كان الخامس والعشرون من رمضان، وثب عليه نفر من الخرسانية الذين كانوا في خدمته، فقتلوه وهو يريد القيلولة، وكان من أعقاب مرض قد برئ منه، ودفن بظاهر أصفهان بشهرستان، ولما وصل خبر قتل الراشد إلى بغداد، جلسوا لعزائه يوماً واحداً.
ذكر غير ذلك:
في هذه السنة ملك حسام الدين تمرتاش بن أيلغازي صاحب ماردين، قلعة الهتاخ من ديار بكر، أخذها من بعض بني مروان الذين كانوا ملوك ديار بكر جميعها وهو آخر من بقي منهم.
وفيها قتل السلطان مسعود البقش، شحنة بغداد.
وفيها جاءت زلزلة عظيمة بالشام والعراق وغيرهما من البلاد فخربت كثيراً هلك تحت الهدم عالم كثير.
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة.
الحرب بين السلطان سنجر وخوارزم شاه في هذه السنة في المحرم، شار سنجر بجموعه إلى خوارزم شاه أطسز بن محمد بن أنوش تكين، وقد تقدم ذكر ابتداء أمر محمد بن أنوش تكين في سنة تسعين وأربعمائة. ووصل سنجر إلى خوارزم، وخرج خوارزم شاه لقتاله، واقتتلوا، فانهزم أطسز خوارزم شاه، واستولى سنجر على خوارزم وأقام بها من يحفظها، وعاد إلى مرو في جمادى الآخرة من هذه السنة، وبعد أن عاد سنجر إلى بلاده، عاد أطسز إلى خوارزم واستولى عليها.
قتل محمود صاحب دمشق في هذه السنة في شوال قتل شهاب الدين محمود بن توري بن طغتكين صاحب دمشق، قتله غيلة على فراشه ثلاثة من خواص غلمانه وأقرب الناس منه، كانوا ينامون عنده، فقتلوه وخرجوا من القلعة وهربوا فنجا أحدهم وأخذ الاثنان وصلبا، واستدعى معين الدين أتز أخاه جمال الدين محمد بن توري، وكان صاحب بعلبك فحضر إلى دمشق وملكها.
ذكر ملك زنكي بعلبك في هذه السنة في ذي القعدة، سار عماد الدين زنكي إلى بعلبك، ووصل إليها في العشرين من ذي الحجة وحصرها ونصب عليها أربعة عشر منجنيقاً فطلب أهلها الأمان فأمنهم، وسلموا إليه المدينة، واستمر الحصار على القلعة حتى طلبوا الأمان أيضاً فأمنهم وسلموا إليه القلعة، فلما نزلوا منها وملكها، غدر بهم وأمر بهم فصلبوا عن آخرهم، فاستقبح الناس ذلك واستعظموه، وحذره الناس، وكانت بعلبك لمعين الدين أتز، أعطاه إياها جمال الدين محمد لما ملك دمشق، وكان أتز قد تزوج بأم جمال الدين محمد صاحب دمشق، وكان له جارية يحبها، فأخرجها أتز إلى بعلبك. فلما ملك زنكي بعلبك أخذ الجارية المذكورة(3/14)
وتزوجها في حلب، وبقيت مع زنكي حتى قتل على قلعة جعبر، فأرسلها ابنه نور الدين محمود بن زنكي إلى أتز وهي كانت أعظم الأسباب في المودة بين نور الدين وأتز.
ذكر غير ذلك في هذه السنة توالت الزلازل بالشام، وخربت كثيراً من البلاد لا سيما حلب. فإن أهلها فارقوا بيوتهم، وخرجوا إلى الصحراء. ودامت من رابع صفر إلى تاسع عشر.
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وخمسمائة.
في هذه السنة سار عماد الدين زنكي إلى دمشق وحصرها، وزحف عليها، وبذل لصاحبها جمال الدين محمد بعلبك وحمص، فلم يأمنوا إليه بسبب غدره بأهل بعلبك، وكان نزوله على داريا في ثالث عشر ربيع الأول، واستمر منازلاً لدمشق، فمرض في تلك المدة جمال الدين محمد بن توري صاحب دمشق ومات، في ثامن شعبان.
فطمع زنكي حينئذ في ملك دمشق وزحف إليها واشتد القتال فلم ينل غرضاً. ولما مات جمال الدين محمد، أقام معين الدين أتز في الملك، ولده مجير الدين أتق بن محمد بن توري بن طغتكين، واستمر أتز يدبر الدولة، فلم يظهر لموت جمال الدين محمد أثر.
ثم رحل زنكي ونزل بعذرا من المرج في سادس شوال وأحرق عدة من قرى المرج ورحل عائداً إلى بلاده.
وفي هذه السنة ملك زنكي شهر زور وأخذها من صاحبها قبجق بن ألب أرسلان شاه التركماني، وبقي في طاعة زنكي، ومن جملة عسكره وفيها قتل المقرب جوهر من كبراء عسكر سنجر، وكان قد عظم في الدولة، وكان من جملة إقطاع المقرب المذكور الري. قتله الباطنية، ووقفوا له في زي النساء؛ واستغثن به، فوقف يسمع كلامهم فقتلوه.
وفيها توفي هبة الله بن الحسين بن يوسف المعروف بالبديع الإسطرلابي، وكانت له اليد الطولى في عمل الإسطرلاب والآلات الفلكية، وله شعر جيد؛ وأكثره في الهزل.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وخمسمائة. في هذه السنة وصل رسول السلطان سنجر ومعه بردة النبي صلى الله عليه وسلم والقضيب، وكانا أخذا من المسترشد، فأعادهما الآن إلى المقتفي.
وفي هذه السنة ملك الإسماعيلية حصن مصياف بالشام، وكان واليه مملوكاً لبني منقذ صاحب شيزر فاحتال عليه الإسماعيلية ومكروا به حتى صعدوا إليه وقتلوه وملكوا الحصن.
وفيها توفي الفتح بن محمد بن عبيد الله بن خاقان، قتيلاً في فندق بمراكش، وكان فاضلاً في الأدب، وألف عدة كتب منها: قلائد العقيان، ذكر فيه عدة من الفضلاء وأشعارهم، ولقد أجاد فيه.
ثم دخلت سنة ست وثلاثين وخمسمائة. في هذه السنة في المحرم، وقيل في صفر كان المصاف العظيم بين الترك الكفار من الخطا وبين السلطان سنجر. فإن خوارزم شاه أطسز بن محمد لما هزمه سنجر وقتل ولد أطسز، عظم ذلك عليه، وكاتب الخطا وأطمعهم(3/15)
في ملك ما وراء النهر فساروا في جمع عظيم، وسار إليهم السلطان سنجر في جمع عظيم، والتقوا بما وراء النهر، فانهزم عسكر سنجر، وقتل منهم خلق عظيم، وأسرت امرأة سنجر، ولما تمت الهزيمة على المسلمين، سار خوارزم شاه أطسز إلى خراسان، ونهب أموال سنجر، ومن بلادها شيئاً كثيراً، واستقرت دولة الخطا والترك الكفار بما وراء النهر.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وخمسمائة. في هذه السنة بعث عماد الدين زنكي جيشاً ففتحوا قلعة أشب، وكانت من أعظم حصون الأكراد الهكارية وأمنعها، ولما ملكها زنكي أمر بإخرابها وبناء القلعة المعروفة بالعمادية عوضاً عنها، وكانت العمادية حصنا عظيماً خراباً، فلما عمره عماد الدين زنكي سمي العمادية نسبه إليه.
وفيها سارت الفرنج في البحر من صقلية إلى طرابلس الغرب، فحصروها ثم عادوا عنها. وفيها توفي محمد بن الدانشمند صاحب ملطية والثغر، واستولى على بلاده الملك مسعود بن قليج أرسلان السلجوقي صاحب قونية.
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة في هذه السنة كان الصلح بين السلطان مسعود وبين عماد الدين زنكي. وفيها سار زنكي بعساكره إلى ديار بكر، ففتح منها طنزة واستعرد، وحيزان وحصن الروق، وحصن قطليس وحصن باتاسا وحصن ذي القرنين، وأخذ من بلد ماردين مما هو بيد الفرنج، جملين والموزر وتل موزر من حصون شنحتان.
وفيها سار السلطان سنجر بعسكره إلى خوارزم، وحصر أطسز بها، فبذل خوارزم شاه أطسز الطاعة، فأجابه سنجر إلى ذلك واصطلحا، وعاد سنجر إلى مرو.
وفيها ملك زنكي عانة من أعمال الفرات.
وفيها قتل داود ابن السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه، قتله جماعة اغتالوه ولم يعرفوا.
وفيها توفي أبو القاسم محمود بن عمر النحوي الزمخشري، ولد في رجب سنة سبع وستين وأربعمائة. وهو من زمخشر، قرية من قرى خوارزم. كان إماماً في العلوم، صنف المفصل في النحو والكشاف في التفسير، وجهر القول فيه بالاعتزال، وافتتحه بقوله: الحمد لله الذي خلق القرآن منجماً. ثم أصلحه أصحابه فكتبوا: الحمد لله الذي أنزل القرآن. وله غير ذلك من المصنفات، فمنها: كتاب الفائق في غريب الحديث. وقدم الزمخشري بغداد وناظر بها، ثم حج وجاور بمكة سينين كثيرة، فسمي لذلك جار الله. وكان حنفي الفروع، معتزلي الأصول، وللزمخشري نظم حسن، فمنه من جملة أبيات:
فإنا اقتصرنا بالذين تضايقت ... عيونهم والله يجزي من اقتصر
مليح ولكن عنده كل جفوة ... ولم أر في الدنيا صفاءً بلا كدر
ومن شعره يرثي شيخه أبا مضر منصوراً:
وقائلة ما هذه الدرر التي ... تساقط من عينيك سمطين سمطين(3/16)
فقلت لها الدر الذي كان قد حشا ... أبو مضر أذني تساقط من عيني
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وخمسمائة في هذه السنة فتح عماد الدين زنكي الرها من الفرنج بالسيف بعد حصار ثمانية وعشرين يوماً. ثم تسلم مدينة سروج وسائر الأماكن التي كانت بيد الفرنج شرقي الفرات، وأما البيرة فنزل علمها وحاصرها، ثم رحل عنها بسبب قتل نائبه بالموصل وهو نصير الدين جقر. وسبب قتله: أنه كان عند زنكي، ألب أرسلان ابن السلطان محمود بن محمد السنجوقي، وكان زنكي يقول: إن البلاد التي بيدي إنما هي لهذا الملك. ألب أرسلان المذكور، وأنا أتابكه، ولهذا أسمى أتابك زنكي، وكان ألب أرسلان المذكور بالموصل، وجقر يقوم بوظائف خدمته، فحسن بعض المناحيس لألب أرسلان المذكور قتل جقر وأخذ البلاد من عماد الدين زنكي، فلما دخل جقر إلى ألب أرسلان على عادته، وثب عليه من عند ألب أرسلان فقتلوه، فاجتمعت كبراء دولة زنكي وأمسكوا ألب أرسلان ولم يطعه أحد. ولما بلغ زنكي ذلك وهو محاصر للبيرة، عظم عليه قتل جقر، وخشي من الفتن، فرحل عن البيرة لذلك.
وخشي الفرنج الذين بها من معاودة الحصار، وعلموا بضعفهم عن عماد الدين فراسلوا نجم الدين صاحب ماردين وسلموا البيرة إليه وصارت للمسلمين.
وفيها خرج أسطول الفرنج من صقلية إلى ساحل إفريقية، وملكوا مدينة برسك، وقتلوا أهلها، وسبوا الحريم.
وفيها توفي تاشفين بن علي بن يوسف بن تاشفين صاحب المغرب، وولي بعده أخوه إسحاق ابن علي، وضعف أمر الملثمين وقوي عبد المؤمن، وقد تقدم ذكر ذلك في سنة أربع عشرة وخمسمائة.
ثم دخلت سنة أربعين وخمسمائة. فيها هرب علي بن دبيس بن صدقة من السلطان مسعود، وكان قد أراد حبسه في قلعة تكريت، فهرب إلى الحلة واستولى عليهما، وكثر جمعه وقويت شوكته.
وفيها اعتقل الخليفة المقتفي أخاه أبا طالب، وضيق عليه، وكذلك احتاط على غيره من أقاربه.
وفيها ملك الفرنج شنترين وتاجر وماردة وأشبونة وسائر المعاقل المجاورة لها من بلاد الأندلس.
وفيهما توفي مجاهد الدين بهروز، وحكم في العراق نيفاً وثلاثين سنة وكان بهروز خصياً أبيض.
وفيها توفي الشيخ أبو منصور، مرهوب بن أحمد الجواليقي اللغوي ومولده في ذي الحجة سنة خمس وستين وأربعمائة، أخذ اللغة عن أبي زكريا التبريزي، وكان يؤم بالخليفة المقتفي، وكان طويل الصمت كثير التحقيق، لا يقول الشيء إلا بعد فكر كثير. وكان يقول إذا سئل لا أدري، وأخذ العلم عنه جماعة منهم تاج الدين أبو اليمن زيد بن الحسن الكندي، ومحب الدين أبو البقا، وعبد الوهاب بن سكينه.
وفيها توفي أبو بكر يحيى بن عبد الرحمن بن بقي الأندلسي القرطبي الشاعر المشهور صاحب الموشحات البديعة، ومن شعره ما أورده في قلائد العقيان:(3/17)
يا أفتك الناس ألحاظاً وأطيبهم ... ريقاً متى كان فيك الصاب والعسل
في صحن خدك وهو الشمس طالعة ... ورد يزيدك فيه الراح والخجل
إيمان حبك في قلبي مجددة ... من خدك الكتب أو من لحظك الرسل
إن كنت تجهل أني عبد مملكة ... مرني بما شئت آتيه وأمتثل
لو اطلعت على قلبي وجدت به ... من فعل عينيك جرحاً ليس يندمل
ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وخمسمائة.
ذكر ملك الفرنج طرابلس الغرب
وسبب ملكها أنهم نزلوا عليها وحصروها، فلما كان اليوم الثالث من نزولهم، سمع الفرنج في المدينة ضجة عظيمة، وخلت الأسوار من المقاتلة، وكان سببه أن أهل طرابلس اختلفوا، فأراد طائفة منهم تقديم رجل من الملثمين ليكون أميرهم، وأرادت طائفة أخرى تقديم بني مطروح، فوقعت الحرب بين الطائفتين وخلت الأسوار، فانتهز الفرنج الفرصة، وصعدوا بالسلالم وملكوها بالسيف. في المحرم من هذه السنة، وسفكوا دماء أهلها، وبعد أن استقر الفرنج في ملك طرابلس بذلوا الأمان لمن بقي من أهل طرابلس، وتراجعت إليها الناس وحسن حالها.
حصار عماد الدين زنكي حصني جعبر وفنك
ومقتله:
في هذه السنة سار زنكي ونزل على قلعة جعبر وحصرها، وصاحبها علي بن مالك بن سالم ابن مالك بن بدران بن المقلد بن المسيب العقيلي. وأرسل عسكراً إلى قلعة فنك، وهي تجاور جزيرة ابن عمر، فحصرها أيضاً وصاحبها حسام الدولة الكردي البشنوي.
ولما طال على زنكي منازلة قلعة جعبر، أرسل مع حسام البعلبكي الذي كان صاحب منبج، يقول لصاحب قلعة جعبر: قل لي من يخلصك مني، فقال صاحب قلعة جعبر لحسان: يخلصني منه الذي خلصك من بلك بن بهرام بن أرتق. وكان بلك محاصراً المنبج، فجاءه سهم فقتله، فرجع حسان إلى زنكي ولم يخبره بذلك، فاستمر زنكي منازلاً قلعة جعبر، فوثب عليه جماعة من مماليكه وقتلوه في خامس في ربيع الآخر من هذه السنة بالليل، وهربوا إلى قلعة جعبر، فصاح من بها على العسكر وأعلموهم بقتل زنكي، فدخل أصحابه إليه وبه رمق، وكان عماد الدين زنكي حسن الصورة، أسمر اللون، مليح العينين، قد وخطه الشيب. وكان قد زاد عمره على ستين سنة ودفن بالرقة.
وكان شديد الهيبة على عسكره عظيمها. وكان له الموصل وما معها من البلاد، وملك الشام خلا دمشق. وكان شجاعاً وكانت الأعداء محيطة بمملكته من كل جهة، وهو ينتصف منهم ويستولي على بلادهم، ولما قتل زنكي كان ولده نور الدين محمود حاضراً عنده، فأخذ خاتم والده وهو ميت من إصبعه، وسار إلى حلب فملكها، وكان صحبة زنكي أيضاً الملك(3/18)
ألب أرسلان بن محمود ابن السلطان محمد السلجوقي، فركب في يوم قتل زنكي، واجتمعت عليه العساكر، فحسن له بعض أصحاب زنكي الأكل والشرب وسماع المغاني، فسار ألب أرسلان إلى الرقة وأقام بها منعكفاً على ذلك وأرسل كبراء دولة زنكي إلى ولده سيف الدين غازي بن زنكي يعلمونه بالحال وهو بشهرزور، فسار إلى الموصل واستقر في ملكها وأما ألب أرسلان فتفرقت عنه العساكر، وسار إلى الموصل يريد ملكها، فلما وصلها قبض عليه غازي بن زنكي وحبسه في قلعة الموصل، واستقر ملك سيف الدين غازي للموصل وغيرها.
ذكر غير ذلك من الحوادث
في هذه السنة أرسل عبد المؤمن بن علي جيشاً إلى جزيرة الأندلس، فملكوا ما فيها من بلاد الإسلام واستولوا عليها.
وفيها بعد قتل عماد الدين زنكي، قصد صاحب دمشق مجير الدين أبق حصن بعلبك وحصره، وكان به نجم الدين أيوب بن شاذي، مستحفظاً، فخاف أن أولاد زنكي لا يمكنهم إنجاده بالعاجل، فصالحه وسلم القلعة إليه، وأخذ منه قطاعاً وملكه عدة قرى من بلاد دمشق، وانتقل أيوب إلى دمشق وسكنها وأقام بها.
ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة في هذه السنة دخل نور الدين محمود بن زنكي صاحب حلب بلاد الفرنج، ففتح منها مدينة أرتاح بالسف، وحصر مامولة وبصر فوت وكفر لاثا.
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة.
ملك الفرنج المهدية بإفريقية
وحال مملكة بني باديس
كان قد حصل بإفريقية غلاء شديد حتى أكل الناس بعضهم بعضاً، ودام من سنة سبع وثلاثين وخمسمائة إلى هذه السنة، ففارق الناس القرى ودخل أكثرهم إلى جزيرة صقلية. فاغتنم رجار الفرنجي صاحب صقلية هذه الفرصة، وجهز أسطولاً نحو مائتين وخمسين شينياً مملوءة رجالاً وسلاحاً، واسم مقدمهم جرج، وساروا من صقلية إلى جزيرة قوصرة وهي ما بين المهدية وصقلية، وساروا منها وأشرفوا على المهدية ثاني صفر من هذه السنة. وكان في المهدية الحسن بن علي بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس الصنهاجي صاحب إفريقية. فجمع كبراء البلد واستشارهم، فرأوا ضعف حالهم وقلة المؤنة عندهم، فاتفق رأي الأمير حسن ابن علي على إخلاء المهدية، فخرج منها وأخذ معه ما خف حمله، وخرج أهل المهدية على وجوههم بأهليهم وأولادهم، وبقي الأسطول في البحر تمنعه الريح من الوصول إلى المهدية.
ثم دخلوا المهدية بعد مضي ثلثي النهار المذكور بغير ممانع ولا مدافع، ولم يكن قد بقي من المسلمين بالمهدية ممن عزم على الخروج أحد، ودخل جرج مقدم الفرنج إلى قصر الأمير حسن بن علي، فوجده على حاله لم يعدم منه إلا ما خف حمله، ووجد فيه جماعة من حظايا الحسن بن علي، ووجد الخزائن مملوءة من الذخائر النفيسة من كل شيء(3/19)
غريب، يقل وجود مثله، وسار الأمير حسن بأهله وأولاده إلى بعض أمراء العرب، ممن كان يحسن إليه وأقام عنده، وأراد الحسن المسير إلى الخليفة العلوي الحافظ صاحب مصر، فلم يقدر على المسير لخوف الطرق، فسار إلى ملك بجاية يحيى بن العزيز من بني حماد، فوكل يحيى المذكور على الحسن وعلى أولاده من يمنعهم من التصرف، ولم يجتمع يحيى بهم، وأنزلهم في جزائر بني مزغنان، وبقي الحسن كذلك حتى ملك عبد المؤمن بن علي بجاية في سنة سبع وأربعين وخمسمائة، وأخذها هي وجميع ممالك بني حماد، فحضر الأمير الحسن عنده، فأحسن إليه عبد المؤمن وأكرمه، واستمر على ذلك في خدمة عبد المؤمن إلى أن فتح المهدية، فأقام فيها والياً من جهته وأمره أن يقتدي برأي الأمير حسن ويرجع إلى قوله، وكان عدة من ملك من بني باديس بن مناذ إلى الحسن، تسعة ملوك. وكانت ولايتهم في سنج إحدى وستين وثلاث مائة، وانقضت في سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ثم إن جرج بذل الأمان لأهل المهدية وأرسل وراءهم بذلك، وكانوا قد أشرفوا على الهلاك من الجوع فتراجعوا إلى المهدية.
حصر الفرنج لدمشق في هذه السنة سار ملك الألمان، والألمان بلادهم وراء القسطنطينية، حتى وصل إلى الشام في جمع عظيم، ونزل على دمشق وحصرها، وصاحبها مجير الدين أتق بن محمد بن توري بن طغتكين. والحكم وتدبير المملكة إنما هو لمعين الدين أتز مملوك جده طغتكين. وفي سادس ربيع الأول زحفوا على مدينة دمشق، ونزل ملك الألمان بالميدان الأخضر، وأرسل أتز إلى سيف الدين غازي صاحب الموصل يستنجده، فسار بعسكره من الموصل إلى الشام، وسار معه أخوه نور الدين محمود بعسكره، ونزلوا على حمص ففت ذلك في أعضاد الفرنج وأرسل أتز إلى فرنج الشام يبذل لهم تسليم قلعة بانياس، فتخلوا عن ملك الألمان وأشاروا عليه بالرحيل وخوفوه من إمداد المسلمين، فرحل عن دمشق وعاد إلى بلاده، وسلم أتز قلعة بانياس إلى الفرنج حسبما شرطه لهم.
ذكر غير ذلك من الحوادث:
في هذه السنة كان بين نور الدين محمود وبين الفرنج مصاف بأرض يغرى من العمق، فانهزم الفرنج وقتل منهم وأسر جماعة كثيرة، وأرسل من الأسرى والغنيمة إلى أخيه سيف الدين غازي صاحب الموصل.
وفيها ملك الفرنج من الأندلس مدينة طرطوشة، وجميع قلاعها، وحصون لارده وفيها كان الغلاء العام من خراسان إلى العراق إلى الشام إلى بلاد المغرب. وفي ربيع الأول من هذه السنة، أعني سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، قتل نور الدولة شاهنشاه بن أيوب أخو السلطان صلاح الدين قتله الفرنج(3/20)
لما كانوا منازلين دمشق، فجرى بينهم وبين المسلمين مصاف، قتل فيه شاهنشاه المذكور، وهو أبو الملك المظفر عمر صاحب حماة، وأبو فرخشاه صاحب بعلبك، وكان شاهنشاه أكبر من صلاح الدين، وكانا شقيقين.
ثم دخلت سنة أربع وأربعين وخمسمائة.
وفاة غازي بن زنكي
في هذه السنة توفي سيف الدين غازي بن عماد الدين، أتابك زنكي صاحب الموصل، بمرض حاد في أواخر جمادى الآخرة، وكانت ولايته ثلاث سنين وشهراً وعشرين يوماً. وكان حسن الصورة، ومولده سنة خمسمائة. وخلف ولدا ذكراً، فرباه عمه نور الدين، وأحسن تربيته. وتوفي المذكور شاباً، وانقرض بموته عقب سيف الدين غازي.
وكان سيف الدين المذكور كريماً، يصنع لعسكره كل يوم طعاماً كثيراً بكرة وعشية، وهو أول من حمل على رأسه السنجق في ركوبه، وأمر الأجناد أن لا يركبوا إلا بالسيوف في أوساطهم، والدبوس تحت ركبهم. فلما فعل ذلك، اقتدى به أصحاب الأطراف، ولما توفي سيف الدين غازي، كان أخره قطب الدين مودود بن زنكي مقيماً بالموصل، فاتفق جمال الدين الوزير، وزين الدين علي أمير الجيش، على تمليكه، فحلفاه وحلفا له، وكذلك باقي العسكر، وأطاعه جميع بلاد أخيه سيف الدين. ولما تملك، تزوج الخاتون ابنة تمرتاش صاحب ماردين، وكان أخوه سيف الدين قد تزوجها، ومات قبل الدخول بها، وهي أم أولاد قطب الدين.
وفاة الحافظ لدين الله العلوي
وولاية الظافر:
وفي هذه السنة، في جمادى الآخرة، توفي الحافظ لدين الله عبد المجيد بن الأمير أبي القاسم بن المستنصر العلوي، صاحب مصر، وكانت خلافته عشرين سنة إلا خمسة أشهر. وكان عمره نحو سبع وسبعين سنة، ولم يل الخلافة من العلويين المصريين - من أبوه غير خليفة - غير الحافظ والعاضد، على ما سنذكره. ولما توفي الحافظ، بويع بعده ابنه الظافر بأمر الله أبو منصور إسماعيل بن الحافظ عبد المجيد. واستوزر ابن مصال، فبقي أربعين يوماً، وحضر من الإسكندرية العادل بن السلار، وكان قد خرج ابن مصال من القاهرة في طلب بعض المفسدين، فأرسل العادل بن السلار ربيبه عباس بن أبي الفتوح بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس الصنهاجي، وكان أبوه أبو الفتوح. قد فارق أخاه علي بن يحيى صاحب إفريقية، وقدم إلى الديار المصرية وتوفي بها، فتزوج العادل بن السلار بزوجة أبي الفتوح المذكور، ومعها ولدها عباس بن أبي الفتوح، فرباه العادل وأحسن تربيته، ولما قدم العادل إلى مصر يريد الاستيلاء على الوزارة، أرسل ربيبه عباساً في عسكر إلى ابن مصال، فظفر به عباس وقتله، وعاد إلى العادل بالقاهرة، فاستقر العادل في الوزارة(3/21)
وتمكن، ولم يكن للخليفة الظافر معه حكم، وبقي العادل كذلك إلى سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، فقتله ربيبه عباس المذكور وتولى الوزارة على ما سنذكره.
ذكر غير ذلك من الحوادث:
وفي هذه السنة حصر نور الدين محمود بن زنكي حصن حارم، فجمع البرنس صاحب أنطاكية الفرنج وسار إلى نور الدين، واقتتلوا، فانتصر نور الدين وقتل البرنس، وانهزم الفرنج، وكثر القتل فيهم، ولما قتل البرنس، ملك بعده ابنه بيمند وهو طفل، وتزوجت أمه برجل آخر، وتسمى بالبرنس. ثم إن نور الدين غزاهم غزوة أخرى، فهزمهم وقتل فيهم وأسر، وكان فيمن أسر البرنس الثاني زوج أم بيمند، فتمكن بيمند في ملك أنطاكية.
وفيها زلزلت الأرض زلزلة شديدة. وفيها توفي معين الدين أنز، صاحب دمشق، وهو الذي كان إليه الحكم فيها، وإليه ينسب قصير معين الدين الذي في الغور.
وفيها تولى أبو المظفر يحيى بن هبيرة وزارة الخليفة المقتفي، يوم الأربعاء، رابع ربيع الآخر، وكان قبل ذلك صاحب ديوان الزمام. وفيها توفي القاضي ناصح الدين الأرجاني، وأرجان من أعمال تستر، وتولى المذكور قضاء تستر، واسمه أحمد بن محمد بن الحسين، وله الشعر الفائق، فمن ذلك قوله:
ولما بلوت الناس أطلب عندهم ... أخاً ثقة عند اعتراض الشدائد
تطلعت في حالي رخاء وشدة ... وناديت في الأحياء هل من مساعد
فلم أر فيما ساءني غير شامت ... ولم أر فيما سرني غير حاسد
تمتعتما يا ناظري بنظرة ... وأوردتما قلبي أمر الموارد
أعيني كفا عن فؤادي فإنه ... من البغي سعي اثنين في قتل واحد
وفيها توفي بمراكش، القاضي عياض بن موسى بن عياض السبتي، ومولده بها في سنة ست وسبعين وأربعمائة أحد الأئمة الحفاظ الفقهاء المحدثين الأدباء، وتكيفه وأشعاره شاهدة بذلك، ومن تصانيفه: الإجمال في شرح كتاب مسلم. ومشارق الأنوار في تفسير غريب الحديث.
ثم دخلت سنة خمس وأربعين وخمسمائة في هذه السنة رابع عشر المحرم، أخذت العرب جميع الحجاج بين مكة والمدينة، ذكر أن اسم ذلك المكان الغرابي، فهلك أكثرهم، ولم يصل منهم إلى البلاد إلا القليل. وفيها سار نور الدين محمود بن زنكي إلى أفامية، وحصر قلعتها وتسلمها من الفرنج، وحصنها بالرجال والذخائر، وكان قد اجتمع الفرنج وساروا ليرحلوه عنها، فملكها قبل وصولهم، فلما بلغهم فتحها تفرقوا.
وفيها سار الأذفونش صاحب طليطلة بجموع الفرنج إلى قرطبة وحصرها ثلاث أشهر، ثم رحل عنها ولم يملكها. وفيها مات الأمير علي بن دبيس بن صدقة صاحب الحلة.
ثم دخلت سنة ست وأربعين وخمسمائة.(3/22)
هزيمة نور الدين بن جوسلين ثم أسر جوسلين كان جوسلين من أعظم فرسان الفرنج، قد جمع بين الشجاعة وجودة الرأي، وكان نور الدين قد عزم على قصد بلاده، فجمع جوسلين الفرنج، فأكثر، وسار نحو نور الدين، والتقوا، فانهزم المسلمون، وقتل وأسر منهم جمع كثير، وكان من جملة من أسر، السلاح دار، ومعه سلاح نور الدين، فأرسله جوسلين إلى مسعود بن قليج أرسلان، صاحب قونية، وأقسرا، وقال: هذا سلاح زوج ابنتك، وسآتيك بعده بما هو أعظم منه، فعظم ذلك على نور الدين، وهجر الملاذ، وفكر في أمر جوسلين، وجمع التركمان وبذل لهم الوعود إن ظفروا به، إما بإمساك أو بقتل، فاتفق أن جوسلين طلع إلى الصيد، فكبسه التركمان وأمسكوه، فبذل لهم مالاً فأجابوه إلى إطلاقه، فسار بعض التركمان وأعلم أبا بكر ابن الداية نائب نور الدين بحلب، فأرسل عسكراً كبسوا التركمان الذين عندهم جوسلين، وأحضروه إلى نور الدين أسيراً. وكان أسر جوسلين من أعظم الفتوح، وأصيبت النصرانية كافة بأسره، ولما أسر سار نور الدين إلى بلاد جوسلين وقلاعه، فملكها، وهي تل باشر، وعين تاب، وذلوك، وعزاز، وتل خالد، وقورس، والرواندان، وبرج الرصاص، وحصن الباره، وكفر سود، وكفر لاثا، ومرعش، ونهر الجوز، وغير ذلك. في مدة يسيرة. وكان نور الدين كلما فتح منه موضعاً حصنه بما يحتاج إليه من الرجال والذخائر.
ثم دخلت سنة سبع وأربعين وخمسمائة من الكامل في هذه السنة سار عبد المؤمن بن علي إلى بجاية وملكها، وملك جميع ممالك بني حماد، وأخذها من صاحبها يحيى بن العزيز بن حماد، آخر ملوك بني حماد، وكان يحيى المذكور مولعاً بالصيد واللهو، لا ينظر في شيء من أمور مملكته، ولما هزم عبد المؤمن عسكر يحيى، هرب يحيى وتحصن بقلعة قسطنطينية من بلاد بجاية، ثم نزل يحيى إلى عبد المؤمن بالأمان فأمنه، وأرسله إلى بلاد المغرب، وأقام بها، وأجرى عبد المؤمن عليه شيئاً كثيراً. وقد ذكر في تاريخ القيروان: أن مسير عبد المؤمن وملكة تونس وإفريقية إنما كان في سنة أربع وخمسين وخمسمائة.
وفاة السلطان مسعود
بن محمد بن ملكشاه وملك ملكشاه ومحمد، ابني محمود:
وفي هذه السنة، وقيل في أواخر سنة ست وأربعين، في أول رجب، توفي السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه بهمدان، ومولده سنة اثنتين وخمسمائة، في ذي القعدة، ومات معه سعادة البيت السلجوقي، فلم يقم لهم بعده راية يعتد بها، وكان حسن الأخلاق، كثير المزاح والانبساط مع الناس، كريماً، عفيفاً عن أموال الرعايا.
ولما مات عهد بالملك(3/23)
إلى ابن أخيه ملكشاه بن محمود، فقعد في السلطنة وخطب له، وكان المتغلب على المملكة أميراً يقال له خاص بك، وأصله صبي تركماني اتصل بخدمة السلطان مسعود، فتقدم على سائر أمرائه، ثم إن خاص بك المذكور، قبض على السلطان ملكشاه بن محمود وسجنه، وأرسل إلى أخيه محمد ابن محمود وهو بخورستان، فأحضره وتولى السلطنة، وجلس على السرير، وكان قصد خاص بك، أن يمسكه ويخطب لنفسه بالسلطنة، فبدره السلطان محمد في ثاني يوم وصوله، فقتل خاص بك وقتل معه زنكي الجاندار، وألقى برأسيهما، فتفرق أصحابهما.
فتح دلوك في هذه السنة جمعت الفرنج وساروا إلى نور الدين، وهو محاصر دلوك، فرحل عنها وقاتلهم أشد قتال الناس، وانهزمت الفرنج، وقتل وأسر كثير منهم، ثم عاد نور الدين إلى دلوك فملكها ومما مدح به في ذلك:
أعدت بعصرك هذا الجديد ... فتوح النبي وأعصارها
وفي تل باشر باشرتهم ... بزحف تسور أسوارها
وإن دالكتهم دلوك فقد ... سددت فصدقت أخبارها
ذكر ابتداء ظهور الملوك الغورية وانقراض دولة آل سبكتكتين: أول من اشتهر من الملوك الغورية، أولاد الحسين. وأولهم محمد بن الحسين، وكان قد صاهر بهرام شاه بن مسعود، صاحب غزنة، من آل سبكتكين، وسار محمد بن الحسين المذكور إلى غزنة، تظهر الطاعة لبهرام شاه، ويبطن الغدر، فأمسكه بهرام شاه وقتله. فتولى بعده في ملك الغورية أخوه سودي بن الحسين، وسار إلى غزنة طالباً بثأر أخيه، وجرى القتال بينه وبين بهرام شاه، فظفر بهرام شاه بسودي وقتله أيضاً، وانهزم عسكره.
ثم ملك بعدهما أخوهما علاء الدين الحسين بن الحسين، وسار إلى غزنة، فانهزم عنها صاحبها بهرام شاه، واستولى علاء الدين الحسين على غزنة، وأقام فيها أخاه سيف الدين سام بن الحسين، وعاد علاء الدين الحسين بن الحسين إلى الغور فكاتب أهل غزنة بهرام شاه، فسار إليهم واقتتل مع سيف الدين الغوري، فانتصر بهرام شاه وظفر بسيف الدين سام فقتله، واستقر بهرام شاه في ملك غزنة. ثم توفي بهرام شاه وملك بعده ابنه خسروشاه، وتجهز علاء الدين الحسين ملك الغورية وسار إلى غزنة، في سنة خمسين وخمسمائة، فلما قرب منها فارقها صاحبها خسروشاه بن بهرام شاه، وسار إلى لهاوور وملك علاء الدين الحسين بن الحسين غزنة ونهبها ثلاثة أيام، وتلقب علاء الدين بالسلطان المعظم، وحمل الجتر على عادة السلاطين السلجوقية.
وأقام الحسين على ذلك مدة، واستعمل على غزنة ابني أخبه، وهما غياث الدين محمد بن سام، وأخوه شهاب الدين محمد بن سام. ثم جرى بينهما وبين عمهما علاء(3/24)
الدين الحسين حرب، انتصر فيه على عمهما وأسراه، ولما أسراه أطلقاه وأجلساه على التخت، ووقفا في خدمته، واستمر عمهما في السلطنة، وزوج غياث الدين بابنته، وجعله ولي عهده، وبقي كذلك إلى أن مات علاء الدين الحسين بن الحسين، في سنة ست وخمسين وخمسمائة، على ما نذكره.
وملك بعده غياث الدين محمد بن سام بن الحسين، وخطب لنفسه في الغور وغزنة بالملك، ثم استولى الغز على غزنة، وملكوها منه مدة خمس عشرة سنة ثم أرسل غياث الدين أخاه شهاب الدين إلى غزنة، فسار إليها وهزم الغز، وقتل منهم خلقاً كثيراً، واستولى على غزنة وما جاورها من البلاد، مثل كرمان وشنوران وماه السند، وقصد لهاوور، وبها يومئذ خسرو شاه بن بهرام شاه السبكتكيني، فملكها شهاب الدين في سنة تسع وسبعين وخمسمائة، بعد حصار، وأعطى خسروشاه الأمان، وحلف له، فحضر خسروشاه عند شهاب الدين بن سام المذكور، فأكرمه شهاب الدين، وأقام خسروشاه على ذلك شهرين، ولما بلغ غياث الدين بن سام ذلك، أرسل إلى أخيه شهاب الدين يطلب منه خسروشاه، فأمره شهاب الدين بالتوجه، فقال خسروشاه: أنا ما أعرف أخاك ولا سلمت نفسي إلا إليك، فطيب شهاب الدين خاطره، وأرسله وأرسل أيضاً ابن خسروشاه مع أبيه إلى غياث الدين، وأرسل معهما عسكراً يحفظونهما، فلما وصلوا إلى الغور، لم يجتمع بهما غياث الدين، بل أمر بهما فرفعا إلى بعض. القلاع، وكان آخر العهد بهما، وخسروشاه المذكور هو ابن بهرام شاه بن مسعود بن إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين، وهو آخر ملوك آل سبكتكين.
وكان ابتداء دولتهم سنة ست وستين وثلاثمائة، وملكوا مائتي سنة وثلاث عشرة سنة تقريباً، فيكون انقراض دولتهم في سنة ثمان وسبعين وخمسمائة. وقدمنا ذلك لتتصل أخبارهم، وكان ملوكهم من أحسن الملوك سيرة، وقيل إن خسروشاه توفي في الملك، وملك بعده ابنه ملكشاه على ما نشير إليه في مواضعه، إن شاء الله تعالى. ولما استقر ملك الغورية بلهاوور، واتسعت مملكتهم وكثرت عساكرهم، كتب غياث الدين إلى أخيه شهاب الدين بإقامة الخطبة له بالسلطنة، وتلقب بألقاب منها: معين الإسلام. قسيم أمير المؤمنين.
ولما استقر ذلك، سار شهاب الدين إلى أخيه غياث الدين، واجتمعا وسار إلى خراسان، وقصدا مدينة هراة وحصراها، وتسلمها غياث الدين بالأمان. ثم سار ومعه شهاب الدين في عساكرهما إلى بوشنج، فملكها ثم عاد إلى باذغيس، وكالين، وبيوار، فملكها.
ثم رجع غياث الدين إلى بلدة فيروزكوه، ورجع أخوه شهاب الدين إلى غزنة، ولما استقر شهاب الدين بغزنة، قصد بلاد الهند وفتح مدينة آجر. ثم عاد إلى غزنة، ثم قصد الهند، فذلل صعابها، وتيسر له فتح الكثير من بلادهم ودوخ ملوكهم، وبلغ منهم ما لم يبلغ أحد من ملوك المسلمين، ولما كثر فتوحه في الهند، اجتمعت الهنود مع ملوكهم في خلق كثير، والتقوا مع شهاب الدين، وجرى بينهم قتال عظيم، فانهزم المسلمون وجرح(3/25)
شهاب الدين، وبقي بين القتلى. ثم اجتمعت عليه أصحابه وحملوه إلى مدينة آجر، واجتمعت عليه عساكره، وأقام شهاب الدين في آجر حتى آتاه المدد من أخيه غياث الدين. ثم اجتمعت الهنود، وتنازل الجمعان، وبينهما نهر، فكبس عساكر المسلمين الهنود، وتمت الهزيمة عليهم، وقتل المسلمون من الهنود ما يفوق الحصر، وقتلت ملكتهم، وتمكن شهاب الدين بعد هذه الوقعة من بلاد الهند، وأقطع مملوكه قطب الدين أيبك مدينة دهلي، وهي من كراسي ممالك الهند، فأرسل أيبك عسكراً مع مقدم يقال له محمد بن بختيار، فملكوا من الهند مواضع ما وصلها مسلم قبله، حتى قاربوا جهة الصين.
ذكر وفاة صاحب ماردين في هذه السنة توفي حسام الدين تمرتاش بن أيلغازي، صاحب ماردين وميافارقين، وكانت ولايته نيفاً وثلاثين سنة، لأنه ولي بعد موت أبيه في سنة ست عشرة وخمسمائة حسبما تقدم ذكره، وتولى بعده ابنه نجم الدين البلي بن تمرتاش بن أيلغازي بن أرتق.
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وخمسمائة.
ذكر أخبار الغز
وهزيمة السلطان سنجر منهم، وأسره:
في هذه السنة في المحرم، انهزم السلطان سنجر من الأتراك الغز، وهم طائفة من الترك، وكانوا بما وراء النهر، فلما ملكه الخطا، أخرجوهم منه، فقصدوا خراسان، وكانوا كفاراً، وكان من أسلم منهم وخالط المسلمين، يصير ترجماناً بين الفريقين، حتى صار من أسلم منهم قيل عنه إنه صار ترجماناً، ثم قيل تركماناً بالكاف العجمية، وجمع على تراكمين، ثم أسلم الغز جميعهم، فقيل لهم تراكمين، ولما قدموا إلى خراسان أقاموا بنواحي بلخ مدة طويلة، ثم عن للأمير قماج مقطع بلخ، أن يخرجهم من بلاده، فامتنعوا، فسار قماج إليهم في عشرة آلاف فارس، فحضر إليه كبراء الغز، وسألوه أن يكف عنهم ويتركهم في مراعيهم، ويعطوه عن كل بيت مائتي درهم، فلم يجبهم إلى ذلك، وأصر على إخراجهم أو قتالهم، فاجتمعوا واقتتلوا، فانهزم قماج وتبعه الغز يقتلون ويأسرون، ثم عاثوا في البلاد، فاسترقوا النساء، والأطفال، وخربوا المدارس، وقتلوا الفقهاء، وعملوا كل عظيمة، ووصل قماج إلى السلطان سنجر منهزماً، وأعلمه بالحال، فجمع سنجر عساكره وسار إليهم في مائة ألف فارس، فأرسل الغز يعتذرون إليه مما وقع منهم، وبذلوا له بذلاً كثيراً ليكف عنهم، فلم يجبهم وقصدهم، ووقعت بينهم حرب شديدة، فانهزمت عساكر سنجر، وتبعه الغز يقتلون فيهم ويأسرون، فقتل علاء الدين قماج، وأسر السلطان سنجر، وأسر معه جماعة من الأمراء، فضربوا أعناقهم. وأما سنجر فلما أسروه اجتمع أمراء الغز وأقبلوا الأرض بين يديه وقالوا له: نحن عبيدك لا نخرج عن طاعتك. وبقي معهم كذلك شهرين(3/26)
أو ثلاث.
ودخلوا معه إلى مرو، وهي كرسي ملك خراسان، فطلبها منه بختيار إقطاعاً، وهو من أكبر أمراء الغز، فقال سنجر: هذه دار الملك ولا يجوز أن تكون إقطاعاً لأحد، فضحكوا منه، وحبق له بختيار بفمه، فلما رأى سنجر ذلك، نزل عن سرير الملك ودخل خانقاه مرو وتاب من الملك، واستولى الغز على البلاد، فنهبوا نيسابور، وقتلوا الكبار والصغار، وقتلوا القضاة والعلماء والصلحاء، الذين بتلك البلاد، فقتل الحسين بن محمد الأرسانيدي، والقاضي علي بن مسعود، والشيخ محي الدين محمد بن يحيى، الفقيه الشافعي، الذي لم يكن في زمانه مثله، وكان رحلة الناس من الشرق والغرب، وغيرهم من الأئمة والفضلاء، ولم يسلم شيء من خراسان من النهب غير هراة، ودهستان، لحصانتهما.
ولما كان من هزيمة سنجر وأسره ما كان، اجتمع عسكره على مملوك لسنجر يقال له أي به، ولقبه المؤيد، واستولى المؤيد على نيسابور، وطوس، ونسا، وأبيورد، وشهرستان، والدامغان، وأزاح الغز عنها، وأحسن السيرة في الناس، وكذلك استولى في السنة المذكورة على الري مملوك لسنجر يقال له إينانج، وهادى الملوك واستقر قدمه وعظم شأنه.
ذكر غير ذلك من الحوادث
في هذه السنة قتل العادل بن السلار، وزير الظافر العلوي. قتله ربيبه عباس بن أبي الفتوح الصنهاجي، بإشارة أسامة بن منقذ، وكان العادل قد تزوج بأم عباس المذكور، وأحسن تربية عباس، فجازاه بأن قتله وولي مكانه، وكانت الوزارة في مصر لمن غلب. وفيها كان بين عبد المؤمن ملك الغرب، وبين العرب، حرب شديد، انتصر فيها عبد المؤمن. وفيها مات رجار الفرنجي ملك صقلية بالخوانيق، وكان عمره قريب ثمانين سنة، وملكه نحو عشرين سنة، وملك بعده ابنه غليالم.
وفيها في رجب توفي بغزنة بهرام شاه بن مسعود بن إبراهيم السبكتكيني، صاحب غزنة، وقام بالملك بعده ولده نظام الدين خسروشاه، وكانت مدة ملك بهرام شاه نحو ست وثلاثين سنة، وذلك من حين قتل أخاه أرسلان شاه بن مسعود، في سنة اثنتي عشرة وخمسمائة، وكان ابتداء ولايته من حين انهزم أخوه قبل ذلك، في سنة ثمان وخمسمائة حسبما تقدم ذكره، في السنة المذكورة، وكان بهرام شاه حسن السيرة.
وفيها ملك الفرنج مدينة عسقلان، وكانت لخلفاء مصر، والوزراء يجهزون إليها فلما كانت هذه السنة، قتل العادل بن السلار، واختلفت الأهواء في مصر، فتمكن الفرنج من عسقلان وحاصروها وملكوها.
وفيها وصلت مراكب من صقلية، فنهبوا مدينة تنيس بالديار المصرية.
وفيها توفي أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستاني المتكلم على مذهب الأشعري، وكان إماماً في علم الكلام والفقه، وله عدة مصنفات منها: نهاية الإقدام في علم الكلام، والملل والنحل، والمناهج، وتلخيص الأقسام لمذاهب الأنام.(3/27)
ودخل بغداد سنة عشر وخمسمائة، وكانت ولادته سنة سبع وستين وأربعمائة بشهرستان. وتوفي بها، وشهرستان اسم لثلاث مدن: الأولى شهرستان خراسان، بين نيسابور وخوارزم، عند أول الرمل المتصل بناحية خوارزم، وهي التي منها محمد الشهرستاني المذكور، وبناها عبد الله بن طاهر أمير خراسان. والثانية شهرستان بأرض فارس. والثالثة مدينة جي بأصفهان، يقال لها شهرستان، وبينها وبين اليهودية مدينة أصفهان نحو ميل، ومعنى هذه الكلمة مدينة الناحية بالعجمي، لأن شهر اسم المدينة راستان الناحية.
ثم دخلت سنة تسع وأربعين وخمسمائة.
قتل الظافر وولاية ابنه الفائز
في هذه السنة في المحرم، قتل الظافر بالله أبو منصور إسماعيل ابن الحافظ لدين الله عبد المجيد العلوي، قتله وزيره عباس الصنهاجي، وسببه أنه كان لعباس ولد حسن الصورة، يقال له نصر، فأحبه الظافر وما بقي يفارقه، وكان قد قدم من الشام مؤيد الدولة أسامة بن منقذ الكناني، في وزارة العدل، فحسن لعباس قتل العادل، فقتله وتولى مكانه، ثم حسن لعباس أيضاً قتل الظافر، فإنه قال له: كيف تعبر على ما أسمع من قبيح القول؟ فقال له عباس: ما هو؟ فقال: إن الناس يقولون إن الظافر يفعل بابنك نصر. فأنف عباس، وأمر ابنه نصراً، فدعا الظافر إلى بيته وقتلاه، وقتلا كل من معه، وسلم خادم صغير فحضر إلى القصر وأعلمهم بقتل الظافر، ثم حضر عباس إلى القصر وطلب الاجتماع بالظافر، وطلبه من أهل القصر، فلم يجدوه، فقال: أنتم قد قتلتموه، فأحضر أخوين للظافر يقال لهما يوسف وجبريل، وقتلهما عباس المذكور أيضاً. ثم أحضر الفائز بنصر الله أبا القاسم عيسى بن الظافر إسماعيل ثاني يوم قتل أبوه، وله من العمر ثلاث سنين، فحمله عباس على كتفه وأجلسه على سرير الملك، وبايع له الناس، وأخذ عباس من القصر من الأموال والجواهر النفيسة شيئاً كثيراً، ولما فعل عباس ذلك، اختلفت عليه الكلمة، وثارت الجند والسودان، وكان طلائع بن رزيك في منية ابن خصيب، والياً عليها، فأرسل إليه أهل القصر من النساء والخدم يستغيثون به، وكان فيه شهامة، فجمع جمعه وقصد عباساً، فهرب عباس إلى نحو الشام بما معه من الأموال والتحف التي لا يوجد مثلها، ولما كان في أثناء الطريق، خرجت الفرنج على عباس المذكور فقتلوه وأخذوا ما كان معه، وأسروا ابنه نصراً وكان قد استقر طلائع بن رزيك بعد هرب عباس في الوزارة، ولقب الملك الصالح، فأرسل الصالح بن رزيك إلى الفرنج، وبذل لهم مالاً، وأخذ منهم نصر بن عباس وأحضره إلى مصر، وأدخل القصر، فقتل وصلب على باب زويلة، وأما أسامة ابن منقذ فإنه كان مع عباس، فلما قتل عباس هرب أسامة ونجا إلى الشام، ولما استقر أمر الصالح بن رزيك، وقع في الأعيان بالديار المصرية، فأبادهم بالقتل والهروب إلى البلاد البعيدة.(3/28)
ذكر حصر تكريت في هذه السنة سار المقتفي لأمر الله الخليفة، بعساكر بغداد، وحصر تكريت وأقام عليها عدة مجانيق، ثم رحل عنها ولم يظفر بها.
ملك نور الدين محمود بن زنكي دمشق وأخذها من صاحبها مجير الدين أبق بن محمد بن توري بن طغتكين، كان الفرنج قد تغلبوا بتلك الناحية بعد ملكهم مدينة عسقلان، حتى أنهم استعرضوا كل مملوك وجارية بدمشق من النصارى، وأطلقوا قهراً كل من أراد منهم الخروج من دمشق واللحوق بوطنه، شاء صاحبه أو أبى، فخشي نور الدين أن يملكوا دمشق، فكاتب أهل دمشق واستمالهم في الباطن، ثم سار إليها وحصرها، ففتح له باب الشرقي فدخل منه، وملك المدينة، وحصر مجير الدين في القلعة، وبذل له إقطاعاً من جملته مدينة حمص، فسلم مجير الدين القلعة إلى نور الدين، وسار إلى حمص، فلم يعطه إياها نور الدين وأعطاه عوضها بالس، فلم يرضها مجير الدين وسار عنها إلى العراق، وأقام ببغداد، وابتنى داراً بقرب النظامية، وسكنها حتى مات بها.
وفي هذه السنة والتي بعدها، ملك نور الدين قلعة تل باشر وأخذها من الفرنج.
ثم دخلت سنة خمسين وخمسمائة في هذه السنة سار الخليفة المقتفي إلى دقوقا فحصرها، وبلغه حركة عسكر الموصل إليه، فرحل عنها ولم يبلغ غرضاً. وفيها هجم الغز تيسابور بالسيف، وقيل كان معهم السلطان سنجر معتقلاً، وله اسم السلطنة ولكن لا يلتفت إليه، وكان إذا قدم إليه الطعام يدخر منه ما يأكله وقتاً آخر، خوفاً من انقطاعه عنه، لتقصيرهم في حقه.
ثم في دخلت سنة إحدى وخمسين وخمسمائة في هذه السنة ثارت أهل بلاد إفريقية على من بها من الفرنج، فقتلوهم، وسار عسكر عبد المؤمن فملك بونة، وخرجت جميع إفريقية عن حكم الفرنج، ما عدا المهدية وسوسة.
وفيها قبض زين الدين علي كوجك نائب قطب الدين مودود بن زنكي بن أقسنقر، صاحب الموصل، على الملك سليمان شاه ابن السلطان محمد بن ملكشاه السلجوقي، وكان سليمان المذكور قد قدم إلى بغداد، وخطب له بالسلطنة في هذه السنة، وخلع عليه الخليفة المقتفي، وقلده السلطنة على عادتهم، وخرج من بغداد بعسكر الخليفة ليملك به بلاد الجبل، فاقتتل هو وابن عمه السلطان محمد بن محمود بن محمد بن ملكشاه، فانهزم سليمان شاه، وسار يريد بغداد على شهرزور، فخرج إليه علي كوجك بعسكر الموصل، فأسره وحبسه بقلعة الموصل، مكرماً، إلى أن كان منه ما نذكره في سنة خمس وخمسين.(3/29)
ذكر وفاة خوارزم شاه في هذه السنة، تاسع جمادى الآخرة، توفي خوارزم شاه أطسز بن محمد بن أنوش تكين، وكان قد أصابه فالج، فاستعمل أدوية شديدة الحرارة، فاشتد مرضه وتوفي، وكانت ولادته في رجب سنة تسعين وأربعمائة، وكان حسن السيرة، ولما توفي ملك بعده ابنه أرسلان بن أطسز.
ذكر وفاة ملك الروم وفي هذه السنة توفي الملك مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان بن قطلومش بن أرسلان بن سلجوق، صاحب قونية وغيرها من بلاد الروم، ولما توفي ملك بعده ابنه قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان المذكور.
ذكر هرب السلطان سنجر من أسر الغز في هذه السنة في رمضان، هرب السلطان سنجر بن ملكشاه من أسر الغز. وسار إلى قلعة ترمذ، ثم سار من ترمذ إلى جيحون، ووصل إلى دار ملكه بمرو في رمضان من هذه السنة، فكانت مدة أسره من سادس جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين إلى رمضان سنة إحدى وخمسين وخمسمائة.
ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة بايع عبد المؤمن لولده محمد بولاية العهد بعده، وكانت ولاية العهد لأبي حفص عمر، وكان من أصحاب ابن تومرت، وهو من أكبر الموحدين، فأجاب إلى خلع نفسه والبيعة لابن عبد المؤمن.
وفيها استعمل عبد المؤمن أولاده على البلاد، فاستعمل ابنه عبد الله على بجاية وأعمالها، وابنه عمر على تلمسان وأعمالها، وابنه علياً على فارس وأعمالها، وابنه أبا سعيد على سبتة والجزيرة الخضراء ومالقة، وكذلك غيرهم.
وفي هذه السنة سار الملك محمد ابن السلطان محمود السلجوقي، من همذان بعساكر كثيرة إلى بغداد، وحصرها، وجرى بينهم قتال، وحصن الخليفة المقتفي دار الخلافة، واعتد للحصار، واشتد الأمر على أهل بغداد، وبينما الملك محمد على ذلك، إذ وصل إليه الخبر، أن أخاه ملكشاه ابن السلطان محمود، والدكز صاحب بلاد أران، ومعه الملك أرسلان ابن الملك طغريل بن محمد، وكان الدكز مزوجاً بأم أرسلان المذكور، قد دخلوا إلى همذان، فرحل الملك محمد عن بغداد وسار نحوهم، في الرابع والعشرين من ربيع الأول سنة اثنين وخمسين وخمسمائة.
وفيها احترقت بغداد، فاحترق درب فراشا، ودرب الدواب، ودرب اللبان، وخرابة ابن جردة، والظفرية، والخاتونية، ودار الخلافة، وباب الأدج، وسوق(3/30)
السلطان، وغير ذلك.
وفيها توفي أبو الحسن بن الخل، شيخ الشافعية في بغداد، وهو من أصحاب الشاشي، وجمع بين العلم والعمل.
وتوفي ابن الآمدي الشاعر، وهو من أهل النيل، في طبقة الغزي والأرجاني، وكان عمره قد زاد على تسعين سنة. وفيها قتل مظفر بن حماد، صاحب البطيحة، قتل في الحمام، وتولى بعده ابنه. وفيها توفي الوأواء الحلبي، الشاعر المشهور.
وفيها توفي الحكيم أبو جعفر بن محمد البخاري، بإسفرائين، وكان عالماً بعلوم الفلسفة.
ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة.
ذكر الزلازل بالشام
وأخبار بني منقذ أصحاب شيزر إلى أن ملك نور الدين شيزر:
في هذه السنة في رجب، كان بالشام زلازل قوية، فخربت بها حماة وشيزر وحمص وحصن الأكراد وطرابلس وأنطاكية، وغيرها من البلاد المجاورة لها، حتى وقعت الأسوار والقلاع، فقام نور الدين محمود بن زنكي في ذلك الوقت، المقام المرضي، من تداركها بالعمارة، وإغارته على الفرنج ليشغلهم عن قصد البلاد، هلك تحت الهدم ما لا يحصى، ويكفي أن معلم كتاب كان بمدينة حماة، فارق المكتب، وجاءت الزلزلة، فسقط المكتب على الصبيان جميعهم، قال المعلم: فلم يحضر أحد يسأل عن صبي كان له هناك، ولما خربت قلعة شيزر بهذه الزلزلة، ومات بنو منقذ تحت الردم سار الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي إلى شيزر، وملكها يوم الثلاثاء، ثالث جمادى الأولى، من سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة، واستولى على كل من فيها لبني منقذ، سلمها إلى مجد الدين أبي بكر ابن الداية، وقد ذكر ابن الأثير، أن شيزر لم تزل لبني منقذ، يتوارثونها من أيام صالح بن مرداس صاحب حلب، وليس الأمر كذلك، فإن صالح المذكور، كانت وفاته في سنة عشرين وأربعمائة، وملك بني منقذ لشيزر، كان في سنة أربع وسبعين وأربعمائة، فيكون ملكهم لشيزر بعد وفاة صالح بن مرداس بأربع وخمسين سنة، ونحن نورد أخبار بني منقذ محققة حسبما نقلناها من تاريخ مؤيد الدولة سامة ابن مرشد، وكان المذكور أفضل بني منقذ، قال: وفي سنة ثمان وستين وأربعمائة، بدأ جدي سديد الملك أبو الحسن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني بعمارة حصن الجسر، وحصر به حصن شيزر. - أقول ويعرف الجسر المذكور في زماننا بجسر ابن منقذ، وموضع الحصن اليوم تل خال من العمارة، وهو غربي شيزر، على مسافة قريبة منها - رجعنا إلى كلام ابن منقذ قال: وكان في شيزر وال للروم، اسمه دمتري، فلما طالت المضايقة لدمتري المذكور، راسل جدي، هو ومن عنده من الروم، في تسليم حصن شيزر إليه، باقتراحات اقترحوها عليه، منها مال يدفعه إلى دمتري المذكور، ومنها إبقاء أملاك الأسقف الذي بها عليه، فإنه استمر مقيماً تحت يد جدي(3/31)
حتى مات بشيزر، ومنها أن القنطارية، وهم رجالة الروم، يُسلّفهم ديوانهم لثلاث سنين، فسلم إليهم جدي ما التمسوه، وتسلم حصن شيزر يوم الأحد، في رجب، سنة أربع وسبعين وأربعمائة، واستمر سديد الملك علي بن مقلد المذكور مالكها إلى أن توفي فيها، في سادس المحرم سنة تسع وسبعين وأربعمائة، وتولى بعده ولده أبو المرهف نصر بن علي إلى أن توفي، سنة إحدى وتسعين وأربعمائة. وتولى بعده أخره أبو العساكر سلطان بن علي إلى أن توفي فيها، وتولى ولده محمد بن سلطان إلى أن مات تحت الردم، هو وثلاثة أولاده بالزلزلة، في هذه السنة المذكورة، أعني سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة، في يوم الاثنين ثالث رجب.
انتهى ما نقلناه من تاريخ ابن منقذ، ولنرجع إلى كلام ابن الأثير.
قال: فلما انتهى ملك شيزر إلى نصر بن علي بن نصر بن منقذ، استمر فيها إلى أن مات سنة إحدى وتسعين وأربعمائة، فلما حضره الموت، استخلف أخاه مرشد بن علي على حصن شيزر، فقال مرشد: والله لا وليته، ولأخرجن من الدنيا كما دخلتها، ومرشد هو والد مؤيد الدولة أسامة بن منقذ، فلما امتنع مرشد من الولاية، ولاّها نصر، أخاه الصغير سلطان بن علي، واستمر مرشد مع أخيه سلطان على أجمل صحبة مدة من الزمان، وكان لمرشد عدة أولاد نجباً، ولم يكن لسلطان ولد، ثم جاء لسلطان الأولاد، فخشي على أولاده من أولاد أخيه مرشد، وسعى المفسدون بين مرشد وسلطان، فتغير كل منهما على صاحبه، فكتب سلطان إلى أخيه مرشد أبياتاً يعتبه، وكان مرشد عالماً بالأدب والشعر، فأجابه مرشد بقصيدة طويلة منها:
شكت هجرنا والذنب في ذاك ذنبها ... فيا عجبا من ظالم جاء شاكيا
وطاوعت الواشين في وطال ما ... عصيت عذولاً في هواها وواشيا
ومال بها تيه الجمال إلى القلى ... وهيهات أن أمسى لها الدهر قانيا
ومنها:
ولما أتاني من قريظك جوهر ... جمعت المعالي فيه لي والمعانيا
وكنت هجرت الشعر حيناً لأنه ... تولى برغمي حين ولى شبابيا
ومنها:
وقلت أخي يرعى بنيّ وأسرتي ... ويحفظ عهدي فيهم وذماميا
فمالك لما أن حنى الدهر صعدتي ... وثلم مني صارماً كان ماضيا
تنكرت حتى صار برُّكَ قسوة ... وقربُك منهم جفوةً وتنائيا
على أنني ما حلت عما عهدته ... ولا غيرت هذي السنون وداديا
وكان الأمر بين مرشد وأخيه سلطان فيه تماسك، إلى أن توفي مرشد، سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة، فأظهر سلطان التغير على أولاد أخيه مرشد المذكور، وجاهرهم بالعداوة،(3/32)
ففارقوا شيزر، وقصد أكثرهم نور الدين محمود بن زنكي، وشكوا إليه من عمهم سلطان، فغاظه ذلك، ولم يمكنه قصده لاشتغاله بجهاد الفرنج، وبقي سلطان كذلك إلى أن توفي، وولي بعده أولاده.
فلما خربت القلعة في هذه السنة بالزلزلة، لم ينج من بني منقذ الذين كانوا بها أحد، فإن صاحبها منهم كان قد ختن ولده، وعمل دعوة للناس، وأحضر جميع بني منقذ في داره، فجاءت الزلزلة، فسقطت الدار والقلعة عليهم، فهلكوا عن آخرهم، وكان لصاحب شيزر بن منقذ المذكور حصان يحبه، ولا يزال على باب داره، فلما جاءت الزلزلة وهلك بنو منقذ تحت الهدم، سلم منهم واحد، وهرب يطلب باب الدار، فلما خرج من الباب رفسه الحصان المذكور فقتله، وتسلم نور الدين القلعة والمدينة.
ذكر وفاة السلطان سنجر في هذه السنة في ربيع الأول، توفي السلطان سنجر بن ملكشاه بن أبى أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق، أصابه قولنج، ثم إسهال، فمات منه. ومولده بسنجار في رجب سنة تسع وسبعين وأربعمائة، واستوطن مدينة مرو من خراسان وقدم إلى بغداد مع أخيه السلطان محمد، واجتمع معه بالخليفة المستظهر، فلما مات محمد، خوطب سنجر بالسلطان، واستقام أمره، وأطاعته السلاطين، وخطب له على أكثر منابر الإسلام بالسلطنة، نحو أربعين سنة، وكان قبلها يخاطب بالملك نحو عشرين سنة، ولم يزل أمره عالياً إلى أن أسره الغز، ولما خلص من أسرهم، وكاد أن يعود إليه ملكه، أدركه أجله. وكان مهيباً كريماً، وكانت البلاد في زمانه آمنة، ولما وصل خبر موته إلى بغداد، قطعت خطبته، ولما حضر سنجر الموت، استخلف على خراسان الملك محمود بن محمد بن بغراخان، وهو ابن أخت سنجر، فأقام خائفاً من الغز.
ذكر غير ذلك من الحوادث:
في هذه السنة، استولى أبو سعيد بن عبد المؤمن على غرناطة من الأندلس، وأخذها من الملثمين، وانقرضت دولة الملثمين ولم يبق لهم غير جزيرة ميورقة. ثم سار أبو سعيد في جزيرة الأندلس، وفتح المرية، وكانت بأيدي الفرنج مدة عشر سنين. وفيها ملك نور الدين بعلبك، وأخذها من إنسان كان قد استولى عليهما من أهل البضع يقال له ضحاك البقاعي، كان قد ولاه صاحب دمشق عليها، فلما ملك نور الدين دمشق، استولى ضحاك المذكور على بعلبك.
وفيها قلع المقتفي الخليفة باب الكعبة، وعمل عوضه باباً مصفحاً بالفضة المذهبة، وعمل لنفسه من الباب الأول تابوتاً يدفن فيه.
وفيها مات محمد بن عبد اللطيف بن محمد الخجندي، رئيس أصحاب الشافعي بأصفهان، وكان صدراً مقدماً عند السلاطين.
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة فيها قصد(3/33)
ملكشاه بن السلطان محمود السلجوقي قم وقاشان ونهبهما، وكان أخوه السلطان محمد بن محمود، بعد رحيله عن حصار بغداد، قد مرض، فطال مرضه، فأرسل إلى أخيه ملكشاه أن يكف عن النهب، ويجعله ولي عهده، فلم يقبل ملكشاه ذلك، ثم سار ملكشاه إلى خورشان واستولى عليها، وأخذها من صاحبها شملة التركماني.
وفي هذه السنة توفي يحيى بن سلامة بن الحسن، بميافارقين، الحصكفي الشاعر وكان يتشيع. ومن شعره:
وخليع بتُّ أعذله ... ويرى عذلي من العبث
قلت إن الخمر مخبثة ... قال حاشاها من الخبث
قلت فالأرفاث تتبعها ... قال طيب العيش في الرفث
قلت منها القيء قال أجل ... شرفت عن مخرج الخبث
وسأسلوها، فقلت متى؟ قال عند الكون في الجدث ثم دخلت سنة أربع وخمسين وخمسمائة.
ذكر فتح المهدية
في أواخر هذه السنة، نزل عبد المؤمن على مدينة المهدية، وأخذها من الفرنج يوم عاشورا، سنة خمسين وخمسمائة، وملك جميع إفريقية، وكان قد ملك الفرنج المهدية في سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وأخذوها من صاحبها الحسن بن علي بن يحيى بن تميم الصنهاجي، وبقيت في أيديهم إلى هذه السنة، ففتحه عبد المؤمن، فكان ملك الفرنج المهدية اثنتي عشرة سنة تقريباً، ولما ملكها عبد المؤمن، أصلح أحوالها، واستعمل عليها بعض أصحابه، وجعل معه الحسن بن علي الصنهاجي، الذي كان صاحبها، وكان قد سار إلى بني حماد ملوك بجاية، ثم اتصل بعبد المؤمن حسبما تقدم ذكر ذلك، فأقام عنده مكرماً إلى هذه السنة، فأعاده عبد المؤمن إلى المهدية، وأعطاه بها دوراً نفيسة وإقطاعاً، ثم رحل عبد المؤمن عنها إلى الغرب.
ذكر وفاة السلطان محمد وفي هذه السنة، وقيل في سنة خمس وخمسين، توفي السلطان محمد بن محمود بن محمد بن ملكشاه. السلجوقي، في ذي الحجة، وهو الذي حاصر بغداد، ولما عاد عنها لحقه سل، وطال به فمات بباب همدان، وكان مولده في ربيع الآخر سنة اثنين وعشرين وخمسمائة، وكان كريماً عاقلاً، وخلف ولداً صغيراً، ولما حضره الموت، سلم ولده إلى أقسنقر الأحمديلي وقال: أنا أعلم أن العساكر لا تطيع مثل هذا الطفل، فهو وديعة عندك، فارحل به إلى بلادك. فرحل به أقسنقر إلى بلدة مرأغا. ولما مات السلطان محمد، اختلفت الأمراء، فطائفة طلبوا ملكشاه أخاه، وطائفة طلبوا سليمان شاه بن محمد بن ملكشاه بن(3/34)
ألب أرسلان، الذي كان قد اعتقل في الموصل، وهم الأكثر، ومنهم من طلب أرسلان بن طغريل، الذي كان مع الدكز. وبعد موت محمد سار أخوه ملكشاه إلى أصفهان فملكها.
ذكر مرض نور الدين وفي هذه السنة مرض نور الدين بن زنكي مرضاً شديداً، أرجف بموته، وكان بقلعة حلب، فجمع أخوه أمير ميران بن زنكي جمعاً وحصر قلعة حلب، وكان شيركوه بحمص، وهو من أكبر أمراء نور الدين، فسار إلى دمشق ليستولي عليها، وبها أخوه نجم الدين أيوب، فأنكر عليه أيوب ذلك وقال: أهلكتنا، والمصلحة أن تعود إلى حلب، فإن كان نور الدين حياً، خدمته في هذا الوقت، وإن كان قد مات، فإنا في دمشق نفعل ما تريد من ملكها. فعاد شيركوه إلى حلب مجداً، وجلس نور الدين في شباك يراه الناس، فلما رأوه حياً تفرقوا عن أخيه أمير ميران، واستقامت الأحوال ذكر أخبار اليمن من تاريخ اليمن لعمارة وفي هذه السنة استقر في ملك اليمن علي بن مهدي، وأزال ملك بني نجاح، على ما قدمنا ذكره في سنة اثنتي عشرة وأربعمائة، وعلي بن مهدي المذكور، من حمير من أهل قرية يقال لها الغبرة، من سواحل زبيد، كان أبوه مهدي المذكور، رجلاً صالحاً، ونشأ ابنه على طريقة أبيه في العزلة والتمسك بالصلاح، ثم حج، واجتمع بالعراقيين، وتضلع من معارفهم، ثم صار علي بن مهدي المذكور واعظاً، وكان فصيحاً صبيحاً حسن الصوت، عالماً بالتفسير، غزير المحفوظات، وكان يتحدث في شيء من أحوال المستقبل، فيصدق، فمالت إليه القلوب، واستفحل أمره، وصار له جموع، فقصد الجبال وأقام بها إلى سنة إحدى وأربعين وخمسمائة. ثم عاد إلى أملاكه، وكان يقول في وعظه: أيها الناس، دنا الوقت، أزف الأمر، كأنكم بما أقول لكم وقد رأيتموه عياناً. ثم عاد إلى الجبال إلى حصن يقال له الشرف، وهو لبطن من خولان، فأطاعوه وسماهم الأنصار، وسمى كل من صعد معه من تهامة، المهاجرين، وأقام على خولان رجلاً اسمه سبأ، وعلى المهاجرين رجلاً اسمه التويتي، وسمى كلا من الرجلين شيخ الإسلام، وجعلهما نقيبين على الطائفتين فلا يخاطبه أحد غيرهما، وهما يوصلان كلامه إلى الطائفتين، وكلام الطائفتين وحوائجهما إليه، وأخذ يغادي الغارات ويراوحها على التهايم، حتى أخلى البوادي، وقطع الحرث والقوافل.
ثم إنه حاصر زبيد، واستمر مقيماً عليها حتى قتل فاتك بن محمد، آخر ملوك بني نجاح، قتله عبيدة، وجرى بين ابن مهدي وعبيد فاتك حروب كثيرة، وآخرها أن ابن مهدي انتصر عليهم، وملك زبيد، واستقر في دار الملك يوم الجمعة، رابع عشر رجب من هذه السنة،(3/35)
أعني سنة أربع وخمسين وخمسمائة. وبقي ابن مهدي في الملك شهرين وإحدى وعشرين يوماً، ثم مات علي بن مهدي المذكور في السنة التي ملك فيها في شوال، ثم ملك اليمن بعده ولده مهدي بن علي بن مهدي، ولم يقع تاريخ وفاته، ثم ملك اليمن بعده ولده عبد النبي بن مهدي، ثم خرجت المملكة عن عبد النبي المذكور إلى أخيه عبد الله، ثم عادت إلى عبد النبي واستقر فيها حتى سار إليه توران شاه بن أيوب من مصر في سنة تسع وستين وخمسمائة، وفتح اليمن واستقر في ملكه، وأسر عبد النبي المذكور، وهو عبد النبي بن مهدي بن علي بن مهدي الحميري، وهو من ملك اليمن من بني حمير، وكان مذهب علي بن مهدي التكفير بالمعاصي، وقتل من خلف اعتقاده من أهل القبلة واستباحة وطء سباياهم، واسترقاق ذراريهم، وكان حنفي الفروع، وكان أصحابه يعتقدون فيه فوق ما يعتقده الناس في الأنبياء، صلوات الله عليهم، ومن سيرته قتل من شرب ومن سمع الغناء.
ثم دخلت سنة خمس وخمسين وخمسمائة.
ذكر مسير سليمان شاه إلى همذان
وما كان منه إلى أن قتل
مات محمد بن محمود بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان، أرسلت الأمراء وطلبوا عمه سليمان شاه بن محمد بن ملكشاه ليولوه السلطنة، وكان قد اعتقل في الموصل مكرماً، فجهزه قطب الدين مودود بن زنكي، صاحب الموصل، بشيء كثير، وجهاز يليق بالسلطنة، وسار معه زين الدين علي كجك بعسكر الموصل إلى همذان، وأقبلت العساكر إليهم، كل يوم تلقاه طائفة، وأميره ثم تسلطت العساكر عليه ولم يبق له حكم، وكان سليمان فيه تهور وخرق، وكان يدمن شرب الخمر، حتى أنه شرب في رمضان نهاراً، وكان يجمع عنده المساخر، ولا يلتفت إلى الأمراء، فأهمل العسكر أمره، وصاروا لا يحضرون بابه، وكان قد رد جميع الأمور إلى شرف الدين كردبازو الخادم، وهو من مشايخ الخدم السلجوقية، يرجع الأمور إلى دين وحسن تدبير.
فاتفق يوماً أن سليمان شرب بظاهر همذان بالكشك، فحضر إليه كردياز ولامه، فأمر سليمان من عنده من المساخر فعبثوا بكردبازو، حتى أن بعضهم كشف له سوءته، فاتفق كردبازو مع الأمراء على قبضه، وعمل كردبازو دعوة عظيمة، فلما حضرها الملك سليمان في داره، قبض عليه كردبازو وحبسه، وبقي في الحبس مدة، ثم أرسل إليه كردبازو من خنقه، وقيل سقاه سماً؟، فمات في ربيع الآخر سنة ست وخمسين وخمسمائة.
ولما مات سار الدكز في عساكر تزيد على عشرين ألفاً، ومعه أرسلان شاه بن طغريل بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان، ووصل إلى همذان، فلقيه كردبازو وأنزله في دار المملكة، وخطب لأرسلان شاه بالسلطنة، وكان الدكز مزوجاً بأم أرسلان شاه، فولدت للدكز أولاداً منهم: البهلوان محمد، وقزل أرسلان عثمان، أبناء الدكز.(3/36)
وبقي الدكز أتابك أرسلان وابنه البهلوان، وهو أخو أرسلان لأمه حاجبه، وكان هذا الدكز أحد مماليك السلطان مسعود، اشتراه في أول أمره، ثم أقطعه آران وبعض بلاد أذربيجان، فعظم شأنه وقوي أمره، ولما خطب لأرسلان شاه بالسلطنة في تلك البلاد، أرسل الدكز إلى بغداد يطلب الخطبة لأرسلان شاه بالسلطنة، على عادة الملوك السلجوقية، فلم يجب إلى ذلك، ونحن قد قدمنا ذكر موت سليمان وولاية أرسلان ليتصل ذكر الحادثة، وهي في الكامل مذكورة في موضعين، في سنة خمس وسنة ست وخمسمائة.
ذكر وفاة الفائز وولاية العاضد العلويين في هذه السنة توفي الفائز بنصر الله أبو القاسم عيسى بن إسماعيل الظافر، خليفة مصر، وكانت خلافته ست سنين ونحو شهرين، وكان عمره لما ولي ثلاث سنين، وقيل خمس سنين، ولما مات دخل الصالح بن رزيك القصر، وسأل عمن يصلح، فأحضر له منهم إنسان كبير السن، فقال بعض أصحاب الصالح له سراً: لا يكون عباس أحزم منك. حيث اختار الصغير، فأعاد الصالح الرجل إلى موضعه، وأمر بإحضار العاضد لدين الله أبي محمد عبد الله بن الأمير يوسف بن الحافظ، ولم يكن أبوه خليفة، وكان العاضد ذلك الوقت مراهقاً، فبايع له بالخلافة، وزوجه الصالح بابنته، ونقل معها من الجهاز ما لا يسمع بمثله.
وفاة المقتفي لأمر الله في هذه السنة ثاني ربيع الأرل، توفي الخليفة المقتفي لأمر الله أبو عبد الله محمد بن المستظهر أبي العباس أحمد، بعلة التراقي، وكان مولده ثاني ربيع الآخر، سنة تسع وثمانين وأربعمائة، وأمه أم ولد، وكانت خلافته أربعاً وعشرين سنة، وثلاثة أشهر وستة عشر يوماً، وكان حسن السيرة، وهو أول من استبد بالعراق منفرداً عن سلطان يكون معه، وكان يبذل الأموال العظيمة لأصحاب الأخبار في جميع البلاد، حتى كان لا يفوته منها شيء.
خلافة المستنجد
وهو ثاني ثلاثينهم ولما توفي المقتفي لأمر الله محمد، بويع ابنه يوسف، ولقب المستنجد بالله، وأم المستنجد أم ولد تدعى طاووس، ولما بويع المستنجد بالخلافة، بايعه أهله وأقاربه، فمنهم عمه أبو طالب، ثم أخوه أبو جعفر بن المقتفي، وكان أكبر من المستنجد، ثم بايعه الوزير ابن هبيرة، وقاضي القضاة وغيرهم.(3/37)
ذكر وفاة صاحب غزنة في هذه السنة في رجب توفي السلطان خسروشاه بن بهرام شاه بن مسعود بن إبراهيم بن مسعود بن محمد بن سبكتكين، صاحب غزنة، وكان عادلاً حسن السيرة، وكانت ولايته في سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، ولما مات ملك بعده ابنه ملكشاه بن خسروشاه، وقيل والده خسروشاه المذكور توفي في حبس غياث الدين الغوري، وأنه آخر ملوك بني سبكتكين حسبما تقدم ذكره، في سنة سبع وأربعين وخمسمائة، والله أعلم بالصواب.
ذكر وفاة ملكشاه والسلجوقي في هذه السنة توفي السلطان ملكشاه بن محمود بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان، بأصفهان، مسموماً.
ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة حج أسد الدين شيركوه بن شاذي، مقدم جيش نور الدين محمود بن زنكي.
ثم دخلت سنة ست وخمسين وخمسمائة في هذه السنة في ربيع الآخر، توفي الملك علاء الدين الحسين بن الحسين الغوري، ملك الغور، وكان عادلاً حسن السيرة، ولما مات، ملك بعده ابن أخيه غياث الدين محمد، وقد تقدم ذكر ذلك في سنة سبع وأربعين وخمسمائة.
ذكر نهب نيسابور وتخريبها وعمارة الشاذباخ في هذه السنة تقدم المؤيد أي به بإمساك أعيان نيسابور، لأنهم كانوا رؤساء للحرامية والمفسدين، وأخذ المؤيد يقتل المفسدين، فخربت نيسابور، وكان من جملة ما خرب مسجد عقيل، وكان مجمعاً لأهل العلم، وكان فيه خزائن الكتب الموقوفة، وخرب من مدارس الحنفية سبع عشرة مدرسة، وأحرق ونهب عدة من خزائن الكتب. وأما الشاذباخ، فإن عبد الله بن طاهر بن الحسين بناها لما كان أميراً على خراسان، للمأمون، وسكنها هو والجند، ثم خربت بعد ذلك، ثم جددت في أيام السلطان ألب أرسلان السلجوقي، ثم تشعثت بعد ذلك، فلما كان الآن وخربت نيسابور، أمر المؤيد أمح أي به بإصلاح سور الشاذباخ، وسكنها هو والناس، فخربت نيسابور كل الخراب، ولم يبق بها أحد.
ذكر قتل الصالح بن رزيك في هذه السنة في رمضان قتل الملك الصالح أبو الغارات طلائع بن رزيك الأرمني، وزير العاضد العلوي، جهزت عليه عمة العاضد من قتله، وهو داخل في القصر، بالسكاكين،(3/38)
ولم يمت في تلك الساعة، بل حمل إلى بيته، وأرسل يعتب على العاضد. فأرسل العاضد إلى طلائع المذكور يحلف له، أنه لم يرض، ولا علم بذلك، وأمسك العاضد عمته وأرسلها إلى طلائع فقتلها، وسأل العاضد أن يولى ابنه رزيك الوزارة، ولقب العادل، ومات طلائع واستقر ابنه العادل رزيك في الوزارة، وكان للصالح طلائع شعر حسن، فمنه في الفخر:
أبى الله إلا أن يدين لنا الدهر ... ويخدمنا في ملكنا العز والنصر
علمنا بأن المال تفنى ألوفه ... ويبقى لنا من بعده الأجر والذكر
خلطنا الندى بالبأس حتى كأننا ... سحاب لديه البرق والرعد والقطر
ذكر ملك عيسى مكة
حرسها الله تعالى:
كان أمير مكة قاسم بن أبي فليتة بن قاسم بن أبي هاشم العلوي الحسيني، فلما سمع بقرب الحاج من مكة، صادر المجاورين، وأعيان مكة، وأخذ أموالهم، وهرب إلى البرية. فلما وصل الحاج إلى مكة، رتب أمير الحاج، مكان قاسم، عمه عيسى بن قاسم بن أبي هاشم، فبقي كذلك إلى شهر رمضان، ثم إن قاسم بن أبي فليتة، جمع العرب وقصد عمه عيسى، فلما قارب مكة، رحل عنها عيسى، فعاد قاسم فملكها، ولم يكن معه ما يرضى به العرب، فكاتبوا عمه عيسى وصاروا معه، فقدم عيسى إليهم، فهرب قاسم وصعد إلى جبل أبى قبيس، فسقط عن فرسه، فأخذه أصحاب عمه عيسى وقتلوه، فغسله عمه عيسى ودفنه بالمعلى عند ابنه أبي فليتة. واستقرت مكة لعيسى.
ذكر غير ذلك في هذه السنة عبر عبد المؤمن بن علي المجاز إلى الأندلس، وبنى على جبل طارق من الأندلس مدينة حصينة، وأقام بها عدة أشهر، ثم عاد إلى مراكش. وفيها ملك قرا أرسلان صاحب حصن كيفا، قلعة شاتان، وكانت لطائفة من الأكراد، ولما ملكها خربها، وأضاف أعمالها إلى حصن طالب.
ثم دخلت سنة سبع وخمسين وخمسمائة. في هذه السنة، نازل نور الدين محمود بن زنكي قلعة حارم، وهي للفرنج مدة، ثم رحل عنها ولم يملكها.
وفيها سارت الكرج في جمع عظيم ودخلوا بلاد الإسلام، وملكوا مدينة دوين من أعمال أذربيجان، ونهبوها. ثم جمع الدكز صاحب أذربيجان جمعاً عظيماً، وغزا الكرج وانتصر عليهم.
وفيها حج الناس، فوقعت فتنة، وقتال بين صاحب مكة وأمير الحاج، فرحل الحاج ولم يقدر بعضهم على الطواف بعد الوقفة. قال ابن الأثير: وكان ممن حج ولم يطف، جدته أم أبيه، فوصلت إلى بلادها وهي على إحرامها، واستفتت الشيخ أبا القاسم بن البرزي، فأفتى أنها إذا دامت على ما بقي من إحرامها إلى قابل، وطافت، كمل حجها الأول، ثم تفدي وتحل، ثم تحرم إحراماً ثانياً، وتقف بعرفات، وتكمل مناسك الحج، فيصير لها حجة ثانية. فبقيت(3/39)
على إحرامها إلى قابل، وفعلت كما قال، فتم حجها الأول والثاني.
وفيها مات الكيا الصنهاجي، صاحب الألموت، مقدم الإسماعلية، وقام ابنه مقامه، فأظهر التوبة.
وفيها في المحرم، توفي الشيخ عدي بن مسافر الزاهد، المقيم ببلد الهكارية، من أعمال الموصل، وأصل الشيخ عدي من الشام، من بلد بعلبك، فانتقل إلى الموصل، وتبعه أهل السواد والجبال بتلك النواحي، وأطاعوه وأحسنوا الظن به. ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وخمسمائة.
ذكر وزارة شاور ثم الضرغام في هذه السنة، في صفر، وزر شاور للعاضد لدين الله العلوي، وكان شاور يخدم الصالح طلائع بن رزيك، فولاه الصعيد، وكانت ولاية الصعيد أكبر المناصب هد الوزارة، ولما خرج الصالح، أوصى ابنه العادل أن لا يغير على شاور شيئاً، لعلمه بقوة شاور، فلما تولى العادل ابن الصالح الوزارة، كتب إلى شاور بالعزل، فجمع شاور جموعه، وسار نحو العادل إلى القاهرة، فهرب العادل، وطرد وراءه شاور، وأمسكه وقتله، وهو العادل رزيك بن الصالح طلائع بن رزيك، وانقرضت بمقتله دولة بني رزيك، وفيهم يقول عمارة التميمي من أبيات طويلة:
ولت ليالي بني رزيك وانصرمت ... والمدح والشكر فيهم غير منصرم
كأن صالحهم يوماً وعادلهم ... في صدر ذا الدست لم يقعد ولم يقم
واستقر شاور في الوزارة، وتلقب بأمير الجيوش، وأخذ أموال بني رزيك وودائعهم، ثم إن الضرغام، جمع جمعاً ونازع شاور في الوزارة، في شهر رمضان، وقوى على شاور، فانهزم شاور إلى الشام، مستنجداً بنور الدين، ولما تمكن ضرغام في الوزارة، قتل كثيراً من الأمراء المصريين، لتخلو له البلاد، فضعفت الدولة لهذا لسبب، حتى خرجت البلاد من أيديهم.
ذكر وفاة عبد المؤمن
في هذه السنة، في العشرين من جمادى الآخرة، توفي عبد المؤمن بن علي، صاحب بلاد المغرب وإفريقية والأندلس، وكان قد سار من مراكش إلى سلا، فمرض بها ومات، ولما حضره الموت، جمع شيوخ الموحدين وقال لهم: قد جربت ابني محمداً فلم أره يصلح لهذا الأمر، وإنما يصلح له ابني يوسف، فقدموه، فبايعوه، ودعى بأمير المؤمنين، واستقرت قواعد ملكه، وكانت مدة ولاية عبد المؤمن ثلاث وثلاثين سنة وشهوراً. وكان حازماً سديد الرأي، حسن السياسة للأمور، كثير سفك الدم على الذنب الصغير، وكان يعظم أمر الدين ويقويه، ويلزم الناس بالصلاة بحيث أنه من رآه وقت الصلاة غير مصل قتل، وجمع الناس في المغرب على مذهب مالك في الفروع، وعلى مذهب أبي الحسن الأشعري في الأصول.(3/40)
ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة، ملك المؤيد أي به قومس، ولما ملكها أرسل إليه السلطان أرسلان بن طغريل ابن ملكشاه خلعة وألوية، وهدية جليلة، فلبس المؤيد أي به الخلع، وخطب له في بلاده.
وفي هذه السنة كبس الفرنج نور الدين محمود، وهو نازل بعسكره في البقيعة، تحت حصن الأكراد، فلم يشعر نور الدين وعسكره إلا وقد أظلت عليهم صلبان الفرنج، وقصدوا خيمة نور الدين، فلسرعة ذلك ركب نور الدين فرسه وفي رجله السنجة، فنزل إنسان كردي فقطعها، فنجا نور الدين، وقتل الكردي، فأحسن نور الدين إلى مخلفيه، ووقف عليهم الوقوف، وسار نور الدين إلى بحيرة حمص، فنزل عليها، وتلاحق به من سلم من المسلمين. وفيها أمر الخليفة المستنجد بإخلاء بني أسد، وهم أهل الحلة المزيدية، فقتل منهم جماعة، وهرب الباقون، وتشتتوا في البلاد، وذلك لفسادهم في البلاد، وسلمت بطائحهم وبلادهم إلى رجل يقال له ابن معروف.
وفيها توفي سديد الدولة محمد بن عبد الكريم بن إبراهيم، المعروف بابن الأنباري، كاتب الإنشاء بدار الخلافة، وكان فاضلاً أديباً، وكان عمره قريب تسعين سنة.
ثم دخلت سنة تسع وخمسين وخمسمائة في هذه السنة سير نور الدين محمود بن زنكي، عسكراً، مقدمهم أسد الدين شيركوه بن شاذي، إلى الديار المصرية، ومعهم شاور، وكان قد سار من مصر هارباً من ضرغام الوزير، فلحق شاور بنور الدين واستنجده، وبذل له ثلث أموال مصر، بعد رزق جندها، إن أعاده إلى الوزارة، فأرسل نور الدين شيركوه إلى مصر، فوصل إليها وهزم عسكر ضرغام، وقتل ضرغام عند قبر السيدة نفيسة، وأعاد شاور إلى وزارة العاضد العلوي.
وكان مسير أسد الدين في جمادى الأولى من هذه السنة. واستقر شاور في الوزارة، وخرجت إليه الخلع في مستهل رجب من هذه السنة، ثم غدر شاور بنور الدين ولم يف له بشيء مما شرط، فسار أسد الدين واستولى على بلبيس والشرقية، فأرسل شاور واستنجد بالفرنج، على إخراج أسد الدين شيركوه من البلاد، فسار الفرنج، واجتمع معهم شاور بعسكر مصر، وعمروا شيركوه ببلبيس، ودام الحصار مدة ثلاث أشهر، وبلغ الفرنج حركة نور الدين وأخذه حارم، فراسلوا شيركوه في الصلح، وفتحوا له، فخرج من بلبيس بمن معه من العسكر، وسار بهم ووصلوا إلى الشام سالمين.
وفي هذه السنة في رمضان، فتح نور الدين محمود قلعة حارم، وأخذها من الفرنج، بعد مصاف جرى بين نور الدين والفرنج، انتصر فيه نور الدين، وقتل وأسر من الفرنج عالماً كثيراً، وكان في جملة الأسرى البرنس، صاحب أنطاكية، والقومص صاحب طرابلس، وغنم منهم المسلمون شيئاً كثيراً.
وفي هذه السنة أيضاً في ذي الحجة، سار نور الدين إلى بانياس وفتحها، وكان بيد الفرنج من سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة إلى هذه السنة.
في هذه السنة توفي جمال الدين أبو جعفر محمد بن علي بن أبي(3/41)
منصور لأصفهاني، وزير قطب الدين مودود بن زنكي، صاحب الموصل، في شعبان، مبوضاً عليه، وكان قد قبض عليه قطب الدين، في سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، وكان قد تعاهد جمال الدين المذكور، وأسد الدين شيركوه، أنهما من مات منهما قبل الآخر، ينقله الآخر إلى مدينة الرسول، صلى الله عليه وسلم، فيدفنه فيها، فنقله شيركوه، واكترى له من يقرأ القرآن عند شيله وحطه، وكان ينادي في كل بلد ينزلونه بها بالصلاة عليه، ولما أرادوا الصلاة عليه بالحلة، صعد شاب على موضع مرتفع وأنشد:
سرى نعشه فوق الرقاب وطالما ... سرى جوده فوق الركاب ونائله
يمر على الوادي فتثني رماله ... عليه، وبالنادي فتثني أرامله
وطيف به حول الكعبة، ودفن في رباط بالمدينة بناه لنفسه، وبينه وبين قبر النبي، صلى الله عليه وسلم، نحو خمسة عشر ذراعاً، وهذا جمال الدين، هو الذي جدد مسجد الخيف بمنى، وبنى الحجر بجانب الكعبة، وزخرف الكعبة، وغرم جملة طائلة لصاحب مكة، وللمقتفي، حتى مكنه من ذلك، وهو الذي بنى المسجد الذي على جبل عرفات، وعمل الدرج إليه، وعمل بعرفات مصانع الماء، وبنى سوراً على مدينة النبي، صلى الله عليه وسلم، وبنى على دجلة جسراً، عند جزيرة ابن عمر، بالحجر المنحوت والحديد والرصاص والكلس، فقبض قبل أن يفرغ، وبنى الربط وغيرها.
وفي هذه السنة توفي نصر بن خلف، ملك سجستان، وعمره أكثر من مائة سنة، ومدة ملكه ثمانون سنة، وملك بعده ابنه أبو الفتح أحمد بن نصر.
وفيها توفي الإمام عمر الخوارزمي، خطيب بلخ، ومفتيها، والقاضي أبو بكر المحمودي صاحب التصانيف والأشعار، وله مقامات بالفارسية على نمط مقامات الحريري.
ثم دخلت سنة ستين وخمسمائة في هذه السنة، في ربيع الأول، توفي شاه مازندران رستم بن علي بن شهريار بن قارن، وملك بعده ابنه علاء الدين الحسن، وفيها ملك المؤيد أي به مدينة هراة.
وفيها كان بين قليج أرسلان صاحب قونية، وما جاورها من بلاد الروم، وبين باغي أرسلان بن الدانشمند صاحب ملطية، وما يجاورها من بلاد الروم، حروب شديدة، انهزم فيها قليج أرسلان، واتفق موت باغي أرسلان صاحب ملطية في تلك المدة، وملك بعده ملطية ابن أخيه إبراهيم بن محمد بن الدانشمند، واستولى ذو النون بن محمد بن الدانشمند على قيساربة، وملك شاهان شاه بن مسعود أخو قليج أرسلان مدينة أنكورية، واصطلح المذكورون على ذلك، واستقرت بينهم القواعد واتفقوا.
وفيها توفي عون الدين الوزير ابن هبيرة، واسمه يحيى بن محمد بن المظفر، وكان موته في جمادى الأولى، ومولده سنة سبعين وأربعمائة، ودفن بالمدرسة التي بناها الحنابلة، بباب البصرة، وكان حنبلي المذهب، وأنفق على المقتفي نفاقاً عظيماً، حتى أن المقتفي كان يقول: لم يتوزر لبني العباس مثله، ولما مات قبض على أولاده وأهله.
وفيها توفي الشيخ الأمام أبو القاسم عمر بن عكرمة بن البرزي،(3/42)
الفقيه الشافعي، تفقه على الكيا الهراسي، وكان أوحد زمانه في الفقه، وهو من جزيرة ابن عمر.
وفيها توفي أبو الحسن هبة الله بن صاعد بن هبة الله، المعروف بأمين الدولة ابن التلميذ، وقد ناهز المائة من عمره، وكان طبيب دار الخلافة ببغداد، ومحظياً عند المقتفي، وكان حاذقاً، فاضلاً، ظريف الشخص، عالي الهمة، مصيب الفكر، شيخ النصارى، وقسيسهم، وكان له في الأدب يد طولي، وكان متفنناً في العلوم، وكان فضلاء عصره يتعجبون كيف حرم الإسلام مع كمال فهمه، وغزارة علمه، والله يهدي من يشاء بفضله، ويضل من يريد بحكمه.
وكان أوحد الزمان، أبو البركات، هبة الله بن ملكان الحكيم، المشهور، صاحب كتاب المعتبر في الحكمة، معاصراً لابن التلميذ المذكور، وكان بينهما تنافس، كما يقع كثير بين أهل كل فضيلة وصنعة، وكان أبو البركات المذكور يهودياً، ثم أسلم في آخر عمره، وأصابه الجذام وتداوى وبرئ منه، وذهب بصره، وبقي أعمى، وكان متكبراً، وكان ابن التلميذ متواضعاً، فعمل ابن التلميذ في أبي البركات المذكور:
لنا صديق يهودي حماقته ... إذا تكلم تبدو فيه من فيه
يتيه والكلب أعلى منه منزلة ... كأنه بعد لم يخرج من التيه
ولابن التلميذ أيضاً:
يا من رماني عن قوس فرقته ... بسهم هجر على تلافيه
أرض لمن غاب عنك غيبته ... فذاك ذنب عقابه فيه
وله التصانيف الحسنة منها كتاب، اقرأ باذين، وله على كليات القانون حواشي، وكتاب اقرأ باذين ابن التلميذ المذكور، هو المعتمد عليه عند الأطباء، كان شيخه في الطب، أبا الحسن هبة الله بن سعيد، صاحب المغني في الطب، ولابن سعيد المذكور أيضاً، الإقناع في الطب، وهو كتاب جيد في أربعة أجزاء.
ثم دخلت سنة إحدى وستين وخمسمائة. في هذه السنة، فتح نور الدين محمود حصن المنطرة من الشمام، وكان بيد الفرنج. وفيها في ربيع الآخر توفي الشيخ عبد القادر بن أبي صالح الجيلي، وكنيته أبو محمد، وكان مقيماً ببغداد، ومولده سنة سبعين وأربعمائة. قال ابن الأثير: كان من الصلاح على حال عظيم، وهو حنبلي المذهب، ومدرسته ورباطه مشهوران ببغداد.
ثم دخلت سنة اثنتين وستين وخمسمائة، في هذه السنة عاد أسد الدين شيركوه إلى الديار المصرية، وجهزه نور الدين بعسكر جيد، عدتهم ألفا فارس، فوصل إلى ديار مصر واستولى على الجيزة، وأرسل شاور إلى الفرنج واستنجدهم، وجمعهم وساروا في أثر شيركوه إلى جهة الصعيد، والتقوا على بلد يقال له أيوان، فانهزم الفرنج والمصريون، واستولى شيركوه على بلاد الجيزة، واستغلها. ثم سار إلى الإسكندرية وملكها، وجعل فيها ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب، وعاد شيركوه إلى جهة الصعيد فاجتمع عسكر مصر والفرنج، وحصروا صلاح الدين بالإسكندرية مدة ثلاث أشهر، فسار شيركوه إليهم، فاتفقوا(3/43)
على الصلح، على مال يحملونه إلى شيركوه، ويسلم إليهم الإسكندرية، ويعود إلى الشام، فتسلم المصريون الإسكندرية في منتصف شوال من هذه السنة، وسار شيركوه إلى الشام، فوصل إلى دمشق في ثامن عشر ذي القعدة، واستقر الصلح بين الفرنج والمصريين، على أن يكون للفرنج بالقاهرة شحنة وتكون أبوابها بيد فرسانهم، ويكون لهم من دخل مصر كل سنة مائة ألف دينار.
وفي هذه السنة، فتح نور الدين صافيتا والغربية. وفيها عصا غازي بن حسان صاحب منبج، على نور الدين بمنبج، فسير إليه نور الدين عسكراً وأخذوا منه منبج، ثم أقطع نور الدين منبج، قطب الدين ينال بن حسان، أخا غازي المذكور، فبقي فيها إلى أن أخذها منه صلاح الدين يوسف بن أيوب، سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة.
وفيها توفي فخر الدين قرا أرسلان بن داود بن سقمان بن أرتق، صاحب حصن كيفا، وملك بعده ولده نور الدين محمود بن قرا أرسلان بن داود. وفيها توفي عبد الكريم أبو سعيد بن محمد بن منصور بن أبو بكر المظفر السمعاني المروزي، الفقيه الشافعي، وكان مكثراً من سماع الحديث، سافر في طلبه إلى ما وراء النهر، وسمع منه ما لم يسمعه غيره، وله التصانيف المشهورة الحسنة، منها: ذيل تاريخ بغداد، وتاريخ مدينة مرو، وكتاب الأنساب، في ثمان مجلدات. وقد اختصر كتاب الأنساب المذكور، الشيخ عز الدين علي بن الأثير، في ثلاث مجلدات، والمختصر المذكور، هو الموجود في أيدي الناس، والأصل قليل الوجود، وله غير ذلك، وقد جمع مشيخته، فزادت عدتهم على أربعة آلاف شيخ، وقد ذكره أبو الفرج بن الجوزي، فأوقع فيه، فمن جملة قوله فيه: أنه كان يأخذ الشيخ ببغداد، ويعبر به إلى فوق نهر عيسى، ويقول حدثني فلان بما وراء النهر، هذا بارد جداً، لأن السمعاني المذكور، سافر إلى ما وراء النهر حقاً، فأي حاجة إلى هذا التدليس، وإنما ذنبه عند ابن الجوزي، أنه شافعي، وله أسوة بغيره، فإن ابن الجوزي، لم يبق على أحد غير الحنابلة، وكانت ولادة أبي سعيد السمعاني المذكور، في شعبان سنة ست وخمسمائة، وكان أبوه وجده فاضلين، والسمعاني منسوب إلى سمعان، وهو بطن من تميم.
ثم دخلت سنة ثلاث وستين وخمسمائة في هذه السنة فارق زين الدين علي كجك بن بكتكين، نائب قطب الدين مودود بن زنكي، صاحب الموصل، خدمه قطب الدين، واستقر بإربل، وكانت في إقطاع زين الدين علي المذكور وكانت له إربل مع غيرها، فاقتصر على إربل وسكنها، وسلم ما كان بيده من البلاد إلى قطب الدين مودود، وكان زين الدين علي المذكور، قد عمي وطرش.
ثم دخلت سنة أربع وستين وخمسمائة.
ذكر ملك نور الدين قلعة جعبر
في هذه السنة ملك نور الدين محمود قلعه جعبر، وأخذها من صاحبها شهاب الدين مالك بن علي بن مالك بن سالم بن مالك بن بدران بن المقلد بن المسيب العقيلي، وكانت بأيديهم من أيام السلطان ملكشاه، ولم يقدر نور الدين على أخذها، إلا بعد أن أسر صاحبها مالك(3/44)
المذكور بنو كلاب، وأحضروه إلى نور الدين محمود، واجتهد به على تسليمها فلم يفعل، فأرسل عسكراً مقدمهم فخر الدين مسعود بن أبي علي الزعفراني، وردفه بعسكر آخر مع مجد الدين أبي بكر، المعروف بابن الداية، وكان رضيع نور الدين، وحصروا قلعة جعبر، فلم يظفروا منها بشيء، وما زالوا على صاحبها مالك حتى سلمها، وأخذ عنها عوضاً مدينة بأعمالها، والملوحة، من بلد حلب، وعشرين ألف دينار، معجلة، وباب بزاعة.
ذكر ملك أسد الدين شيركوه مصر
وقتل شاور
ثم ملك صلاح الدين، وهو ابتداء الدولة الأيوبية. في هذه السنة أعني سنة أربع وستين وخمسمائة، في ربيع الأول سار أسد الدين شيركوه بن شاذي إلى دار مصر، ومعه العساكر النورية، وسبب ذلك تمكن الفرنج من البلاد المصرية، وتحكمهم على المسلمين بها، حتى ملكوا بلبيس قهراً في مستهل صفر من هذه السنة، ونهبوها وقتلوا أهلها وأسروهم، ثم ساروا من بلبيس، ونزلوا على القاهرة، عاشر صفر وحاصروها، فأحرق شاور مدينة مصر، خوفاً من أن يملكها الفرنج، وأمر أهلها بالانتقال إلى القاهرة، فبقيت النار تحرقها أربعة وخمسين يوماً، فأرسل العاضد الخليفة إلى نور الدين يستغيث به، وأرسل في الكتب شعور النساء، وصانع شاور الفرنج على ألف ألف دينار، يحملها إليهم، فحمل إليهم مائة ألف دينار، وسألهم أن يرحلوا عن القاهرة، ليقدر على جمع المال وحمله، فرحلوا، فجهز نور الدين العسكر مع شيركوه، وأنفق فيهم المال، وأعطى شيركوه مائتي ألف دينار، سوى الثياب والدواب والأسلحة وغير ذلك، وأرسل معه عدة أمراء، منهم ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب على كره منه، أحب نور الدين مسير صلاح الدين، وفيه ذهاب الملك من بيته، وكره صلاح الدين المسير، وفيه سعادته وملكه " وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم " البقرة 216، ولما قارب شيركوه مصر رحل الفرنج من ديار مصر على أعقابهم إلى بلادهم، فكان هذا لمصر فتحاً جديداً، ووصل أسد الدين شيركوه إلى القاهرة، في رابع ربيع الآخر، واجتمع بالعاضد، وخلع عليه، وعاد إلى خيامه بالخلعة العاضدية، وأجرى عليه، وعلى عسكره الإقامات الوافرة، وشرع شاور يماطل شيركوه، فيما بذله لنور الدين من تقرير المال، وإفراد ثلث البلاد له، ومع ذلك فكان شاور يركب كل يوم إلى أسد الدين شيركوه، ويعده ويمنيه " وما يعدهم الشيطان إلا غروراً " النساء 125، ثم إن شاور عزم على أن يعمل دعوة لشيركوه وأمرائه، ويقبض عليهم، فمنعه ابنه الكامل ابن شاور من ذلك، ولما رأى عسكر نور الدين من شاور ذلك، عزموا على الفتك بشاور، واتفق على ذلك صلاح الدين يوسف، وعز الدين جرديك، وغيرهما. وعرفوا شيركوه بذلك، فنهاهم عنه واتفق أن شاور قصد شيركوه على عادته فلم يجده في المخيم وكان قد مضى لزيارة قبر الشافعي، فلقي صلاح الدين وجرديق(3/45)
شاور، وأعلماه برواح شيركوه إلى زيارة الشافعي، فساروا جميعاً إلى شيركوه، فوثب صلاح الدين وجرديك ومن معهما على شاور، وألقوه إلى الأرض عن فرسه، وأمسكوه في سابع ربيع الآخر من هذه السنة، أعني سنة أربع وستين وخمسمائة، فهرب أصحابه عنه، وأرسلوا أعلموا شيركوه بما فعلوه، فحضر ولم يمكنه إلا إتمام ذلك.
وسمع العاضد الخبر، فأرسل إلى شيركوه يطلب منه إنفاذ رأس شاور، فقتله وأرسل رأسه إلى العاضد، دخل بعد ذلك شيركوه إلى القصر عند العاضد، فخلع عليه العاضد خلع الوزارة، ولقبه الملك المنصور، أمير الجيوش، وسار بالخلع إلى دار الوزارة، وهي التي كان فيها شاور، واستقر في الأمر، وكتب له منشور بالإنشاء الفاضلي، أوله بعد البسملة: من عبد الله ووليه أبي محمد، الإمام العاضد لدين الله، أمير المؤمنين، إلى السيد الأجل الملك المنصور، سلطان الجيوش، ولي الأئمة، مجير الأمة، أسد الدين أبي الحارث شيركوه العاضدي، عضد الله به الدين، وأمتع بطول بقائه أمير المؤمنين، وأدام قدرته، وأعلى كلمته. سلام عليك، فإنا نحمد إليك الله، الذي لا إله إلا هو، ونسأله أن يصلي على محمد خاتم النبيين، وسيد المرسلين، وعلى آله الطاهرين، والأئمة المهديين، سلم تسليماً. ثم ذكر تفويض أمور الخلافة إليه، ووصايا أضربنا عنها للاختصار، وكتب العاضد بخطه على طرة المنشور، هذا عهد لم يعهد لوزير بمثله، فتقلد أمانة رآك أمير المؤمنين أهلاً لحملها، فخذ كتاب أمير المؤمنين بقوة، واسحب ذيل الفخار، بأن اعتزت خدمتك إلى بنوة النبرة، مدحت الشعراء أسد الدين، ووصل إليه من الشام مديح لعماد الكاتب، قصيدة أولها:
بالجد أدركت ما أدركت لا اللعب ... كم راحة جنيت من دوحة التعب
يا شيركوه بن شاذي الملك دعوة من ... نادي فعرف خير ابن لخير أب
جرى الملوك وما حازوا بركضهم ... من المدى في العلى ما حزت بالخبب
تمل من ملك مصر رتبة قصرت ... عنها الملوك فطالت سائر الرتب
قد أمكنت أسد الدين الفريسة من ... فتح البلاد فبادر نحوها وثب
وفي شيركوه وقتل شاور يقول عرقلة الدمشقي:
لقد فاز بالملك العقيم خليفة ... له شيركوه العاضدي وزير
هو الأسد الضاري الذي جل خطبه ... وشاور كلب للرجال عقور
بغى وطغى حتى لقد قال صحبه ... على مثلها كان اللعين يدور
فلا رحم الرحمن تربة قبره ... ولا زال فيها منكر ونكير
وأما الكامل بن شاور، فلما قتل أبوه دخل القصر، فكان آخر العهد به، ولما لم يبق لأسد الدين شيركوه منازع، أتاه أجله " حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة " الأنعام: 144، وتوفي يوم(3/46)
السبت الثاني والعشرين من جمادى الآخرة، سنة أربع وستين وخمسمائة. فكانت ولايته شهرين وخمسة أيام، وكان شيركوه وأيوب ابني شاذي من بلد دوين، قال ابن الأثير: وأصلهما من الأكراد الروادية، فقصدا العراق وخدما بهروز شحنة السلجوقية ببغداد، وكان أيوب أكبر من شيركوه، فجعله بهروز مستحفظاً لقلعة تكريت، ولما انكسر عماد الدين زنكي من عسكر الخليفة، ومر على تكريت، خدمه أيوب وشيركوه، ثم، إن شيركوه قتل إنساناً بتكريت، فأخرجهما بهروز من تكريت، فلحقا بخدمة عماد الدين زنكي، فأحسن إليهما وأعطاهما إقطاعات جليلة، ولما ملك عماد الدين زنكي قلعة بعلبك، جعل أيوب مستحفظاً لها، ولما حاصره عسكر دمشق بعد موت زنكي، سلمها أيوب إليهم، على إقطاع كبير شرطوه له، وبقي أيوب من أكبر أمراء عسكر دمشق، وبقي شيركوه مع نور الدين محمود بعد قتل أبيه زنكي، وأقطعه نور الدين حمص والرحبة، لما رأى من شجاعته، وزاده عليهما، وجعله مقدم عسكره، فلما أراد نور الدين ملك دمشق، أمر شيركوه فكاتب أخاه أيوب، فساعد أيوب نور الدين على ملك دمشق، وبقيا مع نور الدين إلى أن أرسل شيركوه إلى مصر مرة بعد أخرى حتى ملكها، وتوفي فيها في هذه السنة، على ما ذكرناه ولما توفي شيركوه، كان معه صلاح الدين يوسف ابن أخيه أيوب ابن شاذي، وكان قد سار معه على كره قال صلاح الدين: أمرني نور الدين بالمسير مع عمي شيركوه، وكان قد قال شيركوه بحضرته لي: تجهز يا يوسف للمسير، فقلت: والله لو أعطيت ملك مصر ما سرت إليها، فلقد قاسيت بالإسكندرية ما لا أنساه أبداً، فقال لنور الدين لا بد من مسيره معي فأمرني نور الدين وأنا أستقيل. فقال نور الدين: لا بد من مسيرك مع عمك. فشكوت الضائقة، فأعطاني ما تجهزت به، فكأنما أنساق إلى الموت، فلما مات شيركوه، طلب جماعة من الأمراء النورية التقدم على العسكر، وولاية الوزارة العاضدية، منهم عين الدولة الياروقي، وقطب الدين ينال المنبجي، وسيف الدين علي بن أحمد المشطوب الهكاري، وشهاب الدين محمود الحارمي، وهو خال صلاح الدين، فأرسل العاضد، أحضر صلاح الدين وولاه الوزارة، ولقبه بالملك الناصر، فلم تطعه الأمراء المذكورون، وكان مع صلاح الدين، الفقيه عيسى الهكاري، فسعى مع المشطوب حتى أماله إلى صلاح الدين، ثم قصد الحارمي، وقال: هذا ابن أختك، وعزة وملكه لك، فمال إليه أيضاً، ثم فعل بالباقين كذلك، فكلهم أطاع، غير عين الدولة الياروقي، فإنه قال: أنا لا أخدم يوسف، وعاد إلى نور الدين بالشام.
وثبت قدم صلاح الدين، على أنه نائب لنور الدين، وكان نور الدين يكاتب صلاح الدين بالأمير الأسفهسلار، ويكتب علامته على رأس الكتاب، تعظيماً عن أن يكتب اسمه، وكان لا يفرده بكتاب، بل إلى الأمير صلاح الدين وكافة الأمراء بالديار المصرية، يفعلون كذا وكذا، ثم أرسل صلاح الدين يطلب من نور(3/47)
الدين، أباه أيوب وأهله، فأرسلهم إليه نور الدين، فأعطاهم صلاح الدين الإقطاعات بمصر، وتمكن من البلاد، وضعف أمر العاضد، ولما فوض الأمر إلى صلاح الدين، تاب عن شرب الخمر وأعرض عن أسباب اللهو، وتقمص لباس الجد، ودام على ذلك إلى أن توفاه الله تعالى.
قال ابن الأثير مؤلف الكامل: رأيت كثيراً من ابتدى بالملك ينتقل إلى غيره عقبه، فإن معاوية تغلب وملك، فانتقل الملك إلى بني مروان، ثم ملك السفاح من بني العباس، فانتقل الملك إلى أخيه المنصور وعقبه، ثم السامانية أول من ابتدى بالملك منهم نصر بن أحمد، فانتقل الملك إلى أخيه إسماعيل وعقبه، ثم عماد الدولة بن بوية، ملك فانتقل الملك إلى عقب أخيه ركن الدولة، ثم ملك طغريل بك السلجوقي، فانتقل الملك إلى عقب أخيه داود، ثم شيركوه ملك، فانتقل الملك إلى ابن أخيه، ولما قام صلاح الدين بالملك، لم يبق الملك في عقبه، بل انتقل إلى أخيه العادل، وعقبه، ولم يبق لأولاد صلاح الدين غير حلب، وكان سبب ذلك كثرة قتل من يتولى ذلك أولاً وأخذه الملك، وعيون أهله وقلوبهم متعلقة به، فيحرم عقبه ذلك.
ولما استقر قدم صلاح الدين في الوزارة، قتل مؤتمن الخلافة، وكان مقدم السودان، فاجتمعت السودان، وهم حفاظ القصر، في عدد كثير، وجرى بينهم وبين صلاح الدين وعسكره وقعة عظيمة، بين القصرين، انهزم فيها السودان، وقتل منهم خلق كثير، وتبعهم صلاح الدين فأجلاهم قتلاً وتهجيجاً، وحكم صلاح الدين على القصر، وأقام فيه بهاء الدين قراقوش الأسدي، وكان خصياً أبيض، وبقي لا يجري في القصر صغيرة ولا كبيرة إلا بأمر صلاح الدين.
ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة، كان بين إينانج صاحب الري، وبين الدكز، حرب انتصر فيها الدكز، وملك الري، وهرب إينانج وانحصر في بعض القلاع، فأرسل الدكز ورغب غلمان إينانج في الإقطاعات إن قتلوا إيناج أستاذهم، فقتلوه ولحقوا بالدكز، فلم يف لهم وقال: مثل هؤلاء لا ينبغي الإبقاء عليهم، فهربوا إلى البلاد، ولحق بعضهم، وهو الذي قتل أستاذه بخوارزم شاه، فصلبه لخيانته أستاذه.
وفيها توفي الشيخ أبو محمد الفارقي، وكان أحد الزهاد، وله كرامات كثيرة، كان يتكلم على الخاطر، وكلامه مجموع مشهور. وفيها توفي ياروق أرسلان التركماني، وكان مقدماً كبيراً، وإليه تنسب الطائفة الياروقية من التركمان، وكان عظيم الخلقة، يسكن بظاهر حلب، وبنى على شاطئ قويق هو وأتباعه عماير كثيرة، وتعرف الآن بالياروقية، وهي مشهورة هنا.
ثم دخلت سنة خمس وستين وخمسمائة.
فيها سارت الفرنج إلى دمياط وحصروها، وشحنها صلاح الدين بالرجال والسلاح والذخائر، وأخرج على ذلك أموالاً عظيمة، فحصروها خمسين يوماً، وخرج نور الدين فأغار على بلادهم بالشام، فرحلوا عائدين على أعقابهم، ولم يظفروا(3/48)
بشيء منها. قال صلاح الدين: ما رأيت أكرم من العاضد، أرسل إلي مدة مقام الفرنج على دمياط، ألف ألف دينار مصرية، سوى الثياب وغيرها.
وفيها سار نور الدين وحاصر الكرك مدة، ثم رحل عنه.
وفيها كانت زلزلة عظيمة خربت الشام، فقام نور الدين في عمارة الأسواق، وحفظ البلاد أتم قيام، وكذلك خربت بلاد الفرنج، فخافوا من نور الدين، واشتغل كل منهم عن قصد الآخر، بعمارة ما خرب من بلاده.
وفيها في ذي الحجة، مات قطب الدين مودود بن زنكي بن أقسنقر، صاحب الموصل، وكان مرضه حمى حادة، ولما مات صرف أرباب الدولة الملك عن ابنه الأكبر عماد الدين زنكي بن مودود، إلى أخيه الذي هو أصغر منه، وهو سيف الدين غازي بن مودود، فسار عماد الدين زنكي إلى عمه نور الدين مستنصراً به، وتوفي قطب الدين وعمره أربعين سنة تقريباً، وكانت مدة ملكه إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفاً. وكان من أحسن الملوك سيرة.
وفي هذه السنة توفي الملك طغريل بك بن قاورت بك، صاحب كرمان، واختلف أولاده، بهرام شاه، وأرسلان شاه وهو الأكبر، واستنجد كل منهم، وطلب الملك، فاتفق في تلك المدة أن أرسلان شاه الأكبر مات، فاستقر بهرام شاه في ملك كرمان.
وفيها توفي مجد الدين أبو بكر بن الداية رضيع نور الدين، وكانت حلب وحارم وقلعة جعبر إقطاعه، فأقر نور الدين أخاه علياً بن الداية على إقطاعه.
وفيها توفي محمد بن محمد بن ظفر، صاحب كتاب سلوان المطاع، صنفه لبعض القواد بصقلية، سنة أربع وخمسين وخمسمائة، وله أيضاً كتاب نجباء الأبناء، وشرح مقامات الحريري، ومولده بصقلية، وتنقل بالبلاد وأقام بمكة، شرفها الله تعالى، وسكن آخر وقت مدينة حماة، وتوفي بها، ولم يزل يكابد الفقر حتى مات، رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة ست وستين وخمسمائة.
وفاة المستنجد
خلافة المستضيء
وهو ثالث ثلاثينهم:
في هذه السنة، تاسع ربيع الآخر، توفي المستنجد بالله أبو المظفر يوسف بن المقتفي لأمر الله أبي عبد الله محمد بن المستظهر بالله، ومولده مستهل ربيع الآخر سنة عشر وخمسمائة، وكان أسمر تام القامة، طويل اللحية، وكان سبب موته أنه مرض واشتد مرضه، وكان قد خاف منه أستاذ داره عضد الدين أبو الفرج، ابن رئيس الرؤساء، وقطب الدين قيماز المقتنوي، وهو حينئذ أكبر أمراء بغداد، فاتفقا ووضعا الطبيب على أن يصف له ما يهلكه، فوصف له دخول الحمام، فامتنع منه لضعفه، ثم أنه دخلها وغلق عليه الباب فصات، ولما مات المستنجد، أحضر عضد الدين وقطب الدين المستضيء بأمر الله ابن المستنجد، واشترطا عليه شروطاً، أن يكون عضد الدين وزيراً، وابنه كمال الدين أستاذ داره، وقطب الدين أمير العسكر، فأجابهم إلى ذلك. واسم المستضيء الحسن، وكنيته أبو محمد، ولم يل الخلافة من اسمه حسن، غير الحسن بن علي المستضيء، فبايعوه بالخلافة يوم مات أبوه بيعة خاصة، وفي غده بيعة عامة، وكان المستنجد حسن(3/49)
السيرة، أطلق كثيراً من المكوس، وكان شديداً على أهل العبث والفساد.
ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة، سار نور الدين محمود بن زنكي إلى الموصل، وهي بيد ابن أخيه غازي بن مودود بن عماد الدين زنكي بن أقسنقر، فاستولى عليها نور الدين وملكها. ولما ملك نور الدين الموصل، قرر أمرها وأطلق المكوس منها، ثم وهبها لابن أخيه سيف الدين غازي المذكور، وأعطى سنجار لعماد الدين زنكي بن مردود، وهو أكبر من أخيه سيف الدين غازي، فقال كمال الدين الشهرزوري في هذا طريق إلى أذى، يحصل للبيت الأتابكي، لأن عماد الدين كبير، ولا يرى طاعة أخيه سيف الدين، وسيف الدين هو الملك، لا يرى الإغضاء لعماد الدين، فيحصل الخلف وتطمع الأعداء.
وفي هذه السنة سار صلاح الدين عن مصر فغزا بلاد الفرنج قرب عسقلان والرملة، وعاد إلى مصر، ثم خرج إلى أيلة وحصرها، وهي للفرنج على ساحل البحر الشرقي، ونقل إليها المراكب، وحصرها براً وبحراً، وفتحها في العشر الأول من ربيع الآخر، واستباح أهلها، وما فيها، وعاد إلى مصر، ولما استقر صلاح الدين بمصر، كان لمصر دار للشحنة تسمى دار المعونة، يحبس فيها، فهدمها صلاح الدين، وبناها مدرسة للشافعية، وكذلك بنى دار الغزل مدرسة للشافعية، وعزل قضاة المصريين، وكانوا شيعة، ورتب قضاة شافعية، وذلك في العشرين من جمادى الآخرة، وكذلك اشترى تقي الدين عمر بن أخي صلاح الدين منازل العز، وبناها مدرسة للشافعية. وفي هذه السنة توفي القاضي ابن الخلال، من أعيان الكتاب المصريين وفضلائهم، وكان صاحب ديوان الإنشاء بها.
ثم دخلت سنة سبع وستين وخمسمائة.
ذكر إقامة الخطبة العباسية بمصر، وانقراض الدولة العلوية
في هذه السنة، ثاني جمعة من المحرم، قطعت خطبة العاضد لدين الله أبي محمد عبد الله ابن الأمير يوسف ابن الحافظ لدين الله أبي الميمون عبد المجيد ابن أبي القاسم محمد، ولم يل الخلافة ابن المستنصر بالله أبي تميم معد بن الظاهر لإعزاز دين الله، أبي الحسن علي ابن الحاكم بأمر الله أبي علي المنصور بن العزيز بالله أبي منصور ابن المعز لدين الله أبي تميم معد بن المنصور بالله أبي الطاهر إسماعيل بن القائم بأمر الله أبي القاسم محمد بن المهدي بالله أبي محمد عبيد الله، أول الخلفاء العلويين من هذا البيت، وقد مر ذكرنسبه في ابتداء دولتهم. وكان سبب الخطبة العباسية بمصر، أنه لما تمكن صلاح الدين من مصر، وحكم على القصر، وأقام فيه قراقوش الأسدي، وكان خصياً أبيض، وبلغ نور الدين ذلك، أرسل إلى صلاح الدين يأمره حتماً جزماً بقطع الخطبة العلوية، لا إقامة الخطبة العباسية، فراجعه صلاح الدين في ذلك خوف الفتنة، فلم يلتفت نور الدين إلى ذلك، وأصر عليه، وكان العاضد قد مرض فأمر صلاح الدين الخطباء أن يخطبوا للمستضيء،(3/50)
ويقطعوا خطبة العاضد، فامتثلوا ذلك، ولم ينتطح فيها عنزان، وكان العاضد قد اشتد مرضه، فلم يعلمه أحد من أهله بقطع خطبته، فتوفي العاضد يوم عاشوراء، ولم يعلم بقطع خطبته، ولما توفي العاضد، جلس صلاح الدين للعزاء، واستولى على قصر الخلافة وعلى جميع ما فيه، وكان كثرته تخرج عن الإحصاء، وكان فيه أشياء نفيسة من الأعلاق المثمنة، والكتب والتحف، فمن ذلك، الحبل الياقوت، وكان وزنه سبعة عشر درهماً، أو سبعة عشر مثقالاً. قال ابن الأثير مؤلف الكامل: أنا رأيته، ووزنته، ومما حكي: أنه كان بالقصر طبل للقولنج، إذا ضرب الإنسان به ضرط، فكسر، ولم يعلموا به إلا بعد ذلك، ونقل صلاح الدين أهل العاضد إلى موضع من القصر، ووكل بهم من يحفظهم، وأخرج جميع من فيه من عبد وأمة، فباع البعض، وعتق البعض، ووهب البعض، وخلا القصر من سكانه، كأن لم يغن بالأمس.
ولما اشتد مرض العاضد، أرسل إلى صلاح الدين يستدعيه فظن ذلك خديعة، فلم يمض إليه، فلما توفي علم صدقه، فندم لتخلفه عنه، وجميع من خطب له منهم بالخلافة أربع عشرة خليفة، المهدي، والقائم، المنصور، والمعز، والعزيز، والحاكم، والطاهر، والمستنصر، والمستعلي، والآمر، والحافظ، والظافر، والفائز، والعاضد. وجميع مدة خلافتهم من حين ظهر المهدي بسجلماسة في ذي الحجة، سنة ست وتسعين ومائتين، إلى أن توفي العاضد في هذه السنة، أعني سنة سبع وستين وخمسمائة، مائتان واثنتان وسبعون سنة تقريباً، وهذا دأب الدنيا، لم تعط إلا واستردت، ولم تحل إلا وتمررت، ولم تصف إلا وتكدرت، بل صفوها لا يخلو من الكدر.
ولما وصل خبر الخطبة العباسية بمصر إلى بغداد، ضربت لها البشائر عدة أيام، وسيرت الخلع مع عماد الدين صندل، وهو من خواص الخدم المقتفوية، إلى نور الدين، وصلاح الدين، والخطباء، وسيرت الأعلام السود، وكان العاضد المذكور، قد رأى في منامه: أن عقرباً خرجت من مسجد بمصر، معروف ذلك المسجد للعاضد، ولدغته، فاستيقظ العاضد مرعوباً، واستدعى من يعبر الرؤيا، وقص ما رآه عليه، فعبره له بوصول أذى إليه من شخص بذلك المسجد، فتقدم العاضد إلى والي مصر، بإحضار من بذلك المسجد، فأحضر إليه شخصاً صوفياً يقال له نجم الدين الخويشاني، فاستخبره العاضد عن مقدمه، وسبب مقامه بالمسجد المذكور، فأخبره بالصحيح في ذلك، فرآه العاضد أضعف من أن يناله بمكروه، فوصله بمال وقال له: ادع لنا يا شيخ، وأمره بالإنصراف، فلما أراد السلطان صلاح الدين إزالة الدولة العلوية، والقبض عليهم، استفتى في ذلك، فأفتاه بذلك جماعة من الفقهاء، وكان نجم الدين الخويشاني المذكور من جملتهم، فبالغ في الفتيا، وصرح في خطه بتعديد مساوئهم، وسلب عنهم الإيمان، وأطال الكلام في ذلك، فصح بذلك رؤيا العاضد.
ذكر غير ذلك
وفي هذه السنة جرى بين نور الدين وصلاح الدين الوحشة في الباطن، فإن صلاح الدين(3/51)
سار ونازل الشوبك، وهي للفرنج، ثم رحل عنه خوفاً أن يأخذه، فلم يبق ما يعوق نور الدين عن قصد مصر، فتركه ولم يفتحه لذلك، وبلغ نور الدين ذلك فكتمه، وتوحش باطنه لصلاح الدين، ولما استقر صلاح الدين بمصر، جمع أقاربه وكبراء دولته وقال: بلغني أن نور الدين يقصدنا، فما الرأي؟ فقال تقي الدين عمر ابن أخيه: نقاتله ونصده، وكان ذلك بحضرة أبيهم نجم الدين أيوب، فأنكر على تقي الدين ذلك وقال: أنا والدكم، لو رأيت نور الدين نزلت وقبلت الأرض بين يديه، بل اكتب وقل لنور الدين: أنه لو جاءني من عندك إنسان واحد، وربط المنديل في عنقي وجرني إليك، سارعت إلى ذلك.
وانفضوا على ذلك، ثم اجتمع أيوب بابنه صلاح الدين خلوة وقال له: لو قصدنا نور الدين، أنا كنت أول من يمنعه ويقاتله، ولكن إذا أظهرنا ذلك، يترك نور الدين جميع ما هو فيه ويقصدنا، ولا ندري ما يكون من ذلك، وإذا أظهرنا له الطاعة، تمادى الوقت بما يحصل به الكفاية من عند الله، فكان كما قال.
وفي هذه السنة توفي الأمير محمد بن مردنيش صاحب شرقي بلاد الأندلس، وهي مرسية وبلنسية وغيرهما، فقصد أولاده أبا يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، ملك الغرب، وسلموا إليه بلادهم، فسر يوسف بذلك وتسلمها منهم وتزوج بأختهم، وأكرمهم ووصلهم بالأموال الجزيلة، وكان قد قصدهم يوسف المذكور في مائة ألف مقاتل، فأجابوا بدون قتال كما ذكرنا.
وفي هذه السنة عبر الخطا نهر جيحون، فجمع خوارزم شاه أرسلان بن أطسز بن محمد بن أنوش تكين عساكره وسار إلى لقائهم، فمرض خوارزم شاه ورجع مريضاً، وأرسل عسكراً مع بعض المقدمين، فاقتتلوا مع الخطا، وانهزم عسكر خوارزم شاه، وأسر مقدمهم، ورجع الخطا إلى بلادهم بعد ذلك.
وفي هذه السنة اتخذ نور الدين بالشام الحمام الهوادي، وتسئى المناسيب، لنقل البطائق والأخبار. وفيها عزل المستضيء وزيره عضد الدين ابن رئيس الرؤساء مكرهاً، لأن قطب الدين قيماز ألزمه بعزله، فلم يمكنه مخالفته. وفيها مات يحيى بن سعدون بن تمام الأزدي الأندلسي القرطبي، وكان إماماً في القراءة والنحو وغيره من العلوم، توفي بالموصل. وفيها توفي أبو محمد عبد الله بن أحمد بن أحمد بن أحمد، المعروف بابن الخشاب البغدادي، العالم المشهور في الأدب والنحو التفسير والحديث، وكان متضلعاً من العلوم، وكان قليل الاكتراث بالمأكل والملبس.
وفيها توفي نصر الله بن عبد الله بن مخلوف بن علي بن عبد النور بن قلاقس، الشاعر المشهور، الإسكندري، مدح القاضي الفاضل، وكان كثير الأسفار، سار إلى صقلية في سنة ثلاث وخمسين، ثم عاد وسار إلى اليمن في سنة خمس وستين وخمسمائة، وفي كثرة أسفاره يقول:
الناس كثر ولكن لا يقد لي ... إلا مرافقة الملاح والحادي
ثم دخلت سنة ثمان وستين وخمسمائة في هذه السنة توفي خوارزم شاه أرسلان بن(3/52)
أطسز بن محمد بن أنوش تكين، وكان قد عاد من قتال الخطا مريضاً، ولما مات ملك بعده ابنه الصغير سلطان شاه محمود، ودبرت والدته المملكة، وكان ابنه الأكبر علاء الدين تكين مقيماً في جند قد أقطعه أبوه إياها، فلما بلغه موت أبيه، وولاية أخيه الصغير، أنف من ذلك واستنجد بالخطا، وسار إلى خيه سلطان شاه وطرده، ثم إن سلطان شاه، قصد ملوك الأطراف، واستنجدهم على أخيه تكش وطرده، وكانت الحرب بينهم سجالاً حتى مات سلطان شاه، في سنة تسع وثمانين وخمسمائة، واستقر في ملك خوارزم أخوه تكش بن أرسلان، وفي تلك الحروب بين الأخوين، قتل المؤيد أي به، قتله تكش صبراً، وملك بعده ابنه طغانشاه ابن المؤيد أي به.
وفي هذه السنة سار شمس الدولة توران شاه بن أيوب أخو صلاح الدين الأكبر من مصرالى النوبة، للتغلب عليها، فلم تعجبه تلك البلاد، فغنم وعاد إلى مصر.
وفي هذه السنة توفي شمس الدين الدكز بهمذان، وملك بعده ابنه محمد البهلوان، ولم يختلف عليه أحد، وكان الدكز هذا مملوكاً للكمال السميري وزير السلطان محمود، ثم صار للسلطان محمود، فلما ولي السلطان مسعود، ولاه وكبره حتى صار ملك أذربيجان وغيرها من بلاد الجبل، وأصفهان والري، وكان عسكره خمسين ألف فارس، وكان يخطب في بلاده بالسلطنة للسلطان أرسلان بن طغريل، ولم يكن لأرسلان معه حكم، وكان الدكز حسن السيرة.
وفي هذه السنة سار طائفة من الترك من ديار مصر، مع مملوك لتقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، اسمه قراقوش، إلى إفريقية، ونزلوا على طرابلس الغرب فحاصرها مدة، ثم فتحها واستولى عليها قراقوش المذكور، وملك كثيراً من بلاد إفريقية.
وفيها غزا أبو يعقوب بن عبد المؤمن بلاد الفرنج في الأندلس. وفيها سار نور الدين محمود بن زنكي إلى بلاد قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان، واستولى على مرعش، وبهنسا، ومرزبان، وسيواس، فأرسل إليه قليج أرسلان يستعطفه ويطلب الصلح، فقال نور الدين: لا أرضى إلا بأن ترد ملطية على ذي النون ابن الدانشمند، وكان قليج أرسلان قد أخذها منه، فبذل له سيواس واصطلح معه نور الدين، فلما مات نور الدين، عاد قليج أرسلان واستولى على سيواس وطرد ابن الدانشمند.
وفيها سار صلاح الدين من مصر إلى الكرك:، وحصرها، وكان قد واعد نور الدين أن يجتمعا على الكرك، وسار نور الدين من دمشق حتى وصل إلى الرقيم، وهو بالقرب من الكرك، فخاف صلاح الدين من الاجتماع بنور الدين، فرحل صلاح الدين عن الكرك عائداً إلى مصر، وأرسل تحفاً إلى نور الدين، واعتذر أن أباه أيوب مريض، ويخشى أن يموت فتذهب مصر، فقبل نور الدين عذره في الظاهر، وعلم المقصود، ولما وصل صلاح الدين إلى مصر، وجد أباه أيوب قد مات، وكان سبب موت نجم الدين أيوب بن شاذي المذكور، أنه ركب بمصر، فنفرت(3/53)
به فرسه فوقع، وحمل إلى قصره، وبقي أياماً ومات في السابع والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة؟ وكان أيوب خبيراً عاقلاً حسن السيرة، كريماً كثير الإحسان.
وفيها توفي أبو نزار حسن بن أبي الحسن صافي بن عبد الله بن نزار النحوي، وقد ناهز الثمانين، وهو المعروف بملك النحاة، وبرع في النحو حتى فاق فيه أهل طبقته، وكان معجباً بنفسه، ولقب نفسه بملك النحاة، وكان يسخط على من يخاطبه بغير ذلك، وقرأ الفقه على مذهب الشافعي، وكذلك قرأ الأصولين والخلاف، وسافر إلى خراسان وكرمان وغزنة، ثم رحل إلى الشام، واستوطن دمشق.
ثم دخلت سنة تسع وستين وخمسمائة.
ذكر ملك شمس الدولة توران شاه بن أيوب اليمن كان صلاح الدين وأهله، خائفين من نور الدين، فاتفق رأيهم على تحصيل مملكة غير مصر، بحيث إن قصدهم نور الدين قاتلوه، فإن هزمهم التجأوا إلى تلك المملكة، فجهز صلاح الدين أخاه توران شاه إلى النوبة، فلم تعجبهم بلادها، ثم سيره في هذه السنة بعسكر إلى اليمن، وكان صاحب اليمن حينئذ إنساناً يسمى عبد النبي، المقدم الذكر في سنة أربع وخمسين وخمسمائة، فتجهز توران شاه ووصل إلى اليمن، وجرى بينه وبين عبد النبي قتال، فانتصر توران شاه وهزم عبد النبي، وهجم زبيد وملكها، وأسر عبد النبي، ثم قصد عدن، وكان صاحبها إنساناً اسمه ياسر، فخرج لقتال توران شاه، فهزمه توران شاه، وهجم عدن وملكها، وأسر ياسر أيضاً، واستولى توران شاه على بلاد اليمن، واستقرت في ملك صلاح الدين، واستولى على أموال عظيمة لعبد النبي، وكذلك من عدن.
ذكر قتل جماعة من المصريين وعمارة اليمني في هذه السنة في رمضان، صلب صلاح الدين جماعة من أعيان المصريين، فإنهم قصدوا الوثوب عليه، وإعادة الدولة العلوية، فعلم بهم وصلبهم عن آخرهم، فمنهم عبد الصمد الكاتب، والقاضي العويرس، وداعي الدعاة، وعمارة بما علي اليمني، الشاعر الفقيه، وله أشعار حسنة، فمنها ما يتعلق بأحوال العلويين، وانقراض دولتهم، قوله قصيدة منها:
رميت يا دهر كف المجد بالشلل ... وجيده بعد حسن الحلي بالعطل
جدعت ما رنك الأقني فأنفك لا ... ينفك ما بين أمر الشين والخجل
لهفي ولهف بني الآمال قاطبةً ... على فجيعتها في أكرم الدول
يا عاذلي في هوى أنباء فاطمة ... لك الملامة إن أقصرت في عذل
بالله زر ساحة القصرين وابك معي ... عليهما لا على صفين والجمل
وقل لأهلهما والله لا التحمت ... فيكم جروحي ولا قرحي بمندمل
ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلةً ... في نسل آل أمير المؤمنين علي(3/54)
ومنها:
وقد حصلتم عليها واسم جدكم ... محمد وأبوكم خير منتعل
مررت بالقصر والأركان خالية ... من الوفود وكانت قبلة القبل
ومنها:
والله لا فاز يوم الحشر مبغضكم ... ولا نجا من عذاب الله غير ولي
أئمتي وهدأتي وألذ خيرة لي ... إذا ارتهنت بما قدمت من عمل
والله لا حلت عني حبي لهم أبداً ... ما أخر الله لي في مدة الأجل
وأيضاً له فيهم:
غصبت أمية إرث آل محمد ... سفهاً وشنت غارة الشنئآن
وغدت تخالف في الخلافة أهلها ... وتقابل البرهان بالبهتان
لم تقتنع حكامهم بركوبهم ... ظهر النفاق وغارب العدوان
وقعودهم في رتبة نبوية لم يبنها لهم أبو سفيان
حتى أضافوا بعد ذلك أنهم ... أخذوا بثأر الكفر في الإيمان
فأتى زياد في القبيح زيادة ... تركت يزيدَ يزيدُ في النقصان
ذكر وفاة نور الدين محمود وفي هذه السنة، توفي الملك العادل نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي أقسنقر، صاحب الشام وديار الجزيرة وغير ذلك، يوم الأربعاء حادي عشر شوال، بعلة الخوانيق، بقلعة دمشق المحروسة، وكان نور الدين قد شرع يتجهز للدخول إلى مصر، لأخذها من صلاح الدين، وكان يريد أن يخلي ابن أخيه سيف الدولة غازي بن مودود في الشام، قبالة الفرنج، ويسير هو بنفسه إلى مصر، فأتاه أمر الله الذي لا مرد له، وكان نور الدين أسمر، طويل القامة، ليس له لحية إلا في حنكه، حسن الصورة، كان قد اتسع ملكه جداً، وخطب له بالحرمين واليمن، لما ملكها توران شاه بن أيوب، وكذلك كان يخطب له بمصر.
وكان مولد نور الدين سنة إحدى عشرة وخمسمائة، وطبق ذكره الأرض بحسن سيرته وعدله، وكان من الزهد والعبادة على قدم عظيم، وكان يصلي كثيراً من الليل، كان كما قيل:
جمع الشجاعة والخشوع لربه ... ما أحسن المحراب في المحراب
وكان عارفاً بالفقه على مذهب أبي حنيفة، وليس عنده فيه تعصب، وهو الذي بنى أسوار مدن الشام مثل: دمشمق، وحمص، وحماة، وحلب، وشيزر، وبعلبك، وغيرها. لما تهدمت بالزلازل. وبنى المد ارس الكثيرة، الحنفية والشافعية، ولا يحتمل هذا المختصر ذكر فضائله. ولما توفي نور الدين. قام ابنه الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود بالملك بعده، وعمره إحدى عشرة سنة، وحلف له العسكر بدمشق، وأقام بها، وأطاعه صلاح الدين بمصر، خطب له بها. وضربت السكة باسمه، وكان المتولي لتدبير الملك الصالح، وتدبير دولته، الأمير شمس(3/55)
الدين محمد بن عبد الملك، المعروف بابن المقدم. ولما مات نور الدين، وتملك ابنه الملك الصالح، سار من الموصل، سيف الدين غازي بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكي، وملك جميع البلاد الجزرية.
ثم دخلت سنة سبعين وخمسمائة.
ذكر خلاف الكنز بصعيد مصر في أول هذه السنة اجتمع على رجل من أهل الصعيد يقال له الكنز، جمع كثير، أظهر الخلاف على صلاح الدين، فأرسل صلاح الدين إليه عسكراً، فاقتتلوا، وقتل الكنز وجماعة معه، وانهزم الباقون.
ذكر ملك صلاح الدين دمشق وغيرها في هذه السنة سلخ ربيع الأول، ملك صلاح الدين يوسف بن أيوب مدينة دمشق، وحمص، وحماة، وسببه أن شمس الدين ابن الداية المقيم بحلب، أرسل سعد الدين كمشتكين يستدعي الملك الصالح بن نور الدين، من دمشق إلى حلب، ليكون مقامه بها، فسار الملك الصالح إلى حلب مع سعد الدين كمشتكين، ولما استقر بحلب وتمكن كمشتكين، قبض على شمس الدين ابن الداية وإخوته، وقبض على الرئيس ابن الخشاب وإخوته، وهو رئيس حلب، واستبد سعد الدين بتدبير الملك الصالح، فخافه ابن المقدم، وغيره من الأمراء الذين بدمشق، وكاتبوا صلاح الدين بن أيوب صاحب مصر، واستدعوه ليملكوه عليهم، فسار صلاح الدين جريدة في سبعمائة فارس، ولم يلبث، ووصل إلى دمشق، فخرج كل من كان بها من العسكر، والتقوه وخدموه، ونزل بدار والده أيوب، المعروفة بدار العقيقي، وعصت عليه القلعة، وكان فيها من جهة الملك الصالح خادم اسمه ريحان، فراسله صلاح الدين واستماله، فسلم القلعة إليه، فصعد إليها صلاح الدين وأخذ ما فيها من الأموال، ولما ثبت قدمه وقرر أمر دمشق، استخلف بها أخاه سيف الإسلام طغتكين بن أيوب.
وسار إلى حمص مستهل جمادى الأولى، وكانت حمص وحماة وقلعة بارين وسلمية وتل خالد والرها من بلد الجزيرة، في إقطاع فخر الدين مسعود بن الزعفراني، فلما مات نور الدين، لم يمكن فخر الدين مسعود المقام بحمص وحماه، لسوء سيرته مع الناس، وكانت هذه البلاد له بغير قلاعها، فإن قلاعها كان فيها ولاة لنور الدين، وليس لفخر الدين معهم في القلاع حكم الأبارين، فإن قلعتها كانت له أيضاً، ونزل صلاح الدين على حمص، في حادي عشر جمادى الأولى، وملك المدينة، وعصت عليه القلعة فترك عليها من يضيق عليها، ورحل إلى حماة، فملك مدينتها مستهل جمادى الآخرة من هذه السنة، وكان بقلعتها الأمير عز الدين جرديك، أحد المماليك النورية، فامتنع في القلعة، فذكر له صلاح الدين أنه ليس له غرض سوى حفظ البلاد للملك الصالح إسماعيل، إنما هو نائبه، وقصده من جرديك المسير إلى حلب، في رسالة، فاستحلفه جرديك على ذلك،(3/56)
وسار جرديك إلى حلب برسالة صلاح الدين، واستخلف في قلعة حماة أخاه، فلما وصل جرديك إلى حلب، قبض عليه كمشتكين وسجنه، فلما علم أخوه بذلك، سلم قلعة حماة إلى صلاح الدين فملكها، ثم سار صلاح الدين إلى حلب وحصرها، وبها الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين، فجمع أهل حلب وقاتلوا صلاح الدين، وصدوه عن حلب، وأرسل سعد الدين كمشتكين إلى سنان مقدم الإسماعيلية أموالاً عظيمة، ليقتلوا صلاح الدين، فأرسل سنان جماعة، فوثبوا على صلاح الدين فقتلوا دونه، واستمر صلاح الدين محاصراً لحلب إلى مستهل رجب، ورحل عنها بسبب نزول الفرنج على حمص، ووصل صلاح الدين إلى حماة ثامن رجب، وسار إلى حمص، فرحل الفرنج عنها، ووصل صلاح الدين إلى حمص وحصر قلعتها، وملكها في الحادي والعشرين من شعبان، من هذه السنة.
ثم سار إلى بعلبك فملكها، ولما استقر ملك صلاح الدين لهذه البلاد، أرسل الملك الصالح إلى ابن عمه سيف الدين غازي، صاحب الموصل، يستنجده على صلاح الدين، فجهز جيشه صحبة أخيه عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي، وجعل مقدم الجيش أكبر أمرائه، وهو عز الدين محمود، ولقبه سلقندار، وطلب أخاه الأكبر عماد الدين زنكي بن مودود صاحب سنجار، ليسير في النجدة أيضاً فامتنع، مصانعة لصلاح الدين، فسار سيف الدين غازي وحصره بسنجار، ووصل عسكر الموصل صحبة مسعود بن مودود وسلقندار إلى حلب، وانضم إليهم عسكر حلب، وساروا إلى صلاح الدين، فأرسل صلاح الدين ببذل حمص وحماة، وأن تقر بيده دمشق، وأن يكون فيها نائباً للملك الصالح، فلم يجيبوا إلى ذلك، وساروا إلى قتاله، واقتتلوا عند قرون حماة، فانهزم عسكر الموصل وحلب، وغنم صلاح الدين وعسكره أموالهم، وتبعهم صلاح الدين حتى حصرهم في حلب، وقطع صلاح الدين حينئذ خطبة الملك الصالح بن نور الدين، وأزال اسمه عن السكة، واستبد بالسلطنة، فراسلوا صلاح الدين في الصلح، على أن يكون له ما بيده من الشام، وللملك الصالح ما. بقي بيده منه، فصالحهم على ذلك ورحل عن حلب، في العشر الأول من شوال من هذه السنة، أعني سنة سبعين وخمسمائة وفي العشر الأخير من شوال من هذه السنة، ملك السلطان صلاح الدين قلعة بارين، وأخذها من صاحبها فخر الدين مسعود بن الزعفراني، وكان فخر الدين المذكور، من أكابر الأمراء النورية.
ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة ملك البهلوان بن الدكز مدينة تبريز، وأخذها من ابن أقسنقر الحمديلي وفيها مات شملة التركماني، صاحب خورستان، وملك ابنه بعده. وفيها وقع بين الخليفة وبين قطب الدين قيماز، مقدم عسكر بغداد، فتنة، فنهبت دار قيماز، وهرب إلى الحلة، ثم إلى(3/57)
الموصل، فلحق قيماز في الطريق عطش شديد، فهلك أكثر أصحابه، ومات قطب الدين قيماز، قبل أن يصل إلى الموصل، فحمل ودفن بظاهر باب العمادي، ولما هرب قيماز، خلع الخليفة على عضد الدولة الوزير، وعاده إلى الوزارة.
ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وخمسمائة: ذكر انهزام سيف الدين غازي صاحب الموصل من السلطان صلاح الدين
في هذه السنة عاشر شوال، كان المصاف بين السلطان صلاح الدين، وبين سيف الدين غازي ابن مودود بن زنكي بتل السلطان، فهرب سيف الدين غازي والعساكر التي كانت معه، فإنه كان قد استنجد بصاحب حصن كيفا، وصاحب ماردين، وغيرهما، وتمت على سيف الدين غازي الهزيمة، حتى وصل الموصل مرعوباًن وقصد الهروب منها إلى بعض القلاع، فثبته وزيره، وأقام بالموصل. واستولى السلطان صلاح الدين على أثقال عسكر الموصل وغيرهم، وغنم ما فيها، ثم سار السلطان صلاح الدين إلى بزاعة، فحصرها وتسلمها.
ثم سار إلى منبج فحصرها في آخر شوال، وصاحبها قطب الدين ينال بن حسان المنبجي، وكان شديد البغض لصلاح الدين، وفتحها عنوة، وأسر ينال، وأخذ جميع موجوده ثم أطلقه، فسار ينال إلى الموصل، فأقطعه سيف الدين غازي مدينة الرقة، ثم سار السلطان صلاح الدين إلى إعزاز، ونازلها ثالث ذي القعدة، وتسلمها حادي عشر ذي الحجة، فوثب إسماعيلي على صلاح الدين في حصاره إعزاز، فضربه بسكين في رأسه فجرحه، فأمسك صلاح الدين يدي الإسماعيلي، وبقي يضرب بالسكين فلا يؤثر، حتى قتل الإسماعيلي على تلك الحال، ووثب آخر عليه فقتل أيضاً، وجاء السلطان إلى خيمته مذعوراً، وأعرض جنده، وأبعد من أنكره منهم. ولما ملك السلطان إعزاز رحل عنها، ونازل حلب في منتصف ذي الحجة، وحصرها وبها الملك الصالح بن نور الدين، وانقضت هذه السنة وهو محاصر لحلب، فسألوا صلاح الدين في الصلح، فأجابم إليه، وأخرجوا إليه بنتاً صغيرة لنور الدين محمود، فأكرمها السلطان صلاح الدين، وأعطاها شيئاً كثيراً، وقال لها: ما تريدين؟ فقالت: أريد قلعة إعزاز، وكانوا قد علموها ذلك، فسلمها إليهم، واستقر الصلح، ورحل السلطان صلاح الدين عن حلب، في العشرين من المحرم سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة.
ذكر غير ذلك في هذه السنة سار أمير الحاج العراقي طاشتكين، وأمره الخليفة بعزل صاحب مكة، مكثر بن عيسى، فجرى بين الحجاج وبينه قتال، فانهزم مكثر في البرية، وأقام أخاه داود(3/58)
مكانه بمكة. وفيها في رمضان قدم شمس الدولة توران شاه بن أيوب من اليمن إلى الشام، وأرسل إلى أخيه صلاح الدين يعلمه بوصوله، وكتب إليه أبياتاً من شعر ابن النجم المصري:
وإلى صلاح الدين أشكو أنني ... من بعده مضنى الجوانح مولع
جزعاً لبعد الدار عنه ولم أكن ... لولا هواه لبعد دار أجزع
ولأركبن إليه متن عزائمي ... ويخب بي ركب الغرام ويوسع
ولأسرين الليل لا يسرى به ... طيف الخيال ولا البروق اللمع
وأقدمن إليه قلبي مخبراً ... أني بجسمي عن قريب أتبغ
حتى أشاهد منه أسعد طلعة ... من أفقها صبح السعادة يطلع
وفيها توفي الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله، المعروف بابن عساكر الدمشقي، الملقب نور الدين، كان إماماً في الحديث، ومن أعيان الفقهاء الشافعية، صنف تاريخ دمشق في ثمانين مجلدة، على وضع تاريخ بغداد، أتى فيه بالغرائب، ومولد المذكور في أول سنة تسع وتسعين وأربعمائة.
ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة فيها قصد السلطان صلاح الدين، بلد الإسماعيلية، في المحرم، فنهب بلدهم وخربه وأحرقه، وحصر قلعة مصياف، فأرسل سنان مقدم الإسماعيلية إلى خال صلاح الدين، وهو شهاب الدين الحارمي صاحب حماة، يسأله أن يسعى في الصلح، فسأل الحارمي الصفح عنهم، فأجابه صلاح الدين إلى ذلك، وصالحهم ورحل عنهم، وأتم السلطان صلاح الدين مسيره، ووصل إلى مصر فإنه كان قد بعد عهده بها، بعد أن استقر له ملك الشمام، ولما وصل إلى مصر في هذه السنة، أمر ببناء السور الدائر على مصر والقاهرة والقلعة، التي على جبل المقطم، ودور ذلك تسعة وعشرون ألف ذراع، وثلاث مائة ذراع، بالذراع الهاشمي، ولم يزل العمل فيه إلى أن مات صلاح الدين.
وفي هذه السنة أمر صلاح الدين ببناء المدرسة التي على الشافعي بالقرافة بمصر، وعمل بالقاهرة مرستان.
وفيها توفي القاضي جمال الدين محمد بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري، قاضي دمشق، وجميع الشام.
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة في هذه السنة في جمادى الأولى، سار السلطان صلاح الدين من مصر إلى ساحل الشام، لغزو الفرنج، فوصل إلى عسقلان في الرابع والعشرين من الشهر، فنهب، وتفرق عسكره في الإغارات، وبقي السلطان في بعض العسكر، فلم يشعر إلا بالفرنج قد طلعت عليه، فقاتلهم أشد قتال، وكان لتقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، ولد اسمه أحمد، وهو من أحسن الشباب، أول ما قد تكاملت لحيته، فأمره أبوه تقي الدين بالحملة على الفرنج، فحمل عليهم، وقاتلهم، فأثر فيهم أثراً كبيراً، وعاد سالماً، فأمره أبوه بالعود(3/59)
إليهم ثانية، فحمل عليهم فقتل شهيداً، وتمت الهزيمة على المسلمين، وقاربت حملات الفرنج السلطان، فمضى منهزماً إلى مصر على البرية، ومعه من سلم، فلقوا في طريقهم مشقة وعطشاً شديداً، وهلك كثير من الدواب، وأخذت الفرنج العسكر الذين كانوا يتفرقون في الإغارات أسرى، وأسر الفقيه عيسى، وكان من أكبر أصحاب السلطان صلاح الدين، فافتداه السلطان من الأسر بعد سنتين، بستين ألف دينار، ووصل السلطان إلى القاهرة نصف جمادى الآخرة، قال الشيخ عز الدين علي بن الأثير مؤلف الكامل: ورأيت كتاباً بخط يد صلاح الدين، إلى أخيه توران شاه، نائبه بدمشق، يذكر له الوقعة، وفي أوله:
ذكرتك والخطي تخطر بيننا ... وقد نهلت منا المثقفة السمر
ويقول فيه: لقد أشرفنا على الهلاك غير مرة، وما نجانا الله منه إلا لأمر يريده سبحانه وتعالى.
وما ثبتت إلا وفي نفسها أمر.
وفي هذه السنة سار الفرنج وحصروا مدينة حماة، في جمادى الأولى، وطمع الفرنج بسبب بعد السلطان بمصر، وهزيمته من الفرنج، ولم يكن غير توران شاه بدمشق، ينوب عن أخيه صلاح الدين، وليس عنده كثير من العسكر، وكان توران شاه أيضاً كثير الانهماك في اللذات، مائلاً إلى الراحات، ولما حصروا حماة، كان بها صاحبها شهاب الدين الحارمي، خال صلاح الدين، وهو مريض، واشتد حصار الفرنج لحماة، وطال زحفهم عليها، حتى أنهم هجموا بعض أطراف المدينة، وكادوا يملكون البلد قهراً، ثم جد المسلمون في القتال، وأخرجوا الفرنج إلى ظاهر السور، وأقام الفرنج كذلك على حماة أربعة أيام، ثم رحلوا عنها إلى حارم، وعقيب رحيلهم عنها مات صاحبها شهاب الدين الحارمي، وكان له ابن من أسن الناس شباباً، مات قبله بثلاثة أيام.
وفي هذه السنة قبض الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين، صاحب حلب، على سعد الدين بن كمشتكين، وكان قد تغلب على الأمر. وكانت حارم لكمشتكين، فأرسل الملك الصالح إليهم، فلم يسلموها إليه فأمر كمشتكين أن يسلمها، فأمرهم بذلك، فلم يقبلوا منه، فأمر بتعذيب كمشتكين ليسلموا القلعة، فعذب وأصحابه يرونه ولا يرحمونه، فمات في العذاب، وأصر أصحابه على الامتناع، ووصل الفرنج إلى حارم بعد رحيلهم عن حماة، وحصروا حارم مدة أربعة أشهر، فأرسل الملك الصالح مالاً للفرنج وصالحهم، فرحلوا عن حارم، وقد بلغ بأهلها الجهد، وبعد أن رحل الفرنج عنها، أرسل إليها الملك الصالح عسكراً وحصروها، فلم يبق بأهلها ممانعة، فسلموها إلى الملك الصالح، فاستناب بقلعة حارم مملوكاً كان لأبيه، اسمه سرخك.
وفي هذه السنة في المحرم خطب للسلطان طغريل بن أرسلان بن طغريل ابن السلطان محمد ابن السلطان ملكشاه، المقيم ببلاد الدكز، وكان أبوه أرسلان الذي تقدم خبره، قد توفي، ولم(3/60)
يذكر ابن الأثير وفاة أرسلان بن طغريل إلا في هذا الموضع، وكان ينبغي أن يذكره قبل هذه السنة.
وفيها في ذي الحجة قتل عضد الدين محمد بن عبد الله بن هبة الله، وزير الخليفة، وكان قد عبر دجلة عازماً على الحج، فقتله الإسماعيلية، وحمل مجروحاً إلى منزله فمات به، وكان مولده في جمادى الأولى سنة أربع عشرة وخمسمائة.
وفيها توفي صدقة بن الحسين الحداد، الذي ذيل تاريخ ابن الزعفراني ببغداد.
ثم دخلت سنة أربع وسبعين وخمسمائة في هذه السنة، طلب توران شاه من أخيه السلطان صلاح الدين بعلبك، وكان السلطان أعطاها شمس الدين محمد ابن عبد الملك المقدم، لما سلم دمشق إلى صلاح الدين، فلم يمكن صلاح الدين منع أخيه من ذلك، فأرسل إلى ابن المقدم ليسلم بعلبك، فعصي بها ولم يسلمها، فأرسل السلطان وحصره ببعلبك، وطال حصارها، فأجاب ابن المقدم إلى تسليمها على عوض، فعوض عنها، وتسلمها السلطان وأقطعها أخاه توران شاه.
رفيها كان بالبلاد غلاء عام، وتبعه وباء شديد، وفيها سير السلطان صلاح الدين ابن أخيه تقي الدين عمر إلى حماة، وابن عمه محمد بن شيركوه إلى حمص، وأمرهما بحفظ بلادهما، فاستقر كل منهما ببلده.
وفيها توفي الحصيص الشاعر، واسمه سعد بن محمد بن سعد، وشعره مشهور فمنه:
لا تلمني في سقامي بالعلى ... رغد العيش لريات الحجال
سيف عز زانه رونقه ... فهو بالطبع غني عن صقال
وفيها ماتت شهدة بنت أحمد بن عمر الأبري، سمعت الحديث من السراج، وطراد، وغيرهما، وعمرت حتى قاربت مائة سنة، وسمع عليها خلق كثير لعلو إسنادها.
ثم دخلت سنة خمس وسبعين وخمسمائة.، فيها سار السلطان صلاح الدين، وفتح حصناً كان بناه الفرنج عند مخاضة الأحزان، بالقرب من بانياس، عند بيت يعقوب، وفي ذلك يقول علي بن محمد الساعاتي الدمشقي:
أتسكن أوطان النبيين عصبة ... تمين لدى أيمانها وهي تحلف
نصحتكم والنصح للدين واجب ... ذرواً بيت يعقوب فقد جاء يوسف
وفيها كان حرب بين عسكر السلطان صلاح الدين، ومقدمهم ابن أخيه تقي الدين، عمر بن شاهنشاه بن أيوب، وبين عسكر قليج أرسلان بن. مسعود بن قليج أرسلان صاحب بلاد الروم، وسببها أن حصن رعبان كان بيد شمس الدين بن المقدم، فطمع فيه قليج أرسلان، وأرسل إليه عسكراً كثيراً ليحصروه، وكانوا قريب عشرين ألفاً، فسار إليهم تقي الدين في ألف فارس، فهزمهم، وكان تقي الدين يفتخر ويقول: هزمت بألف عشرين ألفاً.(3/61)
ذكر وفاة المستضيء
خلافة الإمام الناصر
وهو رابع ثلاثينهم:
في هذه السنة ثاني ذي القعدة، توفي المستضيء بأمر الله أبو محمد الحسن بن يوسف المستنجد، وأمه أم ولد أرمنية، وكانت خلافته نحو تسع سنين وسبعة أشهر. وكان مولده سنة ست وثلاثين وخمسمائة، وكان عادلاً حسن السيرة، وكان قد حكم في دولة ظهير الدين أبو بكر منصور بن نصر، المعروف بابن العطار، بعد قتل عضد الدين الوزير، فلما مات المستضيء، قام ظهير الدين بن العطار، وأخذ البيعة لولده، الإمام الناصر لدين الله، ولما استقرت البيعة للإمام الناصر، حكم أستاذ الدار مجد الدين أبو الفضل، فقبض في سابع ذي القعدة على ظهير الدين بن العطار، ونقل إلى التاج، وأخرج ظهير الدين المذكور ميتاً على رأس حمال، ليلة الأربعاء، ثاني عشر ذي القعدة، فثارت به العامة، والقوه عن رأس الحمال، وشدوا في ذكره حبلاً وسحبوه في البلد، وكانوا يضعون في يده مغرفة، يعني أنها قلم، وقد غمس تلك المغرفة في العذرة، ويقولون وقع لنا يا مولانا، هذا فعلهم به، مع حسن سيرته فيهم، وكفه عن أموالهم، ثم خلص منهم ودفن.
وفي هذه السنة في ذي القعدة، نزل توران شاه أخو السلطان عن بعلبك، وطلب عوضها الإسكندرية، فأجابه السلطان صلاح الدين إلى ذلك، وأقطع بعلبك لعز الدين فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب، فسار إليها فرخشاه، وسار شمس الدولة توران شاه إلى الإسكندرية، وأقام بها إلى ن مات بها.
ثم دخلت سنة ست وسبعين وخمسمائة.
ذكر وفاة سيف الدين صاحب الموصل
في هذه السنة ثالث صفر، توفي سيف الدين غازي بن مودود بن زنكي بن أقسنقر، صاحب الموصل، والديار الجزرية، وكان مرضه السل، وطال، وكان عمره نحو ثلاثين سنة، وكانت ولايته عشر سنين ونحو ثلاثة شهر، وكان حسن الصورة مليح الشباب، تام القامة أبيض اللون، عاقلاً عادلاً، عفيفاً شديد الغيرة، لا يدخل بيته غير الخدم إذا كانوا صغاراً، فإذا كبر أحدهم منعه، وكان عفيفاً عن أموال الرعية، مع شح كان فيه، وحين حضره الموت، أوصى بالمملكة بعده إلى أخيه عز الدين مسعود بن مودود، وأعطى جزيرة ابن عمر وقلاعها لولده سنجرشاه بن غازي، فاستقر ذلك بعد موته حسبما قرره، وكان مدير الدولة والحاكم فيها مجاهد الدين قيماز.
وفي هذه السنة، سار السلطان صلاح الدين إلى جهة قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان، صاحب بلاد الروم، ووصل إلى رعبان، ثم اصطلحوا. فقصد صلاح الدين بلاد ابن ليون الأرمني، وشن فيها الغارات، فصالحه ابن ليون على مال حمله، وأسرى أطلقهم.
وفيها توفي شمس الدولة توران شاه بن أيوب، أخو(3/62)
صلاح الدين الأكبر، بالإسكندرية، وكان له معها أكثر بلاد اليمن، ونوابه هناك يحملون إليه الأموال من زبيد وعدن وغيرهما، وكان أجود الناس وأسخاهم كفاً، يخرج كل ما يحمل إليه من أموال اليمن، ودخل الإسكندرية، ومع هذا، فلما مات، كان عليه نحو مائتي ألف دينار مصرية، ديناً عليه، فوفّاها أخوه صلاح الدين عنه، لما وصل إلى مصر، ووصل السلطان صلاح الدين إلى مصر في هذه السنة، في شعبان، واستخلف بالشام ابن أخيه عز الدين فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب صاحب بعلبك.
ثم دخلت سنة سبع وسبعين وخمسمائة في هذه السنة، عزم البرنس صاحب الكرك، على المسير إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، للاستيلاء على تلك النواحي الشريفة، وسمع ذلك عز الدين فرخشاه، نائب عمه السلطان صلاح الدين بدمشق، فجمع وقصد بلاد الكرك، وأغار عليها وأقام في مقابلة البرنس، ففرق البرنس جموعه، وانقطع عزمه عن الحركة. وفيها وقع بين نواب توران شاه باليمن بعد موته اختلاف، فخشي السلطان صلاح الدين على اليمن، فجهز إليه عسكراً مع جماعة من أمرائه، فوصلوا إلى اليمن واستولوا عليه، وكان نواب توران شاه على عدن، عز الدين عثمان بن الزنجيلي، وعلى زبيد، حطان بن كامل بن منقذ الكناني، من بيت صاحب شيزر.
ذكر وفاة الملك الصالح صاحب حلب في هذه السنة في رجب، توفي الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود بن زنكي بن أقسنقر، صاحب حلب، وعمره نحو تسع عشرة سنة، ولما اشتد به مرض القولنج، وصف له الأطباء الخمر فمات ولم يستعمله، وكان حليماً عفيف اليد والفرج واللسان، ملازماً لأمور الدين، لا يعرف له شيء مما يتعاطاه الشباب، ووصى بملك حلب إلى ابن عمه عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي، صاحب الموصل، فلما مات سار مسعود ومجاهد الدين قيماز من الموصل إلى حلب، واستقر في ملكها. ولما استقر مسعود بن مودود في ملك حلب، كاتبه أخوه عماد الدين زنكي بن مودود، صاحب سنجار، في أن يعطيه حلب ويأخذ منه سنجار، فأشار قيماز بذلك، فلم يمكن مسعود إلا موافقته، فأجاب إلى ذلك، فسار عماد الدين إلى حلب وتسلمها، وسلّم سنجار إلى أخيه مسعود، وعاد مسعود إلى الموصل.
وفي هذه السنة في شعبان توفي أبو البركات عبد الرحمن بن محمد بن أبي سعيد النحوي، المعروف بابن الأنباري، ببغداد، وله تصانيف حسنة في النحو، وكان فقيها.
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وخمسمائة.
ذكر مسير السلطان صلاح الدين إلى الشام في هذه السنة خامس المحرم، سار السلطان صلاح الدين عن مصر إلى الشام، ومن عجيب الإتفاق، أنه لما برز من القاهرة، وخرجت أعيان الناس لوداعه، أخذ كل منهم يقول شيئاً(3/63)
في الوداع وفراقه، وفي الحاضرين معلم لبعض أولاد السلطان، فأخرج رأسه من بين الحاضرين وأنشد:
تمتع من شميم عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار
فتطير صلاح الدين وانقبض بعد انبساطه، وتنكد المجلس على الحاضرين، فلم يعد صلاح الدين بعدها إلى مصر مع طول المدة، وسار السلطان صلاح الدين وأغار في طريقه على بلاد الفرنج، وغنم، ووصل إلى دمشق في حادي عشر صفر من هذه السنة، ولما سار السلطان إلى الشام، اجتمعت الفرنج قرب الكرك، ليكونوا على طريقه، فانتهز فرخشاه ابن أخي السلطان صلاح الدين ونائبه بدمشق الفرصة، وسار إلى الشقيف بعساكر الشام، وفتحه، وغار على ما يجاوره من بلاد الفرنج، وأرسل إلى السلطان وبشره بذلك.
ذكر إرسال سيف الإسلام إلى اليمن في هذه السنة سير السلطان أخاه سيف الإسلام طغتكين إلى بلاد اليمن ليملكهما، ويقطع الفتن منها، وكان بها حطان بن منقذ الكناني، وعز الدين عثمان الزنجيلي، وقد عادا إلى ولايتهما، فإن الأمير الذي كان سيره السلطان نائباً إلى اليمن، تولى وعزلهما، ثم توفي، فعادت بين حطان وعثمان الفتن قائمة، فوصل سيف الإسلام إلى زبيد، فتحصن حطان في بعض القلاع، فلم يزل سيف الإسلام يتلطف به حتى نزل إليه، فأحسن صحبته، ثم إن حطان طلب دستوراً ليسير إلى الشام، فلم يجبه إلا بعد جهد، فجهز حطان أثقاله قدامه ودخل حطان ليودع سيف الإسلام، فقبض عليه وأرسل واسترجع أثقاله، وأخذ جميع أمواله، وكان في جملة ما أخذه سيف الإسلام من حطان، سبعين غلاف زردية مملوءة ذهباً عيناً، ثم سجن حطان في بعض قلاع اليمن، فكان آخر العهد به، وأما عثمان الزنجيلي فإنه لما جرى لحطان ذلك، خاف وسار نحو الشام، وسيّر أمواله في البحر، فصادفهم مراكب أصحاب سيف الإسلام، فأخذوا كل ما لعثمان الزنجيلي، وصفت بلاد اليمن لسيف الإسلام.
ذكر غارات السلطان الملك صلاح الدين وما استولى عليه من البلاد في هذه السنة سار السلطان صلاح الدين من دمشق، في ربيع الأول، ونزل قرب طبرية، وشن الإغارة على بلاد الفرنج، مثل بانياس وجينين والغور، فغنم وقتل وعاد إلى دمشق، ثم سار عنها إلى بيروت وحصرها، وأغار على بلادها، ثم عاد إلى دمشق، ثم سار من دمشق إلى البلاد الجزرية، وعبر الفرات من البيرة، فصار معه مظفر الدين كوكبوركي بن زين الدين علي بن بكتكين، وكان حينئذ صاحب حران، وكاتب السلطان صلاح الدين ملوك تلك الأطراف واستمالهم، فأجابه نور الدين محمد بن قرا أرسلان صاحب حصن كيفا، وصار معه، ونازل السلطان الرها وحاصرها وملكها، وسلمها إلى مظفر الدين(3/64)
كوكبوري صاحب حران، ثم سار السلطان إلى الرقة وأخذها من صاحبها قطب الدين ينال بن حسان المنبجي، فسار ينال إلى عز الدين مسعود صاحب الموصل.
ثم سار صلاح الدين إلى الخابور، وملك قرقيسيا وماكسين وعربان والخابور، واستولى على الخابور جميعه، ثم سار إلى نصيبين وحاصرها، وملك المدينة، ثم ملك القلعة، ثم أقطع نصيبين أميراً كان معه يقال له أبو الهيجاء السمين، ثم سار عن نصيبين وقصد الموصل، وقد استعد صاحبها عز الدين مسعود ومجاهد الدين قيماز للحصار، وشحنوها بالرجال والسلاح، فحصر الموصل وأقام عليها منجنيقاً، فأقاموا عليه من داخل المدينة تسعة مناجنيق، وضايق الموصل، فنزل السلطان صلاح الدين محاذاة باب كندة، ونزل صاحب حصن كيفا على باب الجسر، ونزل تاج الملوك بوري أخو صلاح الدين على باب العمادي، وجرى القتال بينهم، وكان ذلك في شهر رجب من هذه السنة، فلما رأى أن حصارها يطول، رحل عن الموصل إلى سنجار وحاصرها وملكها، واستناب بها سعد الدين بن معين الدين أتز، وكان من أكابر الأمراء وأحسنهم صورة، ومعنى، ثم سار السلطان صلاح الدين إلى حران وعزل في طريقه عن نصيبين أبا الهيجاء السمين.
ذكر غير ذلك من الحوادث
في هذه السنة عمل البرنس صاحب الكرك أسطولاً في بحر إيلة، وساروا في البحر فرقتين، فرقة أقامت على حصن إيلة يحصرونه، وفرقة سارت نحو عيذاب يفسدون في السواحل، وبغتوا المسلمين في تلك النواحي، فإنهم لم يعهدوا بهذا البحر فرنجاً قط، وكان بمصر الملك العادل أبو بكر نائباً عن أخيه السلطان صلاح الدين، فعمر أسطولاً في بحر عيذاب، وأرسله مع حسام الدين الحاجب لؤلؤ، وهو متولي الأسطول بديار مصر، وكان مظفراً فيه، وشجاعاً، فسار لؤلؤ مجداً في طلبهم، وأوقع بالذين يحاصرون إيلة، فقتلهم وأسرهم، ثم سار في طلب الفرقة الثانية، وكانوا قد عزموا على الدخول إلى الحجاز ومكة والمدينة، حرسهما الله تعالى، وسار لؤلؤ يقفو أثرهم، فبلغ رابغ، فأدركهم بساحل الحورا، وتقاتلوا أشد قتال، فظفر الله تعالى بهم، وقتل لؤلؤ أكثرهم، وأخذ الباقين أسرى، وأرسل بعضهم إلى منى لينحروا بها، وعاد بالباقين إلى مصر، فقتلوا عن آخرهم.
وفي هذه السنة توفي عز الدين فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب، صاحب بعلبك، وكان ينوب عن صلاح الدين بدمشق، وهو ثقته من بين أهله، وكان فرخشاه شجاعاً كريماً فاضلاً، وله شعر جيد، ووصل خبر موته إلى صلاح الدين، وهو في البلاد الجزرية، فأرسل إلى دمشق شمس الدين محمد بن عبد الملك المقدم، ليكون بها، وأقر بعلبك على بهرام شاه بن فرخشاه المذكور.
وفيها توفي أبو العباس أحمد بن علي بن الرفاعي من سواد واسط، وكان صالحاً ذا قبول عظيم عند الناس، وله من(3/65)
التلامذة ما لا يحصى.
وفيها توفي بقرطبة خلف بن عبد الملك بن مسعود بن بشكوال الخزرجي الأنصاري، وكان من علماء الأندلس، وله التصانيف المفيدة، ومولده في سنة أربع وتسعين وأربعمائة.
وفيها توفي بدمشق مسعود بن محمد بن مسعود النيسابوري، الفقيه الشافعي، ولد سنة خمس وخمسمائة، وهو الملقب قطب الدين، وكان إماماً فاضلاً في العلوم الدينية، قدم إلى دمشق وصنف عقيدة للسلطان صلاح الدين، وكان السلطان يقريها أولاده الصغار.
ثم دخلت سنة تسع وسبعين وخمسمائة.
ذكر ما ملكه السلطان صلاح الدين من البلاد في هذه السنة، ملك السلطان صلاح الدين حصن آمد، بعد حصار وقتال، في العشر الأول من المحرم، وسلمها إلى نور الدين محمد بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان بن أرتق، صاحب حصن كيفا، ثم سار إلى الشام، وقصد تل خالد من أعمال حلب وملكها، ثم سار إلى عينتاب وحصرها، وبها ناصر الدين محمد أخو الشيخ إسماعيل الذي كان خازن نور الدين محمود بن زنكي، وكان قد سلم نور الدين عينتاب إلى إسماعيل المذكور، فبقيت معه إلى الآن، فحاصرها السلطان وملكها تسليم صاحبها إليه، فأقره السلطان عليها، وبقي في خدمة السلطان، ومن جملة أمرائه، ثم سار السلطان إلى حلب وحصرها، وبها صاحبها عماد الدين زنكي بن ودود بن عماد الدين زنكي بن أقسنقر، وطال الحصار عليه، وكان قد كثر اقتراحات أمراء حلب وعسكرها عليه، وقد ضجر من ذلك وكره حلب لذلك، فأجاب السلطان ملاح الدين إلى تسليم حلب، على أن يعوض عنها بسنجار ونصيبين والخابور والرقة وسروج، واتفقوا على ذلك، وسلم حلب إلى السلطان في صفر من هذه السنة، فكان أهل حلب ينادون على عماد الدين المذكور يا حمار بعت حلب بسنجار، وشرط السلطان على عماد الدين المذكور الحضور إلى خدمته، بنفسه وعسكره إذا استدعاه، ولا يحتج بحجة عن ذلك، ومن الاتفاقات العجيبة، أن محي الدين بن الزكي قاضي دمشق، مدح السلطان بقصيدة منها:
وفتحكم حلباً بالسيف في صفر ... مباشر بفتوح القدس في رجب
فرافق فتح القدس في رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وكان في جملة من قتل على حلب، تاج الملوك بوري بن أيوب، أخو السلطان الأصغر، وكان كريماً شجاعاً، طعن في ركبته، فانفكت، فمات منها.
ولما استقر الصلح، عمل عماد الدين زنكي المذكور دعوة للسلطان، واحتفل لها، فبينما هم في سرورهم، إذ جاء إنسان فأسر إلى السلطان بموت أخيه بوري، فوجد عليه في قلبه وجداً عظيماً، وأمر تجهيزه سرا، ولم يعلم السلطان في ذلك الوقت أحداً ممن كان في الدعوة بذلك لئلا يتنكد عليهم ما هم فيه، وكان يقول السلطان ما وقعت حلب علينا رخيصة بموت بوري، وكان هذا من السلطان من الصبر العظيم، ولما ملك السلطان حلب، أرسل إلى حارم وبهما(3/66)
سرخك الذي ولاه الملك الصالح ابن نور الدين، في تسليم حارم، وجرت بينهما مراسلات، فلم ينتظم بينهما حال، وكاتب سرخك الفرنج، فوثب عليه أهل القلعة وقبضوا عليه، وسلموا حارم إلى السلطان فتسلمها، وقرر أمر حلب وبلادها، وأقطع إعزاز أميراً يقال له سليمان بن جندر.
ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة قبض عز الدين مسعود، صاحب الموصل، على نائبه مجاهد الدين قيماز، وفيها لما فرغ السلطان من تقرير أمر حلب، جعل فيها ولده الملك الظاهر غازي، وسار إلى دمشق وتجهز منها للغزو، فعبر نهر الأردن تاسع جمادى الآخرة من هذه السنة. فأغار على بيسان وحرقها، وشن الغارات على تلك النواحي، ثم تجهز السلطان إلى الكرك، وأرسل إلى نائبه بمصر، وهو أخوه الملك العادل، أن يلاقيه إلى الكرك، فسارا واجتمعا عليها، وحصر الكرك وضيق عليها، ثم رحل عنها في منتصف شعبان، وسار معه أخوه العادل، وأرسل السلطان ابن أخيه الملك المظفر تقي الدين عمر إلى مصر، نائباً عنه. موضع الملك العادل، ووصل السلطان إلى دمشق وأعطى أخاه أبا بكر العادل مدينة حلب وقلعتها وأعمالها، وسيره إليها في شهر رمضان من هذه السنة، وأحضر ولده الظاهر منها إلى دمشق.
وفي هذه السنة في جمادى الآخرة، توفي محمد بن بختيار بن عبد الله الشاعر المعروف بالأبله. وفي هذه السنة أعني سنة تسع وسبعين وخمسمائة في أواخرها، توفي شاهرمن سكمان ابن ظهير الدين إبراهيم بن سكمان القطبي صاحب خلاط، وقد تقدم ذكر ملك شاهرمن المذكور في سنة إحدى وعشرين وخمسمائة، وكان عمر سكمان لما توفي أربعاً وستين سنة، ولما مات سكمان كان بكتمر مملوكه بميافارقين، فلما سمع بكتمر بموته سار من ميافارقين ووصل إلى خلاط، وكان أكثر أهلها يريدونه، وكان مماليك شاهرمن متفقين معه، فأول وصوله استولى على خلاط وتملكها، وجلس على كرسي شاهرمن، واستقر في مملكة خلاط حتى قتل في سنة تسع وثمانين وخمسمائة، حسبما نذكره إن شاء الله تعالى.
ثم دخلت سنة ثمانين وخمسمائة.
ذكر وفاة يوسف بن عبد المؤمن في هذه السنة سار أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن ملك الغرب، إلى بلاد الأندلس، وعبر البحر في جمع عظيم من عساكره، وقصد بلاد الفرنج، فحصر شنترين من غرب الأندلس، وأصابه مرض فمات منه، في ربيع الأول، وحمل في تابوت إلى مدينة إشبيلية، وكانت مدة مملكته اثنتين وعشرين سنة وشهوراً، وكان حسن السيرة، واستقامت له المملكة لحسن تدبيره، ولما مات بايع الناس ولده يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، وكنيته أبو يوسف، وملكوه عليهم في الوقت الذي مات فيه أبوه، لئلا يكونوا بغير ملك يجمع كلمتهم، لقربهم من العدو، فقام يعقوب بالملك أحسن قيام، وأقام راية الجهاد وأحسن السيرة.(3/67)
ذكر غزو السلطان الكرك في هذه السنة في ربيع الآخر، سار السلطان صلاح الدين من دمشق للغزو، وكتب إلى مصر، فسارت عساكرها إليه، ونازل الكرك وحصره وضيق على من به وملك ربض الكرك، وبقيت القلعة، وليس بينها وبين الربض غير خندق خشب، وقصد السلطان صلاح الدين طمه فلم يقدر، لكثرة المقاتلة، فجمعت الفرنج فارسها وراجلها، وقصدوه، فلم يمكن السلطان إلا الرحيل، فرحل عن الكرك وسار إليهم، فأقاموا في أماكن وعرة، وأقام السلطان قبالتهم، وسار من الفرنج جماعة ودخلوا الكرك، فعلم بامتناعه عليه، فسار إلى نابلس وأحرقها ونهب ما بتلك النواحي وقتل وأسر وسبى فأكثر، ثم سار إلى صبصطية وبها مشهد زكريا، فاستنقذ ما بها من أسرى المسلمين، ثم سار إلى جنبتين ثم عاد إلى دمشق.
ذكر وفاة صاحب ماردين
في هذه السنة مات قطب الدين أيلغازي بن نجم الدين ألبي بن تمرتاش بن أيلغازي بن أرتق صاحب ماردين، أقول إنه قد تقدم في سنة سبع وأربعين وخمسمائة ذكر ملك ألبي ولد أيلغازي المذكور، وبقي ألبي في ملك ماردين حتى مات، وملك بعده ابنه أيلغازي المذكور، ولم يقع لي وفاة ألبي، وملك أيلغازي المذكورين متى كان لأثبته، ولما مات أيلغازي المذكور، كان له أولاد أطفال، فأقيم في الملك بعده ولده حسام الدين بولق أرسلان، وقام بتدبير المملكة وترتيبها مملوك والده نظام الدين البقش، حتى كبر بولق أرسلان، وكان به هوج وخبط، فمات بولق أرسلان وأقام البقش بعده أخاه الأصغر ناصر الدين أرتق أرسلان بن قطب الدين أيلغازي، ولم يكن له حكم، بل الحكم إلى البقش وإلى مملوك للبقش اسمه لؤلؤ، كان قد تغلب على أستاذه البقش، بحيث كان لا يخرج البقش عن رأي لؤلؤ المذكور، ولم يكن لناصر الدين أرتق أرسلان صاحب ماردين من الحكم شيء، وبقي الأمر كذلك إلى سنة إحدى وستمائة، فمرض النظام البقش وأتاه ناصر الدين صاحب ماردين يعوده، فلما خرج من عنده خرج معه لؤلؤ فضربه ناصر الدين بسكين فقتله، ثم عاد إلى البقش فقتله وهو مريض، واستقل أرتق أرسلان بملك ماردين من غير منازع.
وفي هذه السنة توفي شيخ الشيوخ صدر الدين عبد الرحيم بن إسماعيل بن أبي سعيد أحمد، وكان قد سار من عند الخليفة إلى السلطان صلاح الدين في رسالة، ومعه شهاب الدين بشير الخادم، ليصلحا بين السلطان صلاح الدين وبين عز الدين مسعود صاحب الموصل، فلم ينتظم حال، واتفق أنهما مرضا بدمشق وطلبا المسير إلى العراق، وسارا في الحر فمات بشير بالسخنة ومات صدر الدين شيخ الشيوخ بالرحبة، ودفن بمشهد البوق، وكان أوحد زمانه، قد جمع بين رئاسة الدين والدنيا.
وفيها في المحرم أطلق عز الدين مسعود صاحب الموصل مجاهد الدين قيماز من الحبس، وأحسن إليه.
ثم دخلت(3/68)
سنة إحدى وثمانين وخمسمائة.
ذكر حصار السلطان صلاح الدين الموصل في هذه السنة حصر السلطان صلاح الدين الموصل، وهو حصاره الثاني، فأرسل إليه عز الدين مسعود صاحب الموصل والدته، وابنة عمه نور الدين محمود بن زنكي، وغيرهما من النساء، وجماعة يطلبون منه ترك الموصل وما بأيديهم، فردهم، واستقبح الناس ذلك من صلاح الدين، لا سيما وفيهن بنت نور الدين محمود، وحاصر الموصل وضايقها، وبلغه وفاة شاهرمن، صاحب أخلاط، في ربيع الآخر من هذه السنة، فسار عن الموصل إلى جهة أخلاط فاستدعى أهلها ليملكها.
ذكر وفاة صاحب حصن كيفا في هذه السنة توفي نور الدين محمد بن قرا أرسلان بن داود، صاحب الحصن، وآمد، وملك بعده ولده سقمان، ولقبه قطب الدين، وكان صغيراً فقام بتدبيره القوام ابن سماقا الأشعردي وحضر سقمان إلى السلطان صلاح الدين وهو نازل على ميافارقين، فأقره على ما كان بيد ولده نور الدين محمد، وأقام معه أميراً من أصحاب أبي سقمان المذكور.
ذكر ملك السلطان صلاح الدين ميافارقين لما سار السلطان عن الموصل إلى أخلاط جعل طريقه على ميافارقين، وكانت لصاحب ماردين الذي توفي، وفيها من حفظها من جهة شاهرمن صاحب أخلاط المتوفي، فحاصرها السلطان وملكها في سلخ جمادى الأولى، ثم إن السلطان رجع عن قصد أخلاط إلى الموصل، فجاءته رسل عز الدين مسعود يسأل في الصلح، واتفق حينئذ أن السلطان صلاح الدين مرض، وسار من كفر زمار عائداً إلى حران، فلحقته رسل صاحب الموصل بالإجابة إلى ما طلب، وهو أن يسلم صاحب الموصل إلى السلطان صلاح الدين شهرزور وأعمالها وولاية القرابلي، وجميع ما وراء الزاب، وأن يخطب للسلطان صلاح الدين على جميع منابر الموصل، وما بيده، وأن يضرب اسمه على الدراهم والدنانير، وتسلم السلطان ذلك واستقر الصلح، وأمنت البلاد، ووصل السلطان إلى حران، وأقام بها مريضاً واشتد به المرض حتى أيسوا منه، ثم إنه عوفي وعاد إلى دمشق في المحرم سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة، ولما اشتد مرض السلطان سار ابن عمه محمد بن شيركوه بن شاذي صاحب حمص إلى حمص، وكاتب بعض أكابر دمشق في أن يسلموا إليه دمشق إذا مات السلطان.
ذكر غير ذلك من الحوادث
في هذه السنة ليلة عيد الأضحى، شرب بحمص صاحبها ناصر الدين محمد بن شيركوه(3/69)
بن شاذي، فأصبح ميتاً. قيل إن السلطان صلاح الدين دس عليه من سماه سماً، لما بلغه مكاتبته أهل دمشق في مرضه، ولما مات أقر السلطان حمص وما كان بيد محمد على ولده شيركوه ابن محمد، وعمره اثنتا عشرة سنة، وخلف صاحب حمص شيئاً كثيراً من الدواب والآلات وغيرها، فاستعرضها السلطان عند نزوله بحمص في عودته من حران، وأخذ أكثرها، ولم يترك إلا ما لا خير فيه.
وفيها توفي الحافظ محمد بن عمر بن أحمد الأصفهاني المدني المشهور، وكان إمام عصره في الحفظ والمعرفة، وله في الحديث وعلومه تواليف مفيدة، وله كتاب الغيث في مجلد كمل به كتاب الغريبين للهروي، واستدرك فيه عليه مواضع وهو كتاب نافع، وكان مولده سنة إحدى وخمسمائة.
ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة.
ذكر نقل الملك العادل أخي السلطان من حلب وإخراج الملك الأفضل ابن السلطان من مصر إلى دمشق في هذه السنة أحضر السلطان ولده الأفضل من مصر، وأقطعه دمشق، وسببه أن الملك المظفر تقي الدين عمر ابن أخي السلطان، كان نائب عمه بمصر، وكان معه الملك الأفضل. فأرسل تقي الدين يشتكي من الأفضل، أني لا أتمكن من استخراج الخراج، فإني إذا أحضرت من عليه الخراج، وأردت عقوبته، يطلقه الملك الأفضل، فأرسل السلطان، وأخرج ابنه الملك الأفضل من مصر، وأقطعه دمشق، وتغير السلطان على تقي الدين عمر في الباطن، فإنه ظن أنه إنما أخرج ولده من مصر ليتملك مصر، إذا مات السلطان، ثم أحضر أخاه العادل من حلب، وجعل معه ولده العزيز عثمان ابن السلطان نائباً عنه بمصر، واستدعى تقي الدين عمر من مصر، فقيل أنه توقف عن الحضور، وقصد اللحاق بمملوكه قراقوش، المستولي على بعض بلاد إفريقية وبريقة من المغرب، وبلغ السلطان ذلك، فساءه، وأرسل يستدعي تقي الدين عمر ويلاطفه، فحضر إليه، ولما حضر تقي الدين عند السلطان، زاده على حماة منبج والمعرة وكفر طاب وميافارقين وجبل جور بجميع أعمالها، واستقر العادل والعزيز عثمان في مصر، ولما أخذ السلطان حلب من أخيه العادل، أقطعه عوضها حران والرها.
ذكر وفاة البهلوان وملك أخيه قزل في هذه السنة في أولها، توفي البهلوان محمد بن الدكز، صاحب بلد الجبل، همذان والري وأصفهان وأذربيجان وأرانية وغيرها من البلاد، وكان عادلاً حسن السيرة، وملك البلاد بعده أخوه قزل أرسلان، واسمه عثمان، وكان السلطان طغريل بن أرسلان بن طغريل(3/70)
بن محمد بن ملكشاه السلجوقي مع البهلوان، وله الخطابة في بلاده، وليس له من الأمر شيء، فلما مات البهلوان، خرج طغريل عن حكم قزل، وكثر جمعه، واستولى على بعض البلاد، وجرت بينه وبين قزل حروب.
ذكر غير ذلك في هذه السنة غدر البرنس صاحب الكرك، وأخذ قافلة عظيمة من المسلمين وأسرهم، فأرسل السلطان يطلب منه إطلاقهم، بحكم الهدنة التي كانت بينهم على ذلك، فلم يفعل، فنذر السلطان أنه إن ظفره الله به قتله بيده.
وفيها توفي أبو محمد عبد الله بن أبي الوحش بري بن عبد الجبار بن بري، المصري، الإمام في علم النحو واللغة، اشتغل عليه جماعة وانتفعوا به، ومن جملتهم أبو موسى الجزولي، صاحب المقدمة الجزولية في النحو، وكانت وفاته بمصر، وولد بها في سنة تسع وتسعين وأربعمائة.
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة.
ذكر غزوات السلطان الملك الناصر صلاح الدين وفتوحاته في هذه السنة جمع السلطان العساكر، وسار بفرقة من العسكر وضايق الكرك، خوفاً على الحجاج من صاحب الكرك، وأرسل فرقة أخرى مع ولده الملك الأفضل، فأغاروا على بلد عكا وتلك الناحية، وغنموا شيئاً كثيراً، ثم سار السلطان ونزل على طبرية، وحصر مدينتها وفتحها عنوة بالسيف، وتأخرت القلعة، وكانت طبرية للقومص صاحب طرابلس، وكان قد هادن السلطان ودخل في طاعته، فأرسلت الفرنج إلى القومص المذكور القسوس والبطرك، ينهونه عن موافقة السلطان ويوبخونه، فصار معهم واجتمع الفرنج لملتقى السلطان.
ذكر وقعة حطين وهي الوقعة العظيمة التي فتح الله بها الساحل وبيت المقدس
لما فتح السلطان مدينة طبرية، اجتمعت الفرنج في ملوكهم بفارسهم وراجلهم، وساروا إلى السلطان، فركب السلطان من عند طبرية وسار إليهم، يوم السبت لخمس بقين من ربيع الآخر، والتقى الجمعان، واشتد بينهم القتال، ولما رأى القومص شدة الأمر، حمل على من قدامه من المسلمين، وكان هناك تقي الدين صاحب حماة، فأفرج له وعطف عليهم، فنجا القومص ووصل إلى طرابلس، وبقي مدة يسيرة ومات غبناً، ونصر الله المسلمين وأحدقوا بالفرنج من كل ناحية، وأبادوهم قتلاً وأسراً، وكان في جملة من أسر ملك الفرنج الكبير والبرنس(3/71)
أرنلط صاحب الكرك، وصاحب جبيل، وابن الهنفري، ومقدم الداوية، وجماعة من الإسبتارية، وما أصيبت الفرنج من حين خرجوا إلى الشام، وهي سنة إحدى وتسعين وأربعمائة إلى الآن بمصيبة مثل هذه الوقعة، ولما انقضى المصاف جلس السلطان في خيمته، وأحضر ملك الفرنج وأجلسه إلى جانبه، وكان الحر والعطش به شديداً، فسقاه السلطان ماء مثلوجاً، وسقى ملك الفرنج منه البرنس أرنلط صاحب الكرك.
فقال له السلطان: إن هذا الملعون لم يشرب الماء بإذني، فيكون أماناً له، ثم كلم السلطان البرنس ووبخه وفزعه على غدره، وقصده الحرمين الشريفين، وقام السلطان بنفسه فضرب عنقه، فارتعدت فرائص ملك الفرنج، فسكن جأشه.
ثم عاد السلطان إلى طبرية وفتح قلعتها بالأمان، ثم سار إلى عكا وحاصرها وفتحها بالأمان، ثم أرسل أخاه الملك العادل فنازل مجد اليابا وفتحه عنوة بالسيف، ثم فرق السلطان عسكره، ففتحوا الناصرة، وقيسارية، وهيفا، وصفورية، ومعلثا، والفولة، وغيرها من البلاد المجاورة لعكا، بالسيف، وغنموا وقتلوا وأسروا أهل هذه الأماكن، وأرسل فرقة إلى نابلس فملكوا قلعتها بالأمان.
ثم سار الملك العادل بعد فتح مجد اليابا إلى يافا وفتحها عنوة بالسيف، ثم سار السلطان إلى تبنين ففتحها بالأمان، ثم سار إلى صيدا فأخلاها صاحبها وتسلمها السلطان ساعة وصوله، لتسع بقين من جمادى الأولى من هذه السنة، ثم سار إلى بيروت فحصرها وتسلمها في التاسع والعشرين من جمادى الأولى بالأمان، وكان حصرها مدة ثمانية أيام، وكان صاحب جبيل من جملة الأسرى، فبذل جبيل في أن يسلمها ويطلق سراحه، فأجيب إلى ذلك. وكان صاحب جبيل ابن أعظم الفرنج، وأشدهم عداوة للمسلمين، ولم تك عاقبة إطلاقه حميدة، وأرسل السلطان فتسلم جبيل وأطلقه.
وفيها حضر المركيس في سفينة إلى عكا وهي للمسلمين، ولم يعلم المركيس بذلك، واتفق هجوم الهواء فراسل المركيس الملك الأفضل وهو بعكا، يقترح أمراً بعد آخر، والملك الأفضل يجيب المركيس إلى ذلك، إلى أن هب الهواء فأقلع المركيس إلى صور، واجتمع عليه الفرنج الذين بها، وملك صور، وكان وصول المركيس إلى صور وإطلاق الفرنج الذين يأخذ السلطان بلادهم بالأمان، ويحملهم إلى صور من أعظم أسباب الضرر التي حصلت، حتى راحت عكا وقوي الفرنج بذلك، ثم سار السلطان إلى عسقلان وحاصرها أربعة عشر يوماً وتسلمها بالأمان، سلخ جمادى الآخرة.
ثم بث السلطان عسكره ففتحوا الرملة، والداروم، وغزة، وبيت لحم، وبيت جبريل، والنطرون. وغير ذلك.
ثم سار السلطان ونازل القدس، وبه من النصارى عدد يفوت الحصر، وضايق السلطان السور بالنقابين، واشتد القتال، وغلقوا السور، فطلب الفرنج الأمان فلم يجبهم السلطان إلى ذلك، وقال: لا آخذها إلا بالسيف، مثلما أخذها الفرنج من المسلمين، فعاودوه في الأمان، وعرفوه ما هم عليه من الكثرة، وأنهم إن أيسوا(3/72)
منه من الأمان، قاتلوا خلاف ذلك، فأجابهم السلطان إليه بشرط أن يؤدي كل من بها عشرة الدنانير عشرة الدنانير من الرجال، يؤدي النساء خمسة خمسة، ويؤدوا عن كل طفل دينارين، وأي من عجز عن الأداء كان أسيراً، فأجيب إلى ذلك، وسلمت إليه المدينة يوم الجمعة في السابع والعشرين من رجب، وكان يوماً مشهوداً، ورفعت الأعلام الإسلامية على أسرار المدينة، ورتب السلطان على أبواب البلد من يقبض منهم المال المذكور، فخان المرتبون في ذلك ولم يحملوا منه إلا القليل، وكان على رأس قبة الصخرة صليب كبير مذهب، وتسلق المسلمون وقلعوه، فسمع لذلك ضجة لم تعهد مثلها من المسلمين للفرح والسرور، ومن الكفار بالتفجع والتوجع، وكان الفرنج قد عملوا في غربي الجامع الأقصى هرباً ومستراحاً، فأمر السلطان بإزالة ذلك وإعادة الجامع إلى ما كان عليه.
وكان نور الدين محمود بن زنكي قد عمل منبراً بحلب قد تعب عليه مدة، وقال: هذا لأجل القدس، فأرسل السلطان صلاح الدين وأحضر المنبر من حلب وجعله في الجامع الأقصى، وأقام السلطان بعد فتوح القدس بظاهره إلى الخامس والعشرين من شعبان، يرتب أمور البلد وأحوالها، وأمر بعمل الربط والمدارس الشفعوية.
ثم رحل السلطان إلى عكا ورحل منها إلى صور وصاحبها المركيس، وقد حصنها بالرجال، وحفر خندقها، ونزل السلطان على صور تاسع شهر رمضان وحاصرها وضايقها، وطلب الأسطول، فوصل إليه في عشرة شوان، فاتفق أن الفرنج كبسوهم في الشواني وأخذوا خمسة شواني ولم يسلم من المسلمين إلا من سبح ونجا، وأخذ الباقون وطال الحصار عليها، فرحل السلطان عنها في آخر شوال، وكان أول كانون الأول، وأقام بعكا وأعطى العساكر الدستور، فسار كل واحد إلى بلده، وبقي السلطان بعكا في حلقته، وأرسل إلى هوبين ففتحها بالأمان.
ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة سار شمس الدين محمد بن عبد الملك، عرف بابن المقدم، بعد فتح القدس، حاجاً، وكان هو أمير الحاج الشامي، ليجمع بين الغزوة وزيارة القدس والخليل عليه السلام، والحج في عام واحد، فسار ووقف بعرفات، ولما أفاض، أرسل إليه طاشتكين أمير الحاج العراقي يمنعه من الإفاضة قبله، فلم يلتفت إليه، فسار العراقيون واتقعوا مع الشاميين، ففتل بينهم جماعة، وابن المقدم يمنع أصحابه من القتال، ولو أمكنهم لانتصفوا من العراقيين، فجرح ابن المقدم ومات شهيداً ودفن بمقبرة المعلى.
وفيها قوي أمر السلطان طغريل بن أرسلان شاه بن طغريل بن السلطان محمد بن السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق، وملك كثيراً من البلاد، وأرسل قزل ابن الدكز إلى الخليفة يستنجده ويخوفه عاقبة أمر طغريل.
وفيها سار شهاب الدين الغوري وغزا(3/73)
بلاد الهند. وفيها قتل الخليفة الناصر أستاذ داره مجد الدين أبا الفضل بن الصاحب، ولم يكن للخليفة معه حكم، وظهر له أموال عظيمة، فأخذت جميعاً.
وفيها استوزر الخليفة الناصر لدين الله، أبا المظفر عبيد الله بن يونس، ولقبه جلال الدين، ومشى أرباب الدولة في ركابه، حتى قاضي القضاة، وكان ابن يونس من جملة الناس، فكان يمشي ويقول لعن الله طول العمر. وفيها توفي قاضي القضاة الدامغاني، وكان قد ولى القضاء للمقتفي.
ثم دخلت سنة أربع وثمانين وخمسمائة.
ذكر فتوحات السلطان صلاح الدين وغزواته شتى السلطان هذه السنة في عكا، ثم سار بمن معه وقصد كوكب وجعل على حصارها أميراً يقال له قيماز النجمي، وسار منها في ربيع الأول، ودخل دمشق، ففرح الناس بقدومه، وكتب إلى الأطراف باجتماع العساكر، وأقام في دمشق تقدير خمسة أيام، وسار من دمشق في منتصف ربيع الأول من هذه السنة، ونزل على بحيرة مقدس غربي حمص، وأتته العساكر بها، فأولهم عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي بن أقسنقر صاحب سنجار ونصيبين، ولما تكاملت عساكره رحل ونزل تحت حصن الأكراد، وشن الغارات على بلاد الفرنج، وسار من حصن الأكراد فنزل على أنطرطوس، سادس جمادى الأولى، فوجد الفرنج قد أخلوا أنطرطوس، فسار إلى مرقية، فوجدهم قد أخلوها أيضاً، فسار إلى تحت المرقب، وهو للإستبتار فوجده لا يرام، ولا لأحد فيه مطمع، فسار إلى جبلة ووصل إليها ثامن جمادى الأولى، وتسلمها حالة وصوله، فجعل فيها لحفظها الأمير سابق الدين عثمان بن الدالة صاحب شيزر، ثم سار السلطان إلى اللاذقية، ووصل إليها في الرابع والعشرين من جمادى الأولى، ولها قلعتان، فحصر القلعتين وزحف إليهما، فطلب أهلهما الأمان فأمنهم، وتسلم القلعتين، ولما ملك السلطان اللاذقية سلمها إلى ابن أخيه الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أبوب، فعمرها وحصن قلعتها، وكان تقي الدين عظيم الهمة في تحصين القلاع والغرامة عليها، كما فعل بقلعة حماة.
ثم رحل السلطان عن اللاذقية في السابع والعشرين من جمادى الأولى إلى صهيون وحاصرها، وضايقها، فطلب أهلها الأمان فلم يجبهم إلا على أمان أهل القدس، فيما يؤدونه، فأجابوه إلى ذلك، وتسلم السلطان قلعة صهيون وسلمها إلى أمير من أصحابه يقال له ناصر الدين منكورس، صاحب قلعة أبي قبيس. ثم فرق عسكره في تلك الجبال، فملكوا حصن بلادنوس وكان الفرنج الذين به قد هربوا منه وأخلوه، وملكوا حصن العبد وحصن الجماهدبين، ثم سار السلطان من صهيون ثالث جمادى الآخرة، ووصل إلى قلعة بكاس، فأخلاها أهلها وتحصنوا بقلعة الشغر، فحصرها ووجدها منيعة، وضايقها فأرمى الله في قلوب أهلها الرعب وطلبوا الأمان، وتسلمها يوم(3/74)
الجمعة سادس جمادى الآخرة بالأمان، وأرسل السلطان ولده الملك الظاهر غازي صاحب حلب، فحصر سرمينية وضايقها وملكها، واستنزل أهلها على قطيعة قررها عليهم، وهدم الحصن، وعفى أثره، وكان في هذا الحصن وفي الحصون المذكورة من أسرى المسلمين الجم الغفير، فأطلقوا وأعطوا الكسوة والنفقة.
ثم سار السلطان من الشغر إلى برزية ورتب عسكره ثلاثة أقسام وداومها بالزحف، وملكها بالسيف في السابع والعشرين من جمادى الآخرة، وسبى وأسر وقتل أهلها.
قال مؤلف الكامل ابن الأثير: كنت مع السلطان في مسيره وفتحه هذه البلاد طلباً للغزوة، فنحكي ذلك من مشاهدة.
ثم سار السلطان فنزل على جسر الحديد، وهو على العاصي بالقرب من أنطاكية، فأقام عليه أياماً حتى تلاحق به من تأخر من العسكر، ثم سار إلى دربساك ونزل عليها ثامن رجب من هذه السنة، وحاصرها وضايقها وتسلمها بالأمان، على شرط أن لا يخرج أحد منها إلا بثيابه فقط، وتسلمها تاسع عشر رجب. ثم سار من دربساك إلى بغراس. وحصرها وتسلمها بالأمان، على حكم أمان دربساك، وأرسل بيمند صاحب أنطاكية إلى السلطان يطلب منه الهدنة والصلح وبذل إطلاق كل أسير عنده فأجابه السلطان إلى ذلك واصطلحوا ثمانية أشهر، وكان صاحب أنطاكية حينئذ أعظم ملوك الفرنج في هذه البلاد، فإن أهل طرابلس سلموا إليه طرابلس بعد موت القومص صاحبها، على ما ذكرناه، فجعل بيمند صاحب أنطاكية ابنه في طرابلس.
ولما فرغ السلطان من أمر هذه البلاد والهدنة، سار إلى حلب، فدخلها ثالث شعبان، وسار منها إلى دمشق، وأعطى عماد الدين زنكي بن مودود دستوراً، وكذلك أعطى غيره من العساكر الشرقية، وجعل طريقه لما رحل من حلب على قبر عمر رضي الله عنه ابن عبد العزيز، فزاره وزار الشيخ الصالح أبا زكريا المغربي، وكان مقيماً هناك، وكان من عباد الله الصالحين، وله كرامات ظاهرة، وكان مع السلطان أبو فليتة الأمير قاسم بن مهنا الحسيني، صاحب مدينة الرسول، صلى الله عليه وسلم، شهد معه مشاهده وفتوحاته، وكان السلطان يتبرك برؤيته، ويتيمن بصحبته، ويرجع إلى قوله، ودخل السلطان دمشق في شهر رمضان المعظم، فأشير عليه بتفريق العساكر ليريحوا ويستريحوا، فقال السلطان: إن العمر قصير، والأجل غير مأمون، وكان السلطان لما سار إلى البلاد الشمالية، قد جعل على الكرك وغيرها من يحصرها، وخلا أخاه الملك العادل في تلك الجهات يباشر ذلك، فأرسل أهل الكرك يطلبون الأمان، فأمر الملك العادل المباشرين لحصارها بتسلمها، فتسلموا الكرك والشوبك، وما بتلك الجهات من البلاد، ثم سار السلطان من دمشق في منتصف رمضان، وسار إلى صفد فحصرها وضايقها وتسلمها بالأمان ثم سار إلى كوكب وعليها قيماز النجمي يحاصرها، فضايقها السلطان وتسلمها بالأمان، في منتصف ذي القعدة، وسير أهلها إلى صور، وكان اجتماع أهل(3/75)
هذه القلاع في صور من أعظم أسباب الضرر على المسلمين، ظهر ذلك فيما بعد، ثم سار السلطان إلى القدس، فعيد فيه عيد الأضحى، ثم سار إلى عكا فأقام بها حتى انسلخت السنة.
ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة أرسل قزل بن الدكز يستنجد بالخليفة الإمام الناصر، على طغريل بن أرسلان بن طغريل السلجوقي، ويحذره عاقبة أمره، فأرسل الخليفة عسكراً إلى طغريل، والتقوا ثامن ربيع الأول من هذه السنة قرب همذان، فانهزم عسكر الخليفة، وغنم طغريل أموالهم، وأسر مقدم العسكر جلال الدين عبيد الله وزير الخليفة.
وفيها توفي محمد بن عبد الله الكاتب المعروف بابن التعاويذي، الشاعر المشهور، وقصائده في الغزل والنسيب مشهورة، وله في غير ذلك أشياء حسنة أيضاً، وقد صودر ببغداد جماعة من الدواوين، من جملة قصيدته:
يا قاصدا بغداد جز عن بلدة ... للجور فيها زجرة وعتاب
إن كنت طالب حاجة فارحع فقد ... سدت على الراجي لها الأبواب
والناس قد قامت قيامتهم فلا ... أنساب بينهم ولا أسباب
والمرء يسلمه أبوه وعرسه ... ويخونه القرباء والأحباب
لا شافع تغني شفاعته ولا ... جان له مما جناه متاب
شهدوا معادهم فعاد مصدقا ... من كان قبل ببعثه يرتاب
جسر وميزان وعرض جرائد ... وصحائف منشورة وحساب
ما فاتهم من يوم ما وعدوا به ... في الحشر إلا راحم وهاب
ومولد ابن التعاويذي المذكور في سنة تسع عشرة وخمسمائة.
ثم دخلت سنة خمس وثمانين وخمسمائة في هذه السنة سار السلطان صلاح الدين ونزل بمرج عيون، وحضر إليه صاحب شقيف أرنون، وبذل إليه تسليم الشقيف، بعد مدة ظهر بها خديعة منه، فلما بقي للمدة ثلاثة أيام استحضره السلطان، وكان اسم صاحب الشقيف أرنلط، فقال له السلطان في التسليم، فقال: لا يوافقني عليه أهلي وأهل الحصن، فأمسكه السلطان وبعثه إلى دمشق فحبس ذكر حصار الفرنج عكا كان قد اجتمع بصور، أهل البلاد التي أخذها السلطان بالأمان، فكثر جمعهم حتى صاروا في عالم لا تحصى كثرتهم، وأرسلوا إلى البحر يبكون ويستنجدون، وصوروا صورة المسيح، وصورة عربي يضرب المسيح، وقد أدماه. وقالوا: هذا نبي العرب يضرب المسيح، فخرجت النساء من بيوتهن، ووصل من الفرنج في البحر عالم لا يحصون كثرة، وساروا إلى عكا من صور، ونازلوها في منتصف رجب من هذه السنة، وضايقوا عكا وأحاطوا بيوتها من(3/76)
البحر إلى البحر، ولم يبق للمسلمين إليها طريق، فسار إليهم السلطان ونزل قريب الفرنج، وقاتلهم في مستهل شعبان، وباتوا على ذلك، وأصبحوا، فحمل تقي الدين عمر صاحب حماة من ميمنة السلطان على الفرنج، فأزالهم عن موقعهم، والتزق بالصور، وانفتح الطريق إلى المدينة يدخل المسلمون ويخرجون، وأدخل السلطان إلى عكا عسكراً نجدة، فكان من جملتهم أبو الهيجاء السمين، وبقي المسلمون يغادون القتال ويراوحونه إلى العشرين من شعبان، ثم كان بين المسلمين وبينهم وقعة عظيمة، فإن الفرنج اجتمعوا وضربوا مع السلطان مصافاً، وحملوا على القلب، فأزالوه وأخذوا يقتلون في المسلمين، إلى أن بلغوا إلى خيمة السلطان، فانحاز السلطان إلى جانب، وانضاف إليه جماعة، وانقطع مدد الفرنج، واشتغلوا بقتال الميمنة، فحمل السلطان على الفرنج الذين خرقوا القلب، وانعطف عليهم العسكر فأفنوهم قتلاً، فكانت قتلى الفرنج نحو عشرة آلاف نفس، ووصل المنهزمون من المسلمين بعضهم إلى طبرية، وبعضهم وصل إلى دمشق، وجافت الأرض بعد هذه الوقعة، ولحق السلطان مرض، وحدث له قولنج، فأشار عليه الأمراء بالانتقال من ذلك الموضع، فوافقهم ورحل من عكا رابع عشر رمضان من هذه السنة، إلى الخروبة، فلما رحل تمكن الفرنج من حصار عكا، وانبسطوا في تلك الأرض، وفي تلك الحال وصل أسطول المسلمين في البحر مع حسام الدين لؤلؤ، وكان شهماً، فظفر ببطشة للفرنج، فأخذها ودخل بها إلى عكا، فقوى قلوب المسلمين، وكذلك وصل الملك العادل بعسكر مصر وبالسلاح إلى أخيه السلطان، فقويت قلوب المسلمين بوصوله.
ذكر غير ذلك فيها توفي بالخروبة الفقيه عيسى، وكان مع السلطان، وهو من أعيان عسكره، وكان جندياً فقيهاً شجاعاً، وكان من أصحاب الشيخ أبي القاسم البرزي. وفيها توفي محمد بن يوسف بن محمد بن قائد، الملقب موفق الدين الأربلي، الشاعر المشهور، وكان إماماً مقدماً في علم العربية، وكان أعلم الناس بالعروض، وأحذقهم بنقد الشعر، وأعرفهم بجيده من رديئه، واشتغل بعلوم الأوائل، وحل كتاب إقليدس، وهو شيخ أبي البركات بن المستوفي صاحب تاريخ أربل، ورحل ابن القائد المذكور إلى شهرزور وقام بها مدة، ثم رحل إلى دمشق ومدح السلطان صلاح الدين يوسف، ومن شعره قصيدة مدح بها زين الدين يوسف صاحب أربل منها:
رب دار بالحمى طال بلاها ... عكف الركب عليها فبكاها
كان لي فيها زمان وانقضى ... فسقى الله زماني وسقاها
قل لجيران مواثيقهم ... كلما أحكمنها رثت قواها(3/77)
كنت مشغوفاً بكم إذ كنتم ... شجراً لا يبلغ الطير ذراها
وإذا ما طمع أغرى بكم ... عرض اليأس لنفسي فثناها
فصبابات الهوى أولها ... طمع النفس وهذا منتهاها
لا تظنوا لي إليكم رجعة ... كشف التجريب عن عيني عماها
إن زين الدين أولاني يداً ... لم تدع لي رغبة فيما سواها
وهي طويلة اقتصرنا منها على هذا القدر، وكان أبوه محمد تاجراً يتردد إلى البحرين لتحصيل اللآلئ من المغاصات.
وفيها توفي محمود بن علي بن أبي طالب بن عبد الله الأصبهاني، المعروف بالقاضي، صاحب الطريقة في الخلاف، وصنف فيه التعليقة، وهى عمدة المدرسين في إلقاء الدروس، ومن لم يذكرها فإنما هو لقصور فهمه عن إدراك دقائقها، وكان متفنناً في العلوم، وله في الوعظ اليد الطولى.
ثم دخلت سنة ست وثمانين وخمسمائة في هذه السنة بعد دخول صفر رحل السلطان صلاح الدين عن الخروبة، وعاد إلى قتال الفرنج على عكا، وكان الفرنج قد عملوا قرب سور عكا ثلاثة أبرجة، طول البرج ستون ذراعاً، جاؤوا بخشبها من جزائر البحر، وعملوها طبقات، وشحنوها بالسلاح والمقاتلة، ولبسوها جلود البقر، والطين بالخل، لئلا يعمل فيها النار، فتحايل المسلمون وأحرقوا البرج الأول فاحترق بمن فيه من الرجال والسلاح، ثم أحرقوا الثاني والثالث، وانبسطت نفوس المسلمين لذلك بعد الكآبة، ووصل إلى السلطان العساكر من البلاد، وبلغ المسلمين وصول ملك الألمان، وكان قد سار من بلاد وراء القسطنطينية بمائة ألف مقاتل، واهتم المسلمون لذلك، وآيسوا من الشام بالكلية، فسلط الله تعالى على الألمان الغلاء والوباء فهلك أكثرهم في الطريق، ولما وصل ملكهم إلى بلاد الأرمن نزل في نهر هناك يغتسل فغرق، وأقاموا ابنه مقامه، فرجع من عسكره طائفة إلى بلادهم، وطائفة خامرت ابن الملك المذكور فرجعوا أيضاً ولم يصل مع ابن ملك الألمان إلى الفرنج الذين على عكا غير تقدير ألف مقاتل، وكفى الله المسلمين شرهم، وبقي السلطان والفرنج على عكا يتناوشون القتال إلى العشرين من جمادى الآخرة، فخرجت الفرنج من خنادقهم بالفارس والراجل، وأزالوا الملك العادل عن موضعه، وكان معه عسكر مصر، فعطفت عليه المسلمون وقتلوا من الفرنج خلقاً كثيراً، فعادوا إلى خنادقهم، وحصل للسلطان مغص فانقطع في خيمة صغيرة، ولولا ذلك لكانت الفيصلة، ولكن إذا أراد الله أمرا فلا مرد له.
ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة، لما قوي الشتاء واشتدت الرياح، أرسل الفرنج المحاصرون عكا مراكبهم إلى صور، خوفاً عليها أن تنكسر، فانفتحت الطريق إلى عكا في البحر، وأرسل البدل إليها،(3/78)
فكان العسكر الذين خرجوا منها أضعاف الواصلين إليها. فحصل التفريط بذلك لضعف البدل.
وفيها في ثامن شوال توفي زين الدين يوسف بن زين الدين علي كوجك صاحب أربل وكان مع السلطان في عسكره، ولما توفي أقطع السلطان صلاح الدين أربل أخاه مظفر الدين كوكبوري بن زين الدين علي كوجك، وأضاف إليه شهرزور وأعمالها، وارتجع ما كان بيد مظفر الدين وهو حران والرها، وسار مظفر الدين إلى أربل وملكها.
وفيها استولى الخليفة الناصر لدين الله على حديثة عانة بعد حصرها مدة. وفيها أقطع السلطان ما كان بيد مظفر الدين وهو حران والرها وسمساط والموزر، الملك المظفر تقي الدين عمر، زيادة على ما بيده، وهو ميافارقين، ومن الشام حماة والمعرة وسلمية ومنبج وقلعة نجم وجبلة واللاذقية وبلاطنس ومكرابيك.
ثم دخلت سنة سبع وثمانين وخمسمائة.
ذكر استيلاء الفرنج على عكا:
واستمر حصار الفرنج لعكا إلى هذه السنة، وكانوا قد أحاطوا بها من البحر إلى البحر، وحفروا عليهم خندقاً، فلم يتمكن السلطان من الوصول إليهم، وكانوا محاصرين لعكا، وهم كالمحصورين من خارجهم من السلطان، واشتد حصارهم لعكا وطال وضعف من بها عن حفظ البلد، وعجز السلطان صلاح الدين عن دفع العدو عنهم، فخرج الأمير سيف الدين علي بن أحمد المشطوب من عكا، وطلب الأمان من الفرنج على مال وأسرى يقومون به للفرنج، فأجابوهم إلى ذلك، وصعدت أعلام الفرنج على عكا ظهر يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة من هذه السنة، واستولوا على البلد بما فيه، وحبسوا المسلمين في أماكن من البلد، وقالوا إنما نحبسهم ليقوموا بالمال والأسرى وصليب الصليوت، وكتبوا إلى السلطان صلاح الدين بذلك، فحصل ما أمكن تحصيله من ذلك، وطلب منهم إطلاق المسلمين، فلم يجيبوا إلى ذلك، فعلم منهم الغدر، واستمر أسرى المسلمين بها.
ثم قتل الفرنج من المسلمين جماعة كثيرة واستمروا بالباقين في الأسر، وبعد استيلاء الفرنج على عكا وتقرير أمرها، رحلوا عنها مستهل شعبان نحو قيسارية، والمسلمون يسايرونهم ويتحفظون منهم، ثم ساروا من قيسارية إلى أرسوف، ووقع بينهم وبين المسلمين مصاف، أزالوا المسلمين عن موقفهم، ووصلوا إلى سوق المسلمين، فقتلوا من السوقية وغيرهم خلقاً كثيراً، ثم سار الفرنج إلى يافا وقد أخلاها المسلمون، فملكوها، ثم رأى السلطان تخريب عسقلان مصلحة، لئلا يحصل لها ما حصل لعكا، فسار إليها وأخلاها وخربها، ورتب الحجارين في تفليق أسوارها وتخريبها، فدكها إلى الأرض، فلما فرغ السلطان من تخريب عسقلان رحل عنها ثاني شهر رمضان إلى الرملة، فخرب حصنها وخرب كنيسة لد.(3/79)
ثم سار إلى القدس وقرر أموره وعاد إلى مخيمه بالتظرون، ثامن شهر رمضان، ثم تراسل الفرنج والسلطان في الصلح على أن يتزوج الملك العادل أخو السلطان بأخت ملك الإنكتار، ويكون للملك العادل القدس، ولامرأته عكا، فحضر القسيسون وأنكروا عليها ذلك إلا أن يتنصر الملك العادل، فلم يتفق بينهم حال، ثم رحل الفرنج من يافا إلى الرملة ثالث ذي القعدة، وبقي في كل يوم يقع بين المسلمين وبينهم مناوشات، فلقوا من ذلك شدة شديدة، وأقبل الشتاء وحالت الأوحال بينهم، ولما رأى السلطان ذلك وقد ضجرت العساكر، أعطاهم الدستور وسار إلى القدس، لسبع بقين من في القعدة، ونزل داخل البلد واستراحوا مما كانوا فيه، وأخذ السلطان في تعمير القدس وتحصينه، وأمر العسكر بنقل الحجارة، وكان السلطان ينقل الحجارة بنفسه على فرسه، ليقتدي به العسكر فكان يجتمع عند العمالين في اليوم الواحد ما يكفيهم لعدة أيام.
ذكر وفاة الملك المظفر تقي الدين عمر كان الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب قد سار إلى البلاد المرتجعة من كوكبوري، التي زاده إياها عمه السلطان من وراء الفرات، وهي حران وغيرها، فامتدت عين الملك المظفر إلى بلاد مجاوريه، واستولى على السويداء وحاني، واتقع مع بكتمر صاحب خلاط فكسره وحصره في خلاط، وتملك على معظم البلاد، ثم رحل عنها ونازل ملازكرد، وهي لبكتمر، وضايقها، وكان في صحبته ولده الملك المنصور محمد بن الملك المظفر عمر المذكور، فعرض للملك المظفر مرض شديد، وتزايد به حتى توفي يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة بقيت من رمضان من هذه السنة، أعني سنة سبع وثمانين وخمسمائة، فأخفى ولده الملك المنصور وفاته، ورحل عن ملازكرد ووصل به إلى حماة، ودفنه بظاهرها، وبنى إلى جانب التربة مدرسة، وذلك مشهور هناك، وكان الملك المظفر شجاعاً شديد البأس، ركناً عظيماً من أركان البيت الأيوبي، وكان عنده فضل وأدب، وله شعر حسن، واتفق أن في ليلة الجمعة التي توفي فيها الملك المظفر، توفي فيها حسام الدين محمد بن عمر بن لاجين، وأمه ست الشام بنت أيوب أخت السلطان، فأصيب السلطان في تاريخ واحد بابن أخيه وابن أخته.
ولما مات الملك المظفر، راسل ابنه الملك المنصور، السلطان صلاح الدين، واشترط شروطاً نسبه السلطان فيها إلى العصيان، وكاد أمره يضطرب بالكلية، فراسل الملك المنصور عمه الملك العادل في استعطاف خاطر السلطان، فما برح الملك العادل بأخيه السلطان يراجعه ويشفع في الملك المنصور، حتى أجابه السلطان، وقرر للملك المنصور حماة وسلمية والمعرة ومنبج وقلعة نجم، وارتجع السلطان البلاد الشرقية وما معها، وأقطعها أخاه الملك العادل، بعد أن شرط السلطان أن الملك العادل ينزل عن كل ما له من الإقطاع بالشام، خلا الكرك والشوبك(3/80)
والصلت والبلقاء ونصف خاصه بمصر، وأن يكون عليه في كل سنة ستة آلاف غرارة، تحمل من الصلت والبلقاء إلى القدس، ولما استقر ذلك، سار الملك العادل إلى البلاد الشرقية لتقرير أمورها، فقررها وعاد إلى خدمة السلطان في آخر جمادى الآخرة من السنة القابلة، أعني سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، ولما قدم الملك العادل على السلطان، كان الملك المنصور صاحب حماة صحبته، فلما رأى السلطان الملك المنصور بن تقي الدين، نهض واعتنقه وغشيه البكاء وأكرمه وأنزله في مقدمة عسكره.
ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة في شعبان، قتل قزل أرسلان، واسمه عثمان بن الدكز، وهو الذي ملك أذربيجان وهمذان وأصفهان والري بعد أخيه محمد البهلوان، وكان قد قوي عليه السلطان طغريل السلجوقي، وهزم عسكر بغداد كما تقدم ذكره، ثم إن قزل أرسلان تغلب واعتقل السلطان طغريل بن أرسلان بن طغريل في بعض البلاد، وسار قزل أرسلان بعد ذلك إلى أصفهان، وتعصب على الشفعوية وأخذ جماعة من أعيانهم فصلبهم، وعاد إلى همذان وخطب لنفسه بالسلطنة، ودخل لينام على فراشه، وتفرق عنه أصحابه، فدخل عليه من قتله على فراشه، ولم يعرف قاتله.
وفيها قدم معز الدين قيصر شاه بن قليج أرسلان صاحب بلاد الروم إلى السلطان صلاح الدين، وسببه أن والده فرق مملكته على أولاده، وأعطى ولده هذا ملطية، ثم تغلب بعض إخوته على والده وألزمه بأخذ ملطية من أخيه المذكور، فخاف من ذلك، فسار إلى السلطان ملتجئاً إليه فأكرمه السلطان وزوجه بابنة أخيه الملك العادل، وعاد معز الدين إلى ملطية في ذي القعدة، وقد انقطعت أطماع أخيه منه قال ابن الأثير لما ركب السلطان صلاح الدين ليودع معز الدين قيصر شاه المذكور، ترجل معز الدين له، فترجل السلطان صلاح الدين، ولما ركب السلطان صلاح الدين عضده قيصر شاه وركبه، وكان علاء الدين بن عز الدين مسعود، صاحب الموصل، مع السلطان إذ ذاك، فسوى ثياب السلطان أيضاً. فقال بعض الحاضرين في نفسه: ما بقيت تبالي يا ابن أيوب بأي موتة تموت، يركبك ملك سلجوقي، ويسوي قماشك ابن أتابك زنكي.
وفيها قتل أبو الفتح يحيى بن حنش بن أميرك، الملقب شهاب الدين السهوردي، الحكيم الفيلسوف، بقلعة حلب، محبوساً، أمر بخنقه الملك الظاهر غازي، بأمر والده السلطان صلاح الدين، قرأ المذكور الأصولين والحكمة بمراغة، على مجد الدين الجيلي، شيخ الإمام فخر الدين، ثم سافر السهروردي المذكور إلى حلب، وكان علمه أكثر من عقله، فنسب إلى انحلال العقيدة، وأنه يعتقد مذهب الفلاسفة، فأفتى الفقهاء بإباحة دمه لما ظهر من سوء مذهبه، واشتهر عنه، وكان أشدهم عليه في ذلك، زين الدين ومجد الدين ابنا جهبل حكى الشيخ(3/81)
سيف الدين الآمدي قال: اجتمعت بالسهروردي في حلب فقال لي: لا بد أن أملك الأرض. فقلت له من أين لك هذا؟ قال: رأيت في المنام كأني شربت ماء البحر. فقلت: لعل يكون اشتهار علمك، وما يناسب هذا، فرأيته لا يرجع عما وقع في نفسه، ووجدته كثير العلم قليل العقل، وكان عمره لما قتل ثمانياً وثلاثين سنة، وله عدة مصنفات في الحكمة، منها: التلويحات والتنقيحات، والمشارع والمطارحات، وكتاب الهياكل وحكمة الإشراق، وكان ينتسب إلى أنه يعرف السيمياء وله نظم حسن فمنه:
أبداً تحن إليكم الأرواح ... ووصالكم ريحانها والراح
وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم ... وإلى لذيذ لقائكم ترتاح
وارحمتا للعاشقين تكلفوا ... ستر المحبة والهوى فضاح
وإذا هم كتموا يحدث عنهم ... عند الوشاة المدمع السحاح
لا ذنب للعشاق إن غلب الهوى ... كتمانهم فنمى الغرام وباحوا
وهي قصيدة طويلة اقتصرنا منها على هذا القدر.
ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وخمسمائة فيها سار الفرنج إلى عسقلان وشرعوا في عمارتها في المحرم، والسلطان بالقدس. وفيها قتل المركيس صاحب صور، لعنه الله تعالى، قتله بعض الباطنية، وكانوا قد دخلوا في زي الرهبان إلى صور.
ذكر عقد الهدنة مع الفرنج، وعود السلطان إلى دمشق وسبب ذلك أن ملك الأنكتار مرض، وطال عليه البيكار، فكاتب الملك العادل يسأله الدخول على السلطان في الصلح، فلم يجبهم السلطان إلى ذلك، ثم اتفق رأي الأمراء على ذلك لطول البيكار، وضجر العسكر. ونفاد نفقاتهم، فأجاب السلطان إلى ذلك واستقر أمر الهدنة، في يوم السبت ثامن عشر شعبان، وتحالفوا على ذلك في يوم الأربعاء الثاني والعشرين من شعبان، ولم يحلف ملك الأنكتار بل أخذوا يده وعاهدوه، واعتذر بأن الملوك لا يحلفون، وقنع السلطان بذلك، وحلف الكندهري ابن أخيه وخليفته في الساحل، وكذلك حلف غيره من عظماء الفرنج، ووصل ابن الهنفري وباليان إلى خدمة السلطان ومعهما جماعة من المقدمين، وأخذوا يد السلطان على الصلح، واستحلفوا الملك العادل أخا السلطان، والملك الأفضل، والظاهر، ابني السلطان، والملك المنصور صاحب حماة، محمد بن تقي الذين عمر، والملك المجاهد شيركوه بن محمد بن شيركوه صاحب حمص، والملك الأمجد بهرام شاه بن فرخشاه صاحب بعلبك، والأمير بدر الدين أيلدرم الباروقي صاحب تل باشر، والأمير سابق الدين عثمان ابن الداية صاحب شيرز، والأمير سيف الدين علي بن أحمد المشطوب، وغيرهم من المقدمين الكبار، وعقدت هدنة عامة في البحر والبر وجعلت مدتها ثلاث(3/82)
سنين وثلاثة أشهر. أولها أيلول الموافق لحادي وعشرين من شعبان.
وكانت الهدنة على أن يستقر بيد الفرنج يافا وعملها، وقيسارية وعملها، وأرسوف وعملها، وحيفا وعملها، وعكا وعملها، وأن تكون عسقلان خراباً، واشترط السلطان دخول بلاد الإسماعيلية في عقد هدنته، واشترط الفرنج دخول صاحب أنطاكية وطرابلس في عقد هدنتهم، وأن يكون لد والرملة مناصفة بينهم وبين المسلمين، فاستقرت القاعدة على ذلك.
ثم رحل السلطان إلى القدس في رابع شهر رمضان، وتفقد أحواله وأمر بتشييد أسوار، وزاد في وقف المدرسة التي عملها بالقدس، وهذه المدرسة كانت قبل الإسلام تعرف بصندحنة، يذكرون أن فيها قبر حنة أم مريم، ثم صارت في الإسلام دار علم قبل أن يتملك الفرنج بالقدس، ثم لما ملك الفرنج القدس في سنة اثنين وتسعين وأربعمائة، أعادوها كنيسة كما كانت قبل الإسلام، فلما فتح السلطان القدس أعادها مدرسة، وفوض تدريسها ووقفها إلى القاضي بهاء الدين بن شداد. ولما استقر أمر الهدنة أرسل السلطان مائة حجار لتخريب عسقلان، وأن يخرج من بها من الفرنج، وعزم على الحج والإحرام من القدس، وكتب إلى أخيه سيف الإسلام صاحب اليمن بذلك، ثم فنده الأمراء وقالوا: لا نعتمد على هدنة الفرنج خوفاً من غدرهم، فانتقض عزمه عن ذلك، ثم رحل السلطان عن القدس لخمس مضين من شوال إلى نابلس، ثم سار إلى بيسان، ثم إلى كوكب، فبات بقلعتهما، ثم رحل إلى طبرية ولقيه بها الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدي، وقد خلص من الأسر، وكان قد أسر بعكا لما أخذها الفرنج مع من أسر، فسار قراقوش مع السلطان إلى دمشق، ثم سار منها قراقوش إلى مصر.
ثم سار السلطان إلى بيروت ووصل إلى خدمته بيمند صاحب أنطاكية يوم السبت حادي وعشرين شوال، فأكرمه السلطان وفارقه غد ذلك اليوم، وسار السلطان إلى دمشق ودخلها يوم الأربعاء لخمس بقين من شوال وفرح الناس به لأن غيبته كانت عنهم مدة أربع سنين، وأقام العدل والإحسان بدمشق، وأعطى السلطان العساكر الدستور، فودعه ولده الملك الظاهر وداعاً لا لقاء بعده، وسار إلى حلب، وبقي عند السلطان بدمشق ولده الملك الأفضل، والقاضي الفاضل، وكان الملك العادل قد استأذن السلطان وسار من القدس إلى الكرك لينظر في مصالحه، ثم عاد الملك العادل إلى دمشق طالباً البلاد الشرقية التي صارت له بعد تقي الدين، فوصل إلى دمشق في الحادي والعشرين من ذي القعدة، وخرج السلطان إلى لقائه.
وفي يوم الخميس السادس والعشرين من شوال من هذه السنة، توفي الأمير سيف الدين علي بن أحمد المشطوب بنابلس، وكانت إقطاعه، فوقف السلطان ثلث نابلس على مصالح القدس، وأقطع الباقي للأمير عماد الدين أحمد بن سيف الدين علي بن المشطوب، وأميرين معه.(3/83)
ذكر وفاة السلطان عز الدين قليج أرسلان صاحب بلاد الروم وأخبار الذين تولوا بعده في هذه السنة، أعني سنة ثمان وثمانين وخمسمائة في منتصف شعبان، توفي السلطان عز الدين قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان بن قطالوش بن أرسلان يبغو بن سلجوق. وكان ملكه في سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، وكان ذا سياسة حسنة، رهيبة عظيمة، وعدل وافر، وغزوات كثيرة، وكان له عشرة بنين، قد ولى كل واحد منهم قطراً من بلاد الروم، وأكبرهم قطب الدين ملكشاه بن قليج أرسلان المذكور، وكان قد أعطاه أبوه سيواس، فسولت له نفسه القبض على أبيه وإخوته والانفراد بالسلطنة، وساعده على ذلك صاحب أرزنكات، فسار قطب الدين ملكشاه وهجم على والده قليج أرسلان بمدينة قونية. وقبض عليه، وقال لوالده وهو في قبضته: أنا بين يديك أنفذ أوامرك. ثم إنه أشهد على والده بأنه قد جعله ولي عهده. ثم مضى ملكشاه المذكور إلى حرب أخيه نور الدين سلطان شاه، صاحب قيسارية، ووالده في القبضة معه، وهو يظهر أن ما يفعله إنما هو بأمر والده، فخرج عسكر قيسارية لحربه، فوجد أبوه عز الدين قليج أرسلان عند اشتغال العسكر بالقتال فرصة، فهرب إلى ولده سلطان شاه صاحب قيسارية، فأكرمه وعظمه كما يجب عليه، فرجع قطب الدين ملكشاه إلى قونية وخطب لنفسه بالسلطنة، وبقي أبوه قليج أرسلان يتردد في بلاده بين أولاده، كلما ضجر منه واحد منهم ينتقل إلى الآخر، حتى حصل عند ولده غياث الدين كيخسرو بن قليج أرسلان صاحب برغلو فقوى أباه قليج أرسلان، وأعطاه وجمع له وحشد وسار معه إلى قونية، فملكها وأخذها من ابنه ملكشاه، ثم سار إلى أقصرا، فاتفق أن عز الدين قليج أرسلان مرض ومات في التاريخ المذكور، فأخذه ولده كيخسرو وعاد به إلى قونية فدفنه بها. واتفق موت ملكشاه بعد موت أبيه قليج أرسلان بقليل، فاستقر كيخسرو في ملك قونية وأثبت أنه ولي عهد أبيه قليج أرسلان.
ثم إن ركن الدين سليمان أخا غياث الدين كيخسرو قوي على أخيه كيخسرو، وأخذ منه قونية، فهرب كيخسرو إلى الشام مستجيراً بالملك الظاهر صاحب حلب، ثم مات ركن الدين سليمان سنة ستمائة، وملك بعده ولده قليج أرسلان بن سليمان، فرجع غياث الدين كيخسرو بن قليج أرسلان إلى بلاد الروم، وأزال ملك قليج أرسلان بن سليمان وملك بلاد الروم جميعها، واستقرت له السلطنة ببلاد الروم، وبقي كذلك إلى أن قتل، وملك بعده ابنه عز الدين كيكاؤوس بن كيخسرو، ثم توفي كيكاؤوس وملك بعده أخوه السلطان علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو، وتوفي علاء الدين كيقباذ سنة أربع وثلاثين وستمائة،(3/84)
وملك بعده ولده غياث الدين كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو، كسره التتر سنة إحدى وأربعين وستمائة، وتضعضع حينئذ ملك السلاطين السلجوقية ببلاد الروم، ثم مات غياث الدين كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان بن قطلومش بن أرسلان بن سلجوق، وانقضى بموت كيخسرو المذكور سلاطين بلاد الروم في الحقيقة لأن من صار بعده لم يكن له من السلطنة غير مجرد الاسم، وخلف كيخسرو المذكور صبيين هما: ركن الدين، وعز الدين. فملكا معاً مدة مديدة، ثم انفرد ركن الدين بالسلطنة وهرب أخوه عز الدين إلى قسطنطينية، وتغلب على ركن الدين، معين الدين البرواناه، والبلاد في الحقيقة للتتر، ثم إن البرواناه قتل ركن الدين، وأقام ابناً لركن الدين يخطب له بالسلطنة والحكم للبرواناه، وهو نائب التتر على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة غزا شهاب الدين الغوري الهند فغنم وقتل ما لا يحصى وفيها خرج السلطان طغريل بن أرسلان بن طغريل من الحبس، بعد قتل قزل أرسلان بن الدكز، وكان قزل قد اعتقله حسبما تقدم ذكره في سنة سبع وثمانين وخمسمائة.
وفيها توفي راشد الدين سنان بن سليمان بن محمد، وكنيته أبو الحسن، صاحب دعوة الإسماعيلية بقلاع الشام، وأصله من البصرة.
ثم دخلت سنة تسع وثمانين وخمسمائة.
ذكر وفاة السلطان الملك الناصر صلاح الدين أبي المظفر يوسف بن أيوب بن شادي، وشيء عن أخباره دخلت هذه السنة والسلطان بدمشق، على أكمل ما يكون من المسرة، وخرج إلى شرقي دمشق متصيداً، وغاب خمسة عشر يوماً، وصحبة أخوه الملك العادل. ثم عاد إلى دمشق وودعه أخوه الملك العادل وداعاً لا لقاء بعده، فمضى إلى الكرك وأقام فيه حتى بلغه وفاة السلطان، وأقام السلطان بدمشق، وركب في يوم الجمعة خامس عشر صفر وتلقى الحجاج، وكان عادته ألا يركب إلا وهو لابس كزاغند، فركب ذلك اليوم، وقد اجتمع بسبب ملتقى الحجاج وركوبه عالم عظيم، ولم يلبس الكزاغند، ثم ذكره وهو راكب، فطلب الكزاغند فلم يجده، وقد حملوه معه، ولما التقى الحجاج استعبرت عيناه كيف فاته الحج، ووصل إليه مع الحجاج ولد أخيه سيف الإسلام صاحب اليمن. ثم عاد السلطان بين البساتين إلى جهة المنيبع، ودخل إلى القلعة على الجسر إليها، وكانت هذه آخر ركباته، فلحقه ليلة السبت سادس عشر صفر كسل عظيم، وغشيه نصف الليل حمى صفراوية، وأخذ المرض في التزايد، وقصده(3/85)
الأطباء في الرابع، فاشتد مرضه، وحدث به في التاسع رعشة، وغاب ذهنه وامتنع من تناول المشروب، واشتد الإرجاف في البلد، وغشي الناس من الحزن والبكاء عليه ما لا يمكن حكايته، وحقن في العاشر حقنتين، فحصل له راحة، وتناول من ماء الشعير مقداراً صالحاً، ثم لحقه عرق كثير حتى نفذ من الفراش، واشتد المرض ليلة الثاني عشر من مرضه، وهي ليلة السابع والعشرين من صفر، وحضر عنده الشيخ أبو جعفر إمام الكلاسة ليبيت عنده في القلعة، بحيث إن احتضر بالليل ذكره الشهادة، وتوفي السلطان في الليلة المذكورة، أعني في الليلة المستقرة عن نهار الأربعاء السابع والعشرين من صفر، بعد صلاة الصبح، من هذه السنة، أعني سنة تسع وثمانين وخمسمائة.
وبادر القاضي الفاضل بعد صلاة الصبح فحضر وفاته، ووصل القاضي بهاء الدين بن شداد بعد موته وانتقاله إلى رحمة الله وكرامته، وغسله الفقيه الدولعي خطيب دمشق، وأخرج بعد صلاة الظهر من نهار الأربعاء المذكور في تابوت مسجى بثوب، وجميع ما احتاجوا من الثياب في تكفينه أحضره القاضي الفاضل من جهة حل عرفه، وصلى عليه الناس ودفن في قلعة دمشق، في الدار التي كان مريضاً فيها، وكان نزوله إلى جدثه وقت صلاة العصر من النهار المذكور، وكان الملك الأفضل ابنه قد حلف الناس له قبل وفاة والده عندما اشتد مرضه، وجلس للعزاء في القلعة، وأرسل الملك الأفضل على الكتب بوفاة والده إلى أخيه العزيز عثمان بمصر، وإلى أخيه الظاهر غازي بجلب، وإلى عمه الملك العادل أبي بكر بالكرك. ثم إن الملك الأفضل عمل لوالده تربة قرب الجامع، وكانت داراً لرجل صالح، ونقل إليها السلطان يوم عاشورا سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، ومشى الملك الأفضل بين يدي تابوته، وأخرج من باب القلعة على دار الحديث إلى باب البريد، وأدخل الجامع ووضع قدام الستر وصلى عليه القاضي محيط الدين بن القاضي زكي الدين، ثم دفن وجلس ابنه الملك الأفضل في الجامع ثلاثة أيام للعزاء، وأنفقت ست الشام بنت أيوب أخت السلطان في هذه النوبة أموالاً عظيمة.
وكان مولد السلطان صلاح الدين بتكريت، في شهور سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة، فكان عمره قريباً من سبع وخمسين سنة، وكانت مدة ملكه للديار المصرية نحو أربع وعشرين سنة، وملكه الشام قريباً من تسع عشرة سنة، وخلف سبعة عشر ولدا ذكراً، وبنتاً واحدة، وكان أكبر أولاده الملك الأفضل نور الدين علي بن يوسف، ولد بمصر سنة خمس وستين وخمسمائة، وكان العزيز عثمان أصغر منه بنحو سنتين، وكان الظاهر صاحب حلب أصغر منهما، وبقيت البنت حتى تزوجها ابن عمها الملك الكامل صاحب مصر، ولم يخلف السلطان صلاح الدين في خزانته غير سبعة وأربعين درهماً، وحرم واحد صوري، وهذا من رجل له الديار المصرية والشام وبلاد الشرق واليمن، دليل قاطع على فرط كرمه، ولم يخلف داراً ولا عقاراً. قال العماد(3/86)
الكاتب: حسبت ما أطلقه السلطان في مدة مقامه بمرج عكا من خيل عراب وأكاديش، فكان اثني عشر ألف رأس، وذلك غير ما أطلقه من أثمان الخيل المصابة في القتال، ولم يكن له فرس يركبه إلا وهو مرهوب، أو موعود به، ولم يؤخر صلاة عن وقتها، ولا صلى إلا في جماعة، وكان إذا عزم على أمر توكل على الله، ولا يفضل يوماً على يوم، وكان كثير سماع الحديث النبوي، قرأ مختصراً في الفقه تصنيف سليم الداري، وكان حسن الخلق صبوراً على ما يكره، كثير التغافل عن ذنوب صحابه، يسمع من أحدهم ما يكره ولا يعلمه بذلك ولا يتغير عليه، وكان يوماً جالساً، فرمى بعض المماليك بعضاً بسر موزة، فأخطأته ووصلت إلى السلطان فأخطأته ووقعت بالقرب منه، فالتفت إلى الجهة الأخرى ليتغافل عنها، وكان طاهر المجلس فلا يذكر أحد في مجلسه إلا بالخير، وطاهر اللسان، فما يولع بشمتم قط.
قال العماد الكاتب: مات بموت السلطان الرجال، وفات بوفاته الأفضال، وغاضت الأيادي، وفاضت الأعادي، وانقطعت الأرزاق، وادلهمت الآفاق، وفجع الزمان بواحده وسلطانه، ورزئ الإسلام بمشيد أركانه.
ذكر ما استقر عليه الحال بعد وفاة السلطان لما توفي السلطان الملك الناصر صلاح الدين، استقر في الملك بدمشق وبلادها المنسوبة إليها، ولده الملك الأفضل نور الدين علي وبالديار المصرية العزيز عماد الدين عثمان. وبحلب الملك الظاهر غياث الدين غازي. وبالكرك والشوبك والبلاد الشرقية الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب. وبحماة وسلمية والمعرة ومنبج وقلعة نجم الملك المنصور ناصر الدين محمد ابن الملك المظفر تقي الدين عمر. وببعلبك الملك الأمجد مجد الدين بهرام شاه بن فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب. وبحمص والرحبة وتدمر شيركوه بن محمد بن شيركوه بن شاذي. وبيد الملك الظافر خضر بن السلطان صلاح الدين بصرى، وهو في خدمة أخيه الملك الأفضل، وبيد جماعة من أمراء الدولة بلاد وحصون، منهم سابق الدين عثمان بن الداية، بيده شيزر، وأبو قبيس، وناصر الدين بن كورس بن خمار دكين بيده صهيون وحصن برزية. وبدر الدين دلدرم بن بهاء الدين ياروق بيده تل باشر. وعز الدين أسامة بيده كوكب وعجلون. وعز الدين إبراهيم بن شمس الدين بن المقدم بيده بعرين وكفر طاب وفامية. والملك الأفضل هو الأكبر من أولاد السلطان والمعهود إليه بالسلطنة، واستوزر الملك الأفضل ضياء الدين نصر الله بن محمد بن الأثير مصنف المثل السائر، وهو أخو عز الدين بن الأثير مؤلف التاريخ المسمى بالكامل، فحسن للملك الأفضل طرد أمراء أبيه، ففارقوه إلى أخويه العزيز والظاهر.
قال العماد الكاتب: وتفرد الوزير في توزره، ومد الجزري في جزره، ولما اجتمعت أكابر الأمراء بمصر حسنوا(3/87)
للملك العزيز الانفراد بالسلطنة، ووقعوا في أخيه الأفضل، فمال إلى ذلك، وحصلت الوحشة بين الأخوين الأفضل والعزيز.
وفي هذه السنة بعد موت السلطان قدم الملك العادل من الكرك إلى دمشق، وأقام فيها وظيفة العزاء على أخيه، ثم توجه إلى بلاده التي وراء الفرات.
ذكر حركة عز الدين مسعود صاحب الموصل إلى البلاد الشرقية التي بيد الملك العادل وعوده وموته
في هذه السنة لما مات السلطان صلاح الدين، كاتب عز الدين مسعود بن مودود بن عماد الدين زنكي بن أقسنقر صاحب ملوك البلاد المجاورين للموصل يستنجدهم ولذلك اتفق مع أخيه عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي صاحب سنجار، وسار إلى جهة حران وغيرها، فلحق عز الدين مسعود إسهال قوي وضعف فترك العسكر مع أخيه عماد الدين وعاد إلى الموصل، وصحبته مجاهد الدين قيماز، فحلف العسكر عز الدين لابنه أرسلان شاه بن مسعود ابن مودود بن زنكي بن أقسنقر، وقوي بعز الدين مسعود المرض، وتوفي في السابع والعشرين من شعبان من هذه السنة، فكانت مدة ما بين وفاته ووفاة السلطان صلاح الدين نصف سنة، وكانت مدة ملك عز الدين مسعود للموصل ثلاث عشرة سنة وستة أشهر، وكان ديناً خيراً كثير الإحسان، وكان أسمر مليح الوجه خفيف العارضين، يشبه جده عماد الدين زنكي، واستقر في ملك الموصل بعده ولده أرسلان شاه، وكان القيم بأمره، مجاهد الدين قيماز.
ذكر قتل بكتمر صاحب أخلاط في هذه السنة في أول جمادى الأولى، قتل سيف الدين بكتمر صاحب أخلاط، وكان بين قتله وبين موت السلطان صلاح الدين شهران ولما بلغ بكتمر موت السلطان صلاح الدين، سرف في إظهار الشماتة بموت السلطان، وضرب البشائر ببلاده، وفرح فرحاً كثيراً، وعمل تختاً يجلس عليه، ولقب نفسه السلطان المعظم صلاح الدين، وكان اسمه بكتمر، فسمى نفسه الملك العزيز، فلم يمهله الله تعالى، وكان هذا بكتمر من مماليك ظهير الدين شاهرمن، وكان له خشداش اسمه هزار ديناري، وكان قد قوي وتزوج ابنة بكتمر، وطمع في الملك، فوضع على بكتمر من قتله، ولما قتل ملك بعده هزار ديناري خلاط وأعمالها، واسم هزار ديناري المذكور أقسنقر، ولقبه بدر الدين، جلبه تاجر جرجاني اسمه علي إلى أخلاط، فاشتراه منه شاهرمن سكمان بن إبراهيم، وأعجب به شاهرمن، فجعله ساقياً له، ولقبه هزار ديناري، وبقي على ذلك برهة من الزمان، فلما تولى بكتمر على مملكة أخلاط، بقي المذكور من أكبر الأمراء، وتزوج ببنت بكتمر عينا خاتون، فلما قتل بكتمر خلف ولداً، فأخذ(3/88)
هزار ديناري المذكور ولد بكتمر وأمه، واعتقلهما بقلعة أرزاس بموش، وكان عمر ابن بكتمر إذ ذاك نحو سبع سنين، واستمر بدر الدين أقسنقر هزار ديناري في مملكة أخلاط حتى توفي في سنة أربع وتسعين وخمسمائة، وحسبما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر غير ذلك في هذه السنة شتى شهاب الدين الغوري في برشاوور، وجهز مملوكه أيبك في عساكر كثيرة إلى بلاد الهند، ففتح وغنم وعاد منصوراً مؤيداً. وفيها توفي سلطان شاه بن أرسلان بن أطسز ابن محمد بن أنوشتكين، وكان قد ملك مرو وخراسان، ولما مات انفرد أخوه تكش بالمملكة، وقد تقدم ذكرهما في سنة ثمان وستين وخمسمائة.
وفيها مات الأمير داود بن عيسى بن محمد بن أبي هاشم أمير مكة، وما زالت إمارة مكة له تارة، ولأخيه مكثر تارة، حتى مات.
ثم دخلت سنة تسعين وخمسمائة.
ذكر قتل طغريل وملك خوارزم شاه الري كان طغريل بن أرسلان بن طغريل بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل السلجوقي، قد حبسه قزل أرسلان بن الدكز، وخرج طغريل من الحبس في سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، وملك همذان وغيرها وجرى حرب بينه وبين مظفر الدين أزبك بن البهلوان محمد ابن الدكز، وقيل بل هو قطلغ إينانج أخو أزبك المذكور، فانهزم ابن البهلوان، ثم إن ابن البهلوان بعد هزيمته استنجد بخوارزم شاه علاء الدين تكش، فخاف منه، فلم يجتمع بخوارزم شاه، فسار خوارزم شاه تكش وملك الري، وذلك في سنة ثمان وثمانين.
وبلغ تكش أن أخاه سلطان شاه قد قصد خوارزم، فصالح طغريل السلجوقي وعاد تكش إلى خوارزم، وبقي الأمر كذلك حتى مات سلطان شاه في سنة تسع وثمانين وخمسمائة، فتسلم تكش مملكة أخيه سلطان شاه وخزانته، وولى ابنه محمد بن تكش نيسابور، وولى ابنه الأكبر ملكشاه بن تكش مرو.
ولما دخلت سنة تسعين سار تكش إلى حرب طغريل السلجوقي، فسار طغريل إلى لقائه قبل أن يجمع عساكره، والتقى العسكران بالقرب من الري، وحمل طغريل بنفسه. فقتل، وكان قتله في الرابع والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة، وحمل رأس طغريل إلى تكش، فأرسله إلى بغداد، فنصب بها عدة أيام، وسار تكش فملك همذان وتلك البلاد جميعها، وسلم بعضها إلى ابن البهلوان، وأقطع بعضها لمماليكه، ورجع إلى خوارزم.
وهذا طغريل بن أرسلان شاه بن طغريل بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق، هو آخر السلاطين السلجوقية الذين ملكوا بلاد العجم، وقد تقدم ذكر ابتداء الدولة السلجوقية في سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، وأول من ملك منه العراق وأزال دولة بني بويه، طغريل بك ابن ميكائيل(3/89)
بن سلجوق. ثم ملك بعده ابن أخيه ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل ثم ابنه ملكشاه بن ألب أرسلان ثم ابنه محمود بن ملكشاه، وكان طفلاً، فقامت بتدبير المملكة أم محمود تركان خاتون، ومات محمود وهو ابن سبع سنين، وملك أخوه بركيارق بن ملكشاه. ثم أخوه محمد بن ملكشاه. ثم ابنه محمود بن محمد المذكور. ثم ابنه داود بن محمود ابن محمد المذكور مدة يسيرة. ثم عمه طغريل بن محمد. ثم أخوه مسعود بن محمد. ثم ابن أخيه ملكشاه بن محمود بن محمد أياماً يسيرة، ثم أخوه محمد بن محمود، ثم بعد محمد المذكور اختلفت العساكر وقام من بني سلجوق ثلاثة، أحدهم ملكشاه بن محمود أخو محمد المذكور، والثاني سليمان شاه بن محمد ابن السلطان ملكشاه، وهو عم محمد المذكور، والثالث أرسلان شاه بن طغريل بن محمد ابن السلطان ملكشاه. وكان الدكز مزوجاً بأم أرسلان شاه المذكور، فقوي عليهما سليمان شاه واستقر في همدان في سنة خمس وخمسين وخمسمائة، ثم قبض سليمان شاه وقتل، وكذلك سم ملكشاه بن محمود المذكور ومات بأصفهان في السنة المذكورة، أعني سنة خمس وخمسين وخمسمائة. وانفرد بالسلطنة أرسلان شاه بن طغريل ربيب الدكز، ثم ملك بعده ابنه طغريل بن أرسلان شاه بن طغريل المذكور، في سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة، وجرى له ما ذكرناه حتى قتله تكش في هذه السنة، أعني سنة تسعين وخمسمائة، وانقرضت به الدولة السلجوقية من تلك البلاد.
ذكر غير ذلك في هذه السنة أرسل الخليفة الإمام الناصر، عسكراً مع وزيره مؤيد الدين محمد بن علي، المعروف بابن القصاب، إلى خورستان، وهي بلاد شملة وأولاده من بعده، وكان قد مات صاحبها ابن شملة، فاختلفت أولاده، فوصل عسكر الخليفة إلى خورستان وملكوا مدينة تستر في المحرم سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، وغيرها من البلاد وكذلك ملكوا قلعة الناطر، وقلعة كاكرد، وقلعة لاموج وغيرها من القلاع والحصون، فأنفذوا بني شملة أصحاب بلاد خورستان إلى بغداد.
وفي هذه السنة أعني سنة تسعين وخمسمائة، استحكمت الوحشة بين الأخوين العزيز والأفضل ابني السلطان صلاح الدين، فسار العزيز في عسكر مصر وحصر أخاه الأفضل بدمشق، فأرسل الأفضل إلى عمه العادل وأخيه الظاهر وابن عمه الملك المنصور صاحب حماة يستنجدهم، فساروا إلى دمشق وأصلحوا بين الأخوين، ورجع العزيز إلى مصر، ورجع كل ملك إلى بلده، وأقبل الملك الأفضل بدمشق على شرب الخمر وسماع الأغاني والأوتار ليلاً ونهاراً، وأشاع ندماؤه أن عمه الملك العادل حسن له ذلك، وكان يعمله بالخفية فأنشده العادل:(3/90)
فلا خير في اللذات من دونها ستر
فقبل وصية عمه وتظاهر بذلك، وفوض أمر المملكة إلى وزيره ضياء الدين بن الأثير الجزري يدبرها برأيه الفاسد. ثم إن الملك الأفضل أظهر التوبة عن ذلك، وأزال المنكرات، وواظب على الصلوات، وشرع في نسخ مصحف بيده.
ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وخمسمائة. وفيها سار ابن القصاب وزير الخليفة بعد ملك خورستان إلى همذان، فملكها وملك غيرها من بلاد العجم، وأخذ يستولي على سائر البلاد للخليفة، فتوفي مؤيد الدين بن القصاب المذكور في أوائل شعبان، سنة اثنين وتسعين وخمسمائة.
وفيها غزا ملك الغرب يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن الفرنج بالأندلس، وجرى بينهم مصاف عظيم، انتصر فيه المسلمون، وقتل من الفرنج ما لا يحصى وولوا منهزمين، وغنم المسلمين منهم ما لا يحصى.
وفيها جهز الخليفة الإمام الناصر عسكراً مع مملوك له يقال له سيف الدين طغريل، فاستولوا على أصفهان. وفيها قدم مماليك البهلوان عليهم مملوكاً من البهلوانية، يقال له كلجا، فعظم أمر كلجا واستولى على الري وهمذان.
وفيها عاود الملك العزيز عثمان صاحب مصر قصد الشام ومنازلة أخيه الملك الأفضل، فسار ونزل الغوار من أرض السواد من بلاد دمشق، فاضطرب بعض عسكر العزيز عليه، وهم طائفة من الأمراء الأسدية، وفارقوه، فبادر العزيز العود إلى مصر بمن بقي معه من العسكر، وكان الملك الأفضل قد استنجد بعمه الملك العادل لما قصده أخوه العزيز.
فلما رحل العزيز عائداً إلى مصر، رحل الملك الأفضل وعمه العادل ومن انضم إليهما من الأسدية، وساروا في إثر العزيز طالبين مصر، فساروا حتى نزلوا على بلبيس وقد ترك فيها العزيز جماعة من الصلاحية، وقصد الملك الأفضل مناجزتهم بالقتال فمنعه العادل عن ذلك، فقصد الأفضل المسير إلى مصر والاستيلاء عليهما، فمنعه عمه العادل أيضاً عن ذلك، وقال: مصر لك متى شئت، وكاتب العادل العزيز في الباطن، وأمره بإرسال القاضي الفاضل ليصلح بين الأخوين، وكان القاضي الفاضل قد اعتزل عن ملابستهم لما رأى من فساد أحوالهم، فدخل عليه الملك العزيز وسأله، فتوجه القاضي الفاضل من القاهرة إلى عند الملك العادل، واجتمع به واتفقا على أن يصلحا بين الأخوين، فأصلحا بينهما، وأقام الملك العادل بمصر عند العزيز ابن أخيه ليقرر أمور مملكته، وعاد الأفضل إلى دمشق.
وفيها كان بين يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن ملك الغرب، وبين الفرنج بالأندلس شمالي قرطبة حروب عظيمة، انتصر فيها يعقوب، وانهزم الفرنج.
ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة فيها سار شهاب الدين الغوري صاحب غزنة إلى بلاد الهند، وفتح قلعة عظيمة تسمى بهنكر بالأمان، ثم سار إلى قلعة كوكير وبينهما نحو خمسة أيام، فصالحه أهلها على مال حملوه إليه، ثم سار في بلاد الهند فغنم وأسر وعاد إلى غزنة.
وفيها قتل صدر الدين محمد بن عبد اللطيف بن محمد(3/91)
الخجندي رئيس الشافعية بأصفهان، وهو الذي سلم أصفهان إلى عسكر الخليفة، قتله سنقر الطويل شحنة للخليفة، بسبب منافرة جرت بينهما.
وفيها نقل الملك الأفضل أباه السلطان صلاح الدين من قلعة دمشق إلى التربة بالمدينة، في صفر، فكان مدة لبثه بالقلعة ثلاث سنين، ولزم الملك الأفضل الزهد والقناعة، وأموره مفوضة لوزيرة ضياء الدين بن الأثير الجزري، وقد اختلفت الأحوال به وكثر شاكوه وقل شاكروه.
ذكر انتزاع دمشق من الملك الأفضل
لما بلغ الملك العادل في مصر والملك العزيز، اضطراب الأمور على الملك الأفضل، اتفق العادل مع العزيز على أن يأخذا دمشق، وأن يسلمها العزيز إلى العادل، لتكون الخطبة والسكة للعزيز بسائر البلاد، كما كانت لأبيه، فخرجا وسارا من مصر، فأرسل الأفضل إليهما ذلك الدين، وهو أحد أمرائه، وكان فلك الدين أخاً الملك لعادل لأمّه، واجتمع فلك الدين بالملك العادل فأكرمه وأظهر الإجابة إلى ما طلبه، أتم العادل والعزيز السير حتى نزلا على دمشق، وقد حصنها الملك الأفضل، فكاتب بعض الأمراء من داخل البلد، الملك العادل، وصاروا معه، وأنهم يسلمون المدينة إليه، فزحف الملك العادل والملك العزيز ضحى يوم الأربعاء السادس والعشرين من رجب من هذه السنة، فدخل الملك العزيز من باب الفرج، والملك العادل من باب توما، فأجاب الملك الأفضل إلى تسليم القلعة، وانتقل منها بأهله وأصحابه، وأخرج وزيره ضياء الدين بن الأثير مختفياً في صندوق خوفاً عليه من القتل، وكان الملك ظافر خضر ابن السلطان صلاح الدين صاحب بصرى مع أخيه الملك الأفضل ومعاضداً له، فأخذت منه بصرى أيضاً، فلحق بأخيه الملك الظاهر، فأقام عنده بحلب، وأعطى الملك الأفضل صرخد، فسار إليها بأهله واستوطنها، ودخل الملك العزيز إلى دمشق يوم الأربعاء رابع شعبان، ثم سلم دمشق إلى عمه الملك العادل على حكم ما كان وقع عليه الاتفاق بينهما، وتسلمها الملك العادل، ورحل الملك العزيز من دمشق عشية يوم الاثنين تاسع شعبان، وكانت مدة ملك الملك الأفضل لدمشق ثلاث سنين وشهراً، وأبقى الملك العادل السكة والخطبة بدمشق للملك العزيز، ولما استقر الملك الأفضل بصرخد، كتب إلى الخليفة الإمام الناصر يشكو من عمه العادل أبي بكر، وأخيه العزيز عثمان، وأول الكتاب:
مولاي إن أبا بكر وصاحبه ... عثمان قد غصبا بالسيف حق عليّ
فانظر إلى حظ هذا الاسم كيف لقي ... من الأواخر ما لاقى من الأول
فكتب الإمام الناصر جوابه:
وافا كتابك يا ابن يوسف معلناً ... بالصدق يخبر أن أصلك طاهر
غصبوا علياً حقه إذ لم يكن ... بعد النبي له بيثرب ناصر(3/92)
فاصبر فإن غداً عليه حسابهم ... وأبشر فناصرك الإمام الناصر
ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة في هذه السنة توفي ملكشاه بن تكش بنيسابور، وكان أبوه خوارزم شاه تكش، قد جعله فيها وجعل له الحكم على تلك البلاد، وجعله ولي عهده، وخلف ملك شاه ولداً اسمه هندوخان، فلما مات ملكشاه، جعل تكش فيها عوضه ولده الآخر قطب الدين محمد، وهو الذي ملك بعد أبيه، وغير لقبه عن قطب الدين، وجعله علاء الدين، وكان بين الأخوين ملكشاه وقطب الدين عداوة مستحكمة.
ذكر وفاة سيف الإسلام في هذه السنة في شوال، توفي سيف الإسلام ظهير الدين طغتكين بن أيوب صاحب اليمن، ولما مات سيف الإسلام، كان ولده الملك العزيز إسماعيل بالسمرين، فبعث إليه جمال الدولة كافور، جماعة من الجند، فعرفوه بوفاة ولده ومضوا به إلى ممالك أبيه، فسلموها إليه، وكانت وفاة سيف الإسلام بزبيد، وكان شديد السيرة، مضيقاً على رعيته، يشتري أموال التجار لنفسه ويبيعها كيف شاء، وجمع من الأموال ما لا يحصى، حتى أنه كان يسبك الذهب وجعله كالطاحون ويدخره.
ثم دخلت. سنة أربع وتسعين وخمسمائة في هذه السنة في المحرم توفي عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي بن أقسنقر، صاحب سنجار والخابور والرقة، وكان حسن السيرة متواضعاً يحب أهل العلم، إلا أنه كان بخيلاً شديد البخل، وملك بعده ولده قطب الدين حمد بن زنكي، وتولى تدبير دولته مجاهد الدين بزنقش مملوك أبيه.
وفيها في جمادى الأولى سار نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكي صاحب الموصل إلى نصيبين، فاستولى عليها وأخذها من ابن عمه قطب الدين محمد بن زنكي، فأرسل قطب الدين محمد واستنجد بالملك العادل، فسار الملك العادل إلى البلاد الجزرية، ففارق نور الدين أرسلان شاه نصيبين وعاد إلى الموصل، فعاد قطب الدين محمد بن زنكي وتسلم نصيبين.
وفيها سار خوارزم شاه تكش إلى بخارى، وهي للخطا، وحاصرها وملكها، وكان تكش أعور، فأخذ أهل بخارى في مدة الحصار كلباً أعور وألبسوه قباً وقالوا للخوارزمية: هذا سلطانكم، ورموه بالمنجنيق إليهم، فلما ملكها خوارزم شاه تكش، أحسن إلى أهل بخارى وفرق فيهم أموالاً، ولم يؤاخذهم بما فعلوه في حقه.
وفيها وصل جمع عظيم من الفرنج إلى الساحل واستولوا على قلعة بيروت، وسار الملك العادل ونزل بتل العجول، وأتته النجدة من مصر، ووصل إليه سنقر الكبير صاحب القدس، وميمون القصري صاحب نابلس، ثم سار الملك العادل إلى يافا وهجمها بالسيف وملكها، وقتل الرجال المقاتلة، وكان هذا الفتح، ثالث فتح لها، ونازلت الفرنج تبنين، فأرسل الملك العادل إلى الملك العزيز صاحب مصر، فسار الملك العزيز بنفسه بمن بقي عنده من عساكر مصر،(3/93)
واجتمع بعمه الملك العادل على تبنين، فرحل الفرنج على أعقابهم إلى صور خائبين، ثم عاد الملك العزيز إلى مصر وترك غالب العسكر مع عمه العادل، وجعل إليه أمر الحرب والصلح، ومات في هذه المدة سنقر الكبير، فجعل الملك العزيز أمر القدس إلى صارم الدين قطلق، مملوك عز الدين فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب، ولما عاد الملك العزيز إلى مصر في هذه المدة، مدحه القاضي ابن سنا الملك بقصيدة منها:
قدمت بالسعد وبالمغنم ... كذا قدوم الملك المقدم
قميصك الموروث عن يوسف ... ما جاء إلا صادقاً في الدم
أغثت تبنين وخلصتها ... فريسة من ماضغي ضيغم
شنشنة تعرف من يوسف ... في النصر لا تعرف من أخزم
مقدمه صار جمادى به ... كمثل ذي الحجة ذا موسم
ثم طاول الملك العادل الفرنج، فطلبوا الهدنة، واستقرت بينهم ثلاث سنين، ورجع الملك العادل إلى دمشق، ثم سار الملك العادل من دمشق إلى ماردين وحصرها، وصاحبها حينئذ يولق أرسلان بن أيلغازي بن إلبي بن تمرتاش بن أيلغازي ابن أرتق، وليس ليولق أرسلان من الحكم شيء، وإنما الحكم إلى مملوك والده البقش.
ذكر أخبار ملوك خلاط وفيها توفي صاحب خلاط بدر الدين أقسنقر هزارديناري، وقد تقدم ذكر ملكه الخلاط في سنة تسع وثمانين وخمسمائة، ولما توفي هزارديناري استولى على خلاط بعده خشداشه قتلغ وكان مملوكاً أرمني الأصل من سناسنة، فملك خلاط نحو سبعة أيام، ثم اجتمع عليه الناس وأنزلوه من القلعة، ثم وثبوا عليه فقتلوه، فلما قتل قتلغ، اتفق كبراء الدولة فأحضروا محمد بن بكتمر من القلعة التي كان معتقلاً فيها، واسمها أرزاس، وأقاموه في مملكة خلاط ولقبوه الملك المنصور، وقام بتدبير أمره شجاع الدين قتبز الدوادار، وكان قتلغ المذكر قفجاقي الجنس، دوادار الشاهر من سكمان بن إبراهيم، واستقر ابن بكتمر كذلك إلى سنة اثنتين وستمائة، فقبض على أتابكه قتلغ المذكور وحبسه، ثم قتله، فخرج عليه مملوك شاهرمن يقال له عز الدين بلبان فاتفق العسكر مع بلبان المذكور وقبضوا على محمد بن بكتمر وحبسوه، ثم خنقوه ورموه من سور القلعة إلى أسفل وقالوا: وقع، واستمر بلبان في مملكة خلاط، دون سنة، وقتله بعض أصحاب طغريل بن قليج أرسلان شاه صاحب أرزن، وقصد طغريل المذكور أن يتسلم خلاط، فلم يجبه أهلها إلى ذلك، وعصوا عليه، فعاد إلى أرزن، ثم وصل الملك الأوحد أيوب ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب وتسلم خلاط، وملكها قريب ثمان سنين، حسبما ذكر(3/94)
ذلك في سنة أربع وستمائة إن شاء الله تعالى.
ثم دخلت سنة خمس وتسعين وخمسمائة.
ذكر وفاة العزيز صاحب مصر
في هذه السنة في منتصف ليلة السابع والعشرين من المحرم، توفي الملك العزيز عماد الدين عثمان ابن السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، وكان قد طلع إلى الصيد، فركض خلف ذئب، فتقنطر وحم، سابع المحرم، في جهة الفيوم، فعاد إلى الأهرام وقد اشتدت حماه، ثم توجه إلى القاهرة فدخلها يوم عاشوراء، وحدث به يرقان وقرحة في المعا، واحتبس طبعه، فمات في التاريخ المذكور. وكانت مدة مملكته ست سنين إلا شهراً، وكان عمره سبعاً وعشرين سنة وأشهراً، وكان في غاية السماحة والكرم والعدل، والرفق بالرعية، والإحسان إليهم. ففجعت الرعية بموته فجعة عظيمة، وكان الغالب على دولة الملك العزيز، فخر الدين جهاركس، فأقام في الملك ولد الملك العزيز، الملك المنصور محمد، واتفقت الأمراء على إحضار أحد من بني أيوب ليقوم بالملك، وعملوا مشورة بحضور القاضي الفاضل، فأشار بالملك الأفضل، وهو حينئذ بصرخد، فأرسلوا إليه فسار محثاً، ووصل إلى مصر على أنه أتابك الملك المنصور بن الملك العزيز، وكان عمر الملك لمنصور حينئذ تسع سنين وشهوراً، وكان مسير الملك الأفضل من صرخد لليلتين بقيتا من صفر، في تسعة عشر نفراً، متنكراً، خوفاً من أصحاب عمه الملك العادل، فإن غالب تلك البلاد كانت له، فوصل بلبيس خامس ربيع الأول. ثم سار الملك الأفضل إلى القاهرة، فخرج الملك المنصور بن العزيز للقائه، فترجل له عمه الملك الأفضل ودخل بين يديه إلى دار الوزارة، وهي كانت مقر السلطنة، ولما وصل الملك ة فضل إلى بلبيس، التقاه العسكر، فتنكر منه فخر الدين جهاركس وفارقه، وتبعه عدة من العسكر، وساروا إلى الشام وكاتبوا الملك العادل، وهو محاصر ماردين، أرسل الملك الظاهر إلى أخيه الملك الأفضل يشير عليه بقصد دمشق وأخذها من عمه الملك العادل، وأن ينتهز الفرصة لاشتغال العادل بحصار ماردين، فبرز الملك الأفضل من مصر وسار إلى دمشق، وبلغ الملك العادل مسيره إلى دمشق، فترك على حصار ماردين ولده الملك الكامل، وسار العادل وسبق الأفضل ودخل دمشق قبل نزول الأفضل عليها بيومين، ونزل الملك الأفضل على دمشق ثالث عشر شعبان من هذه السنة، وزحف من الغد على البلد، وجرى بينهم قتال، وهجم بعض عسكره مدينة، حتى وصل إلى باب البريد، ولم يمدهم العسكر، فتكاثر أصحاب الملك العادل وأخرجوهم من البلد، ثم تخاذل العسكر فتأخر الأفضل إلى ذيل عقبة الكسوة، ثم وصل إلى الملك الأفضل أخوه الظاهر صاحب حلب، فعاد إلى مضايقة دمشق، ودام الحصار عليها، وقلت الأقوات عند الملك العادل، وعلى أهل البلد، وأشرف الأفضل والظاهر على(3/95)
ملك دمشق، وعزم العادل على تسليم البلد لولا ما حصل بين الأخوين، الأفضل والظاهر، من الخلف، وخرجت السنة وهم على ذلك، وكان منهم ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر استيلاء الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر تقي الدين صاحب حماة على بارين وفي شهر رمضان من هذه السنة، قصد الملك المنصور صاحب حماة بارين، وبها نواب عز الدين إبراهيم بن شمس الدين محمد بن عبد الملك بن المقدم، وحاصرها، وكان عز الدين إبراهيم مع الملك العادل، محصوراً معه بدمشق، ونصب الملك المنصور عليها المجانيق، وانجرح الملك المنصور حال الزحف، ثم فتحها في التاسع والعشرين من ذي القعدة، وأقام ببارين مدة حتى أصلح أمورها.
ذكر وفاة يعقوب ملك الغرب في ربيع الآخر، وقيل في جمادى الأولى، توفي أبو يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، صاحب المغرب والأندلس، بمدينة سلا، وكانت ولايته خمس عشرة سنة، وكان يتظاهر بمذهب الظاهرية، وأعرض عن مذهب مالك وعمره ثمان وأربعون سنة، وتلقب يعقوب المذكور بالمنصور، ولما مات يعقوب ملك بعده ابنه محمد بن يعقوب، وتلقب محمد بالناصر، ومولد محمد المذكور سنة ست وسبعين وخمسمائة، وعبد المؤمن وبنوه جميعهم كانوا يسمون بأمير المؤمنين، وفي هذه السنة رحل عسكر الملك العادل مع ابنه الملك الكامل عن حصار ماردين.
ذكر الفتنة بفيروزكوه
في هذه السنة كانت فتنة عظيمة في عسكر غياث الدين ملك الغورية، وهو بفيروزكوه، وسببها أن الإمام فخر الدين محمد بن عمر بن حسين الرازي، الإمام المشهور، كان قد قدم إلى غياث الدين وبالغ في إكرامه واحترامه، وبنى له مدرسة بهراة بالقرب من الجامع، فعظم ذلك على الكرامية، وهم كثيرون بهراة، ومذهبهم التجسيم والتشبيه، وكان الغورية كلهم كرامية، فكرهوا فخر الدين لأنه شافعي، وهو يناقض مذهبهم، فاتفق أن فقهاء الكرامية والحنفية والشافعية حضروا بفيروزكوه عند غياث الدين للمناظرة، وحضر فخر الدين الرازي، والقاضي عبد المجيد بن عمر، المعروف بابن القدوة، وهو من الكرامية الهيصمية، وله عندهم محل كبير لتزهده وعلمه، فتكلم الرازي، فاعترض عليه ابن القدوة وطال الكلام، فقام غياث الدين، فاستطال فخر الدين الرازي على ابن القدوة وشتمه، وبالغ في أذاه، وابن القدوة لا يزيده على أن يقول: لا يفعل يا مولانا إلا وأخذ الله، فصعب(3/96)
على الملك ضياء الدين، وهو ابن عم غياث الدين، وزوج ابنته، وشكى إلى غياث الدين وذم فخر الدين الرازي، ونسبه إلى الزندقة ومذهب الفلاسفة، فلم يصغ إليه غياث الدين فلما كان الغد، وعظ الناس ابن عمر بن القدرة بالجامع وقال: بعد حمد الله والصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين، أيها الناس إنا لا نقول إلا ما صح عندنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما علم أرسطو وكفريات ابن سينا وفلسفة الفارابي فلا نعلمها، فلأي حال يشتم بالأمس شيخ من شيوخ الإسلام يذب عن دين الله وسنة نبيه، وبكى وبكى الكرامية، واستغاثوا، وثار الناس من كل جانب، وامتلأ البلد فتنة، فبلغ ذلك السلطان، فأرسل جماعة سكنوا الناس ووعدهم إخراج فخر الدين الرازي من عندهم، وتقدم عليه بالعود إلى هراة فعاد إليها.
وفي هذه السنة: في ربيع الأرل، توفي مجاهد الدين قيماز بقلعة الموصل، وهو الحاكم في دولة زور الدين أرسلان صاحب الموصل، وقيماز المذكور هو الذي كان حاكماً على مسعود والد أرسلان حتى قبض عليه مسعود، ثم أخرجه بعد مدة، وكان قيماز عاقلاً أديباً فاضلاً في الفقه، على مذهب أبي حنيفة، وبنى عدة جوامع وربط ومدارس.
وفيها فارق غياث الدين ملك الغورية مذ هب الكرامية، وصار شافعي المذهب. وفيها توفي محمد بن عبد الملك بن زهر الأندلسي الإشبيلي، وكان فاضلاً في الأدب، وكان طبيباً، وكان جده زهر وزيراً وفيلسوفاً، وتوفي زهر المذكور في سنة خمس وعشرين وخمسمائة بقرطبة، وزهر بضم الزاي المعجمة وسكون الهاء، وقد قيل في ابن زهر:
قل للوباء أنت وابن زهر ... قد جزتما الحد في النكايه
ترفقا بالورى قليلاً ... في واحد منكما كفايه
ثم دخلت سنة ست وتسعين وخمسمائة والملكان الأفضل والظاهر محاصران لمدينة دمشق، واتفق وقوع الخلف بين الأخوين الأفضل والظاهر، وسببه أنه كان للملك الظاهر مملوك يحبه اسمه أيبك ففقد، ووجد عليه الملك الظاهر وجداً عظيماً، وتوهم أنه دخل دمشق، فأرسل من تكشف خبره وأطلع الملك العادل وهو محصور على القضية، فأرسل إلى الظاهر يقول له: إن محمود بن الشكري أفسد مملوكك وحمله إلى الأفضل أخيك، فقبض الظاهر على ابن الشكري، فظهر المملوك عنده، فتغير الظاهر على أخيه الأفضل، وترك قتال العادل، وظهر الفشل في العسكر، فتأخر الأفضل والظاهر عن دمشق، وأقاما بمرج الصفر إلى أواخر صفر. ثم سارا إلى رأس الماء ليقيما به إلى أن ينسلخ الشتاء، ثم انثنى عزمهما وسار الأفضل إلى مصر والظاهر إلى حلب، على القريتين. ولما تفرقا، خرج الملك العادل من دمشق وسار في أثر الأفضل إلى مصر، ولما وصل الأفضل إلى مصر(3/97)
تفرقت عساكره في بلادهم لأجل الربيع، فأدركه عمه العادل، فخرج الأفضل بمن بقي عنده من العسكر وضرب معه مصافاً بالسائح، فانكسر الأفضل وانهزم إلى القاهرة، ونازل العادل القاهرة ثمانية أيام، فأجاب الأفضل إلى تسليمها، على أن يعوض عنها ميافارقين وحاني وسميساط، فأجابه العادل إلى ذلك، ولم يف له به، وكان دخول العادل إلى القاهرة في الحادي والعشرين من ربيع الآخر من هذه السنة، وقال ابن الأثير: كان دخول العادل إلى القاهرة يوم السبت ثامن عشر ربيع الأخر.
فيها وتوفي القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني، في سابع عشر ربيع الآخر، وقيل إن مولد القاضي الفاضل سنة ست وعشرين وخمسمائة، فكان عمره نحو سبعين سنة.
ثم سافر الملك الأفضل إلى صرخد، وأقام العادل بمصر، على أنه أتابك الملك المنصور محمد ابن العزيز عثمان مدة يسيرة، ثم أزال الملك المنصور محمد المذكور، واستقل العادل في السلطنة، ولما استقرت المملكة للملك العادل، أرسل إليه الملك المنصور صاحب حماة يعتذر إليه، مما وقع منه بسبب أخذه بعرين من ابن المقدم، فقبل الملك العادل عذره، وأمره برد بعرين إلى ابن المقدم، فاعتذر الملك المنصور عنها بقربها من حماة، ونزل عن منبج وقلعة نجم لابن المقدم عوضاً عن بعرين، فرضي ابن المقدم بذلك، لأنهما خير من بعرين بكثير، وتسلمهما عز الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الملك بن المقدم، وكان له أيضاً فامية وكفر طاب وخمس وعشرون ضيعة من المعرة، وكذلك كاتب الملك الظاهر صاحب حلب عمه الملك العادل وصالحه، وخطب له بحلب، وبلادها، وضرب السكة باسمه، واشترط الملك العادل على صاحب حلب أن يكون خمسمائة فارس من خيار عسكر حلب في خدمة الملك العادل، كلما خرج إلى البيكار، والتزم صاحب حلب بذلك، وقصر النيل في هذه السنة تقصيراً عظيماً، حتى أنه لم يبلغ أربعة عشر ذراعاً.
ذكر وفاة خوارزم شاه في هذه السنة في العشرين من رمضان، توفي خوارزم شاه تكش بن أرسلان بن أطسز بن محمد بن أنوش تكين صاحب خوارزم، وبعض خراسان والري، وغيرها من البلاد الجبلية، بشهرستانة. وولي الملك بعده ابنه محمد بن تكش، وكان لقب محمد، قطب الدين، فغيره إلى علاء الدين، وكان تكش عادلاً حسن السيرة، يعرف الفقه على مذهب أبي حنيفة، والأصول، ولما بلغ غياث الدين ملك الغورية موت خوارزم شاه، ترك ضرب نوبته ثلاثة أيام وجلس للعزاء مع ما كان بينهما من العداوة المستحكمة، وهذا خلاف ما فعله بكتمر من الشماتة بالسلطان صلاح الدين، ولما استقر محمد بن تكش في المملكة، هرب ابن أخيه هندوخان بن ملكشاه بن تكش إلى غياث الدين ملك الغورية يستنصره على(3/98)
عمه، فأكرمه غياث الدين ووعده النصر.
ثم دخلت سنة سبع وتسعين وخمسمائة لما دخلت هذه السنة، كان بالديار المصرية الملك العادل، وعنده ابنه الملك الكامل محمد، وهو نائبه بها، وبحلب الملك الظاهر، وهو مجد في تحصين حلب خوفاً من عمه الملك العادل، وبدمشق الملك المعظم شرف الدين عيسى ابن الملك العادل، نائب أبيه بها، وبالشرق الملك إبراهيم ابن الملك العادل، وبميافارقين، الملك الأوحد نجم الدين أيوب ابن الملك العادل.
وفي هذه السنة توفي عز الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الملك بن المقدم، وصارت البلاد بعده، وهي منبج وقلعة نجم وفامية وكفر طاب، لأخيه شمس الدين عبد الملك بن محمد بن عبد الملك بن المقدم، ولما استقر شمس الدين عبد الملك بمنبج، سار إليها الملك الظاهر صاحب حلب وحصرها، وملك منبج، وعصى عبد الملك بن المقدم بالقلعة، فحصره، ونزل عبد الملك بالأمان، فاعتقله الملك الظاهر، وملك قلعة منبج، وبعد أن فرغ من منبج سار إلى قلعة نجم، وبها نائب ابن المقدم، فحصرها وملكها في آخر رجب من هذه السنة، وأرسل الملك الظاهر إلى الملك المنصور صاحب حماة يبذل له منبج وقلعة نجم، على أن يصير معه على الملك العادل، فاعتذر صاحب حماة باليمين التي في عنقه للملك العادل، فلما أيس الملك الظاهر منه، سار إلى المعرة وأقطع بلادها، واستولى على كفر طاب، وكانت لابن المقدم، ثم سار إلى فامية وبها قراقوش نائب ابن المقدم، وأرسل الملك الظاهر وأحضر عبد الملك بن المقدم من حلب، وكان معتقلاً بها، وأحضر معه أصحابه الذين اعتقلهم وضربهم قدام قراقوش ليسلم فامية، فامتنع قراقوش، فأمر الملك الظاهر بضرب عبد الملك بن المقدم، فضرب ضرباً شديداً، وبقي يستغيث، فأمر قراقوش فضربت النقارات على قلعة فامية لئلا يسمع أهل البلد صراخه، ولم يسلم القلعة، فرحل عنها الملك الظاهر وتوجه إلى حماة وحاصرها لثلاث بقين من شعبان من هذه السنة، ونزل شمالي البلد، وشعث التربة التقوية وبعض البساتين، وزحف من جهة الباب الغربي، وقاتل قتالاً شديداً، ثم زحف في آخر شعبان من الباب الغربي والباب القبلي وباب العميان، وجرى فيه قتال شديد، وخرج الملك الظاهر بسهم في ساقه، واستمرت الحرب إلى أيام من رمضان، فلما لم يحصل على غرض، صالح الملك المنصور على مال يحمله إليه، قيل أنه ثلاثون ألف في ينار صورية.
ثم رحل الملك الظاهر إلى دمشق وبها الملك المعظم ابن الملك العادل، فنازلها الملك الظاهر هو وأخوه الملك الأفضل، وانضم إليهما فارس الدين ميمون القصري صاحب نابلس، ومن وافقه من الأمراء الصلاحية، واستقرت القاعدة بين الأخوين الأفضل والظاهر، أنهما متى ملكا دمشق يتسلمها الملك الأفضل، ثم يسيران ويأخذان مصر من الملك العادل، ويتسلمها الملك الأفضل وتسلم دمشق حينئذ إلى الملك الظاهر صاحب حلب، بحيث تبقى مصر(3/99)
للملك الأفضل، ويصير الشام جميعه للملك الظاهر.
وكان قد تخلف من أكابر الأمراء الصلاحية عنهما فخر الدين جهاركس، وزين الدين قراجا، فأرسل الملك الأفضل وسلم صرخد إلى زين الدين قراجا، ونقل الملك الأفضل والدته وأهله إلى حمص عند شيركوه، وبلغ الملك العادل حصار الأخوين دمشق، فخرج بعساكر مصر وأقام بنابلس، ولم يجسر على قتالهما، واشتدت مضايقة الملكين الأفضل والظاهر لدمشق، وتعلق النقابون بسورها، فلما شاهد الملك الظاهر صاحب حلب ذلك، حسد أخاه الملك الأفضل على دمشق وقاله له: أريد أن تسلم إلي دمشق الآن. فقال له الأفضل: إن حريمي حريمك، وهم على الأرض، وليس لنا موضع نقيم فيه، وهب هذه البلد لك، فاجعله لي إلى حين تملك مصر وتأخذه، فامتنع الظاهر من قبول ذلك، وكان قتال العسكر والأمراء الصلاحية إنما كان لأجل الأفضل، فقال لهم الأفضل: إن كان قتالكم لأجلي فاتركوا القتال وصالحوا الملك العادل، وإن كان قتالكم لأجل أخي الملك الظاهر، فأنتم وإياه، فقالوا إنما قتالنا لأجلك، وتخلوا عن القتال، وأرسلوا وصالحوا الملك العادل، وخرجت السنة وهم محاصرون دمشق، وقد تفرقت العساكر، فرحل الملك الظاهر عن دمشق في أول المحرم، سنة ثمان وتسعين، وسار الأفضل إلى حمص.
وفي هذه السنة أعني سنة سبع وتسعين، توفي عماد الدين الكاتب محمد بن عبد الله بن حامد الأصفهاني، وكان فاضلاً في الفقه والأدب والخلاف والتاريخ، وله النظم البديع، والنثر الفائق، وكتب لنور الدين ولصلاح الدين، وله التصانيف الحسنة، منها: البرق الشامي، وخريدة القصر، وكان مولده سنة تسع عشر وخمسمائة وكان عمره نيفاً وسبعين سنة.
ذكر غير ذلك من الحوادث
في هذه السنة سار الملك غياث الدين ملك الغورية بعساكره، وأرسل استدعى أخاه شهاب الدين من عرنة، فلحقه بعساكره أيضاً، وسار غياث الدين إلى خراسان واستولى على ما كان لخوارزم شاه بخراسان، ولما ملك غياث الدين مرو، سلمها إلى هندوخان بن ملكشاه بن خوارزمشاه تكش، الذي كان هرب من عمه محمد إلى غياث الدين ثم استولى غياث الدين على سرخس وطوس ونيسابور وغيرها، ولما استقرت هذه البلاد لغياث الدين عاد إلى بلاده وتوجه أخوه شهاب الدين إلى بلاد الهند، فغنم وفتح نهروالة وهي من أعظم بلاد الهند.
وفي هذه السنة: في رمضان ملك ركن الدين سليمان بن قليج أرسلان مدينة ملطية، وكانت لأخيه معز الدين قيصر شاه بن قليج أرسلان، ثم سار ركن الدين إلى أرزن الروم، وكانت للملك محمد بن صليق وهو من بيت قديم، ملكوا أرزن الروم مدة طويلة، فطلع صاحب أرزن الروم المذكور ليصالح ركن الدين، فقبض عليه(3/100)
وأخذ البلد منه، وكان هذا محمد آخرالملوك من أهل بيته.
وفيها توفي سقمان بن محمد بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان بن أرتق صاحب آمد وحصن كيفا، سقط من سطح جوسق كان له بحصن كيفا، فمات، وكان له أخ اسمه محمود بن محمد، وكان سقمان. يبغضه، فأبعده إلى حصن منصور، وكان قد جعل سقمان ولي عهده مملوكه إياس، وكان يحبه حباً شديداً، وأوصى له بالملك بعده، فلما مات سقمان، استولى إياس على البلاد، فلم ينتظم له حال، وكاتبوا أخاه محموداً فحضر وملك بلاد أخيه سقمان.
وفيها كان بمصر غلاء شديد بسبب نقص النيل.
وفيها كان بالجزيرة والشام والسواحل زلزلة عظيمة فهدمت مدناً كثيرة.
وفيها في رمضان توفي أبو الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي الحنبلي الواعظ المشهور وتصانيفه مشهورة، وكان كثير الوقيعة في العلماء، وكان مولده سنة عشر وخمسمائة.
ثم دخلت سنه ثمان وتسعين وخمسمائة في هذه السنة بعد رحيل الملك الأفضل، والظاهر عن دمشق كما ذكرنا، قدم إليها الملك العادل، وكان قد سار ميمون القصري مع الملك الظاهر فأقطعه إعزاز.
وفيها خرب الملك الظاهر قلعة منبج خوفاً من انتزاعها منه، وأقطع منبج بعد ذلك عماد الدين أحمد بن سيف الدين علي بن أحمد المشطوب.
وفيها أرسل قراقوش نائب عبد الملك بن محمد بن عبد الملك بن مقدم بفامية إلى الملك الظاهر يبذل له تسليم فامية، بشرط أن يعطي شمس الدين عبد الملك بن المقدم إقطاعاً يرضاه، فأقطعه الملك الظاهر الراوندان وكفر طاب ومفردة المعرة، وهو عشرون ضيعة معينة من بلاد المعرة، وتسلم فامية، ثم إن عبد الملك بن المقدم، عصى بالراوندان، فسار إليه الملك الظاهر واستنزله منها. وأبعده، فلحق ابن المقدم بالملك العادل، فأحسن إليه.
وفيها سار الملك العادل من دمشق ووصل إلى حماة، ونزل على تل صفرون، وقام الملك المنصور صاحب حماة بجميع وظائفه، وكلفه، وبلغ الظاهر صاحب حلب وصول عمه العادل إلى حماة بنية قصده ومحاصرته بحلب، فاستعد للحصار بحلب، وراسل عمه ولاطفه وأهدى إليه، ووقعت بينهما مراسلات، ورقع الصلح، وانتزعت منه مفردة المعرة، واستقرت للمللث المنصور صاحب حماة وأخذت من الملك الظاهر أيضاً قلعة نجم، وسلمت إلى الملك الأفضل وكانت له سروج وسميساط، وسلم الملك العادل حران وما معها لولده الملك الأشرف مظفر الدين موسى، وسيره إلى الشرق، وكان بميافارقين الملك الأوحد بن الملك العادل، وبقلعة جعبر الملك الحافظ نور الدين أرسلان شاه بن الملك العادل، ولما استقر الصلح بين الملك العادل والظاهر، رجع الملك العادل إلى دمشق وأقام بها، وقد انتظمت المماليك الشامية والشرقية والديار المصرية كلها في سلك ملكه وخطب له على منابرها، وضربت السكة فيها باسمه.(3/101)
ذكر غير ذلك في هذه السنة عاد خوارزم شاه محمد بن تكش واسترجع البلاد التي أخذها الغورية من خراسان إلى ملكه.
وفيها توفي هبة الله بن علي بن مسعود بن ثابت المنستيري - بضم الميم وفتح النون وسكون السين المهملة وكسر التاء المثناة من فوقها وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها راء ومنستير بليدة بإفريقية. وكان هبة الله المذكور عالي الإسناد، ولم يكن في عصره من هو في درجته، سمع إبراهيم بن حاتم الأسدي، وسمع جماعة من الأكابر وسمع الناس على هبة الله المذكور، وسافروا إليه من البلاد لعلو إسناده، وكان جده مسعود قد قدم من منستير إلى بوصير، فعرف هبة الله المذكور بالبوصيري، وكانت ولادته سنة ست وخمسمائة.
ثم دخلت سنة تسع وتسعين وخمسمائة والملك العادل مقيم بدمشق. وفيها في المحرم توفي فلك الدين سلطان أخو الملك العادل لأمه، وهو الذي تنسب إليه المدرسة الفلكية بدمشق.
ذكر الحوادث باليمن كان قد تملك اليمن الملك المعز إسماعيل بن سيف الإسلام بن طغتكين بن أيوب وكان فيه هوج وخبط، فادعى أنه قرشي، وأنه من بني أمية، ولبس الخضرة، وخطب بنفسه، ولبس ثياب الخلافة في ذلك الزمان، وكان طول الكم نحو عشرين شبراً، وخرج عن طاعته جماعة من مماليك أبيه واقتتلوا معه، وانتصر عليهم، ثم اتفق معهم جماعة من الأمراء الأكراد وقتلوا المعز إسماعيل وأقاموا في مملكة اليمن أخاً له صغيراً، وسموه الناصر، وبقي مدة، وأقام بأتابكيته مملوك والده وهو سيف الدين سنقر، ثم مات سنقر بعد أربع سنين، وتزوج أم الناصر أمير من أمراء الدولة يقال له غازي بن جبرئل، وقام بأتابكية الناصر ثم سمّ الناصر في كوز فقاع على ما قيل، وبقي غازي متملكاً للبلاد، ثم قتله جماعة من العرب بسبب قتله للناصر بن طغتكين، وبقيت اليمن خاليه بغير سلطان، فتغلبت أم الناصر المذكور على زبيد، وأحرزت عندها الأموال، وكانت تنتظر وصول أحد من بني أيوب لتتزوج به وتملكه البلاد، وكان للملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب ولد اسمه سعد الدين شاهنشاه، وكان له ابن اسمه سليمان، فخرج سليمان بن شاهنشاه بن عمر فقيراً يحمل الركوة على كتفه، ويتنقل مع الفقراء من مكان إلى مكان، وكان قد أرسلت أم الناصر بعض غلمانها إلى مكة حرسها الله تعالى في موسم الحاج ليأتيها بأخبار مصر والشام، فوجد غلمانها سليمان المذكور، فأحضروه إلى اليمن، فاستحضرته أم الناصر وخلعت عليه وملكته اليمن، فملأ اليمن ظلماً وجوراً وأطرح زوجته التي ملكته البلاد، وأعرض عنها، وكتب إلى السلطان الملك العادل وهو عم جده كتاباً جعل في أوله أنه من سليمان، وأنه بسم الله الرحمن الرحيم،(3/102)
فاستقل الملك العادل عقله، ثم كان من سليمان المذكور ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وفي هذه السنة أرسل السلطان الملك العادل إلى ولده الملك الأشرف وأمره بحصار ماردين، فحصرها وضايقها، ثم سعى الملك الظاهر إلى الملك العادل في الصلح، فأجاب إلى أن يحمل إليه صاحب ماردين مائة ألف وخمسين ألف دينار، ويخطب له ببلاده، ويضرب السكة باسمه، ويكون بخدمته متى طلبه، فأجاب إلى ذلك واستقر الصلح عليه.
وفيها أخرج الملك العادل، الملك المنصور محمد بن العزيز من مصر إلى الشام، فسار بوالدته وإخوته وأقام بحلب عند عمه الملك الظاهر.
وفيها سار الملك المنصور صاحب حماة إلى بعرين مرابطاً للفرنج، وأقام بها، وكتب الملك العادل، إلى صاحب بعلبك وإلى صاحب حمص بإنجاده فأنجده، واجتمعت الفرنج من حصن الأكراد وطرابلس وغيرها، وقصدوا الملك المنصور ببعرين، واتقعوا معه في ثالث شهر رمضان من هذه السنة، واقتتلوا، فانهزم الفرنج وقتل وأسر من خيالتهم جماعة، وكان يوماً مشهوداً، وفي ذلك يقول بهاء الدين أسعد بن يحيى السنجاري قصيدة من جملتها:
ما لذة العيش إلا صوت معمعة ... ينال فيها المنى بالبيض والأسل
يا أيها الملك المنصور نصح فتى ... لم يلوه عن وفاء كثرة العذل
أعزم ولا تترك الدنيا بلا ملك ... وجد فالملك محتاج إلى رجل
يا أوحد العصر يا خير الملوك ومن ... فاق البرية من حاف ومنتعل
ثم خرج من حصن الأكراد والمرقب الإسبتار، وانضم إليهم جموع سن السواحل واتقعوا مع الملك المنصور صاحب حماة، وهو نازل ببعرين في الحادي والعشرين من شهر رمضان من هذه السنة، بعد الوقعة الأولى بثمانية عشر يوماً، فانتصر ثانياً، وانهزمت الفرنج هزيمة شنيعة، وأسر الملك المنصور وقتل منهم عدة كثيرة، ومدح المالك المنصور بسبب هذه الوقعة، سالم بن سعادة الحمصي بقصيدة منها:
أمر اللواحظ أن تفوق أسهماً ... ريم برامة ما رنا حتى رما
فتنة بالسحر بل فتاكة ... ما جار قاضيهن حين تحكما
ومنها:
أصبحت فيها مغرماً كمحمد ... لما غدا بالأريحية مغرما
ومنها:
وشننت منتقماً بساحل بحرها ... جيشاً حكى البحر الخضم عرمرما
أسدلت في الآفاق من هبواته ... ليلاً وأطلعت الأسنة أنجما
وفي هذه السنة ولد الملك المظفر تقي الدين محمود بن الملك المنصور محمد صاحب(3/103)
حماة، من ملكة خاتون بنت السلطان الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وسمي عمر، وإنما سمي محموداً بعد ذلك، وكانت ولادته بقلعة حماة ظهر يوم الثلاثاء رابع عشر رمضان من هذه السنة.
وفي هذه السنة أرسل الملك العادل وانتزع ما كان بيد الملك الأفضل، وهي رأس عين وسروج وقلعة نجم، ولم يترك بيده غير سميساط فقط، فأرسل الملك الأفضل والدته فدخلت على الملك المنصور صاحب حماة، ليرسل معها من يشفع في الملك الأفضل عند الملك العادل في إبقاء ما كان بيده، وتوجهت أم الملك الأفضل، وتوجه معها من حماة القاضي زين الدين ابن الهندي إلى الملك العادل، فلم يجبها الملك العادل، ورجعت خائبة، قال عز الدين ابن الأثير مؤلف الكامل، وقد عوقب البيت الصلاحي بمثل ما فعله والدهم السلطان صلاح الدين، لما خرجت إليه نساء بيت الأتابك، ومن جملتهن بنت نور الدين الشهيد، يشفعن في إبقاء الموصل على عز الدين مسعود فردهن ولم يجب إلى سؤالهن، ثم ندم رحمه الله تعالى على ردهن، فجرى للملك الأفضل بن السلطان صلاح الدين مع عمه مثل ذلك، ولما جرى ذلك قام الملك الأفضل بسميساط، وقطع خطبة عمه الملك العادل، وخطب للسلطان ركن الدين سليمان بن قليج أرسلان بن مسعود السلجوقي صاحب بلاد الروم.
ذكر وفاة غياث الدين ملك الغورية وفي هذه السنة في جمادى الأولى، توفي غياث الدين أبو الفتح محمد بن سام بن الحسين الغوري صاحب غزنة، وبعض خراسان، وغيرها، وكان أخوه شهاب الدين بطوس عازماً على قصد خوارزم، وخلف غياث الدين من الولد، ابناً اسمه محمود، ولقب غياث الدين بلقب والده، ولم يحسن شهاب الدين الخلافة على ابن أخيه ولا على غيره من أهله، وكان لغياث الدين زوجة يحبها، وكانت مغنية، فقبض عليها شهاب الدين بعد موت أخيه غياث الدين وضربها ضرباً مبرحاً، وأخذ أموالها، وكان غياث الدين مظفراً منصوراً، لم ينهزم له راية قط، وكان له دهاء ومكر، وكان حسن الاعتقاد كثير الصدقات، وكان فيه فضل غزير وأدب مع حسن خط وبلاغة، وكان ينسخ المصاحف بخطه ويوقفها في المدارس التي بناها، وكان على مذهب الكرامية، ثم تركه وصار شافعياً.
ذكر غير ذلك وفي هذه السنة استولى الكرج على مدينة دوين من أذربيجان، ونهبوها وقتلوا أهلها، وكانت هي وجميع أذربيجان للأمير أبي بكر بن البهلوان، وكان مشغولاً ليلاً ونهاراً بشرب الخمر، ولا يلتفت إلى تدبير مملكته، ووبخه أمراؤه ونوابه على ذلك فلم يلتفت.
وفيها توفيت زمرد أم الخليفة الإمام الناصر، وكانت كثيرة المعروف.
ثم دخلت سنة ستمائة(3/104)
والملك العادل بدمشق. وفيها كانت الهدنة بين الملك المنصور صاحب حماة وبين الفرنج. وفيها نازل ابن لاوون ملك الأرمن أنطاكية فتحرك الملك الظاهر صاحب حلب ووصل إلى حارم، فرحل ابن لاورن عن أنطاكية على عقبه.
وفيها خطب قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكي بن مودود صاحب سنجار للملك العادل ببلاده، وانتمى إليه، فصحب على ابن كمه نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود، وقصد نصيبين وهي لقطب الدين، واستولى على مدينتها، فاستنجد قطب الدين بالملك الأشرف ابن العادل، فسار إليه واجتمع معه أخوه الملك الأوحد صاحب ميافارقين، والتقى الفريقان بقرية يقال لها بوشرة، فانهزم نور الدين أرسلان شاه صاحب الموصل هزيمة قبيحة، ودخل إلى الموصل وليس معه غير أربعة أنفس، وكانت هذه الواقعة أول ما عرفت من سعادة الملك الأشرف بن الملك العادل، فإنه لم ينهزم له راية بعد ذلك، واستقرت بلاد قطب الدين محمد بن زنكي عليه، ووقع الصلح بينهم في أول سنة إحدى وستمائة.
وفيها اجتمع الفرنج لقصد بيت المقدس، فخرج السلطان الملك العادل من دمشق وجمع العساكر ونزل على الطور في قبالة الفرنج، ودام ذلك إلى آخر السنة. وفيها استولت الفرنج على قسطنطينية وكانت قسطنطينية بيد الروم من قديم الزمان، فلما كانت هذه السنة اجتمعت الفرنج وقصدتها في جموع عظيمة، وحاصروها فملكوها، وأزالوا يد الروم عنها، ولم تزل بأيدي الفرنج إلى سنة ستين وستمائة، فقصدتها الروم واستعادوها من الفرنج.
وفيها توفي السلطان ركن الدين سليمان بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان بن قطومش بن يبغو أرسلان بن سلجوق، سلطان بلاد الروم، في سادس ذي القعدة حسبما قدمنا ذكره في سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، وكان مرضه بالقولنج، وكان قبل مرضه بخمسة أيام قد غدر بأخيه صاحب أنكورية، وهي أنقرة، وكان ركن الدين المذكور يميل إلى مذهب الفلاسفة، ويحسن إلى طائفتهم ويقدمهم، ولما مات ركن الدين، ملك ولده قليج أرسلان ابن سليمان، وكان صغيراً، فلم يستثبت أمره، وكان ما سنذكره إلى شاء الله تعالى.
وفيها كان بين خوارزم شاه محمد بن تكش وبين شهاب الدين ملك الغورية قتال، انتصر فيه ملك الغورية، واستنجد خوارزم شاه بالخطا، فساروا واتقعوا مع شهاب الدين ملك الغورية. فهزموه، وشاع ببلاده أن شهاب الدين قتل، فاختلفت مملكته وكثر المفسدون، ثم إنه ظهر ووصل إلى غزنة واستقر في ملكه، وتراجعت الأمور إلى ما كانت عليه.
وفيها قتل كلجا مملوك البهلوان، وكان قد ملك الري وهمدان وبلاد الجبل، قتله خشداشه أيدغمش مملوك البهلوان، وتملك موضعه، وأقام أيدغمش ابن أستاذه أزبك بن البهلوان في الملك، وليس لأزبك غير الاسم، والحكم لأيدغمش.
وفيها استولى إنسان اسمه محمود بن محمد الحميري(3/105)
على طفار ومرباط وغيرهما من حضرموت. وفيها خرج أسطول للفرنج فاستولوا على مدينة فوه من الديار المصرية فنهبوها خمسة أيام.
وفيها كانت زلزلة عظيمة، عمت مصر والشام والجزيرة وبلاد الروم وصقلية وقبرس والعراق وغيرها، وخربت سور مدينة صور.
ثم دخلت سنة إحدى وستمائة: في هذه السنة كانت الهدنة بين الملك العادل والفرنج، وسلم إلى الفرنج يافا، ونزل عن مناصفات لد والرملة، ولما استقرت الهدنة، أعطى العساكر دستوراً، وسار الملك العادل إلى مصر وأقام بدار الوزارة.
وفيها أغارت الفرنج على حماة ووصلوا إلى قرب حماة، إلى قرية الرقيطا، وامتلأت أيديهم من المكاسب، وأسروا من أهل حماة شهاب الدين بن البلاعي، وكان فقيهاً شجاعاً تولى بر حماة مرة، وسلمية أخرى، وحمل إلى طرابلس، فهرب وتعلق بجبال بعلبك ووصل إلى أهله بحماة سالماً، ثم وقعت الهدنة بين الملك المنصور صاحب حماة وبين الفرنج.
وفيها بعد الهدنة توجه الملك المنصور صاحب حماة إلى مصر، وكان عنده استشعار من السلطان الملك العادل، فلما وصل إليه بالقاهرة أحسن إليه إحساناً كثيراً وأقام في خدمته شهوراً، ثم خلع عليه وعلى أصحابه وعاد إلى حماة.
وفيها ملك السلطان غياث الدين كيخسرو بن قليج أرسلان بلاد الروم، وكان لما تغلب أخوه ركن الدين سليمان بن قليج أرسلان على البلاد قد هرب كيخسرو المذكور إلى الملك الظاهر صاحب حلب، ثم تركه وسار إلى قسطنطينية، فأحسن إليه صاحبها، وأقام بالقسطنطينية إلى أن مات أخوه ركن الدين سليمان، وتولى ابنه قليج أرسلان، فسار كيخسرو من قسطنطينية وأزال أمر ابن أخيه، وملك بلاد الروم واستقر أمره.
وفيها كانت الحرب بين الأمير قتادة الحسيني أمير مكة، وبين الأمير سالم بن قاسم الحسيني أمير المدينة، وكانت الحرب بينهما سجالاً.
ثم دخلت سنة اثنتين وستمائة والملك العادل بالديار المصرية والممالك بحالها.
ذكر قتل ملك الغورية شهاب الدين في هذه السنة أول ليلة من شعبان قتل شهاب الدين أبو المظفر محمد بن سام بن الحسين الغوري ملك غزنة، وبعض خراسان، بعد عوده من لهاوور بمنزل يقال له دمبل، قبل صلاة العشاء، وثب عليه جماعة وهو بخركاته، وقد تفرق الناس عنه لأماكنهم فقتلوه بالسكاكين، قيل أنهم من الكوكير، وهم طائفة من أهل الجبال، مفسدون، كان شهاب الدين قد فتك فيهم، وقيل أنهم من الإسماعيلية، فإن شهاب الدين أيضاً كان كثير الفتك فيهم، واجتمع حرس شهاب الدين فقتلوا أولئك الذين قتلوا شهاب الدين عن آخرهم، وكان شهاب الدين شجاعاً كثير الغزو، عادلاً في الرعية، وكان الأمام فخر الدين الرازي يعظه في داره، فحضر يوماً ووعظه وقال في آخر كلامه: يا سلطان لا سلطانك يبقى، ولا تلبيس الرازي،(3/106)
فبكى شهاب الدين حتى رحمه الناس، ولما قتل شهاب الدين كان صاحب باميان بهاء الدين سام بن شمس الدين محمد بن مسعود عم غياث الدين، وشهاب الدين المذكور، فسار بهاء الدين سام ليتملك غزنة، ومعه ولداه علاء الدين محمد، وجلال الدين، ابنا سام بن محمد ابن مسعود بن الحسيني، فأدركت بهاء الدين سام الوفاة قبل أن يصل إلى غزنة، وعهد بالملك إلى ابنه علاء الدين محمد، فأتم علاء الدين وأخوه جلال الدين السير إلى غزنة ودخلاها وتملكها علاء الدين، وكان لغياث الدين ملك الغورية مملوك يقال له تاج الدين يلدز، وكانت كرمان إقطاعه، وهو كبير في الدولة، ومرجع الأتراك إليه، فسار يلدز إلى غزنة وهزم عنها علاء الدين محمد بن بهاء الدين سام، وأخاه جلال الدين، واستولى يلدز على غزنة ثم إن علاء الدين وجلال الدين ولدي بهاء الدين سام، سارا إلى باميان وجمعا العساكر وعادا إلى غزنة، فقاتلهما يلدز، فانتصرا عليه وانهزم يلدز إلى كرمان، واستقر علاء الدين محمد بن بهاء الدين سام ومعه بعض العسكر في ملك غزنة، وعاد أخوه جلال الدين في باقي العسكر إلى باميان، ثم إن يلدز لما بلغه مسير جلال الدين في باقي العسكر إلى باميان، وتأخر علاء الدين بغزنة، جمع العساكر من كرمان وغيرها وسار إلى غزنة، وبلغ علاء الدين محمد بن بهاء الدين سام ذلك، فأرسل إلى أخيه جلال الدين وهو بباميان يستنجده، وسار يلدز وحصر علاء الدين بغزنة، وسار جلال الدين فلما قارب غزنة رحل يلدز إلى طريقه، واقتتلا، فانهزم عسكر جلال الدين وأخذه يلدز أسيراً، فأكرمه يلدز واحترمه، وعاد إلى غزنة فحصر علاء الدين بها، وكان عنده بغزنة هندوخان بن ملكشاه بن خوارزم شاه تكش فاستنزلهما يلدز بالأمان، ثم قبض على علاء الدين وعلى هندوخان، وتسلم غزنة، وأما غياث الدين محمود بن غياث الدين محمد، ملك الغورية، فإنه لما قتل عمه شهاب الدين، كان ببست، فسار إلى فيرزكوه وتملكها وجلس في دست أبيه غياث الدين، وتلقب بألقابه، وفرح به أهل فيروزكوه، وسلك طريقة أبيه في الإحسان والعدل، ولما استقل يلدز بغزنة، وأسر جلال الدين وعلاء الدين ابني سام، كتب إلى غياث الدين محمود بن غياث الدين محمد بن سام بن الحسين بالفتح، وأرسل إليه الأعلام وبعض الأسرى.
ذكر غير ذلك في هذه السنة توفي الأمير مجير الدين طاشتكين أمير الحاج، وكان قد ولاه الخليفة على جميع خورستان، وكان خيراً صالحاً، وكان يتشيع.
وفيها تزوج أبو بكر بن البهلوان بابنة ملك الكرج، وذلك لاشتغاله بالشرب عن تدبير المملكة، فعدل إلى المصاهرة والهدنة، فكف الكرج عنه.
ثم دخلت سنة ثلاث وستمائة في هذه السنة سار الملك العادل من مصر إلى الشام، ونازل في طريقه عكا فصالحه أهلها على إطلاق جمع من الأسرى، ثم(3/107)
وصل إلى دمشق، ثم سار منها ونزل بظاهر حمص على بحيرة قدس، واستدعى العساكر فأتته من كل جهة، وأقام على البحيرة حتى خرج رمضان، ثم سار ونازل حصن الأكراد وفتح برج أعناز وأخذ منه سلاحاً ومالاً وخمسمائة رجل، ثم سار ونازل طرابلس ونصب عليها المجانيق، وعاث العسكر في بلادها، وقطع قناتها، ثم عاد في أواخر ذي الحجة إلى بحيرة قدس بظاهر حمص.
ذكر غير ذلك:
في هذه السنة أرسل غياث الدين محمود بن غياث الدين محمد ملك الغورية يستميل يلدز، مملوك أبيه المستولي على غزنة، فلم يجبه يلدز إلى ذلك، وطلب يلدز من غياث الدين أن يعتقه، فأحضر الشهود وأعتقه، وأرسل مع عتاقه هدية عظيمة، وكذلك أعتق أيبك المستولي على بلاد الهند، وأرسل نحو ذلك، فقبل كل منهما ذلك، وخطب له أيبك ببلاد الهند التي تحت يده، وأما يلدز فلم يخطب له، وخرج بعض العساكر عن طاعة يلدز لعدم طاعته لغياث الدين.
وفيها في ثالث شعبان ملك غياث الدين كيخسرو صاحب بلاد الروم، أنطاكية بالأمان، وهي مدينة للروم على ساحل البحر.
وفيها قبض عسكر خلاط على صاحبها ولد بكتمر، وكان أتابك قنلغ مملوك شاهرمن، فقبض عليه ابن بكتمر، فثارت عليه أرباب الدولة وقبضوه، وملكوا بلبان مملوك شاهرمن بن سقمان، صاحب خلاط، حسبما تقدم ذكره في سنه أربع وتسعين وخمسمائة.
ثم دخلت سنة أربع وستمائة والملك العادل نازل على بحيرة قدس، ثم وقع الهدنة بينه وبين صاحب طرابلس، وعاد الملك العادل إلى دمشق وأقام بها.
ذكر استيلاء الملك الأوحد نجم الدين أيوب ابن الملك العادل على خلاط في هذه السنة ملك الملك الأوحد أيوب بن الملك العادل خلاط، وكان صاحب خلاط بلبان حسبما قدمنا ذكره في سنة أربع وتسعين وخمسمائة، فسار الملك الأوحد من ميافارقين وملك مدينة موش، ثم اقتتل هو وبلبان صاحب خلاط، فانهزم بلبان واستنجد بصاحب أرزن الروم، وهو مغيث الدين طغريل شاه بن قليج أرسلان السلجوقي، فسار طغريل شاه واجتمع به بلبان، فهزما الملك الأوحد، ثم غدر طغريل شاه ببلبان فقتله غدراً، ليملك بلاده، وقصد خلاط فلم يسلموها إليه، وقصد منازكرد فلم تسلم إليه، فرجع طغريل شاه إلى بلاده، فكاتب أهل خلاط الملك الأوحد، فسار إليهم وتسلم خلاط وبلادها بعد إياسه منها، واستقر ملكه بها.
وفي هذه السنة لما استقر الملك العادل بدمشق،(3/108)
وصل إليه التشريف من الخليفة الإمام الناصر، صحبة الشيخ شهاب الدين السهروردي، فبالغ الملك العادل في إكرام الشيخ، والتقاه إلى القصير، ووصل من صاحبي حلب وحماة ذهب لينثر على الملك العادل إذا لبس الخلعة، فلبسها الملك العادل ونثر ذلك الذهب، وكان يوماً مشهوداً. والخلعة جبة أطلس أسود بطراز مذهب، وعمامة سوداء بطراز مذهب، وطوق ذهب مجوهر، تطوق به الملك العادل، وسيف جميع قرابه ملبس ذهباً، تقلد به، وحصان أشهب بمركب ذهب، ونشر على رأسه علم أسود مكتوب فيه بالبياض اسم الخليفة، ثم خلع رسول الخليفة على كل واحد من الملك الأشرف والملك المعظم ابني الملك العادل عمامة سوداء وثوباً أسود، واسع الكم، وكذلك على الوزير صفي الدين بن شكر، وركب الملك العادل وولداه ووزيره بالخلع ودخل القلعة، وكذلك وصل إلى الملك العادل مع الخلعة تقليد بالبلاد التي تحت حكمه، وخوطب الملك العادل فيه، شاهنشاه ملك الملوك خليل أمير المؤمنين، ثم توجه الشيخ شهاب الدين إلى مصر، فخلع على الملك الكامل بها، وجرى فيها نظير ما جرى في دمشق من الاحتفال، ثم عاد السهروردي إلى بغداد مكرماً معظماً.
وفي هذه السنة اهتم الملك العادل بعمارة قلعة دمشق، وألزم كل واحد من ملوك أهل بيته بعمارة برج من أبراجها.
ذكر قتال خوارزم شاه مع الخطا بما وراء النهر
في هذه السنة كاتبت ملوك ما وراء النهر، مثل ملك سمرقند، وملك بخارى، خوارزم شاه يشكون ما يلقونه من الخطا، ويبذلون له الطاعة والخطبة والسكة ببلادهم، إن دفع الخطا عنهم، فعبر علاء الدين محمد خوارزم شاه بن تكش، نهر جيحون. واقتتل مع الخطا، وكان بينهم عدة وقائع، والحرب بينهم سجال، واتفق في بعض الوقعات أن عسكر خوارزم شاه انهزم، وأخذ خوارزم شاه محمد أسيراً، وأسر معه شخص من أصحابه يقال له فلان بن شهاب الدين مسعود، ولم يعرفهما الخطاي الذي أسرهما، فقال ابن مسعود لخوارزم شاه: دع عنك المملكة وادع أنك غلامي واخدمني لعلي أحتال في خلاصك. فشرع خوارزم شاه يخدم ابن مسعود ويقلعه قماشه وخفه، ويلبسه، ويخدمه، فسأل الخطاي ابن مسعود من أنت؟ قال: أنا فلان، فقال له الخطاي: لولا أخاف من الخطا أطلقتك. فقال له ابن مسعود: إني أخشى أن ينقص خبركما عن أهلي فلا يعلمون بحياتي، وأشتهي أن أعلمهم بحالي لئلا يظنوا موتي ويتقاسموا مالي. فأجابه الخطاي إلى ذلك. فقال ابن مسعود أشتهي أن أبعث بغلامي هذا مع رسولك ليصدقوه. فأجابه إلى ذلك، وراح خوارزم شاه مع ذلك الشخص حتى قرب من خوارزم، فرجع الخطاي واستقر خوارزم شاه في ملكه، وتراجع إليه عسكره.
وكان لخوارزم شاه أخ يقال له علي شاه بن تكش، وكان نائب أخيه بخراسان، فلما بلغه عدم(3/109)
أخيه في الوقعة مع الخطا، دعى إلى نفسه بالسلطنة، واختلفت الناس بخراسان، وجرى فيها فتن كثيرة، فلما عاد خوارزمشاه محمد إلى ملكه، خاف أخوه علي شاه، فسار إلى غياث الدين محمود بن غياث الدين محمد، ملك الغورية، فأكرمه غياث الدين محمود وأقام علي شاه عنده بفيروزكوه.
ذكر قتل غياث الدين محمود وعلي شاه ولما استقر خوارزم شاه في ملكه، وبلغه ما فعله أخره علي شاه، أرسل عسكراً إلى قتال غياث الدين محمود الغوري، فسار العسكر إلى فيروزكوه مع مقدم يقال له أمير ملك، فسار إلى فيروزكوه، وبلغ ذلك محسوداً، فأرسل يبذل الطاعة ويطلب الأمان، فأعطاه أمير ملك الأمان، فخرج غياث الدين محمود من فيروزكوه ومعه علي شاه، فقبض عليهما أمير ملك، وأرسل يعلم خوارزمشاه بالحال، فأمره بقتلهما، فقتلهما في يوم واحد.
واستقامت خراسان كلها لخوارزم شاه محمد بن تكش، وذلك في سنة خمس وستمائة، وهذا غياث الدين محمود بن غياث الدين محمد بن سام بن الحسين، هو آخر الملوك الغورية، وكانت دولتهم من أحسن الدول، وكان هذا محمود كريماً عادلاً رحمة الله عليه، ثم إن خوارزم شاه محمداً، لما خلا سيره من جهة خراسان عبر النهر وسار إلى الخطا، وكان وراء الخطا في حدود الصين، التتر، وكان ملكهم حينئذ يقال له كشلي خان، وكان بينه وبين الخطا عداوة مستحكمة، فأرسل كل من كشلي خان ومن الخطا يسأل خوارزم شاه أن يكون معه على خصمه، فأجابهما خوارزم شاه بالمغلطة، وانتظر ما يكون منهما، فاتقع كشلي خان والخطا، فانهزمت الخطا، فمال عليهم خوارزم شاه وفتك فيهم، وكذلك فعل كشلي خان بهم، فانقرضت الخطا ولم يبق منهم إلا من اعتصم بالجبال أو استسلم، وصار في عسكر خوارزم شاه.
ثم دخلت سنة خمس وستمائة والملك العادل بدمشق، وعنده ولداه الملك الأشرف والمعظم.
ذكر قدوم الأشرف إلى حلب متوجهاً إلى بلاده الشرقية
وفي هذه السنة توجه الملك الأشرف موسى بن الملك العادل من دمشق، راجعاً إلى بلاده الشرقية، ولما وصل إلى حلب، تلقاه صاحبها الملك الظاهر وأنزله بالقلعة، وبالغ في إكرامه، وقام للأشرف ولجميع عسكره بجميع ما يحتاجون إليه من الطعام والشراب والحلوى والعلوفات، وكان يحمل إليه في كل يوم خلعة كاملة، وهي: غلالة وقباً وسراويل وكمة وفروة وسيف وحصان ومنطقة ومنديل وسكين ودلكش، وخمس خلع لأصحابه. وأقام على ذلك خمسة وعشرين يوماً، وقدم له تقدمة، وهي مائة ألف درهم، ومائة بقجة، مع مائة مملوك، فمنها عشر بقج في كل واحدة منها ثلاثة أثواب أطلس، وثوبان خطاي، وعلى كل بقجة جلد قندس كبير، ومنها عشرة، في كل واحدة منها عشرة أثواب عتابي خوارزمي، وعلى كل(3/110)
بقجة جلد قندس كبير، ومنها. عشرة، في كل واحدة خمسة أثواب عتابي بغدادي وموصلي، وعليها عشرة جلود قندس صغار، ومنها عشرون في كل واحدة خمس قطع مرسوسي وديبقي، ومنها أربعون في كل واحدة منها خمسة أقبية وخمس كمام، وحمل إليه خمس حصن عربية بعدتها، وعشرين أكديشاً، وأربعة قطر بغال، وخمس بغلات فائقات بالسروج واللجم المكفنة، وقطارين من الجمال، وخلع على أصحابه مائة وخمسين خلعة، وقاد إلى أكثرهم بغلات وأكاديش.
ثم سار الملك الأشرف إلى بلاده.
وفي هذه السنة أمر الملك الظاهر صاحب حلب، بإجراء القناة، من حيلان إلى حلب، وغرم على ذلك أموالاً كثيرة، وبقي البلد يجري الماء فيه.
وفي هذه السنة وصل غياث الدين كيخسرو بن قليج أرسلان السلجوقي صاحب بلاد الروم إلى مرعش، لقصد بلاد ابن لارون الأرمني، وأرسل إليه الملك الظاهر نجدة، فدخل كيخسرو إلى بلاد ابن لاوون، وعاث فيها ونهب، وفتح حصناً يعرف بفرقوس.
ذكر مقتل صاحب الجزيرة في هذه السنة قتل معز الدين سنجرشاه بن سيف الدين غازي بن مودود بن عماد الدين بن زنكي بن أقسنقر، صاحب جزيرة ابن عمر، وقد تقدم ذكر ولايته في سنة ست وسبعين وخمسمائة، قتله ابنه غازي.
وكان سنجرشاه ظالماً قبيح السيرة جداً، لا يمتنع عن قبيح يفعله، من القتل وقطع الألسنة والأنوف والآذان وحلق اللحى، وتعدى ظلمه إلى أولاده وحريمه، فبعث ابنيه، محموداً، ومودوداً إلى قلعة، فحبسهما فيها، وحبس ابنه المذكور غازي في دار في المدينة، وضيق عليه، وكان بتلك الدار هوام كثيرة، فاصطاد غازي المذكور منها حية وأرسلها إلى أبيه في منديل لعله يرق عليه، فلم يزده ذلك إلا قسوة، فأعمل غازي الحيلة حتى هرب، وكان له واحد يخدمه، فقرر معه أن يسافر، ويظهر أنه غازي ابن معز الدين سنجرشاه، ليأمنه أبوه، فمضى ذلك الإنسان إلى الموصل، فأعطى شيئاً وسافر منها، واتصل ذلك بسنجر شاه فاطمأن، وتوصل ابنه غازي حتى دخل إلى دار أبيه واختفى عند بعض سراري أبيه، وعلم به جماعة منهم. وكتموا ذلك عن سنجرشاه لبغضهم فيه، واتفق أن سنجرشاه شرب يوماً بظاهر البلد، وشرع يقترح على المغنين الأشعار الفراقية وهو يبكي، ودخل داره سكران إلى عند الحظية التي ابنه مختبئ عندها، ثم قام معز الدين سنجرشاه ودخل الخلاء، فهجم عليه ابنه غازي فضربه أربع عشرة ضربة بالسكين، ثم ذبحه وتركه ملقى، ودخل غازي الحمام وقعد يلعب مع الجواري، فلو أحضر الجند واستحلفهم في ذلك الوقت، لتم له الأمر وملك البلاد، ولكنه تنكر واطمأن، فخرج بعض الخدم وأعلم أستاذ(3/111)
الدار، فجمع الناس وهجم على غازي وقتله، وحلف العسكر لأخيه محمود بن سنجرشاه، ولقب معز الدين بلقب أبيه، ووصل معز الدين محمود بن سنجر شاه بن زنكي واستقر ملكه بالجزيرة، وقبض على جواري أبيه فغرقهن في دجلة، ثم قبض محمود بعد ذلك أخاه مودوداً.
ثم دخلت سنة ست وستمائة في هذه السنة سار الملك العادل من دمشق، وقطع الفرات، وجمع العساكر والملوك من أولاده، ونزل حران، ووصل إليه بها الملك الصالح محمود بن محمد بن قرا أرسلان الأرتقي، صاحب آمد وحصن كيفا، وسار الملك العادل من حران ونازل سنجار وبها صاحبها قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكي بن مودود بن عماد الدين زنكي، فحاصرها وطال الأمر في ذلك.
ثم خامرت العساكر التي صحبة الملك العادل، ونقض الملك الظاهر صاحب حلب الصلح معه، فرحل عن سنجار وعاد إلى حران، واستولى الملك العادل على نصيبين، وكانت لقطب الدين محمد المذكور، وكذلك استولى على الخابور.
وفي هذه السنة توفي الملك المؤيد نجم الدين مسعود ابن السلطان صلاح الدين. وفيها توفي الإمام فخر الدين محمد بن عمر، خطيب الري، بن الحسين بن الحسن بن علي التيمي البكري الطبرستاني الأصل، الرازي المولد، الفقيه الشافعي، صاحب التصانيف المشهورة.
قال ابن الأثير: وبلغني أن مولده سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وكان فخر الدين المذكور مع فضائله يعظ، وله فيه اليد الطولى، وكان يعظ باللسانين العربي والعجمي، ويلحقه في الوعظ الوجد والبكاء، وكان أوحد زمانه في المعقولات والأصول، واشتغل في أول زمانه على والده، ثم قصد الكمال السمعاني واشتغل عليه، ثم عاد إلى الري واشتغل على المجد الجيلي، وسافر إلى خوارزم، وما وراء النهر، وجرى له بكردكوه ما تقدم ذكره، وأخرج منها بسبب الكرامية، واتصل بشهاب الدين الغوري صاحب غزنة، وحصل له منه مال طائل، ثم عاد فخر الدين إلى خراسان واتصل بالسلطان خوارزم شاه محمد بن تكش، وحظي عنده، ولفخر الدين نظم حسن فمنه:
نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
وكم قد رأينا من رجال ودولة ... فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا
وكانت العلماء يقصدونه من البلاد، وتشد إليه الرحال، وقصده ابن عنين الشاعر ومدحه بقصائد.
وفيها في سلخ ذي الحجة، توفي مجد الدين بن السعادات المبارك بن محمد بن عبد الكريم، ومولده سنة أربع وأربعين وخمسمائة، المعروف بابن الأثير، أخو عز الدين علي المؤرخ، مؤلف الكامل في التاريخ، وكان مجد الدين المذكور عالماً بالفقه والأصولين،(3/112)
والنحو والحديث، واللغة، وله تصانيف مشهورة، وكان كاتباً مفلقاً.
وفيها توفي المجد المطرز النحوي الخوارزمي، وكان إماماً في النحو، وله فيه تصانيف حسنة.
ثم دخلت سنة سبع وستمائة فيها عاد السلطان الملك العادل من البلاد الشرقية إلى دمشق، وفيها قصدت الكرج خلاط، وحصروا الملك الأوحد بن الملك العادل بها، واتفق أن ملك الكرج شرب وسكر، فحسن له السكر أنه تقدم إلى خلاط في عشرين فارساً، فخرجت إليه المسلمون، فتقنطر وأخذ أسيراً وحمل إلى الملك الأوحد، فرد على الملك الأوحد عدة قلاع، وبذل إطلاق خمسة آلاف أسير ومائة ألف في ينار، وعقد الهدنة مع المسلمين ثلاثين سنة، وشرط أن يزوج ابنته بالملك الأوحد، فتسلم ذلك منه وأقام وتحالفا وأطلق.
ذكر وفاة نور الدين صاحب الموصل في هذه السنة توفي نور الدين أرسلان شاه بن عز الدين مسعود بن مودود بن عماد الدين زنكي بن أقسنقر صاحب الموصل، في آخر رجب، وكان مرضه قد طال، وملك الموصل سبع عشرة سنة وأحد عشر شهراً. ولما اشتد مرضه انحدر إلى العين القيارة ليستحم بها، وعاد إلى الموصل في سبارة، فتوفي في الطريق ليلاً، وكان أسمر حسن الوجه، قد أسرع إليه الشيب، وكان شديد الهيبة على أصحابه، وكان عنده قلة صبر في أموره.
واستقر في ملكه بعده ولده الملك القاهر عز الدين مسعود بن أرسلان شاه بن مسعود، وكان عمر القاهر عشر سنين، وقام بتدبير مملكته بدر الدين لؤلؤ، وكان لؤلؤ مملوك والده أرسلان شاه وأستاذ داره، وهذا لؤلؤ هو الذي ملك الموصل على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، وكان لأرسلان شاه ولد آخر أصغر من القاهر، اسمه عماد الدين زنكي، ملكه أبوه قلعتي العقر وشوش، وهما بالقرب من الموصل.
ذكر غير ذلك:
وفي هذه السنة وردت رسل الخليفة الناصر لدين الله إلى ملوك الأطراف، أن يشربوا له كأس الفتوة، ويلبسوا له سراويلها، وأن ينتسبوا إليه في رمي البندق، ويجعلوه قدوتهم فيه.
وفيها سار الملك العادل بعد وصوله إلى دمشق، ومقامه، إلى الديار المصرية، وأقام بدار الوزارة. وفيها توفي فخر الدين جهاركس، مقدم الصلاحية وكبيرهم.
ذكر وفاة الملك الأوحد صاحب خلاط في هذه السنة توفي الملك الأوحد أيوب ابن الملك العادل، فسار أخوه الملك الأشرف وملك خلاط، واستقل بملكها، مضافاً إلى ما بيده من البلاد الشرقية، فعظم شأنه، ولقب شاهرمن.
وفي هذه السنة قتل غياث الدين كيخسرو صاحب بلاد الروم، قتله ملك الأشكري،(3/113)
وملك بعده ابنه كيكاؤوس بن كيخسرو بن قليج أرسلان حسبما تقدم ذكره، في سنة ثمان وثمانين وخمسمائة.
ثم دخلت سنة ثمان وستمائة في هذه السنة قبض الملك المعظم عيسى بن الملك العادل، على عز الدين أسامة صاحب قلعتي كوكب وعجلون، بأمر أبيه الملك العادل، وحبسه في الكرك إلى أن مات بها، وحاصر القلعتين المذكورتين وتسلمهما من غلمان أسامة، وأمر الملك العادل بتخريب كوكب وتعفية أثرها، فخربت وبقيت خراباً، وأبقى عجلون، وانقرضت الصلاحية بهذا. وملك الملك المعظم بلاد جهاركس، وهي بانياس وما معها، لأخيه شقيقه الملك العزيز عماد الدين عثمان ابن الملك العادل، وأعطى صرخد مملوكه عز الدين أيبك المعظمي.
وفي هذه السنة عاد الملك العادل إلى الشام، وأعطى ولده الملك المظفر غازي الرها مع ميافارقين. وفيها أرسل الملك الظاهر، القاضي بهاء الدين بن شداد إلى الملك العادل، فاستعطف خاطره وخطب ابنته ضيفة خاتون، ابنة الملك العادل، فزوجها من الملك الظاهر، وزال ما كان بينهما من الأحن.
وفيها أظهر الكيا جلال الدين حسن، صاحب الألموت، وهو من ولد بن الصباح، شعائر الإسلام، وكتب به إلى جميع قلاع الإسماعيلية بالعجم والشام، فأقيمت فيها شعائر الإسلام.
وفيها توفي أبو حامد محمد بن يونس بن منعة، الفقيه الشافعي، بمدينة الموصل، وكان إماماً فاضلاً، وكان حسن الأخلاق. وفيها توفي القاضي السعيد، المعروف بابن سنا الملك، وهو هبة الله بن جعفر بن سنا الملك السعدي، الشاعر المشهور، المصري، أحد الفضلاء الرؤساء صاحب النظم الفائق، وكان كثير التنعم، وافر السعاده، محظوظاً من الدنيا، مدح توران شاه أخا السلطان صلاح الدين بقصيدة مطلعها:
تقنعت لكن بالحبيب المعمم ... وفارقت لكن كل عيش مذمم
فهجن بعض الفضلاء هذا المطلع وعابوه، ومن شعره أيضاً:
لا الغصن يحكيك ولا الجوذر ... حسنك مما كثروا أكثر
يا باسماً أهدى لنا ثغرة ... عقداً ولكن كله جوهر
قال لي اللاحي أما تستمع ... فقلت للاحي أما تبصر
ثم دخلت سنة تسع وستمائة في هذه السنة في المحرم، عقد الملك الظاهر على ضيفة خاتون بنت الملك العادل، وكان المهر خمسين ألف في ينار، وتوجهت من دمشق في المحرم إلى حلب، فاحتفل الملك الظاهر لملتقاها، وقدم لها أشياء كثيرة نفيسة.
وفيها عمر الملك العادل قلعة الطور، وجمع لها الصناع من البلاد، والعسكر حتى تمت.
وفي هذه السنة سار طغريل شاه بن قليج أرسلان صاحب أرزن الروم، وحاصر ابن أخيه سلطان الروم كيكاؤوس بسيواس، فاستنجد كيكاؤوس بالأشرف بن الملك العادل، فخاف عمه طغريل(3/114)
ورحل عنه، وكان لكيكاؤوس أخ اسمه كيقباذ، فلما جرى ما ذكرناه، سار كيقباذ واستولى على أنكورية من بلاد أخيه كيكاؤوس، فسار كيكاؤوس وحصره وفتح أنكورية وقبض على أخيه كيقباذ وحبسه، وقبض على أمرائه وحلق لحاهم ورؤوسهم، وأركب كل واحد منهم فرساً، وأركب قدامه وخلفه قحبتين، وبيد كل منهما معلاق تصفعه به، وبين يدي كل واحد منهم مناد ينادي: هذا جزاء من خان سلطانهم.
ثم دخلت سنة عشر وستمائة في هذه السنة ظفر عز الدين كيكاؤوس كيخسرو صاحب بلاد الروم بعمه طغريل شاه، فأخذ بلاده وقتله، وذبح أكثر أمرائه وقصد قتل أخيه علاء الدين كيقباذ، فشفع فيه بعض أصحابه، فعفا عنه. وفيها في رمضان توفي بحلب فارس الدين ميمون القصري، وهو آخر من بقي من كبراء الأمراء الصلاحية، وهو منسوب إلى قصر الخلفاء بمصر، كان قد أخذه السلطان صلاح الدين من هناك.
وفيها ولد للملك الظاهر من ضيفة خاتون بنت الملك العادل، ولده الملك العزيز غياث الدين محمد وفي هذه السنة قتل أيدغمش مملوك البهلوان، وكان قد غلب على المملكة، وهي همذان والجبال، قتله خشداش له، من البهلوانية، اسمه منكلي، وكان أيدغمش قد هرب منه والتجأ إلى الخليفة في سنة ثمان وستمائة، ورجع أيدغمش في هذه السنة إلى جهة همذان، فقتل واستقل منكلي بالملك.
وفي هذه السنة في شعبان، توفي ملك المغرب محمد الناصر بن يعقوب المنصور بن يوسف ابن عبد المؤمن، وكانت مدة مملكته نحو ست عشرة سنة، وكان أشقر أسيل الخد، دائم الإطراق، كثير الصمت، للثغة كانت في لسانه، وقد تقدم ذكر ولايته في سنة خمس وتسعين وخمسمائة. ولما مات محمد الناصر المذكور، ملك بعده ولده يوسف، وتلقب بالمستنصر أمير المؤمنين بن محمد الناصر بن يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن، وكنيته أبو يعقوب.
وفيها، وقيل في السنة التي قبلها، توفي علي بن محمد بن علي، المعروف بابن خروف النحوي الأندلسي الإشبيلي، شرح كتاب سيبويه شرحاً جيداً، وشرح الجمل للزجاجي.
وفيها توفي عيسى بن عبد العزيز المجزولي، بمراكش، وكان إماماً في النحو، صنف مقدمته الجزولية، وسماها القانون، أتى فيها بالعجائب، واعتنى بها جماعة من الفضلاء، وأكثر النحاة يعترفون بقصور إفهامهم عن إدراك مراده منها، فإنها كلها رموز وإشارات، قدم الجزولي المذكور إلى ديار مصر، على ابن بري النحوي، ثم عاد إلى الغرب، والجزولي - بضم الجيم - منسوب إلى جزولة، وهي بطن من البربر، ويقال لها كزولة أيضاً، وشرح مقدمته في مجلد كبير أتى فيه بغرائب وفوائد.
ثم دخلت سنة إحدى عشر وستمائة في هذه السنة توفي دلدرم بن ياررق، صاحب تل باشر، وولي تل باشر بعده ابنه فتح الدين. وفيها توفي الشيخ علي بن أبي بكر الهروي وله التربة المعروفة شمالي حلب، وكان عارفاً بأنواع الحيل والشعبذة والسيماوية، تقدم عند الملك الظاهر غازي صاحب حلب،(3/115)
وله أشعار كثيرة، وتغرب في البلاد، ودار غالب المعمورة.
وفيها أسرت التركمان ملك الأشكري، وهو قاتل غياث الدين كيخسرو، فحمل إلى ابنه كيكاؤوس بن كيخسرو، فأراد قتله، فبذل له في نفسه أموالاً عظيمة، وسلم إلى كيكاؤوس قلاعاً وبلاد لم يملكها المسلمون قط.
وفيها عافى الملك العادل من الشام إلى مصر. وفيها توفي الدكز عبد السلام بن عبد الوهاب ابن عبد القادر الجبلي ببغداد، ولي عدة ولايات، وكان يتهم بمذهب الفلاسفة، اعتقل قبل موته، وأظهرت كتبه وفيها الكفريات، مثل مخاطبة زحل وغيره بالإلهية، وأحرقت، ثم شفع فيه أبوه، فأفرج عنه وعاد إلى أعماله.
وفيها توفي في شوال عبد العزيز بن محمود بن الأخضر، وله سبع وثمانون سنة، وهو من فضلاء المحدثين.
ثم دخلت سنة اثنتي عشر وستمائة.
ذكر استيلاء الملك المسعود ابن الملك الكامل ابن الملك العادل على اليمن قد تقدم ذكر استيلاء سليمان بن سعد الدين شاهنشاه بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، في سنة تسع وتسعين وخمسمائة على اليمن، وأنه ملأها ظلماً وجوراً، وأنه أطرح زوجته التي ملكته، فلما جاءت هذه السنة، بعث الملك الكامل ابن الملك العادل، ابنه الملك المسعود يوسف، المعروف بأقسيس، إلى اليمن، ومعه جيش، فاستولى الملك المسعود على اليمن، وظفر بسليمان المذكور صاحب اليمن، وبحث به معتقلاً إلى مصر، فأجرى له الملك الكامل ما يقوم به، ولم يزل سليمان المذكور مقيماً بالقاهرة إلى سنة سبع وأربعين وستمائة، فخرج إلى المنصورة غازياً، فقتل شهيداً.
وفي هذه السن توفي الأمير علي بن الإمام الناصر، ووجد عليه الخليفة وجداً عظيماً، وأكثر الشعراء من المراثي فيه. وفي هذه السنة تجمعت العساكر من بغداد وغيرها، وقصدوا منكلي صاحب همذان وأصفهان والري وما بينهما من البلاد، فانهزم وفتل في ساوه، وتولى موضعه أغلمش، أحد المماليك البهلوانية أيضاً. وفيها في شعبان ملك خوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش مدينة غزنة وأعمالها، وأخذها من يلدز مملوك شهاب الدين الغوري، فهرب يلدز إلى لهاوور من الهند، واستولى عليها، ثم سار يلدز عن لهاوور واستولى على بعض بلاد الهند الداخلة تحت حكم قطب الدين أيبك، خشداش يلدز المذكور، فجرى بينه وبين عسكر قطب الدين أيبك مصاف، فقتل فيه يلدز، وكان يلدز حسن السيرة في الرعية، كثير الإحسان إليهم.
وفيها توفي الوجيه المبارك بن أبي الأزهر سعيد بن الدهان، النحوي لضرير، وكان فاضلاً قرأ على ابن الأنباري وغيره، وكان حنبلياً، فصار حنفياً، ثم صار شافعياً، فقال فيه أبو البركات يزيد التكريتي:
ألا مبلغ عني الوجيه رسالة ... وإن كان لا تجدي إليه الرسائل(3/116)
تمذهبت للنعمان بعد ابن حنبل ... وفارقته إذ أعوزتك المآكل
وما اخترت رأي الشافعي تديناً ... ولكنما تهوى الذي هو حاصل
وعما قليل أنت لا شك صائر ... إلى مالك فافطن بما أنا قائل
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وستمائة: ذكر وفاة الملك الظاهر غازي ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب حلب ولما كانت صبيحة يوم السبت، وهو الخامس والعشرون من جمادى الأولى، من هذه السنة، ابتدأ بالملك الظاهر المذكور حمى حادة، ولما اشتد مرضه، أحضر القضاة والأكابر، وكتب نسخة يمين أن يكون الملك بعده لولده الصغير، الملك العزيز، ثم بعده لولده الكبير، الملك الصالح صلاح الدين أحمد بن غازي، وبعدهما لابن عمهما الملك المنصور محمد بن العزيز عثمان ابن السلطان صلاح الدين. وحلف الأمراء والأكابر على ذلك، وجعل الحكم في الأموال والقلاع إلى شهاب الدين ظغريل الخادم، وأعذق به جميع أمور الدولة، وفي الثالث عشر من جمادى الآخرة، أقطع الملك الظافر خضر، المعروف بالمستمر، كفر سودا، وأخرج من حلب في ليلته بالتوكيل، وأخرج علم الدين قيصر، مملوك الملك الظاهر إلى حارم نائباً. وفي خامس عشر جمادى الآخرة اشتد مرض الملك الظاهر، ومنع الناس الدخول إليه، وتوفي في ليلة الثلاثاء العشرين من جمادى الآخرة، وكان مولده بمصر في نصف رمضان، سنة ثمان وستين وخمسمائة، فكان عمره أربعاً وأربعين سنة وشهوراً، وكانت مدة ملكه لحلب من حين وهبها له أبوه، إحدى وثلاثين سنة. وكان فيه بطش وإقدام على سفك الدماء، ثم أقصر عنه، وهو الذي جمع شمل البيت الناصري الصلاحي، وكان ذكياً فطناً، وترتب الملك العزيز في المملكة، ورجع الأمور كلها إلى شهاب الدين طغريل الخادم، فدبر الأمور، وأحسن السياسة، وكان عمر الملك العزيز لما قرر في المملكة سنتين وأشهراً، وعمر أخيه الملك الصالح نحو اثنتي عشر سنة.
وفي هذه السنة توفي تاج الدين زيد بن الحسين بن زيد الكندي. وكان إماماً في النحو واللغة، وله الإسناد العالي في الحديث، وكان ذا فنون كثيرة في أنواع العلم، وهو بغدادي المولد والمنشأ، وانتقل وأقام بدمشق.
ثم دخلت سنة أربع عشرة وستمائة والسلطان الملك العادل بالديار المصرية، وقد اجتمعت الفرنج من داخل البحر، ووصلوا إلى عكا في جمع عظيم، ولما بلغ الملك العادل ذلك خرج بعساكر مصر وسار حتى نزل على نابلس، فسارت الفرنج إليه، ولم يكن معه من العساكر ما يقدر به على مقاتلتهم، فاندفع قدامهم إلى عقبة أفيق، فأغاروا على بلاد المسلمين، ووصلت غارتهم إلى نوى من بلد السواد، ونهبوا ما بين بيسان ونابلس، وبثوا سراياهم فقتلوا وغنموا من(3/117)
المسلمين ما يفوت الحصر، وعادوا إلى مرج عكا، وكان قوة هذا النهب ما بين منتصف رمضان وعيد الفطر من هذه السنة، وأقام الملك العادل بمرج الصفر، وسارت الفرنج وحصروا حصن الطور، وهو الذي بناه الملك العادل على ما تقدم ذكره، ثم رحلوا عنه وانقضت السنة، والفرنج بجموعهم في عكا.
ذكر غير ذلك في هذه السنة سار خوارزم شاه علاء الدين حمد بن تكش إلى بلاد الجبل وغيرها فملكها، فمنها ساوه، وقزوين، وزنجان، وأبهر، وهمذان، وأصفهان، وقم، وقاشان. ودخل أزبك بن البهلوان صاحب أذربيجان وآران في طاعة خوارزم شاه؛ وخطب له ببلاده. ثم عزم خوارزم شاه على المسير إلى بغداد للاستيلاء عليها، وقدم بعض العسكر بين يديه، وسار خوارزم شاه في إثرهم عن همذان يومين أو ثلاثة فسقط عليهم من الثلج مالم يسمع بمثله، فهلكت دوابهم، وخاف من حركة التتر على بلاده، فولى على البلاد التي استولى عليها وعاد إلى خراسان، وقطع خطبة الخليفة الإمام الناصر في بلاد خراسان في سنة خمس عشرة وستمائة، وكذلك قطعت خطبة الخليفة من بلاد ما وراء النهر، وبقيت خوارزم وسمرقند وهراة لم يقطع الخطبة منها، فإن أهل هذه البلاد كانوا لا يلتزمون بمثل هذا، بل يخطبون لمن يختارون ويفعلون نحو ذلك.
ثم دخلت سنة خمس عشرة وستمائة والملك العادل بمرج الصفر، وجموع الفرنج بمرج عكا، ثم ساروا منها إلى الديار المصرية ونزلوا على دمياط، وسار الملك الكامل ابن الملك العادل من مصر ونزل قبالتهم واستمر الحال كذلك أربعة أشهر، وأرسل الملك العادل العساكر التي عنده إلى عند ابنه الملك الكامل، فوصلت إليه أولاً فأولاً، ولما اجتمعت العساكر عند الملك الكامل، أخذ في قتال الفرنج، ودفعهم عن دمياط.
ذكر وفاة الملك القاهر صاحب الموصل في هذه السنة توفي الملك القاهر عز الدين مسعود بن أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن عماد الدين زنكي بن أقسنقر، صاحب الموصل، وكانت وفاته لثلاث بقين من ربيع الأول، وكانت مدة ملكه سبع سنين وتسعة أشهر، وانقرض بموته ملك البيت الأتابكي، وخلف ولدين، أكبرهما اسمه أرسلان شاه، وكان عمره حينئذ نحو عشر سنين، فأوصى بالملك له، وأن يقوم بتدبير مملكته بدر الدين لؤلؤ، فنصب بدر الدين لؤلؤ في المملكة، وجعل. الخطبة والسكة باسمه، وقام لؤلؤ بتدبر المملكة أحسن قيام.(3/118)
ذكر قصد كيكاؤوس بن كيخسرو صاحب بلاد الروم حلب ولما مات الملك الظاهر صاحب حلب وأجلس ابنه العزيز في المملكة، وكان طفلاً، طمع صاحب بلاد الروم كيكاؤوس في الاستيلاء على حلب، فاستدعى الملك الأفضل صاحب سميساط، واتفق معه كيكاؤوس أن يفتح حلب وبلادها، ويسلمها إلى الملك الأفضل، ثم يفتح البلاد الشرقية التي بيد الملك الأشرف ابن الملك العادل، ويتسلمها كيكاؤوس، وتحالفا على ذلك.
وسار كيكاؤوس إلى جهة حلب معه الملك الأفضل، روصلا إلى رعبان، واستولى عليها كيكاؤوس، وسلمها إلى الملك الأفضل، فمالت إليه قلوب أهل البلاد لذلك، ثم سار إلى تل باشر وبها ابن دلدرم، ففتحها ولم يسلمها إلى الملك الأفضل، وأخذها كيكاؤوس لنفسه، فنفر خاطر الملك الأفضل وخواطر أهل البلاد بسبب ذلك، ووصل الملك الأشرف ابن الملك العادل إلى حلب لدفع كيكاؤوس عن البلاد، ووصل إليه بها الأمير مانع بن حديثه أمير العرب في جمع عظيم، وكان قد سار كيكاؤوس إلى منبج وتسلمها بنفسه أيضاً، وسار الملك الأشرف بالجموع التي معه ونزل وادي بزاعا واتقع بعض عسكره مع مقدمة عسكر كيكاؤوس، فانهزمت مقدمة عسكر كيكاؤوس، وأخذ من عسكر كيكاؤوس عدة أسرى فأرسلوا إلى حلب، ودقت البشائر لها، ولما بلغ ذلك كيكاؤوس وهو بمنبج ولى منهزماً مرعوباً، وتبعه الملك الأشرف يتخطف أطراف عسكره، ثم حاصر الأشرف تل باشر واسترجعها، كذلك استرجع رعبان وغيرها، وتوجه الملك الأفضل إلى سميساط ولم يتحرك بعدها في طلب ملك إلى أن مات سنة اثنتين وعشرين وستمائة على وما سنذكره إن شاء الله تعالى، وعاد الملك الأشرف إلى حلب وقد بلغه وفاة أبيه.
ذكر وفاة السلطان الملك العادل أبي بكر بن أيوب كان الملك العادل نازلاً بمرج الصفر، وقد أرسل العساكر إلى ولده الملك الكامل بالديار المصرية، ثم رحل للملك العادل من مرج الصفر إلى عالقين، وهي عند عقبة أقبق، فنزل بها ومرض واشتد مرضه، ثم توفي هناك إلى رحمة الله تعالى سابع جمادى الآخرة، من هذه السنة، أعني سنة خمس عشرة وستمائة، وكان مولده سنة أربعين وخمسمائة، وكان عمره خمساً وسبعين سنة، وكانت مدة ملكه لدمشق ثلاثاً وعشرين سنة، وكانت مدة ملكه لمصر نحو تسع عشرة سنة، وكان الملك العادل رحمه الله تعالى، حازماً متيقظاً، غزير العقل، سديد الآراء، ذا مكر وخديعة، وصبوراً حليماً لسمع ما يكره، ويغضي عنه، وأتته السعادة واتسع ملكه، وكثرت أولاده، ورأى فيهم ما يحب، ولم ير أحد من الملوك الذين اشتهرت أخبارهم، في أولاده، من الملك والظفر ما رآه الملك العادل في أولاده، ولقد أجاد شرف الدين بن عنين في قصيدته التي مدح بها الملك العادل التي مطلعها:(3/119)
ماذا على طيف الأحبة لو سرى ... وعليهم لو سامحوني بالكرى
ومنها:
العادل الملك الذي أسماؤه ... في كل ناحية تشرف منبرا
ما في أبي بكر لمعتقد الهدى ... شك يريب بأنه خير الورى
بين الملوك الغابرين وبينه ... في الفضل ما بين الثريا والثرى
نسخت خلائقه الحميدة ما أتى ... في الكتب عن كسرى الملوك وقيصرا
ومنها في وصف أولاده:
لا تسمعن حديث ملك غيره ... يروى فكل الصيد في جوف الفرا
وله الملوك بكل أرض منهم ... ملك يجر إلى الأعادي عسكرا
من كل وضاح الجبين تخاله ... بدراً فإن شهد الوغى فغضنفرا
وخلف الملك العادل ستة عشر ولداً ذكراً غير البنات، ولما توفي الملك العادل لم يكن عنده أحد من أولاده حاضراً، فحضر إليه ابنه الملك المعظم عيسى، وكان بنابلس بعد وفاته، وكتم موته وأخذه ميتاً في محفة وعاد به إلى دمشق، واحتوى الملك المعظم على جميع ما كان مع أبيه من الجواهر والسلاح والخيول وغير ذلك. ولما وصل دمشق، حلف جميع الناس له، وأظهر موت أبيه، وجلس للعزاء وكتب إلى الملوك من أخوته وغيرهم يخبرهم بموته، وكان في خزانة الملك العادل لما توفي سبع ألف دينار عيناً، ولما بلغ الملك الكامل موت أبيه وهو في قتال الفرنج، عظم عليه ذلك جداً، واختلفت العسكر عليه، فتأخر عن منزلته، وطمعت الفرنج ونهبت بعض أثقال المسلمين، وكان في العسكر عماد الدين أحمد بن سيف الدين علي ابن أحمد المشطوب، وكان مقدماً عظيماً في الأكراد الهكارية، فعزم على خلع الملك الكامل من السلطنة، وحصل في العسكر اختلاف كثير، حتى عزم الملك الكامل على مفارقة البلاد واللحوق باليمن، وبلغ الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل ذلك، فرحل من الشام، ووصل إلى أخيه الملك الكامل، وأخرج عماد الدين بن المشطوب ونفاه من العسكر إلى الشام، فانتظم أمر السلطان الملك الكامل، وقوى مضايقة الفرنج لدمياط، وضعف أهلها بسبب ما ذكرناه من الفتنة التي حصلت في عسكر الملك الكامل، من ابن المشطوب.
ذكر استيلاء عماد الدين زنكي بن أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن عماد الدين زنكي أقسنفر على بعض القلاع المضافة إلى مملكة الموصل قد تقدم في سنة سبع وستمائة أن أرسلان شاه عند وفاته، جعل مملكة الموصل لولده(3/120)
القاهر مسعود، وأعطى ولده الأصغر عماد الدين زنكي المذكور قلعتي العقر وشوش، فلما مات أخوه القاهر، وأجلس ولده أرسلان شاه بن القاهر في المملكة، وكان به قروح، وأمراض، تحرك عمه عماد الدين زنكي بن أرسلان شاه وقصد العمادية واستولى عليها، ثم استولى على قلاع الهكارية والروران، فاستنجد بدر الدين لؤلؤ المستولي على ملك الموصل وتدبير أرسلان شاه، بالملك الأشرف ابن الملك العادل، ودخل في طاعته، فأنجده الملك الأشرف بعسكر، وساروا إلى زنكي بن أرسلان شاه فهزموه، وكان زنكي المذكور من وجا ببنت مظفر الدين كوكبوري صاحب أربل، وأم البنت ربيعة خاتون بنت أيوب، أخت السلطان الملك العادل، زوجة مظفر الدين، فكان مظفر الدين لا يترك ممكناً في نجدة صهره زنكي المذكور، ويبالغ في عداوة بدر الدين لؤلؤ لأجل صهره.
وفي هذه السنة توفي علي بن نصر بن هرون النحوي الحلي، الملقب بالحجة، قرأ على ابن الخشاب وغيره. وفيها توفي محمد، وقيل أحمد بن محمد ابن محمد العميدي، الفقيه الحنفي، السمرقندي، الملقب ركن الدين، كان إماماً في فن الخلاف، خصوصاً الحسب، وله فيه طريقة مشهورة، وصنف الإرشاد، واعتنى بشرح طريقته جماعة، منهم القاضي شمس الدين أحمد بن خليل بن سعادة الشافعي الجويني، قاضي دمشق. وبدر الدين المراغي المعروف بالطويل، واشتغل على العميدي خلق كثير، وانتفعوا به، منهم نظام الدين أحمد بن محمود بن أحمد الحنفي المعروف بالحصيري، ونظام الدين الحصيري المذكور، قتله التتر بنيسابور عند أول خروجهم في سنة ست عشرة وستمائة، ولم يقع لنا هذه النسبة، أعني العميدي إلى ماذا.
ثم دخلت سنة ست عشرة وستمائة والملك الأشرف مقيم بظاهر حلب يدبر أمر جندها وإقطاعاتها، والملك الكامل بمصر في مقابلة الفرنج، وهم محدقون محاصرون لثغر دمياط، وكتب الملك الكامل متواصلة إلى إخوته في طلب النجدة.
ذكر وفاة نور الدين صاحب الموصل
وفي هذه السنة توفي نور الدين أرسلان شاه ابن الملك القاهر مسعود بن أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن عماد الدين زنكي بن أقسنقر، وكان لا يزال مريضاً، فأقام بدر الدين لؤلؤ في الملك بعده، أخاه ناصر الدين محمود ابن الملك القاهر، وكان عمره يومئذ نحو ثلاث سنين، وهو آخر من خطب له من بيت أتابك، بالسلطنة، وكان أبو القاهر آخر من كان له استقلال بالملك منهم، ثم إن هذا الصبي مات بعد مدة، واستقل بدر الدين لؤلؤ بالملك، وأتته السعادة، وطالت مدة ملكه إلى أن توفي بالموصل، بعد أخذ التتر بغداد، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.(3/121)
ذكر وفاه صاحب سنجار وقد تقدم ذكر ولايته في سنة أربع وتسعين وخمسمائة. وفي هذه السنة توفي قطب الدين محمد ابن عماد الدين زنكي بن مودود بن عماد الدين زنكي بن أقسنقر صاحب سنجار، فملك سنجار بعده ولده عماد الدين شاهنشاه بن محمد، وكان قطب الدين حسن السيرة في رعيته، وبقي عماد الدين شاهنشاه في الملك شهوراً، ثم وثب عليه أخوه محمود بن محمد فذبحه وملك سنجار، وهذا محمود هو آخر من ملك سنجار من البيت الأتابكي.
ذكر تخريب القدس وفي هذه السنة أرسل الملك المعظم عيسى بن الملك العادل صاحب دمشق الحجارين، والنقابين إلى القدس، فخرب سواره، وكانت قد حصنت إلى الغاية، فانتقل منه عالم عظيم، وكان سبب ذلك أن الملك المعظم لما رأى قوة الفرنج تغلبهم على دمياط خشي أن يقصدوا القدس، فلا يقدر على منعهم، فخربه لذلك.
ذكر استيلاء الفرنج على دمياط ولم تزل الفرنج يضايقون دمياط حتى هجموها في هذه السنة عاشر رمضان، وقتلوا وأسروا من بها، وجعلوا الجامع كنيسة، واشتد طمع الفرنج في الديار المصرية، وحين أخذت دمياط ابتنى الملك الكامل مدينة وسماها المنصورة، عند مفترق البحرين الآخذ أحدهما إلى دمياط والآخر إلى أشمون طناخ، ونزل فيها بعساكره.
ذكر ظهور التتر وفي هذه السنة كان ظهور التتر، وقتلهم في المسلمين، ولم ينكب المسلمون بأعظم مما نكبوا في هذه السنة، فمن ذلك ما كان من تمكن الفرنج بملكهم دمياط، وقتلهم أهلها، وأسرهم. ومنه المصيبة الكبرى، وهو ظهور التتر وتملكهم في المدة القريبة أكثر بلاد الإسلام، وسفك دمائهم، وسبي حريمهم وذراريهم، ولم تفجع المسلمون مذ ظهر دين الإسلام بمثل هذه الفجيعة.
وفي هذه السنة خرجوا على علاء الدين محمد خوارزم شاه بن تكش، وعبروا نهر جيحون، ومعهم ملكهم جنكزخان، لعنه الله تعالى، فاستولوا على بخارى رابع ذي الحجة من هذه السنة بالأمان، وعصت عليهم القلعة فحاصروها وملكوها، وقتلوا كل من بها. ثم قتلوا أهل البلد عن آخرهم. من تاريخ ظهور التتر تأليف محمد بن أحمد بن علي المنشي النسوي كاتب إنشاء جلال الدين قال: إن مملكة الصين مملكة متسعة، دورها ستة أشهر، وقد انقسمت من قديم الزمان ستة أجزاء، كل جزء منها مسيرة شهر، يتولى أمره(3/122)
خان، وهو الملك بلغتهم، نيابة عن خانهم الأعظم، وكان خانهم الكبير الذي عاصر خوارزم شاه محمد بن تكش، يقال له الطون خان، وقد توارث الخانية كابراً عن كابر، بل كافراً عن كافر، ومن عادة خانهم الأعظم الإقامة بطوغاج، وهي واسطة الصين، وكان من زمرتهم في عصر المذكور شخص يسمى دوشي خان، وهو أحد الخانات المتولي أحد الأجزاء الستة، وكان مزوجاً بعمة جنكزخان اللعين، وقبيلة جنكزخان اللعين هي المعروفة بقبيلة التمرجي، سكان البراري، ومشتاهم موضع يسمى أرغون، وهم المشهورون بين التتر بالشر والغدر، ولم تر ملوك الصين إرخاء عنانهم لطغيانهم، فاتفق أن دوشي خان زوج عمة جنكزخان مات، فحضر جنكزخان إلى عمته زائراً ومعزياً، وكان الخانان المجاوران لعمل دوشي خان المذكور، يقال لأحدهما كشلوخان، وللآخر فلان خان، فكانا يليان ما يتاخم عمل دوشي خان المذكور المتوفي من الجهتين، فأرسلت امرأة دوشي خان إلى كشليخان، والخان الآخر، تنعي إليهما زوجهما دوشي خان، وأنه لم يخلف ولداً، وأنه كان حسن الجوار لهما، وأن ابن أخيها جنكزخان إن أقيم مقامه يحذو حذو المتوفي في معاضدتهما، فأجابها الخانان المذكوران إلى ذلك، وتولى جنكزخان ما كان لدوشي خان المتوفي من الأمور، بمعاضدة الخانين المذكورين، فلما أنهي الأمر إلى الخان الأعظم، الطون خان، أنكر تولية جنكزخان واستحقره، وأنكر على الخانين اللذين فعلا ذلك، فلما جرى ذلك خلعوا طاعة الطون خان، وانضم إليهم كل من هو من عشائرهم، ثم اقتتلوا مع الطون خان، فولى منهزماً، وتمكنوا من بلاده، ثم أرسل الطون خان وطلب منهم الصلح، وأن يبقوه على بعض البلاد، فأجابوه إلى ذلك وبقي جنكزخان والخانان الآخران مشتركين في الأمر، فاتفق موت الخان الواحد، واستقل بالأمر جنكزخان وكشلوخان، ثم مات كشلوخان، وقام ابنه ولقب بكشلوخان أيضاً، مقامه، فاستضعف جنكزخان جانب كشلوخان بن كشلوخان لصغره وحداثة سنه، وأخل بالقواعد التي كانت مقررة بينه وبين أبيه، فانفرد كشلوخان عن جنكزخان وفارقه لذلك، ووقع بينهما الحرب، فجرد جنكزخان جيشاً مع ولده دوشي خان بن جنكزخان، فسار دوشي خان واقتتل مع كشلوخان، فانتصر دوشي خان وانهزم كشلوخان وتبعه دوشي خان وقتله، وعاد إلى جنكزخان برأسه، فانفرد جنكزخان بالمملكة.
ثم إن جنكزخان راسل خوارزم شاه محمد بن تكش في الصلح، فلم ينتظم، فجمع جنكزخان عساكره والتقى مع خوارزم شاه محمد، فانهزم خوارزم شاه فاستولى جنكزخان على بلاد ما وراء النهر، ثم تبع خوارزم شاه محمداً، وهو هارب بين يديه، حتى دخل بحر طبرستان، ثم استولى جنكزخان على البلاد، ثم كان من خوارزم شاه ومن جنكزخان ما سنذكره إن شاء الله تعالى.(3/123)
ذكر توجه الملك المظفر محمود ابن صاحب حماة إلى مصر وموت والدته في هذه السنة حلف الملك المنصور، صاحب حماة، الناس، لولده الملك المظفر محمود، وجعله ولي عهده، وجرد معه عسكراً، والطواشي مرشد المنصوري، نجدة إلى الملك الكامل بديار مصر، فسار إليه، ولما وصل إلى الملك الكامل أكرمه وأنزله في ميمنة عسكره، وهي منزلة أبيه وجده في الأيام الناصرية الصلاحية. وبعد توجه الملك المظفر ماتت والدته ملكة خاتون، بنت الملك العادل، قال القاضي جمال الدين، مؤلف مفرج الكروب: وحضرت العزاء وعمري اثنتا عشرة سنة، ورأيت الملك المنصور وهو لابس الحداد على زوجته المذكورة، وهو ثوب أزرق وعمامة زرقاء، وأنشدته الشعراء المراثي، فمن ذلك قصيدة قالها حسام الدين خشترين، وهو جندي كردي، مطلعها.
الطرف في لجة، والقلب في سعر ... له دخان زفير طار بالشرر
ومنها في لبس الملك المنصور الحداد عليها:
ما كنت أعلم أن الشمس قد غربت ... حتى رأيت الدجى ملقى على القمر
لو كان من مات يفدى قبلها لفدى ... أم المظفر آلاف من البشر
ذكر وفاة كيكاؤوس وملك أخيه كيقباذ في هذه السنة توفي الملك الغالب عز الدين كيكاؤوس بن كيخسرو بن قليج أرسلان بن مسعود ابن قليج أرسلان صاحب بلاد الروم، وقد تقدم ذكر ولايته في سنة سبع وستمائة، وكان قد تعلق به مرض السل، واشتد مرضه ومات. فملك بعده أخوه كيقباذ بن كيخسرو، وكان كيقباذ محبوساً، قد حبسه أخوه كيكاؤوس، فأخرجه لجند وملكوه.
ذكر غير ذلك وفي هذه السنة توفي أبو البقاء عبد الله بن الحسين بن عبد الله العكبري، الضرير النحوي الحاسب اللغوي، وكان حنبلياً، صحب ابن الخشاب النحوي وغيره. وفيها توفي أبو الحسن علي بن القاسم بن علي بن الحسن الدمشقي، الحافظ بن الحافظ بن الحافظ، المعروف بابن عساكر، وكان قد قصد خراسان وسمع بها الحديث، فأكثر وعاد إلى بغداد، وكان قد وقع على القفل الذي هو فيه، في الطريق، حرامية، وجرحوا ابن عساكر المذكور، ووصل على تلك الحال إلى بغداد، وبقي بها حتى توفي في هذه السنة في جمادى الأولى، رحمه الله.
ثم دخلت سنة سبع عشرة وستمائة والفرنج متملكون على دمياط،(3/124)
والسلطان الملك الكامل مستقر في المنصورة مرابط للجهاد، والملك الأشرف في حران. وكان الملك الأشرف قد أقطع عماد الدين أحمد بن سيف الدين علي بن أحمد المشطوب، رأس عين، فخرج على الملك الأشرف، وجمع ابن المشطوب المذكور جمعاً، وحسن لصاحب سنجار محمود بن قطب الدين، الخروج عن طاعة الأشرف أيضاً، فخرج بدر الدين لؤلؤ من الموصل، وحصر ابن المشطوب بتل أعفر، وأخذه بالأمان.
ثم قبض عليه وأعلم الملك الأشرف بذلك، فسر به غاية السرور، واستمر عماد الدين أحمد بن سيف الدين بن المشطوب في الحبس. ثم سار الملك الأشرف من حران واستولى على في نيسر، وقصد سنجار، فأتته رسل صاحبها محمود بن قطب الدين، يسأل أن يعطى الرقة عوض سنجار، ليسلم سنجار إلى الملك الأشرف، فأجاب الملك الأشرف إلى ذلك وتسلم سنجار في مستهل جمادى الأولى، وسلم إليه الرقة.
وهذا كان من سعادة الملك الأشرف، فإن أباه الملك العادل نازل سنجار في جموع عظيمة، وطال عليها مقامه، فلم يملكها، وملكها ابنه الملك الأشرف بأهون سعي، وبعد أن فرغ الملك الأشرفي من سنجار، سار إلى الموصل ووصل إليها في تاسع عشر جمادى الأولى، وكان يوم وصوله إليها يوماً مشهوداً. وكتب إلى مظفر الدين صاحب إربل يأمره أن يعيد صهره عماد الدين زنكي بن أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن عماد الدين زنكي، على بدر الدين لؤلؤ القلاع التي استولى عليها، فأعادها جميعها، وترك في يده منها العمادية، واستقر الصلح بين الملك الأشرف وبين مظفر الدين كوكبوري صاحب إربل، وعماد الدين زنكي بن أرسلان شاه صاحب العقر، وشوش والعمادية. وكذلك استقر الصلح بينهم وبين صاحب الموصل بدر الدين لؤلؤ.
ولما استقر ذلك رحل الملك الأشرف عن الموصل ثاني شهر رمضان من هذه السنة، وعاد إلى سنجار، وسلم بدر الدين لؤلؤ قلعة تلعفر إلى الملك الأشرف، ونقل الملك الأشرف ابن المشطوب من حبس الموصل وحطه مقيداً في جب بمدينة حران حتى مات، سنة تسع عشرة وستمائة، ولقي بغيه وخروجه مرة بعد أخرى.
ذكر وفاة الملك المنصور صاحب حماة
وفي هذه السنة توفي الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب صاحب حماة، بقلعة حماة، في ذي القعدة، وكانت مدة مرضه إحدى وعشرين يوماً، بحمى حادة وورم دماغه. وكان شجاعاً عالماً يحب العلماء، ورد إليه منهم جماعة كثيرة، مثل الشيخ سيف الدين علي الآمدي، وكان في خدمة الملك المنصور قريب مائتي متعمم من النحاة والفقهاء والمشتغلين بغير ذلك، وصنف الملك المنصور عدة مصنفات، مثل: المضمار في التاريخ، وطبقات الشعراء. وكان معتنياً بعمارة بلده، والنظر في مصالحه،(3/125)
وهو الذي بنى الجسر الذي هو بظاهر حماة خارج باب حمص، واستقر له بعد وفاة والده من البلاد: حماة والمعرة وسلمية ومنبج وقلعة نجم، ولما فتح بارين وكانت بيد إبراهيم بن المقدم، ألزمه عمه السلطان الملك العادل أن يردها عليه، فأجاب إلى تسليم منبج وقلعة نجم عوضاً عنها، وهما خير من بارين بكثير، واختار ذلك لقرب بارين من بلده، وجرت له حروب مع الفرنج، وانتصر فيها، وكان ينظم الشعر.
ذكر استيلاء الملك الناصر ابن الملك المنصور على حماة ولما توفي الملك المنصور، كان ولده الملك المظفر المعهود إليه بالسلطنة، عند خاله الملك الكامل لديار مصر، في مقابلة الفرنج، وكان ولده الآخر الملك الناصر صلاح الدين قليج أرسلان، عند خاله الآخر الملك المعظم صاحب في دمشق، وهو في الساحل في الجهاد، وقد فتح قيسارية وهدمها، وسار إلى عثليث ونازلها، وكان الوزير بحماة زين الدينا بن فريج، فاتفق هو والكبراء على استدعاء الملك الناصر، لعلمهم بلين عريكته، وشدة بأس الملك المظفر، فأرسلوا إلى الملك الناصر وهو مع الملك المعظم كما ذكرنا، فمنعه الملك المعظم من التوجه إلا بتقرير مال عليه، يحمله إلى الملك المعظم في كل سنة، قيل أن مبلغه أربعمائة ألف درهم، فلما جاب الملك الناصر إلى ذلك، وحلف عليه، أطلقه الملك المعظم، فقدم الملك الناصر إلى حماة واجتمع بالوزير زين الدين بن فريج، والجماعة الذين كاتبوه، فاستحلفوه على ما أرادوا وأصعدوه إلى القلعة، ثم ركب من القلعة بالسناجق السلطانية، وكان عمره إذ ذاك سبع عشرة سنة، لأن مولده سنة ستمائة.
ولما استقر الملك الناصر في ملك حماة، وبلغ أخاه الملك المظفر ذلك، استأذن الملك الكامل في المضي إلى حماة، ظناً منه أنه إذا وصل إليها يسلمونها إليه بحكم الأيمان التي كانت له في أعناقهم، فأعطاه الملك الكامل الدستور، وسار الملك المظفر حتى وصل إلى الغور، فوجد خاله الملك المعظم صاحب دمشق هناك، فأخبره أن أخاه الملك الناصر قد ملك حماة، ويخشى عليه أنه إن وصل إليه يعتقله، فسار الملك المظفر إلى دمشق وأقام بداره المعروفة بالزنجيلي، وكتب الملك المعظم والملك المظفر إلى أكابر حماة في تسليمها إلى الملك المظفر، فلم يحصل منهم إجابة، فعاد الملك المظفر إلى مصر وأقام في خدمة الملك الكامل، وأقطعه إقطاعاً بمصر إلى أن كان ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر استيلاء الملك المظفر شهاب الدين غازي ابن الملك العادل على خلاط وميافارقين كان قد استقر بيد الملك المظفر المذكور، الرها وسروج، وكانت ميافارقين وخلاط بيد(3/126)
الملك الأشرف، ولم يكن للملك الأشرف ولد، فجعل أخاه الملك المظفر غازي ولي عهده، وأعطاه ميافارقين وخلاط وبلادها، وهي إقليم عظيم يضاهي ديار مصر، وأخذ الملك الأشرف منه الرها وسروج.
وفي هذه السنة توفي بالموصل الشيخ صدر الدين محمد بن عمر بن حمويه، شيخ الشيوخ بمصر والشام، وكان فقيهاً فاضلاً من بيت كبير بخراسان، وخلف أربعة بنين عرفوا بأولاد الشيخ، تقدموا عند السلطان الملك الكامل، وسنذكر بعض أخبارهم في موضعها إن شاء الله تعالى، وكان الشيخ صدر الدين المذكور، قد توجه رسولاً إلى بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، فمات هناك.
ذكر مسير التتر إلى خوارزم شاه وانهزامه وموته
لما ملك التتر سمرقند، أرسل جنكزخان، لعنه الله، عشرين ألف فارس في أثر خوارزم شاه محمد بن تكش، وهذه الطائفة يسميها التتر المغربة، لأنها سارت نحو غرب خراسان، فوصلوا إلى موضع يقال له بنح آو وعبروا هناك نهر جيحون وصاروا مع خوارزم شاه في بر واحد، فلم يشعر خوارزم شاه وعسكره إلا والتتر معه، فتفرق عسكره وذهبوا أيدي سبا، ورحل خوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش لا يلوى على شيء في نفر من خواصه، ووصل إلى نيسابور والتتر في إثره، فلما قربوا منه رحل خوارزم شاه إلى مازندران. والتتر في إثره لا يلتفتون إلى شيء من البلاد، ولا إلى غير ذلك، بل قصدهم إدراك خوارزم شاه. وسار من مازندران إلى مرسى من بحر طبرستان تعرف باسكون، وله هناك قلعة في البحر، فعبر هو وأصحابه إليها، فوقف التتر على ساحل البحر وأيسوا من اللحاق بخوارزم شاه.
ولما استقر خوارزم شاه بهذه القلعة، توفي فيها، وهو علاء الدين محمد بن علاء الدين تكش ابن أرسلان بن أطسز بن محمد بن أنوشتكين غرشه، وكانت مدة ملكه إحدى وعشرين سنة وشهوراً، واتسع ملكه وغم محله، ملك من حد العراق إلى تركستان، وملك بلاد غزنة وبعض الهند، وملك سجستان وكرمان وطبرستان وجرجان وبلاد الجبال وخراسان وبعض فارس، وكان فاضلاً عالماً بالفقه والأصول وغيرهما، وكان صبوراً على التعب وإدمان السير، وسنذكر شيئاً من أخباره عند ذكر مقتل ولده جلال الدين.
ولما أيس التتر من إدراك خوارزم شاه عادوا إلى مازندران، ففتحوها وقتلوا أهلها، ثم ساروا إلى الري وهمذان ففعلوا كذلك من الفتك والسبي، ثم ملكوا مراغة، في صفر سنة ثمان عشرة وستمائة، ثم ساروا إلى حران واستولوا عليها، ونازلوا خوارزم، وقاتلهم أهلها مدة أشد قتال، ثم فتحوها، وكان لها سد في نهر جيحون ففتحوه، وركب خوارزم الماء فغرقها، وفعلوا في هذه البلاد جميعها من قتل أهلها وسبي ذراريهم وقتل العلماء والصلحاء والزهاد والعباد، وتخريب الجوامع، وتحريق(3/127)
المصاحف، ما لم يسمع بمثله في تاريخ قبل الإسلام، ولا بعده، فإن واقعة بخت نصر مع بني إسرائيل لا تنسب إلى بعض ما فعله هؤلاء، فإن كل واحدة من المدن التي أخربوها أعظم من القدس بكثير، وكل أمة قتلوهم من المسلمين أضعاف بني إسرائيل الذين قتلهم بخت نصر.
ولما فرغ التتر من خراسان عادوا إلى ملكهم، فجهز جيشاً كثيفاً إلى غزنة، وبها جلال الدين منكبرني بن علاء الدين محمد خوارزم شاه المذكور مالكاً لها، وقد اجتمع إليه جمع كثير من عسكر أبيه، قيل كانوا ستين ألف مقاتل، وكان الجيش الذي سار إليهم من التتر اثني عشر ألفاً، فالتقوا مع جلال الذين واقتتلوا قتالاً شديداً، وأنزل الله نصره على المسلمين، وانهزمت التتر، وتبعهم المسلمون يقتلونهم كيف شاؤوا.
ثم أرسل جنكزخان لعنه الله عسكراً أكثر من أول مع بعض أولاده، ووصلوا إلى كابل، وتصافف معهم المسلمون، فانهزم التتر ثانياً وقتل المسلمون فيهم وغنموا شيئاً كثيراً، وكان في عسكر جلال الدين أمير كبير مقدام، هو الذي كسر التتر على الحقيقة، يقال له بغراق، وقع بينه وبين أمير كبير يقال له ملكخان، وهو صاحب هراة، وله نسب إلى خوارزم شاه، فتنة بسبب المكسب، قتل فيها أخو بغراق، فغضب بغراق وفارق جلال الدين وسار إلى الهند، وتبعه ثلاثون ألف فارس، ولحقه جلال الدين منكبرني واستعطفه، فلم يرجع، فضعف عسكر جلال الدين بسبب ذلك، ثم وصل جنكزخان اللعين بنفسه في جيوشه، وقد ضعف جلال الدين بما نقص من جيوشه بسبب بغراق، فلم يكن له بجنكزخان قدرة، فترك جلال الدين البلاد وسار إلى الهند، وتبعه جنكزخان حتى أدركه على ماء عظيم، وهو نهرالسند، ولم يلحق جلال الدين ومن معه أن يعبروا النهر، فاضطروا إلى القتال، وجرى بينهم وبين جنكزخان قتال عظيم لم يسمع بمثله، وصبر الفريقان، ثم تأخر كل منهما عن صاحبه، فعبر جلال الدين ذلك النهر إلى جهة الهند، وعاد جنكزخان فاستولى على غزنة وقتلوا أهلها ونهبوا أموالهم.
وكان قد سار من التتر فرقة عظيمة إلى جهة القفجاق واقتتلوا معهم، فهزمهم التتر واستولوا على مدينة القفجاق العظمى، وتسمى سوادق، وكذلك فعلوا بقوم يقال لهم اللكزي، بلادهم قرب دربند شروان، ثم سار التتر إلى الروس، وانضم إلى الروس القفجاق، وجرى بينهم وبين التتر قتال عظيم انتصر فيه التتر عليهم، وشردوهم قتلاً وهرباً في البلاد.
وفيها في شوال توفي رضي الدين المؤيد بن محمد بن علي الطوسي الأصل النيسابوري الدار، المحدث، وكان أعلى المتأخرين إسناداً، سمع كتاب مسلم من الفقيه أبي عبد الله محمد بن الفضل القراوي، وكان القراوي فاضلاً قرأ الأصول على إمام الحرمين، وسمع القراوي المذكور صحيح مسلم على عبد الغافر الفارسي، وكان عبد الغافر إماماً في الحديث، صنف شرح مسلم وغيره، وتوفي محمد بن الفضل(3/128)
القراوي سنة ثلاثين وخمسمائة، وتوفي عبد الغافر في سنة تسع وعشرين وخمسمائة، وكانت ولادة رضي الدين المؤيد المذكور في سنة أربع وعشرين وخمسمائة، ظناً.
ثم دخلت سنة ثمان عشرة وستمائة: ذكر عود دمياط إلى المسلمين وفي هذه السنة قوي طمع الفرنج المتملكين دمياط في ملك الديار المصرية، وتقدموا عن دمياط إلى جهة مصر، ووصلوا إلى المنصورة، واشتد القتال بين الفريقين براً وبحراً، وكتب السلطان الملك الكامل متواترة إلى إخوته وأهل بيته يستحثهم على إنجاده، فسار الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل صاحب دمشق إلى أخيه الملك الأشرف، وهو ببلاده الشرقية، واستنجده وطلب منه المسير إلى أخيهما الملك الكامل، فجمع الملك الأشرف عساكره واستصحب عسكر حلب، وكذلك استصحب معه الملك الناصر قليج أرسلان ابن الملك المنصور صاحب حماة، وكان الملك الناصر خائفاً من السلطان، الملك الكامل، أن ينتزع حماة منه ويسلمها إلى أخيه الملك المظفر، فحلف الملك الأشرف للملك الناصر صاحب حماة أنه ما يمكن أخاه السلطان الملك الكامل من التعرض إليه، فسار معه بعسكر حماة، وكذلك سار صحبة الملك الأشرف كل من صاحب بعلبك الملك الأمجد، بهرام شاه بن فرخشاه بن شاهنشاه ابن أيوب، وصاحب حمص الملك المجاهد شيركوه بن محمد بن شيركوه بن شاذي، وسار الملك المعظم عيسى بعسكر دمشق، ووصلوا إلى الملك الكامل وهو في قتال الفرنج على المنصورة، فركب والتقى أخويه ومن في صحبتهما من الملوك، وأكرمهم، وقويت نفوس المسلمين، وضعفت نفس الفرنج بما شاهدوه من كثرة عساكر الإسلام وتحملهم، واشتد القتال بين الفريقين، ورسل الملك كامل وأخويه مترددة إلى الفرنج في الصلح، وبذل المسلمون لهم تسليم القدس وعسقلان وطبرية واللاذقية وجبلة، وجميع ما فتحه السلطان صلاح الدين من الساحل، مما عدا الكرك والشوبك، على أن يجيبوا إلى الصلح ويسلموا دمياط إلى المسلمين، فلم يرض الفرنج بذلك، وطلبوا ثلاثمائة ألف دينار، عوضاً عن تخريب أسوار القدس، فإن الملك المعظم عيسى خربها كما تقدم ذكره، وقالوا لا بد من تسليم الكرك والشوبك.
وبينما الأمر متردد في الصلح، والفرنج ممتنعون من الصلح، إذ عبر جماعة من عسكر المسلمين في بحر المحلة، إلى الأرض التي عليها الفرنج من بر دمياط، ففجروا فجرة عظيمة من النيل، وكان ذلك في قوة زيادته، والفرنج لا خبرة لهم بأمر النيل، فركب الماء تلك الأرض وصار حائلاً بين الفرنج وبين دمياط، وانقطع عنهم الميرة والمدد، فهلكوا جوعاً، وبعثوا يطلبون الأمان، على أن ينزلوا عن جميع ما بذله المسلمون لهم ويسلموا دمياط ويعقدوا مدة للصلح، وكان فيهم(3/129)
عدة ملوك كبار، نحو عشرين ملكاً، فاختلفت الآراء بين يدي السلطان الملك الكامل في أمرهم، فبعضهم قال: لا نعطيهم أماناً، ونأخذهم ونتسلم بهم ما بقي بأيديهم من الساحل، مثل عكا وغيرها، ثم اتفقت آراؤهم على إجابتهم إلى الأمان، لطول مدة البيكار، وتضجر العساكر لأنهم كان لهم ثلاث سنين وشهور في القتال معهم، فأجابهم الملك الكامل إلى ذلك، وطلب الفرنج رهينة من الملك الكامل، فبعث ابنه الملك الصالح أيوب، وعمره يومئذ خمس عشرة سنة إلى الفرنج رهينة، وحضر من الفرنج رهينة على ذلك ملك عكا، ونائب البابا صاحب رومية الكبرى، وكندريس، وغيرهم من الملوك، وكان ذلك سابع رجب من هذه السنة.
واستحضر الملك الكامل ملوك الفرنج المذكورين، وجلس لهم مجلساً عظيماً، ووقف بين يديه الملوك من إخوته وأهل بيته جميعهم، وسلمت دمياط إلى المسلمين تاسع عشر رجب من هذه السنة، وقد حصنها الفرنج إلى غاية ما يكون، وولاها السلطان الملك الكامل، الأمير شجاع الدين جلدك التقوي، وهو من مماليك الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، وهنت الشعراء الملك الكامل بهذا الفتح العظيم، ثم سار السلطان الملك الكامل ودخل دمياط ومعه إخوته وأهل بيته، وكان يوماً مشهوداً، ثم توجه إلى القاهرة وأذن للملوك في الرجوع إلى بلادهم، فتوجه الملك الأشرف إلى الشرق، وانتزع الرقة من محمود، وقيل اسمه عمر بن قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكي بن مودود بن عماد الدين زنكي بن أقسنقر، ولقي بغيه على أخيه، فإنا ذكرنا كيف وثب على أخيه وقتله وأخذ سنجار، ثم أقام الملك الأشرف بالرقة، وورد إليه، الملك الناصر صاحب حماة فأقام عنده مدة، ثم عاد إلى بلده.
ذكر وفاة صاحب آمد وفي هذه السنة توفي الملك الصالح ناصر الدين محمود بن محمد بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان بن أرتق صاحب آمد وحصن كيفا بالقولنج، وقام في الملك بعده ولده الملك المسعود، وهو الذي انتزع منه الملك الكامل آمد، وكان الملك الصالح المذكور قبيح السيرة، وقد أورد ابن الأثير وفاته في سنة تسع عشرة.
ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة في جمادى الآخرة، خنق قتادة بن إرديس العلوي الحسني أمير مكة وعمره نحو تسعين سنة، وكانت ولايته قد اتسعت إلى نواحي اليمن، وكان حسن السيرة في مبتدأ أمره، ثم أساء السيرة وجدد المظالم والمكوس، وصورة ما جرى له أن قتادة كان مريضاً، فأرسل عسكراً مع أخيه ومع ابنه الحسن بن قتادة للاستيلاء على مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذها من صاحبها، فوثب الحسن بن قتادة في أثناء الطريق(3/130)
على عمه فقتله، وعاد إلى أبيه قتادة بمكة فخنقه، وكان له أخ نائباً، بقلعة ينبع، عن أبيه، فأرسل إليه الحسن فحضر إلى مكة فقتله أيضاً، وارتكب الحسن أمراً عظيماً، قتل عمه وأباه وأخاه في أيام يسيرة، واستقر في ملك مكة، وقيل إن قتادة كان يقول الشعر، وطولب أن يحضر إلى أمير الحاج العراقي فامتنع، وعوتب من بغداد، فأجاب بأبيات شعر منها:
ولي كف ضرغام أصول ببطشها ... وأشري بها بين الورى وأبيع
تظل ملوك الأرض تلثم ظهرها ... وفي بطنها للمجد بين ربيع
أأجعلها تحت الرحى ثم أبتغي ... خلاصاً لها، إني إذاً لرقيع
وما أنا إلا المسك في كل بلدة ... يضوع، وأما عندكم فيضيع
وفيها توفي جلال الدين الحسن صاحب الألموت ومقدم الإسماعيلية، وولي بعده ابنه علاء الدين محمد.
ثم دخلت سنة تسع عشرة وستمائة وفي هذه السنة استقل بدر الدين لؤلؤ بملك الموصل، وتوفي الطفل الذي كان قد نصبه في المملكة، وهو ناصر الدين محمود ابن الملك القاهر مسعود بن نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكي بن أقسنقر، وسمى لؤلؤ نفسه الملك الرحيم، وكان قد اعتضد بالملك الأشرف ابن الملك العادل، فدافع عنه ونصره، وقلع لؤلؤ البيت الأتابكي بالكلية، واستمر مالكاً للموصل نيفاً وأربعين سنة، سوى ما تقدم له من الاستيلاء والتحكم في أيام أستاذه نور الدين أرسلان شاه، وابنه الملك القاهر مسعود.
وفي هذه السنة سار الملك الأشرف إلى خدمة أخيه الملك الكامل، وأقام عنده بمصر منزهاً إلى أن خرجت هذه السنة.
وفي هذه السنة فوض الأتابك طغريل الخادم مدير مملكة حلب، إلى الملك الصالح أحمد بن الظاهر آمر الشغر وبكاس، فسار الملك الصالح من حلب واستولى عليهما، وأضاف إليه الروج ومعرة ومصرين.
وفي هذه السنة قصد الملك المعظم عيسى صاحب دمشق حماة، لأن الملك الناصر صاحب حماة كان قد التزم له بمال يحمله إليه إذا ملك حماة، فلم يف له، فقصد الملك المعظم حماة ونزل بقيرين، وغلقت أبواب حماة، فقصدها الملك المعظم وجرى بينهم قتال قليل، ثم ارتحل الملك المعظم إلى سلمية فاستولى على حواصلها، وولي عليها، ثم توجه إلى المعرة فاستولى عليها وأقام فيها والياً من جهته، وقرر أمورها، ثم عاد إلى سلمية فأقام بها حتى خرجت هذه السنة على قصد منازلة حماة.
وفي هذه السنة حج من اليمن الملك المسعود يوسف، الملقب أطسز، وهو اسم تركي، والعامة تسميه أقسيس، وكان قد استولى على اليمن سنة اثنتي عشرة وستمائة، وقبض على سليمان شاه بن شاهنشاه بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب، وحج في هذه السنة، فلما وقف الملك المسعود في هذه السنة بعرفة، وتقدمت(3/131)
أعلام الخليفة الإمام الناصر لترفع على الجبل، تقدم الملك المسعود بعساكره ومنع من ذلك، وأمر بتقديم أعلام أبيه السلطان الملك الكامل على أعلام الخليفة، فلم يقدر أصحاب الخليفة على منعه من ذلك، ثم عاد الملك المسعود إلى اليمن، وبلغ ذلك الخليفة، فعظم عليه، وأرسل يشكو إلى الملك الكامل، فاعتذر عن ذلك فقبل عذره، وأقام الملك المسعود في اليمن مدة يسيرة ثم عاد إلى مكة ليستولي عليها، فقاتله الحسن بن قتادة، فانتصر الملك المسعود وانهزم الحسن بن قتادة، واستقرت مكة في ملك الملك المسعود، وولي عليها، وذلك في ربيع الأول من سنة عشرين وستمائة، ثم عاد إلى اليمن.
وفيها توفي الشيخ يونس بن يوسف بن مساعد شيخ الفقراء المعروفة باليونسية، وكان رجلاً صالحاً وله كرامات، وكانت وفاته بقرية القنبة من أعمال دارا، وقد ناهز تسعين سنة، وقبره مشهور هناك.
ثم دخلت سنة عشرين وستمائة والأشرف بديار مصر عند أخيه الملك الكامل، وأخوهما الملك المعظم بسلمية مستول عليها، وعلى المعرة، عازم على حصار حماة، وبلغ الملك الأشرف ما فعله أخوه المعظم بصاحب حماة، فعظم عليه ذلك، واتفق مع أخيه الكامل على الإنكار على الملك المعظم، وترحيله، فأرسل إليه الملك الكامل ناصح الدين الفارسي، فوصل إلى الملك المعظم وهو بسلمية وقال له: السلطان يأمرك بالرحيل فقال: السمع والطاعة، وكانت أطماعه قد قويت على الاستيلاء على حماة، فرحل مغضباً على أخويه الكامل والأشرف، ورجعت المعرة وسلمية للناصر، وكان الملك المظفر محمود ابن الملك المنصور محمد بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، مقيماً عند الملك الكامل بالديار المصرية كما تقدم ذكره، وكان الملك الكامل يؤثر تمليكه حماة، لكن الملك الأشرف غير مجيب إلى ذلك لانتماء الناصر الملك صاحب حماه إليه، وجرى بين الكامل والأشرف في ذلك مراجعات كثيرة، آخرها أنهما اتفقا على نزع سلمية من يد الناصر قليج أرسلان وتسليمها إلى أخيه الملك المظفر، فتسلمها الملك المظفر وأرسل إليها وهو بمصر نائباً من جهته، حسام الدين أبا علي بن محمد بن علي الهذباني، واستقر بيد الملك الناصر حماة والمعرة وبعرين،، ثم سار الأشرف من مصر واصطحب معه خلعة وسناجق سلطانية من أخيه الملك الكامل، للملك العزيز صاحب حلب، وعمره يومئذ عشر سنين، ووصل الأشرف بذلك إلى حلب، وأركب الملك العزيز في دست السلطنة، وفي هذه السنة لما وصل الملك الأشرف بالخلعة المذكورة إلى حلب، اتفق مع الملك الأشرف كبراء الدولة الحلبية على تخريب قلعة اللاذقية، فأرسلوا عسكراً وهدموها إلى الأرض.
ذكر أحوال غياث الدين أخي جلال الدين ابني خوارزم شاه محمد كان لجلال الدين منكبرني أخ يقال له غياث الدين تيزشاه، وكان قد ملك غياث الدين(3/132)
المذكور كرمان، فلما توجه جلال الدين منكبرني إلى الهند كما تقدم ذكره في سنة سبع عشرة، تغلب غياث الدين على الري وأصفهان وهمذان وغير ذلك من عراق العجم، وهي البلاد المعروفة ببلاد الجبل، فخرج على غياث الدين خاله يعيان طابسي، وكان أكبر أمرائه وأقربهم إليه فاقتتل مع غياث الدين يعيان طابسي ومن معه، وأقام غياث الدين في بلاده مؤيداً منصور.
ذكر حادثة غريبة
كان أهل مملكة الكرج قد مات ملكهم، ولم يبق من بيت الملك غير امرأة، فملكوها، وطلبوا لها رجلاً يتزوجها ويقوم بالملك، ويكون من أهل بيت المملكة، فلم يجدوا فيهم أحداً يصلح لذلك، وكان صاحب أرزن الروم، مغيث الدين طغريل شاه بن قليج أرسلان السلجوقي، من بيت كبير مشهور، فأرسل يخطب الملكة لولده ليتزوجها، فامتنعوا من إجابته، إلا أن يتنصر، فأمر ولده فتنصر وسار إلى الكرج وتزوج ملكتهم وكانت هذه الملكة تهوى مملوكاً لها، ويعلم ابن طغريل شاه بذلك، وتكامن، فدخل يوماً إلى البيت فوجد المملوك نائماً معها في الفراش فلم يصبر المذكور على ذلك، فأنكر عليها، فأخذته زوجته واعتقلته في بعض القلاع، ثم أحضرت رجلين كانا قد وصفا لها بحسن الصورة، فتزوجت أحدهما ثم فارقته، وأحضرت إنساناً من كنجة، مسلماً وهويته وسألته أن يتنصر لتتزوج به، فلم يجب إلى ذلك، وترددت الرسل بينهما في ذلك مدة، فلم يجبها إلى التنصر.
ذكر وفاة ملك الغرب في هذه السنة توفي يوسف المستنصر ملك الغرب، ابن محمد الناصر بن يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن، وقد تقدم ذكر ولايته في سنة عشر وستمائة، وكان يوسف المذكور منهمكاً في اللذات، فدخل الوهن على الدولة بسبب ذلك، ولم يخلف يوسف المذكور ولداً، فاجتمع كبراء الدولة وأقاموا عم أبيه لكبر سنه، وهو عبد الواحد بن يوسف بن عبد المؤمن، ولقبوه المستضيء، وكان عبد الواحد المذكور قد صار فقيراً بمراكش، وقاسى الدهر، فلما تولى اشتغل باللذات والتنعم في المآكل والملابس من غير أن يشرب خمراً، ثم خلع عبد الواحد المذكور بعد تسعة أشهر من ولايته وقتل، وملك بعده ابن أخيه عبد الله، وتلقب بالعادل، وهو عبد الله بن يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن.
ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وستمائة في هذه السنة وصل التتر إلى قرب تبريز، وأرسلوا إلى صاحبها أزبك بن البهلوان يقولون له: إن كنت في طاعتنا فأرسل من عندك من الخوارزمية إلينا، فأوقع أزبك بمن عنده من الخوارزمية، وقتل بعضهم، وأسر الباقين وأرسلهم إلى التتر مع تقدمة عظيمة، فكفوا عن(3/133)
بلاد أزبك وعادوا إلى بلاد خراسان.
وفيها استولى غياث الدين تيزشاه أخو جلال الدين بن خوارزم شاه على غالب مملكة فارس، وكان صاحب فارس يقال له الأتابك سعد بن دكلا، وأقام غياث الدين بشيراز، وهي كرسي مملكة فارس، ولم يبق مع الأتابك سعد من فارس غير الحصون المنيعة، ثم اصطلح غياث مع الأتابك سعد، على أن يكون لسعد بعض بلاد فارس، ولغياث الدين الباقي.
ذكر عصيان المظفر غازي ابن الملك العادل على أخيه الملك الأشرف كان الملك الأشرف قد أنعم على أخيه الملك المظفر غازي بخلاط، وهي مملكة عظيمة، وهي إقليم أرمينية، وكان قد حصل بين الملك المعظم عيسى صاحب دمشق، وبين أخويه الكامل والأشرف وحشة، بسبب ترحيله عن حماة، كما قدمنا ذكره. فأرسل المعظم وحسن لأخيه المظفر غازي صاحب خلاط العصيان على أخيه الملك الأشرف. فأجاب الملك المظفر إلى ذلك وخالف أخاه الملك الأشرف، وكان قد اتفق مع المعظم والمظفر غازي صاحب إربل مظفر الدين كوكبوري بن زين الدين علي كجك، وكان بدر الدين لؤلؤ منتمياً إلى الملك الأشرف، فسار مظفر الدين صاحب إربل وحصر الموصل عشرة أيام، وكان نزوله على الموصل ثالث شهر جمادى الآخرة من هذه السنة، ليشغل الملك الأشرف عن قصد أخيه بخلاط، ثم رحل مظفر الدين عن الموصل لحصانتها، فلم يلتفت الملك الأشرف إلى محاصر الموصل وسار إلى خلاط، وحصر أخاه شهاب الدين غازي، فسلمت إليه مدينة خلاط، وانحصر أخوه غازي بقلعتها إلى الليل، فنزل من القلعة إلى أخيه الملك الأشرف واعتذر إليه، فقبل عذره وعفا عنه وأقره على ميافارقين، وارتجع باقي البلاد منه، وكان استيلاء الملك الأشرف على خلاط وأخذها من أخيه في جمادى الآخرة من هذه السنة.
ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وستمائة: ذكر وصول جلال الدين من الهند إلى البلاد
قد تقدم في سنة سبع عشرة وستمائة ذكر هروب جلال الدين من غزنة، لما قصده جنكزخان، وأنه دخل بلاد الهند، فلما كانت هذه السنة، قدم من الهند إلى كرمان ثم إلى أصفهان واستولى عليها وعلى باقي عراق العجم، ثم سار إلى فارس وانتزعها من أخيه غياث الدين تيزشاه بن محمد، وأعادها إلى صاحبها أتابك سعد بن دكلا صاحب بلاد فارس، وصار أتابك سعد المذكور، وغياث الدين تيزشاه أخو جلال الدين، تحت حكم جلال الدين وفي طاعته، ثم استولى جلال الدين على خورستان، وكاتب الخليفة الإمام الناصر.
ثم سار جلال الدين حتى قارب بغداد ووصل إلى يعقوبا، وخاف أهل بغداد منه واستعدوا للحصار، ونهبت الخوارزمية البلاد، وامتلأت أيديهم من الغنائم، وقوي أمر جلال الدين وجميع عسكره(3/134)
الخوارزمية، ثم سار إلى قريب إربل، فصالحه صاحبها مظفر الدين ودخل في طاعته، ثم سار جلال الدين إلى أذربيجان وكرسي مملكتها تبريز، فاستولى على تبريز، وهرب صاحب أذربيجان، وهو مظفر الدين أزبك بن البهلوان بن الدكز، وكان أزبك المذكور قد قوي أمره لما قتل طغريل آخر الملوك السلجوقية ببلاد العجم، فاستقل أزبك المذكور في المملكة، وكان أزبك المذكور لا يزال مشغولاً بشرب الخمر، وليس له التفات إلى تدبير المملكة، فلما استولى جلال الدين على تبريز، هرب أزبك إلى كنجة، وهي من بلاد آران، قرب بردعة، ومتاخمة لبلاد الكرج، واستقل السلطان جلال الدين بملك أذربيجان، وكثرت عساكره واستفحل أمره، ثم جرى بين جلال الدين وبين الكرج قتال شديد، انهزم فيه الكرج، وتبعهم الخوارزمية يقتلونهم كيف شاؤوا، واتفق أنه ثبت على قاضي تبريز وقوع الطلاق من أزبك بن البهلوان بن الدكز، على زوجته بنت السلطان طغريل آخر الملوك السلجوقية، المقدم ذكره، فتزوج جلال الدين ببنت طغريل المذكور، وأرسل جيشاً إلى مدينة كنجة ففتحوها، فهرب مظفر الدين أزبك بن محمد البهلوان من كنجة إلى قلعة هناك، ثم هلك وتلاشى أمره.
ذكر وفاة الملك الأفضل نور الدين علي ابن السلطان صلاح الدين يوسف في هذه السنة توفي الملك الأفضل المذكور، وليس بيده غير سميساط فقط، وكان موته فجأة، وعمره سبع وخمسون سنة، وكان الملك الأفضل فاضلاً حسن السيرة، وتجمع فيه الفضائل والأخلاق الحسنة، وكان مع ذلك قليل الحظ، وله الأشعار الحسنة، فمنها يعرض إلى سوء حظه قوله:
يا من يسود شعره بخضابه ... لعساه من أهل الشبيبة يحصل
ها فاختضب بسواد حظي مرة ... ولك الأمان بأنه لا ينصل
ولما أخذت منه دمشق، كتب إلى بعض أصحابه كتاباً منه: أما أصحابنا لدمشق فلا علم لي بأحد منهم. وسبب ذلك:
أي صديق سألت عنه ففي ... الذل وتحت الخمول في الوطن
وأي ضد سألت حالته ... سمعت ما لا تحبه أذني
ذكر وفاة الإمام الناصر وفي أول شوال من هذه السنة، توفي الخليفة الناصر لدين الله، وكانت مدة خلافته نحو سبع وأربعين سنة، وعمي في آخر عمره، وكان موته بالدوسنطاريا، وهو الإمام الناصر لدين الله، أبو العباس أحمد، بن المستضيء حسن بن المستنجد يوسف بن المقتفي محمد بن(3/135)
المستظهر أحمد بن المقتدي عبد الله بن الأمير ذخيرة الدين محمد بن القائم عبد الله بن القادر أحمد بن الأمير إسحاق بن المقتدر جعفر بن المكتفي علي بن المعتضد أحمد بن الأمير الموفق.
وقيل اسمه طلحة، وقيل محمد بن المتوكل جعفر بن المعتصم محمد بن رشيد هارون بن المهدي محمد بن المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، العباس بن عبد المطلب بن هاشم. وكان عمر الإمام الناصر نحو سبعين سنة، وكان قبيح السيرة في رعيته، ظالماً لهم، خرب في أيامه العراق، تفرق أهله في البلاد، وكان يتشيع، وكان منصرف الهمة إلى رمي البندق والطيور المناسيب، ويلبس سراويلات الفتوة، ومنع رمي البندق إلا من ينسب إليه، فأجابه الناس إلى ذلك إلا إنساناً واحداً يقال له ابن السفت وهرب من بغداد إلى الشام، وقد نسب الإمام الناصر أنه هو الذي كاتب التتر وأطمعهم في البلاد، بسبب ما كان بينه ين خوارزم شاه محمد بن تكش من العداوة، ليشغل خوارزم شاه بهم عن قصد العراق.
خلافة الظاهر
وهو خامس ثلاثينهم، ولما توفي الإمام الناصر بويع ولده الظاهر بأمر الله أبو نصر محمد، فأظهر العدل، وأزال المكوس، وأخرج المحبوسين، وظهر للناس، وكان الناصر ومن قبله لا يظهرون إلا نادراً، ولم تطل مدته في الخلافة، غير تسعة أشهر.
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وستمائة فيها سار الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل صاحب دمشق ونازل حمص، وكان قد اتفق مع جلال الدين بن خوارزم شاه، ومع مظفر الدين صاحب إربل، على أن يكونوا يداً واحدة، وكان الملك الأشرف ببلاده الشرقية، ثم رحل المعظم عن حمص إلى دمشق بسبب كثرة ما مات من خيله وخيل عسكره، وورد عليه أخوه الملك الأشرف طلباً للصلح، وقطعاً للفتن، فبقي مكرماً ظاهراً، وهو في الباطن كالأسير معه، وأقام الملك الأشرف عند أخيه المعظم إلى أن انقضت هذه السنة، وأما الملك الكامل فإنه كان بمصر، وقد تخيل من بعض عسكره، فما أمكنه الخروج عنها.
وفي هذه السنة فتح السلطان جلال الدين تفليس من الكرج، وهي من المدن العظام.
وفي هذه السنة سار جلال الدين ونازل خلاط، وهي منازلته الأولى، فطال القتال بينهم، وكان نائب الأشرف بخلاط، الحاجب حسام الدين علي الموصلي، وكان نزوله عليها ثالث عشر ذي القعدة، ورحل عنها لسبع بقين من ذي الحجة من هذه السنة، بسبب كثرة الثلوج.
ذكر وفاة الخليفة الظاهر بأمر الله وفي رابع عشر رجب من هذه السنة، توفي الخليفة الظاهر بأمر الله محمد ابن الناصر لدين الله، وكان متواضعاً محسناً إلى الرعية جداً، وأبطل عدة مظالم منها: أنه كان بخزانة(3/136)
الخليفة صنجة زائدة يقبضون بها المال، ويعطون بالصنجة التي يتعامل بها الناس، وكان زيادة الصنجة في كل دينار حبة، فخرج توقيع الظاهر بإبطال ذلك، وأوله. " ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون " المطففين: 1، 2، 3. وعمل صنجة المخزن مثل صنجة المسلمين، وكان مضاداً لأبيه الناصر في كثير من أحواله، منها: أن مدة خلافة أبيه كانت طويلة، ومدة خلافته كانت قصيرة، وكان أبوه متشيعاً، وكان الظاهر سنياً، وكان أبوه ظالماً جماعاً للمال، وكان الظاهر في غاية العدل وبذل الأموال للمحبوسين على الديون وللعلماء.
خلافة المستنصر
وهو سادس ثلاثينهم، ولما توفي الظاهر، ولي الخلافة بعده ولده الأكبر المستنصر بالله أبو جعفر المنصور، وكان للظاهر ولد آخر يقال له الخفاجي، في غاية الشجاعة، وبقي حياً حتى أخذت التتر بغداد، وقتل، ولما تولى المستنصر الخلافة سلك في العدل والإحسان مسلك أبيه الظاهر.
ذكر غير ذلك من الحوادث: في هذه السنة سار علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان صاحب بلاد الروم إلى بلاد الملك المسعود الأرتكي صاحب آمد، فنزل كيقباذ بملطية، وهي من بلاد كيقباذ، وأرسل عسكراً ففتحوا حصن منصور وحصن الكختا، وكانا لصاحب آمد المذكور.
وفيها في خامس عشر ذي الحجة نازل جلال الدين مدينة خلاط، وهي للملك الأشرف وبها نائبه حسام الدين علي الحاجب، وهي منازلته الثانية، وجرى بينهم قتال شديد، وأدركه البرد فرحل عنها في السنة المذكورة.
ثم دخلت سنة أربع وعشرين وستمائة والملك الكامل بديار مصر، وجلال الدين خوارزم شاه مالك أذربيجان وآران وبعض بلاد الكرج وعراق العجم وغيرها، وهو موافق الملك المعظم على حرب أخويه الكامل والأشرف، والرسل لا تنقطع بين المعظم وجلال الدين، والملك الأشرف مقيم كالأسير عند أخيه الملك المعظم، ولما رأى الملك الأشرف حاله مع أخيه المعظم، وأنه لا خلاص له منه إلا بإجابته إلى ما يريد، أجابه كالمكره إلى ما طلبه منه، وحلف له أن يعاضده ويكون معه على أخيهما الملك الكامل، وأن يكون معه على صاحبي حماة وحمص، فلما حلف له على ذلك أطلقه الملك المعظم، فرحل الملك الأشرف في جمادى الآخرة من هذه السنة، فكانت مدة مقامه مع المعظم نحو عشرة أشهر.
ولما استقر الملك الأشرف ببلاده، رجع عن جميع ما تقرر بينه وبين أخيه الملك المعظم، وتأول في أيمانه التي حلفها أنه مكره، ولما تحقق الملك الكامل اعتضاد أخيه الملك المعظم بجلال الدين،(3/137)
خاف من ذلك وكاتب الإمبراطور ملك الفرنج في أن يقدم إلى عكا ليشغل سر أخيه المعظم عما هو فيه، ووعد الإمبراطور بأن يعطيه القدس، فسار الإمبراطور إلى عكا، فبلغ المعظم ذلك، فكاتب أخاه الأشرف واستعطفه.
وفي هذه السنة انتزع الأتابك طغريل، الشغر وبكاس من الملك الصالح أحمد ابن. الملك الظاهر، وعوضه عنها بعينتاب والراوندان.
وفيها سار الحاجب حسام الدين علي، نائب الملك الأشرف بخلاط، بعساكر الملك الأشرف إلى بلاد جلال الدين، واستولى على خوى وسلماس ونقجوان.
ذكر وفاة الملك المعظم صاحب دمشق في هذه السنة في ذي القعدة، توفي الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل أيي بكر بن أيوب بقلعة دمشق، بالدوسنطاريا، وعمره تسع وأربعون سنة، وكانت مدة ملكه دمشق تسع سنين وشهوراً وكان شجاعاً، وكان عسكره في غاية التجمل، وكان يجامل أخاه الملك الكامل ويخطب له ببلاده، ولا يذكر اسمه معه، وكان الملك المعظم قليل التكلف جداً، في غالب الأوقات لا يركب بالسناجق السلطانية، وكان يركب وعلى رأسه كلوته صفراء، بلا شاش، ويتخرق الأسواق من غير أن يطرق بين يديه كما جرت عادة الملوك، ولما كثر مثل هذا منه، صار، الإنسان إذا فعل أمراً لا يتكلف له، يقال قد فعله بالمعظمي، وكان عالماً فاضلاً في الفقه والنحو وكان شيخه في النحو تاج الدين زيد بن الحسن الكندي، وفي الفقه جمال الدين الحصيري، وكان حنفياً متعصباً لمذهبه، وخالف جميع أهل بيته فإنهم كانوا شافعية، ولما توفي الملك المعظم ترتب في مملكته وأعمالها بعده ولده الملك الناصر صلاح الدين داود، وقام بتدبير مملكته مملوك والده وأستاذ داره الأمير عز الدين أيبك المعظمي، وكان لأيبك المذكور صرخد.
ذكر وفاة ملك المغرب
وأخبار الذين تملكوا بعده
وفي هذه السنة خلع العادل عبد الله بن يعقوب، المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن، وقد تقدم ذكر ولايته في سنة عشرين وستمائة، بعد خلع عبد الواحد وقتله. وفي أيام العادل عبد الله المذكور، كانت الوقعة بين المسلمين والفرنج بالأندلس على طليطلة، انهزمت فيها المسلمون هزيمة قبيحة، وهذه الوقعة هي التي هدت دعائم الإسلام بالأندلس، ولما خلع عبد الله العادل المذكور، حبس ثم خنق، ونهب المصموديون قصره بمراكش، واستباحوا حرمه.
ثم ملك بعده يحيى بن محمد الناصر بن يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن، ويحيى يومئذ ما خط عذاره، ولما تمت بيعة يحيى وصل الخبر أنه قد قام بإشبيلية إدريس بن يعقوب المنصور، وهو أخو العادل عبد الله، وتلقب إدريس بالمأمون، وجميعهم كانوا يتلقبون بأمير المؤمنين، وتعقد البيعة لهم بالخلافة، ولما استقر أمر إدريس المأمون المذكور في إشبيلية،(3/138)
ثارت جماعة من أهل مراكش، وانضم إليهم العرب ووثبوا على يحيى بن محمد الناصر بمراكش، فهرب يحيى إلى الجبل، ثم اتصل بعرب المعقلي فغدروا به وقتلوه، وخطب للمأمون إدريس في مراكش، واستقر أمره في الخلافة بالبرين، بر الأندلس وبر العدوة.
ثم خرج على المأمون إدريس المذكور بشرق الأندلس، المتوكل بن هود، واستولى على الأندلس، ففارق إدريس الأندلس وسار من إشبيلية وعبر البحر ووصل إلى مراكش، وخرجت الأندلس حينئذ عن ملك بني عبد المؤمن، ولما استقر المأمون إدريس في ملك مراكش تتبع الخارجين على من تقدمه من الخلفاء، فقتلهم عن آخرهم، وسفك دماء كثيرة، حتى سموه لذلك حجاج المغرب، وكان المأمون إدريس المذكور فصيحاً عالماً بالأصول والفروع، ناظماً ناثراً، أمر بإسقاط اسم مهديهم ابن تومرت من الخطبة على المنابر، وعمل في ذلك رسالة طويلة، أفصح فيها بتكذيب مهديهم المذكور، وضلاله، ثم ثار على إدريس المذكور أخوه، بسبتة، فسار إدريس من مراكش إليه وحصره بسبتة، ثم بلغ إدريس وهو محاصر سبتة أن بعض أولاد محمد الناصر بن يعقوب المنصور قد دخل إلى مراكش، فرحل إدريس عن سبتة وسار إلى مراكش فمات في الطريق، بين سبتة ومراكش.
ولما مات المأمون إدريس، ملك بعده ابنه عبد الواحد بن المأمون إدريس، وتلقب المذكور بالرشيد، ثم توفي الرشيد عبد الواحد بن المأمون إدريس بن يعقوب المنصور ابن يوسف بن عبد المؤمن غريقاً في صهريج بستان له، بحضرة مراكش، في سنة أربعين وستمائة، وكان الرشيد عبد الواحد المذكور حسن السياسة، وكان أبوه إدريس قد أبطل اسم مهديهم من الخطبة، فأعاده عبد الواحد المذكور، وقمع العرب، إلا أنه تخلى للذاته لما استقر أمره، ولم يخطب للرشيد عبد الواحد المذكور بإفريقية، ولا بالمغرب الأوسط.
ولما مات الرشيد عبد الواحد المذكور، ملك بعده أخوه علي بن إدريس، وتلقب بالمعتضد أمير المؤمنين، وكان أسود اللون، وكان مدحوضاً في حياة والده، وسجنه في بعض الأوقات، وقدم عليه أخاه الصغير عبد الواحد المذكور، واستمر المعتضد علي بن إدريس المذكور حتى قتل وهو محاصر قلعة بالقرب من تلمسان، في صفر من سنة ست وأربعين وستمائة.
ثم ملك بعد المعتضد الأسود المذكور، أبو حفص عمر بن أبي إبراهيم بن يوسف، في شهر ربيع الآخر من سنة ست وأربعين وستمائة، وتلقب بالمرتضي، وفي الحادي والعشرين من المحرم سنة خمس وستين وستمائة، دخل الواثق أبو العلا إدريس المعروف بأبي دبوس مراكش، وهرب المرتضي إلى أزمور من نواحي مراكش فقبض عليه عامله بها، وبعث إلى الواثق بذلك، فأمره الواثق بقتله، فقتله في العشر الأخير من شهر ربيع الآخر من سنة خمس وستين وستمائة، بموضع يقال له كتامة، بعده عن مراكش ثلاثة أيام. وأقام الواثق أبو دبوس ثلاث سنين وقتل في(3/139)
الحروب التي كانت بينه وبين بني مرين ملوك تلمسان، وانقرضت دولة بني عبد المؤمن، وكان قتل الواثق أبي دبوس المذكور في المحرم سنة ثمان وستين وستمائة بموضع بينه وبين مراكش مسيرة ثلاثة أيام في جهتها الشمالية، واستولى بنو مرين على ملكهم، وقد حصل الاختلاف في نسب أبي دبوس فإني وجدت في بعض الكتب المؤلفة في هذا الفن، أن أبا دبوس، هو ابن إدريس المأمون، ثم وجدت نسبه في وفيات الأعيان أنه هو نفسه اسمه إدريس بن عبد الله بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ثم دخلت سنة خمس وعشرين وستمائة في هذه السنة أرسل الملك الكامل صاحب مصر، يطلب من ابن أخيه الملك الناصر داود ابن الملك المعظم صاحب دمشق، حصن الشوبك، فلم يعطه الملك الناصر ذلك، ولا أجابه إليه، فسار الملك الكامل من مصر في هذه السنة في رمضان إلى الشام، ونزل على تل العجول بظاهر غزة، وولى على نابلس والقدس وغيرهما من بلاد ابن أخيه الملك الناصر داود المذكور، صاحب دمشق حينئذ، وكان صحبة الملك الكامل الملك المظفر محمود ابن السلطان الملك المنصور صاحب حماة، وهو موعود من الملك الكامل أنه ينتزع حماة من أخيه الناصر قليج أرسلان ابن الملك المنصور، ويسلمها إليه، ولما قصد الملك الكامل انتزاع بلاد الملك الناصر ابن المعظم صاحب دمشق، استنجد الناصر داود بعمه الملك الأشرف، وأرسل إليه وهو ببلاده الشرقية، فقدم الملك الأشرف إلى دمشق ودخل هو والناصر داود إلى قلعة دمشق راكبين، قال القاضي جمال الدين بن واصل: كنت إذ ذاك حاضراً بدمشق، ورأيت الملك الأشرف راكباً مع ابن أخيه، وعلى رأس الملك الأشرف شاش علم كبير، ووسطه مشدود بمنديل، وكان وصول الأشرف إلى دمشق في العشر الأخير من رمضان من هذه السنة، ووصل إلى خدمته بدمشق الملك المجاهد شركوه، فإنه كان من المنتمين إلى الملك الأشرف، ثم وقع الاتفاق أن يسير الناصر داود وشيركوه مع الملك الأشرف إلى نابلس، فيقيم الناصر داود بنابلس، ويتوجه الملك الأشرف إلى أخيه الكامل إلى غزة شافعاً في ابن أخيهما الناصر داود، ففعلوا ذلك، ولما وصل الملك الأشرف إلى أخيه الكامل، وقع اتفاقهما في الباطن على أخذ دمشق من ابن أخيهما الناصر داود، وتعويضه عنها بحران والرها والرقة من بلاد الملك الأشرف، وأن تستقر دمشق للملك الأشرف، ويكون له إلى عقبة أفيق وما عدا ذلك من بلاد دمشق، يكون للملك الكامل، وأن ينتزع حماة من الملك الناصر قليج أرسلان، ويعطي الملك المظفر محمود ابن الملك المنصور، وأن ينتزع سلمية من المظفر محمود، وكانت إقطاعه، لما كان مقيماً بمصر عند الملك الكامل، ويعطي لشيركوه صاحب حمص، وخرجت السنة والأشرف عند(3/140)
أخيه الكامل بظاهر غزة، وقد اتفقا على ذلك.
ذكر غير ذلك
وفي هذه السنة عاود التتر إلى قصد البلاد التي بيد جلال الدين بن خوارزم شاه، وجرت بينه وبينهم حروب كثيرة، كان في أكثرها الظفر للتتر.
وفيها قدم الإمبراطور إلى عكا بجموعه، وكان الملك الكامل قد أرسل إليه فخر الدين ابن الشيخ يستدعيه إلى قصد الشام، بسبب أخيه المعظم، فوصل الإمبراطور وقد مات المعظم، فنشب به الملك الكامل، ولما وصل الإمبراطور استولى على صيدا، وكانت مناصفة بين المسلمين والفرنج، وسورها خراب، فعمر الفرنج سورها واستولوا عليها، والإمبراطور معناه: ملك الأمراء بالفرنجية. وإنما اسم الإمبراطور المذكور، فرديك. وكان صاحب. جزيرة صقلية، ومن البر الطويل بلاد أنبولية والأنبردية. قال القاضي جمال الدين بن واصل: لقد رأيت تلك البلاد لما توجهت رسولاً من الملك الظاهر بيبرس الصالحي إلى الإمبراطور ملك تلك البلاد. قال: وكان الإمبراطور من بين ملوك الفرنج فاضلاً، محباً للحكمة والمنطق والطب، مائلاً إلى المسلمين، لأن منشأه بجزيرة صقلية، وغالب أهلها مسلمون، وترددت الرسل بين الملك الكامل وبين الإمبراطور إلى أن خرجت هذه السنة.
وفي هذه السنة بعد فراغ جلال الدين من التتر، قصد جلال الدين المذكور بلاد خلاط، ونهب القرى وقتل وخرب البلاد وفعل الأفعال القبيحة.
وفيها خاف غياث الدين تيزشاه من أخيه جلال الدين ففارقه واستجار بالإسماعيلية.
ثم دخلت سنة ست وعشرين وستمائة ولما جرى بين السلطان الملك الكامل وبين أخيه الملك الأشرف الاتفاق على نزع دمشق من الناصر داود، بلغ الناصر داود ذلك، وهو بنابلس، فرحل إلى دمشق، وكان قد لحقه بالغور عمه الملك الأشرف، وعرفه ما أمر به عمه الملك الكامل، وأنه لا يمكنه الخروج عن مرسومه، فلم يلتفت الناصر داود إلى ذلك وسار إلى دمشق، وسار الأشرف في إثره وحصره بدمشق، والملك الكامل مشتغل بمراسلة الإمبراطور، ولما طال الأمر ولم يجد الملك الكامل بداً من المهادنة، أجاب الإمبراطور إلى تسليم القدس إليه، على أن تستمر أسواره خراباً ولا يعمرها الفرنج، ولا يتعرضوا إلى قبة الصخرة، ولا إلى الجامع الأقصى، ويكون الحكم في الرساتيق إلى والي المسلمين، ويكون لهم من القرايا ما هو على الطريق من عكا إلى القدس، ووقع الاتفاق على ذلك، وتحالفا عليه، وتسلم الإمبراطور القدس في هذه السنة في ربيع الآخر على هذه القاعدة التي ذكرناها، وكان ذلك، والملك الناصر محصور بدمشق، وعمه الأشرف محاصره بأمر الملك الكامل، فأخذ الناصر داود في التشنيع على عمه بذلك، وكان بدمشق الشيخ شمس الدين يوسف سبط(3/141)
أبي الفرج ابن الجوزي، وكان واعظاً وله قبول عند الناس، فأمره الناصر داود بعمل مجلس وعظ، يذكر فيه فضائل بيت المقدس، وما حل بالمسلمين من تسليمه إلى الفرنج، ففعل ذلك، وكان مجلساً عظيماً، ومن جملة ما أنشد قصيدة تائية ضمنها بيت دعبل الخزاعي وهو:
مدارس آيات خلت من تلاوة ... ومنزل وحي مقفر العرصات
فارتفع بكاء الناس وضجيجهم.
ذكر انتزاع دمشق ولما عقد الملك الكامل الهدنة مع الإمبراطور، وخلا سره من جهة الفرنج، سار إلى دمشق، ووصل إليها في جمادى الأولى من هذه السنة، واشتد الحصار على دمشق، ووصل إلى الملك الكامل رسول الملك العزيز صاحب حلب، وخطب بنت الملك الكامل، فزوجه بنته فاطمة خاتون، التي هي من الست السوداء أم ولده أبي بكر العادل ابن الملك الكامل، ثم استولى الملك الكامل على دمشق، وعوض الناصر داود عنها بالكرك والبلقاء والصلت والأغوار والشوبك، وأخذ الملك الكامل لنفسه البلاد الشرقية التي كانت عينت للناصر، وهي حران والرها وغيرهما، التي كانت بيد الملك الأشرف، ثم نزل الناصر داود عن الشوبك، وسأل عمه الكامل في قبولها فقبلها، وتسلم دمشق الملك الأشرف، وتسلم الكامل من الأشرف البلاد الشرقية المذكورة.
ذكر وفاة الملك المسعود
صاحب اليمن ابن الملك الكامل ابن الملك العادل بن أيوب:
في هذه السنة توفي الملك المسعود يوسف، الملقب أطسز، المعروف باقسيس. وكان قد مرض باليمن، فكره المقام بها وعزم على مفارقة اليمن، وسار إلى مكة وهي له كما تقدم ذكره، فتوفي بمكة ودفن بالمعلى، وعمره ست وعشرون سنة، وكانت مدة ملكه اليمن أربع عشرة سنة، وكان الملك المسعود لما سار من اليمن، قد استخلف على اليمن علي بن رسلول، وسنذكر بقية أخباره إن شاء الله تعالى، ووصل الخبر بوفاة الملك المسعود إلى أبيه الملك الكامل، وهو على حصار دمشق، فجلس للعزاء، وخلف الملك المسعود ولداً صغيراً اسمه أيضاً يوسف، وبقي يوسف المذكور حتى مات في سلطنة عمه الملك الصالح أيوب صاحب مصر، وخلف يوسف ولداً صغيراً اسمه موسى، ولقب الملك الأشرف وهو الذي أقامه الترك في مملكة مصر بعد قتل الملك المعظم ابن الملك الصالح أيوب ابن الملك الكامل، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.(3/142)
ذكر القبض على الحاجب علي
نائب الملك الأشرف بخلاط وقتله:
وفي هذه السنة أرسل الملك الأشرف مملوكه عز الدين أيبك الأشرفي، وهو أكبر أمير عنده إلى خلاط، فقبض على الحاجب علي الموصلي وحبسه، ثم قتله، وكان حسام الدين علي الحاجب المذكور، من أهل الموصل، وخدم الملك الأشرف، فجعله نائبه بخلاط، فأحسن إلى الرعية وحفظ البلد، واستولى على عدة بلاد من أذربيجان، مثل نقجوان وغيرها، على ما تقدم ذكره، فقبض عليه الملك الأشرف وقتله، قيل أن ذلك لذنب منه، لم يطلع عليه الناس، وأطلع عليه الملك الكامل والملك الأشرف، وهذا الحاجب حسام الدين المذكور، كان كثير الخير والمعروف، بنى الخان الذي بين حران ونصيبين وبنى الخان الذي بين حمص ودمشق وهو الخان المعروف بخان بريح العطش، وهرب مملوك لحسام الدين الحاجب المذكور، لما قتل أستاذه، ولحق بجلال الدين، فلما ملك جلال الدين خلاط على ما سنذكره، قبض على أيبك المذكور وسلمه إلى المذكور فقتله وأخذ بثأر أستاذه.
الاستيلاء على حماة
ذكر استيلاء الملك المظفر محمود ابن الملك المنصور محمد على حماة:
ولما سلم الملك الكامل دمشق إلى أخيه الملك الأشرف، سار من دمشق، ونزل على مجمع المروج، ثم نزل سلمية، وأرسل عسكراً نازلوا حماة وبها صاحبها الملك الناصر قليج أرسلان، وكان فيه جبن، ولو عصى بحماة وطلب عنها عوضاً كثيراً لأجابه الملك الكامل إليه، ولكنه خاف، وكان في العسكر الذين نازلوه شيركوه صاحب حمص، فأرسل الناصر صاحب حماة يقول لشيركوه، إني أريد أن أخرج إليك بالليل لتحضرني عند السلطان الملك الكامل، وخرج الملك الناصر قليج أرسلان ابن الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب المذكور إلى شيركوه، في العشر الأخير من رمضان هذه السنة، وأخذه شيركوه ومضى به إلى الملك الكامل وهو نازل على سلمية، فحين رأى الملك الكامل قليج أرسلان المذكور شتمه وأمر باعتقاله، وأن يتقدم إلى نوابه بحماة بتسليمها إلى الملك الكامل، فأرسل الناصر قليج أرسلان علامته إلى نوابه بحماة أن يسلموها إلى عسكر السلطان الملك الكامل، فامتنع من ذلك الطواشيان بشر ومرشد المنصوريان، وكان بقلعة حماة أخ للملك الناصر يلقب الملك المعز ابن الملك المنصور صاحب حماة، فملكوه حماة وقالوا للملك الكامل: لا نسلم حماة لغير أحد من أولاد تقي الدين، فأرسل الملك الكامل يقول للملك المظفر محمود ابن الملك المنصور صاحب حماة، اتفق مع غلمان أيبك وتسلم حماة، وكان الملك المظفر نازلاً على حماة من جملة العسكر الكاملي، فراسل الملك المظفر الحكام حماة، فحلفوا له وواعدوا الملك المظفر أن يحضر بجماعته خاصة وقت السحر إلى باب النصر ليفتحوه له، فحضر الملك المظفر سحر الليلة التي عينوها، ففتحوا له باب النصر،(3/143)
ودخل الملك المظفر ومضى إلى دار الوزير المعروفة بدار الأكرم داخل باب المغار، وهي الآن مدرسة تعرف بالخاتونية، وقفتها عمتي مؤنسة خاتون بنت الملك المظفر المذكور، وحضر أهل حماة وهنوا الملك المظفر بملك حماة، وكان ذلك في العشر الأخير من رمضان من هذه السنة، وكان مدة ملك الملك الناصر قليج أرسلان حماة تسع سنين إلا نحو شهرين، وأقام الملك المظفر في دار الأكرم يومين وصعد في اليوم الثالث إلى القلعة، وتسلمها، وجاء عيد الفطر من هذه السنة والملك المظفر مالك حماة، وعمره يومئذ نحو سبع وعشرين سنة، لأن مولده سنة تسع وتسعين وخمسمائة. وكان أخوه الملك الناصر قليج أرسلان أصغر منه بسنة، ولما ملك الملك المظفر حماة، فوض تدبير أمورها، صغيرها وكبيرها، إلى الأمير سيف الدين علي الهدباني، وكان سيف الدين علي بن أبي علي المذكور، قد خدم الملك المظفر بعد ابن عمه حسام الدين ابن أبي علي الذي كان نائب الملك المظفر بسلمية، لما سلمت إليه، وهو بمصر عند الملك الكامل.
ثم حصل بين الملك المظفر وبين حسام الدين بن أبي علي وحشة، ففارقه حسام الدين المذكور واتصل بخدمة الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل، وحظي عنده وصار أستاذ داره، وخدم ابن عمه سيف الدين علي المذكور الملك المظفر، وكان يقول له: أشتهي أن أراك صاحب حماة، وأكون بعين واحدة، فأصيبت عين سيف الدين علي على حصار حماة، لما نازلها عسكر الملك الكامل، وبقي بفرد عين، فحظي عند الملك المظفر لذلك، ولكفاية سيف الدين المذكور، وحسن تدبيره. ولما استقر الملك المظفر في ملك حماة، انتزع الملك الكامل سلمية منه، وسلمها إلى شيركوه صاحب حمص، على ما كان وقع عليه الاتفاق من قبل ذلك، ثم إن الملك الكامل رسم للملك المظفر أن يعطي أخاه الملك الناصر قليج أرسلان بارين بكمالها، فامتثل لذلك وسلم قلعة بارين إلى أخيه الملك الناصر، ولم يبق بيد الملك المظفر غير حماة والمعرة، وكان بحماة تقدير أربعمائة ألف درهم للملك الناصر، وكان قد رسم الملك الكامل للملك المظفر أن يعطي المال المذكور أخاه الملك الناصر، فماطل المظفر في ذلك، ولم يحصل للملك الناصر من ذلك شيء، ولما استقر الملك المظفر بحماة مدحه الشيخ شرف الدين عبد العزيز محمد بن عبد المحسن الأنصاري الدمشقي بقصيدة، من جملتها:
تناهى إليك الملك واشتد كاهله ... وحل بك الراجي فحطت رواحله
ترحلت عن مصر فأمحل ربعها ... ولما حللت الشام روض ما حله
وعزت حماة في حمى أنت غابه ... بصولته تحمى كليب ووائله
وقد طال ما ظلت بتدبير أهوج ... يخيب مرجيه ويحرم سائله(3/144)
ولما استقر الملك المظفر في ملك حماة، رحل الملك الكامل عن سلمية إلى البلاد الشرقية التي أخذها من أخيه الملك الأشرف عوضاً عن دمشق، فنظر في مصالحها، ثم سافر الملك المظفر من حماة ولحق الملك الكامل، وهو بالشرق، عقد له الملك الكامل العقد هناك على ابنته غازية خاتون بنت الملك الكامل، وهي شقيقة الملك المسعود صاحب اليمن، وهي والدة الملك المنصور صاحب حماة، وأخيه الملك الأفضل نور الدين علي، ابني الملك المظفر محمود، ثم عاد الملك المظفر إلى حماة وقد قضيت أمانيه بملك حماة، ووصلته بخاله الملك الكامل، كان يتمنى ذلك لما كان بالديار المصرية، وكان يصحبه وهو بمصر رجل من أهلها يقال له الزكي القومصي، فاتفق وهما بمصر، وقد جرى ذكر ملك الملك المظفر حماة وزواجه بنت خاله الملك الكامل، فأنشده الزكي القومصي:
متى أراك كما أهوى وأنت ومن ... تهوى كأنكما روحان في بدن
هناك أنشد والأقدار مصغية ... هنيت بالملك والأحباب والوطن
فقال له الملك المظفر: إن صار ذلك يا زكي أعطيتك ألف دينار مصرية، فلما ملك الملك المظفر حماة أعطى الزكي ما وعده به، ولما فرغ الملك الكامل من تقرير أمر البلاد الشرقية وهي حران وما معها من البلاد، مثل رأس عين والرها وغير ذلك، عاد إلى الديار المصرية.
وفي هذه السنة أرسل الملك الأشرف أخاه صاحب بصرى، الملك الصالح إسماعيل ابن الملك العادل، بعسكر، فنازل بعلبك وبها صاحبها الملك الأمجد بهرام شاه بن فرخشاه بن شاهنشاه ابن أيوب، واستمر الحصار عليه.
وفيها سار جلال الدين ملك الخوارزمية وحاصر خلاط، وبها أيبك نائب الملك الأشرف، إلى أن خرجت هذه السنة.
ثم دخلت سنة سبع وعشرين وستمائة.
ذكر عمارة شميميش في هذه، السنة شرع صاحب حمص شيركوه في عمارة قلعة شميميش، وكان لما سلم إليه الملك الكامل سلمية، قد استأذنه في عمارة تل شميميش قلعة، فأذن له بذلك، ولما أراد شيركوه عمارته، أراد الملك المظفر صاحب(3/145)
حماة منعه من ذلك، ثم لم يمكنه ذلك لكونه بأمر الملك الكامل.
ذكر استيلاء الملك الأشرف على بعلبك وفي هذه السنة سلم الملك الأمجد بهرام شاه لن فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب بعلبك، إلى الملك الأشرف، أطول الحصار عليه، وعوضه الملك الأشرف عنها الزبداني وقصير دمشق، الذي هو شماليها، ومواضع أخر، وتوجه الملك الأمجد وأقام بداره التي داخل باب النصر بدمشق، المعروفة بدار السعادة، وهي التي ينزلها النواب.(3/146)
ذكر مقتل الملك الأمجد
لما أخذت منه بعلبك ونزل بداره المذكورة، كان قد حبس بعض مماليكه في مرقد عنده بالدار، وجلس الملك الأمجد قدام باب المرقد يلعب بالنرد، ففتح المملوك المذكور الباب ومعه سيف، وضرب به أستاذه الملك الأمجد فقتله، ثم طلع المملوك إلى سطح الدار وألقى نفسه إلى وسطها فمات، ودفن الملك الأمجد بمدرسة والده التي على الشرف، وكانت مدة ملكه بعلبك تسعاً وأبعين سنة، لأن عم أبيه السلطان الملك " الناصر صلاح الدين ملكه بعلبك، سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، لما مات أبوه فرخشاه، وانتزعت منه هذه السنة، فذلك خمسون سنة إلا سنة، وكان الملك الأمجد أشعر بني أيوب، وشعره مشهور.
ذكر ملك جلال الدين خلاط في هذه السنة، لما طال حصار جلال الدين على خلاط، واشتد مضايقتها، هجمها بالسيف، وفعل في أهلها ما يفعلونه التتر من القتل والاسترقاق والنهب، ثم قبض على نائب الملك الأشرف بها، وهو مملوكه أيبك، وسلمه إلى مملوك حسام الدين الحاجب، علي الموصلي، فقتله وأخذ بثأر أستاذه.
ذكر كسرة جلال الدين من الملك الأشرف ولما جرى من جلال الدين ما جرى، من أخذ خلاط، اتفق صاحب الروم كيقباذ بن كيخسرو ابن قليج أرسلان، والملك الأشرف ابن الملك العادل، فجمع الملك الأشرف عساكر الشام وسار إلى سيواس، واجتمع فيها بملك بلاد الروم علاء الدين كيقباذ المذكور، وسار إلى جهة خلاط، والتقى الفريقان في التاسع والعشرين من رمضان من هذه السنة، فولى الخوارزميون وجلال الدين منهزمين، وهلك غالب عسكره قتلاً وتردياً من رؤوس جبال كانت في طريقهم، وضعف جلال الدين بعدها، وقويت عليه التتر، وارتجع الملك الأشرف خلاط وهي خراب يباب، ثم وقعت المراسلة بين الملك الأشرف وكيقباذ وجلال الدين وتصالحوا، وتحالفوا على ما بأيديهم، وأن لا يتعرض أحد منهم إلى ما بيد الآخر.
وفي هذه السنة استولى الملك المظفر غازي ابن الملك العادل على أرزن من ديار بكر، وهي غير أرزن الروم، وكان صاحب أرزن ديار بكر يقال له حسام الدين، من بيت قديم في الملك، فأخذها منه الملك المظفر غازي المذكور، وعوضه عن أرزن بمدينة حاني، وهذا حسام الدين من بيت كبير يقال لهم بيت الأحدب، وأرزن لم تزل بأيديهم من أيام السلطان ملك شاه السلجوقي إلى الآن، فسبحان من لا يزول ملكه.
وفيها جمعت الفرنج من حصن الأكراد وقصدوا حماة، فخرج إليهم الملك المظفر محمود ابن الملك المنصور صاحب حماة، والتقاهم عند قرية بين حماة وبارين يقال لها أفيون، وكسرهم كسرة عظيمة، ودخل الملك المظفر محمود حماة مؤيداً منصوراً.
وفيهما ولد الملك الناصر يوسف ابن الملك العزيز صاحب حلب، ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وستمائة، والسلطان الملك الكامل بديار مصر، وأخوه الملك الأشرف بدمشق في ملاذه، وقد تخلى عن البلاد الشرقية، فإن حران وما معها صارت لأخيه الملك الكامل، وخلاط صارت خرابا يباباً، ولم يكن للملك الأشرف ابن ذكر، فاقتنع بدمشق واشتغل باللهو والملاذ.
وفيها سار الملك الأشرف من دمشق إلى عند أخيه الملك الكامل وأقام عنده بالديار المصرية متنزهاً.
ذكر قصد التتر بلاد الإسلام وفي هذه السنة عاودت التتر قصد بلاد الإسلام، وسفكوا وخربوا مثلما تقدم ذكره، وكان قد ضعف جلال الدين لقبح سيرته وسوء تدبيره، ولم يترك له صديقاً من ملوك الأطراف، وعادى الجميع، وانضاف إلى ذلك أن عسكره اختلف عليه لما حصل لجلال الدين من فساد عقله، وسببه أنه كان له مملوك يحبه محبة شديدة، واتفق موت ذلك المملوك، فحزن عليه حزناً شديداً لم يسمع بمثله، وأمر أهل توريز بالخروج والنواح واللطم عليه، ثم أنه لم يدفنه، وبقي يستصحب ذلك المملوك الميت معه حيث سار وهو يلطم ويبكي، وكان إذا قدم إليه الطعام يرسل منه إلى المملوك الميت، ولا يتجاسر أحد أن يتفوه أنه ميت، فكانوا يحملون إليه الطعام ويقولون أنه يقبل الأرض وهو يقول: إني الآن أصلح مما كنت، فأنف أمراؤه من ذلك، وخرج بعضهم عن طاعته، فضعف أمر جلال الدين لذلك، ولكسرته من الملك الأشرف، فتمكنت التتر من البلاد واستولوا على مراغة، وهو استيلاؤهم الثاني.
ذكر قتل جلال الدين
ولما تمكن التتر من بلاد أذربيجان، سار جلال الدين يريد ديار بكر، ليسير إلى الخليفة ويلتجئ إليه ويعتضد بملوك الأطراف على التتر، ويخوفهم عاقبة أمرهم، فنزل بالقرب من آمد، فلم يشعر إلا والتتر قد كبسوه ليلاً وخالطوا مخيسه، فهرب جلال الدين وقتل على ما نشرحه إن شاء الله تعالى. ولما قتل تمكنت التتر من البلاد وساقوا حتى وصلوا في هذه السنة إلى الفرات، واضطرب الشام بسبب وصولهم إلى الفرات، ثم شنوا الغارات في ديار بكر والجزيرة، وفعلوا من القتل والتخريب مثلما تقدم.
ومن تاريخ ظهور التتر تصنيف كاتب إنشاء جلال الدين النسوي المنشئ المقدم الذكر، في سنة ست عشرة وستمائة ما اخترناه وأثبتناه من أخبار خوارزم شاه محمد وابنه جلال الدين، لملازمة النسوي المذكور جلال الدين في جميع سفراته وغزواته، إلى أن كبس التتر جلال الدين(3/147)
والمنشئ المذكور، كان معه، فلذلك كان أخبر بأحوال جلال الدين ووالده من غيره. قال محمد المنشئ المذكور: إن خوارزم شاه محمد بن تكش، عظم شأنه واتسع ملكه، وكان له أربعة أولاد، قسم البلاد بينهم، أكبرهم جلال الدين منكبرني، وفوض إليه ملك غزنة، وباميان، والغور، وبست، وتكاباد، وزميزداور، وما يليها من الهند. وفوض خوارزم، وخراسان، ومازندران، إلى ولده قطب الدين زلاغ شاه، وجعله ولي عهده، ثم في آخر وقت عزله عن ولاية العهد، وفوضها إلى جلال الدين منكبرني وفوض كرمان، وكبش، ومكران، إلى ولده غياث الدين تبز شاه، وقد تقدمت أخباره. وفوض العراق إلى ولده ركن الدين غورشاه يحيى، وكان أحسن أولاده خلقاً وخلقاً، وقتل المذكور التتر بعد موت أبيه، وضرب لكل واحد منهم النوب الخمس في أوقات الصلوات، على عادة الملوك السلجوقية، وانفرد أبوهم خوارزم شاه محمد بنوبة ذي القرنين، وأنها تضرب وقتي طلوع الشمس وغروبها، وكانت دبادبه سبعاً وعشرين دبدبة من الذهب، قد رصعت بأنواع الجوهر، وكذا باقي الآلات النوبتية، وجعل سبعة وعشرين ملكاً يضربونها في أول يوم قرعت، وكانوا من أكابر الملوك، أولاد السلاطين، منهم: طغريل بن أرسلان السلجوقي، وأولاد غياث الدين صاحب الغور، والملك علاء الدين صاحب باميان، والملك تاج الدين صاحب بلخ، وولده الملك الأعظم صاحب ترمذ، والملك سنجر صاحب بخارا، وأشباههم، وكانت أم خوارزم شاه محمد تركان خاتون، من قبيلة بباووت، وهي فرع من فروع يمسك، وكانت بنت ملك من ملوكهم، تزوج بها تكش بن أرسلان بن أطسز بن محمد بن أنوشتكين غرشه، فلما صار الملك إلى ولده محمد بن تكش، قدم إلى والدته تركان خاتون قبائل يمسك من الترك، فعظم شأن ابنها السلطان محمد بهم، وتحكمت أيضاً بسببهم، تركان خاتون في الملك، فلم يملك ابنها إقليماً إلا وأفرد لخاصها منه ناحية جليلة، وكانت ذات مهابة ورأي، وكانت تنتصف للمظلوم من الظالم، وكانت جسورة على القتل، وعظم شأنها بحيث أنه إذا ورد توقيعان عنها وعن السلطان ابنها ينظر إلى تاريخهما، فيعمل بالأخير منهما، وكان طغر توقيعهما عصمة الدنيا والدين، آلغ تركان، ملكة نساء العالمين، وعلامتها اعتصمت بالله وحده، وكانت تكتبها بقلم غليظ، وتجود الكتابة.
قال المؤلف المذكور: ثم إن خوارزم شاه محمد، لما هرب من التتر بما وراء النهر وعبر جيحون، ثم سار إلى خراسان والتتر تتبعه، ثم هرب من خراسان ووصل إلى عراق العجم، ونزل عند بسطام، أحضر عشرة صناديق، ثم قال إنها كلها جواهر لا تعلم قيمتها، ثم أشار إلى صندوقين منها وقال: إن فيهما من الجواهر ما يساوي خراج الأرض بجملتها، ثم أمر بحملها إلى قلعة أزدهن، وهي من أحصن قلاع الأرض، وأخذ خط النائب بها بوصول الصناديق المذكورة مختومة، فلما استولى جنكزخان على تلك البلاد، حملت إليه الصناديق(3/148)
المذكورة بختومها، ثم إن التتر أدركوا السلطان محمد المذكور، فهرب وركب في المركب ولحقه التتر ورموه بالنشاب، ونجا السلطان منهم، وقد حصل له مرض ذات الجنب، قال: ووصل إلى جزيرة في البحر وأقام بها فريداً طريداً، لا يملك طارفاً ولا تليداً، والمرض يزداد، وكان في أهل مازدران أناس يتقربون إليه بالمأكول وما يشتهيه، فقال في بعض الأيام: أشتهي أن يكون عندي فرس يرعى حول خيمتي، وقد ضربت له خيمة صغيرة، فأهدي إليه فرس أصفر، وكان للسلطان محمد المذكور ثلاثون ألف جشار من الخيل، وكان إذا أهدى إليه أحد شيئاً وهو على تلك الحالة في الجزيرة من مأكول وغيره، يطلق لذلك الشخص شيئاً، ولم يكن عنده من يكتب التواقيع، فيتولى ذلك الرجل كتابة توقيعه بنفسه، وكان يعطي مثل السكين والمنديل علامة بإطلاق البلاد والأموال، فلما تولى ابنه جلال الدين، أمضى جميع ما أطلقه والده بالتواقيع والعلائم، ثم أدركت السلطان محمد المنية وهو بالجزيرة على تلك الحالة، فغسله شمس الدين محمود بن بلاغ الجاويش، ومقرب الدين، مقدم الفراشين، ولم يكن عنده ما يكفن به فكفن بقميصه ودفن بالجزيرة في سنة سبع عشرة وستمائة، بعد أن كان بابه، مزدحم ملوك الأرض وعظمائها يشتدون بجنابه، ويتفاخرون بلثم ترابه. ورقى إلى درجة الملوكية جماعة من مماليكه وحاشيته، فصار طشتداره، وركبداره وسلحداره، وجنداره، وغيرهم من أرباب الوظائف، كلهم ملوكاً، وكان في أعلامهم علامات سود يعرفون بها، فعلامة الدوادار الدواه، والسلحدار القوس، وعلامة الطشتدار المسينة، والحمدار النفجة، وعلامة أميراخور النعل، وعلامة الجاويشية قبة ذهب، وكان يمد السماط بين يديه، ويأكل الناس، ويرفع من الطعام الذي في صدر السماط إلى بين يدي الأكابر إذا قعدوا على السماط للأكل، وكانت الزبادي كلها ذهبية وفضية، وكان السلطان محمد المذكور يختص بأمور لا يشاركه فيها أحد منها. المجتر منشوراً على رأسه إذا ركب، ومنها اللكح، وهي أنبوبة تتخذ من الذهب الأحمر بين أذني مركوب السلطان، يخرج منها المعرفة، وتشد إلى طرف اللجام، ومنها الأعلام السود والسروج السود، والنفج السود، محمولة على أكتاف الجمدارية، ولا تحمل لغيره على الكتف، ومنها ن جنايبه كانت تجر قدامه، وجنايب غيره من الملوك كانت تجر وراءهم، ومنها أن أذناب خيله تلف من أوساطها مقدار شبرين، ومنها الجلوس بين يديه على الركبتين لمن يريد مخاطبته. قال المؤلف المذكور: ثم سار جلال الدين بعد موت أبيه السلطان محمد من الجزيرة إلى خوارزم، ثم هرب من التتر ولحق بغزنة وجرى بينه وبين التتر من القتال ما تقدم ذكره.
وسار إليه جنكزخان فهرب جلال الدين من غزنة إلى الهند فلحقه جنكزخان على ماء السند، وتصاففا صبيحة يوم الأربعاء لثمان خلون من شوال، سنة ثمان عشرة وستمائة، وكانت الكرة أولاً على جنكزخان، ثم عادت على جلال الدين وحال بينهما الليل وولى جلال الدين منهزماً وأسر ولد جلال(3/149)
الدين وهو ابن سبع أو ثمان سنين، وقتل بين يدي جنكزخان صبراً. ولما عاد جلال الدين إلى حافة ماء السند كسيراً، رأى والدته وأم ولده وجماعة من حرمه يصحن بالله عليك اقتلنا أو خلصنا من الأسر، فأمر بهن فغرقن، وهذه من عجايب البلايا ونوادر المصائب والرزايا.
ثم اقتحم جلال الدين وعسكره ذلك النهر العظيم، فنجا منهم إلى ذلك البر تقدير أربعة آلاف رجل حفاة عراة، ورمى الموج جلال الدين مع ثلاثة عن خواصه إلى موضع بعيد، وفقده أصحابه ثلاثة أيام، وبقي أصحابه لفقده حائرين، وفي تيه الفكر، سائرين إلى أن اتصل بهم جلال الدين فاعتدوا بمقدمه عيداً، وظنوا أنهم انشواً خلفاً جديداً، ثم جرى بين جلال الدين وبين أهل تلك البلاد وقائع انتصر فيها جلال الدين، ووصل إلى لهاوور من الهند، ولما عزم جلال الدين على العود إلى جهة العراق، استناب بهلوان أزبك على ما كان يملكه من بلاد الهند، واستناب معه حسن قراق، ولقبه وفاء ملك، وفي سنة سبع وعشرين وستمائة، طرد وفاء ملك بهلوان أزبك، واستولى وفاء ملك على ما كان يليه البهلوان من بلاد الهند.
ثم إن جلال الدين عاد من الهند ووصل إلى كرمان في سنة إحدى وعشرين وستمائة، وقاسى هو وعسكره في البراري القاطعة بين كرمان والهند شدائد، ووصل معه أربعة آلاف رجل، بعضهم ركاب أبقار وبعضهم ركاب حمير، ثم سار جلال الدين إلى خورستان واستولى عليها، ثم استولى على أذربيجان، ثم استولى على كنجة وسائر بلاد آران، ثم إن جلال الدين نقل أباه من الجزيرة إلى قلعة أزدهن ودفنه بها، ولما استولى التتر على القلعة المذكورة نبشوه وأحرقوه، وهذا كان فملهم في، كل ملك عرفوا قبره، فإنهم نبشوا محمود بن سبكتكين من غزنة وأحرقوا عظامه، ثم ذكر ما تقدمت الإشارة إليه من استيلاء جلال الدين على خلاط وغير ذلك، ثم ذكر له على جسر قريب آمد وإرساله يستنجد الملك الأشرف ابن الملك العادل فلم ينجده، وعزم جلال الدين على المسير إلى أصفهان، ثم انثنى عزمه عنه وبات بمنزله، وشرب تلك الليلة فسكر سكراً خماره دوار الرأس، وتقطع الأنفاس، وأحاط التتر به وبعسكره مصبحين.
فساهم وبسطهم حرير ... وصبحهم وبسطهم تراب
ومن في كفه منهم قناة ... كمن في كفه منهم خضاب
وأحاطت أطلاب التتر بخركاة جلال الدين وهو نائم سكران، فحمل بعض عسكره وهو أرخان، وكشف التتر عن الخركاة، ودخل بعض الخواص وأخذ بيد جلال الدين وأخرجه وعليه طاقية بيضاء، فأركبه الفرس وساق أرخان مع جلال الدين وتبعه التتر، فقال جلال الدين لأرخان انفرد عني بحيث تشتغل التتر يتبع سوادك، وكان ذلك خطأ منه، فإن أرخان تبعه جماعة من العسكر وصاروا تقدير أربعة آلاف فارس، وقصد أصفهان واستولى عليها مدة، ولما(3/150)
انفرد جلال الدين عن أرخان ساق إلى باسورة آمد، فلم يمكن من الدخول إلى آمد، فسار إلى قرية من قرى ميافارقين طالباً شهاب الدين غازي بن الملك العادل صاحب ميافارقين، ثم لحقه التتر في تلك القرية، فهرب جلال الدين إلى جبل هناك وبه أكراد يتخطفون الناس، فأخذوه وشلحوه وأرادوا قتله. فقال جلال الدين لأحدهم إني أنا السلطان، فاستبقني أجعلك ملكاً، فأخذه الكردي وأتى به إلى امرأته، وجعله عندها، ومضى الكردي إلى الجبل لإحضار ما له هناك، فحضر شخص كردي ومعه حربة وقال للامرأة، لم لا تقتلون هذا الخوارزمي؟ فقالت المرأة: لا سبيل إلى ذلك، فقد أمنه زوجي. فقال الكردي: إنه السلطان، وقد قتل لي أخاً بخلاط خيراً منه، وضربه بالحربة فقتله.
وكان جلال الدين أسمر قصيراً تركي السارة والعبارة، وكان يتكلم بالفارسية أيضاً، ويكاتب الخليفة على مبدأ الأمر على ما كان يكاتبه به أبوه خوارزم شاه محمد، فكان يكتب خادمه المطواع منكبرني، ثم بعد أخذ خلاط كاتبه بعبده، وكان يكتب إلى ملك الروم وملوك مصر والشام اسمه واسم أبيه، ولم يرض أن يكتب لأحد منهم خادمه أو أخوه أو غير ذلك، وكانت علامته على تواقيعه النصرة من الله وحده، وكان إذا كاتب صاحب الموصل أو أشباهه يكتب له هذه العلامة تعظيماً عن ذكر اسمه، وكان يكتب العلامة بقلم غليظ وكان جلال الدين يخاطب بخذاوند عالم، أي صاحب العالم، وكان مقتله في منتصف شوال من هذه السنة، أعني سنة ثمان وعشرين وستمائة، وهذا ما نقلناه من تاريخ محمد المنشئ، وهو ممن كان في خدمة جلال الدين إلى أن قتل، وكان كاتب الإنشاء الذي له، وكان محظياً متقدماً عنده.
ذكر غير ذلك
وفي هذه السنة انتهى التاريخ الكامل تأليف الشيخ عز الدين علي المعروف بابن الأثير الجزري، المنقول غالب هذا المختصر منه، فإنه ألفه من هبوط آدم إلى سنة ثمان وعشرين وستمائة، وتوفي عز الدين ابن الأثير المذكور في سنة ثلاثين وستمائة على ما سنذكره إن شاء الله تعالى بعد آخر تاريخه بسنتين.
وفيها في ذي القعدة توفي بالقاهرة أبو الحسن يحيى بن عبد المعطي بن عبد النور الزواوي النحوي الحنفي، كان أحد أئمة عصره في النحو واللغة، وسكن دمشق زماناً طويلاً، وصنف تصانيف مفيدة منها: منظومتة الألفية المشهورة، وكان مولده سنة أربع وستين وخمسمائة، والزواوي منسوب إلى زواوة، وهي قبيلة كبيرة بظاهر بجاية من أعمال إفريقية.
ثم دخلت سنة تسع وعشرين وستمائة والسلطانان الكامل والأشرف بالديار المصرية، والملك المظفر بحماة مالكها، ومعها المعرة، وأخوه الملك الناصر قليج أرسلان. ببارين مالكها، والعزيز محمد ابن الظاهر غازي قد استقل بملك حلب، والتتر قد استولوا على بلاد العجم كلها، والخليفة المستنصر بالعراق.
ثم ارتحل في هذه السنة(3/151)
الملك الكامل وأخوه الملك الأشرف من ديار مصر، وسارا إلى البلاد الشرقية، فسار الملك الكامل إلى الشوبك، واحتفل له الملك الناصر داود ابن المعظم عيسى ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، احتفالاً عظيماً، بالضيافات والإقامات والتقادم، وحصل بينهما الاتحاد التام، وكان نزول الملك الكامل باللجون قرب الكرك، وهي منزله الحجاج في العشر الأخير من شعبان هذه السنة، ووصل إليه باللجون صاحب حماة الملك المظفر محمود، ملتقياً، وسافر الناصر داود مع الملك الكامل بعسكره إلى دمشق، واستصحب الملك الكامل معه ولده الملك الصالح نجم الدين أيوب، وجعل نائبه بمصر ولده وولي عهده الملك العادل سيف الدين أبا بكر ابن الملك الكامل ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب.
ثم سار الملك الكامل ونزل سلمية، واجتمع معه ملوك أهل بيته في جمع عظيم، ثم سار بهم إلى آمد وحصرها وتسلمها من صاحبها الملك المسعود ابن الملك الصالح محمود بن محمد بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان بن أرتق، ومحمد بن قرا أرسلان المذكور، هو الذي ملكه السلطان صلاح الدين آمد بعد انتزاعها من ابن نيسان، وكان سبب انتزاع الملك الكامل آمد من الملك المسعود المذكور، لسوء سيرة الملك المسعود، وتعرضه لحريم الناس، وكان له عجوز قوادة يقال لها الأزا، كانت تؤلف بينه وبين نساء الناس الأكابر، ونساء الملوك، ولما نزل الملك المسعود إلى خدمة الملك الكامل وسلم آمد وبلادها إليه، ومن جملة معاقلها حصن كيفا، وهو في غاية الحصانة، أحسن الملك الكامل إلى الملك المسعود وأعطاه إقطاعاً جليلاً بديار مصر، ثم بدت منه أمور اعتقله الملك الكامل بسببها.
ولم يزل الملك المسعود معتقلاً إلى أن مات الملك الكامل، فخرج من الاعتقال واتصل بحماة، فأحسن إليه الملك المظفر محمود صاحب حماة، ثم سافر الملك المسعود المذكور إلى الشرق واتصل بالتتر فقتلوه، ولما تسلم الملك الكامل آمد وبلادها رتب فيها النواب من جهته وجعل فيها ولده الملك الصالح أيوب ابن الملك الكامل، وجعل معه شمس الدين صواب العادلي، وخرجت هذه السنة والملك الكامل بالشرق، ولما خرج الملك الكامل من مصر في هذه السنة، خرج صحبته بنتاه فاطمة خاتون زوجة الملك العزيز صاحب حلب، وغازية خاتون زوجة الملك المظفر صاحب حماة، بنتا الملك الكامل، وحملت كل منهما إلى بعلها، واحتفل لدخولهما بحماة وحلب.
وفي هذه السنة ظناً توفي علي بن رسول النائب على اليمن، واستقر مكانه ولده عمر بن علي.
ثم دخلت سنة ثلاثين وستمائة في هذه السنة رجع السلطان الملك الكامل من البلاد الشرقية بعد ترتيب أمورها وسار إلى ديار مصر، ورجع كل ملك إلى بلده.
الاستيلاء على شيزر
ذكر استيلاء الملك العزيز محمد بن الظاهر صاحب حلب على شيزر
وكانت شيزر بيد شهاب الدين يوسف بن مسعود بن سابق الدين عثمان ابن الداية، وكان(3/152)
سابق الدين عثمان ابن الداية المذكور وإخوته من أكابر أمراء نور الدين محمود بن زنكي، ثم اعتقل الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين الشهيد، سابق الدين عثمان ابن الداية، وشمس الدين أخاه، فأنكر السلطان صلاح الدين عليه ذلك، وجعله حجة لقصد الشام وانتزعه من الملك الصالح إسماعيل فاتصل أولاد الداية بخدمة السلطان صلاح الدين وصاروا من أكبر أمرائه وكانت شيزر إقطاع سابق الدين المذكور، فأقره السلطان صلاح الدين عليها وزاده أبا قبيس، لما قتل صاحبها خمار دكن، ثم ملك شيزر بعده ولده مسعود بن عثمان حتى مات، وصارت لولده شهاب الدين يوسف المذكور إلى هذه السنة، فسار الملك العزيز صاحب حلب بأمر لملك الكامل وحاصر شيزر، وقدم إليه وهو على حصارها الملك المظفر محمود صاحب حماة مساعداً له، فسلم شهاب الدين يوسف شيزر إلى الملك العزيز ونزل إلي خدمته فتسلمها في هذه السنة، وهنأ الملك العزيز يحيى بن خالد بن قيسراني بقوله:
يا مالكاً عم أهل الأرض نائله ... وخص إحسانه الداني مع القاصي
لما رأت شيزر آيات نصرك في ... أرجائها ألقت العاصي إلى العاصي
ثم ولي الملك العزيز على شيزر وأحسن إلى الملك المظفر محمود صاحب حماة، ورحل كل منهما إلى بلده.
وفي هذه السنة استأذن الملك المظفر محمود صاحب حماة الملك الكامل في انتزاع بارين من أخيه قليج أرسلان، لأنه خشي أن يسلمها إلى الفرنج لضعف قليج أرسلان عن مقاومتهم، فأذن الملك الكامل له في ذلك فسار الملك المظفر من حماة وحاصر بارين وانتزعها من أخيه قليج أرسلان ابن الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، ولما نزل قليج أرسلان إلى أخيه الملك المظفر أحسن إليه وسأله في الإقامة عنده بحماة، فامتنع وسار إلى مصر، فبذل له الملك الكامل إقطاعاً جليلاً وأطلق له أملاك جده بدمشق ثم بدا منه ما لا يليق من الكلام، فاعتقله الملك الكامل إلى أن مات قليج أرسلان المذكور في الحبس سنة خمس وثلاثين وستمائة، قبل موت الملك الكامل بأيام.
غير ذلك من الحوادث:
في هذه السنة توفي مظفر الدين كوكبوري بن زين الدين علي كجك. وقد تقدم ذكر ملكه أربل بعد موت أخيه نور الدين يوسف بن زين الدين علي في سنة ست وثمانين وخمسمائة، لما كانا في خدمة السلطان صلاح الدين في الجهاد بالساحل، فبقي مالكها من تلك السنة إلى هذه السنة، ولما مات مظفر الدين المذكور، لم يكن له ولد، فوصى بأربل وبلادها للخليفة المستنصر، فتسلمها الخليفة بعد موت مظفر الدين المذكور، وكان مظفر الدين ملكاً شجاعاً، وفيه عسف في استخراج الأموال من الرعية، وكان يحتفل بمولد النبي(3/153)
صلى الله عليه وسلم وينفق فيه الأموال الجليلة.
وفيها في شعبان توفي الشيخ عز الدين علي بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني المعروف بابن الأثير الجزري، ولد بجزيرة ابن عمر في رابع جمادى الأولى سنة خمس وخمسين وخمسمائة، ونشأ بها ثم صار إلى الموصل مع والده وإخوته، وسمع بها من أبي الفضل عبد الله بن أحمد الخطيب الطوسي، ومن في طبقته، وقدم بغداد مراراً، حاجاً ورسولاً من صاحب الموصل، وسمع من الشيخين يعيش بن صدقة، وعبد الوهاب بن علي الصوفي، وغيرهما، ثم رحل إلى الشام والقدس وسمع هناك من جماعة، ثم عاد إلى الموصل وانقطع في بيته للتوفير على العلم، وكان إماماً في علم الحديث، وحافظاً للتواريخ المتقدمة والمتأخرة، وخبيراً بأنساب العرب وأخبارهم، وصنف في التاريخ كتاباً كبيراً سماه الكامل، وهو المنقول منه غالب هذا المختصر، ابتدأ فيه من أول الزمان إلى سنة ثمان وعشرين وستمائة، وله كتاب أخبار الصحابة في ست مجلدات، واختصر كتاب الأنساب للسمعاني، وهو الموجود في أيدي الناس، دون كتاب السمعاني، وورث إلى حلب في سنة ست وعشرين وستمائة، ثم سافر ونزل عند الطواشي طغريل الأتابك بحلب، فأكرمه، إكراماً زائداً، ثم سافر إلى دمشق سنة سبع وعشرين، ثم عاد إلى حلب في سنة ثمان وعشرين، ثم توجه إلى الموصل فتوفي بها في التاريخ المذكور، ونسبة الجزيرة إلى ابن عمر، وهو رجل من أهل برقعيد من أعمال الموصل، اسمه عبد العزيز بن عمر، بنى هذه المدينة فأضيفت إليه.
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وستمائة في هذه السنة في المحرم توفي شهاب الدين طغريل الأتابك بحلب.
مسير السلطان الملك الكامل من مصر إلى قتال كيقباذ
ملك بلاد الروم:
في هذه السنة وقع من كيقباذ بن كيخسرو ملك بلاد الروم، التعرض إلى بلاد خلاط، فرحل الملك الكامل بعساكره من مصر، واجتمعت عليه الملوك من أهل بيته، ونزل شمالي سلمية في شهر رمضان من هذه السنة، ثم سار بجموعه ونزل على النهر الأزرق في حدود بلد الروم، وقد ضرب في عسكره ستة عشر دهليزاً، لستة عشر ملكاً في خدمته، منهم إخوته الملك الأشرف موسى صاحب دمشق، والملك المظفر غازي صاحب ميافارقين، والملك الحافظ أرسلان شاه صاحب قلعة جعبر، والصالح إسماعيل أولاد الملك العادل، والملك المعظم توران شاه ابن السلطان صلاح الدين، كان قد أرسله ابن أخيه الملك العزيز صاحب حلب مقدماً على عسكر حلب، إلى خدمة السلطان الملك الكامل، والملك الزاهر صاحب البيرة، داود ابن السلطان صلاح الدين، وأخوه الملك الأفضل موسى صاحب صميصات، ابن السلطان صلاح الدين، وكان قد ملكها بعد أخيه الملك الأفضل علي، والملك المظفر محمود صاحب حماة، ابن(3/154)
الملك المنصور محمد، والملك الصالح أحمد صاحب عينتاب ابن الملك الظاهر صاحب حلب والملك الناصر داود صاحب الكرك ابن الملك المعظم عيسى، ابن الملك العادل، والملك المجاهد شيركوه صاحب حمص، ابن محمد بن شيركوه.
وكان قد حفظ كيقباذ عك بلاد الروم، الدربندات بالرجال والمقاتلة، فلم يتمكن السلطان من الدخول إلى بلاد الروم من جهة النهر الأزرق، وأرسل بعض العسكر إلى حصن منصور وهو من بلاد كيقباذ، فهدموه، ورحل السلطان وقطع الفرات وسار إلى السويداء، وقدم جاسته تقدير ألفين وخمسمائة فارس مع الملك المظفر صاحب حماة، فسار الملك المظفر بهم إلى خرتبرت، وسار كيقباذ ملك الروم إليهم، واقتتلوا، فانهزم العسكر الكاملي، وانحصر الملك المظفر صاحب حماة في خرتبرت مع جملة من العسكر، وجد كيقباذ في حصارهم والملك الكامل بالسويداء، وقد أحس من الملوك الذين في خدمته بالمخامرة والتقاعد، فإن شيركوه صاحب حمص سعى إليهم وقال: إن السلطان ذكر أنه متى، ملك بلاد الروم فرقه على الملوك من أهل بيته عوض ما بأيديهم من الشام، ويأخذ الشام جميعه لينفرد بملك الشام ومصر، فتقاعدوا عن القتال وفسدت نياتهم، وعلم الملك الكامل بذلك، فأمكنه التحرك إلى قتال كيقباذ، لذلك، ودام الحصار على الملك المظفر صاحب حماة، فطلب الأمان فأمنه كيقباذ، ونزل إليه الملك المظفر، فأكرمه كيقباذ وخلع عليه ونادمه، وتسلم كيقباذ خرتبرت وأخذها من صاحبها، وكان من الأرتقية، قرايب أصحاب ماردين، وكان قد دخل في طاعة الملك الكامل، وصارت خرتبرت من بلاد كيقباذ، وكان نزول المظفر صاحب حماة من خرتبرت يوم الأحد لسبع من ذي القعدة، وأقام عند كيقباذ يومين ثم أطلقه، وسار من عنده لخمس بقين من ذي القعدة من هذه السنة، أعني سنة إحدى وثلاثين وستمائة ووصل بمن معه إلى الملك الكامل وهو بالسويداء من بلاد آمد، ففرح به وقوى نفرة السلطان الملك الكامل يومئذ من الناصر داود صاحب الكرك، فألزمه بطلاق بنته، فطلقها الناصر في داود، وأثبت الملك الكامل طلاقها منه.
وفي هذه السنة استتم بناء قلعة المعرة، وكان قد أشار سيف الدين علي بن أبي علي الهذباني، على الملك المظفر صاحب حماة ببنائها، فبناها، وتمت الآن، وشحنها بالرجال والسلاح، ولم يكن ذلك مصلحة، لأن الحلبيين حاصروها فيما بعد، وأخذوها، وخرجت المعرة بسببها.
وفي هذه السنة توفي سيف الدين الآمدي، وكان فاضلاً في العلوم العقلية، والأصولين وغيرها، واسمه علي بن أبي محمد بن سالم الثعلبي، وكان في مبتدأ أمره حنبلياً، ثم انتقل وصار فقيهاً شافعياً، واشتغل بالأصول، وصنف في أصول الفقه، وأصول الدين، والمعقولات عدة مصنفات، وأقام بمصر مدة، وتصدر في الجامع وفي المدرسة الملاصقة لتربة الشافعي، وتحامل عليه الفقهاء الفضلاء، وعملوا محضراً ونسبوه فيه إلى انحلال العقيدة(3/155)
ومذهب الفلاسفة، وحملوا المحضر إلى بعض الفقهاء الفضلاء، ليكتب خطه حسبما وضعوا خطوطهم به فكتب:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالقوم أعداء له وخصوم
ولما جرى ذلك استتر الآمدي المذكور وسار إلى حماة، وأقام فيها مدة، ثم عاد إلى دمشق حتى توفي بها في هذه السنة، وكانت ولادته في سنة إحدى وخمسين وخمسمائة.
وفيها توفي الصلاح الأربلي، وكان فاضلاً شاعراً أميراً محظياً عند الملكين الكامل والأشرف ابني الملك العادل.
ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين وستمائة والملك الكامل بالبلاد الشرقية، وقد انثنى عزمه عن قصد بلاد الروم، للتخاذل الذي حصل في عسكره، ثم رحل وعاد إلى مصر، وعاد كل واحد من الملوك إلى بلده.
وفيها توفي الملك الزاهر داود صاحب البيرة ابن السلطان صلاح الدين، وكان قد مرض في العسكر الكاملي فحمل إلى البيرة مريضاً وتوفي بها، وملك البيرة بعده ابن أخيه الملك العزيز محمد صاحب حلب، وكان الزاهر المذكور شقيق الظاهر صاحب حلب.
وفيها توفي القاضي بهاء الدين بن شداد، في صفر وكان عمره نحو ثلاث وتسعين سنة، وصحب السلطان صلاح الدين، وكان قاضي عسكره، ولما توفي صلاح الدين كان عمر القاضي المذكور نحو خمسين سنة، ونال القاضي بهاء الدين المذكور من المنزلة عند أولاد صلاح الدين، وعند الأتابك طغريل، ما لم ينلها أحد ولم يكن في أيامه من اسمه شداد، بل لعل ذلك في نسب أمه فاشتهر به وغلب عليه، وأصله من الموصل، وكان فاضلاً ديناً، وكان إقطاعه على الملك العزيز ما يزيد على مائة ألف درهم في السنة.
وفيها لما سارت الملوك إلى بلادهم من خدمة الملك الكامل، وصل الملك المظفر صاحب حماة ودخلها، لخمس بقين من ربيع الأول من هذه السنة، واتفق مولد ولده المنصور محمد بعد مقدمه بيومين في الساعة الخامسة من يوم الخميس، لليلتين بقيتا من ربيع الأول من هذه السنة، أعني سنة اثنتين وثلاثين وستمائة، فتضاعف السرور بقدوم الوالد والولد. قال الشيخ شرف الدين عبد العزيز بن محمد قصيدة طويلة في ذلك، فمنها:
غدا الملك محروس الذرى والقواعد ... بأشرف مولود لأشرف والد
حبينا به يوم الخميس كأنه ... خميس بدا للناس في شخص واحد
وسميته باسم النبي محمد ... وجديه فاستوفى جميع المحامد
أي باسم جديه الملك الكامل محمد، والد والدته، والملك المنصور محمد صاحب حماة، والد والده، ومنها:
كأني به في سدة الملك جالساً ... وقد ساد في أوصافه كل سائد
ووافاك من أبنائه وبنيهم ... بأنجم سعد نورها غير خامد(3/156)
ألا أيها الملك المظفر دعوتي ... ستوري بها زندي ويشتد ساعدي
هضيئاً لك الملك الذي بقدومه ... ترحل عنا كل هم معاود
وفيها لما تفرقت العساكر الكاملية، قصد كيقباذ كيخسرو صاحب بلاد الروم حران والرها، وحاصرهما، واستولى عليهما، وكانا للسلطان الملك الكامل.
وفيها توفي بالقاهرة القاسم بن عمر بن علي الحموي، المصري الدار، المعروف بابن الفارض، وله أشعار جيدة، منها قصيدته التي عملها على طريقة الفقراء، وهي مقدار ستمائة بيت. ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وستمائة في هذه السنة سار الناصر داود من الكرك إلى بغداد، ملتجئاً إلى الخليفة المستنصر، لما حصل عنده من الخوف من عمه الملك الكامل، وقدم إلى الخليفة تحفاً عظيمة، وجواهر نفيسة، فأكرمه الخليفة المستنصر وخلع عليه، وعلى أصحابه، وكان الناصر داود يظن أن الخليفة يستحضره في ملأ من الناس كما استحضر مظفر الدين صاحب إربل، فلم يحصل له ذلك، وألح في طلب ذلك من الخليفة فلم يجبه، فعمل الناصر المذكور قصيدة يمدح المستنصر فيها ويعرض بصاحب إربل واستحضاره، ويطلب الأسوة به وهي قصيدة طويلة منها:
فأنت الإمام العدل والمفرق الذي ... به شرفت أنسابه ومناصبه
جمعت شتيت المجد بعد افتراقه ... وفرقت جمع المال فانهال كاتبه
ألا يا أمير المؤمنين ومن غدت ... على كاهل الجوزاء تعلو مراتبه
أيحسن في شرع المعالي ودينها ... وأنت الذي تعزى إليك مذاهبه
بأني أخوض الدو والدو مقفر ... سآريبه مغبرة وسباسبه
وقد رصد الأعداء لي كل مرصد ... فكلهم نحوي تدب عقاربه
منها:
وتسمح لي بالمال والجاه بغبتي ... وما الجاه إلا بعض ما أنت واهبه
ويأتيك غيري من بلاد قريبة ... له الأمن فيها صاحب لا يجانبه
فيلقى دنواً منك لم ألق مثله ... ويحص وما أحظى بما أنا طالبه
وينظر من لألآء قدسك نظرة ... فيرجع والنور الإمامي صاحبه
ولو كان يعلوني بنفس ورتبة ... وصدق ولاء لست فيه أصاقبه
لكنت أسلي النفس عما أرومه ... وكنت أذود العين عما يراقبه
ولكنه مثلي ولو قلت أنني ... أزيد عليه لم يعب ذاك عايبه
وما أنا ممن يملأ المال عينه ... ولا بسوى التقريب تقضى مآربه
وكان الخليفة متوقفاً على استحضار الناصر داود، رعاية لخاطر الملك الكامل، فجمع بين(3/157)
المصلحتين واستحضره ليلاً، ثم عاد الملك الناصر إلى الكرك.
وفي هذه السنة سار السلطان الملك الكامل من مصر إلى البلاد الشرقية، واسترجع حران والرها من يد كيقباذ صاحب بلاد الروم، وأمسك أجناد كيقباذ ونوابه الذين كانوا بهما، وقيدهم وأرسلهم إلى مصر، فلم يستحسن ذلك منه، ثم عاد الملك الكامل إلى دمشق وأقام عند أخيه الملك الأشرف حتى خرجت هذه السنة.
وفي هذه السنة توفي شرف الدين محمد بن نصر بن عنين الزرعي، الشاعر المشهور، وكان شاعراً مفلقاً، وكان يكثر هجو الناس، عمل قصيدة خمسمائة بيت سماها مقراض الأعراض، لم يسلم منها أحد من أهل دمشق، ونفاه السلطان صلاح الدين إلى اليمن، فمدح صاحبها طغتكين بن أيوب، وحصل له منه أموال كثيرة، عمل بها ابن عنين متجراً وقدم به إلى مصر، وصاحبها حينئذ العزيز عثمان ابن السلطان صلاح الدين، فلما أخذت من ابن عنين زكاة ما معه على عادة التجار، قال في العزيز:
ما كل من يتسمى بالعزيز لها ... أهل ولا كل برق سحبه غدقه
بين العزيزين بون في فعالهما ... فذاك يعطي وهذا يأخذ الصدقه
ثم سار ابن عنين المذكور إلى دمشق، ولازم الملك المعظم عيسى صاحب دمشق، وبقي عنده. وتوفي بدمشق في هذه السنة، وديوانه مشهور.
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وستمائة فيها عاد السلطان الملك الكامل إلى الديار المصرية.
ذكر وفاة الملك العزيز صاحب حلب وفي هذه السنة كان قد خرج الملك العزيز محمد ابن الملك الظاهر غازي ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى حارم للصيد ورمى البندق، واغتسل بماء بارد، فحم، ودخل إلى حلب، وقد قويت به الحمى واشتد مرضه، وتوفي في ربيع الأول من هذه السنة وكان عمره ثلاثاً وعشرين سنة وشهوراً، وكان حسن السيرة في رعيته، ولما توفي تقرر في الملك بعده ولده الناصر يوسف ابن الملك العزيز محمد، وعمره نحو سبع سنين، وقام بتدبير الدولة شمس الدين لؤلؤ الأرمني، وعز الدين عمر بن مجلي، وجمال الدولة إقبال الخاتوني، والمرجع في الأمور إلى والدة الملك العزيز، ضيفة خاتون بنت الملك العادل.
وفي هذه السنة توفي علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو صاحب بلاد الروم، وملك بعده ابنه غياث الدين كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان ابن قطلمش بن أرسلان بن سلجوق.
وفي هذه السنة قويت الوحشة بين الملك الكامل وبين أخيه الملك الأشرف، وكان ابتداؤها ما فعله شيركوه صاحب حمص، لما قصد الملك الكامل بلاد الروم، فاتفق الملك الأشرف مع صاحبة حلب ضيفة خاتون(3/158)
أخت الملك الكامل، ومع باقي الملوك على خلاف الملك الكامل، خلا الملك المظفر صاحب حماة، فلما امتنع تهدده الملك الأشرف بقصد بلاده وانتزاعها منه فقدم خوفاً من ذلك إلى دمشق وحلف للملك الأشرف ووافقه على قتال الملك الكامل، وكاتب الملك الأشرف كيخسرو صاحب بلاد الروم، واتفق معه على قتال أخيه الملك الكامل إن خرج من مصر، وأرسل الملك الأشرف يقول للناصر داود صاحب الكرك إن وافقتني جعلتك ولي عهدي، وأوصيت لك بدمشق، وزوجتك بابنتي، فلم يوافقه الناصر على ذلك لسوء حظه، ورحل إلى الديار المصرية إلى خدمة الملك الكامل، وصار معه على ملوك الشام، فسر به الملك الكامل وجدد عقده على ابنته عاشوراء التي طلقها منه، وأركب الناصر داود بسناجق السلطنة، ووعده أنه ينتزع دمشق من الملك الأشرف أخيه ويعطيه إياها، وأمر الملك الكامل أمراء مصر وولده الملك العادل أبا بكر ابن الملك الكامل، فحملوا الغاشية بين يدي الملك الناصر داود، وبالغ في إكرامه.
وفي هذه السنة توجه عسكر حلب مع الملك المعظم توران شاه عم الملك العزيز، فحاصروا بغراس وكان قد عمرها الداويه، بعد ما فتحها السلطان صلاح الدين وخربها، وأشرف عسكر حلب على أخذها، ثم رحلوا عنها بسبب الهدنة مع صاحب أنطاكية، ثم إن الفرنج أغاروا على ربض دربساك وهي حينئذ لصاحب حلب، فوقع بهم عسكر حلب وولى الفرنج منهزمين، وكثر فيهم القتل والأسر، وعاد عسكر حلب بالأسرى ورؤوس الفرنج وكانت هذه الوقعة من أجل الوقائع.
وفي هذه السنة استخدم الملك الصالح أيوب ابن الملك الكامل، وهو بالبلاد الشرقية، وهي آمد وحصن كيفا وحران وغيرها، نائباً عن أبيه، الخوارزمية، عسكر جلال الدين منكبرني، فإنهم بعد قتله ساروا إلى كيقباذ ملك بلاد الروم، وخدموا عنده، وكان فيهم عدة مقدمين، مثل بركب خان، وكشلوخان وصاروخان، وفرخان، وبردي خان، فلما مات كيقباذ وتولى ابنه كيخسرو وقبض على بركب خان وهو أكبر مقدميهم، ففارقت الخوارزمية حينئذ خدمته، وساروا عن الروم، ونهبوا ما كان على طريقهم، فاستمالهم الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل، واستأذن أباه في استخدامهم، فأذن له واستخدمهم.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وستمائة وقد استحكمت الوحشة بين الأخوين الكامل والأشرف، وقد لحق الملك الأشرف الذرب، وضعف بسببه، وعهد بالملك إلى أخيه الملك الصالح إسماعيل ابن الملك العادل صاحب بصرى.
ذكر وفاة الملك الأشرف وفي هذه السنة توفي الملك الأشرف، مظفر الدين موسى ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وكان قد مرض بالذرب، واشتد به حتى توفي في المحرم من هذه السنة، وتملك دمشق أخوه الصالح إسماعيل بعهد منه، وكان مدة ملك الأشرف دمشق ثمان سنين(3/159)
وشهوراً، وعمره نحو ستين سنة، وكان مفرط السخاء يطلق الأموال الجليلة النفيسة، وكان ميمون النقيبة، لم تنهزم له راية، وكان سعيداً، ويتفق له أشياء خارقة للعقل، وكان حسن العقيدة، وبنى بدمشق قصوراً ومنتزهات حسنة، وكان منهمكاً في اللذات وسماع الأغاني فلما مرض أقلع عن ذلك، وأقبل على الاستغفار إلى أن توفي، ودفن في تربته بجانب الجامع، ولم يخلف من الأولاد إلا بنتاً واحدة، توجها الملك الجواد يونس بن مودود ابن الملك العادل.
وكان سبب الوحشة بينه وبين أخيه الملك الكامل بعد ما كان بينهما من المصافات، أن الملك الأشرف لم يبق بيده غير دمشق وبلادها وكانت لا تفي بما يحتاجه وما يبذله وقت أخيه الملك الكامل إلى دمشق، وأيضاً لما فتح الملك الكامل آمد وبلادها لم يزده منها شيئاً، وأيضاً بلغه أن الملك الكامل يريد أن ينفرد بمصر والشام، وينتزع دمشق منه، فتغير بسبب ذلك، ولما استقر الملك الصالح إسماعيل في ملك دمشق، كتب إلى الملوك من أهله إلى كيخسرو صاحب بلاد الروم في اتفاقهم معه على أخيه الملك الكامل، فوافقوه على ذلك إلا الملك المظفر صاحب حماة، وأرسل الملك المظفر رسولاً إلى الملك الكامل يعرفه انتماءه إليه، أنه إنما وافق الملك الأشرف خوفاً منه، فقبل الملك الكامل عذره، وتحقق صدق ولائه ووعده بانتزاع سلمية من صاحب حمص وتسليمها إليه.
ذكر مسير السلطان الملك الكامل إلى دمشق واستيلائه عليها
ووفاته، وما يتعلق بذلك:
لما بلغ الملك الكامل وفاة أخيه الملك الأشرف، سار إلى دمشق ومعه الناصر داود صاحب الكرك، وهو لا يشك أن الملك الكامل يسلم إليه دمشق، لما كان قد تقرر بينهما، وأما الملك الصالح إسماعيل، فإنه استعد للحصار، ووصل إليه نجدة الحلبيين وصاحب حمص، ونازل الملك الكامل دمشق، وأخرج الملك الصالح إسماعيل النفاطين، فأحرق العقيبة جميعها وما بها من خانات وأسواق، وفي مدة حصار، وصل من عند صاحب حمص رجالة يزيدون على خمسين راجلاً، نجدة للصالح إسماعيل، وظفر بهم الملك الكامل، فشنقهم بين البساتين عن آخرهم، وحال نزول الملك الكامل على دمشق أرسل توقيعاً للملك المظفر صاحب حماة بسلمية، فتسلمها الملك المظفر واستقرت نوابه بها، وكان نزول الملك الكامل على دمشق في جمادى الأولى من هذه السنة، في قوة الشتاء.
ثم سلم الملك الصالح إسماعيل دمشق إلى أخيه الملك الكامل، وتعرض عنها بعلبك والبقاع، مضافاً إلى بصرى، وكان قد ورد من الخليفة المستنصر محي الدين يوسف ابن الشيخ جمال الدين ابن الجوزي، رسولاً للتوفيق بين الملوك، فتسلم الملك الكامل دمشق لإحدى عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى، وكان الملك الكامل شديد الحنق على شيركوه صاحب حمص،(3/160)
فأمر العسكر فبرزوا لقصد حمص، وأرسل إلى صاحب حماة وأمره بالمسير إليها، فبرز الملك المظفر من حماة ونزل على الرستن، واشتد خوف شيركوه صاحب حمص، وتخضع للملك الكامل، وأرسل إليه نساءه، ودخلن على الملك الكامل، فلم يلتفت إلى ذلك، ثم بعد استقرار الملك الكامل، في دمشق، لم يلبث غير أيام حتى مرض واشتد مرضه، وكان سببه، أنه لما دخل قلعة دمشق أصابه زكام، فدخل الحمام وسكب عليه ماء شديد الحرارة، فاندفعت النزلة إلى معدته وتورمت منها، وحصل له حمى، ونهاه الأطباء عن القيء، وخوفوه منه فلم يقبل، وتقيأ فمات لوقته، وعمره نحو ستين سنة، وكانت وفاته لتسع بقين من رجب من هذه السنة، أعني سنة خمس وثلاثين وستمائة، وكان بين موته وموت أخيه الملك الأشرف نحو ستة أشهر، وكانت مدة ملكه لمصر من حين مات أبوه عشرين سنة، وكان بها نائباً قبل ذلك قريباً من عشرين سنة، فحكم في مصر نائباً وملكاً نحو أربعين سنة، وأشبه حاله حال معاوية بن أبي سفيان، فإنه حكم في الشام نائباً نحو عشرين، وملكاً نحو عشرين.
وكان الملك الكامل ملكاً جليلاً مهيباً حازماً، حسن التدبير، أمنت الطرق في أيامه، وكان يباشر تدبير المملكة بنفسه، واستوزر في أول ملكه وزير أبيه صفي الدين بن شكر، فلما مات ابن شكر لم يستوزر أحداً بعده، وكان يخرج الملك الكامل بنفسه فينظر في أمور الجسور عند زيادة النيل، وإصلاحها، فعمرت في أيامه ديار مصر أتم العمارة، وكان محباً للعلماء ومجالستهم، وكانت عنده مسائل غريبة في الفقه والنحو يمتحن بها الفضلاء، إذا حضروا في خدمته، وكان كثير السماع للأحاديث النبوية، تقدم عنده بسببها الشيخ عمر بن دحية، وبنى له دار الحديث بين القصرين، في الجانب الغربي، وكانت سوق الآداب والعلوم عنده نافقة رحمه الله تعالى، وكان أولاد الشيخ صدر الدين بن حمويه من أكابر دولته، وهم الأمير فخر الدين ابن الشيخ، وإخوته عماد الدين، وكمال الدين، ومعين الدين، أولاد الشيخ المذكور، وكل من أولاد الشيخ المذكور حاز فضيلتي السيف والقلم، فكان يباشر التدريس، ويتقدم على الجيش، ولما مات السلطان الملك الكامل بدمشق، كان معه بها الملك الناصر داود صاحب الكرك فاتفق آراء الأمراء على تحليف العسكر للملك العادل أبي بكر بن الملك الكامل، وهو حينئذ نائب أبيه بمصر، فحلف له جميع العسكر، وأقاموا في دمشق الملك الجواد يونس بن مودود ابن الملك العادل أبو بكر ابن أيوب، نائباً عن الملك العادل أبي بكر ابن الملك الكامل، وتقدمت الأمراء إلى الملك الناصر داود بالرحيل عن دمشق، وهددوه إن أقام، فرحل الملك الناصر داود إلى الكرك، وتفرقت العساكر، فسار أكثرهم إلى مصر، وتأخر مع الجواد يونس بعض العسكر، ومقدمهم عماد الدين ابن الشيخ، وبقي يباشر الأمور مع الملك الجواد، ولما بلغ شيركوه صاحب(3/161)
حمص وفاة الملك الكامل فرح فرحاً عظيماً، وأتاه فرج ما كان يطمع نفسه به، وأظهر سروراً عظيماً، ولعب بالكرة على خلاف العادة، وهو في عشر السبعين، وأما الملك المظفر صاحب حماة، فإنه حزن لذلك حزناً عظيماً ورحل من الرستن وعاد إلى حماة وأقام فيها للعزاء، وأرسل صاحب حمص وارتجع سلمية من نواب الملك المظفر وقطع القناة الواصلة من سلمية إلى حماة، فيبست بساتينها، ثم عزم على قطع النهر العاصي عن حماة، فسد مخرجه من بحيرة قدس التي بظاهر حمص، فبطلت نواعير حماة والطواحين، وذهب ماء العاصي في أودية بجوانب البحيرة، ثم لما لم يجد له الماء مسلكاً عاد فهدم ما عمله صاحب حمص، وجرى كما كان أولاً، وكذلك كان قد حصل لصاحب حلب ولعسكرها، الخوف من الملك الكامل، فلما بلغهم موته أمنوا من ذلك.
ذكر استيلاء الحلبيين على المعرة وحصارهم حماة ولما بلغ الحلبيين موت الكامل، اتفقت آراؤهم على أخذ المعرة، ثم أخذ حماة من الملك المظفر صاحب حماة لموافقته الملك الكامل على قصدهم، ووصل عسكر حلب إلى المعرة وانتزعوها من يد الملك المظفر صاحب حماة، وحاصروا قلعتها، وخرجت المعرة حينئذ عن ملك الملك المظفر صاحب حماة، ثم سار عسكر حلب ومقدمهم المعظم توران شاه بن صلاح الدين إلى حماة، بعد استيلائهم على المعرة، ونازلوا حماة وبها صاحبها الملك المظفر، ونهب العسكر الحلبي بلاد حماة، واستمر الحصار على حماة حتى خرجت هذه السنة.
ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة، عقد لسلطان الروم غياث الدين كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو، العقد على غازية خاتون بنت الملك العزيز محمد، صاحب حلب وهي صغيرة حينئذ، وتولى القبول عن ملك بلاد الروم قاضي دوقات، ثم عقد للملك الناصر يوسف ابن الملك العزيز صاحب حلب، العقد على أخت كيخسرو، وهي ملكة خاتون بنت كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان، وأم ملكة خاتون المذكورة، بنت الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وكان قد زوجها الملك المعظم عيسى صاحب دمشق، بكيقباذ المذكور، وخطب لغياث الدين كيخسرو بحلب.
وفيها خرجت الخوارزمية عن طاعة الملك الصالح أيوب بعد موت أبيه الملك الكامل، ونهبوا البلاد.
وفيها سار لؤلؤ صاحب الموصل وحاصر الملك الصالح أيوب ابن الملك الكامل بسنجار، فأرسل الملك الصالح واسترضى الخوارزمية وبذل لهم حران والرها، فعادوا إلى طاعته، واتقع مع بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، فانهزم لؤلؤ وعسكره هزيمة قبيحة، وغنم عسكر الملك الصالح منهم شيئاً كثيراً.
وفي هذه السنة جرى بين الملك الناصر داوود صاحب الكرك، وبين الملك الجواد يونس، المتولي على(3/162)
دمشق، مصاف، بين جينين ونابلس، انتصر فيه الملك الجواد يونس، وانهزم الملك الناصر داود هزيمة قبيحة، وقوى الملك الجواد بسبب هذه الوقعة وتمكن من دمشق، ونهب عسكر الملك الناس وأثقاله.
وفي أواخر هذه السنة ولد والدي الملك الأفضل نور الدين علي ابن الملك المظفر صاحب حماة.
ثم دخلت سنة ست وثلاثين وستمائة.
في هذه السنة رحل عسكر حلب المحاصرة لحماة بعد مولد الملك الأفضل، وكان قد طالت مدة حصارهم لحماة، وضجروا فتقدمت إليهم ضيفة خاتون صاحبة حلب بنت الملك العادل بالرحيل عنها، فرحلوا، وضاق الأمر على الملك المظفر في هذا الحصار، وأنفق فيه أموالاً كثيرة، واستمرت المعرة في يد الحلبيين، وسلمية في يد صاحب حمص، ولم يبق بيد الملك المظفر غير حماة وبعرين، ولما جرى ذلك خاف الملك المظفر أن تخرج بعرين بسبب قلعتها، فتقدم بهدمها، فهدمت إلى الأرض في هذه السنة.
ذكر استيلاء الملك الصالح أيوب على دمشق وفي هذه السنة في جمادى الآخرة، استولى الملك الصالح أيوب ابن السلطان لملك الكامل على دمشق وأعمالها، بتسليم الملك الجواد يونس، وأخذ العوض كنها سنجار والرقة وعانة، وكان سبب ذلك أن الملك العادل ابن الملك الكامل صاحب مصر، لما علم باستيلاء الملك الجواد على دمشق، أرسل إليه عماد الدين ابن الشيخ لينتزع دمشق منه، وأن يعوض عنها إقطاعاً بمصر، فمال الجواد يونس إلى تسليمها إلى الملك الصالح حسبما ذكرناه، وجهز على عماد الدين ابن الشيخ من وقف له بقصة، فلما أخذها عماد الدين منه ضربه ذلك الرجل بسكين فقتله، ولما وصل الملك الصالح أيوب إلى دمشق، وصل معه الملك المظفر صاحب حماة معاضداً له، وكان قد لاقاه إلى أثناء الطريق، واستقر الملك الصالح أيوب المذكور في ملك دمشق، وسار الجواد يونس إلى البلاد الشرقية المذكورة، فتسلمها، ولما استقر ملك الملك الصالح بدمشق، وردت عليه كتب المصريين يستدعونه إلى مصر ليملكها، وسأله الملك المظفر صاحب حماة في منازلة حمص وأخذها من شيركوه، فبرز إلى الثنية، وكان قد نازلت الخوارزمية وصاحب حماة، حمص، فأرسل شيركوه مالاً كثيراً وفرقه في الخوارزمية، فرحلوا عنه إلى البلاد الشرقية، ورحل صاحب حماة إلى حماة، ثم كر الملك الصالح عائداً إلى دمشق، طالباً مصر، وسار من دمشق إلى خربة اللصوص، وعيد بها عيد رمضان، ووصل إليه بعض عساكر مصر مقفزين، ولما خرج الملك الصالح من دمشق، جعل نائبه فيها ولده الملك المغيث فتح الدين عمر ابن الملك الصالح، وشرع الملك الصالح يكاتب عمه الصالح إسماعيل صاحب بعلبك، ويستدعيه إليه، وعمه إسماعيل المذكور، يتحجج ويعتذر عن الحضور،(3/163)
ويظهر له أنه معه، وهو يعمل في الباطن على ملك دمشق وأخذها من الصالح أيوب، وكان قد سافر الملك الناصر صاحب الكرك إلى مصر واتفق مع الملك العادل أبي بكر ابن الملك الكامل على قتال الملك الصالح أيوب.
ووصل أيضاً في هذه السنة محي الدين ابن الجوزي رسولاً من الخليفة ليصلح بين الأخوين العادل صاحب مصر، والصالح أيوب المستولي على دمشق، وهذا محي الدين هو الذي حضر ليصلح بين الكامل والأشرف، فاتفق أنه مات في حضوره في سنة أربع وثلاثين وخمس وثلاثين أربعة من السلاطين العظماء، وهم الملك الكامل صاحب مصر، وأخوه الأشرف صاحب دمشق، والعزيز صاحب حلب، وكيقباذ صاحب بلاد الروم. فقال في ذلك ابن المسجف أحد شعراء دمشق:
يا إمام الهدى أبا جعفر المن ... صور يا من له الفخار الأثيل
ما جرى من رسولك الآن محي الدين ... في هذه البلاد قليل
جاء والأرض بالسلاطين تزهى ... وغدا والديار منهم طلول
أقفر الروم والشآم ومصر ... أفهذا مغسل أم رسول
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وستمائة في هذه السنة في صفر سار الملك الصالح إسماعيل صاحب بعلبك، ومعه شيركوه صاحب حمص، بجموعهما، وهجموا دمشق، وحصروا القلعة، وتسلمها الصالح إسماعيل، وقبض على المغيث فتح الدين عمر ابن الملك الصالح أيوب. وكان الملك الصالح أيوب بنابلس لقصد الاستيلاء على ديار مصر، وكان قد بلغه سعي عمه إسماعيل في الباطن. وكان للصالح أيوب طبيب يثق به يقال له الحكيم سعد الدين الدمشقي، فأرسله الصالح أيوب إلى بعلبك، ومعه قفص من حمام نابلس: ليطلعه بأخبار الصلح صاحب بعلبك وحال وصول الحكيم المذكور، علم به صاحب بعلبك، فاستحضره وأكرمه وسرق الحمام التي لنابلس، وجعل موضعها حمام بعلبك، ولم يشعر الطبيب المذكور بذلك، فصار الطبيب المذكور يكتب أن عمك إسماعيل قد جمع، وهو في نية قصد دمشق، ويطبق فيقعد الطير ببعلبك، فيأخذ الصالح إسماعيل البطاقة ويزور على الحكيم، أن عمك إسماعيل قد جمع ليعاضدك، وهو واصل إليك ويسرجه على حمام نابلس، فيعتمد الصالح أيوب على بطاقة الحكيم ويترك ما يرد إليه من غيره من الأخبار.
واتفق أيضاً أن الملك المظفر صاحب حماة، علم بسعي الصالح إسماعيل صاحب بعلبك في أخذ دمشق، مع خلوها ممن يحفظها، فجهز نائبه سيف الدين علي بن أبي علي، ومعه جماعة من عسكر حماة وغيرهم، وجهز معه من السلاح والمال شيئاً كثيراً، ليصل إلى دمشق ويحفظها لصاحبها، وأظهر الملك المظفر وابن أبي علي أنهما قد اختصما، وأن ابن أبي(3/164)
علي قد غضب واجتمع معه هذه الجماعة، وقد قصدوا فراق صاحب حماة، لأنه يريد أن يسلم حماة للفرنج، كل ذلك خوفاً من صاحب حمص شيركوه لئلا يقصد ابن أبي علي ويمنعه، فلم تخف عن شيركوه هذه الحيلة، ولما وصل ابن أبي جملي إلى بحيرة حمص، قصده شيركوه وأظهر أنه مصدقه، فيما ذكر، وسأله الدخول إلى حمص ليضيفه، وأخذ ابن أبي علي معه، وأرسل من استدعى باقي أصحاب ابن أبي علي إلى الضيافة، فمنهم من سمع ودخل إلى حمص ومنهم من هرب فسلم، فلما حصلوا عنده بحمص، قبض على ابن أبي علي، وعلى جميع من دخل حمص من الحمويين، واستولى على جميع ما كان معهم من السلاح والخزانة، وبقي يعذبهم ويطلب منهم أموالهم حتى امتصفاها ومات ابن أبي علي، وغيره في حبسه بحمص، والذي سلم وبقي إلى بعد موت شيركوه خلص ولما جرى ذلك ضعف الملك المظفر صاحب حماة ضعفاً كثيراً. وأما الملك الصالح أيوب فلما بلغه قصد عمه إسماعيل دمشق رحل من نابلس إلىالغور فبلغه استيلاء عمه على قلعة دمشق واعتقال ولده المغيث عمر، ففسدت نيات عساكره عليه، وشرعت الأمراء ومن معه من الملوك يحركون فقاراتهم ويرحلون، مفارقين الصالح أيوب إلى الصالح إسماعيل بدمشق، فلم يبق عند الصالح أيوب بالغور غير مماليكه، وأستاذ داره حسام الدين بن أبي علي، وأصبح الملك الصالح أيوب لا يدري ما يفعل ولا له موضع يقصده، فقصد نابلس ونزل بها بمن بقي معه، وسمع الناصر داود بذلك، وكان قد وصل من مصر إلى الكرك فنزل بعسكره وأمسك الملك الصالح أيوب وأرسله إلى: الكرك واعتقله بها، وأمر بالقيام في خدمته بكل ما يختاره، ولما اعتقل الصالح أيوب بالكرك، تفرق عنه باقي أصحابه ومماليكه، ولم يبق منهم معه غير عمدة يسيرة، ولما جرى ذلك، أرسل أخو الصالح الملك العادل أبو بكر صاحب مصر يطلبه من. الملك الناصر داود، فلم يسلمه الناصر داود، فأرسل الملك العادل وتهدد الملك الناصر بأخذه بلاده، فلم يلتفت إلى ذلك.
ذكر غير ذلك
وفي هذه السنة بعد اعتقال الملك الصالح بالكرك، قصد الناصر داود القدس، وكان الفرنج قد عمروا قلعتها بعد موت الملك الكامل، فحاصرها وفتحها وخرب القلعة، وخرب برج داود أيضاً، فإنه لما خربت القدس أولاً، لم يخرب برج داود، فخربه في هذه، المرة.
وفي هذه السنة توفي الملك المجاهد شيركوه صاحب حمص ابن ناصر الدين محمد بن شيركوه ابن شاذي وكانت مدة ملكه بحمص نحو ست وخمسين سنة، لأن صلاح الدين ملكه حمص سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، بعد موت أبيه محمد بن شيركوه، وكان عمره يومئذ نحو اثنتي عشرة سنة، وكان شيركوه المذكور عسوفاً لرعيته، وملك حمص(3/165)
بعده ولده الملك المنصور إبراهيم بن شيركوه.
وفي هذه السنة استولى بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل على سنجار، وأخذها من الملك الجواد يونس بن مودود ابن الملك العادل.
ذكر خروج الملك الصالح أيوب من الاعتقال
والقبض على أخيه الملك العادل صاحب مصر، وملك الملك الصالح أيوب ديار مصر:
وفي هذه السنة في أواخر رمضان، أفرج الملك الناصر داود صاحب الكرك عن ابن عمه الملك الصالح أيوب، واجتمعت عليه مماليكه، وكاتبه إليها زهير، وسار الناصر داود وصحبته الصالح أيوب إلى قبة الصخرة، وتحالفا بها، على أن تكون ديار مصر للصالح، ودمشق والبلاد الشرقية للناصر داود، ولما تملك الصالح أيوب، لم يف للناصر بذلك، وكان يتأول في يمينه أنه كان مكرهاً، ثم سار إلى غزة، فلما بلغ العادل صاحب مصر ظهور أمر أخيه الصالح، عظم عليه. وعلى والدته ذلك، وبرز بعسكر مصر ونزل على بلبيس لقصد الناصر داود، والصالح أخيه، وأرسل إلى عمه الصالح إسماعيل المستولي على دمشق أن يبرز ويقصدهما من جهة الشام، وأن يستأصلهما. فسار الصالح إسماعيل بعساكر دمشق ونزل الفوار، فبينما الناصر داود والصالح أيوب في هذه الشدة، وهما بين عسكرين، قد أحاط بهما، إذ ركبت جماعة من المماليك الأشرفية ومقدمهم أيبك الأسمر، وأحاطوا بدهليز الملك العادل أبي بكر ابن الملك الكامل، وقبضوا عليه، وجعلوه في خيمة صغيرة، وعليه من يحفظه، وأرسلوا إلى الملك الصالح أيوب يستدعونه، فأتاه فرج لم يسمع بمثله.
وسار الملك الصالح أيوب، والملك الناصر داود إلى مصر، وبقي في كل يوم يلتقي الملك الصالح فوج بعد فوج من الأمراء والعسكر، وكان القبض على الملك العادل ليلة الجمعة، ثامن ذي القعدة من هذه السنة، فكانت مدة ملكه نحو سنتين، ودخل الملك الصالح أيوب إلى قلعة الجبل بكرة الأحد، لست بقين من الشهر المذكور، وزينت له البلاد، وفرح الناس بمقدمه، وحصل للملك المظفر صاحب حماة من السرور والفرح بملك الملك الصالح بمصر، ما لا يمكن شرحه، فإنه مازال على ولائه، حتى أنه لما أمسك بالكرك، كان يخطب له بحماة وبلادها، ولما استقر الملك الصالح أيوب في ملك مصر، وصحبته الناصر داود، حصل عند كل واحد منهما إشعار من صاحبه، وخاف الناصر داود أن يقبض عليه، فطلب دستوراً وتوجه إلى بلاده، الكرك وغيرها.
ذكر وفاة صاحب ماردين في هذه السنة وقيل في سنة ست وثلاثين، توفي ناصر الدين أرتق أرسلان بن أيلغازي(3/166)
بن إلبي بن تمرتاش بن أيلغازي بن أرتق صاحب ماردين، وكان يلقب الملك المنصور، وملك المذكور ماردين بعد أخيه حسام الدين بولق رسلان، حسبما تقدم ذكره في سنة ثمانين وخمسمائة وبقي أرتق أرسلان متغلباً عليه مملوك والده البقش، حتى قتله أرتق أرسلان في سنة إحدى وستمائة، واستقل أرتق أرسلان بملك ماردين حتى توفي في هذه السنة.
ولما مات الملك المنصور أرتق أرسلان، ملك بعده ابنه الملك السعيد نجم الدين غازي بن أرتق أرسلان المذكور حتى توفي في سنة ثلاث وخمسين وستمائة ظناً، ثم ملك بعده في السنة المذكورة ابنه الملك المظفر قرا أرسلان بن غازي بن أرتق أرسلان، وكانت وفاة المظفر قرا أرسلان المذكور، سنة إحدى وتسعين وستمائة ظناً، ثم ملك بعده ولده الأكبر شمس الدين داود ابن قرا أرسلان، سنة وتسعة أشهر. ثم توفي وملك بعده أخوه الملك المنصور نجم الدين غازي بن قرا أرسلان في سنة ثلاث وتسعين وستمائة ظناً، ونقلت وفيات المذكورين حسبما هو مشروح، من تقويم حل ماردين، ذكر فيه تواريخ بني أرتق، ولم أتحقق صحة ذلك، وسنذكر في سنة اثنتي عشرة وسبعمائة وفاة الملك المنصور غازي المذكور في سنة اثنتي عشرة وسبعمائة إن شاء الله تعالى.
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وستمائة في هذه السنة قبض الملك الصالح أيوب ابن الملك الكامل بعد استقراره في ملك مصر، على أيبك الأسمر مقدم المماليك الأشرفية، وعلى غيره من الأمراء والمماليك الذين قبضوا على أخيه، وأودعهم الحبوس، وأخذ في إنشاء مماليكه، وشرع الملك الصالح أيوب المذكور من هذه السنة في بناء قلعة الجزيرة، واتخذها مسكناً لنفسه.
وفيها نزل الملك الحافظ أرسلان شاه ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب عن قلعة جعبر، وبالس، وسلمهما إلى أخته ضيفة خاتون صاحبة حلب، وتسلم عوض ذلك إعزاز وبلاداً معها تساوي ما نزل عنه، وكان سبب ذلك أن الملك الحافظ المذكور، أصابه فالج، وخشي من أولاده، وتغلبهم عليه ففعل ذلك لأنه كان ببلاد قريبة إلى حلب لا يمكنهم التعرض إليه.
وفي هذه السنة كثر عبث الخوارزمية وفسادهم، بعد مفارقة الملك الصالح أيوب البلاد الشرقية، وساروا إلى قرب حلب، فخرج إليهم عسكر حلب مع الملك المعظم توران شاه بن صلاح الدين، ووقع بينهم القتال، فانهزم الحلبيون هزيمة قبيحة، وقتل منهم خلق كثير، منهم الملك الصالح ابن الملك الأفضل ابن السلطان صلاح الدين، وأسر مقدم الجيش الملك المعظم المذكور، واستولى الخوارزميون على ثقال الحلبيين، وأسروا منهم عدة كثيرة، ثم كانوا يقتلون بعضهم ليشتري غيره نفسه منهم بماله، فأخذوا بذلك شيئاً كثيراً، ثم نزل الخوارزمية بعد ذلك على جبلان، وكثر عبثهم وفسادهم ونهبهم في بلاد حلب، وجفل أهل الحواضر والبلاد، ودخلوا مدينة حلب، واستعد أهلها للحصار، وارتكب الخوارزمية من الزنا والفواحش والقتل ما ارتكبه التتر، ثم سارت الخوارزمية إلى منبج،(3/167)
وهجموها بالسيف يوم الخميس، لتسع بقين من ربيع الأول من هذه السنة، وفعلوا من القتل والنهب مثلما تقدم ذكره، ثم رجعوا إلى بلادهم، وهي حران، وما معها، بعد أن أخربوا بلد حلب.
ذكر عود الخوارزمية إلى بلد حلب
وغيرها
ثم إن الخوارزمية رحلوا من حران وقطعوا الفرات من الرقة، ووصلوا إلى الجبول، ثم إلى تل إعزاز، ثم إلى سرمين، ثم إلى تل المعرة، وهم ينهبون ما يجدونه، فإن الناس جفلوا من بين أيديهم، وكان قد وصل الملك المنصور إبراهيم بن شيركوه صاحب حمص ومعه عسكر من عسكر الصالح إسماعيل المستولي على دمشق، نجدة للحلبيين، فاجتمع الحلبيون مع صاحب حمص المذكور، وقصدوا الخوارزمية، واستمرت الخوارزمية على ما هم عليه من النهب حتى نزلوا على شيزر، ونزل عسكر حلب على تل السلطان، ثم رحلت الخوارزمية إلى جهة حماة، ولم يتعرضوا إلى نهب، لانتماء صاحبها الملك المظفر إلى الملك الصالح أيوب، ثم سارت الخوارزمية إلى سلمية، ثم إلى الرصافة طالبين الرقة، وسار عسكر حلب من تل السلطان إليهم، ولحقتهم العرب، فأرمت الخوارزمية ما كان معهم من المكاسب، وسيبوا الأسرى، ووصلت الخوارزمية إلى الفرات في أواخر شعبان في هذه السنة. ولحقهم عسكر حلب وصاحب حمص إبراهيم قاطع صفين، فعمل لهم الخوارزمية ستائر، ووقع القتال بينهم في الليل، فقطع الخوارزمية الفرات وساروا إلى حران، فسار عسكر حلب إلى البيرة، وقطعوا الفرات منها، وقصدوا الخوارزمية، واتقعوا قريب الرها لتسع بقين من رمضان هذه السنة، فولى الخوارزمية منهزمين، وركب صاحب حمص وعسكر حلب أقفيتهم يقتلون ويأسرون إلى أن حال الليل بينهم، ثم سار عسكر حلب إلى حران فاستولوا عليها، وهربت الخوارزمية إلى بلد عانة، وبادر بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل إلى نصيبين ودارا، وكانتا للخوارزمية، فاستولى عليهما، وخلص من كان بهما من الأسرى، وكان منهم الملك المعظم توران شاه ابن السلطان صلاح الدين، أسيراً في بلدة دارا من حين سوه في كسرة الحلبيين، فحمله بدر الدين لؤلؤ إلى الموصل، وقدم له ثياباً وتحفاً، وبعث به إلى عسكر حلب، واستولى عسكر حلب على الرقة والرها وسروج ورأس عين، وما مع ذلك، واستولى صاحب حمص المنصور إبراهيم على بلد الخابور، ثم سار عسكر حلب ووصل إليهم نجدة من الروم، وحاصروا الملك المعظم ابن الملك الصالح أيوب بآمد وتسلموها منه، وتركوا له حصن كيفا وقلعة الهيثم، ولم يزل ذلك بيده حتى توفي أبوه الملك الصالح أيوب بمصر، وسار إليها المعظم المذكور على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، وبقي ولد المعظم وهو للملك الموحد عبد الله ابن المعظم توران شاه ابن الصالح أيوب ابن الملك الكامل محمد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب،(3/168)
مالكاً لحصن كيفا إلى أيام التتر، وطالت مدته بها.
ذكر ما كان من الملك الجواد يونس
في هذه السنة كان هلاك الملك الجواد يونس بن مودود ابن الملك العادل، وصورة ما جرى له أنه كان قد استولى بعد ملك دمشق على سنجار وعانة، فباع عانة من الخليفة المستنصر بمال تسلمه منه، وسار لؤلؤ صاحب الموصل وحاصر سنجار ويونس المذكور غائب عنها، واستولى عليها، ولم يبق بيد يونس من البلاد شيء فصار على البرية إلى غزة، وأرسل إلى الملك الصالح أيوب صاحب مصر يسأله في المسير إليه، فلم يجبه إلى ذلك، فسار يونس حينئذ ودخل إلى عكا وأقام مع الفرنج، فأرسل الصالح إسماعيل صاحب دمشق حينئذ وبذل مالاً للفرنج، وتسلم الملك لجواد يونس المذكور من الفرنج واعتقله ثم خنقه.
وفي هذه السنة ولى الملك الصالح أيوب، الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام القضاء بمصر، والوجه القبلي، وكان عز الدين المذكور بدمشق، فلما قوي خوف الصالح إسماعيل صاحب دمشق من ابن أخيه الصالح أيوب صاحب مصر، سلم الصالح إسماعيل صفد والشقيف إلى الفرنج ليعضدوه، ويكونوا معه على ابن أخيه الصالح أيوب، فعظم ذلك على المسلمين، وأكثر الشيخ عز الدين بن عبد السلام التشنيع على الصالح إسماعيل بسبب ذلك، وكذلك جمال الدين أبو عمرو ابن الحاجب، ثم خافا من الصالح إسماعيل فسار عز الدين بن عبد السلام إلى مصر وتولى بها القضاء كرهاً، وسار جمال الدين أبو عمرو بن الحاجب إلى الكرك، وأقام عند الملك الناصر داود صاحب الكرك، ونظم له مقدمته الكافية في النحو، ثم بعد ذلك سافر ابن الحاجب إلى الديار المصرية.
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وستمائة والصالح إسماعيل صاحب دمشق، والمنصور إبراهيم بن شيركوه صاحب حمص، وصاحب حلب، متفقون على عداوة الملك الصالح أيوب، صاحب مصر، ولم يوافقهم صاحب حماة على ذلك، وأخلص في الانتماء إلى صاحب مصر.
وفي هذه السنة اتقعت الخوارزمية مع الملك المظفر غازي صاحب ميافارقين ابن الملك العادل.
وفيها في شعبان أصاب جد الملك المظفر صاحب حماة الفالج وهو جالس بين أصحابه في قلعة حماة، وبقي أياماً لا يتكلم ولا يتحرك، وكان ذلك في أواخر فصل الشتاء، وأرجف الناس بموته، وقام بتدبير المملكة مملوكه وأستاذ داره سيف الدين طغريل، ثم خف مرض الملك المظفر وفتح عينيه وصار يتكلم باللفظة واللفظتين، لا يكاد يفهم، وكان العاطب، الجانب الأيمن منه، وبعث إليه الصالح صاحب مصر طبيباً حاذقاً نصرانياً، يقال له النفيس بن طليب، فلم تنجع فيه المداواة، واستمر على ذلك إلى أن توفي بعد سنتين وكسر على ما سنذكر إن شاء الله تعالى.
وفي هذه السنة في ذي الحجة توفي الملك الحافظ نور الدين أرسلان شاه ابن الملك العادل بن أيوب بإعزاز(3/169)
وهي التي تعوضها عن قلعة جعبر، ونقل إلى حلب فدفن في الفردوس، وتسلم نواب الملك الناصر يوسف صاحب حلب، قلعة إعزاز وأعمالها.
وفيها في شعبان توفي الشيخ العلامة كمال الدين موسى بن يونس بن محمد بن منعة بن مالك الفقيه الشافعي، كان إمام وقته في مذهب الشافعي وغيره، وكان يشتغل الحنفيون عليه في مذهب أبي حنيفة، ويحل الجامع الكبير في مذهب أبي حنيفة وكان متقنا علم المنطق والطبيعي والإلهي، وكان إماماً مبرزاً في العلم الرياضي، وأتقن المجسطي وأقليدس والموسيقى والحساب بأنواعه، وكان أهل الذمة يقرؤون عليه التوراة والإنجيل، وشرح لهم هذه الكتابين شرحاً يعترفون أنهم لا يجدون من يوضح لهم مثله، وكان إماماً في العربية والتصريف، وكان يقرئ كتاب سيبويه والمفصل وغيرهما، وكذلك كان إماماً في التفسير والحديث، وقدم الشيخ أثير الدين الأبهري واسمه المفضل بن عمر بن المفضل إلى الموصل، واشتغل على الشيخ كمال الدين المذكور، وكان الشيخ أثير الدين الأبهري المذكور حينئذ إماماً مبرزاً في العلوم، ومع ذلك يأخذ الكتاب ويجلس بين يديه ويقرأ عليه.
قال القاضي شمس الدين بن خلكان: ولقد شاهدت بعيني أثير الدين الأبهري وهو يقرأ المجسطي على الشيخ كمال الدين بن يونس المذكور، واستمر سنين عديدة يشتغل عليه، وكان الأثير إذ ذاك صاحب تصانيف، يشتغل فيها الناس، وقصد تقي الدين عثمان بن عبد الرحمن، المعروف بابن الصلاح، الفقيه الشافعي، الشيخ كمال الدين المذكور، وسأله في أن يقرئه المنطق سراً، وتردد ابن الصلاح إلى الشيخ كمال الدين مدة يقرأ عليه المنطق ولا يفهمه، فقال له ابن يونس المذكور: يا فقيه، المصلحة عندي أن تترك الاشتغال بهذا الفن. فقال له ابن الصلاح: ولم ذلك؟ فقال: لأن الناس يعتقدون فيك الخير، وهم ينسبون كل من اشتغل بهذا الفن إلى فساد الاعتقاد، فكأنك تفسد عقائدهم فيك، ولا يصح لك من هذا الفن شيء، فقبل ابن الصلاح إشارته، وترك قراءته، وكان الشيخ كمال الدين بن يونس المذكور يتهم في دينه، لكون العلوم العقلية غالبة عليه، وكانت تعتريه غفلة لاستيلاء الفكرة عليه، فعمل فيه بعضهم.
أجدك إن قد جاد بعد التعبس ... غزال بوصل لي وأصبح مؤنسي
وعاطيته صهباء من فيه مزجها ... كرقة شعري أو كدين ابن يونس
وكانت ولادته في صفر سنة إحدى وخمسين وخمسمائة بالموصل، وبها توفي في التاريخ المذكور رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة أربعين وستمائة.
وفي هذه السنة كان بين الخوارزمية، ومعهم الملك المظفر غازي صاحب ميافارقين، وبين عسكر حلب، ومعهم المنصور إبراهيم صاحب حمص، مصاف، قريب الخابور عند المجدل، في يوم الخميس لثلاث بقين من صفر هذه السنة، فولى ظفر غازي والخوارزمية منهزمين أقبح هزيمة، ونهب منهم عسكر حلب(3/170)
شيئاً كثيراً، ونهبت وطاقات الخوارزمية ونساؤهم أيضاً، ونزل الملك المنصور إبراهيم في خيمة الملك المظفر غازي، واحتوى على خزانته ووطاقه، ووصل عسكر حلب وصاحب حمص إلى حلب، في مستهل جمادى الأولى مؤيدين منصورين.
ذكر وفاة الملكة ضيفة خاتون صاحبة حلب
وهي والدة الملك العزيز:
وفي هذه السنة، في ليلة الجمعة لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى توفيت ضيفة خاتون بنت الملك خاتون بنت الملك العادل أبي بكر أيوب وكان مرضها قرحة في مراق البطن، وحمى، ودفنت بقلعة حلب، وكان مولدها سنة إحدى أو اثنتين وثمانين وخمسمائة بقلعة حلب، حين كانت حلب لأبيها الملك العادل قبل أن ينتزعها منه أخوه السلطان صلاح الدين، ويعطيها ابنه الظاهر غازي، فاتفق مولدها ووفاتها بقلعة حلب، ولما ولدت كان عند أبيها الملك العادل ضيف، فسماها ضيفة، فكانت مدة عمرها نحو تسع وخمسين سنة.
وكان الملك الظاهر صاحب حلب قد تزوج قبل ضيفة خاتون بأختها غازية، وتوفيت، فلما توفيت غازية تزوج بأختها ضيفة خاتون المذكورة، وكانت ضيفة خاتون قد ملكت حلب بعد وفاة ابنها الملك العزيز، وتصرفت في الملك تصرف السلاطين، وقامت بالملك أحسن قيام، وكانت مدة ملكها نحو ست سنين، ولما توفيت كان عمر ابن ابنها الملك الناصر يوسف ابن الملك العزيز نحو ثلاث عشرة سنة، فأشهد عليه أنه بلغ، وحكم واستقل بمملكة حلب، وما هو مضاف إليها، والمرجع في الأمور إلى جمال الدين إقبال الأسود الخصي الخاتوني.
ذكر وفاة المستنصر بالله وفي هذه السنة توفي المستنصر بالله أبو جعفر المنصور ابن الظاهر محمد ابن الإمام الناصر أحمد، بكرة الجمعة لعشر خلون من جمادى الآخرة، وكانت مدة خلافته سبع عشرة سنة إلا شهراً، وكان حسن السيرة، عادلاً في الرعية، وهو الذي بنى المدرسة ببغداد، المسماة بالمستنصرية على شط دجلة من الجانب الشرقي، مما يلي دار الخلافة، وجعل لها أوقافاً جليلة على أنواع البر.
المستعصم بالله
ولما مات المستنصر اتفقت آراء أرباب الدولة، مثل الدوادار، والشرابي، على تقليد الخلافة ولده عبد الله، ولقبوه المستعصم بالله، وهو سابع ثلاثينهم، وآخرهم، وكنيته أبو أحمد بن المستنصر بالله منصور، وكان عبد الله المستعصم ضعيف الرأي، فاستبد كبراء دولته بالأمر، وحسنوا له قطع الأجناد وجمع المال، ومداراة التتر، ففعل ذلك وقطع أكثر العساكر.
ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وستمائة في هذه السنة قصدت التتر بلاد غياث الدين كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان السلجوقي صاحب بلاد الروم فأرسل واستنجد بالحلبيين، فأرسلوا إليه نجدة مع ناصح الدين الفارسي، وجمع العساكر من كل جهة، والتقى مع التتر، فانهزمت عساكر الروم هزيمة قبيحة، وقتل التتر وأسروا منهم(3/171)
خلقاً كثيراً، وتحكمت التتر وأسروا منهم خلقاً كثيراً، وتحكمت التتر في البلاد، واستولوا أيضاً على خلاط وآمد وبلادهما، وهرب غياث الدين كيخسرو إلى بعض المعاقل، ثم أرسل إلى التترر وطلب الأمان، ودخل في طاعتهم، ثم توفي غياث الدين كيخسرو المذكور بعد ذلك في سنة، أربع وخمسين وستمائة حسبما نذكره إن شاء الله تعالى.
وخلف صغيرين، وهما ركن الدين، وعز الدين، ثم هرب عز الدين إلى قسطنطينية، وبقي ركن الدين في الملك تحت حكم " التتر، والحاكم البرواناه معين الدين سليمان، والبرواناه لقبه، وهو اسم الحاجب بالعجمي، ثم إن. البرواناه قتل ركن الدين وأقام في الملك ولداً له صغيراً.
وفيها كانت المراسلة بين الصالح أيوب صاحب مصر والصالح إسماعيل صاحب دمشق، في الصلح، وأن يطلق الصالح إسماعيل المغيث فتح الدين عمر ابن الملك الصالح أيوب، وحسام الدين بن أبي علي الهذباني، وكانا معتقلين عند الملك الصالح إسماعيل فأطلق حسام الدين بن أبي علي وجهزه إلى مصر، واستمر الملك المغيث، بن الصالح أيوب في الاعتقال، واتفق الصالح إسماعيل مع الناصر داود صاحب الكرك، واعتضد بالفرنج، وسلما أيضاً إلى الفرنج عسقلاق وطبرية، فعمر الفرنج قلعتيهما، وسلما أيضاً إليهم القدس بما فيه من المزارات.
قال القاضي جمال الدين بن واصل: ومررت إذ ذاك بالقدس متوجهاً إلى مصر، ورأيت القسوس وقد جعلوا على الصخرة قناني الخمر للقربان.
ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين وستمائة.
ذكر المصاف الذي كان بين عسكر مصر وعسكر الشام ومعهم الخوارزمية وبين عسكر دمشق ومعهم الفرنج وصاحب حمص: في هذه السنة وصلت الخوارزمية إلى غزة باستدعاء الملك الصالح أيوب، لنصرته على عمه الصالح إسماعيل، وكان مسيرهم على حارم والروج إلى أطراف بلاد دمشق، حتى وصلوا. إلى غزة،. ووصل: إليهم عدة كثيرة من العساكر المصرية مع ركن الدين بيبرس، مملوك الملك الصالح أيوب، وكان من أكبر مماليكه، وهو الذي دخل معه الحبس لما حبس في الكرك، وأرسل الملك الصالح إسماعيل عسكر دمشق مع الملك المنصور إبراهيم بن شيركوه صاحب حمص، وسار صاحب حمص جريدة، ودخل عكا، فاستدعى الفرنج على ما كان قد وقع عليه اتفاقهم، ووعدهم بجزء من بلاد مصر فخرجت الفرنج بالفارس والراجل، واجتمعوا، أيضاً بصاحب حمص وعسكر دمشق والكرك، ولم يحضر الناصر داود ذلك، والتقى الفريقان بظاهر غزة، فولى عسكر دمشق وصاحب حمص إبراهيم، والفرنج منهزمين، وتبعهم عسكر مصر والخوارزمية، فقتلوا منهم خلقاً عظيماً، 7 واستولى الملك الصالح أيوب صاحب مصر على غزة والسواحل والقدس، ووصلت الأسرى والرؤوس إلى مصر، ودقت بها البشائر عدة أيام، ثم أرسل الملك الصالح صاحب مصر باقي عسكر مصر مع معين(3/172)
الدين ابن الشيخ، واجتمع إليه من بالشام من عسكر مصر والخوارزمية، وساروا إلى دمشق وحاصروها، وبها صاحبها الملك الصالح إسماعيل، وإبراهيم بن شيركوه صاحب حمص، وخرجت هذه السنة وهم محاصروها.
ذكر وفاة صاحب حماة في هذه السنة توفي جد الملك المظفر صاحب حماة، تقي الدين محسن ابن الملك المنصور ناصر الدين محمد ابن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه ابن أيوب، يوم السبت ثامن جمادى الأولى من هذه السنة، أعني سنة اثنتين وأربعين وستمائة، وكانت مدة مملكته لحماة خمس عشرة سنة وسبعة أشهر وعشرة أيام، كان منها مريضاً بالفالج سنتين وتسعة أشهر وأياماً، وكانت وفاته وهو مفلوج بحمى حادة عرضت له وكان عمره ثلاثاً وأربعين سنة، لأن مولده سنة تسع وتسعين وخمسمائة، وكان شهماً شجاعاً فطناً ذكياً، وكان يحب أهل الفضائل والعلوم، واستخدم الشيخ علم الدين قيصر، المعروف بتعاسيف، وكان مهندساً فاضلاً في العلوم الرياضية، فبنى للملك المظفر المذكور أبراجاً بحماة، وطاحوناً على نهر العاصي، وعمل له كرة من الخشب مدهونة، رسم فيها جميع، الكواكب المرصودة، وعملت هذه الكرة بحماة.
قال القاضي جمال الدين بن واصل: وساعدت الشيخ علم الدين على عملها، وكان الملك المظفر يحضر ونحن نرسمها، ويسألنا عن مواضع دقيقة فيها.
ولما مات الملك المظفر صاحب حماة، ملك بعده ولده الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر محمود المذكور، وعمره حينئذ عشر سنين وشهر واحد وثلاثة عشر يوماً، والقائم بتدبير المملكة، سيف الدين طغريل مملوك الملك المظفر، ومشاركة الشيخ شرف الدين عبد العزيز بن محمد، المعروف بشيخ الشيوخ، والطواشي مرشد والوزير بهاء الدين بن التاج، ومرجع الجميع إلى والدة الملك المنصور، غازية خاتون، بنت الملك الكامل.
وفيها بلغ الملك الصالح نجم الدين أيوب وفاة ابنه الملك المغيث، فتح الدين عمر، في حبس الصالح إسماعيل صاحب دمشق، فاشتد حزن الصالح أيوب عليه، وحنقه على الصالح إسماعيل.
وفي هذه السنة توفي الملك المظفر شهاب الدين غازي ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب صاحب ميافارقين، واستمر بعده في ملكه ولده الملك الكامل ناصر الدين محمد بن غازي.
وفيها سير من حماة الشيخ تاج الدين أحمد بن محمد بن نصر الله، المعروف بيته ببني المغيرك، رسولاً إلى الخليفة ببغداد، وصحبته تقدمة من السلطان الملك المنصور صاحب حماة.
وفيها توفي القاضي شهاب الدين إبراهيم بن عبد الله بن عبد المنعم بن علي بن محمد الشافعي عرف بابن أبي الدم، قاضي حماة، وكان قد توجه في الرسلية إلى بغداد، فمرض في المعرة، وعاد إلى حماة مريضاً فتوفي بها، وهو الذي ألف التاريخ الكبير المظفري وغيره.
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين(3/173)
وستمائة فيها سير الصالح إسماعيل وزيره أمين الدولة الذي كان سامرياً، وأسلم إلى العراق، مستشفعاً بالخليفة ليصلح بينه وبين ابن أخيه، فلم يجب الخليفة إلى ذلك، وكان أمين الدولة غالباً على الملك الصالح إسماعيل المذكور، بحيث لا يخرج عن رأيه.
ذكر استيلاء الملك الصالح أيوب على دمشق وفيها تسلم عسكر الملك الصالح أيوب، ومقدمهم معين الدين ابن الشيخ، دمشق، من الصالح إسماعيل ابن الملك العادل، وكان محصوراً معه بدمشق إبراهيم ابن شيركوه صاحب حمص، فتسلم دمشق على أن يستقر بيد الصالح إسماعيل بعلبك وبصرى والسواد، ويستقر بيد صاحب حمص، حمص وما هو مضاف إليها. فأجابهما معين الدين ابن الشيخ إلى ذلك، ووصل إلى دمشق حسام الدين بن أبي علي، بمن كان معه من العسكر المصري، واتفق بعد تسليم دمشق، أن معين الدين ابن الشيخ مرض، وتوفي بها، وبقي حسام الدين بن أبي علي نائباً بدمشق للملك الصالح أيوب.
ثم إن الخوارزمية خرجوا عن طاعة الملك الصالح أيوب، فإنهم كانوا يعتقدون أنهم إذا كسروا الصالح إسماعيل وفتحوا دمشق، يحصل لهم من البلاد والإقطاعات ما يرضي خاطرهم، فلما لم يحصل لهم ذلك، خرجوا عن طاعة الملك الصالح أيوب وصاروا مع الملك الصالح إسماعيل، وانضم إليهم الناصر داود صاحب الكرك، وساروا إلى دمشق وحصروها، وغلت بها الأقوات، وقاسى أهلها شدة عظيمة، لم يسمع بمثلها، وقام حسام الدين بن أبي علي الهذباني في حفظ دمشق أتم قيام، وخرجت السنة والأمر على ذلك.
ذكر غير ذلك من الحوادث
وفي هذه السنة قصدت التتر بغداد، وخرجت عساكر بغداد للقائهم، ولم يكن للتتر بهم طاقة، فولى التتر منهزمين على أعقابهم تحت الليل.
وفي هذه السنة توفيت ربيعة خاتون بنت أيوب، أخت السلطان صلاح الدين بدمشق، بدار العقيقي، وكانت قد جاوزت ثمانين سنة، وبنت مدرسة الحنابلة بجبل الصالحية.
وفيهما توفي الشيخ تقي الدين عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن الصلاح، الفقيه المحدث.
وفيها توفي علم الدين علي بن محمد بن عبد الصمد السخاوي، شرح قصيدة الشاطبي في القراءآت، وشرح المفصل للزمخشري، وسمى شرحه المفضل في شرح المفصل، وله مجموع سماه كتاب سفر السعادة وسفير الإفادة، ذكر فيها مسائل، مشكلة في النحو، وعدة من أبيات المعاني ولغة غريبة.
وفي هذه السنة لما تسلم دمشق الملك الصالح أيوب، تسلمت نواب الملك المنصور صاحب حماة سلمية، وانتزعوها من صاحب حمص، واستقرت سلمية في هذه السنة في ملك الملك المنصور صاحب حماة.
وفيها توفي الشيخ موفق الدين أبو البقاء يعيش بن محمد بن علي الموصلي الأصل، الحلبي المولد والمنشأ، النحوي، ويعرف بابن الصائغ، وكان ظريفاً حسن المحاضرة،(3/174)
شرح المفصل شرحاً مستوفى ليس في الشروح مثله، وله غير ذلك، وولد في رمضان سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة بحلب، وتوفي بها في التاريخ المذكور، ودفن بالمقام.
ثم دخلت سنة أربع وأربعين وستمائة.
ذكر كسرة الخوارزمية
على القصب واستيلاء الصالح أيوب على بعلبك:
كنا قد ذكرنا اتفاق الخوارزمية مع الصالح إسماعيل والناصر داود، ومحاصرتهم دمشق، وبها حسام الدين بن أبي علي، ولما وقع ذلك، اتفق الحلبيون والملك المنصور إبراهيم صاحب حمص، وصاروا مع الملك الصالح أيوب ابن الملك الكامل، وقصدوا الخوارزمية، فرحلت الخوارزمية عن دمشق، وساروا إلى نحو الحلبيين وصاحب حمص، والتقوا على القصب في هذه السنة، فانهزمت الخوارزمية هزيمة قبيحة، تشتت شملهم بعدها، وقتل مقدمهم حسام الدين بركة خان، وحمل رأسه إلى حلب، ومضت طائفة من الخوارزميين مع مقدمهم كشلوخان الخوارزمي، فلحقوا بالتتر وصاروا معهم، وانقطع منهم جماعة وتفرقوا في الشام، وخدموا به، وكفا الله الناس شرهم.
ولما وصل خبر كسرتهم إلى الملك الصالح أيوب بديار مصر، فرح فرحاً عظيماً، ودقت البشائر بمصر، وزال ما كان عنده من الغيظ على إبراهيم صاحب حمص، وحصل بينهما التصافي بسبب ذلك، وأما الصالح إسماعيل فإنه سار إلى الملك الناصر يوسف صاحب حلب واستجار به، وأرسل الصالح أيوب يطلبه فلم يسلمه الملك الناصر إليه، ولما جرى ذلك، رحل حسام الدين بن أبي علي الهذباني بمن عنده من العسكر بدمشق، ونازل بعلبك وبها أولاد الصالح إسماعيل وحاصرها، وتسلمها بالأمان، وحمل أولاد الصالح إسماعيل إلى الملك الصالح أيوب بديار مصر، فاعتقلوا هناك، وكذلك بعث بأمين الدولة وزير الملك الصالح إسماعيل، وأستاذ داره ناصر الدين يغمور، فاعتقلا بمصر أيضاً، وزينت القاهرة ومصر، ودقت البشائر بهما لفتح بعلبك، واتفق في هذه الأيام وفاة صاحب عجلون، وهو سيف الدين بن قليج،: فتسلم الملك الصالح أيوب عجلون أيضاً، ولما جرى ما ذكرناه أرسل الملك الصالح أيوب عسكراً مع الأمير فخر الدين يوسف ابن الشيخ، وكان فخر الدين ابن الشيخ قد اعتقله الملك العادل أبو بكر ابن الملك الكامل، ثم لما ملك الملك الصالح أيوب مصر أفرج عنه، وأمره بملازمة بيته، فلازمه مدة، ثم قدمه في هذه السنة على العسكر، وجهزه إلى حرب الملك الناصر داود صاحب الكرك، فسار فخر الدين المذكور واستولى على جميع بلاد الملك الناصر، وولي عليها وسار إلى الكرك وحاصرها، وخرب ضياعها، وضعف الملك الناصر ضعفاً بالغاً، ولم يبق بيده غير الكرك وحدها.(3/175)
ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة حبس الصالح أيوب مملوكه بيبرس، وهو الذي كان معه لما اعتقل في الكرك، وسببه أن بيبرس المذكور مال إلى الخوارزمية، وإلى الناصر داود، وصار معهم على أستاذه، لما جرده إلى غزة، كما تقدم ذكره، فأرسل أستاذه الصالح أيوب واستماله، فوصل إليه فاعتقله في هذه السنة، وكان آخر العهد به.
وفيها أرسل الملك المنصور إبراهيم صاحب حمص بن شيركوه، وطلب دستوراً من الملك الصالح أيوب ليصل إلى بابه، وينتظم في سلك خدمته، وكان قد حصل بإبراهيم المذكور السل، وسار على تلك الحالة من حمص متوجهاً إلى الديار المصرية، ووصل إلى دمشق فقوي به المرض، وتوفي في دمشق، فنقل إلى حمص ودفن بها، وملك بعده ولده الملك الأشرف مظفر الدين موسى ابن الملك المنصور إبراهيم المذكور.
وفي هذه السنة بعد فتوح دمشق وبعلبك، استدعى الملك الصالح أيوب خدمة حسام الدين بن أبي علي إلى مصر، وأرسل موضعه نائباً بدمشق، الأمير جمال الدين بن مطروح، ولما وصل حسام الدين بن أبي علي إلى مصر، استنابه الملك الصالح بها، وسار الملك الصالح أيوب إلى دمشق، ثم سار منها إلى بعلبك، ثم عاد إلى دمشق، ووصل إلى خدمة الملك الصالح أيوب بدمشق، الملك المنصور محمد صاحب حماة، والملك الأشرف موسى صاحب حمص، فأكرمهما وقربهما ثم أعطاهما الدستور فعادا إلى بلادهما، واستمر الملك الصالح بالشام حتى خرجت هذه السنة.
وفي هذه السنة توفي عماد الدين داود بن موشك بالكرك، وكان جامعاً لمكارم الأخلاق.
ثم دخلت سنة خمس وأربعين وستمائة وفيها عاد الملك الصالح نجم الدين أيوب من الشام إلى الديار المصرية.
وفيها فتح فخر الدين ابن الشيخ قلعتي عسقلان وطبرية، والملك الصالح بالشام، بعد محاصرتهما مدة، وكنا قد ذكرنا تسليمهما إلى الفرنج في سنة إحدى وأربعين وستمائة، فعمروهما، واستمرتا بأيدي الفرنج حتى فتحتا في هذه السنة.
وفيها سلم الأشرف صاحب حمص شميميس للملك الصالح أيوب، فعظم ذلك على الحلبيين لئلا يحصل الطمع للملك الصالح في ملك باقي الشام.
وفيها توفي الملك العادل أبو بكر ابن السلطان الملك الكامل بالحبس، وأمه الست السوداء تعرف ببنت الفقيه نصر، وكان مسجوناً من حين قبض عليه ببلبيس إلى هذه الغاية، فكان مدة مقامه بالسجن نحو ثمان سنين، وكان عمره نحو ثلاثين سنة، وخلف ولداً صغيراً، وهو الملك المغيث فتح الدين عمر، وهو الذي ملك الكرك فيما بعد، ثم قتله الملك الظاهر بيبرس على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وفي هذه السنة توجه الطواشي مرشد المنصوري، ومجاهد الدين أمير جندار، من حماه إلى حلب، وأحضرا بنت الملك العزيز محمد ابن الملك الظاهر صاحب حلب، وهي عائشة خاتون، زوج الملك المنصور(3/176)
صاحب حماة، وحضرت معها أمها فاطمة خاتون، بنت السلطان الملك الكامل ابن الملك العادل، ووصلت إلى حماة في العشر الأوسط من رمضان من هذه السنة، أعني سنة خمس وأربعين وستمائة، ووصلت في تجمل عظيم، واحتفل للقائها بحماة احتفالاً عظيماً.
وفي هذه السنة توفي علاء الدين قراسنقر الساقي العادلي، أحد مماليك الملك العادل بن أيوب، وصارت مماليكه بالولاء للملك الصالح أيوب، ومنهم سيف الدين قلاوون الصالحي، الذي صار له ملك مصر والشام، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها توفي عمر بن محمد بن عبد الله المعروف بالشلوبيني بإشبيلية، كان فاضلاً إماماً في النحو، شرح الجزولية، وصنف في النحو غير ذلك، وكان فيه مع هذه الفضيلة التامة، بله وغفلة، وكنيته أبو علي، والشلوبيني نسبة إلى شلوبين، وهو حصن منيع من حصون الأندلس، من معاملة سواحل غرناطة، على بحر الروم. منه عمر الشلوبيني المذكور. هذا ما نص عليه ابن سعيد المغربي في كتابه الكبير، المسمى " بالمغرب في أخبار أهل المغرب "، في المجلدة الخامسة عشرة، بعد ذكر غرناطة، قال: وقد وصف حصن شلوبين المذكور، ومنه الشيخ أبو علي عمر الشلوبيني قال: وقرأت عليه النحو، وكان إمام نحاة أهل المغرب، وكان في طبقة أبي علي الفارسي، ومن هنا يتحقق أن الذي نقله القاضي شمس الدين بن خلكان ومن تابعه، أن الشلوبين هو الأبيض الأشقر بلغة أهل الأندلس، وهم محض. لعدم وقوفهم على كتاب " المغرب في حلي أهل المغرب " المذكور.
ثم دخلت سنة ست وأربعين وستمائة فيها أرسل الملك الناصر صاحب حلب عسكراً مع شمس الدين لؤلؤ الأرمني، فحاصروا الملك الأشرف موسى بحمص مدة شهرين، فسلم إليهم حمص، وتعوض عنها بتل باشر، مضافاً إلى ما بيده من تدمر والرحبة، ولما بلغ الملك الصالح نجم الدين أيوب ذلك، شق عليه وسار إلى الشام لارتجاع حمص من الحلبيين، وكان قد حصل له مرض وورم في مأبطه، ثم فتح وحصل منه ناصور، ووصل الملك الصالح إلى دمشق، وأرسل عسكراً إلى حمص مع حسام الدين بن أبي على، فخر الدين ابن الشيخ، فنازلوا حمص وحصروها، ونصبوا عليها منجنيقاً مغربياً، يرمي بحجر زنتها مائة وأربعون رطلاً بالشامي، مع عدة منجنيقات أخر، وكان الشتاء والبرد قوياً، واستمر عليها الحصار، واتفق حينئذ وصول الخبر إلى الملك الصالح وهو بدمشق، بوصول الفرنج إلى جهة دمياط، وكان أيضاً قد قوي مرضه، ووصل أيضا نجم الدين الباذراي، رسول الخليفة، وسعى في الصلح بين الملك الصالح والحلبيين، وأن تستقر حمص بيد الحلبيين، فأجاب الملك الصالح إلى ذلك، وأمر العسكر فرحلوا عن حمص بعد أن أشرفوا على أخذها.
ثم رحل الملك الصالح عن دمشق في محفة لقوة مرضه، واستناب بدمشق جمال الدين بن يغمور، وعزل ابن مطروح، وأرسل حسام الدين بن أبي علي قدامه ليسبقه إلى مصر، وينوب عنه بها.(3/177)
وفيها في يوم الخميس السادس والعشرين من شوال من السنة المذكورة، أعني سنة ست وأربعين وستمائة، توفي أبو عمرو عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس، المعروف بابن الحاجب، الملقب جمال الدين، وكان والده عمر حاجباً للأمير عز الدين بن موسك الصلاحي، وكان كردياً، واشتغل ولده أبو عمرو المذكور في صغره بالقرآن والفقه، على مذهب مالك بن أنس، وبالعربية، وبرع في علومه وأتقنها، ثم انتقل إلى دمشق ودرس بجامعها، وأكب الخلق على الاشتغال عليه، ثم عاد إلى القاهرة، ثم انتقل إلى الإسكندرية فتوفي بها.
وكان مولد الشيخ أبي عمرو المذكور، في أواخر سنة سبعين وخمسمائة، بأسنا " بليدة بالصعيد "، وكان الشيخ أبو عمرو المذكور متفنناً في علوم شتى، وكان الأغلب عليه علم العربية، وأصول الفقه، صنف في العربية مقدمته الكافية، واختصر كتاب الأحكام للآمدي، في أصول الفقه، فطبق ذكر هذين الكتابين، أعني الكافية ومختصره في أصول الفقه، جميع البلاد، خصوصاً بلاد العجم، واكب الناس على الاشتغال بهما إلى زماننا هذا، وله غيرهما عدة مصنفات.
وفيها أعني في سنة ست وأربعين وستمائة، توفي عز الدين أيبك المعظمي في محبسه بالقاهرة، وكان المذكور قد ملك صرخد، في سنة ثمان وستمائة حسبما تقدم ذكره في السنة المذكورة، وقال ابن خلكان: أنه ملك صرخد في سنة إحدى عشرة وستمائة. قال: لأن أستاذه الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب. حج في السنة المذكورة، وأخذ صرخد من صاحبها ابن قراجا، وأعطاها مملوكه أيبك المذكور، والظاهر أن الأول أصح، واستمرت في يد أيبك إلى سنة أربع وأربعين وستمائة، فأخذها الملك الصالح أيوب ابن الملك الكامل من أيبك المذكور، وأمسك أيبك في السنة المذكورة وحمله إلى القاهرة وحبسه في دار الطواشي، صواب، واستمر، معتقلاً بها حتى توفي معتقلاً في هذه السنة، في أوائل جمادى الأولى، ودفن خارج باب النصر في تربة شمس الدولة، ثم نقل إلى الشام ودفن في تربة كان قد أنشأها بظاهر دمشق، على الشرف الأعلى، مطلة على الميدان الأخضر الكبير، رحمه الله تعالى، هكذا نقلت ذلك من وفيات الأعيان.
ثم دخلت سنة سبع وأربعين وستمائة.
ذكر ملك الفرنج دمياط
ونزول الملك الصالح أشمون طناخ:
وفي هذه السنة سار ريد إفرنس، وهو من أعظم ملوك الفرنج، وريد بلغتهم هو الملك، أي ملك إفرنس، وإفرنس أمة عظيمة من أمم الفرنج، وكان جمع ريد إفرنس نحو خمسين ألف مقاتل، وشتى في جزيرة قبرس، ثم سار ووصل في هذه السنة إلى دمياط، وكان قد شحنها الملك الصالح بآلات عظيمة، وذخائر وافرة، وجعل فيها بني كنانة، وهم مشهورون بالشجاعة، وكان قد أرسل الملك الصالح فخر الدين ابن الشيخ بجماعة كثيرة من العسكر،(3/178)
ليكونوا قبالة الفرنج بظاهر دمياط، ولما وصلت الفرنج، عبر فخر الدكن ابن الشيخ من البر الغربي إلى البر الشرقي، ووصل الفرنج إلى البر الغربي لتسع بقين من صفر هذه السنة، ولما جرى ذلك هربت بنو كنانة وأهل دمياط منها، وأخلوا دمياط وتركوا أبوابها مفتحة، فتملكها الفرنج بغير قتال، واستولوا على ما بها من الذخائر والسلاحات، وكان هذا من أعظم المصائب، وعظم ذلك على الملك الصالح، وأمر بشنق بني كنانة، فشنقوا عن آخرهم. ووصل الملك الصالح إلى المنصورة، ونزل بها يوم الثلاثاء لخمس بقين من صفر هذه السنة، وقد اشتد مرضه، وهو السل والقرحة، التي كانت به، وقد أيس منه.
ذكر استيلاء الملك الصالح أيوب على الكرك
وفي هذه السنة سار الملك الناصر داود ابن الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، من الكرك إلى حلب، لما ضاقت عليه الأمور، مستجيراً بالملك الناصر صاحب حلب، وكان قد بقي عند الناصر داود من الجوهر مقدار كثير، قال: كان يساوى مائة ألف دينار، إذا بيع بالهوان، فلما وصل إلى حلب، سير الجوهر المذكور إلى بغداد وأودعه عند الخليفة المستعصم، ووصل إليه خط الخليفة بتسليمه، فلم تقع عينه عليه بعد ذلك، ولما سار الناصر داود عن الكرك، استناب عليها ابنه عيسى ولقبه الملك المعظم، وكان له ولدان آخران، أكبر من عيسى المذكور، هما الأمجد حسن، والظاهر شاذي، فغضب الأخوان المذكوران من تقديم أخيهما عيسى عليهما، وبعد سفر أبيهما قبضا على أخيهما عيسى، وتوجه الأمجد حسن إلى الملك الصالح أيوب وهو مريض، على المنصورة، وبذل له تسليم الكرك، على إقطاع له ولأخيه بديار مصر، فأحسن إليه الصالح أيوب وأعطاهما إقطاعاً أرضاهما، وأرسل إلى الكرك وتسلمها يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة من هذه السنة، وفرح الملك الصالح بالكرك فرحاً عظيماً، مع ما هو فيه من المرض، لما كان في خاطره من صاحبها.
ذكر وفاة الملك الصالح أيوب وفي هذه السنة توفي الملك الصالح نجم الدين أيوب، ابن الملك الكامل محمد، ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، في ليلة الأحد لأربع عشرة ليلة مضت من شعبان هذه السنة، أعني سنة سبع وأربعين وستمائة، وكانت مدة مملكته للديار المصرية تسع سنين وثمانية أشهر وعشرين يوماً، وكان عمره نحو أربع وأربعين سنة، وكان مهيباً عالي الهمة، عفيفاً طاهر اللسان والذيل، شديد الوقار، كثير الصمت، وجمع من المماليك الترك ما لم يجتمع لغيره من أهل بيته، حتى كان أكثر أمراء عسكره مماليكه، ورتب جماعة من المماليك الترك حول دهليزه، وسماهم البحرية، وكان لا يجسر أن يخاطبه أحد إلا جواباً، ولا يتكلم أحد بحضرته، ابتداء،(3/179)
وكانت القصص توضع بين يديه مع الخدام، فيكتب بيده عليها وتخرج للموقعين، وكان لا يستقل أحد من أهل دولته بأمر من الأمور إلا بعد مشاورته بالقصص، وكان غاوياً بالعمارة، بنى قلعة الجزيرة، وبنى الصالحية، وهي بلدة بالسائح، وبنى له بها قصوراً للتصيد، وبنى قصراً عظيماً بين مصر والقاهرة، يسمى بالكبش.
وكانت أم الملك الصالح أيوب المذكور، جارية سوداء تسمى ورد المنى، غشيها السلطان الملك الكامل، فحملت بالملك الصالح، وكان للملك الصالح ثلاثة أولاد، أحدهم فتح الدين عمر، توفي في حبس الصالح إسماعيل، وكان قد توفي ولده الآخر قبله، ولم يكن قد بقي له غير المعظم توران شاه، بحصن كيفا، ومات الملك الصالح ولم يوص بالملك إلى أحد، فلما توفي أحضرت شجرة الدر، وهي جارية الملك الصالح، فخر الدين ابن الشيخ، والطواشي جمال الدين محسناً، وعرفتهما بموت السلطان، فكتموا ذلك خوفاً من الفرنج، وجمعت شجر الدر الأمراء، وقالت لهم: السلطان يأمركم أن تحلفوا له، ثم من بعده لولده الملك المعظم توران شاه، المقيم بحصن كيفا، وللأمير فخر الدين ابن الشيخ بأتابكية العسكر، وكتب إلى حسام الدين ابن أبي علي، وهو النائب بمصر بمثل ذلك، فحلفت الأمراء والأجناد والكبراء بالعسكر وبمصر وبالقاهرة على ذلك، في العشر الأوسط من شعبان هذه السنة، وكان بعد ذلك تخرج الكتب، المراسم وعليها علامة الملك الصالح، وكان يكتبها خادم يقال له السهيلي، فلا يشك أحد في أنه خط السلطان، فأرسل فخر الدين ابن الشيخ قاصداً لإحضار الملك المعظم من حصن كيفا، ولما جرى ذلك، شاع بين الناس موت السلطان، ولكن أرباب الدولة لا يجسرون أن يتفوهوا بذلك، وتقدم الفرنج عن دمياط إلى المنصورة، وجرى بينهم وبين المسلمين في مستهل رمضان من هذه السنة وقعة عظيمة، استشهد فيها جماعة من كبار المسلمين، ونزلت الفرنج بحر مساح، ثم قربوا من المسلمين، ثم إن الفرنج كبسوا المسلمين على المنصورة بكرة الثلاثاء لخمس مضين من ذي القعدة، وكان فخر الدين يوسف ابن الشيخ صدر الدين ابن حمويه في الحمام بالمنصورة، فركب مسرعاً، وصادفه جماعة من الفرنج فقتلوه، وكان سعيداً في الدنيا، ومات شهيداً.
ثم حملت المسلمون والترك البحرية على الفرنج، فردوهم على أعقابهم، واستمرت بهم الهزيمة، وأما الملك المعظم توران شاه، فإنه سار من حصن كيفا ووصل إلى دمشق، في رمضان من هذه السنة، وعّيد بها عيد الفطر، ووصل إلى المنصورة يوم الخميس لتسع بقين من ذي القعدة من هذه السنة، أعني سنة سبع وأربعين وستمائة، ثم اشتد القتال بين المسلمين والفرنج براً وبحراً، ووقعت مراكب المسلمين على الفرنج، وأخذوا منهم اثنين وثلاثين مركباً، منها تسع شواني، فضعفت الفرنج لذلك، وأرسلوا يطلبون القدس وبعض الساحل، وأن يسلموا دمياط إلى المسلمين، فلم تقع الإجابة إلى ذلك.(3/180)
ذكر غير ذلك
وفي هذه السنة وقع الحرب بين صاحب الموصل بدر الدين لؤلؤ، وبين الملك الناصر صاحب حلب، فأرسل إليه الملك الناصر عسكراً، والتقوا مع المواصلة بظاهر نصيبين، فانهزمت المواصلة هزيمة قبيحة، واستولى الحلبيون على أثقال لؤلؤ صاحب الموصل وخيمه، وتسلم الحلبيون نصيبين وأخذوها من صاحب الموصل، ثم ساروا إلى دارا فنازلوها وتسلموها وخربوها بعد حصار ثلاثة أشهر، ثم تسلموا قرقيسيا وعادوا إلى حلب.
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وستمائة.
ذكر هزيمة الفرنج وأسر ملكهم لما أقام الفرنج قبالة المسلمين بالمنصورة، فنيت أزوادهم وانقطع عنهم المدد من دمياط، فإن المسلمين قطعوا الطريق الواصل من دمياط إليهم، فلم يبق لهم صبراً على المقام، فرحلوا ليلة الأربعاء، لثلاث مضين من المحرم، متوجهين إلى دمياط، وركب المسلمون أكتافهم، ولما استقر صباح الأربعاء خالطهم المسلمون وبذلوا فيهم السيف، فلم يسلم منهم إلا القليل، وبلغت عدة القتلى من الفرنج ثلاثين ألفا على ما قيل، وانحاز ريد إفرنس ومن معه من الملوك إلى بلد هناك، وطلبوا الأمان، فأمنهم الطواشي محسن الصالحي، ثم احتيط عليهم وأحضروا إلى المنصورة، وقيد ريد إفرنس، وجعل في الدار التي كان ينزلها كاتب الإنشاء، فخر الدين بن لقمان، ووكل به الطواشي صبيح المعظمي، ولما جرى ذلك رحل، الملك المعظم بالعساكر من المنصورة ونزل بفار سكور، ونصب بها برج خشب للملك المعظم.
ذكر مقتل الملك المعظم وفي هذه السنة يوم الاثنين، لليلة بقيت من المحرم، قتل الملك المعظم توران شاه ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل ناصر الدين محمد ابن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب، وسبب ذلك: أن المذكور، أطرح جانب أمراء أبيه ومماليكه، وكل منهم بلغه عنه من التهديد والوعيد ما نفر قلبه منه، واعتمد على بطانته الذين وصلوا معه من حصن كيفا، وكانوا أطرافاً أراذل، فاجتمعت البحرية على قتله بعد نزوله بفارسكور، وهجموا عليه بالسيوف، وكان أول من ضربه ركن الدين بيبرس، الذي صار سلطاناً فيما بعد، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، فهرب الملك المعظم منهم إلى البرج الخشب الذي نصب له بفارسكور على ما تقدم ذكره، فأطلقوا في البرج النار، فخرج الملك المعظم من البرج هارباً، طالباً البحر ليركب في حراقته، فحالوا بينه وبينها بالنشاب، فطرح نفسه في البحر، فأدركوه وأتموا قتله في نهار الإثنين المذكور، وكانت مدة إقامته في المملكة من حين وصوله إلى الديار المصرية، شهرين(3/181)
وأياماً.
ولما جرى ذلك، اجتمعت الأمراء واتفقوا على أن يقيموا شجرة الدر زوجة الملك الصالح في المملكة، وأن يكون عز الدين أيبك الجاشنكير الصالحي، المعروف بالتركماني، أتابك العسكر، وحلفوا على ذلك، وخطب لشجرة الدر على المنابر، وضربت السكة باسمها، وكان نقش السكة المستعصمية الصالحية، ملكة المسلمين، والدة الملك المنصور خليل، وكانت شجرة الدر قد ولدت من الملك الصالح ولداً ومات صغيراً، وكان اسمه خليل، فسميت والدة خليل، وكانت صورة علامتها على المناشير والتواقيع، والدة خليل، ولما استقر ذلك، وقع الحديث مع ريد إفرنس في تسليم دمياط بالإفراج عنه، فتقدم ريد إفرنس إلى من بها من نوابه في تسليمها، فسلموها، وصعد إليها العلم السلطاني يوم الجمعة، لثلاث مضين من صفر من هذه السنة، أعني سنة ثمان وأربعين وستمائة، وأطلق ريد إفرنس، فركب في البحر بمن سلم معه نهار السبت، غد الجمعة المذكورة وأقلعوا إلى عكا، ووردت البشرى بهذا الفتح العظيم إلى سائر الأقطار، وفي واقعة ريد إفرنس المذكورة، يقول جمال الدين يحيى بن مطروح أبياتاً منها:
قل للفرنسيس إذا جئته ... مقال صدق عن قؤول نصيح
أتيت مصراً تبتغي ملكها ... تحسب أن الزمر يا طبل ريح
وكل أصحابك أوردتهم ... بحصن تدبيرك بطن الضريح
خمسون ألفاً لا يرى منهم ... غير قتيل أو أسير جريح
وقل لهم إن أضمروا عودة ... لأخذ ثار أو لقصد صحيح
دار ابن لقمان على حالها ... والقيد باقي والطواشي صبيح
ثم عادت العساكر ودخلت القاهرة يوم الخميس، تاسع صفر من الشهر المذكور، وأرسل المصريون رسولاً إلى الأمراء الذين بدمشق، في موافقتهم على ذلك، فلم يجيبوا إليه وكان الملك السعيد ابن الملك العزيز عثمان ابن الملك العادل صاحب الصبيبة، قد سلمها إلى الملك الصالح أيوب، فلما جرى ذلك، قصد قلعة الصبيبة، فسلمت إليه، وكان من الملك السعيد ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر ملك الملك المغيث الكرك كان الملك المغيث فتح الدين عمر ابن الملك العادل أبي بكر ابن الملك الكامل محمد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، قد أرسله الملك المعظم توران شاه، لما وصل إلى الديار المصرية، إلى الشوبك، واعتقله بها، وكان النائب على الكرك والشوبك بدر الدين الصوابي الصالحي، فلما جرى ما ذكرناه من قتل الملك المعظم، وما استقر عليه الحال، بادر بدر الدين الصوابي المذكور، فأفرج عن المغيث وملكه القلعتين، الكرك والشوبك، وقام(3/182)
في خدمته أتم قيام.
ذكر استيلاء الملك الناصر صاحب حلب على دمشق ولما جرى ما ذكرناه، ولم يجب أمراء دمشق إلى ذلك، كاتب الأمراء القيميرية الذين بها الملك الناصر يوسف صاحب حلب، ابن الملك العزيز محمد ابن الملك الظاهر غازي ابن السلطان الملك الناصر صلاح الدين، فسار إليهم وملك دمشق ودخلها في يوم السبت، لثمان مضين من ربيع الآخر من هذه السنة، ولما استقر الناصر المذكور في ملك دمشق، خلع على جمال الدين بن يغمور، وعلى الأمراء القيمرية به، وأحسن اليهم، واعتقل جماعة من الأمراء مماليك الملك الصالح، وعصت عليه بعلبك وعجلون وشميميس مدة مديدة، ثم سلمت جميعها إليه، ولما ورد الخبر بذلك إلى مصر قبضوا على من عندهم من القيمرية، وعلى كل من اتهم بالميل إلى الحلبيين.
ذكر سلطنة أيبك التركماني ثم إن كبراء الدولة اتفقوا على إقامة عز الدين أيبك الجاشنكير الصالحي في السلطنة، لأنه إذا استقر أمر المملكة في امرأة، على ما هو عليه الحال، تفسد الأمور، فأقاموا أيبك المذكور، وركب بالسناجق السلطانية، وحملت الغاشية بين يديه يوم السبت آخر ربيع الآخر من هذه السنة، ولقب الملك المعز، وأبطلت السكة والخطبة التي كانت باسم شجرة الدر.
ذكر عقد السلطنة للملك الأشرف موسى بن يوسف صاحب اليمن، المعروف باقسيس:
ابن الملك الكامل محمد، ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، ثم اجتمعت الأمراء واتفقوا على أنه لا بد من إقامة شخص من بني أيوب في السلطنة، واجتمعوا على إقامة موسى المذكور، ولقبوه الملك الأشرف، وأن يكون أيبك التركماني أتابكه، وأجلس الأشرف موسى المذكور في دست السلطنة، وحضرت الأمراء في خدمته يوم السبت، لخمس مضين من جمادى الأولى من هذه السنة، وكان بغزة حينئذ جماعة من عسكر مصر مقدمهم خاص ترك، فسار إليهم عسكر دمشق، فاندفعوا من غزة إلى الصالحية بالسائح، واتفقوا على طاعة المغيث صاحب الكرك، وخطبوا له بالصالحية يوم الجمعة، لأربع مضين من جمادى الآخرة من هذه السنة، ولما جرى ذلك، اتفق كبراء الدولة بمصر، ونادوا بالقاهرة ومصر، أن البلاد للخليفة المستعصم، ثم جددت الأيمان للملك الأشرف موسى بالسلطنة، ولأيبك التركماني بالأتابكية، وفي يوم الأحد لخمس مضين من رجب، رحل فارس الدين أقطاي الصالحي الجمدار، متوجهاً إلى جهة غزة، ومعه تقدير ألفي فارس، وكان أقطاي المذكور، مقدم البحرية،(3/183)
فلما وصل إلى غزة، اندفع من كان بها من جهة الناصر بين يديه.
ذكر تخريب دمياط وفي هذه السنة، اتفق آراء أكابر الدولة، وهدموا سور دمياط، في العشر الأخير من شعبان هذه السنة، لما حصل للمسلمين عليها من الشدة مرة بعد أخرى، وبنوا مدينة بالقرب منها في البر، وسموها المنشية، وأسوار دمياط التي هدمت من عمارة المتوكل الخليفة العباسي.
ذكر القبض على الناصر داود وفي هذه السنة مستهل شعبان، قبض الناصر يوسف، صاحب دمشق وحلب، علي الناصر داود، الذي كان صاحب الكرك، وبعث به إلى حمص، فاعتقل بها، وذلك لأشياء بلغت الناصر يوسف عن المذكور، خاف منها.
مسير الملك الناصر يوسف إلى الديار المصرية
ذكر مسير السلطان الملك الناصر يوسف صاحب الشام إلى الديار المصرية وكسرته:
وفي هذه السنة سار الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن الملك العزيز، بعساكره من دمشق، وصحبته من ملوك أهل بيته، الصالح إسماعيل بن العادل بن أيوب، والأشرف موسى صاحب حمص، وهو حينئذ صاحب تل باشر والرحبة وتدمر والمعظم توران شاه ابن السلطان صلاح الدين، وأخو المعظم المذكور نصرة الدين، والأمجد حسن، والظاهر شاذي ابنا الناصر داود ابن الملك المعظم عيسى ابن العادل ابن أيوب، وتقي الدين عباس ابن الملك العادل بن أيوب، ومقدم الجيش شمس الدين لؤلؤ الأرمني، وإليه تدبير المملكة، فرحلوا من دمشق يوم الأحد منتصف رمضان من هذه السنة، ولما بلغ المصريين ذلك، اهتموا لقتاله ودفعه، وبرزوا إلى السائح وتركوا الأشرف المسمى بالسلطان بقلعة الجبل، وأفرج أيبك التركماني حينئذ عن ولدي الصالح إسماعيل، وهما المنصور إبراهيم، والملك السعيد عبد الملك، ابنا الصالح إسماعيل، وكانا معتقلين من حين استيلاء الملك الصالح أيوب على بعلبك، وخلع عليهما ليتوهم الناصر يوسف صاحب دمشق، من أبيهما الصالح إسماعيل، والتقى العسكران المصري والشامي بالقرب من العباسة، في يوم الخميس عاشر ذي العقدة من هذه السنة، فكانت الكسرة أولاً على عسكر مصر، فخامر جماعة من المماليك الترك العزيزية، على الملك الناصر صاحب دمشق، وثبت المعز أيبك التركماني في جماعة قليلة من البحرية، فانضاف جماعة من العزيزية مماليك والد الملك الناصر إلى أيبك التركماني، ولما انكسر المصريون وتبعتهم العساكر الشامية، ولم يشكوا في النصر، بقي الملك الناصر تحت السناجق السلطانية مع جماعة يسيرة من المتعممين لا يتحرك من موضعه، فحمل المعز التركماني بمن معه عليه، فولى الملك الناصر(3/184)
منهزماً طالباً جهة الشام، ثم حمل أيبك التركماني المذكور على طلب شمس الدين لؤلؤ، فهزمهم وأخذ شمس الدين لؤلؤ أسيراً، فضربت عنقه بين يديه، وكذلك أسر الأمير ضياء الدين القيمري، فضربت عنقه، وأسر يومئذ الملك الصالح إسماعيل، والأشرف صاحب حمص، والمعظم توران شاه بن صلاح الدين بن أيوب، وأخوه نصرة الدين، ووصل عسكر الملك الناصر في إثر المنهزمين إلى العباسة، وضربوا بها دهليز الملك الناصر، وهم لا يشكون أن الهزيمة تمت على المصريين، فلما بلغهم هروب الملك الناصر، اختلفت آراؤهم، فمنهم من أشار بالدخول إلى القاهرة وتملكها، ولو فعلوه لما كان بقي مع أيبك التركماني من يقاتلهم به، وكان هرب، فإن غالب المصريين المنهزمين وصلوا إلى الصعيد، ومنهم من أشار بالرجوع إلى الشام، وكان معهم تاج الملوك ابن المعظم، وهو مجروح، وكانت الواقعة يوم الخميس، ووصل المنهزمون من المصريين إلى القاهرة في غد الوقعة نهار الجمعة، فلم يشك أهل مصر في ملك الملك الناصر ديار مصر، وخطب له في الجمعة المذكورة بقلعة الجبل، وبمصر، وأما القاهرة فلم يقم فيها في ذلك النهار خطبة لأحد، ثم وردت إليهم البشرى بانتصار البحرية، ودخل أيبك التركماني والبحرية إلى القاهرة يوم السبت ثاني عشر ذي القعدة، ومعه الصالح إسماعيل تحت الاحتياط، وغيره من المعتقلين، فحبسوا بقلعة الجبل، وعقيب ذلك أخرج أيبك التركماني أمين الدولة، وزير الصالح إسماعيل، وأستاذ داره يغمور، وكانا معتقلين من حين استيلاء الصالح أيوب على بعلبك، فشنقهما على باب قلعة الجبل رابع عشر ذي القعدة، وفي ليلة الأحد السابع والعشرين من ذي القعدة، هجم جماعة على الملك الصالح عماد الدين إسماعيل ابن الملك العادل بن أيوب، وهو يمص قصب سكر، وأخرجوه إلى ظاهر قلعة الجبل من جهة القرافة، فقتلوه ودفن هناك، وعمره قريب من خمسين سنة، وكانت أمه رومية من خطايا الملك العادل.
وفي هذه السنة بعد هزيمة الملك الناصر صاحب الشام، سار فارس الدين أقطاي بثلاثة آلاف فارس إلى غزة، فاستولى عليها ثم عاد إلى الديار المصرية.
ذكر قتل صاحب اليمن
وفي هذه السنة، وثب على الملك المنصور عمر صاحب اليمن، جماعة من مماليكه فقتلوه، وهو عمر بن علي بن رسول، وكان والده علي بن رسول، أستاذ دار الملك المسعود ابن السلطان الملك الكامل، فلما سار الملك المسعود قاصداً الشام ومات بمكة على ما تقدم ذكره، استناب أستاذ داره علي بن رسول المذكور باليمن، فاستقر نائباً بها لبني أيوب، وكان لعلي المذكور إخوة، فأحضروا إلى مصر وأخذوا رهائن خوفاً من تغلب علي بن رسول على اليمن، واستمر المذكور نائباً باليمن حتى مات، قبل سنة ثلاثين(3/185)
وستمائة، واستولى على اليمن بعده ولده عمر بن علي لمذكور، على ما كان عليه أبوه من النيابة، فأرسل من مصر أعمامه ليعزلوه ويكونوا نواباً موضعه، فلما وصلوا إلى اليمن، قبض عمر المذكور عليهم واعتقلهم، واستقل عمر المذكور بملك اليمن يومئذ، وتلقب بالملك المنصور، واستكثر من المماليك الترك، فقتلوه في هذه السنة أعني سنة ثمان وأربعين وستمائة.
واستقر بعده في ملك اليمن ابنه يوسف بن عمر، وتلقب بالملك المظفر، وصفا له ملك اليمن، وطالت أيام مملكته على ما سنعلمه إن شاء الله تعالى.
ثم دخلت سنة تسع وأربعين وستمائة.
فيها توفي الصاحب محي الدين بن مطروح، وكان متقدماً عند الملك الصالح أيوب، كان يتولى له لما كان الصالح بالشرق ينظر الجيش، ثم استعمله على دمشق، ثم عزله وولى ابن يغمور، وكان ابن مطروح المذكور فاضلاً في النثر والنظم، فمن شعره: عانقته فسكرت من طيب الشذا غصن رطيب بالنسيم قد اغتذا
نشوان ما شرب المدام وإنما ... أضحى بخمر رضابه متنبذا
جاء العذول يلومني من بعدما ... أخذ الغرام علي فيه مأخذا
لا أرعوي لا أنثني لا أنتهي ... عن حبه فليهذ فيه من هذى
إن عشت عشت على الغرام وإن أمت ... وجداً به وصبابة يا حبذا
وفيها جهز الملك الناصر يوسف صاحب الشام عسكراً إلى غزة، وخرج المصريون إلى السائح، وأقاموا كذلك حتى خرجت هذه السنة.
وفيها توفي علم الدين قيصر بن أبي القاسم بن عبد الغني بن مسافر، الفقيه الحنفي المقرئ المعروف بتعاسيف، وكان إماماً في العلوم الرياضية، اشتغل بالديار المصرية والشام، ثم سار إلى الموصل، وقرأ على الشيخ كمال الدين موسى بن يونس علم الموسيقى، ثم عاد إلى الشام وتوفي بدمشق في شهر رجب من السنة المذكورة، ومولده سنة أربع وسبعين وخمسمائة بأصفون، من شرقي صعيد مصر.
ثم دخلت سنة خمسين وستمائة ولم يقع لنا فيها ما يصلح أن يؤرخ.
ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وستمائة فيها استقر الصلح بين الملك الناصر يوسف صاحب الشام، وبين البحرية بمصر، على أن يكون للمصريين إلى نهر الأردن، وللملك الناصر ما وراء ذلك، وكان نجم الدين البادراي رسول الخليفة، هو الذي حضر من جهة الخليفة، وأصلح بينهم على ذلك، ورجع كل منهم إلى مقره.
وفيها قطع أيبك التركماني خبر حسام الدين بن أبي علي الهذباني، فطلب دستوراً، فأعطيه، وسار إلى الشام، فاستخدمه الملك الناصر يوسف بدمشق.
ذكر أحوال الناصر صاحب الكرك
وفيها أفرج الملك الناصر يوسف، عن الملك الناصر داود ابن المعظم، الذي كان صاحب(3/186)
الكرك، وكان قد اعتقله بقلعة حمص، وذلك بشفاعة الخليفة المستعصم فيه، فأفرج عنه وأمره أن لا يسكن في بلاده، فرحل الناصر داود المذكور إلى جهة بغداد، فلم يمكنوه من الوصول إليها وطلب وديعته الجوهر، فمنعوه إياها، وكتب الملك الناصر يوسف إلى ملوك الأطراف أنهم لا يأووه ولا يميروه، فبقي الناصر داود في جهات عانة والحديثة، وضاقت به الأحوال وبمن معه، وانضم إليه جماعة من غزيه، فبقوا يرحلون وينزلون جميعاً، ثم لما قوي عليهم الحر، ولم يبق بالبرية عشب، قصدوا أزوار الفرات يقاسون بن الليل وهواجر النهار، وكان معه أولاده، وكان لولده الظاهر شافي، فهد، فكان يتصيد في النهار ما يزيد على عشرة غزلان، وكان يمضي للملك الناصر داود وأصحابه أياماً لا يطعمون غير لحوم الغزلان، واتفق أن الأشرف صاحب تل باشر وتدمر والرحبة يومئذ، أرسل إلى الناصر داود مركبين موسقين دقيقاً وشعيراً، فأرسل صاحب دمشق وتهدده على ذلك، ثم إن ناصر داود قصد مكاناً للشرابي واستجار به، فرتب له الشرابي شيئاً دون كفايته، وأذن له في النزول بالأنبار، وبينها وبين بغداد ثلاثة أيام، والناصر في داود مع ذلك يتضرع إلى الخليفة المستعصم فلا يجيب ضراعته، ويطلب وديعته فلا يرد لهفته ولا يجيبه إلا بالمماطلة، والمطاولة، وكانت مدة مقامه متنقلاً في الصحاري مع غزيه، قريب ثلاثة أشهر، ثم بعد ذلك أرسل الخليفة وشفع فيه عند الملك الناصر، فأذن له في العود إلى دمشق، ورتب له مائة ألف درهم على بحيرة فامية وغيرها، فلم يتحصل من ذلك إلا دون ثلاثين ألف درهم.
وفي هذه السنة وصلت الأخبار من مكة بأن ناراً ظهرت من عدن وبعض جبالها، بحيث كانت تظهر في الليل، ويرتفع منها في النهار دخان عظيم.
ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وستمائة.
ذكر دولة الحفصيين ملوك تونس وإنما ذكرناها في هذه السنة، لأنها كالمتوسطة لمدة ملكهم، وهو ما نقلناه من الشيخ الفاضل ركن الدين بن قوبع التونسي قال: والحفصيون، أولهم أبو حفص عمر بن يحيى الهنتاتي، وهنتاتة - بتائين مثناتين من فوقهما - قبيلة من المصامدة، ويزعمون أنهم قرشيون من بني عدي بن كعب، رهط عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان أبو حفص المذكور، من أكبر أصحاب ابن تومرت، بعد عبد المؤمن، وتولى عبد الواحد بن أبي حفص إفريقية نيابة عن بني عبد المؤمن، في سنة ثلاث وستمائة، ومات سلخ ذي الحجة، سنة ثمان عشرة وستمائة، فتولى أبو العلاء من بني عبد المؤمن، ثم توفي، فعادت إفريقية إلى ولاية الحفصيين، وتولى منهم عبد الله بن عبد الواحد بن أبي حفص في سنة ثلاث وعشرين وستمائة.
ولما تولى، ولى أخاه أبا زكريا يحيى قابس، وأخاه أبا إبراهيم إسحاق بلاد(3/187)
الجريد، ثم خرج على عبد الله وهو على قابس، أصحابه، ورجموه وطردوه وولوا موضعه أخاه أبا زكريا بن عبد الواحد، سنة اثنتين وستين، فنقم بنو عبد المؤمن على أبي زكريا ذلك، فأسقط أبو زكريا اسم عبد المؤمن من الخطبة، وبقي اسم المهدي، وخلع طاعة بني عبد المؤمن، وتملك إفريقية، وخطب لنفسه بالأمير المرتضى واتسعت مملكته وفتح تلمسان والغرب الأوسط وبلاد الجريد، والزاب، وبقي كذلك حتى توفي على بونة، سنة سبع وأربعين وستمائة.
وأنشأ في تونس بنايات عظيمة شامخة، وكان عالماً بالأدب، وخلف أربعة بنين وهم: أبو عبد الله محمد، وأبو إسحاق إبراهيم، وأبو حفص عمر، وأبو بكر وكنيته أبو يحيى، وخلف أخوين وهما: أبو إبراهيم إسحاق، ومحمد اللحياني، ابني عبد الواحد بن أبي حفص. وكان محمد اللحياني المذكور صالحاً، منقطعاً يتبرك به، ثم تولى بعده ابنه أبو عبد الله محمد بن أبي زكريا، ثم سعى عمه أبو إبراهيم في خلعه فخلع، وبايع لأخيه محمد اللحياني الزاهد على كره منه لذلك، فجمع أبو عبد الله محمد المخلوع أصحابه، في يوم خلعه، وشد على عميه فقهرهما وقتلهما، واستقر في ملكه، وتلقب وخطب لنفسه بالمستنصر بالله، أمير المؤمنين أبي عبد الله محمد ابن الأمراء الراشدين.
وفي أيامه، في سنة ثمان وستين وستمائة، وصل الفرنسيس إلى إفريقية بجموع الفرنج، وأشرفت إفريقية على الذهاب، فقصمه الله، ومات الفرنسيس، وتفرقت تلك الجموع. وفي أيامه خافه أخوه أبو إسحاق إبراهيم بن أبي زكريا، فهرب ثم أقام بتلمسان، وبقي المستنصر المذكور كذلك حتى توفي ليلة حادي عشر ذي الحجة سنة خمس وسبعين وستمائة.
فملك ابنه يحيى بن محمد بن أبي زكريا، وتلقب بالواثق بالله أمير المؤمنين، وكان ضعيف الرأي، فتحرك عليه عمه أبو إسحاق إبراهيم الذي هرب وأقام بتلمسان، وغلب على الواثق، فخلع نفسه، واستقر أبو إسحاق إبراهيم في المملكة في ربيع الأول سنة ثمان وسبعين وستمائة، وخطب لنفسه بالأمير المجاهد، وترك زي الحفصيين وأقام على زي زناتة، وعكف على الشرب، وفرق المملكة على أولاده، فوثبت أولاده على الواثق المخلوع وذبحوه، وذبحوا معه ولديه الفضل والطيب، ابن يحيى الواثق المذكور، وسلم للواثق ابن صغير تلقب أبا عصيدة، لأنهم يصنعون للنفساء عصيدة، فيها أدوية، ويهدى، منها للجيران، وعلمت أم الصبي ذلك، فلقب ولدها بأبي عصيدة، ثم ظهر إنسان ادعى أنه الفضل بن الواثق الذي ذبح مع ابنه، واجتمعت عليه الناس، وقصد أبا إسحاق إبراهيم وقهره، فهرب أبو إسحاق إلى بجاية، وبها ابنه أبو فارس عبد العزيز بن إبراهيم، فترك أبو فارس أباه ببجاية وسار بأخويه وجمعه إلى الداعي بتونس، والتقى الجمعان، فانهزم عسكر بجاية، وقتل أبو فارس وثلاثة من إخوته وأنجاله، أخ اسمه يحيى بن إبراهيم، وعمه أبو حفص عمر بن أبي زكريا.
ولما هزم الداعي عسكر(3/188)
بجاية وقتل المذكورين، أرسل إلى بجاية من قتل أبا إسحاق إبراهيم، وجاء برأسه، ثم تحدث الناس بدعوة الداعي، واجتمعت العرب على عمر بن أبي زكريا بعد هروبه من المعركة، وقوي أمره، وقصد الداعي ثانياً بتونس وقهره، واستتر الداعي في دور بعض التجار بتونس، ثم أحضر واعترف بنسبه، وضربت عنقه. فكان الداعي المذكور من أهل بجاية، واسمه أحمد بن مرزوق بن أبي عمار، وكان أبوه يتجر إلى بلاد السودان، وكان الداعي المذكور محارفاً قصيفاً، وسار إلى ديار مصر ونزل بدار الحديث الكاملية، ثم عاد إلى المغرب، فلما مر على طرابلس كان هناك شخص أسود يسمى نصيراً، كان خصيصاً بالواثق المخلوع، قد هرب لما جرى للواثق ما جرى، وكان في أحمد الداعي بعض الشبه من الفضل بن الواثق، فدبر مع نصير المذكور الأمر، فشهد له أنه الفضل بن الواثق، فاجتمعت عليه العرب، وكان منه ما ذكرناه حتى قتل، وكان الداعي يخطب له بالخليفة الإمام المنصور بالله، القائم بحق الله، أمير المؤمنين، ابن أمير المؤمنين أبي العباس الفضل.
ولما استقر أبو حفص عمر في المملكة وقتل الداعي، تلقب بالمستنصر بالله أمير المؤمنين، وهو المستنصر الثاني، ولما استقر في المملكة سار ابن أخيه يحيى ابن إبراهيم بن أبي زكريا الذي سلم من المعركة إلى بجاية، وملكها وتلقب بالمنتخب لإحياء دين الله، أمير المؤمنين، واستمر المستنصر الثاني أبو حفص عمر ابن أبي زكريا في مملكته حتى توفي، وفي أوائل المحرم سنة خمس وتسعين وستمائة، ولما اشتد مرضه بايع لابن له صغير، فاجتمعت الفقهاء وقالوا له: أنت صائر إلى الله، وتولية مثل هذا لا يحل فأبطل بيعته، وأخرج ولد الواثق المخلوع، الذي كان صغيراً وسلم من الذبح، الملقب بأبي عصيدة، وبويع صبيحة موت أبي حفص عمر الملقب بالمستنصر. وكان اسم أبي عصيدة المذكور، أبا عبد الله محمد، وتلقب أبو عصيدة بالمستنصر، أيضاً، وهو المستنصر الثالث، وتوفي في أيامه صاحب بجاية المنتخب، يحيى بن إبراهيم بن أبي زكريا، وملك بعده بجاية ابنه خالد بن يحيى، وبقي أبو عصيدة لذلك حتى توفي سنة تسع وسبعمائة.
فملك بعده شخص من الحفصيين يقال له أبو بكر بن عبد الرحمن بن أبي بكر
ابن أبي زكريا بن عبد الواحد بن أبي حفص، صاحب ابن تومرت، وأقام في الملك ثمانية عشر يوماً، ثم وصل خالد بن المنتخب صاحب بجاية، ودخل تونس، وقتل أبا بكر المذكور في سنة تسع وسبعمائة. ولما جرى ذلك، كان زكريا اللحياني بمصر، فسار مع عسكر السلطان الملك الناصر، خلد الله ملكه، إلى طرابلس الغرب، وبايعه العرب، وسار إلى تونس فخلع خالد بن المنتخب وحبس، ثم قتل قصاصاً بأبي بكر ابن عبد الرحمن المقدم الذكر، واستقر اللحياني في ملك إفريقية، وهو ابن يحيى زكريا بن أحمد بن محمد الزاهد اللحياني بن عبد الواحد بن أبي(3/189)
حفص، صاحب ابن تومرت.
ثم تحرك على اللحياني أخو خالد، وهو أبو بكر بن يحيى المنتخب، فهرب اللحياني إلى ديار مصر وأقام بالإسكندرية، وملك أبو بكر المذكور تونس وما معها، خلا طرابلس والمهدية، فإنه بعد هروب اللحياني، بايع ابنه محمد بن اللحياني لنفسه، واقتتل مع أبي بكر، فهزمه أبو بكر، واستقر محمد بن اللحياني بالمهدية، وله معها طرابلس، وكان استيلاء أبي بكر وهروب اللحياني إلى ديار مصر، في سنة تسع وعشرة وسبعمائة. وأقام اللحياني في الإسكندرية، ثم وردت عليه مكاتبات من تونس في ذي القعدة سنة إحدى وعشرين وسبعمائة إلى الإسكندرية، يذكرون فيها أن أبا بكر متملك تونس المذكور، قد هرب وترك البلاد، وأن الناس قد اجتمعوا على طاعة اللحياني وبايعوا نائبه، وهو محمد بن أبي بكر، من الحفصيين، وهو صهر زكريا اللحياني المذكور، وهم في انتظار وصول اللحياني إلى مملكته، أقول وقد بقيت مملكة إفريقية، فهرب منها لضعفها بسبب استيلاء العرب عليها.
ذكر مقتل أقطاي في هذه السنة اغتال الملك المعز أيبك التركماني المستولى على مصر، خوشداشه أقطاي الجمدار، وأوقف له في بعض دهاليز الدور التي بقلعة الجبل ثلاثة مماليك، وهم قطز، وبهادر، وسنجر الغتمي، فلما مر بهم فارس الدين أقطاي ضربوه بسيوفهم فقتلوه، ولما علمت البحرية بذلك هربوا من ديار مصر إلى الشام، وكان الفارس أقطاي يمنع أيبك من الاستقلال بالسلطنة، وكان الاسم للملك الأشرف موسى بن يوسف بن يوسف ابن الملك الكامل محمد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب.
فلما قتل أقطاي استقل المعز التركماني بالسلطنة، وأبطل الأشرف موسى المذكور منها بالكلية، وبعث به إلى عماته القطبيات، وموسى المذكور آخر من خطب له من بيت أيوب بالسلطنة في مصر، وكان انقضاء دولتهم من الديار المصرية في هذه السنة على ما شرحناه، ووصلت البحرية إلى الملك الناصر يوسف صاحب الشام، وأطمعوه في ملك مصر، فرحل من دمشق بعسكر ونزل عمقاً من الغور، وأرسل إلى غزة عسكراً فنزلوا بها، وبرز المعز أيبك صاحب مصر إلى العباسة، وخرجت السنة وهم على ذلك.
وفيها قدمت ملكة خاتون بنت كيقباذ ملك بلاد الروم إلى زوجها الملك الناصر يوسف صاحب الشام.
وفيها ولي الملك المنصور صاحب حماة، قضاء حماة للقاضي شمس الدين إبراهيم بن هبة الله بن البارزي، بعد عزل القاضي المحيي حمزة بن محمد.
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وستمائة فيها عزمت العزيزية المقيمون مع المعز أيبك على القبض عليه، وعلم بذلك، واستعد لهم، فهربوا من مخيمهم على العباسة على حمية، واحتيط على وطاقاتهم جميعها.
وفي هذه السنة مشى نجم الدين الباذراي في الصلح بين المصريين والشاميين، واتفق الحال أن(3/190)
يكون للملك الناصر الشام جميعه إلى العريش، ويكون الحد بين القاضي، وهو بين الورادة والعريش، وبيد المعز أيبك الديار المصرية، وانفصل الحال على ذلك ورجع كل إلى بلده.
وفي هذه السنة أو التي قبلها تزوج المعز أيبك شجرة الدر أم خليل، التي خطب لها بالسلطنة في ديار مصر.
وفيها طلب الملك الناصر داود من الملك الناصر يوسف دستوراً إلى العراق، بسبب طلب وديعته من الخليفة، وهي الجوهر الذي تقدم ذكره، وأن يمضي إلى الحج، فأذن له الناصر يوسف في ذلك، فسار الناصر داود إلى كربلاء، ثم مضى منها إلى الحج، ولما رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، تعلق في أستار الحجرة الشريفة بحضور الناس وقال: اشهدوا أن هذا مقامي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، داخلاً عليه، مستشفعاً به إلى ابن عمه المستعصم، في أن يرد علي وديعتي، فأعظم الناس ذلك، وجرت عبراتهم، وارتفع بكاؤهم، وكتب بصورة ما جرى مشروح، ورفع إلى أمير الحاج كيخسرو، وذلك يوم السبت الثامن والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة، وتوجه الناصر داود مع الحاج العراقي وأقام ببغداد.
ثم دخلت سنة أربع وخمسين وستمائة فيها مات كيخسرو ملك بلاد الروم، وأقيم في السلطنة ولداه الصغيران عز الدين كيكاؤوس وركن الدين قليج أرسلان.
وفيها توجه كمال الدين المعروف بابن العديم، رسولاً من الملك الناصر يوسف صاحب الشام، إلى الخليفة المستعصم، وصحبته تقدمة جليلة، وطلب خلعة من الخليفة لمخدومه، ووصل من جهة المعز أيبك صاحب مصر، شمس الدين سنقر الأقرع، وهو من مماليك المظفر غازي صاحب ميافارقين، إلى بغداد، بتقدمة جليلة، وسعى في تعطيل خلعة الناصر يوسف صاحب دمشق، فبقي الخليفة متحيراً، ثم إنه أحضر سكيناً من اليسم كبيرة، وقال الخليفة لوزيره: أعط هذه السكين رسول صاحب الشام، علامة مني في أن له خلعة عندي في وقت آخر، وأما في هذا الوقت فلا يمكني، فأخذ كمال الدين ابن العديم السكين، وعاد إلى الناصر يوسف بغير خلعة.
ذكر غير ذلك
فيها جرى للناصر داود مع الخليفة ما صورته، أنه لما أقام ببغداد بعد وصوله مع الحجاج، واستشفاعه بالنبي صلى الله عليه وسلم في رده وديعته، أرسل الخليفة المستعصم من حاسب الناصر داود المذكور، على ما وصله في ترداده إلى بغداد من المضيف، مثل اللحم والخبز والحطب والعليف والتبن وغير ذلك، وثمن عليه ذلك بأغلى الأثمان، وأرسل إليه شيئاً نزراً، وألزمه أن يكتب خطه بقبض وديعته، وأنه ما بقي يستحق عند الخليفة شيئاً، فكتب خطه بذلك كرهاً، وسار عن بغداد وأقام مع العرب. ثم أرسل إليه الناصر يوسف بن العزيز بن غازي بن يوسف صاحب الشام، فطيب قلبه وحلف له، فقدم الناصر داود إلى دمشق(3/191)
ونزل بالصالحية.
وفي هذه السنة يوم الأحد ثالث شوال، توفي سيف الدين طغريل مملوك الملك المظفر محمود، صاحب حماة، وكان قد زوجه المظفر المذكور بأخته، وقام بتدبير مملكة حماة بعد وفاة الملك المظفر، حتى توفي في التاريخ المذكور.
ثم دخلت سنة خمس وخمسين وستمائة.
ذكر قتل المعز أيبك التركماني وفي هذه السنة في يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من ربيع الأول، قتل الملك المعز أيبك التركماني الجاشنكير الصالحي، قتلته امرأته شجرة الدر، التي كانت امرأة أستاذه الملك الصالح أيوب، وهي التي خطب لها بالسلطنة في ديار مصر، وكان سبب ذلك: أنه بلغها أن المعز أيبك المذكور، قد خطب بنت بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، ويريد أن يتزوجها، فقتلته في الحمام بعد عوده من لعب الكرة في النهار المذكور، وكان الذي قتله، سنجر الجوجري، مملوك الطواشي محسن، والخدام، حسبما اتفقت معهم عليه شجر الدر، وأرسلت في تلك الليلة إصبع المعز أيبك وخاتمه إلى الأمير عز الدين الحلبي الكبير، وطلبت منه أن يقوم بالأمر، فلم يجسر على ذلك، ولما، ظهر الخبر، أراد مماليك المعز أيبك قتل شجرة الدر، فحماها المماليك الصالحية، فاتفقت الكلمة على إقامة نور الدين علي ابن الملك المعز أيبك، ولقبوه الملك المنصور، وعمره يومئذ خمس عشرة سنة.
ونقلت شجرة الدر من دار السلطنة إلى البرج الأحمر، وصلبوا الخدام الذين اتفقوا معها على قتل المعز أيبك، وهرب سنجر الجوجري، ثم ظفروا به وصلبوه، واحتيط على الصاحب بهاء الدين علي بن جنا، لكونه وزير شجرة الدر، وأخذ خطة بستين ألف دينار، وفي يوم الجمعة عاشر ربيع الآخر من هذه السنة، اتفقت مماليك المعز أيبك مثل سيف الدين قطز، وسنجر الغتمي،. وبهادر، وقبضوا على علم الدين سنجر الحلبي، وكان قد صار أتابكاً للملك المنصور نور الدين ابن الملك علي المعز أيبك ورتبوا في أتابكية المذكور أقطاي المستعرب الصالحي.
وفي سادس عشر ربيع الآخر من السنة المذكورة، قتلت شجرة الدر، وألقيت خارج البرج، فحملت إلى تربة قد عملتها، فدفنت فيها، وكانت تركية الجنس، وقيل كانت أرمنية، وكانت مع الملك الصالح في الاعتقال بالكرك، وولدت منه ولداً اسمه خليل، مات صغيراً، وبعد أيام من ذلك خنق شرف الدين الفائزي.
ذكر مفارقة البحرية الملك الناصر يوسف
صاحب الشام ابن الملك العزيز:
في هذه السنة، نقل إلى الناصر يوسف، أن البحرية يريدون أن يفتكوا به، فاستوحش(3/192)
خاطره منهم، وتقدم إليهم بالانتزاح عن دمشق، فساروا إلى غزة، وانضموا إلى الملك المغيث فتح الدين عمر ابن الملك العادل أبي بكر ابن الملك الكامل، وانزعج أهل مصر لقدوم البحرية إلى غزة، وبرزوا إلى العباسة، ووصل من البحرية جماعة مقفزين إلى القاهرة، منهم عز الدين الأثرم، فأكرموهم وأفرجوا عن أملاك الأثرم. ولما فارق البحرية الناصر صاحب الشام، أرسل عسكراً في إثرهم، فكبس البحرية ذلك العسكر ونالوا منه، ثم إن عسكر الناصر بعد الكبسة، كسروا البحرية، فانهزموا إلى البلقاء وإلى زعز، ملتجين إلى الملك المغيث صاحب الكرك، فأنفق فيهم المغيث أموالاً جليلة، وأطمعوه في ملك مصر، فجهزهم بما احتاجوه، وسارت البحرية إلى جهة مصر، وخرجت عساكر مصر لقتالهم، والتقى المصريون مع البحرية وعسكر المغيث بكرة السبت، منتصف ذي القعدة من هذه السنة، فانهزم عسكر المغيث والبحرية، وفيهم بيبرس البند قداري، المسمى بعد ذلك بالملك الظاهر، إلى جهة الكرك.
ذكر غير ذلك من الحوادث
في هذه السنة وصل من الخليفة المستعصم، الخلعة والطوق والتقليد، إلى الملك الناصر يوسف ابن الملك العزيز. وفيها استجار الناصر داود بنجم الدين الباذراي، في أن يتوجه صحبته إلى بغداد، فأخذه صحبته، وتوصل الناصر يوسف صاحب دمشق إلى منعه عن ذلك، فلم يتهيأ له، وسار الناصر داود مع الباذراي إلى قرقيسيا، فأخره الباذراي ليشاور عليه، فأقام الناصر داود في قرقيسيا ينتظر الإذن بالقدوم إلى بغداد فلم يؤذن له، وطال مقامه، فسافر إلى البرية وقصد تيه بني إسرائيل، وأقام مع عرب تلك البلاد.
وفي هذه السنة أو التي قبلها، ظهرت نار بالحرة، عند مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان لها بالليل ضوء عظيم، يظهر من مسافة بعيدة جداً، ولعلها النار التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم من علامات الساعة، فقال " نار تظهر بالحجاز تضيء منها أعناق الإبل ببصرى " ثم اتفق أن الخدام بحرم النبي صلى الله عليه وسلم، وقع منهم في بعض الليالي تفريط، فاشتعلت النار في المسجد الشريف، واحترقت سقوفه، ومنبر النبي صلى الله عليه وسلم، وتألم الناس لذلك.
ثم دخلت سنة ست وخمسين وستمائة.
ذكر استيلاء التتر على بغداد
وانقراض الدولة العباسية:
في أول هذه السنة قصد هولاكو ملك التتر بغداد وملكها، في العشرين من المحرم، وقتل الخليفة المستعصم بالله، وسبب ذلك أن وزير الخليفة مؤيد الدين ابن العلقمي، كان رافضياً، وكان أهل الكرخ أيضاً روافض، فجرت فتنة بين السنية والشيعة ببغداد، على جاري عادتهم، فأمر أبو بكر ابن الخليفة، وركن الدين الدوادار، العسكر، فنهبوا الكرخ وهتكوا النساء، وركبوا منهن الفواحش، فعظم ذلك على الوزير ابن العلقمي، وكاتب التتر وأطمعهم في ملك بغداد،(3/193)
وكان عسكر بغداد يبلغ مائة ألف فارس، فقطعهم المستعصم ليحمل إلى التتر متحصل إقطاعاتهم، وصار عسكر بغداد دون عشرين ألف فارس، وأرسل ابن العلقمي إلى التتر أخاه، يستدعيهم، فساروا قاصدين بغداد في جحفل عظيم، وخرج عسكر الخليفة لقتالهم، ومقدمه ركن الدين الدوادار، والتقوا على مرحلتين من بغداد، واقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم عسكر الخليفة، ودخل بعضهم بغداد، وسار بعضهم إلى جهة الشام، ونزل هولاكو على بغداد من الجانب الشرقي ونزل باجو، وهو مقدم كبير، في الجانب الغربي، على قرية، قبالة دار الخلافة، وخرج مؤيد الدين الوزير ابن العلقمي إلى هولاكو فتوثق منه لنفسه، وعاد إلى الخليفة المستعصم وقال إن هولاكو يبقيك في الخلافة كما فعل بسلطان الروم، ويريد أن يزوج ابنته من ابنك أبي بكر، وحسن له الخروج إلى هولاكو، فخرج إليه المستعصم في جمع من أكابر أصحابه، فأنزل في خيمة، ثم استدعى الوزير الفقهاء والأماثل فاجتمع هناك جميع سادات بغداد والمدرسون، وكان منهم محي الدين ابن الجوزي وأولاده، وكذلك بقي يخرج إلى التتر طائفة بعد طائفة، فلما تكاملوا، قتلهم التتر عن آخرهم، ثم مدوا الجسر، وعدى باجو ومن معه، وبذلوا السيف في بغداد، وهجموا دار الخلافة، وقتلوا كل من كان فيها من الأشراف، ولم يسلم إلا من كان صغيراً، فأخذ أسيراً، ودام القتل والنهب في بغداد نحو أربعين يوماً، ثم نودي بالأمان. وأما الخليفة فإنهم قتلوه، ولم يقع الاطلاع على كيفية قتله، فقيل خنق، وقيل وضع في عدل ورفسوه حتى مات، وقيل غرق في دجلة، والله أعلم بحقيقة ذلك. وكان هذا المستعصم، وهو عبد الله أبو أحمد بن المستنصر أبي جعفر، منصور بن محمد الطاهر ابن الإمام الناصر أحمد. وقد تقدم ذكر باقي نسبه عند ذكر وفاة الإمام الناصر. كان ضعيف الرأي، قد غلب عليه أمراء دولته لسوء تدبيره، تولى الخلافة بعد موت أبيه المستنصر، في سنة أربعين وستمائة، وكانت مدة خلافته نحو ست عشرة سنة تقريباً، وهو آخر الخلفاء العباسيين، وكان ابتداء دولتهم في سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وهي السنة التي بويع فيها السفاح بالخلافة، وقتل فيها مروان الحمّار، آخر خلفاء بني أمية، وكانت مدة ملكهم خمس مائة سنة، وأربعاً وعشرين سنة تقريباً، وعدة خلفائهم، سبعة وثلاثون خليفة، حكى القاضي جمال الدين ابن واصل قال: لقد أخبرني من أثق به، أنه وقف على كتاب عتيق، فيه ما صورته أن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، بلغ بعض خلفاء بني أمية عنه، أنه يقول: إن الخلافة تصير إلى ولده، فأمر الأموي بعلي بن عبد الله، فحمل على جمل وطيف به وضرب، وكان يقال عند ضربه: هذا جزاء من يفتري ويقول: إن الخلافة تكون في ولده. فكان علي بن عبد الله المذكور رحمه الله، يقول: أي والله لتكونن الخلافة في ولدي، لا تزال فيهم حتى يأتيهم العلج من خراسان فينتزعها منهم، فوقع(3/194)
مصداق ذلك، وهو ورود هولاكو وإزالته ملك بني العباس.
الدولة الإسلامية بعد بني العباس
ذكر الوقعة بين المغيث صاحب الكرك وعسكر مصر
كان قد انضمت البحرية إلى المغيث ابن العادل ابن الكامل، ونزل من الكرك وخيم بغزة، وجمع الجموع، وسار إلى مصر في دست السلطنة، وخرجت عساكر مصر مع مماليك الملك المعز أيبك، وأكبرهم سيف الدين قطز، الذي صار صاحب مصر، والغتمي وبهادر، والتقى الفريقان، فكانت الكسرة على المغيث ومن معه، فولى منهزماً إلى الكرك في أسوأ حال، ونهبت أثقاله ودهليزه.
ذكر وفاة الناصر داود
وفي هذه السنة، أعني سنة ست وخمسين وستمائة، في ليلة السبت السادس والعشرين من جمادى الأولى، توفي الملك الناصر داود ابن الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل أبي بكر ابن أيوب، بظاهر دمشق، في قرية يقال لها البويضا، ومولده سنة ثلاث وستمائة، فكان عمره نحو ثلاث وخمسين سنة، وكنا قد ذكرنا أخباره في سنة خمس وخمسين، وأنه توجه إلى تيه بني إسرائيل، وصار مع عرب تلك البلاد وبلغ المغيث صاحب الكرك وصوله إلى تلك الجهة، فخشي منه، وأرسل إليه فقبض عليه، وحمله إلى بلد الشوبك، وأمر بحفر مطمورة ليحبسه فيها، وبقي الملك الناصر المذكور ممسوكاً، والمطمورة تحفر قدامه ليحبس فيها، فبينما هو على تلك الحال، إذ ورد رسول الخليفة المستعصم يطلبه من بغداد، لما قصده التتر، ليقدمه على بعض العساكر لملتقى التتر، فلما ورد رسول الخليفة إلى دمشق، جهزوه إلى المغيث صاحب الكرك، ووصل الرسول إلى موضع الملك الناصر قبل أن يتم المطمورة، فأخذه وسار به إلى جهة دمشق، فبلغ الرسول استيلاء التتر على بغداد، وقتل الخليفة، فتركه الرسول ومضى لشأنه، فسار الناصر داود إلى البويضا، وهي قرية شرقي دمشق، وأقام بها، ولحق الناس في الشام في تلك المدة طاعون، مات منه الناصر داود المذكور في التاريخ المذكور، وخرج الملك الناصر يوسف صاحب دمشق إلى البويضا، وأظهر عليه الحزن، والتأسف، ونقله ودفنه بالصالحية في تربة والده المعظم، وكان الناصر داود فاضلاً ناظماً ناثراً، وقرأ العلوم العقلية على الشيخ شمس الدين عبد الحميد الخسروشاهي، تلميذ الإمام فخر الدين الرازي، وللناصر داود المذكور أشعار جيدة، قد تقدم ذكر بعضها، ومن شعره أيضاً:
عيون عن السحر المبين تبين ... لها عند تحريك القلوب سكون
تصول ببيض وهي سود فرندها ... ذبول فتور والمجفون جفون
إذا ما رأت قلباً خلياً من الهوى ... تقول له كن مغرماً فيكون(3/195)
وله أيضاً:
طوفي وقلبي قاتل وشهيد ... ودمي على خديك منه شهود
أما وحبك لست أضمر سلوة ... عن صبوتي ودع الفؤاد يبيد
مني بطيفك بعد ما منع الكرى ... عن ناظري البعد والتسهيد
ومن العجائب أن قلبك لم يلن ... لي والحديد ألانه داود
ومما كتب به في أثناء مكاتبته إلى الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، وكان قد أغارت الفرنج على نابلس في أيام الملك الصالح أيوب صاحب مصر:
أيا ليت أمي أيم طول عمرها ... فلم يقضها ربي لمولى ولا بعل
ويا ليتها لما قضاها لسيد ... لبيب أريب طيب الفرع والأصل
قضاها من اللاتي خلقن عواقراً ... فما بشرت يوماً بأنثى ولا فحل
ويا ليتها لما غدت بي حاملاً ... أصيبت بما احتفت عليه من الحمل
ويا ليتني لما ولدت وأصبحت تشد إلي الشدقيات بالرحل
لحقت بأسلافي فكنت ضجيعهم ... ولم أر في الإسلام ما فيه من خل
ذكر وفاة الصاحبة غازية خاتون
والدة الملك المنصور صاحب حماة:
وفي هذه السنة في ذي القعدة، توفيت الصاحبة غازية خاتون، بنت السلطان الملك الكامل محمد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، بقلعة حماة، رحمها الله تعالى. وكان قدومها إلى حماة في سنة تسع وعشرين وستمائة، وولد لها من الملك المظفر محمود صاحب حماة، ثلاث بنين، مات أحدهم صغيراً، وكان اسمه عمر، وبقي الملك المنصور محمد صاحب حماة، وأخوه والد الملك الأفضل علي، وولد لها منه ثلاث بنات أيضاً، فتوفيت الكبرى منهن، وكان اسمها ملكة خاتون، قبل وفاة والدتها بقليل، وتوفيت الصغرى، وهي دنيا خاتون، بعد وفاة أخيها الملك المنصور، وسنذكر وفاة الباقين في مواضعها إن شاء الله تعالى. وكانت الصاحبة غازية خاتون المذكورة، من أحسن النساء سيرة، وزهداً، وعبادة وحفظت الملك لولدها الملك المنصور حتى كبر، وسلمته إليه قبل وفاتها، رحمها الله تعالى.
ذكر غير ذلك من الحوادث
في هذه السنة، قصدت التتر ميافارقين بعد استيلائهم على بغداد، وكان صاحب ميافارقين حينئذ، الملك الكامل محمد ابن الملك المظفر شهاب الدين غازي ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وكان قد ملكها بعد وفاة أبيه في سنة اثنتين وأربعين وستمائة،(3/196)
فحاصره التتر وضايقوا ميافارقين مضايقة شديدة، وصبر أهل ميافارقين مع الكامل محمد المذكور على الجوع الشديد، ودام ذلك حتى كان منه ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها اشتد الوباء بالشام، خصوصاً بدمشق، حتى لم يوجد مغسل للموتى.
وفيها أرسل الملك الناصر يوسف صاحب دمشق، ولده الملك العزيز محمد، وصحبته زين الدين محمد، المعروف بالحافظي، وهو من أهل قرية عقربا من بلد دمشق، بتحف وتقادم إلى هولاكو ملك التتر، وصانعه لعلمه بعجزه عن ملتقى التتر.
وفيها توفي الصاحب بهاء الدين زهير بن محمد بن علي بن يحيى المهلبي، كاتب إنشاء الملك الصالح أيوب، ومولد البهاء زهير بوادي نخلة من مكة سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، وفي آخر عمره انكشف حاله وباع موجوده، وكتبه، وأقام في ببيته في القاهرة حتى أدركته وفاته، بسبب الوباء العام، في يوم الأحد رابع ذي القعدة من هذه السنة، أعني سنة ست وخمسين وستمائة، ودفن بالقرافة الصغرى، وكان كريم الطباع غزير المروءة فاضلاً، حسن النظم، وشعره مشهور كثير، فمن شعره وهو وزن مخترع لبس بخرجة العروض، أبيات ومنها:
يا من لعبت به شمول ... ما ألطف هذه الشمائل
مولاي يحق لي بأني ... عن حبك في الهوى أقاتل
ها عبدك واقفاً ذليلاً ... بالباب يمد كف سائل
من وصلك بالقليل يرضى ... والطل من الحبيب وابل
وفي هذه السنة توفي بمصر الشيخ ركن الدين عبد العظيم شيخ دار الحديث، وكان من أئمة الحديث المشهورين.
وفيها توفي الشيخ شمس الدين يوسف، سبط جمال الدين ابن الجوزي، كان من الوعاظ الفضلاء، ألف تاريخاً جامعاً سماه مرآة الزمان، وفيها توفي سيف الدين علي بن سابق الدين قزل، المعروف بابن المشد وكان أميراً مقدماً في دولة الملك الناصر يوسف صاحب الشام، وله شعر حسن، منه:
باكر كؤوس المدام واشرب ... واستجل وجه الحبيب واطرب
ولا تخف للهموم داء ... فهي دواء له مجرب
من يد ساق له رضاب ... كشهد لكن جناه أعذب
وفيها كان بين البحرية بعد هزيمتهم من المصريين، وبين عسكر الملك الناصر يوسف صاحب دمشق، ومقدمهم الأمير مجير الدين بن أبي زكري، مصاف بظاهر غزة، انهزم فيه عسكر الناصر يوسف وأسر مجير الدين المذكور، وقوي أمر حرية بعد هذه الكسرة، وأكثروا العبث والفساد.
ثم دخلت سنة سبع وخمسين وستمائة فيها سار عز الدين كيكاؤوس، وركن الدين قليج أرسلان، ابنا كيخسرو بن كيقباذ، إلى خدمة(3/197)
هولاكو، وأقاما معه مدة ثم عادا إلى بلادهما.
ذكر وفاة بدر الدين صاحب الموصل
في هذه السنة توفي بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، وكان لقب الملك الرحيم، وكان عمره قد جاوز ثمانين سنة، ولما مات ملك بعده الموصل ولده الملك الصالح بن لؤلؤ، وملك سنجار ولده الآخر علاء الدين بن لؤلؤ، وكان بدر الدين قد صانع هولاكو ودخل في طاعته، وحمل إليه الأموال، ووصل إلى خدمة هولاكو بعد أخذ بغداد ببلاد أذربيجان، وكان صحبة لؤلؤ، الشريف العلوي بن صلايا، فقيل إن لؤلؤ سعى به إلى هولاكو، فقتل الشريف المذكور، ولما عاد لؤلؤ إلى الموصل لم يطل مقامه بها، حتى مات، وطالت أيام بدر الدين لؤلؤ في ملك الموصل، فإنه كان القائم بأمور أستاذه أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكي بن أقسنقر، وقام بتدبير ولده الملك القاهر بن أرسلان شاه، ولما توفي الملك القاهر بن أرسلان شاه، في سنة خمس عشرة وستمائة، انفرد لؤلؤ بتدبير المملكة، وأقام ولدي القاهر الصغيرين، واحد بعد واحد، واستبد بملك الموصل وبلادها ثلاثاً وأربعين سنة تقريباً، ولم يزل في ملكه سعيداً، لم تطرقه آفة ولم يختل لملكه نظام.
منازلة الملك الناصر يوسف صاحب الشام والكرك
وفي هذه السنة لما جرى من البحرية ما ذكرناه، من كسر عسكر الناصر يوسف، سار الناصر المذكور من دمشق بنفسه وعساكره، وسار في صحبته الملك المنصور صاحب حماة، بعسكره، إلى جهة الكرك، وأقام على بركة زيزا، محاصراً للملك المغيث صاحب الكرك، بسبب حمايته للبحرية، ووصل إلى الملك الناصر رسل الملك المغيث صاحب الكرك، والقطبية بنت الملك المفضل قطب الدين ابن الملك العادل، يتضرعون إلى الملك الناصر ويطلبون رضاه عن الملك المغيث، فلم يجب إلى ذلك إلا بشرط أن يقبض المغيث على من عنده من البحرية، فأجاب المغيث إلى ذلك وعلم بالحال ركن الدين بيبرس البندقداري، فهرب في جماعة من البحرية ووصل بهم إلى الملك الناصر يوسف، فأحسن إليهم، وقبض المغيث على من بقي عنده من البحرية، ومن جملتهم سنقر الأشقر، وسكر، وبرامق، وأرسلهم على الجمال إلى الملك الناصر، فبعث بهم إلى حلب، فاعتقلوا بها، واستقر الصلح بين الملك الناصر وبين الملك المغيث صاحب الكرك، وكان مدة مقام الملك الناصر بالعساكر على بركة زيزا، ما يزيد على شهرين بقليل، ثم عاد إلى دمشق وأعطى للملك المنصور صاحب حماة دستوراً، فعاد إلى بلده.(3/198)
ذكر سلطنة قطز
وفي أواخر هذه السنة، أعني سنة سبع وخمسين وستمائة، في أوائل ذي الحجة، قبض سيف الدين قطز على ولد أستاذه الملك المنصور، نور الدين علي بن المعز أيبك، وخلعه من السلطنة، وكان علم الدين الغتمي، وسيف الدين بهادر، وهما من كبار المعزية، غائبين في رمي البندق، فانتهز قطز الفرصة في غيبتهما وفعل ذلك، ولما قدم الغتمي وبهادر المذكور، أن قبض عليهما قطز أيضاً، واستقر قطز في ملك الديار: المصرية، وتلقب بالملك المظفر، وكان رسول الملك الناصر يوسف صاحب الشام، وهو كمال الدين، المعروف بابن العديم، قد قدم إلى مصر في أيام الملك المنصور علي بن أيبك، مستنجداً على التتر، واتفق خلع علي المذكور وولاية قطز بحضرة كمال الدين ابن العديم، ولما استقر قطز في السلطنة، أعاد جواب الملك الناصر يوسف، أنه ينجده، ولا يقعد عن نصرته، وعاد ابن العديم بذلك.
ذكر مولد الملك المظفر محمود
بن الملك المنصور صاحب حماة:
وفي هذه السنة، أعني سنة سبع وخمسين وستمائة، في الساعة العاشرة من ليلة الأحد خامس عشر المحرم، وثاني عشر كانون الثاني، ولد محمود ابن الملك منصور محمد ابن الملك المظفر محمود ابن الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، ولقبوه الملك المظفر، بلقب جده، وأم الملك المظفر محمود المذكور، عائشة خاتون بنت الملك العزيز محمد، صاحب حلب، ابن الملك الظاهر غازي ابن السلطان صلاح المدين يوسف بن أيوب، وهنأ الشيخ شرف الدين عبد العزيز، المعروف بشيخ الشيوخ، الملك المنصور صاحب حماة بقصيدة طويلة منها:
أبشر على رغم العدى والحسد ... بأجل مولود وأكرم مولد
بالنعمة الغراء بل بالدولة ... الزهراء بل بالمفخر المتجدد
وافاك بدراً كاملاً في ليلة ... طلعت عليك نجومها بالأسعد
ما بين محمود المظفر أسفرت ... عنه وما بين العزيز محمد
ذكر قصد هولاكو الشام
وفي هذه السنة قدم هولاكو إلى البلاد التي شرقي الفرات، ونازل حران وملكها، واستولى على البلاد الجزرية، وأرسل ولده سموط بن هولاكو إلى الشام، فوصل إلى ظاهر حلب في العشر الأخير من ذي الحجة من هذه السنة، أعني سنة سبع وخمسين وستمائة، وكان الحاكم في حلب، الملك المعظم توران شاه ابن السلطان صلاح الدين، نائباً عن(3/199)
ابن أخيه الملك الناصر يوسف، فخرج عسكر حلب لقتالهم، وخرج الملك المعظم، ولم يكن من رأيه الخروج إليهم، وأكمن لهم التتر في الباب المعروف بباب الله، وتقاتلوا عند بانقوسا، فاندفع التتر قدامهم حتى خرجوا عن البلد، ثم عادوا عليهم، وهرب المسلمون طالبين المدينة، والتتر يقتلون فيهم حتى دخلوا البلد، واختنق في أبواب البلد جماعة من المنهزمين، ثم رحل التتر إلى إعزاز فتسلموها بالأمان.
ثم دخلت سنة ثمان وخمسينوستمائة.
ذكر ما كان من الملك الناصر عند قصد التتر حلب
ولما بلغ الملك الناصر يوسف صاحب الشام قصد التتر حلب، برز من دمشق إلى برزة في أواخر السنة الماضية، وجفل الناس من بين يدي التتر، وسار من حماة إلى دمشق الملك المنصور صاحب حماة، ونزل معه ببرزة، وكان هناك مع الناصر يوسف بيبرس البندقداري، من حين هرب من الكرك والتجأ إلى الناصر، فاجتمع عند الملك الناصر عند برزة أمم عظيمة من العساكر، والجفال، ولما دخلت هذه السنة، والملك الناصر ببرزة، بلغه أن جماعة من مماليكه قد عزموا على اغتياله، والفتك به، فهرب الملك الناصر من الدهليز إلى قلعة دمشق، وبلغ مماليكه الذين قصدوا ذلك علمه بهم، فهربوا على حمية، إلى جهة غزة، وكذلك سار بيبرس البندقداري إلى جهة عزة، وأشاع المماليك الناصرية أنهم لم يقصدوا قتل الملك الناصر، وإنما كان قصدهم أن يقبضوا عليه، ويسلطنوا أخاه الملك الظاهر غازي ابن الملك العزيز محمد ابن الملك الظاهر غازي ابن السلطان صلاح الدين، لشهامته، ولما جرى ذلك، هرب الملك الظاهر المذكور خوفاً من أخيه الملك الناصر، وكان الظاهر المذكور شقيق الناصر، أمهما أم ولد تركية، ووصل الملك الظاهر غازي إلى غزة، واجتمع عليه من بها من العسكر، وأقاموه سلطاناً، ولما جرى ذلك، كاتب بيبرس البندقداري الملك المظفر قظز، صاحب مصر، فبذل له الأمان، ووعده الوعود الجميلة، ففارق بيبرس البندقداري الشاميين وسار إلى مصر، في جماعة من أصحابه، فأقبل عليه الملك المظفر قطز وأنزله في دار الوزارة، وأقطعه قليوب وأعمالها.
ذكر استيلاء التتر على حلب وعلى الشام جميعه
ومسير الملك الناصر عن دمشق، ووصول عساكره إلى مصر، وانفراد الملك الناصر عنهم: في هذه السنة، أعني سنة ثمان وخمسين وستمائة، في يوم الأحد تاسع صفر، كان استيلاء التتر على حلب، وسببه أن هولاكو عبر الفرات بجموعه، ونازل حلب، وأرسل هولاكو إلى الملك المعظم توران شاه بن صلاح الدين نائب السلطنة بحلب، يقول له: إنكم تضعفون عن لقاء المغل، ونحن قصدنا الملك الناصر والعساكر، فاجعلوا لنا عندكم بحلب(3/200)
شحنة، وبالقلعة شحنة، ونتوجه نحن إلى العسكر، فإن كانت الكسرة على عسكر الإسلام، كانت البلاد لنا وتكونون قد حقنتم دماء المسلمين، وإن كانت الكسرة علينا، كنتم مخيرين في الشحنتين، إن شئتم طردتموهما، وإن شئتم قتلتموهما، فلم يجب الملك المعظم إلى ذلك وقال: ليس لكم عندنا إلا السيف، وكان رسول هولاكو إليهم في ذلك صاحب أرزن الروم، نتعجب من هذا الجواب، وتألم لما علم من هلاك أهل حلب بسبب ذلك، وأحاط التتر بحلب ثاني صفر، وهجموا النواثر في غد ذلك اليوم، وقتل من المسلمين جماعة كثيرة، وممن قتل أسد الدين ابن الملك الزاهر بن صلاح الدين، واشتدت مضايقة التتر للبلد، وهجموه من عند حمام حمدان في ذيل قلعة الشريف، في يوم الأحد تاسع صفر، وبذلوا السيف في المسلمين، وصعد إلى القلعة خلق عظيم، ودام القتل والنهب من نهار الأحد المذكور إلى الجمعة رابع عشر صفر المذكور، فأمر هولاكو برفع السيف، ونؤدي بالأمان، ولم يسلم من أهل حلب إلا من التجأ إلى دار شهاب الدين بن عمرون، ودار نجم الدين أخي مردكين، وداد البازياد، ودار علم الدين قيصر الموصلي، والخانكاه التي فيها زين الدين الصوفي، وكنيسة اليهود، وذلك لفرمانات كانت بأيديهم، وقيل أنه سلم بهذه الأماكن ما يزيد على خمسين ألف نفس، ونازل التتر القلعة وحاصروها وبها الملك المعظم، ومن التجأ إليها من العسكر، واستمر الحصار عليها، وكان من ذلك ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر غير ذلك من أحوال حماة
وأحوال الملك الناصر بعد أخذ حلب:
كان قد تأخر بحماة الطواشي مرشد، لما سار صاحب حماة إلى دمشق، فلما بلغ أهل حماة فتح حلب، توجه الطواشي مرشد من حماة إلى عند الملك المنصور صاحب حماة بدمشق، ووصل كبراء حماة إلى حلب، ومعهم مفاتيح حماة، وحملوها إلى هولاكو، وطلبوا منه الأمان لأهل حماة، وشحنه يكون عندهم، فأمنهم هولاكو وأرسل إلى حماة شحنة، رجلاً أعجمياً كان يدعي أنه من ذرية خالد بن الوليد، يقال له خسروشاه، فقدم خسروشاه، إلى حماة وتولاها، وأمن الرعية، وكان بقلعة حماة مجاهد الدين قيماز أمير جندار، فسلم القلعة إليه، ودخل في طاعة التتر ولما بلغ الملك الناصر بدمشق، أخذ حلب رحل من دمشق، بمن بقي معه من العسكر إلى جهة الديار المصرية، وفي صحبته الملك المنصور صاحب حماة، وأقام بنابلس أياماً، ورحل عنها وترك فيها الأمير مجير الدين بن أبي زكري، والأمير علي بن شجاع، ومعهما جماعة من العسكر، ثم سار الملك الناصر إلى غزة فانضم إليه مماليكه الذين كانوا أرادوا قتله، وكذلك اصطلح معه أخوه الملك الظاهر غازي، وانضم إليه.
وبعد مسير الملك الناصر عن نابلس، وصل التتر إليها وكبسوا العسكر الذين بها، وقتلوا مجير الدين، والأمير(3/201)
علي بن شجاع، وكانا أميرين جليلين فاضلين، وكان البحرية قد قبضوا عليهما واعتقلوهما بالكرك، وأفرج عنهما المغيث. لما وقع الصلح بينه وبين الناصر، ولما بلغ الملك الناصر وهو بغزة ما جرى من كبسة التتر لنابلس، رحل من غزة إلى العريش، وسير القاضي برهان الدين أبن الخضر رسولاً إلى الملك المظفر قطز صاحب مصر، يطلب منه المعاضدة، ثم سار الملك الناصر والملك المنصور صاحب حماة، والعسكر، ووصلوا إلى قطية، فجرى بها فتنة بين التركماني والأكراد الشهرزورية، ووقع نهب في الجفال، وخاف الملك الناصر أن يدخل مصر، فيقبض عليه، فتأخر في قطية، ورحلت العساكر والملك المنصور صاحب حماة إلى مصر، وتأخر مع الملك الناصر جماعة يسيرة، منهم أخوه الملك الظاهر غازي، والملك الصالح بن شيركوه صاحب حمص، وشهاب الدين القيمري، ثم سار الملك الناصر بمن تأخر معه من قطية إلى جهة تيه بني إسرائيل، ولما وصلت العساكر إلى مصر، التقاهم الملك المظفر قطز بالصالحية، وطيب قلوبهم، وأرسل إلى الملك المنصور صاحب حماة سنجقاً، والتقاه ملتقاً حسناً وطيب قلبه، ودخل القاهرة، وأما التتر فإنهم استولوا على دمشق، وعلى سائر الشام إلى غزة، واستقرت شحائنهم بهذه البلاد.
ذكر استيلاء التتر على قلعة حلب
والمتجددات بالشام:
أما قلعة حلب، فوثب جماعة من أهلها في مدة الحصار على صفي الدين بن طرزة، رئيس حلب، وعلى نجم الدين أحمد بن عبد العزيز بن أحمد ابن القاضي نجم الدين بن أبي عصرون، فقتلوهما، لأنهم اتهموهما بمواطأة التتر، واستمر الحصار على القلعة، واشتدت مضايقة التتر لها نحو شهر، ثم سلمت بالأمان في يوم الاثنين، الحادي عشر من ربيع الأول، من هذه السنة، ولما نزل أهلها بالأمان، وكان فيها جماعة من البحرية الذين حبسهم الملك الناصر، فمنهم سكز، وبرامق، وسنقر الأشقر فسلمهم هولاكوهم وباقي الترك إلى رجل من التتر يقال له سلطان حق، وهو رجل من أكابر القبجاق، هرب من التتر لما غلبت على القبجاق، وقدم إلى حلب، فأحسن إليه الملك الناصر، فلم تطب له تلك البلاد، فعاد إلى التتر، وأما العوام والغرباء فنزلوا إلى أماكن الحمى التي قدمنا ذكرها، وأمر هولاكو أن يمضي كل من سلم إلى داره، وملكه، وأن لا يعارض، وجعل النائب بحلب عماد الدين القزويني، ووصل إلى هولاكو على حلب الملك الأشرف صاحب حمص، موسى بن إبراهيم بن شيركوه، وكان قد انفرد الأشرف المذكور عن المسلمين، لما توجه الملك الناصر إلى جهة مصر، ووصل إلى هولاكو بحلب، فأكرمه هولاكو وأعاد عليه حمص، وكان قد أخذها منه الملك الناصر صاحب حلب في سنة ست وأربعين وستمائة، وعوضه عنها تل باشر على ما تقدم ذكره، فعادت إليه في هذه السنة، واستقر ملكه بها، وقدم أيضاً إلى هولاكو، وهو نازل إلى حلب، محي الدين ابن الزكي(3/202)
من دمشق، فأقبل عليه هولاكو خلع عليه وولاه قضاء الشام، ولما عاد ابن الزكي المذكور إلى دمشق، لبس خلعة هولاكو، وكانت مذهبة، وجمع الفقهاء وغيرهم من أكابر دمشق، وقرأ عليهم تقليد هولاكو، واستقر في القضاء، ثم رحل هولاكو إلى حارم، وطلب تسليمها، فامتنعوا أن يسلموها لغير فخر الدين، والي قلعة حلب، فأحضره هولاكو وسلموها إليه، فغضب هولاكو من ذلك وأمر بهم، فقتل أهل حارم عن آخرهم، وسبي النساء، ثم حل هولاكو بعد ذلك وعاد إلى الشرق، وأمر عماد الدين القزويني بالرحيل إلى بغداد، فسار إليها وجعل مكانه بحلب رجلاً أعجمياً، وأمر هولاكو بخراب أسورار قلعة حلب، وأسوار المدينة، فخربت عن آخرها، وأعطى هولاكو الأشرف موسى صاحب حمص الدستور، ففارقه ووصل إلى حماة، ونزل في الدار المبارز، وأخذ في خراب سور قلعة حماة بتقدم هولاكو إليه بذلك، فخربت أسوارها وأحرقت زردخانتها، وبيعت الكتب التي كانت بدار السلطنة بقلعة حماة بأبخس الأثمان، وأما أسوار مدينة حماة فلم تخرب، لأنه كان بحماة رجل يقال له إبراهيم بن الإفرنجية، ضامن الجهة المفردة، بذل لخسروشاه جملة كثيرة من المال، وقال. الفرنج قريب منا بحصن الأكراد، ومتى خربت أسوار المدينة لا يقدر أهلها على المقام فيها، فأخذ منه المال ولم يتعرض الخراب أسوار المدينة، وكان قد أمر هولاكو والأشرف موسى صاحب حمص بخراب قلعة حمص أيضاً، فلم يخرب منها إلا شيئاً قليلاً، لأنها مدينته، وأما دمشق فإنهم لما ملكوا المدينة بالأمان، لم يتعرضوا إلى قتل ولا نهب، وعصت قلعة دمشق عليهم، فحاصرها التتر، وجرى على أهل دمشق بسبب عصيان القلعة شدة عظيمة، وضايقوا القلعة وأقاموا عليها المجانيق، ثم تسلموها بالأمان في منتصف جمادى الأولى من هذه السنة، ونهبوا جميع ما فيها وجدوا في خراب أسوار القلعة، وإعدام ما بها من الزردخانات والآلات، ثم توجهوا إلى بعلبك ونازلوا قلعتها.
ذكر استيلاء التتر على ميافارقين
وقتل الملك الكامل صاحبها:
وفي هذه السنة، أعني سنة ثمان وخمسين وستمائة، استولى التتر على ميافارقين، وقد تقدم ذكر نزولهم عليها ومحاصرتها، في سنة ست وخمسين، واستمر الحصار عليهم مدة سنتين، حتى فنيت أزوادهم، وفني أهلها بالوباء، وبالقتل، وصاحبها الملك الكامل محمد ابن الملك المظفر شهاب الدين غازي ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، مصابراً ثابتاً، وضعف من عنده عن القتال، فاستولى التتر عليهما، وقتلوا صاحبها الملك الكامل المذكور، وحملوا رأسه على رمح، وطيف به في البلاد، ومروا به على حلب وحماة، ووصلوا به إلى دمشق في سابع عشرين جمادى الأولى من هذه السنة، أعني سنة ثمان وخمسين وستمائة، وطافوا به في دمشق بالمغاني والطبول، وعلق رأس المذكور في شبكة بسور باب الفراديس إلى أن عادت دمشق إلى المسلمين، فدفن بمشهد الحسين داخل باب الفردايس، وفيه يقول الشيخ شهاب الدين(3/203)
ابن أبي شامة أبياتاً منها:
ابن غازي غزى وجاهد قوماً ... أثخنوا في العراق والمشرفين
طاهراً عالياً ومات شهيداً ... بعد صبر عليهم عامين
لم يشنه إذا طيف بالرأس منه ... وله أسوة برأس الحسين
ثم واروا في مشهد الرأس ذاك الرأس واستعجبوا من الحالين.
ذكر اتصال الملك الناصر بالتتر
واستيلائهم على عجلون وغيرها من قلاع الشام:
أما الملك الناصر يوسف فإنه لما انفرد عن العسكر من قطية، وسار إلى تيه بني إسرائيل، بقي متحيراً إلى أين يتوجه، وعزم على التوجه إلى الحجاز، وكان له طبر دار كردي اسمه حسين، فحسن له المضي إلى التتر وقصد هولاكو، فاغتر بقوله ونزل ببركة زيرا وسار حسين الكردي إلى كتبغا نائب هولاكو، وعرفه بموضع الملك الناصر، فأرسل كتبغا إليه وقبض عليه، وأحضره إلى عجلون، وكانت بعد عاصية، فأمره الملك الناصر بتسليمها، فسلمت إليهم فهدموها. وكنا قد ذكرنا حصار التتر لبعلبك، فتسلموها قبيل تسليم عجلون، وخربوا قلعتها أيضاً، وكان بالصبية صاحبها الملك السعيد ابن الملك العزيز ابن الملك العادل فسلم الصبية إليهم، وصار الملك السعيد المذكور معهم، وأعلن بالفسق والفجور وسفك دماء المسلمين، وأما الملك الناصر يوسف، فإن كتبغا بعث به إلى هولاكو، فوصل إلى دمشق، ثم إلى حماة، وبها الأشرف صاحب حمص، فخرج إلى لقائه هو وخسروشاه النائب بحماة، ثم سار إلى حلب، فلما عاينها الملك الناصر وما قد حل بها وبأهلها تضاعف تألمه وأنشد:
يعز علينا أن نرى ربعكم يبلى ... وكانت به آيات حسنكم تتلى
ثم سار إلى الأردن، فأقبل عليه هولاكو ووعده برده إلى مملكته، وكان منه ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر غير ذلك
وفي خامس عشر شعبان من هذه السنة، أخرج التتر من الاعتقال نقيب قلعة دمشق، وواليها، وضربوا أعناقهما بداريا، واشتهر عند أهل دمشق خروج العساكر من مصر لقتال التتر، فأوقعوا بالنصارى، وكانوا قد استطالوا على المسلمين بدق النواقيس، وإدخال الخمر إلى الجامع، فنهبهم المسلمون في سابع عشرين رمضان من هذه السنة، وأخربوا كنيسة مريم، وكانت كنيسة عظيمة، وكانت كنيسة مريم في جانب دمشق الذي فتحه خالد بن الوليد بالسيف، فبقيت بيد المسلمين، وكان ملاصق الجامع كنيسة، وهي من الجانب الذي فتحه أبو(3/204)
عبيدة بالأمان، فبقيت بأيدي النصارى، فلما ولي الوليد بن عبد الملك الخلافة خرب الكنيسة الملاصقة للجامع، وأضافها إليه، ولم يعوض النصارى عنها، فلما ولي عمر بن عبد العزيز عوضهم بكنيسة مريم عن تلك الكنيسة، فعمروها عمارة عظيمة، وبقيت كذلك حتى خربها المسلمون في التاريخ المذكور.
ذكر هزيمة التتر وقتل كتبغا
وفي هذه السنة، أعني سنة ثمان وخمسين وستمائة، كانت هزيمة التتر في يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان، على عين جالوت، وكان من حديثها، أنه لما اجتمعت العساكر الإسلامية بمصر، عزم الملك المظفر قطز، مملوك المعز أيبك، على الخروج إلى الشام لقتال التتر، وسار من مصر بالعساكر الإسلامية، وصحبته الملك المنصور محمد صاحب حماة، وأخوه الملك الأفضل علي، وكان مسيره من الديار المصرية في أوائل رمضان من هذه السنة، ولما بلغ كتبغا وهو نائب هولاكو على الشام، ومقدم التتر، مسير العساكر الإسلامية إليه، صحبة الملك المظفر قطز، جمع من في الشام من التتر وسار إلى لقاء المسلمين، وكان الملك السعيد صاحب الصبيبة ابن الملك العزيز ابن الملك العادل بن أيوب صحبة كتبغا، وتقارب الجمعان في الغرر، والتقوا يوم الجمعة المذكور، فانهزمت التتر هزيمة قبيحة وأخذتهم سيوف المسلمين، وقتل مقدمهم كتبغا،، واستؤسر ابنه، وتعلق من سلم من التتر برؤوس الجبال، وتبعتهم المسلمون فأفنوهم، وهرب من سلم منهم إلى الشرق، وجرد قطز ركن الدين بيبرس البندقداري في إثرهم، فتبعتهم المسلمون إلى أطراف البلاد الشرقية، وكان أيضاً في صحبة التتر الملك الأشرف موسى صاحب حمص، فنازلهم وطلب الأمان من المظفر قطز، فأمنه ووصل إليه فأكرمه وأقره على ما بيده وهو حمص، ومضافاتها، وأما الملك السعيد صاحب الصبيبة، فإنه أمسك أسيراً وأحضر بين يدي الملك المظفر قطز، فأمر به، فضربت عنقه بسبب ما كان المذكور قد اعتمده من السفك والفسق.
ولما انقضى أمر المصاف، أحسن المظفر قطز إلى الملك المنصور صاحب حماة، وأقره على حماة وبارين، وأعاد إليه المعرة، وكانت في أيدي الحلبيين من حين استولوا عليها في سنة خمس وثلاثين وستمائة، وأخذ سلمية معه وأعطاها أمير العرب، وأتم الملك المظفر السير بالعساكر وصحبته الملك المنصور صاحب حماة، حتى دخل دمشق، وتضاعف شكر المسلمين لله تعالى على هذا النصر العظيم، فإن القلوب كانت قد يئست من النصرة على التتر، لاستيلائهم على معظم بلاد الإسلام، ولأنهم ما قصدوا إقليماً إلا فتحوه، ولا عسكراً إلا هزمره، فابتهجت الرعايا بالنصرة عليهم وبقدوم الملك المظفر قطز إلى الشام، وفي يوم دخوله دمشق، أمر بشنق جماعة من المنتسبين إلى التتر، فشنقوا وكان من جملتهم حسين الكردي، طيردار الملك الناصر يوسف، وهو الذكي أوقع الملك الناصر في أيدي التتر،(3/205)
وفي هذه النصرة وقدوم قطز إلى الشام، يقول بعض الشعراء:
هلك الكفر في الشآم جميعاً ... واستجد الإسلام بعدد حوضه
بالمليك المظفر الملك الأر ... وع سيف الإسلام عند نهوضه
ملك جاءنا بعزم وحزم ... فاعتززنا بسمره وببيضه
أوجب الله شكر ذاك علينا ... دائما مثل واجبات فروضه
ثم أعطى الملك المظفر قطز، صاحب حماة الملك المنصور، الدستور، فقدم الملك المنصور قدامه مملوكه ونائبه مبارز الدين أقوش المنصور إلى حماة، ثم سار الملك المنصور وأخوه الملك الأفضل ووصلا إلى حماة، ولما استقر الملك المنصور بحماة، قبض على جماعة كانوا مع التتر واعتقلهم، وهنأ الشيخ شرف الدين شيخ الشيوخ المنصور بهذا النصر العظيم، وبعود المعرة بقصيدة منها:
رعت العدى فضمنت ثل عروشها ... ولقيتها فأخذت تل جيوشها
نازلت أملاك التتار فأنزلت ... عن فحلها قسراً وعن أكديشها
فغدا لسيفك في رقاب كماتها ... حصد المناجل في يبيس حشيشها
فقت الملوك ببذل ما تحويه إذ ... ختمت خزائنها على منقوشها
ومنها:
وطويت عن مصر فسيح مراحل ... ما بين بركتها وبين عريشها
حتى حفظت على العباد بلادها ... من رومها الأقصى إلى إحبوشها
فرشت حماة لوطيء نعلك خدها ... فوطئت عين الشمس من مفروشها
وضربت سكتها التي أخلصتها ... عما يشوب النقد من مغشوشها
وكذا المعرة إذا ملكت قيادها ... دهشت سروراً سار في مدهوشها
طربت برجعتها إليك كأنما ... سكرت بخمرة حاسها أو حيشها
لا زلت تنعش بالنوال فقيرها ... وتنال أقصى الأجر من منعوشها
وكان خسروشاه قد سافر من حماة إلى جهة الشرق لما بلغه كسرة التتر، ثم جهز الملك المظفر قطز عسكراً إلى حلب لحفظها، ورتب أيضاً شمس الدين أقوش البرلي العزيزي أميراً بالسواحل وغزة، ورتب معه جماعة من العزيزية، وكان البرلي المذكور من مماليك الملك العزيز محمد صاحب حلب، وسار في جملة العزيزية مع ولده الملك الناصر يوسف إلى قتال المصريين، وخامر البرلي وجماعة من العزيزية على ابن أستاذهم الملك الناصر، وصاروا مع أيبك التركماني صاحب مصر، ثم إنهم قصدوا اغتيال المعز أيبك التركماني المذكور، وعلم بهم فقبض على بعضهم، وهرب بعضهم، وكان البرلي المذكور من جملة من سلم وهرب إلى الشام،(3/206)
فلما وصل إلى الملك الناصر اعتقله بقلعة عجلون، فلما توجه الملك الناصر بالعسكر إلى الغور مندفعاً من بين يدي التتر، أخرج البرلي من حبس عجلون وطيب خاطره، فلما هرب الملك الناصر من قطية، دخل شمس الدين أقوش البرلي المذكور مع العساكر إلى مصر، فأحسن إليه الملك المظفر قطز، وولاه الآن السواحل وغزة، فلما استقر بدمشق على ما ذكرناه، وكان مقر البرلي لما تولى هذه الأعمال بنابلس تارة، وبيت جبرين أخرى، ثم إن الملك المظفر قطز، فرض نيابة السلطنة بدمشق إلى الأمير علم الدين سنجر الحلبي، وهو الذي كان أتابكاً لعلي بن المعز أيبك، وفوض نيابة السلطنة بحلب إلى الملك السعيد بن بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، وكان المذكور قد وصل إلى الملك الناصر يوسف صاحب الشام، ودخل مع العساكر إلى مصر، وصار مع المظفر قطز، ففوض إليه نيابة السلطنة بحلب، وكان سببه أن أخاه الملك الصالح بن لؤلؤ قد صار صاحب الموصل بعد أبيه، فولاه حلب ليكاتبه أخوه بأخبار التتر، ولما استقر السعيد المذكور في نيابة حلب، سار سيرة رديئة، وكان دأبه التحيل على أخذ مال الرعية.
ذكر عود الملك المظفر قطز إلى جهة الديار المصرية
مقتله:
ولما قرر الملك المظفر قطز المعزي المذكور أمر الشام، على ما شرحناه، سار من دمشق إلى جهة البلاد المصرية، وكان قد اتفق بيبرس البندقداري الصالحي مع أنص مملوك نجم الدين الرومي الصالحي، والهاروني، وعلم الدين صغن أغلي، على قتل المظفر قطز، وساروا معه يتوقعون الفرصة، فلما وصل قطز إلى القصير بطرف الرمل، وبينه وبين الصالحية مرحلة، وقد سبق الدهليز والعسكر إلى الصالحية، فبينما قطز يسير إذ قامت أرنب بين يديه فساق عليها، وساق هؤلاء المذكورون معه، فلما بعدوا، تقدم إليه أنص وشفع عند الملك المظفر قطز في إنسان، فأجابه إلى ذلك، فأهوى لتقبيل يده وقبض عليها، فحمل عليه بيبرس البندقداري الصالحي حينئذ وضربه بالسيف، واجتمعوا عليه ورموه عن فرسه ثم قتلوه بالنشاب، وذلك في سابع عشر ذي القعدة من هذه السنة، فكانت مدة ملكه أحد عشر شهراً وثلاثة عشر يوماً، وساق بيبرس وأولئك المذكورون بعد مقتله حتى وصلوا إلى الدهليز بالصالحية.
ذكر سلطنة بيبرس البندقداري المذكور
ولما وصل ركن الدين بيبرس المذكور هو والجماعة الذين قتلوا الملك المظفر قطز إلي الدهليز كما ذكرناه، وكان عند الدهليز نائب السلطنة فارس الدين أقطاي المستعرب، وهو الذي صارا أتابكاً لعلي بن المعز أيبك بعد الحلبي، فلما تسلطن قطز أقره على نيابة السلطنة، فلما وصل بيبرس البندقداري مع الجماعة الذين قتلوا قطز إلى الدهليز، سألهم أقطاي المستعرب المذكور وقال: من قتله منكم؟ فقال له بيبرس أنا. قال له أقطاي: يا خوند اجلس في(3/207)
مرتبة السلطنة. فجلس، واستدعيت العساكر للتحليف، فحلفوا له في اليوم الذي قتل فيه قطز، وهو سابع عشر ذي القعدة من هذه السنة، أعني سنة ثمان وخمسين وستمائة.
واستقر بيبرس في السلطنة، وتلقب بالملك القاهر ركن الدين بيبرس الصالحي، ثم بعد ذلك غير لقبه عن الملك القاهر، وتلقب بالملك الظاهر لأنه بلغه أن القاهر لقب غير مبارك، ما تلقب به أحد فطالت مدته، وكان الملك الظاهر المذكور، قد سأل من قطز النيابة بحلب، فلم يجبه إليها، ليكون ما قدره الله تعالى، ولما حلف الناس للملك الظاهر المذكور بالصالحية، ساق في جماعة من أصحابه وسبق العسكر إلى قلعة الجبل، ففتحت له ودخلها، واستقرت قدمه في المملكة، وكان قد زينت مصر والقاهرة لمقدم قطز، فاستمرت الزينة لسلطنة بيبرس المذكور، وكان مقتل قطز وسلطنة بيبرس في سابع عشر ذي القعدة من هذه السنة.
ذكر إعادة عمارة قلعة دمشق
وفي هذه السنة في العشر الأخير من ذي القعدة، شرع الأمير علم الدين سنجر الحلبي نائب السلطنة بدمشق، في عمارة قلعة دمشق، وجمع لها الصناع وكبراء الدولة والناس، وعملوا فيها، حتى النساء أيضاً، وكان عند الناس بذلك سرور عظيم.
ذكر سلطنة الحلبي بدمشق
كان علم الدين سنجر الحلبي، وقد استنابه الملك المظفر قطز بدمشق على ما تقدم ذكره. فلما جرى ما ذكرناه من قتل قطز، وسلطنة الملك الظاهر، جمع الحلبي الناس وحلفهم لنفسه بالسلطنة، وذلك في العشر الأول من ذي الحجة من هذه السنة، أعني سنة ثمان وخمسين وستمائة، فأجابه الناس إلى ذلك وحلفوا له، ولم يتأخر عنه أحد، ولقب نفسه الملك المجاهد، وخطب له بالسلطنة، وضربت السكة باسمه، وكاتب الملك المنصور صاحب حماة في ذلك، فلم يجبه، وقال صاحب حماة: أنا مع من يملك الديار المصرية كائناً من كان.
ذكر قبض عسكر حلب على الملك السعيد
ابن صاحب الموصل وعود التتر إلى الشام:
وكان الملك السعيد قد قرره قطز بحلب، وجرد معه جماعة من العزيزية والناصرية، وكان رديء السيرة، وقد أبغضه العسكر، وبلغ الملك السعيد المذكور مسير التتر إلى البيرة، فجرد إلى جهتهم جماعة قليلة من العسكر، وقدم عليهم سابق الدين أمير مجلس الناصري، فأشار عليه كبراء العزيزية والناصرية، بأن هذا ما هو مصلحه، وأن هؤلاء قليلون، فيحصل الطمع بسببهم في البلاد، فلم يلتفت إلى ذلك، وأصر على مسيرهم، فسار سابق الدين أمير المجلس بمن معه حتى قاربوا البيرة، فوقع عليهم التتر، فهرب منهم ودخل البيرة، بعد أن قتل غالب من كان(3/208)
معه، فازداد غيظ الأمراء على الملك السعيد بسبب ذلك، فاجتمعوا وقبضوا عليه ونهبوا وطاقه، وكان قد برز إلى الباب المعروف بباب الله، ولما استولوا على خزانته لم يجدوا فيها مالاً طائلاً، فهددوه، بالعذاب إن لم يقر لهم بماله، فنبش من تحت أشجار حائط دار ببابلي، جملة من المال، قيل كانت خمسين ألف دينار مصرية، ففرقت في الأمراء، وحمل الملك السعيد المذكور إلى الشغر وبكاس معتقلاً، ثم لما اندفع العسكر من بين يدي التتر على ما سنذكره، أفرجوا عنه، ولما جرى ذلك اتفقت العزيزية والناصرية وقدموا عليهم الأمير حسام الدين الجوكندار العزيزي، ثم سارت التتر إلى حلب، فاندفع حسام الدين الجوكندار والعسكر الذين معه بين أيديهم إلى جهة حماة، ووصل التتر إلى حلب في أواخر هذه السنة، أعني سنة ثمان وخمسين وستمائة، وملكوها وأخرجوا أهلها إلى قرنبيا، واسمها مقر الأنبياء فسماه العامة قرنبيا، ولما اجتمع المسلمون بقرنبيا بذل التتر فيهم السيف، فأفنوا غالبهم، وسلم القليل منهم، ووصل حسام الدين الجوكندار ومن معه إلى حماة، فضيفهم الملك المنصور محمد صاحب حماة، وهو مستشعر خائف من غدرهم، ثم رحلوا من حماة إلى حمص، فلما قارب التتر حماة، خرج منها الملك المنصور صاحبها وصحبته أخوه الملك الأفضل علي، والأمير مبارز الدين، باقي العسكر، واجتمعوا بحمص مع باقي العساكر إلى أن خرجت هذه السنة.
ثم دخلت سنة تسع وخمسينوستمائة.
ذكر كسرة التتر على حمص
وفي يوم الجمعة خامس المحرم عن هذه السنة، كانت كسرة التتر على حمص، وكان من حديثها أن التتر لما قدموا في آخر السنة الماضية إلى الشام، اندفعت العزيزية والناصرية من بين أيديهم، وكذلك الملك المنصور صاحب حماة، ووصلوا إلى حمص، واجتمع بهم الملك الأشرف صاحب حمص، ووقع اتفاقهم على ملثقى التتر، وسارت التتر إليهم والتقوا بظاهر حمص في نهار الجمعة المذكور، وكان التتر أكثر من المسلمين بكثير، ففتح الله تعالى على المسلمين بالنصر، وولى التتر منهزمين، وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون منهم كيف شاؤوا، ووصل الملك المنصور إلى حماة بعد هذه الوقعة، وانضم من سلم من التتر إلى باقي جماعتهم، وكانوا نازلين قرب سلمية، واجتمعوا ونزلوا على حماة وبها صاحبها الملك المنصور، وأخوه الملك الأفضل والعسكر، وأقام التتر على حماة يوماً واحداً، ثم رحلوا عن حماة، وأراد الملك المنصور بعد رحيل التتر المسير إلى دمشق، فمنعه العامة من ذلك حتى استوثقوا منه أنه يعود إليهم عن قريب، فسافر هو وأخوه الملك الأفضل في جماعة قليلة، وبقي الطواشي مرشد في باقي العسكر بحماة، ووصل المنصور بمن معه إلى دمشق، وكذلك توجه الملك الأشرف صاحب حمص إلى دمشق، وأما حسام الدين الجوكندار العزيزي، فتوجه أيضاً بمن في صحبته، ولم(3/209)
يدخل دمشق، ونزل بالمرج، ثم سار إلى مصر، وأقام صاحب حماة وصاحب حمص بدمشق في دورهما، والحاكم بها يومئذ سنجر الحلبي الملقب بالسلطان الملك المجاهد، وقد اضطرب أمره. ولذلك أقام صاحب حماة وصاحب حمص بدمشق، ولم يدخلا في طاعته لضعفه، وتلاشي أمره، وأما التتر فساروا عن حماة إلى فامية، وكان قد وصل إلى فامية سيف الدين الدنبلي الأشرفي، ومعه جماعة، فأقام بقلعة فامية، وبقي يغير على التتر، فرحلوا عن فامية وتوجهوا إلى الشرق.
ذكر القبض على سنجر الحلبي
الملقب بالملك المجاهد
وفي هذه السنة، جهز الملك الظاهر بيبرس صاحب مصر عسكراً، مع علاء الدين البندقدار، وهو أستاذ الملك الظاهر، لقتال علم الدين سنجر الحلبي المستولي على دمشق، فوصلوا إلى دمشق في ثالث عشر صفر من هذه السنة، ولما وصل عسكر مصر إلى دمشق، خرج إليهم الحلبي لقتالهم، وكان صاحب حماة وصاحب حمص قيمين بدمشق، لم يخرجا مع الحلبي لقتالهم، ولا أطاعاه لاضطراب أمر الحلبي، واقتتل معهم بظاهر دمشق في ثالث عشر صفر من هذه السنة، أعني سنة تسع خمسين وستمائة، فولى الحلبي وأصحابه منهزمين، ودخل إلى قلعة دمشق، إلى أن جنه الليل فهرب من قلعة دمشق إلى جهة بعلبك، فتبعه العسكر وقبضوا عليه، وحمل إلى الديار المصرية، فاعتقل ثم أطلق، واستقرت دمشق في ملك الملك الظاهر بيبرس، وأقيمت له الخطبة بها بغيرها من الشام، مثل حماة وحلب وحمص وغيرها، واستقر أيدكين البندقدار الصالحي في دمشق لتدبير أمورها، ولما استقر الحال على ذلك، رحل الملك المنصور صاحب حماة والأشرف صاحب حمص، وعادا إلى بلادهما واستقر بها.
ذكر خروج البرلي
عن طاعة الملك الظاهر بيبرس واستيلائه على حلب:
وفي هذه السنة بعد استقرار علاء الدين أيدكين البندقدار في دمشق، ورد عليه مرسوم الملك الظاهر بيبرس بالقبض على بهاء الدين بغدي الأشرفي وعلى شمس الدين أقوش البرلي، وغيرهما من العزيزية والناصرية، وبقي علاء الدين أيدكين متوقعاً ذلك، فتوجه بغدي إلى علاء الدين أيدكين، فحال دخوله عليه قبض على بغدي المذكور، فاجتمعت العزيزية والناصرية إلى أقوش البرلي، وخرجوا من دمشق ليلاً على حمية، ونزلوا بالمرج، وكان أقوش البرلي قد ولاّه المظفر قطز غزة والسواحل على ما قدمنا ذكره، فلما جهز الملك الظاهر أستاذه البندقدار إلى قتال الحلبي، أرسل إلى البرلي وأمره أن ينضم إليه، فسار البرلي مع البندقدار وأقام بدمشق، فلما قبض على بغدي، خرج البرلي إلى المرج وأرسل علاء الدين أيدكين البندقدار إلى البرلي يطيب قلبه، ويحلف له، فلم يلتفت إلى ذلك، وسار البرلي إلى حمص وطلب من صاحبها الأشرف موسى أن يوافقه على العصيان، فلم يجبه إلى ذلك، ثم توجه إلى حماة وأرسل يقول للملك المنصور صاحب حماة، أنه لم يبق من البيت الأيوبي غيرك، وقم لنصير معك ونملكك البلاد، فلم يلتفت الملك المنصور إلى ذلك، ورده رداً قبيحاً، فاغتاظ البرلي ونزل على حماة وأحرق زرع بيدر العشر، وسار إلى شيزر ثم إلى جهة حلب، وكان علاء الدين(3/210)
أيدكين البندقدار لما استقر بدمشق، قد جهز عسكراً صحبة فخر الدين الحمصي، للكشف عن البيرة، فإن التتر كانوا قد نازلوها، فلما قدم البرلي إلى حلب، كان بها فخر الدين الحمصي المذكور، فقال له البرلي نحن في طاعة الملك الظاهر، فتمضي إلى السلطان وتسأله أن يتركني ومن في صحبتي مقيمين بهذا الطرف، ونكون تحت طاعته من غير أن يكلفني وطء بساطه، فسار الحمصي إلى جهة مصر ليؤدي هذه الرسالة، فلما سار عن حلب، تمكن البرلي واحتاط على ما في حلب من الحواصل، واستبد بالأمر، وجمع العرب والتركمان، واستعد لقتال عسكر مصر، ولما توجه فخر الدين الحمصي لذلك، التقى في الرمل جمال الدين المحمدي الصالحي متوجهاً بمن معه من عسكر مصر لقتال البرلي وإمساكه، فأرسل الحمصي عرف الملك الظاهر بما طلبه البرلي، فأرسل الملك الظاهر ينكر على فخر الدين الحمصي المذكور ويأمره بالإنضمام إلى المحمدي، والمسير إلى قتال البرلي، فعاد من وقته، ثم رضي الملك الظاهر عن علم الدين سنجر الحلبي، وجهزه وراء المحمدي في جمع من العسكر، ثم أردفه بعز الدين الدمياطي في جمع آخر، وسار الجميع إلى جهة البرلي وساروا إلى حلب، وطردوه عنها، وانقضت السنة والأمر على ذلك.
ذكر مقتل الملك الناصر يوسف
وفي هذه السنة، ورد الخبر بمقتل الملك الناصر يوسف ابن الملك العزيز محمد ابن الملك الظاهر غازي ابن السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، وعقد عزاه بجامع دمشق، في سابع جمادى الأولى من هذه السنة، أعني سنة تسع وخمسين وستمائة، وصورة الحال في قتله، أنه لما وصل إلى هولاكو على ما قدمنا ذكره، وعده برده إلى ملكه، وأقام عند هولاكو مدة، فلما بلغ هولاكو كسرة عسكره بعين جالوت، وقتل كتبغا، ثم كسرة عسكره على حمص ثانياً، غضب من ذلك وأحضر الملك الناصر المذكور، وأخاه الملك الظاهر غازي وقال له: أنت قلت أن عسكر الشام في طاعتك، فغدرت بي وقتلت المغل. فقال الملك الناصر: لو كنت بالشام ما ضرب أحد في وجه عسكرك بالسيف، ومن يكون ببلاد توريز كيف يحكم على بلاد الشام، فاستوفي هولاكو لعنه الله ناصجاً وضربه به. فقال الملك الناصر: يا خوند الصنيعة، فنهاه أخوه الظاهر وقال: قد حضرت، ثم رماه(3/211)
بفرده ثانية فقتله، ثم أمر بضرب رقاب الباقين، فقتلوا الظاهر أخا الملك الناصر، والملك الصالح ابن صاحب حمص، والجماعة الذين كانوا معهم، واستبقوا الملك العزيز ابن الملك الناصر، لأنه كان صغيراً، فبقي عندهم مدة طويلة، وأحسنوا إليه، ثم مات وكان قد تولى الملك الناصر المذكور مملكة حلب بعد موت أبيه العزيز، وعمره سبع سنين، وأقامت جدته ضيفة خاتون بنت الملك العادل بتدبير مملكته، واستقل بالملك بعد وفاتها في سنة أربعين وستمائة، وعمره ثلاث عشرة سنة، وزاد ملكه على ملك أبيه وجده، فإنه ملك مثل حران والرها والرقة ورأس عين، وما مع ذلك من البلاد، وملك حمص، ثم ملك دمشق وبعلبك والأغوار والسواحل إلى غزة، وعظم شأنه، وكسر عساكر مصر، وخطب له بمصر وبقلعة الجبل، على الوجه الذي تقدم ذكره، وكان قد غلب على الديار المصرية لولا هزيمته، وقتل مدبر دولته شمس الدين لؤلؤ الأرمني، ومخامرة مماليك أبيه العزيزية، وكان يذبح في مطبخه كل يوم أربعمائة رأس غنم، وكانت سماطاته وتجمله في الغاية القصوى، وكان حليماً وتجاوز به الحلم إلى حد أضر بالمملكة، فإنه لما أمنت قطاع الطريق في أيام مملكته من القتل والقطع، تجاوزوا الحد في الفساد بالمملكة، وانقطعت الطرق في أيامه، وبقي لا يقدر المسافر على السفر من دمشق إلى حماة وغيرها، الا برفقة من العسكر وكثر طمع العرب والتركمان في أيامه، وكثرت الحرامية، وكانوا يكبسون الدور، ومع ذلك إذا أحضر القاتل إلى بين يدي الملك الناصر المذكور يقول: الحي خير من الميت، ويطلقه، فأدى ذلك إلى انقطاع الطرقات وانتشار الحرامية والمفسدين، وكان على ذهن الناصر المذكور شيء كثير من الأدب والشعر، ويروى له أشعار كثيرة منها:
فوالله لو قطعت قلبي تأسفاً ... وجرعتني كاسات دمعي دماً صرفا
لما زادني إلا هوى ومحبة ... ولا اتخذت روحي سواك لها إلفا
وبنى بدمشق مدرسة قريب الجامع تعرف بالناصرية، ووقف عليها وقفاً جليلاً وبني بالصالحية تربة غرم عليها جملاً مستكثرة، فدفن فيها كرمون، وهو بعض أمراء التتر، وكانت منية الملك الناصر ببلاد العجم، وكان مولد الناصر المذكور في سنة سبع وعشرين وستمائة، فيكون عمره اثنتين وثلاثين سنة تقريباً.
ذكر مبايعة شخص بالخلافة وإثبات نسبه
وفي هذه السنة في رجب، قدم إلى مصر جماعة من العرب، ومعهم شخص أسود اللون، اسمه أحمد، زعموا أنه ابن الإمام الظاهر بالله، محمد ابن الإمام الناصر، وأنه خرج من دار الخلافة ببغداد لما ملكها التتر، فعقد الملك الظاهر بيبرس مجلساً حضر فيه جماعة من الأكابر، منهم الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، والقاضي تاج الدين(3/212)
عبد الوهاب بن خلف، المعروف بابن بنت الأعز، فشهد أولئك العرب أن هذا الشخص المذكور هو ابن الظاهر محمد ابن الإمام الناصر، فيكون عم المستعصم، وأقام القاضي جماعة من الشهود، اجتمعوا بأولئك العرب، وسمعوا شهاداتهم، ثم شهدوا بالنسب بحكم الاستفاضة، فأثبت القاضي تاج الدين نسب أحمد المذكور، ولقب المستنصر بالله، أبا القاسم أحمد ابن الظاهر بالله محمد، وبايعه الملك الظاهر والناس بالخلافة، واهتم الملك الظاهر بأمره وعمل له الدهاليز والجمدارية وآلات الخلافة، واستخدم له عسكراً، وغرم على تجهيزه جملاً طائلة. قيل إن قدر ما غرمه عليه ألف ألف دينار، وكانت العامة تلقب الخليفة المذكور بالزرابيني، وبرز الملك الظاهر والخليفة الأسود المذكور في رمضان من هذه السنة، وتوجها إلى دمشق، وكان في كل منزلة يمضي الملك الظاهر الى دهليزه الخاص به، ولما وصلا إلى دمشق، نزل الملك الظاهر بالقلعة، ونزل الخليفة في جبل الصالحية، ونزل حول الخليفة أمراؤه وأجناده.
ثم جهز الخليفة عسكره إلى جهة بغداد، طمعاً في أنه يستولي على بغداد، ويجتمع عليه الناس، فسار الخليفة الأسود بعسكره من دمشق، وركب الملك الظاهر وودعه ووصاه بالتأني في الأمور، ثم عاد الملك الظاهر إلى دمشق من توديع الخليفة، ثم سار إلى الديار المصرية ودخلها في سابع عشر ذي الحجة من هذه السنة، ووصلت إليه كتب الخليفة بالديار المصرية، أنه قد استولى على عانة والحديثة، وولى عليهما، وأن كتب أهل العراق وصلت إليه يستحثونه على الوصول إليهم، ثم قبل، أن يصل إلى بغداد، وصلت إليه التتر وقتلوا الخليفة المذكور، وقتلوا غالب أصحابه، ونهبوا ما كان معه وجاءت الأخبار بذلك.
ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة، لما سار الملك الظاهر إلى الشام، أمر القاضي شمس الدين ابن خلكان فسافر في صحبته من مصر إلى الشام، فعزل عن قضاء دمشق نجم الدين ابن صدر الدين بن سنا الدولة، وكان قطز قد عزل المحي ابن الزكي الذي ولاه هولاكو القضاء، وولى ابن سنا الدولة، فعزله الملك الظاهر في هذه السنة وولى القضاء شمس الدين بن خلكان.
وفيها قدم أولاد صاحب الموصل، وهم الملك الصالح إسماعيل، ثم أخوه الملك المجاهد إسحاق صاحب جزيرة ابن عمر، ثم أخوهما الملك المظفر علي صاحب سنجار، أولاد لؤلؤ، فأحسن الملك الظاهر إليهم، وأعطاهم الإقطاعات الجليلة بالديار المصرية، واستمروا في أرغد عيش في طول مدة الملك الظاهر.
وفيها في ربيع الآخر وردت الأخبار من ناحية عكا، أن سبع جزائر في البحر خسف بها وبأهلها، وبقي أهل عكا لابسين السواد وهم يبكون ويستغفرون من الذنوب بزعمهم.
وفيها جهز الملك الظاهر بيبرس(3/213)
بدر الدين الأيدمري، فتسلم الشوبك في سلخ ذي الحجة من هذه السنة، أعني سنة تسع وخمسين وستمائة، وأخذها من الملك المغيث صاحب الكرك.
ثم دخلت سنة ستين وستمائة في هذه السنة في نصف رجب، وردت جماعة من مماليك الخليفة المستعصم البغاددة، وكانوا قد تأخروا في العراق بعد استيلاء التتر على بغداد، وقتل الخليفة، وكان مقدمهم يقال له شمس الدين سلار، فأحسن الملك الظاهر بيبرس ملتقاهم، وعين لهم الإقطاعات بالديار المصرية.
وفيها في رجب أيضاً، وصل إلى خدمة الملك الظاهر بيبرس بالديار المصرية، عماد الدين بن مظفر الدين، صاحب صهيون، رسولاً من أخيه سيف الدين صاحب صهيون، وصحبته هدية جليلة، فقبلها الملك الظاهر وأحسن إليه.
وفيها جهز الملك الظاهر عسكراً إلى حلب، وكان مقدمهم شمس الدين سنقر الرومي، فأمنت بلاد حلب وعادت إلى الصلاح، ثم تقدم الملك الظاهر بيبرس إلى سنقر الرومي إلى صاحب حماة الملك المنصور، وإلى صاحب حمص الملك الأشرف موسى أن يسيروا إلى أنطاكية وبلادها، للإغارة عليها، فساروا إليها ونهبوا بلادها وضايقوها، ثم عادوا، فتوجهت العساكر المصرية صحبة سنقر الرومي إلى مصر، ووصلوا إليها في تاسع عشرين رمضان من هذه السنة، ومعهم ما ينوف عن ثلاثمائة أسير، فقابلهم الملك الظاهر بالأحسان والإنعام.
وفيها لما ضاقت على أقوش البرلي البلاد، وأخذت منه حلب، ولم يبق بيده غير البيرة، دخل في طاعه الملك الظاهر وسار إليه، فكتب الملك الظاهر إلى النواب بالإحسان إليه وترتيب الإقامات له في الطرقات، حتى وصل إلى الديار المصرية، في ثاني ذي الحجة من هذه السنة، أعنب سنة ستين، فتلقاه الملك الظاهر وبالغ في الإحسان إليه، وأكثر له العطاء، فسأله أقوش البرلي من الملك الظاهر أن يقبل منه البيرة، فلم يفعل، وما زال يعاوده حتى قبلها، وبقي أقوش البرلي العزيز المذكور مع الملك المظاهر إلى أن تغير عليه، وقبضه في رجب سنة إحدى وستين وستمائة، فكان آخر العهد به.
وفيها في ذي القعدة، قبض الملك الظاهر على نائبه بدمشق، وهو علاء الدين طيبرس الوزيري، وكان قد تولى دمشق، بعد مسير علاء الدين أيدكين البندقدار عنها، وسبب القبض عليه، أنه بلغ الملك الظاهر عنه أمور كرهها، فأرسل إليه عسكراً مع عز الدين الدمياطي وغيره من الأمراء، لما وصلوا إلى دمشق، خرج طيبرس لتلقيهم، فقبضوا عليه وقيدوه وأرسلوه إلى مصر، فحبسه الملك الظاهر، واستمر الحاج طيبرس في الحبس سنة وشهراً، وكانت مدة ولايته بدمشق سنة وشهراً أيضاً، وكان طيبرس المذكور رديء السيرة في أهل دمشق، حتى نزح عنها جماعة كثيرة من ظلمه، وحكم في دمشق بعد قبض طيبرس المذكور، علاء الدين أيدغدي الحاج الركني، ثم استناب الملك الظاهر على دمشق الأمير جمال الدين أقوش النجيبي(3/214)
الصالحي.
وفيها في يوم الخميس في أواخر ذي الحجة من هذه السنة، أعني سنة ستين وستمائة، جلس الملك الظاهر مجلساً عاماً، وأحضر شخصاً كان مد قدم إلى الديار المصرية في سنة تسع وخمسين وستمائة، من نسل بني العباس، يسمى أحمد، بعد أن أثبت نسبه، وبايعه بالخلافة، ولقب أحمد المذكور الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين، وقد اختلف في نسبه، فالذي هو مشهور بمصر عند نسابة مصر، أنه أحمد بن حسن بن أبي بكر ابن الأمير أبي علي القبى ابن الأمير حسن ابن الراشد ابن المسترشد ابن المستظهر، وقد مر نسب المستظهر مع جملة خلفاء بني العباس، وأما عند الشرفاء العباسيين السلمانيين في درج نسبهم الثابت فقالوا: هو أحمد بن أبي بكر علي بن أبي بكر أحمد ابن الإمام المسترشد الفضل ابن المستظهر. ولما أثبت الملك الظاهر نسب المذكور، نزله في برج محترزاً عليه، وأشرك له الدعاء في الخطبة لا غير ذلك.
وفيها جهز الملك المنصور صاحب حماة، شيخ الشيوخ شرف الدين الأنصاري رسولاً إلى الملك الظاهر، ووصل شيخ الشيوخ المذكور، فوجد الملك الظاهر عاتباً على صاحب حماة، لاشتغاله عن مصالح المسلمين باللهو، وأنكر الملك الظاهر على الشيخ شرف الدين ذلك، ثم انصلح خاطره، وحمله ما طيب به قلب صاحبه الملك المنصور، ثم عاد إلى حماة.
وفيها توفي الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام الدمشقي الإمام في مذهب الشافعي، وله مصنفات جليلة في المذهب، وكانت وفاته بمصر رحمه الله تعالى.
وفيها في ذي الحجة، توفي الصاحب كمال الدين عمر بن عبد العزيز المعروف بابن العديم، انتهت إليه رئاسة أصحاب أبي حنيفة، وكان فاضلاً كبير القدر، ألف تاريخ حلب، وغيره من المصنفات، وكان قد قدم إلى مصر لما جفل الناس من التتر، ثم عاد بعد خراب حلب إليها، فلما نظر ما فعله التتر من خراب حلب، وقتل أهلها بعد تلك العمارة، قال في ذلك قصيدة طويلة منها:
هو الدهر ما تبنيه كفاك يهدم ... وإن رمت إنصافاً لديه فتظلم
أباد ملوك الفرس جمعاً وقيصراً ... وأصمت لدى فرسانها منه أسهم
وأفنى بني أيوب مع كثر جمعهم ... وما منهم إلا مليك معظم
وملك بني العباس زال ولم يدع ... لهم أثراً من بعدهم وهم هم
وأعتابهم أضحت تداس وعهدها ... تباس بأفواه الملوك وتلثم
وعن حلب ما شئت قل من عجائب ... أحل بها يا صاح إن كنت تعلم
ومنها:
فيا لك من يوم شديد لغامه ... قد أصبحت فيه المساجد تهدم
وقد درست تلك المدارس وارتمت ... مصاحفها فوق الثرى وهي ضخم(3/215)
وهي طويلة وآخرها:
ولكنما لله في ذا مشيئة ... فيفعل فينا ما يشاء ويحكم
ثم دخلت سنة إحدى وستين وستمائة.
ذكر مسير الملك الظاهر إلى الشام
في هذه السنة، في حادي عشر ربيع الآخر، سار الملك الظاهر بيبرس من الديار المصرية إلى الشام، فلاقته والدة الملك المغيث عمر صاحب الكرك بغزة، وتوثقت لابنها الملك المغيث من الملك الظاهر بالأمان، وأحسن إليها، ثم توجهت إلى الكرك، وتوجه صحبتها شرف الدين الجاكي المهمندار، يرسم حمل الإقامات إلى الطرقات، برسم الملك المغيث، ثم سار الملك الظاهر من غزة ووصل إلى الطور، في ثاني عشر جمادى الأولى من هذه السنة، ووصل إليه على الطور الأشرف موسى صاحب حمص، في نصف الشهر المذكور، فأحسن إليه الملك الظاهر وأكرمه.
ذكر حضور الملك المغيث صاحب الكرك
وقتله واستيلاء الملك الظاهر بيبرس على الكرك:
وفي هذه السنة كان مقتل الملك المغيث فتح الدين عمر ابن الملك العادل أبي بكر ابن الملك الكامل محمد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، صاحب الكرك، وسببه أنه كان في قلب الملك الظاهر بيبرس منه غيظ عظيم، لأمور كانت بينهما، قيل إن المغيث المذكور أكره امرأة الملك الظاهر بيبرس، لما قبض المغيث على البحرية. وأرسلهم إلى الناصر يوسف صاحب دمشق، وهرب الملك الظاهر بيبرس المذكور، وبقيت امرأته في الكرك، والله أعلم بحقيقة ذلك، وكان من حديث مقتله، أن الملك الظاهر بيبرس مازال يجتهد على حضور المغيث المذكور، وحلف لوالدته على غزة كما تقدم ذكره، وكان عند المغيث شخص يسمى الأمجد، وكان يبعثه في الرسالة إلى الملك الظاهر، فكان الظاهر يبالغ في إكرامه وتقريبه، فاغتر الأمجد بذلك، وما زال على مخدومه الملك المغيث، حتى أحضره إلى الملك الظاهر.
حكى لي شرف الدين بن مزهر، وكان ابن مزهر المذكور، ناظر خزانة المغيث.
قال: لما عزم المغيث على التوجه إلى خدمة الملك الظاهر، لم يكن قد بقي بخزانته شيء من المال، ولا القماش، وكان لوالدته حواصل بالبلاد، فبعناها بأربعة وعشرين ألف درهم، واشترينا باثني عشر ألف درهم خلعاً من دمشق، وجعلنا في صناديق الخزانة، الاثني عشر الألف الأخرى، ونزل المغيث من الكرك وأنا والأمجد وجماعة من أصحابه معه، في خدمته.
قال: وشرعت البريدية تصل إلى الملك المغيث في(3/216)
كل يوم بمكاتبات الملك الظاهر، ويرسل صحبتهم مثل غزلان ونحوها، والمغيث يخلع عليهم، حتى نفد ما كان بالخزنة من الخلع، ومن جملة ما كتب إليه في بعض المكاتبات، المملوك ينشد في قدوم مولانا:
خليلي هل أبصرتما أو سمعتما ... بأكرم من مولى تمشى إلى عبد
قال: وكان الخوف في قلب المغيث شديداً من الملك الظاهر.
قال ابن مزهر المذكور: ففاتحني في شيء من ذلك بالليل.
فقلت له: احلف إلي أنك لا تقول للأمجد ما أقوله لك حتى أنصحك، فحلف لي.
فقلت له: اخرج الساعة من تحت الخام، واركب حجرتك النجيلة، ولا يصبح لك الصباح إلا وأنت قد وصلت إلى الكرك، فتعصى فيه، ولا تفكر بأحد.
وقال ابن مزهر: فغافلني وتحدث مع الأمجد في شيء من ذلك.
فقال له الأمجد: هذا رأى ابن مزهر إياك من ذلك.
وسار المغيث حتى وصل إلى بيسان، فركب الملك الظاهر بعساكره والتقاه في يوم السبت السابع والعشرين من جمادى الأولى من هذه السنة، فلما شاهد المغيث الملك الظاهر، ترجل، فمنعه الملك الظاهر وأركبه وساق إلى جانبه، وقد تغير وجه الملك الظاهر، فلما قارب الدهليز، أفرد الملك المغيث عنه وأنزله في خيمة وقبض عليه، وأرسله معتقلاً إلى مصر، فكان آخر العهد به.
قيل أنه حمل إلى امرأة الملك الظاهر بيبرس بقلعة الجبل، فأمرت جواريها فقتلته بالقباقيب، ثم قبض الملك الظاهر على جميع أصحاب المغيث، ومن جملتهم ابن مزهر المذكور، ثم بعد ذلك أفرج عنهم، انتهى كلام ابن مزهر.
ولما التقى الملك الظاهر ببيرس الملك المغيث المذكور وقبض عليه، أحضر الفقهاء والقضاة وأوقفهم على مكاتبات من التتر إلى الملك المغيث، أجوبة عن ما كتب إليهم به في أطماعهم في ملك مصر والشام، وكتب بذلك مشروح، وأثبت على الحكام، وكان للملك المغيث المذكور ولداً يقال له الملك العزيز، أعطاه الملك الظاهر إقطاعاً بديار مصر، وأحسن إليه، ثم جهز الملك الظاهر بدر الدين البيسري الشمسي، وعز الدين أستاذ الدار إلى الكرك، فتسلماها في يوم الخميس الثالث والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة، أعني سنة إحدى وستين وستمائة، ثم سار الملك الظاهر ووصل إلى الكرك، ورتب أمورها، ثم عاد إلى الديار المصرية، فوصل إليها في سابع عشر رجب من هذه السنة.
ذكر الإغارة على عكا وغيرها
وفي هذه السنة لما كان الملك الظاهر نازلاً على الطور، أرسل عسكراً هدموا كنيسة الناصرة، وهي من أكبر مواطن عبادات النصارى، لأن منها خرج دين النصرانية، وأغاروا على عكا وبلادها، فغنموا وعادوا، ثم ركب الملك الظاهر بنفسه وجماعة اختارهم،(3/217)
وأغار ثانياً على عكا وبلادها وهدم برجاً كان خارج البلد، وذلك عقيب إغارة عسكره وهدم الكنيسة الناصرة.
ذكر القبض على من يذكر
وفيها بعد وصول الملك الظاهر بيبرس إلى مصر واستقراره في ملكه، في رجب، قبض على الرشيدي، ثم قبض في ثاني يوم على الدمياطي والبرلي، وقد تقدمت أخبار البرلي المذكور.
ذكر وفاة الأشرف صاحب حمص
وفي هذه السنة بعد عود الملك الأشرف صاحب حمص موسى ابن الملك المنصور إبراهيم ابن الملك المجاهد شيركوه بن ناصر الدين محمد بن شيركوه بن شاذي، من خدمة الملك الظاهر بيبرس إلى حمص، مرض واشتد به المرض، وتوفي إلى رحمة الله تعالى، وأرسل الملك الظاهر وتسلم حمص في ذي القعدة من هذه السنة، أعني سنة إحدى وستين وستمائة، وهذا الملك الأشرف موسى هو آخر من ملك حمص من بيت شيركوه، وقد تقدمت أخبار الأشرف موسى المذكور، وأخذ الملك الناصر يوسف صاحب حلب منه حمص، بسبب تسليمه شميميس للملك الصالح أيوب، صاحب مصر وأنه يعوض عن حمص تل باشر، ثم أعاد هولاكو عليه حمص، فبقيت في يده حتى توفي في أواخر هذه السنة، وانتقلت حمص إلى مملكة الملك الظاهر بيبرس في ذي القعدة حسبما ذكره، وكان جملة من ملك حمص منهم خمسة ملوك، أولهم شيركوه بن شاذي، ملكه إياها نور الدين الشهيد، ثم ملكها من بعده ابنه ناصر الدين محمد بن شيركوه، ثم ملكها بعده ابنه شيركوه بن محمد، وتلقب بالملك المجاهد، ثم ملكها بعده ابنه إبراهيم بن شيركوه، وتلقب بالملك المنصور، ثم ملكها بعده ابنه موسى بن إبراهيم، وتلقب بالملك الأشرف حتى توفي هذه السنة، وانقرض بموته ملك المذكورين.
ثم دخلت سنة اثنتين وستمائة في هذه السنة قبض الأشكري صاحب قسطنطينية على عز الدين كيكاؤوس بن كيخسرو بن كيقباذ صاحب بلد الروم، وسببه أن عز الدين كيكاؤوس المذكور، كان قد وقع بينه وبين أخيه، فاستظهر أخوه علية، فهرب كيكاؤوس وبقي أخوه ركن الدين قليج أرسلان في سلطنة بلاد الروم، ثم سار كيكاؤوس المذكور إلى قسطنطينية، فأحسن إليه الأشكري صاحب قسطنطينية. وإلى من معه من الأمراء، واستمروا كذلك مدة، فعزمت الأمراء والجماعة الذين كانوا مع عز الدين المذكور على اغتيال الأشكري وقتله، والتغلب على قسطنطينية، وبلغ ذلك الأشكري، فقبض عليهم، واعتقل عز الدين كيكاؤوس ابن كيخسرو في بعض القلاع، وكحل الأمراء والجماعة الذين كانوا عزموا على ذلك، فأعمى عيونهم،(3/218)
وقد تقدم ذكر كيكاؤوس المذكور وأخيه قليج أرسلان في سنة ثمان وثمانين وخمسمائة.
وفيها في ثامن رمضان توفي الشيخ شرف الدين عبد العزيز بن محمد بن عبد المحسن الأنصاري، المعروف بشيخ الشيوخ بحماة، وكان مولده في جمادى الأولى سنة ست وثمانين وخمسمائة، رحمه الله تعالى. وكان ديناً فاضلاً متقدماً عند الملوك، وله النثر البديع والنظم الفائق، وكان غزير العقل، عارفاً بتدبير المملكة، فمن حسن تدبيره. أن الملك الأفضل علي ابن الملك المظفر محمود، لما ماتت والدته غازية خاتون بنت الملك الكامل رحمهما الله تعالى، حصل عند الملك الأفضل المذكور استشعار من أخيه الملك المنصور محمد صاحب حماة، فعزم على أن ينتزح من حماة ويفارق أخاه الملك المنصور، وأذن له أخوه الملك المنصور في ذلك، فاجتمع الشيخ شرف الدين المذكور بالملك الأفضل، وعرفه ما تعمده من السلوك مع أخيه الملك المنصور، ثم اجتمع بالملك المنصور وقبح عنده مفارقة أخيه، وما برح بينهما حتى أزال ما كان في خواطرهما، وصار للملك الأفضل في خاطر أخيه الملك المنصور من المحبة والمكانة ما يفوق الوصف، وكان ذلك من بركة شرف الدين المذكور، وللشيخ شرف الدين المذكور أشعار فائقة، قد تقدم ذكر بعضها، وكان مرة مع الملك الناصر يوسف صاحب الشام بعمان، فعمل الشيخ شرف الدين.
أفدي حبيباً منذ واجهته ... عن وجه بدر التم أغناني
في وجهه خالان لولاهما ... ما بت مفتوناً بعمان
وأنشدهما للملك الناصر، فأعجبته إلى الغاية، وجعل يردد إنشادهما، وقال لكاتبه كمال الدين بن العجمي، هكذا تكون الفضيلة، فقال ابن العجمي أن التورية لا تخدم هنا، لأن عمان مجرورة في النظم، فلا تخدمه في التورية، فقال الملك الناصر للشيخ شرف الدين ما قاله، فقال شرف الدين إن هذا جائز وهو أن يكون المثنى في حالة الجر على صورة الرفع، واستشهد شرف الدين بقول الشاعر:
فأطرق إطراق الشجاع ولو رأى ... مساغاً لناباه الشجاع لصمما
واستشهد بغير ذلك فتحقق الملك الناصر فضيلته.
ثم دخلت سنة ثلاث وستين وستمائة.(3/219)
ذكر فتوح قيسارية
في هذه السنة، سار الملك الظاهر بيبرس من الديار المصرية بعساكره المتوافرة، إلى جهاد الفرنج بالساحل، ونازل قيسارية الشام، في تاسع جمادى الأولى، وضايقها وفتحها بعد ستة أيام من نزوله، وذلك في منتصف الشهر المذكور، وأمر بها فهدمت، ثم سار إلى أرسوف ونازلها وفتحها في جمادى الآخرة في هذه السنة.
ذكر موت هولاكو
في هذه السنة، في تاسع عشر ربيع الآخر، مات هولاكو ملك التتر، لعنه الله تعالى. وهو هولاكو بن طلو بن جنكزخان، وكانت وفاته بالقرب من كورة مراغة، وكانت مدة ملكه(4/2)
البلاد التي سنصفها، نحو عشر سنين، وخلف خمسة عشر ولداً ذكراً، ولما مات، جلس في الملك بعده ولده أبغا بن هولاكو، واستقرت له البلاد التي كانت بيد والده حال وفاته، وهي: إقليم خراسان، وكرسيه نيسابور، وإقليم عراق العجم، وهو الذي يعرف ببلاد الجبل، وكرسيه أصفهان، وإقليم عراق العرب، وكرسيه بغداد، وإقليم أذربيجان وكرسيه تبريز، وإقليم خورستان وكرسيه تستر، التي تسميها العامة تشتر، وإقليم فارس وكرسيه شيراز، وإقليم ديار بكر وكرسيه الموصل، وإقليم الروم وكرسيه قونية، وغير ذلك من البلاد التي ليست في الشهرة. مثل هذه الأقاليم العظيمة.
ذكر غير ذلك من الحوادث: في هذه السنة أو التي بعدها، أمسك الملك الظاهر بيبرس، زامل بن علي، أمير العرب، بمكاتبة عيسى بن مهنا في حقه. وفيها في رمضان، استولى النائب بالرحبة على قرقيسيا، وهي حصن الزباء التي تقدم خبرها مع جذيمة الأبرش في أوائل الكتاب، وفيه خلاف. وفيها قبض الملك الظاهر بيبرس على سنقر الرومي. وفيها توفي قاضي القضاة بمصر، بدر الدين يوسف بن حسن علي السنجاري.
ثم دخلت سنة أربع وستين وستمائة.
ذكر فتوح صفد وغيرها
في هذه السنة خرج الملك الظاهر بعساكره المتوافرة من الديار المصرية، وسار، الشام، وجهز عسكراً إلى ساحل طرابلس، ففتحوا القليعات وحلباً وعرقاً، ونزل الملك الظاهر على صفد، ثامن شعبان، وضايقها بالزحف وآلات الحصار، وقدم إليه وهو على صفد، الملك المنصور صاحب حماة، ولاصق الجند القلعة، وكثر القتل والجراح في المسلمين، وفتحها في تاسع عشر شعبان المذكور بالأمان، ثم قتل أهلها عن آخرهم.
ذكر دخول العساكر إلى بلاد الأرمن
وفي هذه السنة بعد فراغ الملك الظاهر من فتوح صفد، سار إلى دمشق، فلما دخلها واستقر فيها، جرد عسكراً ضخماً، وقدم عليهم الملك المنصور صاحب حماة، وأمرهم بالمسير إلى بلاد الأرمن، فسارت العساكر صحبة الملك المنصور المذكور، ووصلوا إلى بلاد سيس في ذي القعدة من هذه السنة، وكان صاحب سيس إذ ذاك، هيثوم بن قسطنطين بن باسيل، قد حصن الدربندات بالرجالة والمناجنيق، وجعل عسكره مع ولديه على الدربندات، لقتال العسكر الإسلامي ومنعه، فداستهم العساكر الإسلامية، وأفنوهم قتلاً وأسراً، وقتل ابن صاحب سيس الواحد، وأسر ابنه الآخر، وهو ليفون بن هيثوم المذكور، وانتشرت العساكر الإسلامية في بلاد سيس، وفتحوا قلعة العامودين. وقتلوا أهلها، ثم عادت العساكر وقد امتلأت أيديهم من الغنائم، ولما وصل خبر هذا الفتح العظيم إلى الملك الظاهر بيبرس،(4/3)
رحل من دمشق ووصل إلى حماة، ثم إلى فامية، فالتقى عساكره وقد عادت منصورة وأمر بتسليم الأسرى، وفيهم ليفون بن صاحب سيس، وكان المذكور لما أسر، سلمه الملك المنصور إلى أخيه الملك الأفضل، فاحترز عليه وحفظه حتى: حضره بين يدي السلطان، ثم عاد إلى الديار المصرية على طريق الكرك، فتقنطر بالملك الظاهر المذكور فرسه، عند بركة زيزا، وانكسرت فخذه، وحمل في محفة إلى قلعة الجبل.
ذكر قتل أهل قارا ونهبهم
وفي هذه السنة، عند توجه الملك الظاهر من دمشق، لملتقى عساكره العائدة من غزوة بلاد سيس، لما نزل على قارا بين دمشق وحمص، أمر بنهب أهلها وقتل كبارهم، فنهبوا وقتل منهم جماعة لأنهم كانوا نصارى، وكانوا يسرقون المسلمين ويبيعونهم بالخفية إلى الفرنج، وأخذت صبيانهم مماليك، فتربوا بين الترك في الديار المصرية، فصار منهم أجناد وأمراء.
ثم دخلت سنة خمس وستين وستمائة فيها وصل الملك المنصور محمد صاحب حماة إلى خدمة الملك الظاهر بيبرس بالديار المصرية، ثم طلب المنصور من الملك الظاهر مرسوماً بالتوجه إلى الإسكندرية، ليراها ويتفرج فيها، فرسم له بذلك وأمر أهل إسكندرية بإكرامه واحترامه، وفرش الشقق بين يدي فرسه. فتوجه الملك المنصور إلى الإسكندرية، وعاد للديار المصرية مكرماً محترماً، ثم خلع عليه الملك الظاهر، وأحسن إليه على جاري عادته، ورسم له بالدستور فعاد إلى بلده.
وفيها توجه الملك الظاهر بيبرس إلى الشام، فنظر في مصالح صفد، ووصل إلى دمشق، وأقام بها خمسة أيام، وقوي الأرجاف بوصول التتر إلى الشام، ثم وردت الأخبار بعودهم على عقبهم، فعاد الملك الظاهر إلى ديار مصر.
ذكر موت ملك التتر بالبلاد الشمالية
وفي هذه السنة، مات بركه بن باطوخان بن دوشي خان بن جنكزخان، أعظم ملوك التتر، وكرسي مملكته مدينة صراي، وكان قد مال إلى دين الإسلام، ولما مات، جلس في الملك بعده ابن عمه منكوتمر بن طغان بن باطر بن دوشي خان بن جنكزخان.
ثم دخلت سنة ست وستينوستمائة.
ذكر مسير الملك الظاهر إلى الشام
وفتح أنطاكية وغيرها:
في هذه السنة، في مستهل جمادى الآخرة، توجه الملك الظاهر بيبرس بعساكره المتوافرة إلى الشام، وفتح يافا في العشر الأوسط من الشهر المذكور، وأخذها من الفرنج، ثم سار إلى أنطاكية ونازلها مستهل رمضان، وزحفت العساكر الإسلامية على أنطاكية، فملكوها بالسيف، في يوم السبت رابع شهر رمضان من هذه السنة، وقتلوا أهلها وسبوا ذراريهم،(4/4)
وغنموا منهم أموالاً جليلة، وكانت أنطاكية للبرنس بيمند بن بيمند، وله معها طرابلس، وكان مقيماً بطرابلس، لما فتحت أنطاكية وفيها في ثالث عشر رمضان، استولى الملك الظاهر على بغراس، وسبب ذلك أنه لما فتح أنطاكية، هرب أهل بغراس منها وتركوا الحصن خالياً، فأرسل من استولى عليها في التاريخ المذكور، وشحنه بالرجال والعدد، وصار من الحصون الإسلامية، وقد تقدم ذكر فتح صلاح الدين للحصن المذكور وتخريبه، ثم عمارة الفرنج له بعد صلاح الدين، ثم حصار عسكر حلب له ورحيلهم عنه بعد أن أشرفوا على أخذه.
وفيها في شوال، وقع الصلح بين الملك الظاهر وبين هيثوم صاحب سيس، على أنه إذا أحضر صاحب سيس، سنقر الأشقر من التتر، وكانوا قد أخذوه من قلعة حلب لما ملكها هولاكو، كما تقدم ذكره. وسلم مع ذلك، بهسنا ودربساك ومرزبان ورعبان، وشيح الحديد، يطلق له ابنه ليفون، فدخل صاحب سيس على أبغا ملك التتر، وطلب منه سنقر الأشقر، فأعطاه إياه، ووصل سنقر الأشقر إلى خدمة الملك الظاهر، وكذلك سلم دربساك وغيرها من المواضع المذكورة، خلا بهسنا، وأطلق الملك الظاهر ابن صاحب سيس، ليفون بن هيثوم، وتوجه إلى والده، ثم عاد الملك الظاهر إلى الديار المصرية، ووصل إليها في ذي الحجة من هذه السنة.
وفيها اتفق معين الدين سليمان البرواناه، مع التتر المقيمين معه ببلاد الروم، على قتل ركن الدين قليج أرسلان بن كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان بن قطلومش بن أرسلان يبغو بن سلجوق، سلطان الروم، فخنق التتر ركن الدين المذكور، بوتر، وأقام البرواناه مقامه ولده غياث الدين بن ركن الدين قليج أرسلان المذكور، وله من العمر ربع سنين.
ثم دخلت سنة سبع وستينوستمائة. وفي هذه السنة، خرج الملك الظاهر إلى الشام وخيم في خربة اللصوص، وتوجه إلى مصر بالخفية، ووصل إليها بغتة، وأهل مصر والنائب بها لا يعلمون بذلك إلا بعد أن صار بينهم، ثم عاد إلى الشام.
وفيها تسلم الملك الظاهر بلاطنس من عز الدين عثمان صاحب صهيون.
وفيها توجه الملك الظاهر بيبرس إلى الحجاز الشريف، وكان رحيله من الفوار في الخامس والعشرين من شوال، ووصل إلى الكرك وأقام به أياماً، وتوجه من الكرك في سادس ذي العقدة إلى الشوبك، ورحل من الشوبك في الحادي عشر من الشهر المذكور، ووصل إلى المدينة النبوية في خامس وعشرينه ووصل إلى مكة في خامس ذي الحجة، ووصل إلى الكرك في سلخ ذي الحجة.
ثم دخلت سنة ثمان وستينوستمائة. فيها توجه الملك الظاهر بيبرس من الكرك، مستهل المحرم، عند عوده من الحج، فوصل إلى دمشق بغتة، وتوجه في يومه. ووصل إلى حماة في خامس المحرم، وتوجه من ساعته إلى حلب، ولم يعلم به العسكر إلا وهو في الموكب معهم، وعاد إلى دمشق في ثالث عشر(4/5)
المحرم المذكور، ثم توجه إلى القدس، ثم إلى القاهرة، فوصل إليها في ثالث صفر من هذه السنة.
وفيها عاد الملك الظاهر إلى الشام وأغار على عكا، وتوجه إلى دمشق، ثم إلى حماة.
وفيها جهز الملك الظاهر عسكراً إلى بلاد الإسماعيلية، فتسلموا مصياف في العشر الأوسط من رجب من هذه السنة، وعاد الملك الظاهر من حماة إلى جهة دمشق، فدخلها في الثامن والعشرين من رجب، ثم عاد إلى مقر ملكه بمصر.
وفيها حصل بين منكوتمر بن طغان ملك التتر بالبلاد الشمالية، وبين الأشكري صاحب قسطنطينية وحشة، فجهز منكوتمر إلى قسطنطينية جيشاً من التتر، فوصلوا إليها وعاثوا في بلادها، ومرواً بالقلعة التي فيها عز الدين كيكاؤوس بن كيخسرو ملك بلاد الروم محبوساً، كما قدمنا ذكره في سنة اثنتين وستين وستمائة، فحمله التتر بأهله إلى منكوتمر، فأحسن منكوتمر إلى عز الدين المذكور، وزوجه، وأقام معه إلى أن توفي عز الدين المذكور في منة سبع وسبعين وستمائة، فسار ابنه مسعود بن عز الدين المذكور إلى بلاد الروم، وسار سلطان الروم على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها أعني سنة ثمان وستين وستمائة، قتل أبو دبوس، آخر الملوك من بني عبد المؤمن، وانقرضت بموته دولتهم، وقد تقدم ذكر ذلك في سنة أربع وعشرين وستمائة، وملكت بلادهم بعدهم بنو مرين، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى في سنة اثنتين وسبعين وستمائة.
ثم دخلت سنة تسع وستين وستمائة.
ذكر فتح حصن الأكراد وحصن عكار والقرين
في هذه السنة توجه الملك الظاهر بيبرس من الديار المصرية إلى الشام، ونازل حصن الأكراد في تاسع شعبان هذه السنة، وجد في حصاره، واشتد القتال عليه، وملكه بالأمان في الرابع والعشرين من شعبان المذكور، ثم رحل إلى حصن عكار ونازله في سابع عشر رمضان من هذه السنة، وجد في قتاله، وملكه بالأمان سلخ رمضان المذكور، وعيد الملك الظاهر عليه عيد الفطر، فقال محي الدين بن عبد الظاهر مهنئاً له بفتوح عكار:
يا مليك الأرض بشرا ... ك فقد نلت الاراده
إن عكار يقيناً ... هو عكار زياده
وفيها في شوال، تسلم الملك الظاهر قلعة العليقة وبلادها من الإسماعيلية. وفيها توجه الملك الظاهر إلى دمشق، وسار منها في العشر الأخير من شوال إلى حصن القرين، ونازله في ثاني ذي القعدة، وزحف عليه وتسلمه بالأمان، وأمر به فهدم، ثم عاد إلى مصر.
وفيها جهز الملك الظاهر ما يزيد على عشرة شواني لغزو قبرس، فتكسرت في مرسى اليميسوس، وأسر الفرنج من كان بتلك الشواني من المسلمين، فاهتم السلطان بعمارة شوان آخر، فعمل في المدة اليسيرة ضعف ما عدم.
وفيها توفي هيثوم بن قسطنطين صاحب سيس، وملك(4/6)
بعده ابنه ليفون، الذي أسره المسلمون حسبما تقدم ذكره. وفيها قبض الملك الظاهر على عز الدين بغان المعروف باسم الموت، وعلي المحمدي وغيرهما.
وفيها توفي القاضي شمس الدين بن البارزي، قاضي القضاة بحماة.
وفيها توفي الطواشي، شجاع الدين مرشد، الخادم المنصوري، رحمه الله تعالى، وكان كثيرالمعروف، وتولى تدبير مملكة حماة مدة، وكان يعتمد عليه الملك الظاهر ويستشيره.
ثم دخلت سنة سبعينوستمائة. فيها توجه الملك الظاهر إلى الشام، وعزل جمال الدين أقوش النجمي عن نيابة السلطنة بدمشق وولى فيها علاء الدين أيدكين الفخري الأسندار، في مستهل ربيع الأول، ثم توجه الملك الظاهر إلى حمص، ثم إلى حصن الأكراد، ثم عاد إلى دمشق.
وفيها والملك الظاهر بدمشق، أغارت التتر على عينتاب، وعلى الروج وقميطون إلى قرب فامية، ثم عادوا واستدعى الملك الظاهر عسكراً من مصر، فوصلوا إليه صحبة بدر الدين البيسري، فتوجه الملك الظاهر بهم إلى حلب، ثم عاد إلى الديار المصرية، فوصل إليها في الثالث والعشرين من جمادى الأولى.
وفيها في شوال عاد الملك الظاهر بيبرس من الديار المصرية إلى الشام، فوصل إلى دمشق في ثالث صفر.
وفيها توفي سيف الدين أحمد بن مظفر الدين عثمان بن منكبرس، صاحب صهيون، فسلم ولداه سابق الدين، وفخر الدين، صهيون، إلى الملك الظاهر، وقدما إلى خدمته، وأحسن إليهما، وأعطى سابق الدين أمرة طملخاناة، وفيها نازل التتر البيرة، ونصبوا عليها المناجنيق وضايقوها، وسار إليهم الملك الظاهر وأراد عبور سفرات إلى بر البيرة، فقاتله التتر على المخاضة، فاقتحم الفرات وهزم التتر، فرحلوا عن البيرة وتركوا آلات الحصار بحالها، فصارت للمسلمين.
ثم عاد الملك الظاهر فوصل إلى الديار المصرية في الخامس والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة، وفيها أفرج عن الدمياطي من الاعتقال.
وفيها تسلمت نواب الملك الظاهر ما تأخر من حصون الإسماعيلية، وهي الكهف والمينقة وقدموس، وفيها اعتقل الملك الظاهر، الشيخ خضر، وكان قد بلغ المذكور عند الملك الظاهر أرفع منزلة، وانبسطت يده، وأنفذ أمره في الشام مصر، فاعتقله في قاعة بقلعة الجبل، مكرماً حتى مات.
ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين وستمائة.
ذكر ملك يعقوب المريني مدينة سبتة
وابتداء ملكهم:
وفي هذه السنة ملك يعقوب بن عبد الحق بن محبو بن حمامة المريني مدينة سبتة، وبنو مرين ملوك بلاد المغرب، بعد بني عبد المؤمن، وكان آخر من ملك من بني عبد المؤمن، أبو دبوس، وقد ذكرنا ما وقع لنا من أخبار أبي دبوس المذكور، مع ما فيه من الاختلاف، في سنة أربع وعشرين وستمائة، وأن المذكور قتل في سنة ثمان وستين وستمائة، وانقرضت حينئذ دولة بني عبد المؤمن.
وملك بعدهم بنو مرين، وهذه القبيلة، أعني بني(4/7)
مرين، يقال لهم حمامة، من بين قبائل العرب بالمغرب، وكان مقامهم بالريف القبلي من إقليم تازة، وأول أمرهم أنهم خرجوا عن طاعة بني عبد المؤمن المعروفين بالموحدين، لما اختل أمرهم، وتابعوا الغارات عليهم حتى ملكوا مدينة فاس، واقتلعوها من الموحدين، في سنة سبع وثلاثين وستمائة، واستمرت فاس وغيرها في أيديهم في أيام الموحدين. وأول من اشتهر من بني مرين، أبو بكر بن عبد الحق بن محبو بن حمامة المريني، وبعد ملكه فاس، سار إلى جهة مراكش، وضايق بني عبد المؤمن، وبقي كذلك حتى توفي أبو بكر المذكور في سنة ثلاث وخمسين وستمائة.
وملك بعده أخوه يعقوب بن عبد الحق بن محبو، وقوى أمره، وحاصر أبا دبوس في مراكش، وملكها يعقوب المريني المذكور، وأزال ملك بني عبد المؤمن من حينئذ، واستقرت قدم يعقوب المريني المذكور في الملك، وبقي يعقوب مستمراً في الملك حتى ملك سبتة في هذه السنة، ثم توفي ولم يقع لي تاريخ وفاته.
وملك بعده ولده يوسف ابن يعقوب بن عبد الحق بن محبو، وكنية يوسف المذكور أبو يعقوب، واستمر يوسف المذكور في الملك حتى قتل سنة ست وسبعمائة على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها وصل الملك الظاهر بعساكره إلى دمشق، وفيها عاد عمر بن مخلول أحد أمراء العربان إلى الحبس بعجلون، وكان من حديثه، أن الملك الظاهر حبسه بعجلون مقيداً، فهرب من الحبس المذكور إلى بلاد التتر، ثم أرسل يطلب الأمان، فقال الملك الظاهر ما أؤمنه إلا أن يعود إلى عجلون، وبضع القيد في رجله كما كان، فعاد عمر إلى عجلون وجعل القيد في رجله، فعفى عنه الملك الظاهر عند ذلك.
وفيها قويت أخبار التتر لقصد الشام، فجفل الناس، وفيها في جمادى الأولى، كانت ولادة العبد الفقير مؤلف هذا المختصر، إسماعيل بن علي بن محمود ابن محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب، بدار ابن الرنجيلي بدمشق المحروسة، فان أهلنا كانوا قد جفلوا من حماة إلى دمشق، بسبب أخبار التتر.
وفيها توفي الشيخ جمال الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الجياني النحوي، وله في النحو واللغة مصنفات كثيرة مشهورة، وفيها في ذي القعدة، توفي الأمير مبارز الدين أقوش المنصوري، مملوك الملك المنصور صاحب حماة، ونائب سلطنته، وكان أميراً جليلاً عاقلاً شجاعاً، وهو قبجاقي الجنس.
وفيها في يوم الاثنين ثامن عشر ذي الحجة، توفي الشيخ العلامة نصير الدين الطوسي، واسمه محمد بن محمد بن الحسين، الإمام المشهور، وكان يخدم صاحب الألموت، ثم خدم هولاكو، وحظي عنده، وعمل لهولاكو رصداً بمراغة وزيجا، وله مصنفات عديدة كلها نفيسة، منها إقليدس، تضمن اختلاط الأوضاع، وكذلك المجسطي، وتذكرة في الهيئة، لم يصنف في فنها مثلها، وشرح الإشارات، وأجاب عن غالب إيرادات فخر الدين الرازي عليها، وكانت ولادته في حادي عشر جمادى لأولى، سنة سبع وتسعين وخمسمائة، وكانت وفاته ببغداد، ودفن في مشهد موسى الجواد.
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وستمائة(4/8)
فيها توجه الملك الظاهر بيبرس إلى بلاد سيس، فدخلها بعساكره المتوافرة، وغنموا ثم عادوا إلى دمشق حتى خرجت هذه السنة.
ثم دخلت سنة أربع وسبعين وستمائة فيها نازلت التتر البيرة، وكان اسم مقدمهم أقطاي، وكان الملك الظاهر بدمشق، فتوجه إلى جهة البيرة، فرحل التتر عنها، ولاقى الملك الظاهر الخبر برحيلهم وهو بالقطيفة فأتم السير إلى حلب، ثم عاد إلى مصر.
وفيها بعد وصول الملك الظاهر إلى مصر، جهز جيشاً مع أقسنقر الفارقاني، ومعه عز الدين أيبك الأفرم، إلى النوبة، فساروا إليها ونهبوا وقتلوا وعادوا بالغنائم.
وفيها كان زواج الملك السعيد بركة ابن الظاهر بيبرس، بابنة الأمير سيف الدين قلاوون الصالحي، غازية خاتون. وفيها في أواخر السنة المذكورة، عاد الملك الظاهر إلى الشام.
ثم دخلت سنة خمس وسبعينوستمائة. فيها في المحرم، وصل الملك الظاهر بيبرس إلى دمشق، وكان فد خرج من مصر في أواخر سنة أربع وسبعين، وبلغه وصول الأمراء الروميين الوافدين، وهم بيجار الرومي، وبهادر ولده، وأحمد بن بهادر، وغيرهم، فسار الملك الظاهر إلى جهة حلب والتقاهم وأكرمهم ثم عاد إلى الديار المصرية.
ذكر دخول الملك الظاهر إلى بلاد الروم
وفي هذه السنة عاد الملك الظاهر بيبرس بعساكره المتوافرة إلى الشام، وكان خروجه من مصر في يوم الخميس، لعشرين من رمضان هذه السنة، ووصل إلى حلب، ثم إلى النهر الأزرق، ثم سار إلى أبلستين، فوصل إليها في ذي القعدة، والتقى بها جمعا من التتر مقدمهم تناون، وكانوا نقاوة المغل، فالتقى الفريقان في أرض أبلستين يوم الجمعة عاشر ذي القعدة من هذه السنة، فانهزم التتر وأخذتهم سيوف المسلمين، وقتل مقدمهم تناون، وغالب كبرائهم، وأسر منهم جماعة كثيرة، صاروا أمراء، وكان من جملة المأسورين في هذه الموقعة، سيف الدين قبجق، وسيف الدين أرسلان، وسنذكر أخبارهما إن شاء الله تعالى.
ثم سار الملك الظاهر بعد فراغه من هذه الوقعة إلى قيسارية، واستولى عليها، وكان الحاكم بالروم يومئذ، معين الدين سليمان البرواناه، وكان يكاتب الملك الظاهر في الباطن، وكان يظن الملك الظاهر أنه إذا وصل إلى قيسارية، يصل إليه البرواناه، على ما كان قد اتفق معه في الباطن، فلم يحضر البرواناه لما أراده الله من هلاكه، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. وأقام الملك الظاهر على قيسارية سبعة أيام في انتظار البرواناه، وخطب له على منابرها، ثم رحل عن قيسارية في الثاني والعشرين من ذي القعدة، وحصل للعسكر شدة عظيمة، من نفاذ القوت والعلف، وعدمت غالب خيولهم ووصلوا إلى عمق حارم، وأقاموا به شهراً، ولما بلغ أبغا بن هولاكو، ساق في جموع المغل حتى وصل إلى الأبلستين، وشاهد عسكره صرعى، ولم يشاهد أحداً من عسكر الروم مقتولاً، فاستشاط غضباً وأمر بنهب الروم، وقتل من مر به من المسلمين، كنهب وقتل(4/9)
منهم جماعة، ثم سار أبغا إلى الأردو، وصحبته معين الدين البرواناه، فلما استقر بالأردو، أمر بقتل البرواناه، فقتل، وقتلوا معه نيفاً وثلاثين نفساً من مماليكه وخواصه، واسم البرواناه المذكور، سليمان، والبرواناه لقب، وهو. الحاجب بالعجمي، وكان مقتله بالأطاغ، وكان البرواناه حازماً بتدبير المملكة، ذا مكر ودهاء.
وفي هذه السنة توفي الشهاب محمد بن يوسف بن زائدة التلعفري الشاعر. وفيها مات الشيخ خضر في حبس الملك الظاهر. وفيها عاد الملك الظاهر من عمق حارم وتوجه إلى دمشق.
ثم دخلت سنة ست وسبعين وستمائة فيها في خامس المحرم، وصل الملك الظاهر بيبرس إلى دمشق، ونزل بالقصر الأبلق، وكان قد رحل من عمق حارم في أواخر سنة خمس وسبعين.
ذكر وفاة الملك الظاهر بيبرس
فيها، في يوم الخميس، السابع والعشرين من المحرم، توفي السلطان الملك الظاهر أبو الفتح بيبرس، الصالحي النجمي بدمشق، وقت الزوال، رحمه الله تعالى، عقب وصوله من بلاد الروم إلى دمشق، على ما تقدم ذكره، وقد اختلف في سبب موته، فقيل إنه انكسف القمر كسوفاً كلياً، وشاع بين الناس أن ذلك سبب موت رجل جليل القدر، فأراد الملك الظاهر أن يصرف التأويل إلى غيره، فاستدعى بشخص من أولاد الملوك الأيوبية يقال له الملك القاهر، من ولد الملك الناصر داود بن المعظم عيسى، وأحضر قمزاً مسموماً، وأمر الساقي فسقى الملك القاهر المذكور، فشرب الملك الظاهر ناسياً بذلك النهاء على أثر شرب الملك القاهر، فمات الملك القاهر عقيب ذلك، وأما الملك الظاهر فحصلت له حمى محرقة، وتوفي في التاريخ المذكور، وكتم نائبه ومملوكه بدر الدين تتليك، المعروف بالخزندار، موته، وصبره وتركه في قلعة دمشق إلى أن استوت تربته بدمشق، قرب الجامع، فدفن فيها، وهي مشهورة معروفة، وارتحل بدر الدين تتليك بالعساكر ومعهم المحفة، مظهراً أن الملك الظاهر فيها، وأنه مريض، وسار إلى ديار مصر، وكان الملك الظاهر قد حلف العسكر لولده بركة بن بيبرس، ولقبه الملك السعيد، وجعله لي عهده، فوصل تتليك الخزندار بالخزائن والعسكر إلى الملك السعيد بقلعة جبل، وعند ذلك أظهر موت الملك الظاهر، وجلس ابنه الملك السعيد للعزاء، استقر في السلطنة، وكانت مدة مملكة الملك الظاهر نحو سبع عشرة سنة وشهرين عشرة أيام، لأنه ملك في سابع عشر ذي القعدة، سنة ثمان وخمسين وستمائة، توفي في السابع والعشرين من محرم، من سنة ست وسبعين وستمائة، وكان ملكاً جليلاً شجاعاً عاقلاً مهيباً، ملك الديار المصرية والشام، وأرسل جيشاً فاستولوا على النوبة، وفتح الفتوحات الجليلة، مثل صفد، وحصن الأكراد، وأنطاكية، وغيرها على، ما تقدم ذكره. وأصله مملوك قبجاقي الجنس، وسمعت أنه برجعلي، وكان أسمر أزرق العينين، جهوري الصوت، حضر هو ومملوك آخر مع تاجر(4/10)
إلى حماة، فاستحضرهما الملك المنصور محمد ليشتريهما، فلم يعجبه واحد منهما، وكان دكين البندقدار الصالحي، مملوك الملك الصالح أيوب صاحب مصر، قد غضب عليه الملك الصالح المذكور، وكان قد توجه أيدكين إلى جهة حماة، فأرسل الملك الصالح وقبض على أيدكين المذكور، واعتقله بقلعة حماة، فتركه الملك المنصور صاحب حماة في جامع قلعة حماة، واتفق ذلك عند حضور الملك الظاهر مع التاجر، فلما قلبه الملك المنصور ولم يشتره، أرسل أيدكين البندقدار وهو معتقل، فاشتراه، وبقي عنده، ثم أفرج الملك الصالح عن البندقدار، فسار من حماة وصحبته الملك الظاهر، وبقي مع أستاذه البندقدار المذكور مدة، ثم أخذه الملك الصالح من البندقدار، فانتسب إلى الملك الصالح دون أستاذه، وكان يخطب له، وينقش على الدراهم والدنانير بيبرس الصالحي.
وكان استقرار الملك السعيد بركة ابن الملك الظاهر في مملكة مصر والشام في أوائل ربيع الأول من هذه السنة، أعني سنة ست وسبعين وستمائة، واستقر بدر الدين تتليك الخزندار في نيابة السلطنة، على ما كان عليه مع والده، واستمرت الأمور على أحسن نظام، فلم تطل أيام تتليك الخزندار، ومات بعد ذلك في مدة يسيرة، قيل حتف أنفه، وقيل بل سم، والله أعلم، وتولى نيابة السلطنة بعده شمس الدين الفارقاني، ثم إن الملك السعيد خبط وأراد تقديم الأصاغر، وأبعد الأمراء الأكابر، وقبض على سنقر الأشقر، والبيسري، ثم أفرج عنهما بعد أيام يسيرة، ففسدت نيات الأمراء الكبار عليه، وبقي الأمر كذلك حتى خرجت هذه السنة.
ثم دخلت سنة سبع وسبعينوستمائة.
ذكر مسير الملك السعيد بركة إلى الشام
والإغارة على سيس وخلاف عسكره عليه:
في أثناء هذه السنة، سار الملك السعيد بركة إلى الشام وصحبته العساكر، ووصل إلى دمشق، وجرد منها العسكر صحبة الأمير سيف الدين قلاوون الصالحي، وجرد أيضاً صاحب حماة، فساروا ودخلوا إلى بلاد سيسى، وشنوا الإغارة عليها، وغنموا، ثم عادوا إلى جهة دمشق، واتفقوا على الخلاف على الملك السعيد المذكور، وخلعه من السلطنة، لسوء تدبيره، وعبروا على دمشق ولم يدخلوها، فأرسل إليهم الملك السعيد واستعطفهم ودخل عليهم بوالدته، فلم يلتفتوا إلى ذلك، وأتموا السير، فركب الملك السعيد وساق وسبقهم إلى مصر، وطلع إلى قلعة الجبل، وسارت العساكر في إثره، وخرجت هذه السنة والأمر كذلك.
وفيها توفي عز الدين كيكاؤوس بن كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان بن قطلومش بن أرسلان بن سلجوق، عند منكوتمر ملك التتر، بمدينة صراي، وكيكاؤوس المذكور، هو الذي كان محبوساً بقسطنطينية حسبما تقدم ذكر القبض عليه، في سنة اثنين وستين، وذكر خلاصه واتصاله بملك التتر في سنة ثمان وستين،(4/11)
وخلف عز الدين المذكور ولداً اسمه مسعود، وقصد منكوتمر أن يزوجه بزوجة ابنه عز الدين كيكاؤوس، فهرب مسعود واتصل ببلاد الروم، فحمل إلى أبغا، فأحسن إليه أبغا وأعطاه سيواس وأرزن الروم، وأرزنكان، واستقرت هذه البلاد لمسعود المذكور، ثم بعد ذلك جعلت سلطنة الروم باسم مسعود المذكور، وافتقر جداً، وانكشف حاله، وهو آخر من سمي سلطاناً من السلجوقية بالروم.
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وستمائة.
ذكر خلع الملك السعيد بركة ابن الملك الظاهر
في هذه السنة وصلت العساكر الخارجون عن طاعة بركة المذكور إلى الديار المصرية، في ربيع الأول، وحصروا الملك السعيد بركة بقلعة الجبل، فخامر على السعيد بركة، غالب من كان معه من الأمراء، مثل لاجين الزيني وغيره، وبقي يهرب واحد بعد واحد من القلعة، وينضم إلى العسكر المحاصر للقلعة، فلما رأى الملك السعيد بركة ذلك، أجابهم إلى الانخلاع من السلطنة، وأن يعطى الكرك، فأجابوه إلى ذلك، وأنزلوه من القلعة، وخلعوه في ربيع الأول من هذه السنة. أعني سنة ثمان وسبعين وستمائة، وسفروه من وقته إلى الكرك، صحبة بيد عان الركني، وجماعة معه، فوصل إليها وتسلمها بما فيها من الأموال وكان شيئاً كثيراً.
إقامة سلامش ابن الملك الظاهر بيبرس في المملكة
وفي هذه السنة، لما جرى ما ذكرناه من خلع الملك السعيد بركة، وإعطائه الكرك، اتفق أكابر الأمراء الذين فعلوا ذلك، مثل بدر الدين البيسري الشمسي، وأيتمش السعدي، وبكتاش الفخري، أمير سلاح، وغيرهم، على إقامة بدر الدين سلامش ابن الملك الظاهر بيبرس في المملكة، ولقبوه الملك العادل، وعمره إذ ذاك سبع سنين وشهور، وخطب له، وضربت السكة باسمه، وذلك في شهر ربيع الأول من هذه السنة، وصار الأمير سيف الدين قلاوون الصالحي، أتابك العسكر، ولما استقر ذلك، جهز أتابك العسكر المذكور، الأمير شمس الدين سنقر الأشقر إلى دمشق، جعله نائب السلطنة بالشام، وكان العسكر لما خافوا السعيد بركة، قد قبضوا على عز الدين أيدمر نائب السلطنة بدمشق، وتولى تدبير دمشق بعد أيدمر، أقوش الشمسي نائب السلطنة بحلب، فسار وتولاها، واستمر الحال على ذلك مدة يسيرة.
ذكر سلطنة الملك المنصور قلاوون الصالحي
وفي هذه السنة أعني سنة ثمان وسبعين وستمائة، في يوم الأحد، الثاني والعشرين من رجب، كان جلوس السلطان الملك المنصور قلاوون الصالحي في السلطنة، بعد خلع الصبي(4/12)
سلامش، وعزله، ولما تولى السلطان الملك المنصور، أقام منار العدل، وأحسن سياسة الملك، وقام بتدبير المملكة أحسن قيام.
ذكر خروج سنفر الأشقر عن الطاعة
وسلطنته بالشام:
وفي هذه السنة، في الرابع والعشرين من ذي القعدة، جلس سنقر الأشقر بدمشق في السلطنة، وحلف له الأمراء والعسكر الذين عنده بدمشق، وتلقب بالملك الكامل شمس الدين سنقر.
وفي هذه السنة توفي الملك السعيد بركة، ابن الملك الظاهر بيبرس في الكرك، بعد وصوله إليها في مدة يسيرة، وكان سبب موته، أنه لعب بالكرة في ميدان الكرك، فتقنطر به فرسه، فحصل له بسبب ذلك حمى شديدة، وبقي كذلك أياماً يسيرة وتوفي، وحمل إلى دمشق ودفن بتربة أبيه، ولما توفي الملك السعيد، اتفق من بالكرك وأقاموا موضعه أخاه نجم الدين خضر، واستقر في الكرك، ولقبوه الملك المسعود.
ثم دخلت سنة تسع وسبعينوستمائة.
ذكر كسرة سنقر الأشقر في هذه السنة، في التاسع عشر من صفر، كانت كسرة سنقر الأشقر المتولي على الشام، الملقب بالملك الكامل، وكان من حديث هذه الكسرة، أن السلطان الملك المنصور قلاوون، جهز عساكر ديار مصر، مع علم الدين سنجر الحلبي، الذي تقدم ذكر سلطنته بدمشق، عقيب قتل قطز، وكان أيضاً من مقدمي العسكر المصري المذكور، بدر الدين بكتاش، وبدر الدين الأيدرمري وعز الدين الأفرم، فسارت العساكر المذكورة إلى الشام، وبرز سنقر الأشقر بعساكر الشام إلى ظاهر دمشق، والتقى الفريقان في تاسع عشر صفر المذكور، فولى الشاميون وسنقر الأشقر منهزمين، ونهبت العساكر المصرية أثقالهم.
وكان السلطان الملك المنصور قلاوون، قد جعل مملوكه حسام الدين لاجين السلحدار نائباً بقلعة دمشق، فلما هرب سنقر الأشقر، أفرج عن حسام الدين لاجين المذكور، وكذلك كان سنقر الأشقر قد اعتقل بيبرس، المعروف بالجالق، لأنه لم بحلف له، فأفرج عنه أيضاً، وكتب الحلبي إلى السلطان الملك المنصور بالنصر، استقر الأمير لاجين المنصوري المذكور نائب السلطنة بالشام، وأما سنقر الأشقر، فإنه هرب إلى الرحبة، وكاتب أبغا بن هولاكو ملك التتر وأطمعه في البلاد، وكان عيسى بن مهنا، ملك العرب، مع سنقر الأشقر، وقاتل معه، وكتب بذلك إلى أبغا أيضاً، موافقة له، ثم سار سنقر الأشقر من الرحبة إلى صهيون في جمادى الأولى من هذه السنة، واستولى عليها، وعلى برزنة، وبلاطنس، والشغر، وبكاس، وعكار، شيزر، وفامية، وصارت هذه الأماكن لسنقر الأشقر.
وفيها توفي أقوش الشمسي نائب السلطنة بحلب، وولى السلطان الملك المنصور قلاوون على حلب، علم الدين سنجر الباشغردي.
وفيها قويت أخبار التتر،(4/13)
وأنهم واصلون إلى البلاد الإسلامية بجموعهم. وفيها جعل السلطان الملك المنصور قلاوون ولده الملك الصالح علاء الدين علي، ولي عهده وسلطنته، وركب بشعار السلطنة.
وفيها سار السلطان الملك المنصور قلاوون الصالحي من الديار المصرية، ووصل إلى غزة، وكان التتر قد وصلوا إلى حلب، فعاثوا، ثم عادوا فعاد السلطان إلى مصر في جمادى الآخرة من هذه السنة.
وفيها استأذن سيف الدين بلبان الطباخي، أحد مماليك الملك المنصور، وكان نائب السلطنة بحصن الأكراد، في الإغارة على بلد المرقب، لما اعتمده أهله من الفساد عند وصول التتر إلى حلب، فأذن له السلطان في ذلك، فجمع بلبان الطباخي المذكور عساكر الحصون، وسار إلى المرقب، فاتفق هروب المسلمين ونزل الفرنج من المرقب، وقتلوا وأسروا من المسلمين جماعة.
وفيها في مستهل ذي الحجة، حرج السلطان الملك المنصور قلاوون من مصر، وسار عائداً إلى الشام، وخرجت هذه السنة.
ثم دخلت سنة ثمانين وستمائة والسلطان الملك المنصور بالروحاء وأقام هناك مدة، ثم سار إلى بيسان، وقبض على جماعة من الظاهرية، ودخل دمشق وأعدم منهم جماعة، مثل كوندك، وأيدغمش الحلبي، وبيبرس الرشيدي، وأرسل عسكراً إلى شيزر، وهي لسنقر الأشقر، وجرى بينهم مناوشة، ثم إنه ترددت الرسل بين السلطان وبين سنقر الأشقر، واحتاج السلطان إلى مصالحته لقوة أخبار التتر، ووقع بينهم الصلح، على أن يسلم شيزر إلى السلطان، ويتسلم سنقر الأشقر الشغر وبكاس، وكانتا قد ارتجعتا سه، فتسلم نواب السلطان شيزر، وتسلم الشغر وبكاس سنقر الأشقر، وحلفا على ذلك، واستقر الصلح بينهما.
وفيها أيضاً استقر الصلح بين السلطان الملك المنصور قلاوون، وبين الملك خضر ابن الملك الظاهر بيبرس، صاحب الكرك.
ذكر الوقعة العظيمة مع التتر على حمص
في هذه السنة، أعني سنة ثمانين وستمائة، في شهر رجب، كان المصاف العظيم بين المسلمين وبين التتر بظاهر حمص، فنصر الله تعالى فيه المسلمين، بعد ما كانوا قد أيقنوا بالبوار، وكان من حديث هذا المصاف العظيم، أن أبغا بن هولاكو، حشد وجمع وسار بهذه الحشود طالباً الشام، ثم انفرد أبغا المذكور عنهم، وغنم وسار إلى الرحبة، وسير جيوشه وجموعه إلى الشام، وقدم عليهم أخاه منكوتمر ابن هولاكو، وسار إلى جهة حمص، وسار السلطان الملك المنصور قلاوون الصالحي بالجيوش الإسلامية من دمشق إلى جهة حمص أيضاً، وأرسل إلى سنقر يستدعيه بمن عنده من الأمراء والعسكر، بحكم ما استقر بينهما من الصلح واليمين، فسار سنقر الأشقر من صهيون، فلما نزل السلطان بظاهر حمص، وصل إليه الملك المنصور صاحب حماة بعسكره، ثم وصل سنقر الأشقر وصحبته(4/14)
أيتمش السعدي، والحاج أزدمر، وعلم الدين الدويداري، وجماعة من الظاهرية.
ورتب السلطان عسكره ميمنة وميسرة، وكان رأس الميمنة الملك المنصور محمد صاحب حماة بعسكره، ثم بدر الدين البيسري دونه، ثم علاء الدين طيبرس الوزيري، ثم أيبك الأفرم، ثم جماعة من العسكر المصري، ثم عسكر الشام، ومقدمهم حسام الدين لاجين نائب السلطنة بالشام.
وكان رأس الميسرة سنقر الأشقر ومن معه، ثم بدر الدين تنليك الأيدمري، ثم بدر الدين بكتاش أمير سلاح. وكان بر الميمنة العرب، وبر الميسرة التركمان. وكان ساليش القلب، حسام الدين طرنطاي نائب السلطنة، ومن أضيف إليه من الأمراء والعساكر، والتقى الفريقان بظاهر حمص في الساعة الرابعة من يوم الخميس، رابع عشر رجب الفرد، من هذه السنة، أعني سنة ثمانين وستمائة، وأنزل الله نصرته إلى القلب والميمنة، فهزموا من كان قبالتهم من التتر، وركبوا قفاهم يقتلونهم، وكان منكوتمر قبالة القلب، فانهزم أيضاً، وأما ميسرة المسلمين فإنها انكشفت عن مواقفها، وتم ببعضهم الهزيمة إلى دمشق، وساق التتر في إثر المنهزمين حتى وصلوا إلى تحت حمص، ووقعوا في السوقية، وغلمان العسكر والعوام، وقتلوا منهم خلقاً كثيراً، ثم علموا بنصرة المسلمين وهزيمة جيشهم، فولى المذكورون أيضاً منهزمين على أعقابهم، وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون.
وكانت عدة التتر ثمانين ألف فارس، منهم خمسون ألفا من المغل، والباقي حشود وجموع من أجناس مختلفة، مثل الكرج والأرمن والعجم وغيرهم، ولما وصل خبر هذه الكسرة إلى أبغا وهو على الرحبة يحاصرها، رحل عنها على عقبه منهزماً، وكتب بهذا الفتح العظيم إلى سائر البلاد الاسلامية، فزينت لذلك، ثم إن السلطان الملك المنصور قلاوون، أعطى الدستور للعساكر الشامية، فرجع الملك المنصور محمد صاحب حماة إلى بلده، ورجع سنقر الأشقر وجماعته إلى صهيون، وسار عسكر حلب إليها، وعاد السلطان إلى دمشق، والأسرى والروس بين يديه.
وفيها عاد السلطان الملك المنصور قلاوون إلى الديار المصرية مؤيداً منصوراً.
وفيها عند وصوله إلى مستقر ملكه، قدمت إليه هدية من صاحب اليمن المظفر شمس الدين يوسف بن عمر بن علي بن رسول، وطلب أماناً من السلطان، فقبل السلطان هديته، وكانت من طرائف اليمن، مثل العود والعنبر والصيني ورماح القنا، وغير ذلك، وكتب له السلطان أماناً صدرة " هذا أمان الله تعالى، وأمان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأماننا، لأخينا السلطان الملك المظفر شمس الدين يوسف بن عمر صاحب اليمن، إننا راعون له ولأولاده، مسالمون من سالمهم، معادون من عاداهم " ونحو ذلك. وكان ذلك في العشر الأول من رمضان هذه السنة، وأرسل السلطان إليه هدية من أسلاب التتر وخيولهم، وعادت رسله بذلك مكرمين.
وفيها مات منكوتمر بن هولاكو بن طلو بن(4/15)
جنكزخان بجزيرة ابن عمر، مكموداً، عقيب كسرته على حمص، وكان موته من جملة هذا الفتح العظيم.
وفيها توفي علاء الدين عطاء ملك بن محمد الجويني، وكان صاحب الديوان ببغداد، فنقب عليه أبغا نسبه إلى مواطاة المسلمين، وقبض عليه، وأخذ أمواله، وكان صدراً كبيراً فاضلاً، له شعر حسن، فمنه في تركية:
أبادية الأعراب عني فإنني ... بحاضرة الأتراك نيطت علائقي
وأهلك يا نجل العيون فإنني ... جننت بهذا الناظر المتضايق
وكانت وفاته بعراق العجم، وولي بغداد بعده ابن أخيه هارون بن محمد الجويني.
ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وستمائة فيها ولي السلطان مملوكه شمس الدين قرا سنقر نيابة السلطنة بحلب، فسار إليها واستقر.
ذكر موت أبغا
وفيها في المحرم، مات أبغا بن هولاكو بن جنكزخان، ملك التتر، قيل إنه مات مسموماً. وكان موته ببلاد همذان، وكانت مدة ملكه نحو سبعة عشر سنة وكسوراً، وخلف من الولد، أرغون، وكيختو ابناً أبغا، ولما مات أبغا، ملك بعده أخوه أحمد بن هولاكو، واسم أحمد المذكور، بيكدار، فلما جلس في الملك، أظهر دين الإسلام، وتسمى بأحمد سلطان.
وفيها وصلت رسل أحمد بن هولاكو ملك التتر المذكور، إلى السلطان الملك المنصور قلاوون، وكان كبير الرسل المذكورين، الشيخ المتقن قطب الدين محمود الشيرازي، وكان إذ ذاك قاضي سيواس، فاحترز عليهم السلطان، ولم يمكن أحداً من الاجتماع بهم، وكان مضمون رسالتهم إعلام السلطان بإسلام أحمد المذكور، وطلب الصلح بين المسلمين والتتر، فلم ينتظم ذلك. ثم عادت رسله إليه بالجواب.
وفيها توفي منكوتمر بن طغان بن باطو بن دوشي خان بن جنكزخان، ملك التتر، بالبلاد الشمالية، وملك بعده أخو متدان منكو بن طغان بن باطو بن دوشي خان بن جنكزخان، وجلس على كرسي التتر بصراي، وقيل إن ذلك كان في سنة ثمانين.
وفيها عقد الملك الصالح علاء الدين علي ابن السلطان الملك المنصور قلاوون، على بنت سيف الدين بكيه، ثم تزوج أخوه الملك الأشرف بأختها الأخرى، وكان بكيه معتقلاً بالإسكندرية، فلما عزم السلطان على ذلك، أخرجه من الحبس، وأحسن إليه، وزوج ابنيه واحداً بعد الآخر ببنتي بكيه المذكور.
وفيها توفي القاضي الفاضل المحقق، شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان البرمكي، وكان فاضلاً عالماً، تولى القضاء بمصر والشام، وله مصنفات جليلة، مثل: وفيات الأعيان في التاريخ وغيره. وكان مولده يوم الخميس بعد صلاة العصر، حادي عشر ربيع الآخر، سنة ثمان وستمائة، بمدينة إربل، بمدرسة سلطانها مظفر الدين صاحب إربل. نقلت ذلك من تاريخه في(4/16)
ترجمة زينب، في آخر حرف الزاء.
ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين وستمائة في أوائل هذه السنة، قدم الملك المنصور محمد صاحب حماة، وصحبته الملك الأفضل علي، إلى خدمة السلطان الملك المنصور قلاوون بالديار المصرية، فبالغ السلطان في إكرام صاحب حماة، والإحسان إليه، وأنزله بالكبش، وأركبه بالسناجق السلطانية، والجفتا والغاشية، وسأله عن حوائجه، فقال الملك المنصور حاجتي أن أعفى من هذا اللقب فإنه ما بقي يصلح لي أن ألقب بالملك المنصور؛ وقد صار هذا لقب مولانا السلطان الأعظم، فأجابه السلطان بأبي ما تلقيت بهذا الاسم، إلا لمحبتي فيك، ولو كان لقبك غير ذلك كنت تلقبت به، فشيء فعلته محبة لاسمك، كيف أمكن من تغييره، وطلع السلطان بالعسكر المصري لحفر الخليج الذي بجهة البحيرة، وسار صاحب حماة في خدمته إلى الحفير، ثم أعطى بعد ذلك الدستور لصاحب حماة، فعاد مكرماً مغموراً بالصدقات السلطانية.
وفيها رمى السلطان الملك الصالح علاء الدين علي ابن السلطان، بجعاً بجهة العباسة بالبندق، وأرسله للملك المنصور محمد صاحب حماة، فقبله وبالغ في إظهار السرور والفرح بذلك، وأرسل إليه تقدمة جليلة.
وفيها خرج أرغون بن أبغا بخراسان على عمه بيكدار، المسمى بأحمد سلطان، وسار إليه واقتتلا، فانهزم أرغون، وأخذه أحمد أسيراً، وسأل الخواتين في إطلاق أرغون وإقراره على خراسان، فلم يجب إلى ذلك، وكانت خواطر المغل قد تغيرت على أحمد، بسبب إسلامه وإلزامه لهم بالإسلام، فاتفقوا على قتله، وقصدوا أرغون بالموضع الذي هو معتقل فيه، وأطلقوه وكبسوا الناق نائب أحمد فقتلوه، ثم قصدوا الأردو، فأحس بهم السلطان أحمد، فركب وهرب، فتبعوه وقتلوه، وملكوا أرغون بن أبغا بن هولاكو بن طلو بن جنكزخان، وذلك في جمادى الأولى من هذه السنة.
وفيها قتل أرغون الصبي، سلطان الروم، الذي أقامه البرواناه بعد قتله أباه، حسبما تقدم ذكره في سنة ست وستين وستمائة، وكان اسم الصبي المذكور، غياث الدين كيخسرو بن ركن الدين قليج أرسلان بن كيخسرو بن قليج أرسلان، وفوض اسم سلطنة الروم إلى مسعود بن عز الدين كيكاؤوس، وهذا مسعود هو الذي هرب من منكوتمر ملك التتر بصراي، وأبوه عز الدين كيكاؤوس، هو الذي جرى له مع الأشكري صاحب قسطنطينية على ما قدمنا ذكره في سنة اثنتين وستين وستمائة، واستمرت سلطنة الروم باسم مسعود المذكور إلى سنة ثمان وسبعمائة، وهو مسعود ابن كيكاؤوس بن كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن قطلومش، من السلجوقية ببلاد الروم. وافتقر مسعود المذكور، وانكشف حاله جداً، حتى قيل إنه تناول سماً فمات، من كثرة المطالبة من أرباب الدين والتتر.
وفيها ولى أرغون، سعد الدولة اليهودي، وعظمه ومكنه، وكان سعد الدولة المذكور، في مبدأ أمره، دلالاً بسوق الصناعة بالموصل، فحكم في سائر البلاد التي(4/17)
بأيدي التتر.
وفيها قرر أرغون ولديه قازان وخربنده بخراسان، وجعل أتابكهما أميراً كبيراً من أصحابه، اسمه نورود.
وفيها مات الأشكري صاحب قسطنطينية، واسمه ميخائل، وملك بعده ابنه ماندس، وتلقب بالدوقس.
وفيها كاتب الحكام بقلعة الكحنا قراسنقر، نائب السلطنة بحلب، وسلموا الكحنا إلى السلطان، فجهز قراسنقر عسكراً فتسلموها، وقرر السلطان فيها نوابه، وحصنها، وصارت من أعظم الثغور الإسلامية نفعاً.
وفيها في رجب، قدم السلطان إلى دمشق، وكان قد سار من مصر، في جمادى الآخرة. وفيها كان السيل العظيم بدمشق في العشر الأول من شعبان، والسلطان الملك المنصور قلاوون بدمشق، وأخذ ما مر به من العمارات وغيرها، واقتلع الأشجار، وأهلك خلقاً كثيراً، وذهب للعسكر النازلين على جوانب بردى من الخيل والجمال والخيم ما لا يحصى، وتوجه السلطان عقيبه إلى الديار المصرية، ووصل إلى قلعة الجبل في ثامن عشر رمضان من هذه السنة.
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانينوستمائة. فيها سار السلطان الملك المنصور قلاوون إلى دمشق، وحضر الملك المنصور صاحب حماة إلى خدمته إلى دمشق، ثم عاد كل منهما إلى مقر ملكه.
ذكر وفاه الملك المنصور صاحب حماة
في هذه السنة في شوال، توفي السلطان الملك المنصور ناصر الدين أبو المعالي أحمد ابن الملك المظفر محمود ابن الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر عمر بن شاهنشاه بن أيوب، صاحب حماة، رحمه الله تعالى. ابتدأ فيه المرض في أوائل شعبان، بعد عوده من خدمة السلطان من دمشق، وكان مرضه حمى صفراوية داخل العروق، ثم صلح مزاجه بعض الصلاح، فأشار الأطباء بدخوله الحمام، فدخلها، فعاوده المرض، وأحضر له الأطباء من دمشق، مع من كان في خدمته منهم، واشتد به ذات الجنب، وعالجوه بما يصلح لذلك، فلم يفد شيئاً.
وفي مدة مرضه عتق مماليكه، وتاب توبة نصوحاً، وكتب إلى السلطان الملك المنصور قلاوون يسأله في إقرار ابنه الملك المظفر محمود في مملكته، على قاعدته، واشتد به مرضه حتى توفي بكرة حادي عشر شوال من هذه السنة، أعني سنة ثلاث وثمانين وستمائة.
وكانت ولادته في الساعة الخامسة من يوم الخميس، لليلتين بقيتا من ربيع الأول، سنة اثنتين وثلاثين وستمائة. فيكون عمره إحدى وخمسين سنة وستة أشهر وأربعة عشر يوماً، وملك حماة يوم السبت ثامن جمادى الأولى، سنة اثنتين وأربعين وستمائة، وهو اليوم الذي توفي فيه والده الملك المظفر محمود، فيكون مدة ملكه إحدى وأربعين سنة وخمسة أشهر وأربعة أيام، وكان أكبر أمانيه، أن يعيش إلى أن يسمع جوابه من السلطان، فيما سأله من إقرار حماة على ولده الملك المظفر محمود، فاتفق وفاته قبل وصول الجواب، وكان قد أرسل في ذلك على البريد مملوكه سنقر، أمير أخور، فوصل بالجواب بعد موت الملك المنصور بستة أيام، ونسخة الجواب من(4/18)
السلطان بعد البسملة: " المملوك قلاوون، أعز الله أنصار المقام العالي المولوي السلطاني الملكي المنصوري الناصري، ولا عدمه الإسلام ولا فقدته السيوف والأقلام، وحماه، من أذى داء، وعود عواد، وإلمام آلام المملوك يجدد الخدمة التي كان يود تجديدها، شفاهاً ويصف ما عنده من الألم لما ألم بمزاجه الكريم، حتى أنه لم يكد يفتح بالحديث فاهاً. ولما وقفنا على الكتاب المولوي المتضمن بمرض الجد المحروس، وما انتهى إليه الحال، كادت القلوب تنشق، والنفوس تذوب حزناً، والرجاء من الله أن يتداركه بلطفه، وأن يمن بعافيته التي رفع في مسألتها يديه، وبسط كفيه، وهو يرجو من كرم الله، معاجلة الشفاء، ومداركة العافية، الموردة بعد الكدر، مورد الصفاء، وإن الله يفسح في أجل المولى ويهبه العمر الطويل، وأما الإشارة الكريمة إلى ما ذكره من حقوق يوجبها الإقرار، وعهود أنت بدورها من السرار، ونحن بحمد الله، فعندنا تلك العهود ملحوظة، وتلك المودات محفوظة، فالمولى يعيش قرير العين، فما تم إلا ما يسره من إقامة ولده مقامه، لا يحول ولا يزول، ولا يرى على ذلك ذلة ولا ذهول، ويكون المولى طيب النفس، مستديم الأنس، بصدق العهد القديم، وبكل ما يؤثر من خير مقيم ".
ولما وصل الكتاب، اجتمع لقراءته الملك الأفضل والملك المظفر وعلم الدين سنجر، المعروف بأبي خرص، وقرئ عليهم، وتضاعف سرورهم بذلك، وكان الملك المنصور محمد صاحب حماة المذكور، ملكاً ذكياً فطناً، محبوب الصورة، وكان له قبول عظيم عند ملوك الترك، وكان حليماً إلى الغاية، يتجاوز عما يكره ويكتمه، ولا يفضح قائله، من ذلك أن الملك الظاهر بيبرس قدم إلى حماة، ونزل بالدار المعروفة الآن بدار المبارز، فرفع إليه أهل حماة عدة قصص يشكون فيها من الملك المنصور، فأمر الملك الظاهر دواداره سيف الدين بلبان، أن يجمع القصص ولا يقرأها، ويضعها في منديل، ويحملها إلى الملك المنصور صاحب حماة، فحملها الدوادار المذكور، وأحضرها إلى الملك المنصور وقال: إنه والله دعاء الملك المنصور لصداقة الملك الظاهر، وخلع على الدوادار، وأخذ القصص، وقال بعض الجماعة: سوف نرى من تكلم بشيء لا ينبغي، وتكلموا بمثل ذلك، فأمر الملك المنصور بإحضار نار، وحرق تلك القصص، ولم يقف على شيء منها لئلا يتغير خاطره على رافعها، وله مثل ذلك كثير، رحمه الله تعالى.
ذكر ملك الملك المظفر حماة
ولما بلغ السلطان الأعظم الملك المنصور، وفاة الملك المنصور صاحب حماة، قر ابنه الملك المظفر محموداً ابن الملك المنصور محمد في ملك حماة، على قاعدة والده، وأوصل إليه إلى عمه الملك الأفضل، إلى أولاده، التشاريف، ومكاتبة إلى الملك المظفر بذلك، ووصلت التشاريف ولبسناها في العشر الأخير من شوال من هذه السنة، أعني سنة ثلاث وثمانين وستمائة.(4/19)
ونسخة الكتاب الواصل من السلطان بعد البسملة: " المملوك قلاوون، أعر الله نصرة المقام العالي المولوي السلطاني الملكي المظفري التقوي، ونزع عنه لباس البأس، وألبسه حلل السعد المجلوة على أعين الناس، وهو يخدم خدمة بولاء، قد تبجست عيونه، وتأسست مبانيه، وتبابست ظنونه، وحلت رهونه، وحلت ديونه، وأثمرت غصونه، وزهت أفنانه وفنونه، ومنها: وقد سيرنا المجلس السامي جمال الدين أقوش الموصلي الحاجب، وأصحبناه من الملبوس الشريف، ما يغير به لباس الحزن، وينجلي في مطلعه ضياء وجه الحسن، وينجلي بذلك غيوم تلك الغموم، وأرسلنا: أيضاً صحبته ما يلبسه هو وذووه، كما يبدو البدر بين النجوم ". وآخر الكتاب، وكتب في عشرين شوال سنه ثلاث وثمانين وستمائة.
وكان قد وقع الاتفاق عند موت الملك المنصور، على إرسال علم الدين سنجر أبي خرص الحموي، لأجل هذا المهم، فلاقى سنجر المذكور، جمال الدين الموصلي بالخلع في أثناء الطريق، فأتم سنجر أبو خرص السير، ووصل إلى الأبواب الشريفة السلطانية، فتلقاه السلطان بالقبول، وأعاده بكل ما يحب ويختار، وقال: نحن واصلون إلى الشام، ونفعل مع الملك المظفر فوق ما في نفسه، فعاد علم الدين سنجر أبو خرص إلى حماة، ومعه الجواب بنحو ذلك.
ثم دخلت سنة أربع وثمانين وستمائة - ذكر ركوب الملك المظفر صاحب حماة بشعار السلطنة - في هذه السنة في صفر، كان ركوب السلطان الملك المظفر محمود صاحب حماة، بشعار السلطنة بدمشق المحروسة، وصورة ما جرى في ذلك، من السلطان الملك المنصور قلاوون، وصل في هذه السنة في أواخر المحرم، بعساكره المتوافرة، إلى دمشق المحروسة، وسار الملك المظفر صاحب حماة، وعمه الملك الأفضل، ووصلا إليه إلى دمشق، فأكرمهما السلطان إكراماً كثيراً، وأرسل إلى الملك المظفر في اليوم الثالث من وصوله، التقليد بسلطنة حماة، والمعرة، وبارين، والتشريف، وهو أطلس أحمر فوقاني، بطراز زركش وسنجاب، ودائرة قندس، وقباً أطلس أصفر تحتاني، وشاش تساعي، وكلوته زركش، وخياصة ذهب، وسيف محلى بالذهب، وتلكش، وعنبر بناً، وثوب بطرز مذهبة، ولباس. وأرسل شعار السلطنة، وهو سنجق بعصائب سلطانية، وفرس بسرج ذهب، ورقبة وكبوش، وأرسل الغاشية السلطانية.
فلبس الملك المظفر ذلك، وركب بشعار السلطنة، وحضرت أمراء السلطان، ومقدموا العسكر، وساروا معه من الموضع الذي كان فيه، وهو داره المعروفة بالحافظية، داخل باب الفراديس بدمشق المحروسة، إلى أن وصل الى قلعة دمشق، ومشت الأمراء في خدمته، ودخل الملك المظفر إلى عند السلطان، فأكرمه وأجلسه إلى جانبه على الطراحة، وطيب خاطره وقال له: " أنت ولدي، وأعر من الملك الصالح عندي، فتوجه إلى بلادك وتأهب لهذه الغراة المباركة، فأنتم من بيت مبارك، ما حضرتم في مكان إلا(4/20)
وكان النصر معكم " فعاد الملك المظفر وعمه الملك الأفضل إلى حماة، وعملا أشغالهما، وكذلك باقي العسكر الحموي، وتأهبوا للمسير إلى خدمة السلطان ثانيا.
ذكر فتوح المرقب
وفي هذه السنة، سار السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون، بعد وصوله إلى دمشق، بالعساكر المصرية والشامية، ونازل حصن المرقب، في أوائل ربيع الأول من هذه السنة، وهو حصن للاستبار، في غاية العلو والحصانة، لم يطمع أحد من الملوك الماضين في فتحه. فلما زحف العسكر عليه، أخذ الحجارون فيه النقوب، ونصبت عليه عدة مجانيق، كباراً وصغاراً.
يقول العبد الفقير مؤلف هذا المختصر: إنني حضرت حصار الحصن المذكور، وعمري إذ ذاك نحو اثنتي عشرة سنة، وهو أول قتال رأيته، وكنت مع والدي. ولما تمكنت النقوب من أسوار القلعة، طلب أهله الأمان، فأجابهم السلطان، رغبة في إبقاء عمارته، فإنه لو أخذه بالسيف وهدمه، كان حصل التعب في إعادة عمارته. فأعطى أهله الأمان، على أن يتوجهوا بما يقدرون على حمله، غير السلاح، وصعدت السناجق السلطانية على حصن المرقب المذكور، وتسلمه في الساعة الثامنة من نهار الجمعة، تاسع عشر ربيع الأول عن هذه السنة، أعني سنة أربع وثمانين وستمائة.
وكان يوماً مشهوداً، أخذ فيه الثأر من بيت الاستبار، ومحيت آية الليل بآية النهار، فأمر السلطان فحمل أهل المرقب إلى مأمنهم، ولما ملكه، قرر أمره، ورحل عنه إلى الوطاة بالساحل، وأقام بمروج بالقرب من موضع يقال له برج القرفيص، ثم سار السلطان ونزل تحت حصن الأكراد، ثم سار ونزل على بحيرة حمص، وفي بحيرة قدس.
ذكر مولد مولانا السلطان الأعظم
مولد الملك الناصر
ناصر الدنيا والدين محمد، ابن السلطان الملك المنصور، سيف الدنيا والدين، قلاوون الصالحي:
وفي هذه السنة، ولد مولانا السلطان الأعظم المذكور، من زوجة السلطان، وهي بنت سكتاي بن قراجين بن جنعان. وسكتاي المذكور، ورد إلى الديار المصرية هو وأخوه قرمشي، سنة خمس وسبعين وستمائة، صحبة بيجار الرومي في الدولة الظاهرية، فتزوج السلطان الملك المنصور قلاوون، ابنة سكتاي المذكور، في سنة ثمانين وستمائة، بعد موت أبيها المذكور، بولاية عمها قرمشي، ووردت البشائر بمولده إلى السلطان وهو نازل على بحيرة حمص، عند عوده من فتح المرقب، فتضاعف سروره، وضربت البشائر فرحاً بمولده السعيد.
وفيها عاد السلطان إلى الديار المصرية، وأعطى الملك المظفر عند رحيله عن حمص الدستور، فعاد إلى حماة.
ثم دخلت سنة خمس وثمانين وستمائة. فيها أرسل(4/21)
القبائل المنتسبة إلى عمرو بن سبأ جذام وهو أخو لخم، وجميع جذام من ابنيه حزام وجشم ابني جذام، وكان في بني حزام العدد والشرف، ومن بطون جشم بن جذام عثيب بن أسلم.
بني أشعر بن سبأ وأما بنو الأشعر، فيقال لهم الأشعريون، وهم رهط أبي موسى الأشعري، واسم أبي موسى الأشعري عبد الله بن قس بني عاملة وأمّا بنو عاملة، هم أيضاً من القبائل اليمانية التي خرجت إلى الشام عند سيل العرم، ونزلوا بالقرب من دمشق في جبل هناك يعرف بجبل عاملة، فمن عاملة: عدي ابن الرقاع الشاعر، انتهى ذكر أولاد سبأ وهم عرب اليمن.
العرب المستعربة
وهم ولد إِسماعيل بن إبراهيم الخليل صلوات الله عليهما، وقيل لهم العرب المستعربة لأن إِسماعيل لم تكن لغته عربية، بل عبرانية، ثم دخل في العربية، فلذلك سمي ولده العرب المستعربة، وقد تقدم عند ذكر إِبراهيم الخليل عليه السلام، سبب سكنى إِسماعيل وأمه هاجر مكة، وأن ذلك كان بسبب غيرة سارة رضي الله عنها من هاجر وابنها إسماعيل. وأنّ الله تعالى أمره أن يطيع سارة، وأن يخرج إِسماعيل عنها، وأن الله تعالى يتكفله، فخرج إِبراهيم من الشام بإِسماعيل وأمه هاجر، وقدم بهما إِلى مكة وأنزلهما بموضع الحجر وقال: " رب إِني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع " " إبراهيم: 37 " وأنزلهما إِبراهيم هناك وعاد إِلى الشام، من كتب اليهود وكان عمر إسماعيل إِذ ذاك نحو أربع عشرة سنة، وذلك لمضي مائة سنة من عمر إِبراهيم الخليل عليه السلام، فمن سكنى إِسماعيل عليه السلام مكة إِلى الهجرة ألفان وسبعمائة وثلاث وتسعون سنة.
وكان هناك قبائل جرهم، فتزوج إِسماعيل منهم امرأة، وولدت له اثني عشر ولداً ذكراً، منهم: قيذار وماتت هاجر ودفنت بالحجر، ثم لما مات ابنها إِسماعيل بمكة دفن معها بالحجر أيضاً.
وقد اختلف المؤرخون اختلافاً كثيراً في أمر الملك على الحجاز بين جرهم وبين إِسماعيل، فمن قائل كان الملك على الحجاز في جرهم، ومفتاح الكعبة وسدانتها في يد ولد إِسماعيل، ومن قائِل إِن قيذار توجته أخواله جرهم، وعقدوا له الملك عليهم بالحجاز، وأما سدانة البيت الحرام ومفاتيحه فكانت مع بني إِسماعيل بغير خلاف حتى انتهى ذلك إِلى نابت من ولد إِسماعيل، فصارت السدانة بعده لجرهم، ويدل على ذلك قول عامر بن الحارث الجرهمي(4/22)
ذكر فتوح طرابلس
في هذه السنة، في أول ربيع الآخر، فتحت طرابلس الشام. وصورة ما جرى: أن السلطان الملك المنصور، خرج بالعساكر المصرية في المحرم من هذه السنة، وصار إلى الشام، ثم سار بالعساكر المصرية والشامية، ونازل مدينة طرابلس الشام، يوم الجمعة مستهل ربيع الأول من هذه السنة، ويحيط البحر بغالب هذه المدينة، وليس عليها قتال في البر إلا من جهة الشرق، وهو مقدار قليل.
ولما نازلها السلطان، نصب عليها عدة كثيرة من المجانيق الكبار والصغار، ولازمها بالحصار، واشتد عليها القتال حتى فتحها، يوم الثلاثاء رابع ربيع الآخر من هذه السنة بالسيف، ودخلها العسكر عنوة، فهرب أهلها إلى الميناء، فنجى أقلهم في المراكب، وقتل غالب رجالها، وسبيت ذراريهم، وغنم منهم المسلمون غنيمة عظيمة. وحصار طرابلس هو أيضاً مما شاهدته، وكنت حاضراً فيه، مع والدي الملك الأفضل، وابن عمي الملك المظفر صاحب حماة، ولما فرغ المسلمون من قتل أهل طرابلس ونهبهم، أمر السلطان فهدمت، ودكت إلى الأرض، وكان في البحر قريباً من طرابلس جزيرة، وفيها كنيسة تسمى كنيسة سنطماس، وبينها وبين طرابلس الميناء، فلما أخذت طرابلس، هرب إلى الجزيرة المذكورة وإلى الكنيسة التي فيها عالم عظيم من الفرنج والنساء، فاقتحم العسكر الإسلامي البحر، وعبروا بخيولهم ساحة إلى الجزيرة المذكورة، فقتلوا جميع من فيها من الرجال، وغنموا ما بها من النساء والصغار، وهذه الجزيرة بعد فراغ الناس من النهب، عبرت إليها في مركب، فوجدتها ملأى من القتلى، بحيث لا يستطيع الإنسان الوقوف فيها من نتن القتلى.
ولما فرغ السلطان من فتح طرابلس وهدمها، عاد إلى الديار المصرية، وأعطى صاحب حماة الدستور، فعاد إلى بلده، وكان الفرنج قد استولوا على طرابلس في سنة ثلاث وخمسمائة، في حادي عشر ذي الحجة، فبقيت بأيديهم إلى أوائل هذه السنة، أعني سنة ثمان وثمانين وستمائة، فيكون مدة لبعثها مع الفرنج، نحو مائة سنة وخمس وثمانين سنة وشهور.
وفيها: مات قتلاي خان بن طلو بن جنكز خان ملك التتر بالصين، وهو أعظم الخانات، والحاكم على كرسي مملكة جنكزخان، وكان قد طالت مدته، ولما مات قتلاي خان، جلس بعده ولده شهون.
ثم دخلت سنة تسع وثمانينوستمائة.
ذكر وفاة السلطان الملك المنصور قلاوون
سيف الدنيا والدين قلاوون الصالحي في هذه السنة، في سادس ذي القعدة، توفي الملك المنصور المذكور، وصورة وفاته، أنه خرج من الديار المصرية بالعساكر المتوافرة، على عزم غزو عكا وفتحها، وبرز إلى مسجد التيرز، فابتدأ مرضه في العشر الأخير من شوال، بعد نزوله بالدهليز، في المكان المذكور، وأخذ مرضه يتزايد حتى توفي يوم السبت، سادس ذي القعدة، بالدهليز، وكان جلوسه في(4/23)
الملك يوم الأحد الثاني والعشرين من رجب، سنة ثمان وسبعين وستمائة، فيكون مدة ملكه نحو إحدى عشر سنة وثلاثة أشهر وأياماً، وخلف ولدين، هما الملك الأشرف صلاح الدين خليل، والسلطان الأعظم الملك الناصر ناصر الدنيا والدين محمد، وكان السلطان الملك المنصور المشار إليه، ملكاً مهيباً حليماً، قليل سفك الدماء، كثير العفو، شجاعاً. فتح الفتوحات الجليلة، مثل: المرقب، وطرابلس التي لم يجسر أحد من الملوك مثل صلاح الدين وغيره على التعرض إليهما، لحصانتهما، وكسر جيش التتر على حمص، وكانوا في جمع عظيم، لم يطرق الشام قبله مثله، ولا يحتمل هذا المختصر ذكر فضائله رحمه الله تعالى ورضي عنه.
ذكر سلطنة والده الملك الأشرف
ولما توفي السلطان، وجلس في الملك بعده، ولده الملك الأشرف صلاح الدين خليل ابن السلطان الملك المنصور قلاوون المذكور، وكان جلوسه في سابع ذي القعدة من هذه السنة، صبيحة اليوم الذي توفي فيه والده، ولما استقر السلطان الملك الأشرف في المملكة، قبض على حسام الدين طرنطاي نائب السلطنة، في يوم الجمعة ثاني عشر ذي القعدة، فكان آخر العهد به، وفوض نيابة السلطنة إلى بدر الدين بيدرا، والوزارة إلى شمس الدين محمد بن السلعوس.
ثم دخلت سنة تسعين وستمائة.
ذكر فتوح عكا
في هذه السنة، في جمادى الآخرة، فتحت عكا، وسبب ذلك، أن السلطان الملك الأشرف، سار بالعساكر المصرية إلى عكا، وأرسل إلى العساكر الشامية، وأمرهم بالحضور، وأن يحضروا صحبتهم المجانيق، فتوجه الملك المظفر صاحب حماة، وعمه الملك الأفضل، وسائر عسكر حماة صحبته، إلى حصن الأكراد، وتسلمنا منه منجنيقاً عظيماً يسمى المنصوري، حمل مائة عجلة، ففرقت في العسكر الحموي، وكان المسلم إلي منه عجلة واحدة، لأني كنت إذ ذاك أمير عشرة، وكان مسيرنا بالعجل، في أواخر فصل الشتاء، فاتفق وقوع الأمطار والثلوج علينا بين حصن الأكراد ودمشق، فقاسينا من ذلك بسبب جر العجل، وضعف البقر وموتها بسبب البرد، شدة عظيمة، وسرنا بسبب العجل من حصن الأكراد إلى عكا شهراً. وذلك مسير نحو ثمانية أيام للخيل على العادة، وكذلك أمر السلطان الملك الأشرف بجر المجانيق الكبار والصغار، ما لم يجتمع على غيرها، وكان نزول العساكر الإسلامية عليها في أوائل جمادى الأولى من هذه السنة، واشتد عليها القتال، ولم يغلق الفرنج غالب أبوابها، بل كانت مفتحة، وهم يقاتلون فيها، وكانت منزلة الحمويين برأس الميمنة، على عادتهم، فكنا على جانب البحر، والبحر عن يميننا إذا واجهنا عكا، وكان يحضر إلينا(4/24)
مراكب مقبية بالخشب الملبس جلود الجواميس، وكانوا يرموننا بالنشاب والجروخ، وكان القتال من قدامنا من جهة المدينة، ومن جهة يميننا من البحر، وأحضروا بطسة فيها منجنيق يرمي علينا، وعلى خيمنا من جهة البحر، فكنا منه في شدة، حتى اتفق في بعض الليالي هبوب رياح قوية، فارتفع المركب وانحط بسبب الموج، وانكسر المنجنيق الذي فيه، بحيث أنه انحطم، ولم ينصب بعد ذلك.
وخرج الفرنج في أثناء مدة الحصار بالليل، وكبسوا العسكر، وهزموا اليزكية، واتصلوا إلى الخيام، وتعلقوا بالأطناب، ووقع منهم فارس في جورة مستراح بعض الأمراء فقتل هناك، وتكاثرت عليهم العساكر فولى الفرنج منهزمين إلى البلد، وقتل عسكر حماة عدة منهم، فلما أصبح الصباح، علق الملك المظفر صاحب حماة، عدة من رؤوس الفرنج في رقاب خيلهم التي كسبها العسكر منهم، وأحضر ذلك إلى السلطان الملك الأشرف، واشتدت مضايقة العسكر لعكا حتى فتحها الله تعالى لهم، في يوم المجمعة السابع عشر من جمادى الآخرة بالسيف، ولما هجمها المسلمون، هرب جماعة من أهلها في المراكب، وكان في داخل البلد عدة أبرجة عاصية، بمنزلة قلاع، دخلها عالم عظيم من الفرنج وتحصنوا بها، وقتل المسلمون وغنموا من عكا شيئاً يفوت الحصر من كثرته، ثم استنزل السلطان جميع من عصى بالأبرجة، ولم يتأخر منهم أحد، فأمر بهم فضربت أعناقهم عن آخرهم حول عكا، ثم أمر بمدينة عكا فهدمت إلى الأرض، ودكت دكاً، ومن عجائب الاتفاق. أن الفرنج استولوا على عكا وأخذوها من صلاح الدين، ظهر يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة، سنة سبع وثمانين وخمسمائة، واستولوا على من بها من المسلمين، ثم قتلوهم، فقدر الله عز وجل في سابق علمه، أنها تفتح في هذه السنة في يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة على يد السلطان الملك الأشرف صلاح الدين، فكان فتوحها مثل اليوم الذي ملكها الفرنج فيه، وكذلك لقب السلطانين.
ذكر فتوح عدة حصون ومدن
لما فتحت عكا، ألقى الله تعالى الرعب في قلوب الفرنج الذين بساحل الشام، فأخلوا صيدا وبيروت، وتسلمها الشجاعي في أواخر رجب، وكذلك هرب أهل مدينة صور، فأرسل السلطان وتسلمها، ثم تسلم عثليث في مستهل شعبان، ثم تسلم أنطرطرس في خامس شعبان. جميع ذلك في هذه السنة، أعني سنة تسعين وستمائة. واتفق لهذا السلطان من السعادة، ما لم يتفق لغيره، من فتح هذه البلاد العظيمة، الحصينة، بغير قتال ولا تعب، وأمر بها فخربت عن آخرها، وتكاملت بهذه الفتوحات، جميع البلاد الساحلية الإسلامية، وكان أمراً لا يطمع فيه ولا يرام، وتطهر الشام والسواحل من الفرنج، بعد أن كانوا قد أشرفوا على أخذ الديار المصرية، وعلى ملك دمشق، وغيرها من الشام، فلله الحمد والمنة على ذلك، ولما تكاملت هذه(4/25)
الفتوحات العظيمة، رحل السلطان الملك الأشرف، ودخل دمشق وأقام مدة، ثم عاد إلى الديار المصرية ودخلها في هذه السنة.
وفيها لما كان السلطان محاصر لعكا، سعى علم الدين سنجر الحموي المعروف بأبي خرص، بين السلطان وبين حسام الدين نائب السطنة بدمشق، فخاف حسام الدين لاجين، وقصد أن يهرب، وعلم به السلطان فقبض عليه، وعلى أبي خرص، وقيدهما وأرسلهما فحبسا.
وفيها ولى السلطان، علم الدين، سنجر الشجاعي نيابة السلطنة بالشام موضع حسام الدين لاجين.
وفيها في ربيع الأول، مات أرغون ملك التتر بن أبغا بن هولاكو بن طلو بن جنكزخان، وكانت مدة مملكته نحو سبع سنين، ولما مات، ملك بعده أخوه كيختو بن أبغا، وخلف أرغون ولدين هما فازان، وخربندا، وكانا بخراسان، ولما تولى كيختو أفحش في الفسق واللواط بأبناء المغل، فأبغضوه على ذلك وفسدت نياتهم فيه.
وفيها قتل تلابغا بن منكوتمر بن طغان بن باطو بن دوشي خان بن جنكزخان، وقد تقدم ذكر ملكه في سنة ست وثمانين وستمائة، قتله نغية، وجلس بعده في الملك طقطغا بن منكوتمر بن طغان أخو تلابغا المذكور، ورتب نغية إخوة طقطغا معه، وهم برلك، وصراي بغا، وتدان، وفي أوائل هذه السنة، أعني سنة تسعين وستمائة، تكملت عمارة قلعة حلب، وكان قد شرع قراسنقر في عمارتها في أيام السلطان الملك المنصور، فتمت في أيام الملك الأشرف، فكتب عليها اسمه، وكان قد خربها هولاكو لما استولى على حلب في سنة ثمان وخمسين، وستمائة، فكان لبثها على التخريب نحو ثلاث وثلاثين سنة بالتقريب.
ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وستمائة.
ذكر فتوح قلعة الروم
في هذه السنة سار السلطان الملك الأشرف من مصر إلى الشام، وجمع عساكره المصرية والشامية، وسار الملك المظفر محمود، وعمه الملك الأفضل، إلى خدمته، والتقياه بدمشق، وسارا في خدمته وسبقاه إلى حماة، فاهتم الملك المظفر صاحب حماة في أمر الضيافة والإقامة والتقدمة، ووصل السلطان إلى حماة وضرب دهليزه في شماليها، عند ساقية سلمية، ومد له الملك المظفر سماطاً عظيماً بالميدان، ونصب خيماً تليق بنزول السلطان، فنزل السلطان الملك الأشرف بالميدان، وبسط بين يدي فرسه عدة كثيرة من الشقق الفاخرة، ثم دخل السلطان إلى دار الملك المظفر بحماة، فبسط الملك المظفر بين يدي فرسه بسطاً ثانياً، وقعد السلطان بالدار، ثم دخل الحمام، وخرج وجلس على جانب العاصي، ثم راح إلى الطيارة التي على سور باب النقفي، المعروفة بالطيارة الحمراء، فقعد فيها، ثم توجه من حماة، وصاحب حماة وعمه في خدمته إلى المشهد، ثم إلى الحمام والزرقا، بالبرية، فصاد شيئاً كثيراً من الغزلان وحمير الوحش، وأما العساكر فسارت على السكة إلى حلب، ثم وصل السلطان إلى حلب وتوجه منها إلى قلعة(4/26)
الروم، ونازلها في العشر الأول من جمادى الآخرة من هذه السنة، وهي حصن على جانب الفرات في غاية الحصانة، ونصب عليه المجانيق، وهذا الحصار أيضاً من جملة الحصارات التي شاهدتها، وكانت منزلة الحمويين، على رأس الجبل المطل على القلعة من شرقها، كنا نشاهد أحوال أهلها في مشيهم وسعيهم في القتال وغير ذلك، واشتدت مضايقتها، ودام حصارها، وفتحت بالسيف في يوم السبت حادي عشر رجب، من هذه السنة، وقتل أهلها ونهب ذراريهم، واعتصم كينا غيلو خليفة الأرمن المقيم بها في القلة، وكذلك اجتمع بها من هرب من القلعة، وكان منجنيق الحمويين على رأس جبل المطل على القلة، فتقدم مرسوم السلطان إلى صاحب حماة، أن يرمي عليهم بالمنجنيق، فلما وترناه لنرمي عليهم، طلبوا الأمان من السلطان، فلم يؤمنهم إلا على أرواحهم خاصة، وأن يكونوا أسرى، فأجابوا إلى ذلك، وأخذ كينا غيلوس، وجميع من كان بقلة القلعة، أسرى عن آخرهم، ورتب السلطان علم الدين سنجر الشجاعي لتحصين القلعة، وإصلاح ما خرب منها، وجرد معه لذلك جماعة من العسكر، وأقام الشجاعي وعمرها وحضنها إلى الغاية القصوى، ورجع السلطان إلى حلب، ثم إلى حماة، وقام الملك المظفر بوظائف خدمته، ثم توجه السلطان إلى دمشق، وأعطى الملك المظفر الدستور، فأقام ببلده، وسار السلطان إلى دمشق، وصام بها رمضان وعيد بها، ثم سار إلى الديار المصرية.
ذكر غير ذلك من الحوادث
فيها هرب حسام الدين لاجين، الذي كان نائباً بالشام، من دمشق، لما وصل السلطان إلى دمشق عائداً من قلعة الروم، وكان حسام الدين المذكور، قد اعتقله السلطان وهو نازل على حصار عكا، ثم أفرج عنه في أوائل هذه السنة، أعني سنة إحدى وتسعين، وسار مع السلطان إلى قلعة الروم، وعاد معه إلى دمشق، فلما وصل إليها، استوحش من السلطان وهرب منه إلى جهة الغرب، فقبضوه وأحضروه إلى السلطان، فبعث به إلى قلعة الجبل بديار مصر، فحبس بها.
وفيها استناب السلطان بدمشق، عز الدين أيبك الحموي، وعزل علم الدين سنجر الشجاعي.
وفيها عند عود السلطان إلى حلب من قلعة الروم، عزل قراسنقر المنصوري عن نيابة السلطنة بحلب، واستصحبه معه، وولى موضعه على حلب، سيف الدين بلبان، المعروف بالطباخي، وكان المذكور نائباً بالفتوحات، وكان مقامه بحصن الأكراد، فعزله وولاه موضع قراسنقر في نيابة السلطنة بحلب، وولى الفتوحات والحصون طغريل الإيغاني، موضع الطباخي، ثم عزله بعد مدة وولى موضعه عز الدين أيبك الخزندار المنصوري.
وفيها بعد وصول السلطان إلى مصر، قبض على شمس الدين سنقر الأشقر، وجرمك، وكان قد قبض على طقصو، بدمشق، وكان آخر العهد بهم.
ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين وستمائة.(4/27)
ذكر إحضار صاحب حماة البريد إلى مصر
وعمه علي، البريد إلى مصر ثم مسيرهما من مصر مع السلطان الملك الأشرف إلى الشام، والقبض على أولاد عيسى:
وفي هذه السنة في جمادى الأولى، أرسل السلطان الملك الأشرف، وأحضر الملك المظفر محمود صاحب حماة، وعمه الملك الأفضل علي، على البريد إلى الديار المصرية، فتوجها من حماة وعندهما الخوف، بسبب طلبهما على البريد، ووصلا إلى قلعة الجبل في اليوم الثامن من خروجهما من حماة، فحال وصولهما، شملتهما صدقات السلطان، وأمر بهما فأدخلا الحمام بقلعة الجبل،، وأنعم عليهما بملبوس يليق بهما، وأقاما في الخدمة أياماً.
ثم خرج السلطان على الهجن إلى جهة الكرك، وسارت العساكر على الطريق إلى دمشق، وأركب صاحب حماة وعمه الهجن صحجته، لأنهما حضرا إلى مصر على البريد، ولم يكن معهما خيل ولا غلمان، فرسم السلطان لهما ما يليق بهما من الهجن والغلمان، ورتب لهما المأكول والمشروب وما يحتاجان إليه، وسارا في خدمته إلى الكرك، ولاقتهما تقادمهما إلى بركة زيزا، فقدماها، وقبلها السلطان، وأنعم عليهما، وسار السلطان ودخل دمشق.
ثم سار السلطان من دمشق على البرية متصيداً، ووصل إلى الفرقلس، وهو جفار في طرف بلد حمص من الشرق، ونزل عليه وحضر إلى الخدمة هناك مهنا بن عيسى أمير العرب، وأخواه محمد، وفضل، وولده موسى بن مهنا، فقبض السلطان على الجميع وأرسلهم إلى مصر، فحبسوا في قلعة الجبل، ووصل السلطان إلى القصب، وأعطى صاحب حماة الدستور، فحضر إلى بلده، وأما عمه الملك الأفضل، فإنه كان قد حصل له تشويش، لما كان السلطان بحنيجل وما حواليها، فأعطاه السلطان الدستور، وأرسل والدي الملك الأفضل المذكور تقدمة ثانية معي إلى السلطان، ولم يقدر والدي على الحضور بسبب مرضه، فأحضرت التقدمة إلى السلطان الملك الأشرف، وهو نازل على القصب، فقبلها وارتحل وعاد إلى مصر، فوصل إليها في رجب من هذه السنة.
ذكر مسير العساكر إلى حلب
وفى هذه السنة بعد وصول السلطان إلى مصر، كان قد أخر بعض العسكر المصري على حمص، فتقدم إليهم وإلى صاحب حماة وعمه الملك الأفضل بالمسير إلى حلب، والمقام بها، لما في ذلك من إرهاب العدو، فسارت العساكر إليها، وخرج الملك المظفر محمود صاحب حماة، وعمه الملك الأفضل، معهم، من حماة، يوم الجمعة الخامس والعشرين من شعبان هذه السنة، ودخلوا حلب يوم الثلاثاء التاسع من سلخ شعبان إلى أوائل ذي القعدة، دخل تشرين، وآن وقت الصيد، وصل مرسوم.(4/28)
ذكر مسير الملك الأفضل إلى دمشق ووفاته بها
وفي هذه السنة في ذي القعدة، سار والدي الملك الأفضل، نور الدين علي ابن الملك المظفر محمود ابن الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر تقي الدين عمر ابن شاهنشاه بن أيوب، من حلب إلى دمشق، وتوفي بها في أوائل ذي الحجة من هذه السنة، أعني سنة اثنتين وتسعين وستمائة، وكان مولده في أواخر سنة خمس وثلاثين وستمائة.
وكان سبب مسير الملك الأفضل إلى دمشق، أنه لما كان هو والملك المظفر في صحبة السلطان، لما سار من مصر إلى الكرك في أوائل هذه السنة، حسبما ذكرناه، صار السلطان ينفرد للصيد بفهوده، ولا يستصحب معه إلا بعض من يختاره من الخاصكية، ووالدي الملك الأفضل المذكور خاصة، دون ابن أخيه صاحب حماة، وأعجب السلطان حديث الملك الأفضل المذكور، وخبرته بأمر الفهود والصيد، فقال السلطان في تلك الأيام للملك الأفضل المذكور: يا علاء الدين، ما تحضر إلى ديار مصر في أيام الصيد، لتكون معي في صيودي، فقد حصل الأنس بك، فقبل الملك الأفضل الأرض، ودعى للسلطان على تأهيله لذلك، فلما سار الملك المظفر محمود صاحب حماة، وعمه الملك الأفضل إلى حلب، وأقاما بها، من سلخ شعبان إلى أوائل ذي القعدة، ودخل تشرين، وآن وقت الصيد، وصل مرسوم السلطان إلى والدي الملك الأفضل يطلبه إلى الأبواب الشريفة بالديار المصرية، فسار الملك الأفضل من حلب في ذي القعدة، ولم يستصحب أحداً من أولاده معه، وكنا ثلاثة مجردين مع ابن عمنا الملك المظفر صاحب حماة، وتوجه والدنا بمفرده، فمرض في أثناء الطريق، ووصل إلى دمشق وقد اشتد به المرض، وفصد، فضعفت قوته، واشتد المرض به حتى توفي، ونقل إلى حماة ودفن بها، ووصلنا الخبر ونحن بحلب، فعملنا عزاه، واشتمل الملك المظفر علينا، وأحسن إلينا.
ذكر غير ذلك من الحوادث
في هذه السنة أفرج السلطان الملك الأشرف، عن بدر الدين البيسري، وكان له في الاعتقال نحو ثلاث عشرة سنة. وفيها أفرج عن حسام الدين لاجين المنصوري، الذي كان نائباً بالشام. وفيها أعطيت العساكر الدستور، فعدنا إلى حماة، وأعطاني الملك المظفر ابن عمي إمرة طبلخاناه، وأربعين فارساً.
ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وستمائة.
ذكر مقتل السلطان الملك الأشرف
وفي هذه السنة، في أوائل المحرم، قتل السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل ابن السلطان الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون، وسبب ذلك: أنه سار من قلعة الجبل إلى الصيد، ووصل إلى تروجة ونصب الدهليز عليها، وركب في نفر يسير من خواصه(4/29)
للصيد، فقصده مماليك والده، وهم: بيدرا نائب السلطنة، ولاجين الذي كان عزله السلطان عن نيابة السلطنة بدمشق، واعتقله مرة بعد أخرى، وقراسنقر الذي عزله عن نيابة السلطنة بحلب، وانضم إليهم بهادر، رأس النوبة، وجماعة من الأمراء، ولما قاربوا السلطان، أرسل إليهم أميراً يقال له كرت، أمير أخور، ليكشف خبرهم، فحال وصوله إليهم أمسكوه ولم يمكنوه من العود إلى السلطان، وقاربوا السلطان، وكان بينهم مخاضة، فخاضوها ووصلوا إليه، فأول من ضربه بالسيف بيدرا، ثم لاجين، حتى فارق، وتركوه مرمياً على الأرض، فحمله أيدمر الفخري والي تروجة إلى القاص، فدفن في تربته، رحمه الله تعالى، ولا جرم، إن الله تعالى انتقم من قاتليه المذكورين معجلاً ومؤجلاً، على ما سنذكره.
ذكر مقتل بيدرا
ولما قتل السلطان على ما ذكرناه، اتفق الجماعة الذين قتلوه على سلطنة بيدرا، وتلقب بالملك القاهر، وسار نحو قلعة الجبل ليملكها، واجتمعت مماليك السلطان الملك الأشرف وانضموا إلى زين الدين كتبغا المنصوري، وساروا في إثر بيدرا ومن معه، فلحقوهم على الطرانة في خامس عشر المحرم من هذه السنة، واقتتلوا، وانهزم بيدرا وأصحابه وتفرقوا في الأقطار، وتبعوا بيدرا وقتلوه، ورفعوا رأسه على رمح، واستتر لاجين، وقرا سنقر، ولم يطلع لهما على خبر.
ذكر سلطنة مولانا السلطان الأعظم الملك الناصر
ولما جرى ما جرى من قتل السلطان الملك الأشرف، ثم قتل بيدرا، ووصول زين الدين كتبغا والمماليك والسلطانية إلى قلعة الجبل، وبها علم الدين سنجر الشجاعي نائباً، اتفقوا على سلطنة مولانا السلطان الأعظم الملك الناصر ولد مولانا السلطان الملك المنصور، فأجلسوه على سرير السلطنة في باقي العشر الأوسط من المحرم من هذه السنة، وتقرر أن يكون الأمير زين الدين كتبغا المنصوري نائب السلطنة، وعلم الدين سنجر الشجاعي وزيراً، وركن الدين بيبرس البرجي الجاشنكير أستاذ الدار، وتتبعوا الأمراء الذين اتفقوا مع بيدرا على ذلك، فظفروا أولاً ببهادر رأس النوبة، وأقوش الموصلي الحاجب، فضربت رقابهما، وأحرقت جثثهما، ثم ظفروا بطرنطاي الساقي، والناق ونغية، وأروس السلحدارية، ومحمد خواجا، والطنبغا الجمدار، وأقسنقر الحسامي، فاعتقلوا بخزانة البنود أياماً، ثم قطعت أيديهم وأرجلهم، وصلبوا على الجمال، وطيف بهم، وأيديهم معلقة في أعناقهم جزاء بما كسبوا، ثم وقع قجقار الساقي فشنق.(4/30)
ذكر القبض على الوزير ابن السلعوس وقتله
وفي هذه السنة اتفق زين الدين كتبغا والشجاعي، على القبض على شمس الدين محمد بن السلعوس وزير السلطان الملك الأشرف، فقبضا عليه، وتولاه الشجاعي فعاقبه واستصفى ماله وقتله، وكان ابن السلعوس المذكور، قد بلغ عند السلطان منزلة عظيمة، وتمكن في الدولة، وصارت الأمور كلها معذوقة به، وكان لابن السلعوس المذكور أقارب وأهل بدمشق، فلما صار في هذه المنزلة، أرسل وأحضر أقاربه من دمشق إلى عنده بالديار المصرية، فحضروا إلا شخصاً منهم، فإنه استمر مقيماً بدمشق، وكتب إلى ابن السلعوس:
تنبه يا وزير الأرض واعلم ... بأنك قد وطئت على الأفاعي
وكن بالله معتصماً فإني ... أخاف عليك من نهش الشجاعي
ذكر قتل الشجاعي
وفي صفر من هذه السنة، حصلت الوحشة بين الأمير زين الدين كتبغا نائب السلطنة، وبين علم الدين سنجر الشجاعي الوزير، وصار مع كل منهما جماعة من الأمراء، ولما جرى ذلك، نزل كتبغا ومن معه من القلعة، واستمر الشجاعي وأصحابه بها، وحصره كتبغا، وغلب عليه، وقتل الشجاعي المذكور وقطع رأسه، وطيف به في البلد.
وفيها ظهر حسام الدين لاجين، وشمس الدين قراسنقر من الاستتار، وأخذ لهما خوشداشهما، الأمير زين الدين كتبغا، الأمان من السلطان، وقرر لهما الإقطاعات الجليلة، وأعز جانبهما.
ثم دخلت سنة أربع وتسعين وستمائة.
ذكر استيلاء زين الدين كتبغا على المملكة
في هذه السنة في يوم الأربعاء تاسع المحرم، جلس الأمير زين الدين كتبغا المنصوري على سرير المملكة، ولقب نفسه الملك العادل زين الدين كتبغا، واستحلف الناس على ذلك، وخطب له بمصر والشام، ونقشت السكة باسمه، وجعل مولانا السلطان الملك الناصر في قاعة بقلعة الجبل، وحجب عنه الناس، ولما تملك زين الدين كتبغا المذكور، جعل نائبه في السلطنة، حسام الدين لاجين، الذي كان مستتراً بسبب قتل السلطان الملك الأشرف، على ما تقدم ذكره، واستقر الحال على ذلك.
ذكر قتل كيختو ملك التتر وملك بيدو
في هذه السنة، في ربيع الآخر، قتل كيختو بن أبغا بن هولاكو بن طلو بن جنكزخان. وسبب ذلك: أنه لما أفحش كيختو المذكور بالفسق في أبناء المغل، وشكوا ذلك إلى ابن عمه بيدو بن طرغية بن هولاكو، فاتفق معهم على قتل كيختو المذكور،(4/31)
وقصدوا كبسه وقتله، فعلم كيختو وهرب، فتبعوه ولحقوه بسلاسلار، من أعمال موغان، وقتلوه بها، في الشهر المذكور، ولما قتل كيختو، ملك بعده ابن عمه بيدو بن طرغية بن هولاكو المذكور، وجلس على سرير الملك في جمادى الأولى من هذه السنة. وكان قازان بخراسان، فلما بلغه ملك بيدو، جمع من أطاعه من المغل وأهل تلك البلاد، وسار إلى قتال بيدو، ولما بلغ بيدو مسير قازان إليه، جمع وسار إلى جهة قازان، وكان مع قازان أتابكه نيروز، وهو الذي جمع الناس على طاعة قازان، فلما تقارب الجمعان، علم قازان أنه لا طاقة له ببيدو، فراسله واصطلحا، وعاد قازان إلى خراسان، وأمر بيدو أن يقيم نيروز عنده، خوفاً من أن يجمع العسكر على قازان مره ثانية، فرجع قازان إلى خراسان، وأقام نيروز عند بيدو، وأخذ نيروز في استمالة المغل إلى قازان، وإفسادهم على بيدو في الباطن.
ذكر مقتل بيدو وتملك قازان
ولما استوثق نيروز من المغل في الباطن، كتب إلى قازان بخراسان وأمره بالحركة، فتحرك قازان، وبلغ بيدو ذلك، فتحدث مع نيروز في ذلك فقال نيروز لبيدو: أرسلني إلى قازان لأفرق جمعه، وأرسله إليك مربوطاً، فاستحلف بيدو نيروز على ذلك وأرسله، فسار نيروز إلى قازان وأعلمه بمن معه من المغل، وعمد نيروز إلى قدر، فوضعها في جولق وربطه، وأرسل بذلك إلى بيدو وقال: وفيت بيميني، حيث ربطت قازان وبعثته إليك، وقازان اسم القدر بالتتري، فلما بلغ بيدو دلك، جمع عساكره وسار إلى جهة قازان، والتقى الجمعان بنواحي همذان، فخامر أصحاب بيدو عليه وصاروا مع قازان، فولى بيدو هارباً، وتبعه عسكر قازان فأدركوه عن قريب بنواحي همذان، وقتلوه في ذي الحجة من هذه السنة، فكانت مدة مملكة بيدو نحو ثمانية أشهر، ولما قتل استقر قازان بن أرغون بن أبغا بن هولاكو بن طلو بن جنكزخان في المملكة، في ذي الحجة من هذه السنة، أعني سنة أربع وتسعين وستمائة، بعد مقتل بيدو، ولما استقر قازان في المملكة، جعل نيروز نائب مملكته، ورتب أخاه خربندا بن أرغون بخراسان.
ذكر أخبار ملوك اليمن ووفاة صاحبها
وفي هذه السنة، توفي صاحب اليمن الملك المظفر شمس الدين يوسف ابن الملك المنصور عمر بن علي بن رسول، بقلعة تعز، وقد تقدم ذكر ملكه اليمن بعد قتل أبيه في سنة ثمان وأربعين وستمائة، فكانت مدة ملكه نحو سبع وأربعين سنة، وخلف عدة من الأولاد الذكور، فملك بعده ولده الأكبر، الملك الأشرف عمر بن يرسف، وكان أخو عمر المذكور، الملك المؤيد داود، بالشحر، عند موت والده، لأن أباه كان قد أعطى داود المذكور الشحر، وأبعده إليها، فلما مات والده وملك آخره الملك الأشرف، تحرك(4/32)
الملك المؤيد داود المذكور وسار إلى عدن واستولى عليها، فأرسل أخوه الملك الأشرف عسكراً واقتتلوا مع الملك المؤيد داود المذكور، فانتصروا عليه وأخذوه أسيراً وأحضروه إلى الملك الأشرف، فقيده واعتقله، وكان عمر الملك الأشرف لما تملك نحو سبعين سنة، وأقام في الملك عشرين شهراً، وتوفي والملك المؤيد داود في الاعتقال مقيداً، فاتفق كبراء الدولة في ذلك الوقت، وأخرجوه من الحبس، وملكوا الملك المؤيد داود بن يوسف المذكور، واستمر مالكاً لليمن إلى يومنا هذا، وهو سنة ثمان عشرة وسبعمائة.
ذكر غير ذلك من الحوادث: في هذه السنة أرسل الملك العادل زين الدين كتبغا، وقبض على خشداشه عز الدين أيبك الخزندار، وعزله عن الحصون والسواحل بالشام، ثم أفرج عنه واستناب موضعه عز الدين أيبك الموصلي.
وفيها قصر النيل تقصيراً عظيماً، وتبعه غلاء، وأعقبه وباء وفناء عظيم.
وفيها في أوائل هذه السنة، لما جلس في السلطنة زين الدين كتبغا، أفرج عن مهنا بن عيسى وإخوته، وأعادهم إلى منزلتهم.
ثم دخلت سنة خمس وتسعين وستمائة. في هذه السنة قدم من التتر نحو عشرة آلاف إنسان وافد ين إلى الإسلام، خوفاً من قازان، وكان مقدمهم يقال له طرغيه، من أكبر أمراء المغل، كان مزوجاً ببنت منكوتمر بن هولاكو، الذي انكسر جيشه على حمص، ويقال لهذه الطائفة الوافدين العويراتية، وكان سبب قدومهم أن مقدمهم طرغية، هو الذي اتفق مع بيدو على قتل كيختو بن أبغا، فلما ملك قازان، قصد الإمساك على طرغيه وقتله، أخذا بثأر عمه كيختو، فهرب طرغيه وجماعته المذكورون بسبب ذلك، ولما قدموا إلى الإسلام، أرسل الملك العادل كتبغا أميراً لمقالهم، وأكرمهم وأنزلهم بالساحل قريب قاقون، وأدر عليهم الأرزاق، وأحضر كبراءهم عنده إلى الديار المصرية، وأعطاهم الإقطاعات الجليلة، وواصلهم بالخلع، وقدمهم على غيرهم.
وفيها في شوال، خرج الملك العادل كتبغا من الديار المصرية وسار إلى الشام، ووصل إلى دمشق، وحضر إليه بدمشق الملك المظفر محمود صاحب حماة، حماة ثم سار الملك العادل من دمشق إلى جهة حمص، وسار على البرية متصيداً، ووصل إلى حمص، وقدم إلى جوسية، وهي قرية على درب بعلبك من حمص، وكانت خراباً، فاشتراها وعمرها، فوصل إليها ورآها، ثم عاد إلى، دمشق وأعطى صاحب حماة الدستور، فعاد إلى بلده، ولما استقر العادل بدمشق، عزل عز الدين أيبك الحموي عن نيابة السلطنة بالشام، وولى موضعه، سيف الدين غرلو مملوك الملك العادل كتبغا المذكور، وخرجت هذه السنة والملك العادل بدمشق.
ثم دخلت سنة ست وتسعين وستمائة.(4/33)
ذكر مسير العادل كتبغا من دمشق
وخلعه واستيلاء لاجين على السلطنة:
لما دخلت هذه السنة، سار العادل كتبغا المنصور في أوائل المحرم من دمشق بالعساكر متوجهاً إلى مصر، فلما وصل إلى نهر العوجا واستقر بدهليزه، وتفرقت مماليكه وغيرهم إلى خيامهم، ركب حسام الدين لاجين المنصوري، نائب الملك العادل كتبغا المذكور، بسنجق ونقاره، وانضم إلى لاجين المذكور، بدر الدين البيسري، وقراسنقر المنصوري، وسيف الدين قبجاق المنصوري والحاج بهادر الظاهري، وغيرهم من الأمراء المتفقين مع حسام الدين لاجين، وقصدوا الملك العادل وبغتوه عند الظهر في دهليزه بالمنزلة المذكورة، فلم يلحق أن يجمع أصحابه، ركب في نفر قليل، فحمل عليه نائبه لاجين المذكور، وقتل بكتوت الأزرق، وبتخاص، وكانا أكبر مماليك العادل، فولى العادل كتبغا المذكور هارباً راجعاً إلى دمشق، لأنه فيها مملوكه غرلو، ووصل إلى دمشق، فركب مملوكه غرلو والتقاه، دخل إلى قلعة دمشق، واهتم في جمع العسكر والتأهب لقتال لاجين، فلم يوافقه عسكر دمشق، وأرسل إلى حسام الدين لاجين يطلب منه الأمان وموضعاً يأوي إليه، فأعطاه صرخد، فسار العادل كتبغا المذكور إليها واستقر فيها إلى أن كان منه ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وأما حسام الدين لاجين، فإنه لما هزم العادل كتبغا على ما ذكرناه، نزل بدهليزه على نهر العوجا، واجتمع معه الأمراء الذين وافقوه على ذلك، وشرطوا عليه شروطاً فالتزمها، منها: أن لا ينفرد عنهم برأي، ولا يسلط مماليكه عليهم كما فعل بهم كتبغا، فأجابهم لاجين إلى ذلك وحلف لهم عليه، فعند ذلك حلفوا له وبايعوه بالسلطنة، ولقب بالملك المنصور حسام الدين لاجين المنصوري، وذلك في شهر المحرم من هذه السنة، أعني سنة ست وتسعين وستمائة، ثم رحل بالعساكر إلى الديار المصرية، ووصل إليها واستقر بقلعة الجبل. ولما استقر بمصر، أعطى للعادل كتبغا صرخد، وأرسل إلى دمشق سيف الدين قبجق المنصوري، وجعله نائب السلطنة بالشام.
ذكر غير ذلك من الحوادث
وفي هذه السنة أرسل حسام الدين لاجين، الملقب بالملك المنصور، مولانا السلطان الملك الناصر، من القاعة التي كان فيها بقلعة الجبل، إلى الكرك، وسار معه سلار، فأوصله إليها، ثم عاد سلار إلى حسام الدين لاجين.
وفيها أفرج الملك المنصور لاجين عن بيبرس الجاشنكير، وعن عدة أمراء كان العادل كتبغا قد قبض عليهم وسجنهم في أيام سلطنته. وفيها أعطى المنصور لاجين المذكور جماعة من مماليكه إمرة طبلخاناه، مثل منكوتمر، وأيد غدي شقير، وبهادر المعزي وغيرهم.
ثم دخلت سنة سبع وتسعين وستمائة.(4/34)
ذكر تجريد العساكر إلى حلب
ودخولهم إلى بلاد سيس وعودهم إلى حلب، ثم دخلولهم ثانياً، وما فتحوه:
في هذه السنة جرد حسام الدين لاجين، الملقب بالملك المنصور، جيشاً كثيفاً من الديار المصرية مع بدر الدين بكناش الفخري، المعروف بأمير سلاح، ومع علم الدين سنجر الدواداري، ومع شمس الدين كريته، ومع حسام الدين لاجين الرومي، المعروف بالحسام، أستاذ دار. فساروا إلى الشام، ورسم لاجين المذكور بمسير عساكر الشام، فسار البكي الظاهري نائب السلطنة بصفد، ثم بعد مدة سار سيف الدين قبجق نائب للسلطنة بالشام، وأقام قبجق ببعض العسكر بحمص، وسارت العساكر إلى حلب، وسار الملك المظفر محمود صاحب حماة بعسكره، ووصل المذكورون إلى حلب يوم الاثنين الثالث والعشرين من جمادى الآخرة، وسابع نيسان، ثم ساروا إلى بلاد سيس، فعبر صاحب حماة، والدواداري، ومن معهما من العساكر، من دربندمري، وعبر باقي العساكر من جهة بغراس، من باب إسكندرونة، واجتمعوا على نهر جيحان، وشنوا الغارات على بلاد سيس في العشر الأوسط من رجب، وكسبوا وغنموا، وعادوا فخرجوا من دربند بغراس إلى مرج أنطاكية، في الحادي والعشرين من رجب من هذه السنة، الموافق لرابع أيار. وسار صاحب حماة الملك المظفر إلى جهة حماة حتى وصل إلى قصطون، فورد مرسوم لاجين بعود العساكر، واجتماعهم بحلب، ودخلوهم إلى بلاد سيس ثانياً.
وهذه الغزوة من الغزوات التي حضرتها وشاهدتها من أولها إلى آخرها، فعدنا إلى حلب ووصلنا إليها في يوم الأحد الثامن والعشرين من رجب، وأقمنا، ثم رحلنا من حلب ثالث رمضان إلى بلاد سيس، ودخلنا من باب إسكندرونة، نزلنا على حموص يوم الجمعة تاسع رمضان من هذه السنة، الموافق للعشرين من حزيران، وأقام حموص، بدر الدين بكناش أمير سلاح، والملك المظفر صاحب حماة، ومن انضم إليهما من عسكر دمشق، مثل ركن الدين بيبرس العجمي، المعروف بالجالق، ومضافيه من عسكر دمشق، وحاصرنا حموص وضايقناها، وأما باقي العسكر فإنهم نزلوا أسفل من حموص، في الوطاة، واستمر الحال على ذلك، وقل الماء في حموص واشتد بهم العطش، وكان قد اجتمع فيها من الأرمن عالم عظيم ليعتصموا بها، وكذلك اجتمع فيها من الدواب شيء كثير، فهلك غالبهم بالعطش، ولما اشتد بهم الحال وهلكت النساء والأطفال، أخرج أهل حموص في الخامس والعشرين من رمضان، وهو سابع عشر يوماً من نزولنا عليها، من نسائهم نحو ألف ومائتين من النساء والصبيان، فتقاسمهم العسكر وغنموهم، فكان قسمي جاريتين ومملوكاً، وأصابنا ونحن نازلون على حموص في العشر الأوسط من شهر تموز، ضباب قوي، ومطر، وحصل للملك المظفر وهو(4/35)
نازل على حموص قليل مرض، ولم يكن صحبته طبيبه، فاقتصر على ما كنت أصفه له وأعالجه به، فشفاه الله تعالى وعاد إلى العافية، وأنعم علي وأحسن إلي على جاري عادته، وكانت خيمته المنصوبة على حموص، خيمة ظاهرها أحمر، قد عملها من أكسية مغربية، وداخلهما منقوش بالخام الرفيع المصبغ، وكانت الأمراء الذين لم ينازلوا حموص، وهم مقيمون في الوطاة، إذا عرض لهم ما يقتضى المشاورة، يطلعون إلى الجبل ويجتمعون في خيمة الملك المظفر، وبين يديه يتشاورون على ما فيه المصلحة، واستمر الحال على ذلك إلى أن فتح حموص وغيرها على ما سنذكره.
ذكر فتح حموص وغيرها من قلاع بلاد الأرمن
ولما كان فتوح ذلك متوقفاً على ملك دندين بن ليفون، احتجنا نذكر كيفية ملكه بلاد الأرمن، وتسليمه البلاد إلى المسلمين، فنقول: إنه تقدم في سنة أربع وستين وستمائة أسر ليفون بن هيتوم، لما دخلت العسكر صحبة الملك المنصور صاحب حماة، في أيام الملك الظاهر بيبرس البندقداري الصالحي، وتقدم كيفية خلاص ليفون، وما افتداه أبوه هيتوم به حتى عاد إلى أبيه صاحب سيس، ثم إن ليفون المذكور ملك بعد موت أبيه هيتوم، وبقي في الملك مدة، ثم مات ليفون المذكور، وخلف عدة من الأولاد الذكور، أكبرهم هيتوم، ثم تروس، ثم سنباط، ثم دندين، ثم أوشين.
فلما مات ليفون، ملك بعده ابنه الأكبر هيتوم بن ليفون بن هيتوم، وبقي في الملك مدة، فجمع أخوه سنباط جماعة ووثب على أخيه هيتوم المذكور، وقبض عليه وسمله، فعميت عين هيتوم الواحدة وسلمت له الأخرى، واستمر في الحبس. وكذلك قبض سنباط المذكور على أخيه تروس ثم قتله، وخلف تروس المذكور ولداً صغيراً، واستقر سنباط المذكور في الملك، واتفق دخول العساكر إلى بلاد سيس ومنازلة حموص في أيام مملكة سنباط، فضاقت على الأرمن البلاد بما رحبت، وهلكوا من كثرة ما قتل وغنم منهم المسلمون، فنسبوا ذلك إلى سوء تدبير سنباط وعدم مصانعته للمسلمين، فكرهوه واتفقوا على إقامة أخيه دندين بن ليفون في المملكة، والقبض على سنباط، واجتمع الأرمن على دندين، فأحس سنباط بذلك فهرب إلى جهة قسطنطينية، وتملك دندين، ويقال له كسيندين أيضاً.
فلما تملك دندين المذكور، أرسل إلى العساكر المقيمة في بلاد سيس على حموص وعلى غيرها، وبذل لهم الطاعة والإجابة إلى ما يرسم به سلطان الإسلام، وأنه نائب السلطان بهذه البلاد، فطلب منه العسكر أن يكون نهر جيحان حداً بين المسلمين والأرمن، وأن تسلم كل ما هو جنوبي نهر جيحان من الحصون والبلاد، فأجاب دندين المذكور، إلى ذلك، وسلم جميع البلاد التي جنوبي نهر جيحان المذكور إلى المسلمين، فمنها: حموص، وتل حمدون، وكويرا، والنفير،(4/36)
وحجر شغلان، وسرفندكار، ومرعش، وهذه جميعها حصون منيعة ما ترام، وكذلك سلم غيرها من البلاد، وكان تسليم حموص يوم الجمعة تاسع عشر شوال من هذه السنة، أعني سنة سبع وتسعين وستمائة، ووافق ذلك ثامن شهر آب، وسلمت تل حمدون بعدها، ثم سلمت باقي الحصون والبلاد المذكورة.
وأمر حسام الدين لاجين الملقب بالملك المنصور باستمرار عمارة هذه البلاد، وكان ذاك رأياً فاسداً، على ما سيظهر من عود هذه البلاد إلى الأرمن، عند دخول قازان البلاد، ولما استقرت هذه البلاد للمسلمين، جعل فيها حسام الدين لاجين بعض الأمراء نائباً، ثم عزله وولى عليها سيف الدين أسندمر نائباً، وجرد معه عسكراً، وكان مقام أسندمر المذكور بتل حمدون، وبعد تسليم تل حمدون رحل الملك المظفر محمود صاحب حماة عنها، مستهل ذي القعدة من هذه السنة، وسارت العساكر وخرجت من الدربند، وسرنا جميعاً ودخلنا حلب يوم الإثنين تاسع ذي القعدة، الموافق لعاشر آب عن هذه السنة، أعني سنة سبع وتسعين وستمائة.
فلما أقمنا بحلب، ورد مرسوم حسام الدين لاجين، الملقب بالملك المنصور، إلى سيف الدين بلبان الطباخي، بالقبض على جماعة من الأمراء المجردين مع العسكر، فعلموا بذلك، وكان قبجق مقيماً بحمص، مستشعراً خائفاً من لاجين المذكور، فهرب من حلب فارس الدين البكي نائب السلطنة بصفد، وكان من جملة العسكر المجردين على حلب. وكذلك هرب بكتمر السلحدار، وبورلار، وعزاز، ووصلوا إلى حمص، واتفقوا مع سيف الدين قبجق على العصيان.
ذكر غير ذلك من الحوادث في أوائل هذه السنة، قبل تجريد العساكر إلى سيس، قبض حسام الدين لاجين على نائبه في السلطنة شمس الدين قراسنقر واعتقله، وولى نيابة السلطنة مملوكه منكوتمر الحسامي، فأظهر منكوتمر المذكور من الحماقة والكبرياء ما غير به خواطر العسكر عليه، وعلى أستاذه، وكذلك قبض لاجين المذكور على بدر الدين البيسري، وعلى عز الدين أيبك الحموي، وعلى الحاج بهادر أمير حاجب، وغيرهم من الأمراء.
وفيها أوقع قازان ملك التتر بأتابكه نيروز وقتله، لأنه نسبه إلى مكاتبة المسلمين، ورتب موضع نيروز قطلوشاه.
وفيها وفد سلامش، وهو مقدم ثمان من المغل، وكان ببلاد الروم، وبلغه أن قازان يريد قتله، فهرب وقدم على الملك المنصور حسام الدين لاجين، فأكرمه، فطلب سلامش نجدة من الملك المنصور لاجين ليعود إلى الروم، طمعاً في اجتماع أهل الروم عليه، فجرد معه من حلب عسكراً مقدمهم سيف الدين بكتمر الجلمي، وساروا مع سلامش حتى تجاوزوا بلد سيس، فخرجت عليهم التتر واقتتلوا معهم، فقتل الجلمي وجماعة من العسكر الإسلامي، وهرب الباقون، وأما سلامش فهرب إلى قلعة من بلاد الروم واعتصم بها، ثم أرسل إليه قازان(4/37)
واستنزله وحصر سلامش، وقتله شر قتله.
وفيها اجتمع رأي حسام الدين لاجين، ونائبه منكوتمر، على روك الإقطاعات بالديار المصرية، فريكت جميع البلاد المصرية، وكتب بما استقر عليه الحال مثالات، وفرقت على أربابها فقبلوها طوعاً أو كرهاً.
وفيها توفي عز الدين أيبك الموصلي نائب الفتوحات وغيرها، وولى موضعه سيف الدين كرد أمير أخور.
وفيها في أواخر ذي القعدة من هذه السنة، هرب قبجق، والبكي، وبكتمر السلحدار، ومن انضم إليهم من حمص، وساق خلفهم أيدغدي شقير مملوك حسام الدين لاجين من حلب، مع جماعة من العسكر المجردين، ليقطعوا عليهم الطريق. ففاتهم قبجق ومن معه وعبروا الفرات، واتصلوا بقازان ملك التتر، فأحسن إليهم وأقاموا عنده حتى كان منهم ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها في أواخر ذي القعدة، وصل من حسام الدين لاجين دستوراً للملك المظفر صاحب حماة بالحضور من حلب إلى حماة، فسار الملك المظفر ووصل إلى حماة، واستمرت العساكر مقيمين بحلب إلى أن خرجت هذه السنة.
وفي الثامن والعشرين من شوال هذه السنة، أعني سنة سبع وتسعين وستمائة، توفي الشيخ العلامة جمال الدين محمد بن سالم بن واصل، قاضي القضاة الشافعي بحماة المحروسة، وكان مولده في سنة أربع وستمائة. وكان فاضلاً إماماً مبرزاً في علوم كثيرة، مثل المنطق والهندسة وأصول الدين والفقه والهيئة والتاريخ، وله مصنفات حسنة منها: مفرج الكروب في أخبار بني أيوب، ومنها الأنبروزية في المنطق، صنفها للأنبروز ملك الفرنج صاحب صقلية، لما توجه القاضي جمال الدين المذكور رسولاً إليه في أيام الملك الظاهر بيبرس الصالحي، واختصر الأغاني اختصاراً حسناً، وله غير ذلك من المصنفات.
ولقد ترددت إليه بحماة مراراً كثيرة، وكنت أعرض عليه ما أحله من أشكال
كتاب إقليدس، وأستفيد منه، وكذلك قرأت عليه شرحه لمنظومة ابن الحاجب في العروض، فإن جمال الدين صنف لهذه المنظومة شرحاً حسناً مطولاً، فقرأته عليه، وصحت أسماء من له ترجمة في كتاب الأغاني، فرحمه الله ورضي الله عنه.
وكان توجه إلى الإمبراطور رسولاً من جهة الملك الظاهر بيبرس صاحب مصر والشام، في سنة تسع وخمسين وستمائة، ومعنى الإمبراطور بالإفرنجية، ملك الأمراء، ومملكته جزيرة صقلية، ومن البر الطويل بلاد أنبولية والأنبردية، قال جمال الدين: ووالد الإمبراطور الذي رأيته، كان يسمى فردريك، وكان مصافياً للسلطان الملك الكامل، ثم مات فردريك المذكور في سنة ثمان وأربعين وستمائة. وملك صقلية وغيرها من البر الطويل بعده، ولده كرا بن فردريك، ثبم مات كرا، وملك بعده أخوه منفريد بن فردريك، وكل من ملك منهم يسمى إمبراطور، وكان الإمبراطور من بين ملوك الفرنج مصافياً للمسلمين، ويحب العلوم.
قال: فلما وصلت إلى الإمبراطور منفريد المذكور أكرمني، وأقمت عنده في مدينة من(4/38)
مدائن البر الطويل المتصل بالأندلس، من مدائن أنبولية، واجتمعت به مراراً، ووجدته متميزاً ومحباً للعلوم العقلية، يحفظ عشر مقالات من كتاب إقليدس.
قال: وبالقرب من البلد الذي كنت فيه، مدينة تسمى لوجاره، أهلها كلهم مسلمون من أهل جزيرة صقلية، يقام فيها الجمعة، ويعلن بشعار الإسلام.
قال: ووجدت أكبر أصحاب الإمبراطور منفريد المذكور مسلمين، ويعلن في معسكره بالأذان والصلاة، وبين البلد الذي كنت فيه وبين رومية مسيرة خمسة أيام.
قال: وبعد توجهي من عند الإمبراطور اتفق البابا خليفة الفرنج، وريدافرنس، على قصد الإمبراطور وقتاله، وكان البابا قد حرمه كل ذلك، بسبب ميل الإمبراطور المذكور إلى المسلمين، وكذلك كان أخوه كرا، ووالده فردريك محرمين من جهة البابا برومية، لميلهم إلى الإسلام.
قال: ولقد حكى لي لما كنت عنده، أن مرتبة الإمبراطور كانت قبل فردريك لوالده، ولما مات والد فردريك المذكور، كان فردريك شاباً، أول ما ترعرع، وأنه طمع في الإمبراطورية جماعة من ملوك الفرنج، وكل منهم رجا أن يفوضها البابا إليه، وكان فردريك شاباً ماكراً، وجنسه من الألمانية، فاجتمع بكل واحد من الملوك الذين قد طمعوا في أخذ الإمبراطورية بانفراده.
وقال له: إني لا أصلح لهذه المرتبة، وليس لي فيها غرض، فإذا اجتمعنا عند البابا، فقل ينبغي أن يتقلد الحديث في هذا الأمر ابن الإمبراطور المتوفي، ومن رضي بتقليده الإمبراطورية، فأنا راض به، فإن البابا إذا د الاختيار إلي في ذلك، اخترتك، ولا أختار غيرك، وقصدي الانتماء إليك.
ولما قال هذه المقالة، لكل واحد من الملوك المذكورين بانفراد، وصدقه في ذلك، ووثق به واعتقد صدقه، فلما اجتمعوا عند البابا بمدينة رومية، ومعهم فردريك المذكور، قال البابا للملوك المذكورين: ما ترون في أمر هذه المرتبة، ومن هو الأحق بها؟ ووضع تاج الملك بين أيديهم، فكل واحد منهم قال: قد حكمت فردريك في ذلك، فإنه ولد الإمبراطور وأحق الجماعة بأن يسمع قوله في ذلك، فقام فردريك وقال: أنا ابن الإمبراطور، وأنا أحق بتاجه ومرتبته، والجماعة كلهم قد رضوا بي، ووضع التاج على رأسه، فأبلسوا كلهم، وخرج مسرعاً والتاج على رأسه، وكان قد حصل جماعة من أصحابه الألمانية الشجعان راكبين مستعدين، وركب واجتمعت عليه أصحابه الألمانية، وسار بهم على حمية إلى بلاده.
قال القاضي جمال الدين: واستمر الإمبراطور منفريد بن فردريك المذكور في مملكته، وقصده البابا، وريدافرنس بجموعهما، واقتتلوا معه وهزموه وقبضوا عليه، وتقدم البابا يذبحه، فذبح منفريد المذكور، وملك بلاده بعده أخو ريدافرنس، وذلك في سنة ثلاث وستين وستمائة في غالب ظني.
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وستمائة.
ذكر قتل الملك المنصور حسام الدين لاجين
صاحب مصر والشام:
في هذه السنة، وثب على لاجين المذكور جماعة من المماليك الصبيان، الذين اصطفاهم لنفسه،(4/39)
ليلة الجمعة حادي عشر ربيع الآخر، في أوائل الليل، فقتلوه وهو يلعب بالشطرنج، وأول من ضربه شخص منهم يقال له سيف الدين كرجي، بالسيف، وضربه الباقون بعده، حتى قتلوا لاجين المذكور، وطلعوا ليقتلوا مملوكه ونائبه منكوتمر، فاستجار بسيف الدين طغجي الأشرفي، وكان طغجي مقدم هؤلاء المماليك الذين قتلوا لاجين، فأجاره طغجي وبعث بمنكوتمر المذكور إلى الجب، فحبسه فيه، ثم بعد استقراره في الجب توجه كرجي ومعه جماعة فأخرجوا منكوتمر وذبحوه على رأس الجب، ولما أصبح الصباح عن ذلك، جلس طغجي في موضع النيابة وأمر ونهى، وهنالك جماعه من الأمراء أكبر منه، مثل الحسام أستاذ الدار، وسلار وبيبرس الجاشنكير، وغيرهم، فاتفقت آراؤهم على الوقيعة بطغجي، وإعادة الملك إلى مولانا السلطان الملك الناصر المقيم بالكرك، واتفق بعد ذلك وصول بعض العسكر المجردين على حلب، فوصل أمير سلاح، وغيره، وأشار الأمراء المذكورون على طغجي بالركوب، وتلقى أمير سلاح، فامتنع، وعاودوه فأجاب، وركب طغجي من قلعة الجبل، وجعل نائبه بها كرجي الذي قتل لاجين، فعندما اجتمعت الأمراء بالأمير سلاح، تحدثوا فيما فعله الصبيان من قتل السلطان، وأنكرت الأمراء وقوع مثل ذلك، وقالوا إن طغجي هو الذي فعل ذلك، فحطوا عليه بالسيوف، وهرب منهم، فأدركوه وقتلوه، وقصدوا كرجي بقلعة الجبل فهرب، واتبعوه فقتلوه أيضاً. وذلك في ربيع الآخر من هذه السنة، وكانت مدة مملكة حسام الدين لاجين، الملقب بالملك المنصور المذكور، سنتين وثلاثة أشهر. عودة مولانا السلطان الملك الناصر إلى سلطنته
وفي هذه السنة عاد مولانا السلطان الملك الناصر ناصر الدنيا والدين محمد ابن مولانا السلطان الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون إلى مملكته. فانه لما جرى ما ذكرناه من قتل لاجين، ثم قتل طغجي، اتفقت الأمراء على إعادة مولانا السلطان الملك الناصر إلى مملكته، فتوجه سيف الدين ابن الملك وعلم الدين الجاولي إلى الكرك، وأحضراه إلى الديار المصرية، فصعد إلى قلعة الجبل، واستقر على سرير ملكه في يوم السبت، رابع عشر جمادى الأولى من هذه السنة، أعني سنة ثمان وتسعين وستمائة، وهي سلطنته الثانية.
فلما استقر السلطان الملك الناصر بالقلعة، اتفق معه الأمراء على أن يكون سيف الدين سلار، نائب السلطنة، ويكون بيبرس الجاشنكير أستاذ الدار، وأن يكون بكتمر الجوكندار أمير جاندار. فلما استقر ذلك، فوض نيابة السلطنة بالشام إلى جمال الدين أقوش الأفرم، وأفرجوا عن شمس الدين قراسنقر من الاعتقال، وكان له فيه نحو سنة وشهرين، ثم بعثوا به إلى الصبيبة وكتب تقليد الملك المظفر محمود صاحب حماة ببلاده على عادته، وبعث به إليه في جمادى الأولى من هذه السنة.(4/40)
ذكر تجريد العسكر الحموي إلى حلب
وفي هذه السنة في رمضان، الموافق لحزيران من شهور الروم، جرد الملك المظفر عسكر حماة إلى حلب، بسبب حركة التتر إلى جهة الشام، فسرنا من حماة إلى المعرة، وورد كتاب سيف الدين بلبان الطباخي بتراخي الأخبار، فعدنا من المعرة إلى حماة، فورد كتابه بطلبنا، فأعادنا الملك المظفر من حماة في يوم وصولنا إليها، وهو يوم الأربعاء سابع عشر رمضان، وحزيران، فسرنا ودخلنا حلب في الثاني والعشرين من رمضان من هذه السنة، ثم أرسل الملك المظفر وطلبني من نائب السلطنة بمفردي، فأعطاني سيف الدين بلبان الطباخي دستوراً، فسرت إلى حماة إلى خدمة ابن عمي الملك المظفر، واستمر أخواي وغيرهما من الأمراء والعسكر مقيمين بحلب، وأقمت أنا عند الملك المظفر بحماة.
ذكر وفاة الملك المظفر صاحب حماة
وخروج حماة حينئذ عن البيت التقوي الأيوبي:
وفي هذه السنة، أعني سنة ثمان وتسعين وستمائة، يوم الخميس الثاني والعشرين من ذي القعدة، توفي صاحب حماة، السلطان الملك المظفر، تقي الدين محمود ابن السلطان الملك المنصور ناصر الدين محمد ابن الملك تقي الدين عمر ابن شاهنشاه بن أيوب، رحمه الله تعالى، ومولده في ليلة الأحد خامس عشر المحرم سنة سبع وخمسين وستمائة، فيكون عمره إحدى وأربعين سنة وعشرة أشهر وسبعة أيام، وملك حماة من حين توفي والده في حادي عشر شوال سنة ثلاث وثمانين وستمائة، فيكون مدة ملكه خمس عشرة سنة وشهراً ويوماً واحداً، وكان مرضه حمى محرقة، وكان سبب ذلك مع فراغ العمر، أنه كان غاوياً برمي البندق، واتفق له فيه صروعات حسنة، فأراد أن يرمي النسر من طيور الواجب، فقصد جبل علاروز، وهو جبل مطل على قسطون، وكان ذلك في شدة الحر، وقتل حماراً وتركه على موضع بذلك الجبل، وعمل من أغصان الشجر كوخاً وكان يجلس في الكوخ وأنا معه، ومملوك له، ومن يشاهده في رمي البندق وكان يدخل إلى الكوخ في السحر ويظل فيه إلى الظهر، ولا يتكلم انتظاراً لنزول النسر على جيفة الحمار، وكنا نشم نتن تلك الجيفة، واتفق نزول النسر في تلك الحالة، ولم يقدر له رمية، ثم عدنا إلى حماة، فابتدأ بنا المرض، وبلغت الموت، وفي مدة مرضي، مرض الملك المظفر، وعادني وهو قد ابتدأ به المرض، ثم بعد بضع عشر يوماً توفي في التاريخ المذكور، وأنا منقطع عنه بسبب مرضي، وكذلك مرض المملوك الذي كان معنا بذلك المكان، وكان عسكر حماة بحلب على ما قد ذكرنا، وكان قد اتفق حضور الأمير صارم الدين أزبك المنصوري إلى حماة، بسبب تشويش زوجته، فلحق الملك المظفر قبل وفاته، كان حاضراً(4/41)
وفاته، وأما أخواي أسد الدين عمر، وبدر الدين حسن، ابنا الملك الأفضل، فإنهما حضرا إلى حماة من حلب بعد وفاة الملك المظفر، ولما اجتمع مذكورون، اختلفوا فيمن يكون صاحب حماة، ولم ينتظم في ذلك حال.
ذكر وصول قراسنقر إلى حماة
الجوكندار إلى حماة نائباً بها:
ولما توفي الملك المظفر، كان قراسنقر قد أخرج من السجن، وأرسل إلى الصبيبة، وهي مكان وخم، فأرسل قراسنقر إلى الحكام بمصر يتضور من المقام بالصبيبة، فاتفق عند ذلك وصول الخبر إلى مصر بموت صاحب حماة، فأعطى قراسنقر نيابة السلطنة بحماة، وسار من الصبيبة ووصل إلى حماة، واستقر في النيابة، بها في أوائل ذي الحجة من هذه السنة، أعني سنة ثمان وتسعين وستمائة، ونزل بدار ملك المظفر صاحب حماة، وقمنا بوظائف خدمته وأخذ من تركة صاحب حماة ومنا أشياء كثيرة، حتى أجحف بنا، ووصلت المناشير من مصر إلى أمراء حماة وجندها باستقرارهم على ما بأيديهم من الإقطاعات، فاستمرينا على ما بأيدينا.
ذكر غير ذلك من الحوادث
في هذه السنة، أرسل سيف الدين بلبان الطباخي عسكراً إلى ماردين، فنهبوا ربض ماردين، حتى نهبوا الجامع، وعملوا الأفعال الشنيعة، وذلك كان حجة لقازان في قصد البلاد على ما سنذكره.
وفيها توفي بدر الدين بيسري في محبسه من حين حبسه لاجين.
وفيها سار مولانا السلطان الملك الناصر من الديار المصرية بعساكر مصر إلى بلاد غزة، وأقام بها حتى خرجت هذه السنة، واتفق قراسنقر وأخواي، وأرسلوا معي قماشاً وخيلاً، من خيل الملك المظفر صاحب حماة. وقماشه، فسرت أنا وصارم الدين أزبك المنصوري الحموي، وقدمت ذلك لمولانا السلطان وهو نازل بالساحل، قرب عسقلان، فقبله وتصدق علي بخلعة وحياصة ذهب، ورسم بزيادة إقطاعي وإقطاع أخي بدر الدين حسن، فزادونا نقداً من ديوان حماة.
وفي هذه السنة توفي شمس الدين كربته، أحد المقدمين الذين دخلوا إلى بلاد سيس، وفتحوا ما تقدم ذكره.
ثم دخلت سنة تسع وتسعين وستمائة.
ذكر المصاف العظيم
الذي كان بين المصلين والتتر وهزيمة المسلمين واستيلاء التتر على الشام:
في هذه السنة سار قازان بن أرغون بجموع عظيمة من المغل والكرج والمزندة وغيرهم، وعبر الفرات ووصل بجموعه إلى حلب، ثم إلى حماة ثم سار ونزل على وادي مجمع المروج، وسارت العساكر الإسلامية صحبة مولانا السلطان الملك الناصر حتى وصلوا بظاهر حمص، ثم(4/42)
ساروا إلى جهة المجمع، وكان سلار والجاشنكير هما المتغلبان على المملكة، فداخل الأمراء الطمع، ولم يكملوا عدة جندهم، فنقص العسكر كثيراً مع سوء التدبير، ونحو ذلك من الأمور الفاسدة التي أوجبت هزيمة العسكر، ثم ساروا والتقوا عند العصر من نهار الأربعاء، السابع والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة، الموافق للثالث والعشرين من كانون الأول من شهور الروم، بالقرب من مجمع المروج في شرقي حمص، على نحو نصف مرحلة من حمص، فولت ميمنة المسلمين، ثم الميسرة، وثبت القلب، واحتاطت به التتر وجرى بينهم قتال عظيم، وتأخر السلطان إلى جهة حمص حتى أدركه الليل، فولت العساكر الإسلامية تبتدر الطريق، وتمت بهم الهزيمة إلى ديار مصر المحروسة، وتبعهم التتر واستولوا على دمشق، وساقوا في إثر الجفال إلى غزة والقدس وبلاد الكرك، وكسبوا وغنموا من المسلمين الجفال شيئاً عظيمة.
ذكر المتجددات بعد الكسرة
وكان قبجق وبكتمر السلحدار والبكي مع قازان، من حين هربوا من حمص على ما قدمنا ذكره في سنة سبع وتسعين وستمائة، فلما استولى قازان على دمشق، أخذ سيف الدين قبجق الأمان لأهل دمشق ولغيرهم، من قازان ملك التتر، واستولى قازان على مدينة دمشق، وعصت عليه القلعة، وأمر بحصارها، فحوصرت، وكان النائب بها الأمير سيف الدين أرحواش المنصوري، فقام في حفظها أتم قيام، وصبر على الحصار ولم يسلمها، وأحرق الدور التي حوالي القلعة والمدارس، فاحترقت دار السعادة التي كانت مقر نواب السلطنة، وكذلك احترق غيرها من الأماكن الجليلة، وأما عسكر مصر فإنهم لما وصلوا إلى مصر، رسم لهم بالنفقة، فأنفق فيهم أموال جليلة، وأصلحوا أحوالهم، وجددوا عدتهم وخيولهم، وأقام قازان بمرج دمشق المعروف بمرج الزنبقة، ثم عاد إلى بلاده الشرقية، وقرر في دمشق قبجق، وجرد صحبته عدة من المغل.
فلما بلغ العساكر المصرية مسير قازان عن الشام، خرجوا من مصر في العشر الأول من شهر رجب من هذه السنة، وخرج السلطان إلى الصالحية، ثم اتفق الحال على مقام السلطان بالديار المصرية، ومسير سلار، وبيبرس الجاشنكير بالعساكر إلى الشام، فسار المذكوران بالعساكر، وكان قبجق وبكتمر السلحدار، والألبكي، قد كاتبوا المسلمين في الباطن وصاروا معهم، فلما خرجت العساكر من مصر، هرب قبجق ومن معه من دمشق وفارقوا التتر، وساروا إلى جهة ديار مصر، وبلغ ذلك التتر المجردين بدمشق، فخافوا وساروا من وقتهم إلى البلاد الشرقية، وخلا الشام منهم، ووصل قبجق والألبكي وبكتمر السلحدار إلى الأبواب السلطانية، فأحسن إليهم سلطان، ووصل سلار وبيبرس الجاشنكير إلى دمشق، وقررا أمور الشام، ورتبا في(4/43)
نيابة السلطنة بدمشق الأمير جمال الدين أقوش الأفرم، على عادته، ورتبا قراسنقر في نيابة السلطنة بحلب بعد عزل سيف الدين بلبان الطباخي عنها، وإعطائه إقطاعاً بديار صر، ورتبا قطلوبك في نيابة السلطنة بالساحل والحصون، عوض سيف الدين كرد، إنه استشهد في الوقعة، ورتبا في نيابة السلطنة بحماة، الأمير زين الدين كتبغا المنصوري الذي كان سلطاناً، ثم خلع وأعطي صرخد، واستمر بصرخد حتى استولى قازان على الشام، ثم سار إلى مصر والتتر بالشام، ثم سار مع سلار والجاشنكير إلى الشام، فرتباه في نيابة السلطنة بحماة بعد قراسنقر، فسار كتبغا المذكور ووصل إلى حماة في الرابع والعشرين من شعبان من هذه السنة، أعني سنة تسع وتسعين وستمائة، واستقر بحماة وأقام بدار صاحب حماة الملك المظفر، وسار قراسنقر إلى حلب، ثم عاد سلار والجاشنكير بالعساكر إلى الديار المصرية.
ذكر غير ذلك من الحوادث
في هذه السنة كان بين طقطغا بن منكوتمر، وبين نغيه، حروب كثيرة، قتل فيها نغيه، وقام مقامه ابنه جكا.
وفيها في مدة استيلاء التتر على الشام، استولى على حماة شخص من الرجالة الذين كانوا فيها لحفظ القلعة، يسمى عثمان السبيتاري، وحكم في البلد والقلعة، واستباح الحريم وأموال أهل حماة، وسفك دم جماعة منهم الفارس أرلندمشد حماة، وبعض أهل الباب الغربي، وكان يشارك عثمان المذكور في الحكم رفيقه إسماعيل، فغدر عثمان برفيقه إسماعيل وقتله، وانفرد عثمان بالحكم في حماة، وقيل إنه تلقب بالملك الرحيم، وبقي على تلك الحال إلى أن طلعت العساكر الإسلامية من مصر، واستولوا على الشام، وأرسلوا صارم الدين أزبك الحموي إلى حماة، ليكون فيها إلى أن يحضر إليها زين الدين كتبغا المنصوري النائب، فعصي عثمان المذكور بالقلعة المذكورة، ثم فارقه أصحابه وتخلوا عنه، وأمسك عثمان المذكور واعتقل، وكان المذكور من جندارية قراسنقر، فلما وصل قراسنقر إلى حماة متوجها إلى حلب، نزل على تل صفرون، وتسلم عثمان المذكور وأطلقه، فحضر أهل حماة وشكوا ما فعله فيهم عثمان المذكور، من نهب أموالهم، وهتك الحريم، وسفك الدماء، فتبرطل قراسنقر من عثمان المذكور ما أخذه من أموال أهل حماة، واستصحب عثمان معه وأحسن إليه، ومنع الناس حقهم، ولم يمكن أحداً منه بعد أن حكم القاضي بسفك دم عثمان المذكور، وبقي عثمان عند قراسنقر مكرماً إلى أن هرب قراسنقر إلى التتر، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
فاختفى عثمان المذكور ولم يظهر، وكان أصله من بلاد الشوبك، فلما تصدق علي السلطان بحماة، تتبعت عثمان المذكور وطلبته من نائب السلطنة بالشام، وهو المقر(4/44)
السيفي تنكيز، فأمسك عثمان المذكور من بلاد عجلون، وأرسله إلي معتقلاً إلى حماة، فضربت عنقه في سوق الخيل بحضرة العسكر، في يوم الاثنين رابع عشر شعبان سنة ست عشرة وسبعمائة.
وفيها لما وصل قازان بجموع المغل إلى الشام، طمع الأرمن في البلاد التي افتتحها المسلمون منهم، وعجز المسلمون عن حفظها، فتركها الذين بها من العسكر والرجالة وأخلوها، فاستولى الأرمن عليها، وارتجعوا حموص، وتل حمدون، وكوير، وسرفند كار، والنقير، وغيرها، ولم يبق مع المسلمين من جميع تلك القلاع غير قلعة حجر شغلان، واستولى الأرمن على غيرها من الحصون والبلاد التي كانت جنوبي نهر جيحان.
وفيها أو في السنة التي قبلها، لما ملك دندين بلاد الأرمن، أفرج عن أخيه هيتوم بن ليفون، وجعله الملك، وصار دندين بين يديه، وكان هيتوم قد بقي أعور من حين سمله أخوه سنباط، على ما قدمنا ذكره، واستمر هيتوم ودندين على ذلك مدة يسيرة، ثم غدر هيتوم بدندين وجازاه أقبح جزاء، وأراد القبض عليه، فهرب دندين إلى جهة قسطنطينية، واستقر هيتوم في مملكة سيس، ولما استقر هيتوم في مالك سير، كان لأخيه تروس الذي قتله أخوه سنباط على ما ذكرناه، ولد صغير، فأقام هيتوم المذكور، الصغير ذلك ابن تروس في الملك، وجعل هيتوم نفسه أتابكاً لذلك الصغير، وبقي كذلك حتى قتلهما برلغي مقدم المغل الذين ببلاد الروم، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ثم دخلت سنة سبعمائة.
ذكر مسير التتر إلى الشام
ومسير السلطان والعساكر الإسلامية إلى العوجا، ورجوعهم:
في هذه السنة عادت التتر قصد الشام، وعبروا الفرات في ربيع الآخر، وجفلت المسلمون منهم وخلت بلاد حلب، وسار قراسنقر بعسكر حلب إلى حماة، وبرز زين الدين كتبغا عساكر حماة إلى ظاهر حماة، في الثاني والعشرين من ربيع الآخر من هذه السنة، وسادس كانون الأول، وكذلك وصلت العساكر من دمشق واجتمعوا حماة، وأقامت التتر ببلاد سرمين، والمعرة، وتيزين، والعمق، وغيرها، ينهبون يقتلون، وسار السلطان بالعساكر الإسلامية ووصل إلى العوجا، واتفق في تلك المدة تدارك الأمطار إلى الغاية، واشتدت الوحول حتى انقطعت الطرقات، وتعذرت الأقوات، وعجزت العساكر عن المقام عن تلك الحال، فرحل السلطان والعساكر وعادوا إلى الديار المصرية. فوصل إليها في عاشر جمادى الأولى من هذه السنة، وأما التتر فانهم أقاموا يتنقلون في بلاد حلب نحو ثلاثة أشهر، ثم إن الله تعالى تدارك المسلمين بلطفه، ورد التتر على أعقابهم بقدرته، فعادوا إلى بلادهم وعبروا الفرات، أواخر جمادى الآخرة من هذه السنة، الموافق(4/45)
لأوائل آذار من شهور الروم، ورجع عسكر حلب مع قراسنقر إلى حلب، وتراجعت الجفال إلى أماكنهم.
ذكر غير ذلك من الحوادث
في هذه السنة لما وردت الأخبار بعود التتر إلى الشام، استخرج عن غالب الأغنياء بمصر والشام ثلث أموالهم، لاستخدام المقاتلة.
وفيها لما خرجت العساكر من مصر، توفي سيف الدين بلبان الطباخي الذي كان نائباً بحلب، ودفن بأرض الرملة، وورثه السلطان بالولاء.
وفيها عزل كراي المنصوري الذي كان نائباً بصفد، وولى موضعه بتخاص.
وفيها عزل قطلوبك عن نيابة السلطنة بالحصون والسواحل، ونقل إلى دمشق، فصار من أكبر الأمراء بها، وولى موضعه على الحصون والسواحل سيف الدين أسندمر الكرجي.
وفيها التزمت الذمة بلبس الغيار، فلبس اليهود عمائم صفراء، والنصارى عمائم زرقاء، والسمرة عمائم حمراء.
وفيها وصلت رسل قازان ملك التتر، وكان مضمون رسالتهم التهديد والوعيد، فأعيد جوابه على مقتضى ذلك.
وفيها ولى البكئي الظاهري الذي قفز إلى التتر، وعاد على ما ذكرناه نيابة السلطنة بحمص، وكذلك أعطي قبجق الشوبك إقطاعاً، وأرسل إليها فأقام بها.
وفيها قتل جكا بن نغيه أخاه تكا.
وفيها جرى بين جكا ونائبه طنغوز قتال، فانتصر فيه طنغوز على جكا، ثم انتصر جكا، ثم استنجد طنغوز بطقطغا، فلم يكن لجكا به قبل فهرب إلى الأولاق، وأمسك جكا واعتقله بقلعة طرفو، ثم قتله وبعث برأسه إلى القرم، وصارت مملكة نغيه لطقطغا.
ثم دخلت سنة إحدى وسبعمائة.
ذكر وفاة الخليفة
وفي هذه السنة توفي أبو العباس أحمد، الملقب بالحاكم بأمر الله، المنصوب في الخلافة، وقد تقدم ذكر ولايته ونسبه في سنة ستين وستمائة، والخلاف في ذلك، ولما توفي الحاكم المذكور، قرر في الخلافة بعده ولده سليمان بن أحمد، وكنيته أبو الربيع، ولقب بالمستكفي بالله.
ذكر الإغارة على بلاد سيس
وفي هذه السنة جرد من مصر بدر الدين بكتاش أمير سلاح، وأيبك الخزندار معهما العساكر، فساروا إلى حماة، وورد الأمر إلى زين الدين كتبغا نائب السلطنة بحماة، أن يسير بالعساكر إلى بلاد سيس، فخرج كتبغا المذكور من حماة، وخرجنا صحبته في يوم السبت الخامس والعشرين من شوال في هذه السنة، الموافق للثالث والعشرين(4/46)
من حزيران من شهور الروم، وسار العسكر صحبة زين الدين المذكور، ودخلنا حلب يوم الخميس مستهل ذي العقدة، ورحلنا من حلب ثالث ذي القعدة، ودخلنا دربند بغراس سابع القعدة من الشهر المذكور، وانتشرت العساكر في بلاد سيس، فحرقت الزروع ونهبت ما وجدت، ونزلنا على سيس وزحفنا عليها وأخذنا من سفح قلعتها شيئاً كثيراً من جفال الأرمن، وعدنا فخرجنا من الدربند إلى مرج أنطاكية، ووصلنا إلى حلب يوم الاثنين تاسع عشر ذي القعدة من هذه السنة، وسرنا إلى حماة ودخلناها يوم الثلاثاء السابع والعشرين من الشهر المذكور، الموافق للرابع والعشرين من تموز من شهور الروم، ودخل زين الدين كتبغا المذكور حماة وقد ابتدأ به المرض.
ذكر غير ذلك من الحوادث
في هذه السنة مات قبجي بن ردنو بن دوشي خان بن جنكزخان، صاحب غزنة وباميان وغيرهما من تلك النواحي، وخلف من الأولاد بيان، وكبلك، وطقطمر، وبغاتمر، ومنغطاي، وصاصي. فاختلفوا بعده واقتتلوا، ثم انتصر فيما بعد بيان بن قنجي واستقر ملك غزنة على ما سنذكره.
وفيها توفي صاحب مكة الشريف أبو نمي محمد بن أبي سعد بن علي بن قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم بن عيسى بن حسين بن سليمان بن علي ابن الحسين بن علي رضي الله عنهم، واختلفت أولاده وهم: رميثة، وحميضة، وأبو الغيث، وعطيفة. وتغلب رميثة وحميضة على مكة، شرفها الله تعالى، ثم قبض بيبرس الجاشنكير على رميثة وحميضة في هذه السنة، وكان قد حج وتولى أبو الغيث على مكة، ثم بعد سنين أطلق حميضة ورميثة فغلبا على مكة، وهرب عنها أبو الغيث، ثم اقتتل حميضة ورميثة، فانتصر حميضة واستقر في مكة حرسها الله تعالى، ثم كان منه ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ثم دخلت سنة اثنتين وسبعمائة.
ذكر فتح جزيرة أرواد
وفي محرم من هذه السنة، فتحت جزيرة أرواد، وهي جزيرة في بحر الروم قبالة أنطرطوس، قريباً من الساحل، اجتمع فيها جمع كثير من الفرنج، وبنوا فيها سوراً وتحصنوا في هذه الجزيرة، وكانوا يطلعون منها ويقطعون الطريق على المسلمين، المترددين في ذلك الساحل، وكان النائب على الساحل إذ ذاك سيف الدين أسندمر الكرجي، فسأل إرسال أسطول إليها، فعمرت الشواني وسارت إليها من الديار المصرية في بحر الروم، ووصلت إليها في المحرم من هذه السنة، وجرى بينهم قتال شديد، ونصر الله المسلمين وملكوا الجزيرة المذكورة، وقتلوا وأسروا جميع أهلها، وخربوا أسوارها، وعادوا إلى الديار المصرية بالأسرى والغنائم.(4/47)
ذكر دخول التتر إلى الشام
وكسرتهم مرة بعد أخرى:
وفي هذه السنة عاودت التتر قصد الشام، وساروا إلى الفرات، وأقاموا عليها مدة في أزوارها، وصارت منهم طائفة، تقدر عشرة آلاف فارس، وأغاروا على القريتين وتلك النواحي، وكانت العساكر قد اجتمعت بحماة عند زين الدين كتبغا النائب بحماة، الملقب بالملك العادل، وكان مريضاً من حين عاد من بلاد سيس، كما تقدم ذكره، واسترخت أعضاؤه، فلما اجتمعت العساكر عنده، وقع الاتفاق على إرسال جماعة من العسكر، إلى التتر الذين أغاروا على القريتين، فجردوا أسندمر الكرجي نائب السلطنة بالساحل، وجردوا صحبته جماعة من عسكر حلب، وجماعة من عسكر حماة، وجردوني أيضاً من جملتهم، فسرنا من حماه سابع شعبان من هذه السنة، واتقعنا مع التتر على موضع يقال له الكرم، قريباً من عرض، واقتتلنا معهم يوم السبت عاشر شعبان من هذه السنة، الموافق لسلخ آذار، وصبر الفريقان، ثم نصر الله المسلمين وولى التتر منهزمين، وترحل منهم جماعة كثيرة عن خيلهم، وأحاط المسلمون بهم بعد فراغهم من الوقعة، وبذلوا لهم الأمان فلم يقبلوا، وقاتلوا بالنشاب، وعملوا سروج الخيل ستائر لهم، وناوشهم العسكر القتال، من الضحى إلى انفراك الظهر، ثم حملوا عليهم فقتلوهم عن آخرهم، وكان هذا النصر عنوان النصر الثاني على ما نذكره، ثم عدنا مؤيدين منصورين، ووصلنا إلى حماة يوم الثلاثاء ثالث عشر شعبان المذكور، الموافق لثاني نيسان.
ذكر المصاف الثاني والنصرة العظيمة
وفي هذه السنة، سار التتر بجموعهم العظيمة، صحبة قطلوشاه نائب قزان، بعد كسرتهم على الكوم، ووصلوا إلى حماة، فاندفعت العساكر الذين كانوا بها بين أيديهم، وسار زين الدين كتبغا في محفة، وأخرني بحماة لكشف التتر، فوصل التتر إلى حماة في يوم الجمعة الثالث والعشرين من شعبان من هذه السنة، فلما شاهدت جموعهم ونزولهم بظاهر حماة، وكنت واقفاً على العليليات، سرت من وقتي ولحقت زين الدين كتبغا بالقطيفة، وأعلمته بالحال، وسارت العساكر الإسلامية إلى دمشق، ووصلت أوائل العساكر الإسلامية من ديار مصر صحبة بيبرس الجاشنكير، واجتمعوا بمرج الزنبقية بظاهر دمشق، ثم ساروا إلى مرج الصفر لما قاربهم التتر، وبقي العسكر منتظرين وصول السلطان الأعظم الملك الناصر، وسارت التتر وعبروا على دمشق طالبين العسكر، ووصلوا إليهم عند شقحب بطرف مرج الصفر، واتفق أن ساعة وصول التتر إلى الجيش، وصل مولانا السلطان بباقي العساكر الإسلامية، والتقى فريقان بعد العصر من نهار السبت، ثاني رمضان من هذه السنة، أعني سنة اثنتين سبعمائة، وكان ذلك في العشرين من نيسان، واشتد القتال(4/48)
بينهم، وتكردست التتر على الميمنة، فاستشهد من المسلمين خلق كثير، منهم الحسام أستاذ الدار، وكان رأس الميمنة، وكان برأس الميمنة أيضاً سيف الدين قبجق، فاندفع هو وباقي الميمنة بين أيدي التتر، وأنزل الله نصره على القلب والميسرة، فهزمت التتر وأكثر القتل فيهم، فولى بعض التتر مع توليه منهزمين لا يلوون، وتأخر بعضهم مع جوبان، وحال الليل بين الفريقين، فنزل التتر على جبل هناك بطرف مرج الصفر، وأشعلوا النيران
وأحاطت المسلمون بهم، وأصبح الصباح وشاهد التتر كثرة المسلمين، فانحدروا من الجبل يبتدرون الهرب، وتبعهم المسلمون فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وكان في طريقهم أرض متوحلة، فتوحل فيها عالم كثير عن التتر، فأخذ بعضهم أسرى، وقتل بعضهم، وجرد من العسكر الإسلامي جمعاً كثيراً مع سلار، وساقوا في إثر التتر المنهزمين إلى القريتين، ووصل التتر إلى الفرات، وهي في قوة زيادتها، فلم يقدروا على العبور، والذي عبر فيها وهلك، فساروا على جانبها إلى جهة بغداد، فانقطع أثرهم على شاطئ الفرات وهلك من الجوع،، وأخذ منهم العرب جماعة كثيرة، وأخلف الله تعالى بهذه الوقعة ما جرى على المسلمين في المصاف، الذي كان ببلد حمص، قرب مجمع المروج في سنة تسع وتسعين وستمائة، ولما حصل هذا النصر العظيم، واجتمعت العساكر بدمشق، أعطاهم السلطان الدستور، فسارت العساكر الحلبية والحموية والساحلية إلى بلادهم، فدخلنا حماة مؤيدين منصورين، في يوم السبت سادس عشر رمضان من هذه السنة، الموافق لرابع أيار من شهور الروم.
ذكر وفاة زين الدين كتبغا
وولاية قبجق حماة
وفي هذه السنة، أعني سنة اثنين وسبعمائة في ليلة الجمعة، عاشر ذي الحجة، توفي زين الدين كتبغا المنصوري، ونائب السلطنة بحماة، والمذكور كان من مماليك السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي، فترقى حتى تسلطن، وتلقب بالملك العادل، وملك ديار مصر والشام في سنة أربع وتسعين وستمائة، ثم خلعه نائبه لاجين، وأعطاه صرخد، على ما تقدم ذكره في سنة ست وتسعين وستمائة، واستمر مقيماً بصرخد من السنة المذكورة إلى أن اندفعت المسلمون من التتر على حمص، في سنة تسع وتسعين وستمائة، فوصل كتبغا المذكور من صرخد إلى مصر، وخرج مع سلار والجاشنكير إلى الشام، فقرره نائبا بحماة على ما تقدم ذكره، في سنة تسع وتسعين وستمائة، ثم أغار على بلادسيس، فلما عاد إلى حماة مرض، قبل دخوله إلى حماة؛ وطال مرضه، ثم حصل له استرخاء، وبقي لا يستطيع أن يحرك يديه ولا رجليه، وبقي كذلك مدة، وسار من حماة إلى قريب مصر جافلاً بين يدي التتر، لما كان المصاف على مرج الصفر، ثم عاد إلى حماة وأقام بها مدة يسيرة، وتوفي في التاريخ المذكور من هذه السنة.
ولما توفي(4/49)
أرسلت أعرض على الآراء الشريفة السلطانية إقامتي في حماة، على قاعدة أصحابها من أهلي، فوجد قاصدي الأمر قد فات، وقررت حماة لسيف الدين قبجق المقيم بالشوبك، وكتب تقليده بها في هذه السنة، وحصل إلي من الصدقات السلطانية الوعود الجميلة الصادقة بحماة، وتطييب الخاطر، والاعتذار بأن كتابي وصل بعد خروج حماة لقجبق، ووصل قجبق إلى حماة في السنة المقابلة على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة توفي فارس الدين البلي الظاهري، نائب السلطنة بحمص. وفيها توفي القاضي تقي الدين محمد بن دقيق العيد، قاضي القضاة الشافعية بالديار المصرية، وكان إماماً فاضلاً، وولي موضعه القاضي بدر الدين محمد الحموي، المعروف بابن جماعة.
وفيها كانت زلزلة عظيمة هدمت بعض أسوار قلعة حماة، وغيرها من الأماكن بالبلاد، وهدمت بالديار المصرية أماكن كثيرة، وهلك خلق كثير تحت الهدم، وخربت من أسوار إسكندرية ستاً وأربعين بدنة.
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعمائة.
ذكر وفاة قازان ملك التتر
في هذه السنة توفي قازان بن أرغون بن أبغا بن هولاكو بن طلو بن جنكزخان، بنواحي الري، في أواخر هذه السنة، وكان قد ملك في أواخر سنة أربع وتسعين وسبعمائة، فيكون مدة مملكته ثمان سنين وعشرة أشهر، وكان قد اشتد همه بسبب هزيمة عسكره وكسرتهم على مرج الصفر، فلحقه حمى حادة ومات مكموداً، ولما مات قازان، ملك أخوه خربند بن أرغون، وكان جلوسه في الملك في الثالث والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة، وتلقب الجنبو سلطان.
ذكر قدوم قبجق إلى حماة
قد تقدم في سنة اثنتبن وسبعمائة، ذكر وفاة زين الدين كتبغا نائب السلطنة بحماة، وأنه رتب موضعه سيف الدين قبجق، وكانت الشوبك إقطاع قبجق، وكان مقيماً بها، فلما أعطي نيابة السلطنة بحماة وارتجعت منه الشوبك، أقام بها حتى جهز أشغاله، وسار من الشوبك في ثالث صفر من هذه السنة، أعني سنة ثلاث وسبعمائة، ولما قارب حماة خرجنا لملتقاه إلى العنثر، وعملنا له الضيافات، وقدمنا له التقادم، وسرنا معه ودخلنا حماة في صبيحة يوم السبت، وهو الثالث والعشرين من صفر من هذه السنة، والموافق السادس تشرين الأول من شهور الروم، ونزل بدار الملك المظفر صاحب حماة، واستقر قدمه بحماة.(4/50)
ذكر غير ذلك من الحوادث
في هذه السنة، بعد العصر من نهار الأحد، خامس جمادى الأولى، وخامس عشر كانون الأول، توفيت عمتي مؤنسة خاتون، بنت الملك المظفر محمود ابن ملك المنصور محمد ابن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، وأمها غازية خاتون، بنت السلطان الملك الكامل، وكان مولد مؤنسة خاتون المذكورة في سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، وكانت كثيرة الصدقات والمعروف، عملت مدرسة بمدينة حماة تعرف بالخاتونية، ووقفت عليها وقفاً جليلاً، رحمها الله تعالى، ورضي عنها، وهي آخر من كان قد بقي من أولاد الملك المظفر صاحب حماة.
وفيها كثر الموت في الخيل، فهلك منها ما لا يحصى، حتى خلت غالب اسطبلات الأمراء والجند.
وفيها توفي عزالدين أيبك الحموى نائب حمص.
وفيها توفي إلى الحجاز الشريف لقضاء حجة الفرض، ووجدت سلار قد حج من جهة مصر، وصحبته عدة كثيرة من الأمراء، ووقفنا الإثنين والثلاثاء للشك في أول الشهر وعدنا إلى البلاد، وخرجت هذه السنة ونحن قد برزنا من مدينة الرسول، صلى الله عليه وسلم.
وفي أواخر هذه السنة، جردت العساكر من مصر، وسيف الدين قبجق بعسكر حماة، وقراستفر بعسكر حلب، ودخلوا إلى بلاد سيس، وحاصروا تل حمدون، وفتحوها بالأمان، وارتجعوها من الأرمن، وهدموها إلى الأرض، ولم أحضر هذه الغزاة لأني كنت بالحجاز الشريف حسبما ذكر.
ثم دخلت سنة أربع وسبعمائة وفي هذه السنة وصل من المغرب ركب كبير، وصحبتهم رسول من أبي يعقوب يوسف بن يعقوب المريني ملك المغرب، ووصل صحبته إلى ديار مصر هدية عظيمة من الخيول والبغال، ما يقارب خمسمائة رأس من الخيل العربية، بالسروج واللجم والركب المكفنة بالذهب المصري.
وفيها وصل إلى مصر صاحب دنقلة، وهو عبد أسود اسمه أياي، ووصل صحبته هدية كثيرة في الرقيق والهجن والأبقار والنمور والشب والسنباذج، وطلب نجدة من السلطان، فجرد معه جماعة من العسكر، وقدم عليهم طقصبا نائب السلطنة بقوص.
وفيها أعيد رميثة وحميضة، ابنا أبي نمي لما ملك مكة حرسها الله تعالى.
وفيها توفي جماز بن شيحة صاحب مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وملك بعده ابنه منصور بن جماز.
وفيها وصلت إلى حماة في يوم السبت عاشر صفر، عائداً من الحجاز الشريف، بعد زيارة القدس الشريف والخليل صلوات الله عليه وسلامه.
ثم دخلت سنة خمس وسبعمائة.
ذكر إغارة عسكر حلب على بلاد سيس
في أوائل المحرم من هذه السنة، الموافق للعشر الأخير من تموز، أرسل قرا سنقر نائب(4/51)
السلطنة بحلب، مع قشتمر مملوكه، عسكر حلب للإغارة على بلاد سيس، فدخلوها في أول الشهر المذكور، وكان قشتمر المذكور ضعيف العقل، قليل التدبير، مشتغلاً بالخمر، ففرط في حفظ العسكر، ولم يكشف أخبار العدو، واستهان بهم، فجمع صاحب سيس جموعاً كثيرة من التتر، وانضمت إليهم الأرمن والفرنج، ووصلوا على غرة إلى قشتمر المذكور، ومن معه من الأمراء وعسكر حلب، والتقوا بالقرب من إياس، فلم يكن للحلبيين قدرة بمن جاءهم، فتولوا يبتدرون الطريق، وتمكنت التتر والأرمن منهم، فقتلوا وأسموا غالبهم، واختفى من سلم في تلك الجبال، ولم يصل إلى حلب منهم إلا القليل، عرايا بغير خيل، وكان صاحب سيس في هذه السنة، هيتوم بن ليفون بن هيتوم، وهو الذي أمسكه أخوه سنباط وسمله، فذهبت عينه الواحدة وبقي أعور حسبما تقدم ذكره في سنة تسع وتسعين وستمائة.
ذكر غير ذلك
في هذه السنة قطع خبر بدر الدين بكتاش، أمير سلاح، لكبره وعجزه عن الحركة.
وفيها أفرج عن الحاج بهادر الظاهري، وكان قد اعتقله حسام الدين لاجين الملقب بالملك المنصور.
وفيها هلك قطلوشاه نائب خربندا، قتله أهل كيلان، لأنهم عصوا، وسار قطلوشاه لقتلهم، فكبسوه وقتلوه، وقتل معه جماعة من المغل. وفيها سار جمال الدين أقوش الأفرم بعسكر دمشق وغيره من عساكر الشام، إلى جبال الظنينين، وكانوا عصاة مارقين من الدين، فأحاطت العساكر الإسلامية بتلك الجبال المنيعة، وترجلوا عن خيولهم، وصعدوا في تلك الجبال من كل الجهات، وقتلوا وأسروا جميع من بها من النصيرية والظنينين وغيرهم من المارقين، وطفرت تلك الجبال منهم، وهي جبال شاهقة بين دمشق وطرابلس، وأمنت الطرق بعد ذلك، فإنهم كانوا يقطعون الطريق ويتخطفون المسلمين، ويبيعونهم للكفار. وفيها استدعي تقي الدين أحمد بن تيمية من دمشق إلى مصر، وعقد له مجلس، وأمسك وأودع الاعتقال، بسبب عقيدته، فإنه كان يقول بالتجسيم على ما هو منسوب إلى ابن حنبل.
ثم دخلت سنة ست وسبعمائة.
ذكر من ملك في هذه السنة بلاد المغرب من بني مرين
قد تقدم ذكر بني مرين في سنة اثنتين وسبعين وستمائة، وأنه استقر في الملك منهم يعقوب، ثم ابنه يوسف، ولما كان في هذه السنة قتل أبو يعقوب يوسف بن يعقوب بن عبد الحق بن محيو ابن حمامة المريني، ملك المغرب، وهو محاصر تلمسان، وكان قد أقام على حصارها سنين كثيرة، ونفدت أقوات أهل تلمسان، ولم يبق عندهم ما يكفيهم شهراً، وأيقنوا بالعطب، ففرج الله عنهم بقتل المريني المذكور، وسبب قتله أنه اتهم وزيره بتعرضه إلى حرمه، واتهم زمام داره، وكان اسمه عنبر، بمواطاة الوزير على ذلك، وأمر بحبس الوزير، وأمر(4/52)
بقتل زمام داره عنبر، ولما أخرج عنبر ليقتل مر بالخدام فقالوا: ما الخبر؟ فقال: أمر بقتلي، وسيقتلكم كلكم بعدي، فهجم بعض الخدام بسكين على أبي يعقوب المذكور، وقد خضب أبو يعقوب لحيته بحناء وهو نائم على قفاه، فضربه الخادم بالسكين في جوفه، وهرب عنه، وأغلق الباب عليه، وكان هناك امرأة لخدمة أبي يعقوب، فصاحت، فدخل أصحابه عليه وبه بعض الرمق، فأوصى إلى ابنه أبي سالم بن أبي يعقوب، ومات، ولما مات أبو يعقوب المذكور جلس في الملك بعده ولده أبو سالم بن يوسف المذكور. ولما ملك أبو سالم، قصده ابن عمه أبو ثابت، عامر بن عبد الله بن يعقوب بن عبد الحق، وقيل إن أبا ثابت، هو عامر بن عبد الله بن يوسف ابن أبي يعقوب، فيكون ابن أخي أبي سالم، لا ابن عمه، وانضم مع أبي ثابت يحيى بن يعقوب، عم أبي سالم، فلما قارباه، هرب أبو سالم بن يوسف منهما، فأرسلا في إثره من تبعه وقتله، وحمل رأس أبي سالم المذكور إلى أبي ثابت، عامر المذكور. ولما قتل أبو سالم، استقر أبو ثابت عامر في المملكة، وكان جلوسه في الملك في منتصف هذه السنة، أعني سنة ست وسبعمائة. ولما استقر، أمر بقتل الخادم الذي قتل عمه يوسف، فقتل، ثم أمر بقتل الخدام عن آخرهم، فقتلوا وأضرمت لهم النيران وألقوا فيها، ولم يترك أبو ثابت بمملكته خادماً خصياً حتى أباده، ثم إن أبا ثابت المذكور، وثب على عمه يحيى فقتله في ثاني يوم استقراره في الملك، ثم سار أبو ثابت إلى فاس، وأرسل مستحفظاً من بني عمه اسمه يوسف بن أبي عباد إلى مراكش ثم إن يوسف المذكور بعد استمراره في مراكش، خلع طاعة أبي ثابت عامر المذكور، وكان منه ما سنذكره.
ذكر غير ذلك من الحوادث وفي، هذه السنة، توفي الأمير بدر الدين بكتاش الفخري، المعروف بأمير سلاح، وكان بين قطع خبره ووفاته دون أربعة أشهر.
ثم دخلت سنة سبع وسبعمائة:
ذكر وفاة عامر ملك المغرب
وذكر من تملك بعده:
في أواخر هذه السنة، توفي أبو ثابت عامر بن عبد الله بن يوسف، أبي يعقوب بن يعقوب بن عبد الحق بن محيو بن حمامة، ملك المغرب، وكانت مدة ملكه سنة وثلاثة أشهر وأياماً، وقيل سنة ونصفاً، وتوفي بطنجة فإنه لما عصى عليه ابن عمه يوسف بن أبي عباد بمراكش، سار إليه أبو ثابت المذكور، فاقتتل معه يوسف، فانتصر أبو ثابت، وولى يوسف مهزماً، فأخذ أسيراً، وقتل من أصحابه جماعة كثيرة، واستقامت مراكش لأبي ثابت، ثم عاد أبو ثابت المذكور إلى طنجة لقتال قوم بها من الأعراب، فأدركته منيته بها.
ولما مات أبو ثابت، جلس في الملك بعده ابن عمه على بن يوسف، ثم خلعه الوزير(4/53)
وجماعة من العسكر بعد يومين من جلوسه، وأقاموا في الملك سليمان بن عبد الله بن يوسف بن يعقوب ابن عبد الحق بن محيو، وبايعوه، فاستمال الناس وأنفق فيهم الأموال، وزاد في عطيات بني مرين، وأطلق المكوس، وأحسن إلى الرعية، وقبض على علي بن يوسف المخلوع واعتقله بطنجة، واستقرت قدم سليمان في الملك واستقامت له الأمور.
ذكر قتل صاحب سيس
وقتل ابن أخيه
وفي هذه السنة قتل برلغي، وهو مقدم المغل المقيمين ببلاد الروم، صاحب سيس، هيتوم بن ليفون بن هيتوم المقدم ذكره، بعد أن ذبح ابن أخيه تروس الصغير على صدره، واستقر في ملك سيس وبلاد أوشين بن ليفون، أخو هيتوم المذكور، ولما قتله برلغي، مضى أخو هيتوم المذكور، الناق بن ليفون صحبة برلغي، وشكا إلى خربندا، فأمر خربندا ببرلغي فقتل بالسيف.
وفيها عزم سلام على المسير إلى اليمن والاستيلاء عليه، وعينت العساكر للمسير صحبته، وجهزت الآلات في المراكب من عيذاب، ثم أنهى عزمه عن ذلك.
وفيها نزل سيف الدين كراي المنصوري عن إقطاعه بديار مصر، واستقال من الإمرة فأقيل، وبقي بطالاً حتى اتهم عليه مولانا السلطان فيما بعد بإقطاع، وأعطاه نيابة السلطنة بدمشق على ما سنذكره.
وفيها توفي ركن الدين بيبرس العجمي الصالحي، المعروف بالجالق، أحد البحرية، وكان آخر البحرية، وكان قد أسن.
ثم دخلت سنة ثمان وسبعمائة:
ذكر مسير السلطان إلى الكرك
واستيلاء بيبرس الجاشنكير على المملكة
وفي هذه السنة، في يوم السبت، الخامس والعشرين من شهر رمضان، خرج مولانا السلطان الملك الناصر، ناصر الدنيا والدين، محمد بن قلاوون الصالحي، من الديار المصرية متوجهاً إلى الحجاز الشريف، وسار في خدمته جماعة من الأمراء، منهم الأمير عز الدين أيدمر الخطيري، والأمير حسام الدين قرالاجين، والأمير سيف الدين آل ملك، وغيرهم، ووصل إلى الصالحية وعيد بها عيد الفطر ثم سار إلى الكرك، فوصل إليها في عاشر شوال، وكان النائب بها جمال الدين أبقوش الأشرفي، فعمل سماطاً واحتفل به، وعبر السلطان إلى المدينة، ثم إلى القلعة، ولما عبر السلطان على الجسر إلى القلعة والأمراء ماشون بين يديه، والمماليك حول فرسه، وخلفه، سقط بهم جسر قلعة الكرك، وقد حصرت يد فرس مولانا السلطان وهو راكبه، داخل عتبة الباب، فلما أحس الفرس بسقوط الجسر، أسرع حتى كاد أن يدوس الأمراء الماشين بين يديه، وسقط من(4/54)
مماليك مولانا السلطان خمس وثلاثون إلى الخندق، وسقط غيرهم من أهل الكرك، ولم يهلك من المماليك غير شخص واحد، لم يكن من الخواص، ونزل في الوقت مولانا السلطان، خلد الله تعالى ملكه، عند الباب، وأحضر الجنوبات والجبال، ورفع الذين وقعوا عن آخرهم، وأمر بمداواتهم، فصلحوا وعادوا إلى ما كانوا عليه في مدة يسيرة، وكان ذلك من عنوان سعادة مولانا، جعلها الله تعالى خارقة للعوائد. فإن ارتفاع الجسر الذي سقطوا منه إلى الخندق، يقارب خمسين ذراعاً.
ولما استقر مولانا السلطان بقلعة الكرك، أمر جمال الدين أقوش، نائب السلطنة بها، والأمراء الذين حضروا في خدمته، بالمسير إلى الديار المصرية، وأعلمهم أنه جعل السفر إلى الحجاز وسيلة إلى المقام بالكرك، وكان سبب ذلك استيلاء سلار وبيرس الجاشنكير على المملكة، واستبدادهما بالأمور، وتجاوز الحد في الانفراد بالأموال، والأمر والنهي، ولم يتركا لمولانا السلطان غير الاسم، مع ما كان منهما من محاصرة مولانا السلطان في القلعة، وغير ذلك مما لا تنكمش النفس منه، فأنف مولانا السلطان خلد الله ملكه من ذلك، وترك الديار المصرية وأقام بالكرك، ولما وصلت الأمراء إلى الديار المصرية، وأعلموا من بها بإقامة السلطان بالكرك، وفراقه الديار المصرية، اشتوروا فيما بينهم، واتفقوا على أن تكون السلطنة لبيبرس الجاشنكير، وأن يكون سلار مستمراً على نيابة السلطنة كما كان عليه، وحلفوا على ذلك، وركب بيبرس الجاشنكير من داره بشعار السلطنة إلى الإيوان الكبير بقلعة الجبل، وجلس على سرير الملك في يوم السبت الثالث والعشرين من شوال هذه السنة، أعني سنة ثمان وسبعمائة، وتلقب بالملك المظفر ركن الدين بيبرس المنصوري، وأرسل إلى نواب السلطنة بالشام فحلفوا له عن آخرهم، وكتب تقليداً لمولانا السلطان بالكرك، ومنشوراً بما عينه له من الإقطاع بزعمه، وأرسلهما إليه، واستقر الحال على ذلك حتى خرجت هذه السنة.
وفيها ملك الفرنج الاستبتار جزيرة رودس، وأخذتها من الأشكري صاحب قسطنطينية، وصعب بسبب ذلك على التجار الوصول في البحر إلى هذه الديار، لمنع الاستبتار من يصل إلى بلاد الإسلام.
وفيها أرسل صاحب تونس أبو حفص عمر، أسطولاً وعسكر إلى جزيرة جربة، وهي جزيرة في البحر الرومي، ومسيرتها من قابس يوم واحد، ولهذه الجزيرة مخاضة إلى البر، ودور هذه الجزيرة ستة وسبعون يوماً، وكانت بأيدي المسلمين، فتغلب عليها الفرنج وملكوها في سنة ثمانين وستمائة، فلما كانت هذه السنة، أرسل إليهم صاحب تونس عسكراً وقاتلهم، فاستنجد أهل هذه الجزيرة بفرنج صقلية، فلما وصل أسطول صقلية إليهم، عاد أسطول صاحب تونس إليه، ولم يتمكنوا من فتحها.
وفيها مات الأمير خضر ابن الملك الظاهر بيبرس، بباب القنطرة، وكان المذكور قد جهزه السلطان الملك الأشرف خليل ابن السلطان الملك المنصور قلاوون، إلى(4/55)
القسطنطينية، فبقي فيها. هو وأخوه وأهله مدة، وتوفي سلامش أخوه هناك، ثم عاد خضر المذكور إلى القاهرة وأقام عند باب القنطرة، وتوفي في هذه السنة.
ثم دخلت سنة تسع وسبعمائة.
ذكر تجريد العساكر إلى حلب وما ترتب
على ذلك
وفي هذه السنة وصل من مصر الأمير جمال الدين أقوش الموصل، المعروف بقتال السبع، وأصله من مماليك بدر الدين لؤلؤ، صاحب الموصل، وكذلك وصل لاجين الجاشنكير، المعروف بالزرتاج وصحبتهما تقدير ألفي فارس من عسكر مصر، وجردني الأمير سيف الدين قبجق نائب السلطنة بحماة، وجرد معي جماعة من عسكر حماة، فسرنا ودخلنا حلب يوم الخميس تاسع عشر ربيع الآخر من هذه السنة، الموافق للخامس والعشرين من أيلول، وكان نائب السلطنة بحلب قراسنقر المنصوري، ووصل أيضاً جماعة من عسكر دمشق، مع الحاج بهادور الظاهري، فأخذ قراسنقر في الباطن يستميل الناس إلى طاعة مولانا السلطان، ويقبح عندهم طاعة بيبرس الجاشنكير، الملقب بالملك المظفر.
ذكر مسير مولانا السلطان من الكرك
وعوده إليها
وفي هذه السنة سار جماعة من المماليك، على حمية من الديار المصرية، مفارقين طاعة بيبرس الجاشنكير، الملقب بالملك المظفر، ووصلوا إلى السلطان بالكرك، وأعلموه بما الناس عليه من طاعته ومحبته، فأعاد السلطان خطبته بالكرك، ووصلت إليه مكاتبات عسكر دمشق يستدعونه، وأنهم باقون في طاعته، وكذلك وصلت إليه من حلب المكاتبات، فسار السلطان بمن معه من الكرك في جمادى الآخرة من هذه السنة، ووصل إلى حمان، وهي قرية قريب من رأس الماء، فعمل جمال الدين أقوش عليه الحيلة، وأرسل إليه قرابغا مملوك قراسنقر برسالة، كذبها على قراسنقر، وكان قرابغا سار إلى الأفرم بمكاتبة تتعلق به بمفرده، فأرسله الأفرم إلى السلطان، فسار من دمشق ولاقى السلطان بحمان، فأنهى قرابغا المذكور ما حمله الأفرم من الكذب، مما يقتضي رجوع مولانا السلطان، فلما سمع مولانا السلطان قرابغا ظنه حقاً، ورجع إلى الكرك، واستمرت العساكر على طاعة مولانا السلطان واستدعائه ثانياً، وانحلت دولة بيبرس الجاشنكير، وجاهره الناس بالخلاف، ولما جرى ذلك، وبلغ العساكر المقيمين بحلب، ساروا من حلب من غير دستور، وسرت أنا بمن معي من عسكر حماة، ودخلت حماة يوم الثلاثاء التاسع عشر من رجب، والثالث والعشرين من كانون الأول.
ذكر مسير مولانا السلطان إلى دمشق
واستقرار ملكه بها
ولما تحقق مولانا السلطان الملك الناصر صدق طاعة العساكر الشامية، وبقائهم على طاعته(4/56)
ومحبته، عاود المسير إلى دمشق، وخرج من الكرك وخرجت عساكر دمشق إلى طاعته، وتلقوه، وأما أقوش الأفرم نائب السلطنة بدمشق، فإنه هرب، ووصل السلطان إلى دمشق في يوم الثلاثاء عاشر شعبان من هذه السنة، الموافق لعشرين من كانون الثاني، وهيئت له قلعة دمشق، فلم ينزل بها، ونزل بالقصر الأبلق، وأرسل الأفرم وطلب الأمان من السلطان، فأمنه، فقدم إلى طاعته إلى دمشق، وسار قبجق من حماة، وسار العسكر الحموي صحبته، وكذلك سار أسندمر بعسكر الساحل، ووصل قبجق وأسندمر ومن معهما من العساكر إلى خدمة السلطان بدمشق، في يوم الاثنين الرابع والعشرين من شعبان من هذه السنة، وقدمت تقدمتي، ومن جملتها مملوكي طقزتمر، في يوم الأربعاء السادس والعشرين من شعبان المذكور، فحصل من مولانا السلطان القبول والصدقة، والمواعيد الصادقة، بالتصدق علي بحماة، على عادة أهلي وأقاربي، ثم وصل قراسنقر إلى دمشق بعسكر حلب يوم الجمعة الثامن والعشرين من شعبان، وكان وصل قبل ذلك سيف الدين بكتمر، المعروف بأمير جاندار، من صفد، ولما تكاملت للسلطان عساكر الشام، أمرهم بالتجهيز للمسير إلى ديار مصر.
ذكر مسير مولانا السلطان إلى ديار مصر
واستقراره في سلطنته
وفي هذه السنة، لما تكاملت العساكر الشامية عند السلطان بدمشق، أرسل إلى الكرك وأحضر ما كان بها من الحواصل، وأنفق في العسكر، وسار بهم من دمشق في يوم الثلاثاء تاسع رمضان من هذه السنة، الموافق لعاشر شباط، ولما بلغ بيبرس الجاشنكير ونائبه ذلك، جرداً عسكراً ضخماً مع برلغي وغيره من المقدمين، فساروا إلى الصالحية، وأقاموا بها، وكان برلغي من أكبر أصحاب الجاشنكير، وكأن الشاعر أراده بقوله:
فكان الذي استنصحت أول خائن ... وكان الذي استصفيت من أعظم العدى
وسارت العساكر في خدمة السلطان، وكان الفصل شتاءً والخوف شديداً من الأمطار وتوحل الأرض، وقدر الله تعالى لنا بالصحو والدفء، وعدم الأمطار، واستمر ذلك حتى وصلنا في خدمته إلى غزة، في يوم الجمعة تاسع عشر رمضان من هذه السنة، ولما وصل السلطان إلى غرة، قدم إلى طاعته عسكر مصر أولاً فأولاً، وكان ممن قدم أيضاً برلغي وغيره من المقدمين، ومعهم عدة كثيرة من العسكر، ثم تتابعت الأطلاب، وكان يلتقي مولانا السلطان في كل يوم وهو سائر طلب بعد طلب من الأمراء والمماليك والأجناد، ويقبلون الأرض ويسيرون صحبة الركاب الشريف
ولما تحقق بيبرس الجاشنكير ذلك، خلع نفسه من السلطنة، وأرسل مع ركن الدين بيبرس الدواداري، ومع بهادراص يطلب الأمان من مولانا السلطان، وأن يتصدق عليه ويعطيه إما الكرك أو حماة، أو صهيون، وأن يكون معه ثلاثمائة مملوك من مماليكه، فوقعت إجابة السلطان إلى مائة مملوك، وأن يعطيه صهيون، وأتم مولانا السير، وهرب(4/57)
الجاشنكير من قلعة الجبل إلى جهة الصعيد وخرج سلار إلى طاعة مولانا السلطان، والتقاه يوم الاثنين الثامن والعشرين من رمضان، قاطع بركة الحجاج، وقتل الأرض وضرب لمولانا السلطان الدهليز بالبركة في النهار المذكور، وأقام بها يوم الثلاثاء سلخ رمضان، وعيد يوم الأربعاء بالبركة، ورحل السلطان في نهاره والعساكر الشامية والمصرية سائرون في خدمته وعلى رأسه الجتر ووصل إلى قلعة الجبل وسار إليها واستقر على سرير ملكه بعد العصر من نهار الأربعاء، مستهل شوال من هذه السنة، أعني سنة تسع وسبعمائة، الموافق لرابع آذار من شهور الروم، وهي سلطنته الثالثة، وفي يوم الجمعة ثالث شوال، وهو اليوم الثالث من وصول مولانا السلطان، سار سلار من قلعة الجبل إلى الشوبك بحكم أن السلطان أنعم بها عليه، وقطع خبزه من الديار المصرية، وأعطى السلطان نيابة السلطنة بحلب سيف الدين قبجق، وارتجع منه حماة، وسار قبجق من مصر يوم الخميس تاسع شوال، ورسم لعسكر حماة بالمسير معه، وتصدق علي وطيب خاطري بأنه لا بد من إنجاز ما وعدني به من ملك حماة، وإنما أخر ذلك لما بين يديه من المهمات والأشغال المعوقة من ذلك، فسرنا مع قبجق من مصر متوجهين إلى الشام، في التاريخ المذكور ووصلنا إلى حماة يوم الخميس خامس عشر ذي القعدة من هذه السنة، ثم رسم السلطان للأمير جمال الدين أقوش الأفرم بصرخد، فسار إليها، وقرر نيابة السلطنة بالشام لشمس الدين قراسنقر، وقرر حماة للحاج بهادر الظاهري، ثم ارتجعها منه وقرره في نيابة السلطنة بالحصون والفتوحات، بعد عزل أسندمر عنها، وكان قد حصلت بيني وبين أسندمر عداوة مستحكمة، بسبب ميله إلى أخيه، فقصد أن يعدل بحماة عني إليه، فلم يوافقه السلطان إلى ذلك، فلما رأى أن السلطان يتصدق بحماة علي، طلبها أسندمر لنفسه، فما أمكن السلطان منعه منها، فرسم السلطان بحماة لأسندمر، وتأخر حضوره لأمور اقتضت ذلك، وقرر السلطان الأمير سيف الدين بكتمر الجوكاندار في نيابة السلطنة بديار مصر.
ذكر القبض على بيبرس الجاشنكير
الملقب بالملك المظفر
كان المذكور قد هرب من قلعة الجبل، عند وصول مولانا السلطان إلى الصالحية، وأخذ منها جملاً كثيرة من الأموال والخيول، وتوجه إلى جهة الصعيد، فلما استقر مولانا السلطان بقلعة الجبل، أرسل إليه وارتجع منه ما أخذه من الخزائن بغير حق، ثم إن بيبرس المذكور قصد المسير إلى صهيون، حسبما كان قد سأله، فبرز من أطفيح إلى السويس، وسار إلى الصالحية، ثم سار منها حتى وصل إلى موضع بأطراف بلاد غزة يسمى العنصر، قريب الداروم، وكان قراسنقر متوجهاً إلى دمشق نائباً بها، على ما استقر عليه الحال، فوصل إليه المرسوم بالقبض على بيبرس الجاشنكير، فركب قراسنقر وكبسه بالمكان المذكور، وقبض عليه به(4/58)
وسار به إلى جهة مصر، حتى وصل إلى الخطارة، فوصل من الأبواب الشريفة السلطانية أسندمر الكرجي، وتسلم بيبرس الجاشنكير من قراسنمر، وأمر قراسنقر بالعود، فعاد إلى الشام، فوصل أسندمر بيبرس الجاشنكير، فحال وصوله إلى قلعة الجبل، اعتقل، يوم الخميس رابع عشر ذي القعدة من هذه السنة، فكان آخر العهد به، وكانت مدة سلطنة بيبرس المذكور الملقب بالملك المظفر أحد عشر شهراً:
تفانى الرجال على حبها ... وما يحصلون على طائل
وفيها غلب ببان بن قبجي على مملكة أخيه، فاستنجد وطرده عنها، واتفق موت كبلك عقيب ذلك، وخلف ولداً اسمه قشتمر بن كبلك، فاستنجد قشتمر وطرد عمه ببان، واستقر في ملك أبيه كبلك، وقيل إن الذي طرده ببان هو أخو منغطاي بن قبجي.
وفيها وردت الأخبار بأن الفرنج قصدت ملك غرناطة بالأندلس، وهو نصر ابن محمد بن الأحمر، فاستنجد بسليمان المريني صاحب مراكش، واتقع ابن الأحمر مع الفرنج.
وفيها تزوج خربندا ملك التتر ببنت صاحب ماردين، الملك المنصور غازي ابن قرا أرسلان، وحملت إليه إلى الأردو.
وفيها في يوم الأربعاء خامس ذي الحجة، حضر مهنا بن عيسى إلى حماة، وطلب توفيق الحال بيني وبين أخي، بسبب حماة، فلم يتفق حال.
وفيها في ثامن عشر ذي الحجة، حضر بدر الدين تتليك السديدي إلى حماة، وحكم فيها نيابة عن أسندمر، وحضر صحبته من السلطان أسندمر، وبقي الانتظار حاصلاً لقدوم أسندمر إلى حماة.
وفيها في يوم الاثنين الرابع والعشرين من ذي الحجة خرجت من حماة مظهراً أني متوجه إلى دمشق، لملتقى أسندمر، فأرسلت في الباطن أسأل من صدقات مولانا السلطان، أن يمكني من المقام بدمشق، ومفارقة حماة، فإنه قد كان استحكم في خاطر أسندمر من عداوتي، فخشيت من المقام بحماة تحت حكم المذكور، فتركتها وسرت إلى دمشق، ودخلتها في يوم الجمعة الثامن والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة، ووصل أسنبغا مملوكي من الأبواب الشريفة يوم الأربعاء رابع المحرم، من سنه عشر وسبعمائة، بمقامي بدمشق، وتصدق علي السلطان بخلعة كرودوحش، وكلوته رزنش، ورسم لي بغلة من حواصل دمشق، وأن أقيم بدمشق، ويكون خبزي بحماة مستقراً علي، وكذلك أجنادي، وأمرني فاستقريت بدمشق ونزحت عن حماة.
ثم دخلت سنة عشر وسبعمائة.
ذكر وصول أسندمر إلى دمشق
متوجهاً إلى حماة
في هذه السنة في يوم الثلاثاء العاشر من المحرم، وصل أسندمر من الأبواب الشريفة متوجهاً إلى حماة، نائباً بها، وكنت حينئذ مقيماً بدمشق، كما ذكرنا، فخرجت إلى الكسوة والتقيته، ووجدت عنده لمقامي بدمشق وخروجي عن حكمه أمراً عظيماً، وأخذ يخدعني(4/59)
ويستميلني، ويطيب خاطري ويسألني المسير معه إلى حماة، فلم أجبه إلى ذلك، فدخل إلى قراسنقر وسأله في إرسالي صحبته طوعاً أو كرهاً، فأجابه أن السلطان رسم بمقامه بدمشق، فلا يمكن خلاف ذلك، فأقام أسندمر بدمشق أياماً قلائل، وتوجه إلى حماة ودخلها في يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من المحرم من هذه السنة.
ذكر القبض على سلار
كان سلار بالشوبك، وقد عزم على الهروب منها، فأرسل السلطان إليه واستدعاه بعد أن عرض عليه المسير إلى حماة، ويكون نائباً بها، ورسم لأسندمر فسار من حماة إلى دمشق، وأخلى حماة لأجل سلار، وترددت المراسلات إليه، فحضر سلار إلى الأبواب الشريفة بديار مصر، في سلخ ربيع الآخر من هذه السنة، وقبض على سلار المذكور، فكان آخر العهد به، واحتيط على غالب موجوده لبيت المال، وكان شيئاً كثيراً.
ذكر استقراري بحماة وعودها إلى البيت التقوي
وما يتعلق بذلك:
وفي هذه السنة، توفي الحاج بهادر النائب بالسواحل الشامية، في يوم الثلاثاء لعشرين من ربيع الآخر، ووصل مهنا بن عيسى إلى دمشق، وتوجه منها إلى مصر في يوم السبت، ومستهل جمادى الأولى، وكان السلطان حريصاً إلى إنجاز ما وعده بأن يقيمني بحماة، وتأخر ذلك بسبب مداراته لأسندمر وغيره، فلما اتفق موت الحاج بهادر، ووصول مهنا بن عيسى إلى الأبواب الشريفة، أعطى مولانا السلطان نيابة السلطنة بالسواحل والفتوحات لأسندمر، وتصدق علي بحماة والمعرة وبارين، وأرسل تقليد أسندمر بالسواحل مع منكوتمر الطباخي، فوصل إلى دمشق في يوم الأحد الثالث والعشرين من جمادى الأولى، وسار إلى حماة، فلم يجب أسندمر إلى المسير إلى الساحل، وامتنع من قبول التقليد والخلعة، ورد التقليد صحبة منكوتمر المذكور، فعاد به إلى دمشق، واتفق عند ذلك موت سيف الدين قبجق نائب السلطنة بحلب، في يوم السبت سلخ جمادى الأولى، فلما وصل خبر موته إلى الأبواب الشريفة، أنعم السلطان بنيابة السلطنة بحلب على أسندمر موضع سيف الدين قبجق، وأنعم على جمال الدين أقوش الأفرم بنيابة السلطنة بالفتوحات، ونقله من صرخد إليها، واستقرت حماة للعبد الفقير إلى الله تعالى إسماعيل بن علي، مؤلف هذا الكتاب، ووصل إلي بدمشق التقليد الشريف بحماة، صحبة الأمير سيف الدين، جلس الناصري السلمدار، وأعطيت حماة في هذه المرة على قاعدة النواب، وكان تاريخ التقليد في ثامن عشر جمادى الأولى سنة عشر وسبعمائة، حسب المرسوم الشريف، وخرجت من دمشق متوجهاً إلى حماة، وصحبتي الأمير سيف الدين قجلس، المذكور، في يوم الأربعاء الثامن عشر من جمادى الآخرة، وأسندمر مقيم بحماة، وهو في أشد ما يكون من الغضب، بسبب فراق حماة، وكوني(4/60)
قد شملتني الصدقات الشريفة السلطانية، حتى أنه عزم أن يقاتلني ويدفعني عنها، وكان قد طلع جميع العسكر الحموي إلى لقائي، والتقوني قاطع حمص، ووصل إلى أسندمر مملوكه سنقر من الأبواب الشريفة، وخوفه من عاقبة فعله، فتوجه أسندمر من حماة ضحى يوم الاثنين المذكور، ودخلت إلى حماة عقيب خروجه منها في النهار المذكور، وكان استقراري في دار ابن عمي الملك المظفر بحماة، بعد الظهر من نهار الاثنين، الثالث والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة، أعني سنة عشر وسبعمائة، الموافق السادس عشر كانون الثاني، وكان خروج حماة عن البيت التقوي الأيوبي عند موت السلطان الملك المظفر صاحب حماة، في يوم الخميس الثاني والعشرين من ذي القعدة، من سنة ثمان وتسعين وستمائة، وعودها في تاريخ التقليد، وهو ثامن عشر جمادى الأولى، سنة عشر وسبعمائة، فيكون مدة خروجها من البيت التقوى إلى أن عادت إليه، إحدى عشرة سنة وخمسة أشهر وسبعة وعشرين يوماً.
ولنذكر جملة من أخبار حماة، وقد ذكرت في أخبار داود وسليمان، في الكتب الأربعة والعشرين التي مع اليهود، ثم صارت بلدة صغيرة حتى صارت من الأعمال، ثم إن اسطيتينوس ملك الروم بنى أسوار حماة، في أول سنة من ملكه، وفرغ منها في سنتين، وبقيت مع الروم حتى فتحها أبو عبيدة بن الجراح بالأمان، بعد فتوح حمص، وبقيت مضافة إلى حمص، وتواردت عمال الخلفاء الراشدين على حمص، حتى ملكت بنو أمية، وأقاموا بدمشق، فتواردت عمالهم عليها ثم لما صارت الدولة لبني العباس، تواردت عمالهم على حمص أيضاً، وعلى حماة وغيرها، ثم استولت القرامطة على حماة، وقتلوا فيها مقتلة كبيرة من أهلها، ثم صارت لصالح بن مرداس الكلابي صاحب حلب، ثم صارت للأمير سهم الدولة خليفة بن جيهان الكردي، ثم صارت لشجاع الدولة جعفر بن كلند والي حمص، وفي سنة سبع وسبعين وأربعمائة، تقدم خلف بن ملاعب صاحب حمص قلعة حماة، ثم أقطع السلطان ملكشاه حماة لأقسنقر، مضافة إلى حلب، وبقيت له إلى أن قتله تنش، ثم صارت حماة لمحمود بن علي بن قراجا، وكان ظالماً، ثم صارت حماة لطغتكين صاحب دمشق، ثم صارت للبرسقي، ثم لولده عز الدين مسعود بن أقسنقرالبرسقي، ثم صارت لبهاء الدين سونج بن بوري بن طغتكين، ثم صارت لعماد الدين زنكي بن أقسنقر، ثم ارتجعها منه شمس الملوك إسماعيل بن بوري بن طغتكين، ثم استولى عليها عماد الدين زنكي، ثم صارت حماة لنور الدين محمود بن زنكي، ثم صارت لولده الملك الصالح إسماعيل بن محمود، ثم صارت لصلاح الدين يوسف بن أيوب، ثم أعطاها لخاله شهاب الدين محمود الحارمي بن تكش، ثم صارت للملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، ثم صارت لولده الملك المنصور محمد بن عمر، ثم صارت لولده الملك(4/61)
الناصر قليج أرسلان بن محمد، ثم صارت لأخيه الملك المظفر محمود بن محمد، ثم صارت لولده الملك المنصور محمد بن محمود، ثم صارت لولده الملك المظفر محمود، ثم خرجت عنهم فتولى فيها قراسنقر زين الدين كتبغا، ثم سيف الدين قبجق، ثم سيف الدين أسندمر، ثم صارت لمؤلف هذا الكتاب، إسماعيل بن علي بن محمود بن محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب.
ولنرجع إلى بقية حوادث هذه السنة، أعني سنة عشر وسبعمائة. ولما قاربت حماة ونزلت الرستن، ألبسني الأمير سيف الدين قجليس التشريف السلطاني، وهو أطلس أحمر بطراز زركش فوقاني، وتحته أطلس أصفر، وكلوته زركش وشاش رقم، ومنطقة ذهب مصري، وسيف محلى بذهب مصري، وأركبني حصاناً برقياً بسرجه ولجامه، ودخلت حماة بذلك، وقرئ التقليد الشريف بحضور الناس، وأعطيت الأمير سيف الدين المذكور أربعين ألف درهم، وأوصلته بالخلع والخيول، وتوجه من حماة في يوم الأحد التاسع والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة، واتفق لي شيء عجيب، وهو أن مولدي بدمشق في جمادى، ووصلني تقليد حماة بدمشق في جمادى، وأقمت بحماة، وحصلت التقدمة على جاري عادة أهلي، وأرسلت سألت من صدقات السلطان دستوراً بالتوجه إلى الأبواب الشريفة، فرسم لي بذلك، فخرجت من حماة في مستهل شوال من شهور هذه السنة، ودخلت مصر وحضرت بين يدي المواقف الشريفة يوم الثلاثاء مستهل ذي القعدة من هذه السنة، وقدمت التقدمة في غد ذلك اليوم، فشملتني الصدقات بقول ذلك، ثم أفاض علي وعلى جميع من كان في صحبتي الخلع، وتصدق علي بالمركوب والنفقة، وأعادني إلى بلدي بحبور الحبور، فوصلت إلى حماة في يوم الثلاثاء السابع ذي الحجة من هذه السنة، الموافق للسابع والعشرين من نيسان.
ذكر ملوك الغرب
توفي أبو الربيع سليمان بن عبد الله بن أبي يعقوب يوسف، في منتصف هذه السنة، وجلس في الملك بعده عم أبيه، أبو سعيد عثمان بن أبي يوسف، يعقوب ابن عبد الحق، في شهر رجب من هذه السنة، واستقرت قدمه في الملك.
ذكر القبض على أسندمر نائب السلطنة بحلب
كان السلطان قد جرد عسكراً مع كراي المنصوري، وشمس الدين سنقر الكمالي، فساروا وأقاموا بحمص، ولما وصلت إلى حماة عائداً من الأبواب الشريفة ركبوا من حمص وساقوا ليكبسوا أسندمر بحلب، ويبغتوه بها، فإنه كان مستشعراً لما كان قد فعله من الجرائم، وأرسل كراي المذكور إلي يعلمني بمسيرهم، وأن أسير بالعسكر الحموي واجتمع بهم، لهذا المهم، فخرجت من حماة يوم الخميس، تاسع ذي الحجة من هذه السنة، وهو ثالث يوم من وصولي من الأبواب الشريفة، ونزلت بالعبادي، وسقنا نهار الجمعة وبعض الليل، ووصلنا إلى حلب بعد(4/62)
مضي ثلثي الليلة المسفرة عن نهار السبت، حادي عشر ذي الحجة، واحتطنا بدار النيابة التي فيها أسندمر، تحت قلعة حلب، وأمسكناه بكرة السبت، واعتقل بقلعة حلب، وجهز إلى مصر مقيداً في يوم الأحد ثاني عشر ذي الحجة من هذه السنة، ووصل إلى مصر فاعتقل بها، ثم نقل إلى الكرك، وكان آخر العهد به، واحتيط على موجوده من الخيل والقماش والسلاح، وكان شيئاً كثيراً، وحمل جميع ذلك إلى بيت المال، واستمر كراي والكمالي ومن معهما من العساكر، والعبد الفقير إسماعيل بن علي، مقيمين بحلب حتى خرجت هذه السنة.
وفيها توفي نجم الدين أحمد بن رفعة بديار مصر، وكان من أعيان الفقهاء الشافعية، وشرح التنبيه في نحو عشرين مجلد، ونقل عليه شرح الوجيز الذي للرافعي.
وفيها في يوم الأحد سابع عشر رمضان، توفي بتبريز القاضي قطب الدين محمود بن مسعود، وكان مولده بمدينة شيزر، في صفر سنة، أربع وثلاثين وستمائة، فيكون مدة عمره ستاً وسبعين سنة وسبعة أشهر، وكان إماماً مبرزاً في عدة علوم مثل العلم الرياضي والمنطق، وفنون الحكمة، والطب، والأصوليين. وله عدة مصنفات منها: نهاية الإدراك في الهيئة، وتحفة السامي في الهيئة أيضاً، وشرح مختصر ابن الحاجب في الفقه، ومصنفاته وفضائله مشهورة.
ثم دخلت سنة إحدى عشرة وسبعمائة.
ذكر وفاة طقطغا وملك أزبك
في هذه السنة ظناً، أعني سنة عشر، أو سنة إحدى عشرة وسبعمائة، توفي طقطغا بن منكوتمر بن طغان بن باطو بن دوشي خان بن جنكزخان، ملك التتر بالبلاد الشمالية، التي كرسي ملكها صراي، وقد تقدم ذكر ملكه في سنة تسعين وستمائة، ولما مات طقطغا المذكور ملك بعده أزبك بن طغريشاه بن منكوتمر بن طغان بن ياطوخان بن دوشي خان بن جنكزخان، واستقر أزبك المذكور ملكاً بتلك الجهات.
ذكر نفل قراسنقر من نيابة السلطنة بدمشق إلى حلب
وولاية كريه المنصوري دمشق وإعطاء العساكر الذين بحلب الدستور:
في هذه السنة، لما قبض على أسندمر، سأل قراسنقر نائب السلطنة بدمشق، من مولانا السلطان أن ينقله إلى نيابة السلطنة بالمملكة الحلبية، لأنه كان قد طال مقامه بها، وألف سكنى حلب، فرسم له بذلك، وحضر تقليده بولاية حلب مع الأمير سيف الدين أرغون الدوادار الناصري، وسار في صحبته من دمشق متوجهاً إلى حلب، وحصل عند قراسنقر استشعار من العسكر المقيمين بحلب، لئلا يقبضوا عليه، وبقي المقر السيفي أرغون الدوادار الناصري المذكور، يطيب خاطر قراسنقر ويحلف له على عدم توهمه، ويسكنه ويثبت(4/63)
جأشه، حتى وصل إلى حلب، وركبت العساكر المقيمون بحلب لملتقاه، فالتقيناه، ودخل حلب في يوم الاثنين ثامن عشر المحرم من هذه السنة، واستقر في نيابة السلطنة بحلب، وأعطي المقر السيفي أرغون الناصري عطاء جزيلاً، وسفّره، وسار المقر السيفي أرغون المذكور من حلب، يوم الأربعاء، لعشرين من المحرم، وتوجه إلى الديار المصرية.
فأقمنا بعد ذلك مدة، ثم ورد الدستور إلى العساكر المقيمة بحلب، فسرنا منها في يوم الجمعة الحادي والعشرين من صفر، عائدين إلى أوطاننا، ودخلت حماة في يوم الاثنين الرابع والعشرين من صفر، من هذه السنة، الموافق الثاني عشر تموز، وأتمت العساكر المصرية والدمشقية المسير إلى بلادهم، ولما انتقل قراسنقر من دمشق إلى حلب، أنعم السلطان بنيابة السلطنة بالشام، على سيف الدين كريه المنصوري، ووصل إليه التقليد بذلك، فاستقر فيها. ثم بعد مدة قبض على كريه المنصوري، ورتب في نيابة السلطنة بالشام، أقرش الذي كان نائباً بالكرك.
ذكر مسير قراسنقر إلى الحجاز
وعوده من أثناء الطريق وهربه
وفيها سأل قراسنقر دستوراً إلى الحجاز الشريف، لقضاء حجة الفرض، فرسم له السلطان بذلك، فعمل شغله وسار من حلب في أوائل شوال، من هذه السنة، ولم يسر على الطريق، وسار على طرف البلاد من شرقيها، حتى وصل إلى بركة زيزا، فحصل عنده النخيل والخوف من الركب المصري، لئلا يقبضوا عليه في الحجاز، فعاد من بركة زيزا على البرية، وسار على البر إلى أركة والسخنة ثم إلى بر حلب واجتمع مع مهنا بن عيسى أمير العرب، واتفقا على المشاققة والعصيان، وقصد قراسنقر حلب ليستولي عليها، فاجتمع العسكر والأمراء الذين بها ومنعوه من الدخول إليها، ووصل من صدقات السلطان إلى قراسنقر، ومهنا ما يطيب خاطرهما، فلم يرجعا عن ضلالهما، وأصرا على ذلك، فجرد السلطان عسكراً مع المقر السيفي أرغون الدوادار الكردي، ومع الأمير حسام الدين قرالاجين، بسبب قراسنقر المذكور، بحيث إن رجع عن الشقاق والنفاق يقرر أمره في مكان يختاره، وإن لم يرجع عن ذلك يقصده العسكر حيث كان، ووصل العسكر المذكور إلى حماة في يوم السبت، سادس ذي الحجة من هذه السنة، الموافق لنصف نيسان.
وسرت بصحبتهم في عسكر حماة، وتوجهنا إلى البرية ونزلنا بالحمام، بالقرب من الزرقاء في يوم الخميس الحادي عشر من ذي الحجة من هذه السنة، فاندفع قراسنقر إلى الفرات وأقام هناك، وافترقت مماليكه، فبعضهم سار إلى التتر، وبعضهم قدم إلى الطاعة، ثم توجه قراسنقر إلى جهة مهنا، فعادت العساكر من الخام إلى حلب، وكان دخولنا إلى حلب في يوم الأحد رابع عشر ذي الحجة من هذه السنة. ثم كان ما سنذكره إن شاء الله تعالى، وفي جمادى الاولى من هذه السنة، قبض على سيف الدين بكتو الجوكندار، نائب السلطنة، وأقام مولانا السلطان مقامه في نيابة السلطنة، الأمير(4/64)
ركن الدين بيبرس الدوادار المنصوري.
وفيها حضرت رسل سيس بالأرزاق المقدرة عليهم في كل سنة، وأحضروا لنواب الشام التقادم على جاري العادة، وأحضروا لي بغلاً وقماشاً، وخرجت هذه السنة والحكام فيها على ما أصفه مولانا السلطان الأعظم، الملك الناصر، ناصر الدنيا والدين محمد ابن السلطان الملك المنصور قلاوون الصالحي، سلطان الإسلام بمصر والشام، وما هو مضاف إليهما، والحجاز، ونائب السلطنة ركن الدين بيبرس الدوادار، صاحب التاريخ المسمى بزبدة الفكرة في تاريخ الهجرة، والنائب بالشام جمال الدين أقوش، الذي كان نائباً بالكرك، وقراسنقر قد أظهر الشقاق وانضم إلى مهنا بن عيسى أمير العرب، وهو متردد في البراري على شاطئ الفرات، والحكم بحلب إلى المشدين والنظار، وليس بها نائب، وقطلوبك بصفد. فإن النائب بصفد كان بكتمر الجوكندار، انتقل إلى مصر على ما تقدم ذكره، فولى السلطان صفد سيف الدين قطلوبك، وإسماعيل مؤلف هذا الكتاب بحماة، وما هو مضاف إليها، وهو المعرة، وبارين، وباقي الأطراف، مثل: البيرة، والرحبة، وغزة، وحمص، وقلعة الروم، وغيرها من مواطن النيابة، جميعها فيها مماليك السلطان، أو مماليك والده، أو مماليك مماليك والده، وجميعهم مرتبون من الأبواب الشريفة، على ما تقتضيه آراؤه العالية، وأما الأطراف البعيدة، فصاحب ماردين الملك المنصور نجم الدين غازي ابن الملك المظفر قرا أرسلان ابن الملك السعيد نجم الدين غازي ابن الملك المنصور ناصر الدين أرتق بن قطب الدين أيلغازي بن إلبي بن حسام الدين تمر تاش بن نجم الدين أيلغازي بن أرتق. وقد تقدم أخبار ملوك ماردين مساقة إلى سنة ثمانين وخمسمائة، ثم ذكرنا أخبارهم في سنة سبع وثلاثين وستمائة، وصاحب اليمن الملك المؤيد شرف الدين داود بن يوسف بن عمر بن علي بن رسول، وملك التتر بالعراقين وكرمان وخراسان وديار بكر والروم وأذربيجان وغيرها، خربندا بن أرغون بن أبغا بن هولاكو ابن طلو بن جنكزخان، وسار قبجي ملك تركستان بما وراء النهر، وصاحب التخت بالصين، القائم مقام جنكزخان سرقين بن منغلاي بن قبلاي بن طلو بن جنكزخان، وملك التتر ببلاد الشمال، التي كرسي ملكها صراي، أزبك بن طغريشاه بن منكوتمر ابن طغان، وملك التتر بغزنة، وباميان، منطغاي بن قبجي بن أردنو بن دوشي خان بن جنكزخان، وملك المغرب أبو سعيد عثمان بن يعقوب بن عبد الحق المربني، وملك غرناطة بالأندلس، أبو الجيوش نصر بن محمد بن الأحمر، وصاحب تونس، أبو البقاء خالد بن زكريا بن يحيى بن أبي حفص. والأشكري ملك قسطنطينية، أندر ونيقوس، وملك سيس، أوشين بن ليفون بن هيتوم.
ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وسبعمائة:(4/65)
ذكر هروب الأفرم
واجتماعه بقراسنقر، ثم مسيرهما إلى خربندا:
وفي هذه السنة، قصد أقوش الأفرم، نائب السلطنة بالفتوحات، أن يحدث خلافاً، وأن يجمع الناس عليه، فهرب إليه حموه أيدمر الزردكاش من دمشق، وانضم إليه من لايق به، وسار من دمشق واجتمع بالأفرم بالساحل، وقصدوا من عسكر الساحل ومن غيرهم الموافقة لهم على ضلالهم، فلم يوافقهم أحد، فلما رأى الأفرم ذلك، هرب من الساحل، وخرج على حمية، وعبر على الغولة، بين دمشق وحمص. وسار في البرية واجتمع بقراسنقر في شهر المحرم من هذه السنة، وكان بعض العساكر مع الأمير سيف الدين أركتمر على حمص، فساق خلف الأفرم فلم يلحقه، وكان على حلب العسكر المقدم ذكره في السنة الماضية، صحبة الأمير سيف الدين أرغون الدوادار، فلما بلغنا هروب الأفرم واجتماعه بقراسنقر، وهم قريب سلمية، وقع آراء الأمراء على الرحيل من حلب والمسير إلى جهة حمص وسلمية، فرحل الأمير سيف الدين أرغون الكردي، والأمير حسام الدين قرا لاجين، ومؤلف هذا المختصر بعسكر حماة من حلب، وسرنا ووصلنا إلى حماة في ثاني عشر المحرم من هذه السنة، ووصلت باقي العساكر، وسرنا من حماة في يوم الثلاثاء خامس عشر المحرم الموافق للثامن والعشرين من أيار، ونزلنا بظاهر سلمية، وقصد قرابشقر والأفرم كبس العسكر بالليل لظنهما أن فيهم مخامرين، وأنهم يوافقونهم على ذلك، فلم يوافقهم أحد على ذلك، فرجعوا عن ذلك، وسار قراسنقر والأفرم ومن معهما إلى جهة الرحبة فاتفق آراء الأمراء على تجريد عسكر في إثرهم، فجردوا العبد الفقير إسماعيل بن علم بعسكر حماة، وكذلك جردوا من المصريين الأمير سيف الدين قلي، بمقدمته وغيره من المقدمين المصريين، والمقدمين الدماشقة، فسرنا من سلمية في يوم الخميس سابع عشر المحرم من هذه السنة، إلى القسطل، ثم إلى قديم، ثم إلى عرض، ثم إلى قباقب، ثم إلى الرحبة، ووصلنا إليها في يوم الأحد الثامن والعشرين من المحرم، فلما وصلنا إلى الرحبة، اندفع قراسنقر ومن معه إلى جهة رومان، قريب عانة، والحديثة، فما أمكنا المضي خلفه إلى تلك البلاد بغير مرسوم، فأقمنا بالرحبة، ثم رحلنا منها عائدين في مستهل صفر الموافق لثامن حزيران من هذه السنة، وسرنا إلى المقر السيفي أرغون الدوادار، وكان قد سار من سلمية إلى حمص، فوصلنا إلى حمص في يوم الخميس ثامن صفر من هذه السنة، ثم إن المقر السيفي رأى أن حماة قريبة، وليس بمقامي بعسكر حماة على حمص فائدة، فاقتضى رأيه سيري إلى حماة، فسرت إلى حماة ودخلتها يوم الاثنين، ثاني عشر صفر واستمر العسكر مقيمين بحمص، ثم إن قراسنقر والأفرم طال عليهما الحال، وكثر ترداد الرسل إليهما في إطابة خواطرهما، وهما لا يزدادان إلا عتواً ونفوراً، حتى سارا إلى التتر واتصلا بخربندا في ربيع الأول من هذه(4/66)
السنة، وكذلك أيدمر الزردكاش، ومن انضم إليهم.
ذكر وصول الدستور إلى العسكر
ولما اتصل بالعلوم الشريفة السلطانية ما اتفق من الأمر، تقدم مرسومه إلى العساكر بالمسير إلى أماكنهم، فسار من حمص في يوم الاثنين السادس والعشرين من صفر من هذه السنة، الموافق لثالث تموز، وعادوا إلى أوطانهم.
ذكر وفاة صاحب ماردين
في هذه السنة يوم الأحد، ثامن ربيع الآخر، توفي صاحب ماردين، ومن عقيب مسيرة قراسنقر من عنده إلى الأردو، وهو الملك المنصور نجم الدين غازي ابن الملك المظفر قرا أرسلان ابن السعيد نجم الدين غازي بن المنصور بن أرتق أرسلان بن قطب الدين أيلغازي بن إلبي بن تمرتاش بن أيلغازي بن أرتق، صاحب ماردين، وملك ماردين بعده ابنه الألبي، الملك العادل عماد الدين علي بن غازي، نحو ثلاثة عشر يوماً، ثم ملك أخوه شمس الدين صالح، وتلقب بالملك الصالح ابن غازي المذكور.
ذكر وصول النائب إلى حلب
وفيها قرر السلطان، سيف الدين سودي الجمدار الأشرفي، ثم الكردي، في نيابة السلطنة بحلب المحروسة، موضع قراسنقر، فوصل سودي المذكور إلى حلب في ثامن أو تاسع ربيع الأول من هذه السنة، واستقر في نيابة السلطنة بحلب.
ذكر مسيري إلى مصر
وفي هذه السنة توجهت إلى الأبواب الشريفة، وخرجت من حماة يوم الاثنين، ثامن عشر ربيع الأول من هذه السنة، الموافق للرابع والعشرين من تموز، وسقت من أثناء الطريق على البريد، ووصلت إلى قلعة الجبل، وحضرت بين يدي المواقف الشريفة السلطانية، في يوم الاثنين العاشر من ربيع الآخر، الموافق للرابع عشر من آب، ثم وصلت صبياني، وقدمت التقدمة في يوم الجمعة خامس عشر ربيع الآخر، وكان قبل وصولي، قد قبض على بيبرس الدوادار نائب السلطنة، وعلى جماعة من الأمراء، مثل الكمالي، فحال حضوري بين يديه، أفاض علي التشريف السلطاني الأطلس المزركش، على عوائد صدقاته، وأمر بنزولي في الكبش، فأقمت به، فاتفق بعد أيام يسيرة، أن النيل وفي ونشر الخلع، في يوم الأحد، الثالث والعشرين من ربيع الآخر من هذه السنة، الموافق للسابع والعشرين من آب، من شهور الروم، ورابع أيام النسيء بعد مسيري من شهور القبط، واتفق في أيام حضوري بين أيدي المواقف الشريفة، إقامة المقر السيفي أرغون الدوادار في نيابة السلطنة، وقلده(4/67)
وأعطاه السيف، وألبسه الخلعة، ولما لم يبق لي شغل، تصدق السلطان وأفاض علي وعلى أصحابي الخلع، وشرفني بمركوب بسرجه ولجامه، ثم تصدق علي بثلاثين ألف درهم، وخمسين قطعة من القماش، ورسم أن يكتب لي التقليد بمملكة حماة، والمعرة، وبارين، تمليكاً ولولا خوف التطويل، لأوردنا التقليد عن آخره. لكنا نذكر منه فصولاً يحصل بها الغرض، طلباً للاختصار.
فمنه: بعد البسملة، الحمد لله الذي عضد الملك الشريف بعماده، وأورث الجد السعيد سعادة أجداده، وبلغ ولينا من تباهى ببابه، ملوك بني الأيام غاية مراده، ومنه: فأصبح جامع شملها، ورافع لواء فضلها، وناشر جناح عدلها.
ومنه: يحمد على أنه صان بنا الملك وحماه، وكف بكف بأسنا المتطاول على استباحة حماه.
ومنه: ونشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. أما بعد: فإن أولى من عقد له لواء الولاء، وتشرفت باسمه أسرة الملوك وذوي المنابر، وتصرفت أحكامه في ما يشاء من نواه وأوامر، وتجلى في سماء السلطنة شمسه، فقام في دستها مقام من سلف، وأخلف في أيامنا الزاهرة درج من أسلافه، إذ هو ببقائنا إن شاء الله خير خلف، من ورث السلطنة لا عن كلالة، واستحقهما بالأصالة والإثالة والجلالة، وأشرقت الأيام بغرة وجهه المنير، وتشرفت به صدور المحافل، وتشوق إليه بطن السرير، ومن أصبح لسماء المملكة الحموية، وهو زين أملاكها، ومطلع أفلاكها، وهو المقام العالي العمادي ابن الملك الأفضل، نور الدين علي، ابن السلطان الملك المظفر، تقي الدين ولد السلطان الملك المنصور، ولد السلطان الملك المظفر تقي الدين أعطاها شاهنشاه بن أيوب وهو الذي ما برحت عيوق مملكته إليه متشوفة، ولسان الحال يتلو ضمن الغيب، قل اللهم مالك الملك، تؤتي الملك من تشاء، إلى أن أظهر الله ما في غيبه المكنون، وأنجز له في أيامنا الوعود، وصدق الظنون، وشيد الله منه الملك بأرفع عماد، ووصل ملكه بملك أسلافه، وسيبقى في عقبه إن شاء الله إلى يوم التناد، فلذلك رسم بالأمر الشريف العالي المولوي السلطاني الملكي الناصري الباهري، لا زالت المماليك مغمورة من عطائه، والملوك تسري من ظل كنفه، تحت مسبول غطائه، أن يستقر في يد المقام العالي العمادي المشار إليه، جميع المملكة الحموية، وبلادها، وأعمالها، وما هو منسوب إليها، ومباشرها التي يعرضها قلمه وقسمه، ومنابرها التي يذكر فيها اسم الله تعالى واسمه، وكثيرها وقليلها، وحقيرها وجليلها، على عادة الشهيد الملك المظفر تقي الدين محمود، إلى حين وفاته.
ومنه: وقلدناه ذلك تقليداً، يضمن للنعمة تخليداً، وللسعادة تجديداً.
ومنه: في آخره والله تعالى يؤهل بالنصر مغناه، ويجمل ببقائه صورة دهر هو معناه، والاعتماد على الخط الشريف أعلاه. وكتب في الخامس والعشرين من ربيع الآخر سنة اثنتى عشرة وسبعمائة، حسب المرسوم الشريف، والحمد لله وحده، وصلواته على محمد وآله وصحبه(4/68)
وسلم.
ثم رسم لي بالعود إلى بلدي، فخرجت من القاهرة يوم الثلاثاء الثاني من جمادى الأولى من هذه السنة، وسرت إلى دمشق، وكان قد وصل إليها الأمير سيف الدين تنكز الناصري نائباً، واستقر في نيابة السلطنة بها، بعد جمال الدين أقوش الذي كان نائباً بالكرك، وأحسن الأمير المذكور إلي وتلقاني بالإكرام، ووصلت إلى حماة، واجتمع الناس، وقرئ التقليد الشريف عليهم، في يوم الاثنين، الثاني والعشرين من جمادى الأولى، الموافق للخامس والعشرين من أيلول.
ولما وصلت إلى حماة، كان قد سافر الأمراء الغرباء إلى حلب، فإني لما كنت بالأبواب الشريفة، استخبرني مولانا السلطان عن أحوالي وما أشكو منه فلم أفصح له بشيء، فاطلع بعلمه الشريف، وحدة ذهنه، وقوة فراسته، على تقلقي من الأمراء المماليك السلطانية المقيمين بحماة، فإنهم استجدوا بحماة لما خرجت من البيت التقوي الأيوبي، فاطلع السلطان على تعبي معهم وأنهم ربما لا يكونون وفق غرضي، فاقتضى مرسومه الشريف نقلهم إلى حلب، واستمرار إقطاعاتهم التي كانت لهم بحماة عليهم، إلى أن يتجلى ما يعوضهم به، فتقدم مرسومه إليهم بذلك، ووصل إليهم المرسوم على البريد بتوجههم إلى حلب، قبل وصولي إلى حماة بأيام يسيرة، فحال وصول المرسوم خرجوا من حماة عن آخرهم، ولم يبيتوا بها، وانتقلوا بأهلهم وجندهم، وكانوا نحو أربعة عشر أميراً، بعضهم بطبلخاناه، وبعضم أمراء عشرات، ووصلت إلى حماة ولم يبق غير من اخترت مقامه عندي، وكان هذا من أعظم النفقة والصدقة.
ذكر تجريد العسكر إلى حلب
ووصول العدو ومنازلة الرحبة
وفي هذه السنة، في يوم السبت سابع عشر رجب، خرجت من حماة بعساكر حماة، ودخلت حلب في يوم السبت الآخر، الرابع والعشرين من رجب المذكور، وأقمت بها، وكان النائب بها الأمير سيف الدين سودي، ثم وصل بعض عسكر دمشق مع سيف الدين بهادراص، وقويت أخبار التتر، وجفل أهل حلب وبلادها، ثم وصلت التتر إلى بلاد سيس، وكذلك وصلوا إلى الفرات، فعندها رحل الأمير سيف الدين سودي وجميع العساكر المجردة من حلب، في يوم الخميس ثامن رمضان، في هذه السنة، ووصلنا إلى حماة في يوم السبت سابع عشر رمضان المذكور، وكان خربندا نازل الرحبة بجموع المغل، في آخر شعبان من هذه السنة، الموافق لأواخر كانون الأول، وأقام سيف الدين سودي بعسكر حلب وغيره من العساكر المجردة بظاهر حلب، ونزل بعضهم في الخانات، وكان البرد شديداً والجفال قد ملأه المدينة، واستمرينا مقيمين بحماة، وكشافتنا تصل إلى عرض والسخنة، وتعود إلينا بأخبار المخذول، واستمر خربندا محاصراً للرحبة، وأقام عليها المجانيق، وأخذ فيها النقوب، ومعه قراسنقر والأفرم، ومن معهما، وكانا قد(4/69)
أطمعا خربندا أنه ربما يسلم إليه النائب بالرحبة قلعة الرحبة، وهو بدر الدين بن أركشي الكردي، لأن الأفرم هو الذي كان قد سعى للمذكور في نيابة السلطنة بالرحبة، وأخذ له إمرة الطبلخاناه، فطمع الأفرم بسبب تقدم إحسانه إلى المذكور أن يسلم إليه الرحبة، وحفظ المذكور دينه، وما في عنقه من الإيمان للسلطان، وقام بحفظ القلعة أحسن قيام، وصبر على الحصار، وقاتل أشد قتال، ولما طال مقام خربندا على الرحبة بجموعه، وقع في عسكره الغلاء والفناء، وتعذرت عليه الأقوات، وكثرت منه المقفزون إلى الطاعة الشريفة، وضجروا من الحصار، ولم ينالوا شيئاً، ولا وجد خربندا لما أطمعه به قراسنقر والأفرم صحة، فرحل خربندا عن الرحبة راجعاً على عقبه، في السادس والعشرين من رمضان من هذه السنة، بعد حصار نحو شهر، وتركوا المجانيق وآلات الحصار على حالها، فنزلت أهل الرحبة واستولوا عليها ونقلوها إلى الرحبة، ولما جرى ذلك، رحل سودي وعسكر حلب من حماة وعادوا إلى حلب، واستمر بهادراص ومن معه من عسكر دمشق مقيماً بحماة مدة، ثم ورد لهم الدستور، فساروا إلى دمشق.
ذكر مسير السلطان بالعساكر الإسلامية إلى الشام
ثم توجهه إلى الحجاز:
في هذه السنة سار مولانا السلطان بالعساكر الإسلامية من ديار مصر، وكان مسيره بسبب نزول التتر على الرحبة حسبما ذكرنا، ووصل إلى دمشق يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من شوال من هذه السنة، أعني سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، بعد رحيل العدو عن الرحبة وعودهم على أعقابهم، فلما لم يبق في البلاد عدو، عزم على الحجاز الشريف لأداء حجة الفرض، فرتب العساكر بالشام، وأمر بعضهم بالمقام باللجون وسواحل عكا وقاقون، وجرد بعضهم على حمى حمص، وترك نائب السلطنة المقر السيفي أرغون، ونائب السلطنة بالشام الأمير سيف الدين تنكز، مقيمين بدمشق، وعندهما باقي العساكر، واستجار السلطان بالله تعالى وخرج من دمشق متوجهاً إلى الحجاز الشريف، في يوم الخميس الثاني من ذي القعدة الموافق لأول آذار، وأتم المسير ووصل إلى عرفات، وأكمل مناسك الحج، وعاد مسرعاً فوصل إلى الكرك سلخ هذه السنة، ثم كان ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها ولد ولدى محمد بن إسماعيل بن علي بن محمود بن محمد بن عمر ابن شاهنشا بن أيوب، وكانت ولادته في إقامة الساعة الثانية من نهار الخميس، مستهل رجب، الفرد من هذه السنة، أعني سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، الموافق الثاني يوم من تشرين الثاني من شهور الروم.
وفيها انخسف القمر مرتين، مرة في صفر، ومرة في شعبان.
وفيها كانت الأمطار قليلة حتى خرج فصل الشتاء، ثم تدارك الأمطار(4/70)
في فصل الربيع، إلى أن زادت الأنهر زيادة عظيمة في آخر نيسان على خلاف ما عهد.
وفيها قوي استيحاش الأمير مهنا بن عيسى أمير العرب لما اعتمد من مساعدة قراسنقر، ولغير ذلك من الأمور، وكاتب خربندا، ثم أخذ منه إقطاعاً بالعراق، وهو مدينة الحلة، وغيرها، واستمر إقطاعه من السلطان بالشام وهو مدينة سرمين، وغيرها على حاله، وعامله السلطان بالتجاوز ولم يؤاخذه بما بدى منه، وحلف على ذلك مراراً فلم يرجع عما هو عليه، وجعل مهنا ولده سليمان بن مهنا منقطعاً إلى خدمة خربندا، ومتردداً إليه واستمر ابنه موسى بن مهنا في صدقة السلطان ومتردداً إلى الخدمة، واستمر مهنا على ذلك أخذ الإقطاعين بالشام والعراق، ويصل إليه الرسل من الفريقين وخلعهما وإنعامهما، وهو مقيم بالبرية ينتقل إلى شط الفرات من منازله، لا يروح إلى أحد الفئتين، وهذا أمر لم يعهد مثله، ولا جرى نظيره، فإن كلاً من الطائفتين لو اطلعوا على أجد منهم أنه يكتب إلى الطائفة الأخرى سطراً قتلوه لساعته، ولا يمهلونه ساعة، ووافق مهنا في ذلك سعادة خارقة.
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وسبعمائة.
ذكر وصول السلطان من الحجاز الشريف
وفي هذه السنة وصل مولانا السلطان إلى دمشق في يوم الثلاثاء حادي عشر المحرم، عائداً من الحجاز الشريف، بعد أن أقام بالكرك أياماً وجمع الله له بذلك سعادة الدنيا والآخرة، وتوجهت إلى خدمته من حماة، وحضرت بين يديه بدمشق المحروسة في يوم الخميس، الثالث عشر من المحرم، من هذه السنة الموافق لعاشر أيار، وهنيته بقدومه إلى مملكته وعبيده وقدمت ما أحضرته من الخيول والقماش والمصاغ فقابله بالقبول، وشملني إحسانه بالخلع والإكرام على جاري عوائد صدقاته، وأرسل إلي هدية الحجاز حجراً أشقر وطاقات طائفي مع الأمير طاشمر الخاصكي.
ذكر خروج المعرة عن حماة
وفي هذه السنة في المحرم خرجت المعرة عن حماة، وأضيفت إلى حلب، واستقر بيدي حماة وبارين، وسبب ذلك أن الأمراء الذين كانوا بحماة، ثم انتقلوا إلى حلب حسبما ذكرنا في سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، واستقرت إقطاعاتهم بحماة، لعدم إقطاعات محلولة تفي بجملة ما لهم، فصعب عليهم نقلتهم إلى حلب جداً، فأخذوا في التعنت والشكوى علي بسبب إقطاعاتهم ونقودهم المرتبة بحماة، وانضم إلى ذلك أنه صار يتغير بعض إقطاعاتهم، ويدخل فيها شيء من بلاد حلب بحكم تنقل أو زيادة، ترد المناشير الشريفة بذلك، وتخلط بلاد المملكة الحموية ببلاد المملكة الحلبية وغيرها من الممالك السلطانية وصارت أطماعهم معلقة بالعودة إلى حماة، وهم مجتهدون على ذلك تارة بالتثقيل على السلطان(4/71)
بالشفائع، وتارة بالسعي في ذهاب حماة مني، فلم أجد لذلك ما يحسمه إلا بتعيين المعرة وبلادها للأمراء المذكورين، وإضافتها إلى حلب، وانفرادي بحماة وبارين منفصلة عن الممالك الشريفة السلطانية، وسألت صدقات السلطان في ذلك، وقال لي أيا عماد الدين، ما أرضى لك بدون ما كان في يد عمك وابن عمك وجدك، وكيف أنقصك عنهم المعرة، فعاودت السؤال وأبديت التضرر الزائد، فأجابني على كره لذلك، صدقة علي وإجابة إلى سؤالي، وكتب بصورة ما استقر عليه الحال مرسوماً شريفاً، ذكرنا بعضه طلباً للاختصار. فمنه أفلذلك رسم بالأمر الشريف العالي المولوي السلطاني الملكي الناصري، أن يستقر بيده حماة وبارين بجميع حدودها، وما هو منسوب إليها من بلاد وضياع وقرايا، وجهات وأموال ومعاملات، وغير ذلك، من كل ما ينسب إلى هذين الإقليمين ويدخل في حكمهما، يتصرف في الجميع كيف شاء من تولية، وإقطاع إقطاعات الأمراء والجند وغيرهم من المستخدمين من أرباب الوظائف، وترتيب القضاة والخطباء وغيرهما، ويكتب بذلك مناشير وتواقيع من جهته، ويجري ذلك على عادة الملك المظفر تقي الدين محمود صاحب حماة، ويقيم على هاتين الجهتين خمسمائة فارس بالعدة الكاملة من غير نقص، ويبطل حكم ما عليهما من المناشير والتواقيع الشريفة والمسامحات والمحسوب، وكل ما هو مرتب عليهما للأمراء والجند والعرب والتركمان وغيرهم، بحكم الإنعام بهما على المشار إليه، على قاعدة الملك المظفر صاحب حماة، وتعويض الجميع عن ذلك بالمعرة، وإفرادها عن حماة وبارين، فليستقر جميع ما ذكر بيده العالية، استقرار الدرر في أملاكها، والدراري في أفلاكها، ينصرف في أحوالها بين العالمين بنهيه وأمره، ويجري أموالها بين المستوجبين بإنعامه وبرة، ولا يمضي فيها أمر بغير منشوره الكريم، ولا يجري معلوم ولا رسم إلا بمرسومه الجاري على سنن سلفه القديم، وليفعل في ذلك بجميع ما أراد كيف أراد، ويتصرف على ما يختار فيما تحت حكمه الكريم، وبحكمة من مصالح العباد والبلاد، والله تعالى يعلي بمفاخر عماده، ويجعل التأييد والنصر قرين إصداره وإيراده، والخط الشريف حجة بمضمونه إن شاء الله تعالى، كتب في تاسع عشر المحرم سنة ثلاث عشرة وسبعمائة. ثم تصدق بخلعه ثانية، وأنعم علي بسنجق بعصائب سلطانية، يحمل على رأسي في المواكب وغيرها، وهذا مما يختص به السلطان، ولا يسوغ لأحد غيره حمله، ثم رسم بالدستور، فسرت من دمشق في يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من المحرم، وكذلك توجه السلطان عائداً إلى الديار المصرية، فوصل إليها واستقر في مقر ملكه، ودخلت، أنا حماة في يوم الإثنين مستهل صفر من هذه السنة، الموافق للثامن والعشرين من أيار من شهور الروم.(4/72)
ذكر مسيري إلى الحجاز الشريف
وفي هذه السنة أرسلت طلبت دستوراً من مولانا السلطان بالتوجه إلى الحجاز الشريف، فرسم لي بالدستور، وجهزت شغلي وقدمت الهجن إلى الكرك، وجهزت ولدي والثقل مع الركب الشامي، ووصلني من صدقات السلطان ألف دينار عيناً برسم النفقة، ووصلني منه مراسم شريفة بإخراج السوقية من سائر البلاد إلى الركب الحموي، وأن تسير جمالي حيث شئت قدام المحمل السلطاني أو بعده، على ما أراه، فقابلت هذه الصدقات بمزيد الدعاء، وخرجت من حماة في يوم الجمعة رابع عشر شوال من هذه السنة الموافق لأول شباط، وسرت بالخيل إلى الكرك، وركبت الهجن من هناك، ورجعت الخيل والبغال إلى حماة، واستصحبت معي ستة أرؤس من الخيل نجائب، وسار في صحبتي عدة مماليك بالقسي والنشاب، وسبقت الركب إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، ووصلت إليها في يوم الجمعة العشرين من ذي القعدة، وتمكنت من الزيارة خلوة، وأقمت حتى لحقني الركب، ثم سبقتهم ووصلت إلى مكة في يوم السبت، خامس ذي الحجة، وأقمت بها، ثم خرجنا إلى عرفات ووقفنا يوم الأربعاء، ثم عدنا إلى منى وقضينا مناسك الحج، ثم اعتمرت لأني حججت هذه الحجة مفرداً على ما هو المختار عند الشافعي وكنت في الحجة الأولى قارناً، ثم عدنا إلى البلاد، وسبقت الحجاج من بطن مر، وسرت منه يوم الثلاثاء خامس عشر ذي الحجة، الموافق لثامن نيسان، وسرت حتى خرجت هذه السنة، واستهل المحرم سنة أربع عشرة وسبعمائة، وأني قد عديت تبوك ووصلت إلى حماة، حادي عشر المحرم سنة أربع عشرة، وكان مسيري من مكة إلى حماة نحو خمسة وعشرين يوماً، أقمت من ذلك في المدينة، وفي العلا، وفي بركة زيزا ودمشق، ما يزيد على ثلاثة أيام، وكان خالص مسيري من مكة إلى حماة، دون اثنين وعشرين يوماً، وكان مسيري على الهجن، وكان صحبتي فرس وبغل، ولم يقف عني شيء منها، وهذه هي حجتي الثانية، وحججت الحجة الأولى في سنة ثلاث وسبعمائة.
وفيها جرد السلطان من مصر إلى مكة عسكراً وأمراء من عسكر دمشق، وأرسل معهم أبا الغيث بن أبي نمي ليقروه في مكة، ويقبضوا أو يطردوا أخاه حميضة ابن أيي نمي، لأنه كان قد ملك مكة وأساء السيرة فيها، وكان مقدم العسكر المجرد على ذلك، سيف الدين طقصبا الحسامي، فلما اجتمعت به في مكة، أوصلني مثالاً من مولانا السلطان، يتضمن أني أساعدهم على إمساك حميضة بالرجال، والرأي فلما قربنا من مكة حرسها الله تعالى، تركها حميضة وهرب إلى البرية، فقررنا أبا الغيث بمكة، واستغلها وأخذ ما يصل مع الركبان من اليمن وغيره إلى صاحبها، وكذلك استهدى الضرائب من التجار، واستقرت قدمه فيها، ثم كان منه ما سنذكره إن شاء الله(4/73)
تعالى، وأقام العسكر المجرد عند أبي الغيث بمكة خوفاً من معاودة حميضة، ثم إن أبا الغيث أعطى العسكر دستوراً بعد إقامتهم بنحو شهرين، فعادوا إلى الديار المصرية.
وفيها اجتمع جماعة من بني لام، من عربان الحجاز، وقصدوا قطع الطريق على سوقة الركب، الذين يلاقونهم من البلاد إلى تبوك عند عود الحاج، وساروا إلى ذات حج واتقعوا مع السرقة، فقتل من السوقية تقدير عشرين نفساً، وأكثر. ثم انتصروا على بني لام وهزموهم، وأخذوا منهم تقدير ثمانين هجيناً، وعادت بنولام بخفي حنين.
ثم دخلت سنة أربع عشرة وسبعمائة فيها وصلت إلى حماة، عائداً من الحجاز الشريف، في حادي عشر المحرم.
وفيها في أواخر جمادى الآخرة، حصل لي مرض حاد، أيقنت منه بالموت، ووصيت وتأهبت لذلك، ثم إن الله تعالى تصدق علي بالعافية.
وفيها جردت العساكر إلى حلب، فجردت جميع عسكر حماة، أقمت بسبب التشويش. وفيها في رجب، توفي الأمير سيف الدين سودي نائب السلطنة بحلب، فولى السلطان نيابة السلطنة بحلب، الأمير علاء الدين الطنبغا الحاجب، ووصل إلى حلب واستقر بها نائباً بموضع سودي، في أوائل شعبان من هذه السنة.
وفيها في ذي الحجة، جمع حميضة بن أبي نمي وقصد أخاه أبا الغيث بن أبي نمي صاحب مكة، وكان أبو الغيث منتظراً وصول الحجاج ليعتضد بهم، فابتدره حميضة قبل وصول الحجاج، واقتتل معه، فانتصر حميضة وأمسك أخاه أبا الغيث وذبحه، ثم هرب حميضة لقرب الحجاج منه، فلما قضى الحجاج مناسكهم وعادوا إلى البلاد، عاد حميضة إلى مكة، واستولى عليها.
ثم دخلت سنة خمس عشرة وسبعمائة.
ذكر فتوح ملطية
في هذه السنة في يوم الأحد، الثاني والعشرين من المحرم، فتحت ملطية وسبب ذلك أن المسلمين الذين كانوا بها، اختلطوا بالنصارى، حتى أنهم زوجوا الرجل النصراني بالمسلمة، وكانوا يعدون الإقامة بالتتر ويعرفونهم بأخبار المسلمين، وكانت الأجناد والرجالة الذين بالحصون مثل قلعة الروم وبهنسا وكختا وكركر وغيرها، لا ينقطعون عن الإغارة على بلاد العدو، مثل بلاد الروم وغيرها، وكانت طريقهم في غالب الأوقات تكون قريب ملطية، فاتفق أن أهل ملطية ظفروا ببعض الغياره المذكورين، فأسروهم وقتلوا جماعة من المسلمين، فلما جرى ذلك، أرسل السلطان عسكراً ضخماً من الديار المصرية مع الأمير سيف الدين بكتمر الأبوبكري، ومع سيف الدين قلي، وسيف الدين أوول تمر، فساروا إلى دمشق، ورسم السلطان لجميع عساكر الشام المسير معهم، وجعل مقدماً على الكل الأمير سيف الدين تنكز الناصري نائب السلطنة بدمشق، وتقدمت مراسم السلطان إلي أولاً، بأن أجهز عسكر حماة صحبتهم وأن أقيم أنا بمفردي بحماة، ثم رأى(4/74)
المصلحة بتوجهي بعسكر حماة، فتوجهت أنا والعساكر المذكورة، ودخلنا إلى حلب في يوم الخميس والجمعة، ثالث عشر المحرم، لكثرة العساكر، فأبحرت في يومين، ثم سرنا من حلب إلى عين تاب، ثم إلى نهر مرزبان، ثم إلى رعبان، ثم إلى النهر الأزرق، وعبرنا على قنطرة عليه رومية، معمولة بالحجر النحيت لم أشاهد مثلها في سعتها، وسرنا وجعلنا حصن منصور يميننا، وصار منا في جهة الشمال، ووصلنا إلى ذيل الجبل ونزلنا عند خان هناك يقال له خان قمر الدين، وعبرنا الدربند، ويسمى ذلك الدربند بلغة أهل تلك البلاد بند طجق درا بضم الطاء المهملة والجيم وسكون القاف وفتح الدال والراء المهملتين ثم ألف، وبقي العسكر ينجر في الدربند يومين وليلتين لضيقه وحرجه، ثم سرنا إلى زبطرة، وهي مدينة صغيرة خراب، ثم نزلنا على ملطية بكرة الأحد المذكور، أعني الثاني والعشرين من المحرم، الموافق للسابع والعشرين من نيسان وطلبت العساكر ميمنة وميسرة، وأحدقنا بها، وفي حال الوقت خرج منها الحاكم فيها، ويسمى جمال الدين الخضر، وهو من بيت بعض أمراء الروم، وكان والده وجده حاكماً في ملطية أيضاً، ويعرف خضر المذكور بمزامير، ومعناه الأمير الكبير بلغة نصارى تلك البلاد، وفتح باب ملطية القبلي وخرج معه قاضيها وغيرهما من أكابرها، وطلبوا منا الأمان، فأمنهم الأمير سيف الدين تنكز مقدم العسكر، واتفق أن الباب القبلي الذي فتح، كان قبالة موقفي بعسكر حماة، فأرسلت الأمير صارم الدين أزبك الحموي وجماعة معه، وأمرته بحفظ الباب، فإني خفت من طمع العسكر، لثلا ينهبوا ملطية، وليس معنا أمر بذلك، وحفظ الباب حتى حضر الأمير سيف الدين تنكز، وكان موقفه في الجانب الآخر، فلما حضر، وأقام جماعة من الأمراء بحفظ باب المدينة، ثم إن العسكر والطماعة هجموا مدينة ملطية من الباب المذكور، وكذلك هجمها جماعة من العسكر من الجانب الآخر، وأراد سيف الدين تنكز منعهم عن ذلك، فخرج الأمر عن الضبط لكثرة العساكر الطماعة، فنهبوا جميع مفيها من أموال المسلمين والنصارى، حتى لم يدعوفيها إلا ما كان مطموراً، ولم يعلموا به، وكذلك استرقوا جميع أهلها من المسلمين والنصارى، ثم بعد ذلك حصل الإنكار التام على من يسترق مسلماً أو مسلمة، وعرضوا الجميع، فأطلق جميع المسلمين من الرجال والنساء، وأما أموالهم فإنها ذهبت، واستمر النصارى في الرق عن آخرهم، وأسر منها ابن كربغا شحنة التتر بتلك البلاد، وكذلك أسر منها الشيخ مندو، وهو صاحب حصن أركني، وكان مندو المذكور قعيداً لقصاد التتر، وكان يتبع قصاد المسلمين ويمسكهم، وكان من أضر الناس على المسلمين، ولما أمسك، سلم إلى الأمير سيف الدين قلى، وسلمه المذكور إلى بعض مماليكه التتر، فهرب مندو المذكور، وهرب معه المملوك الذي كان مرسماً عليه، ثم لما(4/75)
كان من نهب ملطية ما ذكرناه، ألقى العسكر فيها النار، فاحترق غالبها، وكذلك خربنا ما مكننا من أسوارها أن نخربه، وأقمنا عليها نهاراً واحداً وليلة.
ثم ارتحلنا عائدين إلى البلاد، حتى وصلنا إلى مرج دابق في يوم الخميس، ثالث صفر من هذه السنة، وأقمنا به مدة، وكان ببلاد الروم جوبان، وهو نائب خربندا، ومعه جمع كثير، وكنا مستعدين فلم يقدم علينا، ولا جاء إلى ملطية إلا بعد رحيلنا عنها بمدة، فاستمرينا مقيمين بمرج دابق، وترددت الرسل إلى أوشين بن ليفون صاحب بلاد سيس في إعادة البلاد التي جنوبي جيحان، وزيادة القطيعة التي هي الأتاوة، فزاد القطيعة حتى جعلها نحو ألف ألف درهم، وبعد ذلك ورد الدستور، سرنا من مرج دابق في يوم الخميس ثاني ربيع الأول، ووصلنا إلى حماة في يوم الخميس تاسع ربيع الأول، وبعد يومين من وصولي، وصل الأمير سيف الدين تنكز بباقي العساكر، وعملت له ضيافة بداري التي بمدينة حماة، فمضى هو والأمراء في يوم الأحد، ثاني عشر ربيع الأول، ثم سافر في النهار المذكور إلى دمشق.
وفيها في مدة مقامي بمرج دابق، قبض بمصر على أيد غدي شقير الحسامي، وكان من شرار الناس، وعلى بكتمر الحاجب، وعلى بهادر الحسامي المغربي.
وفيها جهزت خيل التقدمة إلى الأبواب الشريفة، صحبة مملوكي أستبغا، فحصل قبولها والإحسان علي أولاً بحصان برقي بسرجه، ولجامه، ثم بخلعه أطلس أحمر بطرز زركش، وكلوته زركش، وشاش تساعي، وهو شاش منسوج جميعه بالحرير والذهب، وقبا أطلس أصفر تحتاني، وحياصة ذهب بجامة مجوهرة بفصوص بلخش ولؤلؤ، وثلاثين ألف درهم، وخمسين قطعة من القماش السكندراني، وسيف، ودلكش أطلس أصفر، فلبست التشريف السلطاني المذكور، وركبت في الموكب به في يوم الخميس ثاني رجب الفرد، الموافق لثاني تشرين الأول، أيضاً وشملتني الصدقات السلطانية بتوقيع شريف، أن لا تكون بحماة وبلادها حماية للدعوة الإسماعيلية، أهل مصياف، بل يتساوون مع رعية حماة في أداء الحقوق والضرائب الديوانية وغير ذلك.
وفيها قبض على تمر الساقي، نائب السلطنة بالفتوحات، وعلى بهادراص.
وفيها سار الملك الصالح، واسمه صالح ابن الملك المنصور غازي ابن الملك المظفر قرا أرسلان، صاحب ماردين، إلى خدمة خربندا ملك التتر، بالتقادم على عادة والده، فأحسن إليه خربندا، ثم عاد الملك الصالح المذكور إلى ماردين في جمادى الآخرة من هذه السنة.
وفي أثناء هذه السنة ورد إلى الأبواب الشريفة، رميثة بن أبي نمي من مكة، وهو أخو حميضة الأكبر، مستنجداً على أخيه حميضة صاحب مكة حينئذ، فجهز السلطان مع رميثة عسكراً من العساكر المصرية، وجهزهم بما يحتاجون إليه، فسار بهم رميثة إلى مكة، وكان مقدم العسكر تمرخان بن قرمان أمير طبلخاناه، وأمير آخر يقال له(4/76)
طيدمر، وكان العسكر مائتين فارس من نقاوة عسكر مصر، فجمع حميضة ما يقارب اثني عشر ألف مقاتل، وتعبى العسكر المصري، وكان رميثة في القلب، وابن قرمان ميمنة، وطيدمر ميسرة، والتقوا واقتتلوا في عيد الفطر من هذه السنة، وراء مكة إلى جهة اليمن بمراحل، ورمى العسكر بالنشاب، فولى جماعة حميضة منهزمين لا يلوون، وكان لحميضة حصن إلى جهة اليمن، فهرب إليه وانحصر به، فأحاط به العسكر وحاصروه، فنزل حميضة برقبته مع ثلاثة أو أربعة أنفس، وهرب خفية، واحتاط العسكر على ماله وحريمه، وغنموا من ذلك شيئاً كثيراً، قيل إنه حصل للفارس من عسكر مصر ما يقارب عشرة آلاف درهم، وكان في الغنيمة من العنبر الخام وأمثاله ما يفوق الحصر، فأطلق السلطان ذلك جميعه للعسكر، واستقر رميثة صاحب مكة.
وفيها أفرج السلطان عن جمال الدين أقوش الذي كان نائباً بالكرك، ثم صار نائباً بدمشق، وأحسن إليه وعلى منزلته.
وفيها وصل قراسنقر إلى بغداد في رمضان هذه السنة، وتقدم مرسوم إلى التتر الذين ببغداد وديار بكر وتلك الأطراف، بالركوب مع قراسنقر إذا قصد الإغارة على بلاد الشام، وكان خربندا مقيماً بجهة موغان، وأقام قراسنقر وقدم عليه بها فدوى، وسلم قراسنقر، ولما دخلت سنة ست عشرة، توجه قراسنقر في مستهل المحرم من بغداد إلى جهة خربندا.
وفيها في ذي القعدة، ولد للسلطان ولد ذكر، ودقت البشائر لمولده في ديار مصر والشام، ثم توفي المولود المذكور بعد مدة يسيرة، وجهزت تقدمة لطيفة بسبب المولود المذكور صحبة طيدمر، فقدمها وحصل قبولها.
وفيها في جمادى الأولى وصل إلي من صدقات السلطان، حصان برقي أحمر بسرجه، ولجامه، صحبة عز الدين أيبك أمير اخور، فأعطيته خلعة طرد، وحشن بكلوته زركش، وفرساً بسرجه ولجامه، وخمسة آلاف درهم.
وفيها في أواخر ذي القعدة أغار سليمان بن مهنا بن عيسى، بجماعة من التتر والعرب على التراكمين والعرب النازلين قريب تدمر، ونهبهم وأخذ لهم أغناماً كثيرة، ووصل في إغارته إلى قرب البيضا بين القريتين، وتدمر، وعاد بما غنمه إلى الشرق.
وفي هذه السنة، أعني سنة خمس عشرة وسبعمائة توفي نجاد بن أحمد بن حجي بن بزيد بن شبل أمير آل مرا، وكانت وفاته في أواخر هذه السنة، واستقر بعده في أمر آل مرا، ثابت بن عساف بن أحمد بن حجي المذكور، وبقي ثابت المذكور، وتوبة بن سليمان بن أحمد، يتنازعان في الأمرة.
وفيها توفي بدمشق ابن الأركشي الذي كان نائباً بالرحبة لما حصرها خربندا، وكان قد عزل في تلك السنة، وأعطي أمرة بدمشق، وتولى الرحبة مكانه بكتوت القرماني، ثم عزل وولي على الرحبة بعده طغر بك الأنصاري.(4/77)
ذكر أخبار أبي سعيد ملك المغرب
وفي هذه السنة، أعني سنة خمس عشرة وسبع مائة، اجتمع العسكر على عمر ولد أبي سعيد عثمان، ملك المغرب، وبقي والده خائفاً من العسكر، واقتتل عمر المذكور مع والده أبي سعيد عثمان، وانتصر عمر، وهرب أبوه أبو سعيد إلى تازة، فسار ولده عمر وحصره بها، ثم وقع الاتفاق بينهما على أن يسلم أبو سعيد الأمر إلى ولده عمر المذكور، وأشهد عليه بذلك، وبقي أبو سعيد في تازة، وسار عمر بالجيوش إلى جهة فاس، فلحق عمر بعد أيام يسيرة مرض شديد، فكاتب عسكره أباه بمدينة فاس، وعنده بيوت الأموال والسلاح، فحصره أبوه أبو سعيد نحو تسعة أشهر، ثم وقع الاتفاق بينهما على جانب طائل من المال يتسلمه عمر المذكور، وأن تكون له سجلماسة، فتسلم عمر ذلك وسار من فاس إلى سجلماسة، وتسلمها واستقر أبوه أبو سعيد عثمان بن يعقوب بن عبد الحق في المملكة على ما كان عليه، وكان لعمر المذكور حينئذ من العمر نحو عشرين سنة.
وفيها توفي السيد ركن الدين وكان إماماً مبرزاً في العلوم المعقولات والمنقولات وشرح الحاوي الصغير، ومختصر ابن الحاجب في الفقه وفضائله مشهورة.
ثم دخلت سنة ست عشرة وسبعمائة فيها في العشر الأخير من المحرم، الموافق لأواخر العشر الأوسط من نيسان، وترادفت الأمطار، فحصل سيول عظيمة في بلاد حلب وحماة وحمص، وغرق أهل ضيعة من بلاد حمص مما يلي جهة جوسية. وفيها في الثاني والعشرين من ربيع الأول الموافق لرابع عشر حزيران، وصل إلى حماه من ديار مصر، الأمير بهاء الدين أرسلان الدواداري، وأوقع الوصية على أخبار آل عيسى، ثم استقرت بالوصية على خبر مهنا ومحمد ابني عيسى وأحمد وفياض ابني مهنا المذكور، وركب الأمير بهاء الدين المذكور من عندي للجنا، وسار عليها إلى مهنا، واجتمع به على مربعة، وهي منزلة تكون يوماً تقريباً من السنة، يوم الاثنين سلخ ربيع الأول من السنة المذكورة، وتحدث معه في انقطاعه عن التتر، ولم ينتظم حال، فعاد الأمير بهاء الدين المذكور إلى دمشق، ثم عاد إلى موسى بن مهنا بالقرب من سلمية، ثم عاد إلى دمشق وتوجه هو وفضل بن عيسى إلى الأبواب الشريفة، واستقر فضل أميراً موضع أخيه مهنا، ووصل إلى بيوته بتل أعدا، في أوائل جمادى الأولى من هذه السنة.
ذكر مسيري إلى مصر
وعود المعرة:
في هذه السنة حصلت تقدمتي على جاري العادة، من الخيول والقماش والمصاغ، وسألت دستوراً لأتوجه بنفسي إلى الأبواب الشريفة، فورد الدستور الشريف، وسرت من حماة آخر نهار الجمعة، الخامس والعشرين من ربيع الآخر، الموافق لسادس عشر تموز، وكانت خيلي قد تقدمتني، فلحقتهم على خيل البريد بدمشق، وخرجت من دمشق(4/78)
في نهار وصولي إليها. وهو يوم الاثنين الثامن والعشرين من ربيع الآخر المذكور، ووصلت إلى القاهرة عشية نهار الأحد ثامن عشر جمادى الأولى، وأنزلت في الكبش، وحضرت بين يدي المواقف الشريفة السلطانية بكرة الاثنين تاسع عشر جمادى المذكورة، وشملني من الصدقات السلطانية ما يفوت الحصر من ترتيب الإقامات في الطرقات من حماة إلى مصر، ومن كثرة الرواتب مدة مقامي بالكبش، ومن الخلع لي ولكل من في صحبتي ووصلني بحصانين بسروجهما ولجمهما، أحدهما كان سرجه محلى ذهباً مصرياً، واتفق عند وصولي زيادة النيل على خلاف العادة، ووفى ماء السلطان وكسر بحضوري في نهار الخميس الثاني والعشرين من جمادى الأولى، الموافق لثاني عشر آب، وتاسع عشر مسري، وهذا شيء لم يعهد في جيلنا وأقمت في الصدقات السلطانية، ووصلني بثلاث خلع، أحدها أطلس تحتاني أصفر وفوقاني أحمر بطرز زركش، وكلوته زركش، وشاس تساعي. والأخرى قبا منسوج بالذهب، وطراز زركش يزيد عن مائة مثقال من الذهب المصري بفرو قاقم والخلعة الثالثة عند مسيري، قباً ثالثاً بالشرج، وتصدق علي بمدينة المعرة وقصبتها زيادة على ما بيدي، وكتب لي بها تقليد يشبه ما كتب لي حماة، ومدحني شهاب الدين محمود كاتب الإنشاء الحلبي بقصيدة، ذكر فيها صدقات السلطان وعود المعرة أضر بنا عن غالبها خوف التطويل فمنها:
بك تزهى مواكب وآسرة ... ولك الشمس والقواضب آسره
وبأيامك التي هي روض ... للأماني تجتني ثمار المسره
بك كل الدنيا تهني ويضحي ... قدرها عالياً وكيف المعره
وتوجهت من الأبواب الشريفة وأنا مغمور محبور بأنواع الصدقات السلطانية، وسرت من الكبش بعد العشاء الآخرة، من الليلة المسفرة عن نهار الجمعة، رابع عشر جمادى الآخرة، وقدمت مملوكي طيدمر الدوادار مبشراً على البريد لأهلي بحماة، ثم حقني إلى سريا قوش الأمير سيف الدين كجري أمير شكار، بسنقور، وكذك وصلني أحمال من الحلاوة والسكر والشمع زائداً عن الإقامات المرتبة في الطرقات، كذلك وصلني سيف محلى بالذهب المصري، وأتممت السير وتوجهت عن غزة زيارة، فزرت الخليل، ثم القدس، وسرت من القدس يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من جمادى الآخرة، ودخلت دمشق يوم الأحد مستهل رجب، ولما أصبحت، سرت ما ودخلت حماة نصف الليلة المسفرة عن نهار الخميس خامس رجب الموافق للثالث والعشرين من أيلول، فإني قصدت في ذلك عدم التثقيل على الناس، فإنهم كانوا قد زينوا حماة واحتفلوا بالبسط لقدومي، فدخلت بغتة ليلاً لذلك ولم يكن عسكر حماة فيها، فإني جردتهم إلى حلب حسب المرسوم الشريف،(4/79)
وساروا من حماة إلى حلب يوم خروجي من حماة إلى الديار المصرية، فأقاموا بحلب، ثم جردهم نائب حلب إلى عين تاب ثم إلى الكختا، ثم عادوا إلى حماة في أول شعبان بعد قدومي بقريب شهر.
وفيها مرض الأمير سيف الدين كستاي نائب السلطنة بطرابلس والقلاع في يوم الأربعاء تاسع عشر ربيع الآخر، الموافق لثامن أيلول، فولى السلطان موضعه الأمير شهاب الدين قرطاي أحد أمراء دمشق حينئذ.
وفيها في جمادى الآخرة، سار مهنا بن عيسى، وكان نازلاً بالقرب من عانة، إلى خربندا، واجتمع به بالقرب من قنغرلان، ثم عاد إلى بيوته.
وفيها في ثاني عيد الفطر الموافق لتاسع عشر كانون الأول، وقع بحماة والبلاد التي حواليها ثلوج عظيمة، ودامت أياماً، وبقي على الأرض ذراع، ودام على الأرض أياماً وانقطعت الطرق بسببه وكان ثلجاً لم أعهد مثله، وكان البرد والجليد شديداً عاماً في البلاد، حتى جلد الماء في الديار المصرية، ووقعت الثلوج باللاذقية والسواحل.
وفيها جهزت صحبة لاجين المشد، تقدمة لطيفة، ومملوكاً يسمى يلدز، إلى المواقف الشريفة، فوصل بذلك وقدمه فقبله وشملتني صدقات السلطان صحبة لاجين المذكور، بمسامحات ما علي بضائع أجهزها مع كافة التجار في جميع البلاد، وكذلك زادني على المعرة بجملة غلال بلادها، وضاعف علي صدقاته، وكان وصول لاجين بذلك إلى حماة بالسابع والعشرين من شوال من هذه السنة أعني سنة ست عشرة وسبعمائة.
وفيها قصد حميضة بن أبي نمي خربندا مستنصراً في إعادته إلى ملك مكة، ودفع أخيه رميثة فجرد خربندا مع حميضة الدرفندي، وهو النائب على البصرة، وجرد معه جماعة من التتر وعرب خفاجة.
وفيها في ذي القعدة خرجت المعرة عني، وسبب ذلك أن محمد بن عيسى طلبها ليحضر إلى الطاعة، فأجيب إلى ذلك؛ وتسلمها نواب المذكور، وكتب إلى السلطان بما طيب خاطري من جهتها.
وفيها بلغ السلطان أن حميضة قد جهزه خربندا بعسكره وخزانة، صحبة الدرفندي، ليملكه مكة، فجهز السلطان نائبه في السلطنة، وهو المقر الأشرف السيفي أرغون الدوادار، فحج وحج العسكر صحبته، وعادوا سالمين وأما حميضة والدرفندي، فكان من أمرهما ما سنذكره.
وفيها لما قدم عسكر مصر إلى مدينة الرسول، كان مقدمهم المقر السيفي أرغون، فحضر إليه منصور بن حماد الحسيني صاحب مدينة الرسول فطلع معه يودعه إلى عيون حمزة، فخلع نائب السلطنة على منصور المذكور، وعلى ولده كبش بن منصور، وأعادهما إلى المدينة، فلما حضر المحمل المصري وصحبته العسكر خرج إليهم منصور فقبضوا عليه، وأحضر معتقلاً إلى بين يدي السلطان إلى ديار مصر، فتصدق عليه السلطان وأفرج عنه، وأمره بالعود إلى بلده.
وفي هذه السنة أعني سنة ست عشرة وسبعمائة في السابع والعشرين من رمضان مات خربندا أرغون بن أبغا بن هولاكو بن طلو بن جنكزخان، وكان جلوسه في الملك في أواخر في الحجة سنة ثلاث وسبعمائة، ومات بالمدينة الجديدة التي سماها السلطانية، وكان اسم بقعتها قنغرلان، فلما مات خطب بالسلطنة لولده أبي سعيد بن خربندا، وكان عمره نحو عشر سنين، واستولى على الأمر جوبان ابن الملك ابن تناون.
ذكر ما جرى لحميضة والدرفندي
وكان خربندا قد جهز حميضة وجهز معه الدرفندي نائب السلطانة بالبصرة، وجهز معه عسكراً وخزانة، ليسير الدرفندي بالعسكر مع حميضه ويقاتل عسكر المسلمين الواصلين إلى الحج. ويملك حميضة بدل أخيه رميثة. فصار الدرفندي وحميضة ومن معهما من عسكر التتر والعرب، حتى جاوزوا البصرة، فبلغهم موت خربندا فتفرقت تلك الجموع، ولم يبق مع الدرفندي غير ثلاثمائة من التتر، وأربعمائة من عقيل عرب البصرة، وكان قد استولى على البصرة ابن السوايكي، فأرسل استوحى محمد بن عيسى على الدرفندي، فجمع محمد بن عيسى عربه عن خفاجة، وعرب إخوته وأولاد إخوته، وسار إلى الدرفندكط، فأحرز له بالقرب من البصرة واتقع معه، في العشر الأخير من ذي الحجة من هذه السنة، أعني سنة(4/80)
ست عشرة وسبعمائة، فانهزم الدرفندي في بضع وثلاثين نفساً من أزلامه، وانهزم حميضة برقبته، وأخذ حريم حميضة وما كان معه من الأموال، وكذلك الخيم والأثقال والجمال وكان ذلك شيئاً عظيماً، وفيها هرب التراكمين الكنجاوية إلى طاعة السلطان وفارقوا التتر.
فسارت التتر في طلبهم، فأنجد الكنجاويين عسكر البيرة واتقعوا مع التتر، فانهزم التتر هزيمة قبيحة، وأسر منهم نحو خمسين من المغل، وقتل منهم جماعة، ووصل الكنجاوية سالمين بذواتهم وحريمهم إلى البلاد الإسلامية.
ثم دخلت سنة سبع عشرة وسبعمائة ولما دخلت هذه السنة، كان الصبي ابن خرابندا، واسمه أبو سعيد، قد حضر من خراسان صحبة سونج، وغيره من الأمراء إلى ظاهر السلطانية، واجتمعوا مع جوبان، ونزلوا جميعهم بظاهر السلطانية مع ذيل الجبل، ومضى من أول هذه السنة عدة أشهر، ولم يجلس هذا الصبي على سرير الملك، بل اسم السلطنة للصبي، والحاكم جوبان، وفي الباطن بينه وبين سونج الوحشة. وكل من سونج وجوبان يختار أن يكون هو الذي يجلس الصبي ويكون نائبه فتأخر جلوسه لذلك.
ثم إنهم اتفقوا وأخرجوا استقطلو عنهم، وجهزوه إلى خراسان، وكان قد تحرك على خراسان التتر الذين بخوارزم وما وراء النهر، وقيل إن ملكهم ياشور.
وفيها في يوم الثلاثاء السابع والعشرين من صفر الموافق لعاشر أيار من شهور الروم، كان السيل الذي خرب بعلبك. فإنه جاء من شرقيها بين الظهر والعصر، فسكره السور، وقوي السيل وقلع(4/81)
برجاً وبعض التنأتين اللتين على يمين البرج وشماله، وسار بالبرج صحيحاً يخرب بالبلد، ويخرب ما يمر به من الدور مسافة بعيدة، قيل إنها خمسمائة ذراع، ودخل السيل الجامع وغرق به جماعة، ورمى المنبر وخرب بعض حيطان الجامع، وبلغ السيل إلى رؤوس العمد، وكذلك دخل السيل المذكور الحمامات، وغرق فيها جماعة، وذهب للناس بذلك أموال عظيمة، وخرب دوراً كثيرة، وأسواقاً وغرق عدة كثيرة من الرجال والنساء والأطفال، وأتلف كتب الحديث والمصاحف وكانت مضرته عظيمة.
وفيها في ربيع الآخر، كانت الإغارة على آمد وسبب ذلك أن نائب السلطنة بحلب، جهز عدة كثيرة من عسكر حلب، وغيرهم من التراكمين والعربان والطماعة، ومدم عليهم شخصاً تركمانياً من أمراء حلب يقال ابن جاجا، وكان عدة المجتمعين المذكورين ما يزيد على عشرة آلاف فارس، فساروا إلى آمد وبغتوها ودخلوها ونهبوا أهلها المسلمين والنصارى، ثم بعد ذلك أمر بإطلاق من كان مسلماً، فأطلقوا بعد أن ذهبت أموالهم، وبالغ المجتمعون المذكورون في النهب، حتى نهبوا الجامع، وأخذوا بسطه وقناديله، وفعلوا بالمسلمين كل فعل قبيح، وعادوا سالمين وقد امتلأت أيديهم من الكسوبات الحرام التي لا تحل ولا تجوز شرعاً، وخلت آمد من أهلها، وصارت كأنها لم تغن بالأمس.
وفيها في الثاني والعشرين من ربيع الآخر وصلني من صدقات السلطان حصان برقي بسرجه ولجامه، صحبة موسى أحد أمراء خورية، فوصلته بالخلع والدراهم وقابلت الصدقات بمزيد الدعاء.
وفيها خرج السلطان الملك الناصر خلد الله ملكه من الديار المصرية في رابع جمادى الأولى، الموافق لرابع عشر تموز إلى حسبان من البلقاء، ووصل إليها في سادس عشر جمادى الأولى، ووصل إليه في حسبان المقر السيفي تنكز نائب السلطنة بالشام، ووصل إليه صحبته جماعة من الأمراء، وكنت طلبت دستوراً بالحضور؛ فرسم بتجهيز خيل التقدمة ومقامي بحماة، فجهزتها وأقمت وقدمت خيلي؛ يوم نزوله على حسبان يوم الثلاثاء سادس عشر جمادى الأولى، وكنت قد جهزتها صحبة طيدمر الدوادار، فقبلت وتصدق السلطان وأرسل إلى صحبة طيدمر تشريفاً كاملاً على جاري العادة من الأطلس الأحمر والأصفر والكلوته الزركش والطرز الزركش بالذهب المصري، وكذلك تصدق بثلاثين ألف درهم وخمسين قطعة وقماش، وركبت بالتشريف المذكور الموكب بحماة نهار الإثنين سادس جمادى الثانية من هذه السنة، أعني سنة سبع عشرة وسبعمائة، ثم عاد السلطان إلى الديار المصرية من الشوبك ولم يصل في خرجته هذه إلى دمشق، بل رجع من بلاد البلقاء.
فيها وصل مثال السلطان بالبشارة بالنيل وأن الخليج كسر في رابع جمادى الأولى وسلخ أبيب، قبل دخول مسرى، وهذا مما لا يعهد، فإنه تقدم عن عادته شهراً.
وفيها بعد رحيل(4/82)
السلطان عن الكرك أفرج عن الأمير سيف الدين بهادراص. ووصل بهادراص إلى دمشق، وأتم السلطان السير ودخل مصر يوم الأربعاء منتصف جمادى الآخرة من هذه السنة.
وفيها في أثناء ذي الحجة ظهر في جبال بلاطنس إنسان من بعض النصيرية، وادعى أنه محمد ابن الحسن العسكري، ثاني عشر الأئمة عند الإمامية، الذي دخل السرداب المقدم ذكره فاتبع هذا الخارجي الملعون من النصيرية جماعة كثيرة، تقدير ثلاثة آلاف نفر، وهجم مدينة جبلة، في يوم الجمعة الحادي والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة، والناس في صلاة الجمعة ونهبت أموال أهل جبلة، وسلبهم ما عليهم. وجرد إليه عسكر من طرابلس، فلما قاربوه تفرق جمعه وهرب واختفى في تلك الجبال،، فتتبع وقتل لعنه الله، وباد جمعه وتفرقوا، ولم يعد لهم ذكر.
ثم دخلت سنة ثمان عشرة وسبعمائة في أوائل هذه السنة سار فضل بن عيسى إلى ابن خربندا وجوبان إلى بغداد واجتمع بهما، وأحضر لهما تقدمة من الخيول العربية، فأقبل جوبان عليه وأعطى فضل المذكور البصرة، واستمرت له إقطاعاته التي كانت له بالشام بيده مع البصرة، وأقام فضل عندهما مدة، واجتمع بقراسنقر هناك، ثم عاد إلى بيوته، وبعد مسير فضل عنهما، سار جوبان وابن خربندا عن بغداد إلى قنغرلان وهي المدينة الجديدة المسماة بالسلطانية، وفي هذه السنة توجهت من حماة إلى الديار المصرية، وخرجت الخيل قدامي من حماة في نهار السبت، منتصف جمادى الأولى، الموافق لنصف تموز أيضاً، وتأخرت أنا بحماة ثم خرجت من حماة وركبت خيل البريد، في نهار الاثنين، الرابع والعشرين من جمادى الأولى والرابع والعشرين من تموز، ولحقت خيلي وثقلي بغزة نهار الأحد، غرة جمادى الآخرة وهو اليوم الثلاثون من تموز، وسرت بهم جميعاً ووصلت إلى قلعة الجبل، وحضرت بين يدي مولانا السلطان الملك الناصر خلد الله ملكه بها، في نهار الخميس ثاني عشر جمادى الآخرة، الموافق لعاشر آب الرومي، وشملتني صدقاته بالتنزيل في الكبش، وترتيب الرواتب الكثيرة، بعد ما كان رتب لي في جميع المنازل من حماة إلى الديار المصرية، الرواتب الزائدة عن كفايتي وكفاية كل من هو في صحبتي من الأغنام والخبز والسكر وحوائج الطعام والشعير. وألبسني تشريفاً في حال قدومي من الأطلس بطرز الزركش والكلوته على العادة، وأركبني حصاناً بسرج محلى بالذهب، وأقمت تحت صدقاته في الكبش، على أجمل حال.
ثم إنه عن لي أن أرى مدينة الإسكندرية، فسألت ذلك، وحصلت الصدقات السلطانية بإجابتي لذلك، وتقدمت المراسيم أنني أسير إليها في المراكب، وأعود في السير على الخيل، فسرت أنا ومن في صحبتي في حراقتين، وتوجهت من الكبش في يوم الاثنين الثالث والعشرين من جمادى الآخرة، وهو الموافق للحادي والعشرين من آب، وسرت في النيل إلى أن وصلت إلى(4/83)
فوه، وسرنا منها في الخليج الناصري، ووصلت الإسكندرية في بكرة يوم الأربعاء الخامس والعشرين من جمادى الآخرة، ووصلني بها من صدقات السلطان مائة قطعة قماش من عمل إسكندرية، وأقمت بها حتى صليت الجمعة، وخرجت من إسكندرية وركبت الخيل وبت في تروجة، ووصلت إلى الكبش بكرة الاثنين الثلاثين من جمادى الآخرة وأقمت به، وكسر الخليج بحضوري في يوم الأربعاء ثاني رجب، الموافق للثلاثين من آب وأول يوم من توت، من شهور القبط.
ثم شملتني الصدقات السلطانية بزيادة عدة قرايا من بلد المعرة، على ما هو مستقر بيدي، وأفاض علي وعلى من هو في صحبتي بالتشاريف، وأمرني بالعود إلى بلدي، فخرجت من بين يديه من الميدان، في نهار السبت ثاني عشر رجب من هذه السنة، الموافق لثامن من أيلول، ووصلت إلي حماة نهار الخميس مستهل شعبان الموافق للثامن والعشرين من أيلول، واستقريت فيها.
وفي هذه السنة أعني سنة ثمان عشرة، عند توجه الحاج من مصر، أرسل السلطان الأمير بدر الدين ابن التركماني، وكان المذكور مشد الدواوين بديار مصر، فأرسله السلطان مع الحجاج إلى مكة بعسكر، وسار المذكور حتى وصل ووقف الوقفة، وفي أيام التشريف، أرسل رميثة صاحب مكة حسبما أمر به مولانا السلطان، بحكم تقصيره ومواطاته في الباطن لأخيه حميضة، وأرسله معتقلاً إلى ديار مصر، واستقر بدر الدين ابن التركماني المذكور نائباً وحاكما في مكة، ولما دخلت سنة تسع عشرة وسبعمائة، أرسل السلطان عطيفة، وهو من إخوة حميضة، وكان عطيفة المذكور مقيماً بمصر، فأرسله السلطان ليقيم بها مع بدر الدين ابن التركماني المذكور. وفي أواخر هذه السنة، أعني سنة ثماني عشرة وسبعمائة حالفت عقيل عرب الإحساء والقطيف، على مهنا بن عيسى وطردوا أخاه فضلاً عن البصرة، فجمع مهنا العرب وقصد عقيل، والتقى الجمعان وافترقا على غير قتال ولا طيبة، بعد أن أخذت عقيل أباعر كثيرة تزيد على عشرة آلاف من عرب مهنا المذكور، وعاد كل من الجمعين إلى أماكنهما، وكانت هذه البرية وغالب بلاد الإسلام مجدبة لقلة الأمطار، وهلك العرب، وضرب دواب تفوت الحصر.
وفيها قريباً من منتصف هذه السنة، خرج اللحياني، وهو أبو زكريا يحيى الحفصي من ملك تونس، وكان اللحياني المذكور قد ملك إفريقية، حسبما سقنا وقدمنا ذكره مع جملة الحفصيين في سنة اثنتين وخمسين وستمائة، فلما كانت هذه السنة، جمع أخو خالد الذي مات في حبس اللحياني، فقصد اللحياني فهرب منه إلى طرابلس وتملك أخو خالد تونس، ولم يقع لي اسم أخي خالد المذكور. وكان للحياني ولد شهم، وكان اللحياني المذكور يخاف منه، فاعتقل ولده المذكور. فلما استولى أخو خالد المذكور على تونس، وطرد اللحياني عن المملكة، أخرج اللحياني ولده من الاعتقال، وجمع إليه الجموع؛ والتقى مع أخي خالد، فانتصر أخو خالد وقتل ابن اللحياني، واستقر اللحياني بطرابلس(4/84)
الغرب كالمحصور بها.
ثم إن اللحياني أيس من البلاد، وهرب بأهله ومن تبعه، وقدم بهم إلى الديار المصرية في سنة تسع عشرة، وقصد الحج وتوجه مع الحجاج فمرض ورجع من أثناء الطريق. ثم إنه قصد الإقامة بالإسكندرية فسار إليها وأقام بها.
ثم دخلت سنة تسع عشرة وسبعمائة في هذه السنة في أواخر ربيع الآخر، هرب رميثة بن أبي نمي الذي كان صاحب مكة، وكان المذكور أفرج عنه وأكرم غاية الإكرام فسولت له نفسه الهروب إلى الحجاز، فهرب وأركب السلطان خلفه جماعة، وتبعوه وأمسكوه بالقرب من عقبة إيله، على طريق حاج مصر وأحضروه فاعتقل بقلعة الجبل.
ذكر الوقعة العظيمة التي كانت بالأندلس
وفي هذه السنة، اجتمعت الفرنج في جمع عظيم، واجتمعت فيه عدة من ملوكهم، وكان أكبرهم ملك قشتيلية، واسمه جوان، وقصد ابن الأحمر ملك غرناطة، فبذل له قطيعة، في كل يوم مائة دينار وفي كل أسبوع ألف دينار، فأبى الفرنج أن يقبلوا ذلك، فخرج المسلمون من غرناطة بعد أن تعاهدوا على الموت، واقتتلوا معهم، فأعطاهم الله النصر، وركبوا قفاء الفرنج يقتلون ويأسرون كيف شاؤوا، وقتل جوان المذكور وأسرت امرأته، وحصل للمسلمين من الغنائم ما يفوق الحصر، حتى قيل كان فيها مائة وأربعون قنطاراً من الذهب والفضة، وأما الأسرى فتفرق الحصر.
ذكر مسيري إلى مصر ثم الحجاز الشريف
وفي هذه السنة، حج السلطان من الديار المصرية، ولما قرب أوان الحج، أرسل جمال الدين عبد الله البريدي ورسم إلى أن أحضر إلى الأبواب الشريفة، فركبت خيل البريد وأخذت في صحبتي أربعة من مماليكي، وخرجت من حماة يوم الجمعة، سادس عشر شوال، الموافق، لسلخ تشرين الثاني، وسرت حتى وصلت إلى مصر من شوال الموافق الثامن كانون الأول، ونزلت بالقاهرة بدار القاضي كريم الدين، وأقمت حتى خرجت صحبة الركاب السلطاني.
ذكر خروج السلطان وتوجهه إلى الحجاز
وفي هذه السنة، في يوم السبت، ثاني ذي القعدة خرج السلطان إلى الدهليز المنصوب، وكان قد نصب له لرب العش، وخرج من قلعة الجبل بكرة السبت المذكور، وتصيد في طريقه الكراكي، وكنت بين يديه فتفرج على الصيد، وصاد عدة من الكراكي من السقاقر وغيرها، ونزل بالدهليز المنصوب وأقام به يتصيد في كل نهار ببلاد الحوف، ورحل من المنزلة المذكورة بكرة الخميس سابع ذي القعدة، الموافق لعشرين من كانون الأول، وسار على درب الحاج المصري على السويس وأبلة، وسرت في صدقاته حتى وصلنا رابغ(4/85)
في يوم الاثنين، ثاني ذي الحجة، الموافق لرابع عشر كانون الثاني وأحرم من رابغ وسار منها في يوم الثلاثاء غد النهار المذكور. واتفق من جملة سعادته وتأييده طيب الوقت، فإنه كان في وسط الأربعينيات، ولم نجد برداً نشكو منه مدة الإحرام، وسار حتى دخل مكة بكرة السبت سابع ذي الحجة، ثم سار إلى منى، ثم إلى مسجد إبراهيم، وأقام هناك حتى صلى به الظهر وجمع إليها العصر، ووقف بعرفات راكباً تجاه الصخرات في يوم الاثنين، ثم أفاض وقدم إلى منى وأكمل مناسك حجه، وكان في خدمته القاضي بدر الدين جماعة قاضي قضاة ديار مصر الشافعي، وواظب المسلطان في جميع أوقات المناسك، بحيث إن السلطان حافظ على الأركان والواجبات والسنن، محافظة لم أرها من أحد، ولما كمل مناسك حجه، سار عائداً إلى مقر ملكه بالديار المصرية. وخرجت هذه السنة، أعني سنة تسع عشرة، وهو بين ينبع وإيلة، بمنزلة يقال لها القصب، وهي إلى إيلة أقرب. ولقد شاهدت من جزيل صدقاته في هذه الحجة ما لم أقدر أن أحصره، وإنما أذكر نبذة منه، وهو أنه سار في خدمته ما يزيد على ستين أمير أصحاب طبلخانات، وكان لكل منهم في كل يوم في الذهاب والإياب ما يكفيه، من عليف الخيل والماء والحلوى والسكر والبقسماط، وكذلك لجميع العسكر الذين ساروا في خدمته، وكان يفرق فيهم في كل يوم في تلك المفاوز وغيرها، ما يقارب أربعة آلاف عليفة شعير، ومن البقسماط الحلوى والسكر ما يناسب ذلك، وكان في جملة ما كان في الصحبة الشريفة أربعون جملاً تحمل محاير الخضراوات مزروعة، وكان في كل منزلة يحصد من تلك الخضراوات ما يقدم صحبة الطعام بين يديه، وفرق في منزلة رابغ على جميع من في الصحبة من الأمراء والأجناد وغيرهم، جملاً عظيمة من الدراهم، بحيث كان أقل نصيب فرق في الأجناد ثلاثمائة درهم، وما فوق ذلك إلى خمسمائة درهم، ونصيب أمراء العشرات ثلاثة آلاف درهم؛ وأما الأمراء أصحاب الطبلخانات فوصل بعضهم بعشرين ألف درهم؛ وبعضهم بأقل من ذلك؛ فكان شيئاً كثيراً، وأما التشاريف فأكثر من أن تحصر، ثم كان ما سنذكره في سنة عشرين وسبعمائة إن شاء الله تعالى.
ثم دخلت سنة عشرين وسبعمائة.
ذكر قدوم السلطان إلى مقر ملكه
استهل السلطان غرة المحرم من هذه السنة في القصب، وهي منزلة عن إيلة على تقدير أربعة مراحل، وسار السلطان منها ونزل بإيلة، وأقام بها ثلاثة أيام ينتظر وصول خيل وخزانة كانت له بالكرك، وبعد وصول ذلك، رحل السلطان وسار حتى دخل قلعة الجبل، بكرة نهار السبت، ثاني عشر المحرم من هذه السنة، الموافق للثالث والعشرين من شباط، وكان يوم دخوله يوماً مشهوداً ركب جميع الجيش وقبلوا الأرض بين يديه، ولما صار(4/86)
على تقدير أربعة آلاف ذراع من القلعة أخذت الأمراء في بسط الشقق الفاخرة بين يدي فرسه، فبسطوا واستمر البسط إلى أن دخل القلعة المنصورة في أسعد وقت من ضحى يوم السبت المذكور.
ذكر ما أولاني من عميم الصدقات وجزيل التطولات
سرت من حماة على البريد، ولم يصحبني مركوب لي ولا شيء من أدوات المسافر، فتصدق علي وأنزلني عند القاضي كريم الدين، فكان يبالغ في الإحسان إلي بأنواع الأمور من الملابس والمراكيب والأكل، وكان ينصب لي خادماً مختصاً بي يكفي بجميع ما احتاجه من الفرش للنوم والمأكل والغلمان المختصة بي، وكان مع ذلك لم تنقطع التشاريف على اختلاف أنواعها، لأخلعها على من أختار، وكان السلطان في طول الطريق، في الرواح والعود، يتصيد الغزلان بالصقور، وأنا في صدقاته أتفرج، ويرسل إلي من الغزلان التي يصيدها، وتقدم مرسومه إلي ونحن نسير أنني إذا وصلت إلى ديار مصر أسلطنك، وتتوجه إلى بلدك وأنت سلطان، واستعفيت عن ذلك واستقللته، وتألمت منه استصغاراً لنفسي وتعظيماً لاسمه الشريف أن يشارك فيه، وبقي الأمر في ذلك كالمتردد إلى أن وصل إلى مقر ملكه حسبما ذكرناه، ونزلت أنا عند القاضي كريم الدين بداره داخل باب زريلة، بالقرب إلى بين القصرين، وأقمت هناك، وتقدم مرسوم السلطان بإرسال شعار السلطنة إلي، فحضرت الموالي والأمراء؛ وهم سيف الدين الماس أمير حاجب، وسيف الدين قجليس، والأمير علاء الدين أيدغمش، أمير أخور. والأمير ركن الدين بيبرس الأحمدي، والأمير سيف الدين طيبال؛ أمير حاجب أيضاً، وحضر من الأمراء الخاصكية تقدير عشرين أميراً، وحضر صحبتهم التشريف الأطلس، الكامل المزركش، والنمجا الشريفة السلطانية والغاشية المنسوجة بالذهب المصري، وعليها القبة والطير وثلاثة سناجق، وعصائب وتقليد يتضمن السلطنة، والجمدارية السلطانية، وسلحدار بسيفين معلقين على كتفه، والشاويشية، وحضر جميع ذلك إلى المدرسة المنصورية بين القصرين، وقدم لي حصان كامل العدة، فركبته بكرة الخميس سابع عشر المحرم الموافق للثامن والعشرين من شباط بالشعار المذكور، ومشت الأمراء إلى أثناء الطريق وركبوا، ولما قاربت قلعة الجبل نزلوا جميعهم، واستمريت حتى وصلت إلى قرب باب القلعة، ونزلت وقبلت الأرض للسلطان إلى جهة القلعة، وقبلت التقليد الشريف، ثم أعدت قبيل الأرض مراراً، ثم طلعت صحبة النائب، وهو المقر السيفي أرغون الدوادار إلى قلعة، وحضرت بين يدي السلطان في ضحوة النهار المذكور، فقبلت الأرض فأولاني من الصدقة ما لا يفعله الوالد مع ولده، وعند ذلك أمرني بالمسير إلى حماة، وقال أيا فلان لك مدة غائب؛ فتوجه إلى بلدك. فقبلت الأرض وودعته، وركبت(4/87)
خيل البريد عند العصر من نهار الخميس المذكور، وشعار السلطنة صحبتي على فرس يد، وسرت حتى قاربت حماة، وخرج من بها من الأمراء والقضاة، وتلقوني، وركبت بالشعار المذكور، ودخلت حماة ضحوة نهار السبت، السادس والعشرين المحرم من هذه السنة الموافق لثامن آذار بعد أن قرئ تقليد السلطنة بنقيرين في خام كان قد نصب هناك، ولولا مخافة التطويل كنا ذكرنا نسخته.
ذكر الإغارة على سيسر وبلادها
في هذه السنة تقدمت مراسيم السلطان بإغارة العساكر على بلاد سيس، ورسم لمن عينه من العساكر الإسلامية الشامية، فسار من دمشق تقدير ألفي فارس وسار الأمير شهاب الدين قرطاي بعساكر الساحل، وجردت من حماة أمراء الطبلخانات الذين بها، وسارت العساكر المذكورة من حماة في العشر الأول من ربيع الأول من هذه السنة، ووصلوا إلى حلب، ثم خرجت عساكر حلب صحبة المقر العلاى الطنبغا، نائب السلطنة بحلب، وسارت العساكر المذكورة عن آخرهم، ونزلوا بعمق حارم، وأقاموا به مدة، ثم رحلوا ودخلوا إلى بلاد سيس في منتصف ربيع الآخر من هذه السنة، الموافق للرابع والعشرين، من أيار، وساروا حتى وصلوا إلى نهر جيحان، وكان زائداً، فاقتحموه ودخلوا فيه؛ فغرق من العساكر جماعة كثيرة، وكان غالب من غرق من التراكمين الذين من عسكر الساحل، وبعد أن قطعوا جيحان المذكور، ساروا ونازلوا قلعة سيس، وزحفت العساكر عليها حتى بلغوا السور، وغنموا منها وأتلفوا البلاد والزراعات وساقوا المواشي، وكانت شيئاً كثيراً، وأقاموا ينهبون ويخربون، ثم عادوا وقطعوا جيحان وكان قد انحط فلم ينضر أحد به، ووصلوا إلى بغراس في نهار السبت التاسع والعشرين من شهر ربيع الآخر المذكور، ثم ساروا إلى حلب وأقاموا بها مدة يسيرة، حتى وصل إليهم الدستور فسار كل عسكر إلى بلده.
وفي هذه السنة في أثناء ربيع الأول وصلت الجهة في البحر إلى الديار المصرية، وكان في خدمتها ما يقارب ثلاثة آلاف نفر من رجال ونساء، واحتفل بهم إلى غاية ما يكون، وأدرت عليهم الإنعامات والصلات.
ذكر قطع أخبار آل عيسى
وطردهم عن الشام
في هذه السنة تقدمت مراسم السلطان بقطع أخبار المذكورين؛ وطردهم بسبب سوء صنيعهم، فقطعت أخبارهم، ورحلوا عن بلاد سلمية في يوم الاثنين ثاني جمادى الأولى من هذه السنة، الموافق لعاشر حزيران، وساروا إلى جهات عانة والحديثة على شاطئ الفرات.
وفيها عند رحيل المذكورين، وصل الأمير سيف الدين قجليس، وسار بجمع عظيم من العساكر الشامية والعرب في إثر المذكورين، حتى وصل إلى الرحبة،(4/88)
ثم سار منها حتى وصل إلى عانة، ولما وصل المذكور هناك، هرب آل عيسى إلى وراء الكبيسات، وعيسى المذكور هو أعيسى بن مهنا بن مانع بن حديثة بن عصبة بن فضل بن ربيعة، وأقام السلطان موضع مهنا؛ محمد بن أبي بكر بن علي بن حديثة بن عصبة المذكور، ولما جرى ذلك، عاد الأمير سيف الدين المذكور وأقام بالرحبة حتى نجزت مغلاتها وحملت إلى القلعة، ثم سار منها ونزل على سلمية في يوم الخميس منتصف رجب من السنة المذكورة، الموافق للحادي والعشرين من آب، واستمر مقيماً على سلمية حتى وصل إليه الدستور، فسمار منها إلى الديار المصرية في يوم الاثنين تاسع شهر رمضان من السنة المذكورة، الموافق لثالث عشر تشرين الأول، وأتم سيره حتى وصل إلى مصر.
ذكر هلاك صاحب سيس
في هذه السنة مات صاحب سيس، أرشين بن ليفون، عقيب الإغارة على بلده، وكان المذكور مريضاً لما دخلت العساكر إلى بلاده، وشاهد حريق بلاده وخراب أماكنه، وقتل رعيته وسوق دوابهم، فتضاعفت أحلامه وهلك في جمادى الأولى من هذه السنة، وخلف ولداً صغيراً دون البلوغ فأقيم مكانه، وتولى تدبير أمره جماعة من كبار الأرمن.
ذكر مقتل حميضة
ولما جرى من حميضة ما تقدم ذكره، واستمر وصول العساكر من الديار المصرية إلى مكة لحفظها من المذكور رأى المذكور عجزه، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، فعزم على الحضور إلى مقدم العسكر المقيم بمكة، وهو الأمير ركن الدين بيبرس أمير أخور، ودخوله في الطاعة، وكان قد هرب من بعض المماليك السلطانية من منى، لما حج السلطان، ثلاثة مماليك، يقال لأحدهم أيدغدي والتجأوا إلى حميضة في برية الحجاز، فآواهم وأكرم مثواهم، فلما عزم حميضة على الحضور إلى الطاعة، اتفقوا على قتله واغتياله، وكان حميضة قد نزل على القرب من وادي نخلة، فلما كان وقت القيلولة، ذهب إلى تحت شجرة ونام، فقتله أيدغدي المذكور بالسيف، وقطع رأس حميضة وأحضره إلى مقدم العسكر بمكة، فحمل إلى جن يدي السلطان بالديار المصرية، وكفى الله شر حميضة المذكور ولقاه عاقبة بغيه.
وكان حميضة المذكور قد ذبح أخاه أبا الغيث فاقتص الله منه، وكان مقتله في يوم الخميس سابع عشر جمادى الأولى من هذه السنة، الموافق للرابع والعشرين من تموز، بالقرب من وادي نخلة.
وفيها تصدق السلطان على ولدي محمد، وأرسل له تشريفاً، أطلس أحمر بطرز زركش، وقندس، وتحتاني أطلس أصفر، وشربوش مزركش، ومكلل باللؤلؤ، وأمر له بأمرية وستين فارساً لخدمته طبلخاناه، فركب محمد بالتشريف المذكور بحماة، يوم الاثنين الخامس من رجب الموافق لحادي عشر آب، وكان(4/89)
عمره حينئذ نحو تسع سنين.
وفيها حج المقر السيفي أرغون الدوادار، وكان السلطان قد عفى عن رميثة وأفرج عنه، وأرسله صحبة المقر السيفي إلى مكة، ورسم لرميثة المذكور بنصف متحصل مكة، ويكون النصف الآخر لعطيفة أخيه، فسافر المقر السيفي وقرر رميثة بمكة حسبما رسم به السلطان.
وفيها في يوم الاثنين، تاسع ذي الحجة وصل المجد إسماعيل السلامي رسولاً من جهة أبي سعيد، ملك التتر، ومن جهة جوبان، وعلى شاه، بهدايا جليلة، وتحف ومماليك وجواري، مما يقارب قيمته خمسين تماناً، والتمان هو البدرة، وهي عشرة آلاف درهم، وسار بذلك إلى السلطان.
وفيها في شوال، الموافق لتشرين الثاني، شرعت في عمارة القبة، وعمل المربع والحمام، على ساقية نخيلة بظاهر حماة، وفرغت العمارة في المحرم من سنة إحدى وعشرين وسبعمائة، وجاء ذلك من أنزه الأماكن.
وفيها أو في أواخر سنة تسع عشرة وسبعمائة، جرى بين الفرنج الجنويين قتال شديد، وذلك بين قبيلتين منهم، يقال لإحدى القبيلتين إسبينيا، وللأخرى دوريا، حتى قتل منهم ما ينيف عن خمسين ألف نفر، وكان إحدى القبيلتين أصحاب داخل جنوة، والأخرى أصحاب خارج البلد إسبينيا - بكسر الهمزة وسكون السين المهملة وكسر الباء الموحدة من تحتها وسكون الياء المثناة من تحتها وكسر النون وفتح ياء مثناة من تحتها. وفي آخرها ألف مقصورة - ودويار - بضم الدال المهملة وسكون الواو وكسر الراء المهملة وفتح الياء المثناة من تحتها وفي آخرها ألف والله أعلم.
ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وسبعمائة.
فيها في مستهل جمادى الأولى توفيت بحماة فاطمة خاتون بنت الملك المنصور صاحب حماة، وكانت كثيرة الإحسان.
وفيها عدى مهنا بن عيسى الفرات، وتوجه إلى أبي سعيد ملك التتر مستنصراً به على المسلمين، وأخذ معه تقدمة برسم التتر، سبعمائة بعير وسبعين فرساً وعدة من الفهود.
وفيها حضر رسول تمرتاش بن جوبان المستولي على بلاد الروم، بتقدمة إلى الأبواب الشريفة بديار مصر.
وفيها ورد مرسوم السلطان على مؤلف الأصل، يأمره الحضور ليسير معه في صيوده، قال أفسرت من حماة على البريد، وسبقت تقدمتي وحضرت لدى المواقف الشريفة، وهو نازل بالقرب من قليوب فبالغ في إدرار الصدقات علي.
وفيها رحل السلطان من الأهرام، وسار في البرية متصيداً حتى وصل إلى الحمامات وهي غربي الإسكندرية على مقدار يومين، ثم عاد إلى القاهرة.
وفيها دخل تمرتاش المذكور بعسكره إلى بلاد سيس، وأغار وقتل؛ فهرب صاحب سيس إلى قلعة إياس التي في البحر، وأقام تمرتاش ينهب ويخرب نحو شهر، ثم عاد إلى بلاد الروم.
وفيها عاد مؤلف الأصل من الخدمة الشريفة إلى حماة. وفيها توجه نائب الشام تنكز إلى الحجاز(4/90)
الشريف، وكان قد توجه من الديار المصرية الأدر السلطانية إلى الحج بتجمل وعظمة لم يعهد مثلها.
ذكر وفاة صاحب اليمن
وفيها ليلة الثلاثاء في ذي الحجة، توفي بمرض ذات الجنب بتعز، الملك لمؤيد هزبر الدين داود بن المظفر يوسف بن عمر بن علي بن رسول، فاتفق أرباب الدولة وأقاموا ولده علي، ولقب الملك المجاهد بسيف الإسلام بن داود المذكور، وهو إذ ذاك أول ما قد بلغ، ثم خرج عليه عمه الملك المنصور أيوب، ولقبه زين الدين، أخو عاود، في سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة، فملك اليمن واعتقل ابن أخيه سيف الإسلام، وقعد المنصور في مملكة اليمن دون ثلاثة أشهر، ثم هجم جماعة من العسكر وأخرجوا سيف الإسلام وأعادوه إلى ملك اليمن، واعتقلوا عمه المنصور أيوب، وبقي أمر مملكة اليمن مضطرباً غير منتظم الأحوال.
ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة فيها وصل الأمير فضل بن عيسى صحبة الأدر السلطانية من الحجاز، داخلاً عليهم مستشفعاً بهم، فرضي عنه السلطان وأقره على إمرة العرب موضع محمد بن أبي بكر، أمير آل عيسى.
ذكر فتوح إياس
فبها وصل بعض العساكر المصرية والشامية والساحلية، وسار صحبتهم غالب عسكر حماة إلى حلب المحروسة، وانضم إليهم عسكرها، وتقدم عليهم نائب حلب الطنبغا. وأتموا السير حتى نازلوا إياس من بلاد سيس، وحاصروها وملكوها بالسيف، وعصت عليهم القلعة التي في البحر، فأقاموا عليها منجنيقاً عظيماً، وركب المسلمون إليها طريقين في البحر؛ إلى أن قاربوا القلعة، فهربت الأرمن منها، وأخلوها ولاقوا في القلعة ناراً، وملك المسلمون القلعة نهار الأحد الحادي والعشرين من ربيع الآخر، وهدموا ما قدروا على هدمه، وعاد كل عسكر إلى بلده.
وفيها توجه أتامش الناصري رسولاً إلى أبي سعيد ملك التتر، وعاد إلى القاهرة بانتظام الأمر واتفاق الكلمة.
وفيها وصل مؤلف الأصل تغمده الله برحمته، إلى خدمة السلطان، قال أوسرت في خدمة السلطان، إلى الأهرام، وحضر هناك رسول صاحب برشلونة وهو أحد ملوك الفرنج بجهات الأندلس، فقبل السلطان هديتهم وأنعم عليه أضعاف ذلك، ثم رحل من الأهرام وتوجه إلى الصعيد الأعلى وأنا معه، إلى أن وصلنا دندرة، وهي عن قوص مسيرة يوم، وعدنا إلى القاهرة.
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة فيها عاد الملك المؤيد إلى حماة من خدمة السلطان؛ بعد أن غمره بالأنعام والعطايا.(4/91)
ذكر السنة الحمراء
فيها جدبت الأرض بالشام، من دمشق إلى حلب، وانحبس القطر، ولم ينبت شيء من الزراعات إلا القليل النادر، واستسقى الناس في هذه البلاد، فلم يسقوا، وأما السواحل التي من طرابلس إلى اللاذقية وجبل اللكام، فإن الأمطار مازالت تقع في هذه النواحي فاستوت زراعاتهم.
وفيها مات قاضي القضاة الشافعي بدمشق المعروف بابن صقر وهو نجم الدين أحمد، وولى مكانه جمال الدين المعروف بالزرعي. وفيها عزل السلطان كريم الدين بن عبد الكريم عن منصبه، واستعاد منه ما كان عنده من الأموال، وأرسله إلى الشوبك، فأقام بها، وولى مكانه أمين الملك عبد الله. وفيها رسم السلطان لمؤلف الأصل أن لا يرسل قوده، نظراً في حاله، بسبب محل البلاد، فأرسلت عدة يسيرة من الخيل التي كنت حصلتها، فتصدق علي بتشريف كامل على عادتي، وستين قطعة إسكندري، وخمسين ألف درهم، وألف مكوك حنطة. وفيهما حضرت رسل أبي سعيد ملك التتر، ورسل نائبه جوبان، وتوجهوا إلى الأبواب الشريفة بالقاهرة، ثم عادوا إلى بلادهم.
وفيها وصلت الملكة بنت أبغا؛ واسمها قطلو؛ وفي خدمتها عدة كثيرة من التتر، وتوجهت إلى الحج ورسم السلطان ورتب لها في الطرقات الإقامات الوافرة.
ثم دخلت سنة أربع وعشرين وسبعمائة فيها تقدم السلطان بإبطال المكوس والضرائب عن سائر أصناف الغلة بجميع الشام فأبطل، وكان ذلك جملة تخرج عن الإحصاء.
ذكر المتجددات في بلاد الروم
كان ببلاد الروم تمرتاش بن جوبان، فاستولى عليها، واستكثر من المماليك، قطع ما كان يحمل منها إلى الأردو والخواتين، وصار كلما جاءه رسول لطلب المال يهينه، ويعيده بغير زبدة، فلما كثر ذلك منه، سار إليه أبوه جوبان، فعزم تمرتاش على شال أبيه، واتفق في عسكره ومماليكه، فلما قرب جوبان منه، فارقه عسكره وصاروا مع جوبان، فلما رأى تمرتاش ذلك، حضر مستسلماً إلى أبيه جوبان، فتقدم جوبان بإمساكه وأخذه معه معتقلاً إلى الأردو، وذلك بعد أن أقام ببلاد الروم شخصاً من التتر موضع تمرتاش.
ذكر المتجددات باليمن
في هذه السنة، لم يبق، في يد الملك المجاهد علي بن داود غير حصن تعز، خرج باقي ملك اليمن عنه، وصار بيد ابن عمه صاحب الدملوة، وتلقب بالملك الظاهر. وفيها نزل الأمير مهنا ابن عيسى بظاهر سلمية من بلاد حمص، عند تل أعدا، وكان له ما يزيد عن عشر سنين لم ينزل بأهله هناك، وكان الأمر والنهي إليه في العرب، وخبز الإمرة لأخيه(4/92)
فضل بن عيسى.
وفيها ورد مرسوم السلطان إلى صاحب حماة بالمسير إلى خدمته، فسار وأخذ معه ولده محمداً وأهله، قال أوحضرت بين يدي السلطان بقلعة الجبل مستهل الحجة، فبالغ في أنواع الصدقات علي، وعلى من كان معي، وعلى ولدي، ووصل وأنا هناك رسل أبي سعيد ملك التتر، ويقال لكبيرهم طوغان، وهو من جهة، أبي سعبد، والذي من بعده حمزة وهو من جهة جوبان، وصحبتهما الطواشي ريحان خزندار أبي سعيد، وكان مسلماً ما كان صحبتهم من الهدايا، وحضر المذكورون بين. يدي السلطان بقلعة الجبل، وكان يوماً مشهوراً لبس فيه جميع الأمراء والمقدمون، لمماليك السلطانية وغيرهم الكلوتات المزركشات، والطرز الذهب، ولم يبق من لم يلبس ذلك غير الملك الناصر، وأحضر المذكورون التقدمة، وأنا حاضر، وهي ثلاثة أكاديش بثلاثة سروج ذهب مصري مرصعة بأنواع الجواهر، وثلاث حوائص ذهب مجوهرة وسيف، وجميعها بطرز زركش ذهب، وشاشاً فيه قبضات عدة زركش ذهب، وإحدى عشر بختياً مزينة، أحمالها صناديق، ملؤها قماش من معمول تلك البلاد، وعدتها سبعمائة شقة قد نقش عليها ألقاب السلطان، فقبل ذلك منهم وغمر الرسل بأنواع التشاريف والأنعام.
وكان عيد الأضحى بعد ذلك بيومين، واحتفل السلطان للعيد احتفالاً عظيماً يطول شرحه، وأقام رسل التتر ينظرون إلى ذلك، ثم أحضرهم وخلع عليهم نائباً وأوصلهم مناطق من الذهب، ومبالغاً تزيد على مائة ألف درهم، وأمرهم بالعود إلى بلادهم، ثم بعد ذلك عبر السلطان النيل ونزل بالجيزة، ثالث عشر الحجة، وكان قد طلع النيل وزاد على ثمانية عشر ذراعاً، ووصل إلى قريب الذراع التاسع عشر، وطال مكثه على البلاد، فأقام بالجيزة حتى جفت البلاد لأجل الصيد، ثم رحل وسار إلى الصيد وأنا بين يديه الشريفتين.
وفيها مات علي شاه وزير ملك التتر، وكان المذكور قد بلغ منزلاً عظيماً من أبي سعيد وغيره، وأنشأ بتبريز الجامع الذي لم يعهد مثله، ومات قبل إتمامه، وهو الذي نسج المودة بين الإسلام والتتر رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة خمس وعشرين وسبعمائة فيها عاد الملك الناصر إلى القاهرة، وأعطى لصاحب حماه الدستور بعد ما غمره بالصدقات، ورسم له بألفي مثقال ذهب؛ وثلاثين ألف درهم؛ ومائة شقة من أفخر القماش الإسكندري، ووصل إلى حماة شاكراً ناشراً.
ذكر عمارة القصور بقرية سرياقوس والخانقاه
في هذه السنة تكملت القصور والبساتين بسرياقوس، وهي قرية في جهة الشمال. عن القاهرة، على مرحلة خفيفة، وعمر السلطان على طريق الجادة الآخذة إلى الشام، بالقرب من العش، خانقاه، وأنزل جماعة من الصوفية بها، ورتب لهم الرواتب الجليلة،(4/93)
وأرسل صاحب حماة هدية تليق الخانقاه المذكورة مثل كتب وبسط وغير ذلك.
ذكر إرسال السلطان العسكر إلى اليمن
وفيها بلغ السلطان اضطراب حال اليمن وفساد أحوال الرعية، فأرسل إليهما جيشاً، وقدم على الجيش الأمير ركن الدين بيبرس، الذي كان أمير أخور، ثم أمير حاجب، والأمير سيف الدين طينال الجاجب حينئذ، وكان توجه العسكر المذكور من الديار المصرية، في شهر ربيع الأول من هذه السنة، ووصلوا إلى اليمن وخرج إليهم الملك المجاهد ابن الملك المؤيد صاحب اليمن، وهو إذ ذاك شاب جاهل ليس له معرفة بما يجب عليه، فقصر في حق العسكر، ثم إنه لتقصيره في حقهم، استوحش منهم، ودخل قلعة تعز وعصى بها، ولم يكن مع العسكر مرسوم بملك اليمن، بل بمساعدة المذكور وتقرير أمر ولايته، ووجدوا في طريقهم مشقة عظيمة من العطش والجوع، ووصلوا إلى مصر في شوال من هذه السنة، فلم يعجب السلطان ما صدر منهم، وأنكر عليهم، واعتقل المقدم بيبرس المذكور.
وفي هذه السنة أحضر علاء الدين الطبنغا بحلب إلى حماة متوجهاً إلى خدمة السلطان، وتوجه من حماة ثالث في القعدة من هذه السنة، الموافق لثاني عشر تشرين الأول، ثم عاد وعبر على حماة وتوجه إلى حلب، تاسع وعشرين ذي القعدة المذكورة.
ثم دخلت سنة ست وعشرين وسبعمائة أوكان أول محرم يوم الأحد وهو الموافق لثامن كانون الأول. وفيها في منصف ربيع الآخر، الموافق لحادي وعشرين آذار، خرجت بعسكر حماة ووصلت إلى القناة الواصلة من سلمية إلى حماة، وقسمتها على الأمراء والعسكر لينظفوها، فإنها كانت قد آلت إلى التلف؛ بسبب ما اجتمع فيها من الطين، فحرروها في نحو أسبوع؛ ثم عدت إلى حماة.
وفيها وصل الأمير سيف الدين أتامش متوجهاً رسولاً إلى أبي سعيد وجوبان وكان صحبته تقدمة جليلة للمذكورين وكان عبوره على حماة، وتوجهه إلى البلاد الشرقية منها في سادس جمادى الأولى وتاسع أيار.
وفيها في أوائل جمادى الآخرة عزل السلطان الأمير شهاب الدين قرطاي من نيابة السلطنة بالسواحل، وولى مكانه الأمير سيف الدين طينال الحاجب، وكان وصول طينال إلى تلك الجهة في سادس وعشرين الشهر المذكور.
وفيها يوم الاثنين سادس عشر جمادى الآخرة، وتاسع عشر أيار، وكانت وفاة مملوكي طيدمر، وكان المذكور قد صار أميراً كبيراً عندي، وكان مريضاً بالسل مدة طويلة، وجرى علي لفقده أمر عظيم، رحمه الله تعالى.
وفيها وصل رسول جوبان وصحبته طاي بضا، قرابة السلطان وكان عبوره على حماة في منتصف جمادى الآخرة.
وفيها في ثامن عشر شعبان، عاد سيف الدين من الأردو، وعبر على حماة وتوجه إلى الأبواب الشريفة.
وفيها في شعبان حضر نجم(4/94)
الدين صاحب حصن كيفا متوجهاً إلى الحجاز ثم بطل المسير إلى الحجاز وسار إلى عند السلطان إلى مصر، فأنعم عليه السلطان وأعاده، فعبر على حماة وتوجه إلى حصن كيفا.
وفيها حال وصوله إليها قتله أخوه، وكان أخوه مقيماً هناك، وملك أخوه الحصن، والمذكوران من ولد تورانشاه ابن الملك الصالح أيوب ابن الكامل ابن العادل ابن أيوب.
وفيها أمر السلطان بطرد مهنا وعربه، وأمرني بإرسال عسكر إلى الرحبة لحفظ زرعها من المذكورين، فجردت إليها أخي بدر الدين ومحموداً ابن أخي، واسنبغا مملوكي، فساروا إليها بمن في صحبتهم في مستهل شهر رمضان، ووصلوا وأقاموا بها وعادوا إلى حماة في حادي وعشرين ذي القعدة من السنة المذكورة، الموافق لتاسع عشر تشرين الأول.
ذكر وفاة أخي بدر الدين حسن
رحمه الله تعالى:
في هذه السنة مرض أخي حسن عند وصوله من الرحبة، واشتد مرضه، وكاد مرضه حمى بلغمية، وتوفي نهار الثلاثاء مستهل ذي الحجة، وكان عمره يوم وفاته سبعاً وخمسين سنة، وكان أكبر مني بثلاث سنين، وخلف ابنين طفلين وبنتين، وأعطيت أمريته لابنه الطفل وعمره نحو ثلاث سنين، وأقمت لهم نواباً يباشرون أمورهم، ثم مرض محمود ابن أخي أسد الدين عمر، وابتدأ مرضه يوم موت أخي حسن، وقوي مرضه حتى توفي محمود المذكور يوم الأحد ثالث عشر ذي الحجة من السنة المذكورة، وكان بينه وبين وفاة عمه بدر الدين حسن المذكور ثلاثة عشر يوماً، وكان عمر محمود عند وفاته نحو ست وثلاثين سنة.
ثم دخلت سنة سبع وعشرين وسبعمائة فيها عزل السلطان نائبه المقر السيفي أرغون من نيابة السلطنة بمصر، وأرسله إلى حلب نائباً بها بعد عزل الطنبغا منها، وكان عبور المقر السيفي أرغون المذكور على حماة يوم الثلاثاء سادس وعشرين المحرم، الموافق لثامن وعشرين كانون الأول، وكانت الأمطار في هذه السنة وفيها تصدق السلطان وأرسل لي حصانين من خيل برقة، أحدهما بسرج ذهب لي؛ والآخر بسرج فضة لابني محمد، ووصل بهما أمير آخور دقماق، وركبناهما يوم الخميس ثالث عشر رجب الفرد، الموافق لرابع حزيران. وفيها في يوم السبت ثالث عشر شعبان حضر من الأبواب الشريفة الأمير علاء الدين قطلوبغا، المعروف بالمغربي، وصحبته رسولا جوبان، وهما أسندمر وحمزة، وتوجه بهما وصلهما إلى البيرة مكرمين، ثم عاد قطلوبغا المغربي المذكور إلى حماة، وتوجه إلى الأبواب الشريفة، وتوفي عند وصوله.
وفيها بعد وصول المقر السيفي أرغون إلى حلب، وتوفي ابنه الكبير ناصر الدين محمد بن أرغون؛ وكان أميراً كبيراً في الدولة، وكان وفاته يوم الأربعاء سابع عشر شعبان المذكور.(4/95)
ذكر أخبار أبي سعيد وجوبان
وكان أبو سعيد ملك التتر صبيا عند موت أبيه خربندا، فقام بتدبير المملكة جوبان، ولم يكن لأبي سعيد معه من الأمر شيء حسبما تقدم ذكره، ولما كبر أبو سعيد ووجد أن الأمر مستبد به جوبان، وليس له معه حكم، أضمر لجوبان السوء، وكن جوبان قد سلم الأردو لابنه خواجا دمشق، فحكم خواجا دمشق على أبي سعيد، فاتفق في هذه السنة أن جوبان سار بالعساكر إلى خراسان، واستمر ابنه خواجا دشق حاكماً في الأردو، وكان الأردو إذ ذاك بظاهر السلطانية، وكان خواجا دمشق يروح سراً بالليل إلى بعض خواتين خربندا، فلما خرج شهر رمضان من هذه السنة، ودخل شوال، وتوجه خواجا دمشق في الليل ودخل القلعة ونام عند تلك الخاتون، وكان هناك امرأة أخرى عيناً لأبي سعيد عليها، فأرسلت تلك المرأة وخيرت أبا سعيد بالخبر، واسم المرأة التي هي عين أحجل. ولقلعة السلطانية بابان، فأرسل أبو سعيد عسكراً، ووقفوا على الباب، وأحس خواجا دمشق بذلك، فحمل وخرج من الباب الواحد، فضربوه وأمسكوه وقصدوا إحضاره ممسوكاً بين يدي أبي سعيد، فأرسل أبو سعيد وقال لهم اقطعوا رأسه وأحضروه، فقطعوا رأس خواجا دمشق المذكور، وأحضروه إلى بين يدي أبي سعيد، وبقي المغل يرفسون رأسه، وجمع أبو سعيد كل من قدر عليه، وخاف من جوبان، وأرسل إلى العسكر الذي مع جوبان فيهم بأنه قد عادى جوبان، ولما بلغ جوبان ذلك، سار من خراسان بمن معه من العسكر طالباً أبا سعيد، وسار أبو سعيد إلى جهته، حتى تقارب الجمعان عند مكان يسمى صاري قماش، أي القصب الأصفر، وذلك على مراحل يسيرة من الري، ولما تقارب الجمعان فارقت العساكر عن آخرها جوبان، ورحلوا عنه إلى طاعة أبي سعيد، وذلك في ذي الحجة من هذه السنة، فلم يبق مع جوبان غير عدة يسيرة، فابتدر جوبان الهرب وقصد نواحي هراة، واختفى خبره، ثم ظهر في السنة الأخرى ثم عدم قيل إنه قتل بهراة، قتله صاحبها، وقيل غير ذلك، وتتبع أبو سعيد كل من كان في المملكة من أولاده والزامه فأعدمهم، واستقرت قدم أبي سعيد في المملكة، وكان أبو سعيد يهوى بنت جوبان واسمها بغداد، وكانت مزوجة للأمير حسن بن أقبغا، وهو من أكبر أمراء المغلة، فطلقها أبو سعيد منه وتزوجها أبو سعيد، وبقيت عند أبي سعيد في منزلة عظيمة جداً.
ذكر سفري إلى الأبواب الشريفة
في هذه السنة، رسم السلطان لي بالحضور إلى أبوابه الشريفة، لأكون في خدمته في صبوده، فخرجت من حماة يوم الاثنين رابع ذي القعدة، الموافق للحادي والعشرين من أيلول، وأتممت السير أنا وابني محمد حتى وصلنا إلى بلبيس ونزلنا على عيثة، وهي قرية(4/96)
خارج بلبيس من جهتها الجنوبية، فمرض ابني محمد المذكور مرضاً شديداً، وأرسل السلطان إلي خيلاً بسروجها لي ولابني ووصلني ذلك إلى بير البيضا، وأنا في شدة عظيمة من الخوف على ولدي، واستمر مرضه يتزايد، والتقيت بالسلطان وقبلت الأرض بين يديه يوم السبت، مستهل ذي الحجة بظاهر سرياقرس، ونزلنا بسرياقوس والسلطان يبالغ في الصدقة بأنواع التشاريف والخيول والمآكل، وأنا مشغول الخاطر، وأقمنا بسرياقوس بالعمائر التي أنشأها السلطان هناك، وأرسل السلطان أحضر رئيس الأطباء إذ ذلك. وهو جمال الدين إبراهيم بن أبي الربيع المغربي، فحضر إلى سرياقوس وبقي يساعدني على العلاج، ثم رحل السلطان من سرياقوس ودخل القلعة، وأرسل إلي حراقة، فركبت أنا وابني محمد فيها، وكان إذ ذاك يوم بحرانة يعني سابع أيام الرض، وهو يوم الخميس، سادس ذي الحجة، ونزلت بدار طقزتمر على بركة الفيل، وأصبح يوم الجمعة المرض منحطاً ولله الحمد، فإنه أفسح بالبحران المذكور، وأقمت تحت ظل صدقات السلطان وبقي يحصل لي عوائق عن ملازمة خدمة السلطان بسبب مرض الولد، فإن الحمى بقيت تعاوده بعد كل قليل، والسلطان يتصدق ويعذرني في انقطاعي ويرسم لي بذلك رحمة منه وشفقة علي، وبقي عنده من مرض ابني أمر عظيم، وبقيت أتردد مع السلطان في هذه النوبة في الصيف في أراضي الجيزة، وأراضي المنوفية، حتى خرجت هذه السنة.
ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وسبعمائة وكان أول المحرم من هذه السنة يوم الاثنين وكنا بالقاهرة كما تقدم، وخلع علي السلطان في هذا اليوم قباً مذهباً بطرز ذهب مصري، لم يعمل مثله في كبره وحسنه.
ذكر خروج السلطان إلى عند الأهرام
واستحضار رسل أبي سعيد ثم عدى السلطان إلى الجيزة ونزل عند الأهرام، واستحضر هناك رسل أبي سعيد، ووصلوا مبشرين بهروب جوبان ونصرة أبي سعيد عليه، واستقراره في الملك، وأنه مقيم على الصلح والمحبة، وقصدوا من السلطان استمرارالصلح، فاستحضر السلطان الرسل عند الأهرام في الدهليز الشريف وكان الدهليز جميعه جتره، وشقته من أطلس معدني ونخ مذهب عال، وكان ذلك يوم الأحد ثامن وعشرين لمحرم وثلاث عشر كانون الأول، وكان الرسل ثلاثة نفر، كبيرهم شيخ كأنه كردي الأصل يسمى أرش بغا، والثاني أياجي، والثالث برجا قرابة الأمير بدر الدين جنيكي، وكان يوماً مشهوداً، وأنزل السلطان الرسل في خيمة أعدها السلطان لهم، وأدر السلطان عليهم الإنعامات الوافرة، وبالغ في الإحسان إليهم، ثم إنه سفرهم وأنعم على كل من في صحبتهم من أتباعهم، وكانوا نحو مائة نفر، وسافر الرسل المذكورون من تحت الأهرام يوم الأربعاء مستهل صفر، ودخلوا القاهرة وتوجهوا منها عائدين إلى أبي سعيد، وهم مغمورون بصدقات السلطان، ثم إن السلطان دخل إلى القلعة(4/97)
يوم الأحد ثاني عشر صفر، وكانت غيبته نحو خمسة وثلاثين يوماً، ثم خرجنا إلى سرياقوس يوم الخميس سلخ صفر، وفي يوم الجمعة غد النهار المذكور، خلع علي وعلى ابني محمد تشاريف حسنة فوق العادة، وكذلك أوصلنا بالحوائص الذهب المجوهرة، وبالقماش الفاخر مما يعمل للخاص الشريف بدار الطراز بالإسكندرية، ووصلني من الصناقر والصقور والشواهين عدة كثير، ثم وصلني بعد ذلك كله بثلاثة آلاف دينار مصرية، ورسم لي بالدستور والعود إلى بلادي، فودعته عند بحر ابن منجا يوم السبت ثاني ربيع الأول، وسرت حتى دخلت حماة يوم الجمعة بعد الصلاة، ثاني وعشرين ربيع الأول من هذه السنة، الموافق الخامس شباط.
وفيها قبل دخولي حماة توفيت والدتي رحمها الله تعالى، يوم الخميس حادي وعشرين ربيع الأول، ورابع شباط، وكنت إذ ذاك قريب حمص، فلم يقدر الله لي أن أراها ولا حضرت وفاتها، وكانت من العبادة على قدم كبير.
وفيها بعد وصولي إلى حماة بمدة يسيرة أرسلت وطلبت من السلطان دستوراً لزيارة القدس الشريف، فرسم لي بالتوجه إليه، فخرجت من حماة يوم الثلاثاء سلخ جمادى الأولى الموافق لثاني عشر نيسان، وتوجهت على بلد بارين إلى بعلبك إلى كرك نوح، وانحدرت منها إلى الساحل، ونزلت ببيروت وسرت منها إلى صيدا وصور ثم إلى عكا ثم إلى القدس، وسرت إلى الخليل صلوات الله عليه، ثم عدت إلى حماة ودخلتها يوم السبت خامس وعشرين جمادى الآخرة.
وفيها بعد وصولي من القدس وصلني من صدقات السلطان على العادة في كل سنة، من الحصن البرقية اثنان بالعدة الكاملة، لي ولابني، صحبة علاء الدين أيدغدي أمير أخور، وركبناهما بالعسكر على العادة يوم ثاني عشر رجب من هذه السنة. وفيها أرسلت التقدمة من الخيل وغيرها على عادتي في ذلك كل سنة، صحبة لاجين، وكان خروجه بها من حماة يوم السبت ثاني شعبان.
وفيها عبر على حماة سيف الدين أروج رسولاً من السلطان، وتوجه إلى أبي سعيد، وكان ذلك في أواخر ربيع الأول، ثم عاد بعد أن أدى الرسالة وعبر على حماة في سادس عشر شعبان من هذه السنة، متوجهاً إلى الأبواب الشريفة.
ذكر أخبار تمرتاش بن جوبان
كان تمرتاش المذكور في حياة أبيه جوبان قد صار صاحب بلاد الروم، واستولى على جميع بلادها من قونية إلى قيسارية وغيرهما من البلاد المذكورة، فلما انقهر أبوه وهرب كما ذكرناه، ضاقت بتمرتاش المذكور الأرض، ففارق بلاده وسار في جمع يسير نحو مائتي فارس أو أقل أو أكثر إلى الشام، ثم سار منها إلى مصر إلى صدقات السطان، وكانت نفس المذكور كبيرة جداً بسبب كبر أصله في مغل وكبر منصبه، ولم يكن له عقل يرشده إلى أن يجعل نفسه حيث جعله الله تعالى، ووصل المذكور إلى(4/98)
صدقات السلطان بالديار المصرية في العشر الأول من ربيع الأول، فتصدق عليه السلطان وانعم عليه الإنعامات الجليلة، وأعرض عليه إمرية كبيرة وإقطاعاً جليلاً، فأبى أن يقبل ذلك، وأن يسلك ما ينبغي، واتفق أن الصلح قد انتظم بين السلطان وبين أبي سعيد، وكان أبو سعيد يكاتب ويطلب تمرتاش المذكور بحكم الصلح وما استقر عليه القواعد، فرأى السلطان من المصلحة إمساك تمرتاش المذكور، وانضم إلى ذلك ما بلغ السلطان عنده أنه أخذ أموال أهل بلاد الروم وظلمهم الظلم الفاحش، فأمسكه السلطان واعتقله في أواخر شعبان من هذه السنة، ثم حضر أباجي رسول أبي سعيد، فبالغ في طلب تمرتاش المذكور، فاقتضت المصلحة إعدامه، فأعدم تمرتاش المذكور في رابع شوال من هذه السنة بحضرة أباجي رسول أبي سعيد.
وفيها وصل أباجي رسول أبي سعيد وعبر على حماة في أواخر شعبان، وصحبته أرلان قرائب والدة السلطان وتوجه إلى الأبواب الشريفة بسبب تمرتاش، وكان من أمره ما شرح، وعاد أباجي رسول المذكور من الأبواب الشريفة، وعبر على حماة في التاسع عشر من شوال وتوجه إلى جهة أبي سعيد.
وفيها يوم الأحد تاسع عشر ذي القعدة توفي مملوكي أسنبغا، وكان قد بقي من أكبر أمراء عسكر حماة رحمه الله.
ثم دخلت سنة تسع وعشرين وسبعمائة وكانت غرة المحرم من هذه السنة، يوم الجمعة رابع تشرين الثاني، ولم يبلغني في أوائلها ما يليق أن يؤرخ والله أعلم.
ذكر أخبار الصبي صاحب سيس
في هذه السنة اشتد الصبي صاحب سيس، وهو ليفون بن أوشين، وكان الحاكم عليه صاحب الكرك - بكافين الأولى مفتوحة وبينهما راء مهملة ساكنة - وهي قليعة قريب البحر، في أطراف بلد سيس من جهة الغرب والشمال، وهي تتاخم بلاد ابن قرمان، وكان صاحب الكرك المذكور قد استولى على مملكة صاحب سيس، بحكم صغر الصبي المذكور، فلما كانت هذه السنة قوي الصبي وقتل صاحب الكرك وأخاه بعده، وأرسل رأس صاحب الكرك إلى السلطان فأرسل السلطان تشريفاً وسيفاً وفرساً بسرجه ولجامه، مع الأمير شهاب الدين أحمد المهمندار بالأبواب الشريفة، فتوجه شهاب الدين بذلك إلى الصبي صاحب سيس فلبى صاحب سيس الخلعة، وشذ السيف وقبل الأرض، وركب الفرس المتصدق به عليه، وقويت نفسه بذلك، وأوصل شهاب الدين المهمندار المذكور أنعاماً كثيراً وعماد شهاب الدين إلى الأبواب الشريفة، وعبر على حماة متوجهاً إلى الأبواب الشريفة يوم الخميس، ثاني عشر جمادى الآخرة.
وفي هذه السنة وصلني من صدقات السلطان من الحصن البرقية اثنان بالعدة الكاملة صحبة، علاء الدين أيدغي أمير أخور، لي ولابني محمد، وركبنا(4/99)
الموكب بهما نهار الاثنين، سابع رجب، وفي هذه السنة أرسل السلطان إلى المقر السيفي أرغون النائب بحلب، وأمره بالحضور إلى الأبواب الشريفة، فسار المذكور من حلب وتوجه إلى الديار المصرية، وحضر بين يدي السلطان وشمله بأنواع الصدقات والتشاريف، وبقي مقيماً في الخدمة الشريفة نحو نصف شهر، وما يزيد على ذلك، ثم أمره بالعود إلى النيابة بالمملكة الحلبية، فعاد إليها وعبر على حماة يوم الخميس حادي عشر رجب، وكنت قد خرجت إلى تلقيه، ولقيته بين حمص والرستن وبت عنده يوم الخميس بالرستن، ودخل حماة يوم الجمعة، وصلى وسافر إلى حلب. وفي هذه السنة في الليلة المسفرة عن نهار الاثنين الثالث والعشرين من رجب وتاسع عشر أيار ولد لولدي محمد ولداً ذكراً وكان ذلك وقت المسبح من الليلة المذكورة، وسميته عمر بن محمد.
وفي هذه السنة كان قد توجه على الرحبة رسول أبي سعيد، وهو رسول كبير يسمى تمر بغا، وحضر بين يدي السلطان وكان حضوره بسبب أن أبا سعيد سأل الاتصال بالسلطان وأن يشرفه السلطان بأن يزوجه ببعض بناته، ووصل مع الرسول المذكور ذهب كثيراً لعمل مأكول وغيره، يوم العقد، فأجابه السلطان بجواب حسن، وإن اللاتي عنده صغار، ومتى كبرن يحصل المقصود وعاد تمر بغا الرسول بذلك، وعبر على حماة يوم الجمعة عاشر شعبان من هذه السنة.
وفيها توفي بدمشق قاضي قضاتها وهو علاء الدين القزويني، وكان فاضلاً في العلوم العقلية والنقلية، وعلم التصوف، وله مصنفات مفيدة رحمه الله تعالى. ثم دخلت سنة ثلاثين وسبعمائة.
فيها في المحرم، توفي القاضي علاء الدين علي بن الأثير، كان كاتب السر بمصر، ثم فلج وانقطع فولى مكانه القاضي محي الدين بن فضل الله وفيه مات الشيخ فتح الدين بن قرناص الحموي ولي نظر جامع حماه وله نظم. وفيه قدم قاضي القضاة علم الدين محمد بن أبي بكر الأخنائي، صحبة نائب الشام، عوضاً عن القونوي.
وفيه توفي الوزير الزاهد العالم أبو القاسم محمد بن الوزير الأزدي الغرناطي بالقاهرة، قافلاً من الحج، بلغ من الجاه ببلده إلى أنه كان يولي في الملك ويعزل، وكان ورعاً شريف النفس عاقلاً، أوصى أن تبع ثيابه وكتبه ويتصدق بها.
وفيها في صفر، مات بدمشق سيف الدين بهادر المنصوري بداره، وشيعه النائب والأعيان.
وفيه مات مسند العصر، شهاب الدين أحمد بن أبي طالب الصالحي الحجازي ابن شحنة الصالحية، توفي بعد السماع عليه بنحو من ساعتين، كان ذا دين وهمة وعقل، وإليه المنتهى في الثبات وعدم النعاس، وحصلت له للرواية خلع ودراهم وذهب وإكرام، وشيعه الخلق والقضاة ونزل الناس بموته درجة.
وفيه توفي قاضي القضاة فخر الدين عثمان بن كمال الدين محمد بن البارزي الحموي الجهني، قاضي حلب، فجأة بعد أن توضأ وجلس بمجلس الحكم ينتظر إقامة العصر، حج غير مرة، وكان يعرف الحاوي في الفقه. وشرحه في ست مجلدات، وكان(4/100)
يعرف الحاجبية والتصريف، وكان فيه دين وصداقة رحمه الله تعالى.
وفيها في ربيع الآخر، تولى قضاء القضاة بحلب، القاضي شمس الدين محمد بن النقيب، نقل من طرابلس وولي طرابلس كعده شمس الدين محمد بن المجد عيسى البعلي، سار من دمشق إليها.
وفيها في جمادى الأولى، أنشأ الأمير سيف الدين مغلطاي الناصري مدرسة حنفية بالقاهرة ومكتب أيتام. وفيها في جمادى الآخرة مات الأمير العالم سيف الدين أبو بكر محمد بن صلاح الدين بن صاحب الكرك بالجبل، وكان فاضلاً شاعراً.
وفيه وصل الخبر بعافية السلطان من كسر يده، فزينت دمشق وخلع على الأمراء والأطباء.
وفيه مات بمكة قاضيها الإمام نجم الدين أبو حامد. وفيه مات الشيخ إبراهيم الهدمة، وله كرامات وشهرة.
وفيه حضرت رسل الفرنج يطلبون بعض البلاد، فقال السلطان ألولا أن الرسل لا يقتلون لضربت أعناقكم، ثم سفروا.
وفيها في رجب ماتت زوجة تنكز، وعمل لها تربة حسنة قرب باب الخواصين، ورباط.
وفيها في رمضان مات قاضي طرابلس شمس الدين محمد بن مجد الدين عيسى الشافعي البعلي وكان صاحب فنون قلت:
لقد عاش دهراً يخدم العلم جهده ... وكان قليل المثل في العلم والود
فلما تولى الحكم ما عاش طائلاً ... فما هنئ ابن المجد والله بالمجد
وفيه أنشأ الأمير سيف الدين قوصون الناصري جامعاً عند جامع طولون، عند دار قتال السابع، فخطب به أول يوم قاضي القضاة جلال الدين بحضور السلطان وقرر لخطابته القاضي فخر الدين محمد بن شكر.
وفيها في شوال مات رئيس الكحالين نور الدين علي بمصر.
وفيها احترقت الكنيسة المعلقة بمصر، وبقيت كوماً.
وفيها قدم رسول صاحب اليمن بهدية، فقيد وسجن، لأن صاحب الهند بعث إلى السلطان بهدايا فأخذها صاحب اليمن، وقتل بعض من كان معها وحبس بعضهم.
وفيها في ذي القعدة مات الأمير علاء الدين قلبرس ابن الأمير علاء الدين طبرس بدمشق بالسهم، وكان مقدم ألف، وله معروف، وخلف أموالاً. ومات الأمير جف الدين كوليجار المحمدي.
وفيها بدمشق في ذي الحجة، مات المعمر المسند زين الدين أيوب بن نعمة، وكانت لحيته شعرات يسيرة وكان كحالاً. ومات بها أيضاً الصالح الزاهد الشيخ حسن المؤذن بالمأذنة الشرقية بالجامع، وكان مجاوراً به. ومات بدر الدين محمد بن الموفق إبراهيم بن داود بن العطار، أخو الشيخ علاء الدين، ببستانه، وصلاح الدين يوسف بن شيخ السلامية صهر الصاحب، وشيعه الخلق وفجع به أبواه وكان شاباً متميزاً من أبناء الدنيا المتنعمين.
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة.
فيها وردت كتب الحجاج بما جرى بمكة، شرفها الله تعالى، حول البيت من ثورة عبيد مكة، ساعة الجمعة بالوفد، من النهب والجراحة وقتل جماعة من الحجاج، وقتل أمير(4/101)
مصري، وهو أيدمر أمير جندار وابنه، ولما بلغ السلطان ذلك غضب، وجرد جيشاً من مصر والشام للانتقام من فاعل ذلك.
وفيها في المحرم أيضاً مات الأمير الكبير شهاب الدين طغان بن مقدم الجيوش سنقر الأشقر، ودفن بالقرافة، جاوز الستين، وكان حسن الشكل ومات الصالح كمال الدين محمد ابن الشيخ تاج الدين القسطلاني بمصر، سمع ابن الدهان وابن علاق والنجيب، وحدث وكان صوفياً.
وفيها في صفر، مات قاضي القضاة عز الدين محمد ابن قاضي القضاة عز الدين سليمان بن حمزة الحنبلي، بدمشق بالدير، ومولده في ربيع الآخر سنة خمس وستين، سمع من الشيخ وابن النجاري وأبي بكر الهروي وطائفة، وأجاز له ابن عبد الدائم، وكان عاقلاً، ولي القضاء بعد ابن مسلم، وحج ثلاث مرات.
وماتت أم الحسن فاطمة بنت الشيخ علم الدين البرزالي، سمعت الكثير، من خلق، وحدثت وكتبت ربعة وأحكام ابن تيمية والصحيح، وحجت، وكانت تجتهد يوم الحمام أن لا تدخل حتى تصلي الظهر، وتحرص في الخروج لإدراك العصر، رحمها الله تعالى.
وفيها في صفر أيضاً وصل نهر الساجور إلى نهر قويق، وانصبا إلى حلب، بعد غرامة أموال عظيمة، وتعب من العسكر والرعايا. بتولية الأمير فخر الدين طمان.
وفيها في ربيع الأول مات بحلب الأمير سيف الدين أرغون الناصري نائبها، وخرجت جنازته بلا تابوت، وعلى النعش كساء بالفقيري. من غير ندب ولا نياحة، ولا قطع شعر، ولا لبس جل، ولا تحويل سرج، حسبما أوصى به، ودفن بسوق الخيل تحت القلعة، وعملت عليه تربة حسنة، ولم يجعل على قبره سقف ولا حجرة بل التراب لا غير، وكان متقناً لحفظ القران، مواظباً على التلاوة عنده فقه وعلم، ويرد أحكام الناس إلى الشرع الشريف، حتى كان بعض الجهال ينكر عليه ذلك، وكتب صحيح البخاري بخطه بعد ما سمعه من الحجاز، واقتنى كتباً نفيسة، وكان عاقلاً وفيه ديانة رحمه الله.
وفيها في صفر أيضاً ولي قضاء الحنابلة بدمشق الشيخ شرف الدين ابن الحافظ، واستناب ابن أخيه القاضي تقي الدين عبد الله بن أحمد، ومات القاضي الفقيه الأديب ضياء الدين علي بن سليم بن ربيعة الأذرعي الشافعي بالرملة، ناب عن القاضي عز الدين بن الصائغ، وناب بدمشق عن القونوي، نظم التنبيه في الفقه في ستة عشر ألف بيت وشعره كثير.
مات الرئيس زين الدين يوسف بن محمد بن النصبي بحلب، سمع من شيخ الشيوخ عز الدين، مسند العشرة، وحدث، قارب الثمانين وفيها في ربيع الآخر مات الأمير سيف الدين طرشي الناصري بمصر، أمير مائة، حج غير مرة، وفيه ديانة.
ومات الشيخ علاء الدين ابن صاحب الجزيرة، الملك المجاهد إسحاق ابن صاحب الموصل لؤلؤ بمصر، سمع جزء ابن عرفة من النجيب، والجمعة من ابن علاق، وكان جندياً له ميرة.
ومات بحلب نور الدين حسن ابن الشيخ المقري جمال الدين الفاضلي، روى عن زينب بنت مكي وكان(4/102)
كاتباً بحلب.
ومات الأمير علم الدين سنجر البرواني بمصر فجأة، وكان أمير خمسين من الشجعان.
ومات الصالح المسند شرف الدين أحمد بن عبد المحسن بن الرفعة العدوي، سمع وحدث.
ومات ليلة الجمعة تاسع وعشرين ربيع الآخر بدر الدين محمد بن ناهض إمام الفردوس بحلب، سمع عوالي الغيلانيات الكبير، على القطب ابن عصرون، وحدث وله نظم.
ومات رئيس المؤذنين بجامع الحاكم نجم الدين أيوب بن علي الصوفي، وكان بارعاً في فنه، له، أوضاع عجيبة وآلات غريبة.
وفيها في جمادى الأولى، عاد الأمير علاء الدكن التنبغا إلى نيابة حلب، وفرح الناس وأظهروا السرور.
وفيها حضر بمكة الأمير رميثة بن أبي نمي الحسني وقريء تقليده ولبس الخلعة بولاية مكة، وحلف مقدم العسكر الذين وصلوا إليه والأمراء له بالكعبة الشريفة، وكان كوما مشهوداً وكان وصول الجيش إلى مكة في سابع عشر ربيع الآخر.
وفيه مات الإمام الورع موفق الدين أبو الفتح الجعفري المالكي، وشيعه خلق إلى القرافة، وقارب السبعين، ولم يحدث.
ومات العدل السر برهان الدين إبراهيم بن عبد الكريم العنبري، باشر الصدقات والأيتام والمساجد وهو خال ابن الزملكاني.
ومات القاضي تاج الدين بن النظام المالكي بالقاهرة ومات أبو دبوس المغربي بمصر، قيل إنه ولي مملكة قابس، ثم أخذت منه فترح؛ فأعطي إقطاعاً في الحلقة.
وفيها في جمادى الآخرة، مات القاضي التاج أبو إسحاق عبد الوهاب بن عبد الكريم وكيل السلطان، وناظر الخواص بمصر.
وفيه وصل إلى دمشق العسكر المجرد إلى مكة، ومقدمهم الجي بغا، غابوا خمسة أشهر سوى أربعة أيام، وأقاموا بمكة شهراً ويوماً، وحصل بهم الرعب، في قلوب العرب، وهرب من بين أيديهم عطيفة والأشراف بأهلهم، وثقلهم، وعوض عن عطيفة بأخيه رميثة، وقهر مكانه.
ومات الأمير حسام الدين طرنطاي العادلي الدوانداري بمصر، وكان ديناً وله سماع.
ومات المجد بن اللغينة ناظر الدواوين بالقاهرة. ومات الرئيس تاج الدين بن الدماملي، كبير الكرامية بمصر، قيل ترك مائة ألف دينار.
- ووصل الحاج عمر بن جامع السلامي إلى دمشق من إصلاح عين تبوك، جمع لها من التجار دون عشرين ألفا وأحكمت.
وفيها في رجب مات بمصر العلامة فخر الدين عثمان لن إبراهيم التركماني، سمع من الأبرقوهي، وشرح الجامع الكبير، وألقاه في المنصورية دروساً، وكان حسن الأخلاق فصيحاً، ودرس بها بعده ابنه.
ومات بمصر القاضي جمال الدين بن عمر البوزنجي المالكي معيد المنصورية.
وفيها في شعبان كان بدمشق ريح عاصفة حطمت الأشجار ثم وقع في تاسعه برد عظيم قدر البندق.
وفيه جاء من الكرك، الملك أحمد ابن مولانا السلطان الملك الناصر، وختن بعد ذلك بأيام، وأنفذ إلى الكرك أخ له اسمه إبراهيم.
ومات سيف الدين كشتمر الطباخي الناصري بمصر، كهلاً، تفقه لأبي حنيفة،(4/103)
وكان ديناً، وأحدثت بالمدرسة المعزية على شاطئ النيل الخطبة، وخطب عز الدين عبد الرحيم ابن الفرات حين رتب ذلك، سيف الدين طقز دمر، أمير الجيش.
وفيها في رمضان قدم دمشق العلامة تاج الدين عمر بن علي اللخمي بن الفاكهاني المالكي، من الإسكندرية لزيارة القدس، والحج، فحدث ببعض تصانيفه، وسمع الشفاء وجامع الترمذي من ابن طرخان، وصنف جزءاً في أن عمل المولد في ربيع الأول بدعة. وفيها في ذي القعدة مات الصاحب تقي الدين بن السلعوس بالقاهرة فجأة، حج وسمع من القارون.
ومات القاضي جمال الدين أحمد بن محمد القانسي التميمي، درس بالأمينية والظاهرية، وعمل الإنشاء بدمشق.
وفيها في ذي الحجة مات الأمير نجم الدين البطاحي، ولى أستاذ دارية السلطنة، ومات أمين الدين بن البص، أنفق أموالاً في بناء خان المزيرب، وفي بناء مسجد الذباب، والمأذنة، قيل أنفق في وجوه البر مائتي ألف وخمسين ألفا.
ومات بدمشق الأمير ركن الدين عمر بن بهادر، وكان مليح الشكل، وجاء التقليد بمناصب جمال الدين ابن القلانسي لأخيه.
ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة.
في المحرم منها، توفي الشيخ الكبير العابد المقري، أبو محمد عبد الرحمن ابن أبي محمد بن سلطان القرامزي الحنبلي، بجوبر ودفن بتربة له جوار قبة القلندرية بدمشق، وكان مشهوراً بالمشيخة، يتردد إليه الناس، سمع من ابن أبي يسر، وابن عساكر، وحدث بدمشق ومصر، وقرأ بالروايات على الشيخ حسن صقلي.
ومات الأمير الكبير علم الدين الدميثري، ولي نيابة قلعة دمشق مدة. وحصل بحمص سيل عظيم هلك به خلائق، ومات بحمام تنكز بها نحو مائتي، امرأة وصغير وصغيرة، وجماعة رجال دخلوا ليخلصوا النساء، وهلك بعض متفرجين بالجزيرة، وانهدمت دار المستوفي، وهلك ابنه، وصاروا يخرجون الموتى من بواليع الحمام والقمين، وكان بالحمام عروس، فلهذا أكثر النساء الحمام.
ومات بمصر الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي، وزر ببصر، وحج بالمصريين.
ومات السلطان الملك المؤيد إسماعيل ابن الملك الأفضل علي، صاحب حماة، مؤلف هذا التاريخ وله تصانيف حسنة مشهورة، منها أصل هذا الكتاب ونظيم الحاوي، وشرحه شيخنا قاضي القضاة شرف الدين ابن البارزي شرحاً حسناً، وله كتاب تقويم البلدان، وهو حسن في بابه، تسلطن بحماة في أول سنة عشرين بعد نيابتها، رحمه الله تعالى، وكان سخياً محباً للعلم والعلماء، متقناً يعرف علوماً، ولقد رأيت جماعة من ذوى الفضل يزعمون أنه ليس في الملوك بعد المأمون أفضل منه، رحمه الله تعالى.
وفيها في صفر مات قاضي الجزيرة شمس الدين محمد بن إبراهيم بن نصر الشافعي، وكان له تعلق بالدولة، ومكاتبة من بلده، ثم تحول إلى دمشق.
وفيه أتملك حماة السلطان الملك الأفضل ناصر الدين محمد ابن الملك المؤيد على قاعدة أبيه، وهو ابن عشرين سنة.
وفيها في ربيع الأول مات بالقاهرة القاضي الإمام المحدث، تاج الدين أبو القاسم عبد الغفار بن محمد بن عبد الكافي بن عوض السعدي(4/104)
سعد خدام الشافعي، ولد سنة خمسين تفقه وقرأ النحو على الأمين المحلي، وسمع من ابن عزون، وابن علان، وجماعة وارتحل فلقى بالثغر عثمان ابن عوف، وعمل معجمه في ثلاث مجلدات، وأجاز له ابن عبد الدائم، وروى الكثير، وخرج أربعين تساعيات، وأربعين مسلسلات، وكان حسن الخط والضبط، متقناً، ولي مشيخة الحديث بالصاحبية، وأفتى، وذكر أنه كتب بخطه أزيد من خمسمائة مجلد.
ومات بدمشق العلامة رضى الدين إبراهيم بن سليمان الرومي الحنفي، المعروف المنطقي، بدمشق بالنورية، وكان ديناً متواضعاً محسناً إلى تلامذته، حج سبع مرات.
ومات الأمير علاء الدين طنبغا السلحدار، عمل نيابة حمص، ثم نيابة غزة وبها مات، وحج بالشاميين سنة إحدى عشرة وسبعمائة نيابة.
ومات بمكة خطيبها الإمام بهاء الدين محمد ابن الخطيب تقي الدين عبد الله ابن الشيخ المحب الطبري، له نظم ونثر وخطب، وفيه كرم ومروءة وفصاحة، وخطب بعده أخوه التاج علي.
وفيها في ربيع الآخر، ركب بشعار السلطنة، الملك الأفضل الحموي بالقاهرة، وبين يديه الغاشية، ونشرت العصائب السلطانية والخليفية على رأسه، وبين يديه الحجاب، وجماعة من الأمراء، وفرسه بالرقبة وبالشبابة، وصعد القلعة هكذا.
وفيها في جمادى الأولى، مات قاضي القضاة بدمشق، شرف الدين أبو محمد عبد الله ابن الإمام شرف الدين حسن ابن الحافظ أبي موسى ابن الحافظ الكبير عبد الغني المقدسي الحنبلي فجأة، كان شيخاً مباركاً.
ومات فخر الدين علي بن سليمان بن طالب بن كثيرات بدمشق.
ومات بالإسكندرية الصالح، القدوة، الشيخ ياقوت الحبشي الإسكندري الشاذلي، وكانت جنازته مشهورة، وقد جاوز الثمانين، كان من أصحاب أبي العباس المرسي.
وفيها في رجب مات الإمام الصالح. عز الدين عبد الرحمن ابن الشيخ العز إبراهيم بن عبد الله ابن أبي عمر المقدسي الحنبلي، سمع أباه وابن عبد الدائم وجماعة، وكان خيراً بشوشاً، رأساً في الفرائض.
ومات بدمشق الناصح محمد بن عبد الرحيم بن قاسم الدمشقي النقيب الجنائزي، وكان خبيراً بألقاب الناس، يحصل الدراهم والخلع، ويتقيه الناس، عفا الله عنه.
ومات بمصر فخر الدين بن محمد بن فضل الله، كاتب المماليك ناظر الجيوش المصرية كان له بر، وعدمه الناس، وعرفوا قدره بوفاته، فإنه كان يشير على السلطان بالخيرات، ويرد عن الناس أموراً معظمات قلت:
وكم أمور حدثت بعده ... حتى بكت حزناً عليه الرتوت
لو لم يمت ما عرفوا قدره ... ما يعرف الإنسان حتى يموت
سمع من ابن الأبرقوهي واحتيط على حواصله.
ومات شيخ القراء شهاب الدين أحمد بن محمد بن يحيى بن أبي الحزم، سبط السلعوس النابلسي، ثم الدمشقي، بستانه ببيت لهيا وكان ساكناً وقوراً.
ومات بمصر الأمير سيف الدين أبجية الدواتدار، الناصري، الفقيه(4/105)
الحنفي، كهلاً وولي المنصب بعده الأمير صلاح الدين يوسف بن الأسعد، ثم عزل بعد مدة.
وفيها في شعبان، كان عرس الملك محمد ابن السلطان على زوجته بنت بكتمر الساقي، وسوارها ألف ألف دينار مصرية، وذبح خيل وجمال وبقر وغنم وإوز ودجاج، فوق عشرين ألف رأس، وحمل له ألف قنطار شمع، وعقد له ثمانية عشر ألف قنطار حلوى سكرية، وأنفق على هذا العرس أشياء لا تحصى.
ومات بالقاهرة، جمال الدين محمد بن بدر الدين محمد بن جمال الدين محمد بن مالك الطائي الجياني، بلغ الخمسين، وسمع من ابن النجاري جزءاً، خرجه له عمه، وله نظم جيد، ولم يحدث.
ومات الأمير سيف الدين ساطي، صهر سلار، من العقلاء، وفيه ديانة، وله حرمة وافرة.
ومات بدمشق أمين الدين سليمان بن داود، الطبيب، تلميذ العماد الدنيسري، كان سعيداً في علاجه، وحصل أموالاً، قلت:
مات سليمان الطبيب الذي ... أعده الناس لسوء المزاج
لم يفده طب ولم يغنه ... علم ولم ينفعه حسن العلاج
كان مقدماً على المداواة، ودرس بالدخوارية مدة، وعاش نحو سبعين سنة.
وفيه طغى ماء الفرات وارتفع ووصل إلى الرحبة، وتلفت زروع، وانكسر السكر بدير بسير، كسراً ذرعه اثنان وسبعون ذراعاً، وحصل تألم عظيم، وعملوا السكر فلما قارب الفراغ انكسر منه جانب، وغلت الأسعار بهذا السبب، وتعب الناس بصعوبة هذا العمل.
وفيها في رمضان، أمر بدمشق، الأمير علي ابن نائب دمشق، سيف الدين تنكز، ولبس الخلعة عند قبر نور الدين الشهيد، المشهور بإجابة الدعاء عنده، ومشى الأمراء في خدمته إلى العتبة السلطانية فقبلها، وفيه نقل من دمشق إلى كتابة السر بالأبواب السلطانية القاضي شرف الدين أبو بكر بن محمد بن الشيخ شهاب الدين محمود، ونقل إلى دمشق القاضي محي الدين بن فضل الله ولده.
ومات بدمشق فجأة الأمير سيف الدين بلبان العنقاري الزراق، الساكن بالسبعة، وقد جاوز السبعين، من أمراء الأربعين.
ومات شيخ القراء ذو الفنون، برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن عمر الجعبري الشافعي، بالخليل، ومولده سنة أربعين وستمائة وتصانيفه كثيرة، اشتغل ببغداد، وقرأ التعجيز على مصنفه بالموصل، وأقام شيخاً أربعين سنة.
ومات بمصر الأمير سيف الدين سلامش الظاهري أمير خمسين، وقد قارب التسعين، وكان ديناً صالحاً. وفيها في شوال، توجه السلطان للحج بأهله ومعظم أمرائه، في حشمة عظيمة. ومات الإمام شهاب الدين أبو أحمد عبد الرحمن بن محمد بن عسكر المالكي، مدرس المستنصرية ببغداد، وله مصنفات في الفقه، وكان حسن الأخلاق، ولد في سنة أربع وأربعين بباب الأزج.
وفيها في ذي القعدة مات قاضي القضاة، علم الدين محمد بن أبي بكر بن عيسى بن بدران السعدي المصري ابن الأحناني، بالعادلية بدمشق، ودفن بسفح قاسيون،(4/106)
كان من شهود الخزانة بمصر، ثم جعل حاكماً بالإسكندرية، ثم بدمشق، وكتب الحكم لابن دقيق العيد، ولازم الدمياطي مدة، وسمع من أبي بكر بن الأنماطي وجماعة، ومولده عاشر رجب، سنة أربع وستين، وكان عفيفاً فاضلاً عاقلاً نزهاً متديناً محباً للحديث والعلم شرح بعض كتاب البخاري.
وفيه وفي النيل، قبل النيروز بثلاثة وعشرين يوماً، وبلغ أحد عشر من تسعة عشر وهذا لم يعهد من ستين سنة، وغرق أماكن، وأتلف للناس من القصب ما يزيد على ألف ألف دينار، وثبت على البلاد أربعة أشهر.
وفيها في ذي الحجة، مات قطب الدين موسى بن أحمد بن حسان ابن شيخ اللامية، وكان ناظر الجيش الشامي، ومرة المصري، ودفن بتربة أنشأها بجنب جامع الأفرم، وعاش اثنتين وسبعين، ورثاه علاء الدين بن غانم.
ومات الشيخ الصالح المقرئ شمس الدين محمد بن النجم أبي تغلب بن أحمد بن أبي تغلب الفاروثي، ويعرف بالمربي، جاوز الثمانين، كان معلماً في صنعة الإقباع، ويقرئ صبيانه، ويتلو كثيراً، قرأ بالسبع على الكمال المحلي قديماً.
ومات العلامة الخطب جمال الدين يوسف بن محمد بن مظفر بن حماد الحموي الشافعي خطيب جامع حماة، كان عالماً ديناً سمع جزء الأنصاري من مؤمل البالسي، والمقداد القيسي، وحدث، واشتغل وأفتى، وكان على قدم من العبادة والإفادة، رحمه الله تعالى.
ومات العلامة شمس الدين أبو محمد عبد الرحمن بن قاضي القضاة، الحافظ سعد الدين مسعود ابن أحمد الحارثي، بالقاهرة، تصدر للإقراء، وحج مرات، وجاور وسمع من العز الحراني وجماعة، وكان ذا تعبد وتصون وجلالة، قرأ النحو على ابن النحاس والأصول على ابن دقيق العيد، ومولده سنة إحدى وسبعين، وولي بعده تدريس المنصورية، قاضي القضاة، تقي الدين. ومات كبير أمراء سيف الدين، بكتمر الناصري الساقي، بعد قضاء حجه، وابنه الأمير أحمد أيضاً، وخلف ما لا يحصى كثرة، ماتا بعيون القصيب. بطريق مكة، ونقلا إلى تربتهما بالقرافة.
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة.
فيها في المحرم أطلق الصاحب شمس الدين غبريال. بعد مصادرة كثيرة.
ومات بدمشق نقيب الأشراف، شرف الدين عدنان الحسين ولي النقابة على الأشراف بعد موت أبيه، واستمر بها تسع عشرة سنة، وهم بيت تشيع.
وفيها في صفر، وصل الخبر بموت محدث بغداد، تقي الدين محمود بن علي بن محمود بن مقبل الدفوقي، كان يحضر مجلسه خلق كثير لفصاحته وحسن آدابه، وله نظم وولي مشيخة المستنصرية، وحدث عن الشيخ عبد الصمد وجماعة وكان يعظ، وحمل نعشه على الرؤوس، وما خلف درهماً.
وفيه قدم أمين الملك، عبد الله الصاحب، على نظر دمشق، وهو سبط السديد الشاعر.
ومات بدمشق، الشيخ كمال الدين عمر بن إلياس المراغي كان عالماً عابداً سمع منهاج البيضاوي من مصنفه.
وفيها في ربيع الأول ولي القضاء بدمشق، العلامة(4/107)
جمال الدين يوسف جملة، بعد الإخنائي.
وفيها في ربيع الآخر، توجه القاضي محي الدين بن فضل الله وابنه إلى الباب الشريف، وتحول إلى موضعه بدمشق، القاضي شرف الدين أبو بكر بن محمد ابن الشهاب محمود، وولي نقابة الأشراف بدمشق عماد الدين موسى بن عدنان.
وفي خامس عشر شعبان من سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة، دخل الأمير بدر الدين لؤلؤ القندشي إلى حلب، شاداً على المملكة، وعلى يده تذاكر، وصادر المباشرين وغيرهم، ومنهم النقيب بدر الدين محمد بن زهرة الحسيني، القاضي جمال الدين سليمان بن ريان ناظر الجيش، وناصر الدين محمد بن قرناص عامل الجيش، وعمه المحبي عبد القادر عامل المحلولات، والحاج إسماعيل بن عبد الرحمن العزازي، والحاج علي بن السقاء، وغيرهم. واشتد به الخطب وانزعج الناس كلهم، حتى البريئون، وقنت الناس في الصلوات وقلت في ذلك:
قلبي لعمر الله معلول ... بما جرى للناس مع لولو
يا رب قد شرد عنا الكرا ... سيف على العالم مسلول
وما لهذا السيف من مغمد ... سواك يا من لطفه السول
كان هذا لؤلؤ مملوكاً لقندش ضامن المكوس بحلب، ثم ضمن هو بعد أستاذه المذكور، ثم صار ضامن العداد، ثم صار أمير عشرة، ثم أمير طبلخانات، ثم صار ما صار، ثم أنه عزل ونقل إلى مصر، وأراح الله أهل حلب منه، فعمل بمصر أقبح عمله بحلب، وتمكن وعاقب حتى نساء مخدرات، وصادر خلقاً.
وفيها في جمادى الأولى مات عز القضاة فخر الدين بن المنير المالكي، من العلماء ذوى النظم والنثر، وألف تفسيراً وأرجوزة في السبع.
ومات قاضي المجدل، بدر الدين محمد بن تاج الدين الجعبري.
ومات قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الكناني الحموي بمصر، له معرفة بفنون، وعدة مصنفات، حسن المجموع، كان ينطوي على دين وتعبد، وتصون وتصوف، وعقل ووقار، وجلالة وتواضع، درس بدمشق، ثم ولي قضاء القدس، ثم قضاء الديار المصرية، ثم قضاء الشام، ثم قضاء مصر، وولي مشيخة الحديث بالكاملية، ومشيخة الشيوخ، وحمدت سيرته ورزق القبول من الخاص والعام، وحج مرات وتنزه عن معلوم القضاء لغناه مدة، وقل سمعه في الآخر قليلاً فعزل نفسه، ومحاسنه كثيرة ومن شعره:
لم أطلب العلم للدنيا التي ابتغيت ... من المناصب أو للجاه والمال
لكن متابعة الأسلاف فيه كما ... كانوا فقدر ما قد كان عن حالي
وفيها في جمادى الآخرة، مات الرئيس تاج الدين طاولت بن نصير الدين ابن الوجيه بن سويد بدمشق، حدث عن عمر القواس، وعاشق خمسين سنة، وهو سبط(4/108)
الصاحب جمال الدين بن صصري، وكان فيه دين وبر، وله أموال.
ومات العلامة مفتي المسلمين شهاب بن أحمد بن جهبل الشافعي بدمشق، درس بالصلاحية، وولي مشيخة الظاهرية، ثم تدريس الباذرائية وله محاسن وفضائل.
ومات الأمير علم الدين طرقشي المشد بدمشق.
وفيها في رجب مات الشيخ الإمام القدوة تاج الدين بن محمود الفارقي بدمشق، وعاش ثلاثاً وثمانين سنة، وكان عابداً عاقلاً فقيهاً، عفيف النفس، كبير القدر، ملازماً للجامع، عالج الصرف مدة، ثم ترك وأتجر في البضائع، وحدث عن عمر بن القواس وغيره.
ومات صاحبنا الأمير شهاب الدين أحمد بن بدر الدين حسن بن المرواني نائب بعلبك، ثم والي البر بدمشق، وكان فيه دين كثير التلاوة محباً للفضل والفضلاء، ولي ولده النيابة بقصير أنطاكية طويلاً وبها مات.
وفيها في شعبان مات الخطيب بالجامع الأزهر، علاء الدين بن عبد المحسن ابن قاضي العسكر، المدرس بالظاهرية والأشرفية، بالديار المصرية. وفيه دخل القاضي تاج الدين محمد ابن الزين حلب، متولياً كتابة السر، ولبس الخلعة وباشر وأبان عن تعفف عن هدايا الناس.
وفيها في رمضان، مات بدمشق الأمير علاء الدين أوران الحاجب، وكان ينطوي على ظلم من أولاد الأكراد.
ومات بحماة زين الدين عبد الرحمن بن علي بن إسماعيل بن البارزي المعروف بابن الولي، كان وكيل بيت المال بها، وبنى بها جامعاً، وكانت له مكانة ومروءة ومنزلة عند صاحب حماة.
ومات مسند الشام المعمر تاج الدين أبو العباس أحمد بن المحدث تقي الدين إدريس كان فيه خير وديانة.
ومات بحماة شيخ الشيوخ فخر الدين عبد الله بن التاج، كان صواماً عابداً، ذا سكينة، سمع من والده.
ومات الإمام المؤرخ شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب الشافعي بالقاهرة، وله تاريخ في ثلاثين مجلداً، كان ينسخ في اليوم ثلاثة كراريس، وفضيلته تامة، عاش خمسين سنة.
ومات الإمام جمال الدين حسين بن محمود الربعي البالسي بالقاهرة، قرأ بالروايات، وكان شيخ القراء، وله وظائف كثيرة، أمّ بالشجاعي، ثم أمّ بالسلطان نيفاً وثلاثين سنة، وكان عالماً كثير التهجد.
وفيها في ذي القعدة، أخذ حاجب العرب بدمشق، علي بن مقلد، فضرب وحبس، وأخذ ماله وقطع لسانه، وعزل ناصر الدين الدواتدار، وضرب وصودر، وأخذ منه مال جزيل، وأبعد إلى القدس، ثم قطع لسان ابن مقلد مرة ثانية، فمات آخر اليوم. قلت:
أوصيك فإن قبلت مني ... أفلحت ونلت ما تحب
لا تدن من الملوك يوماً ... فالبعد من الملوك قرب
ومات بحلب أمين الدين عبد الرحمن الفقيه الشافعي المواقيتي، سبط الأبهري، وكان له يد طولى في الرياضة، والوقت والعمليات، ومشاركة في فنون، وكان عنده لعب، فنفق عند(4/109)
الملك المؤيد بحماة، وتقدم، ثم بعده تأخر وتحول إلى حلب، ومات بها.
قلت وأهل حماة يطعنون في عقيدته. ويعجبني بيتان، الثاني منهما مضمن لا لكونهما فيه، فإن سريرته عند الله، بل لحسن صناعتهما وهما:
إلى حلب خذ عن حماة رسالة ... أراك قبلت الأبهري المنجما
فقولي له ارحل لا تقيمن عندنا وإلا فكن في السر والجهر مسلما ومات الزاهد الولي أبو الحسن الواسطي العابد محرماً ببدر، قيل إنه حج وله ثمان عشرة سنة، ثم لازم الحج وجاور مرات وكان عظيم القدر، منقبضاً عن الناس. وفيها في ذي الحجة مات الأمير الكبير مغلطاي كان مقدم ألف(4/110)
بدمشق، وماتت الشيخة المسندة الجليلة أم محمد أسماء بنت محمد بن صصري، أخت قاضي القضاة، نجم الدين، سمعت وحدثت وكانت مباركة، كثيرة البر، وججت مرات، وكانت تتلو في المصحف وتتعبد قلت:
كذلك فلتكن أخت ابن صصرى ... تفوق على النساء صبي وشيبا
طراز القوم أنثى مثل هذي ... وما التأنيث لاسم الشمس عيبا
ومات أيضاً بد مشق، عز الدين إبراهيم بن القواس بالعقيبة، ووقف داره مدرسة، وأمسك حاجب مصر سيف الدين إلماس، وأخوه قره تمر، ووجد لهما مال عظيم. ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وسبعمائة.
في أول المحرم منها، أفرج عن الأمير بدر الدين القرماني، والأمير سيف الدين إسلام، وأخيه وخلع عليهم، وتوفي بالقدس خطيبه وقاضيه، الشيخ عماد الدين عمر النابلسي.
وفيها في صفر، مات قاضي القضاة جمال الدين أبو الربيع سليمان الأذرعي الشافعي، ويكنى أبا داود، أيضاً بالسكتة، ولي القضاء بمصر، ثم بالشام مدة، وكان عليه سكينة ووقار.
وأحضر ناصر الدين الدواتدار إلى مخدومه سيف الدين تنز، فضرب وأهين، وكمل عليه مال يقوم به.
وحصلت صقعة أتلفت الكروم والخضراوات بغوطة دمشق، ومات الأمير سيف الدين صلعنة الناصري، وكان ديناً يبدأ الناس بالسلام في الطرقات.
ومات بطرابلس نائبها الأمير رحمه الله تعالى.
ومات بحماه قاضي القضاة، نجم الدين أبو القاسم عمر بن الصاحب كمال الدين العقيلي الحنفي، المعروف بابن العديم، وكان له فنون وأدب، وخط وشعر، ومروءة غزيرة وعصبية، لم تحفظ عليه أنه شتم أحداً مدة ولايته، ولا خيب قاصده. قلت:
قد كان نجم الدين شمساً أشرقت ... بحماة للداني بها والقاضي
عدمت ضياء ابن العديم فأنشدت ... مات المطيع فيا هلاك العاصي
وفيها في ربيع الأول، توفي الأمير سيف الدين طرنا الناصري، أمير مائة، مقدم ألف، بدمشق.
ومات جمال الدين فرج بن شمس الدين قره سنقر المنصوري.
ورسم تنكز نائب السلطنة بعمارة باب توما وإصلاحه، فغمر عمارة حسنة ورفع نحو عشرة أذرع، ووسع وجدد بابه.
وفيها في ربيع الآخر، وصل جمال الدين أقوش نائب الكرك إلى طرابلس نائباً بها، عوضا عن قرطاي. رحمه الله تعالى، ووصل سيل إلى ظاهر دمشق، وهدم بعض المساكن، وخاف الناس منه، ثم نقص في يومه، ولطف الله تعالى.
وتوفيت أم الخير خديجة، المدعوة ضوء الصباح، وكانت تكتب بخطها في الإجازات ودفنت بالقرافة.
وفيها في جمادى الأولى، توفي الفاضل بدر الدين محمد بن شرف الدين أبي بكر الحموي المعروف بابن السمين، بحماة، وكان أبوه من فصحاء القراء رحمهما الله تعالى.
وفيها في جمادى الآخرة، توفي بحلب، شرف الدين أبو طالب عبد الرحمن ابن القاضي عماد الدين بن العجمي، سمع الشمائل على والده، وحدث وأقام مع والده بمكة في صباه، أربع سنين، وكان شيخاً محترماً من أعيان العدول، وعنده سلامة صدر، رحمة الله تعالى.
ومات الأمير شمس الدين محمد بن الصيمري بن واقف المارستان بالصالحية.
وفيها في رجب، وصل كتاب من المدينة النبوية، يذكر فيه أن وادي العقيق سال من صفر وإلى الآن، ودخل السيل قبة حمزة رضي الله عنه، وبقي الناس عشرين يوماً ما يصلون إلى القبة، وأخذ نخلاً كثيراً وخرب أماكن.
ومات الأمير عز الدين نقيب العساكر المصرية، ودفن بالقرافة.
ومات الأمين ناصر الدين بن سويد التكريتي، سمع على جماعة من أصحاب ابن طبرزد، وحدث وكان له بر وصدقات، وحج مرات، وجاور بمكة، ومات الشيخ العالم الرباني الزاهد، بقية السلف، نجم الدين اللخمي القبابي الحنبلي بحماة، وكانت جنازته عظيمة، وحمل على الرؤوس. سمع مسند الدارمي، وحدث وكان فاضلاً فقيهاً فرضياً جليل القدر، وفضائله وتقلله من الدنيا، وزهده معروف، نفعنا الله ببركته، والقباب المنسوب إليها قرية من قرى أشموم الرمان متصلة بثغر دمياط.
قلت وقدم مرة إلى الفوعة وأنا بها، فسألني عن الأكدرية إذا كان بدل الأخت خنثى، فأجبت: إنها بتقدير الأنوثة تصح من سبعة وعشرين وبتقدير الذكورة تصح من ستة. والأنوثة تضر الزوج والأم، والذكورة تضر الجد والأخت، وبين المسألتين موافقة بالثلث، فيضرب ثلث السبعة والعشرين، وهو تسعة في الستة، تبلغ أربعة وخمسين، ومنها تصح المسألتان، للزوج ثمانية عشر. وللأم اثنا عشر، وللجد تسعة، ولا يصرف إلى الخنثى شيء والموقوف خمسة عشر، وفي طريقها طول ليس هذا موضعه، فأعجب الشيخ، رحمه الله تعالى بذلك.
وفيها في شعبان مات فجأة، الإمام الحافظ أبو الفتح محمد بن محمد بن محمد بن أحمد ابن سيد الناس اليعمري. أخذ علم الحديث عن ابن دقيق العيد، والدمياطي،(4/111)
وكان أحد الأذكياء الحفاظ، له النظم والنثر والبلاغة والتصانيف المتقنة، وكان شيخ الظاهرية، وخطيب جامع الخندق.
وفيها يوم الجمعة التاسع والعشرين من شهر رمضان، انفصل القاضي جمال الدين يوسف بن جملة الحجي الشافعي من قضاء دمشق، وعقد له مجلس عند نائب السلطنة تنكز، وحكم بعزله، لكونه عزر الشيخ الظهير الرومي فجاوز في تعزيره الحد، ورسم على القاضي المذكور بالعذراوية ثم نقل إلى القلعة، فإن القاضي المالكي حكم بحبسه، وطولع السلطان بذلك فأمر بتنفيذه.
قلت وأعجب بعض الناس حبسه أولاً، ثم رجع الناس إلى أنفسهم فأكبروا مثل ذلك، ومما قلت فيه:
دمشق لازال ربعها خضر ... بعدلها اليوم يضرب المثل
فضا من المكس مطلق فرح ... فيها وقاضي القضاة معتقل
ونفي الشيخ إلى بلاد المشرق، وكانت مدة ولاية القاضي المذكور سنة ونصفاً سوى أيام، فكان الناس يرون أن حادثة القاضي، وحبسه بالقلعة بقيامه على ابن تيمية جزاء وفاقاً.
ومات الشيخ سيف الدين يحيى بن أحمد بن أبي نصر محمد بن عبد الرزاق بن الشيخ عبد القادر الجيلي بحماة، وكان شهماً سخياً رحمه الله تعالى.
وفي منتصف الشهر وجد بالقاهرة يهودي مع مسلمة من بنات الترك، فرجم اليهودي وأحرق وأخذ ماله كله، وكان متمولاً وحبست المرأة. قلت:
هذا تعدى طوره فناله ما ناله ... فأعدموه عرضه وروحه وماله
وحكى لي عدل، أنه أخذ منه ألف ألف درهم وثلاث صواني زمرد وعزل الأمير سيف الدين بلبان عن ثغر دمياط، وأخذ منه مال وحبس.
وفيها في شوال، توفي الصاحب شمس الدين غبريال، وكان قد أخذ منه ألفا ألف درهم، وكان حسن التدبير في الدنيويات، وأسلم سنة إحدى وسبعمائة، هو وأمين الملك معاً.
وفيه بالقاهرة، خصي عبد أسود كان تعرض إلى أولاد الناس، فمات قلت:
يعجبني وفاة من فيه فساد وأذى ... لا حبذا حياته وإن يمت فحبذا
ومات الإمام شمس الدين محمد بن عثمان الأصفهاني المعروف بابن العجمي الحنفي، كان مدرساً بالإقبالية، وحدث بالمدينة النبوية ودرس أيضاً بالمدرسة الشريفة النبوية، وحدث بدمشق، وكان فاضلاً وجمع منسكاً على المذاهب، ومات الشيخ الزاهد ناصر الدين محمد ابن الشرف صالح بحماة، أقام أكثر من ثلاثين سنة لا يأكل الفاكهة ولا اللحم، وكان ملازماً للصوم لا يقبل من أحد شيئاً قلت:
زرته مرتين والحمد لل ... هـ فعاينت خير تلك الزياره
كان فيه تواضع وسكون ... وصلاح باد وحسن عباره(4/112)
وفيه كتب بدمشق محضر بأن الصاحب غبريال، كان احتاط على بيت المال. واشترى أملاكاً ووقفها. وليس له ذلك فشهد بذلك جماعة، منهم ابن الشيرازي وابن أخيه عماد وابن مراجل، وأثبت عند برهان الدين الزرعي، ونفذوه وامتنع المحتسب عز الدين بن الغلانيس من الشهادة بذلك فرسم عليه وعزل من الحسبة. قلت:
فديت امرءاً قد راقب الله ربه ... وأفسد دنياه لإصلاح دينه
وعزل الفتى في الله أكبر منصب ... يقيه الذي يخشى بحسن يقينه
وفيها في ذي القعدة، تولى قضاء قضاة الشافعية بدمشق، شهاب الدين محمد ابن المجد عبد الله ابن الحسين، درس وأفتى قديماً وضاهى الكبار، وتنقلت به الأحوال، وهو على ما فيه غزير المروءة سخي النفس متطلع إلى قضاء حوائج الناس. واستمر قاضياً إلى أن كان ما سنذكر، وتوجه مهنا بن عيسى أمير العرب إلى طاعة السلطان بعد النفرة العظيمة عنه سنين، ومعه صاحب حماة الملك. الأفضل، فأقبل السلطان على مهنا وخلع عليه، وعلى أصحاب مائة وستين خلعة، ورسم له بمال كثير الذهب والفضة والقماش، وأقطعه عدة قرى، وعاد إلى أهله مكرماً. ومات المجود الأديب بدر الدين حسن بن علي بن عدنان الحمداني ابن المحدث. وفيها أظن ذي الحجة مات القاضي مجد الدين حرمي بن قاسم الفاقوسي الشافعي، وكيل بيت المال، ومدرس قبة الشافعي وكان معمراً.
وألزمت النصارى واليهود ببغداد بالغيار، ثم نقضت كنائسهم ودياراتهم، وأسلم منهم ومن أعيانهم خلق كثير، منهم سديد الدولة، وكان ركناً لليهود، عمر في زمن يهوديته مدفناً له، خسر عليه مالاً طائلاً، فخرب مع الكنائس، وجعل بعض الكنائس معبداً للمسلمين، وشرع في عمارة جامع بدرب دينار، وكانت بيعة كبيرة جداً، واشتهر عن جماعة من الشيعة في قرية بتي بالعراق، وأنهم دخلوا على مريض منهم، فجعل يصيح أخذ في المغول، خلصوني منهم، وكرر ذلك فاختلس من بينهم حياً فكان آخر عهدهم به، وكان الرجل من فقهاء الشيعة، يتولى عقود أنكحتهم، إن في ذلك لعبرة.
وأطلق ببغداد مكس الغزل وضمان الخمر، والفاحشة، وأعطيت المواريث لذوي الأرحام دون بيت المال، وخفف كثير من المكوس، ولله الحمد.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وسبعمائة في المحرم منها، رجع حسام الدين مهنا من مصر مكرماً ومات الأمير بدر الدين كيكليدي، عتيق شمس الدين الأعسر بد مشق، وخلف أولاداً وأملاكاً، ومات الأمير بكتمر الحسامي بمصر. وجدد جامع قلعة مصر، ومات الملك العزيز ابن الملك المغيث ابن السلطان الملك العادل ابن الكامل، كتب الكثير وعمر.
وفيها في صفر، وصل إلى دمشق كاتب السر، القاضي جمال الدين عبد الله ابن القاضي كمال الدين ابن الأثير، صاحب ديوان الإنشاء، بدلاً عن شرف الدين حفيد الشهاب محمود.
ومات شيخ(4/113)
المؤذنين وأنداهم صوتاً برهان الدين إبراهيم الواني، سمع من ابن عبد الدائم وجماعة، وحدث.
ومات بدمشق المسند المعمر، بدر الدين عبد الله بن أبي العيش الشاهد، وقد جاوز التسعين، سمع من مكي بن قيس بن علان، وكان يطلب على السماع وتفرد بأشياء.
ومات بدمشق تقي الدين عبد الرحمن بن الفويرة الحنفي.
وفيها في صفر أمر السلطان بتسمير رجل ساحر اسمه إبراهيم.
وفيها في ربيع الأول، مات الشيخ أبو بكر بن غانم بالقدس، وكان له مكارم ونظم.
ومات المحدث أمين الدين محمد بن إبراهيم الواني، روى عن الشرف ابن عساكر وغيره، وكان ذا همة ورحلة. وحج ومجاورة، وكانت جنازته مشهودة، وطاب الثناء عليه.
ومات نظام الدين حسن، ابن عم العلامة كمال الدين بن الزملكاني، وقد جاوز الخمسين، وكان مليح الشكل لطيف الكلام، ناظراً بديوان البر.
ومات كبير المجودين، الخطب بهاء الدين محمود بن خطيب بعلبك السلمي بالعقبة، وتأسف الناس عليه لدينه وتواضعه، وحسن شكله، وبراعة خطه، وعفته، وتصونه، كتب عليه خلق، وكتب صحيح البخاري بخطه.
وعمر الأمير حمزة بدمشق حماماً عند القنوات، وأدير فيه أربعة وعشرون جاناً، وأوجر كل يوم بأربعين درهماً وعظم حمزة، وأقبل عليه تنكز بعد الدواتدار، ثم طغى وتجبر وظلم، وعظم الخطب به فضربه تنكز وحبسه، ونقل إلى القلعة، ثم حبس بحبس باب الصغير، ثم أطلق أياماً وصودر، ثم أهلك سراً بالبقاع، قيل غرق وقطع لسانه من أصله، وهو الذي اتلف أمر الدواتدار، وابن مقلد بن جملة، وله حكايات في ظلمه، ورفع فيه يوم أمسك تسعمائة قصة، وبولغ في ضربه ورمي بالبندق في جسده، وما رق عليه أحد. قلت:
لو يفطن العاتي الظلوم لحاله ... لبكى عليها فهي بئس الحال
يكفيه شؤم وفاته وقبيح ما ... يثنى عليه وبعد ذا أهوال
وفيها في ربيع الآخر، توفي الفقير الصالح الملازم لمجالس الحديث، أبو بكر بن هارون الشيباني الجزري، روى عن ابن البخاري.
وقدم على نيابة طرابلس سيف الدين طينال الناصري عوضاً عن أفوش الكركي، وحبس الكركي بقلعة دمشق، ثم نقل إلى الإسكندرية.
وفيها في جمادى الأولى مات علاء الدين علي بن سلعوس التنوخي، وقد باشر صحابة الديوان لدمشق، ثم ترك واحتيط بمصر على دار الأمير بكتمر الحاجب لامي، ونبشت فأخذ منها شيء عظيم.
وفيها في جمادى الآخرة مات مشددار الطراز، سيف الدين علي بن عمر بن قزل سبط الملك الحافظ، ووقف على كرسي وسيع بالجامع.
ومات ببعلبك الفقيه أبو طاهر، سمع من التاج عبد الخالق وعدة، وكتب وحدث، وعمل ستر ديباج منقوش على المصحف العثماني بدمشق بأربعة آلاف درهم وخمسمائة. قلت:(4/114)
ستروا المكرم بالحرير وستره ... بالدر والياقوت غير كثير
ستروه وهو من الغواية سترنا ... عجبي لهذا الساتر المستور
ومات فجأة التاجر علاء الدين علي السنجاري بالقاهرة، وهو الذي أنشأ دار القرآن بباب الناطفانيين قلت:
ما مات من هذي صفاته ... فوفاة ذا عندي حياته
إن مات هذا صورة ... أحيت معنى سالفاته
ومات بمصر، الواعظ شمس الدين حسين، وهو آخر أصحاب الحافظ المنذري، سمع من جماعة، وكان عالماً حسن الشكل. ومات الفاضل الأديب زكي الدين المأمون الحميري المصري المالكي بمصر، ولي نظر الكرك والشوبك، وعمر نحو تسعين سنة.
وفيها في رجب مات الفقيه محمد بن محي الدين محمد ابن القاضي شمس الدين ابن الزكي العماني، شابا درس مدة بدمشق.
ومات الحافظ قطب الدين الكلبي بالحسينية حفظ الألفية والشاطبية، وسمع من القاضي شمس الدين بن العماد وغيره، وحج مرات وصنف وكان كيساً حسن الأخلاق؛ مطرحاً للتكلف؛ طاهر اللسان مضبوط الأوقات، شرح معظم البخاري، وعمل تاريخاً لمصر لم يتمه، ودرس الحديث بجامع الحاكم، وخلف تسعة أولاد، ودفن عند خاله الشيخ نصر المنبجي.
وفيه أخرج السلطان من حبس الإسكندرية ثلاثة عشر نفراً منهم تمر الساقي الذي ناب بطرابلس، وبيبرس الحاجب وخلع على الجميع، وفيه طلب قاضي الإسكندرية فخر الدين بن سكين وعزل بسبب فرنجي.
وفيها في شعبان مات المفتي بدر الدين محمد بن الفويرة الحنفي سمع وحدث.
ومات القاضي زين الدين عبد الكافي بن علي بن تمام، روى عن الأنماطي وأخذ عنه ابن رافع وغيره.
ومات عز الدين يوسف الحنفي بمصر، حدث عن إبراهيم، وناب في الحكم.
وفيها في رمضان مات صاحبنا شمس الدين محمد بن يوسف التدمري، خطيب حمص، كان يفتي ويدرس.
وتولى قضاء الإسكندرية العماد محمد بن إسحاق الصوفي.
وفيها في شوال قدم عسكر حلب، والنائب من غزاة بلد سيس، وقد خربوا في بلد أذنة وطرسوس، وأحرقوا الزروع واستاقوا المواشي، وأتوا بمائتين وأربعين أسيراً، وما عدم من المسلمين سوى شخص واحد، غرق في النهر، وكان العسكر عشرة آلاف سوى من تبعهم، فلما علم أهل إياس بذلك أحاطوا بمن عندهم من المسلمين التجار وغيرهم، وحبسوهم في خان ثم أحرقوه، فقل من نجا، فعلوا ذلك بنحو ألفي رجل من التجار البغاددة وغيرهم في يوم عيد الفطر فلله الأمر.
واحترق في حماة مائتان وخمسون حانوتاً، وذهبت الأموال واهتم الملك بعمارة ذلك وكان الحريق عند الفجر إلى طلوع الشمس، وذكر أن شخصاً رأى ملائكة يسوقون النار، فجعل ينادي(4/115)
أمسكوا يا عباد الله، لا ترسلوا، فقالوا أبهذا أمرنا ثم إن رجل توفي لساعته.
وناب بدمشق في القضاء، شهاب الدين أحمد بن شرف الزرعي الشافعي.
قاضي حصن الأكراد.
وورد الخبر بحريق أنطاكية قبل رجوع العسكر، فلم يبق بها إلا القليل، ولم يعلم سبب ذلك.
وفيها في ذي القعدة توفيت زينب بنت الخطيب يحيى ابن الإمام عز الدين بن عبد السلام السلمي، سمعت من جماعة، وكان فيها عبادة وخير وحدثت.
ومات الطبيب جمال الدين عبد الله بن عبد السيد، ودفن في قبر أعده لنفسه، وكان من أطباء المارستان النوري بدمشق، وأسلم مع والده الذبان سنة إحدى وسبعمائة.
ومات حسام الدين مهنا بن عيسى أمير العرب، وحزن عليه آله، وأقاموا مأتماً بليغاً ولبسوا السواد، أناف على الثمانين. وله معروف، من ذلك مارستان جيد بسرمين، ولقد أحسن برجوعه إلى طاعة سلطان الإسلام قبل وفاته، وكانت وفاته بالقرب من سلمية.
ومات المحدث الرئيس العالم شمس الدين محمد بن أبي بكر بن طرخان الحنبلي سمع من ابن عبد الدائم وغيره، وكان بديع الخط، وكتب الطباق، وله نظم.
وفيها في ذي الحجة مات الفقيه الزاهد شرف الدين فضل بن عيسى بن قنديل العجلوني الحنبلي بالمسمارية، كان له اشتغال وفهم ويد في التعبير، وتعفف وقوة نفس، عرض عليه خزن المصحف العثماني فامتنع، رحمه الله تعالى.
وفيها وصل الأمير سيف الدين أبو بكر الباشري إلى حلب، وصحب معه، الرجال والصناع، وتوجه إلى قلعة جعبر، وشرع في عمارتها، وكانت خراباً من زمن هولاكو، وهي من أمنع القلاع، تسبب في عمارتها الأمير سيف الدين تنكز نائب الشام، ولحق المملكة الحلبية وغيرها بسبب عمارتها ونفوذ ماء الفرات إلى أسفل منها كلفة كثيرة.
ثم دخلت سنة ست وثلاثين وسبعمائة.
فيها في المحرم، باشر السيد النقيب الشريف بدر الدين محمد ابن السيد شمس الدين بن زهرة الحسيني، وكالة بيت المال بحلب، مكان شيخنا القاضي فخر الدين أبي عمرو وعثمان بن الخطيب زين الدين علي الجبريني.
وفيها في المحرم نزل نائب الشام الأمير سيف الدين تنكز بعسكر الشام إلى قلعة جعبر وتفقدها، وقرر قواعدها وتصيد حولها، ثم رحل فنزل بمرج بزاعا، ومد له نائب حلب الأمير علاء الدين الطنبغا به سماطاً، ثم سافر إلى جهة دمشق.
وفيها في صفر طلب من البلاد الحلبية رجال للعمل في نهر قلعة جعبر، ورسم أن يخرج من كل قرية نصف أهلها، وجلا كثير من الضياع بسبب ذلك، ثم طلب من أسواق حلب أيضاً رجال، واستخرجت أموال، وتوجه النائب بحلب إلى قلعة جعبر بمن حصل من الرجال، وهم نحو عشرين ألفاً.
وفيها في جمادى الآخرة، وصل البريد إلى حلب بعزل القاضي شمس الدين محمد بن بدر الدين أبي بكر بن إبراهيم ابن النقيب، عن القضاء بالمملكة الحلبية، وبتولية شيخنا قاضي القضاة فخر الدين أبي عمر وعثمان بن خطيب(4/116)
جبرين مكانه، ولبس الخلعة وحكم من ساعته، واستعفيته من مباشرة الحكم بالبر في الحال، فأعفاني وكذلك أخي بعد مدة، فأنشدته ارتجالاً:
جنبتني وأخي تكاليف القضاء ... وكفيتنا مرضين مختلفين
يا حي عالمنا لقد أنصفتنا ... فلك التصرف في دم الأخوين
وفيه أعني ذي الحجة، توجه الأمير عز الدين أزدمر النوري، نائب بهسني، لمحاصرة قلعة درندة بمن عنده من الأمراء والتركمان، وفتحت بالأمان في منتصف المحرم سنة سبع وثلاثين وسبعمائة.
وفيها أعني سنة ست وثلاثين وسبعمائة، توفي الشيخ العارف الزاهد، مهنا ابن الشيخ إبراهيم ابن القدوة مهنا الفوعي، بالفوعة في خامس عشر شوال ورثيته بقصيدة أولها:
أسأل الفوعة الشديدة حزناً ... عن مهنأ هيهات أين مهنا
أين من كان أبهج الناس وجهاً ... فهو أسمى من البدور وأسنى
ومنها:
أين شيخي وقدوتي وصديقي ... وحبيبي وكل ما أتمنى
كيف لا يعظم المصاب لصدر ... نحن منه مودة وهو منا
جعفري السلوك والوضع حتى ... قال عبس عنه مهنا مهنا
أي قلب به ولو كان صخراً ... ليس يحكي الخنساء نوحاً وحزناً
أذكرتنا وفاته بأبيه ... وأخيه أيام كانوا وكنا
وهي طويلة. كان جده مهنا الكبير، من عباد الأمة، ترك أكل اللحم زماناً طويلاً لما رأى اختلاط الحيوانات في أيام هولاكو، لعنه الله، وكان قومه على غير سنة، فهدى الله الشيخ مهنا من بينهم، وأقام مع التركمان راعياً ببرية حران، فبورك للتركمان في مواشيهم ببركته، وعرفوا بركته، وحصل له نصيب من الشيخ حياة بن قيس بحران، وهو في قبره، وجرت له معه كرامات، فرجع مهنا إلى الفوعة وصحب شيخنا تاج الدين جعفراً السراج الحلبي، وتلمذ له وانتفع به، وصرفه مهنا في ماله، وخلفه على السجادة بعد وفاته، ودعا إلى الله تعالى، وجرت له وقائع مع الشيعة، وقاسى معهم شدائد، وبعد صيته، وقصد بالزيارة من البعد، وجاور بمكة شرفها الله تعالى سنين، ثم بالمدينة، على سكانها أفضل الصلاة والسلام، وجرت له هناك كرامات مشهورة بين أصحابه وغيرهم، منها أن النبي صلى الله عليه وسلم، رد عليه السلام من الحجرة وقال: وعليك السلام يا مهنا، ثم عاد إلى الفوعة وأقام بها إلى أن توفي إلى رحمة الله تعالى، في المحرم، سنة أربع وثمانين وستمائة.
وجلس بعده على سجادته ابنه الشيخ إبراهيم، فسار أحسن سير، ودعا إلى الله تعالى على قاعدة والده،(4/117)
ورجع من أهل بلد سرمين خلق إلى السنة، وقاسى من الشيعة شدائد، وسببه قتل ملك الأمراء بحلب، يومئذ سيف الدين قبجق، الشيخ الزنديق منصوراً، من تار، وجرت بسبب قتله فتن في بلد سرمين، ولم يزل الشيخ إبراهيم على أحسن سيرة، وأصدق سريرة، إلى أن توفي إلى رحمه الله تعالى، في ذي الحجة سنة ست عشرة وسبعمائة.
وجلس بعده على سجادته، ابنه الشيخ الصالح إسماعيل ابن الشيخ إبراهيم ابن القدوة مهنا، فسار أحسن سير، وقاسى من الشيعة غبوناً، ولم يزل على أحسن طريقة إلى أن توفي إلى رحمة الله تعالى، في ثامن صفر سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة.
وجلس بعده على السجادة أخوه لأبويه، الشيخ الصالح مهنا بن إبراهيم مهنا، إلى أن توفي في خامس عشر شوال سنة ست وثلاثين وسبعمائة، كما مر، وتأسف الناس لموته، فإنه كان كثير العبادة، حسن الطريقة، عارفاً.
وجلس بعده على السجادة أخوه لأبيه، الشيخ حسن، وكان شيخنا عبس يحب مهنا هذا محبة عظيمة، ويعظمه ويقول عنه: مهنا مهنا، يعني أنه يشبه في الصلاح والخير جده، وهم اليوم ولله الحمد بالفوعة جماعة كثيرة، وكلهم على خير وديانة، وقد أجزل الله عليهم المنة، وجعلهم بتلك الأرض ملجأ لأهل السنة، ولو ذكرت تفاصيل سيرة الشيخ مهنا الكبير وأولاده وأصحابه وكراماتهم، لطال القول والله تعالى أعلم.
وفيها مات القان أبو سعيد بن خربنده بن أرغون بن أبغا بن هولاكو، صاحب الشرق، ودفن بالمدينة السلطانية، وله بضع وثلاثون سنة، وكانت دولته عشرين سنة، وكان فيه دين وعقل وعدل، وكتب خطاً منسوباً، وأجاد ضرب العود.
وباشتغال التتار بوفاته، تمكنا من عمارة قلعة جعبر؛ بعد أن كانت هي وبلدها داثرة من أيام هولاكو، فلله الحمد.
وفيها توفي بدمشق الإمامان، مدرس الناصرية، كمال الدين أحمد بن محمد بن الشيرازي، وله ست وستون سنة، وقد ذكر لقضاء دمشق، ومدرس الأمينية، قاضي العسكر عز الدين علي بن محمد بن القلانسي، وله ثلاث وستون سنة، وناظر الخزانة عز الدين أحمد بن محمد العقلي بن القلانسي المحتسب بها. ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وسبعمائة.
وفيها في ربيع الأول، توفي الأمير الشاب الحسن جمال الدين خضر ابن ملك الأمراء علاء الدين الطنبغا بحلب، ودفن بالمقام، ثم عمل له والده تربة حسنة عند جامعه خارج حلب، ونقل إليها، وكان حسن السيرة، ليس من إعجاب أولاد النواب في شيء، ومما قلت فيه تضميناً:
أيبست أفئدة بالحزن يا خضر ... فالدمع يسقيك إن لم يسقك المطر
منها خلقت فلم يسمح زمانك أن ... يشين حسنك فيه الشيب والكبر
فإن رددت فما في الرد منقصة ... عليك قد رد موسى قبل والخضر
وإن كان يضمن هذا التضمين القول بموت الخضر عليه السلام.
وفيه باشر تاج(4/118)
الدين محمد بن عبد الكريم، أخو الصاحب شرف الدين يعقوب ناظر الجيوش المنصورة بحلب، فما هنئ بذلك، واعترته الأمراض حتى مات، رحمه الله في سابع جمادى الآخرة من السنة المذكورة، قلت:
ما الدهر إلا عجب فاعتبر ... أسرار تصريفاته واعجب
كم باذل في منصب ماله ... مات وما هنيء بالمنصب
وباشر مكانه في شعبان منها، القاضي جمال الدين سليمان بن ريان.
وفيه في رمضان المعظم، وصل إلى حلب من مصر عسكر حسن الهيئة، قدمه الحاج أرقطاي، وعسكر من دمشق مقدمهم قطلبغا الفخري، وعسكر من طرابلس مقدمه بهادر عبد الله، وعسكر من حماة مقدمه الأمير صارم الدين أزبك، المقدم على الكل ملك الأمراء بحلب علاء الدين الطنبغا، ورحل بهم إلى بلاد الأرمن في ثاني شوال منها، ونزل على ميناء إياس، وحاصرها ثلاثة أيام، ثم قدم سول الأرمن من دمشق ومعه كتاب نائب الشام بالكف عنهم، على أن يسلموا البلاد والقلاع التي شرقي نهر جهان، فتسلموا منهم ذلك، وهو ملك كبير، وبلاد كثيرة، كالمصيصة، وكويرا، والهارونية، وسرفندكار، وآياس، وباناس، وبخيمة، والنقبر التي قدم ذكر تخريبها، وغير ذلك. فخرب المسلمون برج آياس الذي في البحر، استنابوا بالبلاد المذكورة نواباً، وعادوا في ذي الحجة منها والحمد لله.
قلت: وهذا فتح اشتمل على فتوح، وترك ملك الأرمن جسداً بلا روح، خائفاً على ما بقي بيده على الإطلاق، وكيف لا؛ ومن خصائص ديننا سرابة الأعناق، فيا له فتحاً كسر صلب الصليب، وقطع يد الزنار، وحكم على كبير أنامهم المزمل في بجاده، بالخفض على الجوار، والله أعلم.
وفيها في ذي الحجة، توفي الأمير العابد الزاهد صارم الدين أزبك المنصور الحموي، بمنزلة نزلها مع العسكر عند آياس، وحمل إلى حماة فدفن بتربته، كان من المعمرين في الإمارة، ومن ذوي العبادة، والمعروف، وبنى خاناً للسبيل بمعرة النعمان، شرقيها، وعمل عنده مسجداً وسبيلاً للماء، وله غير ذلك رحمه الله، ذكر لي جماعة بحلب، وهو مسافر إلى بلاد الأرمن، أنه رؤي له بحماة منام يدل على موته في الجهاد، وحمله إلى حماة وحوله الملائكة.
قلت: ولقد تجمل لهذا الجهاد، وتحمل وتكلف لمهمة، وتكفل حتى كأنه توهم فترة سلاحه عن الكفاح، فرسم أن تحد السيوف، وتعتقل الرماح، فلاح على حركاته الفلاح وسيحمد سراه عند الصباح، والله أعلم.
وفيها وقف الأمير الفاضل صلاح الدين يوسف بن الأسعد الدواتدار، داره النفيسة بحلب المعروفة أولاً بدار ابن العديم، مدرسة على المذاهب الأربعة، وشرط أن يكون القاضي الشافعي والقاضي الحنفي بحلب مدريسها، وذلك عند عوده من بلد سيس صحبة العسكر، منصرفاً إلى منزله بطرابلس.
قلت: ولقد كانت الدار(4/119)
المذكورة باكية لعدم بني العديم، فصارت راضية بالحديث عن القديم، نزع الله عنها لباس البأس والحزن، وعوضها بحلة يوسف عن شقة الكفن، فكمل رخامها وذهبها، وجعل ثمال اليتامى عصمة للأرامل مكتبها، وكملها بالفروع الموصلة، والأصول المفرعة، وجملها بالمرابع المذهبة، والمذاهب الأربعة، وبالجملة فقد كتبها صلاح الدنيا في صلاح الدين إلى يوم العرض، وتلا لسان حسنها اليوسفي، وكذلك مكنا ليوسف في الأرض، ولما وقف الأمير صلاح الدين المذكور على هذه الترجمة، تهلل وجهه وقال ما معناه يا ليتك زدتنا من هذا.
وفيها توفي الشيخ الكبير الشهير المتزهد، محمد بن عبد الله بن المجد المرشدي بقريته من عمل مصر، له أحوال وطعام يتجاوز الوصف، ويقال إنه كان مخدوماً قيل إنه أنفق في ثلاث ليال، ما يساوي خمسة وعشرين ألفاً، رحمه الله تعالى ونفعنا به.
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة.
فيها في المحرم، توفي ناصر الدين محمد بن مجد الدين محمد بن قرناص، دخل بلاد سيس لكشف الفتوحات الجهائية، فتوفي هناك رحمه الله تعالى، ودفن بتربة هناك للمسلمين.
وفيها في صفر، توفي بدر الدين محمد بن إبراهيم بن الدقاق الدمشقي، ناظر الوقف بحلب، وفي أيام نظره فتح الباب المسدود الذي بالجامع بحلب، شرقي المحراب الكبير، لأنه سمع أن بالمكان المذكور رأس زكريا النبي، صلى الله على نبينا وعليه وسلم، فارتاب في ذلك، فأقدم على فتح الباب المذكور بعد أن نهى عن ذلك، فوجد باباً عليه تأزير رخام أبيض، ووجد في ذلك تابوت رخام أبيض، فوقه رخامة بيضاء مربعة، فرقعت الرخامة عن التابوت، فإذا فيها بعض جمجمة، فهرب الحاضرون هيبة لها، ثم رد التابوت وعليه غطاؤه إلى موضعه، وسد عليه الباب، ووضعت خزانة المصحف العزيز على الباب، وما أنجح الناظر المذكور بعد هذه الحركة، وابتلي بالصرع، إلى أن عض لسانه فقطعه ومات. نسأل الله أن يلهمنا حسن الأدب.
وفيها في أواخر ربيع الأول، قدم إلى حلب العلامة القاضي فخر الدين محمد بن علي المصري الشافعي، المعروف بابن كاتب قطلوبك، واحتفل به الحلبيون، وحصل لنا في البحث معه فوائد. منها قولهم إذا طلب الشافعي من القاضي الحنفي شفعة الجار، لم يمنع على الصحيح، لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف.
قال: وهذا مشكل. فإن حكم الحاكم ينفذ ظاهراً، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم، فإنما أقطع له قطعة من نار، وأما كون القاضي لا ينقض هذا الحكم، فتلك سياسة حكيمة.
ومنها قولهم: يقضي الشافعي الصلاة إذا اقتدى بالحنفي، علم أنه ترك واجباً كالبسملة، يعني على صحيح، ولا يقضي المقتدي بحنفي افتصد، ولم يتوضأ.
قال: وهذا مشكل، فإن الحنفي إذا اقتصد ولم يتوضأ وصلى، فهو متلاعب على اعتقاده، فينبغي أن يقضي الشافعي المقتدى به، وإذا ترك البسملة، فصلاته صحيحة. عنده، فينبغي أن لا يقضي الشافعي المقتدى به، وفيه نظر.(4/120)
ومنها قولهم في الصداق، أن قيمة النصف غير نصف القيمة، هذا معروف.
ولكنه قال قول الشافعي وغيره، أن الزوج في مسائل التشطير يغرمها نصف القيمة، لا قيمة النصف مشكل وكانوا بدمشق لا يساعدونني على استشكاله حتى رأيته لإمام الحرمين، وذلك لأن القيمة خلف لما تلف، وإنما يستحق نصف الصداق فليغرمها قيمة النصف لا نصف القيمة.
ومنها: أنه ذكر أن الشيخ صدر الدين، لما قدم من مصر قال: لقد سألني ابن دقيق العيد عن مسألة أسهرته ليلتين، وصورتها: رجل قال لزوجته: إن ظننت بي كذا فأنت طالق، فظنت به ذلك، قالوا أتطلق ومعلوم أن الظنى لا ينتج قطيعاً فكيف انتج هنا القطعي؟.
قال العلامة فخر الدين، كنت يومئذ صبياً، فقلت: ليس هذا من ذلك، فإن المعنى إن حصل لك الظن بكذا فأنت طالق، والحصول قطعي، فينتج قطعياً، فقال صدر الدين بهذا أجبته.
ومنها قولهم: إذا ادعي على امرأة في حبالة، رجل أنها زوجته، فقالت طلقتني تجعل زوجته، ويحلف أنه لم يطلق. رأى في هذه المسألة ما يراه شيخنا قاضي القضاة شرف الدين بن البارزي. وهو أن المراد بذلك امرأة مبهمة الحال.
ومنها: إنما انعقد السلم بجميع ألفاظ البيع، ولم ينعقد البيع بلفظ السلم، لأن البيع يشمل بيع الأعيان، وبيع ما في الذمة، فصدق البيع عليهما صدق الحيوان على الإنسان والفرس، فإن الحيوان جنى لهذين النوعين، وكذلك البيع جنس لهذين النوعين، بخلاف السلم، فانه بيع ما في الذمة، فلا يصدق على بيع العين، كالنوع لا يصدق على الجنس، ولذلك تسمعهم يقولون: الجنس يصدق على النوع ولا عكس.
ومنها قولهم: يسجد للسهو بنقل ركن ذكري، إن أريد به أنه ترك الفاتحة مثلاً، في القيام، وقرأها في التشهد سهواً، فهذا يطرح غير المنظوم، وإن فعل ذلك عمداً بطلت صلاته.
وإن أريد غير ذلك فما صورته؟ فأجاب إن صورة المسألة أن يقرأ الفاتحة في القيام، ثم يقرأها في التشهد مثلاً، فوافق ذلك جوابنا فيها.
ومنها أنهم قالوا خمس رضعات تحرم، بشرط كون اللبن المحلوب في خمس مرات على الصحيح، ثم ذكروا قطرة اللبن تقع في الحب، وهذا التناقض. فقال: لا تناقض، فالمراد بقطرة اللبن في الحب إذا وقعت تتمة لما قبلها، وهذا حسن مهم، فإن شيخنا لفراره من مثل ذلك، شرط أن يكون اللبن المغلوب بما شيب به، قدراً يمكن أن يسقى منه خمس دفعات، لو انفرد عن الخليط، ولا شك أن هذا قول ضعيف، والصحيح عند الرافعي: أن هذا لا يشترط، والتناقض يندفع بما تقدم من جواب العلامة فخر الدين.
وفيها وأظنه في ربيع الآخر، ورد الخبر إلى حلب بأن نائب الشام تنكز قبض على علم الدين كاتب السر القبطي الأصل بدمشق، وولى موضعه القاضي شهاب الدين يحيى ابن القاضي عماد الدين إسماعيل بن القيسراني الخالدي، وعذب النائب العلم المذكور وعاقبه، وصادره، وبينه وبين العلامة فخر الدين(4/121)
المصري قرابة، فلحقه شؤمه، ولفحه سمومه، وسافر من حلب خائفاً من نائب الشام، فلما وصل دمشق، رسم عليه مدة وعزل عن مدارسه وجهاته، ثم فك الترسيم عنه، وبعد موت تنكز عادت إليه جهاته، وحسنت حاله ولله الحمد.
وفيها في رجب ورد الخبر بوفاة القاضي شهاب الدين محمد ابن المجد عبد الله، قاضي القضاة الشافعي بدمشق، صدمت بغلته به حائطاً فمات بعد أيام، وخلق الناس موضع الصدمة من ذلك الحائط بالخوق ومن لطف الله به أن السلطان عزله بمصر يوم موته بدمشق، وعزل القاضي جلال الدين محمد القزوبني عن قضاء الشافعية بمصر، ونقله إلى القضاء بالشام، موضع ابن المجد، ورسم بمصادرة ابن المجد، فلما مات صودر أهله، وكان ابن المجد فيه خير وشر، ودهاء، ومروءة قلت:
لا ييأسن مخلط ... من رحمة الله العفو
دليل هذا قوله ... وآخرون اعترفوا
وولي بعد جلال الدين قضاء الديار المصرية، قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز ابن قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة، وأحسن السيرة، وعزل القاضي برهان الدين بن عبد الحق أيضاً عن قضاء الحنفية بالديار المصرية، وولى مكانه القاضي حسام الدين الغوري قاضي القضاة ببغداد، كان الوافد إلى مصر عقيب الفتن الكائنة بالمشرق، لموت أبي سعيد.
وفيها في رجب أيضاً باشر القاضي بهاء الدين حسن ابن القاضي جمال الدين سليمان بن ريان، مكان والده، نظر الجيوش بحلب، في حياة والده وبسعيه له. وفيها في رجب مات بحلب فاضل الحنفية بها الشيخ شهاب الدين أحمد بن البرهان إبراهيم بن داود ولي قضاء عزاز، ثم نيابة القضاء بحلب مدة، ثم انقطع إلى العلم، وله مصنفات، وولى ابنه داود جهاته.
وفيها في رمضان، توفي القاضي محي الدين يحيى بن فضل الله، كاتب السر بمصر، وقد ناف على التسعين، وله نظم ونثر.
وفيها أخرج الخليفة، أبو الربيع سليمان المستكفي بالله من مكانه بمصر عنفاً إلى قوص، وقلت في ذلك مضمناً من القصيدة المشهورة لأبي العلاء بيتاً، وبعض بيت:
أخرجوكم إلى الصعيد لعذر ... غير مجد في ملتي واعتقادي
لا يغيركم الصعيد وكونوا ... فيه مثل السيوف في الأغماد
وفيها في رمضان أيضاً، ورد الخبر إلى حلب بوفاة العلامة زين الدين محمد ابن أخي الشيخ صدر الدين ابن الوكيل، المعروف بابن المرحل، من أكابر الفقهاء المفتين المدرسين الأعيان المتأهلين للقضاء بدمشق.
أدينة تندب أم سمته ... أم عقله الوافر أم عمله
فاق على الأقران في جده ... فمن رآه خاله عمه(4/122)
وتولى تدريس الشامية البرانية مكانه، القاضي جمال الدين يوسف بن جملة، فمات ابن جملة. قيل إنه ما ألقى فيها إلا درساً أو درسين، لاشتغاله بالمرض. ووليها بعده القاضي شمس الدين محمد بان النقيب، بعد أن نزل عن العادلية.
وفيها في ثالث شوال، ورد الخبر بوفاة العلامة شيخ الإسلام زين الدين محمد ابن الكناني، علم الشافعية بمصر، وصلي عليه بحلب صلاة الغائب، كان مقدماً في الفقه والأصول، معظماً في المحافل، متضلعاً من المنقول، ولولا انجذابه عن علماء عصره، وتبهه على فضلاء دهره، لبكى على فقده أعلامهم، وكسرت له محابرهم وأقلامهم، ولكن طول لسانه عليهم هون فقده لديهم. قلت:
فجعت بكتبانها مصر ... فمثله لا يسمح الدهر
يا زين مذهبه كفى أسفاً ... إن الصدور بموتك انسروا
ما كان من بأس لو أنك بال ... علماء برأيها البحر
وفيها في شوال أيضاً، رسم ملك الأمراء بحلب، الطنبغا، بتوسيع الطرق التي في الأسواق، اقتداء بنائب الشام تنكز، فيما فعله في أسواق دمشق، كما مر، ولعمري قد توقعت عزله عن حلب لما فعل ذلك؛ فقلت حينئذ:
رأى حلبا بلداً داثراً ... فزاد لإصلاحها حرصه
وقاد الجيوش لفتح البلاد ... ودق لقهر العدا فحصه
وما بعد هذا سوى عزله ... إذا أتم أمر بدا نقصه
وفيها في عاشر شوال، ورد الخبر بوفاة الفاضل المفتي الشيخ بدر الدين محمد ابن قاضي بارين الشافعي بحماة، كان عارفاً بالحاوي الصغير، ويعرف نحواً وأصولاً، وعنده ديانة وتقشف، وبيني وبينه صحبة قديمة، في الاشتغال على شيخنا قاضي القضاة شرف الدين ابن البارزي، وسافر مرة إلى اليمن، رحمه الله ونفعنا ببركته قلت:
فجعت حماة ببدرها بل صدرها ... بل بحرها بل حبرها الغواص
الله أكبر كيف حال مدينة ... مات المطيع بها ويبقى العاصي
وفيه ولي قضاء الحنفية بحماة، جمال الدين عبد الله بن القاضي نجم الدين عمر بن العديم، وكان شاباً أمرد. بعد عزل القاضي تقي الدين بن الحكيم، فإن صاحب حماة، آثر أن لا ينقطع هذا الأمر من هذا البيت بحماة، لما حصل لأهل حماة من التأسف على والده القاضي نجم الدين وفضائله وعفته وحسن سيرته، رحمه الله تعالى، وجهز قاضي القضاة ناصر الدين محمد ابن قاضي القضاة كمال الدين عمر بن العديم، صاحبنا شهاب الدين أحمد بن المهاجر إلى حماة، نائباً عن القاضي جمال الدين المذكور إلى حين يستقل بالأحكام، وخلع صاحب حماة عليهما في يوم واحد.
وفيه ورد الخبر أن الأمير سيف الدين أبا بكر(4/123)
النابيري قدم من الديار المصرية على ولاية بر دمشق.
وفيها في ذي القعدة، توفي بدمشق العلامة القاضي جمال الدين يوسف بن جملة الشافعي، معزولاً عن الحكم من سنة أربع وثلاثين وسبعمائة، كان جم الفضائل، غزير المادة، صحيح الاعتقاد، عنده صداقة في الأحكام، وتقديم للمستحقين، وكان قد عطف عليه النائب وولاه تدريس مدارس بدمشق.
قلت:
بكت المجالس والمدارس جملة ... لك يا ابن جملة حين فاجأك الردى
فاصعد إلى درج العلى واسعد فمن ... خدم العلوم جزاؤه أن يصعدا
وفيها في ذي القعدة، توفي شيخي المحسن إلي، ومعلمي المتفضل علي، قاضي القضاة، شرف الدين أبو القاسم هبة الله ابن قاضي القضاة نجم الدين أبي حمد عبد الرحيم ابن قاضي القضاة شمس الدين أبي الطاهر إبراهيم بن هبة الله بن المسلم بن هبة الله بن حسان بن محمد بن منصور بن أحمد بن البارزي الجهني الحموي الشافعي، علم الأئمة، وعلامة الأمة، تعين عليه القضاء بحماة، فقبله، وتورع لذلك عن معلوم الحكم من بيت المال، فما أكله، بل فرش خده لخدمة الناس ووضعه، ولم يتخذ عمره درة ولا مهمازاً، ولا مقرعة، ولا عزر أحداً بضرب، ولا خراق، ولا أسقط شاهداً على الإطلاق، هذا مع نفوذ أحكامه وقبول كلامه، والمهابة الوافرة، والجلالة الظاهرة، والوجه البهي الأبيض المشرب بحمره، واللحية الحسنة التي تملأ صدره، والقامة إقامة، والمكارم العامة، والمحبة العظيمة للصالحين، والتواضع الزائد للفقراء والمساكين، أفنى شبيبته في المجاهدة والتقشف والأوراد، وأنفق كهولته في تحقيق العلوم والإرشاد، وقضى شيخوخته في تصنيف الكتب الجياد، وخطب مرات لقاء الديار المصرية، فأبى وقنع بمصيره، واجتمع له من الكتب ما لم يجتمع لأهل عصره، وكف بصره في آخر عمره، فولى ابن ابنه مكانه، وتفرع للعلوم والتصرف والديانة، وصار كلما علت سنه لطف فكره وجاد ذهنه، وشدت الرحال إليه، وسار المعول في الفتاوى عليه، واشتهرت مصنفاته في حياته بخلاف العادة، ورزق في تصانيفه وتآليفه السعادة.
فمنها في التفسير: كتاب البستان في تفسير القران، مجلدان. وكتاب روضات جنات المحبين اثنا عشر مجلداً. ومنها في الحديث: كتاب المجتبى مختصر جامع الأصول، وكتاب المجتبى، وكتاب الوفا في أحاديث المصطفى، وكتاب المجرد من السند، وكتاب المنضد شرح المجرد، أربع مجلدات. ومنها في الفقه: كتاب شرح الحاوي، المسمى بإظهار الفتاوى من أعوار الحاوي، وكتاب تيسير الفتاوي من تحرير الحاوي، وهما أشهر تصانيفه، وكتاب شرح نظم الحاوي، أربع مجلدات. وكتاب المغنى مختصر التنبيه، وكتاب تمييز التعجيز. ومنها في غير ذلك: كتاب توثيق عرى الإيمان في تفضيل حبيب الرحمن، والسرعة في قراءات السبعة، والدراية لأحكام الرعاية للمحاسبي، وغير ذلك.
حدثني رحمه(4/124)
الله تعالى في ذي القعدة، سنة ثلاث عشرة وسبعمائة، قال: رأيت الشيخ محي الدين النوري بعد موته في المنام، فقلت له أما تختار في صوم الدهر؟ فقال: فيه اثنا عشر قولاً للعلماء، فظهر لشيخنا أن الأمر كما قال، وإن لم تكن الأقوال مجموعة في كتاب واحد، وذلك أن في صوم الدهر في حق من لم ينذر، ولم يتضرر به أربعة أقوال: الاستحباب، وهو اختيار الغزالي وأكثر الأصحاب. والكراهة، وهو اختيار البغوي صاحب التهذيب والإباحة، وهو ظاهر نص الشافعي، لأنه قال: لا بأس به. والتحريم، وهو اختيار أهل الظاهر، حملاً لقوله صلى الله عليه وسلم فيمن صام الدهر لا صام ولا أفطر، على أنه دعاء عليه.
وفي حق من نذر ولم يتضرر به خمسة أقوال: الوجوب، وهو اختيار أكثر الأصحاب. والاستحباب، والإباحة، والكراهة، والتحريم.
وفي حق من يتضرر بأن تفوته السنن أو الاجتماع بالأهل ثلاثة أقوال: التحريم، والكراهة والإباحة، ولا يجيء الوجوب ولا الاستحباب، فهذه اثنا عشر قولاً في صوم الدهر، وهذا المنام من كرامات الشيخ محي الدين، والقاضي شرف الدين، رضي الله عنهما، والله أعلم.
وأخبرني حين أجازني، أنه أخذ الفقه من طريق العراقيين، عن والده وجده أبي الطاهر إبراهيم، وهو عن القاضي عبد الله بن إبراهيم الحموي، عن القاضي أبي سعد ابن أبي عصرون الموصلي، عن القاضي أبي علي الفارقي، عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، عن القاضي أبي الطيب الطبري، عن أبي الحسن الماسرجسي، عن أبي الحسن المروزي.
ومن طريق الخراسانيين، عن جده المذكور، عن الشيخ فخر الدين عبد الرحمن بن عساكر الدمشقي، عن الشيخ مطب الدين مسعود النيسابوري، عن عمر بن سهل الدامغاني، عن حجة الإسلام أبي حامد الغزالي، عن إمام الحرمين أبي المعالي الجويني، عن والده أبي محمد الجويني، عن الإمام أبي بكر القفال المروزى، عن أبي إسحاق المروزي المذكور، عن القاضي أبي العباس بن شريح، عن أبي القاسم الأنماطي، عن أبي إسماعيل المزني والربيع المرادي، كلاهما عن الإمام الأعظم أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، وهو أخذ عن إمام حرم الله مسلم بن خالد المزني، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، رضي الله عنهم، وعن إمام حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك، عن نافع، عن ابن عمر وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم، عن نبينا سيد المرسلين، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أفضل صلواته، عدد معلوماته، وله نظم قليل، فمنه ما كتب به إلى صاحب حماة يدعوه إلى وليمة:
طعام العرس مندوب إليه ... وبعض الناس صرح بالوجوب
فجبراً بالتناول منه جرياً ... على المعهود في جبر القلوب(4/125)
ومن نثره الذي يقرأ طرداً وعكساً قوله: " سور حماة بربها محروس " ولما بلغني خبر وفاته، كتبت كتاباً إلى ابن ابنه القاضي نجم الدين عبد الرحيم ابن القاضي شمس الدين إبراهيم ابن قاضي القضاة شرف الدين المذكور. صورته وينهي أنه بلغ المملوك وفاة الحبر الراسخ، بل انهداد الطود الشامخ، وزوال الجبل الباذخ، الذي بكته السماء والأرض، وقابلت فيه المكروه بالندب، وذلك فرض، فشرقت أجفان المملوك بالدموع، واحترق قلبه بين الضلوع، وساواه في الحزن الصادر والوارد، واجتمعت القلوب لما تم لمأتم واحد، فالعلوم تبكيه، والمحاسن تعزى فيه، والحكم ينعاه، والبر يتفداه، والأقلام تمشي على الرؤوس لفقده، والمصنفات تلبس حداد المداد من بعده.
ولما صلي عليه يوم الجمعة صلاة الغائب بحلب، اشتد الضجيج، وارتفع النشيج، وعلت الأصوات، فلا خاص إلا حزن قلبه، ولا عام إلا طار لبه، فإنه مصاب زلزل الأرض، وهدم الكرم المحض، وسلب الأبدان قواها، ومنع عيون الأعيان كراها، ولكن عزى الناس لفقده، كون مولانا الخليفة من بعده، فإنه بحمد الله خلف عظيم، لسلف كريم، وهو أول من قابل هذا الفادح القادح بالرضا، وسلم إلى الله سبحانه فيما قضى، فإنه سبحانه يحيي ما كانت الحياة أصلح، ويميت إذا كانت الوفاة أروح، وقد نظم المملوك فيه مرثية أعجزه عن تحريرها اضطرام صدره، وحمله على تسطيرها انتهاب صبره، وها هي:
برغمي أن بينكم يضام ... ويبعد عنكم القاضي الإمام
سراج للعلوم أضاء دهراً ... على الدنيا لغيبته ظلام
تعطلت المكارم والمعالي ... ومات العلم وارتفع الطغام
عجبت لفكرتي سمحت بنظم ... أيسعدني على شيخي نظام
وأرثيه رثاء مستقيماً ... ويمكنني القوافي والكلام
ولو أنصفته لقضيت نحبي ... ففي عنقي له نعم جسام
حشا أذني دراً ساقطته ... عيوني يوم حم له الحمام
لقد لؤم الحمام فإن رضينا ... بما يجني فنحن إذاً لئام
ألا يا عامنا لا كنت عاماً ... فمثلك ما مضى في الدهر عائم
أتفجعنا بكتاني مصر ... وكان به لساكنها اعتصام
وتفتك بابن جملة في دمشق ... ويعلوها لمصرعه القتام
وكان ابن المرحل حين يبكي ... لخوف الله تبتسم الشآم
وحبر حماة تجعله ختاماً ... أذاب قلوبنا هذا الختام
ولما قام ناعيه استطارت ... عقول الناس واضطرب الأنام(4/126)
ولو يبقى سلونا من سواه ... فإن بموته مات الكرام
أألهو بعدهم وأقر عينا ... حلال اللهو بعدهم حرام
فيا قاضي القضاة دعاء صب ... برغمى أن يغيرك الرغام
ويا شرف الفتاوى والدعاوى ... على الدنيا لغيبتك السلام
ويا ابن البارزي إذا برزنا ... بثوب الحزن فيك فلا نلام
سقى قبراً حللت به غمام ... من الأجفان إن بخل الغمام
إلى من ترحل الطلاب يوماً ... وهل يرجى لذي نقص تمام
ومن للمشكلات وللفتاوى ... وفصل الأمر إن عظم الخصام
وكان خليفة في كل فن ... وعيناً للخليفة لا تنام
ألا يا بابه لا زلت قصداً ... لأهل العلم يغشاك الزحام
فإن حفيد شيخ العصر باق ... يقل به على الدهر الملام
أنجم الدين مثلك من تسلى ... إذ افدحت من النوب العظام
وفي بقياك عن ماض عزاء ... قيامك بعده نعم القيام
إذا ولى لبيتكم إمام ... عديم المثل يخلفه إمام
وفي خير الأنام لكم عزاء ... وليس لساكن الدنيا دوام
أنا تلميذ بيتكم قديماً ... بكم فخري إذا افتخر الأنام
وإن كنتم بخير كنت فيه ... ويرضيني رضاكم والسلام
لكم مني الدعاء بكل أرض ... ونشر الذكر ما ناح الحمام
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وسبعمائة.
فيها في المحرم، توفي بمصر شيخنا قاضي القضاة فخر الدين عثمان بن زين الدين علي بن عثمان، المعروف بابن خطيب جبرين، قاضي حلب، وابنه كمال الدين محمد، وذلك أن الشناعات كثرت عليه، فطلبه السلطان على البريد إليه، فحضر عنده، وقد طار لبه، وخرج وقد انقطع قلبه، وتمرض بمصر مدة، وأراحه الله بالموت من تلك الشدة،
وحسب المنايا أن يكنّ أمانياً
ولقد كان رحمه الله فاضلاً في الفقه والأصول، والنحو والتصريف، والقراءات، مشاركاً في المنطق والبيان، وغيرهما، وله الشرح الشامل الصغير، ويدل حله إياه على ذكاء مفرط، وله شرح مختصر ابن الحاجب في الأصول، وشرح البديع لابن الساعاتي في الأصول أيضاً، وفرائض نظم، وفرائض نثر، ومجموع صغير في اللغة، وغير ذلك، كان رحمه الله سريع الغضب، سريع الرضا، كثير الذكر لله تعالى. قلت:
من هو فخر الدين عثمان في ... مراحم الله وإحسانه(4/127)
مات غريباً خائفاً نازحاً ... عن أنس أهليه وأوطانه
وبعض هذي فيه ما يرتجى ... له به رحمة ديّانه
فقل لشانيه ترفق ففي ... شانك ما يغنيك عن شانه
ورأيت مكتوباً بخطه هذه الكلمات، وكنت سمعتها من لفظه قبل ذلك، وهي: الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل، فمن جعل السبب موجباً فقد أخطأ، ومن محاه ولم يجعل له أثراً فقد أخطأ، ومن جعل السبب سبباً والمسبب هو الفاعل فقد أصاب. ومولده رحمه الله بمصر في العشر الأواخر من شهر ربيع الأول، سنة اثنتين وستين وستمائة.
وفيها في العشر الأوسط من ربيع الآخر، توفي السيد الشريف بدر الدين محمد بن زهرة الحسيني، نقيب الأشراف، وكيل بيت المال بحلب، ومن الاتفاق أنه مات يوم ورود الخبر بعزل ملك الأمراء علاء الدين الطنبغا عن نيابة حلب، وكان بينهما شحناء في الباطن. قلت:
قد كان كل منهما ... يرجو شفا أضغانه
فصاركل واحد ... مشتغلاً بشانه
كان السيد، رحمه الله، حسن الشكل، وافر النعمة، معظماً عند الناس، شهماً ذكياً. وجده الشريف أبو إبراهيم، هو ممدوح أبي العلاء المعري، كتب إلى أبي العلاء القصيدة التي أولها:
غير مستحسن وصال الغواني ... بعد ستين حجة وثمان
ومنها:
كل علم مفرق في البرايا ... جمعته معرة النعمان
فأجابه أبو العلاء بالقصيدة التي أولها:
عللاني فإن بيض الأماني ... فنيت والظلام ليس يفاني
أو منها:
يا أبا إبراهيم قصر عنك ال ... شعر لما وصفت بالقرآن
وفيها في العشر الأول من جمادى الأولى، قدم الأمير سيف الدين طرغاي إلى حلب نائباً بها، وسر الناس بقدومه، وأظهروا الزينة، وصحبته القاضي شهاب الدين أحمد بن القطب، كاتب السر، مكان تاج الدين ابن الزين خضر، المتوجه إلى مصر صحبة الأمير علاء الدين الطنبغا، وكان رنك المنفصل جوكانين، ورنك المتصل خونجا، فقال بعض الناس في ذلك:
كم أتى الدهر بطرد ... وبعكس وببدع
راح عنا رنك ضرب ... وأتانا رنك بلع
وفيها في السابع والعشرين من جمادى الأولى، ورد الخبر إلى حلب بوفاة قاضي القضاة جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني، قاضي دمشق، بها كان رحمه الله إمام(4/128)
في علم المعاني والبيان له فيه مصنفات جامعة متقنة، وله يد في الأصولين، ويحل الحاوي، وكان كبير القدر، واسع الصدر، ولي أولاً خطابة دمشق، ثم قضاءها، ثم قضاء مصر، ثم قضاء دمشق حتى مات بها، سامحه الله تعالى.
وبلغني أن بينه وبين الإمام الرافعي قرابة، وقرب العهد بسيرته يغني عن الإطالة، وبنى على النيل دارا قيل بما يزيد على ألف الف درهم، فأخذت منه، ثم أخرج إلى دمشق قاضياً كما تقدم.
وفيها في جمادى الآخرة، ورد الخبر إلى حلب بوفاة الشيخ بدر الدين أبي اليسر محمد ابن القاضي عز الدين محمد ابن الصائغ الدمشقي بها، كان نفعنا الله به، عالماً فاضلاً متقللاً من الدنيا، زاهداً، جاءته الخلعة والتقليد بقضاء دمشق، امتنع أتم امتناع، واستعفى بصدق إلى أن أعفي، فمن يومئذ حسن ظن الناس به، وفطن أهل القلم وأهل السيف لجلالة قدره. قلت:
ما قضاء الشام إلا شرف ... ولمن يتركه أعلى شرف
يا أبا اليسر لقد أذكرنا ... فعلك المشكور أفعال السلف
وفيه ورد الخبر أن الأمير علاء الدين الطنبغا وصل من مصر إلى غزة نائباً بها، سبحان من يرفع ويضع الإله الخالق والآمر.
جرت بينه وبين نائب الشام الأمير سيف الدين تنكز شحناء، اقتضت نقلته من حلب، وتوليته بعدها غزة، فإن نائب الشام متمكن عند السلطان رفيع المنزلة.
وفيها في أوائل رجب، توفي بمعرة النعمان ابن شيخنا العابد إبراهيم بن عيسى بن عبد السلام، كان من عباد الأمة، ويعرف الشاطبية والقراءات، وله يد طولى في التفسير، وزهادته مشهورة، كان أولاً يحترف بالنساجة، ثم تركها وأقبل على العبادة والصيام والقيام، ونسخ كتب الرقائق وغيرها، فأكثر ووقف كتبه على زوايا وأماكن، وهو من أصحاب الشيخ القدوة مهنا الفوعي، نفعنا الله ببركتهما، وكان داعياً إلى السنة بتلك البلاد، وتوفي بعده بأيام، الشرف حسين بن داود بن يعقوب الفوعي، بالفوعة، وكان داعياً إلى التشيع بتلك البلاد. قلت:
وقام لنصر مذهبه عظيماً ... وحدد ظفره وأطال نابه
تبارك من أراح الدين منه ... وخلص منه أعراض الصحابه
وفيه ورد الخبر بوفاة الشيخ شهاب الدين أحمد بن عبد الله، المعروف بابن المهاجر الحنفي بحماة، نائباً عن قاضيها جمال الدين عبد الله بن العديم، حسبما تقدم ذكره، كان فاضلاً في النحو والعروض، وله نظم حسن، ولهج في آخر وقته بمدائح الرسول صلى الله عليه وسلم.
وفيه ورد الخبر إلى حلب أن الشيخ تقي الدين علي بن السبكي تولى قضاء القضاة الشافعية بدمشق المحروسة، بعد أن حدث لخطيب بدر الدين محمد ابن القاضي جلال الدين نفسه بذلك، وجزم به، وقبل الهناء، فقال فيه بعض أهل دمشق:(4/129)
قد سبك السبكي قلب الخطيب ... فعيشه من بعدها ما يطيب
وفيه طلب القاضي جمال الدين سليمان بن ريان على البريد، من حلب إلى دمشق، لمباشرة نظر الجيوش بالشام واستمر بدمشق إلى أن نكب تنكز، كما سيأتي، فعزل بالتاج إسحاق، ثم حضر إلى حلب وأقام بداره بالمقام وفيها في شعبان، قدم الأمير الفاضل صلاح الدين يوسف الدواتدار، شاداً بالمملكة الحلبية.
وفيها في رمضان، ورد الخبر أن الأمير سيف الدين أبا بكر البانيري، باشر النيابة بقلعة الرحبة، وهو الذي كان تولى تجديد عمارة جعبر كما تقدم، فقال فيه بعض الناس:
يا باذلاً في جعبر جهده ... ما خيب السلطان مسعاكا
عوضك الرحبة عن ضيق ما ... قاسيت قد أفرحنا ذاكا
فضاجع البق وناموسها ... ولولا ضجيعاك لزرناكا
وفيه شرع نائب الشام تنكز في الرجوع من متصيده بالمملكة الحلبية، وكان قد حضر إليها من شعبان، ومعه صاحب حماة الملك الأفضل، وحريم وحظايا وحشم وحمام، ولحق الفلاحين والرعية بذلك كلفة وضرر كبير، واجتمع نائب الشام وصاحب حماة على إعادة بذر الدين محمد بن علي، المعروف بابن الحمص، رامي البندق المشهور إلى منزلته من الرماية، بعد أن كان قد أسقط على عادتهم، وأسقطوا من كان أسقطه، واجتمعت أنا بابن الحمص المذكور بحلب، مسألته أن يريني شيئاً من حذقة في البندق، فرمى إلى حائط، فكتب عليه بالبندق ما صورته، محمد بن علي، بخط جيد، ثم أمر غلامه، فصار الغلام يرمي بندقاً إلى الجو، وهو يتلقاه، فيصيبه في سرعة على التوالي، فجاء من ذلك بالعجب العجيب.
وفيه نادى مناد في جامع حلب وأسواقها، وقدامه شاد الوقف، بدر الدين بتليك الأسندمري، من أمراء العشرات، بما صورته " معاشر الفقهاء والمدرسين والمؤذنين، وأرباب وظائف الدين، قد برز المرسوم العالي إن كل من انقطع منكم عن وظيفته، وغمز عليه، يستأهل ما يجرى عليه، فانكسرت لذلك قلوب الخاص والعام، وعظم به تألم الأنام، وطهر مشد الوقف المذكور عن بغض وعناد، لأهل العلم والذين، فوقع منه يوم عيد الفطر كلمة قبيحة، أقامت عليه الناس أجمعين، وعقد له بدار العدل يوم العيد مجلس مشهود، وأفتينا بتجديد إسلامه، وعزله، وضربه، وهو ممدود. ونودي عليه في الملأ جزاء وفاقاً، وقطعنا أن لحوم العلماء مسمومة اتفاقاً، ولولا شفاعة الشافعي فيه، لدخل نار مالك بما خرج من فيه، ولو كان براً لما خاض هذا البحر، ولجمع قلبه ومذبحه بين الفطر والنحر، وبالجملة فقد ذاق مرارة القهر والقسر، فإن نداءه الذي انكسر به القلب انقلب به الكسر ".
وفيها في تاسع شوال، وصل إلى حلب قاضي القضاة زين الدين عمر بن شرف الدين محمد بن البلقيائي المصري الشافعي، وباشر الحكم(4/130)
من يومه، وخرج النائب والأكابر لتلقيه، وسر به الناس لما سمعوا من ديانته، بعد شغور المنصب نحو عشرة أشهر من حاكم شافعي.
وفيها حج الأمير سيف الدين بشتك الناصري من مصر، وأنفق في الحج أموالاً عظيمة، وكان صحبته على ما بلغنا، ستمائة راوية، تكلم الناس في القبض عليه عند عوده بمدينة الكرك، فما أمكن ذلك، ودخل مصر وصعد القلعة، فتلقاه السلطان بالحسنى.
ثم دخلت سنة أربعين وسبعمائة.
فيها في المحرم، ورد الخبر بوفاة الشيخ علم الدين أبي محمد القاسم بن محمد بن يوسف البرزالي، المحدث الدمشقي، بخليص، مريداً للحج، رحمه الله تعالى، كان حسن الأخلاق، كثير الموافاة للناس، محبوباً إليهم، وله تصانيف في الحديث والتاريخ، والشروط، وكان حسن الأداء، كثير البكاء. في حال قراءة الحديث، فصيحاً، رحمه الله تعالى.
وفيها في المحرم، بلغنا شنق ابن المؤيد شرف الدين أبي بكر الواعظ المحتسب، نائب الوكالة باللاذقية، خافوا بطرابلس من طول لسانه، واتصاله بأعيان المصريين، وقامت عليه بينة بألفاظ تقتضي انحلال العقيدة، فحملوا عبد العزيز المالكي قاضي القدموس على الحكم بقتله، وشارك في واقعته القاضي جلال الدين عبد الحق المالكي، قاضي اللاذقية، فتعب القاضيان بجريرته وقاسيا شدائد.
وفيها في صفر، وردت البشارة بقبض الملك الناصر على النشو شرف الدين، القبطي الأصل، وأنه وأخاه رزق الله تحت العقوبة، ثم قتل أخوه نفسه، وأوقدت لهلاكهما الشموع بالقاهرة، كان النشو قد قهر أهل القاهرة، وبالغ في الطرح والمصادرة، فعظمت به المصيبة، وقتل خلقاً تحت العقوبة، فأتى الناس في هلاكه بيوت المسألة من أبوابها، وبنت الأوتاد نظم الدعوات على أسبابها، وطلبوا لبحر ظلمه المديد من الله خبناً وبتراً، فدارت الدوائر عليه بهذه الفاصلة الكبرى. قلت:
النشو لا عدل ولا معرفه ... قد آن للأقدار أن تصرفه
من أتلف الناس وأموالهم ... يحق للسلطان أن يتلفه
وفيه قدم الأمير المكاس الغشوم - لؤلؤ القندشي - إلى حلب، منفياً من مصر بلا إقطاع. وفيه عزل قاضي القضاة بحلب زين الدين عمر البلفيائي عنها، لوحشة جرت بينه وبين طرغاي نائب حلب، فكاتب فيه فعزل، وهو فقيه كبير مقتصد في المأكل والملبس. قلت:
كان والله عفيفاً نزهاً ... وله عرض عريض ما اتهم
وهو لا يدري مداراة الورى ... ومداراة الهوى أمر مهم
وفيها في ربيع الأول، غزل الأمير صلاح الدين يوسف بن الأسعد الدواتدار، عن الشد على المال، والوقف بحلب، ونقل إلى طرابلس، فضاق طرغاي من جبرته، فعمل عليه، وكان قد عزم على تحرير الأوقاف بحلب، فما قدر قلت:(4/131)
لقد قالت لنا حلب مقالاً ... وقد عزم المشد على الرواح
إذا عم الفساد جميع وقفي ... فكيف أكون قابلة الصلاح
وفيها في جمادى الآخرة ولي القاضي برهان الدين إبراهيم بن خليل بن إبراهيم الرسعني قضاء الشافعية بحلب، بذل لطرغاي نائبها مالاً، فكاتب في ولايته، وهو أول من بذل في زماننا على القضاء بحلب، وكان القضاة قبله يخطبون ويعطون من بيت المال، حتى بلوا، ولذلك لم يصادف راحة في ولايته، ويعجبني قول القائل:
فلان لا تحزن إذا ... نكبت واعرف ما السبب
فما تولى حاكم ... بفضة إلا ذهب
وفيها توفي طقتمر الخازن نائب قلعة حلب، كانت تصدر منه في الدين ألفاظ منكرة، واشترى قبل وفاته داراً عند مدرسة الشاذبخت، وعمل فيها تصاوير، وكثر الطعن عليه بسببها. قلت:
ما حل فيها زحل ... إلا لنحس المشتري
فانعدمت صورته ... من شؤم تلك الصور
وخلف مالاً طائلاً.
وفيها في شعبان، توفي الخليفة أبو الربيع سليمان المستكفي بالله، في قوص، وقد أخرج إلى الصعيد سنة ثمان وثلاثين، وخلافته تسع وثلاثون سنة؛ ولله قولي على لسانه: مثلي يعيش بالموت، ويبلغ المنى بالفوت، إلى كم لهم العيشة الرطبة، ولي مجرد الخطبة، فلهم الملك الصريح، ولسليمان الريح:
أحمد الله الذي جنبني ... كلف الملك وأمراً صعباً
لم أجد للملك ماء صافياً ... فتيممت صعيداً طيباً
وفيها بعد موت المستكفي، بويع بالخلافة أبو إسحاق إبراهيم ابن أخي المستكفي. وفيها كان الحريق بدمشق، وذهبت فيه أموال ونفوس، واحترقت المنارة الشرقية، والدهشة، وقيسارية القواسين، وتكرر، وأفرت طائفة من النصارى بدمشق بفعله، فصلب تنكز منهم أحد عشر رجلاً، ثم وسطوا بعد أن أخذ منهم ألف ألف درهم، وأسلم ناس منهم، وبيعت بنت الملين بمال كثير، فاشتراها تنكز، وعملت المقامة الدمشقية في هذا المعنى، وسميتها صفو الرحيق، في وصف الحريق. وختمتها بقولي:
وعادت دمشق فوق ما كان حسنها ... وأمست عروساً في جمال مجدد
وقالت لأهل الكفر موتوا بغيظكم ... فما أنا إلا للنبي محمد
ولا تذكروا عندي معابد دينكم ... فما قصبات السبق إلا لمعبد
وفيها في ذي الحجة، باشر القاضي ناصر الدين محمد ابن الصاحب شرف الدين يعقوب،(4/132)
كتابة السر بحلب، وسررنا به.
وفيه قبض على تنكز نائب للشام، وأهلك بمصر.
رسم السلطان لطشتمر حمص أخضر، وكان نائباً بصفد، أن يأتيه من حيث لا يحتسب، ويقبض عليه، ما أشبه تمكنه عند السلطان الملك الناصر إلا بجعفر عند الرشيد، والرشيد أضمر إهلاك جعفر ست سنين حتى قتله، والملك الناصر أضمر إهلاك تنكز عشر سنين وهو يخوله ويعظمه وينعم عليه، وفي قلبه له ما فيه، حتى قبض عليه، وكان تنكز عظيم السطوة، شديد الغضب، قتل خلقاً منهم: عماد الدين إسماعيل بن مزروع الغوعي، نائب فحليس بدمشق، وعلي بن مقلد حاجب العرب، والأمير حمزة رماه بالبندق، ثم أهلكه سراً، وغيرهم. وله بدمشق والقدس وغيرهما آثار حسنة، وأوقاف، وقتل أكثر الكلاب بدمشق، ثم حبس الباقي، وحال بين إناثها وذكورها، ولما استوحش من السلطان، عزم على نكثه من جهة التتر، وأخذ السلطان من أمواله ما يفرق الحصر، زعم بعضهم أنه يقارب مال قارون، وكان قبل ذلك قد تبرم من نقيق الضفادع، فأخرجها من الماء، فقال بعض الناس فيه:
تنكر تنكز بدمشق تيهاً ... وذلك قد يدل على الذهاب
وقالوا للضفادع ألف بشرى ... بميتته فقلت وللكلاب
وتولى دمشق بعده الطنبغا، الحاجب الصالحي، كان تنكز قد سعى عليه حتى نقل من نيابة حلب إلى نيابة غزة، فأورثه الله أرضه ودياره.
وفيها بعد حادثة تنكز، عوقب أمين الملك، عبد الله الصاحب بدمشق، واستصفي ماله، ومات تحت العقوبة، قبطي الأصل، وكان فيه خير وشر، ووزر بمصر ثلاث مرات، وفيه يقول صاحبنا الشيخ جمال الدين ابن نباتة المصري:
لله كم حال امرئ مقتر ... قصيت في القدس بتنفيسه
كم درهم ولى ولكنه ... قد أخذ الأجر على كيسه
وقال فيه أيضاً:
روت عنك أخبار المعالي محاسن ... كفت بلسان الحال عن السن الحمد
فوجهك عن بشر وكفك عن عطا ... وخلقك عن سهل ورأيك عن سعد
ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وسبعمائة.
فيها في المحرم، وسط بدمشق - طغية وجنغية - من أصحاب تنكز، وكانا ظالمين.
وفيها غزل طرغاي عن حلب، وكان على طمعه يصلي ويتلو كثيراً.
وفيها توفي الشيخ محمد بن أحمد بن تمام، زاهد الوقت بدمشق.
وتوفي الملك الوك ابن الملك الناصر وكان عظيم الشكل.
وفيها ضربت رقبة عثمان الزنديق بدمشق على الإلحاد، والباجر بقية، سمع منه من الزندقة ما لم يسمع من غيره، لعنه الله.
وتوفي الأمير صلاح الدين يوسف ابن الملك الأوحد، وكان من أكابر أمراء دمشق، ومن(4/133)
بقايا أجواد بني شيركوه، وكان تنكز على شممة بدمشق ينزل إلى صيافته كل سنة، فينفق على ضيافة تنكز نحو ستين ألف درهم.
وفيها توفي السلطان الملك الناصر محمد ابن الملك المنصور قلاوون الصالحي، رحمه الله تعالى، وله ستون سنة، بعد أن خطب له ببغداد والعراق وديار بكر والموصل والروم، وضرب الدينار والدرهم هناك باسمه، كما يضرب له بالشام ومصر، وحج مرات، وحصل لقلوب الناس بوفاته ألم عظيم، فإنه أبطل مكوساً، وكان يستحيي أن يخيب قاصديه، وأيامه أيام أمن وسكينة، وبنى جوامع وغيرها، لولا تسليط لؤلؤ والنشر على الناس في آخر وقته، وعهد لولده السلطان الملك المنصور أبي بكر، فجلس على الكرسي قبل موت والده، وضربت له البشائر في البلاد. ولي من تهنئة وتعزية في ذلك:
ما أساء الدهر حتى أحسنا ... رق فاستدرك حزناً بهنا
بينما البأساء عمت من هنا ... وإذا النعماء عمت من هنا
فبحق أن يسمى محزناً ... وبصدق حين يدعى محسنا
فلئن أوحشنا بدر السما ... فلقد آنسنا شمس السنا
علماً أبدله من علم ... ظاهر الإعراب مرفوع البنا
فجزى الله بخير من نأى ... ووقى من كل ضبر من دنا
أجل والله، لقد أساء الدهر وأحسن، وأهزل وأسمن، وأحزن وسر، وعق وبر، إذ أصبح الملك وباغه بفقد الناصر قاصراً قد ضعفت أركانه، ومات سلطانه، فماله من قوة ولا ناصر، فأمسى بحمد الله وقد ملأ القصور بالمنصور سروراً، وأطاعه الدهر وأهله، فلا يسرف في القتل، إنه كان منصوراً.
وفيها ورد إلى حلب زائراً صاحبنا التاج اليماني عبد الباقي بن عبد المجيد بن عبد الله النحوي اللغوي، الكاتب العروضي، الشاعر المنشئ، وجرت معه بحوث، منها مسألة نفسية، وهي: ما لو قال له: عندي اثنا عشر درهماً وسدساً، كم يلزمه؟ فاستبهمت هذه المسألة على الجماعة، فيسر الله لي حلها فقلت: يلزمه سبعة دراهم، إذ المعنى اثنا عشر دراهم وأسداساً، فيكون النصف دراهم؛ وهي ستة دراهم، والنصف أسداساً وهي ستة أسداس بدرهم، فهذه سبعة.
ولو قال اثنا عشر درهما وربعاً لزمه سبعة ونصف.
ولو قال اثنا عشر درهما وثلثاً، لزمه ثمانية، أو ونصفا فتسعة، وهكذا. ومما أنشدني لنفسه قوله:
تجنب أن تذم بك الليالي ... وحاول أن يذم لك الزمان
ولا تحفل إذا كملت ذاتاً ... أصبت العز أم حصل الهوان
بخلت لواحظ من أتانا مقبلاً ... بسلامها ورموزهن سلام(4/134)
فعذرت نرجس مقلتيه لأنها ... تخشى العذار فإنه نمام
وفيها نقل طشتمر حمص أخضر، من نيابة صفد إلى نيابة حلب.
وفيها في ذي الحجة، وصل إلى حلب الفيل والزرافة، جهزهما الملك الناصر قبل وفاته لصاحب ماردين.
وفيها فتح علاء الدين أيدغدي الزراق، ومعه بعض عسكر حلب، قلعة خندروس، من الروم كانت عاصية وبها أرمن وتتر يقطعون الطرقات.
وفيها صلي بحلب صلاة الغائب على الشيخ عز الدين عبد المؤمن بن قطب الدين عبد الرحمن ابن العجمي الحلبي، توفي بمصر، وكان عنده تزهد وكتب المنسوب.
وفيها توفي بإياس نائبها الأمير علاء الدين مغلطاي الغزي، تقدمت له نكاية في الأرمن، ونقل إلى تربته بحلب.
ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة.
في المحرم منها، بايع السلطان الملك المنصور أبو بكر، الملك الناصر الخليفة الحاكم بأمر الله أبا العباس أحمد ابن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان، كان قد عهد إليه والده بالخلافة، فلم يبايع في حياة الملك الناصر، فلما ولي المنصور، بايعه، وجلس معه على كرسي الملك، وبايعه القضاة وغيرهم. وفيها في صفر، توفي شيخ الإسلام، الحافظ جمال الدين يوسف ابن الزكي عبد الرحمن بن المزي الدمشقي بها، منقطع القرين في معرفة أسماء الرجال، مشاركاً في علوم، وتولى مشيخة دار الحديث بعده قاضي القضاة تقي الدين السبكي.
وفيها في صفر خلع السلطان الملك المنصور أبو بكر ابن الملك، واحتج عليه قوصون الناصري، ولي نعمة أبيه. بحجج، ونسب إليه أموراً وأخرجه إلى قوص، إلى الدار التي أخرج الملك الناصر، والده الخليفة المستكفي إليها، جزاءً وفاقاً، ثم أمر قوصون والي قوص فقتله بها، وأقام في الملك أخاه الملك الأشرف كجك، وهو ابن ثمان سنين فقلت في ذلك:
سلطاننا اليوم طفل والأكابر في ... خلف وبينهم الشيطان قد نزغا
وكيف يطمع من مسته مظلمة ... أن يبلغ السؤل والسلطان ما بلغا
وفيها في جمادى الآخرة، جهز قوصون مع الأمير قطلبغا الفخري الناصري عسكراً لحصار السلطان أحمد ابن الملك الناصر بالكرك، وسار الطنبغا نائب دمشق، والحاج أرقطاي نائب طرابلس، بإشارة قوصون، إلى قتال طشتمر بحلب، لكون طشتمر أنكر على قوصون ما اعتمده في حق أخيه المنصور أبي بكر، ونهب الطنبغا بحلب مال طشتمر، وهرب طشتمر إلى الروم، واجتمع بصاحب الروم أرتنا، ثم إن الفخري عاد عن الكرك إلى دمشق بعد محاصرة أحمد بها أياماً، وبعد أن استمال الناصر، أحمد الفخري، فبايعه، ولما وصل الفخري إلى دمشق، بايع للناصر من بقي من عسكر دمشق المتأخرين عن المضي إلى حلب، صحبة الطنبغا. هذا كله والطنبغا ومن معه بالمملكة الحلبية.
ثم سار الفخري إلى ثنية العقاب، وأخذ من مخزن الأيتام بدمشق أربعمائة ألف درهم، وكان الطنبغا قد استدان منه مائتي(4/135)
ألف درهم، وهو الذي فتح هذا الباب، ولما بلغ الطنبغا ما جرى بدمشق، رجع على عقبه، فلما قرب من دمشق، أرسل الفخري إليه القضاة، وطلب الكف عن القتال في رجب، فقويت نفس الطبنغا وأبى ذلك، وطال الأمر على العسكر، فلما تقاربوا بعضهم من بعض، لحقت ميسرة الطنبغا بالفخري، ثم الميمنة، وبقي الطنبغا والحاج أرقطاي والمرقبي وابن الأبي بكري في قليل من العسكر، فهرب الطنبغا وهؤلاء إلى جهة مصر، فجهز الفخري وأعلم الناصر بالكرك.
وخطب للناصر أحمد بدمشق وغزة والقدس، فلما وصل الطنبغا مصر، وهو قوي النفس بقوصون، قدر الله سبحانه تغير أمر قوصون، وكان قد غلب على الأمر لصغر الأشرف، فاتفق أيدغمش الناصري أمير أخور، ويلبغا الناصري وغيرهما، وقبضوا على قوصون، ونهبت دياره، واختطف الحرافيش وغيرهم من دياره، وخزائنه من الذهب والفضة والجواهر والزركش، والحشر والسروج والآلات ما لا يحصى، لأن قوصون كان قد انتقى عيون ذخائر بيت المال، واستغنى من دار قوصون خلق كثير، وقتل على ذلك خلق، وأرسلوا قوصون إلى الإسكندرية، وأهلك بها.
وقبضوا على الطنبغا وحبسوه بمصر، ولما بلغ طشتمر بالروم ما جرى، رجع من الروم إلى دمشق، فتلقاه الفخري والقضاة، ثم رحل الفخري وطشتمر إلى مصر بمن معهما.
وفيها في شهر رمضان، سافر الملك الناصر أحمد من الكرك، فوصل مصر، وعمل أعزية لوالده وأخيه، وأمر بتسمير والي قوص لقتله المنصور.
وخلع الأشرف كجك الصغير، وجلس الناصر على الكرسي، هو والخليفة، وعقد بيعته قاضي القضاة تقي الدين السبكي، ثم أعدم الطنبغا والمرقبي.
وفيها كسر حسن بن ممرتاش بن جوبان من التتر، طغاي بن سوتاي في الشرق، وتبعه إلى بلد قلعة الروم، فاستشعر الناس لذلك.
وفيها عزل الملك الأفضل محمد ابن السلطان الملك المؤيد، صاحب حماة والمعرة وبارين وبلادهن، ونقل إلى دمشق من جملة أمرائها. تغيرت سيرة الأفضل وما كان فيه من التزهد قبل عزله، وحبس التاج ابن العز طاهر بن قرناص بين حائطين حتى مات، وقطع أشجار بستانه، وظهر في الليل من بعض أعقاب أشجار البستان التي لمعت نور، فما أفلح بعد ذلك.
وتولى نيابة حماة بعده، مملوك أبيه سيف الدين طقزتمر.
وفيها عزل عن قضاء الحنفية بحماة، القاضي جمال الدين عبد الله بن القاضي نجم الدين بن العديم، وتولى مكانه القاضي تقي الدين محمود بن الحكم.
وفيها أهلك طاجار الدواتدار، وكان مسرفاً على نفسه.
وفيها توفي الأفضل صاحب حماة بدمشق، معزولاً، ونقل إلى تربته بحماة، فخرج نائبها للقاء تابوته، وحزن عليه وحلف أنه ما تولى حماة إلا رجاء أن يردها إلى الأفضل، مكافأة لإحسان أبيه.
وفيها في جمادى الأولى، توفي القاضي برهان الدين إبراهيم الرسعني، قاضي الشافعية بحلب،(4/136)
وكان متعففاً، ويعرف فرائض، رحمه الله تعالى.
وفيها في جمادى الأولى أيضاً، عوقب لؤلؤ القندشى، بدار العدل بحلب حتى مات، واستصفى ماله، وشمت به الناس. قلت:
يا لؤلؤ قد ظلمت الناس لكن ... بقدر طلوعك اتفق النزول
كبرت فكنت في تاج فلما ... صغرت سحقت منه كل لولو
وفيها توفي الأمير بدر الدين محمد بن الحاج أبي بكر، أحد الأمراء بحلب، كان من رجال الدنيا، وله مارستان بطرابلس، وارتفع به الدهر وانخفض، ودفن بتربة جامع أنشأه بحلب بباب أنطاكية.
وفيها توفي الخطيب بدر الدين محمد ابن القاضي جلال الدين القزويني، خطيب دمشق، وتولى السبكي الخطابة، وجرى بينه وبين تاج الدين عبد الرحيم أخي الخطيب المتوفي وقائع، وفي آخر الأمر تعصبت الدماشقة مع تاج الدين، فاستمر خطيباً.
وفيها في شهر رمضان، وصل القاضي علاء الدين علي بن عثمان الزرعي، المعروف بالقرع، إلى حلب، قاضي القضاة، ولاه الطاغية الفخري بالبذل، فاجتمع الناس وحملوا المصحف وتضرروا من ولاية مثله، فرفعت يده عن الحكم، فسافر أياماً ثم عاد بكتب، فما التفتوا إليها، فسافر إلى مصر، وحلب خالية عن قاضي شافعي.
وفيها في شوال عم الشام ومصر جراد عظيم، وكان أذاه قليلاً.
وفيها في ذي الحجة، وصل أيدغمش الناصري إلى حلب نائباً بها، في حشمه عظيمة، وأحسن وعدل وخلع على كثير من الناس، وأقام بحلب إلى صفر، ثم نقل إلى نيابة دمشق، وتأسف الحلبيون لانتقاله عنهم. قلت:
يعرف من تقبله أرضنا ... من لزم الأوسط من فعله
لا تقبل المسرف في جوره ... كلا ولا المسرف في عدله
ونقل طقزتمر من حماة إلى حلب، مكان أيدغمش، ودخلها في عشري صفر، وتولى نيابة حماة مكانه الأمير العالم علم الدين الجاولي، ثم نقل الجاولي إلى نيابة غزة، وولي نيابة حماة مكانه آل ملك، ثم بعده الطنبغا المارداني، كل هذا في مدة يسيرة، وجرى في هذه السنة من تقلبات الملوك والنواب، واضطرابهم، ما لم يجر في مئات السنين. قلت:
عجائب عامنا عظمت وجلت ... أعاماً كان أم مائتين عاما
تصول على الملوك صيال قاض ... قليل الدين في مال اليتامى
وفيها في ذي الحجة، وصل إلى حلب القاضي حسام الدين الغوري، قاضي الحنفية بمصر، الوافد إليها من قضاء بغداد، منفياً من القاهرة، لما اعتمده في الأحكام، ولمعاضدته لقوصون، ولسوء سيرته، فإنه قاضي تتر. ولي بيتان في ذم حمام هما:
حمامكم في كل أوصافه ... يشبه شخصاً غير مذكور(4/137)
شديد برد وسخ موحش ... قليل ماء فاقد النور
فغيرهما بعض الناس فجعل البيت الأول كذا:
حمامكم في كل أوصافه ... يشبه وجه الحاكم الغوري
وتممه بالبيت الثاني على حاله.
وفيها في ذي الحجة، سافر السلطان الناصر أحمد إلى الكرك، وأخذ من ذخائر بيت المال بمصر ما لا يحصى، وصحب طشتمر والفخري مقيدين، فقتلهما بالكرك قتلة شنيعة، وبطول الشرح في وصف جراءة الفخري وإقدامه على الفواحش. حتى في رمضان، ومصادرته للناس، حتى أنه جهز من صادر أهل حلب، فأراح الله العالم منه، وحصن الناصر الكرك، واتخذها مقاماً له.
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة.
فيها في المحرم، انقلب عسكر الشام على الملك الناصر أحمد وهو بالكرك، وكاتبوا إلى مصر، فخلع الناصر وأجلس أخوه السلطان الملك الصالح إسماعيل على كرسي بقلعة الجبل، واستناب آل ملك.
وفيها في ربيع الآخر، حوصر السلطان أحمد بالكرك، واحتج عليه أخوه الصالح بما أخذه من أموال بيت المال، وحصل بنواحي الكرك غلاء لذلك.
وفيها في جمادى الآخرة، توفي نائب دمشق أيدغمش، ودفن بالقبيبات، ويقال إن دمشق لم يمت بها من قديم الزمان إلى الآن نائب سواه، وتولاها مكانه طقزتمر نائب حلب.
وفيها في رجب، وصل الأمير علاء الدين الطنبغا المارداني نائباً إلى حلب.
وفيها في شهر رمضان، توفي الشيخ تاج الدين عبد الباقي اليماني، الأديب، وقد أناف على الستين، وتقدم ذكر وفوده إلى حلب، رحمه الله تعالى، وزر باليمن، وتنقلت به الأحوال، وله نظم ونثر كثير، وتصانيف.
وفيها في شوال، خرج الأمير ركن الدين بيبرس الأحمدي من مصر، بعسكر لحصار الكرك، وكذلك من دمشق، فحاصروا الناصر بها بالنفط والمجانيق، وبلغ الخبز أوقية بدرهم، وغلت دمشق لذلك، حتى أكلوا خبز الشعير.
وفيها وصل علاء الدين القرع إلى حلب، قاضياً للشافعية، وأول درس القاه بالمدرسة قال فيه: كتاب الطهارة باب الميات، فأبدل الهاء بالتاء، فقلت أنا للحاضرين: لو كان باب الميات لما وصل القرع إليه، ولكنه باب الألوف. ثم قال: قال الله تعالى " وجعلها كلمة باقية في عنقه، مكان في عقبه " فقلت أنا: لا والله، ولكنها في عنق الذي ولاه. فاشتهرت عني هاتان التنديدتان في الآفاق.
وفيها في ربيع الآخر، عزل الأمير سليمان بن مهنا بن عيسى عن إمارة العرب، ووليها مكانه الأمير عيسى بن فضل بن عيسى، وذلك بعد القبض على فياض ين مهنا بمصر، وكان سليمان قد ظلم وصادر أهل سرمين، وربط بعض النساء في الجنازير، وهجم عبيده على المخدرات، فأغاثهم الله في وسط الشدة، ثم أعيد بعد مدة قريبة إلى(4/138)
الإمارة.
وفيها توفي بحلب الأمير الطاعن في السن، سيف الدين يلبصطي التركماني الأصل، رأس الميمنة بها، وكان قليل الأذى، مجموع الخاطر.
وفيها توفي بحلب طنبغا حجي، كان جهزه الفخري إليها نائباً عنه في أيام خروجه بدمشق، وهو الذي جبى أموالاً من أهل حلب، وحملها إلى الفخري، وأخذ لنفسه بعضها وباء بإثم ذلك.
وفيها توفي بحلب، الشيخ كمال الدين المهمازي، كان له قبول عند الملك الناصر محمد، ووقف عليه حمام السلطان بحلب، وسلم إليه تربة ابن قراسنقر بها، وكان عنده تصون ومروءة. قلت:
لوفاة الكمال في العجم وهن ... فلقد أكثروا عليه التعازي
قل لهم لو يكون فيكم جواد ... كان في غنية عن المهمازي
وفيها في رجب، اعتقل القرع بقلعة حلب معزولاً، ثم فك عنه الترسيم وسافر إلى جهة مصر.
وفيها في رجب، توفي بطرابلس نائبها، ملك تمر الحجازي، ووليها مكانه طرغاي، وفيه تولى نيابة حماة يلبغا التجباوي.
وفيها في شعبان، وصل القاضي بدر الدين إبراهيم بن الخشاب على قضاء الشافعية بحلب، فأحسن السيرة.
وفيها توفي بحلب الحاج علي بن معتوق الدبيسري، وهو الذي عمر الجامع بطرف بانقوسا، ودفن بتربته بجانب الجامع.
وفيها توفي بهادر التمرتاشي بالقاهرة، وكان بعد وفاة الملك الناصر، الأمراء الغالبين على الأمر.
ثم دخلت سنة أربع وأربعين وسبعمائة.
فيها أغارت التركمان مرات على بلاد سيس، فقتلوا ونهبوا وأسروا وشفوا الغليل، بما فتكت الأرمن ببلاد قرمان.
وفيها في صفر، توفي الأمير علاء الدين الطنبغا المارداني نائب حلب رد خارج باب المقام، وله بمصر جامع عظيم، وكان شاباً حسناً عاقلاً ذا سكينة.
وفيها مزقنا كتاب فصوص الحكم، بالمدرسة العصرونية بحلب، غقيب الدرس، وغسلناه، وهو من تصانيف ابن عربي تنبيهاً على تحريم قنيته ومطالعته وقلت فيه:
هذي فصوص لم تكن ... بنفيسة في نفسها
أنا قد قرأت نقوشها ... فصوابها في عكسها
وفيها توفي بحلب، الأمير سيف الدين بهادر، المعروف بحلاوة، أحد الأمراء بها، وله أثر عظيم في القبض على تنكز، وكان عنده ظلم، وتوعد أهل حلب بشر كبير، فأراحهم الله منه. قلت:
حلاوة مر فما ... أملحه أن يدمنا
إلى البلى مسيرا ... وفي الثرى مكفنا
فيها في صفر، بلغنا أنه توفي الشيخ شهاب الدين أحمد بن المرحل النحوي، الحراني الأصل، المصري الدار، والوفاة، كان متضلعاً من العربية، وعنده تواضع وديانة، نقلت له مرة(4/139)
وهو بحلب، أن أبا العباس ثعلباً أجاز الضم في المنادى صاف والشبيه به، الصالحين للألف واللام، فاستغرب ذلك وأنكره جداً، ثم طالع كتبه فرآه كما نقلت؛ فاستحيى من إنكار ذلك، مع دعواه كثرة الاطلاع. فقلت:
من بعد يومك هذا ... لا تنقل النقل تغلب
لو أنك ابن خروف ... ما كنت عندي كثعلب
وفيها في ربيع الأول، وصل يلبغا التجباوي إلى حلب نائباً، وهو شاب حسن، كان الملك الناصر يميل إليه، وأعطاه مرة أربعمائة ألف درهم، ومرة مائة فرس مسومة، وغالب مال تنكز، وتولى نيابة حماة مكانه سيف الدين طقزتمر الأحمدي، وعنده عقل وعدل، وعند يلبغا عفاف عن مال الرعية، وسطوة وحسن أخلاق في الخلوة.
وفيه سافر قاضي القضاة بحلب، بدر الدين إبراهيم بن الخشاب إلى مصر، ذاهباً بنفسه عن مساواة القرع، وذلك حين بلغه تطلب القرع بحلب، ولابن الخشاب يد طولى في الأحكام وفن القضاء، متوسط الفقه.
وفيه توفي سليمان بن مهنا أمير العرب، وفرح أهل إقطاعه بوفاته.
والقاضي شرف الدين أبو بكر بن محمد بن الشهاب محمود الحلبي، كاتب السر وكيل بيت المال بدمشق، توفي بالقدس الشريف، كتب السر بالقاهرة للملك الناصر محمد، أولاً.
وفيه وصل عسكران من حماة وطرابلس، للدخول إلى بلاد سيس. لتمرد صاحبها كند اصطنيل الفرنجي، ولمنعه الحمل، ومقدم عسكر طرابلس، الأمير صلاح الدين يوسف الدواتدار، أنشدني بحلب في سفرته هذين البيتين للإمام الشافعي، قيل إنهما ينفعان لحفظ البصر:
يا ناظري؛ بيعقوب أعيذ كما ... بما استعاذ به إذ خانه البصر
قميص يوسف ألقاه على بصري ... بشير يوسف فاذهب أيها الضرر
فأنشدت بيتين لي، ينفعان إن شاء الله تعالى، لحفظ النفس والدين والأهل والمال، وهما:
أمررت كفا سبحت فيها الحصى ... وروت الركب بماء طاهر
على معاشي ومعادي وعلى ... ذريتي وباطني وظاهري
وفيها في جمادى الأولى، عاد العسكر المجهز إلى بلد سيس، وما ظفروا بطائل، وكانوا قد أشرفوا على أخذ أذنة، وفيها خلق عظيم وأموال عظيمة، وجفال من الأرمن، فتبرطل أقسنقر مقدم عسكر حلب من الأرمن، وثبط الجيش عن فتحها، واحتج بأن السلطان ما رسم بأخذها، وتوفي أقسنقر المذكور بعد مدة يسيرة بحلب مذموماً، وأبى الله أن يتوفاه ببلاد سيس، مغازياً.
وفيها نقلت جثة تنكز من ديار مصر إلى تربته بدمشق، وتلقاها الناس ليلاً بالشمع والمصاحف والبكاء، ورقوا له، ووقع بدمشق عقيب ذلك مطراً، فعدوا(4/140)
ذلك من بركة القدوم بجثته.
وفيها في جمادى الأولى، توفي بدمشق، الإمام العلامة شمس الدين محمد بن عبد الهادي، كان بحراً زاخراً في العلم.
وفيه قتل الزنديق إبراهيم بن يوسف المقساتي بدمشق، لسبه الصحابة، وقذفه عائشة رضي الله عنهم، ووقوعه في حق جبريل عليه السلام. وفيها في العشرين من شهر وجب، توفي بجبرين الشيخ محمد ابن الشيخ نبهان، كان له القبول التام عند الخاص والعام، وناهيك أن طشتمر حمص أخضر، على قوة نفسه وشمعه، وقف على زاويته بجبرين، وحصة من قرية حريثان، لها مغل جيد، وبالجملة فكأنما ماتت بموته مكارم الأخلاق، وكاد الشام يخلو من المشهورين على الإطلاق: قلت:
وكنت إذا قابلت جبرين زائراً ... يكون لقلبي بالمقابلة الجبر
كأن بني نبهان يوم وفاته ... نجوم سماء خر من بينها البدر
زرته قبل وفاته، رحمه الله، فحكى لي قال: حضرت عند الشيخ عبس السرجاوي وأنا شاب وهو لا يعرفني، فحين رآني دمعت عينه وقال: مرحباً بشعار نبهان وأنشد:
وما أنت إلا من سليمى لأنني ... أرى شبهاً منها عليك يلوح
وحكى لي مرة أخرى قال أحضرت بالفوعة غسل الشيخ إبراهيم ابن الشيخ لما مات، وقرأنا عنده سورة البقرة وهو يغسل، فلما وصلنا إلى قوله تعالى " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " رفعنا أيدينا للدعاء، فرفع الشيخ إبراهيم يديه معنا للدعاء وهو ميت على المغتسل، ومحاسن الشيخ محمد، وتلقيه للناس، وتواضعه به ومكاشفاته، كثيرة ومشهورة، رحمه الله ورحمنا به آمين.
وفيها في منتصف شعبان، وقعت الزلزلة العظيمة، وخربت بحلب وبلادها أماكن، ولا سيما منبج، فإنها أقلت ساكنها، وأزالت محاسنها، وكذلك قلعة الرواندان، وعملت أنا في ذلك رسالة، أولها نعوذ بالله من شر ما يلج في الأرض وما يخرج منها، ونستعينه في طيب الإقامة بها، وحسن الرحلة عنها، نعم نستعيذ بالله ونستعين من سم هذه السنة، فهي أم أربعة وأربعين، وختمتها بقولي:
منبج أهلها حكوا دود قز ... عندهم تجعل البيوت قبورا
رب نعمهم فقد ألفوا من ... شجر التوت جنة وحريرا
والله أعلم، وصارت الزلازل تعاود حلب وغيرها سنة وبعض أخرى، وفي الحديث أن كثرة الزلازل من أشراط الساعة.
وفيها توفي طرغاي نائب طرابلس. وفيها بلغنا أن أرتنا صاحب الروم، سليمان خان، ملك التتر، قصده بالتتر إلى الروم، فانكسر كسرة شنيعة، ثم إن الشيخ حسن بن تمرتاش بن جوبان قتل، وهذا من سعادة الإسلام، فان المذكور كان فاسد النية، لكون الملك الناصر محمد قتل أباه وأخذ ماله كما تقدم.(4/141)
وفيها قطع فياض بن مهنا بن عيسى، فقطع ونهب.
وفيها في شهر رمضان، وصل إلى حلب قاضي القضاة نور الدين محمد بن الصائغ، على قضاء الشافعية، وهو قاض عفيف حسن السيرة عابد.
وفيها في شوال، حاصر يلبغا النائب بحلب، زين الدين قراخا بن دلغادر التركماني، بجبل الدلدل، وهو عسر إلى جانب جيحان، فاعتصم منه بالجبل، وقتل في العسكر، وأسر وجرح، وما نالوا منه طائلاً، فكبر قدره بذلك، واشتهر اسمه، وعظم على الناس شره، وكانت هذه حركة رديئة من يلبغا.
وفيها توفي(4/142)
كمال الدين عمر بن شهاب الدين محمد بن العجمي الحلبي، كان قد تفنن وعرف أصولاً وفقهاً، وبحث على شرح الشافية الكافية في النحو مرة، وبعض أخرى، ودفن ببستانه، رحمه الله، وما خرج من بني العجمي مثله.
ثم دخلت سنة خمس وأربعين وسبعمائة.
فيها في صفر، حوصرت الكرك، ونقبت، وأخذ الملك الناصر أحمد، وحمل إلى أخيه الملك الصالح بمصر، فكان آخر العهد به.
وفيها وصل إلى ابن دلغارد أمان من السلطان، وأفرج عن حريمه، وكن بحلب، واستقر في الأبلستين.
وفيها في ربيع الآخر، بلغنا وفاة الشيخ أثير الدين، أبي حيان النحوي المغربي بالقاهرة، كان بحراً زاخراً في النحو، وهو فيه ظاهري، وكان يستهزئ بالفضلاء من أهل القاهرة، ويحتملونه لحقوق اشتغالهم عليه، وكان يقول عن نفسه: أنا أبو حيات - بالتاء - يعني بذلك تلاميذه، وله مصنفات جليلة منها: تفسير القرآن العظيم، وشرح التسهيل، وارتشاف الضرب من ألسنة العرب مجلد كبير جامع، ومختصرات في النحو، وله نظم ليس على قدر فضيلته، فمن أحسنه قوله:
وقابلني في الدرس أبيض ناعم ... وأسمر لدن أورثا جسمي الردى
فذا هز من عطفيه رمحاً مثففاً ... وذال سل من جفنيه عضباً مهندا
وفيها في جمادى الأولى، توفي بحلب، الحاج محمد بن سلمان الحلبي المعزم، كان عنده ديانة وإيثار، وله مع المصروعين وقائع وعجائب.
وفيه توفي بطرابلس الأمير الفاضل صلاح الدين يوسف بن الأسعد الدواتدار، أحد الأمراء بطرابلس، وهو واقف المدرسة الصلاحية بحلب كما تقدم، وكان من أكمل الأمراء، ذكياً فطناً معظماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حسن الخط، وله نظم، كان كاتباً، ثم صار دواتدار قبجق بحماة، ثم شاد الدواوين بحلب، ثم حاجباً بها، ثم دواتدار الملك الناصر، ثم نائباً بالإسكندرية، ثم أميراً بحلب، وشاد المال والوقف، ثم أميراً بطرابلس رحمه الله تعالى.
وفيها في شعبان، بلغنا وفاة الشيخ نجم الدين القحفيزي بدمشق، فاضل في العربية والأصلين، ظريف حسن الأخلاق، ومن ذلك أنه أنشد مرة قول الشاعر: أيا نخلتي سلمى إلخ. فقال له بعض التلامذة: يا سيدي وما تيس الماء؟ فقال الشيخ: إن شئت أن تنظره فانظر في الخابية تره.
وفيها توفي بدمشق قاضي القضاة جلال الدين الحنفي الأطروش.
وفيها توفي الأمير علاء الدين أيدغدي الزراق، أتابك عسكر حلب، مسناً، وله سماع، وحكى لي أنه حر الأصل من أولاد المسلمين، وهو فاتح قلعة خندروس كما تقدم.
وتوفي كندغدي، العمري نائب البيرة مسناً، عزل عنها قبل موته بأيام، وعزموا على الكشف عليه، فستره الله بالوفاة، ببركة. محبتة للعلماء والفقراء.
وسيف الدين بلبان جركس، نائب قلعة المسلمين، طال مقامه بها وخلف مالاً كثيراً لبيت المال.
وفيها في شهر رمضان، اتفق سيل عظيم بطرابلس، وهلك فيه خلق منهم ابنا القاضي تاج الدين محمد بن البارنباري، كاتب سرها، وكان أحد الابنين الغريقين ناظر الجيش بها، والآخر موقع الدست، ورق الناس لأبيهما، فقلت وفيه تضمين واهتدام:
وارحمتاه له فإن مصابه ... بابن يبرحه فكيف ابنان
ما أنصفته الحادثات رمينه ... بمودعين وما له قلبان
وزاد نهر حماة وغرق دوراً كثيرة، ولطم العاصي خرطلة شيزر فأخذها، وتلفت بساتين البلد لذلك، ويحتاج إعادتها إلى كلفة كبيرة.
وفيها في ذي القعدة، توفي بدمشق القاضي شمس الدين محمد بن النقيب الشافعي، وتولى تدريس الشامية مكانه، تاج الدين عبد الوهاب بن السبكي، ثم تولاها السبكي بنفسه، خوفاً عليها، كان ابن النقيب بقية الناس، ومن أهل الإيثار، وأقام حرمة المنصب لما كان قاضي حلب فقيهاً كبيراً محدثاً أصولياً متواضعاً مع الضعفاء، شديداً على النواب. قال رحمه الله: دخلت وأنا صبي أشتغل على الشيخ محي الدين النووي، فقال لي: أهلاً بقاضي القضاة، فنظرت فلم أجد عنده أحداً غيري، فقال: اجلس يا مدرس الشامية وهذا من جملة كشف الشيخ محي الدين.
وابن النقيب حكى هذا بحلب قبل توليته الشامية. وحكى لي يوماً، وإن كنت قد وقفت عليه في مواضع من الكتب، أنه رفع إلى أبي يوسف، صاحب أبي حنيفة، رضي الله عنهما، مسلم قتل كافراً، فحكم عليه بالقود، فأتاه رجل برقعة ألقاها إليه. فيها:
يا قاتل المسلم بالكافر ... جرت وما العادل كالجائر
يا من ببغداد وأعمالها ... من علماء الناس أو شاعر
استرجعوا وابكوا على دينكم ... واصطبروا فالأجر للصابر
فبلغ الرشيد ذلك، فقال لأبي يوسف: تدارك هذا الأمر بحيلة لئلا تكون فتنة. فطالب أبو يوسف أصحاب الدم ببينة على صحة الذمة وثبوتها، فلم يأتوا بها، فأسقط القود.
وحكى لنا يوماً في بعض دروسه بحلب، أن مسألة ألقيت على المدرسين والفقهاء بدمشق، فما حلها إلا عامل المدرسة، وهي: رجل صلى الخمس بخمسة وضوءات، وبعد ذلك علم أنه ترك مسح(4/143)
الرأس في أحد الوضوءات، فتوضأ خمس وضوءات، وصلى الخمس، ثم تيقن أيضاً أنه ترك مسح الرأس في أحد الوضوءات الجواب: يتوضأ ويصلي العشاء، فيخرج عن العهدة بيقين، لأن الصلاة المتروكة المسح أولاً، إن كانت العشاء، فقد صحت الصلوات الأربع قبلها، وهذه العشاء المأمور بفعلها خاتمة الخمس، وإن كانت غير العشاء، فالعشاء الأولى والصلوات الخمس المعادة، والعشاء الثالثة صحيحة، غايته ترك مسح في تجديد وضوء ولهذا يجب أن يشترط عدم الحدث إلى أن يصلي الخمس. ثانياً قلت: التحقيق أن الوضوء ثانياً كان يغنيه عنه مسح الرأس وغسل الرجلين، لأن الشرط أنه لم يحدث إلى أن يصلي الخمس ثانياً، وكذلك كان ينبغي للمجيب أن يقول له: إن كنت لم تحدث إلى الآن، فامسح رأسك واغسل رجليك وصل العشاء، إذ الجديد عدم وجوب التتابع، وإن كنت محدثاً الآن، فلا بد من الوضوء كما قال.
وفيها استرجع السلطان الملك الصالح ما باعه الملك المؤيد وابنه الأفضل بحماه والمعرة وبلادهما، من أملاك بيت المال، وهو بأموال عظيمة، وكان غالب الملك، قد طرح على الناس غصباً، وقد اشتريت به تقادم إلى الملك الناصر، فقال بعض المعربين في ذلك:
طرحوا علينا الملك طرح مصادر ... ثم استردوه بلا أثمان
وإذا يد السلطان طالت واعتدت ... فيد الإله على يد السلطان
وكأنما كاشف هذا القائل، فإن مدة السلطان لم تطل بعد ذلك.
ثم دخلت سنة ست وأربعين وسبعمائة.
والتتار مختلفون مقتتلون من حين مات القان أبو سعيد، وبلاد الشرق والعجم في غلاء ونهب، وجور، بسبب الخلف، من حين وفاته إلى هذه السنة.
وفيها في ربيع الآخر، توفي السلطان الملك الصالح إسماعيل ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون، بوجع المفاصل والقولنج، وكان فيه ديانة، ويقرأ القرآن، آخر يوم موته، جلس مكانه أخوه السلطان الملك الكامل شعبان، وأخرج آل ملك نائب أخيه إلى نيابة صفد، وقماري إلى نيابة طرابلس.
وفيها في ربيع الآخر، نقل يلبغا الناصري من نيابة. حلب إلى نيابة دمشق، مكان طقزتمر وسافر طقزتمر إلى مصر بعد المبالغة في امتناعه من النقلة من الدمشق، فما أجيب إلى ذلك، وتوفي طقزتمر بمصر بعد مدة يسيرة، وكان عنده ديانة.
وفيه وصل الأمير سيف الدين أرقطاي إلى حلب، نائباً. وأبطل الخمور والفجور بعد اشتهارها، ورفع عن القرى الطرح وكثيراً من المظالم، ورخص السعر، وسررنا به.
وفيها عزل سيف بن فضل بن عيسى عن إمارة العرب، ووليها أحمد بن مهنا، وأعيد إقطاع فياض بن مهنا إليه ورضي عنه، واستعيد من أيدي العرب من الإقطاعات والملك شيء كثير، وجعل خاصاً لبيت المال. وفيها في جمادى الأولى(4/144)
صلي بحلب صلاة الغائب على القاضي عز الدين بن المنجا الحنبلي، قاضي دمشق، وهو معري الأصل.
وفيها في شهر رمضان وصل القاضي بهاء الدين حسن بن جمال الدين سليمان بن ريان إلى حلب، ناظراً على الجيش على عادته، عوضاً عن القاضي بدر الدين محمد ابن الشهاب محمود الحلبي، ثم ما مضى شهر حتى أعيد بدر الدين عوضاً عن بهاء الدين، وهكذا صارت المناصب كلها بحلب قصيرة المدة كثيرة الكلفة. قلت:
ساكني مصر أين ذاك التأني ... والتأني وما لكم عنه عذر
يخسر الشخص ماله ويقاسي ... تعب الدهر والولاية شهر
وفيها كتب على باب قلعة حلب وغيرها من القلاع، نقراً في الحجر، ما مضمونه مسامحة الجند بما كان يؤخذ منهم لبيت المال، بعد وفاة الجندي والأمير، وذلك أحد عشر يوماً وبعض يوم في كل سنة، وهذا القدر هو التفاوت بين السنة الشمسية والقمرية، وهذه مسامحة بمال عظيم.
وفيها قتلت الأرمن ملكهم كنداصطبل الفرنجي، كان علجاً لا يداري المسلمين، فخربت بلادهم وملكوا مكانه.
وفيها في أواخرها، ملكت التركمان قلعة كابان وربضها بالحيلة، وهي من أمنع قلاع سيس مما يلي الروم، وقتلوا رجالها، وسبوا النساء والأطفال، فبادر صاحب سيس الجديد لاستنقاذها، فصادفه ابن دلغادر، فأوقع بالأرمن وقتل منهم خلقاً، وانهزم الباقون. قلت:
صاحب سيس الجديد نادى ... كابان عندي عديل روحي
قلنا تأهب لغير هذا ... فذا فتوح على الفتوح
وبعد فتحها، قصد النائب بحلب أن يستنيب فيها من جهة السلطان، فعتا ابن دلغادر عن ذلك، فجهزوا عسكراً لهدمها، ثم أخذتها الأرمن منه بشؤم مخالفته لولي الأمر، وذلك في رجب سنة سبع وأربعين وسبعمائة.
وفيها في ذي الحجة قبض على قماري الناصرية نائب طرابلس، وعلى آل ملك نائب صفد، وولي طرابلس بيدمر البدري، وصفد أرغون الناصري.
ثم دخلت سنة سبع وأربعين وسبعمائة.
والتتار مختلفون كما كانوا.
وفيها في المحرم طلب الحاج أرقطاي نائب حلب إلى مصر، وارتفع شأنه وصار رأس مشورة مكان حسنكلي بن البابا، فإنه توفي قبل ذلك بأيام، وفيه أقبل إلى حلب وبلادها من جهة الشرق جراد عظيم، فكان أذاه قليلاً بحمد الله. قلت:
رجل جراد صدها ... عن الفساد الصمد
فكم وكم للطفه ... في هذا الرجل يد
وفيها في ربيع الأول، وصل إلى حلب الأمير سيف الدين طقتمر الأحمدي نائباً، نقل إليها من حماة، وولي حماة مكانه أسندمر العمري.
وفيها في جمادى الأولى، سافر(4/145)
القاضي ناصر الدين محمد ابن الصاحب شرف الدين يعقوب، وولي كتابة السر بدمشق، وتولى كتابة السر بحلب مكانه، القاضي جمال الدين إبراهيم ابن الشهاب محمود الحلبي.
وفيها في جمادى الأولى، بلغنا أن نائب الشام يلبغا خرج إلى ظاهر دمشق، خوفاً من القبض عليه، وشق العصا وعاضد أمراء مصر، حتى خلع السلطان الملك الكامل شعبان، وأجلسوا مكانه أخاه السلطان الملك المظفر أمير حاج، وسلموا إليه أخاه الكامل، فكان آخر العهد به، وناب عن المظفر بمصر الحاج أرقطاي المنصور، ولما تم هذا الأمر تصدق يلبغا في المملكة الحلبية وغيرها بمال كثير ذهب وفضة، شكراً لله تعالى، وكان هذا الملك الكامل سيء التصرف، يولي المناصب غير أهلها بالبذل، ويعزلهم عن قريب ببذل غيرهم، وكان يقول عن نفسه أنا ثعبان لا شعبان.
وفيها في رجب، توفي بحلب الأمير شهاب الدين قرطاي الأسندمري، من مقدمي الألوف، أمير عفيف الذيل متصون.
وفيها في مستهل رجب، سافر طقتمر الأحمدي نائب حلب إلى الديار المصرية، وسببه وحشة بينه وبين نائب الشام، فإنه ما ساعده على خلع الكامل وحفظ أيمانه.
وفيها وقع الوباء ببلاد أزبك، وخلت قرى ومدن من الناس، ثم اتصل الوباء بالقرم، حتى صار يخرج منها في اليوم ألف جنازة، أو نحو ذلك، حكى لي ذلك من أثق به من التجار، ثم اتصل الوباء بالروم، وهلك منهم خلق، وأخبرني تاجر من أهل بلدنا قدم من تلك البلاد، أن قاضي القرم قال: أحصينا من مات بالوباء، فكانوا خمسة وثمانين ألف، غير من لا نعرفه، والوباء اليوم بقبرس، والغلاء العظيم أيضاً.
وفيها في شعبان، وصل إلى حلب الأمير سيف الدين بيدمر البدري، نقل إليها من طرابلس، وولي طرابلس مكانه، وهذا البدري عنده حدة، وفيه بدرة، ويكتب على كثير من القصص بخطه، وهو خط قوي.
وفيها توفي بطرابلس قاضيها شهاب الدين أحمد بن شرف الزرعي، وتولى مكانه القاضي شهاب الدين أحمد بن عبد اللطيف الحموي.
وفيها في ذي الحجة، صدرت بحلب واقعة غريبة، وهي أن بنتاً بكراً من أولاد أولاد عمرو التيزيني، كرهت زوجها ابن المقصوص، فلقنت كلمة الكفر لينفسخ نكاحها قبل الدخول، فقالتها وهي لا تعلم معناها، فأحضرها البدري بدار العدل بحلب، وأمر فقطعت أذناها وشعرها، علق ذلك في عنقها، وشق أنفها، وطيف بها على دابة بحلب وبتيزين، وهي من أجمل البنات وأحياهن، فشق ذلك على الناس، وعمل النساء عليها عزاء في كل ناحية بحلب، حتى نساء اليهود، وأنكرت القلوب قبح ذلك، وما أفلح البدري بعدها. قلت:
وضج الناس من بدر منير ... يطوف مشرعاً بين الرجال
ذكرت ولا سواء بها السبايا ... وقد طافوا بهن على الجمال(4/146)
وفيه ورد البريد بتوليه السيد علاء الدين علي بن زهرة الحسيني نقابة الأشراف بحلب، مكان ابن عمه الأمير شمس الدين حسن بن السيد بدر الدين محمد بن زهرة، وأعطي هذا إمارة طبلخانات بحلب.
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وسبعمائة.
والتتار مختلفون.
وفيها في ثالث المحرم، وصل إلى حلب القاضي شهاب الدين بن أحمد بن الرياحي على قضاء المالكية بحلب، وهو أول مالكي استقضى بحلب، ولا بد لها من قاض حنبلي بعد مدة، لتكمل به العدة، إسوة مصر ودمشق. وفي السنة التي قبلها تجدد بطرابلس قاض حنفي مع الشافعي.
وفيها في المحرم، صلي بحلب صلاة الغائب على القاضي شرف الدين محمد بن أبي بكر بن ظافر الهمذاني المالكي، قاضي المالكية بدمشق، وقد أناف على الثمانين، كان ديناً خيراً متجملاً في الملبس، وهو الذي عاضد تنكز على نكبة قاضي القضاة جمال الدين يوسف بن جملة، وها هم قد التقوا عند الله تعالى.
وفيه ظهر بين منبج والباب جراد عظيم صغير، من بزر السنة الماضية، فخرج عسكر من حلب وخلق من فلاحي النواحي الحلبية، نحو أربعة آلاف نفس، لقتله ودفنه، وقامت عندهم أسواق، وصرفت عليهم من الرعية أموال، وهذه سنة ابتدأ بها الطنبغا الحاجب من قبلهم. قلت:
قصد الشام جراد ... سن للغلات سنا
فتصالحنا عليه ... وحفرنا ودفنا
وفيها في المحرم، سافر الأمير ناصر الدين بن المحسني بعسكر من حلب، لتسكين فتنة ببلد شيزر بين العرب والأكراد، قتل فيها من الأكراد نحو خمسمائة نفس، ونهبت أموال، ودواب.
وفيها في المحرم، عزمت الأرمن على نكبة لا بأس، فأوقع بهم أمير إياس، حسام الدين محمود بن داود الشيباني، وقتل من الأرمن خلقاً، وأسر خلقاً، وأحضرت الرؤوس والأسرى إلى حلب في يوم مشهود، فلله الحمد.
وفيها منتصف ربيع الأول، سافر بيدمر البدري نائب حلب إلى مصر معزولاً، أنكروا عليه ما اعتمده في حق البنت من تيزين، المقدم ذكرها، وندم على ذلك حيث لا ينفعه الندم.
وفيه وصل إلى حلب نائبها أرغون شاه الناصري في حشمة عظيمة، نقل إليها من صفد، وفيه قطعت الطرق وأخيفت السبل، بسبب الفتنة بين العرب، لخروج إمرة العرب عن أحمد بن مهنا إلى سيف بن فضل بن عيسى. قلت:
تريد لأهل مصر كل خير ... وقصدهم لنا حتف وحيف
وهل يسمو لأهل الشام رمح ... إذا استولى على العربان سيف
وفيها في ربيع الآخر، قدم على كركر والختا وما يليها عصافير كالجراد منتشر، فتنازع الناس إلى شيل الغلات بداراً، وهذا مما لم يسمع بمثله وفيه وصل تقليد القاضي شرف الدين موسى بن فياض الحنبلي بقضاء حنابلة بحلب، فصار القضاة أربعة، ولما بلغ(4/147)
بعض الظرفاء أن حلب تجدد بها قاضيان، مالكي وحنبلي أنشد قول الحريري في الملحة:
ثم كلا النوعين جاء فضله ... منكراً بعد تمام الجملة
وفيها في جمادى الأولى، هرب يلبغا من دمشق بأمواله وذخائره التي تكاد تفوت الحصر، خشية من القبض عليه، وقصد البر؛ فخانه الدليل وخذله أصحابه، تناوبته العربان من كل جانب، وألزمه أصحابه قهراً بقصد حماة، ملقياً للسلاح، فلقيه نائب حمص مستشعراً منه، أدخله حماة، ثم حضر من تسلمه من جهة السلطان، وساروا به إلى جهة مصر، فقتلوه بقاقون ودفن بها، وهذا من لطف الله بالإسلام، فإنه لو دخل بلاد التتار أتعب الناس، ورسم السلطان بإكمال جامعه الذي أنشأه بدمشق، وأطلق له ما وقفه عليه، وهو جامع حسن بوقف كثير، وكان يلبغا خيراً للناس من حاشيته بكثير، وكان عفيفاً عن أموال الرعية، وما علمنا أن أحداً من الترك ببلادنا حصل له ما حصل ليلبغا، جمع شمله بأبيه وأمه وإخوته، وكل منهم أمير، إلى أن قضى نحبه، رحمه الله تعالى. وفيها في جمادى الآخرة نقل أرغون شاه من نيابة حلب إلى نيابة دمشق، فسافر عاشر الشهر وبلغنا أنه وسّط في طريقه مسلمين، وهذا أرغون شاه في غاية السطوة، مقدم على سفك الدم بلا تثبت، قتل بحلب خلقاً ووسط وسمر وقطع بدوياً سبع قطع، بمجرد الظن بحضرته.
وغضب على فرس له قيمة كثيرة، مرح بالعلافة، فضربه حتى سقط، ثم قام فضربه حتى سقط، وهكذا مرات، حتى عجز عن القيام، فبكى الحاضرون على هذا الفرس فقيل فيه:
عقلت طرفك حتى ... أظهرت للناس عقلك
لا كان دهر يولي ... على بني الناس مثلك
وفيه اقتتل سيف بن فضل أمير العرب وأتباعه، أحمد وفياض. في جمع عظيم قرب سلمية، فانكسر سيف ونهبت جماله وماله، ونجا بعد اللتيا والتي في عشرين فارساً، وجرى على بلد المعرة وحماة وغيرهما في هذه السنة، بل في هذا الشهر، من العرب، أصحاب سيف وأحمد وفياض من النهب وقطع الطرق، ورعي الكروم، والزروع، والقطن، والمقاتي، ما لا يوصف.
وفيه انكسر الملك الأستر بن تمرتاش ببلاد الشرق كسرة شنيعة، ثم شربوا من نهر مسموم فمات أكثرهم، ومزقهم الله كل ممزق، وكان هذا المذكور رديء النية، فذاق وبال أمره.
وفيها في أواخرها، وصل إلى حلب نائباً فخر الدين أياز نقل إليها من صفد.
وفيها في رمضان، قتل السلطان الملك المظفر أمير حاج ابن الملك الناصر بن قلاوون بمصر، وأقيم مكانه أخوه السلطان الملك الناصر حسن، كان الملك المظفر قد أعدم أخاه الأشرف كجك، وفتك بالأمراء، وقتل من أعيانهم نحو أربعين أميراً، مثل بيدمر البدري نائب حلب، ويلبغا نائب الشام، وطقتمر النجمي الدواتدار، وأقسنقر(4/148)
الذي كان نائب طرابلس، ثم صار الغالب على الأمر بمصر أرغون العلائي، والكتمر، الحجازي، وتتمش عبد الغني، أمير مائة، مقدم ألف، وشجاع الدين غرلو، وهو أظلمهم، ونجم الدين محمود بن شروين وزير بغداد، ثم وزير مصر، وهو أجودهم وأكثرهم براً ومعروفاً، حكى لنا أن النور شوهد على قبره بغزة، وكان المظفر قد رسم لعبد أسود صورة أن يأخذ على كل رأس غنم تباع بحلب وحماة ودمشق نصف درهم، فيوم وصول الأسود إلى حلب، وصل الخبر بقتل السلطان، فسر الناس بخيبة الأسود.
وفيها في شوال طلب السلطان فخر الدين أياز نائب حلب، إلى مصر، وخافت الأمراء أن يهرب، فركبوا من أول الليل وأحاطوا به، فخرج من دار العدل وسلم نفسه إليهم، فأودعوه القلعة، ثم حمل إلى مصر، فحبس، وهو أحد الساعين في نكبة يلبغا، وأيضاً فإنه من الجركس، وهو أضداد الجنس التتار بمصر، وكان المظفر قد مال عن جنس التتار إلى الجركس ونحوهم، فكان ذلك أحد ذنوبه عندهم، فانظر إلى هذه الدول القصار، التي ما سمع بمثلها في الإعصار قلت:
هذي أمور عظام ... من بعضها القلب ذائب
ما حال قطر يليه ... في كل شهرين نائب
وفيها في ذي الحجة، وصل إلى حلب الحاج أرقطاي، نائباً، بعد أن خطبوه إلى السلطنة. والجلوس على الكرسي بمصر، فأبى، وخطبوا قبله إلى ذلك الخليفة الحاكم بأمر الله، فامتنع، كل هذا خوفاً من القتل، فلما جلس الملك الناصر حسن على الكرسي، طلب الحاج أرقطاي منه نيابة حلب فأجيب، وأعفى الناس من زينة الأسواق بحلب، لأنها تكررت حتى سمجت قلت:
كم ملك جاءوكم نائب ... يا زينة الأسواق حتى متى
قد كرروا الزينة حتى اللحى ... ما بقيت تلحق أن تنبتا
وفيه بلغنا أن السلطان أبا الحسن المريني صاحب المغرب، انتقل من المغرب الجواني من فاس، إلى مدينة تونس، وهي أقرب إلينا من فاس بثلاثة أشهر، وذلك بعد موت ملكها أبي بكر من الحفصيين بالفالج، وبعد أن أجلس أبو الحسن ابنه على الكرسي بالغرب الجواني، وقد أوجس المصريون من ذلك خيفة، فإن بعض الأمراء المصريين الأذكياء، أخبرني أن الملك الناصر محمداً كان يقول: رأيت في بعض الملاحم أن المغاربة تملك مصر، وتبيع أولاد الترك في سويقة مازن، وهذا السلطان أبو الحسن ملك عالم مجاهد عادل، كتب من مدة قريبة بخطه ثلاثة مصاحف، ووقفها على الحرمين، وعلى حرم القدس، وجهز معها عشرة آلاف دينار، اشترى بها أملاكاً بالشام، وووقفت على القراء والخزنة للمصاحف المذكورة.
ووقفت على نسخة توقيع بمسامحة الأوقاف المذكورة، بمؤن وكلف وأحكار، أنشأه(4/149)
صاحبنا الشيخ جمال الدين بن نباته المصري، أحد الموقعين الآن بدمشق، أوله: الحمد لله الذي أرهف لعزائم الموحدين غرباً، وأطلعهم بهممهم حتى في مطالع الغرب شهباً، وعرف بين قلوب المؤمنين حتى كان البعد قرباً، وكان القلبان قلباً، وأيد بولاء هذا البيت الناصري ملوك الأرض، وعبيد الحق سلماً وحرباً، وعضد ببقائه كل ملك إذا نزل البر أنبته يوم الكفاح أسلاً، ويوم السماح عشباً، وإذا ركب البحر لنهب الأعداء، كان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً، وإذا بعث هداياه المتنوعة، كانت عراباً تصحب عرباً ورياضاً تسحب سحباً، وإذا وقف أوقاف البر، سمعت الآفاق من خط يده قرآناً عجباً، واهتزت بذكراه عجباً.
ومنها: وذو الولاء قريب وإن نأت داره، ودان بالمحبة وإن شط شط بحره ومزاره، وهو بأخباره النيرة محبوب، كالجنة قبل أن ترى، موصوف كوصف المشاهد، وإن حالت عن الاكتحال بطلعته أميال السرى، ولما كان السلطان أبو الحسن سر الله ببقائه الإسلام والمسلمين، وسره بما كتب من اسمه في أصحاب اليمين وما أدراك ما أصحاب اليمين، هو الذي مد اليمين بالسيف والقلم، فكتب في أصحابها، وسطر الختمات الشريفة، فنصر الله حزبه بما سطر من أحزابها، ومد الرماح أرشية فاشتقت من قلوب الأعداء قليباً، والأقلام أروية فشفت ضعف البصائر، وحسبك بالذكر الحكيم طبياً.
ومنها ثم وصلت ختمات شريفة كتبها بقلمه المجيد المجدي، وخط سطورها بالعربي، وطالما خط في صفوف الأعداء بالهندي.
ومنها وأمر بترتيب خزنة وقراء على مطالع أفقها، ووقف أوقافها، تجري أقلام الحسنات في أطلاقها وطلقها، وحبس أملاكاً شامية تحدث بنعم الأملاك التي سرت من مغرب الشمس إلى مشرقها، ورغب في المسامحة على تلك الأملاك، من أحكار ومؤونات وأوضاع ديوانية، وضع بها خط المسامحة في دواوين الحسنات المسطرات، فأجيب على البعد داعيه، وقوبل بالإسعاف والإسعاد وقفه ومساعيه، وختمها بقوله: والله تعالى يمتع من وقف هذه الجهات بما سطر له في أكرم الصحائف وينفع الجالس من ولاة الأمور في تقريرها، ويتقبل من الواقف.
وفيه صلي بحلب صلاة الغائب على الشيخ شمس الدين بن محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي الدمشقي، منقطع القرين في معرفة أسماء الرجال، محدث كبير، مؤرخ، من مصنفاته كتاب تاريخ الإسلام، وكتاب الموت وما بعده، وكف بصره في آخر عمره، ومولده سنه ثلاث وسبعين وستمائة، واستعجل قبل موته فترجم في تواريخه الأحياء المشهورين بدمشق وغيرها، واعتمد في ذكر سير الناس على أحداث يجتمعون به، وكان في أنفسهم من الناس، فآذى بهذا السبب في مصنفاته أعراض خلق من المشهورين.
وفيها كان الغلاء بمصر ودمشق وحلب وبلادهن، والأمر بدمشق أشد، حتى انكشفت فيه أحوال خلق، وجلا كثيرون منها إلى حلب وغيرها، وأخبرني بعض(4/150)
بني تيمية، أن الغرارة وصلت بدمشق إلى ثلاثمائة، وبيع البيض كل خمسة بيضات بدرهم، واللحم رطل بخمسة وأكثر، والزيت رطل بستة أو سبعة.
وفيها في ذي الحجة، قيد الأمير شهاب الدين أحمد ابن الحاج مغلطاي القره سنقري، وحمل إلى دمشق، فسجن بالقلعة، وكان مشد الوقف بحلب، وحاجباً، وكان قبل هذه الحادثة، قد سعى في بعض القضاة، وقصد له إهانة بدار العدل، فسلم الله القاضي، وأصيب الساعي المذكور، وربما كان طلبه من مصر يوم سعيد في القاضي، ثم خلص بعد ذلك وأعيد إلى حلب، وصلح حاله.
وفيها توفي بدمشق ابن علوي، أوصى بثلاثين ألف درهم، تفرق صدقة، وبمائتي ألف وخمسين ألفاً تشترى بها أملاك وتوقف على البر، فاجتمع خلق من الحرافيش والضعفاء لتفريق الثلاثين ألفاً، ونهبوا خبزاً من قدام الخبازين، فقطع أرغون شاه نائب دمشق منهم أيدي خلق، وسمر خلقاً بسبب ذلك، فخرج منهم خلق من دمشق وتفرقوا ببلاد الشمال.
وفيها في ذي الحجة، ضرب نيرون - بالنون - نائب قلعة المسلمين، قاضيها برهان الدين إبراهيم بن محمد بن ممدود، واعتقله ظلماً وتجبراً، فبعد أيام قليلة طلب النائب إلى مصر معزولاً، ويغلب على ظني أنه طلب يوم تعرضه للقاضي، فسبحان رب الأرض والسماء الذي لا يمهل من استطال على العلماء. قلت:
قل لأهل الحياة مهما ... رمتم عزاً وطاعه
لا تهينوا أهل علم ... فإذا هم سم ساعه
وفيه في العشر الأوسط من آذار، وقع بحلب وبلادها ثلج عظيم، وتكرر، أغاث الله به البلاد، واطمأنت به قلوب العباد، وجاء عقيب غلاء أسعار، وقلة أمطار. قلت:
ثلج بآذار أم الكافور في ... مزاجه ولونه والمطعم
لولاه سالت بالغلاء دماؤنا ... من عادة الكافور إمساك الدم
وفيها جاءت ريح عظيمة قلعت أشجاراً كثيرة، وكانت مراكب للفرنج قد لججت للوثوب على سواحل المسلمين، فغرقت بهذه الريح، وكفى الله المؤمنين القتال. قلت:
قل للفرنج تأدبوا وتجنبوا ... فالريح جند نبينا اجماعا
إن قلعت في البر أشجاراً فكم ... في البحر يوماً شجرت أقلاعا
وفيها توفي الحاج إسماعيل بن عبد الرحمن العزازي بعزاز، كان له منزلة عند الطنبغا الحاجب نائب حلب، وبنى بعزاز مدرسة حسنة، وساق إليها القناة الحلوة، وانتفع الجامع وكثير من المساجد بهذه القناة، وله آثار حسنة غير ذلك، رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة تسع وأربعين وسبعمائة.
وقراجا بن دلغادر التركماني وجمائعه قد شغبوا، واستطالوا ونهبوا، وتسمى بالملك القاهر، وأبان عن فجور وحمق ظاهر، ودلاه بغروره(4/151)
الشيطان، حتى طلب من صاحب سيس الحمل الذي يحمل إلى السلطان.
وفيها في شهر رجب، وصل الوباء إلى حلب، كفانا الله شره، وهذا الوباء قيل لنا إنه ابتدأ من الظلمات، من خمس عشرة سنة متقدمة، على تاريخه، وعملت فيه رسالة سميتها، النبا عن الوبا.
فمنها: اللهم صل على سيدنا محمد وسلم، ونجنا بجاهه من طغيان الطاعون وسلم، طاعون روع وأمات، وابتدأ خبره من الظلمات، فواهاً له من زائر، من خمس عشرة سنة دائر، ما صين عنه الصين، ولا منع منه حصن حصين، سل هندياً في الهند، واشتد على السند، وقبض بكفيه وشبك، على بلاد أزبك، وكم قصم من ظهر، فيما وراء النهر، ثم ارتفع ونجم، وهجم على العجم، وأوسع الخطا، إلى أرض الخطا، وقرم القرم، ورمى الروم بجمر مضطرم، وجر الجرائر، إلى قبرس والجزائر، ثم قهر خلقاً بالقاهرة، وتنبهت عينه لمصر فإذا هم بالساهرة، وأسكن حركة الإسكندرية، فعمل شغل الفقراء مع الحريرية.
ومنها:
إسكندرية ذا الوباء ... سبع يمد إليك ضبعه
صبراً لقسمته التي ... تركت من السبعين سبعه
ثم تيمم الصعيد الطيب، وأبرق على برقة منه صيب، ثم غزا غزة، وهز عسقلان هزة، وعك إلى عكا، واستشهد بالقدس وزكى، فلحق من النهار بين الأقصى بقلب كالصخرة، ولولا فتح باب الرحمة لقامت القيامة في مرة، ثم طوى المراحل، ونوى أن يحلق الساحل، فصاد صيداً، وبغت بيروت كيداً، ثم صدد الرشق، إلى جهة دمشق، فتربع ثم وتميد، وفتك كل يوم بألف وأزيد، فأقل الكثرة، وقتل خلقاً ببثرة. ومنها:
أصلح الله دمشقاً ... وحماها من مسبه
نفسها خست إلى أن ... تقتل النفس بحبه
ثم أمر المزه، وبرز إلى برزة، وركب تركيب مزج على بعلبك، وأنضد في قارة قفا نبك، ورمى حمص بجلل، وصرفها مع علمه أن فيها ثلاث علل، ثم طلق الكنة في حماة، فبردت أطراف عاصيها من حماة:
يا أيها الطاعون إن حماة من ... خير البلاد ومن أعز حصونها
لا كنت حين شممتها فسممتها ... ولثمت فاها آخذاً بقرونها
ثم دخل معرة النعمان، فقال لها أنت مني في أمان، حماة تكفيك، فلا حاجة لي فيك:
رأى المعرة عيناً زانها حور ... لكن حاجبها بالجور مقرون
ماذا الذي يصنع الطاعون في بلد ... في كل يوم له بالظلم طاعون
ثم سرى إلى سرمين والفوعة، فشعث عن السنة والشيعة، فسن للسنة أسنته شرعاً،(4/152)
وشيع في منازل الشيعة مصرعاً، ثم أنطى أنطاكية بعض نصيب، ورحل عنه حياء من نسيانه ذكرى حبيب، ثم قال لشيزر وحارم لا تخافا مني، فأنتما من قبل ومن بعد في غنى عني، فالأمكنة الردية، تصح في الأزمنة الردية، ثم أذل عزاز وكلزه، وأصبح في بيوتها الحارث ولا أغنى ابن حلزة، وأخذ من أهل الباب، أهل الألباب، وباشر تل باشر، ودلك دلوك وحاشر، وقصد الوهاد والتلاع، وقلع خلقاً من القلاع، ثم طلب حلب، ولكنه ما غلب.
ومنها ومن الأقدار، أنه يتتبع أهل الدار، فمتى بصق أحد منهم دماً، تحققوا كلهم عدماً، ثم يسكن الباصق الأجداث، بعد ليلتين أو ثلاث.
سألت بارئ النسم، في دفع طاعون صدم، فمن أحس بلع دم، فقد أحس بالعدم، ومنها:
حلب والله يكفي ... شرها أرض مشقه
أصبحت حية سوء ... تقتل الناس ببزقه
فلقد كثرت فيها أرزاق الجنائزية فلا رزقوا، وعاشوا بهذا الموسم وعرقوا، من الحمل فلا عاشوا ولا عرفوا، فهم يلهون ويلعبون، ويتقاعدون على الزبون:
اسودت الشهباء في ... عيني من وهم وغش
كادت بنو نعش بها ... أن يلحقوا ببنات نعش
ومما أغضب الإسلام، وأوجب الآلام، أن أهل سيس الملاعين، مسرورون لبلادنا بالطواعين:
سكان سيس يسرهم ما ساءنا ... وكذا العوائد من عدو الدين
فالله ينقله إليهم عاجلاً ... ليمزق الطاغوت بالطاعون
ومنها فإن قال قائل هو يعدي ويبيد، قلت بل الله يبدي ويعيد، فإن جادل الكاذب في دعوى العدوى وتأول، قلنا فقد قال الصادق صلى الله عليه وسلم فمن أعدى الأول، استرسل ثعبانه وانساب، وسمى طاعون الأنساب، وهو سادس طاعون وقع في الإسلام، وعندي أنه الموتان الذي أنذر به نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام.
كان وكان:
أعوذ بالله ربي من شر طاعون النسب ... باروده المستعلي قد طار في الأقطار
دولاب دهاشانه ساعي لصارخ ما رثى ... ولا فدا بذخيره فناشه الطيار
يدخل إلى الدار يحلف ما أخرج إلا بأهلها ... معي كتاب القاضي بكل من في الدار
وفي هذا كفاية، ففي الرسالة طول.
وفيها أسقط القاضي المالكي الرياحي بحلب تسعة من الشهود ضربة وحدة، فاستهجن منه ذلك، وأعيدوا إلى عدالتهم ووظائفهم.
وفيها قتل بحلب زنديقان أعجميان، كانا مقيمين بدلوك.
وفيها بلغنا وفاة القاضي زين الدين عمر البلقيائي بصفد بالوباء، والشيخ ناصر الدين العطار بطرابلس بالوباء، وهو واقف الجامع المعروف به، بها وفيها توفي القاضي جمال الدين سليمان بن ريان الطائي(4/153)
بحلب، منقطعاً تاركاً للخدم، ملازماً للتلاوة.
وفيها بلغنا أن أرغون شاه، وسط بدمشق كثيراً من الكلاب.
وفيها توفي الأمير أحمد بن مهنا أمير العرب، وفتّ ذلك في أعضاد آل مهنا، وتوجه أخوه فياض الغشوم القاطع للطرق، الظالم للرعية إلى مصر، ليتولى الإمارة على العرب، مكان أخيه أحمد، فأجيب إلى ذلك، فشكا عليه رجل شريف، أنه قطع عليه الطريق، وأخذ ماله، وتعرض إلى حريمه، فرسم السلطان بإنصافه منه، فأغلظ فياض في القول طمعاً بصغر سن السلطان، فقبضوا عليه قبضاً شنيعاً.
وفيها في سلخ شوال، توفي قاضي القضاة نور الدين محمد بن الصائغ بحلب، وكان صالحاً عفيفاً ديناً، لم يكسر قلب أحد، ولكنه لخيريته طمع قضاة السوء في المناصب، وصار المناحيس يطلعون إلى مصر ويتولون القضاء في النواحي بالبذل، وحصل بذلك وهن في الأحكام الشرعية. قلت:
مريد قضا بلدة ... له حلب قاعده
فيطلع في ألفه ... وينزل في واحده
وكان رحمه الله من أكبر أصحاب ابن تيمية، وكان حامل رايته في وقعة الكسروان المشهورة.
وفيها في عاشر ذي القعدة، توفي بحلب صاحبنا الشيخ الصالح زين الدين عبد الرحمن بن هبة الله المعري، المعروف بإمام الزجاجية، من أهل القرآن والفقه والحديث، عزب منقطع عن الناس، كان له بحلب دويرات، وقفهن على بني عمه، وظهر له بعد موته كرامات، منها أنه لما وضع في الجامع ليصلى عليه بعد العصر، ظهر من جنازته نور، شاهده الحاضرون، ولما حمل لم يجد حاملوه عليهم منه ثقلاً، حتى كأنه محمول عنهم، فتعجبوا لذلك، ولما دفن وجلسنا نقرأ عنده سورة الأنعام، شممنا من قبره رائحة طيبة، تغلب رائحة المسك والعنبر، وتكرر ذلك، فتواجد الناس وبكوا، وغلبتهم العبرة، وله محاسن كثيرة رحمه الله، ورحمنا به آمين، ومكاشفاته معروفة عند أصحابه.
وفي العشر الأوسط منه، توفي أخي الشقيق وشيخي الشفيق، القاضي جمال الدين يوسف، ترك في آخر عمره الحكم، وأقبل على التدريس والإفتاء، وكان من كثرة الفقه والكرم وسعة النفس وسلامة الصدر بالمحل الرفيع، رحمة الله تعالى، ودفن بمقابر الصالحين قبلي المقام بحلب. قلت:
أخ أبقي ببذل المال ذكراً ... وإن لاموه فيه ووبخوه
أزال فراقه لذات عبشى ... وكل أخ مفارقه أخوه
وفيه توفي الشيخ علي ابن الشيخ محمد بن القدوة نبهان الجبريني بجبرين، وجلس على السجادة ابنه الشيخ محمد الصوفي، كان الشيخ علي بحراً في الكرم، رحمه الله ورحمنا بهم آمين.
وفي الثامن والعشرين من ذي القعدة، ورد البريد من مصر بتولية قاضي القضاة نجم الدين عبد القاهر بن أبي السفاح، قضاء الشافعية بالمملكة الحلبية، وسررنا بذلك ولله الحمد.
وفيه ظهر بمنبج على قبر النبي متى، وقبر حنظلة بن خويلد أخي خديجة،(4/154)
رضى الله عنها، وهذان القبران بمشهد النور خارج منبج، وعلى قبر الشيخ عقيل المنبجي، وعلى قبر الشيخ ينبوب، وهما داخل منبج، وعلى قبر الشيخ علي، وعلى مشهد المسيحات شمالي منبج، أنوار عظيمة، وصارت الأنوار تنتقل من قبر بعضهم إلى قبر بعض، وتجتمع وتتراكم، ودام ذلك إلى ربع الليل، حتى انبهر لذلك أهل منبج، وكتب ماضيهم بذلك محضراً وجهزه إلى دار العدل بحلب، ثم أخبرني القاضي بمشاهدة ذلك أكابر وأعيان من أهل منبج أيضاً، وهؤلاء السادة هم خفراء الشام، ونرجوا من الله تعالى ارتفاع هذا الوباء الذي كاد يفني العالم ببركتهم، إن شاء الله تعالى. قلت:
اشفعوا يا رجال منبج فينا ... لارتفاع الوباء عن البلدان
نزل النور في الظلام عليكم ... إن هذا يزيذ في الأيمان
وفيها في ذي الحجة، بلغنا وفاة القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله العمري بدمشق، بالطاعون، منزلته في الإنشاء معروفه، وفضيلته في النظم والنثر موصوفه، كتب السر للسلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون بالقاهرة، بعد أبيه محي الدين، ثم عزل بأخيه القاضي علاء الدين، وكتب السر بدمشق، ثم عزل وتفرغ للتأليف والتصنيف، حتى مات عن نعمة وافرة، دخل رحمه الله قبل وفاته بمدة معرة النعمان، فنزل بالمدرسة التي أنشأتها، ففرح لي بها، وأنشد فيها ببتين أرسلهما إلى بخطه وهما:
وفي بلد المعرة دار علم ... بني الوردي منها كل مجد
هي الوردية الحلواء حسناً ... وماء البئر منها ماء ورد
فأجبته بقولي:
أمولانا شهاب الدين إني ... حمدت الله إذ بك تم مجدي
جميع الناس عندكم نزول ... وأنت جبرتني ونزلت عندي
قد تم بعون الله تعالى تاريخ العلامة الملك المؤيد إسماعيل أبي الفداء.(4/155)