيا ليتني عاينت طيفك في الكرى ... أو اقتادني سير إليك بصيص
مديحي موقوف عليك فما له ... إلى أحد إلا إليك خلوص(1/291)
إذا قيل فيك الشعر جاء مهذّباً ... جلّى المعاني ليس فيه عويص
ووصفك يعطي الفهم نوراً كأنه ... على الدّر في البحر الخضّم يغوص
وذكرك يا مولاي ينفع غُلتي ... وللقلب من رجس الشكوك يموص
ويؤنسني في وحدتي وتفردي ... إذا ضمني لحد علّي لحيص
اغثني فإني في زمان خطوبه ... لها بين أحناء الرجال كصيص
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم:
نعم إن للبرق اليماني لوعةً ... لها بين أحناء الضلوع غموض
وإن لخفاق النسيم إذا سرى ... على الزهر المطول وهو مريض
لروحاً يهز الصب حتى كأنه ... يطير اشتياقاً والجناح مهيض
سألتك يا من أصبحت عزماته ... لها في طلاب المكرمات نهوض
تسامت مراميه فأصبحت عزماته لها ... ركاب به تجوب بحر الفلا وتخوض
إذا ما وردت الماء ماء مجنة ... وطلت عليه المطى تخوض
فعرض لأهليه بصبّ غرامه ... طويل بسكان الحجاز عريض
وقل هل لمشتاق يهيم بذكركم ... تمادت به الأيام فهو حريض
سبيل إلى عيش يقضي بقربكم ... وماضي شباب فات ليس يئيض
لقد شف قلبي الوجد نحو أحبتي ... ومالي عنهم عائض فيعوض(1/292)
فليت المطايا كن يممن أرضهم ... ولو بسطت دون الفلاة أروض
لمن رفعت ما بين سلع إلى قبا ... قباب تغشتها المهابة بيض
بها منهل يروي به كل عارف ... وروض لأرباب القلوب أريض
ألا أيها الأعلام من أرض يثرب ... بها زمر الأملاك ليس تجيض
حمى رسول الله أضحى معطر ال ... عراص كأن المسك فيه يميض
نبي أجدّ الدين بعد دروسه ... وسدد سهم الرشد فهو رميض
ولاقى الأذى من قومه فهو صابر ... ومرّ إلى ذات النخيل يُفيض
فحلّ بثور غاره وعداتُه ... بكل سبيل إلى الفلاة تنوض
فعمّى عليه العنكبوت بنسجه ... وظل على الباب الحمام يبيض
أتى بالهدى والناس في سكرة الهوى ... وعندهم الأمر الحميد بغيض
بهم لغط لا يفقهون كأنهم ... لضعف العقول الواهيات بعوض
له في جهاد القوم درع حصينة ... وأجرد مأمون العثار ركوض
وأسمر عسّال وأبيض قاضب ... صقيل وقوس بالسهام مروض
فكم في عراص المعركات لخيله ... صريع بأطراف الرماح دحيض
إلى أن ذوى الطغيان بعد شبابه ... وأصبحج روض الدين وهو غضيض
كريم عظيم المعجزات بجاهه ... نمى الغيث خصباً والزمان عضوض
وأصبح ماء البئر من فضل ريقه الرضا ... نهراً يجري فليس يغيض(1/293)
والجيش حقاً من أصابع كفه ... تدفق ماء في الإناء غريض
روى الصدى من درّ عجفاء حائل ... تمكن منها الهزل فهي رفيض
وذلت له الآساد حتى أوبسا ... على باب البقيع ربوض
فيا كاسر العدوى وجابر من سطت ... به غير الأيام فهو وهيض
تجمع فيك الفضل والفقر كله ... فلم يغلُ في وصف لديك قريض
صفاتك عقدٌ في القوافي مفصل ... تحلى به ضرب وزين عروض
مديحك ذخر في حياتي وعدةٌ ... إذا حال من دون القريض جريض
علوت به في رأس أرعن شامخ ... فلا يطبيني بعد ذاك حضيض
وكن لي مجيراً من خطوب لذي الحجى ... الكريم إلى العمر اللئيم تؤض
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم:
إن بان من تهوى وأنت مثبط ... وصبرت لا تبكي فأنت مفرّط
فاحلل عقود الدمع في دار الهوى ... فلها البكاء عليك حقاً يُشرط
طلّ الدموع على ثرى الأطلال في ... شرع الغرام فريضةٌ لا تسقط
دار عكفت بها وفودك فاحمٌ ... افتنتني عنها ورأسك اشمط
وإذا تمكنت الصبابة من فتىً ... لم يلو عطفيه مزارٌ يشحط
كيف التسلي عن هوى قمر له ... في القلب مني منزل متوسط(1/294)
أرضي بما يختاره طوعاً ... ولو أضحى بما أرضى به يتسخّط
لم أنسه يوم التقينا بأسما ... والصدر بالأشجان مني ينحط
ففهمت من ذُلي لديه وعزّه ... أن الجمال على القلوب مسلّط
والحسن جند لا يفكّ أسيره ... وقتيله بدم الجوى متشحط
ومبكّر جدّت به عزماته ... نحو العلى فاغذ لا يتثبط
ورفيقه الأدنى الموازر صعدةٌ ... يرمه أو صارم يتأبط
يطوى به شعب السباسب جلعد ... أجُدُ القرى عبل السنام عملّط
مرح يمور ويرتمى في سيره ... مور السحاب مرعد متخمّط
يطفو به آل الضحى فكأنه ... فلك على متن الخضمّ مجلفط
وإذ بدا عند الصباح لعينه ... قصرٌ بذات النخل أبيض أعيط
ورأى القباب البيض دام سناؤها ... وانحلّ عنه سيره المخروط
أرسى بطيبة للإقامة كلكلاً ... فلنعم مرساه ونعم المربط
حلّت مطيته بأشرف منزل ... منه المكارم والتقى يستنبط
فضل البقاع وشادها بمحمد ... فضلاً كبيراً سامياً لا يضبط
هو أفضل الرسل الكرام وأنه ... لخطيبهم وهو الإمام المقسط
هو خير مأمول وأكرم شافع ... يوم القيامة جاره لا يهمط
نصبت عيون الشرك والطغيا به ... وغدا به بحر الهدى يتغطمط(1/295)
وافى وشيطان الغواية فاتح ... باب الضلال لحزبه متخبط
يلقي زخارفه على أشياعه ... ويلفق القول الهراء ويلغط
فكأنه ولفيفه في غيّهم ... عشواء في غسق الدجنة تخبط
فمحا بنور الرشد ظلمة مكره ال ... واهي فأدبر خاسيئاً يتلبط
وعلا بقهر النصر شامخ كيده ... فهوى وذلّ فرينه المتحمط
كم قدّ بالبتار من قدوكم ... شحطت بسهم نحو طاغ شوحط
فسما به الإيمان بعد خموله ... حتى تسم ذروة لا تهبط
وحباه مرسله بأزكى أمة ... اختارها النمط الأغر الأوسط
ما فيهم الأولى عارف ... أو زاهد أو عالم مستنبط
وغداً يكون بحوضه فرطاً لهم ... وشفيع عاص يعتدي ويفرط
وهم الشهود على عيوب سواهم ... يوم المعاد وعرضهم لا يهبط
وهم غداً ثلثا صفوف الجنة ال ... فيحاء في سند صحيح يُضبط
أزكى الورى نسباً وأكرم عنصراً ... وأمد كفاً بالنوال وأبسط
وأنمّ حلماً لا يجازي من أتى ... بالسوء عدل منصف لا يفرط
ولقد تعمّق في أذاه وكاده ... بالسحر خبٌ من يهود عشنط
فأعيذ من كيد النوافث فأنثني ... فكأنما هو من عقال ينشط(1/296)
هذا ولم يعبس له وجهاً ولم ... يُسمع له يوماً كلام يسخط
وأبثّ بعض المعجرات فنظمها ... درٌّ ثمين بالمسامع يلقط
شرح الملائك صدره في أربع ... يا حبذا ما ضم منه المخيط
وكذلك في عشر وفي معراجه ... نقل الثلاثة حافظ لا يغلط
وانشق إكراماً له قمر الدجى ... وجموع مكة بالبطاح تعطعط
بقعيقعان النصف منه ونصفه ... بأبي قبيس لا محالة يسقط
ولقد شكا يوم الحديبية الصدى ... جيش فتاه صريخهم لا يوهط
فسقاهم حتى رووا وتطهّروا ... بالماء من بين الأصابع ينبط
وأتاه وفد فزارةٍ وبلادهم ... بالجدب أضحت تقشعر وتقحط
فنفى قنوطهم بدعوته ومن ... كان الرسول سفيره لا يقنط
ودعا فسحت ديمة حتى دعا ... بالصحو فانجابت كثوب تكشط
وله الشفاعة في المعاد وحوضه ال ... عذب الروا وله اللواء الأحوط
وله المقام الأكبر المحمود والز ... لفى به يوم القيامة تغبط
هذا لعمر آلهك الفضل الذي لا ... ريب فيه والثناء الأقسط
يا صفوة الرحمن من كل الورى ... يا من به في الخطب جاشى يُربط
إني إلى رب العلى متوجه ... بك عند كل ملمة تتمغط
بك أستجير ومن يلوذ من الورى ... بعظيم جاهك قدره لا يُغمط
فسأل لأمتك الضعيفة نصرة ... ورخاء عيش ثم أمناً يبسط(1/297)
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم:
عُدّتي للحياة والموت والحشر ونار سوداء ذات شواظ
أحمد الشافع الوجيه أبو القا ... سم ذو الحظ فوق كل الأحاظي
من به بشّر المتوّج سيفٌ ... وتلاه قسٌ بسوق عكاظ
وأتاهم بمحكم الذكر منه ... فنسا الوعظ حاذق الوعاظ
هو محي القلوب ماحي الخطايا ... قرّة العين روضة الحفّاظ
جاء بالحق والشيطان تسعى ... بين حزب الضلالة الأوشاظ
دخل الشرك في قلوبهم الغلب دخول النصول في الأرعاظ
فأراهم ليهتدوا معجزاتٍ ... كافيات للصبر والأيقاظ
وهداهم إلى صراط سوى ... مورث زينة القلوب الفظاظ
فدنا منه كل عبد منيب ... ونأى كل فاجر خواظ
فلقد فاز من أناب وطالت ... حسرات المنافق الجعاظ
لم يزل يحسن البلاغ إلى أن ... عُبد الله في الذرى والشناظ
وشسوع الفلاة والسيف والري ... ف وبث الصفاء بعد الكظاظ
فسما الدين مقبلاً وتولى ال ... كفر حيران رامقاً بلحاظ
يا حبيب الرحمن يا شامخ البنيان في المجد يا منيع الحفاظ(1/298)
يا جميل الأخلاق يا حسن آلاء ... راض والصفح عن ذوي الأحفاظ
يا كريم الأعراق يا أفصح النا ... س لساناً يا أعذب الألفاظ
يا رؤوفاً بالمؤمنين رحيماً ... ولأهل الفجور ذا إغلاظ
يا شفيع الأنام يا منقذ العا ... صين من بطشه الشداد الغلاظ
يا مغيث العطاش في الظمأ الأك ... أخبرنا والناس في صدىً وكظاظ
في مقام فيه الحجيم اكفهرت ... ثم أبدت تنفس المغتاظ
يا نبي الهدى أغث مستجيراً ... بك في الخطب دائم الألظاظ
من زمان فيه القبول لذي الجه ... ل ووقتٍ لذي الحجى لفاظ
فيه للغمر نعمة وثراء ... وأخو العلم عاجز عن لماظ
حمل العارفون فيه كما حمّل مستوثق البُرى والشظاظ
واسأل الله لطفه في حباء ... فإليه صبابتي وحفاظي
وإذا ملا قبرت فرداً وحيداً ... غائب الشخص عن حديد اللحاظ
وإذا النفس بالمنية فاظت ... بانتهاء الحياة أي فواظ
لا عداك السلام في كل يوم ... من حبيب مواصل ملظاظ
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم ويذكر عقيدته، وكان قد رآه صلى الله عليه وسلم في النوم، وقال فقبلّت فاه وقلت أشهد أن هذا الفم الذي أنزل عليه الوحي، وقال لي عليه أفضل الصلاة والسلام: وأنا أشهد أنك مت على الكتاب والسنة، ذكره صلى الله عليه وسلم بلفظ الماضي.(1/299)
تواضع لرب العرش علّك تُرفع ... لقد فاز عبد للمهيمن يخضع
وداو بذكر الله قلبك إنه ... لأعلى دواء للقلوب وأنفع
وخذ من تقى الرحمن أمناً وعُدّةً ... ليوم به غير التقى مروّع
وبالسنة المثلى فكن متمسكاً ... فتلك طريق للسلامة مهيع
هي العروة الوثقى وحجة مقتد ... نبُّت بها أسباب من هو مبدع
رأيت رسول الله أنصح مرشد ... وأنجح ذي جاه كريم يشفع
وأصدق رؤيا المرء رؤياه إنها ... لمن شبه الشيطان تُحمى وتمنع
فقبّلت فاه العذب تقبيل شيّق ... وما كنت في تقبيل ممشاه أطمع
وقلت له هذا الفم الصادق الذي ... بوحي آله العرش كان يمتّع
فبشّرني خير الأنام بميتتي ... على سنة بيضاء بالحق تشرع
فها أنا تصديقاً لبشراه ثابت ... عليها بحمد الله لا أتتعتع
بمعتقد الثبت الإمام ابن حنبل ... أدين فهو الناقل المتورع
لئن لم أتابع زهده وتقاءه ... فإني له في صحة العقد اتبع
أمرّ أحاديث الصفات كما أتت ... على رغم غمر يعتدى ويشنع
فلا يلج التعطيل قلبي ولا إلى ... زخارف ذي التأويل ما عشت أرجع
أقرّ بأن الله جلّ ثناؤه آله ... قديم قاهر مترفع(1/300)
سميع بصير ما له في صفاته ... شبيه يرى من فوق سبع ويسمع
وخُلق الطباق السبع والأرض واسعٌ ... وكرسيّه منهن في الخلق أوسع
قضى خلقه ثم استوى فوق عرشه ... ومن علمه لم يخل في الأرض موضع
ومن قال إن الله جلّ بذاته ... بكل مكانٍ جاهلٌ متسرع
إليه الكلام الطيب الصدق صاعدٌ ... وأعمال كل الخلق تُحصى وترفع
فما لم يشاه الله ليس بكائن ... وما شاءه في خلقه ليس يدفع
يُضلُّ ويهدي والقضاء بأمره ... مضى نافذاً فيما يضرّ وينفع
وللشر والخير المهيمن خالق ... وإبليس من أن يخلق الشرّ أوضع
ولكنه للشر أخبثُ محدث ... بوسواسه في موبق الإثم يُوقع
علا عن مُعين ربُنا ومظاهر ... على الملك أو كفوا على الغيب يُطلع
لقد برأ الخلق ابتداء من الثرى ... بلا مسعد فيما يسوّى ويصنع
وقال لهم ذرّاً ألست بربكم ... فقال بلى منهم عصىً وطيع
وسوف يناديهم جميعاً إذا أتوا ... حفاةً عراةً في المعاد فيسمعوا
ويسمع سكان السموات وحيه ... فهم لسماع القول صرعى وخضّع
وكلم موسى والكلام حقيقة ... بتوكيده بالمصدر الخصم يقطع
ومعتقدي أن القرآن كلامه ... قديم كريم في المصاحف مودع
وقد سبق الوعد المصدّقُ أنه ... إذا جاءت الأشراط منها سيرفع
وأودع حفظاً في الصدور وإنه ... لبالعين مرئٌ وبالأذن يُسمع(1/301)
بالسنة القراء يُتلى وإنه ... بحرف وصوت ضلّ من يتنطع
هو السور الهادي إلى الحق نورها ... وآيات صدق للمنيبين تنفع
به نزل الروح الأمين مصدقاً ... على قلب عبد كان بالحق يصدع
وليس بمخلوق ومن قال عكس ما ... ذكرتُ له في الناس بالكفر يقطع
ولا محدث قد جاء عن سيد الورى ... حديث لمعناه أسوق وأوضع
لقد قرأ الرحمن طه جميعها ... ويس أيضاً والملائك تسمع
ولم يخلق السبع الطباق ولا الثرى ... وهذا دليل ما لهم عنه مدفع
وقولهم خلق فظيع وقول من ... يشير إليه بالعبارة أفظع
ومن كان فيه واقفياً محيراً ... فذلك واللفظي كل مبدّع
وفي كتب الله القديمة كلها ... أقول بهذا القول لا أتفزّع
ومعتقدي أن الحروف قديمة ... وإن حار في قولي غويٌّ متعتع
تبارك ربي ذو الجلال صفاته ... تجلّ عن التأويل إن كنت تتبع
يداه هما مبسوطتان تعالياً ... عن المثل يعطى من يشاء ويمنع
وألواح موسى خطّها بيمينه ... مواعظ تشفى من ينيب ويخشع
وكلتا يديه جلّ عن مشبه له ... يمين إلى خير البرية يرفع
وينزل في الأسحار في كل ليلة ... كما جاء في الأخبار والناس هجّع
ينادي أولي الحاجات والتوب طالباً ... فهل راهب أو راغب متضرع(1/302)
ومن قال إثبات الصفات شناعة ... فجرأته إذ عارض النصّ أشنع
وينظره الأبرار يوم معادهم ... ويحجب عنه من إلى النار يوزع
كما ينظرون الشمس لا غيم دونها ... لقد خاب محجوب هناك ممنّع
ولم يرفى الدنيا من الناس ربّه ... بعينيه إلا الهاشمي المشّفع
محمد المخصوص بالرؤية التي ... غدا الطور إجلالاً لها يتقطّع
وإن نعيم القبر ثم عذابه ... لحق فمسرور به ومروّع
يخالف ضيقاً بين أضلع من طغى ... ويفسح فيه للتقى ويوسع
ويسأل فيه الميت الملكان عن ... هداه فمرحوم وآخر يُقمع
ويعرف من في القبر من زاره وإن ... يُسلم على الأموات في القبر يسمعوا
ومن يقرأ القرآن للميت مهدياً ... يصله وبالإطعام والبر يُنفع
وقد يسأل الأموات من مات بعدهم ... عن الأهل من منهم مقيم ومقلع
وربي أحصى خلقهم ويميتهم ... ويبعثهم بعد الممات ويجمع
وينفخ إسرافيل في الصور نفخةً ... فكل من الأجداث للحشر مُهطع
وتدعى البرايا للحساب جميعهم ... فلا ظلم والميزان للعدل يوضع
وذلك يوم فيه نور نبينا ... برفع لواء الحمد يعلو ويسطع
ويظهر فيه جاهه بشفاعة ... إليها لكرب الموقف الخلق يهرع
وينقذ في يوم القيامة من لظى ... من الأمة العاصين إذ هو يشفع(1/303)
وينصب فيه حوضه كاشف الصدى ... وذلك حوض بالروا العذب مُترع
وإن له فيه مقاماً مقرباً ... ومقعد صدق نوره يتشعشع
ويسبق كل العالمين مبادراً ... لحلقة باب المنزل الرحب يقرع
فيدخل والشعث الخماص كأنما ... وجوههم شمس الضحى حين تطلع
وينزله الله الوسيلة رتبةً ... له ليس فيها للخلائق مطمع
وقد خلق الله الجنان معدة ... لأربابها فيها ظلال ومرتع
وحور حسان ناعمات كواعب ... بها كل أوّابٍ حفيظ ممتع
وقد خلق الله الجحيم لأهلها ... لبأس أذاها عنهم ليس ينزع
لهم ظلل منها عليهم وتحتهم ... لأمعائهم شرب الحميم يقطع
وبعد التقاضي يّبح الموت بينهم ... فمستبشر زاض وآخر يجزع
وأعتقد الإيمان قولاً مسدداً ... وأعمال صدق في الصحائف تودع
يزيد بفعل الخير من كل مؤمن ... وينقص بالعصيان فهو ممزع
وإيماننا بضع وسبعون شعبةً ... حديث صحيح النقل لا يتضعضع
وإني إذا ما قلت إني مؤمن ... ولا شك عندي بالمشيئة اتبع
وليس كبير الذنب مخلد مؤمن ... بنار بلى فيه النبي مشفع
ولست أرى رأي الخوارج بل إذا ... رعى أمرنا والٍ أطيع وأسمع
وإن جهاد المسلمين عدوهم ... لفرض وقرن الشمس في الغرب يطلع(1/304)
وأمسح فوق الخفّ والمسحُ سنة ... إلى مدة معلومة ثم اخلع
وللسحر تأثير ولا باس بالرقى ... بأم الكتاب أو دعاء يرفع
ولست لميت المسلمين بشاهد ... أيُسقى رحيقاً أم حميماً يُجرع
بلى أرتجي للمحسنين سلامة ... وأخشى على من يعتدي أو يضيّع
ولا ريب عندي في ثبوت كرامة ال ... ولي ولي ولواضحي على الماء يُسرع
وبالحمد لله افتتاح صلاتنا ... لما صح من نقل المحقين اتبع
ولا أر في الفجر القنوت ولا أرى ... عليّ إذا أذنتُ أني أرجّع
وإن مرّ في شعبان عشرون ليلة ... وتسع وغُمّ البرج بالصوم أقطع
ومذهبنا الوسطى هي العصر فاستفد ... مسائل خمساً من فروع تفرّع
ولست لمن فيها يخالف مانعاً ... ولكن خلاف في الأصول ممنّع
وما شاع فيه من خلاف لمسلم ... فإني لمن يُفتى به لا أبدّع
وأشهد أن الأنبياء جميعهم ... ومعجزهم حقٌ وذلك يُقنع
وأن رسول الله أحمد خيرهم ... وأفصحهم عند البلاغ وأبرع
على عرشه خطّ اسمه ولقد عفا ... لآدم إذا أضحى به يتضرع
وكان صفي الله آدم طينة ... وفيه لأقمار النبوة مطلع
وأودعت التوراة غرّ صفاته ... فمن نعته الأحبار آمن تبع
وأودعت الرهبان سلمان وصفه ... فكان إلى أخباره يتطلع
فأبصر برهان العلامات عنده ... فأضحي بجلبات الهدى يتلفع(1/305)
وقد كان حملاً والجباه منيرةٌ ... به وسمت أنواره وهو مرضع
تنكّست الأصنام عند ولاده ... كما نكّستها منه في الفتح إصبع
وشبّ شباباً للنواظر ناضراً ... وفيه لسر المجد مرأىً ومسمع
لقد شرحت منه الملائك صدره ... وكان له من أبرك العمر أربع
وكان ابن خمس والغمام تظله ... وفي العشر نور الشرح في الصدر يلمع
وفي الخمس والعشرين سافر تاجراً ... بمال رزان للمفاوز يقطع
رأه بحيرا والغمامة فوقه ... ومسيرةٌ والحرّ للوجه يسفع
وأبصرت الكبرى فتاة خويلد ... ومن فوقه ظلل الغمام مرفع
إلى أن أرته الأربعون أشدّه ... فأضحى بسربال الهدى يتدرّع
ولما تحلّى بالنبوة وانتهى ... إلى مستوٍ عنه الملائك توزع
أتى وعلى عطفيه أفخر حلة ... وتاجٌ بدرّ المكرمات مرصّع
رأى ليلة المعراج أمراً محققاً ... ومنكر هذا الأمر يخفى ويردع
وفيها قُبيل الرفع أكمل صدره ... بشرح منير نشره متضوّع
به أظهر الله المهيمن دينه ... فأصبح وجه الدين لا يتبرقع
وأحكامه في الأمر والنهي والشرى ... وفي البيع تبقى والجبال تصدّع
ومعجزة القرآن ظلت لحسنه ... وترتيله في نخلة الجن تخضع
وللقمر المنشق نصفين معجزٌ ... عزيز على من رامه متمنع(1/306)
ونادى فلبته بمكة دوحةٌ ... تخد إليه الأرض خداً وتسرع
ولما دنا منه سراقةُ طالباً ... على فرس كادت له الأرض تبلع
فعاذ به مستأمناً فأجاره ... وأطلقها حتى غدت تتقلع
وحنّ إليه الجذع عند فراقه ... كما حنّ مسلوب القرين مفجع
وخرّ له الناب المهدّدُ ساجداً ... وأجفانه خوفاً من النحر تدمع
فأطلقه من أهله فبجاهه ... نجا من اليم الذبح هذا الجلنقع
فكيف بنا إذ نحن عذنا بجاهه ... من الحادث المغرى بنا فهو مرجع
وخرّ له ساني الأباعر ساجداً ... وكان شروداً فانثنى وهو طيّع
وعاذت به ريمٌ فقّك إسارها ... فمرت على الخشفين تحنو وتُرضع
ومدّ يديه والرّبى مقشعرّة ... فما رام إلا والسحائب تهمع
فدام الحيا سبعاً فمدّ لكشفها ... يداً غمرت جوداً فظلت تقشّع
ودرّت له في الجدب عجفاء حائلٌ ... وبكل على نزل الفحول تمنع
وقد كان من مدّ من التمر أو من الش ... عير بجوع الجحفل الجم يشبع
ومن لبن في القعب أشبع كل من ... حوت صُفة الإسلام والقوم جوّع
وآض أبو هرٍ وقد كان آيساً ... من الرّي وهو الشارب المتضلع
ولما اشتكوا يوم الحديبية الصدى ... غدا الماء من بين الأصابع ينبع(1/307)
وقد أصبح الماء الأجاج بريقه ... يروي غليل الظامئين وينقع
وساحت به بئر ومقلة حيدر ... شفاها فلم يرمد لها الدهر مدمع
وكلّمة الصم الصوامت مثلما ... يكلمه بادي الفصاحة مصقع
وكان على شهر له الرعب ناصر ... وريح الصبا للنصر هو جاء زعزع
وإن رُمت من أخلاقه ذكر بعضها ... فتلك من المسك المعنبر أضوع
اتته مقالي الكنوز فردّها ... وقال أجوع اليوم والغد أشبع
فصحّ له الزهد الصريح بقدرة ... وعلم فمن ذا منه أغنى وأقنع
وفي الحلم ما جاز مسيئاً بفعله ... ألم يعف عمن للسّمام تُجرع
وعن ساحر جزيان رام بكيده ... أذاه فلم يجزه بما كان يصنع
فقال لقوم عند دركلة لهم ... رؤوه ففروا آل أرفدة أرجعوا
ليعلم أعداء الهدى أن ديننا ... هو الحق فيه الأمر سهل موسع
ويستنشد الأشعار مستحسناً لها ... وقد كان من حسّان للمدح يسمع
ولابن أبي سُلمى أجاز وقد دعا ... على المدح للعباس نعم المشرع
وكان له حسن التواضع شيمةً ... حباه به الرحمن لا يتصنع
ففي بيته قد كان يخصف نعله ... وكان إذا ما انهج الثوب يرقع(1/308)
ويجلس فوق الأرض لا فرش تحته ... ومطعمه أيضاً على الأرض يُوضع
دعاه يهوديٌّ أجاب دعاءه ... وعن دعوة الملوك لا يتمنّع
وفي الجود فاسئل عن خباء يمينه ... أئمة أهل النقل يا متتبع
ألم يهب الشاء الكثيرة عدادها ... لعافٍ أتاه يعتريه ويقنع
أما فضّها سبعين ألفاً بمجلس ... فلم يبق منها درهم يتوقع
وفي البأس فاسأل عنه يوم هوزان ... أما انهزموا وهو الكمّى السميدع
وما التقت الأقران يوم كريهة ... على الطعن إلا وهو أقوى وأشجع
لهم منه يوم السلم شرع وسنة ... وفي الحرب نصر والأسنة تشرع
وأمته خير القرون وخيرهم ... صحابته أزكى الأنام وأورع
وخيرهم الصدّيق إذ هو منهم ... إلى السبق في الإسلام والبرّ أسرع
وفي ليلة الغار افتداه بنفسه ... حذاراً عليه من أراقم تلسع
وقاه من الرقش العوادي برجله ... فبات يعاني السم والطرف تدمع
واتحفه بالبكر عائشة التي ... براءتها في سور النور تُسمع
وكان له صهراً وصلّى وراءه ال ... نبي صلاة الصبح والصحب أجمع
وردّ فريق الردّة الزائغ الذي ... لفرض زكاة المال أصبح يمنع
إلى أن أقام الدين بعد اعوجاجه ... وأضحى حمى التقوى به وهو ممرع
رضينا به بعد النبي خليفة ... على عقده كل الصحابة أجمعوا
ومن بعده الفاروق مظهر ديننا ... بإسلامه والأمر خافٍ مبرقع
هو العدويّ العبقريّ المفهّم المبصر والباب الحديد الممنع(1/309)
خلافته صحت بعقد خليفة ... على فضله حزب الصحابة مجمع
ورؤيا النبي المصطفى أنه على ... قليب غزير الماء بالغرب ينزع
وتأويل هذا ما سمعت فتوحه ... وعدل له بين الأنام موزع
له العلم والحكم السديد وصحة التوكل وصف والتقى والتورّع
وعن زهده فاسأل خبيراً ألم يقم ... خطيباً عليهم والأزار مرقّع
ومن بعده عثمان من كان في الدجى ... يرتّل آيات الكتاب ويركع
يرتله في ركعة وهو الذي ... له كان في رقّ المصاحف يجمع
وزوجه الهادي ابنتيه كرامةً ... ولو كنّ عشراً لم يكن بعد يمنع
وأعطاه سهماً يوم بدر ولم يكن ... وبايع عنه نائباً حين بُويعوا
وسبّل بئراً ماؤها ينقع الصدى ... وجهّز جيشاً وهو بالعسر مدقع
وقمّصه الرحمن ثوب خلافة ... بوعد النبي المصطفى ليس يخلع
ومن بعده الهادي علي بقوله السديد إذا ما أشكل الأمر يقطع
إذا ذكر الراوون صحب محمد ... يكون له فيهم خصائص أربع
إخاءٌ مع المختار وهو ابن عمه ... وسبطاه والزهراء فضل منوّع
وأعطاه خير الناس أشرف رأية ... وكان له بالفتح والنصر مرجع
ولو شاء أن يرقى السموات إذ له ... على كتف الهادي البشير ترفع
أمام بطين في العوم وإنه ... من الشك والشرك الخفي لأنزع
ومن بعدهم خير الصحابة ستة ... لهم بالجنان المصطفى كان يقطع
فذكرك منهم طلحة الخير شائع وقولك فيه طلحة الجود أشيع(1/310)
ويعرف بالفياض إذ جود كفه ... أعمّ من البحر الخضم وأنفع
فكم مائتي ألف على الناس فضّها ... عليهم بها في الضائقات يوسّع
ويمناه شلت يوم أحد لدفعه ... بها عن نبي الله لا يتزعزع
وإن الزبير الفاتك الشهم منهم ... أشد رجال الحرب بأساً وأمنع
وفارس بدر وابن عمة سيد ال ... ورى والجواد المنفق المتطوّع
حواريّه وهو الذي باختياره ... لرأيته العلياء في الفتح يرفع
ومنهم أمير الحرب سعد بن مالك ... وأفضل من رامٍ عن القوس ينزع
وثلث أرباب الهدى ودعاؤه ... إليه من الله الإجابة تسرع
وكان له خالاً وأول من رمى ... بسهم له في عصبة الشرك موقع
ومنهم سعيد خصّه سيد الورى ... وآخّره عذر عن الغزو يمنع
بسهمٍ وأجرٍ يوم بدر وقد غدا ... كمن هو في بدر كمتىٌ مدرّع
وإن ابن عوف منهم المنفق الذي ... بأنفس مال لم يزل يتبرع
ومنهم أمين الأمة الثبت عامر ... فيا لفتىً فيه غناء ومقنع
وأبطال بدر فضلهم غير منكر ... بأفخر ثوب في الجهاد تدرّعوا
وفي بيعة الرضوان فضل لأهلها ... وتفضيل أهل البيت ما ليس يُدفع
وأزواجه في جنة الخلد عنده ... بهن مع الحور الحسان يمتع
وللفضل أيضاً في معاوية أعتقد ... ردافته تفضيلها لا يضيع
هو الكاتب الوحي الحليم وأخته ... مع المصطفى في جنة الخلد ترتع
وكل صحابي رآه ففضله ... على غيره في نيله ليس يُطمع(1/311)
ولا أبتغي التفتيش في ذكر ما جرى ... لأصحابه خاب الغوى المشنع
فيا طالباً أرض الحجاز إذا انطوى ... له أجرعٌ منها تعرّض أجرع
يحاول أسباب العلى في طلابه ... فيوجف في البيد الركاب ويوضع
إذا بلغت سلعاً مطاياك غدوةً ... ولاح لها من أرض طيبة مرتع
فذلك مأوى العلم والحلم والهدى ... وفيه لمكنون الحقائق منبع
لأن به خير الأنام محمداً ... له كل الفضائل تجمع
فقل يا رسول الله أنت نصيرنا ... على فتن في وقتنا تتقرع
بك السنة المثلى عرفنا وأنكرت ... قلوب عليها بالغباوة يطبع
بتسليمنا فيها وعينا وفرقة ال ... هوى قلّدوا فيها العقول فلم يعوا
فسل ربك الرحمن أن لا يزيلنا ... عن السنة المثلى وأنت مشفع
عليك سلام الله ما أعقب الدجى ... صباح وما لاحت بوارق تلمع
وقال رحمه الله يمدحه صلى الله عليه وسلم بالإشارة:
نفسي الفداء لبدر تمّ بازغ ... سامٍ عل غصن الجمال النابغ
لا يعترى نقصُ المحاق كماله ... كلاً وليس قوامه بالزائغ
يهتز في حلل المواهب مائساً ... في ظل قرب للجلالة سابغ
غصن النضارة نشره متعطر ... ريّان من ورد المزيد السائغ
أهدى له الرحمن أحسن صبغة ... فتبارك الرحمن أحسن صابغ
بلغت عنايته به ما لم يكن ... أحد إليه من الأنام ببالغ
صفت القلوب بوده إذ أطفأت ... أنواره نار العدو النازغ(1/312)
قمعت جيوش النصر تحت لوائه ... بالقهر كلّ مبارز ومرواغ
يا من تجمعت المناقب كلها ... فيه فلم يدركه وصف مبالغ
ومن اكتسى ثوب البهاء محبةً ... تباً لقلب من ودادك فارغ
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم:
إليك رسول الله أشكو تخلّفي ... وشدّة تقصير بقلبي مُجحف
وفقد خشوع للفوائد جالب ... وأعظم من فقديه فقد تأسفي
إذا لمعت للرشد في القلب لمعةٌ ... تغمدها سدفٌ الحجاب فتختفي
إلام وقد أكملت ستين حجةً ... الوث على ذل النقيصة مطرفي
وحتّام أنهى النفس عن شهواتها ... وتضمن لي أن لا تعود فلا تفي
وأزجرها عن غيّها وجماحها ... فتخدعني منها بوعدٍ مسوّف
أغالي بها في سومها فتردني ... إلى ثمنٍ بخسٍ زهيد مطفف
اغثني فقد ضاقت عليّ مذاهبي ... وأنت ملاذ للمروع المخوّف
أجرني أجرني يا حمى كل عائذ ... ويا ملجأ الجاني وغوث الملهّف
قصدتك يا خير البرية كلها ... وأفضل مبعوث وأعدل منصف
وأكرم مقصود وأنجح شافع ... وأرحم خلق الله بالمتعطف
لتسأل فيّ الله فارحم تضرعي ... وذلّ خضوعي واستعار تلهفي
قصدتك علماً أن جاهك كأنف ... لجارك قصد الهاتف المتخطّف(1/313)
فخذ بيدي يا عُدّتي عند شدتي ... وصل وتعطف يا كريم التعطف
وكن لي في الدنيا شفيعاً فإنني ... لأرجوك في الأخرى لحشري وموقفي
ألست سليل الغرّ من آل هاشم ... أولى الكرم الهامي على كل معتفي
بك اكتست الآباء فوق فخارهم ... فخاراً ومن يفخر بمثلك يكتف
وكنت نبياً قبل آدم مصطفى ... كريماً لحقٌ أنت خيرٌ من اصطفى
ومنك اكتست أعطاف طيبة حلّة ... من الفخر لا أهداب برد مفوّف
فقاقت جميع الأرض نوراً وبهجةً ... وعرفاً به لولاك لم تتعرّف
ولولاك ما حنّت إليها على الوجى ... ركائب تطوى نفنفاً بعد نفنف
ضوامر من طول السرى برّحت بها ... البرى وبراها الحثّ من كل موجف
عليا رجال فارقوا خفض عيشهم ... فما صدفتهم عنك زهرة زخرف
يؤمون ربعاً منك بالنور آهلاً ... يرومون منك الفضل يا خير مُسعف
وأدركت الأنصار أوسٌ وخزرج ... بك النصر لا بالسمهريّ المثقّف
لك المنّة العظمى عليهم إذ اهتدوا ... بنورك للدين القويم المخفّف
بدت ليلة السبعين أنجم سعدهم ... ببدر تمامٍ منك غير مكسّف
وحاز بك الأعيان من نقبائهم ... مناقب عزٍّ نورها ليس يختفي
دعوتهم نحو الرشاد فبادروا ... سراعاً لما تدعو بغير توقف(1/314)
فأضحوا جميعاً قد تألف شملهم ... على طاعة الرحمن خير تألف
وأمتك المرحومة الوسط التي ... سمت قبل اجتازت كمال التشرف
أتيتك يا خير البرايا بمدحة ... أطاعت قوافيها بغير تكلّف
عليها بهاءٌ من ثنائك باهر ... شهيّ إلى قلب المحب المشغف
ولو لم تكن جاءت بمدحك سنةٌ ... لقصّر عنه هيبةّ نظمُ وُصف
مدحتك أبغى الفضل منك وأجتدي ... نوالك فأجبر كسر يحيى بن يوسف
فلي حرمة الإسلام والشيب والذي ... أدين به من سنّة لم تحرّف
ورؤياك في الدنيا وأخراي يا لها ... مني إن أنل أسبابها أتشرف
وحج إلى البيت المعظم في غنىً ... وعافية وأضمم عيالي وأكنف
وتجديد تسليمي عليك مواجهاً ... وتعفير خدي في الثرى المترشف
وخاتمة الأعمال بالفوز والرضا ... ومن يُكف عقبي السوء فيها فقد كفى
عليك سلام الله غضّاً مجدداً ... منوطاً بتسليم جديد مضعّف
لعترتك الغرّ الكرام وصحبك ال ... أفاضل أهل السبق في كل موقف
وأزواجك اللاتي كملن طهارةً ... وبرأهن الله من إفك مُرجف
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم:
لولا شذاً من نشركم ينشق ... ما حنّ نحو المُهتم المُعرق
ولا صبا في الصبح نحو الصبا ... ولا ثارت شجوه الأينق
ما للربوع بعدكم بهجة ... ولا لروض ناضر رونق(1/315)
أنتم معانيها فإن غبتموا ... فليس فيها حسن يُرمق
لولاكم ما هاجني بارق ... ولا شجاني بالحمى أبرق
ولا لوى لي عنقاً في الفلا ... عيسٌ إذا جدّ السرى العنق
ما عرّض الحادي بذكراكم ... إل اوسمعي نحوه يسبق
ولا سرى ركبٌ إلى أرضكم ... إلا تلاه قلبي الشيّق
فُكّوا أسيراً لكمُ مُوثقاً ... عليه في حفظ الهوى موثق
فؤاده قيّده حبّكم ... وجسمه بين الورى مطلق
قد كنت من قبل النوى إن جرى ... فراقكم في خاطري أفرق
وكنت نُصباً لعيني فهل ... طيفُ خيال منكمُ يطرق
أحببتكم طفلاً وقد أخلقت ... شبيبتي والود لا يخلق
أنّي أشوب الآن صفو الهوى ... وعارضي قد شاب والمفرق
يليق بي صبري على حكمكم ... ولكن العطف بكم اليق
هل عائد لي والمُنى ضلّةٌ ... ظلٌ وورد سائغ ريّق
يا أرض نعمان ووادي مِنى ... والخيف لو أن المنى تصدق
وهل بذاك الشعب لي وقفةً ... في حرم أنواره تُشرق
وربّة الستر لنا تُجلتلى ... وعوُد وصلي مثمرٌ مورق
وأكبر الآمال لو ضمّني ... بسفح سلع مربع مونق
فبالقباب البيض لي مطلب ... عرف الرضا من تربه يُنشق(1/316)
محجب بالعزّ لا بالظُبا ... به سناه لا القنا مُحدق
تقطع بالأشواق أرواحُنا ... إليه ما لا تقطع السبّق
حاز كنوز الفضل بالمصطفى ... ذاك الجناب العطر المشرق
وكلّ فجٍّ أرجٍ بالتقى ... فإنه من طيبه يعبق
أتى بدين قيّم واضحٍ ... بين ضلال وهدى يَفُرق
يَنمى ويزداد ودينُ العدى ... أئمة الزيغ به تمحق
كذلك الحق إذا ما علا ... على محالٍ باطل يزهق
طوى الطباق السبع حتى انتهى ... إلى مقام قطّ لا يُلحق
قام مقاماً لودنا غيره ... منه لأضحى بالسنا يُحرق
وعاد ليلاً وأساريره ... بنظرةٍ قدسيةٍ تُبرق
يا ويل من كذبه بعد ما ... كان أميناً فيهم يصدق
لو لم يقل إني رسول أما ... شاهدُه في وجهه يَنطق
سبحان من صوّره صورةً ... أكمل معناها الذي يَخلق
كأن فاه باسماً ناطقاً ... بجوهر الغوّاص مستحدق
فالشفة الياقوت والؤلؤ ال ... رطب الثمين الثغر والمنطق
جبينه الصبحُ ومن فوقه ... الفرع الدجى والفلك المفرق
كأنما قد صيغ من فضّة ... بنانه والكفّ والمرفق(1/317)
وخصّه بالخُلُق المرتضى ... سمحٌ حليم خاشع مُشفق
يسمو ويعلوها بهاء إذا ... ما قال والتوقير إذ يطرق
كان على الأعداء ذا قوّة ... وبالذي يبغي الهُدى يَرفق
في صلب نوح كان مستودعاً ... فهو على الأمواج لا يغرق
وصلب إبراهيم من أجله ... له ضرام النار لا تحرق
وكان من معجزه أن غدا ... ماء رواً من كفه يدفق
كما حوى كفّاه تمراً به ... أشبع جيشاً ضمّه الخندق
ومرود الدوسيّ فأعجب له ... إذ زودت من تمره الأوسق
فرسانه أخنت على فارسٍ ... فزال عنها التاج والمنطق
وجاهه متصلٌ بعد ما ... يصعق بالنفخة من يصعق
غداً له الحوض وفي كفّه ... لواء حمدٍ شاملٍ يخفق
وهو شفيع منقذ في غدٍ ... مَن بالخطايا في لظىً موثق
يا من له في منصّات العُلى ... وفي البرايا نسبٌ مُعرق
وتعرف الخضراء آثاره ... وتعرف الغبراء والمشرق
ووصفُه يعجز عن حصره ... نظماً ونثراً ماهرٌ مُفلق
قد مسني الضرّ وما لي سوى ... جاهك أسباب بها أعلق
كن لي مجيراً في زمانٍ به ... قوارع أسهمها ترشق(1/318)
واسأل لي الرحمن روحاً إذا ... ضمّ عظامي برزخ ضيّق
ورحمةً توصلني جنّة ... لبأسها الفاخر استبرق
لا زال في ربعك أملاكه ... سبعون ألفاً حوله تحدق
تهدي إلى تربك طول المدى ... توافحُ المسك به تفتق
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم:
يا ربة الستر لا انجابت غواديكي ... عن جو مغناك أو يخضرّ واديكي
وزدت في كل صبح عزةً وسناً ... ولا خلا من رجال الحيّ ناديكي
لا زال مربعك الداني الظلال حمىً ... رحباً لعاكفك الناوي وباديكي
وأنت يا عذبات الباني لا برحت ... تهيج أشواقنا ألحانُ شاديكي
وماس من كل غصن منك من طرب ... عطف وتهت دلالاً في تهاديك
ويا مياه الحمى لا زلت طيبة ... يروي بشرب الزلال العذب صاديكي
ويا نسيم صبا بجد لقد عرفت ... روحي بمسراك وهناً عرف مهديكي
وياليالينا لله عيش هوىً ... معى البدور تقضي في دياريكي
ويا فوارط أيامي بخيف منىً ... لو كان يُفدى زمانٌ كنت أفديكي
ويا رسائل وجدٍ لا أبوح بها ... إلى الأحبة عنّي من يؤديكي
أخفيك من عّذلي صوناً ومكرمة ... بل المدامع والأنفاس تبديكي
ويا ركاب الحجاز القُود لا نقبت ... من السرى أبداً أخفافُ أيديكي
ولا عدلت عن النهج القويم ولا ... مالت إلى غير أحبابي هواديكي(1/319)
كم ذا التمادي دعى التعليل وابتدرى ... إلى الحمى فعنائي في تماديكي
ويا قباب حمى سلع حويت على ... رقى بما أسلفت عندي أياديكي
فتحت بالرشد لي عيني بعد عمىً ... واسمع السر من قلبي مناديكي
حق علي أوالي من بك اعتقلت ... أسبابه وأعادي من يعاديكي
أني وإن تكن أضحت عنك نازحة ... داري لأرعى بظهر الغيب واديكي
لا زال سكانك القطان في دعة ... وفاز رائحك الساري وغاديكي
وأنت لا تجزعي يا نفس من بدع ... مضلة ورسول الله هاديكي
أجارك الله لولا درع سنته ... لكان سهم الهوى الفتان مرديكي
لا تخلفي موعدي في حفظ منهجها ... فلست أخلف في حفظيه وعديكي
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم
يا حداة الركب الحجازي ميلوا ... فبنعمان للركاب مقيل
فأريحوا فيها المطايا قليلاً ... من وجاها فقد براها النحول
وانزلوا الخفيف من منىً فيه ظل ... للأماني للنازلين ظليل
واستقلوا نحو الأباطح إن كا ... ن إلى ربة الستور سبيل
بأبي ذلك الجناب فوجدي ... وغرامي به عريض طويل
داره طال ما تبلج فيها ... للمحبين وجه عطف جميل
عشت فيها مع الأحبة حيناً ... لم يرع مسمعي لديها عزول
ثم غارت يد الجلال فصانت ... عزة ربعها فعز الوصول(1/320)
غير أني على المودة لا الطر ... ف نسئ ولا الفؤاد ملول
أتمنى الدنو منها وقد حا ... ل عن القرب وعرها والسهول
أين منا سمراء دون حماها ... ذبل السمر شرعاً والنصول
ذات خدر لها البهاء وشاح ... ولها العز والسنا أكليل
ليس في تربها لذي العز والسل ... طان إلا الخضوع والتقبيل
هل لظمأن نحو منهلها العذ ... ب ورد به يبل الغليل
يوم تضحي وللنياق حنين ... في رباها وللجياد صهيل
وإذا ما سرت لها نحو سلع ... خبب تارةً وطوراً ذميل
ترتمي في الفلا لها الشوق حاد ... ولها نشرمن تحب دليل
فلها اليمن والسعادة والنص ... رة والبشر والرضا والقبول
بجناب رحب حوى كل فضل ... وفخار مذ حل فيه الرسول
أحمد الهاشمي أكرم خلق ال ... له أصلاً إذا تعد الأصول
شيبة الحمد جده هطل الغي ... ث به والربيع وإن كان كليل
سل من هاشم بن عبد مناف ... كاسر الجوع والجدوب تصول
نسب حل في قريش ذراها ... دون مرساه شامة وطفيل
حاز فيه بنو كنانة من عد ... نان مجداً بناه أسمعيل
ولقد طاب والمهيمن ربي ... منبت أصله الخليل الجليل
ولعمري به قريش استفادت ... شرفاً لم ينله قبل قبيل(1/321)
وصفع المرتضى لموسى وعيسى ... بينته التوراة والإنجيل
وبه أحسن البشارة شعياً ... وعزيز وبعده حزقيل
واهتدى تبع بما بين الأح ... بار من نعته الذي لا يحول
وتصدى كعب لآل لؤي ... ولديه شبانها والكهول
قبل خلق النبي بالحقب الخم ... س خطيباً وهو اللبيب النبيل
ذاكراً مبعث النبي وود الن ... صر لو كانت الحياة تطول
وجلاه لشيبة الحمد سيف ... لحلاه وما إليه يؤل
ولقد قام في المواسم قس ... شاهداً أنه نبي رسول
ورأى الراهب النبوة قد لا ... حت عليه كأنها قنديل
إذ رأى فوقه الغمامة ظلاُ ... ويميل الظلال أنى يميل
ولنعت الرهبان أفضل هاد ... كان سلمان في البلاد يجول
فرأى عنده العلامات حقاً ... فاغتدى وهو قابل مقبول
وكفاه من الفخار مقام ... كان في القرب دونه جبريل
وهو الخاتم المخصص بالتك ... ليم والرؤية الحبيب الجليل
يا حبيب الرحمن أنت المرجى ... والوجيه المشفع المأمول
قد قصدناك في حوايج فاسأل ... ربك اليسر فهو نعم الوكيل
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم:
ألا يارسول الله يا خير مرسل ... تخيرك الرحمن للرسل خاتما(1/322)
ويا من إذا المشتاق أبصر وجهه ... فأن له البشرى وإن كان نائما
تعطف على ضعفي برؤية وجهك ال ... كريم فرؤياه تحط المأثما
ولست بأهل لاجتلاء جماله ... ولكن فقير يسأل البر راحما
وهذا ربيع أبرك الأشهر الذي ... ظهرت به في مطالع السعد قادما
كساك به الله المهيمن حلة ال ... جمال وقلدت المهابة صارما
فهب لي فيه خلعة الفوز والرضا ... برؤياك يامن كان بالحق حاكما
وسل لي رب العرش منه معونة ... من الله تغنيني إذا كنت عادما
وسل لعيالي صونهم وصلاحهم ... عسى أن يكونوا صالحين أكارما
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم:
إذا صار قلب العبد للسر معدنا ... تلوح على أعطافه بهجة السنا
وإن فاته المعنى علته كثافة ... وأصبح في أفعاله متلونا
وعدت بأمر ليس عندي ريبة ... ولا شك فيمن قاله متيقنا
وكنت أظن الأربعين مظنة ... لوعدي فجازتني ولم أبلغ المنى
وأربت على الستين مدة عيشتي ... كذلك لم أعرف لنفسي موطنا
فإن كان ما أرجو قد أصبح واقعاً ... فكل الذي لاقيت أصبح هينا
وإلا فيا حزني وطول ندامتي ... وحق لمثلي أن يهيم ويحزنا
وما عاقني إلا هوىً يحجب الفتى ... عن الخطة المثلى ويورثه العنا
فإن كان يمحو العذر زلتي التي ... حرمت بها الأمر الذي لي عينا(1/323)
فها أنا منها تائب متنصل ... إلى الله ذو السلطان والعز والغنى
وإني إليه خاضع متوجه ... بأحمد أزكى شافع لفتىً جنى
محمد المختار من آل هاشم ... نبياً رسولاً للصواب مبينا
له الجاه والزلفى إذا قيل من لها ... فقال مجيباً دون كل الورى أنا
فينجي جميع الخلق من كرب موقف ... به كل وجه للمهيمن قد عنا
وتنقذ من نار الجحيم عصاتنا ... شفاعته ممن أسر وأعلنا
وفي هذه الدنيا فإن بجاهه ... علينا لظلاً شاملاً طيب الجنى
وفي كل يوم اثنين يعرض كسبنا ... عليه وفي يوم الخميس مدونا
فما كان من خير فيحمد ربه ... وما كان من سوء فيسأله لنا
فيا خير مبعوث إلى خير أمةً ... به أصبحت في الخلق شامخة إلينا
أجرني فما لي غيرك اليوم ناصر ... على كيد غاو شره قد تبينا
طليعته نفسي وسلطان جيشه ... على هوىً يلقى اللبيب مفتنا
فخذ بيدي يا أمنع الناس معقلا ... وأعظمهم جاهاً وأقوى تمكنا
ولا تدعني نهبة لجنوده ... وكن لي بحسن الحفظ منه محصنا
فأنت عمادي في حياتي وعدتي ... لموتي وذخري في المعاد إذا دنا
سقى جدثاً رحباً حللت بجوه ... فأصبح للإحسان والحسن معدنا
غمائم قرب تكسب الروح الرضا ... فينبت روض الأنس فيه فيجتني
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم:
ألا يا رسول الله المليك الذي ... هدانا به الله من كل تيه(1/324)
سمعت حديثاً من المسندا ... ت يسر فؤاد الفقيه النبيه
رواه ابن إدريس شيخي الذي اس ... تقام على منهج يرتضيه
باسناده عن شيوخ ثقا ... ت نفوا عن حديثك زور السفيه
ومعنا أنك قلت أطلبوا ال ... حوايج عند حسان الوجوه
ولم أر أحسن من وجهك ال ... كريم فجد لي بما أرتجيه
فجاهك جاه عظيم ولم ... يخب من رجا جاه مولى وجيه
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم:
أقل عثراتي واعف يا حسن العفو ... عن عمدي من مسطور ذنبي والهفو
وصف من الأكدار قلبي واهدني ... من البر والتقوى إلى المورد الصفو
فكم لي من سوء اجتراح نسيته ... واحصاه محروس الحفاظ من السهو
شقيت به أيام أمرح في الصبا ... وأسحب أذيال البطالة واللهو
فيا ملكاً زان السماء بأنجم ... على الفلك الأعلى طفت أحسن الطفو
وسخر ما بين السماء وأرضه ... سحائب يخفو برقها أحسن الخفو
وأبقى على شمس النهار ضياؤها ... وخص بنقص آية الليل بالمحو
ولما دحى الأض اقتداراً وحكمةً ... على الماء أرسى الشم في اثر الدحو
أغثني بتوفيق ينور باطني ... وينحو إلى الخيرات في أرشد النحو
فأني مقر أنك الله ربنا ... تعاليت عن شرك الغطاة أولى العدو
بأات جميع الكائنات بقدرة ... على غير أمثال تضاهى ولا حذو(1/325)
وله لغز في فهد:
ومتصف بالفتك يوم اكتسابه ... على ظفره أثر الدماء ونابه
كأن مهاة الفلك لما انتهى بها ... مداه إلى سرب المها وأنتهابه
رمته بشهب الجو خوف انتقامه ... فأطفأها في عسجد من إهابه
الصاحب مؤيد الدين إبراهيم بن يوسف بن إبراهيمالمقدسي الشافعي تفقه وبرع ودرس وكان أحد الفقهاء المشهورين بدمشق سمع من أبي عبد الله الحسين بن المبارك الزبيدي وغيره وحدث وتوفي بدمشق ليلة السادس عشر من شهر ربيع الآخر ودفن من الغد بمقابر الصوفية وكانت له جنازة حفله رحمه الله تعالى.
عيسى بن طاهر بن نصر الله بن جهبل بن أحمد الشيباني المعروف بابن القفطي الحلبي الوزير كان من الرؤساء الأكابر الفضلاء مولده ببيت المقدس سنة أربع وتسعين وخمسمائة وسمع من الافتخار الهاشمي وغيره وحدث وتولى نظر حران في أيام وزارة أخيه القاضي الأكرم جمال الدين(1/326)
عفر الخد وقبل تربة ... حل فيها أكرم الناس قبيلا
حجة الرحمن مفتاح الهدى ... أحمد المبعوث بالحق رسولا
جدد الأيمان اضحت جدداً ... بسنا أنواره بيضاً سهولا
ونجوم الدين زهراً لا ترى ... أبد الدهر لساريها أفولا
هديه يهدي التقى للمهتدي ... وهداه يورث العلم الجهولا
لم تزل أنسابه ساميةً ... في قرون سلفت جيلاً فجيلا
من لدن آدم حتى حتى هاشم ... فهو خير الناس إن عدوا الأصولا
خصه الله بأصحاب فنوا ... بالقنا في نصرة المجد الأثيلا
ذبحوا الكفر فأضحى بهم ... كل صعب من بني الشرك ذلولا
لبسوا درع التقى سابغة ... وانتضوا للمجد صمصاماً ثقيلا
غرر الأحياء ضاهوا بالنوا ... ل الحيا طولاً وجازوا النجم طولا
منهم الصديق أولاهم به ... إذ هو السابق قوالاً فعولاً
لو أراد المصطفى من صحبه ... خلا اختار أبا بكر خليلاً
ثم لو كان نبياً بعده ... أصبح الفاروق بالأمر كفيلا
وارتضى عثمان من أصحابه ... لابنتيه كفؤاً براً نبيلا
وكسى عطفي على حلة ... لا تضاهى حين أعطاه البتولا
ولأهل البيت منه شرف ... وهو في الآيات باق لن يزولا(1/327)
وبه آمنة نالت من الفض ... ل والفخر منالاً مستطيلا
يا رسول الله يا من مدحه ... في القوافي أقوم الألفاظ قيلا
مسني ضر غطاء ساتر ... من ذنوب غادرت قلبي كليلا
أنا منها تائب مستغفر ... فاسأل الرحمن لي صفحاً جميلا
وقال يمدحه صلى الله عليه وسلم:
سرى صوب الحيا إلهامي فأحيا ... مرابع بالحمى غزت عليا
مررت على رباها بالعشايا ... فيكسوها من الأزهار وشيا
إذا نشرت مطارفه عليها ... طوت عنها برود الجدب طيا
تعلق حبها قلبي فأضحت ... أحب الأرض في الدنيا إليا
وساكنها أحب الناس طرا ... إلى قلبي وأحظاهم لديا
فقل لعيشة قضيت فيها ... فداء كل شيء في يديا
شربت بها من المعنى كؤوساً ... يصول بها الوقار على المحيا
إذا ما خالطت سراً مصوناً ... سمت عزماته فوق الثريا
وما حيا نديم الشرت ميتاً ... بها إلا غدا في الحال حيا
مبرقعة المحاسن ما اجتلاها ... بخيل عد رشد الجود غيا
وتأنف أن يلم بها جبان ... يرى أحجامه في الحرب بقيا
ولكن من رأى الأمساك فقراً ... وعد الموت في العلياء محيا(1/328)
حقائق ليس فيها من نصيب ... لمن لم يتبع السنن المهيا
شرائع سنها خير البرايا ... وأحكم عقدها أمراً ونهيا
فكيف يزيغ عنها ذو تقاة ... وقد نزلت من الرحمن وحيا
على المختار أحمد خير هاد ... وأزكى الناس أخلاقاً وهديا؟
حوى قصب السباق إلى المعالي ... فرتبة فضله في السبق عليا
تبين فضله والناس ذر ... إلى أن شاع عن موسى وشعيا
وقلد فخره مضراً وأعطى ... لواء المنصب السامي لؤيا
وأعلى كعب كعب في البرايا ... وأقصى الفخر بلغه قصيا
وشاد لهاشم أعلى مناراً ... فأضحوا أشرف الأحياء حيا
وأشرق نوره إذ كان حملاً ... على الجبهات للإبصار رئيا
وزاد البيت ذو الحرمات نوراً ... به لما بدا يمتص ثديا
وتم شبابه الريان يجري ... إلى حلبات أقصى الفخر جريا
وسلم كل مخلوق صموت ... عليه عند مبعثه وحيا
ونال بليلة المعراج شأوا ... لمن رام المصير إليه أعيا
أبر الناس ف قول وفعل ... وأثبت عزمةً وتقىً ورأيا
وأطول بالحسام العضب باعاً ... وأطعن بالقنا وأشد رميا
حليم صابر راض وفي ... جواد باسم طلق المحيا(1/329)
فلم يحدث لأمر فات لوا ... ولم يمزج بوعد منه ليا
كريم طيب الأعراق سهل ... يذيق محبه بالبشر أريا
فإن ظهرت بسالته لقوم ... تجرع خصمه بالبأس شريا
له كف على العافين غيث ... وصاعقة على من صد بغيا
وقلب من قلوب الأسد أقوى ... ووجه من ذوات الخدر أحيا
يموت ببأسه في الحرب حزب ... وآخر بالندى في السلم يحيى
أتى بالحق والشيطان يسعى ... بباطل كيده في الناس سعيا
فاسمع بالهدى والذكر صماً ... وقاد إلى سبيل الحق عميا
وأوجب طاعة ونفى خلافاً ... فتم الأمر إيجاباً ونفيا
وأضحى الدين مذكوراً شهيراً ... به من بعد ما قد كان نسيا
ألا يا فاتح الخيرات فتحاً ... وباني قاعدات الشرع بنيا
ومن نرجوه في سر وجهر ... لكل أمورنا ديناً ودنيا
سل الرحمن في يسر وحج ... أموت على تقاضيها وأحيا
زيارة ربعك المعمور سقياً ... له من مربع رحب ورعيا
ورؤية وجهك الميمون طوبى ... لمشغوف جلتك عليه رؤيا
وخاتمة متوجةً بحسنى ... يفوز بها عبيد البر يحيى
يرى نظم المدايح فيك ذخراً ... إذا حثي التراب عليه حثيا(1/330)
فذكرك في قريض الشعر مسك ... ووصفك يلبس الأوزان حليا
عليك من المهيمن كل وقت ... سلام لا يحاول عنك نأيا
ولا زالت لك الأنوار تهدى ... وفي الآخرى لك الزلفى تهيا
وقال رحمه الله وكتب بها إلى والدي رحمه الله
ألا يا حليف البيد يخترق الفلا ... يخوض نواح الأحتيناب المفاوز
إذا جئت أرض الشام أبرك بقعةً ... وأفتك جند بالعدو المناجز
فقف بالفقيه الحنبلي محمد ... حليف المعالي والخلال والغرائر
أمام الحسن البشر والبر باذل ... وللزهد والإخلاص والذكر كانز
فبلغ سلام العبد يحيى بن بوسف ... ولاتك عن حمل السلام بعاجز
وسلم عليه من قديم وداده ... علي بن وضاح تكن خير فائز
وقال وقد بلغه أن والدي رحمه الله قد حصل له مرض وبرئ فكتب إليه:
يا من غدا فهمه بالعلم مدرعاً ... وعقله برداء الحلم مقتنعا
وقلبه بشمال الدين مشتملاً ... وصدره بالها والرحب متسعا
ووجهه بسنا الأنوار مبتهجاً ... وكفه باللهى والجود مترعا
إن ألتقى والحجى والعلم والعمل ال ... مبرور والزهد والخيرات والورعا؟
من بعض أوصاف من أخفيت ... سنن وأبديت بدع قد أخفا البدعا(1/331)
وأبدأ السنة الغراء مجتهداً ... لله حين أضحى الحق منقشعا
بمنصل كان شرع الله صيقله ... وما انتضى بدعة إلا لها قطعا
لما سمعت بداء قد عراك إذا ... وجدته في حشائي مولماً وموجعا
خوفاً على المذهب الهادي لمرتشد ... أن لا يرى بعد أهليه قد انصدعا
فشتت البدعة الظلماء حين ترى ... نجماً من السنة الغراء قد وقعا؟
لأنها قمر سار وأنت لها ... فلك ومنك سنا أنوارها طلعا
كذلك العلم روض زهره ثمر ... وأنت تجني المعاني منه ممترعا
قد كنت من قبل نظم الشعر فيك إذا ... يممت نظماً أراني مفتحاً لكعا
فحين ما جال فكري فيك خلت بأ ... ن كل نظم ونثر قد حويت معا
يوسف بن عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن عبيد الله بن عبد الله بن جمادي بن أحمد بن محمد بن جعفرالجوزي بن عبد الله بن القاسم بن نصر بن القاسم بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضوان الله عليه أبو المظفر محي الدين القرشي التيمي البكري البغدادي الحنبلي المعروف بابن الجوزي مولده في يوم ليلة السبت ثاني عشر ذي القعدة سنة ثمانين وخمسمائة تفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وسمع من أبيه الإمام أبي الفرج جمال الدين عبد الرحمن ومن أبي القاسم يحيى بن أسعد بن بوش وأبي الفرج عبد المنعم بن كليب وجماعة آخرين(1/332)
وترسل عن الديوان إلى مصر والروم والشام والشرق والموصل والجزيرة وغير ذلك عدة دفوع في الأيام المستنصرية والأيام المستعصمية وتولى أستاذية الدار ببغداد مدة وكان إماماً عالماً فاضلاً رئيسا أحد صدور الإسلام وفضلائهم وأكابرهم أجلائهم ومن بيت الفضيلة والرواية والدراية وحدث ببغداد ومصر وغيرهما من البلاد والده الإمام جمال الدين أوحد علماء المسلمين وحفاظ المحدثين صاحب التصانيف المشهورة والفضائل المذكورة في فنون العلم وشهرته تغني عن الإطناب في ذكره.
وكان وصل محي الدين المذكور رسولاً من المستنصر بالله إلى حلب سنة أربع وثلاثين وملكها يومئذ الملك العزيز فتوفي في شهر ربيع الأول من السنة ثم توجه إلى الروم رسولاً فمات الملك علاء الدين سلطان الروم في شوال من السنة ثم توجه رسولا إلى الملك الأشرف ابن العادل وأخيه الملك الكامل فتوفي الأشرف في المحرم سنة خمس وثلاثين وتوفي الكامل في شهر رجب منها فعمل الأمير أبو القاسم بن محمود بن الأرشح بن الحسين بن محمود بن إبراهيم السنجاري المولد الحنفي المذهب
قل الخليفة رفقاً ... لك البقاء الطويل
أرسلت فيهم رسولاً ... سفيره عزرئيل
لم يبق من رعا البلاد ... إلا القليل(1/333)
تلقاه حيث استقلت ... به الركاب عويل
فليت شعري هذا ... مغسل أم رسول
سموه باسمين كانا ... صديق فيما يقول
محيي تصدى مميتاً ... ويوسفاً وهوغول
وللملك الناصر داود بن المعظم عيسى في هذه الواقعة:
يا إمام الهدى أبا جعفر المن ... صور يا من له الفخار الطويل
ما جرى من رسولك الشيخ محي ال ... دين في هذه البلاد قليل
جاء والأرض بالسلاطين تزهو ... وانثنى والقصور منهم طلول
أقفر الروم والشآم ومصر ... أفهذا مغسل أم رسول
كان محي الدين المذكور قد ولاه الإمام الناصر لدين الله حسبة بغداد وأنعم عليه إنعاماً عظيماً ورزق منه حظا ولم يزل في عرق إلى أن ولي أستاذية الدار للخليفة وترسل عنه إلى ملوك الأقاليم وحصل له الوجاهة التامة ووعظ وله علم بالتفسير والحديث والفقه ونظم الشعر وله المدايح في الخلفاء خاصة قال المبارك بن أبي بكر بن حمدان في قلائد الفرائد قدم إربل رسولاً من ديوان الخلافة إلى خوارزم شاه منكيرني بن محمد بن تكش فاجتمعت به بعد عوده من الرسالة بأربل في أواخر شعبان سنة سبع وعشرين وستمائة وذكر لي أن مولده في ذي القعدة سنة ثمانين وخمسمائة وأن له عدة تصنيفات في الخلاف والجدل والمذهب والوعظ وأنه قرأ القرآن الكريم(1/334)
بالقراآت على أبي بكر الباقلاني وله كتاب سماه معادن الأبريز في تفسير الكتاب العزيز ومما قرأت عليه لنفسه من قصيدة مدح بها الناصر لدين الله رحمه الله:
وإذا طرف المشوق كبا ... لك تقل والله عثرته
وممات الصب صدكم ... وغداة الوصل بغيته
قصة المحزون سطرها ... في ظلام الليل غصته
صفحة الخدين رقعتها ... ودواة الصب مقلته
ويراع الوجد يعربها ... من مداد الشوق مدته
وإلى المحبوب يحملها ... من صبا الأسحار نسمته
وإذا حن الحزين أسى ... كحنين العيس حنته
وسلاف الحب تطربه ... فتذيع السر نشرته
مثل ما في النظم يطربني ... لإمام العصر مدحته
لوفود الجود قد كفلت ... بالأماني أريحته
من ندى كفيه تابعه ... حجة الإحسان عمرته
فعلت بالحق دولته ... فعلت في الخلق دعوته
يخجل الوطفاء هاميةً ... حين تهمى الجود مزنته
وأسود الغاب خاسئة ... قد كساها الخوف سطوته
فإذا ما البحر قيس به ... أشبه الغدران لجته
ومن الطين الورى خلقوا ... ومن العلياء طينته(1/335)
ولنا منه الندى وله ... من إله العرش نصرته
وله رق الورى وله ... من رسول الله بردته
ومنانا أن يدوم لنا ... لتنال السول دولته
إن ميت الجود عاش به ... بعد ما ضمته حفرته
وإذا ما الله عمره ... كملت للجود بغيته
فلمن عاداه نار لظىً ... ولمن والاه جنته
وقال أيضاً:
يا نفس ويحك قد دهاك ... قهر الغير هداك حين دهاكي
فكأنني بك قد أنال ... يلقاك منه الذل إذ يلقاكي
فلئن ركنت إلى سرور زائل ... فلقد رضيت بخادع أفاك
ولئن نظرة مرة لمسرةً ... فلتنظرن غداً بمقلة باكي
أتراك مالك عبرة في من مضى ... ممن علمت من الورى أتراكي
إن الذين بنوا مشيداً وانثنوا ... يسعون سعي القاهر الفتاك
من كل من ضاق الفضاء بجيشه ... وسمته همته على الأفلاك
نقلوا إلى ضيق اللحود وقد غدوا ... في الأسر ليس لهم سبيل فكاك
ولقد علمت بأن سبلك سبلهم ... فعلام لا تتأهبين فما أشقاك
جدي فأيام الحياة قصيرة ... وكأنني بالموت قد فاجأكي
العز ذل والحياة منية ... والقرب بعد هكذا دنياكي
لا تحسبي المأخوذ في يوم الجزا ... أخذاً بما كسبت يداك سواك(1/336)
فتزودي ما شئت من حسن ومن ... سوء فذلك كله يلقاك
ويلاه من نصب الصراط ووضعه ... وشهادة الأعضاء والأملاك
قد طال ما وافقت رأيك في الهوى ... وعصيت عقلي طائعاً لرضاكي
ورأيت أعدا صاحب لي ناصحاً ... وأخي الموافق لي على بلواك
فالآن حين مضى الشباب بشرخه ... وأتى المشيب مبادراً ينعاكي
وأبيض من فودي ما لو يفتدى ... لفديته بكرائم الأملاك
أدعوك للأمر الرشيد فتنفري ... بدلت غيرك قبل يوم هلاكي
لا تجعليني قائلاً لك في غد ... كم كنت من هذا البلا أنهاكي
وأرى شقياً من أطاعك جاهلاً ... ولو أهتدى لرشاده لعصاك
فاستغفري بالله العظيم لما مضى ... وعليك فيما فات باستدراك
وذكر ابن المستوفي في تاريخ أربل أن محي الدين المذكور تولى حسبة بغداد وعقد بها مجالس الوعظ وقيل أنه كان يعمل في كل أسبوع قصيدة يمدح بها الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين.
وقال قاضي القضاة شمس الدين أبو العباس أحمد بن خلكان رحمه الله تعالى في كتابه الموسوم بوفيات الأعيان حكى لي الوجيه أبو عبد الله محمد بن علي بن أبي طالب المعروف بابن سويد التاجر التكريتي قال كان الشيخ محي الدين أبو المظفر يوسف بن الجوزي رحمه الله قد توجه رسولاً من بغداد إلى الملك العادل بن الكامل بن العادل بن أيوب سلطان مصر في ذلك الوقت وكان أخوه الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل محبوساً في قلعة الكرك يومئذ(1/337)
فلما عاد محي الدين راجعاً إلى بغداد وقدم دمشق وكنت بها فدخلت عليه أنا والشيخ أصيل الدين أبو الفضل عباس بن عثمان بن نبهان الأربلي وكان رئيس التجار في عصره وجلسنا نتحدث معه فقال حلفت الملك الناصر داود صاحب الكرك أن لا يخرج الملك الصالح نجم الدين من الحبس إلا بأمر أخيه الملك العادل قال فقال له الأصيل يا مولانا هذا بأمر الديوان العزيز فقال محي الدين وهل هذا يحتاج إلى أذن؟ هذا أقتضته المصلحة لكن أنت تاريخ يا أصيل الدين فقال يعني مولانا أني قد كبرت وما أدري ما أقول وأنا أحكي لمولانا حكاية في هذا المعنى أعرفها من غرائب الحكايات قال هات فقال كان ابن رئيس الرؤساء ناظر واسط يحمل في كل شهر حملاً من واسط وهو ثلاثون ألف دينار لا يمكن أن يتأخر يوماً عن العادة فتعذر في بعض الأشهر كمال الحمل فضاق صدره لذلك وذكره لنوابه فقالوا له يا مولانا هذا ابن زيادة عليه من الحقوق أضعاف ذلك ومتى حاسبته قام بما يتم الحمل وزيادة فاستدعاه وقال له أنت لم لا تؤدي كما يؤدي الناس فقال أنا معي خط الإمام المستنجد بالمسامحة قال فهل معك خط مولانا الإمام الناصر قال لا قال قم واحمل ما يجب عليك قال ما ألتفت إلى أحد وما أحمل شيئاً ونهض من المجلس فقال النواب لابن رئيس الرؤساء أنت صاحب الوسادتين(1/338)
وناظر النظار وما علي يدك يد ومن هو هذا حتى يقابلك بمثل هذا القول ولو كسبت داره وأخذت ما فيها لما قال لك أحد شيئاً وحملوه عليه حتى ركب بنفسه وأجناده وكان ابن زيادة يسكن قبالة واسط وقدموا لابن رئيس الرؤساء السفن حتى يعبر إليه وإذا بزبزب قد قدم من بغداد فقال ما قدم هذا إلا في مهم ننظر ماهو ثم نعود إلى ما نحن بسببه فلما دنا من الزبزب فإذا فيه خدم من خدام الخليفة فصاحوا به الأرض الأرض فقبل الأرض وناولوه مطالعة وفيها قد بعثنا خلعة ودواة لابن زيادة فتحمل الخلعة على رأسك والدواة على صدرك وتمشي إليه راجلاً وتلبسه الخلعة وتجهزه إلينا وزيراً فحمل الخلعة على رأسه والدواة على صدره ومشى إليه راجلاً فلما رأه ابن زبادة انتشده ابن رئيس الرؤساء
إذا المرء حي فهو يرجى ويتقى ... وما يعلم الإنسان ما في المغيب
وأخذ يعتذر إليه فقال له ابن زبادة لا تثريب عليكم اليوم وركب في الزبزب إلى بغداد وما علم أن أحداً أرسلت إليه الوزارة غيره فلما وصل إلى بغداد أول ما نظر فيه أن عزل ابن رئيس الرؤساء عن واسط وقال هذا ما يصلح لهذا المنصب ثم قال الأصيل المصلحة يا مولانا أن تخرج الملك الصالح وتملك وتعود إليه ويقع وجهك في وجهه وتستحي منه فأنشده محي الدين:
وحتى يؤب القارظان كلاهما ... وينشر في الموتى كليب لوائل(1/339)
فما كان إلا مديدة حنتى خرج الملك الصالح من حبس الكرك وملك مصر وقبض على العادل فخرج محي الدين للقائه وكان بها رسولاً إلى العادل.
قلت ومولد قوام الدين أبو طالب يحيى بن سعيد بن هبة الله بن علي بن زبادة الشيباني يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من صفر سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة وتوفي ليلة الجمعة السابع والعشرين من ذي الحجة سنة أربع وتسعين وخمسمائة ببغداد رحمه الله.
وأما جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن محي الدين يوسف المذكور فمولده سنة ست وستمائة سمع ووعظ وترسل عن الديوان إلى مصر وولي الحسبة ببغداد ودرس بالمدرسة المستنصرية على مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى وكان رئيساً معظماً من أعيان الدولة وأماثلها وله ديوان شعر حدث بمصر وببغداد وقتل ببغداد شهيداً في صفر سنة ست وخمسين وكان والده بكر به فأسمعه من الشيخ أبي محمد عبد العزيز وغيره من شيوخ بغداد ومن شعره في النبي صلى الله عليه وسلم من أبيات:
فضل النبيين الرسول محمد ... شرفا يزيد وزادهم تعظيما
در يتيم في الفخار وإنما ... خير اللآلي ما يكون يتيما(1/340)
ولقد شاي الرسل الكرام فكلهم ... قد سلموا لجلاله تسليما
وأما أخوه شرف الدين فهو الذي كان أرسله المستعصم بالله إلى هولاكو لما قصد بغداد يبذل له الأموال وكان من الرؤساء الأعيان الفضلاء وأما أخوه تاج الدين فكان رئيساً فاضلاً عالماً متديناً من أعيان رؤساء بغداد فقتل الجميع شهداء على يد التتر ببغداد في شهر صفر رحمهم الله.(1/341)
السنة السابعة والخمسين وستمائة
دخلت هذه السنة والملك الناصر صاحب الشام وغيره ففي أوائلها رحل بالعساكر متتبعاً آثار البحرية فاندفعوا بين يديه إلى الكرك فنزل بركة زيزاء ليحاصر الكرك وصحبته الملك المنصور صاحب حماة فجاء إلى الملك الناصر رسل المغيث ودار القطبية ابنة الملك المفضل قطب الدين بن العادل يتضرعون إليه ويطلبون رضاه عن المغيث فشرط عليه أن يقبض على من معه من البحرية فأجاب إلى ذلك وقبض عليهم وجهزهم إلى الملك الناصر على الجمال وهو نازل ببركة زيزاء فحملوه إلى حلب واعتقلوا بها ولما أحس الأمير ركن الدين البندقداري بما وقع عليه الإتفاق هرب من الكرك في جماعة من البحرية ووصل إلى خدمة الملك الناصر فتلقاهم وأحسن إليهم وعفا عنهم ولما تم الصلح رجع الملك الناصر إلى دمشق وصحبته الأمير ركن الدين البندقداري وتوجه صاحب حماة إليها.
وفيها دخل هولاكو ديار بكر قاصداً حلب ونزل على آمد وبعث رسله إلى الملك السعيد نجم الدين أيلغازي صاحب ماردين يستدعيه فسير إليه الملك المظفر قرا أرسلان وقاضي القضاة مهذب الدين محمد بن مجلي والأمير سابق الدين بلبان وكان أكبر أمرائه وعلى أيديهم(1/342)
هدية وحملهم رسالة تتضمن الإعتذار عن الحضور بمرض منعه من الحركة ووافق وصولهم إليه أخذه لقلعة اليمانية وإنزاله من بها من حريم الملك صاحب ميافارقين رحمه الله وأولاده وأقاربه وهم ولده الملك الناصر صلاح الدين يوسف جفتاي والملك السعيد عمر وابن أخيه الملك الأشرف أحمد وابن تاج الملوك علي بن الملك العادل وينعت بالصالح نجم الدين أيوب فلما رأوهم هلعوا وجزعوا وأدوا الرسالة فقال ليس مرضه بصحيح وإنما هو متمارض مخافة الملك الناصر فإن انتصرت عليه اعتذر إلى بزيادة المرض وإن انتصر على كانت له اليد البيضاء عنده إذ لم يجتمع بي فلو كان للملك الناصر قوة يدفعني لم يمكني من دخول بلاده وقد بلغني أنه بعث حريمه وحريم أمرائه وكبراء رعيته إلى مصر ولو نزل صاحبكم إلى رعيت له ذلك ثم أمر برد القاضي وحده فعاد وأخبر الملك السعيد بصورة الحال وعرفه أنه رأى عند هولاكو عز الدين وركن الدين ملوك الروم فتألم وندم على إرسال ولده وبعث رسلاً إلى البرية إلى الملك الناصر يستحثه على الحركة إلى حلب ويعرفه أنه متى وصل إليها رحل إليه برجاله وماله وسير الأمير عز الدين يوسف السماع رسولاً في الظاهر إلى هولاكو بهدية وإلى ولده وإلى ولدي غياث الدين صاحب الروم باطناً يحرض ولده على الهروب وينكر على ولدي صاحب الروم في مجيئهما(1/343)
فيكما فأوسعا الحيلة في الإنفصال عنه والحذر منه فشكراه وقال عز الدين والله ما خرجت البلاد عن أيدينا إلا بتخاذل بعضنا عن بعض فلو كانت الكلمة مجتمعة لم يجر علينا ما جرى.
وفيها توفي محمد بن ملي بن محمد بن الحسن بن عبد الله أبو عبد الله بهاء الدين القرشي الدمشقي العدل المعروف بابن الدجاجية الصالحي مولده في ثاني شعبان سنة إحدى وتسعين وخمسمائة وتوفي في ثاني المحرم وقيل في رابعه من هذه السنة بدمشق ودفن من الغد بمقابر الباب الصغير كان فاضلاً شاعراً حسناً مطبوع الشعر ووالده يلقب حفظ الدين كان فقيهاً شافعياً نظم المهذب قصيدة ودرس ببصرى ومولده ثامن المحرم سنة ثمان وخمسين وخمسمائة بدمشق ومات لها ليلة الخميس ثاني عشر ذي الحجة سنة خمس وعشرين وستمائة رحمه الله وللبهاء المذكور يقول:
عن حبكم قط لا أحول ... ولو برى جسمي النحول
جمالكم قال أني ... مهما فعلتم بي هو الجميل
دلالكم ما خفي علينا ... بأنه للجفا دليل
يا كاحلاً بالسهاد طرفي ... يتمنى طرفك الكحيل
تنكسف الشمس حين تبدو ... ويخجل الغصن إذ تميل
لا تسمعوا في المحب قولاً ... زوره المبغض العذول
واحيرتي وانقطاع ظهري ... إن لم يكن لي بكم وصول(1/344)
وله أيضاً:
من أين لقدك ذا الهيف ... قد حار الواصف ما يصف
الرمح الأسمر يحسده ... والغصن الأخضر والألف
فتبارك من أنشاك لقد ... في الخلق تفاضلت الطيف
قسماً بهواك وما أحلا ... قسم العشاق إذا حلفوا
وبمن خاضوا غمرات منىً ... وحصى الجمرات بها حذفوا
لا حلت عن المشتاق ولو ... أودى بحشاشتي التلف
يلحاني قوم ما فهموا ... ما شأني فيك ولا عرفوا
وله يمدح الملك الناصر يوسف:
دعوا دماً ضيعه أهله ... لا ستمر الجزع ولا أثله
ولا لبيناه ولا مية ... ولا سليماه ولا جمله
لو غض طرفاً ما ارتقت ... له ثم دماً ورى قتله
أحبابنا لئن توسعوا ... عذراً لمن ضاقت به سبله
وطرفه إن كان لما رنا ... جنى فقد حاق به فعله
ويلاه يا أهل الحمى لم يكن ... يعهد منكم ذا الجفا كله
صار طفيلياً على وصلكم ... من شاب في حبكم طفله
لم يك يوم الضال جمعي بكم ... إلا خيالاً زائلاً ظله
حلو التثني والتجني لوى ... عني ديناً لم يجز مطله(1/345)
إن كان قد أحزنني هجره ... فطالما أفرحني وصله
كفرحة الدينا بسلطانها ال ... ناصر من عم الورى عدله
وله دوبيت:
بالله قفوا بعيسكم في الربع ... كي نسأل عن سكان وادي الجزع
إن لم أرهم أو أستمع ذكرهم ... لا حاجة لي في بصري أو سمعي
وقال:
يا أيها الصاحب الصدر الكبير ومن ... إليه قد طال إيرادي وإصداري
تركت قولي ومحض الشرع فهو معي ... وملت عني إلى قول ابن بندار
ما أنت إلا كما قد قال بعضهم ... وما علي بهذا القول من عار
المستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار
وله دوبيت:
ما عذر فتىً ما مد للهو يداً ... والروح قد اكتسى ثيابا جددا
مالت طرباً أغصانه راقصةً ... لما صدح الطير عليها وشدا
عرته غرته لما سرى ... ظن بأن الصبح قد أسفرا
اقبل يسعى خفراً خائفاً ... على ذمام الوعد أن يخفرا
زار محبا بات مستطولاً ... من ليله ما راح مستصغرا
يحق يا قوم لمن قده ال ... خطاران لا يرهب إلا خطرا
ضمته إذ قد نام سماره ... كما يضم البطل الأسمرا
بتنا وما في ليلنا من كرى ... كأنما النوم غدا مسكرا(1/346)
وقال:
إلى سلم الجرعاء أهدى سلامه ... فماذا علي من قد لحاه ولامه
غريم الأسى أمسى فلا تمنعوه أن ... يبث إذ ذكر الحبيب غرامه
تجلد حتى لم يدع معظم الجوى ... لرائيه إلا جلده وعظامه
ولا عجب من فرط سقم بجسمه ... وصحة ود المرء يبدي سقامها
أاحبابنا الشاكين جدب وهادهم ... وعهدي به يروي العهاد إكامه
إذا لم يجد قطراً على منحناكم ... دمعا يقوم مقامه
ترى هل يعيد الله للصب وصلكم ... بذاك الحمى من قبل يلقى حمامه
ليهدي بكم قلب أطلتم خفوقه ... وينظركم طرف سلبتم منامه
وبي ظالم في الحكم لو أن وجهه ... تجلى بجنح الليل جلى ظلامه
يقوم بعذري فيه عند عواذلي ... إذا ما انثنى تيهاً يهز قوامه
تزرد خوفاً سالفاه للحظه ... بأنهما لا يِأمنان سهامه
وقال:
إلا مالقى قلبي وياما بكم لقي ... فيا ليتني ما عشت لم أعرف العشقا
نأت داركم من بعد قرب عن الغضا ... فلي دمع عين لا يفيض ولا يرقى
وقال الأعادي إنني قد سلوتكم ... لعمري لقد قال العدو وما أبقا
هوى من كساني السقم غير هواكم ... وفرقه من قد شبيت منى الفرقا(1/347)
ووالله لو لم ينزلوا برق الحمى ... لما شمت من تلقاء ساحته برقا
المظفر بن محمد بن ألياس بن علي بن أحمد بن عبد الله بن علي أبو غالب نجم الدين الأنصاري الدمشقي المعروف بابن الشيرجي مولده بدمشق في شهر رمضان سنة سبع وثمانين وخمسمائة وسمع من أبي طاهر الخشوعي وابن طبرزد وحنبل وغيرهم وحدث وكان من العدول الأكابر الأعيان الرؤساء ولي الحسبة بدمشق ونزل الجامع بها وتوفي ليلة سلخ ذي الحجة رحمه الله وبيته مشهور بالرئاسة والتقدم والعدالة.
يوسف القميني كان مأواه القمامين والمزابل بدمشق وغالب أوقاته يكون بقمين حمام نور الدين رحمه الله بسوق القمح ويلبس ثيابا طوالا تكنس الأرض وهو حاف مكشوف الرأس طويل الصمت قليل استعمال الماء ولكثير من الناس فيه عقيدة جميلة ويحكون عنه أنه كان يكاشفهم في كثير من الأوقات وكان بعض من يعتقد فيه يحضر له شيئاً من المأكول والمشروب ويجتهد به فيتناول منه قدراً يسيراً ولازم هذه الطريقة الشاقة إلى أن توفي في سادس شعبان بدمشق ودفن بسفح قاسيون في تربة المولعين رحمه الله، وكانت له جنازة حافلة لم يتخلف عنها إلا القليل وكان من غرائب العالم يترنح في مشيته ولا يلتفت إلى أحد ولا يعبأ به.(1/348)
أبو بكر بن الملك الأشرف أبي الفتح محمد بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب الدين شاذي رحمه الله مولده بمصر في النصف الآخر من شعبان سنة سبع وتسعين وخمسمائة سمع من حلب من ابن طبرزد وحنبل ودخل بغداد وسمع بها من أصحاب أبي الوقت السجزي وحدث بدمشق وغيرها وكانت وفاته في الثاني والعشرين من ذي الحجة بالياروقية بحلب رحمه الله.
؟؟ السنة الثامنة والخمسون والستمائة
أولها يوم الخميس فيها كثر الإرجاف بوصول التتار إلى البلاد العربية فجفل الناس من بين أيديهم إلى الديار المصرية والجبال والأماكن المتوعرة وفي منتصف صفر ورد الخبر إلى دمشق باستيلاء التتار على بلاد حلب بالسيف وكان نزولهم على حلب في ثاني صفر واستولوا عليها في تاسعه وأمنوا أهلها ثم غدروا بهم فقتلوهم ولما اتصل ذلك بالملك الناصر رحمه الله سار عن دمشق بأمرائه نحو القبلة وكان رسل التتار بقرية حرستا فدخلوا دمشق ليلة الأثنين سابع عشر صفر وقرئ في يوم الأثنين بعد صلاة الظهر فرمان جاء من عند ملكهم يتضمن الأمان لأهل دمشق وما حولها وشرع أكابر البلد في تدبير أمرهم معهم وفي سابع عشر ربيع الأول وصل إلى دمشق نواب التتار فلقيهم كبراء البلد أحسن ملتقى وقرئ ما معهم من الفرمان المتضمن الأمان بالميدان الأخضر ووصلت عساكرهم من جهة الغوطة مارين وراء(1/349)
الضياع إلى جهة الكسوة وأهلكوا في ممرهم جماعة كانوا قد تجمعوا وتخرموا وعدم بسبب ذلك جماعة من غيرهم وفي السادس والعشرين منه جاء منشور من هولاكو للقاضي كمال الدين عمر بن العديم بتفويض قضاء القضاة إليه بمدائن الشام والموصل ومارين وميافارقين والأكراد وغير ذلك وتفويض جميع الأوقاف إلى نظيره ووقف الجامع وغيره وكان القاضي قبله صدر الدين أحمد بن سنى الدولة من جمادى سنة ثلاث وأربعين وكان كمال الدين ينوب عنه في الحكم بدمشق وفي ربيع الآخر رجعت عساكر التتار التي كانت عبرت على دمشق بعد ما عاثت في بلاد حوران وأرض نابلس وما حولها وكان الأمير محي الدين إبراهيم بن أبي زكري بنابلس فقاتلهم قتالاً شديداً وأبلى بلاء حسناً بحيث قتل بيده منهم عشرة نفر ثم قتل رحمه الله فلما بلغ الملك الناصر رحمه الله ذلك وهو بغزة توجه نحو الديار المصرية فنزل العريش ثم قطيا ثم تفرق عسكره عنه فتوجه معظم العسكر إلى الديار المصرية مع الأثقال وعاد الملك الناصر في طائفة من خواصه لشئ بلغه عم ملك مصر ونزل بوادي موسى ثم نزل بركة زيزاء فكبسه التتار بها وتفرق عنه معظم أصحابه ثم(1/350)
أستأمن له بعض أصحابه وصار إليهم فكان معهم في ذل وهوان إلى أن قتل على ما نذكر إن شاء الله تعالى.
وأما العساكر التترية فبلغت غارتهم أرض غزة وبلد الخليل صلوات الله عليه والصلت وبركة زيزاء وموجب الكرك ونحو ذلك فقتلوا الرجال وسبوا النساء والصبيان واستاقوا من الأسرى والأبقار والأغنام والمواشي شيئاً كثيراًَ وأخذوا من الأسلاب والأثاث ما لا يحصى فلما وصلوا دمشق اشترى من الأسرى شئ كثير وأطلقوا وهرب بعضهم واستصحبوا معهم من بقي وقد كانت قلعة دمشق امتنع بها الأمير بدر الدين محمد بن فريجار واليها وجمال الدين بن الصيرفي نقيبها في جمع كثير بها واحتيج إلى حصارها فجاءها من التتر خلق كثير وصلوا يوم الأحد ثاني عشر جمادى الأولى فما يأتوا تلك الليلة حتى قطعوا من الأخشاب ما احتاجوا إليه فكانوا أستصحبوا معهم أكثر من عشرين منجنيقاً تجرها الخيل وهم ركاب عليها وقدموا قبل ذلك بأسلحة تجرها البقر على العجل وأصبحوا يوم الاثنين يجمعون الحجارة لرمي المجانيق فاخربوا حيطاناً كثيرةً وأخذوا حجارتها من أساسها وأخربوا طرفاً من القنوات بسبب الحجارة وهيؤها للرمي ونصبت المجانيق ليلة الثلاثاء وأصبحوا يرمون بها رمياً فأخربوا كثيراً من القلعة من غربيها فما أمسوا حتى طلبوا الأمان فأمنوهم وخرجوا من الغد ونهب ما في القلعة وأحرق(1/351)
فيها مواضع كثيرة وهدم من أبراجها وأعاليها ثم ساروا إلى بعلبك وكان قبل ذلك حضر عند هولاكو تقي الدين الحديثي الحشائشي وكان هذا تقي الدين أصله من قرية حديثا من بقاع بعلبك وربي ببعلبك بين أهلها كأحدهم ثم سافر إلى الديار المصرية وفاق أهل عصره في معرفة الحشائش والأعشاب وخواصها ومنافعها ومضارها وتقدم عند الملك المعز أيبك التركماني وأعطاه أقطاعاً جيداً ثم جهزه إلى الملك الناصر في بعض مهماته فاتفق قتل الملك المعز وهو بالشام فأقام بدمشق فورد كتاب هولاكو على الملك الناصر رحمه الله يطلب جماعة التقى أحدهم فسيرهم إليه فحصل له منه إقبال فلما حصل الإستيلاء على حلب سأل من هولاكو فرمان لأهل بعلبك وشحنة من التتر فأجابه إلى ذلك فوصل المذكور ومعه الفرمان والشحنة ودخل بعلبك واجتمع به أهلها وكلهم معارفه ومعظم أصحابه وتحدث معهم في الدخول في الطاعة وقبول الأمان وكان سائر أهل البلاد إلا القليل قد صعدوا إلى القلعة بأموالهم وحريمهم مصممين على العصيان وكان نائب السلطنة بالأعمال البعلبكية الأمير ناصر الدين محمد بن البتيني رحمه الله فعندما بلغ أهل البلد منازلة التتر لحلب سألوه المقام عندهم والذب عنهم وتدبير أمورهم فأجابهم وأصعد إلى القلعة شيئاً كثيراً فلما بلغه أخذ حلب وتوجه إلى الملك الناصر من دمشق رجع عن الصعود إلى القلعة وسافر من جهة بانياس والصبيبة وكانت تحت نظره وولايته وسافر معه جماعة من أهل بعلبك فلما اتفق بعد ذلك قدوم التقى(1/352)
تحللت العزائم وجنحت إلى قبول الأمان فقال لهم ينزل معي جماعة من أعيان البلد إلى دمشق لأحضرهم عند نواب الملك وأعرفهم بدخولهم في الطاعة فتعوجه صحبته جماعة من الأعيان قريب خمسة عشر نفراً فلما وصلوا دمشق أنزلوا في مدرسة الأمير ناصر الدين القيمري ورتب لهم راتب متوفر من الطعام والحلواء والفاكهة وغير ذلك وأحسن إليهم غايةالإحسان وخلع عليهم خلع سنية وهذا لم يجر لغيرهم مع التتر فرجعوا إلى بعلبك صحبة التقى على أن تسلموا القلعة وينزل الناس إلى بيوتهم فاتفق يوم وصولهم إلى بعلبك وصول بدر الدين يوسف الخوارزمي إلى بعلبك من عند هولاكو ومعه فرمان بولاية بعلبك وأعمالها، وكان هذا بدر الدين رحمه الله قد ولي مدينة بعلبك في الأيام الناصرية ورفق بأهلها وعاملهم أجمل معاملة وصادق كثيراً منهم وعاشرهم ثم عزل وولي ولايات أخر ثم عزل عنها واعتقل بدمشق وأنقضت الدولة الناصرية وهو بالاعتقال فخرج من الحبس وقصد هولاكو وكان عنده وتوصل ومعرفة بسائر الألسن، وهو مقبول الصورة وله معرفة بابن كشلوخان وكان ابن كشلوخان مع التتر وله صورة عندهم فلما حضر بدر الدين المذكور عند هولاكو ذكر معرفته ببعلبك وأهلها وتكفل بتسهيل ما تعسر منها وكان لبعلبك عند التتر صورة كبيرة لحصانة قلعتها ونجدة رجالها فكتب له فرمان بولايتها واتفق وصوله على ما تقدم فتحلل لقدومه معظم العزائم ودخل(1/353)
البلد وأمر ونهى وأنس به الناس لقديم المعرفة وتمسك بالعصيان شجاع الدين إبراهيم والي القلعة ومن عنده من المستخدمين وقريب نصف أهل البلد
وقد كتب شجاع الدين إلى الملك الناصر رحمه الله يعرفه صورة الحال واستأذنه في ما يفعل وسير الكتاب مع شخص يعرف بالمقرئ إبراهيم فوجده ببركة زيزاء فأعطاه المطالعة فقرأها وقال داروا عن أنفسكم وكتب الجواب بمثل ذلك. كتب شجاع الدين إلى الملك الناصر رحمه الله يعرفه صورة الحال واستأذنه في ما يفعل وسير الكتاب مع شخص يعرف بالمقرئ إبراهيم فوجده ببركة زيزاء فأعطاه المطالعة فقرأها وقال داروا عن أنفسكم وكتب الجواب بمثل ذلك.
حكى لي المقرئ إبراهيم المذكور قال لما قرأ المطالعة وأمر بكتب الجواب حصل له في خلال ذلك رعاف يسير فمسح أنفه بمنديل كان في يده ورماه وطلب غيره فلم يكن عنده غيره فغسل بيده موضع الدم منه وحمله قال ولم أجد معه إلا نفراً يسيراً جداً إن في ذلك لعبرة.
وأما أهل القلعة فتمسكوا بالعصيان وأنتظار ما يرد به جواب الملك الناصر فعاد كتبغا نوين بالعساكر وكان عند توجهه إلى دمشق اجتاز بعلبك ولم يتعرض لقتالها فلما عاد بعد أخذ قلعة دمشق أحضر معه بدر الدين محمد بن قريجار وجمال الدين بن الصيرفي ليتحدثا مع أهل القلعة فتحدثوا فلم يفد وحضر إبراهيم بجواب الملك الناصر فحلل ما بقي من العزائم غير أن الوثوق بأمان التتر غير محقق فلما رأى كتبغا أصرارهم نازل القلعة ونصب عليها عدة مجانيق في يوم الأحد وجميعها تضرب في برج واحد لعله من أحصن الأبراج بحيث فتحت فيه المجانيق طاقة كبيرة كالباب الكبير فِأذعن أهل القلعة بتسليمها وطلبوا(1/354)
الأمان فأمنهم كتبغا على أنفسهم وأن يخرج كل أنسان بما يستطيع أن يحمله من ماله فخرجوا على هذه الصورة بعد عصيان يوم واحد ووفي لهم بذلك ولم يرق لأحد محجمة دم ثم بعد خروج الناس من القلعة دخلها كتبغا فرآها وصعد قلتها ونهبها التتر وأخذوا ما وجدوا فيها ورحلوا وقد بقي فيها من القمح والشعير والحبوب والدبس واللبن وغير ذلك من الطعومات شئ كثير فتلطف بدر الدين يوسف الخوارزمي وأحسن السياسة فيه بحيث شاور كتبغا وتلطف به حتى أجاب إلى أن يقرر عن هذا الطعم درهم معلوم فقرر على ذلك قريب خمسين ألف درهم بحيث ناب غرارة القمح عشرين درهما وغرارة الشعير عشرة دراهم وقنطار الدبس الشديد عشرين وقنطار اللبن ثلاثون درهما فحصل للناس بذلك رفق كثير.
ثم أن كتبغا أمر باعتقال شجاع الدين إبراهيم والي القلعة ببعلبك وديوانها فاعتقلوا خلا شاهد القلعة فإنه كان خرج منها قبل حصرها وطلع إلى جبل الكسروانيين فاعتقلوا ثم أستدعوا إلى مرج يرغوث وضربت رقابهم وضربت رقبة ولد الشجاع وصهره معه ولذلك ضرب هناك رقبة بدر الدين محمد بن فريجار وابن الصيرفي نقيب قلعة دمشق وجرى بألطاف الله تعالى بأهل بعلبك ما لم يكن في الحساب فلله الحمد على ذلك.
وفي غرة شعبان حضر الملك الأشرف موسى بن صاحب حمص(1/355)
إلى بعلبك وقد استقر نائب هولاكو في الشام وسلم إليه حمص والرحبة وتدمر وتل باشر بقلاعها فأقام بظاهر بعلبك يومين فتوجه إلى دمشق.
وفيها توجه قاضي القضاة محي الدين يحيى بن الزكي وأولاده وأخوه لأمه شهاب الدين وقاضي القضاة صدر الدين أحمد بن سنى الدولة إلى أرد وهولاكو فأدركوه دون الفرات قبل قطعها ثم عادوا إلى طريق بعلبك فوصلوها سادس جمادى الآخرة أو سابعها بكرة الخميس ومحي الدين في تجمل عظيم وهو راكب في محفة ومعه من الحشم والغلمان والأولاد والحاشية ما لا مزيد عليه وصلى الجمعة في شباك قبة المدرسة الأمينية المجاورة جامع بعلبك وأحضر منبر إلى صحن الجامع قبالة الشباك المشار إليه وقرأ عليه تقليده وهو تقليد عظيم جدا بسط فيه القول والمبالغة في تفحيم القاضي محي الدين بحيث لا يخاطب فيه إلا بمولانا وهو يتضمن فيه تفويض القضاء إليه بسائر البلاد والشامية من قنسرين إلى العريش ونائبه أخوه لأمه شهاب الدين اسماعيل بن أسعد بن وحيس وكذلك الأوقاف وغيرها وأن يشارك النواب في أمورهم بحيث لا يخرج عن رأيه ولا يستبدون دونه بأمر وكان عليه حال قعوده في الشباك فرجية عظيمة سوداء منسوجة بالذهب قيل أنها الخلعة التي خلعت على الملك الناصر يوسف رحمه الله من جهة الخليفة أخذت من قلعة حلب وعلى رأسه بقيار صوف بغير طيلسان ثم توجه(1/356)
إلى دمشق وأقام القاضي صدر الدين ببعلبك في منزل إلى حين توفي رحمه الله وسنذكره إن شاء الله تعالى.
ثم وصل محي الدين إلى دمشق وقرأ الفرمان بتوليته يوم الأربعاء أربع عشر جمادى الآخرة تحت النسر بجامع دمشق وحضر قرائته إيلبان نائب ملك التتر وكان من المغل وحضرت زوجته معه وقعدت على طراحة بسطت لها بين زوجها والقاضي إلى جانب العمود الشرقي في الباب الكبير الأوسط من باب أبواب النسر بالجامع ثم أضاف القاضي محي الدين إلى نفسه وأولاده عدة مدارس كالعذراوية والسلطانية والفلكية والركنية والقيمرية والكلاسية والصالحية وولاها عماد الدين بن عزى والأمينية ولاها ولده عماد الدين عيسى مع مشيخة الشيوخ وباشر أخوه شهاب الدين عنه نيابة الحكم مع التدريس الرواحية والشامية البرانية مع أن شرطها لا يجمع المدرس بينها وبين غيرها وبقي الأمر كذلك إلى أن ملك المسلمون في أواخر شهر رمضان من هذه السنة فبذل أموالاً جليلة على أن يستمر على حاله فأجيب إلى ذلك نحو شهر ثم أمر بالسفر مع السلطان الملك المظفر رحمه الله إلى مصر فتولى القاضي أبو بكر محمد بن سنى الدولة وقرئى تقليده تقليده بشباك الحكم بالجامع بدمشق يوم الجمعة الحادي والعشرين من ذي القعدة.
وفيها لما استولى التتر على القلاع أبقوا بلاطنس على ابن واليها نجم الدين بن قايماز الظاهري فلما كسروا أستفسد(1/357)
مظفر الدين عثمان بن منكورس صاحب صهيون من كان بها من الأجناد على نجم الدين واليها فسلموه إليه في العشر الأول من ذي القعدة سنة ثمان وخمسين وبقيت في يده إلى أن سلمها لولده عز الدين أحمد فبقيت في يده مدة حياة أبيه إلى أن سلمها إلى نواب الملك الظاهر في سنة سبع وستين وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
وفيها وصل الخبر باستيلاء التتر على عدة قلاع منها الصلت وعجلون وصرخد وبصرى والصبيبة وهدموا الجميع حسب ما أمكنهم.
وفيها وصل الخبر أن طائفة التتار وقعوا على العرب عند زيزاء وحسبان فهزموهم وغنموا من أولادهم ونسائهم وأنعامهم شيئاً كثيراً واستاقوا الجميع وهرب الملك الناصر إلى البراري فساقوا خلفه فأخذوه وقد بلغ شربة الماء نحو مائة دينار وأتوا به إلى كتبغانوين فوقفه بين يديه وأهانه وقرعه ثم أتوا به دمشق مع من قدم من الكرك من الدمشقيين الذين كانوا هربوا إليها وكان كتبغا سير القاضي كمال الدين التفليسي رحمه الله برسالة منه إلى الملك المغيث صاحب الكرك يلتمس منه الدخول في الطاعة فأجاب بجواب ظاهره الطاعة وباطنه المراوغة وانتظار ما تجري به المقادير فلما عاد القاضي كمال الدين إلى الكرك صحبه جماعة ممن كان ألتجأ إليها من الدمشقيين بعد مشقة شديدة وجدوها من تنردهم مع التتار كيف ما داروا نحو من خمسة وثلاثين يوما وكان وصولهم سادس شهر رجب وسار الملك الناصر رحمه الله(1/358)
مع جماعة من التتار إلى هولاكو في رابع عشر شهر رجب ومعه ابنه الملك العزيز وأخوه الملك الظاهر علي والصاحب إسماعيل بن صاحب حمص وغيرهم.
وفيها في يوم الاثنين السابع والعشرين من جمادى الأولى طيف بدمشق برأس مقطوع مرفوع على رمح قصير معلق بشعره وهو في قطعة شبكة زعموا أنه رأس الملك الكامل محمد بن الملك المظفر شهاب الدين غازي ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب رحمه الله صاحب ميافارقين وتلك النواحي ودام في حصار التتار أكثر من سنة ونصف ولم يظاهر عليهم إلى أن فني أهل البلد لفناء زادهم فوجد مع من بقي من أصحابه موتى أو مرضى فقطع رأسه وطيف به البلاد ثم علق على باب الفراديس الخارج فقال قائل في ذلك:
ابن غاز غزا وجاهد قوماً ... أثخنوا في العراق والمشرقين
ظاهراً غالباً ومات شهيداً ... بعد صبر عليهم عامين
لم يشنه أن طيف بالرأس منه ... فله أسوة برأس الحسين
وافق السبط في الشهادة والحم ... ل لقد حاز أجره مرتين
جمع الله حسن ذي الشهدي ... ن على فتح ذينك القلعتين
ثم واروا في مشهد الرأس ذلك ال ... رأس فاستعجبوا من الحالين
وارتجوا أنه يجئ لدى البع ... ث رفيق الحسين في الجنتين
ثم وقع من الأتفاق العجيب أن دفن في مسجد الرأس داخل(1/359)
باب الفراديس في المحراب في أصل الجدار وغربي المحراب في طاقة يقال أن رأس الحسين رضي الله عنه دفن بها.
وفي نصف شعبان أغارت العرب على جشارات التتر بتل راهط وما حوله فاستاقوها وخرج الملك الأشرف صاحب حمص ومن بدمشق من التتار ثم رجعوا ولم يقعوا عليها وكان الملك الأشرف قد وصل قبل ذلك إلى دمشق ونزل في داره وقرئ فرمانه بأن تكون البلاد تحت نظره وفي ثاني رمضان وصل الخبر إلى دمشق باستيلاء التتار على صيداء من بلاد الفرنج ونهبها وخلاص ثلاثمائة أسير منها.
وفيها خرج الملك المظفر سيف الدين قطز رحمه الله بعساكر الديار المصرية ومن انضاف منهم من عساكر الشام إلى لقاء التتار ودفعهم عن البلاد الشامية وكان كتبغانوين بالبقاع فبلغه الخبر فاستدعى الملك الأشرف وقاضي القضاة محي الدين واستشارهم في ذلك فمنهم من أشار بعدم الملتقى والاندفاع بين يدي الملك المظفر ومن معه من العساكر إلى حيث يجيئه مدد من هولاكو ليقوى على ملتقى العساكر الإسلامية ومنهم من أشار بغير ذلك وتفرقت الآراء فاقتضى رأي كتبغانوين الملتقى وتوجه من فوره على كره ممن أشار عليه بالأندفاع لما أراد الله تعالى من إعزاز الإسلام وأهله وإذلال الشرك وحزبه فحصل(1/360)
التقاء العساكر على عين جالوت في يوم الجمعة خامس وعشرين شهر رمضان فانكسرت ميسرة المسلمين كسرة شنيعة فحمل الملك المظفر رحمه الله في طائفة عظيمة من المسلمين أول البصائر فكسرهم كسرة عظيمة أتت على معظم أعيانهم وأصيب كتبغانوين قيل قتله الأمير جمال الدين آقوش الشمسي فولوا الأدبار لا يلوون على شئ واعتصم منهم طائفة بالتل المجاور لمكان الوقعة فأحدقت بهم العساكر وصابروهم حتى أفنوهم قتلاً وأسراً ونجا من نجا بحشاشته وأهل البلاد يتخطفونهم وفي حال الفراغ من المصاف حضر السعيد حسن ابن الملك العزيز عماد الدين بن الملك العادل بين يدي الملك المظفر رحمه الله تعالى وكان التتار لما ملكوا قلعة البيرة وجدوه فيها معتقلاً فأطلقوه وأعطوه بانياس وقلعة الصبيبة وبقي معهم وقاتل يوم المصاف المسلمين قتالاً شديداً فلما أيد الله المسلمين بنصره وحضر الملوك عند الملك المظفر فحضر المذكور فلم يقبله الملك المظفر رحمه الله وأمر به فضربت عنقه صبراً وورد كتاب المظفر إلى دمشق في سابع وعشرين شهر رمضان يخبر بالفتح وكسرة العدو ويعدهم بوصوله إليهم ونشر المعدلة فيهم فثاروا العوام بدمشق وقتلوا الفخر محمد بن يوسف ابن محمد الكنجي في جامع دمشق وكان المذكور من أهل العلم لكنه كان في شر وميل إلى مذهب الشيعة وخالطه الشمس القمي الذي(1/361)
كان حضر إلى دمشق من جهة هولاكو ودخل معه في أخذ أموال الغياب عن دمشق فقتل ومن نظمه في علي رضوان الله عليه:
وكان علي أرمد العين يبتغي ... دواء فلما لم يحس مداويا
شفاه رسول الله منه بتفلة ... فبورك مرقياً وبورك راقيا
وقال سأعطي الراية اليوم فارساً ... كمياً شجاعاً في الحروب محاميا
يحب الإله والإله يحبه ... به يفتح الله الحصون كما هيا
فخص دون البرية كلها ... علياً وسماه الوصي المواخيا
وقتل بدمشق أيضاً من أعوان التتار الشمس ابن الماكسيني وابن البغيل وغيرهما وكان النصارى بدمشق قد شمخوا وتجرؤا على المسلمين واستطالوا بتردد إيلبان وغيره من كبار التتار إلى كنائسهم وذهب بعضهم إلى هولاكو وجاؤا من عنده بفرقان يتضمن الوصية بهم والاعتناء بأمرهم ودخلوا به البلد من باب توما وصلبانهم مرتفعة وهم ينادون حولها بارتفاع دينهم واتضاع دين الإسلام ويرشون الخمر على الناس وفي أبواب المساجد فحصل عند ذلك من المسلمين هم عظيم فلما هرب نواب التتر حين بلغهم خبر الكسرة أصبح الناس إلى دور النصارى ينهبونها ويخربون ما استطاعوا منها واخربوا كنيسة اليعاقبة وأحرقوا كنيسة مريم حتى بقيت كوما والحيطان حولها تعمل النيران في أخشابها وقتل منهم جماعة واختفى الباقون ولما عبر(1/362)
النصارى من باب توما قاصدين درب الحجر وقفوا عند رباط الشيخ أبي البيان رحمه الله ونادوا بشعارهم ورشوا الخمر في باب الرباط وفعلوا مثل ذلك على باب مسجدي الحجر الكبير والصغير وألزموا الناس في دكاكينهم بالقيام للصليب ومن لم يقم أخرقوا به وأهانوه وشقوا السوق على هذا الوجه على عند القنطرة آخر سويقة كنيسة مريم فقام بعضهم على الدكان الوسطى من الصف الغربي بين القناطر وخطب وفضل دين النصارى ووضع من دين الإسلام ثم عطفوا من خلف السوق إلى الكنيسة التي خربها الله تعالى وكان ذلك في ثاني وعشرين شهر رمضان وفي الغد صعد المسلمون مع قضاتهم وشهودهم إلى إيلبان بالقلعة فأهانوهم ورفعوا قسيس النصارى عليهم وأخرجوهم من القلعة بالضرب والإهانة وفي هذه حضر إيلبان إلى الكنيسة وفي غده كانت الكسرة ولله الحمد والمنة.
وهم بعض الناس بنهب اليهود فنهب شيء يسير ثم كفوا عنهم وفي يوم الجمعة ثاني شوال خطب بجامع دمشق الأصيل الأسعردي فبقي متوليا الخطابة والإمامة بجامع دمشق إلى سلخ شوال من سنة ثمان وخمسين وستمائة.
وحكى ابن الجزري في تاريخه عن والده إبراهيم بن أبي بكر الجزري رحمه الله قال خرجت من جامع دمشق بعد صلاة الجمعة وهي ثاني جمعة مرت من شهر رمضان من تحت الساعات ودخلت في(1/363)
الخضراء إلى نحو دكاني بسوق الرماحين فوجدت جميع دكاكين الخضراء فيها الخمور والنصارى فيها يبيعون الخمر وبعض المسلمين القليلين الذين معهم وهم يشربون ويرشون الخمر على من عبر عليهم من المصلين وغيرهم قال فما ملكت نفسي إلا والدموع تسيل على خدي وحصل لي نحيب وبكاء كثير وما زلت كذلك إلى حيث وصلت دكاني بسوق البر بالرماحين وأنا على ذلك في البكاء والنحيب إذا قد جاء شخص يقال له الحاج عبد العزيز من أهل دمشق وقد جاء من المكان الذي جئت منه وقد حصل له حال مثل الحال الذي قد حصل لي فقعد كل واحد منا في ناحية وأخذ المنديل على وجهه يبكي وينتحب قال فبينا نحن نبكي وإذا بالشيخ محمد الخالدي قدس الله روحه قد عبر علينا وقال لي يا مليح لأجل أي شئ تبكي الذي رأيت يزول الساعة أبعث إليك محمد العطار يبشرك وأنا فما أقدر أقف ثم مشى وتركني وكان الشيخ محمد مدة مقام التتر بدمشق ليس للشيخ محمد الخالدي شغل سوى أنه يمشي من باب الجابية إلى الباب الشرقي قال فلما كان بعد ساعة إذا بالحاج محمد العطار قد جاءيني وقال لي الشيخ محمد يبشرك والمسلمين ويخبرك أن في أول ليلة الجمعة مرت من هذا الشهر وهو رمضان اجتمعت أشباح الأنبياء والأولياء جميعهم وإبراهيم الخليل وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم أجمعين على صخرة بيت المقدس وسألوا الله تعالى أن يكشف عن المسلمين ما هم فيه من أمر التتار فلم يجبهم(1/364)
فلما كان البارحة وهي ليلة الجمعة أجتمعوا ثانية وسألوا الله تعالى فأجابهم وما يخرج شهر رمضان إلا وهم مكسورين وما تعيد أنت والمسلمين بدمشق إلا بسلطان جديد مسلم قال والدي رحمه الله فكان الواقع كما قال الشيخ محمد قدس الله روحه.
وفيها فارق الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري الملك الناصر من دمشق مهاجراً إلى مصر إلى خدمة الملك المظفر سيف الدين قطز فلما وصل إلى غزة اتفق هو والشهرزورية وتزوج منهم وبعث الأمير علاء الدين طيبرس الوزيري إلى الملك المظفر لتحليفه له فأجابه المظفر إلى ما طلبه منه واقترحه عليه فسار إليه ودخل القاهرة يوم السبت ثاني وعشرين ربيع الأول سنة ثمان وخمسين فركب المظفر للقائه وأنزله في دار الوزارة وأقطعه قصبة قيلوب لخاصته وأشار عليه بملاقاة التتار وقوي جأشه وحرك عزائمه وحرضه على التوجه للقائهم وتكفل له بحصول الظفر من تلقائه فخرج يوم الأثنين خامس عشر شعبان بجميع عساكر مصر مع ما انضاف إليهم من العرب وغيرهم لقصد التتار الذين بالشام فلما وصل إلى مرج عكا أتصل بكتبغانوين مقدم عسكر التتر بالشام خروج الملك المظفر وكان في بلد حمص فتوجه إلى الغور وبعث الملك المظفر للأمير ركن الدين البندقداري في عسكر ليتجسس خبر التتر فلما وقعت عينه عليهم كتب إلى(1/365)
الملك المظفر ليعلمه بوصولهم ثم أنتهز الفرصة في مناوشتهم ليكون له اليد البيضاء عند الإسلام فلم يزل يستدرجهم تارة بالأقبال وتارة بالإحجام حتى وافى بهم إلى الملك المظفر على عين جالوت فكانت الوقعة التي أيد الله بها المسلمين على التتر وأخذ بها منهم ثأر أهل الوير والمدر وحاق بهم مكر السيف وحكم فيهم الحتف بالحيف وقتلوهم وأخذوهم ومعهم ملكهم كتبغانوين فقتل وأخذ رأسه وأسر أبنه وكانت الوقعة بين المسلمين والتتر على عين جالوت يوم الجمعة خامس وعشرين من شهر رمضان المعظم ووصل الخبر إلى دمشق في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان فانهزم بتلك الليلة من كان بدمشق من التتار وأيل سبان نائب الملك وأتباعهم وتبعهم الناس وأهل الضياع ينهبونهم يقتلون من ظفروا به فلله الحمد والشكر وجرد الملك المظفر خلف التتر الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري فتبعهم إلى حمص وقتل وأسر منهم خلقا كثيراً ورجع إلى دمشق ودخل السلطان الملك المظفر إلى دمشق يوم الأحد رابع شوال فأقام بها إلى أن خرج منها طالبا للديار المصرية ووصل إلى دمشق إلى خدمة الملك المظفر الملك الأشرف صاحب حمص والملك المنصور صاحب حماة فأنعم عليهما وأكرمهما غاية الإكرام وممن قتل بعد المعركة الملك السعيد حسن بن الملك العزيز عثمان ابن العادل صاحب الصبيبة وبانياس بقي محبوساً بقلاع الشام بعد موت الملك الصالح أيوب وابنه المعظم توران شاه(1/366)
وكسرت الفرنج بالديار المصرية سنين كثيرة آخرها بقلعة البيرة على الفرات فلما وصل التتر إليها أخرجوه وصار معهم ثم قدم مع مقدمهم كتبغانوين إلى دمشق وحضر فتح قلعتها وتسلم بلاده فلما قدم العسكر المصري في هذه الكرة قاتل مع التتار فلما وقعت الكسرة عليهم جاء إلى الملك المظفر فلم يقبله وقال له لولا الكسرة ما جئت إلي وأمر به فقتل ووصل كتاب السلطان الملك المظفر سيف الدين قطز إلى دمشق من طبرية تاريخه يوم الأحد السابع والعشرين من شهر رمضان وهو أول كتاب وصل منه إلى أهل دمشق يخبرهم بهذه الكسرة الميمونة العظيمة وبوصوله إليهم بعدها.
ومن العجائب أن التتار كسروا وأهلكوا بأبناء جنسهم من الترك وعمل الشيخ شهاب الدين أبو شامة في ذلك شعراً:
غلب التتار على البلاد فجاءهم ... من مصر تركي يجود بنفسه
بالشام بددهم وفرق شملهم ... ولكل شيء آفة من جنسه
ولبعض شعراء دمشق أيضاً:
هلك الكفر في الشآم جميعاً ... واستجد الإسلام بعد دحوضه
بالمليك المظفر الملك الأر ... وع سيف الإسلام عند نهوضه(1/367)
ملك جاءنا بعزم وحزم ... فاعتززنا بسمره وببيضه
أوجب الله شكر ذاك علينا ... دائماً مثل واجبات فروضه
ومما حكى ابن الجزري في تاريخه عن الملك المظفر قطز قال لما كان في رق ابن الزعيم بدمشق بالقصاعين اتفق أن أستاذه بعض الأيام غضب عليه ولطمه على وجهه ولعن واليه وأبوه وجده فقعد يبكي وينتحب كثيراً وحضر الطعام فلم يأكل منه شيئاً وبقي ذلك اليوم طول نهاره يبكي ثم أن استاذه ركب بين الصلاتين إلى الخدمة وأوصى به إلى الفراش وقال له أطعم قطز واعتبه واسترضه هذه صورة ما حكى الحاج على الفراش قال فجئت إليه بعد ركوب أستاذه فقلت له ما هذا البكاء العظيم من لطمة أو لطشة تعمل هذا كله لو ضربت ألف عصاة أو ألف دبوس أو جرحت بالسيف ما عملت هذا كله ولا بعضه فقال والله ما بكائي وغيظي من أجل لطشة إنما غيظي من لعنته أبواي وجدي وأبواي خير منه ومن أبوه وجده فقلت له من أنت ومن أبيك قطعة مملوك تركي كافر بن كافرين فقال والله ما أنا إلا مسلم ابن مسلمين أنا محمود بن ممدود ابن اخت خوارزم شاه من أولاد الملوك قال فسكت وطايبته وتقلبت به الأحوال إلى أن ملك مصر والشام ولما ملك دمشق أحسن إلى الحاج على الفراش وأعطاه خمسمائة دينار مصرية.(1/368)
وحكى المذكور أيضاً قال حكى لي الحاج أبو بكر المعروف بابن الدريهم الأسعردي الحاج زكي الدين إبراهيم الجزري المعروف بالجيلي استاذ الفارس أقطاي قال كنا عند الأمير سيف الدين قطز لما ملك أستاذه المعز فقد حضر عنده منجم ورد من بلاد الغرب وهو موصوف بالحذاقة والمعرفة في علم الرمل وعلم الفلك فأمر أكثر حاشيته بالإنصراف فانصرفوا وكنا نحن من أكابر أصحابه وأتباعه فجئنا حتى نقوم فأمرنا بالقعود وما ترك عنده إلا من يثق إليه في خواصه....... أنه صرف أكثر مماليكه وقال للمنجم أضرب فضرب وعمل صناعته وحدثه بأكثر ما كان في نفسه ثم آخر ما قال له أضرب وأبصر من يملك بعد أستاذي ومن يكسر التتر ومن يكون هلاكهم على يديه قال فضرب وبقي زماناً يحسب وهو مفكر يعد على أصابعه فقال ياخوند يطلع معي خمس حروف بلاب نقط وأبو هذا أيضاً خمس حروف بلاب نقط وأسمك يا خوند ثلاث حروف وكذلك ولد السلطان علي وفي الضرب خمسة بلا نقط فقال له لما لا تقول محمود بن ممدود فقال له المنجم يا خوند ولا يقع غير هذا الإسم فقال له أنا محمود ابن ممدود وأنا الذي أكسر التتر وآخذ بثأر خالي خوارزم شاه قالوا فتعجبنا من كلامه وفرحنا وقلنا إن شاء الله تعالى يكون هذا يا خوند ثم أننا استكتمنا هذا الأمر وأعطى المنجم ثلاث مائة درهم وصرفه(1/369)
ثم قدر الله تعالى تملكه وكسره للتتر خذلهم الله تعالى.
وفيها توجه الملك المظفر إلى مصر وترك الأمير علم الدين سنجر الحلبي نائباً بدمشق وبحلب الملك المظفر علي بن بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل ثم رجع طالب الديار المصرية في يوم الثلاثاء سادس عشرين شوال وقد نقل الصاحب عز الدين بن شداد في سيرة الملك الظاهر أن الملك المظفر لما ملك دمشق كان عازماً على التوجه إلى بلد حلب ليغسل عنها بالتفقد لها وضر التتر فوشى إليه واش أن الملك الظاهر تنكر له...... عليه وأنه عازم على مسكه فصرف وجه توجهه عن قصده وعزم للتوجه إلى مصر مضمرا للظاهر سوءاً أسره الى بعض خواصه فأطلع عليه الأمير ركن الدين البندقداري فخرجوا من دمشق يوم الثلاثاء سادس عشر من شوال ولم تزل الضغائن والحقود تتراءى في صفحات العيون والخدود وكل منهما يحترس من صاحبه بجنة الخداع ويترقب فرصة تقف الروح من الجسد بانتهازها على سنية الوداع إلى أن جمع رأي الظاهر على قتله واتفق مع الأمير سيف الدين بهادر المعزي والأمير بدر الدين بكتوت الجوكنداري المعزي والأمير سيف الدين بيدغان الركني والأمير سيف الدين بلبان الهاروني والأمير علاء الدين أنس الأصبهاني فلما قارب القصير بين الغرابي والصالحية انحرف عن الدرب للصيد فلما قضى وطره وعاد إلى الدهليز سايره(1/370)
الظاهر وأصحابه وطلب منه إمرأة من سبي التتر فأنعم له بها فأخذ يده ليقبلها وكنت تلك إشارة بينه وبين من اتفق معه فلما رآه قد قبض على يده بادره الأمير بدر بن بكتكوت على عاتقه بالسيف فأبانه ثم أختطفه الأمير علاء الدين أنس وألقاه عن فرسه ثم رماه الأمير سيف الدين بهادر بسهم أتى على روحه وذلك يوم السبت ثالث عشر ذي القعدة ثم ساروا إلى الدهليز فأجالوا قداح الرأي بينهم فيمن يملكوه عليهم ويسلموا إليه قيادتهم ويصونوا بمواضي عزمه حريمهم وأولادهم فوقع اتفاقهم على الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري فتقدم الأمير فراس الدين أقطاي المعروف بالأتابك فبايعه وحلف له ثم الأمير سيف الدين بلبان الرشيدي ثم الأمراء على طبقاتهم ونعت بالملك القاهر ثم في الحالة الراهنة قال له الأمير فارس الدين الأتابك لا يتم لك الملك إلا بدخولك الى قلعة الجبل فركب هو والأمير فارس الدين الأتابك والأمير بدر الدين بيسري الشمسي والأمير سيف الدين قلاوون الألفي والأمير بدر الدين بيليك الخزندار وجماعة من خواصه وقصد قلعة القاهرة ليسبق إليها من يطمع نفسه بالملك ورتب في مسيرة إلى القاهرة الأمير جمال الدين آقوش التجيبي أستاذ دار والأمير(1/371)
عز الدين الأفرم أمير جندار والأمير حسام الدين لاجين الدرفيل والأمير سيف الدين بلبان الرومي في الدوادارية وأقر بهاء الدين على عادته أمير أخور ولقيه في طريقه الأمير عز الدين الحلي نائب السلطنة عن الملك المظفر وكان قد خرج للقاء الملك المظفر فأعلمه بصورة الحال وعرض عليه أن يحلف له فحلف ثم تقدم بين يديه إلى القلعة فلم يزل على بابها ينتظره حتى وصل إليها فدخلها وتسلمها والطالع السرطان وكانت القاهرة قد زينت لقدوم الملك المظفر والناس في جذل وسرور وفرح وحبور فلما أسفر الصبح وطلع النهار لم يشعر الناس إلا والمنادي ينادي يا معشر الناس رحمكم الله ترحموا على الملك المظفر وادعوا لسلطانكم الملك القاهر ركن الدين بيبرس فوجموا الناس لما به دهموا خوفاً من عود دولة البحرية إليهم وإلقاء كلكلها عليهم ثم سرى عنهم ما لحقهم بمواعيد برزت إليهم لأن الملك المظفر كان قد أحدث على أهل مصر حوادث كثيرة في هذه السنة سنة ثمان وخمسين منها تسقيع الأملاك وتقويمها وزكاتها وأخذ ثلث الزكاة وأخذ ثلث الترك ودينار عن كل إنسان ومضاعف الزكاة ومبلغ ذلك في السنة ستمائة ألف دينار فأطلقه لهم الملك الظاهر وكتب بذلك توقيع وفرحوا غاية الفرح ولما اسفرت الليلة التي وصل فيها عن يوم الأحد سابع عشر ذي القعدة جلس في إيوان القلعة حيث تجلس الملوك وكان الوزير يومئذ زين الدين ابن زبير وكان فاضلاً في الأدب والترسل(1/372)
وعلم التاريخ وغيره فأشار بتغيير هذا اللقب وقال ما لقب به أحد فأفلح لقب به القاهر ابن المعتضد فلم تطل إمامته وخلع وسمل ولقب به الملك القاهر بن صاحب الموصل فسم ولم تزد أيامه في المملكة على سبع سنين فأبطل اللقب الأول الملك القاهر ولقب نفسه بالملك الظاهر وكتب إلى الملك الأشرف صاحب حمص وإلى الملك المنصور صاحب
حماة وإلى الامير مظفر الدين عثمان بن منكوس صاحب صهيون وإلى الإسماعيلية وإلى المظفر علاء الدين علي بن لؤلؤبن بدر الدين بحلب وإلى الأمير علم الدين الحلبي النائب بدمشق ولما بلغ الأمير علم الدين سنجر الحلبي قتل المظفر وتملك الظاهر للبلاد رغبت نفسه عن الأنقياد فجمع من كان عنده من الأمراء الذين رتبهم معهم الملك المظفر وأعيان دمشق من ذوي الحل والعقد وألزمهم بالحلف له على أن يكونوا في طاعته فأجابه بعض الأمراء ظاهراً ووافقه الباقون فلما استتب له مراده نعت نفسه بالملك المجاهد فكتب إلى النواب المسلمين القلاع الشامية وطلب تسليمها منهم إليه فمنهم من أجاب ومنهم من أبى وبعث إلى الأشرف صاحب حمص وإلى المنصور صاحب حماة والي الأمراء العزيزية بحلب يستميلهم إليه ويرغبهم في طاعته. ماة وإلى الامير مظفر الدين عثمان بن منكوس صاحب صهيون وإلى الإسماعيلية وإلى المظفر علاء الدين علي بن لؤلؤبن بدر الدين بحلب وإلى الأمير علم الدين الحلبي النائب بدمشق ولما بلغ الأمير علم الدين سنجر الحلبي قتل المظفر وتملك الظاهر للبلاد رغبت نفسه عن الأنقياد فجمع من كان عنده من الأمراء الذين رتبهم معهم الملك المظفر وأعيان دمشق من ذوي الحل والعقد وألزمهم بالحلف له على أن يكونوا في طاعته فأجابه بعض الأمراء ظاهراً ووافقه الباقون فلما استتب له مراده نعت نفسه بالملك المجاهد فكتب إلى النواب المسلمين القلاع الشامية وطلب تسليمها منهم إليه فمنهم من أجاب ومنهم من أبى وبعث إلى الأشرف صاحب حمص وإلى المنصور صاحب حماة والي الأمراء العزيزية بحلب يستميلهم إليه ويرغبهم في طاعته.
وفي العشر الأخير من ذي القعدة رسم الأمير علم الدين الحلبي بتجديد عمارة قلعة دمشق وزفت بالمغاني والطبول والبوقات وفرح أهل دمشق بذلك وحضر أمراء الدولة وخلع على الصناع والنقباء(1/373)
وعمل الناس في البناء حتى النساء وكان يوم الشروع في تجديد عمارتها يوما مشهوداً وفرحاً عظيماً لأهل دمشق.
وفي سادس ذي الحجة من هذه السنة خطب على منابر الجوامع بدمشق للملك الظاهر ركن الدين بيبرس وذكر بعده الذي تولى دمشق الملك المجاهد علم الدين سنجر الحلبي وضربت الدراهم باسمهما على الوجه الواحد الملك الظاهر ركن الدنيا والدين والآخر الملك المجاهد علم الدنيا والدين.
ذكر ما جرى بحلب
لما ملك الظاهر مصر والملك المظفر ابن صاحب الموصل متول حلب أساء السيرة وظلم وعسف الرعية واستجبى من أهلها خمسين ألف دينار أجحفت بهم ولما وصلت الأخبار بوفاته كان بحلب الأمير حسام الدين لاجين الجوكنداري العزيزي فاتفق من بها من العزيزية والناصرية والمصرية على قبض الملك المظفر ابن صاحب الموصل وأحذ ما أخذه في المصادرة وحبسوه في قلعة الثغر وقدم الأمير حسام الدين الجوكنداري وفوضوا إليه نيابة السلطنة وذلك في سابع ذي الحجة.
وكان الأمير حسام الدين المذكور قد أخذ إذناً من الملك المظفر وتوجه إلى حلب لاستخلاص ما تبقى له من الإقطاع والودائع والذخائر من الأيام الناصرية فلما اتفق بحلب ما اتفق أجمعوا على تقدمته فلما صار إليه ما صار من أمر حلب كتب إليه الأمير علم الدين(1/374)
سنجر الحلبي يرغب إليه على أن يقطعه إقطاعاً عينه له زيادة على ما كان في يده من الأيام الناصرية فأبى إلا القيام على طاعة صاحب الديار المصرية.
وفيها وصلت التتر إلى حلب يوم الخميس سادس وعشرين ذي الحجة ظهراً فخرج منها الأمير حسام الدين لاجين ومن كان فيها من الأمراء بكرة اليوم المذكور وكان مقدم التتر بيدرة ونادوا في شوارع البلد وعلى المأذنة بالأمن والسلامة ونادوا في ظاهرها كذلك وأقروا أهلها في منازلهم ثم خرجوا منها وشحنوا في بلادها ولما وصلت الأمراء الذين كانوا بحلب إلى حماة بعثوا إلى الملك المنصور صاحبها فحذروه من التتر ويشيروا عليه بالخروج وموافقتهم فظن ذلك حيلة منهم عليه فلما تحقق أمرهم وما قالوه صحيح خرج إليهم ولحق بهم وسار معهم إلى حمص ووصلت غارة التتر إلى حماة وسنذكر ما تجدد من أخبارهم في حوادث سنة تسع وخمسين وستمائة.
وفيها في هذه السنة كثر تغير الدول ومتولي الحكم بالشام فكان من أول السنة إلى نصف صفر في مملكة الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب حلب وهو آخر من ملك من بني أيوب رحمهم الله وأيانا ثم صار في مملكة التتار إلى الخامس والعشرين من شهر رمضان المعظم ثم صار في مملكة الملك المظفر سيف الدين قطز المعزى صاحب الديار المصرية إلى أن قتل في ذي القعدة ثم صار في مملكة الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري وعلم الدين سنجر الحلبي وهي أول سنة(1/375)
صار أمر الشام إلى ملوك الديار المصرية فلأجل ذلك عملت الخطبة في أول سنة ثمان وخمسين وستمائة وكان القضاء في أول السنة تولاه بدمشق صدر الدين بن سني الدولة مستقلاً به من خمسة عشر سنة إلى أن ملكوا التتار فولوا كمال الدين عمر التفليسي ثم سافر محي الدين بن زكي والقاضي صدر الدين بن سني الدولة إلى هولاكو فولاهما القضاء وتوفي صدر الدين ببعلبك فاستقل محي الدين بالقضاء وحده إلى تولى الملك المظفر سيف الدين قطز الشام فولى القاضي نجم الدين بن صدر الدين بن سني الدولة.
وفيها أبتلى الناس بالشام بغلاء شديد عام في جميع الأشياء منم المأكول والملبوس وغيرهما وبلغ رطل الخبز درهمين ورطل اللحمة خمسة عشر درهماً وأوقية القيبريس درهماً والجبن درهماً ونصفاً والثوم أوقية بدرهم والعنب رطلاً بدرهمين ومن أكثر أسبابه ما أحدثه الفرنج من ضرب الدراهم المعروفة باليافية وكانت كثيرة الغش قيل أنه كان في المائة نحو خمسة عشر درهماً فضة والباقي نحاس وكثرت في أيدي الناس وتحدث في إبطالها مراراً فبقي كل من عنده شيء حريص على إخراجها خوفاً من بطلانها فتراه يدب في شراء أي شيء كان فيتزايد في السلع بسبب ذلك إلى أن بطلت في آواخر هذه السنة فعادت(1/376)
تباع كل أربعة دراهم منها بدرهم ناصري مغشوش وافتقر لسببها خلق كثير وأنتفع آخرون.
ولما ملكوا التتار دمشق كان الملك الأشرف بن صاحب حمص توجه صحبة الملك الناصر فخلاه من بعض البلاد وراح إلى التتار إلى حلب إلى خدمة هولاكو أخذ منه فرمان فرسم له أن يكون من جملة نوابه بالشام المحروسة وأقطعه مائة فارس ومن جملة ما أقطعوه معربا والتل ومنين من حبه عسال التي كانت أقطاع الملك المجاهد جده وبقي مقيما بدمشق يعمل النيابة مع نواب التتار إلى أن كسروا فهرب مع نواب التتار إلى الرحبة فلما ملك الملك المظفر دمشق سير الملك الأشرف صارم الدين أزبك وحسام الدين لؤلؤ وطلبوا له الأمان وحلفوه أنه ما يؤذيه فحضر إليه فركب للقائه وأحسن إليه وأعطاه حمص والرحبة وزاده تل باشر وتوجه الأشرف إلى حمص وطلع القلعة وأقام بها إلى أن توفي رحمه الله في الأيام الظاهرية وعند وفاته سير الأمير جمال الدين التجيبي الأمير بدر الدين بيليك العلائي الكبير وشرف الدين ابن الوزان إلى حمص احتاطوا على حواصلها وحملوا المال والجوهر والقماش الذي خلفه والخيل والبغال والجمال إلى الديار المصرية وأقاموا بها إلى أن حضر إليها الأمير علم الدين سنجر الباش قردي نائبا بها فحضروا المذكورون إلى دمشق المحروسة.(1/377)
وفيها توفي السلطان الملك السعيد نجم الدين ايلغازي ابن الملك المنصور ناصر الدين أرتق أرسلان بن نجم الدين أيلغازي بن أبي تمرتاش بن أيلغازي بن أرتق السلطان أبو الفتح صاحب ماردين وأعمالها وذلك في سادس عشر صفر وقيل في ذي الحجة وهو الأصح نقله الله إلى رضوانه ووفر حظه من غفرانه بسبب وباء وقع في أهل القلعة فأهلك أكثرهم ووصل الخبر إلى التتر بموته من رجل يسمى أحمد بن فارس علي الشافصني رمى بنفسه من القلعة إلى التتر وهم على حصار القلعة كما تقدم ذكره ولما أتصل بهم وفاته بعثوا رسلا إلى ولده الملك المظفر وطلبوا منه الدخول في الطاعة فبعث إليهم عز الدين يوسف بن السماع ليتعرف له منهم ما أضمرت نفوسهم فلما اجتمع بمقدميهم وهما قطزنوين وجرمون قالا له إن بين الملك المظفر قرا أرسلان وبين أيل خان يعنون ملكهم هولاكو وعداً أن والده متى مات وتسلم الملك بعده دخل في طاعته فقال لهم عز الدين هذا صحيح لكن أنتم أخربتم بلاده وقتلتم رعيته فبأي شئ يدخل في طاعته حتى يداري عنه فقالا قد علمنا ذلك ونحن نضم له أن أيل خان متى أتصل به وفات الملك السعيد وأن ولده الملك المظفر دخل تحت طاعته على ما كان تقرر بينهما عوضه عما خرب من بلاده بلادا عامرة مما تجاوزه(1/378)
فلما عاد عز الدين إلى الملك المظفر وأخبره بما دار بينهما وبينه رده إليهم برسالة مضمونها إن أردتم أن أسير رسلي إلى أيل خان فابعثا لي رهائن من جهتكما تكون عندي إلى أن يرجعون وترددت الرسل بينه وبينهم إلى أن استقر الحال بينهم أن بعث قطزنوين ولده وبعث جرمون ابن أخيه فلما صعدا القلعة إلى عند الملك المظفر بعث نور الدين محمود بن كاجار أخا الملك السعيد لأمه وأصحبه قطزنوين من جهته الأمير سابق الدين بلبان فوصلا إلى هولاكو وهو بمراغه فأديا الرسالة وكان مضمونها ما تقدم فأجاب إلى ما ضمناه قطزنوين وجرمون وكتب لهم بذلك بفرامين وبعث بها مع قصاد من جهته وأبقى الرسل عنده وأمرهما بالرحيل عن ماردين فرحلا في شهر رجب الفرد من سنة تسع وخمسين وستمائة ثم بعث هولاكو الرسولين وأصحبهما كوهداي من أكابر أمرائه ومقدميه فوصلوا إلى ماردين وانتظم الصلح والهدنة بين هولاكو والملك المظفر وأسلم بعد ذلك المقدم كوهداي على يد الملك المظفر وأزوجه أخته من أبيه كان الملك السعيد شهماً بطلاً جواداً كريماً حازماً أمره وعنده حسن سياسة واحتراز وافر.
وفيها قتل الملك المظفر سيف الدين قطز بن عبد الله مملوك الملك المعز عز الدين أيبك بن عبد الله الصالحي التركماني بين الغرابي والصالحية كما تقدم ذكره كان بطلاً شجاعاً هماماً وله سطوة وعنده بطش وجرأة وإقدام في جميع الأمور كان مدة ملكه منذ قبض على ابن أستاذه الملك المنصور علي بن الملك المعز إلى أن قتل نحو من سنة حكى(1/379)
أنه لما سافر من القاهرة إلى الشام كان في درجة سيره حيث أتجه يفتح عليه وينتصر لكنه لا يرجع إلى مستقر ملكه أبداً وتصديق ذلك ما حكاه النجم النحاس المنجم بدمشق في شهور سنة خمس وثمانين وستمائة قال كنت بالقاهرة لما أراد الملك المظفر الخروج إلى لقاء التتر قال فجمعونا فكنا خمسة عشر منجماً قال فبقينا في قلعة الجبل ثمانية أيام والراتب يجيئنا وقالوا لنا أبصروا طالع سعيد لسلامة السلطان ورجوعه سالماً قال فاتفقنا جميعاً على أن نأخذ طالعاً يكون فيه سلامة المسلمين والنصر على العدو المخذول ولم نفكر بسلامة الملك المظفر ولا رجوعه فكان من أمره ما كان.
وقال الشيخ قطب الدين اليونيني كان الملك المظفر سيف الدين قطز بطلاً شجاعاً ولم يكن يوصف بكرم ولا شح بل كان متوسطاً وأول من أجترأ على التتر وكسرهم بعد علاء الدين خوارزم شاه كسرة عظيمة جبر بها الإسلام وذكر أيضاً قال حكى عنه أنه قتل يوم المصاف جواده بعين جالوت ولم يصادف في تلك الساعة أحد من الأوشاقية الذين معهم جنائبه فبقي راجلا ورأه بعض الأمراء الشجعان فترجل عن حصانه وقدمه له ليركبه فامتنع وقال ما معناه ما كنت لآخذ حصانك(1/380)
في هذا الوقت وأمنع المسلمين الأنتفاع بك وأعرضك للقتل وحلف عليه أن يركب فرسه فامتثل أمره ووافاه الوشاقية بالجنائب فركب فلامه بعض خواصه على ذلك وقال يا خوند لو صادفك والعياذ بالله بعض المغل وأنت راجل كنت رحت وراح الإسلام فقال أما أنا فكنت أروح إلى الجنة إن شاء الله تعالى وأما الإسلام فما كان الله ليضيعه فقد مات الملك الصالح نجم الدين أيوب وقتل الملك المعظم والأمير فخر الدين بن الشيخ مقدم العساكر يوم ذاك ونصر الله الإسلام بعد اليأس من نصره يشير إلى نوبة المنصورة ولما قدم إلى دمشق بعد الكسرة أجرى الناس كافة على ما كانوا آخر الأيام الناصرية في رواتبهم ومقرراتهم وإطلاقاتهم ولم يتعرض إلى مال أحد ولا إلى ملكه ثم توجه بعد تقرير قواعد الشام وترتيب أحواله على أجمل نظام إلى الديار المصرية فرزقه الله الشهادة فقتل مظلوماً.
وحكى الشيخ قطب الدين اليونيني عن المولى علاء الدين علي بن غانم حرسه الله قال حكى لي في غرة شوال سنة إحدى وتسعين وستمائة ببعلبك قال حدثني المولى تاج الدين أحمد بن الأثير الحلبي ما معناه أن الملك الناصر صلاح الدين يوسف لما كان مقيماً على برزة في أواخر(1/381)
سنة سبع وخمسين وستمائة وصله قصاد من مصر بكتب يخبرونه فيها أن قطز تسلطن بالديار المصرية وقبض على ابن أستاذه قال تاج الدين فطلبني السلطان قرأت عليه الكتب وقال لي خذ هذه الكتب ورح بها إلى الأمير ناصر الدين القيمري والأمير جمال الدين يغمور وأوقف كلاً منهما عليها قال فأخذتها فخرجت فلما بعدت عن الدهليز لقيني حسام الدين البركة خاني فسلم علي وقال جاءكم بريد أو قصاد من الديار المصرية فوريت عنه فقلت ما عندي علم بشئ من هذا قال قطز تسلطن وتملك الديار المصرية ويكسر التتر قال المولى تاج الدين فبقيت متعجبا من حديثه فقلت أيش هذا القول ومن أين لك هذا القول قال والله هذا قطز هو خشداشي كنت أنا وأياه عند الهيجاوي من أمراء مصر ونحن صبيان وكان عليه قمل كثير فكنت أسرح رأسه على أنني كلما أخذت منه قملة أخذ منه فلساً أو صفعته فلما كان في بعض الأيام أخذت عنه قملاً كثيراً وشرعت أصفعه ثم قلت في غصون ذلك والله ما أشتهي إلا أن الله يرزقني أمرة خمسين فارساً فقال لي طيب خاطرك أنا أعطيك إمرة خمسين فارساً قال فصفعته وقلت مالك أنت تعطيني إمرة خمسين قال نعم فصفعته فقال لي والك علة أيش يلزم لك إلا إمرة خمسين فارساً أنا والله أعطيك قلت والك(1/382)
كيف تعطيني قال أنا أملك الديار المصرية فإني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وقال لي أنت تملك الديار المصرية وتكسر التتر وقول النبي صلى الله عليه وسلم لا شك فيه قال فسكت وكنت أعرف منه الصدق في حديثه وعدم الكذب وتنقلت به الأحوال وارتفع شأنه إلى أن صار هو المتحكم في الدولة وما أشك أنه يملك الديار المصرية ويكسر التتر كما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم في المنام قال المولى تاج الدين فلما قال لي هذا قلت له والله قد وردت الأخبار أنه تسلطن في الديار المصرية قال لي والله يكسر التتر فما مضى عن هذا الأمر إلا مدة يسيرة حتى خرج وكسر التتر على ما تقدم ذكره قال المولى تاج الدين رحمه الله فرأيت حسام الدين البركة خاني الحاكي لي ذلك بالديار المصرية بعد كسرة التتر فسلم علي وقال يا مولانا تاج الدين تذكر ما قلت لك في الوقت الفلاني قلت نعم قال والله حال ما عاد الملك الناصر من قطيا ودخلت أنا الديار المصرية أعطاني إمرة خمسين فارساً كما قال رحمه الله لا زائداً على ذلك قال المولى تاج الدين فتعجبت من هذه الصورة.
وذكر أيضاً قال حكى لي الأمير عز الدين محمد بن أبي الهيجاء ما معناه أن الأمير سيف الدين بلقاق رحمه الله حدثه أن الأمير بدر الدين بكتوت الأتابكي حكى له قال كنت أنا والملك المظفر قطز والملك الظاهر بيبرس ركن الدين رحمهما الله في حال الصبا(1/383)
كثيراً ما نكون مجتمعين في ركوبنا وغير ذلك فاتفق إن رأينا منجماً في بعض الطرق بالديار المصرية فقال له الملك المظفر أبصر نجمي فضرب بالرمل وحسب وقال له أنت تملك هذه البلاد وتكسر التتار فشرعنا نهزأ به ثم قال له الملك الظاهر فأبصر نجمي فضرب بالرمل وحسب وقال له وأنت أيضاً تملك الديار المصرية وغيرها فزاد الاستهزاء ثم قالا لي لابد تبصر نجمك فقلت له أبصر لي فضرب وحسب فقال لي وأنت يحصل لك أمرة مائة فارس يعطيك هذا وأشار إلى الملك الظاهر فاتفق أن الأمر وقع كما لم يخرم منه شيء وهذا من عجيب الاتفاق.
الأمير حسام الدين أبو علي بن محمد باساك بن أبي علي الهذباني كان من أكابر الأمراء وله المنزلة العلية عند ملوك بني أيوب وولي مرتين نيابة السلطنة بدمشق زمن الملك الصالح نجم الدين أيوب كان شجاعاً مهيباً وقوراً وكانت وفاته في شهر رمضان بمصر ودفن بتربة والده بالرصد بمصر مولده سنة اثنين وسبعين وخمسمائة وله نظم حسن فمن ذلك قوله:
أهوى رشأ من خالص الترك رشيق ... في الصحو معربد وفي السكر مفيق
في فيه لعاشقيه در وعقيق ... ما أحسنه عندي عدو وصديق
وله أيضاً:
لبيت داعي هواكم حين ناداني ... وقلت شأن الهوى العذري من شأني(1/384)
حفظي لعهد الهوى ديني مع إيماني ... وحبكم صاحبي في طي الفاني
رحمه الله وإيانا.
صدر الدين التغلبي أبو العباس أحمد بن قاضي القضاة شمس الدين أبو البركات يحيى بن هبة الله بن الحسن بن يحيى بن محمد بن علي بن يحيى بن صدقة الشافعي المعروف بابن سنى الدولة توفي بعلبك يوم الجمعة ثامن جمادى الآخرة وعمل عزاؤه يوم الثلاثاء ثالث عشرجمادى الآخرة بدمشق بجامعها مولده سنة تسعين وخمس مائة سمع من الخشوعي وابن طبرزد وحنبل والكندي والحرستاني وغيرهم وحدث ودرس في عدة مدارس بدمشق وأفتى وكان عالماً بعلوم شتى وعنده مكارم أخلاق ورياسة وعنده مداراة ويصفح عمن يسيء إليه وولي وكالة بيت المال بدمشق ثم ناب في الحكم عن قاضي القضاة محي الدين مدة ثم ولي مستقلاً قاضي القضاة بدمشق وأعمالها لما فتح ابن الشيخ دمشق للملك الصالح نجم الدين أيوب في جمادى الأولى سنة ثلاث وأربعين وستمائة ولم يزل مستقلاً في الحكم إلى أوائل دولة التتر سنة ثمان وخمسين وستمائة.
الشيخ مخلص الدين المبارك بن يحيى بن معقل الغساني الحمصي كان فاصلاً أديباً وله معرفة تامة بالأنساب وهو أحد مشايخ الشيعة توفي في ربيع الآخر بجبل لبنان وكان قد هرب من حمص من التتر فأدركه أجله وله معرفة بالأدب وله نظم فمنه:(1/385)
بدا لي وقد خط العذار بوجهه ... حبيب له مني علي رقيب
كمثل هلال العيد وقد دنا ... من الأفق مرماه وحان مغيب
وله في غلام أهدى له تفاحة من يده:
أتى يهز قضيب البان حين مشى ... من تحت طلعة البدرفوق جيد رشا
حيا بتفاحة من خده اكتسبت ... لوناً ومن ريقه طعماً وطيب نشا
لا تعجبوا وهي من أوصافه خلقت ... إن العليل إذا ما شمها انتعشا
وله غير ذلك وكان في العلماء في فنون كثيرة رحمه الله وإيانا.
الشيخ نجيب الدين محمد بن العلي الخلاطي كان عالماً بتعبير الرؤيا وغيرها من علوم شتى وتواريخ الناس وأخبارهم حكى ابن الجزري عن والده قال حكى لي الشيخ نجيب الدين حكاية عن سفيان الثوري قال دخل سفيان على جعفر بن محمد الصادق فقال يا سفيان ما جاء بك؟ فقال يا ابن رسول الله جئت أتعلم منك فقال يا سفيان أنت رجل يطلبك السلطان وأنا أهل بيت أعين الناس إلينا سراع فإذا أنعم الله عليك بنعمة فقل الحمد لله وإذا استبطأت الرزق فقل أستغفر وإذا خفت شيئاً فقل لا حول ولا قوة إلا بالله أرجع راشداً قال سفيان فلما وليت اتبعني بصره ثم قال يا سفيان ثلاثاً وأي ثلاث وروى أيضاً أنه خرج سليمان بن داود عليه السلام يستسقي فمر بنملة مستلقية رافعة قوائمها إلى السماء تقول اللهم إنا خلق من خلقك ليس بنا غنى(1/386)
عن سقيك ورزقك فلا تهلكنا بذنوب بني آدم فقال سليمان أرجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم وفي رواية قائمة على رجليها رافعة يديها تقول فأنزل علينا غيثك ولا تؤاخذنا بذنوب عبادك فرجعوا يخوضون الماء إلى الركب وتوفي في شهور سنة ثمان وخمسين وستمائة رحمه الله وإيانا ودفن بقاسيون.
الأمير مجير الدين إبراهيم بن أبي بكر بن أبي زكرى توفي مقتولاً بنابلس كان من أكابر الأمراء وشجعانهم بطلاً هماماً مريناً كثير الإحسان إلى الناس وله المنزلة العلية عند الملك الصالح نجم الدين أيوب قدم في صحبته إلى الشام وترقى عند الملك الناصر وكان حظياً عنده وكلمته مسموعة وشفاعته لا ترد وعنده كرم وفضيلة وله نظم فمنه قوله:
جعل العتاب إلى الصدود سبيلا ... لما رأى سقمي عليه دليلا
فظللت أورده حديث مدامعي ... عن شرح جفني مسنداً منقولا
وله أيضاً:
قضى البارق النجدي في حالة اللمح ... بفيض دموعي إذ تراءى على السفح
ذبحت الكرى ما بين جفني وناظري ... فمحمر دمعي الآن من ذلك الذبح
قيل أنه لم يقتل حتى قتل من التتر سبعة عشر نفراً وانكسر سيفه فقاتل بدبوس فتكاثروا عليه فقتلوه رحمه الله وإيانا.
الصدر شرف الدين عثمان بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن علي بن المطهر بن أبي عصرون التميمي الدمشقي الشافعي مولده(1/387)
بدمشق في ثامن عشر ذي الحجة سنة إحدى وثمانين وخمسمائة كان رئيساً جواداً كبير الهمة مفرطاً في الكرم يستقل الكثير في العطاء وأنفق من الأموال جملاً عظيمة وتوفي وهو فقير من فقراء المسلمين.
يحكى عنه في كرمه وسعة صدره غرائب كثيرة من جملتها أنه توجه إلى الديار المصرية معه هدية نفيسة لأولاد شيخ الشيوخ وغيرهم وكان بينه وبين أولاد شيخ الشيوخ قرابة فإن والدتهم أبنة عمه فلما سير للأمير فخر الدين نصيبه من الهدية استعظمها وقال بما نقابل هذا الرجل واتفق حضور الهدية سكر عال مكرر للأمير فخر الدين بالقصد من بعض اقطاعاته فسير له منه حملاً وقال هذا يشربوه غلمان الشيخ شرف الدين فلما جاء السكر عمله حلوى منوعة وكان في خدمته حلاوي من الشام ماهر في صناعته وسير الحلوى للأمير فخر الدين فلما أكل منه أعجبته أعجاباً كثيراً ورأى لها طعماً غريباً لم يعهده في غيرها فأحضر الحلاوي الذي في مطبخ نفسه وأطعمه من تلك الحلوى ورام منه أن يعمل مثلها فقال ما أدري ما هذه ولا أعرف كيف عملت ثم سال الحلاوي لمن ساعد حلاوي شرف الدين على عملها عن كيفيتها فذكر أنها ليست بشيرج وإنما هي بدهن لوز استخرج وطبخت به مع كثرة الفستق والمسك وغيره ولعلها أرادت أرادب عدة قلب لوز فأخبر الحلاوي الأمير فخر الدين بذلك فستهالها وقال هذا جنون.(1/388)
حكى الشيخ قطب الدين عن المذكور قال حكى لي الجمال نصر الله وكان في خدمته قال خلف له والده من الأموال والأثاث والقماش والخيول والبغال والجمال والمماليك والجواري والخدام ما لا يحصى كثرة ومن الأملاك كذلك إلى وخلف له والده سطل بلور أكبر من المد الشامي له طوق ذهب وعلاقة ذهب وهو ملآن جواهر نفيسة لو وضع عليها حبة واحدة سقطت فأذهب الجميع بيعاً وهبة كانت وفاته في العشرين من صفر بديار مصر مغتالاً لأنه كان قد اجتمع بالملك المظفر وأراه كتاباً أن بمصر دفائن وأنها لا تحصل إلا بخراب أماكن كثيرة وأصغى إليه السلطان فكأن بعض من كان يتحصل له الضرر بخراب ملكه اغتاله والله أعلم.
الشيخ الصالح محمد بن خليل بن عبد الوهاب بن بدر أبوعبد الله البيطار المعروف بالأكال أصله من جبل بني هلال مولده بقصر حجاج خارج دمشق سنة ستمائة وتوفي بها خامس شهر رمضان في هذه السنة وكان رجلاً صالحاً ديناً كثير الإيثار للأرامل والأيتام والفقراء وعمارة المساجد وبنى منارة مسجد قصر حجاج وكان لا يدخر شيئاً ولا يأكل لأحد شيئاً إلا بإجرة وكان ضريبة الصحن الحلوى خمسة دراهم وقدح الشراب خمسة دراهم والطعام فعلي مقداره عشرين درهما وثلاثين درهما إلى المائة وكذلك الملبوس.
حكى ابن الجزري عن والده عن الشيخ محمد الأكال قال حكى(1/389)
لي الأمير فخر الدين بن ملكيشو وزين الدين محمود الخيمي قال كنا في سماع قد عمله النقيب بهاء الدين نقيب الأشراف بداره وعنده الأمير السيفي والأمير ركن الدين البندقداري وأكثر البحرية الذين كانوا في خدمة الملك الناصر فجرى حديث الشيخ محمد الأكال فقال السيفي أنا أحضره وأطعمه فلما حضر أحضر له صحن حلاوة وقال له كل فقال ما آكل إلا بخمسين درهماً فشرع السيفي يبربس عليه فقال له الشيخ محمد والله لا أكله إلا بخمسين درهماً لك وللفقراء بخمسة دراهم فأحضر له خمسين درهماً وأكل من الصحن ثم طلب منه أن يطعمه شيئاً آخر فلم يقبل واشتغل أهل السماع به ولم يزالوا حواليه يسألوه فما أنقضى السماع حتى أخذ من السيوفي نحو ثلاثمائة درهم ومن الملك الظاهر خمسين درهما ومن باقي البحرية وأهل السماع تكملة ستمائة درهم وبقي السيفي وأكثر البحرية بعد ذلك يترددون إليه ويطلبون بركته وكان يتفقد الجيوش فوقتاً يبرهم ووقتاً يخلص بعضهم ويرضي غرمائهم ولا يبقي أحداً يبوس يده إلا بشئ وكان في شهر رجب وشعبان ورمضان يطلق يديه يبوسها الناس بلاش فيجئ بعض الناس فيكثر التقبيل فيقول أغبن وكان كثير الحج والسفر إلى الحجاز وكان إذا قدم من الحج يطلق يديه للناس يبوسوها بلاش وكان أكثر الناس ينكر على من(1/390)
يعامله بهذه المعاملة وينسبه إلى التهور فإذا اجتمع به أنفعل له في كل ما يختار ولا يكاد يخالفه فيما يطلب منه وكان مجاورا لابن الجزري في درب الأسدية.
حكى ابن الجزري عن والده قال لما تزوجت بوالدتك أولمت وطلبت أصحابي وأهل الحارة فحضروا فقيل لي عنه فقلت للجماعة أنا ما أعطيه شيئاً وأنا جاره ونزيله وأنا رجل غريب فإن حضر فلا كلام وإن لم يحضر فلا حيلة فراح إليه زين الدين الخيمي وذكر له ما قلت فقام وحضر وقال لي أنت مشرقي غلبتني كنت أريد أن أحمل لك شيئاً لأجل أنك جاري والآن قد أطلقتك أيش عندك قلت ثلاث براني شراب فقال ثلاثين درهماً قلت والله ثلاث فلوس حمر ما أعطيك فقال هات من كل واحدة قدحاً فشرب ولعق منهم بالملعقة ثم أحضرت الحلاوة وهريسة فستق فقال والله هذا مأكول خشن يا مشرقي والله ما غلبني أحد غيرك فلا تخبر على مشتري قال وبقي بعد ذلك كل واحد يهادي صاحبه إلى أن مات رحمه الله قال وكان دائماً يبعث إلى مما يجيئه وأنا أبعث له من عير أجرة وكان لا يقبل لأحد هدية إلا بشئ فكان كثير من الناس يبعث له شيئاً فيضعوه في أسفل داره أو في الباب ويهربون فلا يدخل منه شيئاً إلى داره بل يفرقه للفقراء الحاضرين وجواره في الدرب رباطين فيسيره إليهم وإلى غيرهم من المحاجين وكان من عجائب الدهر وغرائبه لم يسبقه أحد قبله بهذا(1/391)
الفعل ولا جاء بعده مثله رحمه الله وإيانا والمسلمين أجمعين.
الفخر محمد بن يوسف الكنجي كان رجلاً فاضلاً أديباً وله نظم حسن قتل في جامع دمشق بسبب دخوله مع نواب التتر ومن شعره في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعلى آله:
وكان على أرمد العين يبتغي ... دواء فلما لم يحس مداويا
شفاه رسول الله منه بتفلة ... فبورك مرقياً وبورك راقيا
وقال سأعطي الراية اليوم فارساً ... كمياً شجاعاً في الحروب محاميا
يحب الآله والآله يحبه ... به يفتح الله الحصون كما هيا
فخص به دون البرية كلها ... عليا وسماه الوصي المواخيا
رحمه الله وإيانا:
الشيخ الإمام الناسك الرباني العارف القدوة الزاهد العابد الورع القطب أبو بكر بن علي بن قوام بن منصور بن معلي بن حسن بن هارون بن قيس بن ربيعة بن عامر بن هلال بن قصي بن كلاب الراسبي الزاهد أحد مشايخ الشام رضي الله عنهم أجمعين ولد بمشهد صفين سنة أربع وثمانين وخمسمائة ثم أنتقل إلى بالس وبها ربي وكان شيخاً زاهداً عابداً قانتاً لله تعالى عارفاً بالله عديم النظير أماماً عالماً عاملاً له كرامات وأحوال حسن الأخلاق لطيف الصفات وافر الأدب والعقل(1/392)
دائم البشر مخفوض الجناح كثير التواضع شديد الحياء متمسكاً بالآداب الشرعية معظماً لأهل العلم والدين كثير المتابعة للسنة محباً لسالكي طريق الآخرة مع دوام المجاهدة ولزوم المراقبة إلى أن توفاه الله تعالى في سنة ثمان وخمسين وستمائة بقرية يقال لها علم بالقرب من مدينة حلب المحروسة ودفن هناك في تابوت ثم نقل منها إلى دمشق المحروسة في شهر ذي الحجة سنة تسع وستين وخمسمائة وقدموا به إلى دمشق في يوم الخميس ثامن شهر المحرم سنة سبعين وستمائة ودفن من الغد بالزاوية المعروفة به بسفح قاسيون.
وقد جمع له حفيده هو شيخنا الجليل أبو عبد الله محمد بن عمر بن الشيخ الجليل الكبير أبو بكر بن قوام المذكور جزأ كبيراً ذكر فيه أشياء نذكر منها بتسير إن شاء الله تعالى قال شيخنا أبو عبد الله محمد بن عمر أخبرني والدي رحمه الله قال أوصاني الشيخ قدس الله روحه أن أدفنه في تابوت وقال لي يا بني أنا لابد لي أن أنقل إلى الأرض المقدسة وكان كما قال فإنه نقل بعد موته بأثنتي عشر سنة إلى جبل قاسيون وكنت في من حضر خروجه من قبره وسرت معه إلى دمشق وشهدت دفنه وذلك صبيحة يوم الجمعة تاسع المحرم سنة سبعين وستمائة ورأيت في سفري معه عجائب منها أنّا كنا لا نستطيع الليل أن نجلس عنده لكثرة تراكم الجن عليه وزيارتهم له وقدمنا في الطريق على قرية بعلاه المعرة يقال له شمسين فخرج أهلها إلى زيارته(1/393)
وفيهم رجل كبير فقال من هذا فقلنا الشيخ أبو بكر بن قوام فحصل له اضطراب كثير وأنزعاج فلما أفاق قال له والدي أي شئ أوجب هذا الأنزعاج قال كنت أتردد إلى زيارة الشيخ في بلده فدعوته مرة إلى قريتي هذه فقال لا بد أن أزورك في قريتك وتوفي رحمه الله وبقي عندي من قوله شيء فلما قلتم أنه هذا ذكرت بقوله ووفاه بعهده بعد موته وقدمنا حماة فتلقانا خلق كثير من العلماء والمشايخ وجاء الناس إلى زيارته إرسالاً وقدمنا بعلبك فتلقاه جماعة من المشايخ والصالحين منخ الشيخ الإمام عبد الله بن الشيخ الجليل محمد بن الشيخ العارف القدوة عبد الله اليونيني وأنزلوه في مكان وعزموا أن يقيم عندهم أياماً وصنعوا طعاماً فلما أكل الطعام حضر قوال وأستأذن أن يقول شيئاً فلما قال قام المشايخ رضي الله عنهم قال ابن الجزري فحصل لوالدي انزعاج كثير فلما خرج ليتوضأ لصلاة العصر قال له بعض من حضر يا سيدي رأينا اليوم منك شيئ لم نره منك ولا نعرفه فقال رأيت الشيخ وهو واقف مع المشايخ وتقدم إلي وقال يا ولدي عجل بنا إلى الصالحية فقمنا وسافرنا من ساعتنا ولم يشعر بنا أحد من الجماعة حتى صرنا بقرية فصه فأدركنا منهم جماعة وقالوا كيف سافرتم ولم نشعر بكم فأخبرهم والدي بما رأى من الشيخ فتعجبوا لذلك وقدمنا دمشق ثامن المحرم قال وأخبرني الصاحب محي الدين بن النحاس رحمه الله قال كنت بحلب في سنة ثمان وخمسين وستمائة وبها الشيخان أبو بكر بن فتيان وأبو بكر بن قوام فسير الشيخ أبو بكر بن فتيان إلى(1/394)
الشيخ أبي بكر بن قوام أن اخرج بنا من هذا البلد إلى بعض القرى فإن متنا دفنا في البر فقال للرسول قل له تربتنا في أرض دير مران فكان كما قال دفن أحدهما شرقي الدير وهو الشيخ أبو بكر بن فتيان والآخر غربي الدير وهو أبو بكر بن قوام رحمهما الله وإيانا وحضر دفنه خلق كثير من المشايخ والعلماء والصالحين منهم الشيخ مجد الدين بن الخليلي والصاحب محي الدين بن النحاس والشيخ قطب الدين ابن عصرون وخلق كثير لم أعرف أسماءهم وقبل أن يوضع في قبره كشف عنه ورآه الحاضرون وحصل وقت عجيب من الرقة والبكاء وحضر في الجماعة رجل من أهل حماة حال قدومه منها وقال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وأنا في حماة وقال لي يا فلان قم وامض إلى دمشق واحضر دفن رجل من الأولياء فحضر دفنه وعاد على عقبه إلى حماة ولم يدخل دمشق.
ذكر بداية أمره قال رضي الله عنه كانت الأحوال تطرقني في بداية أمري فكنت أخبر بها شيخي رضي الله عنه فينهاني عن الكلام فيها وكان عنده سوط يقول متى تكلمت في شيء من هذا ضربتك بهذا السوط ويأمرني بالعمل ويقول لا تلتفت إلى شيء من هذه الأحوال فما زلت معه كذلك حتى كنت عنده في بعض الليالي وكانت لي أم ضريرة وكنت باراً بها ولم يكن لها من يخدمها غيري فاستأذنت الشيخ في المضي إليها فأذن لي وقال أنه سيحدث لك في هذه الليلة أمر عجيب فاثبت له ولا تجزع فلما خرجت من عنده وأن مار(1/395)
إلى جهة أمي سمعت صوتاً من جهة السماء فرفعت رأسي فإذا نور كأنه سلسلة متداخل بعضه في بعض فالتفت على ظهري حتى أحسست ببردها في صدري فرجعت إلى الشيخ فأخبرته بما وقع لي فقال الحمد لله وقبلني بين عيني وقال يا بني الآن تمت النعمة عليك أتعلم يا بني ما هذه السلسلة فقلت لا فقال هذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذن لي في الكلام وكان قبل ينهاني عنه.
وسمعنا نحن من غير واحد من صحبه أنه كان يقول أذن لي في الكلام ولو لم يؤذن لي ما تكلمت بشيء ولا في شيء.
ذكر ما أظهره الله تعالى له من الكرامات والأحوال: سمعته يوماً وقد دخل إلى البيت وهو يقول لزوجته ولدك قد أخذه قطاع الطريق في هذه الساعة وهم يريدون قتله وقتل رفاقه فراعها قول الشيخ رضي الله عنه فسمعته يقول لها لا بأس عليك فإني قد حجبتهم عن أذاه وأذى رفاقه غير أن مالهم يذهب وغداً إن شاء الله تعالى يصل هو ورفاقه فلما كان من الغد وصلوا كما ذكر الشيخ وكنت فيمن تلقاهم وأنا يومئذ ابن ست سنين وذلك سنة ست وخمسين وستمائة.
قال وسمعت الشيخ الصالح إسماعيل بن أبي سالم بن أبي الحسن المعروف بابن الكردي يقول حججت مع أبواي فلما كنا بأرض الحجاز وسار الركب في بعض الليالي وكان أبواي راكبين في مجادة وكنت(1/396)
أمشي تحتها فحصل لي شيء من القولنج فعدلت إلى مكان وقلت لعلي أستريح ثم ألحق الركب فنمت فلم أشعر بنفسي إلا والشمس قد طلعت ولم أدر كيف أتوجه ففكرت في نفسي وفي أبواي فإنهلم يكن معهما من يخدمهما ولامن يقوم بشأنهما غيري فبكيت عليهما وعلى نفسي فبينما أنا أبكي إذ سمعت قائلاً يقول ألست من أصحاب الشيخ أبي بكر بن قوام فقلت بلى والله قال سل الله تعالى به فإنه يستجاب لك قال فسألت الله تعالى به كما قال فوالله ما استتم الكلام إلا وهو واقف عندي وقال لا بأس عليك ووضع يده في عضدي وسار بي يسيراً وقال هذا جمل أبويك فسمعتهما وهما يبكيان علي فقلت لا بأس عليكما وأخبرتهما بما وقع لي.
قال وحدثني أيضاً قال كنا جلوساً مع الشيخ في تربة الشيخ رافع رضي الله عنهما ونحن ننظر إلى الفرات إذ لاح على شاطئ الفرات رجل فقال الشيخ أترون ذلك الرجل الذي على شاطئ الفرات فقلنا نعم قال إنه من أولياء الله تعالى وهو من أصحابي وقد قصد زيارتي من بلاد الهند وقد صلى العصر في منزله وقد توجه إلي وقد زويت له الأرض فخطا من منزله خطوة إلى شاطئ الفرات إلى ههناتأدباً منه معي وعلامة ما أقول لكم أنه يعلم أني في هذا المكان فيقصده ولا يدخل البلد فلما قرب من البلد(1/397)
عرج عنه وقصد المكان الذي فيه الشيخ والجماعة فجاء وسلم وقال يا سيدي أسألك أن تأخذ على العهد أن أكون من أصحابك فقال له الشيخ وعزة المعبود أنت من أصحابي فقال الحمد لله لهذا قصدتك واستأذن الشيخ في الرجوع إلى أهله فقال له الشيخ وأين أهلك؟ قال في الهند قال متى خرجت من عندهم؟ قال صليت العصر وخرجت لزيارتك فقال له الشيخ أنت الليلة ضيفنا فبات عند الشيخ وبتنا عنده فلما أصبحنا من الغد طلب السفر فخرج الشيخ وخرجنا في خدمته لوداعه فلما سرنا في وداع الشيخ وضع الشيخ يده بين كتفيه ودفعه فغاب عنا ولم نره فقال الشيخ وعزة المعبود في دفعتي له وضع رجله في باب داره بالهند أو كما قال.
قال وسمعت الأمير الكبير المعروف بالأخضري وكان قد أسن يحكى قال كنت مع الملك الكامل لما توجه إلى الشرق فلما نزلنا بالس قصدنا زيارة الشيخ مع فخر الدين عثمان وكنا جماعة من الأمراء فبينما نحن عنده اذ دخل رجل من الجند فقال يا سيدي كان لي بغل وعليه خمسة آلاف درهم فذهب مني وقد دليت عليك فقال له الشيخ اجلس وعزة المعبود قد حصرت على آخذه الأرض حتى ما بقي له مسلك إلا باب هذا المكان وهو الآن يدخل فغذا دخل وجلس ليشير إليك بالقيام فقم وخذ بغلك وما لك فلما سمعنا كلام الشيخ قلنا لا نقوم حتى يدخل هذا الرجل فبينما نحن جلوس إذ دخل الرجل فأشار(1/398)
إليه الشيخ فقام وقمنا معه فوجدنا البغل والمال بالباب فأخذه صاحبه فلما حضرنا عند السلطان أخبرناه بما رأينا من الشيخ فقال أحب أن أزوره فقال فخر الدين عثمان أن البلد لا يحمل دخول مولانا السلطان فسير إليه فخر الدين عثمان فقال له إن السلطان يحب أن يراك وأن البلد لا يحمل دخوله فهل يرى سيدي الشيخ أن يخرج إليه ليراه فقال له الشيخ يا فخر الدين إذا رحت أنت إلى عند صاحب الروم يطيب للملك الكامل فقال لا فقال فكذلك أنا إذا رحت على عند الملك الكامل لا يطيب لأستاذي ولم يخرج إليه.
قال وحدثني الشيخ الإمام الخطيب شمس الدين الخابوري قال سألت الشيخ عن قوله تعالى إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون وقد عبد عزيز وعيسى بن مريم فقال تفسيرها إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون فقلت له يا سيدي أنت لا تعرف تكتب ولا تقرأ فمن أين لك هذا فقال يا أحمد وعزة المعبود لقد سمعت الجواب فيها كما سمعت سؤالك.
قال وحدثني بعض التجار من أهل بلدنا قال خرجنا مسافرين إلى حماة وكان قد بلغنا أن الطريق مخيف ووافينا الشيخ في خروجنا فقلت له يا سيدي قد بلغنا أن الطريق مخيف ونشتهي أن لا تغفل عنا ولا تنام وتدعو لنا فقال إن شاء الله تعالى فلما بلغنا حماة وأنا راكب على دابة وقد أخذني النعاس وإذا أنا بشخص قد وضع يده(1/399)
في عضدي وقال نحن ما نمنا فلا تنام أنت ففتحت عيني فإذا بالشيخ فسلم علي ومشى معي وقال قد بلغنا حماة وتركني ومضى وحدثني الشيخ تمام بن أبي غانم قال كنا جلوساً مع الشيخ ظاهر البلد في زمن الربيع وحوله جماعة من الناس فقال وعزة المعبود أني لأنظر إلى ساق العرش كما أني أنظر إلى وجوهكم.
وسمعت الحاج مسلم بن حامد قال سئل الشيخ مرة عن الشيخ حياه وكان من خواص أصحابه وهو بمصر فقال ها هو جالس بخان مسرور وقد طبخ ليمونية وهو يأكل ورفاقه وهذه يدي معه في القصعة وهو قد أحس بها وعلم أنها يدي وسئل عنه مرة أخرى وكان بمصر فقال ها هو راكب على دابته ويتلو في سورة كذا وهذه يدي في عضده وقد رميته عن الدابة وقد علم أني أنا الذي فعلت به هذا.
ذكر ما كان عليه من المجاهدة والعمل الدائم كان كثير العمل دائم المجاهدة في نفسه ويأمر أصحابه بذلك ويلزمهم بقيام الليل وتلاوة القرآن والذكر دأبه لا يفتر عنه وفي كل ليلة جمعة يجعل لكل إنسان منهم وظيفة من الجمعة إلى الجمعة وكان يحثهم على الإكتساب وأكل الحلال ويقول أصل العبادة أكل الحلال والعمل لله في سننه شديد الإنكار على أهل البدع لا يأخذه في الله لومة لائم.
قال وأخبرني الشيخ إبراهيم بن الشيخ أبو طالب البطائحي قال قدمت على الشيخ فوجدته يعمل في النهر الذي استخرجه لأهل بالس(1/400)
ووجدت عنده خلقاً كثيرين يعملون معه فقال لي يا إبراهيم أنت لا تطيق العمل معنا ولا أحب أن تقعد بلاب عمل فإني لا أحب أن أرى الفقير بطالاً من شغل الدنيا فاذهب إلى الزاوية وصل ما قدر لك فهو خير لك من قعودك عندنا بلا عمل ولا من عمل الآخرة وكان يحث أصحابه على التمسك بالسنة ويقول ما أفلح من أفلح ولا سعد من سعد إلا بالمتابعة فإن الله تعالى يقول (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني) وقال لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وقال وما آتكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وكان يقول ما اتخذ الله ولياً صاحب بدعة قط قيل له فإن اتخذه؟ قال يصلحه، وكان يقول رجال الشام أمكن من رجال العراق وأعرف وكان لا يمر على أحد إلا ناداه بالسلام حتى على الصبيان وهم يلعبون ويداعبهم ويتنازل إليهم ويحدثهم وكنت أكون فيهم وكان يتفقد أصحابه ويعود المرضى ويسأل أصحابه من عنده مريض حتى يعوده فيتفقد الأرامل بنفسه ويقضي حوائجهم ويحمل ما عنده من نفقة وكسوة وغيرها وكان يسرع إلى إجابة دعوة الفقراء والمساكين أكثر من إجابة دعوة الأغنياء والأمراء وكان دأبه جبر قلوب الضعفاء من الناس قال وسمعت والدي رحمه الله يقول كان إذا عطش الشيخ وهو جالس في المجلس مع الناس قام فشرب بنفسه يريد بذلك تربية المريدين وكان عنده في الزاوية رجل كبير مسن وكان به قطار البول فأتخذ تحته شيئاً يقطر فيه البول فكان يقوم ويريقه بنفسه ويغسل(1/401)
ما أصاب الحصير منه وكان يعلم المريدين كيفية الدخول على المشايخ والجلوس بين يديهم وكان لا يمكن أحداً من تقبيل يده ويقول إذا مكن الشيخ أحداً من تقبيل يده نقص من حاله شيء.
وكان شديد الحياء لا يقطع على أحد كلامه ولا يخجل أحداً بما يقول وإذا جلس على طعام طأطأ رأسه لئلا ينظر إلى أحد ولا ينظر أحد إليه وكان كثير الورع يتحرى في مطعمه وملبسه ويقول الدين الورع وهو أصل العبادة وكان يتورع عن أموال السلاطين والجند وكان عن مال العرب أشد تورعاً لا يأكل لهم طعاماً ولا يقبل لهم هدية وكان للعرب عادة يمرون كل سنة بأرضنا مرتين فإذا مروا لا يأكل مما يباع في السوق لا لحماً ولا لبناً ولا غيرهما بل يتأدم بالزيت وما كان من الأدم في البيت وكان في بدو أمره لا يأكل إلا من المباح يجمع الأشنان بيده وتارة يحصد فلما كبر وأسن كان يأمر من حوله من الفقراء والأصحاب فيخرجون إلى الصحراء فيزرعون زرعاً ويحصدونه فإذا حصل قال لهم لا ترفعوه حتى تدفعوا إلى السلطان نصيبه منه وكانوا يفعلون ذلك قال وأخبرني الشيخ أبو المجد بن أبي الثناء قال حدثني الشيخ طالب الحلي قال حضرت مع الشيخ في وليمة فلما حضر الطعام قدم بين يدي قصعة طعام وكان لي بصيرة فنظرت فإذا الطعام الذي فيها حرام فتوقفت عن أكله فقال الشيخ للخادم يا فلان امض إلى ذلك الفقير وارفع القصعة التي بين يديه فإن بينه وبينها خصومة فجاء الخادم ورفع القصعة من بين يدي وجاء بقصعة غيرها.(1/402)
وصنع له بعض أصحابه في بعض الأيام طعاماً فيه جزر فلما وضعه بين يديه قال له الشيخ من أين اشتريت هذا الجزر فإنه حرام فقال من السوق فقال امض إليه واسأل عنه من أين اشتروه فمضى وسأل عنه فوجده قد اشترى من طعمة المكاسين.
قال وأخبرني الشيخ معالي بن رسلان كنت عند الشيخ فدخل عليه رجل فقال له الشيخ أي شيء أكلت فذكر طعاماً فقال الشيخ إنه حرام إني أرى يخرج من فيك دخان فذهب الرجل وسأل عن ذلك الطعام فوجده كما قال الشيخ فاستغفر الله تعالى منه.
وكان رضي الله عنه زاهداً في الدنيا كثير التقلل منها بكل ممكن فمن ذلك ما حدثني الشيخ أبو المجد بن أبي الثناء قال حضرت عند الشيخ في المرض الذي مات فيه فقال يا بني أنا في هذا المرض أموت فبكيت فقال ما يبكيك أتظن أني أجزع من الموت لا والله يا بني وذلك أني عاهدت الله عهداً وأنا ألقاه به فقلت يا سيدي ما هو؟ فقال أن لا أموت وعندي من الدنيا شيء وكان كما قال رضي الله عنه فإنه مات وليس عليه زيق ولا عمامة لكن ملتحف بعباءه وكان عندنا بعضها نتبرك به ونجد أثر بركته ولم تزل عندنا إلى فتنة التتار فذهبت فيما أذهبه الله تعالى قال وسمعت والدي رحمه الله يقول قدم على الشيخ جماعة ولم يكن عنده ما يقدم لهم وكان بعض أخوتي صغيراً وفي يده شيء من السكر يعلل به كما جرت به عادة الصغار فأخذه وذقه(1/403)
ووضعه بين أيديهم وقال هذا الذي حضر عندنا في الوقت وكان من عادته لابد أن يضع للضيف ما تيسر إحضاره.
قال وحمل إليه مرة الملك الكامل على يد فخر الدين عثمان خمسة عشر ألف درهم فلم يقبلها ولكن قال لا حاجة لنا بها أنفقها في جند المسلمين.
وحكى لي بعض الفقراء قال حضرت مع شيخي في زاوية الشيخ إبراهيم التيمي بحلب وحضر عنده صاحب شيزر وأحضر معه أربعة آلاف درهم فلم يقبلها الشيخ قال وكنت قد أملكت على إمرأة وأمرها موقوف على ستين درهماً فمد الشيخ يده وعد ستين درهماً وقال قم يا فلان وخذ هذه الستين ودفع إلى آخر ثلاثين درهماً كانت عليه دين وقال لصاحب المال خذ مالك.
قال وسمعت والدي يقول حمل بعض الأغنياء إلى الشيخ ثلاثة آلاف درهم فدعاني وقال يا بني فرقها على الفقراء والضعفاء من الناس ففرقتها كما قال ولم يبق منها شيئاً لأهله وكانوا على حاجة رضي الله عنه يؤثر الخشن من اللباس والطعام ويقول ما للفقير الطيب من الطعام واللباس إنما ذلك للأغنياء المترفهين وكان غالب قوته خبز الشعير.
قال وأخبرني الشيخ عمر بن مريريك الجعبري قال عزمت على(1/404)
الحج ولم يكن معي شيء
فجئت إلى الشيخ لأودعه فقال لي عزمت على الحج فقلت نعم يا سيدي غير أن وقتي فقير فقال لي خذ هذين الدرهمين واجعلهما معك ولا تنفقهما فاخذتهما وفعلت كما قال وجئت إلى دمشق ففتح الله تعالى علي فيها بزاد وراحلة وبمائتي درهم فلما حججت وعدت إلى بالس بدأت بالسلام على الشيخ فلما سلمت عليه قال ما فعلت بالدرهمين فأخبرته بما فتح الله تعالى علي ببركتهما فقال قد قضيت بهما حاجتك فهاتهما فقلت لاوالله لا أدفعهما إلى أحد فتبسم وتركهماوما زالا معي ألتمس بركتهما حتى أذهبهما الله مني.
قال وحدثني الشيخ سيف الدين أبو بكر الجرديكي من أصحاب الشيخ أبي الفتح الكناني قال خرجنا مع شيخنا الشيخ أبي الفتح إلى زيارة الشيخ فلما قدمنا عليه أقمنا عنده شهراً وكنا ثمانية عشر رجلاً فلما أردنا السفر استأذناه فلم يأذن لنا وقال لنا لم نجد لكم ثقلاً ولا كلفةً إنه من حين قدمتم علينا وضعت تحت السجادة فلوساً هي ثلاثة دراهم ونحن ننفق منها وهي إلى الآن لم تفرغ أو كما قال.
قال وأخبرنا الصاحب محيي الدين بن النحاس قال كان لي بستان وكان فيه تين ماسوني كبار وكنت أؤخره إلى آخر السنة فقدم علينا الشيخ في آخر السنة فأهديت له من ذلك أربعين تينة وكان وزنها أربعة أرطال بالحلبي وحملها معي إليه ولدي يوسف وكان الشيخ في مشهد قرية علم والناس عنده وهم خلق كثير فقال يا محمد ما هذه الهدية؟ فقلت له تين فقال هذا اليوم طرفة وهو يشتهي وقال للخادم عد الناس(1/405)
كم هم فعدهم فإذا هم مائتان وأربعون رجلاً فقال للخادم أعط كل واحد منهم واحدة ولا ترفع المنديل عن الطبق فاستحييت منه لعلمي أن التين أربعون واحدة فمد يده ووضعها على فخذي قال طيب قلبك لو كانوا ما عسى أن يكونوا لكفاهم ففرقه الخادم على الناس واحدة واحدة ودفع إلى الشيخ واحدة وأخذ الخادم واحدة ودفع إلي واحدة وإلى ولدي واحدة فلم أر أكثر بركة منه.
وعنه أيضاً قال بلغني أن الشيخ في قرية تريدم فخرجت إلى زيارته فمررت بسوق الفاكهة فوجدت بطيخة باكورة السنة تباع فيه فاشتريتها بسبعة دراهم وقلت لعل الشيخ يراها فيدعو لنا وللمسلمين بالبركة فلما جئت بها ورأها قال اللهم بارك لنا وللمسلمين في سنتنا وبلدنا وصاعنا ومدنا الحديث وطلب سكيناً فحزها فكنت أراها تربو بين يديه وتزيد وفرقها على أهل القرية كلهم الرجال والنساء والولدان وفضل منها وكان لا يضع يده في شيء إلا أكل منه الجم الغفير رضي الله عنه قال وحدثني الشيخ عبد الله الكفربلاطي قال دعونا الشيخ إلى قريتنا وجاء معه خلق كثير ولم يكن عندنا ما يكفي الناس فاجتمع جماعة القرية يفكرون في أمرهم فبينما هم مجتمعون في المسجد إذ جاء خادم الشيخ فقال الشيخ يدعوكم فجئنا إليه وهو في المسجد فقال امضوا وأحضروا ما عندكم فإن فيه بركة وكفاية ويكفي الناس وفضل إن شاء الله تعالى.
فأحضرنا الذي كان عندنا فأكل الناس وفضل منه كما قال رضي الله عنه قال وحدثني غير واحد من أصحابه أنهم شهدوا(1/406)
غير مرة الطعام يوضع بين يديه فيأكل منه الخلق الكثير ثم يرفع وهو كما كان أو أزيد مما كان وكان عندنا نحن عكازته فكنا نضعها في الشيء اليسير من مؤنتنا فنأكل منه نحن ومن يرد علينا من الفقراء وغيرهم السنة الكاملة ويفضل منه ولم تزل عندنا نلتمس بركتها إلى أن أذهبها الله تعالى في فتنة التتار سنة تسع وتسعين وست مائة.
قال وأخبرني والدي قال سمعت الشيخ يقول كنت معتكفاً في مسجد في شهر رمضان فدخل علي بعض أولياء الله تعالى فلم أعرفه لعلو مقامه فلما كان وقت الإفطار لم يكن سوى خبز من شعير ولبن حامض أفطر عليه، فقلت في نفسي إذا صليت مغرب أتركع بعدها لعل بعض الجماعة يعزم عليه فيطعمه أصلح من طعامي قال فتركت طويلاً ثم إلتفت فلم أجد أحد في المسجد غيري وغيره فقلت فما بقي إلا أن أعزم عليه فقلت له يا سيدي قد حضر ههنا شيء نفطر عليه عن أذنك نحضره فقال بل أنت في ضيافتي، فلما تكلم كشف لي عن مقامه وإذا هو القطب، فنهضت وتمثلت بين يديه فقال أجلس فجلست فمد يده وتناول شيء من الغيب ووضعه بين يدي وقال كل فأكلت فإذا هو خبز حار وسمن وعسل فأكلنا وفضل منه شيء كثير خذه فقال أذهب به إلى أهلك وعد إلي بسرعة ففعلت ما قال وعدت إليه فقال لي قد أمرت في هذه الساعة بالمسير إلى العراق فقام وقمت معه فلما أقبلنا على باب البلد انفتح وخرجت معه وودعني وقال لي يا أبا بكر أبشر إنه لن(1/407)
تموت حتى تبلغ هذا المقام وغاب عني فلم أره رضي الله عنه.
ومما أظهره الله تعالى له من الكرامة بعد موته أن بعض التجار من أصحابه خرج مسافراً إلى مصر للتجارة في أوائل سنة اثنتين وتسعين وستمائة فقتله قطاع الطريق فبلغنا الخبر بدمشق ولم نعلم له قاتلاً فبينما نحن كذلك إذ رأى بعض الفقراء من أصحابه الشيخ في المنام فقال له يا فلان الذين قتلوا فلاناً قد جمعناهم بمكان كذا وكذا بدمشق فامضوا وخذوهم وهم أربعة نفر فمضينا إلى ذلك المكان فوجدنا منهم اثنين فأخذوا وأحضروا بين يدي نائب السلطان وهو يومئذ الأمير علم الدين الشجاعي فقال لهم أين رفاقكم قالوا دخلنا في هذا اليوم إلى هذا البلد ونحن أربعة فمضى منا اثنان إلى الصالحية وهم في مكان كذا وكذا فمضينا نحن إلى ذلك المكان فوجدنا فيه واحداً فأخذناه وكانت هذه الواقعة يوم السبت ثمان صفر من السنة المذكورة فلما كانت ليلة الأحد من الأسبوع الثاني رأى بعض الفقراء أيضاً الشيخ وهو يقول يا فلان قد جئنا بالغريم الرابع وقد حصرناه في بئر في جبل الصالحية في مكان كذا وكذا معروف بالصالحية فمضينا نحن وأعوان السلطان إلى ذلك المكان وأخذناه من البئر كما قال الشيخ رضي الله عنه وصلب الغرماء الأربعة يوم الأثنين، وكان يوماً مشهوداًمشهوراً بدمشق وكانت قصته طويلة فأختصرنا منها هذا القدر خشية التطويل وفي هذه القصة أنشد الشيخ الإمام العالم المفيد شمس الدين محمد بن عبد القوي(1/408)
المقدسي لنفسه:
إن كنت تهوى أن تعيش مسلماً ... وتفوز في الأخرة بدار سلام
فدع التعرض للرجال ذوي النهى ... والجد والأحوال كابن قوام
أو ما ترى كيف أستقص لواحد ... من صحبه من أربع بتمام
لا تحسبن الموت يوهن جاههم ... كلا ولكن زيد في الإعظام
ومن ذلك أن بعض أصحابه التجار كان بدمشق وقد اجتمع عنده ثلاثون ألف درهم في قيسارية فرآه بعض السراق وكان في أعلى القيسارية فأخذ حبلاً وتدلى به من أعلى المكان إلى أسفله ومعه ما يقطع به القفل فقطعه وفتح الباب وأخذ المال وربطه بحبل وصعد إلى دائر المكان وأراد أن يتقيه فانقطع الحبل بالمال وقصر عن المكان وعجز السارق عن النزول فرأى بعض أصحاب الشيخ في الساعة وهو نائم في القيسارية أن الشيخ دخل عليه وقال له يا فلان قم إلى الحاج أحمد بن صالح وقل له أن السارق قد أخذ ماله وأني تعلقت في الحبل حتى قطعته فليقم وليأخذ ماله وليتصدق منه بكذا وكذا وقال أيضاً للرائي وأنت يا فلان قد سقط منك مائة دينار منذ أيام في قيسارية المعتمد قدام دابتك ولي أيام أحجب عنها الناس لكيلا يأخذوها فقم وخذ مالك فقام الرجل من ساعته وأخبر بالرؤيا فقام الجماعة فوجدوا الأمر كما أخبر به رضي الله عنه.
ومن ذلك أن بعض أصحابه سافر من مصر إلى دمشق فانقطع(1/409)
له جمل بوادي نجمة وعليه حمل قماش ومضى الرفقة وتركوه فجعل يسأل الله تعالى بالشيخ فقام الجمل وسار حتى لحق بالقافلة فسألوه عن سبب قيامه فقال ما عملت غير أني سألت الله تعالى بالشيخ فقام فرأى بعض أصحاب الشيخ وهو بدمشق الشيخ في منامه وقال له يا فلان قل لفلان أنه لما سأل الله تعالى بي أوجدني الله عنده فأقمت الجمل بإذن الله تعالى وألحقت به القافلة.
قال ومن ذلك ما أخبرني به الحاج علي بن حامد بن مسلم قال كنا في البحر وهاج حتى أشرفنا على الغرق فسألت الله تعالى ببركة الشيخ فبينما أنا أسأل الله تعالى إذ رأيت الشيخ وهو مار في الهواء فسكن البحربإذن الله تعالى وسلمنا والحمد لله فهذا ما شهد منه بعد الموت رحمه الله تعالى.(1/410)
بسم الله الرحمن الرحيم
ذكر سلطنة الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البند قداري
لما وصل الملك المظفر إلى القيصر وبينه وبين الصالحة مرحلة واحدة ورحل العسكر طالباً الصالحية وضرب الدهليز السلطاني بها وكان جماعة قد اتفقوا مع الأمير ركن الدين على قتله منهم سيف الدين أنص من غلمان الرومي الصالحي وعلم الدين صنغلي وسيف الدين بلبان الهاروني وغيرهم وكان الأمير ركن الدين قد طلب من الملك المظفر لما ملك الشام أن يستنيبه بحلب فلم يجبه فأثر ذلك عنده واتفق عند القصير أن ثارت أرنب فساق الملك المظفر عليها وساق هؤلاء المتفقون على قتله معه، فلما بعدوا ولم يبق معه غيرهم تقدم إليه الأمير ركن الدين وشفع إليه في إنسان فأجابه فأهوى ليقبل يده وقبض عليها وحمل أنص عليه وقد اشغل الأمير ركن الدين يده وضربه أنص بالسيف وحمل الباقون عليه ورموه عن فرسه ورشقوه بالنشاب فقتلوه ثم حملوا على العسكر وهم(2/1)
شاهرون سيوفهم حتى وصولا إلى الدهليز السلطاني فنزلوا ودخلوا والأتابك على باب الدهليز فأخبروه بما فعلوا فقال من قتله منكم فقال الأمير ركن الدين أنا فقال يا خوند اجلس في مرتبة السلطنة فجلس واستدعيت العساكر للحلف وكان القاضي برهان الدين قد وصل إلى العسكر ملتقياً للملك المظفر فاستدعي وحلف العسكر للملك الظاهر ركن الدين واستقرت قدمه في السلطنة وأطاعته العساكر ثم ركب وساق في جماعة من أصحابه ووصل إلى القلعة ففتحت له واستقر ملكه وأحسن إلى الأمير جمال الدين ايدغدي العزيزي وكان البلدان قد زينا لمقدم الملك المظفر فاستمرت الزينة وأحسن إلى خشداشيته البحرية وأمر أعيانهم، وكانت هذا الواقعة في ذي القعدة ولما استقر في المملكة نفى الملك المنصور نور الدين على بن المعزو أمه وأخاه نصر الدين قاآن إلى بلد الأشكرى وكانوا معتقلين بالقلعة.
وكان الملك الظاهر لما ملك لقب نفسه الملك القاهر وكان الوزير بمصر زين الدين بن الزبير وكان فاضلاً في الأدب والترسل وعلم التاريخ فأشار بتغيير هذا اللقب وقال ما لقب به أحد فأفلح لقب به القاهر بن المعتضد فلم تطل أيامه وخلع وسمل ولقب به الملك القاهر(2/2)
ابن صاحب الموصل فسم فلم تزد أيامه في المملكة على سبع سنين فأبطل الملك الظاهر اللقب الأول ولقب نفسه الملك الظاهر.
وأما حوادث الشام ففي العشر الآخر من ذي القعدة أمر الأمير علم الدين الحلبي بتجديد عمارة قلعة دمشق وزفت بالمغاني والطبول والبوقات وفرح أهل دمشق بذلك وحضر كبراء الدولة وخلع على الصناع والنقباء وعمل الناس في البناء حتى النساء وكان يوم الشروع في تجديد عمارتها يوماً مشهوداً.
وفي العشر الأول من ذي الحجة دعا الأمير علم الدين الحلبي الناس بدمشق إلى الحلف له بالسلطنة فأجابوه وحضر الجند والأكابر وحلفوا له ولقب الملك المجاهد وخطب له على المنابر وضربت السكة باسمه وكاتب الملك المنصور صاحب حماة ليحلف له فامتنع وقال أنا مع من يملك الديار المصرية كائنا من كان.
؟ ذكر دخول التتر إلى الشام
؟ واندفاع عسكر حلب وحماة بين أيديهم
ولما صح عند التتر قتل الملك المظفر رحمه الله وكان النائب بحلب ابن صاحب الموصل وقد أشرنا إلى سوء سيرته مع الجند والرعية فأجمع رأي الأمراء بحلب على قبضه وإخراجه من حلب وتحالفوا على ذلك وعينوا للقيام بالأمر الأمير حسام الدين الجوكندار العزيزي فبينا هم على ذلك وردت عليهم بطاقة وإلى البيرة يخبر أن التتر قد قاربوا البيرة لمحاصرتها واستصرخ بهم لينجدوه بعسكر وكان التتر قد(2/3)
هدموا أبراج البيرة وأسوارها وهي مكشوفة من جميع جهاتها فجرد الملك السعيد عسكراً إليها وقدم عليهم الأمير سابق الدين أمير مجلس الناصري فحضر الأمراء عنده وقالوا له هذا العسكر الذي جردته لا يمكنه رد العدو ونخاف أن يحصل النشب بيننا وبين العدو وعسكرنا قليل فيصل العدو إلى حلب ويكون ذلك سبباً لخروجنا منها فلم يقبل فخرجوا من عنده وهم غضبانون وسار العسكر المسير إلى البيرة من حلب فلم وصلوا إلى عمق البيرة صادفوا التتر بجموعهم فوقع النشب معهم فتراءت الفئتان فلم يمكن سابق الدين لقاءهم فقصد البيرة واتبعه التتر وقتلوا من أصحابه جماعة كثيرة وما سلم منهم إلا القليل، وورد الخبر بذلك إلى حلب فجفل أهل حلب إلى جهة القبلة ولم يبق بها إلا القليل من الناس وندم الملك السعيد على مخالفة الأمراء فيما أشاروا به عليه وقوى بسبب ذلك غضبهم عليه وقاطعوه وباينوه ووقعت بطاقة من البيرة فيها أن طائفة من التتر توجهوا إلى جهة منبج وهم على عزم كبس العسكر بحلب فانثنى عزم الأمراء عن القبض عليه لئلا يطمع العدو فيهم وأخذ يتبذلك للأمراء ويعتذر إليهم مخالفتهم وطلب أن يشيروا عليه بما يعتمده فأشاروا عليه بالخروج إلى جهة التتر وأن يضرب دهليزه ببابلا وهي شرقي حلب وأن يكون العسكر حوله وأن يجمع إليه العرب والتركمان ويكون على أهبة لقائهم فأجابهم إلى ذلك وضرب دهليزه ببابلا ونزل العسكر حوله وأخذ في تجهيز عصية وهو أحد أمراء(2/4)
العرب إلى منبج للكشف واستطلاع أخبار العدو فوقع التتر عليه وقاتلوه فقتلوه وورد الخبر بذلك إلى حلب فاشتد خوف الملك السعيد من غائلة هذا الأمر وبعد يومين وصل الأمير بدر الدين أزدمر الدوادار العزيزي.
وكان قطز رحمه الله قد رتبه نائباً باللاذقية وجبلة فقصد خشداشيته بحلب فلما قرب منها ركبت العزيزية والناصرية والتقوه فأخبرهم أن الملك المظفر قتل وأن ركن الدين البندقداري ملك الديار المصرية وتلقب بالملك الظاهر وإن الأمير علم الدين الحلبي قد خطب له بالسلطنة في دمشق وصار مالكاً لها ولبلادها قال ونحن نعمل أيضاً مثل عمل أولئك ونقيم واحداً من الجماعة مقدماً ونقبض على هذا المدبر يعني ابن صاحب الموصل ونقتصر على حلب وبلادها مملكة أستاذنا فأجابوه إلى ذلك وتقرر بينهم أن حال وصولهم إلى المخيم تمضي إليه الأمراء حسام الدين الجوكندار وسيف الدين بكتمر الساقي وبدر الدين أزدمر الدوادار وكان الملك السعيد نازلاً ببابلا في دار القاضي بهاء الدين ابن الأستاذ قاضي حلب وهو فوق سطحها والعساكر حوله وكانت الإشارة بين هؤلاء الأمراء وبين باقي الأمراء أنهم متى شاهدوا هؤلاء المذكورين معه على السطح يشرعون في نهب وطاقه والذين عنده(2/5)
يقبضون عليه، فلما حضر المذكورون بابه وطلبوا الإذن للدخول عليه أذن لهم فلما حضروا عنده على السطح وأعين الباقين من الخشداشية ممتدة إليهم شرعوا في نهب وطاقه وخيله وأصحابه فسمع الضجة فاعتقد أن التتر قد كبست العسكر ثم شاهد نهب العزيزية والناصرية لوطاقه ووثب الأمراء الذين عنده ليقبضوا عليه فطلب منهم الأمان على نفسه فأمنوه وشرطوا عليه أن يسلم إليهم جميع ما حصله من الأموال ثم نزلوا به إلى الدار وقصدوا الخزانة فما وجدوا فيها طائلاً فتهددوه وقالوا أين الأموال التي حصلتها وطلبوا قتله أو المال فقام إلى ساحة بستان في الدار المذكورة وحفر تحت أشجار نارنج هناك وأخرج أموالاً كثيرة ذكر أنها كانت تزيد على أربعين ألف دينار ففرقت على الأمراء على قدر منازلهم ورسموا عليه جماعة من الجند وسيروه إلى شغر وبكاس معتقلاً وبقي في الاعتقال أياماً ثم أخرجوه بعد أن اندفعوا بين يدي التتر كما سنذكره إن شاء الله، وبعد أيام دهم العدو حلب فاندفع الأمير حسام الدين الجوكندار المقدم بمن معه من العسكر إلى جهة دمشق فلما اندفعوا دخلت التتر حلب وملكوها وأخرجوا من فيها من المسلمين إلى قرنبيا قهراً بعيالاتهم وأولادهم وأحاط التتر بهم في ذلك المكان(2/6)
ووضعوا السيف في بعضهم فأبادوهم وأطلقوا الباقين فدخلوا حلب في أسوأ حال.
ووصل الأمير حسام الدين الجوكندار ومن معه من العسكر إلى حماة وبها صاحبها الملك المنصور فنزلوا ظاهرها من جهة القبلة وقام بضيافتهم وهو مستشعر منهم ثم تقدم التتر إلى جهة حماة فلما قربوا منها رحل الجوكندار والملك المنصور بعسكريهما إلى حمص ووصلت التتر إلى حماة ونازلوها فغلقت أبوابها فطلبوا منهم فتح الأبواب وأنهم يؤمنوهم كالمرة الأولى فلم يجيبوهم ولم يكن مع التتر خسروشاه ولم يكن أهل حماة يثقون إلا إليه وأخرجوا لهم شيئاً من المأكول واندفعوا عن حماه طالبين لقاء العسكر وجفل الناس بين أيديهم وخاف أهل دمشق خوفاً شديداً.
فصل
فيها توفي إبراهيم بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الواحد بن موسى ابن حمد بن محمد بن إسحاق بن محمد أبو إسحاق الشيباني الوزير مؤيد الدين المعروف بن القفطي ومولده بالقدس في رابع عشر المحرم سنة أربع وتسعين خمسمائة سمع من أبي هاشم عند المطلب بن الفضل الهاشمي وغيره حدث بحلب ودمشق ووزر بحلب بعد أخيه القاضي الأكرم مدة(2/7)
إلى أن انقضت الدولة الناصرية وملك التتر حلب فأمروه بالاستمرار في تنفيذ الأشغال وهو متمرض فباشر على كره منه وتوفى عقيب ذلك في أحد الربيعين بحلب وكان من الصدور الرؤساء الفضلاء الأعيان رحمه الله إبراهيم بن أبي بكر بن زكرى الأمير مجير الدين كان من أعيان الأمراء الأكابر كثير الخير والدين والمعروف عظيم القدر جواداً شجاعاً ممدحاً من بيت كبير في الأكراد خدم الملك الصالح نجم الدين وهو بالشرق وقدم معه إلى الشام واعتقله الملك الصالح عماد الدين إسماعيل لما أمسك الملك الصالح نجم الدين واعتقل بالكرك ثم أفرج عنه فكان في خدمة الملك الصالح نجم الدين بالديار المصرية وغيرها إلى أن توفي وقتل ولده الملك المعظم ثم اتصل بخدمة الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله وحج بالناس من دمشق سنة ثلاث وخمسين وفعل من البر والمعروف والإنفاق في سبيل الله تعالى في تلك الحجة ما هو مشهور ومذكور، ولما ضرب البحرية وعسكر الملك المغيث فتح الدين عمر صاحب الكرك المصاف مع بعض عسكر الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله أمسكوه وأمسكوا معه الأمير نور الدين علي بن الشجاع الأكتع فاعتقلا بالكرك مدة ثم أفرج عنهما عند ما تقرر الصلح بين الملك الناصر والملك المغيث وجعله الملك الناصر بعد ذلك بنابلس وأمر تلك الناحية وما حولها من البلاد عائد إليه، ثم جعل عنده قطعة من العسكر بنابلس منهم الأمير نور الدين علي بن(2/8)
الشجاع الأكتع عند ما رحل الملك الناصر رحمه الله عنها إلى غزة في هذه السنة فقدم عليه جمع عظيم من التتر فهجموا نابلس فتلقاهم بوجهه وقاتلهم قتالاً شديداً وقتل منهم بيده جماعة كثيرة وأنكى فيهم نكاية عظيمة واستشهد رحمه الله تعالى مقبلاً غير مدبر وكذلك استشهد معه الأمير نور الدين علي بن الشجاع الأكتع وكان بينهما اشتراك في الكردية والإمرة وخدمة الملك الناصر والدين والفضيلة والكرم والشجاعة وأمسكا جميعاً واعتقلاً بالكرك وأفرج عنهما معاً وجردا في نابلس واستشهدا في يوم واحد وكان بينهما مصافاة واتحاد جمع الله بينهما في الفردوس الأعلى وتغمدهما برحمته ورضوانه.
وكان الأمير مجير الدين من حسنات الدهر وعلى ذهنه جملة كثيرة من الشعر وعنده فضيلة حسن المحاضرة والمذاكرة كريم العشرة كثير الأدب يصل بره إلى الفقراء والأغنياء، قال القاضي جمال الدين بن واصل أنشدني في الديار المصرية مقطعات حسنة لبعض الشعراء فمنها:
دنف نأى عن من يحب فشاقه ... أطلاله سحراً على أطلاله
سأل الحمى عنه وأصغى للصدى ... كيما يجيب فقال مثل مقاله
ناداه أين ترى محط رحاله ... فأجاب أين ترى محط رحاله
قلت أنشدني الفقيه نجم الدين موسى بن إبراهيم بن يحيى بن إبراهيم الشقراوي للأمير مجير الدين إبراهيم المذكور رحمه الله:(2/9)
جعل العتاب إلى الصدود سبيلاً ... لما رأى سقمي عليه دليلا
ظللت أورده حديث مدامعي ... عن شرح جفني مسنداً منقولا
من أبيات وأنشدني نجم الدين للأمير مجير الدين المذكور رحمه الله:
قضى البارق النجدي في حالة اللمح ... بفيض دموعي إذا تراءى على السفح
ومنها:
ذبحت الكرى ما بين جفني وناظري ... فمحمر دمعي الآن من ذلك الذبح
من أبيات وكان مقتله رحمه الله في أحد الربيعين من هذه السنة بنابلس شهيداً على أيدي التتر.
أحمد بن يحيى بن هبة الله بن الحسن بن يحيى بن محمد بن علي بن يحيى بن صدقة بن الخياط أبو العباس صدر الدين التغلبي الدمشقي الشافعي قاضي القضاة بدمشق وأعمالها المعروف بابن سني الدولة وسني الدولة هو الحسن ابن يحيى الكاتب كان كاتب درج لملك دمشق في ذلك الوقت وله نعمة ظاهرة وقف من عرضها أوقافاً على ذريته وهي مشهورة بدمشق وأعمالها يبيد أربابها إلى الآن وتاريخ وقفه الأوقاف المذكورة في العشر الأول من شهر ربيع الأول سنة ثمان وعشرين وخمسمائة، والشاعر المشهور المعروف بابن الخياط وهو أبو عبد الله أحمد بن محمد بن علي بن يحيى أن صدقة التغلبي هو عم سني الدولة أخو والده كان كاتباً شاعراً طاف(2/10)
البلاد وامتدح الناس ودخل بلاد العجم ولما اجتمع بأبي الفتيان بن حيوس الشاعر المشهور بحلب وعرض عليه شعره قال قد نعاني هذا الشاب إلى نفسي فقلما نشأ ذو صناعة ومهر فيها إلا وكان دليلاً على موت الشيخ من أبناء جنسه ودخل مرة حلب وهو رقيق الحال فكتب إلى ابن حيوس المذكور:
لم يبق عندي ما يباع بحبة ... وكفاك مني منظري عن مخبري
ألا بقية ماء وجه صنتها ... عن أن تباع وأين أين المشتري
فلما وقف عليهما ابن حيوس قال لو قال وأنت نعم المشتري لكان أحسن وديوانه مشهور، ومن مشهور شعره قوله:
خذا من صبا نجد أماناً لقلبه ... فقد كاد رياها يطير بلبه
وإياكما ذاك النسيم فإنه ... إذا هب كان الوجد أيسر خطبه
خليلي لو أحببتما لعلمتما ... محل الهوى من مغرم القلب صبه
تذكر والذكرى تشوق وذو الهوى ... يتوق ومن يعلق به الحب يصبه
غرام على يأس الهوى ورجائه ... وشوق على بعد المزار وقربه
وفي الركب مطوى الضلوع على جوى ... متى يدعه داعي الغرام يلبه
إذا خطرت من جانب الرمل نفحة ... تضمن منها داؤه دون صحبه
ومحتجب بين الأسنة معرض ... وفي القلب من إعراضه مثل حجبه
أغار إذا آنست في الحي أنةً ... حذارا وخوفاً أن تكون لحبه
وهي طويلة ومن شعره أيضاً:(2/11)
سلوا سيف ألحاظه الممتشق ... أعند القلوب دم للحدق
أما من معين ولا عاذر ... إذا عنف الشوق يوماً رفق
تجلى لنا صارم المقلت؟ ... ين مضنى الموشح والمنتطق
من الترك ما سهمه إذ رمى ... بأفتك من طرفه إذ رمق
وليلة وافيته زائراً ... سمير السهاد ضجيع القلق
دعتني المخافة من فتكه ... إليه وكم مقدم من فرق
وقد راضت الكأس أخلاقه ... ووقر بالسكر منه النزق
وحق العناق فقبلته ... شهي المقبل والمعتنق
وبت أخالج فكري به ... أزور طرا أم خيال طرق
أفكر في الهجر كيف انقضى ... وأعجب للوصل كيف اتفق
وللحب ما عز مني وهان ... وللحسن ما جل منه ودق
وقال يعتب على أهله وأصحابه:
يا من بمجتمع الشطين إن عصفت ... بكم رياحي فقد قدمت أعذاري
لا تنكرن رحيلي عن دياركم ... ليس الكريم على ضيم بصبار
وله أيضاً:
أتظنني لا أستطي؟ ... ع أحيل عنك الدهر ودي
من ظن أن لا بد من؟ ... ؟ هـ فإن منه ألف بد
وله من جملة قصيدة:
وبالجزع حي كلما عن ذكرهم ... أمات الهوى مني فؤاداً وأحياه
تمنيتهم بالرقمتين ودارهم ... بوادي الغضا يا بعد ما أتمناه(2/12)
كانت ولادته سنة خمسين وأربعمائة بدمشق وتوفي بها في حادي عشر شهر رمضان المعظم سنة سبع عشرة وخمسمائة رحمه الله تعالى وقيل مات سابع عشر شهر رمضان ومولد القاضي صدر الدين سنة تسع وثمانين وخمسمائة وقيل تسعين وخمسمائة سمع من أبي طاهر بركات بن إبراهيم الخشوعي وابن طبرزد وحنبل وأبي المعالي محمد بن علي القرشي وأبي اليمن زيد بن الحسن الكندي وأبي الفضل عبد الصمد ابن محمد الحرستاني وغيرهم وأجاز له جماعة كثيرة من بلاد عديدة وحدث ودرس في عدة مدارس وأفتى وكان فقيهاً إماماً عالماً عارفاً بالمذهب مشكور السيرة في ولاياته لين الجانب دمث الأخلاق كثير المداراة والصفح والاحتمال تنقلت به الأحوال فولى وكالة بيت المال بدمشق ثم ناب في الحكم بها مدة ثم ولي القضاء بها وبأعمالها استقلالاً لما فتح عماد الدين بن شيخ الشيوخ دمشق للملك الصالح نجم الدين ولم ينتقد عليه في حكم من أحكامه في جميع ولاياته ولم يزل مستمراً في الحكم إلى حيث انقضت الدولة الناصرية ففوض هولاكو الحلم بالشام وغيره إلى القاضي كمال الدين التفليسي رحمه الله وكان ينوب عن قاضي القضاة صدر الدين المذكور بدمشق فتوجه صدر الدين(2/13)
صحبة القاضي محي الدين أبي الفضل يحيى بن الزكي إلى هولاكو واجتمعوا به ففوض هولاكو القضاء بالشام إلى القاضي صدر الدين صحبته على غير شيء من الولايات فلما وصل حماة تمرض فركب في محفة ووصل إلى بعلبك وهو مثقل بالمرض فأنزلته في منزلي لقرابة كانت بينه وبين والدتي فإنه ابن عمها وابن خالتها وزوج أختها فبقي يومين في منزلي وتوفي إلى رحمة الله تعالى وحضر والدي رحمه الله غسله فغسله الشيخ زكي الدين إبراهيم بن المعري وصلى عليه والدي ودفن بالقرب من ضريح الشيخ عبد الله اليونيني الكبير قدس الله روحه قبلي مدينة بعلبك وكانت وفاته يوم الأحد عاشر جمادى الآخرة وكان الملك الناصر صلاح الدين يوسف يحبه ويثني عليه كثيراً وكذلك الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن الملك العادل يثني على والده قاضي القضاة شمس الدين أبي البركات يحيى لما كان متولياً القضاء بالشام في أيامه ويقول عنه ما ولي دمشق مثله رحمهم الله أجمعين.
الملك السعيد نجم الدين أيل غازي بن الملك المنصور ناصر الدين أبي المظفر أرتق أرسلان بن نجم الدين أيل غازي بن ألبى بن تمرتاش ابن أيل غازي بن أرتق أبو الفتح صاحب ماردين كان ملكاً جليلاً كبير المقدار شجاعاً جواداً حازماً ممدحاً وتوفي في ذي الحجة من هذه السنة(2/14)
وقيل في سادس عشر صفر سنة تسع وخمسين والأول أصح وسبب موته وباء وقع في أهل القلعة فأهلك أكثرهم ووصل الخبر إلى التتر بموته من رجل يسمى أحمد بن الفارس علي الشافصني رمى بنفسه من القلعة إليهم فبعثوا إلى ولده الملك المظفر رسولاً وطلبوا منه الدخول في الطاعة وكان قد قام مقام أبيه فأجابهم جواباً أرضاهم وأظهر لهم الدخول في طاعتهم والعمل على مداراتهم.
توران شاه بن يوسف بن أيوب بن شاذي أبو المفاخر وقيل أبو منصور فخر الدين الملك المعظم بن السلطان الكبير الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله يعظمه ويحترمه ويثق به ويسكن إليه كثيراً لعلمه بسلامة جانبه وأنه لا تحدثه نفسه بالتوثب عليه فكان عنده في أعلى المنازل يتصرف في قلاعه وخزائنه وعساكره وغلمانه، ولما استولى التتر على مدينة حلب اعتصم بقلعتها ثم نزل منها بالأمان على ما شرحنا ومولده بالديار المصرية في شهر ربيع الأول سنة سبع وسبعين وخمسمائة سمع من أبي عبد الله محمد بن علي بن صدقة الحراني وغيره وحدث وخرج له الحافظ أبو محمد التوني مشيخة في جزء حديثي وكانت وفاته بحلب في السابع والعشرين من ربيع الأول ودفن بدهليز داره رحمه الله تعالى.(2/15)
الحسن بن عثمان بن أبي بكر محمد بن أيوب بن شاذي الملك السعيد بن الملك العزيز بن الملك العادل كان والده الملك العزيز عماد الدين عثمان قد توفي في سنة ثلاثين وستمائة وملك بانياس والصبيبه وما معها مما كان بيده من البلاد ولده الملك الظاهر فلم تطل مدته وتوفي بعد أشهر يسيرة دون السنة فملك بلاده أخوه الملك السعيد حسن المذكور ولم تزل في يده إلى أن ملك الملك الصالح نجم الدين الديار المصرية والشام فانتزعها من يده وأعطاه خبزاً بالديار المصرية وبقي في خدمته إلى أن مات وملك ولده الملك المعظم وقتل على ما هو مشهور فلا حاجة إلى شرحه فعند ذلك هرب الملك السعيد إلى غزة وأخذ ما فيها من المال وقصد قلعة الصبيبه فسلمها إليه نواب الملك الصالح نجم الدين فملكها ولما وصل الخبر بذلك إلى القاهرة احتيط على داره بها وما فيها من الأثاث الذي لم يمكنه استصحابه معه فلما ملك الملك الناصر صلاح الدين أبي المظفر رحمه الله وقد تكرر ذكره في مواضع من هذا الكتاب وكان قد بقي كبير البيت الأيوبي وكان الملك الناصر صلاح الدين يوسف الشام أخذ منه الصبيبه وجرت منه أسباب أوجبت اعتقاله في بعض القلاع ثم نقله إلى قلعة البيرة فلما ملكها التتر في هذه السنة أخرجوه من الاعتقال وحضر عند هولاكو يقيده فرق له وأفرج عنه وخلع عليه قباء زربفت وسراقوج ومن عادة التتر أنهم إذا خلعوا سراقوج على أحد من غيرهم يلبسه يومه ثم يقلعه ويلبس العمامة فامتنع الملك السعيد من قلعه ولزم لبسه دائماً ومال إليهم بظاهره وباطنه(2/16)
وكان يقع في الملك الناصر صلاح الدين يوسف عندهم ويحرضهم عليه وعلى استئصال شأفته فأمر هولاكو لكتبغا نوين باستصحابه معه إلى الشام وتسليم بلاده إليه فاستصحبه معه وسلم إليه بلاده وبقي مع كتبغا لا يفارقه وشهد معه سائر وقائعه وحصاراته في هذه السنة ورأيته معه ظاهر بعلبك وعليه السراقوج وحضر معه المصاف بعين جالوت وقاتل قتالاً شديداً وكان شجاعاً مقداماً، فلما من الله تعالى بنصرة الإسلام أحضر بين يدي الملك المظفر سيف الدين قطز رحمه الله فأمر به فضربت رقبته صبراً بين يديه ولم يقله عثاره وأخذت بلاده وحواصله، وكان قتله يوم المصاف بعين جالوت وهو نهار الجمعة خامس عشري شهر رمضان المعظم أو ثاني يوم المصاف.
الحسين بن علي بن القاسم بن علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله ابن الحسين أبو حامد الدمشقي الشافعي المعروف بابن عساكر الملقب بالحافظ ومولده في ليلة الرابع والعشرين من جمادى الأولى سنة عشر وستمائة بدمشق وسمعه أبوه الكثير من جماعة كثيرة واستجاز له في رحلته إلى العجم الجم الغفير وحدث بدمشق ومصر وأبوه سمع الكثير ببلده ورحل إلى بلاد عديدة وحصل كثيراً وكان فضلاً حافظاً وتوفي ولم يبلغ الأربعين وجده القاسم سمع الكثير وحدث به وكان حافظاً مشهوراً وله تخاريج وجموع وجد أبيه على أحد الأئمة المشهورين صاحب(2/17)
التصانيف والفوائد من جملتها تاريخ دمشق الذي لم يسبق إلى مثله وله الرحلة الواسعة والتصانيف النافعة وكانت وفاة أبي حامد المذكور في شهر شعبان من هذه السنة بنابلس وهو متوجه من مصر إلى دمشق رحمه الله.
رسلان شاه بن داود بن يوسف بن أيوب بن شاذي الأمير أسد الدين كان جميل الأوصاف حسن الشكل شجاعاً كريماً واسع الصدر عالي الهمة ووالده الملك الزاهر مجير الدين داود كان صاحب البيرة وجده السلطان الملك الناصر صلاح الدين الكبير رحمه الله واستشهد الأمير أسد الدين المذكور بأيدي التتر في ثاني صفر من هذه السنة ببواشير حلب رحمه الله تعالى، وكان والده الملك الزاهر مجير الدين داود يحب الفضلاء وأهل العلم ويقصدونه من البلاد ولما ولد بالقاهرة لسبع بقين من ذي القعدة أو ذي الحجة سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة كان والده السلطان صلاح الدين رحمه الله بالشام وكان الثاني عشر من أولاده فكتب إليه القاضي الفاضل رحمه الله رسالة يبشره بولادته من جملتها، وهذا المولود المبارك هو الموفى لاثني عشر ولداً بل لاثني عشر نجماً متقداً فقد زاد الله سبحانه في أنجمه عن أنجم يوسف عليه السلام نجماً ورآهم المولى يقظة ورأى تلك الأنجم حلماً ورآهم المولى ساجدين له ورأينا الخلق لهم سجوداً، وهو تعالى قادر أن يزيد في حدود المولى إلى أن يراهم آباء وجدوداً.
وحكى عن الملك الزاهر جماعة أنه كان يقول من أراد أن يبصر صلاح الدين فليبصرني فأنا أشبه أولاده به وكان الزاهر شقيق الملك لظاهر(2/18)
صاحب حلب رحمه الله وتوفي بالبيرة في ليلة التاسع من صفر سنة اثنتين وثلاثين وستمائة ولما وصل نعيه إلى حلب توجه الملك العزيز ابن الملك الظاهر إلى قلعة البيرة وملكها.
عبد الرحمن بن عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن الحسن بن عبد الرحمن ابن طاهر بن محمد بن محمد بن الحسين بن علي بن أبي طالب شرف الدين الكرابيسي الحلبي الشافعي المعروف بابن العجمي سمع من ابن طبرزد وغيره وكان من الرؤساء المشهورين معروف بجلالة القدر ومكارم الأخلاق وله بر ومعروف وأنشأ بحلب مدرسة حسنة ووقف عليها وقفاً جيداً ودفن بها لما مات وكانت وفاته في الرابع والعشرين من صفر بعد وقعة التتر، قال قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان رحمه الله لما هجم التتر حلب عذبوه في الشتاء بأن صبوا عليه الماء البارد ليدفع لهم المال فتشنج وأقام أياماً ثم مات رحمه الله، وكان يدرس بالمدرسة الظاهرية خارج حلب ومولده في سنة تسع وستين وخمسمائة بحلب وبيته مشهور بالتقدم والجلالة والسنة والعلم والحديث رحمه الله.
عبد العزيز بن عبد القوي بن عبد العزيز بن الحسين بن عبد الله أبو المعالي محي الدين ابن القاضي الأسعد أبي البركات بن القاضي الجليس أبي المعالي التميمي السعدي الأعلى المصري المعروف بابن الحباب مولده سلخ شهر رمضان سنة خمس وتسعين وخمسمائة سمع من جماعة من(2/19)
الشيوخ وكتب بخطه وحصل جملة من الكتب وحدث وكانت وفاته في تاسع عشر ذي القعدة بمنية ابن خصيب من صعيد مصر رحمه الله وبيته مشهور بالرياسة والتقدم.
عبد الله بن بركات بن إبراهيم بن طاهر بن بركات بن إبراهيم ابن علي بن محمد بن أحمد بن ابن العباس بن هاشم أبو محمد القرشي الدمشقي المعروف بابن الخشوعي سمع جماعة وحدث هو وأبوه وجده وجد أبيه وهو من بيت الحديث والرواية وأبوه أبو طاهر بركات ابن إبراهيم أحد مشايخ الشام وعنه يروي معظم المحدثين والطلبة وكان عالي السند رحمه الله وكانت وفاة أبي محمد عبد الله المذكور بدمشق في الثامن والعشرين من صفر رحمه الله.
عثمان بن محمد بن عبد الله بن محمد بن هبة الله بن علي بن المطهر بن أبي عصرون أبو عمرو شرف الدين التميمي الدمشقي الشافعي مولده بدمشق في ثامن عشر ذي الحجة سنة إحدى وثمانين وخمسمائة كان رئيسا جواداً كبير الهمة مفرط الكرم يستقل الكثير من العطاء وأنفق من الأموال جملاً عظيمة طائلة وتوفي وهو فقير من فقراء المسلمين لم يخلف إلا ما قام بمؤونة تجهيزه ودفنه وهو مركوبه وثيابه بدنه لا غير، وكانت وفاته في العشر الأول من صفر هذه السنة وهو في عشر الثمانين ولما حضر نعشه إلى جامع دمشق للصلاة عليه وضع شمالي مقصورة الخطابة واتفق(2/20)
في ذلك الوقت حضور نواب التتر إلى الجامع لقراءة الفرامين الواردة من هولاكو المتضمنة الأمان لأهل دمشق فقرئت وجنازته موضوعة ثم صلى عليه ودفن رحمه الله سمع من أبي الفضل محمد بن يوسف الغزنوي وغيره وأجاز له جماعة من لشيوخ البغداديين وحدث ويحكى عنه في تكرمه وسعة صدره غرائب من جملتها أنه توجه إلى الديار المصرية مرة ومعه هدية جليلة نفيسة لأولاد شيخ الشيوخ ولغيرهم وكان بينه وبين أولاد شيخ الشيوخ قرابة فإن والدتهم ابنة عمه فلما سير للأمير فخر الدين نصيبه من الهدية استعظمها وقال بما نقابل هذا الرجل واتفق حضور سكر مكرر غال عمل للأمير فخر الدين بالقصد من بعض الأماكن الجارية في إقطاعه فسير له منه حملاً وقال هذا يشربوه غلمان الشيخ شرف الدين فلما جاءه السكر عمله جميعه حلوى منوعة وكان في خدمته حلاوي من الشام ماهر في صناعته وسير الحلوى للأمير فخر الدين فلما أكل منها أعجبته إعجاباً كثيراً ورأى لها طعماً غريباً لم يعهد في غيرها فأحضر الحلاوي الذي في مطبخ نفسه وأطعمه من تلك الحلوى ورام منه أن يعمل مثلها فقال ما أدري ما هذه ولا أعرف كيف عملت ثم سأل لمن ساعد حلاوي شرف الدين على عملها عن كيفيتها فذكر أنها ليست بشيرج وإنما هي بدهن لوز استخرج وطبخت به مع كثرة الفستق والمسك وغيره ولعلها أرادت أرادب عدة(2/21)
قلب لوز فأخبر الحلاوي الأمير فخر الدين بذلك فاستهالها وقال هذا جنون.
وحكى لي العماد مظفر ابن سنى الدولة رحمه الله ما معناه قال خرجت معه إلى عيون الفاسريا في زمن البطيخ وكانت له فتقدم إلى أصحاب المقاث أن يجمعوها ثم جمعوها فجاءت شيئاً كثيراً فأمر أن ينقى الفجل الجيد الذي في المجموع فجاء قريب أربعمائة حمل فكتب ورقة بتفرقة ذلك جميعه على الأعيان والمعارف بدمشق وقال لي تركب وتروح إلى الدار تستدعي بالغلمان وتقف ظاهر البلد ومعك الورقة وتسير لكل إنسان ما عين باسمه فقلت يا مولانا هذا يساوي أكثر من سبعة آلاف درهم فقال وإذا أطعمنا أصحابنا بطيخ بسبعة آلاف درهم ما هو كثير ففعلت ما قال ثم إن شرف الدين المذكور أباع عيون الفاسريا وأنفق ثمنها وكان يدعي النظر على الأوقاف النورية بحلب وحماة وحمص وبعلبك وغيرها وقد أثبت مال ذلك إليه فقال بعض الناس من يبيع العيون ما يستحق النظر.
حكى لي الجمال نصر الله رحمه الله وكان في خدمته ما معناه قال خلف له والده من الأموال والأثاث والقماش والخيول والبغال والجمال والمماليك والجواري والخدام ما لا يحصى كثرة ومن الأملاك كذلك(2/22)
وخلف له سطل بلور أكبر من المد الشامي له طوق ذهب وعلاقة ذهب وهو ملآن جواهر نفيسة لو وضع عليها حبة واحدة سقطت فاذهب الجميع بيعاً وهبة وكان في آخر عمره قد نفد ما معه من المال والأملاك وغيرها ولم يبق له إلا ما يتناوله على سبيل النظر من الأوقاف النورية ومع هذا فنفسه وسعة صدره على ما يعهد منه لم يغيره الإقلال وخلف من الورثة ولدين أحدهما يقال له كمال الدين محمد ويلقب الجنيد ومولده في رابع عشر صفر سنة اثنتين وستمائة وكان شيخاً في حياة والده وكان والده كثير الانحراف عنه لا يلم به ويسميه الولد العاق وكان الكمال المذكور يسمي والده الشيخ الضال وبلغ ذلك الصاحب شرف الدين عبد العزيز رحمه الله وزير حماة فقال على سبيل المداعبة كلاهما صادق واتفق أن كمال الدين أثبت بعد وفاة والده أنه أسند النظر إليه في الأوقاف النورية وغيرها وتحدث في ذلك ثم ادعى أنه اطلع على مطالب مدفونة بالديار المصرية واتصل ذلك بالملك الظاهر ركن الدين بيبرس رحمه الله فطلبه على البريد فلما وصل ذكر أنها في أماكن يحتاج في استخراجها إلى خراب آدر عظيمة وبنايات كثيرة فعزم الملك الظاهر على خراب ذلك لما أبداه له الكمال من عظم المال المدفون وجلالة قدره وشرع في ذلك فعدم الكمال عند الشروع فيه ولم يطلع له على خبر فيقال على سبيل الحدس أن بعض أرباب تلك الأملاك عمل على اغتياله والله أعلم.(2/23)
وكان فقده وانقطاع خبره في أواخر سنة ستين وستمائة وخلف ابنة واحدة كانت زوجة تاج الدين عبد القادر بن السنجاري الحنفي وله منها أولاد فأثبت أن كمال الدين كان أسند إليه النظر في الأوقاف النورية وغيرها وباشر التناول منها من ذلك الوقت وأما ولد شرف الدين الصغير كان يلقب شمس الدين وكان يشهد في مركز العصرونية وتوفي إلى رحمة الله تعالى وخلف ولدا ذكراً وهو الآن في حدود العشرين سنة عند كتابة هذه الأسطر وذلك في سنة تسعين وستمائة.
علي بن يوسف بن محمد بن عبد الله بن شيبان بن الحسن بن عامر بن عبد الله أبو الحسن جلال الدين النميري المارديني المعروف بابن الصفار ولد بماردين سنة خمس وسبعين وخمسمائة كان شاعراً مجيداً وله معرفة بالعربية ويستعمل المعاني الغريبة ومن شعره:
تعشقته زاهي حسن فما له ... أتى بكتاب ضمه سورة النمل
وما لي والمجنون فيه وشعره ... إذا مر بالكثبان خط على الرمل
وله في غريق:
يا أيها الرشأ المكحول ناظره ... بالسحر حسبك قد أحرقت أحشائي
إن انغماسك في التيار حقق أ ... ن الشمس تغرب في عين من الماء
وله في المعنى:(2/24)
غريق كأن الموت رق لحسنه ... فلان له في صفحة الماء جانبه
أبى الله أن يسلوه قلبي فإنه ... توفاه في الماء الذي أنا شاربه
وله:
وأعجب شيء أن ريقك ماؤه ... يولد دراً وهو عذب مروق
وأنك صاح وهو في فيك مسكر ... وأنت جديد الحسن وهو معتق
وله في فهد:
ومشتهر بالفتك يوم اكتسابه ... على ظفره أثر الدماء ونابه
كأنه مهاة الفلك لما انتهى به ... مداه إلى سرب المها وانتهابه
رمته بشهب الجو خوف انتقابه ... فأطفأها في عسجد من إهابه
وله في فحم يوقد:
كأن وقيد الفحم خوف شراره ... إذا النار مست جرمه فتلونا
تذكر أيام الشباب الذي جرى ... بمنبته لما ترنح أغصنا
فأزهر منه الآينوس بنفسجا ... وأثمر عناباً وأورق سوسنا
وله من أبيات:
فمتى تقوم قيامتي بوصاله ... ويضم شملينا معاد شامل
وأكون من أهل الخطايا خده ... ناري وصدغاه علي سلاسل
وله في مليح اسمه إسماعيل:
لحاظك إسماعيل في القلب أسهم ... فلا مفصل إلا وفيها له فعل(2/25)
وكيف يرجى البرء من سيف لحظه ... وشيعته قد حل عندهم القتل
وله في قصر النهار:
ويوم حواشيه ملمومة ... علينا تحاذر أن تفرجا
قنصت غزالته والتف؟ ... ت أريد أختها فاحتمت بالدجى
وله:
إذا هب النسيم بطيب نشر ... طربت وقلت: إيهٍ يا رسول
سوى أني أغار لأن فيه ... شذاك وأنه مثلي عليل
وله:
أفدى الخيال الذي أسرى على وجل ... فصادف الحرب بين النوم والمقل
يلقى الرقاد على الأجفان كلكله ... فيلتقيه من الأهداب بالأسل
عوامل من جفوني ربما قطرت ... دماً فهل أحدثت في النوم من عمل
ما زال يخطر بين العسكرين إلى ... أن خالط القلب فعل الفارس البطل
وراح بالسبي من يريهما غزلاً ... بحال بين نشاط الجفن والكسل
ومرسل صدغه في جاهليتنا ... مؤيد دعوة الأوثان بالرسل
سن الهوى حسنه للناس فاتبعوا ... ما سن وانتقلوا عن سنة العذل
حتى إذا اخضر من ماء الشباب عذا ... راه كما أحمر خداه من الخجل
خافت زمرد خطيه ذؤابته ... فاستخبأت خلفه فهي ابنة الجبل
وقال:
ومن لم يكن ناسياً هوى ذاكره ... ما ينكر أن يصد عن عاذره(2/26)
في الصد إشارة له تخبرني ... من حالي أنني على خاطره
وقال:
أسرار هواك كلها في ظني ... منك انكشفت إلى الورى لا مني
ما فهت بذكرها ولكن فطنوا ... من حيث تصدون غيري عني
وذكر قاضي القضاة شمس الدين رحمه الله صاحب هذه الترجمة في بعض مجاميعه وساق نسبه كما ذكر وقال هو من بني كناز بن خليد بن عبد الله بن نمير بن عامر بن صعصعة بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان نشأ بماردين وحفظ القرآن الكريم ونظر في علم العربية وكتب الإنشاء للملك المنصور ناصر الدين ابن أرتق صاحب ماردين ثم عزل عن الكتابة وتولى الأشراف بديوان دنيسر ثماني عشرة سنة وهو شاعر في فنه بارع له المعاني الغريبة والألفاظ الرائقة ووصل إلى إربل في أواخر ذي الحجة سنة سبع وعشرين وستمائة مرتزقاً قلت ومن شعره:
بعني بأغلى ثمن نظرة ... أحيا بها يا طلعة المشتري
أمن هلال أنت يا وجهه ال؟ ... بادي بهذا المنظر المقمر
وكانت وفاته في شهر ربيع الآخر هذه السنة وقيل في رجب منها في سابع عشرة قتله التتر لما دخلوا ماردين رحمه الله.
عمر بن أحمد أوحد الدين الدويني قاضي منبج كان من العلماء(2/27)
الفضلاء الأعيان المتبحرين في العلوم واشتغل عليه جماعة كثيرة وانتفعوا به وكانت وفاته بحلب عقيب أخذ التتر لها في العشر الأوسط من صفر هذه السنة وهو في عشر التسعين رحمه الله تعالى.
عيسى بن موسى بن أبي بكر خضر بن إبراهيم بن أحمد بن يوسف ابن جعفر بن عرفة بن المأمون بن المؤمل بن قاسم بن الوليد بن عتبة ابن أبي سفيان الأمير شهاب الدين بن شيخ الإسلام القرشي الأموي الهكاري درس بدمشق مدة بالمدرسة الجاروخية وكان عالماً فاضلاً شجاعاً صالحاً متزهداً متديناً حديث بفوائد جمة وجده أبو بكر هو ابن أخي شيخ الإسلام وكانت وفاة الأمير شهاب الدين المذكور في ليلة الثامن والعشرين من جمادى الأولى بقرافة مصر الصغرى ودفن بها من الغد رحمه الله.
قطز بن مالك بن عبد الله المظفر سيف الدين رحمه الله كان أخص مماليك الملك المعز عز الدين أيبك التركماني رحمه الله به وأقربهم إليه وأوثقهم عنده وهو الذي قتل الأمير فارس الدين أقطاي الجمدار وكان الملك المظفر بطلاً شجاعاً مقداماً حازماً حسن التدبير ولم يكن يوصف بكرم ولا شح بل كان متوسطاً في ذلك وقد ذكرنا استيلاءه على السلطنة سنة واحدة وخروجه للقاء التتر وهو أول من اجترأ عليهم بعد علاء الدين خوارزم شاه وضرب معهم مصافاً فكسرهم كسرة عظيمة(2/28)
مشهورة جبر بها الإسلام فرحمه الله ورضي عنه.
ومما حكى عنه أنه قتل جواده في يوم المصاف بعين جالوت ولم يصادف في تلك الساعة أحداً من وشاقيته الذين معهم جنائبه فبقي راجلاً ورآه بعض الأمراء الأكابر الشجعان المشهورين فترجل من حصانه وقدمه له ليركبه فامتنع وقال ما معناه ما كنت لآخذ حصانك في هذا الوقت وأمنع المسلمين الانتفاع بك وأعرضك للقتل وحلف عليه أن يركب فرسه فامتثل أمره ووافاه الوشاقية بالجنائب فركب فلامه بعض خواصه على ذلك وقال يا خوند لو صادفك والعياذ بالله بعض المغل وأنت راجل كنت رحت وراح الإسلام فقال أما أنا فكنت أروح إلى الجنة إن شاء الله وأما الإسلام فما كان الله ليضيعه فقد مات الملك الصالح وقتل الملك المعظم والأمير فخر الدين بن الشيخ مقدم العساكر ونصر الله الإسلام بعد اليأس من نصره يشير إلى نوبة المنصورة والقصة معروفة لا تحتاج إلى شرح، ولما قدم دمشق بعد الكسرة أجرى الناس كافة على ما كانوا عليه إلى آخر الأيام الناصرية في رواتبهم وإطلاقاتهم وجميع أسبابهم ولم يتعرض لمال أحد ولا إلى ملكه ثم توجه بعد تقرير قواعد الشام وترتيب أحواله على أجمل نظام إلى جهة الديار المصرية كما ذكرنا فرزقه الله الشهادة فقتل مظلوماً بالقرب من القصير وهي المنزلة التي بقرب الصالحية من منازل الرمل وبقي ملقى بالعراء فدفنه بعض من كان في خدمته بالقصير المذكور فكان قبره يقصد للزيارة دائماً واجتزت به وترحمت عليه وزرته وكثر الترحم عليه والدعاء على من قتله، وكان(2/29)
الظاهر ركن الدين بيبرس رحمه الله قد شارك في قتله أتم مشاركة بل كان مدار ذلك كله عليه وتملك بعده فلما بلغه ذلك سير من نبشه ونقله إلى غير ذلك المكان وعفى أثره ولم يعف خبره رحمه الله وجزاه عن الإسلام خيراً ولم يخلف ولداً ذكرا له بل سمعت أنه خلف ابنتين وكان قتله يوم السبت سادس عشر ذي القعدة.
حكى لي المولى علاء الدين علي بن غانم حرسه الله في غرة شوال سنة إحدى وتسعين وستمائة ببعلبك قال حدثني المولى تاج الدين أحمد بن الأثير تغمده الله برحمته ورضوانه ما معناه أن الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله لما كان على برزة في أواخر سنة سبع وخمسين وستمائة وصله قصاد من الديار المصرية بكتب يخبرونه فيها أن قطز تسلطن وملك الديار المصرية وقبض على ابن أستاذه قال المولى تاج الدين فطلبني السلطان قرأت عليه الكتب وقال لي خذ هذه الكتب ورح إلى الأمير ناصر الدين القيمري والأمير جمال الدين ابن يغمور وأوقف كلاً منهما عليها قال فأخذتها وخرجت فلما بعدت عن الدهليز لقيني حسام الدين البركة خانى وسلم علي وقال جاءكم بريدي أو قاصد من الديار المصرية وريت وقلت ما عندي(2/30)
علم بشيء من هذا قال قطز يتسلطن ويملك الديار المصرية ويكسر التتر قال المولى تاج الدين فبقيت متعجباً من حديثه وقلت له أيش هذا القول؟ ومن أين لك هذا؟ قال والله هذا قطز هو خشداشي كنت أنا وإياه عند الهيجاوي من أمراء مصر ونحن صبيان وكان عليه قمل كثير فكنت أسرح رأسه على أني كلما أخذت عنه قملة آخذ منه فلساً أو صفعته فلما كان في بعض الأيام أخذت عنه قمل كثير وشرعت أصفعه ثم قلت في غضون ذلك والله ما اشتهى إلا أن الله يرزقني إمرة خمسين فارساً فقال لي طيب قلبك أنا أعطيك إمرة خمسين فارساً قال فصفعته وقلت والك أنت تعطيني إمرة خمسين قال نعم فصفعته فقال لي والك علة أيش يلزمك لك إلا إمرة بخمسين فارساً أنا والله أعطيك قلت والك كيف تعطيني قال أنا أملك الديار المصرية وأكسر التتر وأعطيك الذي طلبت قلت والك أنت مجنون أنت بقملك تملك الديار المصرية قال نعم رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وقال لي أنت تملك الديار المصرية وتكر التتر وقول النبي صلى الله عليه وسلم حق لا شك فيه قال فسكت وكنت أعرف منه الصدق في حديثه وعدم الكذب وتنقلت به الأحوال وارتفع شأنه إلى أن صار هو المتحكم(2/31)
في الدولة وما أشك أنه يملك الديار المصرية مستقلاً ويكسر التتار كما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم في المنام.
قال المولى تاج الدين رحمه الله فلما قال لي هذا قلت له والله قد وردت الأخبار أنه تسلطن في الديار المصرية قال لي والله هو يكسر التتر فما مضى عن هذا إلا مدة يسيرة حتى خرج وكسر التتر على ما هو مشهور قال المولى تاج الدين فرأيت الأمير حسام الدين البركة خاني الحاكي لي ذلك بالديار المصرية بعد كسرة التتر فسلم علي وقال يا مولاي تاج الدين تذكر ما قلت لك في الوقت الفلاني قلت نعم قال والله حال ما عاد الملك الناصر من قطيا ودخلت أنا إلى الديار المصرية أعطاني إمرة خمسين فارساً كما قال رحمه الله لا زائد على ذلك، قال المولى تاج الدين وشرعنا نتعجب من هذه الصورة.
حكى لي المولى الأمير عز الدين محمد بن أبي الهيجاء رحمه الله ما معناه أن الأمير سيف الدين يلقاق حدثه أن الأمير بدر الدين بكتوت الأتابكي حكى له قال كنت أنا والملك المظفر قطز والملك الظاهر ركن الدين رحمهما الله في حال الصبي كثيراً ما نكون مجتمعين في ركوبنا وغير ذلك فاتفق أن رأينا منجماً في بعض الطرق بالديار المصرية فقال له الملك المظفر أبصر نجمي فضرب بالرمل وحسب وقال له أنت تملك هذه البلاد وتكسر التتر فشرعنا نهزأ به ثم قال له الملك الظاهر فأبصر نجمي فضرب وحسب وقال وأنت تملك أيضاً الديار المصرية(2/32)
وغيرها فتزايد استهزاؤنا به ثم قالا لي لا بد أن تبصر نجمك فقلت له أبصر لي فضرب وحسب وقال لي وأنت تحصل إمرة مائة فارس يعطيك هذا وأشار إلى الملك الظاهر فاتفق إن وقع الأمر كما قال لما يخرم منه شيء وهذا من عجيب الاتفاق! هذا مضمون ما حكاه لي الأمير عز الدين المذكور في خامس ربيع الآخر سنة اثنتين وتسعين وستمائة بدمشق.
كتبغا نوين مقدم عساكر التتر كان عظيماً عندهم يعتمدون على رأيه وشجاعته وتدبيره وكان شجاعاً بطلاً مقداماً مدبراً سائساً خبيراً بالحروب والحصارات وافتتاح الحصون والمعاقل والاستيلاء على الممالك وهو الذي افتتح معظم بلاد العجم والعراق وكان هولاكو ملك التتر يثق به ولا يخالفه فيما يشير إليه ويتبرك برأيه ويحكي عنه العجائب في حروبه وحصاراته من ذلك أنه نازل عدة حصون فكان إذا فتح حصنا ساق جميع من فيه من الناس إلى الحصن الذي يليه فإن مكنهم أهله من دخوله ضيقوا عليهم في المأكول والمشروب وإن منعوهم من الدخول هم بضرب أعناقهم فيمكنوهم وإن أصروا على المنع ضرب أعناقهم فإذا تيسر فتح الحصن الآخر فعل كذلك إلى أن استكمل فتح سائر الحصون المقصودة، ومن ذلك أنه نازل حصناً لا يرام وتحقق أن فيه مؤناً كثيرة وعدة آبار فيها من الماء قدر كفايتهم فقال لهم ما معناه أما حصنكم فمنيع والمؤنة عندكم كثيرة لكن الماء الذي عندكم على فراغ فإنا أصابركم إلى أن يفرغ وآخذكم فقالوا المياه عندنا(2/33)
كثيرة والذي بلغك من قلتها باطل لا حقيقة له وسير من ثقاتك من يبصر ذلك ويكشف لك حقيقته، ويخبرك وكان قد هيأ عنده رماحاً جوفها وملأها سماً قاتلاً وسدها عليه فسير جماعة من أصحابه وبيد كل واحد رمحاً منها فكانوا يأتون إلى البئر فينزلون الرمح فيها كأنهم يخضخضون الماء وينفضون الرمح بقوة فتنفتح السدادة بحركة دبروها فينزل جميع ما في الرمح من السم في تلك البئر فسموا بهذا الفعل جميع ما عندهم من المياه ونزلوا من عندهم إلى كتبغا وأخبروه بانتهائهم إلى ما أمرهم به وأقام كتبغا ومن معه على حالهم أياماً فهلك من شرب من ذلك الماء وتسلم الحصن، وهو الذي افتتح حصون الشام، ورأيته لما حضر إلى بعلبك لحصار قلعتها وقد دخل جامع المدينة وصعد منارته ليشرف منه على القلعة ثم نزل وخرج من الباب الغربي الذي في صحن الجامع ودخل حانوتاً خراباً فقضى حاجته به والناس يشاهدونه وعورته مكشوفة ومعه بعض التتر فلما فرغ مسحه ذلك الشخص بقطن كان معه مسحة واحدة وركب وكانت لحيته شعرات يسيرة في حنكه وهي مضفورة دبوقة لطولها وربما جعل طرفها في حلقة في أذنه وربما أرسلها على صدره فتبلغ سرته وكان مهيباً مطاعاً في جنده لا يجسرون على مخالفته ولا الخروج عن أمره وكان يردعهم عن كثير من أفعالهم وكان إذا أمن أحداً وكتب له أماناً كان أقرب إلى الوفاء به من غيره من التتر وهذا على ما فيه من الغدر وكان شيخاً(2/34)
مسناً أدرك جنكزخان الأخير جد هولاكو وكان عنده ميل إلى دين النصرانية لكنه لا يظهر الميل إلى النصارى لتمسكه بأحكام أسة جنكزخان وسائر أرباب الأديان عنده سواء وهذا من أحكام الأسة، وكان إذا كتب عنه كتاب يقول في أوله من كلام كيد بوقا نوين والنوين عندهم مقدم عشرة آلاف فارس فما زاد عليها ولا يقال لمن هو مقدم على من تنقص عدتهم عنها.
ولما بلغه خروج العساكر مع الملك المظفر رحمه الله وكثرتها تلوم وتوقف واستشار فأشار عليه بعض الناس بالتأخر وأشار عليه بعضهم بالملتقى فحملته نفسه وشجاعته وما قد ألفه من النصر في سائر المواطن على اللقاء فتوجه لذلك ولقيهم على عين جالوت بالقرب من بيسان فكانت الوقعة المشهورة التي نصر الله تعالى فيها الإسلام وحزبه وأخزى الكفر وأهله فحمل على الميسرة فهزمها هزيمة شنيعة كادت تستمر لولا تدارك الله الإسلام بنصره ورحمته فحملوا عليهم فكسروهم كسرة لا يجرى بعدها جبر، فولوا على وجوههم والسيوف تأخذهم وأعتصم منهم طائفة بتل هناك فأحدقت بهم العساكر وقتلوا عن آخرهم وأسر من كان صغيراً أو مراهقاً، وأما كتبغا فلم يفر ولم يكن الفرار من عادته فثبت وقاتل إلى أن قتل وعجل الله بروحه إلى النار وكان الذي تولى قتله على ما قيل ولم يعرفه الأمير جمال الدين آقوش الشمس(2/35)
رحمه الله وأسر ولده وكان جميل الصورة جداً ولما تمت الكسرة قيل للملك المظفر أن كتبغا هرب وكان قد أحضر إليه ولده أسيراً وهو واقف بين يديه فقال له أبوك هرب قال لا أبي ما يهرب أبصروه في القتلى فدوروا عليه في القتلى وأحضروا عدة رؤوس وعرضوها على ولده وهو يقول ما هو هذا إلى أن أحضروا رأسه فقال هذا هو وبكى ثم قال للملك المظفر ما معناه نام طيباً ما بقي لك عدو تخاف منه هذا هو كان سعادة التتر به يهزمون الجيوش وبه يفتحون الحصون وكذا كان لم يفلحوا بعده ولله الحمد والمنة، وأما ولده فقد كنت رأيته معه ببعلبك لما حضر لحصار قلعتها ثم رأيته بالديار المصرية في سنة تسع وخمسين وقد لبس زي الترك، وكان مقتل كتبغا يوم المصاف وهو يوم الجمعة خامس وعشرين شهر رمضان المعظم من هذه السنة.
لاحق بن عبد المنعم بن قاسم بن أحمد بن حمد بن حامد بن مفرج بن غياث أبو الكرم الأنصاري المصري المولد والدار والوفاة، مولده سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة تقديراً سمع من محمد بن حمد بن حامد وكانت له إجازة من أبي محمد المبارك بن علي بن الطباخ وحدث بها كثيراً ونشر بها علماً جماً وكان شيخاً صالحاً عفيفاً رحمه الله وتوفي في ليلة السادس عشر من جمادى الآخرة ودفن من الغد بسفح المقطم.
المبارك بن يحيى بن المبارك بن مقبل أبو الخير مخلص الدين الغساني(2/36)
الحمصي كان من الفضلاء المشهورين بمعرفة الأدب والأنساب وأيام الناس سني المذهب اختصر كتاب الجمهرة في الأنساب لابن الكلبي اختصاراً حسناً دل على غزارة فضله ومعرفته وله كتاب المشجر في النسب أيضاً وغير ذلك من جموع مفيدة ولما ورد التتر إلى الشام في هذه السنة خرج من حمص مجفلاً في شهر ربيع الآخر ولجأ إلى جبل لبنان يعتصم في بعض القرى الوعرة التي بالجبل فأدركته منيته وقد نيف على الستين سنة من العمر ودفن حيث توفي رحمه الله تعالى، ومن شعره مما نقلته من خطه على ظهر مجلد:
بدا لي وقد خط العذار بوجهه ... حبيب له منى على رقيب
كمثل هلال العيد لاح وقد دنا ... من الأفق مرماه وحان مغيب
وله في غلام أهدى تفاحة من يده:
أتى يهز قضيب البان حين مشى ... من تحت طلعت بدر فوق جيد رشأ
حيا بتفاحة من خده اكتسبت ... لوناً ومن ريقه طعماً وطيب نشا
لا تعجبوا وهي من أوصافه خلقت ... إن العليل إذا ما شمها انتعشا
وله:
طرق الخيال على البعا ... د ولم يخف خطر الطريق
بلوى العقيق وأين من ... دار الحبيب لوى العقيق
وافى إلى الوافي بما ... أعطي من العهد الوثيق(2/37)
أهدى له المسك السحي؟ ... ؟ ق وزار من بلد سحيق
يا طيب من هو في حشا ... ي يطوف بالبيت العتيق
لا تحسبن كرى جفو ... ني عن سلو أو عقوق
صامت لهجرك بالسها ... د فأفطرت عند الطروق
وله:
بأبي من حوى الجمال بديعاً ... وبدا لي يوماً فقلت بديها
يا حبيباً إذا تأمله طرفي ... رأى كل طرقه يشتهيها
حق من كنت وجهة لهواه ... أن يرى حظه لديك وجيها
فمتى الوصل قال من دون وصلي ... شقة حارت الأدلاء فيها
ولعمري بحق من تاهت الألب؟ ... اب في بر حسنه أن تتيها
وله:
تمثلت حين لقيت الحبيب ... على غضب منه لم ينقض
وقبل كفى ولم يبتسم ... وقبلته وهو كالمعرض
ومن يك في سخطه محسنا ... فكيف يكون إذا ما رضى
هذا البيت مضمن: وهو لمبارك بن يحيى بن المبارك بن مقبل بن الحسن بن يونس الغساني نقلته من خطه.
محمد بن أحمد بن عبد الله بن عيسى بن أبي الرجال أبو عبد الله بن أبي الحسين اليونيني الحنبلي والدي رحمه الله مولده في السادس من شهر(2/38)
رجب سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة بقرية يونين من عمل بعلبك الإمام الحافظ كان عديم النظير في معرفة الحديث على اختلاف فنونه سمع من أبي طاهر بركات بن إبراهيم الخشوعي وأبى علي حنبل بن عبد الله المكبر وأبي اليمن زيد بن الحسن الكندي وغيرهم ممن لا يحصى كثرة وحدث بالكثير وهو أحد الحفاظ المشهورين الجامعين بين العلم والدين وكانت وفاته ببعلبك في تاسع عشر شهر رمضان المعظم ودفن من يومه بتربة الشيخ عبد الله اليونيني ظاهر بعلبك رحمه الله صحب الشيخ عبد الله اليونيني وانتفع بصحبته وأخذ عنه علم الطريق وكان أخص أصحابه به يقدمه على جميعهم ولي الخرقة من الشيخ عبد الله البطائي رحمه الله تبركاً وهو شيخ شيخه ولم يزل ملازماً للشيخ عبد الله اليونيني سفراً وحضراً إلا أن يأمره بالتوجه إلى مكان والإقامة به فيفعل ذلك وفي حال ملازمته له يصلي به ويفتيه ويقتدي به في الأمور الشرعية ويرجع فيها إلى قوله حين توفي الشيخ عبد الله رحمه الله واشتغل بالفقه على الشيخ موفق الدين عبد الله بن أحمد المقدسي رحمه الله وعلى غيره واشتغل بالحديث على الحافظ عبد الغني رحمه الله وغيره وكان الحافظ يعظمه وإذا سئل عن مسألة بحضوره يقول له ما تقول في كذا وكذا فإذا أجاب بجواب قال لصاحب المسألة ذلك الجواب بعينه وتقدم(2/39)
في علم الحديث على الحفاظ المبرزين في زمانه وعلى كثير ممن تقدمه وحفظ الجمع بين الصحيحين بالفاء والواو وكان يكرر عليه وكذلك صحيح مسلم ومعظم مسند الإمام أحمد رحمة الله عليه وغير ذلك من كتب الحديث قال قاضي القضاة شمس الدين عبد الله بن عطاء الحنفي رحمه الله قرئ عليه مسند الإمام أحمد رحمة الله عليه فكان يعلم على أحاديث تمر به فلما انتهى قراءة المسند سئل عن ذلك فقال هذه لا أحفظها فإنا أعلمها لأحفظها فاعتبرناها فكانت مقدار مجيليد صغير وكان إذا سئل عن حديث هل هو صحيح أم لا أجاب في الوقت واشتغل في علم العربية والنحو على الشيخ تاج الدين الكندي رحمه الله ولازمه وكان الشيخ تاج الدين يقدمه على سائر من اشتغل عليه من الطلبة والملوك وغيرهم وسمع عليه جميع مسموعاته وكتب خطاً منسوباً قل من كان يكتب في زمنه أجود منه وهذا في حال شبابه أما لما أسن ضعفت يده واشتغل عليه خلق لا يحصون كثرة بالعلوم الشرعية والحديث والعربية وعلى الطريق وسمع ما لا يحصى كثرة وأسمع زماناً طويلاً فسمع عليه خلق كثير وانتفع به جم غفير ونال من السعادة الدنيوية والدينية ما لم ينله غيره فيما علمنا فإن الملوك كانت تحضر إلى بابه وتقف به إلى أن يؤذن لهم فإذا دخلوا عليه عاملوه بالتعظيم الخارجي عن الحد وامتثلوا إشاراته.
حكى لي أن الملك الأشرف مظفر الدين شاه أرمن موسى بن(2/40)
الملك العادل رحمه الله تعالى ربما قدم مداسه وأنه توضأ يوماً وأراد ما يطأ عليه فخلع عمامته وبسطها له وحلف أنها طاهرة وأقسم عليه أن يمشي عليها ففعل ذلك وكان يخدمه بنفسه وكذلك كان يفعل معه الملك الصالح إسماعيل رحمه الله ولما توجه والدي رحمه الله إلى دمشق في آخر سنة خمس وخمسين حضر عنده أولاده ومعهم إجازة وقبلوا مما عهد به إلينا والدنا أن نقصدك ونلبس منك خرقة كما لبس وتكتب لنا في هذا الإجازة أو ما هذا معناه فأخذ عليهم العهد وألبسهم الخرقة ولما قدم الملك الكامل دمشق أيام كانت للملك الأشرف رحمه الله اقترح عليه أن يجتمع بوالدي فسير بطاقة إلى بعلبك يلتمس منه الحضور فحضر وأنزله في دار السعادة لأن الملك الأشرف كان سكنها عند قوم الملك الكامل وأنزله في قلعة دمشق فلما قدم والدي رحمه الله عرف الملك الأشرف الملك الكامل بقدومه فنزل إليه واجتمع به في المكان الذي نزل فيه بدار السعادة وبلغ الملك الكامل في التأدب معه وبحثوا في فنون من العلوم منها القتل بالمثقل واستدل الملك الكامل بحديث الذي رضخ رأسه بين حجرين وأنه سأل من فعل بك هذا: الحديث ولم يذكر فيه فاعترف واحتج بأن قول المقتول يؤخذ به فقال والدي في الحديث فاعترف وهو في صحيح مسلم فقال الملك الكامل فأنا اختصرت صحيح مسلم وأمر بطلب الكتاب فأحضر في خمس مجلدات فتناول الملك الكامل(2/41)
مجلداً والملك الأشرف مجدلاً والملك الصالح مجلداً وأظن عماد الدين ابن موسك مجلداً وشرعوا يتصفحون الكتاب ليظهروا الحديث وبقي مجلد فأخذه والدي وفتحه فظهر الحديث حال فتحه الكتاب وهو كما قال فأوقف عليه الملك والجماعة فتعجبوا من ذلك وعظم في عين الملك الكامل وعزم على أخذه إلى الديار المصرية وشعر الملك الأشرف بذلك فجهزه لوقته إلى بعلبك وكان الملك سير له جملة من الذهب فامتنع من قبولها وقال أنا في كفاية فلما سافر سأل عنه فأخبره الملك الأشرف بسفره وأنه لا يوافق على مفارقة الشام.
حكى الملك الأشرف لوالدي رحمه الله قال لما كسرنا في الروم وخرجنا منه قال لي الملك الكامل وقد جرى ذكرك تبصر كيف نصره اله علينا في مجلسنا من كتبنا فقلت له هو رجل موفق فقال نعم وكان الملك لا مجد يتردد إليه ويكثر الاجتماع به وله في هذا عقيدة عظيمة ويعظمه غاية التعظيم وكذلك أسد الدين شيركوه وكان بين الملك الصالح نجم الدين وعمه الملك الصالح إسماعيل من الوحشة والعداوة ما هو مشهور فلما خرجت البلاد عن الملك إسماعيل وتملكها الملك الصالح أيوب حصل منه تحامل على والدي وأوقف رواتبه واتفق أنه حضر إلى بعلبك فاجتمع عند والدي جماعة من أصحابه وسألوه الركوب لتلقيه وقالوا هذا رجل جبار ومتى تأخرت عن تلقيه توهم أن ذلك كراهة فيه لأجل عمه فلا يؤمن شره وإن لم ينلك نال أصحابك فركب قبلولاً لقولهم(2/42)
وتلقاه فعند ما عاينه بالغ في الإقبال والترحيب والمؤانسة ولم يشتغل عنه بغيره إلى أن فارقه قال الأمير ناصر الدين محمد بن التبنينني رحمه الله فلما فارقه شرع في شكره والثناء عليه وتعظيمه فقلت له يا خوند ألا أنه يحب عملك الملك الصالح فقال حاشى ذاك الوجه وأمر أن يحمل إليه جميع ما كان أوقف من الكسوة والرواتب وغير ذلك للمدة الماضية وأجراها في المستقبل ولما نزل إلى دمشق في آخر سنة خمس وخمسين خرج الملك الناصر صلاح الدين يوسف إلى زيارته بزاوية الشيخ علي القرشي رحمه الله فلما دخل عليه بالغ في التأدب معه والتعظيم له واستعراض حوائجه.
وكان والدي رحمه الله يكره الاجتماع بهم ولا يؤثره ومما جرى له مع الملك الأشرف أنه كان إذا حضر إليه عرض عليه قصصاً كثيرة للناس ويسومه قضاء ما فيها فيفعل ذلك فاتفق حضوره إليه في بعض الأيام وعنده قصص كثيرة جداً فشرع الملك الأشرف في قراءتها فقرأ بعضها وضجر من إتمامها فقال له والدي أنا أجعل كفارة اجتماعي بكم قضاء لحوائج الناس فإن قضيتموها وإلا ما اجتمع بكم فاعتذر إليه وتلافاه وتمم قراءة تلك القصص وقضى جميع ما فيها وكانت مدة اجتماعه بالملوك وترددهم إليه ثلاثاً وأربعين سنة، وكان قبل ذلك ربما اجتمع بهم مصادفة أما ترددهم إليه بالقصد فمن ذلك التاريخ وكان يعد ذلك من كرامات شيخه الشيخ عبد الله اليونيني رحمه الله فإن الشيخ(2/43)
عبد الله كان له زوجة ولها ابنة من غيره فقال لها زوجي ابنتك من محمد فقالت يا سيدي هو فقير ما له شيء وأنا أشتهي أن تكون بنتي سعدية فقال لها زوجيه فإني أرى له داراً مليحة وفيها بركة ماء وبنتك عنده في الليوان والملوك يترددون إلى خدمته وله كفاية تامة على الدوام فزوجته بها وهي أول زوجاته.
حكى لي أن الملك الصالح استأذن عليه مرة وهو في دار القاضي الفاضل بدمشق وهو في المرحاض فأخبر بذلك فقال دعوه حتى يدخل وحده فدخل وقعد في الإيوان واتفق أن والدي حصل له ما احتاج معه إلى النزول في البركة إلى وسطه فخرج وقال له أدر ظهرك فأداره ونزل في البركة وتطهر وتوضأ وجالسه بعد ذلك وكانوا يبذلون له الكثير من الدنيا فلا يتناول إلا قدر الكفاية ويقول أنا أستحق في بيت المال أكثر من هذا القدر الذي يصلني منهم وملكه الملك الأشرف قرية يونين وكتب به كتاب وأعطاه لمحيي الدين يوسف بن الجوزي رحمه الله وكان عنده رسولاً من جهة الخليفة ليأخذ عليه خط الخليفة فبلغ والدي ذلك فطلب الكتاب ومزقه فعاتبه الملك الأشرف فقال(2/44)
أنا لي قدر الكفاية ولا آخذ من بيت المال أكثر منها ولم يكن والدي رحمه الله يقبل صلة أحد من الأمراء ولا من الوزراء ولا غيرهم إلا أن أهدى له هدية من المأكول أو ما أشبهه فإنه يقبل ذلك من بعض الناس ممن يتحقق حل ما له وكان هو ربما سير للملوك هدية مختصرة من مأكول أو نحوه فيتبركون بها ويستشفون.
حكى لي خادمه الشمس محمد بن داود رحمه الله قال سير الشيخ معي للملك الكامل هدية بعلبك وكان فيها كشك فلما أحضرت ذلك كان الكشك قد جعل في طبق فجعل الملك الكامل يستف منه وهو يتناثر على لحيته وثيابه وكان الصاحب فلك الدين بن المسيري حاضراً فقال يعرف الشيخ أن السلطان له سنين يحتمى عن اللبن وما يعمل منه وتراه قد أكل من هذا الكشك تبركاً بهدية الشيخ وأما أكابر الأمراء والوزراء ونواب السلطنة فكانوا يعاملونه بأضعاف ذلك من التأدب معه والامتثال لأمره واحترام أصحابه وأتباعه والمبالغة في ذلك إلى حد لا يوصف.
ولما انتقل النعل الشريف النبوي صلوات الله وسلامه على صاحبه إلى الملك الأشرف ووصل إليه وهو بدمشق أراد إرساله إلى والدي ليزوره ويتبرك به ثم قال نحن قد اشتقنا إلى الشيخ والأولى أن نسير إليه نخبره ليحضر يزور هذا الأثر الشريف ويبصره وكتب إليه بذلك(2/45)
وكانت جدتي في قيد الحياة فقالت لوالدي كنت أشتهي زيارة هذا الأثر الشريف فزره عني فلما قدم دمشق وزار الأثر الشريف أخبر الملك الأشرف بما قالته والدته فجهز الأثر الشريف إلى بعلبك لأجلها فزارته وقضت وطرها من ذلك وكان جرى لهذا الأثر الشريف قصة أوجبت انتقاله إلى الملك الأشرف وذلك أن صاحبه ابن أبي الحديد كان يسافر به إلى الملوك فيعطوه الأموال وانتجع للملك الأشرف رحمه الله في بعض السنين وكان يجزل له العطاء فقال له الملك الأشرف أشتهي أن تعطيني من هذا الأثر الشريف بقدر الحمصة لأجعله في كفني إذا مت فأجابه إلى ذلك وأعطاه ثلاثين ألف درهم وتقرر أنه في غد ذلك اليوم يحضر العلماء والمشايخ ويقطع من ذلك مطلوبه واغتبط ابن أبي الحديد بذلك فلما كان في الليل انثنى عزم الملك الأشرف وسير إلى ابن أبي الحديد بذلك فسقط في يده لتوقعه فوات المبلغ الذي سمح له به فلما أصبح حضر بين يديه وسأله عن السبب الموجب لذلك فقال فكرت في أنني متى أخذت من هذا الأثر الشريف هذا القدر تشبه بي الملوك فيفضي الحال إلى عدم هذا الأثر الشريف من الوجود وأكون أنا السبب فتركته لله تعالى وأما القدر الذي سمحت لك به فخذه لا أرجع فيه فاستطار فرحاً وأخذ تلك الجملة وسافر إلى بلاد الشرق فأدركه أجله أظن في حران فأوصى قبل وفاته بالأثر الشريف للملك الأشرف فصار إليه بحسن نيته فبنى لأجله دار الحديث المجاورة(2/46)
للقلعة وجعله فيها يزار في عصر الاثنين والخميس وكان والدي رحمه الله إذا جمعه وعلماء عصره مثل الشيخ تقي الدين بن العز والشيخ شرف الدين ابن الشيخ أبي عمر والشيخ عز الدين بن عبد السلام والشيخ تقي الدين بن الصلاح وقاضي القضاة شمس الدين بن سنى الدولة وقاضي القضاة شمس الدين الخوى والشيخ أبي عمرو بن الحاجب والشيخ الحصيري وغيرهم من تلك الطبقة بالغوا في التأدب معه ولا يترفع أحد منهم عليه في الجلوس ولا الكلام ويرجعون إلى قوله وكذلك كان حال أكابر مشايخ عصره من الزهاد يتمثلون بين يديه ويمتثلون أمره حدثني غير واحد من أعيان الفقراء أن الشيخ عثمان العدوي رحمه الله قدم مرة دمشق وكان والدي بها فدخل أمين الدولة وزير الملك الصالح على علي والدي في أنه يعمل للشيخ عثمان ومن معه من الفقراء ضيافة فأجابه والدي فعمل ضيافة احتفل لها واستدعى إليها مشايخ البلد فلما حضر والدي والشيخ عثمان ومد السماط شرع والدي يأكل وامتنع الشيخ عثمان من الأكل فقال له أمين الدولة في ذلك فقال والدي المقصود بركة الشيخ عثمان ويترك في الأكل على اختياره فلما خرج الجماعة قال بعض الفقراء للشيخ عثمان يا سيدي أنت ليس لك(2/47)
من تقتدي به في أمور دنياك وآخرتك إلا الشيخ وقد رأيته أكل فلم امتنعت والله لما مد السماط شاهدته وهو نار تشتعل فكان سيدي الشيخ الفقيه يمد يده ويأخذ اللقمة من السماط ويرفعها فتستحيل وما تصل إلى فمه إلا وهي نور يتلألأ وأنا فلم يكن لي هذا التمكين فامتنعت.
وحكى لي القاضي تاج الدين عبد الخالق رحمه الله ما معناه قال قدم بعلبك في الأيام الأمجدية شخص كاتب وادعى أنه من ذرية شاور وزير العاضد بمصر أو من أقاربه فولاه الملك الأمجد المواريث الحشرية ببعلبك واتفق غيبة الملك الأمجد فمات شخص وله أولاد عم فاحتاط على تركته فطلبه الشيخ وقال له هذا الرجل له وارث وأنا أعرف أنهم أولاد عمه ومستحقي ميراثه فليس لكم عليه اعتراض فقال السلطان أمرني أن من مات احتاط على تركته وأنا ما أفرج من هذه التركة فغضب الشيخ وقال له قم قطع الله يدك ويد السلطان معك فقام ذلك الشخص وتوجه إلى الملك الأمجد بالمكان الذي كان فيه وشكا إليه فقال له كنت امتثلت ما أمرك به فأنت تراني لا أخالفه وأنكر عليه فما وسعه المقام ببعلبك فتوجه إلى دمشق وأقام بها مدة وعثر عليه أنه زور توقيعاً فقطعت يده وأما الملك الأمجد فبعد أخذ بعلبك منه نزل إلى دمشق وأقام بدار السعادة وهي داره فضربه مملوك له بالسيف على يده فقطعها وجرحه جرحاً آخر وبقي يومين ومات رحمه الله ومما(2/48)
يقارب هذا أن خالي تاج الدين يعقوب بن سنى الدولة رحمه الله قدم بعلبك في الأيام الناصرية زائراً ونزل في دار ابن عمه الشرف خضر وكان والدي كثير البر بأقارب والدتي فاتفق أنه قصد رؤيته وأنا معه فلما دخل قام خالي وقبل يده وقعد بين يديه وهناك فقير موله يقال له علي وقد أحسن خالي فيه الظن فلما دخل والدي قعد ذلك الفقير في الصفة فحضر الشمس محمد بن داود خادم والدي ومعه رأس مشوي ومدت السفرة وطلبوا على الفقير ليأكل فوضع يده على أنفه وقال أفوه أفوه وجعل يكرر هذا القول فلما سمعه والدي زعق فيه وقال قم قطع الله أنفك فخرج من البيت لوقته وطلب طريق الزبداني فلما كان بعد المغرب صادفه جندي سكران في الرمانة فضربه بالسيف فاصطلم أنفه بالكلية فعاد من الغد وهو على هذه الصورة وخولط في عقله فلم ينتفع بنفسه إلى أن مات.
ولما قصد التتر الشام في أوائل سنة ثمان وخمسين وستمائة وكثر الإرجاف بهم قال والدي رحمه الله للشيخ محمود بن الشيخ سلطان وكان الشيخ محمود يجتمع برجال لبنان قد جمع بينه وبينهم والده فقال له والدي سلم عليهم وسلهم عن أمر هذا العدو وما يكون عاقبة الناس معهم فسألهم وحضر عند والدي فقال له ما الذي أجابوك به فقال قالوا قل له يسألنا عن مثل هذا ونحن لا نعلم إلا ما يفضل عنه وسمعت الشيخ محمود رحمه الله يقول غير مرة ما توفي سيدي الشيخ الفقيه(2/49)
إلا بعد أن قطب اثنتي عشرة سنة أو قال فوق ذلك الشك مني في المدة وكان شرف الدين محمد بن عطاء حنبلي المذهب وكان يحب والدي محبة مفرطة بحيث ترك وطنه وانتقل إلى بعلبك لمحبته فيه وأقرأ ولده قاضي القضاة شمس الدين عبد الله الحنفي رحمه الله القرآن الكريم فلما فرغ منه قال له ولدي يا سيدي يقرأ المقنع أو مختصر الخرقى فقال والدي يقرأ في القدوري ويشتغل على مذهب ابن حنيفة فإنه يسود فيه فاشتغل وساد كما قال وكذلك قال لجماعة أخر من الشافعية وغيرهم فجرى الأمر كما قال رحمه الله وقال كنت عزمت على السفر إلى حران للاشتغال بالفرائض على شخص بلغني تفرده بهذا العلم وتبحره فيه وأريد السفر في غد ذلك اليوم فجاءني كتاب الشيخ عبد الله قال أو رسالته أنني أمضي إلى القدس فشق علي ذلك وأردت إمضاء ما عزمت عليه فاستفتحت في المصحف الكريم فظهر قوله تعالى: " اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون " فقلت هذا الشيخ لا يسألني أجراً ولا شك أنه مهتدي فسافرت إلى القدس كما أمرني وحضر عندي جماعة من أهل القدس يشتغلون علي بالفرائض وغيرها فأشغلتهم مدة وإلى جانبي رجل لا أعرفه فلما كان بعد مدة أيام سألته من أي البلاد هو فذكر أنه من حران فسألته عن ذلك الشخص الذي كنت عزمت على قصدة فوجدته هو بعينه فقلت يا سبحان الله وأنا أشغل بالفرائض بحضرتك ولا تقول لي شيئاً فقال لم تخط وإنما تسلك طريقاً بعيدة وتترك ما هو أقرب منها(2/50)
فلازمته وأخذت جميع ما عنده حتى ظننت أني قد صبرت أخبر بذلك منه ثم سألته عن سبب قدومه إلى القدس فذكرانه توفي له نسيب بالقدس ومعه تجارة احتاط عليها ديوان القدس وحضر لاستخلاصها وكان ناظر القدس وتلك الأعمال المنصرف فيها جمال الدين عبد الرحيم ابن شيث رحمه الله وهو صاحبي جداً ولا ينقطع عني فلما حضر قلت له بسببه فسلم إليه التركة بكمالها فما بات في القدس تلك الليلة وسافر إلى بلده وكان جمال الدين المذكور يحب والدي محبة شديدة وله صحبة مع الشيخ عبد الله.
وحكى والدي رحمه الله قال أقمت بالقدس مدة زمانية وكان ثم فقير يخدمني فلم أشعر إلا بشخص قد حضروا حضر عشرة دراهم وشرع يعتذر ويسأل الصفح فقلت له ما خبرك فقال الصاحب جمال الدين أمرني أن أعطي لهذا الشخص الذي يخدمك كل يوم عشرة دراهم برسم النفقة منذ قدمتم وكل يوم يحضر يأخذها من بكرة النهار فلما كان في هذا اليوم حضر وما معي دراهم فخاصمني وقال أنه يشكوني إلى جمال الدين فقلت له طيب قلبك ما عليك بأس وإذا عاد إليك يطلب منك شيئاً لا تعطه وقل له أنني أمرتك بذلك فأخذ الدراهم العشرة وراح وحضر ذلك الفقير عندي فلم أقل له شيئاً وعاد إلى ذلك الشخص يطلب منه الدراهم فأخبره أنه قال لي وأنني أمرته أن لا يعطيه شيئاً فسافر الفقير لوقته من القدس فكان آخر العهد به وحضر جمال الدين(2/51)
فقال لمن تأمر بقبض تلك النفقة قد كفى ما تفضلت والله لا عدت تناولت منه شيئاً فتألم لذلك فلاطفته إلى أن طاب خاطره بقطعها.
وكان لوالدي رحمه الله ابن عم يدعى إدريس وكان مشوه الخلق زري الشكل ليس له قوت إلا ما يعطيه والدي فركب والدي والملك الصالح إسماعيل إلى ظاهر البلد فصادفه داخلاً من قرية يونين إلى المدينة فحين رأهم تنكب الطريق وأبعد فطلبه والدي وسلم عليه ورحب به وسأله عن حاله وقال للملك الصالح هذا ابن عمي ولولا شرف العلم والتقوى لكنت مثله فتعجب الملك الصالح من ذلك وعظم في صدره وقال والدي رحمه الله مرضت في حال شبابي بذات الجنب والشقيقة ونالني من ذلك شدة عظيمة فدخل علي فقيران عاداني وسألاني عما أجد فأخبرتهما فقال أحدهما لصاحبه اختر أحد المرضين وأنا الآخر فقال أنا أحمل عنه ذات الجنب وقال صاحبه وأنا أحمل الشقيقة فتلبس كل واحد منهما لوقته بالمرض الذي اختاره وبرئت أنا بالكلية لوقتي فأما الذي أصابه ذات الجنب فبقي أياماً ومات رحمه الله وأما صاحب الشقيقة فبقي مدة وعوفى.
وحكى لي العماد محمد بن عوضة رحمه الله ما معناه أنه قال كنت يوماً في خدمة سيدي الشيخ بجامع دمشق وقد أحضر شخص له دارهم قريب ثلاثمائة درهم من ضمان بستان كان له بدمشق فأخذتها وجعلتها(2/52)
تحت طرف السجادة فمر في صحن الجامع رجل أعمى فقال لي يا عماد خذ هذه الدراهم أعطها لهذا الرجل فأخذت الدراهم وقمت إلى الأعمى ودفعتها إليه وجعلتها في مئزره فدعا لي وتوهم أنها فلوس فقلت له هذه الدراهم فاضطرب من السرور إلى أن كادت تسقط منه فقلت له هذه سيرها لك الشيخ الفقيه فدعا وانصرف ثم أن شخصاً أهدى للشيخ ثوب صوف نادر المثل فسألته أن أخيطه له ففصلته وخيطته وتأنقت فيه وأحضرته إليه وهو بجامع دمشق فلبسه وصلى فيه ركعتين وقعد وهو على أكتافه وذلك الأعمى مار في الجامع فقال لي يا عماد خذ هذه الفرجية أعطها لهذا الرجل ففعلت ذلك قال ثم كنت عنده يوماً آخر وذلك الأعمى عابر فأعطاني شيئاً له جنب وقال أعطه إياه فأعطيته ذلك وبقيت متعجباً من تخصيصه بذلك فلما رأيته منشرحاً سألته عن سبب ذلك فقال جئت مرة من جبل الصالحية ودخلت من باب الفراديس وأنا محتاج إلى الخلاء فدخلت الطهارة التي بين البابين عند الأزبهارية وقضيت حاجتي واغترفت غرفة من الجرن استعملتها ثم تأملت الجرن فوجدت فيه بعر فأر والماء مقطوع فورد علي ما ضيق صدري وكان هذا الرجل يسكن في المجاهدية وما كف بصره فلم أشعر به إلا وقد فتح علي باب بيت الطهارة وناولني إبريقاً مملوؤاً ماء من النهر فسررت بذلك وتطهرت بالماء وخرجت وأعطيته الإبريق ولم يكن لي في ذلك الوقت ما أعطيه فأنا لا أراه وعندي ما يمكنني أن أبره به إلا بررته مجازاة لفعله.(2/53)
قال العماد فعجبت من هذه المكارم والمجازاة على ما أيسر شيء بمثل هذا، فكان والدي رحمه الله يبالغ في مجازاة من يخدمه ولو بايسر شيء بما يمكنه ولا يرى أنه وفي ذلك الشخص حقه.
وسمعته رحمه الله يحكي أن الشيخ عبد الله نزل دمشق وأقام بالربوة والملك العادل غائب عن دمشق ونائبه بها المعتمد رحمه الله فجعل نساء الملك العادل وبناته وإخواته يترددن إلى زيارة الشيخ وكثر ذلك ولا يقدر المعتمد على منعهن وخشي من الملك العادل وأن ذلك يبلغه فينكر عليه تمكينهن فحضر إلى عندي وكان صديقي وهو من أصحاب الشيخ ومحبيه وعرفني الصورة وطلب مني أن أحسن للشيخ السفر فوعدته بذلك هذا والشيخ في الطهارة وقام المعتمد ركب ودخل البلد وخرج الشيخ فتوضأ للصلاة وصلى ركعتين ولبس الجمجم وقال تم بنا وسافر لوقته ولم أحدثه بشيء مما قال المعتمد وكان عادة المعتمد أن يسير للشيخ في كل سنة فرجية قرض يصلي بها في الشتاء وتوهم المعتمد أن سفر الشيخ كان لقوله فكتب إلي يسألني أن أطيب قلب الشيخ عليه وسير الفرجية القرض فأحضرتها عند الشيخ وقلت يا سيدي المبارز المعتمد يقبل يدك وقد سير هذه الفرجية فقال يا محمد أنا إذا أحسن الشخص علي في العمر مرة واحدة وأساء بقية عمره ما أراه إلا محسناً وهذا المعتمد عمره يخدمني وقد أخطأ مرة واحدة وعرفني أن طيب القلب عليه أو ما هذا معناه.(2/54)
حدثني الشمس محمد بن داود رحمه الله ما معناه قال وجدت ابن الشهاب على النهر ببعلبك وهو يشتم الشيخ شتماً قبيحاً وطلعت إلى القلعة ووجدت الملك الأمجد في شباك مجلس السماط فحين رآني من بعيد طلبني فحكيت له الصورة فسير جندارية وأمرهم بإحضاره ورميه في الجب إلى بكرة النهار يوقع فيه الفعل ويشهره فأحضروه عند غلوق باب القلعة وحبسوه وحكيت للشيخ رحمه الله فخاصمني وأنكر فعلي وسير فتوح الباب إلى الملك الأمجد وطلب منه إطلاقه وأنه لا يتعرض إليه بأذية وأكد في ذلك فتألمت أنا والجماعة لذلك وظهر علينا الأذى وشرعنا نعدد ما صدر منه غير مرة وأنه يستحق غاية العقوبة والنكال فقال صدقتم وإنما له والدة عجوز ما آذتني ومتى فعل به شيء مما قلتم تألمت فأنا أترك مقابلته لذلك.
دخل على الملك المعظم شرف الدين عيسى بن الملك العادل رحمهما الله تعالى الشيخ جمال الدين بن الحافظ المقدسي رحمه الله وبيد الملك المعظم مجلد فيه أحاديث غير معزوة فقال له أشتهي أن تعزي هذه الأحاديث إلى الكتب الصحاح وتعين ما اتفق عليه وما وقع لبعض المصنفين دون بعض ويكون ذلك بسرعة فقال له هذا يحتاج إلى مدة ويكشف من الأطراف وغيرها وأقل ما يكون ذلك في شهرين فاستطال المدة ودخل عليه في إثر ذلك الشيخ شمس الدين سبط ابن(2/55)
الجوزي رحمه الله وهم في الحديث فقال للملك المعظم تعطيني هذا الكتاب والمقصود يحصل في عشرة أسام فأعطاه الكتاب فركب من وقته وحضر إلى بعلبك واجتمع بوالدي وقال له أشتهي أن تعزو هذه الأحاديث فأخذ الكتاب منه وعزاها على ما اقترح المعظم في مدة ثلاثة أيام وعثر على ألفاظ سقطت فألحقها بخطه وكان ذلك المجلد في نهاية حسن الخط، فلما فرغ منه أخذه الشيخ شمس الدين وعاد به إلى دمشق وحمله إلى الملك المعظم فسر بذلك وأثنى على الشيخ شمس الدين وفضيلته فلما عاد وحضر عنده الشيخ جمال الدين بن الحافظ عرفه أن الشيخ شمس الدين عزا تلك الأحاديث في مدة يسيرة وأوقفه على المجلد فتعجب من ذلك لأن الحديث لم يكن في الشيخ شمس الدين وتصفح المجلد فوجد تلك الإلحاقات التي بخط والدي فقال إنما عزا هذه الأحاديث الشيخ الفقيه اليونيني فقال وكيف صنع قال هو يحفظ هذه الأحاديث جميعها ويعرف مظانها فما يتعذر عليه ذلك وهذا خطه فقال اشتهى أن اجتمع به فقال ما يفعل يجئ إلى هنا.
وكان والدي رحمه الله لا يتناول من وقف شيئاً ولا يقبل بر أحد ولا أكل في عمره صدقة ولا ما يجري مجراها وكان يقبل الهدية من بعض الناس ممن يتيقن حل ما له ويكافي عليها، وحدثني أخي أبو الحسن علي رحمه الله أن والده رحمه الله أخبره قبل وفاته أنه من ذرية(2/56)
جعفر الصادق بن محمد الباقر رضي الله عنهما وإنما أخبره بذلك ليعلم ما يحرم عليه من الصدقة وما يترتب على ذلك وكان لا يصرح بذلك وإنما أظهره قبل وفاته لولده خاصة لهذا المعنى والله أعلم، ووقفت على ورقة بخط أخي رحمه الله يذكر فيها نسبه ومن مضمونها محمد بن أبي الحسين أحمد بن عبد الله بن عيسى بن أحمد بن علي بن محمد بن محمد ابن أحمد بن محمد بن الحسين بن إسحاق بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين علي بن الحسين شهيد كربلا بن علي المرتضى أمير المؤمنين رضي الله عنهم أجمعين ابن أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب ابن هاشم بن عبد مناف وذكره الحافظ عز الدين عمر بن الحاجب الأميني رحمه الله في معجمه فقال محمد بن أبي الحسين بن عبد الله بن عيسى بن أبي الرجال الشيخ الفقيه الزاهد يكنى أبا عبد الله أصله ومولده بقرية يونين قرية من بعلبك وترعرع ونشأ في ستر وسلامة وصحب الشيخ الزاهد عبد الله اليونيني وأظنه نسيبه وتتلمذ له وعرف بصحبته واختص بخدمته وعادت أنوار الشيخ وبركته عليه وتخلق بأخلاقه وقرأ واشتغل بالفقه والحديث وغيرهما إلى أن صار إماماً عالماً حافظاً ثقة زاهداً ورعاً وقوراً وصار متقدم الطائفة وسالك الطريقة ولم ير في زمانه مثل نفسه في كماله وبراعته جمع بين علمي الشريعة والحقيقة وكان مليح الشيبه فصيح اللهجة حسن الوجه والشكل ظريف الشمائل مليح الحركات(2/57)
والسكنات له القبول التام في تلك الديار حميد المساعي والآثار وله الصيت المشهور والأفضال على المنتابين وكان من المقبولين المعظمين عند الملوك لكماله وفضله وحسن سيرته حسن الخلق والخلق نفاعاً للخلق مطرحاً للتكلف كريم النفس بشوش الوجه وكان من جملة محفوظاته الجمع بين الصحيحين للحميدي وغيره مليح الخط وذكر غير ذلك، ثم قال حكى لي الشيخ الفقيه رحمه الله تعالى قال مكثت مدة أريد أن أسأل شيخنا الإمام العلامة موفق الدين بن قدامة رحمه الله عما يقال عن الحنابلة في التشبيه والتجسيم هل هو مجرد شناعة أو قال به بعضهم فحصلت به الشناعة على الجميع أو هو شيء يخفيه المشايخ فلا يظهره إلا لمن يثق إليه إلى أن صعدت معه إلى جبل قاسيون وخلت الطريق وهو بين يدي وأنا خلفه فقلت الآن أسأله عما في نفسي فقلت يا سيدي وما زدت على ذلك فالتفت إلي وقال التشبيه مستحيل فقلت لم قال لأن من شرط التشبيه أن ترى الشيء ثم تشبهه من الذي رأى الله تعالى ثم شبهه لنا.
قال وحكى لي أيضاً قال حضرت مجلس شيخي عبد الله اليونيني رحمه الله وقد سأله ابن خاله حميد بن برق فقال زوجتي حامل إن جاءت بولد ما اسميه قال سم الواحد سليمان والآخر داود فأتت زوجته بتوأم فسمى الواحد سلميان والآخر داود قال وأنشدنا لنفسه:(2/58)
خذ مليك الناس قولاً شافياً ... شافياً قولاً مليك الناس خذ
؟ لذ بباب الله صباً مغرماً مغرماً صباً بباب الله لذ
إذ شباب المرء ظل زائل ... زائلاً ظل شاب المرء إذ
قال وحكى لي أيضاً أنه حفظ صحيح مسلم جميعه وكرر عليه في أربعة أشهر وكان يكرر على الجمع بين الصحيحين وأكثر مسند الإمام أحمد رضي الله عنه من حفظه وأنه كان في الجلسة الواحدة يحفظ ما يزيد على السبعين حديثاً، انتهى ما نقلته مختصراً من معجم الأميني رحمه الله وأورد له الشيخ عز الدين أحمد بن علي بن معقل الأزدي المهلبي رحمه الله أبياتاً في الروضة في وصف بعلبك وكان نظمها في أيام الشبيبة من أولها:
لله بلدة بعلبك بقعة ... رق النسيم بها وراق الماء
فتغردت أطيارها وتمايدت ... أشجارها وامتدت الأفياء
فالجو صاف والنسيم معطر ... والماء ناف ما جناه غذاء
طابت مآكلها وقد طابت بها ... أمواههاً والترب والأهواء
؟ صحت جسوم رجالها وثمارها فتولدت عنها قوى وذكاء
من أبيات، ووقفت على جزء ألفه بعض المقادسة جمع فيه شيئاً من أحوال الشيخ عبد الله الكبير اليونيني وذكر بعض أصحابه وذكر والدي رحمه الله وذكر بعض مضمون ما تقدم فلم أذكره للاستغناء عن إعادته وذكرت مختصراً بعض ما لم أذكره في هذه الأوراق. قال ومنهم يعني(2/59)
أصحاب الشيخ عبد الله الكبير رحمة الله عليه قطب الإسلام وقدوة الأنام الشيخ محمد بن أبي الحسين الفقيه كان إماماً عالماً علامة قطب ثمان عشرة سنة وكان أحسن أهل زمانه خلقاً وخلقاً.
ذكر بدايته
قيل: إنه كان بين يدي الشيخ عبد الله رحمة الله عليه فقال له أنت تكون فقيهاً وأرسله إلى الشيخ موفق الدين فقرأ عليه الفقه وعلى الإمام الحافظ عبد الغني رحمه الله الحديث وقرأ القرآن الكريم على الشيخ عماد الدين إبراهيم المقدسي رحمه الله وجمع الله له بين الحديث والفقه وكان يكرر الجمع بين الصحيحين وأعطاه الله الحال في صغره قال أبو الحسن علي بن الإمام أبي العباس أحمد بن عبد الدائم وكان يخدمه مدة سنين كثيرة وكان للشيخ الفقيه أوراد لو جاء ملك من الملوك ما أخرها عن وقتها.
نبذة من كراماته
قال أبو العباس أحمد بن محمد بن سعد كان بين يدي الشيخ الفقيه جماعة فذكروا السرقة فقال الشيخ أنا سرقت كنت صغيراً وكان لوالدتي في طاقة ثلاثة عشر درهماً فحدثتني نفسي أن آخذ منها درهماً فأخذته ثم لم أزل آخذ درهماً بعد درهم حتى آخذ منها درهما فأخذته ثم لم أزل آخذ درهماً بعد درهم حتى أخذت الجميع فلما كان بعد مدة احتاجت والدتي إلى ثوب فقال لي والدي لأمك في الطاقة(2/60)
ثلاثة عشر درهماً خذها واشتر لها بها ثوباً قال الشيخ فبقيت حائراً أتفكر وقمت إلى الطاقة فوجدت الخرقة وفيها ثلاثة عشر درهما أو كما قال.
وقال المؤلف حدثني أبو الحسن علي بن أحمد بن عبد الدائم قال كنت أخدم الشيخ الفقيه فلما كان في بعض الأيام ورد الشيخ عثمان من دير ناعس وكان الشيخ عند صغاره أو في مكان آخر قال فقال الشيخ عثمان كنت اشتهى يكشف الشيخ الفقيه صدره وأعانقه بصدري ويعطيني الثوب الذي عليه قال فلما جاء الشيخ عثمان ومن معه من الفقراء وأحضر الطعام فلما أكلوا وفرغوا قال لأصحاب الشيخ عثمان قوموا الشيخ عثمان ما يخرج الساعة فلما خرجوا قال قم يا شيخ عثمان فلما قام كشف عن صدره وعانقه ونزع الثوب الذي كان عليه وأعطاه للشيخ عثمان وقال كلما تقطع أعطيتك غيره أو ما هذا معناه.
قال المؤلف وأخبرني أبو الحسن علي بن أحمد المذكور قال ما كان الشيخ الفقيه يرى إظهار الكرامات ويقول كما أوجب الله على الأنبياء صلى الله عليه وسلم إظهار المعجزات أوجب على الأولياء إخفاء الكرامات قال وذكروا عنده الكرامات فقال ويلكم إيش الكرامات كنت وأنا صغير عند الشيخ عبد الله يعني ببعلبك وكان عنده بغاددة يعملوا مجاهدات وكنت أرى من يخرج من باب دمشق وأرى الدنيا قدامى مثل الوردة فكنت أقول للشيخ يا سيدي يجيء إلى عندك من دمشق أناس(2/61)
ومعهم كذا وكذا ومن حمص ومن مصر فإذا جاء ما أقول يقولون يا سيدي نحن نعمل مجاهدات وما نرى وهذا يرى فيقول هذا ما هو بالمجاهدات هذا من الله تعالى أو ما هذا معناه، قال وحدثني الشيخ إسرائيل ابن إبراهيم قال كان وقع لبعض أصحاب الشيخ الفقيه أمر كره الشيخ وقوعه فلما كان بعد مدة ورد الشيخ عثمان من دير ناعس فلما حضر عند الشيخ الفقيه سأله مسألة غليظة أن يمكنه بجعل قدمه على وجهه فقال له يا شيخ عثمان إيش هذا الخاطر فقال أنا قد سألتك فلما مكنه من ذلك قال له يا شيخ عثمان أعاد الله على المسلمين بركتك أشتهي زوال كذا وكذا فلما صلى العشاء رمق الشيخ عثمان فما كان إلا قليلاً وانقضت الحاجة فلما بلغ الشيخ الفقيه قال أحسنت يا شيخ عثمان أحسنت يا شيخ عثمان فسأل بعض الجماعة الشيخ عثمان فقال له أنت ما عندك أحد مثل الشيخ الفقيه فلم لا قام هو في هذا الأمر بنفسه فقال الخليفة إذا أراد شغلاً أو قال أمراً من الأمور ما يقوم هو فيه بنفسه ولكن يأمر بعض من عنده يقوم فيه أو ما هذا معناه.
قال وكان الشيخ الفقيه يكرر على الجمع بين الصحيحين وعلى أسماء الرجال فشذ عنه بعض الأسماء فنظر إلى السماء فعرفه فسأله خادمه ابن باقي فقال له يا سيدي رأيتك إذا نسيت الاسم ترفع رأسك إلى السماء فتذكره فقال له إذا نظرت إلى السماء رأيته مكتوباً في الهواء أو كما قال قال وأخبرني المعري عامر قال غضب الشيخ الفقيه على خادمه ابن باقي وروحه من خدمته فسافر إلى حلب وأقام بها مدة ورجع في(2/62)
يوم عيد والشيخ يخطب للعيد عند ضريح الشيخ عبد الله اليونيني والشيخ عثمان يومئذ حاضر فسأل ابن باقي الشيخ محمد بن الشيخ عبد الله والشيخ عثمان أن يشفعا فيه عند الشيخ الفقيه وكان للشيخ عادة إذا صلى العيد يأخذ الجماعة إلى منزله قال فلما صرنا في منزله غمز ابن باقي للشيخ محمد فنظر إلى الشيخ الفقيه وقال يا سيدي أشتهي تصفح عن خادمك أبي بكر وكان حاضراً وكشفنا نحن رؤوسنا فاحمر وجه الشيخ الفقيه وأطرق وقال إذا كان الإنسان نحس إيش أعمل أنا ما يدخل أحد إلى المسجد إلا وأبصر قلبه مثل هذا الثوب وأمسك كمه ونظر إلينا وصاح غطوا رؤوسكم من فعل هذا حتى تفعلوه أنتم وأما الشيخ عثمان فإنه ما تكلم والتفت إلى ابن باقي فما رايته أو ما هذا معناه.
قال وأخبرني الفقيه أبو الحسن علي بن عثمان بن عمر الموصلي الشافعي قال أخبرني المقرئ نصر المرداوي قال كنت أقرئ القرآن بمسجد الحنابلة ببعلبك وقد تجمع على عشرة دراهم دين ضاق منها صدري فخطر لي أخرج إلى بعض الأماكن واعمل واحصلها فلما صليت الصلح وكنت بالزاوية الغربية من المسجد والشيخ الفقيه بالشرقية فلما صلى طلبني فجئت إليه فقال روح إلى فلان وخذ منه عشرة دراهم أو ما هذا معناه، قال وأخبرني إبراهيم بن محمد بن حمدان قال أرسلت بكتاب من جهة الملك الصالح إسماعيل إلى عند الشيخ الفقيه فوصلت بعلبك ورحت إلى الشيخ وناولته الكتاب فقرأ بعضه ونظر إلي وقال ما جاءك أولاد قلت يا سيدي خليت(2/63)
المرأة على ليالها وتم قراءة الكتاب وقال لا رأى لحاقن وقام وتوضأ للصلاة فلما كان العصر من يوم الاثنين والمؤذن يقول أشهد أن محمداً رسول الله رفع يديه وقال اللهم خلصها قال فلما رجعت إلى المزة أخبروني أنني جاءني صغيرة فسألت متى جاءت قالوا يوم الاثنين ومؤذن العصر يقول أشهد أن محمداً رسول الله أو كما قال.
قال وحدثني الشيخ إسماعيل بن علي بن إبراهيم قال كنت عند الشيخ الفقيه فنظر إلي وقال رحم الله والدك فلان وأمك فلانة قال فحصل عندي شيء فقلت له يا سيدي اسمع يقولون كرامات الفقراء وقد سمعتها منك وإذا إنسان ينادي على الباقلاء فقال الشيخ خذ قرطاس واشتر به باقلاء وخذه إلى حجرك وكل ما قلت لك كرامة أعطني باقلاه، ثم قال والله أيراد حديث واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم ينتفع به الناس أحب إلي من ملء الأرض كرامات أو ما هذا معناه، قال وحدثنا أبو محمد عبد الرحيم بن عبد الوهاب قال جاءني فقيران من حلب يسالان الشيخ الفقيه عن أحاديث حتى استأذن لهما عليه فلما استأذنت بالدخول وكان بالزاوية التي قبلي المسجد ببعلبك فلما دخلنا عليه سلموا وتحادثوا فابتدأ الشيخ وحدثهم بمعنى الأحاديث وذكرها لهم فحصل عند أحدهما شيء فقال الشيخ لا إله إلا الله لو أراد الفقيران يكون كل كلامه كرامات فعل أو ما هذا معناه.(2/64)
قال وأخبرني أبو محمد عبد الرحمن بن يوسف بن محمد قال أخبرني الشيخ عثمان قال كان في خاطري ثلاث مسائل أريد أن اسأل الشيخ الفقيه عنها قال فأجابني عنها قبل أن أسأله أو ما هذا معناه، وقال أبو محمد عبد الرحمن المذكور طالعت في كتاب الترغيب والترهيب في باب الاستغفار ثم سألت الشيخ الفقيه عن الاستغفار فقال ذكر البخاري كذا وذكر مسلم كذا وما اتفقا عليه كذا ثم ذكر ما في الترغيب من فضائل الاستغفار قال: قال الشيخ حسن بن إبراهيم الحداد حضرت مجلس الشيخ الفقيه بجامع دمشق وقد سئل عن اختلاف الأئمة الأربعة فقال هذا الجامع الذي نحن فيه له أربعة أبواب فإذا دخل كل إنسان من باب صار فيه وهكذا الأئمة وكلهم على الحق.
قال المؤلف قرأت في سيرة الشيخ موفق الدين تأليف الشيخ الضياء محمد المقدسي قال سمعت الفقيه الإمام الزاهد أبا عبد الله محمد بن أبي الحسين اليونيني قال ومع ما رأيت منه وسمعت منه يعني الشيخ موفق الدين رحمه الله ما أعلم أنه أشكل على موضع في أصول الدين وفروعه إلا رأيته في المنام ورفع عني الإشكال مرة جاءتني فتيا مشكلة في الفروع فتحيرت في الجواب فرأيته في المنام فقال لي الجواب.
قال المؤلف قرأت في بعض الكتب ما صورته سمعت من لفظ شيخنا الفقيه الإمام العالم محمد بن أبي الحسين بن عبد الله اليونيني أثابه الله الجنة بكرمه ببلده بعلبك فيما رفعه إلى الجنيد رحمة الله عليه قال كان(2/65)
في نفسي مسألة في التوحيد فسألت عنها جماعة من أهل العلم فما شفي أحد فؤادي فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فسألته عنها فشفى فؤادي قلت يا رسول الله ما التوحيد قال كل ما حده فكرك وأحاط به علمك أو أدركه حسك أو أصبته بفهمك فالله تعالى بخلاف ذلك وإنما يسأل العبد يوم القيامة عن الشك والشرك والتشبيه والتعطيل قلت يا رسول الله فما العقل قال أدناه ترك الدنيا وأعلاه ترك التفكر في ذات الله تعالى قلت يا رسول الله ما التصوف قال ترك الدعاوى وكتمان المعاني.
؟ ذكر قطبيته رحمه الله
قال المؤلف أخبرني الشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن الشيخ عثمان بدير ناعس قال أخبرني والدي قال قطب الشيخ الفقيه ثماني عشرة سنة أو كما قال: قال المؤلف حدثنا الشيخ محمود بن الشيخ سلطان بمنزلة ببعلبك قال: قال لي الشيخ الفقيه حاجة فلما سألت عنها أخبرت أنه قطب من اثنتي عشرة سنة فلما سألني عن الجواب قلت له من يكون قطب من اثنتي عشرة سنة يسألني عن حاجة فاحمر وجهه ولبس مداسه وخلاني وخرج أو كما قال.
قال المؤلف وحدثني علي بن أحمد بن عبد الدائم قال قدم علينا فقير بغدادي اسمه عبد الله وكان إمام قرية زحلة وأخبرنا أنه رأى خلقاً وسمع نقارات فسأل إيش هذا فقيل له قد قطب الشيخ محمد الفقيه قال(2/66)
فما كان إلا قليلاً وإذا بالشيخ عثمان قد أقبل من دير ناعس فقلنا له يا سيدي ما تسمع ما يقول هذا الفقير فقال وأيش قال قلنا قال كذا وكذا فقال الشيخ عثمان صدق لأجل هذا جئت أو ما هذا معناه، قال المؤلف وأخبرني الشيخ تقي الدين أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن فضل الواسطي قال رأيت للشيخ الفقيه رؤيا تدل على أنه أعطى ولاية أو كما قال.
ذكر أدب الملوك والوزراء بين يديه
قال المؤلف سمعت قاضي القضاة أبا المفاخر محمد بن عبد القادر الأنصاري الشافعي يقول سأل الملك الأشرف الشيخ محمد الفقيه فقال له يا سيدي اشتهى أبصر شيئاً من كرماتك فقال له الشيخ إيش يكون هذا فلما أراد الشيخ الخروج بادر الملك الأشرف إلى مداس الشيخ وقدمه فقال له الشيخ يا فلان هذا الذي كنت تطلبه قد وقع قال كيف يا سيدي قال أنت الملك الأشرف بن الملك العادل وأنا ابن رجل من أهل يونين تقدم مداسي قال فاطرق الملك الأشرف أو ما هذا معناه.
قال المؤلف حدثني إسرائيل بن إبراهيم قال كنت مرة عند الشيخ الفقيه وعنده ولده عبد القادر فإذا بأمين الدولة وزير الملك الصالح قد دخل فلم يقم له الشيخ فقال لي ولده عبد القادر ما الشيخ إلا عجيب يدخل عليه مثل هذا ما يقوم له فلما خرج أمين الدولة وانبسط الشيخ قال له ولده يا سيدي يدخل عليك مثل هذا الوزير ما تقوم له إيما(2/67)
أميز هذا أو الملك الأشرف كان إذا دخل علي وأنا متكئ على جنبي يسألني أني لا أقعد ويقف يقول ما أراد ويخرج وكان ابن الملك العادل وهذا من هو أو كما قال.
وقال المؤلف أخبرني الأمير سيف الدين بكتمر الساقي العزيزي قال لما عبر التتار إلى الشام قصدت زيارة الشيخ الفقيه فلما حضرت عنده ذكرت له التتار فأخبرني أنهم ينكسروا فلما أردت أودعه قلت له يا سيدي اشتهى تدعو لي قال فرفع يديه ورفعت يدي ودعا بدعاء لا هو بالعربي ولا بالتركي وقال لي ما بقيت بعدها تراني قال فلما انكسر التتار رجعت إلى دمشق وطلعت إلى بعلبك وسألت عن الشيخ قالوا توفى أو كما قال، قال المؤلف أخبرني الشيخ يوسف بن محمد بن موسى قال رأيت الشيخ الفقيه والشيخ عبد الله بن عزيز في المنام وفي حجر الشيخ الفقيه دنانير ودراهم وفلوس وفي حجر الشيخ عبد الله أيضاً قال فمست التي في حجر الشيخ الفقيه فوجدتها مسكوكة ولمست التي في حجر الشيخ عبد الله فوجدتها بلا سكة فسالت الشيخ الفقيه كما أنا من هذا في النوم فقال حالي ظاهر وباطن وحال الشيخ عبد الله باطن قال فلما رأيته في اليقظة أخبرته بما رأيت فقال صحيح أو ما هذا معناه.
قال وأخبرني أحمد بن عباس قال أخبرني الشيخ إبراهيم بن الشيخ عثمان بدير ناعس قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت له يا رسول الله أنا مشتاق إليك فقال لي زر قبر الشيخ الفقيه وقال(2/68)
أبو الفداء إسماعيل بن علي بن إبراهيم الفراء درت أطراف الحجاز والعراق ومصر وما رأيت مثل الشيخ الفقيه وكنت مرة عنده فنظر إلي وقال يا شيخ إسماعيل أراك بعض الأوقات تؤذن على سجادتي وعلى باب المسجد وعلى باب داري وأنا قد عجزت عن الركوب فحج عني ولا تروح على البر إلا على البحر فإنك تروح طيباً فخالفته وشارطت عرباً وأعطيتهم مائة وخمسين درهماً فأخذوها وراحوا فلما طلعت إليه قال لي ما قلت لك ما تروح على البر فقلت يا سيدي وإيش أدراك فقال قولك إيش أدراك أعجب من مخالفتي قال فتجهزت ورحت على البحر فلما طلعت من البحر جئت إلى مكان فيه عين ونخل ورجل أسمر شديد السمرة فلما رآني سلم علي وقال لي طيب قلبك تروح طيباً فلما رجعت ودخلت على الشيخ سألني عن طريقي وقال إيش حسن المكان والنخل والرجل الأسود يوم فارقك جاء إلي وأخبرني إنك طيب وكان أحد الأبدال أو ما هذا معناه. قال وأرسلني الشيخ الفقيه مرة إلى مصر في حاجة فما وردت منزلة إلا وخرج إلى إنسان وخدمني إلى أن جئت إلى سفط الحنى ظاهر بلبيس فرأيت بها مسجداً وسفرة وأباريق فدخلته فقال شخص هذا مكان للصلاة ما هو للقعود فبينا(2/69)
نحن كذلك وإذا شيخ قد أقبل فقال لي يا أخي من أين أنت فقلت من دمشق فقال من تعرف قلت أعرف مشايخ الصالحية فلان وفلان ومشايخ بعلبك الشيخ الفقيه فصاح وقال هذا الشيخ الذي أخذت عنه أمور دينكم فاعتذر إلي وأكرمني تلك الليلة ودخلت القاهرة وقضيت حاجتي ورجعت فلما دخلت على الشيخ سألني عن طريقي فقلت له ما جئت إلى مكان إلا وخرج إلي من يخدمني فاغرورقت عينه بالدموع وقال يا إلهي ما هذا الإحسان وأنا ابن فلان من يونين قال وقلت له يا سيدي اشتهى أبصر الشيخ فلان فقال كان فقيراً يخدم الشيخ فقال له يا سيدي اشتهى أبصر القطب فقال له القطب يحضر في المكان الفلاني في السنة مرة وعند جماعة فسافر الفقير إلى ذلك المكان ورأى أولئك الجماعة فقالوا له مالك فقال جئت أبصر القطب فقالوا له اليوم راح من ههنا فبقي عندهم سنة، فلما كانت تلك الليلة التي عادة القطب يجئ فيها قاموا فقال لهم الفقير ما لكم قالوا الساعة يجيء القطب فقام معهم وإذا به قد أقبل فتلقوه وإذا هو شيخه فقال له يا سيدي وأنت هو قال نعم لو قلت لك إني هو ما سلمت لي أو ما هذا معناه.
قال المؤلف سمعت الشيخ عبد الدائم بن أحمد يقول كان الشيخ الفقيه في مبتدأه زاهداً وفي منتهاه عارفاً أو ما هذا معناه قال المؤلف وذكره سيف الدين أحمد بن مجد الدين عيسى بن الشيخ موفق الدين ممن سمع بقاسيون فقال محمد بن أبي الحسين اليونيني(2/70)
وذكر مولده وغير ذلك وقال كان عالماً سريع الحفظ كثير المحفوظ سمعته يقول حفظت أكثر مسند الإمام أحمد رضي الله عنه وكرر على الجمع بين الصحيحين وحفظ سورة الأنعام في يوم واحد وحفظ صحيح مسلم في أربعة أشهر وحفظ ثلاث مقامات من مقامات الحريري إلى نصف نهار الظفر انتهى ما نقلته من الجزء تأليف بعض المقادسة.
قلت وتزوج والدي رحمه الله في عمره ست زوجات ورزق عدة أولاد درج منهم في حياته جماعة وتوفي إلى رحمة الله تعالى وفي عقده والدتي رحمها الله تعالى أما بقية النساء فددجن إلى رحمة الله في حياته لم يفارق أحداً منهم ولا جمع بين زوجتين وخلف من الأولاد أخي أبا الحسين علي وخديجة وآمنة، أمهم ابنة الهمام تركمانية وموسى وأمة الرحيم وأمهما زين العرب بنت نصر الله بن هبة الله بن الحسن بن يحيى ابن محمد بن علي بن يحيى بن صدقة بن الخياط التغلبية وجدها الحسن ابن يحيى هو المعروف بسنى الدولة فأبو الحسين رحمه الله استشهد يوم الخميس حادي عشر شهر رمضان المعظم سنة إحدى وسبعمائة كان وثب عليه من جرحه في رأسه بكرة يوم الجمعة خامس شهر رمضان المذكور بمسجد الحنابلة ودفن بباب سطحاً وكان سيداً كبيراً إماماً عالماً حافظاً متقناً محققاً رحمه الله ورضي عنه ومولده في شهر رجب سنة إحدى وعشرين وستمائة ببعلبك، وأما خديجة فكانت امرأة صالحة كثيرة العبادة والخير توفيت إلى رحمة الله تعالى في شهر رجب سنة ثمانين وستمائة(2/71)
ببعلبك ودفنت في تربة الشيخ عبد الله اليونيني الكبير رحمه الله تعالى وزين العرب والدتي رحمها الله تعالى توفيت سحر ليلة الجمعة خامس عشري شوال سنة ثلاث وتسعين وستمائة بمنزلي ببعلبك ودفنت بعد صلاة الجمعة في مقابر باب سطحا وقد نيفت على الثمانين سنة من العمر وكانت امرأة صالحة كثيرة العبادة وقيام الليل.
محمد بن خليل بن عبد الوهاب بن بدر أبو عبد الله البيطار المعروف بالأكال أصله من جبل بني هلال ومولده بقصر حجاج خارج دمشق سنة ستمائة وتوفي بدمشق في خامس شهر رمضان من هذه السنة رحمه الله وكان رجلاً صالحاً كثير الإيثار وحكاياته في أخذ الأجرة على ما يأكله وما يقبله من بر الأمراء والملوك وغيرهم مشهور ولم يسبقه إلى ذلك أحد ولا اقتفى أثره من بعده ولا شك أنه كان له حال ينفعل له بها ذلك وجميع ما يفتح به عليه على كثرته يصرفه إلى القرب ويفقد المحابيس وغيرهم من المحاويج والأرامل والمنقطعين وكان بعض الناس ينكر على من يعامله بهذه المعاملة وينسبه إلى التهور في فعله فإذا اتفق اجتماعه به انفعل له انفعالاً كلياً ولا يستطيع الامتناع من إعاطئه كل ما يروم وكان مع هذا حسن الشكل مليح العبارة حلو الحديث له قبول تام من سائر الناس وكان كثير المحبة في والدي رحمه الله والتردد إليه لما نزل دمشق في سنة خمس وخمسين والأكل عنده بغير أجرة وهو مطلق عنده دون غيره رحمه الله.(2/72)
محمد بن عبد الله بن أبي بكر أبو عبد الله القضاعي البلنسي المعروف بابن الآبار الكاتب الأديب المحدث ذو الفضائل الجمة كان إماماً عالماً عارفاً بأنواع كثيرة من العلوم ومولده ببلنسية من شرقي بلاد الأندلس في أحد الربيعين من سنة خمس وتسعين وخمسمائة ونشر بتلك البلاد علماً كثيراً وصنف تصانيف مفيدة في علوم متعددة وتوفي بتونس في يوم الثلاثاء العشر من المحرم هذه السنة رحمه الله.
محمد بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر أبو عبد الله شمس الدين المقدسي الصالح العالم العابد المسند سمع من محمد بن حمزة بن أبي الصقر وغيره وأجاز له أبو طاهر السلفي والكاتبة شهدة رحمهما الله وهو آخر من روى عنهما فيما علم بالإجازة المعينة واستشهد بيد التتار في قرية ساوية من عمل نابلس في شهر جمادى الأولى ودفن بها وقد نيف على المائة سنة رحمه الله تعالى.
محمد بن عبد الواحد بن عبد الجليل بن علي أبو بكر زكي الدين المخزومي اللبنى الشافعي كان فقيهاً عالماً فاضلاً خبيراً بالأحكام وعنده مشاركة جيدة في الأدب وغيره وله نظم حسن ولي القضاء ببانياس مدة وببصرى وولي إعادة المدرسة الناصرية بدمشق وتدريس المدرسة القليجية الشافعية بدمشق وغير ذلك ثم ولي القضاء ببعلبك
بعد وفاة صدر الدين عبد الرحيم قاضيها رحمه الله واستمر بها إلى أن(2/73)
جفل الناس من التتر في أول هذه السنة فتوجه إلى قلعة الصبيبة صحبة الأمير ناصر الدين التبنيني رحمه الله فلما سلمت إلى التتر دخل دمشق وأقام بها إلى أن انقضت دولة التتر وسأل العود إلى بعلبك فأعيد إليها فتوجه نحوها وهو متمرض فأقام بها أياماً وتوفي إلى رحمة الله تعالى في ذي القعدة ودفن في مقابر باب سطحاً ظاهر باب دمشق من مدينة بعلبك هو في عشر الثمانين وكان كريم الأخلاق حسن العشرة لطيف المحاضرة على ذهنه من الأشعار والحكايات والنوادر شيء كثير وكان شديداً في أحكامه مشكور السيرة في ولاياته متفننا في فضائله رحمه الله وكان يزعم أنه من ذرية خالد بن الوليد رضي الله عنه واللبن قربة بين القدس ونابلس وأنشدني من نظمه أشعاراً كثيرة لم يعلق بذهني الآن منها شيء وسألت ولده معين الدين عن شيء من شعره فكتب لي هذه القطعة:
سل سائل العبرات في الأطلال ... كم قد خلوت بها بذات الخال
وجنيت باللحظات من وجناتها ... ما غض منه الغض من عذالي
وهممت ارتشف اللمى فترنحت ... فحمت جنى المعسول بالعسال
لو لم تكن مثل الغزالة لم تكن ... بمنى لها عني نفور غزال
صدت ولولاها تصدت لي لما ... وصل الغرام حبالها بحبالي
وبروض خديها تنعم ناظري ... ولنار وجنتها فؤادي صالي
فاعجب لجذوة خدها ولمائه ... ضدان مجتمعان من صلصال(2/74)
أنا في هجير محرق من هجرها ... فمتى أطفيه ببرد وصالي
؟ إن كان أعرض أو تعرض طيفها فمدامعي كالعارض الهطال
ومن المحال نزور من عبراته ... طوفانها قد طم طيف خيالي
قلت وقد جدت العقيق بمثله ... هلا بد معك جدت وهو لآل
فأجبتها ذي مهجتي من مقلتي ... سألت فكيف زعمت إني سالي
فتضاحكت فبكيت من فرط الجوى ... شوقاً فما رقت لرقة حالي
فعليلها ما أن يبل وغلتي ... ما أن تبل بريقها الجريال
ومنها في مديح الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن محمد رحمهما الله تعالى.
رفعت عوامله لمجرور الظبي ... قمماً بها نصبت بحكم الحال
ورماحه رقصت فنقطها الظبي ... يوم الوغى بجماجم الأبطال
وسألت معين الدين المذكور عن عمر والده رحمه الله حال وفاته فقال كان نيف على ست وستين سنة من العمر وكنت أنا أتوهم أن عمره فوق ذلك بسنين عدة وولده أخبر بحاله والله أعلم.
محمد بن غازي بن أبي بكر محمد بن أيوب بن شاذى أبو المعالي الملك الكامل ناصر الدين صاحب ميافارقين وتلك البلاد ملك في سنة اثنتين وأربعين وستمائة عقيب وفاة والده الملك المظفر شهاب الدين غازي بن الملك العادل وكان أولاً يداري التتر فلما خبر باطن أمرهم(2/75)
وأن المداراة لا تفيد معهم انجذب منهم فلما علم أنهم على عزم قصده قدم على الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله بدمشق مستغيثاً ومستنجداً على التتر فوعده بالنجدة بعد أن أكرمه غاية الإكرام وقدم له من التحف والخيول وغيرها ما يجل مقداره وعاد الملك الكامل إلى ميافارقين ولم يمكن الملك الناصر إنجاده لما رأى من تخاذل أصحابه وضعف قلوبهم عن مقابلة التتر لكثرتهم ولأنه لم يتفق إلى تلك الغاية من انتصف منهم وقد ملكوا العراق والعجم والروم وغير ذلك من الأقاليم والبلاد وسير هولاكو أشموط لمحاصرة الملك الكامل فحصره حصراً شديداً وبقي الملك الكامل رحمه الله مجاهداً للتتر صابراً لقتالهم حتى فني أكثر أهل ميافارقين وعمهم الموت قتلاً وفناء لكثرة الغلاء وعدم الأقوات وبقي محصوراً دون سنتين فعند ذلك ضعفت القوى عن محاربة العدو فاستولوا على ميافارقين واستشهد الملك الكامل قدس الله روحه وحمل رأسه على رمح وطيف به في البلاد فوصلوا به إلى حلب ثم إلى حماة وحمص وبعلبك وشاهدته رحمه الله وهو يطاف به بمدينة بعلبك ثم وصلوا به إلى دمشق يوم الاثنين سابع وعشرين جمادى الأولى وطافوا به بالمغاني والطبول ثم علق الرأس بسور باب الفراديس فلم يزل معلقاً في شبكة إلى أن عادت دمشق إلى المسلمين فدفن بمشهد الرأس داخل باب الفراديس وقد ذكرنا كيفية دفنه وما قيل في ذلك فأغنى عن إعادته.
وكان رحمه الله ملكاً جليلاً ديناً خيراً عادلاً عالماً محسناً إلى رعيته(2/76)
وسائر من في خدمته كثير التعبد والخشوع لم يكن في البيت الأيوبي من يضاهيه في ديانته وحسن طريقته رحمه الله ورضي عنه وكان التتار قد استولوا على جميع بلاده ومعاقله ومعظم أولاده وحرمه وأهله وهو محصور بميافارقين ثم ختم له بالشهادة على هذا الوجه الجميل بعد أن أفنى في مدة الحصار من التتار ما لا يحصى كثرة رحمه الله تعالى.
أبو علي بن محمد بن أبي علي بن باساك الأمير حسام الدين الهذباني كان أميراً كبيراً جليل المقدار قوي النفس حسن التدبير كثير الرياسة عنده تعاظم وتعدد حكى لي الأمير عز الدين محمد بن أبي الهيجاء رحمه الله ما معناه إن الأمير حسام الدين لما حضر إلى دمشق في الأيام الناصرية طلبه الملك الناصر لحضور مشورة فظهر عليه كراهية الحضور وقال كنت أود لو عاجلني الموت في هذه الساعة فقلت لم يا خوند فقال قد طلبني السلطان إلى مجلسه العام وعنده ناصر الدين القيمري عن يساره وجمال الدين بن يغمور عن يمينه وهما عنده في المنزلة العليا فيقتضى الحال القعود دون أحدهما وهذا أرى الموت دونه فهونت عليه ذلك وقلت يا خوند مكانتك معروفة لا ينقصها ذلك فقال لكن على كل حال إذا كان ولا بد اشتهى أن يقعدوني في جهة الأمير ناصر الدين فهو كردي ثم أمرني بالتوجه إلى باب دار السلطان لكشف الخبر فلما صرت بباب دار السلطان وجدت بعض من كان حاضراً قد خرج فحدثني إن بعد توجه الرسول لطلبه تشاوروا أين يقعدونه إذا حضر فقال(2/77)
الأمير ناصر الدين هذا رجل كبير القدر وقادم على مولانا السلطان فيقعد بين مولانا السلطان وبين المملوك وتقرر أنه يقعد فوق الأمير ناصر الدين القيمري فعدت إليه مسرعاً فصادفته عند باب القلعة فعرفته ما جرى فتهلل وجهه ودخل فاحترمه الملك الناصر احتراماً كثيراً وأقعده إلى جانبه بينه وبين الأمير ناصر الدين القيمري فلما خرج قلت له يا خوند أجلسك السلطان إلى جانبه فوق الأمير ناصر الدين فقال نعم ما كان يمكن غير هذا وهذا التعاظم والمنافسة في مثل ذلك وما يجري مجراه إنما اقتبسه من مخدومه الملك الصالح نجم الدين فإنه كان اتصل بخدمته في حياة الملك الكامل ولازمه واختص به اختصاصاً كبيراً وجعله أستاذ داره وكان يعتمد عليه في مهماته ويثق به وثوقاً عظيماً ويسكن إليه بخلاف وثوقه بسائر من في خدمته ولما أمسك الملك الصالح واعتقل بالكرك أراد الأمير حسام الدين المذكور التوصل إلى آمد بإشارة من الملك الصالح إليه عند ما أمسك فعمل على ذلك فقبضه الملك الصالح عماد الدين إسماعيل واعتقله في حبس الخيالة بقلعة دمشق ثم نقله إلى قلعة بعلبك فحبس في جب مظلم لا يفرق فيه بين الليل والنهار وهو مضيق عليه وينزل إليه في كل يوم قليل خبز وقليل من الماء وربما أنزل إليه مع الخبز جرزة بقل في بعض الأوقات قال الأمير حسام الدين فكنت أحسب في نفسي أنني ربما أمنع الطعام والشراب لأموت فكنت أدخر من الخبز المرتب شيئاً قليلاً وكذلك من الماء أجمعه في جرة طلبتها فاجتمع عندي من ذلك شيء كثير ثم طين على(2/78)
الجب ومنعت من الطعام والشراب فارتفقت بذلك الذي جمعته مدة إلى أن فتح الجب وأنزل إلي ما كان يجري علي أولاً إلى أن فرج الله تعالى عني ولما أخرج من الجب سنة إحدى وأربعين حمل إلى دمشق ونزل في برج كان الملك المغيث بن الملك الصالح نجم الدين معتقلاً فيه ثم أذن له في الانتقال من القلعة وأن يتجهز للمسير إلى الديار المصرية فخرج من البرج ومضى إلى مدرسة الأمير عز الدين أيبك المعظمي صاحب صرخد التي على شرف الميدان وأطلق له ما كان أخذ له من القماش والخيول والمماليك وغير ذلك وخلع عليه وأطلق له مال فتوجه إلى مخدومه وحكى لي ناصر الدين علي بن قرقين أن الأمير حسام الدين المذكور لما نقل إلى قلعة بعلبك حبس في بيت مفرد ولم يكن يدخل عليه كل أحد قال ناصر الدين المذكور وكنت أدخل عليه في كثير من الأوقات وأطيل الجلوس عنده والحديث معه وهو غير مضيق عليه فاتفق أن الملك الصالح عماد الدين سير أسد الدين الزرزاري بكتاب منه إلى والي القلعة بأن يمكنه من قتل حسام الدين فعظم ذلك على والي القلعة وكان رجلاً ديناً خيراً فطلبني وعرفني ما ورد به من المرسوم فقلت له وللزرزاري إذا قتلتموه إيش في عزمكم تفعلون به بعد القتل قالوا ندفنه قلت ادفنوه وهو حي ولا تتلوثوا بدمه واجعلوه في الجب وشاوروا السلطان قال فكتبوا إلى الملك الصالح عماد الدين وشاوروه على ذلك ففسح فيه وأمر أن ينزل(2/79)
إليه في كل أسبوع رغيفاً خبز وجرة ماء فامتثل المرسوم وكان ينزل له رغيفان كبيران ولم يزل على ذلك إلى أن أفرج عنه وفي سنة ثلاث وأربعين فوض إليه الملك الصالح نجم الدين النيابة بدمشق فمضى إليها وأقام بها، وفي سنة أربع وأربعين توجه إلى
بعلبك بمن معه من العسكر ونازل قلعتها وضايقها وكان بها الملك المنصور شهاب الدين محمود بن الملك الصالح عماد الدين إسماعيل وإخوته فاشتد عليهم الحصار فسلموها إلى الأمير حسام الدين بالأمان فرتب أمورها وسار إلى دمشق وأولاد الملك الصالح عماد الدين معه فاعتقلهم بدمشق ثم بعث بهم إلى ابن عمهم الملك الصالح نجم الدين قال الأمير حسام الدين لما كنت في الجب بقلعة بعلبك لا فرق بين الليل والنهار حدثتني نفسي يوماً وأنا في تلك الحال التي تشعر باليأس من الحياة بالكلية أنني أخرج من الحبس وأرجع إلى منزلتي التي كانت لي عند الملك الصالح نجم الدين وأنه يسيرني إلى بعلبك وأفتحها واحتاط على أولاد الملك الصالح إسماعيل وأحملهم بين يدي إلى دمشق فقلت لنفسي هذا من الأماني الكاذبة التي تبعد في العقل أن تكون فما كان الأمد يسيرة وحصل لي ما تمنيته عياناً لم يخرم منه شيء، وفي سنة أربع وأربعين أيضاً أطلق صاحب حمص الأمير بدر الدين محمد بن أبي علي والد الأمير حسام الدين وكان الملك المجاهد حبسه بقلعة حمص مع الأمير سيف الدين ابن أبي علي وجماعة الحمويين فقدم بدر الدين على والده حسام الدين وهو يومئذ نائب السلطنة بالديار المصرية في سنة خمس وأربعين ثم توفي بعد قدومه بمدة يسيرة فدفنه ولده بالرصد وبنى عليه تربة، وفي سنة ست وأربعين تقدم الملك الصالح نجم الدين إلى الأمير حسام الدين المذكور بالمسير إلى الصالحية مقدماً على العساكر المتوجهة إلى الشام واستناب الملك الصالح بالديار المصرية عوضه الأمير جمال الدين موسى بن يغمور فخرج وأقام بالصالحية أربعة أشهر ثم رجع إلى القاهرة ثم سار إلى الشام مقدماً على الحلقة السلطانية ومعه الدهليز السلطاني إلى حمص. بعلبك بمن معه من العسكر ونازل قلعتها وضايقها وكان بها الملك المنصور شهاب الدين محمود بن الملك الصالح عماد الدين إسماعيل وإخوته فاشتد عليهم الحصار فسلموها إلى الأمير حسام الدين بالأمان فرتب أمورها وسار إلى دمشق وأولاد الملك الصالح عماد الدين معه فاعتقلهم بدمشق ثم بعث بهم إلى ابن عمهم الملك الصالح نجم الدين قال الأمير حسام الدين لما كنت في الجب بقلعة بعلبك لا فرق بين الليل والنهار حدثتني نفسي يوماً وأنا في تلك الحال التي تشعر باليأس من الحياة بالكلية أنني أخرج من الحبس وأرجع إلى منزلتي التي كانت لي عند الملك الصالح نجم الدين وأنه يسيرني إلى بعلبك وأفتحها واحتاط على أولاد الملك الصالح إسماعيل وأحملهم بين يدي إلى دمشق فقلت لنفسي هذا من الأماني الكاذبة التي تبعد في العقل أن تكون فما كان الأمد يسيرة وحصل لي ما تمنيته عياناً لم يخرم منه شيء، وفي سنة أربع وأربعين أيضاً أطلق صاحب حمص الأمير بدر الدين محمد بن أبي علي والد الأمير حسام الدين وكان الملك المجاهد حبسه بقلعة حمص مع الأمير سيف الدين ابن أبي علي وجماعة الحمويين فقدم بدر الدين على والده حسام الدين وهو يومئذ نائب السلطنة بالديار المصرية في سنة خمس وأربعين ثم(2/80)
توفي بعد قدومه بمدة يسيرة فدفنه ولده بالرصد وبنى عليه تربة، وفي سنة ست وأربعين تقدم الملك الصالح نجم الدين إلى الأمير حسام الدين المذكور بالمسير إلى الصالحية مقدماً على العساكر المتوجهة إلى الشام واستناب الملك الصالح بالديار المصرية عوضه الأمير جمال الدين موسى بن يغمور فخرج وأقام بالصالحية أربعة أشهر ثم رجع إلى القاهرة ثم سار إلى الشام مقدماً على الحلقة السلطانية ومعه الدهليز السلطاني إلى حمص.
وفي المحرم سنة سبع وأربعين دخل الأمير حسام الدين إلى الديار المصرية نائباً بها وتوجه الأمير جمال الدين موسى بن يغمور إلى الشام نائباً بدمشق فالتقيا في الرمل واستمر في نيابة السلطنة بالديار المصرية إلى حيث مات الملك الصالح فبلغه أن الأمير فخر الدين بن الشيخ قد عزم استدعاء الملك المغيث فتح الدين عمر بن الملك العادل بن الملك الكامل من عند عماته القطبيات ويفوض السلطنة إليه ويكون أتابكه فتقدم الأمير حسام الدين إلى شمي الدين بن باخل وإلى القاهرة إذ ذاك أن ينقل المغيث إلى قلعة الجبل وأمر بالاحتياط عليه وسير قصاده إلى حصن كيفا يستحثوا الملك المعظم توران شاه على سرعة(2/81)
الوصول ويعرفوه المفاسد المترتبة على تأخره بخروج الأمر عنه إلى الملك المغيث فلما وصلت قصاده إلى الملك المعظم سار مجداً لإحدى عشرة ليلة مضت من شهر رمضان سنة سبع وأربعين وترك بالحصن ولده الملك الموحد عبد الله وعمره نحو عشر سنين وعنده من يقوم بتدبيره وسار يعتسف القفار خوفاً من الملوك الذين في طريقه فوصل دمشق واستقر بقلعتها فامتدحه بعض الشعراء بقصيدة مطلعها:
قل لنا كيف جئت من حصن كيفا ... حين أرغمت للأعادي أنوفاً
فأجابه الملك المعظم في الوقت:
الطريق الطريق يا ألف نحس ... مرة آمناً وطوراً مخوفاً
فاستظرف الناس ذلك من الملك المعظم ولما توجه استصحب معه شرف الدين الفائزي ولما وصل الرمل أسلم علي يديه نشو الدولة ابن حشيش كاتب إنشائه ولقبه معين الدين ورشحه لأن يكون وزيره كما كان معين الدين بن الشيخ وزير أبيه فكان الأمير حسام الدين آكد الأسباب في حضور الملك المعظم وسلطنته بالديار المصرية والعجب منه كيف اجتهد في ذلك بعد ما سمع من الملك الصالح نجم الدين ما يقتضي العمل على خلافه فإنه قال لما ودعت الملك الصالح حين سفره إلى الشام قال لي أنا مسافر إلى الشام وأخاف أن يعرض لي موت وأخي الملك العادل بقلعة مصر فيأخذ البلاد وما يجري عليكم منه خير فإن عرض لي في سفري هذا مرض ولو أنه وجع(2/82)
إصبع أو حمى فاعدمه فإنه لا خير فيه لكم وولدي توران شاه لا يصلح للملك فإن بلغك موتي لا تسلم البلاد لأحد من أهلي بل سلمها إلى الخليفة المستعصم بالله وقال الأمير حسام الدين قلت للملك الصالح وهو مريض مشرف ما يسير مولانا السلطان يطلب ولده الملك المعظم فما أجاب فلما ألححت عليه قال أجيبه إليهم يقتلوه فكان الأمر كما قال وفي جمادى الآخرة سنة تسع وأربعين استأذن الأمير حسام الدين الملك المعز في الحج فأذن له وأمر له بحراقة يسافر عليها إلى قوص وبألف دينار وطلب من الملك المعز الأمير عز الدين أزدمر الجمدار ليحج صحبته فأذن له ودخلا مكة في أواخر شعبان ونزل الأمير حسام الدين بدار الضيافة التي بقرب الصفا وقضى الحج وعاد إلى المدينة صلوات الله وسلامة على ساكنها فزار وتوجه إلى ينبع وأقام بها أياماً لأمر بلغه ثم عاد إلى الديار المصرية على الهجن وفي سنة إحدى وخمسين استأذن الملك المعز في التوجه إلى الشام وكان قد ترك الخدمة فأذن له وسافر إلى دمشق فاقطعه الملك الناصر خبزاً جليلاً واحترمه غاية الاحترام وقام عنده مكرماً معظماً، ثم توجه إلى الديار المصرية فتوفي بها وورد الخبر إلى دمشق بوفاته في أواخر شهر شعبان من هذه السنة رحمه الله ودفن بالرصد عند والده رحمهما الله وكان الأمير حسام الدين قد عرض له صرع قبل وفاته بسنين ثم تزايد به وكثر فكان سبب وفاته ومولده بحلب سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة وأصله من إربل وكان فاضلاً وله نظم جيد قال الأمير عز الدين محمد بن أبي الهيجاء رحمه الله أنشدني(2/83)
الأمير حسام الدين المذكور بالمدينة الشريفة النبوية صلوات الله على ساكنها وسلامه لنفسه:
بتنا على حالة ما شابها ريبه ... لم نعدما سنه المدفون في طيبه
حتى بدا الصبح يرفل في ضياشيبه ... وفارق الليل مشكوراً على طيبه
وأنشدني الأمير عز الدين المذكور للأمير حسام الدين أيضاً:
لبيت داعي هواكم حين ناداني ... وقلت شأن الهوى العذرى من شأني
حفظى لعهد الهوى ديني مع إيماني ... وحبكم صاحبي في طي أكفاني
وأنشدني الأمير عز الدين للأمير حسام الدين أيضاً:
؟ أهوى رشأ من خالص الترك رشيق في الحصو معربد وفي السكر مفيق
في فيه لعاشقيه در وعقيق ... ما أحسنه عندي عدو وصديق
وقد تقدم في هذه الترجمة أن صاحب حمص أطلق بدر الدين محمد والد حسام الدين وأن الملك المجاهد كان حبسه بقلعة حمص مع الأمير سيف الدين بن أبي علي وشرح القصة في ذلك أن الأمير سف الدين كان هو المشار إليه من بني أبي علي ولما ملك الملك المظفر تقي الدين محمود حماة سنة ثمان وعشرين وستمائة اجتذبه إليه واقطعه سلمية وزوجه أخته وجعله عديل روحه والمتصرف في جميع ما تحويه يده وكان الملك المجاهد أسد الدين شيركوه صاحب حمص كثير التعدي على صاحب حماة وبينهما عداوة عظيمة ثم بعد موت الملك الكامل اتفق معه الملك الصالح عماد الدين على مثل ذلك فضعف عنهما فاستنجد بالفرنج وحضر إليه جماعة(2/84)
من خيالتهم وبنى لهم في حماة كنيسة ولبس الغفارة تقرباً إليهم ليعتضد بهم على دفع الملك المجاهد والملك الصالح واتفق حضور الملك الصالح نجم الدين من المشرق وتسلمه دمشق من الملك الجواد على ما هو مشهور وعزم على قصد حمص وانتزاعها من صاحبها فحضر إليه جماعة من الأمراء المصريين فطلبوه ليملكوه الديار المصرية وقالوا له لا تشتغل بحمص إذا ملكت مصر كانت حمص وغيرها لك فتوجه إلى نابلس وأقام بها في انتظار عمه الملك الصالح وكان الملك الصالح والملك المجاهد قد اتفقا على أخذ دمشق وكان الملك الصالح نجم الدين مصافياً للملك المظفر صاحب حماة فسير إليه يقول أنا متوجه إلى الديار المصرية وتبقى دمشق شاغرة وأخاف من الملك الناصر داود ومن غيره من المجاورين فاحفظها كيف شئت فاقتضى رأيه أن يجهز إليها الأمير سيف الدين وخشي عليه من صاحب حمص فأظهرا منافرة وقال له سيف الدين في ملأ من الناس أنت تواطئ الفرنج وتريد تسليم البلاد إليهم وأنا ما بقيت أقيم عندك وقام خرج على غضب وتوجه في قريب أربعمائة فارس وجماعة كثيرة من أعيان الحمويين وجاؤوا إلى حمص ونزلوا على البحيرة فخرج الملك المجاهد إلى الأمير سيف الدين وهنأه بالسلامة وسير له الإقامات وسأله عن سبب حركته فأخبره فشرع صاحب حمص يشتم صاحب حماة ويلعنه بكل لسان ويشكر سيف الدين على مفارقته وصار يركب إليه كل يوم ويسيران ويتحدثان فعمل صاحب حمص حسابه ورتب له جماعة كثيرة وركب معه وسايره وأشغله بالحديث(2/85)
إلى أن قربوا من المدينة فتوقف سيف الدين وقال للملك المجاهد بسم الله يدخل المولى مدينته فقال لي بك اجتماع في المدينة وأشتهي أتحدث معك في مهم لي وأطلعك على ما في نفسي منه وهذا ما يمكن إلا في المدينة ولا بد من دخولك على كل حال فرأى الأمير سيف الدين أنه مقهور معه فدخل ونزلوا في دار بالمدينة وقال له الأمير سيف الدين ما هو المهم الذي ذكره المولى قال لي شغل أريد أقضيه وأشتهي تعيرني جماعتك يجيئون معي مدة ثلاثة أيام أستعين بهم على قضاء شغلي وأعود بهم إلى خدمتك خذهم ورح قال فأنا وهم نجئ معك قال ما يمكن المولى كبير المقدار وإنما تقيم أنت هنا إلى أن نعود فما أمكنه مخالفته وقد صار في قبضته فقال له الملك المجاهد تسير إليهم وتستدعي فلان وفلان وفلان جماعة عينهم منهم الأمير بدر الدين محمد والد الأمير حسام الدين فاستدعاهم فحضروا فقال تكتب إلى بقية العسكر أن يتوجهوا صحبتي فكتب إليهم فأخذهم وتوجه بهم هو والملك الصالح عماد الدين إلى دمشق فهجموها على الصورة المشهورة، فلما عاد صاحب حمص قال لعسكر الأمير سيف الدين من أراد أن يخدمني استخدمته ومن أراد يروح فيروح حيث شاء فخدم عنده جماعة يسيرة وراح الباقون ونقل الأمير سيف الدين ومن معه إلى قلعة حمص وضيق عليهم ولم يزل الأمير سيف الدين في حبسه إلى أن مات فيه رحمه الله، ومات الملك المجاهد وجميع أصحاب الأمير سيف الدين ومن كان في صحبته من الحمويين(2/86)
في الحبس ثم أفرج عن الأمير بدر الدين كما ذكرنا وأفرج عن من سلم منهم بعد طول مدة ومشقة عظيمة ومصادرة نالت من هو متهم بمال وكان هذا الفعل من سوء التدبير وضعف الرأي فإنهم لو توجهوا على البرية لوصلوا دمشق وحفظوها بمشيئة الله تعالى ولو لم يغرر الأمير سيف الدين بنفسه لما قدر صاحب حمص عليه فإنه كان معه عسكر يضاهي عسكر حمص ويزيد عليه لكن إذا أراد الله أمراً لا مرد عليه وكان الشيخ شرف الدين عبد العزيز وزير صاحب حماة إذا جرى عنده ذكر الأمير سيف الدين وما تم عليه يقول دعونا من دم ضيعه أهله.
؟؟
السنة التاسعة والخمسون وستمائة
أولها يوم الاثنين لأيام خلون من كانون الأول دخلت هذه السنة وليس للمسلمين خليفة وصاحب مكة حرسها الله تعالى نجم الدين أبو نمى بن أبي أسعد بن علي بن قتادة الحسني وعمه إدريس بن علي بن قتادة ومكة بينهما بالسوية وصاحب المدينة الشريفة صلوات الله وسلامه على ساكنها الأمير عز الدين جماز بن شيحة الحسيني وصاحب دمشق وبعلبك وبانياس والصبيبة الأمير علم الدين الحلبي الملقب بالملك المجاهد وصاحب الديار المصرية ومعظم الشام السلطان الملك الظاهر والمستولي على حلب وأعمالها الأمير حسام الدين لاجين الجوكندار وهو في طاعة(2/87)
الملك الظاهر وصاحب الموصل الملك الصالح إسماعيل بن بدر الدين لؤلؤ وصاحب جزيرة ابن عمر أخوه الملك المجاهد سيف الدين إسحاق وصاحب ماردين الملك السعيد نجم الدين إيلغازي بن أرتق وصاحب بلاد الروم ركن الدين قليج أرسلان بن السلطان غياث الدين كيخسرو ابن علاء الدين السلجوقي وأخوه عز الدين كيكاووس والبلاد بينهما مناصفة وصاحب صهيون وبرزية مظفر الدين عثمان بن ناصر الدين منكورس وصاحب الكرك والشوبك الملك المغيث فتح الدين عمر بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن الملك الكامل وصاحب حماة الملك المنصور ناصر الدين محمد بن الملك المظفر تقي الدين محمود، وصاحب حمص وتدمر والرحبة الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن الملك المنصور إبراهيم بن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه بن الملك المنصور ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه بن شاذى والمستولي على حصون الإسماعيلية الثمانية التي بالشام من أعمال حلب رضي الدين أبو المعالي ابن أبي المنصور ونجم الدين إسماعيل الشعراني وصاحب مراكش أبو حفص عمر بن أبي إبراهيم بن يوسف ويلقب بالمرتضى، وصاحب تونس أبو عبد الله محمد بن أبي زكريا يحيى بن أبي محمد بن الشيخ أبي حفص عمر بن يحيى، وصاحب اليمن الملك المظفر شمس الدين يوسف بن الملك المنصور(2/88)
نور الدين عمر، وصاحب ظفار موسى بن إدريس بن محمود بن محمد الحضرمي وصاحب دلى ناصر الدين محمود بن شمس الدين ايلتمش وصاحب كرمان تركان خاتون زوجة الحاجب براق وولدا قطب الدين براخمه وصاحب بلاد فارس أبو بكر بن أتابك سعد بن زنكى ابن دكلا.
متجددات الأحوال في هذه السنة
في المحرم منا جاء الخبر إلى دمشق بحفل أهل حلب وما والاها وسبب ذلك تجمع التتار الذين كانوا بحران وغيرها من بلاد الجزيرة وانضم إليهم من سلم من كسرة عين جالوت وضعفوا لشدة الغلاء عندهم فألجأتهم الضرورة إلى الغارة على بلد حلب فأجفل الناس من بين أيديهم.
وفيها في أوائل المحرم كانت كسرة التتار على حمص وكانوا في ستة آلاف فارس فلما وصلوا حمص وجدوا عليها الأمير حسام الدين الجوكندار العزيزي ومن معه والملك المنصور صاحب حماة والملك الأشرف صاحب حمص في ألف وأربعمائة فارس فحملوا على التتار حملة(2/89)
رجل واحد فهزموهم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وهرب بيدرة في نفر يسير وأتى القتل على معظمهم وكانت الوقعة عند قبر خالد بن الوليد رضي الله عنه ولما عاد فل التتار إلى حلب أخرجوا من فيها من الرجال والنساء ولم يبق إلا من اختفى خوفاً على نفسه ثم نادوا من كان من أهل حلب فليعتزل فاختلط على الناس أمرهم ولم يعلموا المراد فاعتزل بعض الغرباء مع أهل حلب جماعة من أقارب الملك الناصر رحمه الله ثم عدوا من بقي من أهل حلب وسلموا كل طائفة منهم إلى رجل من الأكابر ضمنوهم له ثم أذنوا لهم في العود إلى البلد وأحاطوا بها ولم يمكنوا أحداً من الخروج منها ولا من الدخول إليها أربعة أشهر فغلت الأسعار وبلغ رطل اللحم سبعة عشر درهماً ورطل السمك ثلاثين درهماً ورطل اللبن خمسة عشرة درهماً ورطل الشيرج سبعين درهماً ورطل الأرز عشرين درهماً ورطل حب الرمان ثلاثين درهماً ورطل السكر خمسين درهماً والحلواء كذلك ورطل العسل ثلاثين درهماً ورطل الشراب ستين درهماً والجدي الرضيع أربعين درهماً والدجاجة خمسة دراهم والبيضة درهماً ونصفاً والبصلة نصف درهم والحسك نصف درهم وباقة البصل درهماً والبطيخة أربعين درهماً والتفاحة خمسة دراهم حتى أكلت الميتة من شدة الغلاء.(2/90)
وأما الأمير حسام الدين الجوكندار والأمير نور الدين علي بن مجلى ومن معهما من الناصرية لما تحققوا عود التتر إلى حلب ساقوا على حمية وعبروا المرج ولم يقربوا دمشق وقصدوا الغور ثم إلى مصر فأقبل الملك الظاهر عليهم وكتب لهم المناشير بالأخباز بحلب ودمشق وعادوا بعد ما استولى الملك الظاهر على دمشق.
وفي يوم الاثنين سابع صفر ركب الملك الظاهر من قلعة الجبل بأبهة الملك ونزل من وراء القاهرة ودخل من باب النصر وشق البلد وخرج من باب زويلة عائداً إلى القلعة والأمراء وأعيان الأجناد مشاة بين يديه وكان هذا أول ركوبه في دست السلطنة ثم استمر بعد ذلك على الركوب للعب بالكرة وغيره.
ذكر انتزاع دمشق من يد الأمير علم الدين الحلبي
كان الملك الظاهر قد كتب إلى الأمراء الذين بدمشق يستميلهم إليه ويحضهم على منابذة الأمير علم الدين والقبض عليه فأجابوه وخرجوا عن دمشق منابذين له وفيهم الأمير علاء الدين البندقدار والأمير بهاء الدين بغدى فتبعهم الأمير علم الدين الحلبي بمن بقي معه من الأمراء والجند فهزموه والجأوه إلى القلعة فأغلقها دونهم وذلك يوم السبت حادي عشر صفر ثم خرج من القلعة تلك الليلة وقصد بعلبك فدخل قلعتها ومعه قريب عشرين نفراً من مماليكه ودخل علاء الدين البند قدار دمشق(2/91)
واستولى عليها وحكم فيها نيابة عن الملك الظاهر وجهز إلى بعلبك لمحاصرة الأمير علم الدين الحلبي بدر الدين محمد بن رحال والأمير ... التركماني فحال وصلوهما دخلا المدينة ونزلا بالمدرسة النورية وكان الأمير علم الدين الحلبي عند ما وصل جعل عنده في القلعة طائفة كبيرة من أهل نحله مقدمهم علي بن عبود فسير إليهم بدر الدين بن رحال وأفسدهم فتدلوا من القلعة ليلاً ونزلوا وترددت المراسلات بين الحلبي والبند قدار واستقر الحال على نزوله وتوجهه إلى خدمة الملك الظاهر حسبما يختار فخرج من القلعة راكباً حصانه وفي وسطه عدته وفي قربانه قوسان وهو كالأسد الهصور فحال ما بعد عن القلعة قدم له بغلة فتحول إليها وقلع العدة ووصل إلى دمشق وسار منها إلى الديار المصرية فأدخل على الملك الظاهر ليلاً بقلعة الجبل فقام إليه واعتنقه وأدنى مجلسه وعاتبه عتاباً لطيفاً ثم خلع عليه ورسم له بخيل وبغال وجمال وقماش وغير ذلك.
وفي يوم الاثنين ثامن ربيع الأول فوض الملك الظاهر أمر الوزارة وتدبير الدولة إلى الصاحب بهاء الدين علي بن محمد.
وفي ربيع الآخر حضر عند الملك الظاهر أحد أجناد الأمير عز الدين الصيقلي وأنهى إليه أنه فرق ذهباً في جماعة من حاشيته وقرر(2/92)
معهم الوثوب على السلطان واتفق معه الأمير علم الدين الغتمي وبهادر والشجاع بكتوت فقبض الملك الظاهر عليهم.
وفي ربيع الآخر بعث الملك الظاهر عسكراً إلى الشوبك فتسلمه من نواب الملك المغيث بباطن كان بينهم وبين الملك الظاهر.
وفيه قبض الملك الظاهر على الأمير بهاء الدين بغدي الأشرفي بدمشق وحمل إلى قلعة الجبل فلم يزل محبوساً بها إلى أن مات.
ذكر نزوح التتار عن حلب وما حدث بعد نزوحهم
كان الملك الظاهر جهز الأمير فخر الدين الطنبا الحمصي والأمير حسام الدين لاجين العينتابي في عسكر لترحيل التتار عن حلب فلما وصلوا غزة كتب الفرنج من عكا إلى التتار يخبرونهم فرحلوا عنها في أوائل جمادى الأولى فتغلب عليها جماعة من أحداثها وشطارها منهم نجم الدين أبو عبد الله بن المنذر وعلي بن الأنصاري وأبو الفتح ويوسف بن معالي فقتلوا ونهبوا ونالوا أغراضهم ثم وصل إليها فخر الدين الحمصي والعينتابي بمن معهما من العسكر فخرجوا هاربين ولما دخلها العينتابي صادر أهلها وعذبهم حتى استخرج منهم ألف ألف وستمائة ألف درهماً بيروتية وأقام بها إلى أن وصل إليها الأمير شمس الدين آقوش البرلي في جمادى الآخرة فخرج لتلقيه ظناً منه أنه جاء نجدة له وكان قد خرج من دمشق هارباً لما استشعر من الملك الظاهر فلما دخلها تغلب عليها فخافه فخر الدين الحمصي فأعمل الحيلة(2/93)
في الخلاص منه بأن طلب السفر إلى الملك الظاهر ليستميله إليه فمكنه من الخروج فلما توجه أخذ البرلي في مصادرة من كان في صحبة الحمصي وأبقى على العينتابي وأمر وأقطع ووقد عليه زامل بن علي بن خذيفة في أصحابه ففرق عليهم تسعة آلاف مكوكاً مما احتاط عليه من الغلال التي كانت مطمورة بحلب وفرق في التركمان أربعة آلاف مكوكاً أخرى.
وفي يوم الثلاثاء عاشر جمادى الأولى عرض الملك الظاهر ولاية القضاء بالديار المصرية على القاضي تاج الدين عبد الوهاب بن القاضي الأعز أبي القاسم خلف بن القاضي رشيد الدين أبي الثناء محمود بن بدر العلامي فشرط شروطاً أغلظ فيها فأجابه السلطان إليها وصلى به الظهر وحكم بقية النهار وعزل القاضي بدر الدين أبو المحاسن يوسف بن علي السنجاري وعوق عشرة أيام ثم أفرج عنه.
وفي الثامن والعشرين منه ولي الأمير جمال الدين موسى بن يغمور ولاية البحر وشد العمائر والجيزة وولي الأمير صارم الدين قايماز المسعودي القاهرة وولي شجاع الدين جلدك الفائزي شد الدواوين.
ذكر وصول المستنصر بالله إلى القاهرة ومبايعته
كان هذا وهو أبو القاسم أحمد بن الظاهر بأمر الله أبي نصر محمد ابن الناصر لدين الله أبي العباس أحمد محبوساً ببغداد مع جماعة من بني(2/94)
العباس فلما ملكت التتار بغداد أطلقوهم فصار المستنصر إلى عرب العراق واختلط بهم فلما ملك الملك الظاهر وفد عليه مع جماعة من بني مهارش وهم عشرة أمراء مقدمهم ابن قبيتا والأمير ناصر الدين مهنا وكان وصوله إلى القاهرة في ثامن رجب فركب السلطان للقائه ومعه الوزير بهاء الدين وقاضي القضاة تاج الدين والشهود والرؤساء والقراء والمؤذنون واليهود بالتوراة والنصارى بالإنجيل في يوم الخميس فدخل من باب النصر وشق القاهرة وكان يوماً مشهوداً، ولما كان يوم الاثنين ثالث عشر الشهر جلس السلطان والخليفة في الإيوان بقلعة الجبل وحضر الصاحب بهاء الدين وولده فخر الدين وقاضي القضاة تاج الدين والأمراء والناس على طبقاتهم وقرئ نسب الخليفة على القاضي وشهد عنده بصحته فأسجل عليه بذلك وحكم به وبويع وركب من يومه وشق القاهرة في وجوه الدولة وأعيانها.
باب في مبايعته
وهو الثامن والثلاثون من خلفاء بني العباس رضي الله عنه وهو الإمام المستنصر بالله أبو القاسم أحمد بن الإمام الظاهر بأمر الله أبي نصر محمد بن الإمام الناصر لدين الله أبي العباس أحمد بن المستضيء بأمر الله أبي محمد الحسن بن أبي المستنجد بالله أبي المظفر يوسف بن المقتفي لأمر الله أبي عبد الله محمد بن المستظهر بالله أبي العباس أحمد أمير المؤمنين بويع بالخلافة في قلعة الجبل ظاهر القاهرة من الديار المصرية يوم(2/95)
الاثنين ثالث عشر شهر رجب سنة تسع وخمسين وستمائة وأول من بايعه قاضي الديار المصرية تاج الدين عبد الوهاب بن خلف الشافعي عند ما ثبت نسبه عنده ثم بايعه الملك الظاهر والشيخ عز الدين عبد العزيز ابن عبد السلام والأمراء والأعيان من أولى الحل والعقد وكانت بيعته في الأيوان الكبير بالقلعة المذكورة وكان المسلمون بغير خليفة منذ قتل التتار ابن أخيه الإمام المستعصم بالله أبا أحمد عبد الله بن المستنصر بالله أبي جعفر المنصور بن الظاهر بأمر الله أبي نصر محمد رحمه الله في أوائل سنة ست وخمسين مدة ثلاث سنين ونصف وكان المستنصر بالله شديد السمرة جسيماً وسيماً عالي الهمة شديد القوى عنده شجاعة وإقدام وهو أخو المستنصر بالله أبي جعفر المنصور ونعت بنعته وهذا ما لم يجربه العادة فيما تقدم أن خليفة يلقب بلقب خليفة تقدمه من أهل بيته وقد ولى الخلافة إخوان وثلاثة إخوة إما أربعة أخوة ولوا الخلافة فأولاد عبد الملك بن مروان لا غير وثلاثة إخوة الأمين والمأمون والمعتصم أولاد هارون الرشيد والمستنصر والمعتز والمعتمد أولاد المتوكل والمكتفي والمقتدر والقاهر أولاد المعتضد والراضي والمتقي والمطيع أولاد جعفر المقتدر وإخوان فالسفاح والمنصور ولدا محمد بن علي بن عبد الله بن العباس رضي الله عنه والهادي والرشيد ابنا المهدي والواثق والمتوكل ابنا المعتصم والمسترشد والمقتفي ابنا المستظهر والمستنصر منصور والمستنصر هذا ابنا الظاهر ومنه إلى العباس رضي الله عنه أربعة وعشرون نفراً وولي(2/96)
الخلافة بعد ابن أخيه ولم يل أحد بعد ابن أخيه قبله إلا جده المقتفي بن المستظهر فإنه ولي أيضاً بعد الراشد بن المستظهر، وأما من ولى الخلافة بعد عمه الوليد بن يزيد بن عبد الملك من بني أمية ولي بعد عمه هشام ابن عبد الملك والمعتضد ابن الأمير الناصر بن المتوكل ولي بعد عمه المعتمد ابن المتوكل والراضي بالله بن المقتدر بن المعتضد ولي بعد عمه القاهر بالله ابن المعتضد ومدة خلافة المستنصر منذ بويع إلى أن فقد خمسة شهور وعشرون يوماً فمدة خلافته أقصر المدد من أهل بيته، أما من بني أمية فمعاوية بن يزيد بن معاوية رحمه الله مدة خلافته أربعون يوماً ويزيد ابن الوليد خمسة أشهر وأخوه إبراهيم بن الوليد سبعون يوماً، ومن بني العباس رضي الله عنه لم يستكملوا سنة أولهم المستنصر بن المتوكل بقي في الخلافة ستة أشهر والمهتدي بن الواثق بقي فيه أحد عشر شهراً وأياماً والحسن بن علي رضي الله عنهما بقي في الخلافة منذ بويع بعد قتل أمير المؤمنين رضي الله عنه إلى أن نزع نفسه وبايع معاوية رضي الله عنه سبعة شهور وأحد عشر يوماً وقيل غير ذلك.
ولما كان يوم الجمعة ركب من البرج الذي كان مقيماً به في القلعة وعليه ثياب سود إلى الجامع بالقلعة للصلاة فصعد المنبر وخطب خطبة ذكر فيها شرف بني العباس ثم استفتح وقرأ سورة الأنعام حتى بلغ قوله تعالى: " ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون " ثم صلى على النبي صلى الله عليه(2/97)
وسلم وترضى عن الصحابة رضي الله عنهم ودعا للسلطان ثم نزل وصلى بالناس.
وفي مستهل شعبان تقدم الخليفة بتفضيل خلعة سوداء وبعمل الطوق وقيد من ذهب وبكتب تقليد السلطنة للملك الظاهر ونصب خيمة ظاهر القاهرة، فلما كان يوم الاثنين رابعه ركب الخليفة والسلطان والوزير ووجوه الدولة والأمراء والقضاة والشهود إلى الخيمة فألبس الخليفة السلطان الخلعة بيده وطوقه وقيده وصعد فخر الدين إبراهيم بن لقمان رئيس الكتاب منبراً نصب له فقرأ التقليد وهو من إنشائه وبخطه ثم ركب السلطان بالخلعة والطوق والقيد ودخل من باب النصر وشق القاهرة وقد زينت له وحمل الصاحب بهاء الدين التقليد على رأسه راكباً والأمراء يمشون بين يديه وكان يوماً يقصر اللسان عن وصفه.
نسخة التقليد
الحمد لله الذي أضفى على الإسلام ملابس الشرف، وأظهر بهجة درره وكانت خافية بما استحكم عليها من الصدف، وشد ما وهي من علائه حتى أنسى ذكر من سلف، وقيض لنصره ملوكاً اتفق عليهم من اختلف، أمده على نعمه التي رتعت الأعين منها في الروض الأنف، وألطافه التي وقف الشكر عليها فليس له عنها منصرف، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة توجب من المخاوف أمناً، وتسهل(2/98)
من الأمور ما كان حزناً، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الذي جبر من الدين وهنا، ورسوله الذي أظهر من المكارم فنوناً لا فنا، صلى الله عليه وعلى آله الذين أصبحت مناقبهم باقية لا تفنى، وأصحابه الذين أحسنوا في الدين فاستحقوا الزيادة من الحسنى، وبعد فإن أولى الأولياء بتقديم ذكره، وأحقهم أن يصبح القلم راكعاً وساجداً في تسطير مناقبه وبره، من سعى فأضحى بسعيه الحميد متقدماً، ودعا إلى طاعته فأجابه من كان منجد أو متهماً، وما بدت يد في المكرمات إلا كان لها زنداً ومعصماً، ولا استباح بسيفه حمى وغي إلا أضرمه ناراً وأجراه دماً.
ولما كانت هذه المناقب الشريفة مختصة بالمقام العالي المولوي السلطاني الملكي الظاهري الركني شرفه الله وأعلاه ذكرها الديوان العزيز النبوي الإمامي المستنصري أعز الله سلطانه تنويهاً بشريف قدره، واعترافاً بصنعه الذي تنفد العبارة المسهبة ولا تقوم بشكره، وكيف لا وقد أقام الدولة العباسية بعد أن أقعدتها زمانة الزمان، وأذهب ما كان لها من محاسن وإحسان، وعتب، دهرها المسيء لها فأعتب، وأرضى عنها زمنها وقد كان صال عليها صولة مغضب، فأعاده لها سلماً بعد أن كان عليها حرباً، وصرف إليها اهتمامه فرجع كل متضايق من أمورها واسعاً رحباً، ومنح أمير المؤمنين عند القدوم عليه حنواً وعطفاً، وأظهر من الولاء رغبة في ثواب الله ما لا يخفى، وأبدى من الاهتمام(2/99)
بأمر البيعة أمراً لو رامه غيره لامتنع عليه، ولو تمسك بحبله لانقطع به قبل الوصول إليه، لكن الله أدخر هذه الحسنة ليثقل بها ميزان ثوابه ويخفف بها يوم القيامة حسابه، والسعيد من خفف من حسابه، فهذه منقبة أبى الله إلا أن يخلدها في صحيفة صنعه، ومكرمة قضت لهذا البيت الشريف بجمعه بعد أن حصل إلا يأس من جمعه، وأمير المؤمنين يشكر هذه الصنائع، ويعترف أنه لولا اهتمامك لاتسع الخرق على الراقع، وقد قلدك الديار المصرية والبلاد الشامية والديار البكرية، والحجازية واليمنية والفراتية وما يتجدد من الفتوحات غوراً ونجداً وفوض أمر جندها ورعاياها إليك حين أصبحت بالمكارم فرداً، ولا جعل منها بلداً من البلاد ولا حصناً من الحصون مستثنى، ولا جهة من الجهات تعد في الأعلى ولا في الأدنى، فلا حظ أمور الأمة فقد أصبحت لها حاملاً، وخلص نفسك من التبعات اليوم ففي غد تكون مسئولاً عنها لا سائلاً، ودع لاغترار بأمر الدنيا فما نال أحد منها طائلاً، وما رآها أحد بعين الحق إلا رآها خيالاً زائلاً، فالسعيد من قطع منها آماله الموصولة، وقدم لنفسه زاد التقوى، فتقدمة غير التقوى مردودة لا مقبولة، وابسط يدك بالإحسان والعدل فقد أمر الله بالعدل والإحسان، وكرر ذكره في مواضع من القرآن، وكفر به عن المرء ذنوباً كتبت عليه وآثاماً، وجعل يوماً واحداً منه كعبادة العابد ستين عاماً، وما سلك سبيل العدل(2/100)
إلا واجتنيت ثماره من أفنان، ورجع الأمن بعد تداعي أركانه مشيد الأركان، وتحصن من حوادث الزمان فكانت أيامه في الأنام أبهى من الأعياد، وأحسن في العيون من الغرر في أوجه الجياد، وأحلى من العقود إنما حلى بها عطل الأجياد، وهذه الأقاليم منوطة بنظرك تحتاج إلى نواب وحكام، وأصحاب رأي من أصحاب السيوف والأقلام، فإذا استعنت بأحد منهم في أمورك فنقب عليه تنقيباً واجعل عليه في تصرفاته رقيباً، وسل عن أحواله ففي يوم القيامة تكون عنه مسئولاً وبما اجترم مطلوباً، ولا تولى منهم إلا من تكون مساعيه حسنات لك لا ذنوباً ومرهم بالأناة في الأمور والرفق ومخالفة الهوى إذا ظهرت لهم أدلة الحق، وإن يقابلوا الضعفاء في حوائجهم بالثغر الباسم والوجه الطلق وإن لا يعاملوا أحداً على الإحسان والإساءة إلا بما يستحق، وإن يكونوا لمن تحت إيديهم من الرعية إخواناً، وأن يوسعوهم براً وإحساناً وأن لا يستحلوا حرماتهم إذا استحل الزمان لهم حرماناً، فالمسلم أخو المسلم وإن كان أميراً عليه وسلطاناً، فالسعيد من نسج ولاته في الخير على منواله، واستنوا بسنته في تصرفاته وأحواله، وتحملوا عنه ما تعجز قدرته عن حمل أثقاله، ومما يؤمرون به أن يحمي ما أحدث من سيء السنن، وجدد من المظالم التي هي على الخلائق من أعظم المحن، وإن يشتري بإبطالها المحامد فإن المحامد رخيصة بأغلى ثمن، ومهما جبى منها من الأموال فإنها باقية في الذمم وإن كانت حاصلة، وأجياد الخزائن(2/101)
وإن أضحت بها حالية، فإنها هي على الحقيقة عاطلة، وهل أشقى ممن احتقب إثماً، واكتسب بالمساعي الذميمة ذماً، وجعل السواد الأعظم يوم القيامة له خصماء وتحمل ظلم الناس فيما صدر عنه من أعماله وقد خاب من حمل ظلماً، وحقيق بالمقام الشريف السلطاني الملكي الظاهري الركني أن تكون ظلامات الأنام مردودة بعدله، وعزائمه تخفف عن الخلائق ثقلاً لا طاقة لهم بحمله، فقد أضحى على الإحسان قادراً، وصنعت له الأيام ما لم تصنعه لمن تقدم من الملوك وإن جاء آخراً، فأحمد الله على أن وصل إلى جنابك إمام هدى أوجب لك مزية التعظيم، ونبه الخلائق على
ما خصك الله به من هذا الفضل العظيم، وهذه الأمور ينبغي أن تلاحظ وترعى، وإن يوالي عليها حمد الله فإن الحمد يجب عليها عقلاً وشرعاً، وقد تبين أنك صيرت في الأمور أصلاً، وغيرك فرعاً، ومما يجب تقديم ذكره الجهاد الذي أضحى على الأمة فرضاً، وهو العمل الذي يرجع به مسود الصحائف مبيضاً، وقد وعد الله المجاهدين بالأجر العظيم، وأعد لهم عنده المقام الكريم، وخصهم بالجنة التي لا لغو فيها ولا تأثيم، وقد تقدمت لك في الجهاد، يد بيضاء أسرعت في سواد الحساد، وعرفت منك عزمة هي أمضى مما تجنه ضمائر الأغماد، واشتهرت لك مواقف في القتال هي أبهى وأشهى إلى القلوب من الإغماد، واشتهرت لك مواقف في القتال هي أبهى وأشهى إلى القلوب من الأعياد، وبك صان الله حمى الإسلام من أن يبتذل، وبعزمك حفظ على المسلمين نظام هذه الدول، وسيفك الذي أثر في قلوب الكافرين قروحاً لا تندمل، وبك يرجى أن يرجع مقر الخلافة المعظمة إلى ما كان عليه في الأيام الأول، فأيقظ لنصرة الإسلام جفناً ما كان غافياً ولا هاجعاً، وكن في مجاهدة أعداء الله إماماً متبوعاً لا تابعاً، وأيد كلمة التوحيد فما تجد في تأييدها إلا مطيعاً سامعاً، ولا تخل الثغور، من اهتمام بأمرها تبتسم له الثغور، واحتفال يبدل ما دجا من ظلماتها بالنور، واجعل أمرها على الأمور مقدماً، وشيد منها ما غادره العدو متداعياً متهدماً، فهذه حصون بها يحصل الانتفاع، وبها تحسم الأطماع، وهي على العدو داعية افتراق لا اجتماع وأولاها بالاهتمام ما كان البحر له مجاوراُ، والعدو إليه ملتفتاً ناظراً، لا سيما ثغور الديار المصرية فإن العدو وصل إليها رابحاً ورجع خاسراً واستأصلهم الله فيها حتى ما أقال منهم عاثراً، وكذلك الأسطول الذي ترى خيله كالأهلة وركائبه سائرة بغير سائق مستقلة، وهو أخو الجيش السليماني فإن ذك غدت الرياح له حاملة، وهذا تكفلت بحمله المياه السائلة، وإذا لحظها الطرف جارية في البحر كانت كالأعلام، وإذا شبهها قال هذه ليال تطلع في أيام وقد سبى الله لك من السعادة كل مطلب، وأتاك من أصالة الرأس الذي يريك المغيب، وبسط بعد القبض منك الأمل، ونشط بالسعادة ما كان من كسل، وهداك إلى مناهج الحق وما زلت مهتدياً إليها، وألهمك المراشد فلا تحتاج إلى تنبيه عليها، والله يمدك بأسباب نصره، ويوزعك شكر نعمه فإن النعم تستثمر بشكره. اخصك الله به من هذا الفضل العظيم، وهذه الأمور ينبغي أن تلاحظ وترعى، وإن يوالي عليها حمد الله فإن الحمد يجب عليها عقلاً وشرعاً، وقد تبين أنك صيرت في الأمور أصلاً، وغيرك فرعاً، ومما يجب تقديم ذكره الجهاد الذي أضحى على الأمة فرضاً، وهو العمل الذي يرجع به مسود الصحائف مبيضاً، وقد وعد الله المجاهدين بالأجر العظيم، وأعد لهم عنده المقام الكريم، وخصهم بالجنة التي لا لغو فيها ولا تأثيم، وقد تقدمت لك في الجهاد، يد بيضاء أسرعت في سواد الحساد، وعرفت منك عزمة هي أمضى مما تجنه ضمائر الأغماد، واشتهرت لك مواقف في القتال هي أبهى وأشهى إلى القلوب من الإغماد، واشتهرت لك مواقف في القتال هي أبهى وأشهى إلى القلوب من الأعياد، وبك صان الله حمى الإسلام من أن يبتذل، وبعزمك حفظ على المسلمين نظام هذه الدول، وسيفك الذي أثر في قلوب الكافرين قروحاً لا تندمل، وبك يرجى أن(2/102)
يرجع مقر الخلافة المعظمة إلى ما كان عليه في الأيام الأول، فأيقظ لنصرة الإسلام جفناً ما كان غافياً ولا هاجعاً، وكن في مجاهدة أعداء الله إماماً متبوعاً لا تابعاً، وأيد كلمة التوحيد فما تجد في تأييدها إلا مطيعاً سامعاً، ولا تخل الثغور، من اهتمام بأمرها تبتسم له الثغور، واحتفال يبدل ما دجا من ظلماتها بالنور، واجعل أمرها على الأمور مقدماً، وشيد منها ما غادره العدو متداعياً متهدماً، فهذه حصون بها يحصل الانتفاع، وبها تحسم الأطماع، وهي على العدو داعية افتراق لا اجتماع وأولاها بالاهتمام ما كان البحر له مجاوراُ، والعدو إليه ملتفتاً ناظراً، لا سيما ثغور الديار المصرية فإن العدو وصل إليها رابحاً ورجع خاسراً واستأصلهم الله فيها حتى ما أقال منهم عاثراً، وكذلك الأسطول الذي ترى خيله كالأهلة وركائبه سائرة بغير سائق مستقلة، وهو أخو الجيش السليماني فإن ذك غدت الرياح له حاملة، وهذا تكفلت بحمله المياه السائلة، وإذا لحظها الطرف جارية في البحر كانت كالأعلام، وإذا شبهها قال هذه ليال تطلع في أيام وقد سبى الله لك من السعادة كل مطلب، وأتاك من أصالة الرأس الذي يريك المغيب، وبسط بعد القبض منك الأمل، ونشط بالسعادة ما كان من كسل، وهداك إلى مناهج الحق وما زلت مهتدياً إليها، وألهمك المراشد فلا تحتاج إلى تنبيه عليها، والله يمدك بأسباب نصره، ويوزعك شكر نعمه فإن النعم تستثمر بشكره.(2/103)
ولما تمت البيعة أخذ السلطان في تسييره إلى بغداد ورتب له الطواشي بهاء الدين صندل الصالحي شرابياً والأمير سابق الدين بوزبا أتابكا والأمير الشريف نجم الدين جعفر أستاذ دار والأمير فتح الدين ابن الشهاب أحمد أمير جاندار والأمير ناصر الدين محمد بن صرم خازندار والأمير سيف الدين بلبان والشمسي وفارس الدين أحمد بن أزدمر اليغموري دويدارية والقاضي كمال الدين بن عز الدين السنجاري وزيراً وشرف الدين محمد بن علي بن أبي جرادة كاتباً وعين له خزانة وسلاح خاناة ومماليك كباراً وصغاراً عدتهم أربعون مملوكاً رتب منهم جمدارية وسلاح دارية وزرد كاشية ورمح دارية وأمر له بمائة فرس وعشرة قطر بغال وعشرة قطر جمال وفراش خاناة وطبل خاناة وطست خاناة وشراب خاناة وحوائج خاناة وإماماً ومؤذناً وكتب لمن وفد معه من العراق تواقيع باقطاعات، واستتب هذا الحال إلى أن تجهز الملك الظاهر إلى الشام لسبب يذكر فيما بعد، فبرز في تاسع عشر شهر رمضان إلى بركة الجب فأخرجه معه ورغب إليه في إلباسه سراويل الفتوة فألبسه ثم سافرا.
؟
ذكر ولاية الأمير علم الدين الحلبي نيابة السلطنة بحلب
لما خرج فخر الدين الحمصي من حلب كما قدمنا ذكره وبلغ الرمل(2/104)
كتب إليه الملك الظاهر يأمره بالعود وكان البرلي لما تغلب على حلب خرج منها في حشد من التركمان والعربان لشن الغارة على عيسى بن مهنأ وكان على حمص فلما مر البرلي بحماة طلب من صاحبها موافقته فأبى وأغلق دونه أبواب البلد فأحرق غلالاً للعشر بالباب الغربي وعاث في نواحيها وأفسد وذلك في نصف رجب وبلغ الملك الظاهر فولى الحلبي نيابة السلطنة بحلب وأقطعه ما يقوم بوظائف المملكة ورتب معه علاء الدين بن نصر اله مدبر الأمور وبعث معه عسكراً لمحاربة البرلي وقدم عليه الأمير جمال الدين آقوش المحمدي فسار الحلبي ومن معه وقصد الرقة ودخل الحلبي حلباً وسار المحمدي يتبع البرلي فأدركه بالرقة فركب ودخل على المحمدي خيمته وقال له أنا مملوك السلطان وما هربت إلا خوفاً منه وقد رغبت إليك في أن تستعطفه بحيث يبقى على حران فإني طردت نواب التتر عنها ووليت فيها ومتى لم يسمح بالإبقاء علي لم أجد بداً من التجائي إلى التتار فتكفل له المحمدي بما التمسه ورحل عائداً وعبر البرلي إلى حران وكان ذلك خديعة منه.
ذكر أخذ البرلي البيرة وعوده إلى حلب
كان الحلبي قد كاتب الأسد حاجب الجوكندار والبهاء على أن يسلمها إليه وكان ولاه بها علاء الدين بن صاحب الموصل فطلب ذهباً يقرروا عينه فأجابه الحلبي وسير إليه المال ولم يسلمها ثم استدعى البرلي من حران فسار إليه وتسلمها ثم قصد حلب فلما كان بتل باشر خرج عن طاعة الحلبي أكثر من كان معه ولحقوا بالبرلي فخرج الحلبي من حلب ليلاً فلما علم البرلي بذلك بعث إليها علم الدين طقصبا الناصري(2/105)
وسيف الدين كيكاري الحلبي فتسلماها ثم دخلها في أوائل شهر رمضان وبعث طائفة ممن كان معه في أثر الحلبي فلم يدركوه.
ذكر وصول ولدي صاحب الموصل إلى القاهرة
في العشر الأخر من شهر رجب خرج الملك الصالح ركن الدين إسماعيل بن صاحب الموصل منها واستخلف فيها زوجته التترية ولم يستصحب معه شيئاً من المال وسبب خروجه خوفه من التتار فإنهم كانوا قد أخذوا يختلقون له ذنوباً يريدون بذلك القبض عليه فاستشعر منهم، فلما وصل قرقيسيا كتب إلى أخيه الملك المجاهد سيف الدين إسحاق وكان بالجزيرة يعرفه بحركته ويشير عليه بقصد الملك الظاهر ثم ساروا فوصل القاهرة في أواخر شهر رجب فخرج الملك الظاهر إلى لقائه وأكرمه واحترمه وأمر له بمال وثياب وأنزله في دار الفائزي خارج باب القنطرة بمصر ثم وصل أخوه الملك المجاهد في ثاني شهر رمضان فخرج السلطان للقائه وفعل معه كما فعل مع أخيه وأنزله بجواره في دار أنشأها معين الدين ابن الشيخ ورتب لمن وصل معهما من الحريم راتباً مجرى عليهم في كل شهر.
ذكر توجه الخليفة والسلطان إلى الشام
لما وردت الأخبار بأخذ البرلي البيرة وعوده إلى حلب وخروج(2/106)
الحلبي عنها برز السلطان بالعساكر إلى بركة الجب ومعه الخليفة وأولاد صاحب الموصل في تاسع عشر شهر رمضان بعد أن رتب الأمير عزك الدين أيدمر الحلبي نائب السلطنة بقلعة الجبل والصاحب بهاء الدين مدبر الأمور وخرج مع السلطان الأمير بدر الدين بيليك الخزندار بعد أن فوض إليه أمور الجيوش وأقامه مقام نفسه وفخر الدين بن الصاحب بهاء الدين وزير الصحبة وأقام ببركة الجب إلى عيد الفطر وخلل هذه الأيام وصل المحمدي فأنكر عليه إبقاءه على البرلي وانخذاعه له ووصل رسول الملك المغيث صاحب الكرك بكتاب يتضمن الاعتذار وطلب الصفح عنه وإبقاء الكرك عليه وكان سبب الغضب عليه إنه كتب إلى يعقوب بن بدل وإلى جمال الدين أغل وإلى جماعة من أمراء الشهرزورية بعد أن تسلطن الملك الظاهر وهم بالقاهرة يستميلهم إليه فخرجوا عن الطاعة ثم إن العرب عثروا على قصاد منه إلى التتر وعلى أيديهم كتب مضمونها إنه مستمر على طاعتهم فلما ورد كتابه أجابه بالرضا عنه فقصر في حق الشهرزورية ففارقوه ثم رحل السلطان في ثالث شوال وفيه ولي قاضي القضاة برهان الدين الخضر السنجاري قضاء مصر وعزل عنها تاج الدين المعروف بابن بنت الأعز.
ذكر مصاهرة الخزندار المواصلة
لما وصل الملك الظاهر غزة في ثالث عشر شوال استدعى أولاد صاحب الموصل وعرفهم مكانة الأمير بدر الدين الخزاندار عنده ومحله منه وطلب منهم أن يزوجوه بأختهم فأجابوا فعقد عقده وملكه بانياس(2/107)
وقلعة الصبيبة بعقد البيع والشراء.
ذكر وصول الخليفة والسلطان إلى
دمشق وخروج الخليفة منها
ثم رحل السلطان من غزة فدخل دمشق يوم الاثنين سابع ذي القعدة وقدم عليه الملك الأشرف صاحب حمص فخلع عليه وأعطاه ثمانين ألف درهم وحملين ثياباً وزاده من البلاد تل باشر وكان الملك المظفر رحمه الله قد حلها عنه وقدم عليه الملك المنصور صاحب حماة فخلع عليه وأعطاه ثمانين ألف درهم وحملين ثياباً وكتب له توقيعاً ببلاده التي بيده ثم جهز الخليفة وأولاد صاحب الموصل صحبته فكان الذي غرم على تجهيز الخليفة وأولاد صاحب الموصل فوق الألف ألف دينار عيناً وجهز الأمير علاء الدين أيدكين البند قداري لنيابة السلطنة بحلب وأعمالها وبعث معه عسكراً لمحاربة البرلي وقدم عليه الأمير سيف الدين بلبان الرشيدي فخرجا من دمشق في منتصف ذي القعدة فلما وصلا حماة خرج البرلي من حلب وقصد حران فتبعه الرشيدي ودخل البند قداري حلب ولما وصل الرشيد الفرات رحل البرلي عن حران وقصد قلعة القرادي فحاصرها حتى أخذها من نواب التتار عنوة ونهبها وعاد الرشيدي بعسكره إلى أنطاكية فشن الغارة على بلدها ودام ذلك سنة حتى بذلوا له مالاً في طلب المهادنة فأبى ثم بلغه أن الملك الظاهر خرج من دمشق قاصداً مصرفي سبع عشر ذي الحجة فرحل عن أنطاكية.(2/108)
ذكر توجه الخليفة إلى العراق
وأولاد صاحب الموصل
لما سير الملك الظاهر البند قداري والرشيدي كما تقدم أشار على الخليفة بالتوجه إلى العراق واعتنى بتجهيزة فرغب أولاد صاحب الموصل وهم الملك الصالح وولده علاء الملك والملك المجاهد سيف الدين صاحب الجزيرة والملك المظفر علاء الدين صاحب سنجار والملك الكامل ناصر الدين محمد في العود إلى بلادهم فخرجوا من دمشق في الحادي والعشرين من ذي القعدة فلما وصلوا الرحبة وافوا عليها الأمير بريد بن علي بن حذيفة من آل فضل وأخاه الأخرس في أربعمائة فارس من العرب وفارق الخليفة أولاد صاحب الموصل من الرحبة وكان التمس منهم المسير معه فأبوا وقالوا ما معناه مرسوم بذلك فاستمال من مماليك والدهم نحو ستين نفراً فانضافوا إليه ولحقهم بالرحبة الأمير عز الدين ابن كر من حماة ومعه ثلاثون فارساً ثم رحل الخليفة بمن معه عن الرحبة بعد مقام ثلاثة أيام فنزلوا مشهد علي رضي الله عنه ثم رحل إلى زاوية الشيخ بري ثم إلى قائم عنقه ثم إلى عانة فوافوا الإمام(2/109)
الحاكم بالله على عانة من ناحية الشرق ومعه نحو سبعمائة فارس من التركمان وكان البرلي قد جهزهم من حلب فبعث المستنصر بالله إليهم واستمالهم فلما جاوزوا الفرات فارقوا الحاكم فبعث المستنصر بالله يطلبه إليه ويؤمنه على نفسه ويرغب إليه في اجتماع الكلمة فأجاب ورحل إليه فوفى له وأنزله معه في الدهليز وكان الحاكم لما نزل على عانة امتنع أهلها منه وقالوا قد بايع الملك الظاهر خليفة وهو واصل فما نسلمها إلا إليه فلما وصل المستنصر بالله نزل إليه واليها وكريم الدين ناظرها وسلماها إليه، وحملا له إقامة فأقطعها للأمير ناصر الدين اغليش أخى الأمير علم الدين الحلبي ثم رحل الخليفة عنها إلى الحديثة ففتحها أهلها له فجعلها خاصاً له ثم رحل عنها ونزل على شط قرية الناووسة ثم رحل عنها قاصداً هيت، ولما اتصل ذلك بقرابغا مقدم عسكر المغل بالعراق وبهادر على الخوارزمي شحنة بغداد خرج قرابغا بخمسة آلاف من المغل على الشط العراقي وقصد الأنبار فدخلها إغارة وقتل جميع من فيها ثم ردفه بها در بمن بقي ببغداد من العساكر وكان قد بعث ولده إلى هيت متشوفاً لما يرد من أخبار المستنصر بالله وقرر معه إنه إذا اتصل به خبره بعث بالمراكب إلى الشط الآخر وأحرقها، فلما وصل الخليفة هيت أغلق أهلها الباب دونه فنزل عليها وحاصرها حتى(2/110)
فتحها ودخلها في التاسع والعشرين من ذي الحجة ونهب من فيها من اليهود والنصارى ثم رحل عنها فنزل الدور وبعث طليعة من عسكره مقدمها الأمير أسد الدين محمود بن الملك المفضل موسى نائباً عن بوزبا فبات تجاه الأنبار تلك الليلة وهي ليلة الأحد ثالث المحرم سنة ستين وستمائة وكان ينبغي ذكر تتمة هذه الواقعة في حوادث سنة ستين وإنما لارتباط الحديث وسياقته ذكرتها في هذه السنة، فلما رأى قرابغا الطليعة أمر من معه من العساكر بالعبور إليها في المخائض والمراكب ليلاً، فلما أسفر الصبح أفرد قرابغا من معه من عسكر بغداد مسلماً ناحية، ورتب الخليفة اثنى عشر طلباً فجعل التركمان والعربان ميمنة وميسرة وباقي العسكر قلباً ثم حمل بنفسه مبادراً وحمل من كان معه في القلب فانكسر بهادر ووقع معظم عسكره في الفرات ثم خرج كمين من التتار فلما رآه التركمان والعرب هربوا وأحاط الكمين بعسكر الخليفة فصدق المسلمون الحملة فأفرج لهم التتر فنجا الحاكم وناصر الدين بن مهنا وناصر الدين بن صيرم وبوزبا وسيف الدين بلبان الشمسي وأسد الدين محمود وجماعة من الجند نحو الخمسين نفراً وقتل الشريف نجم الدين جعفر أستاذ الدار وفتح الدين بن الشهاب أحمد وفارس الدين أحمد بن ازدمر اليغموري ولم يوقع للخليفة على خبر فقيل قتل في الوقعة وعفى أثره وقيل نجا مجروحاً(2/111)
في طائفة من العرب فمات عندهم وقيل سلم واضمرته البلاد.
وفيها بعث الملك المظفر صاحب ماردين بعد موت أبيه الملك السعيد رحمه الله عز الدين يوسف بن الشماع إلى التتر ليتعرف له ما أضمرته نفوسهم فلما اجتمع بمقدميهم وهما قطزنوين وجرمون قالا له بين الملك المظفر وبين أيل خان يعنون هولاكو وعد أن والده متى مات دخل في طاعته فقال لهم عز الدين هذا صحيح لكن أنتم أخربتم بلاده وقتلتم رعيته فبأي شيء يدخل في طاعته حتى يدارى عنه فقالا نحن نضم له أن أيل خان يعوضه عما خرب بلاداً عامرة مما جاوره، فلما عاد عز الدين وأخبره رده إليهم برسالة مضمونها إن أردتم أن أسير رسلي إلى أيل خان فابعثا لي رهائن من جهتكما تكون عندي إلى أن يرجعوا وترددت الرسل إلى أن بعث قطزنوين ولده وبعث جرمون ابن أخيه، فلما صعدا القلعة بعث الملك المظفر نور الدين محمود بن كاجار أخا الملك السعيد لأمه وأصحبه قطزنوين من جهة سابق الدين بلبان فوصلا إلى هولاكو وهو بمراغة وادياً الرسالة فأجاب إلى ما ضمنه قطزنوين وجرمون وكتب لهم بذلك فرامين وبعث بها من جهته مع قصاد وأبقى الرسل عنده وأمر بالرحيل عن ماردين، فرحلوا في شهر رجب ثم بعث هولاكو الرسولين وأصحبهما كوهداى فوصلوا إلى ماردين وانتظم الصلح والهدنة بين الملك المظفر والتتر وأسلم كوهداى على يد الملك المظفر فأزوجه أخته.(2/112)
ثم توجه الملك المظفر في شهر رمضان إلى هولاكو واستصحب معه هدية سنية من تحف أدخرها أبوه وأجداده من جملتها باطية مجوهرة قيمتها أربعة وثمانون ألف دينار، فاجتمع به بصحراء إدرنة بنهر الباع من أعمال سلماس فأقبل عليه وأكرمه وقال له بلغني أن أولاد صاحب الموصل هربوا إلى مصر وأنا أعلم أن أصحابهم كانوا السبب فأترك أصحابك الذين وصلوا صحبتك عندي فإني لا آمن أن يحرفوك عني ورغبوك في النزوح عن بلادك إلى مصر وإذا دخلت أنا البلاد استصحبتهم معي فأجابه إلى ذلك ثم انفصل عنه عائداً إلى بلده فلما كان في أثناء الطريق لحقته رسل تأمره بالعود فعاد وجلاً فقال له هولاكو أخبرني أصحابك أن لك باطناً مع صاحب مصر وقد رأيت أن يكون عندك من جهى من يمنعك التسحب إليه ثم عين له أميراً يدعى أحمد بغا ورده إلى ماردين وزاده نصيبين والخابو وأمره بهدم شراريف القلعة ثم ضرب بعد مفارقته له رقاب الجماعة وكانوا سبعين رجلاً منهم الملك المنصور ناصر الدين أرتق بن الملك السعيد ونور الدين محمد وأسد الدين البحى وحسام الدين عزيز البحى وفخر الدين ابن جاجري وعلاء الدين والي القلعة وعلم الدين بن حيدر ولم يكن لأحد منهم ذنب لكن قصد بقتلهم قص جناح الملك المظفر.
وفيها كان المصاف بين الأخوين ركن الدين وعز الدين صاحبي الروم على قوم من قونية في الخامس والعشرين من شهر رمضان فكسره(2/113)
ركن الدين لأنه كان معه نجدة من التتر وخامر على عز الدين العربان واحداً مقدمي التركمان وتأخر محمد بك إلا وحي عنه وقتل من أصحاب عز الدين خلق كثير وأمسك منهم جماعة فشنقوا على الأسوار وانحاز عز الدين إلى أنطاكية وأقام بها وترك في بلاده شمس الدين أرتاش نائباً عنه.
وفيها وصل رسول رضي الدين أبي المعالي ونجم الدين إسماعيل ابن الشعراني المستوليين على حصون الإسماعيلية إلى الملك الظاهر بدمشق وعلى يده هدية ومعه رسالة مضمونها التهديد والوعيد وطلب ما كان لهما من الإقطاعات في الدولة الناصرية والرسوم فأجابهما إلى ذلك فلما عزم على التوجه إلى مرسلاه وحضر لوداع الملك الظاهر قال له بلغني أن الرضا قد مات وقد رأيت أن أولئك مكانه ولم يكن اتصل به شيء من ذلك فكان ذلك سبباً لاستنزاله له عن سره ثم كتب له توقيعاً بالولاية فتوجه المذكور فوجد الرضى في عافية فكتم التوقيع ولم يلبث إلا عشرة أيام حتى مرض الرضا أياماً قلائل ثم مات فولى مكانه فلم ترض به الإسماعيلية وقتلوه فنقم عليهم الملك الظاهر قتله وشرع في أعمال الحيلة عليهم إلى أن استأصل شأفتهم واحتوى على بلادهم، قلت هذا خلاصة ما كان على خاطري وما نقلته من مسودات كانت عندي من حوادث هذه السنة وقد ذكر القاضي جمال الدين محمد ابن واصل بعض الحوادث المتقدمة على وجه آخر ربما هو أتم من(2/114)
ذلك فذكرت ما قاله واثبته هنا والله أعلم.
قال القاضي جمال الدين أبو عبد الله محمد بن واصل في حوادث هذه السنة لما وصل عسكر حلب وحماة إلى حمص على ما تقدم شرحه في حوادث سنة ثمان وخمسين اجمعوا بالملك الأشرف صاحبها وعزم عسكر حلب على التوجه إلى دمشق وقارب التتر حمص فلام الملك الأشرف الجوكندار على هذا الرأي وقال له ما يقال عنا في البلاد وبأي وجه نلقى صاحب مصر وأخذ في تثنيته هو وصاحب حماة وحرضاه على لقاء العدو وكان قد وقع بين الجوكندار وبعض خشداشيته منافرة من أجل الأموال التي أخذت من ابن صاحب الموصل فما زال بهم الملك الأشرف والملك المنصور حتى أصلحا بينهم، ووصل التتر فحمل عليهم المسلمون يوم الجمعة خامس المحرم ورزقهم الله النصر عليهم فبددوا شملهم وأخذتهم سيوف المسلمين وكان فيهم جماعة كثيرة من شجعان المغل، قال مبارز الدين أستاذ دار صاحب حماة كان من بهادرية المغل في هذه الوقعة أكثر من الذين كانوا منهم في وقعة عين جالوت بالغور وانهزم من سلم من التتر والمسلمون في آثارهم ومدح الصاحب شريف الدين عبد العزيز شيخ الشيوخ رحمه الله الملك المسعود صاحب حماة وهنأه بهذا الفتح بقصيدة مطلعها:
لك في الندى وردى ذوي الأشراك ... شيم تفوق بها على الأملاك(2/115)
ومنها:
لما شكا دين الهدى اشكيته ... بشديد باسك والسلاح الشاكي
دعت المعالي يا أباها دعوة ... لامت عليك فقلت لبي فاك
جردت يوم الأربعاء عزيمة ... خفيت عواقبها عن الإدراك
وأقمت في يوم الخميس مبالغاً ... في الجمع بين طوائف الأتراك
ووقفت في يوم العروبة موقفاً ... أوسعت فيه الفتك بالفتاك
قيدت ابطال التتار بصولة ... تركتهم كالصيد في الأشراك
وأطرت منهم هام كل مدجج ... لله كل موحد سفاك
فالطعن والطاعون أسلمهم إلى ... ضرب كا شداق المخاض دراك
بردت أكباد الورى بقواضب ... قذفت عليهم كالضرام الذاكي
أضحكت سن ثغورنا من بعد ما ... ظفروا بها فبكى عليها الباكي
غادرتهم صرعى كأن كماتهم ... في المرج من سلاف جناك
ثم ارتحلت إلى دمشق موضحاً ... سبل الرشاد المحض للسلاك
ورجعت في غرر الجيوش معاجلاً ... منا رهان نفوسنا بفكاك
فلقد أنمت المحصنات أو أمنا ... ولقد أقمت شعائر النساك
سلمت مهجة كل بر مسلم ... وهزمت كل معاند أفاك
نوهت باسمك في سماء مدائح ... أعلته فوق مجرة وسماك
تسبي العقائل والعقول جميعها ... من صائغ لنضارها سباك
فلك الهناء بما منحت ولا تزل ... يجري بسعدك دائر الأفلاك(2/116)
ولما بلغ خبر هذه الوقعة إلى حماة وكان بها جماعة يميلون إلى التتر وربما أراد بعضهم أن ينقب من السور إليهم موضعاً يدخلون منه إلى البلد فثار أهل حماة عليهم فقتلوا بعضهم منهم رجل من أطراف الناس يقال له ابن دخان فقتله العامة واعتقل بعضهم ووصل الملك المنصور إلى حماة وبعد هذه الوقعة رجع التتر ونازلوا حماة وكانت قواهم تضعف لقلتهم والرعب الذي داخلهم عن المقام على حصار البلد فرحلوا ولم يقيموا إلا يوماً واحداً وأراد الملك المنصور السفر إلى دمشق ليستصحب عسكراً يتقوى به على التتر فمنعته العامة من ذلك حتى استوثقوا منه بأنه يعود إليهم عن قرب فمكنوه من السفر بطائفة قليلة من خواصه ومماليكه وترك عندهم الطواشي شجاع الدين مرشداً والعسكر وسار إلى دمشق، وتوجه الملك الأشرف صاحب حمص إلى دمشق أيضاً والمتولي عليهم علم الدين الحلبي الملقب بالملك المجاهد وكان حين ورد الخبر إلى دمشق بهذا الفتح زين البلد وضربت البشائر ووصل إلى دمشق رؤوس التتر محمولة في الشرائح فرميت في الطرق ووصل الأمير حسام الدين الجوكندار ومن معه من العزيزية والناصرية ونزلوا المرج ولم يدخل دمشق خوفاً من الحلبي ثم رحل إلى الكسوة وتوجه إلى الديار المصرية بمن معه وكان يتوهم أن الملك الظاهر يقلده حلب وأعمالها نيابة عنه فلم يتم له ذلك، وأما التتر فإنهم اندفعوا إلى ناحية أفامية ونزلوا في تلك الأرض وطمع فيهم المسلمون ودخل عليهم(2/117)
الشتاء واشتد البرد وورد إلى أفامية الأمير سيف الدين الدبيلي الأشرفي ومعه جماعة فأقام بها وواتر الإغارة عليهم والقتل والنهب ثم رحلوا طالبين الشرق.
؟ ذكر القبض على علم الدين الحلبي
في أوائل هذه السنة قدم عسكر من الديار المصرية مقدمهم الأمير علاء الدين أيدكين البندقداري وهو من أكابر الأمراء الصالحية وإليه ينسب الملك الظاهر قبل السلطنة وكان علاء الدين هذا مملوكاً قبل الملك الصالح نجم الدين للأمير جمال الدين بن يغمور وورد الأمر من مصر إلى الأمير شمس الدين البرلي ومن معه من العزيزية والناصرية أن يقدموا إلى دمشق فقدم بهم، فلما قدمت العساكر خرج الحلبي بأصحابه ومماليكه وحمل العسكر المصري فانهزم من مع الحلبي وجرح وقتل من مماليكه جماعة وعاد إلى القلعة فأقام بها إلى أن أجنه الليل وهرب إلى جهة بعلبك فاتبع وقبض عليه ثم حمل إلى الديار المصرية واعتقل بها ثم أطلق بعد ذلك.
وكان ورود العسكر المصري إلى دمشق في ثالث عشر صفر واستقرت العساكر الظاهرية بدمشق وأقيمت الخطبة بها وببلادها وبحماة وحمص وحلب للملك الظاهر وكان قبل ورود العسكر المصري قد سير الملك المنصور صاحب حماة وهو مقيم بدمشق ابن عمه الأمير ناصر الدين محمد بن الملك المسعود عثمان بن الملك المنصور وكانت منزلته عالية عنده رسولاً إلى الملك الظاهر فأنزل باللوق وأكرم إكراماً(2/118)
كثيراً وأجيب بما طاب به قلب الملك المنصور ورجع إلى صاحبه مكرماً، وكان ناصر الدين هذا متميزاً عنده فضيلة وله نظم جيد منه:
لله در عصابة تغشى الوغى ... تهوى الخياطة لا إليه تنتمى
ذرعوا الفوارس بالوشيج وفصلوا ... بالمرهفات وخيطوا بالأسهم
ذكر خروج الأمير شمي الدين البرلي والعزيزية من دمشق على حمية
واستيلائهم على حلب
لما استقرت العزيزية مع مقدمهم الأمير شمس الدين بدمشق وكان التتر قد نازلوا البيرة وضايقوها من غير محاصرة والأمير علاء الدين البندقداري مقيم بدمشق وقد جرد إلى حلب الأمير فخر الدين الحمصي مقدماً وصحبته جماعة من الأمراء فوصولا حلب وحكم الأمير فخر الدين فيها وضم بها شمل الرعية وتوجه الملك المنصور والملك الأشرف إلى بلديهما واشتدت مضايقة التتر البيرة فكتب فخر الدين الحمصي إلى الملك الظاهر وطلب إيجاده على التتر فكتب الملك الظاهر إلى البندقداري بأن يكون على أهبة المسير إلى حلب بجميع من عنده من العسكر وأن يقبض على شمس الدين البرلي وبهاء الدين بغدي وعلى جماعة من العزيزية والناصرية وبلغ ذلك هؤلاء الأمراء واتفق رأيهم على الخروج من دمشق يداً واحدة على حمية وإن يتوجهوا إلى حلب ويقبضوا على فخر الدين الحمصي ويقيموا في تلك الجهات(2/119)
وتحالفوا على ذلك فتوجه بهاء الدين بغدي إلى الأمير علاء الدين البندقداري رجاء أن يسلم بذلك ويتقدم عنده فحين دخل إليه قبض عليه وقيده ورسم عليه جماعة، وورد الخبر بذلك إلى الأمير شمس الدين البرلي ومن معه من العزيزية والناصرية فركبوا وخرجوا من دمشق ليلاً ووقع بسبب هذه الحركة انزعاج شديد بدمشق ونزل البرلي بأصحابه في المرج فبعث إليه البندقداري يلومه على ذلك وحلف له أن الأمر ما ورد إلا بقبض بهاء الدين خاصة وأرسل إليه مثالاً ورد من مصر بما يرضيه وكان الأمير شمس الدين قد تحقق أن الأمر بخلاف ذلك من جهة من ورد إليه من مصر فتوجه بأصحابه طالباً حلب، ولما وصل إلى حمص راسل الملك الأشرف بأن يتفق معه فلم يجبه إلى ذلك وكان قد كاتب بعض أمراء حماة بأن يفتح له أحد أبواب حماة ليدخل إليها ويستولي عليها فأجابه إلى ذلك وكان في معسكر البرلي وهو نازل بظاهر حمص ناصر الدين ناصر الجذامي وهو من أصحاب صاحب حماة ومختص بخدمته وإنما كان في عسكر البرلي ليكشف الأخبار لصاحبه فحين بلغه ذلك سار مسرعاً إلى حماة وأخبر الملك المنصور بذلك وكان الذي كاتبوا البرلي على الباب الذي واعدوه الدخول منه فجعل الملك المنصور على الباب غيرهم، ووصل الأمير شمس الدين إلى حماة فنزل ظاهرها وقد فاته ما طلب ولم يظهر الملك المنصور تغيراً على الذين كان منهم ذلك ولا غير أخبازهم ولا أشعرهم أنه عرف شيئاً من أمرهم ولما نزل الأمير شمس الدين ظاهر حماة أرسل إلى الملك المنصور يدعوه إلى الاتفاق(2/120)
معه وأنه يقيم الملك المنصور سلطاناً ويكون في خدمته.
قال الملك المنصور رحمه الله أرسل إلى الأمير شمس الدين يقول ينبغي أن تقوم وتحيى بيتك الكريم فما بقي في البيت الأيوبي من يصلح لهذا الأمر سواك ونكون بين يديك ونقاتل معك ونملكك البلاد فأرسلت إليه ناصر الدين البدوي أقول له متى وفيتم أنتم لأحد من بيت أستاذكم حتى تفوا لي وأنا ما لي حاجة بالملك وإنما أنا قانع بهذه البلدة وأكون فيها مطيعاً لمن يكون مالكاً للديار المصرية، ولما يئس الأمير شمس الدين من إجابة الملك المنصور غضب وأمر بإحراق بيدر الشعير غربي البلد فاحترق وأعقب ذلك جدب وغلاء شديد ثم توجه الأمير شمس الدين ومن معه إلى شيزر ونازلوها أياماً ثم ساروا إلى حلب فلما وصلوا الوضيحى جمع الأمير شمس الدين أصحابه واستشارهم فيما يفعل فأشاروا عليه بأن يكون الدخول في صبيحة الغد وأنهم لا يلبسون لأمة الحرب ولا يظهرون إلا طاعة الملك الظاهر ويقولون أنا خفنا على أنفسنا لما سمعنا تغير خاطره علينا فالتجأنا إلى أطراف البلاد إلى أن يصلنا أمانه ونعود إلى خدمته فوافقهم على ذلك وفي صبيحة الغد رحلوا إلى حلب وقد خرج فخر الدين الحمصي ومن معه من العسكر لابسين لأمة الحرب مستعدين للقاء وجاء البرلي ومن معه ودخلوا بينهم واختلطوا جميعاً بهم ودخلوا حلب ونزل الأمير شمس الدين في دار الأمير شمس الدين لؤلؤ ونزل أمراء العزيزية والناصرية حوله ثم طلبوا من فخر الدين الحمصي أن يتوجه إلى الملك الظاهر ويطلب لهم الأمان(2/121)
والرضا بشرط أن يكون الأمير شمس الدين مقدم العساكر بحلب والأمراء الذين في صحبته عنده ويصلهم المناشير من الديار المصرية بما يختاره الملك الظاهر ويكون الأمير شمس الدين مستقلاً بنيابة السلطنة ولا يكلف الاجتماع بالملك الظاهر وتوجه فخر الدين إلى مصر ليدبر هذه القاعدة فلما وصل إلى الرمل وجد الأمير جمال الدين الحمدي قد جرد معه عسكراً ليتوجهوا إلى الأمير شمس الدين البرلي حيث كان ويقاتلوه فكتب فخر الدين إلى الملك الظاهر يخبره بما قدم لأجله فورد عليه الجواب ينكر عليه غاية الإنكار ويأمره أن ينضم إلى المحمدي بمن معه من العسكر ويقصلون البرلي ثم رضي الملك الظاهر عن الأمير علم الدين الحلبي وجهزه وراءهم في جمع من العسكر ثم جهز بعدهم الأمير عز الدين الدمياطي في جمع آخر وتوجهوا كلهم إلى جهة حلب ليقبضوا على الأمير شمس الدين البرلي أو يطردوه عن حلب وكان الأمير شمس الدين لما توجه فخر الدين الحمصي علم أن الملك الظاهر لا يوافقه على ما طلب فأخرج من عنده من العسكر المصري واستبد بالأمرو جمع إليه من العربان والتركمان وأخرج ما كان مخبأ في حلب وبلادها من الغلال وفرقه على الشود وكان قصده إخلاء حلب من الغلال لئلا تبقى ميرة لعسكر مصر واستعد للقاء عسكر مصر وبلغه توجههم إلى قتاله وانقضت هذه السنة والأمر على ذلك.
وفي السابع من جمادى الأولى عقد عزاء بجامع دمشق للملك الناصر(2/122)
صلاح الدين يوسف رحمه الله وذلك لما ورد الخبر بمقتله.
ذكر بيعة المستنصر بالله أبي القاسم أحمد بمصر
ورد إلى مصر في رجب من هذه السنة أبو القاسم أحمد ومعه جماعة من العرب وذكروا أنه ابن الظاهر بأمر الله أبي نصر محمد بن الناصر وهو أسود اللون وذكروا أنه خرج من دار الخلافة لما ملكها التتر فأراد الملك الظاهر أن يقلده الخلافة فعقد له مجلس بقلعة الجبل وحضر الأعيان والأكابر والشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله والقاضي تاج الدين عبد الوهاب بن خلف وكان الملك الظاهر قد عزل القاضي بدر الدين السنجاري عن قضاء الديار المصرية في أوائل هذه السنة وقلد القضاء لتاج الدين المذكور فشهد أولئك العربان بأن أبا القاسم هذا هو ابن الظاهر بأمر الله وعم المستعصم بالله وأقام القاضي تاج الدين جماعة من الشهود اجتمعوا بأولئك العرب وسمعوا شهادتهم ثم حضروا عند القاضي تاج الدين فشهدوا بالنسب بحكم الاستفاضة فقام القاضي تاج الدين على قدميه وقال ثبت عندي نسب أبي القاسم هذا وأنه ابن الإمام الظاهر بأمر الله فبايعه الملك الظاهر والشيخ عز الدين والقاضي تاج الدين والحاضرون ونودي بالقاهرة ومصر بخلافته ولقب المستنصر بالله لقب أخيه ويوم الجمعة التالية لهذه البيعة حضر الملك الظاهر والأكابر والقضاة وخطب الخليفة خطبة مختصرة وصلى بالناس صلاة العصر ونثرت الدراهم والدنانير باسمه وخلع على الملك الظاهر خلعة(2/123)
سوداء وعمامة مذهبة وطوق ذهب وركب بالخلعة.
ذكر تبريز الملك الظاهر والخليفة للمسير إلى الشام
في شهر رمضان برز الملك الظاهر وضرب دهليزه خارج باب النصر وبرزت العساكر للتوجه إلى الشام وكان قد قدم إلى خدمة الملك الظاهر الملك الصالح ابن صاحب الموصل وأخوه صاحب الجزيرة فنزلا في المخيم السلطاني خارج البلد، كنا ذكرنا أن الملك المظفر رحمه الله لما كسر التتر وقدم دمشق عزل القاضي محي الدين يحيى بن الزكي وولى عوضه القاضي نجم الدين ابن سنى الدولة واستمر إلى أثناء هذه السنة فتحدث الناس فيه بأمور نسبت إليه وبلغ الملك الظاهر ذلك فاستشار الأمير جمال الدين أيدغدي العزيزي فأشار عليه أن يولى القضاء بدمشق القاضي شمس الدين أحمد ابن خلكان وكان ينوب عن القاضي بدر الدين السنجاري بالديار المصرية زمن ولايته لها فأجاب الملك الظاهر إلى ذلك وتقدم بان يسافر القاضي شمس الدين صحبته.
وفي هذه الأيام ولى الملك الظاهر القاضي برهان الدين الخضر ابن الحسن القضاء بمدينة مصر وعملها وهو الوجه القبلي وبقيت القاهرة وعملها وهو الوجه البحري في ولاية القاضي تاج الدين.
وفي هذه الأيام والملك الظاهر مبرز بالعساكر خارج القاهرة عزم(2/124)
على إنفاذ رسول إلى منفريد بن الانبرطور فرديك وكان الملك الكامل أرسل إلى أبيه الانبرطور الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ يطلب منه القدوم إلى الشام ليشغل سر أخيه الملك المعظم وذلك لما انتمى الملك المعظم إلى السلطان جلال الدين سلطان العجم فقدم إلى الشام بعد موت الملك المعظم وندم الملك الكامل على استقدامه إذ لم يبق له حاجة إليه وجرت المراسلات بينه وبين الملك الكامل واتفقا على أن يتسلم الانبرطور البيت المقدس فتسلمه ثم رحل إلى بلاده ثم توفي الملك الكامل وصارت مصر لابنه الملك العادل ثم لأخيه الملك الصالح نجم الدين بن الكامل فأرسل إليه الملك الصالح نجم الدين الشيخ سراج الدين الأرموي قريب الشيخ أفضل الدين الخونجي قاضي مصر وكان إماماً في المعقولات وكان الانبرطور محباً للفضائل والعلوم الحكمية وغيرها فأقبل على سراج الدين وأقام عنده مدة طويلة وصار بين الانبرطور وبين الملك الصالح نجم الدين مودة عظيمة كما كانت بينه وبين أبيه الملك الكامل ثم عاد سراج الدين إلى الديار المصرية ولما توفي الانبرطور ملك بعده أنبولية والأنبردية وجزيرة صقلية ولده كنراد ثم توفي وملك منفريد أخوه وكان كنراد وأخوه منفريد يريان رأي أبيهما في محبة الفضائل العلمية وبينهما وبين البابا خليفة الإفرنج العداوة الشديدة.(2/125)
فصل
وفيها توفي إبراهيم بن عبد الله بن هبة الله بن أحمد بن علي بن مرزوق أبو إسحاق صفي الدين العسقلاني الكاتب التاجر مولده في شهر رجب سنة سبع وسبعين وخمسمائة سمع بمصر من أبي محمد عبد الله بن محمد بن بجلي وأجاز له غير واحد وحدث وكان أحد الرؤساء المعروفين بالثروة وسعة ذات اليد وله الوجاهة الوافرة والتقدم عند الملوك وأرباب الدول وله بر ومعروف وأوقاف منسوبة إليه وتوفي في ثاني عشر ذي القعدة بمصر ودفن من الغد بسفح المقطم رحمه الله.
إسحاق بن يعيش بن علي بن يعيش بن أبي السرايا بن علي بن المفضل أبو إبراهيم الحلبي الكاتب كان من الفضلاء الرؤساء ومولده بحلب في ثالث شهر رجب سنة إحدى وستمائة وتوفي بالقاهرة في السادس والعشرين من ربيع الآخر هذه السنة ودفن من يومه بالقرافة رحمه الله.
إسماعيل بن شيركوه بن محمد بن شيركوه الملك الصالح نور الدين ابن صاحب حمص كان له اختصاص كبير بالملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله وقرب منه وكان عنده حزم وعزم وسياسة وكان من رأيه مداراة التتر وعدم مشاققتهم وكان يعضد الزين الحافظي عند الملك الناصر ويثني عليه ويشكره فكان يقال إن الزين الحافظي أحضر له فرماناً من هولاكو وإن للملك الصلاح باطناً مع التتر وأنه لم(2/126)
يدخل الديار المصرية مع العساكر لذلك لا محافظة للملك الناصر وتوهم أنه إذا وصل إلى هولاكو أبقى عليه ووفى له بما في الفرمان فعاد مع الملك الناصر من قطيا وحسن له قصد هولاكو وتوجه صحبته إليه فلما أمر هولاكو بقتل الملك الناصر ومن معه على ما سيأتي في ترجمة الملك الناصر رحمه الله إن شاء الله أمر بقتل الملك الصالح أيضاً فقتل في أطراف بلاد العجم وكان يلقب السيس ومولده ومرباه حمص وإنما انتقل عنها بعد موت والده الملك المجاهد أسد الدين شيركوه وكان مقتله في أوائل هذه السنة وقيل في أواخر سنة ثمان وخمسين وستمائة رحمه الله تعالى وحكي أنه قال يوماً للأمير عماد الدين إبراهيم بن المحبر رحمه الله وهما في مجلس السلطان الملك الناصر نريد أن نعمل مشوراً وكان عماد الدين رأيه قتال التتر وعدم مداراتهم فقال له لم هذا المفشر فقال له الملك الصالح أنت كما قيل طويل ولحيتك طويلة فقال له عماد الدين ألا أني ما ربيت في حمص أشار الملك الصالح إلى أن الطويل القامة واللحية غالباً يكون قليل العقل وأشار عماد الدين رحمه الله إلى أن من ربى بحمص يكون أجدر بقلة العقل وهذا إنما هو على ما يقوله العوام لا على الحقيقة.
إسماعيل بن عمر بن قرناص أبو العرب مخلص الدين الحموي كان فقيهاً متأدباً وله شعر حسن وعنده معرفة بطرف من العربية وكان يدرس بحماة في مدرسة نسيبة مخلص الدين بن قرناص ومدرسة الشيخ(2/127)
تقي الدين ابن البققي ويقرئ العربية بالجامع ومولده سنة اثنتين وستمائة وتوفي في جمادى الآخرة هذه السنة بحماة وله أشعار حسنة منها قوله:
فقد إلا حبة مولم وبنا إذا ... غاب شخصك فوق ذاك المولم
إذ أنت بين الأحبة منعم ... وأحقهم بالشوق وجه المنعم
وله:
أما والله لو شقت قلوب ... ليعلم ما بها من فرط حبي
لأرضاك الذي لك في فوأدي ... وأرضاني رضاك بشق قلبي
أيل غازي الملك السعيد نجم الدين صاحب ماردين توفي في سادس عشر صفر هذه السنة وقيل في ذي الحجة سنة ثمان وخمسين وقد ذكرناه هناك.
الحسن بن عبد الله بن عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور بن رافع بن حسن بن جعفر أبو محمد شرف الدين المقدسي الحنبلي مولده سنة خمس وستمائة سمع الكثير من أبي اليمن الكندي وغيره وكان من العلماء الفضلاء وهو من أولاد المشايخ الأئمة من بيت الحفظ والحديث حدث هو وأبوه وجده وكانت وفاة شرف الدين المذكور في ليلة الثامن من المحرم بدمشق رحمه الله وجده الإمام الحافظ عبد الغني رحمة الله عليه صاحب التصانيف والفوائد وإليه انتهى علم الحديث ومعرفة الآثار النبوية في وقته رحمه الله.(2/128)
عبد الرحمن بن محمد بن عبد القاهر بن موهب أبو البركات زين الدين الحموي الشافعي خطيب الجامع الأعلى بحماة كان فاضلاً عالماً حسن الخطابة متمولاً وله وجاهة كبيرة وكرم ومعروف مشهور وكان الملك المظفر صاحب حماة يحترمه كثيراً وترسل بعد وفاة الملك المظفر إلى الملك الصالح نجم الدين بالديار المصرية فأكرمه واحترمه وبنى زين الدين المذكور بحماة مدرسة جليلة ووقف عليها وقفاً كثيراً ودفن بها لما توفي ومولده في سنة ثمانين وخمسمائة وتوفي بحماة صبح يوم الجمعة ثالث شهر ربيع الأول وقيل توفي ليلة الثامن والعشرين منه حدث عن عمر بن أبي اليسر وغيره وكان من المشايخ المشهورين بالخير والصلاح والعلم والنبل والجلالة رحمه الله وقيل في نسبه هو عبد الرحمن بن محمد ابن عبد القاهر بن موهوب والله أعلم.
عثمان بن منكورس بن خمردكين الأمير مظفر الدين صاحب صهيون وبرزية كان حازماً يقظاً مهيباً كثير السياسة والنهضة تملك صهيون وما معها بعد وفاة والده الأمير ناصر الدين منكورس في جمادى الأولى سنة ست وعشرين وجده بدر الدين خمردكين كان عتيق الأمير مجاهد الدين بزان صاحب صرخد وكانت وفاة مظفر الدين المذكور في ثاني عشر ربيع الأول بقلعة صهيون ودفن بها عند والده وقد نيف على تسعين سنة رحمه الله وولى بعده الأمير سيف الدين محمد مكانه.(2/129)
علي بن محمد بن غازي بن يوسف بن أيوب بن شاذى الملك الظاهر سيف الدين كان جميل الأوصاف حسن الصورة كريم الأخلاق شجاعاً جواداً ممدحاً وهو شقيق الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله أمهما أم ولد تركية وكان الملك الناصر يحبه محبة شديدة ولما كان في أواخر سنة سبع وخمسين أعطاه الملك الناصر أماكن من جملتها الصلت وقلعتها واتفق أن جماعة من الناصرية والعزيزية مالوا إليه وأرادوا تمليكه والقبض على الملك الناصر فأوجب ذلك وحشة اقتضت أن الملك الظاهر فارق الملك الناصر في أوائل سنة ثمان وخمسين وتوجه بحريمه إلى قلعة الصلت تركهم بها وقصد غزة فاجتمع على طاعته الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري بمن معه من البحرية وجماعة من الناصرية والعزيزية والشهرزورية وسلطنوه عليهم ثم لما بلغهم أن التتر قد دهموا البلاد وملكوا قلعة حلب اتفق هو والأمير ركن الدين أن يرسلا إلى الملك المظفر قطز رحمه الله ويقررا معه الاتفاق معهما ليكون عضداً لهما فأرسلا رسولين أما رسول الأمير ركن الدين فكان الأمير علاء الدين طيبرس الوزيري وحمله رسالة باطنة مضمونها أن يستوثقوا له من الملك المظفر ليقدم عليه وظاهرها ما اتفقا عليه فلما وصلا إلى الملك المظفر أجاب الملك الظاهر سيف الدين بأنه عضده وأن ألجأته ضرورة إلى دخول الديار المصرية وآواه وأحسن إليه وأجاب الأمير ركن الدين إلى ما طلب وحلف له فعند ما عاد بالجواب توجه الأمير ركن الدين(2/130)
إلى الديار المصرية وقدم في أثر ذلك الملك الناصر إلى غزة فانضاف إليه أخوه الملك الظاهر ومن معه فصفح عنهم وصاروا في خدمته وتوجه الملك الظاهر مع أخيه الملك الناصر إلى قطيا وعاد معه ولولا اتسامه بالسلطنة تلك الأيام لدخل الديار المصرية لكنه خاف أن يتخيل منه الملك المظفر فيقبضه ولما توجه الملك الناصر إلى هولاكو كان معه فلما قتل قتل معه أيضاً وكان قتله في أوائل هذه السنة أو في أواخر سنة ثمان وخمسين وخلف الملك الظاهر ولداً ذكراَ اسمه زبالة كان مفرط الجمال وأمه تعرف بوجه القمر كانت من حظايا الملك الناصر فوهبها لأخيه الملك الظاهر فلما قتل تزوجها الأمير جمال الدين ايدغدي العزيزي فلما مات عنها تزوجها الأمير بدر الدين بيسرى الشمسي ثم درج الولد زبالة المذكور رحمه الله تعالى بالديار المصرية.
علي بن يوسف بن أبي المكارم بن أبي عبد الله بن عبد الجليل أبو الحسن نور الدين الأنصاري المصري العطار كان شاعراً فاضلاً وتوفي في هذه السنة ولم يبلغ الأربعين سنة من العمر، ومن شعره لغزاً في كوز الزير:
وذي أذن بلا سمع ... له قلب بلا لب
مدى الأيام في خفض ... وفي رفع وفي نصب
إذا استولى على الحب ... فقل ما شئث في الحب
محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن سيد الناس أبو بكر(2/131)
اليعمري الأندلسي مولده في صفر سنة سبع وتسعين وخمسمائة، سمع الكثير وحصل جملة من الكتب وحدث وصنف وجمع وكان أحد حفاظ المحدثين المشهورين وفضلائهم المذكورين وبه ختم هذا الشأن بالمغرب، وكانت وفاته في الرابع والعشرين من شهر رجب بمدينة تونس رحمه الله.
محمد بن صالح بن محمد بن حمزة بن محمد بن علي أبو عبد الله التنوخي الفقيه الشافعي، لقي بدمشق عمر بن طبرزد وزيد بن الحسن الكندي وعبد الصمد الحرستاني وولي نظر ثغر الإسكندرية وجميع أمورها من الأحباس والمساجد والجوامع والمدارس وحدث بالثغر وكان ذا سيرة مرضية ومولده بمدينة المحلة من غربية مصر سنة ثمان وسبعين وخمسمائة قال أبو المظفر منصور بن سليم أنشدنا القاضي أبو عبد الله محمد بن صالح لنفسه بمنزله بالثغر:
سلام على ذاك المقر فإنه ... مقر نعيمي وهو روحي وراحتي
فإن تسمح الأيام مني بنظرة ... إليه فقد أوتيت مأمول منيتي
قال وأنشدنا أيضاً لنفسه مكاتبة:
لو بقدر الحنين أرسل كتبي ... كنت أفنى الأوراق والأنفاسا
غير أني أرجو اللقاء قريباً ... في سرور ويبتدى الأعراسا
قال أنشدنا لنفسه في ولايته الثالثة بالثغر:
أصبحت من أسعد البرايا ... في نعم الله بالقناعه(2/132)
مع بلغة من كفاف عيش ... وخدمة العلم كل ساعه
طلقت دنياهم ثلاثاً ... بلا رجوع ولا شناعه
وارتجى من ثواب ربى ... حشري مع صاحب الشفاعه
قال وأنشدنا لنفسه:
أقول لمن يلوم على انقطاعي ... وإيثاري ملازمة الزوايا
أأطمع أن تجدد لي حياة ... وقد جاوزت معترك المنايا
توفي القاضي تاج الدين أبو عبد الله محمد بالثغر في ليلة الأحد خامس صفر سنة تسع وخمسين وستمائة ودفن في محرس سوار جوار الشيخ أبي العباس الرأس رحمهما الله تعالى.
محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن عيسى بن معتبر بن علي بن يوسف أبو عبد الله الإسكندري الفقيه المالكي العدل من أهل العلم والحديث كان صالحاً ثبتاً ثقة وكان ينظم، ومن شعره كتب بها في الإجازة:
أجزت لهم على المهيمن قدرهم ... وحلاهم ذكراً جميلاً معطرا
رواية ما أرويه شرقاً ومغرباً ... وما قلته نظماً ونثراً محبرا
على شرط أهل العلم والصنعة التي ... يكون بها معنى الإجازة مظهرا
وهذا جوابي ثم واسمي محمد ... عفا الله عنه ما مضى وتأخرا
أقول وعبد الله اسم لوالدي ... وإبراهيم جدي قد نصصت مخبرا
ويعرف بالمتيجى نسبة بلده ... وسطرت خطى بالقريض معبرا(2/133)
توفي أبو عبد الله المتيجي ليلة الاثنين الثامن والعشرين من جمادى الآخرة سنة تسع وخمسين وستمائة ودفن يوم الاثنين بجوار والده بمحروسة ثغر الإسكندرية رحمه الله.
محمد بن عبد الله بن موسى أبو عبد الله شرف الدين الحوراني المتاني الشيخ الفاضل العارف الزاهد كان له رياضات وخلوات وانقطاع ومعرفة جيدة بفنون متعددة من العلوم وكانت وفاته في هذه السنة بمدينة حماة وعمره مقدار سبعين سنة رحمه الله، ومتان بضم الميم قرية من عمل حوران.
محمد بن عبد الملك بن درباس أبو حامد كمال الدين الضرير الماراني الشافعي العدل مولده في ثاني عشر ربيع الأول سنة ست وسبعين وخمسمائة سمع من القاسم بن علي الدمشقي والبوصيري وغيرهما ودرس بالمدرسة السيفية بالقاهرة مدة وكان من الفضلاء ووالده صدر الدين عبد الملك قاضي قضاة الديار المصرية في الأيام الصلاحية كان كبير القدر وافر العلم والفضل، توفي كمال الدين المذكور في خامس شوال بالقاهرة ودفن من يومه بسفح المقطم رحمه الله.
يوسف بن محمد بن غازي بن يوسف بن أيوب بن شاذى أبو المظفر السلطان الملك الناصر صلاح الدين ومولده في يوم الأربعاء تاسع شهر(2/134)
رمضان المعظم سنة سبع وعشرين وستمائة بحلب بقلعتها ولما ولد زين البلد ولبس العسكر أحسن زي وأظهر من السرور والابتهاج بمولده ما جاوز الحد، وتوفي والده الملك العزيز غياث الدين أبي المعالي محمد بن الملك الظاهر في عنفوان شبابه وعمره ثلاث وعشرون سنة وشهور وكان قد توجه إلى جارم للتنزه وكان له بها جوسق تحته نهر وإلى جانبه بستان فنزل به ثم حضر الحلقة لرمي البندق واغتسل بماء بارد فحم ودخل حلب وهو موعوك ودامت به الحمى وقوي مرضه فاستحلف الناس لولده الملك الناصر وأرسل كمال الدين ابن العديم إلى أخيه الملك الصالح صلاح الدين أحمد بن الملك الظاهر صاحب عين تاب فاستحلفه لابنه بعد نفسه، وكان الملك العزيز عادلاً رقيق القلب رحوماً مشفقاً على رعيته متودداً إليهم مائلاً إلى أهل الخير محباً لأهل العلم والفضل وخلف من الولد الملك الناصر المذكور والملك الظاهر علي وقد تقدم ذكره وأمهما أم ولد تركية وشقيقتهما تزوجها الملك الأمجد مجد الدين الحسن ابن الملك الناصر داود رحمه الله فمات عنها بعد أن أولدها الأمير صلاح الدين محمود ثم ماتت وخلف ابنتين غيرها إحداهما عائشة خاتون وأمها فاطمة خاتون بنت الملك الكامل تزوجها الملك المنصور صاحب حماة وأولدها الملك المظفر تقي الدين محمود والأخرى غازية خاتون أمها أم ولد فقد عقدها بحلب على السلطان غياث الدين كيخسرو بن كيقباذ ملك الروم فمات ولم تحمل إليه ثم تزوجها الملك السعيد فتح الدين(2/135)
عبد الملك بن الملك الصالح عماد الدين إسماعيل فماتت عنده، وكان الملك العزيز عالي الهمة كريم الأخلاق واسع الصدر كثير الصفح والتجاوز حازم الرأي جواداً ممدحاً مدحه جماعة من الشعراء فكان يجيزهم الجوائز السنية ولما أخذ شيزر في سنة ثلاثين وستمائة من الأمير شهاب الدين يوسف بن عز الدين مسعود بن سابق الدين عثمان بن الداية قال شهاب الدين يحيى بن خالد بن القيسراني يهنئه:
يا مالكاً عم أهل الأرض نائله ... وخص إحسانه الداني مع القاصي
لما رأت شيزر رايات نصرك في ... أرجائها ألقت العاصي إلى العاصي
فأعطاه حملة عظيمة وكان عمر الملك الناصر لما أفضى إليه الملك بعد وفاة والده نحو سبع سنين وقام بتدبير مملكته الأمير شمس الدين لؤلؤ الأميني والأمير عز الدين عمر بن مجلى ووزير الدولة جمال الدين القفطي ويحضر معهم جمال الدولة إقبال الخاتوني في المشورة فإذا اتفق رأيهم على شيء دخل جمال الدولة إلى الصاحبة ضيفة خاتون بنت الملك العادل والدة الملك العزيز وعرفها ما اتفق الجماعة عليه فكانت الأمور منوطة بها، ولما تقررت هذه القواعد توجه القاضي زين الدين ابن الأستاذ وبدر الدين بدر بن أبي الهيجاء رسولين إلى الملك الكامل واستصحبا معهما كزاغند الملك العزيز وزرديته وخوذته ومركوبه فلما وصلا إلى الديار المصرية واجتمعا بالملك الكامل وأديا الرسالة وأحضرا(2/136)
ما معهما أظهر الألم والحزن وقصر في إكرامهما وعطائهما وحلف للملك الناصر على الوجه الذي اقترح عليه وخاطب الرسولين بما يشير به من تقدمة الملك الصالح أحمد بن الملك الظاهر على العسكر وإن يقوم بتربية ابن أخيه الملك الناصر فلما رجع الرسولان إلى حلب وأنهيا إلى الصاحبة ذلك لم تره صوابا، وكذلك الجماعة القائمون بترتيب الدولة ثم بعد مدة يسيرة سير الملك الكامل خلعة للملك الناصر بغير مركوب وسير عدة خلع لأمراء الدولة وسير مع رسول آخر خلعة للملك الصالح أحمد صاحب عين تاب على أن يمضي بالخلعة إليه فاستشعرت الصاحبة وأرباب الدولة من ذلك وحصل عند الصاحبة وحشة من أخيها الملك الكامل بسبب ذلك فاتفق رأي الجماعة على أن يلبس الملك الناصر خلعة الملك الكامل ولم يخلع على أحد من الأمراء شيء مما سير إليهم ورد الرسول الوارد إلى الملك الصالح بخلعته ولم يمكنوه من الوصول إليه واستحكمت الوحشة في قلوبهم من الملك الكامل وفي سنة أربعين توفيت الصاحبة ضيفة خاتون بنت الملك العادل صاحبة حلب أم الملك العزيز فاستقل ابن ابنها الملك الناصر بالسلطنة وأشهد على نفسه بالبلوغ وله نحو ثلاث عشرة سنة وأمر ونهى وقطع ووصل وجلس في دار العدل والإشارة للأمير شمس الدين لؤلؤ ولجمال الدولة إقبال الخاتوني والوزير القاضي الأكرم جمال الدين القفطي، وفي سنة ست وأربعين خرجت عساكر حلب مع الأمير شمس الدين لؤلؤ إلى حمص فنازلوها ونصبوا عليها المجانيق(2/137)
وضايقوها شهرين ورسل الملك الأشرف صاحبها ووزيره مخلص الدين ابن قرناص تتردد إلى الأمير فخر الدين بن الشيح وهو بدمشق وإلى الملك الصالح نجم الدين وهو بالديار المصرية يطلب النجدة وكان الملك الصالح بأشمون طناج وقد عرض له ورم في مأبضه ثم فتح وحصل له منه ناصور تعسر بربوه وحصل في رئته بعد ذلك قرحة تيقن الأطباء أنه لا خلاص له منها لكنه لم يشعر بذلك فأشغله ما به عن أنجاد صاحب حمص ولما ضاق الأمر بصاحب حمص راسل الأمير شمس الدين لؤلؤ وطلب منه العوض فعوضه عن حمص تل باشر مضافاً إلى ما بيده من الرحبة وتدمر وتسلم حمص منه واطلع الأمير شمس الدين في أثناء ذلك على كتاب لمخلص الدين إلى الأمير فخر الدين ابن الشيخ يستعجله ليقدم ويدفع عسكر حلب وقد بسط القول في الكتاب فغضب الأمير شمس الدين وحمل الملك الأشرف على القبض على مخلص الدين فقبض عليه وعذبه حتى مات بتل باشر وتسلم الملك الأشرف تل باشر ولما بلغ ذلك الملك الصالح نجم الدين عظم عليه جداً وتوجه إلى دمشق في محفة لما به من المرض وتقدم إلى الأمير فخر الدين بالمسير بالعساكر إلى حمص لانتزاعها من يد نواب الملك الناصر فسارت العساكر ونازلوها وضايقوها ونصبوا عليها المجانيق ومنها منجنيق مغربي حجره مائة وأربعون رطلاً بالشامي(2/138)
وجدوا في حصارها لأن الزمان كان شتاء وخرج الملك الناصر من حلب في منتصف رمضان فنزل بأرض كفر طاب ولم يزل الحصار مستمراً إلى أن ورد الشيخ نجم الدين الباذراني للإصلاح بين الملك الصالح نجم الدين والملك الناصر صاحب حلب على أن يقر حمص بيد الملك الناصر فوقع الاتفاق على ذلك ورحلوا عنها وكان سبب انتزاع الملك الناصر حمص من الملك الأشرف أنه سلم قلعة شميميس في سنة خمس وأربعين إلى الملك الصالح نجم الدين بسفارة مخلص الدين فعظم ذلك على الملك الناصر والأمير شمس الدين لؤلؤ وكرها مجاورة الملك الصالح لحلب وما والاها وخشياً أن تسلم إليه حمص ولهذا انتصر الملك الصالح للملك الأشرف وجهز العساكر لنجدته لكن فات الأمر فأمرهم
بمحاصرة حمص وانتزاعها فجرى الأمر على ما ذكرنا. صرة حمص وانتزاعها فجرى الأمر على ما ذكرنا.
وفي يوم الاثنين لعشر مضين من ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين تسلم الملك الناصر صلاح الدين يوسف دمشق صفواً عفواً بغير ممانعة ولا قتال ثم تسلم سائر الأعمال والقلاع المضافة إليها بعد ذلك.
وفي سنة اثنتين وخمسين قدمت ابنة السلطان علاء الدين كيقباذ ابن كيخسرو إلى دمشق وفي خدمتها الشريف عز الدين المرتضى وهي التي عقد عليها عقد الملك الناصر في بلاد الروم وكانت في تجمل عظيم يقصر عنه الوصف وأمها ابنة الملك العادل سيف الدين أبي بكر محمد(2/139)
ابن أيوب، وفي سنة ثلاث وخمسين أولدها الملك الناصر ولده علاء الدين.
ذكر سيرة الملك الناصر
رحمه الله
كان ملكاً جليلاً جواداً كريماً كثير المعروف غزير الإحسان حليماً صفوحاً حسن الأخلاق كامل الأوصاف جميل العشرة طيب المحادثة والمفاكهة قريباً من الرعية يؤثر العدل ويكره الظلم وزاد ملكه على ملك أبيه وجده فإنه ملك بلاد الجزيرة كحران والرها والرقة ورأس عين وما معها من البلاد وملك حمص كما ذكرنا ثم ملك الشام كما ذكرنا بعد قتل الملك المعظم فملك دمشق وبعلبك والأغوار والسواحل والمعاقل والحصون إلى غزة وصفا له الشام والبلاد الشرقية وأطاعه صاحب الموصل وصاحب ماردين وعظم شأنه جداً، ثم دخل بعساكره إلى الديار المصرية سنة ثمان وأربعين وكسر عساكرها وخطب له بمصر وقلعة الجبل وكان يملك الإقليم ويستولي على الممالك الصلاحية كلها لولا ما قدره الله من ظهور طائفة من عسكر مصر وانهزامه إلى الشام ومقتل مدبر دولته الأمير شمس الدين لؤلؤ وقد أشرنا إلى ذلك في ترجمة الملك المعز عز الدين أيبك التركماني رحمه الله فيما تقدم، وأقام الملك الناصر بدمشق عشر سنين حاكماً على الشام والشرق إلى أن قدر الله تعالى ما قدر من استيلاء التتر على البلاد وذهابه إليهم ومقتله رحمه الله ولم يكن لأحد من الملوك قبله مثل ما كان له من التجمل بكثرة الطعام وغيره فإنه كان يذبح فقي مطبخه كل يوم أربعمائة رأس من الغنم وأما غير ذلك من الدجاج وفراخ(2/140)
الحمام والخراف الرضع والأجدية فلا يحصى فكانت تنزل فضلات السماط ويبيعها الفراشون والطباخون وأرباب النوالات والجرايات عند باب قلعة دمشق بأبخس الأثمان فكانت تعم أهل دمشق وكان أكثر الناس بدمشق يغنيهم ما يشترونه منها عن الطبخ في بيوتهم، وقال علاء الدين علي بن نصر الله جاء السلطان الملك الناصر رحمه الله إلى داري بغتة ومعه جماعة كثيرة من أصحابه فمددت له في الوقت سماطاً فيه من الأطعمة الفاخرة ومن أنواع الدجاج المحشو بالسكر والمقلوبات شيء كثير فبقي متعجباً وقال في أي وقت تهيأ لك عمل هذا كله فقلت والله هذا كله من نعمتك ومن سماطك ما صنعت لك شيئاً منه؟ وإنما اشتريته من عند باب القلعة وحكيت له ما يباع من ذلك، ومثل هذا لم يتفق لملك قبله وكان يصل إلى الرسل والوافدين إليه والقاصدين بابه من إحسانه وعطاياه وبره ما لم يصل من أحد من الملوك إلى من يقصدهم.
وحكى لي بهاء الدين عبد الله بن محبوب رحمه الله وكان متولياً نظر الحوائج خاناة التي له بدمشق أن نفقة مطابخه وما يتعلق بها في كل يوم فوق عشرين ألف درهم، وكان الملك الناصر رحمه الله حليماً إلى الغاية عظيم العفو عن الزلات لا يرى المؤاخذة والانتقام بل سجيته الصفح والتجاوز تجاوز الله عنه وعفا عن سيآته، اعترضه شخص يوماً بورقة فأمر بأخذها منه وقرأها فوجد فيها الوقيعة فيه وذمه فقال لبعض غلمانه(2/141)
قل له يخرج من دمشق إلى حيث شاء فأنا ما أوذيه ولا أقابله على فعله، وتقرب إليه جماعة من الأدباء والفضلاء فكان يحاضرهم أحسن محاضرة وكان على ذهنه شيء كثير من الأدب وأشعار العرب وغيرهم من المتأخرين، وينظم نظماً حسناً وله نوادر حلوة وأجوبة مسكتة ولما بنى الشيخ نجم الدين الباذراني رحمه الله مدرسته بدمشق وذكر فيها الدرس بنفسه حضر الملك الناصر رحمه الله والأكابر من الأمراء والفقهاء وغيرهم وجرت المناظرة بين الفقهاء، وكان ممن حضر تاج الدين الإسكندري المعروف بالشحرور وكان كثير الصياح قليل الفوائد فصاح في ذلك اليوم صياحاً كثيراً والفقهاء معرضون عن جوابه فقال مالي نوبة وكرر ذلك مراراً فأشار الملك الناصر بأصابعه الثلاث يعني نوبة حمى ربع وهي المعروفة عند العوام بالمثلثة، وكان رحمه الله حسن المباسطة مع جلسائه وكان في خدمته جماعة كثيرة من الفضلاء والعلماء والأدباء والشعراء وغيرهم ولهم عليه الرواتب السنية وكان حسن العقيدة والظن بالصالحين يكرمهم ويبرهم ويجري عليهم الرواتب ولما توجه والدي رحمه الله إلى دمشق سنة خمس وخمسين قصد زيارته إلى جبل الصالحية بزاوية الشيخ علي القرشي رحمه الله ولما دخل عليه بالغ في التأدب معه وحسن الاستماع لحديثه ولم يستند إلى الحائط في جلوسه، ثم لما عزم والدي رحمه الله على العود إلى بعلبك جهز له محفة وعدة بغال وجماعة من المحفدارية وغيرهم فركب بها إلى بعلبك وأجرى للناس من(2/142)
الفقراء والعلماء وأرباب البيوت من الرواتب ما يجل مقداره ويعظم مبلغه هذا أنشأه هو خارجاً عما استمر به مما أطلقه الملوك قبله وكان إذا مات من له من ذلك شيء لا يخرج به عن ولده ومن مات من أرباب المناصب وله ولد فإن كان كافياً رتبه عوض أبيه وإن كان صغيراً استناب عنه إلى حيث يتأهل للمباشرة، وكان الصاحب شرف الدين عبد العزيز بن محمد الأنصاري رحمه الله يتردد إلى دمشق في مهمات مخدومه الملك المنصور صاحب حماة وكان الملك الناصر يكرمه ويعظمه جداً وكان يقيم في خدمته المدة الطويلة، وبره الكثير واصل إليه ويحضر عنده في غالب الأوقات ويحاضره ويقع بينهما في حال الغيبة مكاتبات كثيرة وللشيخ شرف الدين فيه مدائح نادرة وكان سافر في خدمته إلى مصر سنة ثمان وأربعين وكتب إليه الملك الناصر رحمه الله مرة كتاباً بخط نظام الدين بن المولى وكتب الملك الناصر بخطه بين أسطر الكتاب من شعره:
إن طال ليلك يا عبد العزيز لقد ... أسهرت في وصفك الشبان والشيبا
وإن رميت لأجلي إن عرضك لم ... يعرض له دنس يوماً ولا شيبا
وصبر يوسف أدناه إلى شرف ... فاصبر ألست من الأنصار منسوبا
وأكرم به نسباً عز النبي به ... وصار في النيرات الزهر محسوبا
وكتب بخطه إلى وزيره مؤيد الدين القفطي رحمه الله.(2/143)
أيا راكباً يطوي الفلا بشملة ... عذافرة وجناء من نسل شدقم
إذا حلبا وافيتها حي أهلها ... وقل لهم مشتاقكم لم يهوم
ومن شعره رحمه الله:
الأهل يعيد الله وصل الحبائب ... فقد طال حزني من دموعي السواكب
كمجمر جرت في حلة الشوق من دمى ... وحرث دموعي الشهب مثل الجنائب
يروم اللواحي من سواي تصبراً ... وكم خاب مني من عدو وصاحب
قضى الصبر في توديع بعض ترائبي ... وأودع ناراً في سويدا ترائبي
جفا النوم عيني حين فاضت مدامعي ... وخاف هلاكاً في خلال السحائب
وكيف أرجى النوم بعد بعادكم ... وفي قلبي الأشواق من كل جانب
وقيل إنه إنما قتل بالسيف كما قتل من معه رحمهم الله تعالى وخلف عدة أولاد ذكوراً وإناثاً درج أكثرهم بعده إلى رحمة الله تعالى وتزوج الملك المظفر تقي الدين محمود صاحب حماة لإحدى بناته، وقيل كان قتله في الخامس والعشرين من شوال سنة ثمان وخمسين وستمائة وعمل عزاؤه في سادس وعشرين ربيع الأول سنة تسع وخمسين وستمائة بقلعة الجبل من الديار المصرية رحمه الله، ورثاه غير واحد من شعراء دولته وغيرهم فممن رثاه أمين الدين علي بن عثمان بن علي بن سليمان بن علي السليماني رحمه الله وسيأتي ذكره في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى فقال حين توجه الملك الناصر إلى التتار وانقطعت أخباره والتبس أمره:(2/144)
بكى الملأ الأعلى على الملك الأعلى ... وأصبحت الدنيا لفقدانه ثكلى
تولى صلاح الدين يوسف وانقضت ... محاسنه الحسنى وسيرته المثلى
وفارق ملك الشام والشرق عنوة ... فريداً كما جردت من غمده نصلا
فأضحى أسيراً في التتار مروعاً ... فبكوا عزيزاً لم يعرف الذلا
وإني لأرجو أن يكون كصارم ... يجرده قين ليحكمه صقلا
تناقضت الأخبار عنه لبعده ... فيا لحديث ما أمر وما أحلى
فيا ليت عيني عاينت كنه حاله ... لقد شفني حزني عليه وقد أبلى
أبكيه في الأسرى وأرجو خلاصه ... رجاء بعيد أو أرثيه في القتلى
ابن مخبراً يا يوسف بن محمد ... أحي ترجى أنت أم ميت تسلى
ووالله يسلوك قلب ابن حرة ... جعلت له من طولك الفرض والنفلا
علام ثنيت العزم عما قصدته ... ولم لا تبوأت السماوة والرملا
وكنت كطير طالب غير وكره ... فحيث يحل الليل من وجهه حلا
وداومت أكل الأيم والضب برهة ... وثورت في البر النعامة والصعلا
إلى أن يؤوب الحظ أو ينجلي لنا ... دجى الخطب أو أن تأمن الخوف والخبلا
وقد كان محض الرأي قبل عواملا ... ملا مشرعة عرصانها تسبق النبلا
ترى لهم عند اللقاء تسرعاً ... إلى الطعن صعباً عاينوا الأمرا وسهلا(2/145)
كما فعلت أبطال مصر وقيلها ... فيا طيب ما أبقى ويا حسن ما أبلى
غزوا في سبيل الله غزوة واحد ... فما قفلوا الأوقد دمروا الكلا
وجاؤا بهم قتلى وأسرى رؤوسهم ... على قصب المران تحسبها أثلا
وأول ما أرضي الإله ورسله ... وكان دليل النصر أن قتل الرسلا
فلو بادرت أقيالك الحرب مثلهم ... ظفرتم ولم يهتز عرش ولا ثلا
لحا الله قوماً أسلموك إلى العدى ... فما حفظوا عهداً ولا راقبوا إلا
جعلت إليهم أمر ملكك برهة ... فما أحسنوا قولاً ولا أحسنوا فعلا
وما عذر قوم خلفوك بقفرة ... ومروا كما نفرت عن محرم رجلا
وحاق بهم ما أضمروه وصادفوا ... على أثر ذاك النهب والسبي والقتلى
لقد أفسدوا آراءهم وحلومهم ... وأموالهم والأرض والحرث والنسلا
وما لعبيد فارقوك جهالة ... لقد واصلوا من بعدك الويل والخبلا
زوى ملك مصر عنهم وجه بره ... فخابوا ولا علا أصابوا ولا نهلا
وكم أهيف يبدي لنا الذل قده ... وقد كان قبل اليوم يبدي لنا الدلا
وكم وجنة صفراء بعد احمرارها ... وكم مقلة قرحاء عهدي بها كحلى
وكم راكب نعليه بعد مطهم ... من الجرد لا يرضى الهلال له نعلا
وعلمك بالستر العلائي أنها ... مروعة من يوم فارقتها ثكلى
تضم علاء الدين ضم غريبة ... زوى الدهر عنها الملك والآل والبعلا
فهل رقة أو رحمة لغريبة ... غدت بعد ملك الشام كافلة طفلا
فؤادي وطرفي منزلاك على النوى ... فغيرك لا يحلو لدي ولا يحلى
وها أنا قد أعرضت عن كل منعم ... فلا أحد أدعوه بعدك للجلى(2/146)
ضممت يميناً تعرف البذل دونه ... وما صنت محباقل ما عرف البذلا
قنعت فما لي حاجة غير ما دعت ... إليه ضروراتي ومن قنع استعلى
فما نازع النمل الرحال بقوة ... ذخيرته لكنهم نازعوا النملا
ولما بلغه أن التتار قتلوه رحمه الله وتحقق وفاته قال يرثيه:
رمت الخطوب فاقصدتك نبالها ... والأرض من بعدك زلزلت زلزالها
أأبا المظفر يوسف بن محمد ... لا قلت بعدك للحوادث يا لها
خذلتك أسرتك الذين ذخرتهم ... للنائبات وقد وقفت حيالها
ماذا تقول جحافل ملمومة ... ملأت سهول بلادها وجبالها
رهبت وما شهدت وغي فاستسلمت ... من قبل أن تضع الحروب سجالها
تركوك منفرداً بقطية ذاهلا ... تسفى عليك العاصفات رمالها
تبكيك ولولة الحريم حواسراً ... من كل معولة تضم عيالها
ومصونة في خدريها ما شاهدت ... قبل الرزية ما يروع بالها
برزت ولم تك برزة من قبلها ... كيما يشاهد ذو الحمية حالها
والقوم إرسالاً يوالي بعضهم ... بعضاً كسرب مهاً رات رئبا لها
حتى إذا دنت الجياد مغيرة ... ووقفت فرداً لا تطيق نزالها(2/147)
أقبلت وجه الأعوجى مغارة ... تردي الملحج راكباً أهوالها
ونزلتم بعد الكلال بقفرة ... عذراء يذعر جنها وغوالها
صرت جنادبها وهجر يومها ... واشتف حر هجيرها أو شالها
والخيل غائرة العيون من الظمأ ... صبراً يقل على الوجى أمثالها
فإذا وردت بها المياه نواضبا ... جثمت تشف بركتها صلصالها
وطئت سنابكها مواقد حره ... لولا الحميم إذاً لذاب نعالها
حتى إذا الكرك استبان منارها ... متأمل ورأى الغلام قلالها
وافيتها فرأيت أمر مليكها ... وقفاً كما سمت اليمين شمالها
في حيث يطرح المروع سيفه ... أمناً وتنبذ قينة خلخالها
حتى إذا ضاقت عليك برحبها ... ورأيت أبعد خطة أميالها
جنح الشقي إلى مسالمة العدى ... ليريك عاجل صرعة ووبالها
وطعمت في عود الممالك عامداً ... نحو التتار فكان ذاك زوالها
كيف الخلاص من المنية لامرئ ... من بعد ما نصبت عليه حبالها
عظم المصاب فلو رآها شامت ... لبكى لها أو حاسد لرثى لها
أأبا المظفر يوسف بن محمد ... جرعت نفسي صابها وحبالها
إن الملوك إذا تخاذل بعضها ... عن بعضها ففعالها أفعى لها
ذكرى مصيبات الملوك تعللاً ... إذ كان حالك في المصيبة حالها
إني لاجتنب المراثي طامعاً ... ببقاء نفسك بالغاً آمالها(2/148)
وقال السيف الشطرنجي يرثيه:
كل حي مصيره للفناء ... ثم لم يبق غير رب السماء
مالك قادر رؤوف رحيم ... باسط الرزق كافل بالعطاء
حامل للمقل كهف لذي الفا ... قة أرجوه عند يوم اللقاء
هو ربي وراحمي ومجيري ... ومعيني في بكرتي وعشائي
فالسعيد الذي يؤمل نعما ... هـ بحسن اليقين في الابتغاء
فانتهز فرصة التقى غير وانٍ ... لتكن في غدٍ من الأتقياء
ما الغنى السعيد والبائس المس ... كين حاليهما إذاً بسواء
من له الله فهو عبد منيب ... ومن احتال فهو في الأشقياء
إنما هذه الحياة غرور ... ومتاع الدنيا لنا كالهواء
بينما المرء راتع في رياض ... من شباب جار على الاستواء
غافل في نهاره وليال ... يه مجد في أخذه والعطاء
إذ أتاه داع من الموت يدعو ... هـ إلى حفرة من الغبراء
منها:
أين من كان للأنام جمال ... ومعيناً على بلوغ الرجاء
أين من كان جوده يخجل السحب وأين المرجو بالشهباء
أين كانت الملوك لديه ... تتوارى من خيفة وحياء
سلبته أيدي المنون فأمسى ... ثاوياً لا يعد في الأحياء
لم ترد الجيوش عنه قضاء ... لا وما قد أعد للأنكاء(2/149)
هتكت بعده وجوه نساء ... كن من قبل في حمى وخباء
واستبيحت دماؤهم في ديار ... جمعتهم في ساعة السراء
فلهم أسوة بآل رسول ال ... له في حال شدة ورخاء
كان والله مالكاً طاب أصلاً ... وهو فرع متوج بالبهاء
ناصر الحق مالك الأرض طراً ... جامع الفضل أوحد في الذكاء
هو مولى أدعوه بالملك النا ... صر ملك سما على الجوزاء
ما رأى الناس مثله في زمان ... نحن فيه فكيف لي بالبقاء
كان والله للمقلين كنزاً ... وجواداً يغني عن الأغنياء
ورؤوفاً بكل قاص ودان ... في دنو خال من الكبرياء
فعليه من الإله تعالى ... رحمة أنزلت على الأولياء
وله الحور في جنان أعدت ... لأولي العزم شاكر للعطاء
قد سقى يوسف الناس كأس صبر ... مرة لا تقر في الأحشاء
بفراق وبعد عهد وهجر ... وشتات خلا من الالتقاء
فهم في محل يعقوب في الحز ... ن وأجراء جمعهم بالبكاء
فسقى الله تربة هو فيها ... مزنة في صباحه والمساء
كي ترى تربها عبيراً سحيقاً ... طبن نشراً عن روضة غناء
لست أرجو من بعده اليوم خلقاً ... خاب سعي إذاً وقل رجائي
كدت من حرقة الفؤاد عليه ... أجري دمعاً من مقلتي كالدماء
فسقى عهده عهاد سحاب ... من رضا الحق لا من الأنداء(2/150)
السنة الستون وستمائة
دخلت هذه السنة والخليفة المستنصر بالله المتوجه إلى العراق وملوك الأطراف على القاعدة في السنة الخالية وقد استولى الملك الظاهر على دمشق وبعلبك والصبية وحلب وأعمالها خلا البيرة فإنها بيد البرلي مع ما كان مستولياً عليه وخلا الملك السعيد صاحب ماردين فإنه توفي وولي ولده الملك المظفر قرا أرسلان وخلا مظفر الدين صاحب صهيون فإنه توفي أيضاً وولي بعده ولده سيف الدين محمد والملك الظاهر على غيثاء من أعمال الشرقية عائداً من الشام ووصل يوم السبت ثاني المحرم وفي الثالث منه خلع على الأمراء ومقدمي الحلقة والصاحب بهاء الدين وقاضي القضاة تاج الدين وأكثر الحاشية وهو اليوم الذي كان فيه المصاف بين الخليفة رحمه الله والتتار على ما تقدم في حوادث السنة الخالية.
وفي الثالث والعشرين منه أعرس الأمير بدر الدين بيليك الخزندار على بنت بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل وأمر السلطان بعمل العرس في الميدان الأسود تحت القلعة واحتفل به احتفالاً لم ير مثله وبسط يده بعد أيام في الجيوش والإقطاعات والنظر في أمر الرعية.
وفي ثالث شهر صفر استدعى الملك الظاهر القاضي برهان الدين قاضي القضاة بمصر وأعمالها وطلب منه محاققة بأرباب الودائع المختصة بالصاحب شرف الدين الفائزي فتوقف عن ذلك فغضب الملك الظاهر(2/151)
لتوقفه وعزله عن القضاء وأضاف ما كان إليه منه إلى القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز.
ذكر عود البرلي إلى حلب وخروجه عنها
كان المشار إليه قد انهزم بين يدي الرشيدي وعبر الفرات إلى حران وشن الغارات على البلاد التي كانت في يد نواب التتر حتى وصل آمد، فلما عاد الرشيدي إلى مصر عاد البرلي إلى البيرة وبعث جماعة من أصحابه إلى حلب فلما اتصل بالبندقداري قربهم خرج من حلب وقصد حماة فأقام في بلدها ودخل البرلي حلب مظهراً طاعة الملك الظاهر وأقام بها إلى أن كتب إليه الملك الصالح صاحب الموصل يعلمه بنزول التتر عليه ويستنجده فكتب إلى الملك الظاهر يستأذنه في التوجه لنصرته فأجابه وأمره بالتربص بحران إلى أن يصل إليه عسكر من جهته ينجد به صاحب الموصل فلما وصل حران أقام بها ثم خاف من العسكر الواصل من مصر أن يقبض عليه فتوجه إلى سنجار وأما الملك الظاهر فتقدم إلى الأمير شمس الدين سنقر الرومي بالمسير إلى حلب ثم إلى الموصل وجهز معه عسكراً وكتب إلى الأمير علاء الدين طيبرس نائب السلطنة بدمشق وإلى الأمير علاء الدين البندقداري يأمرهما أن يكونا معه بعسكرهما إذا وصل إليهما حيث توجه فلما وصلت العساكر تل السلطان واتصل بهم توجه البرلي إلى سنجار بعثوا إلى حلب من تسلمها نيابة عن(2/152)
البندقداري ثم عادت العساكر إلى أنطاكية فنزلوا عليها وشنوا الغارات على نواحيها فداراهم بها بإقامة وضيافة وسألوهم أن يرحلوا عنهم وإن يحملوا إليهم ما لا مصانعة فوقع الخلف في تقرير المال بين الأمير علاء الدين طيبرس والأمير شمس الدين سنقر فرحلا بالعسكر ونزلا على تل السلطان فأتاهم أمر السلطان أن يتوجه البندقداري إلى حلب ويعود طيبرس إلى دمشق وسنقر الرومي إلى مصر فعاد الرومي في شهر رمضان فلما اجتمع بالسلطان أوغر صدره على طيبرس فكان ذلك أحد الأسباب في عزله وحبسه بقلعة القاهرة وكان ما قيل عنه اختلاق لا أصل له، وفي السابع والعشرين من ربيع الآخر وصل إلى القاهرة الإمام الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد بن الأمير أبي علي القبني ابن الأمير علي بن الأمير أبي بكر بن الإمام المسترشد بن المستظهر بالله أبي العباس أحمد وصحبته زين الدين صالح بن محمد بن أبي الرشيد الأسدي الحاكمي المعروف بابن البناء وأخوه شمس الدين محمد بن نجم الدين محمد بن المشاء واحتفل الملك الظاهر بلقائه وأنزل بالبرج الكبير داخل القلعة ورتب له ما تدعو حاجته إليه ووصل معه ولده.
وفي ربيع الآخر عزل الأمير جمال الدين آقوش النجيبي عن أستاذ دارية الملك الظاهر وولي الأمير عز الدين أيدمر السعدي أحد مماليك الملك الظاهر.(2/153)
وفي يوم الثلاثاء تاسع شهر رجب حضر الملك الظاهر في محاكمة إلى قاضي القضاة تاج الدين بدار العدل وسبب ذلك أنه كان في أيام الملك المعز حفر بئراً عند زاوية الشيخ أبي السعود وبنى بعضها ثم خرج إلى الشام فاستولى عليها جمال الدين محمود أستاذ دار بهادر وأتمها وبنى حوضاً يأتي إليه الماء من البئر واتفق موت بعض مماليك الملك الظاهر فدفنه قريباً من الزاوية وذكر أمر البئر فأخبر بقصتها فاستدعى جمال الدين المذكور وقال له البئر ملكي وأنا أنشأتها فقال يا خونداني أتممتها وبنيت إلى جانبها حوضاً ووقفتهما ولا يمكنني أفعل إلا ما يقتضيه الشرع فحضر الملك الظاهر دار العدل لمحاكمة المذكور فقام من فيها وأراد القاضي القيام فقال له لا تقم فإني جئت محاكماً ووقف مع الغريم وادعى بالبئر فأنكر الغريم وأحضر الملك الظاهر من شهد له فتقدم القاضي إلى الغريم بتسليم البئر إليه.
وفي شهر رجب خرج جماعة من الإسماعيلية على الأمير علاء الدين أيدكين البندقداري وهو راكب على جسر العاصي نهر حماة وجرحوه وسبب ذلك أنه لما خرج من حلب عند مجيء البرلي إليها مر على سرمين وكان بها وال من قبل الدعوة يدعى شرف الدين ثابت بن مدس فأخرج له ضيافة على يد نقيب الدعوة فلما حضر بين يديه قال له أين سكينك؟ قال سكاكيننا مخبأة لأعداء السلطان الملك الظاهر فأمر بضربه فضرب ضرباً مبرحاً وأمر به فرمى في مسيل ماء(2/154)
فجاء أهله وأخذوه فمات من ليلته فاجتمع أقاربه وقصدوا الحصون وطلبوا من الرضا ثأرهم فدافعهم وقالوا إن لم تأخذ بثأرنا دخلنا بلاد الفرنج وتنصرنا، فسير في وثب عليه فقبض على جماعة منهم فقتلهم وحبس جماعة وأخذ أموالهم، ووصل الخبر إلى الملك الظاهر فقبض على من بمصر من نوابهم ورتب له طبردارية يركبون بين يديه فوصلت إليه كتب الرضا يستعطفه ويتضرع إليه ويتنصل فرضي عنه.
وفي شوال رتب الأمير علاء الدين أيدكين الشهابي نائباً عن السلطنة بحلب، وفيها أغار عسكر سيس ورجالة إنطاكية على الفوعة من بلد حلب ونهبوا وأفسدوا فركب إليهم الشهابي وصحبته عسكر فكسرهم وأخذ منهم جماعة فسيرهم إلى مصر فوسطوا.
وفي شوال سير الملك الظاهر الأمير عز الدين الدمياطي والأمير علي الدين الركني فقبضا على الأمير علاء الدين طيبرس الوزيري وحمل إلى القاهرة وباشر الركنى النيابة بدمشق إلى أن قدم الأمير جمال الدين النجيبي متولياً.
وفي ذي القعدة خرج مرسوم الملك الظاهر إلى قاضي القضاة تاج الدين أن يستنيب من المذاهب الثلاثة فاستناب صدر الدين سليمان الحنفي والشيخ شمس الدين محمد بن الشيخ العماد الحنبلي وشرف الدين عمر السبكي المالكي.(2/155)
وفي يوم الخميس رابع وعشرين ذي الحجة وصلت طائفة من التتر إلى القاهرة مستأمنين وهم أول من وصل إليه منه فغير زيهم وأقطعهم أخبازاً وأنفق فيهم وأضاف كل جماعة منهم إلى مقدم ثم تواتروا بعد ذلك طائفة بعد أخرى.
ذكر ما آل إليه أمر أولاد صاحب الموصل
بعد فراقهم المستنصر بالله
لما فارقوه وصلوا سنجار وكاتب الملك الصالح لمن بالموصل يستشيرهم فأشاروا إليه بالتوجه إليهم فسار إليهم في العشرين من ذي الحجة من السنة الخالية ومعه نحو ثلاثة مائة فارس وكان بالموصل أربعمائة فارس فدخل الموصل وبقي اخوته بسنجار، فلما اتصل بهم قتل الخليفة ونزول التتر على الموصل لحصار أخيهم الملك الصالح خرجوا من سنجار وتوجهوا إلى الملك الظاهر فأحسن إليهم واقطع الملك المجاهد سيف الدين إسحاق فوق المائة ألف درهم لخاصته ولأولاده كل منهم على انفراده إقطاعاً جزيلة ورتب لأخواته الثلاث راتباً وأقطع لمماليكه الذين معه أيضاً وأضافهم إليه وكذلك اعتمد مع أخيه الملك المظفر علاء الدين لخاصته ومماليكه أيضاً.
ذكر حصار الموصل
في أوائل المحرم قصدت التتر الموصل ومقدمهم صندغون ومعهم(2/156)
الملك المظفر صاحب ماردين بعسكره وشمس الدين ابن يونس المشذ وسيف الدين بيبرس أمير شكار البدري ونصب عليها التتر أربعة وعشرين منجنيقاً وضايقوها أشد مضايقة ولم يكن بها سلاح يقاتلون به ولا قوت يمسك رمق من بها وغلا فيها السعر حتى بلغ المكوك بها ومقداره ربع أردب مصري أربعة وعشرين ديناراً فاستصرخ الملك الصالح بالبرلي فخرج من حلب وسار إلى سنجار فلما اتصل بالتتر وصوله عزموا على الهرب واتفق وصول الزين الحافظي إليهم من عند هولاكو يعرفهم أن الجماعة التي مع البرلي قليلة والمصلحة أن تلاقوهم فقوى عزمهم الحافظي قاتله الله فسار صندغون بطائفة ممن كان على حصار الموصل عدتها عشرة آلاف فارس وقصد سنجار وبها البرلي ومعه تسع مائة فارس غزى وأربعمائة من التركمان ومائة من العرب فخرج إليهم بعد أن تردد في ملتقاهم يوم الأحد رابع عشر جمادى الآخرة فكانت الكرة عليه فانهزم جريحاً في رجله وقتل ممن معه جماعة منهم الأمير علم الدين الوباش والأمير عز الدين أيبك السليماني من العزيزية والأمير بهاء الدين يوسف بن طرنطاي أمير جاندار الظاهري وسيف الدين كيكلدى الحلبي الناصري وعلم الدين سنجر الناصري وهؤلاء من أيعان الأمراء وشجعانهم وفرسانهم وقاتلوا في ذلك اليوم قتالاً عظيماً وأبلوا بلاء حسناً وأنكوا في العدو نكايات عظيمة ثم تكاثر التتر عليهم فاستشهدوا إلى رحمة الله تعالى واستشهد معهم من أولي البصائر جماعة يطول ذكرهم وأسر الأمير(2/157)
علم الدين جلم الأشرفي وولده والأمير سيف الدين بكتوت الحراني الناصري وغيرهم ونجا الأمير شمس الدين البرلي في جماعة يسيرة من العزيزية والناصرية منهم الأمير بدر الدين أزدمر الدوادار العزيزي وعلاء الدين آق سنقر الدوادار الناصري فوصلوا إلى البيرة ففارقه أكثرهم ودخلوا الديار المصرية ولما حل بالبيرة وصله قونو بن خاله وزين الدين قراجا الجمدار الناصري وكان أخذ أسيراً من حلب رسلاً من هولاكو يطلبونه إليه ليقطعه البلاد فقال أنا مملوك السلطان الملك الظاهر وما يمكنني مفارقته واختيار هولاكو عليه ثم سير الكتب إلى الملك الظاهر وكتب يطلب منه أماناً فسير إليه كتاباً بما سأل ويأمره فيه بالمصير إلى مصر فتوجه من البيرة في تاسع عشر شهر رمضان واجتمع بالبندقداري بعد توثق كلاهما بالأمان ثم وردت كتب الملك الظاهر إلى جميع نواب الشام أن يخلوا البلاد وينضموا إلى دمشق ودخل البرلي مصر يوم الاثنين غرة ذي الحجة فأنعم عليه الملك الظاهر وعين له سبعين فارساً.
ذكر استيلاء التتر على الموصل
وقتل الملك الصالح صاحبها
لما انهزم البرلي من التتر عاد صيدغون إلى الموصل بالأسرى فأدخلهم من النقوب إلى الملك الصالح ليعرفوه بكسرة البرلي وانهزامه(2/158)
ويشيروا عليه بالدخول في الطاعة ثم استمر الحصار إلى مستهل شعبان فطلبوا علاء الملك بن الملك الصالح وأوهموا أنه وصل إليهم كتاب هولاكو مضمونه أن علاء الملك ما له عندنا ذنب وقد وهبناه ذنب أبيه فسيره إلينا لنصلح أمرك معه وكان الملك الصالح قد ضعف وغلبت المماليك على رأيه فأخرج إليهم علاء الملك ولده فلما وصل بقي عندهم اثنى عشر يوماً ووالده يظن أنهم سيروه إلى هولاكو ثم كاتبوه بعد أيام يأمرونه بتسليم البلاد وإن لم يفعل لا يلوم إلا نفسه إذا دخلنا البلد بالسيف وقتلنا من فيه فجمع الملك الصالح أهل البلد والجند وشاورهم فأشاروا إليه بالخروج فقال تقتلوا لا محالة وأقتل بعدكم فصمموا على خروجه فخرج إليهم يوم الجمعة خامس عشر شعبان بعد الصلاة وقد ودع الناس ولبس البياض فلما وصل إليهم احتاطوا به ووكلوا عليه وعلى من معه وحملوه إلى الجوسق وأمروا شمس الدين بن يونس الباعشيقي بالدخول إلى البلد فدخل ومعه الفرمان ونادى بالأمان فظهر الناس بعد اختفائهم وشرع التتر في خراب الأسوار فلما اطمأن الناس وباعوا واشتروا ودخلوا البلد وأجالوا البلد وأجالوا السيف على من فيه تسعة أيام وكان دخولهم في السادس والعشرين من شعبان وهدموا السور ووسطوا علاء الملك وعلق على باب الجسر ثم رحلوا في سلخ شوال فقتلوا الملك الصالح في طريقهم وهم متوجهون إلى بيوت هولاكو.
وفي شهر ذي الحجة ظهر باب بين القصرين عند الركن المخلق(2/159)
بالقرب من رحبة العيد بالقاهرة وفيه حجر مكتوب عليه هذا مسجد موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام فجددت عمارته وهو الآن يعرف بمعبد موسى صلى الله عليه وسلم.
ذكر رسل الملك الظاهر إلى السلطان عز الدين
صاحب الروم
لما بلغ الملك الظاهر خلف السلطان عز الدين لأخيه السلطان ركن الدين وخروجه عن بلاده وانحيازه إلى أنطاكية بعث إليه عماد الدين عبد الرحيم الهاشمي والأمير شرف الدين الجاكي فوافياه بإنطاكية فأنهيا إليه رسالة الملك الظاهر ومضمونها تثبيت جنانه وترغيبه في انحيازه إليه ليعاضده ويساعده بخيله ورجله ويبذل نفسه لقصد البلاد الرومية حتى يتسخلصها كلها له فاعتذر بأعذار ظهر فيها التلوم والتوقف والتأني والتأفف ووعدانه متى لم يستتب له حال وضايقته التتر لم يكن له إلا حرم السلطان ملجأ ففارقاه على ذلك وعادا ثم اختل حاله وتلاشت أموره بمضايقة التتر بلاده وذلك أنه لما خرج عنها وقصد أنطاكية قصد التتر نائبه الأمير شمس الدين أرتاش البكلربكي مع مقدمهم على جق نوين فهزموا عسكره وقتلوه واستولوا على ما كان بيده من البلاد خلا بلاد أوج فلم ير السلطان عز الدين بداً من قصد الأشكرى فلما وصل إليه(2/160)
سأله المساعدة فوعده وسوفه فتقاضاه فقال مبعداً له أن تنصرت أزوجتك ابنة أختي وساعدتك على عدوك فهم أن يفعل ذلك ليبلغ غرضه من نصرته على أخيه فأشار عليه من معه أن لا تفعل فإنه متى فعل ذلك نفرت قلوب من معه من الجند وخذلوه فأمسك وتغير باطن الأشكري عليه فبعث إليه مخادعاً له أنه قد ظهر لي رأي في معونتك ولا بد من الاجتماع بك فخرج من قسطنطينية فمر في طريقه على قلعة فنزل جانبيها منها وقبض عليه بوصية تقدمت من الأشكري فلم يزل محبوساً إلى أن أغارت طائفة من أصحاب بركة على أطراف بلاد الأشكري وحاصروا القلقة التي فيها السلطان عز الدين فوقع الاتفاق بينهم على أنهم إن سلموه لهم يرحلوا عنها فسلموه إليهم فانطلقوا به إلى بركة.
ذكر الخلف الواقع بين هولاكو وبركة
قال عز الدين محمد بن شداد رحمه الله حكى لي علاء الدين علي بن عبد الله البغدادي قال أخذت أسيراً من بغداد لما أخذتها التتر وكنت معهم مختلطاً بهم مطلعاً على أخبارهم فلما كانت سنة ستين ورد من عند بركة رسولان أحدهما يدعى بلاغا والآخر ططر برسالة مضمونها ما جرت به العادة من حمل ما كان يحمل إلى بيت باتو مما يفتح من البلاد وكانت العادة أن جميع ما يحصل في البلاد التي يملكونها ويستولون عليها من نهر جيحون مغرباً يقسم خمسة أقسام قسمان لا لقان وهو الملك الأعظم وقسمان للعسكر وقسم لبيت باتو فلما مات باتو وجلس(2/161)
بركة على التخت بدلاً منه لم يوصل إليه هولاكو مما أخذه من العراق ولا من الشام شيئاً مما كان يوصله إلى باتو ولما بعث بركة رسله بعث معهم سحرة ليفسدوا سحرة هولاكو وكان عند هولاكو ساحر يسمى تكتا فأعطوه هدية أرسلها بركة إليه معهم فلما وصلت الرسل بعث إليهم هولاكو من يخدمهم وساحرة من الخطا يتسمى كمشتا لتطلعه على أحوالهم فتعرفت أحوالهم وأخبرته فقبض عليهم وحبسهم في قلعة تلاثم قتلهم بعد خمسة عشر يوماً وقتل ساحره تكتا معهم فلما بلغ بركة ذلك أظهر العداوة وبعث رسله إلى الملك الظاهر يحرضه على اجتماع الكلمة على قتاله وسيأتي إن شاء الله.
وفي هذه السنة بعث هولاكو إلى مقدم عسكر المغل بالروم يأمره بقتل من ارتاب منه من التركمان فقصد طائفة منهم وقتل منهم خلقاً كثيراً وكان هذا سبب انحياز بقيتهم إلى الشام.
وفيها اشتد الغلاء بالشام فأبيع الرطل اللحم بالدمشقي بستة دراهم وبسبعة دراهم والغرارة القمح بأربع مائة وخمسين درهماً والشعير بمائتي وخمسين درهماً والمكوك القمح بحماة وبحلب بأربعمائة درهم واللحم الرطل بالحلبي بثمانية دراهم ورطل الخبز بثلاثة دراهم ثم بلغ خمسة ثم اشتد الغلاء في جميع الأصناف ومات خلق كثير من الجوع بحلب وحماة وغيرهما.
وفيها في أولها وصل إلى الديار المصرية رسول يدعى جمال الدين(2/162)
حسن بن ثابت من جهة رضي الدين أبي المعالي ونجم الدين إسماعيل بن الشعراني المستوليين على حصون الإسماعيلية بالبلاد الشامية برسالة تتضمن طلب أملاك الدعوة في الديار المصرية والبلاد الشامية وطلب الإقطاعات المعروفة بهم وعلى يده هدية كجاري العادة وأحضر أيضاً السكين والثوب والأمان إلى بين يدي الملك الظاهر فأجابه إلى جميع مطلوبه وقال له قد ثبت عندي أنك من أكابر أمراء الجبل وقد بلغني أن رضي الدين قد مات وقد اخترت أن أجعلك نائباً عني في سائر حصون الدعوة وتكون في مقام الرضي فأجابه إلى ذلك وكتب له الملك الظاهر تقليداً فأخذه وعاد إلى الحصون فوجد رضي الدين مريضاً فكتم الحال إلى أن توفي الرضي في أواخر هذه السنة فأظهر التقليد وقرأه على أهله وأقاربه بحصن الكهف وعرف به ابن الشعراني فما أمكنه إلا موافقته فخالفه جمال الدين واتفق معه وفي العين قذى وسمع صارم الدين مبارك ولد رضي الدين بذلك فعصى عليهما في قلعة العليقة.
فصل
فيها درج إلى رحمة الله تعالى الإمام المستنصر بالله
أبو القاسم أحمد أمير المؤمنين ابن الإمام الظاهر بأمر الله أبي نصر محمد بن الناصر لدين الله أبي العباس أحمد وبقية نسبه إلى العباس بن(2/163)
عبد المطلب رضي الله عنه مذكور في ترجمة ابن أخيه المستعصم بالله رحمه الله في سنة ست وخمسين وستمائة فلا حاجة إلى إعادته.
وقد ذكرنا قدومه إلى الديار المصرية وثبوت نسبه ومبايعته وتجهيز الملك الظاهر له ووصلوه إلى العراق وملتقاه عسكر التتار وكسرهم لعسكره في حوادث السنة الخالية وإن كان المصاف الذي فقد فيه وقع في هذه السنة لكن ذكرته هناك لارتباط الحديث واتصاله وكان المستنصر بالله شجاعاً بطلاً مقداماً جواداً ممدحاً حسن الطريقة محمود السيرة قاتل يوم المصاف قتالاً شديداً وأبلى بلاء حسناً وفقد فلم يطلع له على خبر ولا ذكر أحد أنه رآه بعد المصاف وظاهر أمره والله أعلم أنه استشهد إلى رحمة الله تعالى في المصاف ولحق بربه على الوجه الحسن رحمه الله وكان المصاف في ثالث المحرم من هذه السنة وقد ذكرناه ومدة خلافته خمسة أشهر وعشرون يوماً لأنه بويع له في ثالث عشر رجب سنة تسع وخمسين.
إسماعيل بن لؤلؤ بن عبد الله الملك الصالح ركن الدين بن الملك الرحيم بدر الدين صاحب الموصل قد ذكرنا وفوده على الملك الظاهر وعوده صحبة الخليفة المستنصر بالله ومفاقته له وتوجه إلى بلاده ولما فرغ التتر من أمر الخليفة المستنصر بالله حصروه في هذه السنة بالموصل وضيقوا عليه إلى أن ظفروا به على ما تقدم شرحه فقتلوا ولده قبله بأيام ثم قتلوه في ذي القعدة وهم متوجهون إلى أردو هولاكو في طريقهم رحمه الله وكان ملكاً عادلاً لين الجانب لم يكن على طريقة والده في السفك(2/164)
والقطع وما كان يسلكه من ذلك ورزقه الله تعالى الشهادة على أيدي التتر.
بلبان بن عبد الله سيف الدين الزرد كاش كان من أعيان الأمراء بالشام وكان الأمير علاء الدين طيبرس الوزيري رحمه الله نائب السلطنة بالشام إذا غاب عن دمشق في بعض المهمات استنابه عنه في دار العدل ونيابة السلطنة لكبر قدره ولما يعلم من سداده وحسن طريقته وكان ديناً خيراً يحب العدل والصلاح وتوفي بدمشق في ثامن ذي الحجة رحمه الله.
الحسن بن محمد بن أحمد بن نجا الغنوي أبو محمد الضرير الأربلي المنشأ والملقب بالعز المشهور بعدم الدين والزندقة كان فاضلاً في العربية والنحو والأدب وعلوم الأوائل منقطعاً في منزله يتردد إليه من يشتغل عليه في تلك العلوم التي يعرفها فيتردد إليه جماعة من المسلمين وأرباب العقائد المفسودة واليهود والنصارى والسامرة وكان يصدر منه من الأقوال ما يشعر بانحلاله وفساد عقيدته ولم يكن يصلي ولا يفعل شيئاً من الفرائض فيما قيل عنه واشتهر وله مع ذلك حرمة وافرة عند كثير من الناس وإذا حضر إليه بعض الأكابر لا يعتني بهم ولا يوفيهم حقهم ويهينهم بالقول وفيما يعاملهم به وهم مع ذلك لا يرجعون عن التردد إليه وابتلى مع العمى بطلوعات وقروح في بدنه وكان قذرا زري الشكل قبيح المنظر لا يتوقى النجاسات لكنه كان ذكياً جيد الذهن(2/165)
حسن المحاضرة بالحكايات والنوادر والأشعار وعلى ذهنه من ذلك شيء كثير وله نظم جيد ولما ورد قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان رحمه الله إلى دمشق في أواخر السنة الخالية ذهب إليه للبلدية وللفضيلة فيم ينصفه وعامله بما كان يعامله في حال صغر سن القاضي شمس الدين وقبل ترقيه بالعلوم والفضائل التي بذ بها الأقران وتوليه المناصب الجليلة فأهمله القاضي شمس الدين بالكلية ولم يعد إليه لنفسه الأبية وشرفها وكانت وفاة العز الضرير في أواخر ربيع الآخر بدمشق ودفن بسفح قاسيون قال عماد الدين الخضر بن دبوقا رحمه الله أنشدني العز الضرير لنفسه:
توهم واشينا بليل مزاره ... فهم ليسعى بيننا بالتباعد
فعانقته حتى اتحدنا تعانقاً ... فلما أتانا ما رأى غير واحد
وقال العماد أنشدني أيضاً لبعضهم:
اصبر إذا نازلة أقبلت ... فهي سواء والتي ولت
وأرهف العزم فليس الظبي ... تفري وتبري كالتي كلت
وأنشدني الفقيه عز الدين أحمد الأربلي للعز الضرير المذكور:
لو كان لي الصبر من الأنصار ... ما كان عليك هتكت أستاري
ما ضرك يا أسمر لو كنت لنا ... في دهرك ليلة من السمار
وأنشدني الأمير عز الدين محمد بن أبي الهيجاء رحمه الله للعز الضرير:
لو يسعدني على هواه صبري ... ما كنت ألذ فيه هتك الستر
حرمت على السمع سوى ذكرهم ... ما لي سمر غير حديث السعر
وأنشدني أيضاً له:(2/166)
إن أجف تكلفاً وفى لي طبعاً ... أو خنت عهوده عهودي يرعى
يبغي لي في ذاك دوام الأسر ... هذا ضرير يحسبه لي نفا
قال ومولد العز بقرية يقال لها أفشا من أعمال نصيبين في سنة ست وثمانين وخمسمائة وكان عالماً بالنحو والأدب والفقه والخلاف والأصولين والمنطق والطبيعي والألاهي والمجسطي وشعره منحط عن فضيلته أقام بإربل مدة طويلة واشتغل بها على الشيخ شرف الدين المذكور بالحكميات ثم انتقل إلى الموصل ثم سافر إلى الشام سنة أربع وعشرين وستمائة وتصدر لقراءة العلوم والحكميات والأدبيات والأصولين والخلاف وكان حسن الأخلاق طيب العشرة لا تمل مفاكهته ولما أنشدت بيتيه المشهورة: توهم واشينا بليل مزاره، بحضرة الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله استحسن الحاضرون ما أشار إليه من ضيق العناق وشدته فقال الملك الناصر لا تلوموه بزمه لزوم أعمى فلما بلغ العز قول الملك الناصر قال والله هذا الكلام أحلى من شعري وقد ألم غرس الدين أبو بكر الأربلي تلميذ العز بهذا المعنى فقال:
هم الرقيب ليسعى في تفرقنا ... ليلاً وقد بات من أهواه معتنقي
عانقته فاتحدنا والرقيب أتى ... فمذ رأى واحداً ولى على حنق(2/167)
وحكى لي الأمير عز الدين محمد بن أبي الهيجاء رحمه الله ما معناه قال لازمت العز الضرير بوم وفاته فقال اشتهى آكل أرزاً بلبن فقال له الكمال الحكيم رحمه وابن القف ما يوافق فقال هذه البنية التي لي قد تحللت وما بقي يرجى بقاؤها فدعوني آكل ما أشتهي فعمل له ذلك وأكل منه ولما أحس بشروع خروج الروح منه قال قد خرجت الروح من رجلي ثم قال قد وصلت إلى صدري فلما أراد المفارقة بالكية تلا: " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير "، صدق اله العظيم وكذب ابن سينا كذب ثم خرجت روحه وكان هذا آخر كلامه قال الأمير عز الدين فحكيت ذلك فيما بعد للشيخ شمس الدين المقدسي الحنبلي رحمه الله فسر له وقال فرحتني بذلك وحكى لي الأمير عز الدين أن العز كان يصرح بتفضيل على رضوان الله عليه على الثلاثة الخفاء مع المبالغة في تعظيمهم رضي الله عنهم أجمعين وللعز يمدح عز الدين أحمد بن معقل:
علا الحبر عز الدين في العلم والندى ... على قومه مع فضلهم وعلى مضر
عرفنا به كيف الطريق إلى العلا ... وأنسى عظيم الخبر من أمره الخبر
إذا كان بيت في القصيدة غرة ... فأشعار عز الدين أجمعها غرر
هو البحر فاق الدر نظم قريضه ... ولا عجب للبحر إن قذف الدر
أملي علي نسب العز على هذه الصورة الأمير عز الدين محمد بن أبي الهيجاء رحمه الله، ثم رأيت بخط الشيخ تاج الدين عبد الرحمن برحمة الله قصائد عدة منسوبة إليه وكتب في أولها للشيخ عز الدين الحسن بن علي النصيبيني.(2/168)
ورأيت أيضاً بخط الشيخ نجم الدين أمد بن صصرى أيده الله وقد كتب شعراً منسوباً إليه وقال في أوله للشيخ عز الدين الحسن بن علي النصيبيني المكفوف والله أعلم.
وحكى لي نجم الدين موسى الشقراوي ما معناه أن العز الضرير حدثه أنه كان في مجلس سيف الدين الآمدي وهناك جماعة من العلماء منهم الشيخ عز الدين ابن عبد السلام رحمه الله فجري البحث في الإمامة ومن الشيخ عز الدين ابن عبد السلام رحمه الله فجرى البحث في الإمامة ومن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعض الحاضرين قد روى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه بايع لأبي بكر رضي الله عنه مكرهاً وإن أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال له بايع وإلا قتلت فالتفت على رضى الله عنه إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " يا ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني " قال العز فبكى السيف الآمدي فقال له ابن عبد السلام هذا لم يجر وليس بصحيح وإنما هو من اختلاق الرافضة، فقال سيف الدين الآمدي ما قلت أنه صحيح وإنما وقع في خاطري شيء أبكاني قال العز فقلت للسيف يا مولانا قد احتملوك أهل دمشق على الكفر والزندقة تريد انهم يحتملوك على محبة أهل البيت هذا ما يصير، وكان للعز المذكور هجو خبيث فمنه، في العماد بن أبي زهران:
تعمم بالظرف من ظرفه ... وقام خطيباً لندمانه(2/169)
وقال السلام على من زنى ... ولاط وقاد لإخوانه
فردوا جميعاً عليه السلام ... وكل يترجم عن شأنه
وقال يجوز التداوي بها ... وكل عليل بأشجانه
فأفتى بحل الزنى واللوا ... ط فقيه الزمان ابن زهرانه
وله في العماد المذكور وكان يلقب أولاً بالشجاع فلما تفقه لقب بالعماد فقال:
شجاع الدين عمدتا ... فهلا كنت شمسنا
خطيباً قمت سكراناً ... وبالزكوة عممتا
ومن أبيات، وللعز يهجو مجد الدين الروذراوري رحمه الله تعالى:
الروذراوري تلعنونه ... وما أتى في زعمه ببدعه
هل نال الإجازة في حجرها ... في رمضان الظهر يوم الجمعة
الخضر بن أبي بكر بن أمد أبو العباس كمال الدين الكردي قاضي المقس كان الملك المعز عز الدين أيبك التركماني رحمه الله قد قربه وأدناه في زمن سلطنته فعلق به حب الرياسة والتقدم عند الملوك وكان عنده أقدام وهوج وقلة فكر في العواقب فصنع خاتماً وجعل تحت فصه ورقة لطيفة فيها أسماء جماعة ممن قصد أذاهم وإن عندهم ودائع لشرف الدين الفائزي وأظهر أن ذلك الخاتم كان لشرف الدين المذكور(2/170)
وأنه جعل تلك الورقة فيه تذكرة بما له من الودائع ورام بذلك التقرب إلى السلطان وضرر أولئك القوم لإحن قديمة بينه وبينهم وأظهر ذلك الخاتم وجرى في أمره خطوباً آخرها أنه اتضح أمره فأهين الكمال وصفع فقال فيه بعض الأدباء:
ما وفق الكمال في أفعاله ... كلا ولا سدد في أقواله
يقول من أبصره يصك تأ ... ديباً على ما كان من محاله
قد كان مكتوباً على جبينه ... فقلت لا بل كان في قذاله
ثم حبس وكان في الحبس شخص يدعى أنه ولد الأمير الغريب وكان ورد إلى إربل في أيام الإمام الناصر شخص يسمى الأمير الغريب ويزعم أنه ولد الإمام الناصر ثم توفي في سنة أربع عشرة وستمائة فادعى هذا الشخص أنه ولده وكانت الشهرزورية أرادت مبايعته بغزة فلما تبدد شملهم للأسباب التي تقدم شرحها من استيلاء التتر على الشام وغير ذلك أمسك هذا الشخص العباسي واعتقل فلما اعتقل الكمال معه وجمعهما الحبس تحدث الكمال معه على أن يسعى له في إتمام ذلك الأمر الذي كان الشهرزورية راموا فعله ويكون الكمال وزيره فاتفق موت العباسي، فلما خرج الكمال سعى في إتمام الأمر لابنه وتحدث في ذلك مع جماعة من الأعيان وغيرهم وكتب مناشير وتواقيع واتخذ بنود أشعار الدولة فنمى الخبر إلى الملك الظاهر وكان وزيره الصاحب بهاء الدين وقاضي قضاة الديار المصرية تاج الدين عبد الوهاب وله المكانة العلية والوجاهة العظيمة والكلمة المسموعة وكلاهما من أشد الناس(2/171)
عداوة وبغضاً للكمال لذاته وتوثبه ولكونه من أصحاب القاضي بدر الدين السنجاري والمعروفين به فحصل التحريض عليه فشنق بالديار المصرية والتواقيع والبنود معلقة في عنقه، وذلك في ثامن عشر جمادى الآخرة من هذه السنة رحمه الله.
عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن بن محمد بن المهذب أبو محمد عز الدين السلمي الدمشقي الشافعي الإمام الفقيه العلامة شيخ الإسلام ومولده سنة سبع أو ثمان وسبعين وخمسمائة، حضر أبا الحسين أحمد بن حمزة بن الموازيني وأبا طاهر الخشوعي وسمع من الحافظ أبي محمد القاسم بن علي الدمشقي وابن طبرزد وحنبل وعبد الصمد بن الحرستاني وغيرهم وحدث ودرس في عدة مدارس بالشام والديار المصرية وأفتى سنين متطاولة وكانت الفتاوى تأتيه من الأقطار وكان في آخر عمره لا يتقيد في فتاويه بما يقتضيه مذهب الإمام الشافعي رحمة الله عليه بل يفتي بما يؤدي إليه اجتهاده ويترجح عنده بالدليل، وصنف التصانيف المفيدة النافعة وتولى الحكم بمصر والوجه القبلي مدة مع الخطابة بجامعها العتيق وكان ولي الخطابة بجامع دمشق مدة وكان علم عصره في العلم جامعاً لفنون متعددة عارفاً بالأصول والفروع والعربية والتفسير معاً جبل عليه من ترك التكلف والصلابة في الدين ولما كان مباشراً للخطابة والإمامة بجامع دمشق سلم الملك الصالح عماد الدين رحمه الله إلى الفرنج صفد والشقيف سنة تسع وثلاثين(2/172)
وهما من الفتوحات الصلاحية ليعتضد بهم فأنكر الشيخ عز الدين هذا الفعل غاية الإنكار وبسط لسانه بالقول ووافقه على ذلك الشيخ جمال الدين أبو عمرو بن الحاجب المالكي رحمه الله وكن كبير القدر أيضاً في العلم والدين وبلغ الملك الصالح عماد الدين إنهما ينالان منه بسبب ذلك فغضب غضباً شديداً ففارقا دمشق فمضى الشيخ جمال الدين إلى الكرك فأقام عند الملك الناصر داود رحمه الله مدة فأقبل عليه وأحسن إليه ثم سافر إلى الديار المصرية وأقام بها إلى أن مات رحمه الله وأما الشيخ عز الدين فمضى إلى الديار المصرية فأقبل عليه الملك الصالح نجم الدين غاية الإقبال لفضيلته وديانته ومكانته ولتشنيته على عمه الملك الصالح عماد الدين واتفقت وفاة القاضي شرف الدين بن عين الدولة قاضي القاهرة والوجه البحري فنقل الملك الصالح القاضي بدر الدين إلى القاهرة وما معها وولاه قضاءها وولى الشيخ عز الدين القضاء لمصر والوجه القبلي مع الخطابة بجامع مصر وبقي على ذلك مدة واتفق أن بعض غلمان الصاحب معين الدين بن شيخ الشيوخ وزير الملك الصالح نجم الدين بنى على سطح بعض المساجد بمصر بنياناً وجعل فيه طبلخاناة معين الدين وبلغ ذلك الشيخ عز الدين فأنكره ومضى بنفسه وأولاده فهدم ذلك البناء وأمر بنقل ما على سطح ذلك المسجد وتفريغه مما فيه وعلم الشيخ(2/173)
عز الدين أن ذلك يغضب الملك الصالح ووزيره فأحضر شهوداً وأشهدهم على نفسه أنه قد اسقط عدالة معين الدين وأنه قد عزل نفيه عن القضاء بمصر وما معهما فعظم ذلك على الملك الصالح وأبقى نواب الشيخ عز الدين فقيل للملك الصلاح إن لم تعزله عن الخطابة فربما يبدو منه تشنيع على المنبر كما فعل بدمشق لما سلم الملك الصالح عماد الدين صفد والشقيف فعزله عن الخطابة فأقام في بيته بالقاهرة يشغل الناس بالعلم وقال الأمير حسام الدين ابن أبي علي رحمه الله كان عندي شهادة تتعلق بالملك الصالح نجم الدين فقال لي السلطان والشيخ عز الدين متولي القضاء بمصر تؤدي الشهادة عنده فقلت يا خوند ما يقبل شهادتي فألح علي فقلت يا خوند خذ لي منه دستوراً فبعث إلى الشيخ عز الدين في ذلك فقال ما أقبل له شهادة فتوقفت القضية إلى أن ولي القاضي بدر الدين السنجاري فذهبت إليه فتلقاني إلى الباب فشهدت عنده فقبل الشهادة وانقضى الشغل فكان الشيخ عز الدين رحمه الله لا يحابي أحداً في الحق ولما حضرته الوفاة سير إليه الملك الظاهر رحمه الله يفتقده ويقول له من تختار أن يتولى مناصبك من أولادك فقال ما في أولادي من يصلح لشيء من ذلك وهذه المدرسة يعني مدرسة الملك الصالح التي بين القصرين يصلح لتدريسها القاضي تاج الدين عبد الوهاب يعني ابن بنت الأعز ففوضت إليه بعده وكان بالديار المصرية رجل يعرف بالمبارز العارونة وهو كثير المال وكان يكثر التردد إلى الشيخ عز الدين وهو صاحبه فحكى للشيخ عز الدين(2/174)
عقيب كسرة المنصورة الأخيرة وكان قد صودر قبل ذلك على قريب خمسين ألف درهم قال صودرت على ذلك المبلغ فما مضى إلا مدة يسيرة حتى كانت وقعة المنصور فحصلت من مكاسبها قريب خمسين ألف دينار فقال له الشيخ عز الدين هذا المبلغ في ذمتك لأن الغنائم لم
تخمس ولا قسمت على الوجه الشرعي فلما مرض الشيخ عز الدين مرض الموت أشهد على نفسه أنه يشهد على إقرار المبارز بما أقربه من ذلك واتصل الأمر بالملك الظاهر فالزم المبارز بغرم ما أقربه فقال إنما شهد على شاهد واحد فقال الملك الظاهر الشاهد الذي شهد أكثر من ألف شاهد وكان الشيخ عز الدين رحمه الله معماً هو عليه من هذه الأوصاف عنده رقة حاشية ويحضر السماع ويرقص ويتواجد ويستحسن الصور الجميلة ويحاضر بالحكايات والنوادر والأشعار ويستشهد بها في مواضعها مر على دار من دور القصر بالقاهرة وهي خراب وانقاضها تنقل فأنشد متمثلاً: تخمس ولا قسمت على الوجه الشرعي فلما مرض الشيخ عز الدين مرض الموت أشهد على نفسه أنه يشهد على إقرار المبارز بما أقربه من ذلك واتصل الأمر بالملك الظاهر فالزم المبارز بغرم ما أقربه فقال إنما شهد على شاهد واحد فقال الملك الظاهر الشاهد الذي شهد أكثر من ألف شاهد وكان الشيخ عز الدين رحمه الله معماً هو عليه من هذه الأوصاف عنده رقة حاشية ويحضر السماع ويرقص ويتواجد ويستحسن الصور الجميلة ويحاضر بالحكايات والنوادر والأشعار ويستشهد بها في مواضعها مر على دار من دور القصر بالقاهرة وهي خراب وانقاضها تنقل فأنشد متمثلاً:
أهادمها شلت يمينك خلها ... لمعتبر أو واقف أو مسايل
منازل قوم حدثتنا حديثهم ... ولم أر أحلى من حديث المنازل
وهذا البيتان لعبد الواحد بن الفرج المعري الشاعر قالهما من جملة أربعة أبيات في قصر كان بالمعرة في محلة شيات فأمر صاحب المعرة بنقضة فاجتاز عبد الواحد بالفعلة وهم بخربونه فقال بديهاً:(2/175)
مررت بقصر في سيات فساءني ... به زجل الأحجار تحت المعاول
تناولها عبل الذراع كأنما ... جرى الحرب فيما بينهم حرب وائل
فقلت له شلت يمينك خلها
البيتين المتقدمين.
توفي عبد الواحد المذكور في سنة إحدى وثمانين وأربعمائة وكانت وفاة الشيخ عز الدين رحمه الله في العاشر من جمادى الأولى بالقاهرة ودفن من الغد بسفح المقطم ونزل الملك الظاهر لشهود جنازته وكذلك سائر أرباب الدولة والجند والعوام وغيرهم ولم يتخلف عن شهود جنازته غلا القليل من الناس وشهرته تغني عن الأطناب في ذكره رحمه الله.
عبد العزيز بن يوسف بن قزأوغلى أبو محمد عز الدين الحنفي الواعظ قد أشرنا إليه في ترجمة والده الشيخ شمس الدين أبي المظفر يوسف سبط الشيخ جمال الدين ابن الجوزي رحمه الله في سنة أربع وخمسين وكان درس بعد أبيه بالمدرسة العزية ووعظ وكان فاضلاً عنده أهلية جيدة وتوفي في سلخ شهر شوال ودفن بمقبرة أبيه بسفح قاسيون رحمه الله.
عبد الوهاب بن الحسن بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين أبو الحسن تاج الدين الدمشقي الشافعي المعروف بابن عساكر سمع الكثير من الخشوعي وابن طبرزد وحنبل وزيد والكندي وعبد الصمد الحرستاني وغيرهم وحدث بدمشق ومصر وغيرهما وتولى(2/176)
مشيخة دار الحديث النورية وغيرهما بدمشق ومولده بدمشق ليلة عيد الفطر سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، وكانت وفاته في حادي عشر جمادى الأولى بمكة شرفها الله ودفن بالحجون رحمه الله تعالى.
علي بن محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العباس بن الحسن بن العباس ابن الحسن بن الحسين بن علي بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب أبو الحسن بهاء الدين بن أبي الجن الحسيني نقيب الأشراف بدمشق وأعمالها، مولده ليلة الثامن عشر من شعبان سنة تسع وسبعين وخمسمائة بدمشق سمع من أبي عبد الله محمد بن علي بن صدقة وأبي الفرج يحيى بن محمود الثقفي وأبي الفوارس بن شافع وغيرهم وحدث بدمشق ومصر، وكان رئيساً جليل المقدار كريماً ممدحاً وتوفي بدمشق في ليلة الثاني والعشرين من شهر رجب ودفن بها بمنزله بدرب الديماس رحمه الله وولى النقابة بعده فخر الدين أبو محمد الحسن ابن نظام الدين أبي الحسن علي البعلبكي.
عمر بن أحمد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن زهير بن هارون بن موسى بن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عامر بن أبي جرادة بن ربيعة بن خويلد بن عوف بن عامر بن عقيل أبي القاسم كمال الدين العقيلي الحلبي الفقيه الحنفي الكاتب المجيد المعروف بابن العديم مولده بحلب في العشر الأول من ذي الحجة سنة ثمان وثمانين وخمسمائة سمع من أبيه أبي الحسن وعمه ابن غانم محمد وأبي هاشم عبد المطلب(2/177)
ابن الفضل الهاشمي وعمر بن طبرزد وأبي اليمن الكندي وأبي القاسم عبد الصمد بن محمد الحرستاني وجمعة كثرة غيرهم وحدث بالكثير في بلاد متعددة ودرس وأفنى وصنف وكان إماماً عالماً فاضلاً مفنناً في العلوم جامعاً لها أحد الرؤساء المشهورين والعلماء المذكورين وترسل إلى الخليفة والملوك مراراً كثيرة وكان له الوجاهة العظيمة والحرمة الوافرة عند الخلفاء والملوك وغيرهم وهو مع الوجاهة العظيمة والحرمة الوافرة عند الخلفاء والملوك وغيرهم وهو مع ذلك كثير التواضع ولين الجانب وحسن الملتقى والبشر لسائر الناس مع ما هو منطو عليه من الديانة الوافرة والتحري في أقواله وأفعاله، وأما خطه ففي غاية الحسن والجودة باع الناس منه شيئاً كثيراً على أنه خط علي بن هلال بن البواب الكاتب المشهور، وله معرفة بالحديث والتاريخ وأيام الناس وجمع لحلب تاريخاً كبيراً أحسن فيه ما شاء ومات وبعضه مسودة لم يبيضه ولو تكمل تبييضه كان أكثر من أربعين مجلداً، وكان حسن الظن بالفقراء والصالحين كثير البر لهم والإحسان إليهم وحضر عند الشيخ عبد الله اليونيني الكبير قدس الله روحه وطلب منه أن يلبسه خرقة فأعطاه قميصه كأنه تفرس فيه الخير والصلاح، وكانت وفاته في العشرين من جمادى الأولى بظاهر مصر ودفن من يومه بسفح المقطم رحمه الله، ولما وصل إلى الديار المصرية رسولاً في بعض سفراته إليها حمل إليه الشيخ أيدمر مولى وزير الجزيرة والمسمى فيما بعد بإبراهيم الصوفي ديوان شعره ليطالعه فتصفحه وطالعه وكتب عليه لنفسه:؟(2/178)
وكنت أظن الترك تختص أعين لهم إن رنت بالسحر منها وأجفان
إلى أن أتاني من بديع قريضهم ... قواف هي السحر الحلال وديوان
فأيقنت أن السحر أجمعه لهم ... يقر لهم هاروت فيه وسحبان
فكتب إليه أيدمر يشكره ويسأله أن يكتب اسمه تحت الشعر الذي كتبه على الديوان:
لك الفضل أولى الناس بالحمد منعم ... تعرف بالإحسان إذ رث عرفان
وبارقة من أفق علياك خبرت ... بأن سحاب الفضل عندك هتان
انثنى على الديوان أبياتك التي ... يفضل منها للبلاغة ديوان
فدلت وإن قلت على ما وراءها ... كما شف عن سر الصحيفة عنوان
فلو عاينت عيناً ابن مقلة خطكم ... لغض أتاه أو رنا وهو خزيان
فكيف يكون السحر فينا وعندنا ... وخطك هاروت ولفظك سحبان
فيا مالك أبدي ندى كان متمماً ... لتشفع من يمناك بالحسن إحسان
وتوجه والمأمور غيرك باسمك الكريم فأسماء الأكارم تيجان
يحوك الحياوشي الرياض وينجلي ... وتبقى شهيداً عندها منه غدران
على أنه الصبح المنور شهرة ... وليس بمطلوب على الصبح برهان
وإن أمرأً أضحى الكمال يعينه ... فمن أين يعروه وحاشاه نقصان
محمد بن داود بن ياقوت الصارمي أبو عبد الله ناصر الدين كان رجلاً صالحاً فاضلاً عالماً مفيداً لطلبة الحديث باذلاً كتبه وخطه للمشتغلين(2/179)
سمع كثيراً وكتب مجلدات وأجزاء كثيرة وطباق السماع التي بخطه من أحسن الطباق وأنورها وأصحها، وكانت وفاته بدمشق في السادس والعشرين من جمادى الآخرة ودفن بمقابر باب الصغير رحمه الله تعالى.
محمد بن عبد الحق بن خلف أبو عبد الله جمال الدين الحنبلي كان فاضلاً ظريفاً حسن الأخلاق يؤرخ الوقائع والمتجددات والوفيات ويتولى الحسبة بجبل الصالحية وكانت وفاته بالجبل المذكور ودفن به في سادس وعشرين جمادى الآخرة رحمه الله.
يوسف بن عبد اللطيف بن يوسف بن محمد بن علي بن أبي سعد أبو الفضل شرف الدين الموصلي الأصل ويعرف بابن اللباد كان فاضلاً أديباً شاعراً مترسلاً وله معرفة بالطب وتوفي يوم الجمعة خامس ذي القعدة بالقاهرة ودفن بالقرافة وهو في حدود الخمسين سنة رحمه الله ووالده موفق الدين عبد اللطيف بغدادي المولد كان عالماً بالنحو واللغة وعلم الكلام والطب ولد بدار جده بدرب الفالوذج سنة سبع وخمسين وخمسمائة وغاب عن بغداد مقدار خمس وأربعين سنة ودخلها عازماً على الحج فأدركته منيته بها في يوم الأحد ثاني عشر المحرم سنة تسع وعشرين وستمائة ودفن بالوردية، وله نحو مائتي مصنف ما بين مطول ومختصر وطاف البلاد ودخل دمشق والبيت المقدس والديار المصرية وغير ذلك رحمه الله.(2/180)
يوسف بن يوسف بن يوسف بن يوسف بن سلامة بن إبراهيم ابن الحسن بن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن سلميان بن محمد الفأفا الزينبي بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب أبو العز وقيل أبو المحاسن محي الدين الهاشمي العباسي الموصلي المعروف بابن زيلاق مولده بالموصل قي إحدى الربيعين سنة ثلاث وستمائة وقتلوه التتر حين ملكوا الموصل بها في عاشر شعبان هذه السنة، وكان شاعراً مجيداً فاضلاً حسن المعاني رحمه الله، ومن شعره:
إني لأقضي نهاري بعدكم أسفاً ... وطول ليلي بتسهيد وتعذيب
جفن قريح وقلب حشوه حرق ... فمن رأى يوسفاً في حزن يعقوب
وله:
بدا لنا من جبينه قمر ... يضل في ليل شعره الفكر
أحور يجلو الدجى تبسمه ... أسمر يحلو بذكره السمر
حديث عهد الشباب ما حف بالريحان ... ورد في خده نضر
ولا رعت مقلة نبات عذا ... ريه فيحتاج عنه نعتذر
جوامع الحسن فيه كاملة ... فالقلب وقف عليه والبصر
خصر كما آثر التفرق في ... جسمي وثغر رضابه خصر
وقامة لدنة إذا خطرت ... هان علنيا في حبها الحظر(2/181)
وله:
أغري جفون المحب بالسهر ... أغيد حالي الجفون بالحور
رخيم لفظ جاءت شمائله ... بكل معنى في الحسن مبتكر
مؤنث الدل كاسر جفنه الساجي على نصل صارم ذكر
حديث عهد السباب طلعته ... محية من طلائع الشعر
حياه وحدي ماء بوجنته ... ما اغترفت صفوة بذا الخضر
أن يطل الفكر في توردها ... فذاك والله موضع النظر
يا مالكي شافعي إليك هوى ... مذهب وردي فيه بلا صدر
أفوت ليلى بالطول واشتملت ... أجفان عيني به على القصر
حالين أشكو إليك بينهما ... وفاء دمع وعذر مصطبر
وله:
هل أنت يا وفد الصبا مخبري ... مربع أحبابي متى روضا
وهل أقام الحي من بعدنا ... مخيماً بالجزع أم قوضا
وأنت يا بارق نجد إذا ... أضأت جيراناً بذات الأضا
فقل لهم ذاك الغريب الذي ... أمرضتموه بجفاكم قضى
حاشا لذاك الوجد أن ينقضي ... وعهدنا بالخيف أن ينقضي
ويا شفاء النفس لو أنه ... كان طبيب الداء من أمرضي
أحبابنا منذ وداع اللوى ... لم ألق عيشاً بعدكم يرتضى
ولا رأت عيناي مذ غبتم ... يوماً كأيامي بكم أيضاً(2/182)
وله:
يفيدك جفن بمائه شرق ... جار عليه البكاء والأرق
ومهجة لم تزل حشاشتها ... منك بنار الجفاء تحترق
يا رشأ أصبحت محاسنه ... تسلب ألبابنا وتسترق
تجمعت فيك للورى فتن ... على تلاف النفوس تتفق
طرف كحيل ووجنة كسيت ... حمرة دمعي ومبسم يقق
جالت علي عطفه ذوائبه ... كالغصن زانت فروعه الورق
حسن أسر الصديق لي حسداً ... على هواه وخان من أثق
رأوه لي جنة معجلة ... ما وجدوا مثلها ولا رزقوا
فأكثروا وافتروا كأنهم ... لغير قول المحال ما خلقوا
هم حسدوني عليه فاختلفوا ... بكل زور إليه واختلقوا
سعوا بتفريقنا فلا اجتمعوا ... على وصال يوماً ولا اتفقوا
بمن كسا وجنتيك من حلل ال ... حسن رياضاً نسيمها عبق
واطلع الصبح من جبينك محفوظاً بصدغ كأنه غسق
لا تثن عطفاً إلى الوشاة فما ... سلاك قلبي لكنهم عشقوا
أنت بحالي أدري وحالهم ... قد وضحت في حديثنا الطرق(2/183)
ما كنت يوماً إليك معتذراً ... لو أنهم في حديثهم صدقوا
وله:
كذب الواشون قلبي ما سلا ... وفؤادي من هواكم ما خلا
لا تظنوني إن طال المدى ... ناسياً ذاك الغرام الأولا
لست ممن إن نأت دار به ... أسخط الشوق وأرضى العذلا
يا ولاة الحسن ما آن لمن ... جار في عشاقه أن يعدلا
أخذ الإشراق عن بدر الدجى ... وروى النفرة عن ظبي الفلا
أي شهد ريقه لو يجتني ... وهلال وجهه لو يجتلي
يحمد الليل إذا ولى ولا ... يعدم الصبح إذا ما أقبلا
ناعم الأطراف ما أسعد من ... ضمه معتنقاً أو قبلاً
ليس يأتي نعم في لفظه ... قوله في جده والمزح لا
أحياة أترجى بعدما ... حكمت ألحاظه أن أقتلا
وله:
يريك قوام السمهر يقوامها ... ويجلو عليك النيرين لثامها
ويفتنا منها جفون تضمنت ... لواحظها أن لا تطيش سهامها
وليلة أعطينا المنى من وصالها ... وعهدي لا يهدي إلينا سلامها
توقد ناراً خدها وحليها ... وخمرتها فأنجاب عنها ظلامها
وطافت بكأسات الرحيق كأنما ... يفض عن المسك السحيق ختامها
إذا ما ظللنا في غياهب شعرها ... هدانا إلى صبح الغرام ابتسامها(2/184)
سألتكما أي الثلاثة درها ... أمبسمها أم عقدها أم كلامها
وأي الثلاث المسكرات سلبنني ... أريقها أم لحظها أم مدامها
وله:
أدمشق لا زالت تجودك ديمة ... ينمي بها زهر الرياض ويؤنق
أهوى لك السقيا ولو ضن الحيا ... أغناك عنه ماؤك المتدفق
ويسر قلبي لو تصيح إلى المنى ... أني أنال بك المقام وأرزق
وإذا امرؤ كانت ربوعك حظه ... من سائر الأمصار فهو موفق
أني التفت فجدول متسلسل ... أو جنة مرضية أو جوسق
يبدو لطرفك حيث ملت حديقة ... غناء نور النور منها يسرق
تشدو الحمام بدوحها فكأنما ... في كل عود منه عود يخفق
وإذا رأيت الغصن ترقصه الصبا ... طرباً رأيت الماء وهو يصفق
لبست جنان النيرين محاسناً ... وقفت عليها كل طرف يرمق
فحمامها غرد ونبت رياضها ... خضل وركب نسيمها مترفق
وله:
وإذا شكوت من الزمان ومسني ... ضيم ونكس صعدتي أعسار
وعلمتم أني بكم متعلق ... فعلى علاكم لا على العار
ومن شعره أيضاً:
بعثت لنا من سحر مقلتك الوسنى ... سهاداً يذود الجفن أن يألف الجفنا
وأبصر جسمي حسن خصرك ناحلاً ... فحاكاه لكن زاد في دقة المعنى(2/185)
وأبرزت وجهاً أخجل الصبح طالعاً ... ومالت بقد علم الهيف الغصنا
حكيت أخاك البدر في حال تمه ... سنى وسناء إذا تشابهتما سنا
أسمراء إن أطلقت بالهجر عبرتي ... فإن لقلبي من تباريحه سجنا
وإن تحجبي بالبيض والسمر فالهوى ... يهون عند العاشق الضرب والطعنا
وما الشوق إلا أن أزورك معلناً ... فلا مضمراً خوفاً ولا طالباً أذنا
وألقاك لا أخشى الغيور فأنثني ... ولو منعت أسد الشرى ذلك المعنى
السنة الحادية والستون وستمائة
دخلت هذه السنة والخليفة المستنصر بالله قد قتل وملوك الأطراف على حالهم في السنة الخالية والملك الظاهر بقلعة البل من الديار المصرية.
فمن المتجددات فيها مبايعة الحاكم بأمر الله، باب في مبايعته وهو التاسع والثلاثون من خلفاء بني العباس رضي الله عنه وهو الإمام الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد بن الأمير أبي علي القبي بن الأمير علي ابن الأمير أبي كبر بن الإمام المسترشد بالله أبي منصور الفضل بن الإمام المستظهر بالله أبي العباس أحمد بويع بالخلافة في قلعة الجبل ظاهر القاهرة يوم الخميس تاسع المحرم سنة إحدى وستين وستمائة، وكان وصل إلى قلعة الجبل في السنة الخالية على ما تقدم شرحه.(2/186)
فلما كان في التاريخ جلس الملك الظاهر مجلساً عاماً فيه أعيان الناس من القضاة والأمراء والعلماء وجماعة من التتار الوافدين وحضر الإمام الحاكم إلى الإيوان الكبير بقلعة الجبل راكباً وبسط له إلى جانب السلطان وذلك بعد ثبوت نسبه وأمر الملك الظاهر بعمل شجرة نسب له فعملت وقرئت على الناس، ثم أقبل الملك الظاهر إليه وبايعه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والأمر بالمعرف والنهي عن المنكر والجهاد وأخذ أموال الله بحقها وصرفها في مستحقها والوفاء بالعهود وإقامة الحدود وما يجب على الأئمة فعله من أمور الدين وحراسة المسلمين، فعند ذلك أقبل الخليفة على الملك الظاهر وقلده أمور البلاد والعباد ثم أخذ الناس على اختلاف طبقاتهم في المبايعة فلم يبق أحد ممن يشار إليه من أرباب السيوف والأقلام وغيرهم إلا وبايعه، وكان المسلمون بغير خليفة منذ استشهد الإمام المستنصر بالله في أوائل السنة الخالية ولم يل الخلافة من والده وجده غير خليفة بعد السفاح والمنصور إلا الحاكم هذا فإن والده وجده وجد والده لم يلوا الخلافة أما من ولي الخلافة ولم يكن والده خليفة بعد السفاح والمنصور من بني العباس فالمستعين أحمد بن محمد بن المعتصم والمعتضد بن طلحة بن المتوكل والقادر بن أحمد بن المقتدر والمقتدى بأمر الله بن الذخيرة بن القائم وبقي اسم الخلافة على الإمام الحاكم بأمر الله المذكور ويخطب له على المنابر وتضرب السكة باسمه إلى أوائل جمادى الآخرة سنة إحدى وسبعمائة درج إلى رحمة الله تعالى بالديار المصرية وصلى عليه في جامع(2/187)
دمشق بالنية يوم الجمعة عاشر جمادى الآخرة.
وكانت وفاته رحمه الله في أواخر جمادى الأولى رحمه الله تعالى فكان مدة وقوع اسم الخلافة عليه أربعين سنة وأشهر وبويع ولده أبو الربيع سليمان ولقب بالمستكفي وحصل الحديث من الإمام الحاكم في إنفاذ رسل إلى بركة فوافق على ذلك وانفصل المجلس، ولما كان يوم الجمعة ثاني ويوم المبايعة اجتمع الناس وحضر الرسل إلى الملك بركة وخطب الخليفة بالناس فقال: الحمد لله الذي أقام لآل العباس ركناً وظهيراً، وجعل لهم من لدنه سلطاناً نصيراً، أحمده على السراء والضراء، وأستعينه على شكر ما أسبع من النعماء، واستنصره على دفع الأعداء وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وإن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه نجوم الاهتداء وأئمة الإقتداء الأربعة الخلفاء وعلى العباس عمه وكاشف غمه أبي السادة الخلفاء الراشدين والأئمة المهذبين وعلى بقية الصحابة والتابعين بإحسان إلى يوم الدين، أيها الناس أعلموا أن الإمامة فرض من فروض الإسلام والجهاد، محتوم على جميع الأنام ولا يقوم علم الجهاد إلا باجتماع كلمة العباد، ولا سبيت الحرم إلا بانتهاك المحارم ولا سفكت الدماء إلا بارتكاب المآثم، فول شاهدتم أعداء الإسلام حين دخلوا دار السلام واستباحوا الدماء والأموال وقتلوا الرجال والأطفال وهتكوا حرم الخلافة والحريم، وأذاقوا من استبقوا العذاب(2/188)
الأليم، فارتفعت الأصوات بالبكاء وعلت الضجات من هول ذلك اليوم الطويل، فكم من شيخ خضبت شيبته بدمائه وكم من طفل بكى فلم يرحم لبكائه فشمروا عن ساق الاجتهاد في أحياء فرض الجهاد: " فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيراً لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون فلم يبق معذرة في القعود عن أعداء الدين والمحاماة عن المسلمين.
وهذا السلطان الملك الظاهر السيد الأجل العالم العادل المجاهد المؤيد ركن الدنيا والدين قد قام بنصر الإمامة عند قلة الأنصار وشرد جيوش الكفر بعد أن جاسوا خلال الديار فأصبحت البيعة باهتمامه منتظمة العقود، والدولة العباسية به متكاثرة الجنود، فبادروا عباد الله إلى شكر هذه النعمة وأخلصوا نياتكم تنصروا وقاتلوا أولياء الشيطان تظفروا ولا يروعنكم ما جرى، فالحرب سجال والعاقبة للمتقين والدهر يومان والآخر لمؤمنين جمع الله على التقوى أمركم وأعز بالإيمان نصركم، واستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه أنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية: الحمد لله حمداً يقوم بشكر نعمائه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عدة عند لقائه وأشهد أن محمداً سيد رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه عدد ما خلق في أرضه وسمائه، أوصيكم عباد الله بتقوى الله أن أحسن ما وعظ به الإنسان كلام الملك الديان: " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر(2/189)
منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً نفعنا الله وإياكم بكتابه وأجزل لنا ولكم ثوابه وغفر لي ولكن وللمسلمين أجمعين.
وكتب بدعوته إلى الآفاق وتعلل بذكرها الرفاق. وكتب الله للسلطان هذه الحسنة التي يجدها يوم ينفد كل شيء وما عند الله باق، وكتب السلطان إلى الملك بركة يعلمه بذلك.
وفي ليلة الأربعاء ثالث شهر رمضان سأل السلطان الخليفة هل لبس الفتوة من أحد من أهل بيته الطاهرين أو من أوليائهم المتقين فقال: لا والتمس من السلطان أن يصل سببه بهذا المقصود، وسنخ هذا الأمر الذي من بيته بدا وإليه يعود، فلم يمكن السلطان إلا طاعته المفترضة وإن يمنحه ما كان ابن عمه قرضه، وإن يحلى بالجواهر منضده، وإن يقلد بالسيف مجرده وأن يعطي القوس لباريها، ويسلم الصهوة لراقيها، ويكون في ذلك كمحبب الحلة للابسها، ويقتدح بالجذوة لقابسها، ولبس في الليلة المذكورة بحضور من يعتبر حضوره في مثل ذلك وباشر ذلك الأتابك فارس الدين أقطاي بطريق الوكالة المعتبرة عن السلطان، وقال السلطان الملك الظاهر أبا للإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين ولد الإمام الظاهر وأبوه لجده الناصر لعبد الجبار لعلي بن دغيم لعبيد الله ابن القتر لعمر بن الرصاص لأبي بكر بن الجحيش لحسن بن السارمار(2/190)
لبقاء بن الطباخ لنفيس العلوي لأبي القاسم بن أبي حبة لمعمر بن النن لأبي علي الصوفي لمهنا العلوي للقائد عيسى للأمير وهوان لروزبة الفارسي للملك أبي كيجيار لبي الحسن النجار لفضل الفرقاشي للقائد شبل بن المكرم لأبي الفضل القرشي للأمير حسان لجوشن الفزاري للأمير هلال النبهاني لأبي مسلم الخراساني لأبي العز النقيب لعوف القناني للحافظ الكندي لأبي علي النوى لسلمان الفارسي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال له صلى الله عليه وسلم سلمان من أهل البيت للإمام الظاهر التقي النقي علي سلام الله عليه وحمل إليه السلطان من الملابس لأجل ذلك ما يليق بجلاله.
وفي الليلة الثانية حضر رسل الملك بركة إلى القلعة وألبسهم الخليفة تفويض الوكالة للأتابك وحمل إليهم من الملابس ما يليق بمثلهم.
ولما كان يوم الجمعة ثامن عشري شعبان خطب الخليفة أيضاً بحضور رسل الملك بركة ودعا للسلطان وللملك بركة وصلى بالناس واجتمع بالسلطان وللملك بركة وصلى بالناس واجتمع بالسلطان وبالرسل وتحدثوا في مهمات الإسلام.
وفي ويوم المبايعة أفرج الملك الظاهر عن الأمير علاء الدين طيبرس ثم قبض عليه لما نزل من الطور وحبسه بقلعة القاهرة ثانية.
وفيها في العشر الأول من صفر جمع تكفور صاحب سيس جمعاً كبيراً خيلاً ورجلاً وخرج من سيس وأغار على بلد الجومة إلى بلد العمق وجبل ليلون ومعمرة مصرين وسرمين والفوعة، وكان دليله(2/191)
رجل من أهل الفوعة يعرف بابن ماجد فأخذ من الفوعة ثلاثمائة وثمانين نفراً وكبس سرمين وكان بها من الأمراء المجردين بهاء الدين الخضر الحميدي وركن الدين عيسى السروي وعلم الدين قيصر الظاهري فانحازوا إلى دار الدعوة بسرمين واجتمع عليهم خلق كثير وحاصروهم بها ثم إن ركن الدين عيسى السروي ركب وأركب الأمراء المذكورين وفتح باب دار الدعوة وخرج ثم حمل فيهم فصادف في حملته صاحب سيس ولم يعرفه فرماه من جواده فتفللت لأجله عزائم أصحابه فولوا هزيمة لا يلوى أحد منهم على صاحبه وتخلص ممن كان معهم من الأسراء جماعة كبيرة.
ذكر توجه الملك الظاهر إلى الشام
وقبضه على الملك المغيث صاحب الكرك
برز الملك الظاهر يوم السبت سابع ربيع الآخر إلى مسجد التبن وأقام به إلى عاشر الشهر ورحل يوم الخميس حادي عشرة، ولما وصل إلى غزة وفد عليه في السابع والعشرين من الشهر والدة صاحب الكرك شافعة في ولدها فأقبل عليها وأكرمها وأذن لها في العود فعادت ثم رحل إلى الطور يوم الاثنين حادي عشر جمادى الأولى وجاء من الأمطار ما منع السابلة فغلت الأسعار ولحق العسكر مشقة عظيمة والملك الظاهر يرسل الرسل إلى صاحب الكرك يطلبه وهو(2/192)
يسوف خوفاً من القبض لما أسلفه من الأفعال الذميمة منها رسالة سيرها على لسان الأمجد رسوله أساء فيها الأدب ومنها كتبه إلى التتر يحرضهم على قصد البلاد، ومما ثبطه كتب وصلت إليه من أمراء كانوا مع الملك الظاهر يحذرونه الوصول إليه يعرفونه أنه عازم على قبضه، فوقف عليها وسيرها إلى الملك الظاهر فسير إليه في الجواب أني أنا أمرتهم بذلك لأتحقق ما في نفسك، فخرج من الكرك خائفاً ولما وصل بالقرب من العسكر ركب الملك الظاهر لتلقيه فأراد أن يترجل فمنعه الملك الظاهر وسايره إلى باب الدهليز فدخل الملك الظاهر وعدل بالملك المغيث إلى خركاه واحتيط عليه وبعث به إلى قلعة القاهرة صحبة الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقاني السلحدار يومئذ فوصل به ليلة الأحد خامس عشر جمادى الآخرة فكان آخر العهد به.
ولما قبض عليه ظهر في وجوه بعض الأمراء كراهية ذلك فاحضر الملك الظاهر الأمراء والملك الأشرف صاحب حمص وكان قد وفد عليه وقاضي القضاة بدمشق وكان قد استدعاه والشهود ورسل الفرنج وأخرج إليهم كتب الملك المغيث إلى التتر يحرضهم على قصد البلاد وكتب التتر إليه أجوبة منها مضمونها شكر هولاكو منه واعتزاؤه إليه ويعده بوعود حسنة ويقول له قد أقطعتك من بصري إلى غزة وقد عرفت ما أشرت إليه من طلب عشرين ألف فارس نسيرها تفتح بها مصر ويعده بإرسالها إليه ويوصيه بأمور جمة، ثم أخرج فتاوى الفقهاء بأنه(2/193)
لا يحل إبقاؤه على هذا الوجه فعذروه حينئذ وكان أوكد الأسباب في القبض عليه أن رسولاً ورد عليه من التتر فاصل ذلك بالملك الظاهر فبعث إليه بدر الدين لؤلؤ المسعودي أحد المماليك البحرية وطلبه فأنكره فتوعده وتهدده فأظهره وحمل إلى الملك الظاهر وأخذ يعده ويمنيه حتى أخبره بما جاء فيه وهو أن هولاكو سيره إليه ليكشف حاله وكتب الجواب وأخرجه، فلما وقف لعيه الملك الظاهر أخذ خطوط الفقهاء بوجوب قتاله ثم توجه إلى الكرك وكاتب من فيه بتسليمه فوقع الاتفاق على أن يؤمر الملك العزيز عثمان بن الملك المغيث على مائة فارس وتسلم الكرك يوم الخميس ثالث عشري جمادة الآخرة ودخله ثالثه نهار الجمعة، ثم قصد الديار المصرية واستصحب أولاد الملك المغيث وحريمه فلما حل بمصر أمر ولده كما تقرر وأنزله في دار القطبية بين القصرين، وكان وصوله إلى الديار المصرية يوم السبت سادس عشر شهر رجب.
وفي يوم الاثنين الثامن والعشرين منه قبض الملك الظاهر على الأمير سيف الدين بلبان الرشيدي والأمير عز الدين أيبك الدمياطي والأمير شمس الدين آقوش البرلي وحبسهم بقلعة الجبل.
وفي حادي عشر شهر رجب وصل إلى الديار المصرية رسولان(2/194)
من عند الملك بركة وهما جلال الدين بن قاضي دوقات والشيخ علي التركماني وكان وصولهما من الإسكندرية وصلاها من بلاد الأشكري وذلك أنهما خرجا من سقسين مدينة بكرة في نهر اتل إلى بحر سوداق وركبوا فيه إلى خليج القسطنطينية إلى البحر الكبير فسلكاه إلى الإسكندرية ومضمون الرسالة: أنت تعلم أني محب لهذا الدين وهولاكو قد تعدى على المسلمين واستولى على بلادهم وقد رأيت أن تقصده من جهتك واقصده من جهتي ونصدمه صدمة واحدة فنقتله أو نطرده عن البلاد ومتى كانت واحدة من هاتين أعطيتك ما كان في يده من البلاد التي استولى عليها فشكر له الملك الظاهر ذلك وبعث إليه هدية سنية مع رسول يستصوب هذا الرأي.
وفي آواخر شهر رجب وصلت طائفة كبيرة من التتر مستأمنين وهي الطائفة الثانية ثم وصلت طائفة أخرى كبيرة منهم ومقدمها كرمون فخرج الملك الظاهر لتلقيهم وأنعم عليهم بالإقطاعات وغيرها.
وفي شعبان خلع الملك الظاهر على الأمير جمال الدين موسى بن يغمور وفوض إليه الأستاذ دارية.
وفي سادس عشر شهر رمضان جهز الملك الظاهر من الديار المصرية لعمارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم صناعاً وآلات وأخشاباً فطيف بها مصر والقاهرة وسوفر بها في العشر الأوسط من شوال.
وفي رمضان زلزلت الموصل زلزلة عظيمة بحيث انشق الشط الذي(2/195)
يمر بضيعة دار بشا نصفين وخربت أكثر دورها.
وفي سادس شوال توجه الملك الظاهر إلى الإسكندرية وعاد إلى مصر في ثامن عشر ذي القعدة وبعد ذلك تقدم بعزل ناصر الدين أحمد بن المنير قاضي الإسكندرية وخطيبها فولى عوضه في القضاء برهان الدين إبراهيم بن محمد بن علي اليوشي المالكي وكان خاملاً بمصر متواضعاً فقيراً فخلع عليه وأعطى بغلة فتوجه إليها.
حرب جرت بين بركة وهولاكو
لما قتل هولاكو رسل بركة وسحرته جمع عسكراً من سائر الآفاق التي استولى عليها ورحل من علا دار ووصل إلى دمر قانو وقطر نهر كوثا فصادف عسكراً لبركة فأوقع به وأقام خمسة عشر يوماً فجمع بركة عساكره وقصده فالتقى به وتقاتلا فكانت الدائرة على هولاكو وقتل من أصحابه خلق كثير وغرق منهم في النهر المذكور أكثر مما قتل ونجا هولاكو بنفسه في شرذمة قليلة، فلما رأى بركة كثرة القتلى بكى وقال يعز علي أن أرى المغل تقتل بسيوف بعضهم بعضاً لكن كيف الحيلة في من غير آسة جنكزخان، ولما عاد هولاكو مهزوماً مر ببلاد أران فوجد طائفة من أصحاب بركة بنواحي شروان وشماخي فأوقع بهم ولما وصل أردوه استشار كبراء دولته في جمع عسكر ليقصد به بكرة فثبطوه.(2/196)
وفي شهر رمضان جهز الملك الظاهر رسل بركة وبعث معهم عماد الدين عبد الرحيم العباسي والأمير فارس الدين آقوش المسعودي وجهز معهما هدية سنية جليلة المقدار فيها من الحيوان الغريب وجوده في تلك البلاد خدام حبش وجواري طباخات وزرافة وقرود وهجن وخيل عربية وحمير مصرية وحمير وحشية وغير ذلك ومشاعل فضة وشمعدانات فضة وحصر عبدانية وأمتعة اسكندراني وثياب من عمل دار الطراز وسكر نبات وبياض وغير ذلك مما لا يحصى كثرة وضمن الرسالة الدخول في الأيلية والطاعة وطلب المعاضدة على هولاكو على أن يكون له من البلاد التي تؤخذ من يده مما يلي الشام نصيب، فلما صولا القسطنطينية وجدوا الباسلوس كرميخائيل صاحبها غائباً في حرب كانت بينه وبين الفرنج فلما بلغه وصولهم طلبهم فساروا إليه عشرين يوماً في عمارة متصلة واجتمعوا به في قلعة أكشاثا فأقبل عليهم ووعدهم بالمساعدة ووافوا عنده رسلاً من هولاكو فاعتذر عن تأخير توجههم لخوفه من إطلاع هولاكو على ما وصلوا بسببه ثم أمرهم بالرجوع إلى القسطنطينية والمقام بها حتى يعود ويجهزهم ولم يزل يمطلهم سنة ثلاثة أشهر فبعثوا إليه أن لم يمكنك المساعدة على توجهنا فلنأذن في الرجوع فأذن للسيد عماد الدين بمفرده واعتذر من منعهم من التوجه لكونه بعيداً عن بلاده المجاورة لمملكة السلطان ركن الدين وأنه متى سمع أني مكنت صاحب مصر من التوجه إلى بركة توهم انتقاض الصلح بيني وبين هولاكو، فيسارع إلى نهب ما جاوره(2/197)
من بلاد وأما أنا قريب منها حتى أذب عنها فعاد عماد الدين وتأخر الفارس مدة سنتين حتى هلك أكثر ما كان الحيوانات وفسد غيرها.
وفي أثناء هذه المدة قصدا عساكر بركة القسطنطينية وأغارت على أطرافها وهرب الباسلوس من القلعة التي كان فيها إلى القسطنطينية وبعث بالفارس إلى مقدم عسكر بركة يعلمه أن البلاد في عهد الملك الظاهر وصلحه وإن بركة في صلح من صالحه وعهد من عاهده فطلب منه أن يكتب له خطة بذلك فكتب وكتب أيضاً أنه يقيم باختياره بمنع التوجه لأنه أنكر عليه طول المقام فرحل العسكر واستصحب معه السلطان عز الدين وكان محبوساً في قلعة من قلاع قسطنطينية فأخرجوه منها كما تقدم، ثم أن الباسلوس جهز الفارسي إلى بركة وبعث معه رسولاً من جهته برسالة ضمنها أن يقرر على نفسه مما يحمله كل سنة ثلاثمائة ثوب أطلس على أن يكون معاهداً ومصالحاً له ومدافعاً عن بلاده صاحب زعوراء فتوجه الفارس إلى بركة، فلما اجتمع به سأله عن تأخره حتى هلك أكثر ما كان معه فاعتذر أن صاحب القسطنطينية منعه فأخرج له خطه بما كتب لمقدم عسكره ثم قال أنا ما أواخذك لأجل الملك الظاهر وهو أولى من وأخذك على كذبك وإفساد ما بعثه معك.
وكتب السلطان عز الدين إلى الملك الظاهر يعرفه بما صدر عن الفارس من التقصير وكونه رحل عسكر بركة عن صاحب القسطنطينية بما أوهمه من كون البلاد في عهد املك الظاهر وكان قادراً على أن(2/198)
يأخذ منه في مقابلة ترحيله عنه قيمة ما فسد من الهدية لاضطراره إلى ذلك فلما قفل الفارس إلى مصر واجتمع بالسلطان نقم عليه ما فعله وقبض عليه وأخذ منه ما كان وصل معه من البضائع وقيمتها أربعون ألف دينار وكان وصوله في جمادى الآخرة سنة خمس وستين.
وفيها خلق المقياس وكسر الخليج يوم الاثنين ثالث عشر شوال سنة إحدى وستين وانتهت الزيادة إلى ثلاث عشرة إصبعاً من ثمان عشر ذراعاً وكان الملك الظاهر بالإسكندرية فخلف عنه الأمير عز الدين أيدمر الحلبي نائب السلطنة بالقاهرة.
فصل وفيها توفي
ريدا فرنس واسمه لويس وهو من أجل ملوك الفرنج وأعظمهم قدراً وأوسعهم مملكة وأكثرهم عساكر وأموالاً وبلاداً وكان قصد الديار المصرية واستولى على طرف منها وملك دمياط في سنة سبع وأربعين واتفق موت الملك الصالح نجم الدين فقام بتدبير الأمور وتقدمة العساكر الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ فاستشهد ثم حضر الملك المعظم توران شاه بن الملك الصالح فقتل على ما هو مشهور وقدر الله تعالى مع هذه الأسباب التي يوجب بعضها استيلاء الفرنج على الديار المصرية بجملتها بل على البلاد وبأسرها ثم إن الله تعالى خذل(2/199)
الفرنج وأهلكهم ورزق المسلمين النصر من حيث لم يحتسبوا فأسر ريداً فرنس وبقي أياماً كثيرة بيد المسلمين ثم أطلق عبد تسلم دمياط من الفرنج وتوجه إلى بلاده وفي قلبه ما فيه مما جرى عليه من ذهاب أمواله ورجاله وأسره فبقي في بلاده ونفسه تحدثه بالعود إلى الديار المصرية وأخذ ثأره فجمع جموعاً عظيمة وأهتم اهتماماً كثيراً لذلك في مدة سنين إلى سنة ستين وستمائة عزم على التوجه إليها فقيل له إنك إن قصدت ديار مصر ربما يجري لك مثل ما جرى في المرة الأولى والأولى أن تقصد تونس من بلاد إفريقية وكان ملكها يومئذ محمد بن يحيى بن عبد الواحد ويلقب المستنصر بالله ويدعى له على منابر إفريقية بالخلافة فإنك إن ظهرت عليه وملكت إفريقية تمكنت من قصد الديار المصرية في البر والبحر فأصغي إلى هذا الرأي وقصد تونس في عالم عظيم ونازلها وكان أن يستولي عليها وكان معه جماعة من الملوك فأوقع الله تعالى في عسكره وباء عظيماً فهلك ريداً فرنس وجماعة من الملوك الذين معه بظاهر تونس في هذه السنة ورجع من بقي منهم إلى بلاهم بالخيبة ووصلت البشرى بذلك إلى الملك الظاهر ركن الدين رحمه الله فكتب إلى سائر بلاده بها.
وكانت نوبة المنصورة المشار إليها من أعظم الوقائع وأجلها نصر الله فيها الإسلام وتداركه بلطفه ورحمته فلا بأس بشرح الحال فيها على وجه الإجمال فقد يقف على هذه الترجمة من لم يطلع على تفصيل الحال(2/200)
في ذلك فتوق نفسه إلى الإطلاع عليه وكانت الفرنج جمعوا وحشدوا وقصدوا دمياط في عدد عظيم وجماعة من ملوكهم في سنة ثماني عشرة وستمائة ونزلوا بر دمياط ونازلوها وضايقوها قريب سنة ففنيت أزواد أهلها ومات أكثرهم في الحصار من وباء حصل لهم فتسلموها والملك الكامل نازل بالمنصورة وما حولها ولا يمكنه مهاجمتهم لكثرتهم وشدة بأسهم، وكان نزول الفرنج قبالة دمياط يوم الثلاثاء ثاني شهر ربيع الأول سنة خمس عشرة وستمائة ثم نزلوا البر الشرقي يوم الثلاثاء سادس عشر ذي القعدة من السنة المذكورة، وأخذ الثغر المذكور يوم الثلاثاء السادس والعشرين من شعبان سنة ست عشرة وستمائة، واستعيد منهم ثغر دمياط المذكور يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رجب سنة ثماني عشرة وستمائة، ومدة نزولهم على دمياط وتملكهم لها وإلى أن انفصلوا عنها ثلاث سنين وثلاثة أشهر وسبعة عشر يوماً.
ومن الاتفاق العجيب نزولهم عليها يوماً الثلاثاء وإحاطتهم بها يوم الثلاثاء وملكهم لها يوم الثلاثاء وقد جاء في الآثار أن الله تعالى خلق المكروه يوم الثلاثاء ولما ملك الفرنج دمياط قالوا هذه البلاد ليس لنا بها خبرة ولا نعرف طرقها ومسالكها لا في البر ولا في البحر يعنون النيل وما ينبغي لنا أن نغرر بأنفسنا ونخرج إلا على بصيرة فاتفق رأيهم على أن جهزوا بعض ملوكهم الأكابر رسولاً وكان خبيراً بالحروب فطناً مجرباً وسيروا جميع من معه من الخدم والحاشية والغلمان وغيرهم خيالة من أعيان فرسانهم وأولي البصائر منهم وقد غيروا زي الجميع(2/201)
وكان مقصودهم أن يكشفوا البلاد ويسلكوها ويخبروا طرقها ليبقى لهم بذلك أنسه، فجاء الرسول إلى الملك الكامل وقال له الملوك والمقدمون يسلموا عليك وقالوا مقصودهم القدس وإنما قصدوا هذه البلاد ليأخذوها ويتوصلوا بها إلى القدس فأنت تسلم إليهم القدس وتأخذ دمياط فأجابهم إلى ذلك وعادوا بالجواب بعد أن أقاموا عنده أياماً وليس قصدهم إلا كشف البلاد لا غير، ثم جاء رسول آخر بالشرح في تقرير هذه القواعد واشتراطات تقتضي المراجعة وتكرر ترداد الرسل ولم يزالوا على هذا المنوال وكل رسول يحضر لا يعود بنفسه ولا أحد ممن معه إلى أن لم يبق من أعيانهم من لا حضر ورأى البلاد وخبرها حسبما أمكن، فلما بلغوا مقصودهم من ذلك حضر رسول يطلب تسليم ما تقرر فقال الملك الكامل سيروا نوابكم يتسلموا القدس وسلموا لنا دمياط فقال الرسول والكرك قال الملك الكامل والله هذا ما سمعته إلى الآن وبعد فالكرك ليست لي ولا بحكمي الكرك لأخي الملك المعظم ولو رمت أن أراها بعيني ما مكنني منها والقدس له أيضاً ولكني استطلقه منه فانفصلوا على غير شيء وقد حصل مقصود الفرنج من رؤية البلاد وكشفها بهذه الحلية.
وقال الشيخ شمس الدين أبو المظفر لما أخذت دمياط كان الملك المعظم عند الملك الكامل فبكيا بكاء شديداً وتأخرت العساكر عن تلك المنزلة ثم قال الكامل للمعظم قد فات ما ذبح وجرى المقدور بما(2/202)
هو كائن وما في مقامك هاهنا فائدة والمصلحة أن تنزل إلى الشام تشغل خواطر الفرنج وتستجلب العساكر من الشرق فعاد إلى الشام ونازل قيسارية وفتحها عنوة وفتح غيرها من حصون الفرنج وهدمه وعاد إلى دمشق بعد أن أخرب بلاد الفرنج، وكان الملك الكامل كثير الحزم والتثبت والتأني لا يرى المخاطرة والمناقشة ما لم يكن على ثقة من قوته ويغلب على ظنه الظفر غلبة تقرب من اليقين فسير إلى إخوته الملك الأشرف والملك المعظم يستنجد بهم فجاؤه بالعساكر، فلما بلغ الفرنج ذلك ضعفت أنفسهم وقالوا نحن جئنا نقاتل الملك الكامل وفينا له ولعسكره أما إذا اجتمع هو وأخوته فلا واتفق أن الفرنج أرادوا مناجزته قبل وصول النجد فخرجوا بفارسهم وراجلهم وأرسوا إلى بعض الترع وكان النيل زائداً جداً ففتح المسلمون عليهم الترع من كل مكان وأحدقت بهم عساكر الملك الكامل وهم في الوحل لا يقدرون على السلوك ولم يبق لهم وصول إلى دمياط وجاء أسطول المسلمين فأخذوا مراكبهم ومنعهم من أن تصل إليهم ميرة من دمياط وكانوا خلقاً عظيماً وانقطعت أخبارهم عن دمياط وكان فيهم مائة كند وثماني مائة من الخيالة المعروفين وملك عكا ونائب البابا وجماعة من الملوك ومن التركبلية والرجالة ما لا يحصى، فلما عاينوا الهلاك أرسلوا إلى الملك الكامل يطلبون منه الصلح والرهائن ويسلمون(2/203)
دمياط فقال الملك الكامل للرسول ما أفعل أصالحهم وهم في قبضتي وأخذهم برقابهم فقال له الرسول وكان من ملوكهم ما كأنك تدري ما تقول هؤلاء ملوك الفرنج وفرسانهم وشجعانهم يسلمون أنفسهم إليك إلا بعد أن يقتل كل واحد منهم واحداً من عسكرك أو كل اثنين واحداً أو كل ثلاثة واحداً أو كل أربعة واحداً أو كل خمسة واحداً، فإذا قتلوا من عسكرك بمقدار خمسهم من يبقى معك فعلم الملك الكامل أن الصواب معه مع ما كان يراه من المسالمة وعدم المغافصة والمخاطرة فأجابهم إلى الصلح، ووصل الملك الأشرف والملك الأشرف والملك المعظم في ذلك الوقت جرائد على البريد والعساكر متقطعة وراءهم فطلبوا من الملك الكامل رهائن ليسلموا دمياط ويحضر عنده ملوكهم ونصوا على الملك الأشرف في الرهينة فقال الملك الكامل الملك الأشرف أكبر مني قدراً وأكثر بلاداً وقلاعاً وعساكر وقد ترك مملكته وجاء بنفسه لنصرتي كيف يسعني أن أخاطبه في مثل ذلك ولكن أنا أسير لكم ولدي وابن أختي فسير لهم الملك الصالح نجم الدين وابن أخته شمس الملوك، وجاء سائر ملوكهم إلى الملك الكامل فالتقاهم وأنعم عليهم وضرب لهم الخيام وجلس لهم مجلساً عظيماً في خيمة عالية ودهليز هائل وأعد سماطاً عظيماً وأحضر ملوك الفرنج وكنودهم وأعيانهم ووقف الملك الأشرف والملك المعظم في خدمته وقام شرف الدين راجح الحلى الشاعر فأنشد(2/204)
قصيدة امتدحه بها من جملتها:
هنيئاً فإن السعد راح مخلداً ... وقد أنجز الرحمن بالنصر موعدا
حبانا إله الخلق فتحاً بدا لنا ... مبينا وأنعاماً وعزاً مؤبدا
تهلل وجه الدهر بعد قطوبه ... وأصبح وجه الشرك بالظلم أسودا
ولما طغا البحر الخضم بأهله ال ... طغاة وأضحى بالمراكب مزبدا
أقام لهذا الدين من سل عزمه ... صقيلاً كما سل الحسام مجردا
فلم ينج إلا كل شلو مجدل ... ثوى منهم أمن تراه مقيدا
ونادى لسان الكون في الأرض رافعاً ... عقيرته في الخافقين ومنشدا
أعباد عيسى أن عيسى وحزبه ... وموسى جميعاً يخدمون محمدا
من أبيات، ووقع الصلح بين الملك الكامل والفرنج يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رجب وسار بعض الفرنج في البر وبعضهم في البحر إلى عكا وتسلم الملك الكامل دمياط ووصلت العساكر الشرقية والشامية بعد تسلم دمياط، فهذه خلاصة نوبة دمياط الأولى.
وذكر القاضي جمال الدين محمد بن واصل أن الفرنج نازلوها سنة خمس عشرة وملكوها سنة ست عشرة وستمائة والأصح أن الواقعة سنة ثماني عشرة وستمائة والله أعلم، وأما نوبة دمياط الآخرة فإن ريدا فرنس مقدم الأفرنسيسية من الفرنج وهو المشار إليه في أول هذه الترجمة خرج من بلاده في جموع عظيمة طامعاً في الديار المصرية وتملكها وشتا بجزيرة قبرص سنة ست وأربعين، وكان أعظم ملوك الفرنج(2/205)
وأشدهم بأساً متديناً بدين النصرانية مرتبطاً به فحدثته نفسه أن يستعيد البيت المقدس وعلم أن ذلك لا يتم له إلا بتملك الديار المصرية فقصدها سنة سبع وأربعين وكان جمعه يزيد على خمسين ألف وقيل كان يزيد على مائة ألف بكثير، وبلغ الملك الصالح نجم الدين ما عزم عليه من قصد الديار المصرية فأخذ في جمع الذخائر والأقوات والزرد خاناة وآلات الحرب بدمياط واستكثر من ذلك وهيأ الشواني بالصناعة وعمرها بالرجال والعدد وأمر الأمير فخر الدين يوسف ابن شيخ الشيوخ أن ينزل على جيزة دمياط في العساكر مقدماً عليها فنزل بها وبينه ويبن دمياط بحر النيل، وأقام الملك الصالح بأشمون طناج فلما كان ثاني ساعة من نهار الجمعة لتسع بقين من صفر سنة سبع وأربعين وصلت مراكب الفرنج وفيها جموعهم العظيمة وقد انضم إليهم فرنج الساحل فأرسلوا بإزاء المسلمين.
وفي يوم الجمعة ثاني يوم نزولهم شرعوا في الخروج إلى البر الذي فيه المسلمون وضربت خيمة عظيمة حمراء لريدا فرنس وناوشهم بعض المسلمين فاستشهد في ذلك اليوم الوزيري وهو من أمراء الديار المصرية والأمير نجم الدين بن شيخ الإسلام وكان رجلاً صالحاً رحمهما الله، فلما أمس المسلمون رحل بهم الأمير فخر الدين وقطع بهم الجسر إلى البر الشرقي الذي فيه دمياط وخلا البر الغربي للفرنج ثم رحل بالعساكر طالباً أشمون طناج وخلا البر الشرقي والغربي من عساكر المسلمين فخاف أهل دمياط على أنفسهم وكان بها جماعة شجعان(2/206)
من الكنانية فألقى الله في قلوبهم الرعب فخرجوا هم وأهل دمياط على وجوههم طول الليل ولم يبق بدمياط أحد البتة، ورحلوا تحت الليل مع العسكر هاربين إلى أشمون طناج ولو غلقوا أبوابها وأقاموا بها مع مشيئة الله لم يقدر العدو عليها ولما كان صباح الأحد جاء الفرنج إلى دمياط فوجدوها صفراً من الناس وأبوابها مفتحة فملكوها صفوا عفواً واحتووا على ما فيها من العد والأسلحة والذخائر والأقوات والمجانيق، فلما وصلت العساكر وأهل دمياط إلى الملك الصالح حنق على الكنانيين فشنقهم جميعهم وكان فيهم شيخ له ابن فسأل أن يشنق قبل ولده لئلا يراه فحمل الملك الصالح ما عنده من الجبروت وقلة الرحمة والحنق على أن شنق الولد قبل والده وعينه تراه ثم شنق والده بعده وعظم على الناس شنق الكنانيين وأطلقوا لسنتهم بسبب الملك الصالح وكونه تزود بدمائهم وهو في آخر رمق وقد يئس من نفسه ولم يمكنه أن يقول للأمير فخر الدين وبقية العسكر شيئاً لقوة مرضه وعجزه، ثم رحل الملك الصالح بالعساكر إلى المنصورة وهي شرقي النيل فنزل بقصرها الذي أنشأه الملك الكامل بها وضرب دهليزه إلى جانبه وكان استقراره بالمنصورة يوم الثلاثاء لخمس بقين من صفر وشرعت العساكر في تجديد الأبنية وقامت بها الأسواق وأصلح السور الذي كان على البحر وستر بالستائر وجاءت الشواني والحراريق(2/207)
بالعدد الكاملة والمقاتلة فأرسوا قدام السور وحضر من الرجالة والغزاة المطوعة والعربان من سائر النواحي خلق لا يحصون وشرع العربان في الإغارة على الفرنج وحصن الفرنج أسوار دمياط وشحنوها بالمقاتلة وفي كل وقت يحضر المسلمون جماعة سرى من الفرنج واتفقت وفاة الملك الصالح في حدود منتصف شعبان سنة سبع وأربعين، فلما تحقق الفرنج موته رحلوا بجملتهم من دمياط وشوانيهم تحاذيهم في البحر ونزلوا على فارس كور ثم تقدموا منها مرحلة، وذلك يوم الخميس لخمس بقين من شعبان، ولما كان يوم الثلاثاء مستهل شهر رمضان وقع بين المسلمين والفرنج وقعة استشهد فيها جماعة من الجند وغيرهم، وفي يوم الأحد عشر شهر رمضان وصلت الفرنج طرف جزيرة دمياط وهي المنزلة التي نزلوها في أيام الملك الكامل وانتصر المسلمون عليهم فيها والمسلمون قبالة الفرنج وبينهم النيل وخندق الفرنج على أنفسهم وأداروا عليهم سوراً وستروه بالستائر ونصبوا المجانيق يرمون بها المسلمين وأرست شوانيهم بإزائهم في النيل وشواني المسلمين بإزاء المنصورة ونشب القتال بين الفريقين براً وبحراً، وكل يوم يقتل من الفرنج ويؤسر جماعة وفي يوم الأربعاء لسبع مضين من شوال أخذ المسلمون من الفرنج شينيا فيه مائتا رجل وكند كبير، وفي يوم الخميس منتصف شوال ركبت الفرنج والمسلمون ودخل المسلمون إلى برهم واقتتلوا قتالاً شديداً فقتل من الفرنج أربعون فأرسا، وفي يوم الخميس لثمان بقين من شوال أحرق(2/208)
المسلمون للفرنج مرمة عظيمة في البحر واستظهر عليهم المسلمون استظهاراً بيناً.
ومن غريب ما حكى أن شخصاً من المسلمين دخل عسكرهم ومعه فرس يقصد بيعه عليهم فمر بشخص في خيمة وبين يديه جماعة غلمان فطلبه إليه وقال له بلسان ترجمانه تبيع هذا الفرس قال نعم فقال لغلامه خذه منه فأخذه وأحضر جرابين ملآنة دراهم ففرغها بين يديه وقال له خذ ثمن فرسك قال ما الذي آخذ قال خذ ما تختار إلى أن ترضى، فأخذت قريب خمسة آلاف درهم ولعل فرسه لا يساوي ثماني مائة درهم فقال رضيت قال نعم قال نعم قال اذهب بمالك فلما أبعد رده وقال له نحن قد خرجنا من هذا البحر ومعنا دراهم كثيرة وذهب كثير ما لنا به حاجة وما معنا خيل ونحن محتاجون إلى الخيل فمن أحضر إلينا فرساً حكمناه في الثمن كما رأيت فخرج ذلك الرجل من عندهم، وأشهر هذا الأمر بين العربان والتركمان وغيرهم فجلب إليهم من الخيول بهذه الطريق فوق حاجتهم واشتروها بما اختاروا من الثمن فإن الخروج من عسكرهم بفرس خطر جداً والدخول أسهل فما يبقى بعد الدخول بالفرس إلى عسكرهم إلا بيعه ولو بأقل الأثمان، ولما كان بكرة الثلاثاء خامس ذي القعدة ركب الفرنج ونزلوا بخيولهم في مخاضة سلمون ببحر أشمون دلهم عليها بعض المفسدين وكبسوا عسكر المسلمين فلم يشعر بهم المسلمون إلا وقد خالطوهم وكان الأمير فخر الدين في الحمام فأتاه الصريخ فركب(2/209)
دهشاً غير معتد ولا متحفظ فصادفه جماعة من الفرنج فاستشهد إلى رحمة الله تعالى، ودخل ريدا فرنس المنصورة ووصل إلى قصر السلطان الذي على البحر وتفرقت الفرنج في أزقة المنصورة وهرب كل من فيها من الجند والعامة والسوقة يميناً وشمالاً وكادت شأفة الإسلام تستأصل وأيقن الفرنج بالظفر واشتد الأمر وأعضل الخطب فانتدب لهم جماعة من فرسان المسلمين وأولي البصائر وحملوا عليهم حملة رجل واحد فزعزعوا أركانهم وأخذتهم السيوف فقتل منهم خلق كثير قريب ألفي وخمس مائة من فرسانهم وصناديدهم وشجعانهم ولولا ضيق مجال القتال لاستؤصلوا ومضى من سلم إلى مكان يقال له جديلة واجتمعوا به ودخل الليل فضربوا عليهم سوراً وخندقاً وأقامت طائفة بالبر الشرقي، وكانت هذه الواقعة مقدمة النصر وورد المنهزمون من المسلمين آخر النهار من ذلك اليوم إلى القاهرة ولا علم لهم بما تجدد من النصر وأخبروا بما شاهدوا من هجوم الفرنج المنصورة فانزعج الناس، فلما طلعت الشمس من يوم الأربعاء وردت البشرى بالنصر وزين البلدان وعظم السرور.
ولما استقر الفرنج بمنزلتهم كانت الميرة تأتيهم من دمياط في النيل فعمد المسلمون إلى مراكب شحنوها بالمقاتلة وكانوا قد حملوها على الجمال إلى بحر المحلة وألقوها فيه وفيه ماء من أيام زيادة النيل واقف لكنه متصل بالنيل فلما حاذت مراكب الفرنج وهي مقلعة من دمياط بحر(2/210)
المحلة وفيه المراكب المكمنة للمسلمين خرجت عليها المراكب من بحر المحلة ووقع القتال بين الفريقين وجاءت أساطيل المسلمين منحدرة من جهة المنصورة والتقى الأسطول والمراكب المكمنة وأحاطوا بهم وقبضوهم أخذاً باليد، وكانت عدة المراكب المأخوذة من الفرنج اثنين وخمسين مركباً وقتل وأسر ممن فيها نحو ألف رجل وأخذ ما فيها من الميرة ثم حملت الأسى على الجمال وقد بهم العسكر وانقطعت الميرة بسبب ذلك عن الفرنج ووهنوا وهنا عظيماً هذا وحجارة مجانيقهم تقع إلى جهة أساطيل المسلمين، وكان يوماً مشهوداً أعز الله فيه الإسلام وأوهى قوى أهل الشرك واشتد من يومئذ عندهم الغلاء وعدمت الأقوات وبقوا محصورين لا يستطيعون المقام ولا الذهاب وطمع فيهم المسلمون.
وفي مستهل ذي الحجة أخذ الفرنج من مراكب المسلمين التي في بحر الملحة سبع حراريق وهرب من بها من المسلمين.
وفي يوم عرفة تاسع ذي الحجة خرجت شواني المسلمين على مراكب وصلت للفرنج تحمل الميرة فالتقوا عند مسجد النصر فأخذت شواني المسلمين من مراكب الفرنج اثنين وثلاثين مركباً منها تسع شواني فازداد عند ذلك ضعف الفرنج ووهنهم وقوى الغلاء عندهم وشرعوا في مراسلة المسلمين وطلب الهدنة وإن يسلموا ثغر دمياط على أن يأخذوا عوضه بيت المقدس وبعض الساحل فلم تقع الإجابة إلى ذلك.
وفي يوم الجمعة لثلاث بقين من ذي الحجة أحرقت الفرنج أخشابهم كلها وأفنوا مراكبهم وعزموا على الهرب إلى دمياط ودخلت سنة(2/211)
ثمان وأربعين وهم على ذلك، فلما كانت ليلة الأربعاء لثلاث مضين من المحرم رحلوا بفارسهم وراجلهم إلى دمياط ليمتنعوا بها وأخذت مراكبهم في الانحدار في النيل قبالتهم فعدا المسلمون لي برهم وركبوا أكتافهم واتبعوهم وطلع الصباح من يوم الأربعاء المذكور وقد أحاط بهم المسلمون وأخذتهم سيوفهم واستنزلوا عليهم قتلاً وأسراً ولم يسلم منهم إلا الشاذ فبلغت عدة القتلى يومئذ ثلاثين ألفاً، وانحاز الملك ريدا فرنس والأكابر من أصحابه والملوك إلى تل هناك فوقفوا مستسلمين طالبين الأمان فأتاهم الطواشي محسن الصالحي فأمنهم فنزلوا على أمانه واحتيط عليهم ومضى بريداً فرنس وبهم إلى المنصورة وضرب في رجل ريدا فرنس القيد واعتقل في الدار التي كان نازلاً بها فخر الدين إبراهيم ابن لقمان كاتب الإنشاء ووكل به الطواشي جمال الدين صبيح المعظمي وفي هذا الواقعة يقول جمال الدين يحيى بن مطروح رحمه الله:
قل للفرنسيس إذا جئته ... مقال حق عن قوول فصيح
آجرك الله على ما جرى ... من قتل عباد يشوع المسيح
أتيت مصراً تبتغي ملكها ... تحسب أن الزمر يا طبل ريح
فساقك الحين إلى أدهم ... ضاق به عن ناظريك الفسيح
وكل أصحابك أوردتهم ... بحسن تدبيرك بطن الضريح(2/212)
خمسون ألفاً لا يرى منهم ... إلا قتيل أو أسير جريح
وفقك الله لأمثالها ... لعل عيسى منكم يستريح
إن كان باباكم بذا راضياً ... فرب غش قداتي من نصيح
وقل لهم أن أضمروا عودة ... لأخذ ثأر أو لقصد صحيح
ولما جرى ذلك رحل الملك المعظم توران شاه والعساكر إلى جهة دمياط ونزل بفارس كور وهو متراخ عن قصد دمياط وانتزاعها وسير البشائر إلى سائر البلاد بما تسنى هذا النصر العظيم، واتفق قتل المعظم على الصورة المشهورة فلا حاجة إلى شرحه والأمر على ذلك واستقر في الأتابكية وتقدمة العساكر الأمير عز الدين أيبك التركماني كما تقدم في ترجمته والسلطنة لشجرة الدر وشرعوا في الاحديث مع ريدا فرنس في تسليم دمياط إلى المسلمين وكان المتحدث معه الأمير حسام الدين بن أبي علي باتفاق الأتابك والأمراء عليه فجرى بينه وبين ريدا فرنس محاورات ومراجعات حتى وقع الاتفاق على تسليم دمياط وإن يذهب بنفسه ومن معه من الملوك والأكابر سالمين، وحكى الأمير حسام الدين بن أبي علي باتفاق الأتابك والأمراء عليه فجرى بينه وبين ريدا فرنس محاورات ومراجعات حتى وقع الاتفاق على تسليم دمياط وإن يذهب بنفسه ومن معه من الملوك والأكابر سالمين، وحكى الأمير حسام الدين عنه أنه كان فطناً عاقلاً حازماً قال حسام الدين قلت له في بعض محاورتي له كيف خطر للملك مع ما أرى(2/213)
من عقله وفضله وصحة ذهنه أن يقدم على خشب ويركب متن هذا البحر ويأتي إلى هذه البلاد المملوءة من عساكر الإسلام ويعتقد أنه يحصل له تملكها وفيما فعل غاية التغير بنفسه وأهل ملته فضحك ولم يحر جواباً فقلت له قد ذهب بعض فقهاء شريعتنا أن من ركب البحر مرة بعد أخرى مغررا بنفسه وماله أنه لا يقبل شهادته فضحك وقال لقد صدق هذا القائل وما قصر فيما حكم به.
ولما وقع الاتفاق على تسليم دمياط أرسل ريدا فرنس إلى من بها من الفرنج يأمرهم بتسليمها إلى المسلمين فأجابوا بعد امتناع ومراجعات بينه وبينهم ودخل السنجق السلطاني دمياط يوم الجمعة لثلاث مضين من صفر سنة ثمان وأربعين ورفع على سورها وأعلن بها بكلمة الإسلام، وأفرج عن ريدا فرنس وانتقل هو وأصحابه إلى الجانب الغربي ثم ركب البحر غد هذا اليوم وأقلع هو وأصحابه إلى عكا وأقام بالساحر مدة وعمر قيسارية ثم رجع إلى بلاده، وكانت هذه النصرة أعظم من النصرة الأولى التي كانت في الأيام الكاملية لكثرة من قتل منهم وأسر في هذه المرة لله الحمد والمنة.
وإذ قد جرى ذكر الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ فلا بأس بالتنبيه عليه كان رحمه الله أميراً كبيراً جليل المقدار عالي الهمة فاضلاً عالماً متأدباً جواداً سمحاً ممدحاً خليقاً بالملك لما فيه من الأوصاف الجميلة التي قل مشاركه فيها وكان كريماً إلى العامة كبير النفس شجاعاً(2/214)
حسن التدبير والسياسة محبوباً إلى الخاص والعام مطاعاً في الجند وغيرهم تعلوه الهيبة والوقار وأمه وأم أخوته ابنة شهاب الدين المطهر بن الشيخ شرف الدين أبي سعد عبد الله بن أبي عصرون، وكانت أرضعت الملك الكامل فكان أولادها الأربعة أخوته من الرضاعة وكان يحبهم ويعظمهم ويرى جانبهم ويقدمهم كثيراً خصوصاً الأمير فخر الدين فإنه لم يكن عنده في مكانته لا يطوي عنه سراً ويعتمد عليه في سائر أموره ويثق به وثوقاً عظيماً ويسكن إليه ظاهراً وباطناً ونال الأمير فخر الدين وأخوته من السعادة ما لا ناله غيرهم، ولما ملك الملك الصالح نجم الدين البلاد أعرض عن الأمير فخر الدين وأطرحه واعتقله ثم أفرج عنه وأمره بلزوم بيته ثم ألجأته الضرورة إلى ندبه في المهمات لما لم يجد من يقوم مقامه فجهزه إلى بلاد الملك الناصر داود رحمه الله فأخذها على ما تقدم ولم يترك بيده سوى مسور الكرك ثم جهزه لحصار حمص ثم ندبه لمقاتلة الفرنج فاستشهد على ما ذكرنا، وكان الأمير فخر الدين معماً في أول أمره فألزمه الملك الكامل أن يلبس الشربوش وزي الجند فأجابه إلى ذلك فأقطعه منية السودان بالديار المصرية ثم طلب منه أن ينادمه فأجابه إلى ذلك فأقطعه شبراً فقال ابن البطريق الشاعر:
على منية السودان صار مشربشا ... وأعطوه شبراً عند ما شرب الخمرا
فلو ملكت الفرنج مصر وأنعموا ... عليه ببيوس تنصر للأخرى
وقال فيه وفي عماد الدين أخيه وكان يذكر الدرس بالمدرسة التي(2/215)
إلى جانب ضريح الشافعي رضي الله عنه:
ولد الشيخ في العلوم وفي الإمرة بالمال وحده والجاه
فأمير ولا قبال عليه ... وفقيه والعلم عند الله
وقال في عماد الدين:
جاءني الشافعي عند رقادي ... وهو يبكي بحرقة وينادي
عمر قبتي لعمري ولكن ... هدموا مذهبي بفقه العماد
وقال فيهم ابن عنين:
أولاد شيخ الشيوخ قالوا ... ألقابنا كلها محال
لا فخر فينا ولا عماد ... ولا معين ولا كمال
ولقد قالا غير الحق فإن أولاد الشيخ رحمهم الله كانوا سادات زمانهم وكان لهم مع الإقطاعات مناصب دينية منها المدرسة التي بالقرافة إلى جانب قبة الشافعي رحمة الله عليه، ومنها المدرسة التي إلى جانب مشهد الحسين رضي الله عنه بالقاهرة ومنها خانكاة سعيد السعداء بالقاهرة، ولم تزل هذه المناصب بأيديهم إلى أن ماتوا كلهم وكانت بعد ذلك لولدي عماد الدين وكمال الدين مدة ثم انتزعت منهما ولم يكن للأمير فخر الدين إلا بنت واحدة وكان الأمير فخر الدين ينظم ومن شعره:(2/216)
عصيت هوى نفسي صغير فعندما ... رمتني الليالي بالمشيب وبالكبر
اطلعت الهوى عكس القضية ليتني ... خلقت كبيراً وانتقلت إلى الصغر
وله:
إذا تحققتم ما عند صاحبكم ... من الغرام فذاك القدر يكفيه
أنتم سلبتم فؤادي وهو منزلكم ... وصاحب البيت أدري بالذي فيه
وقال في مملوك له توفي:
لا رغبة في الحياة من بعدك لي ... يا من ببعاده تداني أجلي
إن مت ولم أمت أسىً وأخجلي ... من عتبك لي في يوم عرض العمل
وكان قدم دمشق فنزل في دار أسامة وكان يعاني الشراب فدخل عليه الشيخ عماد الدين بن النحاس وكان يدل عليه وله عنده مكانة كبيرة وقال له يا فخر الدين إلى كم تشير إلى تناول الشراب فقال له يا عماد الدين والله لأسبقنك إلى الجنة إن شاء الله تعالى فكان والله أعلم كما قال استشهد فخر الدين في سنة سبع وأربعين وتوفي عماد الدين في سنة أربع وخمسين وقد ذكرناه هناك وكان للأمير فخر الدين يوم استشهد ست وستون سنة رحمه الله وكان قد رأى قبل مقتله بأيام والدته في المنام وهي تقول له قد أوحشتني وحملته على كتفها فاستشعر من ذلك فقتل ثم حمل من المعركة بقميص واحد وجعل في حراقة إلى القاهرة وحمل من المقياس إلى الشافعي رضي الله عنه فدفن عند والدته وبكى عليه الناس وكان يوماً مشهوداً وعمل له العزاء العظيم(2/217)
رحمه الله تعالى ورثاه غير واحد فممن رثاه الصاخب جمال الدين يحيى ابن مطروح قال:
أأبا المظفر يوسف بن محمد ... أودى مصابك بالندى والسودد
آليت لا أنساك ما هب الصبا ... حتى أوسد في صفيح الملحد
ومنها:
فتكوا يوم الثلاثا فتكة ... فجمع الخميس بها ولك موحد
وخلا الندى من المكارم والعلا ... بخلوه من مثل ذاك السيد
قل ما بدا لك يا حسود فطالما ... فقأت معاليه عيون الحسد
فعليك مني ما حييت تحية ... كالمسك طيبة تروح وتغتدي
وقال لما بلغه نعيه:
فض فما نعى لنا ... يوم الخميس يوسفا
وا أسفي من بعده ... على العلا وإذا أسفا
عبد الرحمن بن محمد بن عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور ابن رافع بن حسن ابن جعفر أبو الفرج عز الدين المقدسي الدمشقي الحنبلي ومولده في ربيع الآخر سنة اثنتين وستمائة وكان عالماً فاضلاً صالحاً ثقة حسن الطريقة له رحلة سمع فيها من جماعة من المتأخرين وهو من بيت الحفظ والحديث وانتفع به جماعة وجده الإمام الحافظ أبو محمد عبد الغني المشهور صاحب التصانيف النافعة والعلوم الواسعة(2/218)
وكانت وفاة عز الدين المذكور في النصف من ذي الحجة بجبل قاسيون ودفن به رحمه الله.
عبد الرحمن بن أبي الليث بن عيسى بن أبي الليث تقي الدين الحموي توفي بحماة في سبع عشري ربيع الآخر من هذه السنة ولم يبلغ من العمر خمسين سنة وكان من أولاد المشايخ حسن الطريقة رضي الأفعال وله زاوية بجامع حماة مشرفة على نهر العاص وهي من أحسن الأماكن وأنضرها يرد عليها الفقراء وغيرهم ووالده الشيخ أبو الليث رحمه الله من الصلحاء الأعيان وهو من جملة أصحاب سيدنا الشيخ عبد الله اليونيني الكبير رحمه الله ومن المنتمين إليه.
عبد الرزاق بن رزق الله بن أبي بكر بن خلف أبو محمد عز الدين المحدث الرسعني مولده يوم الأحد بين الظهر والعصر الثالث والعشرين من شهر رجب سنة تسع وثمانين وخمسمائة برأس عين وتوفي ليلة الجمعة عشاء الآخرة المسفرة من ثاني عشر ربيع الآخر هذه السنة بسنجار ودفن بظاهرها شرقي البلد سمع وحدث وكان فاضلاً عالماً أديباً شاعراً جميل الأوصاف رئيساً من صدور تلك البلاد وأعيان أهلها وكانت له مكانة عند بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل وغيره ومن شعره:
يا من يرينا كل وقت وجهه ... بشراً ويبدي كفه معروفا
أصبحت في الدنيا سرياً بعد ما ... أمسيت فيها بالتقى معروفا
وقال:
نعب الغراب فدلنا بنعيبه ... أن الحبيب دنا أوان مغيبه(2/219)
يا سائلي عن طيب عيشي بعدهم ... جدلي بعيش ثم سل عن طيبه
وقال:
ولو أن إنساناً يبلغ لو عتى ... وشوقي وأشجاني إلى ذلك الرشأ
لا سكنته عيني ولم أرضها له ... ولولا لهيب القلب أسكنته الحشا
علي بن شجاع بن سالم بن علي بن موسى بن حسان بن طوق واسمه عبيد الله بن سند بن علي بن الفضل بن علي بن عبد الرحمن بن علي بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب أبو الحسن كمال الدين العباسي الضرير المصري الشافعي المقرئ مولده في سابع شعبان سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة بالمعتمدية قرية من قرى الجيزية قرأ القرآن بالروايات وتفقه وقرأ الأدب والنحو وسمع الكثير من جماعة من أهل البلاد والقادمين عليه وحدث بالكثير مدة وتصدر بالجامع التعتيق بمصر وبمسجد موسك بالقاهرة مدة لإقراء القرآن الكريم فقرأ عليه جماعة كثيرة وانتفع الناس به انتفاعاً كثيراً وإليه انتهت رياسة الإقراء بالديار المصرية وكان أحد الأئمة المشهورين والفضلاء المذكورين مع ما جبل عليه من حسن الخلق ولين الجانب وكثرة التواضع وتوفي بالديار المصرية في سابع ذي الحجة ودفن من الغد بسفع المقطم رحمه الله.
محمد بن أحمد بن عنتر أبو عبد الله شرف الدين السلمي الدمشقي كان من أعيان أهل دمشق وعدولها وأولي الثروة بها وولي الحسبة بها(2/220)
في أيام التتر فطلب لذلك إلى الديار المصرية فأدركته المنية بها في أوائل صفر رحمه الله.
محمد بن أحمد بن الموفق بن جعفر أبو القاسم علم الدين الأندلسي المرسي اللورقي مولده سنة خمس وسبعين وخمسمائة سمع من عبد العزيز ابن الأخضر وأبي اليمن الكندي وغيرهما واشتغل بالقرآت والنحو والعربية وبرع في ذلك وشرح كتاب المفصل ومقدمة الجزولي وقصيدة الشاطبي وكان إماماً عالماً فاضلاً أحد المشايخ الصلحاء الجامعين بين العلم والعمل وكانت وفاته في سابع شهر رجب بدمشق ودفن من الغد بمقابر باب توما رحمه الله وكان يسمى القاسم أيضاً.
محمد بن عبد الرحيم بن.... أبو عبد الله شهاب الدين المعروف بابن الضياء ويعرف بأجير البهاء كاتب الشروط كان قد فاق كتاب عصره في ذلك وكان الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله يفضله في ذلك على غيره فصار له بذلك شأن عظيم وهو أخذ هذه الصناعة عن الشريف بهاء الدين عبد القاهر بن عقيل العباسي رحمه الله لكنه فاق عليه وتوفي في السابع والعشرين من شهر رجب هذه السنة بدمشق ولم يكن يشهد على الحكام ولا يتعاطى ذلك لاستغنائه بصناعته وبما يتحصل له من الأجر الوافرة قيل أنه كان يكتب في اليوم الواحد ما يتحصل له فيه من الأجرة فوق المائة درهم ولعل هذا كان يقع له(2/221)
في غالب الأوقات ومات وهو في عشر الستين رحمه الله تعالى.
محمد بن نصر الله بن المظفر بن أسعد بن حمزة بن أسد بن علي ابن حمزة أبو الفضل جمال الدين التميمي الدمشقي المعروف بابن القلانسي مولده بدمشق في ذي الحجة سنة ست وستمائة سمع من أبي اليمن الكندي وغيره وحدث هو وغير واحد من أهل بيته وكان من العدول الرؤساء الأعيان ومن أولي الثروة والوجاهة بدمشق وتوفي في الرابع والعشرين من جمادى الأولى ودفن بسفح قاسيون رحمه الله.
إلياس بن عيسى بن محمد الأربلي الشيخ الصالح الفاضل كان مقيماً بدمشق وأكثر نهاره بالجامع في رواق الحنابلة وكان على ذهنه من الحكايات والنوادر والوقائع شيء كثير من حسن الحديث والمحاضرة وكان مليح الشكل ظريفاً لطيفاً وكان والدي رحمه الله يحبه ويؤثر سماع حديثه فكان لا يكاد يفارقه إذا كان والدي بدمشق وله على والدي رسم من النفقة يسيره إليه في كل سنة وكان يجلس عليه الأعيان والصدور لصلاحه وحسن شكله وسمته وحديثه ثم سكن جبل قاسيون في آخر عمره وبه توفي في ثالث عشر شعبان وهو في عشر الثمانين رحمه الله تعالى.
أبو الهيجاء بن عيسى بن خشترين الأمير مجير الدين الأزكشي الكردي الأموي كان من أعيان الأمراء وأكابرهم وشجعانهم وكان له في مصاف التتار بعين جالوت اليد البيضاء والأثر العظيم ولما قدم الملك المظفر(2/222)
قطن رحمه الله دمشق بعد الوقعة رتب الأمير علم الدين سنجر الحلبي نائباً عنه وجعل الأمير مجير الدين المذكور مشاركاً له في الرأي والتدبير ويجلس معه في دار العدل وأقطعه بالشام خبزاً جليلاً فبقي مقيماً بالشام إلى أن درج إلى رحمة الله تعالى في تاسع عشري شعبان بدمشق ودفن بجبل قاسيون رحمه الله قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة رحمه الله ووالده مات في حبس الملك الأشرف بن الملك العادل ببلاد الشرق هو وعماد الدين أحمد بن المشطوب رحمهما الله.
وإذ قد جرى ذكر هما فلا بأس بشرح شيء من خبرهما كان الأمير حسام الدين عيسى بن خشترين من أعظم أمراء الملك الظاهر بحلب فلما توفي الملك الظاهر وترك ولده الملك العزيز صغيراً حصل الطمع في بلاده لصغر سنه فسيرت والدته الصاحبة بنت الملك العادل باتفاق الأتابك شهاب الدين طغريل إلى الملك الأشرف واستدعته فحضر إلى حلب واجتمع بأخته وبالأتابك شهاب الدين فقررا معه القيام بنصرة الملك العزيز فأجاب إلى ذلك وأقام بحلب مدة وصار الحاكم المنصرف فخاف الأمراء الظاهرية من استيلائه واستقلاله وقالوا كيف العمل فقل حسام الدين دعوني وإياه فركب يوماً وهم في خدمته على العادة فلما عادوا إلى ظاهر البلد ترجل حسام الدين بن خشترين ووقف(2/223)
بين يديه وقال يا خوند هذا اليتيم قد ضيقت عليه بمقامك في حلب ونشتهي أن تتوجه إلى بلادك فما تحملك هذه البلاد ومنعه من دخول حلب وظهر للملك الأشرف أن ذلك باتفاق من سائر الأمراء فلم يسعه إلا التروح عن حلب وبقي في قلبه من حسام الدين كونه تجاسر عليه بهذه المخاطبة وأوجهه بها واتفق أنه ظفر به بعد ذلك بمدة فحبسه وضيق عليه فمات في حبسه رحمه الله.
وأما عماد الدين أبو العباس أحمد بن الأمير سيف الدين أبي الحسن علي بن أحمد بن أبي الهيجاء بن عبد الله بن أبي الخليل بن مرزبان الهكاري فكان أميراً كبيراً جليلاً شجاعاً جواداً واس العطاء عالي الهمة يضاهي كبار الملوك في كثرة الحشم والغلمان والأتباع تهابه الملوك وله وقائع مشهورة في الخروج علهم وكان ولده يعرف بالأمير الكبير ذلك علماً عليه لا يشاركه فيه غيره وجده أبو الهيجاء صاحب العمادية وعدة قلاع من بلاد الهكارية وكان سيف الدين كبير القدر عند السلطان صلاح الدين رحمه الله وكتب إليه يخبره بولادة عماد الدين وان عنده امرأة أخرى حاملاً فكتب القاضي الفاضل عن السلطان جوابه وصل كتاب الأمير الأعلى الخبر بالولدين الحال على التوفيق، والسائر كتب الله سلامته في الطريق، فسررنا بالغرة الطالعة من لثامها وتوقعنا المسرة بالثمرة الباقية في كمامها، وكان سيف الدين في عكا لما حاصرها الفرنج فلما أخذوها وخلص وصل إلى صلاح الدين وهو بالقدس يوم الخميس(2/224)
مستهل جمادى الآخرة سنة ثمان وثمانين وخمسمائة فدخل عليه بغتة وعنده الملك العادل فنهض إليه صلاح الدين واعتنقه وسر به سروراً عظيماً وأخلى المكان وتحدث معه طويلاً، وقال قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان رحمه الله رأيت بخط القاضي الفاضل ورد الخبر بوفاة الأمير سيف الدين المشطوب أمير الأكراد وكبيرهم وكان وفاته يوم الأحد الثاني والعشرين من شوال سنة ثمان وثمانين وخمسمائة بالقدس وخبزه يوم وفاته نابلس وعبرتها ثلاثمائة ألف دينار وكان بين خلاصه من أسره وحضور أجله دون مائة يوم، فسبحان الحي الذي لا يموت وتهدم به بنيان قوم، والدهر قاض ما عليه لوم، وقوله تهدم به بنيان قوم حل به بيت عبدة بن الطبيب في مرثية قيس بن عاصم المنقري سيد أهل الوبر من ثلاثة أبيات وهو الآخر منها:
عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترحما
تحية من غادرته غرض الردى ... إذا زار عن شحط بلادك سلما
فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما
وأما الأمير عماد الدين فكان السلطان صلاح الدين أقطعه معظم خبز والده بعد وفاته وبقي إلى سنة ست عشرة وستمائة فاتفق مع الملك الفائز سابق الدين إبراهيم بن الملك العادل على الملك الكامل واستحلف جماعة من العسكر وكان مطاعاً فيهم وعرف الملك الكامل فرحل إلى أشمون وعزم على التوجه إلى اليمن ويئس من البلاد واطلع على ذلك(2/225)
الملك المعظم فقال له لا بأس عليك وركب آخر النهار وجاء إلى خيمة ابن المشطوب وقال قولوا لعماد الدين يركب حتى نسير فأخبروه فخرج من الخيمة بغير صباغات وركب ولحق الملك المعظم فأبعد به عن العسكر وقال له الملك الأشرف قد طلبك وهو محتاج إليك فتسير إليه الساعة فقال ما في رجلي صباغات فقلع الملك المعظم صباغاته وأعطاه إياها ووكل به جماعة وأعطاه خمس مائة دينار وقال كل مالك يلحقك والله ما يضيع لك خيط واحد وسار به الموكلون ورجع الملك المعظم إلى خيمته فوقف حتى جهز خيله وغلمانه وثقله ولم يبق له خيطاً واحداً وساروا خلفه وعاد الملك المعظم إلى دهليزه فحضر إليه الملك الكامل وقبل رجله وشكره على ما فعل، وأما عماد الدين فوصل إلى حماة فأقام بها فبعث له الملك الأشرف منشوراً بأرجيش وغيرها وسير إليه الخلع والإنعام فسار إليه فأكرمه وأحسن إليه فصار يركب بالشبابة ويعمل في السلطنة أعظم مما يعمل الملك الأشرف ثم خامر على الملك الأشرف وعاث في بلاده وساعده صاحب ماردين ثم اتفق الملك الشرف وصاحب ماردين واصطلحا فدخل عماد الدين تل أعفر فسار إليه فارس الدين بن صبرة من نصيبين وبد الدين لؤلؤ من الموصل فحصراه وأنزله بدر الدين لؤلؤ بالأمان وحمله إلى الموصل ثم بعد مدة قريبة قيده وحمله إلى الملك الأشرف فألقاه في الجب وبقي فيه إلى أن مات رحمه الله في شهر ربيع الآخر سنة تسع عشرة وستمائة بحران ونبت له ابنته قبة على باب مدينة رأس عين ونقلته(2/226)
من حران إليها ودفنته بها رحمه الله، وكانت ولادته في سنة خمس وسبعين وخمسمائة تقديراً ولما كان في السجن كتب بعض من كان متعلقاً بخدمته إلى الملك الأشرف دوبيت وهو.
يا من بدوام سعده دار الفلك ... ما أنت من الملوك بل أنت ملك
مملوكك ابن المشطوب في السجن هلك ... أطلقه فإن الأمر لله ولك
ولما كان في السجن كتب إليه بعض الأدباء:
يا أحمد ما زلت عماد للدين ... يا أشجع من أمسك رمحاً بيمين
لا تيأسن أن جعلت في سجنهم ... ها يوسف قد أقام في السجن بضع سنين
وهذا مأخوذ من قول البحتري من جملة أبيات.
أما في رسول الله يوسف أسوة ... لمثلك محبوساً على الظلم والأفك
قام جميل الصبر في السجن برهة ... فآل به الصبر الجميل إلى الملك
وقد رثي الأمير جمال الدين أبو الطيب خشترين بن تليل الحكمي الأميرين المشار إليهما عماد الدين وحسام الدين رحمهما الله بقصيدة طويلة مطلعها:
نعى الناعي فاعلن في النحيب ... ففت كبود شبان وشيب
نعى عيسى وأحمد فاستهلت ... غريبات الدموع من الغروب(2/227)
نعى كسرى الملوك بكل أرض ... وقيصر في الجلالة والمهيب
نعى قس بن ساعدة الأيادي ... وقيس الرأي في دفع الكروب
من أبيات طويلة، وهذا الشاعر هو خشترين بن تليل بن أبي الهيجاء ابن أفشين بن خشترين الكردي الحكمي الأربلي من بني مروان بن الحكم ولد بمصر سنة ثمان وسبعين وخمسمائة وتوفي ليلة الثامن والعشرين من جمادى الأولى سنة تسع عشرة وستمائة بإربل وتخرج على المهذب سالم بن سعادة الحمصي، وله أشعار حسنة، فمنها قصيدة مدح بها نسيبه الأمير حسام الدين عيسى بن خشترين:
شاقني بالغوير ربع يباب ... ظعنت عنه زينب والرباب
منزل طالما سقاه سحاب ... من جفوني إن ضن عنه السحاب
وغدا في ربوعه كل يوم ... للغوادي وللدموع انسكاب
شمرت نحوه الخطوب فأضحى ... لذيول السحاب فيه انسحاب
ولعهدي به وفيه شموس ... مشرقات أفلاكهن القباب
كل مرتجة الروادفقد رف عليها الصباوراق الشباب
لست أدري وقد رشفت لماها ... أمدام بثغرها أم رضاب
وشقيق زها على وجنتيها ... عند وقت العتاب أم عناب
أظهرت ساعة السلام بنانا ... قد نمى من دمي عليه الخضاب
حجبوها وما دروا أن من أسياف أجفانها عليها حجاب
فلم ذا أعلل القلب منها ... بغرور الوعود وهي سراب(2/228)
بعد أن حط باز شيب عذاري ... في ربوع الصبا وطار الغراب
وإذا أول الشبيبة أخطأ ... فبعيد على الأخير الصواب
لا زمان الشباب يبقى على العهد مقيماً ولا الحسان الكعاب
وإذا جارت النوائب وامتد لدهري إلى ظفر وناب
؟ حسم النائبات عني حسام حكمي له القلوب قراب من أيبات، وله من جملة قصيدة:
خليلي إن العيش في الدهر عارة ... فناهبه الدهر الذي هو ناهبه
وبادر إلى يوم ترن قيانه ... فلا بد من يوم ترن نوادبه
وقال من أبيات:
ضحكت ثغور البيض لما إن بكت ... حدق السوابغ بالنجيع القاني
أبداً تريك من الأسنة ألسناً ... تتلو عليك مقاتل الفرسان
؟؟
السنة الثانية والستون وستمائة
دخلت هذه السنة والخليفة الحاكم بأمر الله وملوك الطوائف على القاعدة المستقرة في السنة الخالية خلا الملك الصالح ركن الدين إسماعيل صاحب الموصل فإن التتر قتلوه واستولوا على الموصل.
متجددات السنة
في أولها انتهت عمارة المدرسة الظاهرية التي بين القصرين بالقاهرة ورتب في تدريس الإيوان القبلي القاضي تقي الدين محمد بن الحسين(2/229)
ابن رزين الشافعي وفي تدريس الإيوان الذي يواجهه القاضي مجد الدين عبد الرحمن ابن العديم والشيخ شرف الدين الدمياطي لتدريس الحديث في الإيوان الشرقي والمقرئ كمال الدين المحلى في الإيوان الذي يقابله لإقراء القرآن بالروايات والطرق ورتب جماعة يقرؤون السبع بهذا الإيوان أيضاً بعد صلاة الصبح ووقف بها خزانة كتب وبنى إلى جانبها مكتباً لتعليم الأيتام وأجرى عليهم الخبز في كل يوم وكسوة الفصلين وسقاية تعين على الطهارة وجلس للتدريس بهذه المدرسة يوم الأحد سادس عشر صفر وحضر الصاحب بهاء الدين بن حنا والأمر جمال الدين بن يغمور والأمير جمال الدين أيدغدي العزيزي وغيرهم.
وفي صفر لما توفي الملك الأشرف صاحب حمص تسلم الأمير بدر الدين بيليك العلائي حمص عشية الاثنين رابع عشرة ثم وصل بعد يومين بدر الدين يونس بن دلدرم الياروقي متولياً لها ومعه كمال الدين إبراهيم بن شيث وللرحبة وكان بها علاء الدين على الكرجاوي وتدمر سلمت بعد شهرين من وفاة الملك الأشرف.
وفي صفر فوض الملك الظاهر قضاء القضاة بحلب وأعمالها إلى(2/230)
القاضي كمال الدين بن الأستاذ علي ما كان عليه فتوجه من القاهرة يوم الجمعة السابع والعشرين منه ولم يطل مقامه بحلب وتوفي رحمه الله. وفيها سمر جماعة من المعربين بالقاهرة فتكوا في المسلمين، ومما جرى لهم أنهم طلبوا طبيباً حسن الملبس فقتلوه فلما سمر أحدهم للنجار أرفق بي فإني مريض فقال له النجار فآتيك بطبيب آخر.
وفي يوم الثلاثاء العشرين من ربيع الآخر جاءت بالقاهرة زلزلة عظيمة جداً.
وفيها استدعى الملك الظاهر لعلاء الدين أيدكين الشهابي إليه وأمره أن يرتب الأمير نور الدين علي بن مجلى نائباً عنه في حلب فلما وصل علاء الدين إلى القاهرة عزله وأقر ابن مجلى في نيابة السلطنة فأحسن السيرة وعمر البلاد ورفق بالرعية وأفرد الخاص على ما كان عليه في الأيام الناصرية.
وفيها أمر الملك الظاهر بإنشاء خان بالقدس الشريف لابن السبيل وفوض بناءه ونظره إلى جمال الدين محمد بن نهار ونقل إليه من القاهرة باباً كان على دهليز بعض قصور الخلفاء ولم تم أوقف عليه قيراطاً ونصفاً بالطرة وثلث وربع قرية المشيرفة من بلد بصري ونصف(2/231)
قرية لفيا من أعمال القدس يصرف ربع ذلك في خبز وفلوس وإصلاح نعال من يرد عليه من المسافرين وبنى به طاحوناً وفرناً.
وفيها اشتد الغلاء بمصر وأعمالها فبلغ الأردب القمح مائة وخمسة دراهم نقرة والشعير وسبعين درهماً وثلاثة أرطال خبز بالمصري بدرهم نقرة ورطل اللحم بالمصري وهو مائة وأربعة وأربعون درهماً بدرهم وثلث نقرة ففرق الملك الظاهر الصعاليك على الأغنياء والأمراء وألزمهم بإطعامهم وفرق من شونة القمح على أرباب الزوايا ورتب أن يفرق كل يوم في الفقراء مائة أردب مخبوزة بجامع ابن طولون ودام ذلك إلى أن دخلت الغلال الجديدة في شهر رمضان وبيع القمح بالإسكندرية الأردب بثلاثمائة وعشرين درهماً ورقاً وانحط في يوم واحد إلى أربعين درهماً ورقاً.
وفيها أحضر إلى بين يدي الملك الظاهر طفل ميت له رأسان وأربع أعين وأربع أيد وأربع أرجل فأمر بدفنه.
وفي آخر هذه السنة قتل الزين سليمان الحافظي وسنذكره إن شاء الله تعالى.
؟ فصل
وفيها توفي أحمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان بن عبد الله بن علوان بن رافع أبو العباس كمال الدين الأسدي الحلبي الشافعي(2/232)
المعروف بابن الأستاذ قاضي القضاة بحلب وأعمالها مولده ليلة الثامن عشر من جمادى الآخرة سنة إحدى عشرة وستمائة سمع من أبي هاشم عبد المطلب بن الفضل الهاشمي ومن جماعة كثيرة غيره وحدث ودرس وولى الحكم بحلب وأعمالها سنة ثمان وثلاثين وستمائة وهو في عنفوان شبابه فحمدت سيرته وشكرت طريقته كان سديد الإحكام وله المكانة العظيمة عند الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله وسائر أرباب الدولة وكلمته نافذة وحرمته وافرة ومكارمه مشهورة ومناقبه مذكورة ولم يزل على ذلك حتى تملك التتر حلب وقلعتها في سنة ثمان وخمسين ومن الله تعالى بكسرهم في رمضان من السنة المذكورة، وكان قاضي القضاة كمال الدين قد نكب وأصيب بأهله وماله بولده فقدم الديار المصرية ودرس بالمدرسة المعزية بمصر وبالمدرسة الكهارية بالقاهرة وأقام على ذلك إلى أول هذه السنة ففوض إليه الحكم بحلب على عادته فحمله حب الوطن على إجابة فعاد إلى حلب وأقام بها مدة أشهر وتوفي بها في نصف شوال ودفن من الغد رحمه الله، وكان رئيساً جليلاً عظيم المقدار جواداً سمحاً ديناً تقياً نقياً حسن الاعتقاد بالفقراء والصالحين كثير المحبة لهم والميل إليهم والبر لهم والإيمان بكراماتهم لا ينكر ما يحكى عنهم مما يخرق العادات وكان أحد المشايخ الإجلاء المشهورين بالفضل والدين وحسن الطريقة ولين الجانب وكثرة التواضع(2/233)
وجمال الشكل وحلاوة المنطق حضر إلى زيارة والدي رحمه الله ببعلبك فترجل عن بغلته من أول الدرب، ولما دخل الدار قعد بين يدي واليد متأدباً إلى الطرف الأقصى ولم يستند إلى الحائط وسمع عليه شيئاً من الحديث النبوي، وكان من حسنات الدولة الناصرية بل من محاسن الدهر وهو من بيت معروف بالعلم والدين والحديث، وأبوه القاضي زين الدين أبو محمد عبد الله تولى القضاء بحلب وأعمالها مدة وسمع من غير واحد وحدث وكان من العملاء الفضلاء الصدور الرؤساء، وجده عبد الرحمن أحد المشايخ المعروفين بالزهد والدين رحمهم الله تعالى وبيتهم أحد البيوت المشهورة في حلب بالسنة والجماعة.
أحمد بن محمد بن صابر بن محمد بن صابر بن منذر أبو العباس ضياء الدين القيسي المالقي مولده في المحرم سنة خمس وعشرين وستمائة، وتوفي يوم الخميس ثامن شعبان ودفن يوم موته بالقرافة، وكان إماماً عالماً فاضلاً رحمه الله.
سليمان بن المؤيد بن عامر زين الدين العقرباني المعروف بالحافظي قد ذكرنا فيما تقدم طرفاً يسيراً من خبره وتوجهه إلى التتر وأقامته عندهم، فلما كان في أواخر هذه السنة أحضره هولاكو إلى بين يديه وقال له ما معناه أنت قد ثبت عندي خيانتك وتلاعبك بالدول فإنك خدمت صاحب بعلبك طبيباً فخنته واتفقت مع غلمانه على قتله حتى قتل، ثم انتقلت إلى خدمة الملك الحافظ الذي عرفت به فلم تلبث أن خنته(2/234)
وباطنت عليه الملك الناصر حتى أخرجت قلعة جعبر من يده ثم انتقلت إلى خدمة الملك الناصر ففعل معك من الخير ما فعل فخنته معي حتى جرى عليه ما جرى ثم انتقلت إلي فأحسنت إليك إحساناً لم يخطر ببالك فأخذت تكافيني بالأفعال الردية وتعاملني بما كانت تعامل به الملك الناصر وشرعت في مكاتبة صاحب مصر فأنت معي في الظاهر خارجاً عني في الباطن وعدد له ذنوباً كثيرة من خيانته في الأموال التي كان سيرها لاستجبابها من البلاد ثم أمر بقتله وقتل إخوته وأولاده وأقاربه ومن يلوذ به، فكان مجموعهم نحو الخمسين نفراً ضربت أعناقهم صبراً ولم ينج منهم إلا ولده مجير الدين محمد وولد لأخيه شهاب الدين اختفيا في السوق.
فمن الأسباب المؤكدة لقتله أن الملك الظاهر استدعى أخاه العماد أحمد المعروف بالأشتر من دمشق إلى الديار المصرية وعوقه أياماً ثم أفرج عنه وأنعم عليه وقرر له في الشهر خمسمائة درهم ورتب له خبزاً ولحماً وغير ذلك وأمره أن يكتب إلى أخيه المذكور كتاباً يعرفه فيه نية الملك الظاهر له وشكره منه ونه يعرفه أن ما له ذنب وأنه برئ مما نسب إليه وأن الملك الظاهر عالم بأن مقامه عند التتر على غير اختيار منه بل خوفاً لما شاع عنه ويضمن له عنه أنه متى وافق الملك الظاهر على ما في نفسه من المواطأة على التتر فله ما يقترحه من الإقطاع ويكون بعد ذلك على حسب اختياره في التوجه إلينا والإقامة عند(2/235)
هولاكو فكتب إليه فلما وصلته الكتب حملها إلى هولاكو وقال هل أن صاحب مصر إنما يكتب إلي بمثل هذا النقع ليقع في يديك فيكون سبباً لقتلي وقد عزمت أن أكاتب أعيان دولته ورعيته بمثل ما كاتبني لأكيده كما كادني فلم ير هولاكو ذلك صواباً فعاوده مراراً فأذن له فكتب كتباً لجماعة فوقعت في يد الملك الظاهر فعلم أنها مكيدة فكتب إليه يشكره على عرض الكتب على هولاكو واستصوب رأيه في ذلك لنزول التهمة عنه وبعث هذه الكتب مع قصاد وقرر معهم إذا وصولا شاطئ جزيرة ابن عمر يتجردون من ثيابهم على أنهم يسبحون ويختالون في إخفاء أنفسهم ليظن أنهم غرقوا وتكون الكتب ففي ثيابهم ففعلوا ذلك ورأى نواب التتر فأخذوها فوجدوا فيها الكتب فحملت إلى هولاكو فوقف عليها وأسرها في نفسه وأضمر قتله.
والسبب الآخر أن هولاكو كان سيره لكشف الموصل وأعمالها وماردين والجزيرة وكان نائب هولاكو بالموصل شمس الدين الباعشيقي فدفع للحافظي ستة عشر ألف دينار رشوة لترك محاققته والكشف عنه وكذلك اعتمد نواب الجزيرة وماردين وديار بكر كلها، وكان الزكي الإربلي مقيماً بالموصل وعلم بما أخذه من الرشا فتوجه إلى هولاكو ورفع إليه وعلى الباعشيقي فعقد لهم مجلساً فظهر صدق الإربلي فقتل الباعشيقي وزادت هذه الحالة هولاكو الإغراء بقتل الحافظي فقتله ومن معه كما تقدم ومخازي الحافظي وخياناته على الإسلام أكثر من(2/236)
أن تحصر منها إغراء التتر بالمسلمين وتطميعهم في بلادهم وممالكهم بحيث أن كل دم سفكوه في الشام هو شريكهم فيه، ولما توجه الملك العزيز ابن الملك الناصر إلى هولاكو في أواخر سنة خمس وخمسين انفرد الحافظي بهولاكو وقال له من جملة ما قال بعد أن أخذت بغداد، بغداد قد أخذتها والشام بلا ملك ومتى قصدته أخذته وأنا المساعد فيه فإن أكثر من بدمشق أهلي وأقاربي فأعطاه هولاكو سكاكيناً وقال متى جاءني أحد ومعه من الهدية لهولاكو شيئاً كثيراً وأخذ يغلغا للصالح إسماعيل ابن صاحب حمص بحمص، وكذلك لأمير حاجب وللوجيه ابن سويد ولغيرهم.
وقرر مع الملك الناصر أن هولاكو قال له أن وصل الملك الصالح إلى أبقيت عليه بلاده وإن تعذر وصوله خوفاً من عسكره فليهرب بني يدي إلى أن يتفرق عسكره ويعود فإني أبقى عليه بلاده، فلما أخذت حلب وخرج الملك الناصر من دمشق لم يصحبه الحافظي فبعث إليه يطلبه فلم يجب فسير وراءه الأمير سابق الدين بيبرس أمير مجلس ومعه عسكر لإخراجه فغلق أبواب البلد وعصى فيه ورحل الملك الناصر على ما تقدم شرحه وتفرقت جموعه فكتب إليه الحافظي إن الذي قررته معك أنا بلق عليه ومتى عدت عادت البلاد إليك وقصده بذلك إيقاعه في يد التتر، فلما عاد الملك الناصر إلى دمشق سير إليه من استدعاه فقال لرسوله قل له ما اقدر أحضر عندك فإني كنت(2/237)
بالأمس غلامك وأنا اليوم غلام هولاكو وأنت عدوه.
ولما خرج الملك الناصر من دمشق أولاً واستولى عليها الحافظي قصد القلعة فامتنع وإليها بدر الدين محمد بن قزلجا ونقيبها جمال الدين محمد بن الصيرفي من تسليمها إليه وكذلك امتنع الشجاع إبراهيم والي قلعة بعلبك من تسليمها إليه ولم يزالوا كذلك إلى أن وصل كتبغا بالعساكر فتحققوا العجز بعد أن قاتلوه فضمن لهم كتبغا سلامتهم وسلامة من بالقلعتين من المسلمين وأموالهم أن سلموا فسلموا وأمنهم ووفي لهم بالأمان، فحملت الحافظي نفسه الكافرة كونهم لم يسلموا القلعتين إليه على أن كتب إلى هولاكو يغريه بهم فوصله الجواب بقتلهم فحضر مجلس كتبغا بالمرج وأوقفه على الكتاب فاستدعى بدر الدين محمد بن قزلجا وجمال الدين محمد بن الصيرفي وشجاع الدين إبراهيم وولده ونسيباً له فلما حضروا قال كتبغا للحافظي كيف قدمت على أن تكاتب في حق من أمنتهم ومع هذا فلا يسعني مخالفة مرسوم هولاكو فقم أنت اقتلهم وإلا صار لك عندنا ذنب نقتلك به فقام إليهم وضرب رقابهم ولم يزل الحافظي بدمشق إلى أن كسروا التتر على عين جالوت فهرب وتوجه إلى حلب واستصحب معه اخوته وأولاد أخيه وتحدث معهم في الطريق فكان من جملة الكلام أن قال ما كنت أظن أن الإسلا بقي يقوم له قائمة فقال له أخوه شرف الدين ما تعلم أن اله غار على الإسلام وقد أصبحت وإن أحماك من الملوك(2/238)
وكان عند الحافظي فضيلة ومشاركة ولم تكن الإمرة لا ثقة به وقتل وهو في عشر السبعين وقدم على ما قدم وما ربك بظلام للعبيد.
صالح بن أبي بك بن أبي الشبل بن سلامة بن شب لبن سلامة أبو البقاء تقي الدين الفقيه الشافعي الحاكم بمدينة حمص مولده بمصر في ذي القعدة سنة سبعين وخمسمائة سمع ببغداد من الحسين بن سعيد بن شنيق وغيره وبدمشق من أبي اليمن الكندي وغيره وحدث بحمص مدة وولي القضاء بها وكان حس السيرة محمود الطريقة فقيها عالماً فاضلاً توفي صفر رحمه الله تعالى.
عابدة بنت الشيخة الصالحة كانت مقيمة برباط زهرة خاتون بدمشق وهي شيخة وكانت امرأة كبيرة وهي عذراء مقعدة عمياء مشهورة بالخير والصلاح والعبادة وكانت وفاتها بدمشق في جمادى الأولى رحمها الله.
عبد العزيز بن محمد بن عبد المحسن بن محمد بن منصور بن خلف أبو محمد الصاحب شرف الدين الأنصاري الأوسي الدمشقي الأصل والمولد الحموي الدار والوفاة الإمام العلامة مجموع الفضائل شيخ الشيوخ قرأ القرآن الكريم بالروايات واشتغل بالأدب على أبي(2/239)
اليمن زيد بن الحسن الكندي وسمع منه كثيراً وسمع ببغداد من أبي الفرج عبد المنعم بن عبد الوهاب بن كليب وغيره وحدث بحماة ودمشق ومصر وغير ذلك ومولده ضاحي نهار يوم الأربعاء ثاني وعشرين جمادى الأولى سنة ست وثمانين وخمسمائة بدمشق بدرب كشك وكان أحد الفضلاء المعروفين وذوي الأدب المشهورين جامعاً لفنون من العلوم ومعارف حسنة ذا سمت ووقار وجد وحسن خلق وإقبال على أهل العلم وطلبته وتقدم عند الملوك وترس عنهم غير مرة وكانت له الوجاهة التامة والمكانة المكينة وله النظم الفائق واليد الطولى في الترسل والأصالة في الرأي مع الدين المتين ومكارم الأخلاق ولين الجانب وحسن المحاضرة والمباسطة والإفضال على سائر من يعرفه والكرم على من يقصده، وكان بينه وبين والدي رحمه الله مودة أكيدة وصحبة كثيرة وسمعت عليه بدمشق وكان لي من إقباله وبشره أوفر نصيب لما بينه وبين والدي رحمهما الله من الاتحاد، وتوفي بحماة ليلة الجمعة الثامن من شهر رمضان ودفن من الغد ظاهر حماة في تربة كان أعدها لدفنه، ومن شعره:
عاتبت أنسان عيني في تسرعه ... فقال لي: خلق الإنسان من عجل
يا عاذلي ليس مثلي من تخادعه ... وليس مثلك مأمونا على عذلي(2/240)
ما دمت خلواً فلا تنفك متهما ... فاعشق وقولك مقبول علي ولي
؟ وقال:
لها معاطف تغريي برقتها ... ولينها أن أقاسي قلبها القاسي
باتت موسدة رأسي على يدها ... عطفاً وكانت يدي منها على رأسي
؟ وقال:
أتطمعني سلمى بتقبيل خالها ... غروراً وقد ضنت بطيف خيالها
؟ وإني وما أرجوه منها بوعدهات كراق إلى شمس الضحى ليناها وقال:
أعني في المحبة وأعدني ... من العذل الذي يغري ودعني
أفرق بين أجفاني وغمضي ... واجمع بين أحشائي وحزني
على عيش تقضي لي حميداً ... نعمت به وزايلني كأني
رأيت الوصل منه في منام ... تصرم وقته وفتحت جفني
فلم أر غير وجدي واشتياقي ... وأشجاني التي تتقي وتفني
قراري واصطباري فاعتراني ... نفيك في الوقار فإن فنى
ملازمة الخلاعة في غزال ... أغن إذا نظرت إليه يغني
عن القمر المنير على قضيب ... تمايل في كثيب فهو يثني
إليه عنان قلبي بالتثني ... ويسلب لبه لولا تمني
وصال منه زادت نار شوقي ... إلى فوزي به فبللت ردني(2/241)
بدمع كان خوف الهجردرا ... فصيره عقيقاً بالتجني
علي وما جنيت إليه ذنباً ... سوى إفراط حبي فليزدني
عذاباً مرة في القلب عذب ... يباعد سلوتي عني ويدني
غراماً لا يغيره ملام ... فإن قلدتني فالعم بأني
صديقك إن عذرت على هواه ... وإلا فاطرحني واتخذني
وقد ألم بقول القائل:
فأما أن تكون أخي بصدق ... فأعرف منك غثى من سميني
وإلا فاطرحني واتخذني ... عدواً أتقيك وتتقيني
وقال:
أعجم السكر لفظه ... فغدا معرياً عن ال
عذر لي في تهتكي ... بهواه فقلت لل
عاذب المستطيل وي ... حك ماذا صنعت بال
؟ مستهام الذي يزيد به الوجد عند إل
حاح لوامه فلا ... يلزم العذل بعد إل
؟ زامك الحجة التي لاح برهانها لذل
عقل فاعذر فلا تلم ... أو فلم أن أردت في أل
؟ حب للشادن الذي شفني طرفه الثمل وقال:
شيطان عذل نزغا ... في بدر تم بزغا(2/242)
بالغ لكن ساءني ... فسؤله ما بلغا
أفتى الهوى باثمه ... لما تعدى ولغا
هيهات أن يشغل عن ... إلف لصبري فرغا
ذي ملح أوصافها ... تعجز أصناف اللغا
الثغ أضحى عند ... كل فصيح الثغا
إن قلت يا ظبي الفلا ... قال أنا ليث الشغا
أو قلت صلني قال لي ... أين الثغيا والثغا
أو قلت أسلو بسوا ... ك قال مثلي ماتغا
سبحان من بلغه ... من دله ما بلغا
وجل عن أضفي برو ... د حسنه وأسبغا
وعقرب العقرب إذ ... صدغ منه الصدغا
فاعجب لها لذيغها ال ... آمن من أن تلدغا
تيمني بمقلة ... أصمت فؤادي فصغا
فقرى إلى إنسانها ... أبدي غناه فطغا
ذو وجنة في صحتها ... ماء الشباب أفرغا
دون اقتباس نارها ... تشب نيران الوغى
لاطفني حتى إذا ... أصلح شأني أوتغا
وما بدا لي نه ... يسر حسواً في ارتغا(2/243)
مولاي وجدي فيك ما ... أشده وأبلغا
وعيني العبرا فما ... أغزرها وأرزغا
فاحكم بما أوجبه ... شرع الهوى وسوغا
إن كان في قتلك لي ... رضاك فهو المبتغى
وقال:
لا تنسى وجدي بك يا شادنا ... بحبه أنسيت أحبابي
مالي إلى هجرك من طاقة ... فهل إلى وصلك من باب
وقال:
شكوت إليها أليم الجوى ... فأصغت له أدنا واعيه
وقالت بعيني ما قد لقي ... ت فقلب على عينك الواقيه
وقال يمدح الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله تعالى:
لنأمن ربة الخالين جاره ... تواصل تارة وتصول تاره
تؤانسني وتنفر عن قريب ... وتعرض ثم تقبل في الحراره
وتقلتني بما يحلي سلوي ... ولكن ليس في جوفي حراره
ومالي في الغرام بها شبيه ... وليس لها نظير في النضاره
وفي الوصفين من كُحل وكَحل ... حوت حسن البداوة والحضاره
وفي خلخالها خرس ولكن ... إذا أومأت تفهم بالإشاره
وقتل العمد قد قتلته عمداً ... وما وصلت إلى باب الإجاره
وقالوا قد خسرت الروح فيها ... فقلت الربح في تلك الخساره
بأيسر نظرة أسرت فؤادي ... كما نشأ اللهيب من الشراره(2/244)
أطارت شمل حسن الصبر مني ... بأحسن شمله من فوق طاره
وقلت لها قفي أن لم تزوري ... فقالت والوقوف من الزياره
شمرت إزارها عنها فصدت ... فقلت تقدمي ودعي الشماره
جسرت فتلت ما أملت منها ... وما نيل المنى إلا جساره
أدرت على مزررها عناقي ... فبت ومعصمي للبدر داره
ترى في خدها آثار عضي ... كغصن بنفسج في جلناره
إذا استشفى بريقتها ند ... أزالت خمرها عنه خماره
ويهتك ستر صبر الصب عنها ... إذا أعنته من خلف الستاره
ويفتك طرفها فيقول قلبي ... أشن ترى صلاح الدين غاره
ومنها:
إذا ما حج بيت نداه وفد ... رمى في قلب حاسده جماره
؟ قال: يعرض براجح الحلى وعز الدين بن معقل من أبيات:
وما زال جود ابن المعز يمدني ... فيرحل في ركبي وينزل منزلي
إلى أن غما مالي كنقصان راجح ... وأعهده قدماً كعقل بن معقل
وقال في الزهد:
نل فوق ما ناله سيف بن ذي يزن ... وأفخر بما شئت من قيس ومن يمن(2/245)
وأعط نفسك أقصى ما تلذ به ... من مركب فاره أو ملبس حسن
أليس غاية هذا قعر مظلمة ... تفري أديمك بين القطن والكفن
فابتت علائق دنياً أنت منتقل ... عنها ولا تسكنن منها إلى سكن
لا تغلون في تمني رتبة عظمت ... قدواً فكم منح أنكى من المحن
وأثبت على سنن الأخلاص منتهياً ... إلى الفرائض تقفوهن بالسنن
واحلم ولا تستشر في حالة غضباً ... فإنه مستشار غير مؤتمن
واركن إلى واجب التفويض متكلاً ... ولا تفيضن في عتب على الزمن
وقال في مغني رومي يلقب بالموزون:
نفسي فداؤك يا موزون من قمر ... تهتكي فيه معدود من الفرص
ظبي من الروم نسج العنكبوت له ... عهد فكم زمر قد ساق في غصص
أضللت أحزابنا يا سين غرته ... فأعجب لمقتبس للنور مقتنص
سبحان مورثه من حسن يوسف ما ... لم يبق في الحجر لي والصبر من حصص
أقام للشعراء العذر عارضه ... فكم لهم في دبيب النمل من قصص
قال الشيخ شرف الدين رحمه الله ونشدت والدي الأبيات فاستحسنها وقال بديها:
بادر إلى توبة عنه تنيلك من ... ذي الطول في الحشر جر أغير منتقص
وقال:
قم فاصطبحنا. وأرح سركا ... صبحك الله بما سركا
وعاطني منها المدام التي ... أشرب منها دائماً سركا
يا يوسف الحسن الذي وصفه ... إن يملك الناس ولا يملكا(2/246)
يا بدر تم منذ سايرته ... لم ألق لي في سلوتي مسلكاً
يا من رمى لما رنا مقلتي ... إليك من ألحاظك المشتكي
إن دمعت عيني فمن أجلها ... أبكي على قلبي من لا بكى
أوقعني إنسانها في الهوى ... يا أيها الإنسان ما غركا
وقال:
بعين الله أحباب جفوني ... وعهد هم على الأيام عوني
فإن أنكر بهم أفراح قلبي ... فليس بغيرهم قرار عيني
وقالوا كيف يصبح من يراناً ... ونعرض عنه قلت كما تروني
فيا مولى أراه بعين قلبي ... وآمل أن أراه بقلب عيني
كملت إذا انفردت بكل زين ... وأنت منزه عن كل شين د
عدمت لك الشبيه فما احتفالي ... بوجه البدر أو قد الرديني
غلوت تعززاً ورخصت ذلاً ... فبعتك مهجتي نقداً بدين
وثبتني على خفقان قلبي ... غرام طار بي في الخافقين
ألا فابسط يديك إلى وصالي ... فما لي بالقطيعة من يدين
وقال رحمه الله:
أحبابنا هل علمتم ... من بعد كم كيف حالي
قلبي وطرفي جميعاً ... لبينكم في قتال
لأن قلبي خال ... بكم وطرفي خالي
فخففوا عن جفوني ... من دمعها الهطال(2/247)
في يقظتي بكتاب ... وفي الكرى بخيال
وقال رحمه الله ملغزاً في حمزة:
من لي بمن سميه ... سما به سفك دمه
تصحيفه في خده ... وفي فؤادي وفمه
وقال:
إن دام حبيكم على بغضكم ... فإننا في منصب واحد
ما الأم الزاهد في راغب ... ومثله الراغب في الزاهد
وقال كتب إلى الأمير سيف الدين أبو الحسن علي بن محمد الهذباني رقعة في مهم وطلب جوابها في ظهرها فكتبت إليه الجواب في غيرها وسيرت ورقته عطف الجواب وكان في صدر جوابي له:
يا مالكاً ملكته ... من رق حمدي ما أحب
وأنالني رتباً أنل ... ت بها المناصب والرتب
أحللت لي ظهر الكتا ... ب ولم أخل بما وجب
فكتبت في درج ورا ... قبت الذي لك من إرب
فدرجت خطك طيه ... وخلصت من سوء الأدب
وقال في شاعر ردئ النظم قبيح الوجه:
وجهم الوجه رذل الشعر منه ... رجوت النفع حيث يخاف ضير
بدا لي وجهه فخشيت شراً ... وأنشدني فقلت خرا وخير(2/248)
وأخذه من قول دعبل الخزاعي:
وكنت مبكراً من سر من رى ... أبادر حاجة فإذا عمير
فلم أدع الطريق وقلت أمضي ... فإنك يا عمير خرا وخير
وقال الشيخ شرف الدين:
لعيني كل يوم فيك عبره ... تصيرني لأهل العشق عبره
فعسجد جفنها لا نقص فيه ... وكم جهزت منه جيش عسره
اغفل الوشاة أسلت دمعي ... فيغدو مرسلاً في وقت فتره
وزيادة صبوتي نقصت ملامي ... وكفت زيده عني وعمره
علامة شقوتي في الحب أني ... ثقلت عليك لا عن طول عشره
ووتر الوصل لم يشفع بثان ... وهجرك زمرة من بعد زمره
وجفنك أكحل من غير كحل ... وخدك أحمر من غير حمره
وصبري عنك ليس له وجود ... ووجدي فيك لا أحصيه كثره
وبيت الحزن بيتي حين تنأى ... وحين تزوره دار المسره
وقالوا كم ترى غضبان راض ... فقلت رضيت زنبوراً وتمره
سألزم باب.... الثنايا ... ليطلق لي ولو في العمر سكره
وقدماً كنت مستوراً إلى أن ... لبست من الخلاعة ثوب شهره
اطلعت غوايتي وعصيت رشد المناصح ... مرة من بعد مره
وما تنقى من الأدناس نفسي ... ولو غسلت بصابون المعره(2/249)
وأعجب حادثات الدهراني ... أحاول طاعة فتعود حسره
وأطمع في خلاصي يوم بعثي ... وما أخلصت في مثقال ذره
وهذه الأبيات على وزن أبيات القاضي الفاضل رحمه الله مطلعها:
لعينيه على العشاق أمره ... وليس لهم إذا ما جار نصره
إذا ما سره قتلي فأهلاً ... بما قد ساءني إن كان سره
ولم أره على الأيام إلا ... عقدت بوده وحللت صره
صببت عليه لما زار دمعي ... فأنكره فقلت الماء نشره
بكيت عليك يا مولاي حتى ... وقعت وليس في عيني قطره
أيا قمر الكناس بقيت إني ... بقبيت بأدمعي في الشمس عصره
فلو قبلتني وقبلت مني ... فقال أخاف بعد الحج عمره
ومنها:
وأما سوء حظي من صديقي ... فذاك من الأمور المستقره
وللقاضي الفاضل رحمه الله في كحال وكله رجل:
توكل لي وكحلني ... فذهبت في عيني وفي عيني
قال الشيخ شرف الدين رحمه الله يمدح سيدنا النبي المصطفى: رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي أول مدحة قالها فيه وأنشده إياها تجاه حجرته الشريفة بكرة الجمع خامس عشري ذي القعدة سنة تسع عشرة وستمائة وفي طرتها مدحة العبد الضعيف عن حسن تدبيره القوي(2/250)
في سوء تقصيه. المستوحش من انفراده، بذنبه، المستأنس إلى شفاعة نبيه المشفوعة برحمة ربه، عبد العزيز بن محمد الأنصاري جعل الله عاجل جائزته مواصلة صالح العمل، ومقاطعة كاذب الأمل، والغني عن الضارعة بالقناعة، والتوفيق لتلقي أوامره بالسمع والطاعة، وآجله استقامته على الصراط المستقيم، وأقامته في جنات النعيم، وإدخاله برحمته في عباده الصالحين، والمغفرة له ولوالديه ولجميع المسلمين، وصلى الله على سيدنا محمد سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين وعلى التابعين. لهم بإحسان إلى يوم الدين آمنين اللهم آمين.
هو موطن الشرف العريض الأطول ... فأرح قلوصك من ركوبك وانزل
يا صاح ها بحر الهدى فتمل من ... ري وها بدر الهدى فتأمل
فلطالما أرسلت دمعك سافحاً ... شوقاً إلى هذا النبي المرسل
عفر جبينك في صعيد وصيده ... فثراه أطيب من رطيب المندل
واحطط ذنوبك في رحيب جنابه ... وارحل وأيقن أنها لم ترحل
ودع القنوط فقد سألت شفاعة ... من ليس يهمل أمر من لم يسأل
أمرتني الهمم الرفاع بقصده ... فأطعتها وعصيت عذل العذل
وغريرة باتت تغمغم رأيها ... فتركته وأخذت بالأمر الجلي
بكرت تخوفني أعاريب الفلا ... وتخال أرجافاً تشين توكلي
وتقول لي أني لاؤجل أن تسر ... عنا فقلت الأمن لي أن توجلي
لا بد من حرم الآله ولو بدا ... من دون ذاك الشهد مر الحنظل(2/251)
أني وقد قطعت إليه عقلها ... خوص الركاب ومثلها لم يعقل
تحدي بأوصاف النبي محمد ... فتكاد تسبق أيديا بالأرجل
وتبيت يهديها سناه سبيلها ... والليل اليلُ كالرداء المسبل
ويعيرها الحادي بذكر حبيبها ... فتظل تقذفه بصم الجندل
قبلت أخفاف المطي كرامة ... لما نزلت بهن أكرم منزل
وشفي سراها غلتي فشغلتني ... عن كل ذات مسور ومخلخل
إني لأصفيها الوداد وربما ... غادرت منها معلماً في مجهل
وبسرعتي في قصده أوردتها ... من منهل وعللتها من منهل
يا ناظم الدر الثمين ومهدي ال ... نظم الرصين لفاضل أو مفضل
جانب مخادعة الملوك عن اللهي ... فالمال يذهب والخصاصة تنجلي
وأصرف مديحك عن كثير تطاول ... بزخارف الدنيا قليل تطول
وأمدح نبياً آخراً فخرت به الش ... مّ الأنوف من الطراز الأول
من جوده وافٍ بكل مؤمل ... ورجاؤه كافٍ لكل مؤمل
من اصطفاه الله من دون الورى ... فأحله فوق الكواكب من على
وحباه بالقرب الذي أضحى له ... جبريل عن حجب الجلال بمعزل
وعلا عن الأمثال فهو لمن علا ... في الوصف أقصى غاية المتمثل
وغزا العدى من نفسه وصحابه ... ومن الملائكة الكرام بجحفل
كم لمة صبغ الحذار سوادها ... يققا فانصل صبغها بالمنصل(2/252)
ولكم أباد نكاله في مأزق ... ولكم أفاد نواله في محفل
ولكم أبان هدى بخطبة فيصل ... ولكم أبار عدي بطعنة فيصل
ما زال فوق المنبر السامي الذري ... يبري الضنا ويبير تحت القسطل
حتى استقام الدين وانتصر الهدى ... فنهى الكمي عن اضطهاد الأعزل
يا خاتم الرسل الكرام وفارج ال ... كرب العظام بفعله والمقول
بك أكمل الله النبيين الأولى ... كملوا وخصك بالفخار الأكمل
أظهرت فينا المعجزات فحققت ... صدق الرسول بلطف صنع المرسل
فأطاع من سبقت له الحسنى ومن ... جاد القبول له بجد مقبل
وعصاك من كبت الآله شقاءه ... فطغى وأمهله ولما يهمل
زحزحت عن طرق المظالم عادلاً ... فينا ومن للعدل إن لم تعدل
وقرنت بالشرس الليان فأتربت ... كف المحق وخاب سعى المبطل
تلك النبوة لأسيادة مالك ... أمر الأنام بمشرب أو مأكل
ولطالما ملك البسيطة معشر ... خملوا وذكرك نابه لم يخمل
سرنا نشق إليك أجواز الفلا ... ونسوق نحوك كل حرف معمل
فالعيس بين مجعجع ومجرجر ... والقوم بين مكبر ومهلل
حتى وردنا من ضريحك مورداً ... نشفي به من كل داء معضل
أدعوك للجلي وتلك شفاعة ... لم ترض لي أني أخاف وأنت لي
إن لم يكن عملي زكياً فارع لي ... قطع الفلا وتلذذي بتذلل
أحسن واحمل بي لعلي أنني ... في الفعل لم أحسن ولما أجمل(2/253)
وانظر إلي بعين عونك نظرة ... أهدي بها سنن الطريق الأمثل
فلقد ضلت عن الرشاد وأنني ... بك أستنير وأنت هادي الضلل
وإليك من دون الأنام توجهي ... وعليك من بين الكرام معولي
ولقد أتيتك مادحاً لتجزني ... في الحشر كأسات الرحيق السلسل
وإذا مدحتك مجملاً قصرت في ... وصفي فكيف تعرضى لمفصل
فلان غدوت ببعض وصفك قائماً ... فهداك والتوفيق انطق مقولي
ولأن عجزت فإن فضلك مكتف ... بثناء آيات الكتاب المنزل
وقال أيضاً من قصيدة طويلة يمدح بها النبي صلى الله عليه وسلم ويذكر بعض معجزاته وأولها:
تشرف بذكر حميد الثناء ... على أحمد أشرف الأنبياء
على موضع الرشد بعد العمى ... على مظهر الحق بعد الخفاء
على خاتم الرسل السابقين ... وأولهم في قديم الفضاء
فكان نبياً نبيه المقام ... وآدم بين الطين والماء
تشفع به فهو نعم الشفيع ... وسله المنى فهو بحر السخاء
وقل عبدك القن عبد العزيز ... رهين البلا وقرين البلاء
أمت العمى قلبه فاغتدى ... دليل المقام عزيز العراء
فعطفا على من تناهت به ال ... خطايا وعطفت لانتهاء
بتحقيق إخلاصه في رجاء ... علاك وتحقيق ذاك الرجاء
وبالعفو عنه وعن والدي ... هـ وأعقابهم من أليم الشفاء(2/254)
فأنت النبي الوجيه الذي ... حوى في الشفاعة خضل الجزاء
فشرفه الله مختاره ... بخير صلاة وأزكى ثناء
وصلى الإله على الأكرمين ... وأصحابه الصفوة الأتقياء
وخص ضجيعيه من بينهم ... بألطاف رضوانه الأتقياء
وخص ضجيعيه من بينهم ... بألطاف رضوانه والحباء
ومن لهما كان ملكاً مطاعاً ... وكانا لديه خليلي صفاء
وحيا ابن عفان صهر النبي ... وخدن السماح وترب الحياء
وزاد أبا حسن زلفة ... على مجده الهاشمي البناء
شقيق الرسول وزوج البتول ... ومردي العدى ومزيل العداء
وأعفى ابن عوف بإحسانه ... والحف مبغضه بالعفاء
وصلى على طلحة والزبير ... كما أغنيا عنه حين الغناء
وأولى سعيداً وسعداً يدا ... على بسط أيديهما بالولاء
وأرضى أمين البرايا أبا ... عبيدة رب التقى والوفاء
وأعقب عميه أصفى النعيم ... بما أسلفا من جميل البلاء
وسبطيه عم وأمهما ... وازواجه منه أنسى عطاء
سيرفع عني عبء الذنوب ... هوى الخمسة الغر أهل العباء
أعد ولاءهم عدتي ... وأبرأ من قائل بالبراء
وإن أنا قصرت في مدحهم ... فقد بالغت همتي في هجائي
وقال:
يا رب أن سؤال الباخلين ثني ... وجهي وكفى بلا ماء ولا مال(2/255)
فاصرف بلطفك قلبي عن رجائهم ... ولا تصل بسوى نعماك آمالي
وقال رحمه الله تعالى:
حتام تعذلني وحتى ... هو ما علمت وما جهلتا
حب لو أنك ذقته ... لعذرت فيه وما عذلتا
فدع السفاهة لي أنا ... وخذ الرشاد إليك أننا
أو لا فاسعدني على ... شوقي سهرت به وبمتا
وتأت للراحات وانتهب ... السرور فقد تأنى
أدن المدام لعلني ... أنسى به البين المشتا
راح هويت صريحاً ... فمنحت ماء المزن مقتا
فإذا شربت مشوبها ... لا تسقني مما شربتا
إن التي ناولتني ... فرددتها قتلت قتلتا
أرح المزاج من المزا ... ج وهات صرف الراح بحتا
عمل القاضي تاج الدين يحيى بن الشهرزوري في بعض ولاة الجور وقد سقط من الفرس:
إلى النار يا ولد الزانية ... وهذا الهوى إلى الهاوية
وقعت فيا بردها في القلوب ... فيا ليتها كانت القاضية
فنظم الشيخ شرف الدين رحمه الله أبياتاً ألم فيها بهذه القافية وإن كان معنى الأبيات غير متحد وهي:
سروري بساقية حاريه ... ووجدي بحارية ساقيه
أهز بها تيك عطف القريض ... ليثنى على هذه الثانية(2/256)
مهاة نشأت على حبها ... كما هي في حسنها ناشئه
على الجسم حاكمة بالضنا ... وفي القلب آمرة ناهيه
سبتني كاسية بالجمال ... فروحي عندي لها عاريه
تعالى عن الند نشر لها ... يطيب به الند والغاليه
وأولت من الوصل أضعاف ما ... رجوت ولم تكفني كافيه
فؤادي علي رقيب لها ... تطالعها عينه الصافيه
تراني إذا لم أزر بيتها ... كأني بيت بلاد قافيه
تقربني فأجوز الفلا ... وأجلس في بيت بلاد قافيه
تقربني فأجوز الفلا ... وأجلس في الدست والحاشيه
وتنأى فأخنس في مسجدي ... وحيداً والتف في البارية
فطوراً بخفي حنين أعود ... وطوراً بقرطين من ماريه
فهل من معين على عاذلي ... فيأخذه أخذهة رابيه
تجسر إذ لم أطع أمره ... فيا ليتها كانت القاضيه
ولست أبالي بسخط العذول ... إذا أنا ألفيتها راضيه
ولما شكوت خفي الجوى ... وعته لها أذن واعيه
وقالت بعيني ما قد لقيت ... فقلت على عينك الواقيه
أضاحكة السن لو زرتين ... عجبت لمقلتي الباكيه
وانقذتني من أسى زادني ... فلم تبق في جلدي باقيه
وإني وإن نال مني الأذى ... معافي إذا كنت في عافيه(2/257)
أنشد الشيخ شرف الدين عبد العزيز رحمه الله لضياء الدين علي بن نصر بن عبد الله بن الحسين بن عبد الله بن رواحة رحمه الله:
مولاي عبدك ذو انقباض يرتجى ... من لطف صنعتك أن تمن ببسطه
ليجوز من شرف التأنس قسمه ... ويفوز من شكر العبيد بقسطه
وأنشد للمذكور أيضاً:
لا حظ في الدينا لمسيتقظ ... يلمحها بالفكرة الباصره
إن كدرت مشربه ملها ... وإن صفت كدرت الآخره
وقال من قصدية يمدح بها الملك الأمجد رحمه الله وأولها:
رفقاً بصب يرى سلوانكم عاراً ... ما كان منحرفاً عنكم ولا صارا
لم ينسه البعد روح الأنس عندكم ... فلم يجدد لعهد القرب تذكارا
أقصاه صرف النوى منكم إلى نوب ... أقلها أنه ما سر مذ سارا
سنا هواكم إلى لبنان أرشده ... ولم يقل يا لبيني أو قدي النارا
وإن يزركم على قرب فذو كلف ... لو أفرط البعد لم يستبعد الدارا
يا ربة الخدر لو غادرتني شبحاً ... ما سمت حلقاً ولا سميت غدارا
عاقبتني بجحيم الشوق واجدة ... وأنت حملتني للبين أوزارا
؟ وضقت ذرعاً بحبي واعتذرت به ذنباً فأوسعت ذاك الذنب إصرارا
إذا اجتنى بك من روض الرضا زهراً ... أو اجتلى في سماء العز أقمارا
لله وصلك ما أغلاه يوم شرى ... وشهد ريقك ما أحلاه مشتارا(2/258)
فيك الغنى لي عن طيب وعن سكر ... كأن في فيك عطاراً وخمارا
وهبت روحي لآلام الغرام كما ... أنهبت قلبي طرفاً منك سحارا
عيناك للقتل لا نصل ولا ظبة ... والأمجد الملك لا كسرى ولا دارا
وقال:
ألا يا مالكي مالي ... إلى غيرك من ميل
أما تنظر في حالي ... فقد اضعفت من حيلي
ووجدى فيك لا يحصى ... بميزان ولا كيل
وأما دمع أجفاني ... فلا تسأل عن السيل
وما نس فلا أنسى ... مراحي ساحباً ذيلي
وإجلابي على اللذا ... ت بالرجل وبالخيل
من الليل إلى الليل ... إلى الليل إلى الليل
وقال:
تثعلبت ذلا ً في غزال تأسدت ... له لحظات بصرت بالتغزل
وكم نظرة في نضرة من نعيمه ... رأيت بها من مقلتي عين مقتلي
وقال الشيخ شرف الدين رحمه الله قال ظهير الدين المبارك بن يحيى الشهرزوري ممازحاً لابن الحكيم وقد جلس في الشتاء إلى جانب بكرة علها سبع من ثلج:
وسبع كوعظ ابن الحكيم رأيته ... على بركة تحكيه عند مجونه
يصففها مر النسيم إذا سرى ... ورق عليها مثل رقة دينه(2/259)
وأحسن من هذا الاستطراد قول الخباز البلدي:
وليل كوجه البرقعيدي ظلمةً ... وبرد أغانيه وطول قرونه
سريت ونومي فيه نوم مشرد ... كعقل سليمان بن فهد ودينه
على أولق فيه إعوجاج كأنه ... أبو جابر في خبطه وجنونه
إلى أن بدا ضوء الصباح كأنه ... سنا وجه قرواش وضوء جبينه
وقال:
ما لطرفي حين أعذل ... يطلق الدمع المسلسل
أدبر العاذل عني ... موقناً أن لست أقبل
وجد الصبر جميلاً ... ووجدت الوجد أجمل
؟ فتنتي عين غزال بصرت من يتغزل
منع العاشق خدا ... يتعالى أن يقبل
حسد الصدغ عليه ... فتلوى وتبلبل
خلت فيه الخال قلبي إن ... غدا في النار يشعل
كيف أسلوه وليلي ... جعل الآخر أول(2/260)
فاعذروا فيه عذولي ... فهو من باب محول
وقال رحمه الله:
دعني وشأني من وجدي ومن تعبي ... فراحتي في الذي أنكرت من نصبي
أضنى فؤادي فتان الجمال إذا ... طلبت شبهاً له في الناس لم أصب
قرأت خط عذاريه فأطمعني ... بواو عطف ووصل منه عن كثب
وأعربت لي نون الصدغ معجمة ... بالخال عن نجح مقصودي ومطلبي
حتى رنا فسبت قلبي لواحظه ... والسيف أصدق أنباء من الكتب
لم أنس ليلة طافت بي عواطفه ... فزارني طيفه صدقاً بلا كذب
حيا بما شئت من ورد بوجنته ... نهبته بالتثامي وهو منتهبي
وكان ثغر شهي منذ فزت به ... قلت العفاء على كأس ابنة العنب
ورحت لم أدر عقلي هل فجعت به ... من نخوة العز أم من نشوة الطرب
أقسمت ما في ضروب السكر أبلغ من ... سكري بريق له أحلى من الضرب
نشوان أسأل عن قلبي فينكره ... تيهاً ويسأل عني وهو أعرف بي
وكلما قال ممن أنت قلت له ... ممن إذا عشقوا جاؤك بالعجب
لا تسألوا ميتكم عن حيه فله ... من الإضافة ما يغني عن النسب
وراقبوا منه حالاً غير حائلة ... عما عهدتم وقلباً غير منقلب
قال الشيخ شرف الدين رحمه الله من طريق الاتفاق أنني نظمت أبياتاً في زمن الصبا في بعض رحلي عن حماة منها:
أمل كتمان الهوى وهو واضح ... ودمعي يوم البين بالسر بائح(2/261)
لعمري لقد حاولت مالاً أناله ... كما حاولت إمساك قلبي الجوارح
لعل بعادي عن حماة يعيدني ... تخاف السطي مني وترجى المنائح
لأهزم جيش المال وهو عرمرم ... وأدفع صدر الخطب والخطب فادح
على أني قد كنت فيها مكرماً ... تراع لكراتي القروم الجحاجح
مقيماً بربع الدير جسمي وصحبتي ... وقلبي بربع القصر غاد ورائح
يهيج أشجاني به كل ليلة ... وتصرفني عما تقول النواصح
؟ بدور من الباب المصرع طلع ومسك من الباب المصرع فائح فحفظ الأبيات بعض السفارة وحفظت عنه في الشرق، ثم قدم شاعر من أهل الموصل يقال له البدر محمد بن روضة وكانت والدته تتردد إلى دارنا أيام مقامنا بالموصل فأنزله والدي وأكرمه وكن يجلس على حانوت الفخر عبد الرحمن بن الصياد بسوق العطر في كثير من أوقاته يذاكره ويناشده ويخرج معه في آخر النهار إلى ظاهر البلد للتنزه والرياضة فاتفق أنه خرج معه يوماً يريدان المصلى فاجتازا بباب ذي مصراعين وقد ولد في الدار مولود والطيب ينفح والبخور يتضوع وفي الباب صبيات كالبدور الطلع وأصوات القيان في باطن الدار وظاهرها يطرب السامع فوقفا مع النظارة، فلما رأى ابن روضة ذلك أنشد متمثلاً:؟ بدور من الباب المصرع طلع البيت، فضحك الفخر بن الصياد وقال له أتعرف هذا الشعر لمن؟(2/262)
فقال لا والله بل هذه الأبيات سمعتها في الشرق لا أعرف قائلها، فلما رأيت الصورة تمثلت بالبيت فقال له إن البيت لفلان الذي أنت نزيله ونزيل والده وهذا البيت بعينه هو الذي عناه بهذا البيت فتعجب من ذلك وأطرفاني بالقصة فعجبت من هذا الاتفاق.
وقال الشيخ شرف الدين حدثني بعض خلاني قال أبتليت بهوى بعض أبناء الأماثل ولم يكن من أبناء جنسي ولا لي به سابقة خلطة فأعملت الحيلة في التعرف إليه وبذلت البذول السنية لمن جمع بيني وبينه بتوصلات متعته إلى أن التقينا راكبين في خلوة بمكان مشرق على أنهار حماة وبساتينها فتسالمنا ثم حرصت على أن أباسطه بشيء من النظم والنثر أو بث وجد واستجلاب ود فحصرت عن المنطق بكلمة واحدة ولم أزد على أن قلت له أنت ما تصلي فقال بلى ويكون مسلم ما يصلي ثم افترقنا، قال الشيخ شرف الدين فحكيت هذه القصة للملك المظفر صاحب حماة رحمه الله فاستظرفها، ثم أشار إلى بعض فتيانه ممن له معه هوى وقال أيش تقول في هذا يصلي فقلت سيماهم في وجوههم من أثر السجود فاستطار طرباً بقولي من أثر السجود وقال أيضاً رحمه الله:
ملكت رقي غلاماً ... به سلوت الغلامه
عاملت فيه عذولي ... بالكيد لا بالكرامه
وقال رحمه الله في الزهد:
كل داء لك داء ... ما لبواك انتهاء(2/263)
طول آمال وحرص ... ونفاق ورياء
وذنوب جل فيها ال ... خطب إذ عز العزاء
فتنصل من خطيا ... ت لها النار جزاء
واسل عن دنيا يقضي ... ها صباح ومساء
وابغ أخرى دائم ... فيها نعيم وشقاء
لا يقطنك ولا يؤ ... منك خوف ورجاء
سابق الفوت إلى ال ... فوز فقد جد الجزاء
وانفرد فهو على دين ... ك والعرض وقاء
واعف عن كل الورى أن ... احسنوا أو إن أساؤا
فبنو حواء فيما دو ... ن تقواهم سواء
فاز بالراحة ذو ألف ... هم وللغز العناء
وإذا صح لك القو ... ت على الدنيا العفاء
جفت الأقلام بالكا ... ئن ونبت الفضاء
كل ما في هذه الدن ... يا قصاراه الفناء
ولأهل الخلد في الخل ... د ولله البقاء
وقال الشيخ شرف الدين رحمه الله:
هي الدنيا تحب ولا تحابي ... وتصحب ثم تغدر بالصحاب
دهتني في شباب خولته ... ولم يفجع بمنع مثل حاب(2/264)
فلا تعجب من الأضداد وانظر ... إلى ضحك المشيب مع انتحابي
فلا تثقن وأقل بنيها ... جرائم ضيقت سعة الرحاب
وعاشرهم بأخلاق عذاب ... طواهر مثل أمواه السحاب
وقال:
دخلت حمامكم فجاشت ... بألف كرب لكشف كربه
فقلت تباً لحب دنيا ... نعيمها بالشقاء أشبه
وقال:
رفقاً بروحي فهي لك ... وعلى السخي بما ملك
أفضل بحق من اصطفا ... ك على الملاح وفضلك
فكأن ربك بالجما ... ل على اقتراحي مثلك
أحظاك منه بمنصب ... سواك فيه وعدلك
من فر من ذل السؤا ... ل فعزتي أن أسألك
إن يحم طرفي أن يرا ... ك جعلت قلبي منزلك
إني أغار إذا أرا ... ك دنا إليك فقبلك
ويروعني واشي النس ... يم إذا ثناك وميلك
ما أقبح الصبر الجميل ... بعاشقيك وأجملك
ما انقص اللوام في ... ولهي عليك وأكملك
قال الشيخ شرف الدين حدثني شمس الدين حسن بن صالح السلمي خادم ملك النحاة أبي نزار رحمه الله ببعلبك قال رأيته في المنام بعد(2/265)
موته فقلت له ما لقيت من ربك فقال لي ويك ارفع صوتك ما أسمع ما تقول فقلت يا مولانا ما لقيت من ربك فقال ويك ارفع صوتك ما أسمع فأعدت عليه القول ثالثاً فقال ليه ويك وما ذكرته لك فقلت لا فقال والله أنشدته قصيدة ما في الجنة مثلها ثم أنشد:
يا هذه أقصري عن العذل ... فلست في الحل ويك من قبلي
إلى أن قال فيها:
يا رب ها قد أتيت معترفاً ... بما جنته يداي من زلل
ملآن كف بكل مأثمة ... صفر يد من محاسن العمل
فكيف أخشى ناراً مسعرة ... وأنت يا رب في القيامة لي
وقال رحمه الله ملغزاً في اسم عبد القادر ثم قال والله ما سمعت حسيس النار
ما اسم تعلقته مضافاً ... إلى انفرادي وطول فكري
فشطره عند من بغاه ... مصحفاً باله بخبر
فلا تظننه وصف جمع ... من سنح في الفلاة عفر
ولا نظيراً ليوم وصل ... أمنت فيه عناد دهري
وشطره الآخر المرجى ... لكل عفو وكل غفر
قسمان فعل ماض وحال ... بغير أمر وفعل أمر
رأيته جائزاً لقلبي ... إذ قلبه مثل قلب هجري(2/266)
وإن تلخص فالشطر وصفي ... والشطر وصف عليه تجري
وقال:
أهلاً بطيفكم وسهلاً ... لو كنت للإغفاء أهلاً
لكنه وافى وقد ... حلف السهاد علي إلا
إن لم تزوروا فاجمعوا ... بخيالكم في النوم شملا
ولقد قنعت بوعدكم ... فبرى أفوز بذاك أم لا
؟ أطوى الزمان تعللاً عنكم بليت ولو وعلا
وأكرر الشكوى عسا ... ي يعينني من كان إبلا
قالوا سلوتهم فقل ... ت كذبتم حاشي وكلا
إني فطرت على النهى ... وتفطر العذال جهلا
راموا فطامى عن هوى ... عذيته طفلاً وكهلا
فوضعت في جيبي يد ... ي وقلت خلوني وإلا
يا من يتيه بناظر ... عز التصبر إذ تولى
يا حاكماً في صبوتي ... وتصبري عقداً وحلا
؟ قلبي لديك ومهجتي تفنيهما أسراً وقتلا
خاطبتني ولحظتني ... فسحرتني قولاً وفعلا
الغصن أنت إذا تثنى ... والبدر أنت إذا تجلى
بهرت محاسنك العقو ... ل فعز خالقنا وجل
وقال كتبت إلى والدي رحمه الله ملغزاً للثلج في أوائل ما نظمت:(2/267)
ما بالكم في مأكل طيب ... ومشرب عذب يزيل الأوام
نضربه من فرط إشفاقنا ... عليه أن يسلب ثواب الدوام
ودفنه فيه صلاح له ... مع إنه من نجل قوم كرام
وإن تصحفه فتصحيه ... مدينة من بعدها لا ترام
وهو إذا صفحته ثانياً ... جنس من الأثمار قبل التمام
وعكسه من بعد تصحيفه ... بلدة ملك من بلاد الشام
فكتب تحتها وأعادها إلي ولم يجف الخطان لسرعة النظم وقرب المكان:
يا ملغزاً في شعره شعره ... حسبك قد أثلجتنا يا غلام
وقد فطنا وأجبناك عن ... تفسيره فافطن لهذا الكلام
وقال كتبت إلى والدي ملغزاً للباب:
يا قائم في مخرج ... يذهب طوراً ويجي
لست تخاف شره ... ما كان غير مرتج
فكتب لي في ظهر الورقة ذهاب ومجئ وخوف شر هذا باب خصومة ولو قلت يخاف منعه كان أجود وأليق وخيراً من الشر وأصدق.
وقال رحمه الله:
صب لخديه بالدموع يشي ... من جور واشٍ بكم عليه يشى
ومولع تنطوي أضالعه ... على حشى من جوى الغرام حشى
تيمه الواصل القطوع فقد ... هيمه بين ما رجا وخشى(2/268)
ظبي من الأنس كم لنفرته ... والأنس من مدنف ومنتعش
لا يطمع البدر أن يقاس به ... وهو معيب بالنقص والنمش
بدا فأبديت غير معتمد ... هواه لكن دهيت من دهشى
عقرب صدغاً كالنون عرقها ... في آخر السطر كف مرتعش
ويعين الشعر كي أراع فلا ... وقيت من لسع ذلك الحنش
راق جمالاً ورق محتضناً ... فكدت أشتفه من العطش
ضممت أعطافه فبات على ... موسد من يدي ومفترش
وافى على أدهم الدجى ومضى ... ركضاً على أشهب من الغبش
طاش وقارى له وأي فتى ... فإز بما نلته فلم يطش
مولاي عش وادعاً فعبدك إن ... دام به ذا السقام لم يعش
وأنشد الشيخ شرف الدين لضياء الدين محمد بن المنصور بن الشهرزوري كتب بها إلى ضياء الدين القاسم بن يحيى الشهرزوري ضمن هدية سيرها إليه:
أيا من حوى سبل المكارم كلها ... وزف إليه الصعب منها واسناها
وأصبح فرداً في المعالي فلن أرى ... نظيراً له في العالمين وأشبالها
بحكم انبساطي قد بعثت هدية ... وما كنت لولاه لمثلك أرضاها
بقيت ودامت لي حياتك أنها ... بقية آمالي التي أتمناها
وأنشد الشيخ شرف الدين المذكور لابن التلميذ في ولده:
أشكو إلى الله صاحباً شرساً ... تسعفه النفس وهو يسعفها(2/269)
كأننا الشمس والهلال معاً ... تكسبه النور وهو يكسفها
وأنشد لشرف الدين عبد الله بن أبي عصرون:
ومروحة تفرد كل كرب ... ثلاثة أشهر لا بد منها
حزيران وتموز وآب ... ويغني الله في إيلول عنها
وله:
أومل أن أحيا وفي كل ساعة ... تمر بي الموتى تهز نعوشها
وهل أنا إلا مثلهم غير أن لي ... بقايا ليال في الزمان أعيشها
وقال رحمه الله الشيخ شرف الدين عبد العزيز:
قفا نبك من ذكرى هوى ذلك الخشف ... وإن كانت الذكرى تشف وتشفي
غزال غزا الآساد في جيش حسنه ... فصادهم بين السوالف والشنف
وبدر دجى لم ينتقل كسميه ... ولكنه ما زال في القلب والطرف
يلوح لعيني ما شقا نون صدغه ... فأعبد خلاقي على ذلك الحرف
تعرى ولم ينصف فؤادي إذ غلا ... بحبيه والمغلي يرد إلى النصف
وأقدم زحفاً خارجي عذاره ... فهل عنده أني أفر من الزحف
ولي ثوب سقم محرق من جفونه ... معار وأثواب العواري لا تدفي
ألأم ولي كف لو أكف مدمعي ... تكف وأخرى من ملامي تستعفي
وأنفي أساءات الوشاة بحسنه ... فيرجع كل منهم راغم الأنف(2/270)
ويرجو فلاحاً عذلي فأحيلهم ... على آخر العشرين من سروة الكهف
وقال كتبت إلى والدي ملغزاً للسراج:
ولي صاحب أختاره وأجالس ... يؤانسني إن أوحشتني الوساوس
يدين بطوعي منه رب هداية ... على العرش والكرسي للخلق جالس
أراجعه محض الفوائد جاهداً ... فأقبسه طوراً ولي منه قابس
له من يدي جود ولي من لسانه ... هدى كلما التفت علينا المجالس
أغار من الأنفاس صوناً لنفسه ... فأحرص في إحرازه وأنافس
إذا نام عني أسرتي فهو ساهر ... وإن ضيعتني صحبتي فهو حارس
فصحفه وأعكسه تجده مفسراً ... وفي الوصف كاف أن تفطن حادس
فكتب إلي جواباً:
فديتك يا وتراً لشافعه عما ... فلم أبق خالاً في الفداء ولا عما
تقارنتما نجمي ضياء شركته ... بما خص منه وانفردت بما عما
أتتركه نهباً لفهمي بحارس ... يبيح حماه ثم تسألني عما
فإن عبس الإظلام عند ابتسامه ... كفاك بإيضاح لمشكله عما
يريد عم يتساءلون لما في السورة من ذكر السراج وقال:
لا تبخلن بدمع منه مدرار ... من فارق الإلف قسرا غير مختار
ولا يروي ذو جهل تصبره ... ليس المشوق على بعد بصبار
استودع الله في الغادين بدر دجى ... ودعت منه لباناتي وأوطاري
ظبي يقنص من طرفي كراه ولم ... أحفل بمسراه لولا طيفه الساري(2/271)
إذا تثنى عن طوع لائمتي ... خواطري بقوام منه خطار
وإن رنا قيل يا لله صنعت ... عين الغزال بقلب الضيغم الضاري
كمن نلت في وصله من فرحة ذهبت ... عني ودام لها حزني وتذكاري
وغض ورد بخديه لعزته ... لم يجن إلا بأسماع وأبصار
وقبلة لم يطرق نحوها دنس ... إذا لم يكن غير تقدير وإضمار
وخلوة في التقى والأنس مخلية ... جفني من الماء وقلبي من النار
أحبابنا كيف حلت من حبالكم ... حبالنا بعد إحكام وإمرار
وكيف ضيعتم عهداً حفظت له ... ودائع الحب في جهر وأسرار
أبان غدركم هجري وما عرفت ... عصابة البغي لولا قتل عمار
وخان عهدي نصيح لج في عذلي ... فقلت دعني وإيرادي وإصداري
فما بقلبك أشجاني ولا ذرفت ... عيناك دمعي ولا حملت أوزاري
الأم فيكم ولا تجدي الملامة في ... وجدي بكم غير إغرائي وإصراري
إن كنت لم أفتقد غمضي لفقدكم ... فلا وجدت من الأنصار أنصاري
أو كنت أجرمت جرماً أستحق به ... بعداً فلا قربت من داركم داري
أو كان ما ضيقوه من مسالكنا ... ظلماً فلا وسعتهم رحمة الباري
عابوا خلالي واغتابوا فوقرني ... علمي بأنهم ليسوا بأنظاري
إن يفعلوا فكفاهم شاهداً لهم ... بالنقص جهلهم في الفضل مقداري
لولا هواكم لما عاثت ذئابهم ... في سرح عرضي ولا مروا بأفكاري(2/272)
وقال رحمه الله:
إذا رمت أمراً فاعتمد في بلوغه ... على صاحب ذي حكمة وتجارب
ولا تتخذ فيما ينوبك مسعداً ... سوى عزمات كالنجوم الثواقب
وكن كأبي الأشبال غير مصاحب ... صحاباً سوى أنيابه والمخالب
ولا تغترر بالخل إن لاح بشره ... فإن الأفاعي لينات الجوانب
وقال أيضاً رحمه الله:
عن ملامك قد أكثرت تعذالي ... ليست شعاب الهوى من طرق أمثالي
بارية الخال كفى عن عتاب فتى ... جم الوفاء كريم العم والخال
لم يثنه عنك بأن من حديث هوى ... ولا مغاداة غزلان بأغزال
لكن أنار زناد الشيب مفرقة ... بشعلة بصرته يقظة السالي
وأصلنه قاطعات عن وصالكم ... واعتاض عن شغله فيكم بإشغالي
فقر ما جاش من عذر ومن عذل ... وما يعارض من قيل ومن قال
ولو أنست إلى لهو لنفرني ... ما نفر الغيد من شيب وإقلال
خذي إليك ابنة البكري معذرتي ... أودي شبابي وحالت بعدكم حالي
لولا ثلاثون يحدوها ثمانية ... لكان مثلك من مثلي على بال
أصبوة بعدان أضربت عن طربي ... وقارع الموت اضرابي وإشكالي
طول التفكر في التقصير أقعدني ... عنكم وسكن بالإقصار بلبالي
فالآن فليعتزل هزلي مصاحبتي ... وليكثر الجد في إصلاح أعمالي(2/273)
وقال رحمه الله:
ونادمت من أهوى على قهوة ... خلت سرور القلب في أسر
بدر لشمس الراح في وجهه ... أضعاف نور الشمس في البدر
وريقه العذب إذا صح لي ... سلوت عن رائقها المر
وقال:
أسرفت في ذا الصدود فاقتصد ... إن لم تعدني يا مسقمي فعد
لا تبخلن بالمقال منك إذا ... كنت ببعض الفعال لم تجد
وقل غدا موعد الوصال ولا ... تقصد لإنجازه ولا ت كد
علك تحنو علي بعد غد ... أو فلعلي أموت قبل غد
وقال:
ومعرب اللفظ لي من نحونه أبداً ... حذف وصرف وأعلال وتنكير
وجدي به وافر والدمع منسرح ... والصبر والغمض منقوص ومقصور
وحسنه كامل والعهد مقتضب ... والوصل والصد مقطوع وموفور
ولحظه ساكن والقد منتصب ... والقرط مرتفع والمرط مجرور
وقال رحمه الله:
إلا موت يباع إلا حمام ... فابذل فيه ما ملكت يميني
فإن الموت خير من حياة ... تواضع رتبتي فيها قريني
إذا ما نال من دوني مراداً ... أحاول دونه فيحال دوني
وأنشد الشيخ شرف الدين للعماد الكاتب رحمهما الله ملغزاً(2/274)
في غلبك:
لي حبيب نصف اسمه غل قلبي ... وأميري باقيه بالتركيه
أنا في ذلة العبودة منه ... وهو مني في عزة ملكيه
وأنشد للعماد أيضاً:
مرضى من هوى اللحاظ المراض ... أنا راض به وما أنت راضي
أنت يا عاذلي خلى من الوج ... د وقلبي شج فخلى اعتراض
حويت خلالاً على المخزيات ... جمعن وأخلاق ذا الخلق شتى
اما أمرت بخير صددت ... وإن تنه عن ورد شر وردتا
وما قيل تنشط إلا كسلت ... ولا قيل تصلح إلا فسدتا
يخالف قولك منك الفعال ... ويكثر ذا عند ذي العرش مقتا
أتفعل والذر يحصى عليك ... فليتك في الذر لا كنت كنتا
جعلت البطالة شغلاً لديك ... تقضي بها الدهر وقتاً فوقتا
إذا قيل جاف الخنا قلت قد ... وإن قيل ناف الدنا قلت حتى
وهبك تركت زمان الحيا ... ة فأين المفر إذا أنت متا
وكيف الفرار إذا ما الجبا ... ل نسفن فلم ترفيهن أمتا
سرى المتقين لكسب الفلاح ... ففيمن أقمت وفيما أقمتا
تضرع إلى الله في توبة ... نصوح مكفرة ما اقترفتا
وقلبك فاستفته مخلصاً ... مطيعاً إذا غيره الغر أفتى(2/275)
متى يتجلى ظلم الظلم عنك ... إذا لم تناد نداء ابن متى
فيا رب أنت الغني الحليم ... أجرني من النار فيمن أجرتا
فما بك ضر إذا ما عصيت ... ولا بك نفع إذا ما أطعتا
وإن كنت أسرفت فيما عملت ... فعفوك والصفح عما عملتا
وقال:
أغراه إفراط إقبالي بجفوته ... وما درى أن أعراضي كإقبالي
إن الصدود لعذب مر مورده ... عندي لمن لم يوافق حاله حالي
وقال:
مولاي لا بت مبيتي على ... أخلاف ميعادك بالأمس
فأسعف اليوم بإنجازه ... فديت بالمال وبالنفس
فإن مضى حين على جفوتي ... مضى بي الحين إلى رمس
ما لي سوى هجرك من مأتم ... ولا سوى وصلك من عرس
سلطك الحسن على مهجتي ... والقلب في الإطلاق والحبس
فكيف تلبيس على عاذلي ... وليس في حالي من لبس
ما نور عيني في الدجى والضحى ... غيرك يا بدري ويا شمسي
يخرسني خوفك عن حجتي ... وإنني أفصح من قس
وتظهر الحبسة في منطقي ... حتى كأني حسن البرسي(2/276)
وقال:
ربع اصطباري دمنه ... وسيوف عذالي كليه
فارعى جملي يا بثين ... وأسلفي عندي جميله
وللشيخ شرف الدين رحمه الله أشعار كثيرة لا يجمعها ديوان وكان من حسنات الدهر ومحاسنه وكان والده من الأعيان إلا فاضل العلماء الرؤساء متفننا في العلوم وله معرفة بالفقه والإحكام ولي القضاء غير مرة نيابة واستقلالاً وصحب القاضي ضياء الدين محمد بن المنصور بن الشهرزوري وكن له به اختصاص كثير وناب عنه في الحكم وفي نظر الأوقاف وغير ذلك، ووقفت على كتاب جمع فيه الشيخ شرف الدين المذكور رحمه الله أشياء من أخبار والده القاضي زين الدين محمد بن عبد المحسن المشار إليه رحمه الله، فمما علقت منه: قال الشيخ شرف الدين حضرت بني يدي والدي رحمه الله وقد قاربت خمس عشرة سنة فسألته عن عمره فقال خذ في شأنك هكذا ورد في حديث مسلسل فالححت عليه فأمرني فأحضرت كتاباً من كتب القراآت فأراني صفحة في آخره مكتوب عليه بخط جدي رحمه الله ولد الولد المبارك محمد في الثاني والعشرين من جمادى الأولى سنة ست وستين وخمسمائة وتحته بخط والدي رحمه الله ولد الولد المبارك عبد العزيز ضحوة نهار الأربعاء ثاني وعشرين جمادة الأولى سنة ست وثمانين وخمسمائة فأخذنا نتعجب من هذا الاتفاق في السنة والشهر والجزء من الشهر، ثم انصرفت من بين يديه إلى حجرة كنت أخلو فيها بنفسي ففكرت أنه في يوم(2/277)
مولدي كان قد أكمل والدي عشرين سنة فنظمت بيتين وكتبت بهما إليه وهما:
يا رب قد أوجدت قبلي أبي ... في هذه الدنيا بعشرينا
فاجعله بعدي باقياً مثلها ... وارحم محباً قال آمينا
فكتب إلي في الحال:
لا بل أموت وتحيا ... في غبطة وخير محيا
حتى تصرف صرف ال ... زمان أمراً ونهيا
ثم كتب إلي بعدها.
لا بل أموت وتبقى ... من الخطوب موفى
ويرحم الله خلاً ... يقول آمين حقا
وما عهدك ممن ... أراد براً فعقا
وكتب تحتها إنما أردت بقافية البيت الثاني دعائ حقيقة بخلاف دعائك وجعلت قدحي في إدعائك عقوبة على اعتدائك ثم بات تلك الليلة فلما أصبح كتب إلي ليعلم الولد، أسلكه الله الجدد، وهيأ له الرشد، أني فرقت الليلة وفارقت واستشعرت من مضمون شعره فنظمت:
أيها النجل الشفيق ... كيف أخطاك الطريق
راعني منك دعاء ... لم يسغ لي منه ريق
قدك قد كلفت سمعي ... منه ما ليس يطيق
لم أخلك الدهر تلقا ... ني بشيء لا يليق(2/278)
أعدو أنت أخبر ... ني بصدق أم صديق
سني من شعرك البا ... رد حر بل حريق
ما له لفظ جليل ... لا ولا معنى دقيق
لم يصح لي منه ... الأمقة منك وموق
اعف من برك هذا ... فمن البر عقوق
قال الشيخ شرف الدين رحمه الله حفظ والدي القرآن العظيم وعمره تسع سنين وصلى التراويح بجامع دمشق برواق الحنابلة وتلقنه من صالح المقرئ وتأدب على الشيخ يوسف البوني ثم على الشيخ العالم الحكيم أبي محمد عبد المنعم بن عمر بن حسان الغساني الأندلسي ثم على شيخنا تاج الدين أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي وتفقه على الشيخ شرف الدين عبد الله بن أبي عصرون ثم على الشيخ ضياء الدين الدولعي ونظم الشعر وأنشأ الرسائل وعمره عشر سنين وما حولها ومما نظمه في صباه:
وذات قوام إذا ما انثنى ... رأيت القلوب به في عنا
تراءت لنا كهلال السماء ... وظبي الفلاة إذا ما رنا
كشفنا لها بلسان الجفون ... ونطق الحواجب ما عندنا
فأفهمنا لحظها أنها ... تروم التواصل لو أمكنا
ولازمنا طرفها ناظراً ... يخبر أن بها مثلنا(2/279)
ولولا محاذرة الكاشح ... حين وشرهم نولتنا المنا
ألم بها ما بنا من هوى ... ألم فيتمنا كلنا
ومن ذلك:
كأن الهلالي هلال السماء ... وقد لاح في قمص من سواد
حبيب أمات بهجرانه ... محباً وداري بلبس الحداد
وقال ملغزاً للبيضة:
ها أنا السابق أو واضعتي ... خبروا سابقنا بالتبديه
إن تكن مني فمن أين أنا ... أو أكن منها فمن أين هيه
وقال في السواك:
ومصحوب به أمر الرسول ... له لوني المغير والتحول
تنعم في مكان ما لخلق ... سواه إلى تقحمه سبيل
وقال الشيخ شرف الدين أنشدني شيخنا تاج الدين الكندي في التضمين:
يا ذا الذي في الحب يلحي أما ... والله لو حملت منه كما
حملت من حب رخيم لما ... لمت على الحب فذرني وما
أطلب أني لست أدري بما ... قتلت إلا أنني بينما
أنا بباب القصر في بعض ما ... أطلب من قصرهم إذ رما
شبه غزال بسهام فما ... أخطأ سهماه ولكنما(2/280)
عيناه سهمان له كلما ... أراد قتلي بهما سلما
قال فأنشدتها والدي فقال أحسن منها أبيات حفظتها من أبيات من شعر ابن المعتز وهي:
يا نفس ويحك طالما ... أبصرت موعظة وما
نفعتك فأخشى وانتهي ... وعليك بالتقوى كما
فعل الأناس الصالحو ... ن وبادرى فلربما
سالم المبادر فاحذري ... يا نفس من سوف فما
خدع الشقي بمثلها ... إياك منها كلما
باحت مكايدها ضمير ... ك إنما هي إنما
خطر وكم قتلت واه؟؟ ... لكت النفوس وقلما
تغنى أما نيهاً إذا ... حضر الردى وكأنما
لم يجي من لاقى منيته فيا عجباً أما
في ذاك معتبر ولا ... شاف يقصر من عما
يا ذى المنى يا ذى المنى ... عش ما بدا لك ثم ما
ولجمال الدين همام الدولة الحسن بن علي بن نصر بن عقيل بن أحمد ابن علي العبدي الأمير الموصلي:
وهب المدامة للمى ... واعتاض عن كأس فما
ظام إلى رشفات ما ... لولاه ما عرف الظما(2/281)
يا برد ما أذكى الجوى ... بين الضلوع وأضرما
وكتب زين الدين محمد بن عبد المحسن المذكور إلى شمس الدولة ابن جميل وقد أهدى له ورقاً:
حبذا يا ابن جميل حبذا ... ورق أهديته لكن إذا
كان من خطك موشياً بما ... معتدي الطف شيء يعتذا
لنفوس تتمارى فيه هل ... يحتذى أو يحتدى أو يحتذا
وكتب إلى الشيخ تقي الدين أبي الحسن علي بن أبي بكر الهروي الخراط الموصلي نزيل حلب يطلب منه ثوباً من ملبوسه يتبرك به فأنفذه إليه وكتب معه:
قميص عبد مذنب غافل ... زمانه في صفقة خاسره
فابك على من ظل في غفلة ... قد خسر الدنيا مع الآخره
ثم كتب الهروي إلى زين الدين يطلب منه ثوباً فأنقذه إليه وكتب معه:
قل لتقي الدين يا من هدى ... إلى العلى منهاجه الواضح
وافاك ثوبي فاطرحه فما ... يجتمع الصالح والطالح
ألبسه أدنى خادم مثلما ... يطعم كسب الحاجم الناصح
وقال زين الدين المذكور:
اقنع بأيسر ميسور من الزمن ... واشكر لربك ما أولاك من منن
واذكر ملابس من عدن يخص بها ... ذوو التقى واهجر الأبراد من عدن(2/282)
إن شئت أن تدخل الجنات مجتنياً ... قطوفها فتوق النار بالجنن
وعاشر الناس بالمعروف مجتهداً ... وراقب الله في سر وفي علن
وقال أيضاً:
يا مولعاً بالأماني غير معتبر ... كيف الإقامة والدنيا على سفر
لا تركنن إلى دار الغرور ولا ... تسكن إلى وطن فيها ولا وطر
وسالم الناس تسلم من مكايدهم ... مسلماً لقضاء الله والقدر
كم منحة بدرت ما كنت تأملها ... ومحنة لم تكن منها على حذر
وقال أيضاً:
أبناء دهرك موتى ... فاعظم الله أجرك
لا ترج منهم حراكاً ... فالميت لا يتحرك
لا تعجبن لمسيء ... وأعجب لمن كان سرك
فانفر من الناس مهد ... عند الآله مقرك
وإن تصاونت عنهم ... فإن لله درك
وقال:
لو نفرنا عن السكون إلى الدن ... يا هدينا إلى سواء السراط
دار غدر وحسرة وانقطاع ... وبلاء وقلعة واشتطاط
أبداً تسترد ما وهبته ... كخليل ابن يونس الخياط
ومعناه أن عبد الله بن محمد بن سالم بن يونس الخياط كان له خليل يدعوه لمنادمته فإذا سكر خلع عليه ثوباً فإذا صحا من الغد بعث(2/283)
إليه فاستعاده منه وكان ابن الخياط هذا منقطعاً إلى الزبيريين فقال في ذلك:
كساني قميصاً مرتين إذا انتشى ... وينزعه عني إذا كان صاحيا
فلي فرجة في سكره بقميصه ... وروعاته في الصحو حصت جناحيا
فيا ليت حظى من سروري وروعتي ... يكون كفافاً لا علي ولا ليا
وكتب ضياء الدين بن الشهرزوري إلى زين الدين المذكور ورقة في مهم وطلب كتب جوابها في ظهرها فكتب في غيرها وسير ورقة ضياء الدين عطفها وكتب في ابتداء الجواب بديها:
ضياء الدين كم انهضت جدى ... فلم أنهض بأنعمك الجسيمه
أتاني خطك المرسوم نوراً ... بمرسوم عظيم في عظيمه
ورمت جوابه في الظهر منه ... لتأمن فيه غائلة النميمه
فلم أر أن أطيعك في ابتذالي ... له والرقم في طرس الرقيمة
فأرسلت الإجابة في سطور ... عطفن على المشرفة الكريمة
وللفقيه عمارة اليمنى مقطعات في طلب الأجوبة في الظهور منها:
أعد لي جوابي في ظهور رقاعي ... ليرجع سرى وهو غير مذاع
وإن عقتها عني لتصبح حجة ... علي فقد عاملتني بخداع
ولعمارة أيضاً:
إن شئت أن أكتب مسترسلاً ... إليك فيما عن من أمري
فأكتب على الظهر ولا تعتذر ... فإنه أكتم للسر(2/284)
ولعمارة:
أتاني جوابك عن رقعتي ... على غيرها فأسأت الظنونا
فلا تعتذر عن جواب الظهور ... فبعض الظهور يفوق البطونا
ولا ترتهني بإمساكها ... فلست بتارك خطي رهينا
ولعمارة:
لم أرد الجواب في الظهر إلا ... عامداً في خفاء شكواك حالك
ولأن لا تبقى فيكشف بالي ... من خطوب كشفن بالفقر بالك
قال زين الدين كنت جالساً بسوق الخواصين بدمشق في حدود سنة ثمان وثمانين وخمسمائة وأنا إذ ذاك أجمع بين التجارة ونيابة ضياء الدين بن الشهرزوري في الأوقاف فوقف علي شاب، رث الحال والثياب، ظاهر الاكتئاب، عليه إثر المرض والفاقة مائل السمرة إلى السواد فناولني ورقه: فيها أبيات شعر يشكو فيها حاله، فقلت هذا شعرك؟ فقال نعم فرحمته وقلت له أنظم أبياتاً في ضياء الدين بن الشهرزوري لأحملها إليه واستمنحه لك وخذ هذا الدينار فتنفق في العاجلة، فسر سروراً ظهر عليه ثم مضى وأتاني في اليوم الثاني بأبيات رائية في ضياء الدين، فركبت ومشى معي يحادثني ويدعو ويشكر إلى أن وصلت إلى دار ضياء الدين فأوصلته إليه فسلم عليه ولم أكلفه إنشاد الأبيات لما هو عليه من الضعف وسوء الحال، ثم أخذت له من ضياء الدين خمسة دنانير وانصرف فرحاً مسروراً، ثم لم أره بعدها ولا علمت له نسباً ولا اسماً ومضت على ذلك مدة طويلة وانتقلت إلى جحماة ووليت بها نظر الأوقاف وقدم حماة الرشيد المصري(2/285)
المعروف بالصفوي بعد انصرافه عن خدمة الملك الأشرف، فتعصب له جماعة من الدولة المنصورية حتى ولي وزارة المال للملك المنصور الكبير فرام مني الحضور عنده فامتنعت فشكاني إلى الملك المنصور فقال له هذا ليس لك عليه اعتراض وما وليته إلا بالإكراه ليكون ناظر أوقاف الخليفة ناظر أوقافي فترك الرشيد معارضتي ثم أخذ في استمالتي ومباسطتي المودة فلم أنبسط إليه وفاء لزين الدين بن فويج لأن أمور الديوان كانت إليه قبل ولاية الرشيد، فلما تغير الملك المنصور على الرشيد وعزله واعتقله بجامع القلعة نفذت ولدي عبد العزيز إليه فعرض عليه من المعونة والمساعدة على نكبته بكل ما يليق بالحال فشكر وأثنى والتمس التلطف في خلاصه فسعيت بما أمكن ولم يكن عليه تعلق بل خدم في مكانه بحملة كبيرة فتحنى له الملك المنصور ذنباً وقال إنك لم تخدمنا خدمة تستحق عليها معلوماً فأردد ما أخذته في مدة ولايتك فرده، ثم حبس نوابه وطلب أن يسترجع ما أخذته في مدة ولايتك فرده، ثم حبس نوابه وطلب أن يسترجع ما أخذه من معاليمهم، فقال الرشيد إن هؤلاء حبسوا بسببي وأنا الذي عوقتهم عن مكاسبهم وأنا أقوم بما يطلب منهم فأدى عنهم نيفاً عن أربعة آلاف درهم وأخرجهم، وكانت هذه الفعلة من مكارمه التي حببته فزرته وصادقته وهاديته وباسطته فقال لي في خلوة مرة والله يا مولاي ما كان طلبي لك عند ولايتي لما توهمته من استضاقتك إلي ولا للتحكم عليك بك في عملك بل لأتعرف إليك وأتشرف بك وأكافئك على جميلك، فشكرته وقلت وأي جميل كان(2/286)
مني إليك فقال ما تعرف ذلك الأسود الفقير الأصفر الرث الحال والهيئة الذي وقف عليك بالخواصين وأعطاك ورقة فيها أبيات منها:
يا أجمل الناس في خلق وأخلاق ... عليك معتمدي من بعد خلاقي
أسعد مريضاً غريب الدار مفتقراً ... أبكى أعاديه من ضر وإملاق
فأحسنت إليه وعطيته وأمرته بمدح ابن الشهرزوري فنظم فيه أبياتاً منها:
غرة الظبي الغرير ... من هواها من مجيرى
؟ فلاءن صد حبيبي ونفى عني سرورى
وأماتني الليالي ... موت ذي سقم فقير
فحياتي بأخي الجو ... دا بن يحيى الشهرزوري
أيها المولى ضياء ال؟ ... دين يا صدر الصدور
مسني الضر فاسعد ... ني على مشي أموري
فأوصله إليه وأخذت له جائزته منه أنا والله ذلك الشخص فذكرت القصة وأطرقت خجلاً واستحييت غاية الحياء فقال لي لا تطرق ولا تخجل فمن كانت حاجته إلى مثلك ما عليه عار ولا غضاضة وأعرفك أني بعد ذلك الوقت ما وقت في فاقة ولا احتجت إلى بذلة ولا رأيت أبرك مما صار إلي من مالك وجاهك فنبل في عيني غاية النبيل وصار بيني وبينه من المودة ما أربى على مودات غالب من تقدمه من الأصدقاء بهذا السبب ولو لم يعرفني بنفسه ما عرفته البتة، وكان يصلي الجمعة في المقصورة التي أصلي فيها فانقطع في بعض الجمع لعذر عرض(2/287)
فكتبت إليه:
يا ماجداً ألسن الورى أبداً ... بشكره المستفاض منطلقه
ومن مداناته مروحة ... إذ هو روح الفؤاد والحدقه
ومن أكف الزمان تكتب ما ... أمليه من شكره على الطرقه
ومن أغاث العافين من يده ... سحابة بالنوال منبعقة
إذا سحاب السماء جاد لهم ... بالقطر جادت بعسجد ورقه
ومن معاني مديح حضرته ... مأخوذة من علاه مسترقه
تؤمل سراقها إذا وصلوا ... إليه والقطع مقتضى السرقه
كان لنا كل جمعة منح ... بين المعالي والطول مفترقه
نقوم بالفرض ثم يلطفنا ... بحسن خلق سبحان من خلقه
فلم قطعت الإيناس عن نفر ... أهواؤهم في هواك متفقه
نعد إلى العادة القديمة كي ... تجمع بين الصلاة والصدقه
وأسلم ودم في سعادة وعلا ... تشمل هذي الشمائل العبقه
فكتب الجواب وكان اعتذر عني إلى الملك المنصور في أمر لبس عليه فأشار إليه:
جادت عليك السحائب الغدقه ... بكل بيت علاه متفقه
وأنت ذو فطنة لها حكم ... غزيرة لا تبيد بالنفقه
وليس شعري كفواً لشعركم ... بل هو شكر الأنعام بالصدقه
وما تكلفت باعتذاري عن ... ما كذب المدعي وما صدقه(2/288)
ما الثانية في معنى النفي، فكتبت إليه:
يا ذا الأيادي الغر والمنبت ال ... حلو الجني والمنهل المستطاب
ومن حوى من كل فن فقد ... ناط إلى الحكمة فصل الخطاب
إن قمت بالمعضل فينا وقد ... غاب عن الخدمة كل الصحاب
فليس بالبدع الذي جئته ... منفرداً فيه ولا بالعجاب
مثلك من ساس عظيماً ومن ... قام بأعباء الأمور الصعاب
وهل لدفع الخطب مهما عرا ... جليله إلا الجليل اللباب
شرفني شعرك لما أتى ... منتظماً نظم لآلي السخاب
فراقي من لفظه رقة ... تقضي لعلياك برق الرقاب
فلم أؤخر خدمتي هذه ... تأخير جان يستحق العتاب
وإنما الشامي من بيته ... يأتي إذا كلمته بالجواب
فاسمع ثناء عنك ألفاظه ... أعذب من رشف الثنايا العذاب
وعش سعيد الجد حتى ترى ... غرابة الشيب وشيب الغراب
فكتب إلي مجيباً عنها:
رأيت أبياتاً قصوراً وما ... فيها قصور لا ولا ما يعاب
سكنت منها جنة زخرفت ... بطيب ألفاظ حسان عذاب
وقلت من أنشأ لنا هذه ... لقد أتى من كل شيء عجاب
قالت أنا أنشأني سيد ... يأخذ من كل المعاني اللباب
له رياضات وأخلاقه ... أعذب من رشف اللمى والرضاب(2/289)
يستفتح الأمر بتدبيره ... فيفتح المغلق من كل باب
يميد من يسمع ألفاظه ... حتى كأن اللفظ منه شراب
فقلت هذا وصف زين الد ... نا والدين أعلى كل مولى نصاب
إن عاق سوء الحظ عن قربه ... فإن قلبي عنده في اقتراب
أو خانه الدهر فلا تكترث ... فكل ما فوق التراب تراب
وكان لزين الدين المذكور اليد الطولي في الترسل فمن أنشأته مما كتب عن نفسه: كان الخادم أدام الله سعادات المجلس دواماً يستنفد مدد الأيام، ويستمد دواعي الأنعام، ويسترق له أحرار الأنام، ويستحق بأنوار سعده أ، يمحو آيات الظلم والإظلام، وأنهى ما أحاطت به العلوم المولوية من تلزمه بأستار كعبة المكارم الأكرمية، واكتفائه الأخطار في تعلقه بأذيال المفاخر الخطيرية، واستيرائه زناد العزائم الوزيرية واستمطاره سحب الهمم الأفضلية، المفضلية مستجيراً بقبلة إقبالها ومستعيذاً بحرم جلالها، من عدوان دهر، وانهضام وفر، وانقسام فكرن وشتات أمر وثقل ظهر، وحرج صدر، ومن حادثات كلما قلت أقصرت عظائمها عني وولت توالت وما قولي كذا ومعي صبر ثم وقف بعد ذلك محففاً عن الخواطر من التكرار، وعالماً أن المولى بالمعتبة مستغن عن التذكار
ثم قد جدد الآن تعلقه بأذيال كرمه، وتمسكه وتعبده في مشاعر حرمه وتنسكه شاكياً من نبوة الدهر، وكرات الليالي، ولعمري أن الشكوى عنوان الخور، ونتيجة الضجر، وتظلم على القضاء والقدر، لكن:(2/290)
ولا بد من شكوى إلى ذي حفيظة ... يواسيك أو يسليك أو يتوجع
ومن شكا إلى غيره فقد ملكه من نفسه رقاً وأوجب لها عليه حقاً، فالشكوى على هذا القياس مجلبة رق، يجب لأجله اختيار السيد وموجبة حق، يتعين بسببه ارتياد الغريم الجيد، وقد اختار الخادم لرقه سيداً حفياً، وارتاد لحقه غريماً ملياً وفياً:
فشكا إلى الماء الزلال أوامه ... وشكا السقام إلى الطبيب الماهره
وأجل شكواه من المولى بصدر واسع الصدر، ناصع الفخر، قادر على النفع والضر، مبسوط اليد بالخير وحاشاه من الشر:
يرد الحادثات على الموالي ... ويغريها بإرداء المعادي
تصرف في صروف الدهر حتى ... غدت وحزونها أسلس القياد
مقتضياً منه وعداً هو عليه دين قضاؤه واجب، وحق له من أريحيته مطالب، إذا أهمل اقتضاه الطالب، وقد علم المولى من طريقته العزلة في الغزلة والنفار عما يقضي بذله من البذله، والآن فقد نزل به من الضرورات ما أباح له ركوب المحظورات، فإن رأى المولى تصريفه في بعض الخدم اللائقة وإن لم تكن الفائقة ولا الرائقة، فقد استكتب في مثل بغداد فكتب ورسل فانجب وولى بها وبغيرها الولايات الجليلة، وعذق بنظره فيها وفي سواها حفظ الأموال الجزيلة، فنهض في الولاية النهضة المرضية، وسعى في الكفاية على الطريق المضيئة، فالمشير به آمن من أن يخطي، والشفيع له معط سلطانه ضعاف ما استعطى(2/291)
والخادم قد خرج من لائمة العقل والعقلاء، وقام بوظيفة الفضل عند الفضلاء وسلك بملتمسه جد التوفيق، وتوخى لمقصوده أسهل طريق وجرد لمطلوبه حسام النجاح من قرابه، وأتى بيت حبائه بمحبوبه من بابه واستسقى لظمائه الزلال العذب، واسترهف لنصرته الجراز العضب واستنهض لمهمته الهمام الندب، فإن ظفر بمرامه، وانتصرن على أيامه فغير بعيد أن ينال مراده من اتخذ المولى وسيلة قصده وإن استمر حول حاله التي شرحت ودامت عليه عقلة أموره التي جنحت، وجمحت وطاشت كفة حظه التي كانت قديماً رجعت، واستفحل فساد حركاته التي طالما استقامت وصلحت:
فذاك لحظي لا لعجز محكم ... إذا أمر الأيام في إطاعت
ووجه الشكر متوجه إلى المولى في الحالين، وأيدي الدعاء بدوام أيامه مبسوطة على كلا التقديرين، وبالعناية المتعينة والكفاية المتبينة يرتفع المن والعتب من البين، والرأي اسماً إن شاء الله تعالى، وندب لعقد نكاح ببغداد لبعض مماليك الخليفة على بعض جواريه، فقال بديهاً: الحمد لله الذي خلق من الماء بشراً، فجعله نسباً وصهراً، وشرع النكاح لعباده وأثابهم عليه أجراً، أحمده على نعمه التي أوجب التوثيق بحمدها شكراً، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة أعدها للمعاد ذخراً، وأشد بها للرشاد أزراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث إلى العالم طراً، الموروث عنه من الحكم ما يطبق الآفاق براً وبحراً، ويدعو إلى التناكح(2/292)
والتناسل ليعود قل المؤمنين كثراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة هم بها أحق وأحرى، وعلى عمه العباس بن عبد المطلب الذي فاق الأعمام شرفاً وقدراً، وأولد من الأئمة المهديين نجوماً زهراً، جد مولانا وسيدنا الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين الذي أوسع الإسلام إنجاداً ونصراً، وأوسع الأنام إرفاداً وبراً، وقمع أهل الكفر والعناد إرغاماً وقهراً، صلى الله عليه صلاة ترفع له في الدارين رتباً وذكراً، وبعد فالنكاح من السنن المنوه بها شرعاً وعقلاً والأعمال المفضلة عند الحاجة إليها على أفضل العبادات إذا كانت نفلاً وبه تمت الحكم الإلاهية، ووردت الشريعة المحمدية، ونسخت المسافحة الجاهلية ورسخت أقدام المناسب الطاهرة الزكية، وقد رسم أعلى اله المراسم وأمضاها وأنفذها في أقصى الأرض وأدناها أثناء عقدة النكاح بين فلان وفلانة مملوكي الخدمة الشريفة المكتفيين بهذه العبودية في التلقيب شرفاً، وبهذه المملوكية ملكاً عظيماً مؤتنفاً على صداق مبلغه كذا وكذا فخاراً لله لأمير المؤمنين صلوات الله عليه صلاة دائمة إلى يوم الدين في هذا المرسوم المبين ولمملوكيه في هذا العقد المتين، وجعله مقروناً لأمير المؤمنين، بالنصر والتمكين ولمملوكيه المذكورين بالرفاء والبنين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين.
وكان لزين الدين أخ يدعى نجم الدين أحمد وعنده سقوط همة ففارقه وصار وكيلاً عند القاضي زكي الدين الطاهر بدمشق وبلغ(2/293)
زين الدين رعاية القاضي له بسببه وسأله النجم أن يكتب إلى القاضي يشكره على إحسانه إليه فكتب: أولي الأنعام أدام الله سعادات المجلس العالي الزكوي وجددها، ومدمدة أيامه وأبدها، وبسط يد اقتداره وأيدها، وأبقى على أوليائه مواهب الآئه وخلدها، وحرس الشريعة المطهرة بحسن نظره وعضدها، وهيأ للأمة بواضح هديه وأرشدها، بأن يذكر ويشكر ويظهر، ويشهر، ويذاع وينشر، ويعترف بعوارفه ولا ينكر، أنعام لم يخدم المنعم به على ابتدائه بسالف خدمة ولا تقدمت له نهضة في مهمة وككان فاعله متبرعاً بفعله متطوعاً بما فرضه على مكارمه من مغله كأنعام المولى على مملوكه أحمد أخي الخادم فإن المولى أسبغ الله ظله شمله بأنعامه، ورعاه بطرف عنايته واهتمامه، من غير تقدم خدمة يرعى لأجلها، ولا سابق موالاة يمت مثله بمثلها وهكذا أنعام ذوي الأصول الكريمة والمكارم الأصيلة ما زال عارياً عن الأسباب الموجبة والموجبات المسببة، وقد كان الخادم قاطعه مقبحاً عليه ما اختاره لنفسه من الحرفة التي هي كاشتقاقها، والمهنة التي تفضي إلى انخرام الحرمة وانخراقها، حتى ورد كتابه أنه بين يدي المولى محفوظاً بعنايته، وملحوظاً برعايته، ومنتظماً في سلك خدمه، ومعتصماً بركن حرمه، وملازماً لبابه ومعدوداً من جملة خدمه وأصحابه فعدل الخادم، عن استقباح اختياره إلى استحسانه وعن استيهان رأيه إلى استمتانه، فإن من جمع الله عز وجل له ما جمعه للمولى من كرم المولد وشرف المحتد وطيب الأصول والتفنن(2/294)
في علم الفروع والأصول، ومواظبة اقتباس العلم، وإيناس الأتباع بالتواضع والحلم، إلى غير ذلك من الفضائل التي يضيق عنها العد، ولا يحصرها الحد، كان للمتعلم منه فضيلة العالم، وللوكيل، بين يديه رتبة الحاكم، وللقائم في خدمته منزلة القاعدة المتصدر، وللماشي في ركابه مكانة الراكب المتأمر، فنه لا نقص في خدمة كامل، ولا وهن في قبول الأفضال من فاضل، ولقد أصبح أنعام المولى عليه مسترقاً للخادم وجاراً لولائه وباسطاً لسان دعائه، وثنائه، وما سمع قبل المولى بمسترق سرى الرق إلى أخيه ولا بعبد أنجز إلى مولاه ولا أقاربه وذويه، وإنما المعهود في مواضع الوفاق العمل بالسراية في العتق لا في الاسترقاق وجر المولى من جهة مخصوصة بعد وجود الحرية ومع بقاء العبودية فلا زال المولى مما يوليه من الرغائب مخصوصاً بفضائل الغرائب، ولقد وصل الخادم في كتابه ما تواترات به الأخبار على كل لسان مجملاً من خصائص فضائل المولى وحسن سيرته وغزارة إحسانه ومروءته ما تمنى معه الكون في الخدمة المولوية متشرفاً بمشاهدتها، ومتنمياً بمرافدتها ومستعيناً بمعاضدتها ومستديلاً من الأيام بمساعدتها، والله تعالى يقرب من ذلك ما يقوم للخادم برفع قدره وللمخدوم بواجب شكره إن شاء الله تعالى.
عبد الكريم بن جمال الدين بن عبد الصمد بن محمد بن(2/295)
أبي الفضل بن علي بن عبد الواحد أبو الفضائل عماد الدين الأنصاري الخزرجي الدمشقي الشافعي المعروف بابن الحرستاني، مولده في سابع عشر شهر رجب سنة سبع وسبعين وخمسمائة بدمشق سمع من ابن أبي القاسم عب الصمد ومن رجب الخشوعي والقاسم بن علي الدمشقي وحنبل وغيرهم وتولى قضاء دمشق نيابة واستقلالاً بعد أبيه ثم تولى الخطابة والإمامة بجامعها الأعظم إلى أن توفي ودرس بزاوية الغزالي وغيرها، وتولى مشيخة دار الحديث الأشرفية وكان من الأعيان وتوفي بدمشق في التاسع والعشرين من جمادى الأولى ودفن من يومه بجبل قاسيون وشهده خلق عظيم لا يحصون كثرة ووالده جمال الدين قاضي قضاة الشام كان أحد الفقهاء المشهورين بالعلم والمشايخ المذكورين بالدين والصلاح والحكام المعروفين باتباع الحق وتوخيه والصلابة في الأحكام والوقوف عند ما توجبه الشريعة الهادية.
وكان يعرف وينعت بتقي القضاة وولي القضاء بدمشق مدة نيابة واستقلالاً وسمع من جماعة كثيرة وعمر حتى تفر بأشياء من مروياته وكانت الرحلة إليه في وقته رحمه الله.
علي بن محمد بن علي بن محمد بن علي أبو الحسن ضياء الدين أحد كتاب الحكم بدمشق كان فاضلاً من أعيان العدول، وله اشتغال بسماع الحديث وكتابته وسافر إلى الديار المصرية لشهادة تحملها فأدركه أجله هناك وتوفي بالقاهرة ليلة السبت رابع صفر ودفن خارج باب(2/296)
النصر شرقي القاهرة وقد نيف على الستين رحمه الله.
عمر بن محمد بن محمد بن محمد بن أيوب بن شاذى الملك المغيث فتح الدين أبو الفتح صاحب الكرك وقد ذكرنا في حوادث السنة الخالية حضوره إلى الملك الظاهر وقبضه عليه وأخذ الكرك منه وإنفاذه إلى الديار المصرية وكان والده الملك العادل سيف الدين أبو بكر محمد بن الملك الكامل قد ملك الديار المصرية بعد وفاة أبيه وصار الشام أيضاً في حكمه وابنه الجواد نائباً عنه، واتفق حضور الملك الصالح نجم الدين وأخذه دمشق من الجواد وأنه قصد التوجه إلى الديار المصرية ليملكها، وجرى ما قدمنا ذكره من خروج دمشق عنه وإمساكه وإعتقاله بالكرك ثم خروجه وتملكه الديار المصرية، وكل هذا مشهور وبقي الملك العادل معتقلاً بقلعة الجبل فلما عزم الملك الصالح على السفر إلى الشام في أواخر سنة خمس وأربعين تقدم بتسييره إلى الشوبك ليعتقل بقلعتها فضربت له خيمة ظاهر القاهرة ليخرج إليها ثم يمضي به إلى الشوبك ليعتقل بقلعتها فضربت له خيمة ظاهر القاهرة ليخرج إليها ثم يمضي به إلى الشوبك فامتنع من ذلك وقال ما أروح أصلاً ومهما اردتم فعله فافعلوه هنا فغضب الملك الصالح ومعه نفر يسير من مماليك الملك الصالح وتقدم إليهم بخنقه فخنقوه بقلعة الجبل وجهز وأخرج إلى مقبرة شمس الدولة ابن صلاح الدين خارج باب النصر فدفن بها رحمه الله وذلك في شوال(2/297)
سنة خمس وأربعين فكانت مدة اعتقاله بعد القبض عليه قريباً من ثمان سنين وعمره نحو ثلاثين سنة لأنه ولد سنة خمس عشرة عقيب وفاة جده الملك العادل سيف الدين أبي بكر محمد بن أيوب وكان جواداً كثير البذل أنفق الخزائن التي جمعها والده في السنين المتطاولة في مدة يسيرة وكانت أيامه زاهية زاهرة والأسعار في غاية الرخص لكنه لم يكن فيه سياسة يضبط بها الجند ولا معرفة يدبر بها المملكة وقدم الأراذل وآخر الأكابر ولما مات كان الملك المغيث صاحب هذه الترجمة صغيراً فأنزل إلى القاهرة وجعل عند عمات أبيه القطبيات بنات الملك العادل الكبير وإنما عرفن بالقطبيات لأنهن أشقاء الملك المفضل قطب الدين بن الملك العادل فبقي عندهن إلى أن مات الملك الصالح فقيل أن الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ أراد أن يسلطن الملك المغيث ويكون هو أتابكه وعزم على ذلك والأمير فخر الدين يومئذ بالمنصورة قبالة الفرنج وبلغ ذلك الأمير حسام الدين بن أبي علي وهو إذ ذاك نائب السلطنة بالقاهرة فتقدم بأخذ الملك المغيث من عند عمات أبيه واعتقاله بقلعة الجبل والاحتراز عليه فبقي في القلعة معتقلاً فلما وصل الملك المعظم إلى المنصورة أمر بقتل الملك المغيث من قلعة الجبل إلى قلعة الشوبك واعتقاله بها فنقل إليها وكان الملك الصالح نجم الدين لما تسلم الكرك من أولاد الملك الناصر داود رحمه الله سير إليها الطواشي بدر الدين بدر الصوابي نائباً بها وبالشوبك فلما وصل إليه الملك المغيث اعتقله بالشوبك كما رسم، فلما قتل الملك المعظم وبلغ(2/298)
الصوابي أخرج الملك المغيث وملكه الكرك والشوبك وأعمالهما وتولى تدبير أموره وقد ذكرنا من تفاصيل أحواله نبذة فيما مضى وكان ملكاً كريماً حليماً شجاعاً عادلاً محسناً إلى رعيته غير أنه لم يكن عنده حزم ولا حسن تدبير فإنه أنفق جميع ما كان عنده من المال على البحرية والشهرزورية في طمع تملك الديار المصرية ولم يحصل له ذلك وذهب ذلك المال العظيم في غير فائدة وكان جملاً عظيمة فإن الملك الصالح نجم الدين لما تسلم الكرك حمل إليها مائة ألف دينار عيناً غير الدراهم والأقمشة وغيرها وألجأت الضرورة للملك المغيث بذهاب ذلك إلى النزول من الكرك وخروجها من يده وذهاب روحه.
وكان الملك المغيث على مذهب أبيه في تقريب الأراذل والإصغاء إليهم وقد ذكرنا في السنة الماضية كيفية إمساكه وما نسب إليه والله أعلم بحقيقة ذلك وقيل إن جميع ما نسب إليه لم يكن له أصل بل مجرد شناعة ليقوم عذر الملك الظاهر عند الأمراء والناس فيما فعله فن سائر الأمراء في ذلك الوقت إلا القليل منهم كانوا غلمان بيته.
وحكى لي أن الملك الظاهر قال للأمير عز الدين أيدمر الحلى نائب السلطنة بالديار المصرية في ذلك الوقت دع من يقتل المغيث صاحب الكرك ممن تثق به غاية الوثوق وتوكد عليه في كتمان ذلك وطيه عن جميع الناس وأدفع إليه ألف دينار فأحضر الأمير عز الدين المذكور لأستاذ داره وكان رجلاً ديناً فيه خير وعنده تقوى وقال له أريد أن أندبك في أمر مهم تفعله وتكتمه عن جميع الناس ولا تطلع(2/299)
عليه أحداً من خلق الله فقال السمع والطاعة قال هذه ألف دينار مصرية تأخذها لك وتدخل إلى الملك المغيث صاحب الكرك تقتله فقال والله لو أعطيتني ملء هذه الدار دنانير ما فعلت هذا ولو ضربت رقبتي بل يأمرني الأمير بغير هذا ويبصر ما أفعل فانتهزه وحاوله بكل طريق فلم يجبه إلى ذلك فأعرض عنه وطلب شخصاً آخر من أصحابه فيه شر وعنده شهامة وإقدام وقال له ذلك فبادر إليه ودخل على الملك المغيث فتقله خنقاً وأخذ الألف دينار وشرع يشرب في دار له على بركة الفيل ويخرج من الذهب فقال له ندماؤه في حال سكره من أين لك هذا الذهب فأخبرهم أنه قتل صاحب الكرك وأعطى ألف دينار رضي الله عنه فشاع ذلك واتصل بالملك الظاهر وكان حريصاً على كتمانه ويظهر للأمراء أن المغيث في قيد الحياة موسعاً عليه فعظم ذلك على الملك الظاهر وأنكر على الأمير عز الدين الحلى وطلب الشخص القاتل منه فأحضره إليه فأمر باستعادة الألف دينار منه وقتله.
وكان قتل الملك المغيث في أوائل هذه السنة وقيل في أواخر سنة إحدى وستين رحمه الله.
لاجين بن عبد الله الأمير حسام الدين الجوكندار العزيزي كان من أكبر الأمراء وأعظمهم مكانة في وقته وأعلاهم قدراً وأوسعهم صدراً وأكثرهم تجملاً وكان شجاعاً بطلاً جواداً حازماً وله في الحروب المواقف المشهورة واليد البيضاء والآثار الجميلة خصوصاً في وقعة التتر ظاهر حمص في أول سنة تسع وخمسين فإنه فاز بأجرها وشكرها وقد أشرنا(2/300)
إلى شيء من أحواله يما تقدم من هذا الكتاب.
وكان له في الفقراء والصالحين عقيدة حسنة ويكثر من الإحسان إليهم والبر بهم وافتقادهم بالنفقة والكسوة وغير ذلك وكان يعمل لهم السماعات ويحضر فيها من المآكل والمشارب والأراييح الطيبة والشموع ما يبهر العقل ويتجاوز الحد فكان يقدر ما يغرمه على السماع الواحد تقريب ثمانية آلاف درهم وكنت أسمع باحتفاله في مر السماع وعلو همته فأحمل الأمر على المجازفة في القول من الحاكي فاتفق أنه طلبني ليلة لحضور ذلك فحضرت عنده فكان الأمر على ما بلغني وأكثر فإنني لما دخلت داره التي بالعقيبة رأيت من الشموع الكافوري الكبار في الأتوار الفضة والمطعمة ما يقصر عنه الوصف ثم مد بعد صلاة المغرب سماطاً عظيماً يشتمل على قريب مائة زبدية عادلية كبار في كل زبدية منها خروف صحيح رضعي وقريب ثلاثمائة زبدية دون تلك في كل زبدية ثلاثة طيور دجاج وغير ذلك من أنواع الأطعمة، فلما فرغ الناس من الأكل صلوا العشاء الآخرة وشرع المغني في الغناء ورقص هو بنفسه بين الفقراء كأحدهم وكان يسلك من الأدب معهم والتواضع لهم ما لا مزيد عليه.
فلما فرغ المغني من النوبة الأولى مد سماطاً عظيماً يشتمل على عدة أطباق وصحون خزافية حلوى سكب وقطائف رطبة ومقلوة ومشبك وغير ذلك مما جميعه بالسكر المكرر المصري والفستق والمسك فأكل(2/301)
الناس من ذلك ما أمكنهم وحملوا بحيث شيل معظم ذلك في خرق الحاضرين فلما فرغوا من ذلك شرع المغني في الغناء من النوبة الثانية فرقص هو وغلمانه ومن حضر من الفقراء والمشايخ وغيرهم فلما فرغ المغني من النوبة الثانية مد سماطاً عظيماً من الفواكه النادرة من السفرجل والتفاح الفتحي والكمثرى الرحبي والرمان اللفان والحلو والعنب النادر والبطيخ الأخضر وكانت هذه الفاكهة التي حضرت معدومة في مثل ذلك الوقت يتعذر وجودها على غيره لأن ذلك كان في أواخر فصل الشتاء وإنما كان يدخر له ذلك بالقصد فإن قرية كفر بطنا وزبدين وعدة قرى من الغوطة كانت جارية في إقطاعه وبها الفواكه النادرة فأكل الناس من ذلك ما أمكنهم ثم غنى المغني النوبة الثالثة ورقص الجمع فلما فرغوا مد لهم سماطاً من المكسرات على اختلاف أنواعها من القصب العراقي والفستق والبندق والزبيب الجوزاني والفستق المملح والخشكنان والكعك المحشو والبقسماط المعمول بالسكر والسمن وغير ذلك فأكل الناس من ذلك وحملوا وجميع ما يمد على كثرته لا يرفع منه بقية البتة بل يؤكل منه ما يمكن ويتفارق الحاضرون ما بقي وينهب وجميع ما شرب في تلك الليلة من أولها إلى آخرها من الماء المصنوع بالثلج والسكر وماء الخلاف والورد والمسك والسقاة يملأون الكيزان من ذلك على الدوام ويسقون الناس والمباخر تعمل بالند والعنبر والعود الهندي النادر المعلى من أول الليل إلى آخره.(2/302)
فلما كان وقت السحر أغلى حمام ابن السرهنك المجاورة لداره ودخل إليه ومعه معظم الجمع ولم أدخل أنا.
فحكى لي الشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ محمد اليونيني رحمه الله وكان حاضراً قال بعد خروجك دخلنا الحمام فجعل الأمير يخدم الفقراء بنفسه وغلمانه فلما خرجوا كان منهم جماعة خلعوا قمصانهم ودلوقهم فأحضر لهم قمصاً جدداً وثياباً جدداً في نهاية الحسن والمناسبة لما يليق بهم ثم خرج واستدعاهم إلى داره وسقاهم من الأشربة ما يناسب الحمام ويلائمه ومد لهم سماطاً عظيماً من الططماج وأحضر لهم حلوى سخنة فأكلوا وانصرفوا وأما هو فإنه خلع على المغني من ملبوسه عدة بغالطيق تساوي جملة كبيرة وكذلك غلمانه وكان هذا السماع في آخر سنة تسع وخمسين والغرارة القمح بدمشق فوق ثلثمائة درهم والرطل اللحم بالدمشقي بمبلغ سبعة دراهم والدجاجة بمبلغ ثلاثة دراهم. وجميع الأشياء غالية جداً وكانت وفاته رحمه الله في رابع عشر المحرم ودفن بسفح قاسيون مجاوراً لقبر الشيخ عبد الله البطائحي رحمة الله عليه وقد ناهز خمسين سنة من الممر وقيل أنه سم وإن مملوكه جمال الدين كندغدي واطأ عليه وقابل إحسانه العظيم المفرط بذلك فإنه كان قد خوله وموله وهو عنده أعز ومن الولد فباعه بأبخس الأثمان والله أعلم بحقيقة ذلك وخلف الأمير حسام الدين تركة جليلة المقدار من الخيول والعدة والأموال وغير ذلك رحمه الله.(2/303)
محمد بن حمدان بن جراح بن الحسن بن محمد بن أحمد بن مال وعبد الله شرف الدين النميري كان فاضلاً ينظم العشر على طريقة العرب وتلقب نفسه زعيم نمير وكان شيخاً لطيفاً رأيته غير مرة عند والدي رحمه الله بدمشق وسمعته ينشد مقاطيع من شعره وكانت وفاته بقرية كفر بطنا في ثاني شهر رمضان المعظم ودفن بها وهو في عشر السبعين رحمه الله تعالى.
محمد بن علي بن عبد الوهاب بن محمد بن أبي الفرج أبو الفرج زين الدين الإسكندري سمع من الحافظ علي بن المفضل المقدسي وغيره وتولى القضاء والخطابة ببلده مدة وكان أحد رؤسائها ومن ذوي بيوتها ولأهله بها الآثار الجميلة من الأوقاف على أبواب..... وغير ذلك وكان زين الدين عاملاً فاضلاً سقط عليه بعض جدار داره فمات في العاشر من شهر رجب رحمه الله تعالى.
محمد بن محمد بن إبراهيم بن الحسين بن سراقة أبو بكر محي الدين الأنصاري الأندلسي الشاطبي مولده في شهر رجب سنة اثنتين وتسعين وخمسماية بشاطبة سمع الكثير وولى مشيخة دار الحديث البهائية بحلب ثم قدم الديار المصرية وتولى مشيخة دار الحديث الكاملية بالقاهرة إلى حين وفاته وحدث وكان أحد الأئمة المشهورين بغزارة الفضل(2/304)
وكثرة العلم والجلالة والنبل وأحد المشايخ المعروفين بمعرفة طريق القوم وله في ذلك الكلام الحسن والإشارات اللطيفة مع ما جبل عليه من كرم الأخلاق واطراح التكلف ورقة الطبع ولين الجانب، وكانت وفاته في يوم الثلاثاء العشرين من شعبان بالقاهرة ودفن من الغد بسفح المقطم رحمه الله، ومن قلائد الجمان: الشيخ محي الدين من أبناء القضاة الفقهاء حفظ الكتاب الكريم وتفقه على مذهب مالك بن أنس رحمة الله عليه ورحل إلى المدينة السلام في طلب الحديث فلقي بها جماعة من مشايخها كأبي حفص عمر بن كرم الدينوري وأبي علي الحسين بن المبارك ابن محمد الزبيدي وأبي الفضل عبد السلام بن عبد الله بن أحمد بن بكران وغيرهم وقدم مدينة إربل وقرأ على أبي الخير بدل التبريزي في سنة ست وعشرين وستمائة، وكان محي الدين رجلاً فاضلاً متنسكاً عاقلاً ذا دين وعفاف وبشر ووقار جيد المعرفة بمعاني الشعر صالح الفكرة في حل التراجم ومن شعره:
إلى كم أمني النفس ما لا تناله ... فيذهب عمري والأماني لا تقضى
؟ وقد مر لي خمس وعشرين حجة ولم أرض فيها عيشتي فمتى أرضى
وأعلم أني والثلاثون مدتي ... حر بمغاني اللهو أوسعها رفضا
فماذا عسي في هذه الخمس أرتجي ... ووجدي إلى أوب من العسر قد أفضى(2/305)
فيا رب عجل لي حياة لذيذة ... وإلا فبادر بي إلى العمل الأرضى
وكتب إلى بعض ملوك المغرب:
لقاؤك عيد بالنجاح بشير ... وتقبيل بمني راحتيك حبور
بهاؤك في لحظ المواسم موسم ... ونشرك في ريا العبير عبير
وما عادنا من عيدنا غير وافد ... يحول عليه الحول ثم يزور
له أمل في لثم لقياك مدرك ... وطرف بها يرنو إليك قرير
سرى نحوكم مذ عام أول جاهداً ... يجوب عراض البيد وهي شهور
فبشراه وفي النفس ملء فؤادها ... سروراً وإن أعيت وطال مسير
وناجيت نفسي والهوى يبعث الهوى ... وطال بي التسويف وهو غرور
أأترك موسى ليس بيني ويبنه ... سوى ليلة إني إذن لصبور
فملت بودي وانحياشي وهمتي ... إليك وفيها عن سواك نفور
وأيقنت أني إذ أخذت بحبلكم ... على ريب دهري من أشاء أجير
هما منثني الأعناق نحو علائه ... كمال بأهواء النفوس جدير
ينوب عن الدر النفيس كلامه ... وما ناب عن جدوى يديه بحور
إذا اصفرت أيدي السحاب فكفه ... سحاب بآفاق السماح دروز
وقال محي الدين أيضاً وقيل كنيته أبو القاسم:
وصاحب كالزلال يمحو ... صفاؤه الشك باليقين
لم يحص إلا الجميل مني ... كأنه كاتب اليمين
وهذا عكس قول الشهاب المنازي وهو:(2/306)
وصاحب خلته خليلاً ... وما جرى عذره ببالى
لم يحص إلا القبيح مني ... كأنه كاتب الشمال
محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن هبة الله بن أحمد بن علي ابن الحسين بن قرناص أبو عبد الله ناصر الدين الحموي الخزاعي وبقية نسبه مذكور في ترجمة عمه الشيخ شرف الدين عبد العزيز بن قرناص في سنة أربع وخمسين، مولده في سنة ثلاث عشرة وستمائة وتوفي إلى رحمة الله تعالى ليلة الثلاثاء لثلاث وعشرين ليلة خلت من شوال هذه السنة وكان عالماً فاضلاً زاهداً عابداً ورعا كريم الأخلاق حسن الأوصاف جميل العشرة جم الفوائد، ومن شعره في ترتيب حروف كتاب المحكم في اللغة لابن سيده:
عليك حروفاً هن خير غوامض ... قيود كتاب جل شاناً ضوابطه
صراط سوي زل طالب دحضه ... تزيد ظهوراً ذا ثبات روابطه
لذلكم نلتذ فوزاً بمحكم ... مصنفه أيضاً يفوز وضابطه
وهذه الأبيات أنسب من الأبيات التي عملها بعض أدباء المغرب في مثل ذلك وأليق بالكتاب والأبيات القديمة:
علقت حبيباً همت خيفة غدره ... قليل كرى جفن شكا ضر صده
سبي زهوه طفلاً ديانة تائب ... ظلامته ذنب ثوى ربع لحده
نواظره فتاكة بعميده ... ملاحته أجرت ينابيع وجده
وكتاب المحكم في اللغة كتاب نفيس في خمس عشرة مجلدة لم يصنف(2/307)
في بابه مثله وهو تأليف أبي الحسن علي بن أحمد المعروف بابن سيده قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن أبي نصر ابن عبد الله الحميدي عنه كان إماماً في اللغة والعربية حافظاً لهما على أنه كان ضريراً وقد جمع في ذلك جموعاً، وله مع ذلك في الشعر حظ وتصرف كان منقطعاً إلى الأمير أبي الجيش مجاهد بن عبد الله العامري ثم حدث له نبوة بعد وفاته في أيام إقبال الدولة بن الموفق خافه فيها فهرب إلى بعض الأعمال المجاورة لأعماله وبقي بها مدة ثم استعطفه بقصيدة أولها:
ألا هل إلى تقبيل راحتك اليمنى ... سبيل فإن الأمن في ذاك واليمنا
ضحيت فهل من برد ظلك نومة ... لذي كبد حري وذي مقلة وسنا
ونضو هموم طلحته طياته ... فلا غارباً أبقين ولا متنا
هجان نأى أهلوه عنه وشفه ... قراف فأمسى لا يدس ولا يهنا
فيا ملك الأملاك إني محوم ... على الورد لاعنه أذاد ولا أدنا
تحيفني دهر وأقبلت شاكياً ... إليك أمأذون لعبدك أم يثنا
وإن تتأكد في دمي لك نية ... بسفك فإني لا أحب له حقنا
دم كونته مكرماً تك والذي ... يكون لا عتب عليه إذا أفنى
إذا ما غدا من حرسيفك بارداً ... فقد ما غدا من برد برك لي سخنا(2/308)
وهل هي إلا ساعة ثم بعدها ... ستقرع ما عمرت من ندم سنا
ولله دمعي ما أقل استنانه ... إذا في دمي أمسي سنانك مستنا
ومالي في دهري حياة الذها ... فيعتدها نعمي علي ويمتنا
إذا قتلة أرضتك منا فهاتها ... حبيب إلينا ما رضيت به عنا
وهي طويلة صرف فيها القول ووقع عنه الرضا بوصولها، ومات بعد خروجي من الأندلس قريباً من سنة ستين وأربعمائة رحمه الله، وذكره قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله في وفيات الأعيان فقال الحافظ أبو الحسن علي بن إسماعيل المعروف بابن سيده المرسي كان إماماً في علم اللغة والعربية حافظاً لهما وقد جمع في ذلك جموعاً من ذلك كتاب المحكم في اللغة وهو كتاب كبير جامع مشتمل على أنواع اللغة، وله كتاب المخصص في اللغة وكتاب الأنيق في شرح الماسة في ست مجلدات وغير ذلك وكان ضريراً وأبوه ضرير، قال أبو عمر الطلمنكي دخلت مرسية فتشبث بي أهلها يسمعون علي غريب المصنف فقلت لهم انظروا من يقرأ لكم وأمسك أنا كتابي فأتوني برجل أعمى يعرف بابن سيده فقرأه على من أوله إلى آخره فعجبت من حفظه، وكان له في الشعر حظ وتصرف وتوفي بحضرة دانية عشية يوم الأحد لأربع بقين من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وخمسين وأربعمائة وعمره ستون سنة أو نحوها، قال قاضي القضاة رحمه الله ورأيت على ظهر مجلد من المحكم بخط بعض فضلاء الأندلس أن ابن(2/309)
سيده المذكور كان يوم الجمعة قبل الصلاة صحيحاً سوياً إلى وقت صلاة المغرب فدخل المتوضأ فأخرج منه وقد سقط لسانه وانقطع كلامه فبقي على تلك الحال إلى العصر من يوم الأحد ثم توفي إلى رحمة الله وقيل سنة ثمان وأربعين وأربعمائة والأول أصح وأشهر ودانية مدينة في شرق الأندلس.
محمد بن أبي بكر بن سيف أبو عبد الله شمس الدين التنوخي الموصلي الوتار ولد بالموصل في سابع عشر ذي الحجة سنة تسع وسبعين وخمسمائة واشتغل بالأدب وكان فاضلاً وله نظم جيد وسكن دمشق مدة وتولى خطابة المزة وخطب بها إلى أن توفي بها في ثامن عشر ذي الحجة رحمه الله، ومن شعره في المشيب والخضاب:
وكننت وإياها مذ اختط عارضي ... كروحين في جسم وما نقضت عهدا
فلما أتاني الشيب يقطع بيننا ... توهمته سيفاً فألبسته غمدا
موسى بن إبراهيم بن شيركوه بن محمد بن شيركوه بن شاذى أبو الفتح الملك الأشرف مظفر الدين ملك بعد وفاة أبيه الملك المنصور ناصر الدين إبراهيم في سنة أربع وأربعين حمص وتدمر والرحبة وزلوبية وهو صغير السن وقام بتدبير دولته وزيره مخلص الدين(2/310)
إبراهيم بن إسماعيل بن قرناص فسلم قلعة شميميس إلى الملك الصالح نجم الدين ليعتضد به بإشارة وزيره مخلص الدين فعظم ذلك على الملك الناصر صلاح الدين يوسف وجهز إليه العساكر مع الأمير شمس الدين لؤلؤ وأخذ حمص وعوضه عنها تل باشر وقد أشرنا إلى ذلك، ولما قصد الملك الناصر رحمه الله التوجه إلى الديار المصرية في سنة ثمان وأربعين كان في خدمته فلما كسر العسكر بالسابح كان الملك الأشرف فيمن أسر وحمل إلى قلعة الجبل بالقاهرة فحبس بها إلى، وقع الصلح بين الملك الناصر والملك المعز في المحرم سنة إحدى وخمسين بسفارة الشيخ نجم الدين البادرائي فأطلق مع من أطلق من أصحاب الملك الناصر وقدم عليه طامعاً في أن يعيد عليه حمص، فلما يئس من ذلك توجه إلى تل باشر وكتب إلى الملك الناصر يستأذنه في مراسلة صاحب الموصل وصاحب ماردين وقال إنهما كتبا إلي يهنياني بخلاصي وذكر أن صاحب الموصل يضايقه في الرحبة ويلزمه بعمل جسر قرقيسيا فأذن له فراسلهما وجعل ذلك وسيلة إلى إرساله قصاده إلى التتر ثم طلب إذناً ثانياً أن يبعث إلى بلاد الروم جواسيس يكشفون له أخبار التتر ويطالعونه بها ليكون المسلمون على يقظة منهم فأجابه إلى ذلك وكل ذلك وسيلة إلى مراسلتهم لحقد كامن في صدره للملك الناصر بسب أخذه حمص منه ولم تزل كتبه واردة على الملك الناصر بما(2/311)
يحدث به الرهبة وكتب التتر تصل إليه بما يعتمده من تثبيط عزم الملك الناصر ولما استولت التتر على حلب خرج مع الملك الناصر من دمشق يوم الجمعة خامس عشر صفر سنة ثمان وخمسين إلى الصنمين ثم فارقه منها وتوجه إلى تدمر وقصد هولاكو وهو على قلعة حلب يحاصرها فأقبل عليه هولاكو وأمره بالحديث مع أهل قلعة حلب فتوسط بينه وبينهم حتى سلموها في تاسع ربيع الأول سنة ثمان وخمسين وبقي عنده يسفر بينه وبين من في القلاع حتى سلمها له، فلما أراد هولاكو العود إلى بلاده ولاه الشام بأسره نيابة عنه وأعاد إليه حمص مع تدمر والرحبة وغيرها مما كان في يده، ولما توجه الملك الناصر إلى هولاكو نزل عليه في طريقه فلم يلتفت إليه ولا احتفل به وأغلظ له في التوبيخ والتقريع، ولما عزم الملك المظفر قطز رحمه الله على لقاء التتر كتب إليه كتاباً يسفه رأيه فيه على ما اعتمده من ميله إلى التتر وانحيازه إليهم واختياره لهم على المسلمين ويعده أنه متى خرج عنهم ومال إليه بشرط أن لا يقاتل معهم إذا كان بينه وبينهم مصافاً أبقى عليه ما في يده من البلاد فأجابه إلى ذلك ولما عزم كتبغا على لقاء الملك المظفر رحمه الله طلبه إليه فاعتذر وتمارض وبعث ابن عمه الملك المعظم وصارم الدين أزبك الحمصي مقدم عسكره فلما من الله تعالى بكسرة التتر وهرب من كان من اتباعهم كان الملك الأشرف بدمشق فهرب مع الزين الحافظي ونواب التتر بدمشق فلما وصلوا قارا فارقهم(2/312)
وتوجه إلى تدمر وراسل الملك المظفر فحلف له على ما كان بيده من البلاد خلا تل باشر ثم وصل دمشق وافداً على الملك المظفر رحمه الله فأكرمه وتقدم إليه بالمسير إلى حمص والتصرف في بلاده التي حلف له عليها، فلما قتل الملك المظفر وولي الملك الظاهر واستولى الأمير علم الدين الحلبي على دمشق حلف للملك الظاهر باطناً وللأمير علم الدين الحلبي ظاهراً ولما قصدت التتر حلب في أواخر سنة ثمان وخمسين وخرج منها من بها من العزيزية والناصرية قصدوا حمص فآواهم وأحسن إليهم وقام لهم بالضيافات والإقامات وخرج التتر من حلب في طلبهم. فلما وصلوا حمص في أوائل شهر المحرم سنة تسع وخمسين خرج إليهم وحاربهم مع العزيزية والناصرية وصاحب حماة فكسروهم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وكان التتر زهاء ستة آلاف فارس وهرب من سلم منهم ولم يقتل من المسلمين سوى رجل واحد وكان الملك الأشرف في هذه الوقعة أعظم غناء فرأى له الملك الظاهر ذلك ونبل قدره عنده وأعاد إليه تل باشر لما خرج إلى الشام في شوال سنة تسع وخمسين مع ما في يده ولم يزل ملحوظاً منه بعين الرعاية إلى أن حصل عنده تخيل عن الملك الظاهر عند عوده إلى حمص من خدمته لما كان على
الكرك وقبض على صاحبها فتواتر الأخبار عنه بإظهار أمور كامنة كانت في نفسه فعزم الملك الظاهر على الوثوب به واستئصاله بالكلية فعاجله المرض وتوفي في حادي عشر صفر أو عاشره من هذه السنة بحمص قبل صلاة الجمعة ودفن ليلاً على جده الملك المجاهد أسد الدين شيركوه بالمدرسة التي أنشأها بباطن حمص رحمه الله وكان ملكاً جليلاً حازماً خبيراً مدبراً متيقظاً شجاعاً ساوساً على الهمة كبير النفس أبيها له باطن وغور وتحيل ودهاء وتأتى في بلوغ مقاصده وأغراضه وافر العقل قليل البسط والحديث مقيداً لألفاظه ملازماً للناموس في سائر أوقاته حتى في خلواته مع غلمانه وخواصه يحذو في ذلك حذو الملك الصالح نجم الدين، ولما توفي إلى رحمة الله وجد له من الصين المصري والدراهم والجواهر والذخائر ما يعظم خطره ويكثر بعضه على مثله ولم يخلف ولداً وتسلم الملك الظاهر سائر بلاده وحواصله عقيب موته خلا قلعة تدمر فإن تسليمها تأخر إلى بعد شهرين من وفاته ثم سلمت وهو آخر الملوك من بيت شيركوه رحمه الله تعالى ومولده في أواخر سنة سبع وعشرين وستمائة. رك وقبض على صاحبها فتواتر الأخبار عنه بإظهار أمور كامنة كانت في نفسه فعزم الملك الظاهر على الوثوب به واستئصاله بالكلية فعاجله المرض وتوفي في حادي عشر صفر أو عاشره من هذه السنة(2/313)
بحمص قبل صلاة الجمعة ودفن ليلاً على جده الملك المجاهد أسد الدين شيركوه بالمدرسة التي أنشأها بباطن حمص رحمه الله وكان ملكاً جليلاً حازماً خبيراً مدبراً متيقظاً شجاعاً ساوساً على الهمة كبير النفس أبيها له باطن وغور وتحيل ودهاء وتأتى في بلوغ مقاصده وأغراضه وافر العقل قليل البسط والحديث مقيداً لألفاظه ملازماً للناموس في سائر أوقاته حتى في خلواته مع غلمانه وخواصه يحذو في ذلك حذو الملك الصالح نجم الدين، ولما توفي إلى رحمة الله وجد له من الصين المصري والدراهم والجواهر والذخائر ما يعظم خطره ويكثر بعضه على مثله ولم يخلف ولداً وتسلم الملك الظاهر سائر بلاده وحواصله عقيب موته خلا قلعة تدمر فإن تسليمها تأخر إلى بعد شهرين من وفاته ثم سلمت وهو آخر الملوك من بيت شيركوه رحمه الله تعالى ومولده في أواخر سنة سبع وعشرين وستمائة.
نصر بن تروس بن قسطة بن عبد الله الإفرنجي الأصل الحاج أبو محمد العضوي الزكوي، سمع من أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي وحدث وكان رجلاً خيراً ديناً سليم الصدر ملازماً للصلوات الخمس في الجماعة مثابراً على قضاء حوائج المعارف ذا ثروة وجدة وتوفي في جمادى الأولى بدمشق رحمه الله وخلف عدة من الأولاد ذكوراً وإناثاً.
يحيى بن علي بن عبد الله بن علي بن مفرج بن أبي الفتح أبو الحسين رشيد الدين القرشي الأموي النابلسي الأصل المصري المولد والدار(2/314)
والمالكي العطار مولده في شعبان سنة أربع وثمانين وخمسمائة وتوفي بمصر في ثاني جمادى الأولى من هذه السنة ودفن من الغد بسفح المقطم سمع من خلق كثير وحدث بالكثير وخرج تخاريج مفيدة وجمع جموعاً حسنة، وكان إماماً عالماً فاضلاً حافظاً ثبتاً عارفاً بالصناعة الحديثية وإليه انتهت رئاسة الحديث بالديار المصرية بعد الحافظ زكي المنذري رحمه الله وكتب بخطه الكثير وكان خطه حسناً ووقف جملة من كتبه على من ينتفع بها من المسلمين وكنت قصدت رؤيته في منزله بمصر في شهر رمضان المعظم سنة تسع وخمسين وستمائة فخرج إلي وناولني كتاباً من مروياته وأجاز لي ما تجوز له روايته ويجوز لي روايته عنه رحمه الله.
أبو القاسم بن منصور بن يحيى اللكى الإسكندراني الشيخ الصالح الزاهد المعروف بالقباري كان أحد العباد المشهورين بكثرة الورع والتحري في المأكل والمشرب والملبس معروف بالانقطاع والتخلي وترك الاجتماع بأبناء الدنيا والإقبال على ما يعنيه من أمر نفسه وطريقه الذي سلكه قل أن يقدر أحد من أهل زمانه عليه وخشونة عيشه وما أخذته نفسه من الوحدة وعدم الاجتماع بالناس والجد والعمل والاحتراز من الرياء والسمعة لا يعلم في وقته من وصل إليه(2/315)
وكان يقصد زيارته ورؤيته والتبرك به الملوك ومن دونهم فلا يكاد يجتمع بأحد منهم وأخباره في الورع والعبادة مشهورة فلا حاجة إلى الإطالة بشرحها وتوفي في ليلة الاثنين السادس من شعبان ببستانه بجبل الصيقل ظاهر الإسكندرية ودفن به بوصية منه، وقبره يزار ويتبرك به وزرته في شهر ذي القعدة سنة ثمان وثمانين وستمائة ودعوت الله تعالى عند قبره بدعوات توسلت به فيه وظهر لي أثر بركة زيارته والتوسل به في إجابة دعائي في بعض ما سألته وأرجو الإجابة في جملته إن شاء الله تعالى وبيع الأثاث الموجود في منزله وقيمته دون خمسين درهماً ورقاً بما يزيد عن عشرين ألف درهم تزايد الناس فيه رجاء البركة حتى بلغ الإبريق الذي كان يستعمله ويتوضأ فيه للصلاة جملة كبيرة وقيمة مثله لا يبلغ ثلاثة فلوس وكان قد تناهى في الورع ولما رأى ما ينال الناس من الظلم في كرى الخليج الواصل إلى الإسكندرية من النيل أعرض عن مائه وحمله التدقيق في الورع على أن حفر له بئراً كان يشرب منها وينقل الماء منها بالجرار على دابة ليسقي بستانه وكان إذا وجد رطبة ساقطة تحت نخلة ولم يشاهد سقوطها منه لا يرفعها ولا يأكلها لاحتمال أن طائراً جناها من نخل غيره وسقطت منه تحت نخله، وبالجملة لم يخلف بعده مثله رحمه الله وأعاد علينا من بركاته وأوصى أن يطمس قبره، ومولده في سنة سبع وثمانين وخمسمائة وعمى في آخر عمره قدس الله روحه.
؟(2/316)
السنة الثالثة والستون وستمائة
دخلت هذه السنة والخليفة والملوك على القاعدة المستقرة في السنة الخالية خلا الملك الأشرف صاحب حمص فإنه توفي وانتقل ما كان بيده إلى الملك الظاهر وكان الملك الظاهر بقلعة القاهرة.
متجددات هذه السنة
في العشر الآخر من المحرم بلغ الملك الظاهر أن جماعة من الأمراء والأجناد اجتمعوا على أكل ططماج في دار فزادوا في الكلام بما معناه القدح في الدولة وغالى في ذلك ثلاثة نفر فسمر أحدهم وكحل الآخر وقطعت رجل الثالث فانحسمت مادة الاجتماعات بعد ذلك.
وفي تاسع عشري ربيع الأول قطعت أيدي جماعة من نواب بهاء الدين يعقوب بن حاتم وإلى القاهرة والخفراء وأصحاب الأرباع والمقدمين وكانوا ثلاثة وأربعين رجلاً وسبب ذلك ظهور شلوح ومناسر بالقاهرة وضواحيها فنهبوا وقتلوا وانتهى بهم الفساد إلى التعرض بالعربان النازلين تحت القلعة ليلاً فكثر اللغط والصياح وسمعهم الملك الظاهر فسأل فأخبر بصورة الحال فقال تنتهك الحرمة إلى هذا الحد، فلما أصبح حمل الوالي رقع الصباح ولم يذكر فيها ما فعله المنسر بالعريان فوبخه وانتهره وأخبره بما اتفق فقال ما لي ذنب فإن النواب والخفراء لم يطلعوني على ذلك فأمر السلطان بما ذكرناه آنفاً(2/317)
فمات بعضهم وبقي بعضهم.
وفيها وردت الأخبار بنزول التتر على البيرة وحصارهم لها فجهز الملك الظاهر في شهر ربيع الآخر عسكراً قدم عليه الأمير عز الدين يغان الركني المعروف بسم الموت والأمير جمال الدين آقوش المحمدي وتقدم إلى صاحب حماة بالتوجه معهم بعسكره وكذلك إلى عسكر حلب فسارت العساكر وعبرت الفرات وكان الملك الظاهر قد أمر عيسى بن مهنا بعد أن بعث إليه أجناداً بسلوك البرية إلى حران والغارة عليها فلما بلغ التتار عبور العساكر وغارة ابن مهنا رحلوا عن البيرة وعادت العساكر إلى الديار المصرية.
وفي يوم السبت رابع ربيع الآخر توجه الملك الظاهر بعساكره قاصداً قيسارية فنزل عليها وحاصرها إلى أن فتحها عنوة في ثامن جمادى الأولى وعصت عليه قلعتها بعد فتحها عشرة أيام ثم فتحها وهرب من كان بها إلى عكا فأخرب الملك الظاهر المدينة والقلعة وتركهما دمنة وملك لأعيان الأمراء الذين كانوا معه والغائبين عنه بالبيرة لكل واحد منهم نصف قرية وملك ولدي صاحب الموصل سيف الدين وعلاء الدين وملك الأمير ناصر الدين القيمري وقدمه على العسكر ورتبه نجيبين وأعطاه خبزاً وملك الأمير شرف الدين بن أبي القاسم وهو بطال نصف قرية ثم رحل إلى أرسوف ونزل عليها ونصب المجانيق ورمى(2/318)
أبراجها فعبثت بها وعاثت فيها وأخذتها النقوب من جهاتها وتكرر عليها الزحف إلى أن تداعى برج من أبراجها تجاه الأمير بدر الدين الخزندار فهجم البلد منه بمن معه من العسكر على غفلة من أهلها فوقع القتل فيهم والأسر واقتسم العسكر ما كان بها من الحواصل، وذلك يوم الخميس ثاني عشر شهر رجب ثم خربت أيضاً وأصدرت كتب البشائر من السلطان بالفتوح فمن ذلك مكاتبة إلى قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان رحمه الله من إنشاء فتح الدين عبد الله بن القيسراني من مضمونها: جدد الله البشائر الواردة على المجلس السامي القضائي وأسره بما أسمعه، وأبطل ببركته كيد العدو ودفعه، وجاء بها سبب الخير وجمعه، ولا زالت التهاني إليه واردة، والمسرات عليه وافدة، ونعم الله وبركاته لديه متزايدة، هذه المكاتبة تبشر بنصر من الله وفتح قريب، وهناء يأخذ له المجلس منه أوفر نصيب، وتوضح لعلمه الكريم أنه لما كان يوم الاثنين التاسع من شهر رجب المبارك قدمنا خيرة الله تعالى وزحفنا على مدينة أرسوف بعساكرنا المنصورة وأدرنا بها الأطلاب للزحف، وكانت مرتبة على أحسن صورة وتناولناها مناولة القادم إذا ضم ضمة المشتاق، واستولينا على جميع أهلها فأضحى كل منهم من القيد في وثاق، وأضرمنا بها النيران فعجل الله لهم بها في الدنيا قبل الآخرة الإحراق، وجرعناهم غصص الموت فتجرعوها مرة المذاق،(2/319)
وكانت مدة القتال ثلاثة أيام آخرها يوم الخميس ثاني عشر شهر رجب المبارك فلم يفلت منهم أحد. وعاجلناهم في هذه المدة القريبة فلم يغنهم ما فعلوه في تحصن البلد ولم يمس أحد منهم في ليلة الجمعة وقد نجا من القتل إلا وهو أسير، واحتطنا بها فما نجا منهم بحمد الله صغير، ولا كبير وعجلنا للمجلس بهذه البشارة ليأخذ منها حظاً وافراً، ويقرأ آيات نصر الله على أصحابه من الفقهاء والعدول ويحدث بها فيكون تالياً لها بين الأنام وذاكراً، ويكتب بمضمون ذلك إلى نوابه من الحكام، وليشهر هذا الخبر السعيد بين الأنام، ويواصلنا بدعائه فإننا نرجو به الزيادة والله تعالى يجزينا ويجزيه من ألطافه على أجمل عادة، بمنه وكرمه إن شاء الله تعالى: كتب ثاني عشر شهر رجب المبارك وبين الأسطر وعدة الأسرى ألف أسير وما القتل فكثير لأن القلعة أخذت بالسيف.
وعاد الملك الظاهر إلى القاهرة وزينت لدخوله فدخلها في ثاني عشر شعبان من باب النصر وخرج من باب زويلة وعبر بالأسرى على الجمال وكان يوماً مشهوداً، وفي جمادى الآخرة وقعت نار بحارة الباطلية بالقاهرة فأحرقت ثلاثة وستين داراً جامعة ثم كثر الحريق بعد ذلك بمصر حتى أحرق ربع فرج وكان وقفاً على أشراف المدينة النبوية صلوات الله على ساكنها وسلامه بحيث لم يبق فيه مسكن والوجه المطل على النيل من ربع العادل وكان وقفاً على تربة الإمام الشافعي رحمة الله عليه وكانت توجد لفائف مشاق فيها النار والكبريت على(2/320)
أسطحة الآدر وعظم هذا الأمر على المسلمين ورتب بالشوارع والأزقة دنان الماء واتهم بذلك النصارى الكركيين والملكيين، فلما قدم الملك الظاهر الديار المصرية عزم على استئصال النصارى واليهود بسبب الحريق فأمر بوضع الأحطاب والحلفاء في حفرة كانت في وسط القلعة وإن تضرم فيها النار ويطرح فيها النصارى واليهود فجمعوا على اختلاف طبقاتهم حتى لم يبق إلا من هرب وذلك يوم الأربعاء ثامن عشر شعبان وكتفوا ليرموا في الحفرة فشفع فيهم الأمراء فأمر أن يشتروا أنفسهم فقرر عليهم خمسمائة ألف دينار يقومون منها في كل سنة بخمسين ألف دينار يؤخذ منهم بحسب قدرة كل واحد منها في كل سنة بخمسين ألف دينار يؤخذ منهم بحسب قدرة كل واحد منهم وضمنهم راهب يعرف بالحبيس كان مبدأ أمره كاتباً في صناعة الإنشاء ثم ترهب وانقطع في جبل حلوان فيقال أنه وجد في مغارة منه مالاً للحاكم أحد الخلفاء المصريين، ولما وجد المال وأسى به الفقراء والصعاليك من كل ملة واتصل خبره بالملك الظاهر فطلبه إليه وطلب منه المال فقال أما أني أعطيك من يدي إلى يديك فلا ولكنه يصل إليك من جهة من تصادره وهو لا يقدر على ما تطلبه منه فلا تعجل، وشفع فيه فلما كانت هذه الواقعة ضمنهم وحضر موضع الجباية منهم فمن قرر عليه شيء وعجز عن أدائه ساعده ومن لم يكن معه شيء أدى عنه سواء كان نصرانياً أو يهودياً وكان يدخل الحبوس ويطلق منها من عليه دين ومن وجده ذا هيئة رثة واساه ومن شكا إليه ضرورة أزاحها عنه فانتفعت به سائر الطوائف، ولما طلب من أهل الصعيد المقرر على الذمة الذين(2/321)
بها سافر إليهم وأدى عنهم وكذلك سافر إلى الإسكندرية وغيرها.
وفي يوم السبت ثاني شوال خرج الملك الظاهر من القاهرة لحفر بحر أشموم وفرقه على الأمراء وحفر فيه بنفسه.
وفي ثامنه طلع من الشرق نجم له ذؤابة وبقي إلى نصف ذي القعدة وغاب وهو كوكب الذنب.
ووصل رسول صاحب سيس يبشر الملك الظاهر بهلاك هولاكو ثم ورد الخبر بأن عساكره اجتمعت على ولده أبغا وأن بركة قصده فكسره فعزم الملك الظاهر على التوجه إلى العراق ليغتنم الفرصة فلم يتمكن لتفرق العساكر في الإقطاعات، ولما فرغ من حفر الخليج ركب في الحراقة وأخذ معه زاد أيام قلائل وأدلاء البلاد ومضى ليسد فم جسر على بحيرة تنين انفتح منه مكان خرج منه المياه فغرق الطريق بين الورادة والعريش وأقام هنا يومين وحصل له توعك فعاد إلى مصر في حادي عشر شوال.
وفي ثاني عشر شوال يوم الخميس سلطن الملك الظاهر ولده الملك السعيد ناصر الدين محمد بن بركة قاآن وأركبه بأبهة الملك في القلعة وحمل الغاشية بين يديه بنفسه من باب السر إلى السلسلة ثم عاد وسير الملك السعيد على ظاهر القاهرة ودخل من باب النصر وشق البلد وخرج(2/322)
من باب زويلة وسائر الأمراء مشاة بين يديه والأمير عز الدين الحلي راكب إلى جانبه والوزير بهاء الدين والقاضي تاج الدين راكبان أمامه وعليهم الخلع والأمير بدر الدين بيسري حامل الجتر على رأسه.
وفي يوم الخميس خامس ذي العقدة ختن الملك السعيد باكراً وختن معه جماعة من أولاد الأمراء والخواص وحضر الملك الظاهر ذلك بنفسه وحصل للحكماء خلع كثيرة وأموال جمة.
وفي هذه الشهور ورد على الملك الظاهر عز الدين أيبك الأغاجري من الإسكندرية وكان قد سير إليها لشنق الشريف حصن الدين بن ثعلب وسبب ذلك أن الشريف السرسنائي أحد عدول الثغر كان يتردد إلى ابن ثعلب لتأنيسه وقضاء حوائجه فذكر عنه أنه أعمل الحيلة في هروبه وسفر له عند من يعينه ويساعده وكان السرسنائي بمصر في بعض حوائجه فأخذ من جامعها وأحضر إلى القلعة وسئل عما ذكر عنه فأنكر فأرى الخطوط الواردة من الإسكندرية بالشهادة عليه فأمر بشنقه تحت القلعة وبشنق ابن ثعلب في الإسكندرية فشنقا.
ذكر قبض الملك الظاهر على سنقر الأقرع
وسبب ذلك أن رسولاً ورد من بركة على الملك الظاهر في ذي القعدة ومعه رجل ادعى أنه الملك الأشرف بن الملك المظفر شهاب الدين غازي فشهد له سنقر الأقرع وغيره فاستكشف الملك الظاهر عن أمره فظهر له أن سنقر الأقرع بعث إليه واستدعاه لغرض له فأمر الملك الظاهر بالقبض عليه وحبسه وحبس من شهد له في خزانة(2/323)
البنود في ذي الحجة.
وفي ذي الحجة كتب توقيع وخلد في بيت المال بالديار المصرية يتضمن إسقاط بواقي تعذر استخراجها والمسامحة بها.
وفي رابع وعشرين منه قبض الملك الظاهر على الأمير شمس الدين سنقر الرومي وسببه أنه غضب على مملوكين له فشفع الملك الظاهر فيهما عنده فأجاب، فلما كان تلك الليلة قتل أحدهما فهرب الآخر وأعلم الملك الظاهر فأمر بالقبض على سنقر الرومي ولم يتعرض إلى ماله وأجرى على أولاده وحريمه وأتباعه رواتب.
وفيها ولي من كل مذهب قاضي قضاة مستقل بالديار المصرية وسبب ذلك كثرة توقف قاض القضاة تاج الدين في تنفيذ الأحكام وكثرة الشكاوي منه في يوم الاثنين ثاني عشري ذي الحجة والأمير جمال الدين أيدعذى العزيزي في المجلس وكان يكره القاضي تاج الدين فقال الأمير جمال الدين نترك مذهب الشافعي لك ونولي معك من كل مذهب قاضياً فمال الملك الظاهر إلى قوله وكان له منه محل عظيم فولى الشيخ شمس الدين محمد بن الشيخ العماد الحنبلي والشيخ صدر الدين سليمان الحنفي والقاضي شرف الدين عمر السبكي المالكي وفوض إلى كل منه أن يستنيب في الأعمال وأبقى على تاج الدين(2/324)
النظر في مال الأيتام والأمور المختصة ببيت المال وكتب لهم تقاليد وخلع عليهم ثم فعل ذلك في الشام.
وفي هذه السنة أحضر بين يدي الملك الظاهر نعجة قد ولدت خروفاً على صورة الفيل له خرطوم طويل وأنياب.
وفيها قوي اهتمام الملك الظاهر بتمام عمارة الحرم الشريف النبوي وجهز الأخشاب والحديد والرصاص ومن الصناع ثلاثة وخمسين رجلاً وما يمونهم وأنفق فيهم قبل سفرهم وبعث معهم جمال الدين محسن الصالحي وشهاب الدين غازي بن فضل اليغموري مشداً والرضى ناظراً ومجير الدين أحمد بن أبي الحسين بن تمام طبيباً ومعه أدوية وأشربة، وكان سفرهم في سابع عشر شهر رجب فوصلوا المدينة في ثاني عشر شوال وأخذوا في العمارة وكلما عازهم شيء من الآلات والنفقات سير إليهم من الديار المصرية ودامت العمارة إلى سنة سبع وستين.
فصل
وفيها توفي إبراهيم بن عبد الملك بن يونس المعروف بمريد الله الشيخ الصالح وهو ابن أخت سيدنا الشيخ عبد الله اليونيني الكبير قدس الله روحه أدركه وصحبه وانتفع به وسافر إلى البلاد وعاد إلى بعلبك وسكن زاوية أنشأها مقاربة لتربة خاله الشيخ عبد الله رضي الله عنه ظاهر بعلبك وتوفي بها في ثاني عشر ذي الحجة ودفن بحريمها رحمه الله وقد نيف على سبعين سنة وكان حسن المجالسة كثير النقل عن المشايخ والفقراء كريم الأخلاق معاتقاً للفقراء متوفراً على العبادة(2/325)
رحمه الله قال كتب في هذه السنة سهواً ووفاته في التاريخ المذكور من الشهر في سنة أربع وستين وستمائة.
إبراهيم بن عمر بن عبد العزيز بن الحسن بن علي بن محمد بن يحيى ابن علي بن عبد العزيز بن علي بن الحسين بن القاسم بن الوليد بن القاسم ابن الوليد بن أبان بن أمير المؤمنين عثمان رضوان الله عليه أبو إسحاق معين الدين القرشي الأموي، مولده في السابع والعشرين من ذي الحجة سنة ثلاث وستمائة بدمشق، سمع الكثير وكتب بخطه ولم يزل يسمع ويكتب إلى أن توفي فجأة بدمشق في ثامن ربيع الأول ودفن بسفح قاسيون، وكان عدلاً مبرزاً فاضلاً متيقظاً حسن الخط من بيت العلم والقضاء والتقدم والرئاسة رحمه الله.
حمزة بن محمد بن حمزة بن الحسين بن حمزة أبو يعلي محي الدين البهراني الحموي الشافعي تولى الحكم بحماة مدة وكان فاضلاً سمع وحدث وتوفي بحماة رحمه الله تعالى ولي القضاء بحماة سنة اثنتين وأربعين وستمائة وعزل عنه سنة اثنتين وخمسين.
خال بن يوسف بن سعد بن الحسن بن مفرج بن بكار أبو البقاء زين الدين النابلسي الشافعي مولده بنابلس سنة خمس وثمانين وخمسمائة، سمع الكثير وحفظ من غريب الحديث جملة وقطعة جيدة من المختلف والمؤتلف من أسماء الرواة وحصل كتباً حسنة وأصولاً جيدة كان فاضلاً وتوفي في سلخ جمادى الأولى بدمشق ودفن من يومه بمقابر باب الصغير رحمه الله.(2/326)
عبد الله بن يحيى بن الفضل بن الحسين بن أحمد بن سليمان أبو محمد نظام الدين الحميري الدمشقي المعروف بابن البانياسي كان من العدول الأعيان بدمشق ومولده في منتصف ربيع الأول سنة تسع وسبعين وخمسمائة سمع من أبي طاهر الخشوعي وحنبل بن سكينة وغيرهم وحدث بدمشق وبينه مشهور بالحديث والرئاسة والتقدم وتوفي إلى رحمة الله في شهر صفر ببستانه بكفر سوسة ظاهر دمشق ودفن بسفح قاسيون عثمان بن عبد الوهاب بن يوسف بنمعالي أبو عمرو شرف الدين التغلبي المعروف بابن السائق كاتب الحكم العزيز بدمشق مولده في ذي القعدة سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة بدمشق سمع من الكندي وغيره وحدث وكان من العدول الأعيان المبرزين، وله صدقة وبر ومعروف وعنده ديانة وافرة وخطه حلو ومحاضرته حسنة ولديه فضيلة وتوفي بدمشق في مستهل شعبان وقيل في خامسه ودفن بسفح قاسيون رحمه الله.
فتح بن موسى بن حماد بن عبد الله بن علي بن يوسف أبو نصر نجم الدين الأموي المعروف بالقصري ولد في رجب سنة ثمان وثمانين وخمسمائة بالجزيرة الخضراء من بلاد الأندلس ونقله والده إلى قصر ابن عبد الكريم المعروف بقصر كتامة وعمره مقدار خمس سنين فنشأ(2/327)
بالقصر فلهذا نسب إليه ولما بلغ خمس عشرة سنة عاد إلى الجزيرة الخضراء واشتغل بها في النحو، ثم عاد إلى القصر وورد عليهم الشيخ أبو موسى عيسى الجزولي صاحب المقدمة فقرأها عليه سماعاً لا بحثاً في القصر ثم سافر بعد ذلك إلى بلاد الشرق في سنة سبع وستمائة فوصل إلى إفريقية وأقام بها مدة في تونس ثم توجه إلى الديار المصرية ثم انتقلالى الشام في سنة عشر وستمائة واشتغل بحماة علىالشيخ سيف الدين الآمدي رحمه الله بالأصولين والخلاف ثم انتقل إلى بلاد الشرق وتولى التدريس بمدرسة الأمير عماد الدين ابن المشطوب رحمه الله التي بمدينة رأس عين سنة سبع عشرة وستمائة وأقام بها سنين كثيرة ثم تولى وكالة بيت المال لما ملك الكامل رحمه الله بلاد الشرق ونظم كتاب المفصل للزمخشري وكتاب الإشارات للرئيس أبي علي بن سينا ولما انفصل إلى الديار المصرية نظم بها سيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في اثني عشر ألف بيت وكلها على حرف الراء وله عدة تواليف وتولى التدريس بالمدرسة الفائزية بمدينة سيوط زماناً ثم تولى القضاء بها أيضاً وكان دخوله إلى الديار المصرية في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وستمائة وتوفي يوم الأحد رابع جمادى الأولى من السنة بسيوط من صعيد مصر رحمه الله قال قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله أنشدني لنفسه بقلعة(2/328)
الجبل من الديار المصرية في يوم السبت الرابع من شهر رجب سنة تسع وخمسين وستمائة بيتين كتبهما من حلب إلى بعض أصدقائه برأس عين وهما:
حلب مذ حللتها حل فيها ... عين رأسي والقلب في رأس عين
هي في القلب لا بل القلب فيها ... جمع الله بين قلبي وعيني
فراس بن علي بن زيد بن معروف بن أحمد بن مهنا أبو العشائر نجيب الدين الكناني العسقلاني الأصل الدمشقي المولد والدار والوفاة، مولده في ذي القعدة سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، سمع من الخشوعي والكندي وغيرهما وكان من العدول الأعيان ذوي الثروة واليسار، والوجاهة والرئاسة وتوفي في الخامس والعشرين من شعبان ودفن بمقابر باب الصغير ظاهر دمشق رحمه الله.
محمد بن عمر بن محمد بن عمر بن الحسن بن عبد الله بن أحمد أبو عبد الله القسطلاني التوزري المولد المكي الدار والوفاة المالكي المذهب إمام حطيم المالكية بمكة شرفها الله تعالى ومولده سنة ثمان وتسعين وخمسمائة سمع من أبي حفص عمر بن محمد بن الهروروي وغيره وحدث وكان شيخاً صالحاً عالماً فقيهاً فاضلاً له نظم جيد وتوفي بمكة شرفها الله تعالى في الثامن والعشرين من شوال ودفن من الغد بالمعلى رحمه الله.
محمد بن الحسين بن علي المعروف بابن امرأة الشيخ علي الفرنثي(2/329)
رحمه الله كان شيخاً صالحاً حسناً مليح الشكل حلو المحادثة سليم الصدر علي آثار الخير والصلاح بادية زاويته بسفح قاسيون على نهر يزيد من أحسن الزوايا وأنضرها وفي جانبها الشرقي قبة بها ضريح الشيخ علي الفرنثي وكن والده رحمه الله يحب الشيخ محمد ويؤثره وبنى في زاويته المذكورة مكاناً يختص به على النهر ولما نزل دمشق في شهور سنة خمس وخمسين وستمائة صعد إلى مكانه الذي بناه بالزاوية وأقام به أياماً وحضر السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف إلى زيارته وهو به وكان الشيخ محمد كثير التردد إلى بعلبك لزيارة والدي والاجتماع به وتوفي الشيخ محمد المذكور في الحادي والعشرين من شهر ربيع الأول في زاويته ودفن بها وهو في عشر الثمانين رحمه الله وخلف أولاداً جماعة درجوا إلى رحمة الله عن أخرهم وآخر من توفي منهم أحمد في أول سنة تسعين بظاهر عكا.
موسى بن يغمور بن جلدك بن يلمان بن عبد الله أبو الفتح جمال الدين مولده في جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وخمسمائة بالقرية قرية بالقرب من سمنهود من أعمال قوص وهو ياروقي الأصل سمع من جماعة وحدث وتوفي في مستهل شعبان بالقصير من أعمال الفاقوسية بين الغرابي والصالحية وحمل إلى تربة والده بسفح(2/330)
المقطم فدفن بها في رابع الشهر المذكور وكان أميراً كبيراً عظيماً رئيساً عالماً فاضلاًُ جليل المقدار خبيراً حازماً ساوساً مدبراً جواداً ممدحاً تنقلت به الأحوال وهذبته الأيام وأحكمته التجارب وناب بالديار المصرية في الأيام الصالحية النجمية مدة ثم نقله إلى الشام وجعله نائب السلطنة به فأقام بدمشق إلى أن توفي الملك الصالح نجم الدين وقدم الملك المعظم توران شاه ولده دمشق وتوجه منها إلى الديار المصرية وقتل على ما هو مشهور وتقرر الملك المعز بالديار المصرية فراسله في موافقته فلم يجبه وبقي بدمشق إلى أن قدمها الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله وملكها فاعتمد عليه في سائر أموره وكان هو أمير الدولة ومشيرها وله عند الملك الناصر المكانة العالية والمرتبة الرفيعة ولم يكن في أمراء الجولة من يضاهيه في منزلته ومكانته وقربه ومحله إلا الأمير ناصر الدين القيمري رحمه الله وكان الأمير جمال الدين من رجال الدهر عقلاً وحزماً وسداداً وحشمة وله الآراء الثاقبة والفراسة الصائبة وأنعامه وأصل إلى الأمراء والفقراء والرؤساء وكان بينه وبين والدي رحمه الله مودة كبيرة ومكاتبات في حال الغيبة وكان في الدولة الناصرية كثير البر والإحسان إلى الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري فلما أفضت السلطنة إليه أعرض عنه بعض الأعراض ثم أقبل عليه ورعى له سالف خدمته وعظم قدره وجعله أستاذ داره وفوض اله أموراً كثيرة لعلمه بكفايته وعظم غنائه ولم يزل على ذلك(2/331)
إلى أن درج إلى رحمة الله تعالى كما ذكرنا.
يوسف بن الحسن بن علي أبو المحاسن بدر الدين السنجاري الزرزاري كان رئيساً جليلاً جواداً ممدحاً موصوفاً بالكرم والرئاسة لا ينازع في ذلك وتنقلت به الأحوال فكان في أول أمره بسنجار وتلك البلاد المشرقية وكان له عند الملك الأشرف مظفر الدين أبي الفتح موسى بن الملك العادل رحمه الله مكانة ووجاهة فلما ملك دمشق وما معها ولاه القضاء ببعلبك ومضافاتها وهي البقاع البعلبكي والبقاع العزيزي والزبداني والجبال فكان القضاة في هذه النواحي نوابه ومن قبله ويكتب له في إسجالاته قاضي القضاة ووقفت على كثير من إسجالاته لما كان متولياً ببعلبك وكنيته فيها أبو العز وكان مع صغر ولايته بالنسبة إليه يسلك من التجمل وكثرة المماليك والحاشية والدواب وحسن الزي ما لا يسلكه وزير الممالك الكبار فضلاً عن قضاتها ثم عاد إلى سنجار.
فلما مات الملك الكامل خرجت الخوارزمية عن طاعة ولده الملك الصالح فتوجه إلى سنجار فطمع فيه بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل وحصره فيها ولم يبق إلا أن يتسلمها ويأخذ الملك الصالح أسيراً ويتملك البلاد الشرقية بأسرها وكان بدر الدين قاضي سنجار إذ ذاك فأرسله الملك الصالح وهو محصور بها إلى الخوارزمية لصلح بينه وبينهم ويستميلهم إليه ويستدعيهم لنصرته فخرج من سنجار سراً(2/332)
بحيث لا يشعر به المحاصرون للبلد وخاطر بنفسه وركب الأهوال في ذلك ومضى إلى الخوارزمية فاستمالهم وطيب قلوبهم ووعدهم الوعود الجميلة بعد أن كانوا قد اتفقوا مع صاحب ماردين وقصدوا بلاد الملك الصالح واستولوا على الأعمال ونازلوا حران فأجفل أهلها.
وكان بقلعة حران الملك المغيث ابن الملك الصالح نجم الدين فخاف منهم فسار مختفياً نحو قلعة جعبر وطلبه الخوارزمية ونهبوه ومن معه وأفلت في شرذمة من أصحابه ووصل إلى منبج ثم عاد إلى حران ووصله كتاب أبيه يأمره بموافقة الخوارزمية وإرضائهم فاجتمع بهم أيضاً القاضي بدر الدين والتزم لهم القاضي بدر الدين أن يقطعوا حران والرها وغيرهما من البلاد الجزرية وحلفهم القاضي بدر الدين للملك الصالح نجم الدين وأشملوا على خدمة ولده الملك المغيث.
ولما اتفق الحال مع الخوارزمية ساروا معه ومع الملك المغيث قاصدين سنجار ومقدمهم الأمير حسام الدين بركة خان فلما سمع صاحب الموصل ومن معه قربهم أفرجوا عن سنجار وأدركتهم الخوارزمية فأوقعوا بهم وهرب صاحب الموصل واحتوت الخوارزمية على خيمه وأثقاله ونهبوا من ذلك ما لا يحصى وكان الملك المعظم توران شاه ابن الملك الصالح بآمد معه الأمير حسام الدين بن أبي علي الهذباني وعلى آمد عسكر السلطان غياث الدين صاحب الروم وقد أخذ بعض قلاعها فقصدهم الخوارزمية وواقعوا بعض عسكر الروم فانهزم الباقون عن آمد ولم ينالوا منها غرضاً فقلد القاضي بدر الدين بفعلته هذه للملك(2/333)
الصالح نجم الدين منة عظيمة وأوجب عليه حقوقاً رعاها له ثم إن الملك الصالح عماد الدين سير القاضي بدر الدين وكان قدم الشام فجهزه في رسالة عنه إلى صاحب الروم فلما عاد بلغه خروج الملك الصالح نجم الدين من الاعتقال بقلعة الكرك وتملكه الديار المصرية فخاف على نفسه من تخيل الملك الصالح عماد الدين منه لما يتحققه من ميله إلى جهة الملك الصالح نجم الدين فجهز إليه جواب الرسالة وأقام بحماة لكون صاحبها الملك المظفر مع الملك الصالح نجم الدين ومبايناً للملك الصالح عماد الدين ثم توجه في سنة ثمان وثلاثين من حماة إلى طرابلس وركب في البحر إلى الطينة وحصل له مرض يئس منه ثم أبل ودخل الديار المصرية فسر به الملك الصالح نجم الدين وأكرمه غاية الإكرام وجازاه على يده عنده وكان القاضي شرف الدين بن عين الدولة قاضي الإقليم بكماله فأفرد عنه مصر والوجه القبلي وفوضه إلى القاضي بدر الدين وأبقى القاهرة والوجه البحري مع شرف الدين بن عين الدولة وكان عنده في أعلى المراتب ونقله إلى القاهرة والوجه البحري بعد وفاة القاضي شرف الدين وكان الأمير فخر الدين يوسف بن الشيخ رحمه الله يكره القاضي بدر الدين فكتب مرة إلى الملك الصالح نجم الدين كتاباً يغض من القاضي بدر الدين فيه وينسبه إلى أنه يأخذ من نوابه بالأطراف أموالاً يحملونها إليه وأنه إذا عدل شاهداً أخذ منه مالاً وأشباه ذلك فلما وقف الملك الصالح على كتاب الأمير فخر الدين كتب(2/334)
إليه بخطه على رأس كتابه ما معناه يا أخي فخر الدين للقاضي بدر الدين على حقوق عظيمة لا أقوم بشكرها والذي قد تولاه قليل من حقه وما قمت له بما يجب على من مكافأته فلما وقف الأمير فخر الدين على ذلك لم يعاوده في قضيته وترك الورقة في جملة من أوراق عنده فلما استشهد بالمنصورة وخلف بنتاً صغيرة احتيط على ما في داره فوجدت الورقة في أوراقه فحملها نواب الأيتام إلى القاضي بدر الدين فكان يوقف عليها بعض من يدخل إليه من الأعيان.
وبالجملة فلم يزل في المناصب فإنه ولي سنجار وتلك النواحي ثم ولي بعلبك وأعمالها ثم عاد إلى سنجار ثم قدم الديار المصرية فولي مصر والوجه القبلي مرة والقاهرة والوجه البحري تارة وجمع له الإقليم بكماله وولى تدريس المدرسة الصالحية النجمية التي بين القصرين للطائفة الشافعية مدة وباشر وزارة الديار المصرية مدة وكان في حال تولية الحكم يشارك في الأمور المتعلقة بالدولة ويشاور فيها ويرجع في معظمها إلى رأيه ولم يزل ينتقل في المناصب الجليلة والولايات الحظيرة إلى أوائل الدولة الظاهرية صرف عن ذلك فلزم منزله والناس يترددون إلى خدمته والأعيان يعترفون بتقدمه ورئاسته وحرمته وافرة عند أرباب الدولة ومحله عظيم عند الخاص والعام ومكارمه مشهورة عند سائر الأنام وكان كثير الإحسان وافر العطاء جميل الصفح عن الزلات وإقالة العثرات ورعاية الحقوق والمودات مقصداً لمن يرد إليه من الفقهاء والفضلاء وذوي البيوتات وحج سنة اثنتين وخمسين سافر على(2/335)
البحر وصام بمكة شهر رمضان وأقام إلى الموسم وعاد في أوائل سنة ثلاث وخمسين وكان بينه وبين والدي رحمه الله مودة أكيدة فكان من يتوجه إلى الديار المصرية يتوسل إليه بكتب والدي فيبالغ في إكرامه والإحسان إليه وكانت وفاته في رابع عشر شهر رجب بالقاهرة ودفن بتربته بالقرافة رحمه الله.
أبو القاسم بن.... الشيخ المشهور صاحب الزاوية بقرية حواراي من عمل السواد كان رجلاً صالحاً وله ثروة وإتباع وصيت في تلك النواحي ويضيف من يرد عليه من الفقراء وغيرهم وصلى عليه بالقدس صلاة الغائب في يوم عيد النحر وبجامع دمشق في تاسع عشر ذي الحجة يوم الجمعة رحمه الله تعالى.
السنة الرابعة والستون وستمائة
دخلت هذه السنة والخليفة وملوك الطوائف على الصورة المستقرة خلا صاحب مراكش الملقب بالمرتضى فإنه قتل وولى بعده أبو العلاء إدريس الملقب بالواثق والملك الظاهر بقلعة الجبل.
مجددات الأحوال
خرج الملك الظاهر من القعلة إلى الصيد في رابع ربيع الأول(2/336)
وعاد في رابع عشر ربيع الآخر فأقام بالقلعة يومين ثم توجه إلى تروجه فأقام بها إلى تاسع عشري جمادى الأولى وفي رابع عشر جمادى الآخرة توجه لحفر خليج الإسكندرية في شهر رجب.
وفي العشرين من جمادى الآخرة سمر على الجمال أحدا وعشرين نفراً من مقدمي العربان بالشرقية وحملوا عليها إلى بلادهم فماتوا في الطريق.
وفي هذه السنة ظهر كتاب وقف المدرسة النورية رحم الله واقفها ببعلبك وفيه اشتراك بين الشافعية وغيرهم من المشتغلين بالعلم من أهل السنة وكان نبي عصرون الذين يدعون النظر على الأوقاف النورية يخفون لذلك فلما ظهر أمره جدد إثباته وأخذ به نسخة وتنجز عليها فتاوي العلماء ومراسيم نواب السلطنة ونزل بالمدرسة المذكورة من أراد الاشتغال من الحنابلة وغيرهم واستمر الحال على ذلك عبد فصول يطول شرحها.
وفي يوم السبت مستهل شعبان برز الملك الظاهر إلى بركة الجب قاصداً صفد وترك نائباً عنه بالديار المصرية الملك السعيد والحلي في خدمته والوزير بهاء الدين وسار حتى نزل عين جالوت وبعث عسكراً مقدمه الأمير جمال الدين أيدغدي العزيزي وعسكراً آخر مقدمه الأمير سيف الدين قلاون الألفي للغارة على بلاد الساحل فأغاروا على عكا وصور وغرقد وإطرابلس وجلبا وحصن الأكراد في يوم واحد وهو سلخ شعبان على مواعدة كانت بينهم فغنموا وسبوا ما لا يحصر ثم نزل الملك الظاهر على صفد في ثامن شهر رمضان ونصب عليها المجانيق ودام الاهتمام(2/337)
بعمل الآلات الحربية إلى مستهل شوال فشرع في الزحف والحصار والقتال وأخذت النقوب على الباشورة من جميع الجهات إلى أن ملكت بكرة الثلاثاء خامس عشر شوال واستمر الزحف والقتال ونصبت السلالم على القلعة وسلطت عليها النقوب والملك الظاهر يباشر ذلك بنفسه فبذل أهل الحصن التسليم على أن يؤمنوا على أنفسهم وطلبوا اليمين على ذلك فأجلس الملك الظاهر الأمير سيف الدين كرمون من التتر في دست السلطنة وحضرت رسلهم فاستحلفوه فحلف وهم يظنونه الملك الظاهر وكان في قلب الملك الظاهر منهم لما أنكوا ولما فعلوا بالمسلمين ثم شرط عليهم أن لا يأخذوا معهم من أموالهم شيئاً فلما كان يوم الجمعة ثامن عشر شوال طلعت السناجق على القلعة ووقف السلطان بنفسه على بابها وأخرج من كان فيها من الداوية والاسبتار والفلاحين وغيرهم ودخل الأمير بدر الدين الخازندار وتسلمها واطلع على أنهم أخذوا شيئاً كثيراً من التحف له قيمة فأمر الملك الظاهر بضرب رقابهم فضربت على تل هناك وانتشئت كتب البشائر فمنها ما كتبه كمال الدين أحمد بن العجمي عن الملك الظاهر إلى قاضي قضاة الشام شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله ومضمونه: سر الله خاطر المجلس السامي واطلع عليه وجوه البشائر سوافر، وأمتع نواظره باستجلاء محاسنها النواضر، وواصلها إليه متوالية تواجهه كل يوم بمراتبها الزواهي الزواهر، وأماثلها لديه متضاهية الجمال متناسبة في حسن المبادي والأواخر، ولم تزل وجوه(2/338)
البشائر أحسن وجوه نستجلي، وألفاظه أعذب ألفاظ تستعاد وتستحلى، وإذا كررت على المسامع أحاديث كتبها لا تمل بل تستملي، لا سيما إذا كانت بإعزاز الدين، وتأييد المسلمين، ونبأ فتح نرجو أن يكون طليعة فتوحات كل فتح منها هو الفتح المبين، فإن أنباءها تجل وقعاً وتعظم في الدنيا والآخرة نفعاً، وتود كل جارحة عند حديثه أن تكون سمعاً، لحديث هذا الفتح الذي كرم خبرا، وخبراً وحسن أثره في الإسلام وردا وصدرا، وطابت أخبار ذكره فشغل به السارون حداً، والسامرون سمراً، وهو فتح صفد واستنقاذه من أسره واسترجاعه إلى الإسلام. وقد طالت عليه في النصرانية مدة من عمره، وإقرار عين الدين بفتحه وكان قذى في عينه وشجى في صدره، وقد كنا لما وصلنا الشام بالعزم الذي نفرته دواعي الجهاد، وأنقذته عوالي الصعاد، وقربته أيدي الجياد ملنا على سواحل العدو المخذول فغرقناها ببحار عساكرنا الزاخرة، وشنينا بها من الغارات ما ألبسها ذلاً رفل بها الإسلام في ملابس عزه الفاخرة، وهي وإن كانت غارة عظيمة شنت في يوم واحد على جميع سواحله واستولى بها النهب والتخريب على أمواله ومنازله، واستبيح من حرمه وحرمه مصونات معاقله، وعقائله، إلا أنها كانت بين يدي عزائمنا المنصورة نشيطة نشطناً بها الغازين واسترهفنا بها همم المجاهدين وقدمناها لهم كلللهنة قبل الطعام للساغبين، وأعقبنا ذلك بما رأيناه أولى بالتقديم وأحرى، وتبيناه شد وطأة على الإسلام وأعظم ضراً، وهي(2/339)
صفد التي باء بأثمها حاملها على النصرانية، ومسلطها بالنكاية، على البلاد الإسلامية، حتى جعلها للشرك ما سدة آساده ومراد مراده، ومجر رماحه ومجرى جياده، كم استبيح للإسلام من حمى، وكمن استرق الكفار بواسطتها مسلمة من الأحرار ومسلماً، وكم تسرب منها جيش الفرنج إلى بلاد المسلمين فحازوا ومغنماً وقوضوا معلماً، فنازلناها منازلة الليل بانعقاد القساطل، وطالعناها مطالعة الشمس ببريق المرهفات وأسنة الذوابل، وقصدناها بجحفل لم يزحم بلداً إلا هدمه ولا قصد جيشاً إلا هزمه ولا أم ممتنعاً طغا جبارة الأسهلة وقصمه فلما طالعتها أوائل طلائعنا منازلة وقابلتها وجوه كماتنا المقاتلة اغتر كافرها فبرز للمبارزة والقتال ووقف دون المنازلة
داعياً نزال، فتقدم إليه من فرساننا كل حديد الشباجديد الشباب يهوى إلى الحرب فيرى منه ومن طرفه أسد فوق عقاب، ويخفف نحوها متسرعاً فيقال إذا لقاء أعداء أم لقاء أحباب، فهم فوارس كمناصلهم رونقاً وضياء، تجري بهم جياد كذوابلهم علاناً ومضاء، إذا مشوا إلى الحرب مزجوا المرح بالتيه فيظن في أعطافهم كسل، وهزوا قاماتهم مع الذوابل فجهلت الحرب من منهم الأسل، فحين شاهد أعداء الله آساد الله تصول من رماحها بأساودها، وتبدي ظمأ لا ينفعه إلا أن ترد من دماء الأعداء محمر مواردها، وأنها قد أقبلت نحوم بجحافل تضيق رحب الفضاء، وتحقق بنزولها ونزالها كيف نزول القضاء، وإنه جيش بعثه الله بإعزاز الجمعة وإذلال الأحد، وعقد برايته مذ عقدها إن لا قبل بها لأحد، وإن الفرار ملازم أعدائه ولا قرار على زائر على الأسد ولو مدبرين وأدبروا على أعقابهم ناكصين ولجأوا إلى معقلهم معتقلين لا متعقلين، فعند ذلك زحفنا إليه من كل جانب حتى صرنا كالنطاق بخصره، ودرنا به حتى عدنا كاللثام بثغره، وأمطرنا عليه من السهام وبلاً سحبت ذيول سحبه المتراكمة، وأجرينا حولها من الحديد بحراً غرقه أمواجه المتلاطمة، وضايقناها حتى لو قصد وفد النسيم وصولاً إليه لما تخلص، أو رام ظل الشمس أن يعود عليه فيئاً لعجز لأخذنا عليه أن يتقلص، ثم وكلنا به من المجانيق كل عالي الغوارب عاري المناكب عبل الشوى، سامي الذرى، له وثبات تحمل إلى الحصون البوائق وثبات تزول دونه ولا يزول الشواهق، ترفع لمرورها الستائر فتدخل أحجاره بغير استيذان، وتوضع لنزوله رؤوس الحصون فتخر خاضعة للأذقان، فلم يزل يصدع بثبات أركانه حتى هدمها، وتقبل ثنيات ثغره حتى أبدى ثرمها، وفي ضمن ذلك لصق الحجارون بجداره وتعلقوا باذيال أسواره ففتحوها أسراباً، وأججوها جحيماً يستعر جمرها التهاباً فصلى أهل النار بنارين من الحريق والقتال، ومنوا بعذابين من حر الضرام وحد النصال، هذه تستعر عليهم وقوداً، وهذه تجعل هامهم للسيف غموداً. اعياً نزال، فتقدم إليه من فرساننا كل حديد الشباجديد الشباب يهوى إلى الحرب فيرى منه ومن طرفه أسد فوق عقاب، ويخفف نحوها متسرعاً فيقال إذا لقاء أعداء أم لقاء أحباب، فهم فوارس كمناصلهم رونقاً وضياء، تجري بهم جياد كذوابلهم علاناً ومضاء، إذا مشوا إلى الحرب مزجوا المرح بالتيه فيظن في أعطافهم كسل، وهزوا قاماتهم مع الذوابل فجهلت الحرب من منهم الأسل، فحين شاهد أعداء الله آساد الله تصول من رماحها بأساودها، وتبدي ظمأ لا ينفعه إلا أن ترد من دماء الأعداء محمر مواردها، وأنها قد أقبلت نحوم بجحافل تضيق رحب الفضاء، وتحقق بنزولها ونزالها كيف نزول القضاء، وإنه جيش بعثه الله بإعزاز الجمعة وإذلال الأحد، وعقد برايته مذ عقدها إن لا قبل بها(2/340)
لأحد، وإن الفرار ملازم أعدائه ولا قرار على زائر على الأسد ولو مدبرين وأدبروا على أعقابهم ناكصين ولجأوا إلى معقلهم معتقلين لا متعقلين، فعند ذلك زحفنا إليه من كل جانب حتى صرنا كالنطاق بخصره، ودرنا به حتى عدنا كاللثام بثغره، وأمطرنا عليه من السهام وبلاً سحبت ذيول سحبه المتراكمة، وأجرينا حولها من الحديد بحراً غرقه أمواجه المتلاطمة، وضايقناها حتى لو قصد وفد النسيم وصولاً إليه لما تخلص، أو رام ظل الشمس أن يعود عليه فيئاً لعجز لأخذنا عليه أن يتقلص، ثم وكلنا به من المجانيق كل عالي الغوارب عاري المناكب عبل الشوى، سامي الذرى، له وثبات تحمل إلى الحصون البوائق وثبات تزول دونه ولا يزول الشواهق، ترفع لمرورها الستائر فتدخل أحجاره بغير استيذان، وتوضع لنزوله رؤوس الحصون فتخر خاضعة للأذقان، فلم يزل يصدع بثبات أركانه حتى هدمها، وتقبل ثنيات ثغره حتى أبدى ثرمها، وفي ضمن ذلك لصق الحجارون بجداره وتعلقوا باذيال أسواره ففتحوها أسراباً، وأججوها جحيماً يستعر جمرها التهاباً فصلى أهل النار بنارين من الحريق والقتال، ومنوا بعذابين من حر الضرام وحد النصال، هذه تستعر عليهم وقوداً، وهذه تجعل هامهم للسيف غموداً.
فعند ذلك جاءهم الموت من فوقهم ومن أسفل منهم، وأصبح ثغرهم الذي ظنوه عاصماً لا يغني عنهم، ومع ذلك فقاتلوا قتال مستقتل لا يرى من الموت بداً، وثبتوا متحايين يقدرون ببيضهم البيض والأبدان(2/341)
قداً، فصبر أولياء الله على ما عاهدوا الله عليه، وقدموا نفوسهم قبل أقدامهم رغبة إليه، ورأوا الجنة تحت ظلال السيوف فلم يزودونها مقبلاً وتحققوا ما أعده الله لأهل الشهادة فاستحلوا وجه الموت على جهامته جميلاً، فعند ذلك خاب ظن أعداء الله وسقط في أيديهم وصار رجاء السلامة برؤوسهم أقصى تمنيهم فعدلوا عن القتال إلى السؤال وجنحوا إلى السلم وطلب النزول بعد النزال وتداعوا بالأمان صارخين، وجاؤا بدعاء التضرع لاجين، فأغمد الصفح عنهم بيض الصفاح، وقاتلوا من التوسل بأحد سلاح، واستدعوا راياتنا المنصورة فشرفوا بها الشرفات ونزلوا على حكمنا فأقالت القدرة لهم العثرات، وتسلم الحصن المبارك وقت صلاة الجمعة ثامن عشر شوال، وتحكم نوابنا على ما بها من الذخائر والأموال، ونودي في أرجائها بالواحد الأحد، واستديل للجمعة يوم الجمعة من يوم الأحد، ونحن نحمد الله على هذا الفتح الذي أعاد وجه الإسلام جميلاً، وأنام عين الدين في ظل من الأمن مدة ظليلاً، وألان من جانب هذا الثغر ما لا ظن أن سيلين، وذلل من صعبه ما شرح به صدر الملك والدين، فإنه حصن مر عليه دهر لم يدر فتحه بالأوهام، ولا تطاولت إليه يد الخطب ولا همة الأيام، وربما كان يجد منفساً فيدعوا الملوك إلى نفسها فيتصامموا وتخطبهم وممرها أدنى حرب فيرغبوا في العزلة والمسالمة فيسالموا إلهاهم عن فخر فتحها الرعية في رفاهية عيشه ظنوها راضية ووقف بهم دون السعي فيه همة لنزول الدنايا متغاضية وجنح بهم مراد السلم(2/342)
وإرادة السلم كانت عليهم القاضية، والمجلس أيده الله يأخذ حظه من هذه البشرى، ويقر بها عيناً ويشرح بها صدراً، ويحلي وجوه بشائرها من هذه المكاتبة على عيون الناس من كل حاضر وباد، ويستنطق بها ألسن المحدثين وفي كل محفل وناد، والله يحرس المجلس ويسهل بهمته كل مراد، إن شاء الله تعالى في التاريخ المذكور من وقت الفتح.
ثم أمر بعمارتها وتحصينها ونقل الذخائر والأسلحة إليها وأقطع بلدها لمن ربته لحفظها من الأجناد وجعل مقدمهم الأمير علاء الدين الكبكي وجعل في نيابة السلطنة بالقلعة الأمير عز الدين العلاني وولاية القلعة للأمير مجد الدين الطوري ثم رحل إلى دمشق في تاسع عشر شوال.
ولما كان الملك الظاهر منازلاً صفد وصل إليه في خامس عشر شهر رمضان رسول صاحب صهيون بهدية جليلة ورسالة مضمونها الاعتذار من تأخره عن الحضور فقبل الهدية والعذر ووصلت رسل صاحب سيس أيضاً بهدية فلم يقبلها ولا سمع رسالتهم ووصلت البريدية من متولي قوص يخبر أنه استولى على جزيرة سواكن وهرب صاحبها وبعث يطلب من السلطان الدخول في الطاعة وإبقاءها عليه فكتب له بذلك.
وفي يوم الخميس مستهل ذي القعدة حل الملك الظاهر بدمشق ثم تقدم إلى العساكر بالمسير إلى بلد سيس للغارة فخرجوا من دمشق يوم السبت ثالث الشهر وقدم عليهم الملك المنصور صاحب حماة وتدبير(2/343)
الأمور إلى الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقاني فوصلوا الدرب الذي يدخل منه إليها وكان صاحبها قد بنى عليه أبرجة وجعل فيه المقاتلة. فلما رأوا العساكر تركوها ومضوا فملكها المسلمون وهدموها ودخلوا إلى بلد سيس فأسروا وقتلوا وسبوا وكان فيمن أسر ابن صاحب سيس وابن أخته وجماعة من أكابرهم ودخلوا المدينة يوم السبت ثاني وعشرين من ذي القعدة فنهبوها وأخذوا منها ما لا يحصيه إلا الله تعالى، ولما عادوا خرج الملك الظاهر من دمشق لتلقيهم في ثاني ذي الحجة وجاز بقارا في سادسه فأمر بنهبها وقتل من فيها، وسبب ذلك أن بعض ركابية الديار المصرية خدم مع الطواشي مرشد وخرج معه عند عوده من مصر إلى حماة فحصل له مرض فانقطع بالعيون قريباً من قارا أمس عليه المساء فأتاه نفران من أهل قارا وحادثاه وحملاه إلى قارا ليمرضاه فبقي عندهما ثلاثة أيام فعوفي فأخذاه تحت الليل ووصلا به إلى حصن الأكراد وباعاه بأربعين ديناراً صوريه واتفق توجه بعض تجار دمشق إلى حصن الأكراد لمشتري أسراء فاشتراه في الجملة واتفق أنه خدم بعض الأجناد وخرج صحبته، فلما حل ركاب الملك الظاهر بقارا حضر الركابي مجلس الأتابك وأنهى إليه صورة فحاله فسير معه جاندارية فطوق عليهما فصادف أحدهما بباب الخان فحمل إلى الأتابك فدخل الأتابك على الملك الظاهر وقص عليه القصة فأمر(2/344)
بإحضارهما فحضرا وتقابلا فأنكر القاري فقال الركابي أعرف داره وما فيها، فلما سمع اعترف وقال ما أنا وحدي أفعل هذا بل جميع من بقارا يفعله واتفق حضور رهبان من أهل قارا إلى باب الدهليز بضيافة فقبض الملك الظاهر عليهم وركب بنفسه وقصد الديارة التي خارج فاراً فقتل من بهاونهبها ثم أمر العسكر بالركوب. وقصد التل الذي ظاهر قارا من الشمال واستدعى أبا العز رئيسها وقال نحن قاصدون الصيد فمر أهل قارا بالخروج بأجمعهم فخرج منهم جماعة إلى ظاهر القرية فلما بعدوا أمر العسكر فضرب رقابهم ولم يسلم إلا من هرب واختفى بالمغائر والآبار وعصى بالأبرجة جماعة فآمنوا وأخذوا أسرى وكانوا ألفاً وسبعين نفرا ما بين رجل وامرأة وصبي وانتمى جماعة إلى أبي العز رئيسها فأطلقوا له لأنه كان خدم السلطان وضيفه في الأيام المظفرية عند عوده من خلف منهزمي التتر فرعى ذلك له ثم أمر بالرهبان الذين كانوا قبضوا فوسطوا عن أخرهم وتقدم إلى العسكر بنهب قارا فنهبت وجعلت كنيستها جامعاً ورتب بها خطيباً وقاضياً ونقل إليها الرعية من التركمان قناة الأغنام وغيرهم ثم رحل للقاء العسكر الراجع من سيس فالتقى بهم على أفامية وعاد معهم فدخل دمشق والغنائم والأسرى بين يديه يوم الاثنين خامس عشري ذي الحجة وخرج منها طالباً للكرك مستهل المحرم سنة خمس وستين.
وفي ذي الحجة دخل رجل إلى دار العدل بالقاهرة وبيده قصة(2/345)
وسأل إيصالها إلى الأمير عز الدين الحلى فأذن له فلما دخل جرد سكيناً ووثب عليه فجرحه فقام إليه الصارم قيماز المسعودي متولي القاهرة ليدفعه عنه فضربه بالسكين فقتله فنهض الحلى والوزير وتاج الدين ابن بنت الأعز وهربوا ووثب الجاندارية على الرجل فقتلوه وزعم قوم أنه من جهة زين الدين بن الزبير وبحث عن ذاك فلم يعرف له خبر.
وفي هذه السنة أمر الملك الظاهر بعمارة جسر بالغور على الشريعة ما بين دامية وقرأوا فشرع فيه وكان المتولى لعمارته جمال الدين محمد بن نهار ومحمد بن رحال والي نابلس والأغوار ولما تكاملت عمارته اضطرب بعض أركانه فقلق الملك الظاهر لذلك وأعاد الناس لإصلاحه فتعذر ذلك لزيادة الماء فاتفق وقوف الماء عن جريانه بحيث أمكن إصلاح ما يحتاج إلى إصلاحه فلما تم إصلاحه عاد الماء إلى حاله قيل وقع في النهر قطعة كبيرة مما يجاوره من الأماكن العالية فسكر به وهذا من عجيب الاتفاق.
وفيها سير الملك الظاهر سبيلاً إلى مكة شرفها الله تعالى وكسوة للكعبة الشريفة على العادة صحبة جمال الدين يوسف نائب دار العدل أمير الحاج وعادوا إلى مصر في العشرين من صفر سنة خمس وستين.
وفي هذه السنة هلك هولاكو بن قاآن بن جنكزخان في(2/346)
كوكرجلك وسنذكره إن شاء الله تعالى وجلس ولده أبغا على التخت مكان أبيه وكتب إلى ممالكه يعرفهم بجلوسه وسير يغلغا إلى الروم ينضم الدعاء له وطلب السلطان ركن الدين والبرواناة فتوجها بهدية سنية وهنؤه بالملك وطلبوا منه يغلغا بالبلاد التي كانت في يد آبائه وإن البلاد التي خرجت عن أيديهم في أيام السلطان عز الدين وآبائه يسترجعها وكانت سنوب في ذلك التاريخ في يد كمناقوس ملك جانت تغلب عليها في الأيام التي وقع فيها الخلف بين عز الدين وركن الدين في سنة سبع وخمسين فعاد ركن الدين وبقي معين الدين سليمان البرواناة مقيماً لقضاء الأشغال فتحدث معه أبغا سراً فقال البرواناة هؤلاء بنو سلجوق ما يؤمنوا وربما لركن الدين باطن مع صاحب مصر فقال أبغا قد وليتك نيابة السلطنة بالروم فإن تحققت أحداً يخالف طاعتي أقتله ثم استأذنه في محاصرة سنوب فأذن له وعاد إلى الروم واجتمع بركن الدين وعرفه خدمته فشكره على ذلك ثم جمع وحشد ما أمكنه وقصد سنوب وهي قلعة حصينة يحفها البحر من جوانبها وكان مقدم العسكر بها إذ ذاك غضراس الكافر وكان قد عمد إلى المساجد فجعلها كنائس، فلما وصل البرواناة بالعساكر إلى سنوب سير اليغلغ إلى غضراس وطلب تسليم البلد فأبى فرتب البرواناة حوله مراكب فيها المجانيق والمقاتلة وزحف عليها وكان من أمراء الروم تاج الدين قليج وبينه وبين البرواناة شنآن فاتفق أنه(2/347)
ركب في مركب وزحف على القلعة فأرسى به مركبه على طرف النهر فانقلب بمن فيه وغرق الرجالة وخرج الركاب من البحر وكان باب القلعة مفتوحاً فخرج غضراس راكباً وقصدهم وحمل على تاج الدين ليطعنه فتقنطر به فرسه فقتله تاج الدين وهجم القلعة فأخذها فلما استولى البرواناة عليها ادعى أنها فتوحه وكتب إلى أبغا وإلى مخدومه وجميع المجاورين بالفتح ونسبه إلى نفسه فعظم قدره فاستشعر منه ركن الدين واستشعر هو أيضاً منه وحصل بينهما باطن أوجب أنه أوسع الحيلة في قتل ركن الدين على ما يأتي إن شاء الله في سنة ست وستين.
وفيها جمع أرى جرل أخو ريدا فرنس وقصد جزيرة صقلية وحارب الأنبرور ملكها على مدينة سرقوسة فهزم عسكره وقتله في المصاف واستولى على جزيرة صقلية.
؟ فصل
وفيها توفي إبراهيم بن عمر بن خضر بن محمد بن فارس بن إبراهيم بن أحمد أبو إسحاق رضي الدين المضرى الواسطي البرزي التاجر المعروف بابن البرهان مولده بواسط سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة سمع صحيح مسلم بنيسابور على أبي الفتح منصور بن عبد المنعم الفراوي وحدث به مراراً عدة بدمشق ومصر والقاهرة واليمن وذكر أنه سمع من أبي الحسن المؤيد بن محمد الطوسي وأجاز له جماعة كثيرة، وكان شيخاً صالحاً ديناً حسن الشكل من أكابر التجار المتمولين المعروفين بإخراج الزكاة(2/348)
على وجهها وكان له صدقات وبر وعنده سكون وخشوع وكان يقال أن معه أربعين ألف دينار فكان يخرج الزكاة في كل سنة ألف دينار غير ما يتصدق به على وجه التبرع وجميع ما يكتسبه ينفقه على نفسه وفي الطاعات والقرب ورأس المال بحاله لا ينقصه ولا يزيده وكانت وفاته في حادي عشر شهر رجب بالإسكندرية ودفن بين الميناوين رحمه الله، وبرز بضم الباء قرية من عمل واسط.
أحمد بن سالم بن..... أبو العباس جمال الدين المصري النحوي كان بداية أمره فقيراً مجرداً متزهداً مع فضيلته التامة وأقام بحلب مدة ثم قدم دمشق وتصدر لإقراء النحو بالمدرسة الناصرية وبمقصورة الحنفية الشرقية بجامع دمشق وتأهل بابنة الشيخ زين الدين إبراهيم بن أحمد بن أبي الفرج الحنفي إمام المقصورة المشار إليها وأولدها أولاداً وتوفي إلى رحمه الله تعالى في ثاني عشر شوال بدمشق ودفن بمقابر باب الصغير رحمه الله وتوجع زين الدين المذكور لوفاته وحزن لفقده كثيراً فكتب إليه بدر الدين يوسف بن الحنفي:
عزاءك زين الدين في الذاهب الذي ... بكته بنو الآداب مثنى وموحدا
همو فارقوا منه الخليل بن أحمد ... وأنت ففارقت الخليل وأحمدا
وكان الشيخ أحمد المذكور حسن العشرة كريم الأخلاق كثير التواضع لين الجانب وافر الدين مشاركاً في كثير من العلوم مستقلاً(2/349)
بعلم النحو والعربية وانتفع به جماعة كثيرة رحمه الله.
أحمد بن عبد الله بن شعيب بن محمد بن عبد الله أبو العباس جمال الدين التميمي الصقلي ثم الدمشقي قرأ القرآن الكريم على الشيخ علم الدين السخاوي رحمه الله وسمع الكثير وحدث وكانت عنده كتب كثيرة نفيسة وأصول حسنة وكان في عنفوان شبابه قد تزوج ابنة الشيخ علم الدين السخاوي وأولادها وتوفيت هي والولد فلم يتزوج بعدها وكان شديد الشح على نفسه كثير التقتير عليها مع الجدة الوافرة، ولما حصل له المرض الذي مات فيه تمرض في بيته بالمدرسة العزيزية وبقي مضيعاً ولا يمكن أحداً من دخول البيت لخوفه على ما فيه ووقف داره على فقهاء المالكية وأوصى لهم بثلث ما له فنفذت وصيته وتوفي في ليلة خامس جمادى الأولى أو رابعه ودفن من الغد بسفح قاسيون رحمه الله وهو في عشر السبعين واحتاط ديوان الحشر على تركته وبيعت كتبه النفيسة التي كان يشح برؤيتها على أرباب الجاهات بأبخس الأثمان ولم يوف ثمن أكثرها جملة كافية أنشد الجمال المذكور لنفسه أو لغيره:
نحن الكلعنيون لا نأتلي ... في ذم من أطعمنا أو سقى
سيان من أطعمنا حبة ... في الذم أو أطعمنا أو سقا
أيدغدي بن عبد الله الأمير جمال الدين العزيزي سمع وحدث وكان أميراً كبيراً عظيم القدر مشهوراً بالشجاعة والكرم والديانة والحشمة وسعة الصدر وكبر النفس وعلو الهمة كثير الصدقات والبر(2/350)
والمعروف وللفقراء والمشايخ أصحاب الزوايا وأرباب البيوتات عليه من الرواتب في كل سنة ما يزيد على مائة ألف درهم وألوف كثيرة أرادب قمح هذا غير ما يتصدق به ويطلقه في بسط السنة مما هو في غير حكم الراتب المستقر وكان مقتصداً في ملبسه لا يتعدى لبس ثياب القطن من القماش الهندي والبعلبكي وغيره مما يباح ولا يكره لبسه، وحكى لي بعض الناصرية قال لما دخلنا الديار المصرية اتفق أن بعض الأمراء الأكابر عمل سماعاً وحضر بنفسه إلى الأمير جمال الدين رحمه الله ودعاه فوعده بالمضي إليه والحضور عنده فلما كان العشاء الآخرة مشى ونحن معه جماعة من خواصه ومماليكه إلى دار ذلك الأمير فلما دخل وجد في الدار جماعة من الأمراء جلوساً في إيوان الدار وجماعة من الفقراء جلوساً في وسط الدار فوقف ولم يدخل وقال لصاحب الدار وللأمراء أخطأتم فيما فعلتم كان ينبغي أن تقعد الفقراء فوق وأنتم في أرض الدار ولم يجلس حتى تحول الفقراء إلى مكان الأمراء والأمراء إلى مكان الفقراء وقعد هو ونحن بين الأمراء، فلما غنى المغاني قام أحدهم والدف بيده ودار على الجماعة لينقطوه وهذه كانت عادة المغاني في سماعات الديار المصرية فلما رآه الأمير جمال الدين انتهره وقال ألك أنت في الحلق وأشار إلى خازنداره فوضع في الدف كيساً فيه ألف درهم فلما رقص الجمع دار بينهم ورمى على المغني بغلطاقه وهو أبيض قطن بعلبكي ما يساوي عشرين درهماً فرمى سائر مماليكه(2/351)
بغالطيقهم موافقة له وقيمتها فوق ثلاثة آلاف درهم ثم دار في التوبة الثانية ورمى على المغني منديله وهو أبيض كتان يساوي درهمين فرمى سائر أصحابه مناديلهم وفيها ما هو بالذهب وغيره ولعل قيمتها فوق ألف وخمسمائة درهم فحسبت أن المغاني حصل له منه ومن غلمانه في تلك الليلة قريب ستة آلاف درهم ولما عزم العزيزية على قبض الملك المعز اطلعوا الأمير جمال الدين فلم يوافقهم ونهاهم عن ذلك وعرفهم ما يترتب عليه من المفاسد وإن ضرر هذا العزم يلحقهم دون الملك المعز ولم ير الأمير جمال الدين أن يشي بهم إلى الملك المعز وبلغ المعز ما عزموا عليه وعلم العزيزية أنه علم وهو وهم في الميدان للعب الكرة في العشر الأوسط من شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين فهربوا على حمية والمشار إليه فيهم الأمير شمس الدين آقش البرلي وأما الأمير جمال الدين فلم يهرب لعلمه ببراءة ساحته فساق الملك المعز إلى قريب خيمة الأمير جمال الدين فخرج إليه فأمر بقبضه وسيره إلى قلعة الجل فاعتقل بها مضيقاً عليه فلما تحقق براءة ساحته وسع عليه وتركه في الاعتقال مكرماً مرفهاً وكان ذنبه عنده كونه لم يطلعه على ما عزم عليه أصحابه وأذن لأهل الأمير جمال الدين أن يحملوا عليه الطعام والشراب والملابس وكل ما يحتاج إليه ثم أظهر موته وأخفى خبره بالكلية فلما وقع الصلح بين الملك الناصر صلاح الدين يوسف وبين الملك المعز بسفارة الشيخ نجم الدين الباذراني وتوجه الشيخ نجم الدين المذكور(2/352)
إلى الديار المصرية طلب من الملك المعز الإفراج عن الأمير جمال الدين فقال له الملك المعز ما بقي المولى يراه إلا في عرصات القيامة إشارة إلى أنه قد مات ولم يكن مات بل كان في قاعة بقلعة الجبل وعليه الملبوس الفاخر والملك المعز يدخل إليه في بعض الأوقات ويلعب معه بالشطرنج ولم يزل الأمير على ذلك حتى قتل الملك المعز وجرى ما أشرنا إليه عند قتله واستمر في الاعتقال إلى أن خرج الملك المظفر سيف الدين قطز رحمه الله لقتال التتار في سنة ثمان وخمسين، فلما من الله سبحانه وتعالى وكسرهم كتب إلى النواب بالديار المصرية بالإفراج عنه وتجهيزه إليه فأفرج عنه وسير إليه فلقيه في الطريق وقد خرج من دمشق فعاد معه واجتمع به الأمير ركن الدين البندقداري وأطلعه على شيء مما عزم عليه فأغلظ له في الجواب ونهاه عن ذلك وصده بكل طريق وقال له لو كان للملك المظفر في عنقي يمين لأخبرته بذلك وأطلعته عليه فإياك إياك أن تقع في ذلك فأظهر له الإصغاء إلى قوله وفعل ما كان عزم عليه من قتل الملك المظفر رحمه الله، ولما استقل بالسلطنة عظم الأمير جمال الدين في عينه ووثق به وسكن
إليه وكان عنده في أعلى المراتب وأعطاه إقطاعاً عظيماً وكان يرجع إلى رأيه ومشورته في الأمور الدينية وما يتعلق بالقضاة والعلماء والمشايخ وأرباب الخرق فإنه لم يكن يعدل عن رأيه في ذلك البتة وجهزه في هذه السنة إلى بلاد سيس والساحل مقدماً على طائفة من الجيش والأمير سيف الدين قلاون الألفي مقدماً على طائفة أخرى فأغاروا وغنموا وقتلوا وسبوا وأسروا وفتحوا حصوناً كثيرة وعادوا في شهر رمضان واجتازوا ببعلبك وكان بيننا وبين الأمير جمال الدين رحمه الله صحبة ومعرفة ومودة فحضر إلى مسجد الحنابلة وأشار إلى بأنه يريد الدخول إلى الحمام فأدخلته إليه، فلما خرج دفع إلى الحمامي جملة كثيرة من الدراهم وجمع بيننا وبين الأمير سيف الدين قلاوون رحمه الله في تلك الدفعة فحصلت المعرفة به من ذلك التاريخ ثم توجه إلى صفد وباشر الحصار بنفسه وكان في غزوات الكفار يبذل جهده ويتعرض للشهادة فجرح عليها وبقي مدة وألم الجراحة يتزايد وحمل إلى دمشق فتمرض بها إلى أن درج إلى رحمة الله تعالى وختم الله أعماله الصالحة بالشهادة وتوفاه إلى رضوانه ليلة عرفة ودفن في مقبرة رباط الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله بسفح قاسيون، وكان في محبة الصلحاء والفقراء والاعتقاد فيهم والبر بهم والتواضع لديهم أوحد عصره رحمه الله. يه وكان عنده في أعلى المراتب وأعطاه إقطاعاً عظيماً وكان يرجع إلى رأيه ومشورته في الأمور الدينية وما يتعلق بالقضاة والعلماء والمشايخ وأرباب الخرق فإنه لم يكن يعدل عن رأيه في ذلك البتة وجهزه في هذه السنة إلى بلاد سيس والساحل مقدماً على طائفة من الجيش والأمير سيف الدين قلاون الألفي مقدماً على طائفة أخرى فأغاروا وغنموا وقتلوا وسبوا وأسروا وفتحوا حصوناً كثيرة وعادوا(2/353)
في شهر رمضان واجتازوا ببعلبك وكان بيننا وبين الأمير جمال الدين رحمه الله صحبة ومعرفة ومودة فحضر إلى مسجد الحنابلة وأشار إلى بأنه يريد الدخول إلى الحمام فأدخلته إليه، فلما خرج دفع إلى الحمامي جملة كثيرة من الدراهم وجمع بيننا وبين الأمير سيف الدين قلاوون رحمه الله في تلك الدفعة فحصلت المعرفة به من ذلك التاريخ ثم توجه إلى صفد وباشر الحصار بنفسه وكان في غزوات الكفار يبذل جهده ويتعرض للشهادة فجرح عليها وبقي مدة وألم الجراحة يتزايد وحمل إلى دمشق فتمرض بها إلى أن درج إلى رحمة الله تعالى وختم الله أعماله الصالحة بالشهادة وتوفاه إلى رضوانه ليلة عرفة ودفن في مقبرة رباط الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله بسفح قاسيون، وكان في محبة الصلحاء والفقراء والاعتقاد فيهم والبر بهم والتواضع لديهم أوحد عصره رحمه الله.
جلدك بن عبد الله أبو الجود الرومي الفائزي كان أميراً جليلاً فاضلاً خبيراً بالسياسة وله نظم جيد وتولى عدة ولايات وكان مشكور السيرة وتوفي بالقاهرة في سابع عشر شوال ودفن بالقرافة رحمه الله.
الحسن بن سالم بن الحسن بن هبة الله بن محفوظ بن الحسن بن أحمد ابن الحسين ابن صصرى أبو المواهب بهاء الدين التغلبي الدمشقي مولده سنة أربع وتسعين وخمسمائة تخميناً، سمع من عمر بن طبرزد وأبي اليمن الكندي وغيرهما وحدث وكان من أعيان العدول الرؤساء والصدور الأماثل وبيته معروف بالحديث والتقدم والرئاسة والنبل، وتوفي في(2/354)
رابع صفر بدمشق ودفن بسفح قاسيون رحمه الله.
عبد الرحمن بن سالم بن الحسن بن هبة الله بن محفوظ بن الحسن بن أحمد بن الحسين بن صصرى أبو محمد شرف الدين التغلبي مولده سنة إحدى وتسعين وخمسائة تخميناً بدمشق، سمع من عمر بن طبرزد وحنبل والكندي وغيرهم وحدث وكان من الرؤساء المتعينين وذوي الثروة والوجاهة وتولى عدة مناصب جليلة بدمشق وبيته معروف بالعدالة والرواية وتوفي في حادي عشر شعبان بدمشق ودفن بسفح قاسيون رحمه الله.
علي بن الحسين بن محمد بن الحسين بن زيد بن الحسن بن مظفر أبو الحسن الحسيني الأرموي الأصل المصري المولد والدار ومولده سنة ثلاث وستمائة سمع وحدث وتولى نقابة الأشراف بالديار المصرية مدة وتوفي بالقاهرة في الحادي والعشرين من صفر ودفن من الغد رحمه الله.
محمد بن عبد الجليل بن عبد الكريم أبو عبد الله جمال الدين الموقاني الأصل المقدسي المولد الدمشقي الدار والوفاة، سمع الكثير وكتب وحدث وكان يعاني مشترى الكتب النفيسة للانتفاع والمتجر وكان عنده يقظة ومعرفة وأدب وفضيلة وكان يشتري الأشياء المستحسنة من كل نوع ظريف وتوفي في حادي عشر ذي القعدة ودفن بسفح قاسيون رحمه الله وهو في عشر السبعين تقريباً أهدى إلى الأمير جمال الدين أبي الفتح موسى بن يغمور رحمه الله كتباً وموسى وكتب مع هديته:(2/355)
بعثت بكتب نحو مولى قد اغتدت ... كتائبه يزهو بها الغور والنجد
وأهديت موسى نحو موسى فلا تخل ... بتشريكه في اللفظ قد أخطأ العبد
فهذا له حد ولا فضل عنده ... وذاك له فضل وليس له حد
وظاهر الحال أن هذه الأبيات لسعد الدين محمد بن العربي فإن الجمال لم يكن له يد في النظم والله أعلم، وطلب الشيخ نجم الدين الباذراني رحمه الله من الموقاني صحاح الجوهري فكتب إليه من نظم سعد الدين:
ما كان من كتبي نفيساً بعته ... إذ كنت أنت من النجوم المشتري
والبحر أنت وقد أتيتك قاصداً ... فأطلق بفضلك صحاح الجوهري
ومن المنسوب إليه أيضاً:
لذيذ الكرى مذ فارقوا فارق الجفنا ... وواصل قلبي بعد بعدهم الحزنا
فما رحلوا حتى أسباحوا نفوسنا ... كأنهم كانوا أحق بها منا
ولولا الهوى العذري ما انقاد للهوى ... نفوس رأت في طاعة إلى أن تفنى
محمد بن منصور بن أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن منصور بن محمد بن الفضل بن الحضرمي أبو عبد الله المالكي العدل، سمع الحديث وحدث بالثغر وكان ظريف الشكل حسن المحاضرة يحفظ كثيراً من الأدبيات والأناشيد، قال أبو المظفر منصور ابن سليم أنشدنا محمد بن الحضرمي بالإسكندرية قال أنشدنا صاحبنا الشرف أبو محمد عبد الملك بن(2/356)
عتيق الشاعر لنفسه في البحر:
يا قوم ما بال لج البحر في قلق ... كأنه من فراق الحب في فرق
تراه يخشى وقد وافيت ساحله ... من بحر دمعي أن يغشاه بالغرق
قال أبو المظفر قال وأنشدنا لنفسه يصف شقائق النعمان:
لله زهر شقيق حين رمت له ... وصفاً تقاصر تعبيري وتحبيري
كأنه وجنات الغيد قد نقطت ... بالمسك من تحت أطراف المواسير
توفي محمد بن الحضرمي رحمه الله في يوم الأحد العشرين من جمادى الأولى من السنة المذكورة وصلى عليه ودفن بين الميناوين بثغر الإسكندرية.
هولاكو بن قآن بن جنكز خان ملك التتار كان من أعظم ملوك التتار حازماً شجاعاً مدبراً ذا همة عالية وسطوة عظيمة ومهابة شديدة ونهضة تامة وكفاية بالغة واستقلال بتدبير الممالك والأقاليم وخبرة بالحروب وافتتاح المعاقل والحصون ومحبة في العلوم العقلية من غير أن يتعقل منها شيئاً البتة واستدعى إليه من العلماء كالمؤيد العرضي والتقى على الحديثي وابن طليب وغيرهم وجمع حكماء مملكته وأمرهم أن يرصدوا الكواكب ويحققوا أمرها ولم يكن في ملوك التتر من يضاهيه في ذلك ولا يدانيه وكان واسع الصدر يطلق الكثير من الأموال والبلاد مما يشح التتر بمثله فإن الغالب عليهم الشح وكان على قاعدة المغل في عدم تقيد بدين أو ميل إليه وإنما كانت زوجته طقزخاتون قد تنصرت فكانت تعضد(2/357)
النصارى وتقيم شعارهم بتلك البلاد التي استولى عليها وكان سعيداً في حروبه وحصاراته لم يرم أمراً إلا ويسهل عليه ولم يتعذر وحصل في قلوب الناس كافة من الرعب منه ما أوجب انقيادهم إليه أو هربهم بين يديه فطوى البلاد واستولى على الممالك والأقاليم في أيسر مدة ففتح بلاد خراسان وإذربيجان وفارس وعراق العجم وعراق العرب والشام والجزيرة والموصل وديار بكر والروم والشرق وغير ذلك من البلاد وهزم جيوشها وأباد ملوكها، وكانت وفاته في هذه السنة بكوكر جلك وقيل أن وفاته كانت في سابع ربيع الآخر سنة ثلاث وستين وستمائة ببلد مراغة ونقل إلى قلعة تلا فدفن بها وبنى عليه قبة ووكل به ولد الكانوين وكان هلاكه بعلة الصرع فإنه كان حصل له منذ قتل الملك الكامل صاحب ميافارقين رحمه الله الصرع في كل وقت فكان يعتريه في اليوم الواحد المرة والمرتين والثلاث ولما عاد من كسرة بركة في المحرم أقام بجمع العساكر وعزم على العود فزاد به الصرع فمرض ولم يزل ضعيفاً ونحو شهرين وهلك فأخفوا موته وصبروه وجعلوه في تابوت من خشب وقيل أنهم لم يدفنوه بل علقوا تابوته بسلاسل في قلعة تلا من أعمال سلماس ثم أظهروا موته وكان ولده أبغا في بلد بايغز في مقابلة برق فسير أكابر المقدمين في طلبه فلما حضر أجلسوه على التخت مكان أبيه وكتب إلى ممالكه يعرفهم بجلوسه واستقامة الأمر له وخلف هولاكو من الأولاد سبعة عشر ذكراً غير البنات وهم أبغا المذكور ملك(2/358)
الأمر بعده ويشموط وهو الذي كان تولى حصار الملك الكامل رحمه الله بميافارقين وسن وتكشى وهو سفاك للدماء جبار كثير القتل واجاى ويستر ومنكوتمر وهو الذي قدم بالعساكر والجحافل إلى الشام في سنة ثمانين وستمائة ومن الله تعالى بالنصرة عليه ظاهر حمص ولله الحمد وباكودر وأرغون ونغاي دمر وأحمد وهو الذي ملك البلاد بعد أبغا وكان مسلماً حسن السيرة والباقون صغار لم تحقق أسماؤهم وكان تقدير عمر هولاكو وقت وفاته فوق الستين سنة أفنى فيها من الأمم ما لا يحصيه إلا الله تعالى، حكى القاضي سراج الدين الأرموي رحمه الله أنه توجه إلى هولاكو رسولاً من جهة صاحب الروم بعد أخذه بغداد قال سراج الدين فلما دخلت عليه وجدت حوله صبياً صغيراً يلعب فلما وقعت عيني على الصغير أخذ بمجامع قلبي ولم أستطع كف بصري عنه فلما رأى ذلك مني هولاكو قال للترجمان قال له تعرف هذا الصبي من هو قال سراج الدين فلما قال لي الترجمان ذلك قلت لا قال فلم تديم النظر إليه فقلت أجد نفسي الميل إليه من غير اختيار مني فقال هذا ولد الخليفة قال سراج الدين فقمت قائماً وقبلت قدمي ذلك الصغير فقال هولاكو للترجمان عرفه أننا قد أقمنا له من يؤدبه بآداب المسلمين ويعلمه دين الإسلام ولم ندخله في دين المغل(2/359)
قال سراج الدين فقلت ما ناسب من الشكر له على ذل وتحققت رجحان عقله.
السنة الخامسة والستون وستمائة
دخلت هذه السنة والخليفة والملوك على القاعدة المستقرة في السنة الخالية.
متجدادت الأحوال
في غرة السنة خرج الملك الظاهر من دمشق متوجهاً إلى الديار المصرية فلما وصل الفوار عرج منه إلى الكرك وسار العسكر والثقل إلى غزة مع الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقاني ونزل الملك الظاهر بركة زيزا في الثامن منه وركب ليتصيد فكبا به الفرس فانكسر فخذه فأقام بالبركة يعالج نفسه حتى قارب الصحة وتماثل فركب في محفة وسار إلى غزة فوصلها غرة صفر ثم سار فنزل مسجد التبن فأقام به يعالج فخذه حتى أمكنه الركوب ودخل القاهرة من باب النصر وقد زينت فشقها وخرج من باب زويلة وصعد القلعة يوم السبت سادس ربيع الأول.
وفي ثامن عشرة أقيمت الجمعة والخطبة بالجامع الأزهر بالقاهرة وهذا الجامع بني لما بنيت القاهرة لإقامة الجمعة فلما بنى الحاكم الجامع الأنور نقل الخطبة إليه وبقي الجامع الأزهر تقام فيه الصلوات الخمس فقط فلما عمر الحلى داره إلى جانبه رمه وبيضه وعمل فيه منبراً ومقصورة فتنازع الناس في جواز الجمعة فيه وكتب في ذلك فتاوى فممن منع(2/360)
الجواز القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز وجماعة وممن أجازها الشيخ شمس الدين الحنبلي وجماعة فعمل بقول من جوز ذلك وحضر الصلاة الصاحب وجماعة كثيرة من العلماء والأمراء.
وفيها ورد الملك المنصور صاحب حماة إلى القاهرة فخرج الملك الظاهر لتلقيه واحتفل به فسأل التوجه إلى الإسكندرية فأجيب وسير معه الأمير شمس الدين الفارقاني وتقدم إلى شمس الدين بن باخل متولي الثغر أن يحمل إليه في كل يوم من بيت المال مائة دينار وإن ينسج له في دار الطراز ما يقترحه وينفق عليه من بيت المال أيضاً.
وفيها شرع في بناء جامع الحسينية في ميدان قراقوش في منتصف جمادى الآخرة والمتولي لذلك الصاحب بهاء الدين وعلم الدين سنجر المسروري متولي القاهرة إذ ذاك فبنى أحسن بناء وزخرفت جهة القبلة وعمل على جهة المحراب قبة عظيمة وتمت عمارته في شوال سنة سبع وستين ورتب به إمام حنفي ووقف عليه حكر ما بقي من الميدان.
وفي يوم السبت العشرين من جمادى الآخرة توجه الملك الظاهر إلى الشام وصحبته صاحب حماة عازماً على عمارة صفد واستصحب معه البنائين والنجارين فأقام عليها مدة ووصله لخبر بأن طائفة من التتار قصدت البيرة فسار مبادراً إلى دمشق فبلغه عودهم فعاد إلى صفد وعمر الباشورة وجدد في القلعة أبراجاً ثم رحل عنها وقصد الكرك.(2/361)
وفي تاريخ خروجه من الديار المصرية إلى الشام وصل فارس الدين آقوش عائداً من الرسالة التي كان توجه فيه سنة إحدى وستين إلى بركة فاستولى عليه وعلى من معه وأعاقه مدة ثم أفرج عنه بعد أن أخذ جميع موجوده.
وفي شعبان ولي الخطابة بمصر عز الدين بن الشهاب بحكم وفاة خطيبها شرف الدين عبد القادر الطوخي وولي قضاء القضاة بالقاهرة والوجه الشرقي تقي الدين محمد بن الحسين بن زرين في التاسع من شعبان وولي القضاء بمصر والوجه القبلي محي الدين أبو محمد عبد القادر بن قاضي القضاة شرف الدين محمد المعروف بابن عين الدولة الإسكندري وولي النظر في ديوان الأحباس تاج الدين علي بن القسطلاني وولى تدريس الشافعية بالمدرسة الصالحية صدر الدين بن قاضي القضاة تاج الدين وولى النظر في الخانكاه الشيخ شمس الدين الحنبلي وفوض النظر في مدرسة الشافعي رضي الله عنه بالقرافة لبهاء الدين علي بن عيسى نيابة عن الصاحب فخر الدين بن الوزير بهاء الدين وهذه المناصب جميعها كانت بيد تاج الدين خلا الخطابة وفي ثامن ذي القعدة توجه الأمير عزالدين الحلي إلى الحجاز وباشر نيابة السلطنة بالديار المصرية الخازندار.
وفي يوم الثلاثاء رابع عشر ذي الحجة وصل الملك الظاهر من الشام إلى القاهرة وفي العشرين منه أمر بتسمير جماعة كانوا محبوسين(2/362)
بخزانة البنود منهم الملك الأشرف بن شهاب الدين غازي والناصح ضامن بلاد الواحات وغيرهما.
وفيها توفي بركة ملك التتار وقام مكانه منكوتمر بن طغان بن صرطق بن باتو بن تولي بن جنكز خان فجمع عساكره وقدم عليها مقدماً وسيره إلى بلاد أبغا فجمع أبغا عساكره وساق إلى أن نزل على نهر كور وأحضر المراكب والسلاسل وعمل جسرين على النهر وعدا إلى جهة منكوتمر وما زال سائراً حتى نزل على النهر الأبيض فعدا منكوتمر بعساكره من شماخي وشروان وهما جبلان وما زال إلى أن وصل إلى النهر الأبيض ونزل من الجانب الشرقي وعسكر أبغا في الغرب ولبسوا آلة الحرب وتراسلوا وبعد ثلاث ساعات من النهار حرك أبغا كوساته وقطع النهر الأبيض وحمل على منكوتمر وكسره ولم يزل في طلبه والسيف يعمل إلى جبلي شماخي وشروان فرد عسكر منكوتمر إلى عسكر أبغا فلم يتحرك أبغا وثبت لهم ولم يزالوا كذلك إلى العشاء الآخرة وهرب منكوتمر إلى بلاده ورجع أبغا بعد أن كسب كسباً عظيماً وعدا من الجسور المنصوبة ونزل على نهر كور وجمع كبراء دولته وشاورهم على عمل سور من خشب على نهر كور فقالوا مصلحة فقام وقاس البحر من حد تفليس إلى حد كسيس فكان جزء كل مقدم مائة فارس عشرين ذراعاً بالعمل فقام السور في سبعة أيام ورحل ونزل حاجى وعان وبلغان فشتى تلك السنة هناك.(2/363)
فصل
وفيها توفي إسحاق بن خليل بن فارس أبو يعقوب كمال الدين الشافعي المعروف بالسقطي كان فقيهاً عالماً فاضلاً عارفاً بالمذهب اشتغل على الشيخ فخر الدين ابن عساكر وغيره وأفتى ودرس وسمع وحدث تولى الحكم بزراً مدة وناب في الحكم بدمشق مدة أخرى وتوفي بدمشق في العشرين من شهر رجب وهو في عشر الثمانين ودفن بسفح قاسيون رحمه الله.
إسماعيل بن محمد بن أبي بكر بن خسرو الكوراني الشيخ الصالح توفي بمدينة غزة وهو قافل من الديار المصرية إلى القدس الشريف ودفن بظاهرها وكانت وفاته في الثاني والعشرين من شهر رجب وكان من المشايخ المعروفين بالزهد والورع والعبادة والجد والعمل منقطعاً عن الناس مؤثراً للتخلي مشتغلاً بنفسه وعبادة ربه والإقبال على أخرته كثير التحري في ملبسه ومأكله ومشربه يسأل العلماء عما يشكل عليه من أمر دينه قل أن يوجد مثله في زمنه رحمه الله.
بركة بن تولي بن جنكز خان ملك التتار وهو ابن عم هولاكو المقدم ذكره وبلاده متسعة جداً وهي بعيدة عنا وله عساكر عظيمة وافرة العدد ومملكته تفوق مملكة هولاكو بكثرة البلاد والعساكر والأموال لكن جند هولاكو استغنوا بما نهبوه من الأقاليم التي استولوا عليها وكان بركة يميل إلى المسلمين كثيراً ويعظم أهل العلم ويعتقد في الصلحاء من المسلمين ويتبرك بمشايخهم ويرجع إلى أقوالهم وكلمتهم(2/364)
عنده مسموعة وحرمتهم في ممالكه وافرة وكان أعظم أسباب لوقوع الحرب بينه وبين هولاكو كون هولاكو قتل الخليفة المستعصم بالله ومكان يميل إلى مودة الملك الظاهر ركن الدين ويعظم رسله وكان جماعة من أهل الحجاز يتوجهون إليه فيبرهم ويعطيهم المال الكثير ويبالغ في احترامهم والإحسان إليهم وكان قد أسلم هو وكثير من جنده والمساجد الخيام المحمولة معه ولها الأئمة والمؤذنون ومتى نزل في مكان ضربها وأقيمت فيها الصلوات الخمس وكان شجاعاً جواداً حازماً عادلاً حسن السيرة في رعاياه يكره الإكثار من سفك الدماء والإفراط في خراب البلاد وعنده رأفة وحلم وصفح وتوفي ببلاده في هذه السنة وهو في عشر الستين وقام مكانه منكوتمر بن طغان بن صرطق بن باتوبن تولى ابن جنكز خان وعند ما استقل بالملك جمع عساكره وقدم عليها مقدما سيره إلى بلاد أبغا بن هولاكو.
الجنيد بن عيسى بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان أبو القاسم ظهير الدين الزرزاري الأربلي الشافعي، مولده سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة باربل في شهر صفر سمع من ابن طبرزد وحنبل وغيرهما وحدث وولي عدة جهات وكان مشكور السيرة فيما يتولاه عدلاً أميناً ضابطاً وعنده رياسة ومكارم أخلاق ولين جانب وحسن عشرة ومحاضرة حسنة وعنده فضيلة وأدب وتوفي في الرابع والعشرين من شوال بدمشق ودفن من الغد بسفح قاسيون رحمه الله.(2/365)
الحسين بن عزيز بن أبي الفوارس أبو المعالي الأمير ناصر الدين القيمري كان من أعظم الأمراء وأجلهم قدراً وأكبرهم شاناً وله المكانة المكينة والوجاهة التامة والكلمة النافذة والإقطاعات الجليلة وكان شجاعاً كريماً عادلاً حازماً رئيساً كثير البر والصدقة وهو الذي سلم دمشق والشام إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف بعد قتل الملك المعظم توران شاه وكان هو وأقاربه معظم عسكر الشام في الأيام الناصرية وكان الملك الظاهر ركن الدين قد أقطعه إقطاعاً جيداً وجعله مقدم العساكر بالساحل قبالة الفرنج فتوفي به مرابطاً في يوم الأحد ثالث عشر ربيع الأول وعمل عزاؤه بجامع دمشق يوم الجمعة ثامن عشر الشهر المذكور وهو الذي عمر المدرسة المعروفة به بناحية مأذنة فيروز وهي من أجل مدراس دمشق وأحسنها وعمل على بابها ساعات لم يسبق إلى مثلها قيل أنه غرم عليها ما يزيد على أربعين ألف درهم وكان عالي الهمة يضاهي الملوك في موكبه وتجمله وكثرة غلمانه وحاشيته وخيوله وبيوتاته وما يجري هذا المجرى رحمه الله تعالى، ووالده الأمير شمس الدين عزيز كان جليل القدر وكان الأمير ناصر الدين كثير العقل والمداراة والاحتمال سمع مرة بعض الأمراء الأكراد يقع في البحرية وينتقصهم فسبه وانتهره فقال يا خوندهم أعداؤنا فقال بئس ما قلت ليس بيننا وبينهم عداوة وكلمة الإسلام تجمعنا ونحن وهم شيء واحد وإنما القوم في خدمة ملك ونحن في خدمة ملك آخر وبين الملكين وحشة كما جرت العادة أن(2/366)
تكون بين بعض الملوك فلو زالت الوحشة من بين الملكين صرنا نحن وهم كالنفس الواحدة وهذا الكلام يدل على عقل كثير وسداد رأي وحسن تأن رحمه الله.
عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم بن عثمان بن أبي بكر بن عباس ابن محمد أبو القاسم شهاب الدين المقدسي الأصل الدمشقي المولد والدار والوفاة الفقيه الشافعي المعروف بابن أبي شامة مولده في ليلة الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الآخر بدمشق سنة تسع وتسعين قرأ القرآن والعربية وتفقه وسمع وحدث واختصر تاريخ دمشق للحافظ ابن عساكر وصنف في فنون كثيرة وكان عالماً فاضلاً متقناً متفنناً عنده مشاركة في كثير من العلوم واستقلال ببعضها لكنه كان كثير الغض من العلماء والأكابر والصلحاء والطعن عليهم والتنقص بهم وذكر مساوئ الناس وثلب أعراضهم ولم يكن بمثابة من لا يقال فيه فقدح الناس فيه وتكلموا في حقه وكان عند نفسه عظيماً فسقط بذلك من أعين الناس مع ما كان عليه من ثلب العلماء والأعيان وذكر ما يشينهم به وله نظم متوسط وفيه كثرة وكانت وفاته في التاسع عشر من شهر رمضان سحراً ودفن من يومه بمقابر باب الفراديس رحمه الله وكان ولي في آخر عمره مشيخة دار الحديث الأشرفية رحم الله واقفها بدمشق بعد القاضي عماد الدين عبد الكريم بن الحرستاني رحمه الله ودرس وأفتى ومن شعره:(2/367)
قلت لمن قال ألا تشتكي ... ما قد جرى فهو عظيم جليل
يقيض الله تعالى لنا ... من يأخذ الحق ويشفي الغليل
إذا توكلنا عليه كفى ... فحسبنا الله ونعم الوكيل
وكان قد وقف معظم كتبه وشرط شروطاً ضيق فيها فأوجب ذلك الغاء شروطه بالكلية وعدم التقيد بشيء منها، وبالجملة فكان غير موفق في معظم حركاته رحمه الله تعالى وإيانا وسامحه بما نال من أعراض المسلمين وتجاوز عنا وعنه ومن تواليفه شرح مدائح النبي صلى الله عليه وسلم مجلد، شرح قصيدة الشاطبي مجلدين، مختصر تاريخ دمشق الأكبر خمسة عشرة مجلداً، المختصر الأصغر خمس مجلدات، الروضتين مجلدين، شرح حديث المبعث، تفسير آية الإسراء، ضوء الساري إلى معرفة رؤية الباري، المحقق من علم الأصول فيما يتعلق بأفعال الرسول، كتاب البسملة، مختصر، الروضتين، الباعث على إنكار البدع والحوادث، كشف حال بني عبيد، الواضح الجلي في الرد على الحنبلي، مقدمة في النحو، نظم مفصل الزمخشري القصيدة الدامغة للفرقة الزائغة، قصيدتان في وصف أفعال الحاج، وذكر منازل الطريق من جهة الشام، وغير ذلك.
عبد العزيز بن إبراهيم بن علي بن علي بن أبي حرب أبو الفضل مهاجر أبو محمد تاج الدين ويعرف بابن الوالي الموصلي وكان أصلهم أجناداً وكان شرف الدين إبراهيم والد تاج الدين المذكور قد وزر لمظفر الدين صاحب إربل رحمه الله ثم قبض عليه سنة ثمان وعشرين وستمائة.(2/368)
واستوزر بعده شرف الدين المبارك بن المستوفي رحمه الله وكان تاج الدين عبد العزيز المذكور رئيساً عالي الهمة عنده مكارم وعفة وهو مشكور السيرة في ولاياته، حسن التأني في تصرفاته، تنقل في المناصب الجليلة وآخر ما ولى وزارة الشام بعد أن صرف عنها عز الدين عبد العزيز بن وداعة الآتي ذكره فقدم دمشق وباشر ما عذق به من ذلك ولم تطل مدته ودرج إلى رحمة الله في هذه السنة بدمشق رحمه الله وقد نيف على الستين سنة من العمر، وناب تاج الدين عن أبيه أيام تقلده وزارة إربل وسير رسولاً غير مرة إلى الديوان ببغداد فأكرم وأنعم عليه وكان متجملاً في زيه ومتنعماً يتأنق في مأكوله وملبوسه ومولده ليلة الأربعاء سابع عشر شهر رمضان سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة قال المبارك بن أبي بكر بن حمدان أنشدني لنفسه:
إذا أمت الآمال كعبة رفدكم ... فلا عجب أن تنتحي بالرغائب
ومن عذبت منه الموارد أجمعت ... عليه رجال الوفد من كل جانب
عبد الوهاب بن خلف بن محمود أبو محمد تاج الدين العلامي الفقيه الشافعي المعروف بابن بنت الأعز قاضي القضاة بالديار المصرية كان إماماً عالماً فاضلاًُ متبحراً انتقلت به الأحوال وولي المناصب الجليلة كنظر الدواوين والوزارة وقضاء القضاة ودرس بالمدرسة الصالحية النجمية للطائفة الشافعية وبالمدرسة المجاورة لضريح الإمام الشافعي رحمة الله(2/369)
عليه وبغيرها وتقدم عند الملوك تقدماً عظيماً وكانت له الحرمة الوافرة والمكانة العظيمة عند الملك الظاهر ركن الدين وهو أحد العلماء المشهورين والرؤساء المذكورين ذا ذهن ثاقب وحدس صائب وجد وعزم وحزم ورأي سديد مع النزاهة المفرطة وحسن الطريقة وجميل السيرة والصلابة في الدين والتثبت في الأحكام وتخير الأكفاء لولاية المناصب لا تأخذه في الله لومة لائم ولا يعدل عما يوجبه الشرع الشريف من الأحكام والناس كلهم عنده في ذلك سواء لا يراعى أحداً ولا يداهنه ولا يقبل شهادة من يوجب الشرع الشريف التوقف في قبول شهادته ومن ارتاب منه أسقطه وكان قوي النفس عالي الهمة ومولده في مستهل شهر رجب سنة أربع عشرة وستمائة وتفقه وسمع من أبي الفضل جعفر بن أبي الحسن الهمذاني وغيره وحدث وأفتى وكانت وفاته في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب ودفن من الغد بسفح المقطم رحمه الله وكان لقوة نفسه وعظم محله يترفع في قعوده على الصاحب بهاء الدين وزير الملك الظاهر ولا يحتفل بأمره فكان ذلك يعظم على الوزير ويقصد نكايته فلا يقدر على ذلك ولا يستطيعه ولا يجد عليه مطعناً فكان يوهم الملك الظاهر أن للقاضي أموالاً ومتاجر كبيرة ويقصد تقرير ذلك في ذهن الملك الظاهر واتفق أن بعض التجار ورد الإسكندرية وذكر لأرباب الزكاة ما معه من المتجر والمال وقام بما جرت به العادة ثم وجد معه ألف دينار غير ما اعترف به فأنكر عليه ذلك فقال(2/370)
ما هي لي وإنما هي معي وديعة للقاضي تاج الدين فكتب بذلك إلى الوزير فقال للملك الظاهر ليحقق ما قرره عنده فسأل الملك الظاهر القاضي تاج الدين عن ذلك فما رأى أن يعترف ليحصل غرض الوزير ولا أمكنه أن ينكر لكونها له فقال الناس يقصدون التجوه بالناس ليراعوا وإن كانت هذه الألف دينار لي فقد خرجت عنها لبيت المال فأخذت وسهل عليه ذهابها مع كثرة شحه ولا يبلغ الوزير مقصوده منه، وحكى أن الوزير بهاء الدين كان يختار أن يحضر القاضي تاج الدين إلى داره ولو عائداً له فاتفق أن مزاجه تغير وانقطع عن القلعة أياماً وتردد إليه الناس لعيادته ولم يفتقده القاضي تاج الدين فقال له أصحاب الوزير المختصون به لما يعلمون من إيثار الوزير لحضور القاضي لعيادته يا مولانا الصاحب بهاء الدين في شدة عظيمة وهو منقطع فلو عاده مولانا ما كان به بأس فقال إلى يوم الأربعاء وكان من عادته أن يتوجه إلى مصر في كل يوم أربعاء للحكم فيها بنفسه فلما كان يوم الأربعاء وأراد التوجه إلى مصر سلك الطريق الذي يمر فيها على دار الوزير فلما قرب من الباب أخبر الوزير بحضوره فقام من فراشه ونزل من الإيوان متلقياً له فلما دخل وجده في أرض الدار قائماً قال بلغنا أنك في شدة عظيمة وأنت تقوم سلام عليكم وعطف راجعاً ولم يزد على ذلك.
علي بن أحمد بن محمد بن الحسن بن عبد الله بن أحمد بن ميمون(2/371)
أبو الحسن تاج الدين القيسي المصري المالكي المعروف بابن القسطلاني مولده ليلة السابع عشر من جمادى الأولى سنة ثمان وثمانين وخمسمائة بمصر، تفقه وسمع من جماعة كثيرة وحدث بالكثير مدة ودرس بالمدرسة المالكية المجاورة للجامع العتيق بمصر وتولى مشيخة دار الحديث الكاملية بالقاهرة إلى حين وفاته وكان أحد المشايخ المشهورين بالفضل والدين والعدالة وحسن الخلق ولين الجانب ومحبة الحديث وأهله والتواضع والصلابة في الدين وتوفي بكرة السابع والعشرين من شوال بمصر ودفن من يومه بسفح المقطم رحمه الله وكانت جنازته متوفرة الجمع.
محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن عمروك وهو عمرو أبو الفضل بن أبي عبد الله ابن أبي الفتوح بن أبي سعد بن أبي سعيد شرف الدين القرشي التيمي البكري مولده بالقاهرة سنة تسعين وخمسمائة سمع من جماعة وأجاز له جماعة وحدث هو وأبوه وجده وأخوه صدر الدين البكري تقدم ذكره ونسبه إلى الصديق رضوان الله عليه فأغنى عن إعادته هنا توفي شرف الدين المشار إليه في الرابع من المحرم بالقاهرة ودفن من الغد بسفح المقطم رحمه الله.
ملكشاه بن عبد الملك شمس الدين الحنفي المعروف بقاضي بيسان كان فقيهاً عالماً فاضلاً تولى نيابة الحكم بدمشق مدة ودرس بالمدرسة المعينية وكانت وفاته في سادس عشر صفر بدمشق ودفن بمقابر باب الصغير رحمه الله.(2/372)
يعقوب بن نصر الله بن هبة الله بن الحسن بن يحيى بن محمد بن علي ابن صدقة أبو يوسف تاج الدين التغلبي الدمشقي المعروف بابن سنى الدولة وهو خالي شقيق والدتي مولده بدمشق في السابع من جمادى الأولى سنة ست وتسعين وخمسمائة سمع من حنبل وغيره وكان من الرؤساء العدول تولى عدة مناصب وكان موصوفاً بمعرفة صناعة الكتابة وتوفي ببعلبك وهو ناظرها وما أضيف عليها من الأعمال وكانت وفاته في العشر الآخر من ذي الحجة ودفن في حجرة الشيخ عبد الله اليونيني قدس الله روحه وكان تاج الدين سليم الصدر حسن الظن بالفقراء والصلحاء رحمه الله تعالى.
يعقوب بن ... أبو يوسف شهاب الدين المعروف بابن الأنباري كان فاضلاً أديباً حسن النظم توفي في هذه السنة بحماة وقد جاوز سبعين سنة ومن شعره في الصفي بن الدجاجية وقد ولي الأهراء:
ألا قل لسيف ملوك الزمان ... ومن هو إلب على من قسط
وكلت وأنت امرؤ حازم ... إلى ابن الدجاجة رعى الحنط
وأنت العليم به أنه ... إذا جاع وهو عليها لقط
السنة السادسة والستون وستمائة
دخلت هذه السنة والخليفة والملوك على ما كانوا عليه في السنة الخالية والملك الظاهر بقلعة الجبل.
وفي ثالث صفر قدم الأمير عز الدين الحلى من الحج فخرج(2/373)
الملك الظاهر لتلقيه إلى البركة ثم توجه الحلى لزيارة القدس والخليل عليه السلام وعاد في سادس عشر ربيع الآخر فأعيدت إليه نيابة السلطنة بالديار المصرية.
وفي عاشر صفر عقد مجلس بين يدي الملك الظاهر للضياء بن الفقاعي بحضور الصاحب بهاء الدين وجرى فيه ما اقتضى صرف الضياء والحوطة عليه وأخذ خطه بجملة من المال ولم يزل يضرب إلى أن مات وأحصيت السياط التي ضربها في نوب متفرقة فكانت سبعة عشر الفاونيف وسبعمائة سوط.
وفيها وصل رسول المظفر شمس الدين يوسف صاحب اليمن إلى مصر ومعه فيل وحمار وحش معمد بأبيض وأسود وخيول وصيني ومسك وعنبر وغير ذلك من التحف وطلب معاضدة الملك الظاهر له وشرط أنه يخطب له في بلاده فجلس الملك الظاهر بقلعة الجبل يوم الأربعاء حادي عشر ربيع الأول واستدعى الرسول وقبل الهدية وبعث في جواب الرسالة الأمير فخر الدين إياز المقزي وعلى يده خلع وسنجق وتقليد بالسلطنة.
وفي يوم السبت ثاني جمادى الآخرة خرج الملك الظاهر إلى بركة الجب عازماً على قصد الشام وترك نائباً عنه للسلطنة الأمير بدر الدين الخازندار ورحل في رابع الشهر فوردت عليه رسل صاحب يافا بضيافة فاعتقلهم وأمر العسكر بلبس العدة ليلاً وسار فصبح يافا فأحاط بها من كل جانب فهرب من كان بها إلى القلعة فملكت المدينة(2/374)
وطلب أهل القلعة الأمان فأمنهم وعوضهم عما نهب لهم أربعين ألف درهم فركبوا في المراكب إلى عكا وملكت القلعة في الثاني والعشرين منه وهدمت والمدينة وكانتا من بناء ريدا فرنس لما نزل الساحل بعد كسرته وخلاصه من الأسر سنة ثمان وأربعين وستمائة وأصدرت كتب البشائر عن السلطان بفتحها فمن ذلك مكاتبة إلى قاضي القضاة شمس الدين بن خلكان رحمه الله من إنشاء القاضي محي الدين عبد الله ابن عبد الظاهر مضمونها: هذه المكاتبة إلى المجلس السامي اسمعه الله من البشائر أجملها، ومن التهاني أشملها، ومن تحيات النصر أفضلها، ومن سور الإتحاف بالظفر منزلها، تعلن ببشرى بفتح حسن استفتاحه، وتساوى في الجلالة غرره وأوضاحه، وأتى بسملة لهذه الغزاة المباركة التي بها تتبرك المهارق، ومفتاحاً لمغلق الحصون التي إن فتحها الله فلا مغلق، وإن سهلها فلا عائق، وذاك لأن يافا كانت قد كثر عدوان من فيها، وحصل من إضرارهم ما لا يقدر أحد على تدارك تحيفاتها ولا تلافيها، وصارت لعكا يسر الله فتحها طليعة مكر، ومادة كفر، منها يمتارون من كل ممنوع، وربما يأمنون من خوف ويشبعون من جوع، ويتطلعون إلى دار الإسلام منها من وراء زجاجة، ويجعلونها لهم باباً يتوصلون منه عند الإجاحة إلى ما في نفوسهم من حاجة، فلما توجهنا هذه الوجهة المباركة، وتعوضنا فيها عن إنجاد الملوك بالملائكة حرفنا إليها العنان يسيراً، وعرجنا عليها تعريج مستروح ثم يستأنف مسيراً، وطرقناها بكرة يوم الأربعاء(2/375)
العشرين من جمادى الآخرة فما مضى إلا بقدر ما جردت السيوف من الإغماد، أخذت المعاول في العويل على أهل الإلحاد، ونطقت ألسن الأعلام بالنصر المبين، وتلقى النصر رايتنا باليمين، وطفنا بها طواف المناطق بالخصور، والشفاه بالثغور، وإذا بأهلها يطلبون الأمان على النفوس خاصة وإنهم يبذلون لنا كل ما لهم من مال وعلال وسلاح وغير ذلك فأجبناهم إلى ذلك وما فتحوا الأبواب إلا والرجال قد فتحت النقوب، ولا جيبوا الأطواق إلا والسيوف قد فتقت الجيوب، ولا خرجوا من قلتها إلا والابطال عليها قد علت، ولا طلعوا منها إلا والأولياء إليها وما حصلوا خارجها إلا والمقاتلة بها قد حصلت وتسلمناها وقلعتها فتحاً قريباً، وتسنمناها مرتعاً مريعاً ومربعاً خصيباً، وسطرناها في الساعة التي قام لسان العلم قبل سان القلم على منبرها خطيباً، فيأخذ حظه من بشرى جاءت طليعة لما بعدها من البشائر، وأقبلت مقهمة بأن لا بد بعدها من فتوحات تتبع الأوائل منها الأواخر والله تعالى يوفقه في الموارد والمصادر، إن شاء الله تعالى.
فلما فرغ من هدم يافا رحل يوم الأربعاء ثاني عشر شهر رجب طالباً للشقيف فنزل عليه يوم الثلاثاء ثامن عشر الشهر وظفر بكتاب من الفرنج الذين بعكا يتضمن أعلام النواب بالشقيف إن المسلمين لا يقدرون على أخذ الحصن إن احتفظوا به وجدوا في تحصينه وينبهونهم على أماكن يخاف على الحصن منها إن أهملت فاستدعى ببعض من يكتب بالفرنجي(2/376)
وأمره أن يكتب كتاباً يذكر فيه إمارات بينهم وبين أهل عكا استفادها من الكتاب ويحذر الكمندور المقيم بالشقيف من الوزير المقيم عنده ومن جماعة كانت اسماؤهم في الكتاب وكتاباً آخر إلى الوزير يحذره من الكمندور ويأمره إن احتاج إلى مال يأخذه من فلان وسمى شخصاً كان اسمه في الكتاب وتحيل في وصول الكتابين إليهم فلما وقفوا عليهما اختلفوا مع شدة الحصار بالزحف والمنجنيقات فالجأهم الخلف إلى أن أرسلوا إلى الملك الظاهر وقرروا تسليم الحصن وإن لا يقتل من فيه فتسلمه يوم الأحد تاسع عشرين شهر رجب وكان ملك الباشورة بالسيف في سادس وعشرين منه واصطنع الكمندور وكانت عدة من كان فيه أربعمائة وثمانين رجلاً واثنين وعشرين أخاً فأركبهم الجمال إلى صور وسير من معهم يحفظهم ممن يؤذيهم وأنشئت كتب البشائر إلى الأطراف فمنها كتاب إلى قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله من إنشاء كمال الدين أحمد بن العجمي رحمه الله مضمونه: صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس السامي القضائي لا زالت البشائر تحل به ربعاً، وتصنع لديه في الإبلاغ حسناً وتحسن صنعاً، وتسر بالإفهام والإلمام والإعلام له قلباً وبصراً وسمعاً، تعلمه بفتح أمست وجوه البشائر ببشره متهللة، وأسماع المنابر لوعيه متبتلة وفروض الجهاد به مؤداة ولكنها مشفوعة بالسيوف المسنونة والغزوات المنتفلة وهو فتح الشقيف الذي جاء بتناوب الإتحاف إلى القلوب، ويتناسب أنباؤه كالرمح أنبوب على(2/377)
أنبوب، ويتعاقب مسراته إلى الإسلام كما تتعاقب الأنواء لنفع الثرى المكروب، وأقبل بعد فتح يافا كما تقبل البكر التي لا بد لها بعد سهولة الهداء من الامتناع عند الافتراع وتهادى تهادي الغيث الذي لا بد له عند نزوله من الرعد المرعج والبرق اللماع، كان نزولنا عليها في تاسع عشر شهر رجب المبارك سنة ست وستين وستمائة بعد أن سلكنا إليها في أوعار تتعثر بها ذيول الرياح، وهبطنا في أودية لا يأنس فيها إلا بمجاوبة الصدى لقعاقع السلاح، وصعدنا في جبال لا يرى الأشباح، منها إلا كالذر والذري إلا كالأشباح، وهذه القلعة من وجه هذه الشواهق بمكان الغرة، ومن كتابها بمنزلة الطرة، كأنها سمع تناجيه النجوم بأسرارها، أو راحة بما بسطته من أصابع شرفاتها وتلك البواشير منها بمنزلة سوارها، يكاد الطرف ينقلب عنها خاسئاً وهو حسير، وكل ذي جناح يغدو دون منالها يطير، قد أحكم بناؤها فلا أيدي المعاول لأطراف أسوارها مجاذبة، وحصن فناؤها فلا غير الغمائم لها مجاورة ولا غير الرعود لها مجاوبة قد تحصن بها من الكفر كل مستقتل، وتوطنها منهم كل جاهل يرجع في التحصن بها إلى منعتها وكيف لا وهو لها مستعمل، وقد انتخبهم الفرنج من بينهم انتخاب المناصل بسريع سهامه والمفاضل لبديع كلامه وحلوا منه ذروة بعيدة المنال، وتوقلوا صهوة لا تتخطى إليها الآمال، وكنا كما قد علم المجلس السامي أعزه الله قد سيرنا إليها العساكر الشامية تمسك(2/378)
منها الخناق، وتأخذ منها بمجامع الأطواق، فخفت بها كما حفت الخواتم بالخناصر، أو كما حفت بالعيون الأهداب ودارت حولها سوراً ما له غير الخود من شرفات وغير نواهد الخيل من أبراج وغير حنايا السيوف من أبواب، وأحدقت بثغرها كما تحدق الشفاه بالثغور، وأطافت بها قبل إطافتنا كما يطوف البند قبل المنطقة بالخصور، وأقامت السمهرية ترمقهم بزرق عيونها والمشرفية، تتناعس لاستنامتهم بتغميض جفونها، وبقيت السنة الصناجق في أفواه غلفها صامتة لسماع الزحافات مصغية، وكواسر الآساد في آجامها من الرماح السمهرية مقعية، وصارت السهام في كنائنها تقلق، وأخشاب المجانيق لتفرق أجزائها تفرق، إلى أن بعثنا الله من فتحها إلى المقام المحمود، وانقضت مدة أرجائها في يد الكفر وما كان تأخيره إلا لأجل معدود، ونزلنا ربعها بالعساكر التي سيوفها مفاتيح الحصون، ورماحها أرشية المنون، فما نزلنا من ظهر جوادنا إلا على ظهر جبلها الذي حرته عن يمينه جنيبا، ولا ألقينا عصى
التسيار حتى حملنا أعواد المجانيق على عاتقنا لنقدمها إلى الله تقرباً وإليهم تقريباً، وللوقت نفخ أمرنا في صور الإيعاز بالمضايقة، ونشر العالم في صعيد وأخذ للمسابقة إلى صعودها والمساوقة، وفي الوقت الحاضر اجتمعت أغضاء المجانيق المنفصلة، وتخطت في الهواء كفالها المنتعلة، واعتزلت كل فرقة من أوليائنا بمنجنيق يقيمه وأعجب شيء أنها الظاهرية وأصبحت المعتزلة، وعن قريب أهوت إلى الأعداء محلقة صقور الصخور وتتابعت حجارتها إليهم عند ما حصلت من المجانيق في الصدور، فبعثرت من أجسادهم المرسومة بالقلعة ما في القبور، وكانت هذه القلعة المذكورة قد قسمها العدو قسمين، وخاصم الإسلام منها بخصمين، وجعلها قلعة دون قلعة، وصيرها ملكاً مقسوماً حتى لا تكون فيه شفعة، وجعل أحديهما مهبط قباله ومحط نزاله، ومأوى رجاله، والأخرى مستودع نفسه وماله، فلما أحسوا بأسنا ورأوه شديداً وشاهدوا حزمنا عتيداً، وعزمنا مبيداً، واقتحموا الأسوار بتسورها الرجال، والمجانيق تحف بهم عن اليمين وعن الشمال، وضعفوا عن أن يحموا من تلك القلل جهتين، أو أن يقتسموا بهما فئتين، أو يجمعوا مع كفرهم إلا ما قد سلف بين الأختين، أو أن يغدو بخس شركهم إلا وهو فيما دون القلتين حرقوا ما بالقلعة من مصون، وأضرموا بها نيراناً أعجب شيء كونها لم تطف بما أجروه من الجفون، وغالبتهم اليد الإسلامية قبل تركها، ودخلتها عليهم قبل الخروج عن ملكها، وذلك يوم الأربعاء سادس وعشرين شهر رجب المذكور وكانت المجانيق ترمي عليها فصارت ترمي منها، وتصدر حجارتها إليها فصارت تصدر عنها، وتملكناها معقلاً شيده لنا العدو وبناه، وحصناً منيعاً دافع عنه حتى تعب فلما تعب أخلاه وخلاه، وأصبح بحمد الله شك فتوحها لنا يقيناً، وما كان من خنادقها وأسوارها يقي الكفار وغداً يقي عساكرنا ويقيناً وصارتا جارتين تتحاسدان على قربنا وما زال يغري بين الجيرة الحسد، ورأساً وجسداً فرق بينهما النصر ولا بقاء للرأس بعد زوال الجسد، ولما أمكن الله من القلعة الواحدة لم نر أن نبشر بالأولى، حتى نبشر بالأخرى، ولا أن نقصر الأعلام على الأعلان بالبطشة الصغرى، حتى نجمع إليه الأعلام بالبطشة الكبرى، ولما جاز القصر والجمع في الفروض المؤداة في هذه السفرة المباركة قصرنا وجمعنا في أداء هذه البشرى، وكتابنا هذا وقد من الله بهما علينا، وقال الإسلام هذه بضاعتا ردت إلينا وذلك في سابعه يوم الأحد سلخ شهر رجب المبارك وبحمد الله قد أصبحت تلك الضالة التي فقدها الإسلام منشودة، وتلك العارية التي استولت عليها يد الكفر مردودة، فشكراً لسيف رد الضالة وأردت الضلالة، ومضى لا يكل حتى استفتى في الكلالة، وأحاله فرض الجهاد على الكفر بحق فاستخلص بحول الله وقوته تلك الحوالة، فليأخذ المجلس السامي حظه من هذه البشرى بما جعله الله للمتقين من عقبى الدار، وبما قدره من انقياد الكافرين صاغرين في قبضة الأسار، وبما سهله من عتق من كان فيها من الحرم والأطفال والصغار، وليملأ بحسن هذا الخبر المسامع، وليعمر بذكره المجامع، والجوامع، فطالما اشتاقت إليه أعواد المنابر، وانتظرت إيداعه في سرائر السر السنة الأقلام وأفواه المحابر، والله تعالى يوفق المجلس فيما يحاول ويجاور، إن شاء الله تعالى. لتسيار حتى حملنا أعواد المجانيق على عاتقنا لنقدمها إلى الله تقرباً وإليهم تقريباً، وللوقت نفخ أمرنا في صور الإيعاز بالمضايقة، ونشر العالم في صعيد وأخذ للمسابقة إلى صعودها والمساوقة، وفي الوقت الحاضر اجتمعت أغضاء المجانيق المنفصلة، وتخطت في الهواء كفالها المنتعلة، واعتزلت كل فرقة من أوليائنا بمنجنيق يقيمه وأعجب شيء أنها الظاهرية وأصبحت المعتزلة، وعن قريب أهوت إلى الأعداء محلقة صقور الصخور وتتابعت(2/379)
حجارتها إليهم عند ما حصلت من المجانيق في الصدور، فبعثرت من أجسادهم المرسومة بالقلعة ما في القبور، وكانت هذه القلعة المذكورة قد قسمها العدو قسمين، وخاصم الإسلام منها بخصمين، وجعلها قلعة دون قلعة، وصيرها ملكاً مقسوماً حتى لا تكون فيه شفعة، وجعل أحديهما مهبط قباله ومحط نزاله، ومأوى رجاله، والأخرى مستودع نفسه وماله، فلما أحسوا بأسنا ورأوه شديداً وشاهدوا حزمنا عتيداً، وعزمنا مبيداً، واقتحموا الأسوار بتسورها الرجال، والمجانيق تحف بهم عن اليمين وعن الشمال، وضعفوا عن أن يحموا من تلك القلل جهتين، أو أن يقتسموا بهما فئتين، أو يجمعوا مع كفرهم إلا ما قد سلف بين الأختين، أو أن يغدو بخس شركهم إلا وهو فيما دون القلتين حرقوا ما بالقلعة من مصون، وأضرموا بها نيراناً أعجب شيء كونها لم تطف بما أجروه من الجفون، وغالبتهم اليد الإسلامية قبل تركها، ودخلتها عليهم قبل الخروج عن ملكها، وذلك يوم الأربعاء سادس وعشرين شهر رجب المذكور وكانت المجانيق ترمي عليها فصارت ترمي منها، وتصدر حجارتها إليها فصارت تصدر عنها، وتملكناها معقلاً شيده لنا العدو وبناه، وحصناً منيعاً دافع عنه حتى تعب فلما تعب أخلاه وخلاه، وأصبح بحمد الله شك فتوحها لنا يقيناً، وما كان من خنادقها وأسوارها يقي الكفار وغداً يقي عساكرنا ويقيناً وصارتا جارتين(2/380)
تتحاسدان على قربنا وما زال يغري بين الجيرة الحسد، ورأساً وجسداً فرق بينهما النصر ولا بقاء للرأس بعد زوال الجسد، ولما أمكن الله من القلعة الواحدة لم نر أن نبشر بالأولى، حتى نبشر بالأخرى، ولا أن نقصر الأعلام على الأعلان بالبطشة الصغرى، حتى نجمع إليه الأعلام بالبطشة الكبرى، ولما جاز القصر والجمع في الفروض المؤداة في هذه السفرة المباركة قصرنا وجمعنا في أداء هذه البشرى، وكتابنا هذا وقد من الله بهما علينا، وقال الإسلام هذه بضاعتا ردت إلينا وذلك في سابعه يوم الأحد سلخ شهر رجب المبارك وبحمد الله قد أصبحت تلك الضالة التي فقدها الإسلام منشودة، وتلك العارية التي استولت عليها يد الكفر مردودة، فشكراً لسيف رد الضالة وأردت الضلالة، ومضى لا يكل حتى استفتى في الكلالة، وأحاله فرض الجهاد على الكفر بحق فاستخلص بحول الله وقوته تلك الحوالة، فليأخذ المجلس السامي حظه من هذه البشرى بما جعله الله للمتقين من عقبى الدار، وبما قدره من انقياد الكافرين صاغرين في قبضة الأسار، وبما سهله من عتق من كان فيها من الحرم والأطفال والصغار، وليملأ بحسن هذا الخبر المسامع، وليعمر بذكره المجامع، والجوامع، فطالما اشتاقت إليه أعواد المنابر، وانتظرت إيداعه في سرائر السر السنة الأقلام وأفواه المحابر، والله تعالى يوفق المجلس فيما يحاول ويجاور، إن شاء الله تعالى.
ثم رحل بعد أن رتب بها عسكراً في عاشر شهر شعبان منها(2/381)
وبعث أكثر الأثقال إلى دمشق وسار إلى طرابلس فشن عليها الغارة وأخرب قراها وقطع أشجارها وغور أنهارها وذلك في رابع عشر الشهر ورحل إلى حصن الأكراد ونزل المرج الذي تحته فحضر إليه رسول من فيه بإقامة وضيافة فأعادها عليهم وطلب منهم دية رجل من أجناده كانوا قتلوه مائة ألف دينار ثم رحل إلى حمص ثم إلى حماة ثم إلى أفامية ثم سار ونزل منزلة أخرى ثم رحل ليلاً وتقدم إلى العسكر بلبس العدة فنزل إنطاكية في غرة شهر رمضان فخرج إليه جماعة من أهلها يطلبون الأمان وشرطوا شروطاً لم يجب إليها، وزحف عليها فملكها يوم السبت رابع الشهر ورتب على أبوابها من الأمراء جماعة لئلا يخرج أحد من الحرافشة بشيء من النهب ومن وجد معه شيء أخذ منه فجمع منه ما أمكن وفرق على الأمراء والأجناد بحسب مراتبهم وحصر من قتل فيها فكانوا فوق الأربعين ألفاً وأطلق جماعة من المسلمين كانوا فيها أسراء من حلب وبلدها وكان الإبرنس صاحبها وصاحب طرابلس وأنشئت كتب البشائر، فمن ذلك مكاتبة إلى قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله من إنشاء القاضي محي الدين عبد الله بن عبد الظاهر مضمونها: أدام الله سعادة المجلس السامي القضائي ولا برح يؤثر البشائر، حشاياً المنابر، ويجزي من السرور الهاجم عيون المحابر، ويسجد لها قلم الناظم والناثر، ويتلقاها ببشر إذا تأمل قادمه قال كم ترك الأول للآخر، هذه المكاتبة تتحدث بنعمة الله التي تهلل بها(2/382)
وجه الإيمان، وهلل بها من أهله كل لسان، وجاءت بحمد الله حلوة المجتنى، حافة بالنصر من هنا ومن هنا، وذاك بفتح إنطاكية التي لم تتطرق إليها الحوادث والخطوب، ولا طرق حديث فتحها إلا سماع ولا هجس في القلوب، وادخرها الله لنا ليخصنا بفتحها الوجيز، ويجعلها باباً لما يليها من بلاد الكفر نلج منه بمشيئة الله وما ذلك على الله بعزيز، وهو أنا لما فرغنا من فتوحاتنا التي سبق بها الإعلام، وإشاراتنا التي خصت وحصت طرابلس الشام، ثنينا العنان إلى هذه الجهة فشاهدنا منها ما يروق النواظر، ورأينا مدينة يجتمع داخل سورها الإنس والوحش والطائر، للاستيطان والبادي والحاضر، يحف بها أسوار لا يقطعها الطائف في يوم مسيراً، ولا يدرك الناظر من أولها لها أخيراً، وبها رجال غدوا إليها من كل حدب ينسلون، ومن كل هضبة ينزلون، وفي ظلال كل مطهم يتقيلون، وكان نزولنا عليها في يوم الأربعاء غرة شهر رمضان المعظم فلم يكن إلا بقدر ما نزلنا إلا ورسلهم قد حضروا ليمسحوا أطراف الرضا، ويتقاضوا من العفوا حسن ما يقتضى، فما ألوى عليهم حلمنا ولا عرج، ولا نفس عنهم كربة ولا فرج، فزحفنا عليهم في يوم السبت بكرة وهو رابع الشهر، فلم يلبثوا إلا ساعة من نهار وقد دخلت عليهم من أقطارها، وتسور العسكر المنصور من أسوارها، وامتدت ألسنة الصوارم وأسنة الرماح، وشهرت البيض الصفاح، وأريقت الدماء واستحيت النساء وغنمت الأموال، وجدلت الأبطال، ووجد العالم من التحف والنعم ما لا كان يمر في خلد ولا يخطر في بال، وكتابنا هذا واليد الإسلامية(2/383)
لها متسلمة، وفيها متحكمة، فالمجلس يأخذ حظه من هذه البشرى، ويرى منها هذه الآية الكبرى، وما نريهم من آية إلا هي أكبر من الأخرى، ويتلقاها ببشر فقد بعثنا بها إليه في أحسن رونق النصرة، وأقبلت بحمد الله كما بدأت أول مرة، فليشعها المجلس في كل باد وحاضر، ولينشر خبرها على أكباد المنابر، والله بكرمه يجعل سعادته من أتم الذخائر، إن شاء الله تعالى: كتب رابع شهر رمضان المعظم سنة ست وستين وستمائة.
وإنطاكية مدينة عظيمة مشهورة مسافة سورها اثنا عشر ميلاً، وعدد أبراجها مائة وستة وثلاثون برجاً، وعدد شرفاتها أربعة وعشرون ألفاً، ولما ملك الملك الظاهر إنطاكية وصل إليه قصاد من بغراس يطلبون تسليمها إليه فسير شمس الدين الفارقاني بالعساكر فوصل إليها فصادف أكثر أهلها قد نزح فتسلمها في ثالث عشر شهر رمضان وكان قد تسلم دركوش بوساطة فخر الدين الجناحي في تاسع رمضان وصالح أهل القصير على مناصفته ومناصفة القلاع المجاورة له وعاد إلى دمشق فدخلها سابع عشري شهر رمضان وعيد بقلعة دمشق.
ذكر خلاص الأمير شمس الدين سنقر الأشقر
كان الملك الظاهر لما أسر ليفون ابن صاحب سيس بعث إليه أبوه يطلب منه الفداء وبذل له مالاً جزيلاً فلم يقبله وطلب منه في الفداء أن يخرج الأمير شمس الدين من بلاد التتر فبعث إليهم متوسلاً بموات طاعته(2/384)
لهم وبذل لهم مالاً كثيراً فلم يجيبوه، فلما استولى الملك الظاهر على إنطاكية بعث إليه هيتوم صاحب سيس رسولاً يبذل القلاع التي كان أخذها من التتر عند استيلائهم على حلب وهي دربساك وبهسنا ورغبان فأبى قبول ذلك إلا أن يحتال في إخراج سنقر الأشقر فسار إليهم بحيلة الاستغاثة بهم على الملك الظاهر واستصحب معه علم الدين سلطان أحد البحرية فكان يجتمع بسنقر الأشقر سراً وعليه زي الأرمن والأشقر يخاف أن تكون دسيسة عليه فلا يصغي إلى قوله ويقول ما أعرف صاحب مصر ولا أخرج من عند هؤلاء القوم فإنهم محسنون إلي، ولم يزل سلطان يذكر له إمارات وعلامات اهتدي بها إلى صحة مرامه فأذعن للهرب فلما خرج صاحب سيس لبس زيهم وخرج معهم فلما وصل به بلده سار علم الدين سلطان إلى الملك الظاهر وعرفه فبعث إلى القاهرة وأحضر ليفون فوصل إليه وهو على إنطاكية فسار به إلى دمشق فدخلها يوم السبت سابع عشر شهر رمضان.
ثم سيره مع جماعة في سابع شوال فوصلوا به إلى سيس ووقفوا به على النهر بالقرب من دربساك ووصل الأمير شمس الدين مع جماعة من سيس ووقفوا به على جانب النهر ثم أطلق كل واحد منهما وتسلم منها نواب الملك الظاهر دربساك ورغبان ولم يبق إلا بهسنا وكان صاحب سيس سأل الأمير شمس الدين أن يشفع له عند الملك الظاهر في إبقائها عليه على سبيل الإقطاع فوعده بذاك ولما اتصل بالملك الظاهر قدوم الأشقر خرج من دمشق تاسع عشر شوال ونزل(2/385)
القطيفة وبلغه أن الأشقر على خان المناخ فساق إليه وحده سراً فما أحس به إلا وهو على رأسه فقام إليه فترجل واعتنقا طويلاً وسارا حتى نزلا في الدهليز ليلاً، فلما أصبحا خرجا منه معاً فعجب العسكر كيف اجتمعا ولم يشعر بهما وعاد إلى دمشق في ثاني ذي القعدة وسأله الأمير شمس الدين في أمر بهسنا فتمنع فقال يا خوند قد رهنت لساني ووعدته ببلوغ قصده وقد أحسن إلي لما كنت عند التتر بما لا أقدر على مكافأته فأجابه الملك الظاهر إلى ما سأل.
ذكر قطيعة قررت على بساتين دمشق
كان الملك الظاهر قد احتاط عليها وعلى القرى الملك والوقف على أربابها وهو نازل على الشقيف وتحدث بذلك في السنة الخالية بحضور العلماء فقال القاضي شمس الدين عبد الله بن عطاء الحنفي هذا لا يحل ولا يجوز لأحد أن يتحدث فيه وقام مغضباً وتوقف الحال، ولما وقعت الحوطة على البساتين صقعت بحيث عدمت الثمار بالكلية وظن الناس أنه يرق لهم فلما أراد التوجه إلى مصر عقد مجلساً بدار العدل وأحضر العلماء وأخرج فتاوي الحنفية باستحقاقها بحكم إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فتح دمشق عنوة ثم قال من كان معه كتاباً عتيقاً أجريناه وإلا فنحن فتحنا هذه البلاد بسيوفنا ثم قرر عليهم ألف ألف درهم فسألوه أن يقسطها فأبى وتمادى الحال إلى أن خرج متوجهاً إلى مصر يوم الثلاثاء ثامن عشري ذي القعدة، فلما وصل اللجون عاوده الأتابك(2/386)
وفخر الدين بن حناء وزير الصحبة فاستقر الحال أن يعجلوا منها أربعمائة ألف درهم ويعاد إليهم ما كان قبضه الديوان من المغل ويقسط ما بقي كل سنة مائتي ألف درهم وكتب بذلك توقيع قرئ على المنبر، ودخل القاهرة آخر نهار الأربعاء حادي عشر ذي الحجة.
وفي ثاني عشر شوال خرج الركب المصري متوجهاً إلى الحجاز وسافر فيه الصاحب محي الدين أحمد بن الصاحب بهاء الدين وعاد الركب خامس عشر صفر سنة سبع.
ذكر أخذ مالك بن منيف المدينة الشريفة
كان مالك بن منيف بن شيحة الحسيني قد قصد الملك الظاهر سنة خمس وستين بهدية جليلة لعلمه ما بين الملك الظاهر وبين عمه عز الدين جماز من الوحشة فقبلها وكتب له توقيعاً بالمدينة وبعث معه سليمان بن حجى فلما عاد وجد جماز بالفلاة فهجمها في هذه السنة واستولى عليها وحلف له أهلها وخرب دار جماز واستنجد جماز بأهل مكة وينبع وسار إليها فحصرها أياماً ووقع بينهما قتال أجلى عن قتلي كثير ثم اختلف جمازو أصحابه.
وفيها قتل السلطان ركن الدين صاحب الروم وجلس ولده السلطان غياث الدين كيخسرو على التخت وعمره مناهز العشر سنين والبرواناة في نيابة السلطنة عن أبغا وجعل ابنه مهذب الدين على متكفلاً بأمر غياث الدين واستولى البرواناة على جميع البلاد ونفذ حكمه فيها لا يشاركه في ذلك غيره، ثم توجه البرواناة إلى أبغا وأخذ معه فرس(2/387)
ركن الدين وسلاحه وهدايا جليلة لأبغا ووجوه دولته ووافى عنده صاحب سيس فجرت بينهما محاورة كل منهما يدعي على صاحبه أنه يكاتب صاحب مصر ثم عاد البرواناة ومعه أحأى أخو أبغا وصمغرا ليكونا معه في البلاد فلم تطل غيبته، فلما بلغ السلطان غياث الدين قدومهم خرج من قونية لتلقيهم فاجتمع بهم على سيواس.
وفيها توفي إبراهيم بن عبد الله بن محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة ابن مقدام بن نصر أبو إسحاق عز الدين المقدسي الحنبلي مولده في شهر رمضان سنة ست وستمائة سمع من أبي القاسم عبد الصمد بن محمد الحرستاني وغيره وحدث وكانت وفاته في التاسع عشر شهر ربيع الأول بجبل الصالحية ظاهر دمشق ودفن من الغد بسفح قاسيون رحمه الله، وكان إماماً علاماً فاضلاً زاهداً عابداً ورعاً كريم الأخلاق لطيف الأوصاف لين الجانب شديد التواضع للفقراء والمساكين والضعفاء كثير الصدقة والبر والمواساة حريصاً على قضاء حوائج الناس وإدخال السرور عليهم لم يكن في هذا الوقت من يضاهيه في ذلك فيما علمنا، وهو من بيت العلم والعمل والصلاح وكان والده الشيخ شرف الدين عبد الله رحمه الله شيخ الحنابلة والمشار إليه فيهم وجده شيخ الإسلام أبو عمر محمد فشهرته تغني عن الأطناب في وصفه رحمهم الله أجمعين.
أحمد بن عبد العزيز بن محمد بن عبد الرحيم أبو يوسف كمال الدين الحلبي المعروف بابن العجمي، كان رئيساً عالماً فاضلاً حسن الخط والإنشاء كتب للملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله ثم كتب للملك الظاهر(2/388)
ركن الدين وكان من أعيان الكتاب وأماثلهم واسطة خير غزير المروءة حسن العشرة كريم الأخلاق وكانت وفاته ظاهر صور من بلاد الساحل في العشر الأول من شهر ذي الحجة وحمل إلى ظاهر دمشق فدفن بمقابر الصوفية رحمه الله.
بولص الراهب المعروف بالحبيس، قد ذكرنا طرفاً من خبره في حوادث سنة ثلاث وستين وأنه كان كاتباً ثم ترهب وانقطع في جبل حلوان من الديار المصرية فيقال أنه ظفر بمال مدفون في مغارة فواسى به الفقراء من كل ملة وقام عن المصادرين بجمل عظيمة ولم يزل على ذلك إلى هذه السنة فأحضره الملك الظاهر وطلب منه المال وان يعرفه من أين حصل له فلم يعرفه وجعل يغالطه ويدافعه ولا يفصح له بشيء البتة وهو عنده داخل الدور فلما يئس منه وأعياه أمره حنق عليه فعذبه حتى مات في العذاب ولم يقر بشيء فأخرج من قلعة الجبل ورمى ظاهرها على باب القرافة وكانت وصلت فتاوى فقهاء الإسكندرية إلى الملك الظاهر بقتله وعللوا ذلك بخوف الفتنة على ضعفاء النفوس من المسلمين فقتله كما ذكرنا وقيل أن مبلغ ما وصل إلى بيت المال منه وما واسى به في مدة سنتين ستمائة ألف دينار محصياً بقلم الصيارف الذين كان يجعل عندهم المال ويكتب إليهم أوراقه وذلك خارج عما كان يعطيه سراً بيده ومع هذا كان لا يأكل من هذا المال شيئاً ولا يلبس منه وكان النصارى يتصدقون عليه بما يمونه ويلبسه فانظر إلى هذه(2/389)
النفس الأبية مما هي عليه من الضلال ولم يظهر بعد موته من تلك الأموال الدينار الواحد فما يعلم هل نفدت مع نفاد أجله وخفي أمر ما بقي منها ولم يطلع عليه وقيل كان اسمه ميخائيل ولم يشتهر إلا بالحبيس الراهب والله أعلم.
عبد الخالق بن علي بن محمد بن الحسن أبو محمد تاج الدين، كان كاتباً مجيداً عارفاً بصناعة الحساب وولي عدة جهات ومناصب ببعلبك وأعمالها وكان من عدول بعلبك وأكابرها وكان ينبز بأحمر عينه لحمرة كانت في عينه.
ووالده القاضي مهذب الدين أبو الحسن علي بن محمد الأسعردي ولي الحكم ببعلبك مدة في الأيام الصلاحية وغيرها وكان مشكور السيرة مشهوراً بوفور العلم والدين والسداد في الأحكام رحمه الله، وكانت وفاة تاج الدين المذكور في ويوم السبت تاسع ذي القعدة من هذه السنة وهو في عشر الثمانين ودفن بالقرب من دير إلياس عليه السلام ظاهر بعلبك رحمه الله تعالى.
عبد العزيز بن منصور بن محمد بن محمد بن محمد بن وداعة أبو محمد عز الدين المعروف بابن وداعة الحلبي وقيل أنه كان في بداية أمره خطيباً بجبلة من أعمال الساحل ثم اتصل بالملك الناصر صلاح الدين يوسف وصار من خواصه ولما ملك دمشق ولاه شد الدواوين بدمشق وأعمالها وكان يعتمد عليه ويثق به وكان عز الدين يظهر التنسك والدين ويقتصد في ملبسه وسائر أحواله وكانت حرمته في الدولة الناصرية(2/390)
وافرة ولما انقضت الدولة الناصرية وأفضت المملكة إلى الملك الظاهر ركن الدين ولاه وزارة الشام فلما ولي الأمير جمال الدين آقوش النجيبي رحمه الله نيابة السلطنة بالشام حصل بينهما وحشة باطنة وكان الأمير جمال الدين يكرهه. لتشيعه فإن الأمير جمال الدين المذكور كان غالباً في السنة وكان عند عز الدين تشيع فكان الأمير جمال الدين يسمعه في كل وقت من الكلام ما يؤلمه ويهينه فكتب إلى الملك الظاهر يذكر أن الأموال تنكسر وتنساق إلى الباقي ويحتاج الشام إلى مشد تركي شديد المهابة مبسوط اليد ويكون أمور الأموال والولايات والعزل راجعة إليه لا يعارض في ذلك والدرك في سائر هذه الأمور عليه ليلتزم بتثمير الأموال واستخراجها وزيادة ارتفاعاتها وكان قصده بذلك رفع يد الأمير جمال الدين عن ذلك وتوهم أن المشد الذي يتولى يكون بحكمه يصرفه كيف شاء ويبلغ به مقاصده وكان في الشد ... المسعودي وهو شيخ عاقل ساكن ليس فيه عسف ولا شر فرتب الملك الظاهر في الشد الأمير علاء الدين كشتغدي الشقيري وبسط يده حسبما اقترح عز الدين فلم يلبث أن وقع بينهما وكان الشقيري يهينه بأنواع الهوان فيشكو ما يلقى منه إلى الأمير جمال الدين النجيبي فلا يشكيه ويقول أنت طلبت مشداً تركياً وقد جاءك الذي طلبت ثم أن الشسقيري كاتب الملك الظاهر في حقه وأوغر صدره عليه فورد عليه الجواب بمصادرته فأخذ خطه بحملة عظيمة يقصر عنها ماله وأفضى به الحال إلى أن ضربه(2/391)
وعصره وعلقه في قاعة الشد بدار السعادة وجرى عليه من المكاره ما لا يوصف فكان كالباحث عن حتفه بظلفه وباع موجوده وأماكن كان وقفها وقام بثمنها في المصادرة ثم طلب إلى الديار المصرية فتوجه وحدثته نفسه بالعود إلى رتبته فأدركته منيته في الديار المصرية عقيب وصوله إليها فإنه تمرض في الطريق ودخلها وهو مثقل فتوفي ودفن بالقرافة الصغرى قريباً من قبة الشافعي رضي الله عنه وقد نيف على خمس وسبعين سنة رحمه الله ومات في آخر ذي الحجة من هذه السنة وقيل أنه دفن في مستهل سنة سبع وستين وستمائة وهو في عشر السبعين وله وقف على وجوه البر وبنى بجبل قاسيون تربة ومسجدا وعمارة حسنة ولم يخلف ولد ولا رزقه في عمره كله ولا تزوج إلا امرأة واحدة في صباه وبقيت في صحبته أياماً قلائل ثم فارقها كذا أخبرني علاء الدين ولد أخيه بدر الدين.
علي بن عدلان بن حماد بن علي أبو الحسن عفيف الدين الموصلي النحوي المترجم كان عالماً فاضلاً أديباً مفتناً شاعراً توفي بالديار المصرية في يوم الجمعة تاسع شوال ودفن من الغد بسفح المقطم ومولده بالموصل خامس وعشرين جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة كتب إلى قاضي القضاة شمس الدين أبي العباس أحمد بن خلكان رحمه الله لغزاً:
أيها العالم الذي فضل العا ... لم علماً وسؤدداً وذكاء(2/392)
والذي إن دعاه قاص ودان ... لملم عرا أجاب الدعاء
أي لفظ عكست منه بناء ... لا ترى عكسه يحيل البناء
وهو أن زال قلبه ينظر القلب كما كان قبل ذاك سواء
هو في الأرض كلها لا ترى الربوة تخلو منه ولا البطحاء
هو في الغرب موضع وترى التص ... حيف في الشرق بقعة غناء
يدخل الحصن غادياً لا يرى الأذ ... ن ولو كان ربه عاد ياء
وله في طب الطبيب مضاف ... إن تأملته تجده دواء
إن تصحف ففرقه عطفت من ... بعد أخرى فقد كشفت الغطاء
أظلمت طرق حله فأبنه ... عادة الشمس أن تفيد الضياء
ذكر القاضي شمس الدين أنه حله فوجده سوس الطعام وكتب إليه القاضي شمس الدين من دمشق إلى مصر لغزاً في سراج:
أيها العالم الذي ... صار حبراً ممارسا
والذي موضحاته ... يجتليها عرائسا
أي شيء ترى جمي ... ع الورى منه قابسا
أن في السرب نصفه ... حيثما كان كانسا
ثم صحف تمامه ... تلق ضوءاً مؤانساً
واحذفن منه ثالثاً ... تنظرن فيه فارسا
من يصحفه عاكساً ... يلف في الليل حارسا
فكتب إليه عفيف الدين في الجواب:(2/393)
أيها العالم الذي ... قام للدين حارسا
والذي مبدعاته ... البستنا الطيالسا
صغت لفظاً جذوته ... كان مولاي جالسا
أبداً لا برحت تج؟ ... لو المعاني عرائسا
يا ملاذي سررتني ... بعد أن كنت عابسا
والذي أنهج المعمى وإن كان طامسا
شرح الصدر لغزك ال؟ ... مستنير الحنادسا
أنت والله وصفه ... لامرئ كان قابسا
؟ صحف الشرح لفظه لا تصحفه عاكسا
فهو من مركب الرجا ... ل إذا كان فارسا
وهو إن زال ربعه ... فهو يبدي الوساوسا
جاءني بعد هجعة ... لم يخف فيه حارسا
فاقل عثرتي إذا ... كان ما قلت هاجسا
وكتب إلى قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان رحمه الله من القاهرة إلى دمشق لغزاً في القطائف المحشو والمقلو وذكر أن البيتين الأخيرين منها لابن عنين:
أحاجيك يا قاضي القضاة ومن سمت ... به الهمة العليا إلى المنصب العالي
ومن قد غدا في كل فن مبرزاً ... على كل حبر كان في الزمن الخالي
وأوضح بالفكر اللطيف عوامضاً ... ثوت برهة ما بيننا ذات إشكال
بمطوية طي القباطي غذيت ... ألذ غذاء ثم علت بجريال(2/394)
وأخت لها من جنسها هائم بها ... جميع الورى لكن لها واحد قالي
عمر بن إسحاق بن هبة الله بن صديق بن محمود بن صالح أبو حفص الأمير عمد الدين الخلاطي مولده بخلاط في منتصف شعبان سنة ثمان وتسعين وخمسمائة وكان فاضلاً عالماً حازماً جلداً خبيراً حسن التأني كريم الأخلاق جميل العشرة لطيف الحركات حلو المحادثة والمحاضرة توفي بحماة يوم الأحد الخامس والعشرين من المحرم ودفن من الغد رحمه الله ومن شعره:
كلفت بوجه صاحب الحسن صاحبه ... تروي بماء الحسن فأخضر شاربه
حوى قصص العشاق خط عذاره ... ولاغرو في الإيجاز فالله كاتبه
وله:
لا تعجبن إذا ما فاتك المطلب ... وعود النفس أن تشقى وأن تتعب
إن دام ذا الفقر في الدنيا فلا تعجب ... مات الكرام وما فيهم فتىً أعقب
وله:
تجنب من الدنيا ولا تك واثقاً ... إليها وإن مالت إليك بمجهود
؟(2/395)
فالطيب مأكول بها قيئي نحلة وأفخر ملبوس بها كفن الدود وله:
يا ليلة الحاجر هل عودة ... ترى لوصل النازح الهاجر
وهل يعيد الوصل قولي ترى ... هل عودة يا ليلة الحاجر
أحبابنا بانوا فلم يكتحل ... بالغمض من بعدهم ناظري
كان التمني فيهم أولى ... فصار يأسى منهم آخري
؟ وا حربا من عاذل عادل في الحكم عن إنصافه جائر
يأمرين بالصبر عنهم ومن ... أين لقلبي جلد الصابر
أبى شقائي في الهوى إنني ... أعيش إلا تعب الخاطر
فيا مريقاً دم عشافه ... بصارم من طرفه الساحر
بالأسود الفاتر حتى متى ... تفعل فعل الأبيض الباتر
وله:
سبت فؤاد المعنى ... لواحظ منك وسنى
يمرضننا حيث نرنو ... وهن أمرض منا
يا أكثر الناس حسناً ... أقلهم أنت حسنى
رد الرقاد لعل ال؟ ... خيال يطرق وهنا
وله:
ولما دنا ممن أؤمل قربه ... بعاداً أذاب القلب بين الحوانح
وسارت نواجي العيس عن أرض بارق ... بكل نضير الخد للبدر فاضح(2/396)
وعاينت وخد الراقصات عشية ... وهز حدوج القوم بين الصحاصح
وألفيت أبناء الهوى شارفوا أسى ... مناياهم ما بين باك ونائح
ربحت دنو الدار دهراً قضيته ... وكنت غداة البين آخر رائح
وله:؟ سحرته ألحاظ الحسان كما ترى وغذته البان الهوى فتحيرا
وغدا يصون لذكر نجد دمعه ... فلا جل ذلك ما جرى إلا جرى
يا طرف دع شكوى السهاد جهالة ... أنت الذي في بحره غرق الكرى
وأنا الذي أصبحت أنزح ماءة ... أبغي الغريق به وها أنا لا أرى
؟ تشكو وأنت جنيت أسباب الهوى حتى حنيت بها العذاب الأكبر
ما كنت في خلدي لرائعة النوى ... قبل الحمام مقدراً ومصورا
فدنا بها زمن أساء ولم يكن ... من قبلها بنوى الأحبة أنذرا
وأبادني ببعاد أهيف خده ... كالورد أزهر فوق غصن أزهرا
فسرى الفؤاد وما أقام وحبه ... بين الجوانح قد أقام وما سرى
وله:
ومهفهف رطب المعاطف ناعم ... عذب المراشف طيب الأنفاس
جمع المحاسن وجهه فكأنما ... هو روضة راقت على منعاس(2/397)
فالنرجس الطرف المضاعف لوعتي ... وأقاحها ثغر جني وسواسي
والخد يبدو محدقاً بعذاره ... كالورد حف به جني الآس
سبحان من أنشأه من إحسانه ... حسناً فاصبح فتنة للناس
قال كنت مجرداً مع العسكر الناصري على غزة سنة خمسين وستمائة وضجر العسكر من التجريد وطول المدة وكان الناس يقولون إن الشيخ نجم الدين الباذراني رسول الخليفة خرج من دمشق متوجهاً إلى الديار المصرية للصلح بين الملك الناصر وصاحب مصر وبعضهم يقول ما خرج فعملت:
؟ قالوا الرسول أتى وقالوا أنه ... ما رام يوماً من دمشق نزوحا
كثر الخلاف وما ظفرت بمسلم ... يروي الحديث عن الرسول صحيحا
وكان عماد الدين المذكور له حرمة وافرة عند الملوك ومكانة لطيفة منهم وكان الملك الصالح عماد الدين إسماعيل شديد المحبة له والوثوق به والميل إليه والاعتماد عليه لا يفضل عليه أحداً من خواصه وأصحابه وكان مستحقاً لذلك ولما هو أبلغ منه، حكى لي الأمير عز الدين محمد بن أبي الهيجاء رحمه الله عنه ما معناه أنه قال لما مات الملك الأشرف رحمه الله واستولى الملك الصالح عماد الدين على دمشق وما معها مما كان بيد الملك الأشرف من البلاد بالشام بلغه خروج الملك الكامل من الديار المصرية لقصده وانتزاع البلاد منه وعلم أنه يعجز عن مقاومته وأنه متى أظهر الانقياد إلى الملك الكامل تفلل عنه سائر من عنده من(2/398)
الأمراء وغيرهم طلباً للحظوة عند الملك الكامل فلا يحصل على مقصوده منه: قال عماد الدين ما معناه فاتفقت معه في الباطن على أن يختلق لي حجة ويضربني بمحضر من الأمراء وأعيان الدولة ويعتقلني ويأخذ موجودي ففعل بي ذلك وأظهر أنه اطلع على أنني كاتبت الملك الكامل وبقيت في الجب أياماً ثم شفع في فأخرجني بعد أن قطع خبزي وأبعدني عنه فركبت وقصدت الملك الكامل فوافيته في الطريق فلما قيل له عني تعجب وقال كيف يفارق هذا لأخي مع وثوقه به ومحبته له فقيل له ما وقع في حقي فسكت وأكرمني وعدت معه فلما كان بعد يومين من وصولي إلى خدمته كتبت إليه ورقة مضمونها سؤال الحضور بين يديه خلوة فأحضرني ليلاً وأخلى مجلسه وقال لي قل فقلت لما كنت في الجب بقلعة دمشق حملت رسالة إلى مولانا السلطان وحلفت أن لا أقولها إلا بعد أن يحلف مولانا السلطان باليمين التي استحلفه بها أنه لا يطلع عليها أحداً من خلق الله تعالى فقال نعم إلا يوسف بن الشيخ " فما عن العجوز سمر محجوز " فقلت يا خوند إلا الأمير فخر الدين ابن الشيخ فأمر بإحضار المصحف الكريم واستحلفته على ما أردت فلما فرغ من اليمين قمت وقبلت الأرض وقلت يا خوند مملوك مولانا السلطان إسماعيل يقبل الأرض فعند ما ذكرت ذلك نهض قائماً وخدم وتهلل وجهه وقال قل فقلت يقول أنه ما كان يحتاج مولانا السلطان بتكلف الحركة بل كان سيزقرا غلام من بابه الكريم بمثال شريف(2/399)
منه سلم إليه البلاد وحضر بنفسه معه وليس هو عند نفسه ممن يقاوم مولانا السلطان أو يمانعه فقال اكتب إليه واخدمه مني وقل له يطيب قلبه ويحصن مدينته ويجتهد على حفظها فإني ما أختار أكسر حرمة أخي ولا حرمة دمشق عند الملوك ولا يزال علي إلى أن أقول له ما يفعل ثم قال لي والله كنت قد سقطت من عيني بمفارقتك لأخي والآن فقد نبلت عندي وعظمت في صدري فقبلت الأرض ودعوت له: قال عماد الدين فكتبت إلى الملك الصالح وعرفته ذلك وجاءني الجواب ولم تزل المكاتبة بيننا متواصلة فكنت أوقف الملك الكامل على كتب الملك الصالح وأكتب ما يأمرني به وحضر الملك الكامل وحاصر دمشق وأنا كل وقت أتقاضاه في تسلم البلد وهو يقول اصبر فلما كان في بعض الأيام طلبني فدخلت عليه فوجدته شديد الغضب لقتل بعض الأمراء الأكابر من أصحابه فلما وقفت بين يديه انتهرني وقال وصلنا إلى هذا الحد فقلت يا خوند لو رسمت دخلت القلعة يوم وصولك لكن مولانا السلطان اقتضى رأيه الشريف أن يجري الأمر على هذه الصورة فقال اكتب إليه وقل له يخرج فقد أخذت المسألة حقها وايش يريد أعطيه حتى أحلف له عليه فقلت يا خوند هو مملوك مولانا السلطان وأخوه وما يقترح شيئاً بل مهما تصدق به مولانا السلطان عليه قبله وإن رسم أن يكون رمحه تحت ركاب مولانا السلطان في الحلقة فهو راض بذلك فقال لا والله إلا أعطيه من البلاد ما يرضيه فكتب إليه فخرج تلك الليلة بالليل فتلقاه الملك الكامل وبالغ في احترامه وإعظامه وأعطاه(2/400)
بعلبك وأعمالها وبصرى وغير ذلك وجميع الحواصل وأعاده في ليلته إلى القلعة فبات بها ثم خرج من القلعة وضرب دهليزه قريب دهليز الملك الكامل وكل يوم يحضر إلى الخدمة فيجد من إكرامه ما لا كان يرجوه، فلما كان بعد أيام قال لي الملك الكامل ما تقول للمولى الملك الصالح يروح إلى بلاده فقلت يا خوند يريد سنجقا وخلعة قال إيش هذا الكلام؟ الملك الصالح ملك مثلي يريد خلعة وسنجقا قلت والله يا خوند ما يروح إلا بهذا قال بسم الله وسير له خلعة عظيمة وعدة خيول وعشرة آلاف دينار مصرية وسنجقا فتوجه إلى بعلبك وودعه الملك الكامل ثم قلت للملك الكامل يا خوند مملوك
مولانا السلطان ليس له مكانا يجيئه منه سكر يأكله وما يحسن به أن يشتري السكر في أيام مولانا السلطان فأطلق له قرى في الغور يتحصل منها جملة عظيمة من السكر وغيره وسافر إلى بعلبك على هذه الجملة وأعطاني من ذلك الذهب خمسمائة دينار اشتريت بها مملوكاً، ووالده أبو البشائر قاضي خلاط كان فقيهاً شافعياً عالماً أصولياً واعظاً شاعراً حسن الكلام في الوعظ والتذكير، له مصنفات في علم الأصول وكان من محاسن القضاة وظرافهم يرجع إلى عفاف ونزاهة ودين قدم مدينة إربل واستوطنها إلى أن توفي بها يوم الخميس العشرين من شعبان سنة ست عشرة وستمائة ومن شعره رحمه الله: مولانا السلطان ليس له مكانا يجيئه منه سكر يأكله وما يحسن به أن يشتري السكر في أيام مولانا السلطان فأطلق له قرى في الغور يتحصل منها جملة عظيمة من السكر وغيره وسافر إلى بعلبك على هذه الجملة وأعطاني من ذلك الذهب خمسمائة دينار اشتريت بها مملوكاً، ووالده أبو البشائر قاضي خلاط كان فقيهاً شافعياً عالماً أصولياً واعظاً شاعراً حسن الكلام في الوعظ والتذكير، له مصنفات في علم الأصول وكان من محاسن القضاة وظرافهم يرجع إلى عفاف ونزاهة ودين قدم مدينة إربل واستوطنها إلى أن توفي بها يوم الخميس العشرين من شعبان سنة ست عشرة وستمائة ومن شعره رحمه الله:؟ وقفت وربع العامرية داثر ودمعي ووجدي سابق متواتر
وقفت وذكراها تجدد لوعتي ... وأبكي كما تبكي الغوادي البواكر(2/401)
واذكر أياماً مضت ولياليا ... وأظهر فيها ما تجن الضمائر
غداة النقا بالباهلية آهل ... وحين الصفا بالعامرية عامر
وقفت أدير الطرف في عرصاتها ... وأطلالها دارت عليها الدوائر
ومن حب تلك الغانيات عواطلاً ... لقد سكنت فيها المها والجآذر
لنفرة أنس وانتفاء بمالكي ... تملك ربع الآنسات النوافر
فخالفني الآمال في سائر المنى ... ووافقني بيت من الشعر سائر
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
فقلت لصحبي قد ثنتني عزيمة ... أوائل حزن ما لهن أواخر
إلى أشرف الأملاك موسى الذي له ... إياد على وجه الزمان زواهر
ومن شعره:
قالوا الهلال وعندي في مجالستي ... بدر بوجه على شمس الضحى سادا
وفي فؤادي لهذا البدر منزلة ... ما نالها أحد قبلي ولا كادا
ليس الهلال بمحبوب لذي إرب ... وإن حببناه أحياناً وأعيادا
هذا يزيد حياتي في مجالستي ... وذاك ينقص عمري كلما زادا
محمد بن حامد بن كعب المنعوت بالقمر الشروي الأصل البعلبكي المولد والمنشأ والوفاة كان جسيماً وسيماً شجاعاً شديد القوى وهو مع ذلك رقيق الحاشية يذاكر بالأشعار والحكايات والنوادر وهو عنده مكارم أخلاق وفتوة ومروءة وعصبية وحسن عشرة ومعفرة بالأكابر والأعيان وكلمته مسموعة عندهم وحرمته وافرة ليدهم وكانت(2/402)
وفاته ببعلبك في شهر المحرم ودفن بظاهرها وهو في عشر الثمانين رحمه الله.
محمد بن عبد الرحمن بن علي بن محمد بن محمد بن قاسم بن محمد ابن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبيد الله بن علي بن عبيد الله بن الحسين ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أبو عبد الله الحسيني الكوفي الأصل المصري المولد والدار المعروف والده بالحلبي مولده عشية السادس والعشرين من شهر رمضان المعظم سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة بالقاهرة قرأ القرآن الكريم واشتغل بالعربية والأصول وبرع فيهما وسمع من أبي طاهر محمد بن محمد بن بيان الأنباري والشريف أبي محمد عبد الله ابن عبد الجبار العثماني وأبي محمد عبد القوي بن أبي الحسن القيسراني والأمير أبي الفوارس مرهف بن أسامة بن منقذ وآخرين غيرهم وحدث وأقرأ العربية وغيرها مدة: وكان عالماً فاضلاً رئيساً صدراً كبيراً ذا فنون متعددة ومعارف جمة مع ما هو عليه من حسن الطريقة وكرم الأخلاق وكان مؤثر الانفراد والتخلي محباً في الانقطاع والعزلة وعدم الاختلاط بالناس ذا جد وعمل وعبادة وأبوه أبو القاسم عبد الرحمن كان كان الفضلاء المشهورين وله تصانيف حسنة وطريقة جميلة رحمه الله وكانت وفاة الشريف أبي عبد الله محمد المذكور ضحى نهار السادس من صفر بالقاهرة ودفن من يومه بسفح المقطم رحمه الله.
قليج أرسلان بن السلطان غياث الدين كيخسرو بن السلطان علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج(2/403)
أرسلان بن سليمان بن قطلمش بن آتس بن إسرائيل بن سلجوق بن دقاق السلطان ركن الدين السلجوقي صاحب الروم كان ملكاً جليلاً شجاعاً كريماً لكنه لم يكن أحكمته التجارب فترك الحزم وفوض الأمور إلى معين الدين سليمان البرواناة واشتغل بلهوه فاستقل البرواناة بالتدبير واستفحل أمره ثم رام ركن الدين قتله والراحة منه واستشعر البرواناة ذلك منه فعمل على قتله حتى قتل في هذه السنة، وشرح الحال في ذلك إن البرواناة لما عظم شأنه واستولى على الممالك ولم يبق للسلطان ركن الدين معه كلمة استشعر البرواناة منه فرتب ضياء الدين محمود بن الخطير معه حريفاً ونديماً ليطلعه على سره في حال السكر ويكون عيناً للبرواناة عليه فحمل السلطان ركن الدين السكر على أن قال لضياء الدين ابن الخطير قد اتخذت سكيناً لقتل البرواناة وكانا بقونية فكتب ضياء الدين إلى أخيه شرف الدين بن الخطير يعرفه فأخبر شرف الدين البرواناة بذلك فكتب البرواناة إلى أبغا يذكر أن نية ركن الدين قد تغيرت فيك وربما كاتب صاحب مصر ليسلم إليه البلاد فعاد الجواب إذا ثبت ذلك عند نوابي المغل فافعل ما تختار ثم إن ركن الدين بعث يستدعي البرواناة فكتب إليه خواجا على الوزير يحذره من الوصول إليه فقصد البرواناة أمراء المغل وهم نابشي ويينال وكداي وبرد وأبكان ونوغاتمر(2/404)
وغيرهم بهدية سنية ففرقها فيهم وعرفهم أن السلطان ركن الدين استدعاه ليقتله وينتمي إلى صاحب الديار المصرية ويقتلكم عن آخركم فرحلوا معه وقصدوا أقصراً فلما وصلوها كتبوا إلى السلطان ركن الدين كتاباً يطلبون الحضور ليجتمع معهم على مصلحة أمرهم بها أبغا، فلما وقف على الكتاب خرج من قونية وأشار عليه خواصه أن لا يفعل فلم يصغ إلى رأيهم فلما بلغ البرواناة قدومه ركب ومعه المغل فلما التقوا ترجل البرواناة على عادته وقبل الأرض فقال له السلطان كيف أنت يا أبي؟ فقال يا خوند تقصد قتلي وتسأل عني فقال له حاشاك ثم نزل إلى الدار وشرب مع المغل فدك عليه البرواناة سما فأدرك ذلك فخرج وقاء ما شربه وركب فرسه وانصرف لينجو بنفسه فتبعه الصاحب فخر الدين خواجا وتاج الدين مبشر وغيرهما وأشاروا عليه بالرجوع ليقرأ عليه يغلغا فقال لهم إني أخاف من القتل فحلفوا له فرجع معهم وأنزلوه بخركاه نابشي بمفرده ولم يصحبه غير مملوك واحد وجميع من كان معه من الجند والمماليك وقوف على بعد ثم دخل عليه المغل وفاوضوه في الكلام وقالوا له لم عزمت على قتل البرواناة فقال لم يكن ذلك وإن كنت قلته ففي حال السكر فقالوا: إن أردت أن تنجو فقل لنا من كان اتفق معك على قتله؟ فذكر لهم جماعة فلما سماهم لهم قام أحد المغل ووضع في حلقه وتراً وخنقه به حتى مات، وكان حول الخركاه جماعة من المغل يصفقون ويلغطون لكي لا يسمع صوته وضربه شرف الدين بن الخطير(2/405)
فكسر يده ثم جعلوه في محفة وكتموا موته وأذاعوا أنه ضعيف ولم يزالوا يدخلون عليه في سيره بالمأكول والمشروب إلى أن وصلوا قونية فاظهروا موته وأنه وقع من على الفرس فمات وكان عمره يومئذ ثماني وعشرين سنة وأجلسوا ولده غياث الدين كيخسرو على التخت.
؟؟
السنة السابعة والستون وستمائة
دخلت والخليفة والملوك على القاعدة في السنة الخالية خلا السلطان ركن الدين قليح أرسلان صاحب الروم فإنه قتل وولى بعده ولده السلطان غياث الدين كيخسرو كما تقدم.
متجددات هذه السنة
استهلت والملك الظاهر بقلعة الجبل وفي يوم الخميس تاسع صفر جلس في الإيوان بالقلعة وأحضر القضاة والشهود وتقدم بتحليف الأمراء ومقدمي الحلقة لولده الملك السعيد فحلفوا ثم ركب الملك السعيد يوم الاثنين العشرين من الشهر بأبهة الملك في القلعة ومشى والده أمامه في القلعة وكتب له تقليد وقرئ على الناس بين يدي الملك الظاهر بحضور الصاحب بهاء الدين وأعيان الأمراء والمقدمين.
وفي يوم السبت ثالث عشر جمادى الآخرة خرج الملك الظاهر من قلعة الجبل متوجهاً إلى الشام ومعه الأمراء بأسرهم جرائد واستناب بالديار المصرية في خدمة ولده الأمير بدر الدين الخازندار ومن ذلك التاريخ علم الملك السعيد على التواقيع والمناشير وغيرها ووردت إليه(2/406)
كتب والده وكتب نواب بسائر المملكة.
ولما استقر الملك الظاهر بدمشق وصل إليه رسل من التتر مجد الدين دولة خان ابن جاقر وسيف الدين سيعد ترجمان وآخر من المغل ومعهم جماعة من أصحاب سيس فأنزلهم بالقعلة وأحضرهم من الغد وأدوا الرسالة ومضمونها: إن الملك أبغا لما خرج من الشرق تملك جميع العالم ومن خالفه قتل فأنت لو صعدت إلى السماء أو هبطت إلى الأرض ما تخلص منا فالمصلحة أن تجعل بيننا صلحاً وأنت مملوك أبعت في سيواس فكيف تشاقق ملوك الأرض فأجابهم من وقته بأنه في طلب جميع ما استولوا عليه من العراق والجزيرة والروم والشام وسفرهم.
ووصل إليه الأمير سيف الدين محمد بن الأمير مظفر الدين عثمان ابن ناصر الدين منكورس صاحب صهيون باستدعاء وقدم مفاتيح صهيون فخلع عليه وأبقاه على ما في يده.
وفي آخر شهر رجب خرج الملك الظاهر من دمشق فنزل خربة اللصوص فأقام بها أياماً ثم ركب ليلة الاثنين ثامن عشر شعبان ولم يشعر به أحد وتوجه إلى القاهرة على البريد بعد أن عرف الفارقاني أنه يغيب أياماً معلومة وقرر معه أنه يحضر الأطباء كل يوم ويستوصف منهم ما يعالج به متوعك يشكو تغير مزاجه ليوهم أن الملك الظاهر هو المتوعك فكان يعمل ما يصفونه ويدخل به إلى الدهليز ليوهم العسكر(2/407)
صحة ذلك ووصل إلى قلعة الجبل ليلة الخميس حادي عشري شعبان وأقام بها أربعة أيام ثم توجه ليلة الاثنين خامس عشري الشهر على البريد فوصل إلى العسكر تاسع عشرينه وكان غرضه كشف حال ولده وغيره.
وفي يوم الأحد سادس عشر شهر رمضان تسلم نواب الملك الظاهر قلعة بلا طنس وقلعة بكسراييل بن عز الدين أحمد بن مظفر الدين عثمان بن منكورس بن جيردكين صاحب صهيون وعوضه عنهما قرية تعرف بالحملة من أعمال شيزر كانت إقطاعاً لمظفر الدين في الدولة الناصرية وبعث إليهما نواباً وأموالاً وذخائر وسلاحاً.
وفي يوم الخميس العشرين من رمضان توجه الملك الظاهر إلى صفد فأقام بها يومين ثم شن الغارة على بلد صور وأخذ شيئاً كثيراً وسبب ذلك أنه لما كان نازلاً على خربة اللصوص رفعت إليه قصة من امرأة تذكر أن ولدها دخل صور فقبض عليه وقتل.
وفيها عيد الملك الظاهر عيد الفطر بالجابية وصلى به الشريف شمس الدين سنان بن عبد الوهاب الحسيني خطيب المدينة النبوية صلوات الله على ساكنها وسلامه وكان قد وصل رسولاً من جماز في السنة الخالية فحبسه الملك الظاهر بقلعة دمشق ثم أطلقه في شهر رمضان هذه السنة لرؤيا رآها وكتب له تواقيع بإجرائه على عادته في خطابته وقضائه وإدرار ما لمتولي المدينة بديار مصر والشام من الوقوف والرواتب(2/408)
ثم جهزه وجهز معه الطواشي جمال الدين محسن وبعث معه خمسمائة غرارة من الكرك يفرقها فيمن بالمدنية من الضعفاء والمجاورين ثم رحل الفوار وأقام به إلى خامس عشري شوال ثم توجه إلى الكرك فوصله في أوائل ذي القعدة ثم توجه في سادسه إلى الحجاز وصحبته بدر الدين الخازندار وصدر الدين سليمان الحنفي وفخر الدين بن لقمان وتاج الدين بن الأثير ونحو ثلاثمائة مملوك وجماعة من أعيان الحلقة فوصل المدينة الشريفة في العشر الأخر من الشهر فأقام بها ثلاثة أيام وكان جماز قد طرد مالكاً عن المدينة واستقل بإمارتها فلما قدم الملك الظاهر هرب من بين يديه فقال الملك الظاهر لو كان جماز يستحق القتل ما قتله لأنه في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تصدق في المدينة بصدقات كثيرة وخرج منها متوجهاً إلى مكة فوصلها ثامن ذي الحجة فخرج إليه أبو نمي وعمه إدريس صاحبا مكة وبذلا له الطاعة فخلع عليهما وسارا بين يديه إلى عرفات فوقف بها يوم الجمعة ثم سار إلى منى ثم دخل مكة وطاف الإفاضة وصعد الكعبة وغسلها بماء الورد وطيبها بيده ثم أقام يوم الاثنين ثالث عشر ذي الحجة ثم توجه إلى المدينة الشريفة فزار بها قبر النبي صلى الله عليه وسلم مرة ثانية ثم توجه إلى الكرك فوصله يوم الخميس تاسع عشري منه فصلى به الجمعة ثم توجه إلى دمشق فوصل يوم الأحد ثاني المحرم سنة ثمان وستين وستمائة سحراً فخرج الأمير جمال الدين النجيبي فصادفه في سوق الخيل فاجتمع به ثم سار(2/409)
إلى حلب فوصلها في سادس المحرم ثم خرج منها في عاشره وسار إلى حماة ثم إلى دمشق ثم إلى مصر فوصلها يوم الثلاثاء ثالث صفر وكان الركب قد خرج من مصر صحبة الأمير عز الدين الأفرم وفيه والدة الملك السعيد ووالدة الخازندار والصاحب زين الدين أحمد بن الصاحب فخر الدين والصاحب تاج الدين أخوه واتفق وصول الركب إلى البركة ووصول الملك الظاهر فدخلا يوم الأربعاء رابع صفر.
وفي هذه السنة تقدم الملك الظاهر بالحوطة على أملاك حلب بأسرها وأن لا يفرج عن شيء منها إلا بكتاب عتيق من الأيام الناصرية أو ما قبلها.
وفي سابع عشري ذي الحجة هبت ريح شديدة عاصف بالديار المصرية غرقت مراكب في النيل نحواً من مائتي مركب فهلك فيها خلق كثير وأمطرت قليوب مطراً غزيراً وكان بالشام من هذه الريح صقعة أحرقت الأشجار.
؟ ذكر ما تجدد في هذه السنة من حوادث بلاد الشمال والعجم
منه عصيان باكودر بن عم برق وقيل أخوه على أبغا وسبب ذلك أن برق بعث إلى عمه سراً يشير عليه أن يخرج من طاعة أبغا وينضم إلى منكوتمر فاطلع أبغا على ذلك فاستدعى المذكور فامتنع من الحضور وكان بقربه طائفة من عسكر أبغا فبعث طلبهم فأجابوه خوفاً منه فرحل(2/410)
بهم نحو بلاد منكوتمر فلما بلغوا أعمال تفليس أظهروا الخلف عليه وكانوا ثلاثة آلاف فارس وبعثوا إلى أبغا يعرفونه فجمع أكابر دولته واستشارهم فأشروا بإرسال عسكر يقفوا أثره فبعث أباطي ومعه ثلاثة آلاف فارس واستدعى البرواناة وصمغرا ومن معهما من العساكر فلما حضروا أردف بهم أباطي فلحقوه فكانت عدتهم ثلاثين ألفاً ودخلوا بلاد باباسركيس ملك الكرج وعضدهم بألفي فارس فلما التقى الجمعان كانت الكسرة على باكودر ونجا بنفسه في ثلاثمائة فارس وانحاز باقي عسكره إلى عسكر أبغا وأخذ باكودر نحو جبال الكرج وكان بها نبات مسموم فرعته دوابه فهلكت فلم يبق معه غير أربعة عشر فرساً فقصد أبغا مستسلماً فعفا عنه ثم قصد أبغا بلاد باباسركيس واستولى منها على قلاع كان قد تغلب عليها الكرج وأخذوها من الملك الأشرف بن العادل رحمه الله وهي موكرى وقلعة مامرون وقلعة أولبي وكان بها بعض الكررج وطائفة من المسلمين فجلا الكرج عنها وأبقى المسلمين وعاد عسكر أبغا إلى أردوه وصمغرا والبرواناة إلى بلادهم، ولما بلغ برق ما جرى على ابن عمه باكودر جمع وحشد وقصد تبشير أخا أبغا فكسره واستأصل رجاله ونهب حريمه فبعث تبشير إلى أخيه يستصرخه ويحرضه فعزم على قصده وبعث إلى أطراف بلاده لطلب عساكره وسيأتي ذكره في سنة ثمان وستين إن شاء الله تعالى.(2/411)
فصل
وفيها توفي إبراهيم بن عيسى بن يوسف أبو إسحاق المرادي الأندلسي. كان فاضلاً عالماً عابداً ورعاً وافر الديانة كثير الضبط والتحقيق لما يكتبه سمع وحدث وباشر إمامة المدرسة الباذرانية بدمشق مدة وحصل كتباً جيدة نفيسة ووقفها على من ينتفع بها من المسلمين وجعل نظرها إلى علاء الدين محمد بن عبد القادر بن عبد الخالق المعروف بابن الصائغ رحمه الله، وكانت وفاة الشيخ أبي إسحاق المذكور بالديار المصرية في ليلة الخامس من ذي الحجة ودفن من الغد بالقرافة الصغرى بالقرب من تربة الإمام الشافعي رضي الله عنه وهو في عشر السبعين رحمه الله.
إبراهيم بن ... أبو زهير المباحي كان يجني المباح من جبل لبنان وغيره ويتقوت به ولم يزل على ذلك إلى أن أقعد في آخر عمره فانقطع في مغارة ظاهر باب دمشق من مدينة بعلبك يتعبد بها إلى أن توفي إلى رحمة الله تعالى ليلة الثلاثاء رابع وعشرين جمادى الأولى وقد نيف على المائة سنة، وكان رجلاً صالحاً متعبداً سليم الصدر جداً ودفن بمغارته رحمه الله.
أحمد بن عبد الواحد بن مري بن عبد الواحد أبو العباس تقي الدين المقدسي الحوراني مولده في نصف صفر سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة سمع وحدث وكان من المشايخ الصلحاء العلماء الزهاد العباد الجامعين بين العلم والدين والفضيلة والزهد في الدنيا وأهلها وعنده جد واجتهاد(2/412)
وقوة نفس وإقدام وتجرد وانقطاع ومعرفة بطريق القوم وكانت وفاته في شهر رجب بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفن بها رحمه الله.
إيدمر بن عبد الله الأمير عز الدين الحلي الصالحي النجمي كان من أكابر أمراء الدولة وأعظمهم محلاً عند الملك الظاهر وكان نائب السلطنة عنه بالديار المصرية في حال غيبته عنها لوثوقه به واعتماده عليه وسكونه إليه وكان قليل الخبرة لكن رزق من السعادة ما مشى أموره وكان محظوظاً في الدينا له الأموال الجمة والمتاجر الكثيرة والأملاك الوافرة وأما ما خلف من الخيول والجمال والبرك والعدة فيقصر الوصف عنه، وكانت وفاته بقلعة دمشق في ويوم الخميس سابع شعبان ودفن بتربته بسفح قاسيون جوار مسجد الأمير جمال الدين موسى بن يغمور رحمه الله وقد نيف على الستين من العمر رحمه الله.
الحسن بن علي بن أبي نصر ابن النحاس أبو البركات شهاب الدين الحلبي المعروف بابن عمرون منسوب إلى جهة الأم التاجر المشهور كانت له نعمة ضخمة ومتاجر كثيرة وأموال عظيمة وحرمته وافرة ومكانته عند الملك الناصر صلاح الدين يوسف وسلفه وأكابر أمراء الدولة عظيمة ومنزلته لديهم رفيعة، ولما ملك الملك الناصر دمشق كان المذكور إذا قدم عليه بالغ في إكرامه وتلقيه وإقامة حرمته وإنزاله في أجل الأماكن وترتيب الإقامة له مدة مقامه وسائر أرباب الدولة يعاملونه بما يناسب ذلك ولما استولى التتار على حلب سنة ثمان وخمسين(2/413)
لم يتعرضوا لداره وما يجاورها من الدرب جملة كافية كأنه ضمن لهم مبلغاً كثيراً على أن يحموها من النهب ففعلوا وآوى إليها والي دربه من أهله حلب وغيرهم ومن الأموال ما لا يحصى كثيرة فشملت السلامة لذلك جميعه وقام لهم بما كان التزمه من صلب ماله ولم يستعن على ذلك بما لأحد ممن آوى إليه فكانت هذه مكرمة له وتمزق معظم أمواله وخربت أملاكه وبقي معه اليسير بالنسبة إلى أصل ماله فتوجه به إلى الديار المصرية في أوائل الدولة الظاهرية فلزمه مغرم عظيم للسلطان أتى على قطعة وافرة مما تبقى معه واستوطن ثغر الإسكندرية إلى أن توفي إلى رحمة الله تعالى بالإسكندرية في بوم الجمعة ثالث وعشرين شعبان ودفن هناك رحمه الله وقد نيف على الثمانين سنة بقريب ثلاث سنين وكان عنده رياسة وسعة صدر وكرم طباع يسمح ما تشح أنفس التجار ببعضه إطلاقاً وقرضاً وأكابر الحلبيين يعرفون رئاسته وتقدمه لا ينكرون ذلك، وأبو نصر المذكور هو فيما أظن محمد بن الحسين بن علي ابن النحاس الحلبي كاتب تاج الملوك محمود بن صالح بن مرداس وهو صاحب المكاتبة إلى سديد الملك بن منقذ صاحب شيزر.
وشرح الحال في ذلك أن سديد الملك أبا الحسن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني كان يتردد إلى حلب قبل تملكه شيزر وصاحب حلب يومئذ محمود المذكور فجرى أمر خاف سديد الملك على نفسه منه فخرج من حلب إلى طرابلس الشام وصاحبها يوم ذاك جلال الملك بن(2/414)
عمار فأقام عنده فتقدم محمود بن صالح إلى كاتبه أبي نصر محمد المذكور أن يكتب إلى سديد الملك كتاباً يشوقه ويستعطفه ويستدعيه إليه ففهم الكاتب أنه يقصد له شراً وكان صديقاً لسديد الملك فكتب الكتاب كما أمر إلى أن بلغ إلى أن شاء الله تعالى فشدد النون وفتحها فلما وصل الكتاب إلى سديد الملك عرضه على ابن عمار ومن بمجلسه من خواصه فاستحسنوا عبارة الكتاب واستعظموا ما فيه من رغبة محمود فيه وإيثاره لقربه فقال سديد الملك إني أرى في الكتاب ما لا ترون ثم أجابه عن الكتاب بما اقتضاه الحال وكتب في جملة الكتاب أنا الخادم المقر بالأنعام وكسر الهمزة من أنا وشدد النون فلما وصل الكتاب إلى محمود ووقف عليه الكاتب سر بما في هذا وقال لأصدقائه قد علمت أن الذي كتبته لا يخفى على سديد الملك وقد أجاب بما طيب نفسي وكان الكاتب قد قصد قول الله تعالى: " إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك " فأجاب سديد الملك بقوله تعالى: " إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها " فكانت هذه معدودة من تيقظ الكاتب وفهمه تيقظ سديد الملك ابن منقذ أيضاً وإفراط ذكائه وفطنته وكلاهما غاية في ذلك وابن منقذ أشد فطنة في هذا الموطن والله أعلم.
سليمان بن داود بن موسك أبو الربيع الروادي الهذباني أسد الدين ابن الأمير عماد الدين بن الأمير عز الدين من بيت الإمرة والتقدم والاختصاص بالملوك كان والده عماد الدين أخص الناس بالملك الأشرف ابن العادل وأظن بينهما قرابة من جهة النساء وجده الأمير عز الدين(2/415)
موسك كان من أكابر أمراء صلاح الدين وذوي المكانة عنده وله به اختصاص عظيم وقرب كثير موصوف بالكرم والفطنة أما كرمه فمشهور لم يخيب مؤمله بل ينوله مقصوده بما له وجاهة، وأما فطنته فحكى لي عنه أن ركن الدين محمد الوهراني المشهور كان قدم الديار المصرية في الأيام الصلاحية وتعرض للأمير عز الدين مسترفداً له فأمر له بشيء لم يرضه فحضر مجلس الأمير عز الدين أحفل ما يكون وقال يا مولانا قد احتجت أن أحلق رأسي في هذه الساعة واشتهى أن تأمر بعض الطشت دارية أن يحلقه بحضرتك فأمر بذلك فلما حضر الحلاق فهم الأمير عز الدين ما أراد بذلك فقال لبعض مماليكه أعطه مائة دينار وقال له يا ركن الدين أحلق بها رأسك غير هنا فأخذها وانصرف وهو شاكر فقال بضع الحاضرين للأمير عز الدين في ذلك فقال أراد أن الحلاق إذا حلق يقول له يا مهتار موسك نجس فيشتمنا في وجوهنا بحضوركم فافتدينا منه بهذه الدنانير فعرف بذكائه مراد الوهراني، وكان أسد الدين صاحب هذه الترجمة عنده فضيلة وله يد جيدة في النظم وترك الخدم وتزهد ولازم مجلس العلماء ولبس الخشن من الثياب وكان له نعمة عظيمة ورثها من أبيه فأذهب معظمها ولم يبق له إلا صبابة يسيرة تقوم بكفايته يقتنع بذلك إلى حيث توفي إلى رحمة الله تعالى بدمشق في يوم الثلاثاء مستهل جمادى الأولى من هذه السنة، ودفن بسفح قاسيون ومولده بالقدس(2/416)
الشريف في حدود سنة إحدى وستمائة أو ستمائة تقريباً رحمه الله ومن شعره:
ما الحب إلا لوعة وغرام ... فحذار أن يثنيك عنه ملام
الحب للعشاق نار حرها ... برد على أكبادهم وسلام
تلتذ فيه جفونهم بسهادها ... وجسومهم إذا شفها الأسقام
ولهم مذاهب في الغرام وملة ... أنا في شريعتها الغداة إمام
ولهم وللأحباب في لحظاتهم ... خوف الوشاة رسائل وكلام
لطفت إشارتها ودقت في الهوى ... معنى فحارت دونها الأفهام
وتحجبت أنوارها عن غيرهم ... وجلت لهم أسرارها الأوهام
ومنها:
فأليك عذلي فإن مسامعي ... ما للملام بطرقها إلمام
أيروم سلواني الوشاة بنصحهم ... كلا وإن قعدوا لذاك وقاموا
أننا من يرى حب الحسان حياته ... فألام في حب الحياة ألام
عزى إذا كان الحبيب يذلني ... وتلذذي في الحب حين أضام
وألذ ما تلقى جفوني إنها ... تمسي لنار الشوق ليس تنام
كلفي بمن حمل السلاح جوارحاً ... فالقد رمح والجفون حسام
بدر ولكن لا يعاب بنقصه ... شمس لها كللل النشور غمام
ومنها:
وإذا نظرت إلى بهاء جماله ... شاهدت منه البدر وهو تمام
يفتر عن عطر لواضح دره ... برق لإلهاب الغليل بسام(2/417)
يحوي رضاباً كالسلاف مزاجها الريحان ... والنسرين والنمام
وفيها:
متململ يرعى النجوم وتنطوي ... أضلاعه الحرى وهن ضرام
عبد المجيد بن أبي الفرج بن محمد أبو محمد مجد الدين الروذراوري كان إماماً عالماً فاضلاً مفتناً حسن الشكل والملبس مليح العبارة فصيحاً عارفاً بأشعار العرب يحفظ من ذلك ما لا يحصى كثرة وخطه في غاية الجودة والصحة والحسن، وكان يديم تلاوة القرآن العزيز ودرس بالمدرسة الظاهرية ظاهر دمشق وبالمدرسة الأكزية وغيرها وكان وافر الفضيلة ولم يكن حظه من المناصب على مقدار فضيلته وسيره الملك الظاهر ركن الدين رحمه الله رسولاً إلى بركة ملك التتر فعرض له في الطريق من المرض ما منعه من التوجه فعاد بعد أن قطع مسافة عظيمة ولم يكن عقله المعاشي بذاك، وكانت وفاته في صفر بدمشق رحمه الله وهو في عشر السبعين وله نظم جيد لكنه منحط عن فضيلته فمن ذلك:
أهوى العقود لأنهن تألفا ... يحكين در كلامك المنظوما
وأذم أرمد لا يعد لعينه ... كحلاً تراب جنابك الملثوما
وأعد أمر المكرمات مشتتا ... إن لم أجده بسعيه ملموما
وإذا أجلت الفكر في أخلاقه ... لم تلق إلا روضة ونسيما
وقال:
نسيم الروض يشهبه أريجا ... إذا ما فاح في أعلى الروابي(2/418)
إذا ما ديمة هطلت علينا ... ظننا جود كفك في السحاب
وقال:
ما عشت لا غيث السماح بمقلع ... عنا ولا روض النجاح مصوح
تهمى فأنجاد الرجاء عشيبة ... منه وأغوار الأماني طفح
وقال يهجو العز الضرير:
أعمى البصيرة والبصر ... ضل السبيل وقد كفر
ذم الأفاضل ضلة ... كالكلب إذا نبح القمر
فليعلمن إذا فغر ... أني سألقمه حجر
وكان العز الضرير قد هجا الشيخ مجد الدين بالبيتين المذكورين في ترجمته.
علي بن أفسيس بن أبي الفتح بن إبراهيم أبو الحسن محي الدين الساوردي الأصل البعلبكي المولد والمنشاء الدمشقي الدار والوفاة كان صدراً رئيساً عاقلاً منفرداً فيما يعانيه من الحشمة والرئاسة وحسن الملبس والتأنق في المسكن والمأكل والمركب وغير ذلك وولي نظر الزكاة بدمشق مدة زمانية إلى حين وفاته وكان مشكور السيرة محبوباً إلى التجار تجلب إليه الأشياء المستظرفة من البلاد الشاسعة وله الحرمة الوافرة والكلمة المسموعة وكان كثير الصدقة والتلاوة للقرآن الكريم في كثير من الأوقات وعنده فضيلة وكلمة لينة وخلقه حسن وتوفي في ليلة الجمعة تاسع عشر ربيع الآخر بدمشق ودفن من الغد بجبل(2/419)
قاسيون رحمه الله وقد جاوز ستين سنة من العمر، حدثني بعض الأعيان ممن كان يصحبه أنه وصى الدلالين على مشترى جارية تعرف صناعة الغناء فحضر إليه بعضهم وأخبره أن بحضور شخص من بغداد وهو من الزام بن كر ومعه جاريتين على الصفة المطلوبة فقال له أحضرهم فأحضر جارية واحدة فرآها وغنت فأعجبه غناؤها وهي لابسة بغلطاق طرح ثم سيرها وطلب الأخرى فحضرت وعليها ذلك البغلطاق بعينه فجعل يتأمله وسألها عنه فذكرت أن ليس لها سواه وأن أستاذهما يحبهما وإنما الضرورة حملته على عرضهما للبيع فسأل عن منزله وأخذ معه ألف درهم وعشر قطع قماش وتوجه بنفسه إلى منزل الرجل فسلم عليه وأعطاه ذلك فكسا الجواري واستغنى عن بيعهن ولم يشتر منه محي الدين رحمه الله شيئاً.
علي بن وهب بن مطيع بن أبي الطاعة أبو الحسن مجد الدين العشيري المنفلوطي الأصل والمولد القوصي الدار والوفاة المالكي المذهب مولده في شهر رمضان سنة إحدى وثمانين وخمسمائة تفقه على غير واحد منهم الحافظ أبو الحسن علي بن المفضل المقدسي وصحبه مدة سمع منه وحدث ودرس وأفتى وصنف وانتفع به الناس وكان أحد الأئمة العلماء جامعاً لفنون من العلم معروفاً بالصلاح والدين معظماً عند الخاصة والعامة مطرحاً للتكلف كثير السعي في قضاء حوائج الناس على سمت(2/420)
السلف الصلاح وكانت وفاته في ثالث عشر المحرم رحمه الله.
غازي بن حسن بن.... أبو الحسن التركماني كان رجلاً متعبداً كثير الصيام منقطعاً في زاويته بقرية دورس ظاهر بعلبك ويحضر يوم الجمعة إلى بعلبك لشهود صلاة الجمعة بجامع بعلبك ويعود إلى زاويته، وكان سليم الصدر حسن الملقى وزعم أنه قد نيف على مائة سنة من العمر وكانت وفاته بزاويته المذكورة في نهار الأحد خامس وعشرين ذي الحجة ودفن بقرية دورس رحمه الله.
محمد بن عمر بن حسن بن علي بن محمد الخميل بن فرج بن خلف ابن قومس بن مزلال بن ملال بن أحمد بن بدر بن دحية بن خليفة الكلبي أبو الطاهر شرف الدين مولده في العشر الوسط من شهر رمضان سنة عشر وستمائة بالقاهرة سمع من أبيه الحافظ أبي الخطاب عمر بن دحية وغيره وتولى مشيخة جار الحديث الكاملية بالقاهرة مدة وحدث وكان فاضلاً وتوفي في الخامس والعشرين من شهر رمضان بالقاهرة دفن بالقرافة رحمه الله، وهذه النسبة نقلت من خط والده رحمه الله وذكر قاضي القضاة شمس الدين رحمه الله والده أبا الخطاب وساق نسبه لكنه قال فلان بن بدر بن أحمد بن دحية قال وكان يذكر أن أمه أمة الرحيم(2/421)
بنت أبي عبد الله بن أبي البسام موسى بن عبد الله بن الحسين بن جعفر ابن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ولهذا كان يكتب بخطه ذو النسبين دحية والحسين رضي الله عنهما كان أبو الخطاب المذكور من أعيان العلماء ومشاهيرهم متقناً لعلم الحديث وما يتعلق به عارفاً النحو واللغة وأيام العرب وأشعارها، اشتغل بطلب الحديث في أكثر بلاد الأندلس الإسلامية ولقي بها علماءها ثم رحل إلى بر العدوة ودخل مراكش واجتمع بفضلائها ثم ارتحل إلى إفريقية ومنها إلى الديار المصرية ثم إلى الشام والشرق والعراق ودخل عراق العجم وخراسان ومازندران وإربل وغيرها ومولده مستها ذي القعدة سنة أربع وأربعين وخمسمائة وتوفي يوم الثلاثاء الرابع عشر من ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين وستمائة بالقاهرة ودفن بسفح المقطم رحمه الله واختلف في سنة مولده أما الشهر فلا خلاف فيه وكان أخوه أبو عمرو عثمان بن الحسن أسن منه وكان حافظاً للغة العرب قيماً بها وعزل الملك الكامل أبا الخطاب عن دار الحديث التي أنشأها بالقاهرة ورتب أخاه المذكور مكانه فلم يزل بها إلى أن توفي يوم الثلاثاء ثالث عشر جمادى الأولى سنة أربع وثلاثين وستمائة بالقاهرة ودفن بسفح المقطم، وله رسائل استعمل فيها حوشي اللغة.(2/422)
ووقع لي رسالة بخط منشئها لا أعلم هل هو أبو الخطاب أو أبو عمر نسختها: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً: المملوك الداعي ابن دحية كان رسول الله عليه وسلم إذا جاءه أمر يسر به وسربه خر لله ساجداً رواه الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني والعتكي بعده في حديث الشفاعة الصحيح قال فأخر لله ساجداً قدر جمعة لم يخرج مسلم ولا البخاري هذه الزيادة وهي زيادة صحيحة وفيها الرد على أبي حنيفة ومالك في أنهما لا يجيزان سجود الشكر وما أدري لأي شيء قالوا ذلك والحديث مشهور رواه الترمذي والسجستاني والنسائي وجماعة غيرهم وأما زيادة حديث الشفاعة قدر جمعة فلم يروها سوى أحمد بن حنبل والعتكي وقد وافقنا السنة وفعلنا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وشكرنا الله شكراً رغداً كما قال تعالى: " فكلا منها رغداً حيث شئتما " أي دائماً لا ينقطع وذلك لما اتصل لنا من عقابيل ما كان ألم الغطريف وهو السيد العظيم السلطان الكامل الكبار الهميسع الصنديد الصنتيت الجلواخ العيذاق الهلقام اللهموم والجحجاح الوحواح وواجب علي الأخرواط في منسبان الدعاء والشكر لله عز وجل فيما أزل إلى الناس أجمعين أكتعين أبصعين، بما مره عليه من الأطرغشاش والأبرعشاش والإبلال والقشقشة فأصبح صمجمجاً عنطنطا عنسطا صملاً عرداً حبعثتا سبعطريا ما به ظبظاب(2/423)
ولا قلبه كأنما قد سيره قد مصح الله عنه العقابي وعرطن عنه العصاويد ومذ بلغتني شكاته لم يزل الدعاء له هجيراي وقد كنت فيما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله عنه وزاد الترمذي حتى الهم يهمه إلا كفر الله عنه، وفي الموطأ وما يدريك لعل الله ابتلاه بمرض يكفر عنه من سيئاته وفي الحديث الغريب ما من مسلم ينشط من مرضه إلا كان كيوم ولدته أمه عطلاً من الذنوب:
أحمد رباً ساقني اليكا ... وأنا أمشي الدألا اليكا
وكنا في هذه المدة ننظر في جنح الكافر الزبرقان فنظنه حواري وننظر العتم فنظن ذلك زغنجا وما أدري لأي شيء أنكر أبو عبيد لفظه الزعيج وقال ما أظنه من كلام العرب وقد حكاه الفراء عن العرب وهو ثقة فقال ثعلب عن يونس النحوي عن أبي عبيدة عن العرب الزغنج الزيتون والزغنج الحسن من كل شيء وقد أصاب الفراء رحمه الله في ذلك: وكنت عبداً للأنام أخضعا والأخضع الذليل، والأنام البشر وكنت لا أقدر على النوم أجأر إلى الله بالدعاء في كل توة من الليل حتى كان بالأمس جاء الفرج بالرش والهنيدة وافى ذلك يوم الميعاد والناس قد إذ لعبوا من كل أوب وإتلأبوا من كل سقع قد عطل بهم النتاج والباج لم يفرنقعوا عني فسدلت علي السب السابري ولذت(2/424)
الشوذة وسدلت السدوسي وقعدت القرفصاء وأهبنقعت وأخزأللت وارجحننت وأكمخت وتجهضمت ورفعت عقيرتي بالدعاء بوجأة صهصلق وللتأدي بالتأمين عجيج فللقد أغنيت وأقنيت وجعلتني من الأحرار وكنت مملكاً وقنجلاً وكل أحد من البرشاء جاء بمتنخة يضربني بها لحقه علي، وفي الحديث الغريب ذكر أبو عبيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحب الحق اليد واللسان فكففت أيديهم عني وقطعت ألسنتهم دوني بنعمتك المثعنجرة الكنهور المنفيهقة المنقور قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المصنفات جمع سوى الموطأ: من فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا ويروى من نفس فرج الله أو نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه وزاد الدارقطني فرج الله عنه سبعين كربة من كرب يوم القيامة، وقال صلى الله عليه وسلم في الصحيح " من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته " ويروى في الصحيح إن الله يحب إعانة ويروى إغاثة اللهفان الملهوف، وقال في حديث أبي ذر وإن تفرغ في دلوك من دلو أخيك أو صاحبك وأن تلقي أخاك بوجه طلق فسرحتني من وثاقي ونشطتني من عقال الدين وفعلت ما أمرك الله تعالى به وهو قوله سبحانه(2/425)
وتعالى: " وتعاونوا على البر والتقوى " قال ابن عمر وسالم وعطاء والشعبي أن ذلك واجب وسائر العلماء يقولون إن ذلك ليس بواجب إنما هو مندوب إليه فأخذت بقولهم ووفقت، وفي الطبراني عن فاطمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن في المال لحقا سوى الزكاة وهذا صحيح بهذا الطريق والترمذي ضعفه من طريق أبي حمزة الأعور واسمه ميمون وزدت أن زينتني بالريايش الشف قال الله تعالى: " وريشاً ولباس التقوى " قال اللغويون الثقات الريش المال والريش الخصب قال الشاعر:
ما لكم الليلة من إنفاش ... ولا دثار لا ولا رياش
والريش ما ظهر من اللباس يقال أعطاني رحلاً بريشه أي بجميع ما فيه وقال الفراء الريش والرياش بمعنى واحد مثل الدبغ والدباغ وقد جعلت هاتيك الخلعة زينة لكل مسجد أناجي الله فيها وقد كنت لا تجديد لي إلا بالصابون، وفي الحديث الحسن خرجه الشيباني والترمذي من كسا مسلماً على عرى كساه الله من خضرة الجنة ويروى من خضر الجنة، وأنت فعلت ذلك من غير واسطة ولا تنبيه إلا صدق فراسة، وفي الحديث: اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله وعن قريب يجازيك الله بالخير الغطمطيط ويمكن لك في الأرض وعن قريب يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق بالرغبة والرهبة لقوله سبحانه: " للذين أحسنوا الحسنى وزيادة " الحسنى فعلن من أسماء الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله تعالى: والسلام الكريم النفاح الأزج على حضرة الأملوك(2/426)
السرندي ورحمة الله وبركاته.
وقد تكلم الناس في أبي الخطاب ونسبوه إلى التزيد في كلامه مع ما كان يعانيه من الوقوع في بعض العلماء وكان الملك الكامل مقبلاً عليه فلما تبين له ذلك منه أعرض عنه وكان قدم مرة دمشق وسأل الصاحب صفي الدين بن شكر رحمه الله أن يجمع بينه وبين الشيخ تاج الدين الكندي رحمه الله فاجتمعا وتناظرا وجرى بينهما البحث في قول العرب لقيته من وراءَ وراءَ فقال ابن دحية لا يقال بالرفع بل بالنصب فقال تاج الدين أخطأت فسفه على الشيخ تاج الدين فقال له يا مدعي أنت تكتب وكتب ذو النسبين بين دحية والحسين ودحية بإجماع المحدثين ما أعقب فقد كذبت في نسبك، وحكى لي أنه قال للشيخ تاج الدين في محاورته أنا عندي كتب تسوي بغداد فقال الشيخ تاج الدين هذا محال ما في الدنيا كتب تسوي بغداد وإنما أنا عندي كتب جلودها تساوي رقبتك فخجل واستحسن الحاضرون هذا الجواب من الكندي وحكى أنه كان يدعي أن له بالمغرب أموالاً عظيمة وأملاكاً كثيرة وغير ذلك من عظم القدر والجاه والمال وذكر ذلك للملك الكامل فاستبعده فلما قدم أخوه أبو عمرو عثمان المذكور سأله الملك الكامل عن ذلك فذكر(2/427)
أنهم قوم فقراء لا يوبه لهم في تلك البلاد وليس لهم بها ذكر فاعجب الملك الكامل قوله ونبل في عينه وسقط أبو الخطاب من عينه وتحقق تزيده في الحديث والله أعلم.
محمد بن محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن عربي أبو عبد الله عماد الدين كان فاضلاً سمع الكثير وسمع معناً صحيح مسلم على الشيخ زين الدين أحمد بن عبد الدائم المقدسي رحمه الله وتوفي بدمشق في شهر ربيع الأول ودفن عند والده بسفح قاسيون وقد نيف على الخمسين من العمر رحمه الله.
محمد بن وثاب بن رافع أبو عبد الله تاج الدين النخيلي الحنفي كان فقيهاً عالماً فاضلاً حسن الشكل درس وافتن وناب في الحكم بدمشق وكان سديداً في أحكامه مشكور السيرة وتوفي بدمشق في شهر ربيع الآخر وهو في عشر السبعين رحمه الله.
مظفر بن عبد الكريم بن نجم بن عبد الوهاب بن عبد الواحد بن محمد الصافي بن علي بن أحمد بن إبراهيم بن يعيش بن عبد العزيز بن سعد بن عبادة أبو منصور تاج الدين الأنصاري الخزرجي الدمشقي الحنبلي مولده في السابع والعشرين من ربيع الأول سنة تسع وثماني وخمسمائة بدمشق سمع من أبي طاهر الخشوعي وعمر بن طبرزد وحنبل وغيرهم وحدث وبيته معروف بالعلم والحديث وكانت وفاته بدمشق في ثالث صفر فجأة ودفن بجبل قاسيون رحمه الله.(2/428)
أبو الفضل بن ... الصحراوي الشاغوري كان من الصلحاء الأخيار العارفين ملازماً للخير والعبادة وكان كثيراً ما يرى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وقيل أنه كان يجتمع بالخضر عليه السلام وكان منقطعاً عن أرباب الدنيا مقيماً في منزله بالشاغور ظاهر دمشق اجتمع بجماعة من أرباب الطريق وأخذ عنهم، زرته في منزله وكانت وفاته في جمادى الأولى بدمشق رحمه الله ونفعنا ببركته.
أبو محمد بن سلطان بن محمود كان رجلاً صالحاً عابداً منقطعاً عن أرباب الدنيا عاكفاً عن العبادة وإشغال الناس بالقرآن العزيز لا يتكلم فيما لا يعنيه ولا يذكر أحداً إلا بخير وكان عالماً بما يحتاج إليه من أمر دينه سمع البخاري من ابن الزبيدي وسمع من الشيخ بهاء الدين أبي محمد عبد الرحمن المقدسي وغيره ولازم صحبة الشيخ إبراهيم بن جوهر البطائحي رحمه الله وانتفع به وصحب والده أيضاً وكان من أصحاب والدي رحمه الله قرأ عليه وسمع منه وكان والدي يحبه ويكرمه لصلاحه ودينه ولأجل والده سلطان رحمه الله فإنه كان من الأولياء الأفراد، وكانت وفاة الشيخ أبي محمد المذكور ببعلبك في ليلة الخميس العشرين من شهر رمضان من هذه السنة ودفن بتربة الشيخ عبد الله اليونيني رحمه الله وهو في عشر السبعين وكان متقللاً من الدنيا قانعاً منها بالكفاف سالكاً إنموذج السلف الصالح وتوفي(2/429)
ولم يشب رأسه ولحيته إلا شطرت يسيرة جداً مع كونه نيف على سبعين سنة.
السنة الثامنة والستون وستمائة
دخلت والخليفة والملوك على ما كانوا عليه والملك الظاهر بالصنمين عائداً من الحجاز الشريف.
متجددات هذه السنة
قد ذكرنا عود الملك الظاهر من الحجاز في السنة الخالية لسِاق الحديث بعضه بعضاً فأغنى عن إعادته.
وفي يوم الجمعة ثالث عشر صفر توجه الملك الظاهر إلى الإسكندرية ومعه ولده الملك السعيد وسائر الأمراء فتصيدوا أياماً وعاد إلى القلعة يوم الثلاثاء ثامن ربيع الأول وخلع في هذه السفرة على الأمراء وفرق فيهم الخيل والحوائص والسيوف والذهب والدراهم والقماش.
وفي يوم الاثنين حادي عشري ربيع الأول توجه إلى الشام في طائفة يسيرة من أمرائه وخواصه ورتب لهم الإقامات والعليق لدوابهم فوصل إلى دمشق يوم الثلاثاء سابع عشر ربيع الآخر ولقي الناس في الطريق مشقة شديدة من البرد وخيم على الزنبقية وبلغه أن ابن أخت زيتون خرج من عكا في عسكر ليقصد فرقة منهم المقيمين بحنسين وفرقة منهم المقيمين بصفد من عسكر المسلمين فبعث الملك الظاهر إلى العسكرين عرفهما ثم سار فالتقى بهما في مكان عينه يوم الثلاثاء(2/430)
حادي عشري الشهر وسار إلى عكا فصادف ابن أخت زيتون قد خرج فالتقى به فكسره واستأسره وجماعة من أصحابه وقتل منهم خلقاً وذلك في يوم الأربعاء ثاني وعشرين الشهر، ثم قصد الغارة على المرقب فوجد من الأمطار والثلوج ما منعه فرجع إلى حمص وأقام بها نحو عشرين يوماً ثم خرج إلى تحت حصن الأكراد وأقام يركب كل يوم ويعود من غير قتال إلى الثامن والعشرين من شهر رجب فبلغه أن مراكب الفرنج دخلت ميناء الإسكندرية وأخذت منه مركبين للمسلمين فرحل من فوره إلى الديار المصرية فوصلها ثاني عشر شعبان.
وفيها قدم على الملك الظاهر صارم الدين مبارك بن الرضى مقدم الإسماعيلية بهدية وشفع فيه صاحب حماة فكتب له منشوراً بالحصون كلها ليكون نائباً عنه بها وكتب له بأملاكه التي بالشام جميعها على أن يكون مصباث وبلدها خاصاً للملك الظاهر وبعث معه نائباً فيها عز الدين العديمي فلما وصلا إليها عصى أهلها وقالوا لا نسلمها فإنه كاتب الاسبتار ونحن نسلمها لنائب الملك الظاهر فقال لهم عز الدين أنا نائب السلطان فقالوا له تأتينا من جهة الباب الشرقي فيما جاءهم وفتحوه هجمه الصارم وقتل منهم خلقاً وتسلم هو وعز الدين القلعة ثم غلب الصارم على البلد وأزال عنه حكم عز الدين فاتصل ذلك بالملك الظاهر واتفق إن ورد عليه نجم الدين حسن بن الشعراني وهو نازل على حصن الأكراد(2/431)
ومعه هدية سنية فقبلها وكتب له منشوراً بالقلاع التي كتب بها لصارم الدين وهي الكهف والخوابي والعليقة والرصافة والقدموس والمينقة والقليعة ونصف أملاك الشام من جبل السماق وقرر عليه يحمل كل سنة مائة وعشرين ألف درهم، ولما عاد الملك الظاهر إلى مصر وتحقق صارم الدين إقباله على نجم الدين أخرج عز الدين من مصباث فوصل إلى دمشق فسير الملك الظاهر الجمال معالي بن قدوس على خيل البريد ومعه ونجم الدين الكنجي إلى حماة فأخرجا صاحبها في عسكره ومعهم عز الدين العديمي وتوجهوا إلى مصباث فخرج منها الصارم وقصد العليقة فتسلموا مصباث في شهر رجب وحكم بها عز الدين واستخدم أجناداً ورجالة ولما اتصل بالملك الظاهر سلامة الصارم كتب إلى صاحب حماة يلومه وألزمه بإحضاره فتحيل عليه حتى نزل من العليقة فقبض عليه وحمله إلى الملك الظاهر فحبسه في برج من أبراج سور القاهرة في ذي القعدة.
وفيها عمرت القناطر على بحر ابن منحا وفي يوم الخميس رابع عشري شعبان فوض إلى الصاحب تاج الدين وزارة الصحبة على ما كان عليه والده فخر الدين.
وفي شعبان لعبت الشواني في نيل مصر وحضرها الملك السعيد في الحراقة ولما دخلت البر ازدحم الناس في مركب منها فغرق ثم سافروا في الشهر إلى دمياط ووافاهم من الإسكندرية أربعة أخرى وخرجوا إلى الغزاة جميعاً فوجدوا بطشة هائلة وبها شجعان حموها وعلقوا من(2/432)
مراكب المسلمين مركباً فقاسوا الجهد فأطلقوه وقتل منهم خمس وعشرون رجلاً ثم عادوا ولم يظفر بطائل.
وفي العشرين من شوال ورد البريد من الشام مخبراً أن الفرنج قاصدون البلاد والمقدم عليهم شرون أخو ريدا فرنس وربما كان محطهم عكا فتقدم إلى العسكر بالتجهز إلى الشام وورد الخبر من الإسكندرية بأن اثني عشر مركباً للفرنج عبروا على الإسكندرية ودخلوا ميناءها وأخذوا مركباً للتجار واستأصلوا ما فيه وأحرقوه ولم يجسر الوالي أن يخرج الشواني من الصناعة لغيبة رئيسها في مهم استدعاه الملك الظاهر بسببه ولما بلغ الملك الظاهر ذلك بعث فأمر الملك الظاهر بقتل الكلاب في الإسكندرية وأن لا يفتح أحد حانوتاً بعد المغرب ولا توقد نار في البلد ليلاً ثم تجهز وخرج نحو دمياط يوم الخميس خامس ذي القعدة في البحر.
وفي ذي الحجة أمر بعمل جسرين أحدهما من مصر إلى الجزيرة والآخر من الجزيرة إلى الجيزة على مراكب لتجوز العساكر عليها إلى الإسكندرية إن دهمها عدو وبقي منصوباً إلى أن تواترات الأخبار بقصدهم تونس ونزولهم عليها.
وفي المحرم قتل أبو العلاء إدريس بن عبد الله بن محمد بن يوسف صاحب مراكش في حرب كانت بينه وبين أبي مرين على مراكش(2/433)
والذي يرجعون إليه أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق بن حمامة وانقرضت دولة بني عبد المؤمن.
وفيها سير الدرابزين للحجرة الشريفة صلوات الله على ساكنها من الديار المصرية صحبة الشيخ مجد الدين عبد العزيز بن الخليلي فمرض وحصل له طرف فالج فتعلق بالحجرة الشريفة بعد أن تصدق بجميع ما معه وتشفع بالنبي صلى الله عليه وسلم فعوفي في المدينة وصحب الركب إلى مكة ناقته.
ذكر كسرة أبغا لبرق
قد تقدم القول بتسيير رسل تبشير إلى أبغا يستصرخ به من برق فلما وصلت الرسل جمع أبغا أمراء دولته واتفقوا أن يقصدوا برق فجمع عساكره ونزل بموغان فأكلت خيولهم الزرع خمسة عشر يوماً ثم ساروا فوصلوا أردول فأمر عساكره بإخفائه وكل من ذكر ذلك قتل ورحلوا وساروا مدة خمس وخمسين يوماً وخيولهم ترعى الزراعات ونزلوا حخحخان وبينهم وبين برق خمسة أيام فحملوا زادهم مطبوخاً لأن لا يشعلوا ناراً وعينوا من كل عشرة فارس يتقدموهم بنصف نهار يتحفظوا لهم الأخبار فكانت عدتهم خمسة آلاف فارس فساروا في واد بين جبلين وقتلوا من وجدوه في طريقهم إلى أن أشرفوا على يزك برق فكبسوه سحراً واستأصلوهم عن آخرهم فلما وصل إليهم أبغا فرح بذلك وعرفوه(2/434)
أنه بقي لهم يوم ونصف ويصلون إلى عسكر برق فساروا ليلاً فلما أصبحوا لم يشعروا إلا وعسكر برق قدامهم وكان في طرفه مرغول مقدم ثلاثة آلاف فارس فكسر وهرب ناجياً بنفسه واتصل ببرق فأخبره وسار أبغا فنزل على مدينة هرى فأقاموا اثني عشر يوماً يطعمون خيولهم الزرع وهرب شخص من عسكر برق ووصل إلى أبغا وعرفه أن سبب هروبه أنه رأى في لوح الغنم أن أبغا يضرب مصافاً مع برق ويكسره فقال أبغا إن صح ذلك ملكتك قرية تعيش فيها أنت وعقبك وأقبل عليه إقبالاً عظيماً ولما كسر برق وفي له.
ذكر المصاف
لما بلغ برق رجوع أبغا طمع في لقائه وعبر النهر الأسود على الجسر والتقيا فخرج مرغول من عسكر برق بألف فارس وحمل في عسكر أبغا فكسر منه تقدير ثلاثة آلاف فارس ومكان مقدمهم شكتو بن ألكانوين وأرغون بن جرماغون وعبد الله النصراني وكان يصحب العساكر ومعه الكنائس والنواقيس فوقع فيه سهم قتله وجاء إلى أبغا من عسكره أباطي وتبشير بن هولاكو وقالا نحن نلقى عسكر برق فأذن لهما فالتقياه وكسراه كسرة عظيمة وما زالا في عسكره بالسيف إلى الجسر وعجزوا عن العبور لكثرة الزحام فرموا أنفسهم في البحر فغاض الماء لكثرة عددهم وكان كل من تخلص ينزل عن فرسه ويعرقبه(2/435)
على البر ويقصد الجبل هارباً ولحقهم عسكر أبغا بعد أن بعدوا عن الجسر بيوم فأما أبغا فنزل عن جحشران وأمر أن تكتب ورقة بعدة من عدم من عسكره فكانوا ثلاثمائة وسبعين فارساً ورجع عائداً إلى بلاده وكان يموت من عسكره في كل منزلة جماعة كثيرة وتدعق خيول كثيرة فعدم من الرجال والخيول ما لا يحصى كثرة.
فصل
وفيها توفي أحمد بن عبد الدائم بن نعمة بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أحمد بن بكير أبو العباس زين الدين المقدسي الحنبلي الناسخ بدمشق ودفن بسفح قاسيون ومولده سنة خمس وسبعين وخمسمائة بفندق الشيوخ من أرض نابلس سمع الكثير بدمشق من يحيى بن محمود الثقفي وأبي محمد عبد الرحمن بن علي وغيرهما وببغداد من أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي وأبي الفرج عبد المنعم بن عبد الوهاب ابن كليب وغيرهما وكتب الكثير بخطه من الكتب الكبار والأجزاء المنثورة وكان سريع الكتابة كتب الخرقي في ليلة وحدث بالكثير مدة وبقي حتى احتيج إلى ما عنده وتفرد بالرواية عن جماعة من شيوخه وكان فاضلاً متنبهاً وإليه انتهت الرحلة ببلده وسمعت عليه صحيح مسلم وغيره رحمه الله تعالى، وكانت وفاته في السابع من شهر رجب ورأيت بخط أخي رحمه الله أنه توفي يوم الاثنين تاسع شهر رجب(2/436)
والله أعلم وقال سمع من الحافظ عبد الغني رحمه الله وروى عن السلفي بالإجازة العامة وقال كتبت بإصبعي هاتين أكثر من ألفي مجلدة روى عنه الناس وألحق الأصاغر بالأكابر وكان ديناً فهماً يحفظ كثيراً ويرد في غالب الأوقات على من يقرأ عليه وسمع صحيح مسلم عن ابن صدقة الحراني بسماعه من الفراوي غير شيء يسير من أوله فإنه أجازه رحمه الله تعالى.
أحمد بن القاسم بن خليفة أبو العباس موفق الدين الخزرجي المعروف بابن أبي أصيبعة الحكيم الفاضل له مصنفات منها كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء توفي بضرخد في جمادى الأولى وقد نيف على سبعين سنة رحمه الله.
أيبك بن عبد الله الصالحي الأمير عز الدين المعروف بالزراد كان متولي قلعة دمشق وكان المذكور من المماليك الصالحية النجمية وحرمته وافرة في الدولة الظاهرية وسيرته جميلة وله مهابة وكانت وفاته يوم الثلاثاء ثالث ذي القعدة بقلعة دمشق المحروسة رحمه الله.
أيبك بن عبد الله الأمير عز الدين الظاهري النائب بحمص كانت عنده نهضة كبيرة وصرامة مفرطة موصوف بالعسف والظلم وكان آحاد المماليك الظاهرية فأمره الملك الظاهر وولاه حمص وأعمالها فضبط عمله وساسه ولم يزل على ذلك إلى أن توفي بحمص في صفر من هذه السنة وكان عنده تشيع وجور على الرعية فسر أهل ولايته(2/437)
بموته والراحة منه.
أيوب بن محمود بن نصر الله بن محمود بن كامل أبو الفرج البعلبكي الأصل كان من المعدلين بدمشق سمع من ابن اللتي وغيره ودخل بغداد وسمع بها من جماعة وحدث وكانت وفاته بصفد في العشر الأول من ربيع الآخر رحمه الله تعالى.
حسن بن محمد بن أحمد الصوفي العجمي الأصل الفارسي المعروف بالبرسي كان يتزيد في حديثه ويدعي كبر السن وأنه قد تعدى تسعين سنة فسأل هل أدرك القاضي الزنجاني الذي قتل ببعلبك فقال نعم وكان عمري عند قتله عشرين سنة أو ما يزيد عليه والزنجاني قتل سنة ثلاث وستين وخمسمائة وتوفي حسن المذكور ببعلبك ليلة الجمعة سابع وعشرين شهر رجب ودفن في منزله داخل باب دمشق من مدينة بعلبك.
صالح بن الحسين بن طلحة بن الحسين بن محمد بن الحسين أبو البقاء تقي الدين الهاشمي الجعفري الزينبي مولده سنة إحدى وثمانين وخمسمائة سمع وحدث وكان أحد الفضلاء العارفين بالأدب وغيره والرؤساء المذكورين بالفضل والنبل وتولى قضاء قوص مدة ونظرها أيضاً مدة أخرى وله خطب حسنة ونظم جيد وتصانيف عدة مفيدة وكانت وفاته بالقاهرة في مستهل ذي القعدة ودفن من الغد بسفح المقطم رحمه الله تعالى.
علي بن الحسن بن الفرج بن النعمان بن محبوب أبو الحسن تقي الدين(2/438)
المعري الأصل البعلبكي المولد والدار كان فقيهاً شافعي المذهب حسن العشرة كريم الأخلاق توفي بدمشق ليلة الجمعة رابع عشري ربيع الآخر ودفن بسفح قاسيون رحمه الله وقد ناهز الستين سنة من العمر.
علي بن أبي طالب بن محمد أبو الحسن علاء الدين الحسيني الموسوي كان شيخاً حسن الشكل من المعدلين بدمشق ومولده سنة ثمان وتسعين وخمسمائة سمع من الكندي وغيره وحدث وكانت وفاته بدمشق في الثامن والعشرين من ذي القعدة رحمه الله تعالى.
محسن بن عبد الله أبو الخير الطواشي الصالحي النجمي سمع الكثير من جماعة من أصحاب أبي طاهر السلفي وغيره وحصل الأصول وحدث وتقدم عند الملك الصالح نجم الدين أيوب رحمه الله وبعد موت الملك الصالح سافر إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدم على خدام الضريح النبوي صلوات الله وسلامه على ساكنه ورجع إلى الديار المصرية فتوفي بها في العشرين من شعبان رحمه الله.
محمد بن الحسن بن علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين أبو عبد الله الدمشقي الشافعي المعروف بالشمس بن عساكر مولده في سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة سمع الكثير وحدث وهو من بيت الحفظ والعلم والحديث وجده الحافظ أبو القاسم أحد حفاظ الشام رحمه الله وتوفي في ليلة السابع من صفر هذه السنة رحمه الله.
محمد بن علي بن محمد بن سليم أبو عبد الله فخر الدين الوزير بن الوزير(2/439)
المصري الشافعي سمع بمصر من أبي الحسن علي بن أبي عبد الله البغدادي وغيره وبدمشق من أبي العباس أحمد بن عبد الدائم وغيره وحدث فسمع منه جماعة وكان محباً لأهل الخير والصلاح مؤثراً لهم متفقداً لأحوالهم وعمر رباطاً حسناً بقرافة مصر الكبرى ورتب فيه جماعة من الفقراء وجعل لهم ما يقوم بهم ودرس في مدرسة والده بمصر مدة وكان كثير البر والصدقة وتوفي بمصر في الحادي والعشرين من شعبان ودفن من الغد بسفح المقطم رحمه الله تعالى.
يحيى بن محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن علي بن عبد العزيز بن علي بن الحسين بن محمد بن عبد الرحمن بن القاسم بن الوليد بن عبد الرحمن بن أبان بن أمير المؤمنين عثمان رضوان الله عليه بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف أبو الفضل محي الدين القرشي الأموي العثماني الدمشقي الشافعي الإمام العالم قاضي قضاة الشام ورئيس عصره، ولد بدمشق في ليلة الخامس والعشرين من شعبان سنة ست وتسعين وخمسمائة سمع من ابن طبرزد وحنبل وزيد الكندي وعبد الصمد بن الحرستاني وآخرين وحدث بدمشق ومصر وتوفي بمصر في صبيحة الرابع عشر من شهر رجب ودفن من يومه بسفح المقطم رحمه الله، وكان له عقيدة في الفقراء والصالحين يتلقى ما يحكى عنهم من الكرامات بالتصديق والقبول وصحب الشيخ محي الدين محمد ابن العربي رحمه الله وله فيه عقيدة تجاوز الوصف، وكان يحكي عنه أنه يفضل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه على أمير المؤمنين(2/440)
عثمان بن عفان رضي الله عنه مع كون عثمان رضي الله عنه جده فتوهمت أنه اقتدى بالشيخ محي الدين في ذلك فإنه كان يرى هذا على ما حكى عنه.
ثم جرى بيني وبين الأمير عز الدين محمد بن أبي الهيجاء رحمه الله الحديث في مثل ذلك فذكر ما معناه أن قاضي القضاة بهاء الدين يوسف ابن محي الدين المذكور حكى له أن والده أخبره أنه رأى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في المنام بجامع دمشق وهو مستند إلى عمود من عمد الجامع قال محي الدين فسلمت عليه فأعرض عني فقلت له يا أيمر المؤمنين أنا ابن عمك فقال صدقت ولكنكم ما اتقيتم أو ما هذا معناه فاستيقظ قاضي القضاة محي الدين رحمه الله وتلبس بالمغالاة في حب علي رضوان الله عليه وتفضيله ونظم قصيدة طويلة مدحه بها منها:
أدين بما دان الوصي ولا أرى ... سواه وإن كانت أمية محتدي
ولو شهدت صفين خيلي لأعذرت ... وساء بني حرب هنالك مشهدي
لكنت أسن البيض عنهم مواضيا ... وأروى أرماحي ولما تقصد
وأجلبها خيلاً ورجلاً عليهم ... وأمنعهم نيل الخلافة باليد
يعقوب بن عبد الرفيع بن زيد بن مالك بن موسى بن عبد الله ابن فضالة بن علي بن عثمان بن محمد بن الحسن بن عيسى بن ثابت بن عبد الله بن نافع بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام أبو يوسف(2/441)
القرشي الأسدي الزبيري المصري الصاحب الوزير زين الدين مولده في سنة ست وثمانين وخمسمائة وقيل غير ذلك وتوفي ليلة الأربعاء المسفرة عن رابع عشر ربيع الآخر هذه السنة ثمان وستين وستمائة بالديار المصرية كان إماماً عالماً فاضلاً ممدحاً كبير الرئاسة وزر للملك المظفر قطز رحمه الله ثم وزر للملك الظاهر ركن الدين رحمه الله في أوائل دولته مدة ثم صرفه بالصاحب بهاء الدين رحمه الله ولزم بيته إلى أن أدركته منيته في التاريخ المذكور وله نظم جيد فمنه:
لامني والعذر مشتهر ... عاذل ما عنده خبر
في هوى من حسن صورته ... سجدت طوعاً له الصور
رشا ما قال واصفه ... أنه بالوصف ينحصر
رام غصن البان قامته ... فانثنى من ذاك يعتذر
واستعار الظبي مقلته ... واكتسى من نوره القمر
أسمر أخبار عاشقه ... بين أخبار الورى سمر
وإمام في ملاحته ... واثق بالحسن مقتدر
أمروا قلبي بسلوته ... أنا عاص للذي مروا
لو بقلبي مثله عشقوا ... أو بعيني حسنه نظروا
لرأوا غيي به رشدا ... ولكانوا في الهوى عذروا
السنة التاسعة والستون وستمائة
دخلت والخليفة والملوك على القاعدة في السنة الخالية خلا أبي حفص عمر بن بي إبراهيم يوسف صاحب مراكش فإنه قتل في حرب(2/442)
بينه وبين أبي العلاء إدريس بن أبي عبد الله محمد بن يوسف ملك نبي مرين وانقضت دولة بني عبد المؤمن.
متجدادت الأحوال
كان الملك الظاهر بالديار المصرية وتوجه يوم السبت غرة صفر في جماعة يسيرة من الأمراء والأجناد إلى عسقلان فوصل إليها وهدم سورها ما كان أهمل هدمه في أيام الملك الصالح ووجد فيما هدم كوزان مملوءان ذهباً بقدرة ألفي دينار ففرقها على من في صحبته وورد عليه وهو بعسقلان البشير بأن عسكر ابن أخي بركة كسر عسكر أبغا وعاد إلى القاهرة يوم السبت ثامن شهر ربيع الأول.
وفي أوائل هذه السنة انتهى الجسر الذي عمل على بحر ابن منجا ووقف عليه الملك الظاهر وقفاً يعمر ما دثر منه.
وفي أواخر ربيع الأول اتصل بالملك الظاهر أن الفرنج بعكا ضربوا رقاب جماعة من المسلمين الذين في أسرهم ظاهر عكا صبراً فأخذ من أعيان من عنده من أسراهم نحو مائة نفر فغرقهم في النيل ليلاً.
وفيها بنى جامع المنشية وأقيمت فيه الخطبة يوم الجمعة ثامن عشري ربيع الآخر.
وفيها قبض الملك الظاهر على العزيز بن الملك المغيث صاحب الكرك وعلى يعقوب بن نور الدين بدل مقدم الشهرزورية وعلى جمال الدين(2/443)
أغل مقدمهم أيضاً وسببه أنه بلغه وهو على عسقلان أن الشهرزورية عازمون على أن يثبوا على الملك ويسلطنوا ابن المغيث.
وفي أواخر جمادى الأولى وصلت النجابون إلى مصر من عند نجم الدين ابن نمي محمد بن أبي سعد بن علي بن قتادة بن الحسن الحسيني صاحب مكة وأخبروا أن الخلف وقع بينه وبين عمه إدريس بن علي بن قتادة وكان شريكه في الأمرة فاستظهر إدريس عليه فخرج فاراً من بين يديه وقصد ينبع فاستنجد بصاحبها وجمع وحشد وقصد مكة فالتقيا وتحاربا فطعن أبو نمى إدريس ألقاه من جواده ونزل إليه وحز رأسه واستبد بمكة.
وفي ثاني عشر جمادى الآخرة توجه الملك الظاهر من الديار المصرية لقصد حصن الأكراد وفي صحبته ولده الملك السعيد والصاحب بهاء الدين واستخلف بالديار المصرية الأمير شمس الدين الفارقاني وفي الوزارة الصاحب تاج الدين ودخل السلطان دمشق يوم الخميس ثامن رجب ثم خرج منها يوم السبت عاشره وتوجه بطائفة من العسكر إلى جهة وولده والخازندار بطائفة أخرى إلى جهة وتواعدوا الاجتماع في ويوم واحد بمكان معين ليشنوا الغارة على جبلة واللاذقية والمرقب وعرفة ومرقبة والقليعات وحلباً وصافيثا والمجل وأنطرسوس فلما اجتمعوا وشنوا الغارة فتحوا صافيثا والمجدل ثم ساروا ونزلوا على(2/444)
حصن الأكراد يوم الثلاثاء تاسع عشر شهر رجب وأخذوا في نصب المجانيق وعمر الستاير ولهذا الحصن ثلاثة أسوار فاشتد عليه الزحف والقتال وفتحت الباشورة الأولى يوم الخميس حادي عشرين الشهر وفتحت الثانية يوم السبت سابع شعبان وفتحت الثالثة الملاصقة للقلعة يوم الأحد خامس عشره وكان المحاصر لها الملك السعيد والخازندار ويسري ودخلت العساكر البلد بالسيف وأسروا من فيه من الجبلية والفلاحين ثم أطلقهم الملك الظاهر ثم أذعن أهل القلعة بالتسليم وطلبوا الأمان فأمنهم الملك الظاهر وتسلم القلعة يوم الاثنين خامس عشري شعبان وأطلق من كان فيها فرحلوا إلى طرابلس ثم رحل عنه بعد أن رتب الأفرام لعمارته وجعلت كنيسته جامعاً وأقيمت فيه الجمعة ورتب فيه نواب وقاضي.
وأنشئت كتب البشائر بفتوحه فيمن ذلك ما كتب عن الملك السعيد رحمه الله إلى قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان رحمه الله بخط محيي الدين عبد الله بن عبد الظاهر رحمه الله وهو: هذه البشرى إلى المجلس السامي القضائي لا زالت التهاني عنده وثيقة الأواحي حسنة التواخي، عجلة لإرضاء أهل الإيمان فلا يرخى له أعنة التراخي، تعلمه بفتوحات شملت بشائرها، وتعرفت بالنصر إمائرها، واستطعم الإيمان حلاوتها، من أطراف المران، واستنطق الإسلام عبارتها من ألسنة الخرصان، وذلك بفتح حصن الأكراد الذي كان في حلق البلاد الشامية غصة، لم تسغ(2/445)
بمياه السيوف المجردة، وشجا في صدورها لم تقاومه أدوية العزائم المفردة. طالما اكسبت البلاد رعباً، ورهباً وطالما استمر من أخلاف الاسبتار حلباً، وكم صان كفراً في بلاد الإسلام وحماه، وكم ابتنى منها ببكر أساء صحبتها فما خشي معرة ولا خاف حماده، قد سما في السماء فلا أمل إليه يمتد، وعلا في الهواء فلا بصر يلمحه إلا وينقلب خاسيئاً عنه ويرتد، ما كان بأكثر مما قدمنا الاستخارة، وشننا على البلاد الإغارة، وعللنا بالمكاسرة عنه نفسه الأمارة، وأبحنا العساكر من الغنائم كل ما أربح لهم من التجارة، فكم أحضروا من باد وأبادوا من حاضر، وتخولوا ما يعقد على حسابه أصابع اليدين التي تدخل في جملتها عقد الخناصر، ولساعة نزولنا بساحته، ومصافحتنا بالصفاح مبسوط راحته، إذا صافيثا بذلت نفسها في فدائه، وتعلقت بذيول العسكر المنصور بأخذ الحسب من أمرائه، فقبل فداؤها ولكن بشرط فتوحه وتملكه وتكفل نصر الله على من فيه فوجدت أرباضه جميعها من الذعر خاوية على عروشها، صائلة سخالها على وحوشها مرخصة للمساوم، مرخصة في اغتنام الغنائم، فملكت العساكر محمي تلك الأموال، وحمى تلك القلل العوال، وتفيؤوا من هذه ما يصلح الأحوال، وتبؤوا من هذه ما يغدو مقاعد للقتال، وأخذنا عليها من النقوب كل ساري الجراحة في ذلك الجثمان، سارب في ضمائرها كما يسرب الميل بين الأجفان، ونصبنا عليه من المجانيق كل مثبتة في مستنقع الموت رجلها(2/446)
حاطة في الهواء رحلها، جائمة جثوم الهزم هادية هداية العلم، تحلق تحليق الصقور، وتحني الصخور، بالصخور وما زالت بها حتى هدمت منها الأركان، وما برح النقابون حتى سروا في ضمائرها سريان الدم في مفاصل الإنسان، وقصدوا بمباضع إقطاعاتهم عروق تلك الأبدان، واستكنوا بها داء معضلاً لا يجد العدو إليه من فتكاته دواء موصلاً، تنموا بتنقيص المواد أخلاطه، ولا يرجى ببحارين الأمطار المرسلة انحطاطه، حتى تجللت من الحصن المذكور قواه، واحترقت حماة من النيران الموقدة بأحشاء حماه، فحينئذ بلغت روحه التراقي، وعجلت عليه المجانيق المذكورة التي أصابته بعين ما لها من راقي، من كل ذات أعضاء وأعضاد وأعصاب من السرياقات وعروق تتخلل تلك الأجساد وذات زمانة كم لها خطوة في الهواء بعيدة المنال، وأمانة كم ردت إلى الحبال، ما عجزت عن حمله الجبال، لها كف متسمحة، وأعطاف لا تبرح حين تجود مترنحة. ما زالا هذا بعويل معاوله وهذا بأنين سهامه ينعيان الكفر مساء صباحاً ويترنمان بما يظنه المسلم له غناء وتحسبه للكفر عليه نواحاً، حتى تسلمناه في يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من شعبان المبارك فيأخذ حظه من هذه البشارة الحسنة، ويجعل الأصوات بها على الأدعية الصالحة مؤمنة، والله يمتع الشريعة بمساعيه المستحسنة بمنه وكرمه: كتب في التاريخ أعلاه، ولما حصل الاستيلاء على حصن الأكراد كتب صاحب أنطرطوس(2/447)
إلى الملك الظاهر وهي للداوية يطلب منه المهادنة وبعث إليه مفاتيحها فصالحه على نصف ما يتحصل من غلال بلاده وجعل عندهم نائباً له ووصل رسل الاستبار من المرقب فصالحهم مناصفة أيضاً وذلك يوم الاثنين مستهل شهر رمضان وقررت الهدنة عشر سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام ولما رحل نزل مرج صافيثا ثم سار يوم الأحد رابع عشر رمضان فأشرف على حصن بن عكار ثم عاد إلى المرج فأقام به إلى أن سار ونزل على الحصن المذكور يوم الاثنين الثاني والعشرين من الشهر ونصب المجانيق عليه يوم الثلاثاء ثالث عشريه ووصل الصاحب بهاء الدين من دمشق يوم الأربعاء رابع عشريه، وفي يوم الأحد ثامن عشريه رمى المنجنيق الذي قبالة الباب الشرقي رمياً كثير فخسف خسفاً كبيراً إلى جانب البدنة ودامت عليها حجارة المنجنيق إلى الليل فطلبوا
الأمان على أنفسهم من القتل وأن يمكنهم من التوجه إلى طرابلس فأجابهم وخرجوا يوم الثلاثاء سلخ الشهر وبعث صحبتهم الأمير بدر الدين يسري فأوصلهم إلى طرابلس. مان على أنفسهم من القتل وأن يمكنهم من التوجه إلى طرابلس فأجابهم وخرجوا يوم الثلاثاء سلخ الشهر وبعث صحبتهم الأمير بدر الدين يسري فأوصلهم إلى طرابلس.
وأنشئت كتب البشائر بأخذه فمن ذلك مكاتبة عن الملك السعيد إلى قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان بخط فتح الدين محمد بن عبد الظاهر ومضمونها: هذه المكاتبة إلى المجلس السامي القضائي لا زالت البركات مخيمة بفنائه، والتوفيق منوطاً بجميع آرائه، وقلوب الناس متفقة على محبته وولائه، ولا زالت البشائر إليه تتهادى، وترد على محله مثنى وفرادى،(2/448)
تنضم ما من الله به علينا وعلى المسلمين من المواهب العظيمة الموقع الجليلة المطلع، وهو أنه لما كان بتاريخ يوم الاثنين تاسع وعشرين من شهر رمضان المعظم سنة تسع وستين وستمائة تسلمنا حصن عكار بعد أن رتبنا عليه المجانيق من كل جانب، وأذقنا من فيه العذاب الواصب، ولم يزل الجاليش بسهامه يرشقهم والمجانيق تجدخهم والمنايا تتخطفهم، فعند ما شاهدوا مصارع بعضهم نزلوا من الحصن المذكور خاضعين، وعفروا جماجمهم بالذل متضرعين، فعند ما شاهدناهم على هذه الصورة رحمناهم لي مناهم على أنفسهم خاصة وتسلمنا الحصن المذكور بحواصله وجميع ما فيه وانتظم في سلك ممالكنا، ودخل في جملة حصوننا وقلاعنا، فليأخذ المجلس بخطه من البشري بأوفر نصيب، ويذيعها بين القضاء والعلماء والفضلاء بين كل بعيد وقريب، فإنها من النعم التي يجب على كل مسلم شكرها، ويتعين بثها بين الأنام وذكرها، فيحيط علمه الكريم بذل والله يؤيده ويعضده ويحرسه في سائر التصرفات والمسالك إن شاء الله تعالى: كتب في التاريخ المذكور أعلاه.
ثم دخل الملك الظاهر الحصن ورتب به نواباً وأمر بحمل بعض المجانيق إلى حصن الأكراد فحملها الأجناد وعيد ورحل إلى مرج صافيثا وكان هذا الحصن كثير الضر على المسلمين ولم يكن له كبير ذكر وإنما لما دخل ريدا فرنس إلى الساحل بعد فكاكه من الأسر رآه حصيناً صغيراً فأشار على صاحبه الأبرنس أن يزيد فيه(2/449)
وهو يساعده فزاد فيه زيادة كبيرة من ناحية الجنوب وهو في واد بين جبال تحيط به من سائر جهاته.
وفي يوم السبت رابع شوال خيم الملك الظاهر بعساكره على طرابلس فسير صاحبها إليه يسأل عن سبب قصده فقال لأرعى زرعكم وأخرب بلادكم وأعود في السنة الآتية لحصاركم فبعث إليه يتسعطفه فبعث إليه الملك الظاهر الأتابك وسيف الدين الرومي بمقترحات وهي أن يكون له من مكان عينه من أعمال طرابلس نصفاً بالسوية وأن يكون له دار وكالة فيها وأن يعطي جبلة واللاذقية بخراجهما من يوم خروجهما عن الملك الناصر إلى يوم تاريخه وأن يعطي نفقات العساكر من يوم خروجه فلما علم الرسالة عزم على القتال ونصب المجانيق ثم ترددت الرسائل وتقررت القاعدة أن تكون عرقة والجبيل وأعمالهما للبرنس وأن يكون ساحل أنطرسوس والمرقب وبليناس وبلاد هذه النواحي بينه وبين الدواية والاسبتار والتي كانت خاصاً لهم وهي بارين وحمص القديمة تعود خاصاً للملك الظاهر وشرط أن يكون عرقة وأعمالها وهي ست وخمسون قرية صدقة من الملك الظاهر عليه فتوقف وأنف فلما بلغ لملك الظاهر امتناعه صمم على ما شرط عليه فأجاب وعقد الصلح بينهما مدة عشرة سنين وعشرة اشهر وعشرة أيام أوله يوم الأربعاء(2/450)
ثامن شوال.
ولما كان الملك الظاهر نازلاً على طرابلس بعث إليه أولاد الصارم مبارك بن الرضى ابن المعالي يستعطفونه عليهم وعلى أبيهم فاتفق الحال على أن ينزلوا من العليقة ويسلموها لنوابه ويخرج والدهم من الحبس ويقطع بمصر خبز مائة فارس ويكونوا عنده فلما نزلوا خلع عليهم وبعث بهم إلى مصر فحبسوا وولى الحصن علم الدين سلطان ثم طلب صارم الدين مبارك في محبسه بعد أيام من وصولهم فلم يعلم له خبر فأمر الملك الظاهر بحبس علم الدين المسروري وإلى القاهرة بسببه ثم شفع فيه فأطلق.
وفي يوم الأحد ثاني عشر شوال وصل إلى دمشق سيل عظيم خرب كثيراً من العمائر وأخذ كثيراً من الناس منهم معظم الحجاج الروميين وجمالهم وأزوادهم فإنهم كانوا نزلوا بين النهرين وبلغ السور فغلقت الأبواب دونه وطما حتى دخل من المرامي وارتفع حتى بلغ أحد عشر ذراعاً وردم الأنهار بطين أصفر ودخل البلد من باب الفراديس وأخرب خان ابن المقدم وأماكن كثيرة وكان ذلك في زمن الصيف فكأن عز الدين أحمد بن معقل رحمه الله أشار إليه بأبياته في سيل مثله وهي:
لله أي حياً حنت روائمه ... وهمهمت أسده والشمس في الأسد
فصب في أغرب الأوقات صيبه ... غروب محتشك الأخلاق محتشد(2/451)
وراحت الأرض بحراً فالوهاد إذا ... تعلو الهضاب بمد دائم المدد
وأقبل السيل بالأمواج مرتمياً ... مثل القروم إذا تهتاج بالزبد
فاعجب له من سحاب جاء يسحب من ... أذياله فوق نار الصحصح الجرد
يمده كل واد مزبد لجب ... فيه حطام من الينبوت والحضد
أرخى عزاليه ملأن محتفلاً ... فطال شم الربى في أقصر المدد
وحين أهدي إلينا الصخر يقذفها ... من السناخيب هدى الضر للبلد
فيا لها قدرة من قادر عجزت ... فيها البرية عن حصر وعن عدد
وفي يوم السبت حادي عشر شوال رحل الملك الظهر عن مرج صافيثا وأذن لصاحب حماة ولصاحب صهيون ولرسل أولاد الصارم مبارك في العود إلى أماكنهم ودخل دمشق يوم الأربعاء خامس عشر شوال وعزل قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان عن قضاء دمشق وكان قد وليها عشر سنين محررة وولي القاضي عز الدين محمد ابن عبد القادر بن عبد الخالق المعروف بابن الصائغ وخلع عليه وكان تقليده قد كتب ظاهر طرابلس.
وفي يوم الجمعة خامس عشري شوال خرج الملك الظاهر من دمشق قاصداً القرين فنزل عليه يوم الاثنين ثامن عشري الشهر ونصب عليه المجانيق ولم يكن به نساء ولا أطفال بل مقاتلة من اللمان فقاتلوا قتالاً شديداً وأخذت النقوب الحصن من كل جانب فطلب من فيه(2/452)
الأمان فأمنوا يوم الاثنين ثالث عشر ذي القعدة وبعث بهم على الجمال مأمنهم مع بيسري وتسلم الحصن بما فيه من السلاح ثم هدمه وكان بناؤه من الحجر الصلد وبين كل حجرين عمود حديد ملزوم بالرصاص فأقاموا في هدمه اثني عشر يوماً في حصاره خمسة عشر يوماً.
وفي يوم الاثنين سادس عشري الشهر نزل الملك الظاهر علي كردانة قرية قريبة من عكا ولبس العسكر وسار إلى عكا وأشرف عليها ثم عاد إلى منزله ثم رحل منها يوم الثلاثاء قاصداً مصر فدخلها يوم الخميس ثالث عشر ذي الحجة وجملة ما صرفه الملك الظاهر في هذه السفرة من حين خروجه إلى عوده ينيف عن ثمانمائة ألف دينار عيناً.
وفي اليوم الثاني من وصوله إلى قلعة الجبل قبض على جماعة من الأمراء منهم الأمير علم الدين سنجر الحلبي الكبير والأمير جمال الدين آقوش المحمدي والأمير جمال الدين أيدغدي الحاجبي الناصري والأمير شمس الدين سنقر المساح والأمير سيف الدين بيدغان الركني والأمير علم الدين سنجر طرطج وغيرهم وحبسوا بقلعة الجبل وسبب ذلك أنه بلغه أنهم تآمروا على قبضه لما كان بالشقيف فأسرها في نفسه.
وفيها بلغ الملك الظاهر وهو على حصن الأكراد أن صاحب قبرس خرج منها في مراكبه إلى عكا فأراد الملك الظاهر اغتنام خلوها فجهز سبعة عشر شينياً فيها الرئيس ناصر الدين عمر بن منصور بن سليمان(2/453)
بن سلامة بن إسحاق رئيس مصر وشهاب الدين محمد بن إبراهيم بن عبد السلام الهواري رئيس الإسكندرية وشرف الدولة علوي بن أبي المجد علوي العسقلاني رئيس دمياط وجمال الدين مكي بن حسون مقدماً على الجميع فوصلوا الجزيرة ليلاً فهاجت عليهم ريح طردتهم عن المرسي وألقت بعض الشواني على بعض فتحطم منها أحد عشر شينيا وأخذ من فيها من الرجال والصناع أسراء وكانوا زهاء ألف وثمانمائة نفر وسلم الرئيس ناصر الدين وابن حسون في الشواني السالمة وعادت إلى مراكزها.
وفي ويوم الاثنين سابع عشر ذي الحجة تقدم الملك الظاهر باراقة الخمور في سائر بلاده والوعيد لمن يعصرها بالقتل فاريق على الأجناد والعوام منها ما لا يحصى قيمة ومكان ضمان ذلك في ديار مصر خاصة ألف دينار في كل يوم وكتب بذلك توقيع قرئ على منبري مصر والقاهرة.
وفي الآخر من ذي الحجة اهتم الملك الظاهر بإنشاء شواني عوضاً عما ذهب على قبرس وفيها نزل الفرنج على تونس وسبب ذلك أن تجاراً منهم قصدوها فألزموا على تجارتهم حقوقاً فضربوا دراهم مغشوشة على سكة صاحب تونس وأخرجوها في الحقوق الموجبة عليهم وظن العمال أن الأمير تقدم بضربها فأخذوها ثم فحصوها فوجدوها ضرب خارج الدار فسأل عن أكثر الفرنج مالاً فقيل له أهل جنوة(2/454)
فأمر باستيصال أموالهم في سائر بلاده وحبسهم فاستصرخ أهل جنوة بريدا فرنس وأمدوه بالأموال فجمع وحشد وقصد تونس في أربعمائة ألف رجل منها ستة وعشرون ألف فارس ومعه من الملوك صاحب نابرة وابن الفنش وزوجة صاحب صقلية وعدة مراكبهم أربعمائة مركب فأمر صاحب تونس إلى أن يخلي لهم الساحل ولا يقاتلهم أحد فنزلوا في البر في ثامن عشر ذي الحجة سنة ثمان وبعث صاحب تونس إلى قبائل العرب الذين في بلاده وجمع مشايخهم وكبراء دولته من الأجناد والكتاب ليشاورهم فكل أشار برأي ورأت الجماعة الأندلسيون أن يفسح لهم في البر فإن المكان الذي نزلوا به لا يتسع لقتال فنزلت زوجة صاحب صقلية في البرج الذي على طرف المرسي وأخرج صاحب تونس العدد وفرقها في الجند والمطوعة فحملوا من غير أمره وكان معهم جماعة من الفرنج في طاعتهم فأشاروا على من معها أن تنزل من البرج إلى البحر ويلحقوها بالمراكب لئلا تؤخذ ففعلوا ففهم الأندلسيون كلامهم فلما فاتهم مقصودهم منها عادوا إلى البلد وحكموا في نسائهم وأولادهم السيف ونهبوا أموالهم وأمر صاحب تونس الرعية بعدم القتال فأشتد طمع الفرنج وقصدوا المعلقة وقتلوا من أهلها سبعين رجلاً وأخذوا منبرها وبعثوا به إلى بلادهم.
وذلك في ثاني عشر ذي الحجة سنة ثمان ثم بعثوا إلى صاحب تونس يطلبونه لمبارزتهم فقال ليس فيكم ملك متوج حتى أخرج(2/455)
إليه وإنما الذين معكم كنود فأنا أبعث إليهم أكفاءهم ثم أنفق في العربان وأمرهم بالاحتياط بهم فخافت الفرنج وخندقوا على أنفسهم جميع شهر ذي الحجة فلما هل المحرم سنة تسع ومضت منه أيام خرج الفرنج وقاتلوا قتالاً شديداً ولم يكن في المسلمين من الجند أحد إنما هم عربان وبربر وعوام فاستظهر المسلمون عليهم وأخذوا لهم فوق المائتي فرس وقتلوا ابن ريدافرنس وصاحب نابرة وابن صاحب قشتالة ابن الفنش.
وعلم ذلك المسلمون في العشرين من ربيع الأول وأخبروا أيضاً أن ريدا فرنس مات في الليلة التي خرجوا في صبيحتها ولم يبق عند الفرنج ملك غير أخيه شرون وطلب الفرنج الصلح فتوقف صحب تونس فقيل له المصلحة الصلح فإن العرب لهم باطن مع الفرنج ولهم عليهم في كل يوم أربعون ألف دينار حتى لا يقاتلونهم فأجاب في ذلك فتمنع الفرنج حينئذ وقالوا كيف نصالح وقد حلفنا أن نموت بعضاً على بعض إلى أن ترد أموال الجنويين عليهم وقال شرون لصاحب تونس تعطيني الذي كان أبوك يعطيه لإنبرطور من حين قطعه وذلك عشرون سنة فقال إن كنت قوياً فاجلس ومني ومنك وإن كنت ضعيفاً مهزوماً فلا تشترط فوقع الصلح على رد مال الجنويين واتفقوا في رابع وعشرين ربيع الآخر ورحلوا بعد ذلك بسبعة عشر يوماً.(2/456)
ذكر دخول آجاي بن هولاكو وصمغرا
صحبته إلى بلاد الروم
قد تقدم القول برجوع أبغا إلى أذربيجان بعد كسر برق ووصل إلى ظاهر توريز ثم رحل إلى مدينة رومى وضرب مشورة بسبب صاحب مصر وغيره فاتفقوا أنهم يسيروا آجاي بن هولاكو في ثلاثة آلاف فارس وقال له تأخذ في طريقك عول بألف فارس وابن نايجونوين بألف فارس ودرباي بألف فارس وجمغل بألف فارس ونابجي بثلاثة آلاف فارس وعسكر الروم والبرواناة فوصلوا إلى الروم واجتمعوا وسيأتي ذكر ذلك في حوادث سنة سبعين إن شاء الله تعالى.
فصل
وفيها توفي إبراهيم بن المسلم بن هبة الله بن البارزي أبو إسحاق شمس الدين الحموي الفقيه الشافعي فقيه فاضل دين ورع وله شعر جيد قرأ على ابن اليمن زيد بن الحسن الكندي وولي التدريس بمعرة النعمان وصحب أبا منصور بن عساكر وأعاد عنده وولي التدريس بدمشق بالمدرسة الرواحية ثم ولي التدريس بحماة ثم ولي القضاء بها فوفق في قضاياه وسلك الطريق المرضي وكانت ولايته في سنة اثنين وخمسين وستمائة ولم يزل على ذلك إلى أن توفي إلى رحمة الله تعالى بحماة في(2/457)
شعبان ومولده سنة ثمانين وخمسمائة ومن شعره في وصف دمشق:
دمشق لها منظر رائق ... فكل إلى وصلها تائق
وأني يقاس بها بلدة ... أبى الله والجامع الفارق
أحمد بن مقدام بن أحمد بن شكر أبو السعادات كمال الدين ابن القاضي الأعز أبي الفوارس ابن أبي السعادات كان أحد الكبراء المشهورين بالديار المصرية متأهل للوزارة وغيرها معروف بالمناصب الجليلة وله الرأي الصائب والعقل الثاقب والتقدم في الدول وله يد في النظم ومعرفة بالأدب ومشاركة في غيره توفي بالقاهرة في السادس والعشرين من شهر رمضان المعظم ودفن من الغد بسفح المقطم رحمه الله تعالى.
حسن بن أبي عبد الله بن صدقة بن أبي الفتوح أبو محمد الأزدي الصقلي المقرئ الشيخ الصلاح العابد الزاهد الورع كان من السادات في تعبده وزهده وإعراضه عن الدنيا وأهلها وتقلله منها مع قدرته على السعي في المناصب وغيرها وكان مثابراً على قضاء حوائج الناس يسعى فيها بنفسه وله الحرمة الوافرة والمهابة في الصدور والكلمة المسموعة والقبول التام من الخاص والعام وكانت وفاته بدمشق في ليلة الثاني والعشرين من ربيع الآخر ودفن من الغد بسفح جبل قاسيون وهو في عشر الثمانين رحمه الله تعالى ورضي عنه.
الحسين بن يحيى بن محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن علي بن عبد العزيز بن علي بن الحسين بن محمد بن عبد الرحمن بن الوليد بن القاسم(2/458)
ابن الوليد بن عبد الرحمن بن أبان بن أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه أبو عبد الله زكي الدين القرشي الأموي العثماني الشافعي مولده سنة اثنتين وأربعين وستمائة وتوفي في رابع صفر هذه السنة بدمشق ودفن في تربتهم بسفح قاسيون رحمه الله وكان من الفضلاء النبلاء اشتغل بالفقه والأصول والخلاف والعربية وأفتى ودرس وكان له مشاركة في الأدب وهو من بيت الرئاسة والفضيلة ومن شعره من جملة أبيات:
حيا وأقبل يمشي مشية الثمل ... يستن في حسن برد ناعم خضل
في كفه طاسة يهدي لمغرمه ... رشاً ألذ وأحلى من جنى العسل
فقلت هيهات لا خوف ولا جزع ... أنا الغريق فما خوفي من البلل
سنجر بن عبد الله الأمير علم الدين الصيرفي كان من أعيان الأمراء بالديار المصرية وأكابرهم وممن يخشى جانبه ويخاف فلما تملك الملك الظاهر واستقر قدمه أخرجه إلى الشام ليأمن غائلته وأقطعه خبزاً منه عدة قرى في بلد بعلبك فطلع إلى بعلبك وتمرض وأدركته منيته بها فتوفي ليلة الأربعاء سادس صفر رحمه الله وهو في عشر الستين.
سنجر بن عبد الله المستنصري الأمير قطب الدين البغدادي المعروف بالباغز كان من مماليك الإمام المستنصر بالله رحمه الله ولما ملك التتر بغداد في سنة ست وخمسين على ما تقدم شرحه هرب جماعة كان قطب الدين المذكور منهم ووصل إلى الشام وكان محترماً في الدولة الظاهرية وعنده معرفة ونباهة وحسن عشرة ويحاضر الأشعار والحكايات وتوفي(2/459)
في العشر الأول من صفر رحمه الله وهو في عشر الستين.
عباس بن محمد بن أيوب بن شاذى أبو الفضل الملك الأمجد تقي الدين الملك العادل الكبير كان محترماً عند الملوك من أهل بيته وعند الملك الظاهر لا يترفع عليه أحد في المجلس ولا في الموكب وهو آخر من مات من أولاد الملك العادل لصلبه وهو كبير البيت الأيوبي غير مدافع وكان دمث الأخلاق حسن العشرة لا تمل مجالسته وكانت وفاته يوم الجمعة ثاني وعشرين جمادى الآخرة ودفن بسفح قاسيون رحمه الله.
عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن نصر بن محمد بن نصر بن محمد بن سبعين أبو محمد قطب الدين الشيخ العارف المرسي الزقوطى كان أحد المشايخ المشهورين بسعة العلم وبعدد المعارف وله تصانيف عدة ومكانة مكينة عند جماعة من الناس وأقام بمكة سنين عديدة إلى أن توفي بها في الثامن والعشرين من شوال هذه السنة ومولده سنة أربع عشرة وستمائة رحمه الله تعالى والزقوطي نسبة إلى حصن من عمل مرسية يقال له زقوطة.
عبد الله بن أحمد بن عبد الواحد بن الحسين بن أبي المضاء أبو بكر شمس الدين كان من أعيان أهل بعلبك وصدورها وولي فيها الحسبة مدة زمانية وولي غيرها من المناصب وأصابه خلط يعتريه في بعض الأيام يشبه الصرع وكان له ثروة ووجاهة وحج في سنة سبع وتسعين وخمسمائة وتوفي بمنزله ببعلبك عشية نهار الخميس سادس عشر جمادى(2/460)
الآخرة ودفن من الغد ظاهر باب حمص من مدينة بعلبك وهو في عشر التسعين رحمه الله.
عبد الواحد بن عبد المؤمن بن سيد بن علوان البعلبكي كان من العدول الأمناء وتوفي في ليلة الثلاثاء عاشر ربيع الأول وهو في عشر الستين رحمه الله.
عبد الوهاب بن أحمد بن محمد بن عبد العزيز بن الحسين بن عبد الله أبو المكارم السعدي التميمي المصري العدل المعروف بزين القضاة بن الحباب سمع وحدث وهو من بيت الرياسة والنبل والعدالة والفضل وبيته من البيوت المشهورة بالديار المصرية من حين استوطنوها وهم من ذرية زيادة الله بن الأغلب آخر ملوك إفريقية الذين انتقل عنهم الملك إلى الخلفاء الفاطميين وكانت وفاة زين القضاة في التاسع والعشرين من جمادى الأولى بمصر ودفن من الغد بسفح المقطم رحمه الله ومولده في غرة المحرم سنة تسع وثمانين وخمسمائة بمصر.
عمر بن عبد الله بن صالح بن عيسى أبو حفص شرف الدين السبكي الفقيه المالكي مولده في عشر ذي الحجة سنة خمس وثمانين وخمسمائة تفقه وسمع وحدث وأفتى وتولى الحسبة بالقاهرة مدة ثم تولى الحكم بالديار المصرية حين جعلت القضاة بها من المذاهب الأربعة ودرس بالمدرسة الصالحية بالطائفة المالكية وكان أحد المشايخ المشهورين بالعلم والدين والفضل والخير وتوفي بالقاهرة ليلة الخامس والعشرين من ذي القعدة ودفن من الغد بمقابر باب النصر رحمه الله تعالى والسبكي(2/461)
نسبة إلى سبك من أعمال الديار المصرية.
عمر بن علي بن أبي بكر بن محمد بن بركة بن محمد أبو الرضا رضي الدين الحنفي المعروف بابن الموصلي مولده بميافارقين سنة أربع عشرة وستمائة تفقه ودرس وأفتى وحدث وكان أحد المشايخ المشهورين بالفضل والرياسة والديانة والنبل وله نظم حسن وخط جيد وكانت وفاته في ثاني عشر شهر رمضان المعظم بالقاهرة ودفن من يومه بسفح المقطم رحمه الله تعالى.
عيسى بن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن أحمد بن إبراهيم بن كامل أبو محمد الكردي الهكاري الأمير شرف الدين سمع بالقدس من الخطيب أبي الحسن على بن جميل المعافري وأجاز له أبو حفص عمر بن محمد ابن طبرزد وأبو اليمن زيد بن الحسن الكندي وحدث ومولده يوم السبت ثالث عشر ذي القعدة سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة بالقدس الشريف وكان أحد الأمراء الكبار مشهوراً بالشجاعة معروفاً بالإقدام وله وقائع معروفة مع العدو المخذول بأرض الساحل وغيرها ومواقف مشهورة في المصافات وولي الأعمال الجليلة وتقدم على العساكر في الحروب وكان ممن جمع بين الدين والشجاعة والكرم والمروءة وحاز الأوصاف الجميلة ما فاق به على كثير من أبناء جنسه وتوفي بدمشق في الثامن والعشرين من ربيع الآخر ودفن من الغد بسفح قاسيون رحمه الله.
محمد بن أسعد بن عبد الرحمن بن كنفي بن عبد الرحمن أبو عبد الله(2/462)
الهمذاني الشيخ الصالح الزاهد العابد كان من الأولياء الأفراد أقام بمشهد ابن عروة بجامع دمشق داخل باب البريد مدة سنين منعكفاً على العبادة إلى أن توفي إلى رحمة الله تعالى ورضوانه بكرة نهار الأربعاء سادس صفر بدمشق ودفن من يومه بسفح قاسيون وهو في عشر الثمانين رحمه الله تعالى.
محمد بن إسماعيل بن عثمان بن المظفر بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين أبو عبد الله الدمشقي الشافعي المعروف بالمجد ابن عساكر سمع من الخشوعي والقسم بن علي الدمشقي وأبي المعالي محمد بن علي القرشي وابن طبرزد وحنبل والكندي وغيرهم وحدث ومولد مقارب سنة سبع وثمانين وخمسمائة وتوفي بدمشق في الثامن من ذي القعدة ودفن من الغد بسفح قاسيون رحمه الله.
محمد بن تمام بن يحيى بن عباس بن يحيى بن أبي الفتوح بن تميم أبو بكر فخر الدين الحميري الدمشقي كان من صدور دمشق وأعيانها وعدولها ومولده في خامس ذي القعدة سنة ثلاث وستمائة سمع من الإمام موفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة وغيره وحدث بدمشق والقاهرة وتوفي بدمشق في رابع رجب ودفن من يومه بمقابر باب الصغير رحمه الله تعالى.
محمد بن خطلبا بن عبد الله أبو عبد الله ناصر الدين الأمير بن الأمير(2/463)
صارم الدين التبنيني كان أميراً جليلاً كبير المقدار عالي الهمة واسع الصدر خبيراً بالتصرفات تنقلت به الأحوال وأحكمته التجارب وولي الولايات الجليلة وكان نزهاً عن أموال السلطان وأموال الرعية لا يدنس بذلك هو ولا أحد من حاشيته وكان صارماً ضابطاً لما يتولاه يكف القوى عن الضعيف وله الحرمة الوافرة عند الملوك ووصله من الأموال في عمره ما لا يحصى كثرة وأنفقها جميعها وقل ما بيده في آخر عمره وتوفي إلى رحمة الله تعالى مجرداً في حصن الأكراد بظاهره في شهر ذي الحجة ودفن ظاهر الحصن المذكور وقد نيف على السبعين وكان له إلمام بالأدب والفضيلة ومعرفة تامة بالجوارح ومعالجتها وصنف في ذلك وفي البيطرة ما يحتاج إليه وينتفع به رحمه الله.
محمد بن عبد المنعم بن نصر الله بن جعفر بن أحمد بن حواري أبو المكارم تاج الدين التنوخي المعري الأصل الحنفي المذهب الدمشقي المولد والدار والوفاة المعروف بابن شقير مولده في سنة ست وستمائة سمع وحدث بدمشق والقاهرة وكان أديباً فاضلاً وعنده رئاسة ومكارم أخلاق ودماثة وحسن محاضرة وهو من شعراء الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن محمد وله فيه مدائح جمة وكان الملك الناصر يحبه ويقدمه على غيره من الشعراء الذين في خدمته وتوفي تاج الدين المذكور يوم الثلاثاء تاسع عشر صفر في منزله بسفح قاسيون ودفن في دهليز مغارة الجوع بقاسيون رحمه الله تعالى ومن شعره:
لاح وهناً بالأبرقين بروق ... فاعترى قلبي المشوق خفوق(2/464)
طرق الدمع طرفه وله منه صبوح لا ينقضي وغبوق
أنحلته مرضى الجفون فما أن ... يهتدي نحوه الخيال الطروق
ريقه رائق السلافة والثغر حباب وخده الراووق
حل صدغيه ثم قال أفرقٌ ... بين هذين قلت فرق دقيق
فأتى بالنطاق ينطق بالفر ... ق ولولاه أشكل التفريق
وله:
أسكرتني عيناك يا ابن خمار ... سكرة ما لخمرها من خمار
ما رأينا من قبل شعرك ليلاً ... أشرقت في دجاه شمس النهار
اطلع الحسن من ثناياك طلعاً ... في عقيق يسقي بصافي العقار
ناله في جماله من مصون ... في هواه تهتكت أستاري
محمد بن حيدر بن..... كان رجلاً عابداً يقوم معظم الليل ويكثر من الصلاة والتسبيح ويؤذن احتساباً وكانت والدته زوجة شيخنا الشيخ عبد الله الكبير رحمة الله عليه وتوفي ببعلبك في ثاني جمادى الأولى وقد نيف على سبعين سنة ودفن بالقرب من رأس العين ظاهر بعلبك رحمه الله.
مرشد بن عبد الله شجاع الدين المظفري الخادم الأمير الكبير عتيق الملك المظفر تقي الدين محمود بن الملك المنصور صاحب حماة كان من الأبطال الشجعان وله في الحروب مواقف مشهورة وكان الملك الظاهر(2/465)
ركن الدين رحمه الله يحبه ويعتمد عليه لكفايته وشجاعته وكان الملك المنصور ناصر الدين محمد صاحب حماة رحمه الله ابن أستاذه هو مخدومه لا يخالفه فيما يشير به يتصرف في مملكته كتصرفه وكان عنده إيثار وبر بالفقراء كثير الصدقة وتوفي إلى رحمة الله تعالى بحماة ودفن في تربته بقرب المدرسة التي أنشاها وهو في عشر السبعين.
السنة السبعون وستمائة
دخلت هذه السنة والخليفة والملوك على القاعدة المستقرة والملك الظاهر بقلعة الجبل بالقاهرة.
متجددات هذه السنة
في يوم الأحد رابع عشر المحرم ركب الملك الظاهر إلى الصناعة لإلقاء الشواني في البحر وركب في شينى منها ومعه الأمير بدر الدين الخازندار فلما صار الشيني في الماء مال بمن فيه فوقع الخازندار منه إلى البحر فنهض بعض رجال الشينى ورمى نفسه خلفه فأدركه وأخذ بشعره وخلصه وقد كاد فخلع عليه وأحسن إليه.
وفي ليلة السبت السابع والعشرين منه خرج الملك الظاهر إلى الشام في نفر يسير من خواصه وأمرائه ودخل حصن الكرك ثم خرج منه وقد أخذ معه الأمير عز الدين أيدمر النائب كان فيه وسار إلى دمشق فوصلها يوم الجمعة ثاني عشر صفر فعزل عنها الأمير جمال الدين آقوش النجيبي وولى مكانه الأمير عز الدين أيدمر ثم خرج منها إلى(2/466)
حماة في السادس عشر منه ثم عاد عنها في السادس والعشرين منه.
ذكر توجه الملك الظاهر إلى حلب
وسببه أن صمغرا ومعين الدين سليمان البرواناة وعساكر المغل والروم لما عادوا من عند أبغا في السنة الخالية وردت عليهم أوامر أبغا بقصد الشام في هذه السنة فحشد وخرج صمغرا والبرواناة بعسكر عدته عشرة آلاف فارس فوصلوا إلى البلستين ثم إلى مرعش وبلغهم أن الملك الظاهر بدمشق فبعثوا ألفاً وخمسمائة فارساً من المغل ليتجسسوا الأخبار ويغيروا على أطراف بلاد حلب وكان مقدمهم إقبال بن بايجونوين فوصلت غارتهم إلى عين تاب ثم إلى قسطون ووقعوا على جماعة تركمان نازلين بين حارم وإنطاكية فاستأصلوهم فتقدم الملك الظاهر بتجفيل البلاد وأهل دمشق ليحمل التتر الطمع فيدخلوا فيتمكن منه وبعث إلى مصر فخرجت العساكر ومقدمها الأمير بدر الدين بيسرى فوصلوا إليه في خامس ربيع الآخر وخرج بهم في السابع منه فسبق إلى التتر خبره فولوا على أعقابهم ولما مر الملك الظاهر بحماة استصحب معه الملك المنصور صاحبها وكذلك الأمير نور الدين بن مجلي بمن عنده من عسكر حلب وسار حتى نزل حلب يوم الاثنين ثامن عشر الشهر المذكور فخيم بالميدان الأخضر ثم جهز الأمير شمس الدين الفارقاني في عسكر وأمره أن يدوخ بلاد حلب الشمالية ولا يتعرض لبلاد صاحب سيس وجهز الأمير علاء الدين طيبرس الوزيري في عسكر وأمره بالتوجه إلى حران(2/467)
فأما شمس الدين فإنه سار خلف التتر إلى مرعش فلم يجد منهم أحداً ثم عاد إلى حلب فوجد الملك الظاهر مقيماً بها وقد أمر بإنشاء دار شمالي القلعة كانت تعرف بالأمير سيف الدين بكتوت أستاذ درا الملك الناصر وأضاف إليها داراً تعرف بالملك الرشيد شرف الدين هارون ابن الملك المفضل موسى بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ووكل بعمارتها الأمير عز الدين الأفرم.
ولما عاد الفارقاني إلى حلب رحل الملك الظاهر منها قاصداً الديار المصرية في ثامن وعشرين ربيع الآخر ودخل مصر في الثالث والعشرين من جمادى الأولى، ولما كان بحلب خرجت طائفة من الفرنج من عثليث وأغارت على قافون وأخذت التركمان على غفلة منهم فلحقهم الأمير جمال الدين أقوش الشمسي ببعض العسكر واسترد بعض الغنيمة ثم أغاروا ثانية على القرين فلحقهم واقتلع منهم عشرين فارساً وعند وصول الملك الظاهر إلى مصر قبض على الأمراء الذين كانوا مجردين على قافون غير الشمسي فشفع فيهم فأطلقهم.
وأما الأمير علاء الدين طيبرس فإنه سار ومعه عيسى بن مهنا في جماعة من العرب فخاض الفرات وسار إلى حران فخرج إليه من بها من نواب التتر فالتقاهم عيسى وطاردهم وطاردوه فخرج عليهم العسكر فلما رأوه نزلوا عن خيولهم وقبلوا الأرض وألقوا سلاحهم فقبضوا عن آخرهم وكانوا ستين رجلاً وسار الأمير علاء الدين إلى حران(2/468)
فأغلقوا أبوابها وتركوا باباً واحداً فخرج منه الشيخ محاسن بن القوال أحد أصحاب الشيخ حياة ومعه جماعة كثيرة وذلك يوم الثلاثاء سادس عشري ربيع الآخر وأخرج له طعاماً تبركا فتلقاه الأمير علاء الدين وترجل له فأخرج له مفاتيح حران وقال له البلد للسلطان ثم عاد علاء الدين ولم يدخل حران فعبر الفرات سباحة وعاد إلى مصر.
وفي يوم الأربعاء ثالث جمادى الآخرة عبر الملك الظاهر إلى بر الجيزة فأخبر أن ببوصير السدر مغارة بها مطلب فجمع لها خلقاً فخفروا أمداً بعيداً فوجدوا قطاطاً ميتة وكلاب صيد وطيوراً وغير ذلك من الحيوان ملفوفاً في عصائب وخرق فإذا حلت اللفائف ولاقى الهواء ما كان فيها صار هباء وأقام الناس ينقلون ذلك مدة ولم ينفد ما فيها فأمر الملك الظاهر بتركها وعاد من الجيزة يوم الثلاثاء ثالث وعشرين منه.
وفي يوم السبت سابع عشر جمادى الآخرة ركب الملك الظاهر إلى الصناعة ليرى الشواني التي عملت وهي أربعون شينياً فسر بها.
وفي الشهر المذكور ولدت زرافة بقلعة الجبل وهذا أمر لم يعهد وأرضع ولدها لبن بقرة.
وفي ثالث شهر رجب أمر الملك الظاهر جماعة منهم الأمير شرف الدين مختص وبهاء الدين أيوب أمير آخور وركن الدين منكورس الزاهدي وأسد الدين قراصقل وأسد الدين منكورس الحموي وناصر الدين(2/469)
نصر اللالا وتوجه الأمير فخر الدين الطنبا الحمصي إلى الساحل في جماعة من الأمراء والأجناد يوم الاثنين سادس شهر رجب.
وفي يوم الجمعة ثاني شعبان أمر الملك الظاهر بالحوطة على بيت الشيخ شمس الدين محمد بن الشيخ العماد المقدسي الحنبلي وحمل ما فيه من الودائع فحملت إلى قلعة الجبل وسبب ذلك أنه وقع بينه وبين التقي شبيب الحراني الكحال شنآن كان أصله أن المذكور كان له أخ ينوب عن الشيخ قاضي القضاة في المحلة فعزله لأمر أوجب عزله فحمل شبيب المذكور تعصبه لأخيه أن كتب رقعة إلى الملك الظاهر ذكر فيها أن عند الشيخ شمس الدين ودائع للتجار من أهل بغداد وحران والشام وذكر جملة كبيرة قد مات بعض أهلها واستولى عليها فلما وصلت إليه استدعي الشيخ شمس الدين وسأله فأنكر فحلفه فتأول وحلف فأمر بهجم بيته فوجد فيه كثيراً مما ادعاه شبيب بعضه قد مات أهله ولهم وراث وبعضه أهله أحياء والغبار عليه عاكف لم تمسه يد فأخذ من ذلك زكاته عدة سنين وسلم لأصحابه وحنق الملك الظاهر على الشيخ وحبسه فتسلط عليه شبيب حينئذ وادعى أنه حشوي وأنه يقدح في الدولة وكتب بذلك محضراً فعقد له مجلس يوم الاثنين حادي عشر شعبان بعد سفر الملك الظاهر إلى الشام وكان المجلس بحضرة(2/470)
الأمير بدر الدين الخازندار فاستدعي بالشهود الذين شهدوا في المحضر فنكل بعضهم عن الشهادة فأطلقوا وشهد الباقون فأخرق بهم وحرصوا وتبين للأمير بدر الدين تحامل شبيب فأمر بحبسه والحوطة على موجوده وأعيد الشيخ شمس الدين إلى الحبس فأقام به إلى أن أفرج عنه في نصف شعبان سنة اثنتين وسبعين.
وفي الثالث من شعبان توجه الملك الظاهر في جماعة من الأمراء والخواص إلى الشام وخيم بني قيسارية وأرسوف وكان مركزاً بها الأمير شمس الدين الفارقاني فرحل عنها إلى مصر ودخلها يوم الاثنين تاسع عشر شعبان وتلقاه الملك السعيد والأمير بدر الدين الخازاندار ثم إن الملك الظاهر شن الغارات على بلد عكا فخرجت إليه الرسل يطلبون منه الموادعة والصلح وترددوا في ذلك حتى تقررت الهدنة مدة عشرة سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام وعشر ساعات أولها ثاني عشري شهر رمضان ثم رحل بالعساكر التي بالساحل ونزل بهم خربة اللصوص ثم سار إلى دمشق فدخلها في الثامن من شوال.
وفي الخامس والعشرين من شهر رمضان وصل جماعة كثيرة من التتر إلى حران فأخربوا سورها وكثيراً من أسواقها ودورها ونقضوا جامعها وأخذوا أخشاب سقوفه واستصحبوا معهم من فيها فخربت ودثرت.
ذكر وصول رسل التتر إلى الملك الظاهر
كان قد وصل رسل صمغرا نوين المقيم بالروم في السابع من شوال وهم(2/471)
مجد الدين دولات خان وسعد الدين سعيد الترجمان من جهة صمغرا ومن جهة معين الدين سليمان بن مهذب الدين بن محمد نائب السلطنة ببلاد الروم فأحضرهم وسألهم عما جاؤا فيه فقالوا صمغرا نوين يسلم عليك ويقول لك مذ جاورته في البلاد لم يصله من جهتك رسول في أمر تختاره وقد رأى من المصلحة أن تبعث إلى أبغا رسولاً بما تحب حتى يساعدك على بلوغ غرضك وتتوسط عنده فأكرم الملك الظاهر الرسل وركبهم معه في الميدان مراراً ثم عين الأمير فخر الدين إياز المقري والأمير مبارز الدين الطوري رسولين إلى أبغا وبعث معهما جوشنا له ولصمغرا قوساً فسارا مع رسل صمغرا فلما وصلا قونية حضرا جامعها يوم الجمعة فسمعا الرعية يبتهلون بالدعاء للملك الظاهر فأديا الرسالة إلى صمغرا ومضمونها شكره.
ثم أخذهما البرواناة وسار بهما إلى أبغا فلما اجتمعا به قال لهما ما الذي جئتما فيه فقالا إن صمغرا بعث إلى السلطان وأخبره أنك أحببت أن يأتي إليك من جهته رسول فأرسلنا نقول لك أن أردت أن أكون مطاوعاً لك فرد ما في يدك من بلاد المسلمين فقال هذا لا يمكن وأقرب ما في هذا أن يبقى كل واحد منا على ما في يده فحصلت بينهما مفاوضات أغلظ لهما فيها وانفصلا عنه من غير اتفاق فوصلا دمشق في خامس عشر صفر سنة إحدى وسبعين.
وفي ذي القعدة وصل إلى دمشق رسل من بيت بركة من عند منكوتمر بن طغان بن سرطق بن باتو في البحر وكانوا لما خرجوا من(2/472)
بلاد الأشكرى صادفهم مركب من البيسانيين فأخذهم ودخلوا بهم عكا فقبح عليهم من بها ما فعلوه ثم جهزوهم إلى دمشق ولم يرد البيسانيون ما أخذوا لهم وكان معهم هدية فلما اجتمعوا بالملك الظاهر عرفوه ما كان معهم فبعث إلى الإسكندرية ومنع من فيها من التجار البيسانيين من السفر حتى يعوضوا ما أخذ أصحابهم وكان مضمون رسالتهم أنهم أحضروا كتاباً للملك الظاهر بجميع ما كان في أيدي المسلمين من البلاد التي استولى عليها هولاكو وطلبوا منه أن ينجدهم ويعينهم على استيصال شأفته.
وفي ذي الحجة توجه الملك الظاهر من دمشق إلى حصن الأكراد لنقل حجارة المجانيق إلى القلعة ورؤية ما عمر فيها ثم سار إلى حصن عكا فأشرف عليه ثم عاد إلى دمشق فدخلها في خامس المحرم سنة إحدى وسبعين.
وفي هذه السنة وهي سنة سبعين تسلم نواب الملك الظاهر قلعة الخوابي والقليعة من بلد الإسماعيلية ولم يبق خارجاً عن مملكته من جميع حصونهم سوى الكهف والقدموس والمينقة لأن أهلها لما قبض الملك الظاهر على نجم الدين بن الشعراني وولده عصوا بالقلاع المذكورة وقدموا عليهم مقدماً.(2/473)
فصل
وفيها توفي أحمد بن سعيد بن أحمد بن أبي بكر بن الحسين أبو العباس صفي الدين النيسابوري الأصل اللهاوري المولد والمنشأ الصوفي توفي بالقاهرة في حادي عشر شهر رمضان المعظم ودفن من الغد بمقابر باب النصر ومولده في العشرين من ربيع الأول سنة إحدى وتسعين وخمسمائة صحب جماعة من مشايخ الصوفية وتهذب بهم وتأدب بآدابهم وسمع وحدث وكان أحد المشايخ المشهورين بالخير والصلاح والعفة والانقطاع والمعرفة وله كلام على طريقهم وتقدم فيهم مع ما كان عليه من لطف الأخلاق ولين الجانب وحسن الملقى وجميل الطريقة رحمه الله.
الحسن بن داود بن عيسى ببن محمد بن أيوب بن شاذى أبو محمد الملك الأمجد مجد الدين بن الملك الناصر صلاح الدين بن الملك المعظم شرف الدين بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر رحمهم الله تعالى وقد تقدم ذكر نسبهم في ترجمة مجير الدين يعقوب بن العادل فأغنى عن إعادته كان الملك الأمجد من الفضلاء عنده مشاركة جيدة في كثير من العلوم وله معرفة تامة بالأدب غير أنه لم يكن له طبع في نظم الشعر ثم وقفت بعد ذلك على سفينة بخط عز الدين محمود الورمدي رحمه الله وفيها أنشدني نجيب الدين الحجازي للملك الأمجد بن الملك الناصر داود رحمهما الله تعالى:(2/474)
من حاكم بيني وبين عذولي ... الشجو شجوي والغليل غليلي
عجباً لقوم لم تكن أكبادهم ... لجوىً ولا أجسادهم لنحول
دقت معاني الحب عن أفهامهم ... فتأولوها أقبح التأويل
في أي جارحة أصون معذبي ... سلمت من التنكيد والتنكيل
إن قلت في عيني فثم مدامعي ... أو قلت في قلبي فثم غليلي
لكن رأيت مسامعي مثوى له ... وحجبتها عن عذل كل عذول
ومحاسنه كثيرة ومكارمه غزيرة وتنقلت به الأحوال في عمره فتزهد وصحب المشايخ وانتفع بهم وأخذ عنهم واشتغل على العلماء وحصل وكان كثير البر بمن يصحبه من المشايخ لا يدخر عنهم شيئاً وكانت همته عالية ونفسه ملوكية وعنده شجاعة وإقدام وصبر على المكاره.
حكى لي أنه لما عاد العسكر من إنطاكية مع الأمير علاء الدين طيبرس الوزيري رحمه الله في سنة ستين وستمائة كان المذكور في جملتهم وقد غرق أخوه شقيقه الملك الأفضل نور الدين علي رحمه الله في تلك السفرة فبينا هو يساير بعض الأمراء ويحدثه مر به إلى جانبه رجل يجر جنيباً فضربه ذلك الجنيب كسر رجله فلم يتأوه ولا قطع حديثه ولا ما كان فيه فلما امتلأ الخف بالدم أمر بعض من كان معه أن ينزل ويشق أسفل الخف ليذهب منه الدم وكان يتلقى جميع ما يريد عليه من الأمور المؤلمة بالرضا والتسليم وكان له عقيدة عظيمة في الفقراء والمشايخ وكان جميع أهل بيته يعظمونه ويعترفون بتقدمه عليهم حتى عم أبيه الملك الأمجد تقي الدين بن العادل وكذلك سائر الأمراء وأرباب(2/475)
الدولة وله اليد الطولى في الترسل مع حسن الخط وأنفق في عمره أموالاً جمة معظمها في طاعة الله تعالى وكان مقتصداً في ملبوسه ومركوبه ويتعلق بنفسه مسرفاً في فعل الخير وبر الإخوان رحمه الله تزوج ابنة عم أبيه الملك العزيز عثمان ابن العادل ثم تزوج ابنة الملك العزيز غياث الدين محمد بن الملك الظاهر. غازي بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمهم الله وهي أخت الملك الناصر وأولدها ولداً سماه صلاح الدين محمود وهو باق وكان عنده من الكتب النفيسة ما لا يوجد عنده غيره فوهب معظمها لأصحابه وإخوانه وسمع الكثير وحصل الفوائد وكان مقصداً لمن يقصده يقوم معه بنفسه وماله وجاهه لا يستحيل على أصحابه ولا يتغير عن مودتهم وإن تغيروا أواسطه عقد بيتهم رحمه الله تعالى وكانت وفاته بدمشق ليلة الاثنين سادس عشر جمادى الأولى ودفن من الغد بسفح قاسيون في تربة جده الملك المعظم.
وكانت والدة الملك الأمجد المذكور ابنة الملك الأمجد مجد الدين حسن بن الملك العادل الكبير فسمي صاحب هذه الترجمة باسمه وإلى جده المذكور ينسب الغور الأمجدي وتلقاه أولاد الملك الناصر داود بالإرث عنها وتوفي الملك الأمجد صاحب هذه الترجمة وهو في عشر الخمسين وقد نيف عليها ورثاه غير واحد من الفضلاء بعدة قصائد ومقاطيع فممن رثاه المولى شهاب الدين محمود كاتب الدرج أيده الله(2/476)
تعالى بقوله:
هو الربع ما أقوى وأضحت ملاعبه ... مشرعة إلا وقد لان جانبه
وقفت به والشوق نحو قبابه ... يجاذبني طوراً وطوراً أجاذبه
أسايله جهلاً ومن سفه الهوى ... مخاطبة الإنسان من لا يخاطبه
أسايله والبين قد زار ربعه ... فنابت عن العيش الهنيء نوائبه
وعهدي به والعز عن كل ناظر ... يطوف به إلا عز الوفد حاجبه
لئن قلصت كف الزمان ظلاله ... وشابت هنئ العيش في هذا شوائبه
فقد كان مغني ضافيات ظلاله ... على نازليه صافيات مشاربه
عهدت به من آل أيوب ماجداً ... كريم المحيا زاكيات مناسبه
يزيد على وزن الجبال وقاره ... ويكثر ذرات الرمال مناقبه
أجار على صرف الزمان فغاله ... على غرة والثأر يحتال طالبه
قضى فاعتدت فينا الليالي وطالما ... غدت في عدانا قاضيات قواضبه
ويوم كليل الصب إذ ظل سمره ... مداه ونقع الصافنات غياهبه
حلا وجهه جلاه من حيث أنه ... هلال وأطراف الرماح كواكبه
بكاه من السمر الكعوب وغيره ... إذا مات تبكيه من السمر كاعبه
غدت بذيول الحزن تعثر خيله ... وكم سبقت ريح الجنوب جنائبه
إذا ما بكت عجم العراب فقد بكى ... من الخلق طراً عجمه وأعاربه
ترى بعده العافين شتى وطالما ... حواهم نداه والزمان مصاحبه
فمن لاثم للتراب من عتباته ... ومن متصد للزمان يعاتبه(2/477)
إذا ما رثوه بالغرائب بعده ... فمن قبل قد عمت عليهم رغائبه
هو ابن الذي لان الشديد بعد النهى ... له فلذاً والدهر جم عجائبه
يحدث عن فصل الخطاب كتابه ... ويخبر عن فصل الخطوب كتائبه
عليكم بني الآمال باليأس بعده ... فلليأس عز يأبن الذل صاحبه
ولا ترقبوا نوء السماحة بعده ... فأفق الأماني مقشعات سحائبه
الحسين بن علي بن الحسن بن ماهد بن طاهر بن أبي الجن أبو عبد الله مؤيد الدين الحسيني كان من أعيان الأشراف ووالده نظام الدين تولى نقابة الأشراف مدة ونظر بعلبك وأعمالها مدة أخرى وكان وأسع النعمة كثير الأملاك وافر الحرمة نزهاً عفيفاً في ولاياته غير أنه كان قليل النفع وكان له مكانة عند الملك الصالح عماد الدين إسماعيل وعند وزيره أمين الدولة وأما ولده مؤيد الدين صاحب هذه الترجمة فكان شاباً حسن دمث الأخلاق كثير الاحتمال والخدمة لم يصحبه بنفسه مع عظم بيته وعدم احتياجه بل تحمله المروءة على ذلك وكان بيني وبينه صحبة أكيدة ومودة جمع الله بيننا في جنته وكان عنده تشيع يسر ولكن لم يسمع منه كلمة تؤخذ عليه وكان يعظم الصحابة رضوان الله عليهم ويترضى عنهم ويذم من يسلك غير ذلك ويبري منه وكانت وفاته يوم الأربعاء سادس ربيع الآخر بقلعة بعلبك لأنه تمرض في مدينة بعلبك وحصل أراجيف وجفل أوجب انتقال معظم أهل البلد إلى القلعة فانتقل المذكور وهو متمرض في جملتهم فأدركته(2/478)
منيته بها ودفن في مقابر باب سطحا ظاهر باب دمشق من مدينة بعلبك ولم يبلغ أربعين سنة من العمر رحمه الله تعالى.
سلار بن الحسن بن عمر بن سعيد أبو الفضائل كمال الدين الأربلي الفقيه الشافعي كان من الأئمة الفضلاء الخبيرين بمذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه وكان الشيخ نجم الدين الباذراني رحمه الله قد جعله معيد مدرستة التي وقفها بدمشق لعلمه بغزارة علمه ولم يزل على ذلك إلى حيث توفي لم يتريد منصب آخر وكان عليه مدار الفتوى في وقته بدمشق واشتغل عليه جماعة وانتفعوا به ومن يجتمع به في النادر يصفه بشراسة الأخلاق وتوعرها فإذا أكثر الشخص من الاجتماع به وجد عنده في الخلوة دماثة وحسن مباسطة وسعة صدر وكانت وفاته ليلة الخميس الخامس من جمادى الآخرة بدمشق ودفن من الغد بمقابر باب الصغير رحمه الله وهو في عشر السبعين.
سنقر بن عبد الله الأمير شمس الدين المعروف بالأقرع وهو من مماليك الملك المظفر شهاب الدين غازي بن العادل وكان من أعيان الأمراء بالديار المصرية وأكابرهم وتقدم في الدول وكان الملك الظاهر رحمه الله نقم عليه لأمر بلغه عنه فاعتقله وتوفي في الثامن والعشرين من ربيع الأول هذه السنة رحمه الله وقد نيف على الستين سنة من العمر.
عبد الرحيم بن عبد الرحيم بن عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن طاهر ابن محمد بن محمد بن الحسين بن علي أبو الحسين عماد الدين الحلبي الشافعي(2/479)
المعروف بابن العجمي تفقه على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه وسمع وحدث ودرس وتولى الحكم بمدينة الفيوم وغيرها وناب في الحكم بدمشق مدة وكان مشكور السيرة شديد الأحكام عارفاً بفضل الخصومات وتوفي بحلب في رابع شهر رمضان هذه السنة مولده في ثامن شهر ربيع الآخر سنة خمس وستمائة بحلب رحمه الله وبيته مشهور بالعلم والحديث والرئاسة والسنة والجماعة.
علي بن عبد الخالق بن علي بن محمد بن الحسن أبو الحسن عز الدين الأسعردي الأصل البعلبكي المولد والدار والوفاة كان من الصدور الأماثل خبيراً بالكتابة وصناعة الحساب قيماً بها تولى عدة ولايات شهادة ديوان بعلبك ثم مشارفته ثم نظره وتولى نظر الأسرى بدمشق ثم ولي نظر حمص وأعمالها ولم يزل على ذلك إلى حين وفاته ببعلبك ليلة الأربعاء سابع عشر ذي القعدة وكان حسن العشرة كثير المداراة والمجاملة وجده القاضي مهذب الدين علي بن محمد الأسعردي كان من العلماء الأعيان ولي القضاء ببعلبك مدة زمانية في الأيام الصلاحية ولم يزل متولياً إلى حين وفاته وكان سديد الأحكام متحرياً فعل الحق وتوفي عز الدين المذكور وهو في عشر الستين ودفن بالقرب من دير إلياس عليه السلام ظاهر بعلبك.
علي بن عثمان بن علي بن سليمان بن علي بن سليمان بن علي أبو الحسن أمين الدين السليماني الأربلي الصوفي مولده بإربل سنة اثنتين وستمائة(2/480)