الرجل. وبلغ ذلك عمر بن الوليد بن عبد الملك، فكتب إليه: إنك قد أزريت على من كان قبلك من الخلفاء، وعبت عليهم وسرت بغير سيرتهم بغضا لهم وسبى لمن بعدهم من أولادهم، قطعت ما أمر الله به أن يوصل إذ عمدت إلى أموال قريش ومواريثهم، فأدخلتها في بيت المال جورا وعدوانا، ولن تترك على هذا، فلما قرأ كتابه كتب إليه:
بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عمر بن الوليد، السلام على المرسلين والحمد للَّه رب العالمين، أما بعد، فإنني بلغني كتابك وسأجيبك بنحو منه: أما أول شأنك ابن الوليد كما زعم فأمك بنانة أمة السكون، كانت تطوف في سوق حمص وتدخل في حوانيتها، ثم الله أعلم بما اشتراها ذبيان من فيء المسلمين، فأهداها لأبيك، فحملت بك، فبئس المحمول وبئس المولود. ثم نشأت فكنت جبارا عنيدا، أتزعم أني من الظالمين لما حرمتك وأهل بيتك فيء الله عز وجل الذي فيه حق القرابة والمساكين والأرامل، وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من استعملك صبيا سفيها على جند المسلمين تحكم فيهم برأيك، ولم تكن له في ذلك نية إلا حب الوالد لولده، فويل لك وويل لأبيك، ما أكثر خصماء كما يوم القيامة، وكيف ينجو أبوك من خصمائه.
وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من استعمل الحجاج بن يوسف يسفك الدم الحرام، ويأخذ المال الحرام. وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من استعمل قرة بن شريك أعرابيا جافيا على مصر أذن له في المعازف واللهو والشرب. وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من جعل لعالية البربرية سهما في خمس فيء العرب فرويدا يا ابن بنانة، فلو التقى خلقا البطان ورد الفيء إلى أهله لتفرغت لك ولأهل بيتك فوضعتهم على المحجة البيضاء، فطالما تركتم الحق وأخذتم في بنيات الطريق، ومن وراء هذا ما أرجو أن أكون رأيته بيع رقبتك وقسم ثمنك بين اليتامى والمساكين والأرامل فإن لكل فيك حقا، والسلام علينا ولا ينال سلام الله الظالمين.
أخبرنا هبة الله بن أحمد الحريري بإسناده عن عمرو بن مهاجر [1] قهرمان عمر بن عبد العزيز، قال:
كان نقش خاتم عمر بن عبد العزيز «الوفاء عزيز» .
__________
[1] في ت: «وروى عن عمر بن مهاجر» .(7/34)
أخبرنا علي بن أبي عمر بإسناد له عن [1] قبيصة، قال: سمعت سفيان الثوري يقول:
الخلفاء خمسة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعمر بن عبد العزيز [رضي الله عنهم] .
أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا المبارك بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ الْمَرْزُبَانُ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الضَّحَّاكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ، عَنْ عَوَانَةَ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ [2] :
لَمَّا اسْتُخْلِفَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَفَدَ الشُّعَرَاءُ إِلَيْهِ [3] ، فَأَقَامُوا بِبَابِهِ أَيَّامًا لا يُؤْذَنُ لَهُمْ. فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ وَقَدْ أَزْمَعُوا عَلَى الرَّحِيلِ إِذْ مَرَّ بِهِمْ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ- وَكَانَ مِنْ خُطَبَاءِ أَهْلِ الشَّامِ- فَلَمَّا رَآهُ جَرِيرٌ دَاخِلا عَلَى عمر أنشأ يقول:
يا أيها الرَّجُلُ الْمُرْخِي عِمَامَتَهُ ... هَذَا زَمَانُكَ فَاسْتَأْذِنْ لَنَا عُمَرَا
قَالَ: فَدَخَلَ وَلَمْ يَذكر مِنْ أَمْرِهِمْ شَيْئًا، ثُمَّ مَرَّ بِهِمْ عَدِيُّ بْنُ أَرْطَأَةَ، فقال له جرير [4] :
يا أيّها الرَّجُلُ الْمُرْخِي مَطِيَّتَهُ ... هَذَا زَمَانُكَ إِنِّي قَدْ مَضَى زَمَنِي [5]
أَبْلِغْ خَلِيفَتَنَا إِنْ كُنْتَ لاقِيَهُ ... أَنِّي لَدَى الْبَابِ كَالْمَصْفُودِ فِي قَرَنِ
لا تنس حاجتنا لقّيت مَغْفِرَةً ... قَدْ طَالَ مُكْثِي عَنْ أَهْلِي وَعَنْ وَطَنِي
قَالَ: فَدَخَلَ عَدِيٌّ عَلَى عُمَرَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، الشُّعَرَاءُ بِبَابِكَ وَسِهَامُهُمْ مَسْمُومَةٌ وأقوالهم نافذة، قال: ويحك يا عدي، ما لي وَلِلشُّعَرَاءِ، قَالَ: أَعَزَّ اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد امتدح وأعطى، ولك فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسْوَةٌ، قَالَ:
كَيْفَ؟ قَالَ: امْتَدَحَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ فَأَعْطَاهُ حُلَّةً قَطَعَ بِهَا لِسَانَهُ، قال:
__________
[1] في ت: «بإسناده» .
[2] الخبر في البداية والنهاية 9/ 295.
[3] في ت: «وفد الشعراء عليه» .
[4] ديوانه 588.
[5] في الأصل: «المزجي مطيته» وفي ت: «المزحي» وفي الديوان: «المرخي عمامته» .(7/35)
أَوَ تَرْوِي مِنْ قَوْلِهِ شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَنْشَدَهُ يَقُولُ:
رَأَيْتُكَ يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ كُلَّهَا ... نَشَرْتَ كِتَابًا جَاءَ بِالْحَقِّ مُعَلِّمًا
[شَرَعْتَ لَنَا دِينَ الْهُدَى بَعْدَ جَوْرِنَا ... عَنِ الْحَقِّ لَمَّا أَصْبَحَ الْحَقُّ مُظْلِمًا] [1]
وَنَوَّرْتَ بِالتِّبْيَانِ أَمرًا مُدَلَّسًا ... وَأَطْفَأْتَ بِالْقُرْآنِ نَارًا تَضَرَّمَا
فَمَنْ مُبَلِّغٌ عَنِّي النَّبِيَّ مُحَمَّدًا ... وَكُلُّ امْرِئٍ يُجْزَى بِمَا كَانَ قَدَّمَا
أَقَمْتَ سَبِيلَ الْحَقِّ بَعْدَ اعْوِجَاجِهِ ... وَكَانَ قَدِيمًا رُكْنهُ قَدْ تَهَدَّمَا
تَعَالَى عَلَوْا فَوْقَ عَرْشِ إِلَهَنَا ... وَكَانَ مَكَانُ اللَّهِ أَعْلا وَأَعْظَمَا
قَالَ: وَيْحَكَ يَا عَدِيُّ، مَنْ بِالْبَابِ مِنْهُمْ؟ قَالَ: عُمَرُ بْن عَبْد اللَّه بْن [أَبِي] [2] رَبِيعَةَ، قَالَ: أَوَلَيْسَ هُوَ الَّذِي يَقُولُ:
ثَمَّ نَبَّهْنَهَا فَهَبَّتْ كَعَابًا ... طَفِلَةً مَا تُبَيِّنُ رَجْعَ الْكَلامِ
سَاعَةً ثُمَّ إِنَّهَا بَعْدُ قَالَتْ ... وَيْلَتَا قَدْ عَجِلْتَ يَا ابْنَ الْكِرَامِ
أَعَلَى غَيْرِ مَوْعِدٍ جِئْتَ تَسْرِي ... تَتَخَطَّى إِلَى رُءُوسَ النِّيَامِ
فَلَوْ كَانَ عَدُوُّ اللَّهِ إِذْ فَجَرَ كَتَمَ عَلَى نَفْسِهِ، لا يَدْخُلُ عَلَيَّ واللَّهِ أَبَدًا، [مَنْ] [3] بِالْبَابِ سِوَاهُ؟ قَالَ: هَمَّامُ بْنُ غَالِبٍ يَعْنِي الْفَرَزْدَقَ- قَالَ: أَلَيْسَ هُوَ الَّذِي يَقُولُ:
هُمَا دَلَّيَانِي مِنْ ثَمَانِينَ قَامَةً ... كَمَا انْقَضَّ باز أقتم الريش كاسره
فلما استوت رجلاي بِالأَرْضِ قَالَتَا ... أَحَيٌّ يُرْجَى أَمْ مَثِيلٌ نُحَاذِرُهُ
لا يَطَأُ وَاللَّهِ بُسَاطِي، فَمَنْ سِوَاهُ بِالْبَابِ مِنْهُمْ؟ قَالَ: الأَخْطَلُ، قَالَ: يَا عَدِيُّ، هُوَ الَّذِي يَقُولُ:
وَلَسْتُ بِصَائِمٍ رَمَضَانَ طَوْعًا ... وَلَسْتُ بآكل لحم الأضاحي
ولست بزاجر عيسا بكور ... إِلَى بَطْحَاءِ مَكَّةَ لِلنَّجَاحِ
وَلَسْتُ بِزَائِرٍ بَيْتًا بَعِيدًا ... بِمَكَّةَ أَبْتَغِي فِيهِ صَلاحِي
وَلَسْتُ بِقَائِمٍ كَالْعِيرِ أَدْعُو ... قَبِيلَ الصُّبْحِ حَيَّ عَلَى الْفَلاحِ
__________
[1] البيت ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/36)
وَلَكِنِّي سَأَشْرَبُهَا شُمُولا ... وَأَسْجُدُ عِنْدَ مُنْبَلَجِ الصَّبَاحِ
وَاللَّهِ لا يَدْخُلُ عَلَيَّ وَهُوَ كَافِرٌ أَبَدًا، فَهَلْ بِالْبَابِ سِوَى مَنْ ذَكَرْتَ؟ قَالَ: نَعَمِ الأَحْوَصُ، قَالَ: أَلَيْسَ هُوَ الَّذِي يَقُولُ:
اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَ سَيِّدِهَا ... يَفِرُّ مِنِّي بِهَا وَأَتْبَعُهُ
فمن هاهنا أَيْضًا؟ قَالَ: جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ، قَالَ: يَا عَدِيُّ، هُوَ الَّذِي يَقُولُ:
أَلا لَيْتَنَا نَحْيَا جَمِيعًا وَإِنْ أَمُتْ ... يُوَافِقُ فِي الْمَوْتَى ضَرِيحِي ضَرِيحَهَا
فَمَا أَنَا فِي طُولِ الْحَيَاةِ بِرَاغِبٍ ... إِذَا قِيلَ قَدْ سُوِّيَ عَلَيْهَا صَفِيحُهَا
فَلَوْ كَانَ عَدُوُّ اللَّهِ تَمَنَّى لِقَاءَهَا فِي الدُّنْيَا لِيَعْمَلَ بَعْدَ ذَلِكَ صَالحًا، وَاللَّهِ لا يَدْخُلُ عَلَيَّ أَبَدًا، فَهَلْ سِوَى مَنْ ذَكَرْتَ أَحَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ جَرِيرُ بْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ: أَمَا أَنَّهُ الَّذِي يَقُولُ:
طَرَقَتْكَ صَائِدَةُ الْقُلُوبِ فَلَيْسَ ذَا ... حِينَ الزِّيَارَةِ فَارْجَعِي بِسَلامٍ
فَإِنْ كَانَ لا بُدَّ فَهُوَ، قَالَ: فَأَذِنَ لِجَرِيرٍ، فَدَخَلَ وَهُوَ يَقُولُ:
إِنَّ الَّذِي بَعَثَ النَّبِيَّ مُحَمَّدًا ... جَعَلَ الْخِلافَةَ لِلإِمَامِ الْعَادِلِ
وَسِعَ الْخَلائِقَ عَدْلُهُ وَوَفَاؤُهُ ... حَتَّى ارْعَوَى فَأَقَامَ مَيْلَ الْمَائِلِ
إِنِّي لأَرْجُو مِنْكَ خَيْرًا عَاجِلا ... وَالنَّفْسُ مُولَعَةٌ بِحُبِّ الْعَاجِلِ
فَلَمَّا مَثُلَ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ: وَيْحَكَ يَا جَرِيرُ، اتَّقِ اللَّهَ وَلا تَقُلْ إِلا حَقًّا، فَأَنْشَأَ جَرِيرٌ يَقُولُ [1] :
أَأَذكر الْجَهْدَ وَالْبَلْوَى الَّتِي نَزَلَتْ ... أَمْ قَدْ كَفَانِي بِمَا بَلَغْتُ مِنْ خَبَرِي
كَمْ بِالْيَمَامَةِ مِنْ شَعْثَاءَ أَرْمَلَةٍ ... وَمِنْ يَتِيمٍ ضَعِيفِ الصَّوْتِ وَالنَّظَرِ
مِمَّنْ يَعدكَ تَكْفِي فَقْدَ وَالِدِهِ ... كَالْفَرْخِ فِي الْعُشِّ لَمْ ينهض ولم يطر [2]
يدعوك دَعْوَةَ مَلْهُوفٍ كَأَنَّ بِهِ ... خَبَلا مِنَ الْجِنِّ أو مسا من البشر [3]
__________
[1] ديوانه 374.
[2] في ديوانه: «لم يدرج ولم يطر» .
[3] في ديوانه: «أو خيلا من النشر» .(7/37)
خَلِيفَةَ اللَّهِ مَاذَا تَأْمُرُونَ بِنَا ... لَسْنَا إِلَيْكُمْ وَلا فِي دَارِ مُنْتَظَرِ
مَا زِلْتُ بَعْدَكَ فِي هَمٍّ يُؤَرِّقُنِي ... قَدْ طَالَ فِي الْحَيِّ [1] إِصْعَادِي وَمُنْحَدَرِي
لا يَنْفَعُ الْحَاضِرُ الْمَجْهُودَ بَادِينَا [2] ... وَلا يَعُودُ لَنَا بَادٍ عَلَى حَضَرِ
إِنَّا لَنَرْجُو إِذَا مَا الْغَيْثُ أَخْلَفَنَا ... مِنَ الْخَلِيفَةِ مَا نَرْجُو مِنَ الْمَطَرِ
نَالَ الْخِلافَةَ إِذْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا ... كَمَا أَتَى رَبُّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ
هَذِي الأَرَامِلُ قَدْ قَضَيْتَ حَاجَتَهَا ... فَمَنْ لِحَاجَةِ هَذَا الأَرْمَلِ الذكر
الْخَيْرُ مَا دُمْتَ حَيًّا لا يُفَارِقُنَا ... بُورِكْتَ يَا عُمَرُ الْخَيْرَانِ مِنْ عُمَرِ
فَقَالَ: يَا جَرِيرُ، مَا أَرَى [لَكَ] [3] فِيمَا هَا هُنَا حَقًّا، قَالَ: بَلَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَا ابْنُ سَبِيلٍ وَمُنْقَطِعٌ. فَأَعْطَاهُ مِنْ صُلْبِ مَالِهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ.
قَالَ: وَقَدْ ذكر أَنَّهُ قَالَ لَهُ: وَيْحَكَ يَا جَرِيرُ لَقَدْ وُلِّينَا هَذَا الأَمْرَ وَمَا نملك إلا ثلاثمائة دِرْهَمٍ، فَمِائَةٌ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ، وَمِائَةٌ أَخَذَتْهَا أُمُّ عُبَيْدِ اللَّهِ، يَا غُلامُ أَعْطِهِ الْمِائَةَ الْبَاقِيَةَ.
قَالَ: فَأَخَذَهَا وَقَالَ: وَاللَّهِ لَهِيَ أَحَبُّ مِنْ كُلِّ مَا اكْتَسَبْتُهُ.
قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ لَهُ الشُّعَرَاءُ: مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: مَا يَسُرُّكُمْ، خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ يُعْطِي الْفُقَرَاءَ وَيُعْطِي الشُّعَرَاءَ، وَإِنِّي عَنْهُ لَرَاضٍ [4] ، وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
رَأَيْتُ رُقَى الشَّيْطَانِ لا يَسْتَفِزُّهُ ... وَقَدْ كَانَ شَيْطَانِي مِنَ الْجِنِّ رَاقِيًا
وَحَكَى ابْنُ قُتَيْبَةَ عَنْ حَمَّادٍ الرَّاوِيَةِ [5] ، قَالَ: قَالَ لِي كثيرٌ: أَلا أُخْبِرُكَ بِمَا دَعَانِي إِلَى تَرْكِ الشِّعْرِ؟ قُلْتُ: خَبِّرْنِي، قَالَ: شَخَصْتُ أَنَا وَالأَحْوَصُ وَنُصَيْبٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِسَابِقَةٍ لَهُ أَوْ خَلَّةٍ وَنَحْنُ لا نَشُكُّ فِي أَنَّهُ سَيُشْرِكُنَا فِي خِلافَتِهِ، فَلَمَّا رُفِعَتْ لَنَا أَعْلامُ خَنَاصِرِهِ لَقِينَا مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ جَائِيًا مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ فَتَى الْعَرَبِ، فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ، فَرَدَّ السَّلامَ، ثُمَّ قَالَ: أَمَا بَلَغَكُمْ أن إمامكم لا يقبل
__________
[1] في ديوانه: «بعدك في دار تعرفني قد عيّ بالحي» .
[2] في ديوانه: «بادية» .
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] في ت: «وأنا عنه راضي» .
[5] في ت: «حماد الرواية» ، والخبر في الأغاني 9/ 295.(7/38)
الشِّعْرَ، قُلْتُ: مَا وَضَحَ لَنَا حَتَّى لَقِينَاكَ. وَوَجَمْنَا وَجْمَةً [1] عَرَفَ ذَلِكَ فِينَا [2] ، قَالَ: إِنْ يَكُنْ مَا تُحِبُّونَ وَإِلا فَمَا أَلْبَثُ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْكُمْ فَأَمْنَحَكُمْ مَا أَنْتُمْ أَهْلُهُ، فَلَمَّا قَدِمَ كَانَتْ رِحَالُنَا هَذِهِ بِأَكْرَمِ مَنْزَلٍ وَأَفْضَلِ مَنْزُولٍ عَلَيْهِ، وَأَقَمْنَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يَطْلُبُ لَنَا الإِذْنَ هُوَ وَغَيْرُهُ، فَلَمْ يَأْذَنْ لَنَا إِلَى أَنْ قُلْتُ فِي جُمْعَةٍ مِنْ تِلْكَ الْجُمَعِ: لَوْ أَنِّي دَنَوْتُ مِنْ عُمَرَ فَسَمِعْتُ كَلامَهُ فتحفظته كان ذلك رَأْيًا، فَكَانَ مِمَّا تَحَفَّظْتُهُ مِنْ كِلامِهِ يَوْمَئِذٍ: لِكُلِّ سَفَرٍ لا مَحَالَةَ زَادٌ، فَتَزَوَّدُوا مِنَ الدُّنْيَا إِلَى الآخِرَةِ التَّقْوَى، وَكُونُوا كَمَنْ عَايَنَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ مِنْ ثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ، فترغبوا وترهبوا، ولا يطولن عليكم الأمر فتقسو قُلُوبُكُمْ وَتَنْقَادُوا لِعَدُوِّكُمْ، فِي كَلامٍ كَثِيرٍ.
ثُمَّ قَالَ: أَعُوذُ باللَّه، أَنْ آمُرَكُمْ بِمَا أَنْهَى عَنْهُ نَفْسِي فَتَخْسَرَ صَفْقَتِي وَتَظْهَرَ عَيْبَتِي، وَتَبْدُوَ مَسْكَنَتِي فِي يَوْمٍ لا يَنْفَعُ فِيهِ إِلا الْحَقُّ وَالصِّدْقُ. ثُمَّ بَكَى حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَاضٍ نَحْبَهُ، وَارْتَجَّ الْمَسْجِدُ بِالْبُكَاءِ وَالْعَوِيلِ، فَرَجَعْتُ إِلَى أَصْحَابِي فَقُلْتُ: خُذُوا فِي شَرْحٍ مِنَ الشعر غير ما [كنا] [3] نقول لِعَمِّهِ وَآبَائِهِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ أُخْرَوِيٌّ وَلَيْسَ بِدُنْيَوِيٍّ إِلَى أَنِ اسْتَأْذَنَ لَنَا مَسْلَمَةُ يَوْمَ جُمُعَةٍ، فأذن لنا بعد ما أَذِنَ لِلْعَامَّةِ، فَلَمَّا دَخَلْتُ سَلَّمْتُ، ثُمَّ قُلْتُ: يا أمير المؤمنين، طال الثواء وقلت الْفَائِدَةُ، وَتَحَدَّثَتْ بِجَفَائِكَ إِيَّانَا وُفُودُ الْعَرَبِ، فَقَالَ: يَا كثيرُ، (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفي سَبِيلِ الله وَابْنِ السَّبِيلِ) 9: 60 [4] أَفِي وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلاءِ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ:
ابْنُ سَبِيلٍ [5] مُنْقَطِعٌ [بِهِ] [6] وَأَنَا صَاحِبُكَ، قَالَ: أَوَلَسْتَ ضَيْفَ أَبِي سَعِيدٍ؟ قُلْتُ: بَلَى، [قَالَ:] [7] مَا أَرَى مَنْ كَانَ ضَيْفُهُ مُنْقَطِعًا بِهِ، قُلْتُ: أَفَتَأْذَنُ لِي فِي الإِنْشَادِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: [قُلْ] وَلا تَقُلْ إِلا حَقًّا، فَقُلْتُ:
__________
[1] في ت: «ورحمنا رحمة» .
[2] في الأصل: «منا» . وما أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] سورة: التوبة، الآية: 60.
[5] في ت: «ابن السبيل» .
[6] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[7] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/39)
وُلِّيتَ فَلَمْ تَشْتُمْ عَلِيًّا وَلَمْ تُخِفْ ... بَرِيا وَلَمْ تَقْبَلْ إِشَارَةَ مُجْرِمٍ [1]
وَصَدَّقْتَ بِالْفِعْلِ الْمَقَالِ مَعَ الَّذِي ... أَتَيْتَ فَأَمْسَى رَاضِيًا كُلُّ مُسْلِمٍ [2]
وَقَدْ لَبِسْت لُبْسَ الْهَلُوكِ [3] ثِيَابَهَا ... تَرَاءَى لَكَ الدُّنْيَا بِوَجْهٍ وَمِعْصَمٍ [4]
وَتُومِضُ أَحْيَانًا بِعَيْنٍ مَرِيضَةٍ ... وَتَبْسِمُ عَنْ مِثْلِ الْجُمَانِ الْمُنَظَّمِ [5]
فَأَعْرَضْتَ عَنْهَا مُشْمَئِزًّا كَأَنَّمَا ... سَقَتْكَ مَذُوقًا مِنْ سِمَامٍ وَعَلْقَمِ
وَقَدْ كُنْتُ مِنْ أَجْبَالِهَا فِي مُمَنَّعٍ ... وَمِنْ بَحْرِهَا فِي مُزبدِ الْمَوْجِ مُفْعَمِ [6]
فَلَمَّا أَتَاكَ الْمُلْكُ عَفْوًا [7] وَلَمْ يَكُنْ ... لِطَالِبِ دُنْيَا بَعْدَهُ [8] مِنْ تَكَلُّمِ
تَرَكْتَ الَّذِي يَفْنَى وَإِنْ كَانَ مُونقًا ... وَآثَرْتَ مَا يَبْقَى بِرَأْيٍ مُصَمِّمِ [9]
سَمَا لَكَ هَمٌّ فِي الْفُؤَادِ مُؤَرِّقٌ ... بَلَغْتَ بِهِ أَعْلَى الْبِنَاءِ الْمُقَدَّمِ [10]
فَمَا بَيْنَ شَرْقِ الأَرْضِ وَالْغَرْبِ كُلِّهَا ... مُنَادٍ يُنَادِي مِنْ فَصِيحٍ وَأَعْجَمٍ
يَقُولُ: أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ظَلَمْتَنِي ... بِأَخْذٍ لِدِينَارٍ وَلا أَخْذِ دِرْهَمِ
وَلا بَسْطِ كَفٍّ بِامْرِئٍ غَيْرِ مُجْرِمٍ ... وَلا السَّفْكِ مِنْهُ ظَالِمًا مِلْءَ مِحْجَمِ [11]
__________
[1] في الأغاني: «ولم تتبع مقالة مجرم» .
[2] في الأغاني:
وقلت فصدقت الّذي قلت بالذي ... فعلت فأضحى راضيا كل مسلم
[3] في الأصلين: «الملوك» وما أوردناه من الأغاني.
والهلوك من النساء: الفاجرة المتساقطة على الرجال.
[4] في الأغاني: «وأبدت لك الدنيا بكف ومعصم» .
[5] في الأصل: «الجمان المعظم» . وما أوردناه من ت والأغاني.
[6] البيت الّذي بعده في الأغاني.
وما زلت سباقا إلى كل غاية ... صعدت بها أعلى البناء المقدم
[7] في الأصل: «عصوا» . وفي ت: «عضا» . وما أوردناه من الأغاني.
[8] في الأصلين: «بعدها» . وما أوردناه من الأغاني.
[9] البيت الّذي بعده في الأغاني.
فأضررت بالفاني وشمرت للذي ... أمامك في يوم من الهول مظلم
وما لك أن الخليفة مانع ... سوى الله من مال رغيب ولا دم
[10] الشطر الثاني في الأغاني: «صعدت به أعلى المعالي «بسلّم» .
[11] في الأصل: «ولا السفك منه طالما بك محجم» . والتصحيح من الأغاني.(7/40)
فَأَرْبِحْ بِهَا مِنْ صَفْقَةٍ لِمُتَابِعٍ ... وَأَعْظِمْ بِهَا أَعْظِمْ بِهَا ثُمَّ أَعْظِمِ
فَقَالَ لِي: يَا كُثَيْرُ، إِنَّكَ تُسْأَلُ عَمَّا قُلْتَ. ثُمَّ تَقَدَّمَ الأَحْوَصُ فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الإِنْشَادِ، فَقَالَ: قُلْ وَلا تَقُلْ إِلا حَقًّا، فَقَالَ:
وَمَا الشِّعْرُ إِلا خُطْبَةٌ مِنْ مُؤَلِّفِ ... بِمَنْطِقِ حَقٍّ أَوْ بِمَنْطِقِ بَاطِلِ
فَلا تَقْبَلَنَّ إِلا الَّذِي وَافَقَ الرِّضَا ... وَلا تَرْجِعَنَّا كَالنِّسَاءِ الأَرَامِلِ
رَأَيْنَاكَ لَمْ تَعْدِلْ عَنِ الْحَقِّ يَمْنَةً ... وَلا شَامَةً [1] فِعْلَ الظَّلُومِ الْمُجَادِلِ
وَلَكِنْ أَخَذْتَ الْقَصْدَ جَهْدكَ كُلَّهُ ... تَقْفُو مِثَالَ الصَّالِحِينَ الأَوَائِلِ [2]
فَقُلْنَا وَلَمْ نَكْذِبْ بِمَا قَدْ بَدَا لَنَا ... وَمَنْ ذَا يُرِدِ الْحَقَّ مِنْ قَوْلِ قَائِلِ [3]
وَمَنْ ذَا يَرُدُّ السَّهْمَ بَعْدَ مِضَائِهِ [4] ... عَلَى فوقِهِ إِنْ عَارَ [5] مِنْ نَزْعِ نَابِلِ
وَلَوْلا الَّذِي قَدْ عَوَّدَتْنَا خَلائِفٌ ... غَطَارِيفُ كَانَتْ [6] كَاللُّيُوثِ الْبَوَاسِلِ
لَمَّا وَخَدَتْ شَهْرًا برجلي رسلهُ [7] ... تَغلُّ مُتُونَ الْبيدِ [8] بَيْنَ الرَّوَاحِلِ
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلشِّعْرِ عِنْدَكَ مَوْضِعٌ ... وَإِنْ كَانَ مِثْلَ الدُّرِّ مِنْ قَوْلِ قَائِلِ [9]
فَإِنَّ لَنَا قُرْبَى وَمَحْضَ مَوَدَّةٍ ... وَمِيرَاثَ آبَاءٍ مَشَوْا بِالْمَنَاصِلِ
فَذَادُوا عَمُودَ الشِّرْكِ [10] عَنْ عُقْرِ دَارِهِمْ ... وَأَرْسَوْا عمود الدين بعد التمايل
وَقَبْلَكَ مَا أَعْطَى هُنَيْدَةَ جِلَّةً ... عَلَى الشِّعْرِ كَعْبًا مِنْ سَدِيسٍ وَبَازِلِ
رَسُولُ الإِلَهِ الْمُسْتَضَاءُ بنوره [11] ... عليه سلام بالضحى والأصائل
__________
[1] في الأغاني: «ولا يسرة» .
[2] في الأصل: «تقدمناك الصالحين الأوائل» . وما أوردناه من ت والأغاني.
[3] في الأغاني: «قول عاذل» .
[4] في الأغاني: «بعد مروقه» .
[5] في الأصل: «إذ عار» . وما أوردناه من ت والأغاني.
[6] في الأصلين: «غطارف كانوا» . وما أوردناه من الأغاني.
[7] في الأصل: «ترجل رسله» . وما أوردناه من ت، وفي الأغاني: «برجلي جسرة» .
[8] في الأصلين: «بقد متان البيد بين» . وما أوردناه من الأغاني.
[9] في الأصلين: «من قيل قائل» . وما أوردناه من الأغاني.
[10] في الأغاني: «فذادوا عدو السلم» .
[11] في الأغاني: «رسول الإله المصطفى بنبوة» .(7/41)
فَكُلُّ الَّذِي عَدَّدْتُ يَكْفِيكَ بَعْضُهُ ... وَنَيلُكَ [1] خَيْرٌ مِنْ بُحُورٍ سَوَائِلِ
فَقَالَ: يَا أَحْوَصُ، إِنَّكَ تُسْأَلُ عَمَّا قُلْتَ. وَتَقَدَّمَ نُصَيْبٌ فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الإِنْشَادِ فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ وَأَمَرَهُ بِالْغَزْوِ إِلَى دابق، فخرج وهو محموم. وأمر لي بثلاثمائة دِرْهَمٍ، وَلِلأَحْوَصِ بِمِثْلِهَا، وَلِنُصَيْبٍ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا [2] .
قال المصنف: وما زال عمر بن عبد العزيز منذ ولي يجتهد في العدل ومحو الظلم وترك الهوى، وكان يقول للناس: ارحلوا إلى بلادكم [3] فإني أنساكم ها هنا وأذكركم في بلادكم. ومن ظلمه عامله فلا إذن له علي.
وخير جواريه لما ولي، فقال: قد جاء أمر شغلني عنكن فمن أحب أن أعتقه أعتقته، ومن أراد أن أمسكه أمسكته ولم يكن مني إليها شيء، قالت زوجته فاطمة: ما أعلم أنه اغتسل لا من جنابة ولا من احتلام منذ ولي إلى أن مات.
وقيل لها: اغسلي قميصه، فقالت: والله ما يملك غيره.
أَخْبَرَنَا المبارك بْن عَلي الصيرفي، قَالَ: أَخْبَرَنَا علي بن محمد العلاف، قال:
أخبرنا عبد الملك بن بشران، قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم الكندي، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن جعفر، قال: أخبرنا أبو الفضل الربعي، قال: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، عن الهيثم بن عدي، قال:
كانت لفاطمة بنت عبد الملك بن مروان- زوجة عمر- جارية ذات جمال فائق، وكان عمر معجبا بها قبل أن تفضي إليه الخلافة، فطلبها منها وحرص، فغارت من ذلك، فلم تزل في نفس عمر، فلما استخلف أمرت فاطمة بالجارية فأصلحت ثم حليت، فكانت حديثا في حسنها وجمالها، ثم دخلت فاطمة بالجارية على عمر، فقالت: يا أمير المؤمنين، إنك كنت بفلانة معجبا، وسألتنيها فأبيت ذلك عليك، وإن نفسي قد طابت لك بها اليوم، فدونكها، فلما قالت ذلك استبانت الفرح في وجهه، ثم قال: ابعثي بها إلي، ففعلت، فلما دخلت عليه نظر إلى شيء أعجبه فازداد بها عجبا، فقال لها: ألقي
__________
[1] في الأصل: «وفلك» . وما أوردناه من الأغاني.
[2] في ت: وأمر لي بثلاثمائة درهم ثم أمر للأحوص بمثل ما أمر لكثير من الدراهم ولنصيب بخمسين درهما.
وفي الأغاني: «وأمر لي وللأحوص لكل واحد بمائة وخمسين درهما» .
[3] في ت: «الحقوا ببلادكم» .(7/42)
ثوبك، فلما همت أن تفعل قال: على رسلك، اقعدي، أخبريني لمن كنت؟ ومن أين أنت لفاطمة؟ قالت: كان الحجاج بن يوسف أغرم عاملا كان له من أهل الكوفة مالا، وكنت في رقيق ذلك العامل فاستصفاني عنه مع رقيق له وأموال، فبعث بي إلى عبد الملك بن مروان وأنا يومئذ صبية، فوهبني عبد الملك لابنته فاطمة. قال: وما فعل ذلك العامل؟ قالت: هلك، قال: وما ترك ولدا؟ قالت: بلى، قال: وما حالهم؟ قالت:
بشر، قال: شدي عليك ثوبك.
ثم كتب إلى عبد الحميد عامله على بلدهم: أن سرح إلي فلان بن فلان على البريد، فلما قدم قال: ارفع إلي جميع ما أغرم الحجاج أباك فلم يرفع إليه شيئا إلا دفعه إليه، ثم أمر بالجارية فدفعت إليه، فلما أخذ بيدها قال: إياك وإياها فإنك حديث السن ولعل أباك أن يكون قد وطئها، فقال الغلام: يا أمير المؤمنين هي لك، قال: لا حاجة لي فيها، قال: فابتعها مني، قال: لست إذا ممن ينهى النفس عن الهوى. فمضى بها الفتى فقالت له الجارية: فأين موجدتك بي [1] يا أمير المؤمنين؟ قال: إنها لعلى حالها ولقد ازدادت، فلم تزل الجارية في نفس عمر حتى مات.
أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْجُرَيْرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيم بْن عُمَرَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلَفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُطَرِّفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُغَلِّسِ الْجُمَّانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ:
قَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَقَدْ وُلِّيَ الْخَلافَةَ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيَّ عَرَفَنِي وَلَمْ أعرفه، فقال: ادن مني، فَدَنَوْتُ مِنْهُ، فَقُلْتُ: أَنْتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقُلْتُ:
أَلَمْ تَكُنْ عِنْدَنَا بِالْمَدِينَةِ أَمِيرًا، فَكَانَ مَرْكَبُكَ وَطِيًّا، وَثَوْبُكَ نَقِيًّا وَوَجْهُكَ بَهِيًّا، وطعامك شهيا، وخدمك كثير، فَمَا الَّذِي غَيَّرَكَ وَأَنْتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَبَكَى وَقَالَ: يَا أَبَا حَازِمٍ، كَيْفَ لَوْ رَأَيْتَنِي بَعْدَ ثَلاثٍ فِي قَبْرِي وَقَدْ سَالَتْ حَدَقَتَايَ على وجنتي، ثم جف لساني، وانشقت بَطْنِي وَجَرَتِ الدِّيدَانُ فِي بَدَنِي لَكُنْتَ لِي أَشَدَّ إِنْكَارًا، أَعِدْ عَلَيَّ الْحَدِيثَ الَّذِي حَدَّثْتَنِي بِالْمَدِينَةِ، قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إن بين أيديكم عقبة كؤودا مُضَرَّسَةً لا يَجُوزُهَا إِلا كُلُّ ضَامِرٍ مَهْزُولٍ» .
__________
[1] في الأصل: «موجدتك في» . وما أوردناه من ت.(7/43)
قال: فبكي بكاء طويلا ثم قال لي: يا أبا حازم، أما ينبغي لي أن أضمر نفسي لتلك العقبة فعسى أن أنجو منها يومئذ [1] ، وما أظن أني مع هذا البلاء الذي ابتليت به من أمور الناس بناج. ثم رقد ثم تكلم الناس، فقلت: أقلوا الكلام [2] فما فعل به ما ترون إلا سهر الليل، ثم تصبب عرقا في يوم الله أعلم كيف كان، ثم بكى حتى علا نحيبه، ثم تبسم، فسبقت الناس إلى كلامه، فقلت: يا أمير المؤمنين، رأيت منك عجبا، إنك لما رقدت تصببت عرقا حتى ابتل ما حولك، ثم بكيت حتى علا نحيبك ثم تبسمت، فقال لي:
وقد رأيت [3] ذلك؟ قلت: نعم ومن كان حولك من الناس رآه، فقال لي: يا أبا حازم، إني لما وضعت رأسي فرقدت، رأيت كأن القيامة قد قامت واجتمع الناس، فقيل: انهم عشرون ومائة صف فملئوا الأفق، أمة محمد من ذلك ثمانون صفا [4] مهطعين إلى الداعي [5] ينتظرون متى يدعون إلى الحساب، إذ نودي: أين عبد الله بن عثمان أبو بكر الصديق؟ فأجاب فأخذته الملائكة فأوقفوه أمام ربه عز وجل، فحوسب ثم نجا [وأخذ به ذات اليمين، ثم نودي بعمر فقربته الملائكة، فوقفوه أمام ربه، فحوسب ثم نجا] [6] وأمر به وبصاحبه إلى الجنة. ثم نودي بعثمان، فأجاب، فحوسب يسيرا، ثم أمر به إلى الجنة، ثم نودي بعلي بن أبي طالب، فحوسب ثم أمر به إلى الجنة [7] . فلما قرب الأمر مني أسقط في يدي، ثم جعل يؤتى بقوم لا أدري ما حالهم، ثم نودي: أين عمر بن عبد العزيز؟ فتصببت عرقا، ثم سئلت عن الفتيل والنقير والقطمير وعن كل قضية قضيت بها [8] ، ثم غفر لي، فمررت بجيفة ملقاة، فقلت للملائكة: من هذا؟ فقالوا: إنك لو كلمته كلمك، فوكزته برجلي فرفع رأسه إلي وفتح عينيه، فقلت له: من أنت؟ فقال لي: من أنت؟ فقلت: أنا عمر بن عبد العزيز، قال: ما فعل الله بك؟ قلت: تفضل علي وفعل بي ما فعل بالخلفاء الأربعة الذين غفر لهم، وأما الباقون فما أدري ما فعل بهم،
__________
[1] في ت: «أنجو منها يوم القيامة» .
[2] في ت: «اطووا الكلام» .
[3] في ت: «ورأيت» .
[4] «صفا» : سقطت من ت.
[5] «إلى الداعي» . سقط من ت.
[6] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[7] «ثم نودي بعلي ... ثم أمر به إلى الجنة» : ساقطة من ت.
[8] في الأصل: «قضيتها بها» . وما أوردناه من ت.(7/44)
فقال لي: هنيئا لك ما صرت إليه. قلت له: من أنت؟ قال: أنا الحجاج، قدمت على الله عز وجل فوجدته شديد العقاب فقتلني بكل قتلة قتلة، وها أنا موقوف بين يدي الله عز وجل أنتظر ما ينتظر الموحدون من ربهم، إما إلى الجنة وإما إلى النار.
قال أبو حازم: فعاهدت الله عز وجل بعد رؤيا عمر بن عبد العزيز ألا أقطع [1] على أحد بالنار ممن يموت وهو يقول لا إله إلا الله.
وفي هذه السنة وجه عمر إلى مسلمة بن عبد الملك وهو بأرض الروم فأمره بالقفول منها بمن معه من المسلمين [2]
أنبأنا زاهر بن طاهر، قَالَ: أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن عَبْد اللَّه الحاكم، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يعقوب، قال: حدثنا محمد بن النعمان بن بشير النيسابوري، قال: حدثنا نعيم بن حماد، قال: حدثني نوح بن أبي مريم، عن حجاج بن أرطأة، قال:
كتب ملك الهند إلى عمر بن عبد العزيز: من ملك الهند الذي في مربطه [3] ألف فيل، والذي تحته ألف ملك، والذي له نهران ينبتان العود والكافور، إلى ملك العرب الذي لا يشرك باللَّه شيئا، أما بعد.. فإني قد [4] أهديت لك هدية وما هي بهدية ولكنها تحية [5] ، وأحببت أن تبعث إلي رجلا يعلمني ويفهمني الإسلام.
وفي هذه السنة أغارت الترك على أذربيجان فقتلوا جماعة من المسلمين، فوجه عمر من قتلهم فلم يفلت منهم إلا اليسير، وقدم عليه منهم بخمسين أسيرا.
وفيها عزل عمر يزيد بن المهلب عن العراق وحبسه، ووجه على البصرة وأرضها عدي
__________
[1] في الأصل: «أني لا أقطع» . وما أوردناه من ت.
[2] تاريخ الطبري 6/ 553.
[3] في الأصل: «الّذي على مربطه» . وما أوردناه من ت.
[4] في الأصل: «فقد أهديت» . وما أوردناه من ت.
[5] في الأصل: «ولكنها تحفة» . وما أوردناه من ت.(7/45)
ابن أرطأة الفزاري، ووجه على الكوفة [1] وأرضها عبد الحميد بن عبد الرحمن القرشي، وضم إليه أبا الزناد، فكان أبو الزناد كاتب عبد الحميد.
وفيها: حج بالناس أبو بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وكان عامل عمر على المدينة. وكان عامله على مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، [وعلى الكوفة وأرضها عبد الحميد بن عبد الرحمن، وعلى البصرة وأرضها عدي بن أرطأة] [2] وعلى خراسان الجراح بن عبد الله، وعلى قضاء البصرة إياس بن معاوية بن قرة المزني.
[وكان] [3] الواقدي يقول: كان على قضاء الكوفة من قبل عبد الحميد الشعبي، وعلى قضاء البصرة من قبل عدي بن أرطأة الحسن البصري، ثم إن الحسن استعفى عديا فأعفاه وولى إياسا.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
543- إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله التيمي [4] :
كان شريفا كريما، ويسمى أسد قريش وأسد الحجاز، وكان أعرج، وهو أخو عَبْد اللَّه بْن حسن [بْن حسن] [5] بْن علي لأمه فاطمة بنت الحسين.
روى عن أبي هريرة، وابن عمر، وابن عباس. واستعمله عبد الله بن الزبير على خراج الكوفة. توفي بمنى ليلة جمع محرما، ودفن أسفل العقبة.
أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أنبأنا علي بن أحمد بْن البسري، عن أبي عبد الله بْن بطة العكبري، قال: أخبرنا أبو بكر الآجري، قال: أخبرنا أبو نصر محمد بن كردي، قال:
أخبرنا أبو بكر المروزي، قال: أخبرت أن عمر بن عبد العزيز قال:
لما ولي الحجاج بن يوسف الحرمين بعد قتل ابن الزبير أشخص إبراهيم بن
__________
[1] في الأصل: «وبعث على الكوفة» . وما أوردناه من ت والطبري.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] الجرح والتعديل 1/ 1/ 124، وتهذيب التهذيب 1/ 154، والتاريخ الكبير 1/ 1/ 316، والبرصان والعرجان للجاحظ 137، والمعارف 232.
[5] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/46)
محمد بن طلحة بن عبيد الله وقربه في المنزلة، فلم يزل كذلك عنده [1] حتى خرج إلى عبد الملك بن مروان زائرا له، فخرج معادلا له لا يترك توشيحه وتعظيمه، فلما حضر باب عبد الملك حضر معه [2] ، فدخل على عبد الملك فلم يبدأ بشيء بعد التسليم أولى من أن قال: قدمت عليك يا أمير المؤمنين برجل الحجاز، لم أدع والله له فيها [3] نظيرا في كمال المروءة والأدب وحسن المذهب والطاعة والنصيحة مع القرابة ووجوب الحق وفضل الأبوة إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله وقد أحضرته بابك أسهل عليه أذنك، وتلقاه ببشرك، وتفعل به ما تفعل بمثله ممن كانت مذاهبه مثل مذاهبه. فقال عبد الملك: ذكرتنا حقا واجبا ورحما قريبة، يا غلام إئذن لإبراهيم بن محمد بن طلحة. فلما دخل قربه حتى أجلسه على فراشه ثم قال له: يا ابن طلحة، إن أبا محمد ذكرنا ما لم نزل نعرفك به في الفضل والأدب وحسن المذهب مع قرابة الرحم ووجوب الحق، فلا تدعن حاجة في خاص من أمرك ولا عام إلا ذكرتها، قال: يا أمير المؤمنين، إن أولى الأمور أن يفتتح به الحوائج وترجى به الزلف ما كان للَّه عز وجل رضى، ولحق نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أداء، ولك ولجماعة المسلمين نصيحة، وإن عندي نصيحة لا أجد بدا من ذكرها، ولا يكون البوح بها إلا وأنت خال، فأخلني حتى ترد عليك نصيحتي، قال: دون أبا محمد؟ قال: دون أبا محمد، قال: قم يا حجاج، فلما جاز حد الستر قال: قل يا أبا طلحة نصيحتك، قال: يا أمير المؤمنين، إنك عمدت إلى الحجاج في تغطرسه [4] وتعجرفه وبعده من الحق وركونه إلى الباطل فوليته الحرمين وبهما من بهما، وفيهما من فيهما من المهاجرين والأنصار والموالي والأخيار أصحاب رسول الله صلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبناء الصحابة يسومهم الخسف، ويطؤهم بالعسف، ويحكم بينهم بغير السنة، ويطؤهم بطغام من أهل الشام، وزعازع لا روية لهم في إقامة حق ولا إزاحة باطل، ثم ظننت أن ذلك فيما بينك وبين الله راهق، وفيما بينك وبين رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا جاثاك لخصومته إياك في أمته، أما والله لا تنجو هنالك إلا بحجة تضمن لك النجاة، فاربع على نفسك أودع. فقال: كذبت ومنت وظن بك الحجاج ما لم نجده عندك،
__________
[1] في ت: «فلم تزل تلك حاله عنده» .
[2] في الأصل: «حضرته معه» . وما أوردناه من ت.
[3] في ت الأصل: «لم أدع له والله فيها» . وما أوردناه من ت.
[4] في الأصل: «في تغترسه» . وما أوردناه من ت.(7/47)
فلربما ظن الخير بغير أهله، قم فأنت الكاذب المائن، قال: فقمت وما أبصر طريقا، فلما خلفت الستر لحقني لا حق من قبله فقال للحاجب: احبس هذا، ادخل يا أبا محمد.
قال: فدخل الحجاج فلبث مليا لا أشك أنهما في أمري، ثم خرج الإذن: قم يا أبا طلحة ادخل، فقمت فلما كشف لي الستر لقيني الحجاج وهو خارج وأنا داخل، فاعتنقني وقبل ما بين عيني ثم قال: إذا ما جزى الله المتواخين [1] بفضل تواصلهم جزاك [2] الله أفضل ما جزى أخا عن أخيه، فو الله لئن سلمت لأرفعن ناطرك، ولأعلين كفك ولأتبعن الرجال غبار قدمك. قال: قلت: تهزأ بي. فلما وصلت إلى عبد الملك أدناني حتى أجلسني في مجلسي الأول ثم قال: يا ابن طلحة، لعل أحدا من الناس شاركك في نصيحتك، قلت: لا والله ولا أعلم أحدا كان أظهر عندي معروفا ولا أوضح يدا من الحجاج، ولو كنت محابيا أحدا بديني لكان هو، ولكني آثرت الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلّم والمسلمين وأنت عليه. قال: قد علمت أنك آثرت الله، ولو أردت الدنيا كان لك في الحجاج كفاية، وقد أزحت الحجاج عن الحرمين [وأعلمته أنك استنزلتني له عنهما استصغارا لهما عنه] [3] ووليته العراقين لما هناك من الأمور التي لا يدحضها إلا مثله، وأعلمته أنك استدعيتني إلى التولية عليهما استزادة له ليلزمه من نصيحتك [4] ما يؤدي به عني إليك [الحق] [5] ، وتصير معه إلى الذي تستحقه، فاخرج معه فإنك غير ذام صحبته.
544- سعيد بن أبي الحسن، أخو الحسن البصري: [6]
روى محمد بن سعد [7] ، قال: حدثنا عارم [بن الفضل] [8] ، قال: حدّثنا
__________
[1] في الأصل: «أما جزى الله المتواخين» .
[2] في الأصل: «فجزاك» . وما أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، وما أوردناه من ت.
[4] في الأصل: «ليكرمه من صحبتك» ، وما أوردناه من ت.
[5] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[6] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 129، وطبقات خليفة 210، والتاريخ الكبير 3/ 1538، والجرح والتعديل 4/ 306، وتاريخ الإسلام 4/ 7، 119، وتهذيب التهذيب 4/ 16.
[7] في الأصل: «عن محمد بن سعد» . وما أوردناه من ت.
[8] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/48)
حماد بن زيد، عن يونس بن عبيد [1] ، قال:
لما مات سعيد بن أبي الحسن حزن عليه الحسن حزنا شديدا، فأمسك عن الكلام حتى عرف ذلك في مجلسه وحديثه، فكلم في ذلك، فقال: الحمد للَّه الذي لم يجعل الحزن عارا على يعقوب، ثم قال: بئست الدار المفرقة [2] .
وقال ابن عون [3] : دفع إلي الحسن برنسا كان لأخيه سعيد لأبيعه، فقلت: أشتريه أنا، فقال: أنت أعلم، ولكني لا أحب أن أراه عليك.
545- سليمان بن عبد الملك بن مروان [4] :
لبس يوما حلة خضراء وعمامة خضراء، ونظر في المرآة، فقال: أنا الملك الشاب، فما عاش بعد ذلك إلا أسبوعا.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الحسين بْن عَبْد الجبار، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو طاهر محمد بن علي بن البيع، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّلْتِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو بكر أحمد بْن إبراهيم بن شاذان، قال: حدثنا أبو عبد الله بن عرفة، قال: أخبرنا محمد بن عيسى، أنه سمع عبد الله بن محمد التيمي يقول:
كان سليمان بن عبد الملك [يوما] [5] جالسا، فنظر في المرآة إلى وجهه، وكان حسن الوجه، فأعجبه ما رأى من جماله، وكان على رأسه وصيفة، فقال: أنا الملك الشاب، فرأى شفتي جاريته تتحركان، فقال لها: ما قلت؟ قالت: خيرا. قال: لتخبريني، قالت: قلت:
أنت نعم [6] المتاع لو كنت تبقى ... غير أن لا بقاء للإنسان
وزاد غيره في الشعر بيتا آخر، فقال:
أنت خلو من العيوب ومما ... يكره الناس غير أنك فاني [7]
__________
[1] الخبر في طبقات ابن سعد 7/ 1/ 129.
[2] في الأصل: «ثم قال: ألست الدار المفرقة» . وما أوردناه من ت وابن سعد.
[3] الخبر في طبقات ابن سعد 7/ 1/ 130.
[4] مروج الذهب 3/ 184، والبداية والنهاية 9/ 198، وتاريخ الطبري 6/ 546، واليعقوبي 3/ 36، وابن خلدون 3/ 74.
[5] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[6] في الطبري 6/ 547: «خير المتاع» .
[7] البيت في الطبري:
ليس فيما علمته فيك عيب ... كان في الناس غير أنك فاني(7/49)
ثم خرج إلى المسجد يخطب، فسمع أقصى من في المسجد صوته، ثم لم يزل يضعف، وانصرف محموما حمى موصولة بمنيته، فكانت وفاته سنة تسع وتسعين، وهو ابن أربعين سنة.
توفي بدابق من أرض قنسرين يوم الجمعة لعشر ليال بقين- وقيل مضين- من صفر. وكانت ولايته سنتين وثمانية أشهر وخمسة أيام.
أخبرنا ابن ناصر، قَالَ: أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو علي التميمي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بكر بْن مالك، قَالَ: حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال:
حدثنا يزيد، قال: حدثنا عبد الله بن يونس، عن سيار أبي الحكم [1] ، قال:
لما دخل سليمان بن عبد الملك قبره أدخله عمر بن عبد العزيز وابن سليمان فاضطرب على أيديهما، فقال ابنه: عاش والله [أبي] [2] ، فقال: لا والله ولكن عوجل أبوك.
546- عبد الله بن مطر، أبو ريحانة [3] :
روى عن ابن عمر، وسفينة.
أخبرنا عَبْد اللَّه بْن علي المقري، قَالَ: أَخْبَرَنَا طراد بْن مُحَمَّد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الحسين بْن بشران، قَالَ: حَدَّثَنَا الحسين بْن صفوان، قال: حدثنا أبو بكر بن عبيد الله، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الحُسَيْن، قَالَ: حَدَّثَنِي موسى بن عيسى العابد، قال: حدثنا ضمرة، عن فروة الأعمى، قال:
ركب أبو ريحانة البحر، وكان يخيط فيه بإبرة معه، فسقطت إبرته في البحر، فقال: عزمت عليك يا رب إلا رددت علي إبرتي، فظهرت حتى أخذها.
قال: واشتد عليهم البحر ذات يوم وهاج، فقال: اسكن أيها البحر، فإنما أنت عبد حبشي، فسكن حتى صار كالزيت.
__________
[1] في الأصل: «سيار بن الحكم» والتصحيح من ت.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] تقريب التهذيب 1/ 451، والجرح والتعديل 5/ 168.(7/50)
547- عبد الله بن خارجة بن حبيب بن قيس بن عمرو بن حارثة بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان [1] :
شاعر من أهل الكوفة [2] ، متعصب لبني أمية، وهو الأعشى، أعشى بني ربيعة.
دخل على عبد الملك بن مروان فأنشده يقول [3] :
وما أنا في أمري ولا في خصومتي ... بمهتضم حقي ولا قارع قرني
ولا مسلم مولاي عند جناية ... ولا خائف مولاي من شر ما أجني
وإن فؤادي بين جنبي عالم ... بما أبصرت عيني وما سمعت أذني
وفضلني في الشعر واللب أنني ... أقول على علم وأعرف من أعني
فأصبحت إذ فضلت مروان وابنه ... على الناس قد فضلت خير أب وابن
فقال عبد الملك من يلومني على هذا، وأمر له بعشرة آلاف درهم، وعشرة تخوت من ثياب، وعشر قلائص من الإبل، وأقطعه ألف جريب [4] .
ودخل عليه يوما فأنشده يقول: [5]
رأيتك أمس خير بني معد ... وأنت اليوم خير منك أمس
وأنت غدا تزيد الضعف ضعفا ... كذاك تزيد سادة عبد شمس
548- القاسم بن مخيمرة الهمداني [6] :
كوفي الأصل، ثم نزل الشام. روى عن عبد الله بن عمر، وعن خلق كثير من التابعين.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم بإسناد له عن الأوزاعي، عن القاسم، أنه كره صيد الطير أيام فراخه.
__________
[1] الأغاني 18/ 136 (دار الكتب العلمية) .
[2] في ت: «شاعر من أهل مكة» . خطأ
[3] الخبر في الأغاني 18/ 136، 137.
[4] الجريب من الأرض: ثلاثة آلاف وستمائة ذراع، وقيل: عشرة آلاف ذراع.
[5] الأغاني 18/ 140.
[6] تقريب التهذيب 2/ 120. وتهذيب التهذيب 8/ 337.(7/51)
وروى سعيد [1] بن عبد العزيز، عن القاسم بن مخيمرة، قال: ما اجتمع على مائدتي لونان من طعام، ولا غلقت بابي ولي خلفه هم، وأتيت عمر بن عبد العزيز فقضى عني سبعين دينارا، وحملني على بغلة وفرض لي في خمسين فقلت: أغنيتني عن التجارة، فسألني عن حديث، فقلت [2] : هبني يا أمير المؤمنين، كأنه كره أن يحدثه بعد لأجل العطاء.
549- محمود بن الربيع بن الحارث بن الخزرج [3] :
رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعقل مجة مجها في وجهه وهو ابن خمس سنين.
وتوفي في هذه السنة وَهُوَ ابن ثلاث وتسعين سنة. وقيل: أربع وتسعين سنة.
__________
[1] في الأصل: «عن سعيد» . وما أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «فقال» . وما أوردناه من ت.
[3] تهذيب التهذيب 10/ 63.(7/52)
ثم دخلت سنة مائة
فمن الحوادث فيها خروج الخارجة التي خرجت على عمر بالعراق [1]
فكتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن عامل العراق يأمره أن يدعوهم إلى العمل بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فلما أعذر في دعائهم [بكتاب الله وسنة نبيه] [2] بعث إليهم عبد الحميد جيشا فهزمتهم الحرورية [3] ، فبلغ عمر فبعث إليهم مسلمة بن عبد الملك في جيش من أهل الشام جهزهم من الرقة، فكتب إلى عبد الحميد: قد بلغني ما فعل جيشك جيش السوء، وقد بعثت مسلمة بأهل الشام فلم ينشب [4] أن أظهره الله عز وجل عليهم.
وذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى: أن الذي خرج على عبد الحميد بالعراق في خلافة عمر بن عبد العزيز ابن شوذب [5] واسمه بسطام من بني يشكر، وكان مخرجه [بجوخى] [6] في ثمانين فارسا أكثرهم من ربيعة، فكتب عمر إلى عبد الحميد، ألا تحركهم إلا أن يسفكوا دما، أو يفسدوا في الأرض، فإن فعلوا فحل بينهم وبين ذلك، وانظر رجلا حازما، فوجهه إليهم ووجه معه جندا وأوصه بما أمرتك به.
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 555.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «فهزمهم الحرورية» .
[4] في الأصل: «فلم ينشب» . وما أوردناه من الطبري، وت.
[5] في الطبري: «شوذب» بإسقاط «ابن» .
[6] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من الطبري.(7/53)
فعقد عبد الحميد لمحمد بن جرير بن عبد الله البجلي في ألفين من أهل الكوفة وأمره بما أمر به عمر، وكتب عمر إلى بسطام يدعوه ويسأله عن مخرجه، فقدم كتاب عمر عليه [1] ، وفيه:
بسم الله الرحمن الرحيم. إنه بلغني أنك خرجت غضبا للَّه عز وجل ولنبيه صلى الله عليه وسلم، ولست بأولى بذلك مني، فهلم أناظرك، فإن كان الحق بأيدينا دخلت فيما دخل فيه الناس، وإن كان في يدك نظرنا في أمرك.
فلم يحرك بسطام شيئا، وكتب إلى عمر: قد أنصفت، وقد بعثت إليك برجلين يناظرانك [2] ، فدخلا عليه فقالا: أخبرنا عن يزيد لم تعده خليفة بعدك؟ قال: صيره غيري، قالا: أفرأيت لو وليت مالا لغيرك، ثم وكلته إلى غير مأمون عليه، أتراك كنت أديت الأمانة إلى من ائتمنك؟ فقال: أنظراني ثلاثا، فخرجا من عنده، وخاف بنو مروان أن يخرج ما في أيديهم من الأموال، وأن يخلع يزيدا، فدسوا إليه من سقاه سما، فلم يلبث بعد خروجهما إلا ثلاثا حتى مات رضى الله عنه.
وفي هذه السنة أغزى عمر الوليد بن هشام المعيطي، وعمرو بن قيس الكندي من أهل حمص الصائفة
أَخْبَرَنَا المبارك بْن علي الصيرفي، قَالَ: أخبرتنا فاطمة بنت عبد الله الحيري، قالت: أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن الحسين بْن الفضل، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّد بْن خالد الكاتب، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن عَبْد اللَّه بن المغيرة، قال: حدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي، قَالَ: حَدَّثَنِي الزُّبَيْر بْن بكار، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْد الله بن عبد العزيز، قال:
أخبرني ابن العلاء- أحسبه أبا عمرو بن العلاء، أو أخاه- عن جويرية عن إسماعيل بن أبي حكيم، قال:
بعثني عمر بن عبد العزيز حين ولي في الفداء، فبينا أنا أجول في القسطنطينية إذ سمعت صوتا يغني وهو يقول:
أرقت وغاب عني من يلوم ... ولكن لم أنم أنا والهموم
__________
[1] في الأصل: «كتاب عمر إليه» ، وما أوردناه من ت والطبري.
[2] في الطبري: «قال أبو عبيدة: أحد الرجلين ممزوج مولى بني شيبان، والآخر من صليبة بني يشكر» .(7/54)
كأني من تذكر ما ألاقي ... إذا ما أظلم الليل البهيم
سقيم مل منه أقربوه ... وودعه المداوي والحميم
وكم في بحرة بين المنقا ... إلى أحد إلى ماء زريم [1]
إلى الجماء من خد أسيل ... نقي اللون ليس به كلوم
يضيء به الظلام إذا تبدى ... كضوء الفجر منظره وسيم
فلما أن دنا منا ارتحال ... وقرب ناجيات السير كوم
أتين مودعات والمطايا ... على أكوارها خوص هجوم
فقائلة ومثنية علينا ... تقول وما لها فينا حميم
وأخرى لبها معنا ولكن ... تستر وهي واجمة كظوم
تعد لنا الليالي تحتصيها ... متى هو خائن منا قدوم
متى تر غفلة الواشين عنا ... تجد بدموعها العين السجوم
قال الزبير: والشعر لبقيلة الأشجعي. قال إسماعيل بن أبي حكيم: فسألته حين دخلت عليه، فقلت له: من أنت؟ قال: أنا الوابصي الذي أخذت فعذبت فجزعت فدخلت في دينهم، فقلت: إن أمير المؤمنين [2] عمر بن عبد العزيز بعثني في الفداء وأنت والله أحب من افتديته إلا أن لم تكن بطنت في الكفر، قال: والله لقد بطنت في الكفر، فقلت: أنشدك الله أسلم، فقال: أسلم، وهذان ابناي وقد تزوجت امرأة، وهذان ابناها، وإذا دخلت المدينة قال أحدهم: يا نصراني، وقيل لولدي وأمهم [وولدهم] [3] كذلك، لا والله لا أفعل، فقلت له: قد كنت قارئا للقرآن، فقال: إني والله من أقرأ القراء للقرآن، فقلت: ما بقي معك من القرآن؟ قال: لا شيء إلا هذه الآية: (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) 15: 2 [4] .
وفي هذه السنة أشخص عمر [5] بن هبيرة الفزاري إلى الجزيرة عاملا عليها.
__________
[1] في الأصل: وكم في بئر بحرغة بين المنقا ولا يستقيم معها الوزن.
[2] في ت: «إن عمر بن عبد العزيز أمير المؤمنين» .
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] سورة: الحجر، الآية: 2.
[5] في الأصل: «عمرو» . وما أوردناه من ت والطبري.(7/55)
وفيها حمل يزيد بن المهلب من العراق إلى عمر بن عبد العزيز.
وسبب ذلك أن يزيدا نزل واسطا، ثم ركب السفن يريد البصرة، فبعث عمر عدي بن أرطأة إلى البصرة فأوثقه ثم بعث به إلى عمر، فدعا به عمر- وقد كان عمر يبغضه ويبغض بنيه ويقول: جبابرة، وكان يزيد يبغض عمر- فلما وصل إلى عمر سأله عن الأموال التي كتب بها إلى سليمان، قال: إنما كتبت إليه لأسمع الناس، ولم يكن سليمان ليأخذني بشيء سمعت به، فقال له: ما أجد في أمرك إلا حبسك، فاتق الله وأد ما قبلك فإنها حقوق المسلمين لا يسعني تركها فحبسه إلى أن مرض عمر.
وفي هذه السنة عزل عمر الجراح عن خراسان وولاها عبد الرحمن بن نعيم القشيري [1] .
وكانت ولاية الجراح خراسان سنة وخمسة أشهر.
وفي هذه السنة وجه مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ العباس إلى العراق وإلى خراسان من يدعو إليه وإلى أهل بيته فاستجاب له جماعة. وكتب لهم محمد بن علي كتابا ليكون لهم مثالا وسيرة يسيرون بها، وكان يقول لرجال أهل الدعوة حين أراد توجيههم [2] : أما الكوفة وسوادها فهناك شيعة علي وولده، وأما البصرة وسوادها فعثمانية ترى الكف، تقول: كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل، وأما الجزيرة فحرورية، وأما الرقة فمسلمون أحلاف النصارى [3] ، وأما أهل الشام فلا يعرفون إلا طاعة بني مروان، وأما أهل مكة والمدينة فقد غلب عليها [4] أبو بكر وعمر، ولكن عليكم بخراسان فإن هناك الصدور السليمة والقلوب الفارغة [5] التي [لم] [6] تتقسمها الأهواء ولم تتوزعها النحل.
__________
[1] في الأصل: «القسري» . وما أوردناه من الطبري.
[2] في الأصل: «لرجال الدعوة حين أرادوا توجيههم» . وفي ت: «أراد أن يوجههم» .
[3] في الأصل: «فحرورية ومارقة وأعراب ومسلمون في أخلاق النصارى» . وما أوردناه من ت، والطبري.
[4] «عليها» : سقطت من ت.
[5] في ت: «والقلوب الفارعة» .
[6] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/56)
وفي هذه السنة حج بالناس أبو بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وكان عمال الأمصار في هذه السنة هم العمال فِي السنة التي قبلها ما خلا خراسان، فإن عاملها في آخر السنة كان عبد الرحمن بن نعيم على الصلاة والحرب، وعبد الرحمن بن عبد الله على الخراج [1] .
وفي هذه السنة وقع طاعون، فقيل له: طاعون عدي بن أرطأة.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
550- بسر [2] بن سعيد مولى الحضرميين [3] :
روى عن زيد بن ثابت، وسعد بن أبي وقاص، وأبي هريرة، وأبي سعيد [4] .
وكان بسر ثقة من العباد المنقطعين، وأهل الزهد في الدنيا، وتوفي بالمدينة وهو ابن ثمان وسبعين، ولم يدع كفنا.
551- حنش بن عبد الله بن عمرو، أبو رشدين الصنعاني [5] :
كان مع علي بن أبي طالب بالكوفة، وقدم مصر بعد قتل علي، وغزا المغرب مع رويفع بن ثابت، وغزا الأندلس مع موسى بن نصير، وكان فيمن ثار مع ابن الزبير على عبد الملك، فأتى به عبد الملك في وثاق فعفا عنه، وكان عبد الملك حين غزا
__________
[1] في الأصل: «بن عبد الله بن الجراح» . والتصحيح من ت والطبري.
[2] في الأصل: «بشر» . خطأ والتصحيح من ت وكتب الرجال.
[3] طبقات ابن سعد 5/ 208، وطبقات خليفة 255، وعلل أحمد 1/ 78، 332، والتاريخ الكبير 2/ 1/ 123، والجرح والتعديل 1/ 1/ 423، وسير أعلام النبلاء 4/ 594، وتهذيب التهذيب 1/ 437.
[4] في الأصل تكرر «أبي هريرة» . وما أوردناه من ت.
[5] طبقات ابن سعد 5/ 391، وعلل أحمد 1/ 307، والتاريخ الكبير 3/ 343، والجرح والتعديل 3/ 1298، وتاريخ الإسلام 3/ 246، 360، وسير أعلام النبلاء 4/ 492، وتهذيب التهذيب 3/ 57، وتقريب التهذيب 1/ 205.(7/57)
المغرب مع معاوية بن خديج، نزل عليه بإفريقية سنة خمسين، فحفظ له ذلك. وكان حنش أول من ولي عشور إفريقية في الإسلام، وكان إذا فرغ من عشائه وحوائجه وأراد أن يرقد أوقد المصباح وقدم المصحف وإناء فيه ماء، وكان إذا وجد النعاس [1] أخذ الماء، وإذا تعايا في آية نظر في المصحف. وتوفي بإفريقية في هذه السنة.
552- خارجة بن زيد بن ثابت بن الضحاك، أبو زيد: [2]
روى عن أبيه وكان ثقة، وقال: رأيت في المنام كأني بنيت سبعين درجة، فلما فرغت منها تهورت، وهذه السنة لي سبعون قد أكملتها. فمات فيها [3] .
توفي في هذه السنة بالمدينة.
553- عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز:
توفي في خلافة أبيه، وكان صالحا.
أخبرنا علي بن أبي عمر، قال: أخبرنا محمد بن الحسن الباقلاوي، قال: أخبرنا عبد الملك بن بشران، قال: أخبرنا أبو بكر الآجري، قال: حدثنا أبو عبد الله بن مخلد، قال: حدثني سهل بن عيسى المروزي، قال: حدثني القاسم بن محمد بن الحارث، قال: حدثنا [4] سهل بن يحيى بن محمد المروزي، قال: أخبرني أبي، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، قال:
لما ولي [أبي] [5] عمر الخلافة وخطب الناس ذهب يتبوأ مقيلا [6] ، فأتاه ابنه
__________
[1] في الأصل: «فكان إذا وجد الناس» . وما أوردناه من ت.
[2] طبقات ابن سعد 5/ 193، وطبقات خليفة 251، وعلل أحمد 1/ 305، والتاريخ الكبير 3/ 696، والمعارف 260، وأخبار القضاة لوكيع 1/ 108، والجرح والتعديل 3/ 1707، والحلية 2/ 89، وتهذيب ابن عساكر 5/ 27، ووفيات الأعيان 2/ 223، وتاريخ الإسلام 3/ 362، وسير أعلام النبلاء 4/ 437، وتذكرة الحفاظ 1/ 91، والبداية والنهاية 9/ 187، وتهذيب التهذيب 3/ 74، وتقريب التهذيب 1/ 210.
[3] الخبر في طبقات ابن سعد 5/ 193، وفي ت: «تسعون» . بدلا من «سبعون» .
[4] في ت: «حدثني» .
[5] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[6] في الأصل: «ذهب سرا مقيلا» .(7/58)
عبد الملك، فقال: ما تريد أن تصنع؟ قال: يا بني أقيل، قال: تقيل ولا ترد المظالم، فقال: أي بني [1] إني قد سهرت البارحة في أمر عمك سليمان، فإذا صليت الظهر رددت المظالم، قال: يا أمير المؤمنين، من لك أن تعيش إلى الظهر، قال: أدن مني أي بني.
فدنا منه فالتزمه وقبل بين عينيه وقال: الحمد للَّه الذي أخرج من صلبي من يعينني على ديني، فخرج ولم يقل.
أخبرنا [2] ابن ناصر، عن أبي القاسم وأبي عمر ابني عبد الله بن منده، عن أبيهما، قال: حدثنا أبو سعيد بن يونس، قال: حدثنا محمد بن نصر بن القاسم، قال:
حدّثنا أحمد بن عمرو بن السراج [3] ، قال: حدثنا ابن وهب، قال: حدثني [4] الليث بن سعد، قال: حدثنا عبد الله [5] بن أبي جعفر، عن عاصم بن أبي بكر بن عبد العزيز بن مروان:
أنه وفد على سليمان بن عبد الملك. قال: فنزلت على عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز وهو عزب، فكنت معه في بيته، فلما صلينا العشاء وأوى كل رجل منا إلى فراشه، فلما ظن أن قد نمنا قام [إلى] [6] المصباح فأطفأه وأنا أنظر إليه، ثم جعل يصلي حتى ذهب النوم. قال: فاستيقظت وهو يقرأ: (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جاءَهُمْ مَا كانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ 26: 205- 207 [7] . ثم بكى ثم رجع إليها ثم بكى ثم لم يزل يفعل حتى قلت سيقتله البكاء، فلما رأيت ذلك قلت: سبحان الله والحمد للَّه، كالمستيقظ من النوم لأقطع ذلك عنه، فلما سمعني ألبد فلم أسمع له حسا.
أخبرنا عبد الوهاب ويحيى بن علي، قالا: أخبرنا عبد الله بن أحمد السكري، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّلْتِ، قال: حدّثنا [8] حمزة بن القاسم الهاشمي،
__________
[1] في ت: «يا بني» .
[2] في ت: «أنبأنا» .
[3] «ابن السراج» : ساقطة من ت.
[4] في ت: «حدّثنا» .
[5] في الأصل: «عن عبد الله» . أوردناه من ت.
[6] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[7] سورة: الشعراء، الآية: 205.
[8] في ت: «أخبرنا» .(7/59)
قال: حدثنا حنبل، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن حنبل، قَالَ: حَدَّثَنَا إسماعيل بن إبراهيم، قال: حدثني زياد بن أبي حسان:
أنه شهد عمر بن عبد العزيز حين دفن ابنه عبد الملك، استوى قائما فأحاط به الناس فقال: والله يا بني لقد كنت برا بأبيك، وو الله ما زلت منذ وهبك الله لي مسرورا بك، ولا والله ما كنت قط أشد سرورا ولا أرجى لحظي من الله منك مذ وضعتك في المنزل الذي صيرك الله إليه، فرحمك وغفر لك ذنبك وجزاك بأحسن عملك، ورحم كل شافع يشفع لك غيري شاهد وغائب، رضينا بقضاء الله وسلمنا لأمره، والحمد للَّه رب العالمين. ثم انصرف.
554- عبد الرحمن بن مل بن عمرو بن عدي بن وهب بن ربيعة، أبو عثمان النهدي [1] :
حج في الجاهلية حجتين، وأسلم على عهد رسول الله صلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم إلا أنه لم يلقه، وهاجر إلى المدينة بعد موت أبي بكر فلقي عمر بن الخطاب. وروى عنه، وعن علي، وسعد، وسعيد، وابن مسعود، وأبي، وغيرهم من الصحابة، [وكان ثقة] [2] ونزل الكوفة ثم صار إلى البصرة، فحدث عنه أيوب، وقتادة، وسليمان التيمي، وغيرهم، وكان معه وشهد القادسية وجلولاء، وتستر ونهاوند واليرموك وأذربيجان ورستم.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال:
أخبرنا عَبْد العزيز بْن عَلِيّ الوراق، قَالَ: أَخْبَرَنَا أحمد بن إبراهيم، قال: حدثنا يوسف بن يعقوب النيسابوري، قال: أَخْبَرَنَا أبو بكر بْن أبي شيبة، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الحجاج بن أبي زينب، قال: سمعت أبا عثمان النهدي يقول [3] :
كنا في الجاهلية نعبد حجرا، فسمعنا مناديا ينادي: يا أهل الرحال، إن ربكم قد هلك فالتمسوا ربا، قال: فخرجنا على كل صعب وذلول، فبينا نحن كذلك نطلب إذا نحن بمناد ينادي: إنا قد وجدنا ربكم أو شبهه [4] ، قال: فجئنا فإذا [نحن] [5] بحجر فنحرنا عليه الجزر.
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 69، وتاريخ بغداد 10/ 202، وتقريب التهذيب 1/ 499.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] الخبر في تاريخ بغداد 10/ 204.
[4] في الأصل: «وشبهه» . وما أوردناه من ت وتاريخ بغداد.
[5] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/60)
أخبرنا عبد الرحمن، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرنا ابن الفضل، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر، قال: حدثنا يعقوب، قال: حدثنا الحجاج، قال: حدثنا حماد، عن حميد، عن أبي عثمان، قال: [1] أتت علي نحو من ثلاثين ومائة سنة، وما شيء مني إلا وقد أنكرته إلا أملي فإني أجده كما هو.
توفي أبو عثمان في هذه السنة وهو ابن ثلاثين ومائة سنة.
555- عمران بن ملحان، أبو رجاء العطاردي [2] :
أَخْبَرَنَا محمد بن [أبي] [3] القاسم، قال: أخبرنا حمد بن أحمد، قال: أخبرنا أحمد بْن عَبْد اللَّه الأَصْفَهَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّد بْن أَحْمَد، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْنٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ، فَقَالَ: [4] بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ عَلَى مَاءٍ لَنَا، وَكَانَ لَنَا صَنَمٌ مُدَوَّرٌ فَحَمَلْنَاهُ عَلَى قَتَبٍ وَانْتَقَلْنَا مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ إِلَى غَيْرِهِ، فَمَرَرْنَا بِرَمْلَةٍ فَانْسَلَّ الْحَجَرُ فَوَقَعَ فِي الرَّمْلِ فَغَابَ فِيهِ، فَلَمَّا رَجَعْنَا إِلَى الْمَاءِ فَقَدْنَا الْحَجَرَ فَرَجَعْنَا فِي طَلَبِهِ فَإِذَا هُوَ فِي رَمْلٍ قَدْ غَابَ فاستخرجناه، فكان ذلك أول إِسْلامِي، فَقُلْتُ: إِنَّ إِلَهًا لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ تُرَابٍ يَغِيبُ فِيهِ لإِلَهُ سُوءٍ وَإِنَّ الْعَنْزَ لَتَمْنَعُ حَيَاءَهَا بِثَدْيِهَا. فَرَجَعْتُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَدْ توفي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ مؤلف الكتاب [5] : روى أبو رجاء [العطاردي] عن عمر وابن عباس، وأم قومه أربعين سنة، وتوفي في خلافة عمر بن عبد العزيز.
__________
[1] الخبر في تاريخ بغداد 10/ 204.
[2] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 100، تقريب التهذيب 2/ 85، والجرح والتعديل 6/ 303، والتاريخ الكبير 3/ 1/ 410.
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] في الأصل: «فقال: دخل على أبي رجاء العطاردي، فقال حدّثني أبو رجاء قال» . وما أوردناه من ت.
[5] في ت: «قال المصنف» .(7/61)
556- مسلم بن يسار، أبو عبد الله مولى طلحة بن عبيد الله التيمي [1] :
لقي جماعة من الصحابة، وكان من العلماء المتعبدين، وكان حسن الخشوع في الصلاة، فوقع مرة إلى جانبه حريق فما شعر به حتى طفئ.
وكان أرفع عند الناس من الحسن حتى خرج مع ابن الأشعث فوضعه ذلك.
وكان يقول: ما ضربت بسيف ولا طعنت برمح، فقال له قائل: فكيف بمن رآك واقفا في الصف؟ قال: هذا مسلم بن يسار، ما وقف هذا الموقف إلا وهو على الحق فقاتل فقتل. فبكى بكاء شديدا.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، قال: أخبرنا علي بن محمد الأنباري، قال:
[أخبرنا] [2] أحمد بن محمد بن يوسف، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن صفوان، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بكر [القرشي] [3] ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم، قال: حدثنا علي بن إسحاق، قال:
حدثنا عبد الله، قال: أخبرنا جعفر بن حيان، قال:
ذكر لمسلم بن يسار قلة التفاته في الصلاة، قال: وما يدريكم أين قلبي [4] .
قال أحمد بن إبراهيم: وحدثنا هارون بن معروف، قال: حدثنا ضمرة، عن ابن شوذب قال:
كان مسلم بن يسار يقول لأهله إذا دخل في صلاته: تحدثوا فلست أسمع حديثكم [5] .
قال: أخبرنا سعد الخير بن محمد، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن أيوب، قَالَ: أَخْبَرَنَا الحسين بن مُحَمَّد الخلال، قال: حدثنا علي بن عمر بن علي التمار، قال: حدثنا جعفر بن محمد الخالدي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، قال: حدّثنا
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 135، وتقريب التهذيب 2/ 247، والبداية والنهاية 9/ 208.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] في ت: «أخبرنا» .
[4] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[5] الخبر في طبقات ابن سعد 7/ 1/ 135.(7/62)
البرجلاني، قال: حدثنا غياث بن زياد، قال: حدثنا ابن المبارك، قال:
قال مسلم بن يسار لأصحابه يوم التروية: هل لكم في الحج؟ قالوا: خرف الشيخ على ذلك فلنطيعنه، قال: من أراد ذلك فليخرج، فخرجوا إلى الحسان برواحلهم، فقال: خلوا أزمتها، فأصبحوا وهم ينظرون إلى جبال تهامة [1] .
__________
[1] في ت: «تم المجلد التاسع» .(7/63)
ثم دخلت سنة إحدى ومائة
فمن الحوادث فيها هرب يزيد بن المهلب [من حبس عمر] [1]
وذلك أنه خاف من يزيد بن عبد الملك لأنه كان قد عذب أصهاره آل أبي عقيل، وذلك أن أم الحجاج بنت محمد بن يوسف أخي الحجاج بن يوسف كانت عند يزيد بن عبد الملك فولدت له الوليد بن يزيد، وكان يزيد قد عاهد الله لئن أمكنه من يزيد بن المهلب ليقطعن منه طابقا [2] فكان يخشى ذلك، فبعث يزيد بن المهلب إلى مواليه فأعدوا له إبلا، ومرض عمر فأمر يزيد بإبله فأتي بها، فخرج من محبسه فذهب وكتب إلى عمر: إني والله لو علمت أنك تبقى ما خرجت من محبسي، ولكني لم آمن يزيد بن عبد الملك، فقال عمر: اللَّهمّ إن كان يريد بهذه الأمة شرا فاكفهم شره، واردد كيده في نحره. ومضى يزيد بن المهلب.
وقال الواقدي: إنما هرب من سجن عمر بعد موته رضي الله عنه.
وفي هذه السنة توفي عمر بن عبد العزيز
واستخلف يزيد بن عبد الملك.
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 564.
[2] في الأصل: «طالعا [؟] » كذا بدون نقط، وفي ت: «طايفا» وما أوردناه من الطبري.(7/64)
باب ذكر خلافة يزيد بن عبد الملك
ويكنى أبا خالد، وأمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية، استخلف بعد وفاة عمر، وكان يومئذ ابن تسع وعشرين سنة.
أنبأنا محمد بن ناصر الحافظ، قَالَ: أنبأنا [1] المبارك بن عبد الجبار، قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد العتيقي، قَالَ: أخبرنا أبو بكر أحمد بن منصور النوشري، قال:
أخبرنا أحمد بن سليمان بن داود الطوسي، قال: أخبرنا الزبير بن بكار، قال: حدثني هارون بن عبد الله الزهري، عن عبيد الله بن عمرو الفهري، قال:
لما توفي عمر بن عبد العزيز، قال يزيد بن عبد الملك: ما جعل عمر بن عبد العزيز لربه أرجى مني، فتنسك وأقام أربعين يوما لا تفوته صلاة في جماعة، فقدم الأحوص فأرسلت له حبابة أنه ليس لي ولا لك عنده شيء ما دام على هذه الحال فقل أبياتا أغنيها له عسى أن يترك ما هو عليه من النسك، فقال الأحوص:
ألا لا تلمه اليوم أن يتبلدا ... فقد غلب المحزون أن يتجلدا [2]
إذا كنت عزيفا عن اللهو والصبا ... فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا
فما العيش إلا ما يلذ ويشتهي ... وإن لام فيه ذو الشنان وفندا
فلما خرج يزيد للجمعة عرضت له حبابة على طريقه فحركت العود وغنت البيت الأول فسبح، فلما غنت البيت الثاني قال: مه مه ويحك لا تفعلي [3] ، فلما غنت الثالث
__________
[1] في ت: «أخبرنا» .
[2] في الأصل: «أن يتخلدا» ، وما أوردناه من ت.
[3] في ت: «لا تفعلي ويحك» .(7/65)
نفض عمامته، وقال: مروا صاحب الشرطة أن يصلي بالناس، وجلس معها، ودعى بالشراب وسألها عن قائل الشعر، فقالت: الأحوص، فأمر به فأدخل فأجازه وأحسن إليه وأنشده مديحه.
فصل ولما استخلف يزيد نزع أبا بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عن المدينة وولاها عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس الفهري، وبايع لأخيه هشام بالعهد من بعده، ثم لابنه الوليد، ولم يكن ابنه بلغ، فلما بلغ ندم وقال: الله بيني وبين من جعل هشاما بيني وبينك، يعني مسلمة.
وفي هذه السنة قتل شوذب الخارجي [1]
وقد ذكرنا أنه بعث رجلين يناظران عمر بن عبد العزيز، فلما مات عمر أراد عبد الحميد أن يحظى عند يزيد بن عبد الملك، فكتب إلى محمد بن جرير يأمره بمحاربة شوذب وأصحابه، ولم يرجع رسولا شوذب، ولم يعلم بموت عمر، فلما رأى محمد بن جرير مستعدا للحرب أرسل إليه شوذب: ما أعجلكم [2] قبل انقضاء المدة فيما بيننا وبينكم، أليس قد تواعدنا إلى أن يرجع [3] رسولانا [4] ، فقيل له: لا يسعنا غير هذا، فبرز له شوذب فاقتتلوا وأصيب من الخوارج نفر، وأكثروا في أهل الكوفة القتل، فولوا منهزمين والخوارج في أكتافهم حتى بلغوا أخصاص الكوفة، فأقر يزيد عبد الحميد على الكوفة، ووجه من قبله تميم بن الحباب في ألفين فراسل الخوارج وأخبرهم أنه لا يفارقهم على ما فارقهم عليه عمر، فلعنوه ولعنوا يزيدا، فحاربهم فقتلوه وهزموا أصحابه، فوجه إليهم نجدة بن الحكم الأزدي في جمع، فقتلوه وهزموا أصحابه [5] ، فبعث آخر في ألفين فقتلوه، فأنفذ يزيد مسلمة بن عبد الملك، فنزل الكوفة، ودعا سعيد بن عمرو الحرشي، فعقد له على عشرة آلاف ووجهه، فقال لأصحابه: من كان يريد
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 575.
[2] في الطبري: «ما أعجلك» .
[3] في الأصل: «يرتجع» . وما أوردناه من ت والطبري.
[4] كذا في الأصلين، وفي الطبري «رسولا شوذب» .
[5] «فوجه إليهم.... وهزموا أصحابه» : ساقط من ت.(7/66)
الله عز وجل فقد جاءته الشهادة، ومن كان إنما خرج للدنيا [1] فقد ذهبت الدنيا منه.
فكسروا أغماد سيوفهم وحملوا فكشفوا سعيدا وأصحابه مرارا حتى خافوا الفضيحة، ثم حملوا على الخوارج فطحنوهم وقتلوا شوذب.
وفي هذه السنة لحق يزيد بن المهلب بالبصرة فغلب عليها وخلع يزيد بن عبد الملك وأخذ عامله عدي بن أرطأة فحبسه [2]
قد ذكرنا أن يزيد بن المهلب هرب من حبس عمر، فلما بويع يزيد كتب إلى عبد الحميد يأمره بطلب يزيد بن المهلب، وكتب إلى عدي بن أرطأة يأمره أن يأخذ من كان في البصرة من أهل بيته، فأخذهم وفيهم المفضل [3] ، وحبيب، ومروان، والمهلب، وبعث عبد الحميد هشام بن مساحق في طلب يزيد، فقال له: أجيئك به أسيرا أم آتيك برأسه؟ فقال: أي [4] ذلك شئت، فنزل هشام بالعذيب، فمر بهم يزيد فاتقوا الإقدام عليه، فمضى نحو البصرة، فنزل داره واختلف الناس إليه، وبعث إلى عدي بن أرطأة: ادفع إلي إخوتي وأنا أخليك والبصرة حتى آخذ لنفسي ما أحب من يزيد بن عبد الملك. فلم يقبل [منه] [5] ، وكان يزيد بن المهلب يعطي الناس المال، فمالوا إليه، وخرج حميد بن عبد الملك بن المهلب إلى يزيد بن عبد الملك، فبعث معه خالد بن عبد الله القسري وعمر بن يزيد [6] الحكمي بأمان يزيد بن المهلب وأهل بيته، وخرج يزيد بن المهلب حين اجتمع إليه الناس حتى نزل جبانة بني يشكر، فخرج إليه عدي فاقتتلوا فهزم أصحاب يزيد، وجاء يزيد فنزل دار سلم [7] بن زياد وأخذ عديا فحبسه، وهرب رءوس أهل البصرة، فمنهم من لحق عبد الحميد بالكوفة، ومنهم من لحق بالشام.
__________
[1] في الأصل: «ومن كان خروجه للدنيا» . وما أوردناه من ت والطبري.
[2] تاريخ الطبري 6/ 578.
[3] في ت: «قد ذكرنا أن عمر بن عبد العزيز حبس يزيد بن المهلب، فكتب إلى عدي بن أرطأة يأمره أن يأخذ من كان في البصرة من أهل بيته فأخذهم وفيهم المفضل» . وفي الأصل «الفضل» .
[4] في الأصل: «أنى» . والتصحيح من ت، والطبري.
[5] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[6] في الأصل: «عمر بن مرثد» . والتصحيح من ت، والطبري.
[7] في الأصل: «سالم» والتصحيح من ت والطبري.(7/67)
وجاء خالد القسري وعمر بن يزيد [1] ومعهما حميد بن عبد الملك بالأمان ليزيد بن المهلب من يزيد بن عبد الملك، فوصلوا وقد فات الأمر، وغلب يزيد بن المهلب على البصرة، وخلع يزيد بن عبد الملك، واستوثقت له البصرة، وبعث عماله إلى الأهواز وفارس وكرمان، وبعث أخاه مدرك [2] بن المهلب إلى خراسان، وخطب يزيد بن المهلب الناس وأخبرهم أنه يدعو إلى كتاب الله وسنة نبيه صلَّى اللَّه عليه وسلّم، ويحث على الجهاد، ويزعم أن جهاد أهل الشام أعظم ثوابا [3] من جهاد الترك والديلم.
فدخل الحسن البصري إلى المسجد فقال لصاحبه: انظر هل ترى وجه رجل تعرفه؟ فقال: لا والله، فقال: فو الله هؤلاء [4] الغثاء، فدنا من المنبر وإذا هو يدعو إلى كتاب الله وسنة نبيه صلَّى اللَّه عليه وسلم، فقال الحسن: يزيد يدعو إلى كتاب الله، والله لقد رأيناك واليا وموليا عليه، فجعل أصحابه يأخذون على فيه لئلا يتكلم، فقال الحسن: إنما كان يزيد بالأمس يضرب رقاب هؤلاء ويسرح بها إلى بني مروان يريد رضاهم، فلما غضب نصب [5] هؤلاء وقال: أدعوكم إلى كتاب الله وسنة العمرين، وإن من سنة العمرين أن يوضع قيد في رجله ثم يرد إلى محبس عمر. فقال رجل: يا أبا سعيد، كأنك راض عن أهل الشام، فقال: أنا راض عن أهل الشام، قبحهم الله وبرحهم، أليسوا الذين أحلوا حرم رسول الله صلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم وقتلوا أهله ثم خرجوا إلى بيت الله الحرام فهدموا الكعبة وأوقدوا النار بين أحجارها وأستارها، عليهم لعنة الله.
ثم إن يزيدا [6] خرج من البصرة واستخلف عليهم مروان، فأقبل حتى نزل واسط، واستشار أصحابه فقال: ما الرأي؟ فاختلفوا عليه، فأقام أياما بواسط ثم خرج.
وفي هذه السنة حج بالناس [7] عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس الفهري، وهو عامل يزيد على
__________
[1] كذا في الأصلين. وفي الطبري: «عمرو بن يزيد» .
[2] في الأصل: «مدركة» وما أوردناه من ت والطبري 6/ 586.
[3] في الأصل: «أعظم جهادا» . وما أوردناه من ت.
[4] في ت: «فهؤلاء والله» .
[5] في الأصل: «بعث» . وما أوردناه من ت.
[6] في الأصل: «وأن يزيد» . وما أوردناه من ت.
[7] في ت: «وحج بالناس في هذه السنة» .(7/68)
المدينة، وكان عامله على مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وعلى الكوفة عبد الحميد بن عبد الرحمن [1] ، وعلى قضائها عامر الشعبي، وعلى خراسان عبد الرحمن بن نعيم. وكان يزيد بن المهلب قد غلب على البصرة.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
557- أيوب بن شرحبيل:
أحد أمراء مصر، وليها لعمر بن عبد العزيز. روى عنه أبو قبيل.
توفي في رمضان هذه السنة.
558- ذكوان، أبو صالح السمان [2]
سمع من كعب الأحبار، وتوفي بالمدينة [في هذه السنة] [3] .
559- عمر بن عبد العزيز:
قد ذكرنا أنه لما تولى قام بالعدل فكانت بنو أمية قد ألفوا التخليط وخافوا أن يعهد إلى غيرهم، فسموه فمرض عشرين يوما.
أخبرنا الحسن بْن محبوب، قَالَ: أَخْبَرَنَا طراد بْن مُحَمَّد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو الحسين بن بشران إذنا، أن الحسين بن [4] صفوان [5] حدثهم قال: حدثنا أبو عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد القرشي، قَالَ: حَدَّثَنِي محمد بن الحسين [6] ، قال: هشام بن عبد الله الرازي، قال: حدثنا أبو زيد الدمشقي، قال:
لما ثقل عمر بن عبد العزيز دعي له بطبيب، فلما نظر إليه قال: أرى الرجل قد
__________
[1] في ت: «عبد الرحمن بن عبد الرحمن» .
[2] طبقات ابن سعد 5/ 222، وطبقات خليفة 248، والتاريخ الكبير للبخاريّ 3/ 895، والجرح والتعديل 3/ 2039، وطبقات الصوفية للسلمي 428، وتاريخ الإسلام 4/ 219، وسير أعلام النبلاء 5/ 36، وتهذيب التهذيب 3/ 219.
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] في ت: «بشران إذنا قال: حدّثنا الحسين بن صفوان» .
[5] في الأصل: «بشران» . وما أوردناه من ت.
[6] في الأصل: «الحسن» . خطأ، والتصحيح من ت.(7/69)
سقي السم فلا آمن عليه الموت، فرفع عمر [1] بصره وقال: ولا تأمن الموت أيضا على من لم يسق [2] السم؟ قال: فتعالج يا أمير المؤمنين فإني أخاف أن تذهب نفسك، قال:
ربي خير مذهوب إليه، والله لو علمت أن شفائي عند شحمة أذني ما رفعت يدي إلى أذني فتناولته، اللَّهمّ خر لعمر في لقائك [3] . فلم يلبث إلا أياما حتى مات.
أنبأنا زاهر بن طاهر، قَالَ [4] : أخبرنا أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الله الحاكم، قال: أخبرني محمد بن الحسن بن الحسين بن منصور، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عبد الوهاب، قال: سمعت علي بن هشام يقول:
لما سم عمر بن عبد العزيز قال للخادم الذي سمه: لم سممتني؟ قال: أعطاني فلان ألف دينار على أن أسمك، قال: أين الدنانير؟ قال: هي هاهنا، فأتى بها فوضعها في بيت مال المسلمين، وقال للخادم: اذهب، ولم يعاقبه.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ أَحْمَدَ، قال: أخبرنا حمد بْنُ [5] أحمد الحداد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم أحمد بن عبد الله، قال: حدثنا أبو محمد بن حيان، قال: حدثنا أحمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم، قال: حدثني أبو إسحاق، قال:
حدثنا محمد بن الحسين، قال: [6] حدثنا هاشم، قال:
لما كانت الصرعة التي هلك فيها عمر بن عبد العزيز دخل عليه مسلمة بن عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين، إنك أفقرت أفواه ولدك من هذا المال فتركتهم عيلة لا شيء لهم، فلو أوصيت بهم إلي وإلى نظرائي من أهل بيتك. فقال: أسندوني، ثم قال: ما منعتهم حقا هو لهم، ولم أعطهم ما ليس لهم، وإن وصيتي فيهم و (وَلِيِّيَ الله الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ، وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) 7: 196 [7] بني أحد رجلين: إما رجل يتقي الله فيجعل الله له مخرجا، وإما رجل مكب على المعاصي فلم أكن أقويه على معصية الله عز وجل.
__________
[1] «عمر» : ساقطة من ت.
[2] في ت: «يشرب» .
[3] «في لقائك» : سقطت من ت، وكتبت على هامشها.
[4] من هنا اعتاد ناسخ الأصل حذف «قال» من السند، وهي مثبتة في ت. وذلك في باقي هذا الجزء والجزء الّذي يليه، وسنكتفي بالإشارة هنا وإثباتها.
[5] في الأصل: «أحمد بن أحمد» . خطأ، والتصحيح من ت.
[6] «قال: حدّثنا أحمد بن إبراهيم.... حدّثنا محمد بن الحسين» ساقطة من ت.
[7] سورة الأعراف، الآية: 196.(7/70)
ثم بعث إليهم وهم بضعة عشر ذكرا، فنظر إليهم فذرفت عيناه فبكى، ثم قال:
بنفسي الفتية الذين تركتهم عيلة لا شيء لهم، وإني بحمد الله قد تركتهم بخير، أي بني إن أباكم مثل بين أمرين: أن تستغنوا ويدخل [أبوكم] [1] النار، أو تفتقروا ويدخل الجنة، فكان أن تفتقروا ويدخل الجنة أحب إليه، قوموا عصمكم [الله] .
قال أبو نعيم: حدثنا أبو حامد بن جبلة، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إسحاق، قَالَ:
حَدَّثَنَا عباس بن أبي طالب، قال: حدثنا الحارث بن بهرام، قال: حدثنا النضر، قال:
حدثني ليث أن عمر قال في مرضه:
أجلسوني، فأجلسوه، فقال: أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت، ولكن لا إله إلا الله، ثم رفع رأسه وأحد النظر وقال: إني أرى حضرة ما هم بإنس ولا جن. ثم قبض رضي الله عنه.
ورثاه جماعة، فقال كثير يرثيه:
عمت صنائعه وعم هلاكه ... فالناس فيه كلهم مأجور
والناس مأتمهم عليه واحد ... في كل دار رنّة وزفير
يثني عليك لسان من لم توله ... خيرا لأنك بالثناء جدير
ردت صنائعه عليه حياته ... فكأنه من نشرها منشور
توفي عمر لعشر ليال بقين من رجب هذه السنة- وقيل لخمس بقين- وهو ابن تسع وثلاثين سنة وأشهر، وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر. ومات بدير سمعان، واشترى موضع قبره هناك فدفن فيه.
أَخْبَرَنَا عَبْد الوهاب بْن المبارك الحافظ، قَالَ: أخبرنا أبو الحسين [2] بن عبد الجبار، قال: أخبرنا مُحَمَّد بْن عَلِيّ الخياط، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن يوسف، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن صفوان، قال: أخبرنا أبو بكر القرشي، قال: حدثنا مُحَمَّد بْن الحُسَيْن، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن أيوب، قال: حدثني يزيد بن محمد بن مسلمة، قال:
حدثني مولى لنا، قال:
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] في الأصل: أخبرنا الحسن. وما أوردناه من ت.(7/71)
بكت فاطمة بنت عبد الملك حتى عشي بصرها، فدخل عليها أخواها مسلمة وهشام، فقالا: ما هذا الأمر الذي دمت عليه؟ أجزعك على بعلك فأحق من جزع على مثله، أم على شيء فاتك من الدنيا فها نحن بين يديك وأموالنا وأهلونا، فقالت: ما من كل جزعت، ولا على واحد منهما أسفت، ولكني والله رأيت منه ليلة منظرا، فعلمت أن الذي أخرجه إلى الذي رأيت منه، رأيت منه هولا عظيما قد أسكن في قلبه معرفته، قالا: وما رأيت منه؟ قالت: رأيته ذات ليلة قائما يصلي، فأتى على هذه الآية: (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) 101: 4- 5 [1] . فصاح: وا سوء صباحاه، ثم [وثب] فسقط، فجعل يخور حتى ظننت أن نفسه ستخرج، ثم هدأ فظننت أنه قد قضى، ثم أفاق إفاقة فنادى: وا سوء صباحاه، ثم وثب وجعل يجول في الدار ويقول: ويلي من يوم يكون الناس فيه كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش.
560- غيلان بن عقبة بن بهيس بن مسعود بن حارثة بن عمرو بن ربيعة بن ساعدة بن كعب بن عوف، من بني صعب بن ملكان بن عدي، ويقال لغيلان: ذو الرمة، ويكنى أبا الحارث [2] :
سمع بشعره الفرزدق فقال: ما أحسن ما تقول، فقال: فما لي لا أذكر في الفحول؟ قال: بصونك عن غاياتهم بكاؤك في الدين، وصفتك الإبصار والفطن [3] .
وكان يتشبب بمي [4] بنت طلحة بن عاصم المنقري، وكانت تسمع شعره ولا تراه، فجعلت للَّه أن تنحر بدنة إذا رأته، فلما رأته رأت رجلا أسود دميما، فقالت: وا سوءتاه، كأنها لم ترضه.
قال أبو سوار الغنوي: رأيت ميا، وكانت مسنونة الوجه، طويلة الخدين، شماء الأنف، عليها وسم جمال.
__________
[1] سورة: القارعة، الآية: 4، 5.
[2] على هامش الأصل: ذو الرمة الشاعر» .
وانظر ترجمته في: الأغاني 18/ 5، ووفيات الأعيان 1/ 404، وخزانة الأدب للبغدادي 1/ 51.
[3] الخبر في الأغاني 18/ 20، وفيه: «يمنعك من ذلك ويباعدك ذكرك الأبعار وبكاؤك الديار» .
[4] في الأصل: «يتشبث» . والتصحيح من ت والأغاني.(7/72)
قال محمد بن سلام [1] : كانت مولدة لابن قيس بن عاصم تسمى كثيرة قالت بيتين: نحلتهما ذا الرمة، وهما:
على وجه مي مسحة من ملاحة ... وتحت الثياب الخزي لو كان باديا
ألم تر أن الماء يخبث طعمه ... ولو كان لون الماء في العين صافيا
فامتعض من ذلك ذو الرمة، وحلف جهد يمينه أنه ما قالهما، وقال: كيف أقوله وقد أفنيت شبابي أشبب بها وأمدحها.
وكانت مية عند ابن عم لها يقال له عاصم، فقال ذو الرمة فيها:
ألا ليت شعري هل يموتن عاصم ... ولم يشتعبني للمنايا شعوبها
رمى الله من حتف المنية عاصما ... بقاصمة يدعى لها فيجيبها
وقد كان ذو الرمة يشبب أيضا بخرقاء إحدى نساء بني عامر بن ربيعة.
وقال أبو زياد الكلابي: خرقاء من بني عامر بن صعصعة.
قال الأصمعي: كان سبب تشبيبه بخرقاء أنه مر في بعض أسفاره فإذا خرقاء خارجة من خباء، فنظر إليها فوقعت في قلبه فخرق أداوته ليستطعم كلامها، ثم قال لها: إني رجل على ظهر سفر وقد تخرقت أدواتي فأصلحيها، فقالت: لا والله لا أحسن العمل، وإني لخرقاء، والخرقاء لا تحسن العمل لكرامتها على أهلها.
وروى عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي، عن منهال السدوسي قال: حدثني رجل من قريش: أنه سلك طريق مكة للحج فعدل عن الطريق فرأى امرأة، فقال لها: من أنت؟ فقالت: أو ما تعرفني وأنا أحد مناسكك؟ قال: ومن أنت؟ قالت: خرقاء صاحبة ذي الرمة الذي يقول فيها:
تمام الحج أن تقف المطايا ... على خرقاء واضعة اللثام
إلا أن جمهور شعره في ميّ، وحب خرقاء حدث بعدميّ، وفي هذا دليل على سلو، ويدل عليه قوله:
أخرقاء للبين استقلت حمولها ... نعم غربة فالغث تجري مسيلها
__________
[1] الخبر في الأغاني 18/ 29، «عن محمد بن سلام، عن أبي الغراف» .(7/73)
معنى غربة: أي استقلت لأرض بعيدة.
كأن لم يرعك الدهر بالبين قبلها ... لمي ولم يشهد فراقا نزيلها
أي قد راعك الدهر غير مرة.
أنبأنا علي بن عبيد الله بن نصر، عن أبي جعفر بن المسلمة، عَنْ أبي عبيد اللَّه مُحَمَّد بْن عمران المرزباني، قال: حدثني أبو صالح الفزاري، قال: [1] ذكر ذو الرمة في مجلس فيه عدة من الأعراب، فقال عصمة بن مالك الفزاري شيخ منهم بلغ مائة وعشرين سنة: إياي فاسألوا عنه، كان حلو العينين، حسن المضحك، براق الثنايا، خفيف العارضين، إذا نازعك الكلام لا تسأم حديثه، باد بزته، [إذا أنشد بربر] [2] وحسن صوته، جمعني وإياه مربع مرة، فأتاني فقال: يا عصمة إن ميا منقرية، ومنقر أخبث حي، وأقفاه [3] لأثر وأثبته في نظر، وأعلمه بشر [4] ، وقد عرفوا آثار إبلي، فهل من ناقة نزدار عليها [5] ميا، قلت: أي والله [عندي] الجؤذر [6] ، قال: فعلينا بها، فجئت بها فركب وردفته ثم انطلقنا حتى نهبط حي مي، فإذا الحي خلوف، فلما رآنا النسوة عرفن ذا الرمة، فتقوضن من بيوتهن حتى اجتمعن إلى مي، وأنخنا قريبا وجئناهن فجلسنا، فقالت ظريفة منهن: أنشدنا يا ذا الرمة، فقال لي:
أنشدهن، فأنشدت قوله:
وقفت على ربع لمية ناقتي ... فما زلت أبكي عنده وأخاطبه
فلما انتهيت إلى قوله:
نظرت إلى أظعان مي كأنها ... ذرا النخل أو أثل تميل ذوائبه
فأسبلت العينان والقلب كاتم ... بمغرورق نمت عليه سواكبه
__________
[1] الأغاني 18/ 56 (دار الكتب العلمية) .
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
وبربر في كلامه: أكثر منه، والبربرة: الجلبة والصياح.
[3] في الأصل: «أفوقه» . وما أوردناه من الأغاني.
[4] في الأصل: «ببصر» كذا بدون نقط، وما أوردناه من الأغاني.
[5] في الأصل: «وإلا له الجوز» . وما أوردناه من الأغاني. وما بين المعقوفتين من الأغاني.
[6] في ت: «نزور عليها» . والمعنى واحد.(7/74)
بكى وامق حال الفراق ولم تجل ... جوائلها أسراره ومعاتبه
قالت الظريفة: لكن اليوم فلتجل. ثم مضيت إلى قوله:
وقد حلفت باللَّه مية ما الذي ... أحادثها إلا الذي أنا كاذبه
إذا فرماني الله من حيث لا أرى ... ولا زال في أرضي عدو أجاذبه
قالت مية: ويحك [1] يا ذا الرمة، خف عواقب الله عز وجل، ثم مضيت حتى انتهيت إلى قوله:
إذا سرحت من حب مي سوارح ... على القلب آبته جميعا عوازبه
فقالت الظريفة: قتلتيه قتلك الله، فقالت: ما أصحه وهنيئا له، قال: فتنفس ذو الرمة تنفسة كاد حرها يطير بلحيته، ثم مضيت حتى انتهيت إلى قوله:
إذا نازعتك القول مية أو بدا ... لك الوجه منها أو نضا الدرع سالبه
فيا لك من خد أسيل ومنطق ... رخيم ومن خلق تعلل جادبه
فقالت الظريفة: هذا الوجه قد بدا، وهذا القول قد تنوزع فيه، فمن لنا بأن ينضو الدرع سالبه، فالتفتت إليها مي فقالت: مالك قاتلك الله ماذا تجيئين به، فتضاحكن النسوة، فقالت الظريفة: إن لهذين شأنا، فقمت وقمن ثم صرت إلى بيت قريب منهما أراهما ولا أسمع كلامهما إلا الحرف بعد الحرف، فو الله ما رأيته برح مكانه ولا تحرك، وسمعتها تقول: كذبت والله، فو الله ما أدري ما الذي كذبته فيه، فتحدثا ساعة ثم جاءني معه قويريرة فيها دهن طيب، فقال: هذه دهنة أتحفتني بها مي فشأنك بها، وهذه قلائد در [زودتنا] [2] للجؤذر، فلا والله لا قلدتهن بعيرا أبدا، ثم عقدهن في ذؤابة [3] سيفه، قال:
فانصرفنا، فلم يزل يختلف إليها مربعنا حتى انقضى، ثم جاءني يوما، فقال: يا عصمة قد ظعنت مي فلم يبق إلا الديار، [والنظر في الآثار، فانهض بنا إلى ديارها، فخرجنا حتى وقف على ديارها] [4] فجعل ينظر ثم قال:
ألا فاسلمي يا دار مي على البلى ... ولا زال منهلا بجرعائك القطر
__________
[1] في ت: «ويلك» .
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل. أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «ذوائب سيفه» . وما أوردناه من ت.
[4] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/75)
وإن لم تكن في غير شام بقفرة ... تمر بها الأذيال صيفية كدر
ثم انفضخت عيناه بالعبرة، فقلت: مه، فقال: إني لجلد وإن كان مني ما ترى، فما رأيت صبابة قط ولا تجلدا أحسن من تجلده وصبابته يومئذ، ثم انصرفنا فكان آخر العهد به.
قوله: «غير شام» [الشام] [1] لون يخالف معظم لون الأرضين، وهو جمع شامة، أي: آثار، كأنها شام في جيد، وهي بقاع مختلفة الألوان مثل لون الشامة [2] ، وإنما يريد أثر الرماد بأرض خالية. و «الصيفية» : الرياح الكدر فيها غبرة.
أخبرتنا شهدة بنت أحمد الكاتبة، قالت: أَخْبَرَنَا أحمد بن جعفر السراج، قال:
أخبرنا القاضيان أبو الحسن الثوري، وأبو القاسم التنوخي، قالا: أَخْبَرَنَا أبو عمرو بْن حيوية، قَالَ: أخبرنا محمد بن خلف، قال: أخبرنا محمد بن الفضل، [قال: أخبرني أبي] [3] ، قال: أخبرنا القحذمي [4] ، قال:
دخل ذو الرمة الكوفة فبينا هو يسير في بعض شوارعها على نجيب له رأى جارية سوداء واقفة على باب دار فاستحسنها ووقعت بقلبه فأومأ إليها وقال: يا جارية اسقيني ماء، فأخرجت له كوزا فشرب وأراد أن يمازحها ويستدعي كلامها، فقال: يا جارية، ما أحر ماءك؟ فقالت: لو شئت لأقبلت على عيوب شعرك وترك حر مائي وبرده، فقال لها:
وأي شعري له عيب؟ فقالت: ألست ذا الرمة؟ قال: بلى، قالت:
فأنت الذي شبهت عنزا بقفرة ... لها ذنب فوق استها أم سالم
جعلت لها قرنين فوق جبينها ... وطبين مسودين مثل المحاجم
وساقين إن يستمكنا منك يتركا ... بجلدك يا غيلان مثل المناسم
أيا ظبية الوعساء بين جلاجل ... وبين النقا أأنت أم أم سالم
فقال لها: نشدتك باللَّه إلا أخذت راحلتي هذه وما عليها ولم تظهري هذا، ونزل
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] في ت: «مثل تلون الشامة» .
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] في الأصل: «الجعدمي» . وما أوردناه من ت.(7/76)
عن راحلته فدفعها إليها. وذهب ليمضي، فدعتها إليه وضمنت له ألا تذكر لأحد ما جرى.
قال أبو معاوية: كان ذو الرمة حسن الصلاة، فقيل له: ما أحسن صلاتك، فقال:
إن العبد إذا قام بين يدي الله لحقيق أن يتخشع.
وقال عيسى بن عمر: كان ذو الرمة ينشد فإذا فرغ قال: والله لأسجنك بشيء ليس في حسابك، سبحان الله، والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر.
روى الأصمعي، عن أبي الوجيه، قال: كان آخر ما قال ذو الرمة من الشعر: [1]
يا رب قد أسرفت نفسي وقد علمت ... علما يقينا لقد أحصيت آثاري
يا مخرج الروح من جسمي إذا احتضرت ... وفارج الكرب زحزحني عن النار
وروى ابن دريد، عن أبي حاتم السجستاني، عَنْ أبي عبيدة معمر بْن المثنى، قَالَ: حدثني المنتجع بن نبهان، قال [2] :
كنت مع ذي الرمة حين حضرته الوفاة، فلما أحس بالموت قال لي: يا منتجع إن مثلي لا يدفن في غموض من الأرض ولا في بطون الأودية، فإذا أنا مت فادفني برأس فريدادين، فلما مات جئنا بماء [وسدر وتوقلنا الرملة فحفرنا له حفرة] [3] ودفناه فهناك قبره إذا ظعنت في الدهناء برأس فريدادين.
أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْد الْجَبَّارِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيم بْن عُمَر، قال: أخبرنا أبو الحسن الزيني، قال: حدثنا ابن المرزبان، قال: حدّثني أحمد ابن زهير، قال: حدثني هرقل بن مسلم، قال: حدثني أبو هلال الأزدي، قال: حدثني عمارة قال: سمعت ذا الرمة لما حضرته الوفاة، [يقول: لقد مكثت مهيما بمي عشرين سنة في غير ريبة ولا فساد.
__________
[1] «من الشعر» . ساقط من ت. والخبر في الأغاني 18/ 49.
[2] الخبر في الأغاني 18/ 51.
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/77)
قال ابن قتيبة: لما حضرت ذا الرمة الوفاة] [1] قال: أنا ابن نصف الهرم، أنا ابن أربعين سنة.
561- همام بن منبه، أخو وهب بن منبه، يكنى أبا عقبة [2] :
توفي بصنعاء في هذه السنة
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] طبقات ابن سعد 5/ 396.(7/78)
ثم دخلت سنة اثنتين ومائة
فمن الحوادث فيها أن يزيد بن عبد الملك بعث [1] العباس بن الوليد بن عبد الملك ومسلمة بن عبد الملك إلى حرب يزيد بن المهلب، فخرج يزيد من واسط للقائهما، واستخلف بها ابنه معاوية بن يزيد، وجعل عنده الخزائن وبيت المال وقدم بين يديه أخاه عبد الملك، فاستقبله العباس بسورا، فاقتتلوا فشد عليهم أهل البصرة فكشفوهم وسقط إلى يزيد ناس كثير من أهل الكوفة ومن الجبال والثغور، فقام فيهم [2] فقال: قد ذكر لي أن هذه الجرادة الصفراء- يعني مسلمة بن عبد الملك- وعاقر ناقة صالح [3]- يعني العباس بن الوليد، وكان العباس أزرق أحمر وكانت أمه رومية- والله لقد كان سليمان أراد أن ينفيه حتى كلمته فيه فأقره على نسبه، بلغني أنه ليس يهمهما إلا التماسي في الأرض، والله لو جاءوا بأهل الأرض جميعا وليس إلا أنا، ما برحت العرصة حتى تكون لي أولهم.
وكان الحسن البصري يثبط الناس عن يزيد بن المهلب، فقام مروان بن المهلب خطيبا وأمر الناس بالجد والجهاد [4] ، ثم قال: لقد بلغني أن هذا الشيخ الضال المرائي- ولم يسمه- يثبط الناس عنا، والله لو أن جاره [5] نزع من خص داره [6] قصبة لظل يرعف أنفه. ولم يدع الحسن كلامه ذلك.
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 590.
[2] في ت: «فقدم فيهم» .
[3] في الأصلين: «ناقة صالح» وفي الطبري 6/ 592: «ناقة ثمود» .
[4] في ت: «والاجتهاد» . وفي الطبري 6/ 594: «والاحتشاد» .
[5] في الأصل: «لو أن رجلا» . وما أوردناه من ت والطبري.
[6] في الأصل: «حصر جاره» . وما أوردناه من ت والطبري.(7/79)
فلما اجتمع يزيد بن المهلب ومسلمة أقاما ثمانية أيام حتى إذا كان يوم الجمعة لأربع عشرة مضت من صفر عبأ مسلمة جنود الشام، ثم ازدلف بهم نحو يزيد، [وبعث مسلمة فأحرق الجسر فانهزم أصحاب يزيد] [1] وتسللوا وهو يزدلف، فكلما مر بخيل كشفها، فجاءه أبو رؤبة فقال له [2] : هل لك أن تنصرف إلى واسط فإنها حصن فتنزلها ويأتيك مدد أهل البصرة وأهل عمان والبحرين في السفن، وتضرب خندقا، فقال: قبح الله رأيك، إلي تقول هذا؟ إن الموت أيسر علي من ذلك، وبرز فقتل وقتل أخوه [محمد] [3] ، فبعث برأسه إلى يزيد بن عبد الملك، فلما بلغ خبر الهزيمة إلى واسط أخرج معاوية بن يزيد بن المهلب اثنين وثلاثين أسيرا كانوا عنده، فضرب أعناقهم، منهم عدي بن أرطأة.
ثم أقبل حتى أتى البصرة [4] ومعه المال والخزائن، وجاء المفضل بن المهلب، واجتمع جميع أهل المهلب بالبصرة، فحملوا عيالاتهم وأموالهم في السفن البحرية، ثم لججوا [5] في البحر، ومضوا إلى قندابيل، ورجع قوم فطلبوا الأمان، وبعث مسلمة في آثارهم هلالا التميمي، فلحقهم بقندابيل، ومنعهم قندابيل الدخول، فالتقوا فقتلوا عن آخرهم سوى رجلين، ولما فرغ مسلمة من حرب يزيد بن المهلب جمع له يزيد بن عبد الملك ولاية الكوفة والبصرة وخراسان في هذه السنة.
وفيها: [6] غزا المسلمون الصغد [7] والترك، وكانت الوقعة بينهم بقصر الباهلي [8] .
وفيها: عزل مسلمة بن عبد الملك عن العراق وخراسان، وانصرف إلى الشام.
وكان سبب ذلك أنه لما ولي أرض العراق وخراسان لم يرفع شيئا من الخراج،
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] الخبر في الطبري 6/ 596.
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] تاريخ الطبري 6/ 600.
[5] في الأصل: «ححوا» . وما أوردناه من ت والطبري.
[6] في ت: «وفي هذه السنة» .
[7] كذا في الأصلين وهو الصحيح، وفي الطبري: «السغد» .
[8] تاريخ الطبري 6/ 607.(7/80)
فأراد يزيد عزله فاستحيا منه، فكتب إليه أن استخلف على عملك وأقبل، فشاور في ذلك عبد العزيز بن حاتم، فقال له: إنك لا تخرج من عملك حتى تلقى الوالي عليه.
فشخص فلقيه عمر بن هبيرة على دواب البريد، فقال: إلى أين يا ابن هبيرة؟ فقال:
وجهني أمير المؤمنين في حيازة أموال بني المهلب، وإنما أراد تغطية الحال عنه، فما لبث حتى جاءه الخبر بعزل ابن هبيرة عماله والغلظة عليهم.
وفيها: غزا عمر بن هبيرة الروم بأرمينية، فهزمهم وأسر منهم سبعمائة أسير [1] .
وفيها: قتل يزيد بن أبي مسلم بأفريقية وهو وال عليها.
وسبب ذلك أنه كان قد عزم أن يسير فيهم بسيرة الحجاج فقتلوه، وأعادوا الوالي قبله، وهو محمد بن يزيد مولى الأنصار وكتبوا إلى يزيد: إنا لم نخلع أيدينا من الطاعة، ولكن يزيد بن أبي مسلم سامنا ما لا يرضاه الله تعالى فقتلناه وأعدنا عاملك، فكتب إليهم: إني لم أرض ما صنع يزيد، وأقر محمد بن يزيد على [عمله] [2] بإفريقية.
وفيها: [3] حج بالناس عبد الرحمن بن الضحاك وهو العامل على المدينة، وكان على مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وعلى الكوفة محمد بن عمرو، وعلى قضائها القاسم بْن عَبْد الرحمن بْن عَبْد اللَّه بْن مسعود، وعلى البصرة عبد الملك ابن بشر بن مروان، وعلى خراسان سعيد بن عبد العزيز [4] بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص، وعلى مصر أسامة بن زيد.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
562- يزيد بن المهلب بن أبي صفرة، أبو خالد الأزدي [5] :
قد ذكرنا أحواله في الحوادث وخروجه على يزيد بن عبد الملك ومحاربته له، وأنه قتل في الحرب في هذه السنة، وكان جوادا.
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 616.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] في ت: «وفي هذه السنة» .
[4] في الطبري: «سعيد بن خزينة» .
[5] وفيات الأعيان 2/ 264، وخزانة البغدادي 1/ 105، ورغبة الآمل 4/ 189، واليعقوبي 3/ 52.(7/81)
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، قال: أخبرنا جَعْفَر بْن أَحْمَد السراج، قَالَ:
أَخْبَرَنَا عَبْد العزيز بن الحسن [بن] [1] الضراب، قال: أخبرنا أبي، قال: حدّثنا أحمد ابن مروان، قال: حدّثنا محمد بن موسى بن حماد، قال: حدثنا محمد بن الحارث، عن المدائني، قال:
كان سعيد بن عمرو مؤاخيا ليزيد بن المهلب، فلما حبس عمر بن عبد العزيز يزيد ابن المهلب منع الناس من الدخول إليه، فأتاه سعيد فقال: يا أمير المؤمنين لي على يزيد خمسون ألف درهم وقد حلت بيني وبينه، فإن رأيت أن تأذن لي فاقتضيه، فأذن له فدخل عليه فسر به يزيد وقال: كيف وصلت إليّ؟ فأخبره، فقال: والله لا تخرج إلا وهي معك، فامتنع سعيد، فحلف يزيد ليقبضنها، فوجه إلى منزله حتى حمل إلى سعيد خمسون ألف درهم.
وروى الصولي قال: دخل الكوثر بن زفر على يزيد بن المهلب حين ولاه سليمان العراق، فقال له: أنت والله أكبر قدرا من أن يستعان عليك إلا بك، ولست تصنع من المعروف إلا وهو أصغر منك، وليس العجب أن تفعل، ولكن العجب ألا تفعل. فقال يزيد: سل حاجتك، فقال: حملت عن قوم عشر ديات وقد نهضني ذلك، قال: قد أمرت لك بها وقد شفعتها بمثلها، فقال له الكوثر: أما ما سألتك بوجهي فأقبله منك، وأما الذي ابتدأتني به فلا حاجة لي فيه. قال: ولم وقد كفيتك فيه ذل المسألة؟
قال: إن الذي أخذته مني بمسألتي إياك وبذل وجهي لك أكبر من معروفك عندي فكرهت الفضل علي، قال يزيد: وأنا أسألك كما سألتني بحقك علي ما أهلتني له من إنزالك الحاجة بي إلا قبلتها، ففعل
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/82)
ثم دخلت سنة ثلاث ومائة
فمن الحوادث فِيهَا غزوة الْعَبَّاس بْن الوليد الروم ففتح بها مدينة من مدائن الروم [1] .
وفيها: ضمت مكة إلى عبد الرحمن بن الضحاك الفهري، فجمعت له [مع] [2] المدينة. وعزل عبد العزيز عن مكة.
وفيها: ولي عبد الواحد بن عبد الله البصري الطائف.
وفيها: استعمل عمر بن هبيرة سعيد بن عمرو الحرشي على خراسان، فارتحل أهل الصغد عن بلادهم عند مقدمه، فلحقوا بفرغانة وسألوا ملكها إعانتهم على المسلمين، فبعث إليهم ابن هبيرة يسألهم أن يقيموا ويستعمل عليهم من يريدون، فأبوا وخرجوا إلى خجندة.
وفي هذه السنة [3] : حج بالناس عبد الرحمن بن الضحاك، وكان على مكة والمدينة، وكان على الطائف عبد الواحد البصري، وعلى العراق عمر بن هبيرة، وعلى خراسان من قبله سعيد بن عمرو الحرشي، وعلى قضاء الكوفة القاسم بْن عَبْد الرحمن بْن عَبْد اللَّه بْن مسعود، وعلى قضاء البصرة عبد الملك بن يعلى.
__________
[1] سماها في الطبري 6/ 619: «رسلة» . وفي ت: «مدينة بها» .
[2] ما بين المعقوفتين: من هامش الأصل، وت.
[3] في ت: «وحج بالناس في هذه السنة» .(7/83)
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
563- جابر بن زيد، أبو الشعثاء [1] :
كان مفتي البصرة، وكان ابن عباس يقول: لو نزل أهل البصرة عند قول جابر بن زيد لأوسعهم عما في كتاب الله علما.
وقال جابر في مرضه: أشتهي نظرة من الحسن، فجاء إليه في الليل وكان مختفيا.
[وتوفي في هذه السنة] .
564- خالد بن معدان، أبو عبد الله الكلاعي [2] :
أسند عن أبي عبيدة، ومعاذ، وعبادة، وأبي ذر، وغيرهم.
وتوفي في رمضان هذه السنة.
عن أبي المغيرة، عن صفوان بن عمر، قال: كان خالد بن معدان إذا عظمت حلقته قام فانصرف، قيل [3] لصفوان: ولم كان يقوم؟ قال: كان يكره الشهرة.
565- عامر بن عبد الله بن قيس، أبو بردة ابن أبي موسى [4] :
روى عن أبيه، وكان على بيت المال، وولي قضاء الكوفة بعد شريح، وبها توفي في هذه السنة.
566- عبد الرحمن بن حسان بن ثابت:
وقد مضى ذكره.
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 130، وطبقات خليفة 210، والتاريخ الكبير 2/ 1/ 204، والمعارف 435، والجرح والتعديل 1/ 1/ 494، وحلية الأولياء 3/ 85، وسير أعلام النبلاء 4/ 481، وتذكرة الحفاظ 1/ 72، وتهذيب التهذيب 2/ 38.
[2] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 162، وطبقات خليفة 310، والتاريخ الكبير 3/ 601، والمعارف 625، وأخبار القضاة لوكيع 1/ 251، والجرح والتعديل 3/ 1584، وحلية الأولياء 5/ 210، وتاريخ الإسلام 4/ 109، وسير أعلام النبلاء 4/ 536، وتذكرة الحفاظ 1/ 93، وتهذيب التهذيب 3/ 118.
[3] في الأصل: «قلت» . وما أوردناه من ت.
[4] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 187، والجرح والتعديل 6/ 325.(7/84)
567- عطاء بن يسار، أخو سليمان بن يسار [1] :
روى عن أبي بن كعب، وابن مسعود، وأبي أيوب في خلق كثير من الصحابة.
وكان يصوم يوما ويفطر يوما.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، قال: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار، قال:
أخبرنا علي بن أحمد الملطي، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الحسين بْن صفوان، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْر القرشي، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن الحسين، قال: حدثني عبد العزيز بن يحيى الأويسي، عَنْ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن زيد بْن أسلم، قال:
خرج عطاء بن يسار وسليمان بن يسار حاجين من المدينة ومعهما أصحاب لهما حتى إذا كانوا بالأبواء نزلوا منزلا، فانطلق سليمان وأصحابه لبعض حاجتهم وبقي عطاء قائما في المنزل يصلي. قال: فدخلت عليه امرأة من الأعراب جميلة، فلما رآها عطاء ظن أن لها حاجة، فأوجز في صلاته ثم قال: ألك حاجة؟ قالت: نعم، قال: ما هي؟
قالت: قم فأصب مني فإني قد ودقت ولا بعل لي، قال: إليك عني [لا تحرقيني ونفسك بالنار.
ونظر إلى امرأة جميلة فجعلت تراوده عن نفسه ويأبى إلا ما يريد. قال: فجعل عطاء يبكي ويقول: ويحك إليك عني] [2] . قال: واشتد بكاؤه، فلما نظرت المرأة إليه وما دخله من البكاء والجزع بكت المرأة لبكائه. قال: فجعل يبكي والمرأة تبكي بين يديه. فبينا هو كذلك إذ جاء سليمان من حاجته، فلما نظر إلى عطاء يبكي والمرأة بين يديه [3] تبكي جلس في ناحية البيت يبكي لبكائهما ولا يدري ما أبكاهما، وجعل أصحابهما يأتون رجلا رجلا كلما أتى رجل فرآهم يبكون جلس فبكى لبكائهم لا يسألهم عن أمرهم حتى كثر البكاء وعلا الصوت، فلما رأت المرأة الأعرابية ذلك قامت فخرجت. قال: فقام القوم فدخلوا، فلبث سليمان بعد ذلك وهو لا يسأل أخاه عن قصة المرأة إجلالا له وهيبة. قال: وكان أسن منه، ثم أنهما قدما مضر لبعض حاجتهما فلبثا بها ما شاء الله، فبينا عطاء ذات ليلة نائم إذ استيقظ وهو يبكي، فقال سليمان: ما يبكيك
__________
[1] طبقات ابن سعد 5/ 129، والجرح والتعديل 6/ 338.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] «فبينا هو كذلك.... والمرأة بين يديه» : سقطت من ت.(7/85)
يا أخي؟ قال: رؤيا رأيتها الليلة، قال: وما هي؟ قال: لا تخبر بها أحدا ما دمت حيّا، رأيت يوسف [1] النبي صلى اللَّه عليه وسلم في النوم، فجئت أنظر إليه فيمن ينظر، فلما نظرت حسنه بكيت، فنظر إلي فقال: ما يبكيك أيها الرجل؟ قلت: بأبي أنت وأمي يا نبي الله [2] ، ذكرتك وامرأة العزيز وما ابتليت به من أمرها، وما لقيت من السجن وفرقة يعقوب، فبكيت من ذلك وجعلت أتعجب منه، قال: فهلا تعجبت من صاحب المرأة البدوية بالأبواء، فعرفت الذي أراد، فبكيت فاستيقظت باكيا قال: سليمان: يا أخي وما حال تلك المرأة؟ فقص عليه عطاء القصة، فما أخبر بها سليمان أحدا حتى مات عطاء، فحدث بها بعده امرأة من أهله، وشاع الحديث بالمدينة بعد موت عطاء بن يسار.
وقد رويت لنا هذه القصة عن سليمان أنها جرت له، والله أعلم.
وتوفي عطاء في هذه السنة، وقيل: سنة أربع [وتسعين] [3] .
568- يزيد بن الأصم، واسمه عبد عمرو بن عدس [4] :
وأمه برزة بنت الحارث بن حزن، أخت ميمونة زوج النبي صَلى اللهُ عَلَيه وسلّم.
روى عن أبي هريرة، وابن عباس، وكان ينزل الرقة.
وتوفي في هذه السنة.
__________
[1] «يوسف» : سقطت من ت.
[2] في الأصل: «بأبي وأمي أنت يا رسول الله» . وما أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 178، والجرح والتعديل 9/ 252.(7/86)
ثم دخلت سنة أربع ومائة
فمن الحوادث فيها أن سعيدا الحرشي غزا فقطع النهر [1] ، فقتل أهل الصغد [2] واصطفى أموالهم وذراريهم، وكتب إلى يزيد بن عبد الملك ولم يكتب إلى عمر بن هبيرة، وكان هذا فيما وجد عليه ابن هبيرة فيه [3] ، وكان على الأقباض علباء بن أحمر فاشترى رجل منه جونة بدرهمين، فوجد فيها سبائك ذهب، فرجع وهو واضع يده على عينه كأنه رمد فرد الجونة وأخذ الدرهمين، وطلب فلم يوجد [4] .
وفي هذه السنة: عزل يزيد بن عبد الملك عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس عن مكة والمدينة، وذلك للنصف من ربيع الأول، وكان عامله على المدينة ثلاث سنين، وولي المدينة عبد الواحد النضري [5] .
وكان سبب عزل ابن الضحاك أنه خطب فاطمة بنت الحسين، فقالت: ما أريد النكاح، فألح عليها وتوعدها بأن يؤذي [6] ولدها، وكان على ديوان المدينة ابن هرمز الشامي، فدخل على فاطمة، فقال: هل من حاجة؟ فقالت: تخبر أمير المؤمنين ما ألقى
__________
[1] تاريخ الطبري 7/ 7.
[2] في الطبري: «السغد» . وما أوردناه أصح.
[3] «وكان هذا فيما وجد عليه ابن هبيرة فيه» . ساقط من ت.
[4] تاريخ الطبري 7/ 10.
[5] في الأصلين وبعض نسخ الطبري المخطوط: «البصري» . وما أوردناه من الطبري المطبوع. وسيأتي اسمه في حوادث سنة 105 في الأصل: «النضري» . وفي ت بدون نقط.
[6] في الأصل: «تواعدها بأن يزري» . وما أوردناه من ت.(7/87)
من ابن الضحاك، وبعثت رسولا بكتاب إلى يزيد تخبره بذلك، وتذكر قرابتها وما يتواعدها به، فقدم ابن هرمز على يزيد فاستخبره عن المدينة وقال: هل من مغربة خبر [1] ؟ فلم يذكر له شأن فاطمة، فقال الحاجب: بالباب رسول فاطمة، فقال ابن هرمز: يا أمير المؤمنين، إن فاطمة يوم خرجت حملتني رسالة إليك، وأخبره الخبر.
قال: فنزل من أعلى فراشه وقال: لا أم لك، أسألك عن مغربة [2] خبر، وهذا عندك ولا تخبرنيه؟ فاعتذر بالنسيان، فأذن للرسول فدخل وأخذ الكتاب فقرأه وجعل يضرب بخيزران في يده ويقول: لقد اجترأ ابن الضحاك، [هل] [3] من رجل يسمعني صوته في العذاب وأنا على فراشي؟ قيل له: عبد الواحد بن عبد الله النضري [4] ، فدعا بقرطاس وكتب بيده إلى عبد الواحد وهو بالطائف: سلام عليك، أما بعد. فقد وليتك المدينة، فإذا جاءك كتابي فاهبط إليها واعزل ابن الضحاك وأغرمه أربعين ألف دينار وعد به حتى أسمع صوته وأنا على فراشي.
فقدم البريد المدينة فلم يدخل على ابن الضحاك، فأحس بالشر، فأرسل إلى البريد فكشف له عن طرف المفرش فقال: هذه ألف دينار ولك العهد والميثاق، إن أخبرتني خبر وجهك هذا دفعتها إليك. فاستنظر البريد ثلاثا حتى يسير، وخرج ابن الضحاك، فأغذ السير حتى نزل على مسلمة بن عبد الملك، فقال: أنا في جوارك، فغدا مسلمة على يزيد فرققه وقال: لي حاجة إليك، فقال: كل حاجة فهي لك ما لم يكن ابن الضحاك، فقال: هو ابن الضحاك، فقال: والله لا أعفيه أبدا وقد فعل ما فعل، فرده إلى النضري [5] ، وكان قد قدم المدينة للنصف من شوال. وعذب ابن الضحاك وافتقر حتى رأيت عليه جبة صوف وهو يسأل الناس.
وكان قد عادى الأنصار في ولايته، وضرب أبا بكر بن حزم ظلما في باطل، فما بقي بالمدينة صالح إلا عابه، ولا شاعر إلا هجاه، وكان ذلك آخر أمره.
__________
[1] في الأصل: «معرفة خبر» . وما أوردناه من الطبري 7/ 13.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، وأوردناه من الطبري.
[3] في الأصول: «البصري» خطأ.
[4] في الأصل: «فوقفه» . أوردناه من ت.
[5] في الأصول: «البصري» . خطأ.(7/88)
وفي هذه السنة: غزا [1] الحجاج بن عبد الله الحكمي أرض الترك، ففتح على يديه بلنجر، وفتحوا الحصون التي تليها، وجلا عنها عامة أهلها وسبوا ما شاءوا [2] .
وفيها: ولد أبو العباس عبد الله بن مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس في ربيع الآخر.
وفيها: عزل ابن هبيرة سعيد بن عمرو الحرشي عن خراسان، وولى مسلم بن سعيد الكلابي. وسبب عزله الحرشي أن الحرشي كان يستخف بأمر ابن هبيرة، وكتب إليه يأمره بتخلية رجل فقتله، فدعى ابن هبيرة رجلا فقال له: اخرج إلى خراسان وأظهر أنك قد قدمت تنظر في [أمر] [3] الدواوين واعلم لي علمه، فمضى فجعل ينظر في الدواوين، فقيل للحرشي أنه لم يقدم إلا ليعلم علمك، فسم بطيخة [4] ، وبعث بها إليه فأكلها فمرض وتساقط شعره، ورجع إلى ابن هبيرة، فغضب ابن هبيرة، وعزل سعيدا وعذبه، وولى مسلم بن سعيد بن أسلم.
وفي هذه السنة: حج بالناس عبد الواحد بن عبد الله النضري [5] ، وكان هو العامل على مكة [والمدينة] [6] والطائف، وكان على العراق والمشرق عمر بن هبيرة، وعلى قضاء الكوفة حسين بن الحسن [7] الكندي، وعلى قضاء البصرة عبد الله بن يعلى.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
569- حيان بن شريح:
كان صاحب خراج مصر لعمر بن عبد العزيز، حدث عنه يزيد بن أبي حبيب، وعبد الملك بن جنادة، توفي في هذه السنة.
__________
[1] في الأصل: «عزل» . وما أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «جاووا» . وما أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] في الأصل: «فطيرة» . وما أوردناه من ت والطبري.
[5] في الأصل: «البصري» .
[6] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[7] في الأصل: «حسن بن الحسن» . وما أوردناه من ت.(7/89)
570- ربعي بن حراش بن جحش بن عمرو بن عبد الله بن بجاد العبسي الكوفي [1] :
روى عن عمر، وعلي، وحذيفة، وأبي بكرة، وعمران بن حصين. حدث عنه الشعبي، ومنصور بن المعتمر، وحصين بن عبد الرحمن وغيرهم. وكان ثقة صدوقا.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ الْقَزَّازِ، قَالَ: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب، قَالَ: أخبرنا حمزة بن محمد بن طاهر، قَالَ: حَدَّثَنَا الوليد بْن بكر الأندلسي، قَالَ: حدثنا علي بن أحمد بن زكريا الهاشمي، قَالَ: حدثنا صالح بن أحمد بن عبد الله العجلي، قال: حدثني أبي، قال:
ربعي بن خراش كوفي ثقة. ويقال أنه لم يكذب كذبة قط. كان له ابنان عاصيان في زمن الحجاج، فقيل للحجاج: إن أباهما لم يكذب كذبة قط [2] ، لو أرسلت إليه فسألته عنهما، فأرسل إليه فقال: أين ابناك؟ قال: هما في البيت [3] ، فقال: قد عفونا عنهما بصدقك.
أخبرنا القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا علي بن أحمد المعدل، قال: أخبرنا ابن صفوان، قال: أخبرنا ابن أَبِي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ حَدَّثَنَا محمد بن جعفر بن عون قال: أخبرني بكر بن أحمد العابد، عن الحارث الغنوي، قال [4] :
آلى ربعي بن حراش ألا تفتر [5] أسنانه ضاحكا حتى يعلم أين مصيره، فما ضحك إلا عند موتة، [6] وآلى أخوه ربعي بن حراش بعده ألا يضحك حتى يعلم أفي الجنة هو أم في النار.
__________
[1] تاريخ بغداد 8/ 133، وطبقات ابن سعد 6/ 87، وطبقات خليفة 154، والتاريخ الكبير 3/ 1106، وتاريخ واسط 70، 97، والجرح والتعديل 3/ 2307، وأنساب السمعاني 8/ 367، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 5/ 300، ووفيات الأعيان 2/ 300، وتاريخ الإسلام 4/ 111، وسير أعلام النبلاء 4/ 359، وتذكرة الحفاظ 1/ 69، والإصابة 1/ 525. وتهذيب التهذيب 3/ 336.
[2] في الأصل: «لم يكذب قط كذبة» . وما أوردناه من ت.
[3] في ت: «في بيتي» .
[4] الخبر في تاريخ بغداد 4348.
[5] في الأصل: «لا تفتر» . وما أوردناه من ت وتاريخ بغداد.
[6] في الأصل: «بعد موته» . وما أوردناه من ت وبغداد.(7/90)
قال الحارث الغنوي: فلقد أخبرني غاسله أنه لم يزل متبسما على سريره ونحن نغسله حتى فرغنا منه [1] .
توفي ربعي بن حراش في هذه السنة، وقيل فِي سنة إحدى.
571- زياد بن أبي زياد، مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة القرشي، واسم أبي زياد ميسرة. [2]
وكان زياد عبدا، وكان عمر بن عبد العزيز يستزيده ويكرمه، وبعث إلى مولاه ليبيعه إياه، فأبى وأعتقه.
وروي عن أنس بن مالك، قال مالك بن أنس: كان زياد عابدا معتزلا لا يزال يذكر الله ويلبس الصوف.
أخبرنا ابن ناصر، قَالَ: أَخْبَرَنَا رِزْقُ اللَّهِ وَطِرَادٌ، قَالا: أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن مُحَمَّدً بْن بشران [3] ، قَالَ: حَدَّثَنَا الحسين بْنُ صَفْوَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن محمد الْقُرَشِيّ، قَالَ: حدثنا علي بن محمد، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن صالح، قَالَ: حدثني يعقوب بن عبد الرحمن القاري، قال: قال محمد بن المنكدر:
إني خلفت زياد بن أبي زياد وهو يخاصم نفسه في المسجد يقول: اجلسي، أين تريدين أن تخرجي إلى أحسن من هذا المسجد؟ انظري إلى ما فيه، تريدين أن تنظري إلى دار فلان وفلان. قال: وكان يقول لنفسه: مالك من الطعام يا نفس إلا هذا الخبز والزيت، ومالك من الثياب إلا هذين الثوبين، ومالك من النساء إلا هذه العجوز، أتحبين أن تموتي؟ فقالت: أنا أصبر على هذا العيش.
572- عبد الله بن يزيد [4] ، أبو قلابة الجرمي [5] :
كان فقيها عالما بالفقه، بصيرا بالقضاء، فلما طلب للقضاء هرب ومرض، فدخل
__________
[1] «أبي حراس بعده ألا يضحك ... حتى فرغنا منه» : ساقطة من ت، وكتب على هامشها.
[2] طبقات ابن سعد 5/ 225، والتاريخ الكبير 3/ 1196، والجرح والتعديل 3/ 2460، وتهذيب تاريخ دمشق 5/ 433، وتاريخ الإسلام 5/ 72، وسير أعلام النبلاء 5/ 456، وتهذيب التهذيب 3/ 367.
[3] في الأصل: «علي بن محمد بن مشرف» . والتصحيح من ت.
[4] في الأصلين: «ابن يزيد» . خطأ. والتصحيح من كتب الرجال.
[5] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 133، وطبقات خليفة 211، والتاريخ الكبير 5/ 255، والمعارف(7/91)
عليه عمر بن عبد العزيز يعوده، فقال له: يا أبا قلابة، تشدد ولا تشمت بنا المنافقين [1] .
ومات بالشام في هذه السنة.
أخبرنا علي بن عبيد الله الفقيه، وإسماعيل بن أحمد المنقري، قالا: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ النَّقُّورِ، قَالَ: أخبرنا علي بن عبد العزيز بن مردك، قال: حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ بن أبي حاتم، قَالَ: حدثنا عمار بن خالد الواسطي، قال: حدثنا الحكم بن سيار، قال: حدثنا أيوب السختياني، قال: قال لي أبو قلابة:
احفظ عني ثلاث خصال: إياك وأبواب السلطان، ومجالسة أهل الأهواء، والزم سوقك فإن الغنى من العافية.
أنبأنا عبد الوهاب بن المبارك، قال: أخبرنا جعفر بن أحمد، قَالَ: أخبرنا عبد العزيز بْن الحسن بْن إِسْمَاعِيل الضراب، قَالَ: أَخْبَرَنِي أبي، قَالَ: حدّثنا أحمد ابن مروان، قال: حدثنا يوسف بن عبد الله الحلواني، قال: حدثنا عثمان بن الهيثم، قال:
كان رجل بالبصرة من بني سعيد [2] ، وكان قائدا من قواد عبيد الله بن زياد، فسقط من السطح فانكسرت رجلاه، فدخل عليه أبو قلابة يعوده، فقال له: أرجو أن يكون لك خيرة، فقال: يا أبا قلابة، وأي خيرة في كسر رجلي جميعا، قال: ما ستر الله عنك أكثر، فلما كان بعد ثلاث ورد عليه كتاب عبيد الله بن زياد أن يخرج فيقاتل الحسين بن علي رضي الله عنهما فقال للرسول: قد أصابني ما ترى، فما كان إلا سبعا حتى وافى الخبر بقتل الحسين، فقال الرجل: رحم الله أبا قلابة، لقد صدق أنه كان خيرة لي.
573- عامر بن شراحيل [3]- وقيل: عامر بن عبد الله بن شراحيل- أبو عمرو الشعبي: [4]
من شعب همدان، كوفي، وأمه من سبي جلولاء، ولد لست سنين خلت من
__________
[ () ] 446، 447، والجرح والتعديل 5/ 268، وحلية الأولياء 2/ 282، وسير أعلام النبلاء 4/ 468، وتذكرة الحفاظ 1/ 94، وتاريخ الإسلام 4/ 221، وتهذيب التهذيب 5/ 224، وتقريب التهذيب 1/ 417.
[1] الخبر في طبقات ابن سعد 7/ 1/ 135.
[2] في ت: «من بني سعد» .
[3] على هامش الأصل: «عامر الشعبي» .
[4] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 171، وطبقات خليفة 157، والتاريخ الكبير 4/ 2503، والمعارف 449،(7/92)
خلافة عمر بن الخطاب هو وأخ له توأما. وسمع علي بن أبي طالب، والحسن، والحسين، وعبد الله بن جعفر، وابن عباس، وابن عمر [1] ، وابن عمرو، وابن الزبير، وأسامة، وجابر، والبراء، وأنس، وأبا هريرة، وعدي بن حاتم، وسمرة، وعمرو بن حريث، والمغيرة، وزيد بن أرقم، وغيرهم.
وكان مفتيا [2] في العلوم وحافظا ثقة، وقال: ما كتبت سوداء في بيضاء، ولا حدثني رجل بحديث قط إلا حفظته، وما أحببت أن يعيده علي، وما أروي شيئا أقل من الشعر، ولو شئت لأنشدتكم شهرا لا أعيد. ولقد نسيت من العلم ما لو حفظه رجل لكان به عالما، وليتني أفلت من ذلك كفافا لا علي ولا لي.
وسمعه عمر يحدث بالمغازي، فقال: لكأن هذا الفتى شهد معنا.
وقال أبو مخلد: ما رأيت أفقه من الشعبي، ولما بلغ عبد العزيز بن مروان عقل الشعبي وعلمه وطيب مجالسته كتب إلى أخيه عبد الملك أن يؤثره بالشعبي، ففعل وكتب إليه: إني أوثرك به على نفسي، لا يلبث عندك إلا شهرا. وكان عبد العزيز بمصر فأقام عنده نحوا من أربعين يوما ثم رده.
أخبرنا القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرنا محمد بن عبد الواحد بن علي البزاز، قال: أخبرنا القاضي أبو سعيد الحسن بْن مُحَمَّد بْن عبد الله بْن المرزبان السيرافي، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دريد، قال: حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه، قال: [3] وجه عبد الملك بن مروان عامرا الشعبي إلى ملك الروم في بعض الأمر
__________
[451،) ] والجرح والتعديل 6/ 1802، وتاريخ بغداد 12/ 227، والأنساب للسمعاني في 7/ 241، ووفيات الأعيان 3/ 12، 15، وسير أعلام النبلاء 4/ 2094، 319، وتذكرة الحفاظ 1/ 79، وتاريخ الإسلام 4/ 130، وتهذيب التهذيب 5/ 65، وتقريب التهذيب 1/ 387.
[1] «ابن عمر» : سقطت من ت، وفي مراسيل ابن أبي حاتم 160: «لم يسمع الشعبي من ابن عمر» .
وذكرت بعض المراجع أنه سمع منه.
[2] في ت: «كان متفننا» .
[3] الخبر في تاريخ بغداد 12/ 231، وتاريخ دمشق 199.(7/93)
فاستكثره [1] ، فقال له: من أهل بيت الملك أنت؟ قال: لا، فلما أراد الرجوع إلى عبد الملك حمله رقعة لطيفة وقال: إذا رجعت إلى صاحبك فأبلغه جميع ما يحتاج إلى معرفة من ناحيتنا، وادفع إليه هذه الرقعة، فلما صار الشعبي إلى عبد الملك ذكر له ما احتاج إلى ذكره، ونهض من عنده، فلما خرج ذكر الرقعة فرجع، فقال: يا أمير المؤمنين، إنه حملني إليك رقعة نسيتها حين خرجت، وكانت في آخر ما حملني، فدفعها إليه ونهض فقرأها عبد الملك فأمر برده، فقال: أعلمت ما في هذه الرقعة؟ قال:
لا، قال: فيها: عجبت من العرب كيف ملكت غير هذا، أفتدري لم كتب إلي بهذا؟
فقال: لا، قال: حسدني بك فأراد أن يغريني بقتلك، فقال الشعبي: لو كان ذاك يا أمير المؤمنين ما استكثرني. فبلغ ملك الروم ذلك، فذكر عبد الملك [2] فقال: للَّه أبوه، والله ما أردت إلا ذلك.
كان الشعبي قد خرج مع القراء على الحجاج ثم دخل عليه فاعتذر فقبل عذره، وولي القضاء.
أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عبد الجبار، قال: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْفَتْحِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابن أخي ميمي، قَالَ: أَخْبَرَنَا جَعْفَر بْن مُحَمَّد الخواص، قَالَ: حدثنا ابن مسروق، قال: حدثنا إبراهيم بن سعيد، قال: حدثنا أبو أسامة، قال:
حدثنا زكريا بن يحيى، قال:
دخلت على الشعبي وهو يشتكي فقال له: كيف تجدك؟ قال: أجدني وجعا مجهودا، اللَّهمّ إني أحتسب نفسي عندك فإنها أعز الأنفس عندي.
توفي في هذه السنة. قاله الأكثرون. وقيل: في سنة سبع. وفي مقدار عمره قولان، أحدهما: سبع وتسعون، والثاني: اثنتان وثمانون.
574- مجاهد بن جبر، يكنى أبا الحجاج، مولى قيس بن السائب المخزومي: [3]
كان فقيها دينا ثقة. روى عن ابن عمر، وابن عمرو، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وابن عباس في آخرين.
__________
[1] كذا في الأصل، وفي ت وتاريخ بغداد: «فاسكثر الشعبي» .
[2] في ت: وتاريخ بغداد: «فذكر ذلك عند ملك الروم، فقال: للَّه أبوه» .
[3] طبقات ابن سعد 5/ 343، وتقريب التهذيب 2/ 229، والجرح والتعديل 8/ 319، والتاريخ الكبير(7/94)
قال بعض الرواة: كنت إذا رأيت [1] مجاهدا ظننت أنه خربندج [2] ضل حماره فهو مهتم.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه الدَّقَّاق، قَالَ: أخبرنا [المبارك بن عبد الجبار قال:
أخبرنا ابْن] [3] صفوان، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بكر بْن عبيد، قال: حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا محمد بن كناسة، قال: حدثنا عمر بن ذر، عن مجاهد، قال:
إذا أراد أحدكم أن ينام فليستقبل القبلة ولينم على يمينه وليذكر الله، وليكن آخر كلامه عند منامه لا إله إلا الله، فإنها وفاة لا يدرى لعلها تكون منيته. ثم قرأ: (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) 6: 60 [4] .
توفي مجاهد وهو ساجد في هذه السنة. وقيل: في سنة اثنتين، وقيل: في سنة ثلاث. وقد بلغ ثلاثا وثمانين سنة.
__________
[4] / 1/ 411، والبداية والنهاية 9/ 250، وصفة الصفوة 2/ 117، وحلية الأولياء 3/ 279، وميزان الاعتدال 3/ 9.
[1] في الأصل: «قيل: كان إذا رئي مجاهد» . وما أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «ظن أنه خربندة» وما أوردناه من طبقات ابن سعد، وت.
والخربند ج: لغة فارسية حديثة، أي: مكاريّ، وفي المحيط: «خربندية» عامية خرمندية بمعنى:
مكارون.
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] سورة: الأنعام، الآية: 60.(7/95)
ثم دخلت سنة خمس ومائة
فمن الحوادث فيها غزوة الجراح بن عبد الله اللان حتى جاز إلى مدائن وحصن وراء بلنجر وأصاب غنائم كثيرة.
وغزوة سعيد بن عبد الملك أرض الروم، فبعث سرية في نحو من ألف مقاتل فأصيبوا جميعا.
وغزوة مسلم بن سعيد الترك، فلم يفتح شيئا.
وغزوة مسلم أفشين [1] ، فصالح ملكها على ستة آلاف رأس، ودفع إليه القلعة.
وفيها: توفي يزيد بن عبد الملك وولي هشام.
__________
[1] في الطبري: «وغزوة مسلم مدينة من مدائن السغد أفشينة» .(7/96)
باب ذكر خلافة هشام بن عبد الملك [1]
كان عبد الملك قد تزوج عائشة بنت هشام بن إسماعيل المخزومية، وكانت حمقاء، فولدت له هشاما في العام الذي قتل فيه مصعب بن الزبير، فسماه منصورا، وسمته أمه هشاما فلم ينكر ذلك، وكان عبد الملك قد رأى في منامه أم هشام قد فلقت رأسه فلطعت فيه عشرين لطعة، فعبرها له سعيد بن المسيب، فقال: تلد غلاما يملك عشرين سنة، فولدت له هشاما، ورأى هشام في منامه أن طبقا فيه تفاح قد قدم إليه، فأكل تسع عشرة تفاحة وبعض الأخرى، فسأل عن ذلك فقيل له: تملك تسع عشرة سنة وكسرا، فكان لا يقدم إليه التفاح في خلافته ولا يراه.
وكان يكنى أبا الوليد، وكان أبيض حسن الجسم، أحول، يخضب بالسواد، ولد له عشرة من الذكور. وكان لهاجا بعمارة الأرض وبالآلات والكسى والفرش، [2] فجمع من ذلك ما حمله على سبعمائة بعير، ووجد له اثنا عشر ألف قميص، وسبعمائة تكة [3] .
ذكر طرف من أخباره وسيرته
أخبرنا ابن ناصر، قَالَ: أخبرنا أبو عبد الله الحُمَيْدِي، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعي، قال: أخبرنا أبو مسلم محمد بن أحمد الكاتب، قال: أخبرنا
__________
[1] مروج الذهب 3/ 216، والبداية والنهاية 9/ 261، 395، وتاريخ الطبري 7/ 25، 7/ 200، واليعقوبي 3/ 57، ومرآة الجنان 1/ 261.
[2] في الأصل: «الفروش» . وما أوردناه من ت.
[3] التكة: واحدة التكك، وهي تكة السراويل، وجمعها تكك، والتكة رباط السراويل.(7/97)
ابن دريد، قال: أخبرنا أبو حاتم، عن أبي عبيد، عن يونس، قال:
اشترى هشام بن عبد الملك جارية، وخلا بها، فقالت له: يا أمير المؤمنين، ما من منزلة أطمع فيها فوق منزلتي إذ صرت للخليفة، ولكن النار ليس لها خطر، إن ابنك فلانا اشتراني، فكنت عنده- لا أدري ذكر ليلة أو نحو ذلك- لا يحل لك مسي، قال:
فحسن هذا القول [منها] [1] عنده وحظيت عنده وتركها وولاها أمره.
قال علماء السير: وكان هشام إذا صلى الغداة كان أول من يدخل عليه صاحب حرسه [2] ، فيخبره بما حدث في الليل. ثم يدخل عليه موليان له، مع كل واحد منهما مصحف، فيقعد أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره حتى يقرأ عليهما جزأه، ويدخل الحاجب فيقول: فلان بالباب، وفلان، وفلان، فيقول: ائذن. فلا يزال الناس يدخلون عليه، فإذا انتصف النهار وضع طعامه ورفعت الستور، ودخل الناس وأصحاب الحوائج وكاتبه قاعد خلف ظهره، فيقول: أصحاب الحوائج، فيسألون حوائجهم، فيقول:
لا ونعم، والكاتب خلفه يوقع بما يقول، حتى إذا فرغ من طعامه وانصرف الناس صار إلى قائلته، فإذا صلى الظهر دعى بكتابه فناظرهم فيما ورد من أمور الناس حتى يصلي العصر، ثم يأذن للناس، فإذا صلى العشاء الآخرة حضر سماره، الزهري وغيره.
فجاء الخبر من أرمينية أن خاقان قد خرج، فنهض في الحال وحلف أن لا يؤويه سقف بيت حتى يفتح الله عليه، وسيأتي ذكر هذه القصة فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وقال بشر مولى هشام: تفقد هشام بعض ولده لم يحضر الجمعة، فقال له: ما منعك؟ فقال: نفقت دابتي، قال: وعجزت عن المشي فتركت الجمعة، فمنعه الدابة سنة.
وظهر في أيام هشام غيلان بن مروان أبو مروان الدمشقي فأظهر الاعتزال فقتله وصلبه بباب دمشق.
أَخْبَرَنَا أَبُو الحصين، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو طالب مُحَمَّد بْن عبد الله الشافعي، قال:
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «يدخل عليه أولا صاحب حرسه» .(7/98)
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا، قَالَ: حدثنا إسماعيل بن الحارث بن كثير بن هشام، عن عبد الله بن زياد، قال:
قال غيلان لربيعة بن أبي عبد الرحمن: أنشدك الله، أترى الله يحب أن يعصى؟
قال ربيعة: أنشدك الله، أترى الله يعصى قسرا، فكأن ربيعة ألقم حجرا.
أنبأنا عبد الوهاب الأنماطي، ومحمد بن ناصر الحافظان، قالا: أَخْبَرَنَا المبارك بْن عَبْد الجبار، قَالَ: أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن قشيش، قال: أخبرنا أبو محمد عبيد الله بن محمد بن علي الجوادي، قال: حدثنا أبو بكر بن الأنباري، قال:
قال أبي، حدثنا [1] أحمد بن عبيد المدائني، قال:
حكي لنا أن أبا جعفر المنصور وجه إلى شيخ من أهل الشام كان بطانة هشام بن عبد الملك فسأله عن تدبير هشام في بعض حروبه الخوارج، فوصف له الشيخ ما دبر، فقال: فعل رحمه الله كذا، وصنع رحمه الله كذا وكذا، فقال له المنصور: قم عليك وعليه لعنة الله، تطأ بساطي وتترحم على عدوي، فقام الرجل وهو يقول وهو مول: إن نعم عدوك لقلادة في عنقي لا ينزعها إلا غاسلي، فقال له المنصور: ارجع يا شيخ، فرجع فقال: أشهد أنك نهيض حر وغراس شريف، عد إلى حديثك، فعاد الشيخ إلى حديثه حتى إذا فرغ دعى له بمال فأخذه وقال: والله يا أمير المؤمنين ما بي إليه من حاجة، ولقد مات عني من كنت في ذكره آنفا، فما أحوجني إلى وقوف بباب [2] أحد، ولولا جلالة عز أمير المؤمنين وإيثار طاعته ما لبست لأحد بعده نعمة، فقال له المنصور:
مت إذا شئت للَّه أبوك، فلو لم يكن لقومك غيرك كنت قد أبقيت لهم مجدا مخلدا.
وكان هشام لا يلتفت إلى أولاد عمر بن عبد العزيز ولا يعطيهم شيئا ويقول: أرضى لهم ما رضي لهم أبوهم.
وكان العامل في هذه السنة على المدينة ومكة والطائف عبد الواحد النّضري،
__________
[1] في الأصل: «قال: قال أبي» . وما أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «في باب أحد» . وما أوردناه من ت.(7/99)
وعلى قضاء الكوفة حسين بن حسن الكوفي [1] ، وعلى قضاء البصرة موسى بن أنس.
وكان خالد القسري على العراق وخراسان. وقيل: إنما استعمل في سنة ست. وكان العامل في هذه السنة عمر بن هبيرة، فعزله هشام في أول ولايته وولى خالدا.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
575- أبان بن عثمان بن عفان، يكنى أبا سعيد [2]
ولي المدينة لعبد الملك سبع سنين وأشهر، وهو أحد سبعة من فصحاء الإسلام، سعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن عمير الليثي، وأبو الأسود الدؤلي، ومحمد بن سعد بن أبي وقاص، والحسن البصري، وقبيصة بن جابر الأسدي.
وولد [له] [3] ستة ذكور منهم عبد الرحمن بن أبان. وكان من أزهد الناس، وعقب أبان كثير بناحية الأندلس. توفي بالمدينة في هذه السنة بعد أن فلج سنه أعظم فالج حتى ضرب به المثل. وكان به وضح عظيم، وصمم شديد، وحول قبيح. وهو وأخواه عمرو وعمر لأم واحدة.
576- شفي بن ماتع، أبو عبيد الأصبحي [4] :
يروي عن عبد الله بن عمرو، وأبي هريرة. وكان عالما حكيما. روى عنه أبو قبيل المعافري وغيره. وكان شفي إذا أقبل يقول عبد الله بن عمرو: جاءكم أعلم من عليها.
577- الضحاك بن مزاحم، أبو القاسم الهلالي: [5]
أصله من الكوفة، حملت به أمه سنتين، وكان عالما بالتفسير، لقي سعيد بن جبير
__________
[1] كذا في الأصلين، وفي الطبري: «الكندي» .
[2] طبقات ابن سعد 5/ 112، وتهذيب الكمال 2/ 17، وتقريب التهذيب 1/ 31، والجرح والتعديل 2/ 295، والتاريخ الكبير 1/ 1/ 450.
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 201، وطبقات خليفة 294، 311، والتاريخ الكبير 4/ 2753، والجرح والتعديل 4/ 1704، وحلية الأولياء 5/ 166، وأسد الغابة 2/ 399، وتاريخ الإسلام 4/ 123، وتقريب التهذيب 1/ 353.
[5] طبقات ابن سعد 6/ 210، 7/ 2/ 102، وطبقات خليفة 311، 322، والتاريخ الكبير 4/ 3020،(7/100)
فأخذ عنه، ولم ير ابن عباس، وكان يعلم ولا يأخذ أجرا، ثم أقام ببلخ.
قال قبيصة بن قيس العنبري [1] : كان الضحاك بن مزاحم إذا أمسى بكى، فيقال له: ما يبكيك؟ فيقول: لا أدري ما صعد اليوم من عملي.
توفي الضحاك في هذه السنة، وقيل: في سنة اثنتين ومائة.
578- عبد الله بن حبيب بن ربيعة، أبو عبد الرحمن السلمي الكوفي:
سمع عثمان، وعليا، وابن مسعود، وحذيفة، وغيرهم. روى عنه سعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي. وأقرأ القرآن الناس [2] أربعين سنة، وصام ثمانين رمضانا.
أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْقَزَّازُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ ثَابِتٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يُوسُفَ الصَّيَّادُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ خلاد، قَالَ: حَدَّثَنَا الحارث بن مُحَمَّد، قَالَ: حدثنا عَفَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، قَالَ [3] : دَخَلْنَا عَلَى عبد الله بن حبيب وَهُو يَقْضِي فِي مَسْجِدِهِ، فَقُلْنَا: يَرْحَمُكَ اللَّهُ لَوْ تَحَوَّلْتَ إِلَى فِرَاشِكَ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ مِنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: «لا يَزَالُ الْعَبْدُ فِي صَلاةٍ مَا كَانَ فِي مُصَلاهُ يَنْتَظِرُ الصَّلاةَ، تَقُولُ الْمَلائِكَةُ: اللَّهمّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهمّ ارْحَمْهُ» .
فَأُرِيدُ أَنْ أَمُوتَ وَأَنَا فِي مَسْجِدِي. [4] توفي في هذه السنة وله تسعون سنة.
__________
[ () ] والجرح والتعديل 4/ 2024، وأورده المصنف في الضعفاء، وسير أعلام النبلاء 4/ 598، وديوان الضعفاء للذهبي 1984، وميزان الاعتدال 2/ 3942، وتهذيب التهذيب 4/ 453، وتقريب التهذيب 1/ 373.
[1] في الأصل: «عن قبيصة بن قيس العنبري قال» . وما أوردناه من ت.
[2] «الناس» : سقطت من ت.
[3] طبقات ابن سعد 6/ 119، وطبقات خليفة 153، وعلل أحمد 1/ 37، والتاريخ الكبير 5/ 188، 9/ 835، والجرح والتعديل 5/ 164، وتاريخ بغداد 9/ 430، وسير أعلام النبلاء 4/ 267، وتذكرة الحفاظ 58، وتاريخ الإسلام 3/ 222، وتهذيب التهذيب 5/ 183، وتقريب التهذيب 1/ 408.
[4] الخبر في تاريخ بغداد 9/ 430.(7/101)
579- عكرمة مولى عبد الله بن عباس، يكنى أبا عبد الله: [1]
توفي ابن عباس وهو عبد، فاشتراه خالد بن يزيد بن معاوية من علي بن عبد الله بن عباس بأربعة آلاف دينار، فبلغ ذلك عكرمة فأتى عليا فقال: بعت علم أبيك بأربعة آلاف دينار، فراح علي إلى خالد فاستقاله فأقاله فأعتقه.
وكان يروي عن ابن عباس، وأبي هريرة، والحسين بن علي، وعائشة.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حمد بْن أَحْمَد، قَالَ:
حَدَّثَنَا أبو نعيم الأَصْفَهَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عثمان بن أبي شَيْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْحُرَيْثِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ:
كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَجْعَلُ فِي رِجْلِي الْكَبْلَ يُعَلِّمُنِي الْقُرْآنَ، وَالسُّنَنَ.
وَكَانَ الشَّعْبِيُّ يَقُولُ: مَا بَقِيَ أَحَدٌ أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنْ عِكْرِمَةَ.
وَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: عِكْرِمَةُ أَعْلَمُ النَّاسِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: أَعْلَمُهُمْ بِالتَّفْسِيرِ عِكْرِمَةُ.
تُوُفِّيَ عِكْرِمَةُ بِالْمَدِينَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي سَنَةِ سَبْعٍ، وَقِيلَ: فِي سَنَةِ سِتٍّ، وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً.
580- غزوان بن غزوان الرقاشي، وقيل: غزوان بن زيد [2] :
كان من كبار الصالحين.
أنبأنا أبو بكر بن أبي طاهر، عن أبي محمد الجوهري، عن أبي عَمْرُو بْنُ حَيْوَيْهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ مَعْرُوفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَهِمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا محمد بن سعد،
__________
[1] طبقات ابن سعد 2/ 2/ 133، وتهذيب التهذيب 7/ 263، والتاريخ الكبير 4/ 1/ 49، والجرح والتعديل 7/ 7، وتذكرة الحفاظ 1/ 95، ومعجم الأدباء 5/ 62، وطبقات المفسرين للداوديّ 1/ 386.
[2] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 157، وفي ت: «عبد الله بن غزوان، وهو غزوان بن غزوان الرقاشي، وقيل:
غزوان بن زيد.(7/102)
قال: حدثنا يحيى بن راشد، قال: حدثنا عثمان بن عبد الحميد الرقاشي، قال:
سمعت مشيختنا يذكرون:
أن غزوان لم يضحك منذ أربعين سنة.
وكان غزوان يغزو، فإذا أقبلت الرفاق راجعين تستقبلهم أمه فتقول لهم: أما تعرفون غزوان، فيقولون: ويحك يا عجوز، ذاك سيد القوم [1] .
581- كثير بن عبد الرحمن بن الأسود بن عامر بن عويمر [2] بن مخلد، أبو صخر الخزاعي الشاعر [3] :
واسم أمه جمعة بنت الأشيم بن خالد، وقيل: جمعة بنت كعب بن عمرو. وقيل:
كانت كنية جده أبي أمه أبا جمعة، فلذلك قيل: ابن أبي جمعة. وكان شاعرا مجيدا إلا أنه كان رافضيا يقول بإمامة محمد بن الحنفية، وأنه أحق من الحسن والحسين بالإمامة ومن سائر الناس. وأنه حي مقيم بجبل رضوى لا يموت. ومدح عبد الملك وعمر بن عبد العزيز، وكان يقول بالتناسخ والرجعة. وكان يقول: أنا يونس بن متى، يعني أن روحه نسخت في. وقال يوما: ما يقول الناس في؟ قيل: يقولون أنك الدجال، فقال:
إني لأجد في عيني ضعفا منذ أيام.
وكان بمكة وقد ورد على الأمراء الأمر بلعن علي رضي الله عنه، فرقي المنبر وأخذ بأستار الكعبة وقال:
لعن الله من يسب عليا ... وبنيه من سوقة وإمام
أيسب المطهرون أصولا ... والكرام الأخوال والأعمام
يأمن الطير والحمام ولا ... يأمن آل الرسول عند المقام
فأنزلوه عن المنبر وأثخنوه ضربا بالنعال وغيرها فقال:
إن امرأ كانت مساوئه ... حب النبي بغير ذي عتب
__________
[1] الخبر في طبقات ابن سعد 7/ 1/ 158.
[2] في ت: «بن عامر بن عقور» . خطأ.
[3] الأغاني 9/ 5، والبداية والنهاية 9/ 281، والوفيات 1/ 433، وشذرات الذهب 1/ 131، وخزانة البغدادي 2/ 381.(7/103)
وبني أبي حسن ووالدهم ... من طاب في الأرحام والصلب
أترون ذنبا أن أحبهم ... بل حبهم كفارة الذنب
وكان كثير دميم الخلقة فاستزاره عبد الملك، فازدراه لدمامته، فقال: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه [1] ، فقال كثير:
ترى الرجل النحيف فتزدريه ... وفي أثوابه أسد مزير
فقال له: إن كنا أسأنا اللقاء فلسنا نسيء الثواء، حاجتك، قال: تزوجني عزة، فأراد أهلها على ذلك، فقالوا: هي بالغ وأحق بنفسها، فقيل لها، فقالت: أبعد ما تشبب بي وشهرني في العرب ما لي إلى ذلك سبيل.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، قال: أخبرنا الحسين بْن عَبْد الجبار، قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَبُو الطيب الطبري، قال: حدثنا المعافى بن زكريا، قال: حدثنا الحسن بن علي بْن المرزبان، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن هارون النحوي، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن أبي يعقوب الدينَوَريّ، قال: حدثني نصر بن ميمون، عن العتبي، قال:
كان عبد الملك بن مروان يحب النظر إلى كثير إذ دخل عليه آذنه يوما، فقال: يا أمير المؤمنين، هذا كثير بالباب، فاستبشر عبد الملك وقال: أدخله يا غلام، فأدخل كثير- وكان دميما حقيرا تزدريه العين- فسلم بالخلافة، فقال عبد الملك: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، فقال كثير: مهلا يا أمير المؤمنين، فإنما الرجل بأصغريه:
لسانه وقلبه، فإن نطق نطق ببيان، وإن قاتل قاتل بجنان، وأنا الذي أقول:
وجربت الأمور وجربتني ... فقد أبدت عريكتي الأمور
وما تخفى الرجال علي إني ... بهم لأخو مثابته خبير
ترى الرجل النحيف فتزدريه ... وفي أثوابه أسد مزير
ويعجبك الطرير فتبتليه ... فيخلف ظنك الرجل الطرير
وما عظم الرجال لهم بزين ... ولكن زينها كرم وخير
بغاث الطير أطولها جسوما ... ولم تطل البزاة ولا الصقور
__________
[1] في ت: «إلا أن تراه» .(7/104)
بغاث الطير أكثرها فراخا ... وأم الصقر مقلات نزور
لقد عظم البعير بغير لب ... فلم يستغن بالعظم البعير
فيركب ثم يضرب بالهراوي ... ولا عرف لديه ولا نكير
ثم قال له: يا كثير أنشدني في إخوان ذكروك بهذا، فأنشده:
خير إخوانك المنازل في المر ... وأين الشريك في المرّ أينا
الذي إن حضرت سرك في الحي ... وإن غبت كان أذنا وعينا
ذاك مثل الحسام أخلصه القين ... جلاه الجلاء فازداد زينا
أنت في معشر إذا غبت عنهم ... بدلوا كل ما يزينك شيئا
وإذا ما رأوك قالوا جميعا ... أنت [من] [1] أكرم الرجال علينا
فقال له عبد الملك: يغفر الله لك يا كثير، فأين الإخوان غير أني أقول:
صديقك حين تستغني كثير ... وما لك عند فقرك من صديق
[فلا تنكر على أحد إذا ما ... طوى عنك الزيارة عند ضيق] [2]
وكنت إذا الصديق أراد غيظي ... على حنق وأشرقني بريقي
غفرت ذنوبه وصفحت عنه ... مخافة أن أكون بلا صديق
وكان كثير يعشق عزة بنت حميد [3] بن وقاص، وهي من بني ضمرة، وتشبب بها، وكانت حلوة مليحة، وكان ابتداء عشقه لها ما روى الزبير بن بكار، عن عبد الله بن إبراهيم السعدي، قال: حدثني إبراهيم بن يعقوب بن جميع [4] :
أنه كان أمر كثير أنه مر بنسوة من بني ضمرة ومعه غنم، فأرسلن إليه عزة وهي صغيرة، فقالت: تقول لك النسوة: بعنا كبشا من هذه الغنم وأنسئنا بثمنه إلى أن ترجع، فأعطاها كبشا فأعجبته حينئذ، فلما رجع جاءته امرأة منهن بدراهمه، فقال: أين الصبية
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] البيت من هامش الأصل، وت.
[3] كذا في الأصلين، وفي الأغاني: «عزة بنت حميل» .
[4] الخبر في الأغاني 9/ 33.(7/105)
التي أخذت مني الكبش؟ قالت: وما تصنع بها، هذه دراهمك، قال: لا آخذ دراهمي إلا ممن دفعت إليه، وقال:
قضى كل ذي دين فوفى غريمه ... وعزة ممطول معنى غريمها
وفي رواية أنه أنشدهن:
نظرت إليها نظرة وهي عاتق ... على حين أن شبت وبان نهودها
نظرت إليها نظرة ما يسرني ... بها حمر أنعام البلاد وسودها
وكنت إذا ما جئت سعدا بأرضها ... أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها
من الخفرات البيض ود جليسها ... إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها
ثم أحبته عزة أشد من حبه إياها، ودخلت إليه يوما وهو يبري السهام فحدثته وهو يبري فبرى ذراعه وسال الدم وهو لا يعلم.
وقد حكي عنه أنه لم يكن بالصادق في محبته. وروينا أن عزة تنكرت له فتبعها وقال: يا سيدتي قفي أكلمك، قالت وهل تركت عزة فيك بقية لأحد، فقال: لو أن عزة أمة لي لوهبتها لك، قالت: فكيف بما قلت في عزة؟ قال: أقلبه لك، فسفرت عن وجهها وقالت: أغدرا يا فاسق، ومضت، فقال:
ألا ليتني قبل الذي قلت شيب لي ... من السم جدحات بماء الذرارح
فمت ولم تعلم علي خيانة ... وكم طالب للربح ليس برابح
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، ومحمد بن ناصر، قالا: أَخْبَرَنَا المبارك بْن عَبْد الجبار، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا أبو عمرو بْن حيوية، قَالَ:
حَدَّثَنَا أبو بكر بن الأنباري، قال: حدثنا أحمد بن يحيى، عن الزبير بن بكار، قال:
كتب إلي إسحاق بن إبراهيم الموصلي يقول: حدثني أبو المتيع قال:
خرج كثير يلتمس عزة ومعه شنينة فيها ماء فأخذه العطش فتناول الشنينة فإذا هي غطم ما فيها شيء من الماء [1] ، فرفعت له نار فأمها، فإذا بقربها مظلة بفنائها عجوز، فقالت له: من أنت؟ قال: أنا كثير، قالت: قد كنت أتمنى ملاقاتك فالحمد للَّه الذي
__________
[1] في الأصل: «مليء من الماء» . وما أوردناه من ت.(7/106)
أرانيك، قال: وما الذي تلتمسينه عندي؟ قالت: ألست القائل:
إذا ما أتينا خلة كي تزيلها ... أبينا وقلنا الحاجبية أول
سنوليك عرفا إن أردت وصالنا ... ونحن لتلك الحاجبية أوصل
قال: بلى، قالت: أفلا قلت كما قال سيدك جميل:
يا رب عارضة علي وصالها [1] ... بالجد تخلطه بقول الهازل
فأجبتها في القول بعد تأمل ... حبي بثينة عن وصالك شاغلي
لو كان في قلبي كقدر قلامة ... فضلا وصلتك أو أتتك رسائلي
قال: دعي هذا واسقيني ماء، قالت: والله لا سقيتك شيئا، قال: ويحك إن العطش قد أضر بي، قالت ثكلت بثينة إن طعمت عندي قطرة ماء، فكان جهده أن ركضت راحلته ومضى يطلب الماء، فما بلغه حتى أضحى النهار وقد أجهده العطش.
قال أبو بكر بن الأنباري: وحدثني أبي، قال: حدثنا أبو عكرمة وأحمد بن عبيدة، قالا:
لما أتى يزيد بن عبد الملك بأسارى بني المهلب أمر بضرب أعناقهم، فكان كثير حاضرا، فقام وأنشأ يقول:
فعفو أمير المؤمنين وحسبة ... فما يحتسب من صالح لك يكتب
أساءوا فإن تغفر فإنك قادر ... وأفضل حلم حسبة حلم مغضب
فقال يزيد: يا كثير أطت بك الرحم قد وهبناهم لك، وأمر برفع القتل عنهم.
قال أبو بكر: أطت: حنت.
أخبرنا محمد بن ناصر، قَالَ: أَخْبَرَنَا جعفر بْن أحمد السراج، قَالَ: أخبرنا علي بن المحسن التنوخي، قَالَ: أخبرنا علي بن عيسى الرماني، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر بْن دريد، قَالَ: أخبرنا عبد الأول بن مزيد، قال: أخبرني حماد بن إسحاق، عن أبيه، قال:
__________
[1] في ت: «عارضة علينا وصالها» .(7/107)
خرج كثير يريد عبد العزيز بن مروان فأكرمه ورفع منزلته وأحسن جائزته وقال:
سلني ما شئت من الحوائج، قال: نعم أحب أن تنظر لي من يعرف قبر عزة فيقفني عليه، فقال رجل من القوم: إني لعارف به، فانطلق به الرجل حتى انتهى إلى قبرها، فوضع يده عليه وعيناه تجريان وهو يقول:
وقفت على ربع لعزة ناقتي ... وفي الترب رشاش من الدمع يسفح
فيا عز أنت البدر قد حال دونه ... رجيع تراب والصفيح المصرح
وقد كنت أبكي من فراقك خيفة ... فهذا لعمري اليوم إياي أنزح
فهلا فداك الموت من أنت قربه ... ومن هو أسوأ منك حالا وأقبح
ألا لا أرى بعد ابنة النضر لذة ... بشيء ولا ملحا لمن يتملح
فلا زال وادي رمس عزة سائلا ... به نعمة من رحمة الله تسفح
أرب لعيني البكا كل ليلة ... فقد كان مجرى دمع عيني يقرح
إذا لم يكن ماء تجلتنا دما ... وشر البكاء المستعار الممنح
ومن شعر كثير:
خليلي هذا رسم عزة فاعقلا ... قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلت
وما كنت أدري قبل عزة ما البكا ... ولا مرجفات الحزن [1] حتى تولت
فقلت لها يا عز كل مصيبة ... إذا وطنت يوما لها النفس ذلت
أباحت حمى لم يرعه الناس قبلها ... وحلت بلاغا لم تكن قبل حلت
وو الله ما قاربت إلا تباعدت ... بصرم ولا أكثرت إلا أقلت
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مولية إن تقلت
فلا يحسب الواشون أن صبابتي ... بعزة كانت غمرة فتجلت
وكنا ارتقينا من صعود من الهوى ... فلما علوناه ثبت وزلت
وكنا عقدنا عقدة الوصل بيننا ... فلما توافينا شددت وحلت
وللعين أسراب إذا ما ذكرتها ... وللقلب أسرار إذا العين ملت
توفي كثير عزة وعكرمة في هذه السنة في يوم واحد، فصلي عليهما في مكان واحد
__________
[1] في الأغاني 9/ 38: «ولا موجعات القلب» .(7/108)
بعد الظهر، فقال الناس: مات أفقه الناس وأشعر الناس. وكان كثير يقول عند موته لأهله: لا تبكوا علي فإني بعد أربعين يوما أرجع.
582- يزيد بن عبد الملك بن مروان:
توفي بالبلقاء من أرض دمشق وهو ابن ثمان وثلاثين، وقيل: ثلاث وثلاثين، وكانت وفاته يوم الجمعة لخمس بقين من شعبان هذه السنة، وصلى عليه نساء الوليد، وكان هشام بن عبد الملك يومئذ بحمص، وكانت خلافته أربع سنين وشهرا.
وكان سبب موته أنه كانت له جارية اسمها حبابة، وكان يحبها حبا شديدا، فماتت فتغير وبقي أياما لا يظهر للناس، ثم مات.
وروى أبو بكر بن دريد، عن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي، عن عمه، قال:
حج يزيد بن عبد الملك في خلافة أخيه سليمان بن عبد الملك، فعرضت عليه جارية مغنية جميلة، فأعجب بها غاية الإعجاب فاشتراها بأربعة آلاف دينار، وكان اسمها الغالية فسماها حبابة، وكان يهواها الحارث بن خالد المخزومي، فقال لما بلغه خروج يزيد بها:
ظعن الأمير بأحسن الخلق ... وغدا بليل مطلع الشرق
وبلغ سليمان خبرها فقال: لهممت أن أحجر على يزيد يبتاع جارية بأربعة آلاف دينار، وكان يزيد يهابه ويتقيه، فتأدى إليه قوله فردها على مولاها واسترجع منه المال، وباعها مولاها من رجل من أهل مصر بهذا الثمن، ومكث يزيد آسفا متحسرا عليها، فلم تمض إلا مديدة حتى تقلد يزيد الأمر.
فبينا هو [في] [1] بعض الأيام مع امرأته سعدى بنت عمرو بن عثمان إذ قالت له:
بقي في قلبك شيء [2] من أمور الدنيا لم تنله؟ قال: نعم حبابة، فأمسكت حتى إذا كان من الغد أرسلت بعض ثقاتها إلى مصر، ودفعت إليه مالا وأمرته بابتياع حبابة، فمضى فما كان بأسرع من أن ورد وهي معه قد اشتراها، فأمرت سعدى قيمة جواريها أن تصنعها، وكستها من أحسن الثياب، وصاغت لها من أفخر الحليّ، ثم قالت
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] في ت: «بقي في نفسك شيء» .(7/109)
لها: أمير المؤمنين متحسر عليك وله اشتريتك، فسرت ودعت لها، ولبثت أياما تصنعها تلك القيمة حتى إذا ذهب عنها وعث السفر قالت سعدى [1] ليزيد: إني أحب أن تمضي معي إلى بستانك بالغوطة لنتنزه فيه، قال: أفعل فتقدميني، فمضت وضربت، فيه قبة وشي ونجدتها بالفرش وجعلت داخلها كله قصب وأجلست فيها حبابة، وجاء يزيد فأكلوا وجلسوا على شرابهم، فأعادت سعدى عليه: هل بقي في قلبك من الدنيا شيء لم تبلغه؟ قال: نعم حبابة، قالت: فإني قد اشتريت جارية ذكرت أنها علمتها غناءها كله، فهي تغني مثلها فتنشط لاستماعها، قال: أي والله، فجاءت به إلى القبة وجلسا قدامها وقالت: غني يا جارية، فغنت الصوت الذي غنته ليزيد لما اشتراها وهو من شعر كثير:
وبين التراقي والفؤاد حرارة ... مكان الشجى لا تستقل فتبرد
قال يزيد: حبابة والله، فقالت: سعدى: حبابة، والله لك اشتريتها وقد أهديتها لك فسر سرورا عظيما وشكرها غاية الشكر وانصرفت وتركته مع حبابة، فلما كان بالعشي صعد معها إلى مستشرف في البستان وقال لها: غني
وبين التراقي والفؤاد حرارة ... مكان الشجى لا تستقل فتبرد
فغنته فأهوى ليرمي بنفسه وقال: أطير والله، فتعلقت به وقالت له: الله الله يا أمير المؤمنين، فأقام معها ثلاثة أيام ثم انصرفا، فأقامت أياما ثم مرضت وماتت فحزن عليها حزنا شديدا وامتنع من الطعام والشراب ومرض فمات.
أخبرنا المبارك بن علي، قال: أخبرنا ابن العلاف، قال: أخبرنا عبد الملك بن بشران، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا علي بن الأعرابي، قال: حدثنا علي بن عمروس:
أن يزيد بن عبد الملك دخل يوما بعد موت حبابة إلى خزائنها ومقاصيرها، فطاف فيها ومعه جارية من جواريها فتمثلت الجارية بهذا البيت:
كفى حزنا بالواله الصب أن يرى ... منازل من يهوى [2] معطلة قفرا
__________
[1] في الأصول: «سعدة» .
[2] في الأصل: «من يهواها» .(7/110)
فصاح صيحة وخر مغشيا عليه فلم يفق إلى أن مضى من الليل [هوي] [1] فلم يزل بقية ليلته باكيا، فلما كان اليوم الثاني وقد انفرد في بيت يبكي عليها جاءوا إليه فوجدوه ميتا.
أخبرتنا شهدة بنت أحمد الكاتبة، [قالت: أَخْبَرَنَا ابن السراج] [2] بإسناده عن موسى بن جعفر:
أن يزيد بن عبد الملك بينا هو مع حبابة أسر الناس بها حذفها بحبة رمان أو بعنبة وهي تضحك، فوقعت في فيها فشرقت فماتت، فأقامت عنده في البيت حتى جيفت أو كادت تجيف، ثم خرج فدفنها وأقام أياما ثم خرج حتى وقف على قبرها وقال:
فإن تسل عنك النفس أو تدع الصبا ... فبالنفس أسلو عنك لا بالتجلد
ثم رجع فما خرج من منزله حتى خرج نعشه.
وقال يحيى بن أسقوط الكندي [3] : ماتت حبابة فأحزنت يزيد بن عبد الملك، فخرج في جنازتها فلم تقله رجلاه، فأقام وأمر مسلمة فصلى عليها ثم لم يلبث بعدها إلا يسيرا حتى مات.
__________
[1] ما بين المعقوفتين من هامش الأصل، وت.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل: وما أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «وعن يحيى بن أسقوط قال:» . وما أوردناه من ت.(7/111)
ثم دخلت سنة ست ومائة
فمن الحوادث فيها أن هشاما عزل عبد الواحد النضري [1] عن مكة والمدينة والطائف، وولى ذلك خاله إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي، فقدم المدينة يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من جمادى الآخرة، وكانت ولاية النضري على المدينة سنة وثمانية أشهر.
وفيها: غزا سعيد بن عبد الملك الصائفة، وغزا الحجاج بن عبد الملك اللان، فصالح أهلها وأدوا الجزية.
وفيها: قدم خالد بن عبد الله القسري أميرا على العراق بعد خراسان، فاستعمل أخاه لبيد بن عبد الله على خراسان.
وفيها: غزا مسلم بن سعيد الترك، فورد عليه عزله عن خراسان من خالد وقد قطع النهر لحربهم. وتولية أسد بن عبد الله أخي خالد عليها.
وفيها: استقضى هشام إبراهيم بن هشام الجمحي، ثم عزله واستقضى الصلت الكندي.
وفيها: ولد عبد الصمد بن علي في رجب.
وفيها: حج بالناس [2] هشام بن عبد الملك، وكتب إلى أبي الزناد قبل أن يدخل
__________
[1] في الأصل: «البصري» . وما أوردناه من ت والطبري وهو الصحيح.
[2] في ت: «وحج بالناس في هذه السنة» .(7/112)
المدينة [1] : أكتب إلي بسنن الحج، فكتبها له وتلقاه، فلما صلى هشام في الحجر كلمه إبراهيم بن محمد بن طلحة، فقال له: أسألك باللَّه وبحرمة هذا البيت والبلد الذي خرجت معظما لحقه إلا رددت عليّ ضلامتي، قال: وأي ظلامة؟ قال: داري، قال:
فأين كنت عن عبد الملك؟ قال: ظلمني والله، قال: فعن الوليد؟ قال: ظلمني والله، قال: فعن سليمان؟ قال: ظلمني والله، قال: فعن عمر؟ قال: يرحمه الله ردها والله علي، قال: فعن يزيد؟ قال: ظلمني والله، هو قبضها من بعد قبضي لها، وهي في يديك، قال: والله لو كان فيك ضرب لضربت، فقال: في والله ضرب بالسيف والسوط، فقال هشام: هذه قريش وألسنتها ولا يزال في الناس بقايا ما رأيت مثل هذا.
ولما دخل هشام المدينة صلى على سالم بن عبد الله، فرأى كثرة الناس فضرب عليهم بعث أربعة آلاف، فسمي عام الأربعة آلاف [2] .
وكان العامل على مكة والمدينة والطائف إبراهيم بن هشام، وعلى العراق وخراسان خالد القسري، واستعمل على صلاة البصرة عقبة بن عبد الأعلى، وعلى الشرطة مالك بن المنذر بن الجارود، وعلى قضائها ثمامة بن عبد الله بن أنس، وعلى خراسان أخاه أسد بْن عَبْد اللَّه.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
583- سالم بْن عَبْد اللَّه بْن عُمَر بْن الخطاب، أبو عمر [3] :
روى عن أبيه، وأبي أيوب، وأبي هريرة. وكان فقيها عابدا جوادا صالحا، وكان أشبه أولاد أبيه به، وكان أبوه شديد المحبة له فإذا ليم على ذلك أنشد:
يلومونني في سالم وألومهم ... وجلدة بين العين والأنف سالم [4]
__________
[1] الخبر في تاريخ الطبري 7/ 35، 36.
[2] في الأصل: «أربعة آلاف» . وما أوردناه من ت.
[3] طبقات ابن سعد 5/ 144، وطبقات خليفة 246، والتاريخ الكبير 4/ 2155، والمعارف 186، والجرح والتعديل 4/ 797، وحلية الأولياء 2/ 193، وتهذيب ابن عساكر 6/ 52، ووفيات الأعيان 2/ 349، وتاريخ الإسلام 4/ 115، وسير أعلام النبلاء 4/ 457، وتذكرة الحفاظ 1/ 88، وتهذيب التهذيب 3/ 436، وشذرات الذهب 1/ 133.
[4] طبقات ابن سعد 5/ 145.(7/113)
أخبرنا المبارك بن علي، قَالَ: أَخْبَرَنَا شجاع بْن فارس، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْفَتْحِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابن أخي ميمي، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن صفوان، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر القرشي، قال: حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثني يحيى بن أبي بكير، قال: حدثنا هودة بن عبد العزيز، قال:
زحم سالم بن عبد الله رجل فقال له سالم: بعض هذا رحمك الله، فقال له الرجل: ما أراك إلا رجل سوء، فقال له سالم: ما أحسبك أبعدت.
أخبرنا محمد بن القاسم، قَالَ: أَخْبَرَنَا حمد بْن أَحْمَد، [1] قَالَ: أخبرنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن الحسين، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن سَعِيد، قَالَ: حَدَّثَنَا ابن وهب، قال: حدثني حنظلة، قال:
رأيت سالم بن عبد الله بن عمر يخرج إلى السوق فيشتري حوائج نفسه.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد بإسناد له عن أشهب بن مالك، [2] قال: لم يكن أحد في زمن سالم [3] بن عبد الله أشبه بمن مضى من الصالحين في الزهد والقصد في العيش [4] منه، كان يلبس بدرهمين، وقال له سليمان بن عبد الملك ورآه حسن السجية: أي شيء تأكل؟ قال: الخبز والزيت وإذا وجدت اللحم أكلته، فقال له: أو تشتهيه، قال:
إذا لم أشتهه تركته حتى أشتهيه.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر الحافظ، قَالَ: أنبأنا أبو طاهر بن أبي الصقر، قال: أخبرنا هبة الله بن إبراهيم الصواف، قال: أخبرنا الحسن بن إسماعيل الضراب، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مروان، قَالَ: أَخْبَرَنَا عمير بن مرداس، قال: حدثنا الحميدي، قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول:
دخل هشام بن عبد الملك الكعبة فإذا هو بسالم بن عبد الله، فقال له: يا سالم سلني حاجة، فقال له: إني لأستحي من الله أن أسأل في بيت الله غيره. فلما خرج خرج
__________
[1] في الأصل: «أحمد بن أحمد» . خطأ.
[2] «أخبرنا إسماعيل بن أحمد بإسناد له عن أشهب بن مالك» . ساقطة من ت.
[3] في ت: «في زمان سالم» .
[4] في الأصل: «والعيش» . وما أوردناه من ت.(7/114)
في أثره، فقال له: الآن قد خرجت فسلني حاجة، فقال له سالم: من حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة؟ فقال: من حوائج الدنيا، فقال له: ما سألت من يملكها فكيف أسأل من لا يملكها.
توفي سالم بالمدينة فِي آخِرِ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وصلى عليه هشام بن عبد الملك مقدمه المدينة ودفن بالبقيع.
584- طاووس بن كيسان اليماني، ويكنى أبا عبد الرحمن، مولى لهمذان [1] :
حج أربعين حجة، وجالس سبعين من أصحاب رسول الله صلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم.
أخبرنا أبو بكر العامري، قال: أخبرنا علي بن صادق، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عبد الله بْن باكويه، قال: حدثنا عبد الواحد بن بكر، قال: حدثنا عبد الله بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بن روح، قَالَ: حدثنا أحمد بن حامد، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمُنْعِمِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ أبيه قال:
صلى وهب بن منبه وطاووس اليماني الغداة بوضوء العتمة أربعين سنة.
أخبرنا عبد الوهاب الأنماطي بإسناده عن أبي بكر بن عبيد، قال: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق بن داود بن إبراهيم:
أن الأسد حبس الناس ليلة في طريق الحج، فدق الناس بعضهم بعضا، فلما كان السحر ذهب عنهم، فنزل الناس يمينا وشمالا فألقوا أنفسهم فناموا، وقام طاووس يصلي، فقال له ابنه: ألا تنام فقد نصبت الليلة؟ فقال طاووس: ومن ينام السحر.
أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا عبد القادر بن محمد، قال: أخبرنا أبو عَلِيٍّ التَّمِيمِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ:
حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا عبد الرزاق، قال:
قدم طاووس مكة فقدم أمير فقيل له: إن من فضله، ومن، ومن، فلو أتيته، قال: ما إليه من حاجة، قالوا: إنا نخافه عليك، قال: فما هو كما تقولون.
__________
[1] طبقات ابن سعد 5/ 391، وطبقات خليفة 287، والتاريخ الكبير 4/ 3165، والجرح والتعديل 4/ 2203، وتذكرة الحفاظ 1/ 90، وتهذيب التهذيب 5/ 8، والبداية والنهاية 9/ 263.(7/115)
585- العابد اليمني:
أخبرنا محمد بن ناصر الحافط، قال: أخبرنا أبو الحسن بن عبد الجبار، قال:
قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْفَتْحِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه الدَّقَّاق، قال:
أخبرنا الحسين بن صوفان، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر بْن عبيد، قَالَ: حدثني أبو حاتم الرازي، قال: حدثني أحمد بن عبد الله بن عياض القرشي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن كامل القرقساني، قال: حدثنا علوان بن داود، عن علي بن زيد، قال:
قال طاووس:
بينا أنا بمكة بعث إلي الحجاج فأجلسني إلي جنبه وأتكأني على وسادة إذ سمع ملبيا يلبي حول البيت رافعا صوته بالتلبية، فقال: علي بالرجل، فأتي به، فقال: ممن الرجل؟ قال: من المسلمين، قال: ليس عن الإسلام سألتك، قال: فعم سألت؟ قال:
سألتك عن البلد، قال: من أهل اليمن، قال: كيف تركت محمد بن يوسف؟ - يريد أخاه- قال: تركته عظيما وسيما لباسا [1] ركابا خراجا ولاجا، قال: ليس عن هذا سألتك، قال: فعم سألت؟ قال: سألتك عن سيرته، قال: تركته ظلوما غشوما، مطيعا للمخلوق عاصيا للخالق، فقال له الحجاج: ما حملك على أن تتكلم بهذا الكلام وأنت تعلم مكانه مني؟ قال الرجل: أتراه بمكانه منك أعز مني بمكاني من الله عز وجل وأنا وافد بيته ومصدق نبيه وقاضي دينه، قال: فسكت الحجاج فما أجاب جوابا، فقام الرجل من غير أن يؤذن له فانصرف.
قال طاووس: فقمت في أثره وقلت: الرجل حكيم، فأتى البيت فتعلق بأستاره ثم قال: اللَّهمّ بك أعوذ وبك ألوذ، اللَّهمّ اجعل لي في اللهف إلى جودك، والرضا بضمانك مندوحة عن منع الباخلين وغنى عما في أيدي المستأثرين، اللَّهمّ فرجك القريب ومعروفك القديم وعادتك الحسنة. ثم ذهب الناس فرأيته عشية عرفة وهو يقول:
اللَّهمّ إن كنت لم تقبل حجي وتعبي ونصبي فلا تحرمني الأجر على مصيبتي بتركك القبول. ثم ذهب في الناس فرأيته غداة جمع يقول: وا سوءتاه منك [والله] [2] وإن عفوت. يردد ذلك.
__________
[1] في ت: «عظيما جسيما» .
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/116)
ثم دخلت سنة سبع ومائة
فمن الحوادث فيها غزوة معاوية بن هشام الصائفة، [1] وكان على جيش الشام ميمون بن مهران، فقطعوا البحر حتى عبروا إلى قبرص وخرج معهم البعث الذي كان هشام أمر به في حجته. وغزا البر مسلمة بن عبد الملك.
وفيها: خرج عباد الرعيني باليمن، فقتله يوسف بن عمر، وقتل أصحابه كلهم، وكانوا ثلاثمائة.
وفيها: وقع طاعون شديد بالشام.
وفيها: وجه بكير بن ماهان [2] جماعة إلى خراسان يدعون إلى خلافة بني هاشم، وكانوا قد دعوا بكير بن ماهان إلى ذلك فرضي فأنفق عليهم مالا كثيرا، ودخل إلى محمد بن علي، فلما أنفذ دعاته إلى خراسان وشى بهم إلى أسد بن عبد الله فقطع أيدي من ظفر به منهم وأرجلهم، وصلبهم، فكتب بذلك بكير إلى محمد.
وقيل: أول من قدم خراسان من دعاة بني العباس زياد أبو محمد مولى همدان في ولاية أسد بن عبد الله، بعثه مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس، فقال له: ادع الناس إلينا، وانزل في اليمن وألطف مضر، فقدم ودعا إلى بني العباس، وذكر سيرة بني مروان وظلمهم، وجعل يطعم الناس الطعام، وكان في جماعة فقتلهم أسد بن عبد الله.
__________
[1] تاريخ الطبري 7/ 40.
[2] تاريخ الطبري 7/ 40.(7/117)
وفي هذه السنة: غزا أسد بن عبد الله جبال نمرون [1] فصالحه الملك وأسلم على يديه، وغزا أيضا جبال هراة. وولى بناء مدينة بلخ برمك أبا خالد بن برمك.
وفيها: حج بالناس إبراهيم بن هشام. وكان عمال الأمصار الذين ذكرناهم في السنة التي قبلها.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
586- إسماعيل بن عبيد، مولى عمرو بن حزم الأنصاري [2] :
حدث عن عمر وابن عباس. كان يسكن إفريقية، وله عبادة وفضل، غرق في بحر الروم في هذه السنة.
قال عبيد الله بن المغيرة: قلت لسعيد بن المسيب: إن عندنا رجلا يقال له إسماعيل بن عبيد من العباد، إذا سمعنا نذكر شعرا صاح علينا، فقال ابن المسيب:
ذاك رجل نسك نسك العجم.
587- أسود بن كلثوم:
أخبرنا محمد بن عبد الباقي، قال: أخبرنا حمد بْنُ أحمد الحداد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم أحمد بن عبد الله، قال: حدثنا أَبُو بكر بْن مالك، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد الله بن أحمد، قال:
حدثني أبي، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن علية، قال: أخبرنا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلالٍ، قال:
كان رجل منا يقال له الأسود بن كلثوم، كان إذا مشى لا يجاوز بصره قدميه، وكان يمر بالنسوة وفي الخدر يومئذ قصر، ولعل إحداهن أن تكون واضعة ثوبها أو خمارها فإذا رأينه راعهن ثم يقلن: كلا إنه الأسود بن كلثوم، فلما قرب غازيا قال: اللَّهمّ نفسي هذه تزعم في الرخاء أنها تحب لقاءك فإن كانت صادقة فارزقها ذلك، وإن كانت كاذبة فاحملها عليه فإن كرهت فأطعم لحمي سباعا وطيرا، فانطلق في خيل فدخلوا حائطا فندر
__________
[1] تاريخ الطبري 7/ 40. وفي الأصل: «جبال مرو» والتصحيح من الطبري.
[2] حلية الأولياء 10/ 46.(7/118)
بهم العدو، فجاءوا فأخذوا بثلمة الحائط، فنزل الأسود عن فرسه فضربها حتى غذت، فخرج ثم أتى الماء فتوضأ وصلى، قال: يقول العجم: هكذا استسلام العرب إذا استسلموا، ثم تقدم فقاتل حتى قتل. قال: فمر عظيم الجيش بعد ذلك بذلك الحائط فقيل لأخيه: لو دخلت فنظرت ما بقي من عظام أخيك [ولحمه] [1] ، قال: لا، دعا أخي بدعاء فاستجيب له، فلست أعرض في شيء من ذلك.
588- بكير بن عبد الله بن الأشج، مولى لبني زهرة، مديني [2] :
روى عنه الليث بن سعد وغيره. توفي في هذه السنة.
589- حميد بن هلال، أبو نصر العدوي [3] :
أسند عن عبد الله بن مغفل، وأنس وغيرهما، وكان من الفقهاء. كان قتادة يقول:
ما بالمصريين أعلى من حميد.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم، قال: أَخْبَرَنَا حَمَدُ بْنُ أَحْمَدَ [4] ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم الأصفهاني، قال حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حدثنا الدورقي، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ حُمَيْدِ بن هلال، قال:
ذكر لنا أن الرجل إذا دخل الجنة فصور صورة أهل الجنة وألبس لباسهم وحلي حلاهم ورأى أزواجه وخدمه ومساكنه في الجنة يأخذه سوار فرح، فلو كان ينبغي أن يموت مات فرحا، فيقال له: أرأيت سوار فرحتك هذه فإنها قائمة لك أبدا.
590- حسان بن حريث، أبو السوار العدوي [5] : ويقال اسمه منقذ.
روى عن علي وعمران بن حصين. روى عنه قتادة وهو من بني عدي بن زيد بن
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] طبقات ابن سعد (الجزء المخطوط) ، وطبقات خليفة 263، وعلل أحمد 1/ 352، والتاريخ الكبير 2/ 1/ 113، والجرح والتعديل 1/ 1/ 403، وسير أعلام النبلاء 6/ 170، وتاريخ الإسلام 5/ 48، وتهذيب التهذيب 1/ 491.
[3] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 3، وطبقات خليفة 212، والتاريخ الكبير 2/ 2700، والجرح والتعديل 3/ 1011، وحلية الأولياء 2/ 251، وتاريخ الإسلام 4/ 345، وتهذيب التهذيب 3/ 51.
[4] في الأصل: «أحمد بن أحمد» . خطأ.
[5] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 110.(7/119)
مناة [بن أد بن طابخة، وكذلك حميد بن هلال الذي ذكرناه قبله من بني عدي بن زيد] [1] ، وكذلك عمر بن حبيب القاضي العدوي. ولي القضاء للرشيد، وكذلك محمد بن عمرو، وأبو غسان العدوي، ويلقب زينجا أخرج عنه البخاري ومسلم.
وثم من يقال له العدوي ينسب إلى عدي الأنصار، منهم حارثة بن سراقة وحسان بن ثابت. وهما من عدي بن النجار.
وقد يقال العدوي وينسب إلى عدي بن كعب بن لؤي، وهم رهط عمر بن الخطاب وقبيلته.
ويقال العدوي، وينسب إلى العدوية وهي أمهم من بني عدي بن الرباب، منهم زيد بن مرة أبو المعلى البصري، روى عن الحسن.
ويقال: العدوي منسوبا إلى عدي خزاعة، منهم حبشية العدوية زوجة سفيان بن معمر البياضي من مهاجرة الحبشة.
كان أبو السواد من العلماء الحلماء الحكماء الزهاد الثقات، سبه رجل وهو يمشي ساكتا، فلما دخل منزله قال للرجل: حسبك إن شئت.
وقال هشام: كان أبو السوار يعرض له الرجل فيشتمه فيقول: إن كنت كما قلت إني إذا لرجل سوء.
591- سليمان بن يسار [أبو أيوب] مولى ميمونة بنت الحارث زوجة رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [2] :
تُوُفِّيَ في هذه السنة، وقيل: سنة ثلاثمائة وله ثلاث وسبعون سنة.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من ت.
[2] طبقات ابن سعد 2/ 2/ 132، 5/ 130، وطبقات خليفة 247، والتاريخ الكبير 4/ 1901، والجرح والتعديل 4/ 643، وحلية الأولياء 2/ 190، وتاريخ الإسلام 4/ 120، وسير أعلام النبلاء 4/ 444، وتذكرة الحفاظ 1/ 90، وتهذيب التهذيب 4/ 228.(7/120)
ثم دخلت سنة ثمان ومائة
فمن الحوادث فيها غزوة مسلمة بن عبد الملك حتى بلغ قيسارية ففتحها الله على يديه.
وفيها: غزا إبراهيم بن هشام ففتح حصنا من حصون الروم.
وفيها: وقع حريق بدابق حتى احترق الرجال والدواب.
وفيها: حج بالناس إبراهيم بن هشام وهو الأمير على مكة والمدينة والطائف.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
592- بكر بن عبد الله المزني [1] :
أسند عن ابن عمر، وجابر، وأنس وغيرهم. وكان فقيها ثقة حجة عابدا شديد الخوف من الله عز وجل.
وقف [بعرفة] [2] فرق فقال: لولا أني فيهم لقلت قد غفر لهم. وكان يلبس الثياب الحسان، وكانت قيمة كسوته أربعة آلاف درهم، فاشترى طيلسانا بأربعمائة درهم.
وكان يقال: الحسن شيخ البصرة، وبكر فتاها.
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 152، وطبقات خليفة 207، والتاريخ الكبير 2/ 1/ 90، والجرح والتعديل 1/ 1/ 388، وسير أعلام النبلاء 4/ 532، وتاريخ الإسلام 4/ 93، وتهذيب التهذيب 1/ 484.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/121)
أخبرنا أبو المعمر الأنصاري بإسناد له عن غالب القطان، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ قَالَ: أحوج الناس إلى لطمة من دعي إلى وليمة فذهب معه بآخر، وأحوج الناس إلى لطمتين [رجل] دخل إلى دار قوم فقيل له اجلس هاهنا فقال لا بل هاهنا، وأحوج الناس إلى ثلاث لطمات رجل قدم إليه طعام، فقال: لا آكل حتى يجلس معي رب البيت.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أخبرنا محمد بن هبة الله الطبري، قال: أخبرنا محمد بن بشران، قَالَ: أَخْبَرَنَا صفوان قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر القرشي، قال: حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثني يحيى بن بسطام، قال: حدثني مسمع بن عاصم، قال: حدثني رجل من آل عاصم الجحدري، قال:
رأيت عاصما الجحدري بعد موته بسنتين فقلت: أليس قد مت؟ قال: بلى، قلت: فأين أنت؟ قال: أنا والله في روضة من رياض الجنة أنا ونفر من أصحابي نجتمع في كل ليلة جمعة وصبيحتها إلى بكر بن عبد الله المزني فنتلاقى. قال: قلت:
أرواحكم وأجسامكم؟ قال: هيهات بليت الأجسام وإنما تتلاقى الأرواح.
توفي بكر في هذه السنة بالبصرة.
593- عبد الرحمن بن أبان بن عثمان بن عفان رضي الله عنه [1] :
روى عن أبيه.
أنبأنا أبو بكر بن أبي طاهر، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيويه، قال: أخبرنا أبو أيوب الجلاب، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ، قَالَ:
حدثنا محمد بن سعد، قَالَ: حَدَّثَنَا مُصْعَب بْن عَبْد اللَّه الزبيري، عن مصعب بن عثمان، قال:
كان عبد الرحمن بن أبان يشتري أهل البيت ثم يأمر بهم فيكسون ويذهبون، ثم يعرضون عليه فيقول: أنتم أحرار لوجه الله أستعين بكم على غمرات الموت. قال:
فمات وهو قائم في مسجده، يعني في السبخة.
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 85.(7/122)
594- القاسم بْن مُحَمَّد بْن أبي بكر الصديق، أبو محمد [1] :
كان دينا، أمه أم ولد، روى عن أبي هريرة، وابن عباس، وعائشة.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم، قال: أَخْبَرَنَا حَمَدُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم الأصفهاني، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن سنان، قال: أخبرنا أبو العباس السراج، قال: حدثنا حاتم بن الليث، قال: حدثنا ابن نمير، قال: حدثنا يونس بن بكير، قال:
حدثنا محمد بن إسحاق، قال:
جاء أعرابي إلى القاسم بن محمد، فقال: أنت أعلم أو سالم؟ قال: ذاك منزل سالم، فلم يزد عليها حتى قام الأعرابي. قال ابن إسحاق: كره أن يقول: هو أعلم مني فيكذب، أو يقول: أنا أعلم منه فيزكي نفسه.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أخبرنا محمد بن هبة الله الطبري، قال: أخبرنا محمد بن الحسين بن الفضل، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر بْن درستويه، قال: حدثنا يعقوب بن سفيان، قال: حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا وهيب، عن أيوب، قال:
ما رأيت رجلا أفضل من القاسم، ولقد ترك مائة ألف وهي له حلال.
قال يعقوب: وحدثنا محمد بن أبي زكريا بن وهب، قال: حدثني مالك أن عمر بن عبد العزيز قال:
لو كان إلي من الأمر شيء لوليت القاسم الخلافة.
عن محمد، قال: حدثنا الحميدي [2] ، عن سفيان قال: اجتمعوا إلى القاسم بن محمد في صدقة قسمها. قال: وهو يصلي، فجعلوا يتكلمون، فقال ابنه:
إنكم اجتمعتم إلى رجل والله ما نال منها درهما ولا دانقا، قال: فأوجز القاسم ثم قال: يا بني قل فيما علمت. قال سفيان: صدق ابنه ولكنه أراد تأديبه في النطق وحفظه.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي بن سُلَيْمَان، قال: أخبرنا حمد بن أحمد، قال:
__________
[1] طبقات ابن سعد 5/ 139.
[2] في ت: «روى الحميدي» .(7/123)
أخبرنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بكر بْن مالك، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الوليد بن شجاع، قال: حدثنا ضمرة، عن رجاء بن أبي سلمة، قال:
مات القاسم بن محمد بين مكة والمدينة حاجا أو معتمرا، فقال لابنه: شن علي التراب شنا، وسو على قبري والحق بأهلك، وإياك أن تقول كان وكان.
توفي القاسم في هذه السنة بعد أن كف بصره بنحو ثلاث سنين، وقد عبر السبعين.
595- محمد بن كعب، أبو حمزة القرظي [1] :
أخبرنا علي بن إبراهيم، قَالَ: أَخْبَرَنَا رزق الله بْن عبد الوهاب، قال: أخبرنا أبو الحسين بن بشران، قال: حدثنا ابن صفوان، قال: أخبرنا أبو بكر القرشي، قال:
حدثني سلمة بن شبيب، عن زهير بن عباد، قال: حدثني أبو كثير البصري، قال:
قالت أم محمد بن كعب القرظي لمحمد: يا بني لولا أني أعرفك صغيرا طيبا وكبيرا طيبا لظننت أنك أحدثت ذنبا موبقا لما أراك تصنع بنفسك في الليل والنهار، فقال: يا أمتاه وما يؤمنني أن يكون الله قد اطلع علي وأنا في بعض ذنوبي فمقتني فقال:
اذهب لا أغفر لك، مع أن عجائب القرآن تردني على أمور حتى أنه لينقضي الليل ولم أفرغ من حاجتي.
كان محمد بن كعب يقص بالمدينة فسقط عليه مسجده وعلى جميع من كان معه فقتلهم، وذلك في هذه السنة.
596- موسى بن مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ العباس:
ولد بالسراة سنة إحدى وثمانين، وتوفي ببلاد الروم غازيا في هذه السنة عن سبع وعشرين سنة.
597- مورق بن المشمرج، أبو بكر العجلي البصري [2] :
عابد زاهد، روى عن ابن عمر، وأنس، وغيرهما. وكان يقول: أمر أنا في طلبه
__________
[1] البداية والنهاية 9/ 288.
[2] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 155.(7/124)
منذ عشرين سنة لم أقدر عليه، ولست بتارك طلبه أبدا، قيل: وما هو؟ قال: الصمت عما لا يعنيني، وما قلت في الغضب شيئا قط فندمت عليه في الرضى.
وكان يدخل على بعض إخوانه فيضع عندهم الدراهم فيقول: امسكوها حتى أعود إليكم، فإذا خرج قال: أنتم في حل منها.
598- نصيب بن رباح، وقيل أبو محجن الشاعر، مولى عبد العزيز بن مروان [1] :
وكان أسود شديد السواد، جيد الشعر، عفيف الفرج، كريما يفضل بماله وطعامه. وكان أهل البادية يدعونه النصيب تفخما لما يرون من جودة شعره، ولم يهج أحدا تدينا، وكان في أول أمره عبدا لبني كعب راعيا لهم، فباعوه من قلاص بن محرز الكناني وكان يرعى [2] إبله.
وزعم ابن الكلبي أن نصيبا من بني الحاف بن قضاعة، وكانت أمه أمة فوثب عليها سيدها فجاءت بنصيب، فوثب عليه عمه فباعه من رجل، فاشتراه عبد العزيز بن مروان من الرجل.
وقال غيره: إنما كان يتولع بالشعر، فلما جاء قوله استأذن مولاه في إتيان بني مروان فلم يأذن له، فهرب على ناقة بالليل ودخل على عبد العزيز بن مروان فمدحه، فقال: حاجتك، قال: أنا مملوك، فقال للحاجب: اخرج فأبلغ في قيمته، فجمع له المقومين فقال: قوموا غلاما أسود ليس به عيب، قالوا: مائة دينار، قال: إنه راعي إبل يبصرها ويحسن القيام عليها، قالوا [3] : مائتا دينار، قال: إنه يبري النبل ويريشها ويبري القسي [4] ، قالوا: أربعمائة دينار، قالوا: إنه راوية للشرع، قالوا: ستمائة دينار، قال: إنه شاعر، قالوا: ألف دينار، فقال نصيب: أصلح الله الأمير جائزتي عن مدحتي، قال: أعطوه ألف دينار، فعاد فاشترى أمه وأخته وأهله وأعتقهم.
وقد مدح عبد العزيز بن مروان وأخاه عبد الملك بن مروان وأولاده وعمر بن عبد العزيز، وحصل منهم مالا كثيرا.
__________
[1] الأغاني 1/ 312، وإرشاد الأريب 7/ 212، والنجوم الزاهرة 1/ 262، وتاريخ الإسلام 5/ 11.
[2] «يرعى» : ساقط من ت.
[3] في الأصل: «قال» : وما أوردناه من ت.
[4] في ت: «ويعمل القسي» .(7/125)
وقال أيوب بن عباية [1] : بلغني أن النصيب كان إذا قدم على هشام بن عبد الملك أخلى له مجلسه واستنشده مراثي بني أمية، فإذا أنشده بكى وبكى معه، فأنشده يوما قصيدة مدحه [بها يقول] [2] فيها:
إذا استبق الناس العلا سبقتهم ... يمينك عفوا ثم ضلت شمالها
فقال له هشام: يا أسود بلغت غاية المدح فسلني، فقال: يدك بالعطية أجود وأبسط من لساني بمسألتك، فقال: [هذا] [3] والله أحسن من الشعر. وأحسن جائزته.
ومن شعر نصيب يمدح نفسه [4] :
ليس السواد بناقصي ما دام لي ... هذا اللسان إلى فؤاد ثابت
من كان ترفعه منابت أصله ... فبيوت أشعاري جعلن منابتي
كم بين أسود ناطق ببيانه ... ماضي الجنان وبين أبيض صامت
إني ليحسدني الرفيع بناؤه ... من فضل ذاك وليس بي من شامت
وكان نصيب تشبب بزينب، والمشهور عنها أنها كانت بيضاء مستحسنة. وقد روي أيضا أنها كانت سوداء.
أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا المبارك بْن عَبْد الْجَبَّارِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيم بْن عمر البرمكي، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو الحسين الزينبي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن خلف، قَالَ: حَدَّثَنَا عبد الله بن عمرو، وأحمد بن حرب، قالا: حَدَّثَنَا الزُّبَير بْن بكار، قَالَ: حدثني محمد بن المؤمل بن طالوت، قال: حدثني أبي، عن الضحاك بن عثمان الحزامي، قال:
خرجت في آخر الحج فنزلت بالأبواء على امرأة فأعجبني ما رأيت من حسنها وأطربني، فتمثلت قول نصيب:
بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب ... وقل إن تملينا فما ملك القلب
__________
[1] الخبر في الأغاني 1/ 324.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من الأغاني.
[3] ما بين المعقوفتين: من ت.
[4] الخبر في الأغاني 1/ 337.(7/126)
خليلي من كعب إلى ما هديتما ... بزينب لا يقعد كما أبدا كعب
وقولا لها ما في البعاد لذي الهوى ... بعاد وما فيه لصدع النوى شعب
فمن شاء رام الصرم أو قال ظالما ... لصاحبه ذنب وليس له ذنب
فلما سمعتني أتمثل بهذه الأبيات قالت لي: يا فتى العرب، أتعرف قائل هذا الشعر [1] ؟ قلت: نعم ذاك نصيب، قالت: نعم هو ذاك، فتعرف زينب؟ قلت: لا، قالت: أنا والله زينب، قلت: فحياك الله، قالت: أما إن اليوم موعده من عند أمير المؤمنين، خرج إليه عام أول ووعدني هذا اليوم، ولعلك لا تبرح حتى تراه. قال: فما برحت من مجلسي حتى إذا أنا بركب يزول مع السراب، فقالت: ترى خبب ذلك الفارس- أو ذاك الراكب- إني لأحسبه إياه، قال: وأقبل الراكب فأمنا حتى أناخ قريبا من الخيمة، فإذا هو نصيب، ثم ثنى رجله عن راحلته فنزل ثم أقبل فسلم علي وجلس منها ناحية وسلم عليها وساءلها وساءلته فأخفيا ثم أنها سألته أن ينشدها ما أحدث من الشعر بعدها، فجعل ينشدها، فقلت في نفسي: عاشقان أطالا التنائي لا بد أن يكون لأحدهما إلى صاحبه حاجة، فقمت إلى راحلتي أشد عليها، فقال لي: على رسلك أنا معك، فجلست حتى نهض ونهضت معه، فتسايرنا ساعة ثم التفت فقال: قلت [في نفسك] [2] : محبان التقيا بعد طول تناء لا بد أن يكون لأحدهما إلى صاحبه حاجة؟
قلت: نعم قد كان ذلك، قال: فلا ورب هذه البنية التي إليها نعمد، ما جلست منها مجلسا قط أقرب من مجلسي الذي رأيت ولا كان شيء مكروه قط.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا المبارك بن عبد الجبار، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قَالَ: أخبرنا ابن حيوية، قَالَ: حدثنا محمد بن خلف، قال: حدثنا محمد بن معاذ، عن إسحاق بن إبراهيم، قال: حدثني رجل من قريش عمن حدثه قال:
كنت حاجا ومعي رجل من القافلة لا أعرفه ولم أره قبل ذلك ومعه هوادج وأثقال وصبية وعبيد ومتاع، فنزلنا منزلا، فإذا فرش ممهدة وبسط قد بسطت، فخرج من أعظمها
__________
[1] في الأصل: «الأبيات» . ومصححه على الهامش.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/127)
هودجا امرأة زنجية فجلست على تلك الفرش الممهدة، ثم جاء زنجي فجلس إلى جنبها على الفراش فبقيت متعجبا منهما، فبينا أنا أنظر إليهما إذ مر بنا مار وهو يقود إبلا، فجعل يتغنى ويقول:
بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب ... وقل إن تملينا فما ملك القلب
قال: فوثبت الزنجية إلى الزنجي فخبطته وضربته وهي تقول: شهرتني في الناس شهرك الله، فقلت: من هذا؟ قالوا: نصيب الشاعر وهذه زينب.
قال محمد بن خلف: وحدثني أبو بكر بن شداد، قَالَ: حدثني أَبُو عبد الله بْن أبي بكر، قال: حدثني إبراهيم بن زيد بن عبد الله السعدي، قال: حدثتني جدتي، عن أبيها، عن جدها، قال [1] :
رأيت رجلا أسود ومعه امرأة بيضاء، فجعلت أتعجب من سواده وبياضها، فدنوت منه، فقلت: من أنت؟ فقال: أنا الذي أقول:
ألا ليت شعري ما الذي تحدثين لي ... إذا ما غدا النأي المفرق [2] والبعد
أتصرمني عند الألى فهم العدا [3] ... فتشمتهم بي أم تدوم على العهد
قال: فصاحت: بلى والله تدوم على العهد، فسألت عنها فقيل: هذا نصيب وهذه أم بكر.
قال ابن خلف: وأخبرني جعفر بن اليشكري، قال: حدثني الرياشي، قال:
أخبرني العتبي، قال: دخل نصيب على عبد العزيز بن مروان فقال له: هل عشقت يا نصيب؟ قال: نعم جعلني الله فداك، قال: من؟ قال: جارية لبني مدلج فأحدق بها الواشون فكنت لا أقدر على كلامها إلا بعين أو إشارة، وأجلس لها على الطريق حتى تمر بي فأراها، وفي ذلك أقول [4] :
جلست [5] لها كيما تمر لعلني ... أخالسها التسليم إن لم تسلّم
__________
[1] الخبر في الأغاني 1/ 328.
[2] في الأغاني: «تحدثين بي غدا غربة المفرق» .
[3] في الأغاني: «هم لنا العدا» .
[4] الأغاني 1/ 360.
[5] في الأغاني: «وقفت» .(7/128)
فلما رأتني والوشاة تحدرت ... مدامعها خوفا ولم تتكلم
مساكين أهل العشق ما كنت مشتر ... [جميع] [1] حياة العاشقين بدرهم
فقال عبد العزيز: ويحك، وما فعلت المدلجية؟ قال: اشتريت وأولدت، قال:
فهل في قلبك منها شيء؟ قال: نعم، عقابيل أوجاع [2] .
قال ابن خلف: وأخبرني [نوفل] [3] بن محمد المهلبي، عن محمد بن سلام، قال: دخل نصيب على يزيد بن عبد الملك، فقال: حدثني ببعض ما مر عليك، فقال:
يا أمير المؤمنين علقت جارية حمراء- يعني بيضاء- فمكثت زمانا تمنيني بالأباطيل، فأرسلت إليها بهذه الأبيات:
فإن أك حالكا فالمسك أحوى ... وما لسواد جلدي من دواء
ولي كرم عن الفحشاء ناء ... كبعد الأرض من جو السماء
ومثلي في رجالكم قليل ... ومثلك ليس يعدم في النساء
فإن ترضي فردي قول راض ... وإن تنأي فنحن على السواء
فلما قرأت الكتاب قالت: المال والعقل [4] يعفيان على غيرهما فزوجتني نفسها.
أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ، قال: أخبرنا محفوظ بن أحمد الفقيه، قال:
أَخْبَرَنَا أَبُو عَلي مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن الجازري، قَالَ: أَخْبَرَنَا المعافى بن زكريا، قال:
حَدَّثَنَا إبراهيم بْن مُحَمَّد بْن عرفة، قَالَ: حدثنا أحمد بن يحيى، قال: حدثنا الزبير، قال: حدثنا محمد بن أحمد بن عبد الله، عن معاذ صاحب الهروي، قال:
دخلت مسجد الكوفة فرأيت رجلا لم أر قط أنقى ثيابا منه [5] ، ولا أشد سوادا، فقلت له: من أنت؟ قال: نصيب، فقلت: أخبرني عنك وعن أصحابك، فقال: جميل إمامنا، وعمر أوصفنا لربات الحجال، وكثير أبكانا على الأطلال والدمن، وقد قلت ما سمعت، قلت: فإن الناس يزعمون أنك لا تحسن أن تهجو، فقال: فأقروا لي أني أحسن [أن] [6] أمدح؟ قلت: نعم، قال: فترى ألا أحسن أن أجعل مكان عافاك الله أخزاك
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من الأغاني.
[2] أي: بقايا أوجاع، وفي الأغاني: «عقابيل أحزان» .
[3] ما بين المعقوفتين: من ت.
[4] في الأغاني 1/ 339: «المال والشعر» .
[5] في الأصل: «ثيابا أنقى منه» .
[6] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/129)
الله؟ قلت: بلى، قال: ولكني رأيت الناس رجلين، رجلا لم أسأله فلا ينبغي أن أهجوه فأظلمه، ورجلا سألته فمنعني فكانت نفسي أحق بالهجاء إذ سولت لي أن أطلب منه.
أخبرنا أبو بكر بن أبي طاهر، قال: أنبأنا إِبْرَاهِيم بْن عُمَر البرمكي، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَمْرو بْن حيوية، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن محمد بن إسحاق المكي، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أيوب بن عباية، قال: حدثني خلف بن نوفل بن عبد مناف، قال:
لما أصاب نصيب من المال ما أصاب، وكانت عنده أم محجن [- وكانت سوداء- تزوج امرأة بيضاء، فغضبت أم محجن] [1] وغارت، فقال: يا أم محجن والله ما مثلي يغار عليه إني لشيخ كبير وما مثلك من يغار إنك لعجوز كبيرة، وما أجد أكرم علي منك ولا أوجب حقا فجوزي هذا الأمر ولا تكدريه علي، فرضيت وقرت، ثم قال لها بعد ذلك: هل لك أن أجمع إليك زوجتي الجديدة فهو أصلح لذات البين وألم للشعث وأبعد للشماتة، فقالت: افعل فأعطاها دينارا وقال لها: إني أكره أن ترى بك خصاصة وأن تفضل عليك، فاعملي لها إذا أصبحت عندك غدا نزلا بهذا الدينار ثم أتى زوجته الجديدة، فقال لها: إني قد أردت أن أجمعك إلى أم محجن غدا وهي مكرمتك وأكره أن تفضل عليك، فخذي هذا الدينار فاهدي لها به إذا أصبحت عندها غدا لئلا ترى بك خصاصة ولا تذكري الدينار لها، ثم أتى صاحبا له يستنصحه، فقال: إني أريد أن أجمع زوجتي الجديدة إلى أم محجن غدا فأتني مسلما فإني سأستجلسك للغداء فإذا تغديت فسلني عن أحبهما إلي فإني سأنفر وأعظم ذلك وآبى أن أخبرك، فإذا أبيت ذلك فاحلف علي، فلما كان الغد زارت زوجته الجديدة أم محجن، ومر به صديقه فاستجلسه، فلما تغديا أقبل الرجل عليه، فقال: يا أبا محجن، أحب أن تخبرني عن أحب زوجتيك إليك، قال: سبحان الله، تسألني [2] عن هذا وهما يسمعان، ما سأل عن مثل هذا أحد، قال: فإنّي أقسم عليك لتخبرني فو الله إني لا أعذرك، ولا أقبل إلا ذاك، قال: أما إذ فعلت فأحبهما إلي صاحبة الدينار، والله لا أزيدك على هذا شيئا، فأعرضت كل واحدة منهما تضحك ونفسها مسرورة وهي تظن أنه عناها بذلك القول.
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «ما تسألني» . وما أوردناه من ت.(7/130)
ثم دخلت سنة تسع ومائة
فمن الحوادث فيها غزوة عبيد الله بن عقبة في البحر. وغزوة معاوية بن هشام أرض الروم ففتح حصنا بها [1] .
وفي هذه السنة: عزل هشام بن عبد الملك خالد القسري عن خراسان، وصرف أخاه أسدا عنها [2] .
وكان سبب ذلك أن أسدا أخا خالد تعصب على نصر بن سيار ونفر معه زعم أنه بلغه عنهم ما لا يصلح، فضربهم بالسياط وحلقهم، وبعثهم إلى خالد وكتب إليه أنهم أرادوا الوثوب عليه، وخطب يوم جمعة [3] ، فقال: قبح الله هذه الوجوه، وجوه أهل الشقاق والنفاق والفساد، اللَّهمّ فرق بيني وبينهم، وأخرجني إلى مهاجري ووطني.
وقال: من يروم ما قبلي وأمير المؤمنين خالي وخال أخي، ومعي اثنا عشر ألف سيف يماني، فكتب هشام إلى خالد: اعزل أخاك، فعزل فقفل أسد إلى العراق في رمضان، واستخلف على خراسان الحكم بن عوانة.
وفيها: استعمل هشام [4] على خراسان أشرس بن عبد الله السلمي، وأمر أن يكاتب خالد القسري، وكان أول من اتخذ الرابطة بخراسان، واستعمل عليهم
__________
[1] في الطبري 7/ 46: «يقال له: طيبة» .
[2] تاريخ الطبري 7/ 47.
[3] في ت: «يوم الجمعة» .
[4] تاريخ الطبري 7/ 109.(7/131)
عبد الملك بن دثار الباهلي، وتولى أشرس صغير الأمور وكبيرها بنفسه.
وفي هذه السنة: حج بالناس إِبْرَاهِيم بْن هشام، فخطب بمنى من غد يوم النحر بعد الظهر وقال: سلوني فما تسألون أحدا أعلم مني، فقام [إليه] [1] رجل من أهل العراق فسأله عن الأضحية أواجبة هي؟ فما علم ما يقول، فنزل. وكان العامل على المدينة ومكة والطائف. وكان على البصرة والكوفة خالد بن عبد الله، وعلى الصلاة بالبصرة أبان بن ضبارة، وعلى شرطتها بلال بن أبي بردة، وعلى قضائها ثمامة بن عبد الله الأنصاري من قبل خالد بن عبد الله، وعلى خراسان أشرس بن عبد الله السلمي.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
599- عبد الرحمن بن أبي عمار العابد نزيل مكة:
أَخْبَرَنَا المبارك بْن عَلي الصيرفي، قَالَ: أَخْبَرَنَا علي بن محمد العلاف، قال:
أخبرنا عبد الملك بن بشران، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم، قَالَ: أَخْبَرَنَا محمد بن جعفر الخرائطي، قال: حدثنا أبو يوسف الزهري، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال:
كان عبد الرحمن بن أبي عمار من بني جشم ينزل بمكة، وكان من عباد أهلها، فسمي القس من عبادته، فمر ذات يوم بسلامة وهي تغني، فوقف فسمع غناها فرآه مولاها، فدعاه إلى أن يدخله عليها، فأبى ذلك فقال له: فاقعد في مكان تسمع غناها ولا تراها، ففعل فغنت فأعجبته، فقال له مولاها: هل لك أن أحولها إليك، فامتنع بعض الامتناع ثم أجابه إلى ذلك، فنظر إليها فأعجبته فشغف بها وشغفت به، وكان طريفا فقال فيها:
أم سلام لو وجدت من الوجد ... غير الذي بكم أنا لاقي
أم سلام أنت همي وشغلي ... والعزيز المهيمن الخلاق
أم سلام ما ذكرتك إلا ... شرقت بالدموع مني المآقي
قال: وعلم بذلك أهل مكة فسموها سلام القس، فقالت له يوما: أنا والله أحبك،
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.(7/132)
فقال: وأنا والله أحبك، فقالت له: أنا والله أحب أن تضع فمك على فمي، قال: وأنا والله أحب ذلك، قالت: فما يمنعك فو الله إن الموضع لخال، فقال لها: ويحك إني سمعت الله تعالى يقول: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) 43: 67 [1] وأنا والله أكره أن تكون خلة ما بيني وبينك في الدنيا عداوة يوم القيامة، ثم نهض وعيناه تذرفان من حبها، وعاد إلى الطريقة التي كان [2] عليها من النسك والعبادة، فكان يمر بين الأيام ببابها فيرسل السلام، فيقال له: ادخل فيأبى.
ومما قال فيها:
إن سلامة التي أفقدتني تجلدي ... لو تراها والعود في حجرها حين تنشد
الشريحبي والغريض وللقوم معبد ... خلتهم تحت عودها حين تدعره باليد
وفي رواية أخرى أنه لما قال لها: أكره أن تكون خلة ما بيني وبينك عداوة يوم القيامة، قالت: أتحسب أن ربنا لا يقبلنا إن نحن تبنا إليه؟ قال: بلى ولكن لا آمن أن أفاجأ، ثم نهض يبكي فلم يرجع بعد، وعاد إلى ما كان فيه من النسك.
وروى مصعب الزبيري، عن محمد بن عبد الله بن أبي مليكة، عن أبيه، عن جده، قال:
دخل عبد الرحمن بن أبي عمار وهو يومئذ فقيه أهل الحجاز على نخاس فعلق فتاة فاشتهر بذكرها حتى مشى إليه عطاء وطاووس ومجاهد يعذلونه، فكان جوابه:
يلومني فيك أقوام أجالسهم ... فما أبالي أطار اللوم أو وقعا [3]
فانتهى الخبر إلى عبد الله بن جعفر، فلم تكن له همة غيره، فحج فبعث إلى مولى الجارية فاشتراها منه بأربعين ألفا، وأمر قيمة جواريه أن تزينها وتحليها، ففعلت، وبلغ الناس قدومه فدخلوا عليه، فقال: ما لي لا أرى ابن أبي عمار زارنا، فأخبر الشيخ فأتاه، فلما أراد أن ينهض استجلسه فقعد، فقال له ابن جعفر: ما فعل حب فلانة،
__________
[1] سورة: الزخرف، الآية: 67.
[2] في الأصل: «الّذي كان» . وما أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «أطال النوم» . وما أوردناه من ت.(7/133)
فقال: سيط به لحمي ودمي وعصبي ومخي وعظامي، قال: تعرفها إن رأيتها؟ قال:
وأعرف غيرها، قال: فإنّي قد اشتريتها، وو الله ما نظرت إليها، وأمر بها فأخرجت فزفت بالحلي والحلل، فقال: أهذه هي؟ فقال: نعم بأبي وأمي، قال: فخذ بيدها فقد جعلها الله لك، أرضيت؟ قال: أي والله بأبي وأمي وفوق الرضا، فقال له ابن جعفر: ولكني والله لا أرضى أن أعطيكها صفرا، احمل معه يا غلام مائة ألف درهم كيلا يهتم بمئونتها، قال: فراح بها وبالمال.(7/134)
ثم دخلت سنة عشر ومائة
فمن الحوادث فيها غزوة مسلمة بن عبد الملك الترك، وسار إليهم نحو باب اللان حتى لقي خاقان في جموعه، فاقتتلوا قريبا من شهر وأصابهم مطر شديد فهزم الله خاقان.
وفيها: غزا معاوية أرض الروم ففتح بلدة، وهو معاوية بن هشام.
وغزا الصائفة عبيد الله بن عقبة الفهري، وكان على جيش البحر عبد الرحمن بن معاوية بن خديج.
وفيها: دعا الأشرس أهل الذمة من أهل سمرقند من وراء النهر إلى الإسلام على أن توضع عنهم الجزية، فأجابوا وأسلموا، فكتب غوزك [1] إلى أشرس: أن الخراج قد انكسر، فقال أشرس: إن الخراج قوة المسلمين وقد بلغني أن [أهل] [2] الصغد وأشباههم لم يسلموا رغبة، إنما دخلوا في الإسلام تعوذا من الجزية، فانظروا من أحسن وأقام الفرائض وحسن إسلامه وقرأ سورة من القرآن فارفعوا عنه الخراج، فأعادوا الجزية فامتنع الناس من أهل الصغد سبعة آلاف، فنزلوا على سبعة فراسخ من سمرقند.
وفيها: ارتد أهل كردر [3] ، فقاتلهم المسلمون فظفروا بهم.
وفيها: جعل خالد بن عبد الله الصلاة بالبصرة مع الشرطة مع القضاء إلى بلال بن أبي بردة.
__________
[1] في الأصل: «عروك» . والتصحيح من ت والطبري.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «كردن» . وفي ت: «كردب» . وما أوردناه من الطبري 7/ 66.(7/135)
وفي هذه السنة: حج بالناس إِبْرَاهِيم بْن إسماعيل بن هشام المخزومي، وكان هو العامل على مكة والمدينة والطائف، وعلى الكوفة والبصرة والعراق خالد بن عبد الله، وعلى خراسان أشرس من قبل خالد بْن عَبْد اللَّه.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
600- الحسن بن أبي الحسن البصري، يكنى أبا سعيد [1] :
كان أبوه من أهل بيسان، فسبي، فهو مولى الأنصار. ولد في خلافة عمر، وحنكه عمر بيده، وكانت أمه تخدم أم سلمة فربما غابت فتعطيه أم سلمة ثديها فتعلله به إلى أن تجيء أمه فيدر عليه ثديها فيشربه، فكانوا يقولون: فصاحته من بركة ذلك.
أخبرنا هبة الله بن أحمد الجريري، قال: أنبأنا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْفَتْحِ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا أبو بكر البرقاني، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُزَكِّي، قَالَ: حدثنا محمد بن إسحاق السراج، قال: حدثنا فضل بن سهل، قال: حدثنا علي بن حفص، قال: حدثنا سليمان بن المغيرة، عن يونس، قال:
كان الحسن يقول: نضحك ولعل الله قد اطلع على بعض أعمالنا، فقال: لا أقبل منكم شيئا.
قال السراج: حدثني عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن الحسين، قال:
حدثني حكيم بن جعفر، قال: قال لي [مسمع] [2] : لو رأيت الحسن لقلت قد بث عليه حزن الخلائق من طول تلك الدمعة وكثرة ذلك التشنج. [3] أخبرنا عبد الوهاب الأنماطي، قَالَ: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار، قال:
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 114، وطبقات خليفة 210، والتاريخ الكبير 2/ 2503، والجرح والتعديل 3/ 177، وحلية الأولياء 2/ 131، وأخبار أصبهان 1/ 254، ووفيات الأعيان 2/ 69، وتاريخ الإسلام 4/ 98، وسير أعلام النبلاء 4/ 563، وتذكرة الحفاظ 1/ 71، وميزان الاعتدال 1/ 527، وتهذيب التهذيب 2/ 263، والبداية والنهاية 9/ 299.
[2] ما بين المعقوفتين: من هامش الأصل.
[3] في الأصل: «النشيج» وما أوردناه من ت.(7/136)
أخبرنا الحسين بْن عَليّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّه بْن عثمان، قَالَ: حدثنا علي بن محمد الْمَصْريّ، قَالَ: حدثنا أحمد بن واضح، قال: حدثنا سعيد بن أسد، قال: حدثنا ضمرة، عن حفص بن عمر، قال:
بكى الحسن، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أخاف أن يطرحني غدا في النار ولا يبالي.
أخبرنا عَبْد اللَّه بْن علي المقري، قَالَ: أَخْبَرَنَا علي بن محمد العلاف، قال:
أخبرنا عبد الملك بن بشران، قال: أخبرنا أبو بكر الآجري، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد الحميد، قال: حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني، قال: حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، قال: حدّثنا أبو عبيد الباجي، أنه سمع الحسن بن أبي الحسين يقول:
حادثوا هذه القلوب فإنها سريعة الدثور، وأقذعوا هذه الأنفس فإنها طلعة، وإنها تنزع إلى شر غاية، وإنكم إن تقاربوها لم يبق لكم من أعمالكم شيء، فتصبروا وتشددوا فإنما هي ليال تعدو، وإنما أنتم ركب وقوف، يوشك أن يدعى أحدكم فيجيب فلا يلتفت فانقلبوا بصالح ما بحضرتكم، إن هذا الحق أجهد الناس وحال بينهم وبين شهواتهم، وإنما صبر على هذا الحق من عرف فضله ورجا عاقبته.
أخبرنا علي بن عبيد اللَّه، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ النَّقُّورِ، قال: أخبرنا عيسى بن علي، قال: حدثنا البغوي، قال: حدثنا نعيم بن الهيضم، قال: حدثنا خلف بن تميم، عن أبي همام الكلاعي، عن الحسن:
أنه مر ببعض القراء على أبواب بعض السلاطين، فقال: أفرختم حمائمكم، وفرطحتم بغالكم، وجئتم بالعلم تحملونه على رقابكم إلى أبوابهم فزهدوا فيكم، أما أنكم لو جلستم في بيوتكم حتى يكونوا هم الذين يتوسلون [1] إليكم لكان أعظم لكم في أعينهم، تفرقوا فرق الله بين أعضائكم.
عاصر الحسن خلقا كثيرا من الصحابة، فأرسل الحديث عن بعضهم، وسمع من بعضهم، وقد جمعنا مسانيده وأخباره في كتاب كبير، فلم أر التطويل هاهنا.
__________
[1] في ت: «يرسلون» .(7/137)
توفي عشية الخميس، ودفن يوم الجمعة أول يوم من رجب هذه السنة، وغسله أيوب السختياني وحميد الطويل، وصلى عليه النضر بن عمرو أمير البصرة، ومشى هو وبلال بن أبي بردة أمام الجنازة، وكان له تسع وثمانون سنة.
601- سعد بن مسعود، أبو مسعود التجيبي [1] :
من تجيب، وفد على سليمان بن عبد الملك، وكان رجلا صالحا، وأسند حديثا واحدا، وبعثه عمر بن عبد العزيز إلى أهل إفريقية يفقه أهلها في الدين.
602- محمد بن سيرين، أبو بكر البصري، مولى أنس بن مالك [2] :
سمع أبا هريرة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعمران بن حصين، وأنس بن مالك. وهو أروى الناس عن شريح وعبيدة. روى عنه قتادة وخالد الحذاء، وأيوب السختياني، وغيرهم. وكان فقيها ورعا.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال:
أخبرنا محمد بن عبد الواحد، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن العباس الخزاز، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن عيسى المكي، قال: حدثنا محمد بن القاسم أبو العيناء، قال:
حدثنا ابن عائشة، قال [3] :
كان أبو محمد بن سيرين من أهل جرجرايا، وكان يعمل قدور النحاس، فجاء إلى عين التمر يعمل بها فسباه خالد بن الوليد.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْبَزَّازُ، قَالَ: حَدَّثَنَا [4] أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ الْفَسَوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بن سفيان، قال: حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدّثنا
__________
[1] الجرح والتعديل 4/ 94، والتاريخ الكبير 2/ 2/ 64.
[2] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 140، والجرح والتعديل 7/ 280، والتاريخ الكبير 1/ 1/ 90، وحلية الأولياء 1/ 57، 5/ 104، 6/ 43، 9/ 32، 35، 60، 218، وتاريخ بغداد 5/ 332، والبداية والنهاية 9/ 308.
[3] الخبر في تاريخ بغداد 5/ 332.
[4] «عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْبَزَّازُ، قَالَ: حدثنا» : ساقط من ت.(7/138)
حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ:
هَذِهِ مُكَاتَبَةُ سِيرِينَ عِنْدَنَا: هَذَا مَا كَاتَبَ عَلَيْهِ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ فَتَاهُ سِيرِينَ عَلَى كَذَا وَكَذَا أَلْفًا، وَعَلَى غُلامَيْنِ يَعْمَلانِ عَمَلَهُ.
قال علماء السير: كان خالد بن الوليد قد بعث بسيرين إلى عمر عند مصيره إلى العراق، فوهبه لأبي طلحة الأنصاري فوهبه أبو طلحة لأنس بن مالك، فكاتبه أنس على أربعين ألفا أداها.
وولد له محمد، وأنس، ومعبد، ويحيى، وحفصة، وأم محمد صفية مولاة أبي بكر الصديق، حضر أملاكها ثمانية عشر بدريا منهم أبي بن كعب، فكان يدعو وهم يؤمنون. وولد محمد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان بن عفان. وولد له ثلاثون ولدا من امرأة واحدة. وقد لقي محمد بن عمر، وعمران بن حصين، وأبا هريرة. وكان ورعا في الفقه فقيها في الورع.
وركبه دين فحبس لأجله، واختلفوا في سبب ذلك الدين، فقال ابن سعد: سألت محمد بن عبد الله الأنصاري عن سبب الدين، فقال: اشترى طعاما بأربعين ألف درهم فأخبر عن أصل الطعام بشيء كرهه، فتركه وتصدق به وبقي المال عليه فحبس.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أَحْمَد بْن عَلِي، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِي بْن أبي علي المعدل، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن العباس الخزاز، قَالَ: حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثنا أحمد بن عبيد، قال: أخبرنا المدائني، قال [1] :
كان حبس ابن سيرين في الدين أنه اشترى زيتا بأربعة آلاف درهم، فوجد في زق منه فأرة، فقال: الفأرة كانت في المعصرة، فصب الزيت كله. وكان يقول: عيرت رجلا بشيء منذ ثلاثين سنة أحسبني عوقبت به. وكانوا يرون أنه عير رجلا بالفقر فابتلي به.
عن بشر بن عمر، قال: حدثتنا أم عباد امرأة هشام بن حسان، قالت: قال ابن سيرين [2] :
إني لم أر امرأة في المنام فأعرف أنها لا تحل لي فأصرف بصري عنها.
__________
[1] الخبر في تاريخ بغداد 5/ 335.
[2] الخبر في تاريخ بغداد 5/ 336.(7/139)
وأخبرنا عبد الرحمن القزاز بإسناده عن أبي عوانة، قالت: رأيت محمد بن سيرين مر في السوق فجعل لا يمر بقوم إلا سبحوا وذكروا الله تعالى [1] .
أخبرنا محمد بن ناصر بإسناده عن عبد الله ابن أخت ابن سيرين: أنه كان مع محمد بن سيرين لما وفد إلى ابن هبيرة، فلما قدم عليه قال: السلام عليكم، قال:
وكان متكئا فجلس فقال: كيف خلفت من وراءك؟ قال: خلفت الظلم فيهم فاشيا، قال:
فهم به فقال له أبو الزناد: أصلح الله الأمير إنه شيخ، فما زال به حتى سكن، فلما أجازهم [2] أتاه إياس بن معاوية بجائزة، فأبى أن يقبلها، فقال: أترد عطية الأمير، قال:
أتتصدق علي فقد أغناني الله، أو تعطيني على العلم أجرا، فلا آخذ على العلم أجرا.
قال علماء السير: رأى محمد بن سيرين كأن الجوزاء تقدمت الثريا، فأخذ في وصيته وقال: يموت الحسن وأموت بعده، وهو أشرف مني. فتوفي الحسن، ومات بعده محمد بمائة يوم.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد،. قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرنا أبو سعيد الصيرفي، قال: أخبرنا أبو العباس الأصم، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ:
حدثني أبي، قال: حدثنا خالد بن خداش، قال: قال حماد بن زيد:
مات محمد لتسع مضين من شوال سنة عشر ومائة.
603- وهب بن منبه [3] :
من الأبناء، أبناء الفرس الذين أبعدهم كسرى إلى اليمن. أسند عن جابر، والنعمان بن بشير، وابن عباس. وأرسل الرواية عن معاذ، وأبي هريرة. وكان عالما عابدا. وقال: قرأت من كتب الله عز وجل اثنين وتسعين كتابا. ومكث يصلي الفجر بوضوء العشاء أربعين سنة.
__________
[1] الخبر في تاريخ بغداد 5/ 337.
[2] في الأصل: «جازهم» . وما أوردناه من ت.
[3] طبقات ابن سعد 5/ 395، والجرح والتعديل 9/ 24، والتاريخ الكبير 4/ 2/ 164، والمعارف 202، وتاريخ الإسلام 5/ 14، وشذرات الذهب 1/ 150، ووفيات الأعيان 2/ 180، وحلية الأولياء 4/ 23، وتهذيب التهذيب 11/ 166، والبداية والنهاية 9/ 310.(7/140)
أخبرنا عبد الحق بن عبد الخالق، قال: حدثنا محمد بن مرزوق، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا علي بن محمد المعدل، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن صفوان، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد الله بن محمد القرشي، قال: أخبرنا إسماعيل بن عبد الله بن زرارة، قال: حدثنا عبد المجيد بن عبد العزيز، عن الثوري، عن عبد العزيز بن رفيع، عن وهب بن منبه، قال:
الإيمان عريان ولباسه التقوى، وزينته الحياء، وماله الفقه.
أَخْبَرَنَا إسماعيل بْن أحمد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو محمد بن أبي عثمان، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّلْتِ، قال: أخبرنا أبو الحسين بن المنادي، قال: حدثني الحسن بن الحباب، قال: أخبرنا محمد بن سهل بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثنا عبد الصمد بن معقل، قال: إن وهب بن منبه قال في موعظة له:
يا ابن آدم، إنه لا أقوى من خالق ولا أضعف من مخلوق، ولا أقدر مِمَّن طلبته فِي يده، ولا أضعف ممن هو في يد طالبه. يا ابن آدم، إنه قد ذهب منك ما لا يرجع إليك، وأقام معك ما سيذهب عنك، يا ابن آدم، أقصر عن تناول ما لا ينال، وعن طلب ما لا يدرك، وعن ابتغاء ما لا يوجد، واقطع الرجاء منك عما فقدت من الأشياء. واعلم أنه رب مطلوب هو شر لطالبه. يا ابن آدم إنما الصبر عند المصيبة، وأعظم من المصيبة سوء الخلف منها، أمس شاهد مقبول، وأمين مؤد، وحكيم وارد، قد فجعك بنفسه وخلف في يديك حكمته، واليوم صديق مودع، وكان طويل الغيبة وهو سريع الظعن، وقد مضى قبله شاهد عدل. يا ابن آدم، قد مضت لنا أصول نحن فروعها، فما بقي الفرع بعد أصله. يا ابن آدم، إنما أهل هذه الدار سفر ولا يحلون عقد الرجال إلا في غيرها، وإنما يتبلغون بالعواري، فما أحسن الشكر للمنعم، والتسليم للمغير. إنما البقاء بعد الفناء وقد خلقنا ولم نكن، وسنبلى ثم نعود، ألا وإنما العواري اليوم والهبات غدا، ألا وإنه قد تقارب منا سلب فاحش أو عطاء جزيل، فأصلحوا ما تقدمون عليه بما تظعنون عنه، إنما أنتم في هذه الدار عرض فيكم المنايا تنتضل، وإن الذي فيه أنتم نهب للمصائب، لا تتناولون نعمة إلا بفراق أخرى، ولا يستقبل معمر منكم يوما من عمره إلا بهدم آخر من آجله، ولا يحيى له أثر إلا مات له أثر.(7/141)
أخبرنا محمد بن أبي القاسم، قال: أَخْبَرَنَا حَمَدُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم الحافظ، قال: أخبرنا محمد بن علي، قال: حدثنا محمد بن الحسين بن قتيبة، قال:
حدثنا نوح بن حبيب قال: حدثنا منير مولى الفضل بن أبي عياش [1] ، قال:
كنت جالسا مع ابن منبه، فأتاه رجل، فقال: إني مررت بفلان وهو يشتمك فغضب وقال: ما وجد الشيطان رسولا غيرك، فما برحت من عنده حتى جاءه ذلك الشاتم فسلم على وهب فرد عليه ومد يده وصافحه وأجلسه إلى جنبه.
توفي بصنعاء في هذه السنة. وقيل: سنة أربع عشرة.
__________
[1] في الأصل: «مولى الفضل بن عباس» . خطأ.(7/142)
ثم دخلت سنة إحدى عشرة ومائة
فمن الحوادث فيها غزوة معاوية بن هشام الصائفة اليسرى.
وغزوة سعيد بن هشام الصائفة اليمنى حتى أتى قيسارية.
وغزا على جيش البحر عبد الله بن أبي مريم.
وأمر هشام على عامة الناس من أهل مصر والشام الحكم بن قيس بن مخرمة.
وفيها: سارت الترك إلى أذربيجان، فلقيهم الحارث بن عمرو فهزمهم.
وفيها: ولى هشام الجراح [1] بن عبد الله الجمحي أرمينية، وعزل هشام أشرس بن عبد الله عن خراسان وولاها الجنيد بن عبد الله المري. وذلك أن أشرس شكى إليه فعزله، وكان الجنيد قد أهدى لأم حكيم بنت يحيى بن الحكم امرأة هشام قلادة فيها جوهر، وأهدى إلى هشام أخرى، فاستعمله على خراسان فقدمها في خمسمائة وأشرس بن عبد الله يقاتل أهل بخارى والصغد، فعبر النهر إليه.
وفي هذه السنة: حج بالناس إِبْرَاهِيم بْن هشام المخزومي، وكان إليه من العمل في هذه السنة ما كان في السنة التي قبلها، وكان على العراق خالد بن عبد الله، وعلى خراسان الجنيد.
__________
[1] في الأصل: «الخراج» . وما أوردناه من الطبري.(7/143)
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
604- جرير بن عطية بن الخطفي، والخطفي لقب، واسمه حذيفة بن بدر بن سلمة بن كلب بن يربوع بن مالك بن حنظلة، أبو جزرة الشاعر [1] :
ولد جرير لسبعة أشهر، وعمر نيفا وثمانين سنة، وكان له ثمانية ذكور وابنتان. وهو والفرزدق والأخطل مقدمون على شعراء الإسلام الذين لم يدركوا الجاهلية، والناس مختلفون [2] أيهم المقدم، وكل من تعرض لمضاهاتهم من الشعراء افتضح وسقط، على أن الأخطل إنما دخل بين جرير والفرزدق في آخر أمرهما وقد أسن وليس من نجارهما [3] .
وكان أبو عمرو الشيباني يشبه جريرا بالأعشى، والفرزدق بزهير، والأخطل بالنابغة.
قال أبو عبيدة [4] : ويحتج من قدم جريرا بأنه كان أكثرهم [5] فنون شعر، وأسهلهم ألفاظا، وأرقهم تشبيبا، وكان دينا عفيفا.
وقال بعض العرب: الشعر أربعة أصناف: فخر، ومدح، ونسيب [6] ، وهجاء.
وفي كلها غلب جرير.
قال في الفخر:
إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت الناس كلهم غضابا
وقال في المديح:
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
__________
[1] الأغاني 8/ 5، وفيات الأعيان 1/ 102، وخزانة البغدادي 1/ 36.
[2] في الأصل: «يختلفون» . وما أوردناه من ت.
[3] النجر: الأصل.
[4] الخبر في الأغاني 8/ 7.
[5] في الأصل: «ويحتج من قال م جريرا بأنهم كان أكثرهم» . وما أوردناه من ت والأغاني.
[6] في الأصل: «وتشبيب» . والتصحيح من ت والأغاني 8/ 8.(7/144)
وقال في التشبيب:
إن العيون التي في طرفها [1] مرض [2] ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
وقال في الهجاء:
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا
وقال العتبي: قال جرير [3] : ما عشقت قط، ولو عشقت لتشببت تشببا [4] تسمعه العجوز فتبكي على ما فاتها من شبابها.
وكان جرير يهاجي الفرزدق، فلقيه في طريق الحج، فقال الفرزدق: والله لأفسدن عليه إحرامه، فقال له:
فإنك لاق بالمشاعر من منى ... فخارا فخبرني بمن أنت فاخر
فقال جرير: لبيك اللَّهمّ لبيك.
أخبرنا ابن ناصر، قال [5] : أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ [أَبِي] [6] مَنْصُورٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا جعفر بن يحيى الحكاك، قال: أخبرنا القاضي أبو الحسن محمد بن علي بن صخر، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن عدي بن جزء، قال: حدثنا سليمان بن إبراهيم الهاشمي، قال: أخبرنا محمد بن إسماعيل بن الهادي، عن أبي يعقوب بن السكيت، عن أبيه، قال:
ذكروا أن جرير بن الخطفي دخل على عبد الملك بن مروان فقال له: يا أمير المؤمنين إني قد مدحتك بثلاثة أبيات ما قالت العرب مثلها، ولست أنشدك كل بيت إلا بعشرة آلاف، قال: هاتها للَّه أبوك، فأنشأ جرير يقول:
رأيتك أمس خير بني معد ... وأنت اليوم خير منك أمس
__________
[1] في الأصل: «في لحظها» . وما أوردناه من ت والأغاني.
[2] في الأغاني: «حور» . والحور شدة بياض العين مع شدة سواد سوادها.
[3] الخبر في الأغاني 8/ 47.
[4] في الأغاني: «لنسبت نسيبا» .
[5] «أخبرنا ابن ناصر، قال:» ساقطة من ت.
[6] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/145)
ونبتك في المنابت خير نبت ... وغرسك في المغارس خير غرس
وأنت غدا تزيد الضعف ضعفا ... كذاك تزيد سادة عبد شمس
فأمر له بثلاثين ألف درهم، وخرج فلقيه يحيى بن معبد، فقال: يا أبا جزرة، ما لنا فيك نصيب، قال له: كل بيت بعشرة آلاف درهم، فقال له: قل، فأنشأ يقول:
إذا قيل من للجود والفضل والندى ... فناد بأعلى الصوت يحيى بن معبد
فقال له: زدنا يا أبا حزرة، فقال: دع ذا عنك، كل شيء وحسابه.
وقد ذكرنا أن هذه الأبيات السينية للأعشى، وأنه أنشدها عبد الملك.
ومن مستحسن شعر جرير [1] :
إلى الله أشكو أن بالغور حاجة ... وأخرى إذا أبصرت نجدا بدا ليا
إذا اكتحلت عيني بعينك لم تزل [2] ... بخير وجلى غمرة عن فؤاديا
فقولا لواديها الذي نزلت به [3] ... أوادي ذي القيصوم أمرعت واديا [4]
فيا حسرات القلب في إثر من يرى ... قريبا ويلفي [خيره] منك قاصيا [5]
فأنت أبي ما لم تكن لي حاجة ... فإن عرضت أيقنت أن لا أباليا
وإني لأستحيي أخي أن أرى له ... علي من الفضل الذي لا يرى ليا
وله أيضا [6] :
بان الخليط ولو طوعت ما بانا ... وقطعوا من حبال الوصل أقرانا
حي المنازل إذ لا نبتغي بدلا ... بالدار دارا ولا الجيران جيرانا
يا أم عمرو جزاك الله مغفرة ... ردي علي فؤادي كالذي كانا
قد خنت من لم يكن يخشى خيانتكم ... ما كنت أوّل موثوق به خانا
__________
[1] ديوانه 602.
[2] في الديوان: «بعينك مسني» .
[3] في الأصل: «نزالت به» . وما أوردناه من الديوان، وت.
[4] في الأصل: «أعشب واديا» . وما أوردناه من ت والديوان.
[5] في الديوان: «نائيا» . وما بين المعقوفتين: من ت والديوان.
[6] ديوانه: 593.(7/146)
أبدل الليل لا تسري كواكبه ... أم طال حتى حسبت النجم حيرانا
إن العيون التي في طرفها مرض ... قتلننا ثم لا يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به [1] ... وهن أضعف خلق الله أركانا
أتبعتهم مقلة إنسانها غرق ... هل ما ترى تارك للعين إنسانا
يا حبذا جبل الريان من جبل ... وحبذا ساكن الريان من كانا
هل يرجعن وليس الدهر مرتجعا ... عيش لنا طالما [2] احلولى وما لانا
وله أيضا [3] :
ما للمنازل لا يجبن حزينا ... أصممن أم قدم المدى فبلينا
إن الذين تحملوا لك هيجوا [4] ... وشلا بعينك ما يزال معينا
غيضن من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا
ولقد تسقطني الوشاة فصادفوا ... حصرا بسرك يا أميم [5] ضنينا
أرعى كما يرعى بغيب سركم ... فإذا بخلت بنايل فعدينا
قد هاج ذكرك والصبابة والهوى ... داء تمكن في الفؤاد مكينا
وله أيضا [6] :
لما تذكرت بالديرين أرقني ... صوت الدجاج وقرع بالنواقيس
فقلت للركب إذ جد الرحيل بنا ... ما بعد يبرين من باب الفراديس
هل دعوة من جبال الثلج مسمعة ... أهل الإياد وحيا بالنباريس
يخزى الوشيظ إذا قال الصميم لهم ... عدوا الحصى ثم قيسوا بالمقاييس
وابن اللبون إذا ما لز في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس
قد جربت عركي في كل معترك ... غلب الأسود فما بال الضّغابيس
__________
[1] في الديوان: «لا صراع به» .
[2] في الديوان: «عش بها طالما» .
[3] ديوانه 577.
[4] في الديوان: «إن الذين غدوا بلبك غادروا» .
[5] في الأصل: «ما أهم» . وو ما أوردناه من ت والديوان.
[6] ديوانه 321.(7/147)
توفي جرير باليمامة بعد الفرزدق بأربعين يوما في هذه السنة.
605- الحجاج العابد:
أَخْبَرَنَا المحمدان ابْن عَبْد الملك وابْن ناصر، قالا: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ خَيْرُونَ، قَالَ: قرئ على أبي القاسم عبد الملك بن بشران وأنا أسمع، أخبركم محمد بن الحسين الأجري، قال: أخبرنا الفضل بن العباس بن يوسف الشكلي، قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ السُّلَمِيُّ، قَالَ: حدثنا محمد بن صالح التميمي، قال: قال أبو عبد الله مؤذن مسجد بني جراد:
جاورني شاب فكنت إذا أذنت للصلاة وافى كأنه نقرة في قفاي، فإذا صليت صلى ثم لبس نعليه ثم دخل إلى منزله، فكنت أتمنى أن يكلمني أو يسألني حاجة، فقال لي ذات يوم: يا أبا عبد الله، عندك مصحف تعيرني أقرأ فيه، فأخرجت إليه مصحفا ورفعته إليه فضمه إلى صدره، ثم قال: ليكونن [اليوم] [1] لي ولك شأن، ففقدته ذلك اليوم، فلم أره يخرج، فأقمت للمغرب فلم يخرج، وأقمت لعشاء الآخرة فلم يخرج، فساء ظني، فلما صليت العشاء الآخرة جئت إلى الدار التي هو فيها، فإذا فيها دلو ومطهرة، وإذا على بابه ستر، فدفعت الباب فإذا به ميت والمصحف في حجره، فأخذت المصحف من حجره، واستعنت بقوم على حمله حتى وضعناه على سريره، وبقيت أفكر ليلتي من أكلم حتى يكفنه، فأذنت للفجر بوقت، ودخلت المسجد لأركع، فإذا بضوء في القبلة، فدنوت منه فإذا كفن ملفوف في القبلة، فأخذته وحمدت الله عز وجل وأدخلته البيت وخرجت، فأقمت الصلاة، فلما سلمت إذا عن يميني ثابت البناني ومالك ابن دينار، وحبيب الفارسي، وصالح المري، فقلت: يا إخواني، ما غدا بكم؟ قالوا لي: مات في جوارك الليلة أحد، قلت: مات شاب كان يصلي معي الصلوات، فقالوا لي: أرناه، فلما دخلوا عليه كشف مالك بن دينار عن وجهه، ثم قبل موضع سجوده، ثم قال: بأبي أنت يا حجاج إذا عرفت في موضع تحولت منه إلى موضع غيره، ثم أخذوا في غسله وإذا مع كل واحد منهم كفن، فقال واحد منهم: أنا أكفنه، فلما طال ذلك منهم قلت لهم: إني فكرت في أمره الليلة فقلت: من أكلم حتى يكفنه، فأتيت المسجد فأذنت ثم دخلت لأركع فإذا كفن ملفوف لا أدري من وضعه، فقالوا: يكفن في ذلك
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من ت.(7/148)
الكفن، فكفناه وأخرجناه، فما كدنا نرفع جنازته من كثرة من حضره من الجمع.
606- همام بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم، واسم دارم بحر بن مالك، أبو فراس، وهو الفرزدق الشاعر [1] :
شبه وجهه بالخبزة، وهي فرزدقة، فقيل: الفرزدق، وكان جده صعصعة يستحيي الموءودات في الجاهلية فجاء الإسلام وقد استحيا ثلاثمائة. وقد سبق ذكره.
وقال الفرزدق:
وجدي الذي منع الوائدين ... وأحيا الوئيد فلم يوأد
سمع الفرزدق من علي، وابن عمر، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وروى عنهم.
وسئل عن سنه [2] فقال: لا أدري لكن قذفت المحصنات في أيام عثمان.
وروى أعين بن لبطة بن الفرزدق، عن أبيه، عن جده الفرزدق، قال: دخلت مع أبي على عَلي بْن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عنه [3] ،. فقال له: من أنت؟ فقال: غالب بن صعصعة المجاشعي، قال: ذو الإبل الكثيرة؟ قال: نعم، قال: ما فعلت إبلك؟ قال:
نكبتها النوائب، ودعدتها الحقوق، قال: ذاك خير من سبلها، من هذا الفتى معك؟
قال: هذا ابني وهو شاعر، قال: علمه القرآن خير له من الشعر. قال لبطة: فما زال في نفس أبي حتى شد نفسه فحفظ القرآن. أنبأنا علي بن عبيد الله، قال: أنبأنا أحمد بن محمد بن النقور، قال: حدثنا عيسى بن علي، قال: قرئ على أبي عبد الله محمد بن مخلد قيل له: حدثكم أبو بكر محمد بن إسحاق الصاغاني، قال: حدثنا أبو حفص الفلاس، قال: حدثنا عبد الله بن سوار، قال: حدثنا معاوية بن عبد الكريم، عن أبيه، قال:
دخلت على الفرزدق فتحرك فإذا في رجليه قيد، قلت: ما هذا يا أبا فراس؟ قال:
حلفت ألا أخرجه من رجلي حتى أحفظ القرآن.
__________
[1] الأغاني 9/ 367، 21/ 278، وخزانة البغدادي 1/ 105، وأمالي المرتضى 1/ 43، والحيوان للجاحظ 6/ 222.
[2] في الأصل: «سسه» . كذا بدون نقط، وما أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «عليه السلام» . وما أوردناه من ت.(7/149)
أنبأنا علي بن عبيد الله، قَالَ: أنبأنا أبو الحسين بن المهدي، قال: أنبأنا ابن المأمون، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بكر بْن الأنباري، قال: حدثنا الكديمي، قال: حدثنا عبد الله بن سوار، قال:
أولاد الفرزدق لبطة وسبطة وحبطة والحنطبا قال أبو علي الحرمازي [1] : كانت النوار وهي بنت أعين بن ضبيعة [2] المجاشعي، وكان قد وجهه علي بن أبي طالب إلى البصرة أيام الحكمين، فقتله الخوارج غيلة، فخطب ابنته النوار رجل من قريش، فبعثت إلى الفرزدق، وكانت بنت عمه، فقالت: أنت ابن عمي وأولى الناس بي وبتزويجي، فزوجني من هذا الرجل، قال: لا أفعل أو تشهدي أنك قد رضيت بمن زوجتك، ففعلت. فلما اجتمع الناس حمد الله وأثنى عليه ثم قال: قد علمتم أن النوار قد ولتني أمرها، وأشهدكم أني قد زوجتها من نفسي على مائة ناقة حمراء سود الحدق، فنفرت من ذلك واستعدت عليه ابن الزبير فقال له: وفها صداقها، ففعل ودفعها إليه، فجاء بها إلى البصرة وقد أحبلها، ومكثت عنده زمانا ترضى عنه أحيانا وتخاصمه أحيانا، ثم لم تزل به حتى طلقها وشرط ألا تبرح منزله ولا تتزوج بعده، وأشهد على طلاقها الحسن، ثم قال: يا أبا سعيد قد ندمت، فقال: إني والله لأظن [3] أن دمك يترقرق، والله لئن رجعت لنرجمنك بأحجارك، فمضى وهو يقول:
ندمت ندامة الكسعي لما ... غدت مني مطلقة نوار
فلو أني ملكت يدي وقلبي ... لكان علي للقدر الخيار
وكانت جنتي فخرجت منها ... كآدم حين أخرجه الضرار
وكنت كفاقئ عينيه عمدا ... فأصبح ما يضيء له النهار
وحكى الفرزدق قال [4] : رأيت أثر دواب قد خرجت ناحية البرية، فظننت أن قوما خرجوا لنزهة فتبعتهم، فإذا نسوة مستنقعات في غدير، فقلت: لم أر كاليوم [5] ، ولا يوم
__________
[1] في الأصل: «الحزماري» . وما أوردناه من ت والأغاني. والخير في الأغاني 21/ 290.
[2] كذا في الأصلين، وفي الأغاني: «صعصعة» .
[3] في الأصل: «إني والله أظن أن» . وما أوردناه من ت.
[4] الخبر في الأغاني 21/ 342، وما بعدها.
[5] في الأصل: «إن كاليوم» . كذا بدون نقط، وما أوردناه من ت والأغاني.(7/150)
دارة جلجل، فانصرفت مستحييا منهن، فنادينني: باللَّه يا صاحب البغلة ارجع نسألك عن شيء، فانصرفت إليهن وهن في الماء إلى حلوقهن، فقلن: باللَّه حدثنا بحديث دارة جلجل، فقلت: إن امرأ القيس كان يهوى بنت عم له يقال لها: عنيزة، فطلبها زمانا فلم يصل إليها حتى كان يوم الغدير وهو يوم دارة جلجل، وذلك أن الحي احتملوا، فتقدم الرجال، وتخلف النساء والخدم والثقل، فلما رأى ذلك امرؤ القيس تخلف بعد ما سار الرجال غلوة [1] ، فكمن في غابة [2] من الأرض حتى مر به النساء، فإذا فتيات وفيهن عنيزة، فلما وردن الغدير قلن: لو نزلنا، فذهب بعض كلالنا فنزلن إليه، ونحين العبيد عنهن [3] ، ثم تجردن واغتمسن في الغدير كهيئتكن الساعة، فأتاهن امرؤ القيس محتالا كنحو ما أتيتكن وهن غوافل، فأخذ ثيابهن فجمعها ورمى الفرزذق نفسه عن بغلته، فأخذ بعض أثوابهن فجمعها- وقال لهن كما أقول لكن: والله لا أعطي جارية منكن ثوبها ولو أقامت في الغدير يومها حتى تخرج إلي مجردة [4] . فقال الفرزدق: فقالت إحداهن: هذا امرؤ القيس، كان عاشقا لابنة عمه، أفعاشق أنت لبعضنا؟ فقلت: لا والله ولكني اشتهيتكن، قال: فتأبين أمري [5] حتى تعالى النهار وخشين أن يقصرن دون المنزل، فخرجت إحداهن، فدفع إليها ثوبها ووضعه ناحية، فأخذته ولبسته، وتتابعن على ذلك حتى بقيت عنيزة وحدها، فناشدته الله أن يطرح لها ثوبها، فقال: دعينا منك، فأنا حرام إن أخذت ثوبك إلا بيدك. قال: فخرجت فنظر إليها مقبلة ومدبرة، فأخذت ثوبها، وأقبلن عليه يعذلنه ويلمنه ويقلن: عريتنا وحبستنا وجوعتنا، قال: فإن نحرت لكن ناقتي، أتأكلن منها؟ قلن: نعم، فاخترط سيفه فعقرها ونحرها وكشطها وصاح بخدمهن، فجمعوا له حطبا، فأجج نارا عظيمة، وجعل يقطع لهن من سنامها وأطائبها وكبدها، فيلقيه على الجمر فيأكل ويأكلن معه، فلما أراد الرحيل قالت إحداهن: أنا
__________
[1] الغلوة: مقدار رمية سهم، وتقدر بحوالي ثلاثمائة ذراع إلى أربعين.
[2] في الأغاني: «غبابة من الأرض» .
[3] في الأصل: «عنه» .
[4] في الأصل: «فأتاهن امرؤ القيس فأخذ بعض أثوابهن فجمعهن وقال لهن كما قائلا كنحو ما أتيتكن وهن غوافل، فأخذ ثيابهن فجمعها ورمى الفرزدق نفسه عن بلغته فأخذ بعض أثوابهن فجمعها وقال لهن كما أقول، لكن والله لا أعطي جارية منكن ثوبها، فقال الفرزدق» :. وما أوردناه من ت والأغاني.
[5] في الأصل: «فتأبين على الفرزدق» . وما أوردناه من الأغاني وت.(7/151)
أحمل طنفسته [1] ، وقالت الأخرى: أنا أحمل رحله، وقالت الأخرى: أنا حشيته وأنساعه، فتقاسمن رحله بينهن، وبقيت عنيزة، فقال لها [امرؤ القيس] [2] : يا ابنة الكرام، لا بد أن تحمليني معك فإني لا أطيق المشي وليس من عادتي، فحملته على غارب بعيرها، فكان يدخل رأسه في خدرها فيقبلها، فإذا امتنعت مال حدجها [3] ، فتقول: يا امرأ القيس عقرت بعيري فانزل، فذلك قوله:
تقول وقد مال الغبيط بنا معا ... عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل
فلما فرغ الفرزدق من حديثه قالت إحداهن: اصرف وجهك عنا ساعة، وهمست إلى صويحباتها [4] بشيء لم أفهمه، فانغططن في الماء وخرجن ومع كل واحدة منهن ملء كفها طينا، قال: فجعلن يتعادين نحوي ويضربن بذلك الطين والحمأة [5] وجهي وثيابي وملأن عيني، فوقعت على وجهي مشغولا بعيني وما فيها، فأخذن ثيابهن وركبن، وركبت تلك الماجنة بغلتي وتركتني ملقى بأقبح حال، فغسلت وجهي وثيابي وانصرفت عند مجيء الظلام إلى منزلي ماشيا وقد وجهن بغلتي إلى بيتي وقلن للرسول: قل له تقول لك أخواتك: طلبت منا ما لم يمكنا، وقد وجهنا إليك بزوجتك فافعل بها سائر ليلتك، وهذا كسر درهم يكون لحمامك إذا أصبحت. فكان يقول: ما منيت بمثلهن.
قال علماء السير: لقي الفرزدق الحسن عند قبر، فقال له الحسن: ما أعددت لهذا اليوم؟ قال: أعددت له شهادة أن لا إله إلا الله منذ ثمانين سنة.
فتوفي الفرزدق في سنة إحدى عشرة ومائة، وقد قارب المائة. وكانت علته الدبيلة، فرآه ابنه لبطة في النوم، فقال له: يا بني نفعتني الكلمة التي راجعت بها الحسن عند القبر.
وقال أبو عبيدة: مات الفرزدق سنة عشر وقد نيف على التسعين، كان منها خمس وسبعون يباري الشعراء فبذهم، وما ثبت له غير جرير.
__________
[1] الطنفسة: الوسادة الصغيرة التي تجعل تحت الرجل.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من الأغاني.
[3] الحدج: مركب من مراكب النساء كالهودج.
[4] في الأصل: «إلى صوحاها» . كذا بدون نقط.
[5] الحمأة: الطين الأسود.(7/152)
ثم دخلت سنة اثنتي عشرة ومائة
فمن الحوادث فيها غزوة معاوية بن هشام الصائفة فافتتح خرشنة.
وفيها: سار الترك، فلقيهم الجراح بن عبد الله فيمن معه من أهل الشام، وأهل أذربيجان، فاستشهد الجراح ومن كان معه بمرج أردبيل، وافتتحت الترك أردبيل، وبعث هشام سعيد بن عمرو الجرشي.، فأكثر القتل في الترك، ثم أنفذ أخاه مسلمة بن عبد الملك في أثر الترك.
وفيها: قتل سورة بن الحر [1] ، وذلك أن الجنيد خرج غازيا يريد طخارستان، فنزل على نهر بلخ ووجه عمارة بن حريم إلى طخارستان في ثمانية عشر ألفا، وإبراهيم الليثي في عشرة آلاف في وجه آخر، فجاشت الترك، فأتوا سمرقند وعليها سورة بن الحر، [2] فكتب سورة إلى الجنيد الغوث، فهم أن ينفر، فقيل له: جندك متفرقون وصاحب خراسان لا يعبر النهر في أقل من خمسين ألفا فلا تعجل، فقال: فكيف بسورة ومن معه من المسلمين، فعبر ومضى بالناس حتى دخل الشعب وبينه وبين سمرقند أربع فراسخ، فصبحه خاقان في جمع عظيم، وزحف، وزحف إليه أهل الصغد وشاش وفرغانه وطائفة من الترك، فجرت في المسلمين مقتلة عظيمة، وكلت سيوف الفريقين، فصارت لا تقطع، فقيل للجنيد: اختر أن تهلك أو تهلك سورة، فقال: هلاك سورة أهون عليّ.
__________
[1] في الأصل: «سورة بن أعر» . كذا بدون نقط. والتصحيح من تاريخ الطبري 7/ 71.
[2] في الأصل: «ابجر» والتصحيح من ت والطبري.(7/153)
قيل: فاكتب إليه فليأتك في أهل سمرقند، فإن الترك إن بلغهم أنه متوجه إليك انصرفوا فقاتلوه. فكتب يأمره بالقدوم. فخرج في اثني عشر ألفا، فتلقاه خاقان، فحمل سورة فوقع فاندقت فخذه وقتل أكثر من معه، ومضى الجنيد إلى سمرقند، وحمل عيال من كان مع سورة إلى مرو، وأقام بالصغد أربعة أشهر.
وفي هذه السنة: حج بالناس إِبْرَاهِيم بْن هشام المخزومي، وقيل: سليمان بن هشام. وأما عمال الأمصار فهم الذين كانوا في سنة إحدى عشرة.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
607- طلحة بن مصرف بن عمرو بن كعب، أبو عبد الله [1] :
سمع من أنس بن مالك، وابن أبي أوفى، وابن الزبير. وكان قارئ أهل الكوفة يقرءون عليه القرآن، فلما رأى كثرتهم عليه كره ذلك لنفسه، فمشى إلى الأعمش فقرأ عليه، فمال الناس إلى الأعمش وتركوا طلحة. وكان ثقة صالحا عابدا.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم، قال: أخبرنا حمد بن أحمد الحداد، [2] قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو نعيم الأصفهاني، قَالَ: حَدَّثَنَا أحمد بن جعفر بن حمدان، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قال: حدّثنا أبو سعيد الأشج، قال: حدثنا ابن أبي غنية، قال: حدثني شيخ، عن جدته قالت:
أرسل إلي طلحة بن مصرف: إني أريد أن أوتد في حائطك وتدا، فأرسلت إليه:
نعم، قالت: ودخلت خادمتنا منزل طلحة تقتبس نارا وطلحة يصلي، فقالت لها امرأته:
مكانك يا فلانة حتى نشوي لأبي محمد هذا القديد على قضيبك يفطر عليه. فلما قضى الصلاة قال: ما صنعت لا أذوقه حتى ترسلي إلى سيدتها، لحبسك إياها وشواك على قضيبها.
__________
[1] طبقات ابن سعد 6/ 215، وطبقات خليفة 262، والتاريخ الكبير 4/ 3080، والجرح والتعديل 4/ 2080، 2082، وحلية الأولياء 5/ 14، وسير أعلام النبلاء 5/ 191، وتاريخ الإسلام 4/ 260، وتهذيب التهذيب 5/ 25.
[2] في الأصل: «حمد بن أحمد القزاز الحداد» . وما أوردناه من ت.(7/154)
قال أبو نعيم: وحدثنا محمد، قال: حدثنا أبو يعلى وهو الموصلي، قال: حدثنا عبد الصمد بن يزيد، قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول:
بلغني عن طلحة أنه ضحك يوما فوثب على نفسه، فقال: فيم الضحك، إنما يضحك من قطع الأهوال، وجاز الصراط. ثم قال: آليت ألا أفتر ضاحكا حتى أعلم بم تقع الواقعة، فما رئي ضاحكا حتى صار إلى الله عز وجل [1] .
أخبرنا محمد بن [أبي] [2] القاسم بإسناد له، قال عبد الملك بن هانئ: خطب زيد إلى طلحة ابنته، فقال: إنها قبيحة، قال: قد رضيت بها، قال: إن بعقبها أثرا، قال: قد رضيت.
قال أبو نعيم: وحدثنا أَبُو بكر بْن مالك، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد الله بن أحمد، قال:
حدثنا أبو سعيد الأشج، قال: حدثنا محمد بن فضيل، عن أبيه، قال:
دخلنا [3] على طلحة بن مصرف نعوده، فقال له أبو كعب: شفاك الله، قال:
أستجير الله.
قال أبو سعيد: وحدثنا ابن إدريس، عن ليث، قال: حدثت طلحة في مرضه الّذي مات فيه أن طاووسا كان يكره الأنين، قال: فما سمع طلحة يئن حتى مات.
608- المغيرة بن حكيم الصنعاني:
من الأنبار، روى عن ابن عمر، وأبي هريرة.
أنبأنا يحيى بن علي المدير، قال: أخبرنا المبارك بن الحسين الأنصاري، قال: أخبرنا ابن بشران، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن صفوان، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو بكر القرشي، قال:
حدثني الحسين بن علي البزاز، أنه حدث عن عبد الله بن إبراهيم، قال: أخبرني أبي، قال:
سافر المغيرة بن حكيم إلى مكة أكثر من خمسين سفرة حافيا محرما صائما، لا
__________
[1] في الأصل: «الله تعالى» . وما أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «دخلت» . وما أوردناه من ت.(7/155)
يترك صلاة السحر في سفره، إذا كان السحر نزل فصلى ويمضي أصحابه، فإذا صلى الصبح لحق متى ما لحق.
قال عبد الله بن إبراهيم: وأخبرني هشام بن يوسف، قال: سمعت إبراهيم بن عمر يقول:
كان جزء المغيرة بن حكيم في يومه وليلته القرآن كله، يقرأ في صلاة الصبح من البقرة إلى هود، ويقرأ قبل الزوال إلى أن يصلي العصر من هود إلى الحج، ثم يختم.(7/156)
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة ومائة
فمن الحوادث فيها هلاك عبد الوهاب بن بخت وهو مع البطال بن عبيد الله بأرض الروم، وذلك أن عبد الوهاب غزا مع البطال، فانكشفوا فألقى بيضته عن رأسه وصاح: أنا عبد الوهاب بن بخت، أمن الجنة تفرون؟ ثم تقدم في نحور العدو، فمر برجل يقول:
وا عطشاه، فقال له: تقدم فالري أمامك فخالط القوم فقتل [1] .
ومن ذلك: أن مسلمة بن عبد الملك فرق الجيوش في بلاد خاقان، ففتحت مدائن وحصون على يديه، وقتل وأسر وسبى، فحرق خلق كثير من الترك أنفسهم بالنار، ودان لمسلمة من كان من وراء جبال بلنجر، وقتل ابن خاقان.
ومن ذلك: غزوة معاوية بن هشام أرض الروم، فرابط ثم رجع.
وفي هذه السنة: صار جماعة من دعاة بني العباس إلى خراسان، فأخذ الجنيد رجلا منهم فقتله، وقال: من أصيب منهم فدمه هدر.
وفي هذه السنة: حج بالناس سليمان بن هشام بن عبد الملك، وقيل: بل إبراهيم بن هشام المخزومي. وأما عمال البلاد فالذين كانوا في السنة التي قبل هذه.
__________
[1] على هامش الأصل: «وذكر الشيخ شمس الدين الذهبي في تاريخه أن أبا محمد البطال كان مقدم طلائع مسلمة، وكان فارس الإسلام، وأسدا ضرغاما، أوطأ الروم خوفا وذلا وله مواقف مشهورة....» .(7/157)
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
609- عبد الله بن عبيد بن عمير [1] :
كان عالما فصيحا صالحا. توفي بمكة في هذه السنة.
أخبرنا محمد بن [أبي] [2] القاسم، قَالَ: حَدَّثَنَا حمد بْن أَحْمَد، قَالَ: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا أحمد بن جعفر الغساني، قال: حدثنا محمد بن جرير، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا زافر بن سليمان، عن الوصافي، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، قال:
لا ينبغي لمن أخذ بالتقوى وزن الورع إن يذل لصاحب الدنيا.
__________
[1] التاريخ الكبير 5/ 429، والجرح والتعديل 5/ 469، وميزان الاعتدال 2/ 4438، وتهذيب التهذيب 5/ 308، وتقريب التهذيب 1/ 431.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/158)
ثم دخلت سنة أربع عشرة ومائة
فمن الحوادث فيها غزوة معاوية بن هشام الصائفة اليسرى [1] ، وسليمان بن هشام [الصائفة] [2] اليمنى، والتقى عبد الله البطال هو قسطنطين في جمع فهزمهم، وأسر قسطنطين، وبلغ سليمان بن هشام قيسارية.
وفي هذه السنة: عزل هشام بن عبد الملك إبراهيم بن هشام بن المدينة، وأمّر عليها خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم، فقدم خالد المدينة للنصف من ربيع الأول. وكانت إمرة إبراهيم على المدينة ثماني سنين.
وفيها: ولي محمد بن هشام [المخزومي] [3] على مكة.
وفيها: وقع الطاعون بواسط.
وفيها: قفل مسلمة بن عبد الملك عن الباب بعد ما هزم خاقان، وبنى الباب فأحكم ما هناك.
وفيها: ولى هشام بن عبد الملك مروان [4] بن محمد أرمينية وأذربيجان.
وفيها: حج بالناس خالد بن عبد الملك وهو على المدينة، وقيل: بل حج بهم
__________
[1] تاريخ الطبري 7/ 90.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين: من هامش الأصل، وت.
[4] في الأصل: «ولى هشام بن عبد الملك بن مروان» . خطأ وما أوردناه من الطبري.(7/159)
محمد بن هشام وهو أمير مكة، وقيل: بل حج بهم خالد بن الملك [1] ، وهو الأثبت عند الواقدي. وكان العمال في الأمصار هم العمال فِي السنة الَّتِي قبلها، غير أن عامل المدينة خالد بن عبد الملك، وعامل مكة [2] والطائف محمد بن هشام، وعامل أرمينية وأذربيجان مروان بن محمد بن مروان.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
610- جعيل بن ماعان بن عمير، أبو سعيد الرعيني ثم القياني [3] :
كان أحد القراء الفقهاء، أخرجه عمر بن عبد العزيز من مصر إلى المغرب ليقرئهم القرآن، واستعمله على القضاء بإفريقية هشام بن عبد الملك، وله عليه وفادة.
وقد روى عن أبي تميم عبد الله بن مالك الجيشاني. وحدث عنه بكر بن سوادة.
611- عبد خير بن يزيد، أبو عمارة [4] :
أدرك النبي صلى الله عليه وسلّم إلا أنه لم يلقه، وسكن الكوفة وحدث بها عن علي بن أبي طالب، وشهد معه حرب الخوارج بالنهروان. روى عنه أبو إسحاق السبيعي، وحبيب بن أبي ثابت، وإسماعيل السدي، وكان ثقة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال:
أخبرنا ابن الفضل، قال: حدثنا علي بن إبراهيم المستملي، قال: حدثنا أبو أحمد بن فارس، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، قال: قال لي يحيى بن موسى:
حدثنا مسهر بن عبد الملك، قال: حدثني أبي قال [5] :
قلت لعبد خير: كم أتى عليك؟ قال: عشرون ومائة سنة، كنت غلاما ببلادنا باليمن، فجاء كتاب النبي صلى الله عليه وسلّم فنودي في الناس فخرجوا إلى حيز واسع، فكان أبي فيمن
__________
[1] في الأصلين: «خالد بن الوليد» . خطأ، وما أوردناه من الطبري 7/ 91.
[2] في الأصل: «وهو عامل مكة» . خطأ وما أوردناه من ت، والطبري.
[3] الجرح والتعديل 2/ 542.
[4] طبقات ابن سعد 6/ 154، وتاريخ بغداد 11/ 124.
[5] الخبر في تاريخ بغداد 11/ 125.(7/160)
خرج، فلما ارتفع النهار جاء أبي فقالت له أمي: ما حبسك وهذه القدر قد بلغت وهؤلاء عيالك يتضورون يريدون الغذاء؟ فقال: يا أم فلان، أسلمنا فأسلمي، ومري بهذا القدر فلتهرق للكلاب وكانت ميته. فهذا ما أذكر من أمر الجاهلية.
612- محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، أبو جعفر الباقر [1] :
باقر العلم، أمه أم عبد الله بنت [2] الحسن بن علي بن أبي طالب، وولد له جعفر، وعبد الله من أم فروة بْنت القاسم بْن مُحَمَّد بْن أبي بكر الصديق. وروى أبو جعفر عن جابر، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وابن عباس، وأنس.
قال أبو حنيفة: لقيت أبا جعفر محمد بن علي، فقلت: ما تقول في أبي بكر وعمر؟ فقال: رحم الله أبا بكر وعمر، فقلت: إنه يقال عندنا بالعراق إنك لتبرأ منهما، فقال: معاذ الله كذب من قال هذا عني، أو ما علمت أن علي بن أبي طالب زوج ابنته أم كلثوم التي من فاطمة بْنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله سلّم عمر بن الخطاب وجدتها خديجة وجدها رسول الله صلى الله عليه وآله سلّم. أخبرنا محمد بن عبد الباقي بن سُلَيْمَان، قال: أخبرنا حمد بن أحمد الحداد، قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله الحافظ، قال: أخبرنا محمد بن حبيش، قال: حدثنا إبراهيم بن شريك الأسدي، قال: حدثنا عقبة بن مكرم، قال: حدثنا يونس بن بكير، عن أبي عبد الله الجعفي، عن عروة بن عبد الله،. قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي عن حلية السيوف، قال: لا بأس به قد حلى أبو بكر الصديق سيفه، قال: قلت: وتقول الصديق، فوثب وثبة واستقبل القبلة ثم قال:
نعم الصديق، نعم الصديق، نعم الصديق، فمن لم يقل له الصديق فلا صدق الله له قولا في الدنيا ولا في الآخرة. قال ابن حبيش: وحدثنا أحمد بن يحيى الحلواني، قال: حدثنا أحمد بن
__________
[1] طبقات ابن سعد 6/ 235، البداية النهاية 9/ 347. والتاريخ الكبير 1/ 1/ 184، والجرح والتعديل 8/ 26.
[2] «ابنته: سقطت من ت.(7/161)
يونس، عن عمر بن شمر، عن جابر، قال: قال لي محمد بن علي: يا جابر، بلغني أن قوما بالعراق يزعمون أنهم يحبونا وينالون أبا بكر وعمر، ويزعمون أني أمرتهم بذلك، فأبلغهم أني إلى الله منهم بريء، والذي نفس محمد بيده لو وليت لتقربت إلى الله عز وجل بدمائهم لا نالتني شفاعة محمد إن لم [أكن] [1] أستغفر لهما وأترحم عليهما. أخبرنا عبد الوهاب الأنماطي، قَالَ: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار، قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ [بْنِ عَلِيّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن يوسف، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن صفوان، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد القرشي، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الحسين، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيد بن سليمان، عن] [2] إسحاق بن كثير، عن عبد الله بن الوليد، قال:
قال لنا أبو جعفر محمد بن علي: يدخل أحدكم يده في كم صاحبه فيأخذ ما يريد؟ قلنا: لا، قال: فلستم إخوانا كما تزعمون. توفي محمد في هذه السنة، وقيل: سنة ثمان عشرة، وقيل: سبع عشر وهو ابن ثلاث وسبعين سنة، وأوصى أن يكفن في قميصه الذي كان يصلي فيه.
613- المفضل بن قدامة بن عبيد الله بن عبد الله بن عبيدة بن الحارث بن إياس بن عوف بن ربيعة، من ولد ربيعة بن نزار، كذلك سماه أبو عمر والشيبانيّ، ويكنى أبا النجم [3] :
وقال ابن الأعرابي: اسمه الفضل، وهو من رجاز الإسلام الفحول المتقدمين، في الطبقة الأولى منهم.
قال أبو عبيدة [4] : ما زالت الشعراء تقصر بالرجاز حتى قال أبو النجم:
الحمد للَّه الوهوب المجزل
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] الأغاني 10/ 183 (دار الكتب العلمية) ، معاهد التنصيص 1/ 18، وسمط اللآلئ 328، وخزانة الأدب 1/ 49، 406، والشعر والشعراء 232.
[4] الخبر في الأغاني 10/ 183، 184.(7/162)
وقال العجاج:
قد جبر الدين الإله فجبر [1]
وقال رؤبة:
وقاتم الأعماق خاوي المخترق [2]
فانتصفوا منهم.
قال المدائني [3] : دخل أبو النجم على هشام بن عبد الملك وقد أتت له سبعون سنة [4] ، فقال له هشام: ما رأيك في النساء؟ قال: إني لأنظر إليهن شزرا وينظرن إلي شزرا [5] ، فوهب له جارية وقال: أغد علي فأعلمني ما كان منك، فلما غدا عليه فقال:
ما صنعت شيئا ولا قدرت عليها، وقلت في ذلك أبياتا وهي:
نظرت فأعجبها الذي في درعها ... من حسنه ونظرت في سرباليا
فرأت لها كفلا يميل بخصرها [6] ... وعثا روادفه وأجثم رابيا [7]
ورأيت منتشر العجان [8] مقلصا ... رخوا مفاصله وجلدا باليا
أدني له الركب الحليق كأنما ... أدني إليه عقاربا وأفاعيا
فضحك هشام وأمر له بجائزة.
وقال له هشام [9] : حدثني عنك، قال: عرض لي البول فقمت بالليل أبول، فخرج مني صوت [فتشددت، ثم عدت فخرج مني صوت] [10] آخر فآويت إلى فراشي وقلت: يا أم الخيار، هل سمعت شيئا؟ قالت: لا والله ولا واحدة منهما، فضحك. وأم الخيار التي يقول فيها:
قد أصبحت أم الخيار تدعي ... علي دينا كله لم أصنع
__________
[1] في الأصل: «قد خير الدين الإله فخير» . وما أوردناه من ت والأغاني.
[2] في الأصل: «خاوي المنحرف» . وما أوردناه من ت والأغاني، وفي ت: تكررت: «خاوي المحترق» .
[3] الخير في الأغاني 10/ 194.
[4] في ت: «تسعون» . وفي الأغاني سبعون كما في الأصل.
[5] في الأغاني: «خزرا» .
[6] في الأصل: «بنو بخصرها» . وما أوردناه من الأغاني.
[7] كذا في الأصل، وفي الأغاني: «وأجثم جاثيا» .
[8] في الأصل: «منتشر الفحار» . وما أوردناه من ت والأغاني.
[9] الخبر في الأغاني 10/ 195.
[10] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت والأغاني.(7/163)
ثم دخلت سنة خمس عشرة ومائة
فمن الحوادث فيها غزوة معاوية بن هشام الروم.
وفيها: وقع الطاعون بالشام.
وفيها: أصاب الناس بخراسان قحط شديد ومجاعة، فأعطى الجنيد رجلا درهما فاشترى به رغيفا، فقال: تشكون الجوع ورغيف بدرهم، لقد رأيتني بالهند وإن الحب من الحبوب لتباع عددا بالدراهم [1] .
وفيها: حج بالناس معاوية بن هشام بن إسماعيل وهو أمير مكة والطائف، وكان عمال الأمصار عمال السنة التي قبلها، غير أنه اختلف في عامل خراسان، فقال المدائني: الجنيد بن عبد الرحمن، وقال غيره: عمارة بن خريم المري، وإن الجنيد مات في هذه السنة فاستخلف عمارة. وأما المدائني فقال: مات الجنيد بن عبد الرحمن في سنة ست عشرة [ومائة] [2] ، وهي السنة التي بعد هذه السنة.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
614- خيار بن خالد بن عبد الله بن معاذ، أبو نضلة المدلجي:
قاضي مصر لهشام بن عبد الملك، كان رجلا صالحا.
__________
[1] في ت والطبري «بالدرهم» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/164)
615- عطاء بن أبي رباح، أبو محمد، واسم أبي رباح: أسلم المكي، وهو مولى الجنيد [1] :
ولد لسنتين مضتا من خلافة عثمان، وكان أسود شديد السواد، أعور أفطس أعرج، ثم عمي في آخر عمره، إلا أنه كان فصيحا عالما فقيها، أدرك أبا جحيفة وشهد جنازة زيد بن أرقم.
وروى عن ابن عمر، وابن عمرو، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وزيد بن خالد، وابن عباس، وابن الزبير.
روى عنه: عمرو بن دينار، والزهري، وقتادة، وأيوب.
وحج سبعين حجة، وكان ينادي في زمن بني أمية بمكة: لا يفت الناس إلا عطاء بن أبي رباح، فإن لم يكن فعبد الله بن أبي نجيح.
أَخْبَرَنَا محمد بْن أبي طاهر قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو محمد الجوهري قال: حدثنا أبو عمرو بن حيوية قال: حدثنا أحمد بن معروف قال: أخبرنا الحسين بن الفهم قال:
حدثنا محمد بن سعد قال: أخبرنا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سلمة بن كهيل قال [2] :
ما رأيت أحدا يريد بهذا العلم وجه الله غير هؤلاء الثلاثة: عطاء، وطاووس، ومجاهد.
عن معاذ بن سعيد [3] قال: كنا عند عطاء بن أبي رباح فتحدث رجل بحديث فاعترض له آخر في حديثه، فقال عطاء: سبحان الله، ما هذه الأخلاق!؟ إني لأسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم به، فأريه إني لا أحسن منه شيئا.
أَخْبَرَنَا إسماعيل بْن أَحْمَد السمرقندي قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو محمد بن أبي عثمان قال:
أخبرنا أبو الحسن بن الصلت قال: أخبرنا أبو الحسين بن المنادي قال: حدثنا الصاغاني قال: أخبرنا معلى بن عبيد [4] قال:
__________
[1] طبقات ابن سعد 2/ 2/ 133، 5/ 344، والتاريخ الكبير 213/ 463، والجرح والتعديل 6/ 330.
[2] الخبر في طبقات ابن سعد 5/ 345.
[3] الخبر في طبقات ابن سعد 5/ 345.
[4] الخبر في البداية والنهاية 9/ 345.(7/165)
دخلنا على محمد بن سوقة فقال: أحدثكم بحديث لعله ينفعكم، فإنه قد نفعني، ثم قال: قال لنا عطاء بن أبي رباح: يا بني أخي، إن من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلام، أتنكرون أن عليكم حافظين، أما يستحي أحدكم أن لو نشرت عليه صحيفته التي أملى صدر نهاره، كان أكثر ما فيها ليس من أمر دينه ولا دنياه.
أخبرنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الْمُبَارَكِ الأَنْمَاطِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا جعفر بن أحمد قال: أخبرنا عبد العزيز بن الحسن بن إسماعيل الغراب قَالَ: أخبرنا أَبِي قَالَ: أخبرنا أحمد بن مروان المالكي قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن إِسْحَاق الحربي قَالَ: حدثنا الرياشي قال:
سمعت الأصمعي يقول:
دخل عطاء بن أبي رباح على عبد الملك بن مروان وهو جالس على سريره وحواليه الأشراف من كل بطن، وذلك بمكة في وقت حجه في خلافته، فلما نظر إليه قام إليه وأجلسه معه على السرير وقعد بين يديه وقال له: يا أبا محمد، حاجتك؟ قال: يا أمير المؤمنين، اتق الله في حرم الله وحرم رسوله، فتعاهده بالعمارة، واتق الله في أولاد المهاجرين والأنصار فأنت بهم أجلست [1] هذا المجلس، واتق الله في أهل الثغور، فإنهم حصن المسلمين، وتعهد أمور المسلمين فإنك وحدك المسئول عنهم، واتق الله فيمن على بابك، ولا تغفل عنهم، ولا تغلق دونهم بابك. فقال له: أفعل. ثم نهض فقبض عليه عبد الملك فقال: يا أبا محمد، إنما سألتنا حوائج غيرك، وقد قضيناها، فما حاجتك؟ فقال: ما لي إلى مخلوق حاجة. ثم خرج، فقال عبد الملك: هذا وأبيك الشرف، هذا وأبيك السؤدد.
أخبرنا عبد الحق بن عبد الخالق قال: حدثنا محمد بن مرزوق قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: حدثنا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ الْقُطَيْعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْعَبَّاس الخراز قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أيوب سليمان بن إسحاق الجلاب قَالَ: قال إبراهيم الحربي:
كان عطاء عبدا أسود لامرأة من أهل مكة، وكان أنفه كأنه باقلاء.
قال: وجاء سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين إلى عطاء هو وابناه، فجلسوا إليه
__________
[1] في الأصل: «جلست» . وما أوردناه من ت.(7/166)
وهو يصلي، فلما صلى انفتل إليهما، فما زالوا [1] يسألونه عن مناسك الحج، وقد حول قفاه إليهم ثم قال سليمان لابنيه: قوما. فقاما، فقال: يا بني لا تنيا في طلب العلم، فإني لا أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد الأسود.
أَنْبَأَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الملك بْن خيرون قَالَ: أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ:
أخبرني أبو الحسن علي بن أيوب الكاتب قال: أخبرنا أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزباني قَالَ: حدثنا محمد بن أحمد الكاتب قَالَ: حدثنا عبد الله بن أبي سعيد الوراق قال: حدثنا عمرو بن شبة قال: حدثني سعيد بن منصور الرقي قال: حدثني عثمان بن عطاء الخراساني قال:
انطلقت مع أبي وهو يريد هشام بن عبد الملك، فلما قربنا إذا بشيخ أسود على حمار، عليه قميص دنس، وجبة دنسة، وقلنسوة لاطية دنسة، وركاباه من خشب.
فضحكت وقلت لأبي: من هذا الأعرابي؟ قال: اسكت، هذا سيد فقهاء أهل الحجاز، هذا عطاء بن أبي رباح. فلما قرب نزل أبي عن بغلته، ونزل هو عن حماره، فاعتنقا وتسالا، ثم عادا فركبا فانطلقا حتى وقفا بباب هشام، فلما رجع أبي سألته، فقلت:
حدثني ما كان منكما. قال: لما قيل لهشام عطاء بن أبي رباح [بالباب] [2] أذن له، فو الله ما دخلت إلا بسببه. فلما رآه هشام قال: مرحبا مرحبا هاهنا هاهنا. فرفعه حتى مست ركبته ركبه، وعنده أشراف الناس يتحدثون، فسكتوا. فقال هشام: ما حاجتك يا أبا محمد؟ قال: يا أمير المؤمنين، أهل الحرمين، أهل الله، وجيران رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقسم فيهم أعطياتهم وأرزاقهم، قال: نعم، يا غلام اكتب لأهل المدينة وأهل مكة بعطاءين وأرزاقهم لسنة، ثم قال: هل من حاجة غيرها يا أبا محمد؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أهل الحجاز، وأهل نجد، أصل العرب، ترد فيهم [فضول] [3] صدقاتهم قال: نعم، يا غلام أكتب بأن ترد فيهم صدقاتهم. قال: هل من حاجة غيرها يا أبا محمد؟ قال:
نعم يا أمير المؤمنين، أهل الثغور يرمون من وراء بيضتكم، ويقاتلون عدوكم، قد أجريتم لهم أرزاقا تدرها عليهم، فإنهم إن هلكوا أغرتم. قال: نعم، اكتب بحمل
__________
[1] في الأصل: «ما زالوا» . وما أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/167)
أرزاقهم إليهم يا غلام، هل من حاجة غيرها يا أبا محمد؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أهل ذمتكم يحيى صغارهم ولا يتعتع كبارهم، ولا يكلفون إلا ما يطيقون. قال:
نعم، اكتب لهم يا غلام [1] ، هل من حاجة غيرها يا أبا محمد؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، اتق الله في نفسك، فإنك خلقت وحدك، وتموت وحدك، وتحشر وحدك، وتحاسب وحدك، ولا والله ما معك ممن ترى أحدا. قال: فأكب هشام وقام عطاء، فلما كان عند الباب إذا رجل قد تبعه بكيس ما أدري ما فيه، أدراهم أم دنانير. فقال: إن أمير المؤمنين أمر لك بهذا. فقال: لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على رب العالمين.
قال: ثم خرج عطاء، فلا والله ما شرب عنده حسوة من ماء فما فوقه.
توفي عطاء في هذه السنة. وقيل: سنة أربع عشرة. وهو ابن ثمان وثمانين سنة.
وقيل: بل عاش مائة سنة.
616- عمرو بن مروان بن الحكم، أبو حفص:
لم يكن في بني أمية بمصر في أيامه أفضل منه. كان خلفاء بني أمية يكتبون إلى أمراء مصر لا تعصوا له أمرا. وكان يأتي عجائز كنّ في خراب المعافر، فيدفع إليهن ما يكفيهن طوال السنة.
روى عنه: يزيد بن أبي حبيب وغيره.
__________
[1] «اكتب لهم يا غلام» : ساقطة من ت.(7/168)
ثم دخلت سنة ست عشرة ومائة
فمن الحوادث فيها:
غزوة معاوية بن هشام أرض الروم الصائفة.
وفيها: وقع طاعون عظيم شديد بالعراق والشام، وكان أشده بواسط.
وفيها: ولى هشام على خراسان عاصم بن عبد الله بن يزيد الهلالي، فلما قدم حبس عمارة بن خزيم الذي استخلفه الجنيد وجميع [1] عمال الجنيد وعذبهم.
وفيها: خرج الحارث بن شريح فقال: ادعوا إلى كتاب الله والسنة [2] ، والبيعة البيضاء، فمضى إلى بلخ وعليها نصر، فلقيهم نصر في عشرة آلاف، والحارث في أربعة آلاف، فهزم أهل بلخ، ومضى نصر إلى مرو، فأقبل الحارث إليها وقد غلب على بلخ، والجوزجان، والفارياب [3] ، والطالقان، ومروالروذ، وبلغ عاصم بن عبد الله أن أهل مرو يكاتبون الحارث، فأجمع على الخروج وقال: يا أهل خراسان، قد بايعتم الحارث بن شريح لا يقصد مدينة إلا خليتموها له، أنا لاحق بأرض قومي وكاتب منها إلى أمير المؤمنين حتى يمدني بعشرين ألفا من أهل الشام. فقال أصحابه: لا نخليك.
وحلفوا له بالطلاق أننا نقاتل معك. وأقبل الحارث إلى مرو في ستين ألفا، وعليه السواد ومعه فرسان الأزد وتميم والدهاقين، واقتتلوا قتالا شديدا، ثم هزم الله الحارث، وكان
__________
[1] في ت: «وجمع» .
[2] في الأصل: «والسنة البيضاء والبيعة البيضاء» . وما أوردناه من ت والطبري.
[3] في ت: «الفارقان» . خطأ.(7/169)
يرى رأي المرجئة، ثم عاد الحارث لمحاربة عاصم، فكتب عاصم بينه وبينه كتابا على أن ينزل الحارث أي كور خراسان شاء، وعلى أن يكتبوا جميعا إلى هشام يسألونه كتاب الله وسنة نبيه، فإن أبى أجمعوا أمرهم جميعا عليه، فأشار بعض الناس بمحو هذه الصحيفة، ثم عادوا إلى القتال.
وفي هذه السنة: حج بالناس الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وهو ولي عهده، وكانت عمال الأمصار في هذه السنة الذين كانوا في الذي قبلها إلا ما كان من خراسان، فإن عاملها كان عاصم بن عبد الله الهلالي.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
617- حمزة بن بيض الحنفي [1] :
شاعر مجيد. قال المأمون للنضر بن شميل: أي بيت أطيب؟ قال: قول حمزة بن بيض:
تقول لي والعيون هاجعة ... أقم علينا يوما فلم أقم
أي الوجوه انتجعت قلت لها ... وأي وجه إلا إلى الحكم
متى تقل حاجبا سرادقه ... هذا ابن بيض بالباب يبتسم
انقطع إلى المهلب بن أبي صفرة، ثم إلى ولده، ثم إلى أبان بن الوليد، ثم إلى بلال بن أبي برزة، واكتسب بالشعر مالا عظيما، مدح مخلد بن يزيد بن المهلب، وهو يخلف أباه على خراسان، فأعطاه مائة ألف درهم، ودخل على يزيد بن المهلب السجن، فأنشده:
أغلق دون السماح والجود والنجدة ... باب حديد مفتاحه أشب [2]
يرون سبق الجواد في مهل ... وقصرت دون سعيك الرتب
فقال: يا حمزة، أسأت إذ نوهت باسمي في غير وقت تنويه، ثم رمى إليه بحزمة مصرورة وعليه صاحب خبر واقف. وقال: خذ هذا الدينار، فو الله ما أملك غيره. فأخذه
__________
[1] في الأصل: «حمزة بن نبض» . خطأ. فوات الوفيات 1/ 147، وإرشاد الأريب.
[2] في الأصل: «باب حديدة أشب» . خطأ.(7/170)
حمزة وأراد أن يرده عليه. فقال له سرا: خذه ولا تخدع عنه، فإذا فص ياقوت أحمر، فخرج إلى خراسان فباعه بثلاثين ألفا، فلما قبضها قال له المشتري: والله لو أبيت إلا خمسين ألف درهم لأخذته منك. فضاق صدره فأعطاه مائة دينار أخرى.
618- حفصة بنت سيرين [1] :
قرأت القرآن وهي بنت اثنتي عشرة سنة، وكانت تختم كل يومين، وتصوم الدهر، وتقوم الليل.
أنبأنا علي بن عبيد الله قال: أنبأنا جعفر بن المسلمة قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الحسين ابْن أخي ميمي قال: أخبرنا أبو مسلم بن مهدي قال: حدثنا أبو بكر محمد بن قارن قال:
حدّثنا علي بن الحسن الفسنجاني قَالَ: حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مخلد بن الحسين، عن هشام بن حسان قال:
ما رأيت أحدا بالبصرة أفضله على حفصة ختمت القرآن وهي بنت اثنتي عشرة سنة، وماتت وهي بنت اثنتين وتسعين سنة، وكانت تتوضأ ارتفاع النهار وتدخل مسجدها في بيتها، فلا تخرج منه إلى مثلها من الغد، وكان يأتيها أنس بن مالك، وأبو العالية مسلمون عليها.
أخبرنا ابن ناصر قال: أنبأنا جعفر بن أَحْمَد قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ علي الثوري قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه الدَّقَّاق قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن صفوان قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر بن عبيد قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم قال: حدثني صالح قال: حدثنا ضراب بن عمرو، عن هشام قال:
كانت حفصة تسرج سراجها من الليل ثم تقوم في مصلاها، فربما طفئ السراج فيضيء لها البيت حتى تصبح.
قال الرياشي: حدثني ابن عائشة، عن سعيد بن عامر، عن هشام قال: قالت حفصة بنت سيرين:
بلغ من بر ابني الهذيل بي أنه كان يكسر القصب في الصيف فيوقد لي في الشتاء.
__________
[1] طبقات ابن سعد 8/ 355.(7/171)
قال: لئلا يكون له دخان. قالت: وكان يحلب ناقته بالغداة فيأتيني به فيقول: اشربي يا أم الهذيل، فإن أطيب اللبن ما بات في الضرع. ثم مات فرزقت عليه من الصبر ما شاء أن يرزقني، فكنت أجد مع ذلك حرارة في صدري لا تكاد تسكن. قالت: فأتيت ليلة من الليالي على هذه الآية: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) 16: 96 [1] فذهب عني ما كنت أجد.
619- عمرو بن مرة الجملي [2] :
[روي] [3] عن سعيد بن سنان قال: قال عمرو بن مرة: ما أحب أني بصير أذكر أني نظرت نظرة وأنا شاب.
أسند عمرو عن عبد الله بن أبي أوفى.
وتوفي في هذه السنة. وقيل: سنة ثمان عشرة.
620- مكحول الشامي، أبو عبد الله [4] :
كان عبدا لعمرو بن سعيد بن أبي العاص، فوهبه لرجل من هذيل، وكان عالما فقيها، ورأى أنس بن مالك، وواثلة بن الأسقع، وأبا أمامة، وعنبسة بن أبي سفيان.
وسمع من معاوية حديثا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وتوفي في هذه السنة. وقيل: سنة ثلاث عشرة.
أَخْبَرَنَا مَوْهُوبُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بن أحمد بن البسري قال: أخبرنا محمد بن عبد الرحمن المخلص قال: حدثنا أحمد بن نصر بن يحيى قال: حدثنا علي بن عثمان الحراني قال: حدثنا أبو مسهر قال: حدثنا سعيد قال:
لم يكن في زمان مكحول أبصر بالفتيا منه، وكان لا يفتي حتى يقول: لا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم، ويقول: هو رأي والرأي يخطئ ويصيب. وما أدركنا أحسن
__________
[1] سورة: النحل، الآية: 96.
[2] طبقات ابن سعد 6/ 220، والجرح والتعديل 6/ 257.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 160.(7/172)
سمتا في العبادة من مكحول وربيعة بن يزيد. وكان له خاتم لا يلبسه، وكان عليه مكتوب: أعذ مكحولا من النار [1] .
621- هشام بن الربيع بن زرارة بن كثير بن خباب، أبو حية النميري:
شاعر مجيد فصيح، كان أبو عمرو بن العلاء يقدمه، [أدرك الدولتين الأموية والعباسية] [2] ، إلا أنه كان فيه هوج وجبن، وكان يصرع في أوقات.
قال ابن قتيبة: كان من أكذب الناس، يحدث أنه يخرج إلى الصحراء فيدعو الغربان فتقع حوله، فيأخذ منها ما شاء، فقيل له: يا أبا حية، أفرأيت إن أخرجناك إلى الصحراء تدعوها [3] فلم تأتك، فماذا نصنع بك؟ قال: أبعدها الله إذن.
وكان له سيف يسميه لعاب المنية، ليس بينه وبين الخشبة شيء [4] ، فحدث جارا له قال: دخل ليلة إلى بيته كلب فظنه لصا، فانتضا سيفه وقال: أيها المغتر بنا، المجترئ علينا، بئس والله ما اخترت لنفسك، سيف صقيل لعاب المنية الذي سمعت به، أخرج بالعفو عنك قبل أن أدخل بالعقوبة عليك. فإذا الكلب قد خرج، فقال:
الحمد للَّه الذي مسخك كلبا، وكفانا حربا.
__________
[1] في طبقات ابن سعد 7/ 2/ 161: «رب باعد مكحولا من النار» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] في ت: «تدعو بها» .
[4] في ت: «فرق» .(7/173)
ثم دخلت سنة سبع عشرة ومائة
فمن الحوادث فيها:
غزوة ابن هشام الصائفة اليسرى، وسليمان بن هشام الصائفة اليمنى من نحو الجزيرة وفرق سراياه في أرض الروم.
وفيها: بعث مروان بن محمد وهو على أرمينية بعثين، فافتتح أحدهما حصونا ثلاثة، وصولح الآخر.
وفيها: عزل هشام بن عبد الملك عاصم بن عبد الله عن خراسان، وضمها إلى خالد بن عبد الله، فولاها أخاه أسد بن عبد الله. وقال المدائني: كان هذا في سنة ست عشرة.
وكان السبب: أن عاصما كتب إلى هشام: أما بعد، يا أمير المؤمنين، فإن الرائد لا يكذب أهله، وقد كان من أمر أمير المؤمنين إلي ما تحقق به علي نصيحته، وإن خراسان لا تصلح إلا أن تضم إلى صاحب العراق، فيكون موادها ومعونتها في الأحداث والنوائب من قرب لتباعد أمير المؤمنين عنها، فولى أسد بن عبد الله، فقدم فحبس عاصما، وأخذه بمائة ألف، ووجه عبد الرحمن بن نعيم العامري في أهل الكوفة وأهل الشام في طلب الحارث بن شريح، وسار أسد إلى آمد فحاصرهم، ونصب المجانيق عليهم.
وفيها: أخذ أسد بن عبد الله جماعة من دعاة بني العباس، فقتل بعضهم، ومثل ببعضهم، وحبس بعضهم، وكان فيهم موسى بن كعب، فأمر به فألجم بلجام حمار، ثم(7/174)
جذب اللجام فتحطمت أسنانه [1] ، ثم دق أنفه، ووجئ لحياه، وكان فيهم لاهز بن قريظ، فضربه ثلاثمائة سوط، ثم خلى سبيلهم.
وفيها: حج بالناس خالد بن عبد الملك، وكان العامل فيها على المدينة، وعلى مكة، وعلى الطائف: محمد بن هشام بن إسماعيل. وعلى العراق والمشرق: خالد بن عبد الله القسري، وعلى أرمينية وأذربيجان: مروان بن محمد بن مروان بن الحكم.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
622- بلال بن سعيد:
كان عند أهل الشام كالحسن عند أهل البصرة.
وأسند عن ابن عمر، وجابر في آخرين.
عن الأوزاعي قال: سمعت بلال بن سعيد يقول: لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى من عصيت.
623- سكينة بْنت الحسين بْن عَلِيّ بْن أبي طالب [2] :
واسمها: آمنة، وقيل: أميمة. وسكينة لقب عرفت به، وأمها الرباب بنت امرئ القيس بن عدي بن أوس الكلبي. كان نصرانيا فجاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأسلم، فدعا له برمح، فعقد له على من أسلم بالشام من قضاعة، فتولى قبل أن يصلي صلاة، وما أمسى المساء حتى خطب إليه الحسين بن علي ابنته الرباب، فزوجه إياها، فأولد عبد الله وسكينة، وكان الحسين عليه السلام يقول:
لعمرك إنني لأحب دارا ... تكون بها سكينة والرباب
أحبهما وأبذل جل مالي ... وليس بعاتب عندي عتاب
ولست لهم وإن عابوا مطيعا ... حياتي أو يغيبني الركاب
وكانت سكينة من الجمال والأدب والفصاحة بمنزلة عظيمة، كان منزلها مألف الأدباء والشعراء، وتزوجت عبد الله بن الحسن بن علي فقتل بالطائف قبل أن يدخل
__________
[1] في الأصل: «فتحطمت أنفاسه» . وما أوردناه من ت والطبري.
[2] وفيات الأعيان 1/ 211، وطبقات ابن سعد 8/ 348.(7/175)
بها، ثم تزوجها مصعب بن الزبير ومهرها ألف ألف درهم، وحملها إليه أخوها علي بن الحسين، فأعطاه أربعين ألف دينار، فولدت له الرباب، فكانت تلبسها اللؤلؤ وتقول: ما ألبسها إياه إلا لتفضحه. وخطبها عبد الملك بن مروان فقالت أمها: لا والله، لا تتزوجه أبدا، وقد قتل ابن أخي مصعبا، فتزوجها الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان، وكان يتولى مصر، فنفس بها عليه عبد الملك، وكتب إليه: اختر مصر أو سكينة. فطلقها قبل أن يدخل بها، ومتعها بعشرين ألف دينار، وخلف عليها بعد مصعب: عبد الله بن عثمان ابن عبد الله بن الحكم، فولدت له حكيما، وعثمان، وزبيحة، وكانت عنده قبلها فاطمة بنت عبد الله بن الزبير، فلما خطب سكينة أحلفته بطلاقها أن لا يؤثر عليها فاطمة. ثم اتهمته أن يكون آثرها، فاستعدت عليه هشام بن إسماعيل والي المدينة، فاستحلفه ثم أمر برد سكينة عليه، فبعث إليها: أمرك الآن بيدك. فبعثت إليه: إنا ما ظننا أنا قد هنا عليك هذا الهوان، إنما يلجلج في نفسي شيء، وخفت المأثم فأما إذ برئت من ذلك فما أوثر عليك شيئا.
ثم خلف على سكينة زيد بن عمر بن عثمان، ثم خلف عليها إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وكانت ولية نفسها، فلم تنفذ نكاحه.
وقيل: حملت إليه إلى مصر فوجدته قد مات.
وروى علي بن الحسين الأصبهاني أن المدائني قال: حدثني أبو يعقوب الثقفي، عن الشعبي [1] :
أن الفرزدق خرج حاجا، فلما قضى حجه عدل إلى المدينة، فدخل إلى سكينة بنت الحسين فسلم، فقالت: يا فرزدق، من أشعر الناس؟ قال: أنا، قالت: كذبت، أشعر منك الذي يقول:
بنفسي من تجنبه عزيز ... علي ومن زيارته لمام
ومن أمسي وأصبح لا أراه ... ويطرقني إذا هجع النيام
فقال: والله لو أذنت لي لأسمعنك أحسن منه. قالت: أقيموه. فأخرج ثم عاد إليها
__________
[1] الخبر في الأغاني 8/ 42، 21/ 368 (دار الكتب العلمية) .(7/176)
من الغد فدخل عليها، فقالت: يا فرزدق، من أشعر الناس؟ قال: أنا. قالت: كذبت صاحبك جرير أشعر منك حيث يقول:
لولا الحياء لهاجني استعبار ... ولزرت قبرك والحبيب يزار
كانت إذا هجر الضجيع فراشها ... كتم الحديث وعفت الأسرار
لا يلبث القرناء أن يتفرقوا ... ليل يكر عليهم ونهار
فقال: والله إن أذنت أسمعتك أحسن منه. فأمرت به فأخرج، ثم عاد إليها في اليوم الثالث وحولها مولدات لها كأنهن التماثيل، فنظر الفرزدق إلى واحدة منهن فأعجب بها وبهت ينظر إليها، فقالت له سكينة: يا فرزدق، من أشعر الناس؟ قال: أنا. قالت:
كذبت، صاحبك أشعر منك حيث يقول:
إن العيون التي في لحظها [1] مرض ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله أركانا
أتبعتم مقلة إنسانها غرق ... هل ما ترى تارك للعين إنسانا [2]
فقال: والله لئن تركتيني لأسمعنك أحسن منه. فأمرت بإخراجه، فالتفت إليها وقال: يا بنت رسول الله إن لي عليك حقا عظيما، صرت من مكة إرادة التسليم عليك، فكان جزائي من ذلك تكذيبي وطردي وتفضيل جرير علي، ومنعك إياي أن أنشدك شيئا من شعري، وبي ما قد عيل منه صبري، وهذه المنايا تغدو وتروح، ولعلي لا أفارق المدينة حتى أموت، فإذا مت فمري بي أن أدرج في كفني وأدفن في حر [3] هذه الجارية- يعني التي أعجبته- فضحكت سكينة وأمرت له بالجارية. فخرج بها، وأمرت بالجواري، فدفعن في أقفيتهما، ونادته: يا فرزدق، احتفظ بها وأحسن صحبتها، فإني آثرتك بها على نفسي.
قال علي بن الحسين: وأخبرني ابن أبي الأزهر، قَالَ: حدثنا حماد بن إسحاق، عن أبيه، عن محمد بن سلام قال:
__________
[1] في الأغاني: «في طرفها» .
[2] البيت ساقط من ت.
[3] الحر: الكنف.(7/177)
اجتمع في ضيافة سكينة بنت الحسين: جرير، والفرزدق، وكثير، وجميل، ونصيب، فمكثوا أياما، ثم أذنت لهم فدخلوا عليها، فقعدت حيث تراهم ولا يرونها وتسمع كلامهم، ثم أخرجت وصيفة لها وضية قد روت الأشعار والأحاديث. فقالت:
أيكم الفرزدق؟ قال لها: ها أنا ذا. فقالت: أنت القائل:
هما دلتاني من ثمانين قامة ... كما انقض باز أقتم الريش كاسره
فلما استوت رجلاي في الأرض قالتا ... أحي فيرجى أم قتيل نحاذره [1]
قال: نعم. قالت: فما دعاك إلى إفشاء سرها وسرك، هلا سترتها وسترت نفسك، خذ هذه الألف والحق بأهلك. ثم دخلت على مولاتها وخرجت، فقالت: أيكم جرير؟ فقال: ها أنا ذا. فقالت: أنت القائل:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... حين الزيارة فارجعي بسلام
قال: نعم. قالت: فهلا رحبت بها! خذ هذه الألف وانصرف. ثم دخلت وخرجت فقالت: أفيكم كثير؟ قال: ها أنا ذا. قالت: أنت القائل:
فأعجبني يا عز منك خلائق ... كرام إذا عد الخلائق أربع
دنوك حتى يطمع الطالب الصبا ... ورفعك أسباب الهوى حين يطمع
فو الله ما يدري لريم مماطل ... أينساك إذ باعدت أم يتضرع
قال: نعم. قالت: ملحت وشكلت، خذ هذه الألف والحق بأهلك. ثم دخلت وخرجت فقالت: أيكم نصيب؟. قال: ها أنا ذا. قالت: أنت القائل:
ولولا أن يقال صبا نصيب ... لقلت بنفسي النساء الصغار
بنفسي كل مهضوم حشاها ... إذا ظلمت فليس لها انتصار
قال: نعم. قالت: رثيتنا صغارا ومدحتنا كبارا، خذ هذه الأربعة آلاف والحق بأهلك. ثم دخلت وخرجت فقالت: يا جميل، مولاتي تقرئك السلام وتقول: والله ما زلت مشتاقة إلى رؤيتك منذ سمعت قولك:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بوادي القرى إني إذا لسعيد
لكل حديث بينهن بشاشة ... وكل قتيل بينهن شهيد
__________
[1] الأبيات في الأغاني 21/ 324.(7/178)
جعلت حديثنا بشاشة، وقتلانا شهداء، خذ هذه ألف دينار والحق بأهلك.
وعن حماد، عن أبيه، عن أبي عبيد الله الزبيري قال:
اجتمع رواية جرير، ورواية كثير، وراوية جميل، ورواية الأحوص، وراوية نصيب، فافتخر كل واحد منهم بصاحبه وقال: صاحبي أشعر. فحكموا سكينة بنت الحسين لما يعرفون من عقلها وبصرها بالشعر، فاستأذنوا عليها فأذنت، فذكر لها الذي كان من أمرهم فقالت لراوية جرير: أليس صاحبك يقول:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... حين الزيارة فارجعي بسلام
فأي ساعة أحلى للزيارة من الطروق قبح الله صاحبك وقبح شعره، ألا قال:
فادخلي بسلام!؟
ثم قالت لراوية كثير: أليس صاحبك الذي يقول:
تقر بعيني ما تقر بعينها ... وأحسن شيء ما به العين قرت
وليس بعينها أقر من النكاح، أفيحب صاحبك أن ينكح، قبح الله صاحبك وقبح شعره.
ثم قالت لراوية جميل: أليس صاحبك الذي يقول:
فلو تركت عقلي معي ما طلبتها ... ولكن طلابيها لما فات من عقلي
فما أرى صاحبك هوي، إنما يطلب عقله، قبح [الله] [1] صاحبك وقبح شعره.
ثم قالت لراوية نصيب: أليس صاحبك الذي يقول:
أهيم بدعد ما حييت فإن أمت ... فوا حزنا من ذا يهيم بها بعدي
فما أرى له همة إلا من يتعشقها بعده، قبحه الله وقبح شعره، ألا قال:
أهيم بدعد ما حييت وإن أمت ... فلا صلحت دعد لذي حيلة بعدي
ثم قالت لراوية الأحوص: أليس صاحبك الذي يقول:
من عاشقين تواعدا وتراسلا ... حتى إذا نجم الثريا حلقا
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/179)
باتا بأنعم ليلة وألذها ... حتى إذا وضح الصباح تفرقا
قال: نعم. قالت: قبحه الله وقبح شعره، ألا قال: «تعانقا» .
فلم تثن على أحد يومئذ ولم تقدمه.
وفي رواية أخرى: قالت لراوية جميل: أليس صاحبك الذي يقول:
فيا ليتني أعمى أصم تقودني ... بثينة لا يخفى علي كلامها
قال: نعم. قالت: رحم الله صاحبك، فإنه كان صادقا في شعره، وكان كاسمه.
فحكمت له.
توفيت سكينة بمكة يوم الخميس لخمس خلون من ربيع الأول من هذه السنة، وصلى عليها شيبة بن نصاح المقرئ.
624- عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ [1] بْنِ أَبِي مليكة بن عبد الله بن جدعان التيمي، من تيم قريش، واسم أبي مليكة زهير [2] :
وكان ابن جدعان أحد الأجواد، وكان ماله عظيما، وكانت له جفنة مباحة، فلما أسن حجر عليه رهطه، فإذا أعطى رجعوا على المعطي فأخذوه منه، فكان إذا جاءه سائل قال له: كن مني قريبا حتى ألطمك ولا ترضى مني إلا أن تلطمني [3] ، أو تفدى بلطمتك بفداء رغيب. فلما أعلم أهله بذلك خلوا بينه وبين ماله.
وكان ابن جدعان يقول:
إني وإن لم ينل مالي مدى خلقي ... وهاب ما ملكت كفاي من مال
لا أحبس المال إلا حيث أتلفه ... ولا يغيرني حال على حال
وكان ابن أبي مليكة فقيها، رأى ثلاثين صحابيا. وتوفي في هذه السنة.
__________
[1] في الأصلين: «عبد الله بن عبد الله» . وما أوردناه من كتب الرجال.
[2] طبقات ابن سعد 5/ 347، وطبقات خليفة 257، 281، والتاريخ الكبير 5/ 412، وتاريخ واسط 286، والجرح والتعديل 5/ 278، 461، وتاريخ الإسلام 4/ 267، وتذكرة الحفاظ 1/ 101، وتهذيب التهذيب 5/ 306، 307، وشذرات الذهب 1/ 153.
[3] في الأصل: «إلا بلطمتي» . وما أوردناه من ت.(7/180)
625- عبدة بن أبي لبابة، أبو القاسم [1] :
سمع من عبد الله بن عمر. قال الأوزاعي: قال عبدة: إن أقرب الناس من الرياء منهم له.
626- عبد الله بن أبي زكريا الخزاعي [2] :
عن علي ابن أبي جميلة قال: قال عبد الله بن أبي زكريا: عالجت الصمت عما لا يعنيني عشرين سنة قبل أن أقدر منه على ما أريد. قال: وكان لا يدع أحدا يغتاب في مجلسه أحدا، يقول: إن ذكرتم الله أعناكم، وإن ذكرتم الناس تركناكم.
أسند عبد الله عن عبادة، وأبي الدرداء. وتوفي في هذه السنة.
627- علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، أبو محمد [3] :
أمه زرعة بنت مسرح، ولد ليلة قتل علي بن أبي طالب عليه السلام في رمضان سنة أربعين، فسمي باسمه، وكني بكنيته، فقال له عبد الملك [بن مروان] [4] : لا أحتمل بك الاسم والكنية. فغير كنيته، فكني أبا محمد.
وكان أجمل قرشي على وجه الأرض، وأكثر صلاة، كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، وكان يصبغ بالسواد.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي قال: أخبرنا حَمَدُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ أحمد بْن عَبْد اللَّه قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن محمد بن الفضل قال: حدثنا محمد بن إسحاق الثقفي قال: حدثني محمد بن زكريا قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن التيمي قال:
حدثني أبي عن هشام بن سليمان المخزومي:
أن علي بن عبد الله بن العباس كان إذا قدم مكة حاجا أو معتمرا عطلت قريش مجالسها في البيت الحرام، وهجرت مواضع حلقها، ولزمت مجلس علي بن عبد الله
__________
[1] طبقات ابن سعد 6/ 229، والجرح والتعديل 6/ 89، والتاريخ الكبير 3/ 2/ 114.
[2] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 163، والتاريخ الكبير 3/ 1/ 96 والجرح والتعديل 5/ 62، وتهذيب التهذيب 5/ 218.
[3] طبقات ابن سعد 5/ 229، والتاريخ الكبير 3/ 2/ 382، والجرح والتعديل 6/ 192.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/181)
إعظاما وإجلالا وتبجيلا، فإن قعد قعدوا، وإن نهض نهضوا، وإن مشى مشوا جميعا حوله، وكان لا يرى لقرشي في المسجد الحرام مجلس ذكر يجتمع إليه فيه حتى يخرج علي بن عبد الله من الحرم.
توفي علي بالشام في هذه السنة. وقيل: في سنة ثماني عشرة.
628- علي بن رباح بن قصير، أبو عبد الله اللخمي: [1]
ولد سنة خمس عشرة، عام اليرموك، وكان أعور، ذهبت عينه يوم ذي الصواري في البحر مع عبد الله بن سعد بن أبي سرح سنة أربع وثلاثين، وكان يفد لليمانية من أهل مصر على عبد الملك بن مروان، وكانت له منزلة من عبد العزيز بن مروان [2] ، وهو الذي زف أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان إلى الوليد بن عبد الملك ثم عتب عليه عبد العزيز فأغزاه إفريقية، فلم يزل بها حتى توفي في هذه السنة. وقيل: سنة أربع عشرة ومائة.
629-[عمران بن ملحان، أبو رجاء العطاردي [3] :
تميمي مخضرم، ولد قبل الهجرة بإحدى عشرة سنة، توفي في هذه السنة وقد بلغ مائة وثماني وعشرين سنة] .
630- فاطمة بْنت الحسين بْن عَلِيّ بْن أبي طالب رَضِيَ الله عنهم [4] :
أمها أم إسحاق بْنت طلحة بْن عبيد اللَّه تزوجها الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فولدت له عبد الله، ثم مات عنها فتزوجها عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان.
أَنْبَأَنَا الحسين بن محمد بن عبد الوهاب قال: أخبرنا أبو جعفر بن المسلمة قال:
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 201، والتاريخ الكبير 3/ 2/ 274، والجرح والتعديل 6/ 186.
[2] «وكانت له منزلة من عبد العزيز بن مروان» : ساقطة من ت.
[3] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 100، والجرح والتعديل 6/ 303، والتاريخ الكبير 3/ 1/ 410.
والترجمة كلها ساقطة من الأصل، أوردناها من ت.
[4] طبقات ابن سعد 8/ 347.(7/182)
أَبُو طَاهِرٌ الْمُخَلِّصُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الطوسي قال: حدثنا الزبير بن بكار قَالَ:
كَانَ الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَدْ خَطَبَ إِلَى عَمِّهِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، فَقَالَ له الحسين: يا ابن أَخِي، قَدِ انْتَظَرْتُ هَذَا مِنْكَ، انْطَلِقْ مَعِي.
فَخَرَجَ حَتَّى أَدْخَلَهُ مَنْزِلَهُ، ثُمَّ أَخْرَجَ [إِلَيْهِ] [1] بنتيه: فَاطِمَةَ، وَسُكَيْنَةَ، فَقَالَ: اخْتَرْ.
فَاخْتَارَ فَاطِمَةَ، فَزَوَّجَهُ إِيَّاهَا، وَكَانَ يُقَالُ: إِنَّ أَمْرَ سُكَيْنَةَ مَرْدُودٌ إِلَيْهَا، وَإِنَّهَا لَمُنْقَطِعَةٌ. وَلَمَّا حَضَرَتِ الْحَسَنَ بْنَ الْحَسَنِ الْوَفَاةُ قَالَ لِفَاطِمَةِ: إِنَّكِ امْرَأَةٌ مَرْغُوبٌ فِيكِ، وَكَأَنِّي بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عثمان إذا خرج بجنازتي قَدْ جَاءَ عَلَى فَرَسِهِ مُرَجِّلا جُمَّتَهُ، لابِسًا حُلَّتَهُ، يَسِيرُ فِي جَانِبِ النَّاسِ يَتَعَرَّضُ لَكِ، فَأَنْكِحِي مَنْ شِئْتِ سِوَاهُ، فَإِنِّي لا أَدَعُ مِنَ الدُّنْيَا وَرَائِي هَمًّا غَيْرَكِ. فَقَالَتْ لَهُ: أَنْتَ آمنُ مِنْ ذَلِكَ. وَأَثْلَجَتْهُ بِالأَيْمَانِ مِنَ الْعِتْقِ وَالصَّدَقَةِ أَنْ لا تَتَزَوَّجَهُ. وَمَاتَ الْحَسَنُ، وَخَرَجَ بِجِنَازَتِهِ، فَوَافَاهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ فِي الْحَالِ الَّتِي وَصَفَ الْحَسَنُ، وَكَانَ يُقَالُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ:
الْمُطَرّفُ- مِنْ حُسْنِهِ- فَنَظَرَ إِلَى فَاطِمَةَ حَاسِرَةً تَضْرِبُ وَجْهَهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا: إِنَّ لَنَا فِي وَجْهِكِ حَاجَةً، فَارْفُقِي بِهِ. فَاسْتَرْخَتْ يَدَاهَا، وَعَرَفَ ذَلِكَ فِيهَا، وَخَمَّرَتْ وَجْهَهَا، فَلَمَّا حَلَّتْ أَرْسَلَ إِلَيْهَا يَخْطُبُهَا، فَقَالَتْ: كَيْفَ بِيَمِينِي الَّتِي حَلَفْتُ بِهَا؟ فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا: لَكِ بِكُلِّ مَمْلُوكٍ مَمْلُوكَانِ، وَعَنْ كُلِّ شَيْءٍ شَيْئَانِ، فَعَوَّضَهَا مِنْ يَمِينِهَا، فَنَكَحَتْهُ، وَوَلَدَتْ لَهُ مُحَمَّدًا، وَالْقَاسِمَ، وَرُقَيَّةَ.
وكان عبد الله بن الحسن يقول: ما أبغضت بغض عبد الله بن عمرو أحدا، ولا أحببت حب ابنه محمد أحدا.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: أخبرنا محمد بن الحسين القطان قال: أخبرنا محمد بن الحسن النقاش: أن الحسن بن سفيان أخبرهم قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر قال: أخبرنا محمد بن معن الغفاري قال:
حدثني محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان قال:
جمعتنا أمنا فاطمة بنت الحسين بن علي، فقالت: يا بني، والله ما نال أحد من
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/183)
أهل السفه بسفههم شيئا، ولا أدركوه من لذاتهم إلا وقد نالوه أهل المروءات بمروءاتهم، فاستتروا بجميل ستر الله.
631- قتادة بن دعامة، أبو الخطاب السدوسي [1] :
أسند عن أنس، وعبد الله بن سرخس، وحنظلة الكاتب، وأبي الطفيل. وكان يرسل الحديث عن الشعبي ومجاهد، وسعيد بن جبير، وأبي قلابة، ولم يسمع منهم.
وسأل سعيد بن المسيب وأكثر، فقال له: أكل ما سألتني عنه تحفظه؟ قال: نعم، سألتك عن كذا فقلت كذا، وعن كذا فقلت كذا. قال سعيد: ما ظننت أن الله خلق مثلك.
وكان يقول: ما سمعت أذناي شيئا إلا وعاه قلبي.
وروى شهاب بن [2] خراش عن قتادة، قال: باب من العلم يحفظه الرجل يطلب به صلاح نفسه وصلاح الناس أفضل من عبادة حول كامل.
632- ميمون بن مهران، أبو أيوب، مولى بني النضر بن معاوية:
كان مكاتبا لهم، وأدى كتابته وعتق، وكان بزازا، وتشاغل بالعلم، وسأل ابن المسيب عن دقائق العلوم، استعمله عمر بن عبد العزيز على خراج الجزيرة. ومولده سنة أربعين، [توفي في هذه السنة] [3] . وأسند عن ابن عمر، وابن عباس وغيرهما، وكان ثقة.
أخبرنا علي بن محمد بن حسون بإسناد له عن عيسى بن كثير الأسدي، قال:
مشيت مع ميمون بن مهران حتى إذا أتى باب داره ومعه ابنه عمرو، فلما أردت أن أنصرف قال له عمرو: يا أبت، ألا تعرض عليه العشاء، قال: ليس ذاك من نيتي.
633- موسى بن وردان، مولى عبد الله بن أبي سرح العامري يكنى أبا عمر:
سمع من سعد بن أبي وقاص، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وغيرهم من
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 1، والتاريخ الكبير 4/ 1/ 185، والجرح والتعديل 7/ 133.
[2] في الأصل: «عن شهاب» . وما أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين: من ت.(7/184)
الصحابة. روى عنه الليث بن سعد وغيره، وكان يقص بمصر. توفي في هذه السنة.
634- نافع مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب، أبو عبد الله:
أصابه عبد الله في غزاته. وقد روى عنه وعن أبي هريرة، والربيع بنت مسعود وغيرهم. وكان ثقة. وبعثه عمر بن عبد العزيز إلى مصر يعلمهم السنن.
توفي في هذه السنة.
635- أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان، أخت عمر [رضي الله عنه] :
كانت من الأجواد الكرماء، و [كانت] [1] تقول: لكل قوم نهمة في شيء، ونهمتي في العطاء.
وكانت تعتق كل جمعة رقبة وتحمل على فرس في سبيل الله عز وجل.
أخبرنا المحمدان ابن ناصر، وابن عبد الباقي، قالا: أخبرنا جعفر بن أَحْمَد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أحمد بن علي التوزي، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه الدَّقَّاق، قال:
أخبرنا أبو علي بْن صفوان، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْر القرشي، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن علي بن عبد العزيز الجزري، عن ضمرة بن ربيعة، عن علي بن أبي جميلة، قال:
سمعت أم البنين بنت عبد العزيز تقول:
أف للبخل، لو كان قميصا ما لبسته، ولو كان طريقا ما سلكته.
قال القرشي: وحدثني محمد بن الحسن، قال: حدثني مروان بن محمد بن عبد الملك، قال: دخلت عزة على أم البنين، فقالت لها ما يقول كثير:
قضى كل ذي دين علمت غريمه ... وعزة ممطول معنى غريمها
ما كان هذا الدين يا عزة؟ فاستحيت فقالت: علي ذاك. قالت: كنت وعدته قبلة فحرجت منها، فقالت أم البنين: أنجزيها له وإثمها علي.
قال يوسف: وحدثني رجل من بني أمية يكنى أبا سعيد، قال: بلغني أن أم البنين أعتقت لكلمتها هذه أربعين رقبة، وكانت إذا ذكرتها بكت وقالت: يا ليتني خرست ولم أتكلم بها.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من ت.(7/185)
ثم دخلت سنة ثماني عشرة ومائة
فمن الحوادث فيها غزوة معاوية وسليمان ابني هشام بن عبد الملك الروم.
وفيها: وجه بكير بن ماهان عمار بن يزيد إلى خراسان واليا على شيعة بني العباس [1] وغير اسمه وتسمى بخداش، ودعا إلى مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ [بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس] [2] فتسارع الناس إليه وسمعوا وأطاعوا، ثم غير ما دعاهم إليه وكذب [3] وأظهر دين الخرمية [4] ، ورخص لبعضهم في نساء بعض وأخبرهم أن ذلك عن أمر محمد بن علي، فبلغ خبره إلى أسد بن عبد الله، فوضع عليه العيون حتى ظفر به، فأمر به فقطعت يده، وقلع لسانه، وسملت عينه وقتله وصلبه بآمل.
وفيها: اتخذ أسد مدينة بلخ دارا، ونقل إليها الدواوين، واتخذ المصانع، ثم غزا طخارستان، ففتح وأصاب وسبى [5] .
وفيها: عزل خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم عن المدينة، واستعمل عليها محمد بن هشام بن إسماعيل، وجاء كتاب إلى أبي بكر بن حزم يوم عزل خالد عن
__________
[1] تاريخ الطبري 7/ 109، البداية والنهاية 9/ 360.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، وأوردناه من البداية والنهاية.
[3] في الطبري: «وتكذب» .
[4] طائفة من الخوارج تقول بالتناسخ والإباحة.
[5] في ت: «وأصاب سبيا» .(7/186)
المدينة. بإمرته [1] فصعد المنبر وصلى بالناس ستة أيام، ثم قدم محمد بن هشام من مكة عاملا على المدينة.
وفيها: حج بالناس محمد بن هشام [2] وهو أمير مكة والمدينة والطائف. قاله الواقدي.
وقال غيره: إنما كان عامل المدينة في هذه السنة خالد بن عبد الملك. وكان على العراق خالد بن عبد الله وإليه [3] المشرق، وعامله على خراسان أخوه [4] أسد بن عبد الله، وعامله على [5] أرمينية وآذربيجان مروان بن محمد، وعلى البصرة وأحداثها وقضائها والصلاة بأهلها بلال بن أبي بردة.
أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا المبارك بْن عَبْد الْجَبَّارِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْر أحمد بن محمد المنكدري، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بن الصلت، قال: حدثنا أبو بكر بن الأنباري، قال: حَدَّثَني أبي، قال: حدثنا [6] أحمد بن عبيد، قال:
أخبرنا المدائني، قال:
نظر مالك بن دينار إلى رجل قد اشترى سمكة بستة دراهم، وثيابه تساوي ثلاثة دراهم، فقال: يا هذا، اشتريت سمكة بستة دراهم وثيابك لعلها تساوي ثلاثة دراهم، فقال له: يا أبا يحيى لست أريدها لنفسي إنما اشتريتها للأمير الظالم الذي يطالبنا بما لا نطيق- وذكر له بلال بن أبي بردة- قال: فامض معي إليه، فمضى فاستأذن فأذن له، فقال له: يا ذا الرجل، أزل عن الناس ما تعتمده من الظلم، ولا تعرض لهذا البائس، قال: قد أزلت عنه المظلمة لمكانك يا أبا يحيى، ادع الله لي دعوة، قال: وما ينفعك أن أدعو لك وعلى بابك مائتان يدعون عليك.
__________
[1] في ت: «فأمر به» .
[2] في ت: «وحج بالناس في هذه السنة مُحَمَّد بن هشام» .
[3] «وإليه» : ساقطة من ت.
[4] «أخوه» : سقط من ت.
[5] في الأصل: «والعاملة» وما أوردناه من ت.
[6] «حدّثنا» : سقط من ت.(7/187)
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
636- إياس بن سلمة بن الأكوع، أبو بكر الأسلمي [1] :
روى عن أبيه، توفي بالمدينة.
637- ثابت بن أسلم، أبو محمد البناني البصري [2] :
نسب إلى بنانة بنت القين بن حبشي تربى حاضنه، حضنت أولاد سعد بن لؤي، ونسب أولاده إليها.
أسند ثابت عن ابن عمر، وابن الزبير، وأنس وغيرهم. وكان متعبدا كثير الصلاة والصيام.
أخبرنا ابن ناصر، قَالَ: أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ [أَحْمَدَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو علي التميمي، قَالَ: أخبرنا أحمد بن جعفر بن] [3] حمدان، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا [حَسَنُ بْنُ] [4] موسى، قال: حدثنا أبو هلال، عن بكر ابن عبد [الله] [5] ، قال:
من سره أن ينظر إلى أعبد رجل أدركناه في زمانه فلينظر إلى ثابت البناني، فما أدركنا الذي هو أعبد منه، تراه في يوم معمعاني [6] بعيد ما بين الطرفين، يظل صائما، ويروح ما بين جبهته وقدمه.
قال أحمد: وحدثنا سيار، حدثنا جعفر، قال: سمعت ثابتا يقول:
ما تركت في المسجد الجامع سارية إلا وقد ختمت القرآن عندها وبكيت عندها.
__________
[1] طبقات ابن سعد 5/ 184.
[2] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 3، وطبقات خليفة 214، والتاريخ الكبير 2/ 1/ 159، والجرح والتعديل 1/ 1/ 449، وحلية الأولياء 3/ 180، وسير أعلام النبلاء 5/ 220، وتهذيب التهذيب 2/ 2، والأنساب 2/ 307.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] ما بين المعقوفتين: من هامش الأصل، وت.
[5] ما بين المعقوفتين: من ت.
[6] شديد الحر.(7/188)
638- حيّ بن يؤمن بن حجيل، أبو عشانة [1] المعافري [2] :
حدث عنه أبو قبيل [3] ، والليث، وابن لهيعة. وكان من العباد. [توفي في هذه السنة] [4] .
639- الحجاج بن فرافصة [5] :
روى عن أنس، وكان من العباد المشتغلين.
أخبرنا علي بن عبيد [الله، قال] أخبرنا أبو محمد الصريفي، قال: أخبرنا أبو حفص الكتاني، قال: حدثنا أبو بكر النيسابوري، [قال] [6] : حدثنا يوسف، قال: حدثنا محمد بن كثير، عن سفيان، قال:
بت عند الحجاج بن فرافصة اثنتي عشرة ليلة، ما رأيته أكل ولا شرب ولا نام.
640- عبد الله بن عامر، أبو عبد الرحمن اليحصبي [7] :
إمام أهل الشام في القراءة، قرأ على المغيرة بن أبي شهاب المخزومي، وقرأ المغيرة على عثمان. وروى ابن عامر عن واثلة، والنعمان بن بشير. وولي القضاء، وتوفي في هذه السنة.
__________
[1] في الأصل: «حجب بن يؤمن بن حجيل أبو عانة» .
[2] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 201، وطبقات خليفة 293، والتاريخ الكبير 3/ 398، والجرح والتعديل 3/ 1229، وتاريخ الإسلام 4/ 24، وتهذيب التهذيب 3/ 71.
[3] في الأصل: «أبو فضل» ، خطأ، والتصحيح من ت وكتب الرجال.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[5] طبقات خليفة 219، والتاريخ الكبير 2/ 2821، والجرح والتعديل 3/ 702، وحلية الأولياء 3/ 108، وميزان الاعتدال 1/ 463، وتاريخ الإسلام 5/ 235، وسير أعلام النبلاء 7/ 78، والوافي بالوافيات 11/ 305، وتهذيب التهذيب 2/ 204.
[6] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[7] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 158، وطبقات خليفة 311، والتاريخ الكبير 5/ 481، وسير أعلام النبلاء 5/ 292، وتاريخ الإسلام 4/ 266، وميزان الاعتدال 2/ 4396، وتهذيب التهذيب 5/ 274، وشذرات الذهب 1/ 156.
وقد جاءت كنيته في الأصلين «أبو عبد الرحمن» وهو خطأ. فكنيته في جميع المراجع «أبو عمران» . وقال المزي: «أبو عمران، وقيل أبو عبيد الله، وقيل: أبو عامر، وقيل: أبو نعيم، وقيل: أبو عثمان، وقيل أبو معبد، وقيل أبو موسى» . والأول أصح.(7/189)
641- عبادة بن نسي [1] :
قاضي الأردن وسيد أهلها، رأى عقبة بن عامر الجهني، وأبا عبد الله الصنابحي.
[توفي في هذه السنة] [2] .
أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: حدثنا محمد بن هبة الله الطبري، قال: حدثنا محمد بن الحسين بْن الفضل، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن محمد بْن درستويه، قَالَ: حَدَّثَنَا يعقوب بْن سفيان، قال: حدثني سعيد بن أسد، قال: حدثنا ضمرة، عن رجاء، قال:
كان بين رجل وبين عبادة بن نسي منازعة، فأسرع إليه الرجل فلقي رجاء بن حيوة، فقال: بلغني أن فلانا كان منه إليك فأخبرني، فقال: لولا أن تكون غيبة مني لأخبرتك بما كان منه.
642- عروة بن أذينة، أبو عمر [3] :
من بني ليث، وكان شريفا أديبا [ثبتا] [4] يحمل عنه الحديث. وفد على هشام بن عبد الملك، فقال له: ألست القائل:
لقد علمت وما الإسراف من خلقي ... أن الذي هو رزقي سوف [5] يأتيني
أسعى له فيعنيني تطلبه ... ولو قعدت أتاني لا يعنيني
قال: بلى، قال: فما أقدمك علينا؟ قال: سأنظر في ذلك، وخرج فارتحل من ساعته. وبلغ ذلك هشاما فأتبعه بجائزته.
ووقفت عليه امرأة، فقالت: أنت الذي يقال عنك الرجل الصالح وأنت تقول:
إذا وجدت أوار الحب في كبدي ... عمدت نحو سقاء القوم أبترد [6]
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 162، وتاريخ خليفة 323، 349، وطبقات خليفة 310، والتاريخ الكبير 5/ 448، 6/ 1816، والجرح والتعديل 6/ 498، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 7/ 217، وسير أعلام النبلاء 5/ 323، وتهذيب التهذيب 5/ 113، وتقريب التهذيب 1/ 395.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] الجرح والتعديل 6/ 396. والتاريخ الكبير 4/ 1/ 33.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل أوردناه من ت.
[5] في ت: «هو حظي» .
[6] في الأصل: «سقاء الماء» وما أوردناه من ت.(7/190)
هذا يؤدي ببرد الماء طاهره [1] ... فمن لنار على الأحشاء تتقد
فو الله ما قال هذا صالح قط.
أخبرنا ابن ناصر الحافظ بإسناد له عن عبد الجبار بن سعيد، قال: مرت سكينة ومعها جواريها ليلة بالعقيق، فإذا هي بعروة بن أذينة، فقالت لجواريها: من في قصر ابن عنبسة جالس، فقلن لها: عروة بن أذينة، فمالت إليه فقالت: أنت يا أبا عامر تزعم أنك بريء وأنت الذي تقول:
قالت وقد أبثثتها وجدي فبحت به ... قد كنت ويحي تحت الستر فاستتر
ألست تبصر من حولي فقلت لها ... غطي هواك وما ألقى على بصري
هن أحرار إن كان خرج هذا من قلب سليم، فإن شئت أن تعتقهن فقل.
643- أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني:
كان كثير التعبد دائم البكاء، قد جعلت الدموع في خديه طريقين.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ أَحْمَدَ، قال: أَخْبَرَنَا حَمَدُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم الأصفهاني، قال: أخبرنا محمد بن إبراهيم، قال: حدثنا عبد الصمد بن سعيد، قال: سمعت أبا أيوب قال: سمعت يزيد بن عبد ربه يقول:
عدت أبا بكر بن أبي مريم وهو في النزع، فقلت له: رحمك الله، لو جرعت جرعة ماء، فقال بيده لا، ثم جاء الليل فقال: إذن، فقلت: نعم، فقطرنا في فمه قطرة ماء ثم مات.
__________
[1] في ت: «هبني بردت ببرد الماء طاهرة» .(7/191)
ثم دخلت سنة تسع عشرة ومائة
فمن الحوادث فيها غزوة الوليد بن القعقاع العبسي [أرض الروم] [1] .
وفيها: غزا أسد بن عبد الله فملأ يديه من السبي، ولقي خاقان ملك الترك فقتله، وقتل بشرا كثيرا من أصحابه وانصرف بغنائم كثيرة.
وكان الحارث بن شريح قد انضم إلى خاقان، فتبارزوا، فانهزم الحارث والترك وخاقان وتركوا قدورهم تغلي، وتبعهم الناس ثلاثة فراسخ يقتلون من قدروا عليه، واستاقوا من أغنامهم أكثر من خمسين ومائة ألف شاة ودواب كثيرة، ولحقهم أسد عند الظهر ووجل بخاقان برذونه، فحماه الحارث بن شريح، وبعث أسد بجواري الترك إلى دهاقين خراسان، واستنقذ من كان في أيديهم من المسلمين، ومضى خاقان إلى الجوزجان فارتحل أسد فنزل بها، فهرب خاقان ورجع أسد إلى بلخ، فلقوا خيل الترك التي كانت بمروالروذ منصرفة لتغير على بلخ، فقتلوا من قدروا عليه منهم، ثم رجع خاقان إلى بلاده وأخذ في الاستعداد للحرب ومحاصرة سمرقند، وحمل الحارث وأصحابه على خمسة آلاف برذون.
وأن خاقان لعب مع بعض الملوك بالنرد، فتنازعا فضرب ذلك الملك يد خاقان فكسرها، فحلف خاقان ليكسرن يده، فبيت خاقان فقتله، وبعث أسد إلى خالد بن
__________
[1] تاريخ الطبري 7/ 113، وما بين المعقوفتين ساقط من الأصل أوردناه من ت.(7/192)
عبد الله يخبره، فبعث إلى هشام يبشره بالفتح، فنزل هشام عن سريره فسجد سجدة الشكر.
وقد روي لنا في حديث طويل من أخبار هشام أنه جاءه الخبر أن خاقان قد خرج فاستباح أرمينية، فلما سمع ذلك ضرب مضربا وآلى ألا يكنه سقف بيت وأن لا يغتسل من جنابة حتى يفتح الله عليه. فأمر مسلمة فعسكر، فلما أصبح أذن للناس إذنا عاما فأخبرهم بما ورد من الخبر. وبعث إلى سعيد بن عمرو الحرشي [1] فأنفذه، فجعل لكل من معه علما في رمحه، فوصلوا ومع خاقان ثمانية عشر ألف أسير من المسلمين، فكبر المسلمون تكبيرة واحدة، فرأت الأسراء [2] الأعلام، فعلموا أنها للمسلمين، فقطعوا أكتاف أنفسهم، وتناولوا خشبا كان الكفار قد جمعوه، فثار الكفار إلى خيلهم، فهذا بسرج، وهذا يركب. فلحقتهم خيول المسلمين، وأدرك خاقان فقتل واستبيح عسكرهم، وقتل منهم مقتلة عظيمة وانهزم الباقون، وقتل ابن خاقان.
وفي هذه السنة [قتل المغيرة بن سعيد ومن معه] [3]
خرج المغيرة بن سعيد [4] وسار بظاهر الكوفة في نفر، فأخذهم خالد فقتلهم، وأما المغيرة فذكر أنه كان ساحرا.
قال الأعمش [5] : سمعت المغيرة يقول: لو أراد علي رضي الله عنه [6] أن يحيي عادا وثمودا وقرونا بين ذلك كثيرا لأحياهم [7] .
قال أبو نعيم [8] : كان المغيرة قد نظر في السحر فأخذه خالد القسري فقتله.
__________
[1] في ت: «الجرشي» ، خطأ.
[2] في الأصل: «الأسارى» . وما أوردناه من ت.
[3] العنوان غير موجود بالأصول.
[4] في ت: «المغيرة بن سعد» .
[5] الخبر في تاريخ الطبري 7/ 128، والبداية والنهاية 9/ 363، الكامل لابن الأثير 4/ 428.
[6] في الأصل: «عليه السلام» ، وما أوردناه من ت.
[7] في الطبري: «لو أردت أن أحيي عادا وثمودا وقرونا بين ذلك كثيرا لأحييتهم» ، وفي الكامل: «لفعلت» .
وفي البداية والنهاية: «لو أردت أن أجيء عادا وثمودا وقرونا بين ذلك كثيرا لأجبتهم» .
[8] الخبر في تاريخ الطبري 7/ 129.(7/193)
قال سعيد بن مرادابند [1] : رأيت خالدا حين أتى بالمغيرة وبيان في ستة نفر أو سبعة، أمر بسريره فأخرج إلى المسجد الجامع، وأمر بأطنان [2] قصب ونفط، فأحضرا ثم أمر المغيرة أن يتناول طنا فتأنى [3] ، فصبت السياط على رأسه، فتناول طنا فاحتضنه، فشد عليه، ثم صب عليه وعلى الطن نفط ثم ألهبت [4] فيهما النار فاحترقا، ثم أمر الرهط ففعلوا كذلك. ثم أمر بيانا آخرهم فتقدم إلى الطن مبادرا فاحتضنه فقال خالد:
ويلكم في كل أمركم تحمقون، هلا رأستم هذا لا المغيرة، ثم أحرقه.
وفي هذه السنة خرج بهلول بن بشر [5] الملقب كثارة فقتل [6]
وكان منزله بدابق، وكان يتأله [7] ، فخرج يريد الحج، فأمر غلامه أن يبتاع له بدرهم خلا فجاءه بخمر، فأمره بردها وأخذ الدرهم، فلم يجب إلى ذلك، فجاء بهلول إلى عامل القرية فكلمه، فقال العامل: الخمر خير منك ومن قومك، فمضى في حجه، وعزم على الخروج على السلطان، فلقي بمكة من كان على مثل رأيه، فاتعدوا قرية من قرى الموصل، فاجتمعوا أربعين [8] ، وأمروا البهلول، فجعلوا لا يمرون [9] على أحد إلا أخبروه أنهم أقبلوا من عند هشام إلى خالد [10] لينفذهم في أعمالهم، فأخذوا دوابا من دواب البريد، فلما انتهوا إلى القرية التي كان ابتاع الغلام منها الخل، فقال بهلول:
نبدأ بهذا العامل الذي قال ما قال، فقال له أصحابه: نحن نريد قتل خالد، فإن بدأنا بهذا شهرنا وحذرنا [11] خالد وغيره، فننشدك الله أن تقتل هذا فيفلت منا خالد، فقال: لا أدع [12]
__________
[1] في الأصول: «مردانية» وما أوردناه من الطبري 7/ 129.
[2] في البداية: «أطناب» . والطن هو حزمة القصب.
[3] في الطبري: «طنا فكع وتأني» .
[4] في ت: «ثم ألقيت» .
[5] في الأصل: «بهلوان بن شريف» . وكذا جاء ذكره في هذا الخبر كله.
[6] تاريخ الطبري 7/ 130.
[7] في الطبري: «وكان منزله بدانق وكان يتعبد» .
[8] في الطبري: «فاجتمع بها أربعون رجلا» .
[9] في الأصل: «فجعلوا طولا يمروا» وما أوردناه من ت.
[10] في الطبري: «من عند هشام على بعض الأعمال ووجههم إلى خالد» .
[11] في ت: «وجذرنا» .
[12] في ت: «ألا أدع» .(7/194)
ما يلزمني لما بعده، وأنا أرجو أن أقتل هذا وأدرك خالدا، وقد قال الله عز وجل: (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) 9: 123 [1] فأتاه فقتله فنذر بهم الناس وعلموا أنهم خوارج فابتدروا هرابا.
وخرجت البرد إلى خالد، فأعلموه أن خارجة قد خرجت، فبعث إليهم جندا فالتقوا على الفرات فهزمهم البهلول، وارتحل إلى الموصل فخافه عامل الموصل [2] ، فتوجه يريد هشاما، فخرجت إليه الأجناد فكانوا عشرين ألفا وهو في سبعين، فقاتلهم فقتل منهم جماعة، ثم عقد أصحابه [3] دوابهم وترجلوا، فأوجعوا في الناس، ثم طعنه رجل فوقع، فقال أصحابه: ول أمرنا من يقوم به، قال: إن هلكت فأمير المؤمنين دعامة الشيباني فإن هلك فعمرو اليشكري [4] ، ثم مات من ليلته، فلما أصبحوا هرب دعامة وخلاهم، فخرج عمرو اليشكري فلم يلبث أن قتل، ثم خرج العميري، فخرج إليه السمط بن مسلم، فانهزمت الحرورية، فتلقاهم عبيد أهل الكوفة وسفلتهم فرموهم بالحجارة حتى قتلوهم.
ثم خرج وزير السجستاني [5] ، وكان مخرجه بالحيرة، فجعل لا يمر بقرية إلا أحرقها ولا أحد إلا قتله، وغلب على بيت المال، فوجه إليه خالد قائدا من أصحابه فقتل عامة أصحابه وارتث، فحمل إلى خالد، فقرأ عليه آيات من القرآن ووعظه، فأعجب خالد من كلامه فحبسه [6] ، وكان يبعث إليه في الليالي فيؤتى به فيحادثه [7] ، فبلغ ذلك هشاما وقيل: أخذ حروريا واتخذه سميرا، فغضب هشام وكتب إلى خالد يشتمه ويأمره بقتله وإحراقه. فشده وأصحابه بأطنان القصب، فصب عليهم النفط وأحرقهم بالنار، فما منهم إلا من اضطرب إلا هذا الرجل، فإنه لم يتحرك، ولم يزل يتلو القرآن حتى مات.
__________
[1] سورة: التوبة، الآية: 123.
[2] «فخافه عامل الموصل» : سقطت من ت.
[3] في الأصل: «ثم عقدوا أصحابه» .
[4] في ت: «فعمره اليشكري» .
[5] كذا في الأصول، وفي الطبري: «وزير السختياني» .
[6] في ت: «خالد بما سمع منه فحبسه» .
[7] في ت: «فيحدثه» .(7/195)
وفي هذه السنة خرج الصحاري [1] بن شبيب على خالد، ووافقه جماعة، فبعث إليهم خالد جندا فاقتتلوا فقتلوهم بأجمعهم.
وفي هذه السنة حج بالناس [2] مسلمة بن هشام بن عبد الملك، وحج [معه] [3] ابن شهاب الزهري، وكان العامل في هذه السنة على مكة والمدينة والطائف محمد بن هشام، وعلى العراق والمشرق خالد بن عبد الله، وعامل خالد على خراسان أخوه أسد.
وقد قيل: إن أسد هلك في هذه السنة واستخلف جعفر بن حنظلة البهراني [4] ، وقيل: إنما هلك أسد في سنة عشرين، وكان على أرمينية وأذربيجان مروان بن محمد بن مروان.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
644- حبيب بن أبي ثابت الأسدي، مولى لبني كاهل [5] :
روي عن عمر وابن عباس [وجابر وحكيم بن حرام، وأنس بن مالك] [6] وابن أبي أوفى. وكان كثير التعبد.
قال أبو بكر بن عياش: لو رأيت حبيب بن أبي ثابت ساجدا لقلت: ميت من طول سجوده، وكان كريما، أنفق على القراء مائة ألف، وكان يقول: ما استقرضت شيئا من أحد أحب إلي من نفسي، أقول لها: أمهلي حتى يجيء من حيث أحب.
[وتوفي في هذه السنة] .
__________
[1] في الطبري 7/ 137: «شرى الصحاري» .
[2] تاريخ الطبري 7/ 138.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.
[4] في ت: «البهزاني» .
[5] طبقات ابن سعد 6/ 223، وطبقات خليفة 159، والتاريخ الكبير 2/ 2592، والجرح والتعديل 3/ 495، وتاريخ الإسلام الذهبي 4/ 240، وسير أعلام النبلاء 5/ 288، وتذكرة الحفاظ 1/ 116، وميزان الاعتدال 1/ 451، والوافي بالوفيات 11/ 290، ومرآة الجنان 1/ 256، وتهذيب ابن عساكر 4/ 39، وتهذيب التهذيب 2/ 178.
[6] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/196)
645- حبيب، أبو محمد الفارسي:
حضر مجلس الحسن البصري فتأثر بموعظته، فخرج مما كان يملكه وتعبد.
وكان له زوجة يقال لها عمرة تنبهه في السحر وتقول: قم يا رجل فقد ذهب الليل وجاء النهار، وبين يديك طريق بعيد والزاد قليل، وقوافل الصالحين قد سارت قدامنا وبقينا.
أَخْبَرَنَا أبو بكر العامري، قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو سعيد الحيري، قال: أخبرنا ابن باكويه الشيرازي، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد العزيز بْن الفضل، قَالَ: حدثنا محمد بن العباس الآملي، قال: حدّثنا محمد بن إبراهيم الشيروزي، قال: حدثنا عبد الصمد بن محمد العباداني، قال: حدثنا خلف بن الوليد، قال:
اشترى حبيب الفارسي نفسه من ربه أربع مرات بأربعين ألف درهم، أخرج بدرة فقال: يا رب اشتريت منك نفسي بهذه، وأخرج بدرة أخرى، فقال: إلهي إن كنت قبلت تلك فهذه شكرانها، ثم أخرج الثالثة فقال: إلهي إن كنت لم تقبل [الأولى] [1] والثانية فاقبل هذه، ثم أخرج الرابعة فقال: إلهي إن كنت قبلت الثالثة فهذه شكر لها.
قال أبو بكر بن أبي الدنيا بإسناد له عن إسماعيل بن زكريا وكان جارا لحبيب، [قال] [2] : كنت إذا أمسيت سمعت بكاءه [3] ، وإذا أصبحت سمعت بكاءه، فأتيت أهله فقلت: ما شأنه يبكي إذا أمسى ويبكي إذا أصبح؟ قال: فقالت لي: يخاف والله إذا أمسى أن لا يصبح وإذا أصبح أن لا يمسى.
أَخْبَرَنَا المبارك بْن عَلي [4] الصيرفي، قَالَ: أَخْبَرَنَا عبد الواحد بن محمد الصباغ، قَالَ: أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عبد العزيز بْن الحسن الضراب، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مروان، قَالَ: حَدَّثَنَا الحسن بْن عَلي، قَالَ:
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ عبد الواحد بن زيد:
أن حبيبا أبا محمد جزع جزعا شديدا عند الموت، فجعل يقول بالفارسية: أريد أن أسافر سفرا ما سافرته قط، أريد أن أسلك طريقا ما سلكته قط، أريد أن أدخل تحت
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من هامش الأصل، وت.
[2] ما بين المعقوفتين: من ت.
[3] في الأصل: «بكاوه» .
[4] «أخبرنا ابن المبارك بن علي» . وما أوردناه من ت.(7/197)
التراب فأبقى تحته إلى يوم القيامة ثم أوقف بين يدي الله فأخاف أن يقول لي: حبيب، هات تسبيحة واحدة سبحتني في ستين سنة لم يظفر بك الشيطان فيها، فماذا أقول وليس لي حيلة، أقول: يا رب هو ذا قد أتيتك مقبوض اليدين إلى عنقي.
قال عبد الواحد: هذا عبد الله، ستين سنة مشتغلا به ولم يشتغل من الدنيا بشيء قط، فأي شيء حالنا؟ وا غوثاه باللَّه.
646- مجمع بن سمعان، أبو حمزة [1] :
كان سفيان الثوري يرى له أمرا عظيما حتى قال: ليس شيء من عملي أرجو ألا يشوبه شيء كحبي لمجمع التيمي.
وقال سفيان: يروى عن أبي حيان [2] التيمي أنه قال وحلف: ما من عمله شيء أوثق في نفسه من حبه من مجمع التيمي.
وكان أبو بكر بن عياش يقول: ومن كان أورع من مجمع.
ورأى مجمع في إزار سفيان خرقا فأعطاه أربعة آلاف درهم [3] ، قال سفيان: لا أحتاج إليها، قال: صدقت، أنت [4] لا تحتاج إليها ولكني أحتاج.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أخبرنا أحمد بن هبة الله الطبري، قال: حدثنا محمد بن الحسين بن الفضل، قال: حدثنا ابن درستويه، قال: حدثنا يعقوب بن سفيان، قال: حدثنا أبو بكر، قال: حدثنا سفيان، قال: قال مسعر:
جاء مجمع إلى السوق بشاة يبيعها [5] ، فقال: يخيل إلي أن في لبنها ملوحة.
قال أبو حاتم الرازي: دعا مجمع ربه عز وجل أن يميته قبل الفتنة فمات من ليلته، وخرج زيد بن علي من الغد.
__________
[1] التاريخ الكبير 4/ 1/ 409، وفيه: «مجمع بن صمعان» . وقال: «كوفي ويقال: ابن سمعان» . والجرح والتعديل 8/ 295.
[2] في الأصل: «كان سفيان يروي عن أبي حيان التيمي: ما من عمله» . وما أوردناه من ت.
[3] كذا في الأصل: وفي ت «أربعة دراهم» . وهو أصح.
[4] في الأصل: «أنك» . وما أوردناه من ت.
[5] في ت: «جاء مجمع بشاة إلى السوق يبيعها» .(7/198)
ثم دخلت سنة عشرين ومائة
فمن الحوادث فيها غزوة سليمان بن هشام الصائفة وافتتاحه سندرة وغزوة إسحاق بن مسلم العقيلي فافتتح قلاعا [1] .
وغزوة مروان بن محمد أرض الترك. وكان قد ولاه هشام أرمينية، فكتب إليه يستأذنه في الدخول إلى بلادهم، فكتب إليه هشام: كيف أفعل ما لم يفعله أحد قبلي. فكتب إليه: إن الناس يشتهون ذلك وأرجو أن يكون فيه خير. فأذن له، فدخل والقوم غارون فهربوا إلى الآجام، فأضرمها نارا واقتتلوا قتالا شديدا، وظفر المسلمون، وبعثوا [2] إليه بالخبر.
وفي هذه السنة [3] توفي أسد بن عبد الله، فاستخلف جعفر بن حنظلة البهراني [4] ، فعمل أربعة أشهر، وجاء عهد نصر بن سيار في رجب.
__________
[1] في تاريخ الطبري: «فافتتح قلاع تومان شاه» .
[2] في ت: «بعث إليه» .
[3] تاريخ الطبري 7/ 139.
[4] في الأصل: «النهراني» ، وما أوردناه من ت والطبري.(7/199)
وفي هذه السنة وجهت شيعة بني العباس بخراسان إلى محمد بن علي سليمان بن كثير ليعلمه أمرهم وما هم عليه [1]
وسبب ذلك موجدة كانت من محمد بن علي [على] [2] شيعته بخراسان من أجل طاعتهم لخداش الّذي كان يكذب على محمد بن علي، فترك مكاتبتهم، فبعثوا سليمان بن كثير، فقدم عليه، فعنف أهل خراسان [فيما فعلوا.
ثم وجه محمد بن علي بن بكير بن ماهان إلى خراسان] [3] بعد منصرف سليمان يعلمهم أن خداشا حمل شيعته على غير منهاجه فتابوا من ذلك.
وفي هذه السنة عزل هشام بن عبد الملك خالد بن عبد الله عن أعماله التي ولاه كلها [4]
وكان لذلك أسباب منها: أنه اتخذ أموالا وحفرا، فبلغت عشرين ألف ألف، وكانوا يشيرون عليه أن يعرض بعضها [5] على هشام فلا يفعل. فبلغ ذلك هشاما، ثم بلغه أن خالدا استخف برجل من قريش، وكان يقول لابنه: ما أنت بدون مسلمة بن هشام؟ وكان خالد يذكر هشاما فيقول: ابن الحمقاء، وكانت أم هشام تستحمق. فكتب إليه هشام كتابا فيه غلظة، وقبح له استخفافه بقريش، وسبه في الكتاب. وعزم على عزله، وأخفى ذلك، فلما أحس طارق خليفة خالد بالأمر [6] ركب إلى خالد، فقال له: اركب إلى أمير المؤمنين فاعتذر إليه من شيء بلغه عنك، فقال: كيف أركب [7] إليه بغير إذنه؟
قال: فسر في عملك وأتقدمك، فأستأذنه لك، قال: ولا هذا، قال: فأذهب فأضمن لأمير المؤمنين جميع ما انكسر في هذه السنين، قال: وما مبلغه؟ قال: مائة ألف ألف، قال: ومن أين أجد هذا [8] ؟ والله ما أجد عشرة آلاف درهم، قال: نتحمل عنك ونفرق الباقي على العمال، قال: إني للئيم إن كنت سوغت قوما شيئا ثم أرجع فيه.
__________
[1] تاريخ الطبري 7/ 141.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] تاريخ الطبري 7/ 142.
[5] في ت: «أن أعرض بعضها» .
[6] في ت: «خالد بأمره» .
[7] «إلى أمير المؤمنين.... فقال: كيف أركب» : ساقطة من ت.
[8] في ت: «ومن أين آخذ هذا» .(7/200)
فخرج طارق يبكي، وقال: هذا آخر ما نلتقي في الدنيا، وجاء كتاب هشام إلى يوسف [بن عمر] [1] : سر إلى العراق فقد وليتكها، وإياك أن تعلم بذلك أحدا، وخذ ابن النصرانية وعماله فأشفني منهم، فقدم يوسف العراق في جمادى فأخذ صالح، فحبسه فصولح على تسعة آلاف ألف درهم، وقيل أخذ مائة ألف ألف فكانت ولاية خالد في شوال سنة عشر ثم عزل في جمادى الآخر سنة عشرين.
وفي هذه السنة ولي يوسف بن عمر العراق
فقدم واليا عليها [2] على ما ذكرنا، فولى خراسان جديع بن علي الكرماني، وعزل جعفر بن حنظلة. واستشار هشام فيمن يولي العراق، فذكروا له رجالا، فاختار نصر بن سيار فولاه، وكتب إليه أن يكاتب يوسف بن عمر، فكتب يوسف عهد نصر بن سيار مع عبد الكريم الحنفي فأعطاه نصر عشرة آلاف درهم، وأحسن الولاية والجباية، وبث العمال وعمرت خراسان عمارة لم تعمر قبلها مثلها.
وفي هذه السنة حج بالناس [3] محمد بن هشام بن إسماعيل، وكان هو العامل على المدينة ومكة والطائف.
وقيل: بل حج بهم سليمان بن هشام [4] بن عبد الملك. وقيل: يزيد بن هشام.
وكان على المشرق والعراق يوسف بن عمر، وعلى خراسان نصر بن سيار، وقيل: جعفر بن حنظلة، وعلى البصرة كثير بن عبد الله السلمي من قبل يوسف بن عمر، وعلى قضائها عامر بن عبيدة الباهلي، وعلى أرمينية وأذربيجان مروان بن محمد، وعلى قضاء الكوفة ابن شبرمة.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
647- أسد بن عبد الله، أخو خالد بن عبد الله القسري [5] :
وقد ذكرنا ما كان إليه من خراسان وغيرها. وكانت به دبيلة في جوفه، فحضر
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] في ت: «فقدمها واليا» .
[3] في ت: «وحج بالناس في هذه السنة» .
[4] في الأصل: «سليمان بن محمد بن هشام» . وفي ت: «سليمان ابن هشام» . وما أوردناه من الطبري.
[5] التاريخ الكبير 1/ 2/ 50، وتهذيب التهذيب 6/ 458. وتاريخ الطبري 7/ 139- 141.(7/201)
المهرجان وهو ببلخ، فقدم عليه الأمراء والدهاقين بالهدايا، وكان فيمن قدم عليه عامله على هراة ودهقانها، فقدما بهدية قومت ألف ألف، كان فيها قصر من ذهب،. وقصر من فضة، وأباريق من ذهب وفضة، وصحاف من ذهب وفضة، فأقبلا وأسد جالس على سرير وأشراف الناس من خراسان على الكراسي، فوضعا القصرين، ثم وضعا خلفهما الأباريق والصحاف والديباج والقوهي، وغير ذلك. ففرق ذلك ثم مرض فأفاق، فقدم إليه كمثرى، فأخذ واحدة فرمى بها إلى عامل له فانقطعت الدبيلة فهلك.
648- سلم بن قيس العلوي [1] :
يروي عن أنس. روى عنه جرير بن حازم. وثقه يحيى وأبو بكر بن أبي داود.
وقال يحيى في رواية: هو ضعيف. وقال حماد: ذكرته لشعبة، فقال: الذي يرى الهلال قبل الناس بيومين. قال له الحسن: خل بين الناس وهلالهم حتى يروه. قال ابن قتيبة:
يقال إن أشفار عينيه ابيضت، وكان إذا أبصر رأى أشفار عينيه فيظنها الهلال.
وليس هو من أولاد علي بن أبي طالب، إنما هو من ولد علي بن [يونان، قيل:
كانوا بالبصرة، وثم آخر يقال له: خالد بن يزيد العلوي من ولد علي بن] [2] الأسود، يروي عن الحسن البصري، وثم آخر يقال له جندب بن سرحان العلوي من بني مدلج، حدث عن بليغ، روى عنه ابن لهيعة، ومدلج من بني عبد مناة بن كنانة، وإنما قيل لولده بنو علي لأن أمهم الدفراء واسمها فكيهة تزوجها بعد أبيهم علي بن مسعود الغساني، فنسبوا إليه. وإياهم عنى أمية بن أبي الصلت بقوله:
للَّه در بني علي ... أيم منهم وناكح
وما عدا من ذكرنا ممن يقال له العلوي فمنسوب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه [3] .
__________
[1] التاريخ الكبير 4/ 2312، والجرح والتعديل 4/ 1139، والمجروحين لابن حبان 1/ 343، وتاريخ الإسلام 5/ 81، وميزان الاعتدال 2/ 3378، وتهذيب التهذيب 4/ 135، وأورده المصنف الضعفاء له.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «عليه السلام» . وما أوردناه من ت.(7/202)
649- عبد الله بن كثير، أبو معبد المقري، مولى عمر بن علقمة الكناني، ويقال: الداري [1] :
والدار بطن من لخم، وهو من أبناء فارس الذين كانوا بصنعاء، بعثهم كسرى إلى اليمن لما طرد الحبشية عنها، وهو أحد القراء السبعة. أخذ عن مجاهد، وقرأ عليه أبو عمرو بن العلاء.
وكان ذا دين وورع، وكان عطارا، وتوفي بمكة في هذه السنة.
650- عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان، أبو عمر الظفري الأنصاري [2] :
كان له علم بالسير والمغازي. روى عن ابن إسحاق وغيره، وكان ثقة، ووفد على عمر بن عبد العزيز في خلافته في دين لزمه، فقضاه عنه، وأمر له بمعونة، وأمره أن يجلس في مسجد دمشق [3] فيحدث الناس بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومناقب أصحابه رضي الله عنهم، وقال: إن بني أمية كانوا يكرهون هذا وينهون عنه، فأجلس فحدث، ففعل.
ثم رجع إلى المدينة فتوفي بها في هذه السنة.
651- قيس بن مسلم الجدلي [4] :
روى عن طارق بن شهاب، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وابن جبير. وكان من المتعبدين البكاءين، [وتوفي في هذه السنة] [5] .
__________
[1] طبقات ابن سعد 5/ 356، وطبقات خليفة 282، والتاريخ الكبير 5/ 567، والجرح والتعديل 5/ 673، وسير أعلام النبلاء 5/ 318، وتاريخ الإسلام 4/ 268 وتهذيب التهذيب 5/ 367.
[2] طبقات ابن سعد الجزء المخطوط، وطبقات خليفة 258، وعلل أحمد 1/ 276، والتاريخ الكبير 6/ 3040، والجرح والتعديل 6/ 1913، وسير أعلام النبلاء 5/ 240، وتاريخ الإسلام 4/ 261، وميزان الاعتدال 2/ 4059، وتهذيب التهذيب 5/ 53، وتقريب التهذيب 1/ 385، وشذرات الذهب 1/ 157.
[3] في الأصل: «مسجد ما مجلس» . وما أوردناه من ت.
[4] طبقات ابن سعد 6/ 221.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/203)
أخبرنا عبد الوهاب [الحافظ] [1] بإسناده عن أبي بكر بن عبيد، قال: حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا الحميدي، قال: حدثنا سفيان، قال:
كان قيس بن مسلم يصلي حتى السحر، ثم يجلس فيمج البكاء ساعة بعد ساعة ويقول: لأمر ما خلقنا، لئن لم نأت الآخرة بخير لنهلكن.
652- محمد بن واسع بن جابر، أبو عبد الله [2] :
أسند عن أنس وغيره، وكان عالما خيرا متواضعا، وكان الحسن يسميه سيد القراء، وكان يصوم الدهر ويخفي ذلك، وكان يبكي طول الليل حتى قالت جارية له: لو كان هذا قتل أهل الدنيا ما زاد على هذا. وكان يخرج فيغزو، فخرج مرة إلى الترك مع قتيبة بن مسلم، فقيل لقتيبة: محمد بن واسع يرفع إصبعه- يعني يدعو- فقال: تلك الإصبع أحب إلي من ثلاثة آلاف عنان.
أنبأنا المبارك بن أحمد الكندي، قال: أخبرنا عاصم بن الحسن، قال: أخبرنا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرَانَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن صفوان، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنِ عُبَيْدٍ، قَالَ: حدثني أبو حفص الصيرفي، قال: حدثني علي بن بزيع الهلالي، قال: قال مطر الوراق، قال:
ما اشتهيت أن أبكي قط حتى أشتفي إلا نظرت إلى وجه محمد بن واسع، وكنت إذا نظرت إلى وجهه كأنه قد ثكل عشرة من الحزن.
أخبرنا محمد بن هبة الله الطبري بإسناد له عن ابن شوذب، قال: كان إذا قيل بالبصرة: من أفضل أهل البصرة؟ قالوا: محمد بن واسع، ولم يكن يرى له كثير عبادة، وكان يلبس قميصا بصريا وساجا، وكان له علية، فإذا كان الليل دخل ثم أغلقها عليه.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم، قَالَ: حَدَّثَنَا حمد بْن أَحْمَد قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نعيم الأصفهاني، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بكر بْن مالك، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ،
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 10. والتاريخ الكبير 1/ 1/ 255، وحلية الأولياء 2/ 345، 354، 6/ 391، 301. وتقريب التهذيب والبداية والنهاية 9/ 381.(7/204)
قال: حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا ابن علية، عن يونس، قال: سمعت محمد بن واسع يقول:
لو كان يوجد للذنوب ريح ما قدرتم أن تدنوا مني من نتن ريحي.
قال عبد الله: وحدثني علي بن مسلم، قال: حدثنا سيار، قال: حدثنا الحارث بن نبهان، قال: سمعت محمد بن واسع يقول:
وا أصحاباه، [ذهب أصحابي] [1] : قلت: رحمك الله، أليس قد نشأ شباب يصومون النهار، ويقومون الليل، ويجاهدون في سبيل الله؟ قال: بلى، ولكن يداخ وثفل أفسدهم العجب.
قال عبد الله: وحدثنا هارون بن معروف، قال: حدثنا ضمرة، عن ابن شوذب، قال:
قسم أمير البصرة على أهل البصرة، فبعث إلى مالك بن دينار فقبل، فقال له محمد بن واسع: يا مالك قبلت جوائز السلطان، قال: سل [2] جلسائي، فقالوا: اشترى بها رقابا وأعتقهم، فقال له محمد بن واسع: أنشدك الله، أقلبك الساعة له على ما كان قبل أن يجيزك؟ قال: اللَّهمّ لا، قال: ترى أي شيء دخل عليك؟ فقال مالك لجلسائه:
[إنما مالك حمار] [3] ، إنما يعبد الله مثل محمد بن واسع.
قال عبد الله: وحدثني عبيد الله القواريري [4] ، قال: حدثنا حماد بن زيد، قال:
دخلنا على محمد بن واسع نعوده في مرضه، فجاء يحيى البكاء يستأذن، فقالوا: يحيى البكاء، فقال: إن شر أيامكم يوم نسبتم إلى البكاء.
وفي رواية أخرى أنه قال: إن كان الرجل ليبكي عشرين سنة وامرأته لا تعلم.
وقال لرجل: هل أبكاك قط سابق علم الله فيك.
أخبرنا علي بْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا رِزْقُ اللَّهِ، قال: أخبرنا أبو الحسين بن
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] في ت: «جاء جلسائي» .
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] في الأصل: «الفزاري» . خطأ، وما أوردناه من ت.(7/205)
بِشْرَان، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن صفوان، قَالَ: حدثنا أبو بكر بن عبيد الله، قال: حدثنا عبد الله بن عيسى الطفاوي، قال: حدثنا محمد بن عبد الله الزراد، قال:
رأى محمد بن واسع ابنا له وهو يخطر بيده، فقال: ويحك، تعال، تدري من أنت؟ أمك اشتريتها بمائتي درهم، وأبوك فلا أكثر الله في المسلمين مثله.
قال ابن عبيد اللَّهِ [1] : وحدثنا محمد بن إسحاق بن إبراهيم، عن سعيد بن عامر، عن حزم، قال: قال محمد بن واسع وهو في الموت:
يا إخوتاه، تدرون أين يذهب بي؟ يذهب بي والله الذي لا إله إلا هو إلى النار أو يعفو عني.
653- أبو بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الأنصاري [2] :
اسمه كنيته، وكان فاضلا، وكان إليه القضاء والحج. ولما ولي عمر بن عبد العزيز ولاه إمرة المدينة.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد السمرقندي بإسناده عن عطاف بن خالد، عن أمه، عن امرأة أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حزم أنها قالت:
ما اضطجع أبو بكر على فراشه منذ أربعين سنة بالليل.
توفي بالمدينة وهو ابن أربع وثمانين سنة.
__________
[1] في الأصل: «ابن أبي عبيد» . وما أوردناه من ت.
[2] الجرح والتعديل 9/ 337، والتاريخ الكبير، الكنى 10.(7/206)
ثم دخلت سنة إحدى وعشرين ومائة
فمن الحوادث فيها [1] غزوة مسلمة الروم، وافتتح بها مطامير [2] .
وغزوة مروان بن محمد بلاد صاحب سرير الذهب، ففتح قلاعه، وخرب أرضه، وأذعن له بالجزية في كل سنة ستة آلاف رأس [3] يؤديها، وأخذ بذلك الرهن، وملكه مروان على أرضه.
وفي هذه السنة قتل زيد بن علي [4] في بعض الأقوال،
وفي قول: إنه قتل في سنة عشرين. وزعم هشام بن محمد أنه قتل سنة اثنتين وعشرين.
واختلف في سبب خروجه، فقال عبد الله بن عياش [5] : قدم زيد بن علي ومحمد بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهم وداود بن علي بن عبد الله بن عباس على خالد بن عبد الله وهو على العراق فأجازهم ورجعوا إلى المدينة، فلما ولي يوسف بن عمر كتب إلى هشام بأسمائهم وبما أجازهم به، وكتب يذكر أن خالدا ابتاع من زيد أرضا بالمدينة بعشرة آلاف دينار، ثم رد الأرض عليه. وكتب هشام إلى عامل المدينة أن
__________
[1] تاريخ الطبري 7/ 160.
[2] في الأصل: «وافتتح فيها مطامير» . وفي ت: «وافتتح مطامير» . وما أوردناه من الطبري.
[3] كذا في الأصول، وفي الطبري: «ألف رأس» .
[4] تاريخ الطبري 7/ 160.
[5] في الأصل: «عبد الله بن عباس» . وما أوردناه من ت والطبري.(7/207)
يسرحهم إليه، ففعل، فسألهم هشام فأقروا بالجائزة، وأنكروا ما سوى ذلك، فسأل زيدا عن الأرض فأنكرها وحلفوا لهشام فصدقهم.
وفي رواية [1] : أن يزيد بن خالد القسري ادعى مالا قبل زيد بن علي ومحمد بن عمر وداود بن علي [في آخرين] [2] فأنكروا.
وفي رواية [3] أن خالدا القسري لما عذب ادعى أنه استودع هؤلاء مالا، فكتب فيهم يوسف بن عمر إلى هشام بن عبد الملك، فقال لهم هشام: فإنا باعثون بكم إليه يجمع بينكم وبينه، فقال له زيد بن علي: أنشدك الله والرحم أن تبعث بي إلى يوسف فإنّي أخاف أن يعتدي عليّ، قال: ليس ذلك له، ثم كتب إلى يوسف: أما بعد، فإذا قدم عليك فلان وفلان فاجمع بينهم وبين يزيد بن خالد، فإن هم أقروا بما ادعى عليهم فسرحهم إلي، وإن هم أنكروا فسله بينة، وإن لم يقم بينة فاستحلفهم بعد العصر باللَّه الذي لا إله إلا هو ما استودعكم يزيد وديعة ولا له قبلكم شيء، ثم خل سبيلهم، فلما قدموا سألهم عن المال فأنكروا جميعا وقالوا: لم يستودعنا مالا ولا له قبلنا حق، فقال له يوسف: هؤلاء الذين ادعيت عليهم ما ادعيت، فقال: ما لي قبلهم قليل ولا كثير، فقال له: أفبي تهزأ أم بأمير المؤمنين، فعذبه عذابا ظن أنه قتله، فاستحلفهم وخلى سبيلهم، فلحقوا بالمدينة.
وقيل لخالد: لم ادعيت عليهم؟ فقال: اشتد علي العذاب فرجوت مجيء فرج قبل وصولهم. وأقام زيد بن علي بالكوفة.
وقيل [4] : إنما كانت الخشونة بين زيد وعبد الله بن حسن بن حسن، فقدم زيد على هشام لمخاصمه ابن عمه عبد الله، فقال له هشام: قد بلغني أنك تذكر الخلافة وتتمناها ولست هناك أنت ابن أمة، فقال: إن لك يا أمير المؤمنين جوابا، قال: فتكلم، قال: ليس أحد أولى باللَّه من نبي ابتعثه، وقد كان إسماعيل من خير الأنبياء، وكان ابن أمة.
__________
[1] الخبر في تاريخ الطبري 7/ 160.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] الخبر في تاريخ الطبري 7/ 162.
[4] تاريخ الطبري 7/ 163.(7/208)
وخرج [1] فجعلت الشيعة تختلف إلى زيد وتأمره بالخروج، ويقولون: إنا لنرجو أن تكون المنصور، وأن يكون هذا الزمان الذي يهلك فيه بنو أمية، فأقام بالكوفة، وكتب هشام إلى يوسف [2] : أشخص زيدا إلى بلده فإنه لا يقيم ببلد فيدعو أهله إلا أجابوه، فإنه جدل لسن حلو الكلام، فإن أعاره القوم أسماعهم فحشاها [3] من لين لفظه مع ما يدلي به من قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلّم- مالوا إليه، فجعل يوسف بن عمر يسأل عنه، فيقال [4] :
هو هاهنا، فيبعث إليه: أن أشخص، فيقول: نعم، ويعتل بالوجع، ويبلغ يوسف أن الشيعة تختلف إلى زيد، فسأل عنه بعد مدة، فقيل: لم يبرح، وكان قد أقام نحو خمسة عشر شهرا، فبعث إليه يستحثه، وكان يوسف بالحيرة، وإنما كان يكتب إلى عامله بالكوفة، فتهيأ زيد وخرج، فلحقته الشيعة فقالوا: أين تذهب ومعك مائة ألف راجل من أهل الكوفة يضربون دونك بأسيافهم غدا، وليس قبلك من أهل الشام إلا عدة قليلة، لو أن قبيلة من قبائلنا نصبت لهم لكفتهم بإذن الله، فننشدك الله لما رجعت. فلم يزالوا به حتى ردوه إلى الكوفة.
وفي رواية [5] : أن جماعة من وجوه أهل الكوفة بايعوه حين كان بالكوفة منهم سلمة بن كهيل، ونصر بن خزيمة، وحجية بن الأجلح، ثم إن سلمة أشار على زيد ألا يخرج، فلما رأى ذلك داود بن علي قال له: يا ابن عم، لا يغرنك هؤلاء من نفسك ففي أهل بيتك لك عبرة، وفي خذلان هؤلاء إياهم، فقال: يا داود، إن بني أمية قد عتوا. فلم يزل به داود حتى شخص إلى القادسية، فتبعه أهل الكوفة فقالوا: نحن أربعون ألفا فإن رجعت إلى الكوفة لم يتخلف عنك أحد، وأعطوه المواثيق والأيمان المغلظة، فجعل يقول: إني أخاف أن تخذلوني وتسلموني كفعلكم بأبي وجدي، فيحلفون له فيقول داود بن علي: يا ابن عم، إن هؤلاء يغرونك، أليس قد خذلوا من كان أعز منك عليهم، جدك علي بن أبي طالب رضي الله عنه حتى قتل، والحسن بعده بايعوه [6] ثم وثبوا
__________
[1] تاريخ الطبري 7/ 166.
[2] في الأصل: «وكتب إلى هشام إلى يوسف» . والتصحيح من ت.
[3] في الأصل: «فحثاها» ، والتصحيح من ت والطبري 7/ 169.
[4] في ت: «فيقول» .
[5] الخبر في تاريخ الطبري 7/ 168.
[6] في ت: «بايعوا» .(7/209)
[عليه] [1] فانتهبوا فسطاطه وجرحوه، أو ليس قد أخرجوا جدك الحسين، وحلفوا له ثم خذلوه، ثم لم يرضوا بذلك حتى قتلوه، فلا تفعل ولا ترجع معهم، فقالوا له: إن هذا لا يريد أن تظهر، ويزعم أنه وأهل بيته أحق بهذا الأمر.
فمضى داود إلى المدينة، ورجع زيد إلى الكوفة فاستخفى فأقبلت الشيعة تختلف إليه وتبايعه حتى أحصى ديوانه خمسة عشر ألف رجل، فأرسل إلى السواد وأهل الموصل رجالا يدعون إليه.
وتزوج بالكوفة، فكان ينزل تارة في دار امرأته وتارة في دار أصهاره، ومرة عند نصر بْن خزيمة، ثم تحول إلى دار معاوية بن إسحاق، وكانت بيعته التي بايع الناس:
ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه، وجهاد الظالمين، والدفع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين، وقسم [2] هذا الفيء بين أهله بالسواد، ورد المظالم، ونصرنا أهل البيت على من نصب لنا. فإذا قال القائل: نعم، وضع يده على يده، وقال: عليك عهد الله وميثاقه وذمة الله وذمة رسوله لتفين بيعتي ولتقاتلن عدوي ولتنصحن لي في السر والعلانية؟ فإذا قال: نعم، مسح يده على يده ثم قال: اللَّهمّ اشهد.
فمكث كذلك بضعة عشر شهرا، فلما دنا خروجه أمر أصحابه بالاستعداد والتهيؤ، فشاع أمره في الناس، فلما عزم على الخروج أمر أصحابه بالتأهب، فانطلق سليمان بن سراقة البارقي إلى يوسف بن عمر فأخبره خبره، فبعث يوسف في طلب زيد فلم يجده، فلما رأى الناس الذين بايعوه أن يوسف بن عمر يستبحث عن أمره اجتمع إليه جماعة من رؤسائهم، فقالوا له: رحمك الله، ما تقول في أبي بكر وعمر؟ قال: رحمهما الله ورضي عنهما، ما سمعت أحدا من أهل بيتي يتبرأ منهما ولا يقول فيهما إلا خيرا، قالوا: فلم تطلب إذا بدم أهل هذا البيت، إلا أنهما وثبا على سلطانكم فنزعاه من أيديكم، فقال زيد: لو قلنا إنهم استأثروا علينا لم يبلغ ذلك بهم كفرا [3] ، قد [والله] [4] ولوا فعدلوا، قالوا: فإذا كان أولئك لم يظلموكم فلم تدعونا إلى قتال هؤلاء، فقال: إن
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] في ت: «ودفع» .
[3] في الأصل: «إلا كفرا» . وما أوردناه من ت والطبري 8/ 181.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/210)
هؤلاء ظالمون لكم ولأنفسهم، وإنما ندعوكم [1] إلى كتاب الله وإلى السنن أن تحيى، وإلى البدع أن تطفأ. ففارقوه ونكثوا بيعته وقالوا: سبق الإمام- وكانوا يزعمون أن أبا جعفر محمد بن علي أخا زيد بن علي هو الإمام، وكان قد هلك يومئذ- وكان ابنه جعفر بن محمد حيا، فقالوا: جعفر إمامنا اليوم بعد أبيه وهو أحق بالأمر ولا نتبع زيدا وليس بإمام، فسماهم زيد الرافضة.
ثم استتب لزيد خروجه، فواعد أصحابه ليلة الأربعاء أول ليلة من صفر سنة اثنتين وعشرين، وبلغ يوسف بن عمر، فبعث إلى الحكم بن الصلت وهو يومئذ على الكوفة، فأمره أن يجمع أهل الكوفة في المسجد الأعظم ويحصرهم فيه. فجمع الناس في المسجد يوم الثلاثاء قبل خروج زيد بيوم، وطلب زيد فخرج ليلا، ورفع أصحابه هرادي [2] النار ونادوا: زيد يا منصور [3] . وأمر الحكم بن الصلت بدروب السوق فغلقت وأغلقوا أبواب المسجد على أهل الكوفة، وكان جميع من وافى زيدا تلك الليلة مائتي رجل وثمانية عشر رجلا، فقال زيد: سبحان الله، أين الناس؟ فقيل له: هم في المسجد الأعظم محصورون.
فذهب زيد إلى الكناسة، فإذا بها جمع من جموع أهل الشام فهزمهم، ثم خرج إلى الجبانة، وخرج يوسف بن عمر، فنزل على تل قريب من الحيرة ومعه أشراف الناس، ثم عاد زيد فدخل الكوفة فقصد المسجد، فجعل أصحابه يقولون: يا أهل المسجد اخرجوا. واقتتل هو وأهل الشام.
فلما كانت غداة الخميس بعث يوسف بن عمر جندا فلقوا زيدا فاقتتلوا فهزمهم زيد، وقتل من أهل الشام نحوا من سبعين، فانصرفوا وهم بشر حال. ثم عبأهم يوسف بن عمر وسرحهم، فالتقوا بأصحاب زيد فحمل عليهم زيد وأصحابه، فكشفهم وقاتل معاوية بن إسحاق الأنصاري بين يدي زيد، فقتل وثبت زيد حتى إذا جاء الليل رمي
__________
[1] في ت: «وإنكم تدعونهم» . وما أوردناه من ت والطبري.
[2] في الأصل: «هوادي» . وما أوردناه من ت، والهرادي: قصبات تضم ملوية بطاقات الكرم تحمل عليها قضبانه.
[3] تاريخ الطبري 7/ 183.(7/211)
بسهم فأصاب جبهته، فثبت [1] في الدماغ، فأدخل إلى بيت، وجيء بالطبيب فانتزع السهم فجعل يضج ثم مات. فقال القوم: أين ندفنه؟ فقال بعض أصحابه: نلبسه درعه ونطرحه في الماء، وقال آخر: بل نحتز رأسه ونطرحه بين القتلى، فقال ابنه: لا والله لا تأكل لحم أبي الكلاب. فجاءوا به إلى نهر فسكروا الماء وحفروا له فدفنوه وأجروا عليه الماء، وتصدع الناس، وتوارى ولده يحيى بن زيد.
فلما سكن الطلب خرج في نفر من الزيدية إلى خراسان، ثم دل القوم على قبر زيد، فاستخرجوه وقطعوا رأسه وصلبوا جسده، وبعث برأسه إلى هشام، فأمر به فنصب على باب دمشق، ثم أرسل به إلى المدينة فصلب بها، ومكث البدن مصلوبا حتى مات هشام، فأمر به الوليد فأنزل وأحرق، فلما ظهر ولد العباس عمد عبد الله بن علي إلى هشام بن عبد الملك، فأخرجه من قبره وصلبه بما فعل بزيد.
وذكر أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي في كتاب المقالات: أن زيد بن علي لما خرج قتل في المعركة ودفنه أصحابه، فعلم به يوسف بن عمر، فنبشه وصلبه ثم كتب هشام يأمر بحرقه فأحرق ونسف رماده في الفرات.
ثم خرج يحيى بن زيد بالجوزجان على الوليد بن يزيد بن عبد الملك، فبعث نصر بن سيار إليه سلم بن أجوز المازني فحاربه فقتل في المعركة ودفن في بعض الخانات.
وخرج محمد بْن عَبْد اللَّه بْن الْحَسَن بْن الْحَسَن بالمدينة، وبويع له في الآفاق، فبعث إليه المنصور بعيسى بن موسى، وحميد بن قحطبة فقتلاه، وقتلا من أجله تحت الهدم أباه عبد الله، وعلي بن الحسن بن الحسن وجماعة، ودفن إبراهيم بن الحسن بن الحسن وهو حي بالكوفة، وكان محمد بن عبد الله وجه ولده واخوته إلى الآفاق يدعون إليه فوجه ابنه عليا إلى مصر، فأخذ هناك وقتل، ووجه ابنه عبد الله إلى خراسان فطلب فهرب إلى السند فأخذ بها وقتل، ووجه ابنه الحسن إلى اليمن فأخذ لنفسه أمانا ثم حبس فمات في السجن، ثم وجه أخاه موسى إلى الجزيرة، فأخذ لنفسه أمانا، ووجه أخاه إدريس إلى المغرب، ووجه أخاه يحيى إلى الري، وخرج بعده أخوه إبراهيم [بن عبد الله
__________
[1] في الطبري: «فتثبت» .(7/212)
إلى] [1] البصرة فغلب عليها وعلى الأهواز وفارس وأكثر السواد، وشخص عن البصرة يريد محاربة المنصور، فبعث إليه المنصور بعيسى بن موسى وسعيد بن سلم، فحارب حتى قتل ومضى أخوه إدريس بن عبد الله إلى المغرب فغلب على بلدان كثيرة [وبسط العدل فيها.
وخرج الحسين بن علي بن حسن بن حسن فبايعه الناس] [2] ، وعسكر بفخ على ستة أميال من مكة، فخرج إليه موسى بن عيسى في أربعة آلاف فقتل وأكثر من كان معه ولم يتجاسر أحد أن يدفنهم ثلاثة أيام، فأكلت أكثرهم السباع [3] . وكان خروجه سنة سبع [4] وستين ومائة في خلافة موسى، وأسر ممن كان معه [5] سليمان بْن عَبْد اللَّه بْن الْحَسَن بْن الْحَسَن فضربت عنقه بمكة صبرا وقتل معه جماعة.
وخرج يحيى بْن عَبْد اللَّه بْن الْحَسَن بْن الْحَسَن فقتل، وخرج محمد بن جعفر بن يحيى بن عبد الله بن الحسن بن علي بتاهرت فغلب عليها. وخرج بالكوفة أيام المأمون محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن ثم مات بعد أربعة أشهر. فخرج من بعده محمد بن محمد بن زيد بن زيد بن علي فأخذ وأظهر موته.
وخرج باليمن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين داعية لمحمد بن إبراهيم فأمنه المأمون. وخرج جعفر بن إبراهيم بن موسى بن جعفر باليمن، فقدم به على المأمون فأمنه. وخرج محمد بْن القاسم بْن علي بْن عمر بن علي بن الحسين بالطالقان في خلافة المعتصم، فوجه إليه عبد الله بن طاهر فانهزم محمد ثم وقعوا به فأنفذ إلى المعتصم، فحبسه في قصره فقيل إنه مات، وقال قوم من الشيعة إنه سيظهر.
وخرج محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين داعية لمحمد بن إبراهيم، فلما مات محمد دعى إلى نفسه [فحمل إلى المأمون، وخرج الأفطس بالمدينة داعية
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] في ت: «الكلاب» .
[4] في ت: «تسع وستين» .
[5] «وأسر ممن كان معه» : ساقط من ت.(7/213)
لمحمد بن إبراهيم فلما مات محمد دعى إلى نفسه] [1] ، وهرب العباس بن محمد بن عبد الله بن علي من الرشيد، فدعا به فشتمه فرد عليه [ما قال] [2] ، فضرب بين يديه بالعمد حتى مات.
وخرج الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بطبرستان فما زالت بيده حتى مات، [وخلفه أخوه محمد فحاربه رافع بن هرثمة، ثم تابعه بالري محمد بن جعفر بن الحسن فأسروا وحمل إلى محمد بن طاهر فحبسه حتى مات] [3] .
وخرج الكوكبي واسمه الحسين بن أحمد بن محمد بن إسماعيل فهزمه موسى بن بغا، وخرج بالكوفة أيام المستعين يحيى بن عمر بْن يحيى بْن زيد بْن علي بْن الحسين بن علي فحارب فقتل. وخرج الحسين بن محمد بن حمزة فأخذ وحبس.
وخرج ابن الأفطس [بالمدينة] [4] ، وخرج بالمدينة إسماعيل بن يوسف بن إبراهيم بن عَبْد الله، فخلفه أخوه محمد فطلب فهرب ومات.
وخرج ابن لموسى بن عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فمضى إلى فارس فمات بها. وخرج صاحب البصرة وكان يدعي أنه علي بن محمد بْن علي بن عيسى بن زيد بن علي، وكان أنصاره الزنج، وكان يرى رأي الأزارقة وسيأتي.
وستأتي أخبار هؤلاء في أماكنها [5] إن شاء الله.
وفي هذه السنة غزا نصر بن سيار ما وراء النهر مرتين [6]
وقتل أمير الترك، وذهب إلى فرغانة فسبى بها ثلاثين ألف رأس، وصالح ملكها.
فجاءت أم الملك إلى نصر بن سيار فقالت له في مخاطبتها إياه: كل ملك لا يكون عنده ستة أشياء فليس بملك: وزير يباثه بنيات صدره [7] ويشاوره ويثق بنصحه، وطباخ إذا لم يشته الطعام اتخذ له ما يشتهيه، وزوجة إذا دخل عليها مغتما فنظر إليها ذهب غمه،
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[5] في الأصل: «أماكنهم» وقد صححت لاستقامة المعنى.
[6] تاريخ الطبري 7/ 173.
[7] في الطبري: «بكتاب نفسه» .(7/214)
وحصن إذا فزع أو جهد فزع إليه [1] فأنجاه [2]- تعني الفرس- وسيف إذا قارع الأقران لم يخش خيانته، وذخيرة إذا حملها عاش بها أينما وقع من الأرض.
وكتب يوسف بن عمر إلى نصر بن سيار: سر إلى هذا الغارز ذنبه في الشاش [3]- يعني الحارث بن شريح- فإن أظفرك الله به وبأهل الشاش فخرب ديارهم واسب ذراريهم. فسار فقتل المسلمون فارس الترك.
وفي هذه السنة حج بالناس [4] محمد بن هشام بن إسماعيل المخزومي وهو عامل مكة والمدينة والطائف. وكان العامل على أذربيجان وأرمينية مروان بن محمد، وعلى خراسان نصر بن سيار، وعلى قضاء البصرة عامر بن عبيدة، وعلى قضاء الكوفة ابن شبرمة. وكان على العراق كله يوسف بن عمر الثقفي.
أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا المبارك وأحمد قالا: أخبرنا عبد الجبار الصيرفي وهو أبونا قال: أخبرنا القاضي أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْمُهْتَدِي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الفضل محمد بن الحسن بن المأمون، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بكر بْن الأنباري، قال: حدثني أحمد بن بشار بن الحسن بن بيان، قال: حدثنا إسحاق بن بهلول بن حسان التنوخي، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا إسحاق بن زياد عن شبيب بن شبة، عن خالد بن صفوان بن الأهتم، قال: [5] أوفدني يوسف بن عمر إلى هشام بن عبد الملك في وفد العراق، فقدمت عليه وقد خرج متبديا بقرابته وأهله وحشمه وغاشيته من جلسائه، فنزل في أرض قاع صحصح متنايف أفيح في عام قد بكر وسميه، وتتابع وليه، وأخذت الأرض زينتها من اختلاف نبتها من نور ربيع مونق، فهو أحسن منظر وأحسن مختبر وأحسن مستمطر، بصعيد كان
__________
[1] في الأصل: «فزع وجهد فزع إليه» . وما أوردناه من ت والطبري.
[2] في ت: «فنجت» .
[3] في الأصل: «هذا الغارس ذنبه في الشاش» . وفي ابن الأثير: «الغادر دينه في الشاش» . وما أوردناه من ت والطبري.
[4] في ت: «وحج بالناس في هذه السنة» .
[5] الخبر في الروض المعطار 226، وعيون الأخبار 2/ 341.(7/215)
ترابه قطع الكافور حتى لو أن بضعة ألقيت فيه لم تترب، وقد ضرب له سرادق من حبرة، وكان صنعه له يوسف بن عمر باليمن، فيه أربعة أفرشة من خز أحمر مثلها مرافقها، وعليه دراعه من خز أحمر مثلها عمامتها، وقد أخذ الناس مجالسهم، فأخرجت رأسي من ناحية السماط فنظر إلي مثل المستنطق لي [1] ، فقلت: أتم الله عليك يا أمير المؤمنين نعمة، وسوغكها بشكره، وجعل ما قلدك من هذه الأمور رشدا وعاقبة ما يؤول إليه حمدا أخلصه الله لك بالتقى، وكثره لك بالنماء، لا كدر عليك منه ما صفا، ولا خالط مسروره الردى، فقد أصبحت للمسلمين ثقة ومستراحا، إليك يفزعون في مظالمهم، وإليك يلجئون في أمورهم، وما أجد يا أمير المؤمنين جعلني الله فداك [2] شيئا هو أبلغ في قضاء حقك من أن أذكرك نعمة الله عليك فأنبهك على شكرها، وما أجد في ذلك شيئا هو أبلغ من حديث من يقدم قبلك من الملوك، فإن أذن لي أمير المؤمنين أخبرته. وكان متكئا فاستوى قاعدا وقال: هات يا ابن الأهتم، فقلت:
يا أمير المؤمنين، إن ملكا من الملوك قبلك خرج في عام مثل عامنا هذا إلى الخورنق والسدير في عام قد بكر وسميه، وتتابع وليه، وأخذت الأرض فيه زخرفها من اختلاف ألوان نبتها من نور ربيع مونق، فهو في أحسن منظر، وأطرف مختبر، وألذ مستمطر، بصعيد كأن ترابه قطع الكافور، حتى لو أن بضعة ألقيت فيه لم تترب، وكان قد أعطي فتاء السن مع الكثرة والغلبة والنماء فنظر فأبعد النظر فقال: لمن هذا الذي أنا فيه، هل رأيتم مثل ما أنا فيه؟ هل أعطي أحد مثل ما أعطيت؟ وعنده رجل من بقايا حملة الحجة والمضي على أدب الحق ومنهاجه، فقال [له] [3] : أيها الملك، إنك قد سألت عن أمر أفتأذن في الجواب؟ قال: نعم، قال: أرأيتك هذا الذي قد أعجبت به، أهو شيء لم تزل فيه أم شيء صار إليك ميراثا عن غيرك وهو زائل عنك، وصائر إلى غيرك كما صار إليك؟ قال: فكذلك هو، قال: أفلا أراك إنما أعجبت بشيء يسير تكون فيه قليلا وتغيب عنه طويلا، وتكون غدا لحسابه مرتهنا، قال: ويحك فأين المهرب وأين المطلب؟ قال: إما أن تقيم في ملكك فتعمل بطاعة ربك على ما ساءك وسرك ومضّك
__________
[1] في الأصل: «كالمستنطق» . وما أوردناه من ت.
[2] «يا أمير المؤمنين جعلني الله فداك» : ساقط من ت.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/216)
وأومضك، وإما أن تضع تاجك، وتلبس أمساحك، وتعبد ربك في هذا الجبل حتى يأتيك أجلك. قال: فإذا كان السحر فاقرع علي بابي، فإن اخترت ما أنا فيه كنت وزيرا لا تعصى [وجليسا لا يقصى] [1] ، وإن اخترت خلوات الأرض و [قعر] [1] البلاد كنت رفيقا لا يخالف.
فلما كان السحر قرع عليه بابه، فإذا هو قد وضع تاجه ولبس أمساحه وتهيأ للسياحة، فلزما والله الجبل حتى أتتهما آجالهما، وذلك حيث يقول أخو بني تميم عدي بن زيد العبادي [2] :
أيها الشامت المعير بالدهر ... أأنت المبرأ الموفور
أم لديك العهد الوثيق من الأيام ... بل أنت جاهل مغرور
من رأيت المنون خلدن أم من ... ذا عليه من أن يضام خفير
أين كسرى كسرى الملوك أبو ... ساسان أم أين قبله سابور
وبنو الأصفر الكرام ملوك ... الروم لم يبق منهم مذكور
وأخو الحصن إذ بناه وإذ دجلة ... تجبى إليه والخابور
شاده مرمرا وجلله كلسا ... فللطير [3] فِي ذراه وكور
لم تهبه ريب المنون فباد ... الملك عنه فبابه مهجور
وتأمل رب الخورنق إذ أشرف ... يوما وللهدى تفكير
سره ماله وكثرة ما يملك ... والبحر معرض والسدير
فارعوى قلبه وقال وما غبطة ... حي إلى الممات يصير
ثم بعد الإفلاح والملك و ... الأمة وارتهم هناك القبور
ثم أضحوا كأنهم ورق جف ... فألوت به الصبا والدبور
قال: فبكى هشام حتى اخضلت لحيته وبل عمامته وأمر بنزع أبنيته وبنقلان قرابته وأهله وحشمه وغاشيته من جلسائه، ولزم [4] قصره. قال: فاجتمعت الموالي والحشم على خالد بن صفوان فقالوا: ما أردت بأمير المؤمنين، نغصت عليه لذته، وأخذت عليه
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] ديوان عدي: 87- 90.
[3] في الأصل: «وجلله كلسا فما للطير» . والتصحيح من ت والديوان.
[4] في الأصل: «ولزوم» . وما أوردناه من ت.(7/217)
ناديته، فقال لهم: إليكم عني فإني عاهدت الله تعالى عهدا لن أخلو بملك إلا ذكرته الله عز وجل.
قال ابن الأنباري: الذي حفظناه عن مشايخنا متنايف أفيح.
وقال أبو العباس أحمد بن يحيى: الصواب مسايف جمع مسافة.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
654- الربيع بن أبي راشد، أبو عبد الله [1] :
أخبرنا محمد بن أبي القاسم، قال: أَخْبَرَنَا حَمَدُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم الأصفهاني، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر بْن مالك، قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قال: حدثني الفضل بن سهل، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثني من سمع عمر بن ذر يقول:
كنت إذا رأيت الربيع بن أبي راشد كأنه مخمار من غير شراب [2] .
أخبرنا علي بْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا رِزْقُ اللَّهِ، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف، قَالَ: حَدَّثَنَا الحسين بْن صفوان، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو بكر القرشي، قال: حدثنا مالك بن إسماعيل، قال: حدثني عبد السلام بن حرب، عن خلف بن حوشب، قال:
قال الربيع بن أبي راشد:
اقرأ عليّ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ من الْبَعْثِ) 22: 5 [3] فقرأتها [عليه] [4] فبكى ثم قال: والله لولا أن تكون بدعة لسحت- أو قال: لهمت- في الجبال.
655- زيد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب:
دخل على هشام بن عبد الملك فرفع دينا وحوائج فلم يقضها له، وأسمعه كلاما شديدا، فخرج إلى الكوفة، وخرج بها ويوسف بن عمر الثقفي عامل هشام على العراق، فوجه إلى زيد من يقاتله، فاقتتلوا، فتفرق عن زيد من خرج معه، ثم قتل
__________
[1] التاريخ الكبير 2/ 1/ 273، والجرح والتعديل 3/ 461، حلية الأولياء 5/ 75.
[2] الخبر في حلية الأولياء 5/ 76.
[3] سورة الحج، الآية: 5.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/218)
وصلب، فلما ظهر ولد العباس أخرج هشام من قبره فصلب. وكان قتل زيد في هذه السنة، وكان ابن اثنتين وأربعين سنة.
656- عطاء السليمي: [1]
كان شديد الخوف والحياء من الله، لم يرفع رأسه إلى السماء أربعين سنة.
وكان يبكي حتى يبل ما حوله، فعوتب في بكائه، فقال: إذا ذكرت أهل النار وما ينزل بهم من العذاب تمثلت نفسي بينهم، فكيف لنفس تغل وتسحب في النار؟ ألا تبكي؟!.
وكان يقول: ارحم في الدنيا غرتي، وفي القبر وحدتي وطول مقامي غدا بين يديك.
وقال جعفر [بن سليمان] [2] : التقى ثابت وعطاء السليمي ثم افترقا، فلما كان وقت الهاجرة جاء عطاء فخرجت الجارية إليه فقالت: أخوك عطاء، فخرج إليه فقال: يا أخي في هذا الحر، قال: ظللت صائما فاشتد علي الحر، فذكرت [حر] [3] جهنم فأحببت أن تعينني على البكاء، فبكيا حتى سقطا.
قال جعفر: ولما مات عطاء رأيته في المنام، فقلت: ما فعل الله بك؟ قال:
رحمني ووبخني وقال لي: يا عطاء، ما استحييت مني، تخافني ذلك الخوف كله، أما علمت أني أرحم الراحمين.
657- عطية بن قيس الكلابي [4]
من أهل القرآن والفضل، توفي في هذه السنة وهو ابن مائة سنة وأربع سنين.
658- محمد بن يحيى بن حبان بن منقذ بن عمرو بن مالك، أبو عبد الله [5] :
كانت له حلقة في مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وسلم، وكان يفتي، وكان كثير الحديث ثقة.
توفي بالمدينة في هذه السنة.
__________
[1] حلية الأولياء 6/ 215. وجاء في الأصل: «عطاء السلمي» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] الجرح والتعديل 6/ 383، حلية الأولياء 5/ 142.
[5] طبقات ابن سعد الجزء المخطوط، وتهذيب التهذيب 6/ 290، والتاريخ الكبير 1/ 1/ 266، الجرح والتعديل 8/ 122.(7/219)
ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين ومائة
فمن الحوادث فيها قتل كلثوم [1] القشيري الذي كان بعثه هشام في خيول أهل الشام إلى إفريقية حين وقعت الفتنة بالبربر.
وفيها: قتل عبد الله البطال في جماعة من المسلمين بأرض الروم.
وفيها: ولد محمد بن إبراهيم بن مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس.
وفيها: وجه يوسف بن عمر بن شبرمة على سجستان، واستقضى ابن أبي ليلى.
[وفي هذه السنة [2] حج بالناس محمد بن هشام المخزومي، وكانت عمال الأمصار في هذه السنة العمال فِي السنة التي قبلها، وقد ذكرناهم، إلا أن قاضي الكوفة فيما ذكر محمد بن عبد الرحمن بْن أَبِي ليلى.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
659- إياس بن معاوية بن قرة بن إياس المزني [3] :
سمع من أبيه، وأنس، وابن المسيب، وغيرهم. روى عنه حماد بن سلمة وغيره.
__________
[1] تاريخ الطبري 7/ 191.
[2] الورقة 96 سقطت من التصوير. وما أوردناه من ت.
[3] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 4، والمعارف 467، والتاريخ الكبير 1/ 1/ 442، والجرح والتعديل 2/ 282، وحلية الأولياء 3/ 123، وتاريخ الإسلام 5/ 44، وسير أعلام النبلاء 5/ 155.(7/220)
ولي قضاء البصرة لعمر بن عبد العزيز، وكانت له فراسة وذكاء وفطنة. وتوفي في هذه السنة وكان له عقب.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم، قال: أخبرنا محمد بْنُ أحمد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم الأصفهاني، قال: حدثنا سليمان بن أحمد، قال: حدثنا الحسين بن المتوكل، قال: حدثنا أبو الحسن المدائني، عن أبي إسحاق بن حفص، قال:
قيل لإياس بن معاوية: فيك أربع خصال: دمامة، وكثرة كلام، وإعجاب بنفسك، وتعجيل في القضاء. قال: أما الدمامة فالأمر فيها إلى غيري، وأما كثرة الكلام فبصواب أم بخطأ؟ قالوا: بصواب، قال: فالإكثار من الصواب أمثل. وأما إعجابي بنفسي، أفيعجبكم ما ترون مني؟ قالوا: نعم، قال: فإني أحق أن أعجب بنفسي. وأما قولكم إني أعجل بالقضاء، فكم هذه- وأشار بيده خمسة؟ فقالوا: خمسة، فقال:
عجلتم، ألا قلتم: واحد واثنان وثلاثة وأربعة وخمسة؟ قالوا: ما نعد شيئا قد عرفناه، قال: فما أحبس شيئا قد تبين لي فيه الحكم.
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق، قال: أخبرنا أبو اليسر إبراهيم بن موسى الجزري، قال: حدّثنا القاضي المقدمي، قال: حدّثنا إسحاق بن إبراهيم بن حبيب، قال: حدثنا قريش بن أنس، عن حبيب بن الشهيد، قال:
كنت جالسا عند إياس بن معاوية، فأتاه رجل فسأله عن مسألة فطول عليه، فأقبل عليه إياس فقال: إن كنت تريد الفتيا فعليك بالحسن فإنه معلمي ومعلم أبي، وإن كنت تريد القضاء فعليك بعبد الملك بن يعلى- وكان على قضاء البصرة يومئذ- وإن كنت تريد الصلح فعليك بحميد الطويل، وتدري ما يقول لك؟ يقول لك: حط عنه شيئا، ويقول لصاحبك زده شيئا حتى يصلح بينكما وإن كنت تريد الشغب فعليك بصالح السدوسي، وتدري ما يقول لك، اجحد ما عليك وادع ما ليس لك، وادع بينة غيبا.
660- زبيد اليامي: [1]
أدرك ابن عمر وأنسا، وكان عابدا ثقة دينا، كان يقول سعيد بن جبير: لو خيرت
__________
[1] طبقات ابن سعد 6/ 216، والتاريخ الكبير 3/ 1499، والجرح والتعديل 3/ 2818، وتاريخ الإسلام(7/221)
عبدا ألقى الله في صلاحه لاخترت زبيد اليامي.
أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو طَالِبٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ غَيْلانَ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُزَكِّي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن المسيب، قال: حدثنا يوسف بن موسى، قال: حدثنا جرير، عن ابن شبرمة، قال:
كان زبيد اليامي يجزئ الليل ثلاثة أجزاء: جزءا عليه، وجزءا على عبد الرحمن ابنه، وجزءا على عبد الله ابنه، فكان زبيد يصلي ثلث الليل ثم يقول لأحدهما: قم، فإن تكاسل صلى جزأه، ثم يقول للآخر: قم، فإن تكاسل صلى جزأه فيصلي الليل كله.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم بإسناده عن سفيان، قال: كان زبيد إذا كانت ليلة مطيرة أخذ شعلة من النار فطاف على عجائز الحي فقال: أولف عليكم بيت، أتريدون نارا، فإذا أصبح طاف على عجائز الحي: ألكم في السوق حاجة أو تريدون شيئا؟.
قال أحمد: حدثني أبو سعيد الأشج، حدثني المجازي، عن سفيان، قال:
دخلنا على زبيد نعوده، فقلنا: شفاك الله، فقال: أستجير الله.
توفي زبيد في هذه السنة، وكان طلحة أسن منه بعشر سنين، فاستوفى زبيد عشر سنين ثم مات.
661- سيار بن دينار- ويقال: ابن وردان- أبو الحكم القسري [1] :
روى عن طارق] / بن شهاب، والشعبي، وأبي وائل، وأبي حازم، وكان شديد الحزن كثير البكاء. وقال: إن الفرح بالدنيا والحزن بالآخرة لا يجتمعان في قلب عبد، إذا سكن أحدهما القلب خرج الآخر.
أنبأنا يحيى بن الحسين بن البناء، قال: أنبأنا أبو غالب محمد بن أحمد بن بشران، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن الحسن الحاجري، قال: أخبرنا محمد بن عثمان بن
__________
[5] / 69، وسير أعلام النبلاء 5/ 296، وتهذيب التهذيب 3/ 310.
[1] التاريخ الكبير 4/ 2333، وتاريخ واسط 175، والجرح والتعديل 4/ 1103 وحلية الأولياء 8/ 313، وسير أعلام النبلاء 5/ 391، وتاريخ الإسلام 5/ 85، وتهذيب التهذيب 4/ 291.(7/222)
سمعان، قال: أخبرنا أسلم بن سهل الرزاز، قال: حدثنا وهب بن بقية، قال: أخبرني حسين بن زياد، قال:
بعث بعض القضاة إلى سيار بواسط، فأتاه فقال له: لم لا تجيء إلينا؟ فقال له:
إن أدنيتني فتنتني، وإن باعدتني غممتني، وليس عندك ما أرجو، ولا عندي ما أخافك عليه. ثم قام.
قال أسلم: وحدثني عبد الحميد بن بيان، قال: سمعت أبي يقول: خرج سيار بن يسار إلى البصرة، فقام يصلي إلى سارية في المسجد الجامع، وكان حسن الصلاة وعليه ثياب جياد، فرأه مالك بن دينار فجلس إليه، فسلم سيار فقال له مالك:
هذه الصلاة وهذه الثياب؟ فقال له سيار: ثيابي هذه ترفعني عندك أو تضعني؟ قال:
تضعك [1] ، قال: هذا أردت، ثم قال له: يا مالك، إني لأحسب ثوبيك هذين قد أنزلاك من نفسك ما لم ينزلك من الله، فبكى مالك وقال له: أنت سيار؟ قال: نعم، فعانقه.
وفي رواية: جاء مالك فقعد بين يديه.
662- عبد الملك بن حبيب، أبو عمران الجوني [2] :
أسند عن أنس، وجندب بن عبد الله، وعائذ بن عمرو، وأبي برزة، وكان عالما متعبدا.
قال أبو بكر القرشي: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الحسين، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عمر الضرير، قال: حدثنا الحارث بن سعيد، قال:
كان أبو عمران الجوني إذا سمع الأذان تغير لونه وفاضت عيناه.
663- عثمان بن أبي دهرش المكي [3] :
يروي عن رجل من الصحابة، روى عنه ابن عيينة.
أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ، قال: أخبرنا جعفر بن أحمد، قال: أخبرنا ابن
__________
[1] في الأصل: «تضعني» . وما أوردناه من ت.
[2] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 8، والتاريخ الكبير 3/ 1/ 410، وتقريب التهذيب 1/ 518، والجرح والتعديل 5/ 346.
[3] الجرح والتعديل 6/ 149، والتاريخ الكبير 3/ 2/ 220.(7/223)
الْمُذْهَبِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أحمد، قال: حدثني العباس بن محمد مولى بني هاشم، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن الْحَسَن بْن شقيق، عن عبد الله بن المبارك، عن عثمان بن أبي دهرش:
أنه كان إذا رأى الفجر أقبل عليه تنبه وقال: أسير الآن مع الناس ولا أدري ما أجني على نفسي.
وقال عثمان: ما صليت صلاة قط إلا استغفرت الله عز وجل من تقصيري فيها.
664- مسلمة بن عبد الملك بن مروان، كنيته أبو سعيد [1] :
كان شجاعا جوادا ذا رأي وحزم وفضل، وغزا غزوات، وكان حسن التدبير.
قال: ما لمت نفسي على خطأ افتتحته بحزم، ولا حمدتها على صواب افتتحته بعجز.
وإنما زوت عنه بنو أمية لأن أمه أم ولد. [توفي في هذه السنة] [2] .
__________
[1] التاريخ الكبير 4/ 1/ 387، والجرح والتعديل 8/ 266، تهذيب التهذيب 10/ 144.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/224)
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين ومائة
فمن الحوادث فيها ما جرى بين الصغد ونصر بن سيار من الصلح [1] .
وفيها [2] : غزا نصر فرغانة غزوته الثانية [3] .
وفيها [4] : أوفد يوسف بن عمر الحكم بن أبي الصلت إلى هشام بن عبد الملك يسأله ضم خراسان إليه، وعزل نصر بن سيار. وذلك أن ولاية نصر طالت، ودانت له خراسان، فحسده يوسف وأمر من قدح فيه عند هشام بالكبر فلم يلتفت هشام إلى ذلك.
وفيها: حج بالناس يزيد بن هشام بن عبد الملك، وكان عمال الأمصار في هذه السنة العمال الذين كانوا في السنة قبلها.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
665- سماك بن حرب السدوسي:
كان قد ذهب بصره فرأى في منامه إبراهيم الخليل عليه السلام فأصبح يبصر.
__________
[1] تاريخ الطبري 7/ 192.
[2] تاريخ الطبري 7/ 193.
[3] في الأصل: «غزاته الثانية» . وفي ت: «غزوة الثانية» . وما أوردناه من الطبري.
[4] تاريخ الطبري 7/ 192، 193.(7/225)
666- وسماك بن حرب بن أوس بن خالد بن نزار، أبو المغيرة الذهلي [1] :
رأى المغيرة بن شعبة، وسمع من النعمان بن بشير، وجابر بن سمرة، وسويد بن قيس، وأنس بن مالك، ومحمد بن حاطب، وثعلبة بن الحكم.
وقال سماك: أدركت ثمانين من أصحاب رسول الله صلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم.
روى عنه إسماعيل بن أبي خالد، والثوري، وشعبة، وزائدة، وحماد بن سلمة.
وكان ثقة، وبعثه ابن هبيرة إلى بغداد فقدمها قبل أن تمصر [2] .
وتوفي في هذه السنة.
667- سعيد بن أبي سعيد المقبري، مولى بني ليث [3] :
روى عن سعد بن أبي وقاص، وأبي هريرة، وأبي سعيد وغيرهم، وكان ثقة.
قال محمد بن سعد: لكنه بقي حتى اختلط قبل موته بأربع سنين.
ومات في هذه السنة.
668- عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي [4] :
سمع من ابن عمر، وابن عباس، وجمهور رواياته عن أبيه.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الباقي بإسناد لَهُ عن ابن عيينة، عن مسعر، قال: قال عون بن عبد الله:
كفى بك من الكبر أن ترى لك فضلا على من هو دونك.
قال عبد الله: وحدثني أبو معمر، قال: حدثنا سفيان، عن أبي هارون، قال:
__________
[1] طبقات ابن سعد 6/ 225، وقد جاء ذكره بدون ترجمة، والتاريخ الكبير 4/ 382، والجرح والتعديل 4/ 1203، وتاريخ بغداد 9/ 214، والأنساب للسمعاني 6/ 30، وسير أعلام النبلاء 5/ 245، وتهذيب التهذيب 4/ 232.
[2] في الأصل: «قبل أن تضو» . وما أوردناه من ت.
[3] طبقات ابن سعد الجزء المخطوط، وطبقات خليفة 257، والتاريخ الكبير 3/ 1585، والجرح والتعديل 4/ 251، وتهذيب ابن عساكر 6/ 171، وتاريخ الإسلام 5/ 80، وسير أعلام النبلاء 5/ 216، وتذكرة الحفاظ 1/ 116، وتهذيب التهذيب 4/ 38، وميزان الاعتدال 2/ 3187.
[4] طبقات ابن سعد 6/ 218، والجرح والتعديل 6/ 384 والتاريخ الكبير 4/ 1/ 13، وتقريب التهذيب.(7/226)
كان عون يحدثنا ولحيته ترش بالدموع.
669- عائشة بنت طلحة بن عبيد الله التيمي [1] :
أمها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق. روت عن عائشة أم المؤمنين خالتها.
وكانت فائقة الحسن، تزوجها عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بكر، فولدت له عمران، وعبد الرحمن، وأبا بكر، وطلحة، ونفيسة، ثم فارقت [2] زوجها ثم عادت إليه ثم توفي عنها، فما فتحت فاها عليه.
ثم تزوجها بعده مصعب بن الزبير وأمهرها خمسمائة ألف درهم وأهدى لها مثل ذلك. وكانت تكثر مخاصمته، ودخل عليها وهي نائمة بثماني لؤلؤات قيمتها عشرون ألف دينار فأيقظها ونثر اللؤلؤ في حجرها، فقالت له: نومتي كانت أحب إلي من هذا اللؤلؤ. ثم قتل عنها مصعب. فخطبها بشر بن مروان.
وقدم عُمَر بْن عبيد اللَّه بْن معمر التيمي من الشام، فنزل الكوفة، فبلغه أن بشرا خطبها، فأرسل إليها جارية لها، وقال لها: قولي لها ابن عمك يقرئك السلام ويقول لك أنا خير لك من هذا الميسور والمطحول، وإن تزوجت بك ملأت بيتك خيرا. فتزوجته فبنى بها بالحيرة.
وفي رواية أن بشرا بعث إليها عمر بن عبيد الله يخطبها، فقالت له: أما وجد بشر رسولا إلى ابنة عمك غيرك، فأين بك عن نفسك؟ قال: أو تفعلين؟ قالت: نعم، فتزوجها وحمل إليها ألف ألف درهم، خمسمائة ألف مهرا وخمسمائة ألف هدية، وقال لمولاتها: لك علي ألف دينار إن دخلت بها الليلة، فحمل المال فألقي في الدار وغطي بالثياب، وخرجت عائشة فقالت لمولاتها: ما هذا أفرش أم ثياب؟ قالت: انظري، فنظرت فإذا مال، فتبسمت فقالت لها: أجزاء [من حمل] [3] هذا أن يبيت عندنا، قالت:
لا والله ولكن لا يجوز دخوله إلا بعد أن أتزين له وأستعد، قالت: وبماذا فو الله لوجهك أحسن من كل زينة، وما تمدين يديك إلى طيب أو ثوب أو فرش إلا وهو عندك، وقد
__________
[1] طبقات ابن سعد 8/ 342.
[2] في الأصل: «ثم صارمت» .
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/227)
عزمت عليك أن تأذني له، قالت: افعلي، فذهبت إليه فقالت: بت ببيتنا الليلة، فجاءهم عند العشاء الآخرة، ومكثت معه ثماني سنين، وكانت تصف له مصعبا فيكاد يموت من الغيظ، فلما مات ندبته قائمة وقالت: كان أكرمهم علي وأمسهم رحما بي، فلا أتزوج بعده، وكانت المرأة إذا ندبت زوجها قائمة علم أنها لا تتزوج بعده، ودخلت على الوليد بن عبد الملك وهو بمكة، فقالت: يا أمير المؤمنين، مر لي بأعوان يكونون معي، فضم إليها جماعة يكونون معها، فحجت ومعها ستون بغلا وعليها الهوادج والرحال [1] ..
وحجت سكينة بنت الحسين، فكانت عائشة أحسن منها آلة وثقلا، فقال حادي عائشة يترنم:
عائش يا ذات البغال الستين ... لا زلت ما عشت غدا تحجين
فشق على سكينة، فنزل حاديها فقال:
عائش هذه ضرة تشكوك ... لولا أبوها ما اهتدى أبوك
فأمرت عائشة حاديها أن يكف، وكانت عائشة لما تأيمت تقيم بمكة سنة، وبالمدينة سنة، وتخرج إلى مال لها بالطائف وقصر لها فتتنزه. وقدمت على هشام بن عبد الملك، فقال: ما أقدمك؟ فقالت: حبست السماء قطرها، ومنع السلطان الحق، فأمر لها بمائة ألف درهم وردها إلى المدينة.
__________
[1] في الأصل: «الرحايل» . وما أوردناه من ت.(7/228)
ثم دخلت سنة أربع وعشرين ومائة
فمن الحوادث فيها أن جماعة [1] من شيعة بني العباس اجتمعوا بالكوفة، فغمز بهم، فأخذوا وحبسوا، [وفيهم] [2] بكير بن ماهان، فرأى بكير أبا مسلم صاحب دعوة بني العباس مع عيسى بن معقل العجلي، فقال: ما هذا الغلام؟ فقال: مملوك، فقال: بعنيه، فأعطاه أربعمائة [ألف] [3] درهم، وبعث به إلى إبراهيم فدفعه إبراهيم إلى موسى السراج، فسمع منه وحفظ واختلف إلى خراسان.
وفي هذه السنة: غزا سليمان بن هشام الصائفة، فلقي أليون ملك الروم فسلم وغنم.
وفيها: حج بالناس [4] محمد بن هشام بن إسماعيل، وَكَانَ عمال الأمصار في هذه السنة عمالها في السنين التي قبلها
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
670- عامر بن عبد الله بن الزبير بن العوام [5] :
روى عن أبيه وغيره من الصحابة، وعن جماعة من التابعين، وكان رجلا صالحا لا
__________
[1] تاريخ الطبري 7/ 198.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] في ت: «وحج بالناس في هذه السنة» .
[5] طبقات ابن سعد، الجزء الخطوط، والتاريخ الكبير 6/ 2951، وسير أعلام النبلاء، 5/ 219، وتاريخ(7/229)
يعرف الشر. أتي يوما بعطائه، فوضعه في المسجد ثم قام فنسيه [1] ، فذكر، فقال لخادمه: ادخل المسجد وائتني بعطائي، قال: وأين أجده؟ قال: سبحان الله أو يأخذ أحد ما ليس له؟
أخبرنا محمد بن أبي القاسم، قال: أخبرنا حمد بْن أَحْمَد، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عمر بن أحمد بن عثمان، قال: حدثنا محمد بن أحمد بن شيبان الرملي [2] ، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا عمران بن أبي عمران، قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول:
اشترى عامر بن عبد الله نفسه من الله عز وجل بتسع ديات.
أخبرنا عبد الوهاب الحافظ، قَالَ: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الْجَبَّارِ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَبُو بكر مُحَمَّد بْن علي بن الخياط [3] ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن يوسف، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن صفوان، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّهِ بْن محمد القرشي، قال: حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا قدامة، قال: سمعت أبا مودود يقول:
كان عامر بن عبد الله بن الزبير يتحين العباد وهم سجود: أبا حازم، وصفوان بن سليم، وسليمان بن سحيم وأشباههم، فيأتيهم بالصرة فيها الدنانير والدراهم، فيضعها عند نعالهم بحيث يحسون بها ولا يشعرون بمكانه، فيقال له: ما يمنعك أن ترسل بها إليهم؟ فيقول: [إني] [4] أكره أن يتمعر وجه أحدهم إذا نظر إلى رسولي وإذا لقيني.
أخبرنا الحسين بن محمد بن عبد الوهاب، قال: أخبرنا أبو جعفر بن المسلمة، قال: أخبرنا أبو طاهر المخلص، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن سُلَيْمَانَ بْنُ دَاوُدَ الطُّوسِيُّ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا الزُّبْيَرُ بن بكار، قال: حدثني عياش بن المغيرة، قال:
كان عامر بن عبد الله بن الزبير إذا شهد جنازة وقف على القبر، فقال: ألا أراك
__________
[ () ] الإسلام 5/ 91 والتهذيب، 5/ 74، والجرح والتعديل 6/ 1810.
[1] في ت: «بعطائه وهو في المسجد ثم قام ونسيه» .
[2] في الأصل: «البرمكي» وكتب الناسخ بعدها: «أو يكون الرمليّ لأن ختلف خط الأصل» وما أوردناه من ت وكتب الرجال.
[3] في الأصل: «علي بن الحافظ» . وما أوردناه من ت.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/230)
ضيقا، ألا أراك رقعا، ألا أراك مظلما، لئن سلمت لأتأهبن لك أهبتك، فأول شيء يراه من ماله يتقرب به إلى ربه، فإن كان [رقيقه] [1] ليتعرضون له عند انصرافه من الجنازة ليعتقهم.
قَالَ الزُّبَيْرُ: وَحَدَّثَنِي عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ الله، قال: سمع عامر بن عبد الله المؤذن وهو يجود بنفسه ومنزله قريب من المسجد، فقال: خذوا بيدي، فقيل له: إنك عليل، فقال: أسمع داعي الله فلا أجيب، فأخذوا بيده فدخل في صلاة المغرب فركع مع الإمام ركعة ثم مات.
671- محمد بن مسلم بن عبيد الله [2] بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب، أبو بكر الزهري [3] :
ولد سنة ثمان وخمسين، وهي السنة التي توفيت فيها عائشة رضي الله عنها.
وسمع جماعة من الصحابة، وأخذ عن ابن المسيب سنين وعن غيره. وجمع الفقه والحديث.
أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي الْبَزَّارُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَوْهَرِيُّ، قال: أخبرنا أبو عمرو بن حيوية، قال: أخبرنا أَبُو أَيُّوبَ سُلَيْمَانُ بْنُ إِسْحَاقَ الْخَلالُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ [أَبِي أُسَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا] [4] مُحَمَّدُ بن عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ:
نَشَأْتُ وَأَنَا غُلامٌ لا مَالَ لِي مِنَ الدِّيوَانِ، وَكُنْتُ أَتَعَلَّمُ نَسَبَ قَوْمِي مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ [5] ، وَكَانَ عَالِمًا بِنَسَبِ قَوْمِي، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ مِنَ الطَّلاقِ
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «محمد بن مسلمة بن عبد الله» ، والتصحيح من ت وكتب الرجال.
[3] طبقات ابن سعد (الجزء المخطوط) ، 2/ 2/ 135، وطبقات خليفة 261، وتهذيب التهذيب 9/ 444، وتذكرة الحفاظ 1/ 102، ووفيات الأعيان 1/ 451، وغاية النهاية 2/ 262، وصفة الصفوة 2/ 77، وحلية الأولياء 3/ 360، وتاريخ الإسلام للذهبي، 5/ 136، والبداية والنهاية 9/ 384.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت. والخبر في الطبقات (الجزء المخطوط) .
[5] في الأصل: «صغرة» ، وما أوردناه من كتب الرجال.(7/231)
فَعَيِيَ بِهَا وَأَشَارَ [لَهُ] [1] إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: أَلا أَرَانِي مَعَ هَذَا الرَّجُلِ الْمُسِنِّ [يَعْقِلُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ عَلَى رَأْسِهِ] [2] وَهُوَ لا يَدْرِي مَا هَذَا، فَانْطَلَقْتُ مَعَ السَّائِلِ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ، فَجَلَسْتُ إِلَى سَعِيدٍ وَتَرَكْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ ثَعْلَبَةَ وَجَالَسْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ [3] بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ حَتَّى فَهِمْتُ [4] ، فَرَحَلْتُ إِلَى الشَّامِ فَدَخَلْتُ مَسْجِدَ دِمَشْقَ فَأَتَيْتُ حَلَقَةً وِجَاهَ الْمَقْصُورَةِ فَجَلَسْتُ فِيهَا، فَنَسَبَنِي الْقَوْمُ، فَقُلْتُ: رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ سَاكِنِي الْمَدِينَةِ، قَالُوا: أَهَلْ لَكَ [عِلْمٌ] [5] بِالْحُكْمِ فِي أُمَّهَاتِ الأَوْلادِ؟ فَأَخْبَرْتُهُمْ بِقَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِمْ [6] ، فَقَالَ لِي الْقَوْمُ: هَذَا مَجْلِسُ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ وَهُوَ جَائيكَ، وَقَدْ سَأَلَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ هَذَا فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ عِلْمًا، فَجَاءَ قَبِيصَةُ فَأَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ، فَنَسَبَنِي فَانْتَسَبْتُ، وَسَأَلَنِي عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَنُظَرَائِهِ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: أَنَا أُدْخِلُكَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ.
فصلى الصُّبْحَ ثُمَّ انْصَرَفَ فَتَبِعْتُهُ، فَدَخَلَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَجَلَسْتُ عَلَى الْبَابِ سَاعَةً حَتَّى ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ خَرَجَ الآذَانَ فَقَالَ: أَيْنَ هَذَا الْمَدِينِيُّ الْقُرَشِيُّ؟
قَالَ: قُلْتُ: هَا أَنَا ذَا، قَالَ: فَقُمْتُ فَدَخَلْتُ مَعَهُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَجِدُ بَيْنَ يَدَيْهِ الْمُصْحَفَ قَدْ أَطْبَقَهُ وَأَمَرَ بِهِ فَرُفِعَ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ غَيْرُ قَبِيصَةَ جَالِس، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ بِالْخِلافَةِ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شِهَابٍ، فَقَالَ: أوه قَوْم يَغَارُونَ فِي الفتن. قال: وَكَانَ مُسْلِمُ بْنُ عُبَيْدِ [اللَّهِ] [7] مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، ثُمَّ قَالَ: مَا عِنْدَكَ فِي أُمَّهَاتِ الأَوْلادِ؟ فَأَخْبَرْتُهُ فَقُلْتُ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ- فقال:
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من ابن سعد (خط) .
[3] في الأصل: «عبد الله» . وما أوردناه من ت، وهو الصحيح.
[4] كذا في الأصلين، وفي طبقات ابن سعد: «فقهت» . وهو أحسن.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[6] في ت: «في أمهات الأولاد» وكذا ابن سعد.
[7] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.(7/232)
كَيْفَ سَعِيدُ بْنُ [الْمُسَيِّبِ] [1] ، وَكَيْفَ حَالِهِ؟ ثُمَّ قُلْتُ: - وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ، وَحَدَّثَنِي عُرْوَةُ، وَحَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، ثُمَّ حَدَّثْتُهُ الْحَدِيثَ فِي أُمَّهَاتِ الأَوْلادِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ. قَالَ: فَالْتَفَتُّ إِلَى قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ، فَقَالَ: هَذَا يُكْتَبُ بِهِ إِلَى الآفَاقِ، فَقُلْتُ: لا أَجِدُهُ أَخْلَى مِنْهُ السَّاعَةَ، وَلَعَلِّي لا أَدْخُلُ عَلَيْهِ بَعْدَ هَذِهِ الْمَرَّةِ، فَقُلْتُ: إِنْ رَأَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَصِلَ رَحِمِي وَأَنْ يَفْرِضَ لِي فَرَائِضَ أَهْلِ بَيْتِي، - فَإِنِّي رَجُلٌ لا دِيوَانَ لِي-، فَعَلْ، فَقَالَ: إِيهَا [2] الآنَ امْضِ لِشَأْنِكَ، فَخَرَجْتُ مُوئِسًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَرَجْتُ لَهُ، وَأَنَا حِينَئِذٍ مُقِلٌّ مُرْمِلٌ، فَجَلَسْتُ حَتَّى خَرَجَ قَبِيصَةُ فَأَقْبَلَ عَلَيَّ لائِمًا لِي، فَقَالَ لِي: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ مِنْ غَيْرِ أَمْرِي، أَلا اسْتَشَرْتَنِي؟ قُلْتُ: ظَنَنْتُ وَاللَّهِ أَنِّي لا أَعُودُ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ الْمَقَامِ، قَالَ: وَلِمَ [ظَنَنْتَ ذَلِكَ؟ تَعُودُ إِلَيْهِ] [3] ، فَالْحَقْ بِي. فَمَشَيْتُ خَلْفَ دَابَّتِهِ حَتَّى دَخَلَ مَنْزِلَهُ، فَقَلَّ مَا لَبِثَ حَتَّى خَرَجَ إِلَيَّ خَادِمُهُ [4] ، بِرُقْعَةٍ فِيهَا: هَذِهِ مِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ قَدْ أَمَرْتُ لَكَ بِهَا، وَبَغْلَةٌ تَرْكَبُهَا، وَغُلامٌ يَكُونُ مَعَكَ يَخْدِمُكَ، وَعَشَرَةُ أَثْوَابٍ كِسْوَة، فَقُلْتُ للرَّسُولِ: مِمَّنْ أَطْلُبُ هَذَا؟ فَقَالَ: أَلا تَرَى فِي الرُّقْعَةِ اسْمَ الَّذِي أَمَرَكَ أَنْ تَأْتِيَهُ؟ فَنَظَرْتُ فِي طَرَفِ الرُّقْعَةِ، فَإِذَا فِيهَا. تَأْتِي فُلانًا فَتَأْخُذُ مِنْهُ ذَلِكَ.
قَالَ: فَسَأَلْتُ عَنْهُ فَقِيلَ: قَهْرَمَانُهُ، فَأَتَيْتُهُ بِالرُّقْعَةِ فَأَمَرَ لِي بذلك من ساعته، فانصرفت وقد ريشني، فَغَدَوْتُ إِلَيْهِ مِنَ الْغَدِ وَأَنَا عَلَى بَغْلَتِهِ فَسِرْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَقَالَ:
احْضُرْ بَابَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى أُوَصِّلَكَ إِلَيْهِ، قَالَ: فَحَضَرْتُ فَأَوْصَلَنِي إِلَيْهِ، وَقَالَ: إِيَّاكَ أَنْ تُكَلِّمَهُ بِشَيْءٍ حَتَّى يَبْتَدِئَكَ وَأَنَا أَكْفِيكَ أَمْرَهُ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ بِالْخِلافَةِ فَأَوْمَأَ إِلَيَّ أَنِ اجْلِسْ، فَلَمَّا جَلَسْتُ ابْتَدَأَ عَبْدُ الْمَلِكِ الْكَلامَ، فَجَعَلَ يُسَائِلُنِي عَنْ أَنْسَابِ قُرَيْشٍ، فَلَهُوَ كَانَ أَعْلَمَ بِهَا مِنِّي. قَالَ: وَجَعَلْتُ أَتَمَنَّى أَنْ يَقْطَعَ ذَاكَ لِتَقَدُمِّهِ عَلَيَّ فِي الْعِلْمِ بِالنَّسَبِ، ثُمَّ قَالَ: قَدْ فَرَضْتُ لَكَ فَرَائِضَ أَهْلِ بَيْتِكَ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى قَبِيصَةَ فَأَمَرَهُ أَنْ يُثْبِتَ ذَلِكَ فِي الدَّوَاوِينِ.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «إيه الآن» . وما أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين: من ابن سعد.
[4] في ت: «خادم» وكذا في ابن سعد.(7/233)
فَلَمَّا خَرَجَ قَبِيصَةُ قَالَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ أَمَرَ أَنْ تُثْبَتَ فِي صَحَابَتِهِ وَأَنْ يَجْرِيَ عَلَيْكَ رِزْقُ الصَّحَابَةِ، وَأَنْ تُرْفَعَ فَرِيضَتُكَ إِلَى أَرْفَع مِنْهَا، فَالْزَمْ بَابَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ.
قَالَ: وَكَانَ عَلَى عرضِ الصَّحَابَةِ رَجُلٌ فَظٌّ غَلِيظٌ، فَتَخَلَّفْتُ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ فَجَبَهَنِي جَبْهًا شَدِيدًا، فَلَمْ أَعُدْ لِذَلِكَ التَّخَلُّفِ. وَجَعَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ يَقُولُ: مَنْ لَقِيتَ؟ فَجَعَلْتُ أُسَمِّي لَهُ وَأُخْبِرُهُ بِمَنْ لَقِيتُ مِنْ قُرَيْشٍ لا أَعْدُوهُمْ، قَالَ: فَأَيْنَ أَنْتَ عَنِ الأَنْصَارِ فَإِنَّكَ وَاجِدٌ عِنْدَهُمْ عِلْمًا؟ أَيْنَ أَنْتَ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ [بْنِ ثَابِتٍ] [1] ؟ أَيْنَ أَنْتَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ؟ فَسَمَّى رِجَالا، فَقَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَسَأَلْتُهُمْ وَسَمِعْتُ مِنْهُمْ.
وتوفي عبد الملك فلزمت الوليد حتى توفي، ثم سليمان، ثم عمر، ثم يزيد..
واستقضى يزيد الزهري وسليمان بن حبيب.
قال: وحج هشام سنة ست ومائة، وحج معه الزهري، فصيره هشام مع ولده يعلمهم ويفقههم ويحدثهم، فلم يفارقهم حتى مات [2] .
قال ابن سعد: وأخبرنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي، قال: حدثني إبراهيم بن سعد، عن أبيه، قال:
ما أرى أحدا أجمع بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما جمع ابن شهاب [3] .
قال: وأخبرنا مطرف بن عبد الله اليساري، قال: سمعت [مالك] [4] بن أنس يقول:
ما أدركت بالمدينة فقيها محدثا غير واحد، فقلت: من هو؟ قال: ابن شهاب الزهري.
وفي رواية عن مالك قال: أول من دون العلم ابن شهاب.
وقال أيوب: ما رأيت أحدا أعلم من الزهري.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] «حتى مات» ساقطة من ت.
[3] الخبر في الطبقات.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت، والخبر في ابن سعد.(7/234)
وقال عمرو بن دينار: ما رأيت أحدا أهون عليه الدينار [1] والدرهم من الزهري.
توفي ابن شهاب في رمضان هذه السنة بأدامى وهي من أعمال فلسطين وهو ابن خمس وسبعين، وأوصى أن يدفن على قارعة الطريق.
672- نصر بن عمران، أبو جمرة الضبعي [2] :
قال: كنت أدفع الزحام عن ابن عباس فحممت أياما فتأخرت، فلما حضرته سألني عن تأخري فأخبرته بالحمى، فَقَالَ: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء» . توفي في هذه السنة.
__________
[1] في ت: «قال أيوب: ما رأيت أحدا أهون عليه الدينار» . بإسقاط ما بينها.
[2] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 6، والجرح والتعديل 8/ 465، والتاريخ الكبير 4/ 2/ 104.(7/235)
ثم دخلت سنة خمس وعشرين ومائة
فمن الحوادث فيها غزوة النعمان بن يزيد بن عبد الملك الصائفة.
وفيها: مات هشام بن عبد الملك، وولي الوليد بن يزيد بن عبد الملك.
باب ذكر خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك
عقد يزيد بن عبد الملك الخلافة [1] لولده الوليد بعد أخيه هشام بن عبد الملك، وكان يومئذ ابن إحدى عشرة سنة، فلم يمت يزيد حتى بلغ ابنه خمس عشرة سنة، فندم على استخلافه هشاما، وولي هشام وهو للوليد مكرم معظم، فظهر من الوليد لعب وشرب للشراب [2] ، واتخذ ندماء، فولاه هشام الحج سنة ست عشرة ومائة، فحمل معه كلابا في صناديق، وعمل قبة على قدر الكعبة ليضعها على الكعبة وحمل معه خمرا وأراد أن ينصب القبة على الكعبة ويجلس فيها، فخوفه أصحابه، فجمع المغنين بمكة، وتشاغل باللهو.
__________
[1] في الأصل: «الملك لولده» . وما أوردناه من ت.
[2] في ت: «وشرب من الشراب» .(7/236)
أنبأنا علي بن عبيد الله بن نصر، قال: أنبأنا أبو جعفر بن المسلمة، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الحسين ابْن أخي ميمي، قال: أخبرنا أبو مسلم بن مهدي، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن قارن، قال: حدثنا علي بن الحسن الهسنجاني [1] ، قال: حدثنا أصبغ بن الفرج، قال: سمعت ابن عيينة يحدث:
أن الوليد بن يزيد كان أمر بقبة من حديد أن تعمل وتركب على أركان الكعبة ويخرج لها أجنحة لتظلله [2] إذا حج وطاف، فعملت ولم يبق إلا أن تركب، فقام الناس في ذلك- الفقهاء والعباد-، وغضبوا في ذلك [3] وتكلموا وقالوا: لا يكون هكذا قط [4] ، وكان من أشدهم في ذلك كلاما وقياما سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن، وكتب إلى الوليد بذلك، فكتب: أن اتركوها، فقال سعد بن إبراهيم عند ذلك: ليس إلا هذا لاها الله حتى يصنع بها كما صنع بالعجل لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا، النار النار، فدعي بالنار حتى أحرقت.
أخبرنا محمد بن أبي منصور، قال: أنبأنا علي بن أحمد بْن البسري، عن أبي عبد الله بْن بطة العكبري، قال: حدثني أبو صالح محمد بن أحمد، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ، قَالَ: حدثنا الواقدي، قال: حدثنا موسى بن أبي بكر، عن صالح بن كيسان:
أن الوليد ولى سعد بن إبراهيم على قضاء المدينة، وأراد الوليد الحج، فاتخذ قبة من ساج ليجعلها حول الكعبة ليطوف هو ومن أحب من أهله ونسائه فيها، وكان فظا متجبرا، فأراد بزعمه أن يطوف فيها حول الكعبة، ويطوف الناس من وراء القبة، فحملها على الإبل من الشام، ووجه معها قائدا من قواد أهل الشام في ألف فارس، وأرسل معه مالا يقسمه في أهل المدينة، فقدم بها فنصبت في مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففزع لذلك أهل المدينة ثم اجتمعوا فقالوا: إلى من نفزع في هذا الأمر، فقالوا: إلى سعد بن إبراهيم، فأتاه الناس فأخبروه الخبر، فأمرهم أن يضرموها بالنار [5] ، فقالوا: لا
__________
[1] في الأصل: «الفنسجاني» خطأ. وما أوردناه من ت وكتب الرجال.
[2] في ت: «أجنحة لتظله» .
[3] في ت: «وغضبوا له» .
[4] في ت: «لا تكونوا هذا قط» .
[5] في الأصل: «أن يضرموها بالنار» . وما أوردناه من ت.(7/237)
نطيق ذلك، معها قائد في ألف فارس من أهل الشام، فدعى مولى له فقال: هلم الجراب، فأتاه بجراب فيه درع عبد الرحمن التي شهد فيها بدرا، فصبها عليه وقال لغلامه: هلم بغلتي، فأتاه ببغلته فركبها، فما تخلف عنه يومئذ قرشي ولا أنصاري حتى إذا أتاه قال: علي بالنار، فأتي بنار فأضرمها فيها، فغضب القائد وهم بالخصومة، فقيل له: هذا قاضي أمير المؤمنين ومعه الناس ولا طاقة لك به، فانصرف راجعا إلى الشام، وشبع عبيد أهل المدينة من الناطق مما استلبوه من حديدها.
فلما بلغ ذلك الوليد كتب إليه: ول القضاء رجلا وأقدم علينا، فولى القضاء رجلا وركب حتى أتى الشام، فأقام ببابه أشهرا لا يؤذن له حتى نفذت نفقته، وأضر به طول المقام، فبينا هو ذا عشية في المسجد إذا هو بفتى في جبة صفراء سكران، فقال [1] : ما هذا؟ قالوا: هذا خال أمير المؤمنين سكران يطوف في المسجد، فقال لمولى له: هلم بالسوط، فأتاه بسوطه، فقال [2] : علي به، فأتي به فضربه في المسجد ثمانين سوطا، وركب بغلته ومضى راجعا إلى المدينة، فأدخل الفتى على الوليد مجلودا، فقال: من فعل هذا به؟ قالوا: مديني كان في المسجد، فقال: علي به، فلحق على مرحلة، فدخل عليه، فقال أبا إسحاق: ماذا فعلت يا ابن أخيك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنك وليتنا أمرا من أمورك، وإني رأيت حد الله ضائعا، سكران يطوف في المسجد وفيه الوفود ووجوه الناس، وكرهت أن يرجع الناس عنك بتعطيل الحدود، فأقمت عليه حده، فقال: جزاك الله خيرا، وأمر له بمال وصرفه إلى المدينة ولم يذاكره شيئا من أمر القبة ولا عن فعله فيها.
ولما ظهر من الوليد تهاون بالدين طمع [3] فيه هشام وأراد خلعه والبيعة لابنه [مسلمة بن هشام فأبى فتنكر له هشام وعمل سرا في البيعة لابنه] [4] وتمادى الوليد في الشراب فأفرط، فقال له هشام: ويحك يا وليد، ما أدري أعلى الإسلام أنت أم لا، ما تدع شيئا من المنكر إلا أتيته غير متحاش، فكتب إليه الوليد يقول:
__________
[1] في الأصل: «فقالوا» . وما أوردناه من ت
[2] «هلم بالسوط فأتاه بسوطه فقال» . ساقطة من ت.
[3] في ت: «ولما ظهر من تهاون الوليد بالدين طمع» .
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/238)
يا أيها السائل عن ديننا ... ديني على دين أبي شاكر
نشربها صرفا وممزوجة ... بالسخن أحيانا وبالفاتر [1]
فغضب هشام على ابنه مسلمة، وكان يكنى أبا شاكر، وقال له: يعيرني بك الوليد وأنا أرشحك للخلافة فالزم الأدب واحضر الجماعة، وولاه الموسم سنة تسع عشرة ومائة، فأظهر النسك والوقار، وقسم بمكة والمدينة أموالا، فلما رأى الوليد تقصير هشام في حقه خرج في ناس من خاصته ومواليه، فنزل بالأزرق من أرض بلقين وفزارة على ماء يقال له الأغدق [2] ، وخلف كاتبه عياض بن مسلم وقال له: اكتب إلي ما يحدث قبلكم، فقطع هشام ما كان يجري على الوليد، وضرب عياضا ضربا مبرحا، فلم يزل الوليد مقيما بتلك البرية حتى مات هشام، ووصلت إليه الخلافة، فسأل عن كاتبه عياض، فقيل: يا أمير المؤمنين لم يزل محبوسا، حتى نزل أمر الله بهشام، فلما صار في حد لا ترجى الحياة لمثله أرسل عياض إلى الخزان احتفظوا بما في أيديكم، ولا يصلن أحد منه إلى شيء، فأفاق هشام إفاقة، فطلب شيئا فمنعوه، فقال: أرانا كنا خزانا للوليد، ثم مات من ساعته.
فخرج عياض من السجن، فختم أبواب الخزائن، وأمر بهشام فأنزل عن فرشه، فما وجدوا قمقما يسخن له فيه الماء حتى استعاروه، ولا وجدوا كفنا من الخزائن، وكفنه غالب مولى هشام.
فولي الوليد الخلافة يوم السبت في شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة.
هذا قول هشام بن محمد.
وقال الواقدي: استخلف يوم الأربعاء لست خلون من ربيع الآخر، ولما ولي الوليد ويكنى أبا العباس وكانت أمه يقال لها أم الحجاج بنت محمد بن يوسف بن الحكم أخي الحجاج بن يوسف- وكان أبيض أحمر أعين جميلا، قد شاب، طويل أصابع الرجلين يوتر له سكة حديد فيها خيط، ويشد الخيط في رجله ثم يثب على الدابة
__________
[1] في الأغاني 7/ 8: وقال: «بل قال ذلك عبد الصمد بن عبد الأعلى ونحلة إياه» .
[2] كذا في الأصلين، وفي الطبري 7/ 211: «الأغدف» .(7/239)
فينتزع السكة ويركب، ما يمس الدابة بيده. وكان عالما باللغة والشعر، فمن شعره.
قوله:
شاع شعري في سليمى وظهر ... ورواه كل بدو وحضر
فتهاداه العذارى بينها ... وتغنين به حتى اشتهر
قلت قولا في سليمى معجبا ... مثلما قال جميل وعمر
لو رأينا لسليمى أثرا ... لسجدنا ألف ألف للأثر
واتخذناها إماما مرتضى ... ولكانت حجنا والمعتمر
إنما بنت سعيد قمر ... هل خرجنا إن سجدنا للقمر
وسلمى هذه بنت سعيد بن خالد بن عثمان بن عفان، وكانت أخت امرأته، ولم يكن لجمالها نظير، وأحبها وطلق أختها حتى تزوجها في الخلافة، وله فيها أيضا:
إن القرابة والمودة ألفا ... بين الوليد وبين بنت سعيد
سلمى هواي ولست أذكر غيرها ... دون الطريف ودون كل تليد
ومن شعره:
أنا الوليد أبو العباس قد علمت ... عليا معد مدى [1] كري وإقدامي
إني لفي الذروة العليا إذا انتسبوا [2] ... مقابل بين أخوالي وأعمامي [3]
حللت من جوهر الأغراض قد علموا ... في باذخ مشمخر العز قمقام [4]
وكان مقبلا على اللهو والشراب والأغاني حتى إنه أحضر معبدا المغني من المدينة، فحضر وهو على بركة مملوءة خمرا، فغناه فقذف نفسه في البركة فنهل منها ثم خرج فتلقي في الثياب والمجامر [5] ، فأعطاه خمسة عشر ألف دينار، وقال: انصرف بها إلى أهلك واكتم ما رأيت.
[وقد روى أبو عبيدة المرزباني، قال: حدثنا أحمد بن كامل، قال: كان الوليد بن
__________
[1] في الأصل: «بدى» . وما أوردناه من الأغاني.
[2] في الأصل: «إذا نسبوا» .
[3] في الأصل: «أخوال وأعمام» . وما أوردناه من الأغاني.
[4] في الأصل: «في بادخ مسمر العز قمقام» .
[5] في الأصل: «بالثياب» ، وما أوردناه من ت.(7/240)
يزيد زنديقا، وأنه فتح المصحف يوما فرأى فيه (وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) 14: 15 [1] فألقاه ورماه بالسهام، وقال:
تهددني بجبار عنيد ... فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشر ... فقل يا رب حرقني الوليد] [2]
وَقَدْ أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُصَيْنِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ [بْنِ] [3] الْمُذْهِبِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَيَّاشٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي الأَوْزَاعِيُّ، وَغَيْرُهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: وُلِدَ لأَخِي أُمِّ سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم غُلامٌ فَسَمَّوْهُ الْوَلِيدَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«سَمَّيْتُمُوهُ اسْمَ فَرَاعِينِكُمْ لَيَكُونَنَّ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْوَلِيدُ هُوَ شَرٌّ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ مِنْ فِرْعَوْنَ لِقَوْمِهِ» . وفي رواية عن الأوزاعي، قال: سألت عن هذا الحديث الزهري، فقال: إن استخلف الوليد بن يزيد وإلا فهو الوليد بن عبد الملك.
قال مؤلف الكتاب رحمه الله [4] : والوليد بن يزيد أحق من الوليد بن عبد الملك، وكان الوليد بن يزيد مشهورا بالإلحاد، مبارزا بالعناد، مطرحا للدين، وإنما قال عليه السلام: «سميتموه بأسماء فراعينكم» لأن اسم فرعون موسى الوليد.
فلما ولي الوليد زاد ما كان يفعله من اللهو، وكتب إلى العباس بن عبد الملك بن مروان أن يأتي الرصافة فيحصي ما فيها من أموال هشام وولده، ويأخذ عماله وحشمه إلا مسلمة بن هشام فإنه كتب إليه [5] : لا يعرض له ولا يدخل منزله، فإنه كان يكثر أن
__________
[1] سورة: إبراهيم، الآية: 15.
[2] اختلفت رواية الشعر في كتب المراجع، راجع الأغاني 7/ 60، والكامل 4/ 486، وما بين المعقوفتين:
ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين: من ت.
[4] في ت: «قال المنصف» .
[5] في الأصل: «فإنه كان إليه» . والتصحيح من ت.(7/241)
يكلم أباه في الرفق ويكفه. فقدم العباس الرصافة فأحكم ما كتب به الوليد إليه.
واستعمل الوليد العمال، وجاءت بيعته من الآفاق، وأقبلت إليه الوفود وأجرى على زمنى أهل الشام وعميانهم، وكساهم، وأمر لكل إنسان منهم بخادم، وأخرج لعيالات الناس الطيب والكسوة وزادهم على ما كان يخرج لهم هشام، وزاد الناس جميعا في العطاء عشرات ثم زاد أهل الشام بعد زيادة العشرات عشرة عشرة لأهل الشام خاصة، وزاد من وفد إليه من أهل بيته في جوائزهم الضعف.
وفي جمادى الآخرة من هذه السنة، وذلك بعد شهرين من ولايته عقد البيعة لابنيه الحكم وعثمان بعده، وجعلهما وليي عهده أحدهما بعد الآخر، [وجعل الحكم مقدما على عثمان] [1] ، وقلد الحكم الشام [2] ، وعثمان حمص، وكتب بذلك إلى الأمصار، وكان ممن كتب إليه بذلك يوسف بن عمر، وهو عامل الوليد يومئذ على العراق، وكتب بذلك يوسف إلى نصر بن سيار ليبايع الناس لهما.
وفي هذه السنة [3] : ولى الوليد بن يزيد نصر بن سيار خراسان كلها وأفرده بها ثم وفد يوسف بن عمر على الوليد فاشترى نصرا وعماله منه، فرد إليه ولاية خراسان، فكتب يوسف بن عمر إلى نصر بن سيار يأمره بالقدوم عليه، ويحمل ما قدر عليه من الهدايا والأموال، وأن يقدم عليه بعماله أجمعين، فلما أتى نصرا كتابه قسم على أهل خراسان الهدايا وعلى عماله، فلم يدع بخراسان جارية ولا عبدا ولا برذونا فارها إلا أعده، واشترى ألف مملوك وأعطاهم السلاح وحملهم على الخيل، وأعد خمسمائة وصيفة، وأمر بصياغة الأباريق [4] من الذهب والفضة، وتماثيل الظباء [5] ، ورءوس السباع، والأيايل وغير ذلك. فلما فرغ من ذلك كله كتب إليه الوليد يستحثه، فسرح الهدايا حتى بلغ أوائلها بيهق، وكتب إليه الوليد يأمره أن يبعث إليه ببرابط وطنابير وأباريق ذهب وفضة، وأن يجمع كل صناجة [6] بخراسان [وكل بازي وبرذون فاره، ثم يسير بذلك كله
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] في ت: «وقلد الحكم دمشق» .
[3] تاريخ الطبري 7/ 224.
[4] في الأصل: «بصياغة الأباريق» . وفي ت والطبري: «بصنعة أباريق» .
[5] في ت: «وتماثيل الأطيار» .
[6] في ت: «صنّاعه» .(7/242)
بنفسه ووجوه خراسان] [1] فلم يزل يتوقف [2] حتى وقعت الفتنة، فتحول نصر إلى قصره بما حاز [3] ، وكان قد أتاه آت وأخبره أن الوليد قد قتل، ووقعت الفتنة بالشام.
وفي هذه السنة: وجه الوليد بن يزيد خاله يوسف بن محمد بن يوسف الثقفي واليا على المدينة ومكة والطائف، ودفع إليه إبراهيم ومحمد ابني هشام بن إسماعيل المخزومي موثقين [4] في عباءتين وأقامهما للناس في المدينة، ثم كتب الوليد إليه يأمره أن يبعث بهما إلى يوسف بن عمر وهو يومئذ عامله على العراق، فلما قدما عليه عذبهما حتى قتلهما، وقد كان رفع عليهما عند الوليد أنهما أخذا مالا كثيرا [5] .
وفي هذه السنة: عزل يوسف بن محمد سعد بن إبراهيم عن قضاء المدينة، وولاها يحيى بن سعيد الأنصاري.
وفيها: قدم سليمان بن كثير ومالك بن الهيثم وقحطبة بن شبيب فلقوا محمد بن علي- في بعض قول أهل السير- فأخبروه بقصة أبي مسلم وما رأوا منه، فقال لهم: أحر هو أم عبد؟ فقالوا: أما عيسى فيزعم أنه عبد، وأما هو فيزعم أنه حر، فاشتروه وأعتقوه وأعطوا محمد بن علي مائتي ألف درهم، وكسى بثلاثين ألف درهم، فقال لهم: ما أظنكم تلقوني بعد عامكم هذا، فإن حدث بي حدث فصاحبكم إبراهيم بن محمد فإني أثق به لكم، وأوصيكم به خيرا، وقد أوصيته بكم فصدروا من عنده.
وفيها: قتل يحيى بن زيد بن علي بخراسان، وقد ذكرنا أنه مضى بعد موت أبيه إليها، وأقام ببلخ عند الحريش بن عمر وحتى هلك هشام وولي الوليد، فكتب يوسف بن عمر إلى نصر بن سيار ليأخذ الحريش [بن عمرو] [6] ، فبعث نصر إلى عقيل بن معقل العجلي يأمره بأخذ الحريش، فأخذه فسأله عن يحيى، فقال: لا علم لي به، فجلده ستمائة سوط، فقال ابنه: لا تقتل أبي وأنا أدلك عليه، فدله، فإذا هو في
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] تاريخ الطبري 7/ 225: «فلم يزل يتباطأ» .
[3] في ت والطبري: «بما جان» .
[4] في الأصل: «موثوقين» ، والتصحيح من الطبري وت.
[5] «حتى قتلهما.... مالا كثيرا» . ساقط من ت.
[6] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/243)
جوف بيت، فأخذه فجاء كتاب الوليد بتخليته، فدعاه نصر فأمره بتقوى الله وحذره الفتنة وأمره أن يلحق بالوليد، وأمر له بألفي درهم وبغلين، فمضى حتى انتهى إلى سرخس، فأقام بها، فأخرجه واليها وبعث نصر بن سيار سلم بن أحوز في طلب يحيى بن زيد، فبعث سلم سورة بن محمد الكندي فلقيه فقاتله فقتله وقتل أصحابه وأخذ رأسه.
وفيها: حج بالناس [1] يوسف بن محمد بن يوسف الثقفي، وكانت عمال الأمصار في هذه السنة عمالها في السنة التي قبلها.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
673- صالح بن أبي صالح، مولى التوأمة، يكنى أبا عبد الله [2] :
واسم أبي صالح نبهان، والتوأمة بنت أمية بن خلف الجمحي، ولدت مع أخت لها توأمين، وهي أعتقت أبا صالح. روى عن أبي هريرة، وحديثه قليل ضعيف.
توفي في هذه السنة.
674- مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ العباس بن عبد المطلب [3] :
أمه العالية بنت عبيد الله بن العباس، وكان بينه وبين أبيه في السن أربعة عشر سنة، وكان أشبه الناس به، لا يفرق بينهما إلى أن خضب علي، فعرف بخضابه، وكان له من الولد اثنا عشر ذكرا وخمس بنات فمن الذكور: إبراهيم الإمام، وإليه أوصى، فقام بالإمامة من بعده. وعبد الله السفاح، وعبد الله المنصور، وعبد الله الأصغر، وإسماعيل، وموسى، وداود، وعبيد الله، والعباس، ويعقوب، ويحيى ومن الإناث: بريهة، وريطة، والعالية، ولبابة، وأم حبيب.
ومحمد بن علي أول من نطق بالدولة العباسية، وأول من دعي إليه من بني
__________
[1] في ت: «وحج بالناس في هذه السنة» .
[2] طبقات ابن سعد (مخطوط) ، وتهذيب التهذيب 4/ 406.
[3] طبقات ابن سعد (مخطوط) ، والتاريخ الكبير 1/ 1/ 183، والجرح والتعديل 7/ 301، والبداية والنهاية 10/ 5.(7/244)
العباس وسمي بالإمام، وكوتب وأطيع. وكان ذلك في سنة تسع وثمانين في خلافة الوليد بن عبد الملك.
وكان عبد الله بن محمد بن الحنفية قد أوصى إليه ورفع إليه كتبه وقال: إنما الأمر في ولدك.
فتوفي محمد بن علي قبل تمام الدعوة في ذي القعدة من هذه السنة، وكان بين وفاته ووفاة أبيه سبع سنين، وبلغ من العمر ستين، وقيل: ثلاثا وستين، وأوصى إلى ابنه إبراهيم، فسمى الإمام.
675- محمد بْن عَبْد الرحمن بْن عَبْد اللَّه بْن حارثة بن النعمان [1] :
أمه عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة. ويكنى أبا الرجال، وإنما كني بذلك لأجل ولده، وكان له عشرة ذكور، وروى عن أنس وأمه، وكان ثقة، روى عنه مالك الفقيه.
وثم آخر اسمه سالم ويكنى أبا الرجال [2] ، روى عن عطاء، وروى عنه الفضل بن غزوان، لا يعلم من يكنى أبا الرجال سوى هذين.
فأما من يكنى أبا الرحال- بالحاء المهملة المشددة [3] فثلاثة: أبو الرحال عقبة بن غزوان، لا يعلم من يكنى أبا الرجال سوى هذين.
فأما من يكنى أبا الرحال- بالحاء المهملة المشددة [3] فثلاثة: أبو الرحال عقبة بن عبيد الطائي، كوفي رأى أنس بن مالك. وأبو الرحال خالد بن محمد الأنصاري، يروي عن النضر بن أنس الخزرجي، قال البخاري: هو منكر الحديث. وأبو الرحال سمع [الحسن] [4] ، حديثه مرسل، روى عنه أبو نعيم.
676- معبد بن وهب بن قطن، أبو عباد المغني: [5]
الذي كان يضرب به المثل في الغناء، وكان من أحسن الناس غناء وأجودهم صناعة، مولى العاص بن وابصة المخزومي. وقيل: هو مولى معاوية بن أبي سفيان
__________
[1] الجرح والتعديل 7/ 317، وطبقات ابن سعد (مخطوط) ، وتهذيب التهذيب 9/ 295.
[2] في الأصل: «وثم آخر اسمه أبا الرجال سالم» .
[3] في الأصل: «المهملة المشهورة» . وما أوردناه من ت.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[5] الأغاني 1/ 43، وتاريخ الإسلام 5/ 165، ورغبة الآمل 6/ 4، 17.(7/245)
رضي الله عنه. خلاسيا [1] مديد القامة أحول، وكان أبوه أسود. عاش معبد حتى كبر وانقطع صوته، توفي في عسكر الوليد بن يزيد عن خمس وثمانين سنة، فمشى الوليد بين يدي جنازته.
677- هشام بن عبد الملك بن مروان:
مرض بالذبحة، قال سالم أبو العلاء: خرج علينا هشام يوما وهو كئيب، فسألته عن حاله، فقال: لا أغتم وقد زعم أهل العلم أني ميت إلى ثلاث وثلاثين يوما. قال:
فلما استكمل الأيام إذا خادم يدق الباب يقول: أجب أمير المؤمنين واحمل معك دواء الذبحة، وقد كان أخذه مرة فعولج به فأفاق، فخرجت ومعي الدواء فتغرغر به فازداد الوجع شدة ثم سكن، فانصرفت إلى أهلي فما كان إلا ساعة حتى سمعت الصراخ، فقالوا: مات. فأغلق الخزان الأبواب، فطلبوا له قمقما يسخن فيه الماء فما وجدوه حتى استعاروه من بعض الخزان.
قال علماء السير: لما رأى هشام أولاده حوله يبكون في مرضه، قال: جاد لكم هشام بالدنيا وجدتم عليه بالبكاء، وترك لكم ما جمع وتركتم عليه ما اكتسب، ما أعظم منقلب هشام إن لم يغفر الله له.
وكان قد خلف سبعمائة ضيعة وكان له الهني والمري [2] بالرقة، وكانا يرفعان عشرة آلاف ألف، وهو الذي احتفر الهني.
ووحد له اثنا عشر ألف قميص ولم يوجد له إلا أربعة أرؤس من الدواب، ونعلان [3] وبضعة عشر خادما.
قال أبو معشر: كانت وفاته لست ليال خلون من ربيع الآخر. وكانت خلافته تسع عشرة سنة وثمانية أشهر ونصف.
وقال المدائني وابن [الكلبي] [4] : وسبعة أشهر وأحد عشر يوما.
واختلفوا في مبلغ سنه، فقال هشام بن محمد: كان له خمس وخمسون سنة.
وقال الواقدي: أربع وخمسون، وقال غيره: اثنتان وخمسون.
وكانت وفاته بالرصافة وبها قبره، وصلى [عليه] [4] ابنه مسلمة.
__________
[1] الخلاسي: من كان من أبوين أبيض وأسود.
[2] هما نهران بإزاء الرقة والرافقة.
[3] في ت: «بغلان» .
[4] ما بين المعقوفتين: من ت.(7/246)
ثم دخلت سنة ست وعشرين ومائة
فمن الحوادث فيها قتل خالد بن عبد الله القسري [1] ، وكان قد عمل لهشام خمس عشرة سنة إلا [ستة] [2] أشهر على العراق، وخراسان، فلما ولي يوسف بن عمر أخذه وحبسه وعذبه لأجل انكسار الخراج، فكتب هشام بتخلية سبيله فخلي سبيله في شوال سنة إحدى وعشرين فخرج إلى ناحية هشام فلم يأذن له في القدوم عليه، وخرج زيد بن علي فقتل.
وكتب يوسف إلى هشام: إن أهل هذا البيت من بني هاشم قد كانوا هلكوا جوعا حتى كانت لقمة أحدهم قوت عياله. فلما ولي خالد العراق أعطاهم الأموال، فقووا بها، فتاقت نفوسهم إلى طلب الخلافة، وما خرج زيد إلا عن رأى خالد، فقال لرسوله:
كذبت وكذب من أرسلك، لسنا نتهم خالدا في طاعة، وأقام خالد بدمشق حتى هلك هشام.
وقام الوليد فكتب إلى خالد أن أمير المؤمنين قد علم حال الخمسين ألف ألف، فأقدم على أمير المؤمنين، فقدم فقال له: أين ابنك؟ قال: كنا نراه عند أمير المؤمنين، قال: لا ولكنك خلفته للفتنة، فقال: قد علم أمير المؤمنين أنا أهل بيت طاعة، فقال:
لتأتين به أو لأزهقن نفسك، فقال له: هذا الذي أردت وعليه عولت، والله لو كان تحت قدمي ما رفعتها، فأمر الوليد صاحب حرسه بتعذيبه، فعذبه فصبر [فحبسه] [3] ، فقدم يوسف بن عمر فقال: أنا أشتريه بخمسين ألف ألف، فأرسل الوليد إلى خالد يخبره ويقول: إن كنت تضمنها وإلا دفعتك إليه [4] ، فقال: ما عهدت العرب تباع.
__________
[1] تاريخ الطبري 7/ 254.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] في ت: «دفعتها إليه» .(7/247)
فدفعه إلى يوسف فعذبه مرارا، ثم أتى بعود فوضعه على قدميه، وقامت عليه الرجال حتى كسرت قدماه، فو الله، ما تكلم ولا عبس، ثم على ساقيه حتى كسرتا، ثم على فخذيه، ثم على حقويه، ثم على صدره حتى مات.
ودفن بناحية الحيرة، وذلك في المحرم سنة ست وعشرين ومائة.
وفيها: قتل الوليد بن يزيد [1] ، قد ذكرنا أن الوليد كان مشتغلا باللعب واللهو، معرضا عن الدين قبل الخلافة، فلما وليها زاد ذلك فثقل أمره على رعيته وكرهوه، ثم ضم إلى ذلك أنه فسد أمره مع بني عمه ومع اليمانية وهي أعظم جند الشام، فضرب سليمان بن هشام مائه سوط، وحلق رأسه ولحيته وغربه إلى عمان فحبسه بها، فلم يزل بها حتى قتل الوليد، وغضب الوليد على خالد بن عبد الله، وكان يسميه يوسف الفاسق، ورماه بنو هاشم بالكفر والزندقة وغشيان أمهات [أولاد] [2] أبيه. وقالوا إنه اتخذ مائة جامعة، وكتب على كل جامعة اسم رجل من بني أمية ليقتله بها، وكان أشدهم فيه قولا ابن عمه يزيد بن الوليد بن عبد الملك، وكان الناس إلى قوله أميل، لأنه كان يظهر النسك ويقول: ما يسعنا الرضى بالوليد، حتى حمل الناس على الفتك به، وأجمع على قتله قوم من قضاعة واليمانية من أهل دمشق خاصة، فأتى قوم منهم خالد بن عبد الله، فدعوه إلى أمرهم فلم يجبهم، قالوا: فاكتم علينا، قال: لا أسمي أحدا منكم.
ثم إن الوليد أراد الحج، فخاف خالد أن يفتكوا به في الطريق، فقال: يا أمير المؤمنين أخر الحج العام. قال: ولم؟ فلم يخبره، فأمر بحبسه وأن يستأدي ما عليه من أموال العراق، وبايع الناس يزيد بن الوليد سرا، واجتمع عليه أكثر أهل دمشق، وأجمع يزيد على الظهور، فقيل للعامل: إن يزيد خارج، فلم يصدق، فأرسل يزيد أصحابه بين المغرب والعشاء ليلة الجمعة سنة ست وعشرين ومائة، فمكثوا عند باب الفراديس حتى أذنوا العتمة، فدخلوا فصلوا وللمسجد حرس، وقد وكلوا بإخراج الناس من المسجد بالليل، فلما صلى الناس صاح بهم الحرس، وتبطأ أصحاب يزيد، فجعلوا يخرجون من باب ويدخلون من آخر حتى لم يبق في المسجد غير الحرس وأصحاب يزيد، فقبض أصحاب يزيد على الحرس جميعهم، ومضى يزيد بن عنبسة إلى يزيد بن الوليد فأعلمه وأخذ بيده وقال: قم يا أمير المؤمنين وأبشر بنصر الله وعونه، فقام وقال:
__________
[1] تاريخ الطبري 7/ 231.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/248)
اللَّهمّ إن كان هذا لك رضا فأعني عليه وسددني، فإن كان غير رضا فاصرفه عني بموت، وأقبل في اثني عشر رجلا، ثم اجتمع أصحابهم وأخذ خزان بيت المال وصاحب البريد وكل من يحذره، وقبضوا سلاحا كثيرا من المسجد كان فيه. وخرج الوليد إلى حصن للعرب، وقصده أصحاب يزيد فقاتلهم في جماعة معه، وقال لأصحابه: من جاء برأس فله خمسمائة، فجاء قوم بأرؤس، فقال: اكتبوا أسماءهم، فقال رجل: ما هذا يوم يعمل فيه بنسيئة، فتفرق عنه أصحابه فدخل الحصن وأغلق الباب وقال: أما فيكم رجل له حسب وحياء أكلمه كلمة؟ فقال له يزيد بن عنبسة: كلمني، قال: ألم أزد في أعطياتكم، ألم أعط فقراءكم، ألم أخدم زمناكم، فقال: ما ننقم عليك في أنفسنا ولكن ننقم عليك في انتهاك ما حرم الله وشرب الخمر ونكاح أمهات أولاد أبيك واستخفافك بأمر الله، فرجع إلى الدار فجلس وأخذ مصحفا وقال: يوم كيوم عثمان.
ثم إن أصحاب يزيد علوا حائط [1] الدار، وكان أول من علاه يزيد بن عنبسة، فنزل إلى الوليد وسيف الوليد إلى جنبه، فقال له ابن عنبسة: نح سيفك، فقال له الوليد:
لو أردت السيف لكان لي ولك حال غير هذه، فأخذ بيد الوليد وهو يريد أن يحبسه ويؤامر فيه، فنزل من الحائط عشرة [2] ، فضربه أحدهم [3] على رأسه، وضربه آخر على وجهه [4] ، واحتز آخر رأسه [5] ، وقدم بالرأس على يزيد فسجد، وكانوا قد قطعوا كفه، فبعثوا بها إلى يزيد قبل الرأس، فأمر يزيد بالرأس فطيف به في دمشق ثم نصب [6] .
وكان يزيد قد جعل في رأس الوليد مائة ألف، وانتهب الناس عسكره وخزانته.
__________
[1] في الأصل: « [؟] تحلوا» هكذا بدون نقط. وفي ت: «فعلوا الحائط» .
[2] ذكرهم الطبري 7/ 246، منهم: «منصور بن جمهور، وحبال بن عمرو الكلبي، وعبد الرحمن بن عجلان مولى يزيد بن عبد الملك، وحميد بن نصر اللخمي، والسري بن زياد بن أبي كبشة، وعبد السلام اللخمي» .
وفي الأغاني: «منصور بن جمهور، وعبد الرحمن، وقيس مولى يزيد بن عبد الملك، والسري بن زياد بن أبرهة» .
[3] في الطبري الّذي ضربه هو: «عبد السلام اللخمي» . وفي الأغاني: «عبد الرحمن السلمي» .
[4] في الطبري والأغاني: «السري بن زياد» .
[5] في الطبري هو: «أبو علاقة القضاعي» .
[6] في ت: «فأمر يزيد بالرأس فنصب وطيف به في دمشق.(7/249)
باب ذكر خلافة يزيد بن الوليد بن عبد الملك
كان يكنى أبا خالد، وأمه أم ولد، وهي بنت فيروز بن يزدجرد. وكان أسمر طويلا، صغير الرأس، بوجهه خال، وكان جماعة قد بايعوه قبل قتل الوليد، فلما قتل اجتمعوا عليه فنقص من أعطيات الناس ما كان زادهم الوليد، وردهم إلى أعطيات هشام، فسموه الناقص. وأول من سماه بهذا الاسم مروان بن محمد.
وقيل: بل سمي بذلك لنقصان كان في أصابع رجليه، وهو أول خليفة كانت أمه أمة، وكانت بنو أمية تتجنب ذلك توطيدا للخلافة [1] ، ولأنهم سقط إليهم أن ملكهم يزول على يد خليفة منهم أمه أمة، فكان ذلك مروان بن محمد، وسيأتي ذكره بعد خلافة يزيد هذا.
ثم أن يزيدا خطب الناس بعد قتل الوليد، وقال: إني والله ما خرجت أشرا ولا بطرا ولا حرصا على الدنيا، ولا رغبة في الملك، ولكن خرجت غضبا للَّه ولرسوله ولدينه، وداعيا إلى كتابه وسنة نبيه، لما هدم الوليد معالم الهدى، وأطفأ نور أهل التقى، وكان جبارا مستحلا للحرم مع أنه ما كان يصدق [2] بالكتاب، ولا يؤمن بيوم الحساب، فسألت الله تعالى فأراح منه العباد والبلاد، أيها الناس إن لكم علي ألا أضع حجرا على حجر، ولا لبنة على لبنة، ولا أكري نهرا [3] ، ولا أكثر مالا، ولا أعطيه زوجة ولا ولدا، ولا أثقله من بلد إلى بلد حتى أسد ثغرة ذلك البلد وخصاصة أهله بما يغنيهم، ولا أغلق بابي
__________
[1] في ت: «توطيدا للخلافة» .
[2] في الأصل: «أنه ما كان لا يصدق بالكتاب» . وما أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «ولا أجري نهرا» . وما أوردناه من ت.(7/250)
دونكم، وإن لكم أعطياتكم في كل سنة، وأرزاقكم في كل شهر، فإن أنا وفيت لكم بمالكم [1] وبما قلت فعليكم بالسمع والطاعة، وإن أنا لم أف لكم فلكم أن تخلعوني، وإن علمتم أحدا ممن يعرف بالصلاح [2] ، يعطيكم من نفسه مثلما أعطيتكم وأردتم أن تبايعوه فأنا أول من يبايعه. أيها الناس، إنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق [3] .
ثم دعا الناس إلى تجديد البيعة له، وأظهر النسك وقراءة القرآن وأخلاق عمر بن عبد العزيز وأحسن السيرة، فلما علم أهل البلاد بقتل الوليد ثارت الفتن، ووثب سليمان بن هشام بن عبد الملك بعمان [4] ، وكان محبوسا بها، حبسه ابن عمه الوليد، فأخذ ما فيها من الأموال، وأقبل إلى دمشق.
ووثب أهل حمص، وغلقوا أبوابها، وأقاموا النوائح على الوليد، وهدموا دار العباس بن الوليد بن عبد الملك لأنه أعان على الوليد، فكتبوا بينهم كتابا ألا يدخلوا في طاعة يزيد، وخرجوا عليه، فبعث إليهم جيشا فانهزموا وقتل منهم ثلاثمائة.
ووثب أهل فلسطين والأردن على عاملهم فأخرجوه.
ولما تم الأمر [5] ليزيد بن الوليد [6] عزل يوسف بن عمر عن العراق وولاها منصور بن جمهور، فسار إلى العراق، فبلغ خبره يوسف بن عمر فهرب إلى البلقاء فقدم منصور الحيرة في أيام خلت من رجب فأخذ بيوت الأموال، وأخرج العطاء وولى العمال، وبايع ليزيد [بن الوليد] [7] بالعراق وكورها، وكتب بذلك، وأطلق من في سجون يوسف، وبلغ خبر يوسف إلى يزيد بن الوليد، فبعث من يأتيه به، فجيء به في وثاق، فأقام في الحبس ولاية يزيد كلها وشهرين وعشرة أيام في ولاية إبراهيم، فلما قدم مروان الشام وقرب من دمشق ولى قتله يزيد بن خالد، فبعث مولى له فضرب عنق يوسف.
__________
[1] «بمالكم» : سقطت من ت.
[2] في الأصل: «بالإصلاح» . وما أوردناه من ت.
[3] نص الخطبة في الطبري 7/ 268.
[4] في ت: «عبد الملك بن نعمان» . خطأ.
[5] في ت: «ولما استوثق الأمر» .
[6] في الأصل: «ليزيد بن عبد الملك» . وما أوردناه من ت.
[7] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/251)
وفيها: امتنع نصر بن سيار [1] بخراسان من تسليم عمله لعامل يزيد منصور بن جمهور، وكان يزيد قد ولاها منصور مع العراق.
وقد ذكرنا أن يوسف بن عمر كتب إلى نصر بالمصير إليه مع الهدايا للوليد بن يزيد، فشخص نصر من خراسان إلى العراق، وتباطأ في سفره حتى قتل الوليد، فجاءه من أخبره بأن منصور بن جمهور قد أقبل أميرا على العراق، وأن يوسف بن عمر قد هرب، فرد نصر تلك الهدايا، وأعتق الرقيق، وقسم تلك الآنية، ووجه العمال، وأمرهم بحسن السيرة ودعى الناس إلى البيعة فبايعوه.
وفيها: عزل يزيد بن الوليد [2] منصور بن جمهور عن العراق، وولاها عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بن مروان.
وفيها: كتب يزيد إلى [3] عامله عبد الله بن عمر بن عبد العزيز أن يرد على الحارث بن شريح ما كان أخذ من ماله وولده لأنه خاف منه أن يقدم عليه بالترك، وطمع أن يناصحه، وأرسل إليه من يرده من بلاد الترك.
وفيها: وجه إبراهيم [4] بن محمد الإمام بكير بن ماهان إلى خراسان، وبعث معه بالسيرة والوصية، فقدم مرو، وجمع النقباء ومن بها من الدعاة، فنعى إليهم الإمام محمد بن علي ودعاهم إلى إبراهيم، ودفع إليهم كتاب إبراهيم فقبلوه ودفعوا إليه ما اجتمع عندهم من نفقات الشيعة، فقدم بها بكير على إبراهيم بن محمد.
وفيها: أخذ يزيد بن الوليد [5] البيعة لأخيه إبراهيم بن الوليد على الناس، وجعله ولي عهده، ولعبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك من بعد إبراهيم.
وكان سبب ذلك أن يزيد مرض في ذي الحجة من سنة ست وعشرين، فقيل له:
بايع لأخيك إبراهيم ولعبد العزيز من بعده، ففعل.
وفيها: عزل يزيد بن الوليد يوسف بن محمد بن يوسف عن المدينة، وولاها
__________
[1] تاريخ الطبري 7/ 277.
[2] تاريخ الطبري 7/ 284.
[3] تاريخ الطبري 7/ 293.
[4] تاريخ الطبري 7/ 295.
[5] تاريخ الطبري 7/ 295.(7/252)
عَبْد العزيز بْن عَبْد اللَّه بْن عمرو بن عثمان رضي الله عنه.
وفيها: أظهر مروان [1] بن محمد بن مروان الخلاف ليزيد، وانصرف من أرمينية إلى الجزيرة مظهرا أنه طالب بدم الوليد بن يزيد، فلما صار بحران [2] وجمع جمعا كثيرا وتهيأ للمسير إلى يزيد، كاتبه يزيد على أن يبايعه ويوليه ما كان عبد الملك بن مروان ولى إياه من الجزيرة وأرمينية والموصل وأذربيجان فبايع له بحران.
وفي هذه السنة: حج بالناس عمر بن عبد الله بن عبد الملك، بعثه يزيد بن الوليد، وخرج معه عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وهو على المدينة ومكة والطائف والعراق. وكان على قضاء الكوفة ابن أبي ليلى، وعلى قضاء البصرة عامر بن عبيدة، وكان على خراسان نصر بن سيار.
وفيها: مات يزيد، وكان إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك، يكنى أبا [3] إسحاق، وأمه أم ولد بربرية اسمها خشف، وكان يزيد بن الوليد قد جدد البيعة لإبراهيم قبل موته بثلاثة أيام غير أنه لم يتم له أمره، فكان يسلم عليه جمعة بالخلافة وجمعة بالإمارة وجمعة لا يسلم عليه لا بالإمارة، ولا بالخلافة، فكان على ذلك حتى قدم مروان بن محمد فخلصه، وقتل عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك بن مروان الذي كان يزيد عقد له البيعة من بعد إبراهيم بن الوليد.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
678- خالد بن عبد الله القسري البجلي اليماني [4] :
كان بواسط، وقيل: بالكوفة، وقد ذكرنا كيفية هلاكه في الحوادث.
__________
[1] تاريخ الطبري 7/ 295.
[2] في الأصل: «بخراسان» . وما أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «قد يكنى» . وما أوردناه من ت.
[4] تهذيب تاريخ ابن عساكر 5/ 67، والوفيات 1/ 169، وابن خلدون 3/ 105، والتاريخ الكبير 3/ 542، والمعارف 398، وتاريخ الطبري 7/ 254، والجرح والتعديل 3/ 1533، وتاريخ الإسلام 5/ 64، وسير أعلام النبلاء 5/ 425، والبداية والنهاية 10/ 17، وتهذيب التهذيب 3/ 101، وشذرات الذهب 1/ 169.(7/253)
679- دراج بن سمعان، أبو السمح، مولى عبد الله بن عمرو بن العاص [1] :
سمع من عبد الله بن الحارث بن جزء. روى عنه الليث وابن لهيعة.
وكان يقص بمصر ويقول: أدركت زمانا إذا سمعنا بالرجل أنه قد جمع القرآن حججنا إليه لننظر إليه.
680- شميط بن عجلان، أبو عبيد الله [2] :
كان عابدا واعظا.
أخبرنا إسماعيل بن أَحْمَد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أحمد بن علي بن أبي عثمان، قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْن أَحْمَد بْن مُحَمَّد بن الصلت، قال: حدثنا أحمد بن جعفر بن المنادي، قال: حدثنا هارون بن الحكم، قال: حدثنا مجاهد بن موسى، قال: حدثنا عبد الله بن عيسى المقابري، قال: حدثنا عبد الله بن شميط، عن أبيه أنه كان يقول في مواعظه:
إن المؤمن يقول لنفسه: إنما هي ثلاثة أيام، فقد مضى أمس بما فيه، وغدا أملك لعلك لا تدركه، إنما هو يومك هذا فإن كنت من أهل غد فسيجيء رب غد برزق غد، إن دون غد يوما وليلة تخترم فيه أنفس كثيرة، فلعلك المخترم فيه، كفى كل يوم همه، ثم قد حملت على قلبك الضعيف هم السنين والدهور، وهم الغلاء والرخص، وهم الشتاء قبل أن يجيء، وهم الصيف قبل أن يجيء، فماذا أبقيت من قلبك الضعيف للآخرة، العجب لمن صدق بدار الحيوان كيف يسعى لدار الغرور.
681- عبد الله بن غالب الحراني [3] :
أخبرنا محمد بن عبد الباقي، قال: أخبرنا حمد بْنُ أحمد الحداد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم أحمد بن عبد الله، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْن محمد بن عبيد، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الحُسَيْن، قَالَ: حَدَّثَنِي
__________
[1] التاريخ الكبير 3/ 882، وعلل أحمد 1/ 413، 414، والضعفاء للنسائي 187، والجرح والتعديل 3/ 2008، وتهذيب تاريخ دمشق 5/ 224، وتاريخ الإسلام 5/ 67، وتهذيب التهذيب 3/ 208.
[2] حلية الأولياء 3/ 125.
[3] التاريخ الكبير 5/ 526، والجرح والتعديل 5/ 626، والأنساب للسمعاني 4/ 76، وتهذيب التهذيب 5/ 354، والتقريب 1/ 440.(7/254)
صدقة بن بكر السعدي، قال: حدثني مرجي بن وداع الراسبي، قال: حدثني المغيرة بن حبيب، قال: قال عبد الله بن غالب الحراني:
لما برز العدو على ما أساء من الدنيا، فو الله ما فيها للبيب جدل، وو الله لولا محبتي لمباشرة السهر بصفحة وجهي وافتراش الجبهة لك يا سيدي، والمراوحة بين الأعضاء في ظلم الليل، رجاء ثوابك وحلول رضوانك، لقد كنت متمنيا لفراق الدنيا وأهلها. قال: ثم كسر جفن سيفه ثم تقدم فقاتل حتى قتل. قال: فحمل من المعركة وإنه لرمق، فمات، دون العسكر، فلما أن دفن أصابوا من قبره رائحة المسك. قال:
فرآه رجل من إخوانه في منامه، فقال: يا أبا فراس، ما صنعت؟ قال: خير الصنع، قال:
إلى ما صرت؟ قال: إلى الجنة، قال: بم؟ قال: بحسن اليقين وطول التهجد وظمأ الهواجر، قال: فما هذه الرائحة الطيبة التي توجد من قبرك؟ قال: تلك رائحة التلاوة والظمأ، قال: قلت: أوصني، قال: اكسب لنفسك خيرا، لا تخرج عنك الليالي والأيام عطلا.
682- عبد الله [1] بن سريج، أبو يحيى مولى بني نوفل بن عبد مناف:
وقيل: مولى بني الحارث بن عبد المطلب، وقيل: مولى لبني مخزوم، وقيل:
مولى لبني ليث. ولد في خلافة عمر بن الخطاب، وكان نائحا، ثم صار من مشاهير المغنين وكبارهم، وكان آدم أحمر ظاهر الدم سفاطا، في عينه فتل، وفي رأسه صلع، وكان منقطعا إلى عبد الله بن جعفر.
وذكر الكلبي عن أبيه، قال: كان ابن سريج مخنثا أحول أعمش، وكان أحسن الناس غناء، وغنى في زمن عثمان.
وقال غيره: كان مغني أهل مكة ابن سريج، ومغني أهل المدينة معبد.
683- الكميت بن زيد بن خنيس بن مجالد [2] :
ولد سنة ستين. شاعر متقدم مقدم، عالم باللغة، كان في أيام بني أمية، ولم يدرك
__________
[1] جاء اسمه في بعض نسخ الأغاني مختلفا: «عبيد بن سريج» وعبيد الله بن سريج و «عبد الله» الأغاني 1/ 243 (دار الكتب العلمية) .
[2] شرح شواهد المغني 13، وجمهرة أشعار العرب 187، والشعر والشعراء 562، وخزانة الأدب للبغدادي 1/ 69- 71، 86- 87.(7/255)
الدولة العباسية، تكلم مع حماد الراوية فأفحم حمادا، وأنشد هشام بن عبد الملك فأعطاه مالا كثيرا. وأنشد خالدا القسري فأعطاه مائة ألف درهم.
وقال معاذ الهزاء: الكميت أشعر الأولين والآخرين. وبلغ شعره خمسة آلاف ومائتين وتسعا وثمانين بيتا.
684- الوليد بن يزيد بن عبد الملك:
قتل يوم الخميس لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة من هذه السنة. وكانت خلافته سنة وثلاثة أشهر في قول أبي معشر. وقال هشام: سنة وشهرين واثني عشر يوما.
وفي مقدار عمره خمسة أقوال، أحدها: ثمانية وثلاثون سنة، قاله هشام.
والثاني: ست وثلاثون، قاله الواقدي. والثالث: إحدى وأربعون سنة، والرابع خمس وأربعون، والخامس: ست وأربعون.
685- يزيد بن الوليد بن عبد الملك:
ولي ستة أشهر وليلتين. وقال هشام: ستة أشهر وأياما. وقال المدائني: خمسة أشهر واثني عشر يوما.
وتوفي لعشر بقين من ذي الحجة سنة ست وعشرين ومائة، وهو ابن ست وأربعين سنة، وقيل: ابن ثلاثين سنة، وقيل: سبع وثلاثين سنة.(7/256)
ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومائة
فمن الحوادث فيها مسير مروان بن محمد إلى الشام [1] . وقد ذكرنا أنه خرج بعد مقتل الوليد بن يزيد مظهرا أنه ثائر بالوليد منكر لقتله، ثم لما كاتبه يزيد عاد فبايع له، وبعث بذلك جماعة من وجوه الجزيرة منهم محمد بن علاثة، فأتاه موت يزيد، فأرسل إلى ابن علاثة فردهم من منبج، وشخص إلى إبراهيم بن الوليد، فلما انتهى إلى قنسرين دعا الناس إلى مبايعته، ثم توجه إلى حمص، وكانوا قد امتنعوا حين مات يزيد أن يبايعوا إبراهيم، فوجه إبراهيم لهم عبد العزيز في جند أهل دمشق، فحاصرهم في مدينتهم، وأغذ مروان السير، فلما دنا من مدينة حمص رحل عبد العزيز عنهم، وخرجوا إلى مروان فبايعوه وساروا معه.
ووجه إبراهيم بن الوليد مع سليمان بن هشام عشرين ومائة ألف، فلقيهم مروان في نحو من ثمانين ألفا، فاقتتلوا. وبعث مروان أقواما فقطعوا الشجر وعقدوا على نهر هناك جسورا، فعبروا إلى عسكر سليمان من ورائهم، فلم يشعروا إلا بالخيل فانهزموا وقتل منهم نحوا من ثمانية عشر ألفا.
وفي هذه السنة: دعا عبد الله بن [2] معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب إلى نفسه بالكوفة، وحارب بها عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، فهزمه عبد الله [بن
__________
[1] تاريخ الطبري 7/ 300.
[2] تاريخ الطبري 7/ 302.(7/257)
عمر] [1] ، فلحق بالجبال فغلب عليها. وكان خروجه في محرم سنة سبع وعشرين.
وكان سبب خروجه أنه قدم إلى الكوفة زائرا لعبد الله بن عمر يلتمس صلته ولا يريد خروجا فتزوج ابنة حاتم بن الشرقي، فلما وقعت العصبية، وكان سببها أن عبد الله أعطى قوما ومنع قوما فاختصموا، فقال أهل الكوفة لعبد الله: ادع إلى نفسك، فبنو هاشم أولى بالأمر من بني مروان [2] ، فدعا سرا بالكوفة وبايعه ابن ضمرة الخزاعي، فدس إليه ابن عمر فأرضاه، فأرسل إليه: إذا التقينا انهزمت بالناس، فقيل لابن عمر: قد جاء ابن معاوية، فأخرج مالا وخرج فأمر مناديا ينادي: من جاء برأس فله خمسمائة، فأتى رجل برأس فأعطي خمسمائة، فلما رأى أصحابه الوفاء ثاروا بالقوم فإذا خمسمائة رأس، فانكشف أمر ابن معاوية، وانهزم ابن ضمرة فلم يبق مع ابن معاوية أحد، فخرج إلى المدائن فبايعوه، وأتاه قوم من أهل الكوفة، ثم خرج [إلى المدائن] [3] فغلب على حلوان والجبال وهمدان وقومس وأصبهان والري.
وفي هذه السنة: وافى الحارث بن شريح مرو [4] ، وجاء إليها من بلاد الترك بالأمان الذي كتب له يزيد بن الوليد، فصار إلى نصر ثم حالفه وبايعه على ذلك جمع كبير، وكان قدم مرو لثلاث بقين من جمادى الآخرة، سنة سبع وعشرين، فتلقاه نصر وأجرى عليه نزلا كل يوم خمسين درهما، وأطلق نصر من كان عنده من أهله، وبعث إليه بفرس وفرش، فباع ذلك وقسمه في أصحابه، وكان يجلس على برذعة [5] ، وتثنى له وسادة غليظة، وعرض عليه نصر أن يوليه ويعطيه مائه ألف فلم يقبل، وقال:
لست من أهل اللذات، إنما أسألك كتاب الله والعمل بالسنة فإن فعلت ساعدتك، وإني خرجت من هذا البلد منذ ثلاث عشرة [6] سنة إنكارا للجور، وأنت تريدني عليه، فانضم إلى الحارث ثلاثة آلاف.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من الطبري.
[2] في الأصل: «فبنو هاشم بالأمر أولى من بني مروان» . وما أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] تاريخ الطبري 7/ 309.
[5] في الأصل: «برذعته» . وما أوردناه من ت والطبري.
[6] في الأصل: «ثلاثة عشرة» .(7/258)
وفي هذه السنة: بويع لمروان بن محمد بن مروان بالخلافة بدمشق.
وذلك أنه لما قيل [1] : قد دخلت خيل مروان دمشق هرب إبراهيم بن الوليد ونهب بيت المال، وثار موالي الوليد بن يزيد، فقتلوا عبد العزيز بن الحجاج، ونبشوا قبر يزيد بن الوليد وصلبوه على باب الجابية، ودخل مروان دمشق، فبايعوه واستوت له الشام وانصرف، فنزل حران وطلب الأمان منه إبراهيم بن الوليد وسليمان بن هشام فأمنهما، وخلع إبراهيم في ربيع الآخر من هذه السنة، وكان مكثه أربعة أشهر، وقيل: أربعين ليلة.
__________
[1] تاريخ الطبري 7/ 311.(7/259)
باب ذكر خلافة مروان بن محمد بن مروان
وهو مروان بن محمد بن مروان بن الحكم، ويكنى أبا عبد الله، وقيل: أبا عبد الملك، وقيل: أبا الوليد، أمه أم ولد كردية، وقيل: رومية، اسمها مارية البرما، بويع له وهو ابن إحدى وخمسين سنة، ويلقب بالجعدي، لأن الجعد بن إبراهيم كان مؤدبه، وكان الجعد متهما بالزندقة، فقتله خالد بن عبد الله القسري، وخص مروان في ملكه بأشياء لم تكن لمن بعده، منها البقرة التي يضرب بها المثل، كان يقف تحته في الحرب يومه وليلته لا يبول ولا يروث.
قال الأصمعي: خطباء بني أمية خمسة: معاوية، وعبد الملك، وعمر بن عبد العزيز، وهشام، ومروان بن محمد.
وفي هذه السنة [1] : انتقض على مروان أهل حمص، وسائر أهل الشام فحاربهم.
وذلك أنه أقام بحران بعد أن بويع له أربعة أشهر، وقيل: ثلاثة أشهر وهو الأصح- ثم خالفه أهل الشام، وكان الذي دعاهم إلى ذلك ثابت بن نعيم، راسلهم وكاتبهم، فبلغ مروان خبرهم، فسار إليهم بنفسه ومعه إبراهيم بن يزيد المخلوع، وسليمان بن هشام يكرمهما ويجلسان معه على غدائه وعشائه، فانتهى إلى حمص، فأحدقت بها خيله فأشرفوا عليه، فناداهم مناديه: ما الذي دعاكم إلى النكث؟ فقالوا: لم ننكث، فاقتحم عمرو بن الوضاح في ثلاثة آلاف، فقاتلوهم داخل المدينة، فلما كثرتهم خيل
__________
[1] تاريخ الطبري 7/ 312.(7/260)
مروان انتهوا إلى باب من أبواب المدينة يقال له: باب تدمر، فخرجوا منه والروابط عليهم، فقاتلوهم، فقتل عامتهم وأسر منهم قوم، فأني بهم مروان فقتلهم، وأمر بالقتلى وهم نحو من ستمائة، فصلبوا حول المدينة، وهدم من حائط المدينة نحو من غلوة، وثار أهل الغوطة إلى دمشق فحاصروا أميرهم زامل بن عمرو، وولوا عليهم يزيد بن خالد القسري، وقتل مروان خلقا كثيرا، وأقام بدير أيوب حتى بايع لابنيه: عبيد الله، وعبد الله، وزوجهما ابنتي هشام بن عبد الملك، وهما: أم هشام، وعائشة. وقطع على جند أهل الشام بعثا، وأمرهم باللحاق بيزيد بن عمر بن هبيرة، وكان قبل مسيره إلى الشام قد وجهه في عشرة آلاف من أهل قنسرين والجزيرة، وصيره مقدمه له وانصرف مروان إلى قرقيسياء وابن هبيرة بها ليقدمه إلى العراق لمحاربة الضحاك بن قيس الشيباني الحروري.
وأقبل نحو من عشرة آلاف ممن كان مروان [1] قطع عليه البعث بدير أيوب لغزو العراق [مع قوادهم] [2] ، فزادهم [3] حتى جاءوا الرصافة فدعوا سليمان إلى خلع مروان ومحاربته.
وفي هذه السنة: خرج الضحاك بن قيس الشيباني، فدخل الكوفة. وسبب ذلك أنه لما قتل الوليد خرج بالجزيرة حروري يقال له سعيد بن بهدلة [4] الشيباني في مائتين من أهل الجزيرة وفيهم الضحاك، فاغتنم قتل الوليد واشتغال مروان بالشام، وخرج بسطام البيهقي وهو مفارق لرأيه في مثل عدتهم من ربيعة، فسار كل واحد منهما إلى صاحبه، فلما تقارب العسكران قتل بسطام وجميع من معه إلا أربعة عشر لحقوا بمروان، فكانوا معه. ثم مضى سعيد بن بهدلة نحو العراق لما بلغه من تشتت الأمر بها واختلاف أهل الشام، فمات سعيد بن بهدلة من طاعون أصابه، واستخلف الضحاك بن قيس، فاجتمع مع الضحاك نحو من ألف، فتوجه إلى الكوفة ومر بأرض الموصل فأتبعه منها ومن السواد نحو من ثلاثة آلاف، فبرز له أهل الكوفة فهزمهم واستولى على الكوفة
__________
[1] في الأصل: «ممن كان مع مروان» . وما أوردناه من ت والطبري.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] «فزادهم» : ساقطة من ت.
[4] كذا في الأصلين، وفي الطبري: «بهدلة» .(7/261)
ومضى إلى واسط فحاصرها وخرجوا يقاتلونه، فلم يزالوا على ذلك شعبان ورمضان وشوال، ثم خرج والي واسط إلى الخارجي فبايعه.
وفيها [1] : خلع سليمان بن هشام بن عبد الملك مروان بن محمد ونصب له الحرب. وذلك أنه لما شخص مروان إلى الرقة لتوجه ابن هبيرة إلى العراق لمحاربة الضحاك بن قيس استأذنه سليمان بن هشام أن يقيم [أياما] [2] لإصلاح أمره، فأذن له فقيل له: أنت أرضى عند أهل الشام من مروان وأولى بالخلافة، فأجابهم وعسكر بهم وسار بهم إلى قنسرين، وكاتب أهل الشام فانفضوا إليه من كل جانب فأقبل إلى مروان وكتب إلى ابن هبيرة يأمره بالثبوت في عسكره، واجتمع إلى سليمان بن هشام نحو من سبعين ألفا من أهل الشام وغيرهم، فلما دنا منه مروان قدم إليه السكسكي في نحو من سبعة آلاف، ووجه مروان عيسى بن مسلم في نحو من عدتهم، فالتقوا فاقتتلوا قتالا شديدا، وانهزمت مقدمة مروان، فانهزم سليمان، واتبعته خيول مروان تقتلهم وتأسرهم، واستباحوا عسكرهم، وقتل منهم أكثر من ثلاثين ألفا، ومضى سليمان مفلولا حتى انتهى إلى حمص، فانضم إليه من أفلت من أصحابه، فعسكر بهم وبنى ما كان مروان هدمه من حيطانها، وجاءهم مروان فخرجوا إليه فاقتتلوا، وعلم سليمان أنه لا طاقة له بهم، فذهب إلى تدمر. ونزل مروان بحمص فحاصرهم عشرة أشهر، ونصب عليهم نيفا وثمانين منجنيقا وهم في ذلك يخرجون إليه فيقاتلونه، ثم استأمنوه على أن يدفعوا إليه جماعة ممن كان يسبه ويؤذيه، فقبل ذلك منهم، ثم أقبل متوجها إلى الضحاك، فارتحل الضحاك حتى لقي مروان بكفرتوثا من أرض الجزيرة.
وفي هذه السنة: توجه سليمان بن كثير ولاهز بن قريظة [3] ، وقحطبة بن شبيب إلى مكة، فلقوا إبراهيم بن محمد الإمام بها، وأعلموه أن معهم عشرين ألف دينار ومائتي ألف درهم ومسكا ومتاعا كثيرا، فأمرهم بدفع ذلك إلى عروة مولى محمد بن علي، وكانوا قدموا معهم بأبي مسلم في ذلك العام، فقال سليمان بن كثير لإبراهيم:
هذا مولاك.
__________
[1] في ت: «وفي هذه السنة» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «قريظ» . وما أوردناه من ت والطبري.(7/262)
وفي هذه السنة: حج بالناس عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز وهو عامل مروان على مكة والمدينة والطائف، وكان العامل على العراق النضر بن الحرشي، وكان بخراسان نصر بن سيار.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
686- سعد بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أبو إسحاق [1] :
أسند عن عبد الله بن جعفر، وأنس، وغيرهما. وولي قضاء المدينة.
أخبرنا أبو بكر بن أبي طاهر البزاز، قَالَ: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال:
أخبرنا أبو عمرو بن حيوية، قَالَ: أخبرنا أبو أيوب الجلاب، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ، قَالَ: حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثنا الحجاج، عن شيبة، قال:
كان سعد بن إبراهيم يصوم الدهر ويقرأ القرآن في كل يوم وليلة.
توفي سعد بالمدينة في هذه السنة، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة.
687- عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، أبو خالد الفهمي [2] :
أمير مصر لهشام بن عبد الملك، روى عنه الليث بن سعد، ويحيى بن أيوب.
وكان ثبتا في الحديث، توفي في هذه السنة.
688- عمرو بن عبد الله بن علي بن أحمد الهمداني، أبو إسحاق السبيعي [3] :
ولد لثلاث سنين بقين من خلافة عثمان، وأجاز شريح شهادته وحده في وصية، وكان يقول: يا معشر الشباب اغتنموا شبابكم وقوتكم، فقلما مر بي في شبابي ليلة لا أقرأ
__________
[1] طبقات ابن سعد (مخطوط) ، والتاريخ الكبير للبخاريّ 4/ 1928، وتاريخ الطبري 7/ 227، وتهذيب ابن عساكر 6/ 82، وتاريخ الإسلام 5/ 77، وسير أعلام النبلاء 5/ 418، وتذكرة الحفاظ 1/ 136، وتهذيب التهذيب 3/ 463، وشذرات الذهب 1/ 173.
[2] التاريخ الكبير للبخاريّ 3/ 1/ 277، والجرح والتعديل 5/ 229، وتقريب التهذيب 1/ 478.
[3] التاريخ الكبير 3/ 2/ 347، وطبقات ابن سعد 6/ 219، وتقريب التهذيب 2/ 73.
وورد اسمه في الأصل: «عمرة» . وما أوردناه من ت وكتب الرجال.(7/263)
فيها ألف آية، ولقي من الصحابة: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، ومعاوية بن أبي سفيان، وعدي بن حاتم، والبراء بن عازب، وزيد بن أرقم، وجابر بن سمرة، وحارثة بن وهب، وحبيش بن جنادة، وأبو جحيفة، والنعمان بن بشير، وسليمان بن صرد، وعبد الله بن يزيد، وجرير بن عبد الله، وذا الجوشن، وعمارة بن رويبة، والأشعث بن قيس، والمغيرة بن شعبة، وأسامة بن زيد، وعمرو بن الحارث بن المصطلق، ورافع بن خديج، وعمرو بن حريث، والمسور بن مخرمة، وسلمة بن قيس الأشجعي، وسراقة بن مالك، وعبد الرحمن بن أبزي.
وانفرد أبو إسحاق بالرواية عن ثلاثة من الصحابة لم يرو عنهم غيره، أحدهم:
عبدة بن جري، ويقال: عبيدة. والثاني كديد الضبي، والثالث مطر بن عكامس. فهؤلاء الثلاثة عدهم جماعة من العلماء في الصحابة، وأبى قوم أن تكون لهم صحبة.
توفي أبو إسحاق يوم دخول الضحاك بن قيس الكوفة سنة سبع وعشرين ومائة، وهو ابن خمس وتسعين سنة. وتغير أبو إسحاق بآخرة، والذي سمع من حديثه فهو الجيد.(7/264)
ثم دخلت سنة ثمان وعشرين ومائة
فمن الحوادث فيها قتل الحارث بن شريح بخراسان [1] . وقد ذكرنا أن يزيد بن الوليد كتب إليه يؤمنه، وأن الحارث خرج من بلاد الترك إلى خراسان، وأتى إلى نصر بن سيار، فلما ولي ابن هبيرة العراق كتب إلى نصر بعهده، فبايع لمروان، فقال الحارث: إنما آمنني يزيد بن الوليد، ومروان لا يجيز أمان يزيد، فلا آمنه. فدعي إلى البيعة، وأرسل إلى نصر فقال:
اجعل الأمر شورى، فأبى نصر، فخرج الحارث وأمر جهم بن صفوان [2] مولى بني راسب، فقرأ كتابا، فيه سيرة الحارث على الناس، فانصرفوا يكبرون، وأرسل الحارث إلى نصر: اعزل فلانا واستعمل فلانا، فاختاروا قوما يسمون لهم من يعمل بكتاب الله، فاختار نصر مقاتل بن سليمان، ومقاتل بن حبان، واختار الحارث المغيرة الجهضمي، ومعاذ بن جبلة، وأمر نصر كاتبه أن يكتب [3] من يرضون من السنن، وما يختارون من العمال [4] ، وعرض نصر على الحارث أن يوليه ما وراء النهر، ويعطيه ثلاثمائة ألف، فلم يقبل، ثم تناظر نصر والحارث [5] فتراضيا أن يحكم بينهما مقاتل بن حيان، وجهم بن صفوان، فحكما أن يعتزل نصر ويكون الأمر شورى، فلم يقبل نصر، وكان جهم يقص
__________
[1] تاريخ الطبري 7/ 330.
[2] في الأصل: «جهمة بن صفوان» ، وما أوردناه من ت والطبري.
[3] في الأصل: «يختارون» . وما أوردناه من ت.
[4] في الأصلين: «ويختارون من العمال» . وما أوردناه من الطبري.
[5] في الأصل: «ثم تناظر هو والحارث» . وما أوردناه من ت.(7/265)
في عسكر الحارث فاتهم نصر قوما من أصحابه أنهم كاتبوا الحارث، فأمر نصر مناديا ينادي: إن الحارث عدو الله قد نابذ وحارب، فاقتتلوا فانهزم الحارث وأسر يومئذ جهم بن صفوان صاحب الجهمية وقتل. وكان يكنى أبا محرز، وآل الأمر إلى قتل الحارث، وصلب قبله رجل يقال له: الكرماني.
وفي هذه السنة: وجه إبراهيم بن محمد أبا مسلم إلى خراسان [1] ، وكتب إلى أصحابه: إني قد أمرته بأمري، فاسمعوا منه واقبلوا قوله، فإني قد أمرته على خراسان، وما غلب عليه بعد ذلك، فأتاهم فلم يقبلوا قوله وخرجوا من قابل فالتقوا بمكة عند إبراهيم، فأعلمه أبو مسلم أنهم لم ينفذوا كتابه وأمره وذلك أنه كان حدثا، فقال إبراهيم:
إني كنت عرضت هذا الأمر على غير واحد فأبوا علي، وقد أجمع رأيي على أبي مسلم، فاسمعوا له وأطيعوا.
وفي هذه السنة: قتل الضحاك بن قيس الخارجي [2] ، وكان معه عشرون ومائة ألف، فخرج إلى نصيبين فحاصرها وأقام [بها] [3] ، وأقبل إليه مروان فالتقيا فاقتتلوا، فقتل الضحاك في المعركة، فبعث مروان برأسه إلى الجزيرة، فطيف به فيها [4] .
وقيل: إن هذا كان في سنة تسع وعشرين.
وفي هذه السنة: قتل الخيبري الخارجي [5] . وذلك أنه لما قتل الضحاك أصبح أصحابه فبايعوا الخيبري، فحمل الخيبري على مروان فانهزم، ودخل أصحاب الخيبري إلى عسكره وقطعوا أطناب خيمته، وجلس الخيبري على فرشه، ثم ثار إليه عبيد من عسكر مروان فقتلوا الخيبري وأصحابه، ورجع مروان وانصرف أصحاب الخيبري فولوا عليهم شيبان، فقاتلهم مروان بعد ذلك.
وفي هذه السنة: وجه مروان يزيد بن عمر بن هبيرة إلى العراق لحرب من بها من الخوارج.
__________
[1] تاريخ الطبري 7/ 344.
[2] تاريخ الطبري 7/ 344.
[3] في الأصل: «وأقام محاصرا لها» . وما أوردناه من ت والطبري.
[4] في الأصل: «يطاف به فيها» . وما أوردناه من ت والطبري.
[5] تاريخ الطبري 7/ 346.(7/266)
وفيها: حج بالناس عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وكان هو العامل على مكة والمدينة والطائف، وكان بالعراق عمال الضحاك، وعبد الله بن عمر بن عبد العزيز، وكان بخراسان نصر بن سيار، وعلى قضاء البصرة ثمامة بن عبد الله بن أنس.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
689- بكر بن سوادة بن ثمامة الجذامي [1] :
حدث عن سهل بن سعد، وسفيان بن وهب الخولاني، وأبي ثور الفهمي، وكلهم صحابي. وروى عن سعيد بن المسيب، وأبي سلمة. وتوفي بإفريقية في هذه السنة.
690- جهم بن صفوان، أبو محرز، الذي ينسب إليه الجهمية:
كان في عسكر الحارث بن شريح الخارجي يقص ويعظ، فحاربهم نصر بن سيار فأسر في الحرب وقتل.
691- جابر بن يزيد الجعفي [2] :
كان رافضيا غاليا، يقول بالرجعة، وروى عنه سفيان، وشعبة.
وتوفي في هذه السنة.
692- حيي بن هانئ، أبو قبيل المعافري [3] :
قدم مصر في أيام معاوية، وغزا رودس مع جنادة بن أبي أمية، والمغرب مع حسان بن النعمان. روى عنه الليث، وابن لهيعة.
سئل عن القدر، فقال: أنا في الإسلام أقدم منه، ودين أنا أقدم منه، لا خير فيه.
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 202، وطبقات خليفة 295، والتاريخ الكبير 2/ 1/ 89، والجرح والتعديل 1/ 1/ 386، وسير أعلام النبلاء 5/ 20، وتاريخ الإسلام 5/ 48، وتهذيب التهذيب 1/ 483.
[2] طبقات ابن سعد 6/ 240، والضعفاء للنسائي 287، والجرح والتعديل 1/ 1/ 497، وميزان الاعتدال 1/ 379، وتاريخ الإسلام 5/ 52، وتهذيب التهذيب 2/ 46.
[3] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 201، وطبقات خليفة 294، والتاريخ الكبير 3/ 267، والجرح والتعديل 3/ 1227، وسير أعلام النبلاء 5/ 214، وميزان الاعتدال 1/ 2393، وتهذيب التهذيب 3/ 72، وشذرات الذهب 1/ 175.(7/267)
وكان يلي شراء الشيء بنفسه من السوق، وكان يصوم الاثنين والخميس.
وتوفي بالراس في هذه السنة.
693- عبد الواحد بن زيد:
كان متعبدا كثير البكاء، يقص على أصحابه فيموت في المجلس جماعة، وصلى الغداة بوضوء العشاء أربعين سنة.
أخبرنا محمد [1] بن أبي القاسم بإسناده عن أحمد بن أبي الحواري، قال: قال لي أبو سليمان الداراني:
أصاب عبد الواحد بن زيد الفالج، فسأل الله أن يطلقه في وقت الوضوء، فإذا أراد أن يتوضأ انطلق، وإذا رجع إلى سريره عاد إليه الفالج.
694- يزيد بن أبي حبيب، واسم حبيب سويد مولى شريك بن الطفيل العامري يكنى أبا رجاء [2]
ولد سنة ثلاث وخمسين، وكان نوبيا وكان يقول: كان أبي نوبيا من أهل دملقة [3] فابتاعه شريك بن الطفيل فأعتقه، فولاؤنا له.
يروي عن أبي الطفيل، وعبد الله بن الحارث بن جزء. روى عنه سليمان التيمي. وكان يزيد مفتي أهل مصر في أيامه، وهو أول من أظهر العلم بمصر والكلام في الحلال والحرام ومسائل الفقه، وإنما كانوا يتحدثون قبل ذلك بالفتن والملاحم، والترغيب في الخير، وكان أحد الثلاثة الذين جعل إليهم عمر بن عبد العزيز الفتيا بمصر، وكان حليما عاقلا. ولما كثرت مسائل الناس على يزيد لزم منزله.
وكان الليث بن سعد يقول: كان يزيد بن أبي حبيب سيدنا وعالمنا
695- يزيد بن القعقاع، أبو جعفر المخزومي القاري المديني، مولى عبد الله بن عباس: [4]
سمع من عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس. روى عنه مالك بن أنس. وكان إمام أهل المدينة في القرآن. وكان تقيا خيرا، توفي في أيام مروان بن محمد بن مروان.
__________
[1] في الأصل: «أحمد» . وما أوردناه من ت.
[2] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 202، تقريب التهذيب 2/ 363، والجرح والتعديل 9/ 267، والتاريخ الكبير 4/ 2/ 336.
[3] «دملقة» ، مدينة كبيرة في بلاد النوبة، وهي منزلة ملك النوبة على شاطئ النيل.
[4] الجرح والتعديل 9/ 285، والتاريخ الكبير 4/ 2/ 353.(7/268)
ثم دخلت سنة تسع وعشرين ومائة
فمن الحوادث فيها هلاك شيبان بن عبد العزيز اليشكري [1] . وكان السبب في ذلك أن الخوارج لما قتل الضحاك والخيبري بعده ولوا عليهم شيبان وبايعوه، فقاتلهم مروان تسعة أشهر، فلجئوا إلى الموصل واتبعهم مروان وخندق بإزائهم. فكتب مروان إلى يزيد بن عمر بن هبيرة يأمره بالمسير من قرقيسياء بجميع من معه إلى عبيدة بن سوار خليفة الضحاك بالعراق، فلقي خيوله بعين التمر، فقاتلهم عبيدة فهزمهم، ثم تجمعوا لهم بالكوفة بالنخيلة فهزمهم، ثم اجتمعوا بالصراة ومعهم عبيدة، فقاتلهم [فقتل عبيدة] [2] وهزم أصحابه، [واستباح عسكرهم فلم يكن لهم بقية بالعراق، وخرج شيبان وأصحابه] [3] ، من الموصل فتبعهم مروان فمضوا إلى الأهواز، فوجه مروان إلى عامر بن ضبارة ثلاثة نفر من قواده في ثلاثة آلاف، وأمره باتباعهم إلى أن يستأصلهم، فتبعهم فوردوا فارس فمضى شيبان إلى ناحية البحرين فقتل بها.
وكان مع شيبان سليمان بن هشام، فركب مع مواليه وأهل بيته السفن إلى السند.
وقيل: كان ذلك في سنة ثلاثين.
__________
[1] تاريخ الطبري 7/ 349.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/269)
[إظهار الدعوة العباسية بخراسان] [1] .
وفي هذه السنة- أعني سنة تسع وعشرين، ومائة [2] أمر إبراهيم بن مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس أبا مسلم بالانصراف إلى شيعته بخراسان، وأمرهم بإظهار الدعوة العباسية، والتسويد. فقدم أبو مسلم مرو في أول شعبان. وقيل: في أول يوم من رمضان.
فدفع كتاب الإمام إلى سليمان بن كثير، وكان فيه: أن أظهر دعوتك ولا تربص [3] . فنصبوا أبا مسلم وقالوا: رجل من أهل البيت، ودعوا إلى طاعة بني العباس، وأرسلوا إلى كل من أجابهم قريب وبعيد، فأمروه بإظهار أمرهم والدعاء [إليهم] [4] .
ونزل أبو مسلم قرية من قرى خزاعة [5] ، فبث دعاته في الناس، فوجه النضر التميمي إلى مروالروذ [6] ، ووجه أبا عاصم عبد الرحمن بن سليمان [7] إلى الطالقان، ووجه أبا الجهم بن عطية إلى خوارزم.
فلما كانت [8] ليلة الخميس لخمس بقين من رمضان عقد اللواء الذي بعث به للإمام على رمح طوله أربعة عشر ذراعا، وعقد الراية التي بعث بها للإمام على لواء طوله ثلاثة عشر ذراعا. وكان اللواء يدعى الظل، والراية تدعى السحاب- وكان تأويل الاسمين عندهم أن السحاب يطبق الأرض، وكذلك دعوة بني العباس تطبق الأرض. وتأويل الظل أن الأرض لا تخلو من الظل أبدا، كذلك لا تخلو الأرض من خليفة عباسي- ولبس السواد هو وسليمان بن كثير وأخوه [سليمان] [9] ومواليه ومن أجاب
__________
[1] العنوان ساقط من الأصول.
[2] في ت: «وفي سنة تسع وعشرين» .
[3] في الأصل: «ولا تتربص» . وما أوردناه من ت والطبري.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصلين، أوردناه من الطبري.
[5] في الطبري تسمى: «سفيذنج» .
[6] كذا في الأصلين، وفي الطبري: «مروروذ» .
[7] كذا في الأصل، وفي الطبري وت: «سليم» .
[8] في الأصل: «فلما كان» . وما أوردناه من ت.
[9] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، وما أوردناه من الطبري 7/ 356.(7/270)
الدعوة، وأوقد النيران [1] ، فتجمع أصحابه مغذين، وقدم عليه من الأماكن من أجاب.
فلما كان يوم الفطر أمر أبو مسلم سليمان بن كثير أن يصلي به وبالشيعة، ونصب له منبرا في العسكر، وأمره أن يبدأ بالصلاة قبل الخطبة [بغير] [2] أذان ولا إقامة- وكانت بنو أمية تبدأ بالخطبة بأذان [3] ، ثم الصلاة بإقامة على صلاة يوم الجمعة، ويخطبون على المنابر جلوسا في الأعياد والجمع- وأمر أبو مسلم سليمان بن كثير أن يكبر في الركعة الأولى ست تكبيرات، وفي الثانية خمس تكبيرات- وكانت بنو أمية تكبر في الركعة الأولى أربع تكبيرات يوم العيد، وفي الثانية ثلاث تكبيرات- فلما قضى سليمان بن كثير الصلاة والخطبة انصرف أبو مسلم [والشيعة إلى طعام قد أعده لهم أبو مسلم] [4] ، فطعموا مستبشرين.
وكان أبو مسلم في أول الأمر يكتب إلى نصر بن سيار: الأمير نصر. فلما قوي أبو مسلم بمن معه بدأ بنفسه فكتب إلى نصر، وأمر أن يقطع مادة نصر بن سيار من مروالروذ ومن بلخ، فوجه نصر خيلا لمحاربة أبي مسلم وذلك بعد ثمانية عشر شهرا من ظهوره، فوجه إليه أبو مسلم مالك بن الهيثم الخزاعي، فالتقوا بقرية فانهزم أصحاب نصر وقتل منهم جماعة وجيء برءوسهم، فأمر أبو مسلم بنصب تلك الرءوس، فهي أول حرب كانت بين الشيعة العباسية [5] وشيعة بني مروان.
وفي هذه السنة: غلب خازم بن خزيمة [6] على مروالروذ، وقتل عامل نصر بن سيار الذي كان عليها، وكتب بالفتح إلى أبي مسلم [7] .
وفيها تحالف عامة من كان بخراسان من قبائل العرب على قتال أبي مسلم [8] .
وذلك حين قوي أمره، فبعث أبو مسلم النضر بن نعيم الضبي إلى هراة وعليها
__________
[1] في الطبري: «وأوقدوا النيران» .
[2] ما بين المعقوفتين: من هامش الأصل.
[3] في الأصل: «بالخطبة بأذان ولا إقامة» . وما أوردناه من ت والطبري.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[5] في ت: «الشيعة الهاشمية» .
[6] في الأصلين: «خازم بن أبي خزيمة والتصحيح من الطبري» .
[7] تاريخ الطبري 7/ 360.
[8] تاريخ الطبري 7/ 363.(7/271)
عيسى بن عقيل الليثي فطرده من هراة، وضاق المنزل بأبي مسلم لكثرة عسكره، فارتاد منزلا فسيحا وحفر به خندقا، وذلك لتسع خلون من ذي القعدة. واستعمل على الشرطة مالك بن الهيثم وعلى الحرس خالد بن عثمان، وعلى ديوان الجند كامل بن مظفر، وعلى الرسائل مسلم بن صبيح [1] . وكان القاسم بن مجاشع يصلي بأبي مسلم الصلوات، ويقص بعد العصر، فيذكر فضل بني هاشم ومعايب بني أمية، وكان أبو مسلم كرجل من الشيعة في هيئته حتى أتاه عبيد الله بن مسلم بالأروقة، والفساطيط والمطابخ وحياض الأدم للماء.
وبلغت عدة أصحاب أبي مسلم سبعة آلاف، فأعطى لكل رجل ثلاثة دراهم، ثم أعطاهم أربعة أربعة، وكتب نصر بن سيار إلى مروان يعلمه حال أبي مسلم وخروجه وكثرة من معه، وأنه يدعو إلى إبراهيم بن محمد، وكتب بأبيات شعر.
أرى بين الرماد وميض جمر [2] ... فأحج بأن يكون له ضرام [3]
فإن النار [4] بالعودين تذكى ... وإن الحرب أولها [5] الكلام
فقلت من التعجب ليت شعري ... أأيقاظ أمية أم نيام
فكتب إليه مروان: الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، فاحسم الثؤلول قبلك [6] ، فقال نصر: أما صاحبكم فقد أعلمكم أن لا نصر عنده. وجاء كتاب إبراهيم الإمام يلوم أبا مسلم أن لا يكون واثب نصرا، وأمره ألا يدع بخراسان متكلما بالعربية إلا قتله.
وكتب مروان إلى الوليد بن معاوية بن عبد الملك وهو على دمشق أن يكتب إلى عامل البلقاء فليأخذ إبراهيم بن محمد، ويشده وثاقا، ويبعث به إليه في خيل، فأخذه فحمله الوليد إلى مروان.
__________
[1] كذا في الأصلين، وفي الطبري: «أسلم بن صبيح» .
[2] في ت: «وميض فار» .
[3] في الأصل: «وأحج أن يكون له ضرام» . وفي ابن الأثير: «وأخشى أن يكون له ضرام» .
وفي ت: «ويوشك أن يكون له ضرام» . وما أوردناه من الطبري.
[4] في الأصل: «النارين» .
[5] في الطبري: «مبدؤها» .
[6] في الأصل: «قلبك» . وما أوردناه من ت.(7/272)
وفي هذه السنة: وافى [الموسم] [1] أبو حمزة الخارجي من قبل عبد الله بن يحيى مخالفا مروان بن محمد [2] ، فلم يشعر الناس بعرفة إلا وقد طلعت أعلام سود، فسألهم الناس: ما حالكم؟ فأخبروهم بخلافهم مروان وآل مروان والتبرؤ منهم.
فراسلهم عبد الواحد بن سليمان في الهدنة، فقالوا: نحن بحجنا أضن [3] ، فصالحهم على أنهم جميعا آمنون حتى ينفر الناس النفر الأخير، ويصبحوا من الغد، فوقفوا على حدة بعرفة. ودفع بالناس عبد الواحد، ثم مضى إلى المدينة فضرب على الناس البعث.
وفيها [4] : حج بالناس عبد الواحد، وكان هو العامل على مكة والمدينة، والطائف. وكان على العراق يزيد بن عمر بن هبيرة، وعلى قضاء الكوفة الحجاج بن عاصم المحاربي، وعلى قضاء البصرة عباد بن منصور، وعلى خراسان نصر بن سيار.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
696- خالد بن أبي عمران التجيبي، يكنى أبا عمر [5] :
سمع من ابن جزء، وكان فقيه أهل المغرب ومصر يفتيهم، وكان مستجاب الدعوة. توفي في هذه السنة بإفريقية. وقيل: في سنة خمس وعشرين.
697- عاصم بن أبي النجود، أبو بكر الأسدي الخياط، مولى لبني [6] خزيمة بن مالك بن نضر بن قعص، واسم أبي النجود: بهدلة:
أدرك عاصم ثلاثة عشر صحابيا، وكان كثير الرواية، وقرأ على أبي عبد الرحمن السلمي.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] الخبر في تاريخ الطبري 7/ 375.
[3] في الأصل: «بحجنا أطن» . وما أوردناه من ت.
[4] في ت: «وحج بالناس في هذه السنة» .
[5] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 207، وطبقات خليفة 295، وعلل أحمد 1/ 229، 232، 305، والتاريخ الكبير 3/ 560، والجرح والتعديل 3/ 559، وتاريخ الإسلام 5/ 66، وسير أعلام النبلاء 5/ 378، وتهذيب التهذيب 3/ 110، وشذرات الذهب 1/ 176.
[6] طبقات ابن سعد 6/ 224، وطبقات خليفة 159، والتاريخ الكبير 6/ 3062، وتاريخ واسط 194،(7/273)
698- يحيى بن أبي كثير، مولى طيِّئ، يكنى أبا نصر:
أخبرنا محمد بن أبي القاسم بإسناد له عن أبي عمرو، عن يحيى بن أبي كثير، قال:
ما صلح منطق رجل إلا عرفت ذلك في سائر عمله، ولا فسد منطقه إلا عرفت ذلك في سائر عمله.
أسند يحيى بن أبي كثير عن أنس، وابن أبي أوفى وغيرهما من الصحابة.
وتوفي في هذه السنة. وقيل: في سنة اثنتين وثلاثين.
__________
[283،) ] والجرح والتعديل 6/ 1887، وسير أعلام النبلاء 5/ 256، وتاريخ الإسلام 5/ 89، وميزان الاعتدال 2/ 4044، 4068، وتهذيب التهذيب 5/ 38، وتقريب التهذيب 1/ 283.(7/274)
ثم دخلت سنة ثلاثين ومائة
فمن الحوادث فيها دخول أبي مسلم مرو ونزوله دار الإمارة بها، ومطابقة علي بن جديع الكرماني إياه على حرب نصر بن سيار، ودخلها لتسع خلون من جمادى الأولى يوم الخميس.
وكان سبب موافقة علي أبا مسلم [1] ، أن أبا مسلم وبخه وقال: أما تستحي من مصالحة نصر وقد قتل أباك بالأمس وصلبه، فرجع عنه فانتقض صلح العرب الذين اصطلحوا على قتال أبي مسلم، فتمكن لذلك أبو مسلم من دخول دار الإمارة بمرو، وعبأ جنوده لقتال نصر، فأرسل إلى جماعة بالقتال، ففهم لاهز، فقرأ لاهز (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) 28: 20 [2] ففطن فهرب وذلك يوم الجمعة لعشر خلون من جمادى الأول هذه السنة، وهو اليوم الثاني من دخول أبي مسلم دار الإمارة.
وصفت مرو لأبي مسلم، وأمر أبا منصور طلحة بن رزيق أن يأخذ البيعة على الجند، وكان طلحة أحد النقباء الاثني عشر الذين اختارهم محمد بن علي من السبعين الذين استجابوا له حين بعث رسوله إلى خراسان سنة ثلاث ومائة، أو أربع ومائة، وأمره أن يدعو إلى الرضا ولا يسمي أحدا.
__________
[1] في الأصل: «موافقة على أبي مسلم» . وما أوردناه من ت والطبري.
[2] سورة: القصص، الآية: 20.(7/275)
- تسمية الاثني عشر:
سليمان بن كثير، ومالك بن الهيثم، وزياد بن صالح، وطلحة بن رزيق [1] ، وعمرو بن أعين، وقحطبة بن شبيب واسم قحطبة زياد، وموسى بن كعب أبو عيينة، ولاهز بن قرظ [2] ، والقاسم بن مجاشع، وأسلم بن سلام، وأبو داود خالد بن إبراهيم، وأبو علي الهروي.
وقد جعل بعض الرواة شبل بن طهمان مكان عمرو بن أعين، وعيسى بن كعب مكان موسى، وأبا النجم إسماعيل بن عمران مكان أبي علي الهروي.
ولما هرب نصر بن سيار سار أبو مسلم إلى معسكره، وأخذ ثقات أصحابه وصناديد مضر الذين كانوا في عسكره، فكتفهم وحبسهم ثم أمر بقتلهم جميعا. ومضى نصر بن سيار حتى نزل سرخس فيمن اتبعه، وكانوا ثلاثة آلاف، ومضى أبو مسلم وعلي بن جديع في طلبه، فطلباه ليلتهما ثم رجعا إلى مرو، وقيل: إن لاهزا قرأ: (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) 28: 20 [3] فقال: يا لاهز أتدغل في الدين [4] ، فقدمه فضرب عنقه.
وفي هذه السنة: قتل شيبان بن سلمة الحروري، وسبب [قتله] [5] ، أنه كان هو وعلي بن جديع مجتمعين على قتال نصر، فلما صالح علي بن الكرماني أبا مسلم، وفارق شيبان، تنحى شيبان عن مرو إذ علم أنه لا طاقة له بحرب أبي مسلم وعلي بن جديع مع اجتماعهما على خلافة وقد هرب نصر من مرو، فأرسل إليه أبو مسلم يدعوه إلى بيعته، فأرسل شيبان: بل أنا أدعوك، فقال أبو مسلم: إن لم تدخل في أمرنا فارتحل، فسار إلى سرخس، فاجتمع إليه جمع من بكر بن وائل، فأرسل إليه أبو مسلم يدعوه ويسأله أن يكف، فأخذ الرسل فحبسهم، فكتب أبو مسلم إلى بسام بن إبراهيم يأمره أن يسير إلى شيبان فيقاتله، ففعل فهزمه [6] بسام، فقتل شيبان وعده من بكر بن
__________
[1] في الأصل: «زريق» . وما أوردناه من ت والطبري.
[2] كذا في الأصلين، والطبري: «لاهز بن قريظ» .
[3] سورة: القصص، الآية: 20.
[4] في ت: «أتدخل في الدين» .
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[6] في الأصل: «ففعل فهزم» . وما أوردناه من ت.(7/276)
وائل، فلما قتل شيبان مر رجل من بكر بن وائل برسل أبي مسلم وهم في بيت، فأخرجهم وقتلهم [1] . ثم قتل أبو مسلم علي بن جديع.
وفي هذه السنة: قدم قحطبة بن شبيب على أبي مسلم خراسان منصرفا من عند إبراهيم بن محمد ومعه لواؤه الذي عقده له إبراهيم، فوجهه أبو مسلم حين قدم عليه على مقدمته، وضم إليه الجيوش، وجعل إليه العزل والاستعمال، وكتب إلى الجنود بالسمع والطاعة.
فوجه قحطبة إلى نيسابور للقاء نصر، وذلك أن شيبان الحروري لما قتل لحق أصحابه بنصر وهو بنيسابور، فبلغه فارتحل حتى نزل قومس وتفرق عنه أصحابه.
وفيها: قتل نباتة بن حنظلة عامل يزيد بن هبيرة على جرجان، وذلك أن يزيد بن عمر بن هبيرة بعث نباتة بن حنظلة إلى نصر، فأتى فارس وأصبهان ثم سار إلى الري وأتى إلى جرجان، فأرسل أبو مسلم إلى قحطبة، فلقيه فقتل نباتة وانهزم أهل الشام وقتل منهم عشرة آلاف.
وفيها: كانت الوقعة بقديد بين أبي حمزة الخارجي وأهل المدينة. وذلك أنه خرج فلقي قريشا بقديد، فأصاب منهم عددا كثيرا، ثم ورد فلال الناس المدينة، ثم دخل أبو حمزة المدينة، ومضى عبد الواحد بن سليمان والي المدينة إلى الشام فرقي أبو حمزة المنبر وقال: يا أهل المدينة، سألناكم عن ولاتكم فأسأتم القول فيهم، وسألناكم: هل يقتلون بالظن؟ فقلتم: نعم، سألناكم: هل يستحلون المال الحرام والفرج الحرام؟
فقلتم: نعم، فقلنا لكم: تعالوا نناشدهم إلا تنحوا عنا وعنكم، فقلتم: لا تفعلوا ذلك، فقلنا: تعالوا نقاتلهم فإن نظهر نأت بمن يقيم فينا وفيكم كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فقلتم: لا نقوى، فقلنا لكم: فخلوا بيننا وبينهم، فإن نظفر نعدل في أحكامكم.
ونحملكم على سنة نبيكم صلى الله عليه وسلّم، ونقسم فيئكم بينكم فأبيتم، وقاتلتمونا دونهم، فقاتلناكم فأبعدكم الله وأسحقكم.
وسبب ذلك أن الخوارج لقوا رجال المدينة بقديد، فقالوا: دعونا نمضي على حكم القرآن، فدعوهم إلى حكم بني مروان، فقالوا لهم: ما لنا حاجة بقتالكم، فأبى أهل المدينة فالتقوا يوم الخميس لسبع خلون من صفر سنة ثلاثين، فقتل أهل المدينة
__________
[1] في الأصل: «فقتلهم» .(7/277)
حتى لم يفلت منهم إلا الشريد، وقدمت الحرورية المدينة لسبع عشرة خلون من صفر، وأقاموا بها ثلاثة أشهر.
وكان أبو حمزة يقول على قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من زنى فهو كافر، ومن شك في كفره فهو كافر، ومن سرق فهو كافر [1] .
وبعث مروان أربعة آلاف من عسكره ليقاتلهم [2] ، واستعمل عليهم ابن عطية، فإن ظفر مضى إلى اليمن، فقاتل عبد الله بن يحيى بن زيد ومن تبعه. فلما التقى أبو حمزة وابن عطية بوادي القرى قال أبو حمزة: لا تقاتلوهم حتى تختبروهم [3] ، فصاحوا: ما تقولون في القرآن؟ فصاح ابن عطية: نضعه في جوف الجوالق، قالوا: فما تقولون في اليتيم؟ قالوا: نأكل ماله ونفجر بأمه، فقاتلوهم. فلما جاء الليل قالوا:
ويحك يا ابن عطية إن الله قد جعل الليل سكنا، فاسكن نسكن، فأبى فقاتلهم حتى قتلهم وفر منهم قوم إلى المدينة، فقتلهم أهل المدينة.
وأقام ابن عطية بالمدينة شهرا، ثم مضى إلى عبد الله بن يحيى بصنعاء، فلما وصل التقيا، فقتل عبد الله وبعث برأسه إلى مروان، فكتب مروان إلى ابن عطية: أغذ السير لتحج بالناس، فأسرع وخلف عسكره وخيله، فلقيته خيل، فقالوا: أنتم لصوص، فأخرج ابن عطية كتابه وقال: هذا كتاب أمير المؤمنين وعهده علي الحج، وأنا ابن عطية، قالوا: هذا باطل لكنكم لصوص. فقتلوه وقتلوا أصحابه.
وفي هذه السنة: قتل قحطبة بن شبيب من أهل خراسان زهاء ثلاثين ألفا. وذلك أنهم أجمعوا بعد قتل نباتة على الخروج على قحطبة، فقتل منهم هذا المقدار.
وكتب أبو مسلم إلى قحطبة أن يتبع نصرا، فكتب نصر إلى ابن هبيرة يستمده فأبطأ عليه المدد.
وفي هذه السنة: غزا الوليد بن هشام الصائفة.
وفيها: وقع طاعون بالبصرة.
__________
[1] الخبر في تاريخ الطبري 7/ 397.
[2] تاريخ الطبري 7/ 398.
[3] كذا في الأصول، وبعض نسخ الطبري المخطوط. وما أوردناه من الطبري المطبوع.(7/278)
وفيها: حج بالناس [1] محمد بن عبد الملك بن مروان، وكان إليه مكة والمدينة والطائف. وكان على العراق يزيد بن هبيرة [2] ، وعلى قضاء الكوفة الحجاج بن عاصم المحاربي، وعلى قضاء البصرة عباد بن منصور، وعلى خراسان نصر بن سيار.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
699- بديل بن ميسرة العقيلي [3] :
أسند عن أنس وغيره، وكان متعبدا طويل البكاء، ما زال يبكي حتى ذهب بصره.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم [بإسناد له] [4] ، عن سيار، قال: قال مهدي بن ميمون: رأيت ليلة مات بديل قائلا يقول: ألا إن بديلا أصبح من سكان الجنة.
700- الخليل بن أحمد، أبو عبد الرحمن الفراهيدي الأزدي النحوي البصري [5] :
ولا يعرف أحد سمي بأحمد بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أحمد والد الخليل.
سمع الخليل من جماعة، وبرع في علم اللغة وإنشاء العروض، وروى عنه حماد بن زيد، والنضر بن شميل. وكان الخليل بالبصرة، وهو أليق بالصحة [6] ، وكان
__________
[1] في ت: «وحج بالناس في هذه السنة» .
[2] في الطبري: «يزيد بن عمر بن هبيرة» .
[3] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 9، وطبقات خليفة 213، والتاريخ الكبير 2/ 1/ 122، والجرح والتعديل 1/ 1/ 428، وتاريخ الإسلام 5/ 47، وتهذيب التهذيب 1/ 424.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[5] التاريخ الكبير 3/ 681، والمعارف 541، والجرح والتعديل 3/ 1734، وطبقات النحويين للزبيدي 47، وإنباه الرواة 1/ 341، ووفيات الأعيان 2/ 242، وسير أعلام النبلاء 7/ 429، وتهذيب التهذيب 3/ 163، وبغية الوعاة 1/ 557، وشذرات الذهب 1/ 275.
وفي تاريخ وفاته خلاف: قال ابن خلكان: وتوفي سنة سبعين ومائة، وقيل: خمس وسبعين ومائة، وقيل عاش أربعا وسبعين سنة.
وقال ابن قانع إنه توفي سنة ستين ومائة. وأورده ابن كثير في البداية وقال: ولد الخليل سنة مائة من الهجرة، ومات بالبصرة سنة سبعين ومائة على المشهور، وقيل سنة ستين، وزعم ابن الجوزي في كتابه «شذور العقود» . أنه توفي سنة ثلاثين ومائة، وهذا غريب جدا والمشهور الأول.
[6] كذا في الأصلين، وأغلب الظن أنه سبق قلم من الناسخ، وذلك لتكرار هذه العبارة في مكانها الصحيح في الرواية الآتية بعد قليل.(7/279)
الخليل منفردا بعلم العربية متعبدا ذا زهادة في الدنيا.
كتب إليه سليمان بن علي الهاشمي يستدعيه لتعليم ولده بالنهار ومنادمته بالليل، وبعث إليه ألف دينار ليستعين بها على حاله، فأخرج إلى الرسول زنبيلا فيه كسر يابسة، فأراه إياها [1] وقال له: إني ما دمت أجد هذه الكسر فإني عنه غني وعن غيره، ورد الألف دينار وقال للرسول: اقرأ على الأمير السلام وقل له: إني قد ألفت قوما، وألفوني، أجالسهم طول نهاري وبعض ليلي، وقبيح لمثلي أن يقطع عادة تعودها [2] إخوانه، وكتب إليه بهذه الأبيات:
أبلغ سليمان أني عنه في سعة ... وفي غنى غير أني لست ذا مال
وإن بين الغنى والفقر منزلة ... مقرونة بجديد ليس بالبالي
سخى بنفسي أني لا أرى أحدا ... يموت هزلا ولا يبقى على حال
والفقر في النفس لا في المال نعرفه ... ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال
والرزق عن قدر لا العجز ينقصه ... ولا يزيدك فيه حول محتال
كل امرئ بحبال الموت مرتهن ... فاعمد لبالك إني عامد بالي
وقد روي لنا أن الذي بعث إليه سليمان بن حبيب المهلبي، بعث إليه من أرض السند. وكان الخليل بالبصرة، وهذا أليق بالصحة، وقيل: من أرض الأهواز، ثم آل الأمر إلى أن صار الخليل وكيلا ليزيد بن حاتم المهلبي، وكان يجري عليه في كل شهر مائتي درهم.
قال الثوري: اجتمعنا بمكة، أدباء كل أفق، فتذاكرنا أمر العلماء، فجعل أهل كل بلد يرفعون علماءهم ويصفونهم حتى جرى ذكر الخليل فلم يبق أحد منهم إلا قال:
الخليل أذكى العرب، وهو مفتاح العلوم ومصرفها.
وقال نصر بن علي الجهضمي، عن أبيه: كان الخليل من أزهد الناس وأعلاهم نفسا، وأشدهم [3] تعففا، ولقد كان الملوك يقصدونه ويتعرضون [له] [4] لينال منهم فلم
__________
[1] «فأراه إياها» ساقطة من ت.
[2] في الأصل: «تعودوها إخوانه» . وما أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «أشددهم» . وما أوردناه من ت.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/280)
يكن يفعل ذلك، وكان يعيش من بستان خلفه له أبوه.
وقال عبيد الله بن محمد بن عائشة: كان الخليل يحج سنة ويغزو سنة حتى مات.
وقال النضر بن شميل: ما رأينا أحدا أقبل الناس إلى علمه فطلبوا ما عنده أشد تواضعا من الخليل.
وقال محمد بن سلام: سمعت مشايخنا يقولون: لم يكن في العرب بعد الصحابة أذكى من الخليل ولا أجمع ولا كان في العجم أذكى من ابن المقفع ولا أجمع.
وقال النضر: سمعت الخليل يقول: الأيام ثلاثة، فمعهود وهو أمس، ومشهود وهو اليوم، وموعود وهو غد.
وقال الخليل: ثلاث تيسر المصائب: مر الليالي، والمرأة الحسناء، ومحادثة الرجال.
وأنشد لنفسه:
يكفيك من دهرك هذا القوت ... ما أكثر القوت لمن يموت
701- شيبة بن نصاح بن سرخس بن يعقوب القاري، مولى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم [1] :
توفي في هذه السنة.
702- محمد بن المنكدر بن عبد الله بن الهدير، أبو عبد الله [2] :
وكان المنكدر دخل على عائشة فقالت: لك ولد؟ قال: لا، فقالت: لو كان عندي عشرة آلاف [درهم] [3] لوهبتها لك، فما أمسيت حتى بعث إليها معاوية بمال، فقالت:
ما أسرع ما ابتليت، وبعثت إلى المنكدر بعشرة آلاف فاشترى منها جارية، فهي أم محمد وأبي بكر وعمر، وكانوا عباد المدينة.
__________
[1] طبقات ابن سعد (مخطوط) ، وطبقات خليفة 261، والتاريخ الكبير 4/ 2662، والجرح والتعديل 4/ 1471، وتهذيب التهذيب 2/ 84، وتاريخ الإسلام 5/ 86، وتهذيب التهذيب 4/ 377.
[2] طبقات ابن سعد (مخطوط) ، وغيره.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/281)
وسمع محمد من جابر بن عبد الله، وأميمة بنت رقية، والحسن، وعروة، وسعيد بن جبير في آخرين. وتوفي بالمدينة.
أخبرنا إسماعيل بن محمد، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن هبة اللَّه الطبري، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر بْن درستويه، قال: حدثنا يعقوب بن سفيان، قال: حدثني زيد بن بشر، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن زيد، قال:
أتى صفوان بن سليم إلى محمد بن المنكدر وهو في الموت، فقال: يا أبا عبد الله، كأني أراك قد شق عليك الموت، قال: فما زال يهون عليه الأمر حتى كان في وجهه المصابيح، ثم قال محمد: لو ترى ما أنا فيه لقرت عينك، ثم قضى رحمه الله.
703- محمد بن سوقة، أبو بكر البزاز، مولى بجيلة [1] :
وكان بزازا. [أدرك أنس بن مالك، وأبا الطفيل، وروى عن التابعين] [2] ، وكان سفيان يقول: ما بقي أحد يدفع به عن أهل الكوفة إلا ابن سوقة. وكانت عنده عشرون ومائة ألف فقدمها، وكان يقول: أحب الأشياء إلي إدخال السرور على المؤمن.
أخبرنا أحمد بن محمد المذاري، قال: أخبرنا الحسن بن أحمد بن البناء، قال:
أخبرنا ابن بشران، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن صفوان، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو بكر القرشي، قال: حدثنا محمد بن علي بن شقيق، قال: حدثنا إبراهيم بن الأشعث، قال: حدثنا فضل بن عياض، عن محمد بن سوقة، قال:
أمران لو لم نعذب إلا بهما لكنا مستحقين بهما عذاب الله: أحدنا يزاد الشيء من الدنيا فيفرح فرحا ما علم الله أنه فرحه بشيء زاده قط في دينه، وينقص الشيء من الدنيا فيحزن عليه حزنا ما علم الله أنه حزنه على شيء نقصه في دينه.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي، قال: أخبرنا حَمَدُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الحافظ بإسناد له عن مهدي بن سابق، قال:
طلب ابن أخي محمد بن سوقة منه شيئا فبكى، فقال له: يا عم، لو علمت أن
__________
[1] طبقات ابن سعد 6/ 237، والتاريخ الكبير 1/ 1/ 102، والجرح والتعديل 7/ 281، وتقريب التهذيب 2/ 168.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/282)
مسألتي تبلغ منك هذا ما سألتك، قال: ما بكيت لسؤالك، إنما بكيت لأني لم أبتدئك قبل سؤالك.
704- محمد بن جحادة الأودي، مولى لبني أود [1] :
روى عن أبي صالح، وروى عنه الثوري.
أنبأنا عَبْد الوهاب الأنماطي، قَالَ: أَخْبَرَنَا المبارك بْن عبد الجبار، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْفَتْحِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الله الدقاق، قال: أخبرنا أبو بكر القرشي، قال: حدثني مُحَمَّد بْن الحسين، قَالَ: حَدَّثَنَا الحميدي، عَنْ سفيان، قال:
كان محمد بن جحادة من العابدين، وكان يقال إنه لا ينام من الليل إلا أيسره.
قال: فرأت امرأة من جيرانه كأن حللا فرقت على أهل مسجدهم، فلما انتهى الذي يفرقها إلى محمد بن جحادة دعى بسفط مختوم، وأخرج منه حلة صفراء. قالت: فلم يقم لها بصري، فكساه إياها وقال: هذه لك بطول السهر. قالت تلك المرأة: لقد كنت أراه بعد ذاك فأتخايلها عليه.
705- مالك بن دينار، أبو يحيى، مولى امرأة من بني سامة بن لؤي [2] :
وكان ثقة يكتب المصاحف، وكان زاهدا في الدنيا. وأسند الحديث عن أنس.
أخبرنا [3] أحمد بن أحمد المتوكلي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْر بْن ثابت، قَالَ: أخبرنا علي بن المظفر الأصفهاني، قال: حدثنا حبيب بن الحسن، قال: حدثنا أحمد بن محمد [الشطري] [4] ، قال: حدثنا حسين بن جعفر بن سليمان الضبعي، قال: سمعت أبي يقول:
مر والي البصرة بمالك يرفل، فصاح به مالك: أقل من مشيتك هذه، فهم خدمه به، فقال: دعوه، ما أراك تعرفني، فقال له مالك: ومن أعرف بك مني، أما أولك فنطفة
__________
[1] طبقات ابن سعد 6/ 233، والتاريخ الكبير 1/ 1/ 54.
[2] والجرح والتعديل 7/ 222، وتقريب التهذيب 2/ 150.
[3] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 11، والجرح والتعديل 8/ 208، والتاريخ الكبير 4/ 1/ 309.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/283)
مذرة، وأما آخرك فجيفة قذرة، ثم أنت بين ذلك تحمل العذرة، فنكس الوالي رأسه ومشى.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْن أيوب [1] ، قَالَ: أخبرنا الحسن بن محمد الخلال، قال: أخبرنا ابن شاهين، قال: حدثنا ابن أبي داود، قال:
حدثنا سلمة بن شبيب، قال: حدثنا عبد الله بن أبي بكر، عن جعفر بن سليمان، عن مالك بن دينار:
أنه كان يرى يوم التروية بالبصرة، ويوم عرفة بعرفات.
أخبرنا محمد بن أبي حبيب، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن عَبْد اللَّه بْن أبي صادق، قَالَ:
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ باكويه، قال: حدثنا بكر بن أحمد، قال: حدثنا محمد بن يعقوب بن إسحاق، قال: حدثنا أحمد بن الحسين النيسابوري، قَالَ:
سمعت مُحَمَّد بن عبد الله الطبري، يقول: سمعت الحسين بن علي الحلواني يقول:
دخل اللصوص إلى بيت مالك بن دينار فلم يجدوا في البيت شيئا فأرادوا الخروج من داره، فقال مالك: ما عليكم لو صليتم ركعتين.
706- يزيد بن أبان الرقاشي [2] :
أسند عن أنس. وكان عابدا كثير البكاء والسهر حتى قال فيه ثابت البناني: ما رأيت أصبر على طول القيام والسهر من يزيد بن أبان [الرقاشي] [3] ، وكان بعد هذا يقول: وا لهفاه سبقني العابدون وقطع بي.
أَخْبَرَنَا عَبْد الوهاب الحافظ، قَالَ: أَخْبَرَنَا المبارك بن عبد الجبار، قال: أخبرنا علي بن أحمد الملطي، قال: أخبرنا أحمد بْن يوسف، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن صفوان، قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْر القرشي، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن [4] ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْد اللَّه بْن محمد التيمي، قال: حدثني زهير السكونيّ، قال:
__________
[1] «قال: أخبرنا علي بن أيوب» : ساقط من ت.
[2] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 13، والتاريخ الكبير 4/ 2/ 332، والجرح والتعديل 9/ 251
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] في الأصل: «الحسن» . وما أوردناه من ت.(7/284)
كان يزيد الرقاشي قد بكى حتى تناثرت أشفاره وأحرقت الدموع مجاريها من وجهه.
707- يزيد بن عبيد بن سعد بن بكر بن هوازن، أبو وجزة السعدي الشاعر [1] :
توفي بالمدينة في هذه السنة. قال ابن قتيبة: هو أول من شبب بعجوز [2] .
__________
[1] غاية النهاية 2/ 382، والشعر والشعراء 268، وخزانة الأدب للبغدادي 2/ 150، والمعارف 491، وفي الأصل: «أبو جزء» ، خطأ.
[2] خزانة الأدب 2/ 150.(7/285)
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين ومائة
فمن الحوادث فيها توجيه قحطبة [1] ابنه الحسن، إلى نصر وهو بقومس. وذلك أنه لما قتل نباتة ارتحل نصر بن سيار فنزل الخوار ووجه قحطبة ابنه الحسن إلى قومس في محرم هذه السنة، ثم وجه إلى ابنه جماعة من الرءوس في سبعمائة، فدخلوا حائطا، فوجه إليهم نصر جندا فحصروهم، فنقبوا الحائط وخرجوا، وسار نصر حتى نزل الري، فأقام يومين ثم مرض حتى إذا كان بساوة [2] قريبا من همذان، فمات بها.
وفيها: تحول أبو مسلم من مرو إلى نيسابور، فنزلها [3] ، ولما نزل قحطبة الري كتب إلى أبي مسلم بخبره، فارتحل أبو مسلم من مرو، فنزل نيسابور وخندق بها، وبنى الجامع والمقصورة، وغصب أكثر الأرض التي بناها، إلا أن المسلمين سألوا من غصبت منه، فأباحهم الصلاة فيها. وقيل: بل استوهبها أبو مسلم ولم يأخذها غصبا.
وفيها: قتل قحطبة [4] ، عامر بن ضبارة، [وسبب ذلك أن عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر لما ابن ضبارة] [5] مضى نحو خراسان وتبعه عامر، وكتب ابن هبيرة إلى عامر وإلى ابنه داود بن يزيد بن عمر أن يسير إلى قحطبة، فسار في خمسين ألفا حتى
__________
[1] تاريخ الطبري 7/ 403.
[2] في الأصل: «بساوا» .
[3] تاريخ الطبري 7/ 404.
[4] تاريخ الطبري 7/ 405.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/286)
نزلوا أصفهان بمدينة يقال لها جي فاقتتلوا، فانهزم أهل الشام وقتلوا قتلا ذريعا، وقتل ابن ضبارة، وانهزم داود، وأصيب من عسكرهم ما لا يدري عدده من السلاح والمتاع والرقيق، ووجدوا عندهم ما لا يحصى من البرابط والطنابير والمزامير والخمر.
وفيها: كانت وقعة قحطبة بنهاوند بمن كان لجأ إليها من جنود مروان بن محمد.
وقيل: كانت هذه الوقعة بجابلق من أرض أصفهان يوم السبت لسبع بقين من رجب.
وذلك أن قحطبة أرسل إلى أهل خراسان الذين في مدينة نهاوند يدعوهم إلى الخروج إليه، فأعطاهم الأمان فأبوا، ثم أرسل إلى أهل الشام بمثل ذلك فقبلوا وبعثوا إليه: اشغل أهل المدينة حتى نفتح الباب وهم لا يشعرون. فشغل أهل المدينة بالقتال، ففتح أهل الشام الباب الذي كانوا عليه، فخرج أهل خراسان، فدفع قحطبة كل رجل منهم إلى رجل من قواد أهل خراسان، ثم أمر مناديه أن ينادي: من كان في يديه أسير ممن خرج إلينا من المدينة فليضرب عنقه وليأتنا برأسه، ففعلوا فلم يبق أحد من الذين كانوا هربوا من أبي مسلم وصاروا في ذلك الحصن إلا قتل، ما خلا أهل الشام فإنه أخلى سبيلهم، وأخذ عليهم الأيمان ألا يمالئوا عليه عدوا.
وفي هذه السنة: سار قحطبة نحو ابن هبيرة [1] ، وكان ابن هبيرة قد استمد مروان، وأقبل حتى نزلوا جلولاء، واحتفر الخندق الذي كانت العجم احتفرته أيام وقعة جلولاء، وأقام. وأقبل قحطبة حتى نزل قرماسين [2] ، ثم سار إلى حلوان، ثم جاء إلى خانقين، ولم يزل حتى انتهى إلى الموضع الذي فيه ابن هبيرة.
وكان في هذه السنة: طاعون سلم [3] بن قتيبة. قال الأصمعي: كان يمر في كل يوم بطريق المربد أحد عشر ألف نعش.
قال المدائني: كان هذا الطاعون في رجب واشتد في رمضان. وكان يحصى في سكة المربد كل يوم عشرة آلاف جنازة أياما، وخف في شوال.
وقال الأصمعي: مات في أول يوم سبعون ألفا، وفي الثاني نيف وسبعون ألفا،
__________
[1] تاريخ الطبري 7/ 410.
[2] في ت: «قرمسين» . وما أوردناه من الطبري.
[3] في الأصل: «سالم» . خطأ.(7/287)
وأصبح الناس في اليوم الثالث موتى. وكان على البصرة سلم بن قتيبة [1] ، فلما قام على المنبر جعل ينظر يمنة ويسرة فلا يرى أحدا يعرفه، وكان يغلق على الموتى الباب مخافة أن تأكلهم الكلاب، وينادي المنادي: أدركوا آل فلان فقد أكلتهم الكلاب.
وفي هذه السنة [2] : حج بالناس الوليد بن عروة بن محمد بن عطية السعدي، وهو كان عامل مكة والمدينة والطائف من قبل عمه عبد الملك بن محمد، وكان عامل العراق يزيد بن عمر بن هبيرة، وكان على قضاء الكوفة الحجاج بن عاصم المحاربي، وعلى قضاء البصرة عباد بن منصور الناجي.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
708- أيوب بن أبي تميمة السختياني، يكنى أبا بكر، مولى لعنزة [3] ، واسم أبي تميمة كيسان [4] :
كان ثقة ثبتا ورعا يستر حاله، وكان النساك حينئذ يشمرون ثيابهم، وكان في ذيله بعض الطول، وحج أربعين حجة. وكان الحسن يقول: سيد شباب أهل البصرة أيوب، وكان سفيان بن عيينة قد لقي ستة وثمانين من التابعين، وكان يقول: ما رأيت مثل أيوب.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر [بإسناد لَهُ] [5] ، عَنْ أبي بكر القرشي قال: حدثني أحمد بن عاصم العباداني، عن سعيد بن عامر، عن وهب بن جابر، قال: قال أيوب السختياني:
إذا ذكر الصالحون كنت منهم بمعزل.
__________
[1] في الأصل: «سالم» . خطأ.
[2] في ت: «وحج بالناس في هذه السنة» .
[3] في الأصل: «مولى العزلة» خطأ. والتصحيح من ت وكتب الرجال.
[4] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 14، والتاريخ الكبير 1/ 1/ 410، وحلية الأولياء 3/ 2، وتاريخ الإسلام 5/ 228، وسير أعلام النبلاء 6/ 15، وتذكرة الحفاظ 1/ 130.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/288)
أخبرنا ابن ناصر، قَالَ: أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو علي التميمي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بكر بْن مالك، قَالَ: حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال:
حدثني سليمان بن حرب، قال: حدثنا حماد بن زيد، قال:
كان أيوب ربما حدث بالحديث فيرق فيلتفت فيمتخط ويقول: ما أشد الزكام.
أخبرنا إسماعيل بن أبي بكر، قال: أخبرنا طاهر بْن أَحْمَد، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن مُحَمَّد بْن بشران، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ الدَّقَّاقُ، قَالَ: حدثنا الحسن بن عمر، قال: سمعت بشر بن الحارث يقول:
دخل بديل على أيوب السختياني وقد مد على فراشه سبنية حمراء يدفع الرياء، فقال له بديل: ما هذا؟ فقال أيوب: هذا خير من هذا الصوف الذي عليك.
أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا الفضل بْنُ أَحْمَد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم الأصفهاني، قال: حدثنا عثمان بن محمد العثماني، قال: حدثنا خالد بن النضر القرشي، قال: حدثنا محمد بن موسى الجرشي، قال: حدثنا النضر بن كثير السعدي، قال: حدثنا عبد الواحد بن زيد، قال:
كنت مع أيوب على حراء فعطشت عطشا شديدا حتى رأى ذلك في وجهي، فقال: ما الذي أرى بك؟ قلت: العطش قد خفت على نفسي، قال: تستر علي؟ قلت:
نعم، فاستحلفني فحلفت له ألا أخبر أحدا عنه ما دام حيا، قال: فغمز برجله على حراء فنبع الماء حتى رويت وحملت معي من الماء قال: فما حدثت به حتى مات.
قال عبد الواحد: فأتيت موسى الأسواري فذكرت ذلك له فقال: ما بهذه البلدة أفضل من الحسن وأيوب. توفي في هذه السنة وهو ابن ثلاث وستين.
709- إبراهيم بن مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ العباس [1] :
أمه أم ولد، وهو الذي يقال له الإمام، أوصى إليه أبوه، وانتشرت دعوته في خراسان كلها.
وكان شيعته يختلفون إليه، ويكاتبونه من خراسان. ووجه بأبي مسلم إلى خراسان
__________
[1] تاريخ الطبري 7/ 435.(7/289)
واليا على شيعته ودعاته، فتجرد [1] أبو مسلم لمحاربة عمال بني أمية، وقوي أمره، وأظهر لبس السواد، وغلب على البلاد يدعو إلى الإمام ويعمل بما يرد عليه من مكاتباته من غير أن يظهر للناس اسمه إلا لمن كان من الدعاة والشيعة إلى أن ظهر اسمه وانكشف، فعلم بالحالة مروان بن محمد، فأخذ إبراهيم فحبسه فمات في حبسه بأرض الشام وهو ابن ثمان وأربعين سنة. وقيل: إنه هدم عليه بيتا. وقيل: سقي لبنا فأصبح ميتا.
710- عبد الله بن ذكوان، أبو الزناد، مولى رملة بنت شيبة بن ربيعة [2] :
وذكر أن أبوه [هو] [3] أخو أبي لؤلؤة قاتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
قال الشعبي: كفلتني وأبا الزناد فاطمة بنت عثمان، فلم يزل يعلو وأسفل حتى بلغنا ما ترى. مات أبو الزناد فجأة بالحجاز في مغتسله لثلاث عشرة ليلة بقيت من رمضان، وله ست وستون سنة.
711- فرقد بن يعقوب السبخي، يكنى أبا يعقوب [4] :
أسند عن أنس، وكان يضعف في الحديث لأنه كان زاهدا متعبدا.
أخبرنا أحمد بن محمد المذاري، قال: أخبرنا الحسن بن أحمد [بن] [5] البناء، قال: أخبرنا علي بن محمد بن بشران، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن صفوان، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد الله بن محمد، قال: حدثنا هارون بن عبد الله، قال: حدثنا سيار، قال: حدثنا جعفر، قال: سمعت السبخي يقول:
اتخذوا الدنيا ظئرا، واتخذوا الآخرة أما، ألم تروا إلى الصبي يلقي نفسه على
__________
[1] في ت: «فتجرد له أبو مسلم» .
[2] طبقات ابن سعد (مخطوط) ، وطبقات خليفة 259، والتاريخ الكبير 5/ 228، والجرح والتعديل 5/ 227، وسير أعلام النبلاء 5/ 445، وتاريخ الإسلام 5/ 194، وميزان الاعتدال 2/ 4301، وتهذيب التهذيب 5/ 203.
[3] ما بين المعقوفتين: من ت.
[4] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 11. وقال: «وكان ضعيفا منكر الحديث» . والجرح والتعديل 7/ 81، والتاريخ الكبير 4/ 1/ 131.
[5] ما بين المعقوفتين: من ت.(7/290)
الظئر فإذا ترعرع وعرف والدته ترك ظئره وألقى نفسه على والدته، وإن الآخرة توشك أن تجيركم.
712- منصور بن زاذان مولى عبد الله بن أبي عقيل الثقفي [1] :
روى عن الحسن، وابن سيرين، وأرسل الحديث عن الحسن [2] ، وكان كثير التعبد والبكاء، يختم القرآن كل يوم وليلة ختمتين، ويبكي ويمسح عينيه بعمامته ويخلها كورا كورا فيمسح بها، فإذا ابتلت وضعها بين يديه.
وقيل له: ألا تخرج بنا إلى الصحراء، فقال: ينكسر الروزحاء.
أَخْبَرَنَا عَبْد الوهاب الحافظ، قَالَ: أَخْبَرَنَا المبارك بن عبد الجبار، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْفَتْحِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عبد الله الدقاق، قَالَ: حَدَّثَنَا الحسين بْن صفوان، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر القرشي، قَالَ: حدثني من سمع عمرو بن عَوْن يقول: سمعت هشيما يقول:
مكث منصور بن زاذان يصلي الفجر بوضوء العشاء عشرين سنة.
أَخْبَرَنَا المبارك بْن أَحْمَد الأنصاري، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّه بْن أَحْمَد السمرقندي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا علي بن محمد المعدل، قال: أخبرنا عثمان بن أحمد الدقاق، قال: حدثنا ابن البراء، قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله الهروي، قال: قال هشيم:
لو قيل لمنصور بن زاذان إن ملك الموت على الباب ما كان عنده زيادة في العمل، وذلك أنه كان يخرج فيصلي الغداة في جماعة، ثم يجلس فيسبح حتى تطلع الشمس، ثم يصلي إلى الزوال، ثم يصلي الظهر، ثم يصلي العصر، ثم يجلس فيسبح إلى المغرب، ثم يصلي المغرب، ثم يصلي العشاء، ثم ينصرف إلى بيته فيكتب عنه في ذلك الوقت.
توفي في هذه السنة، وقيل: سنة ثمان وعشرين، وقيل: في سنة تسع وعشرين.
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 60، والتاريخ الكبير 4/ 1/ 346، والجرح والتعديل 8/ 172.
[2] «أرسل الحديث عن الحسن» : ساقطة من ت.(7/291)
713- نصر بن سيار، أمير خراسان:
ولي الولايات، وروى عنه عكرمة، وأسند الحديث، وتوفي لاثْنَتَيْ عَشَرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الأَوَّلِ من هذه السنة وَهُوَ ابْن خمس وثمانين سنة.
714- واصل بن عطاء، أبو حذيفة الغزالي، مولى بني ضبة، وقيل: مولى بني مخزوم، وقيل: مولي بني هاشم:
ولد سنة ثمانين، وكان يجالس الغزالين، فقيل له: الغزالي، كان من رؤساء المعتزلة، وكان لا يقيم الراء، وكان يجتنبها في كلامه.
وتوفي في هذه السنة.(7/292)
ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين ومائة
فمن الحوادث فيها هلاك قحطبة بن شبيب [1] ، وكان السبب في ذلك أن قحطبة لما نزل بخانقين، وابن هبيرة بجلولاء، وبينهما خمسة فراسخ وأمده مروان بعشرين ألفا من أهل الشام والتقيا، فحمل على ابن هبيرة، فولى أصحابه منهزمين، وفقدوا قحطبة فبايعوا حميد بن قحطبة، فسار حتى نزل كربلاء ثم اجتمعوا على الحسن بن قحطبة، ثم وجد قحطبة قتيلا في جدول فدفنوه.
وفي رواية: أن معن بن زائدة ضرب قحطبة على حبل عاتقه فسقط في الماء، فأخرجوه، فقال: إن مت فألقوني في الماء لا يعلم أحد بقتلي، فإذا قدمتم الكوفة فوزير الإمام أبو سلمة حفص بن سليمان [2] ، فسلموا هذا الأمر إليه، ورجع ابن هبيرة إلى واسط.
وفي هذه السنة: خرج محمد بن خالد بالكوفة، وسود قبل أن يدخلها الحسن بن قحطبة وضبطها وأخرج عنها عامل ابن هبيرة، ثم دخلها الحسن.
وكان قد خرج محمد بن خالد ليلة عاشوراء، وعلى الكوفة زياد بن صالح الحارثي، فسار إلى القصر، فارتحل زياد وأهل الشام وخلوا القصر فدخله محمد بن صالح، فلما أصبح يوم الجمعة وذلك صبيحة اليوم الثاني من مهلك قحطبة بلغه نزول
__________
[1] تاريخ الطبري 7/ 412.
[2] في الأصل: «حفص بن سليم» . والتصحيح من ت، والطبري.(7/293)
حوثرة ومن معه مدينة ابن هبيرة، وأنه تهيأ للمسير إلى محمد فتفرق الناس عن محمد، فأرسل إليه أبو سلمة الخلال يأمره بالخروج من القصر واللحوق بأسفل الفرات، فإنه يخاف عليه لقلة من معه، فأبى محمد وجاء أصحاب حوثرة، فصاروا مع محمد، فارتحل الحسن بن قحطبة نحو الكوفة، فدخلها واستخرجوا أبا سلمة بالنخيلة يومين، ثم ارتحل إلى حمام أعين، ووجه الحسن بن [قحطبة إلى] [1] ، واسط [2] لقتال ابن هبيرة، وخطب أبو سلمة حين بايعه أهل خراسان، فدعا إلى طاعة بني العباس، وفرق العمال في البلدان، ووجه بسام بن إبراهيم إلى عبد الواحد بن عمر بن هبيرة وهو بالأهواز، فقاتله بسام حتى فضه، فلحق بسلم بن قتيبة [3] الباهلي وهو بالبصرة وهو يومئذ عامل ليزيد بن عمر بن هبيرة، وكتب إلى سفيان بن معاوية بعهده إلى البصرة، وأمره أن يظهر بها دعوة بني العباس وينفي سلم بن قتيبة [3] .
فكتب سفيان إلى سلم يأمره بالتحول عن دار الإمارة ويخبره بما أتاه من رأي أبي سلمة، فأبى سلم ذلك، وامتنع منه. وحشد مع سفيان جميع اليمانية وغيرهم، وحلفاءهم، وجنح إليه قائد من قواد ابن هبيرة كان بعثه مددا لسلم في ألفي رجل من كلب، فأجمع السير إلى سلم [4] فاستعد له سلم.
فقدم سفيان يوم الخميس في صفر، فالتقوا فانكسر سفيان وقتل ابنه وانهزم ومن معه، ولم يزل سلم [4] مقيما بالبصرة حتى بلغه قتل ابن هبيرة فشخص عنها.
واجتمع من بالبصرة من ولد الحارث بن عبد المطلب إلى محمد بن جعفر، فولوه أمرهم، فوليهم أياما حتى قدم عبد الله بن أسد الخزاعي من قبل أبي مسلم.
وفي هذه السنة: بويع لأبي العباس عبد الله بن مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ العباس بن عبد المطلب.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من الطبري.
[2] في ت: «الحسن بن قحطبة نحو الكوفة» .
[3] في الأصل: «سالم بن قتيبة» . والتصحيح من ت والطبري.
[4] في الأصل: «سالم» . والتصحيح من ت والطبري.(7/294)
باب ذكر خلافة أبي العباس السفاح [1]
قد روي في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم العباس أن الخلافة تؤول إلى ولده، فلم يزل ولده يتوقعونها ويتحدثون بذلك بينهم.
أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْقَزَّازُ، قَالَ: أخبرنا أبو بكر بن ثابت، قال: أخبرنا عبد العزيز بن علي الوراق، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو بشر محمد بن أحمد بن حماد الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي زَائِدَةُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ [2] : «يَخْرُجُ [مِنَّا] [3] رَجُلٌ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الزَّمَنِ وَظُهُورٍ مِنَ الْفِتَنِ يُسَمَّى السَّفَّاحَ، يَكُونُ عطاؤه المال حثيا» . أَخْبَرَنَا الْقَزَّازُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْر بْن ثَابِتٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الرَّزَّازُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْفَرَجِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْكَاتِبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ الْكِنْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الأَزْدِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَلامٌ مَوْلَى الْعَبَّاسَةِ بِنْتِ المهدي، قال: حدثني محمد بن كعب
__________
[1] ترجمته في: ابن خلدون 3/ 180، وتاريخ الخميس 2/ 324، والبدء والتاريخ 6/ 88، ومروج الذهب 3/ 266، وتاريخ بغداد 10/ 46، وفوات الوفيات 1/ 232، وكتب التاريخ.
[2] الخبر في تاريخ بغداد 10/ 48.
[3] ما بين المعقوفتين: من تاريخ بغداد.(7/295)
مَوْلَى الْمَهْدِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ الْمَهْدِيَّ يَقُولُ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ [1] :
وَاللَّهِ لَوْ لَمْ يَبْقَ إِلا يَوْمٌ لأَدَالَ [اللَّهُ] [2] مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ لَيَكُونَنَّ مِنَّا السَّفَّاحُ وَالْمَنْصُورُ وَالْمَهْدِيُّ.
أنبأنا محمد بن ناصر، قال: أنبأنا أبو عبد الله الحميدي، قال: قال لنا أَبُو مُحَمَّد عَلِيّ بْن أَحْمَد بْن سعيد بن حزم الحافظ:
إن أول الأسماء التي وقعت على الخلفاء: الصديق، والفاروق، وذو النورين. ثم لم يسم أحد من الخلفاء حتى ولي أبو العباس، فسمي السفاح. ثم المنصور، وهو أول من تسمى بهذا الاسم، وتسمى [به بعده] [3] إسماعيل بن أبي القاسم عبد الله الشيعي، ثم محمد بن أبي عامر، ثم ذاوي، وسابور والي بطليوس في آخرين.
والمهدي، وكان تسمى به قبل ذلك كله محمد بن الحنفية، ثم رجل من بني علي قام باليمن، ثم عبيد الله الشيعي بالقيروان، أول قائم قام بالقيروان، ثم محمد بن هشام بن عبد الجبار، ثم عبد العزيز بن الأصبع، ثم محمد بن إدريس الحسيني بمالقة.
والهادي ابن المهدي، ثم تسمى [به] [4] رجل من بني علي قام بصعدة [5] ، في اليمن.
والرشيد، ثم تسمى به صالح حاجب المعتضد.
والمأمون، ثم تسمى به عبد الرحمن بن أبي عامر، ثم القاسم بن محمود، ثم يحيى بن إسماعيل بن ذي النون.
والمعتصم، ثم تسمى به محمد بن المظفر بن أبي عامر، ثم محمد بن عبد العزيز من أولاد أبي عامر.
والمعتضد، وتسمى به عباد بن محمد بن عباد اللخمي صاحب إشبيليّة.
__________
[1] الخبر في تاريخ بغداد 10/ 48.
[2] ما بين المعقوفتين: من تاريخ بغداد.
[3] ما بين المعقوفتين: من ت.
[4] ما بين المعقوفتين: من ت.
[5] في الأصل: «بعقدة» . وما أوردناه من ت.(7/296)
والمستكفي، ثم تسمى به محمد بن عبد الرحمن.
وقد حكيت ألقاب لبني أمية ولا يصح ذلك.
وقال الإمام مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس [1] : لنا ثلاثة أوقات: موت يزيد بن معاوية، ورأس المائة، وفتق إفريقية. فعند ذلك يدعو لنا دعاة، ثم تقبل أنصارنا من المشرق حتى ترد خيولهم إلى المغرب ويستخرجوا ما كنز الجبارون فيها.
فلما قتل يزيد بن أبي مسلم بإفريقية ونقضت البربر بعث محمد بن علي رجلا إلى خراسان وأمره أن يدعو إلى الرضا، ولا يسمي [2] أحدا.
وكان بنو أمية يحسون بولاية بني العباس، فروى خليد بن عجلان، قال: لما خالف ابن الأشعث أرسل عبد الملك إلى خالد بن يزيد، فأخبره، فقال: أما إذا كان الفتق من سجستان فليس عليك [بأس] [3] ، وإنما كنا نتخوف لو كان من خراسان.
وقد ذكرنا أنه لما مات محمد بن علي جعل وصيته بعده لابنه إبراهيم، فبعث إبراهيم أبا سلمة حفص بن سليمان مولى السبيع إلى خراسان، وكتب معه إلى النقباء بها، ثم رجع إليه فرده، ومعه أبو مسلم.
وبلغ الخبر مروان، فبعث إلى إبراهيم، فأخذه وقد كان عرف صفة الرجل الذي يقتلهم، فلما رأى إبراهيم قال: ليس هذه صفته، فردهم في طلبه.
وفي رواية أن مروان وصف له صفة فجاء فرأى تلك الصفة في أبي العباس، فأخذه فقيل للرسول: إنما أمرت بأخذ إبراهيم، فترك أبا العباس وأخذ إبراهيم، فانطلق به، فأوصى إبراهيم إلى أخيه أبي العباس، وجعله الخليفة من بعده، وأمر أهله بالمسير إلى الكوفة مع أخيه.
ثم [إن] [4] مروان قتله، فشخص أبو العباس ومن معه من أهل بيته: عبد الله بن
__________
[1] تاريخ الطبري 7/ 421.
[2] في الأصل: «ولم يسلم» . وما أوردناه من ت والطبري.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، وما أوردناه من ت.(7/297)
محمد، وداود بن علي، وعيسى، وصالح، وإسماعيل، وعبد الله [1] ، وعبد الصمد [2] بنو علي، ويحيى بن محمد، وعيسى بن موسى بن محمد بن علي، وعبد الوهاب، ومحمد ابنا إبراهيم الإمام، وموسى بن داود، وعيسى بن جعفر بن تمام حتى قدموا الكوفة في صفر، فأفرد لهم أبو سلمة دار الوليد بن سعد [3] مولى بني هاشم، وكتم أمرهم نحوا من أربعين ليلة من جميع القواد والشيعة.
ونقل أنه أراد بذلك تحويل الأمر إلى آل أبي طالب لما بلغه الخبر عن موت إبراهيم بن محمد.
وذهب قوم من الشيعة فدخلوا إلى أبي العباس، وجاء أبو سلمة فمنعوه أن يدخل معه أحد، فدخل وحده [4] فسلم بالخلافة، فقال أبو حميد: على رغم أنفك.
وبويع أبو العباس السفاح بالكوفة في يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، وانتقل إلى الأنبار فسكنها حتى مات.
وأمه رائطة [5] بنت عبيد الله الحارثي من بني عبد المدان [6] ، وكان مولده بالشراة سنة خمس ومائة، واستخلف وهو ابن سبع وعشرين سنة، وهو أول خلفاء بني العباس، وكان أصغر سنا من أخيه المنصور. وكان أشعر جعدا طويلا أبيض، أقنى الأنف، حسن الوجه واللحية جعدها، وكان يقال له: السفاح، والمرتضى، والقائم، وهو أول من تلقب من بني العباس.
وقيل: إنما لقب بالسفاح لما سفح من دماء المبطلين.
ورفعت إليه سعاية مكتوب [7] عليها بنصيحة فوقع عليها: «تقربت إلينا بما باعدك
__________
[1] كتب فوقها في الأصل: «المنصور» .
[2] على هامش الأصل: «أولاد محمد الإمام سبعة» .
[3] في الأصلين: «اليزيد بن سعيد» .
[4] في الأصل: «فدخل ولده» . وما أوردناه من ت والطبري.
[5] في ت: «وابطة» . وفي مروج الذهب 3/ 266، «ريطة» .
[6] في الأصل: «بني عبد الدار» . وما أوردناه من ت والمسعودي.
[7] في الأصل: «كتب» . وما أوردناه من ت.(7/298)
من الله تعالى، ولا ثواب عندنا لمن آثرنا عليه» . وظفر ببردة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فابتاعها بأربعة آلاف دينار، ولم يرو إلا حديثا واحدا، وكان نقش خاتمه: «الله ثقة عبد الله» .
وكان وزيره أبو الجهم عطية بن حبيب. وقال أبو بكر الصولي: أول من وزر لبني العباس أبو سلمة حفص بن سليمان الخلال، ثم خالد بن برمك.
فصل: ولما ولي الخلافة [1] خرج يوم الجمعة فصلى بالناس ثم قال في خطبته: الحمد للَّه الّذي اصطفى الإسلام لنفسه، وكرمه، وشرفه، وعظمه، واختاره لنا وأيّده، وجعلنا أهله وكهفه وحصنه والقوام به، والذابين عنه، والناصرين له، وخصنا برحم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنبتنا من شجرته، واشتقنا من نبعته، وأنزل بذلك كتابا، فقال فيه: (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ في الْقُرْبى) 42: 23 [2] . فلما قبض الله رسوله قام بذلك الأمر أصحابه، وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ، فعدلوا وخرجوا خماصا، ثم وثب بنو حرب ومروان، فابتزوها وتداولوها، فاستأثروا بها، وظلموا أهلها، فأملى الله لهم حينا فلما أسفوه انتقم الله منهم بأيدينا، ورد علينا حقنا، وأنا السفاح المبيح، والثائر المبير [3] .
وكان موعوكا فاشتد عليه الوعك، فجلس على المنبر وتكلم فقال:
إنا والله ما خرجنا لنكثر لجينا ولا عقيانا، ولا نحفر نهرا، وإنما أخرجتنا [4] الأنفة من ابتزازهم لحقنا. ولقد كانت أموركم ترمضنا، لكم ذمة الله عز وجل، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذمة العباس أن نحكم فيكم بما أنزل الله، ونعمل بكتاب الله، ونسير فيكم بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعلموا أن هذا الأمر فينا ليس بخارج منا حتى نسلمه إلى عيسى ابن مريم.
ثم نزل أبو العباس وداود أمامه حتى دخل القصر، فأجلس أبا جعفر وأخذ البيعة على الناس في المسجد، وأعظم التدبير أبو سلمة حفص بن سليمان، ولقب بالوزارة، وهو أول من سمي بها، وكتب إليه أبو مسلم: للأمير أبي سلمة، وزير آل محمد من عبد الرحمن أبي مسلم أمير آل محمد.
__________
[1] تاريخ الطبري 7/ 425.
[2] سورة: الشورى، الآية: 23.
[3] في الأصل: «المثر» . وما أوردناه من ت.
[4] في الطبري: «أخرجنا» .(7/299)
ثم استعمل السفاح على الكوفة عمه داود بن علي، وعلى واسط أخاه جعفر وحضره جماعة من أهل بيته، فذكروا جمع المال، فقال عبد الله بن حسن: سمعت بألف ألف درهم وما رأيتها مجتمعة، فقال أبو العباس: فأنا أصلك بها حتى تراها مجتمعة، فلما قبض المال استأذنه في الخروج إلى المدينة، فأذن له ودفع إليه مالا ليقسمه على بني هاشم بالمدينة، فلما قسمه أخذوا يشكرون أبا العباس، فقال عبد الله: هؤلاء أحمق الناس، يشكرون من أعطاهم بعض حقهم. فبلغه ذلك فأخبر أهله، فقالوا: أدبه، فقال: من شدد أنفر، ومن تراخى ألف، والعفو أقرب للتقوى، والتغافل من فعل الكرام [1] .
أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد، قال: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْر أَحْمَد بْن عَلِي الخطيب، قال: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن عمر بْن روح، قَالَ: أَخْبَرَنَا المعافى بْن زكريا، قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا القاسم بْن إسماعيل، قَالَ: حدثنا أحمد بن سعيد بن سلم الباهلي، عن أبيه، قال [2] :
حدثني من حضر مجلس السفاح وهو أحشد ما كان ببني هاشم والشيعة ووجوه الناس، فدخل عبد الله بن حسن بن حسن ومعه مصحف، فقال: يا أمير المؤمنين:
أعطنا حقنا الذي جعله الله لنا في هذا المصحف، قال: فأشفق الناس [من] [3] أن يعجل السفاح بشيء إليه، ولا يريدون ذلك في شيخ بني هاشم في وقته أو يعي بجوابه فيكون ذلك عارا عليه. قال: فأقبل عليه غير مغضب ولا مزعج، فقال: إن جدك عليا- وكان خيرا مني وأعدل- ولي هذا الأمر فما أعطى جديك الحسن والحسين- وكانا خيرا منك- شيئا، وكان الواجب أن أعطيك مثله، فإن كنت فعلت فقد أنصفتك، وإن كنت زدتك فما هذا جزائي منك، قال: فما رد عبد الله جوابا، وانصرف الناس يعجبون من جوابه له.
وكتب أبو العباس إلى خاله زياد بن عبد الله، وكان عامله على المدينة: قربني من رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ جيرانه، وإكرام أهل بيته، ولا تسلط هواك فيما وجب
__________
[1] «والتغافل من فعل الكرام» . ساقط من ت.
[2] في الأصل: «بن سالم الباهلي» . والتصحيح من تاريخ بغداد. والخبر في تاريخ بغداد 10/ 48.
[3] ما بين المعقوفتين: من تاريخ بغداد.(7/300)
إسخاطي، فإن الله شاهدي وأنت المأخوذ بالتقصير.
وكتب إلى داود بن علي وهو عامله على مكة: أما بعد، فهذه سنة طمس فيها عيون الجور، وأخمد نيران الظلم، وأباد الشجرة الملعونة، فهن زوار بيت الله بنصر أوليائه، وخذلان أعدائه ليحمدوه على ذلك.
وفي هذه السنة: هزم مروان بالزاب [1] ، وذلك أن قحطبة كان قد وجه أبا عون عبد الله بن يزيد الأزدي، فقتل عثمان بن سفيان، وأقام بناحية الموصل، فلما بلغ مروان قتل عثمان أقبل من حران حتى أتى الموصل، فنزل على الزاب وحفر خندقا، فسار إليه أبو عون، فوجه أبو سلمة إلى أبي عون عيينة بن موسى، والمنهال بن حبان، وإسحاق بن طلحة كل واحد في ثلاثة آلاف، فلما ظهر أبو العباس بعث سلمة بن محمد في ألفين، وعبد الله الطائي في ألف وخمسمائة، وعبد الحميد بن ربعي الطائي في ألفين، وداس [2] بن نضلة في خمسمائة إلى أبي عون. ثم قال: من يسير إلى مروان من أهل بيتي؟ فقال عبد الله بن علي: أنا، فقال: سر على بركة الله.
فسار فقدم على أبي عون، فتحول له أبو عون عن سرادقه، وخلاه له وما فيه. فلما كان لليلتين خلتا من جمادى الآخرة سنة ثنتين [3] وثلاثين ومائة سأل عبد الله بن علي عن مخاضة، فدل عليها بالزاب، فأمر عيينة بن موسى، فعبر في خمسة آلاف وانتهى إلى عسكر مروان فقاتلهم حتى أمسوا وتحاجزوا، ورجع عيينة فعبر المخاضة إلى عسكر عبد الله، فأصبح مروان فعقد الجسر وسرح ابنه عبد الله بن مروان فحفر خندقا أسفل من عسكر ابن علي، فبعث عبد الله بن علي المخارق في أربعة آلاف، فنزل على خمسة أميال من عسكر عبد الله بن علي، فسرح عبد الله بن مروان إليه الوليد [4] بن معاوية، فلقي المخارق، فانهزم أصحابه، وأسر المخارق، وقتل منهم يومئذ عدة، فبعث بهم إلى عبد الله وبعثه عبد الله إلى مروان مع الرءوس، فقال مروان: أدخلوا علي رجلا من الأسارى، فأتوه بالمخارق، فقال: أنت المخارق [5] ؟ فقال: أنا عبد من
__________
[1] تاريخ الطبري 7/ 432.
[2] في الأصل: «دواس» . والتصحيح من ت والطبري.
[3] في الأصل: «اثنتين» . وما أوردناه من ت والطبري.
[4] في الأصل: «فسرح إليه عبد الله بن مروان الوليد» . وما أوردناه من ت.
[5] في الأصل: «أنت المخارق الله» . وما أوردناه من ت والطبري.(7/301)
عبيد أهل العسكر، قال: فتعرف المخارق؟ قال: نعم، قال: فانظر في هذه الرءوس هل تراه؟ فنظر إلى رأس منها فقال: هو هذا، فخلى سبيله.
وبلغ عبد الله انهزام المخارق، فقال له موسى بن كعب: اخرج إلى مروان قبل أن يصل الفل إلى العسكر، فيظهر ما لقي المخارق [1] . فدعا عبد الله بن علي محمد بن صول، فاستخلفه على العسكر وسار على ميمنته ابن عون وعلى ميسرته الوليد بن معاوية ومع مروان ثلاثة آلاف، فقال مروان لعبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: إن زالت الشمس اليوم ولم يقاتلونا كنا الذين ندفعها إلى عيسى ابن مريم، وإن قاتلونا قبل الزوال فإنا للَّه وإنا إليه راجعون. وأرسل مروان إلى عبد الله بن علي يسأله الموادعة، فقال: كذب، لا تزول الشمس حتى أوطئهم الخيل، إن شاء [الله] [2] ، فقال مروان لأهل الشام: قفوا لا تبدءوهم بقتال، فحمل الوليد بن معاوية فقاتل أهل الميمنة فغضب مروان وشتمه، فانحاز أبو عون إلى عبد الله بن علي، فقال موسى بن كعب لعبد الله: مر الناس أن ينزلوا، فنودي: الأرض، فنزل الناس وشرعوا الرماح، وجثوا على الركب واشتد القتال، فقال مروان لقضاعة: انزلوا، فقالوا: قل لبني سليم فلينزلوا، فأرسل إلى السكاسك: احملوا، فقالوا: قل لبني عامر فليحملوا، فأرسل إلى السكون أن احملوا، فقالوا: قل لغطفان فليحملوا، فقال لصاحب شرطته: انزل، فقال: لا والله ما كنت لأجعل نفسي غرضا، قال: أما والله لأسوءنك، قال: وددت والله أنك قدرت على ذلك، فانهزم أهل الشام وانهزم مروان، وقطع الجسر، فكان من غرق يومئذ أكثر ممن قتل.
وكان ممن غرق يومئذ إبراهيم بن الوليد المخلوع، فأمر عبد الله بن علي فعقد الجسر على الزاب واستخرج الغرقى، فأخرجوا ثلاثمائة. وأقام عبد الله في عسكره سبعة أيام، وحوى عسكر مروان بما فيه، فوجدوا فيه سلاحا كثيرا، وأموالا.
وكتب عبد الله بن علي بالفتح إلى أمير المؤمنين أبي العباس السفاح، فلما أتاه الخبر صلى ركعتين وأمر لمن شهد الوقعة بخمسمائة خمسمائة، ورفع أرزاقهم إلى ثمانين.
وكان مروان منذ لقيه أهل خراسان لا يدبر شيئا إلا وقع فيه خلل، ولقد وقف يوم انهزم والناس يقتتلون فأمر بأموال فأخرجت وقال للناس: اصبروا وقاتلوا، هذه الأموال
__________
[1] في الأصل: «ينظموها المخارق» . وما أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/302)
لكم، فجعل ناس يصيبون من ذلك المال، فأرسلوا إليه: إن الناس قد مالوا على هذا المال، ولا تأمنهم أن يذهبوا، فأرسل إلى ابنه عبد الله: أن سر في أصحابك فاقتل من أخذ من ذلك المال وامنعهم، فمال عبد الله برايته وأصحابه، فقال الناس: الهزيمة، فانهزموا. وذلك صبيحة [يوم] [1] السبت لإحدى عشرة خلت من جمادى الآخرة.
أخبرنا أبو القاسم بن الحصين، قال: أخبرنا أبو محمد الحسن بن عيسى [بن] [2] المقتدر، قال: أخبرنا أحمد بن منصور اليشكري، قال: قرئ على الصولي وأنا حاضر، قال: حدثنا الغلابي، قال: حدثنا عبد الله بن عائشة، قال:
لما استقام الأمر لأبي العباس السفاح خطب يوما فأحسن الخطبة، فلما نزل عن المنبر قام إليه السيد فأنشده:
دونكموها يا بني هاشم ... فجددت أمراءها الطامسا
دونكموها ما على كعب ... من أمسى عليكم ملكها نافسا
دونكموها فالبسوا تاجها ... لا تعدموا منكم لها لابسا
خلافة الله وسلطانه ... وعنصرا كان لكم دارسا
لو خير المنبر فرسانه [3] ... ما اختار إلا منكم فارسا
والملك لو شوور في ساسة ... ما اختار إلا منكم سائسا
لم يبق عبد الله بالشام من ... آل أبي العاص أمرأ عاطسا
فقال له أبو العباس السفاح: سل حاجتك، قال: ترضى عن سليمان بن حبيب بن المهلب وتولية الأهواز، قال: قد فعلت، ثم أمر أن يكتب عهد سليمان على الأهواز، وتدفع إلى السيد [4] ، فكتب ثم أخذه السيد وقدم على سليمان بالبصرة، فلما وقعت عليه عينه أنشده يقول:
أتيناك يا قرم أهل العراق ... بخير كتاب من القائم
أتيناك من عند خير الأنام ... وذاك ابن عم أبي القاسم
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «سلطانه» . وما أوردناه من ت.
[4] في ت: «وتدفع إليه» .(7/303)
أتينا بعهدك من عنده ... على من يليك من العالم
يوليك فيه جسام الأمور ... فأنت صنيع بني هاشم
فقال له سليمان: شريف وشافع، ووافد وشاعر، ونسيب، سل حاجتك، قال:
جارية فارهة جميلة ومن يخدمها، وبدرة ومن يحملها، وفرس راتع وسائسه، وتخت من صنوف الثياب وحامله. قال: قد أمرت لك بجميع ما سألت ولك عندي في كل سنة مثله.
قال الصولي: وحدثنا جبلة بن محمد، قال: حدثنا أبي هذا الخبر وزاد فيه: أن سليمان قال للسيد: احتكم قال:
سأحكم إذ حكمتني غير مسرف ... ولا مقصر يا ابن الكماة الأكارم
ثلاثة آلاف وعبد وبغلة ... وجارية حسناء ذات مآكم
وسرج وبرذون صليع وكسوة ... وما ذاك بالإكثار من حكم حاكم
على ذي ندى يعطيك حتى كأنما ... يرى بالذي يعطيك أحلام نائم
أرحني بها من مجلسي ذا فإنني ... وحقك إن لم أعطها غير رايم
وفي هذه السنة: قتل مروان بن محمد [1] :
وذلك أنه لما هرب من الزاب مر بقنسرين وعبد الله بن علي يتبعه، ثم مضى إلى حمص، فتلقاه أهلها بالسمع والطاعة، فأقام بها يومين أو ثلاثة، ثم شخص منها، فلما رأوا قلة عدده طمعوا فيه وقالوا: مرعوب منهزم، فاتبعوه بعد ما رحل، فلحقوه على أميال، فلما رأى غبره خيولهم كمن لهم كمينين، ثم صافهم وناشدهم فأبوا إلا قتاله، فنشب القتال بينهم، وثار الكمينان من خلفهم فهزموا أصحاب مروان، ومر مروان إلى دمشق، ثم مر بالأردن وفلسطين، واتبعه عبد الله بن علي.
فأنفذ أبو العباس السفاح عمه صالح بن علي في جموع كثيرة إلى الشام على طريق السماوة حتى لحق بأخيه عبد الله بن علي وسار إلى دمشق وبها الوليد بن معاوية بن مروان بن الحكم خليفة مروان بن محمد، فحصرها وفتحها عنوة، وقتل الوليد وأنهب البلد ثلاثة أيام، وقلع سورها حجرا حجرا، وبعث بيزيد بن معاوية بن
__________
[1] تاريخ الطبري 7/ 437.(7/304)
مروان، وعبد الله بن عبد الجبار بن يزيد بن عبد الملك مروان إلى أبي العباس، فقتلهما وصلبهما.
وهرب مروان إلى مصر فدخلها في رمضان وبها عبيد الله [1] ابنه قد سبقه، ونزل عبد الله بن علي نهر أبي فرطس، وجمع بني أمية وأظهر أنه يريد [أن] [2] يفرض لهم العطاء، فلما اجتمعوا وهم نيف وثمانون إنسانا خرجوا عليهم فقتلوهم، وجاء كتاب أبي العباس بأن ينفذ صالح بن علي لطلب مروان، ويجعل على مقدمته أبا عون عبد الملك بن يزيد فمضى معه أبو عون والحسين بن قحطبة، وعامر بن إسماعيل التميمي، ومنهال بن قنان، فبلغوا إلى العريش، وبلغ مروان الخبر، فأحرق ما حوله من علف وطعام وهرب، ومضى صالح ومن معه في طلبه إلى الصعيد، وقدم أبا عون أمامه وعامر بن إسماعيل، وسعيد بن عثمان المازني، فلقوا خيلا لمروان، فهزموهم وأسروهم وسألوهم عن مروان على أن يؤمنوهم، فعرفوهم خبره ومكانه، وساروا حتى أدركوه بقرية من قرى الصعيد تسمى بوصير من آخر الليل، وقد نزل الكنيسة ومعه حرمه وولده وثقله.
قال عامر [3] : لما وصلنا كنا في جمع يسير، فلو علم قلتنا شد علينا، فلجأنا إلى شجر [4] ونخل، فقلت لأصحابي: إن أصبحنا ورأوا قلتنا أهلكونا، وخرج مروان فقاتل وهو يقول: كانت للَّه علينا حقوق ضيعناها ولم نقم بما يلزمنا فيها، فحلم عنا ثم انتقم منا.
قال علماء السير [5] : كان مروان قد عرض جيشه بالرقة فمر به ثمانون ألف عربي على ثمانين ألف فرس عربي، ففكر ساعة ثم قال: إذا انقضت المدة لم تنفع العداة، إلا أنه في ذلك الوقت بالغ في القتال، فقتل ثلاثمائة رجل، وأثخنته الجراح وحمل عليه رجل فقتله واحتز رأسه رجل من أهل البصرة كان يبيع الرمان. فقال الحسن بن قحطبة:
__________
[1] في الأصل: «عبد الله» . وما أوردناه من ت والطبري.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت
[3] الخبر في تاريخ الطبري 7/ 441.
[4] في الأصل: «ونحانا إلى شجر» . وفي الطبري: «فانضوينا إلى شجر» . وما أوردناه من ت.
[5] «وقال علماء السير» . ساقط من ت.(7/305)
أخرجوا إلي أكبر بنات مروان، فأخرجوها وهي ترعد، فقال لها: لا بأس عليك، فقالت: أي بأس أعظم من إخراجك إياي حاسرة من حيث لم أر رجلا قط، فأجلسها ووضع الرأس في حجرها، فصرخت واضطربت، فقيل له: ما حملك على هذا؟ فقال: كفعلهم بزيد بن علي حين قتلوه، فإنهم جعلوا رأسه في حجر زينب بنت علي.
وبعث برأس مروان إلى صالح بن علي، فنصب على باب مسجد دمشق، وبعث به إلى السفاح فخر ساجدا وتصدق بعشرة آلاف دينار.
وأوغل أولاد مروان إلى بلاد النوبة، فقاتلهم الحبشة، فقتل بعضهم وأفلت بعضهم، وكان فيهم بكر بن معاوية الباهلي فسلم حتى كان في خلافة المهدي، فأخذه نصر بن محمد بن الأشعث عامل فلسطين، فبعث به إلى المهدي.
أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ، قال: أخبرنا محفوظ بن أحمد الكلوذاني، قال:
أَخْبَرَنَا أَبُو عَلي مُحَمَّد بْن الحسين الجازري، قال: حدثنا المعافى بْن زكريا، قَالَ:
حَدَّثَنَا الحسين بْن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا الفضل بن العباس الربعي، قال:
حدثني إبراهيم بن عيسى بن أبي جعفر المنصور، قال: سمعت عمي سليمان بن أبي جعفر يقول:
كنت واقفا على رأس المنصور ليلة وعنده إسماعيل بن علي وصالح بن علي وعيسى بن علي، فتذاكروا زوال ملك بني أمية وما صنع بهم عبد الله وقتل من قتل منهم بنهر أبي فرطس، فقال المنصور: ألا من عليهم ليروا من دولتنا ما رأينا من دولتهم، ويرغبوا إلينا كما رغبنا إليهم، فلقد لعمري عاشوا سعداء، وماتوا فقداء. فقال له إسماعيل بن علي: يا أمير المؤمنين، إن في حبسك عبيد الله بن مروان بن محمد بن مروان بن الحكم وقد كانت له قصة عجيبة مع ملك النوبة فابعث إليه فاسأله عنها، فقال: يا مسيب، علي به، فأخرج فتى مقيد بقيد ثقيل وغل ثقيل، فمثل بين يديه، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال: يا عبيد الله، رد السلام أمن ولم تسمح لك نفسي بذلك بعد، ولكن أقعدوه، فجاءوا بوسادة فثنيت فقعد عليها، فقال له: قد بلغني أنه كان لك مع ملك النوبة قصة عجيبة، فما هي؟ قال: يا أمير المؤمنين، لا والذي أكرمك بالخلافة ما أقدر على النفس من ثقل الحديد، ولقد صدئ قيدي مما(7/306)
أرشق عليه من البول وأصب عليه من الماء في أوقات الصلوات، فقال: يا مسيب أطلق عنه حديدة.
ثم قال: نعم يا أمير المؤمنين، لما قصد عبد الله بن علي إلينا كنت [1] المطلوب من بين الجماعة لأني كنت ولي عهد أبي من بعده، فدخلت إلى خزانة فاستخرجت منها عشرة آلاف دينار، ثم دعوت عشرة من غلماني، كل واحد على دابة، ودفعت إلى كل غلام ألف دينار، وأوقرت خمسة أبغل فرشا، وشددت في وسطي جوهرا له قيمة مع ألف دينار، وخرجت هاربا إلى بلد النوبة، فسرت فيها ثلاثا فوقعت إلى مدينة خراب، فأمرت الغلمان فعدلوا إليها فكسحوا منها ما كان قذرا، ثم فرشوا بعض تلك الفرش، ودعوت غلاما لي كنت أثق بعقله، فقلت: انطلق إلى الملك، فأقرئه مني السلام، وخذ منه الأمان وابتع لي ميرة.
قال: فمضى ثم أنه أبطأ علي [حتى] [2] سؤت ظنا، ثم أقبل ومعه رجل آخر، فلما دخل كفر لي ثم قعد بين يدي، فقال لي: الملك يقرأ عليك السلام ويقول لك: من أنت وما جاء بك إلى بلادي؟ أمحارب لي؟ أم راغب إلي؟ أم مستجير بي؟ قلت له: رد على الملك السلام وقل له: أما محارب لك فمعاذ الله، أما راغب في دينك فما كنت لأبغي بديني بدلا، وأما مستجير بك فلعمري.
قال: فذهب ثم رجع إلي فقال: إن الملك يقرأ عليك السلام ويقول لك: أنا صائر إليك غدا، فلا تحدثن في نفسك حدثا ولا تتخذ شيئا من ميرة فإنها تأتيك وما تحتاج إليه، فأقبلت الميرة فأمرت غلماني ففرشوا ذلك الفرش كله، وأمرت بفرش لي، فنصب لي وله مثله، وارتقبت في غد مجيئه [3] ، فبينا أنا كذلك أقبل غلماني يخطرون [4] ، وقالوا: إن الملك قد أقبل، فقمت بين شرفتين من شرف القصر أنظر إليه، فإذا أنا برجل قد لبس بردتين ائتزر بإحداهما وارتدى بالأخرى، حاف راجل، وإذا عشرة معهم الحراب ثلاثة يقدمونه، وسبعة خلفه، وإذا الرجل الموجه إلى جنبه [5] ،
__________
[1] في الأصل: «لما قصدنا عبد الله بن علي كنت» . وما أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] في ت: «وأقبلت من غد أرتقب مجيئه» .
[4] في ت: «يخطرون» .
[5] في الأصل: «وإذا أنا برجل الموجه إلى جانبه» . وما أوردناه من ت.(7/307)
فاستصغرت أمره وهان علي لما رأيته في تلك الحال، وسولت لي نفسي قتله، فلما قرب من الدار إذا بسواد عظيم، فقلت: ما هذا السواد؟ فقيل: الخيل فوافى يا أمير المؤمنين زهاء عشرة آلاف عنان، فكانت موافاة الخيل إلى الدار وقت دخوله، فأحدقوا بها، ثم دخل إلي فلما نظر إلي [1] قال لترجمانه: أين الرجل؟ فأومأ الترجمان إلي، فلما نظر إلي وثبت إليه، فأعظم ذلك وأخذ بيدي فقبلها ووضعها على صدره، وجعل يدفع ما على الفسطاط برجله فشوش الفرش، فظننت أن ذلك شيء يجلونه أن يطأ على مثله، حتى انتهى إلى الأرض، فقلت لترجمانه: سبحان الله، لم لا يصعد على الموضع الذي وطئ له؟ فقال: قل له إني ملك وكل ملك حقه أن يكون متواضعا لعظمة الله سبحانه إذ رفعه الله، ثم أقبل ينكث بإصبعه الأرض طويلا، ثم رفع رأسه فقال لي: كيف سلبتم هذا الملك وأخذ منكم وأنتم أقرب إلى نبيكم؟ فقلت: جاء من كان أقرب قرابة إلى نبينا صلى الله عليه وسلم، فسلبنا وطردنا، فخرجت إليك مستجيرا باللَّه عز وجل ثم بك، قال: فلم كنتم تشربون الخمر وهي محرمة عليكم في كتابكم؟ فقلت: فعل ذلك عبيد وأتباع دخلوا في ملكنا من غير رأينا، قال: فلم كنتم تركبون وعلى دوابكم الذهب والفضة، وتلبسون الديباج وقد حرم ذلك عليكم؟ قلت: عبيد وأتباع وأعاجم دخلوا في مملكتنا [من غير رأينا] [2] قال: فلم كنتم أنتم إذا خرجتم إلى صيدكم عبرتم [3] على القرى وكلفتم أهلها ما لا طاقة لهم بالضرب الوجيع ثم لا يقنعكم ذلك حتى تموشوا زروعهم فتفسدوها في طلب دراج قيمته درهم أو في عصفور قيمته لا شيء، والفساد محرم عليكم في دينكم؟
قلت: عبيد وأتباع، قال: لا ولكنكم استحللتم ما حرم الله عليكم، وأتيتم ما نهاكم عنه، فسلبكم الله العز، وألبسكم الذل، وللَّه فيكم نقمة لم تبلغ غايتها بعد، وإني أتخوف أن تنزل بك النقمة من الظلمة فتشملني معك، وإن النقمة إذا نزلت عمت وشملت، فاخرج بعد ثلاث فإنني إن أخذتك بعدها أخذت جميع ما معك وقتلتك وقتلت جميع من معك، ثم وثب فخرج.
فأقمت ثلاثا وخرجت إلى مصر فأخذني وليك فبعث بي إليك، وها أنا ذا والموت
__________
[1] في الأصل: «فلما نظرني» . وما أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] في ت: «تقحتم» .(7/308)
أحب إلي من الحياة. فهم أبو جعفر بإطلاقه، فقال له إسماعيل بن علي: في عنقي بيعة له، قال: فماذا ترى؟ قال: يترك في دار من دورنا ويجري عليه ما يجري على مثله، قال: ففعل ذلك به، فو الله ما أدري أمات في حبسه أم أطلقه المهدي.
وروى الحسن بن جعفر عن أبيه، قال: لما أفضت الخلافة إلى بني العباس اختفى رجال من بني أمية، وكان فيمن اختفى إبراهيم بن سليمان بن عبد الملك، حتى أخذ له داود بن علي بن عبد الله أمانا من أبي العباس، فقال له أبو العباس يوما: حدثني عما مر بك في اختفائك فقال: كنت يا أمير المؤمنين مختفيا بالحيرة في منزل شارع على الصحراء [1] . فبينا أنا ذات يوم على ظهر بيت نظرت إلى أعلام سود قد خرجت من الكوفة تريد الحيرة، فوقع في روعي أنها تريدني، فخرجت من الدار متنكرا حتى دخلت الكوفة ولا أعرف بها أحدا أختفي عنده، فدخلت متلددا، فإذا أنا بباب كبير ورحبة واسعة، فدخلت الرحبة، فجلست فيها، فإذا رجل وسيم حسن الهيئة على فرس قد دخل الرحبة مع جماعة من غلمانه وأتباعه، فقال: من أنت وما حاجتك؟ فقلت: رجل مختف يخاف على دمه واستجار بمنزلك، قال: فأدخلني منزله ثم سيرني في حجرة تلي حرمه، فمكثت عنده حولا في كل ما أحب من مطعم ومشرب وملبس، لا يسألني عن شيء من حالي، ويركب في كل يوم ركبة، فقلت له يوما: أراك تدمن الركوب، ففيم ذاك؟ قال: إن إبراهيم بن سليمان قتل أبي صبرا، وقد بلغني أنه مختف، فأنا أطلبه لأدرك ثأري فكثر تعجبي من إدبارنا إذ ساقني القدر إلى الاختفاء في منزل من يطلب دمي وكرهت الحياة، وسألت الرجل عن اسمه واسم أبيه، فأخبرني بهما، فعلمت أني قتلت أباه، فقلت: يا هذا، قد وجب علي حقك، ومن حقك أن أقرب عليك الخطوة، قال:
وما ذاك؟ فقلت: أنا إبراهيم بن سليمان قاتل أبيك فخذ بثأرك، فقال: أحسب أنك رجل قد مضه الاختفاء فأحب الموت، فقلت: بل الحق، قلت: قتلته يوم كذا وكذا بسبب كذا وكذا، فلما عرف أني صادق تربد وجهه واحمرت عيناه، وأطرق مليا ثم قال: أما أنت فستلقى أبي فيأخذ حقه منك، وأما أنا فغير مخفر ذمتي فاخرج عني فلست آمن نفسي عليك، وأعطاني ألف دينار، فلم أقبلها وخرجت من عنده، فهذا أكرم رجل رأيته.
__________
[1] في الأصل: «على شارع الصحراء» . وما أوردناه من ت.(7/309)
وقد روينا أن مرية [1] زوجة مروان بن محمد استأذنت على الخيزران، وعندها زينب [بنت] [2] سليمان بن علي الهاشمي، فلما دخلت قالت زينب: الحمد للَّه الذي أزال نعمتك وصيرك عبرة، تذكرين يا عدوة الله حين أتاك أهل بيتي يسألونك أن تكلمي أصحابك في أموال إبراهيم بن محمد فلقيتيهن ذلك اللقاء، وأخرجتيهن ذلك المخرج، فضحكت، وقالت: أي بنت عم، أي شيء أعجبك من حسن صنيع الله بي على ذلك حتى أردت أن تتأسي بي فيه، ثم ولت خارجة.
وفي هذه السنة [3] : خلع أبو الورد، واسمه مجزأة بن الكوثر بن زفر بن الحارث الكلابي، وهو من أصحاب مروان وفرسانه وقواده، خلعه أبو العباس السفاح. وذلك أنه لما هزموا بقنسرين جاء إلى عبد الله بن علي فبايعه، ودخل فيما دخل فيه جنده من الطاعة، فجاء قائد من قواد عبد الله بن علي، فعبث بولد مسلمة بن عبد الملك ونسائهم، وكانوا مجاورين لأبي الورد، فخرج حتى هجم على ذلك القائد فقتله ومن معه، وأظهر الخلع وبيض، ودعا أهل قنسرين إلى ذلك فأجابوه وأبو العباس يومئذ بالحيرة، فلما بلغ عبد الله بن علي ذلك خرج متوجها إلى قنسرين للقاء أبي الورد، فلما قدم حمص إذا أهل قنسرين قد بيضوا ونهضوا مع عثمان بن عبد الأعلى بن سراقة، وانتهبوا ما كان عبد الله بن علي خلفه من ثقل ومتاع، واجتمع مع أبي الورد جماعة من أهل قنسرين، وكاتبوا من يليهم من أهل حمص وتدمر، فقدم منهم ألوف وعليهم أبو محمد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وقالوا [4] : هو السفياني الذي كان يذكر وهم في نحو من أربعين ألفا- فلما دنا منهم عبد الله بن علي، وأبو محمد معسكر في جماعتهم، وأبو الورد المتولي لأمر العسكر والمدبر له، وهو صاحب الحرب- وجه عبد الله بن علي عبد الصمد في عشرة آلاف، فناهضهم أبو الورد واستحر القتل في الفريقين، وثبت القوم وانكشف عبد الصمد ومن معه، وقتل منهم يومئذ ألوف، وجاء عبد الصمد إلى عبد الله بن علي، فنهض إليهم عبد الله ومعه حميد بن قحطبة وجماعة
__________
[1] كذا في الأصلين، وذكر المسعود في المروج 3/ 247، اسمها: «ريا» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] تاريخ الطبري 7/ 443.
[4] في الأصل: «وقال» . وما أوردناه من ت.(7/310)
من القواد، فالتقوا ثانية فاقتتلوا قتالا شديدا، وانكشف جماعة ممن كان مع عبد الله، ثم ثابوا، وثبت لهم عبد الله وحميد بن قحطبة، فهزموهم وثبت أبو الورد في نحو من خمسمائة من أهل بيته وقومه، فقتلوا جميعا وذلك في ذي الحجة، وهرب أبو محمد ومن معه حتى لحقوا بتدمر، وأمن عبد الله أهل قنسرين، وسودوا وبايعوا، ودخلوا في طاعته، ثم مضى إلى أهل دمشق فهرب الناس وتفرقوا، فلم يكن [بينهم] [1] وقعة، وآمن أهلها فبايعوه، ولم يؤاخذهم بما كانوا فعلوا.
فأما أبو محمد فلحق بأهل الحجاز، فوجه إليه زياد بن عبيد الحارثي عامل أبي جعفر على المدينة خيلا، فقاتلوه حتى قتل.
وفي هذه السنة: خلع حبيب بن مرة، وبيض هو ومن معه من أهل الشام، وكان تبيض هذا قبل تبيض أبي الورد، وإنما بيض أبو الورد وعبد الله مشتغل بقتال حبيب، وإنما بيض حبيب خوفا على نفسه وقومه، فبايعته قيس وغيرهم من أهل ذلك الكور، البثنية وحوران. فلما بلغ عبد الله بن علي تبييض أهل قنسرين، دعا حبيبا إلى الصلح، فصالحه وآمنه، ثم خرج متوجها للقاء أبي الورد، وفعل به ما فعل.
وفي هذه السنة: بيض أهل الجزيرة [2] ، وخلعوا أبا العباس. وإنما فعلوا هذا حين بلغهم خروج أبي الورد ونقض أهل قنسرين، ثم استقام أهل الجزيرة وأهل الشام.
وولى أبو العباس أبا جعفر [المنصور] [3] الجزيرة وأرمينية وأذربيجان، فلم يزل على ذلك حتى استخلف.
أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن أبي نصر الحميدي، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن سلامة القاضي القضاعي، قال: أخبرنا محمد بن أحمد الكاتب، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن، عن أبيه، قال: أخبرني بعض الهاشميين قال:
كنت جالسا عند المنصور بأرمينية وهو أميرها لأخيه أبي العباس وقد جلس
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصلين، أوردناه من الطبري 7/ 444.
[2] تاريخ الطبري 7/ 446.
[3] ما بين المعقوفتين: من هامش الأصل، وت.(7/311)
للمظالم، فدخل عليه رجل فقال: إن لي مظلمة، وإني أسألك أن تسمع مني مثلا أضربه قبل أن أذكر مظلمتي، قال: قل، قال: إني وجدت الله تبارك وتعالى اسمه خلق الخلق على طبقات، فالصبي إذا خرج إلى الدنيا لا يعرف إلا أمه، ولا يطلب غيرها فإن فزع من شيء لجأ إليها، ثم يرتفع عن ذلك طبقة فيعرف أن أباه أعز من أمه، فإن أفزعه شيء لجأ إلى أبيه، ثم يبلغ فإن أفزعه شيء لجأ إلى سلطانه، فإن ظلمه ظالم انتصر به منه، فإذا ظلمه السلطان لجأ إلى ربه فاستنصره، وقد كنت في هذه الطبقات، وقد ظلمني ابن نهيك في ضيعة لي في ولايته، فإن نصرتني عليه وأخذت لي بمظلمتي وإلا استنصرت الله عز وجل ولجأت إليه، فانظر لنفسك أيها الأمير أودع، فتضاءل أبو جعفر وقال: أعد علي الكلام، فأعادة، فقال: أما أول شيء فقد عزلت ابن نهيك من ناحيته، وأمر برد ضيعته.
وفي هذه السنة [1] : شخص أبو جعفر المنصور إلى أبي مسلم بخراسان لاستطلاع رأيه في قتل أبي سلمة حفص بن سليمان. وذلك أن أبا سلمة ستر حال أبي العباس حين قدم الكوفة.
وقد ذكرنا أن قوما يذكرون ويقولون: إنما أراد أن يجعل الأمر في آل أبي طالب، فصار عند القوم بهذا متهما، فتذاكروا بعد ظهور السفاح ما فعله أبو سلمة، فقال قائل منهم: فما يدريكم لعل ما صنع أبو سلمة كان عن رأي أبي مسلم، فقال أبو العباس:
لئن كان هذا عن رأي أبي مسلم إنا بعرض بلاء، إلا أن يدفعه الله عنا. ثم تفرقوا، فأرسل أبو العباس إلى أبي جعفر فقال: ما ترى؟ فقال: الرأي رأيك، قال: فاخرج إلى أبي مسلم حتى تعلم ما رأيه، فليس يخفي عليك لو قد لقيته، فإن كان عن رأيه أخذنا [2] لأنفسنا، وإن لم يكن عن رأيه طابت نفوسنا.
قال أبو جعفر: فخرجت على وجل، فلما انتهيت إلى الري إذا صاحب الري قد أتاه كتاب أبي مسلم: أنه بلغني أن عبد الله بن محمد توجه إليك فإذا قدم فأشخصه ساعة يقدم عليك. فلما قدمت أتاني عامل الري، فأخبرني بكتاب أبي مسلم وأمرني بالرحيل، فازددت وجلا وخرجت وأنا خائف، فسرت فلما كنت بنيسابور إذا عاملها قد
__________
[1] تاريخ الطبري 7/ 448.
[2] في الأصل: «احبلنا» . وما أوردناه من الطبري.(7/312)
أتاني بكتاب أبي مسلم: إذا قدم عليك عبد الله بن محمد فأشخصه ولا تدعه يقيم فإن الأرض أرض خوارج ولا آمن عليه، فطابت نفسي وقلت: أراه يعني بأمري. فسرت فلما كنت من مرو على فرسخين تلقاني أبو مسلم في الناس، فلما دنا مني أقبل يمشي إلي حتى قبل يدي، فقلت: اركب، فركب. فدخلت مرو فنزلت دارا، فمكثت ثلاثة أيام لا يسألني عن شيء، ثم قال لي في اليوم الرابع: ما أقدمك؟ فأخبرته، فقال: فعلها أبو سلمة أنا أكفيكموه. ثم دعا مرار بن أنس الضبي، فقال له: انطلق إلى الكوفة فاقتل أبا سلمة حيث لقيته وانته في ذلك إلى رأي الإمام، فقدم مرار الكوفة، وكان أبو سلمة يسمر عند أبي العباس، فقعد له في طريقه فلما خرج قتله، وقالوا: قتلته الخوارج.
وقال سليمان بن المهاجر [1] :
إن الوزير وزير آل محمد ... أودى فمن يشناك كان وزيرا
وكان أبو مسلم إذا جاء إلى أبي جعفر وهو بالري ينزل على باب الدار ثم يجلس في الدهليز ويقول للحاجب: استأذن لي، فغضب أبو جعفر على حاجبه، وقال له:
ويلك إذا رأيته فافتح له الباب وقل له يدخل على دابته. وانصرف أبو جعفر إلى أبي العباس، فقال له: لست خليفة ولا آمرك بشيء إن تركت أبا مسلم ولم تقتله، قال:
وكيف؟ قال: والله ما يصنع إلا ما يريد، فقال أبو العباس: اسكت واكتمها.
وفي هذه السنة: وجه أبو العباس أخاه أبا جعفر إلى واسط لحرب يزيد بن عمر بن هبيرة.
وقد سبق ذكرنا حال يزيد بن عمر بن هبيرة مع الجيش الذين لقوه من [أهل] [2] خراسان مع قحطبة، ثم ابنه الحسن إلى أن انهزم ولحق بواسط وتحصن بها. ولما انهزم تفرق عنه الناس، وخلف على الأثقال قوما، فذهبوا بتلك الأموال، فقيل له: لو لحقت بمروان فإنه ليس بعد الحصار إلا القتل، وكان يخاف من مروان لأنه كان يكتب إليه في الأمر فيخالفه، فخافه إن قدم عليه أن يقتله فسرح أبو سلمة الحسن بن قحطبة، فخندق
__________
[1] في الأصل: «سليمان بن أبي المهاجر» . وفي ت: «سليمان المهاجر» . وما أوردناه من الطبري 7/ 450.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصلين، أوردناه من الطبري.(7/313)
وخرج ابن هبيرة للقتال واقتتلوا ثم تحاجزوا ثم اقتتلوا بعد أيام، فهزم أهل الشام هزيمة قبيحة، فدخلوا المدينة فمكثوا ما شاء الله لا يقتتلون إلا رميا من وراء الفصيل، ومكثوا على القتال أحد عشر شهرا، فلما طال عليهم وجاءهم قتل مروان طلبوا الصلح. وكان أصحاب ابن هبيرة قد تقاعدوا به حتى هم أن يدعو إلى محمد بن عبد الله بن الحسن، وكتب إليه فأبطأ جوابه، وجرت السفراء بين أبي جعفر وبين ابن هبيرة حتى جعل له أمانا، وكتب بذلك ابن هبيرة كتابا مكث يشاور فيه العلماء أربعين يوما حتى رضيه ابن هبيرة، ثم أرسله إلى أبي جعفر فأنفذه أبو جعفر إلى أبي العباس فأمره بإمضائه، وكان رأى أبي جعفر الوفاء له بما أعطاه.
وكان أبو العباس لا يقطع أمرا دون أبي مسلم، وكان أبو الجهم عينا لأبي مسلم على أبي العباس [1] ، يكتب إليه بأخباره كلها، فكتب أبو مسلم إلى أبي العباس: إن الطريق السهل إذا ألقيت فيه الحجارة فسد، ولا والله لا يصلح [2] طريق فيه ابن هبيرة.
ولما تم الكتاب الذي كتبه ابن هبيرة لنفسه خرج ابن هبيرة إلى أبي جعفر في ألف وثلاثمائة، فأراد أن يدخل الحجرة على دابته، فقام إليه الحاجب سلام بن سليم، فقال: مرحبا بك أبا خالد، انزل راشدا، وقد طاف بالحجرة نحو من عشرة آلاف من أهل خراسان، فنزل، ودعا له بوسادة فجلس عليها، ثم دعا بالقواد فدخلوا ثم قال سلام: ادخل أبا خالد، فقال: أنا ومن معي؟ فقال: إنما استأذنت لك وحدك، فقام فدخل فحادثه ساعة ثم قام وأتبعه أبو جعفر بصره حتى غاب عنه، ثم مكث يقيم عنه يوما ويأتيه يوما في خمسمائة فارس وثلاثمائة راجل، فقال يزيد بن حاتم لأبي جعفر: أيها الأمير، إن ابن هبيرة ليأتي فيتضعضع له العسكر، وما نقص من سلطانه شيء، فقال أبو جعفر لسلام: قل لابن هبيرة يدع الجماعة ويأتينا في حاشيته، قال: فلما سمع ذلك تغير وجهه وجاء في حاشيته نحو من ثلاثين، ثم كان بعد ذلك يأتي في ثلاثة، ثم ألح أبو العباس
__________
[1] في الأصل: «وكان أبو الجهم لأبي مسلم من يعرف بأبي الجهم عينا على أبي العباس» . وما أوردناه من ت والطبري.
[2] في الأصل: «صلح» . وما أوردناه من ت والطبري.(7/314)
على أبي جعفر [يأمره] [1] بقتله، وهو يراجعه، حتى كتب إليه: والله لتقتلنه أو لأرسلن إليه من يخرجه من حجرتك، ثم يتولى قتله. فأزمع على قتله، فأخذ جماعة من أصحابه فقتلهم، ثم بعث إليه من قتله.
وفيها: بعث أبو مسلم [2] محمد بن الأشعث على فارس، وأمره أن يأخذ عمال أبي سلمة فيضرب أعناقهم، ففعل ذلك.
وفيها: عزل أبو العباس عمه داود بن علي عن الكوفة وسوادها، وولاه مكة، والمدينة، واليمن واليمامة، وولى ما كان إليه عيسى بن موسى، واستقضى عيسى على الكوفة ابن أبي ليلى.
وفيها: وجه أبو العباس أخاه يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله واليا على الموصل.
وفيها: حج بالناس داود بن علي، وكان العامل على مكة والمدينة واليمن، وعلى الجزيرة وأرمينية وأذربيجان أبو جعفر، وعلى الموصل يحيى بن محمد، وعلى كور الشام عبد الله بن علي، وعلى مصر أبو عون عبد الملك بن يزيد، وكان على البصرة سفيان بن معاوية المهلبي، وعلى قضائها الحجاج بن أرطأة، وعلى فارس محمد بن الأشعث، وعلى السند منصور بن جمهور، وعلى خراسان والجبال أبو مسلم وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
715- حفص [3] بن سليمان، أبو سلمة الخلال، وزير أبي العباس السفاح:
وهو أول من وزر لهم، ولم يكن خلالا إنما كان منزله بالكوفة بقرب الخلالين، وكان يجلس عندهم فسمي خلالا. وقتل في هذه السنة على ما ذكرنا في حوادث السنة.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] تاريخ الطبري 7/ 478.
[3] في الأصل: «جعفر» . خطأ. والتصحيح من ت. والطبري.(7/315)
716- الربيع بن أبي راشد، أبو عبد الله:
سمع من سعيد بن جبر، ومن الثوري. وكان كالغائب عن الخلق.
قال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا محمد بن أبي يزيد الآدمي، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن خلف بن حوشب، قال:
كنت مع الربيع بن أبي راشد في الجبانة، فقرأ رجل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ....) 22: 5 [1] الآية فقال الربيع: حال ذكر الموت بيني وبين كثير مما أريد من التجارة، ولو فارق ذكر الموت قلبي ساعة خشيت أن يفسد علي قلبي، ولولا أن أخالف من كان قبلي لكانت الجبانة مسكني إلى أن أموت.
قال: وقال عمر بن ذر [2] : كنت إذا رأيت الربيع بن أبي راشد كأنه مخمار من [غير] [3] شراب.
717-[زبان] [4] بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم، أبو إبراهيم:
كان سيد بني عبد العزيز وفارسهم، حضر الوقعة مع مروان بن محمد ليلة بوصير فتقنطر به فرسه، فقتله المسور في هذه السنة، ولم يعرفوه. وقد روى عنه الأوزاعي.
718- صفوان بن سليم، أبو عبد الله الزهري، مولى حميد بن عبد الرحمن [5] :
روى عن ابن عمر، وجابر، وعبد الله بن جعفر، وسهل بن حنيف، وجماعة من كبار التابعين. كان ثقة كثير الحديث عابدا.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم، قال: أخبرنا حمد بْنُ أحمد الحداد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم الأصفهاني، قال: حدثنا ابن جعفر، قال: حدّثنا جعفر بن محمد الفريابي،
__________
[1] سورة الحج، الآية: 5.
[2] في الأصل: «عن عمر بن ذر» . وما أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] ما بين المعقوفتين: بياض من الأصل.
[5] طبقات خليفة 261، وعلل أحمد 1/ 328، والتاريخ الكبير 4/ 2930، والجرح والتعديل 4/ 1858، وحلية الأولياء 3/ 158، وسير أعلام النبلاء 5/ 364، وتذكرة الحفاظ 1/ 134، وتاريخ الإسلام 5/ 262، وتهذيب التهذيب 4/ 425، وشذرات الذهب 1/ 189.(7/316)
قال: حدثنا أبو أمية، قال: حدثنا يعقوب بن محمد، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، قال:
عادلني صفوان بن سليم إلى مكة، فما وضع جنبه في المحمل حتى رجع [1] .
قال أبو نعيم: وأخبرنا محمد بن أحمد بن إبراهيم في كتابه، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن عاصم، قال: حدثنا سعيد بن كثير بن يحيى، قال: حدثني أبي، قال:
قدم سليمان بن عبد الملك المدينة وعمر بن عبد العزيز عامله عليها. قال:
فصلى بالناس الظهر ثم فتح باب المقصورة، واستند إلى المحراب واستقبل الناس بوجهه، فنظر إلى صفوان بن سليم عن غير معرفة، فقال: يا عمر، من هذا الرجل؟ ما رأيت سمتا أحسن منه، قال: يا أمير المؤمنين، هذا صفوان بن سليم، قال: يا غلام، كيس فيه خمسمائة دينار، فأتى بكيس فيه خمسمائة دينار، فقال لخادمه: ترى هذا الرجل القائم يصلي، فوصفه للغلام حتى أثبته. قال: فخرج الغلام بالكيس حتى جلس إلى صفوان، فلما نظر إليه صفوان ركع وسجد ثم سلم وأقبل عليه، فقال: ما حاجتك؟
قال: أمرني أمير المؤمنين- وهو ذا ينظر إليك وإلي أن أدفع إليك هذا الكيس فيه خمسمائة دينار، وهو يقول لك استعن بهذه على زمانك وعلى عيالك، فقال صفوان:
ليس أنا بالذي أرسلت إليه، فقال الغلام: ألست صفوان بن سليم؟ قال: بلى أنا صفوان بن سليم، قال: فإليك أرسلت- قال: اذهب فاستثبت، فإذا أثبت فهلم، فقال الغلام: فأمسك الكيس معك وأنا أذهب، قال: لا إذا أمسكت كنت قد أخذت، ولكن اذهب فاستثبت وأنا هاهنا جالس. فولى الغلام وأخذ صفوان نعليه وخرج، فلم يربها حتى خرج سليمان من المدينة.
قال أحمد بن محمد بن عاصم: وحدثنا أبو مصعب، قال: قال لي ابن حازم:
دخلت أنا وأبي نسأل عن صفوان بن سليم وهو في مصلاه، فما زال أبي حتى رده إلى فراشه، فأخبرتني مولاته أن ساعة خرجتم مات.
__________
[1] الخبر في حلية الأولياء 3/ 158.(7/317)
719- عبد الحميد بن يحيى بن سعيد، مولى بني عامر بن لؤي، الكاتب، كاتب مروان بن محمد [1] :
كان الأساس في البلاغة، رسم رسومها، وأصل أصولها، وفرع فروعها، وقد كان قبله سالم مولى سعيد بن عبد الملك مقدما في هذه الصناعة إلا أنه دون عبد الحميد، وكان متصلا في حداثته بعبد الله بن مالك الثقفي كاتب الوليد بن عبد الملك، فتأدب وبرع، ثم اتصل بمروان بن محمد قبل الخلافة فغلب عليه، فكان يخط بين يديه قبل الخلافة أحسن خط، ولا ينتحل شيئا من البلاغة، ثم قام في الخلافة مقام الوزير.
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر بْن ثَابِت، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلي بْن علي، قال: حدثنا محمد بن عمر المرزبان، قال: حدثنا علي بن سليمان الأخفش، قال: قال أحمد بن يوسف الكاتب:
رآني عبد الحميد بن يحيى وأنا أكتب خطا رديئا، فقال: إن أردت أن تجود خطك فأطل جحفتك [2] واشممها، وحرف قطتك وأيمنها.
قال علماء السير: انقرض ملك بني أمية على أربعة لم يجتمع مثلهم في دولة:
مروان بن محمد بن الحكم في شجاعته وسياسته، وعبد الحميد في كتابته وبلاغته، ويزيد بن عمر بن هبيرة في تدبيره وصحة رأيه، ونصر بن سيار في صولته وضبطه وبعد صوته.
720- عمر بن المنكدر:
كان من العباد المجتهدين، وقوام الليل.
أخبرنا عبد الوهاب [الحافظ بإسناده] [3] ، عن [بن] أبي بكر الرشي، قَالَ:
حَدَّثَنِي الْحَسَن بْن الصباح، قَالَ: حَدَّثَنَا العلاء بن عبد الجبار، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قالت أم عمر بن المنكدر لعمر:
__________
[1] البداية والنهاية 10/ 55، ووفيات الأعيان 1/ 307.
[2] كذا في الأصل، وفي ت: «خلقتك» . وفي البداية: «جلفة قلمك» . وهي أصح.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/318)
إني لأشتهي أن أراك نائما، فقال: يا أماه، والله إن الليل ليرد علي فيهولني، فينقضي عني وما قضيت إربي.
وفي رواية: أنهم قالوا له: فما هذا البكاء الكثير؟ فقال: آية من كتاب الله تعالى أبكتني: (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) 39: 47 [1] .
721- منصور بن المعتمر، أبو عتاب، السلمي [2] :
أسند عن أنس وعن جماعة من كبار التابعين، وكان من العلماء المتعبدين الثقات. صام أربعين سنة وتمامها، وكان محروما كأنه قد أصيب بمصيبة، وبكى حتى عمش.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، ويحيى بن علي، قالا: أخبرنا عبد الله بن محمد الصريفيني، قال: أخبرنا محمد بن الحسن بن عبدان، قَالَ: حَدَّثَنَا الحسين بْن إِسْمَاعِيل، قَالَ: حَدَّثَنَا محمد بن يحيى الأزدي، قال: حدثنا خلف بن تميم، عن زائدة بن قدامة، قال:
صام منصور بن المعتمر أربعين سنة قام ليلها وصام نهارها، وكان يبكي الليل [3] ، فتقول له أمه: يا بني، قتلت قتيلا؟ فيقول: أنا أعلم ما صنعت بنفسي، فإذا أصبح كحل عينيه ودهن رأسه وبرق شفتيه وخرج إلى الناس فأخذه ذات يوم يوسف بن عمر عامل الكوفة يريده على القضاء، فامتنع، قال: فدخلت عليه وقد جيء بالقيد ليقيد، قال: فجاءه خصمان، فقعدا بين يديه فلم يسألهما ولم يكلمهما، فقيل ليوسف بن عمر: إنك لو نثرت لحمه لم يل لك قضاء، فخلى عنه وتركه.
أخبرنا ابن ناصر بإسناد له عن العلاء [4] بن سالم العبدي، قال: كان منصور يصلي في سطحه [5] ، فلما مات قال غلام لأمه: يا أماه الجذع الذي كان في آل فلان
__________
[1] سورة: الزمر، الآية: 47.
[2] طبقات ابن سعد 6/ 235. والجرح والتعديل 8/ 177، والتاريخ الكبير 4/ 1/ 346.
[3] في الأصل: «وكان الليل يبكي» . وما أوردناه من ت.
[4] في الأصل: «بإسناد له في الصفوة عن العلاء» . وما أوردناه من ت.
[5] في الأصل: «مسجد» . وما أوردناه من ت.(7/319)
ليس أراه، قالت: يا بني ليس ذلك جذع، ذلك منصور، وقد مات.
أخبرنا ابن منصور، قال: أَخْبَرَنَا حَمَدُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم الأصفهاني، قال: حدثنا أبو محمد بن حيان، قال: حدثنا محمد بن يحيى، قال:
حدثنا أزهر بن جميل، قال: حدّثنا ابن عيينة، قال:
رأيت منصور بن المعتمر في المنام، فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: كدت أن ألقى الله بعمل نبي.
قال سفيان: إن منصورا صام ستين سنة يقوم ليلها ويصوم نهارها.
722- مروان بن محمد بن مروان بن الحكم:
قتل في ذي الحجة من هذه السنة وهو ابن اثنتين وستين سنة، وقيل: تسع وستين.
وقيل: ثمان وخمسين. وكانت ولايته خمس سنين وعشرة أشهر وستة عشر يوما.(7/320)
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائة
فمن الحوادث فيها توجيه أبي العباس عمه سليمان بن علي واليا على البصرة وأعمالها وكور دجلة، والبحرين وعمان ومهرجان قذق. وتوجيه عمه إسماعيل بن علي [على] [1] كور الأهواز.
وفي هذه السنة: قتل داود بن علي من كان أخذ من بني أمية بمكة والمدينة.
وفيها: مات داود بن علي، فلما بلغت وفاته إلى أبي العباس وجه على مكة والطائف واليمامة خاله زياد [2] بن عبيد الله بن عبد المدان الحارثي.
ووجه محمد بن يزيد بن عبيد الله بن عبد المدان الحارثي. على اليمن فقدمها في جمادى الأولى، فأقام زياد بالمدينة ومضى محمد إلى اليمن. ثم وجه زياد بن عبيد الله من المدينة إبراهيم بن حسان السلمي إلى المثنى بن يزيد بن عمر بن هبيرة وهو باليمامة، فقتله وقتل أصحابه.
وفيها: كتب أبو العباس إلى أبي عون بإقراره على مصر واليا عليها. وإلى عبد الله بن علي، وصالح بن علي على أجناد الشام.
وفيها: خرج سويد بن شيخ [3] المهري بخراسان على أبي مسلم ببخارى ونقم عليه وقال له: ما على هذا اتبعنا آل محمد، على أن نسفك الدماء، ونعمل بغير الحق،
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «خالد بن زياد» . والتصحيح من ت والطبري.
[3] كذا في الأصلين، وفي الطبري 7/ 459: «شريك بن شيخ» .(7/321)
وتبعه على رأيه أكثر من ثلاثين ألفا، فوجه إليه أبو مسلم ابن صالح الخزاعي فقاتله فقتله.
وفيها: قتل عبد الرحمن بن يزيد بن المهلب بالموصل، قتله سليمان بن الأسود.
وفيها: وجه صالح بن علي سعيد بن عبد الله لغزو الصائفة وراء الدرب [1] .
وفيها: عزل يحيى بن محمد عن الموصل، واستعمل مكانه سليمان بن علي.
وفيها: أقبل طاغية الروم، فنزل على ملطية، فقاتلوه قتالا شديدا ثم نزلوا على أمان، فهدم المدينة والمسجد الجامع ودار الإمارة، ووجه مع المسلمين خيلا حتى بلغتهم مأمنهم.
وفيها: حج بالناس زياد بن عبيد الله الحارثي خال السفاح، وكان على الكوفة وأرضها عيسى بن موسى، وعلى قضائها ابن أبي ليلى، وعلى البصرة وأعمالها وكور دجلة والبحرين وعمان ومهرجان قذق [2] سليمان بن علي، وعلى قضائها عباد بن منصور، وعلى الأهواز إسماعيل بن علي، وعلى فارس محمد بن الأشعث، وعلى السند منصور بن جمهور، وعلى خراسان والجبال أبو مسلم، وعلى قنسرين وحمص وكور دمشق والأردن عبد الله بن علي، وعلى فلسطين صالح بن علي، وعلى مصر عبد الملك بن يزيد أبو عون، وعلى الجزيرة أبو جعفر، وعلى الموصل إسماعيل بن علي، وعلى أرمينية صالح بن صبيح، وعلى أذربيجان مجاشع بن يزيد، وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
723- داود بْن علي بْن عبد الله بْن العباس [3] :
روى عن أبيه، وكان داود لما ظهر ابن أخيه السفاح وصعد ليخطب الناس فحصر
__________
[1] كذا في الأصلين، وفي الطبري: «الدروب» .
[2] في الأصل: «مهرجان قذق» . وفي ت: «مهرجان فرق» . وفي الطبري: «مهرجان قذق» .
[3] طبقات ابن سعد (خط) ، والتاريخ الكبير 3/ 795، والجرح والتعديل 3/ 1914، وتهذيب ابن عساكر(7/322)
فلم يتكلم، فوثب داود من بين يدي المنبر، فخطب وذكر أمرهم وخروجهم، ومنى الناس ووعدهم العدل فتفرقوا عن خطبته، وولاه السفاح مكة والمدينة، وحج بالناس سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وهي أول حجة حجها بنو العباس، ثم صار داود إلى المدينة، فأقام بها أشهرا ثم مات بها في شهر ربيع الأول من هذه السنة.
724- ضرار بن مرة أبو سنان الشيباني [1] :
روى عن سعيد بن جبير، وكان من البكاءين، وكان قد حفر لنفسه قبرا قبل موته بخمس عشرة سنة، وكان يأتيه فيختم فيه القرآن.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أخبرنا محمد بن هبة الله، قال: حدثنا مُحَمَّد بْن الحسين بْن الفضل، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابن درستويه، قال: حدثنا يعقوب بن يوسف، قال: أخبرنا أبو سعيد الأشج، قال: حدثنا المخارق، قال:
كان ضرار بن مرة ومحمد بن سوقة إذا كان يوم الجمعة طلب كل واحد منهما صاحبه، فإذا اجتمعا جلسا يبكيان.
روى أبو سعيد [2] الأشج، قال: حدثنا عبد الله بن الأجلح، قال: كان ضرار بن مرة يقول لنا: لا تجيئوني جماعة، ولكن ليجيء الرجل وحده، فإنكم إذا اجتمعتم تحدثتم، وإذا كان الرجل وحده لم يخل من أن يدرس جزأه [من القرآن] [3] أو يذكر ربه.
__________
[ () ] 5/ 206، وتاريخ الإسلام 5/ 242، وسير أعلام النبلاء 5/ 444، وميزان الاعتدال 2/ 2633، وتهذيب التهذيب 3/ 194، وشذرات الذهب 1/ 191.
[1] طبقات ابن سعد 6/ 236، وطبقات خليفة 165، والتاريخ الكبير 4/ 3052، والجرح والتعديل 4/ 2044، وحلية الأولياء 5/ 91، وتاريخ الإسلام 6/ 84، وتهذيب التهذيب 4/ 457.
[2] في الأصل: «عن أبي سعيد» . وما أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين: من ت.(7/323)
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين ومائة
فمن الحوادث فيها أن بسام بن إبراهيم- وكان من فرسان أهل خراسان خالف وخلع من عسكر أبي العباس مع جماعة بايعوه على ذلك مستبشرين [1] بخروجهم، فأقاموا بالمدائن، فبعث إليهم أبو العباس خازم بن خزيمة، فانهزم بسام وأصحابه، وقتل أكثرهم، واستبيح عسكره.
وفيها: شخص خازم إلى عمان، فأوقع من فيها من الخوارج وغلب على ما قرب منها من البلدان، وقتل شيبان الخارجي، وكان أهل عمان ظفروا به، ثم نصب لهم الجلندى وأصحابه، وهم الأباضية، فاقتتلوا فقتل الجلندى فيمن قتل، وبلغ عدة القتلى عشرة آلاف.
وفيها: غزا أبو داود خالد بن إبراهيم أهل كش [2] ، فقتل الأخريد [3] ، وهو ملكها، وأخذوا من السروج الصينية والأواني المذهبة، ومن طرائف الصين، فحمله أبو داود إلى أبي مسلم.
وفيها: وجه أبو العباس موسى بن كعب إلى الهند لقتال منصور بن جمهور، فهزم منصور، فمات عطشا في الرمال.
__________
[1] في الطبري: «مستسرين» .
[2] في الأصل: «كيس» . وفي الطبري المطبوع: «كس» . وأحد نسخه المخطوطة: «كش» . وما أوردناه من ت ومعجم البلدان 4/ 462.
[3] في الأصل: «الأجرند» . وفي ت: «الآخريذ» . وما أوردناه من الطبري.(7/324)
وفيها: تحول أبو العباس من الكوفة إلى الأنبار في ذي الحجة، وبنى مدينتها.
وفيها: عزل صالح بن صبيح عن أرمينية وجعل مكانه يزيد بن أسيد.
وفيها: عزل مجاشع بن يزيد عن أذربيجان، واستعمل عليها محمد بن صول.
وفيها: ضرب المنار من الكوفة.
وفيها: حج بالناس عيسى بن موسى وهو على الكوفة وأرضها. وكان على قضائها ابن أبي ليلى، وكان على مكة والمدينة والطائف واليمامة زياد بن عبيد الله، وعلى اليمن علي بن الربيع الحارثي، وعلى البصرة، وأعمالها وكور دجلة والبحرين وعمان والعواصم [1] ومهرجان قذق سليمان بن علي، وعلى قضائها عباد بن منصور، وعلى السند موسى بن كعب، وعلى خراسان والجبال أبو مسلم، وعلى فلسطين صالح بن علي، وعلى أرمينية يزيد بن أسيد، وعلى أذربيجان محمد بن صول. وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك، وعلى الجزيرة أبو جعفر، وعلى قنسرين وحمص وكور دمشق والأردن عبد الله بن علي.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
725- محمد بن يزيد بن عبيد الله:
كان على اليمن من قبل السفاح، فتوفي. فكتب السفاح بولايتها لعلي بن الربيع بن عبيد الله الحارثي، ابن خال السفاح.
__________
[1] كذا في الأصلين، وفي الطبري: «والعرض» .(7/325)
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ومائة
فمن الحوادث فيها خروج زياد بن صالح وراء نهر بلخ، فشخص أبو مسلم من مرو مستعدا للقائه وسأل عمن أفسد زياد بن صالح، فقيل له: سباع بن النعمان، فأمر بقتله فقتل زيادا قواده، فلجأ إلى دهقان، فقتله الدهقان وجاء برأسه إلى أبي مسلم، ورجع أبو مسلم إلى مرو.
وفيها: ولي سليمان بن علي البصرة، وعزل عنها محمد بن حفص، واستعمل على شرط السفاح.
وفيها: حج بالناس سليمان بن علي وهو على البصرة وأعمالها، وكان على قضائها ابن منصور، وكان على مكة العباس بن عبد الله بن معبد بن العباس، وعلى المدينة زياد بن عبيد الله الحارثي، وعلى الكوفة وأرضها عيسى بْن موسى، وعلى قضائها ابن أبي ليلى، وعلى الجزيرة أبو جعفر، وعلى مصر أبو عون، وعلى قنسرين وحمص وبعلبك والغوطة وحوران والجولان والأردن عبد الله بن علي، وعلى أرمينية يزيد بن أسيد، وعلى أذربيجان محمد بن صول، وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
726- إسماعيل بن سالم، أبو يحيى الأسدي [1] :
سمع من عامر الشعبي، وسعيد بن جبير وغيرهما. وروى عنه الثوري، وهشيم.
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 67، وتاريخ بغداد 6/ 212، والتاريخ الكبير 1/ 1/ 356، والجرح والتعديل 1/ 1/ 172.(7/326)
نزل بغداد قبل تمصيرها. وسئل عنه أحمد بن حنبل فقال: ثقة ثقة.
وقال يحيى: هو أوثق من أساطين الجامع.
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي أَبُو الْقَاسِمِ الأَزْهَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن الْعَبَّاس، قَالَ: حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مَعْرُوفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: قال إسماعيل بن سالم الأسدي:
الذي روى عنه هشيم وأصحابه كان ثقة ثبتا وكان أصله من الكوفة، ثم تحول فسكن بغداد قبل أن تبنى وتسكن، وكانت ببغداد لهشام بن عبد الملك وغيره من الخلفاء خمسمائة فارس رابطة يغيرون على الخوارج إذا خرجوا في ناحيتهم قبل أن يضعف أمرهم.
727- رابعة العدوية [1] :
أخبرنا أبو القاسم الجريري، قال: أنبأنا أبو طالب العشاري، قال: أخبرنا أبو بكر البرقاني، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُزَكِّي، قَالَ: أخبرنا محمد بن إسحاق بن إسحاق السراج، قال: حدثنا حاتم بن الليث الجوهري، قال: حدثنا عبد الله بن عيسى، قال:
دخلت على رابعة العدوية بيتها، فرأيت على وجهها النور، وكانت كثيرة البكاء، فقرأ رجل عندها آية فيها ذكر النار، فصاحت ثم سقطت.
ودخلت عليها وهي جالسة على قطعة بوري خلق فتكلم رجل عندها بشيء، فجعلت أسمع وقع دموعها على البوري مثل الوكف، ثم اضطربت وصاحت فقمنا وخرجنا.
قال محمد بن عمر [2] : دخلت على رابعة. وكانت عجوزا كبيرة بنت ثمانين سنة،
__________
[1] وفيات الأعيان 1/ 256، وتاريخ بغداد 2/ 40، والنجوم الزاهرة 1/ 33، وطبقات الشعراني 1/ 77، وشذرات الذهب 1/ 193، وصفة الصفوة 4/ 7، والبداية والنهاية 10/ 186، وجامع كرامات الأولياء 2/ 10، ونفحات الأنس 615، والكواكب الدرية 1/ 108.
قال ابن خلكان: وفاتها سنة 135، كما في شذور العقود لابن الجوزي، وقال غيره: سنة 185.
[2] في الأصل: «عن محمد بن عمر قال» .(7/327)
كأنها الشن، تكاد تسقط، ورأيت في بيتها كراحة بوري، ومحشب قصب فارسي طوله من الأرض قدر ذراعين، عليه أكفانها وستر البيت جله، وربما بوري وجب وكوز ولبد هو فراشها وهو مصلاها. وكانت إذا ذكرت الموت انتفضت وأصابتها رعدة، وإذا مرت بقوم عرفوا فيها العبادة.
وقال لها رجل: ادعي لي، فالتصقت بالحائط وقالت: من أنا يرحمك الله، أطع ربك وادعه فإنه يجيب دعوة المضطر.
قال مؤلف الكتاب [1] : كانت رابعة محققة [2] فطنة، ومن كلامها الدال على قوة فهمها قولها: استغفر الله من قلة صدقي في قولي أستغفر الله.
وكان سفيان الثوري يقول: مروا بنا إلى المؤدبة التي لا أجد من أستريح إليه إذا فارقتها. وقال يوما بين يديها: وا حزناه، فقالت: لا تكذب، قل: وا قلة حزناه، لو كنت محزونا ما هناك العيش.
وقيل لها: هل عملت عملا ترين أنه يقبل منك؟ فقالت: إن كان فمخافتي أن يرد علي.
وقد جمعت أخبارها في كتاب، فلهذا اقتصرت على هذا القدر ها هنا.
دفنت بظاهر القدس على رأس جبل، وقبرها يزار.
728- زهرة بن معبد بن عبد الله بن هشام، أبو عقيل التميمي [3] :
مديني سكن مصر، روى عن ابن عمر، وابن الزبير. روى عنه الليث، وابْن لهيعة وآخر من حدث عنه رشدين، وتوفي في هذه السنة.
__________
[1] في ت: «قال المصنف» .
[2] في الأصل: «رابعة كانت محققة» . وما أوردناه من ت.
[3] في الأصلين: «التميمي» . وفي كتب الرجال: «التيمي» . طبقات ابن سعد 7/ 2/ 203، وطبقات خليفة 294، والتاريخ الكبير 3/ 1476، والجرح والتعديل 3/ 2786، وتهذيب ابن عساكر 5/ 385، وتاريخ الإسلام 5/ 251، وسير أعلام النبلاء 6/ 147، وتهذيب التهذيب 3/ 341، وشذرات الذهب 1/ 192.(7/328)
729- عَبْد اللَّه بن السائب المخزومي المديني [1] :
كان يقول: كان جدي في الجاهلية يكنى أبا السائب، وبه اكتنيت، وكان خليطا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا ذكره في الإسلام، قال: نعم الخليط، وكان لا يساري ولا يماري.
كان عبد الله أديبا فاضلا خيرا عفيفا، لكنه مشتهر بحب الغزل، يهش عند سماع الشعر ويطرب له، قدم على السفاح الأنبار.
أخبرنا عبد الرحمن القزاز، بإسناد له عن أبي عبد الله الزبيري، قال: كان أبو السائب المخزومي مع حسن [2] بن زيد بالأنبار، وكان له مكرما وذلك في ولاية أبي العباس، فأنشده ليلة الحسن بن زيد أبياتا لمجنون بني عامر:
وخبر تماني أن تيماء منزل ... لليلى إذا ما الضيف ألقى المراسيا
فجعل أبو السائب يحفظها، فلما انصرف إلى منزله، فذكرها شذ عليه بعضها، فرجع إلى الحسن بن زيد، فلما وقف على الباب صاح بأعلى صوته: أبا فلان، فسمع ذلك الحسن [3] ، فقال: افتحوا الباب لأبي السائب فقد دعاه أمر، فلما دخل عليه قال:
أجاء خبر؟ قال: أعظم من ذلك، قال: ما هو؟ قال: تعيد عليّ:
وخبر تماني أن تيماء منزل ... لليلى إذا ما الضيف ألقى المراسيا
فأعادها عليه حتى حفظها.
أخبرنا عبد الرحمن القزاز بإسناده عن محمد بن عبد الرحمن بن القاسم التيمي، قال: حدثني أبي، قال:
بينا أبو السائب في داره إذ سمع رجلا يتغنى بهذه الأبيات:
أبكي الذين أذاقوني مودتهم ... حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا
حسبي بأن تعلمي أن قد يحبكم ... قلبي فإن تجدي بعض الّذي أجد
__________
[1] طبقات ابن سعد (مخطوط) ، والتاريخ الكبير 5/ 296، والجرح والتعديل 5/ 302، والثقات لابن حبان 5/ 32، وتاريخ الإسلام 5/ 94، وميزان الاعتدال 2/ 4339، وتهذيب التهذيب 5/ 229، وتقريب 1/ 418.
[2] في الأصل: «حسين» . والتصحيح من ت.
[3] في الأصل: «أبو الحسن» . وما أوردناه من ت.(7/329)
ألفيت بيني وبين الحب معرفة ... فليس ينفذ حتى ينفذ الأبد
وليس لي مسعد فامنن علي به ... فقد بليت وقد أضناني الكمد
قال: فخرج أبو السائب خلفه وقال: قف يا حبيب فقد أجبت دعوتك، [أنا مسعدك] [1] ، أين تريد؟ قال: خيام السعف من وادي العرج، فأصابتهما سماء شديدة، فجعل أبو السائب يقرأ: (فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَالله يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) 3: 146 [2] فرجع إلى منزله وقد كادت نفسه تتلف، فدخل عليه أصحابه، فقالوا له: يا أبا السائب، ما الذي تصنع بنفسك؟ قال: إليكم عني، فإني مشيت في مكرمة، وأحببت مسلما، والمحسن معان.
قال مؤلف الكتاب [3] : والأخبار عنه في هذا المعنى كثيرة حتى أن ابنه أنشده بيتين وقد اجتمع أهل الدار على المائدة، فقال له: أمك طالق إن تعشينا ولا تسحرنا إلا بهذين البيتين [فرفعوا الطعام وجعلوا يرددون البيتين] [4] ، ثم أيقظهم سحرا فأنشدوه.
وجاز على حداد [5] ، وهو ينشد، فحلف لينفخن له بمنفاخه، فجلس ينفخ وذلك ينشده إلى المغرب.
وروى عبد الرحمن [6] المدائني قال: حدثنا أبو عثمان المازني، قال: صام أبو السائب المخزومي يوما، فلما صلى المغرب وقدمت مائدته خطر بقلبه بيت لجرير:
إن الذين غدوا بقلبك غادروا ... وشلا بعينك ما يزال معينا
غيضن من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا
فقال: كل امرأة له طالق وكل مملوك له حر إن أفطر الليلة إلا على هذين البيتين.
أخبرنا المبارك بن علي بإسناد له عن عبد الملك بن عبد العزيز، قال: قال لي أبو
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] سورة: آل عمران، الآية: 146.
[3] في ت: «قال المصنف» .
[4] ما بين المعقوفتين: من ت.
[5] في ت: «على صائغ» .
[6] في الأصل: «وعن عبد الرحمن» . وما أوردناه من ت.(7/330)
السائب: يا ابن أخي، أنشدني للأحوص، فأنشدته قوله:
قالت وقلت تحرجي وصلي ... حبل امرئ يوصي لكم صب
صاحت إذا بعلي فقلت لها ... العذر شيء ليس من شعبي
ثنتان لا أوثر لوصلهما ... عرس الخليل وجاره الجنب
أما الخليل فلست فاجعه ... والجار أوصاني به ربي
فقال: هذا يا ابن أخي المحب غبنا.
730- عطاء بن أبي مسلم الخراساني:
وفي اسم أبيه قولان: أحدهما ميسرة، والثاني عبد الله، وفي كنية عطاء قولان:
أحدهما أبو عثمان، والثاني أبو أيوب. وأصله من بلخ، أسند عن ابن عمر، وابن عباس، وأنس، وأبي هريرة، وغيرهم من العلماء الصالحين.
أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو طَالِبٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ غَيْلانَ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا إبراهيم بن محمد المزكي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْن مُحَمَّد بْن أَحْمَد بن زهير الطوسي، قال: حدثنا يوسف بن عيسى، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال:
كنا مقاربي عطاء الخراساني، وكان يحيى الليل صلاة، وكان إذا ذهب من الليل ثلثه أو نصفه نادانا وهو في فسطاطه يا إسماعيل، يا عبد الرحمن بن يزيد، يا فلان بن فلان، قوموا فتوضئوا وصلوا، فإن صلاة هذا الليل وصيام هذا النهار أيسر من شراب الصديد، ومقطعات الحديد، الوحا الوحا.
731- محب بن حازم مولى ثابت بن يزيد بن رعين، يكنى أبا جبرة:
يروي عن موسى بن وردان حديثا واحدا بسنده، لا يروي غيره، روى عنه سعيد بن أيوب، وضمام بن إسماعيل، والليث بن عاصم.
وكان فاضلا توفي في هذه السنة.(7/331)
ثم دخلت سنة ست وثلاثين ومائة
فمن الحوادث فيها قدوم أبي مسلم العراق [1] على أبي العباس أمير المؤمنين، وذلك أنه كتب إليه يستأذنه في القدوم، فأذن له، فقدم في جماعة عظيمة، فأمر أبو العباس الناس بالتلقي له [2] ، فلما دخل عليه أعظمه وأكرمه، فاستأذنه في الحج، فقال: لولا أن أبا جعفر يحج لاستعملناك على الحج والموسم، وأنزله قريبا منه، وكان يأتيه في كل يوم يسلم عليه، وكان بين أبي جعفر، وبين أبي مسلم تباعد.
وكان السبب في ذلك أن أبا العباس بعث أبا جعفر إلى أبي مسلم وهو بنيسابور وقد صفت له الأمور بعهده على خراسان، وبالبيعة لأبي العباس ولأبي جعفر من بعد موته، فبايع له، وكان في مدة مقامه عنده يهون أمره، ويستخف بشأنه، فلما قدم أبو جعفر أخبر أبا العباس باستخفافه به، وقال له: أطعني واقتل أبا مسلم، فو الله إن في رأسه لغدرة، فقال: يا أخي قد عرفت بلاءه وما كان منه، فقال: إنما كان بدولتنا، والله لو بعثت سنورا لقام مقامه، فقال: وكيف نقتله؟ قال: إذا دخل عليك وحادثته دخلت إليه فتغفلته وضربته ضربة أتيت بها على نفسه، قال: وكيف بأصحابه الذين يؤثرونه على دينهم ودنياهم؟ قال: يؤول ذلك كله إلى ما تريد، ولو علموا أنه قتل تفرقوا وذلوا، قال:
عزمت عليك ألا كففت عن هذا، قال: والله أخاف إن لم تتغده اليوم أن يتعشاك غدا،
__________
[1] تاريخ الطبري 7/ 468.
[2] كذا في الأصل، وفي ت والطبري: «يتلقونه» .(7/332)
قال: فدونكه، أنت أعلم. فخرج أبو جعفر عازما على ذلك، وندم أبو العباس فأرسل إلى أبي جعفر لا تفعل ذلك الأمر.
وفي هذه السنة: عقد أبو العباس لأخيه أبي جعفر بالخلافة من بعده، وجعله ولي عهده، ومن بعد أبي جعفر عيسى بن موسى بن محمد بن علي، وكتب العهد بذلك، وصيره في ثوب وختم عليه بخاتمه وخواتيم أهل بيته، ودفعه إلى عيسى بن موسى.
وفي هذه السنة: حج بالناس أبو جعفر، وحج معه أبو مسلم.
وقد ذكرنا أن أبا مسلم استأذن أبا العباس في القدوم، فأذن له وكتب إليه: أقدم في خمسمائة من الجند، فكتب إليه أبو مسلم: إني قد وترت الناس ولست آمن على نفسي. فكتب إليه: أن أقبل في ألف، وطريق مكة لا يحتمل العسكر، فشخص في ثمانية آلاف فرقهم فيما بين نيسابور والري، وقدم بالأموال والخزائن، فخلفها بالري، فلما قدم استأذن في الحج، فأذن له، وخرج أبو مسلم وأبو جعفر، فلما كان قريبا من ذات عرق أتى أبا جعفر كتاب بموت أبي العباس، وكان أبو جعفر قد تقدم أبا مسلم بمرحلة، فكتب إلى أبي مسلم: إنه قد حدث أمر، فالعجل العجل. فلحق أبا جعفر أبو مسلم ثم أنهما حجا وأقبلا إلى الكوفة وأقر المنصور أبا مسلم على عمله وصرفه.
وفي هذه السنة: توفي السفاح وبويع لأبي جعفر المنصور.(7/333)
باب ذكر خلافة المنصور [1]
وهو عبد الله بن مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس، ويكنى أبا جعفر، ولد بالسراة في ذي الحجة سنة خمس وتسعين، وأمه بربرية يقال لها سلامة، وحكى الصولي أنه ولد يوم مات الحجاج.
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي الخطيب، قال:
أخبرنا أَبُو عَبْد اللَّه مُحَمَّد بْن عَبْد الواحد البزاز، قال: أخبرنا محمد بن المظفر الحافظ، قال: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، قَالَ: حَدَّثَنَا الحارث بن مُحَمَّد، قَالَ: حدثنا منصور بن أبي مزاحم، قال: حدثني [أبو] [2] سهل الحاسب، قال:
حدثني طيفور مولى أمير المؤمنين، قال: حدثتني سلامة أم أمير المؤمنين، قالت:
لما حملت بأبي جعفر رأيت كأنه خرج [3] من فرجي أسد فزأر، ثم أقعى، فاجتمعت حوله الأسد، فكلما انتهى إليه أسد سجد له.
أَخْبَرَنَا القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب، قال: أخبرنا الحسن بن أبي بكر، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو سَهْلٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ [بْنِ عَبْدِ اللَّهِ] [4] بْنِ زِيَادٍ الْقَطَّانُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَرَجِ الأَزْرَقُ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ غيلان، قال: حدّثنا أبو عوانة، عن
__________
[1] ترجمته في: تاريخ بغداد 1/ 62، 10/ 53.
[2] ما بين المعقوفتين: من ت وتاريخ بغداد، والخبر في تاريخ بغداد 1/ 65.
[3] في الأصل: «أم أمير المؤمنين أنها لما حملت بأبي جعفر قالت: رأيت كأنه أخدج» . وما أوردناه من ت.
[4] ما بين المعقوفتين: من تاريخ بغداد، والخبر في تاريخ بغداد 1/ 63.(7/334)
الأَعْمَشِ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مِنَّا السَّفَّاحُ وَالْمَنْصُورُ وَالْمَهْدِيُّ» . ولي المنصور الخلافة وهو ابن اثنتين وأربعين سنة. بويع بالأنبار يوم مات السفاح. وولى ذلك والإرسال به في الوحدة عيسى بن علي عمه، ولقيت أبا جعفر بيعته في الطريق عند منصرفه من الحج، ومضى أبو جعفر حتى قدم الكوفة وصلى بالناس.
ذكر صفته
أخبرنا أبو منصور بن عَبْدُ الرَّحْمَنِ [1] بْنُ مُحَمَّدِ [الْقَزَّازِ] [2] ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عمر المقري، قال: أخبرنا علي بن أحمد بن أبي قيس، قال: أخبرنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا، قال: حدثني حمدون بن سعد المؤذن، قال [3] :
رأيت أبا جعفر يخطب على المنبر متعرق [4] الوجه، يخضب بالسواد، وكان أسمر طويلا نحيفا خفيف العارضين، وأمه أم ولد يقال لها: سلامة.
أخبرنا عبد [الرحمن] [5] بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا عَبْد العزيز بْن عَلِيّ الوراق، قَالَ: أَخْبَرَنَا محمد بن أحمد [بن] المفيد [6] ، قال:
حدثنا أبو بشر محمد بن أحمد بن حماد الأنصاري، قال: أخبرنا طاهر بن يحيى بن حسن الطالبي، عن علي بن حبيش المديني، عن علي بن ميسرة الرازي [7] ، قال:
رأيت أبا جعفر بمكة فتى أسمر اللون، رقيق السمرة، موفر الجمة [8] ، خفيف اللحية، رحب الجبهة، أقنى الأنف بين القنى، أعين، كأن عينيه لسانان ناطقان
__________
[1] في الأصل: «أبو منصور بن عبد الرحمن» ، خطأ، وفي ت: «القزاز» . فقط.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] الخبر في تاريخ بغداد 1/ 65.
[4] في تاريخ بغداد: «معرق» .
[5] ما بين المعقوفتين: من ت.
[6] في الأصل: «أحمد بن محمد المفيد» . خطأ. والتصحيح من ت. وتاريخ بغداد.
[7] الخبر في تاريخ بغداد 10/ 54.
[8] في تاريخ بغداد: «اللمة» .(7/335)
تخالطه أبهة الملوك، بزي النساك، تقبله القلوب، وتتبعه العيون، يعرف الشرف في تواضعه [والعتق في صورته] [1] واللب في مشيته.
ذكر أولاده
[كان له] [2] المهدي واسمه محمد، وجعفر، أمهما أروى بنت منصور بن عبد الله بن يزيد بن شمر الحميرية، وكانت تكنى أم موسى، وكان المنصور قد شرط لها ألا يتزوج عليها، ولا يتسرى، وكتبت عليه بذلك كتابا وأشهدت عليه شهودا، فبقي عليه عشر سنين من سلطانه كذلك، وكان يكتب إلى الفقيه بعد الفقيه ليفتيه برخصة، فإذا علمت أم موسى أرسلت إلى ذلك الفقيه بمال فلا يفتيه، فلما ماتت أتته وفاتها وهو بحلوان، فأهديت إليه تلك الليلة مائة بكر.
ومن أولاد المنصور صالح، أمه أمة، ويقال: بنت ملك الصغد. وسليمان، وعيسى، ويعقوب، أمهم فاطمة بنت محمد من ولد طلحة بن عبيد الله. والغالية أمها من ولد خالد بن أسيد. وجعفر، والقاسم، وعبد العزيز، والعباس، فأما جعفر بن أبي جعفر فولي الموصل لأبي جعفر ومات ببغداد، فولد لجعفر إبراهيم، وزبيدة وهي أم جعفر، أمهما سلسل أم ولد جعفر بن جعفر، وعبيد الله بن جعفر، وصالح بن جعفر، ولبابة بنت جعفر. فأما إبراهيم فلا عقب له. وأما زبيدة فتزوجها هارون الرشيد، وأما لبابة فكانت عند موسى بن المهدي، وأما عيسى بن جعفر فولي البصرة وكورها وفارس والأهواز واليمامة والسند.
أخبرنا [أبو] [3] منصور عبد الرحمن بن محمد القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن على بن ثابت، قال: أَخْبَرَنَا القاضي أَبُو العلاء مُحَمَّد بْن عَلي بن يعقوب الواسطي، قال: أخبرنا أبو الحسين علي بن عمر الحافظ، قال: حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد بن موسى الهاشمي، قال: حدثني عبد الصمد، قال: حدثني أبي موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام، عن أبيه محمد بن إبراهيم، قال [4] :
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من تاريخ بغداد.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت. وفي الأصل: «منصور بن عبد الرحمن» .
[4] الخبر في تاريخ بغداد 1/ 64.(7/336)
قال المنصور يوما ونحن جلوس عنده: أتذكرون رؤيا كنت رأيتها ونحن بالشراة؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين ما نذكرها، فغضب من ذلك، وقال: كان ينبغي لكم أن تثبتوها في ألواح الذهب وتعلقوها في أعناق الصبيان، فقال عيسى بن علي: إن كنا قصرنا في ذلك فنستغفر الله يا أمير المؤمنين، فليحدثنا أمير المؤمنين بها، قال: نعم، رأيت كأني في المسجد الحرام، وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة وبابها مفتوح والدرجة موضوعة، وما أفقد أحدا من الهاشميين ولا من القرشيين، إذا مناد ينادي:
أين عبد الله؟ فقام أخي أبو العباس فتخطى الناس حتى صار على الدرجة، فأخذ بيده فأدخل البيت، فما لبث أن خرج علينا ومعه قناة عليها لواء قدر أربعة أذرع وأرجح، فرجع حتى خرج من باب المسجد، ثم نودي: أين عبد الله؟ فقمت أنا وعبد الله بن علي نستبق حتى صرنا إلى الدرجة، فجلس فأخذ بيدي فأصعدت فأدخلت الكعبة، وإذا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه أبو بكر وعمر وبلال. فعقد لي وأوصاني بأمته وعممني، وكان كورها ثلاثة وعشرين كورا، وقال: خذها إليك أبا الخلفاء إلى يوم القيامة.
أخبرنا ابن ناصر الحافظ، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قَالَ: أخبرنا أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ الْمُحْسِنِ التَّنُوخِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عبد الرحيم المازني، قَالَ:
حدثنا أَبُو علي الحسين بْن القَاسِم الكوكبي، قَالَ: حدثنا أبو سهل [بن] [1] علي بن نوبخت قال: كان جدنا نوبخت على دين المجوسية، وكان في علم النجوم نهاية وكان محبوسا بسجن الأهواز، فقال [2] :
رأيت أبا جعفر المنصور وقد أدخل السجن، فرأيت من هيبته وحالته وسيماه وحسن وجهه وثيابه ما لم أره لأحد قط. قال: فصرت من موضعي إليه فقلت: يا سيدي ليس وجهك من وجوه هذه البلاد، فقال: أجل يا مجوسي قلت: فمن أي البلاد أنت؟ فقال: من المدينة، فقلت: أي مدينة؟ فقال: مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت:
وحق الشمس والقمر إنك لمن ولد صاحب المدينة، قال: لا ولكنني من عرب المدينة. قال: فلم أزل أتقرب إليه وأخدمه حتى سألته عن كنيته، فقال: كنيتي أبو جعفر، قلت: أبشر فو حقّ المجوسية لتملكن جميع ما في هذه البلدة حتى تملك
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
[2] الخبر في تاريخ بغداد 10/ 54.(7/337)
فارس وخراسان والجبال، فقال لي: وما يدريك يا مجوسي؟ قلت: هو كما أقول فاذكر لي هذه البشرى، قال: إن قضي شيء فسوف يكون، قال: فقلت: قد قضاه الله من السماء فطب نفسا، فطلبت دواة فوجدتها فكتب لي: بسم الله الرحمن الرحيم، يا نوبخت إذا فتح الله على المسلمين، وكفاهم مئونة الظالمين، ورد الحق إلى أهله لم نغفل عما يجب من حق خدمتك إيانا. وكتب: أبو جعفر.
قال نوبخت: فلما ولي الخلافة صرت إليه وأخرجت الكتاب، فقال: أنا له ذاكر ولك متوقع، والحمد للَّه الذي صدق وعده وحقق الظن ورد الأمر إلى أهله.
وأسلم نوبخت وكان منجما لأبي جعفر ومولى.
ذكر بيعة المنصور
لما حضرت السفاح الوفاة أمر الناس بالبيعة لأخيه المنصور، فبويع له يوم توفي أخوه والمنصور يومئذ بمكة،. وكان الذي أخذ له البيعة بالعراق، وقام بأمر الناس عمه عيسى بن علي، وكتب إليه يعلمه بموت أخيه وبالبيعة له، فلما وصل الكتاب إليه دعا الناس فبايعوه وبايعه أبو مسلم.
[وقيل: بل عرف الخبر أبو مسلم] [1] ، قبله، فأنفذ الكتاب إليه وتأخر عن بيعته يومين ليرهبه.
وفي رواية: أنه ورد عليه الخبر بعد ما صدر من الحج في منزل يقال له: صفية، فتفاءل باسمه، وقال: صفي أمرنا إن شاء الله. وجعل يجزع، فقال له أبو مسلم: ما هذا الجزع؟ قال: أتخوف من شر عبد الله بن علي وسعيد بن علي، قال: لا تخف وأنا أكفيك أمره إن شاء الله، إنما عامة جنده أهل خراسان وهم لا يعصوني، فسري عن أبي جعفر، وكان عبد الله بن علي قد قدم في هذه السنة على أبي العباس الأنبار، فعقد له على الصائفة في أهل خراسان وأهل الشام، وأهل الجزيرة والموصل، فسار فأتته وفاة أبي العباس، وبعث إليه عيسى بن علي، وأبو الجهم بن يزيد بن زياد ببيعة المنصور، فانصرف بمن معه إلى حرّان وبايع لنفسه.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/338)
ذكر طرف من أخبار المنصور وسيرته
كان المنصور قبل الخلافة يطلب العلم.
أنبأنا زاهر بن طاهر، قَالَ: أخبرنا أبو عُثْمَانَ الصَّابُونِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ، قَالا: أَخْبَرَنَا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ، قال: حدثنا جعفر بن محمد بن الحسين، قال: حدثنا محمد بن سعد الجلاب، قال: حدثنا الجارود بن يزيد، قال: حدثنا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادِ بْنِ أَنْعَمَ الأَفْرِيقِيِّ، قال:
كنت أطلب العلم مع أبي جعفر أمير المؤمنين قبل الخلافة، فأدخلني يوما إلى منزله ثم قدم طعاما ومريقة من حبوب ليس فيها لحم، ثم قدم إلي زبيبا ثم قال: يا جارية عندك حلواء؟ قالت: لا، قال: ولا التمر؟ قالت: ولا التمر، فاستلقى ثم تلى هذه الآية: (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ في الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) 7: 129 [1] . فلما ولي الخلافة دخلت عليه، فقال: يا عبد الرحمن، بلغني أنك كنت تفد لبني أمية، قال: قلت: أجل كنت أفد لهم وأفد إليهم. قال: فكيف رأيت سلطاني من سلطانهم؟ قال: قلت: يا أمير المؤمنين، والله ما رأيت من سلطانهم من الجور والظلم إلا رأيته في سلطانك، تحفظ يوم أدخلتني منزلك فقدمت إلي طعاما ومريقة من حبوب لم يكن فيها لحم، ثم قدمت إلي زبيبا ثم قلت: يا جارية عندك حلواء؟ قالت: لا، قلت: ولا التمر، قالت: ولا التمر. فاستلقيت ثم تلوت هذه الآية:
(عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ في الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) 7: 129 فقد والله أهلك الله عدوك، واستخلفك في الأرض، فانظر ماذا تعمل، قال: يا عبد الرحمن، إنا لا نجد الأعوان، قلت: يا أمير المؤمنين، السلطان سوق نافق لو نفق عليك الصالحون لجلبوا إليك. قال: فكأني ألقمته حجرا، فلم يرد علي شيئا.
أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ، قال: أخبرنا عبد المحسن بن محمد المالكي، قَالَ: أَخْبَرَنَا [أَبُو] [2] الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا المعافى بن زكريا، قال: حدّثنا
__________
[1] سورة: الأعراف، الآية: 129.
[2] ما بين المعقوفتين: من ت.(7/339)
الحسين بن القَاسِم الكوكبي، قال: حدثنا أبو الفضل الربعي، قال: حدثني أبي، قال:
بينا المنصور ذات يوم يخطب وقد علا بكاؤه إذ قام رجل، فقال: يا وصاف تأمرنا بما تجتنبه، وتنهى عما ترتكبه، بنفسك فابدأ ثم بالناس. فنظر إليه المنصور ثم تأمله مليا ثم قطع الخطبة وقال: يا عبد الجبار خذه إليك، فأخذه عبد الجبار وعاد إلى خطبته فأتمها [1] ، وقضى الصلاة ثم دخل، ودعى بعبد الجبار فقال: ما فعل الرجل؟
فقال: محبوس عندنا يا أمير المؤمنين، قال: أمل له [ثم اعرض له] [2] بالدنيا فإن عزف عنها فلعمري إنه لمريد [للآخرة] [2] ، وإن كان كلامه ليقع موقعا حسنا، وإن مال إلى الدنيا ورغب فيها إن لي فيه أدبا يزعه عن الوثوب على الخلفاء وطلب الدنيا بعمل الآخرة.
فخرج عبد الجبار فدعا بالرجل ودعا بغذائه، فقال [له] [2] : ما حملك على ما صنعت؟ قال: حق للَّه كان في عنقي فأديته إلى خليفته، قال: إذا، فكل، قال: لا حاجة لي فيه، قال: وما عليك من أكل الطعام إن كانت نيتك حسنة، فدنا فأكل، فلما أكل طمع فيه، فتركه أياما ثم دعاه فقال: لهى عنك أمير المؤمنين وأنت محبوس، فهل لك في جارية تؤنسك وتسكن إليها؟ قال: ما أكره ذلك. فأعطاه جارية، ثم أرسل إليه: هذا الطعام قد أكلت، والجارية قد قبلت، فهل لك في ثياب تكتسيها وتكسو عيالك إن كان لك عيال، ونفقة تستعين بها على أمرك إلى أن يدعو بك أمير المؤمنين إن أردت الوسيلة عنده إذا ذكرك، قال: وما هي؟ قال: أوليك الحسبة والمظالم، فتكون أحد عماله، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر [3] ، قال: ما أكره ذلك. فولاه الحسبة والمظالم، فلما أتى عليه شهر قال عبد الجبار للمنصور: الرجل الذي تكلم بما تكلم به فأمرت بحبسه قد أكل من طعام أمير المؤمنين ولبس من ثيابه، وعاش في نعمته، وصار أحد ولاته، فإن أحب أمير المؤمنين أن أدخله عليه [4] في زي الشيعة فعلت. قال: فأدخله.
__________
[1] في ت: «حتى أتمها» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «تأمر بمعروف وتنهى بمنكر» . وما أوردناه من ت.
[4] في الأصل: «أن أدخله إليه» .(7/340)
فخرج عبد الجبار فقال: قد دعا بك أمير المؤمنين وقد أعلمته أنك أحد عماله على المظالم والحسبة، فأدخل عليه في الزي الذي يحب. فألبسه قباء، وعلق خنجرا في وسطه وسيفا بمعاليق، وأسبل جمته، ودخل فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال: وعليك، ألست القائم بنا والواعظ لنا ومذكرنا بأيام الله على رءوس الملأ؟ قال: نعم، قال: فكيف تخليت [1] عن مذهبك؟ قال: يا أمير المؤمنين، فكرت في أمري فإذا أنا [قد] [2] أخطأت فيما تكلمت به، ورأيت أني مصيب في مشاركة أمير المؤمنين في أمانته، قال: هيهات أخطأت استك الحفرة هناك يوم أعلنت الكلام وظننا أنك أردت الله به فكففنا عنك، فلما تبين لنا أنك أردت الدنيا جعلناك عظة لغيرك حتى لا يجترئ بعدك مجترئ على الخلافة، أخرجه يا عبد الجبار فاضرب عنقه، فأخرجه فقتله.
أخبرنا عبد الرحمن القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن على بن ثابت، قال: أخبرني أَبُو الفضل مُحَمَّد بْن عبد العزيز بْن المهدي [الخطيب] [3] قال: حدثنا الحسن بن محمد بن القاسم المخزومي، قال: حدثنا أحمد بن موسى بن مجاهد، قال: حدثنا أبو العيناء، قال: حدثنا الأصمعي، قال: [4] صعد أبو جعفر المنبر فقال: الحمد للَّه، أحمده وأستعينه وأومن به وأتوكل عليه، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شريك له. فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، أذكرك من أنت في ذكره، فقال أبو جعفر: مرحبا مرحبا، لقد ذكرت جليلا، وخوفت عظيما، وأعوذ باللَّه ممن إذا قيل له: اتق الله، أخذته العزة بالإثم، والموعظة منا بدت، ومن عندنا خرجت، وأنت يا قائلها فاحلف باللَّه ما الله أردت بها، إنما أردت أن يقال: قام فقال فعوقب فصبر، وأهون بها من قائلها، وإياكم معشر الناس وأمثالها. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. فعاد إلى خطبته كأنما يقرأها من قرطاس.
وكان [5] المنصور يشتغل في صدر نهاره بالأمر والنهي والولايات، وسجن
__________
[1] في الأصل: «خلتك عن» . وما أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين: من تاريخ بغداد.
[4] الخير في تاريخ بغداد 10/ 56.
[5] في الأصل: «كان» . وما أوردناه من ت.(7/341)
الثغور والأطراف، والنظر في الخراج والنفقات ومصالح الرعية. فإذا صلى العصر جلس لأهل بيته، فإذا صلى العشاء نظر فيما ورد عليه من كتب الثغور والأطراف، وشاور سماره، وكانت ولاه البريد يكتبون إليه كل يوم بسعر القمح، والحبوب والإدام، وكل ما يقضي به القاضي في نواحيهم، وما يرد بيت المال وكل حدث، فإذا صلى المغرب يكتبون إليه بما كان ذلك اليوم، وإذا نظر في كتبهم، فإن رأى الأسعار على حالها أمسك، وإن تغير شيء منها كتب إلى العامل هناك وسأله عن العلة، فإذا ورد الجواب تلطف حتى يعود سعر ذلك البلد إلى حاله، وإن شك في شيء مما قضى به القاضي كتب إليه في ذلك وسأل [1] من بحضرته عن علمه، فإن أنكر شيئا كتب إليه يوبخه ويلومه.
فإذا مضى ثلث الليل قام إلى فراشه وانصرف سماره، فإذا مضى الثلث الباقي قام من فراشه، فأسبغ الوضوء [2] ووقف في محرابه حتى يطلع الفجر.
وأول من اتخذ الخيش المنصور، وإنما كانت الأكاسرة تطين لها في الصيف سقف بيت في كل يوم، فتكون قائلة الملك فيه، وكان يؤتى بأطنان الخلاف طوالا غلاظا فيوضع حوالي السرير، ويؤتى بقطع الثلج العظام ما بين أضعافها، وكانت بنو أمية تفعل ذلك، فاتخذ المنصور الخيش.
وشكى إليه رجل من بعض عماله في قصة فوقع عليها: أكفني أمره وإلا كفيته أمرك.
ووقع إلى عامل آخر: قد كثر شاكوك وقل شاكروك [3] فإما اعتدلت وإما اعتزلت.
قال أبو بكر الصولي: أول من وزر لبني العباس أبو سلمة الخلال، ثم خالد بن برمك، فلما توفي السفاح أقره المنصور مديدة، ثم استوزر أبا أيوب سليمان بن أبي سليمان المورياني [4] ، ثم ولى الفضل [5] بن الربيع بن يونس بعد أبي أيوب.
__________
[1] في الأصل: «سألت» . وما أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «وضوءه» . وما أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «شاكرك» . وفي ت: «حامدوك» .
[4] في الأصل: «المرزباني» . وما أوردناه من ت.
[5] في الأصل: «أبو الفضل» . وما أوردناه من ت وهو الصحيح.(7/342)
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال:
أخبرنا الحسين بن محمد أخو الخلال، قال: أخبرني إبراهيم بن عبد الله الشطي، قال:
حدثنا أبو إسحاق الهجيمي، قال: حدثنا محمد بن القاسم أبو العيناء، قال: قال لي إسماعيل بن بريهة عن بعض أهله، عن الربيع الحاجب، قال [1] :
لما مات المنصور قال لي المهدي: يا ربيع، قم بنا حتى ندور في خزائن أمير المؤمنين، قال: فدرنا فوقعنا على بيت فيه أربعمائة جب مطينة الرءوس. قال: قلنا: ما هذه؟ قيل: هذه فيها أكباد مملحة أعدها المنصور للحصار.
أنبأنا محمد بن عبد الباقي، عن [أحمد بن ثابت بن علي الخطيب] [2] عن أبي القاسم بن علي البصري، عن إبراهيم بن محمد الطبري، قال: أخبرنا إبراهيم بن علي الهجيمي، قال: حدثنا أبو العيناء، قال:
دخل المنصور في باب الذهب، فإذا ثلاثة قناديل مصطفة، فقال: ما هذا، أما واحد من هذا كان كافيا؟ يقتصر من هذا على واحد. قال: فلما أصبح أشرف على الناس وهم يتغدون، فرأى الطعام قد خف من بين أيديهم قبل أن يشبعوا، فقال: [يا غلام، عليّ بالقهرمان، قال: ما لي رأيت الطعام قد خف من بين أيديهم قبل أن يشبعوا] [3] قال: يا أمير المؤمنين، رأيتك قد قدرت الزيت فقدرت الطعام، فقال:
ويلك، أنت لا تفرق بين زيت يحترق في غير ذات الله، وبين طعام إذا فضل وجدت له آكلا، أبطحوه، فبطحوه فضربه سبع درر.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد السمرقندي، قال: أنبأنا أَبُو غالب مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن سهل بن بشران، قال: أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن دينار الكاتب، قال: أخبرنا أَبُو الْفَرَجِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الأصفهاني، قال: أخبرنا حبيب بن نصر المهلبي، قال: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّهِ بن أبي سعد، قَالَ: حدثني عبد الله بن الحسن الحراني، قال:
حدثني أبو قدامة، قال: حدثني المؤمل بن أميل، قال:
قدمت على المهدي وهو بالري وهو إذ ذاك ولي عهد فامتدحته بأبيات فأمر لي
__________
[1] الخبر في تاريخ بغداد 10/ 57.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت وتاريخ بغداد.(7/343)
بعشرين ألف درهم، فكتب بذلك صاحب البريد إلى المنصور وهو بمدينة السلام يخبره أن الأمير المهدي أمر لشاعر بعشرين ألف درهم، فكتب إلى كاتب المهدي أن يوجه [إليه] [1] بالشاعر، فطلب فلم يجدوه، فكتب إلى أبي جعفر: إنه قد توجه إلى مدينة السلام، فأجلس المنصور قائدا من قواده عند جسر النهروان، وأمر أن يتصفح وجوه الناس رجلا رجلا، فجعل لا تمر به قافلة إلا تصفح من فيها حتى مرت به القافلة التي فيها المؤمل، فتصفحه، فلما سأله: من أنت؟ قال: أنا المؤمل بن أميل المحاربي الشاعر أحد زوار الأمير المهدي، قال: إياك طلبت. قال المؤمل: فكاد قلبي ينصدع خوفا من أبي جعفر، فقبض علي وسلمني إلى الربيع، فدخل بي إلى أبي جعفر، وقال: هذا الشاعر الذي أخذ من الأمير المهدي عشرين ألف درهم قد ظفرنا به، قال:
أدخلوه إلي. فأدخلت فسلمت عليه تسليم مروع، فرد عليّ السلام، وقال: ليس هاهنا إلا خير، أنت المؤمل بن أميل؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين أنا المؤمل بن أميل، قال:
أتيت غلاما غرا فخدعته، قلت: نعم، أصلح الله أمير المؤمنين، أتيت غلاما غرا كريما فخدعته فانخدع، قال: فكان ذلك أعجبه، فقال: أنشدني ما قلت فيه، فأنشدته ما قلت، وهي:
هو المهدي إلا أن فيه ... مشابه صورة القمر المنير
تشابه ذا وذا فهما إذا ما ... أنارا يشعلان على البصير
فهذا في الظلام سراج ليل ... وهذا في النهار ضياء نور
ولكن فضل الرحمن هذا ... على ذا بالمنابر والسرير
وبالملك العزيز فذا أمير ... وماذا بالأمير ولا الوزير
ونقص الشهر ينقص ذا وهذا ... منير عند نقصان الشهور
فيا ابن خليفة الله المصفى ... به تعلو مفاخرة الفخور
لئن فت الملوك وقد توافوا ... إليك من السهولة والوعور
لقد سبق الملوك أبوك حتى ... بقوا من بين كاب أو حسير
وجئت مصليا تجزي حثيثا ... وما بك حين تجزي من فتور
فقال الناس ما هذان إلا ... كما بين الفتيل إلى النصير
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من ت.(7/344)
فإن سبق الكبير فأهل سبق ... له فضل الكبير على الصغير
وإن بلغ الصغير مدى الكبير ... فقد خلق الصغير من الكبير
فقال له المنصور: قد والله أحسنت ولكن هذا لا يساوي عشرين ألف درهم، فأين المال؟ قال: ها هو ذا، قال: يا ربيع امض معه فأعطه أربعة آلاف درهم وخذ منه الباقي، ففعل الربيع ما أمره به المنصور.
ثم إن المهدي ولي الخلافة بعد ذلك فولى ابن ثوبان المظالم، فكان يجلس للناس بالرصافة، [فإذا ملأ كساءه رقاعا رفعها إلى المهدي] [1] فرفعت إليه لي قصة، فلما دخل [بها] [1] ابن ثوبان جعل المهدي ينظر في الرقاع حتى وصل إلى رقعتي، فلما قرأها ضحك، فقال له ابن ثوبان: أصلح الله أمير المؤمنين، ما رأيتك ضحكت من شيء من هذه الرقاع إلا من هذه الرقعة، فقال: نعم، هذه رقعة أعرف قصتها، ردوا إليه عشرين ألف درهم، فردها إلي وانصرفت.
وقد رويت لنا هذه القصة من طريق آخر، وفيها: وكتبت [قصة] [2] أشرح فيها ما جرى علي، فرفعها ابن ثوبان إلى المهدي، فلما قرأها ضحك حتى استلقى، ثم قال:
هذه مظلمة أنا بها عارف، ردوا عليه ماله الأول، وضموا إليه عشرين ألفا.
أخبرنا عبد الرحمن، قَالَ أخبرنا أحمد بن علي، قال: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن عمر بْن روح، قَالَ: أَخْبَرَنَا المعافى بْن زكريا [قَالَ: حَدَّثَنَا ابن دريد] [2] ، قال: حدثنا الحسن بن خضر، عن أبيه، قال [3] :
دخل رجل على المنصور، فقال:
أقول له حين واجهته ... عليك السلام أبا جعفر
فقال المنصور: وعليك السلام، فقال:
فأنت المهذب من هاشم ... وفي الفرع منها الذي يذكر
فقال له المنصور: ذاك رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم، فقال:
فهذي ثيابي قد أخلقت ... وقد عضني زمن منكر.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] الخبر في تاريخ بغداد 10/ 57.(7/345)
فألقى إليه المنصور ثيابه وقال: هذه بدلها.
وذكر الصولي عن الهيثم بن عدي، قال: كان المنصور يبخل إلا في الطيب، فإنه كان يأمر أهله به، فكان يشتري في رأس كل سنة اثني عشر ألف مثقال من سائره، فيتطيب كل شهر بألف مثقال يخضب به رأسه ولحيته.
وقال يحيى بن سليم كاتب الفضل بن الربيع: ولم ير في دار المنصور لهو قط ولا شيء يشبة اللعب والعبث.
وقال حماد التركي: كنت واقفا على رأس المنصور فسمع جلبة في الدار، فقال:
ما هذا يا حماد انظر؟ فذهبت فإذا خادم له قد حبس حوله الجواري وهو يضرب لهن الطنبور وهن يضحكن، فجئت فأخبرته، فقال: وأي شيء الطنبور؟ فقلت: خشبة من حالها وصفتها، فقال: فما يدريك أنت ما الطنبور، قلت: رأيته بخراسان، فقال: هات نعلي، فأتيته بها، فقام يمشي رويدا حتى أشرف عليهم، فلما بصروا به تفرقوا [1] ، فقال: خذه، فأخذته، فقال: اضرب به رأسه، فلم أزل أضرب به رأسه حتى كسرته، ثم قال: أخرجه من قصري واذهب به إلى حمران بالكرخ، وقل له يبيعه.
وقال سالم الأبرش: كان المنصور من أحسن الناس، فإذا لبس ثيابه تغير لونه، وتربد وجهه فاحمرت عيناه ويكون منه ما يكون، فإذا قام من مجلسه رجع بمثل ذلك.
وقال يوما: يا بني إذا رأيتموني قد لبست ثيابي ورجعت من مجلسي فلا يدنون أحد منكم مني لئلا أغره بشر.
ذكر طرف من كلامه
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا محمد بن الحسين الجازري، قال:
حدثنا المعافى بن زكريا، قال: حدثنا محمد بن أبي الأزهر، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مبارك الطبري، قال: سمعت أبا عبيد الله يقول: سمعت المنصور يقول:
الخليفة لا يصلحه إلا التقوى، والسلطان لا يصلحه إلا الطاعة، والرعية لا
__________
[1] في الأصل: «فلما بصرن به تفرقن» . وأما أوردناه من ت.(7/346)
يصلحها إلا العدل، وأولى [الناس] [1] بالعفو أقدرهم على العقوبة، وأنقص الناس عقلا من ظلم من هو دونه.
أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا، قَالَ: أَخْبَرَنَا إبراهيم بن محمد بن عرفة، قال: أخبرنا أبو العباس المنصوري عن القثمي، عن مبارك الطبري قال: سمعت أبا عبيد الله يقول: سمعت المنصور يقول للمهدي:
يا أبا عبد الله لا تجلس مجلسا إلا ومعك فيه رجل من أهل العلم يحدثك، فإن محمد بن مسلم بن شهاب قال: إن الحديث ذكر لا يحبه إلا الذكور من الرجال، ويكرهه مؤنثوهم، وصدق أخو بني زهرة.
وكان المنصور يقول: ما أحوجني أن يكون على بابي أربعة نفر، لا يكون على بابي أعف منهم، قيل: يا أمير المؤمنين، من هم؟ قال: هم أركان الملك ولا يصلح الملك إلا بهم، كما إن السرير لا يصلح إلا بأربعة قوائم، إن نقصت قائمة واحدة فقد وهي [2] ، أما احدهم: فقاض لا يأخذه في الله لومة لائم، والآخر: صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوي، والثالث: صاحب خراج يستقضي ولا يظلم الرعية فإني غني عن ظلمهم. ثم عض أصبعه السبابة ثلاث مرات يقول في كل مرة: آه آه على الرابع [3] فقيل له: من هو يا أمير المؤمنين؟ قال: صاحب بريد يكتب بخبر هؤلاء على الصحة.
وكتب أبو جعفر إلى عامله بالمدينة: أن بع الثمار التي في الضياع، ولا تبعها إلا ممن نغلبه ولا يغلبنا، والذي يغلبنا المفلس الذي لا مال له ولا رأي لنا في عذابه ويذهب مالنا قبله، وبعها بدون من ذلك ممن ينصفك ويوفيك.
قال المنصور: كانت العرب تقول: العري الفادح خير من الزي الفاضح.
وقال أيضا: الملوك تحتمل كل شيء إلا ثلاثا: إفشاء السر، والتعرض للحرمة، والقدح في الملك [4] .
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «واحدة فسد وهي أما أحدهم» . وفي ت، حذفت: «وهي» .
[3] في ت ينفض «على الرابع» .
[4] في الأصل: «وتعرضا للحرمة، وقدح في الملك» . وما أوردناه من ت.(7/347)
وقال: سرك من دمك فانظر من تملكه.
وقال: من صنع مثل ما صنع إليه فقد كافى، ومن أضعف فقد شكر، ومن علم أنه إنما صنع إلى نفسه لم يستبطئ الناس في شكرهم، ولا تلتمس من غيرك شكر [1] ما أتيته إلى نفسك، ووقيت به عرضك، واعلم أن طالب الحاجة إليك لم يكرم وجهه عن قصدك [2] فأكرم وجهك عن رده.
أنبأنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن صرما، قال: أنبأنا أبو الحسين بن المهتدي، قال: حدثنا أبو حاتم محمد بن عبد الواحد بن محمد بن زكريا الخزاعي، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو بكر أَحْمَد بن مُحَمَّد العنبري، قال: سمعت الفضل بن الحارث، يقول: سمعت محمد بن سلام الجمحي يقول:
قيل للمنصور: هل بقي من ذات الدنيا شيء لم تنله؟ قال: بقيت خصلة، أن أقعد في مصطبة وحولي أصحاب الحديث، فيقول المستملي: من ذكرت رحمك الله؟
قال: فغدا عليه الندماء وأبناء الوزراء بالمحابر والدفاتر، فقال: لستم هم، إنما هم الدنسة ثيابهم، المشققة أرجلهم، الطويلة شعورهم، برد الآفاق ونقلة الحديث.
وفي هذه السنة: حج بالناس أبو جعفر، وكان على الكوفة عيسى بن موسى، وعلى قضائها ابن أبي ليلى، وعلى البصرة وعملها سليمان بن علي، وعلى قضائها عباد بن منصور، وعلى مكة العباس بن عبد الله بن معبد، وعلى مصر صالح بن علي.
ورخصت الأسعار.
فأَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ بن مُحَمَّد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أحمد بن علي بن ثابت، قال:
أخبرنا أبو الحسن بن رزقويه [3] ، قال: أخبرنا جعفر الخلدي، قال: أخبرنا الفضل بن مخلد، قال: سمعت داود بن صغير يقول:
رأيت زمن أبي جعفر كبشا بدرهم، وحملا بأربع دوانيق، والتمر ستين رطلا بدرهم، والزيت ستة عشر رطلا بدرهم، والسمن ثمان أرطال بدرهم.
__________
[1] في الأصل: «شرك» وما أوردناه من ت.
[2] في ت: «وجه عن وجهك» .
[3] في الأصل: «رزقونة» . خطأ. والتصحيح من ت.(7/348)
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
732- ربيعة بن أبي عبد الرحمن واسمه فروخ [1] ، مولى آل المنكدر التيمي، تيم قريش، الذي يقال له: ربيعة الرأي، ويكنى ربيعة أبا عثمان، ويقال: أبا عبد الرحمن، مديني [2] :
سمع من أنس بن مالك، والسائب بن يزيد، وعامة التابعين من أهل المدينة.
روى عنه مالك، وسفيان الثوري، وشعبة، والليث بن سعد، وغيرهم.
وكان عالما فقيها ثقة، وأقدمه السفاح الأنبار ليوليه القضاء.
وقال يونس بن يزيد: رأيت أبا حنيفة، عند ربيعة ومجهود أبي حنيفة أن يفهم ما يقول.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال:
أخبرنا أبو القاسم الأزهري، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بن إبراهيم بن شاذان، قال: أخبرنا أحمد بن مروان المالكي، قال: حدثنا يحيى بن أبي طالب، قال: حدثنا عبد الوهاب بن عطاء الخفاف، قال: حدثني مشيخة أهل المدينة [3] :
أن فروخا أبا عبد الرحمن خرج في البعوث إلى خراسان أيام بني أمية غازيا، وربيعة حمل في بطن أمه، وخلف عند زوجته أم ربيعة ثلاثين ألف دينار، فقدم المدينة بعد سبع وعشرين سنة، وهو راكب فرسا، وفي يده رمح، فنزل عن فرسه ثم دفع الباب برمحه، فخرج ربيعة، فقال له: يا عدو الله، أتهجم على منزلي؟ فقال: لا، وقال فروخ: يا عدو الله، أنت دخلت على حرمتي، فتواثبا وتلبب كل واحد منهما بصاحبه حتى اجتمع الجيران، فبلغ مالك بن أنس والمشيخة، فأتوا يعينون ربيعة، فجعل ربيعة يقول: والله لا فارقتك إلا عند السلطان، وجعل فروخ يقول: والله لا فارقتك إلا
__________
[1] في الأصل: «بن فروخ» . وما أوردناه من كتب الرجال.
[2] طبقات ابن سعد (خط) ، وطبقات خليفة 268، وعلل أحمد 1/ 165، 244، والتاريخ الكبير 3/ 976، والمعارف 462، والجرح والتعديل 3/ 2131، وحلية الأولياء 3/ 259، وتاريخ بغداد 8/ 420، ووفيات الأعيان 2/ 288، وتاريخ الإسلام 5/ 245، وسير أعلام النبلاء 6/ 89، وتذكرة الحفاظ 1/ 157، وميزان الاعتدال 2/ 2753، وتهذيب التهذيب 3/ 258.
[3] الخبر في تاريخ بغداد 8/ 421، 422.(7/349)
بالسلطان وأنت مع امرأتي، وكثر الضجيج، فلما بصروا بمالك سكت الناس كلهم، فقال: أيها الشيخ لك سعة في غير هذه الدار، فقال الشيخ: هي داري، وأنا فروخ مولى بني فلان، فسمعت امرأته كلامه فخرجت، فقالت: هذا زوجي، وهذا ابني الذي خلفه [1] وأنا حامل به، فاعتنقا جميعا وبكيا، فدخل فروخ المنزل وقال: هذا ابني؟
قالت: نعم، قال: فأخرجي المال الذي [لي] [2] عندك، وهذه معي أربعة آلاف دينار، فقالت: المال قد دفنته وأنا أخرجه بعد أيام.
ثم خرج ربيعة إلى المسجد وجلس في حلقته، وأتاه مالك بن أنس، والحسن بن زيد، وابن أبي علي اللهبي [3] ، والمساحقي، وأشراف أهل المدينة، وأحدق الناس به، فقالت امرأته: اخرج فصل في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فخرج فنظر إلى حلقة وافرة، فأتاها فوقف بها وفرجوا له قليلا، ونكس ربيعة رأسه وأوهمه أنه لم يره، وعليه طرحة طويلة، فشك فيه أبو عبد الرحمن، فقال: من هذا الرجل؟ فقالوا له: هذا ربيعة بن أبي عبد الرحمن، فقال أبو عبد الرحمن: لقد رفع الله ابني، ثم رجع إلى منزله، فقال لوالدته: لقد رأيت ولدك في حالة ما رأيت أحدا من أهل العلم والفقه عليها، فقالت أمه: فأيما أحب إليك؟ ثلاثون ألف دينار، أو هذا الجاه الّذي هو فيه؟ فقال: لا والله إلا هذا، قالت: فإني أنفقت المال كله عليه، قال: فو الله ما ضيعتيه.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي [بن ثابت] [4] الحافظ، قال: أَخْبَرَنَا القاضي أَبُو العلاء الواسطي، قَالَ: أَخْبَرَنَا محمد بن جعفر التميمي، قال: حدثنا أحمد بن محمد أبو سعيد النيسابوري، قال: حدثنا الحسن بن صاحب بن حميد، قال: سمعت أبا سلمة الصنعاني الفقيه، يقول: سمعت بكر بن عبد الله بن الشرود الصنعاني، يقول [5] :
أتينا مالك بن أنس، فجعل يحدثنا عن ربيعة الرأي، فكنا نستزيده من حديث ربيعة، فقال لنا ذات يوم: ما تصنعون بربيعة؟ هو نائم في ذاك الطاق، فأتينا ربيعة
__________
[1] في الأصل: «خلف» . وما أوردناه من ت وتاريخ بغداد.
[2] ما بين المعقوفتين: من تاريخ بغداد.
[3] في الأصل: «الكهني» . خطأ. والتصحيح من ت وتاريخ بغداد.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[5] الخبر في تاريخ بغداد 8/ 424.(7/350)
فأنبهناه، فقلنا له: أنت ربيعة بن أبي عبد الرحمن؟ قال: نعم، قلنا: ربيعة بن فروخ؟
قال: بلى، قلنا: ربيعة الرأي؟ قال: نعم، قلنا: الذي يحدث عنك مالك بن أنس؟
قال: نعم، قلنا: كيف حظي بك مالك ولم تحظ أنت بنفسك؟ قال: أما علمتم أن مثقالا من دولة خير من حمل علم.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرنا ابن الفضل، قال: حدثنا عبد الله [1] بن جعفر، قال: حدثنا يعقوب بن سفيان، قال:
حدثني محمد بن أبي بكر [2] ، قال: أخبرني ابن وهب، قال: قال مالك [3] :
لما قدم ربيعة بن أبي عبد الرحمن على أمير المؤمنين أبي العباس أمر له بجائزة فأبى أن يقبلها، فأعطاه خمسة آلاف درهم ليشتري بها جارية، فأبى أن يقبلها.
قال ابن وهب: وحدثني مالك، عن ربيعة، قال [4] : قال لي حين أراد الخروج إلى العراق: إن سمعت أني حدثتهم شيئا أو أفتيتهم فلا تعدني شيئا، قال: فكان كما قال، لما قدمها لزم بيته فلم يخرج إليهم ولم يحدثهم بشيء حتى رجع.
أخبرنا عبد الرحمن، [قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال] [5] : أخبرنا الأزهري، والجوهري، قالا: حدثنا محمد بن العباس، قال: حدثنا سليمان بن إسحاق الجلاب، قال: حدثنا الحارث بن محمد بن مطرف، قال: أخبرنا مطرف بن عبد الله، قال: سمعت مالك بن أنس يقول [6] :
ذهبت حلاوة الفقه منذ مات ربيعة الرأي.
توفي ربيعة بالمدينة، وقيل: بالأنبار في هذه السنة.
__________
[1] في الأصل: «عبيد الله» . خطأ. والتصحيح من ت. وتاريخ بغداد.
[2] في تاريخ بغداد: «ابن أبي زكير» .
[3] الخبر في تاريخ بغداد 8/ 425.
[4] الخير في تاريخ بغداد 8/ 425.
[5] ما بين المعقوفتين: من ت.
[6] الخبر من تاريخ بغداد 8/ 426، 427.(7/351)
733- عبد الله السفاح، أبو العباس [1] :
كانت وفاته بالجدري.
أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن [2] بن محمد [الْقَزَّازُ] [3] ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ [4] بْنُ عَلي بْن ثَابِت، قَالَ: أَخْبَرَنَا الحسين بْن محمد بن طاهر الدقاق، قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بن المكتفي، قال: حدثنا جحظة، قال: قال جعفر بن يحيى:
نظر أمير المؤمنين السفاح في المرآة وكان من أجمل الناس وجها، فقال: اللَّهمّ إني لا أقول كما قال سليمان بن عبد الملك: أنا الملك الشاب، ولكني أقول: اللَّهمّ عمرني طويلا في طاعتك ممتعا بالعافية. فما استتم كلامه حتى سمع غلاما يقول لغلام آخر: الأجل بيني وبينك شهران وخمسة أيام، فتطير من كلامه، وقال: حسبي الله، لا قوة إلا باللَّه، عليه توكلت، وبه أستعين، فما مضت إلا أيام حتى أخذته الحمى، فجعل يوم يتصل إلى يوم حتى مات بعد شهرين وخمسة أيام.
أَخْبَرَنَا الْقَزَّازُ، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرني الحسن بن محمد الخلال، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن عمران، قال: حدثنا محمد بْنُ سَهْلِ بْنِ الْفَضْلِ الْكَاتِبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ [أَبِي] [5] سَعْدٍ، قَالَ: ذكر مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ الْخُزَاعِيُّ [6] :
إِنَّ الرَّشِيدَ قَالَ لابْنِهِ: كَانَ عِيسَى بْنُ عَلِيٍّ رَاهِبَنَا وَعَالِمَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، وَلَمْ يَزَلْ فِي خِدْمَةِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ عَلِي بْنِ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ، ثُمَّ خَدَمَ [أَبَا] [7] عَبْدِ اللَّهِ إِلَى حِينِ وَفَاتِهِ، ثُمَّ إِبْرَاهِيمَ الإِمَامَ، وَأَبَا الْعَبَّاسِ، وَالْمَنْصُورَ، فَحَفِظَ جَمِيعَ أخبارهم وسيرهم
__________
[1] تاريخ بغداد 10/ 46، وراجع أيضا «ذكر خلافته» سنة 132.
[2] في الأصل: «أبو منصور بن عبد الرحمن» خطأ. وما أوردناه من ت
[3] ما بين المعقوفتين: من ت.
[4] في الأصل: «أبو بكر بن أحمد» . خطأ.
[5] ما بين المعقوفتين: من ت، وتاريخ بغداد.
[6] الخبر في تاريخ بغداد 10/ 50.
[7] ما بين المعقوفتين: من تاريخ بغداد.(7/352)
وَأُمُورَهُمْ. وَكَانَ قُرَّةَ عَيْنِهِ فِي الدُّنْيَا ابْنُهُ إِسْحَاقُ، فَلَيْسَ فِينَا أَهْلَ الْبَيْتِ أَعْلَمُ بِأَمْرِنَا مِنْ إِسْحَاقَ، فَاسْتَكْثِرْ مِنْهُ، وَاحْفَظْ جَمِيعَ مَا يُحَدِّثُكَ بِهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ دُونَ أَبِيهِ فِي الْفَضْلِ وَإِيثَارِ الصِّدْقِ.
قَالَ: فَأَعْلَمْتُهُ أَنِّي قَدْ سَمِعْتُ مِنْهُ شَيْئًا كَثِيرًا، فَقَالَ لِي: هَلْ سَمِعْتَ خَبَرَ وَفَاةِ أَبِي الْعَبَّاسِ السَّفَّاحِ؟ فَقُلْتُ: نعم، فقال: قد سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ عِيسَى بْنِ عَلِيٍّ، فَحَدِّثْنِي مَا حَدَّثَكَ بِهِ [إِسْحَاقُ لأَنْظُرَ أَيْنَ هُوَ مِمَّا حَدَّثَنِي بِهِ أَبُوهُ. فَقَالَ:
حَدَّثَنِي] [1] إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى، عَنْ أَبِيهِ:
أَنَّهُ دَخَلَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ يَوْمَ عَرَفَةَ عَلَى أَبِي الْعَبَّاسِ وَهُوَ فِي مَدِينَتِهِ بِالأَنْبَارِ [2] ، قَالَ إِسْحَاقُ: قَالَ أَبِي: وَكُنْتُ قَدْ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ أَيَّامًا لَمْ أَرْكَبْ إِلَيْهِ فِيهَا، فعاتبني على تخلفي عنه، فأعلمته أَنِّي كُنْتُ أَصُومُ مُنْذُ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الْعَشْرِ [3] ، فَقَبِلَ عُذْرِي وَقَالَ لِي: أَنَا في يومي هذا صَائِمٌ، فَأَقِمْ عِنْدِي لِتُقْضِيَنِي فِيهِ بِمُحَادَثَتِكَ [إِيَّايَ مَا فَاتَنِي مِنْ مُحَادَثَتِكَ] [4] فِي الأَيَّامِ الَّتِي تَخَلَّفْتَ عَنِّي فِيهَا، ثُمَّ نَخْتِمُ ذَلِكَ بِإِفْطَارِكَ عِنْدِي، فَأَقَمْتُ إِلَى أَنْ تَبَيّنْتُ النُّعَاسَ فِي عينه [قد غلب عَلَيْهِ] [5] ، فَنَهَضْتُ [6] عَنْهُ وَاسْتَمَرَّ بِهِ النَّوْمُ فَمِلْتُ [7] بَيْنَ الْقَائِلَةِ فِي دَارِهِ، وَبَيْنَ الْقَائِلَةِ فِي داري، فمالت نَفْسِي إِلَى الانْصِرَافِ إِلَى مَنْزِلِي وَقِلْتُ إِلَى وَقْتِ الزَّوَالِ ثُمَّ رَكِبْتُ إِلَى دَارِهِ [8] ، فَوَافَيْتُ إِلَى بَابِ الرَّحْبَةِ الْخَارِجِ، فَإِذَا بِرَجُلٍ دَحْدَاحٍ حَسَنِ الْوَجْهِ مُؤْتَزِرٍ بِإِزَارٍ، مُتَرَدٍّ بِآخَرَ [9] . فَسَلَّمَ عَلَيَّ وَقَالَ: هَنَّأَ اللَّهُ الأَميرَ هَذِهِ النّعْمَة وَكُلّ نِعْمَة، الْبُشْرَى، أَنَا وَافِدُ أَهْلِ السِّنْدِ، أَتَيْت أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِسَمْعِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ وَبَيْعَتِهِمْ، فَمَا تَمَالَكْتُ سُرُورًا أَنْ حَمِدْتُ اللَّهَ عَلَى تَوْفِيقِهِ إِيَّايَ للانْصِرَافِ فِي أْنَ أُبَشِّرَهُ بِهَذِهِ الْبُشْرَى. فَمَا تَوَسَّطْتُ الرَّحْبَةَ حَتَّى وَافَى رَجُلٌ فِي مثل لونه وهيئته وقريب
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت، وتاريخ بغداد.
[2] في الأصل: «بمدينة الأنبار» . وما أوردنا من ت وتاريخ بغداد.
[3] في الأصل: «إني كنت صائما من أول العشر» . وما أوردناه من ت وتاريخ بغداد.
[4] ما بين المعقوفتين: من ت، وتاريخ بغداد.
[5] ما بين المعقوفتين: من تاريخ بغداد.
[6] في الأصل: «فأقمت إلى أن نعس فنهضت» . وما أوردناه من ت وبغداد.
[7] في الأصل: «فمثلت» . وما أوردناه من ت وتاريخ بغداد.
[8] في الأصل: «داري» خطأ.
[9] في الأصل: «مرتد بآخر» .(7/353)
الصُّورَةِ مِنْ صُورَتِهِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ وَهَنَّأَنِي بِمِثْلِ مَا هَنَّأَنِي بِهِ ذَلِكَ، وَذكر أَنَّهُ وَافِدُ أَهْلِ إِفْرِيقِيَّةَ أَتَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِسَمْعِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ، فَتَضَاعَفَ سُرُورِي، وَأَكْثَرْتُ مِنْ حَمْدِ اللَّهِ عَلَى مَا وَفَّقَنِي لَهُ مِنَ الانْصِرَافِ، ثُمَّ دَخَلْتُ الدَّارَ فَسَأَلْتُ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَأُخْبِرْتُ أَنَّهُ فِي مَوْضِعٍ كَانَ يَتَهَيَّأُ فِيهِ للصَّلاةِ، فَدَخَلْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يُسَرِّحُ لِحْيَتَهُ، فَابْتَدَأْتُ بِتَهْنِئَتِهِ وَأَعْلَمْتُهُ أَنِّي رَأَيْتُ بِبَابِهِ رَجُلَيْنِ أَحَدَهُمَا وَافِدَ أَهْلِ السِّنْدِ، فَوَقَعَ عَلَيْهِ زَمَعٌ، وَقَالَ: الآخَرُ وَافِدُ أَهْلِ إِفْرِيقِيَّةَ بِسَمْعِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ، فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَسَقَطَ الْمِشْطُ مِنْ يَدِهِ ثَمَّ قَالَ:
سُبْحَانَ اللَّهِ كُلُّ [شَيْءٍ] [1] بَائِدٌ سِوَاهُ، نَعَيْتُ وَاللَّهِ نَفْسِي، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ الإِمَامُ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَقْدُمُ عَلَيَّ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فِي مدينتي وافدان: أَحَدُهُمَا وَافِدُ السِّنْدِ، وَالآخَرُ وَافِدُ إِفْرِيقِيَّةَ بِسَمْعِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ وَبَيْعَتِهِمْ، فَلا يَمْضِي بَعْدَ ذَلِكَ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ حَتَّى أَمُوتَ. وَقَدْ أَتَانِي الْوَافِدَانِ، فَأَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَكَ يَا عَمِّ فِي ابْنِ أَخِيكَ، فَقُلْتُ: كَلا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقَالَ: بَلَى أَنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَئِنْ كَانَتِ الدُّنْيَا حَبِيبَةً [2] إِلَيَّ، فَصِحَّةُ الرِّوَايَةِ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهَا، وَاللَّهِ مَا كَذَبَتْ وَلا كَذَبْتُ. ثُمَّ نَهَضَ وَقَالَ لِي: لا تَبْرَحْ مِنْ مَكَانِكَ حَتَّى أَخْرُجَ إِلَيْكَ، فَمَا غَابَ كثيرا حتى أذنت المؤذنون بِصَلاةِ الظُّهْرِ، فَخَرَجَ إِلَيَّ خَادِمٌ لَهُ، فَأَمَرَنِي بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمَسْجِدِ وَالصَّلاةِ بِالنَّاسِ، فَفَعَلْتُ ذَلِكَ، ورجعت إلى موضعي حتى أذنت الْمُؤَذِّنُونَ بِصَلاةِ الْمَغْرِبِ، فَخَرَجَ إِلَيَّ الْخَادِمُ فَأَمَرَنِي بِمِثْلِ ذَلِكَ.
فَفَعَلْتُ وَعُدْتُ إِلَى مَكَانِي، ثُمَّ أذنت الْمُؤَذِّنُونَ بِصَلاةِ الْعِشَاءِ، فَخَرَجَ إِلَيَّ الْخَادِمُ بِمِثْلِ مَا كَانَ يَأْمُرُنِي بِهِ، فَفَعَلْتُ وَلَمْ أَزَلْ مُقِيمًا فِي مَكَانِي إِلَى أَنْ مَرَّ اللَّيْلُ، فَتَنَفَّلْتُ حَتَّى فَرَغْتُ مِنْ صَلاةِ اللَّيْلِ وَالْوَتْرِ إِلا بَقِيَّةً بَقِيَتْ مِنَ الْقُنُوتِ، فَخَرَجَ عِنْدَ ذَلِكَ وَمَعَهُ كِتَابٌ، فَدَفَعَهُ إِلَيِّ حِينَ سَلَّمْتُ، فَإِذَا هُوَ [مُعْنَوَنٌ] [3] مَخْتُومٌ [مِنْ عَبْدِ اللَّهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الرَّسُولِ وَالأَوْلِيَاءِ وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ] [3] وَقَالَ: يَا عَمِّ، ارْكَبْ فِي غَدٍ، فصل بِالنَّاسِ [4] فِي الْمُصَلَّى، وَانْحَرْ وَأَخْبِرْ بِعِلَّةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَكْثِرْ لُزُومَكَ دَارِي، فَإِذَا قَضَيْتُ نَحْبِي فَاكُتْم وَفَاتِي حَتَّى تَقْرَأَ هَذَا الْكِتَابَ عَلَى النَّاسِ، وَتَأْخُذَ عَلَيْهِمُ الْبَيْعَةَ لِلْمُسَمَّى فِي هَذَا
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «محبوبة» . وما أوردناه من ت وتاريخ بغداد.
[3] ما بين المعقوفتين: من ت وتاريخ بغداد.
[4] في الأصل: «فصل في الناس» . وما أوردناه من ت وتاريخ بغداد.(7/354)
الْكِتَابِ، وَإِذَا أَخَذْتَهَا وَاسْتَحْلَفْتَ النَّاسَ عَلَيْهَا بِمُؤَكِّدَاتِ الأَيْمَانِ فَانْعِ إِلَيْهِمْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَجَهِّزْهُ، وَتَوَلّ الصَّلاةَ عَلَيْهِ وَانْصَرِفْ فِي حِفْظِ اللَّهِ وَتَأَهَّبْ لِرُكُوبِكَ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَلْ وَجَدْتَ عِلَّةً، فَقَالَ: يَا عَمِّ، وَأَيُّ عِلَّةٍ هِيَ أَقْوَى وَأَصْدَقُ مِنَ الْخَبَرِ الصَّادِقِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذْتُ الْكِتَابَ وَنَهَضْتُ، فَمَا مَشَيْتُ إِلا خُطًا حَتَّى هَتَفَ بِي [هَاتِفٌ] [1] يَأْمُرُنِي بِالرُّجُوعِ، فَرَجَعْتُ، فَقَالَ لِي: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَلْبَسَكَ كَمَالا وَأَكْرَهُ أَنْ يَحُطَّكَ النَّاسُ فِيهِ، وَكِتَابِي الَّذِي فِي يَدِكَ مَخْتُومٌ، وَسَيَقُولُ لَكَ مَنْ يَحْسُدُكَ عَلَى مَا جَرَى عَلَى يَدَيْكَ مِنْ هَذَا الأَمْرِ الْجَلِيلِ انك إنما وفيت للمسمى في هَذَا الْكِتَابَ، لأَنَّ الْكِتَابَ كَانَ مَخْتُومًا وَقَدْ رَأَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْكَ خَاتِمَهُ لِيَقْطَعَ بِذَلِكَ أَلْسِنَةَ الْحَسَدَةِ عَنْكَ، فَخُذِ الْخَاتمَ، فو الله ما كذبت ولا كذبت، فانصرفت وتأهبت للركوب، وَرَكِبْتُ وَرَكِبَ مَعِي النَّاسُ حَتَّى صَلَّيْتُ بِأَهْلِ الْعَسْكَرِ وَنَحَرْتُ وَانْصَرَفْتُ إِلَيْهِ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ خَبَرِهِ فَقَالَ:
خَبَرُ مَنْ يَمُوتُ لا مَحَالَةَ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَجَدْتَ شَيْئًا؟ فَأَنْكَرَ عَلَيَّ قولي وكشر فِي وَجْهِي وَقَالَ: يَا سُبْحَانَ اللَّهِ، أَقُولُ لَكَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّهُ يَمُوتُ، وَتَسْأَلُنِي عَمَّا أَجِدُ، لا تَعُدْ لِمِثْلِ هَذَا ثُمَّ دَخَلْتُ إِلَيْهِ عَشِيَّةَ يَوْمِ الْعِيدِ، وَكَانَ أَحْسَنَ مَنْ عَايَنَتْهُ عَيْنَايَ وَجْهًا، فَرَأَيْتُهُ وَقَدْ حَدَثَتْ فِي وَجْهِهِ وَرْدِيَّةٌ لَمْ أَكُنْ أَعْهَدُهَا فَزَادَتْ وَجْهَهُ جَمَالا، ثم بصرت بإحدى وجنتيه حَبَّةً مِثْلَ حَبَّةِ الْخَرْدَلِ، بَيْضَاءَ، فَارْتَبْتُ بِهَا، ثُمَّ صَوَّبْتُ نَظَرِي إِلَى الْوَجْنَةِ الأُخْرَى فَوَجَدْتُ فِيهَا حَبَّةً أُخْرَى، ثُمَّ أَعَدْتُ نَظَرِي إِلَى الوجنة التي عاينتها بدئا فرأيت الحبة قد صارت اثنتين، ثُمَّ لَمْ أَزَلْ أَرَى الْحَبَّ يَزْدَادُ حَتَّى رَأَيْتُ فِي كُلِّ جَانِبٍ مِنْ وَجْنَتَيْهِ مِثْلَ الدِّينَارِ مِقْدَارًا حَبًّا أَبْيَضَ صِغَارًا، فَانْصَرَفْتُ وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ، وَغَلَسْتُ غَدَاةَ الْيَوْمِ الثَّانِي من أيام التَّشْرِيقِ، فَوَجَدْتُهُ قَدْ هَجَرَ وَذَهَبَتْ عَنْهُ مَعْرِفَتِي وَمَعْرِفَةُ غَيْرِي، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ بِالْعَشِيِّ فَوَجَدْتُهُ قَدْ صَارَ مِثْلَ الزِّقِّ الْمَنْفُوخِ، وَتُوُفِّيَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَسَجَيْتُهُ كَمَا أَمَرَنِي، وَخَرَجْتُ إِلَى النَّاسِ وَقَرَأْتُ عَلَيْهِمُ الْكِتَابَ، وَكَانَ فِيهِ:
مِنْ عَبْدِ اللَّهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الرَّسُولِ وَالأَوْلِيَاءِ وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ. أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ قَلَّدَ الْخِلافَةَ بَعْدَهُ عَلَيْكُمْ أَخَاهُ، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا، وَقَدْ قَلَّدَ الْخِلافَةَ مِنْ بَعْدِ عَبْدِ اللَّهِ عِيسَى بْنِ مُوسَى إِنْ كَانَ. ثُمَّ أَخَذْتُ الْبَيْعَةَ عَلَى النَّاسِ وَجَهَّزْتُهُ وَصَلَّيْتُ عَلَيْهِ وَدَفَنْتُهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلاثِينَ ومائة.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت وتاريخ بغداد.(7/355)
فقال الرشيد: هكذا حدثني أبو العباس ما غادر إسحاق من حديث أبيه حرفا واحدا، فاستكثروا من الاستماع منه، فنعم حامل العلم هو.
قال مؤلف الكتاب رحمه الله: واختلفوا في مقدار عمره على أربعة أقوال، أحدها: ثلاثون سنة، والثاني: إحدى وثلاثون، والثالث: ثمان وثلاثون، والرابع:
ثمان وعشرون.
فأما الصلاة، فإنه صلى عليه عيسى بن علي، دفن بالأنبار العتيقة في قصره، وكانت خلافته أربع سنين وثمانية أشهر ويومين، وقيل: وتسعة أشهر، منها ثمانية أشهر مشتغلا بقتال مروان بن محمد، وخلف تسع جباب وأربعة أقمصة، وخمس سراويل، وأربع طيالسة، وثلاثة مطارف خز.
734- عبيد الله بن أبي جعفر، مولى بني كنانة [1] :
ولد سنة ستين، ورأى عبد الله بن الحارث بن جزء، وكان عالما زاهدا. روى عن محمد بن إسحاق وغيره من أهل المدينة، وكان سليمان بن داود يقول: ما رأيت عيناي عالما زاهدا إلا عبيد الله بن أبي جعفر.
أنبأنا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ الْحَافِظُ، عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ، وأبي عمرو ابني عبد الله بن منده، عن أبيهما، قال: حدثنا أبو سعيد بن يونس الحافظ، قال: حدثني أبي، عن جدي، قال: حدثني ابن وهب، قال: حدثني أبو شريح عبد الرحمن بن شريح، عن عبيد الله بن أبي جعفر، قال:
غزونا إلى قسطنطينية فانكسر مركبنا، فألقانا الموج على حشفة في البحر، وكنا خمسة أو ستة، فأنبت الله بعددنا ورقا، لكل رجل منا ورقة، فكنا نمصها فتشبعنا وتروينا، فإذا أمسينا أنبت الله لنا مكانها أخرى حتى مر بنا مركب، فحملنا.
توفي عبيد الله بمصر في هذه السنة. ويقال: في سنة اثنتين وثلاثين، وصلى [عليه] [2] أبو عون عبد الملك بن يزيد أمير مصر.
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 202، وفيه «مولى بني أمية» . والتاريخ الكبير 3/ 1/ 376، والجرح والتعديل 5/ 310.
[2] ما بين المعقوفتين: من ت.(7/356)
735- عبد الكريم بن الحارث بن يزيد، أبو الحارث الحضرمي [1] :
روى عنه حيوة بن شريح، وابن لهيعة وغيرهما. وكان من العباد المجتهدين، فلو قيل إن الساعة تقوم غدا ما كان فيه فضل [لمزيد] [2] ، وقيل له: ما أحسن عزاءك عند المصائب، فقال: إني أوطن نفسي عليها قبل نزولها.
736- مليكة بنت المنكدر:
كانت عابدة مجتهدة وكلمت في الرفق بنفسها، فقالت: دعوني أبادر طي صحيفتي.
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصوفي، قال: أخبرنا ابن أبي صادق الحيري، قال: حدثنا ابن باكويه الشيرازي، قال: حدثني عيسى بن عمر بن عبد المؤمن، قال:
حدثنا أحمد بن محمد القرشي، قال: حدثنا إبراهيم بن عيسى، قال: حدثني موسى بن عبد الملك، أبو عبد الرحمن المروزي، قال: قال مالك بن دينار:
بينا أنا أطوف بالبيت إذا أنا بامرأة جهيرة في الحجر وهي تقول: أتيتك من شقة بعيدة مؤملة بمعروفك، فأنلني معروفا من معروفك تعينني به عن معروف من سواك يا معروفا بالمعروف. فعرفت أيوب السختياني وسألنا عن منزلها وقصدناها وسلمنا عليها، فقال لها أيوب السختياني: قولي خيرا يرحمك الله، قالت: وما أقول؟ أشكو إلى الله قلبي وهواي فقد أضراني وشغلاني عن عبادة ربي عز وجل، قوما فإني أبادر طي صحيفتي.
قال أيوب السختياني: فما حدثت نفسي بامرأة قبلها، فقلت لها: لو تزوجت رجلا كان يعينك على ما أنت عليه، قالت: لو كان مالك بن دينار أو أيوب السختياني ما أردته، فقلت: أنا مالك بن دينار وهذا أيوب السختياني، فقالت: أف لقد ظننت أنه يشغلكما ذكر الله سبحانه وتعالى عن محادثة النساء، وأقبلت على صلاتها، فسألت عنها، فقالوا: هذه مليكة بنت المنكدر.
توفيت مليكة رضي الله عنها في هذه السنة، وهي سنة ست وثلاثين ومائة، ودفنت بالمدينة، وقيل بمكة، والله عز [وجل أعلم] [3] .
__________
[1] التاريخ الكبير 3/ 2/ 89.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] «توفيت مليكة.... والله عز وجل أعلم» : ساقطة من ت. وما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.(7/357)
الخاتمة
تم الجزء السابع من كتاب المنتظم في تاريخ الملوك والأمم تأليف الشيخ الإمام العالم الحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد ابن علي بن الجوزي، غفر الله له، يتلوه في الجزء الثامن. ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائة، فمن الحوادث فِيهَا: قدوم المنصور من مكة، ونزوله الحيرة، فوجد عيسى بْن موسى قَدْ شخص إِلَى الأنبار، واستخلف....(7/358)
[المجلد الثامن]
بسم الله الرّحمن الرّحيم وهو حسبي
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائة
فمن الحوادث فِيهَا:
قدوم المنصور من مكة، ونزوله الحيرة، فوجد عيسى بْن موسى قَدْ شخص إِلَى الأنبار، واستخلف على الكوفة طلحة بْن إسحاق بْن مُحَمَّد بْن الأشعث، فدخل أَبُو جعفر الكوفة، فصلى الجمعة بأهلها، وخطبهم وأعلمهم أنه راحل عنهم، ثُمَّ وافاه أَبُو مسلم بالحيرة، ثُمَّ شخص أَبُو جعفر إِلَى الأنبار، فأقام بها، وجمع إِلَيْهِ أطرافه، وقد كَانَ عيسى بْن موسى قَدْ أحرز بيوت الأموال والخزائن والدواوين حَتَّى قدم عليه أَبُو جعفر، فبايع الناس لَهُ بالخلافة، ثُمَّ لعيسى بْن موسى من بعده، وسلم الأمر إِلَى أبي جعفر، وبعث يزيد بْن زياد وَهُوَ حاجب أبي الْعَبَّاس إِلَى عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ ببيعة أبي جعفر، وذلك بأمر أبي الْعَبَّاس قبل أن يموت حين أمر الناس بالبيعة، فلما قدم عليه دعا الناس إِلَى نفسه وَقَالَ: إن أبا العباس حين أراد أن يوجه الجنود إِلَى مروان بْن مُحَمَّد دعا بْني أمية [1] فأرادهم على المسير إِلَى مروان وَقَالَ: من انتدب منكم فسار إِلَيْهِ فهو ولي عهدي، فلم ينتدب لَهُ غيري، فعلى هذا خرجت من عنده، وقبلت من قبلت، فقام أَبُو غانم الطائي، وخفاف المروزي فِي عدة من قواد أَهْل خراسان، فشهدوا لَهُ بذلك، فبايعه أَبُو غانم، وخفاف، وأبو الإصبع، وجميع من كَانَ معه من أولئك القواد منهم حميد بْن قحطبة وغيره، فلما فرغ من البيعة ارتحل فنزل حران وبها مقاتل العكي، وَكَانَ أَبُو جعفر استخلفه لما قدم على أبي الْعَبَّاس، فأراد مقاتلا على البيعة فلم يجبه وتحصن
__________
[1] في ت: «بني أبيه» وما أثبتناه من الأصل.(8/3)
منه، فأقام عليه وحصره، وسرح أَبُو جعفر لقتال عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ أبا مسلم، فسار إليه 2/ ب وقد جمع الجنود/ والسلاح وخندق، وجمع الطعام والأعلاف، فسار أَبُو مسلم ومعه القواد كلهم، وبعث مقدمته مالك بْن الهيثم الخزاعي، وَكَانَ معه الحسن وحميد ابْنا قحطبة، وَكَانَ حميد قَدْ فارق عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ، وَكَانَ عَبْد اللَّه أراد قتله، فإنه كتب إِلَى زفر بْن عاصم إِلَى حلب: إذا قدم عَلَيْك فاقتله. ففتح حميد الكتاب وعلم مَا فِيهِ، فلم يذهب.
ولما بلغ عَبْد اللَّه مسير أبي مسلم إِلَيْهِ أعطى العكي أمانا، فخرج إِلَيْهِ فيمن كَانَ معه، ثُمَّ وجهه إِلَى عثمان بْن عَبْد الأعلى إِلَى الرقة ومعه ابْناه، وكتب إِلَيْهِ كتابا، فلما قدموا على عثمان قتل العكي وحبس ابْنيه، فلما بلغته هزيمة عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ أخرجهما فقتلهما وَكَانَ عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ قَدْ خشي أن لا تناصحه أَهْل خراسان فقتل منهم نحوا من سبعة عشر ألفا، ثُمَّ اقتتلوا خمسة أشهر أو ستة، وعمل لأبي مسلم عريشا، فكان يجلس عليه إذا التقى النّاس فينظر إِلَى القتال، فإن رأى خللا فِي أصحابه أصلحه، ثُمَّ إن أصحاب عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ انهزموا وتركوا عسكرهم، فاحتواه أَبُو مسلم، وكتب بذلك إِلَى أبي جعفر، ومضى عَبْد اللَّه وعَبْد الصَّمَدِ بْن عَلِيّ، وكانا مَعَ عَبْد اللَّه.
فأما عَبْد الصمد فقدم الكوفة، فاستأمن لَهُ عيسى بْن موسى، فأمنه أَبُو جعفر.
وأما عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ فأتى سليمان بْن عَلِيّ بالبصرة، فأقام عنده، وأمن أَبُو مسلم الناس، فلم يقتل أحدا.
وفي هذه السنة: قتل أَبُو مسلم.
وَكَانَ سبب ذلك أن أبا مسلم كَانَ قَدْ كتب إِلَى أبي الْعَبَّاس يستأذنه فِي الحج فِي سنة ست وثلاثين، وإنما أراد أن يصلي بالناس فأذن لَهُ، وكتب أَبُو الْعَبَّاس إِلَى أبي جعفر وَهُوَ على الجزيرة: أن أبا مسلم سألني الحج فاكتب إلي تستأذنني فِي ذلك، فإنك إذا كنت بمكة لم يطمع أن يتقدمك، فكتب إِلَيْهِ، فأذن لَهُ. فَقَالَ أَبُو مسلم: أما وجد أَبُو 3/ أجعفر عاما يحج فِيهِ/ غير هَذَا!! واضطغنها عليه، فخرجا فكان أَبُو مسلم يصلح العقاب، ويكسو الأعراب فِي كل منزل، ويصل كل من سأله، وحفر الآبار، وسهل الطريق، وَكَانَ الصيت له.(8/4)
فلما صدر الناس عَنِ الموسم نفر أَبُو مسلم قبل [1] أبي جعفر فتقدمه، فأتاه كتاب بوفاة أبي الْعَبَّاس واستخلاف أبي جعفر، فكتب إِلَى أبي جعفر يعزيه ولم يهنئه بالخلافة، ولم يقم لَهُ حَتَّى يلحقه، فغضب أَبُو جعفر فَقَالَ لأبي أيوب: اكتب إِلَيْهِ كتابا غليظا. فلما أتاه كتاب أبي جعفر كتب إِلَيْهِ يهنئه بالخلافة. فَقَالَ يزيد بْن أبي أسيد السلمي لأبي جعفر: إني أكره أن تجامعه فِي الطريق والناس لَهُ أطوع، وليس معك أحد فأخذ برأيه، فكان يتأخر ويتقدم أَبُو مسلم، وما كَانَ فِي عسكر أبي جعفر غير ستة أدرع، فمضى أَبُو مسلم إِلَى الأنبار، ودعا عيسى بْن موسى أن يبايع لَهُ، فأبى عيسى، فقدم أَبُو جعفر فنزل الكوفة، فأتاه خروج عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ إِلَى الأنبار، وعقده لأبي مسلم وَقَالَ:
سر إِلَيْهِ. فَقَالَ أَبُو مسلم: إن عَبْد الجبار بْن عَبْد الرَّحْمَنِ، وصالح بْن الهيثم يعيبانني فاحبسهما. فَقَالَ أَبُو جعفر: إن عَبْد الجبار على شرطي. وَكَانَ على شرط [2] أبي الْعَبَّاس وصالح بْن الهيثم أخو أمير المؤمنين من الرضاعة، فلم أكن لأحبسهما لظنك بهما. فَقَالَ: أراهما آثر عندك مني. فغضب أَبُو جعفر. فَقَالَ أَبُو مسلم: لم أرد كل هَذَا.
وَقَالَ رجل لأبي أيوب: إني قَدِ ارتبت بأبي مسلم، يأتيه الكتاب من أمير المؤمنين فيقرأه، ثُمَّ يلوي شدقه، ويرمي بالكتاب إِلَى أبي نصر مالك بْن الهيثم فيقرأه ويضحك [3] استهزاء!؟ فَقَالَ أَبُو أيوب: نحن لأبي مسلم أشد تهمة منا لعَبْد الله بن علي، إلا أنا نعلم أن أَهْل خراسان لا يحبون عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ، وقد قتل منهم من قتل.
وَكَانَ أَبُو مسلم قَدْ أصاب من عسكر عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ متاعا كثيرا وجوهرا كثيرا، فبعث أبو جعفر مولاه أبا الخصيب/ ليحصي ذلك، فغضب وافترى عليه، وهمّ بقتله، 3/ ب فقيل لَهُ: إنما هو رَسُول. فلما قدم به أَبُو الخصيب على أبي جعفر أخبره [4] .
وقيل: إنما بعث إِلَيْهِ يقطين بْن موسى بذلك، فَقَالَ أَبُو مسلم: يا يقطين، أمين على الدماء جائر فِي الأموال. وشتم أبا جعفر، فأبلغه يقطين، فكتب إِلَى أبي مسلم مَعَ يقطين: إني قَدْ وليتك مصر والشام، وهي خير من خراسان، فوجّه إلى مصر من أحببت،
__________
[1] في الأصل: «قتل أبي جعفر» .
[2] في ت: «وكان على شرطة أبي العباس» وما أثبتناه من الأصل.
[3] في ت: «ويضحكان»
[4] انظر: تاريخ الطبري 7/ 482.(8/5)
وأقم بالشام فتكون بقرب أمير المؤمنين، فإن أحب لقاءك أتيته من قرب. فلما أتاه الكتاب غضب وَقَالَ: هو يوليني الشام ومصر، وخراسان لي! وعزم على المضي إِلَى خراسان مجمعا على ذلك، فكتب بذلك يقطين إِلَى أبي جعفر.
وخرج أَبُو جعفر من الأنبار إِلَى المدائن، وكتب إِلَى أبي مسلم فِي المصير إِلَيْهِ، فكتب أَبُو مسلم، وقد نزل الزاب وَهُوَ على الرواح إِلَى طريق حلوان: قَدْ كنا نروي عَنْ ملك آل ساسان أن أخوف مَا يكون من الوزراء إذا سكنت الدهماء، فنحن نافرون من قربك، حريصون على الوفاء بعهدك، حريون بالسمع والطاعة، غير أنها من بعيد حيث تقارنها السلامة، فإن أرضاك ذلك فأنا كأحسن عَبْد لك، وإن أبيت إلا أن تعطي نفسك إرادتها نقضت مَا أبرمت من عهدك، ضنا بْنفسي.
فلما وصل الكتاب إِلَى المنصور كتب [إِلَى أبي مسلم: قد فهمت كتابك وليست صفتك صفة أولئك الوزراء الغششة ملوكهم] [1] الذين يتمنون اضطراب حبل الدولة لكثرة جرائمهم، وإنما راحتهم فِي انتشار نظام الجماعة، فلم سويت نفسك بهم، وأنت [في] [2] طاعتك ومنا صحتك واضطلاعك بما حملت من أعباء [3] هَذَا الأمر على مَا أنت به! وقد حمل إليك أمير المؤمنين عيسى بْن موسى رسالة لتسكن إليها إن أصغيت إليها، وأسأل اللَّه أن يحول بين السلطان ونزغاته وبينك، فإنه لم يجد بابا يفسد به نيتك أوكد عنده وأقرب من طبه [4] من الباب الَّذِي فتحه عَلَيْك.
ثُمَّ إن أبا جعفر وجه إِلَى أبي مسلم جرير بْن يزيد بْن جرير بن عبد الله البجلي، 4/ أوكان واحد أَهْل زمانه/، فخدعه ورده.
قَالَ جرير: نزلت معه جسر النهروان فتغدينا، فَقَالَ: أين أمير المؤمنين؟ قلت:
بالمدائن. قَالَ: فِي أي المواضع؟ قلت: فِي صحراء. قَالَ: فما اسم الموضع؟ قلت:
رومية. فأطرق طويلا ثُمَّ قَالَ: سر ولا حول [5] ولا قوة إلا باللَّه.
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، وأثبتناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، وأثبتناه من ت.
[3] في الأصل: «واصطناعك بما حملت من أعداء» وما أثبتناه من ت.
[4] في ت، الأصل: «من ظنه» والتصحيح من الطبري والطب: هو السحر.
[5] في الأصل: «سيروا لا حول ولا قوة إلا باللَّه» .(8/6)
قَالَ جرير: وقد كَانَ قيل لَهُ إنك تقتل أو تموت برومية. فظنها بلاد الروم. ثُمَّ قَالَ:
إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156 [1] ذهبت والله نفسي بيدي. ثُمَّ جعل يخاطب نفسه ويقول:
يا أبا مُسْلِم، فتح لك من باب المكايد فِي عدوك وصديقك مَا لم يفتح لأحد حَتَّى إذا دان لك من بالمشرق والمغرب، خدعك عَنْ نفسك من كَانَ يهاب بالأمس من ينظر إليك إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156 [2] .
ثُمَّ تمثل:
فهل من خالد إما هلكنا ... وهل بالموت عند الناس عار [3]
فأقبل وتلقاه الناس وأنزله وأكرمه، وَكَانَ فيمن بعث إِلَيْهِ عيسى بن موسى، فحلف له بعتق كل مملوك لَهُ، وصدقة كل مَا يملك، وطلاق نسائه، وَقَالَ: لو خير المنصور بين موت أبيه وموتك لاختار موت أبيه، فإنه لا يجد منك خلفا.
فأقبل معه، فلما دخل أَبُو مسلم المدائن قَالَ لعيسى بْن موسى: تدري مَا مثلي ومثلك ومثل عمك؟ مثل ثلاثة نفر كانوا فِي سفر فأتوا على عظام نخرة، فَقَالَ أحدهم:
عندي طب إذا رأيت عظاما متفرقة ألفتها. فَقَالَ الثاني: وأنا إذا رأيت عظاما موصولة كسوتها لحما. فَقَالَ الثالث: وأنا إذا رأيت عظاما مكسوة لحما أجريت فِيهَا الروح.
ففعلوا ذلك، فإذا الَّذِي أحيوه أسد، فَقَالَ الأسد فِي نفسه: مَا أحياني هؤلاء إلا وهم على أن يميتوني أقدر. فوثب عليهم فأكلهم، والله ليقتلني وليقتلن عمك، وليخلعنك أو ليقتلنك.
وفي رواية: أن أبا مسلم كتب إِلَى أبي جعفر: أما بعد، فإني اتخذت رجلا إماما، فحرف القرآن عَنْ مواضعه طمعا فِي قليل قَدْ بغاه اللَّه عز وجل/ إلى خلقه، فكان كالذي 4/ ب ولي بغرور، فأمرني أن أجرد السيف، وأن أرفع الرحمة ولا أقيل العثرة، ففعلت توطئة لسلطانك حَتَّى عرفكم من كَانَ يجهلكم، ثُمَّ استنقذني اللَّه بالتوبة، فإن يعف عني فقديما عرف به ونسب إِلَيْهِ، وإن يعاقبْني فبما قدمت يداي، وما الله بظلام للعبيد.
__________
[1] سورة: البقرة، الآية: 156.
[2] سورة: البقرة، الآية: 156.
[3] في ت: «وهل بالموت يا للناس من عار» .(8/7)
أخبرنا أبو منصور القزاز قال [1] : أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا أبو الطيب الطبري قال: حدثنا المعافى بن زكريا قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن يحيى الصولي قَالَ: حَدَّثَنَا المغيرة بْن مُحَمَّد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الوهاب قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن المعافى [2] قَالَ: كتب أَبُو مسلم إِلَى المنصور حين استوحش منه:
أما بعد، فقد كنت اتخذت أخاك إماما وجعلته على الدين دليلا وللوصية التي زعم أنها صارت إِلَيْهِ، فأوطأني عشوة الضلالة، وأوثقني موثقة الفتنة [3] ، وأمرني أن آخذ بالظنة، وأقتل على التهمة، ولا أقبل المعذرة، فهتكت بأمره حرمات حتم اللَّه صونها، وسفكت دماء فرض اللَّه حقنها، وزويت الأمر عَنْ أهله، ووضعته منه فِي غير محله، فإن يعف اللَّه عني فبفضل منه، وإن يعاقب فبما كسبت يداي، وما اللَّه بظلام للعبيد. ثُمَّ أنساه اللَّه هَذَا- يعني أبا مُسْلِم- حَتَّى جاءه فقتله.
وفي رواية: أن أبا مسلم خرج يريد خراسان، مراغما مشاقا [4] ، فلما دخل أرض العراق وارتحل المَنْصُور من الأنبار، فأقبل حَتَّى نزل المدائن، وأخذ أَبُو مسلم طريق حلوان، فقيل لأبي جَعْفَر أخذ طريق حلوان، فَقَالَ: رب أمر للَّه دون حلوان [5] .
وَقَالَ أَبُو جعفر لعيسى بْن عَلِيّ وعيسى بْن موسى ومن حضره من بْني هاشم [6] :
اكتبوا إِلَى أبي مسلم. فكتبوا إِلَيْهِ يعظمون أمره ويشكرونه على مَا كَانَ منه من الطاعة، ويحذرونه عاقبة الأمر، ويأمرونه بالرجوع إِلَى أمير المؤمنين، وأن يلتمس رضاه، / 5/ أوبعث أَبُو جعفر بذلك مَعَ أبي حميد المروزي وَقَالَ لَهُ: كلم أبا مسلم بألين مَا يكلم به أحد، ومنه، وأعلمه إني رافعه وصانع به مَا لم يصنعه به أحد إن هو صلح [7] وراجع ما
__________
[1] اعتاد ناسخ نسخة الأصل أن يسقط كلمة «قال» قبل «أخبرنا» فيقول: «أخبرنا أبو منصور أخبرنا أحمد بن علي ... » وهكذا، على العكس من ناسخ النسخة ت. ولهذا أثبتنا «قال» دون الإشارة في كل مرة لذلك، لعدم إثقال الهامش بما لا داعي له.
[2] الخبر في تاريخ بغداد 10/ 208.
[3] في بغداد: «وأوهقني في ربقة الفتنة» .
[4] في الأصل: «مشاكا» وما أثبتناه من ت.
[5] تاريخ الطبري 7/ 484.
[6] تاريخ الطبري الموضع السابق.
[7] في ت: «إن هو صالح» .(8/8)
أحب، فإن أبى أن يرجع فقل لَهُ: يَقُول لك أمير المؤمنين لست للعباس، وأنا بريء من مُحَمَّد، إن مضيت مشاقا ولم تأتني، إن وكلت أمرك إِلَى أحد سواي، وإن لم أل طلبك وقتالك بْنفسي، ولو خضت البحر لخضته، ولو اقتحمت النار لاقتحمتها حَتَّى أقتلك أو أموت قبل ذلك، ولا تقولن لَهُ هَذَا الكلام حَتَّى تيأس من رجوعه، ولا تطمع منه فِي خير.
فسار أَبُو حميد فِي مأمن من أصحابه ممن يثق بهم، حَتَّى قدموا على أبي مسلم بحلوان، فدخل عليه أَبُو حميد، فدفع إِلَيْهِ الكتاب وَقَالَ لَهُ: إن الناس يبلغونك عَنْ أمير المؤمنين مَا لم يقله، وخلاف مَا عليه رأيه فيك، حسدا وبغيا، يريدون إزالة هَذِهِ النعمة وتغييرها، فلا تفسد مَا كَانَ منك، وإنك لم تزل أمين آل مُحَمَّد، يعرفك بذلك الناس، وما ذخر اللَّه لك من الأجر عنده أعظم مما أنت فِيهِ من دنياك، فلا تحبط أجرك، ولا يستهوينك الشيطان.
فَقَالَ لَهُ أَبُو مسلم: متى كنت تكلمني بهذا؟ فَقَالَ: لأنك دعوتنا إِلَى هَذَا وإلى طاعة أَهْل بيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأمرتنا بقتال من خالف ذلك، وقلت: إن خالفتكم فاقتلوني.
فعند ذلك أقبل [1] أَبُو مسلم على أبي نصر فَقَالَ: يا مالك، أما تسمع مَا يَقُول لي هَذَا، مَا هَذَا بكلامه. فَقَالَ: لا تسمع قوله، فما هَذَا بكلامه، وما بعد هَذَا أشد منه، فامض لأمرك ولا ترجع، فو الله لئن أتيته ليقتلنك، ولقد وقع فِي نفسه منك شيء لا يأمنك [2] أبدا. فَقَالَ أَبُو مسلم: قوموا. وأرسل إِلَى نيزك فَقَالَ: مَا ترى؟ فَقَالَ: مَا أرى أن تأتيه، وأرى أن تأتي الري، فتقيم بها، فيصير مَا بين خراسان والري لك، وهم جندك لا يخالفك أحد، فإن استقام لك استقمت لَهُ، وإن/ أبي كنت في جندك، وكانت 5/ ب خراسان من ورائك، فرأيت رأيك.
فدعا أبا حميد فَقَالَ: ارجع إِلَى صاحبك، فليس من رأي أن آتيه. فَقَالَ: قَدِ اعتزمت على خلافه. قَالَ: لا تفعل. قَالَ: مَا أريد أن ألقاه. فلما آيسه من الرجوع قَالَ لَهُ: مَا أمره أَبُو جعفر أن يقوله. فوجم طويلا ثُمَّ قَالَ: قم. فكسره ذلك القول وأرعبه.
وَكَانَ أَبُو جعفر قَدْ كتب إِلَى أبي داود وَهُوَ خليفة أبي مسلم بخراسان حين اتهم أبا مُسْلِم: إن لك إمرة خراسان مَا بقيت. فكتب أَبُو داود إلى أبي مسلم: إنا لم نخرج
__________
[1] في ت: «فاقتلوني، فأقبل أبو مسلم» وما أثبتناه من الأصل.
[2] في الأصل: «لأمتك أبدا» وما أثبتناه من ت.(8/9)
بمعصية خلفاء اللَّه وأهل بيت نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا تخالفن إمامك ولا ترجعن إلا بإذنه. فوافاه كتابه على تلك الحال فزاده رعبا وهما، فأرسل إِلَى أبي حميد وإلى مالك فَقَالَ لهما:
إني قد كنت عازما على المضي إِلَى خراسان، ثُمَّ رأيت أن أوجه أبا إسحاق إِلَى أمير المؤمنين، فيأتيني برأيه، فإنه ممن أثق به، وَكَانَ صاحب حرس أبي مسلم، فوجهه، فلما قدم تلقاه بنو هاشم بكل مَا يحب، وَقَالَ لَهُ أَبُو جعفر: اصرفه عَنْ وجهه، ولك ولاية خراسان، وأجازه.
فرجع أَبُو إسحاق إِلَى أبي مسلم فَقَالَ لَهُ: مَا أنكرت شيئا، رأيتهم معظمين لحقك، يرون لك مَا يرون لأنفسهم، وأشار عليه أن يرجع إِلَى أمير المؤمنين فيعتذر إِلَيْهِ مما كَانَ منه، فاجمع على ذلك، فَقَالَ لَهُ نيزك: قَدْ أجمعت على الرجوع؟ قَالَ: نعم.
وتمثل:
مَا للرجال مَعَ القضاء محالة ... ذهب القضاء بحيلة الأقوام
فَقَالَ: أما إذا اعتزمت على هَذَا فخار اللَّه لك، احفظ عني واحدة: إذا دخلت عليه فأقتله ثم بايع لمن شئت، فإن الناس لا يخالفونك.
فكتب أَبُو مسلم إِلَى أبي جعفر يخبره أنه منصرف إِلَيْهِ، فبينا كتاب أبي مسلم بين 6/ أيدي أبي جعفر إذ دخل عليه أَبُو أيوب، فرمى أَبُو جعفر إِلَيْهِ بالكتاب، فقرأه فَقَالَ/ والله لئن ملأت عيني منه لأقتلنه. فاغتم أَبُو أيوب وَقَالَ فِي نفسه: لئن قتله لا يترك أصحابه أحدا ممن يتعلق بأبي جعفر حيا.
وَقَالَ إسحاق الموصلي: لما عزم المنصور على الفتك بأبي مسلم هاب ذلك عمه عيسى بْن عَلِيّ، فكتب إِلَيْهِ يَقُول:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا تدبر ... فإن فساد الرأي أن تتعجلا
فوقع المنصور فِي كتابه:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة ... فإن فساد الرأي أن تترددا
ولا تهمل الأعداء يوما بقدرة ... وبادرهم أن يملكوا مثلها غدا
قَالَ أَبُو إسحاق: والشعر للمنصور.
ثُمَّ سار أَبُو مسلم، فلما دنا من المدائن أمر أمير المؤمنين الناس فتلقوه، فدخل أَبُو(8/10)
أيوب على أبي جعفر فَقَالَ: هَذَا الرجل يدخل العشية، فما تريد أن تصنع؟ قَالَ: أريد أن أقتله حين أنظر إِلَيْهِ. فَقَالَ: إن دخل عَلَيْك ولم تخرج [1] لم آمن البلاء، ولكن إذا دخل عليك فأذن له أن ينصرف، فإذا غدا عَلَيْك رأيت رأيك.
فلما دخل عليه سلم وقام قائما على قدميه بين يديه. فَقَالَ: انصرف يا عَبْد الرَّحْمَنِ فأرح نفسك، وادخل الحمام، فإن للسفر قشفا، ثُمَّ أغد علي. فانصرف، ثُمَّ ندم أَبُو جعفر، وافترى على أبي أيوب وَقَالَ: متى أقدر على هَذِهِ الحال ولا أدري مَا يحدث فِي ليلتي!.
فلما أصبحوا جاء أَبُو أيوب فَقَالَ لَهُ أَبُو جعفر: يا ابْن اللخناء، لا مرحبا بك، أنت منعتني منه أمس، والله مَا غمضت عيني الليلة. ثُمَّ شتمه حَتَّى خاف أن يأمر بقتله. ثُمَّ قَالَ: ادع لي عثمان بْن نهيك. فدعاه فَقَالَ: يا عثمان، كيف بلاء أمير المؤمنين عندك؟
فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنما أنا عبدك، والله لو أمرتني أن أتّكىء على سيفي حَتَّى يخرج من ظهري لفعلت. قَالَ: كيف أنت إن أمرتك بقتل/ أبي مسلم- فوجم ساعة لا 6/ ب يتكلم. فقال له أبو أيوب: مالك لا تتكلم؟ فَقَالَ بصوت ضعيف: أقتله. قَالَ: انطلق فجيء بأربعة من وجوه الحرس أقوياء، فمضى، فلما كَانَ عند الرواق ناداه: يا عثمان يا عثمان، ارجع واجلس وأرسل من تثق به من الحرس فليحضر منهم أربعة. فلما حضروا قَالَ لهم أَبُو جعفر نحوا مما قَالَ لعثمان، فقالوا: نقتله. قَالَ: كونوا خلف الرواق. فإذا صفقت فاخرجوا فاقتلوه [2] .
فأرسل إِلَى أبي مسلم رسلا بعضهم على أثر بعض، فقالوا: قَدْ ركب إلى عيسى بن موسى. فدعا له عيسى بالغداء، ثُمَّ خرج إِلَى أبي جعفر وأبو نصر حاجبه بين يديه وحربته معه، فلما قربا من الباب خرج سلام الحاجب فَقَالَ: انزل. فنزل فدخل الدهليز وأغلق الباب دونه، فَقَالَ أَبُو مُسْلم: يدخل خاصة أصحابي، فَقَالَ لَهُ الربيع: لم نؤمر بذلك. فنزع سيفه من وسطه وَقَالَ: الآن عرف الرامي موضع سهمه- وَهُوَ مثل يضرب لمن أمكن عدوه من نفسه- فلما بصر بالمنصور انحرف إِلَى القبلة، فخر ساجدا، ثُمَّ دنا ليقبل أطرافه، فَقَالَ لَهُ: وراءك يا ابْن اللخناء. فنصب لَهُ كرسي فقعد فَقَالَ لَهُ أَبُو
__________
[1] في الأصل: «ولم أخرج» وما أثبتناه من الأصل.
[2] انظر: تاريخ الطبري 7/ 488.(8/11)
جَعْفَر: أَخْبَرَنِي عَنْ نصلين أصبتهما فِي متاع عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ. فَقَالَ: هَذَا أحدهما الَّذِي علي. قَالَ: أرنيه. فانتضاه وناوله إياه، فهزه أَبُو جعفر ثُمَّ وضعه تحت فراشه وأقبل عليه يعاتبه. فَقَالَ لَهُ: اخترناك وأنت لا تدري أية بيضة انفقأت عَنْ رأسك، ولا من أي وكر نهضت، خامل ابْن خامل، فل ابْن فل، ذل ابْن ذل، عشت أيام حداثتك، وخير يوميك، يوم تشتري فيه لعاصم بن يونس إزار قدره. ومكشحة داره، فرقأنا بك المنابر، ووطئنا أعناق العرب والعجم عقبيك، أَخْبَرَنِي عَنْ كتابك إلى أبي العباس تنهاه عن 7/ أالموات، أردت أن تعلمنا الدين. قَالَ: ظننت أخذه/ لا يحل، فكتب إلي، فلما أتاني كتابه علمت أن أمير المؤمنين وأهل بيته معدن العلم. قَالَ: فأخبرني عَنْ تقدمك إياي فِي الطريق؟ قَالَ: كرهت اجتماعنا على الماء، فيضر ذلك بالناس، فتقدمت التماس الرفق. قَالَ: فقولك حين أتاك الخبر بموت أبي الْعَبَّاس لمن أشار عَلَيْك أن تنصرف إلي: نقدم فنرى رأينا، ومضيت، فلا أنت أقمت حَتَّى ألحقك ولا أنت رجعت إلي؟
قَالَ: منعني مَا أخبرتك من طلب الرفق بالناس، وقلت: نقدم الكوفة. قَالَ: فجارية عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ، أردت أن تتخذها؟ قَالَ: لا، ولكن خفت أن تضيع فحملتها فِي قبة ووكلت بها من يحفظها. قَالَ: فمراغمتك وخروجك إِلَى خراسان؟ قَالَ: خفت أن يكون قَدْ دخلك مني [شيء] [1] ، فقلت: آتي خراسان، فأكتب إليك بعذري، ولو رأينا ذهب مَا فِي نفسك علي؟ قَالَ: تاللَّه مَا رأيت كاليوم قط، والله ما زدتني إلا غضبا. قَالَ: ليس يقال لي هَذَا بعد بلائي، وما كَانَ مني؟ قَالَ: يا ابْن الخبيثة، والله لو كانت أمة مكانك لأجزأت، إنما عملت مَا عملت فِي دولتنا وبريحنا، ولو كان ذلك إليك ما قطعت فتيلا، ألست الكاتب إلي تبدأ بْنفسك!؟ ألست تخطب أمينة بْنت علي، وتزعم أنك ابْن سليط بْن عَبْد اللَّه بْن عباس، لقد ارتقيت- لا أم لك- مرتقى صعبا.
وأخذ يعتذر وأبو جعفر يعاتبه، إِلَى أن قَالَ أَبُو مسلم: دع هَذَا، فما أصبحت أخاف أحدا إلا اللَّه. فغضب وشتمه وضربه بعمود، وصفق بيديه، فخرجوا عليه، فضربه عثمان فلم يصنع شيئا، لم يزد على قطع حمائل سيفه، وضربه آخر فقطع رجله، فصاح المنصور: اضربوا قطع اللَّه أيديكم. فَقَالَ أَبُو مسلم فِي أول ضربة: استبقني لعدوك.
7/ ب فَقَالَ: وأي عدو أعدى إلي منك!؟ فصاح: العفو. / فقال المنصور: يا ابن اللخناء،
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، وأثبتناه من ت.(8/12)
العفو والسيوف قَدِ اعتورتك [1] ؟! ثُمَّ قَالَ: اذبحوه، فذبحوه، وجاء عيسى بْن موسى فَقَالَ: أين أَبُو مسلم؟ فَقَالَ: مدرج فِي الكساء. فَقَالَ: إنا للَّه، وجعل يلطم ويقول:
أحنثتني فِي أيماني، وأهلكتني. فَقَالَ لَهُ: علي لكل شيء تخرجه ضعفاه، ويحك اسكت، فما تم سلطانك ولا أمرك إلّا اليوم. ثُمَّ رمى به فِي دجلة. وذلك لخمس بقين من شعبان سنة سبع وثلاثين ومائة [2] .
وَقَالَ المنصور:
زعمت أن الَّذِي لا يقتضي ... فاستوف بالكيل أبا مجرم
سقيت كأسا كنت تسقي بها ... أمر فِي الحلق من العلقم
وَكَانَ أَبُو مسلم قَدْ قتل في دولته ستمائة ألف صبرا.
أَخْبَرَنَا أَبُو منصور القزاز قَالَ: أخبرنا أبو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: أخبرنا أبو الطيب الطبري قال: حَدَّثَنَا المعافى قَالَ: حَدَّثَنَا الصولي قَالَ: حَدَّثَنَا الغلابي قال:
حدّثنا يعقوب، عَنْ أبيه قَالَ [3] : خطب المنصور بالناس بعد قتل أبي مسلم فَقَالَ: أيها الناس، لا تنفروا أطراف النعم بقلة الشكر فتحل بكم النقم، ولا تسروا غش الأئمة، فإن أحدا لا يسر منكرا إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه، [وطوالع نظره] [4] وإنا لن نجهل حقوقكم مَا عرفتم حقنا، ولا ننسى الإحسان إليكم مَا ذكرتم فضلنا، ومن نازعنا هذا القميص [5] أوطأنا أمّ رأسه خبئ هَذَا الغمد، وإن أبا مسلم بايع لنا على أنه من نكث بيعتنا، أو أضمر غشا لنا فقد أبحنا دمه [6] ، ومكث وغدر وفجر، فحكمنا عليه لأنفسنا حكمه على غيره لنا.
قَالَ علماء السير: ثُمَّ إن أبا جعفر هم بقتل أبي إسحاق صاحب حرس أبي مسلم، وبقتل نصر بن مالك- وَكَانَ على شرط أبي مسلم [7]- فكلمه أبو الجهم وقال: يا أمير
__________
[1] في ت: «اعتررتك» وما أثبتناه من الأصل.
[2] تاريخ الطبري 7/ 491.
[3] الخبر في تاريخ بغداد 10/ 210.
[4] ما بين المعقوفتين: من تاريخ بغداد.
[5] في ت: «القصير» وما أثبتناه من الأصل.
[6] «فعدا بأجنادمه» هكذا بالأصل، وهي ساقطة من ت.
[7] «وكان على شرط أبي مسلم» ساقطة من ت وأثبتناه من ت.(8/13)
8/ أالمؤمنين، جنده جندك، أمرتهم بطاعته/ فأطاعوه. فدعا أبا إسحاق وقال: أنت المبايع لعدو الله أبي مسلم على مَا كَانَ يفعل. فجعل يلتفت يمينا وشمالا تخوفا من أبي مسلم.
فَقَالَ لَهُ المنصور: تكلم بما أردت، فقد قتل اللَّه الفاسق. وأمر بإخراجه إِلَيْهِ مقطعا، فخر أَبُو إسحاق ساجدا، فأطال السجود وَقَالَ: الحمد للَّه، والله [1] مَا أمنته يوما واحدا، وما جئته يوما إلا وقد أوصيت وتكفنت وتحنطت. فَقَالَ: استقبل طاعة خليفتك، وأحمد اللَّه الَّذِي أراحك من الفاسق، ثُمَّ دعا مالك بْن الهيثم فكلمه بمثل ذلك، فاعتذر إِلَيْهِ بأنه أمره بطاعته، ثُمَّ أمرهم بتفريق جند أبي مسلم.
وبعث إِلَى عدة من قواد أبي مسلم بجوائز سنية، وأعطى جميع جنوده حَتَّى رضوا [2] .
وَكَانَ أَبُو مسلم قَدْ خلف أصحابه بحلوان وقدم المدائن فِي ثلاثة آلاف، وخلف أبا نصر على ثقله وَقَالَ: أقم حَتَّى يأتيك كتابي، قَالَ: فاجعل بيني وبينك آية أعرف بها كتابك. قال: إن أتاك كتابي مختوما بْنصف خاتم فأنا كتبته، وإن أتاك بخاتم كله فلم أكتبه.
فلما قتل أَبُو مسلم كتب أَبُو جعفر إِلَى أبي نصر كتابا عَنْ لسان أبي مسلم يأمره بحمل ثقله وما خلف عنده، وأن يقدم. وختم الكتاب بخاتم أبي مسلم، فلما رأى أَبُو نصر نقش الخاتم تاما علم أن أبا مسلم لم يكتبه، فَقَالَ: أفعلتموها، وانحدر إلى همدان وهو يريد خراسان، فكتب أَبُو جعفر إِلَى أبي نصر بعهده على شهرزور، فلما مضى العهد جاءه الخبر أنه قد توجه إِلَى خراسان، فكتب أَبُو جعفر إِلَى عامله بهمدان: إن مر بك أَبُو نصر فاحبسه. فأخذه فحبسه، فقدم صاحب [الكتاب] [3] بالعهد لأبي نصر فخلى سبيله، ثُمَّ قدم كتاب آخر بعده بيومين يقول فِيهِ: إن كنت أخذت أبا نصر فاقتله.
فَقَالَ: جاءني كتاب عهده فخليت سبيله [4] .
وقدم أَبُو نصر على أبي جعفر فَقَالَ لَهُ: أشرت على أبي مسلم بالمضي إلى
__________
[1] في الأصل: «والّذي ما أمنته» وما أثبتناه من ت.
[2] انظر تاريخ الطبري 7/ 492- 493.
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وما أثبتناه من ت.
[4] انظر: تاريخ الطبري 7/ 494.(8/14)
خراسان فَقَالَ: نعم يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، كانت لَهُ عندي أياد وصنائع، فاستشارني/ 8/ ب فنصحته، وأنت يا أمير المؤمنين إن اصطنعتني نصحت لك [1] وشكرت. فعفا عنه [2] .
وفي رواية: أن المنصور كتب إِلَى عامل أصبهان: للَّه دمك إن فاتك- يعني أبا نصر فأخذه وأوثقه وبعثه إِلَيْهِ فصفح عنه [3] .
وقد كَانَ أَبُو الجهم بْن عطية أحد النقباء، وَكَانَ عينا لأبي مسلم على المنصور، فلما اتهمه المنصور طاوله يوما بالحديث حَتَّى عطش، فاستسقى ماء فدعي لَهُ بسويق لوز ممزوج بالسكر، وفيه سم، فشربه، فلما استقر فِي جوفه أحس بالموت، فوثب مسرعا فَقَالَ لَهُ: إِلَى أين؟ قَالَ: إِلَى حيث أرسلتني. فرجع إِلَى رحله فمات. فَقَالَ الشاعر:
تجنب سويق اللوز لا تقربْنه ... فشرب سويق اللوز أودى أبا الجهم
وذهبت «شربة أبي الجهم» مثلا للشيء الطيب الطعم الخبيث العاقبة.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد عَلِيّ بْن أَحْمَد بْن سعيد الحافظ: إن المنصور كَانَ يَقُول: ثلاث كن فِي صدري شفى اللَّه منها: كتاب أبي مسلم إلي وأنا خليفة: عافانا اللَّه وإياك من السوء، ودخول رسوله علينا وقوله: أيكم ابْن الحارثية؟ وضرب سليمان بْن حبيب ظهري بالسياط.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد: كَانَ سليمان قَدِ استعمل المنصور على بعض كور فارس قبل أن تصير الخلافة إِلَى بْني الْعَبَّاس، فاحتجز المال لنفسه، فضربه سليمان بالسياط ضربا شديدا وأغرمه المال، فلما ولي الخلافة ضرب عنقه.
وفي هذه السنة: خرج ملبد بْن حرملة الشيباني بناحية الجزيرة:
فسارت إليه روابط الجزيرة وهم ألف، فقاتلهم ملبد فهزمهم، وقتل من قتل منهم، ثُمَّ سارت إِلَيْهِ روابط الموصل فهزمهم، ثُمَّ سار إِلَيْهِ يزيد بْن حاتم المهلبي، فهزمه أيضا بعد قتال شديد، ثُمَّ وجّه إليه أبو جعفر مولاه المهلهل فِي ألفين من نخبة الجند، فهزمهم ملبّد
__________
[1] في الأصل: «نصحتك» وما أثبتناه من ت.
[2] انظر: تاريخ الطبري 7/ 494.
[3] انظر: تاريخ الطبري 7/ 494.(8/15)
واستباح عسكرهم، ثُمَّ وجه إِلَيْهِ بعد ذلك مرارا [1] ، فهزم الكل إِلَى أن [2] قدم حميد بن 9/ أقحطبة فهزمه/ أيضا، وتحصن منه حميد، وأعطاه مائة ألف درهم حَتَّى كف عنه [3] .
وزعم الواقدي أن ظهور ملبد كَانَ فِي سنة ثمان وثلاثين.
وفِي هذه السنة: حج بالناس إسماعيل بْن علي بن عَبْد اللَّهِ بن عباس، وكان على مكة العباس بن عبد الله بن معبد، وعلى المدينة زياد بْن عبيد اللَّه، ومات الْعَبَّاس عند انقضاء الموسم، فضم إسماعيل عمله إِلَى زياد، فأقره أَبُو جعفر [4] .
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْن أيوب قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيِّ بْنِ شَاذَانَ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو علي الطوماري قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن يحيى قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْر بْن بكار قَالَ: حَدَّثَنِي عمي مُصْعَب بْن عثمان قَالَ: دخل أَبُو حمزة الربعي من ولد ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب على زياد بْن عبيد اللَّه الحارثي وَهُوَ وال على المدينة فَقَالَ: أصلح اللَّه الأمير، بلغني أن أمير المؤمنين المنصور وجه إليك بمال يقسمه على القواعد والعميان والأيتام. قَالَ: [نعم] [5] قَدْ كَانَ ذلك، فتقول ماذا؟ قَالَ: اكتبْني فِي القواعد. قَالَ: أي رحمك اللَّه، إنما القواعد النساء الَّتِي قعدن عَنِ الأزواج! وأنت رجل! قَالَ: فاكتبْني فِي العميان. قَالَ: أما هَذِهِ فنعم، اكتبه يا غلام، فقد قَالَ اللَّه تعالى: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي في الصُّدُورِ 22: 46 [6] وأنا أشهد أن أبا حمزة أعمى. قَالَ: واكتب بْني فِي الأيتام. قَالَ: وذاك، اكتبهم يا غلام، فمن كَانَ أَبُو حمزة أباه فهو يتيم. قَالَ: فأخذ واللَّهِ فِي العميان، وأخذ بْنوه فِي الأيتام.
وَكَانَ على الكوفة عيسى بْن موسى. وعلى البصرة وأعمالها سليمان بن علي.
وعلى قضائها عمرو بْن عامر السلمي، وعلى خراسان أَبُو داود خالد بْن إِبْرَاهِيم. وعلى الجزيرة حميد بْن قحطبة. وعلى مصر صالح بن علي [7] .
__________
[1] في الطبري: «ذلك مرارا» .
[2] في الأصل: «وهو يهزم الكل» وما أثبتناه من ت.
[3] انظر: تاريخ الطبري 7/ 495- 496.
[4] انظر: تاريخ الطبري 7/ 496.
[5] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وأثبتناه من ت.
[6] سورة: الحج، الآية: 46.
[7] انظر: تاريخ الطبري 7/ 496.(8/16)
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
737- خير بْن نعيم بْن مرة بْن كريب، أَبُو نعيم الحضرمي [1] .
ولي القضاء والقصص فِي آخر خلافة بْني أمية وأول خلافة بْني الْعَبَّاس، وَكَانَ فقيها.
روى عَنْ/ عطاء بْن أبي رباح. وروى عنه: يزيد بْن أبي حبيب، وحيوة بن 9/ ب شريح، والليث، وابْن لهيعة.
قَالَ سهيل بْن عَلِيّ: كنت أجالس خير بْن نعيم، فرأيته يتجر فِي الزيت، فقلت لَهُ: وأنت أيضا تتجر [2] ؟ فضرب بيده على كتفي، ثُمَّ قَالَ: انتظر حَتَّى تجوع ببطن غيرك. فقلت فِي نفسي: كيف يجوع الإنسان ببطن غيره. فلما بليت بالعيال إذا أنا أجوع ببطونهم.
تُوُفِّيَ خير بْن نعيم في هذه السنة.
738- عَبْد الرَّحْمَنِ، أَبُو مسلم المروزي. صاحب الدولة العباسية [3] .
روى عَنْ أبي الزُّبَيْر، وثابت البناني، وغيرهما.
ولد بأصبهان، وكان أبوه أوصى به إلى عيسى بن موسى السراج، فحمل إلى الكوفة وهو ابن سبع سنين، فقال له إبراهيم بن مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ العباس لما عزم على توجيهه إلى خراسان أن غير اسمك. فَقَالَ: قَدْ سميت نفسي عَبْد الرَّحْمَنِ. ومضى وله ذؤابة، فركب حمارا بإكاف وَهُوَ ابْن سبع عشرة سنة فَقَالَ لَهُ:
خذ نفقة من مالي، لا أريد أن تمضي بْنفقة من مالك ولا من مال عيسى.
وَكَانَ شجاعا ذا رأي وعقل وحزم، إلا أنه كَانَ فاتكا.
أَخْبَرَنَا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْد اللَّهِ بْنُ أَبِي الْفَتْحِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَبِيبِيُّ قَالَ: أخبرنا محمد بن عبدك قال: أخبرنا
__________
[1] تقريب التهذيب 1/ 230.
[2] في الأصل، ت: «تتحد» .
[3] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 10/ 207- 211.(8/17)
مُصْعَبُ بْنُ بِشْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: قَامَ رَجْلٌ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ وَهُوَ يَخْطُبُ فقال له:
ما هذا السواد الَّذِي أَرَى عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ، وَهَذِهِ ثِيَابُ الهيبة وثياب الدولة، يا غلام، اضرب عنقه [1] .
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرني الأزهري قال: حدّثنا محمد بن جعفر النجار قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَد الجلوذي قَالَ: حدّثنا 10/ أمحمد بن زكويه قال: روي لنا أن أبا مسلم قَالَ: ارتديت الصبر/، وآثرت الكتمان، وحالفت الأحزان والأشجان، وسامحت المقادير والأحكام حَتَّى بلغت غاية همتي، وأدركت نهاية بغيتي، ثُمَّ أنشأ يَقُول:
قَدْ نلت بالحزم والكتمان مَا عجزت ... عنه ملوك بْني مروان إذ حشدوا
مَا زلت أضربهم بالسيف فانتبهوا ... من رقدة لم ينمها [2] قبلهم أحد
طفقت أسعى عليهم فِي ديارهم ... والقوم فِي ملكهم بالشام قَدْ رقدوا
ومن رعى غنما فِي أرض مسبعة ... ونام عنها تولى رعيها الأسد
[قَالَ علماء السير] [3] : ظهر أَبُو مسلم لخمس بقين من رَمَضَان سنة تسع وعشرين ومائة، ثُمَّ سار إلى أبي الْعَبَّاس أمير المؤمنين سنة ست وثلاثين وقيل [4] فِي سنة سبع وثلاثين بالمدائن. فبقي أَبُو مسلم فيما كَانَ فِيهِ ثمانية وسبعين شهرا غير ثلاثة عشر يوما.
وقد ذكرنا كيفية قتله فِي حوادث هَذِهِ السنة.
قَالَ مؤلف الكتاب: نقلت من خط أبي الوفا بْن عقيل قَالَ: وجدت فِي تعاليق محقق من أَهْل العلم: أن سبعة مات كل واحد منهم وله ست وَثَلاثُونَ سنة، فعجبت من قصر أعمارهم مع بلوغ كل منهم الغاية فيما كَانَ فِيهِ، وانتهى إِلَيْهِ، فمنهم: الإسكندر ذو القرنين، وأبو مسلم صاحب الدولة العباسية، وابْن المقفع صاحب الخطابة والفصاحة، وسيبويه صاحب التصانيف والمتقدم فِي علم العربية، وأبو تمام الطائي وما بلغ من الشعر
__________
[1] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 10/ 208.
[2] في الأصل: «لم ينلها» وما أثبتناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وأثبتناه من ت.
[4] في ت: «وقيل في سنة.....»(8/18)
وعلومه، وإبراهيم النظام المعمق فِي علم الكلام، وابن الريوندي وما انتهى إليه من التوغيل فِي المخازي. فهؤلاء السبعة لم يجاوز أحد منهم ستا وثلاثين سنة، بل اتفقوا على هَذَا القدر من العمر.
739- عثمان بْن عروة بْن الزُّبَيْر بْن العوام [1] .
سمع أباه، وروى عنه أخوه هشام، وابْن عيينة.
وَكَانَ قليل الحديث، وَكَانَ من وجوه قريش وساداتهم، وَكَانَ/ جميل الوجه، 10/ ب حسن الثوب والمركب، عطرا، حتى كان أبوه يَقُول لَهُ وَهُوَ يغلف لحيته بالغالية: إني لأراها ستقطر.
أَنْبَأَنَا الحسين بْن مُحَمَّد بْن عبد الوهاب قال: أخبرنا أبو جعفر بن المسلمة قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَبُو طاهر المخلص قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن سليمان بْن داود والطوسي قَالَ: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني مصعب بْن عثمان قَالَ: وفد عثمان بْن عروة على مروان بْن مُحَمَّد فأخبر به، فَقَالَ: أنا راكب غدا، فلا ترونيه حَتَّى أتوسمه فِي الناس، فركب، فتصفح وجوه الناس، ثُمَّ أقبل على بعض من معه فَقَالَ: ينبغي أن يكون ها ذاك عثمان بْن عروة، وأشار إِلَيْهِ. فقالوا: هو هو يا أمير المؤمنين. وَكَانَ وسيما جسيما فأعطاه مروان مائة ألف درهم، ثُمَّ قدم من عند مروان فأغلي كراء الحمر من كثرة من تلقاه.
فقلت لَهُ: ولم ذاك؟ فَقَالَ: يرجون والله جوائزه.
740- واهب بْن عَبْد اللَّه، أَبُو عَبْد اللَّه المعافري الكعبي [2] .
يروي عَنْ: ابْن عُمَر، وابْن عَمْرو، وعقبة بْن عامر.
روى عنه: ابْن لهيعة وغيره.
تُوُفِّيَ في هذه السنة ببرقة، وكان قد عمّر.
__________
[1] انظر: تقريب التهذيب 2/ 12.
[2] تقريب التهذيب 2/ 329.(8/19)
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين ومائة
فمن الحوادث فِيهَا:
دخول قسطنطين طاغية الروم ملطية عنوة، وقهره لأهلها، وهدمه سورها، إلا أنه عفا عمن فِيهَا من المقاتلة والذرية [1] .
وَفِيهَا: غزا الْعَبَّاس بْن مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاس الصائفة مَعَ صالح بْن عَلِيّ، فوصله صالح بأربعين ألف دينار، وخرج معهم عيسى بْن عَلِيّ، فوصله أيضا بأربعين ألف دينار، وبْنى صالح مَا كَانَ صاحب الروم هدمه من ملطية.
وقد قيل: إن خروج صالح والعباس إِلَى ملطية للغزو كَانَ فِي سنة تسع وثلاثين ومائة [2] .
وَفِيهَا: بايع عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ لأبي جعفر وَهُوَ/ مقيم بالبصرة مَعَ أخيه سليمان بْن علي.
وفيها: خلع جمهور بْن مرار العجلي المنصور:
وَكَانَ السبب أن جهور هزم سنباذ، وحوى مَا فِي عسكره، وكان فيه خزائن أبي مسلم التي خلفها بالري، فلم يوجهها إِلَى أبي جعفر، فخاف فخلعه، فوجه إِلَيْهِ أَبُو جعفر مُحَمَّد بْن الأشعث الخزاعي فِي جيش عظيم، فلقيه مُحَمَّد فاقتتلوا قتالا شديدا، وهرب جهور، فلحق بأذربيجان، ثم أخذ بعد ذلك وقتل [3] .
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 7/ 497.
[2] انظر: تاريخ الطبري 7/ 497.
[3] انظر: تاريخ الطبري 7/ 497.(8/20)
وَفِيهَا: قتل الملبد الخارجي:
وقد ذكرنا شأنه فِي السنة الَّتِي قبلها، وما جرى لَهُ إِلَى أن تحصن منه حميد. ثُمَّ وجه أَبُو جعفر إِلَيْهِ عَبْد العزيز بْن عَبْد الرَّحْمَنِ أخا عَبْد الجبار، وضم إِلَيْهِ زياد بْن مشكان، فأكمن لَهُ الملبد مائة فارس، فلما لقيه عَبْد العزيز خرج عليه الكمين فهزموه وقتلوا عامة أصحابه، فوجه إِلَيْهِ أَبُو جعفر خازم بْن خزيمة فِي نحو من ثمانية آلاف، فالتقوا فتسايروا من منزل إِلَى منزل، فقتل الملبد فِي أكثر من ألف من أصحابه، وهرب الباقون فتبعوهم فقتلوا منهم مائة وخمسين [1] .
وفى هذه السنة: حج بالناس الفضل بْن صالح بْن عَلِيّ بْن عَبْد اللَّه بْن عباس.
وذكر أنه خرج من الشام حاجا، فأدركته ولايته على الموسم والحج بالناس فِي الطريق، فمر بالمدينة، فأحرم منها [2] .
وَكَانَ زياد بْن عبيد اللَّه على مكة والمدينة والطائف.
وعلى الكوفة وسوادها عيسى بْن موسى.
وعلى البصرة وأعمالها سليمان بْن عَلِيّ. وعلى قضائها سوار بْن عَبْد اللَّه.
وعلى خراسان أَبُو داود خالد بْن إِبْرَاهِيم.
وعلى مصر صالح بْن عَلِيّ [3] .
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
741- سليمان بْن أبي سليمان- وَهُوَ ابْن فيروز- أَبُو إسحاق الشيباني [4] .
سمع ابْن أبي أوفى، والشعبي [5] ، وعكرمة.
روى عنه: سليمان التيمي، والدوري، وشعبة/.
[تُوُفِّيَ في هذه السنة] [6] .
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 7/ 498.
[2] انظر: تاريخ الطبري 7/ 499.
[3] انظر: تاريخ الطبري 7/ 499.
[4] انظر ترجمته في: التاريخ الكبير 4/ 16، والجرح والتعديل 4/ 135. وتهذيب التهذيب 4/ 197.
[5] في الأصل: «الشمي» وما أثبتناه من ت.
[6] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وما أثبتناه من ت.(8/21)
ثُمَّ دخلت سنة تسع وثلاثين ومائة
فمن الحوادث فِيهَا:
إقامة صالح بْن عَلِيّ والعباس بْن مُحَمَّد بملطية حَتَّى استتما بْناء ملطية، ثُمَّ غزوا الصائفة، فوغلا فِي أرض الروم [1] .
وفي هذه السنة: كَانَ الفداء الَّذِي جرى بين المنصور وصاحب الروم، واستنقذ المنصور منهم أسرى المسلمين [2] .
وَفِيهَا: سار عَبْد الرَّحْمَنِ بْن معاوية بْن هشام بْن عَبْد الملك بْن مروان إِلَى الأندلس، فملكه أهلها أمرهم، فولده ولاتها [3] .
وَفِيهَا: وسع أَبُو جعفر المسجد الحرام [4] .
وَفِيهَا: عزل سليمان بْن عَلِيّ عَنْ ولاية البصرة وأعمالها، وولي مَا كَانَ إِلَيْهِ سفيان بْن معاوية وذلك فِي رَمَضَان.
وقيل: إنما كَانَ عزل ذلك وتولية هَذَا فِي سنة أربعين، ولما عزل سليمان توارى عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ وأصحابه خوفا على أنفسهم.
فإنا قد ذكرنا أن عَبْد اللَّه لما انهزم مضى إِلَى سليمان، فكان عنده، وكتب أبو
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 7/ 500.
[2] انظر: تاريخ الطبري 7/ 500.
[3] انظر: تاريخ الطبري 7/ 500.
[4] انظر: تاريخ الطبري 7/ 500.(8/22)
جعفر إِلَى سليمان وعيسى بْن عَلِيّ فِي إشخاص عَبْد اللَّه وأعطاهما الأمان مَا رضيا به، فلما خرجا به أتى به وبأصحابه إلى أبا جعفر يوم الخميس لاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً بَقِيتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ.
ولما دخل سليمان وعيسى على أبي جعفر أعلماه حضور عَبْد اللَّه، وسألاه الإذن لَهُ، فأنعم لهما بذلك، وشغلهما بالحديث، وقد كَانَ هيأ لعَبْد اللَّه محبسا فِي قصره، وأمر به أن يصرف إِلَيْهِ بعد دخول سليمان وعيسى عليه، ففعل ذلك به، ثُمَّ قَالَ لسليمان وعيسى: سارعا بعبد الله. فخرجا، فلم يرياه في المكان الذي خلفاه فيه، فعلما أنه قَدْ حبس، فرجعا إِلَى أبي جعفر، فحيل بينهما وبينه. وقتل جماعة من أصحاب عَبْد اللَّه وحبسوا [1] .
وفي هذه السنة: حج بالناس الْعَبَّاس بْن مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ/ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ 12/ أعباس [2] .
وَكَانَ على مكة والمدينة والطائف زياد بْن عبيد اللَّه الطائي.
وعلى الكوفة وأرضها عيسى بْن موسى.
وعلى البصرة وأعمالها سفيان بْن معاوية المهلبي، وعلى قضائها سوار بْن عَبْد اللَّه.
وعلى خراسان أَبُو داود خالد بْن إِبْرَاهِيم [3] .
وسميت هَذِهِ السنة بسنة الخصب، لاتصال الخصب فِيهَا.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
742- جميل بْن كريب المعافري.
من أَهْل إفريقية. حدث عَنْ أبي عَبْد الرحمن الجيلي، وكان من أهل العلم
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 7/ 500- 502.
[2] انظر: تاريخ الطبري 7/ 502.
[3] انظر: تاريخ الطبري 8/ 502.(8/23)
والدين. وسأله الأمير عَبْد الرَّحْمَنِ بْن حبيب الفهري تولية القضاء فامتنع، وتمارض وشرب ماء التبْن حَتَّى اصفر لونه، فبعث [إِلَيْهِ] [1] عَبْد الرَّحْمَنِ فَقَالَ لَهُ: إنما أردت أن تكون عونا على الأمر، وأقلدك أمر المسلمين فتحكم علي وعلى من دوني بما تراه من الحق، فاتق اللَّه فِي الناس. فَقَالَ لَهُ جميل: آللَّه إنك لتفعل؟ فقال: آللَّه، فقبل، فما مر إلا أيام حَتَّى أتاه رجل يدعي على عَبْد الرَّحْمَنِ بْن حبيب دعوى، فمضى معه إِلَى باب دار الإمارة، فَقَالَ للحاجب: أعلم الأمير بمكاني، وأن هَذَا يدعي عليه بدعوى. فدخل فأعلمه. وَكَانَ عَبْد الرَّحْمَنِ من أغنى من ولي أفريقية، فلبس رداء ونعلين وخرج إِلَيْهِ، فأقعده جميل مقعد الخصم مَعَ صاحبه، ثُمَّ نظر بينهما، فأنصفه عَبْد الرَّحْمَنِ.
وَكَانَ جميل يركب حمارا ورسنه ليف، فمر يوما فعرض لَهُ خصمان [2] فِي موضع، فنزل عَنْ حماره، وقعد فأراد أحدهما أن يمسك رأس الحمار، فمنعه وأمسكه هو، ثُمَّ ركب.
وَكَانَ البربر قَدْ رحلوا إِلَى القيروان، فخرج إليهم الناس ومعهم ابْن كريب، فاقتتلوا فقتل ابْن كريب في هذه السنة.
743- خالد بْن يزيد، مولى عمير [3] بْن وهب الجهني، يكنى أبا عَبْد الرحيم [4] .
كَانَ فقيها مفتيا، وآخر من حدث عنه بمصر المفضل بْن فضالة.
تُوُفِّيَ في هذه السنة.
12/ ب
744- داود/ بْن أبي هند، أَبُو بكر- واسم أبي هند: دينار- مولى لآل الأعلم القشريين [5] .
ولد بسرخس، وروى عَنْ أنس، وسعيد بْن المسيب، وأبي عثمان النهدي، وأبي العالية، والحسن. وكان يفتي في زمن الحسن.
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، وأثبتناه من ت.
[2] في ت: «له خصما» وما أثبتناه من الأصل.
[3] «خالد» ساقطة من ت، وفي الأصول: «مولى عمرو بن وهب» والتصحيح من كتب الرجال، وترجمته في: تقريب التهذيب 1/ 220، والجرح والتعديل 3/ 1919.
[4] انظر ترجمته في: الجرح والتعديل 3/ 358، والتاريخ الكبير 3/ 180. والتهذيب 2/ 129.
[5] «القشريين» ساقطة من ت. انظر ترجمته في: الجرح والتعديل 3/ 411 والتاريخ الكبير 3/ 231، وطبقات ابن سعد 7/ 255.(8/24)
أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِيُّ قَالَ: أَنْبَأَنَا الجوهري قال: أخبرنا ابن حيوية قال:
أخبرنا ابْن معروف قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن الفهم قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْن عَبْد اللَّه قَالَ: حَدَّثَنَا سفيان قَالَ: سمعت داود بْن أبي هند يَقُول: أصابْني- يعني الطاعون- فأغمي عليّ، وكأن اثنان أتياني، فغمز أحدهما عكوة لساني، وغمز الآخر أخمص قدمي، فَقَالَ: أي شيء تجد؟ فَقَالَ: تسبيحا وتكبيرا، وشيئا من خطو إِلَى المساجد وشيئا من قراءة القرآن. قَالَ: ولم أكن أخذت القرآن حينئذ، فعوفيت وأقبلت على القرآن فتعلمته.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ أَحْمَدَ قال: أخبرنا حمد بن أحمد الحداد قال:
أخبرنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ قَالَ: حَدَّثَنَا عبد الله بن محمد قال: حدثني الفضل بْن جعفر عَنْ عَمْرو بْن عَلِيّ قَالَ: سمعت ابْن أبي عدي يَقُول: صام داود أربعين سنة لا يعلم به أهله. كَانَ خزازا يحمل معه غداءه من عندهم فيتصدق به فِي الطريق ويرجع عشيا فيفطر معهم.
تُوُفِّيَ داود في هذه السنة.
745- يونس بْن عبيد، أَبُو عَبْد اللَّه، مولى لعبد القيس [1] .
أسند عَنْ أنس، والحسن، وابْن سيرين، وعطاء، وعكرمة.
وَكَانَ عالما ثقة زاهدا.
أَخْبَرَنَا ابن ناصر قال: أَخْبَرَنَا حَمَدُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم الأصفهاني قال: حدثنا عُمَر بْن أَحْمَد بْن عَمْرو قَالَ: حَدَّثَنَا رستة قَالَ: سمعت زهيرا يَقُول: كَانَ يونس بْن عُبَيْد خزازًا، فجاء رجل يطلب ثوبا، فَقَالَ لغلامه: انشر الرزمة. وضرب بيده على الرزمة وَقَالَ: صلى اللَّه على مُحَمَّد. فَقَالَ: ارفعه. وأبى أن يبيعه مخافة أن يكون [قَدْ] [2] مدحه.
قَالَ أَبُو نعيم: وحدثنا عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بن المثنى قال: حدّثنا
__________
[1] انظر ترجمته في: الجرح والتعديل 9/ 242، وطبقات ابن سعد 7/ 260، والتاريخ الكبير 8/ 402. والتهذيب 11/ 442.
[2] ما بين المعقوفتين. ساقط من الأصل.(8/25)
هدبة بْن خالد [قَالَ] : حَدَّثَنَا أمية بْن بسطام قَالَ: كَانَ يونس بْن عبيد يشتري الأبريسم/ 13/ أمن البصرة فيبعث به إِلَى وكيله بالسوس، وَكَانَ وكيله كتب إِلَيْهِ أن المتاع عندهم زائد.
قَالَ أَبُو نعيم: وحدثنا أَبُو مُحَمَّد بْن حباب [قَالَ] : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن معدان [قَالَ] : حَدَّثَنَا ابْن وارة [قَالَ] : حَدَّثَنَا الأصمعي [قَالَ] : حَدَّثَنَا مؤمل بْن إسماعيل قَالَ:
جاء رجل من أَهْل الشام إِلَى سوق الخزازين، فقال: أريد مطرفا بأربعمائة [1] . قَالَ يونس بْن عبيد عندنا بمائتي [درهم] ، فنادى مناد بالصلاة [2] . فانطلق يونس إِلَى بْني بشير ليصلي بهم، فجاء وقد باع ابْن أخيه المطرف من الشامي بأربعمائة، وَقَالَ يونس: مَا هَذِهِ الدراهم؟ قَالَ: ذاك المطرف بعناه من هَذَا الرجل. قَالَ يونس: يا عَبْد اللَّه، هَذَا الَّذِي عرضت عَلَيْك بمائتي درهم، فإن شئت فخذه وخذ مائتين، وإن شئت فدعه.
قَالَ: من أنت؟ قَالَ: رجل من المسلمين. قَالَ: بل أسألك باللَّه من أنت؟ وما اسمك؟
قَالَ: يونس بْن عبيد. قال: فو الله إنا لنكون فِي نحر العدو، فإذا اشتد الأمر علينا قلنا اللَّهمّ رب يونس بْن عبيد فرج عنا. أو شبيه هَذَا. فَقَالَ يونس: سبحان اللَّه سبحان اللَّه.
تُوُفِّيَ يونس في هذه السنة. وقيل: فِي سنة أربع وثلاثين ومائة.
__________
[1] في ت: «فقال مطرف: خز بأربعمائة» وما أثبتناه من ت.
[2] في الأصل: «منادي الصلاة» وما أثبتناه من ت.(8/26)
ثم دخلت سنة أربعين ومائة
فمن الحوادث فِيهَا:
أن ناسا من الجند وثبوا على أبي داود بْن إِبْرَاهِيم عامل خراسان، فأشرف عليهم من حائط المنزل الَّذِي هو فِيهِ، فوقع فانكسر ظهره فمات، فولى أَبُو جعفر عَبْد الْجَبَّارِ بْن عَبْد الرَّحْمَنِ خراسان، فقدمها فأخذ بها ناسا من القواعد ذكر أنه [1] اتهمهم بالدعاء إِلَى ولد عَلِيّ بْن أبي طالب فقتلهم [2] .
وفي هذه السنة: خرج أَبُو جعفر المنصور حاجا، فأحرم من الحيرة، ثم رجع بعد ما قضى الحج [3] إِلَى المدينة، فتوجه منها إِلَى بيت المقدس، فصلى فِي مسجدها، ثُمَّ سلك إلى الشام منصرفا حتى انتهى إِلَى/ الرقة فنزلها، وكتب إِلَى صالح بن علي 13/ ب يأمره ببناء المصيصة، ثم خرج منها إلى ناحية الكوفة، فنزل المدينة الهاشمية بالكوفة، ثُمَّ انتقل عنها، فاختط مدينة السلام [4] .
أَنْبَأَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَارِعُ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو جعفر بْن المسلمة قال: أخبرنا المخلص قال: أخبرنا أحمد بن سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ بكار قَالَ: حَدَّثَنِي يحيى بْن مُحَمَّد قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو منصور عَبْد الرَّحْمَنِ بْن صالح بْن دينار قَالَ: حج أَبُو جعفر المنصور فأعطى أشراف القرشيين ألف دينار لكل واحد منهم، فلم يترك أحدا من
__________
[1] في الأصل: «أنهم» وما أثبتناه من ت.
[2] انظر: تاريخ الطبري 7/ 503.
[3] في ت: «قضى الحجة» وما أثبتناه من الأصل.
[4] انظر: تاريخ الطبري 7/ 503- 504.(8/27)
أهل المدينة إلا أعطاه، إلا أنه لم يبلغ واحد مَا بلغ بالأشراف، فكان ممن أعطاه الألف دينار سليم بْن عروة، ويعطي قواعد قريش صحاف الذهب والفضة وكساهن، وأعطى بالمدينة عطايا لم يعطها أحد.
وَكَانَ عمال الأمصار في هذه السنة عمالها فِي السنة الَّتِي قبلها إلا خراسان، فإن عاملها كَانَ عَبْد الْجَبَّارِ.
وحج المنصور بالناس [1] .
وَمَا عرفنا أحدا من الأكابر تُوُفِّيَ فِي هذه السنة
__________
[1] في ت: «وحج بالناس المنصور» .
انظر تاريخ بغداد 7/ 504.(8/28)
ثم دخلت سنة إحدى وأربعين ومائة
فمن الحوادث فِيهَا:
قدوم المنصور من الحج إِلَى المدينة، ثُمَّ إِلَى بيت المقدس، فصلى فِيهِ، ثُمَّ انحدر إِلَى الرقة، وقتل بها منصور بْن جعونة، لأن المنصور قَالَ: احمدوا اللَّه يا أَهْل الشام، فقد رفع عنكم بولايتنا الطاعون. فَقَالَ منصور: اللَّه أكرم من أن يجمعك علينا والطاعون.
ثُمَّ انحدر من الشام إِلَى شط الفرات حَتَّى نزل الهاشمية بالكوفة.
وَفِيهَا: كَانَ خروج الراوندية [1] :
وهم قوم من أَهْل خراسان كانوا على رأي أبي مسلم، إلا أنهم يقولون بتناسخ الأرواح، ويدعون أن روح آدم عليه السلام فِي عثمان بْن نهيك، وأن ربهم الَّذِي يطعمهم ويسقيهم هو أبو جعفر المنصور، وأن الهيثم بْن معاوية جبرائيل.
14/ أوهؤلاء طائفة من/ الباطنية يسمون السبعية [2] يقولون: الأرضون [3] سبع، والسموات سبع، والأسبوع سبعة، يدل [4] على أن دور الأئمة يتم بسبعة. فعدوا:
الْعَبَّاس، ثم ابنه عبد الله، ثم ابنه علي، ثُمَّ مُحَمَّد بْن عَلِيّ، ثُمَّ إِبْرَاهِيم، ثم السفاح،
__________
[1] في ت: «الروندية» .
[2] في الأصل: «الشيعية» وفي ت: «السبعة» .
[3] في ت: «الأرض» .
[4] في الأصل: «قدل» .(8/29)
ثُمَّ المنصور، فقالوا: هو السابع. وكانوا يطوفون حول قصر المنصور ويقولون: هَذَا قصر ربْنا.
فأرسل المنصور فحبس منهم مائتين- وكانوا ستمائة- فغضب أصحابهم الباقون ودخلوا السجن، فأخرجوهم وقصدوا نحو المنصور، فتنادى الناس، وغلقت أبواب المدينة، وخرج المنصور ماشيا ولم يكن عنده دابة، فمن ذلك الوقت ارتبط فرسا، فسمى: فرس النوبة، يكون معه فِي قصره- فأتي بدابة فركبها، وجاء معن بْن زائدة فرمى بْنفسه وقال: أنشدك الله يا أمير المؤمنين إلا رجعت، فإني أخاف عَلَيْك. فلم يقبل وخرج، فاجتمع إِلَيْهِ الناس، وجاء عثمان بْن نهيك فكلمهم، فرموه بْنشابة وكانت سبب هلاكه، ثُمَّ حمل الناس عليهم فقتلوهم، وَكَانَ ذلك فِي المدينة الهاشمية بالكوفة فِي سنة إحدى وأربعين [1] .
وقد زعم بعضهم أن ذلك كَانَ فِي سنة ست وأربعين أو سبع وأربعين ومائة.
وفي هذه السنة: وجه أَبُو جعفر المنصور ابْنه محمدا- وَهُوَ ولي عهده يومئذ- إِلَى خراسان في الجنود، وأمره بْنزول الري، ففعل [2] .
وَفِيهَا: خلع عَبْد الجبار بْن عَبْد الرَّحْمَنِ عامل أبي جعفر على خراسان:
وسبب ذلك: أن المنصور بلغه عَنْ عَبْد الجبار أنه يقتل رؤساء أَهْل خراسان، وأتاه من بعضهم كتاب فِيهِ: قَدْ نغل الأديم، فَقَالَ لأبي أيوب: إن عَبْد الجبار قَدْ أفنى شيعتنا، وما فعل هذا إلا وَهُوَ يريد أن يخلع. فَقَالَ: اكتب إليه: إنك تريد غزو الروم، 14/ ب فيوجّه إليك الجنود من خراسان، فإذا خرجوا منها فابعث إِلَيْهِ من شئت، فليس به/ امتناع. فكتب بذلك [إِلَيْهِ] [3] ، فأجابه: أن الترك قَدْ جاشت، وإن فرقت الجنود ذهبت خراسان. فَقَالَ لأبي أيوب: مَا ترى؟ فَقَالَ: اكتب إليه: أن خراسان أهم إلي من غيرها، وأنا موجه إليك من قبلي. ثُمَّ وجه إِلَيْهِ الجنود ليكونوا بخراسان، فإن هم بخلع أخذوا بعنقه.
فلما ورد على عَبْد الجبار الكتاب كتب إِلَيْهِ: إن خراسان لم تكن قط أسوأ حالا
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 7/ 505- 508.
[2] انظر تاريخ الطبري 7/ 508.
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وأثبتناه من ت.(8/30)
منها فِي هَذَا العام، وإن دخلها الجنود هلكوا لضيق مَا هم فِيهِ من غلاء السعر، فلما أتاه الكتاب ألقاه إِلَى أبي أيوب فَقَالَ لَهُ: [قَدْ] [1] أبدى صفحته وقد خلع فلا تناظره.
فشخص المهدي، فلما بلغ ذلك أهل مروالرّوذ ساروا إِلَى عَبْد الجبار فناصبوه الحرب فهزم، فتبعه أحدهم فأخذه أسيرا وحمل إِلَى المنصور فِي مدرعة صوف على بعير، ووجهه من قبل عجزه، ومعه ولده وأصحابه، فبسط عليهم العذاب حَتَّى استخرج منهم الأموال، وأمر المسيب بقطع يدي عَبْد الجبار ورجليه، وضرب عنقه ففعل [2] .
وَقَالَ الواقدي: كَانَ هَذَا سنة اثنتين وأربعين.
وَفِيهَا: فتحت طبرستان:
وذلك أنه لما وجه المنصور المهدي إِلَى الري لقتال عَبْد الجبار، فكفى أمره، كره المنصور أن يضيع النفقات الَّتِي أنفقت على المهدي، فكتب إِلَيْهِ أن يغزو طبرستان، فذهب فطالت الحروب، فوجه أَبُو جعفر عُمَر بْن العلاء الَّذِي يَقُول فِيهِ بشار:
فقل للخليفة إن جئته ... نصيحا ولا خير فِي المتهم
إذا أيقظتك حروب العدا ... فنبه لها عمرا ثُمَّ نم
فتى ينام على دمنة ... ولا يشرب الماء إلا بدم [3]
وفي هذه السنة: فرغ من بْناء المصيصة على يدي جبرئيل بْن يحيى الخراساني، ورابط محمد بن إِبْرَاهِيم الإمام بملطية [4] .
وَفِيهَا: / عزل زياد بْن عبيد عَنِ المدينة ومكة والطائف، واستعمل على المدينة 15/ أمحمد بْن خالد فقدمها فِي رجب، وعلى مكة والطائف الهيثم بْن معاوية العتكي [5] .
وفي هذه السنة: حج بالناس صالح بْن عَلِيّ بْن عَبْد اللَّه بْن عباس، وَهُوَ على قنسرين وحمص ودمشق، وعلى المدينة: مُحَمَّد بْن خالد بن عبد الله القسري، وعلى
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وما أثبتناه من ت.
[2] انظر: تاريخ الطبري 7/ 508- 509.
[3] انظر: تاريخ الطبري 7/ 510.
[4] انظر: تاريخ الطبري 7/ 509.
[5] في الأصل، ت: «العكي» وكذلك في إحدى نسخ الطبري وما أثبتناه من تاريخ الطبري.(8/31)
مكة والطائف: الهيثم بن معاوية. وعلى الكوفة وأرضها عيسى بْن موسى، وعلى خراسان المهدي، وخليفته بها أسد بْن عَبْد اللَّه، وعلى مصر نوفل بْن الفرات.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
746- خالد بْن مهران، أَبُو المنازل الحذاء، مولى لقريش لآل عَبْد اللَّه بْن عامر بْن كرز [1] .
سمع الحسن، وابْن سيرين، وأبا قلابة. وَكَانَ ثقة، ولم يكن حذاء وفي تلقيبه بالحذاء ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه كَانَ يجلس إِلَى حذاء، فلقب بذلك، قاله يزيد بْن هارون.
والثاني: أنه تزوج امرأة فنزل عَلَيْهَا فِي الحذائين. ذكره الخطابي.
والثالث: أنه كَانَ إذا تكلم يَقُول: احذوا على هَذَا النحو، فلقب بالحذاء. قاله فهد بْن [2] حبان القيسي.
تُوُفِّيَ في هذه السنة. وقيل: فِي سنة اثنتين وأربعين.
747- سلمة بْن دينار، أَبُو حازم، مولى بْني أشجع [3] .
كَانَ أعرج زاهدا عابدا، يقص بعد الفجر وبعد العصر فِي مسجد المدينة.
وَكَانَ ثقة كثير الحديث. أسند عَنْ ابْن عُمَر، وسهل بْن سعد، وأنس بْن مالك.
قالت لَهُ امرأته: هَذَا الشتاء قَدْ هجم علينا ولا بد لنا مما يصلحنا فِيهِ، فذكرت الثياب، والطعام، والحطب، فَقَالَ: من أين هَذَا كله؟ ولكن خذي فيما لا بد منه:
الموت، والبعث، ثُمَّ الوقوف بين يدي اللَّه، ثُمَّ الجنة والنار.
كَانَ يَقُول: مَا مضى من الدنيا فحلم، وما بقي فأمانيّ.
__________
[1] تقريب التهذيب 1/ 219، وطبقات ابن سعد 7/ 2/ 23، والجرح والتعديل 3/ 1593، وتذكرة الحفاظ 1/ 149، وتاريخ الإسلام 6/ 60.
[2] في ت: «فهر» .
[3] تقريب التهذيب 1/ 316، وطبقات ابن سعد الورقة 220 خط، والجرح والتعديل 4/ 701، وحلية الأولياء 3/ 229، وتاريخ الإسلام 5/ 257، وتذكرة الحفاظ 1/ 133.(8/32)
أَخْبَرَنَا عَبْد الملك الكروخي قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو عبد/ الله بن محمد بن على بن عمير 15/ ب قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّد بْنُ مُحَمَّدِ القاضي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سعيد مُحَمَّد بْن حميد المرواني قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن المنذر قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن يوسف قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن أبي الحواري قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إسحاق الموصلي قَالَ: قَالَ أَبُو حازم: إن بضاعة الآخرة كاسدة، فاستكثروا منها فِي أوان كسادها، فإنه لو قَدْ جاء يوم نفاقها لم نصل منها إلى قليل ولا كثير.
أَخْبَرَنَا عَبْد الخالق بْن أَحْمَد قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن مُحَمَّد بْن إسحاق قَالَ: أخبرنا عبد الرحمن بن أَحْمَد الراوي قَالَ: أَخْبَرَنَا جعفر بْن عبيد اللَّه بْن يعقوب قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن هارون الروياني قَالَ: حَدَّثَنَا يحيى بْن المغيرة قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد الجبار بْن عَبْد العزيز بْن أبي حازم قَالَ: حَدَّثَنِي أبي قَالَ: بعث سليمان بْن عَبْد الملك إِلَى أبي حازم فجاءه فَقَالَ: يا أبا حازم، مَا لنا نكره الموت؟ قَالَ: لأنكم أخربتم أخراكم، وعمرتم دنياكم، فأنتم تكرهون أن تنتقلوا من العمران إِلَى الخراب. قَالَ: صدقت، فكيف القدوم على اللَّه عز وجل؟ قَالَ: أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه. فبكى سليمان وَقَالَ: ليت شعري ما لنا عند اللَّه يا أبا حازم؟ فَقَالَ:
اعرض نفسك على كتاب الله، فإنك تعلم ما لك عند اللَّه. قَالَ: يا أبا حازم، وأين أصيب ذلك؟ قَالَ: عند قوله: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ 82: 13- 14 [1] . فَقَالَ سليمان: فأين رحمة اللَّه؟ قَالَ: قَرِيبٌ من الْمُحْسِنِينَ 7: 56 [2] قَالَ: مَا تقول فيما نحن فِيهِ؟
قَالَ: اعفني من هَذَا. قَالَ سليمان: نصيحة تلقيها. قَالَ أَبُو حازم: إن ناسا أخذوا هَذَا الأمر عنوة من غير مشاورة من المسلمين ولا اجتماع من رأيهم، فسفكوا فيه الدماء على طلب الدنيا، ثُمَّ ارتحلوا عنها، فليت شعري مَا قالوا وما قيل لهم. فَقَالَ بعض جلسائه:
بئس مَا قلت يا شيخ. فَقَالَ أَبُو حازم: كذبت، إن اللَّه تعالى أخذ على العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه. فَقَالَ سليمان: اصحبْنا يا أبا حازم تصب منا ونصب منك. قَالَ:
أعوذ باللَّه من ذلك. قَالَ: ولم؟ قَالَ: أخاف/ أن أركن إليكم شيئا قليلا فيذيقني الله 16/ أضعف الحياة وضعف الممات. قَالَ: فأشر علي. قَالَ: اتق اللَّه أن يراك حيث نهاك، وأن يفقدك حيث أمرك. فَقَالَ: يا أبا حازم، ادع لنا بخير. فَقَالَ: اللَّهمّ إن كَانَ سليمان وليك فيسره للخير، وإن كَانَ عدوك فخذ إِلَى الخير بْناصيته. فَقَالَ: يا غلام، هات مائة
__________
[1] سورة: الانفطار، الآية: 14.
[2] سورة الأعراف، الآية: 56.(8/33)
دينار. ثُمَّ قَالَ: خذها يا أبا حازم. قَالَ: لا حاجة لي فِيهَا، إني أخاف أن يكون لما سمعت من كلامي.
وَكَانَ سليمان أعجب بأبي حازم فَقَالَ الزهري: إنه لجاري منذ ثلاثين سنة مَا كلمته قط. فَقَالَ أَبُو حازم: إنك نسيت اللَّه فنسيتني، ولو أحببت اللَّه لأحببتني. قَالَ الزهري: أتشتمني؟ قَالَ سليمان: بل أنت شتمت نفسك، أما علمت أن للجار على جاره حقا؟ فَقَالَ أَبُو حازم: إن بْني إسرائيل لما كانوا على الصواب كانت الأمراء تحتاج إِلَى العلماء، وكانت العلماء تفر بدينها من الأمراء، فلما رأى ذلك قوم من أذلة الناس تعلموا ذلك العلم وأتوا به إلى الأمراء، فاستغنت به عَنِ الزهاد، واجتمع القوم على المعصية [1] ، فسقطوا وانتكسوا، ولو كان علماؤنا يصونون علمهم لم تزل الأمراء تهابهم.
قَالَ الزهري: كأنك إياي تريد، وبي تعرض. قَالَ: هو مَا تسمع.
أَخْبَرَنَا ظفر بْن عَلِيّ بْن الْعَبَّاس المهراني قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الحسن فيد بن عبد الرحمن بن شادي قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الحسن عَلِيّ بْن سعيد قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو زرعة أَحْمَد بْن الحسين الرازي قَالَ: أَخْبَرَنَا الْعَبَّاس بْن عَبْد اللَّه المزني قَالَ: حَدَّثَنَا المبرد، عَنِ الرياشي، عَنِ الأصمعي قَالَ: دخل أَبُو حازم الطواف، فإذا هو بامرأة سافرة عَنْ وجهها تطوف، وقد فتنت النّاس بحسن وجهها فَقَالَ: يا هَذِهِ، ألا تخمرين وجهك؟
فقالت: يا أبا حازم، إنا من اللواتي يقول فيهن الشاعر:
16/ ب/
أماطت قناع الخز عَنْ حر وجهها ... وأبدت من الخدين بردا مهلهلا
من اللائي لم يحججن تبغين ريبة [2] ... ولكن ليقتلن البريء المغفلا
وترمي بعينيها القلوب إذا بدت ... لها نظر لم يخط للحي مقتلا
فأقبل أَبُو حازم على أَهْل الطواف فَقَالَ: يا أَهْل بيت الله، تعالوا ندع الله أن لا يعذب هَذَا الوجه بالنار، فذكر ذلك لسعيد بْن المسيب، فَقَالَ: لو كَانَ من بعض أَهْل العراق لقال: يا عدوة الله، ولكن ظرف أهل الحجاز.
__________
[1] في الأصل: «على العصبية» وما أثبتناه من ت.
[2] في ت: «تبغين حسبه» وما أثبتناه من الأصل.(8/34)
أخبرنا إسماعيل بن أحمد قال: أخبرنا محمد بْن هبة اللَّه الطبري قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الحسين بْن بشران قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن صفوان قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر القرشي قَالَ: أَخْبَرَنَا الحسن بْن عَبْد العزيز قَالَ: حَدَّثَنَا الحارث بْن مسكين قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن وهب، عَنْ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن زيد بْن أسلم، عَنْ سليمان العمري قَالَ: رأيت أبا جعفر الْقَارِئ فِي المنام فقلت لَهُ: أبا جعفر. فَقَالَ: نعم، أقرئ إخواني مني السلام وأخبرهم أن اللَّه تعالى جعلني من الشهداء الأحياء المرزوقين، وأقرئ أبا حازم السلام وقل لَهُ: يَقُول لك: الكيس الكيس، فإن اللَّه وملائكته يتراءون مجلسك بالعشيات.
748- موسى بْن كعب.
كَانَ على بسط المنصور وعلى مصر والهند، وَكَانَ خليفته على الهند ابْنه عيينة.
تُوُفِّيَ موسى في هذه السنة.(8/35)
ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين ومائة
فمن الحوادث فِيهَا:
خروج المنصور حَتَّى نزل بعسكره عند جسر البصرة الأكبر، وبْنى لهم قبلتهم التي 17/ أيصلّون [1] إليها فِي عيدهم بالحمان [2] ، واستعمل عيسى/ بْن عَمْرو الكندي على البصرة، ومعن بْن زائدة على اليمن.
ووجه عُمَر بْن حفص بْن أبي صفرة عاملا على السند والهند، ومحاربا لعيينة بْن موسى، فسار حَتَّى ورد السند، وغلب عَلَيْهَا.
وفي هذه السنة:
نقض إصبهبذ طبرستان العهد بينه وبين المسلمين وقتل من كَانَ ببلاده من المسلمين.
وَكَانَ من حديثه أن أبا جعفر لما انتهى إِلَيْهِ خبر الإصبهبذ وما فعل بالمسلمين وجّه إليه جماعة منهم أَبُو الخصيب، فأقاموا على حصنه محاصرين لَهُ ولمن معه فِي حصنه، فطال عليهم المقام، فاحتال أَبُو الخصيب فَقَالَ لأصحابه: اضربوني واحلقوا رأسي ولحيتي. ففعلوا ذلك به، ولحق بالأصبهبذ صاحب الحصن، فَقَالَ لَهُ: إنه ركب مني أمر عظيم، وإنما فعلوا بي هذا تهمة لي أن يكون هواي معك، فأخبره أنه معه، وأنه دليل على عورة عسكرهم. فقبل ذلك الأصبهبذ وجعله فِي خاصته، وألطفه، وَكَانَ على باب مدينتهم من حجر يلقى إلقاء، تدفعه الرجال وتضعه عند فتحه وإغلاقه. وَكَانَ قَدْ وكل به الإصبهبذ ثقات أصحابه، وجعل ذلك نوبا بينهم، وجعل أَبُو الخصيب فيمن ينوب عَنْ
__________
[1] في الأصل: «الّذي يصلون» وما أثبتناه من ت.
[2] في الأصل: «بالجبان» وفي ت: «بالحنان» وما أثبتناه من الطبري.(8/36)
ذلك، فكتب إِلَى أصحابه، وجعل الكتاب فِي نشابة ورماها إليهم، وأعلمهم أنه قَدْ ظفر بالحيلة، ووعدهم ليلة سماها فِي فتح الباب، فلما كانت الليلة فتح لهم، فقتلوا من فيها من المقاتلة، وسبوا الذراري، فظفروا بأم منصور بْن المهدي، وأم إِبْرَاهِيم بْن المهدي. فمص الإصبهبذ خاتما لَهُ كَانَ فِيهِ سم فقتل نفسه.
وقيل: إن هَذَا كَانَ سنة ثلاث وأربعين [1] .
وفي هذه السنة: عزل نوفل بْن الفرات عَنْ مصر ووليها مُحَمَّد بْن الأشعث، ثُمَّ عزل مُحَمَّد ووليها نوفل، ثُمَّ عزل نوفل ووليها حميد بْن قحطبة [2] .
وَفِيهَا: ولى أَبُو جعفر أخاه الْعَبَّاس بْن مُحَمَّد الجزيرة والثغور، وضم إِلَيْهِ عدة من القواد [3] .
وَفِيهَا: اختط/ المنصور بغداد، ولم يشرع فِي البْناء [4] .
وَفِيهَا: حج بالناس إسماعيل بْن عَلِيّ بْن عَبْد اللَّه بْن عباس.
وَكَانَ العامل على المدينة مُحَمَّد بْن خالد بْن عَبْد اللَّه، وعلى مكة والطائف الهيثم بن معاوية، وعلى الكوفة وأرضها عيسى بْن موسى، وعلى البصرة وأعمالها سفيان بن معاوية، وعلى قضائها سوار بْن عَبْد اللَّه، وعلى مصر حميد بْن قحطبة بْن شبيب [5] .
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
749- حميد بْن هانئ، أَبُو هانئ الخولاني [6] .
روى عَنْ أبي قتيل، وشقي بْن ماتع وغيرهما.
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 7/ 512- 513.
[2] انظر: تاريخ الطبري 7/ 514.
[3] انظر: تاريخ الطبري 7/ 514.
[4] انظر: تاريخ الطبري 7/ 514.
[5] انظر: تاريخ الطبري 7/ 515.
[6] هذه الترجمة ساقطة من ت. وانظر ترجمته في: الجرح والتعديل 3/ 1012، والتاريخ الكبير 2/ 2720، وتاريخ الإسلام 6/ 58، وتقريب التهذيب 1/ 204.(8/37)
حدث عنه الليث، وابْن لهيعة، وآخر من حدث عنه بمصر إسحاق بْن الفرات.
وتوفي في هذه السنة.
750- سليمان بْن عَلِيّ بْن عَبْد اللَّه بْن عباس [1] .
أمه أم ولد، ولي الإمارة بالبصرة وغيرها، ولاه المنصور.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عُمَر الدموي قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الغنائم عَبْد الصمد بْن المأمون قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الفضل مُحَمَّد بْن الحسن المأمون قَالَ: حدثنا أبو بكر بن الأنباري قال:
حدثنا مُحَمَّد بْن مجيب المازني قَالَ: حَدَّثَنِي أبي قَالَ: لما قدم سليمان بْن عَلِيّ البصرة واليا عَلَيْهَا قيل لَهُ: إن بالمربد رجلا من بْني سعد [مجنونا] [2] سريع الجواب، لا يتكلم إلا بالشعر. فأرسل إليه سليمان بْن عَلِيّ قهرمانا لَهُ، فَقَالَ لَهُ: أجب الأمير. فامتنع عليه، فجره وزبره وخرق ثوبه، وَكَانَ المجنون يعمل على ناقة لَهُ، فاستاق القهرمان الناقة، وأتى بهما سليمان بْن عَلِيّ، فلما وقف بين يديه قَالَ لَهُ سليمان: حياك اللَّه يا أخا بْني سعد. فَقَالَ:
حياك رب الناس من أمير ... يا فاضل الأصل عظيم الخير
إني أتاني الفاسق الجلواز ... والقلب قَدْ طار به اهتزاز
فَقَالَ سليمان: إنما بعثته إليك ليشتري ناقتك. فَقَالَ:
مَا قَالَ شيئا فِي شراء الناقة ... وقد أتى بالجهل والحماقة
18/ أ/ فَقَالَ: مَا أتى؟ فَقَالَ:
خرق سربالي وشق بردتي ... وَكَانَ وجهي فِي الملا وزينتي
فَقَالَ: نخلف عَلَيْك، أفتعزم على بيع الناقة. فَقَالَ:
أبيعها من بعد مال أوكس ... والبيع فِي بعض الأوان أكيس
قَالَ: كم شراؤها عَلَيْك؟ فَقَالَ:
شراؤها عشر ببطن مكة ... من الدنانير القيام السكة
ولا أبيع الدهر أو أزاد ... إني لربح في الشرا معتاد
__________
[1] طبقات ابن سعد 9/ 194 خط، وتهذيب ابن عساكر 6/ 283، وتهذيب التهذيب 4/ 411.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وأثبتناه من ت.(8/38)
قَالَ: فبكم تبيعها؟ فَقَالَ:
خذها بعشر وبخمس وازنه ... فإنها ناقة صدق مازنة
فَقَالَ: تحطنا وتحسن. فَقَالَ:
تبارك اللَّه العلي العالي ... تسألني الحط وأنت الوالي
قَالَ: فنأخذها ولا نعطيك شيئا. فَقَالَ:
فأين ربي ذو الجلال الأفضل ... إن أنت لم تخش الإله فافعل
فَقَالَ: كم نزن لك فِيهَا؟ فَقَالَ:
والله مَا ينعشني مَا تعطي ... ولا يداني الفقر مني خطي
خذها بما أحببت يا ابْن عباس ... يا ابْن الكرام من قريش والراس
فأمر لَهُ سليمان بألف درهم وعشرة أثواب، فَقَالَ:
إني رمتني نحوك العجاج ... ولي عيال معدم محتاج
طاوي المطي ضيق المعيش ... فأنبت اللَّه لديك ريشي
شرفتني [1] منك بألف فاخره ... شرفك اللَّه بها فِي الآخره
وكسوة طاهرة حسان ... كساك ربي حلل الجنان
فَقَالَ سليمان/ بْن علي: من يقول هَذَا مجنون!؟ مَا كلمت أعرابيا قط أعقل منه. 18/ ب تُوُفِّيَ سليمان بالبصرة في هذه السنة، وَهُوَ ابْن تسع وخمسين، وصلى عليه أخوه عَبْد الصمد بْن عَلِيّ.
751- عاصم بْن سليمان، أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ الأحول الْبَصْرِيّ [2] .
سمع أنسا، وعَبْد اللَّه بْن سرخس، والحسن. وولي القضاء بالمدائن في خلافة المنصور، وكان يحتسب على المكاييل والموازين، وهو معدود في كتاب الحفاظ الثقات.
عَنْ مُحَمَّد بْن عبادة قَالَ: حَدَّثَنِي أبي قَالَ: ربما رئي عاصم الأحول وَهُوَ صائم فيفطر، فإذا صلى العشاء تنحى فصلى، فلا يزال يصلي حَتَّى يطلع الفجر، لا يضع جنبه. توفي في هذه السنة.
__________
[1] في ت: «منحتني» وما أثبتاه من الأصل.
[2] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 12/ 243.(8/39)
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين ومائة
فمن الحوادث فِيهَا:
أن الخبر جاء إِلَى المنصور بأن الديلم أوقعوا بالمسلمين، وقتلوا مقتلة عظيمة، فبعث أهل البصرة وأهل الكوفة لجهادهم [1] .
وَفِيهَا: عزل الهيثم بْن معاوية عَنْ مكة والطائف، وولي مَا كَانَ إِلَيْهِ من ذلك السري بْن عَبْد اللَّه بْن الحارث بْن عباس بْن عَبْد المطلب، فأتى السري عهده على ذلك وَهُوَ باليمامة، فسار إِلَى مكة.
ووجه المنصور إِلَى اليمامة مُحَمَّد بْن الْعَبَّاس بْن عَبْد اللَّه بْن عباس [2] .
وفي هذه السنة: عزل حميد بْن قحطبة عَنْ مصر، ووليها نوفل، ثُمَّ عزل ووليها يزيد بْن حاتم [3] .
وفي هذه السنة: حج بالناس عيسى بْن موسى، وَكَانَ إِلَيْهِ ولاية الكوفة وسوادها، وَكَانَ عامل مكة والمدينة السري بْن عَبْد اللَّه، وعامل البصرة سفيان بْن معاوية، وَكَانَ على قضائها سوار، وعلى مصر يزيد بن حاتم [4]
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 7/ 515.
[2] انظر: تاريخ الطبري 7/ 515.
[3] انظر: تاريخ الطبري 7/ 515.
[4] انظر: تاريخ الطبري 7/ 516.(8/40)
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
752-/ حميد بْن مهران، أَبُو عبيدة الطويل.
مولى لخزاعة، ولد سنة ثمان وستين.
753- حيي بْن شريح، أَبُو عَبْد اللَّه المعافري، ثُمَّ الحبلي [1] .
روى عنه: ابْن لهيعة وغيره، وآخر من حدث عنه بمصر ابْن وهب.
تُوُفِّيَ في هذه السنة.
754- سليمان بْن طرخان، أَبُو المعتمر التيمي [2] .
نزل فِي التيم فنسب إليهم وليس بتيمي. وَكَانَ ثقة من العباد يصلي الغداة بوضوء صلاة العشاء، وَكَانَ هو وابْنه المعتمر يدوران بالليل فِي المساجد فيصليان فِي هذا المسجد وفي هذا المسجد حَتَّى يصبحا.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ بْن حبيب قَالَ: أخبرنا عَلي بْن عَبْد اللَّه بْن أبي صادق قَالَ: أَخْبَرَنَا ابن باكويه قال: حدثنا عبد العزيز بن الفضل قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أبي القاسم قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن الْحُسَيْن الحذاء قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن الزورقي قَالَ: حَدَّثَنَا الوليد بْن صالح قَالَ: سمعت حماد بْن سلمة يَقُول: مَا أبقى سليمان التيمي من ساعة يطاع اللَّه فِيهَا إلا وجدناه مطيعا، إن كَانَ فِي ساعة صلاة وجدناه مصليا، وإن لم يكن فِي ساعة صلاة وجدناه إما يتوضأ للصلاة أو عائدا لمريض أو مشيعا لجنازة أو قاعدا في المسجد يسبح، وكنا نرى أنه لا يحسن أن يعصي اللَّه عز وجل.
أَخْبَرَنَا ابْن ناصر قَالَ: أَخْبَرَنَا حَمَدُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم الأصفهاني قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن جعفر قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الحسين بْن عَلِيّ بْن يحيى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الأعلى قَالَ: سمعت معتمر بْن سليمان يَقُول: لولا أنك بين أهلي ما حدثتك عن أبي بهذا، مكث أبي أربعين سنة يصوم يوما ويفطر يوما، ويصلي الصبح بوضوء العشاء، وربما أحدث الوضوء من غير نوم.
__________
[1] انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 3/ 72، والتقريب 1/ 209. والتاريخ الكبير 3/ 76.
[2] انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 4/ 401، والتاريخ الكبير 4/ 20. وطبقات ابن سعد 7/ 252.(8/41)
قَالَ أَبُو نعيم: وحدثنا أَبُو حامد بْن جميل قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إسحاق قَالَ:
حَدَّثَنَا يوسف بْن موسى قَالَ: سمعت جريرا، عَنْ رقبة قَالَ: رأيت رب العزة فِي المنام، 19/ ب فقال: وعزتي لأكرمنّ مثوى سليمان- يعني/ التيمي.
وبلغنا من طريق آخر عَنْ رقبة قَالَ: رأيت رب العزة فِي النوم فَقَالَ لي: يا رقبة، وعزتي وجلالي لأكرمن مثوى سليمان التيمي، فإنه صلى لي أربعين سنة الغداة على ظهر العتمة. قَالَ: فجئت إِلَى سليمان فحدثته فَقَالَ: أنت رأيت هَذَا؟ قلت: نعم. قَالَ:
لأحدثنك بمائة حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما جئتني من هَذِهِ البشارة. قَالَ: فلما كَانَ بعد مديدة مات فرأيته فِي المنام. فقلت: ما فعل الله بك. قال: غفر لي وأدناني وقربْني وغلفني [1] [بيده] [2] . وَقَالَ: هكذا أفعل بأبْناء ثلاث وثمانين.
أسند سليمان التيمي عَنْ أنس بْن مالك وعن جماعة من أكابر التابعين.
وتوفي بالبصرة في هذه السنة.
755- فاطمة بْنت مُحَمَّد بْن المنكدر
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر بإسناد لَهُ عَنْ إِبْرَاهِيم بْن مسلم القرشي قَالَ: كانت فاطمة بْنت مُحَمَّد بْن المنكدر تكون نهارها، فإذا جنها الليل تنادي بصوت حزين: هدأ الليل، واختلط الظلام، وأوى كل حبيب إِلَى حبيبه، وخلوتي بك أيها المحبوب أن تعتقني من النار.
756- يحيى بْن سعيد بْن قيس بْن عَمْرو بْن سهيل بْن ثعلبة، أَبُو سعيد الأنصاري المديني [3] .
سمع من أنس بن مالك، والسائب بن يزيد، وعَبْد اللَّه بْن عامر بْن ربيعة، وسعيد بْن المسيب، والقاسم، وغيرهم.
ثُمَّ روى عنه هشام بْن عروة، ومالك، وابْن جريح، وشعبة، وغيرهم.
وَكَانَ فقيها ثقة يتولى القضاء بمدينة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أيام الوليد بن عبد الملك،
__________
[1] في الأصل: «وعلمني» وما أثبتناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وما أثبتناه من ت.
[3] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 14/ 101. وتهذيب التهذيب 11/ 221. والتاريخ الكبير 8/ 275.
والجرح والتعديل 9/ 147.(8/42)
أقدمه المنصور العراق وولاه القضاء بالهاشمية، وذلك قبل أن تبْنى بغداد.
أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا التنوخي قَالَ: أخبرنا طلحة بْن محمد بن جعفر قال: حدثني/ علي بن محمد بن عبيد 20/ أقال: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن زهير قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن المنذر قَالَ: حَدَّثَنَا يحيى بْن مُحَمَّد بْن طلحة قَالَ: حَدَّثَنِي سليمان بْن بلال قَالَ: كَانَ يحيى بْن سعيد قَدْ ساءت [1] حاله، وأصابه ضيق شديد، وركبه الدين، فبينا هو على ذلك إذ أتاه [2] كتاب أبي الْعَبَّاس يستقضيه. قَالَ سليمان: فوكلني يحيى بأهله وَقَالَ لي: والله مَا خرجت وأنا أجهل شيئا، فلما قدم العراق كتب إلي: إني كنت [3] قلت لك حين خرجت: قَدْ خرجت وما أجهل شيئا، وإنه والله لأول خصمين جلسا بين يدي، فاقتضيا بشيء والله مَا سمعته قط، فإذا جاءك كتابي هَذَا فسل ربيعة واكتب إلي بما يَقُول، ولا يعلم أنني كتبت إليك بذلك [4] .
حَدَّثَنَا [5] القزاز قال: حدثنا أحمد بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَرَ بْنُ مهدي قَالَ:
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ قال: حدثني جدي قال: حدثني أبو بكر بن أبي الأسود قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ، عَنْ وهيب قَالَ: قدمت المدينة فما رأيت أحدا إلا يعرف وينكر إلا يحيى بْن سعيد، ومالك بْن أنس [6] .
تُوُفِّيَ يحيى بالهاشمية من الأنبار في هذه السنة. وقيل: سنة أربع. وقيل: سنة ست.
__________
[1] في ت: «قد ساق» وما أثبتناه من الأصل.
[2] في ت: «إذ جاءه» وما أثبتناه من الأصل.
[3] «كنت» ساقطة من ت.
[4] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 14/ 103، 104.
[5] في ت: «أخبرنا»
[6] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 14/ 105.(8/43)
ثم دخلت سنة أربع وأربعين ومائة
فمن الحوادث فِيهَا: غزو الديلم [1] .
وَفِيهَا: انصرف المهدي عَنْ خراسان إِلَى العراق، وشخص أَبُو جعفر إلى قنسرين، فلقيه بها ابنه مُحَمَّد، فانصرفا جميعا إِلَى الحيرة [2] .
وَفِيهَا: بْنى المهدي عند مقدمه من خراسان بابْنة عمه ريطة بْنت أبي الْعَبَّاس [3] .
وَفِيهَا: ولى أَبُو جعفر رياح بْن عثمان المري المدينة، وعزل مُحَمَّد بْن خالد القسري عنها.
وَكَانَ السبب فِي ذلك أن أبا جعفر أهمه أمر مُحَمَّد وإبراهيم ابْني عَبْد اللَّه بْن حسن بْن حسن وتخلفهما عَنْ حضوره، مَعَ من شهده من بْني هاشم عام حج فِي حياة 20/ ب أخيه أبي الْعَبَّاس/، ومعه أَبُو مسلم. وقد ذكر أن محمدا كَانَ يذكر أن أبا جعفر ممن بايع لَهُ ليلة تشاور بْنو هاشم بمكة فيمن يعقدون لَهُ الخلافة حين اضطرب مروان. فسأل [4] أَبُو جعفر عَنْ مُحَمَّد وإبراهيم حين حج ولم يرهما، فقال له زياد بن عبد الله: ما يهمك من أمرهما! أنا آتيك بهما. فضمنه إياهما، وأقره على المدينة [5] .
ولما ولي أَبُو جعفر لم يكن لَهُ هم إلا طلب مُحَمَّد، والسؤال عنه، فدعا بني هاشم
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 7/ 517.
[2] انظر: تاريخ الطبري 7/ 517.
[3] انظر: تاريخ الطبري 7/ 517.
[4] في الأصل: «قال أبو جعفر» .
[5] انظر: تاريخ الطبري 7/ 517- 518.(8/44)
رجلا رجلا يخلو به، فيسألهم عنه فيقولون: هو يخافك على نفسه، وما يريد بذلك [1] خلافا إلّا حسن بْن يزيد، فإنه أخبره خبره، وَقَالَ: والله مَا آمن وثوبه عَلَيْك، وإنه مَا ينام عنك.
فنظر المنصور إِلَى رجل لَهُ فطنة يقال لَهُ: عقبة بْن سالم، فَقَالَ لَهُ: أخف شخصك، واستر أمرك، وآتني لأمر إن كفيتنيه رفعتك. فأتاه فَقَالَ لَهُ: إن بْني عمنا هؤلاء قَدْ أبوا إلا كيدا لملكنا، ولهم شيعة بخراسان بقرية كذا، يكاتبونهم ويرسلون إليهم بصدقات أموالهم وألطاف من بلادهم، فأخرج بكسا وألطاف وعين حَتَّى تأتيهم متنكرا بكتاب تكتبه أَهْل [2] هَذِهِ القرية، ثُمَّ تسبر ناحيتهم، فإن كانوا نزعوا عَنْ رأيهم فأحبب والله بهم وأقرب، وإن كانوا على رأيهم علمت ذلك، فأشخص حَتَّى تلقى عَبْد اللَّه بْن حسن، فإن جبهك- وَهُوَ فاعل- فاصبر وعاوده حتى يأنس بك، فإذا أظهر لك مَا قبله فاعجل علي.
فشخص حَتَّى قدم على عَبْد اللَّه، فلقيه بالكتاب فأنكره ونهره وَقَالَ: مَا أعرف هؤلاء القوم، فلم يزل ينصرف ويعود إِلَيْهِ حَتَّى قبل كتابه وألطافه وآنس به، فسأله الجواب، فَقَالَ: إني لا أكتب إِلَى أحد، ولكن أنت كتابي إليهم، فأقرئهم السلام وأخبرهم أن ابْني خارجان لوقت كذا وكذا.
فقدم على أبي جعفر فأخبره الخبر، فأنشأ/ حينئذ الحج وَقَالَ لعقبة: إني إذا 21/ أصرت بمكان كذا وكذا لقيني بْنو حسن، فيهم عَبْد اللَّه، فأنا مبجله ورافع مجلسه وداع [3] بالغداء، فإذا فرغنا من طعامنا فلحظتك فامثل بين يديه قائما، فإنه سيصرف بصره، فعد حَتَّى تغمز ظهره بإبهام رجلك حَتَّى يملأ عينه منك، ثُمَّ حسبك، وإياك أن يراك مَا دام يأكل.
فخرج حَتَّى إذا تدفع فِي البلاد لقيه بْنو حسن، فأجلس عَبْد الله إلى جانبه، ثم دعا
__________
[1] في الأصل: «يريد لك» وما أثبتناه من ت.
[2] في الأصل: «يكتب عن أهل» .
وما أثبتناه من الطبري.
[3] في الأصل: «وأدع» وما أثبتناه من ت.(8/45)
بالغداء، فأصابوا منه، ثُمَّ أمر به فرفع، فأقبل على عَبْد اللَّه فَقَالَ: يا مُحَمَّد، قَدْ علمت مَا أعطيتني من المواثيق والعهود ألا تبغيني سوءا، ولا تكيد لي سلطانا. قال: فأنا على ذاك يا أمير المؤمنين. فلحظ أَبُو جعفر عقبة، فاستدار حَتَّى قام بين يدي عَبْد اللَّه، فأعرض عنه، فاستدار حَتَّى قام من وراء ظهره، فغمزه بأصبعه، فرفع رأسه، فملأ عينه منه، فوثب حَتَّى جثا بين يدي أبي جعفر، فَقَالَ: أقلني يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أقالك اللَّه. قَالَ:
لا أقالني اللَّه إن أقلتك. ثُمَّ أمر بحبسه [1] .
وفي رواية: أن المنصور أتاه عَبْد اللَّه بْن حسن، فجلس عنده، إذ تكلم المهدي فلحن، فَقَالَ عَبْد اللَّه: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ألا تأمر لهذا من يعدل لسانه، فأحفظ المنصور من هَذَا وَقَالَ: أين ابْنك؟ قَالَ: لا أدري. قَالَ: لتأتيني به. قَالَ: لو كَانَ تحت قدمي مَا رفعتها عنه. قَالَ: يا ربيع، قم به إِلَى الحبس [2] .
وقيل: إن حبسه كَانَ فِي سنة أربعين، فأقام فِي الحبس ثلاث سنين.
ولما حبسه جد فِي طلب ابْنيه وبعث عينا لَهُ، وكتب معه كتبا على ألسن الشيعة إِلَى مُحَمَّد يذكرون طاعتهم، وبعث معه بمال وألطاف، فقدم الرجل المدينة، فسأل عَنْ مُحَمَّد، فذكر لَهُ أنه فِي جبل جهينة، فمضى إِلَيْهِ، فعلم حاله، ثُمَّ عاد إِلَى أبي جعفر، فكتب أَبُو جعفر إِلَى زياد بْن عُبَيْد اللَّه يتنجزه مَا ضمن لَهُ من أمر مُحَمَّد، فأعان زياد 21/ ب محمدا وَقَالَ لَهُ: اذهب/ حيث شئت، فما ينالك مني مكروه.
فبعث أَبُو جعفر من شد زيادا فِي الحديد، وأخذ جميع ماله، ووجد فِي بيت المال خمسة وثمانين ألف دينار، وأخذ عماله، وشخص بالكل إِلَى أبي جعفر، فَقَالَ لَهُ زياد:
إن دماء بْني فاطمة علي عزيزة [3] .
واستعمل أَبُو جعفر مُحَمَّد بن خالد بعد زياد، أمره بالجد فِي طلب مُحَمَّد، ثُمَّ استبطأه فعزله، وولى رياح بْن عثمان بْن حيان المدينة، وأمره بالجد في طلبهما، فخرج مسرعا، فقدمها يوم الجمعة لسبع ليال بقين من رَمَضَان سنة أربع وأربعين ومائة [4] .
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 7/ 517- 523.
[2] انظر: تاريخ الطبري 7/ 524.
[3] انظر: تاريخ الطبري 7/ 529- 530.
[4] انظر: تاريخ الطبري 7/ 531- 532.(8/46)
وَكَانَ عند أبي جعفر مرآة يرى بها مَا فِي الأرض جميعا، يقال إنها نزلت على آدم، وصارت إِلَى سليمان بْن داود، ثُمَّ ذهبت بها الشياطين وبقيت منها بقية صارت إلى بني إسرائيل، فأخذها رأس الجالوت، فأتى بها مروان بْن مُحَمَّد، فكان يحكها ثُمَّ يجعلها على مرآه أخرى فيرى [فِيهَا [1] مَا يكره، فرمى بها وضرب عنق رأس الجالوت، فلما استخلف أَبُو جعفر طلبها، فأتي بها، فكان يرى] [2] فِيهَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن حسن، فيكتب إِلَى رياح: إن محمدا ببلاد فِيهَا الأترج والأعناب، فاطلبه بها، فيطلبه فلا يجده، فيكتب إِلَيْهِ أنه ببلاد فِيهَا الجبال فلا يجده. وَكَانَ السبب: أن محمدا كَانَ لا يقيم بمكان إلا يسيرا، فأخبر رياح أنه فِي شعب من شعاب رضوى، فاستعمل عَمْرو بْن عثمان بْن مالك، وأمره بطلبه، فخرج إِلَيْهِ بالخيل والرجال، ففزع منهم مُحَمَّد، فأحضر شدا، فأفلت، وَكَانَ معه جارية وله منها ولد [3] ، فهربت الجارية، فسقط الصبي منها فتقطع، فَقَالَ مُحَمَّد:
منخرق السربال يشكو الوجى ... تبكيه أطراف مرو حداد
شرده الخوف فأزرى به ... كذاك من يكره حر الجلاد
قَدْ كَانَ فِي الموت لَهُ راحة ... والموت حتم فِي رقاب العباد [4]
وخرج رياح فِي طلبه، فرآه مُحَمَّد قَدْ جاء فِي الخيل، فعدل إلى بئر فوقف بين/ 22/ أقرنيها ليستقي الماء، فنظر إِلَيْهِ رياح فَقَالَ: قاتله اللَّه أعرابيا مَا أحسن ذراعه! ولقيه مرة أخرى، فجلس مُحَمَّد وجعل ظهره مما يلي الطريق، وسدل هدب ردائه على وجهه، فَقَالَ: رياح: امرأة رأتنا فاستحيت. وَكَانَ مُحَمَّد جسيما عظيما آدم شديد الأدمة.
وطال على المنصور أمره ولم يقدر عليه، وقيل لَهُ: أتطمع أن تخرج مُحَمَّد وإبراهيم، وبْنو حسن مخلون!؟ وكانوا ثلاثة عشر رجلا.
وحبس معهم مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه العثماني وولدين لَهُ، فلم يزالوا محبوسين حَتَّى حج أَبُو جعفر سنة أربع وأربعين ومائة، فتلقاه رياح بالربذة فرده إِلَى المدينة، وأمر
__________
[1] في ت: «فيرى منها» .
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وما أثبتناه من الأصل.
[3] في ت: «بني» وما أثبتناه من الأصل.
[4] انظر: تاريخ الطبري 7/ 534- 535.(8/47)
بإشخاص بْني حسن إِلَيْهِ، وبإشخاص مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن عثمان- وَهُوَ أخو بْني حسن لأمهم فاطمة بْنت حسين بْن عَلِيّ- فحملهم إِلَيْهِ، وَكَانَ مُحَمَّد وإبراهيم يأتيان معتمين كهيئة الأعراب، فيسايران أباهما ويسألانه ويستأذنانه فِي الخروج فيقول: لا تعجلا حَتَّى يمكنكما ذلك، ويقول: إن منعكما أَبُو جعفر أن تعيشا كريمين فلا يمنعكما أن تموتا كريمين [1] .
وأمر أَبُو جعفر لمحمد بْن عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن عثمان فضرب خمسين ومائة، وَقَالَ للجلاد: اضرب رأسه، فضربه نحوا من ثلاثين سوطا، وَكَانَ يخاف منه لميل أَهْل الشام إِلَى عثمان، ثُمَّ قتله.
وأمر أَبُو جعفر مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه ففرقت أسطوانة مبْنية ثُمَّ أدخل فِيهَا، فبْنى عليه وَهُوَ حي. وَكَانَ أول من مات من المحبوسين من بْني حسن: إِبْرَاهِيم بْن حسن ثُمَّ عَبْد اللَّه بْن حسن.
[وقد ذكرنا أن الَّذِي حج بالناس في هذه السنة المنصور، وَكَانَ الوالي على مكة السري بْن عَبْد اللَّه] [2] ، والوالي على المدينة رياح بْن عثمان، وعلى الكوفة عيسى بْن موسى، وعلى البصرة سفيان بْن معاوية، وعلى قضائها سوار، وعلى مصر يزيد بْن حاتم.
وجرت للمنصور فِي حجه قصة مَعَ بعض الصالحين:
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن ناصر قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال: أخبرنا محمد بن 22/ ب عَلِيّ بْن الفتح قَالَ: حَدَّثَنَا/ أَبُو نصر مُحَمَّد بْن مُحَمَّد النَّيْسَابُورِيّ عَنْ إِبْرَاهِيم بْن أَحْمَد الخشاب المقرئ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو علي الحسن بْن عَبْد اللَّه الرازي قَالَ: حَدَّثَنَا المثنى قال: حدّثنا سلمة بْن سلمة القرشي قاضي اليمن قَالَ: سمعت أبا المهاجر المكي يَقُول: قدم المنصور مكة، فكان يخرج من دار الندوة إِلَى الطواف فِي آخر الليل ويطوف ويصلي، ولا يعلم به، فإذا طلع الفجر رجع إِلَى دار الندوة، وجاء المؤذنون فسلموا عليه، أقيمت الصلاة، فيصلي بالناس، فخرج ذات ليلة حين أسحر، فبينا هو يطوف إذ
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 7/ 540- 541.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وما أثبتناه من ت.(8/48)
سمع رجلا عند الملتزم وَهُوَ يَقُول: اللَّهمّ إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد فِي الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الظلم والطمع. فأسرع المنصور فِي مشيه حَتَّى ملأ مسامعه من قوله، ثُمَّ خرج فجلس ناحية من المسجد، ثُمَّ أرسل إِلَيْهِ فدعاه، فصلى ركعتين، واستلم الركن، وأقبل مَعَ الرسول، فسلم عليه، فَقَالَ لَهُ المنصور: مَا هَذَا الّذي سمعتك تقوله من ظهور البغي والفساد فِي الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الظلم والطمع؟ فو الله لقد حشوت مسامعي ما أمرضني فأقلقني، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إن أمنتني على نفسي أنبأتك بالأمور من أصلها، وإلا احتجبت منك وأقتصر على نفسي، ففيها لي شغل شاغل. فَقَالَ: أنت آمن على نفسك. فقال: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إن الَّذِي دخله الطمع حَتَّى حال بينه وبين الحق وإصلاح مَا ظهر من البغي والفساد فِي الأرض لأنت. قَالَ: ويحك، كيف يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء بيدي، والحلو والحامض فِي قبضتي. قَالَ: وهل دخل أحد من الطمع ما دخلك يا أمير المؤمنين؟ إن اللَّه عز وجل استرعاك أمور المسلمين بأموالهم، فأغفلت أمورهم، واهتممت بجمع أموالهم، وجعلت بينك وبينهم حجابا من الآجر والجص، وأبوابا من الحديد، وحجبة معهم السلاح، واتخذت وزراء وأعوانا فجرة، إن نسيت لم يذكروك، وإن أحسنت لم يعينوك، وقويتهم على ظلم الناس بالرجال والأموال والسلاح/، وأمرت 23/ أأن لا يدخل عَلَيْك من الناس إلا فلان وفلان، ولم تأمر بإيصال المظلوم والملهوف والجائع والعاري، وما أحد إلا وله فِي المال حق، فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك، وأمرت أن لا يحجبوا عنك، تجبي المال ولا تقسمه، قالوا: هَذَا قَدْ خان اللَّه، فما لنا لا نخونه، وقد سخر لنا، وائتمروا على أن لا يصل إليك من علم أخبار الناس إلا مَا أرادوا، ولا يخرج لك عامل فيخالف أمرهم إلا أقصوه [1] عنك حَتَّى تسقط منزلته عندك، فلما انتشر ذلك عنك وعنهم أعظمهم النّاس وهابوهم، وَكَانَ أول من صانعهم عمالك بالهدايا والأموال ليتقووا بها على ظلم رعيتك، [ثُمَّ فعل ذلك الثروة والقوة من رعيتك] [2] لينالوا ظلم من دونهم من الرعية، وامتلأت بلاد اللَّه بالطمع بغيا وفسادا، وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك، وأنت غافل، وإن جاء متظلم حيل بينه وبين الدخول إِلَى مدينتك، وإن أراد رفع قصة إليك عند ظهورك،
__________
[1] في الأصل: «إلا قضوه» وما أثبتناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وما أثبتناه من ت.(8/49)
وجدك قَدْ نهيت عَنْ ذلك، ووقفت للناس رجلا ينظر فِي مظالمهم، فإن جاء ذلك الرجل يبلغ بطانتك سألوا صاحب المظالم أن لا يرفع مظلمته إليك، فإن صرخ بين يديك ضرب ضربا مبرحا ليكون نكالا لغيره، وأنت تنظر فلا تنكر ولا تغير، فما بقاء الإسلام وأهله على هَذَا، وقد كانت بْنو أمية وكانت العرب لا ينتهي إليهم مظلوم إلا رفعت مظلمته، ولقد كَانَ الرجل يأتي من أقصى الأرض حَتَّى يبلغ سلطانهم فينادي: يا أَهْل الإسلام. فيبتدرونه: مالك مالك. فيرفعون مظلمته إِلَى سلطانهم فينتصف لَهُ. وقد كنت يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أسافر إِلَى أرض الصين وبها ملك، فقدمتها مرة وقد ذهب سمع ملكهم، فجعل يبكي، فقال له وزراؤه: مالك تبكي لا بكت عيناك؟ فَقَالَ: أما إني لست 23/ ب أبكي على المصيبة إذ نزلت بي، ولكن المظلوم بالباب/ يصرخ فلا أسمع صوته، وَقَالَ: أما إن كَانَ ذهب سمعي فإن بصري لم يذهب، نادوا في الناس أن لا يلبس ثوبا أحمر إلا مظلوم. فكان يركب الفيل فِي طرفي النهار، هل يرى مظلوما فينصفه. هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مشرك باللَّه قَدْ غلبت رأفته بالمشركين ورقته على شح نفسه في ملكه، وأنت مؤمن باللَّه عز وجل، وابْن عم نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ألا تغلبك رأفتك بالمسلمين على شح نفسك!؟ فإنك لا تجمع الأموال إلا لواحد من ثلاث: إن قلت أجمعها لولدي فقد أراك اللَّه عبرا فِي الطفل الصغير يسقط من بطن أمه وماله على الأرض مال، وما من مال إلا ومن دونه يد شحيحة تحويه، فلا يزال اللَّه يلطف بذلك الطفل الصغير حَتَّى تعظم رغبة الناس إِلَيْهِ، ولست بالذي تعطي، بل اللَّه يعطي من يشاء مَا يشاء. وإن قلت أجمع المال ليشتد سلطاني فقد أراك اللَّه عز وجل عبرا فيمن كَانَ قبلك مَا أغنى عنهم مَا جمعوا من الذهب والفضة، وما أعدوا من السلاح والكراع مَا ضرك، وولد أبيك مَا كنت فيه من الضعف حين أراد اللَّه عز وجل بكم مَا أراد، وإن قلت أجمع المال لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنت فيها، فو الله مَا فوق مَا أنت فِيهِ إلا منزلة لا تدرك إلا بالعمل الصالح. يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هل تعاقب من عصاك بأشد من القتل؟ قَالَ: لا. قَالَ: فكيف تصنع بالملك الَّذِي خولك مَا أنت فِيهِ من ملك الدنيا، وَهُوَ لا يعاقب من عصاه بالقتل، ولكن يعاقب من عصاه بالخلود فِي العذاب الأليم، وَهُوَ الَّذِي يرى منك مَا عقد عليه قلبك [1] ، وأضمرته جوارحك، فما تقول إذا انتزع ملك الدنيا من يدك، ودعاك إِلَى الحساب؟ هل يفي عنك مَا كنت فيه شيئا؟
__________
[1] في ت: «عليه قلبه» وما أثبتناه من الأصل.(8/50)
فبكى المنصور بكاء شديدا حَتَّى ارتفع صوته/، ثُمَّ قَالَ: يا ليتني لم أخلق ولم 24/ أأك شيئا. ثُمَّ قَالَ: كيف احتيالي فيما خولت ولم أر من الناس إلا خائنا. قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، عَلَيْك بالأئمة الأعلام المرشدين. قَالَ: ومن هم؟ قَالَ: العلماء. قَالَ: قَدْ فرّوا مني. قال: هربوا منك مخافة أن تحملهم على ظهر مَا من طريقتك، ولكن افتح الأبواب، وسهل الحجاب، وانتصر للمظلوم، وامنع الظالم، وخذ الشيء مما حل وطاب واقسمه بالعدل، وأنا ضامن لك عَنْ من هرب منك أن يأتيك فيعاونك على صلاح أمرك ورعيتك.
فَقَالَ المنصور: اللَّهمّ وفقني أن أعمل بما قَالَ [1] هَذَا الرجل. وجاء المؤذنون فسلموا عليه، وأقيمت الصلاة، فخرج فصلى بهم ثُمّ قَالَ للحارس: عَلَيْك [2] بالرجل، فلئن لم تأتني به لأضربْن عنقك. واغتاظ عليه غيظا عظيما، فخرج الحرسي يطلب الرجل، فبينا هو يطوف إذا هو بالرجل قائم يصلي، فقعد حَتَّى صلى، ثُمَّ قَالَ: يا ذا الرجل، أما تتقي اللَّه؟ قَالَ: بلى. قَالَ: مَا تعرفه؟ قَالَ: بلى. قَالَ: فانطلق معي فقد إِلَى أن يقتلني إن لم آته بك. قَالَ: ليس إِلَى ذلك سبيل. قَالَ: يقتلني. قَالَ: ولا يقتلك. قَالَ: كيف؟ قَالَ: تحسن تقرأ؟ قَالَ: لا. قَالَ: فأخرج من مزود كَانَ معه رقاع فِيهِ شيء مكتوب، فَقَالَ: خذه فاجعله فِي جيبك، فإن فِيهِ دعاء الفرج. قَالَ: وما دعاء الفرج؟ قَالَ: لا يرزقه إلا السعداء. قَالَ: رحمك اللَّه فقد أحسنت إلي، فإن رأيت أن تخبرني مَا هَذَا الدعاء وما فضله؟ قَالَ: من دعا به صباحا ومساء هدمت ذنوبه، ودام سروره، ومحيت خطاياه، واستجيب دعاؤه، وبسط لَهُ فِي رزقه، وأعطي أمله، وأعين على عدوه، وكتب عند اللَّه صديقا، ولا يموت إلا شهيدا، تقول: اللَّهمّ كما لطفت فِي بعظمتك دون اللطفاء، وعلوت بعظمتك على العظماء، وعلمت مَا تحت أرضك كعلمك بما فوق عرشك، وكانت/ وساوس الصدور كالعلانية عندك، وعلانية القول 24/ ب كالسر فِي علمك، فانقاد كل شيء لعظمتك، وخضع كل ذي سلطان لسلطانك، وصار أمر الدنيا والآخرة كله بيدك، اجعل لي من كل هم أمسيت فِيهِ فرجا ومخرجا. اللَّهمّ إن عفوك عَنْ ذنوبي، وتجاوزك عَنْ خطيئتي، وسترك على قبيح عملي، أطمعني أن أسألك ما لا أستوجبه منك، فصرت أدعوك آمنا، وأسألك مستأنسا، وإنك المحسن إليّ وإني
__________
[1] في الأصل: «أن أعمل بها قال» وما أثبتناه من ت.
[2] في ت: «عليكم» وما أثبتناه من الأصل.(8/51)
المسيء إِلَى نفسي فيما بيني وبينك توددا لي وأ تبغض إليك، ولكن الثقة بك حملتني على الجرأة عَلَيْك، فعد بفضلك علي، إنك أنت التواب الرحيم.
قَالَ: فأخذته فصيرته فِي جيبي، ثُمَّ لم يكن لي هم غير أمير المؤمنين، فدخلت فسلمت عليه، فرفع رأسه ينظر إلي ويبتسم، ثُمَّ قَالَ لي: ويلك، تحسن السحر.
فقلت: لا والله يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ قصصت عليه أمري مَعَ الشيخ، فَقَالَ: هات الرق.
ثُمَّ جعل يبكي، ثُمَّ قَالَ: به نجوت، وأمر بْنسخه [1] ، وأعطاني عشرة آلاف درهم، ثُمَّ قَالَ: أتعرفه؟ قلت: لا. قَالَ: ذاك الخضر.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
757- خالد بْن أبي يزيد- وقيل: [ابْن] [2] يزيد- أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ الحراني [3] .
قدم بغداد، فسمع بها من حجاج بْن مُحَمَّد الأعور. قَالَ يحيى بن معين: هو ثقة. توفي في هذه السنة.
758- سعيد بْن أبي إياس، أَبُو مسعود الجريري [4] .
منسوب إِلَى جرير- بضم الجيم- وَهُوَ جرير بْن عباد، قبيلة معروفة، يروي عن أبي العلاء، وأبي نضرة. سمع منه الثوري، وشعبة. وَكَانَ ثقة، لكنه اختلط فِي آخر عمره.
تُوُفِّيَ فِي هذه السنة.
759- عَبْد اللَّهِ بْن المقفع [5] .
كَانَ فصيح العبارة، جيد الكلام، وله: «اليتيمة» كتاب فيه آداب حسان.
__________
[1] في الأصل: «بنسخته» وما أثبتناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وما أثبتناه من ت.
[3] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 8/ 304- 316.
[4] انظر ترجمته في: طبقات ابن سعد 7/ 261. والتهذيب 4/ 5، والجرح 4/ 1.
[5] انظر ترجمته في: خزانة الأدب 3/ 459- 460، وأمالي المرتضى 1/ 94، والبداية والنهاية 10/ 96.(8/52)
فمن ذلك/ أنه قَالَ [فِيهِ] [1] : يا طالب العلم والأدب اعرف الأصول والفصول، 25/ أفإن من الناس من يطلب الفصول مَعَ إضاعة الأصول، فلا تكون دركهم دركا، ومن أحرز الأصول اكتفى بها من الفصول، فإن أصاب الفصل بعد إحراز الأصل فهو أفضل، وأفضل الأمر أن تعقد على الإيمان، وتجتنب الكبائر، وتؤدي الفريضة، فإن قدرت أن تجاوز إِلَى الفقه والعبادة، فهو أفضل، وأصل الأمر فِي إصلاح البدن أن لا يحمل عليه من المآكل والمشارب والباءة إلا خفا، ثُمَّ إن قدرت أن تعلم عَنْ جميع منافع الجسد ومضاره فهو أفضل. وأصل الأمر فِي المعيشة أن لا تني عَنْ طلب الحلال، وتحسن التقدير لما تفيد وتنفق، ولا تغرنك سعة تكون فِيهَا، فإن أعظم الناس خطرا أحوجهم إِلَى التقدير، والملوك أحوج الناس إِلَيْهِ من السوقة، فإن السوقة قَدْ يعيشون بغير مال، والملوك لا قوام لهم إلا بالمال.
وإن ابتليت بالسلطان فتغوث بالعلماء، واعلم أن قائل المدح كمادح نفسه، والراد لَهُ ممدوح، والقائل لَهُ معيب، إنك إن تلتمس رضا الناس تلتمس مَا لا يدرك، فعليك بالتماس رضا الأخيار ذوي العقول، احرص الحرص كله على أن تكون خابرا بأمور عمالك، فإن المسيء يفرق من خبرتك قبل أن يصيبه وقعك، وإن المحسن يستبشر بعلمك قبل أن يأتيه معروفك، تعرف الناس فيما يعرفون من أخلاقك، إنك لا تعاجل بالثواب ولا بالعقاب، فإن ذلك أدوم لخوف الخائف ورجاء الراجي.
واعلم أن رأيك لا يتسع لكل شيء، فدعه للمهم، فإن مالك لا يغني الناس كلهم، فاخصص به أهل الحق، وكرامتك لا تطيق العامة، فتوخ بها أَهْل الفضل.
واعلم [2] إنما شغلت من رأيك فِي غير [3] المهم أزرى بك فِي المهم، ليس للملك أن يغضب، لأن القدرة من وراء حاجته، ولا/ أن يكذب، لأنه لا يقدر أحد عَلَى استكراهه 25/ ب على مَا لا يريد، ولا أن يبخل، لأنه أول النّاس عذرا فِي خوف الفقر، ولا أن يكون حقودا، لأن خطره قَدْ جل عَنِ المجازاة، وليتفقد الوالي حاجة الأحرار فيسد بها طغيان السفلة فيقمعه [4] وليتق حرم الكريم الجائع، واللئيم الشبعان، فإنما يصول الكريم إذا
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وأثبتناه من ت.
[2] في الأصل: «والعلم» وما أثبتناه من ت.
[3] في الأصل: «في رأي المهم» وما أثبتناه من ت.
[4] في الأصل: «فليقمعه» وما أثبتناه من ت.(8/53)
جاع، واللئيم إذا شبع [1] . وأحوج الناس إِلَى التثبيت الملوك، واللئام [2] أصبر أجسادا والكرام أصبر قلوبا.
اعلم أن من أوقع الأمور فِي الدين، وأنهكها للجسم، وأتلفها للمال، وأفسدها للعقل، وأذهبها للوقار الإغلام بالنساء. ومن البلاء على الحر الغرم بهن، إنه لا ينفك يسأم مَا عنده، وتطمح عيناه إِلَى مَا ليس عنده [3] ، ومجهولاتهن خدع، وربما هجم على مَا يظنه حسنا، وهو قبيح حَتَّى لو لم يبق فِي الأرض إلا امرأة ظن أن لها شأنا غير شأن مَا ذاق، وهذا من الحمق. ومن أتخم نفسه الطعام والشراب والنساء كَانَ مما يصيبه انقطاع تلك اللذات عنه لخمود نار شهوته، فإن استطعت أن تضع نفسك دون غايتك بربوة فافعل، لا تجالس أميرا بغير طريقته، فإنك إن لاقيت الجاهل بالعلم، والغني بالبيان، ضيعت عقلك، وآذيت جليسك بحملك [4] عليه مَا لا يعرف، كمخاطبة الأعجمي [5] بما لا يفقه، إذا نزل بك مهم، فإن كَانَ مما له حيلة فلا يعجز، وإن كَانَ مما [6] لا حيلة لَهُ فلا يجزع.
وقيل لَهُ: من أدبك؟ قَالَ: نفسي، إذا رأيت شيئا أذمه من غيري اجتنبته.
وَكَانَ ابْن المقفع مَعَ هَذِهِ الفصاحة والأدب كريما.
أَخْبَرَنَا إسماعيل بْن أَحْمَد السمرقندي قَالَ: أَخْبَرَنَا إسماعيل بْن مسعدة الإسماعيلي قَالَ: حَدَّثَنَا حمزة بْن يوسف السهمي [7] قَالَ: أخبرنا عبد الله بن عدي الحافظ قال: أَخْبَرَنَا ابْن مكرم قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرو بْن عَلِيّ قَالَ: / سمعت أبا عاصم يَقُول: حَدَّثَنَا محمد بن عمارة قال: لما ولي ابن شبرمة القضاء كتب إِلَيْهِ إسماعيل بْن مسلم المكي: إنه قَدْ أصابتني حاجة. فكتب إِلَيْهِ: الحق بنا نواسك. فخرج
__________
[1] «فإنما يصول الكريم إذا جاع واللئيم إذا شبع» سقط من ت.
[2] العبارة بها نقص يكتمل المعنى به.
[3] «إنه لا ينفك يسأم مَا عنده وتطمح عيناه إلى ما ليس عنده» ساقطة من ت.
[4] في الأصل: «بحلمك» وما أثبتناه من ت.
[5] في الأصل: «الأعمى» وما أثبتناه من ت.
[6] في الأصل: «كان ما لا حيلة فيه» وما أثبتناه من ت.
[7] «حمزة بن يوسف السهمي» ساقطة من ت.(8/54)
إسماعيل [1] ، [فلما قدم تلقاه ابْن المقفع. فَقَالَ: ما جاء بك بعد هذا السن؟] [2] قَالَ:
أصابتني حاجة فكتبت إِلَى ابْن شبرمة، فكتب إلي: الحق بْنا نواسك. قَالَ: استخف والله بك، لأنك من العجم، ولو كنت من العرب لبعث إليك فِي مصرك تملك على نفسك ثلاثة أيام لا تأتيه. قال: فانطلق بي إِلَى منزله، فلما كَانَ فِي اليوم الثالث أتاني بسبعة آلاف درهم تنقص دريهمات، وأتمهما بخلخال، وَقَالَ: خذها الآن إن شئت، فأقم عندي، وإن شئت فأته، وإن شئت فارجع إِلَى مصرك. قلت: لا والله، لا آتيه ولا أقيم عندك. ورجعت إِلَى بلدي.
وروى شبيب بْن شيبة قَالَ: كنا وقوفا بالمربد- وَكَانَ مواقف الأشراف- إذ أقبل ابْن المقفع فتشبثنا به، وبادأناه بالسلام، فرد علينا، وَقَالَ: لو ملتم إِلَى داري، فودعتم أبدانكم، وأرحتم دوابكم. فملنا، فلما استقر بْنا المكان قَالَ لنا: أي الأمم أعقل؟ فنظر بعضنا إِلَى بعض وقلنا: لعله أراد أصله من فارس [3] . فقلنا: فارس. فَقَالَ: ليسوا كذلك، إنهم ملكوا كثيرا من الأرض، وحووا عظيما من الملك، وغلبوا على كثير من الخلق، ولبث فيهم عقد الأمر، فما استنبطوا شيئا بعقولهم، ولا ابتدعوا حكما فِي أنفسهم. قلنا: فالروم. قَالَ: أصحاب صبغة [4] . قُلْنَا: فالصين. قَالَ: أصحاب طرفة [5] . قلنا: فالهند. قَالَ: أصحاب فلسفة. قلنا: السودان. قَالَ: شر خلق الله.
قلنا: الترك. قَالَ: كلاب مختلسة. قلنا: الخزر. قَالَ: بقر سائمة. قلنا: فقل. قَالَ:
العرب. فضحكنا. قَالَ: إني مَا أردت موافقتكم، ولكني إذ فاتني حظي من النسبة [6] فلا يفوتني حظي من المعرفة، إن العرب حكمت على غير مثال مثل لها، [ولا آثار] [7] أثرت/، أصحاب إبل وغنم، وسكان شعر وأدم، يجود أحدهم بقوته، ويتفضل 26/ ب بمجهوده، ويشارك فِي ميسوره ومعسوره، ويصف الشيء بعقله فيكون قدوة، ويفعله
__________
[1] في الأصل: «فخرج إسماعيل البرمكي»
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، وأثبتناه من ت. وفي الأصل: «فقال أنه قد أصابتني» .
[3] في ت: «من العجم» وما أثبتناه من الأصل.
[4] في ت: «صبغة» وما أثبتناه من الأصل.
[5] في ت: «لهفة» وما أثبتناه من الأصل.
[6] في الأصل: «من النسب» وما أثبتناه من ت.
[7] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، وأثبتناه من ت.(8/55)
فيصير حجة، ويحسن مَا يشاء فيحسن، ويقبح مَا يشاء فيقبح، أدبتهم أنفسهم، ورفعتهم هممهم، وأعلمتهم قلوبهم وألسنتهم، فرفع اللَّه لهم أكرم الفخر، وبلغ بهم أشرف الذكر، وختم لهم بملك الدنيا على الدهر، وافتتح دينه وخلافته منهم إِلَى الحشر، فمن دفع حقهم [1] خسر، ومن أنكر فضلهم خصم، ودفع الحق باللسان أكبت للجنان.
واجتمع ابْن المقفع بالخليل بْن أَحْمَد فَقَالَ الخليل: علمه أكثر من عقله.
وَكَانَ ابْن المقفع مَعَ هَذَا يتهم فِي دينه، فروي عَنِ المهدي أنه قَالَ: مَا وجدت كتاب زندقة قط إلا وأصله ابْن المقفع.
وقد حكى المرتضى عَنِ الجاحظ أنه قَالَ: كَانَ ابْن المقفع ومطيع بْن إياس ومنقذ بْن زياد يتهمون فِي دينهم.
قَالَ المرتضى: ومر ابْن المقفع ببيت نار للمجوس بعد أن أسلم، فتلمحه [2] ثُمَّ قَالَ:
يا بيت عاتكة الَّذِي أتعزل ... حذر العدى وبه الفؤاد موكل
إني لأمنحك الصدود وإنني قسما ... إليك مَعَ الصدود لأميل
وَكَانَ ابْن المقفع قَدْ كتب كتاب أمير المؤمنين لعَبْد اللَّه بْن عَلِيّ، وكتب فِيهِ: ومتى غدر أمير المؤمنين بعمه عَبْد اللَّه فنساؤه طوالق، ودوابه حبس، وعبيده أحرار، والمسلمون في حلّ من بيعته. فاشتد ذلك على المنصور، فكتب إِلَى سفيان بْن معاوية- وَهُوَ أمير البصرة- فقتله.
وروى أَبُو بكر الصولي: أن الربيع الحاجب قَالَ: لما قرأ المنصور الأيمان الَّذِي كتبه ابن المقفع قَالَ: من كتب هَذَا؟ فقيل: رجل يقال لَهُ عَبْد اللَّه بْن المقفع يكتب 27/ ألعمّيك سليمان/ وعيسى ابْني علي بالبصرة، فكتب إِلَى عامله بالبصرة: لا يفلتنك ابْن المقفع حَتَّى تقتله. فاستأذن يوما عليه مَعَ وجوه أَهْل البصرة، فأخر سفيان إذنه وأذن لمن كَانَ معه قبله، ثُمَّ أذن لَهُ، فلما صار فِي الدهليز عدل به [3] إِلَى حجرة، فقتل فيها،
__________
[1] في الأصل: «فمن حقهم» .
[2] في ت: «فلمحة» وما أثبتناه من الأصل.
[3] «به» ساقطة من ت، وأثبتناها من الأصل.(8/56)
وخرج القوم فرأوا غلمانه فسألوهم عنه، فقيل: دخل بعدكم، فخاصم سليمان وعيسى ابْنا عَلِيّ سفيان بْن معاوية المهلبي وأشخصاه إِلَى المنصور، وقامت البينة العادلة بأن ابْن المقفع دخل دار سفيان سليما ولم يخرج منها. فَقَالَ المنصور: أنا أنظر فِي هَذَا، وأقيده به. ووعدهم الغد، فجاء سفيان ليلا فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اتق اللَّه فِي صنيعك ومتبع أمرك أن تجري [1] قتله علي. قَالَ: لا ترع واحضر. فحضر [2] وقامت [3] البينة. فَقَالَ المنصور: أرأيتم إن قتلت سفيان بن معاوية بابْن المقفع، ثُمَّ خرج ابْن المقفع عليكم من هَذَا الباب- وأومأ إِلَى باب خلفه- من ينصب لي نفسه حَتَّى أقتله مكان سفيان؟
فرجعوا كلهم عَنِ الشهادة واندفع الأمر.
وروى أَبُو الحسن المدائني: أن ابْن المقفع [4] كَانَ يعبث بسفيان بْن معاوية بْن يزيد بْن المهلب [5] بالحيرة، ويضحك منه، فغضب سفيان يوما وافترى عليه، فَقَالَ لَهُ ابْن المقفع: يا ابْن المغتلمة، والله مَا اكتفت أمك برجال العراق حَتَّى نكحها رجال أَهْل الشام؟ وكانت أم سُفْيَان: ميسون بْنت المغيرة بْن المهلب. فاضطغن عليه سفيان، فقدم سليمان بْن عَلِيّ، وعيسى بْن عَلِيّ ليكتبوا لعَبْد اللَّه بْن عَلِيّ أمانا. وَكَانَ ابْن المقفع يكتب لعيسى بْن عَلِيّ، وَكَانَ يتنوق فِي الشرط، فكتب فيما اشترط: إن قتله أمير المؤمنين فلا بيعة [6] لَهُ. فَقَالَ المنصور: من يتوثق لهم؟ قالوا: ابْن المقفع. قَالَ: فما أحد يكفيني ابْن المقفع. فكتب أَبُو الخصيب إِلَى سفيان بْن معاوية يحكي لَهُ هَذَا الكلام عَنْ أمير المؤمنين، / فاعتزم على قتله إن أمكنه ذلك فاستدعاه فقال: أتذكر ما 27/ ب كنت تقول؟ قَالَ: أنشدك اللَّه أيها الأمير. فَقَالَ: أمي مغتلمة كما قلت إن لم أقتلك قتلة لم يقتل بها أحد. فأمر بتنور فسجر حَتَّى إذا حمي أمر أن تقطع أعضاؤه، فكلما قطعوا عضوا قَالَ: ألقوه فِي النار. فيلقونه وَهُوَ ينظر إِلَيْهِ، حَتَّى أتى على جميع جسده، ثُمَّ أطبق التنور وَقَالَ: ليس علي فِي المثلة بك حرج، لأنك زنديق قد أفسدت الناس،
__________
[1] في ت: «تجري» قتل عليه.
[2] فحضر» ساقطة من ت.
[3] في ت: «والشهادة» .
[4] أن ابن المقفع» ساقطة من ت.
[5] «بن يزيد بن المهلب» ساقطة من ت.
[6] في ت: «فلا تقبله» .(8/57)
واختفى أثره، فَقَالَ عيسى لغلامه: قل لسفيان: إن لم تكن قتلته فخله، وإن كنت قتلته فو الله لأطالبْنك بدية. قَالَ سفيان: مَا أدري أين هو. فمضى عيسى إِلَى المنصور وَقَالَ:
قتله سُفْيَان فجيء بسفيان مقيدا، وجعل عيسى يطلب الشهود ويخاطب المنصور، ودخل الشهود فشهدوا، فَقَالَ لهم المنصور: قَدْ شهدتم، فإن أتيتكم بابْن المقفع حَتَّى يخاطبكم، مَا تروني صانعا بكم؟ فقام الشهود، وضرب عيسى بْن عَلِيّ عَنْ ذلك الحديث.
760- العلاء بْن بِشْر الإسكندراني، مولى قريش.
سمع من القاسم بْن مُحَمَّد، وأبي عَبْد الرَّحْمَنِ الحبلي.
روى عنه حيوة بْن شريح، وابْن لهيعة. وَكَانَ مستجاب الدعوة.
تُوُفِّيَ بالإسكندرية في هذه السنة.
761- عَمْرو بْن عبيد بْن باب، أَبُو عثمان [1] .
وباب من سبي فارس، كَانَ عَمْرو يسكن البصرة، وجالس الحسن الْبَصْرِيّ، ثُمَّ أزاله واصل بْن عطاء عَنْ مذهب أَهْل السنة، فَقَالَ بالقدر، ودعا إِلَيْهِ، واعتزل أصحاب الحسن، وَكَانَ لَهُ سمت وإظهار زهد، ودخل على المنصور فوعظه.
أَخْبَرَنَا أَبُو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا القاضي أبو عبد الله الحسن بن علي الصيمري قال: حدثنا محمد بْن عمران بْن موسى الكاتب قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن هارون قَالَ: أَخْبَرَنَا عبيد اللَّه بْن أَحْمَد بْن أبي طاهر، عَنْ أبيه، عَنْ عقبة بْن هارون قَالَ: دخل عَمْرو بْن عبيد على المنصور/ وعنده المهدي بعد أن بايع لَهُ ببغداد، فَقَالَ: يا أبا عثمان، عظني. فَقَالَ: إن هَذَا الأمر الَّذِي أصبح فِي يدك لو بقي فِي يد غيرك ممن كَانَ قبلك لم يصل إليك، فأحذرك ليلة تمخض بيوم لا ليلة بعده، ثُمَّ أنشده:
يا أيهذا الَّذِي قَدْ غره الأمل ... ودون مَا يأمل التنغيص والأجل
ألا ترى أنما الدنيا وزينتها ... كمنزل الركب حلوا ثمّت ارتحلوا
__________
[1] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 12/ 166- 188.(8/58)
حتوفها رصد، وعيشها نكد ... وصفوها كدر، وملكها دول
تظل تفزع بالروعات ساكنها ... فما يسوغ لَهُ لين ولا جذل
كأنه للمنايا والردى غرض ... تظل فِيهِ بْنات الدهر تنتضل
تديره- مَا أدارته- دوائرها ... منها المصيب ومنها المخطئ الزلل
والنفس هاربة والموت يرصدها ... فكل عثرة رجل عندها جلل
والمرء يسعى بما يسعى لوارثه ... والقبر وارث مَا يسعى لَهُ الرجل
قَالَ: فبكى المنصور [1] .
أَخْبَرَنَا القزاز قَالَ: أَخْبَرَنَا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا الصيمري قال:
حدثنا أبو عبيد الله المرزباني قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الحسين عَبْد الواحد بْن محمد الحصيني قال: حَدَّثَنَا أبو العيناء مُحَمَّد بْن القاسم قَالَ: حَدَّثَنَا الفضل بْن يعقوب قَالَ: حَدَّثَنِي عمي إسحاق بْن الفضل قَالَ: بينا أنا على باب المنصور وإلى جنبي عمارة بْن حمزة إذ طلع عَمْرو بْن عبيد على حمار، فنزل عَنْ حماره، ونحى البساط [2] برجله، وجلس دونه، فالتفت إلي عمارة فقال: لا تزال بصرتكم ترمينا بأحمق. فما فصل كلامه من فِيهِ، حَتَّى خرج الربيع وَهُوَ يَقُول: أجب أمير المؤمنين، جعلني اللَّه فداك. فمر متوكئا عليه، فالتفت إِلَى عمارة فقلت: إن الرجل الّذي استحمقت قَدْ دعي وتركنا. قَالَ: كثيرا مَا يكون مثل هَذَا. فأطال اللبث، ثُمَّ خرج الربيع وعمرو متكئ عليه، وهو يقول: / يا 28/ ب غلام، حمار أبي عثمان. فما برح حَتَّى علا سرجه، وضم إِلَيْهِ نشر ثوبه [3] ، واستودعه اللَّه. فأقبل عمارة على الربيع فَقَالَ: لقد فعلتم اليوم بهذا الرجل فعلا لو فعلتموه بولي عهدكم لكنتم قَدْ قضيتم حقه. قَالَ: فما غاب عنك والله مما فعله أمير المؤمنين أكثر وأعجب. قَالَ: فإن اتسع لك الحديث فحدثنا. فَقَالَ: مَا هو إلا أن سمع أمير المؤمنين بمكانه، فما أمهل حَتَّى أمر بمجلس ففرش لبودا، ثُمَّ انتقل هو والمهدي، وَكَانَ على المهدي سواده وسيفه، ثُمَّ أذن لَهُ [4] ، فلما دخل سلم عليه بالخلافة فردّ عليه، وما زال
__________
[1] «قال: فبكى المنصور» ساقطة من ت.
انظر الخبر في: تاريخ بغداد 12/ 166- 167.
[2] في تاريخ بغداد: «ونجل البساط» .
[3] في الأصل: «وهم إليه يشربونه» وما أثبتناه من ت.
[4] في الأصل: «ثم سأله عن نفسه وعن عياله، فلما دخل» ثم تكررت العبارة.(8/59)
يدنيه حَتَّى أتكأه على فخذه، وتحفى به، ثُمَّ سأله عَنْ نفسه وعن عياله يسميهم رجلا رجلا وامرأة امرأة، ثُمَّ قَالَ: يا أبا عثمان، عظني. فَقَالَ: أعوذ باللَّه السميع العليم من الشيطان الرجيم: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ، هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ، إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ 89: 0- 13 [1] إن ربك يا أبا جعفر لبالمرصاد. قَالَ: فبكى بكاء شديدا كأنه لم يسمع تلك الآيات إلا فِي تلك الساعة، وَقَالَ: زدني. فقال: إن الله قَدْ أعطاك الدنيا بأسرها، فاشتر نفسك منه ببعضها، واعلم، أن هَذَا الأمر الَّذِي صار إليك إنما كَانَ فِي يد من قبلك، ثُمَّ أفضى إليك، وكذلك يخرج منك إِلَى من هو بعدك، وإني أحذرك ليلة تمخض صبيحتها عَنْ يوم القيامة. قَالَ: فبكى والله أشد من بكائه الأول حَتَّى جف جفناه. فَقَالَ له سليمان بن خالد: رفقا بأمير 29/ أالمؤمنين، قَدْ أتعبته اليوم فَقَالَ لَهُ عَمْرو: بمثلك ضاع/ الأمر وانتشر، لا أبا لك، وماذا خفت على أمير المؤمنين أن بكى من خشية اللَّه؟ عز وجل؟ فَقَالَ لَهُ أمير المؤمنين: يا أبا عثمان، أعني بأصحابك أستعن بهم. قال: أظهر الحق يتبعك أهله. قَالَ: بلغني أن مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن حسن كتب إليك كتابا. قَالَ: قد جاءني كتاب يشبه أن يكون كتابه. قَالَ:
فيم أجبته؟ قَالَ: أو ليس قَدْ عرفت رأيي فِي السيف أيام كنت تختلف إلينا، إني لا أراه، قَالَ: أجل، ولكن تحلف لي ليطمئن قلبي. قَالَ: لئن كذبتك تقية لأحلفن لك بقية.
قَالَ: أنت والله الصادق البر.
ثم قَالَ: قَدْ أمرت لك بعشرة آلاف درهم تستعين بها على سفرك وزمانك.
قَالَ: لا حاجة لي فِيهَا. قَالَ: والله لتأخذنها. قَالَ: والله لا آخذها. فَقَالَ لَهُ المهدي:
يحلف أمير المؤمنين وتحلف؟! فترك المهدي وأقبل على المنصور وَقَالَ: من هَذَا الفتى؟ قَالَ: هَذَا ابْني مُحَمَّد، هو المهدي وولي العهد. قَالَ: والله لقد أسميته اسما مَا استحقه عمله، وألبسته لباسا مَا هو من لبس الأبرار، ولقد مهدت لَهُ أمرا أمتع مَا يكون به، أشغل مَا يكون عنه. ثُمَّ التفت إِلَى المهدي وَقَالَ لَهُ: يا ابْن أخي، إذا حلف أبوك حلف عمك، لأن أباك أقدر على الكفارة من عمك. ثم قَالَ: يا أبا عثمان، هل من حاجة؟ قَالَ: نعم. قَالَ: وما هي؟ قَالَ: لا تبعث إليّ حتى آتيك. قال: إذا لا تأتيني.
__________
[1] سورة: الفجر، الآية: 1- 13.(8/60)
قَالَ: عَنْ حاجتي سألتني. قَالَ: فاستحفظه اللَّه وودعه ونهض، فلما ولى أمده ببصره وَهُوَ يَقُول:
كلكم يمشي رويد ... كلكم يطلب صيد
غير عَمْرو بْن عبيد [1]
قَالَ مؤلف الكتاب رحمه اللَّه [2] : تكلم العلماء فِي عَمْرو بْن عبيد لأجل مذهبه فِي القدر، وكذبه جماعة منهم فِي حديثه، وَكَانَ يَقُول: إن كانت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ 111: 1 [3] فما على أبي لهب من لوم.
أَخْبَرَنَا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الحافظ قَالَ: سمعت أبا عَمْرو عَبْد الوهاب/ بْن محمد بن أحمد بن إبراهيم العسال 29/ ب يَقُول: سمعت أبي يَقُول: سمعت مسبح بْن حاتم الْبَصْرِيّ يَقُول: سمعت عبيد اللَّه بْن معاذ العنبري يقول: سمعت أبي يقول: سمعت عَمْرو بْن عبيد يَقُول- وذكر حديث الصادق والمصدوق- فَقَالَ: لو سمعت الأعمش يَقُول هذا لكذبته، ولو سمعت زيد بْن وهب يَقُول هَذَا مَا أجبته، ولو سمعت عَبْد اللَّه بن مسعود يقول هذا مَا قبلته، ولو سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول هَذَا لرددته، ولو سمعت اللَّه تعالى يَقُول هَذَا لقلت لَهُ: ليس على هَذَا أخذت ميثاقنا [4] .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ الْقَزَّازِ قَالَ: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا عبد اللَّه بْن أَحْمَد الأصفهاني قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه الشافعي قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن بشير بْن مطير قَالَ: حَدَّثَنَا سوار بْن عَبْد اللَّه قَالَ: حَدَّثَنَا الأصمعي قَالَ: جاء عَمْرو بْن عُبَيْد إِلَى أبي عَمْرو بْن العلاء، فَقَالَ: يا أبا عَمْرو، يخلف اللَّه وعده؟ قَالَ:
لا. قَالَ: أفرأيت إن [وعد اللَّه على] [5] عمل عقابا، يخلف وعده؟ فقال أبو عمرو: من العجمة أتيت يا أبا عثمان، إن الوعد غير الوعيد، إن العرب لا تعد خلفا ولا عارا، إن
__________
[1] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 12/ 167- 169.
[2] في ت: «قال المصنف» .
[3] سورة: المسد، الآية: 1.
[4] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 12/ 172
[5] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، وأثبتناه من ت.(8/61)
تعد شرا ثُمَّ لا تفعله، ترى ذاك كرما وفضلا، إنما الخلف أن تعد خيرا ثُمَّ لا تفعله قَالَ: أوجدني هَذَا فِي كلام العرب. قَالَ: أما سمعت إِلَى قول الأول:
وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي [1]
أَخْبَرَنَا القزاز قَالَ: أَخْبَرَنَا أحمد بن علي قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ قَالَ:
أخبرنا ابن إسحاق البغوي قال: حدّثنا الحسن بن عليك قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرو بْن عَلِيّ قَالَ: سمعت عَبْد اللَّه بْن سلمة الأفطس يَقُول: سمعت عَمْرو بْن عبيد يَقُول: والله لو شهد عندي علي وعثمان وطلحة والزبير على سواك مَا أجزته [2] .
تُوُفِّيَ عَمْرو في هذه السنة ودفن بمران على ليال من مكة. وقيل: توفي سنة ثمان وأربعين.
30/ أ
762-/ مجالد بْن سعيد الهمداني [3] .
روى عَنِ الشعبي، وقد طعن بعض المحدثين فِيهِ.
763- هلال بْن خباب، أَبُو العلاء، مولى زيد بْن صوحان العبدي [4] .
وَهُوَ بصري سكن المدائن، وحدث بها عَنْ أبي جحيفة السوائي، وسعيد بْن جبير، وعكرمة.
روى عنه: مسعر، والثوري. وكان ثقة مأمونا، وقد غلط بعض المحدثين فقال:
ويونس بن خباب أخو هلال. وَقَالَ آخر: هلال ويونس وصالح بْنو خباب. وَكَانَ ذلك غلط ليس بينهم قرابة، إنما هو اتفاق فِي اسم الأب.
وتوفي هلال بْن خباب بالمدائن في هذه السنة.
__________
[1] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 12/ 175- 176.
[2] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 12/ 178.
[3] انظر ترجمته في: طبقات ابن سعد 7/ 349. والجرح 8/ 361.
[4] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 14/ 73، وتهذيب التهذيب 11/ 77. وطبقات ابن سعد 7/ 319، والجرح والتعديل 9/ 75.(8/62)
ثم دخلت سنة خمس وأربعين ومائة
فمن الحوادث فِيهَا:
خروج مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن حسن بْن حسن بْن عَلِيّ بْن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عنه بالمدينة، وخروج أخيه إِبْرَاهِيم بْن عَبْد اللَّه بعده بالبصرة ومقتلهما رضي اللَّه عنهما:
فأما خبر مُحَمَّد: فإن أبا جعفر لما انحدر ببْني حسن رد رياحا إِلَى المدينة، فألح فِي الطلب وأحرج محمدا حَتَّى عزم على الظهور، فخرج قبل وقته الَّذِي فارق عليه أخاه إِبْرَاهِيم.
وقيل: إن إِبْرَاهِيم هو الَّذِي تأخر عَنْ وقته لجدري أصابه.
وخرج مُحَمَّد فِي مائتين وخمسين فارسا، فأتى السجن فأخرج من فِيهِ، وتناوش الناس. وذلك في أول يوم من رجب هَذِهِ السنة. وقيل: لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة.
فأمر برياح وابْن مسلم فحبسا، وجعل يَقُول لأصحابه: لا تقتلوا. وصعد الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمّ قَالَ: أما بعد، أيها الناس، فإنه كَانَ من أمر هَذِهِ الطاغية عدو اللَّه أبي جعفر مَا لم يخف عليكم من بْناية القبة الخضراء الَّتِي بْناها معاندة للَّه فِي ملكه، وتصغيرا لكعبة اللَّه الحرام، وإنما أخذ اللَّه فرعون حين قَالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى 79: 24 [1] فإن أحق الناس/ بالقيام فِي هَذَا الدين أبْناء المهاجرين الأولين والأنصار، اللَّهمّ إنهم قَدْ 30/ ب أحلوا حرامك، وحرموا حلالك، وأمنوا من خوفت وأخافوا من أمنت، اللَّهمّ فاحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا، يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي وَاللَّهِ مَا خَرَجْتُ بين
__________
[1] سورة: النازعات، الآية: 24.(8/63)
أظهركم وأنتم عندي أَهْل قوة ولا شدة، ولكني اخترتكم لنفسي، والله مَا جئت وفي الأرض مصر يعَبْد اللَّه فِيهِ إلا وقد أخذ لي.
وَكَانَ المنصور يكتب على ألسن قواده يدعونه [1] إلى الظهور، ويخبرونه أنهم معه، فكان محمد يَقُول: لو التقينا مال إلي القواد كلهم.
ولما أخذ مُحَمَّد المدينة استعمل عَلَيْهَا عثمان بْن مُحَمَّد بْن خالد بْن الزُّبَيْر، وعلى قضائها عَبْد العزيز بْن عَبْد المطلب بْن عَبْد اللَّه المخزومي، وعلى الشرط أبا القاسم عثمان بْن عبيد اللَّه، وعلى ديوان العطاء عَبْد اللَّه بْن جعفر بْن عَبْد الرَّحْمَنِ، واستعمل القاسم بْن إسحاق على اليمن، وموسى بْن عَبْد اللَّه على الشام يدعوان إِلَيْهِ، فقتلا قبل أن يصلا.
واستفتي مالك بْن أنس فِي الخروج مَعَ مُحَمَّد، وقيل لَهُ: إن فِي أعناقنا لأبي جعفر بيعة. فَقَالَ: إنما بايعتم مكرهين، وليس على مكره يمين، فأسرع الناس إِلَى مُحَمَّد، ولزم مالك بيته، وأرسل مُحَمَّد إِلَى إسماعيل بْن عَبْد اللَّه بْن جعفر، فدعاه فَقَالَ: يا ابْن أخي، أنت والله مقتول، فكيف أبايعك؟ فارتدع الناس عنه قليلا، وخرج مُحَمَّد وأبو جعفر قَدْ خط مدينة بغداد بالقصب. فلما خرج مضى رجل من بْني عامر، فسار من المدينة تسع ليال، فقدم على أبي جعفر، فَقَالَ الربيع: مَا حاجتك؟ فَقَالَ: لا بد لي من أمير المؤمنين فأعلمه. فَقَالَ: سله عَنْ حاجته وأعلمني. قَالَ: قَدْ أبى إلا مشافهتك. فأذن لَهُ، فدخل فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، خرج مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بالمدينة.
فَقَالَ: قتلته والله، أَخْبَرَنِي من معه، فسمى لَهُ. فَقَالَ: أنت رأيته. قَالَ: أنا رأيته وكلمته 31/ أعلى/ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فأدخله أَبُو جعفر بيتا، فلما أصبح جاءه الخبر، فأمر للرجل بتسعة آلاف، لكل ليلة سارها ألفا.
وكتب أَبُو جعفر إِلَى مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، من عَبْد اللَّه أمير المؤمنين إِلَى مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا 5: 33 إِلَى قوله: غَفُورٌ رَحِيمٌ 5: 34 [2] ولك عهد الله
__________
[1] في الأصل: «يدعوه» وما أثبتناه من ت.
[2] سورة: المائدة، الآية: 33، 34.(8/64)
وميثاقه وذمته وذمة رسوله إن تبت ورجعت من قبل أن أقدر عَلَيْك أن أؤمنك وجميع إخوتك وأهل بيتك ومن اتبعكم على دمائكم وأموالكم، وأسوغك مَا أصبت من دم أو مال، وأعطيك ألف ألف درهم، وما سألت من الكراع، وأنزلك من البلاد حيث شئت، وأن أطلق من فِي حبسي من أَهْل بيتك، وأن أؤمن كل من جاءك أو بايعك أو دخل فِي شيء من أمرك، فإن أردت أن تتوثق لنفسك فوجّه إلي من أحببت يأخذ لك مني من الأمان والميثاق مَا تثق به.
فكتب إِلَيْهِ مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه: من عَبْد اللَّه [1] المهدي مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه إِلَى مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه: طسم، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ 28: 1- 3 إِلَى قوله تعالى: مَا كانُوا يَحْذَرُونَ 28: 6 [2] وأنا أعرض عَلَيْك من الأمان مثل مَا عرضت علي، فإن الحق حقنا، وإنما ادعيتم هَذَا الأمر بْنا، وخرجتم لَهُ بشيعتنا، وإن أبانا عليا كَانَ الْإِمَام، فكيف ورثتم ولايته وولده أحياء؟ فوالدنا من النبيين محمد صلّى الله عليه وسلّم ومن السلف أولهم إسلاما: عَلِيّ بْن أبي طالب، ومن الأزواج أفضلهم خديجة، وأول من صلى للقبلة، ومن البنات خيرهن فاطمة، ومن المولودين حسن وحسين سيدا شباب أَهْل الجنة، وإن هاشما ولد عليا مرتين، وإن عَبْد المطلب ولد حسنا مرتين، وأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولدني مرتين من قبل حسن وحسين، وإني أوسط/ بني هاشم نسبا، وأصرحهم 31/ ب أبا، إنما لم نعرف فِي العجم، ولم ننازع فِي أمهات الأولاد، ولك عهد اللَّه إن دخلت فِي طاعتي، أن أؤمنك على نفسك ومالك وعلى كل أمر أحدثته، إلا حدا من حدود اللَّه، أو حقا لمسلم أو معاهد، وأنا أولى بالأمر منك، وأوفى بالعهد، لأنك أعطيتني من العهد والأمان مَا أعطيته رجالا قبلي، فأي الأمانات تعطيني!؟ أمان ابن هبيرة، أم أمان عملك عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ، أم أمان أبي مسلم.
فكتب إِلَيْهِ أَبُو جعفر: أما بعد، فإني قَدْ فهمت كتابك، فإذا جل فخرك بقرابة النساء لتضل به الغوغاء، ولم يجعل اللَّه النساء كالعمومة، ولا الآباء كالعصبة، والأولياء، ولقد بعث اللَّه تعالى محمدا صلّى الله عليه وسلّم وله عمومة أربعة، فأجاب اثنان أحدهما أبي، وأبى اثنان أحدهما أبوك، فقطع اللَّه ولايتهما منه، وأما مَا فخرت به من علي، فقد
__________
[1] في ت: «بن عبد الله المهدي» وما أثبتناه من الأصل.
[2] سورة: القصص، الآية: 1- 5.(8/65)
حضرت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الوفاة، فأمر غيره فصلى بالناس، وَكَانَ فِي الستة فدفعوه، وقتل عثمان وَهُوَ لَهُ متهم، وقاتله طلحة والزبير، ثُمَّ كَانَ حسن فباعها من معاوية بخرق ودراهم، فإن كَانَ لكم فِيهَا شيء فقد بعتموه وأخذتم ثمنه، ثُمَّ خرجتم على بني أمية فقتلوكم وصلبوكم ونفوكم، فطلبْنا بثأركم، وأورثناكم أرضهم، ولقد علمت أن مكرمتنا فِي الجاهلية سقاية الحاج وزمزم، ولقد قحط أَهْل المدينة فلم يتوسل عُمَر إلا بأبينا.
ولما ظهر مُحَمَّد شخص إِلَيْهِ الحسن بْن معاوية فرده إِلَى مكة، فغلب عَلَيْهَا ودخل مكة فخطب بالناس ونعى إليهم أبا جعفر، ودعا لمحمد بْن عبد الله فدعا أبو جعفر جعفر بْن حنظلة النهراني، وَكَانَ أعلم الناس بالحرب، وقد شهد مَعَ مروان حروبه، فَقَالَ لَهُ: يا جعفر، قَدْ ظهر مُحَمَّد، فما عندك؟ فَقَالَ: وأين ظهر؟ قَالَ: بالمدينة. قَالَ:
فاحمد اللَّه، ظهر حيث لا مال ولا سلاح ولا كراع، ابعث مولى لك تثق به الآن ينزل 32/ أبوادي/ القرى، فيمنعه ميرة الشام، فيموت مكانه جوعا. ففعل وندب أَبُو جعفر عيسى بْن موسى لقتال مُحَمَّد وَقَالَ: لا أبالي أيهما قتل صاحبه وضم إِلَيْهِ أربعة آلاف من الجند، وبعث معه مُحَمَّد بْن أبي الْعَبَّاس أمير المؤمنين، وقدم كثير بْن أبي حصين العبدي فعسكر بفيد، وخندق عليه خندقا حَتَّى قدم عليه عيسى بْن موسى، فخرج به إِلَى المدينة، وَقَالَ أَبُو جعفر لعيسى حين ودعه: يا عيسى، إني أبعثك إلى ما بين هذين- وأشار إِلَى جنبيه- فإن ظفرت بالرجل فشم سيفك وابذل الأمان، وإن تغيب فضمنهم إياه حَتَّى يأتوك به، فإنهم يعرفون مذهبه. ففعل ذلك.
ولما وصل عيسى إِلَى فيد كتب إِلَى رجال من أَهْل المدينة، فتفرقوا عَنْ مُحَمَّد وخرجوا إِلَى عيسى، وقد كَانَ مَعَ مُحَمَّد نحو من مائة ألف، فلما دنا عيسى إِلَى المدينة قَالَ مُحَمَّد لأصحابه: أشيروا علي فِي الخروج والمقام. فاختلفوا، فَقَالَ بعضهم: إنك بأقل بلاد اللَّه فرسا وطعاما، وأضعفها رجلا وسلاحا، والرأي بأن تسير بمن معك حتى تأتي مصر، فو الله لا يردك راد، فتقابل الرجل بمثل سلاحه ورجاله.
وَقَالَ بعضهم: أعوذ باللَّه أن تخرج من المدينة، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «رأيتني فِي درع حصينة فأولتها المدينة» فحفر خندق رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي حفره يوم الأحزاب، وخطب الناس وَقَالَ: «إن هَذَا الرجل قرب منكم فِي عدد وعدة، وقد احللتكم من بيعتي، فمن أحب فليقم، ومن أحب فلينصرف. فتسللوا وخرج قوم منهم إِلَى الجبال حَتَّى بقي فِي شرذمة، حَتَّى قَالَ بعضهم: نحن اليوم في عدة أصحاب بدر ثلاثمائة وثلاثة(8/66)
عشر رجلا ونزل عيسى بالحرف صبيحة اثنتي عشرة من رَمَضَان من هَذِهِ السنة يوم السبت، فأقام يوم السبت ويوم الأحد وغداة الاثنين، حتى استولى على سلع، وشحن/ 32/ ب وجوه المدينة بالخيل، وأقبل على دابته يمشي وحوله نحو من خمسمائة وبين يديه راية، فوقف على الثنية ثُمَّ نادى: يا أَهْل المدينة، إن اللَّه قَدْ حرم دماء بعضنا [1] على بعض، فهلم إِلَى الأمان، فمن قام تحت رايتنا فهو آمن، ومن دخل داره فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن خرج من المدينة فهو آمن، خلوا بيننا وبين صاحبْنا، فإما لنا وإما لَهُ.
فشتمه أَهْل المدينة، فانصرف يومه ذاك، وعاد من الغد، ففعل مثل ذلك فشتموه، فلما كان في اليوم الثالث أقبل بالخيل والرجال والسلاح، ونادى بْنفسه: يا مُحَمَّد، إن أمير المؤمنين أمرني أن لا أقاتل حَتَّى أعرض عَلَيْك الأمان، فلك الأمان على نفسك وأهلك وولدك وأصحابك، وتعطى من المال كذا وكذا، ويقضي عنك دينك. فصاح محمد إله عن هذا، فو الله لقد علمت إنه لا يثنيني عنكم فزع، ولا يقربْني منكم طمع، ولحج القتال وترجل، فقتل يومئذ نحوا من سبعين بيده، وكانت الهزيمة قَدْ بلغت الخندق، فأرسل عيسى بأبواب بقدر الخندق، فعبروا عَلَيْهَا حَتَّى كانوا من ورائه، ثُمَّ اقتتلوا أشد القتال من بكرة حَتَّى العصر.
وفي رواية: أمرهم عيسى فطرحوا حقائب الإبل فِي الخندق، وأمر ببابي دار سعد بْن مسعود التي فِي الثنية، فطرحا على الخندق، فجازت الخيل، فالتقوا، فانصرف مُحَمَّد قبل الظهر، فاغتسل وتحنط، فقيل لَهُ: الحق بمكة. فَقَالَ: لو خرجت لقتل أَهْل المدينة، والله لا أرجع حَتَّى أقتل أو أقتل. فعرقب دابته، وعرقب أصحابه دوابهم، فلم يبق أحد إلا كسر غمد سيفه، فجاز رجل فضرب محمدا بالسيف دون شحمة أذنه اليمنى، فبرك لركبتيه، وتعاونوا عليه. وصاح حميد بْن قحطبة: لا تقتلوه، فكفوا، فجاء حميد فاجتز رأسه، وَكَانَ مَعَ مُحَمَّد سيف، فأعطاه- قبل أن يقتل- رجلا من التجار له عليه دين أربعمائة دينار. فَقَالَ خذ هَذَا السيف، فإنك لا تلقى أحدا من آل أبي/ طالب إلا أخذه وأعطاك حقك، فكان السيف عنده حَتَّى ولي جعفر بن سليمان 33/ أالمدينة، فأخبر عنه، فدعا الرجل وأخذ السيف منه وأعطاه أربعمائة دينار وقتل محمد
__________
[1] في الأصل: «دمائنا على بعض» .(8/67)
رضي اللَّه عنه بعد العصر يوم الاثنين لأربع عشرة خلت من رَمَضَان، فلما أصبحوا أرسلت أخته زينب وابْنته فاطمة إِلَى عيسى: إنكم قَدْ قتلتم هَذَا الرجل وقضيتم منه حاجتكم، فلو أذنتم لنا فواريناه. فأذن فِي ذلك، فدفنوه بالبقيع، وأمر عيسى بصلب أصحابه، وبعث عيسى بألوية فوضعها فِي أماكن ونادى مناديه: من دخل تحت لواء منها فهو آمن، أو دخل دارا من هذه الدور فهو آمن. وجعل عيسى يختلف إِلَى المسجد، فأقام بالمدينة أياما، ثُمَّ شخص [صبح] [1] تاسع عشر رَمَضَان يريد مكة، وحمل رأس مُحَمَّد إِلَى أبي جعفر وَهُوَ بالكوفة، فأمر به فطيف به فِي طبق أبيض، فلما أمسى بعث به فِي الآفاق، وتتبع من هرب من الخارجين معه [2] فقتل أكثرهم.
ولما خرج عيسى من المدينة استخلف عَلَيْهَا كثير بْن حصين، فمكث واليا عَلَيْهَا شهرا، ثُمَّ قدم عَبْد اللَّه بْن الربيع الحارثي واليا عَلَيْهَا من قبل أبي جعفر.
وَفِيهَا: ثارت السودان بالمدينة
وواليها عَبْد اللَّه بْن الربيع، فهرب منهم.
وَكَانَ السبب الَّذِي هيج ذلك أن رياح بْن عثمان استعمل أبا بكر بْن عَبْد اللَّه بْن سبرة على صدقة أسد وطئ، فلما خرج مُحَمَّد أقبل إِلَيْهِ أَبُو بكر بما كَانَ جبى، وشمر معه، فلما استخلف عيسى كثير بْن حصين أخذ أبا بكر فضربه سبعين سوطا وحبسه، ثُمَّ قدم عَبْد اللَّه بْن الربيع واليا يوم السبت لخمس بقين من شوال سنة خمس وأربعين، فنازع بعض جنده بعض التجار فِي بعض مَا يشترون [3] منهم، فخرجت طائفة منهم- يعني التجار- فشكوا [4] ذلك إِلَى ابْن الربيع فنهرهم وشتمهم، فطمع فيهم الجند، فانتهبوا شيئا من طعام السوق، وعدوا على رجل من الصرافين فغالبوه على كيسه، 33/ ب فاجتمع أَهْل المدينة فشكوا/ ذلك إِلَى ابْن الربيع فلم ينكر ذلك، وجاء رجل من الجند فاشترى من جزار لحما ولم يعطه ثمنه وشهر عليه السيف، فطعنه الجزار بشفرة فخر عَنْ دابته، واعتوره الجزارون فقتلوه، وتنادى السودان على الجند وهم يروحون إِلَى الجمعة فقتلوهم بالعمد فِي كل ناحية، حَتَّى أمسوا، فلما كَانَ الغد هرب ابن الربيع، ونفخ
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وأثبتناه من ت.
[2] في ت: «من ضمن خرج معه فقتل» .
[3] في الأصل: «فيما يشترى منهم» وما أثبتناه من ت.
[4] في ت: «طائفة من التجار فشكوا» .(8/68)
السودان فِي بوق لهم، فكان كل أسود يسمعه فيؤم الصوت [1] ، وذلك فِي يوم الجمعة لسبع بقين من ذي الحجة، وعدوا على ابْن الربيع والناس فِي الجمعة، فأعجلوه عَنِ الصلاة، وخرج حتى أتى السوق، فمر بمساكين خمسة وهم يسألون الناس، فحمل عليهم بمن معه فقتلوهم، وحمل عليه السودان، فهرب ابْن الربيع إِلَى البقيع فرهقوه [2] ، فنثر لهم دراهم فأشغلوا بها، ومضى لوجهه حَتَّى نزل بطن نخلة، ووقع السودان فِي طعام لأبي جعفر من سويق ودقيق وزيت، فانتهبوه.
فخرج ابْن أبي سبرة من السجن فِي حديده، فخطب الناس وصلى بهم، ودعاهم إِلَى الطاعة، وقال ابْن أبي سبرة لجماعة من سادات العبيد: والله لئن ثبتت علينا هَذِهِ الثلاثة [3] عند أمير المؤمنين بعد الفعلة الأولى إنه لاصطلام البلد وأهله، فاذهبوا إِلَى العبيد فكلموهم. فذهبوا إليهم فقالوا: مرحبا بكم يا موالينا، والله مَا قمنا إلا إبقاء لكم.
واقبلوا بهم إِلَى المسجد، فردوا مَا انتهبوه، فرجع ابْن الربيع، فقطع أيدي جماعة من السودان.
وَفِيهَا: أسست مدينة بغداد: [4]
وَكَانَ سبب ذلك: أن أبا جعفر بْنى- حين أفضي الأمر إِلَيْهِ- الهاشمية قبالة مدينة ابْن هبيرة إِلَى جنب الكوفة، وبْنى أَبُو جعفر أيضا مدينة بظهر الكوفة سمّاها: الرصافة.
فلما ثارت الروندية بأبي جعفر فِي مدينته الَّتِي يقال لها: الهاشمية كره سكناها لاضطراب من اضطرب عليه من الروندية، ولم يأمن على نفسه. فخرج يرتاد موضعا يتخذه مسكنا لنفسه وجنده، ويبْني به مدينة، فانحدر إِلَى جرجرايا، ثُمَّ صار إِلَى بغداد، ثم مضى إلى الموصل، ثم عاد إِلَى بغداد فَقَالَ: هَذَا موضع صالح، وَهَذِهِ دجلة ليس بيننا وبين 34/ أالصين شيء، يأتينا فِيهَا كل مَا فِي البحر، وتأتينا الميرة من الجزيرة وأرمينية وما حول ذلك، وَهَذِهِ الفرات يجيء فِيهَا كل شيء بالشام والرقة، وضرب عسكره على الصراة، وخط المدينة، ووكل بكلّ ربع قائدا.
__________
[1] في الطبري 7/ 610: «يأتم الصوت» .
[2] في الأصل: «فوهقوه» وما أثبتناه من ت.
[3] في الأصل: «هذه الليلة» وما أثبتناه من ت.
[4] انظر: تاريخ الطبري أحداث سنة 145 هـ.(8/69)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ الْقَزَّازِ قَالَ: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أَخْبَرَنِي مُحَمَّد بْن عَلِيّ الوراق وأحمد بْن عَلِيّ المحتسب قالا: أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّد بْن جعفر بن هارون الكوفي قال: حدثنا الحسن بن محمد السكوني قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن خلف قَالَ: زعم عَبْد الله بن أبي سعيد قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن حميد بْن جبلة قَالَ:
حَدَّثَنِي أبي، عَنْ جدي جبلة قَالَ: كانت مدينة أبي جعفر قبل بْنائها مزرعة البغداديين يقال لها: المباركة، وكانت لستين نفسا من البغداديين، فعوضهم عنها عوضا أرضاهم فأخذ جدي جبلة قسمه فيهم.
أَخْبَرَنَا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي قَالَ: ذكر علماء الأوائل أن أقاليم الأرض سبعة، وأن الهند رسمتها فجعلت صفة الأقاليم كأنها حلقة، فالإقليم الأول منها: إقليم بلاد الهند، والإقليم الثاني إقليم الحجاز، والإقليم الثالث إقليم مصر، والإقليم الرابع إقليم بابل، وَهُوَ أوسط الأقاليم وأعمرها، وفيه جزيرة العرب، وفيه العراق الّذي هو سرة الدنيا، وبغداد فِي وسط هَذَا الإقليم. والإقليم الخامس بلاد الروم، والإقليم السادس بلاد الترك، والإقليم السابع بلاد الصين. والإقليم الرابع الَّذِي فِيهِ العراق- وفي العراق بغداد- هو صفوة الأرض ووسطها لا يلحق من فِيهِ عيب سرف ولا تقصير، فكذلك اعتدلت ألوان أهله، وامتدت أجسامهم، وسلموا من شقرة الروم والصقالبة، ومن سواد الحبش وسائر أجناس السودان، ومن غلظ الترك، ومن جفاء أَهْل الجبال وخراسان، ومن دمامة أَهْل الصين ومن جانسهم، واجتمعت فِي أَهْل هَذَا القسم 34/ ب من الأرض محاسن جميع أَهْل الأقطار، وكما اعتدلوا/ فِي الخلقة، كذلك لطفوا فِي الفطنة [1] والتمسك بالعلم والآداب، وهم أهل العراق ومن جاورهم [2] .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُقْرِئُ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ التَّمِيمِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَد الجلوذي قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَنْجُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَائِشَةَ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى كَعْبِ الأَحْبَارِ اخْتَرْ لِي الْمَنَازِلَ. قَالَ [3] : فكتب: يا أمير
__________
[1] في ت: «الفتنة» وما أثبتناه من الأصل.
[2] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 22، 23.
[3] «قال» ساقطة من ت، وأثبتناها من الأصل.(8/70)
الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ بَلَغَنَا أَنَّ الأَشْيَاءَ اجْتَمَعَتْ فَقَالَ السَّخَاءُ: أُرِيدُ الْيَمَنَ. فَقَالَ حُسْنُ الْخُلُقِ:
أَنَا مَعَكَ. فَقَالَ الْجَفَاءُ: أُرِيدُ الْحِجَازَ فَقَالَ الْفَقْرُ: وَأَنَا مَعَكَ. فَقَالَ الْبَأْسُ: أُرِيدُ الشَّامَ.
فَقَالَ السَّيْفُ: وَأَنَا مَعَكَ. فَقَالَ الْعِلْمُ: أُرِيدُ الْعِرَاقَ. فَقَالَ الْعَقْلُ: وَأَنَا مَعَكَ. فَقَالَ الْغِنَى: أُرِيدُ مِصْرَ. فَقَالَ الذُّلُّ: وَأَنَا مَعَكَ. فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ، فَلَمَّا وَرَدَ الْكِتَابُ عَلَى عُمَرَ قَالَ: فَالْعِرَاقُ إِذَنْ، فَالْعِرَاقُ إِذَنْ [1] .
أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ قَالَ: أخبرنا أحمد بن علي قال: قرأت على أبي بكر أَحْمَد بْن مُحَمَّد اليزدي، عَنْ أبي شيخ عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن حيان قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَن البغدادي قَالَ: قَالَ إِبْرَاهِيم بْن عَبْد اللَّه: جئت إِلَى الجاحظ فَقَالَ: الأمصار عشرة: الصناعة بالبصرة، والفصاحة بالكوفة، والخير ببغداد، والغدر بالري، والحسد بهراة، والجفاء بنيسابور، والبخل بمرو، والطرمذة بسمرقند، والمروءة ببلخ، والتجارة بمصر [2] .
وَقَالَ سليمان بْن مجالد: خرج المنصور يرتاد منزلا، فخرجنا على ساباط، فتخلف بعض أصحابي لرمد أصابه، وأقام يعالج عينيه، فسأله الطبيب أين يريد أمير المؤمنين؟ قَالَ: يرتاد منزلا قَالَ: فإنا نجد فِي كتاب عندنا أن رجلا يدعى مقلاصا يبْني مدينة بين دجلة والصراة تدعى: الزوراء، فإذا أسسها وبْنى عرقا منها أتاه فتق من الحجاز فقطع بْناءها وأقبل على إصلاح ذلك الفتق، فإذا كاد يلتئم أتاه فتق من البصرة هو أكبر منه، فلا يلبث الفتقان أن يلتئما ثُمَّ يعود إِلَى بْنائها فيتمه، ثُمَّ يعمر طويلا، ويبقى الملك فِي عقبه/. قَالَ سليمان: فإن أمير المؤمنين لبأطراف الجبال في ارتياد 35/ أمنزل إذ قدم علي صاحبي فأخبرني الخبر، فأخبرت به أمير المؤمنين. فدعا الرجل فحدثه الحديث، فكرّ راجعا عوده على بدئه وَقَالَ: والله أنا ذلك لقد سميت مقلاصا وأنا صبي، ثُمَّ انقطعت عني، ثم شاور في ذلك، فاتفق رأي القوم على بغداد، وقالوا [3] لَهُ: تجيئك الميرة من العرب فِي الفرات وطرائف مصر والشام، وتجيئك
__________
[1] لم تتكرر العبارة في ت.
انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 25.
[2] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 49.
[3] في ت: «وقيل له» وما أثبتناه من الأصل.(8/71)
الميره فِي السفن من الصين والهند والبصرة وواسط فِي دجلة، وتجيئك الميرة من أرمينية وما اتصل بها فِي تامرا حَتَّى تصل إِلَى الزاب، وتجيئك الميرة من الروم وآمد والجزيرة والموصل فِي دجلة [1] ، وأنت بين أنهار لا يصل إليك [عدوك] [2] إلا على جسر أو قنطرة، فإذا قطعت الجسر وأخربت القناطر لم يصل إليك عدو وأنت بين دجلة والفرات، لا يجيئك أحد من المشرق أو المغرب إلا احتاج إِلَى العبور بدجلة والفرات خنادق لمدينة أمير المؤمنين.
فوجه فِي حشر الصناع والفعلة من الشام والموصل والجبل والكوفة وواسط والبصرة فأحضروا، وأمر باختيار قوم من أَهْل الفضل والعدالة والفقه والأمانة والمعرفة بالهندسة، وَكَانَ ممن أحضر الحجاج بْن أرطأة وأبو حنيفة والنعمان بْن ثَابِت.
وأمر بخط المدينة، وحفر الأساسات، وضرب اللبْن، وحرق الآجر، وكان أول ما ابتدأ به في عملها سنة خمس وأربعين [ومائة] [3] ، وأحب أن ينظر إليها، فأمر أن تخط بالرماد، وأقبل يدخل من كل باب، ويمر في فضلاتها وطاقتها ورحابها وهي مخطوطة بالرماد، وأمر أن يحفر أساس ذلك على ذلك الرسم.
قَالَ ابْن عياش: فوضع أول لبْنة بيده وَقَالَ: بسم اللَّه وباللَّه، والْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ 7: 128 [4] . ثُمَّ قَالَ: ابْنوا على بركة اللَّه وعونه.
وَقَالَ حماد التركي: لما وقع اختيارهم على موضع بغداد، وَكَانَ فِي موضع الخلد/ دير وفي فرات الصراة قرية، وكانت القرية تسمى العتيقة، وهي التي افتتحها المثنى بن حارثة، وجاء المنصور فنزل الدير فِي موضع الخلد على الصراة، فوجده قليل البق، فَقَالَ: هَذَا موضع ارضاه، تأتيه الميرة من الفرات ودجلة. فبْناه، وَكَانَ موضع قرى ومزارع.
ولما احتاج المنصور فِي بْنائه إِلَى الأنقاض قَالَ لخالد بْن برمك: ما ترى في نقض بناء كسرى بالمدائن وحمل نقضه إِلَى مدينتي هَذِهِ. فَقَالَ: لا أرى ذلك. قال:
__________
[1] في ت: «ودجلة» وما أثبتناه من الأصل.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وما أثبتناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وأثبتناه من ت.
[4] سورة الأعراف، الآية: 128.(8/72)
ولم؟ قَالَ: لأنه علم من [أعلام] [1] الإسلام يستدل به الناظر إِلَيْهِ على أنه لم يكن ليزال مثل أصحابه عنه بأمر دنيا، وإنما هو بأمر دين. فَقَالَ: أبيت إلا الميل إلى أصحابك العجم. وأمر أن ينقض القصر الأبيض، فنقضت ناحية منه، وحمل نقضه، فنظر فِي مقدار مَا يلزمهم للنقض والحمل فوجدوا ذلك أكثر من ثمن الجديد، فرفع ذلك إِلَى المنصور، فدعا خالدا فأخبره وَقَالَ: مَا ترى؟ قَالَ: قَدْ كنت أرى أن لا تفعل، فأما إذ فعلت فأرى أن تهدم الآن حَتَّى تلحق بقواعده لئلا يقال إنك عجزت عَنْ هدمه. فأعرض المنصور عَنْ ذلك وأمر أن لا يهدم.
أَخْبَرَنَا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد الْقَزَّازُ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ علي بن ثابت قال: أخبرنا الحسن بن علي الجوهري قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عُمَر المرزباني قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الحسين عَبْد الواحد بْن مُحَمَّد الحصيني قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو علي أَحْمَد بْن إسماعيل قَالَ: لما صارت الخلافة إِلَى المنصور أمر بْنقض إيوان المدائن فاستشار جماعة من أصحابه، وكلهم أشار عليه بمثل مَا هم، وَكَانَ معه كاتب من الفرس فاستشاره [2] فِي ذلك فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أنت تعلم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج من تلك القرية- يعني المدينة- وكان له بها مثل ذلك المنزل، ولأصحابه مثل تلك الحجر، فخرج أصحاب ذلك الرسول صلّى الله عليه وسلّم حَتَّى جاءوا مَعَ ضعفهم إِلَى صاحب هَذَا الإيوان مَعَ عزته وصعوبة أمره/، حَتَّى غلبوه وأخذوه من يديه قسرا 36/ أوقهرا، ثُمَّ قتلوه، فيجيء الجائي من أقاصي الأراضي فينظر إِلَى تلك المدينة وإلى هَذَا الإيوان، ويعلم أن صاحبها قهر صاحب هَذَا الإيوان، فلا يشك أنه بأمر اللَّه عز وجل، وأنه هو الَّذِي أيده، وَكَانَ معه ومع أصحابه، وفي تركه فخر لكم، فاستغشه المنصور واتهمه لقرابته من القوم، ثُمَّ بعث فِي بعض الإيوان فنقض منه الشيء اليسير، ثُمَّ كتب إِلَيْهِ أنه يغرم [3] فِي نقضه أكثر مما يسترجع، وأن هَذَا تلف للأموال وذهابها. فدعا الكاتب فاستشاره فيما كتب به إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ كنت أشرت بشيء لم يقبل مني، وأما الآن فإني آنف لكم أن يكونوا أولئك بنوا بناء تعجزون أنتم عن
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وما أثبتناه من ت.
[2] في الأصل: «فاستشار» وما أثبتناه من ت.
[3] في الأصل: «أنه إذا يغرم في نقضه» .(8/73)
هدمه والصواب أن تبلغ به الماء. ففكر المنصور فعلم أنه قَدْ صدق، ثُمَّ نظر فإذا هدمه يتلف الأموال فأمر بالإمساك عنه.
وقيل إن أبا جَعْفَر لما أمر بحفر الخنادق وأنشأ بْناء الأساس أمر أن يجعل عرض السور من أسفله خمسين ذراعا، وقدر أعلاه عشرين ذراعا، فلما بلغ البْناء قامة أتاه خروج مُحَمَّد فقطع البْناء، وخرج إِلَى الكوفة، فلما فرغ من حرب مُحَمَّد رجع إِلَى بغداد.
أَخْبَرَنَا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا الحسن بْن أبي طالب قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن عروة قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر الصولي قال: قال رجل من ولد الربيع.
لما أراد أَبُو جَعْفَر أن يبْني لنفسه كَانَ يؤتى من كل مدينة بتراب فيعفنه فيصير عقارب وهوام، حَتَّى أتى بتربة بغداد، فخرج صرارات، وأتى الخلد فنظر إِلَى دجلة والفرات فأعجبه، فرآه راهب كَانَ هُنَاكَ وَهُوَ يقدر بْناءها. فَقَالَ: لا يتم، فبلغه فأتاه.
فقال: نعم!. نجد في كتبنا أن الَّذِي يبْنيها ملك يقال لَهُ: مقلاص. قَالَ أَبُو جَعْفَر: كانت والله أمي تلقبْني فِي صغري مقلاصا [1] .
أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر الخطيب قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن أبي علي المعلى قَالَ: أَخْبَرَنَا طلحة بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْن جرير/ إجازة:
أن أبا جَعْفَر ابتدأ أساس المدينة سنة خمس وأربعين ومائة، واستتم البْناء سنة ست وأربعين ومائة وسمّاها مدينة السلام [2] .
قَالَ الخطيب: وبلغني أنه لما عزم على بْنائها أحضر المهندسين وأهل المعرفة بالبْناء والعلم بالذرع والمساحة وقسمة الأرض، فمثل لهم صفتها الَّتِي فِي نفسه، ثُمَّ أحضر الفعلة والصناع من النجارين والحفارين والحدادين وغيرهم، وأجرى عليهم الأرزاق، وكتب إِلَى كل بلد فِي حمل من فِيهِ ممن يفهم شيئا من أمر البْناء، ولم يبتدئ فِي البْناء حَتَّى تكامل بحضرته من أَهْل الصناعات ألوف كثيرة، ثُمَّ اختطها وجعلها مدورة. ويقال: لا يعرف في أقطار الأرض كلها مدينة مدورة سواها، ووضع أساسها فِي وقت اختاره نوبخت المنجّم [3] .
__________
[1] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 66.
[2] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 66.
[3] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 67.(8/74)
أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا أبو عمر الحسن بن عثمان بن الفلو قال: أخبرنا جعفر بن محمد بن أحمد بْن الحكم قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الفضل الْعَبَّاس بْن أَحْمَد الحداد قَالَ: سمعت أَحْمَد البربري [1] يَقُول: مدينة أبي جَعْفَر ثَلاثُونَ ومائة جريب، خنادقها وسورها ثَلاثُونَ جريبا، وأنفق عَلَيْهَا ثمانية عشر ألف ألف [2] .
قَالَ الخطيب: ورأيت فِي بعض الكتب أن المنصور أنفق على مدينته وجامعها وقصر الذهب فيها والأبواب والأسواق إِلَى أن فرغ من بْنائها أربعة آلاف وثلاثة وثمانين درهما، مبلغها من الفلوس مائة ألف فلس وثلاثة وعشرون ألف فلس، وذلك أن الأستاذ من الصناع كان يعمل يومه بقيراط إِلَى خمس حبات، والروزداري يعمل بحبتين إلى ثلاث حبات، وهذا خلاف مَا تقدم ذكره، وبين القولين تفاوت كثير [3] .
أخبرنا عبد الرحمن قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْر بْنِ ثَابِتٍ الْخَطِيبُ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيّ الوراق قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن جَعْفَر النحوي قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن مُحَمَّد السكوني قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن خلف قَالَ: قَالَ يحيى بْن الْحَسَن بْن عَبْد الخالق: خط المدينة ميل فِي ميل [4] ، / ولبْنها ذراع في ذراع [5] .
قَالَ ابْن خلف: قَالَ أَحْمَد بْن مُحَمَّد الشروي: وهدمنا من السور الَّذِي على باب المحول قطعة، فوجدنا فِيهَا لبْنة مكتوب عَلَيْهَا بمغرة وزنها مائة وسبعة عشر رطلا، فوزناها فوجدناها كذلك [6] قَالَ الخطيب: وبلغني عَنْ مُحَمَّد بْن خلف أن أبا حنيفة النعمان بن ثابت كان يتولى القيام بضرب لبْن المدينة وعدده حَتَّى فرغ من استتمام بْناء حائط المدينة مما يلي الخندق. وَكَانَ أَبُو حنيفة يعد اللبْن بالقصب، وَهُوَ أول من فعل ذلك، فاستفاده الناس منه [7] .
__________
[1] في تاريخ بغداد: «أحمد بن البربري» .
[2] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 69.
[3] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 69- 70.
[4] في الأصل: «مثل في مثل» وما أثبتناه من ت وتاريخ بغداد.
[5] انظر: تاريخ بغداد 1/ 70.
[6] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 72.
[7] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 71.(8/75)
قَالَ مؤلف الكتاب رحمه اللَّه [1] : وقد روي فِي حديث آخر أن المنصور أراد أبا حنيفة على القضاء فامتنع، فحلف لا بد أن يتولى لَهُ، فولاه القيام ببْناء المدينة وضرب اللبن ليخرج من يمينه. فتولى ذلك.
قَالَ الخطيب: وذكر مُحَمَّد بْن إسحاق البغوي أن رياحا البْناء حدثه- وكان ممن كان يتولى بناء سور مدينة المنصور- قَالَ: كَانَ بين كل باب من أبواب المدينة إِلَى الباب الآخر ميل في كل ساف من أسواف البْناء مائة ألف لبْنة واثنتان وستون [2] ألف لبْنة، فلما بْنينا الثلث من السور [3] لقطناه، فصيرنا فِي الساف مائة ألف لبنة وخمسين ألف لبنة، فلما جاوزنا الثلثين لقطناه فصيرنا فِي البْناء مائة ألف [لبْنة] [4] وأربعين ألفا إِلَى أعلاه [5] وذكر أَبُو بكر بْن ثَابِت أن ارتفاع هَذَا السور خمسة وَثَلاثُونَ ذراعا، وعرضه من أرضه [6] نحو من عشرين ذراعا، وجعل لها أربعة أبواب، فإذا جاء أحد من الحجاز دخل من باب الكوفة، وإذا جاء أحد من المغرب [7] دخل من باب الشام، فإذا جاء أحد من الأهواز وواسط والبصرة واليمامة والبحرين دخل من باب البصرة، وإذا جاء من المشرق دخل من باب خراسان، فمن باب خراسان إِلَى باب الكوفة ألفا ذراع ومائتا ذراع، ومن باب البصرة إِلَى باب الشام ألفا ذراع ومائتا ذراع، وعلى كل أزج من أزاج هَذِهِ الأبواب مجلس ودرجة، وعليه قبة عظيمة، وعليها تمثال تديره الريح. وكان 37/ ب المنصور يجلس إذا أحب أن/ ينظر إِلَى [من يقبل من باب خراسان فِي القبة الَّتِي تليه، وإذا أحب أن ينظر إِلَى] [8] الأرباض [9] وما والاها جلس فِي قبة باب الشام،
__________
[1] في ت: «قال المصنف» .
[2] في الأصل: «وسبعين» وما أثبتناه من ت.
[3] في الأصل: «من الصور» .
[4] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وما أثبتناه من ت.
[5] «إلى أعلاه» ساقطة من ت. وانظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 71- 72.
[6] في ت: «من أسفله» وما أثبتناه من ت.
[7] في الأصل: «من العرب» وما أثبتناه من ت.
[8] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[9] في الأصل: «إلى الأرض» .(8/76)
وَإِذَا أحب النظر إِلَى الكرخ جلس فِي قبة باب البصرة، وإذا أحب النظر إِلَى البساتين [1] جلس فِي القبة الَّتِي على باب الكوفة، وعلى كل باب من أبواب المدينة باب حديد [2] ، نقل تلك الأبواب من واسط وهي أبواب الحجاج، وأن الحجاج نقلها من مدينة بْناها سليمان بْن داود عليهما السلام، وَكَانَ على أبواب المدينة مما يلي الرحاب سور وحجاب، وعلى كل باب قائد، فكان على باب الشام سليمان بْن مجالد فِي ألف، وعلى باب البصرة أَبُو الأزهر التَّمِيمِيّ فِي ألف، وعلى باب الكوفة خالد العكي فِي ألف، وعلى باب خراسان مسلمة بْن صهيب الغساني، وجعل بين كل ثمانية وعشرين برجا، إلا بين باب البصرة وباب الكوفة، فإنه يزيد واحدا وعمل عَلَيْهَا الخنادق، وجعل لها سورين وفيصلين، وَكَانَ لا يدخل أحد من عمومة المنصور ولا غيرهم من هَذِهِ الأبواب إلا راجلا، إلا عمه داود، فإنه كَانَ منقرسا، وَكَانَ يحمل فِي محفة. ومحمد المهدي ابْنه، وكانت تكنس الرحاب فِي كل يوم يكنسها الفراشون، ويحمل التراب إِلَى خارج المدينة. وَقَالَ لَهُ عمه عَبْد الصمد: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أنا شيخ كبير، فلو أذنت لي أن أنزل داخل الأبواب، فلم يأذن لَهُ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، عدني بعض بغال الرّوايا التي تصل إِلَى الرحاب. فَقَالَ: يا ربيع، بغال الروايا تصل إِلَى رحابي، فَقَالَ: نعم. فَقَالَ: تتخذ الساعة قنى بالساج من باب خراسان حَتَّى تجيء إِلَى قصري.
وكانت الأبْنية متصلة بالمدينة من شاطئ دجلة إِلَى الكبش والأسد [3] ، وهما موضعان قريب من قبر إِبْرَاهِيم الحربي.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ [بْنُ محمد قال: أخبرنا أحمد بن] [4] علي قال: قال لي هلال بن المحسن: حَدَّثَنِي بِشْر بْن عَلِيّ بْن عبيد الكاتب قَالَ: كنت أجتاز بالكبش والأسد فلا أتخلص في أسواقها من كثرة الزحمة [5] ، ثُمَّ بْنى القصر والجامع، وكانت مساحة قصره أربعمائة ذراع في أربعمائة ذراع، ومساحة المسجد الأول/ مائتين في 38/ أ
__________
[1] في الأصل: «إلى الكرخ» .
[2] في ت: «باب حديدة» .
[3] من أول «وهما موضعان» حتى «أتخلص في أسواقها» ساقطة من ت.
[4] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وأضفناه للتصحيح.
[5] في ت: «فإذا مشى الرجل في أسواقها لا يتخلص من كثرة الزحمة» .(8/77)
مائتين، وأساطين الخشب فِي المسجد كل أسطوانة قطعتين معقبة بالعقب والغراء وضباب الحديد إلا خمسا أو ستا عند المنارة [، فإن كل أسطوانة قطع ملفقة] [1] ، وَكَانَ فِي صدر قصره القبة الخضراء، من الأرض إِلَى رأس القبة الخضراء ثمانون ذراعا، وعلى رأس القبة تمثال فرس عليه فارس.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الباقي قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو القاسم التنوخي [2] قَالَ: سمعت جماعة من مشايخنا يذكرون أن القبة الخضراء كَانَ على رأسها صنم على صورة فارس فِي يده رمح، فكان السلطان إذا رأى ذلك الصنم قَدِ استقبل بعض الجهات ومد الرمح نحوها علم أن بعض الخوارج يظهر من تلك الجهة، فلا يطول الوقت حَتَّى ترد عليه الأخبار بأن خارجيا قَدْ نجم من تلك الجهة [3] .
قَالَ التنوخي: وحدثني أَبُو الْحَسَن بْن عبيد الزجاج الشاهد قَالَ: أذكر فِي سنة سبع وثلاثمائة وقد كسرت العامة الحبوس بمدينة المنصور، فأفلت من كان فيها، وكانت الأبواب الحديد الَّتِي للمدينة باقية فغلقت، وتتبع أصحاب الشرط من أفلت من الحبوس فأخذوا جميعهم حَتَّى لم يفتهم منهم أحد.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا الحسين بن مُحَمَّد المؤدب قَالَ: أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيم بْن عَبْد اللَّه بْن إِبْرَاهِيم بجرجان قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إسحاق الهجيمي قَالَ: قَالَ أَبُو العيناء: بلغني أن المنصور جلس يوما فَقَالَ للربيع: انظر من بالباب من وفود الملوك فأدخله. فَقَالَ: وافد من قبل ملك الروم. فَقَالَ: أدخله. فدخل فبينا هو جالس عند أمير المؤمنين إذ سمع المنصور صرخة كادت تقلع القصر. فَقَالَ: يا ربيع، ينظر مَا هَذَا؟ قَالَ: ثُمَّ سمع صرخة هي أشد من الأولي. فَقَالَ: يا ربيع، ينظر مَا هَذَا؟ قَالَ: ثُمَّ سمع صرخة هي أشد من الأوليين، فَقَالَ: يا ربيع، اخرج بْنفسك فخرج، ثُمَّ دخل فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بقرة قربت لتذبح فغلبت الجازر وخرجت تدور فِي الأسواق. فأصغى الرومي إِلَى الربيع يتفهم مَا قَالَ، ففطن المنصور لإصغاء الرومي، فَقَالَ: يا ربيع، أفهمه،
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[2] في ت: «أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الباقي بإسناده عَنْ التنوخي» .
[3] من أول: «فلا يطول الوقت» إلى هنا ساقط من ت.(8/78)
فأفهمه. فَقَالَ الرومي: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنك بْنيت بْناء لم يبْنه/ أحد كَانَ قبلك، 38/ ب وفيه ثلاثة عيوب، قَالَ: وما هي؟ قَالَ: أول عيب فِيهِ بعده عَنِ الماء، ولا بد للناس من الماء لشفاههم. [وأما العيب الثاني: فإنها ليس فِيهَا بساتين يتنزه فِيهَا] [1] . وأما العيب [2] الثالث [3] : فإن رعيتك معك فِي بْنيانك إذا كانت الرعية مَعَ الملك فِي بْنيانه فشا سره. قَالَ: فتجلد عليه المنصور فَقَالَ: أما قولك فِي الماء فحسبْنا من الماء ما بلّ شفاهنا. وأما العيب الثاني فإنا لم نخلق للهو واللعب، وأما العيب الثالث فِي سري فما لي سر دون رعيتي. ثم عرف وجه الصواب. فَقَالَ: مدوا لي قناتين من دجلة واغرسوا لي العباسية، وانقلوا الناس إلى الكرخ.
قَالَ الخطيب: مد المنصور قناة من نهر دجيل الآخذ من دجلة، وقناة من نهر كرخايا الأخذ من الفرات وجرهما إِلَى مدينته فِي عقود وثيقة من أسفلها، محكمة بالصاروج والآجر من أعلاها، فكانت كل قناة منها تدخل المدينة وتنفذ فِي الشوارع والدروب والأرباض، وتجري صيفا وشتاء لا ينقطع ماؤها، وجر لأهل الكرخ وما يتصل بها أنهارا.
وأما الجامع فقد ذكرنا أن المنصور جعل مساحته مائتين فِي مائتين، ولما جاء الرشيد أمر بْنقضه وإعادة بْنائه بالآجر والجص، ففعل ذلك وكتب عليه اسم الرشيد، وتسمية البْناء والنجار، وذلك ظاهر الجدران [4] إِلَى الآن، وكانت الصلاة فِي الصحن العتيق الَّذِي هو الجامع، حَتَّى زيد فِيهِ الدار المعروفة بالقطان، وكانت قديما ديوانا للمنصور، فأمر مفلح التركي ببْنائها على يد صاحبه القطان، فنسب إِلَيْهِ، ثُمَّ زاد المعتضد الصحن الأول- وهو قصر المنصور- ووصله بالجامع، وزاد بدر مولى المعتضد من قصر المنصور السفطات المعروفة بالبدرية.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: قَالَ لي هلال بْن المحسن قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الحسين مُحَمَّد بن الحسن بن محفوظ قال: / كنت 39/ أ
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وأثبتناه من ت.
[2] «وأما العيب» ساقطة من ت.
[3] في الأصل: «الثاني» .
[4] في ت: «الجدار» وما أثبتناه من الأصل.(8/79)
أمضي مَعَ والدي إِلَى الجامع بالمدينة لصلاة الجمعة، فربما وصلنا إِلَى باب خراسان فِي دجلة وقد قامت الصلاة، وامتدت الصفوف إِلَى الشاطئ، فنصعد ونفرش إِلَى السميرية ونصلي.
قَالَ هلال: وأذكر الصفوف ممتدة من جامع الرصافة إِلَى الباب الجديد من شارع الرصافة.
أما جسور بغداد فإن المنصور أمر أن تعقد ثلاثة جسور، أحدها للنساء، ثم عقد لنفسه وحشمه جسرين بباب البستان، فكان بالزندورد جسران قَدْ عقدهما المهدي، وَكَانَ الرشيد قَدْ عقد عند باب الشماسية جسرين، وَكَانَ للمنصور جسر عند [1] سويقة قطوطا، فلم تزل هَذِهِ الجسور إِلَى أن قتل الأمين فعطلت، وبقي منها ثلاثة إِلَى أيام المأمون ثُمَّ عطل واحد [2] .
أَخْبَرَنَا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن عَلِيّ قَالَ: سمعت أبا عَلِيّ بْن شَاذَان يَقُول: أدركت ببغداد ثلاثة جسور أحدها محاذي سوق الثلاثاء، وآخر بباب الطاق، والثالث فِي أعلى البلد عند الدار المعزية [3] . وذكر لي غير ابْن شَاذَان [4] : أن الجسر الَّذِي كَانَ عند الدار المعزية نقل إِلَى باب الطاق فصار هُنَاكَ جسران يمضي الناس على أحدهما ويرجعون على الآخر [5] .
قَالَ الخطيب: ولم يبق ببغداد غير جسر واحد بباب الطاق إِلَى دخول سنة ثمان وأربعين.
قَالَ عَبْد الرَّحْمَنِ: وأخبرنا أَحْمَد قَالَ [6] : حَدَّثَنِي هلال بْن المحسن قَالَ: ذكر أنه أحصيت السميرات المعبرات بدجلة أيام الموفق أبي أَحْمَد فكملت ثلاثين ألفا، فقدر من كسب ملاحتها كل يوم تسعين ألف درهم.
__________
[1] في الأصل: «وكان المنصور قد جسر عند سويقة» وما أوردناه من ت.
[2] الخبر في تاريخ بغداد 1/ 116.
[3] في الأصل: «الدار الغربية» وكذلك في الموضع التالي.
[4] القائل هنا «وذكر لي» هو الخطيب البغدادي كما يتضح من تاريخه.
[5] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 116.
[6] في ت: «أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي» .(8/80)
وأما الأنهار، فإن نهري بغداد دجلة والفرات، وكانت الأنهار الَّتِي تجري بمدينة المنصور والكرخ، وتخترق بين المحال تأخذ من نهر عيسى بْن عَلِيّ، وَكَانَ عند فوهته [قنطرة] [1] دمما، وَكَانَ على الياسرية قنطرة، / وعلى الرومية قنطرة، وعلى الزيّاتين 39/ ب قنطرة، وبعدها قنطرة عند باعة الأشنان، ثُمَّ قنطرة الشوك، ثُمَّ قنطرة عند باعة الرمان، ثُمَّ قنطرة عند الأرحاء] ، ثُمَّ قنطرة البستان، ثُمَّ قنطرة المعبدي، ثُمَّ قنطرة بْني زريق، ثُمَّ يصب فِي دجلة [2] .
والأنهار الَّتِي تجري فِي المحال كالكرخ وغيرها من نهر عيسى، وكان على الصراة قناطر يتفرع منها أنهار، وفي الجانب الشرقي نهر موسى يأخذ من [3] نهر بين ينقسم ثلاثة: نهر يمضي إلى الزاهر، والثاني باب بييرز [4] ، ويدخل [5] البلد من هناك ويسمّى نهر المعلى، ويمر بين الدور إِلَى سوق الثلاثاء، ثُمَّ يدخل دار الخلافة، ويجري إِلَى دجلة. والثالث يمر [إِلَى] [6] دار الخلافة أيضا، ونهر من الخالص يقال لَهُ: نهر الفضل، إِلَى أن ينتهي إِلَى باب الشماسية، فيأخذ [7] منه نهر يقال لَهُ: نهر المهدي ويدخل المدينة فِي شارع المهدي، ثُمَّ يجيء إِلَى قنطرة البردان، ويخرج إِلَى سويقة نصر بْن مالك، ثُمَّ يدخل الرصافة، ويمر فِي الجامع [8] أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا محمد بن عَلِيّ الوراق قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بن عمران قَالَ: أخبرنا أبو بكر مُحَمَّد بْن يحيى النديم قَالَ: ذكر أَحْمَد بْن أبي طاهر أن ذرع بغداد الجانبين ثلاثة وخمسون ألف جريب وسبعمائة وخمسون جريبا، منها الجانب الشرقي ستة وعشرون ألف جريب وسبعمائة وخمسون جريبا. والغربي سبعة وعشرون ألف جريب. وأن عدد
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[2] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 112.
[3] في الأصل: «يأخذ في» .
[4] في ت: «يروزيد» .
[5] في الأصل: «ويأخذ البلد» .
[6] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[7] في تاريخ بغداد: «فيؤخذ منه» .
[8] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 114- 115.(8/81)
الحمامات كانت فِي ذلك الوقت ببغداد ستين ألف حمام. قَالَ: أقل مَا يكون فِي كل حمام خمسة نفر: حمامي، وقيم، وزبال، ووقّاد، وسقّاء، يكون ذلك ثلاثمائة ألف رجل. وذكر أنه يكون بإزاء كل حمّام خمسة مساجد يكون ذلك ثلاثمائة ألف مسجد، وتقدير ذلك أن أقل مَا يكون فِي كل مسجد خمسة أنفس، يكون ذلك ألف ألف 40/ أوخمسمائة ألف إنسان، يحتاج كل إنسان فِي ليلة العيد إلى رطل صابون، / فيكون ذلك ألف ألف وخمسمائة ألف رطل صابون، يكون [ذلك] [1]- حساب الجرة مائة وثلاثين رطلا-: ألف جرة ومائة جرة وخمسين جرة وثمانية جرار ونصفا [2] ، يكون ذلك زيتا- حساب الجرة ستين رطلا- ستمائة ألف رطل وتسعة آلاف رطل وخمسمائة وعشرة أرطال [3] .
وقد روي أن الحمامات كانت فِي عهد [4] معز الدولة بضعة عشر ألف حمام، وفي زمان عضد الدولة خمسة آلاف وكسر [5] .
وقد اتفق الناس أن بغداد لا نظير لها، وأحسن مَا كانت فِي أيام الرشيد، فحدثت بها الفتن، وتتابعت المحن، وانتقل قطانها [6] .
أَخْبَرَنَا أَبُو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو القاسم التنوخي قَالَ: أَخْبَرَنِي أبي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَن مُحَمَّد بْن صالح الهاشمي في سنة ستين وثلاثمائة قَالَ: أَخْبَرَنِي رجل يبيع سويق الحمص- منفردا به-: أنه حصر ما يعمل في سوقه من هذا السويق كل سنة، فكان مائة وأربعين كرا، يكون حمصا مائتين وثمانين كرا، يخرج كل سنة حَتَّى لا يبقى منه شيء، ويستأنف عمل ذلك للسنة الأخرى [7] .
قَالَ هلال بْن المحسن: عبرت إِلَى الجانب الشرقي من مدينة السلام بعد الأحداث الطارئة فرأيت مَا بين سوق السلاح والرصافة وسوق العطش ومربعة الحرسي
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من ت، الأصل وأضفناه من تاريخ بغداد.
[2] في الأصل: «وثلاثين ألف جرة ومائة جرة وخمسين جرة وثمانية جرار ونصف» .
[3] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 117/ 118.
[4] في ت: «في زمن» .
[5] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 118.
[6] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 119.
[7] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 119.(8/82)
والزاهر، وما فِي دواخل ذلك ورواضعه قَدْ خرب خرابا فاحشا، ولم يترك النقض فِيهِ جدارا قائما- ولا مسجدا باقيا، وأما مَا بين باب البصرة والعتابين والخلد وشارع الرقيق من الجانب الغربي فقد اندرس اندراسا كليا، وصار الجامعان بالمدينة والرصافة متوسطين الصحراء بعد أن كانا فِي وسط العمارة.
وعرفني بعض العارفين بأمر الحمامات فِي جانبي البلد عدد مَا بقي منها في هذا الوقت وهي سنة عشرين وأربعمائة نحو مائة وسبعين حماما.
وأنني لأذكر وقد حضر/ عند جدي إِبْرَاهِيم بْن هلال فِي سنة اثنتين وثمانين 40/ ب وثلاثمائة أحد ممن كَانَ يغشاه، وجرى ذكر مدينة السلام فِي كبرها، فَقَالَ الرجل: لعل هَذِهِ الحال كانت قديما، فأما الآن فحدثني فلان- وله- معرفة بالحمامات- أن جميع مَا بقي منها نحو ثلاثة آلاف، فَقَالَ جدي: لا إله إلا اللَّه، كذا يكون الانقراض!؟ فإنها أحصيت فِي زمان المقتدر، وقد فشا الخراب، فكانت تسعا وعشرين ألف حمام.
ولقد ورد كتاب ركن الدولة على أبي مُحَمَّد المهلبي يَقُول فيه: بلغنا كثرة المساجد والحمامات ببغداد، فيذكر لنا الموجود اليوم فكانت المساجد تتجاوز حد الإحصاء، وأما الحمامات سبعة عشر ألفا.
وَقَالَ ابْن هلال: كنت أركب من داري فِي باب المراتب إِلَى دار معز الدولة بالشماسية فِي الأسواق وتحت الظلال والمحال والدروب. وكذلك الجانب الغربي والدور على دجلة وبساتينها متناهية وأقطارها [1] متباعدة وما فِيهَا دار يخلو من الأغاني والدعوات، وجميع ما بقي من الحمامات فِي بغداد نيف وتسعون حماما.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا الجوهري قال: أخبرنا محمد بن العباس الخراز قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بكر الصولي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو خليفة قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سلام قَالَ: سمعت أبا الوليد يَقُول: قَالَ لي شعبة:
أدخلت بغداد؟ قلت: لا. قال: فكأنك لم تر الدنيا [2] .
أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: حدثنا عبد العزيز بن علي
__________
[1] في ت: «وأطيارها» .
[2] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 44- 45.(8/83)
الوراق قَالَ: سمعت مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن يعقوب الجرجاني يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن يوسف بْن موسى يَقُول: سمعت يونس بْن عَبْد الأعلى يَقُول: قَالَ لي مُحَمَّد بْن إدريس: دخلت بغداد؟ قلت: لا. قال: يا يونس مَا رأيت الدنيا، ولا رأيت الناس [1] .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد قَالَ: حَدَّثَنَا الجوهري قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْعَبَّاس قَالَ: حَدَّثَنَا الصولي قَالَ: حَدَّثَنَا القاسم بن إسماعيل قال:
41/ أحدّثنا أبو محلم قَالَ: سمعت أبا بكر بن عياش يَقُولُ: الإسلام/ ببغداد وإنها لصيادة تصيد الرجال، ومن لم يرها فلم ير الدنيا [2] .
أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْد العزيز بْن عَلِيّ قَالَ:
سمعت عَلِيّ بْن عَبْد اللَّه الهمداني يَقُول: حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن مُحَمَّد القاضي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الحسين المالكي قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد التَّمِيمِيّ قَالَ: سمعت ذا النون يَقُول: من أراد أن يتعلم المروءة والظرف فعليه بسقاة الماء ببغداد. قيل: وكيف؟
قَالَ: لما حملت إِلَى بغداد رمي بي على باب السلطان مقيدا، فمر بي رجل مؤتزر بمنديل مصري، معتم بمنديل ديبقي، بيده كيزان وخزف رقاق، وزجاج مخروط، فسألت: هَذَا ساقي السلطان؟ فقيل لي: هَذَا ساقي العامة. فأومأت إِلَيْهِ: اسقني.
فسقاني، فشممت من الكوز رائحة مسك، فقلت لمن معي: ادفع إليه دينارا. فأعطاه الدينار. فأبى. وَقَالَ: ليس آخذ شيئا. فقلت لَهُ: ولم؟ فَقَالَ: أنت أسير، وليس من المروءة أن آخذ منك شيئا. فقلت: كمل الظرف فِي هَذَا [3] .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ قال: أخبرنا أحمد بن علي [4] الحافظ قال:
أخبرني [5] أبو القاسم القاضي قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيّ بْن المحسن التنوخي قَالَ: قَالَ لي أَبُو القاسم بزياش بْن الْحَسَن الديلميّ- وَهُوَ شيخ يتعلق بعلوم فصيح العربية- قَالَ:
سافرت الآفاق، ودخلت البلدان من حدّ سمرقند إلى القيروان، ومن سر نديب إِلَى بلد الروم، فما وجدت بلدا أفضل ولا أطيب من بغداد. قَالَ: وَكَانَ سبكتكين حاجب معز
__________
[1] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 45.
[2] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 47.
[3] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 50.
[4] في الأصل: «علي بن أحمد» .
[5] في ت: «أخبرنا» .(8/84)
الدولة من جملة أنسائي. فَقَالَ لي يوما: قَدْ سافرت الأسفار الطويلة، فأي بلد وجدت أفضل وأطيب؟ فقلت لَهُ: أيها الحاجب، إذا خرجت من العراق فالدنيا كلها رستاق [1] .
أَخْبَرَنَا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بْن عَلِيّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو القاسم عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ الرقي قَالَ: أخذ أَبُو العلاء المعري يوما يدي فغمزها- وَهُوَ ببغداد- ثُمَّ قَالَ لي: يا أبا القاسم، هَذَا بلد عظيم لا يأتي زمان عَلَيْك وأنت به إلا رأيت فيه من/ 41/ ب أَهْل الفضل من لم تره فيمن تقدم [2] .
أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن عَلِيّ قَالَ: أنشدني التنوخي قَالَ:
أنشدنا أَبُو سعيد مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن مُحَمَّد بْن خلف الهمذاني لنفسه يَقُول:
فدى لك يا بغداد كل قبيلة ... من الأرض حَتَّى خطتي وبلاديا [3]
فقد طفت فِي شرق البلاد وغربها ... وسيرت رحلي بينها وركابيا
فلم أر فِيهَا مثل بغداد منزلا ... ولم أر فِيهَا مثل دجلة واديا
ولا مثل أهليها أرق شمائلا ... وأعذب ألفاظا وأحلى معانيا
وكم قائل لو كَانَ ودك صادقا ... لبغداد لم ترحل فكان جوابيا
يقيم الرجال الأغنياء بأرضهم ... وترمي النوى بالمقترين المراميا [4]
أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن عَلِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن محمد بن عبيد قال: كتب إليّ أخي من البصرة وأنا ببغداد يَقُول:
طيب الهواء ببغداد يصرفني ... قدما إليها وإن عاقت معاذير
فكيف صبري عنها الآن إذ جمعت ... طيب الهواءين ممدود ومقصور [5]
[قَالَ المصنف] [6] : وقد كَانَ أَبُو الوفاء بْن عقيل يصف مَا شاهد من بغداد، وهذا عند خرابها وذهاب أهلها، فيذكر العجائب، وقد ذكرت ذلك فِي «مناقب بغداد» .
__________
[1] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 49.
[2] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 49- 50.
[3] في تاريخ بغداد: «دياريا» .
[4] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 52.
[5] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 54.
[6] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل. وأثبتناه من ت.(8/85)
وَفِيهَا: ظهر إِبْرَاهِيم بْن عَبْد اللَّه بْن حسن بْن حسن بْن عَلِيّ بالبصرة فحارب المنصور.
وَفِيهَا: قتل أيضا، وَكَانَ من قضيته [1] أنه لما أخذ المنصور عَبْد اللَّه بْن حسن أشفق مُحَمَّد وإبراهيم فخرجا إِلَى عدن، فخافا بها، فركبا البحر حَتَّى سارا إِلَى السند، فسعي بهما، فقدما الكوفة، وكانت أم ولد إِبْرَاهِيم تقول: مَا أقرتنا الأرض منذ خمس 42/ أسنين، مرة بفارس، ومرة بكرمان، ومرة بالجبل، ومرة/ بالحجاز. ووضع المنصور على إِبْرَاهِيم الرصد، وكانت له مرآة- قد سبق ذكرها- ينظر فِيهَا فيرى عدوه من صديقه، فنظر فِيهَا فَقَالَ للمسيب: يا مسيب، قَدْ رأيت واللَّهِ إِبْرَاهِيم فِي عسكري، فانظر مَا أنت صانع.
وأمر المنصور ببْناء قنطرة الصراة العتيقة، ثُمَّ خرج ينظر إليها فوقعت عينه على إِبْرَاهِيم، وجلس إِبْرَاهِيم، فذهب فِي الناس، فأتى مأمنا فلجأ إِلَيْهِ، فأصعده غرفة لَهُ، وجد المنصور فِي طلبه، فَقَالَ سفيان العمي لإبراهيم: قَدْ ترى مَا نزل بْنا، ولا بد من المخاطرة. قَالَ: فأنت وذاك. فأقبل إِلَى الربيع فسأله الإذن. قَالَ: ومن أنت؟ قَالَ:
سفيان العمي. فأدخله على أبي جَعْفَر، فلما رآه شتمه فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أنا أَهْل لما تقول، غير أني أتيتك تائبا، ولك عندي كل مَا تحب إن أعطيتني مَا أسألك. قَالَ: وما لي عندك؟ قَالَ: تأتيني بإبراهيم. قَالَ: فما لي عندك إن فعلت؟ قَالَ: كل مَا تسأل، فأين إِبْرَاهِيم؟ قَالَ: قَدْ دخل بغداد، وَهُوَ داخلها عَنْ قريب، فاكتب لي جوازا ولغلام لي ولفرانق [2] ، واحملني على البريد، ووجه معي جندا، آتيك به. قَالَ: فكتب إِلَيْهِ جوازا، ودفع إِلَيْهِ جندا وَقَالَ: هَذِهِ ألف دينار فاستعن بها. قَالَ: لا حاجة لي إليها كلها.
فأخذ معه ثلاثمائة دينار، وأقبل حَتَّى أتى إِبْرَاهِيم وَهُوَ فِي بيت عليه مدرعة صوف- وقيل:
بل قباء كأقبية العبيد- فصاح به: قم. فوثب كالفزع، فجعل يأمره وينهاه حَتَّى قدم المدائن، فمنعه صاحب القنطرة بها، فدفع إِلَيْهِ جوازه. قَالَ: فأين غلامك؟ قَالَ: هَذَا.
فلما نظر فِي وجهه قَالَ: والله مَا هَذَا بغلامك، وإنه لإبراهيم، فاذهب راشدا فأطلقهما، فركبا البريد، ثُمَّ ركبا سفينة إِلَى البصرة فاختفيا فيها.
__________
[1] في ت: «قصته» .
وانظر: تاريخ بغداد 7/ 622.
[2] الفرانق: الّذي يدل صاحب البريد.(8/86)
وقيل: إنه قدم البصرة، فجعل يأتي بالجند الدار- ولها بابان- فيقعد العشرة/ 42/ ب منهم على أحد البابين ويقول: لا تبرحوا حَتَّى آتيكم. ثُمَّ يدخل الدار فيخرج من الجانب الآخر [1] ويتركهم حَتَّى فرق الجند وبقي وحده واختفى، فبلغ الخبر سفيان بْن معاوية، فأرسل إليهم، وطلب العمي، فأعجزه، ونزل إِبْرَاهِيم على أبي [2] فروة، فاختفى وأرسل إِلَى الناس يندبهم إِلَى الخروج، فلما بلغ الخبر أبا جَعْفَر شاور، فقيل لَهُ: إن الكوفة لَهُ شيعة، والكوفة قَدْ رافقوا، وأنت طبقتها. فاخرج حَتَّى ينزلها. ففعل.
وخرج إِبْرَاهِيم ليلة الاثنين لغرة شهر رَمَضَان من سنة خمس وأربعين، فصار إِلَى مقبرة بْني يشكر فِي بضعة عشر فارسا، فكان أول شيء أصاب دوابّ لجماعة من الجند، وأسلحة، وصلى بالناس الغداة بالمسجد الجامع، وتحصن سفيان بْن معاوية فِي الدار، ثُمَّ طلب الأمان فأجيب لَهُ، ففتح الباب ودخل إِبْرَاهِيم الدار، فألقي لَهُ حصير، فهبت ريح فقلبت الحصير [3] ظهرا لبطن، فتطير الناس لذلك، فَقَالَ إِبْرَاهِيم: لا تتطيروا. ثُمَّ جلس عليه مقلوبا والكراهة ترى فِي وجهه، وحبس سفيان بْن معاوية فِي القصر وقيده قيدا خفيفا. ووجد ببيت المال ستمائة ألف، فغدا بذلك، وفرض لكل رجل خمسين، ووجه رجلا إِلَى الأهواز فبايعوا لَهُ، وخرج عاملها فخاصم أصحاب إِبْرَاهِيم فهزموه.
وبلغ جعفرا ومحمدا ابْني سليمان بْن عَلِيّ- وكانا بالبصرة- مصير إِبْرَاهِيم إِلَى دار الإمارة وحبسه سفيان، فأقبلا في ستمائة، فوجه إليهما [4] إِبْرَاهِيم المضاء بْن جَعْفَر [5] فِي ثمانية عشر فارسا وثلاثين راجلا، فهزمهم المضاء، وصارت البصرة والأهواز وفارس في سلطان إِبْرَاهِيم، ولم يزل إِبْرَاهِيم مقيما بالبصرة بعد ظهوره بها يفرق العمال فِي النواحي، ويوجه الجيوش إِلَى البلدان حَتَّى أتاه نعي أخيه محمد، فأخبر الناس بذلك، فازدادوا بصيرة فِي قتال أبي جَعْفَر، وأصبح إِبْرَاهِيم من الغد فعسكر.
وأبلغ الخبر إِلَى أبي جَعْفَر فَقَالَ: والله مَا أدري مَا أصنع، مَا فِي عسكري سوى ألفي رجل، فرقت جندي مَعَ المهدي/ بالري ثَلاثُونَ ألفا، ومع محمد بن الأشعث 43/ أ
__________
[1] في ت: «ثم يدخل الباب فخرج من الباب الآخر» .
[2] «أبي» ساقطة من ت.
[3] في ت: «فقلبته الحصير» .
[4] في الأصل: «إليها» .
[5] في ت: «المضايف جعفر»(8/87)
بإفريقية أربعون ألفا، والباقون مَعَ عيسى بْن موسى. [والله لئن سلمت من هَذَا لا يفارق عسكري ثَلاثُونَ ألفا] [1] . ثُمَّ كتب [2] إِلَى عيسى: إذا قرأت كتابي هَذَا فأقبل ودع مَا أنت فِيهِ. فلم يلبث أن قدم فبعثه على الناس، وكتب إِلَى سالم بْن قتيبة، فقدم عليه من الري، فضمه إِلَى جعفر بن سليمان، وكتب إلى المهدي يأمره بتوجيه خازم بْن خزيمة إِلَى الأهواز، فوجهه في أربعة آلاف من الجند، وبقي المنصور فِي أيام [حرب] [3] مُحَمَّد وإبراهيم على مصلى ينام عليه، ويجلس عليه، وعليه جبة ملونة قَدِ اتسخ جيبها، ولم يلتفت إِلَى النساء، فقيل لَهُ في ذلك، فقال: ليست هَذِهِ الأيام من أيام النساء حَتَّى أعلم رأس إِبْرَاهِيم لي أم رأسي لإبراهيم، وكان قَدْ أعد دواب وإبلا، فإن كانت الكرة عليه خرج للري.
وَكَانَ قَدْ أحصى ديوان إِبْرَاهِيم من أَهْل البصرة مائة ألف، فالتقى عيسى وإبراهيم فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم أصحاب عيسى فاعترضهم نهر فرجعوا، فاقتتلوا قتالا شديدا إلى أن جاء سهم غائر، لا يدرون من رمى به، فوقع فِي حلق إِبْرَاهِيم فنحوه عن موضعه، وقال: أنزلوني. فأنزلوه وَهُوَ يَقُول: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً 33: 38 [4] أردنا أمرا وأراد اللَّه غيره، فأنزل وَهُوَ مثخن، واجتمع عليه أصحابه يقاتلون دونه، فشدوا عليهم، فخلصوا إِلَيْهِ، فجزوا رأسه، فأتوا به عيسى، فسجد، وبعث به إِلَى أبي جَعْفَر، فقال:
والله لقد كنت لهذا كارها، ولكني ابتليت بك، وابتليت بي. فنصبه فِي السوق، وَكَانَ قتله يوم الاثنين لخمس بقين من ذي القعدة سنة خمس وأربعين، وَكَانَ يوم قتل ابْن ثمان وأربعين سنة. ومكث منذ خرج إِلَى أن قتل ثلاثة أشهر إلا خمسة أيام [5] .
وَفِيهَا: خرجت الترك فقتلوا من المسلمين جماعة كثيرة بأرمينية.
وَفِيهَا: حج بالناس [السري بْن عَبْد اللَّه بْن الحارث، وَكَانَ عامل أبي جَعْفَر على مكة، وَكَانَ والي المدينة] [6] عَبْد اللَّه بْن الربيع الحارثي. ووالي الكوفة وأرضها
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وأضفناه من ت.
[2] في ت: «وكتب» .
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وأضفناه من ت.
[4] سورة: الأحزاب، الآية: 38.
[5] انظر: تاريخ الطبري 7/ 646.
[6] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.(8/88)
عيسى بْن موسى، ووالي البصرة/ سالم بْن قتيبة الباهلي، وَكَانَ على قضائها عباد بْن 43/ ب منصور، وعلى مصر يزيد بْن حاتم [1] .
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
764- إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن بْن عَلِيّ بْن أبي طالب رَضِيَ اللَّه عنه.
كَانَ يألف الوحدة هو وأخوه، وخرجا إِلَى البادية ثُمَّ خرج أخوه مُحَمَّد على المنصور على مَا سبق ذكره فقتل. وخرج هو فقتل على مَا سبق.
765- إسماعيل بْن أبي خالد، أَبُو عَبْد اللَّه. واسم أبي خالد: سعد [2] .
رأى أنسا، وسمع ابْن أبي أوفى، وعمرو بْن حوشب. وَكَانَ سفيان به معجبا.
وتوفي في هذه السنة.
أَخْبَرَنَا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: أخبرنا إبراهيم بْن مخلد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد الحكيمي قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد السلام بْن مُحَمَّد بْن شاكر قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عثمان العاصمي قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يزيد، عَنْ إسماعيل بن أبي خالد، عَنْ يزيد بْن طريف قَالَ: تُوُفِّيَ أخي عمير بْن طريف فأصغيت إِلَى قبره، فسمعت صوت أخي صوتا ضعيفا أعرفه وَهُوَ يَقُول: ربي اللَّه. فَقَالَ لَهُ الآخر:
فما دينك؟ قَالَ: الإسلام.
766- الْحَسَن بن الحسن بن علي بن أبي طالب [3] .
سمع أمه فاطمة بْنت الحسين بْن عَلِيّ بْن أبي طالب.
قدم الأنبار على السفاح مَعَ أخيه عَبْد اللَّه بْن الْحَسَن فِي جماعة من الطالبيين، فأكرمهم السفاح وأجازهم، ورجعوا إِلَى المدينة. فلما ولي المنصور حبس الحسن بن
__________
[1] انظر تاريخ الطبري 7/ 649.
[2] انظر ترجمته في: تقريب التهذيب 1/ 68.
[3] في الأصل: «الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب» .
انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 7/ 293.(8/89)
الْحَسَن وأخاه عَبْد اللَّه لأجل مُحَمَّد وإبراهيم ابْني عَبْد اللَّه، فلم يزل فِي حبسه حَتَّى مات.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ الْقَزَّازِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عَلِيّ بْن ثابت قال:
أخبرنا الحسن بن أبي بكر قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَسَن بْن مُحَمَّد العكبري قَالَ: حدّثنا جدي 144/ أقال: حَدَّثَنَا غسان الليثي/، عَنْ أبيه قَالَ: كَانَ أَبُو الْعَبَّاس قَدْ خص عَبْد اللَّه بْن الْحَسَن بْن الْحَسَن حَتَّى كَانَ يتفضل بين يديه بقميص بلا سراويل، فَقَالَ لَهُ يوما: مَا رأى أمير المؤمنين على هَذِهِ الحال غيرك، ولا أعدك إلا ولدا. ثُمَّ سأله عَنِ ابْنيه فَقَالَ لَهُ: مَا خلفهما عني، فلم يفدا عليّ مع من وفد عليّ من أهلهما، ثُمَّ أعاد عليه المسألة عنهما [مرة] [1] أخرى. فشكى ذلك عَبْد اللَّه بْن الحسن إلى أخيه الْحَسَن بْن الْحَسَن فَقَالَ لَهُ:
إن أعاد المسألة عَلَيْك عنهما فقل لَهُ: علمهما عند عمهما. فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّه: وهل أنت محتمل ذلك لي؟ قَالَ: نعم. فلما أعاد أَبُو الْعَبَّاس على عَبْد اللَّه المسألة عنهما قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، علمهما عند عمهما. فبعث أَبُو الْعَبَّاس إِلَى الْحَسَن فسأله عنهما. فَقَالَ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أكلمك على هيبة [2] الخلافة، أو كما يكلم الرجل ابْن عمه. فَقَالَ لَهُ أَبُو الْعَبَّاس: بل كما يكلم الرجل ابْن عمه. فَقَالَ لَهُ الْحَسَن: أنشدك الله يا أمير المؤمنين، إن كَانَ اللَّه قدر لمحمد وإبراهيم أن يليا من الأمر شيئا، فجهدت وجهد أهل الأرض معك أن تردوا مَا قدر اللَّه لهما أيردونه!؟ قَالَ: لا. قَالَ: فأنشدك اللَّه إن كان الله لم يقدر لهما أن يليا من هَذَا الأمر شيئا، فاجتمعا واجتمع أَهْل الأرض معهما على أن ينالا مَا لم يقدر لهما، أينالانه؟! قَالَ: لا. قَالَ: فما تنغيصك على هَذَا الشيخ النعمة الَّتِي أنعمت بها عليه. فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس: لا أذكرهما بعد اليوم، فما ذكرهما حتى فرق الموت بينهما.
قَالَ العلوي: قَالَ جدي: تُوُفِّيَ الْحَسَن بْن الْحَسَن بْن عَلِيّ سنة خمس وأربعين ومائة فِي ذي القعدة بالهاشمية فِي حبس أبي جَعْفَر، وَهُوَ ابْن ثمان وستين سنة [3] .
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصول، أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «عن هيبة» وما أوردناه من تاريخ بغداد.
[3] الخبر في تاريخ بغداد 7/ 293، 294.(8/90)
767- الْحَسَن بْن ثوبان بْن عامر، أَبُو ثوبان الهمداني الهوزني [1] .
روى عَنْ موسى بْن وردان وغيره. حدث عنه حيوة بْن شريح، والليث بن سعد، وغيرهما. وكان أميرا على بعض الثغور فِي خلافة مروان بْن مُحَمَّد.
قَالَ المفضل بْن فضالة: دخل علينا/ الْحَسَن بْن ثوبان يوما ونحن فِي المسجد 44/ ب الجامع فوقف فسلّم ثُمَّ ذهب فجال فِي المسجد، ثُمَّ رجع إلينا، فقلنا لَهُ [2] : يا أبا ثوبان، وقفت علينا ثُمَّ ذهبت ثُمَّ عدت فَقَالَ: إني طلبت من هو أربح لي منكم، فلم أجده.
تُوُفِّيَ الْحَسَن فِي رَمَضَان هَذِهِ السنة.
768- حبيب بْن الشهيد، أَبُو مُحَمَّد الْبَصْرِيّ. مولى لمزينة [3] .
سمع الْحَسَن، وابْن سيرين، وعكرمة.
تُوُفِّيَ بواسط فِي أيام التشريق يوم جاءت هزيمة إِبْرَاهِيم بْن عَبْد اللَّه بْن حسن، وصلى عليه سوار.
769- عَبْد اللَّه بْن الْحَسَن بْن الْحَسَن بْن عَلِيّ بْن أبي طالب رضي الله عنهم، أبو محمد [4] .
من أهله المدينة، كانت لَهُ منزلة من عُمَر بْن عَبْد العزيز فِي خلافته، وفد مَعَ جماعة من الطالبيين إِلَى السفاح وَهُوَ بالأنبار، فوهب لَهُ ألف ألف درهم. ثُمَّ عاد إِلَى المدينة، فلما ولي المنصور حبسه بالمدينة لأجل ابْنيه مُحَمَّد وإبراهيم، فبقي مدة طويلة، ثُمَّ نقله إِلَى الكوفة، فحبسه بها إِلَى أن مات فِي الحبس يوم الأضحى من هَذِهِ السنة، وَهُوَ ابْن ست وأربعين سنة.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن أبي بكر قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّد الْحَسَن بْن مُحَمَّد بْن يحيى العلويّ قال: حدّثنا
__________
[1] انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 2/ 259، والجرح 3/ 3 والتاريخ الكبير 2/ 287.
[2] «له» ساقطة من ت.
[3] انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 2/ 185، والجرح والتعديل 3/ 102 والتاريخ الكبير 2/ 320.
[4] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 9/ 431.(8/91)
جدي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَن بْن عَلِيّ الباهلي قَالَ: سمعت مُصْعَب بْن عَبْد اللَّه يَقُول: جعل أَبُو الْعَبَّاس أمير المؤمنين يطوف [فِي] [1] بْنيانه بالأنبار، ومعه عَبْد اللَّه بْن الحسن، فجعل يريه البناء ويطوف به فِيهِ، فَقَالَ عَبْد اللَّه بْن الْحَسَن: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وأنشده:
ألم تر حوشبا أمسى [2] يبْني ... بيوتا نفعها لبْني بقيله
يؤمل أن يعمر عُمَر نوح ... وأمر اللَّه يحدث كل ليله
فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس: مَا أردت بهذا. قَالَ: أردت أن أزهدك فِي هَذَا [3] .
وقد روي من طريق أخرى أنه لما أنشد البيتين انتبه فَقَالَ: أقلني. فَقَالَ: لا أقالني 45/ أ/ اللَّه إن بت فِي عسكري فأخرجه إِلَى المدينة.
وبقيلة أم ولد للحسين بْن عَلِيّ، جاءت منه بالقاسم وأبي بكر وعَبْد اللَّه، وقتلوا مَعَ الحسين رضي اللَّه عنه.
أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ القزاز قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْر بْن ثابت قَالَ: أخبرنا علي بن المحسن التنوخي قَالَ: وجدت فِي كتاب جدي عَلِيّ بْن مُحَمَّد بْن أبي الفهم قَالَ:
حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن أبي العلاء المعروف بحرقي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو يعقوب إسحاق بْن مُحَمَّد بْن أبان قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو معقل- وَهُوَ ابْن إِبْرَاهِيم بْن داجة- قَالَ: حَدَّثَنِي أبي قَالَ: أخذ أَبُو جَعْفَر أمير المؤمنين عَبْد اللَّه بْن حسن بْن حسن فقيده وحبسه فِي داره، فلما أراد أَبُو جَعْفَر الخروج إِلَى الحج جلست لَهُ ابْنة لعَبْد اللَّه بْن حسن يقال لها:
فاطمة، فلما مر بها أنشأت تقول:
ارحم كبيرا سنه متهدما ... فِي السجن بين سلاسل وقيود
وارحم صغار بْني يزيد إنهم ... يتموا لفقدك لا لفقد يزيد
إن جدت بالرحم القريبة بيننا ... مَا جدنا من جدكم ببعيد
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[2] في ت: «أضحى» .
[3] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 9/ 432.(8/92)
فَقَالَ أَبُو جَعْفَر: أذكرتنيه، ثُمَّ أمر به فحدر إِلَى المطبق، فكان آخر العهد به [1] .
770- عَبْد الملك بْن أبي سليمان، أَبُو سليمان- وقيل: أَبُو عَبْد اللَّه- واسم أبي سليمان، ميسرة، وهو عم مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه العزرمي [2] .
نزل جبانة عزرم [3] بالكوفة فنسب إليها.
حدث عَنْ أنس بْن مالك، وعطاء، وسعيد بْن جبير.
روى عنه الثوري، وشعبة، وابْن المبارك.
وَكَانَ من الحفّاظ، وكان شعبة يعجب من حفظه، وَكَانَ سفيان يسميه الميزان.
قَالَ أَحْمَد بْن حنبل ويحيى: هو ثقة.
توفي ببغداد في هذه السنة، دفن بسوق يحيى.
771- عمرو بن ميمون بن مهران، أبو عبد الله الجزري [4] .
نزل الرقة، وسمع أباه، وسليمان بْن يسار، وعمر بن عبد العزيز.
روى عنه الثوري، وشريك، وابن المبارك. / وكان ثقة صالحا عالما دينا.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن عَلِيّ قَالَ: أَخْبَرَنَا الأزهري قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن أَحْمَد بْن جامع قَالَ: قَالَ عَلِيّ بْن مُحَمَّد [5] بْن سعيد الحراني قال: حدّثنا عبد الملك الميموني قَالَ: حدثت أبا عَبْد اللَّه أَحْمَد بْن حنبل قَالَ:
لما رأيت قدر عمي عند أبي جَعْفَر قلت: يا عم، لو سألت أمير المؤمنين أن يقطعك قطيعة. فسكت عني، فلما ألححت عليه قَالَ: يا بْني، إنك لتسألني أن أسأله شيئا قَدِ ابتدأني به هو غير مرة، فقد قال لي يوما: يا أبا عَبْد اللَّه، إني أريد أن أقطعك قطيعة وأجعلها لك طيبة، وإن أحبابي وولدي وأهلي يسألوني ذلك، فآبى عليهم، فما يمنعك أن تقبلها؟ قَالَ: قلت: يَا أَمِيرَ المؤمنين، إني رأيت لهم الرجل على [6] قدر انتشار صيته،
__________
[1] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 9/ 432، 433.
[2] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 10/ 393.
[3] في الأصل: «عزم» .
[4] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 12/ 188.
[5] في الأصل: «قال حدثنا أبو علي محمد» .
[6] في ت: «إلى قدر» .(8/93)
وإني يكفيني من همي مَا أحاطت به داري، فإن رأى أمير المؤمنين أن يعفيني فعل، قَالَ: قَدْ فعلت. فَقَالَ أَحْمَد بْن حنبل: أعده علي. فأعدته عليه حَتَّى حفظه [1] .
أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عَلِيّ قَالَ: أَخْبَرَنَا الأزهري قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن جامع قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو علي الحراني قَالَ: حَدَّثَنَا الميموني قَالَ: حَدَّثَنَا أبي قَالَ: كَانَ عمي عَمْرو يعطش فما يستسقي من أحد ماء حَتَّى يشربه من بيته، ويقول: كل معروف صدقه، وما أحب أن يتصدق علي [2] .
تُوُفِّيَ عَمْرو بْن ميمون في هذه السنة. وقيل: فِي سنة أربعين.
وفي مكان موته قولان: أحدهما: الرقة. والثاني: الكوفة.
772- مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن حسن بْن حسن بْن عَلِيّ بْن أبي طالب، أَبُو عَبْد اللَّه.
لقي نافعا، وسمع منه ومن غيره، ولم يزل هو وأخوه إِبْرَاهِيم يلزمان البادية ويحبان الخلوة، ولا يأتيان الخلفاء والولاة، فلما ولي المنصور طلبهما فنفرا منه وهربا فِي الجبال، وأشخص أباهما وأهل بيتهما فحبسوا حَتَّى ماتوا فِي حبسه، فبلغ ذلك مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه، فخرج على المنصور، واجتمع إِلَيْهِ خلق كثير، فبيض ودعي لَهُ بالخلافة، فأقبل إِلَى المدينة، فأخذها وغلب عَلَيْهَا [3] [ثُمَّ وجه إِلَى مكة فأخذت له] [4] 46/ أفبيّضوا فشمر أَبُو جَعْفَر فِي طلبه وحربه، فقتل هو/ وأخوه على مَا سبق.
وَكَانَ مكث مُحَمَّد من حين ظهر إِلَى أن قتل شهرين وسبعة عشر يوما.
773- مُحَمَّد بْن عَبْد الله بْن عمرو بْن عثمان بْن عفان، أَبُو عَبْد اللَّه القرشي [5] .
وَكَانَ يعرف بالديباج لحسن وجهه، أمه فاطمة بْنت الحسين، وكانت قبل أبيه عند الْحَسَن بْن الْحَسَن، فولدت لَهُ عَبْد اللَّه وحسنا، ثُمَّ مات عنها، فخلف عَلَيْهَا عَبْد اللَّه بْن عَمْرو فولدت له محمدا، وَهُوَ الديباج. وَكَانَ جوادا ظاهر المروءة.
حدث عَنْ أبيه، وعن نافع، وعن أبي الزناد.
أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن عَلِيّ الحافظ قَالَ: أَخْبَرَنَا يحيى بْن عَبْد العزيز قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن عَبْد اللَّه بْن عباس الجوهري قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن
__________
[1] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 12/ 188.
[2] انظر الخبر في تاريخ بغداد 12/ 189.
[3] «وغلب عليها» ساقطة من ت وأثبتناها من الأصل.
[4] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[5] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 5/ 385.(8/94)
سعيد الدمشقي قَالَ: حدثني الزبير بْن بكار قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أبي السائب قَالَ: احتجت إِلَى لقحة، فكتبت إِلَى مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن عمرو بن عثمان أسأله أن يبعث لي بلقحة، فإني لعلى بابي فإذا أنا بزجر إبل، وإذا فِيهَا عَبْد يزجرها، فقلت: يا هذا، ليس ها هنا الطريق. فَقَالَ: أردت أبا السائب. فقلت: أنا أبو السائب. فدفع إلي بكتاب محمد بن عَبْد اللَّه، وإذا فِيهِ: أتاني كتابك تطلب فِيهِ لقحة، وقد جمعت مَا كَانَ بحضرتنا منها، وهي تسع عشرة لقحة، وبعثت معها بعبد راع، وهن بدن، وَهُوَ حر إن رجع، فما بعثت به بشيء في مالي أبدا. قال: فبعت منهم بثلاثمائة دينار سوى مَا احتبست لحاجتي [1] .
أخذ أَبُو جَعْفَر المنصور مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه في هذه السنة، وقتله ليلة جاءه خروج مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ بْن حسن بالمدينة، وبعث برأسه إِلَى خراسان، وذلك لأن مُحَمَّد أخو عبد الله بن حسن بْن حسن لأمه. كذلك ذكر الخطيب.
وذكر مُحَمَّد بْن سعد أنه حبسه فمات فِي حبسه، وَكَانَ لهذا الرجل بْنت تسمى:
حفصة، لا نعرف امرأة ولدها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير سواها. لأن أمّها/ خديجة بْنت عثمان بْن عروة بْن الزُّبَيْر، وأم عروة: 46/ ب أسماء بْنت أبي بكر، وأم أبيها: فاطمة بْنت الحسين بْن عَلِيّ بْن أبي طالب، وأم الحسين: فاطمة بْنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأم فاطمة بْنت الحسين: أم إسحاق بْنت طلحة بْن عبيد اللَّه، وأم عَبْد اللَّه بْن عَمْرو: زينب بْنت عَبْد اللَّه بْن عُمَر بْن الخطاب.
774- يزيد بْن أبي سعيد، أَبُو الحسين النحوي [2] .
نسب إِلَى بطن يقال لهم: بْني نحوة النحو بْن شمس- بضم الشين المعجمة- بطن من الأزد، وليس منسوبا إِلَى النحو.
قَالَ أَبُو أَحْمَد العسكري: وكذلك شيبان بْن عَبْد اللَّه النحوي. وَقَالَ أَبُو الحسين ابْن المنادي: وَهُوَ يزيد لا شيبان.
وروى يزيد عَنْ علقمة، ومجاهد. ويروي عَنْ الحسين بْن واقد وأبي حمزة.
__________
[1] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 5/ 386، 387.
[2] انظر ترجمته في: تقريب التهذيب 2/ 365، وفيه: «أبو الحسن» .(8/95)
ثم دخلت سنة ست وأربعين ومائة
فمن الحوادث فِيهَا:
استتمام المنصور بْناء بغداد. وقد ذكر مُحَمَّد بْن عمران أن أبا جَعْفَر تحوّل إلى بغداد في صفر سنة ست وأربعين، فنزلها [1] .
وَفِيهَا: عزل المنصور عَبْد اللَّه بْن الربيع الحارثي عَنِ المدينة، وولاها جَعْفَر بْن سليمان بْن عَلِيّ. وعزل عَنْ مكة السري بْن عَبْد اللَّه، وولاها عَبْد الصَّمَدِ بْن عَلِيّ وولى البصرة سالم بن قتيبة يسيرا ثُمَّ عزله [2] .
وَكَانَ سبب عزله: أن المنصور كتب إِلَيْهِ: اهدم دور من خرج مَعَ إِبْرَاهِيم، واعقر نخلهم. فكتب إِلَيْهِ: بأي ذلك أبدا؟ بالدور أم بالنخل؟ فكتب إِلَيْهِ: لو أمرتك بإفساد ثمرهم لكتبت تستأذني بأيه أبدأ؟ بالبرني أم بالشهريز [3] . وعزله وولى محمد بن سليمان بن علي، فهدم دورا كثيرة وعقر نخلهم، ثُمَّ عزله وولى مُحَمَّد بْن الْعَبَّاس، وعزل عيسى بْن موسى عَنِ الكوفة وولاه البصرة في جمادى الأولى من هذه السنة [4] .
وفيها: دخلت الترك تفليس/ فهزموا جبريل بن يحيى، وقتلوا حرب بن عبد الله، وسبوا سبيا كثيرا من المسلمين.
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 7/ 650.
[2] انظر: تاريخ الطبري 7/ 656.
[3] البرني: ضرب من التمر أصفر مدور، وهو أجود أنواع التمر واحده برنية. والشهريز: ضرب من التمر أيضا، ذكره صاحب لسان العرب ولم يذكر وصفه.
[4] انظر: تاريخ الطبري 7/ 655، 656.(8/96)
وفيها: حج بالناس في هذه السنة عبد الوهاب بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن العباس [1] .
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
775- إسماعيل بن علي.
عم المنصور. تُوُفِّيَ في هذه السنة.
776- أشعث بْن عَبْد الملك، أَبُو هانئ الحمراني، مولى حمران بْن أبان [2] .
سمع الْحَسَن، وابْن سيرين. روى عنه يحيى القطان.
تُوُفِّيَ في هذه السنة. وَكَانَ ثقة.
777- رباح القيسي. يكنى: أبا المهاصر [3] .
كَانَ كثير البكاء والتعبد، وَكَانَ قَدِ اتخذ غلا من حديد يضعه فِي عنقه بالليل ويبكي ويتضرع إِلَى الصباح.
أَخْبَرَنَا عَبْد الوهاب الحافظ قَالَ: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال: أخبرنا أَبُو بكر مُحَمَّد بْن عَلِيّ الخياط قَالَ: أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف قال: أَخْبَرَنَا الحسين بْن صفوان قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر بن عبيد قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الحُسَيْن قَالَ:
حَدَّثَنِي أَبُو عُمَر الضرير قَالَ: حَدَّثَنِي الحارث بْن سعيد قَالَ: أخذ بيدي رباح فَقَالَ: هلم يا أبا مُحَمَّد حَتَّى نبكي على قصر الساعات ونحن على هَذِهِ الحال. قَالَ: فخرجت معه إِلَى المقابر، فلما نظر إِلَى القبور صرخ، ثم خرّ مغشيا عيلة. قَالَ: فجلست والله عند رأسه أبكي، فأفاق، فَقَالَ: مَا يبكيك؟ قلت: لما أرى بك. قال: لنفسك فابك. ثم قال: وا نفساه، وا نفساه، ثُمَّ غشي عليه. قَالَ: فرحمته والله مما نزل به، ثُمَّ لم أزل عند رأسه حَتَّى أفاق، فوثب وَهُوَ يَقُول: تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ 79: 12 تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ 79: 12 [4]
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 7/ 656.
[2] انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 1/ 357، والجرح والتعديل 2/ 275. وطبقات ابن سعد 7/ 276.
[3] في ت: «أبا المهاجر» .
[4] سورة: النازعات، الآية: 12.(8/97)
ومضى على وجهه وأنا أتبعه لا يكلمني حَتَّى انتهى إِلَى منزله، فدخل وأصفق بابه، فرجعت إلى أهلي، ولم يلبث إلا يسيرا حَتَّى مات.
778- ضيغم بْن مالك، أَبُو مالك العابد.
كَانَ ورده كل يوم أربعمائة ركعة، وَكَانَ كثير البكاء، طويل الحزن، وَكَانَ يقول:
47/ ب لو أعلم أن رضاه فِي أن أقرض لحمي لدعوت بالمقراض/ فقرضته.
أَخْبَرَنَا عَبْد الوهاب قال: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر مُحَمَّد بْن عَلِيّ الخياط قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن يوسف قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن صفوان قَالَ: حَدَّثَنَا أبو بكر بن عبيد قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الحُسَيْن قَالَ: حَدَّثَنِي مالك بن ضيغم قَالَ: قالت أم ضيغم لَهُ يوما: ضيغم. قَالَ لها: لبيك يا أماه. قالت: كيف فرحك بالقدوم على اللَّه؟ قَالَ: فحدثني غير واحد من أهله أنه صاح صحيحة لم يسمعوه صاح مثلها قط، وسقط مغشيا عليه، فجلست العجوز تبكي عند رأسه وتقول: بأبي أنت، مَا تستطيع أن يذكر بين يديك شيء من أمر ربك.
قَالَ: وقالت لَهُ يوما: ضيغم. قَالَ: لبيك يا أماه. قالت: تحب الموت؟ قَالَ: نعم يا أماه. قالت: ولم يا بْني؟ قَالَ: رجاء خير مَا عند اللَّه. قَالَ: فبكت العجوز وبكى، وتسامع أهل الدار، فجلسوا يبكون لبكائهم.
قَالَ: وقالت لَهُ يوما آخر: ضيغم. قَالَ: لبيك يا أماه. قالت: تحب الموت؟ قَالَ: نعم يا أماه. قالت: ولم يا بْني؟ قَالَ: رجاء خير مَا عند اللَّه. قَالَ: فبكت العجوز وبكى، وتسامع أَهْل الدار، فجلسوا يبكون لبكائهم.
قَالَ: وقالت لَهُ يوما آخر: ضيغم. قَالَ: لبيك يا أماه. قالت: تحب الموت؟ قال:
لا يا أماه. قال: ولم يا بْني؟ قَالَ: لكثرة تفريطي وغفلتي عَنْ نفسي. قَالَ: فبكت العجوز وبكى ضيغم، فاجتمع أهل الدار يبكون.
وكانت أمه عربية كأنها من أَهْل البادية.
779- عَمْرو بْن قيس، أَبُو عَبْد اللَّه الملائي [1] .
سمع عكرمة مولى ابْن عباس، وأبا إسحاق السبيعي، وعطاء، وعمر بن المنكدر.
__________
[1] انظر ترجمته: تاريخ بغداد 12/ 163، وتهذيب التهذيب 8/ 92. والجرح والتعديل 6/ 254.
والتاريخ الكبير 6/ 363.(8/98)
روى عنه الثوري، وَكَانَ يثني عليه، ويجلس بين يديه ينظر إِلَيْهِ لا يكاد يصرف بصره عنه، يتأدب برويته. وَكَانَ ثقة صالحا يقال: إنه من الأبدال.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا حمزة بن محمد بن طاهر الوراق قَالَ: حَدَّثَنَا الوليد بْن بكر الأندلسي قال: حدثنا علي بن أحمد بن زكريا الهاشمي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مسلم صالح بْن أَحْمَد بْن عَبْد اللَّه العجلي قَالَ: حَدَّثَنَا أبي، عَنْ أبيه عَبْد اللَّه قَالَ: جاءت امرأة إِلَى عَمْرو بْن قيس بثوب فقالت: يا أبا عَبْد اللَّه، اشتر هَذَا الثوب، واعلم أن غزله ضعيف. قَالَ: فكان إذا جاءه إنسان فعرضه عليه قَالَ: إن صاحبته أخبرتني أنه كان في غزله ضعف. / حتى جاءه رجل 48/ أفاشتراه، وَقَالَ: قَدْ أبرأناك منه [1] .
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر قال: أخبرنا ثابت بن بندار قال: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر البرقاني قَالَ: سمعت عَبْد اللَّه بْن إِبْرَاهِيم الأنبذوني يَقُول: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بن عامر الدمشقيّ قال:
أخبرنا أحمد بْن أبي الحواري قَالَ: حَدَّثَنَا إسحاق بْن خلف قَالَ: أقام عَمْرو بْن قيس عشرين سنة صائما مَا يعلم به أهله، يأخذ غداه ويغدو إِلَى الحانوت، فيتصدق بغدائه ويصوم وأهله لا يدرون. قال: وَكَانَ إذا حضرته الرقة يحول وجهه إِلَى الحائط ويقول:
هَذَا الزكام. وإذا نظر إِلَى أهل السوق قال: ما أغفل هؤلاء عما أعدّ لهم.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: أخبرنا أَحْمَد بْن عَلِي قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِي بْن مُحَمَّد المعدل قالَ: أَخْبَرَنَا الحسين بْن صفوان قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن أبي الدنيا قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الحسين قَالَ: حَدَّثَنَا حفص بْن غياث قَالَ: حَدَّثَنَا أبي قَالَ: لما احتضر عَمْرو بْن قيس الملائي بكى. فَقَالَ أصحابه: علام تبكي من الدنيا؟ فو الله لقد كنت منغص العيش أيام حياتك. فَقَالَ: والله ما أبكي على الدنيا، إنما أبكي خوفا أن أحرم خير الآخرة [2] .
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الباقي قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَحْمَد الحداد قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ قَالَ: حدثنا عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن أبي علي قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَر بْن كزال قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن بشير قَالَ: حَدَّثَنَا المحاربي قَالَ: قَالَ لي سفيان: عَمْرو بْن قيس هو الَّذِي أدبْني، علمني قراءة القرآن، وعلمني
__________
[1] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 12/ 164، 165.
[2] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 12/ 165.(8/99)
الفرائض، فكنت أطلبه فِي سوقه، فإن لم أجده فِي سوقه وجدته فِي بيته، إما يصلي وإما يقرأ القرآن فِي المصحف، كأنه يبادر أمورا تفوته، فإن لم أجده فِي بيته، وجدته فِي بعض مساجد الكوفة فِي زاوية من زوايا المسجد كأنه سارق قاعد يبكي، فإن لم أجده وجدته فِي المقبرة قاعدا ينوح على نفسه. فلما مات أغلق أهل الكوفة أبوابهم وخرجوا بجنازته، فلما أخرجوه إِلَى الجبانة وبرزوا بسريره- وَكَانَ أوصى أن يصلي عليه أبو حيان 48/ ب التيمي- فلما تقدم أَبُو حيان/ وكبروا سمعوا صائحا يصيح: قَدْ جاء المحسن، قَدْ جاء المحسن عَمْرو بْن قيس. وإذا البرية مملوءة من طير أبيض لم ير على خلقتها وحسنها، فجعل الناس يعجبون من حسنها وكثرتها. قَالَ أَبُو حيان: من أي شيء تعجبون؟ هَذِهِ ملائكة جاءت فشهدت عمرا.
أَخْبَرَنَا أَبُو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بْن الْحَسَن الطبري قَالَ:
أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّه بْن أَحْمَد الْمُقْرِئ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مخلد قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس عيسى بْن إسحاق السائح قَالَ: حَدَّثَنَا أبي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو خالد- هو الأحمر- قَالَ: لما مات عَمْرو بْن قيس رأوا الصحراء مملوءة رجالا عليهم ثياب بيض، فلما صلي عليه ودفن لم يروا في الصحراء أحدا، فبلغ ذلك لأبي جَعْفَر فَقَالَ لابْن شبرمة، وابْن أبي ليلى: مَا منعكما أن تذكرا هذا الرجل لي فقالا: كَانَ يسألنا أن لا نذكره لك [1] .
اختلفوا أين تُوُفِّيَ، فقيل: بالكوفة، وقيل: بسجستان. وقيل: بالشام. وقيل:
ببغداد. والأول أليق.
780- هشام بْن عروة بْن الزُّبَيْر بْن العوام، أَبُو المنذر- وقيل: أَبُو عَبْد اللَّه- الأسدي [2] .
ولد سنة إحدى وستين، رأى ابْن عُمَر، وجَابِر، وأنس بْن مالك، وسهل بْن سعد، وعَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر.
وسمع أباه، وابْن المنكدر، والزهري، وغيرهم.
روى عنه أيوب السجستاني، ومالك، وابن جريح، والثوري، والليث بْن سعد، وغيرهم. وَكَانَ ثقة، وقدم على المنصور.
أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد قَالَ: أَخْبَرَنَا [أَحْمَدُ بن] [3] علي بن ثابت قال: أخبرنا
__________
[1] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 12/ 165.
[2] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 14/ 37.
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.(8/100)
محمد بن أحمد بن رزق قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيٍّ الْخُطَبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ الْمُقْرِئُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: أَنَّهُ دخل على أبي جعفر المنصور، فقال: يا أمير الْمُؤْمِنِينَ، اقْضِ عَنِّي دَيْنِي. قَالَ: وَكَمْ دَيْنُكَ؟ قَالَ: مِائَةُ أَلْفٍ. قَالَ: وَأَنْتَ فِي فَضْلِكَ وفهمك/ تأخذ دينا 49/ أمائة أَلْفٍ وَلَيْسَ عِنْدَكَ قَضَاؤُهَا؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، شَبَّ فَتَيَانِ مِنْ فِتْيَانِنَا، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُبَوِّئَهُمْ وَخَشِيتُ أَنْ يَنْتَشِرَ عَلَيَّ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا أَكْرَهُ فَبَوَّأْتُهُمْ وَاتَّخَذْتُ لَهُمْ مَنَازِلَ وَأَوْلَمْتُ عَنْهُمِ ثِقَةً باللَّه وَبِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: فَرَدَّ عَلَيْهِ مِائَةَ أَلْفٍ اسْتِعْظَامًا لَهَا، ثُمَّ قَالَ: قَدْ أَمَرْنَا لَكَ بِعَشْرَةِ آلافٍ. قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَعْطِنِي مَا أَعْطَيْتَ وَأَنْتَ طَيِّبُ النَّفْسِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أنه قال: «مَنْ أَعْطَى عَطِيَّةً وَهُوَ بِهَا طَيِّبُ النَّفْسِ بُورِكَ لِلْمُعْطِي وَلِلْمُعْطَى» قَالَ: فَإِنِّي بِهَا طَيِّبُ النَّفْسِ [1] .
أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْقَزَّازُ بِإِسْنَادٍ لَهُ عَنْ شيخ من قريش قَالَ: أهوى هِشَام بْن عُرْوَة إِلَى يد المنصور يقبلها فمنعه وَقَالَ: يا ابْن عُرْوَة، [إنا نكره ذلك،] إنا نكرمك عنها ونكرمها عَنْ غيرك [2] .
تُوُفِّيَ هِشَام عند المنصور فصلى عليه المنصور، وكانت وفاته في هذه السنة وَهُوَ ابْن خمس وثمانين سنة. وقيل: تُوُفِّيَ فِي سنة خمس وأربعين. وقيل: سبع وأربعين.
واختلفوا فِي قبره. قَالَ أَبُو الحسين بْن المنادي: أَبُو المنذر [3] هشام بْن عروة بْن الزُّبَيْر بْن العوام مات أيام خلافة أبي جَعْفَر فِي سنة ست وأربعين، ودفن فِي الجانب الغربي خارج السور نحو باب قطر بل.
وأخبرنا عَبْد الرَّحْمَنِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد قَالَ: حَدَّثَنِي حمزة، عَنْ طاهر الدقاق:
أنه سمع أبا أَحْمَد بْن عَبْد اللَّه بْن الخفر ينكر أن يكون قبر هِشَام المشهور بالجانب الغربي، وإنما هو بالخيزرانية من الجانب الشرقي.
قَالَ أَحْمَد: ونرى أن هذا هو الصواب.
__________
[1] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 14/ 39.
[2] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 14/ 39 وما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «قال أبو المنذر» .(8/101)
ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائة
فمن الحوادث فِيهَا:
أن الكواكب تناثرت كثيرا.
وَفِيهَا: إغارة الترك عَلَى المسلمين/ بْناحية أرمينية، وسبيهم منهم ومن أَهْل الذمة خلقا كثيرا ودخلوا بهم تفليس، وقتلهم حرب بْن عَبْد اللَّه الّذي تنسب إليه الحربية ببغداد، وكان حرب مقيما بالموصل فِي ألفين من الجند، لمكان الخوارج الذين بالجزيرة، وكان أبو جعفر حين بلغه تحرك الترك هُنَاكَ وجه إليهم جبريل بْن يحيى، وكتب إِلَى حرب يأمره بالمسير معه، فسار معه، فقتل وهزم جبريل وأصيب من ذكرنا [1] .
وَفِيهَا: كَانَ مهلك عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ بْن عَبْد اللَّه بْن عباس. وَكَانَ السبب: أن أبا جعفر كان قد عزل عيسى بْن موسى عَنِ الكوفة وأرضها وولى مكانه مُحَمَّد بْن سليمان، وأوفده إِلَى مدينة السلام، فدعا به، فدفع إِلَيْهِ عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ سرا فِي جوف الليل وَقَالَ لَهُ: يا عيسى، إن هَذَا أراد أن يزيل النعمة عني وعنك، وأنت ولي عهد بعد المهدي، والخلافة صائرة إليك، فخذه إليك واضرب عنقه، وإياك أن تخور أو تضعف.
ثُمَّ كتب إِلَيْهِ: مَا فعلت فيما أمرتك به؟ فكتب إِلَيْهِ: قَدْ أنفذت مَا أمرت به. فلم يشك أَبُو جَعْفَر أنه قَدْ قتل عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ، وَكَانَ عيسى حين أخذ عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ قَدْ ستره، ودعا كاتبه يونس بْن فروة فَقَالَ: إن هَذَا الرجل دفع إليّ عمّه فأمرني فيه بكذا
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 6.(8/102)
وكذا. فَقَالَ: أراد أن يقتلك ويقتله، أمرك بقتله سرا، ثُمَّ يدعيه عَلَيْك علانية فيقيدك به.
قَالَ: فما الرأي؟ قَالَ: أن تستره فِي منزلك ولا تطلع عَلَى ذلك أحدا، فإن طلبه منك علانية دفعته إِلَيْهِ علانية، ولا تدفعه إِلَيْهِ سرا أبدا، فإنه إن كَانَ أسره إليك سيظهر، ففعل ذلك عِيسَى.
وقدم المنصور ودس عَلَى عمومته من يحركهم عَلَى مسألته فِيهِ هبة [عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ لهم] [1] ويطمعهم أنه سيفعل- يعني المنصور [2]- فجاءوا إِلَيْهِ فكلموه ورققوه، وأظهروا لَهُ الرقة، وذكروا لَهُ الرحم. فَقَالَ المنصور: نعم علي بعيسى بْن موسى. فأتى فَقَالَ: يا عيسى/، قَدْ علمت أني دفعت إليك عمي وعمك عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ قبل خروجي [إِلَى] [3] الحج، وأمرتك أن يكون فِي منزلك. قَالَ: قَدْ فعلت ذلك. قَالَ: وقد كلمني عمومتك فِيهِ، فرأيت الصفح وتخلية سبيله، فأتنا به. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ألم تأمرني بقتله؟ فَقَالَ المنصور: مَا أمرتك بقتله. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أنت أمرتني بقتله. فَقَالَ: كذبت، مَا أمرتك بقتله. ثُمَّ قَالَ لعمومته: إن هذا قد أقرّ لكم بقتل أخيكم، وادعى أني أمرته بذلك، وقد كذب. قالوا: فادفعه إلينا نقيده [4] . قَالَ: شأنكم به. فأخرجوه إِلَى الرحبة، واجتمع الناس، واشتهر الأمر، فقام أحدهم وشهر سيفه وتقدم إِلَى عيسى ليضربه، فَقَالَ لَهُ عيسى: أقاتلي أنت؟ قَالَ: إي والله. قَالَ: لا تعجلوا، ردوني إِلَى أمير المؤمنين. فردوه إِلَيْهِ. فَقَالَ: إنما أردت بقتله أن تقتلني، هَذَا عمك حي سويّ، إن أمرتني بدفعه إليك دفعته. قَالَ: ائتنا به. فَقَالَ لَهُ عيسى: دبرت علي أمرا فحسبته فكان كما حسبت، فشأنك بعمك. فأمر به فجعل فِي بيت.
وتوفي عَبْد اللَّه في هذه السنة فِي الحبس [5] .
وَفِيهَا: خلع المنصور عيسى بْن موسى وبايع لابْنه المهدي، فجعله ولي عهده:
وَكَانَ سبب خلعه بعد أن بايع لَهُ السفاح بعد المنصور أقره عَلَى مَا كَانَ عليه من
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[2] «يعني المنصور» ساقطة من ت.
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[4] في الطبري: «نقتله» .
[5] انظر: تاريخ الطبري 8/ 7- 9.(8/103)
الولاية الكوفة وسوادها فِي زمن السفاح، فكان يكرمه ويجلسه عَنْ يمينه والمهدي عَنْ يساره، إِلَى أن عزم المنصور عَلَى تقديم المهدي فِي الخلافة عليه، فلما عزم عَلَى ذلك كلم عيسى بْن موسى فِي ذلك برقيق من الكلام. فَقَالَ عيسى: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فكيف بالأيمان والمواثيق الَّتِي علي وعلى المسلمين فِي العتق والطلاق وغير ذلك، ليس إِلَى ذلك سبيل، فلما رأى امتناعه تغير لَهُ [1] وباعده بعض التباعد، وأمر بالإذن للمهدي قبله، فكان يدخل فيجلس فِي مجلس عيسى، ثُمَّ يؤذن لعيسى فيدخل فيجلس دون 50/ ب المهدي عَنْ يمين المنصور/ أيضا، ولا يجلس عَنْ يساره فيغتاظ من ذلك المنصور، ويبلغ منه، فكان يأمر بالإذن للمهدي، ثُمَّ لعيسى بْن عَلِيّ، ثُمَّ عَبْد الصَّمَدِ بْن عَلِيّ، ثُمَّ عيسى بْن موسى.
ثُمَّ صار الأمر إِلَى أوحش من ذلك بأن كَانَ يكون فِي المجلس فيسمع الحفر فِي أصل الحائط، فيخاف أن يخر عليه الحائط، وينتثر عليه التراب، وينظر إِلَى الخشبة من سقف المجلس قَدْ حفر عند طرفيها لتقلع فيسقط التراب عَلَى قلنسوته وثيابه، فيأمر من معه من ولده بالتحول، ويقوم هو فيصلي، ويأتيه الإذن فيدخل عَلَى حالته والتراب عليه.
وقيل: إنه دس لعيسى بعض مَا يتلفه، ونهض وخرج، فَقَالَ لَهُ بختيشوع: مَا أجترئ عَلَى معالجتك بالحضرة، فاستأذن فِي الكوفة، فأذن لَهُ، وبلغت العلة من عيسى كل مبلغ حَتَّى تمعط شعره [2] .
وقد اختلفوا فِي نزول عيسى عَنِ الخلافة للمهدي عَلَى خمسة أقوال:
أحدها: أنه قيل للمنصور: إنما يحب عيسى الخلافة لولده، فلو أوهمته قتله لنزل عَنِ الخلافة فأخذ ولده بحضرته وَقَالَ للربيع: اختقه فلف [3] حمائل سيفه عَلَى حلقه توهم أنه يخنقه. فلما رأى عيسى الجد قَالَ: أشهدك أن نسائي طوالق ومماليكي أحرار، وكل مَا أملك في سبيل اللَّه، وَهَذِهِ يدي بالبيعة للمهدي.
والثاني: أن الجند كانوا يؤذون عيسى إذا ركب ويسبونه، فشكاهم إلى المنصور، فقال إنهم قَدْ أشربوا حب هَذَا الفتى، فبايع حينئذ للمهدي.
__________
[1] في الطبري: «تغير لونه» .
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 9- 11.
[3] «فلف» ساقطة من ت.(8/104)
والثالث: أنه ذهب إِلَيْهِ ثَلاثُونَ نفسا، فسألوه أن ينزل عَنِ الخلافة، فلم يفعل، فخرجوا فأخبروا المنصور أنه قَدْ نزل وشهدوا عليه بذلك، فكتب بذلك إلى الأنبار، فلما أنكر شهدوا عليه.
والرابع: أن سالم بْن قتيبة أشار عليه بذلك فقبل منه.
والخامس: أنه بذل لَهُ مال فخرج إِلَى الناس، فَقَالَ: / قَدْ بعت نصيبي من مقدمة ولاية العهد من أمير المؤمنين لابْنه المهدي بعشرة آلاف ألف درهم وثلاثمائة ألف بين يدي ولدي فلان وفلان وسبعمائة ألف من فلانة- امرأة من نسائه- بطيب نفس مني، لأنه أولى بها مني وأحق، فما أدعيه بعد يومي هَذَا فإني فِيهِ مبطل. وكساه أَبُو جَعْفَر وكسا أولاده بقيمة ألف ألف درهم ومائتي ألف درهم، وَكَانَ ولاية عيسى الكوفة وسوادها وما حولها ثلاث عشرة سنة، حتى عزل مُحَمَّد بْن سليمان حين امتنع من تقديم المهدي عَلَى نفسه.
وَقَالَ المنصور للمهدي لما عهد إِلَيْهِ: يا أبا عَبْد اللَّه، استدم النعمة بالشكر والقدرة بالعفو، والطاعة بالتألف، والنصر بالتواضع، ولا تبرم أمرا حَتَّى تفكر فِيهِ، فإن فكر العاقل مرآته تريه حسنه وسيئه. واعلم أنه لا يصلح السلطان إلا بالتقوى، ولا يصلح رعيته إلا بالطاعة، ولا تعمر البلاد بمثل العدل، ولا تدوم نعمة السلطان وطاعته إلّا بالمال، وأقدر الناس عَلَى العفو أقدرهم عَلَى العقوبة، وأعجز الناس من ظلم من هو دونه، واعتبر عمل صاحبك وعلمه باختباره، ومن أحب الحمد أحسن السيرة، وليس العاقل الّذي يحتال للأمر الَّذِي وقع فِيهِ حَتَّى يخرج منه، ولكن هو الَّذِي يحتال للأمر الَّذِي غشيه حَتَّى لا يقع فِيهِ.
وَقَالَ لَهُ يوما: كم دابة عندك؟ قَالَ: لا أدري. قَالَ: هذا والله التضييع، أنت لأمر الخلافة أشد تضييعا.
وفي هذه السنة: ولى أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بْن الْعَبَّاس ابْن أخيه البصرة، فاستعفى منها فأعفاه، فانصرف عنها إلى مدينة النبي صلّى الله عليه وسلّم، فمات بها. واستخلف عَلَى البصرة عقبة بْن مسلم، وأقره أَبُو جَعْفَر عَلَيْهَا.
وَفِيهَا: ضرب مالك بْن أنس.
أَنْبَأَنَا زاهر بْن طاهر قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن الحسين البيهقي قال: سمعت أبا أحمد(8/105)
51/ ب ابن أبي الْحَسَن يَقُول: سمعت/ أبا عوانة يَقُول: سمعت أبا يوسف الفارسي يَقُول:
سمعت مكي بْن إِبْرَاهِيم يَقُول: ضرب مالك بْن أنس رضي اللَّه عنه فِي سنة سبع وأربعين ومائة. ضربه سليمان بْن عَلِيّ بْن عَبْد اللَّه بْن عباس سبعين سوطا.
قَالَ مؤلف الكتاب رحمه اللَّه [1] : والسبب فِي ضربه أنهم سألوه عَنْ مبايعة مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بن حسن بْن حسن وقالوا لَهُ: إن فِي أعناقنا بيعة أبي جَعْفَر. فَقَالَ:
إنما بايعتم مكرهين، وليس على مكره يمين، فأسرع الناس إِلَى مُحَمَّد. فلذلك ضرب.
وفي هذه السنة: حج بالناس المنصور، وقبض عَلَى جَعْفَر بْن مُحَمَّد بْن عَلِيّ بالمدينة.
أَخْبَرَنَا عَبْد الوهاب بن المبارك قال: أخبرنا أبو الحسين بن عَبْد الْجَبَّارِ قَالَ:
أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن عُمَر القزويني قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم بْن شاذان قال: حدثنا القاسم بن داود الكاتب قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بكر بْن عبيد القرشي قَالَ: حَدَّثَنِي عيسى بْن حرب والمغيرة بْن محمد قالا: حَدَّثَنَا عَبْد الأَعْلَى بْن حماد قَالَ: حَدَّثَنِي الحسين بْن الفضل بْن الربيع قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْد اللَّه بْن الفضل بْن الربيع- ولم يحفظ الدعاء وبعضه عَنْ غيره- قَالَ: حج أَبُو جَعْفَر سنة سبع وأربعين ومائة، فقدم المدينة فَقَالَ: ابعث إِلَى جَعْفَر بْن مُحَمَّد من يأتينا به [2] متعبا، قتلني اللَّه إن لم أقتله. فتغافل عنه الربيع لينساه، ثُمَّ أعاد ذكره للربيع وقال: ابعث إليه من يأتي به متعبا. فتغافل عنه، ثُمَّ أرسل إِلَى الربيع برسالة قبيحة فِي جَعْفَر وأمره أن يبعث إِلَيْهِ ففعل. فلما أتاه فَقَالَ: أبا عَبْد اللَّه، اذكر اللَّه، فإنه قَدْ أرسل إليك التي لا سوى لها [3] . قَالَ جَعْفَر: لا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم. ثُمَّ أعلم أبا جَعْفَر حضوره، فلما دخل أوعده وَقَالَ أَبُو عَبْد اللَّه:
اتخذك أَهْل العراق إماما يجبون إليك زكاة أموالهم، وتلحد فِي سلطاني وتبغيه الغوائل، قتلني اللَّه إن لم أقتلك. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إن سليمان عليه السلام/ أعطي فشكر، وإن أيوب ابتلي فصبر، وإن يوسف ظلم فغفر، وأنت من ذلك الشيخ. فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَر: إلي وعندي أبا عبد الله البريء الساحة، السليم الناحية، القليل الغائلة، جزاك اللَّه من ذي رحم أفضل مَا جزى ذوي الأرحام عَنْ أرحامهم. ثم تناول يده فأجلسه معه عَلَى فرشه، ثُمَّ قَالَ: علي بالمحفة. فأتى بدهن فِيهِ غالية فعلقه بيده حتى خلت
__________
[1] في ت: «قال المصنف» .
[2] في ت: «من يأتي به» .
[3] هكذا بالأصل ت.(8/106)
لحيته قاطرة، ثُمّ قَالَ: فِي حفظ اللَّه وكلاءته. ثُمَّ قَالَ: يا ربيع، ألحق أبا عَبْد اللَّه جائزته وكسوته، انصرف أبا عَبْد اللَّه فِي حفظ اللَّه وفي كنفه. فانصرف، ولحقته فقلت له: إني رأيت قبل ذلك مَا لم تره، ورأيت بعد ذلك مَا قَدْ رأيت، فما قلت يا أبا عبد الرحمن حين دخلت. قال: قلت: اللَّهمّ احرسني بعينك الَّتِي لا تنام، واكنفني ببركتك التي لا ترام، وارحمني بقدرتك علي، فلا أهلك وأنت رجائي، اللَّهمّ إنك أكبر وأجل مما أخاف وأحذر، اللَّهمّ بك أدفع في نحره، وأستعيذك من شره.
وَكَانَ عامل المنصور في هذه السنة عَلَى مكة والطائف عمه عبد الصمد بن علي، وعلى المدينة جَعْفَر بْن سليمان، وعلى الكوفة وأرضها مُحَمَّد بن سليمان، وعلى البصرة عقبة بن سالم، وعلى قضائها سوار بْن عَبْد اللَّه، وعلى مصر يزيد بْن حاتم [1] .
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
781- حسين بْن ذكوان المعلم الْبَصْرِيّ [2] .
سمع عَبْد اللَّه بْن بريدة، ويحيى بْن أبي كثير.
سمع منه: شعبة، وعبد الوارث، وابْن المبارك، وَكَانَ ثقة.
782- سهيل بْن حيان بْن منصور بْن سعد، أَبُو السحماء الكلبي.
روى عنه: الليث، وابْن وهب.
وكانت لَهُ عبادة وفضل. تُوُفِّيَ بالإسكندرية في هذه السنة.
783- عَبْد اللَّه/ بْن عَلِيّ بْن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي، عم أبو 52/ ب جَعْفَر المنصور.
أمه أم ولد بربرية، ولاه أَبُو الْعَبَّاس السفاح حرب مروان بْن مُحَمَّد، وضمن له أنه إن جرى قتل مروان عَلَى يده أن يجعله الخليفة من بعده، فسار عَبْد اللَّه إِلَى مروان حَتَّى قتله، واستولى عَلَى بلاد الشام، ولم يزل أميرا عَلَيْهَا مدة خلافة السفاح، ثُمَّ تغيرت نية السفاح لَهُ، فعهد إِلَى المنصور، فلما ولي المنصور خالف عليه عَبْد اللَّه، ودعا إِلَى نفسه
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 26.
[2] انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 2/ 338. والجرح 3/ 52، وطبقات ابن سعد 7/ 270.(8/107)
محتجا بما كَانَ السفاح وعده، فوجه إِلَيْهِ المنصور أبا مسلم صاحب الدولة، فحاربه بنصيبين، فانهزم عَبْد اللَّه واختفى، وصار إِلَى البصرة إِلَى أخيه سليمان بْن عَلِيّ، فأقام عنده إِلَى أن أخذ لَهُ أمانا من المنصور، فقدم إِلَى المنصور، ولم يصل إِلَيْهِ فحبسه، فلم يزل في الحبس حَتَّى وقع عليه البيت الَّذِي حبس فِيهِ فِي ليلة مطيرة فقتله في هذه السنة، وهو ابن اثنتين وخمسين سنة.
وقيل: بل كَانَ عمره خمسا وأربعين. ودفن فِي مقابر باب الشام، فكان أول من دفن بها.
وقد روى أصحاب التواريخ أن المنصور قال لابن عياش المنتوف- وَكَانَ لَهُ انبساط عَلَى المنصور- عَلَى طريق المزاح: تعرف ثلاثة أول أسمائهم عين، قتلوا ثلاثة أوائل أسمائهم عين؟ قَالَ: نعم، عَبْد الرَّحْمَنِ قتل عَلِيّ بْن أبي طالب، وَعَبْد الْمَلِكِ بْن مروان قتل عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر، ووقع البيت عَلَى عمك عَبْد اللَّه.
وَكَانَ قَدْ كتب العهد لعَبْد اللَّه واستوثق فِيهِ، وغلظ فِي الأيمان [1] ، وفيه: أن أحج حافيا حاسرا، وأموالي وأملاكي حبيس فِي سبيل اللَّه، وأقول كذا وكذا، وأبرأ من كذا وكذا.
فلما وقف المنصور عَلَى هَذَا المكتوب قَالَ: متى وقعت عليه عيني فهذا كله 53/ أيلزمني. فلما جيء به/ أعلم بمجيئه، فَقَالَ: يدخل بيتا. وَكَانَ قَدْ أعد لَهُ بيتا بْني أساسه بالملح، فلما استقر فِيهِ أجري الماء حواليه فانهدم البيت عليه.
وذكر أَبُو بكر الصولي عَنْ عَبْد اللَّه بْن عياش قَالَ: قَالَ لنا المنصور: أخبروني عَنْ خليفة أول اسمه عين، قتل ثلاثة جبابرة أول أسمائهم عين؟ فقلت: عَبْد الملك بْن مروان قتل عَمْرو بْن سعيد بْن العاص، وعَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر، وَعَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد بْن الأشعث. قال: فخليفة آخر أوّل اسمه عين [2] فعل مثل ذلك بثلاثة جبابرة أول أسمائهم عين. قلت: أنت يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد قتلت أبا مسلم واسمه عَبْد الرَّحْمَنِ، وقتلت عَبْد الْجَبَّارِ بْن عدي، وسقط البيت عَلَى عمك عَبْد اللَّه. فضحك المنصور وَقَالَ: ويحك، وما ذنبي إذا سقط البيت عليه.
__________
[1] في ت: «وغلظت الإيمان» وما أثبتناه من الأصل.
[2] «أول اسمه عين» ساقطة من ت.(8/108)
قَالَ الصولي: إنما قَالَ: وسقط البيت عليه يريد أنك قتلته لأنه بْنى لَهُ بيتا وفي أساسه ملح فسقط عليه، ولم يفصح بهذا ولكنه عرض به.
وَقَالَ الصولي: ويروى أنه قَالَ لهم: أتعرفون عين ابْن عين ابْن عين ابْن عين ابْن عين قتل ميم ابْن ميم ابْن ميم؟ قالوا: نعم، عمك عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ بْن عَبْد الله بن عباس بن عبد المطلب قتل مروان بْن مُحَمَّد بْن مروان.
784- عثمان، أَبُو عَمْرو البتي الثقفي الْبَصْرِيّ [1] .
وقيل: هو عثمان بْن سليمان بْن هرمز. وقيل: ابْن سليمان بْن جرموز.
سمع الْحَسَن. وروى عنه الثوري.
وَكَانَ يبيع البت، وهي ثياب معروفة بالبصرة.
785- هِشَام بْن حسان بْن عَبْد اللَّه الفردوسي [2] .
روى عَنْ عطاء وغيره.
أَخْبَرَنَا عَبْد الوهاب بإسناد لَهُ عَنْ أبي بكر بْن أبي الدنيا قَالَ: حَدَّثَنِي ابْن هرمز بْن مروان قَالَ: سمعت حماد بْن زيد قَالَ: حدثتني فارسية كانت تكون مَعَ هِشَام بن حسان في الدار قالت [3] : أي ذنب عمل هَذَا/ من قبل هَذَا الليل كله يبكي.
تُوُفِّيَ هِشَام في هذه السنة. وقيل فِي سنة ثمان، وقيل: فِي سنة ست.
786- هاني بْن المنذر الكلاعي.
روى عنه ابْن لهيعة. وَكَانَ علامة بالأنساب، مستطلعا معرفتها، وبأخبار العرب وأيامها، وأخبار مصر وما جرى فِيهَا. وَكَانَ يوثق فيما يحكيه.
تُوُفِّيَ في هذه السنة.
__________
[1] انظر ترجمته في: تقريب التهذيب 2/ 14، وفيه: «عثمان بن مسلم البتي، أبو عمرو البصري، صدوق عابوا عليه الإفتاء بالرأي» .
[2] انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 11/ 34. والتاريخ الكبير 8/ 197. والجرح والتعديل 9/ 54.
وطبقات ابن سعد 7/ 271.
[3] في الأصل: «قال» .(8/109)
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائة
فمن الحوادث فِيهَا:
توجيه المنصور حميد بْن قحطبة إِلَى أرمينية لحرب الترك الذين قتلوا حرب بْن عَبْد اللَّه، وعاثوا بتفليس، فسار فوجدهم قَدِ ارتحلوا، فانصرف ولم يلق منهم أحدا [1] .
وَفِيهَا: عسكر صالح بْن عَلِيّ بدابق ولم يغز [2] .
وَفِيهَا: خرج الهند من البحر فأتوا دجلة البصرة.
وَفِيهَا: حج بالناس جَعْفَر بْن أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، وَكَانَ عمال الأمصار في هذه السنة عمالها فِي السنة الَّتِي قبلها [3] .
ذكر من توفي فِي هذه السنة من الأكابر.
787- جَعْفَر بْن مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو عَبْد اللَّه [4] [جَعْفَر الصادق] [5] .
أمه أم فروة بْنت القاسم بْن مُحَمَّد بْن أبي بكر.
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 27.
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 27.
[3] انظر: تاريخ الطبري 8/ 27.
[4] انظر ترجمته في: التاريخ الكبير للبخاريّ 2/ 2183، والمعارف 175، 215، وأخبار القضاة لوكيع 2/ 62، والجرح والتعديل 2/ 1987، وحلية الأولياء 3/ 192، وصفة الصفوة 2/ 94، وتاريخ الإسلام للذهبي 6/ 45- 48، وتذكرة الحفاظ 1/ 166.
[5] ما بين مزدوجين من هامش الأصل.(8/110)
كَانَ عالما زاهدا عابدا، أسند عَنْ أبيه وعطاء وعكرمة.
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أبي القاسم قَالَ: أَخْبَرَنَا حمد بْن أَحْمَد قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نعيم الأصفهاني قَالَ: حَدَّثَنَا أبي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَن بْنِ أَبَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا الوليد بْن شجاع قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن أعين، عَنْ يحيى بْن الفرات قَالَ: قَالَ جَعْفَر بْن مُحَمَّد لسفيان الثوري:
لا يتم المعروف إلا بثلاثة: تعجيله، وتصغيره، وستره.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن القاسم قَالَ: حَدَّثَنَا حمد بْن أَحْمَد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَن أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن مقسم قَالَ: حَدَّثَنِي أبو الحسن/ بن 54/ أالحسين الكاتب قَالَ: حَدَّثَنِي أبي قَالَ: حَدَّثَنِي الهيثم قَالَ: حَدَّثَنِي بعض أصحاب جَعْفَر الصادق قَالَ: دخلت عَلَى جَعْفَر وموسى بين يديه وَهُوَ يوصيه بهذه الوصية، فكان مما حفظت منها أن قال: يا بني، اقبل وصيتي، واحفظ مقالتي، فإنك إن حفظتها تعش سعيدا، وتمت حميدا، يا بْني، إنه من قنع بما قسم لَهُ استغنى، ومن مد عينه إِلَى مَا فِي يد غيره مات فقيرا، ومن لم يرض بما قسم الله له اتهم اللَّه فِي قضائه، ومن استصغر زلة غيره استعظم زلة نفسه. يا بْني، من كشف حجاب غيره انكشفت عورات بيته، ومن سل سيف البغي قتل به، ومن احتفر لأخيه بئرا سقط فِيهَا، ومن داخل السفهاء حقر، ومن خالط العلماء وقر، ومن دخل مداخل السوء اتهم. يا بْني، قل الحق لك وعليك، وإياك والنميمة، فإنها تزرع الشحناء فِي قلوب الرجال. يا بْني إذا طلبت الجود فعليك بمعادنه.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْمُحْسِنِ بْن مُحَمَّد قَالَ: حَدَّثَنَا مسعود بْن ناصر السجستاني قَالَ: أَخْبَرَنَا سعيد بْن أبي عَمْرو البحتري قَالَ: سمعت أبا الْحَسَن عَلِيّ بْن مُحَمَّد بْن عبيدة يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن سهل البخاري يَقُول: سمعت صالح بْن مُحَمَّد يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن عبيدة يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن يوسف يَقُول:
سمعت الثوري يَقُول: دخلت عَلَى جَعْفَر بْن مُحَمَّد الصادق فقلت لَهُ: يا ابْن رسول الله، ما لي أراك قَدِ اعتزلت عَنِ الناس؟ قَالَ: يا سفيان، فسد الزمان، وتغير الإخوان، فرأيت الانفراد أسكن للفؤاد، ثُمَّ أنشأ يَقُول:
ذهب الوفاء ذهاب أمس الذاهب ... والناس بين مخاتل وموارب(8/111)
يفشون بينهم المودة والصفا وقلوبهم محشوة بعقارب
788- سليمان بْن مهران، أَبُو مُحَمَّد الأعمش، مولى بْني كاهل [1] .
أصله من طبرستان، من قرية يقال لها: دباوند. ولد يوم قتل الحسين يوم عاشوراء 54/ ب/ سنة إحدى وستين، وسكن الكوفة، ورأى أنس بْن مالك، ولم يسمع منه. ورأى أبا بكرة الثقفي وأخذ بركابه، فَقَالَ لَهُ: يا بْني، إنما أكرمت ربك عز وجل.
وسمع المغرور بْن سويد، وأبا وائل، وإبراهيم التيمي، وسفيان الثوري، وغيرهم، وَكَانَ من أقرأ الناس للقرآن وأعرفهم بالفرائض، وأحفظهم للحديث وأوثقهم [2] أَخْبَرَنَا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا ابن رزق قَالَ: أَخْبَرَنَا عُمَر بْن أَحْمَد قَالَ: حَدَّثَنَا حنبل بْن إسحاق قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن داود قَالَ: حَدَّثَنَا عيسى بْن يونس قَالَ: لم نر نحن ولا القرن الذين كانوا قبلنا مثل الأعمش، وما رأيت الأغنياء والسلاطين عند أحد أحقر منهم عند الأعمش مَعَ فقره وحاجته [3] .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أَخْبَرَنِي عَبْد اللَّه بْن أبي بكر بْن شَاذَان قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن عَلِيّ بْن مُحَمَّد بْن الجهم قَالَ:
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن جرير قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هِشَام قَالَ: سمعت عمي يَقُول: قَالَ عيسى بْن موسى لابْن أبي ليلى: اجمع الفقهاء. قال: فجمعتهم، فجاء الأعمش فِي جبة فرو وقد ربط وسطه بشريط، فأبطئوا فقام الأعمش فَقَالَ: إن أردتم أن تعطونا شيئا وإلا فخلوا سبيلنا. فَقَالَ: يا ابْن أبي ليلى، قلت لك تأتي بالفقهاء تجيء بهذا؟! قَالَ: هَذَا سيدنا، هَذَا الأعمش [4] .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت بإسناد له، عن
__________
[1] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 9/ 3.
[2] في الأصل: «أثقهم» .
[3] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 9/ 8.
[4] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 9/ 8.(8/112)
وكيع قَالَ: كَانَ الأعمش قريبا من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى، واختلفت إِلَيْهِ قريبا من سنتين، فما رأيته يقضي ركعة [1] .
أخبرنا محمد بن ناصر قال: أخبرنا المبارك بْن عَبْد الْجَبَّارِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْر المنكدري قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَن بْن الصلت قال: أخبرنا محمد بن القاسم الأنباري قال: حَدَّثَنِي ابْن المرزبان قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّد البلخي قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن حميد قَالَ: حَدَّثَنَا جرير قَالَ: جئنا الأعمش يوما فوجدناه قاعدا فِي ناحية، فجلسنا فِي ناحية أخرى وفي الموضع خليج من ماء/ المطر، فجاء رجل عليه سواد، فلما بصر بالأعمش 55/ أعليه فروة حقيرة قَالَ: قم عبرني هَذَا الخليج. وجذب بيده فأقامه وركبه وَقَالَ: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذَا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ 43: 13 [2] فمضى به الأعمش حَتَّى توسط به الخليج، ثُمَّ رمى به وَقَالَ: وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ 23: 29 [3] ثُمَّ خرج وترك المسود يتخبط فِي الماء [4] .
قَالَ مسلم بْن إِبْرَاهِيم: سمعت شعبة يَقُول: كَانَ الأعمش إذا رأى ثقيلا قَالَ [لَهُ] [5] : كم عرضك تقيم فِي هَذِهِ البلدة.
قَالَ الربيع بْن نافع [6] : كنا نجلس إِلَى الأعمش فيقول: فِي السماء غيم. يعني ها هنا من نكره.
أَخْبَرَنَا ابْن ناصر بإسناد لَهُ عَنْ إِسْمَاعِيل بْن زياد قَالَ: نشزت عَلَى الأعمش امرأته، وكان يأتيه رجل يقال لَهُ: أَبُو البلاد مكفوف، فصيح يتكلم بالإعراب يتطلب الحديث منه، فَقَالَ لَهُ: يا أبا البلاد، إن امرأتي قَدْ نشزت علي، وضيعت بيتي وغمتني، فأنا أحب أن تدخل عَلَيْهَا فتخبرها بمكاني من الناس وموضعي عندهم. فدخل عَلَيْهَا فَقَالَ: يا هنياه، إن اللَّه قد أحسن قسمك، هَذَا شيخنا وسيدنا، وعنه نأخذ أصل ديننا،
__________
[1] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 9/ 8، 9.
[2] سورة: الزخرف، الآية: 13.
[3] سورة: المؤمنون، الآية: 29.
[4] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 9/
[5] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[6] في الأصل: «عن الربيع بن نافع» .(8/113)
وحلالنا وحرامنا، لا يغرنك عموشة عينيه، ولا خموشة ساقيه. فغضب الأعمش وَقَالَ: يا أعمى يا خبيث، أعمى اللَّه قلبك، قَدْ أخبرتها بعيوبي كلها، اخرج من بيتي. فأخرجه من بيته.
عَنِ الْحَسَن بْن يحيى بْن آدم قَالَ: حدثتني أمي قالت: لم تكن بالكوفة امرأة أجمل من امرأة الأعمش، فابتليت بالأعمش وبقبح وجهه، وسوء خلقه.
تُوُفِّيَ الأعمش فِي ربيع الأول من هذه السنة، وهو ابن ثمان وثمانين سنة. وقيل:
تُوُفِّيَ سنة سبْعٍ.
789- عمار بْن سعد السلهمي [1] .
يروي عنه عطاء بْن دينار، وحيوة بْن شريح، وَكَانَ فاضلا، كان يقول: من تخايل 55/ ب الثواب خف عليه العمل، وما لاءم القلب خف عَلَى الجسد، ولسان الحكيم فِي قلبه/ وقلب الأحمق فِي طرف لسانه، مَا خطر عَلَى قلبه نطق به.
790- مُحَمَّد بْن عجلان، مولى فاطمة بْنت الوليد بْن عتبة، يكنى أبا عَبْد اللَّه [2] .
وَكَانَ ثقة كثير الحديث، روى عنه حيوة بْن شريح، والليث، وغيرهما. وَكَانَ يخضب بالصفرة. توفي بالمدينة في هذه السنة.
أَخْبَرَنَا أَبُو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثَابِتٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّد الخلال قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد العزيز بن أحمد الغافقي قال: سمعت عياش بْن نصر البغدادي يَقُول: سمعت صفوان بْن عيسى يَقُول: مكث مُحَمَّد بْن عجلان فِي بطن أمه ثلاث سنين، فشق بطن أمه فأخرج وقد نبتت أسنانه.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الباقي بإسناد لَهُ عَنْ مُحَمَّد بْن عُمَر قَالَ: خرج مُحَمَّد بْن عجلان مَعَ مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن حسين حَتَّى خرج بالمدينة، فلما قتل وولي جعفر بن
__________
[1] في الأصول: السهمي.
انظر: تقريب التهذيب 2/ 47.
[2] انظر ترجمته في: الجرح والتعديل 8/ 49. والتاريخ الكبير 1/ 196. وطبقات ابن سعد 54 الجزء المتمم. وتهذيب التهذيب 9/ 341.(8/114)
سليمان المدينة بعث إِلَى مُحَمَّد بْن عجلان فأتى به فبكته وكلمه كلاما شديدا وَقَالَ لَهُ:
خرجت مَعَ الكلاب. وأمر بقطع يده. فلم يتكلم مُحَمَّد بْن عجلان بكلمة إلا أنه يحرك شفتيه بشيء لا ندري مَا هو، يظن أنه يدعو. قَالَ: فقام من حضر جعفر بن سليمان من فقهاء المدينة وأشرافهم. فقالوا: أصلح اللَّه الأمير، مُحَمَّد بْن عجلان فقيه أَهْل المدينة وعابدها، وإنما شبه عليه، فظن أنه المهدي الَّذِي جاءت فِيهِ الرواية، فلم يزالوا يشفعون إِلَيْهِ حَتَّى تركه. فولى مُحَمَّد بْن عجلان منصرفا لم يتكلم بكلمة إِلَى منزله.(8/115)
ثم دخلت سنة تسع وأربعين ومائة
فمن الحوادث فِيهَا:
غزوة الْعَبَّاس بْن مُحَمَّد الصائفة أرض الروم ومعه الْحَسَن بْن قحطبة، ومحمد بن الأشعث، فهلك ابن الأشعث فِي الطريق [1] .
وَفِيهَا: استتم المنصور جميع مَا أراد من البْناء ببغداد، واستتم حائط بغداد [2] .
/ أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَلِيّ الوراق قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن جَعْفَر النحوي قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن السكوني قَالَ: قَالَ مُحَمَّد بْن خلف: أنبأني مُحَمَّد بْن موسى القيسي، عَنْ مُحَمَّد بْن موسى الخوارزمي: أن أبا جَعْفَر تحول من الهاشمية إِلَى بغداد ونزلها مَعَ جنده، وسماها: مدينة السلام، واستتم حائط بغداد وجميع عملها بعد مائة سنة وثمان وأربعين وستة أشهر وأربعة أيام من الهجرة [3] .
وفي هذه السنة: شخص المنصور إِلَى مدينة الموصل [4] ثم عاد إلى مدينة السلام [5] .
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 28.
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 28.
[3] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 1/ 67.
[4] في الطبري: «حديثة الموصل» .
[5] انظر: تاريخ الطبري 8/ 28.(8/116)
وعزل السري بْن عَبْد اللَّه عَنْ مكة والطائف، وولاها مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد [1] .
وفيها: حج بالناس محمد بن إبراهيم بن مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاس [2] .
وكانت العمال الَّتِي فِي الأمصار في هذه السنة هم العمال فِي السنة الَّتِي قبلها غير مكة والطائف، فإن واليها كَانَ في هذه السنة مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم [3] .
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
791- الْحَسَن بْن يزيد، أَبُو يونس العجلي القوي.
سمع من أبي مسلمة، وسعيد بْن جبير، ومجاهد.
أَخْبَرَنَا ابْن ناصر قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن علي بْن ميمون قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد بْن رجاء قَالَ: أَخْبَرَنَا محمد بن عبد الله الجعفي قال: حَدَّثَنَا جَعْفَر بْن أَحْمَد بْن كعب قَالَ: حدّثنا علي بْن كعب قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن زياد قَالَ: إنما [سمي] [4] أَبُو يونس: القوي لقوته عَلَى العبادة، صلى حَتَّى أقعد، وبكى حَتَّى عمي، وصام حَتَّى صار كالحشفة.
792- زكريا بْن أبي زائدة، أَبُو يحيى الهمداني [5] .
سمع الشعبي، وأبا إسحاق. روى عنه: الثوري، ووكيع.
793- سالم بْن قتيبة.
كَانَ أميرا كبيرا، غزير العقل، حسن المحضر. وولاه المنصور البصرة ثُمَّ عزله.
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 28.
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 28.
[3] انظر: تاريخ الطبري 8/ 28.
[4] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[5] انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 3/ 329 والتاريخ الكبير 3/ 421 وطبقات ابن سعد 6/ 355 والجرح والتعديل 3/ 593. وهذه الترجمة ساقطة من ت.(8/117)
عَنْ أبي المعلى الثقفي يَقُول: جرى ذكر رجل/ فِي مجلس سالم بْن قتيبة فتناوله بعض أهل المجلس، فَقَالَ: يا هَذَا أوحشتنا من نفسك، وآنستنا من مودتك، ودللتنا عَلَى عورتك.
قَالَ الأصمعي: أتى أهلنا سالم بْن قتيبة فِي حاجة فقالوا لَهُ: جئناك فيما لا يرزأك ولا ينكأك. فَقَالَ: لا جاء اللَّه بكم إذن، فلم جئتموني عليكم بلئام الناس.
تُوُفِّيَ سالم فِي هَذِهِ، وصلى عليه المهدي.
794- عمران بْن حرير، أَبُو عبيدة السدوسي الْبَصْرِيّ [1] .
سمع عكرمة، وأبا مجلز. وسمع منه: شعبة، ووكيع. وتوفي في هذه السنة.
795- عيسى بْن عُمَر الثقفي النحوي [2] .
كَانَ فاضلا غاية فِي النحو، صنف كتبا حسانا.
796- كرز بْن وبرة.
كوفي الأصل، سكن جرجان، أسند عن طاووس، وعطاء والربيع بْن خثيم وغيرهم. وَكَانَ متعبدا.
أَخْبَرَنَا ابْن ناصر قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الفضل بْنُ أحمد قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم الأصفهاني قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر بْن مالك قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قال:
حدثني شريح بن يونس قال: حدثنا مُحَمَّد بْن فضيل بْن غزوان، عَنْ أبيه قَالَ: دخلت عَلَى كرز بْن وبرة بيته وإذا عند مصلاه حفرة قَدْ ملأها تبْنا، وبسط عَلَيْهَا كساء، من طول القيام. وَكَانَ يقرأ فِي اليوم والليلة القرآن ثلاث مرات.
قَالَ أَبُو نعيم: وحدثنا مُحَمَّد بْن حيان قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن الحسين الحذاء قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم الدورقي قَالَ: حَدَّثَنَا جرير بْن زناد الحارثي، عَنْ شجاع بْن صبيح مولى كرز بْن وبرة قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سليمان المكتب قَالَ: صحبت كرزا إلى
__________
[1] انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 8/ 125. والجرح والتعديل 6/ 297. وطبقات ابن سعد 7/ 271.
[2] انظر ترجمته في: تقريب التهذيب 2/ 100.(8/118)
مكة، وَكَانَ إذا نزل أدرج ثيابه فألقاها عَلَى الرحل، ثُمَّ تنحى للصلاة، فإذا سمع رغاء الإبل أقبل فاحتبس يوما عَنِ الوقت، فانبثت أصحابه فِي طلبه. فكنت فيمن طلبه. قَالَ:
فأصبته فِي وهدة يصلي فِي ساعة حارة، وإذا سحابة تظله، فلما رآني أقبل نحوي، فَقَالَ: يا أبا سُلَيْمَان، لي إليك حاجة. قلت: وما حاجتك؟ قَالَ: أحب أن/ تكتم عليّ 57/ أما رأيت. قال: قلت: ذاك لك. قال: أوثق لي. فحلفت أن لا أخبر به أحدا حَتَّى يموت.
797- كهمس بْن الْحَسَن، أَبُو عَبْد اللَّه القيسي.
كَانَ متعبدا ورعا، يصلي كل يوم وليلة ألف ركعة، ويقول لنفسه: قومي يا مأوى كل سوء، فو الله مَا رضيتك للَّه ساعة قط.
عَنْ عَبْد اللَّهِ بْنُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: حدثني أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم قَالَ: حَدَّثَنَا مؤمل بْن إِسْمَاعِيل قَالَ: حَدَّثَنَا عمارة بْن زادان قَالَ: قَالَ لي كهمس: يا أبا سلمة، أذنبت ذنبا، فأنا أبكي عليه أربعين سنة. قلت: مَا هو يا أبا عَبْد اللَّه؟ قَالَ: زارني أخ لي فاشتريت لَهُ سمكا بدانق، فلما أكل قمت إِلَى حائط جار لي، فأخذت منه قطعة طين فغسل بها يده، فأنا أبكي عليه منذ أربعين سنة.
798- عابد علوي مديني.
أَخْبَرَنَا المحمدان: ابْن عَبْد الملك وابْن ناصر قالا: أخبرنا أَحْمَد بْن خيرون قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد العزيز بْن عَلِيّ الوراق قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ المفيد قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن عَبْد الْوَاحِدِ الكتاني قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد الأنصاري قَالَ:
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ العلاء قَالَ: حَدَّثَنِي أبي قَالَ: سمعت أبا عامر الواعظ يَقُول: بينا أنا جالس في مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاءني غلام أسود برقعة فقرأتها، فإذا فِيهَا مكتوب: بسم اللَّه الرحمن الرحيم. متعك اللَّه بمسامرة الفكرة، ونعمك بمؤانسة العبرة، وأفردك بحب الخلوة، يا أبا عامر، أنا رجل من إخوانك بلغني قدومك المدينة فسررت بذلك، وأحببت زيارتك وبي من الشوق إِلَى مجالستك والاستماع لمحادثتك [1] ، مَا لو كَانَ فوقي لأظلني، ولو كَانَ تحتي لأقلني، سألتك بالذي حباك بالبلاغة لما ألحقتني جناح التوصل [2] من زيارتك. والسلام.
__________
[1] في الأصل: «لمحادثك» .
[2] في ت: «الوصل» .(8/119)
قَالَ أَبُو عامر: فقمت مَعَ الرسول حَتَّى أتى بي إِلَى فناء فأدخلني منزلا رحبا خربا.
فَقَالَ لي: قف ها هنا حَتَّى أستأذن لك. فوقف، فخرج إلي فَقَالَ لي: لج. فدخلت، 57/ ب فإذا بيت مفرد فِي الخربة، لَهُ باب/ من جريد النخل، وإذا بكهل قاعد مستقبل القبلة، تخاله من الوله مكروبا، ومن الخشية محزونا، قَدْ ظهرت فِي وجهه أحزانه، وذهبت من البكاء عيناه، ومرضت أجفانه، فسلّمت عليه، فرد علي السلام، ثُمَّ تحرك، فإذا هو أعمى أعرج مسقام. فَقَالَ لي: يا أبا عامر، غسل اللَّه من درن الذنوب قلبك، لم يزل قلبي إليك تواقا، وإلى سماع الموعظة منك مشتاقا، وبي جرح بعد [1] ، قَدْ أعيا الواعظين دواه، وأعجز المتطببين شفاؤه، وقد بلغني نفع مراهمك للجراح والآلام، فلا تألو- رحمك اللَّه- فِي إيقاع الترياق، وإن كَانَ مر المذاق، فإني ممن يصبر عَلَى ألم الدواء رجاء الشفاء. قَالَ أَبُو عامر: فنظرت إِلَى منظر بهرني، وسمعت كلاما قطعني، فأفكرت طويلا، ثُمَّ تأتى من كلامي مَا تأتى، وسهل من صعوبته مَا منه يرق لي. فقلت:
يا شيخ، ارم ببصر قلبك فِي ملكوت السماء، وأجل سمع معرفتك فِي سكان الأرجاء، وتنقل بحقيقة إيمانك إِلَى جنة المأوى فترى مَا أعد اللَّه فِيهَا للأولياء، ثُمَّ تشرف عَلَى نار لظى فترى مَا أعد فِيهَا للأشقياء، فشتان مَا بين الدارين، أليس الفريقان فِي الموت سواء؟ قَالَ أبو عامر: فأن أنة، وصاح صيحة، وزفر والتوى، وَقَالَ: يا أبا عامر، وقع والله دواؤك عَلَى دائي، وأرجو أن يكون عندك شفائي، زدني رحمك اللَّه. فقلت لَهُ: يا شيخ، إن الله عالم بسريرتك، مطلع عَلَى خفيتك، شاهدك فِي خلوتك بعينه، [أين] [2] كنت عند استتارك من خلقه ومبارزته. فصاح صيحة كصيحته الأولى. ثُمَّ قَالَ:
من لفقري، من لفاقتي، من لذنبي، من لخطيئتي؟ أنت يا مولاي، وإليك منقلبي. ثُمَّ خر ميتا رحمه اللَّه. قَالَ أَبُو عامر: فأسقط فِي يدي وقلت: ما جنيت عَلَى نفسي.
فخرجت إِلَى جارية عَلَيْهَا مدرعة صوف، وخمار من صوف، قَدْ ذهب/ السجود بجبينها 58/ أوأنفها، وأصفر لطول القيام لونها، وتورمت قدماها، فقالت: أحسنت والله يا حادي قلوب العارفين، ومثير أشجان غليل المحزونين، لا نسي لك هَذَا المقام رب العالمين، يا أبا عامر، هَذَا الشيخ والدي، مبتلى بالسقم منذ عشر سنين، صلى حتى أقعد، وبكى
__________
[1] هكذا في الأصل وفي ت: «نعل» .
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وأثبتناه من ت.(8/120)
حَتَّى عمي، وَكَانَ يتمناك عَلَى اللَّه ويقول: حضرت مجلس أبي عامر الْبُنَانِيّ، فأحيا موات قلبي، وطرد وسن نومي، فإن سمعته ثانية قتلني، فجزاك اللَّه من واعظ خيرا، ومتعك من كلمك بما أعطاك، ثُمَّ أكبت عَلَى أبيها تقبل عينيه وهي تبكي وتقول: يا أبي، يا أبتاه، يا من أعماه البكاء، يا أبي، يا أبتاه، يا من قتله ذكر وعيد ربه ثُمَّ علا البكاء والنحيب والاستغفار والدعاء، وجعلت تقول: يا أبي، يا أبتاه، يا حليف الحرقة والبكاء. يا أبي يا أبتاه، يا جليس الابتهال والدعاء، يا أبي، يا أبتاه، يا صريخ المذكرين والخطباء، يا أبي يا أبتاه، يا قتيل الوعاظ والحكماء. قَالَ أَبُو عامر: فأجبتها: أيتها الباكية الجرباء، والنادبة الثكلى، إن أباك نحبه قَدْ قضي، وورد دار الجزاء، وعاين كل مَا عمل، وعليه يحصى فِي كتاب عند ربي، لا ينسى لمحسن فله الزلفى، أو مسيء فوارد دار من أساء. فصاحت الجارية كصيحة أبيها، ثُمَّ جعلت ترشح عرقا، وخرجت مبادرا إلى مسجد المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، وفرغت إلى الصلاة والدعاء والاستغفار والتضرع والبكاء حَتَّى إذا كَانَ عند صلاة العصر، فجاءني الغلام الأسود فأذنني بجنازتيهما وَقَالَ: احضر الصلاة عليهما ودفنتهما. وسألت عنهما فقيل لي من ولد الحسين بْن عَلِيّ بْن أبي طالب رَضِيَ اللَّه عنهم.
قَالَ أَبُو عامر: فما زلت جزعا حذرا مما جنيت، حَتَّى رأيتهما في المنام عليهما حلتان خضراوتان، فقلت: مرحبا بكما وأهلا، فما زلت حذرا بما ووعظتكما به، ماذا/ 58/ ب صنع الله بكما؟ فقال الشيخ:
أنت شريكي فِي الَّذِي نلته ... مستأهلا ذاك يا أبا عامر
وكل من أيقظ ذا غفلة ... فنصف مَا يعطاه للآمر
من رد عبدا آبقا مذنبا ... كَانَ كمن قَدْ راقب القاهر
واجتمعا فِي دار عدل وفي ... جوار رب سيد غافر(8/121)
ثم دخلت سنة خمسين ومائة
فمن الحوادث فيها:
خروج بعض الأعاجم بخراسان في ثلاثمائة ألف مقاتل فغلبوا عَلَى عامة خراسان، فوجه المنصور خازم بْن خزيمة إِلَى المهدي، فولاه الحرب، وضم إِلَيْهِ اثنين وعشرين ألفا. ثُمَّ ضم إليه ستة آلاف من الجند متخيرين، فالتقوا، فقتل من المشركين أكثر من سبعين ألفا، وأسر أربعة عشر ألفا، فضربت أعناقهم، ونجا ملك الأعاجم في جماعة لجئوا إلى جبل، فحاصرهم المسلمون، فنزلوا عَلَى حكمهم فحكموا بأن يؤسر الملك وأولاده ويعتق الباقون [1] .
وقد قيل: كَانَ هَذَا فِي سنة إحدى وخمسين ومائة.
وفي هذه السنة: عزل المنصور جَعْفَر بْن سليمان الهاشمي عن المدينة وولاها الحسن بن زيد بْن عَلِيّ [2] .
وَفِيهَا: حج بالناس عَبْد الصَّمَدِ بْن عَلِيّ، وَكَانَ العامل عَلَى مكة والطائف محمد بن إبراهيم بن مُحَمَّد، وعلى المدينة الْحَسَن بْن زيد العلوي، وعلى الكوفة مُحَمَّد بْن سليمان بْن عَلِيّ، وعلى البصرة عقبة بْن مسلم، وعلى قضائها سوار، وعلى مصر يزيد بن حاتم [3] .
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 29- 32.
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 32.
[3] انظر: تاريخ الطبري 8/ 32.(8/122)
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر.
799-/ حجاج بْن أرطأة، أَبُو أرطأة النخعي الكوفي [1] .
سمع عطاء بْن أبي رباح وغيره.
وروى عنه: سفيان الثوري، وهشيم، وابْن المبارك، ويزيد بْن هارون.
وَكَانَ من حفاظ الحديث ومن الفقهاء. استفتي وَهُوَ ابْن ست عشرة سنة. وولي القضاء بالبصرة، إلا أنه كَانَ مدلسا، يروي عَنْ من لم يلقه، فيرسل تارة عَنْ مجاهد، وتارة عَنِ الزُّهْرِيّ ولم يلقهما، وَكَانَ مَعَ المنصور فِي بْناء مدينته، وتولى خطها، ونصب قبلة مسجدها، وَكَانَ فِي هَذَا الرجل تيه كثير، وكبر خارج عَنِ الحد.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ الْقَزَّازِ قَالَ: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرني حمد بن محمد بن طاهر الدقاق قال: أخبرنا علي بن عمر الحافظ قال: حدثنا أبو الْحَسَن عَلِيّ بْن مُحَمَّد بْن عبيد قَالَ: سمعت أبا قلابة يَقُول: سمعت أبا عاصم يَقُول: أول من ولي القضاء لبني العباس بالبصرة الحجاج بن أرطأة، فجاء إلى حلقة البتي، فجلس في عرض الحلقة، وقيل له: ارتفع إلى الصدر. فقال أنا صدر حيث كنت. قَالَ: وَقَالَ: أنا رجل حبب إلي الشرف [2] .
أَخْبَرَنَا القزاز قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ علي بن ثابت قَالَ: أخبرني مُحَمَّد بْن جَعْفَر بْن علان قَالَ: أَخْبَرَنَا مَخْلَدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جرير الطبري قَالَ:
حدثت عَنْ قيس بْن الوليد قَالَ: سمعت أبا يوسف يَقُول: كَانَ الحجاج بْن أرطأة لا يشهد جمعة ولا جماعة، ويقول: أكره مزاحمة الأنذال [3] .
أَخْبَرَنَا القزاز قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ علي بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: أخبرني الأزهري قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ معروف قال: أخبرنا الحسين بن الفهم قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سعد قَالَ: كَانَ الحجاج بْن أرطأة فِي أصحاب أبي جَعْفَر، فضمه
__________
[1] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 8/ 230- وتهذيب التهذيب 2/ 196. وطبقات ابن سعد 6/ 359.
والجرح والتعديل 3/ 156.
[2] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 8/ 233.
[3] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 8/ 233.(8/123)
إلى المهدي، فلم يزل معه حَتَّى تُوُفِّيَ بالري والمهدي بها يومئذ فِي خلافة أبي جَعْفَر.
وَكَانَ ضعيفا فِي الحديث [1] .
800- عَبْد الملك بْن عَبْد العزيز بْن جريج المكي، مولى/ أمية بْن خالد. وَكَانَ يكنى أبا الوليد، وأبا خالد [2] .
سمع من طاووس مسألة واحدة، ومن مجاهد حرفين فِي القراءات. وسمع الكثير من عطاء بْن أبي رباح، وعمرو بْن دينار، وابْن المنكدر وغيرهم.
روى عنه: الأوزاعي، والثوري، وابْن المبارك، وغيرهم.
وَكَانَ ثقة، يقال إنه أول من صنف الكتب، وَكَانَ عطاء يَقُول: ابْن جريج سيد شباب أَهْل الحجاز، وقيل لَهُ: من نسأل بعدك؟ فَقَالَ: هَذَا الفتى إن عاش- يعني ابْن جريج.
وَقَالَ عَبْد الرَّزَّاقِ: كنت إذا رأيت ابْن جريج علمت أنه يخشى [اللَّه] [3] ، وما رأيت أحدا أحسن صلاة منه.
وَقَالَ مالك: كَانَ ابْن جريج صاحب ليل.
أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أحمد بن عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُعَدَّلُ قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصفار قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عبيد اللَّه المنادي قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن حنبل قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد الرَّزَّاقِ قَالَ: أَهْل مكة يقولون أخذ ابْن جريج الصلاة من عطاء، وأخذها عطاء من أبي الزُّبَيْر، وأخذها أَبُو الزُّبَيْر من أبي بكر، وأخذها أَبُو بكر من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ عَبْد الرَّزَّاقِ: وَكَانَ ابْن جريج حسن الصلاة.
تُوُفِّيَ في هذه السنة، هكذا قَالَ يحيى بْن سعيد، ومكي بْن إِبْرَاهِيم، وخليفة بن خياط.
__________
[1] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 8/ 234.
[2] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 10/ 400. وتهذيب التهذيب 6/ 402. وطبقات ابن سعد 5/ 491.
والجرح والتعديل 5/ 356.
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.(8/124)
وَقَالَ عَلِيّ بْن المديني: سنة إحدى وخمسين.
وَقَالَ أَحْمَد بْن عَبْد اللَّه العجلي سنة تسع وأربعين.
801- عَبْد الملك بْن سعيد بْن أبجر المتطبب [1] .
أسند عَنْ أبي الطفيل عامر بْن وائلة، وذر، والشعبي، وغيرهم. وَكَانَ شديد الورع، خصوصا في نطقه، وكان من البكاءين.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم قال: أخبرنا حمد بن أحمد قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله الأصفهاني قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم فِي كتابه قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ بْن الْحَسَن قَالَ: حدّثنا موسى بْن عَبْد الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا حسن الجعفي، عَنْ عَبْد الملك بْن أبجر قَالَ: مَا من الناس إلا مبتلى بعافية لينظر كيف شكره- أو يبليه لينظر كيف صبره.
802-/ عَبْد العزيز بْن سليمان، أَبُو مُحَمَّد الراسبي.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو علي الْحَسَن بْن أَحْمَد قَالَ: أَخْبَرَنَا هلال بْن مُحَمَّد قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَر الخالدي قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْرُوقٍ قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الحسين قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد العزيز بْن سلمان قَالَ: سمعت دهثما- وَكَانَ من العابدين- يَقُول: اليوم الَّذِي كنت لا آتي فِيهِ عَبْد العزيز أكون مغبونا، وأبطأت عليه ذات يوم ثُمَّ أتيته فقال [2] : ما الّذي بطأ بك. قلت: خير. قَالَ: عَلَى حال. قلت:
شغلنا العيال، كنت ألتمس لهم شيئا. [قَالَ:] [3] فوجدته لهم؟ قلت: لا. قَالَ: هلم فلندع. قَالَ: فدعا فأمنت ودعوت فأمن، ثُمَّ نهضنا لنقوم، فإذا واللَّهِ الدنانير والدراهم تتناثر فِي حجورنا. فَقَالَ: دونكها. ومضى ولم يلتفت إليّ. قال: فأخذتها، فإذا [4] [هي] [5] مائة دينار ومائة درهم. قَالَ مُحَمَّد: فقلت لَهُ: مَا صنعت بها؟ قَالَ: احتبست
__________
[1] انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 6/ 394.
[2] في الأصل: «قال» .
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[4] «فإذا» ساقطة من ت.
[5] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.(8/125)
قوت عيالي جمعة حَتَّى لا يشغلني عَنْ عبادته وشكره وخدمته فكر فِي شيء من عرض الدنيا. ثُمَّ أمضيتها والله فِي سبيل اللَّه.
أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ وَمُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ قَالا: أَخْبَرَنَا طِرَادُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْن بشران قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن صفوان قَالَ: حدثنا أبو بكر بن عبيد قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الحُسَيْن قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَبْد العزيز بْن سليمان قَالَ: حَدَّثَنِي واقد الصفار قَالَ: دعا عَبْد العزيز بْن سليمان يوما لمقعد كَانَ فِي مجلسه وأمن إخوانه. قال:
فو الله مَا انصرف المقعد إِلَى أهله إلا ماشيا عَلَى رجليه.
أَخْبَرَنَا عَبْد الوهاب وعلي بْن عُمَر قالا: أَخْبَرَنَا رزق اللَّه قَالَ: أَخْبَرَنَا محمد بن يوسف قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ صَفْوَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن إدريس قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أبي الحواري قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد العزيز بْن عمير قَالَ: قيل لعبد العزيز الراسبي- وكانت رابعة تسميه: سيد العابدين- مَا بقي مما تلذ به؟
قَالَ: سرداب أخلو فِيهِ.
60/ ب
803- مقاتل بْن/ سليمان بْن بِشْر، أَبُو الْحَسَن البلخي [1] .
قدم بغداد فحدث بها عَنْ عطية العوفي، وسعيد المقبري والضحاك، وعمرو بْن شعيب، وغيرهم.
وجمع تفاسير الناس، فجعلها لنفسه، وَكَانَ يروي عَنِ الضحاك، وقد مات الضحاك قبل مولد مقاتل بأربع سنين.
قَالَ ابْن عيينة: قلت له: لم تحدّث عن الضحاك وقد زعموا أنك لم تسمع منه؟
قَالَ: كَانَ يغلق علي وعليه الباب. قَالَ ابْن عيينة: قلت فِي نفسي: باب المدينة.
وَكَانَ أَحْمَد بْن سيار يَقُول: مقاتل متهم متروك الحديث، كَانَ يتكلم فِي الصفات بما لا يحل.
وَقَالَ وكيع: كَانَ مقاتل كذابا، فلم نسمع منه.
__________
[1] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 13/ 160. وتهذيب التهذيب 10/ 279. والجرح والتعديل 8/ 354.
وطبقات ابن سعد 7/ 373.(8/126)
وَقَالَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ النسائي: مقاتل من المعروفين بوضع الحديث عَلَى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ البخاري: مقاتل لا شيء البتة.
وَقَالَ أَبُو حفص عُمَر بْن عَلِيّ: مقاتل كذاب متروك الحديث. وكذلك قَالَ الساجي.
تُوُفِّيَ مقاتل في هذه السنة.
804- مسعود الضرير، أَبُو جهير الْبَصْرِيّ [1] .
أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن أَحْمَد المتوكلي الهاشمي قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ علي بن ثابت قَالَ: حدثني عَبْد اللَّهِ بْن أبي الفتح الفارسي قَالَ: حَدَّثَنِي عبيد الله بن عثمان الدقاق قال: حدثنا علي بْن مُحَمَّد الواعظ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن عيسى أَبُو سعيد الخراز قَالَ:
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بن عبد الله الختلي قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الحسين قَالَ: حَدَّثَنَا شعيب بْن محرز الأودي قَالَ: حَدَّثَنَا صالح المري قَالَ: قَالَ مالك بْن دينار: أغد علي يا صالح إِلَى الجبان فإني قد وعدت نفرا من إخواني بأبي جهير مسعود الضرير. فسلم عليه. قَالَ صالح المري: وَكَانَ أَبُو جهير هَذَا رجلا قَدِ انقطع إِلَى زاوية يتعبد فِيهَا، ولم يكن يدخل البصرة إلا يوم جمعة فِي وقت الصلاة، ثُمَّ يرجع من ساعته. قَالَ: فغدوت إِلَى موعد [2] مالك إِلَى الجبان، فانتهيت إِلَى مالك وقد سبقني ومعه مُحَمَّد بْن واسع، وإذا ثَابِت الْبُنَانِيّ وحبيب، فلما رأيتهم قد اجتمعوا قلت: هذا والله يوم سرور. قَالَ: فانطلقنا نريد أبا جهير. قَالَ: فكان مالك إذا مر بموضع نظيف قَالَ: يا ثَابِت صل ها هنا، لعله يشهد لك غدا. قَالَ: فكان ثَابِت يصلي، قَالَ: ثُمَّ انطلقنا حَتَّى أتينا موضعه فسألنا عنه، فقالوا: الآن يخرج إِلَى الصلاة. قَالَ: فانتظرنا فخرج علينا رجل إن شئت قلت: قَدْ نشر من قبره. قَالَ: فوثب رجل فأخذ بيده حَتَّى أقامه عند باب المسجد، فأمهل يسيرا، ثم دخل المسجد فصلى مَا شاء اللَّه، ثُمَّ أقام الصلاة فصلينا معه، فلما قضى صلاته جلس كهيئة المهموم فتوافد [3] القوم فِي السلام عليه، فتقدم مُحَمَّد بن واسع، فسلّم عليه، فرد عليه السلام وَقَالَ: من أنت؟ لا أعرف صوتك. قَالَ: أنا من أهل البصرة.
__________
[1] هذه الترجمة بأكملها ساقطة من الأصل، وأثبتناها من ت.
[2] في ت: «فغدوت الموعد» .
[3] في ت: «فتوافر» .(8/127)
قَالَ: مَا اسمك يرحمك اللَّه؟ قَالَ: أنا مُحَمَّد بْن واسع. قَالَ: مرحبا وأهلا، أنت الّذي يقول هؤلاء القوم- وأومأ بيده إِلَى البصرة- إنك أفضلهم، للَّه أبوك إن قمت بشكر ذلك، اجلس، فجلس فقام ثَابِت البُنَانِيّ فسلم عليه، فرد عليه، وَقَالَ: من أنت يرحمك اللَّه؟
قَالَ: أنا ثابت البناني. فقال: مرحبا بك يا ثَابِت، أنت الَّذِي يزعم أَهْل هَذِهِ القرية أنك من أطراهم صلاة، اجلس فقد كنت أتمناك عَلَى ربي. فقام إِلَيْهِ حبيب أَبُو مُحَمَّد، فسلم عليه، فرد السلام وَقَالَ: من أنت يرحمك اللَّه؟ قَالَ: أنا حبيب، أَبُو مُحَمَّد. فَقَالَ:
مرحبا بك يا أبا مُحَمَّد، أنت الّذي يزعم هؤلاء القوم أنك لم تسأل اللَّه شيئا إلا أعطاك، ألا سألته أن يخفي لك ذلك، اجلس يرحمك الله. قال: وأخذ بيده فأجلسه إِلَى جنبه.
قَالَ: فقام إِلَيْهِ مالك بْن دينار فسلم عليه، فرد عليه السلام وَقَالَ: من أنت رحمك اللَّه؟
قَالَ: أنا مالك بْن دينار. قَالَ: بخ بخ أَبُو يحيى إن كنت كما يقولون، أنت الَّذِي يزعم هؤلاء أنك أزهدهم، اجلس فالآن تمت أمنيتي عَلَى ربي فِي عاجل الدنيا. قَالَ صالح:
فقمت إِلَيْهِ لأسلم عليه، فأقبل عَلَى القوم فَقَالَ: انظروا كيف تكونون غدا بين يدي اللَّه فِي مجمع القيامة. قَالَ: فسلمت عليه فرد علي وَقَالَ: من أنت يرحمك الله؟ قلت:
صالح المري. قَالَ: أنت الفتى الفارسي؟ أنت أَبُو معشر؟ قلت: نعم. قَالَ: فاقرأ يا صالح. فابتدأت فقرأت، فما استتممت الاستعاذة حَتَّى خر مغشيا عليه، ثُمَّ أفاق فَقَالَ:
عد فِي قراءتك. قال صالح: فعدت فقرأت: وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً 25: 23 [1] . قَالَ: فصاح صيحة ثُمَّ انكب لوجهه، وانكشف بعض جسده، فجعل بخور كما يخور الثور، ثُمَّ هدأ فدنونا منه ننظر، فإذا هو قَدْ خرجت نفسه كأنه خشبة، فخرجنا فسألنا: هل لَهُ أحد؟ قيل: عجوز تخدمه، تأتيه الأيام، فبعثنا إليها، فجاءت فقالت: ما له؟ قلنا: قرئ عليه القرآن فمات. قالت: حق له، من ذا الَّذِي قرأ عليه؟
لعله صالح المري الْقَارِئ؟ قلنا: نعم، وما يدريك؟ من صالح؟ قالت: لا أعرفه غير أن كثيرا مما كنت أسمعه يَقُول: إن قرأ علي صالح قتلني. قلنا: فهو الَّذِي قرأ عليه.
قالت: هو الَّذِي قتل حبيبي. فهنأناه، ودفناه رحمه اللَّه] [2] .
805- النعمان بْن ثَابِت، أَبُو حنيفة التيمي، إمام أصحاب الرأي [[3]] .
__________
[1] سورة: الفرقان، الآية: 23.
[2] ، إلى هنا انتهى السقط الأصل.
[3] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 13/ 323- 454. والنجوم الزاهرة 2/ 12، والبداية والنهاية 10/ 107.(8/128)
ولد سنة ثمانين، رأى أنس بْن مالك، وسمع من عطاء بْن أبي رباح، وأبي إسحاق السبيعي، ومحارب بْن دثار، وحماد بْن أبي سليمان، ومحمد بْن المنكدر، ونافع مولى ابْن عُمَر، وهشام بْن عُرْوَة وغيرهم.
وروى عنه: هشيم، وابْن المبارك، ووكيع، ويزيد بْن هارون وغيرهم.
وَكَانَ ربعة من الرجال تعلوه سمرة، حسن الثياب، كثير التعطر كريما. وَكَانَ فِي أول أمره يبيع الخز، ثُمَّ تشاغل بالعلم.
أَخْبَرَنَا أَبُو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا الخلال قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن عُمَر الجريري: أن عَلِيّ بْن مُحَمَّد النخعي حدثهم قَالَ:
حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن أبي مالك، عَنْ أبي يوسف قَالَ: قَالَ/ أَبُو حنيفة: لما أردت أطلب 61/ أالعلم جعلت أتخير العلوم، وأسأل عَنْ عواقبها، فقيل لي: تعلم القرآن. فقلت: إذا تعلمت القرآن وحفظته فما يكون آخر أمري؟ قالوا [1] : تجلس فِي المسجد ويقرأ عليك الناس: الصبيان والأحداث، ثُمَّ لا تلبث أن تخرج منهم من هو أحفظ منك أو يساويك فِي الحفظ، فتذهب رئاستك. قلت: فإن سمعت الحديث وكتبته حَتَّى لم يبق فِي الدنيا أحفظ مني؟ قالوا: إذا كبرت وضعفت حدثت واجتمع عَلَيْك الصبيان والأحداث، ثُمَّ لا تأمن أن تغلط فيرمونك بالكذب، فيصير عارا عَلَيْك فِي عقبك. فقلت: لا حاجة لي فِي هَذَا. ثُمَّ قلت: أتعلم النحو، فإذا حفظت النحو والعربية، مَا يكون آخر أمري؟
قالوا: تقعد معلما، فأكثر رزقك ديناران إِلَى ثلاثة قلت: وهذا لا عاقبة لَهُ. قلت: فإن نظرت في الشعر فلم يكن أحد أشعر مني، مَا يكون من أمري؟ قالوا: تمدح فيهب لك ويحملك عَلَى دابة، ويخلع عَلَيْك خلعة، وإن حرمك هجوته، فصرت تقذف المحصنات. فقلت: لا حاجة لي في هذا. قلت: فإن نظرت فِي الكلام؟ مَا يكون آخره؟ قالوا: لا يسلم من نظره فِي الكلام من مشنعات الكلام، فيرمى بالزندقة، فإما أنك تؤخذ فتقتل، وإما تسلم فتكون مذموما ملوما. قلت: فإن تعلمت الفقه؟ قالوا: تسأل
__________
[ () ] والجواهر المضية 1/ 26، ونزهة الجليس للموسوي 2/ 176، ومرآة الجنان 1/ 2/ 362، 377، 423، 429، 482، وملحق الجزء 13 من تاريخ بغداد «كتاب الرد على أبي بكر الخطيب لأبي المظفر عيسى بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب الحنفي.
[1] في الأصل: «قال» .(8/129)
فتفتي الناس، وتطلب للقضاء، وإن كنت شابا. قلت: فليس فِي العلوم شيء أنفع من هذا. فلزمت الفقه [1] .
حدثنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بْن ثَابِت قَالَ: أَخْبَرَنَا الصيمري قَالَ:
حَدَّثَنَا عَمْرو بْن إِبْرَاهِيم الْمُقْرِئ قَالَ: حَدَّثَنَا مكرم بْن أَحْمَد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن محمد الحماني قَالَ: حَدَّثَنَا الفضيل بْن غانم قَالَ: كَانَ أَبُو يوسف مريضا شديد المرض، فعاده أَبُو حنيفة مرارا، فصار إِلَيْهِ آخر مرة فرآه ثقيلا [2] فاسترجع وقال: كنت 61/ ب أؤملك للمسلمين بعدي، ولئن أصيب/ الناس بك ليموتن معك علم كثير، ثُمَّ رزق اللَّه أبا يوسف العافية، وأخبر بقول أبي حنيفة فِيهِ، فارتفعت نفسه، وانصرفت وجوه الناس إِلَيْهِ، فعقد لنفسه مجلسا فِي الفقه، وقصر [عَنْ] [3] لزوم مجلس أبي حنيفة، فسأل عنه فأخبر أنه قَدْ عقد لنفسه مجلسا، وأنه بلغه كلامك فِيهِ، فدعا رجلا كَانَ لَهُ عنده قدر فَقَالَ: صر إِلَى مجلس يعقوب فقل له: ما تقول في رجل دفع إِلَى قصار ثوبا ليقصره بدرهم فصار إِلَيْهِ بعد أيام فِي طلب الثوب، فَقَالَ لَهُ القصار: مالك عندي شيء.
وأنكره، ثُمَّ إن رب الثوب رجع إِلَيْهِ، فدفع لَهُ الثوب مقصورا، أله أجره؟ فإن قَالَ لَهُ أجرة، فقل أخطأت، وإن قَالَ لا أجرة له فقل أخطأت فصار إليه فسأله فقال أَبُو يوسف:
لَهُ الأجرة. فَقَالَ: أخطأت. فنظر ساعة ثُمَّ قَالَ: لا أجرة لَهُ. فَقَالَ: أخطأت. فقام أبو يوسف من ساعته، فأتى أبا حنيفة فَقَالَ لَهُ: مَا جاء بك إلا مسألة القصار. قَالَ: أجل قَالَ: سبحان اللَّه، من قعد يفتي الناس وعقد مجلسا يتكلم فِي دين اللَّه وهذا قدره لا يحسن [أن] [4] يجيب فِي مسألة من الإجارات. فَقَالَ: يا أبا حنيفة، علمني. فَقَالَ: إن قصره بعد غصبه فلا أجرة لَهُ، لأنه قصره لنفسه، وإن كَانَ قصره قبل أن يغصبه فله الأجرة، لأنه قصره لصاحبه، ثُمَّ قَالَ: من ظن أنه يستغني عَنِ التعلم فليبك عَلَى نفسه [5] .
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا
__________
[1] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 13/ 331- 332.
[2] في تاريخ بغداد «مقبلا» .
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[4] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وأثبتناه من تاريخ بغداد.
[5] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 3/ 349- 350.(8/130)
القاضي أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بْن أَحْمَد السمناني قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّد الْحَسَن بْن أبي عبد الله السمناني [1] قَالَ: حَدَّثَنَا الحسين [2] بْن رحمة قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن شجاع الثلجي [3] قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سماعة، عَنْ أبي يوسف قَالَ: سمعت أبا حنيفة يَقُول:
إذا كلمت القدري فإنما هو حرفان، إما أن يسكت، وإما أن يكفر، يقال لَهُ [4] : هل علم اللَّه/ فِي سابق علمه أن تكون هَذِهِ الأشياء كما هِيَ؟ فإن قَالَ: لا، فقد كفر، وإن قال: 62/ أنعم، يقال لَهُ: أفأراد أن يكون كما علم؟ أو أراد أن يكون بخلاف مَا علم؟ فإن قَالَ: أراد أن يكون كما علم فقد أقر أنه أراد من المؤمن الإيمان، ومن الكافر الكفر. وإن قَالَ: أراد أن يكون بخلاف مَا علم فقد جعل ربه متمنيا متحسرا، لأن من أراد أن يكون مَا علم أنه لا يكون، أو يكون مَا علم أنه يكون فإنه متمن متحسر، ومن جعل ربه متمنيا متحسرا فهو كافر [5] .
قَالَ مؤلف الكتاب رحمه اللَّه [6] : لا يختلف الناس فِي فهم أبي حنيفة وفقهه.
كَانَ سفيان الثوري، وابْن المبارك يقولان: أَبُو حنيفة أفقه الناس.
وقيل لمالك: هل رأيت أبا حنيفة؟ فَقَالَ: رأيت رجلا لو كلمك فِي هَذِهِ السارية أن يجعلها ذهبا لقام بحجته.
قَالَ الشافعي رحمة اللَّه عليه: الناس عيال عَلَى أبي حنيفة فِي الفقه.
قَالَ مؤلف الكتاب [7] : وبعد هَذَا فاتفق الكل عَلَى الطعن فِيهِ، ثُمَّ انقسموا عَلَى ثلاثة أقسام:
فقوم طعنوا فِيهِ لما يرجع إِلَى العقائد والكلام فِي الأصول.
وقوم طعنوا فِي روايته وقلة حفظه وضبطه.
__________
[1] «حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّد الْحَسَن بْن أبي عَبْد الله السمناني» ساقطة من ت.
[2] في الأصل: «الحسن» .
[3] في ت والأصل «البلخي» وما أثبتناه من تاريخ بغداد.
[4] في ت: «يقال له» .
[5] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 13/ 382- 383.
[6] في ت: «قال المصنف» .
[7] من هنا حتى نشير مقدما ساقط من ت.(8/131)
وقوم طعنوا فِيهِ لقوله بالرأي فيما يخالف الأحاديث الصحاح.
فأما القسم الأول: فأخبرنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ الْقَزَّازِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا علي بْن مُحَمَّد المعدل قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَمْرو البختري الرزاز قَالَ: حَدَّثَنَا حسن بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا حمزة بْن الحارث بْن عمير [1] ، عَنْ أبيه قَالَ: سمعت رجلا يسأل أبا حنيفة فِي المسجد عَنْ رجل قَالَ: أشهد أن الكعبة حق، ولكن لا أدري هي هَذِهِ الَّتِي بمكة أم لا؟ فَقَالَ: مؤمن حقا.
وسأله عَنْ رجل قال: أشهد أن محمدا عَبْد اللَّه نبي، ولكن لا أدري هو هَذَا الَّذِي قبره بالمدينة أم لا؟ قَالَ: مؤمن حقا.
/ قَالَ الحميدي: ومن قَالَ هَذَا فقد كفر [2] .
أَخْبَرَنَا القزاز قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بن علي الحافظ قال: أخبرنا محمد بن الحسين بْن الفضل قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر بْن درستويه [3] قَالَ: حَدَّثَنَا يعقوب بْن سفيان قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيّ بْن عثمان بْن نفيل قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مسهر قَالَ: حدّثنا يحيى بن
__________
[1] وثقه ابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي، والدار الدّارقطنيّ والعجليّ وابن خلفون.
وقال ابن حبان في المجروحين: «كان ممن يروي عن الأثبات الأشياء الموضوعات» وساق له منها. وقال أبو عبد الله الحاكم: روى عن حميد الطويل وجعفر بن محمد الصادق أحاديث موضوعة: ونقل ابن الجوزي عن ابن خزيمة أنه قال: الحارث بن عمير كذاب وضعفه الأزدي.
وقال الذهبي في الميزان: وما أراه إلا بين الضعف، وقال في المغني: أتعجب كيف خرج له النسائي.
وقال ابن حجر في التقريب: وثقه الجمهور وفي أحاديثه مناكير ضعفه بسببها الأزدي وابن حبان وغيرهما، فلعله تغير حفظه في الآخر» .
انظر ترجمته في: (تاريخ يحيى بن معين 2/ 93، والتاريخ الكبير للبخاريّ 2/ 2446، والمعرفة ليعقوب 2/ 65، 196، والجرح والتعديل 3/ 383، والمجروحين لابن حبان 1/ 223، وميزان الاعتدال 1/ 440، وتقريب التهذيب 2/ 153) .
[2] الخبر أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد 13/ 372.
[3] قال عنه الخطيب البغدادي: سمعت اللالطائي ذكره وضعفه، وسألت البرقاني عنه فقال: ضعفوه لأنه لما روى التاريخ عن يعقوب أنكروا ذلك وقالوا: إنما حدث يعقوب بالكتاب قديما فمتى سمعته منه؟ ثم دفع الخطيب هذا بأن جعفر بن ودرستويه من كبار المحدثين وفقهائهم عنده، عن علي بن المديني وطبقته، فلا يستنكر أن يكون تكثر بأبيه، مع أن أبا القاسم الأزهري حدثني قال: رأيت أصل ابن درستويه بتاريخ يعقوب بيع في ميراث ابن الأبنوس، ووجدت سماعه فيه صحيحا. (ميزان الاعتدال 2/ 400، 401) .(8/132)
حَمْزَة: أن أبا حنيفة قَالَ: لو أن رجلا عَبْد هَذَا البغل [1] يتقرب به إِلَى اللَّه لم أر بذلك بأسا [2] .
أَخْبَرَنَا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْن عَبْد اللَّه السراج قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن عبدوس قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن سعيد الدارمي قَالَ: حَدَّثَنَا محبوب بْن موسى الأنطاكي [3] قَالَ: سمعت أبا إسحاق الفزاري يَقُول: سمعت أبا حنيفة يَقُول: إيمان أبي بكر الصديق وإيمان إبليس واحد، قَالَ إبليس: يا رب. وَقَالَ أَبُو بكر: يا رب.
قَالَ أَبُو إسحاق: ومن كَانَ من المرجئة ثُمَّ لم يقل هَذَا أنكر عليه قوله [4] .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سليمان المؤدب قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر بْن الْمُقْرِئ قَالَ: حَدَّثَنَا سلامة بْن محمود قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن عُمَر قَالَ: سمعت أبا مسهر يَقُول: كَانَ أَبُو حنيفة رأس المرجئة [5] .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي الحافظ قَالَ:
المشهور عَنْ أبي حنيفة أنه كَانَ يَقُول بخلق القرآن ثُمَّ استتيب منه [6] .
وأخبرنا الخلال قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَر بْن الْحَسَن القاضي [7] قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاس بْن عَبْد الْعَظِيمِ قَالَ: حَدَّثَنَا أحمد بن يونس قال: كان أبو
__________
[1] كذا في الأصلين، وفي تاريخ بغداد «النعل» .
[2] الخبر في تاريخ بغداد 13/ 374، 375.
[3] قال الدار الدّارقطنيّ: صويلح وليس بالقوي.
وقال العجليّ: ثقة صاحب سنة.
وقال أبو داود: ثقة لا يلتفت إلى حكاياته إلا من كتاب.
[4] الخبر في تاريخ بغداد 13/ 376.
[5] الخبر في تاريخ بغداد 13/ 380.
[6] تاريخ بغداد 13/ 383.
[7] في الأصل: «محمد بن الحسن» والتصحيح من تاريخ بغداد، وهو الأشناني القاضي أبو الحسين. ضعفه الدار الدّارقطنيّ والحسن بن محمد الخلال، ويروى عن الدار الدّارقطنيّ، أنه كذاب، ولم يصح هذا، ولكن هذا الأشناني صاحب بلايا.(8/133)
حنيفة فِي مجلس عيسى بْن موسى فَقَالَ: القرآن مخلوق. فَقَالَ: أخرجوه، فإن تاب، وإلا فاضربوا عنقه [1] .
قَالَ أَبُو بكر الحافظ: وأخبرني الْحَسَن بْن مُحَمَّد أخو الخلال قَالَ: أَخْبَرَنَا جبريل بن محمد العدل قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن حيوية قَالَ: حَدَّثَنَا محمد بْن غيلان.
قَالَ: حَدَّثَنَا يحيى بْن آدم قَالَ: سمعت شريكا يَقُول: استتيب أَبُو حنيفة [2] مرتين.
63/ أأخبرنا عبد/ الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أبو بكر الحافظ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن رزق قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن جَعْفَر بْن سلمة قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عَلِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن سعيد قَالَ: حَدَّثَنَا محبوب بْن موسى قَالَ: سمعت يوسف بْن أسباط يَقُول: قَالَ أَبُو حنيفة: لو أدركني رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وأدركته لأخذ بكثير من قولي.
القسم الثاني: أنهم ضعفوه لعلة حفظه وضبطه، وكثرة خطأه فيما روى:
أَخْبَرَنَا أَبُو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثَابِت قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْمَاطِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُظَفَّرِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن أَحْمَد بْن سليمان الصرفي قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن سعيد بْن أبي مريم قَالَ: سألت يحيى بْن معين عَنْ أبي حنيفة قَالَ: لا تكتب حديثه [3] .
أَخْبَرَنَا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرني علي بن محمد المالكي قال: أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّهِ بن عثمان الصفار قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عثمان الصيرفي قَالَ:
حَدَّثَنَا عبد الله بْن عَلي بْن عبد الله المديني قَالَ: سألت عَنْ أبي حنيفة فضعفه جدا.
وَقَالَ: روى خمسين حديثا أخطأ فِيهَا.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن الفضل قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عثمان بْن أَحْمَد الدقاق قَالَ: حَدَّثَنَا سهل بْن أَحْمَد الواسطي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حفص عَمْرو بْن عَلِيّ قَالَ: أَبُو حنيفة ليس بالحافظ، مضطرب الحديث، واهي الحديث.
__________
[1] الخبر في تاريخ بغداد 3/ 386.
[2] الخبر في تاريخ بغداد 13/ 390- 391.
[3] الخبر في تاريخ بغداد 83/ 450.(8/134)
وَقَالَ أَبُو بكر ابْن أبي داود: جميع مَا روى أَبُو حنيفة من الحديث مائة وخمسون حديثا أخطأ أو قَالَ: غلط فِي نصفها.
القسم الثالث: قوم طعنوا فِيهِ لميله إِلَى الرأي المخالف للحديث الصحيح، وقد كان بعض الناس يقيم عذره ويقول: مَا بلغه الحديث، وذلك ليس بشيء لوجهين:
أحدهما: أنه لا يجوز أن يفتي من يخفى عليه أكثر الأحاديث الصحيحة.
والثاني: أنه كَانَ إذا أخبر بالأحاديث المخالفة لقوله لم يرجع عَنْ قوله.
أَخْبَرَنَا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أَبُو بكر أَحْمَد بْن عَلِيّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو سعيد الحسن بْن مُحَمَّد بْن حيوية الأصفهاني/ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّهِ بن مُحَمَّد بن 63/ ب عيسى الخشاب قال: حدّثنا أَحْمَد بْن مهدي قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد السَّلامِ بْن عَبْد الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن عيسى بْن عَلِيّ الهاشمي قَالَ:
حَدَّثَنِي أَبُو إسحاق الفزاري قَالَ: سألت أبا حنيفة عَنْ مسألة فأجاب فِيهَا فقلت: إنه يروى عَنِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ كذا وكذا فَقَالَ: حك هَذَا بذنب الخنزير [1] .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي الحافظ قال أخبرنا محمد بن أبي نصر النَّرْسِيِّ [2] قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ بَهْتَةَ الْبَزَّازُ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الْكَوفِيُّ [3] قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ قال: حدثني أبو بكر بن أبي الأسود، عَنْ بِشْرِ بْنِ مُفَضَّلٍ قَالَ:
قُلْتُ لأَبِي حَنِيفَةَ: رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أنه قال: «الْبَائِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» قَالَ: هَذَا زَجْرٌ [4] .
قلت: قتادة عَنْ أنس: أن يهوديا رضخ رأس جارية بين حجرين فرضخ النبي صلّى الله عليه وسلّم رأسه بين حجرين. فقال: هذيان [5] .
__________
[1] الخبر في تاريخ بغداد 13/ 401.
[2] ضعف الخطيب روايته وقال أنه غال في التشيع.
[3] قال الخطيب: روى المنكرات والمنقطعات، ومشايخ بغداد يقولون: إنه كان لا يتدين بالحديث. وقال الدار الدّارقطنيّ: كان رجل سوء. وقال عمر بن حيويه: كان في جامع براثا يملي مثالب أصحاب رسول الله صلَّى اللَّه عليه وسلم. فتركت حديثه لا أحدث عنه بشيء، فهل يؤخذ برواية مثل هذا؟
[4] الخبر في تاريخ بغداد 13/ 403.
[5] الخبر في تاريخ بغداد 3/ 403.(8/135)
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَافِظُ قَالَ: أَخْبَرَنَا الْبَرْقَانِيُّ قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمُودٍ الْمَحْمُودِيِّ: حَدَّثَكُمْ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَافِظُ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ [1] ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ذكر لأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» فَقَالَ: هَذَا سَجْعٌ. وَذكر لَهُ قَوْلٌ قَالَهُ عُمَرُ فَقَالَ: هَذَا قَوْلُ شَيْطَانٍ [2] .
أَخْبَرَنَا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بْن عَلِيّ قَالَ: أَخْبَرَنَا الخلال قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن عثمان الصفار قَالَ: حَدَّثَنَا محمد بن مخلد قال: حدثنا العباس بن مُحَمَّد قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن شماس قَالَ: سمعت وكيعا يَقُول: سأل ابْن المبارك أبا حنيفة عَنْ رفع اليدين فِي الركوع فَقَالَ أَبُو حنيفة: يريد أن يطير فيرفع يديه؟
64/ أفقال له ابن المبارك: إن كان طار فِي الأولى فإنه يطير فِي الثانية. فسكت/ أَبُو حنيفة [3] .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا محمد بن الحسين بن محمد الْمَتُّوثِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ الدَّقَّاقُ [4] قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ بِشْرٍ الْمَرْثَدِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا رَجَاءُ بْنُ السَّنَدِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ بِشْرَ بْنَ السَّرِيِّ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا عَوَانَةَ يَقُولُ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَأَتَاهُ رَسُولٌ مِنْ قِبَلِ السُّلْطَانِ فَقَالَ: يَقُولُ الأَمِيرُ: رَجُلٌ سَرَقَ وَدِيًّا، فَمَا تَرَى؟ فَقَالَ- غَيْرُ مِتَتَعْتِعٍ- إِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ فَاقْطَعُوهُ. فَذَهَبَ الرَّجُلُ، فَقُلْتُ لأَبِي حَنِيفَةَ: أَلا تَتَّقِي اللَّهَ؟ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَيَّان، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا
__________
[1] هو عبد الصمد بن حبيب الأزدي، قال الخطيب: قال أبو بكر الأثرم: ذكرنا عبد الصمد بن حبيب عند أحمد بن حنبل، فقال: أزدي، ووضع من أمره.
وقال البخاري وأحمد: لين الحديث. وقال يحيى بن معين: ليس به بأس.
وروى الخطيب حديثا من طريقه، قال فيه: هذا الحديث منكر.
[2] الخبر في تاريخ بغداد 13/ 403.
[3] هذا بعيد عن ورع أبي حنيفة ونزاهة لسانه أن يصدر منه هذا القول في مقام البحث والمناظرة. الخبر في تاريخ بغداد 3/ 405.
[4] هو: عثمان بن أحمد بن السماك أبو عمرو الدقاق قال الذهبي: صدوق في نفسه، لكن روايته لتلك البلايا عن الطيور كوصية أبي هرين فالآفة من فوقه. أما هو فوثقه الدار الدّارقطنيّ. ثم أورد له حديث وقال عقبة: وهذا الإسناد ظلمات، وينبغي أن يغمز ابن السماك لرواية هذه الفضائح. الميزان 3/ 31.(8/136)
قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلا كَثَرٍ» [1] أَدْرَكَ الرَّجُلُ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ. فَقَالَ- غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ- ذَاكَ حُكْمٌ قَدْ مَضَى فَانْتَهَى، وَقْد قُطِعَ الرَّجُلُ [2] .
أَخْبَرَنَا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن دوما [3] قَالَ:
أَخْبَرَنَا ابْن أسلم قَالَ: حَدَّثَنَا الأبار قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عجلان، عَنْ مؤمل [4] قَالَ:
سمعت حماد بْن سلمة يَقُول: أَبُو حنيفة يستقبل السنة يردها برأيه [5] .
أَخْبَرَنَا أَبُو منصور القزاز قَالَ: أخبرنا أبو بكر أَحْمَد بْن عَلي قَالَ: أَخْبَرَنَا البرقاني قَالَ: قرأت على أبي حفص بْن الزيات قَالَ: حدثكم عُمَر بْن مُحَمَّد الكاغدي قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو السائب قَالَ: سمعت وكيعا يَقُول: وجدنا أبا حنيفة خالف مائتي حديث.
أَخْبَرَنَا الْقَزَّازُ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ الْبَجْلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الفياض قال: أخبرنا أبو طلحة أَحْمَدَ بْنُ مُحَمَّد بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ [6] قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهُ بْنُ حَسَنٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ الْفَرَّاءُ قَالَ: سَمِعْتُ يُوسُفَ بْنَ أَسْبَاطٍ [7] يَقُولُ: رَدَّ أَبُو حُنِيفَةَ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أربعمائة حَدِيثٍ أَوْ أَكْثَرَ. فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، تَعْرِفُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ.
قُلْتُ: أَخْبَرَنِي بِشَيْءٍ. فقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «للفرس سهمان وللراجل/ سهم» 64/ ب قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَنَا لا أَجْعَلُ سَهْمَ بَهِيمَةٍ أَكْثَرَ مِنْ سَهْمِ الْمُؤْمِنِ.
وَأَشْعَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ الْبُدْنَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الإِشْعَارَ مِثْلَهُ.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَفَتَرَّقَا» وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا وَجَبَ الْبَيْعُ فَلا خِيَارَ.
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقْرِعُ بَيْنَ نِسَائِهِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ فِي سَفَرٍ وَأَقْرَعَ أصحابه.
وقال أبو حنيفة: القرعة قمار.
__________
[1] في الأصل: «أكثر» خطأ.
[2] الخبر في تاريخ بغداد 13/ 408، 409.
[3] هو الحسن بن الحسين بن دوما، قال الخطيب: أفسد أمره بأن ألحق لنفسه السماع في أشياء لم يكن عليها سماعه. قال الذهبي في الميزان 1/ 485: يعني زوّر.
[4] ومؤمل أيضا ضعيف.،
[5] الخبر في تاريخ بغداد 13/ 408.
[6] ضعفه الدار الدّارقطنيّ وقال: تكلموا فيه.
[7] قال أبو حاتم: لا يحتج به، وقال البخاري: كان قد دفن كتبه، فكان لا يجيء بحديث كما ينبغي.(8/137)
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ أَدْرَكَنِي النبي صَلَّى الله عليه وسلم وأدركته لأخذ بكثير من قَوْلِي، وَهَلِ الدِّينُ إِلا الرَّأْيُ الْحَسَنُ [1] .
قَالَ بعض العلماء: العجب من أبي حنيفة، كيف يقول: وهل الدين إلا الرأي، وهل يعلم أن كثيرا من التكاليف لا يهتدي إليها القياس، ولهذا يأخذ هو بالحديث الضعيف ويترك القياس.
فأما المسائل الَّتِي خالف فِيهَا الحديث فكثيرة، إلا أن من مشهورها الَّذِي خالف فِيهِ الصحاح:
مسألة: بول الغلام الَّذِي لم يأكل الطعام يرش. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يغسل وفي الصحيحين [2] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بصبي لم يأكل الطعام فبال، فدعا بماء فرشه عليه. مسألة: لا يجوز تخليل الخمر، وإذا خللت لم تطهر. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يجوز وتطهر. وفي صحيح مسلم [3] : من حديث أنس: أن أبا طلحة سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم عَنْ أيتام ورثوا خمرا فَقَالَ: أهرقها. قَالَ: أفلا أجعلها خلا؟ قَالَ: لا. مسألة: يجوز الآذان للفجر قبل طلوعه. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لا يجوز. وفي الصحيحين [4] : عَنِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه قَالَ: «إن بلال يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حَتَّى يؤذن ابْن أم مكتوم» . / مسألة: إذا لم تقدر عَلَى الركوع والسجود لم يسقط عنه القيام. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:
يسقط. وفي صحيح البخاري [5] : عَنْ عمران، عَنِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: «صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب» . مسألة: يسن رفع اليدين عند الركوع وعند الرفع منه. وقال أبو حنيفة: لا يسن.
__________
[1] الخبر في تاريخ بغداد 13/ 407.
[2] صحيح البخاري الوضوء 59، والطب 10، والدعوات 30، والأدب 21، وصحيح مسلم، الطهارة 101، 104، والسلام 86، 87.
[3] صحيح مسلم، الأشربة 11.
[4] صحيح البخاري، الأذان، 11- 13، والصوم 17، وصحيح مسلم، الصيام 37- 39.
[5] صحيح البخاري، تقصير الصلاة 19.(8/138)
وفي الصحيحين [1] : من حديث ابْنِ عُمَرَ: أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذا افتتح الصلاة رفع يديه حَتَّى تحاذي منكبيه، وإذا أراد أن يركع، وبعد رفع رأسه من الركوع، ولا يرفع بين السجدتين. وفي الصحيحين: من حديث مالك بْن الحويرث مثله. وقد رواه عَنْ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحو عشرين صحابي. مسألة: إذا طلعت الشمس وَهُوَ فِي صلاة الصبح أتم. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تبطل صلاته. وفي الصحيحين [2] : من حديث أبي هريرة: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «من أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها، ومن أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصلاة» . مسألة: يجوز الوتر بركعة. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: بثلاث. وفي الصحيحين [3] : من حديث ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم كَانَ يوتر بركعة. مسألة: تسن الصلاة للاستسقاء. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لا تسن. وفي الصحيحين [4] : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الاستسقاء. مسألة: ويجوز تحويل الرداء فِي صلاة الاستسقاء وقلبه. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لا يسن. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعل ذلك [5] . مسألة: / يستحب فِي غسل الميت فِي الغسلة الأخيرة شيء من كافور. وقال أبو 65/ ب حنيفة: لا يستحب وفي الصحيحين [6] : أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ للواتي غسلن ابْنته: «اجعلن في الغسلة الأخيرة كافورا» . مسألة: يسن استلام الركن اليماني فِي الطواف. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لا يسن. وفي
__________
[1] صحيح البخاري، أذان 83- 85، 145، وصحيح مسلم الصلاة، 21- 23.
[2] صحيح البخاري، المواقيت 29، 28، ومسلم المساجد 161- 165.
[3] صحيح البخاري، الوتر 2، وفضائل الصحابة 28، وصحيح مسلم، مسافرين 153- 155.
[4] صحيح البخاري، استسقاء 1، 3، 4، 15- 19، وصحيح مسلم، استسقاء 1، 2.
[5] صحيح البخاري، الاستسقاء 4، 11، 18- 20 وصحيح مسلم، الاستسقاء 2- 4.
[6] صحيح البخاري، إيمان 21، جنائز 13، 15، 18، وصحيح مسلم، جنائز 36، 40.(8/139)
صحيح مسلم [1] : من حديث ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لا يستلم [إلا] [2] الحجر الأسود والركن اليماني. مسألة: إشعار البدن، وتقليدها سنة. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يكره الإشعار، فإنه مثلة.
وَقَدْ صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أشعر بدنته وقلدها [3] . مسألة: يجوز بيع العرايا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لا يجوز. وفي الصحيحين [4] : من حديث زيد بْن ثَابِت: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رخص فِي بيع العرايا. مسألة: إذا اشترى مصراة ثبتت لَهُ خيار الفسخ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لا يثبت. وفي الصحيحين [5] : من حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصروا الغنم، ومن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعا من تمر» . مسألة: لا يجوز بيع الكلب وإن كَانَ معلما. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يجوز. وفي الصحيحين [6] : من حديث ابْن مسعود أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عَنْ ثمن الكلب. مسألة: إذا أراق عَلَى ذمي خمرا أو قتل لَهُ خنزيرا لم يضمن. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:
يضمن. وقد صح عَنْ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: إن اللَّه حرم الخمر وثمنها. مسألة: لا يقتل المسلم بالكافر. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يقتل بالذمي. وفي صحيح/ 66/ أالبخاري [7] من حديث علي عليه السلام: عَنِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/ أنه قَالَ: «لا يقتل مسلم بكافر» . مسألة: يجب القصاص فِي القتل بالمثل. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لا يجب إلا فيما له
__________
[1] صحيح مسلم، الحج 244.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
[3] صحيح البخاري: الحج 109، وصحيح مسلم، الحج 369.
[4] صحيح البخاري، البيوع 75، 84، وصحيح مسلم، البيوع 57، 66، 71، 83.
[5] صحيح البخاري، البيوع 64، وصحيح مسلم، البيوع 11.
[6] صحيح البخاري، البيوع 25، 113، والإجارة، 20، والطلاق 51، والطب 46، واللباس 86، 96، وصحيح مسلم، المساقاة 40.
[7] صحيح البخاري، العلم 39، الجهاد 17، الديات 24، 31.(8/140)
حد. وفي الصحيحين [1] : من حديث أنس: أن يهوديا رضخ رأس امرأة بين حجرين فقتلها، فرضخ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأسه بين حجرين. مسألة: إذا ضربت حامل فماتت، ثم انفصل عنها جنين ميت وجبت فِيهِ الغرة.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لا شيء فِي الجنين، وفي الصحيحين [2] : عَنِ المغيرة أنه قَالَ: قضى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالغرة عبدا أو أمة. مسألة: الإسلام ليس بشرط فِي الإحصان. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هو شرط. وقد صح عَنْ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنّه رجم يهوديا ويهودية [3] . مسألة: النصاب فِي السرقة ربع دينار أو ثلاثة دراهم. وقال أبو حنيفة: دينار أو عشرة دراهم. وفي الصحيحن [4] : من حديث عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يقطع فِي ربع دينار فصاعدا. مسألة: إذا اطلع فِي بيت إنسان عَلَى أهله فله أن يرمي عينه، فإن فقأها فلا ضمان عليه. وقال أَبُو حنيفة: لزمه الضمان. وفي الصحيحين [5] : من حديث سهل بْن سعد قَالَ: اطلع رجل في حجرة مِنْ حُجَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه مدري يحك به رأسه، فَقَالَ:
«لو أعلمك تنظر لطعنت به فِي عينيك» . وَفِي الصحيحين [6] : من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: «من اطلع عَلَى قوم فِي بيتهم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقأوا عينه. مسألة: الإمام مخير فِي الأسرى بين القتل والاسترقاق والمنّ والفداء. وقال أبو حنيفة: / لا يجوز المن والفداء. وقد صح عَنْ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه من على ثمامة بن 66/ ب أثال، وفدى الأسرى يوم بدْر. مسألة: هدايا الأمراء كبقية أموال الفيء، لا يختصون بها، وقال أبو حنيفة:
__________
[1] صحيح البخاري، خصومات 1، الوصايا 5، الديات 4، 12، وصحيح مسلم، القسامة 17.
[2] صحيح مسلم القسامة 34، 38، 39، وصحيح البخاري، فرائض 11، ديات 25، 26، والطب 46.
[3] صحيح مسلم، الحدود 27.
[4] صحيح البخاري 13، وصحيح مسلم حدود 2.
[5] صحيح البخاري، الديات 23، واللباس 75، والاستئذان 11.
[6] صحيح مسلم الأدب 43.(8/141)
يختصون بها. وفي الصحيحين [1] : من حديث أبي حميد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا فجاء فَقَالَ: هَذَا لكم وهذا أهدي لي. فَقَالَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بال العامل نبعثه فيقول هذا لكم وهذا أهدي لي، أفلا جلس فِي بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إِلَيْهِ أم لا، والذي نفسي بيده لا يأتي أحد منكم بشيء إلا جاء به يوم القيامة عَلَى رقبته» . مسألة: لا يجوز الزكاة بالسن والظفر. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ بها إذا كانا منفصلين. وفي الصحيحين [2] : من حديث رَافِع بْن خديج قال: قلت: يا رسول الله، إنا ملاقو العدو غدا وليست معنا مدي. فَقَالَ: «مَا أنهر الدم، وذكر اسم اللَّه عليه فكل ليس السن والظفر» . مسألة: يحل أكل الضب. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لا تحل. وقد صح [3] عَنْ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لم يحرم الضب، وإنما قذره، فإن خالد بْن الوليد قَالَ لَهُ وقد قدم إِلَيْهِ: أحرام هو؟ قَالَ: «لا، ولكنه لا يكون بأرض قومي فأجدني أعافه» فأكل خالد ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينظر. مسألة: يحل أكل لحوم الخيل. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لا تحل. وفي الصحيحين [4] :
من حديث جَابِرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم نهى عَنْ لحوم الحمر، وأذن فِي لحوم الخيل. مسألة: النبيذ حرام. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنما يحرم المسكر منه. وقد صح أن رسول 67/ أالله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كل مسكر حرام» [5] . وفي حديث عائشة عَنِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/ أنه قَالَ: «مَا أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام [6] . مسألة: حكم الحاكم لا يحيل الشيء عَنْ صفته. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يحيله فِي العقود والفسوخ. وفي الصحيحين: من حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سمع
__________
[1] صحيح البخاري، الأحكام 41، وصحيح مسلم، إمارة 27، 28.
[2] صحيح البخاري الذبائح 15، 23، 18، 20، 36، 37، وصحيح مسلم، الأضاحي 20.
[3] صحيح البخاري الذبائح 33، وصحيح مسلم صيد 44.
[4] صحيح البخاري، المغازي 38، والذبائح 27، 28، وصحيح مسلم، صيد 36، 37.
[5] صحيح البخاري الأدب. 80، والأحكام 22، والمغازي 60، وصحيح مسلم أشربة 73- 75، 64، 69.
[6] مسند أحمد بن حنبل 6/ 71، 72، 131.(8/142)
خصومة بباب حجرته، فخرج إليهم فَقَالَ: «إنما أنا بِشْر مثلكم، وإنه يأتيني الحكم فلعل بعضهم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه قَدْ صدق، فأقضي لَهُ بذلك، فمن قضيت لَهُ بحق مُسْلم فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها أو فليتركها» . مسألة: يجوز الحكم بشاهد ويمين فِي المال وما يقصد به المال. وَقَالَ أبو حنيفة: لا يجوز. وقد روى جَابِر بْن عَبْد اللَّه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى باليمين مَعَ الشاهد. ورواه عُمَر، وعلي بْن أبي طالب، وابْن عباس، وابْن عُمَر، وابْن عَمْرو، وزيد بْن ثَابِت، وأبو سَعِيد الخدري، وسعد بْن عبادة، وعامر بْن ربيعة، وسهل بْن سعد، وعمارة بْن حزم، وأنس، وبلال بْن الحارث، والمغيرة بْن شعبة، وسلمة بْن قيس فِي آخرين. فهذا من مشهور المسائل والمتروك أضعافه، ولكونه خالف مثل هَذِهِ الأحاديث الصحاح سعوا بالألسن فِي حقه، فلم يبق معتبر من الأئمة إلا تكلم فِيهِ، ولا يؤثر أن نذكر مَا قالوا، والعجب منه إذا رأى حديثا لا أصل لَهُ هجر القياس ومال إِلَيْهِ، كحديث: نقض الوضوء بالضحك. فإنه شيء لا يثبت، وقد ترك القياس لأجله] [1] .
وَكَانَ ابْن هبيرة قَدْ أمر أبا حنيفة أن يلي قضاء الكوفة فلم يفعل، فضربه مائة سوط وعشرة أسواط، كل يوم عشرة، فلما رآه لا يفعل تركه. ثُمَّ إن المنصور أراده عَلَى القضاء فأبي، فحلف ليفعلن، فحلف أَبُو حنيفة أن لا يفعل فَقَالَ الربيع: ألا ترى أمير المؤمنين يحلف؟ فَقَالَ: هو أقدر مني عَلَى الكفارة [فسجنه] [2] .
/ وقيل: بل دخل فِي القضاء يومين، ثُمَّ مرض ومات.
وقيل: إنما حبس لأنه [3] تكلم فِي أيام خروج إِبْرَاهِيم عَلَى المنصور، فحبس، وتوفي بسوق يَحْيَى سنة خمسين ومائة، وَهُوَ ابْن سبعين سنة.
وقرأت بخط أبي الوفاء بْن عقيل: كَانَ قبر أبي حنيفة عليه خربشة رأيته وأنا صبي قبل دخول الغز بغداد، ثُمَّ عمل عليه بعض أمراء التركمان سقفا، ثم قدم شرف الملك
__________
[1] إلى هنا انتهى السقط من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «أنه» وما أوردناه من ت.(8/143)
في سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة فأحدث هَذِهِ القبة، وَكَانَ قَدْ وضع أساس مسجد بين يدي ضريح أبي حنيفة، فهدم شرف الملك أبْنية ذلك وما يحيط بالقبر وحفروا أساسات وكانوا يطلبون الأرض الصلبة فأخرجوا أربعمائة صن من عظام الموتى.
قَالَ ابْن عقيل: فقلت: مَا يدريكم لعله قَدْ خرجت عظامه فِي هَذِهِ العظام، وبقيت القبة فارغة من مقصود [1] بانيها.
وأنبأنا عَلِيّ بْن عبيد اللَّه، عَنْ أبي الحسين المهتدي قَالَ: لا يصح أن قبر أبو حنيفة في هذا الموضع الَّذِي بْنوا عليه القبة، كَانَ الحاج يردون فيطوفون حول المقبرة يزورون أبا حنيفة لا يعينون موضعا.
__________
[1] في الأصل: «مقود» والتصحيح من ت.(8/144)
ثم دخلت سنة إحدى وخمسين ومائة
فمن الحوادث فِيهَا:
إغارة الكرك عَلَى جدة فِي البحر.
وَفِيهَا: ولي عُمَر بْن حفص بْن عُثْمَان بْن أبي صفرة إفريقية، وعزل عَنِ السند، وولي مكانه هِشَام بْن عُرْوَة الثعلبي.
وسبب عزل عُمَر: أنه لما خرج مُحَمَّد وإبراهيم بعث إِلَيْهِ مُحَمَّد بولده عَبْد اللَّه فِي جماعة من أصحابه إِلَى السند بحجة خيل حملوها، فلما عرضت عليه قَالَ لَهُ بعضهم:
أدنني منك. فلما أدناه قَالَ لَهُ: إنما جئناك بما هو خير من الخيل فأعطنا أمانا عَلَى خلتين: إما قبلت ما آتيناك به، وإما/ سترت حَتَّى نخرج من أرضك. فأعطاهم الأمان، 68/ أفقالوا: ما للخيل أتيناك، ولكن هَذَا ابْن رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن حسن بْن حسن أرسله أبوه إليك، وقد خرج بالمدينة، ودعا لنفسه بالخلافة، وخرج أخوه إِبْرَاهِيم بالبصرة، وغلب عَلَيْهَا لَهُ. قَالَ لَهُ: بالرحب والسعة، ثُمَّ بايعهم وأمر به فتوارى عنده، ودعا أَهْل بيته وقواده، وكبراء أَهْل البلد إِلَى البيعة فأجابوه، وقطع أعلاما بيضاء، وملابس بيضا، وهيأ لبسته من البياض يصعد فِيهَا [إِلَى] [1] المنبر، وتهيأ لذلك يوم الخميس، فجاءه الخبر بقتل مُحَمَّد، فدخل عَلَى ابْنه فأخبره الخبر وعزاه، فَقَالَ لَهُ: إن مكاني قَدْ عرف، ودمي فِي عنقك، فقال: ها هنا ملك من ملوك السند كثير التبع، وَهُوَ عَلَى شركه أشد [2] الناس تعظيما لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو رجل وفي، فأرسل إليه، فاعقد
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من الطبري.
[2] «أشد» ساقط من ت.(8/145)
بينك وبينه عقدا، قَالَ: أفعل فأرسل إِلَيْهِ، فأظهر كرامة وبرا، فخرج في أربعمائة من أصحابه يتصيد ويتنزه، وبلغ الخبر المنصور فعزل عُمَر، وولى هشاما، وَقَالَ لَهُ: إن أسلم ذلك الملك عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد وإلا حاربه، وكتب إِلَى عُمَر بولاية إفريقية، فكان هِشَام يدفع عَنْ عَبْد اللَّه ويتمادى فِي أمره، فخرجت خارجة ببلاد الشام فبعث إليهم أخاه، فبينا هو يسير إذا [هو] [1] برهج، فظنه مقدمات العدو الَّذِي يقصده، فوجه طلائعه فقالوا: ليس بعدوك، ولكن عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد ركب متنزها، فمضى يريده، فَقَالَ لَهُ نصاحه [2] : هَذَا ابْن رسول الله، وقد علمت أن أخاك قَدْ تركه مخافة أن يبوء بدمه ولم يقصدك. فأعرض عنه، فَقَالَ: لا أدع حظي من التقرب من المنصور بأخذه أو قتله، فقصده، وَكَانَ فِي عشرة آلاف، فقاتله فقتل عَبْد اللَّه وأصحابه كلهم، فكتب بذلك إلى 68/ ب المنصور فشكره، وأمره بمحاربة الملك الَّذِي آواه فحاربه وظفر به وقتله/ وَكَانَ عَبْد اللَّه قَدِ اتخذ بحضرة ذلك الملك جواري فأولد منهن جارية، فحملها وابْنها إِلَى المنصور، فأمر أن يسلم إِلَى أقربائه.
وفي هذه السنة: قدم المهدي من خراسان فِي شوال عَلَى المنصور، فوفد إِلَيْهِ عامة أَهْل بيته [من كل بلد] [3] يهنئونه فأجازهم وكساهم وحملهم، وفعل بهم المنصور مثل ذلك، وأجرى عَلَى كل رجل منهم خمس مائة درهم.
وفي هذه السنة: ابتدأ المنصور ببْناء الرصافة فِي الجانب الشرقي من مدينة السلام لابْنه المهدي.
وَكَانَ السبب فِي ذلك: أن الراوندية لما حاربوا المنصور [4] عَلَى باب الذهب دخل عليه قثم بن الْعَبَّاس بْن عَبْد اللَّه بْن الْعَبَّاس، وَهُوَ يومئذ شيخ كبير ومقدم عند القوم، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَر: أما ترى مَا نحن فِيهِ من التياث العسكر علينا، قَدْ خفت أن نجتمع كلمتهم فيخرج هَذَا الأمر من أيدينا، فما ترى؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، عندي
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من الطبري 8/ 36.
[2] في ت: «فصاحه» .
[3] ما بين المعقوفتين: من ت.
[4] في ت: «لما شغبت على المنصور على باب الذهب» . وفي الطبري: «لما شغبوا على أبي جعفر وحاربوه على باب الذهب» .(8/146)
فِي هَذَا رأي، إن أنا أظهرته لك فسد، وإن تركتني أمضيه صلحت لك خلافتك وهابك جندك، فَقَالَ: أفتمضي [1] فِي خلافتي بشيء لا تعلمني مَا هو؟ فَقَالَ لَهُ: إن كنت عندك متهما عَلَى دولتك فلا تشاورني، وإن كنت مأمونا عَلَيْهَا فدعني أمضي رأيي قَالَ: فَقَالَ لَهُ المنصور: أمضه، قَالَ: فانصرف قثم إِلَى منزله فدعا غلاما لَهُ فَقَالَ: إذا كَانَ غدا فتقدمني فاجلس فِي دار أمير المؤمنين، فإذا رأيتني قَدْ دخلت وتوسطت أصحاب المراتب، فخذ بعنان بغلتي واستوقفني واستحلفني بحق رسول الله [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] [2] وبحق الْعَبَّاس، وبحق أمير المؤمنين لما وقفت لك وسمعت مسألتك وأجبتك عنها، فإني سأنتهرك وأغلظ لك فلا يهولنك ذلك مني، وعاودني بالقول والمسألة، فإني سأضربك بالسوط، فلا يشق عَلَيْك ذلك، وقل: أي الحيين أشرف؟ أَهْل اليمن أو مضر؟ فإذا أجبتك فخل عنان بغلتي وأنت حر، فغدا الغلام فجلس حيث أمره، / فلما جاء فعل ما 69/ أأمره به [3] إِلَى أن قَالَ: أي الحيين أشرف أَهْل اليمن أو مضر؟ فَقَالَ لَهُ قثم: مضر، منها رسول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهَا كتاب اللَّه عز وجل، وَفِيهَا بيت اللَّه، ومنها [4] خليفة اللَّه. قَالَ:
فامتعضت أَهْل [5] اليمن إذ لم يذكر لها شيئا من شرفها فَقَالَ قائل من قواد أَهْل اليمن لغلامه: قم فخذ بعنان بغلة الشيخ فاكبحها كبحا عنيفا تطأ من به، ففعل الغلام حَتَّى كاد يقعيها عَلَى عراقيبها، فامتعضت [من ذلك مضر] وقالت: أيفعل هَذَا بشيخنا وأمر رجل منهم غلامه فَقَالَ: اقطع يد العبد، فقام ذلك إِلَى غلام اليماني فقطع يده، فتفرق الحيان، وصرف قثم بغلته، فدخل عَلَى أبي جَعْفَر، وافترق الجند، وصارت مضر فرقة، واليمن فرقة، وربيعة فرقة، والخراسانية فرقة، فَقَالَ قثم لأبي جَعْفَر: قَدْ فرقت بين جندك وجعلتهم أحزابا، كل حزب منهم يخاف أن يحدث [6] عَلَيْك حدثا، فتضربه بالحزب الآخر، وقد بقي عَلَيْك فِي التدبير بقية، قَالَ: وما هي؟ قَالَ: اعبر بابْنك، فابْن لَهُ من ذلك الجانب قصرا وحول معه من جيشك قوما فيصير ذلك بلدا وهذا بلدا، فإن
__________
[1] في ت: «اقض» .
[2] «أهل اليمن» ساقطة من ت.
[3] «فلما جاء فصل ما أمره به» .
[4] في الأصل: «وفيها» ، وما أوردناه من ت والطبري.
[5] «فامتعضت أهل» ساقط من ت.
[6] في الأصل: «يخافك إن حدث» وما أوردناه من ت.(8/147)
فسد عَلَيْك أَهْل هَذَا الجانب ضربتهم بأهل ذلك الجانب [1] ، فإن فسدت عَلَيْك مضر ضربتها باليمن وربيعة والخراسانية، وإن فسدت عَلَيْك اليمن ضربتها بمن أطاعك من مضر وغيرها.
فقبل رأيه وأمره فاستوى له ملكه، وَكَانَ سبب البْناء فِي الجانب الشرقي، فبْنى الرصافة للمهدي، وعمل لها سورا وخندقا وميدانا وبستانا، وأجرى لَهُ الماء، وأقطع القواد هُنَاكَ قطائع، وتولى صالح صاحب المصلى القطائع فِي الجانب الشرقي، وفعل كفعل أبي الْعَبَّاس الطوسي فِي فصول القطائع فِي الجانب الغربي.
أَخْبَرَنَا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بْن عَلِيّ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن مخلد الوراق قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن جعفر التميمي قال: حدّثنا الحسن بن 69/ ب مُحَمَّد السكوني/ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن خلف قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد الشروي، عَنْ أبيه [قَالَ] [2] : قدم المهدي من المحمدية بالري سنة إحدى وخمسين ومائة، فِي شوال، ووفدت إِلَيْهِ الوفود، وبْنى لَهُ المنصور الرصافة، وعمل لها سورا وخندقا وميدانا وبستانا، وأجرى لها الماء.
قَالَ ابْن خلف: وَقَالَ يَحْيَى بْن حسن: كَانَ بْناء المهدي بالرهوص [3] إلا مَا كا [ن] يسكنه [4] .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن عَلِيّ قَالَ: [أَخْبَرَنِي القاضي أبو عبد الله الحسين بْن عَلِيّ الصيرمي، قَالَ: أَنْبَأَنَا مُحَمَّد بْن عمران المرزباني، قال:
أخبرني محمد بن يحيى، قَالَ:] [5] أَخْبَرَنِي مُحَمَّد بْن موسى المنجم أن المعتصم وابْن أبي دؤاد اختلفا فِي مدينة أبي جَعْفَر والرصافة أيهما أعلى؟ [قَالَ] : فأمر بي المعتصم فوزنتهما [6] فوجدت [المدينة] [7] أعلى من الرصافة بذراعين وثلثي ذراع [8] .
__________
[1] «فإن فسد.... ذلك الجانب» ساقط من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، وتاريخ بغداد، أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «بالرهص» ، وما أوردناه من ت وتاريخ بغداد.
[4] الخبر في تاريخ بغداد 1/ 82.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من تاريخ بغداد.
[6] في الأصل: «فوجستها» ، وما أوردناه من ت، وتاريخ بغداد.
[7] ما بين المعقوفتين: من ت.
[8] الخبر في تاريخ بغداد 1/ 83.(8/148)
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا الخطيب قال: وقيل إن الدروب والسكك أحصيت ببغداد، فكانت ستة آلاف درب وسكة بالجانب الغربي، وأربعة آلاف درب وسكة بالجانب الشرقي.
وفي هذه السنة: جدد المنصور البيعة لنفسه ولابْنه المهدي من بعده، ولعيسى بْن موسى من بعد المهدي عَلَى أَهْل بيته فِي مجلسه فِي يوم جمعة، قَدْ عمهم الإذن فِيهِ، فكان كل من بايعه منهم يقبل يده ويد المهدي، ثُمَّ يمسح عَلَى يد عيسى بْن موسى، ولا يقبل يده.
وفي هذه السنة: غزا الصائفة عَبْد الوهاب بْن إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد.
وَفِيهَا: شخص عقبة بْن سلم من البصرة واستخلف عَلَيْهَا ابنه نافع بن عقبة على البحرين، فقتل سليمان بْن حكيم العبدي وسبى أَهْل البحرين، وبعث ببعض من سبى منهم إِلَى أبي جَعْفَر، فقتل منهم عدة، ووهب بقيتهم للمهدي، فمن عليهم وأعتقهم، وكسا كل إنسان منهم ثوبين مرويين [1] ، ثُمَّ عزل عقبة عَنِ البصرة.
وَفِيهَا: ولى أَبُو جَعْفَر معن بْن زائدة سجستان، وحميد بن قحطبة خراسان، وقد كان المنصور طلب معنا ليهلكه ثُمَّ أمنه وولاه.
أَنْبَأَنَا مُحَمَّد بْن أبي طاهر البزاز قَالَ: أَنْبَأَنَا عَلِيّ بْن أبي على الْبَصْرِيّ، عَنْ أبيه قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَبُو الفرج بْن عَلِيّ بْن الحسين القرشي قَالَ: أَخْبَرَنِي حبيب بْن نصر المهلبي، قال:
حَدَّثَنَا عَبْد اللَّهِ بن أبي سعد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن نعيم البلخي قَالَ: حدث مروان بْن أبي حفصة قَالَ: كَانَ المنصور قَدْ طلب معن بْن زائدة الشيباني طلبا شديدا، وجعل فِيهِ مالا، فحدثني معن باليمن أنه اضطر لشدة الطلب حَتَّى قام فِي الشمس حَتَّى لوحت وجهه، وخفف عارضه ولحيته، ولبس جبة صوف غليظة، وركب حملا من حمال النقالة، وخرج ليمضي إِلَى البادية، وقد كان أبلى فِي حرب بين يدي عُمَر بْن هبيرة بلاء عظيما، فغاظ المنصور فِي طلبه قَالَ معن: فَلَمَّا خرجت من باب حرب تبعني أسود متقلد سيفا حَتَّى إذا غبت عَنِ الحرس قبض عَلَى خطام الجمل فأناخه، وقبض عليّ، فقلت: مالك؟ فقال:
__________
[1] في الطبري: «من ثياب مرو» .(8/149)
أنت طلبة أمير المؤمنين، فقلت: ومن أنا حَتَّى يطلبْني أمير المؤمنين، فَقَالَ: أنت معن بْن زائدة، فقلت: يا هَذَا اتق اللَّه، وأين أنا من معن بْن زائدة، فَقَالَ: دع ذا عنك فأنا واللَّهِ أعرف بك من نفسك، فقلت لَهُ: إن كَانَ كما تقول فهذا جوهر حملته معي بأضعاف مَا بذله المنصور لمن جاء بي، فخذه ولا تسفك دمي، قَالَ: هاته، فأخرجته إِلَيْهِ فنظر إِلَيْهِ ساعة وَقَالَ: صدقت فِي قيمته ولست نائله حَتَّى أسألك عَنْ شيء، فإن صدقتني أطلقتك، قلت: قل، قَالَ: فإن الناس قَدْ وصفوك بالجود، فأخبرني هل وهبت قط مالك كله، قلت: لا، قَالَ: فنصفه، قلت: لا، قَالَ: فثلثه قلت: لا، حَتَّى بلغ العشر فاستحييت، فقلت: أظن إني قَدْ فعلت ذلك، قال: ما أراك فعلته أنا والله رجل راجل رزقي مَعَ أبي جَعْفَر عشرون درهما، وهذا الجوهر قيمته آلاف دنانير، وقد وهبته 70/ ب لك ووهبتك نفسك لجودك المأثور بين الناس، / ولتحتقر بعد هَذَا كل شيء تفعله ولا تتوقف فِي مكرمة، ثُمَّ رمى بالعقد فِي حجري وخلى خطام البعير وانصرف، فقلت: يا هذا، قد والله فضحتني، ولسفك دمي أهون علي مما فعلته، فخذ مَا دفعته إليك فإني غني عنه، فضحك وَقَالَ: أردت أن تكذبْني فِي مقامي هَذَا، والله لا آخذه ولا أتخذ لمعروف ثمنا أبدا، ومضى، فو الله لقد طلبته بعد أن أمنت وبذلت لمن جاءني به مَا شاء، فما عرفت لَهُ خبرا.
وَفِيهَا: حج بالناس مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس وَكَانَ هو العامل عَلَى مكة والطائف، وَكَانَ عَلَى المدينة الْحَسَن بْن زيد، وعلى الكوفة مُحَمَّد بْن سليمان، وعلى البصرة جَابِر بْن توبة الكلابي، وعلى قضائها سوار بْن عَبْد اللَّه، وعلى مصر يزيد بْن حاتم.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر.
806- أشعث الحداني:
أَخْبَرَنَا عَبْد الوهاب بن المبارك، قال: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار، قال:
أخبرنا علي بن أحمد الملطي، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن صفوان، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّدً، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عُمَر بْن عَلِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيد بْن عامر، قَالَ: حَدَّثَنَا حزم، قَالَ: قَالَ لنا أشعث الحداني:(8/150)
انطلقوا إِلَى حبيب أبي مُحَمَّد نسلم عليه- قَالَ: وذاك عند ارتفاع النهار- فانطلقنا معه نسلم، فخرج حبيب فأخذوا فِي البكاء، فما زالوا يبكون حتى حضرت الظهر، فصلينا ثم أخذوا فِي البكاء فما زالوا يبكون حَتَّى حضرت العصر. قال: فصلينا العصر، فما زالوا يبكون حتى حضرت المغرب، ثُمَّ أدنينا حماره فركب فَقَالَ لنا: إن ناسا ينهون عَنْ هَذَا أفأطيعهم؟ قلنا: أنت أعلم، قَالَ: إذا والله لا أطيعهم
807- جَعْفَر الأكبر ابْن المنصور:
كَانَ يتولى إمارة الموصل/ ومات فِي حياة أبيه.
808- حميد بْن جَابِر الشامي، الأمير:
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر، والمبارك بْن عَلِيّ، قالا: أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن مُحَمَّد بْن الْعَلافُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْحِمَامِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا جَعْفَر بْن مُحَمَّد الخواص، قال: حدّثنا إبراهيم بن نصر مولى منصور بْن المهدي، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيم بْن يسار، قَالَ:
كنت يوما من الأيام مارا مَعَ إِبْرَاهِيم بْن أدهم فِي صحراء، إذ أتينا عَلَى قبر مسنم، فوجم عليه وبكى، فقلت: من هَذَا؟ قَالَ: قبر حميد بْن جَابِر أمير هَذِهِ المدائن كلها، كَانَ غرقا في بحر [1] الدنيا أخرجه اللَّه منها واستنقذه، لقد بلغني أنه سر ذات يوم بشيء من ملاهي ملكه ودنياه وغروره، ثُمَّ نام فِي مجلسه ذلك مَعَ من يخصه من أهله، فرأى رجلا واقفا عَلَى رأسه بيده كتاب، فناوله إياه ففتحه وقرأه فإذا فِيهِ مكتوب بالذهب [2] : لا تؤثرون فانيا عَلَى باق، ولا تغتر [3] بملكك وسلطانك وعبيدك ولذاتك، فإن الَّذِي أنت فِيهِ جسيم لولا أنه عديم، وَهُوَ ملك لولا أن بعده هلك، وَهُوَ فرح وسرور لولا أنه لهو وغرور، وَهُوَ يوم لو كان يوثق فِيهِ بغد، فسارع إِلَى أمر اللَّه عز وجل، فإن اللَّه قَالَ:
وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ من رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ 3: 133 [4] ، فانتبه فزعا وَقَالَ: هَذَا تنبيه [5] من اللَّه عز وجل وموعظة. فخرج من ملكه إذ لا يعلم
__________
[1] في ت: «في بحار الدنيا» .
[2] في ت: «مكتوب بالذهاب» .
[3] في ت: «ولا تقترن بملكك» .
[4] سورة: آل عمران، الآية 133.
[5] في الأصل: «بينه» وما أوردناه من ت.(8/151)
به، وقصد هَذَا الجبل، فتعبد فِيهِ، فلما بلغني قصته وحدثت بأمره قصدته فسألته فحدثني ببدء أمره [1] ، فما زلت أقصده حَتَّى مات ودفن هاهنا، فهذا قبره.
809- حسان بْن أبي سنان: [2]
روى عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ، وأنس، وثابت.
أَنْبَأَنَا أَبُو القاسم الجريري، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو طَالِبٍ العشاري، قَالَ: أَخْبَرَنَا أحمد بن محمد بن يوسف، قال: أخبرنا الحسين بْن صفوان، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بكر 71/ ب القرشي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم الدورقي، قَالَ: حَدَّثَنِي غسان بْن الفضل، / قَالَ: حَدَّثَنَا شيخ لنا يقال لَهُ أَبُو حكيم، قَالَ:
خرج [حسان بْن أبي سنان] [3] يوم العيد، فلما رجع قالت لَهُ امرأته: كم امرأة حسنة قَدْ رأيت اليوم؟ فلما أكثرت قَالَ: ويحك مَا نظرت إلا فِي إبهامي منذ خرجت من عندك حَتَّى رجعت إليك.
قَالَ أَبُو بكر القرشي: وحدثنا أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن الْحَسَن بْن شقيق، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّه، قَالَ:
كتب غلام [4] لحسان بْن أبي سنان إِلَيْهِ من الأهواز: إن قصب السكر أصابته آفة فاشتر السكر فيما قبلك. فاشترى من رجل فلم يأت عليه إلا قليل، فإذا فيما اشترى ربح ثلاثين ألفا. قَالَ: فأتى صاحب السكر فَقَالَ: يا هَذَا، إن غلامي كَانَ كتب إلي ولم أعلمك فأقلني فيما اشتريت منك، قَالَ الآخر: قَدْ أعلمتني الآن وطيبته لك. فرجع فلم يحتمل قلبه، فأتاه فقال: يا هَذَا، إني لم آت الأمر من وجهه فأحب أن تسترد هَذَا البيع، فما زال به حَتَّى رده عليه.
وَقَالَ عاصم [5] بْن فرقد: دخلنا عَلَى حسان بْن أبي سنان وقد حضره الموت،
__________
[1] في ت: «ببدو أمري» .
[2] تاريخ البخاري الكبير 3/ 149، والجرح والتعديل 3/ 1046، وحلية الأولياء.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] في الأصل: «كنت غلاما لحسان» وما أوردناه من ت.
[5] في الأصل: «عن عاصم» وما أوردناه من ت.(8/152)
فَقَالَ لَهُ [بعض] [1] إخوانه: كيف تجدك؟ قَالَ: أجدني بحال الموت، قَالَ: أفتجد يا أبا عَبْد اللَّه كربا شديدا؟ قَالَ: فبكى ثُمَّ قال: [إن ذلك، ثُمَّ قَالَ: إن ذلك، ثُمَّ قَالَ:] [2] ينبغي للمؤمن أن يسلو عن كرب الموت وألمه لما يرجو من السرور فِي لقاء اللَّه [عز وجل] [3] .
810- عَبْد اللَّه بْن عون بْن أرطبان، يكنى أبا عون مولى عَبْد اللَّه بْن درة المزني: [4]
كَانَ ثقة ورعا.
أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْن عَلِيّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرو بْن حيوية، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَعْرُوفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بن الفهم، قال: حدثنا مُحَمَّد بْن سعد، قَالَ: أَخْبَرَنَا بكار، قَالَ [5] :
مَا رأيت ابْن عون يمازح أحدا ولا يماري أحدا [ولا ينشد شعرا] [6] ، وَكَانَ مشغولا بنفسه، وكان إذا صلى صلاة الغداة مكث مستقبل القبلة فِي مجلسه يذكر اللَّه، فإذا طلعت عليه الشمس صلى، ثُمَّ أقبل عَلَى أصحابه، وما رأيته شاتما أحدا قط عبدا ولا أمة ولا دجاجة/ ولا شاه، ولا رأيت أحدا أملك للسانه منه، وَكَانَ يصوم يوما ويفطر يوما 72/ أحتى مات، وما رأيت بيده دينارا ولا درهما قط، وما رأيته يزن شيئا قط، وَكَانَ إذا توضأ لا يعينه عليه أحد، وكان يمسح وجهه إذا توضأ بالمنديل أو بخرقة، وَكَانَ طيب الريح لين الكسوة، وَكَانَ إذا خلا [7] فِي منزله صمت ولا يزيد عَلَى الحمد للَّه ربْنا، وما رأيته دخل حماما قط، وَكَانَ إذا وصل إنسانا بشيء وصله سرا، وإن صنع شيئا صنعه سرا يكره أن يطلع عليه أحد، وَكَانَ لَهُ سبع يقرأه كل ليلة فإذا لم يقرأه بالليل أتمه بالنهار، وَكَانَ يحفي شاربه، وَكَانَ يأخذه أخذا وسطا، وَكَانَ فِي مرضه أصبر من رأيت، مَا رأيته يشكو شيئا من علته حَتَّى مات في رجب هذه السنة.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من هامش الأصل، وت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 24.
[5] الخبر في طبقات ابن سعد 7/ 2/ 25.
[6] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من ابن سعد.
[7] في ت: «وكان إذا صلى» .(8/153)
وروى حماد بْن زيد [1] ، عَنِ ابْن عون، قَالَ: كانت لَهُ حوانيت يكريها، وَكَانَ لا يكريها من المسلمين، فقيل لَهُ فِي ذلك، فَقَالَ: إن لهذا إذا جاء رأس الشهر روعه، وأنا أكره أن أروع المسلم.
811- عُثْمَان بْن عطاء الخراساني:
[2] يروي عَنْ عَبْد اللَّه بْن وهب [3] ، سكن فلسطين، وتوفي في هذه السنة [4]
__________
[1] في الأصل: «عن حماد بن زيد» ، وما أوردناه من ت.
[2] تهذيب التهذيب 7/ 139.
[3] في التهذيب: «روى عنه ابن وهب» ، وقال ابن معين: ضعيف الحديث. وقال الجوزجاني: ليس بالقوي في الحديث. وقال النسائي: ليس بثقة.
[4] قال ضمرة: مات سنة 155، وقال ابن يونس سنة 151، (تهذيب 7/ 39) .(8/154)
ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين ومائة
فمن الحوادث فِيهَا غزوة حميد بْن قحطبة كابل، وغزوة مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم الصائفة [1] .
وَفِيهَا: عزل المنصور جَابِر بْن توبة عَنِ البصرة وولاها يزيد بْن منصور.
وَفِيهَا: قتل أَبُو جَعْفَر هاشم بْن الأشتاخنج [2] ، وَكَانَ قَدْ عصى [3] وخالف بإفريقية، فحمل إليه فقتله بالقادسية وَهُوَ متوجه إِلَى مكة.
وَفِيهَا: عزل يزيد بن حاتم عَنْ مصر، وولاها مُحَمَّد بْن سَعِيد.
وَفِيهَا: حج بالناس المنصور [4] ، واستعدى عليه/ الحمالون، وحضر معهم عند 72/ ب الحاكم محمد بن عمران الطلحي، فحكم لهم عليه، وسنذكر القصة فِي حديث ابْن عمران بعد ثلاث سنين.
وَكَانَ العمال عَلَى الأمصار في هذه السنة العمال فِي السنة الماضية إلا البصرة ومصر، فإن عامل البصرة كَانَ يزيد بْن منصور، وعامل مصر كان محمد بن سعيد.
__________
[1] تاريخ الطبري 8/ 41.
[2] في الأصول: «هاشم بن أسماهيج» والتصحيح من الطبري.
[3] في الأصل: «قد عصاه» وما أوردناه من ت، والطبري.
[4] في ت: «وحج بالناس في هذه السنة»(8/155)
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
812- إِبْرَاهِيم بْن أبي عبلة، واسم أبي عبلة شمر بْن يقطان، أَبُو إِسْمَاعِيل القيسي ثُمَّ العُقَيْليّ: [1]
من أَهْل فلسطين، سمع من ابْن عُمَر وغيره، وسمع منه ابْن المبارك، والليث بن سعد. وتوفي في هذه السنة.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر الحافظ، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الْجَبَّارِ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَبُو يعلي أَحْمَد بْن عَبْد الْوَاحِدِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو طاهر المخلص، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر بْن دريد، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَصْمَعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي رجل، عَنْ إِبْرَاهِيم بْن أبي عبلة، قَالَ:
بعث إلي هِشَام بْن عَبْد الملك، فَقَالَ: يا إِبْرَاهِيم، إنا قَدْ عرفناك صغيرا وخبرناك كبيرا، ورضينا بسيرتك وحالك، وقد رأيت أن أخلطك بْنفسي وبخاصتي، وأشركك فِي عملي، وقد وليتك خراج مصر، فَقَالَ: أما الَّذِي عليه رأيت يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فاللَّه يجزيك ويثيبك وكفى به جازيا ومثيبا، وأما الّذي [أنا] [2] عليه فما لي بالخراج تصرف، وما لي عليه قوة. فغضب حَتَّى اختلج وجهه، ثُمَّ قَالَ: ليلين طائعا أو ليلين كارها، فأمسكت عَنِ الكلام حَتَّى رأيت غضبه قَدِ انكسر وثورته [3] قَدْ طفئت، فقلت: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أأتكلم؟ فقال: نعم، فقلت: إن الله سبحانه قال في كتابه إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها [وَأَشْفَقْنَ مِنْها] 33: 72. الآية [4] . والله يا أمير 73/ أالمؤمنين ما غضب عليهنّ إذا أبين، ولا أكرههن إذ كرهن، وما أنا بحقيق أن تغضب/ علي إذ أبيت ولا تكرهني إذ كرهت، فضحك وَقَالَ: يا إِبْرَاهِيم، أبيت إلا رفقا فقد أعفيناك ورضينا عنك.
813- خويل بْن مُحَمَّد الأزدي:
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن أبي منصور، وعلي بْن عُمَر، قالا: أَخْبَرَنَا رزق الله، وطراد قالا:
__________
[1] التاريخ الكبير للبخاريّ 1/ 1/ 310، والجرح والتعديل 1/ 1/ 105، وتهذيب الكمال 210، وتقريب التهذيب 1/ 38.
[2] ما بين المعقوفتين: من هامش الأصل، وت.
[3] في الأصل: «وسورته» .
[4] سورة: الأحزاب، الآية: 72، وما بين المعقوفتين: من ت.(8/156)
أخبرنا علي بن محمد بن بشران، قال: أَخْبَرَنَا ابْن صفوان، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بكر بْن عبيد، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن سهل الأزدي، عَنِ الهيثم بْن عبيد، قَالَ: سمعت خويل بْن مُحَمَّد- وَكَانَ عابدا- يَقُول:
كَانَ خويلا قَدْ وقف للحساب، فقيل: يا خويل، قَدْ عمرناك ستين سنة، فما صنعت فِيهَا؟ فجمع نوم [1] ستين سنة مَعَ قائلة النهار فإذا قطعة من عمري ذهبت [فِي] [2] نوم، وجمعت ساعات أكلي فإذا قطعة من عمري قَدْ ذهبت فِي الأكل، ثُمَّ جمعت ساعات وضوئي فإذا قطعة من عمري ذهبت فِيهِ، ثُمَّ نظرت فِي صلاتي فإذا صلاة منقوصة وصوم مخرق، فما هو إلا عفو اللَّه أو الهلكة.
814- مُحَمَّد بْن إِسْحَاق بْن يسار بْن حبان، وقيل: ابْن يسار بْن كوثان المديني، مولى قيس بن مخرمة بْن المطلب بْن عَبْد مناف: [3]
وَقَالَ مُصْعَب بْن عَبْد اللَّه [4] : يسار مولى عَبْد اللَّه بْن قيس بْن مخرمة، جد مُحَمَّد بْن إِسْحَاق من سبي عين التمر، وَهُوَ أول سبي دخل المدينة من العراق، يكنى أبا بكر، وقيل: أبا عَبْد اللَّه.
رأى أنس بْن مالك، وسعيد بْن المسيب، وسمع القاسم بْن مُحَمَّد بْن أبي بكر [الصديق] [5] ، وأبان بْن عُثْمَان بْن عفان، ومحمد بْن عَلِيّ بْن الحسين، وأبا سلمة بْن عَبْد الرَّحْمَنِ، وعَبْد الرَّحْمَنِ بْن هرمز الأعرج، ونافعا مولى ابْن عُمَر، والزهري، وغيرهم.
وَكَانَ عالما بالسير والمغازي وأيام الناس والمبتدأ وقصص الأنبياء. وحدث عنه كبار الأئمة كيحيى بْن سَعِيد [الأنصاري، وسفيان الثوري، وابن جريج، وشعبة،
__________
[1] في الأصل: «نوم» . وما أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: من ت.
[3] تاريخ بغداد 1/ 214، وطبقات ابن سعد 7/ 2/ 67. وميزان الاعتدال 3/ 468، وتهذيب التهذيب 9/ 38.
[4] تاريخ بغداد 1/ 216.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(8/157)
والحمادان، [1] وإبراهيم بْن سعد، وسفيان بْن عيينة، وشريك] [2] بْن عَبْد اللَّه وغيرهم.
قَالَ الزهري: لا يزال بالمدينة علم جم مَا كَانَ فيهم ابْن إِسْحَاق.
وَقَالَ يَحْيَى بْن معين: كَانَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق ثقة، وضعفه فِي روايته.
ولما روى ابْن إِسْحَاق عَنْ فاطمة بنت المنذر حديثا قال زوجها/ هِشَام بْن عُرْوَة:
كذب، لقد دخلت بها وهي بْنت تسع سنين، وما رآها مخلوق حَتَّى لحقت باللَّه عز وجل.
وَكَانَ أَحْمَد بْن حنبل يَقُول: لعله دخل عَلَيْهَا وزوجها لا يعلم. وَكَانَ مالك بْن أنس كذبه أيضًا لذلك [3] .
أَخْبَرَنَا القزاز، قَالَ: أَخْبَرَنَا الخطيب، قَالَ [4] : قَدْ أمسك عَنِ الاحتجاج بروايات ابْن إِسْحَاق غير واحد من العلماء لأسباب منها أنه كَانَ يتشيع، وينسب إِلَى القدر، ويدلس في حديثه، فأما الصدق فليس بمدفوع عنه.
وقد قَالَ أَبُو زرعة [5] : مُحَمَّد بْن إِسْحَاق رجل قَدْ أجمع الكبراء من أَهْل العلم عَلَى الأخذ منه [6] ، وقد اختبره أَهْل الحديث فرأوا صدقا وخيرا، مَعَ مدح ابْن شهاب لَهُ، وقد ذاكرت دحيما فِي قول مالك فِيهِ، فرأى أن ذلك ليس للحديث إنما هو لأنه اتهمه بالقدر.
وقد قَالَ مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن نمير: كَانَ ابْن إِسْحَاق [7] يرمى بالقدر وَكَانَ أبعد الناس منه، وَكَانَ إذا حدث عمن سمع من المعروفين فهو حسن الحديث صدوق، وإنما أتي من أنه يحدث عن المجهولين أحاديث باطلة.
وَقَالَ سفيان بْن عيينة: مَا رأيت أحدا يتهم ابْن إِسْحَاق.
وَقَالَ ابْن المديني: حديثه عندي صحيح، قيل لَهُ: فكلام مالك فيه، فقال: مالك
__________
[1] الحمادان هم ابن سلمة، وابن زيد.
[2] ما بين المعقوفتين: سقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] تاريخ بغداد 1/ 223.
[4] تاريخ بغداد 1/ 224.
[5] تاريخ بغداد 1/ 224.
[6] في الأصول: «الأنس منه» وما أوردناه من تاريخ بغداد.
[7] في ت: «كان ابن عباس» .(8/158)
لَمْ يجالسه ولم يعرفه، قيل: فهشام بْن عُرْوَة، فَقَالَ: الَّذِي قَالَ هِشَام ليس بحجة لعله دخل عَلَى امرأته وَهُوَ غلام فسمع منها.
وَقَالَ أَحْمَد بْن حنبل: ابْن إِسْحَاق كَانَ يشتهي الحديث فيأخذ كتب الناس فيضعها فِي كتبه. وَكَانَ أَحْمَد يكتب حديثه ولا يحتج به فِي السنن.
وَقَالَ ابْن المديني، ويحيى بْن معين، والساجي: تُوُفِّيَ سنة اثنتين وخمسين ومائة.
وَقَالَ الهيثم بْن عدي، والفلاس، وابْن عرفة: سنة خمسين ومائة [1] .
وَقَالَ أَحْمَد بْن خالد الوهبي: سنة إحدى وخمسين. وكذلك قَالَ البخاري.
815- مسعر بْن كدام بْن ظهير، أَبُو سلمة [2] :
سمع أبا/ إِسْحَاق الهمداني. روى عنه الثوري، وشعبة. وَكَانَ عالما عابدا كثير 74/ أالبكاء.
قال سفيان الثوري: لم يكن فِي زمانه مثله.
وَقَالَ سفيان بْن عيينة: مَا لقيت أحدا أفضله عَلَى مسعر.
[أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ:] [3] أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْد الْجَبَّارِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شجاع بْن فارس، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْفَتْحِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن يوسف، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن صفوان، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن أبي الدنيا، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الحسين، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن كناسة، قَالَ: سمعت مسعرا يَقُول:
من أهمته نفسه تبين ذلك عليه.
أَخْبَرَنَا زاهر بْن طاهر، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر بْن الحسين البيهقي، قَالَ: حدثنا أبو عبد الله محمد بن عبد اللَّه الحاكم، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يعقوب، قال: حدثنا محمد بن عبد الوهاب، قال: سمعت الحسين بْن منصور، قَالَ: سمعت جَعْفَر بن عبد الرحمن، يقول:
__________
[1] «وقال الهيثم ... خمسين ومائة» ساقط من ت.
[2] تهذيب التهذيب 10/ 113.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(8/159)
أتيت مسعر بْن كدام لأسمع منه، فكأنه رجل [قَدْ] [1] أقيم عَلَى شفير جهنم ليلقى فِيهَا.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن أبي القاسم، قَالَ: أَخْبَرَنَا حمد بْن أَحْمَد، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نعيم الأصفهاني، قال: حدثنا أبو محمد بن حيان، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الطيب أَحْمَد بْن روح، قَالَ: حَدَّثَنِي الحسين بْن مسلم، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن داود الحراني، قَالَ: سمعت مسعر بْن كدام يَقُول:
رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المنام وسفيان الثوري آخذ بيده وهما يطوفان، فَقَالَ: يا رسول الله، مات مسعر بْن كدام؟ قَالَ: نعم واستبشر به أَهْل السماء.
تُوُفِّيَ مسعر بالكوفة في هذه السنة. وقيل: في سنة خمس وخمسين ومائة.
816- معن بْن زائدة بْن عَبْد اللَّه بْن مطر بْن شريك، أَبُو الوليد الشيباني: [2]
كَانَ من صحابة المنصور ببغداد لما بْنيت، ثُمَّ ولاه اليمن وغيرها، وَكَانَ جوادا.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ [الْقَزَّازِ] [3] ، قَالَ: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أَخْبَرَنِي الأزهري، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بن عمران، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر [4] النحويّ، قال: حدّثنا القاسم بْن المغيرة، قَالَ: حَدَّثَنَا المدائني، عَنْ غياث بْن إِبْرَاهِيم [5] :
أن معن بْن زائدة دخل عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ أمير المؤمنين/ فقارب فِي خطوه، فَقَالَ أَبُو جَعْفَر: كبرت سنك يا معن، قَالَ: فِي طاعتك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ:
إنك لجلد [6] ، قَالَ: عَلَى أعدائك يا أمير المؤمنين [7] ، قَالَ: وإن فيك لبقية، قَالَ: هي لك.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] تاريخ بغداد 13/ 235.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] في الأصل: «عمران بن جعفر» ، وما أوردناه من ت وتاريخ بغداد.
[5] الخبر في تاريخ بغداد 13/ 236.
[6] في ت: «إنك لتجلد» .
[7] «يا أمير المؤمنين» سقطت من ت.(8/160)
أخبرنا عبد الرحمن، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرنا أحمد بن عمر بن روح النهرواني، قَالَ: أَخْبَرَنَا المعافى بْن زكريا، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَر بْن الْحَسَن بْن عَلِيّ الشيباني، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يزيد النحوي، قَالَ: حَدَّثَنَا قعنب [1] ، قَالَ: قَالَ سَعِيد بْن سلم [2] :
لما ولى المنصور معن بْن زائدة أذربيجان قصده قوم من أَهْل الكوفة، فلما صاروا ببابه واستأذنوا عليه فدخل الآذن، فَقَالَ: أصلح اللَّه الأمير، بالباب وفد من أَهْل العراق، قَالَ: من أي العراق؟ قَالَ: من الكوفة، قَالَ إئذن لهم، فدخلوا عليه، فنظر إليهم معن فِي هيئة زرية، فوثب عَلَى أريكته وأنشأ يَقُول:
إذا نوبة نابت صديقك فاغتنم ... مرمتها فالدهر بالناس قلب
فأحسن ثوبيك الَّذِي هو لابس ... وأفره مهريك الَّذِي هو يركب
وبادر بمعروف إذا كنت قادرا ... زوال اقتدار أو غنى عنك يعقب
قَالَ: فوثب إِلَيْهِ رجل من القوم، فَقَالَ: أصلح اللَّه الأمير، ألا أنشدك أحسن من هَذَا؟ قال: لمن؟ قَالَ: لابْن عمك ابْن هرمة، قَالَ: هات، فأنشأ وجعل يَقُول:
وللنفس تارات تحل بها العرى ... وتسخو عَنِ المال النفوس الشحائح
إذا المرء لم ينفعك حيا فنفعه ... أقل إذا ضمت عَلَيْك الصفائح
لأية حال يمنع المرء ماله ... غدا فغدا والموت غاد ورائح
فَقَالَ معن: أحسنت والله وإن كَانَ الشعر لغيرك، يا غلام أعطهم أربعة آلاف يستعينوا بها عَلَى أمورهم إِلَى أن يتهيأ لنا فيهم مَا نريد، فَقَالَ الغلام: يا سيدي أجعلها دنانير أم دراهم؟ فَقَالَ معن: والله لا تكون همتك أرفع من همتي، صفرها لهم قَالَ المعافى: وحدثنا يزداد بْن عَبْد الرَّحْمَنِ الكاتب، قَالَ: حَدَّثَنَا/ أَبُو موسى 75/ أعيسى بْن إِسْمَاعِيل الْبَصْرِيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي العتبي، قَالَ [3] :
قدم معن بْن زائدة بغداد فأتاه الناس وأتاه ابْن أبي حفصة، فإذا المجلس غاص بأهله، فأخذ بعضادتي الباب فقال:
__________
[1] في الأصول: «معتب» والتصحيح من تاريخ بغداد.
[2] الخبر في تاريخ بغداد 13/ 236.
[3] الخبر في تاريخ بغداد 13/ 238.(8/161)
وما أحجم الأعداء عنك بقية ... عَلَيْك ولكن لم يروا فيك مطمعا
لَهُ راحتان الجود والحتف فيهما ... أبى اللَّه إلا أن تضر وتنفعا
فَقَالَ معن: احتكم يا أبا السمط، فَقَالَ: عشرة آلاف، فَقَالَ معن: ربحت والله [عليك] [1] تسعين ألفا.
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أحمد بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: أخبرني الأزهري، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم، قَالَ: [أَخْبَرَنَا ابْن دريد، قَالَ:] [2] أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَان الأشنانداني [3] ، عَنِ الثَّوْريّ، عَنْ أبي عبيدة، قَالَ [4] :
وقف شاعر بباب معن بْن زائدة حولا لا يصل إِلَيْهِ، وَكَانَ معن شديد الحجاب، فلما طال مقامه سأل الحاجب أن يوصل لَهُ رقعة، فأوصلها فإذا فِيهَا مكتوب:
إذا كَانَ الجواد لَهُ حجاب ... فما فضل الجواد عَلَى البخيل
فألقى معن الرقعة إِلَى كتابه وَقَالَ: أجيبوه عَنْ بيته، فخلطوا وأكثروا ولم يأتوا بمعنى، فأخذ الرقعة وكتب فِيهَا:
إذا كَانَ الجواد قليل مال ... ولم يعذر تعلل بالحجاب
فَقَالَ الشاعر: إنا للَّه أيؤيسني من معروفه، ثُمَّ ارتحل منصرفا، فسأل معن عنه فأخبر بانصرافه، فأتبعه بعشرة آلاف وَقَالَ: هي عندنا فِي كل زورة.
أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْر بْن ثابت، قَالَ: أخبرني الحسين بن محمد بن عثمان النصيبي، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيل بْن سَعِيد المعدل، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دريد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو معاذ خلف [5] بْن أَحْمَد المؤدب، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَان [6] المازني، قَالَ: حدّثنا صاحب شرطة معن، قال [7] :
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من تاريخ بغداد.
[3] في الأصل: «عثمان الإستابداني» وفي ت: «عثمان الأستاباذي» . وما أوردناه من تاريخ بغداد.
[4] الخبر في تاريخ بغداد 13/ 237.
[5] في ت: «أبو معاوية، وخلف بن أحمد» خطأ.
[6] في الأصل: «أبو عمر» والتصحيح من ت، وتاريخ بغداد.
[7] تاريخ بغداد 13/ 236.(8/162)
بينا أنا عَلَى رأس معن إذا هو براكب يوضع، فَقَالَ معن: مَا أحسب هَذَا/ الرجل 75/ ب يريد إلّا إياي، ثُمَّ قَالَ لحاجبه: لا تحجبه، فجاء حَتَّى مثل بين يديه، فَقَالَ:
أصلحك اللَّه قل مَا بيدي ... فما أطيق العيال إذ كثروا
ألح دهر رمى بكلكله ... فأرسلوني إليك وانتظروا
فَقَالَ معن وأخذته أريحية: لا جرم والله لأعجلن أوبتك، ثُمَّ قَالَ: يا غلام، ناقتي الفلانية وألف دينار، فدفعها إِلَيْهِ وَهُوَ لا يعرفه.
أَخْبَرَنَا القزاز، قَالَ: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرني الأزهري، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عُبَيْد اللَّه بْن أَحْمَد المقري، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو طالب الكاتب، قال: حدثنا أبو عكرمة الضبي [1] ، قال: حدثنا سليمان، قَالَ [2] :
خرج المهدي يوما يتصيد، فلقيه الحسين بْن مطير فأنشده يَقُول:
أضحت يمينك من جود مصورة ... لكن يمينك منها صور الجود
من حسن وجهك تضحي الأرض مشرقة ... ومن بْنانك يجري الماء فِي العود
فَقَالَ المهدي: كذبت يا فاسق، وهل تركت فِي شعرك موضعا لأحد مَعَ قولك فِي معن بْن زائدة:
ألما بمعن ثُمَّ قولا لقبره ... سقتك الغوادي مربعا ثُمَّ مربعا
فيا قبر معن كنت أول حفرة ... من الأرض حطت للمكارم مضجعا
أيا قبر معن كيف واريت جوده ... وقد كَانَ منه البر والبحر مترعا
ولكن حويت الجود والجود ميت ... ولو كَانَ حيا ضقت حَتَّى تصدعا
وما كَانَ إلا الجود صورة وجهه [3] ... فعاش ربيعا ثُمَّ ولى فودعا
فلما مضى معن مضى الجود والندى ... وأصبح عرنين المكارم أجدعا
__________
[1] كذا في الأصول، وفي تاريخ بغداد «أبو عكرمة عمرو بن عام، كذا قال، وإنما هو عامر بن عمران الضبي» .
[2] الخبر في تاريخ بغداد 13/ 240.
[3] في الأصل: «صفرة وجهه» . وما أوردناه من ت، وبغداد.(8/163)
فأطرق الحسين ثُمَّ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وهل معن إلا حسنة من حسناتك. / فرضي عنه وأمر له بألفي دينار.
بلغنا أن بعض فصحاء العرب دخل عَلَى معن، فَقَالَ: أصلح اللَّه الأمير، لو شئت أن أتوسل إليك ببعض من يثقل عَلَيْك لوجدت ذلك سهلا ممكنا ولكني استشفعت إليك بقدرك، واستعنت عَلَيْك بفضلك، فإن رأيت أن تضعني من كرمك حيث وضعت نفسي من رجائك، فإني لم أكرم نفسي عَنْ مسألتك فأكرم وجهك عَنْ ردي، قَالَ: سل حاجتك، قَالَ: ألف درهم، قَالَ: ربحت عَلَيْك ربحا بينا، قَالَ: مثلك لا يربح عَلَى سائله، قَالَ: أضعفوا لَهُ مَا سأل.
أَخْبَرَنَا القزاز، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن عَلِيّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن الفضل القطان، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر بْن درستويه، قال: حدثنا يعقوب بن سفيان، قال [1] :
قتل معن بْن زائدة بأرض خراسان سنة اثنتين وخمسين ومائة [2] .
قَالَ الخطيب [3] : بلغني أن المنصور ولاه سجستان فنزل بست فأساء السيرة فِي أهلها فقتلوه.
وَقَالَ غيره: قتلته الخوارج بسجستان.
817- يونس بْن يوسف أَبُو عُمَر [4] بْن حماس، وقيل: يوسف:
وَكَانَ عابدا مجتهدا يصوم الدهر ويقوم الليل، وَكَانَ مستجاب الدعوة.
أَخْبَرَنَا عبد الملك بن أبي القاسم الكروخي، قال: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْد اللَّه مُحَمَّد بْن عَلِيّ العميري، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّد بْنُ مُحَمَّدِ القاضي [5] ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يُوسُفَ المرواني، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ مُحَمَّد بن المنذر،
__________
[1] الخبر في تاريخ بغداد 13/ 241.
[2] كذا في الأصل، وفي ت وتاريخ بغداد: «سنة اثنتين وخمسين ومائة فيها قتل معن بن زائدة بأرض خراسان.
[3] تاريخ بغداد 13/ 241.
[4] في ت: «أبو عمرو» .
[5] في الأصل: «الفامي» وما أوردناه من ت.(8/164)
قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن الحجاج المهدي، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْن عَبْد الحكم، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو ضمرة عاصم بْن أبي بكر الزهري، قَالَ:
سمعت مالك بْن أنس يَقُول:
كَانَ يونس بْن يوسف من العباد [1]- أو [قَالَ] [2] : من خيار الناس- فأقبل ذات يوم وَهُوَ رائح من المسجد، فلقيته امرأة، فوقع فِي نفسه منها، فَقَالَ: اللَّهمّ إنك جعلت لي بصري نعمة وقد خشيت أن تكون علي نقمة فأقبضه/ إليك. قال: فعمي، وكان يروح 76/ ب إِلَى المسجد يقوده ابْن أخ لَهُ، فإذا استقبل به الأسطوانة اشتغل الصبي بلعب مَعَ الصبيان فإن أتته حاجة حصبه فأقبل إِلَيْهِ، فبينا هو ذات ضحوة فِي المسجد إذ حس فِي بطنه بشيء فحصب الصبي فاشتغل عنه مَعَ الصبيان حَتَّى خاف الشيخ عَلَى نفسه، فَقَالَ: اللَّهمّ إنك كنت جعلت لي بصري نعمة وخشيت أن يكون نقمة فسألتك فقبضته إليك، وقد خشيت الفضيحة فرده [علي] [3] . فانصرف إِلَى منزله صحيحا يمشي.
قَالَ مالك: فرأيته أعمى ورأيته صحيحا.
__________
[1] في الأصل: «من الجياد» وما أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: من ت.
[3] ما بين المعقوفتين: من ت.(8/165)
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين ومائة
فمن الحوادث فِيهَا قدوم [1] المنصور من مكة إِلَى البصرة، فجهز جيشا إِلَى البحر لحرب الكرك، وكانوا أغاروا عَلَى جده، وَهَذِهِ قدمته الأخيرة إِلَى البصرة.
وقيل: إنما كانت قدمته الأخيرة فِي سنة خمس وخمسين ومائة، وكانت الأولى فِي سنة خمس وأربعين، وأقام بها أربعين يوما، وبْنى بها قصرا، ثُمَّ انصرف منها إِلَى مدينة السلام.
وَفِيهَا: غضب المنصور عَلَى أبي أيوب المرزباني [2] فحبسه وحبس أخاه وبْني أخيه سعيدا ومسعودا ومخلدا ومحمدا فطالبهم، وَكَانَ سبب ذلك أن أبان بْن صدقة كاتب أبي أيوب سعى به إِلَيْهِ.
وَفِيهَا: قتل عُمَر بْن حفص بْن عُثْمَان بْن أبي صفرة بإفريقية، قتله أبو حاتم الإباضي [3] ومن كان معه من البربر، وكانوا ثلاثمائة ألف وخمسين ألفا، الخيل [4] منها خمسة وثمانون ألفا، ومعهم أَبُو قرة الصفري فِي أربعين ألفا، وكان يسلم عليه بالخلافة.
__________
[1] تاريخ الطبري: 8/ 42.
[2] في الطبري: «المورياني» .
[3] في الأصل: «الأنماطي» وما أوردناه من ت والطبري.
[4] في ت: «الجند منها» .(8/166)
وَفِيهَا: حمل عباد مولى المنصور [1] ، وهرثمة بْن أعين، ويوسف بْن علوان من خراسان فِي سلاسل/ لتعصبهم لعيسى بْن موسى.
وَفِيهَا: أخذ المنصور الناس بلبس القلانس الطوال المفرطة الطول، فَقَالَ أَبُو دلامة:
وكنا نرجي من إمام زيادة ... فزاد الإمام المصطفى فِي القلانس
تراها عَلَى هام الرجال كأنها ... دنان يهود جللت بالبرانس
وَفِيهَا: غزا الصائفة معيوف [2] بْن يَحْيَى الهمداني، فصار إِلَى حصن من حصون الروم ليلا وأهله نيام، فسبى وأسر من كَانَ فِيهِ، ثُمَّ سار إِلَى اللاذقية وفتحها، وأخرج منها ستة آلاف امرأة سوى الرجال البالغين.
وَفِيهَا: ولى المنصور بكار بْن مسلم العقيلي [أرمينية] [3] .
وَفِيهَا: [4] حج بالناس المهدي، وَكَانَ عَلَى مكة يومئذ مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم، وعلى المدينة الْحَسَن بْن زيد بْن حسن، وعلى الكوفة مُحَمَّد بْن سليمان، وعلى البصرة يزيد بْن منصور، وعلى قضائها سوار، وعلى مصر مُحَمَّد بْن سَعِيد.
وذكر الواقدي أن يزيد بْن منصور كَانَ والي اليمن في هذه السنة.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
818- إبراهيم بن نشيط بن يوسف، ويكنى أبا بكر [5] :
كان فقيها عابدا رأى عبد الله بن الحارث، وسمع منه، وغزا القسطنطينية في خلافة الوليد بن عبد الملك في سنة ثمان وتسعين [6] مع مسلمة بن عبد الملك.
__________
[1] في الأصل: «منصور» .
[2] في الأصل: «معروف بن يحيى» والتصحيح من ت والطبري.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] في ت: «وحج بالناس في هذه السنة» .
[5] تهذيب الكمال 26، وتاريخ الإسلام للذهبي 3/ 330، وتقريب التهذيب 1/ 45.
[6] في ت: «سنة ثمان وسبعين» خطأ.(8/167)
وروى عنه الليث بن سعد، وابن المبارك، ورشدين بن سعد، وابن وهب.
توفي في هذه السنة.
819- حيوة بن شريح بن صفوان بن مالك، أبو زرعة التجيبي [1] :
روى عَنْ عقبة بْن مسلم، وَكَانَ فقيها عابدا مجاب الدعوة. روى عنه الليث، وابْن المبارك، وابْن لهيعة، وابْن وهب.
قَالَ/ ابْن المبارك: مَا وصف لي أحد فرأيته إلا كَانَ دون مَا وصف إلا حيوة بْن شريح، فإن رؤيته كانت أكثر من صفته.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ الْمُقْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ ناصر، قالا: أَخْبَرَنَا طراد، قَالَ:
أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن مُحَمَّد بْن بشران، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن صفوان، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بكر القرشي، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الحسين، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن سهل الأزدي، قَالَ:
حَدَّثَنِي خالد بْن الفرز، قَالَ [2] :
كَانَ حيوة بْن شريح دعاء من البكاءين، وَكَانَ ضيق الحال جدا، فجلست إِلَيْهِ ذات يوم وَهُوَ مختل وحده يدعو، فقلت: رحمك اللَّه، لو دعوت اللَّه يوسع عَلَيْك فِي معيشتك؟ قَالَ: فالتفت يمينا وشمالا فلم ير أحدا، فأخذ حصاة من الأرض فَقَالَ: اللَّهمّ اجعلها ذهبا، قَالَ: فإذا هي واللَّهِ قبره فِي كفه، مَا رأيت أحسن منها، قَالَ: فرمى بها إلي وَقَالَ: لا خير فِي الدنيا إلا الآخرة، ثُمَّ التفت إلي فَقَالَ: هو أعلم بما يصلح عباده، فقلت: مَا أصنع بها، قَالَ: استنفقها [3] ، فهبته والله أن أراده.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن نَاصِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن السَّرِيُّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ، قال: حدّثني أَبُو بكر الآجري، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نصر بْن كردي، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو بكر المروزي، قَالَ: سمعت أبا بكر بْن أبي عون، يَقُول: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْد اللَّه الْبَصْرِيّ، قَالَ: حدّثنا محمد بن بشار اليشكري [4] ، قال:
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 515، والتاريخ الكبير 3/ 404، والجرح والتعديل 3/ 1366، وتذكرة الحفاظ 1/ 185.
[2] الخبر في تهذيب الكمال 7/ 481.
[3] في الأصل: «أنفقها» ، وما أوردناه من ت والتهذيب.
[4] في ت: «محرز بن يسار اليشكري» .(8/168)
لما قدم أَبُو عون مصر وقتل بها من قتل واستولى عَلَى البلد أرسل إِلَى حيوة بْن شريح: ائتني، قَالَ: فجاء فدخل عليه فَقَالَ: إنا معشر الملوك لا نعصى، فمن عصانا قتلناه، قَدْ وليتك القضاء، [قَالَ] [1] : أو آمر أهلي: قَالَ: اذهب، قَالَ: فجاء إِلَى أهله، فغسل رأسه ولحيته ونال شيئا من الطيب، ولبس أنظف مَا قدر عليه من الثياب قَالَ: ثُمَّ جاء فدخل عليه فَقَالَ: من جعل السحرة [2] أولى بما قالوا منا، اقض مَا أنت قاض لست أتولى لك شيئا. قَالَ: فأذن لَهُ فرجع.
تُوُفِّيَ حيوة بْن شريح في هذه السنة.
820-/ الْحَسَن بْن عمارة بْن المضرب، أَبُو مُحَمَّد الْكَوفِيّ، مولى بجيلة [3] :
حدث عَنْ الزهري، وأبي إِسْحَاق السبيعي، وأبي زهير المكي، وعمرو بْن دينار، وغيرهم. روى عَنْهُ أَبُو يوسف القاضي، وشبابة.
وولي القضاء ببغداد فِي خلافة المنصور، ثُمَّ بعث المنصور إِلَى عبيد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن صفوان إِلَى مكة من يقدم به عليه، فلما قدم ولاه القضاء وضم الْحَسَن بْن عمارة إِلَى المهدي.
أَخْبَرَنَا أَبُو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بَكْرِ بْنُ ثَابِتٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَر بْن بكير النجار، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم الربيعي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْد اللَّه اليزيدي، قَالَ: حَدَّثَنَا سليمان بْن أبي شيخ، قَالَ: حَدَّثَنِي جبلة بْن سليمان، قَالَ [4] :
جاء رجل إِلَى الْحَسَن بْن عمارة، فَقَالَ: إن لي عَلَى مسعر بن كدام سبعمائة درهم من ثمن دقيق وغير ذلك، وقد مطلني، ويقول: ليس عندي اليوم، فدفعها إِلَيْهِ الْحَسَن بْن عمارة، وَقَالَ: أعط مسعرا كلما أراد، وإذا اجتمع لك عليه شيء فتعال إلي حَتَّى أعطيك.
وقد قدحوا فِي الْحَسَن بْن عمارة، وَكَانَ شعبة يشهد أنه كذاب.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] كذا بالأصلين.
[3] تاريخ بغداد 7/ 345.
[4] في الأصول: «جبلة بن سليمان» والتصحيح من تاريخ بغداد والخبر في تاريخ بغداد 7/ 345.(8/169)
وَقَالَ ابْن المديني: أمره أبين من ذلك، قيل لَهُ: كَانَ يغلط، قَالَ: وأي شيء كان يغلط، وذهب إلى أنه كَانَ يضع الحديث.
وَقَالَ يَحْيَى: لا يكتب حديثه.
وَقَالَ أَحْمَد، ومسلم بْن الحجاج: هو متروك الحديث.
وَقَالَ الفلاس: هو رجل صدوق صالح كثير الوهم متروك الحديث.
وَقَالَ الساجي: أجمع أَهْل الحديث عَلَى ترك حديثه.
وَقَالَ سفيان بْن عيينة: كنت إذا سمعت الْحَسَن بْن عمارة يروي عَنِ الزهري، وعمرو بْن دينار جعلت إصبعي فِي أذني.
تُوُفِّيَ الْحَسَن بْن عمارة في هذه السنة.
821- شقيق بْن إِبْرَاهِيم، أَبُو علي البلخي:
كَانَ ذا ثروة عظيمة، فخرج منها وتزهد، وصحب إِبْرَاهِيم بْن أدهم.
أَخْبَرَنَا المحمدان ابْن ناصر وابْن عبد الباقي، قَالا: أَخْبَرَنَا حَمَدُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بكر مُحَمَّد بْن أحمد البغدادي، قال:
78/ ب حَدَّثَنَا عباس بْن أَحْمَد الشاشي، قَالَ: / حَدَّثَنَا أَبُو عقيل الرصافي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عَبْد اللَّه الزاهد، قَالَ: قَالَ عَلِيّ بْن محمد بن شقيق [1] :
كان لجدي ثلاثمائة قرية ولم يكن لَهُ كفن يكفن فِيهِ، قدم ذلك كله بين يديه، وثيابه وسيفه إِلَى الساعة معلق يتبركون به، وَكَانَ قَدْ دخل إِلَى بلاد الترك لتجارة وَهُوَ حدث، فدخل إِلَى أصنامهم فَقَالَ لعاملهم: إن هَذَا الَّذِي أنت فِيهِ باطل، ولهذا الخلق خالق ليس كمثله شيء، رازق كل شيء، فَقَالَ لَهُ: ليس يوافق قولك فعلك، فَقَالَ:
كيف؟ قَالَ: زعمت أن لك خالقا قادرا وقد تعنيت إلى هاهنا لطلب الرزق، قَالَ شقيق:
فكان سبب زهدي كلام التركي، فرجع فتصدق بجميع ماله وطلب العلم.
أَخْبَرَنَا ابْن ناصر، قَالَ: أَخْبَرَنَا حَمَدُ بْنُ أَحْمَدَ [2] ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم
__________
[1] الخبر في حلية الأولياء 8/ 59.
[2] في الأصل: «أحمد» والتصحيح من ت.(8/170)
الأصفهاني، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بن بْن جَعْفَر، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَر بْن الْحَسَن، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أبي عمران، قَالَ: سمعت حاتما الأصم يَقُول [1] :
كنا مَعَ شقيق البلخي ونحن مصافو الترك فِي يوم لا أرى فِيهِ إلا رءوسا تبدر وسيوفا تقطع، فَقَالَ لي شقيق ونحن بين الصفين: يا حاتم، كيف ترى نفسك فِي هَذَا اليوم؟
تراها مثلها في الليلة التي زفت إليك امرأتك، فقلت: لا والله، فَقَالَ: لكني والله أرى نفسي فِي هَذَا اليوم مثلها فِي الليلة الَّتِي زفت فِيهَا امرأتي. قَالَ: ثُمَّ نام بين الصفين ودرقته تحت رأسه حَتَّى سمعت غطيطه.
822- عبيد اللَّه بْن أبي ليلى القاضي:
تُوُفِّيَ في هذه السنة، فاستقضي مكانه شريك بْن عَبْد اللَّه النخعي.
823- عميرة بْن أبي ناجية، أَبُو يَحْيَى:
كَانَ عابدا ناسكا دائم البكاء، وَكَانَ أبوه روميا. [وتوفي عميرة فِي هَذَا السنة] [2] .
824- معمر بْن راشد، أَبُو عُرْوَة الْبَصْرِيّ:
سكن اليمن وَقَالَ: طلبت العلم يوم مات الْحَسَن الْبَصْرِيّ، وسمعت من قتادة وأنا ابْن أربع عشرة سنة، فما من شيء سمعته فِي تلك السنين إلا وكأنه مكتوب فِي صدري.
وسمع من الزهري وغيره. وروى عنه الثوري، وابْن عيينة، وابْن المبارك.
وتوفي فِي هذه السنة وهو ابن ثمان وخمسين سنة.
825- موسى بْن سليمان بْن عَلِيّ بْن عَبْد اللَّه/ بْن عباس: [3]
كَانَ من وجوه بْني هاشم وأفاضلهم، وَهُوَ أخو مُحَمَّد، وجعفر. قدم بغداد فِي خلافة المنصور، فتوفي بها في هذه السنة.
__________
[1] حلية الأولياء 8/ 64.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] تاريخ بغداد 13/ 20.(8/171)
826- هِشَام بْن العلاء [1] بْن ربيعة، أَبُو الْعَبَّاس- وقيل: أَبُو عَبْد اللَّه- الجرشي الشامي: [2]
سمع عطاء بْن أبي رباح [3] ، ونافعا، ومكحولا. روى عنه ابْن المبارك، ووكيع، وشبابة، نزل بغداد وحدث بها، وولاه المنصور بيت المال، وكان ثقة من خيار الناس.
وتوفي في هذه السنة.
827- هشام بن أبي عبد الله، واسمه سنبر، الدستوائي، مولى لبني سدوس: [4]
كان شديد الخوف [من الله] [5] ، كثير البكاء.
أَخْبَرَنَا عَبْد الوهاب، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الحسين بْن عَبْد الجبار، قال: أخبرنا علي بن أحمد الملطي، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف، قال: أخبرنا الحسين بْنُ صَفْوَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد القرشي، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الحُسَيْن، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيد بْن عامر، قَالَ:
كَانَ هِشَام بْن أبي عَبْد اللَّه قَدْ أظلم بصره من طول البكاء، فكنت تراه يبصر إليك ولا يعرفك حَتَّى تكلمه.
تُوُفِّيَ في هذه السنة، وقيل: سنة اثنتين وخمسين ومائة.
828- وهيب بْن الورد بْن أبي الورد، مولى بْني مخزوم، يكنى أبا أمية، وقيل: أبا عُثْمَان: [6]
وَكَانَ اسمه عَبْد الوهاب، فصغر فقيل وهيب. أدرك عطاء، ومنصور بْن زاذان، وَكَانَ شديد الورع كثير التعبد، وَكَانَ سفيان الثوري إذا فرغ من حديثه يَقُول: قوموا بْنا إِلَى الطبيب، يعني وهيبا.
أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ، قال: أخبرنا عبد القادر بن محمد، قال: أخبرنا
__________
[1] كذا في الأصول، وفي تاريخ بغداد: «هشام بن المغاز» .
[2] تاريخ بغداد 14/ 42، 43.
[3] في ت: «سمع عطاء، وابن أبي رباح» خطأ.
[4] تهذيب التهذيب 11/ 43.
[5] ما بين المعقوفتين: من ت.
[6] تهذيب التهذيب 11/ 170، وصفة الصفوة، 2/ 123، وحلية الأولياء، 8/ 140.(8/172)
أَبُو بكر مُحَمَّد بْن عَلِيّ الخياط، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن أبي الفوارس، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بن محمد بن عبد الخالق، قال: حدثنا أَبُو بكر المروزي، قَالَ: قَالَ قادم الديلمي:
قيل لوهيب بْن الورد: ألا تشرب من زمزم، قَالَ: بأي دلو.
قَالَ المروزي: وسمعت عَبْد الوهاب الوراق يَقُول: قَالَ شعيب بْن حرب:
مَا احتملوا لأحد مَا احتملوا لوهيب، كَانَ يشرب بدلوه.
قَالَ المروزي: وحدثنا أَحْمَد بْن الخليل، قَالَ: حَدَّثَنَا/ ابْن عيسى، قَالَ: 79/ ب سمعت ابْن المبارك يَقُول:
مَا جلست إِلَى أحد كَانَ أنفع لي مجالسة من وهيب، وَكَانَ لا يأكل من الفواكه، وَكَانَ إذا انقضت السنة وذهبت الفواكه يكشف عَنْ بطنه وينظر إِلَيْهِ ويقول: يا وهيب مَا أرى بك بأسا، ما أرى تركك الفواكه ضرك شيئا.
أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ ثَابِتِ بْنِ بُنْدَارٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أبي، قَالَ: أَخْبَرَنَا الحسين بْن عَلِيّ الطناجيري، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن منصور البوشري، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مخلد، قَالَ:
حَدَّثَنَا موسى بْن هارون الطوسي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن نعيم بْن الهيضم، قَالَ:
سمعت بِشْر بْن الحارث يَقُول:
كَانَ وهيب بْن الورد تئن خضرة البقل من بطنه من الهزال.
قَالَ ابْن مخلد: وحدثنا أَحْمَد بْن الفتح، قَالَ: سمعت بشرا يَقُول: بلغني أن وهيبا كَانَ إذا أتي بقرصيه بكى حَتَّى يبلهما.
قَالَ أَبُو بكر بْن عبيد: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن يزيد بْن خنيس، قَالَ: حلف وهيب بْن الورد ألا يراه الله ضاحكا ولا أحد من خلقه حَتَّى يعلم مَا يأتي به رسل اللَّه. قَالَ: فسمعوه يَقُول عند الموت: وفيت لي ولم أف لك.
تُوُفِّيَ وهيب في هذه السنة.(8/173)
ثم دخلت سنة أربع وخمسين ومائة
فمن الحوادث فِيهَا خروج المنصور إِلَى الشام. ومضيه إِلَى بيت المقدس، وتوجيهه يزيد بْن حاتم إِلَى إفريقية فِي خمسين ألفا لحرب الخوارج الذين قتلوا عامله عُمَر بْن حفص، وأنفق المنصور على ذلك الجيش ثلاثة وستين [1] ألف ألف درهم.
وَفِيهَا: غزا الصائفة زفر بْن عاصم الهلالي [2] .
وَفِيهَا: عزم المنصور عَلَى بْناء مدينة الرافقة، فلما أراد بْناءها امتنع أَهْل الرقة وأرادوا محاربته، وقالوا: يعطل علينا أسواقنا ويذهب معايشنا ويضيق منازلنا. فهم بمحاربتهم.
والرافقة عَلَى شط الفرات، كانت الرقة إِلَى جانبها، فخربت الرقة. والرافقة تعرف اليوم بالرقة.
وَفِيهَا: وقعت صاعقة فِي المسجد الحرام/ فقتلت ستة نفر [3] .
وَفِيهَا: أمر المنصور موسى بْن دينار حاجب أبي الْعَبَّاس بقطع أيدي بني أخي
__________
[1] في الأصل: «ثلاثة وستون» ، وما أوردناه من ت.
[2] في ت: «عاصم الحلالي» .
[3] كذا في الأصلين، وفي الطبري: «خمسة نفر» .(8/174)
[أبي] [1] أيوب المورياني [2] ، وأرجلهم، وضرب أعناقهم. وكتب بذلك إِلَى المهدي، ففعل موسى فيهم مَا أمره به.
وَفِيهَا [3] : حج بالناس مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم، وَهُوَ كَانَ العامل عَلَى مكة والطائف.
وَكَانَ عَلَى المدينة الْحَسَن بْن زيد، وعلى الكوفة مُحَمَّد بْن سليمان، وعلى البصرة عَبْد الملك بْن أيوب، وعلى قضائها سوار، وعلى السند هِشَام بْن عَمْرو، وعلى إفريقية يزيد بْن حاتم، وعلى مصر مُحَمَّد بْن سَعِيد.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر.
829- إِبْرَاهِيم بْن يزيد بْن شراحيل، أَبُو خزيمة:
دخل عَلَى عَبْد اللَّه بْن الحارث بْن جزء، وروى عَنْ يزيد بْن أبي حبيب. وروى عنه المفضل بْن فضالة، وجرير بْن حازم، ورشدين بْن سعد. وولي القضاء بمصر بعد أن عرضه الأمير عَبْد الملك بن يزيد أَبُو عون عَلَى السيف. تُوُفِّيَ في هذه السنة.
830- أشعب الطامع، ويقال إن اسمه شعيب، واسم أبيه جبير [4] :
ولد أشعب سنة تسع من الهجرة، وَكَانَ أشعب خال الأصمعي، وقيل: خال الواقدي.
وفي كنيته قولان، أحدهما: أَبُو العلاء، والثاني: أَبُو إِسْحَاق.
وفي اسم أمه ثلاثة أقوال، أحدها: جعدة مولاة أسماء بْنت أبي بكر، والثاني: أم حميدة، والثالث: أم حميدة بفتح الحاء.
واتفقوا أنه مولى، واختلفوا فِي مولاه عَلَى أربعة أقوال: أحدها: عُثْمَان بْن عفان، والثاني سَعِيد بْن العاص، والثالث: عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر، والرابع: فاطمة بنت الحسين.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول أوردناه من الطبري.
[2] في الأصل: «إخوة أيوب المرزباني» ، وما أوردناه من ت والطبري.
[3] في ت: «وحج بالناس من هذه السنة» .
[4] تاريخ بغداد 7/ 37.(8/175)
وعمر دهرا طويلا، وَكَانَ قَدْ أدرك زمن عُثْمَان بْن عفان، قرأ القرآن وتنسك.
وروى عَنْ عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر، والقاسم بْن محمد، وسالم بن عبد الله، وعكرمة.
80/ ب/ وتوفي في هذه السنة، وله أخبار طريفة.
أخبرنا عبد الرحمن القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن على بن ثابت، قال: أخبرنا محمد بْن الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْر الشَّافِعِي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ سَمَاعَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْد اللَّه بْن سَوَادَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن شُجَاعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس نَسِيمٌ الْكَاتِبُ، قَالَ [1] :
قِيلَ لأَشْعب: طَلَبْتَ الْعِلْمَ، وَجَالَسْتَ النَّاسَ، ثُمَّ تَرَكْتَ، فَلَوْ جلست لنا فسمعنا منك، فقال: نعم، فجلس لَهُمْ فَقَالُوا: حَدَّثَنَا، فَقَالَ: سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ يَقُول: سَمِعْتُ ابْنَ الْعَبَّاسِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: «خَلَّتَانِ لا تَجْتَمِعَانِ فِي مُؤْمِنٍ ... » . ثُمَّ سَكَتَ، فَقَالُوا: مَا الخلتان؟ فقال: نسي عكرمة واحدة ونسيت أنا الأُخْرَى.
أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بن عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: أخبرني أَبُو الحسن [2] مُحَمَّد بْن عبد الواحد، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عبد الرحيم المازني، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَن بْن مسلم، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْر بْن بكار، قَالَ: قَالَ الواقدي [3] :
لقيت أشعب يوما فَقَالَ لي: يا ابْن واقد قَدْ وجدت دينارا، فكيف أصنع به؟ قلت:
تعرفه؟ قَالَ: سبحان اللَّه، قلت: فما الرأي؟ قَالَ: أشتري به قميصا وأعرفه، قلت: إذا لا يعرفه أحد، قَالَ: فذاك أريد.
[قَالَ المصنف] : وقد نقلت عَنْ أشعب كلمات مضحكات ونوادر.
قَالَ الهيثم بْن عدي: أسلمته فاطمة بْنت الحسين إِلَى البزازين، فقيل لَهُ: أين بلغت من معرفة البز؟ قَالَ: أحسن أنشر ولا أحسن أطوي، وأرجو أن أتعلم الطي.
__________
[1] الخبر في تاريخ بغداد 7/ 39.
[2] في الأصل: «أبو الحسين» خطأ. والتصحيح من تاريخ بغداد.
[3] الخبر في تاريخ بغداد 7/ 41.(8/176)
ومر برجل يتخذ طبقا، فَقَالَ: اجعله واسعا لعلهم أن يهدون إلينا فِيهِ.
وَقَالَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ المقري: قَالَ أشعب: مَا خرجت في جنازة قط فرأيت اثنين يتشاوران [1] إلا ظننت أن الميت قَدْ أوصى لي بشيء.
قَالَ سليمان الشاذكوني: كَانَ لي بْني فِي المكتب فانصرف إلي يوما فَقَالَ: يا أبت، ألا أحدثك بطريف؟ فقلت: هات، فَقَالَ: كنت أقرأ على المعلم أن أبي يدعوك وأشعب الطامع عنده جالس، فلبس نعليه وَقَالَ: امش بين يدي، فقلت: إنما أقرأ عشري، فَقَالَ: عجبت أن تفلح أو يفلح أبوك.
831-/ سَعِيد بْن يزيد، أَبُو شجاع القتباني: [2]
روى عنه الليث بْن سعد، وابْن المبارك، وَكَانَ ثقة من العباد المجتهدين. كَانَ إذا أصبح عصب ساقه من طول القيام. تُوُفِّيَ بالإسكندرية [في هذه السنة] [3] .
832- سليمان بْن أبي سليمان المورياني [4] ، مولى بْني سليم [5] :
كَانَ قديما مَعَ ابْن هبيرة، ثُمَّ استكتبه المنصور، ثُمَّ أخبر المنصور أن خالدا أخا أبي أيوب، وَكَانَ بالأهواز قد جمع مالا عظيما، فغضب عليه المنصور فحبسه وحبس أخاه خالدا وبْني أخيه، وقطع أيدي بني أخيه وقتلهم عَلَى مَا سبق ذكره. وَكَانَ أَبُو أيوب [سليمان] [6] كريما جوادا.
أَخْبَرَنَا عَبْد الوهاب بْن المبارك الحافظ، قَالَ: أَخْبَرَنَا المبارك بن عبد الجبار، قال: أخبرنا أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا، قال: حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثنا مُحَمَّد بْن المرزبان، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ:
حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن إِسْمَاعِيل بْن هيثم، قال: قال ابن شبرمة:
__________
[1] في الأصل: «يتشاورون» .
[2] التاريخ الكبير للبخاريّ 3/ 1741، والجرح والتعديل 4/ 309.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل: أوردناه من ت.
[4] في الأصل: «المرزباني» والتصحيح من ت والطبري وكتب التراجم.
[5] وفيات الأعيان 1/ 215، وفيه: «سليمان بن مخلد المورياني» .
[6] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(8/177)
زوجت ابْني عَلَى ألفي درهم فلم أقدر عَلَيْهَا، ففكرت فيمن أقصد، فوقع فِي قلبي أَبُو أيوب المورياني [1] ، فدخلت عليه فَقَالَ: لك ألفان، فلما نهضت لأقوم، قَالَ:
والمهر ألفان فأين الجهاز؟ ثم قَالَ: ألفان للجهاز، فذهبت لأقوم فَقَالَ: المهر والجهاز فأين الخادم؟ ولك ألفان للخادم، فذهبت لأقوم فَقَالَ: والشيخ لا يصيب شيئا؟ ولك ألفان، فلم أزل أقوم ويقعدني حَتَّى انصرفت من عنده بخمسين ألفا.
وَقَالَ أَبُو بكر الصولي: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سَعِيد الأصم، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَحْمَد أَبُو هفان، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاس بْن إِبْرَاهِيم [2] ، قَالَ:
كَانَ أَبُو أيوب إذا دعاه المنصور يصفر ويرعد، فإذا خرج من عنده تراجع لونه، فقيل له: إنا نراك مَعَ كثرة دخولك إِلَى أمير المؤمنين وأنسه بك إذا دخلت إِلَيْهِ ترعد [3] ، فَقَالَ: مثلي ومثلكم فِي هَذَا كمثل بازي وديك تناظرا، فَقَالَ البازي للديك: مَا أعرف أقل وفاء منك، فَقَالَ: وكيف ذاك؟ فَقَالَ: تؤخذ بيضة ويحضنك أهلك وتخرج على 81/ ب أيديهم فيطعمونك بأكفهم حَتَّى إذا كبرت صرت/ لا يدنو منك أحد إلا طرت ها هنا وها هنا وصحت، فإذا [4] علوت حائط دار كنت فِيهَا سنين طرت منها وتركتها وصرت إِلَى غيرها. وأنا أؤخذ من الجبال وقد كبرت فأطعم الشيء اليسير وأؤنس يوما أو يومين ثُمَّ أطلق عَلَى الصيد فأطير وحدي وآخذه وأجيء به إِلَى صاحبي. فَقَالَ له الديك: [ذهبت عنك الحجة] أما لو رأيت بازيا فِي سفود مَا عدت إليهم أبدا، وأنا فِي كل وقت أرى السفافيد مملوءة ديوكا وأبيت معهم، فأنا أكثر وفاء منك [5] ، ولو عرفتم من المنصور مَا أعرف لكنتم أسوأ حالا مني عند طلبه إياكم.
تُوُفِّيَ أَبُو أيوب في هذه السنة.
833- عَبْد العزيز بْن عَبْد اللَّه بْن عَبْد اللَّه بْن عُمَر بْن الخطاب العدوي المديني: [6]
وكان من أحسن الناس صورة.
__________
[1] في الأصل: المرزباني» وما أوردناه من ت.
[2] في ت: «العباس بن رستم» .
[3] في ت: «وأنسه بك تتغير إذا دخلت إليه» .
[4] في ت: «فإن» .
[5] في ت: «فإنّي أوفى منك» .
[6] تاريخ بغداد: 10/ 434.(8/178)
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أحمد بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْن أبي علي، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْمُخْلِصُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سليمان الطوسي، قال: حدثنا الزُّبَيْر بْن بكار، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْن عَبْد العزيز الزهري، عَنْ أبي هريرة بْن جَعْفَر المخزومي [1] :
أن الديباج مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن عُثْمَان بْن عفان، وَعَبْد الْعَزِيزِ بْن عَبْد اللَّه بْن عَبْد اللَّه بْن عُمَر بْن الخطاب خطبا امرأة من قريش، فاختلف عليها في جمالهما، فجعلت تسأل وتبحث إِلَى أن خرجت تريد صلاة العتمة فِي المسجد، فرأتهما قائمين [2] فِي القمر يتعاتبان فِي أمرها، فنظرت إِلَى بياض عَبْد العزيز وطوله، فتزوجته، فجمع الناس وأولم لدخولها، فبعث إِلَى مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن عَمْرو فدعاه فيمن دعاه، فأكرمه وأجلسه فِي مجلس شريف، فلما فرغ الناس برك لَهُ مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن عَمْرو وخرج وَهُوَ يَقُول:
وبينا أرجي أن أكون وليها ... رميت بعرق من وليمتها سخن
قَالَ الزُّبَيْر [3] : وحدثني مُصْعَب بْن عُثْمَان، ومحمد بْن الضحاك الخزامي، ومحمد بن الحسن/ المخزومي وغيرهم: أن عَبْد العزيز بْن عَبْد اللَّه كان فيمن أسر [4] 82/ أحديد، فلما دخل عليه قَالَ لَهُ: مَا رضيت أن خرجت علي حَتَّى خرجت معك بثلاثة أسياف من ولدك، فَقَالَ لَهُ عَبْد العزيز: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، صل رحمي واعف عني واحفظ فِي عُمَر بْن الخطاب، فَقَالَ: أفعل، فعفا عنه، فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّه بْن الرَّبِيع: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اضرب عنقه لا يطمع فيك فتيان قريش، فَقَالَ لَهُ المنصور: إذا قتلت هَذَا فعلى من تحب أن أتأمر.
834- عَلِيّ بْن صالح بْن حي [5] :
ولد هو وأخوه الْحَسَن توأما فِي بطن، وَكَانَ علي قد تقدم بساعة، وكان الحسن
__________
[1] كذا في الأصول وفي تاريخ بغداد «المحرري» . والخبر في تاريخ بغداد 10/ 435.
[2] في ت: «نائمين» .
[3] الجند في تاريخ بغداد 10/ 435.
[4] في ت: «أشرف» .
[5] طبقات ابن سعد 6/ 260.(8/179)
يعظمه ويقول: قَالَ أَبُو مُحَمَّد. وَكَانَ علي كثير العبادة، وأسند عَنْ جماعة من التابعين، وتوفي في هذه السنة.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الملك، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن الْحَسَن بْن خيرون، قَالَ:
قرئ عَلَى أبي عَلِيّ بْن شَاذَان أن أَحْمَد بْن كامل القاضي أخبرهم، قَالَ: حَدَّثَنَا عيسى بْن إِسْحَاق الأنصاري، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عمران البغدادي، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن آدم، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن حي قَالَ:
قَالَ لي أخي علي فِي الليلة الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا: اسقني ماء، وكنت قائما أصلي، فلما قضيت الصلاة أتيته بماء فقلت يا أخي، فَقَالَ: لبيك، فقلت: هَذَا ماء، فَقَالَ: قَدْ شربت الساعة، فقلت: من سقاك وليس فِي الغرفة غيري وغيرك؟ قَالَ: أتاني جبريل الساعة بماء فسقاني وَقَالَ لي: أنت وأخوك وأبوك مَعَ النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وخرجت روحه رحمة الله عليه.
835- الفضل بْن عطية الخراساني المروزي، مولى بْني عبس [1] : روى عَنْ سالم بْن عَبْد اللَّه.
أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُصَيْنِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو طَالِبٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ غَيْلانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشَّافِعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن إِسْحَاق الحربي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَلِيّ السرخسي، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد الوهاب، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن سهل، عَنْ سلام بْن سالم، قَالَ:
زاملت الفضل بْن عطية إِلَى مكة فلما رحلنا من فيد أنبهني/ فِي جوف الليل، فقلت: مَا تشاء؟ قَالَ: أريد أن أوصي إليك، قلت: غفر اللَّه لك وأنت صحيح، فجزعت من قوله، فَقَالَ: لتقبلن مَا أقول لك، قلت: نعم فأخبرني مَا الَّذِي حملك عَلَيْهَا هَذِهِ الساعة؟ قَالَ: أريت فِي منامي ملكين فقالا: إنا قَدْ أمرنا بقبض روحك، فقلت لهم: لو أخرتماني إِلَى أن أقضي نسكي، فَقَالَ: إن اللَّه عز وجل قَدْ تقبل منك نسكك، ثُمَّ قَالَ أحدهما للآخر: افتح إصبعيك، ففتح السبابة والواسطي فخرج من بينهما ثوبان ملأت خضرتهما مَا بين السماء والأرض، فقالا: هَذَا كفنك من الجنة، ثم طواه وجعله بين
__________
[1] تقريب التهذيب 2/ 111، وقال: «صدوق ربما وهم» .(8/180)
إصبعيه، فما وردنا المنزل حَتَّى قبض، فإذا امرأة قَدِ استقبلتنا وهي تسأل الرفاق: هل فيكم الفضل بْن عطية؟ فلما انتهت إلينا قلت: مَا حاجتك إِلَى الفضل؟ هَذَا الفضل زميلي، فقالت: رأيت فِي المنام أنه يصبحنا اليوم رجل ميت يسمى الفضل بْن عطية من أَهْل الجنة، فأحببت [أن أشهد] [1] الصلاة عليه.
836- مُحَمَّد بْن عمران بْن إِبْرَاهِيم بْن طلحة بْن عبيد اللَّه التيمي المدني، أَبُو سليمان: [2]
[ولي القضاء بالمدينة لبْني أمية، ثُمَّ ولاه ذلك المنصور، وَكَانَ مهيبا قليل الحديث، و] [3] مات بالمدينة في هذه السنة وَهُوَ عَلَى القضاء، فبلغ موته المنصور، فَقَالَ: اليوم استوت قريش.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن ميمون، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْد اللَّه مُحَمَّدً بْن علي العلوي، وأبو الفرج محمد بن أحمد بْن غيلان، [قالا: أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو عَبْد اللَّهِ مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه الفزاري، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو القاسم الحسن بن محمد السكوني، قال:] [4] حدثنا أبو الحسن أحمد بن سعيد الدمشقي، قَالَ: حَدَّثَنِي الزُّبَيْر بْن بكار، قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَر بْن أبي بَكْر، عَنْ نمير المدني، قَالَ:
قدم علينا أمير المؤمنين المنصور المدينة، ومحمد بْن عمران الطلحي عَلَى قضائه وأنا كاتبه، فاستعدى الحمالون عَلَى أمير المؤمنين فِي شيء ذكروه، فأمرني أن أكتب إِلَيْهِ كتابا بالحضور معهم وإنصافهم، فقلت: اعفني من هَذَا فإنه يعرف خطي، فَقَالَ: أكتب، فكتبت ثُمَّ ختمه وَقَالَ: لا يمضي به والله غيرك [5] ، فمضيت به إِلَى الربيع وجعلت أعتذر إِلَيْهِ، فَقَالَ: لا تفعل، فدخل عليه بالكتاب ثُمَّ خرج الربيع فَقَالَ للناس وقد حضر وجوه أَهْل/ المدينة والأشراف وغيرهم: إن أمير المؤمنين يقرأ عليكم السلام 83/ أويقول لكم: إني قَدْ دعيت إِلَى مجلس الحكم فلا أعلمن أحدا قام إلي إذا خرجت أو بدأني بالسلام.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] أخبار القضاة لوكيع 1/ 181، وطبقات ابن سعد ورقة 236/ أ.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[5] في ت: «لا يمضي أحد والله غيرك» .(8/181)
قَالَ: ثُمَّ خرج المسيب بين يديه والربيع وأنا خلفه فِي إزار ورداء، فسلم عَلَى الناس، فما قام إِلَيْهِ أحد، ثُمَّ مضى حَتَّى بدأ بالقبر فسلم عَلَى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ التفت إِلَى الربيع، فَقَالَ: يا ربيع، ويحك أخشى إن رآني مُحَمَّد بْن عمران أن يدخل قلبه هيبة فيتحول عن مجلسه، وتا الله لئن فعل لا ولي لي ولاية أبدا.
قَالَ: فلما رآه- وَكَانَ متكئا- أطلق رداءه عَلَى عاتقه ثُمَّ احتبى به ودعى بالخصوم وبالحمالين، ثم دعا بأمير المؤمنين ثم ادعوا وحكم عليه لهم، فلما دخل الدار قَالَ للربيع: اذهب فإذا قام وخرج من عنده من الخصوم فادعه، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ما دعا بك حَتَّى تفرغ من أمر الناس جميعا، فدعاه، فلما دخل عليه سلم، فَقَالَ: جزاك اللَّه عن دينك وعن بنيك وعن حسبك وعن خليفتك أحسن الجزاء، قَالَ: قَدْ أمرت لك بعشرة آلاف دينار فاقبضها، فكانت عامة أموال مُحَمَّد بْن عمران الطلحي من تلك الصلة.
837- ابْن عمار أَبُو عَمْرو بْن العلاء القاري:
وقيل: اسمه زبان، وقيل: سفيان، والصحيح أن اسمه كنيته، وَكَانَ أبوه عَلَى طراز الحجاج. وجده عمار حمل راية عَلِيّ [بْن أبي طالب] [1] عليه السلام يوم صفين.
ولد أَبُو عَمْرو بْن العلاء فِي سنة سبعين فِي أيام عَبْد الملك بْن مروان. ونشأ بالبصرة وقرأ عَلَى مجاهد، وسعيد بْن جبير، والحسن، وشيبة بْن نصاح، ويحيى بْن يعمر، وابْن كثير. وَكَانَ مقدما فِي دهره، عالما بالقراءة. عارفا بوجوهها، أعلم الناس بأمور العرب مع صدق وصحة سماع.
وَكَانَ قَدْ كتب عَنِ العرب الفصحاء مَا ملأ به بيتا إِلَى قريب من السقف، ثُمَّ أنه تقرى فأحرقها كلها، فلما رجع من بعد إِلَى علمه لم يكن عنده إلا ما قد حفظه، وكانت 83/ ب عامة أخباره/ عَنْ أعراب قَدْ أدركوا الجاهلية.
تُوُفِّيَ بالكوفة في هذه السنة وَهُوَ ابْن أربع وثمانين سنة.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(8/182)
ثم دخلت سنة خمس وخمسين ومائة
فمن الحوادث فِيهَا افتتاح [1] يزيد بْن حاتم إفريقية، وقتله أبا غازي [2] ، وأبا حاتم ومن كَانَ معهما، واستقامة بلاد المغرب، ودخول [3] يزيد القيروان.
وَفِيهَا: غزا الصائفة يزيد بْن أسيد السلمي.
وَفِيهَا: وجه المنصور ابْنه المهدي لبْناء مدينة الرافقة، فشخص إليها فبناها على بناء مدينته ببغداد، فِي أبوابها وفصولها ورحابها وشوارعها سوى سورها وخندقها، ثُمَّ انصرف إِلَى مدينة السلام.
وَفِيهَا: خندق أَبُو جَعْفَر عَلَى الكوفة والبصرة، وضرب عليهما سورا، وجعل مَا أنفق فِي ذلك من أموال أَهْل المكان.
وَفِيهَا: عزل عَبْد الملك بْن أيوب عَنِ البصرة، واستعمل عَلَيْهَا القاسم بْن معاوية العكي [4] ، وضم إِلَيْهِ سَعِيد بْن دعلج وأمره ببْناء سور لها يطيف بها، وخندق عَلَيْهَا من دون السور.
قَالَ ابْن جرير: وقد ذكرنا أن المنصور لما أراد الأمر ببْناء سور الكوفة وبحفر خندق
__________
[1] تاريخ الطبري 8/ 46.
[2] في الطبري: «وقتله أبا عاد» .
[3] في الأصل: «دخل» . وما أوردناه من ت.
[4] في ت: «الحكمي» .(8/183)
لها أمر بقسمة خمسة دراهم [1] عَلَى أَهْل الكوفة، وأراد بذلك علم عددهم، فلما علم عددهم أمر بجبايتهم أربعين درهما من كل إنسان، فجبوا. ثُمَّ أمر بإنفاق ذلك عَلَى سور الكوفة وحفر الخندق، فَقَالَ شاعرهم:
يا لقومي مَا لقينا ... من أمير المؤمنينا
قسم الخمسة فينا ... وجبانا أربعينا [2]
وفي هذه السنة: طلب ملك [3] الروم الصلح من المنصور عَلَى أن يؤدي إِلَيْهِ الجزية.
وَفِيهَا: عزل المنصور أخاه الْعَبَّاس بْن محمد عن الجزيرة وأغرمه مالا، وغضب 84/ أعليه/ وحبسه ثُمَّ رضي عنه، واستعمل عَلَى حرب الجزيرة وخراجها موسى بْن كعب.
وَفِيهَا: عزل المنصور مُحَمَّد بْن سليمان بْن عَلِيّ عَنِ الكوفة، واستعمل مكانه عَمْرو بْن زهير أخا المسيب بْن زهير.
وَقَالَ عُمَر بْن شبة [4] : إنما كَانَ هَذَا فِي سنة ثلاث وخمسين. وعمرو هو الَّذِي حفر الخندق بالكوفة.
واختلفوا فِي سبب عزله لمحمد بْن سليمان. فَقَالَ بعضهم [5] : إنما عزله لأمور قبيحة بلغته عنه اتهمه فِيهَا.
وَقَالَ آخرون: بل كَانَ السبب أنه أتى فِي عمله عَلَى الكوفة بِعَبْدِ الكريم بن أبي العوجاء، وكانت خال معن بْن زائدة، فكثر شفعاؤه إِلَى أبي جَعْفَر، ولم يشفع فِيهِ إلا ظنين، فأمر بالكتاب إِلَى مُحَمَّد بْن سليمان بالكف عنه إِلَى أن يأتيه رأيه فِيهِ.
فكلم ابن أبي العوجاء أبا الجبار، فَقَالَ لَهُ: إن أخرني الأمير ثلاثة أيام فله مائة ألف درهم ولك كذا وكذا، فأعلم أَبُو الجبار محمدا، فَقَالَ: أذكرتنيه، والله كنت قد نسيته، فإذا
__________
[1] تكررت في الأصل «خمسة دراهم» .
[2] في الطبري: «الأربعينا» .
[3] في ت: «طلب ملوك» .
[4] تاريخ الطبري 8/ 47.
[5] تاريخ الطبري 8/ 48، 49.(8/184)
انصرفت من الجمعة فاذكرنيه. فلما انصرف أذكره إياه فأمر بضرب عنقه، فلما أيقن أنه مقتول قَالَ: أما والله لئن قتلتموني لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث أحرم فِيهَا الحلال، وأحلل فِيهَا الحرام، ولقد فطرتكم فِي يوم صومكم وصومتكم فِي يوم فطركم، فضربت عنقه.
وورد عَلَى مُحَمَّد رَسُول أبي جَعْفَر بكتابه: إياك أن تحدث فِي ابْن أبي العوجاء شيئا، فإنك إن فعلت فعلت بك وفعلت، يتهدده. فَقَالَ للرسول: هَذَا رأس ابْن أبي العوجاء وهذا بدنه مصلوبا بالكناسة، فأخبر أمير المؤمنين.
فلما بلغ الرسول أبا جَعْفَر رسالته تغيظ عليه وأمر بعزله، ثُمَّ قَالَ: والله لقد هممت أن أقيده به، ثُمَّ أرسل إِلَى عيسى بْن عَلِيّ فأتاه، فَقَالَ: هَذَا عملك، أنت أشرت بتولية هَذَا الغلام فوليته غلاما جاهلا لا علم لَهُ بما يأتي، يقدم عَلَى رجل فيقتله من غير أن رأى ولا ينتظر أمري، وقد كتبت بعزله وباللَّه لأفعلن، يتهدده/ فسكت عنه عيسى حتى سكن 84/ ب غضبه ثُمَّ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إن محمدا إنما قتل هَذَا الرجل عَلَى الزندقة فإن كَانَ قتله صوابا فهو لك، وإن كَانَ خطأ فعلى مُحَمَّد، والله يَا أَمِيرَ المؤمنين لئن عزلته [1] على تفيئة مَا صنع لترجعن القالة من العامة عَلَيْك. فأمر بالكتب فمزقت وأقره عَلَى عمله.
وَفِيهَا: عزل الْحَسَن بْن زيد عَنِ المدينة، واستعمل عَلَيْهَا عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ، وجعل معه فليح بْن سليمان مشرفا عليه.
وَكَانَ عَلَى مكة والطائف مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم، وعلى الكوفة عمرو بن زهير، وعلى البصرة الهيثم بْن معاوية، وعلى إفريقية يزيد بْن حاتم، وعلى مصر محمد بن سعيد [2] .
__________
[1] في ت: «عزلت» .
[2] في نسخة الأصل كتب الناسخ: «قال الناسخ: ما وجدت في الأصل ذكر من حج بالناس في هذه السنة والله أعلم» أ- هـ. وكذا لم نجده في ت والطبري. وفي مروج الذهب للمسعوديّ 4/ 402. «حج بالناس عبد الصمد بن علي» .(8/185)
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
838- زبان بْن فائد، أَبُو جوين الحمراوي [1] :
كَانَ عَلَى المظالم بمصر، وَهُوَ آخر من ولي لبْني أمية، وَكَانَ فاضلا من أعدل ولاتهم.
روى عنه الليث، وابْن لهيعة، ورشدين بْن سعد.
وتوفي في هذه السنة.
839- أَبُو هاشم الزاهد:
من قدماء زهاد بغداد ومن أقران أبي عَبْد اللَّه البراثي.
كَانَ سفيان الثوري يَقُول: مَا زلت أرائي وأنا لا أشعر حَتَّى جالست أبا هاشم الزاهد، فأخذت منه ترك الرياء.
وَكَانَ أَبُو هاشم يَقُول: أخذ المرء نفسه بحسن الأدب تأديب أهله.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال:
أخبرنا أَبُو نعيم الحافظ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن يَعْقُوبَ الوراق، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مسروق، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن، قَالَ: حدّثني بعض أصحابنا، قال: قال أبو 85/ أهاشم الزاهد:
إن اللَّه تعالى وسم الدنيا بالوحشة ليكون أنس المريدين به دونها ليقبل المطيعون لَهُ بالإعراض عنها، فأهل المعرفة باللَّه مستوحشون/ وإلى الآخرة مشتاقون [2] .
قَالَ ابْن مسروق: وحدثنا مُحَمَّد بْن الحسين، قَالَ: حَدَّثَنَا حكيم بْن جَعْفَر، قَالَ:
نظر هاشم إِلَى شريك القاضي يخرج من دار يَحْيَى بْن خالد فبكى وَقَالَ: أعوذ باللَّه من علم لا ينفع.
__________
[1] التاريخ الكبير للبخاريّ 3/ 1480، وميزان الاعتدال 2/ 2826.
[2] في الأصل: «فأهل المعرفة بها مستوحشون وفي الآخرة مشتاقون» .(8/186)
ثم دخلت سنة ست وخمسين ومائة
فمن الحوادث فِيهَا غزوة زفر بْن عاصم الهلالي الصائفة، وأن الهيثم بْن معاوية عامل أبي جَعْفَر عَلَى البصرة ظفر بعمرو بْن شداد عامل إِبْرَاهِيم بْن عَبْد اللَّه عَلَى فارس، فقتل بالبصرة وصلب.
وَفِيهَا: عزل أَبُو جَعْفَر الهيثم بْن معاوية عَنِ البصرة وأعمالها، فاستعمل سوار بْن عَبْد اللَّه عَلَى البصرة وجمع لَهُ القضاء والصلاة، وولى سَعِيد بْن دعلج شرطها وأحداثها.
وَفِيهَا [1] : حج بالناس الْعَبَّاس بْن مُحَمَّد بْن عَلِيّ أخو المنصور، وَكَانَ العامل فِيهَا عَلَى مكة مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم وَهُوَ ابْن أخي المنصور، وَكَانَ مقيما بمدينة السلام وابْنه إِبْرَاهِيم خليفته بمكة، وَكَانَ إِلَيْهِ مَعَ مكة الطائف، وَكَانَ عَلَى الكوفة عَمْرو بْن زهير، وعلى الأحداث والجوالي والشرطة وصدقات أرض العرب بالبصرة سَعِيد بْن دعلج، وعلى الصلاة والقضاء بها سوار، وعلى كور دجلة والأهواز وفارس عمارة بْن حمزة، وعلى كرمان والسند هِشَام بْن عَمْرو، وعلى إفريقية يزيد بْن حاتم، وعلى مصر محمد بن سعيد.
__________
[1] في ت: «وحج بالناس في هذه السنة» .(8/187)
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
840- رباح بْن أبي يزيد اللخمي:
كَانَ من أَهْل إفريقية، وَكَانَ عالما زاهدا يضرب بعبادته المثل، وَهُوَ أخو قحذم بْن يزيد الَّذِي كَانَ عابدا بالإسكندرية.
841- رؤبة بْن العجاج، واسم العجاج عَبْد اللَّه بْن رؤبة بْن لبيد بن صخر، ويكنى 85/ ب أبا الجحاف/ وأبا العجاج: [1]
روى عَنْ أبي الشعثاء، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وهو من رجاز الإسلام وفصحائهم المقدمين منهم، وَهُوَ بدوي سكن البصرة ومدح بْني أمية وبْني الْعَبَّاس، وتوفي فِي أيام المنصور، وقد أخذ عنه وجوه أَهْل اللغة واحتجوا بشعره.
والرؤبة اسم يقع عَلَى أشياء منها اللبْن الخاثر، وماء الفحل، والحاجة والساعة تمضي من الليل وغير ذلك.
وَكَانَ يونس النحوي يَقُول: مَا رأيت عربيا قط أفصح من رؤبة، مَا كَانَ معد بْن عدنان أفصح منه، وَكَانَ رؤبة يأكل الفأر فعوتب عَلَى ذلك، فَقَالَ: هي أنظف من دواجنكم ودجاجكم اللاتي تأكلن العذرة، وهل يأكل الفأر إلا نقي البر ولباب الطعام.
ولما تُوُفِّيَ قَالَ الخليل بْن أَحْمَد: دفنا الشعر واللغة والفصاحة اليوم.
842- حمزة بْن حبيب الزيات، ويكنى أبا عمارة، مولى لآل عكرمة بْن ربعي التيمي: [2]
كَانَ يجلب الزيت من الكوفة إِلَى حلوان، ويجلب من حلوان الجبْن والجوز إِلَى الكوفة. وَكَانَ صاحب قرآن وفرائض، صدوقا صاحب سنة. وقد أسند عَنِ الأعمش.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو سهل بن سعدويه، قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن الفضل القرشي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر بْن مردويه، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد بْن أَحْمَد، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَر بْن أَحْمَد بْن فارس، قَالَ: سمعت عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عُمَر يَقُول: سمعت جرير بن عبد الحميد يقول:
__________
[1] تهذيب التهذيب 3/ 290.
[2] طبقات ابن سعد 6/ 268، وميزان الاعتدال 1/ 2297.(8/188)
مر بْنا حمزة بْن حبيب فاستسقى فأتيته بماء، فَقَالَ: أنت ممن يحضرنا فِي القراءة؟ قلت: نعم، قَالَ: لا حاجة لي فِي مائك.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الحسن بن عبد الجبار، قال: أخبرنا أَبُو الوليد عُتْبَة بْن عَبْد الملك العثماني، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الطيب عَبْد الْمُنْعِمِ بْن عَبْد اللَّه بْن غلبون المقرئ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بكر مُحَمَّد بْن نصر بْن هارون السامري، قَالَ: أَخْبَرَنَا سليمان بْن جبلة، قَالَ: أَخْبَرَنَا/ إدريس بْن عَبْد الْكَرِيمِ الحداد، قَالَ: أخبرنا خلف بن 86/ أهشام البزاز، قَالَ: قَالَ لي سليم بْن عيسى [1] :
دخلت عَلَى حمزة بْن حبيب الزيات فوجدته يمرغ خديه فِي الأرض ويبكي، فقلت: أعيذك باللَّه، فَقَالَ: رأيت البارحة فِي منامي كَانَ القيامة قَدْ قامت، وقد دعي بقراء القرآن، فكنت فيمن حضر، فسمعت قائلا يَقُول بكلام عذب: لا يدخل علي إلا من عمل بالقرآن، فرجعت القهقري، فهتف باسمي: أين حمزة بْن حبيب الزيات؟
فقلت: لبيك داعي اللَّه، فبدرني ملك فَقَالَ قل: لبيك اللَّهمّ لبيك، فقلت كما قَالَ لي، فأدخلني دارا فِيهَا ضجيج القرآن، فوقفت أرعد، فسمعت قائلا يَقُول: لا بأس عَلَيْك اقرأ وأرق، فأدرت وجهي فإذا أنا بمنبر من در أبيض دفتاه من ياقوت أصفر، مراقيه من زبرجد أخضر، فقال لي: اقرأ سورة الأنعام. فقرأت وأنا لا أدري عَلَى من أقرأ حتى بلغت الستين آية، فلما بلغت: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ 6: 18 [2] قَالَ لي: يا حمزة، ألست القاهر فوق عبادي؟ فقلت: بلى، قَالَ: صدقت، اقرأ، فقرأت حَتَّى أتممتها، فَقَالَ لي:
أقرأ، فقرأت الأعراف حَتَّى بلغت آخرها وأومأت إِلَى الأرض بالسجود، فَقَالَ لي:
حسبك مَا مضى، لا تسجد يا حمزة، من أقرأك هَذِهِ القراءة؟ فقلت: سليمان، فَقَالَ:
صدقت، من أقرأ سليمان؟ قلت: يَحْيَى، قَالَ: صدق يَحْيَى، عَلَى من قرأ يَحْيَى؟
فقلت: عَلَى أبي عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي، قَالَ: صدق أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي، من أقرأ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ؟ فقلت: ابْن عم نبيك علي، فَقَالَ: صدق علي، فمن أقرأ عليا؟ قلت:
نبيك مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ومن أقرأ نبيي؟ قَالَ: قلت: جبريل عليه السلام، قَالَ: ومن أقرأ جبريل؟ فسكت، فَقَالَ لي: يا حمزة، قل أنت، فقلت: ما أجسر أن أقول أنت، فقال:
__________
[1] الخبر في تهذيب الكمال 7/ 318.
[2] سورة: الأنعام، الآية: 61.(8/189)
قل أنت، فقلت: أنت، فَقَالَ: صدقت يا حمزة، وحق القرآن لأكرمن أَهْل القرآن لا 86/ سيما إذا عملوا بالقرآن، / يا حمزة القرآن كلامي وما أحب أحدا كحبي أَهْل القرآن، ادن يا حمزة، فدنوت فضمخني بالغالية وَقَالَ: ليس أفعل بك وحدك، قَدْ فعلت ذلك بْنظرائك بمن فوقك ومن دونك، ومن أقرأ القرآن كما أقرأته، لم يزد بذلك غيري، وما خبأت لك يا حمزة عندي أكثر، فأعلم أصحابك مكاني من حبي لأهل القرآن وفعلي بهم، فهم المصطفون الأخيار، يا حمزة وعزتي وجلالي لا أعذب لسانا تلى القرآن بالنار، ولا قلبا وعاه، ولا أذنا سمعته، ولا عينا نظرته، فقلت: سبحانك سبحانك أي رب، فَقَالَ: يا حمزة أين نظار المصاحف؟ فقلت: يا رب أفحفاظ هم؟ قَالَ: لا، ولكني أحفظه لهم حَتَّى يوم القيامة، فإذا لقوني رفعت لهم بكل آية درجة.
أفتلومني أن أبكي وأتمرغ فِي التراب.
تُوُفِّيَ حمزة بحلوان في هذه السنة.
843- سَعِيد بْن أبي عروبة، أَبُو النضر الْبَصْرِيّ، واسم أبي عروبة مهران مولى لبْني عدي بْن يشكر: [1]
سمع النضر بْن أنس وغيره، وَكَانَ كثير الحديث إلا أنه اختلط فِي آخر عمره، وتوفي في هذه السنة.
844- عَبْد الرَّحْمَنِ بْن زياد بْن أنعم، أَبُو خالد الإفريقي [2] :
سمع أبا عَبْد الرَّحْمَنِ الحبلي وغيره. روى عنه سفيان الثوري، وابْن لهيعة. وكان أول مولود ولد بإفريقية فِي الإسلام.
وولي القضاء بها لمروان بْن مُحَمَّد، ووفد إِلَى المنصور فِي بيعة أهل إفريقية وشكى إليه جور العمال.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال:
أخبرنا البرقاني، قال: حدثني محمد بن أحمد بن محمد الأدمي، قال: حدثنا محمد بن علي الأيادي، قال: حدثنا زكريا بن يحيى الساجي، قال: حدّثني أحمد بن محمد،
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 33.
[2] تاريخ بغداد 10/ 214.(8/190)
قَالَ: حَدَّثَنِي الهيثم بْن خارجة، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن عياش، قَالَ [1] :
ظهر بإفريقية جور من السلطان، فلما قام ولد الْعَبَّاس قدم عَبْد الرَّحْمَنِ بْن زياد عَلَى أبي جَعْفَر، فشكى إِلَيْهِ/ العمال ببلده، فأقام ببابه أشهرا، ثم دخل عليه، فقال: ما 87/ أأقدمك؟ قَالَ: ظهر الجور ببلدنا فجئت لأعلمك فإذا الجور يخرج من دارك، فغضب أَبُو جَعْفَر وهم به ثُمَّ أمر بإخراجه.
أَخْبَرَنَا عَبْد الرحمن، قال: أخبرنا أحمد بن عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الأزهري، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عرفة، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الْعَبَّاس المنصوري، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن يزيد، عَنِ ابْن إدريس، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادِ بْنِ أَنْعَمَ، قَالَ [2] :
أرسل أَبُو جَعْفَر إلي، فقدمت عليه فدخلت والربيع قائم عَلَى رأسه، فاستدناني ثُمَّ قَالَ: يا عَبْد الرَّحْمَنِ، كيف مَا مررت به من أعمالنا إِلَى أن وصلت إلينا؟ قلت: يا أمير المؤمنين، رأيت أعمالا سيئة، وظلما فاشيا ظننته أبعد البلاد منك، فجعلت كلما دنوت منك كَانَ أعظم للأمر. فنكس رأسه طويلا ثُمَّ رفعه إلي، فَقَالَ: كيف لي بالرجال؟
قلت: أفليس عُمَر بْن عَبْد العزيز كَانَ يَقُول: الوالي بمنزلة السوق يجلب إليها مَا ينفق فِيهَا، فإن كَانَ برا أتوه ببرهم، وإن كَانَ فاجرا أتوه بفجورهم. قَالَ: فأطرق طويلا، فَقَالَ لي الربيع وأومأ إلي أن أخرج، فخرجت ولم أعد إِلَيْهِ.
قَالَ مؤلف الكتاب رحمه اللَّه [3] : وقد قيل لأحمد بْن صالح الحافظ: تحتج بحديث الإفريقي؟ قَالَ: نعم، هو ثقة، وأنكر عَلَى من تكلم عليه.
وَقَالَ يَحْيَى بْن معين: إنما أنكر عليه الأحاديث.
قَالَ مؤلف الكتاب [4] : وفي هذه السنة تُوُفِّيَ وقد جاز المائة.
__________
[1] الخبر في تاريخ بغداد 10/ 215.
[2] الخبر تاريخ بغداد 10/ 215.
[3] في ت: «قال المصنف» .
[4] في ت: «قال المصنف» .(8/191)
845- عامر بْن إِسْمَاعِيل المسلي:
تُوُفِّيَ بمدينة السلام، وصلى عليه المنصور، ودفن فِي مقابر قريش.
846- قباث بْن رزين بْن حميد [1] بْن صالح، أَبُو هاشم [2] :
روى عَنْ عَلِيّ بْن رباح، وعكرمة. وروى عنه الليث بْن سعد، وابْن لهيعة، وابْن المبارك، وابْن وهب.
وَكَانَ إمام مسجد مصر، يقرئ القرآن في جامعها.
87/ ب/ تُوُفِّيَ في هذه السنة.
847- الهيثم بْن معاوية:
ولي للمنصور البصرة وغيرها. وتوفي في هذه السنة فجأة وَهُوَ عَلَى بطن جارية لَهُ، وصلى عليه المنصور، ودفن فِي مقابر قريش.
__________
[1] في الأصول: «أحمد» وما أوردناه من التهذيب.
[2] تقريب التهذيب 2/ 122.(8/192)
ثم دخلت سنة سبع وخمسين ومائة
فمن الحوادث فِيهَا أن المنصور حول الأسواق من مدينة السلام إِلَى باب الكرخ وغيره من المواضع.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: أخبرنا أحمد بن علي الخطيب، قَالَ:
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن الحسين القطان، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر بْن درستويه، قَالَ:
حَدَّثَنَا يعقوب بْن سفيان [1] ، قَالَ:
سنة سبع وخمسين ومائة نقل أَبُو جَعْفَر الأسواق من المدينة الشرقية إلى باب الكرخ وباب الشعير والمحول، وفي السوق الَّتِي تعرف بالكرخ، وأمر ببْنائها من ماله عَلَى يدي الربيع مولاه.
وَفِيهَا: وسع طرق المدينة وأرباضها، ووضعها عَلَى مقدار أربعين ذراعا، وأمر بهدم مَا شخص من الدور غير ذلك القدر.
أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ، قال: أخبرنا أحمد بن عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الْقَاسِمِ الأزهري، قال: حدثنا أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم بْن الْحَسَن، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن عرفة، قَالَ [2] :
لما دخلت سنة سبع وخمسين وَكَانَ أَبُو جَعْفَر قَدْ ولى الحسبة يحيى بن زكريا
__________
[1] الخبر في تاريخ بغداد 1/ 79.
[2] الخبر في تاريخ بغداد 1/ 79، 80.(8/193)
فاستغوى [1] العامة وزين لهم الجموع، فقتله أَبُو جَعْفَر بباب الذهب، وحول أسواق المدينة إِلَى باب الكرخ وباب الشعير وباب المحول، وأمر ببْناء الأسواق عَلَى يد الربيع.
أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرنا مُحَمَّد بْن عَلِيّ الوراق، وأحمد بْن عَلِيّ المحتسب، قالا: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن جَعْفَر النحوي، قال:
حدثنا الحسن بن محمد السكوني، قال: قَالَ مُحَمَّد بْن خلف: قَالَ الخوارزمي، يعني مُحَمَّد بْن موسى [2] :
وحول أَبُو جَعْفَر الأسواق/ إِلَى الكرخ وبْناها من ماله بعد مائة سنة وست وخمسين، وخمسة أشهر وعشرين يوما، ثُمَّ بدأ بعد ذلك فِي بْناء قصر الخلد عَلَى شاطئ دجلة بعد شهر وأحد عشر يوما.
قَالَ مُحَمَّد بْن خلف [3] : وأخبرني الحارث بْن أبي أسامة، قَالَ: لما فرغ المنصور من مدينة السلام، وصير الأسواق فِي طاقات مدينته من كل جانب، قدم عليه وفد ملك الروم، فأمر أن يطاف بهم فِي المدينة، ثُمَّ دعاهم فَقَالَ للبطريق: كيف رأيت هَذِهِ المدينة؟ قَالَ: رأيت أمرها كاملا إلا فِي خلة واحدة، قَالَ: وما هي؟ قَالَ: عدوك يخترقها متى شاء وأنت لا تعلم، وأخبارك مبثوثة فِي الآفاق، لا يمكنك سترها، قَالَ:
كيف؟ قَالَ: الأسواق فِيهَا، والأسواق غير ممنوع منها أحد، فيدخل العدو كأنه يريد أن يتسوق، وأما التجار فإنها ترد الآفاق فيتحدثون بأخبارك، قَالَ: فزعموا أن المنصور حينئذ أمر بإخراج الأسواق من المدينة إِلَى الكرخ، وأن يبْني مَا بين الصراة إِلَى نهر عيسى، وولى ذلك مُحَمَّد بْن حبيش الكاتب، ودعا المنصور بثوب واسع فحد فِيهِ [4] الأسواق، ورتب كل صنف منها فِي موضعه، وَقَالَ اجعلوا سوق القصابين فِي آخر الأسواق، فإنهم سفهاء وفي أيديهم الحديد القاطع، ثُمَّ أمر أن يبْنى لأهل الأسواق مسجد يجتمعون فِيهِ يوم الجمعة لا يدخلون المدينة، ويفرد لهم ذلك، وقلد ذلك رجلا
__________
[1] في الأصل: «فابتغوا» .
[2] الخبر في تاريخ بغداد 1/ 80.
[3] تاريخ بغداد 8/ 80.
[4] في الأصول: «فخذ فيها» . وما أوردناه من تاريخ بغداد.(8/194)
يقال لَهُ: الوضاح [بْن شبا] [1] . فبْنى القصر الَّذِي يقال لَهُ قصر الوضاح والمسجد فِيهِ، وسميت الشرقية لأنها فِي شرقي الصراة، ولم يضع المنصور عَلَى الأسواق غلة حَتَّى مات، فلما استخلف المهدي أشار عليه أَبُو عبيد اللَّه بذلك، وأمر فوضع عَلَى الحوانيت الخراج، وولى ذلك سَعِيد الحرسي سنة سبع وستين ومائة.
أَخْبَرَنَا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا [أبو بكر أحمد بن علي] الخطيب، قال: أخبرنا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن رزق، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد المروزي، قال: حدّثنا أَبُو إِسْحَاق مُحَمَّد بْن هارون/ الهاشمي، قَالَ: حدّثنا 88/ ب حميد بْن الصباح، مولى المنصور، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ:
أراد المنصور أن يذرع الكرخ، فَقَالَ لي: احمل الذراع معك، فخرج وخرجت معه ونسيت أن أحمل الذراع، فلما صرنا بباب الشرقية قَالَ لي: أين الذراع؟ فدهشت وقلت: نسيته يا أمير المؤمنين، فضربْني بالمقرعة فشجني وسال الدم عَلَى وجهي، فلما رآني قال: أنت حر لوجه الله.
حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْن عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ ضَرَبَ عَبْدَهُ فِي غَيْرِ حَدٍّ حتى يسيل دَمه فَكَفَّارَتُهُ عِتْقُهُ» [2] . وَفِيهَا: ولى [3] المنصور جَعْفَر بْن سليمان عَلَى البحرين فلم تتم ولايته، ووجه مكانه سَعِيد بْن دعلج أميرا، فبعث سَعِيد ابْنه تميما.
وَفِيهَا: عرض المنصور جنده فِي السلاح والخيل فِي مجلس اتخذه عَلَى شط دجلة دون قطربُّل، وأمر أَهْل بيته وصحابته يومئذ بلبس السلاح، وخرج هو وَهُوَ لابس درعا وقلنسوة تحت البيضة سوداء لاطئة مضربة.
وَفِيهَا: عقد المنصور الجسر بباب الشعير.
[وَفِيهَا] : [4] عزل مُحَمَّد بْن سليمان الكاتب عَنْ مصر، واستعمل عليها مولى للمنصور.
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصول، أوردناه من تاريخ بغداد.
[2] الخبر في تاريخ بغداد 8/ 162.
[3] تاريخ الطبري 8/ 52.
[4] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(8/195)
وَفِيهَا: ولى معبد بْن الخليل السند وعزل عنها هِشَام بْن عَمْرو، ومعبد يومئذ بخراسان كتب إِلَيْهِ.
وغزا الصائفة يزيد بْن أسيد السلمي في هذه السنة. وقيل: إنما غزاها زفر بْن عاصم، والله أعلم.
وَفِيهَا: حج بالناس [إِبْرَاهِيم] [1] بْن يَحْيَى بْن مُحَمَّد، وَهُوَ كَانَ عَلَى المدينة، وقيل: إنما كَانَ عَلَى المدينة عَبْد الصَّمَدِ بْن عَلِيّ، وَكَانَ عَلَى مكة والطائف قثم، وعلى الأهواز وفارس عمارة بن حمزة، وعلى كرمان والسند معبد بْن الخليل، وعلى مصر مطر مولى المنصور رحمه اللَّه [2] .
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
848- عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عَمْرو، أَبُو عَمْرو الأوزاعي، [3] :
والأوزاع بطن من همدان، كذلك ذكر مُحَمَّد بْن سعد. وَقَالَ البخاري: الأوزاع قرية بدمشق إذا خرجت من [باب] الفراديس.
ولد سنة ثمان وثمانين، وسكن بيروت، وبها مات.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن أبي القاسم، قَالَ: أَخْبَرَنَا حمد، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيم، قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّد بْن حيان، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحسين، قَالَ: حَدَّثَنَا عباس بْن الوليد، قَالَ: أخبرني أبي، قَالَ: سمعت الأوزاعي يَقُول:
ليس ساعة من ساعات الدنيا إلا وهي معروضة عَلَى العبد يوم القيامة يوما فيوما وساعة فساعة فلا تمر به ساعة لم يذكر اللَّه فِيهَا إلا تقطعت نفسه عَلَيْهَا حسرات، فكيف إذا مرت به ساعة مَعَ ساعة ويوم مع يوم [4] .
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] «رحمه الله» ساقط من ت.
[3] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 185.
[4] في الأصل: «ويوم إلى يوم» وما أوردناه من ت.(8/196)
قَالَ أَبُو نعيم: وحدثنا أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن سالم الفامي [1] ، قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن منصور الهروي، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن عُرْوَة، قَالَ: سمعت يوسف بن موسى القطان يحدث أن الأوزاعي قَالَ:
رأيت رب العزة فِي المنام فَقَالَ لي: يا عَبْد الرَّحْمَنِ، أنت الَّذِي تأمر بالمعروف وتنهى عَنِ المنكر؟ قلت: بفضلك يا رب، فقلت: يا رب أمتني عَلَى الإسلام، فَقَالَ:
وعلى السنة.
أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّه بْن أَحْمَد السمرقندي، قال: أخبرنا عبد العزيز بن أَحْمَد الكناني، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد الوهاب بْن جَعْفَر بْن عَلِيّ الميداني، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرو بْن فضالة، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن أنس، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْعَبَّاس بْن الوليد بْن مزيد، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد الْحَمِيدِ بْن بكار، عَنْ مُحَمَّد بْن شعيب، قَالَ:
جلست إِلَى شيخ فِي المسجد- يعني مسجد دمشق- فَقَالَ: أنا ميت يوم كذا وكذا، فلما كَانَ ذلك اليوم إذا به يَقُول: مَا أخذتم السرير خذوه قبل (أن تسبقوا إِلَيْهِ] [2] ، فقلت: رحمك اللَّه، قَالَ: هو مَا أقول لك، إني رأيت فِي المنام كَانَ طائرا وقع/ على 89/ ب ركن من أركان هَذِهِ القبة، فسمعته يَقُول: فلان قدري، وفلان كذا، وأبو حفص عُثْمَان بْن أبي عاتكة نعم الرجل، وَعَبْد الرَّحْمَنِ بْن عَمْرو الأوزاعي خير من يمشي عَلَى وجه الأرض، وأنا ميت يوم كذا وكذا، قَالَ: فما حان الظهر حَتَّى مات وأخرجت جنازته.
أَخْبَرَنَا أَبُو منصور القزاز، قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَبُو الحسين عَلِيّ بْن الْحَسَن بن محمد بن جميع الغساني بصيداء، قَالَ: حَدَّثَنَا أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا جدي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو كريمة عَبْد العزيز بْن مُحَمَّد بْن عَبْد العزيز الصيدلاوي [3] ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هِشَام إِسْمَاعِيل بْن عَبْد اللَّه بْن مهرجان البغدادي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد المصري، [4] قَالَ: حَدَّثَنَا [مُحَمَّد] [5] بْن مُصْعَب القرقساني، عَنِ الوليد بْن مسلم، عَنِ الأوزاعي، قَالَ:
أردت بيت المقدس فرافقت يهوديا، فلما صرنا إِلَى طبرية نزل، فاستخرج
__________
[1] في ت: «القاضي» .
[2] في الأصل: «قبل تسبقوا» .
[3] في ت: «الصيداوي» .
[4] في ت: «محمد بن حماد المقري» .
[5] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل أوردناه من ت.(8/197)
ضفدعا فشد فِي عنقه خيطا فصار خنزيرا، فَقَالَ: حَتَّى أذهب فأبيعه من هؤلاء النصارى، فذهب فباعه وجاء بطعام ثُمَّ ركبْنا، فما سرنا غير بعيد حَتَّى جاء القوم فِي الطلب، فَقَالَ لي: أحسبه صار فِي أيديهم ضفدعا. قَالَ: فحانت مني التفاتة فإذا بدنه بْناحية ورأسه بْناحية، فوقفت وجاء القوم، فلما نظروا إِلَيْهِ فزعوا من السلطان ورجعوا عنه. قَالَ: فَقَالَ لي الرأس: رجعوا؟ قلت: نعم قَالَ: فالتأم الرأس إِلَى البدن وركب وركبْنا، فقلت: لا أرافقك أبدا، [اذهب عني] [1] .
وقد روى هَذِهِ الحكاية الوليد بْن مسلم، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ عطية بْن قيس، قَالَ: خرجت أريد بيت المقدس، فذكر نحوه.
849- مُحَمَّد بْن طارق المكيّ:
روى عن طاووس، وروى عنه الثوري. وَكَانَ زاهدا فِي الدنيا كثير التعبد والطواف.
أَخْبَرَنَا المحمدان ابْن ناصر وابْن عَبْد الباقي، قَالَ: أَخْبَرَنَا حمد بْن أحمد 90/ أالحداد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم الأصفهاني، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بكر بْن مالك، قَالَ: / حَدَّثَنَا عَبْد اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قال: حدثني شريح بن يونس، قال: حدثنا محمد بن فضيل، قَالَ:
رأيت ابْن طارق فِي الطواف وقد انفرج لَهُ أَهْل الطواف، عليه نعلان مطرفتان فحرزنا طوافه فِي ذلك الزمان فإذا هو يطوف فِي اليوم والليلة عشر فراسخ.
قَالَ أَبُو نعيم: وحدثنا أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا إبراهيم بن محمد بن الحسن، قال:
حدثنا عَلِيّ بْن الوليد، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن فضيل، قَالَ: سمعت ابْن شبرمة يَقُول:
لو شئت كنت ككرز فِي تعبده ... أو كابْن طارق حول البيت فِي الحرم [2]
قَدْ حال دون لذيذ العيش خوفهما ... وسارعا فِي طلاب الفوز والكرم
قَالَ: وَكَانَ طارق يطوف فِي كل يوم وليلة سبعين أسبوعا. وَكَانَ كرز يختم القرآن فِي كل يوم وليلة ثلاث ختمات.
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «حول البيت والحرم» ، وما أوردناه من ت.(8/198)
ثم دخلت سنة ثمان وخمسين ومائة
فمن الحوادث فِيهَا غزوة يزيد بْن أسيد السلمي الصائفة [1] . وفتحت الطالقان [2] وطبرستان ونهاوند عَلَى يدي عمر بن العلاء.
ومن الحوادث: [3] توجيه المنصور ابْنه المهدي إِلَى الرقة، وأمره إياه بعزل موسى بْن كَعْب عَنِ الموصل، وتولية [يَحْيَى بْن] [4] خالد بْن برمك عَلَيْهَا.
وسبب ذلك أن المنصور كَانَ ألزم خالد بْن برمك ثلاثة آلاف ألف درهم، ونذر دمه فِيهَا، واجله بها ثلاثة أيام، فَقَالَ خالد لابْنه يَحْيَى: يا بْني، قَدْ أوذيت وطولبت بما ليس عندي وإنما يراد بذلك دمي، فانصرف [إِلَى حرمتك وأهلك فما كنت فاعلا بهم بعد موتي فافعله، ثُمَّ قَالَ: يا بْني] [5] ، لا يمنعنك ذلك [من] أن تلقى إخواننا، وأن تمر بعمارة بْن حمزة وصالح صاحب المصلي ومبارك التركي، فتعلمهم حالنا.
فأتاهم فأخبرهم فمنهم من تجهمه وبعث/ المال سرا، ومنهم من لم يأذن له وبعث 90/ ب بالمال في أثره، واستأذن على عمارة فدخل عليه وهو في صحن داره مقابل بوجهه
__________
[1] في ت: «أنه غزا الصائفة يزيد بن السلمي» .
[2] في الأصل: «وفتح الطالقان» وما أوردناه من ت.
[3] تاريخ الطبري 8/ 54.
[4] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.
[5] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(8/199)
الحائط، فلما انصرف إليه بوجهه وسلم عليه فرد عليه ردا ضعيفا وَقَالَ: يا بْني، كيف أبوك؟ قَالَ [1] : بخير، يقرأ عليك السلام ويعلمك بما قَدْ لزمه من الغرم، ويستسلفك مائة ألف درهم، فما رد عليه قليلا ولا كثيرا، وَقَالَ: إن أمكنني شيء فسيأتيك، فانصرف وَهُوَ يَقُول: لعن اللَّه كل شيء يأتي من تيهك وكبرك. ورجع إِلَى أبيه وأعلمه بالخبر، فإذا رَسُول عمارة قَدْ طلع بالمائة ألف، فجمعوا فِي يومين ألفي ألف وسبع مائة ألف، فورد على المنصور [2] : انتقاض الموصل وانتشار الأكراد، فَقَالَ المنصور: من لها؟ فَقَالَ له المسيب: ما رميتها بمثل خالد، قال: ويحك، فيصلح لنا بعد ما أتينا إِلَيْهِ مَا أتينا؟ قَالَ:
إنما كَانَ ذلك تقويما لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وأنا ضامن عليه، قَالَ: فليحضر غدا، فأحضر فصفح له عن الثلاثمائة ألف وعقد له [3] . فلم يزل خالد عَلَى [الموصل إِلَى] [4] أن تُوُفِّيَ المنصور، ويحيى عَلَى أذربيجان، وَكَانَ المنصور معجبا بيحيى، وَكَانَ يَقُول: ولد الناس أبْناء وولد خالد آباء.
وروى الجاحظ عَنْ ثمامة قَالَ: كَانَ أصحابْنا يقولون: لم يكن يرى لجليس خالد بن برمك دارا إلا وخالد قَدْ بْناها، ولا ضيعة إلا وَهُوَ اشتراها، ولا ولدا إلا وَهُوَ اشترى أمه إن كانت أمه، أو أمهرها إن كانت حرة، ولا دابة إلا وهي من حملانه.
وَكَانَ خالد أول من سمى أَهْل الاستماحة والاسترفاد الزوار، فَقَالَ بعض من قصده:
حذا خالد فِي جوده حذو برمك ... فمجد لَهُ مستطرف وثليل
وَكَانَ بْنو الإعدام يدعون قبله ... بنبر على الإعدام فيه دليل
91/ أ/ يسمون بالسؤال فِي كل موطن ... وإن كَانَ فيهم نابه وجليل
فسماهم الزوار سترا عليهم ... وأستاره فِي المحتدين سدول
وفي هذه السنة [5] : نزل المنصور قصره الَّذِي يعرف بالخلد عَلَى دجلة، وإنما
__________
[1] في الأصول: «قلت» خطأ.
[2] في الأصل: «فورد على الموصل» ، وما أوردناه من ت.
[3] في ت: «إنما قومته بذلك فلم يزل خالد» .
[4] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[5] تاريخ الطبري 8/ 56.(8/200)
سماه الخلد تشبيها لَهُ بجنة الخلد، وَقَالَ: إنما ابتنيته لأنظر إِلَى الماء فإنه يجلو البصر.
وَكَانَ موضعه وراء باب خراسان، وقد اندرس فلا عين [لَهُ] ولا أثر.
أَخْبَرَنَا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ [بْنِ ثَابِتٍ] [1] ، قَالَ: أخبرنا علي بن محمد المعدل، قال: أخبرنا ابن صفوان، قال: أخبرنا أبو بكر القرشي، قال: حَدَّثَنِي ابْن جهور، قَالَ: [2] مررت مَعَ عَلِيّ بْن [أبي] [3] هاشم الْكَوفِيّ بالخلد، فنظر إِلَى الآثار فوقف متأملا وقال:
بنوا وقالوا لا نموت ... وللخراب بْنى المبْني
مَا عاقل فيما رأيت ... إِلَى الحياة بمطمئن
أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ رِزْقٍ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا عُثْمَان بْن أَحْمَد، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن البراء، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن أبي مريم، قَالَ [4] :
مررت بسويقة عَبْد الوهاب وقد خربت منازلها وعلى جدار منها مكتوب:
هذي منازل أقوام عهدتهم ... فِي رغد عيش رغيب ماله خطر
صاحت بهم نائبات الدهر فانقلبوا ... إِلَى القبور فلا عين ولا أثر
وفي هذه السنة: [5] سخط المنصور عَلَى المسيب بْن زهير، وعزله عَنِ الشرطة وأمر بحبسه وتقييده. وذلك أنه قتل أبان بْن بشير الكاتب بالسياط لأمر وجد عليه فِيهِ، ثُمَّ كلمه فِيهِ المهدي فأعاده. [6] وَفِيهَا: وجه المنصور نصر بْن حرب التَّمِيمِيّ واليا عَلَى ثغر فارس.
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] الخبر في تاريخ بغداد 1/ 93.
[3] ما بين المعقوفتين: من تاريخ بغداد.
[4] الخبر في تاريخ بغداد 1/ 86.
[5] تاريخ الطبري 8/ 56.
[6] تاريخ الطبري 8/ 57.(8/201)
وَفِيهَا: سقط المنصور عَنْ/ دابته بجرجرايا فانشج مَا بين حاجبيه. وَكَانَ قَدْ خرج مشيعا ولده المهدي لما مضى إِلَى الرقة.
وَفِيهَا: عاد المهدي من الرقة إِلَى بغداد فدخلها فِي شهر رَمَضَان.
وَفِيهَا: أمر المنصور بمرمة القصر الأبيض الَّذِي كَانَ كسرى بْناه، وأمر أن يغرم كل من وجد فِي داره شيء من الآجر الخسرواني، قَالَ: هَذَا فيء المسلمين، فلم يتم ذلك ولا مَا أمر به من مرمة القصر.
وَفِيهَا: غزا الصائفة معيوف بْن يَحْيَى [1] ، فلقي العدو فاقتتلوا وتحاجزوا.
وَفِيهَا: حبس مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عَلِيّ وَهُوَ أمير مكة- بأمر المنصور- ابْن جريج، وعباد بْن كثير، والثوري، ثُمَّ أطلقهم من الحبس بغير أمر أبي جَعْفَر، فغضب أَبُو جَعْفَر عليه.
وروى عُمَر بْن شبة أن مُحَمَّد بْن عمران مولى مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم حدثه عَنْ أبيه، قَالَ: كتب المنصور إِلَى مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد وَهُوَ أمير عَلَى مكة يأمره بحبس رجل من آل [علي بن] [2] أبي طالب بمكة، وبحبس ابْن جريج وعباد بْن كثير، والثوري. فحبسهم، وَكَانَ لَهُ سمار يسامرونه بالليل، فلما كَانَ [3] وقت سمره جلس وأكب عَلَى الأرض ينظر إليها ولم ينطق بحرف حَتَّى تفرقوا، فدنوت منه فقلت: مَا لك؟
فقال: عمدت إلى ذي رحم فحبسه وإلى عيون من عيون الناس فحبستهم وما أدري مَا يكون، لعله يأمر بهم فيقتلون فيشتد سلطانه ويهلك ديني. قال: قلت: فتصنع ماذا؟
قَالَ: أؤثر اللَّه وأطلق القوم، اذهب إِلَى إبلي فخذ راحلة وخذ خمسين دينارا فأت بها الطالبي وأقرئه السلام وقل لَهُ إن ابْن عمك يسألك أن تحله من ترويعه إياك، وتركب هَذِهِ الراحلة وتأخذ هَذِهِ النفقة، قَالَ: فلما أحس بي جعل يتعوذ باللَّه من شري، فلما بلغته قَالَ: هو فِي حل، ولا حاجة لي إِلَى الراحلة والنفقة، قَالَ: فقلت: فإن أطيب لنفسه أن تأخذ. قال: ففعل.
__________
[1] في الأصول: «معروف بن يحيى» وما أوردناه من الطبري 8/ 57.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] «فلما كان» تكررت في الأصل.(8/202)
قَالَ: ثُمَّ جئت ابْن جريج وإلى سفيان وعباد بْن كثير، / فأبلغتهم مَا قَالَ، فقالوا:
هو فِي حل، فقلت: يَقُول لكم: لا يظهرن أحد منكم مَا دام المنصور بمكة مقيما. قَالَ:
فلما قرب المنصور وجهني مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم بألطاف، فلما أخبر المنصور أن رَسُول مُحَمَّد ابْن إِبْرَاهِيم قدم، أمر بالإبل فضربت وجوهها، فلما صار إِلَى بئر ميمون لقيه مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم فأمر بدوابه فضربت [1] وجوهها، فكان يسير ناحية وعدل بأبي جَعْفَر عَنِ الطريق فِي الشق الأيسر فأنيخ به ومحمد واقف قبالته ومعه طبيب لَهُ، فلما ركب أَبُو جَعْفَر وسار وعديله الربيع، أمر مُحَمَّد الطبيب فمضى إِلَى موضع مناخ أبي جَعْفَر فرأى نجوه، فَقَالَ لمحمد: رأيت نجو رجل لا تطول به الحياة، فلما دخل مكة لم يلبث أن مات وسلم مُحَمَّد.
وفي هذه السنة: شخص أَبُو جَعْفَر من مدينة السلام متوجها إِلَى مكة وذلك فِي شوال، فنزل قصر عَبْدَوَيْهِ، فانقض فِي مقامه هُنَاكَ كوكب لثلاث بقين من شوال بعد إضاءة الفجر، فبقي أثره بينا [2] إِلَى طلوع الشمس، وَكَانَ المهدي معه [وَهُوَ] [3] يوصيه بالمال، والسلطان يفعل ذلك كل يوم من أيام مقامه لا يفتر [4] ، وَقَالَ لَهُ [5] : إني سائر وإني غير راجع، فإنا للَّه وإنا إِلَيْهِ راجعون، فاسأل اللَّه بركة مَا أقدم عليه، وهذا كتاب وصيتي مختوما، فإذا بلغك أني قَدْ مت فانظر فِيهِ. وعلي دين فأحب أن تقضيه وهو ثلاثمائة ألف ونيف، فلست أستحلها من بيت مال المسلمين، فاضمنها عني، وإني ولدت [6] فِي ذي الحجة، ووليت فِي ذي الحجة وقد هجس في نفسي أني أموت فِي ذي الحجة من هَذِهِ السنة، وهذا الَّذِي حداني عَلَى الحج، فاتق اللَّه، وإياك والدم الحرام، وافتتح عملك بصلة الأرحام، وإياك والتبذير.
فلما كَانَ فِي [7] اليوم الَّذِي أراد أن يرتحل فِيهِ دعى المهدي فَقَالَ لَهُ: إني لم أدع
__________
[1] في الأصل: «فضرب» وما أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «أبينا» وما أوردناه من ت والطبري.
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] تاريخ الطبري 8/ 103.
[5] تاريخ الطبري 8/ 104.
[6] تاريخ الطبري 8/ 105.
[7] تاريخ الطبري 8/ 103.(8/203)
شيئا إلا تقدمت إليك فِيهِ، وسأوصيك بخصال والله مَا أظنك تفعل واحدة منها، وَكَانَ لَهُ 92/ ب سفط فِيهِ دفاتر، فكان لا يأمن/ عَلَى فتحه أحدا، فَقَالَ: انظر هَذَا السفط فاحتفظ به، فإن فِيهِ علم آبائك، وانظر هَذِهِ المدينة وإياك أن تستبدل بها فإنها مدينتك وعزك، وقد جمعت [1] لك فيها من الأموال مَا لم يجمعه خليفة قبلي، فإن حبس عنك الخراج عشر سنين كَانَ عندك كفاية لأرزاق الجند والنفقات وعطاء الذرية ومصلحة الثغور، فاحتفظ بها فإنك لا تزال عزيزا مَا دام بيت مالك عامر [2] ، وما أظنك تفعل.
وأوصيك بأهل بيتك أن تظهر كرامتهم، والإحسان إليهم، وتوليهم المنابر، وتعطي النّاس أعقابهم، فإن عزهم عزك وذلهم ذلك، وانظر مواليك فأحسن إليهم وقربهم، واستكثر منهم، وإنهم مادتك لشدة إن نزلت بك. وأوصيك بأهل خراسان خيرا فإنهم أنصارك وشيعتك الذين بذلوا أموالهم ودماءهم دونك أن تحسن إليهم، وتتجاوز عَنْ مسيئهم، وتخلف من مات منهم فِي أهله وولده، وإياك أن تبْني مدينة شرقية فإنك لا تتم بْناءها، وإياك أن تدخل النساء فِي مشورتك وأمرك.
ثُمَّ مضى المنصور إِلَى الكوفة فنزل الرصافة، ثُمَّ خرج منها فأهل بالحج والعمرة، وساق معه الهدي وأشعره وقلده لأيام خلت من ذي القعدة، فلما سار منازل من الكوفة عرض له وجعه الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ الْقَزَّازِ، قَالَ: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا ابن رزق، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُزَكِّي، قَالَ: أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج، قَالَ: سمعت مُحَمَّد بْن سهل بْن عسكر يَقُول:
بعث أَبُو جَعْفَر الخشابين حين خرج إِلَى مكة، فَقَالَ: إن رأيتم سفيان الثوري فاصلبوه، قَالَ: فجاء النجارون ونصبوا الخشب ونودي سفيان، وإذا رأسه فِي حجر الفضيل ورجلاه في حجر ابن عيينة. قَالَ: فقالوا لَهُ: يا عَبْد اللَّه، اتّق الله ولا تشمت بنا 93/ أالأعداء. قَالَ: فتقدم إِلَى/ الأستار فأخذها ثُمَّ قَالَ: برئت منه إن دخلها أَبُو جَعْفَر. قَالَ:
فمات قبل أن يدخلها- يعني مكة- فأخبر بذلك سفيان فلم يقل شيئا.
وفي هذه السنة: تُوُفِّيَ المنصور، وبويع لولده المهدي.
__________
[1] تاريخ الطبري 8/ 106.
[2] في الأصل: «ما دام مالك بيته عامر» وما أوردناه من ت والطبري.(8/204)
باب ذكر خلافة المهدي
واسمه مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه، ويكنى أبا عَبْد اللَّه، ولد بأيذج [1] سنة سبع وعشرين ومائة، وأمه أم موسى بْنت منصور الحميرية، وَكَانَ أبيض- وقيل: أسمر- طويلا [2] جعدا، وبعينه اليمنى نكتة بياض. قيل: كَانَ ذلك باليسرى.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن محمد [3] ، قال: أخبرنا أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الرَّزَّازُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَلْمَانَ النَّجَّادُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَبْسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ مَرْزُوقٍ، عَنْ مَيْسَرَةَ- يَعْنِي ابْنَ حَبِيبٍ- عَنِ الْمِنْهَالِ- يَعْنِي ابْنَ عَمْرٍو- عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: [4] مِنِّا الْمَنْصُورُ وَمِنَّا السَّفَّاحُ وَمِنَّا الْمَهْدِيُّ.
وَقَدْ رُوِّينَا هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ حَدِيثِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْفُوعًا. وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ الطَّبَرَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَاتِمٍ الْمُرَادِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ، قال: حدّثنا سفيان
__________
[1] في الأصول: «ولد بأيذرج» وما أوردناه من الطبري 8/ 171.
[2] في الأصل: «وكان طويلا جعدا وقيل أسمر» وما أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «عبد الوهاب بن محمد» ، وما أوردناه من ت.
[4] الخبر في تاريخ بغداد 5/ 391، وراجع أيضا 1/ 63، 64.(8/205)
وزائدة، عن عاصم ابن أَبِي وَائِلٍ [1] ، [عَنْ زِرٍّ] [2] عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ [3] : «الْمَهْدِيُّ يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمِي، وَاسْمُ أَبِيهِ اسْمَ أَبِي» . وَكَانَ للمهدي من الولد: موسى، وهارون، والياقوتة، وأمهم الخيزران أم ولده.
وعلي، وعبيد اللَّه، وأمهما ريطة بْنت أبي الْعَبَّاس السفاح وعباسة وإبراهيم لأم ولد.
وَكَانَ المنصور أراد أن يولي ابْنه صالح بعد المهدي، فَقَالَ لَهُ المهدي: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لا تحملني عَلَى قطيعة الرحم فإن كَانَ لا بد لك من إدخال آخر فِي هَذَا الأمر 93/ ب فوله/ قبلي، فإن الأمر إذا صار إلي أحببت ألا يخرج عَنْ ولدي.
ذكر صفة العقد الَّذِي عقد للمهدي بالخلافة
روى عَلِيّ بْن مُحَمَّد النوفلي، عَنْ أبيه، قَالَ [4] : خرجت فِي السنة الَّتِي مات فِيهَا أَبُو جَعْفَر من طريق البصرة، وَكَانَ أَبُو جَعْفَر قَدْ خرج عَلَى طريق الكوفة، فلقيته بذات عرق [5] ، فسرت معه، فلما صار ببئر ميمون نزل بها ودخلنا مكة، فقضيت عمرتي ثُمَّ كنت أختلف إِلَى مضربه فأقيم فيه إلى قرب الزوال ثُمَّ أنصرف.
وأقبلت علته تزداد، فلما كانت الليلة الَّتِي مات فِيهَا ولم نعلم صليت الصبح فِي المسجد الحرام مَعَ طلوع الفجر، ثُمَّ ركبت وأنا أساير مُحَمَّد بْن عون الحارثي، فلقينا الْعَبَّاس بْن مُحَمَّد، ومحمد بْن سليمان فِي خيل ورجال يدخلان مكة فَقَالَ لي مُحَمَّد بْن عون: مَا ترى هذين ودخولهما مكة، قلت: أحسب الرجل قد مات، فأرادا أن يحصنا مكة، فكان ذلك كذلك، فبينا نحن نسير إذا رجل يخفي صوته فِي طريق ونحن بعد فِي غلس قَدْ جاء، فدخل بين أعناق دابتينا، ثُمَّ أقبل علينا فَقَالَ: والله مات الرجل ثُمَّ خفي عنا، فمضينا حتى دخلنا العسكر، فدخلنا إِلَى السرادق فسمعنا همسا من بكاء، فَقَالَ لي الْحَسَن بْن زائدة: أتراه قَدْ مات؟ فقلت: لعله ثقل أو أصابته غشية، فما راعنا إلا بأبي العنبر الخادم الأسود خادم المنصور قد خرج علينا مشقوق الأقبية، من بين يديه ومن
__________
[1] في الأصل: «عن عاصم، عن أبي وائل» . وما أوردناه من ت وبغداد.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصول، أوردناه من بغداد.
[3] الخبر في تاريخ بغداد.
[4] الخبر في تاريخ الطبري 8/ 110.
[5] في الأصول: «في ذات عرق» .(8/206)
خلفه وعلى رأسه التراب، فصاح: وا أمير المؤمنيناه. ثُمَّ خرج الربيع وفي يده قرطاس فقرأه:
بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله المنصور أمير المؤمنين إِلَى من يخلف بعده من بْني هاشم وشيعته من أَهْل خراسان وعامة المسلمين- ثُمَّ ألقى القرطاس من يده وبكى وبكى النّاس. فأخذ القرطاس وَقَالَ: قَدْ أمكنكم البكاء ولكن هَذَا عهد أمير لا بد من أن أقرأه عليكم فأنصتوا رحمكم اللَّه، فسكت الناس ثُمَّ رجع إِلَى القراءة- أما بعد، فإني كتبت كتابي هذا/ وأنا فِي آخِرَ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا وَأَوَّلَ يَوْمٍ من أيام الآخرة، وأنا أقرأ عليكم السلام، وأسأل اللَّه ألا يفتنكم ولا يلبسكم [شيعا] [1] ، ولا يذيق بعضكم بأس بعض، يا بْني هاشم ويا أَهْل خراسان، ثُمَّ أخذ فِي وصيتهم بالمهدي وإذكارهم البيعة له وحضهم على القيام بدولته والوفاء بعهده إِلَى آخر الكتاب.
وَكَانَ ذلك شيء قَدْ وضعه الربيع ثُمَّ نظر فِي وجوه الهاشميين [2] ، وتناول الْحَسَن بْن زيد، فَقَالَ: يا أبا مُحَمَّد، قم فبايع، فقام الْحَسَن وانتهى به الربيع إِلَى [موسى بْن المهدي فأجلسه بين يديه، فتناول الْحَسَن] [3] يد موسى فبايعه للمهدي، ثُمَّ جاء الربيع إِلَى مُحَمَّد بْن عون، فأنهضه فبايع وبايع الناس، ثُمَّ قَالَ للهاشميين: انهضوا، فنهضوا فدخلوا فإذا المنصور عَلَى سريره فِي أكفانه مكشوف الوجه، فحملناه حَتَّى أتينا به مكة ثلاثة أميال، فكأني أنظر إِلَيْهِ حين أدنو من قائمة سريره حَتَّى أحمله والريح تطير شعر صدغيه، وَكَانَ قَدْ وفر شعره للحلاق، وقد نصل خضابه حَتَّى أتينا به حفرته فدليناه فِيهَا.
وبعث موسى بْن المهدي والربيع مولى المنصور منارة البربري مولى المنصور بخبر وفاة المنصور وبالبيعة للمهدي، وبعثا بعده بقضيب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبردته الَّتِي يتوارثها الخلفاء مَعَ الْحَسَن السروي، وبعث أَبُو الْعَبَّاس الطوسي بخاتم الخلافة مع منارة أيضا.
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «بني هاشم» وصححت على الهامش.
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(8/207)
وفي رواية عَنِ الربيع، أنه قَالَ [1] : رأى المنصور فِي طريق الحج رؤيا ففزع منها وَقَالَ:
يا ربيع مَا أحسبْني إلا ميتا فِي وجهي هَذَا [وأنك تؤكد البيعة للمهدي] [2] . وثقل وَهُوَ يَقُول: بادر بي إِلَى حرم اللَّه وأمنه [يأمن ذنوبي وإسرافي عَلَى نفسي] [3] ، فلما وصل إِلَى بئر ميمون قلت: قَدْ دخلت الحرم، فَقَالَ: الحمد للَّه وقضى من يومه.
وَقَالَ الربيع: وأمرت بالخيم فضربت، وبالفساطيط فهيئت، وعمدت إِلَى أمير المؤمنين فألبسته الطويلة والدراعة وأسندته وألقيت عَلَى وجهه كله [رقيقة] [4] يرى منها شخصه ولا يفهم أمره، ثُمَّ دخلت فوقفت بالموضع الَّذِي أوهمهم أنه يخاطبْني ثم 94/ ب خرجت، فقلت: إن أمير المؤمنين مفيق بمن اللَّه، وَهُوَ/ يقرأ عليكم السلام ويقول:
إني أحب أن يؤكد اللَّه أمركم، ويكبت عدوكم ويسر وليكم وقد أحببت أن تجددوا البيعة لأبي عَبْد اللَّه المهدي كيلا يطمع فيكم عدو ولا باغ، فَقَالَ القوم كلهم: وفق اللَّه أمير المؤمنين، نحن إِلَى ذلك أسرع، فدخل فوقف ثُمَّ رجع إليهم، فَقَالَ: هلم للبيعة، فبايع القوم كلهم ثُمَّ دخل، وخرج باكيا مشقوق الجيب لاطما عَلَى رأسه، فَقَالَ بعض من حضر: ويلي عَلَيْك يا ابْن الشاة- يريد الربيع- كانت أمه ماتت وَهُوَ رضيع فأرضع عَلَى شاة.
وحفر للمنصور مائة قبر لئلا يعرف موضع قبره، ودفن في غيرها للخوف، عليه، وبويع للمهدي بمكة صبيحة الليلة الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا المنصور.
قَالَ أَبُو بكر الصولي: وَكَانَ الربيع بْن أنس وزير المنصور، فلما تُوُفِّيَ أخذ البيعة للمهدي، فشكر لَهُ المهدي ذلك إلا أنه لم يوله الوزارة لغلبة أبي عبيدة معاوية بْن عَبْد اللَّه عليه، فولى أبا عبيدة الوزارة، والربيع الحجبة، ثُمَّ وزر لَهُ يعقوب بْن داود، ثُمَّ الفيض بْن أبي صالح.
وبعثوا منارة فوصل يوم الثلاثاء للنصف من ذي الحجة، فكتم الخبر يومين، ثُمَّ خطب المهدي يوم الخميس ونعى إليهم المنصور، وَقَالَ: إن أمير المؤمنين عبد الله
__________
[1] الخبر في تاريخ الطبري 8/ 113.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل أوردناه من ت.(8/208)
دعي فأجاب، وأغر ورقت عيناه فَقَالَ: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكى عند فراق الأحبة، ولقد فارقت عظيما وقلدت جسيما، وعند اللَّه أحتسب أمير المؤمنين، وبه عز وجل أستعين عَلَى خلافة المسلمين، ثُمَّ بايعه الناس.
وحكى أَبُو بكر الصولي أنه لما جلس المهدي للتعزية والتهنئة دخل عليه أَبُو دلامة فأنشده [1] :
عينان واحدة ترى مسرورة ... بإمامها جذلى وأخرى تذرف [2]
تبكي وتضحك مرة ويسوءها ... مَا أنكرت ويسرها ما تعرف
/ فيسوؤها موت الخليفة محرما ... ويسرها أن قام هَذَا الأرأف [3]
95/ أفكان أول من وصله.
وفي هذه السنة: حج بالناس إِبْرَاهِيم بْن يَحْيَى بْن مُحَمَّد بْن عَلِيّ، وَكَانَ المنصور أوصى بذلك، وَكَانَ هو العامل عَلَى مكة والطائف، وعلى المدينة عَبْد الصَّمَدِ بْن عَلِيّ، وعلى الكوفة عَمْرو بْن زهير الضبي، وقيل: كَانَ العامل عَلَيْهَا إِسْمَاعِيل بْن أبي إِسْمَاعِيل الثقفي، وعلى قضائها شريك بْن عَبْد اللَّه النخعي وضمت إِلَيْهِ بغداد. وقيل: كَانَ القاضي عَلَى بغداد يوم مات المنصور عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن صفوان الجمحي، وَكَانَ عَلَى خراج الكوفة ثَابِت بْن موسى، وعلى خراسان حميد بْن قحطبة، وَكَانَ عَلَى ديوان الخراج بالبصرة وأرضها عمارة بْن حمزة، وعلى قضائها والصلاة عَبْد اللَّه بْن الْحَسَن العنبري، وعلى أحداثها سَعِيد بْن دعلج، وعلى الشرط ببغداد عُمَر بْن عَبْد الرَّحْمَنِ أخو عَبْد الْجَبَّارِ، وقيل: موسى بْن كعب.
وَفِيهَا: أصاب الناس وباء شديد.
وَفِيهَا: هلك طاغية الروم.
ذكر طرف من أخبار المهدي وسيرته [4]
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال:
__________
[1] الخبر في تاريخ بغداد 5/ 392.
[2] في الأصول: «وأخرى تطرف» وما أوردناه من تاريخ بغداد.
[3] في الأصل: «الأروق» وما أوردناه من ت، وبغداد.
[4] تاريخ بغداد 5/ 391، وما بعدها.(8/209)
أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّه بْن عَبْد العزيز الظاهري، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن عبيد اللَّه بْن المغيرة الجوهري، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيد الدمشقي، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْرِ بْن بكار، قال:
أخبرني يونس بن عَبْد اللَّه الخياط، قَالَ [1] :
دخل ابْن الخياط المكي عَلَى المهدي وقد مدحه، فأمر لَهُ بخمسين ألف درهم، فلما قبضها فرقها عَلَى الناس وَقَالَ:
أخذت بكفي كفه أبتغي الغنى ... ولم أدر أن الجود من كفه يعدي
فلا أنا منه مَا أفاد ذوو الغنى ... أفدت وأعداني فبددت مَا عندي
فنمي إِلَى المهدي فأعطاه بكل درهم دينارا.
أَخْبَرَنَا عَبْد الرحمن، قال: أخبرنا/ أحمد بن علي، قال: أخبرنا سلامة [2] بن الحسين المقرئ، قال: أخبرنا عَلِيّ بْن عُمَر الخياط، قَالَ: حَدَّثَنَا الحسين بْن إِسْمَاعِيل، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أبي سعيد، قَالَ: حَدَّثَنَا هارون بْن ميمون الخزاعي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حزمة الباذغيسي، قَالَ: قَالَ المهدي [3] :
مَا توسل أحد بوسيلة ولا تذرع بذريعة هي أقرب إلي وأحب من أن يذكرني [4] يدا سلفت مني [إليه] [5] أتبعها أختها وأحسن ربها، لأن منع الأواخر يقطع [شكر] [6] الأوائل.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال:
أخبرنا محمد بن عبد الواحد بْن مُحَمَّد، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن الْعَبَّاس، قال: أخبرنا مُحَمَّد بْن خلف بْن المرزبان [7] ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّد بْن الفضل، قَالَ: أَخْبَرَنِي بعض أَهْل الأدب عَنْ حسن الوصيف، قَالَ [8] .
__________
[1] الخبر في تاريخ بغداد 5/ 393.
[2] في الأصل: «سليمان» ، وما أوردناه من ت وتاريخ بغداد.
[3] الخبر في تاريخ بغداد 5/ 394.
[4] في الأصل: «من أن أذكر في» وما أوردناه من ت.
[5] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه، من ت.
[6] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[7] في الأصل: «المرزباني» وما أوردناه من ت.
[8] الخبر في تاريخ بغداد 5/ 394.(8/210)
قعد المهدي قعودا عاما للناس، فدخل رجل فِي يده نعل فِي منديل، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَذِهِ نعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد أهديتها لك، فَقَالَ: هاتها، فدفعها إليه، فقلب باطنها ووضعها عَلَى عينيه وأمر للرجل بعشرة آلاف درهم، فلما أخذها وانصرف قَالَ لجلسائه: أترون إني لم أعلم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم لم يرها فضلا عن أن يكون لبسها، ولو كذبْناه لقال للناس: أتيت أمير المؤمنين بْنعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فردها علي وَكَانَ من يصدقه أكثر ممن يدفع خبره، إذ كَانَ من شأن العامة الميل إِلَى أشكالها، والنصرة للضعيف عَلَى القوي، فاشترينا لسانه وقبلنا هديته وصدقنا قوله، ورأينا الَّذِي فعلناه أنجح وأرجح.
أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بن علي، قال: أخبرني الحسن بن محمد الخلال، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن عِمْرَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْقَاسِمِ الأَنْبَارِيُّ، قال: حدّثنا الحسن بن عَلِيٌّ الْعَنْبَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاس بْن عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر بْن سُلَيْمَانَ بْن عَلِيّ [1] ، قَالَ: حَدَّثَتْنِي جَدَّتِي فَائِقَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّه، قَالَتْ [2] :
بَيْنَا أَنَا يَوْمًا عِنْدَ الْمَهْدِيِّ وَكَانَ قَدْ خَرَجَ مُتَنَزِّهًا إِلَى الأَنْبَارِ إِذْ دَخَلَ عَلَيْهِ الرَّبِيعُ وَمَعَهُ قِطْعَةٌ/ مِنْ جِرَابٍ فِيهِ كِتَابٌ بِرَمَادٍ وَخَاتِمٍ مِنْ طِينٍ قَدْ عُجِنَ بالرماد، وهو مطبوع بخاتم 96/ أالخلافة، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا رَأَيْتُ أَعْجَبَ مِنْ هَذِهِ الرُّقْعَةِ، جَاءَنِي بِهَا رَجُلٌ أَعْرَابِيٌّ وهو يُنَادِي: هَذَا كِتَابُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَهْدِيِّ، دُلُّونِي عَلَى هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يُسَمَّى الرَّبِيعُ فَقَدْ أَمَرَنِي أَنْ أَدْفَعَهَا إِلَيْهِ- أَعْنِي هَذِهِ الرُّقْعَةَ. فَأَخَذَهَا الْمَهْدِيُّ وَضَحِكَ وَقَالَ: صَدَقَ هَذَا خَطِّي وَهَذَا خَاتَمِي، أَفَلا أُخْبِرُكُمْ بِالْقِصَّةِ؟ قُلْنَا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، رَأْيُكَ أَعْلَى [عَيْنًا] [3] فِي ذَلِكَ.
قَالَ: خَرَجْتُ أَمْسَ إِلَى الصَّيْدِ فِي غبِّ سَمَاءٍ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ هَاجَ عَلَيْنَا ضَبَابٌ شَدِيدٌ وفقدت أصحابي حَتَّى مَا رَأَيْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَأَصَابَنِي مِنَ الْبَرْدِ وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ مَا اللَّهُ بِهِ أَعْلَمُ، وَتَحَيَّرْتُ عِنْدَ ذَلِكَ فَذَكَرْتُ دُعَاءً سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَنْ قَالَ إِذَا أَصْبَحَ وَإِذَا أَمْسَى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَلا حَوْلَ
__________
[1] «ابن علي» ساقط من ت.
[2] الخبر في تاريخ بغداد 5/ 396، 397.
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصول، أوردناه من تاريخ بغداد.(8/211)
وَلا قُوَّةَ إِلا باللَّه [اعْتَصَمْتُ باللَّه وَتَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهُ لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا باللَّه] [1] الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ وُفيَ وَكُفِيَ وَشُفِيَ مِنَ الْحَرْقِ وَالْغَرَقِ وَالْهَدْمِ وَمَيْتَةِ السُّوءِ» . فَلَمَّا قُلْتُهَا دفع لي ضوء نار فَقَصَدْتُهَا، فَإِذَا بِهَذَا الأَعْرَابِيِّ فِي خَيْمَةٍ لَهُ، وَإِذَا هُوَ يُوقِدُ نَارًا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقُلْتُ:
أَيُّهَا الأَعْرَابِيُّ هَلْ مِنْ ضِيَافَةٍ؟ قَالَ: انْزِلْ، فَنَزَلْتُ، فَقَالَ لِزَوْجَتِهِ: هَاتِي ذَاكَ الشَّعِيرَ، فَأَتَتْهُ به، فقال: اطحنيه، فَابْتَدَأْتُ بِطَحْنِهِ، فَقُلْتُ لَهُ: اسْقِنِي مَاءً، فَجَاءَ بِسِقَاءٍ فِيهِ مَذْقَةٌ مِنْ لَبَنٍ أَكْثَرُهُ مَاءٌ، فَشَرِبْتُ مِنْهَا شَرْبَةً مَا شَرِبْتُ قَطُّ شَيْئًا إِلا وَهُوَ أَطْيَبُ مِنْهُ، قَالَ:
فَأَعْطَانِي حِلْسًا لَهُ فَوَضَعْتُ رَأْسِي عَلَيْهِ، فَنِمْتُ نَوْمَةً مَا نِمْتُ [نَوْمَةً] [2] أَطْيَبَ مِنْهَا وَأَلَذَّ، ثُمَّ انْتَبَهْتُ فَإِذَا هُوَ قَدْ وَثَبَ إِلَى شُوَيْهَةٍ فَذَبَحَهَا، وَإِذَا امْرَأَتُهُ تَقُولُ لَهُ: وَيْحَكَ قَتَلْتَ نَفْسَكَ وَصِبْيَتَكَ إِنَّمَا كَانَ مَعَاشُكُمْ مِنْ هَذِهِ الشَّاةِ فذبحتها فَبِأَيِّ شَيْءٍ نَعِيشُ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: لا عَلَيْك هات الشاة، فشققت جوفها واستخرجت كبدها بسكين في خفي فشرحتها ثم 96/ ب طَرَحْتُهَا عَلَى النَّارِ فَأَكَلْتُهَا، ثُمَّ قُلْتُ: هَلْ عِنْدَكَ شَيْءٌ أَكْتُبُ لَكَ فِيهِ؟ فَجَاءَنِي بِهَذِهِ/ الْقِطْعَةِ وَأَخَذْتُ عُودًا مِنَ الرَّمَادِ الَّذِي كَانَ بين يديه، فكتبت له هذا الكتاب وختمته بِهَذَا الْخَاتَمِ وَأَمَرْتُهُ أَنْ يَجِيءَ وَيَسْأَلَ عَنِ الربيع فيدفعها إليه فإذا في الرقعة خمسمائة أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ: لا وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ إلا خمسين ألف درهم، ولكن جرت بخمسمائة أَلْفِ دِرْهَمٍ، لا أَنْقُصُ وَاللَّهِ مِنْهَا دِرْهَمًا وَاحِدًا وَلَوْ لْمَ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ غَيْرَهَا احْمِلُوهَا مَعَهُ.
فَمَا كَانَ إِلا قَلِيلا حَتَّى تَكَثَّرَتْ [3] إِبِلُهُ وَشَاؤُهُ، وَصَارَ مَنْزَلا مِنَ الْمَنَازِلِ تَنْزِلُهُ النَّاسُ مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ مِنَ الأَنْبَارِ إِلَى مَكَّةَ، وَسُمِّيَ مُضِيفَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ المهدي.
أخبرنا عبد الرحمن، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرني أبو القاسم الأزهري، قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم، قال: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عرفة، قَالَ [4] :
وخرج المهدي يوما إِلَى الصيد فانقطع عَنْ خاصته، فدفع إِلَى أعرابي وَهُوَ يريد البول، فَقَالَ: يا أعرابي، احفظ علي فرسي حَتَّى أبول، فسعى نحوه وأخذ بركابه، فنزل
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من هامش ت. وفي تاريخ بغداد: «بسم الله وباللَّه وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا باللَّه، اعْتَصَمْتُ باللَّه وتوكلت على الله، حسبي اللَّهُ لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا باللَّه العلي العظيم» .
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصول، أوردناه من بغداد.
[3] في ت: «فما كان قليلا إلا تكترث إبله» .
[4] الخبر في تاريخ بغداد 5/ 398.(8/212)
المهدي ودفع الفرس إِلَيْهِ فأقبل الأعرابي عَلَى السرج يقتلع حليته، ففطن المهدي وقد أخذ حاجته فقدم إِلَيْهِ فرسه، وجاءت الخيل نحوه فأحاطت به ونذر بها الأعرابي فولى هاربا فأمر برده وخاف أن يكون فطن [1] به، فَقَالَ: خذوا مَا أخذنا منكم ودعونا نذهب إِلَى حرق اللَّه وناره، فَقَالَ المهدي: لا بأس عَلَيْك، فَقَالَ: مَا تشاء جعلني اللَّه فداء فرسك، فضحك من حضره وقالوا: ويلك هل رأيت إنسانا قَدْ قَالَ هَذَا؟
قَالَ: فما أقول؟ قالوا: قل جعلني اللَّه فداك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: أو هَذَا أمير المؤمنين؟ قالوا: نعم، قَالَ: والله لئن أرضاه هَذَا مني فَمَا يرضيني ذاك فِيهِ، ولكن جعل [اللَّه] جبريل وميكائيل فداءه، وجعلني فداءهما. فضحك المهدي واستطابه وأمر لَهُ بعشرة آلاف درهم.
قَالَ ابْن [2] عرفة: وبلغني أن المهدي لما فرغ من بناء عيساباذ [3] ركب في جماعة يسيرة لينظر فدخله مفاجأة وأخرج من كَانَ هُنَاكَ من الناس، وبقي رجلان خفيا عَنْ أبصار/ الأعوان، فرأى المهدي أحدهما وَهُوَ دهش مَا يعقل، فقال: من أنت؟ فقال: 97/ أأنا أنا أنا، قَالَ: ويحك من أنت؟ قَالَ: لا أدري، قَالَ: ألك حاجة؟ قَالَ: لا لا، قَالَ:
أخرجوه أخرج اللَّه نفسه، فدفع فِي قفاه. فلما خرج قَالَ لغلام لَهُ: اتبعه من حيث لا يعلم فسل عَنْ أمره [ومهنته] [4] فإنّي إخاله حائكا، فخرج الغلام يقفوه. ثُمَّ رأى الآخر فاستنطقه فأجابه بقلب جريء ولسان بسيط، قَالَ: فما جاء بك إلى ها هنا؟ قَالَ: جئت لأنظر إِلَى هَذَا البْناء الْحَسَن فأتمتع بالنظر إِلَيْهِ وأكثر الدعاء لأمير المؤمنين بطول المدة وتمام النعمة ونماء العز والسلامة، قال: أفلك حاجة؟ قال: نعم، خطبت ابْنة عمي فردني [أبوها] وَقَالَ: لا مال لك والناس يرغبون فِي الأموال، وأنا بها مشغوف ولها وامق. قَالَ: قَدْ أمرت لك بخمسين ألف درهم، قَالَ: جعلني اللَّه فداك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ وصلت فأجزلت الصلة، ومننت فأعظمت المنة فجعل اللَّه باقي عمرك أكثر من ماضيه، وآخر أيامك خيرا من أولها، وأمتعك بما أنعم به عَلَيْك وأمتع رعيتك بك: فأمر
__________
[1] كذا في الأصل، وفي ت، وتاريخ بغداد: «أن يكون غمز به» .
[2] تاريخ بغداد 5/ 398.
[3] عيساباذ: محلة كانت شرق بغداد منسوبة إلى عيسى بن المهدي، وباذ معناه: العمارة.
[4] ما بين المعقوفتين: من ت.(8/213)
أن تعجل صلته، ووجه بعض خاصته وَقَالَ: سل عَنْ مهنته [1] فإني أخاله كاتبا، فرجع الرسولان معا، فَقَالَ الأول: وجدت الأول حائكا، وَقَالَ الآخر: وجدت الرجل كاتبا، فَقَالَ المهدي: لم تخف علي مخاطبة الكاتب والحائك.
أَخْبَرَنَا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد [بن علي] [2] الخطيب، قَالَ:
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن مخلد الوراق، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بن محمد بن عمران، قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يَحْيَى الصولي، قَالَ: قَالَ عَمْرو بْن أبي عَمْرو الأعجمي:
اعترضت امرأة للمهدي فقالت: يا عصبة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انظر فِي حاجتي، فَقَالَ المهدي: مَا سمعتها من أحد قبلها، اقضوا حاجتها وأعطوها عشرة آلاف [درهم] [3] .
أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن عَلِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا القاضي أَبُو العلاء الواسطي، قَالَ: حَدَّثَنَا سهل بْن أَحْمَد الديباجي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو خليفة، قَالَ: حَدَّثَنَا رفيع بْن سلمة، عَنْ أبي عبيدة، قَالَ: [4] كَانَ المهدي يصلي بْنا الصلوات فِي المسجد الجامع/ بالبصرة لما قدمها، فأقيمت الصلاة يوما، فَقَالَ أعرابي: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لست عَلَى طهر وقد رغبت إِلَى اللَّه فِي الصلاة خلفك فأمر هؤلاء ينتظروني، فَقَالَ: انتظروه رحمكم اللَّه، ودخل المحراب ووقف إِلَى أن قيل لَهُ: قَدْ جاء الرجل، فكبر فتعجب الناس من سماحة أخلاقه.
أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ [5] ، قَالَ: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أَخْبَرَنَا القاضي أَبُو الْحَسَن عَلِيّ بْن عَبْد اللَّه بْن إِبْرَاهِيم الهاشمي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَمْرو بْن البختري، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عبيد اللَّه بْن فرقد مولى المهدي، قَالَ [6] :
هاجت ريح زمن المهدي، فدخل المهدي بيتا فِي جوف بيت وألزق خده بالتراب
__________
[1] في الأصل: «عن حاله» ، وما أوردناه، من ت، وتاريخ بغداد.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] الخبر في تاريخ بغداد 5/ 399.
[4] ما بين المعقوفتين: من تاريخ بغداد.
[5] الخبر في تاريخ بغداد 5/ 400.
[6] الخبر في تاريخ بغداد 5/ 400.(8/214)
ثُمَّ قَالَ: اللَّهمّ إنه بريء من هَذِهِ الجناية، كل هَذَا الخلق غيري فإن كنت المطلوب من بين خلقك فها أنا ذا بين يديك، اللَّهمّ لا تشمت بي أَهْل الأديان، فلم يزل مكانه حتى انجلت الريح.
أخبرنا عبد الرحمن، قال: أخبرنا أحمد بن عَلِيّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا القاضي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْمُعَافَى بْنُ زكريا، قال: حدثنا أَحْمَد بْن الْحَسَن بْن منصور، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو قلابة، قَالَ: حَدَّثَنِي نصر بْن قديد، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَمْرو الشعافي، قَالَ:
صلينا مَعَ المهدي المغرب ومعنا العوفي، وَكَانَ من مظالم المهدي، فلما انصرف المهدي من المغرب جاء العوفي حَتَّى قعد فِي قبلته، فقام يتنفل، فجذب ثوبه فَقَالَ: مَا شأنك؟ قَالَ: شيء أولى بك من النافلة، قَالَ: وما ذاك؟ قَالَ: سلام مولاك، قَالَ وَهُوَ قائم عَلَى رأسه: أوطأ قوما الخيل وغصبهم عَلَى ضيعتهم وقد صح ذلك عندي تأمر بردها وتبعث من يخرجهم، فَقَالَ المهدي: حَتَّى نصبح إن شاء اللَّه، فَقَالَ العوفي: لا إلا الساعة، فَقَالَ المهدي: يا فلان القائد، اذهب الساعة إِلَى موضع كذا وكذا فأخرج من فِيهَا وسلم الضيعة إِلَى فلان. قَالَ: فما أصبحوا حَتَّى ردت الضيعة عَلَى صاحبها.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر الحافظ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد الفقيه، قَالَ:
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن الجازري، قَالَ: أَخْبَرَنَا المعافى بْن زكريا، قال: حدثني محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدّثنا [1] أبو العباس/ محمد بن 98/ أإسحاق بْن أبي العنبس، عَنْ إِسْحَاق بْن يَحْيَى بْن معاذ، قَالَ: حَدَّثَنِي سوار، قَالَ:
انصرفت يوما من دار المهدي، فلما دخلت منزلي دعوت بالغداء، فجاشت نفسي فأمرت به فرد، ثُمَّ دعوت جارية لي ألاعبها فلم تطب نفسي بذلك، فدخلت القائلة فلم يأخذني النوم، فنهضت وأمرت ببغلة لي فأسرجت، فركبتها، فلما خرجت استقبلني وكيل لي ومعه مال، فقلت: ما هذا؟ فقال: ألفا درهم جبيتها من مستغلك الجديد، قلت أمسكها معك واتبعني، قَالَ: وخليت رأس البغلة حَتَّى عبرت الجسر، ثُمَّ مضيت فِي شارع دار الرقيق حَتَّى انتهيت إِلَى الصحراء، ثُمَّ رجعت إلى باب الأنبار،
__________
[1] في الأصل: «قال قال» .(8/215)
وطوفت فلما صرت فِي شارع دار الأنبار انتهيت إِلَى باب دار نظيف وعليه شجرة وعلى الباب خادم، فوقفت وقد عطشت، فقلت للخادم: عندك ماء تسقيني؟ فَقَالَ: نعم. وقام فأخرج قلة نظيفة طيبة الرائحة عَلَيْهَا منديل، فناولني فشربت، وحضر وقت العصر، فدخلت مسجدا عَلَى الباب، فصليت فلما قضيت صلاتي إذا أنا بأعمى يتلمس، فقلت: مَا تريد يا هَذَا؟ قَالَ: إياك أريد، قلت: وما حاجتك؟ فجاء حَتَّى قعد فَقَالَ:
شممت منك ريح الطيب فظننت أنك من أَهْل النعيم فأردت أن ألقي عَلَيْك شيئا، فقلت: قل، قَالَ: أترى هَذَا القصر؟ قلت: نعم، قَالَ: هَذَا قصر كَانَ لأبي فباعه وخرج إِلَى خراسان وخرجت معه فزالت عنا النعم الَّتِي كنا فيها، فقدمت فأتيت صاحب الدار لأسأله شيئا يصلني به وأصير إِلَى سوار فإنه كَانَ صديقا لأبي، قلت: ومن أبوك؟ قَالَ:
فلان بْن فلان، فإذا هو أصدق الناس إلي، فقلت لَهُ: يا هَذَا، فإن اللَّه قَدْ أتاك بسوار، منعه الطعام والنوم حَتَّى جاء به فأقعده بين يديك، ثُمَّ دعوت الوكيل فأخذت الدراهم منه فدفعتها إِلَيْهِ وقلت لَهُ: إذا كَانَ الغد فصر إِلَى المنزل. ثُمَّ مضيت فقلت: مَا أحدث أمير 98/ ب الْمُؤْمِنِين بشيء أطرف من هَذَا. فأتيته فاستأذنت عليه فأذن لي، فدخلت وحدثته/ بالحديث، فأمر لي بألفي دينار فنهضت، فَقَالَ: اجلس، عَلَيْك دين؟ قلت: نعم، قَالَ:
كم؟ قلت: خمسون ألف دينار، فأمسك وجعل يحدثني ساعة، ثُمَّ قَالَ: امض إِلَى منزلك، فصرت إِلَى منزلي، فإذا خادم معه خمسون ألف دينار قَالَ: يَقُول لك أمير المؤمنين اقض بها دينك، فقبضتها، فلما كَانَ من الغد فأبطأ علي المكفوف، وأتاني رَسُول المهدي يدعوني، فجئته فَقَالَ: فكرت فِي أمرك فقلت: يقضي دينه ويحتاج إِلَى الحيلة والقرض وقد أمرت لك بخمسين ألف دينار، فقبضتها وانصرفت. فأتاني المكفوف فدفعت إِلَيْهِ الألفي دينار وقلت: قَدْ رزق اللَّه كلا بكرمه خيرًا كثيرًا، وأعطيته من مالي ألفي دينار.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ الْقَزَّازِ، قَالَ: أخبرنا أحمد بن علي [بن ثَابِتٍ] [1] ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْد اللَّهِ الْحُسَيْن بْن مُحَمَّد بْن جَعْفَر الخالع [2] فيما أذن لَهُ أن نرويه عنه، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن مُحَمَّد بْن السري، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر مُحَمَّد بْن خلف، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاق بن محمد بن إسحاق، قال [3] :
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من ت.
[2] في الأصول: «الخالقي» ، وما أوردناه من تاريخ بغداد.
[3] الخبر في تاريخ بغداد 1/ 91، 92.(8/216)
أنبئت أن يعقوب بْن المهدي سأل الفضل بْن الربيع عَنْ أرحاء البطريق، فَقَالَ:
من هذا البطريق الَّذِي نسبت إِلَيْهِ هَذِهِ الأرحاء؟ فَقَالَ الفضل: إن أباك رضي اللَّه عنه لما أفضت إِلَيْهِ الخلافة وقدم عليه وافد من الروم فاستأذنه ثُمَّ كلمه بترجمان يعبر عنه، قَالَ الرومي: إني لم أقدم عَلَى أمير المؤمنين لمال ولا عرض، وإنما قدمت شوقا إِلَيْهِ وإلى النظر إِلَى وجهه لأنا نجد فِي كتبْنا أن الثالث من أَهْل نبي هَذِهِ الأمة يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا، فَقَالَ المهدي: قَدْ سرني مَا قلت ولك عندنا كل مَا تحب، ثُمَّ أمر الربيع بإنزاله وإكرامه، فأقام مدة ثُمَّ خرج يتنزه، فمر بموضع الأرحاء فنظر إِلَيْهِ فَقَالَ للربيع:
أقرضني خمسمائة ألف درهم ابْني بها مستغلا يؤدي إِلَيْهِ في السنة خمسمائة ألف [درهم] [1] ، قال: أفعل، ثُمَّ أخبر المهدي بما ذكر، فَقَالَ: أعطه خمسمائة ألف دينار وخمسمائة ألف درهم وما أغلت فادفعه إِلَيْهِ فإذا خرج إِلَى بلاده فابعث به إِلَيْهِ فِي كل سنة، قال [2] : / ففعل، فبنى الأرحاء ثُمَّ خرج إِلَى بلاده، فكانوا يبعثون بغلتها إليه [3] 99/ أحتى مات الرومي، فأمر المهدي أن يضم إِلَى مستغله.
قَالَ: واسم البطريق طاراث بْن الليث بْن العيزار بْن طريف، وَكَانَ أبوه ملكا من ملوك الروم أيام معاوية.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرني الأزهري، قال: أخبرنا أحمد بْن إِبْرَاهِيم، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن سليمان الطوسي، قال: حدثنا الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ وضاح، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْد الأَعْلَى بْن مُحَمَّد بْن صفوان الجمحي، قَالَ [4] :
حملت دينا بعسكر المهدي، فركب المهدي يوما بين أبي عبيد اللَّه وعمر بْن بزيع، وأنا وراءه فِي موكبه عَلَى برذون قطوف. فَقَالَ: مَا أنسب بيت قالته العرب؟ قَالَ أَبُو عبيد اللَّه: قول امرئ القيس إذ يَقُول:
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي ... بسهميك فِي أعشار قلب مقتل
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من تاريخ بغداد.
[2] «قال» . تكررت في الأصل.
[3] في الأصل: «يبعثون إليه بغلتها» .
[4] الخبر في تاريخ بغداد 11/ 70.(8/217)
قَالَ: هَذَا أعرابي قح، فَقَالَ عُمَر بْن بزيع [1] قول كثير بْن أبي جمعة:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل سبيل
قَالَ: وما هَذَا بشيء، وما [لَهُ] [2] يريد أن ينسى ذكرها حَتَّى تمثل لَهُ، فقلت: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، عندي حاجتك- جعلني اللَّه فداك- قَالَ: الحق، قلت: لا لحاق لي، ليس ذاك فِي دابتي، قَالَ: احملوه عَلَى دابة، فقلت: هَذَا أول الفتح، فحملت عَلَيْهَا فلحقته، فَقَالَ: مَا عندك؟ قلت: قول الأحوص:
إذا قلت إني مشتف بلقائها ... فحم التلاقي بيننا زادنا سقما
قَالَ: أحسن [3] والله، اقضوا عنه دينه. فقضى عني ديني.
وَكَانَ المهدي إذا جلس للمظالم قَالَ: أدخلوا علي القضاة، فلو لم يكن ردي للمظالم إلّا للحياء منهم.
وأتي المهدي [4] برجل قَدْ تنبأ، [فلما رآه] [5] قَالَ: أنت نبي؟ قَالَ: نعم قَالَ:
99/ ب وإلى من بعثت؟ قَالَ: أتركتموني أذهب إِلَى من بعثت إِلَيْهِ، وجهت بالغداة فأخذتموني بالعشي/ ووضعتموني فِي الحبس، فضحك المهدي منه، وخلى سبيله.
قَالَ الربيع [6] : رأيت المهدي فِي ليلة يصلي فقرأ: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا في الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ 47: 22 [7] . قَالَ: فلما فرغ من صلاته التفت إلي فَقَالَ:
يا ربيع، قلت: لبيك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ موسى: وقام إِلَى صلاته، فقلت: من موسى؟ ابْنه موسى أم موسى بْن جَعْفَر، وَكَانَ محبوسا عندي، فجعلت أفكر فقلت: مَا هو إلا موسى بْن جَعْفَر، فأحضرته فقال: يا موسى إني قرأت هذه الآية: فَهَلْ عَسَيْتُمْ 47: 22
__________
[1] في الأصل: «عمرو بن كثير» ، وما أوردناه من ت، وبغداد.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] تاريخ الطبري 8/ 172.
[4] تاريخ الطبري 8/ 176.
[5] ما بين المعقوفتين: من تاريخ الطبري.
[6] تاريخ الطبري 8/ 177.
[7] سورة: محمد، الآية: 24.(8/218)
إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ 47: 22، فخشيت أن أكون قَدْ قطعت رحمك، فوثق لي أنك لا تخرج، فَقَالَ: نعم، فوثق لَهُ فخلاه.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
850- شيبان الراعي.
حج معه سفيان الثوري، فلقيا سبعا، فعرك شيبان أذنه وَقَالَ: لولا مكان الشهرة ما وضعت زادي إلا عَلَى ظهره.
أَخْبَرَنَا المحمدان ابْن ناصر وابن عبد الباقي قَالا: أَخْبَرَنَا حَمَدُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حدثنا عبد الله بن أَحْمَد قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن سليمان الهروي قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن يعقوب قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن نصر، عن محمد بن يزيد، عَنْ مُحَمَّد بْن حمزة الربضي قَالَ: كَانَ شيبان الراعي إذا أجنب وليس عنده ماء دعا ربه، فجاءت سحابة فأظلته فاغتسل منها، وَكَانَ يذهب إِلَى الجمعة فيخط عَلَى غنمه فيجيء فيجدها لم تتحرك.
851- عَبْد اللَّه بن مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاس وَهُوَ أَبُو جَعْفَر المنصور [1] .
روى عَلِيّ بْن مُحَمَّد بْن سليمان النوفلي، عَنْ أبيه قَالَ: كَانَ المنصور لا يستمرئ طعامه ويشكو إِلَى المتطببين ويسألهم أن يتخذوا لَهُ الجوار شنات، وكانوا يكرهون ذلك ويأمرونه أن يقل من الطعام، ويخبرونه أن الجوار شنات تهضم، ولكنها تحدث من العلل مَا هو أشد عليه. فَقَالَ/ كثير- وَكَانَ من قطيبي العراق- لا يموت أَبُو جَعْفَر إلا بالبطن، 100/ أفقلت له: وما علمك؟ فقال: هو يأخذ الجوارش فيهضم طعامه ويحلق من رأس معدته كل يوم شيئا وشحم مصارينه فيموت ببطنه، وَقَالَ: أضرب لذلك مثلا أرأيت [2] لو أنك وضعت [3] جرة فِي موضع [وضعت] [4] تحتها آجرة جديدة فقطرت إنما كَانَ قطرها يثقب الآجرة عَلَى طول الدهر، فمات بالبطن.
__________
[1] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 10/ 53- 61.
[2] في ت: «لرأيت» .
[3] في ت: «تركت» .
[4] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.(8/219)
وَقَالَ بعضهم: كَانَ بدو وجعه الَّذِي مات فِيهِ من حر أصابه من ركوبه فِي الهواجر، وَكَانَ رجلا محرورا.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا المبارك بْن عَبْد الْجَبَّارِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر المنكدري قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن الصلت قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر بن الأنباري قال: حدثنا محمد بن أحمد المقدمي قال: حدثنا أبو محمد التميمي قال: حَدَّثَنَا منصور بْن أبي مزاحم قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سهل الحاسب قَالَ: حَدَّثَنِي طيفور قَالَ: كَانَ سبب إحرام المنصور من مدينة السلام أنه نام ليلة فانتبه فزعا، ثُمَّ عاود النوم فانتبه فزعا، ثُمَّ راجع النوم فانتبه فزعا فَقَالَ: يا ربيع، قَالَ: لبيك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: لقد رأيت فِي منامي عجبا قال: ما رأيت جعلني الله فداك؟ قَالَ: رأيت كَانَ آتيا أتاني فهيم بشيء لم أفهمه، فانتبهت فزعا، ثُمَّ عاودت النوم فعاودني يَقُول ذلك الشيء، ثُمَّ عاودني بقوله [1] ، حَتَّى فهمته وحفظته وَهُوَ:
كأني بهذا القصر قَدْ باد أهله ... وعرى منه أهله ومنازله
وصار رئيس القوم من بعد بهجة ... إِلَى جدث يبْنى عليه جنادله
وما أحسبْني يا ربيع إلا وقد حانت [وفاتي] [2] ، وحضر أجلي، وما لي غير ربي، قم فاجعل لي غسلا، ففعلت فقام فاغتسل وصلى ركعتين وَقَالَ: أنا عازم عَلَى الحج.
فهيأنا آلة الحج، فخرج وخرجنا حَتَّى إذا انتهى إِلَى الكوفة نزل النجف، فأقام أياما، ثُمَّ أمر بالرحيل فتقدمت نوابه وجنده، وبقيت أنا وَهُوَ فِي القصر وشاكريته بالباب، فقال لي:
100/ ب يا ربيع جئني بفحمة من المطبخ، وَقَالَ لي: أخرج فكن مَعَ دابتي/ إِلَى أن أخرج، فلما خرج وركب، رجعت إِلَى المكان كأني أطلب شيئا، وإذا قَدْ كتب عَلَى الحائط بالفحمة شعرا:
المرء يهوى أن يعيش وطول عيش قَدْ يضره ... تفنى بشاشته ويبقى بعد حلو العيش مره
وتصرف الأيام حَتَّى مَا يرى شيئا يسره ... كم شامت بي أن هلكت وقائل للَّه دره [3]
__________
[1] «ثم عاودني بقوله» ساقط من ت.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[3] انظر: تاريخ بغداد 10/ 61.(8/220)
أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْد الْجَبَّارِ قَالَ: أَخْبَرَنَا الشريف أَبُو بكر المنكدري قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَن بْن الصلت قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر بْن الأنباري قَالَ:
حَدَّثَني أبي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْد اللَّه المطبخي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاق الجيلي قَالَ: لما حج المنصور فِي آخر عمره دخل عَلَى [1] بعض المنازل بطريق مكة، فرأى كتابة عَلَى الحائط فقرأها، فإذا هي [2] :
أبا جَعْفَر حانت وفاتك وانقضت ... سنوك وأمر اللَّه لا بد واقع
أبا جَعْفَر هل كاهن أو منجم ... لك اليوم عَنْ حر المنية دافع [3]
أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا محمد بن أَحْمَدَ بِنْ رِزْقٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَد الدَّقَّاق قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد البراء قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن هِشَام قَالَ: قَالَ الربيع: بينا أنا مَعَ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ فِي طريق مكة تبرز ونزل يقضي حاجته، فإذا الريح قَدْ ألقت إِلَيْهِ رقعة فِيهَا مكتوب:
أبا جَعْفَر حانت وفاتك وانقضت ... سنوك وأمر [4] اللَّه لا بد واقع
[أبا جَعْفَر هل كاهن أو منجم ... لك اليوم عَنْ حر المنية دافع] [5]
قَالَ: فناداني: يا ربيع تنعي إلي نفسي فِي رقعة؟ قلت: لا والله مَا أعرف رقعة، ولا أدري مَا هي؟ قَالَ: فما رجع من وجهه حَتَّى مات [6] .
قَالَ ابْن البراء: ومات ببئر ميمون، وَهُوَ محرم، فدفن مكشوف الوجه لست خلون من ذي الحجة سنة ثمان وخمسين ومائة، وَكَانَ عمره ثلاثا وستين سنة، وخلافته إحدى/ وعشرين سنة وأحد عشر شهرا وثمانية أيام.
قَالَ مؤلف الكتاب رحمه اللَّه [7] تعالى: وقد اختلفوا [8] في مقدار عمره على
__________
[1] «على» ساقطة من ت.
[2] في ت: «كتابا على الحائط فقرأه فإذا هو» .
[3] انظر الأبيات في: تاريخ بغداد 10/ 60.
[4] في الأصل: أمرك، وبها ينكسر الوزن.
[5] هذا البيت ساقط من الأصل.
[6] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 10/ 60.
[7] في ت: «قال المصنف» .
[8] في ت: «واختلفوا» .(8/221)
خمسة أقوال: أحدها: ثلاث وستون سنة كما ذكرنا، والثاني: ثلاث وستون وشهور، الثالث: أربع وستون، والرابع: خمس وستون. والخامس: ثمان وستون. واتفقوا عَلَى أن مدة خلافته اثنان وعشرون سنة تنقص أياما.
وفي ذلك المقدار الناقص خمسة أقوال: أحدها: اثنان وعشرون يوما. والثاني:
أربعة وعشرون يوما، والثالث: ثلاثة أيام، والرابع: سبعة أيام،. والخامس: يومان.
قالوا: ودفن فِي المقبرة التي عند بلبة المدينتين الَّتِي تسمى كدا، وتسمى المعلاة، لأنها بأعلى مكة.
852- عَبْد اللَّه بْن عياش بْن عَبْد اللَّه، أَبُو الجراح الهمداني الْكَوفِيّ. ويعرف بالمنتوف [1] .
أَخْبَرَنَا الْقَزَّازُ قَالَ: أَخْبَرَنَا الخطيب قَالَ: حدث ابْن عياش، عَنِ الشعبي، وروى عنه الهيثم بْن عدي، وَكَانَ راوية للأخبار والآداب. وَكَانَ من صحابة أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، ونزل بغداد فِي دور الصحابة ناحية شط الصراة، قَالَ: ويقال: إن دجلة مدت وأحاط الماء بداره، فركب المنصور ينظر إِلَى الماء، وابْن عياش معه، فرأى داره وسط الماء، فَقَالَ: لمن هذه الدار قال: لوليك يا أمير المؤمنين، فَقَالَ المنصور:
وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ من الْمُغْرَقِينَ 11: 43 [2] ، فقال له ابن عياش وَكَانَ جريئا عليه: مَا أظن أمير المؤمنين يحفظ من القرآن آية غيرها، فضحك منه وأمر لَهُ بصلة [3] .
أَخْبَرَنَا أَبُو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا الجوهري قال: حدثنا محمد بْن الْعَبَّاس قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم الحكيمي قَالَ: حَدَّثَنَا ميمون بْن هارون قَالَ: حَدَّثَنِي الوضاح بْن حبيب بْن يزيد التَّمِيمِيّ، عَنْ أبيه قَالَ: كنت يوما عند المنصور وعَبْد اللَّه بْن عياش المنتوف 101/ ب وعَبْد اللَّه بْن الربيع الحارثي، وإسماعيل بْن خالد بن عبد الله القسري، وَكَانَ/ المنصور ولى سلم بْن قتيبة البصرة، وولى مولى له كور البصرة والأبلة، فورد الكتاب من مولى أبي جَعْفَر يخبر أن سلما ضربه بالسياط، فاستشاط أَبُو جَعْفَر، وضرب بإحدى يديه عَلَى الأخرى وَقَالَ: علي يجترئ سلم، والله لأجعلنه نكالا وعظة، وجعل يقرأ كتبا بين
__________
[1] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 10/ 14- 16.
[2] سورة: هود، الآية 43.
[3] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 10/ 15.(8/222)
يديه، قَالَ: فرفع ابْن عياش رأسه- وَكَانَ من أجرئنا عليه- فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لم يضرب سلم مولاك بقوته ولا قوة ابْنه ولكنك قلدته سيفك، وأصعدته منبرك، وأراد مولاك أن يطأطئ من سلم مَا رفعت، ويفسد مَا صنعت، فلم يحتمل لَهُ ذلك، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إن غضب العربي فِي رأسه، فإذا غضب لم يهدأ حَتَّى يخرجه بلسانه أو يده، وإن غضب النبطي في استه، فإذا خري ذهب غضبه، فضحك أَبُو جَعْفَر، وَقَالَ: قبحك اللَّه يا منتوف. وكف عَنْ سلم [1] .
تُوُفِّيَ المنتوف في هذه السنة.
853- الأسود المكي.
أخبرنا محمد بن ناصر قَالَ: أَخْبَرَنَا جعفر بْن أَحْمَد السراج قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد العزيز بن الحسن بْن إِسْمَاعِيل الضراب، قَالَ: أَخْبَرَنِي أبي قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مروان بْن المالكي قَالَ: حَدَّثَنَا سليمان بْن الْحَسَن قَالَ: حَدَّثَنِي أبي قَالَ: قَالَ ابْن المبارك: قدمت مكة فإذا الناس قَدْ قحطوا من المطر وهم يستسقون فِي المسجد الحرام، وكنت فِي الناس مما يلي باب بْني شيبة، إذ أقبل غلام أسود عليه قطعتا خيش، قَدِ ائتزر بإحداهما، وألقى الأخرى عَلَى عاتقه، فصار فِي موضع خفي إِلَى جانبي، فسمعته يَقُول: إلهي أخلقت الوجوه كثرة الذنوب ومساوىء الأعمال، وقد منعتنا غيث السماء لتؤدب الخليفة بذلك، فأسألك يا حليما ذا أناة، يا من لا [2] يعرف عباده منه إلا الجميل، اسقهم الساعة الساعة. قَالَ ابْن المبارك: فلم يزل يَقُول الساعة الساعة حَتَّى استوت بالغمام، وأقبل المطر من كل مكان، وجلس [3] مكانه يسبّح، وأخذت أبكي، فلما قام تبعته [4] حَتَّى عرفت موضعه، فجئت إِلَى فضيل بن عياض/ فقال لي: ما لي 102/ أأراك كئيبا؟ فقلت: سبقنا إِلَى اللَّه غيرنا، فتولاه دوننا، قَالَ: وما ذاك؟ فقصصت عليه القصة، فصاح وسقط وَقَالَ: ويحك يا ابْن المبارك خذني إِلَيْهِ، قلت: قَدْ ضاق الوقت، وسأبحث عَنْ شأنه. فلما كَانَ من الغد صليت الغداة، وخرجت إِلَى الموضع فإذا شيخ عَلَى
__________
[1] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 10/ 15- 16.
[2] «لا» ساقطة من ت.
[3] في ت: «وجعل» .
[4] في ت: «إذ قام فاتبعه» .(8/223)
الباب قَدْ بسط لَهُ وَهُوَ جالس، فلما رآني عرفني وَقَالَ: مرحبا بك يا عَبْد الرحمن، حاجتك. فقلت له: احتجت إِلَى غلام أسود. فَقَالَ: نعم عندي عدة، فاختر أيهم شئت؟ فصاح يا غلام، فخرج غلام جلد، فَقَالَ: هَذَا محمود العاقبة، أرضاه لك، فقلت: ليس هَذَا حاجتي، فما زال يخرج إلي [1] واحدا واحدا حَتَّى أخرج إلي الغلام، فلما أبصرت به بدرت عيناي، فَقَالَ: هَذَا هو؟ قلت: نعم [2] ، فَقَالَ ليس إِلَى بيعه سبيل، قلت: ولم؟ قَالَ: قَدْ تبركت لموضعه فِي هَذِهِ الدار وذاك أنه لا يزرأني شيئا، قلت: ومن أين طعامه؟ قَالَ: يكسب من قبل الشريط نصف دانق أو أقل أو أكثر فهو قوته، فإن باعه فِي يومه وإلا طوى ذلك اليوم. وأخبرني الغلمان عنه أنه لا ينام هَذَا الليل الطويل، ولا يختلط بأحد منهم مشغول [3] بْنفسه، وقد أحبه قلبي، فقلت لَهُ: أنصرف إِلَى سفيان الثوري وإلى فضيل بْن عياض بغير قضاء حاجة؟ فَقَالَ: إن ممشاك عندي كبير، خذه بما شئت. قال: فاشتريته وأخذت نحو دار فضيل، فمشيت ساعة، فَقَالَ لي: يا مولاي، قلت: لبيك، قَالَ: لا تقل لي لبيك، فإن العبد أولى أن يلبي المولى، قلت: حاجتك يا حبيبي. قَالَ: أنا ضعيف البدن، لا أطيق الخدمة، وقد كَانَ لك فِي غيري سعة، قَدْ أخرج إليك من هو أجلد مني، فقلت: لا يراني اللَّه وأنا أستخدمك، ولكني أشتري لك منزلا وأزوجك وأخدمك أنا بْنفسي، قَالَ: فبكى، فقلت: مَا يبكيك؟
قَالَ: أنت لم تفعل فِي هَذَا إلا وقد رأيت بعض متصلاتي باللَّه تعالى، وإلا فلم اخترتني 102/ ب من بين الغلمان؟ فقلت لَهُ: ليس بك حاجة إِلَى هَذَا، فَقَالَ لي: سألتك باللَّه/ إلّا أخبرتني، فقلت: بإجابة دعوتك، فَقَالَ لي: إني أحسبك إن شاء اللَّه رجلا صالحا، إن للَّه عز وجل خيرة من خلقه لا يكشف شأنهم إلا لمن أحب من عباده ولا يظهر عليهم إلا من ارتضى، ثُمَّ قَالَ لي: ترى أن تقف علي قليلا، فإنه قَدْ بقيت علي ركعات من البارحة.
قلت: هَذَا منزل فضيل قريب. قَالَ: لا. هاهنا أحب إلي [4] أمر اللَّه عز وجل لا يؤخر فدخل من باب الباعة إلى المسجد فما زال يصلي حَتَّى إذا أتى عَلَى مَا أراد التفت إلي فَقَالَ: يا أبا عبد الرحمن، هل من حاجة؟ قلت: ولم؟ قَالَ: لأني أريد الانصراف،
__________
[1] «إلى» ساقطة من ت.
[2] «نعم» ساقطة من ت.
[3] في ت: «مشغل» .
[4] في ت: «أحب أن» .(8/224)
قلت: إِلَى أين؟ قَالَ: إِلَى الآخرة. قلت: لا تفعل، دعني أسر بك. فَقَالَ لي: إنما كانت تطيب الحياة حيث كانت المعاملة بيني وبينه تعالى فأما إذا [1] اطلعت عَلَيْهَا أنت فسيطلع عَلَيْهَا غيرك فلا حاجة لي فِي ذلك، ثُمَّ خر لوجهه، فجعل يَقُول: إلهي اقبضني إليك الساعة الساعة. فدنوت منه فإذا هو قد مات. فو الله مَا ذكرته قط إلّا طال حزني وصغرت الدنيا في عيني.
__________
[1] «إذا» ساقطة من ت.(8/225)
ثم دخلت سنة تسع وخمسين ومائة
فمن الحوادث فِيهَا:
غزوة الْعَبَّاس بْن مُحَمَّد الصائفة حَتَّى بلغ أنقرة وانصرفوا سالمين [1] .
وَفِيهَا: ولي حمزة بْن مالك سجستان، وولي جبرئيل بْن يَحْيَى سمرقند [2] .
وعزل عَبْد الصَّمَدِ عَنِ المدينة عَنْ موجدة، واستعمل مكانه عَبْد اللَّه بْن محمد بن عبد الرحمن بن صفوان الجمحي [3] .
وَفِيهَا: بْنى المهدي مسجد الرصافة وبْنى حائطها وحفر خندقها [4] .
أَخْبَرَنَا [أَبُو منصور] عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن على قال:
أخبرنا الأزهري قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرَفَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الْعَبَّاس المنصوري قَالَ:
لما حصلت فِي يد المهدي الخزائن والأموال ودخائر المنصور أخذ في رد 103/ أالمظالم، وأخرج مَا فِي الخزائن ففرقه وبر/ أهله وأقرباءه ومواليه، وأخرج لأهل بيته أرزاقا لكل واحد منهم في كل شهر خمسمائة درهم، وأخرج لهم فِي الإقسام لكل واحد عشرة آلاف درهم.
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 116.
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 116.
[3] انظر: تاريخ الطبري 8/ 116.
[4] انظر: تاريخ الطبري 8/ 116.(8/226)
وزاد بعضهم: [وأمر ببْناء مسجد الرصافة وحاط حائطها، وخندق خندقها] [1] .
أَخْبَرَنَا الْقَزَّازُ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ [أَحْمَدُ بْنُ علي] الخطيب قال: أَخْبَرَنَا الجوهري قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عياش قَالَ: حَدَّثَنَا عبيد اللَّه بْن أَحْمَد المروزي قَالَ:
حَدَّثَنِي أبي قَالَ: حكي لنا أن الربيع قَالَ: مات المنصور وفي بيت المال شيء لم يجمعه خليفة قط مائة ألف ألف درهم، وستون ألف ألف درهم، فلما صارت الخلافة إِلَى المهدي قسم ذلك وأنفقه.
قَالَ الربيع: ونظرنا فِي نفقة المنصور فإذا هو ينفق فِي كل سنة ألفي درهم. قَالَ: وفتح المنصور يوما خزائن مروان بْن مُحَمَّد فأحصى مَا فِيهَا اثني عشر ألف عدل خزفا.
فأخرج منها ثوبا وَقَالَ: يا ربيع، اقطع من هَذَا الثوب جبتين، لي واحدة ولمحمد واحدة. قلت: لا يجيء منه هَذَا. قَالَ: فاقطع لي منه جبة وقلنسوة، وبخل بثوب آخر يخرجه للمهدي.
فلما أفضت الخلافة إِلَى المهدي أمر بتلك الخزانة بعينها ففرقت عَلَى الموالي والغلمان والخدم.
وَفِيهَا: وجه المهدي عَبْد الملك بْن شهاب المسمعي فِي البحر إِلَى بلاد الهند فِي خلق كثير فوصلوا إِلَى الهند فِي سنة ستين [2] .
وَفِيهَا: أمر المهدي بإطلاق من كَانَ فِي سجون المنصور إلا من كَانَ قبله دم أو كَانَ معروفا بالسعي فِي الأرض بالفساد، أو كَانَ لأحد قبله مظلمة. وَكَانَ ممن أطلق يعقوب ابْن داود مولى بْني سليم، وَكَانَ معه فِي الحبس الْحَسَن بْن إِبْرَاهِيم بْن عَبْد اللَّه بْن الْحَسَن بْن الْحَسَن بْن عَلِيّ بْن أبي طالب، فحوله المهدي إِلَى نصير الوصيف فحبس عنده [3] .
وَكَانَ سبب تحويله: أنه كَانَ هو ويعقوب فِي مكان واحد فأطلق يعقوب ولم يطلق الْحَسَن، فساء ظنه وخاف عَلَى نفسه، فالتمس مخرجا لنفسه/ فدس إلى بعض ثقاته 103/ ب
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 116.
[3] انظر: تاريخ الطبري 8/ 117.(8/227)
فحفر لَهُ سربا فِي موضع مسامت للموضع الَّذِي هو فِيهِ محبوس، وَكَانَ يعقوب بعد أن أطلق يطيف بابْن علاثة- وَهُوَ قاضي المهدي- ويلزمه حَتَّى أنس به، وبلغ يعقوب مَا عزم عليه الْحَسَن من الهرب، فأتى ابْن علاثة فأخبره أن عنده نصيحة للمهدي، فسأله إيصاله إِلَى أبي عبيد اللَّه، فدخل به إِلَيْهِ، فسأله إيصاله إِلَى المهدي ليعلمه النصيحة، فأدخله عليه فساره بذلك، فأمر بتحويل الْحَسَن إِلَى نصير، فلم يزل حَتَّى احتيل لَهُ فخرج، فطلب فلم يقدر عليه، فدعا المهدي يعقوب فأخبره خبر الْحَسَن فَقَالَ: لا علم لي بمكانه، ولكن إن أعطيتني [لَهُ] [1] أمانا يثق به ضمنت أن آتيك به. فأعطاه ذلك، فَقَالَ [لَهُ] : فاله عَنْ ذكره يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ [2] ، ودع طلبه، فإن ذلك يوحشه، ودعني وإياه حَتَّى أحتال لَهُ، وَقَالَ يعقوب: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ بسطت عدلك، وعممت بخيرك، وقد بقيت أشياء لو ذكرتها لم تدع النظر فِيهَا بمثل مَا فعلت فِي غيرها، وإن جعلت لي سبيلا إِلَى الدخول عَلَيْك، وأذنت لي فِي رفعها إليك فعلت فأعطاه المهدي ذلك، وَكَانَ يدخل عَلَى المهدي ليلا ويرفع إِلَيْهِ النصائح [3] الحسنة من أمر الثغور، وبْناء الحصون، وفكاك الأسارى، والقضاء عَلَى [4] الغارمين، والصدقة عَلَى المتعففين، فحظي بذلك عنده واتخذه أخا فِي اللَّه تعالى، وأخرج بذلك توقيعا أثبت فِي الدواوين، ثُمَّ تغير عليه وأمر بحبسه [5] .
وَفِيهَا: [6] عزل المهدي [إِسْمَاعِيل] بْن أبي إِسْمَاعِيل عَنِ الكوفة وأحداثها، وولاها إسحاق بن الصباح الكندي، وقيل: بل ولاها عيسى بْن لقمان، وقيل: كَانَ شريك عَلَى الصلاة والقضاء، وعيسى عَلَى الأحداث [7] .
وعزل عَنْ أحداث البصرة سَعِيد بْن دعلج، وعزل عَنِ الصلاة والقضاء عبيد اللَّه بْن الحسين، وولى مكانها عَبْد الملك بْن أيوب بْن ظبيان، وكتب إِلَيْهِ يأمره بإنصاف من
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[2] «يا أمير المؤمنين» ، ساقط من ت.
[3] في الأصل: «الحوائج» .
[4] في الأصل: «عن» .
[5] انظر: تاريخ الطبري 8/ 118- 119.
[6] في ت: «في هذه السنة» .
[7] انظر: تاريخ الطبري 8/ 120.(8/228)
تظلم/ من سَعِيد بْن دعلج، ثُمَّ صرفت الأحداث في هذه السنة عَنْ عَبْد الملك بن 104/ أأيوب إلى عمارة بن حمزة، فولاها عمارة رجلا يقال لَهُ: المسور بْن عَبْد اللَّه وأمر عَبْد الملك عَلَى الصلاة.
وَفِيهَا: عزل قثم بْن الْعَبَّاس عَنِ اليمامة عَنْ سخط فوصل كتاب عزله إِلَى اليمامة وقد تُوُفِّيَ، فاستعمل مكانه بِشْر بْن المنذر [1] الْبَجَلِيّ.
وعزل يزيد بْن منصور عَنِ اليمن فاستعمل مكانه رجاء بْن روح، وعزل الهيثم بْن سَعِيد عَنِ الجزيرة واستعمل عَلَيْهَا الفضل بْن صالح، وعزل مطر مولى المنصور عن مصر واستعمل مكانه أبو ضمرة بْن سليمان [2] .
وَفِيهَا: أعتق المهدي الخيزران أم ولده وتزوجها [3] .
وَفِيهَا: تزوج المهدي [أيضا] أم عبيد اللَّه بْنت صالح بْن عَلِيّ [4] .
وَفِيهَا: وقع حريق فِي ذي الحجة فِي السفن [ببغداد، عند قصر عيسى بْن عَلِيّ، فاحترقت السفن] [5] ، واحترق ناس كثير [6] .
وَفِيهَا: كانت حركة من تحرك من بْني هاشم وشيعتهم من أَهْل خراسان فِي خلع عيسى بْن موسى من ولاية العهد، وتصيير ذلك لموسى بْن المهدي، فلما تبين ذلك المهدي كتب إِلَى عيسى وَهُوَ بالكوفة ليقدم عليه، فأحس عيسى بذلك، فامتنع من القدوم، وَكَانَ المهدي قَدْ سأل عيسى أن يخرج من الأمر، فامتنع عليه، فأراد الإضرار به، فولى الكوفة روح بن حاتم، وكان المهدي يحب أن يحمل روح عَلَى عيسى بعض الحمل، فلم يجد إِلَى ذلك سبيلا، وَكَانَ عيسى قَدْ خرج إِلَى ضيعته بالرحبة فلا يدخل إِلَى الكوفة إلا فِي رَمَضَان، فيشهد الجمع والعيد [7] ، ثُمَّ يرجع إِلَى ضيعته، ثُمَّ إن
__________
[1] في ت: «بشر بن الوليد» .
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 120- 121.
[3] انظر: تاريخ الطبري 8/ 121.
[4] انظر: تاريخ الطبري 8/ 121.
[5] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[6] انظر: تاريخ الطبري 8/ 121.
[7] في ت: «الأعياد» .(8/229)
المهدي ألح عَلَى عيسى وَقَالَ لَهُ: إن لم تجبْني إِلَى أن تنخلع منها حَتَّى أبايع لموسى وهارون، استحللت منك بمعصيتك مَا يستحل من العاصي، وإن أجبتني عوضتك عنها ما هو أجدى عليك إنعاما. فأجابه فبايع لهما وخلع عيسى وأمر لَهُ بعشرة آلاف ألف.
وقيل بعشرين ألف ألف [1] ، وقطائع كثيرة [2] .
وفي هذه السنة: / حج بالناس يزيد بْن المنصور خال المهدي عند قدومه من اليمن، وكان المهدي قَدْ أمره بالانصراف إِلَيْهِ وولاه الموسم [3] .
وَكَانَ أمير المدينة في هذه السنة عَبْد اللَّه بْن صفوان الجمحي، وَكَانَ عَلَى صلاة الكوفة وأحداثها إِسْحَاق بْن الصباح الكندي، وعلى خراجها ثَابِت بْن موسى، وعلى قضائها شريك بْن عَبْد اللَّه، وعلى صلاة البصرة عَبْد الملك بْن أيوب، وعلى أحداثها عمارة بْن حمزة وخليفته عَلَى ذلك المسور بْن عَبْد اللَّه بْن مسلم الباهلي، وعلى قضائها عبيد اللَّه بْن الْحَسَن وعلى كور دجلة وكور الأهواز وكور فارس عمارة بْن حمزة، وعلى السند البسطام بْن عَمْرو، وعلى اليمن رجاء بْن روح، وعلى اليمامة بِشْر بْن المنذر، وعلى خراسان أَبُو عون عَبْد الملك بْن يزيد، عَلَى الجزيرة الفضل بْن صالح، وعلى إفريقية يزيد بْن حاتم. وعلى مصر أَبُو ضمرة مُحَمَّد بْن سليمان [4] .
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر.
854- حميد بْن قحطبة.
عامل المهدي عَلَى خراسان.
تُوُفِّيَ في هذه السنة، فولى المهدي مكانه أبا عون عَبْد الملك بْن يزيد.
855- سلمى بْن عَبْد اللَّه بْن سلمى، أَبُو بكر الهذلي الْبَصْرِيّ [5] .
حدث عَنْ الحسن، وابن سيرين، وعكرمة، والشعبي والزهري.
__________
[1] «ألف وقيل: بعشرين ألف ألف» . ساقطة من ت.
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 121- 122.
[3] انظر: تاريخ الطبري 8/ 122.
[4] انظر تاريخ الطبري 8/ 123.
[5] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 9/ 223.(8/230)
روى عنه: أَبُو معاوية وابْن المبارك، وشبابة، وَكَانَ من العلماء بأخبار الناس وأيامهم.
وَقَالَ السفاح: مَا رأيت [أحدا] [1] أغزر علما من أبي بكر الهذلي، لم يعد علي حديثا قط، إلا أن المحدثين ضعفوه وتركوا حديثه.
856- عَبْد العزيز بْن أبي رواد مولى المغيرة بْن المهلب بْن أبي صفرة.
روى عَنْ جماعة من التابعين كعطاء، وعكرمة، ونافع، وَكَانَ من العباد، وذهب بصره فلم يعلم به أهله عشرين سنة.
أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ القزاز قال: أخبرنا أحمد بن على بن ثابت قال: أخبرني 105/ أعبد اللَّه بْن يَحْيَى اليشكري قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر الشافعي قَالَ: أَخْبَرَنَا جَعْفَر/ بْن مُحَمَّد بْن الأزهري [2] قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن العلائي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سهل المدائني، عَنْ شعيب بْن حرب قَالَ: جلست إِلَى عَبْد الْعَزِيز بْن أبي رواد خمسمائة مجلس فما أحسب أن [3] صاحب الشمال كتب شيئا.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن أبي القاسم قَالَ: أَخْبَرَنَا حمد بْن أَحْمَد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن حيان قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد بْن روح قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن حبيق قَالَ: سمعت يوسف بْن أسباط يَقُول: مكث عَبْد العزيز بْن أبي رواد أربعين سنة لم يرفع طرفه إِلَى السماء، فبينا هو يطوف حول الكعبة إذ طعنه المنصور أَبُو جَعْفَر بإصبعه فِي خاصرته فالتفت إِلَيْهِ فَقَالَ: قَدْ علمت أنها إصبع جبار.
تُوُفِّيَ عَبْد العزيز في هذه السنة بمكة.
857-[معبد] [4] بْن الخليل.
عامل المهدي. تُوُفِّيَ بالسند وَهُوَ [عامله] [5] عَلَيْهَا فاستعمل مكانه روح بن حاتم.
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[2] في ت: «جعفر بن أحمد بن الأزهر» .
وفي الأصل: «جعفر بن محمد الأزهري» .
[3] «أن» ساقطة من ت.
[4] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[5] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.(8/231)
858-[مُحَمَّد] [1] بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن المغيرة بْن الحارث بْن أبي ذئب، أَبُو الحارث القرشي المدني [2] .
ولد سنة ثمانين، سمع عكرمة، والزهري وخلقا كثيرا، وَكَانَ فقيها ورعا صالحا ثقة، يأمر بالمعروف وينهى عَنِ المنكر، أقدمه المهدي بغداد، فحدث بها، ثُمَّ رجع يريد المدينة، فمات بالكوفة في هَذِهِ السنة، وَهُوَ ابْن تسع وسبعين سنة.
روى عنه: الثوري ووكيع، ويزيد بْن هارون، وابْن المبارك، وغيرهم.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ محمد قال: أخبرنا أَحْمَد بْن عَلي قَالَ: أَخْبَرَنَا البرقاني قَالَ: أخبرنا أحمد بن محمد بْن حيوية قَالَ: أَخْبَرَنَا الحسين بْن إدريس الأنصاري قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد سليمان بْن الأشعث قَالَ: سمعت أَحْمَد بْن حنبل يَقُول:
كَانَ ابْن أبي ذئب يشبه سَعِيد بْن المسيب. قيل لأحمد: خلف مثله ببلاده؟ قَالَ: لا، ولا بغيرها [3] .
وَقَالَ أَبُو داود: سمعت أَحْمَد يَقُول: كَانَ ابْن أبي ذئب ثقة صدوقا أفضل من مالك بْن أنس، إلّا أن مالكا أشد تنقية للرجال من ابْن أبي ذئب لا يبالي عمن يحدث [4] .
أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ/ قَالَ: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا الجوهري قَالَ:
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن عمران المرزباني قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بكر أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن عيسى المكي قال: حدثنا محمد بن القاسم بْن خلاد قَالَ: قَالَ ابْن أبي ذئب للمنصور: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ هلك الناس، فلو أعنتهم بما فِي يديك من الفيء؟ قَالَ: ويلك لولا مَا سددت من الثغور وبعثت من الجيوش لكنت تؤتى فِي منزلك وتذبح. فَقَالَ ابْن أبي ذئب: فقد سد الثغور وجيش الجيوش، وفتح الفتوح، وأعطى الناس أعطياتهم من هو خير منك. قَالَ: ومن هو ويلك؟ قَالَ: عُمَر بْن الخطاب: فنكس المنصور رأسه، والسيف بيد [5] المسيب والعمود بيد مالك بْن الهيثم ولم يعرض له والتفت إلى
__________
[1] بياض في الأصل مكان ما بين المعقوفتين.
[2] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 2/ 296- 305.
[3] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 2/ 298.
[4] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 2/ 298.
[5] في ت: «والسيف في يد» .(8/232)
مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم الإمام، فَقَالَ: هَذَا الشيخ خير أَهْل الحجاز [1] .
أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن عَلِيّ قَالَ: حَدَّثَنِي عبيد اللَّه بْن أَحْمَد بْن عُثْمَان الصَّيْرفيّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن العباس الخزاز قَالَ: حدثنا عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد البغوي قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن أيوب العابد قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عُمَر عَبْد اللَّه بْن كثير قَالَ:
حَدَّثَنِي حسن بْن زَيْد قَالَ: كَانَ قَدْ ولي عَبْد الصَّمَدِ عَلَى المدينة، فعاقب بعض القرشيين وحبسه [2] ، قال: فكتب بعض قرابته إلى أبي جعفر، فكتب أبو جعفر إلى المدينة، وأرسل رسولا وَقَالَ: اذهب فانظر قوما من العلماء فأدخلهم عليه حَتَّى يروا حاله ويكتبوا إلي بها، فأدخلوا عليه فِي حبسه: مالك بْن أنس، وابْن أبي ذئب، وابْن أبي سبرة وغيرهم من العلماء، فقالوا: اكتبوا بما ترون إِلَى أمير المؤمنين. قَالَ: وَكَانَ عَبْد الصَّمَدِ لما بلغه الخبر حل عنه الوثاق وألبسه ثيابا، وكنس البيت الَّذِي كَانَ فِيهِ ورشه، ثُمَّ أدخلهم عليه. فَقَالَ لهم الرسول: اكتبوا بما رأيتم، فأخذوا يكتبون شهد فلان وفلان. فَقَالَ ابْن أبي ذئب: لا تكتبوا شهادتي أنا أكتبها بيدي إذا فرغت فارم إلي بالقرطاس قَالَ: فكتبوا رأينا محبسا لينا ورأينا هيئة حسنة، وذكروا مَا يشبه هَذَا من الكلام. قَالَ: ثُمَّ دفع القرطاس إِلَى ابْن أبي ذئب، / فلما نظر في الكتاب فرأى هذا 106/ أالموضع [3] نادى: يا مالك داهنت وفعلت وفعلت وملت إلى الهوى، لكن اكتب: رأيت مجلسا ضيقا وأمرا شديدا. قَالَ: وجعل يذكر شدة الحبس وضيقه. قَالَ: وبعث الكتاب إِلَى أبي جَعْفَر، فقدم أَبُو جَعْفَر حاجا، فمر بالمدينة فدعاهم، فلما دخلوا عليه جعلوا يذكرون وجعل ابْن أبي ذئب يذكر شدة الحبس وضيقه، وشدة عَبْد الصَّمَدِ، وما يلقون منه. قَالَ: وجعل أَبُو جَعْفَر يتغير وجهه، وينظر إِلَى عَبْد الصَّمَدِ غضبا، قَالَ الْحَسَن بْن زيد: فلما رأيت ذلك أردت أن ألينه، وخشيت عَلَى عَبْد الصَّمَدِ من أبي جَعْفَر [4] أن يعجل عليه، فقلت: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ويرضى هَذَا أحد قَالَ ابْن أبي ذئب: أما والله إن يسألني عنك لأخبرته، فَقَالَ أَبُو جَعْفَر: فإني أسألك، فقال: يا أمير المؤمنين [ولي
__________
[1] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 2/ 299.
[2] في ت: «وعبسه» .
[3] في الأصل: «ورأى ما كتبوا» .
[4] «من أبي جعفر» ساقطة من ت.(8/233)
علينا] [1] ففعل بْنا وفعل. فأطنب فِي. فلما ملأني غيظا قلت: أفيرضي هَذَا أحدا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ سله عَنْ نفسك، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَر: فإني أسألك عَنْ نفسي فَقَالَ: لا تسألني، فقال: أنشدك باللَّه فكيف تراني؟ قَالَ: اللَّهمّ مَا أعلمك إلا ظالما جائرا، قَالَ:
فقام إِلَيْهِ وفي يده عمود، قَالَ الْحَسَن فجمعت [إلي] [2] ثيابي مخافة أن يصيبْني من دمه وقلت: الآن يضربه بالعمود فجعل يَقُول لَهُ: يا مجوسي أتقول هَذَا لخليفة اللَّه فِي أرضه؟
وجعل يرددها عليه وابْن أبي ذئب يَقُول: إنك نشدتني باللَّه يا عَبْد اللَّه. قَالَ: ولم ينله بسوء [قَالَ] [3] : وتفرقوا عَلَى ذلك [4] .
عَنْ مُحَمَّد بْن خلاد قَالَ: لما حج المهدي دخل مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يبق أحد إلا قام، إلّا ابْن أبي ذئب فَقَالَ لَهُ المسيب بْن زهير: من هَذَا أمير المؤمنين؟ فَقَالَ ابْن أبي ذئب: إنما يقوم الناس لرب العالمين، فَقَالَ المهدي: لقد قامت كل شعرة فِي رأسي [5] .
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[4] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 2/ 299- 300.
[5] هذا الخبر ساقط من ت.(8/234)
ثم دخلت سنة ستين ومائة
فمن الحوادث فِيهَا خروج يوسف بْن إِبْرَاهِيم من خراسان منكرا هو ومن معه عَلَى رأيه عَلَى [1] المهدي الحال التي هو بها وسيرته الَّتِي يسير بها، واجتمع معه بِشْر كثير من الناس، فتوجه إِلَى يزيد بْن مزيد فاقتتلا حَتَّى صارا إِلَى المعانقة، فأسره يزيد وبعث به إِلَى المهدي، وبعث معه من وجوه أصحابه بعده فلما انتهى بهم إِلَى النهروان حمل يوسف عَلَى بعير قَدْ حول وجهه إِلَى ذنب البعير وأصحابه عَلَى بعير، فأدخلوهم الرصافة عَلَى تلك الحال، فأدخلوا عَلَى المهدي، فأمر هرثمة بْن أعين بقطع يدي يوسف ورجليه، وضرب عنقه وأعناق أصحابه وصلبهم عَلَى جسر دجلة الأعلى مما يلي عسكر المهدي، وإنما أمر هرثمة بقتله لأنه كَانَ قتل أخا لهرثمة بخراسان [2] .
وَفِيهَا: خلع عيسى بْن موسى مما كَانَ لَهُ من البيعة بعد المهدي وذلك أنه أحضر وجوه رؤساء الشيعة وألح عليه المهدي، فرضي بالخلع والتسليم، فخلع يوم الأربعاء لأربع بقين من المحرم بعد صلاة العصر وبايع للمهدي ولموسى من بعده يوم الخميس لثلاث بقين من المحرم وقت ارتفاع النهار، ثُمَّ أذن المهدي لأهل بيته فأخذ بيعتهم لنفسه ولموسى بْن المهدي من بعده، ثُمَّ خرج إِلَى مسجد الجماعة بالرصافة، فصعد المنبر وصعد موسى، فقام دونه، وقام عيسى عَلَى أول عتبة من المنبر، فحمد اللَّه، وأثنى عليه- أعني المهدي- وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر بما أجمع عليه أهل بيته
__________
[1] «على» ساقطة من ت.
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 124.(8/235)
وشيعته وقواده وأنصاره من خلع عيسى وتصيير الأمر الَّذِي كَانَ عقد لَهُ فِي أعناق المسلمين لموسى ابْن أمير المؤمنين لاختيارهم لَهُ ورضاهم به وأن عيسى قَدْ خلع نفسه، وحللهم مما كَانَ لَهُ من البيعة فِي أعناقهم، وأن مَا كَانَ لَهُ من ذلك فقد صار لموسى ابن أمير 107/ أالمؤمنين بعقد من أمير المؤمنين وأهل بيته/ وشيعته فِي ذلك، وأن موسى عامل فيهم بكتاب الله وسنة نبيه محمد [1] صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ، بأحسن [2] السيرة، وأعدلها، وقرأ على عيسى كتاب ذكر الخلع، فأقر بذلك وتتابع [3] أَهْل بيت أمير المؤمنين والقواد يبايعون للمهدي ثُمَّ لموسى، ويمسحون على أيديهما، ثُمَّ نزل المهدي ووكل ببيعته من بقي من الخاصة والعامة خالد بْن يزيد بْن مَنْصُور، وكتب عَلَى عيسى بخلعه كتاب ليكون حجة عليه، وفيه: أنه قَدْ نزل عما كَانَ حقا لَهُ لموسى بْن المهدي وأنه إن لم يف بذلك فكل زوجة هي عنده من يوم كتب هَذَا الكتاب أو يتزوجها طالق ثلاثا البتة إِلَى ثلاثين [4] سنة، وكل مملوك لَهُ عنده اليوم أو يملكه إِلَى ثلاثين سنة أحرار لوجه اللَّه، وكل مال لَهُ من نقد أو عرض أو أرض أو قليل أو كثير ويستفيده إِلَى ثلاثين سنة صدقة عَلَى المساكين، وعليه من مدينة السلام المشي حافيا إِلَى بيت اللَّه العتيق نذرا واجبا ثلاثين سنة، وأشهد عَلَى نفسه بإقراره هَذَا مائة وثلاثين رجلًا من بْني هاشم والموالي والوزراء والقضاة، وكتب فِي صفر سنة ستين وختم عليه عيسى بْن موسى [5] .
[وفي هذه السنة] [6] : وصل عَبْد الملك بْن شهاب المسمعي فِي خلق كثير من المطوعة وغيرهم إلى بلد الكفار فنصبوا عَلَيْهَا المجانيق وفتحوها عنوة، وقتلوا أهلها واستشهد من المسلمين بضعة وعشرون رجلا، وهاج البحر فلم يقدروا عَلَى ركوبه، وأقاموا إِلَى أن سكن فأصابهم [7] فِي أفواههم داء فمات منهم نحو من ألف [8] رجل،
__________
[1] «محمد» ساقطة من ت.
[2] في ت: «فأحسن السيرة» .
[3] في ت: «وبايع» .
[4] في ت: «أو يتزوجها ثلاثين طالق ثلاثا البتة» .
[5] انظر الخبر في: تاريخ الطبري 8/ 124- 128.
[6] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[7] «إلى أن سكن فأصابهم» ساقطة من ت.
[8] في ت: «نحو جماعة» .(8/236)
فيهم الربيع بْن صبيح، ثُمَّ انصرفوا وسبى منهم ابْنة الملك [1] .
[وَفِيهَا] [2] : جعل أبان بْن صدقة كاتبا للمهدي ووزيرا [لَهُ] [3] .
[وَفِيهَا] [4] : عزل أَبُو عون عَنْ خراسان وولي مكانه معاذ بْن مسلم [5] /.
[وَفِيهَا] [6] : غزا ثمامة بْن الوليد الصائفة، وغزا الغمر بْن الْعَبَّاس الخثعمي بحر الشام [7] .
وَفِيهَا: رد المهدي إِلَى أبي بكرة من نسبهم فِي ثقيف إِلَى ولاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وألحقهم به، وأخرج آل زياد من قريش والعرب، وَكَانَ يَقُول ابن سميّة الزانية، ويقبّح استلحاق معاوية زيادا [8] .
وَفِيهَا: ولى المدينة- أعني قضاءها [9]- عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن عمران الطلحي [10] .
وَفِيهَا: خرج عَبْد السَّلامِ بْن هاشم [اليشكري] [11] الخارجي، وسيأتي خبر مقتله [12] .
وَفِيهَا: عزل بسطام بْن عَمْرو عَنِ السند واستعمل عَلَيْهَا روح بْن حاتم [13] .
__________
[1] في الأصل: «ونساء فيهم ابنة الملك» .
انظر الخبر في: تاريخ الطبري 8/ 128.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل. انظر الخبر في: تاريخ الطبري 8/ 128.
[4] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[5] انظر الخبر في: تاريخ الطبري 8/ 128.
[6] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[7] انظر الخبر في: تاريخ الطبري 8/ 129.
[8] انظر الخبر في: تاريخ الطبري 8/ 129- 132.
[9] في ت: «وفيها ولى المهدي قضاء المدينة» .
[10] انظر: تاريخ الطبري 8/ 132.
[11] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[12] انظر: تاريخ الطبري 8/ 132.
[13] انظر: تاريخ الطبري 8/ 132.(8/237)
وَفِيهَا: حج المهدي بالناس واستخلف عَلَى مدينة السلام ابْنه موسى، وترك معه يزيد بْن المنصور بأمر المهدي وزيرا لَهُ ومدبرا لأموره، وخرج مَعَ المهدي ابْنه هارون وجماعة من أَهْل بيته، فكان ممن شخص معه: يعقوب بْن داود عَلَى منزلته الَّتِي كانت عنده فأتاه حين وافى مكة بالحسن بْن إِبْرَاهِيم بْن عَبْد اللَّه الَّذِي استأمن لَهُ يعقوب، فأحسن المهدي صلته وجائزته، وأقطعه مالا من الصوافي بالحجاز.
وفي هذه السنة [1] : نزع المهدي كسوة الكعبة الَّتِي كانت عَلَيْهَا، وكساها كسوة جديدة، وذلك أن حجبة الكعبة رفعوا إِلَيْهِ أنهم يخافون عَلَى الكعبة لكثرة مَا عَلَيْهَا من الكسوة، فأمر أن يكشف عنها فكشف مَا عَلَيْهَا حَتَّى بقيت مجردة، ثُمَّ طلي البيت كله بالخلوق، ولما بلغوا إِلَى كسوة هِشَام وجدوها ديباجا ثخينا ووجدوا كسوة من كَانَ قبله عامتها من متاع اليمن [2] .
وقسم المهدي في هذه السنة فِي أَهْل مكة والمدينة مالا كثيرا، فذكر أنه قسم في 108/ أتلك السفرة ثلاثين ألف ألف درهم حملت معه، ووصل/ إليه من مصر ثلاثة مائة ألف دينار ومن اليمن مائتا ألف دينار قسم ذلك كله، وفرق من الثياب مائة ألف ثوب وخمسين ألف ثوب، ووسع فِي مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم، وأمر بْنزع المقصورة الَّتِي فِي مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنزعت، وأراد أن ينقض [منبر] [3] مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيعيده إِلَى مَا كَانَ عليه، ويلقي مَا كَانَ معاوية زاده فِيهِ، فشاور فِي ذلك، فقيل لَهُ: إن المسامير الَّذِي أحدثه معاوية فِي الخشب الأول وَهُوَ عتيق لا نأمن إن خرجت المسامير الَّتِي فِيهِ وزعزعت أن ينكسر، فتركه عَلَى حاله، وأمر المهدي أيام مقامه بالمدينة بإثبات خمسمائة رجل من الأنصار ليكونوا معه حرسا لَهُ [4] بالعراق [وأنصارا] [5] ، وأجرى عليهم أرزاقا سوى أعطياتهم، وأقطعهم عند قدومهم معه بمدينة السلام قطيعة تعرف بهم، ودخل عليه عُثْمَان بْن طلحة فاستعفاه من القضاء [6] .
__________
[1] في ت: «وفيها» .
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 133.
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[4] «له» ساقطة من ت.
[5] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[6] انظر: تاريخ الطبري 8/ 133.(8/238)
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أَبُو بَكْرٍ [أَحْمَدُ] [1] بْنُ ثَابِتٍ قَالَ:
أَخْبَرَنَا عَبْد الصَّمَدِ بْن مُحَمَّد بْن مُحَمَّد بْن نصر بْن مكرم قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيل بْن سعيد المعدل قَالَ: حَدَّثَنَا الحسين بْن القاسم الكوكبي قَالَ: حدثنا أبو الفضل الربعي قال: حَدَّثَنِي أبي قَالَ: استقضى بعض أمراء المدينة عُثْمَان بْن طلحة بْن عُمَر بْن عبيد اللَّه بْن معمر، فامتنع عليه، فأشرف عليه بضرب السياط، فلما رأى ذلك قضى بين الناس حَتَّى استوجب رزق عشرة أشهر، وقدم المهدي المدينة حاجا، فدخل عليه عُثْمَان بْن طلحة، فسأله أن يعزله عَنِ القضاء، فَقَالَ: ليس إِلَى ذلك سبيل، قَالَ لَهُ عُثْمَان: والله يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لو علمت أن بلد الروم تجيرني ولا تمنعني من الصلاة لاستجرت به، قَالَ المهدي: وإنك عَلَى مَا قلت. قَالَ: فإني والله لعلى مَا قلت، قَالَ:
فإني قَدْ عزلتك فاقبض/ مَا لك عندنا من الرزق. قَالَ: والله مَا فِي عنه غنى، ولكن كان 108/ ب لي نظر وأشباه [ذلك] [2] يكرهون من هَذَا العمل مَا أكره، ثُمَّ أكرهوا عليه، فدخلوا فيه، فلما عزلوا كرهوا العزل، فلم أجد معناهم فِي كراهتهم العزل إلا هَذَا الرزق، فلذلك كرهت أخذه.
وتزوج المهدي فِي أيام مقامه بالمدينة رقية بْنت عَمْرو [3] العثمانية [4] .
وَفِيهَا: [5] رد المهدي عَلَى أَهْل بيته وغيرهم قطائعهم الَّتِي كانت مقبوضة عنهم [6] .
وَفِيهَا: حمل مُحَمَّد بْن سليمان الثلج للمهدي، حَتَّى وافى مكة، فكان المهدي أول من حمل لَهُ الثلج من الخلفاء إِلَى مكة [7] .
وَفِيهَا [8] : تزوج الهادي لبابة بْنت جعفر بن المنصور، وهي أخت زبيدة.
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[3] في ت: «بنت عثمان» .
[4] انظر: تاريخ الطبري 8/ 134.
[5] في ت: «وفي هذه السنة» .
[6] انظر: تاريخ الطبري 8/ 134.
[7] انظر: تاريخ الطبري 8/ 134
[8] في ت: «وفي هذه السنة» .(8/239)
وَكَانَ في هذه السنة عَلَى صلاة الكوفة وأحداثها إِسْحَاق بْن الصباح الكندي، وعلى قضائها شريك بْن عَبْد اللَّه النخعي، وعلى صلاة البصرة وأحداثها وأعمالها [1] ، وعلى كور دجلة، والبحرين، وعمان وكور الأهواز، وفارس مُحَمَّد بْن سليمان، وَكَانَ عَلَى قضاء البصرة عبيد اللَّه بْن الْحَسَن، وعلى خراسان معاذ بْن سالم، وعلى الجزيرة الفضل بْن صالح، وعلى السند رواح بْن حاتم. وعلى إفريقية يزيد [2] بْن حاتم، وعلى مصر سليمان بْن عَلِيّ [3] .
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
859- إبراهيم بْن أدهم بْن منصور بْن يزيد بْن جَابِر العجلي، ويقال: التَّمِيمِيّ [4] .
أصله من بلخ وَكَانَ من أولاد الملوك، وروى عَنْ جماعة من التابعين كأبي إسحاق السبيعي، وأبي حازم، وقتادة، ومالك بْن دينار، وأبان، والأعمش، واشتغل بالتزهد عَنِ الرواية، وَكَانَ يكون بالكوفة ثُمَّ بالشام.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيد أَحْمَد بْن مُحَمَّد البغدادي قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد الوهاب بْنِ أَبِي/ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَنْدَهْ قَالَ: أَخْبَرَنَا أبي [قَالَ: سمعت عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن الحارث قَالَ:
سمعت إِسْمَاعِيل بْن بِشْر البلخي] [5] قَالَ: سمعت عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد العابد يَقُول:
سمعت يونس بْن سليمان البلخي يَقُول: كَانَ إِبْرَاهِيم بْن أدهم من الأشراف، وَكَانَ أبوه كثير المال والخدم، فخرج إِبْرَاهِيم يوما إلى الصيد مَعَ الغلمان والخدم والجنائب والبزاة فبينا إِبْرَاهِيم في ذلك وهو على فرسه يركضه، إذا هو بصوت من فوقه: يا إِبْرَاهِيم، مَا هَذَا العبث أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ 23: 115 [6] اتق اللَّه، وعليك بالزاد ليوم الفاقة، قَالَ: فنزل عن دابته ورفض الدنيا وأخذ في عمل الآخرة.
__________
[1] في ت: «وعمالتها» .
[2] في الأصل: «روح بن حاتم» .
[3] انظر: تاريخ الطبري 8/ 134.
[4] انظر ترجمته في: تقريب التهذيب 1/ 31.
[5] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[6] سورة: المؤمنون، الآية: 23.(8/240)
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الباقي قَالَ: أَخْبَرَنَا حَمَدُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الحافظ قَالَ: حَدَّثَنَا الغطريفي قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاق بْن ديمهر قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن سَعِيد قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْر بْن المنذر قَالَ: كنت إذا رأيت إِبْرَاهِيم بْن أدهم كأنه ليس فِيهِ روح لو نفخته الريح لوقع، قَدِ اسود متدرعا بعباءة.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الباقي بإسناده، عَنْ شقيق بْن إِبْرَاهِيم يَقُول: قلت لإبراهيم بْن أدهم: تركت خراسان، قَالَ: مَا تهنيت بالعيش إلا فِي بلاد الشام أفر بديني من شاهق إِلَى شاهق، ومن جبل إِلَى جبل، فمن يراني يَقُول: موسوس، ومن يراني يَقُول: حمال.
عَنْ أَحْمَد [1] بْن أبي الحواري قَالَ: سمعت أَحْمَد بْن داود يَقُول: مر يزيد [2] بإبراهيم بْن أدهم وَهُوَ ينظر كرما، فَقَالَ: ناولني من هَذَا العنب، فَقَالَ: مَا أذن لي صاحبه، فقلت: السوط، وجعل يقنع رأسه فطأطأ إِبْرَاهِيم [3] رأسه، وَقَالَ: اضرب رأسا طال مَا عصى اللَّه. قَالَ: فأعجز الرجل عنه.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد قَالَ: أَخْبَرَنَا حمد قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن عَبْد اللَّه قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الحسين بْن مُحَمَّد بْن مُحَمَّد الجرجاني قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن عَلِيّ الطوسي قَالَ:
حَدَّثَنَا أَحْمَد بن سعيد الدارمي قال: حدثنا محبوب بن موسى قَالَ: أَخْبَرَنِي عَلِيّ بْن بكار قَالَ: كنا جلوسا بالمصيصة وفينا إِبْرَاهِيم بْن أدهم، فقدم رجل من خراسان فَقَالَ: أيكم إِبْرَاهِيم بْن أدهم، فَقَالَ القوم: هَذَا. قَالَ: إن إخوتك بعثوني إليك، فلما/ سمع بذكر إخوته قام فأخذ بيده فنحّاه، فقال: ما جاء بك؟ فَقَالَ: أنا مملوك معي فرس وبغلة وعشرة 109/ ب آلاف درهم، بعث بها إليك إخوتك، قَالَ: إن كنت صادقا فأنت حر، وما معك لك، اذهب فلا تخبر أحدا. فذهب.
عَنْ أحمد [4] بن أبي الحواري قال: سمعت أبا علي الجرجاني يحدّث أبا
__________
[1] في ت: «روى أحمد بن أبي الحواري» .
[2] في ت: «مر رجل» .
[3] «إبراهيم» ساقطة من ت.
[4] في ت: «قال أحمد ... » .(8/241)
سُلَيْمَان الداراني قَالَ: صلى إِبْرَاهِيم بْن أدهم خمس عشرة صلاة بوضوء واحد.
قَالَ مؤلف الكتاب رحمه اللَّه [1] : اقتصرت ها هنا عَلَى مَا ذكرت من أخباره، لأني قَدْ جمعت أخباره فِي مجلد فكرهت الإعادة فِي التواليف [2] .
تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيم بالجزيرة، وحمل إِلَى صور فدفن هُنَاكَ.
860- الْحَسَن بْن أبي جَعْفَر، أَبُو سَعِيد الجعفري واسم جَعْفَر: عجلان.
أسند عَنْ أبي الزُّبَيْر، وثابت الْبُنَانِيّ، وغيرهما.
أَخْبَرَنَا ابْن ناصر قَالَ: أَخْبَرَنَا حَمَدُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم الأصفهاني قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ محمد بن العباس قال:
حدثنا سلمة بْن شبيب قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن الجنيد قَالَ: حَدَّثَنَا القواريري قَالَ:
حَدَّثَنِي أَبُو عِمْرَانَ التمار قَالَ: غدوت يوما قبل الفجر إِلَى مسجد الجفري، فإذا باب المسجد مغلق، وإذا حسن جالس يدعو، وإذا ضجة فِي المسجد وجماعة يؤمنون عَلَى دعائه فقام فأذن وفتح باب المسجد، فدخلت، فلم أر فِي المسجد أحدا، فلما أصبح وتفرق عنه الناس، قلت لَهُ: يا أبا سَعِيد، إني والله رأيت عجبا، قَالَ: وما رأيت؟ فأخبرته بالذي رأيت وسمعت، قَالَ: أولئك جن من أَهْل نصيبين يجيئون فيشهدون معي ختم القرآن كل ليلة جمعة.
861- زمعة بْن صالح المكي [3] .
روى عَنْ سلمة بن وهرام، وابن طاووس. وروى عنه: وكيع.
أَخْبَرَنَا عَبْد الوهاب بْن المبارك قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَن بْن عَبْد الجبار قَالَ:
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْفَتْحِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه الدقاق قال: أخبرنا 110/ أأبو الحسين بْن صفوان قَالَ: أَخْبَرَنَا/ أَبُو بكر القرشي قَالَ: حَدَّثَنِي المفضل بْن غسان، عَنْ مؤمل بْن إِسْمَاعِيل قَالَ: حَدَّثَنَا القاسم بْن راشد الشيباني قَالَ: كَانَ زمعة نازلا عندنا، وَكَانَ لَهُ أَهْل وبْنات، وَكَانَ يقوم فيصلي ليلا طويلا، فإذا كَانَ السحر نادى بأعلى صوته:
__________
[1] في ت: «قال المصنف» .
[2] في ت: «التصانيف» .
[3] انظر ترجمته في: تقريب التهذيب 1/ 263.(8/242)
أيُّها الركب المعرسون، أكل هَذَا الليل ترقدون، ألا تقومون، فترحلون. فيسمع من هاهنا باك، ومن هاهنا داع، ومن هاهنا قارئ، ومن هاهنا متوضئ. فإذا طلع الفجر نادى بأعلى صوته: عند الصباح يحمد القوم السرى.
862- سليمان الخواص.
كَانَ من المتعبدين الفطناء أَخْبَرَنَا أَبُو بكر العامري قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد الْغَفَّارِ بْن مُحَمَّد الشيروي قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن باكويه قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن سَعِيد الأموي قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سهل الكرماني قَالَ: حَدَّثَنَا يوسف بْن موسى المروزي قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سلام قَالَ:
سمعت يزيد بْن سَعِيد يَقُول: دخل سَعِيد بْن عَبْد العزيز عَلَى سليمان الخواص فَقَالَ لَهُ:
أراك فِي ظلمة، قَالَ: ظلمة القبر أشد من هَذَا. قَالَ: أراك وحدك. قَالَ: إن للصاحب عَلَى الصاحب حقا فخفت أن لا أقوم بحق صاحبي، قَالَ: فأخرج سَعِيد صرة فِيهَا شيء، فَقَالَ لَهُ: تنفق هَذَا، وأنا أحلها لك بين يدي اللَّه تعالى، إنه حلال. قَالَ: لا حاجة لي فِيهَا، فَقَالَ لَهُ: رحمك اللَّه مَا ترى مَا الناس فِيهِ دعوة. قَالَ: فصرخ سليمان صرخة، ثُمَّ قَالَ: مالك يا سَعِيد فتنتني بالدنيا وتفتني بالدين، ما لي وللدعاء من أَنَا، فخرج سَعِيد، فأخبر بما كَانَ الأوزاعي، فَقَالَ الأوزاعي: دعوا سليمان، لو كَانَ سليمان من الصحابة كَانَ مثلا.
863- شعبة بْن الحجاج بْن الورد، أَبُو بسطام العتكي مولاهم، واسطي الأصل بصري الدار [1] .
ولد بواسط سنة ثلاث ومائتين، ونشأ بها، وانتقل إِلَى البصرة، ورأى الحسن، وابن سيرين، وسمع قتادة، ويونس بْن عبيد، وأيوب السجستاني، وخالد الحذاء، وعبد الملك بن عمير، وأبا إسحاق/ السبيعي، وطلحة بن مصرف، ومنصور بن 110/ ب المعتمر، والأعمش وغيرهم.
وقد روى عنه: أيوب، والأعمش، وابن عيينة، وابن المهدي، وكان أكبر من سفيان الثوري بعشر سنين، وكان عالما حافظا للحديث صدوقا زاهدا متعبدا، عارفا بالشعر.
__________
[1] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 9/ 255- 266.(8/243)
قَالَ الأصمعي: لم نر أحدا أعلم بالشعر من شعبة.
أَخْبَرَنَا أَبُو منصور القزاز قَالَ: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا أبو القاسم عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد السراج قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو منصور مُحَمَّد بْن القاسم الضبعي قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرو الخفاف قَالَ: حَدَّثَنَا الدوري قَالَ: حَدَّثَنَا قرار أَبُو نوح قَالَ: رأى علي شعبة قميصا فَقَالَ: بكم أخذت هَذَا؟ قلت: بثمانية دراهم. قَالَ: ويحك، أما تتقي اللَّه تلبس قميصا بثمانية دراهم [1] ؟ ألا اشتريت قميصا بأربعة دراهم، وتصدقت بأربعة [2] .
قَالَ الضبعي: وحدثنا أَبُو عَمْرو أَحْمَد بْن مُحَمَّد الحيري قَالَ: حَدَّثَنَا أبي قَالَ:
سمعت مُحَمَّد بْن مُعَاوِيَة وسليمان بْن حرب إِلَى جنبه يَقُول: خرج الليث بْن سعد يوما فقوموا ثيابه ودابته وخاتمه وما كَانَ عليه ثمانية عشر ألف درهم إِلَى عشرين ألفا، فَقَالَ سليمان بن حرب: خرج شعبة يوما فقوموا حماره وسرجه ولجامه بثمانية عشر درهما إِلَى عشرين درهما [3] .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرني الأزهري قال: حدثنا محمد بن الْعَبَّاس قَالَ: حَدَّثَنَا [أَبُو عَبْد اللَّه بْن مغلس] قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرو بْن عَلِيّ الفلاس قَالَ: سمعت أبا بحر البكراوي يَقُول: مَا رأيت أعبد للَّه من شعبة، لقد عَبْد اللَّه حَتَّى جف جلده عَلَى عظمه ليس بينهما لحم [4] .
قَالَ مؤلف الكتاب [5] : كَانَ شعبة متشاغلا بالعلم، لا يكسب شيئا من الدنيا، وَكَانَ لَهُ إخوة يقومون بأموره، فاشترى أحد أخوته طعاما من السلطان فخسر فِيهِ، فقدم شعبة على المهدي في ذلك فعابه بالدخول عليهم سفيان الثوري، فَقَالَ شعبة: هو لم يحبس أخوه.
11/ أأخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت/ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَلي بْن مخلد قَالَ: أَخْبَرَنَا أحمد بْن محمد بْن عمران قال: أخبرنا محمد بن يحيى
__________
[1] «ويحك ... » حتى « ... دراهم» ساقط من ت.
[2] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 9/ 262.
[3] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 9/ 262.
[4] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 9/ 263.
[5] في ت: «قال المصنف» .(8/244)
الصولي قَالَ: حَدَّثَنَا المبرد قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاس بْن الفرج الرياشي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عاصم قَالَ: اشترى أخ لشعبة من طعام السلطان فخسر هو وشركاؤه، فحبس عَلَى [1] ستة آلاف دينار تخصه، فخرج شعبة إِلَى المهدي ليكلمه فِيهِ فلما دخل عليه قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أنشدني قَتَادَة وسماك بْن حرب لأمية بْن أبي الصلت:
أأذكر حاجتي أم قَدْ كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء
كريم لا يغيره صباح ... عَنِ الخلق الكريم ولا مساء
فأرضك أرض مكرمة بْنتها ... بْنو تيم وأنت لهم سماء
فَقَالَ: لا يا أبا بسطام، لا تذكرها، قَدْ عرفناها وقضيناها لك، ادفعوا إِلَيْهِ أخاه، ولا تلزموه شيئا [2] .
أَخْبَرَنَا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم الحافظ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن عَبْد اللَّه المعدل قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إِسْحَاق السراج قَالَ: سمعت بعض أصحابْنا يَقُول: وهب المهدي لشعبة ثلاثين ألف درهم فقسمها، وأقطعه ألف جريب بالبصرة، فقدم البصرة فلم يجد شيئا يطيب لَهُ فتركها ولم يرجع [3] .
تُوُفِّيَ شعبة بالبصرة فِي هذه السنة وَهُوَ ابْن سبع وسبعين سنة.
864- عَبْد اللَّه بْن صفوان الجمحي [4] .
والي المدينة. تُوُفِّيَ فولي مكانه زفر بْن عاصم.
865- عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عَبْد اللَّه بْن عتبة بْن عَبْد اللَّه بْن مسعود الهذلي المسعودي [5] .
سمع القاسم بْن عَبْد الرَّحْمَنِ، وسلمة بْن كهيل وعاصم بْن بهدلة وغيرهم.
روى عنه: الثوري، وشعبة، وابْن عتبة، ووكيع ويزيد بن هارون وغيرهم.
__________
[1] «على» ساقطة من ت.
[2] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 9/ 256.
[3] «ولم يرجع» ساقطة من ت.
انظر الخبر في: تاريخ بغداد 9/ 256.
[4] انظر ترجمته في: تقريب التهذيب 1/ 423.
[5] انظر ترجمته في: تقريب التهذيب 1/ 487.(8/245)
قَالَ الأثرم: سئل أَبُو عَبْد اللَّه أَحْمَد بْن حنبل عَنْ أبي عمير وَعَبْد الرَّحْمَنِ المسعودي: أيهما أحب إليك؟ قَالَ: كلاهما ثقة، المسعودي عَبْد الرَّحْمَنِ أكثرهما 111/ ب حديثا، قيل: لَهُ إخوة؟ قَالَ: نعم. قيل لَهُ: هما من/ ولد عَبْد اللَّه بْن مسعود أو من ولد عتبة؟ فَقَالَ: هما من ولد عبيد الله بن عتبة بْن مسعود، وابْن عتبة بْن عَبْد اللَّه بْن مسعود، فَقَالَ: ابْن عتبة بْن عَبْد اللَّه بْن مسعود.
قَالَ: وَقَالَ رجل للمسعودي: إنك من ولد عتبة بْن مسعود فغضب، وَقَالَ: أنا من ولد عَبْد اللَّه بْن مسعود. وقد اتفقوا عَلَى أن عَبْد الرَّحْمَنِ ثقة، وإنما ذكروا أنه اختلط في آخر عمره.
تُوُفِّيَ سنة ستين، وقيل: سنة خمس وستين، والأول أصح.(8/246)
ثم دخلت سنة إحدى وستين ومائة
فمن الحوادث فِيهَا:
خروج حكيم المقنع بخراسان من قرية من قرى مرو، وَكَانَ فيما ذكر يَقُول بتناسخ الأرواح، فاستغوى بشرا كثيرا، وسار إِلَى مَا وراء النهر، فوجه المهدي لقتاله عدة من قواده، فيهم مُعَاذ بْن سالم وَهُوَ يومئذ عَلَى خراسان، ومعه عقبة بْن سالم، وجبرئيل بْن يَحْيَى، وليث مولى المهدي، ثُمَّ أفرد المهدي لمحاربته سَعِيد الحرشي، وضم إِلَيْهِ هؤلاء القواد، فابتدأ المقنع يجمع الطعام فِي قلعة بكش عدة للحصار [1] .
وَفِيهَا: ظفر بِشْر بْن مُحَمَّد بْن الأشعث الخزاعي بعَبْد اللَّه بْن مروان بالشام، فقدم به عَلَى المهدي ولم يعرض لَهُ [2] .
وَفِيهَا: غزا الصائفة ثمامة بْن الوليد، وخرج إِلَى الروم، وأصيب من المسلمين عدة [3] .
وَفِيهَا: أمر المهدي ببْناء القصور بطريق مكة أوسع من القصور الَّتِي كَانَ أَبُو الْعَبَّاس بْناها من القادسية إِلَى زبالة، وأمر بالزيادة فِي قصور أبي الْعَبَّاس، وترك منازل أبي جَعْفَر الَّتِي كَانَ بْناها عَلَى حالها، وأمر باتخاذ المصانع فِي كل منهل، وبتجديد الأميال والبرد، وحفر الركايا مَعَ المصانع، وولى ذلك يقطين بْن موسى، فلم يزل ذلك إِلَيْهِ إِلَى سنة إحدى وسبعين ومائة، وَكَانَ خليفة يقطين فِي ذلك أخوه أبو موسى [4] .
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 135.
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 136.
[3] انظر: تاريخ الطبري 8/ 135.
[4] انظر: تاريخ الطبري 8/ 136.(8/247)
112/ أوفيها: / أمر المهدي بالزيادة فِي المسجد الحرام ومسجد المدينة ومسجد الجامع بالبصرة، فزيد فِي مقدمته مما يلي القبلة، وعن يمينه مما يلي رحبة بْني سليم [1] ، وولى ذلك مُحَمَّد بْن سُلَيْمَان، وَهُوَ يومئذ والي البصرة.
وَفِيهَا [2] : أمر المهدي بْنزع المقاصير، وتقصير المنابر وتصييرها إِلَى المقدار الَّذِي عليه مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [اليوم] [3] ، وكتب بذلك إِلَى الآفاق فعمل به [4] .
وَفِيهَا: أمر المهدي يعقوب بْن داود بتوجيه الأمناء فِي جميع الآفاق، ففعل وَكَانَ لا ينفذ للمهدي كتاب [5] إِلَى عامل فيجوز حَتَّى يكتب يعقوب إِلَى ثقته وأمينه بإنفاذ ذلك [6] .
وَفِيهَا: اتضعت منزلة أبي عبيد اللَّه وزير المهدي، وسبب ذلك أن الموالي كانوا يشنعون عليه عند المهدي ويحرضونه عليه، ولما رأى أَبُو عبيد اللَّه غلبة [7] الموالي عَلَى المهدي، وخلوتهم به، ضم إِلَى المهدي رجالا من قبائل شتى من أَهْل الأدب والعلم وكانوا فِي صحابته، ولم يكونوا ليدعوا الموالي يخلون به، ولما تولى الربيع أمر البيعة للمهدي وقدم عَلَى أبي عبيدة، فلم يتحرك لَهُ ولم يكرمه ولم يسأله كيف كَانَ أمر البيعة، فابتدأ الربيع يحدثه، فَقَالَ: قَدْ بلغنا نبأكم، فخرج الربيع مجتهدا فِي أذى أبي عبيد اللَّه، فاتهم ابنه مُحَمَّد ببعض حرم المهدي، حَتَّى استحكمت الظنة عند المهدي بمحمد بْن أبي عُبَيْد اللَّه، فأمر فأحضر، فَقَالَ: يا مُحَمَّد، اقرأ، فاستعجمت عليه القراءة، فَقَالَ: يا معاوية، ألم تعلمني أن ابْنك جامع للقرآن، فَقَالَ: بلى، ولكن فارقني منذ سنين فنسي، فَقَالَ: قم فتقرب إِلَى الله تعالى بدمه. فذهب يقوم فوقع، فَقَالَ الْعَبَّاس بْن مُحَمَّد: إن رأيت يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أن تعفي الشَّيْخ، ففعل، وأمر به فضربت عنقه، ثُمَّ اتهم المهدي أبا عُبَيْد اللَّه فِي نفسه فَقَالَ لَهُ الرَّبِيع، قتلت ابْنه وليس ينبغي أن
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 136.
[2] «وفيها» ساقطة من ت.
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[4] انظر: تاريخ الطبري 8/ 136.
[5] «كتاب» ساقط من ت.
[6] انظر: تاريخ الطبري 8/ 136.
[7] في ت: «نقاقة» .(8/248)
يوثق به فأوحش المهدي/ منه واشتفى الربيع [1] .
وروى القاسم بْن الربيع قَالَ: دخل الربيع عَلَى المهدي وأبو عبيد اللَّه يعرض عليه كتبا، فقال لَهُ أَبُو عُبَيْد اللَّه: مر هَذَا أن [2] يتنحى- يعني الربيع- فَقَالَ لَهُ: تنح، قَالَ: لا أفعل قال: كأنك تراني بالعين الأولى، قَالَ: لا بل أراك بالعين الَّتِي أنت بها، قَالَ: فلم لا تتنحى إذ أمرتك، قَالَ: أنت ركن الإسلام، وقد قتلت ابْن هَذَا، فلا آمن أن يكون معه حديدة يغتالك بها، فقام المهدي مذعورا وأمر بتفتيشه فوجد بين جوربه وخفه سكينا، فردت الأمور كلها إلى الربيع، وعزل أَبُو عبيد اللَّه، وولي يعقوب بْن داود مكانه، وَكَانَ بلغ المهدي من قبل الربيع أن ابْن أبي عبيد اللَّه زنديق، فأتي به، فأقر بذلك، فاستتيب فلم يتب، فقتله وصلبه على باب أبي عبيد اللَّه.
أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي، عَنْ أبي القاسم عَلِي بْن المحسن التنوخي، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الحسين عَلِيّ بْن هِشَام قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَن أَحْمَد بْن مُحَمَّد الكاتب المعروف بابْن أبي عُمَر قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مُحَمَّد العتابي قَالَ: حَدَّثَنَا خالي أَبُو مُحَمَّد قَالَ: سمعت إِبْرَاهِيم بْن العباسي الصوفي يَقُول: حدثت عَنِ المأمون، عَنِ الرشيد أنه سمع المهدي يقول: بعد زوال أبي عبيد اللَّه [3] عَنِ الوزارة، وتفويض الأمر إِلَى يعقوب بْن داود، مَا رأيت أحزم ولا أفهم ولا أعف ولا أكفأ من أبي عبيد اللَّه، ولقد كنت أحبه وأجريه مجرى الوالد، ومذ خدمني اجتهدت أن يدعوني إِلَى داره فيمتنع ويزعم أنه لا تتسع همته ولا نعمته لذلك فاعتل، فكتب إلي باستعلاله، وأنه عَلَى الركوب إلي عازم [4] بعد يوم أو يومين، فسابقته فركبت إِلَيْهِ وقلت: قَدْ كنت أجتهد بك أن تدعوني فتأبى، وقد جئتك جامعا للعيادة والتهنئة بالعافية والدعوة، فقال: والله يا أمير المؤمنين:
ما لي طعام ولا غلمان ولا زي يصلح لدعوتك، فقلت: قَدْ فرغت لك من ذلك وتقدمت إِلَى غلماني بحمل الآلات والطعام، وإنما أردت تشريفك والأنس بك، وجاء الغلمان بالآلات/ وجلسنا فأكلنا وجعل يتحفني بالفاخر من الفرش والآنية والآلات التي في بيته 113/ أهدية لي، فأخذت أحسنها فازداد ابتهاجا، فلما أردت الانصراف قال لي: أريد أن أبكي
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 137- 139.
[2] «أن» ساقطة من ت.
[3] في الأصل: أبي عبيدة.
[4] «عازم» ساقطة من ت.(8/249)
وأنا أتطير أن أبكي بعد انصراف أمير المؤمنين، وأنا أستأذن فِي البكاء بحضرته، وانحدرت دموعه، بعد عقيب الكلام، وبكى بكاء شديدا، فقلت: يا هَذَا، أنا أعلم فيك سخاء نسميه حسن تدبير، فإن كَانَ بك مَا أهديته فهو مردود عَلَيْك. فحلف بأيمان عظيمة أنه مَا بكى لذلك، وَقَالَ: كيف أبكي عَلَى مَا أسر به، حيث جعلتني أهلا لقبوله، قلت: فلم؟ قَالَ: لم يبق مرتبة تنال إلا وقد نلتها وبلغتها بفضل أمير المؤمنين حَتَّى انتهت بي الحال إِلَى أن يعودني أمير المؤمنين أو يهنئني بحال تورده أو يصير إِلَى دعوتي، فلما كَانَ اليوم جمع لي أمير المؤمنين ذلك [1] ، فعلمت أني قَدْ بلغت النهاية وأنه ليس بعدها إلا الانحطاط، فبكيت لذلك فرققت لَهُ، وعلمت فضله، وقلت لَهُ: أما فِي أيامي فأنت آمن من ذاك، واعتقدت أن لا أنكبه، فلما رأى الربيع منزلته حسده، فجد فِي السعاية إلي به، والفساد بيننا، والحيلة عليه، إِلَى أن جرى فِي أمر ابْنه وإقراره بالزندقة مَا لم يسع معه إلا أن يقتل فقتله، وخفت أن يكون قَدِ استوحش لذلك، فلم آمنه عَلَى نفسي، فاحتجت إِلَى صرفه فصرفته وَكَانَ الأمر عَلَى ظنه من النقصان بعد التناهي [2] .
وَفِيهَا [3] : غزا الغمر بْن الْعَبَّاس الخثعمي فِي البحر [4] .
وَفِيهَا: ولي نصر بْن مُحَمَّد بْن الأشعث السند مكان روح بْن حاتم، وشخص إليها، ثُمَّ عزل وولي مكانه مُحَمَّد بْن سليمان، فوجه إليها عَبْد الملك بْن شهاب المسمعي، وأبا نصر بْن مُحَمَّد عَلَى السند، فرجع إِلَى عمله، وإنما أقام بها عَبْد الملك ثمانية عشر يوما ورجع إِلَى البصرة [5] .
وَفِيهَا استقضى المهدي عافية بْن يزيد الأزدي، فكان هو وابْن غلاثة يقضيان في 113/ أعسكر المهدي بالرصافة، وَكَانَ القاضي/ بالمدينة الشرقية عُمَر بْن حبيب العدوي [6] .
وَفِيهَا: عزل الفضل بْن صالح عَنِ الجزيرة واستعمل عَلَيْهَا عَبْد الصَّمَدِ بن علي،
__________
[1] «أو يهنئني ... » حتى « ... أمير المؤمنين ذلك» ساقط من ت.
[2] في ت: «التناجي» .
[3] في ت: «وفي هذه السنة» .
[4] انظر: تاريخ الطبري 8/ 140.
[5] انظر: تاريخ الطبري 8/ 140.
[6] انظر: تاريخ الطبري 8/ 140.(8/250)
وولي يزيد بْن منصور سواد الكوفة، وحسان الشروي الموصل، وبسطام بْن عُمَر أذربيجان [1] .
وَفِيهَا: صرف أبان بْن صدقة عَنْ هارون بْن المهدي إِلَى موسى بْن المهدي، وجعل كاتبا لَهُ ووزيرا، وجعل مكانه مَعَ هارون يَحْيَى بْن خالد بْن برمك [2] .
وَفِيهَا: عزل مُحَمَّد بْن سليمان عَنْ مصر فِي ذي الحجة، ووليها سلمة بْن رجاء [3] .
وَفِيهَا: حج بالناس موسى بْن المهدي وَهُوَ فِي عهد أبيه، وَكَانَ عامل مكة والطائف والمدينة جَعْفَر بْن سليمان، وعامل اليمن عَلِيّ بْن سليمان، وَكَانَ عَلَى صلاة الكوفة وأحداثها إِسْحَاق بْن الصباح الكندي. وعلى سوادها يزيد بْن منصور [4] .
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
866- زند- بالنون [5]- بْن الجون، أَبُو دلامة الشاعر.
[قَالَ المؤلف] [6] : ومن قَالَ: زيد [فقد] [7] صحف، وَكَانَ كوفيا أسود، مولى لبْني أسد، وَكَانَ أبوه عبدا لرجل منهم يقال لَهُ: قصاقص فأعتقه، أدرك آخر بْني أمية- أعني أَبُو دلامة- لكن لم يكن لَهُ نباهه فِي أيامهم ونبغ فِي أيام بْني الْعَبَّاس، فانقطع إِلَى السفاح والمنصور والمهدي، وكانوا يقدمونه ويفضلونه ويستطيبون نوادره، ومدح المنصور، وذكر قتل أبا مسلم فَقَالَ فِيهَا:
أبا مسلم خوفتني القتل فانتحى ... عَلَيْك بما خوفتني الأسد الورد
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 140.
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 140.
[3] انظر: تاريخ الطبري 8/ 141.
[4] انظر: تاريخ الطبري 8/ 141.
[5] «بالنون» ساقط من ت.
انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 8/ 489.
[6] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[7] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.(8/251)
أبا مسلم مَا غير اللَّه نعمة ... عَلَى عبده حَتَّى يغيرها العبد
وأنشدها المنصور فِي محفل من الناس فَقَالَ: لَهُ عشرة آلاف درهم، فأمر له بها، فلما خلا به قال لَهُ: أما والله لو تعديتها لقتلتك.
وقد قيل إنه بقي إِلَى خلافة/ الرشيد ولا يثبت. وَكَانَ مطبوعا كثير النوادر.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو سَهْلٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: سمعت ثعلبا يَقُول: لما ماتت حمادة بْنت عِيسَى امرأة المنصور، وقف المنصور والناس معه عَلَى حفرتها ينتظرون مجيء الجنازة وأبو دلامة، فأقبل عليه المنصور فَقَالَ: يا أبا دلامة مَا أعددت لهذا المصرع؟ قَالَ: حمادة بْنت عِيسَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فأضحك القوم [1] .
أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أحمد بن على قال: أخبرنا أحمد بن مُحَمَّد العتيقي قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْعَبَّاس قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن دريد قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن أخي الأصمعي قَالَ: سمعت الأصمعي يَقُول: أمر المنصور أبا دلامة بالخروج نحو عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ فَقَالَ لَهُ أَبُو دلامة: نشدتك اللَّه يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أن تحضرني شيئا من عساكرك، فإني شهدت تسعة عساكر انهزمت كلها، وأخاف أن يكون عسكرك العاشر.
فضحك منه وأعفاه [2] .
أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن مَخْلَد قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن مُحَمَّد بْن عمران قَالَ: حَدَّثَنَا تمام بْن المنتصر قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو العيناء قَالَ: أَخْبَرَنِي العتابي قَالَ: دخل أَبُو دلامة عَلَى المهدي فطلب كلبا فأعطاه، ثُمَّ قائده فأعطاه، ثُمَّ دابة، ثُمَّ جارية تطبخ الصيد، فأعطاه قَالَ: من يعولها، أقطعني ضيعة أعيش فِيهَا وعيالي. قَالَ: قَدْ أقطعك أمير المؤمنين مائة جريب من العامر، ومائة من الغامر قَالَ: وما الغامر؟ قَالَ: الخراب الَّذِي لا ينبت، قَالَ أَبُو دلامة: قَدْ أقطعت أمير المؤمنين خمسمائة جريب من الغامر أرض بْني أسد، قَالَ: فهل بقيت لك من حاجة، قَالَ: نعم. قَالَ: تأذن لي أن أقبل يدك، قَالَ: ما إلى ذلك سبيل.
__________
[1] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 8/ 489.
[2] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 8/ 490.(8/252)
قَالَ: والله مَا رددتني عَنْ حاجة أهون علي فقدا منها [1] .
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحَاجِّيُّ وحدثنا عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ قَالَ:
أَخْبَرَنا أَبُو عَبْد اللَّه أَحْمَد بْن أَحْمَد بْن سليمان الواسطي قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّد الفرضي قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرو مُحَمَّد بْن عَبْد الواحد النحويّ/ قال: 114/ ب حَدَّثَنَا ثعلب، عَنْ مُحَمَّد بْن سلّام قَالَ: لقي روح بْن حاتم بعض الحروب فَقَالَ لأبي دلامة- وقد دعاه رجل منهم إِلَى البراز- تقدم إِلَيْهِ، قَالَ: لست بصاحب قتال، قَالَ:
لتفعلن، قَالَ: إني جائع فأطعمني، فدفع إِلَيْهِ خبزا ولحما، وتقدم فهم به الرجل فَقَالَ لَهُ أَبُو دلامة: اصبر يا هَذَا أي محارب تراني؟ ثُمَّ قَالَ: أتعرفني؟ قَالَ: لا، قَالَ: فهل أعرفك؟
قَالَ: لا، قَالَ: فما فِي الدنيا أحمق منا ودعاه للغداء فتغديا جميعا وافترقا، فسأل روح عما فعل، فحدث فضحك، ودعا به، وسأله عَنِ القصة فَقَالَ:
إني أعوذ بروح أن تقدمني ... إِلَى القتال فيخزي بي بْني أسد
إن المهلب حب الموت ورثكم ... ولا ورثت لحب الموت من أحد
867- سفيان بْن سَعِيد بْن مسروق، أَبُو عَبْد اللَّه الثوري [2] .
من أَهْل الكوفة، ولد فِي خلافة سليمان بْن عَبْد الملك وسمع خلقا كثيرا وَكَانَ من كبار أئمة المسلمين، لا يختلف فِي إمامته وأمانته وحفظه وعلمه وزهده.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق قال: حدثنا عثمان بن أحمد قال: حدثنا سهل بْن عَلِيّ الدوري [3] قَالَ: حَدَّثَنِي الْحُسَيْن بْن عَلِيّ بْن يزيد الصدائي قَالَ: حَدَّثَنَا البراء بْن رستم قَالَ: سمعت يونس بْن عبيد يَقُول: مَا رأيت أفضل من سفيان الثوري، فَقَالَ لَهُ: يا أبا عَبْد اللَّه رأيت سَعِيد بْن جبير، وإبراهيم [4] ، وعطاء، ومجاهدا وتقول هَذَا؟ قَالَ: هو مَا أقول، مَا رأيت أفضل من سفيان الثوري [5] .
__________
[1] انظر الخبر في: تاريخ الطبري 8/ 492- 493.
[2] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 9/ 151- 174.
[3] في ت، الأصل: «إسماعيل بن علي الروبي» .
[4] «وإبراهيم» ساقط من ت.
[5] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 9/ 155.(8/253)
أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن عَلي بْن ثَابِت قَالَ: أَخْبَرَنَا الحسين بْن عُمَر بْن برهان قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد الباقي بْن قانع قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرو بْن عَلِيّ قَالَ: سمعت عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مهدي يَقُول: مَا عاشرت فِي الناس رجلا أرق من سفيان الثوري، وكنت أرمقه فِي الليلة بعد الليلة ينهض مرعوبا ينادي: النار النار، شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات [1] .
أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بن علي/ قال: أخبرنا أبو عبد الله مُحَمَّد بْن عَبْد الواحد قَالَ: أَخْبَرَنَا الوليد بن بكر الأندلسي قال: حدثنا علي بن أحمد بن زكريا الهاشمي قال: حدثنا صالح بن أحمد العجلي قال: حدثني أبي قال:
دخل سفيان على المهدي فقال السلام عليكم، كيف أنتم. ثُمَّ جلس فَقَالَ: حج عُمَر بْن الخطاب [رضي اللَّه عنه] فأنفق فِي حجته ستة عشر دينارا، وأنت حججت، فأنفقت فِي حجتك بيوت الأموال قَالَ: فأي شيء تريد، أكون مثلك؟ قَالَ: فوق مَا أنا فِيهِ ودون مَا أنت فِيهِ. فَقَالَ وزيره أَبُو عبيد اللَّه: يا أبا عبد الله، قد كانت كتبك تأتينا فننفذها.
قَالَ: من هَذَا؟ قَالَ: أَبُو عبيد اللَّه وزيري. قَالَ: احذره، فإنه كذاب، أنا كتبت إليك. ثُمَّ قام فَقَالَ لَهُ المهدي: إِلَى أين يا أبا عبد الله؟ قال: أعود، وكان قد ترك نعله حين قام، فعاد فأخذها ثُمَّ مضى، فانتظره المهدي فلم يعد، قَالَ: وعدنا أن يعود فلم يعد، قيل:
إنه عاد لأخذ نعله فغضب. وَقَالَ: قَدْ آمن الناس إلا سفيان الثوري، ويونس بْن فروة الزنديق، فإنه لبطلب وإنه لفي المسجد الحرام، فذهب فألقى نفسه بين النساء فجللنه، قيل لَهُ: لم فعلت؟ قَالَ: إنهن أرحم ثُمَّ خرج إِلَى البصرة، فلم يزل بها حَتَّى مات. فلما احتضر قَالَ: مَا أشد الغربة انظروا إليّ هاهنا أحدا من أَهْل بلادي؟ فنظروا فإذا أفضل رجلين من أَهْل الكوفة عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عَبْد الملك بْن أبجر، والحسن بْن عياش أخو أبي بكر، فأوصى إِلَى الْحَسَن فِي تركته، وأوصى إِلَى عَبْد الرَّحْمَنِ بالصلاة عليه [2] .
تُوُفِّيَ بالبصرة في هذه السنة.
قَالَ مؤلف الكتاب وقد أوردت أخبار سفيان الثوري [3] فِي كتاب كبير، فلهذا اقتصرت هاهنا على هذا المقدار.
__________
[1] هذا الخبر ساقط من ت.
انظر الخبر في: تاريخ بغداد 9/ 157.
[2] انظر: تاريخ بغداد 9/ 160.
[3] في ت: «وقد أفردت لأخبار سفيان في كتاب كبير» .(8/254)
868- المؤمل بْن أميل المحاربي الشاعر [1] .
مدح المهدي وله أشعار.
أَخْبَرَنَا أَبُو منصور القزاز قَالَ: أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: قرأت على الجوهري، عن أبي عبد الله المرزباني قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّد بْن الْعَبَّاس قَالَ: ذكر المؤمل بين يدي المبرد، فَقَالَ: كانوا يقولون المؤمل/ البارد. فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس فِي شعره ذلك [ولكنه] [2] 115/ ب شاعر، قَالَ: أنشدني لَهُ [3] عَبْد الصَّمَدِ بْن المعدل:
لا تغضبْن عَلَى قوم تحبهم ... فليس ينجيك من أحبابك الغضب
ولا تخاصمهم يوما وإن ظلموا ... إن القضاة إذا مَا خوصموا غلبوا
يا جائرين علينا فِي حكومتهم ... والجور أعظم مَا يؤتى ويرتكب
لسنا إِلَى غيركم منكم نفر إذا ... جرتم ولكن إليكم منكم الهرب
قَالَ المرزباني: وأخبرني الصولي قَالَ: يقال إن المؤمل لما قَالَ:
شفى المؤمل يوم الحيرة النظر ... ليت المؤمل لم يخلق لَهُ بصر
عمي فرأى فِي منامه إنسانا يَقُول لَهُ: هَذَا مَا تمنيت [4] فِي شعرك.
869- نصر بْن مالك صاحب الشرطة.
تُوُفِّيَ من فالج أصابه، ودفن فِي مقابر بْني هاشم، وصلى عليه المهدي، وولي الشرطة بعده حمزة بن مالك.
__________
[1] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 13/ 177- 180.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[3] «له» ساقط من ت.
[4] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 13/ 179- 180.(8/255)
ثم دخلت سنة اثنتين وستين ومائة
فمن الحوادث فِيهَا:
مقتل عَبْد السَّلامِ الخارجي بقنسرين، وَكَانَ قَدْ خرج بالجزيرة وكثر بها أتباعه، واشتدت شوكته، فلقيه من قواد المهدي عدة فهزمهم، إِلَى أن بعث المهدي إِلَيْهِ جنودا كثيرة، فهرب منهم إِلَى قنسرين فلحقوه فقتلوه بها [1] .
وَفِيهَا: وضع المهدي دواوين الأزمة، وولى عَلَيْهَا عُمَر بْن بزيع مولاه، فولى عُمَر [ابْن بزيع] [2] النُّعمان بْن عُثْمَان زمام خراج العراق [3] .
وَفِيهَا: أمر المهدي أن يجري عَلَى المجذمين وأهل السجون فِي جميع الآفاق [4] .
وَفِيهَا: خرجت الروم إِلَى الحدث فهدموا سورها [5] .
وَفِيهَا: غزا الْحَسَن بْن قحطبة الصائفة فِي ثمانين ألف مرتزق سوى/ المطوعة، فأكثر التخريب والتحريق فِي بلاد الروم من غير أن يلقى جمعا أو يفتح حصنا، ثم قفل
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 142.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، وأضفناه من الطبري.
[3] انظر: تاريخ الطبري 8/ 142.
[4] انظر: تاريخ الطبري 8/ 142.
[5] انظر: تاريخ الطبري 8/ 142.(8/256)
بالناس سالمين، وَكَانَ عَلَى قضاء عسكره وما تجمع من الفيء جَعْفَر بْن عُمَر بْن عامر السلمي [1] .
وَفِيهَا: غزا يزيد بْن أبي أسيد السلمي [باب] [2] قاليقلا فغنم، وافتتح ثلاثة حصون وأصابوا شيئا كثيرا وأسرى [3] .
وَفِيهَا: عزل عَلِيّ بْن سليمان عَنِ اليمن، وولي مكانه عَبْد اللَّه بْن سليمان، وعزل سلمة بْن رجاء عَنْ مصر ووليها عيسى بْن لقمان فِي المحرم، ثُمَّ عزل فِي جمادى الآخرة ووليها واضح مَوْلَى المهدي، ثُمَّ عزل فِي ذي القعدة ووليها يَحْيَى الحرشي [4] .
وَفِيهَا: ظهرت المحمرة بحرجان، وعليهم رجل يقال لَهُ: عَبْد الْقَهَّارِ، فغلب عَلَى جرجان وقتل خلقا كثيرا، فغزاه عُمَر بْن العلاء من طبرستان، فقتل عَبْد الْقَهَّارِ وأصحابه [5] .
وَفِيهَا: حبس المهدي موسى بْن جَعْفَر: فرأى فِي المنام عَلِيّ بْن أبي طالب وهو يَقُول لَهُ: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا في الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ 47: 22 [6] فأرسل إِلَيْهِ فأطلقه.
وَفِيهَا: حج بالناس إِبْرَاهِيم بْن جَعْفَر بْن المنصور، وَكَانَ الْعَبَّاس بْن مُحَمَّد استأذن المهدي فِي الحج بعد ذلك، فعاتبه أن لا يكون استأذنه قبل أن يولي الموسم أحدا فيوليه إياه، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، عمدا أخرت [ذلك] [7] لأني لم أرد الولاية.
وكانت عمال الأمصار في هذه السنة عمالها فِي السنة الَّتِي قبلها، غير أن الجزيرة كانت في هذه السنة إِلَى عَبْد الصَّمَدِ بْن عَلِيّ وطبرستان والرويان إِلَى سَعِيد [بْن] دعلج
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 143.
[2] ما بين المعقوفتين: زيادة من الطبري.
[3] انظر: تاريخ الطبري 8/ 143.
[4] انظر: تاريخ الطبري 8/ 143.
[5] انظر: تاريخ الطبري 8/ 143.
[6] سورة: محمد، الآية: 22.
[7] ما بين المعقوفتين: زيادة من الطبري.(8/257)
وجرجان إِلَى المهلهل بْن صفوان [1] . ومصر فِي آخر السنة إِلَى يَحْيَى الحرشي كما تقدم [2] .
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
870- إبراهيم بن أدهم العجليّ كوفي.
116/ ب ليس بالزاهد المشهور، قدم مصر زائر لرشدين [ين بن] / سعد حفظ عنه.
تُوُفِّيَ في هذه السنة، وقيل سنة ثلاث.
871- إسرائيل بْن يونس بْن أبي إِسْحَاق السبيعي. واسم أبي إِسْحَاق: عَمْرو بْن عَبْد اللَّه الهمداني وسبيع الَّذِي نسب إِلَيْهِ هو صعب بْن معاوية بْن كثير بْن مالك، وإسرائيل: يكنى أبا يوسف، وَهُوَ كوفي [3] .
سمع جده أبا إِسْحَاق، وسماك بْن حرب، ومنصور بْن المعتمر، والأعمش.
روى عنه: وكيع، وابْن مهدي، وأبو نعيم. قَالَ: يَحْيَى ثقة، وَقَالَ علي: هو ضعيف.
تُوُفِّيَ في هذه السنة. وقيل: سنة إحدى وستين. وقيل سنة ستين.
872- سفيان بْن حسين بْن حسن مولى بْني سليم. وقيل: مولى عَبْد الرَّحْمَنِ بْن سمرة، ويكنى أبا مُحَمَّد، ويقال: أبا الْحَسَن [4] .
حدث عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ، وابْن سيرين، والزهري، وَكَانَ ثقة.
روى عَنْ شعبة، وهشيم، ويزيد بْن هارون، وَكَانَ من أَهْل واسط، فقدم إلى بغداد فضمه المنصور إلى المهدي، فعلمه وخرج معه إِلَى الري.
وتوفي بالري في خلافة المهدي.
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 243.
[2] «ومصر من آخر السنة إِلَى يَحْيَى الحرشي كما تقدم» . ساقطة من ت.
انظر: تاريخ بغداد 8/ 143.
[3] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 7/ 20.
[4] انظر ترجمته في: تقريب التهذيب 1/ 310.(8/258)
873- عباد بْن عباد أَبُو عتبة الخواص [1] .
[قَالَ المؤلف] [2] : كذلك ذكره البخاري وغيره، وقد اشتهر بأبي عبيدة الخواص، [3] كَانَ من أَهْل الوجد والشوق، وأسند الحديث عَنِ [4] الأوزاعي وغيره.
أَخْبَرَنَا أَبُو بكر العامري قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن أبي صادق قَالَ: أخبرنا ابن باكويه قال: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زكريا قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن ماهان الجويني قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يَحْيَى الأزدي قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد الأعلى بْن سليمان قَالَ: رأيت أبا عبيدة الخواص عَلَى سرته خرقة، وعلى رقبته خرقة، وهو يمشي ويقول: وا شوقاه إلى من يراني ولا أراه.
أَخْبَرَنَا سليمان بْن مسعود قَالَ: أَخْبَرَنَا المبارك بْن عَبْد الْجَبَّارِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو طالب مُحَمَّد بْن عَلِيّ البيضاوي قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن حيوية قَالَ: أَخْبَرَنَا عُمَر بْن سعد قَالَ:
حدثني محمد بن الحسين قَالَ: حَدَّثَنَا عبيد اللَّه بْن مُحَمَّد قَالَ: حَدَّثَنَا عقبة بْن فضالة قَالَ: سمعت أبا عبيدة الخواص بعد ما/ كبر وَهُوَ آخذ بلحيته يبكي ويقول: قَدْ كبرت 117/ أفأعتقني.
874- عيسى بْن أبي عيسى، واسمه: ماهان، وكنيته: أَبُو جَعْفَر التَّمِيمِيّ [5] .
أصله من مرو، وسكن الري، ومات بها، فنسب إليها، سمع عطاء بْن أبي رباح، وعمرو بْن دينار، وقَتَادَةَ، ومنصور بْن المعتمر، وغيرهم.
حدث عنه شعبة، وجرير، ووكيع، وَكَانَ ثقة صدوقا. لكن كَانَ سيئ الحفظ، يهم كثيرا، وَكَانَ صديق سفيان فابتلي بأن صحبهم ولبس السواد، وزامل المهدي إلى مكة فهجره سفيان.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا البرقاني قال: أخبرنا مُحَمَّد بْن الْعَبَّاس قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الفضل جعفر بن محمد
__________
[1] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 11/ 101.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[3] «وقد اشتهر بأبي عبيدة الخواص» ساقطة من ت.
[4] في ت: «وأسند إلى الأوزاعي» .
[5] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 11/ 143.(8/259)
الصندلي [1] قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حفص عُمَر بْن ياسر الْعَطَّار، عَنْ بِشْر بْن الحارث قَالَ: كَانَ أَبُو جَعْفَر الرّازيّ صديقا لسفيان الثوري، وكانت لَهُ معه بضاعة، وَكَانَ يكثر الحج، فكان إذا قدم الكوفة تلقاه سفيان من القنطرة، فإذا خرج إِلَى مكة شيعه إِلَى النجف، فقدم سنة من السنين مدينة السلام، فاجتمع إِلَيْهِ الأضراء. فقالوا: يا أبا جَعْفَر، تكلم لنا أمير المؤمنين فإنه قَدْ ولى علينا رجلا يقطع أرزاقنا، ويسيء فيما بيننا وبينه، فلم يجبهم إلى شيء فبلغ ذلك سفيان، فتلقاه عَلَى القنطرة وشيعه حَتَّى جاوز النجف، وزاده فِي البر، فَلَمَّا كَانَ العام المقبل قدم أَبُو جَعْفَر وَهُوَ يريد الحج، فاجتمع إِلَيْهِ الأضراء وكلموه بما كلموه به فِي العام الماضي، فرق لهم، فأتى باب الذهب فَقَالَ للحاجب استأذن لي عَلَى أمير المؤمنين فأخبره أن بالباب أبا جَعْفَر الرازي، فأسرع الرسول أن أدخل، فدخل على المنصور، فأكرمه بغاية الكرامة، وجعل يسأله عَنْ أحواله ويسأله هل لَهُ حاجة، فَقَالَ:
نعم، فقص عليه قصة الأضراء، فَقَالَ: يعزل عنهم كاتبهم، وولي عليهم من أحبوا، 117/ ب ونأمر لأبي جَعْفَر بعشرة آلاف/ [درهم] [2] لسؤاله إيانا هَذِهِ الحاجة، فلما صارت الدراهم بيده سقط في يديه، وعلم أنه قد أخطأ، فجلس بسور القصر، ثُمَّ دعا بخرق وجعلها صررا، وفرقها عَلَى قوم، فنفض ثوبه وليس معه منها شيء، فبلغ ذلك سفيان الثوري، فلما دخل أبو جعفر الرازيّ الكوفة توارى سفيان فطلبه، فلم يقدر عليه، وسأل عنه، فلم يدل عليه فانتقض عليه [3] لذلك بعض إخوان سفيان فقال له: ألك إِلَيْهِ حاجة؟ فَقَالَ: نعم، فَقَالَ: اكتب كتابا وادفعه إلي أوصله لك إِلَيْهِ، فكتب كتابا ودفعه إليه. قَالَ: فصرت بالكتاب إِلَى سفيان، فإذا أنا به فِي غرفة وإذا هو مستلق عَلَى قفاه مستقبل القبلة، فسلمت عليه، وأظهرت الكتاب، وقلت: كتاب أبي جَعْفَر الرازي، فَقَالَ: أقرأه، فقرأته، فَقَالَ لي: اكتب جوابه فِي ظهره. فكتبت:
بسم الله الرحم الرحيم: وقلت: ماذا أكتب؟ قَالَ: أكتب لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ 5: 78 [4] إِلَى آخر الآية..، اردد إلينا بضاعتنا لا حاجة لنا في أرباحها. قال: فأتيته بالكتاب والناس إذ ذاك متوافرون بالكوفة، فنظر في الكتاب، فأجمع رأيهم على أنهم يوجهون بكتابين إِلَى ابْن أبي ليلى، ولا يعلمونه ممن الكتاب ولا من صاحب الجواب ليعرفوا مَا عنده من الرأي، فوجهوا بالكتابين، فنظر فيهما، فقال:
__________
[1] في ت: «الصيدلي» .
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[3] «عليه» ساقط من ت.
[4] سورة: المائدة الآية: 78.(8/260)
أما الأول: فكتاب رجل مداهن، وأما الجواب فجواب رجل يريد اللَّه بفعله [1] .
875- مُحَمَّد بْن جَعْفَر بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المطلب [2] .
كَانَ فاضلا دينا وعاقلا لبيبا مشهورا بالجود والمروءة، وَكَانَ لَهُ اختصاص بالمنصور.
أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عبيد اللَّه بن أبي الفتح قال: أخبرنا أحمد بن إِبْرَاهِيم البزاز قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عرفة قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الْعَبَّاس المنصوري، عَنْ يَحْيَى بْن زكريا مولى/ عَلِيّ بْن عبيد 118/ أالله عَنْ أبيه قَالَ: كَانَ المنصور يعجب بمحمد بْن جَعْفَر بْن عبيد اللَّه بْن الْعَبَّاس بمؤانسته ومفاوضته ومداعبته [3] ويلتذ لمحادثته، وَكَانَ أديبا لبيبا لسنا، وَكَانَ لحسن منزلته عند المنصور، وعظيم قدره عنده تفزع إِلَيْهِ الناس فِي حوائجهم فيكلمه فِيهَا فيقضيها حتى أكثر عليه من الحوائج وأفرط فِيهَا، فأمر الربيع أن يحجبه، فلما حجبه قعد فِي منزله أياما فظمئ المنصور إِلَى رؤيته، وتشوق إِلَى محادثته فَقَالَ: يا ربيع، إن جميع لذات مولاك قَدْ أخلقن [عنده] [4] ورثثن في عينه سوى لذته من محادثة مُحَمَّد بْن جَعْفَر، فإنها تتجدد عنده فِي كل يوم وقد كدرها علي ما بحملني عليه من حوائج الناس، فاحتل لمولاك فيما كدر عليه من لذته. فقال الربيع: أفعل يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وخرج من عنده، فأتى مُحَمَّد بْن جَعْفَر فعاتبه عَلَى مَا يحمل المنصور عليه من حوائج الناس ويسأله إعفاءه عَنْ ذلك فنضح عَنْ نفسه فيما عاتبه عليه وأجابه أن لا يسأله حاجة لأحد وأمره بالغدو عَلَى المنصور، ورجع إِلَى المنصور فأعلمه بذلك، وبلغ قوما من قريش قدموا العراق بحوائجهم مَا كَانَ من أمر مُحَمَّد بْن جَعْفَر [ومن الربيع، وأنه عازم عَلَى الغدو عَلَى المنصور فكتبوا حوائجهم فِي رقاع ووقفوا بها عَلَى طريق مُحَمَّد بْن جَعْفَر] [5] . فلما غدا
__________
[1] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 11/ 145- 146.
[2] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 2/ 111- 113.
[3] في ت: «يؤانسه ويفاوضه ويداعبه» .
[4] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[5] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
وفي الأصل زيادة: «ووقفوا بها عَلَى طريق مُحَمَّد بْن جَعْفَر فلما غدا يريد المنصور» .(8/261)
يريد المنصور عرضوا لَهُ بها ومتوا إِلَيْهِ بقراباتهم، وتوسلوا [بأرحامهم] [1] . وسألوه إيصال رقاعهم إِلَيْهِ فاعتذر إليهم وسألهم أن يعفوه من ذلك فأبوا وألحوا عليه، فَقَالَ: لست أكلم المنصور فِي حاجة لأحد، فإن أحببتم أن تودعوا رقاعكم كمي فافعلوا فقدموا رقاعهم فِي كمه، ومضى حَتَّى دخل عَلَى المنصور وَهُوَ فِي القبة الخضراء مشرف عَلَى مدينة السلام ودجلة والصراة وما حولها من البساتين والمزارع فعاتبه، فنفح عن نفسه، ثم حادثة ساعة، فقال له المنصور: أما ترى حسن مستشرفنا هَذَا؟ قَالَ: أرى يا أمير المؤمنين 118/ ب فبارك اللَّه لك فيما أتاك وهنأك بإتمام النعمة عَلَيْك فيما أعطاك، فما/ بْنت العرب في دولة الإسلام والعجم في مدة الكفر مدينة أحصن ولا أحسن ولا أجمع للخصال المحمودة منها، وقد سمجتها [2] فِي عيني يا أمير المؤمنين خصلة، قال: [و] ما هي؟
قَالَ: ليس [لي] [3] فِيهَا ضيعة. فتبسم، ثم قال: فإنّي أحسنها فِي عينك بثلاث ضياع أقطعك فِي أكنافها فاغد عَلَى أمير المؤمنين يسجل لك بها، فَقَالَ: أنت والله يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ سهل الموارد، كريم المصالح، فجعل اللَّه باقي عمرك أكثر من ماضيه، فلقد بررت فأفضلت [4] ، ووصلت فأجزلت، وأنعمت فأسبغت فبدت الرقاع من كمه وَهُوَ يتشكر لَهُ، فأقبل يردهن فِي كمه ويقول: لترجعن خاسئات، فضحك- يعني الخليفة- وَقَالَ: بحق أمير المؤمنين عَلَيْك لما أخبرت [5] خبر هَذِهِ الرقاع، فأعلمه. فَقَالَ: أبيت يا ابْن معلم الخير إلا كرما، فف للقوم بضمانك وألقها عَنْ كمك لننظر فِي حوائجهم، فطرحها بين يديه فتصفحها ثم دفعها إِلَى الربيع، ثُمَّ التفت إِلَيْهِ، فتمثل بقول امرئ القيس:
لسنا وإن أحسابْنا كرمت ... يوما عَلَى الأحساب نتكل
نبْني كما كانت أوائلنا ... تبْني ونفعل مثل مَا فعلوا
وَقَالَ: قَدْ قضى أمير المؤمنين حوائجهم، فأمرهم بلقاء الربيع، قال محمد:
فخرجت من عنده وقد ربحت وأربحت [6] .
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[2] في الأصل: «وقد تم» .
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[4] في ت: «فقد بررت فأمنت» .
[5] في ت: «ألا أخبرته» .
[6] انظر: تاريخ بغداد 2/ 111- 113.(8/262)
ثم دخلت سنة ثلاث وستين ومائة
فمن الحوادث فِيهَا:
هلاك المقنع، وذلك أن سعيدا الحرشي حصره بكش فاشتد عليه الحصار، فلما أحسّ بالهلكة شرب سما وسقاه نساءه، فمات ومتن، فدخل المسلمون قلعته فاجتزوا رأسه ووجهوا به إِلَى المهدي [1] .
وَفِيهَا: قطع المهدي البعوث للصائفة عَلَى جميع الأجناد من أَهْل خراسان وغيرهم، وخرج فعسكر بالبردان فأقام بها نحوا من شهرين يتهيأ ويعطي الجنود، وأخرج/ بها صلات لأهل بيته الذين خرجوا معه.
وتوفي عيسى بْن عَلِيّ فِي آخر جمادى الآخر [2] .
وخرج المهدي من الغد من البردان متوجها إِلَى الصائفة، واستخلف بمدينة السلام ابْنه مُوسَى، وكاتبه يومئذ أبان بْن صدقة، وعلى خاتمه عَبْد اللَّه بْن علاثة، وعلى حرسه عَلِيّ بْن عِيسَى، وعلى شرطته عَبْد اللَّه بْن خازم، وإنما خرج مشيعا لولده هارون، وضم إِلَيْهِ الربيع، والحسن بْن قحطبة، وخالد بْن برمك، والحسن وسليمان ابْني برمك. ووجه معه عَلَى أمر العسكر ونفقاته والقيام مَعَ ابْنه هارون [3] بإمرة يَحْيَى بْن خالد، وَكَانَ أمر هارون كله إِلَيْهِ، ففتح الله عليهم فتوحا كثيرة [4] .
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 144.
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 144.
[3] «مع ابنه هارون» ساقط من ت.
[4] انظر: تاريخ الطبري 8/ 144- 147.(8/263)
وفي مسير المهدي مَعَ ابْنه هارون عزل عَبْد الصَّمَدِ بْن عَلِيّ عَنِ الجزيرة وولى مكانه زفر بْن عاصم الهلالي. وَكَانَ السبب أن المهدي سلك فِي سفرته هَذِهِ طريق الموصل وعلى الجزيرة عَبْد الصَّمَدِ، فلما بلغ أرض الجزيرة ولم يتلقه عَبْد الصَّمَدِ ولا هيأ لَهُ، ولا أصلح القناطر، فاضطغن ذلك عليه، فلما لقيه تجهمه وأظهر لَهُ جفاء فبعث إليه عبد الصمد بألطاف لم يرضها، فردها وازداد عليه سخطا، وأغلظ لَهُ، فرد عليه عَبْد الصَّمَدِ، فأمر بحبسه وعزله عَنِ الجزيرة، ولم يزل فِي حبسه إِلَى أن رضي عنه.
وأتي المهدي وَهُوَ بحلب بزنادقة فقتلهم وصلبهم وقطع كتبا كانت معهم، ثُمَّ عرض بها جنده، وأمر بالرحلة وأشخص جماعة ومن وافاه [1] من أَهْل بيته مَعَ ابْنه هارون إِلَى الروم وشيع المهدي ابْنه هارون حَتَّى قطع الدروب، وبلغ جيحان وارتاد بها المدينة الَّتِي تسمى المهدية، وودع هارون عَلَى نهر جيحان، فسار هارون حَتَّى نزل رستاقا من رساتيق أرض الروم، فِيهِ قلعة، فأقام عَلَيْهَا ثمانيا وثلاثين ليلة، ونصب عَلَيْهَا المجانيق، ففتحها اللَّه تعالى بعد أن أصاب الناس- يعني أهلها- عطش وجوع، وأصاب المسلمون قتل وجراح، وقفل هارون بالمسلمين [2] .
وفي هَذِهِ السفرة صار المهدي/ إِلَى بيت المقدس فصلى فِيهِ [3] .
وَفِيهَا: ولى المهدي ابْنه هارون المغرب كله وأذربيجان وأرمينية وجعل كاتبه عَلَى الخراج ثَابِت بْن موسى، وعلى رسائله يَحْيَى بْن خالد بْن برمك [4] .
وَفِيهَا: عزل زفر بْن عاصم، عَنِ الجزيرة، وولى مكانه عَبْد اللَّه بْن صالح بْن عَلِيّ.
وعزل معاذ بْن مسلم عَنْ خراسان، ووليها المسيب بن زهير، وعزل يحيى الحرشي عَنْ أصبهان، وولى الحكم بن معبد مكانه.
وعزل سعيد بن دعلج عَنْ طبرستان والرويان، ووليها عُمَر بن العلاء. وعزل
__________
[1] «ومن وافاه» ساقط من ت.
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 147- 148.
[3] انظر: تاريخ الطبري 8/ 148.
[4] انظر: تاريخ الطبري 8/ 148- 149.(8/264)
مهلهل بْن صفوان عَنْ جرجان، ووليها هِشَام بْن سَعِيد [1] .
وَفِيهَا: حج بالناس عَلِيّ بْن المهدي [2] .
وَكَانَ عَلَى مكة والمدينة والطائف واليمامة جعفر [3] بن سليمان وعلى الصلاة والأحداث بالكوفة إِسْحَاق بْن الصباح الكندي، وعلى قضائها شريك، وعلى البصرة وأعمالها، وكور دجلة والبحرين، وعمان، وكور الأهواز، وكور فارس: مُحَمَّد بْن سليمان، وعلى خراسان المسيب بْن زهير، وعلى السند نصر بْن مُحَمَّد بْن الأشعث [4] .
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر.
876- إبراهيم بْن طهمان، أَبُو سَعِيد الخراساني [5] .
ولد بهراة، ونشأ بْنيسابور، ورحل فِي طلب العلم، فلقي جماعة من التابعين مثل: عَبْد اللَّه بْن دينار مولى ابْن عُمَر، وأبي الزُّبَيْر مُحَمَّد بْن مسلم، وعمرو بْن دينار، وأبي حازم الأعرج، وأبي إِسْحَاق الشيباني. وورد بغداد وحدث بها، ثُمَّ انتقل إِلَى مكة فسكنها إِلَى آخر عمره [6] .
وَكَانَ ثقة صالحا دينا جوادا، وَكَانَ يميل إِلَى الإرجاء.
أَخْبَرَنَا أَبُو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: أخبرنا محمد بن عُمَر بْن بكير قَالَ: أَخْبَرَنَا الحسين بْن أَحْمَد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن ياسين قَالَ:
سمعت إِسْحَاق بْن مُحَمَّد يَقُول: قَالَ مالك بْن سليمان: كَانَ لإبراهيم بْن طهمان جراية من بيت المال فاخرة، وَكَانَ يسخو بذلك، فسئل يوما مسألة فِي مجلس الخليفة فَقَالَ:
لا أدري. فقالوا لَهُ: تأخذ فِي كل شهر كذا/ وكذا ولا تحسن مسألة؟ قال: إنما آخذه 120/ أعلى مَا أحسن، ولو أخذت عَلَى مَا لا أحسن لفني بيت المال ولا يفنى مَا لا أحسن.
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 149.
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 149.
[3] في الأصل: «سعد بن سليمان» .
[4] انظر تاريخ الطبري 8/ 149.
[5] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 6/ 105- 111.
[6] انظر: تاريخ بغداد 6/ 105.(8/265)
فأعجب أمير المؤمنين جوابه، وأمر لَهُ بجائزة فاخرة وزاد فِي جرايته. [1] أَخْبَرَنَا القزاز قَالَ: أخبرنا أحمد بن علي قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ قال: أخبرنا محمد بْن نعيم قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو مُحَمَّد عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد الفقيه قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن صالح الصيمري قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زرعة قَالَ: سمعت أَحْمَد بْن حنبل- وذكر عنده إِبْرَاهِيم بْن طهمان، وَكَانَ متكئا من علة فاستوى جالسا- وَقَالَ: لا ينبغي أن يذكر الصالحون متكئ، ثُمّ قَالَ أَحْمَد: حَدَّثَنِي رجل من أصحاب ابْن المبارك، قَالَ:
رأيت ابْن المبارك فِي المنام [2] ومعه شيخ مهيب، فقلت: من هَذَا معك؟ قَالَ: أما تعرف؟ هَذَا سفيان الثوري. قلت: من أين أقبلتم؟ قَالَ: نحن نزور كل يوم إِبْرَاهِيم بْن طهمان. قلت [3] : وأين تزورونه؟ قَالَ: فِي دار الصديقين، دار يَحْيَى بْن زكريّا [4] .
تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيم بْن طهمان بمكة في هذه السنة.
877- جرير بْن عثمان بن عفان بن خيبر بْن أَحْمَد بْن أسعد بْن عُثْمَان، وقيل: أبو عون الرحبيّ الحمصي.
سمع عَبْد اللَّه بْن بشير صاحب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخلقا كثيرا من التابعين.
روى عنه: إِسْمَاعِيل بْن عياش، وبقية، ويزيد بْن هارون، واتفق العلماء على أنه ثقة ثبت لكنه اتهموه بأنه كَانَ ينتقض لعلي بْن أبي طالب عليه السلام.
أَخْبَرَنَا أَبُو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ أبي جَعْفَر قَالَ: أَخْبَرَنَا يوسف بْن أَحْمَد الصيدلاني قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَمْرو العقيلي قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن عَلِيّ الخولاني قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَان بْن أبان قَالَ: سمعت جرير بْن عُثْمَان يَقُول لأخيه: قتل إياي- يعني عليا عليه السلام.
أَخْبَرَنَا أَبُو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: حدّثنا محمد بن
__________
[1] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 6/ 110.
[2] في ت: «أنه رآه في المنام» .
[3] من هنا حتى نهاية الخبر ساقط من ت.
[4] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 6/ 110- 111.(8/266)
عَبْد اللَّه بْن أبان الهيتي قَالَ: أَخْبَرَنَا الحسين بن عبد الله بن روح الجواليقيّ قَالَ:
حَدَّثَنِي هارون بْن رضى مولى مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَنِ/ بْن إِسْحَاق القاضي قَالَ: 120/ ب حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن سنان قَالَ: سمعت يزيد بْن هارون يَقُول: رأيت رب العزة تعالى فِي المنام، فَقَالَ لي: يا أبا يزيد لا تكتب عَنْ جرير بْن عُثْمَان، فقلت: يا رب مَا علمت منه إلا خيرا، فَقَالَ لي: يا أبا يزيد لا تكتب عنه فإنه يسب عليا.
أَخْبَرَنَا أَبُو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن الحسين بْن مُحَمَّد الأزرق قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الحسين النقاش قَالَ: حَدَّثَنَا مسيح بْن حاتم قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيد بْن شادي الواسطي قَالَ: كنت فِي مجلس أَحْمَد بْن حنبل فَقَالَ لَهُ رجل: يا أبا عبد الله رأيت يزيد بن هارون في المنام، فقلت له: ما فعل الله بك؟
قال: غفر لي ورحمني وعاتبني، فقلت: غفر لك ورحمك وعاتبك، فقال: نعم، قَالَ لي: يا يزيد بْن هارون كتبت عَنْ جرير بْن عُثْمَان؟ قلت: يا رب العزة مَا علمت إلا خيرا، قَالَ: إنه كَانَ يبغض أبا الحسن علي بن أبي طالب.
[قَالَ المؤلف] : [1] وقد روينا من طريق آخر قَالَ: والله مَا سببته قط وإني أترحم عليه.
تُوُفي هذه السنة، وقيل: فِي سنة ست وستين.
878- سليمان بْن القاسم بْن عَبْد الرَّحْمَنِ مولى قريش، ثُمَّ مولى لبْني سهم.
روى عنه: عَبْد اللَّه بْن وهب وغيره، وَكَانَ من العابدين الزهاد.
تُوُفِّيَ في هذه السنة.
879- عُثْمَان بْن الحكم الجذامي [2] .
روى عَنْ موسى بْن عقبة وغيره، وَكَانَ فقيها متدينا. عرض عليه القضاء بمصر فلم يقبل. وَكَانَ الليث أشار بولايته فهجر الليث لذلك.
تُوُفِّيَ في هذه السنة.
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[2] انظر ترجمته في: تقريب التهذيب 2/ 7.(8/267)
880- عَبْد الْحَمِيدِ بْن سالم مولى مهرة.
روى عنه ابْن وهب مقطعات، وَكَانَ كاتبا فِي ديوان مصر فِي خلافة بْني أمية.
[قَالَ المؤلف] : [1] وليس بِعَبْدِ الْحَمِيدِ الَّذِي يضرب به المثل فِي الكتابة ذلك كما ذكرنا تُوُفِّيَ قبل هَذَا. وهذا تُوُفِّيَ في هذه السنة.
881- عَبْد الرَّحْمَنِ بْن خالد بْن يزيد، أَبُو الْحَسَن مولى بْني جمح.
روى عنه: الليث، وابْن وهب، ورشدين بْن سعد، وَكَانَ فقيها وهو أوّل من قدم 121/ أ/ بمسائل مالك إلى مصر.
وتوفي بالإسكندرية في هذه السنة.
882- عيسى بن علي بن عبد الله بن عباس، عم السفاح المنصور [2] .
حدث عَنْ أبيه، وروى عنه: شيبان بْن عَبْد الرَّحْمَنِ التَّمِيمِيّ، وإليه ينسب ببغداد قصر عيسى ونهر عيسى.
قَالَ يَحْيَى بْن معين: كَانَ لَهُ مذهب جميل، وَكَانَ معتزلا للسلطان.
أَخْبَرَنَا القزاز قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن عَلِيّ قَالَ: أَنْبَأَنَا إِبْرَاهِيم بْن مخلد قال: أخبرنا إسماعيل بن علي الخطبي قَالَ: تُوُفِّيَ عيسى بْن عَلِيّ فِي سنة ثلاث وستين ومائة، وصلى عليه موسى بْن المهدي، ومشى فِي جنازته من قصر عيسى إِلَى مقابر قريش، وَكَانَ سنة ثمانيا وسبعين سنة رحمه اللَّه.
وفي رواية: أن المهدي عسكر بالبردان فِي سنة أربع وستين يريد الشام، وتوفي عيسى، فرجع من عسكره فصلى عليه فِي مقابر قريش، وعاد إِلَى عسكره [3] .
883- عبيدة بْنت أبي كلاب.
بكت من خشية اللَّه عز وجل أربعين سنة حَتَّى ذهب بصرها.
أَخْبَرَنَا عبيد اللَّه بْن عَلِيّ الْمُقْرِئ قَالَ: أَخْبَرَنَا الحسين بْن أحمد بن طلحة قال:
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[2] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 11/ 147- 148.
[3] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 11/ 148.(8/268)
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عبيد اللَّه الحنائي قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ الدَّقَّاقُ قَالَ: حدثنا إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم الختلي قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن معلى الْكَوفِيّ، عَنْ يَحْيَى بْن بسطام قال: حدّثني سلمة الأفقم قَالَ: قلت لعبيدة بْنت أبي كلاب مَا تشتهي؟ قالت: الموت، قلت: ولم؟ قالت: لأني والله فِي كل يوم أصبح أخشى أن أجني عَلَى نفسي جناية يكون فِيهَا عطبي أيام الآخرة.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيل بْن أَحْمَد قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن هبة اللَّه قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ بِشْرَان قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن صفوان قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّدً قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الحسين قَالَ: حَدَّثَنِي عِيسَى بْن مرحوم قَالَ: حدثتني عبيدة بْنت أبي كلاب قالت: رأيت رابعة فِي المنام، قلت: مَا فعلت عبيدة بْنت أبي كلاب؟ قالت: هيهات سبقتنا والله إِلَى الدرجات العلى. قلت: وبم وقد كنت عند الناس أكبر منها. قالت: إنها لم تكن تبالي عَلَى مَا أصبحت من الدنيا وأمست.
884- مُحَمَّد بْن النضر/ الحارثي، ويكنى أبا عَبْد الرَّحْمَنِ.
كَانَ كثير التعبد مؤثرا للعزلة.
أَخْبَرَنَا أَبُو بكر العامري قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن أبي صادق قال: أخبرنا ابن باكويه قال:
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يوسف بْن إِبْرَاهِيم قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ محمد الكرماني، عَنْ أبي أسامة قَالَ: قلت: لمحمد بْن النضر كأنك تكره أن تزار قَالَ:
أجل، قلت: أما تستوحش؟ قَالَ: كيف استوحش وَهُوَ يَقُول: «أنا جليس من ذكرني» !؟
885- موسى بْن عَلِيّ بْن رباح بْن قيصر بْن القشب، أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ اللخمي، أمير مصر لأبي جعفر المنصور.
ولد بأفريقية سنة تسعين، قدم وافدا عَلَى هِشَام بْن عَبْد الملك سنة عشرة ومائة، وكان يخضب بالسواد.
روى عنه: الليث بْن سعد، وابْن المبارك، وابْن وهب.
تُوُفِّيَ [بالإسكندرية] في هذه السنة.(8/269)
ثم دخلت سنة أربع وستين ومائة
فمن الحوادث فِيهَا:
غزوة عَبْد الْكَرِيمِ بْن عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْن الخطاب، فأقبل إِلَيْهِ بطريق فِي تسعين ألفا، فعجز عنه عَبْد الْكَرِيمِ فانهزم، فأراد المهدي ضرب عنقه فكلم فِيهِ فحبسه [1] .
وَفِيهَا: بْنى المهدي بعيساباذ الكبرى قصرا من لبْن إِلَى أن أسس قصره الَّذِي بالآجر، وَكَانَ تأسيسه إياه يوم الأربعاء فِي شهر ذي القعدة [2] .
وَفِيهَا: عزل المهدي مُحَمَّد بْن سليمان عَنْ أعماله ووجه صالح بْن داود عَلَى مَا كَانَ إِلَى مُحَمَّد بْن سليمان [3] .
أَنْبَأَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الملك قَالَ: أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَوْهَرِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن عمران المرزباني قَالَ أَخْبَرَنَا الْحَسَن بْن عَلِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن سَعِيد قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْر بْن بكار قَالَ: حَدَّثَنِي مُصْعَب قَالَ: لما بْنى المهدي عيساباذ نزل منزله بها، فأمر أن يكتب لَهُ أبْناء المهاجرين وأبْناء الأنصار، فكتبوا ودعا نقباءهم وجلس مجلسا عاما لهم، ففرق فيهم ثلاثة آلاف ألف درهم، فأغنى كل عائل، وجبر كل كسير، وفرج 122/ أعن كل مكروب، ثُمَّ قامت الخطباء فخطبت، ودخل الشعراء فأنشدوا/ ففرق فيهم خمسمائة ألف درهم، ثم دعا بغدائه، وحضر خاصته وبطانته، وأهل المراتب من قوّاده
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 150.
[2] في الأصل: «ذي الحجة» انظر: تاريخ الطبري 8/ 150.
[3] انظر: تاريخ الطبري 8/ 150- 151.(8/270)
فطعموا فلم ينصرف واحد منهم إلا بحباء وكرامة، فكثر الدعاء لَهُ فِي الطرقات والبوادي، وَقَالَ الناس: هَذَا مفتاح الخير، هَذَا مهدي هذه الأمة الّذي بشرّ به النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقام في هذا اليوم مروان بْن أبي حفصة فأنشده:
مَا يلمع البرق إلا حسن مغترب ... كأنه من دواعي شوقه وصب
مجالس الأنس غيثا طل وابله ... علي من راحة المهدي ينسكب
شمسا فما أخطفتنا من مخايله ... سحابة صوبها الأوراق والذهب
صدقت يا خير مأمول ومعتمد ... ظني بأضعاف مَا قَدْ كنت أحتسب
أعطيت سبعين ألفا غير متبعها ... منا ولست بمنان بما تهب
قَدْ لاح للناس بالمهدي نور هدى ... يضيء والصبح فِي الظلماء محتجب
خليفة طاهر الأثواب معتصم ... بالحق ليس لَهُ فِي غيره أدب
وَفِيهَا: شخص المهدي حين أسس هَذَا القصر إِلَى الكوفة حاجا، فأقام برصافة الكوفة أياما ثم خرج متوجها إِلَى الحج حَتَّى انتهى إِلَى العقبة، فعرف قلة الماء، وأخذته حمى، فرجع من العقبة، وعطش الناس فغضب عَلَى يقطين لأنه كَانَ صاحب المصانع، فرجع المهدي وبعث أخاه صالح بْن المنصور فحج بالناس [1] .
وَفِيهَا: عزل عَبْد اللَّه بْن سليمان عَنِ اليمن عَنْ سخطة، ووجه من يستقبله ويفتش متاعه ويحصي مَا معه، ثُمَّ حبسه عند الربيع حين قدم حَتَّى أقر من المال والجوهر والعنبر [2] ، بما أقر به، واستعمل مكانه منصور بْن يزيد [3] .
وَكَانَ العامل عَلَى مكة والمدينة والطائف واليمامة جَعْفَر بْن سليمان، وعلى اليمن منصور بن يزيد، وعلى صلاة الكوفة/ وأحداثها وكور دجلة والبحرين وعمان وكور 122/ ب الأهواز وفارس صالح بن داود بْن عَلِيّ.
وعلى خراسان المسيب بْن زهير، وعلى الموصل مُحَمَّد بْن الفضل، وعلى قضاء البصرة عبيد الله بن الحسن، وعلى مصر إِبْرَاهِيم بْن صالح، وعلى إفريقية يزيد بن
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 150.
[2] في ت: «العزيز» .
[3] انظر: تاريخ الطبري 1518.(8/271)
خَالِد، وعلى طبرستان والرويان وجرجان يَحْيَى الحرشي، وعلى الري خلف بْن عَبْد اللَّه [1]
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
886- حماد الراوية: وَهُوَ حماد بْن ميسرة مولى بْني شيبان، وقيل: هو حماد بْن سابور.
وَكَانَ من أعلم الناس بأيام العرب وأخبارها وأشعارها وأنسابها. وكانت بْنو أمية تقدمه وتسني عطاءه، ودخل عَلَى المنصور والمهدي.
وروى المدائني أن الوليد بْن يزيد قَالَ لحماد: لم سميت الراوية، وما بلغ من حفظك حَتَّى استحققت هَذَا الاسم؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إن كلام العرب تجري عَلَى ثمانية وعشرين حرفا، أنا أنشدك عَلَى كل حرف منها مائة قصيدة. فَقَالَ: هات، فأنشد حَتَّى مل الوليد، ثم استخلف من يسمع منه حَتَّى وفاه مَا قَالَ فأجزل صلته.
وفي رواية أنه أنشده ألفين وسبعمائة قصيدة للجاهلية، فأمر لَهُ بمائة ألف درهم، وَقَالَ الطرماح: أنشدت حماد الراوية قصيدة لي ستين بيتا فسكت ساعة ثُمَّ قَالَ: أهذه لك؟ قلت: نعم. قَالَ: ليس الأمر كذلك، ثُمَّ ردها علي كلها وزيادة عشرين بيتا زادها فِي وقته.
قَالَ إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم الموصلي: دخل مطيع بْن إياس، ويحيى بْن زياد عَلَى حماد الراوية، فإذا سراجه عَلَى ثلاث قصبات قَدْ جمع أعلاهن وأسفلهن بطين فَقَالَ يَحْيَى: يا حماد، إنك لمسرف متبذل، تحر المتاع، فَقَالَ لَهُ مطيع: ألا تبيع هَذِهِ المنارة وتشتري أقل ثمنا منها وتنفق علينا وعلى نفسك الباقي وتتسع فَقَالَ لَهُ يحيى: ما أحسن/ 123/ أظنك به ومن أين لَهُ هَذِهِ المنارة؟ هَذِهِ وديعة، أو عارية، فَقَالَ مطيع: إنه لعظيم الأمانة عند الناس. قال لا يَحْيَى: وعلى عظم أمانته فما أجمل من يخرج هَذِهِ من داره ويأمن عَلَيْهَا غيره. قَالَ مطيع، مَا أظنها عارية ولا وديعة، ولكني أظنها مرهونة عنده عَلَى مال، وإلا فمن يخرج هَذِهِ من بيته؟ فَقَالَ حَمَّاد: شر منكما من يدخلكما إلى بيته.
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 151.(8/272)
وَقَالَ الجاحظ: كَانَ حماد الراوية وحماد بْن الزبرقان وحماد عجرد ووالبة بْن الحباب وبشار بْن برد اللاحقي كلهم كَانَ متهما فِي دينه.
887- شيبان بن عبد الرحمن، أَبُو معاوية التَّمِيمِيّ المؤدب الْبَصْرِيّ [1] .
وذكر أَبُو أَحْمَد العسكري أن شيبان النحوي ينسب إِلَى بطن يقال لهم بْنو نحو بْن شمس، بضم الشين من بطن من الأزد.
وَقَالَ أَبُو الحسين بْن المنادي: المنسوب إِلَى القبيلة الَّتِي يقال لها نحو هو يزيد النَّحْويّ لا شيبان.
أَخْبَرَنَا أَبُو منصور القزاز قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر بْن ثَابِت قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْد اللَّه بْن يَحْيَى السكري قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن عَبْد اللَّهِ الشافعي قال: حدثنا جعفر بْن مُحَمَّد الأزهر قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن الغلابي، عَنْ يَحْيَى بْن معين قَالَ: كَانَ شيبان بْن عَبْد الرَّحْمَنِ ثقة، وَكَانَ مؤدبا لسليمان بْن داود الهاشمي وَكَانَ أصله من البصرة فانتقل إِلَى الكوفة [2] .
قَالَ مؤلف الكتاب رحمه اللَّه: حدث شيبان عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ، وقتادة، ويحيى بْن أبي كثير.
وتوفي ببغداد في هذه السنة، ودفن فِي مقابر قريش بباب التبن، كذلك قال ابن سعد. وقال يحيى بْن معين: دفن فِي مقابر الخيزران.
888- شبيب بْن شيبة، أَبُو معمر الخطيب المنقري الْبَصْرِيّ [3] .
حدث عَنْ الْحَسَن، وعطاء بْن أبي رباح، وهشام بْن عُرْوَة.
روى عَنْ عيسى بْن يونس، والأصمعي، وغيرهما. وقدم بغداد فِي أيام المنصور فاتصل به ثم بالمهديّ من بعده وَكَانَ مقدما عندهما. وَقَالَ لَهُ المنصور/ عظني وأوجز 123/ ب فقال: يا أمير المؤمنين إن اللَّه لم يرض من نفسه بأن يجعل فوقك أحدا من خلقه، فلا ترضى لَهُ من نفسك بأن يكون عبدا لَهُ أشكر منك، فقال: والله لقد أوجزت.
__________
[1] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 9/ 271- 274.
[2] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 9/ 273.
[3] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 9/ 274- 278.(8/273)
وخرج من دار المهدي فقيل لَهُ: كيف تركت الناس فَقَالَ: تركت الداخل راجيا والخارج راضيا.
أَخْبَرَنَا أَبُو منصور القزاز قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو بكر بن ثابت قال: أخبرنا الجوهري قال:
أَخْبَرَنَا محمد بن عمران بن موسى قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن عيسى قال: حدثنا محمد بن القاسم بن خلاد، عَنْ موسى بْن إِبْرَاهِيم قَالَ: كَانَ شبيب بن شيبة يصلي بنا الصبح يوما وقرأ السجدة وهَلْ أَتى 76: 1، ولما قضى الصلاة قام رجل فَقَالَ: لا جزاك اللَّه عني خيرا، فإنّي كنت غدوت لحاجة فلما أقمت الصلاة دخلت أصلي فأطلت الصلاة حَتَّى فاتتني حاجتي. قَالَ: وما حاجتك؟ قَالَ: قدمت من الثغر فِي شيء فِيهِ مصلحته، وكنت وعدت البكور إِلَى الخليفة لأتنجز ذلك قَالَ: فأنا أركب معك، فركب معه، ودخل عَلَى المهدي فأخبره الخبر وقص عليه القصة، قَالَ: فيريد ماذا؟ قَالَ: يقضي حاجته، فقضى حاجته وأمر لَهُ بثلاثين ألف درهم فدفعها إلى الرجل، ودفع إِلَيْهِ شبيب من ماله أربعة آلاف درهم، وَقَالَ لَهُ: [لم] [1] تضرك السورتان [2] .
قَالَ مؤلف الكتاب رحمه اللَّه: كَانَ شبيب بْن شيبة فصيحا ذا لسان، لكنه كَانَ يخطئ فِي العربية أحيانا.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن الحسين المرزباني بإسناده عَنِ الْحَسَن بْن عَبْد الله بن سعيد العسكري قال: أخبرني أبي قَالَ: أَخْبَرَنَا عبيد بْن ذكوان، عَنِ الرياشي قَالَ: تُوُفِّيَ ابْن لبعض المهالبة فأتاه شبيب بْن شيبة المنقري يعزيه وعنده بكر بْن حبيب السهمي، فَقَالَ شبيب: بلغنا أن الطفل لا يزال محتبطا عَلَى باب الجنة يشفع لأبويه فَقَالَ بكر: إنما هو محتبطا بالطاء غير المعجمة [3] . فَقَالَ شبيل القول لي هَذَا وما بين لابتيها أفصح مني، فَقَالَ بكر: وهذا خطأ، تأتي ماء البصرة واللوب أهلك، غيرك قولهم: ما بين لابتي 124/ أالمدينة/ يريدون الحرة، قَالَ أَبُو أَحْمَد: الحرة أرض تركبها حجارة سود، وهي اللابة والجمع لابات، فإذا أكثرت فهي اللوب، وللمدينة لابتان من جانبيها، وليس للبصرة لابة ولا حرة. قَالَ: وَقَالَ أَبُو عبيد: المحتبطي بغير همز: المتعصب المستبطئ للشيء والمحتبطئ بالهمز: العظيم البطن المنتفخ.
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[2] انظر: تاريخ بغداد 9/ 275.
[3] «غير المعجمة» ساقطة من ت.(8/274)
وقد تكلم أصحاب الحديث فِي شبيب. سئل ابْن المبارك أنأخذ عَنْ شبيب؟
فَقَالَ: خذوا عنه، فإنه أشرف من أن يكذب.
وَقَالَ الساجي: هو صدوق يهم. وَقَالَ أَبُو علي صالح بْن مُحَمَّد. هو صالح الحديث.
فأما ابْن معين فَقَالَ: ليس بثقة. وَقَالَ أَبُو داود: ليس بشيء.
889- عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سلمة الماجشون، واسم أبي سلمة: ميمون مولى آل الهدير التيمي، وكنية عَبْد العزيز أَبُو عَبْد اللَّه. وقيل: أَبُو الأصبغ [1] .
سمع الزهري، وابْن المنكدر، وأبا حازم وغيرهم. روى عنه: وكيع، وابْن مهدي، ويزيد بْن هارون، وَكَانَ عالما فقيها صدوقا ثقة ثبتا.
أَخْبَرَنَا أَبُو منصور القزاز قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو بكر بن ثابت قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد العتيقي قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن العباس قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو أَيُّوبَ سُلَيْمَانُ بْنُ إِسْحَاقَ الجلاب قَالَ سمعت الحربي يَقُول: الماجشون فارسي وإنما سمي الماجشون لأن وجنتيه كانتا حمراوين [2] .
أَخْبَرَنَا الْقَزَّازُ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْر بْن ثابت قَالَ: أخبرنا العتيقي قال: حدثنا عَلِيّ بْن مُحَمَّد الْعَطَّار قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أبي داود قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو طاهر قَالَ:
حَدَّثَنَا ابْن وهب قَالَ: حججت سنة ثمان وأربعين وصائح يصيح: لا يفتي الناس إلا مالك بْن أنس وَعَبْد الْعَزِيزِ بن أبي سلمة [3] .
أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عَلِيّ قَالَ: أَخْبَرَنِي الحسين بْن أبي طالب قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن عمران قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن عَبْد اللَّه الْعَطَّار قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو إِبْرَاهِيم أَحْمَد بْن سَعِيد الزهري قَالَ: سمعت عَمْرو بْن خالد الحراني يَقُول: / حج أَبُو جَعْفَر المنصور فشيعه المهدي، فلما أراد الوداع قَالَ: يا بنى، 124/ ب استهدني قَالَ: استهدتك رجلا عاقلا، فأهدى لَهُ عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون [4] .
__________
[1] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 10/ 436.
[2] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 10/ 436.
[3] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 10/ 436.
[4] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 10/ 437.(8/275)
تُوُفِّيَ عَبْد العزيز ببغداد في هذه السنة. وجاء المهدي حَتَّى صلى عليه فِي خلافته ودفن فِي مقابر قريش [1] .
890- المبارك بْن فضالة بْن أبي أمية، أَبُو فضالة، مولى زيد بْن الخطاب [2] .
حدث عَنْ الْحَسَن بْن أبي الْحَسَن الْبَصْرِيّ [3] ، وثابت، وحميد الطويل، وخلق كثير.
روى عنه: يزيد بْن هارون وعفان وعلي بْن أبي الجعد.
أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْقَزَّازُ قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: أخبرنا عبد الرحمن بن عبيد اللَّه الْحَرْبِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيم الشَّافِعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ المُثَنَّي قَالَ: حَدَّثَنَا سَوَّارٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُمَيَّةَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ قال: أني يوما لعند أَبِي جَعْفَر إِذْ أُتِيَ بِرَجُلٍ فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: يُقْتَلُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَا حَاضِرٌ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَلا أُحَدِّثُكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنَ الْحَسَن قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قُلْتُ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَمَعَ اللَّهُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ حَيْثُ يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي، وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ فَيَقُومُ مُنَادٍ مِنْ عِنْدِ اللَّه [تَعَالَى] فَيَقُولُ: لَيَقُومَنَّ مَنْ لَهُ عَلَى اللَّه يَدٌ فَلا يَقُومُ إِلا مَنْ عَفَا» . فَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَقَالَ: آللَّه سَمِعْتَهُ مِنَ الْحَسَنِ؟ فَقُلْتُ: آللَّه سَمِعْتُهُ مِنَ الْحَسَن، فَقَالَ: خَلِّيَا عَنْهُ [4] .
[قَالَ المؤلف] [5] اختلف كلام يَحْيَى بْن معين فِي المبارك فَقَالَ مرة: صالح.
وَقَالَ مرة: ثقة، وَقَالَ مرة: ضعيف.
تُوُفِّيَ المبارك في هذه السنة. وقيل: فِي سنة ست وستين.
__________
[1] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 10/ 437.
[2] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 13/ 211.
[3] «بن أبي الحسن البصري» ساقط من ت.
[4] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 13/ 212.
[5] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.(8/276)
ثم دخلت سنة خمس وستين ومائة
فمن الحوادث فِيهَا:
غزوة هارون بْن المهدي الصائفة من أرض الروم، وجهه أبوه فِي يوم السبت لإحدى [عشر] [1] ليلة بقيت من جمادى الآخرة غازيا إِلَى بلاد الروم، وضم إليه الربيع مولاه/ فأوغل هارون فِي بلاد الروم فلقيته خيول فقاتلها فانهزمت، وسار هارون في 125/ أخمسة وتسعين ألفا وسبعمائة وثلاثة وتسعين، وحمل من الفيء مائة ألف دينار وثلاثة وسبعين ألفا وأربع مائة وخمسين دينارا، ومن الورق أحد وعشرون ألف ألف وأربعمائة ألف وأربعة عشر ألف وثمانمائة درهم، وسار هارون حَتَّى بلغ خليج البحر الّذي على القسطنطينية، وصاحب الروم يومئذ امرأة أليون، وذلك أن زوجها هلك وابْنها صغير، [فكان] [2] فِي حجرها فجرت بينها وبين هارون رسل وسفراء فِي طلب الصلح والموادعة وإعطاء الفدية [3] . فقبل ذلك منها هارون، وشرط عليها الوفاء بما أعطت، وأن تقيم لَهُ الأدلاء والأسواق فِي طريقه، وذلك أنه دخل مدخلا ضيقا مخوفا عَلَى المسلمين، فأجابته إِلَى مَا سأل، والذي وقع عليه الصلح بينه وبينها سبعون ألف دينار تؤديها فِي نيسان فِي أول سنة، وفي كل سنة فِي حزيران، فقبل ذلك منها، وكتبوا كتاب الهدنة إِلَى ثلاث سنين، وسلمت الأسارى، فكان الَّذِي أفاء الله على هارون إلى أن أذعنت الروم بالجزية خمسة آلاف رأس وستمائة وثلاثة وأربعين رأسا، وقتل من الأساري ألفان
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[3] في الأصل: «الهدنة» .(8/277)
وسبعون أسيرا [صبرا] [1] ، وأفاء اللَّه عليه من الدواب الذلل بأدواتها عشرين ألفا، وذبح من البقر والغنم مائة ألف، وكانت المرتزقة سوى المطوعة وأهل الأسواق مائة ألف [2] .
وَفِيهَا: عزل خلف بْن عَبْد اللَّه عَنِ الري ووليها عيسى مولى جَعْفَر [3] .
وفي هذه السنة: تزوج الرشيد زبيدة بْنت جَعْفَر بْن المنصور وبْنى بها، وسقط ببغداد ثلج قام فِي الأرض نحو ذراعين [4] .
وَفِيهَا: حج بالناس صالح بْن أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، وكانت عمال الأمصار في هذه 125/ ب السنة/ عمالها فِي السنة الماضية، غير أن العامل عَلَى أحداث البصرة والصلاة بأهلها كَانَ روح بن حاتم، وعلى كور دجلة، والبحرين، وعمان، وكسكر، وكور الأهواز، وفارس، وكرمان المعلى مولى أمير المؤمنين، وعلى السند الليث مولى المهدي أمير المؤمنين [5] .
ذكر من توفي فِي هذه السنة من الأكابر
891- الياقوتة بْنت المهدي
توفيت فجزع عَلَيْهَا جزعا شديدا، فدخل عليه شبيب بْن شيبة فأنشده يَقُول:
فحسبي بقاء اللَّه من كل ميت ... وحسبي ثواب اللَّه من كل هالك
إذا كَانَ رب العرش عني راضيا ... فإن شفاء النفس فيما لك [6]
فدعا بالطعام ثُمَّ أكل.
892- داود بْن نصير الطائي الْكَوفِيّ [7] .
سمع عَبْد الملك بْن عمير، والأعمش، ومحمد بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن أبي ليلى، وغيرهم.
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 152- 153.
[3] انظر: تاريخ الطبري 8/ 153.
[4] انظر: تاريخ الطبري 8/ 153.
[5] انظر: تاريخ الطبري 8/ 153.
[6] هذا البيت ساقط من ت.
[7] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 8/ 347- 355.(8/278)
روى عنه: ابن علية، وأبو نعيم، وغيرهما، وكان قد اشتغل بالعلم والفقه، ثم انقطع إلى العبادة ولازم المجاهدة، وقدم بغداد في أيام المهدي، ثم عاد إلى الكوفة وبها كانت وفاته.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَلي عبد الرحمن بْن مُحَمَّد بْن فضالة قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضِل السلمي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عمران موسى بْن الْعَبَّاس الجويني قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَر بْن الحجاج الرقي قَالَ: حَدَّثَنَا عبيد بْن جناد قَالَ: سمعت عطاء يَقُول: كَانَ لداود الطائي ثلاثمائة درهم فعاش بها عشرين سنة ينفقها عَلَى نفسه، وكنا ندخل عَلَى داود فلم يكن فِي بيته إلا بارية، ولبْنة يضع عَلَيْهَا رأسه وإجانة فِيهَا خبز، ومطهرة يتوضأ منها ومنها يشرب [1] .
أَخْبَرَنَا القزاز قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بن علي بن ثابت قال: أخبرنا علي بن مُحَمَّد بن/ عبد الله المعدل قَالَ: حدّثنا عثمان بن أحمد بن الدقاق قال: حدّثنا إسحاق بن 126/ أإبراهيم بْن أبي حسان الأنماطي قال: حدثنا أحمد بْن أبي الحواري قَالَ: قَالَ أَبُو سليمان الدارانيّ: ورث داود الطائي من أمه دارا، فكان ينتقل فِي بيوت الدار كلما خرب بيت من الدار انتقل منه إِلَى آخر ولم يعمره، حَتَّى أتى عَلَى عامة بيوت الدار [2] .
أَخْبَرَنَا القزاز قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن عَلِيّ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن رزق قَالَ: أَخْبَرَنَا جَعْفَر الخالدي قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه الحضرمي قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن حرب قَالَ:
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن زبان قَالَ: قالت داية لداود: يا أبا سليمان أما تشتهي الخبز؟ قال: يا داية، بين مضغ الخبز وشرب الفتيت قراءة خمسين آية [3] .
توفي في هذه السنة. وقيل في سنة ستين.
893- عَبْد اللَّه بْن العلاء بْن زبر بن عطاء، أبو زبر العجليّ الدمشقيّ [4] .
__________
[1] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 8/ 348.
[2] انظر: تاريخ بغداد 8/ 348.
[3] انظر: تاريخ بغداد 8/ 353.
[4] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 10/ 16.(8/279)
ولد سنة خمس وسبعين، وحدث عَنْ القاسم بْن مُحَمَّد بْن أبي بكر، وسالم، والزهري، ومكحول [1] .
روى عنه: الوليد بْن مسلم وشبابة، وَكَانَ ثقة.
تُوُفِّيَ في هذه السنة.
894- رواد العجلي.
عاهد اللَّه سبحانه أن لا يضحك حَتَّى يراه.
أَخْبَرَنَا عَبْد الوهاب بْن المبارك قال: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار قال:
أخبرنا علي بن أحمد الملطي قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن صفوان قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بكر القرشي قال: حدثني محمد بن الحسين قال: حَدَّثَنَا عُمَر بْن حفص قَالَ: حَدَّثَنِي سكين بْن مسكين قَالَ: كانت بيننا وبين رواد قرابة، فسألت أختا لَهُ كانت أصغر منه؟ كيف كَانَ ليله؟ قَالَتْ: يبكي عامة الليل ويصرخ. قلت: فما كَانَ طعامه؟ قالت: قرصا من أول الليل وقرصا فِي أخره عند السحر، قلت: فتحفظين من دعائه شيئا. قالت: نعم، كَانَ إذا كَانَ السحر أو قريب من طلوع الفجر سجد، ثم 126/ ب بكى، ثُمّ قَالَ: مولاي عبدك يحب الاتصال بطاعتك فأعنه عَلَيْهَا/ بتوفيقك. مولاي عبدك يحب اجتناب خطيئتك فأعنه عَلَى ذلك بمنك. مولاي عبدك عظيم الرجاء لخيرك فلا تقطع رجاءه يوم يفرح بخيرك الفائزون.
قالت: فلا يزال عَلَى هَذَا ونحوه حَتَّى يصبح، قالت: وَكَانَ قَدْ كل من الاجتهاد جدا وتغير لونه. قَالَ سكين: فلما مات رواد وحمل إِلَى حفرته نزلوا ليدلوه فِي حفرته فإذا اللحد مفروش بالريحان، وأخذ بعض القوم من ذلك الريحان شيئا فمكث سبعين يوما طريا لا يتغير، يغدوا الناس ويروحون وينظرون إِلَيْهِ، قَالَ فكثر الناس فِي ذلك حَتَّى خاف الأمير أن يفتتن الناس فأرسل إِلَى الرجل، فأخذ ذلك الريحان وفرق الناس، وفقده الأمير من منزله لا يدري كيف ذهب.
__________
[1] «ومكحول» ساقطة من ت.(8/280)
ثم دخلت سنة ست وستين [1] ومائة
فمن الحوادث فِيهَا:
قدوم هارون ومن كَانَ معه من خليج القسطنطينية فِي المحرم لثلاث عشرة ليلة بقيت فِيهِ. وقدمت الروم بالجزية معهم، وجاءوا مَعَ المال بثلاثين ألف رطل من المرعزي [2] .
وَفِيهَا: أخذ المهدي البيعة لهارون عَلَى قواده بعد موسى بْن المهدي، وسماه الرشيد [3] .
وَفِيهَا: اعتمر المهدي عمرة فِي شهر رَمَضَان، وأفطر بالمدينة، وصلى بهم فِي الفطر، واستقضى أبا سفيان.
وَفِيهَا: عزل عبيد اللَّه بْن الْحَسَن عَنْ قضاء البصرة، وولى مكانه خالد بْن طليق بْن عمران بْن حصين، فلم تحمد ولايته، واستعفى أَهْل البصرة منه [4] .
وَفِيهَا: عزل جَعْفَر بْن سليمان عَنْ مكة والمدينة وما كَانَ إِلَيْهِ من العمل.
وَفِيهَا: سخط المهدي على يعقوب بن داود.
وكان سبب سخطه: أن داود بْن طهمان- وَهُوَ أَبُو يعقوب- كان كاتبا لنصر بن سيار،
__________
[1] في الأصل: «سنة إحدى وستين» .
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 154.
[3] انظر: تاريخ الطبري 8/ 154.
[4] انظر: تاريخ الطبري 8/ 154.(8/281)
127/ أوقد [1] [كتب قبله لبعض ولاة خراسان، فلما كانت أيام يَحْيَى بْن زيد أتاه طهمان مطمئنا لما بينه وبينه، فآمنه أَبُو مسلم فلم يعرض لَهُ نفسه، وأخذ أمواله الَّتِي استفادها أيام نصر، ونزل منازله بمرو وضيعة كانت لَهُ ميراثا، فلما مات داود خرج ولده أهل [أدب] [2] وعلم بأيام الناس وسيرهم وأشعارهم، ونظروا فإذا ليس لهم عند بني العباس منزلة فلم يطمعوا في خدمتهم لأجل أن أباهم كَانَ كاتبا لنصر، فلما رأوا ذلك أظهروا مقالة الزيدية ودنوا من ال الحسين وطمعوا أن يكون لهم دولة فيعيشوا فِيهَا.
وَكَانَ يعقوب يجوب البلاد منفردا بْنفسه ومعه إِبْرَاهِيم بْن عَبْد اللَّه أحيانا فِي طلب البيعة لمحمد بْن عَبْد اللَّه، فلما ظهر مُحَمَّد وإبراهيم كتب عَلِيّ بْن داود- وَكَانَ أسن من يعقوب- لإبراهيم بْن عَبْد اللَّه وخرج يعقوب مَعَ عدة من إخوته مَعَ إِبْرَاهِيم، فلما قتل مُحَمَّد وإبراهيم تواروا من المنصور، فجد فِي طلبهم، فأخذ يعقوب وعليا فحبسهما أيام حياته، فَلَمَّا تُوُفِّيَ المنصور من عليهما المهدي فيمن من عليه بتخلية سبيله، وَكَانَ معهما فِي السجن إِسْحَاق بْن الفضل بْن عَبْد الرَّحْمَنِ، وكانا لا يفارقانه ولا يفارقان إخوته المحبوسين معهم، فجرت بينهم بذلك صداقة، فلما خلى المهدي سبيل يعقوب مكث مدة يطلب عيسى بْن زيد والحسن بْن إِبْرَاهِيم بْن عَبْد اللَّه، هرب الْحَسَن من حبسه، فَقَالَ المهدي يوما: لو وجدت رجلا من الزيدية لَهُ معرفة بآل الْحَسَن وبعيسى بْن زيد، وله فقه، فأجتلبه إِلَى طريق الفقه، ويدخل بيني وبين أَهْل حسن وعيسى، فدل عَلَى يعقوب فأتي به فدخل عليه ذو عمامة كرابيسي وكساء أبيض [3] غليظ فكلمه فوجده رجلا كاملا، فسأله عَنْ عيسى بْن زيد فوعد الدخول بينه وبينه وارتفع أمره عند المهدي وممن أرفع به استأمنه للحسن [4] بْن إِبْرَاهِيم فجمع بينهما بمكة وما زال يعلو أمره عنده حَتَّى استوزره، وفوض إِلَيْهِ الخلافة، فأرسل إِلَى الزيدية فأتى بهم [من كل] [5] أوب، وولاهم من أمر الخلافة فِي الشرق والغرب كل عمل نفيس.
__________
[1] الورقة رقم 127، مفقودة من نسخة أحمد الثالث (الأصل) .
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[3] في ت: «أبطل» .
[4] في ت: «الحسين» .
[5] ما بين المعقوفتين من الطبري.(8/282)
ومال يعقوب إِلَى إِسْحَاق بْن الفضل فقيل للمهدي لو أراد أخذ لَهُ الدنيا فِي يوم.
فملأ ذلك قلب المهدي عليه. ودخل عليه يوما فَقَالَ: يا أمير المؤمنين، قد عرفت اضطراب مصر فأمرتني أن ألتمس لها رجلا يجمع أمرها وقد أصبته. قَالَ: من هو؟ قَالَ:
ابْن عمك إِسْحَاق بْن الفضل، فرأى فِي وجه المهدي التغير، فنهض وأتبعه المهدي طرفه، وَقَالَ: قتلتني والله إن لم أقتلك. ولم يزل موالي المهدي يحرضونه عليه، ودخل عليه يوما وَهُوَ فِي مجلس متناهي الْحَسَن، وعنده جارية فِي غاية الكمال، فَقَالَ لَهُ: يا يعقوب كيف ترى مجلسنا؟ قَالَ: عَلَى غاية الْحَسَن فمتع اللَّه أمير المؤمنين به، فَقَالَ:
هو لك احمله بما فِيهِ، وَهَذِهِ الجارية ليتم سرورك به، فدعا لَهُ فَقَالَ: ولي إليك حاجة فأحب أن تضمن لي قضاءها، فَقَالَ: الأمر لأمير المؤمنين وعلي السمع والطاعة، فَقَالَ:
والله، ثلاث مرات، فَقَالَ: وحياة رأسي، فَقَالَ: فحياة رأسك قَالَ: فضع يدك عليه فاحلف، ففعل لتقضين حاجته فَقَالَ: هَذَا فلان بْن فلان من ولد علي، أحب أن تكفيني مئونته وتريحني منه، وتعجل ذلك، فَقَالَ: أفعل، قَالَ: فخذه إليك فحوله وحول الجارية وجميع مَا كَانَ فِي البيت، وأمر لَهُ بمائة ألف درهم، فلما مضى إِلَى منزله لم يصبر عن الجارية فضرب بينه وبينها سترا، ودعا بالعلوي، فإذا أعقل الناس، فسأله عَنْ حاله فَأَخْبَرَه، فَقَالَ: يا يعقوب تلقى اللَّه بدمي، وأنا من ولد فاطمة] [1] / بنت رسول 128/ أالله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقال له: لا والله، فهل فيك أنت خير؟ قَالَ: إن فعلت خيرا شكرت [2] ، فَقَالَ لَهُ: أي الطريق أحب إليك؟ فقال: طريق كذا وكذا. قال: فمن هاهنا تأنس به وتثق بموضعه؟ قَالَ: فلان وفلان، فقال: فابعث إليهما وخذ هَذَا المال وامض معهما مصاحبا فِي ستر اللَّه، موعدك فِي خروجك من داري وقت كذا وكذا من الليل، فسمعت الجارية ذلك، فبعثت به مَعَ خادم لها إِلَى المهدي وقالت: هَذَا جزاؤك من الَّذِي آثرته عَلَى نفسك، فبعث المهدي من وقته فشحن تلك الطرق [3] والمواضع برجال، فلم يلبث أن جاءوه بالعلوي وصاحبيه والمال، وأصبح يعقوب من غد ذلك اليوم، فإذا رسول المهدي يستحضره، فدخل عليه، فَقَالَ: يا يعقوب مَا فعل الرجل؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَدِ أراحك اللَّه منه، قَالَ: مات؟ قَالَ: نعم، قَالَ: والله، قَالَ: والله، قَالَ: فقم فضع يدك
__________
[1] إلى هنا ينتهي مقدار الورقة رقم 127 المفقودة.
[2] في ت: «شكرتك» .
[3] في ت: «الطريق» .(8/283)
عَلَى رأسي واحلف، ففعل، فَقَالَ: يا غلام أخرج إلينا مَا فِي هَذَا البيت، ففتح بابه عَنِ العلوي وصاحبيه والمال بعينه فأبلس يعقوب، فَقَالَ المهدي: لقد حل لي دمك لو آثرت إراقته، ولكن احبسوه، ولا أذكر به، فحبسوه فِي مطمورة ثُمَّ أصيب فِيهَا [1] بصره، وطال شعره إِلَى أن ولي الرشيد، فدعا به، فأدخل عليه، فقيل لَهُ: سلم عَلَى أمير المؤمنين فسلم، فَقَالَ لَهُ: أي أمير المؤمنين أنا؟ فَقَالَ: المهدي، فَقَالَ: رحم اللَّه المهدي، فَقَالَ: فالهادي، فَقَالَ: رحم اللَّه الهادي. قَالَ: الرشيد. قَالَ: نعم، فما حاجتك؟ قَالَ:
المقام بمكة، فخرج إِلَى مكة فبقي قليلا ثُمَّ مات [2] .
ولما عزل [3] المهدي يعقوب أمر بعزل أصحابه عَنِ الولايات فِي الشرق والغرب، وأن يؤخذ أهل بيته وأن يحبسوا ففعل بهم ذلك [4] .
وفي هذه السنة: خرج موسى الهادي إِلَى جرجان، وجعل عَلَى قضائه أبا يوسف يعقوب بْن إِبْرَاهِيم [5] .
وَفِيهَا: / تحول المهدي إِلَى عيساباذ فنزلها ونزل معه الناس، وضرب بها الدنانير والدراهم [6] .
وَفِيهَا: أمر المهدي بإقامة إبل وبغال تكون بريدا بين المدينة ومكة واليمن [7] .
وَفِيهَا: أخذ داود بْن روح بْن حاتم، وإسماعيل بْن سليمان بْن مجالد [8] ، ومحمد بْن أبي أيوب المكي، ومحمد بْن طيفور فِي الزندقة، فأقروا فاستتابهم المهدي وخلى سبيلهم وبعث بداود بْن روح إِلَى أبيه، وَكَانَ عاملا عَلَى البصرة، فمنّ عليه وأمره بتأديبه [9] .
__________
[1] «فيها» ساقطة من ت.
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 154- 160.
[3] في ت: «ولما خبس» .
[4] انظر: تاريخ الطبري 8/ 161.
[5] انظر: تاريخ الطبري 8/ 161.
[6] انظر: تاريخ الطبري 8/ 161.
[7] انظر: تاريخ الطبري 8/ 162.
[8] في الأصل، ت: «عيسى بن مجالد» .
[9] انظر: تاريخ الطبري 8/ 163.(8/284)
وَفِيهَا: أخرج المهدي عَبْد الصَّمَدِ بْن عَلِيّ من حبسه، وعزل منصور بْن يزيد بْن منصور عَنِ اليمن، واستعمل مكانه عَبْد اللَّه بن سليمان الربيعي [1] .
وَفِيهَا: أجدبت الأرض فخرجوا للاستسقاء.
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيّ [2] بْن المحسن التنوخي، عَنْ أبي عبيد اللَّه مُحَمَّد بْن عمران قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر الجرجاني قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن أبي خيثمة قَالَ: حَدَّثَنَا مُصْعَب بْن عَبْد اللَّه الزبيري قَالَ: حَدَّثَنَا الفضل بْن الربيع قَالَ:
قحط الناس عَلَى عهد المهدي سنة ست وستين ومائة، فنادى فِي الناس أن صوموا ثلاثة أيام وأخرجوا للاستسقاء في اليوم الرابع، فخرجوا فسقوا، فَقَالَ لقيط بْن بكر المحاربي:
يا إمام الهدى سقينا بك الغيث ... وزالت عنا بك اللأواء
أحسب [3] الأرض إذ عزمت لتستسقي ... وجادت بالغيث منها السماء
بت تعنى بالناس والناس نوام ... عليهم من الظلام غطاء
فسقينا وقد قحطنا وقلنا ... سنة قَدْ تنكرت حمراء
بدعاء أخلصته فِي سواد الليل ... للَّه فاستجيب الدعاء
بغيوث تحيا بها الأرض ... حَتَّى أصبحت وهي زهرة خضراء
وَفِيهَا: حج بالناس إِبْرَاهِيم بْن يَحْيَى بْن مُحَمَّد، وَكَانَ عامل الكوفة/ على 129/ أالصلاة والأحداث روح بْن حاتم، وعلى قضائها خالد بْن طليق، وعلى كور دجلة وكسكر وأعمال البصرة والبحرين وكور الأهواز وفارس وكرمان المعلى مولى أمير المؤمنين [4] .
وعلى خراسان وسجستان الفضل بْن سليمان الطوسي وعلى مصر إِبْرَاهِيم بْن صالح، وعلى إفريقية يزيد بْن حاتم، وعلى طبرستان والرويان وجرجان يحيى
__________
[1] انظر الخبر في: تاريخ الطبري 8/ 163.
[2] في الأصل: «عبد الباقي عن علي» .
[3] في ت: «حسبت» .
[4] انظر: تاريخ الطبري 8/ 163.(8/285)
الحرشي، وعلى دنباوند وقومس فراشة مولى المهدي، وعلى الري سعد مولاه أيضا [1] .
وعزل المنصور يزيد بْن منصور عَنِ اليمن، واستعمل مكانه عبيد اللَّه بْن سليمان [2] .
ولم يكن في هذه السنة صائفة لأجل الهدنة.
وَمَا عرفنا أحدا من الأكابر تُوُفِّيَ فِي هذه السنة.
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 162.
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 163.(8/286)
ثم دخلت سنة سبع وستين ومائة
فمن الحوادث فِيهَا:
توجيه المهدي ابْنه موسى فِي جند كثيف إِلَى جرجان للحرب [1] .
وَفِيهَا: جد المهدي فِي طلب الزنادقة والبحث عنهم فِي الآفاق وقتلهم، وولى أمرهم عمر الكلواذيّ، فأخذ يزيد بْن الفيض كاتب المنصور، فأقر فحبس فهرب من الحبس [2] .
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: اتهم المهدي صالح بْن عَبْد الْقُدُّوسِ الْبَصْرِيّ بالزندقة، فأمر بحمله إِلَيْهِ فأحضر، فلما خاطبه أعجب بغزارة علمه وأدبه وحسن ثيابه فأمر بتخلية سبيله، فما ولي رده فَقَالَ: ألست القائل:
والشيخ لا يترك أخلاقه ... حَتَّى يوارى فِي ثرى رمسه
إذا ارعوى عاد إِلَى جهله ... كذا الضنى عاد إِلَى نكسه
قَالَ: بلى، قَالَ: وأنت لا تترك أخلاقك، ونحن نحكم فيك بحكمك. ثُمَّ أمر به فقتل وصلب عَلَى الجسر.
قَالَ ابْن ثَابِت: وقيل إنه بلغه عنه أبيات يعرض فيها/ بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، قال: ويقال 129/ ب انه كان مشهورا بالزندقة وله مَعَ أبي الهذيل العلاف مناظرات.
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 164.
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 64.(8/287)
وَفِيهَا: عزل المهدي أبا عبيد اللَّه معاوية بن عبيد الله عَنْ ديوان الرسائل، وولاه الرَّبِيع الحاجب، واستخلف سَعِيد بْن واقد عليه، وَكَانَ أَبُو عبيد اللَّه يدخل عَلَى مرتبته [1] .
وَفِيهَا: أمر المهدي بالزيادة فِي المسجد الحرام، فدخلت فِيهِ دور كثيرة، وولى بْناء مَا زَيْد فِيهِ يقطين بْن موسى، فلم يزل فِي بْنائه حَتَّى تُوُفِّيَ المهدي [2] .
وَفِيهَا: عزل يَحْيَى الحرشي عَنْ طبرستان والرويان، وما كَانَ إِلَيْهِ من تلك الناحية وولّاها عمر بْن العلاء، وولى جرجان فراشة مولى المهدي [3] .
وَفِيهَا: أظلمت الدنيا ظلمة شديدة لليال بقين من ذي الحجة حَتَّى تعالى النهار فكشف اللَّه تعالى ذلك. وأصاب الناس غير مرة تراب أحمر يجدونه فِي فرشهم، وعلى وجوههم، وظهر سعال شديد، وفشا الموت [والوباء] ببغداد والبصرة [4] .
وَفِيهَا: حج بالناس إِبْرَاهِيم بْن يَحْيَى بْن مُحَمَّد وَهُوَ عَلَى المدينة، ثُمَّ تُوُفِّيَ بعد فراغه من الحج، وقدومه المدينة بأيام، وولي مكانه إِسْحَاق بْن عيسى بْن عَلِيّ، وَكَانَ العامل عَلَى مكة والطائف عبيد اللَّه بْن قثم، وعلى اليمن سليمان بْن يزيد الحارثي، وعلى اليمامة عبيد اللَّه بْن مُصْعَب الزبيري، وعلى صلاة الكوفة وأحداثها مُحَمَّد بْن سليمان. وعلى قضائها عُمَر بْن عُثْمَان التيمي، وعلى كور دجلة وأعمال البصرة والبحرين وعمان وكور الأهواز وفارس وكرمان المعلى مولى المهدي، وعلى خراسان وسجستان الفضل بْن سليمان الطوسي، وعلى مصر مُوسَى بْن مُصْعَب وعلى إفريقية يزيد بْن حاتم، وعلى طبرستان والرويان عَمْرو بْن العلاء، وعلى جرجان 130/ أودنباوند/ وقومس فراشة، وعلى الري سَعِيد مولى المهدي [5] .
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 165.
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 165.
[3] انظر: تاريخ الطبري 8/ 165.
[4] انظر تاريخ الطبري 8/ 165.
وما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[5] انظر: تاريخ الطبري 8/ 165- 166.(8/288)
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
895- بشار بْن برد، أَبُو معاذ الشاعر، مولى عقيل [1] .
ولد أعمى، وَكَانَ يشبه الأشياء فِي شعره، فيأتي بما لا يقدر البصراء عليه، فقيل [لَهُ] [2] يوما وقد قَالَ:
كَانَ مثار النقع فوق رءوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
مَا قَالَ أحد أحسن من هَذَا التشبيه، فمن أين لك هَذَا ولم تر الدنيا قط؟
فَقَالَ: إن عدم النظر يقوي ذكاء القلب، ويقطع عنه الشغل بما تنظر إِلَيْهِ من الأشياء، فيتوفر حسه وتذكو قريحته.
وَكَانَ الأصمعي يَقُول: بشار خاتمة الشعراء، والله لولا أن أيامه تأخرت لفضَّلته عَلَى كثير منهم.
قَالَ الجاحظ: كَانَ بشار شاعرا خطيبا صاحب منثور ومرواج وسجع ورسائل، وَهُوَ المقدم من الشعراء المحدثين وهو بصري قدم بغداد [3] .
وَقَالَ أَبُو تمام الطائي: أشعر الناس وأشبههم فِي الشعر كلاما بعد الطبقة الأولى بشار، والسيد وأبو نواس، ومسلم بْن الوليد بعدهم.
وَقَالَ أَبُو عبيدة معمر بْن المثنى: قَالَ بشار الشعر ولم يبلغ عشر سنين، وَقَالَ ثلاثة عشر ألف بيت جيد، ولا يكون عدد شعر الجاهلية والإسلام هَذَا العدد.
قَالَ: وَكَانَ بشار يهوى امرأة من أَهْل البصرة يقال لها عبيدة، فخرجت عن البصرة [4] مع زوجها إِلَى عمان [فَقَالَ بشار] : [5]
هوى صاحبي ريح الشمال إذا جرت ... وأشهى لقلبي أن تهب جنوب
وما ذاك إلا أنها حين تنتهي ... تجيء وفيها من عبيدة طيب
__________
[1] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 7/ 112.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[3] انظر: تاريخ بغداد 7/ 112.
[4] «يقال لها عبيدة فخرجت عن البصرة» ساقطة من ت.
[5] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.(8/289)
عذيري من العذال يعذلونني ... شفاها وما فِي العاذلين لبيب
130/ ب/ يقولون لو عزيت قلبك لارعوى ... فقلت وهل للعاشقين قلوب
إذا انطلق القوم الجلوس فإنني ... مكب كأني فِي الجميع غريب
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال أخبرنا علي بن أيوب القمي قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عمران المرزباني قال: أخبرني محمد بن يحيى قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن اليشكري قَالَ: قيل لأبي حاتم من أشعر الناس؟
قَالَ: الَّذِي يَقُول:
ولها مبسم كثغر الأقاحي ... وحديث كالوشي وشي البرود
نزلت فِي السواد من حبة القلب ... وزادت زيادة المستزيد
عندها الصبر عَنْ لقائي وعندي ... زفرات يأكلن صبر الجليد
يعني: بشارا- وَكَانَ يقدمه عَلَى جميع الناس [1] .
فبلغ المهدي أن بشارا قَدْ هجاه، وشهد قوم أنه زنديق، فأمر المهدي بضربه، فضرب ضرب التلف، فمات في هذه السنة. وقيل: فِي سنة ثمان، وقد بلغ نيفا وتسعين سنة [2] .
896- جَعْفَر بْن زياد، أَبُو عَبْد اللَّه، وقيل: أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ الأحمر الْكَوفِيّ [3] .
حدث عَنْ بيان بْن بِشْر، ومنصور بْن المعتمر، وأبي إِسْحَاق الشيباني، روى عنه: سفيان بْن عبيدة، ووكيع وغيرهما. وَكَانَ قَدْ خرج إِلَى خراسان فبلغ المنصور عنه أمر يتعلق بالإمامة، وأنّه ممن يرى رأي الرافضة، فوجه إِلَيْهِ من قبض عليه، وحمله إِلَى بغداد وأودعه السجن دهرا طويلا، ثُمَّ أطلقه.
قَالَ يَحْيَى بْن معين: هو ثقة، وَكَانَ من الشيعة.
تُوُفِّيَ في هذه السنة، وقيل: فِي سنة خمس وستين.
__________
[1] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 7/ 117.
[2] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 7/ 118.
[3] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 7/ 150- 152.(8/290)
897- صالح بْن عَبْد الْقُدُّوسِ الْبَصْرِيّ [1] .
لَهُ شعر حسن فِي الزهد. صلبه المهدي فِي الزندقة.
[قَالَ المؤلف] : [2] وقد ذكرنا حاله فِي الحوادث.
898- عَبْد الرَّحْمَنِ بْن شريح بْن عبيد اللَّه [3] ، أَبُو شريح المعافري [4] .
روى عنه: ابْن المبارك، وابْن وهب، وزيد بْن الحباب، وكانت لَهُ عبادة/ 131/ أوفضل.
تُوُفِّيَ في هذه السنة [5] بالإسكندرية.
899- عيسى بْن موسى بن مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس.
كَانَ أَبُو الْعَبَّاس [6] السفاح قَدْ عهد عند موته إِلَى أخيه المنصور، ومن بعده إِلَى عيسى بْن مُوسَى، ومولد عيسى سنة ثلاث ومائة أو أربع ومائة، فشرع المنصور بعد قتل مُحَمَّد وإبراهيم ابْني عَبْد اللَّه بْن حسن بْن حسن وَكَانَ قتلهما جميعا عَلَى يدي عيسى بْن موسى فِي تأخير عيسى، وتقديم المهدي فِي ولاية العهد، وذلك فِي سنة سبع وأربعين ومائة، وجرت بينهما خطوب ومكاتبات وامتناع من عيسى، ثُمَّ أجابه إِلَى ذلك، فأقر به وأشهد عَلَى نفسه، وخطب المنصور النّاس وأعلمهم مَا جرى من تقديم المهدي، ورضي عيسى بذلك وتكلم عيسى وسلم الأمر للمهدي، فبايع الناس للمهدي، ثُمَّ لعيسى من بعده، فلما ولي المهدي طالب عيسى بخلع نفسه من ولاية العهد البتة وتسليمه لموسى بْن المهدي، وألح عليه إلحاحا شديدا، وبذل لَهُ مالا عظيما، وجرت فِي ذلك خطوب، إِلَى أن أقدمه من الكوفة إِلَى بغداد وتقرر الأمر عَلَى أن يخلع نفسه، ويسلم الأمر لموسى، ويدفع المهدي إليه عشرة آلاف ألف، وقيل:
عشرين ألف ألف.
وقد كان عيسى ذكر أن عليه أيمانا فِي أهله وماله، فأحضر المهدي من القضاة والفقهاء من أفتاه فِي ذلك وعوضه المهدي وأرضاه فيما يلزمه من الحنث في ماله
__________
[1] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 9/ 303.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[3] «بن عبيد الله» ساقط من ت.
[4] انظر ترجمته في: تقريب التهذيب 1/ 484.
[5] «في هذه السنة» ساقطة من ت.
[6] «أبو العباس» ساقطة من ت.(8/291)
ورقيقه، فقبل ذلك، ورضي به، وخلع نفسه فِي محرم سنة ستين ومائة، وبايع المهدي، ثُمَّ لموسى بعده، وأقر بذلك عَلَى المنبر، ورجع إِلَى الكوفة.
فتوفي بها لثلاث بقين من ذي الحجة في هذه السنة، وصلى عليه ابْنه الْعَبَّاس، وَكَانَ المهدي واجدا عليه، ووالي الكوفة يومئذ روح بْن حاتم، فأشهد روح على وفاته 131/ ب القاضي وجماعة من الوجوه، ثُمَّ دفن وله خمس وستون سنة، وولد لَهُ واحد وَثَلاثُونَ ذكرا وعشرون أنثى وورثه من الرجال ثَلاثُونَ رجلا، ومن النساء أربع عشرة امرأة.
900- عتبة بن أبان بن ضمعة، وَهُوَ الَّذِي يقال لَهُ: عتبة الغلام.
وإنما سمي بالغلام لجده واجتهاده لا لصغر سنه، وَكَانَ كثير التعبد والبكاء، خشن العيش، وَكَانَ يشق الخوص، ويصوم الدهر، ويفطر عَلَى الخبز والملح.
أَخْبَرَنَا عَبْد الوهاب الأنماطي قَالَ: أَخْبَرَنَا المبارك بن عبد الجبار قال: حدثنا علي بن أحمد الملطي قال: أخبرنا أحمد بن مُحَمَّد بْن يوسف قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن صفوان قال:
أخبرنا أبو بكر القرشي قال: حدثني مُحَمَّد بْن الحسين قَالَ: حَدَّثَنَا عمار بْن عُثْمَان الحلبي قَالَ: حَدَّثَنَا سوار أَبُو عبيدة قَالَ: بكى عتبة الغلام فِي مجلس عَبْد الْوَاحِدِ بْن زيد تسع سنين لا يفتر يبكي من حين يبدأ عَبْد الْوَاحِدِ فِي الموعظة إِلَى أن يقوم، لا يكاد يفتر عنه [1] ، فقيل لعبد الواحد: إنا لا نفهم كلامك من بكاء عتبة الغلام، قَالَ: وأصنع ماذا؟ يبكي عتبة عَلَى نفسه وأنهاه أنا، لبئس واعظ قوم أنا.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن أبي القاسم قَالَ: أَخْبَرَنَا حَمَدُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم الأصبهاني قال: حدثنا مُحَمَّد بْن حيان قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن الحسين قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي قال: حدثني إبراهيم بن عبد الرحمن قال: حدّثني عبد الخالق المعبدي قال: كان لعتبة بيت يتعبد فِيهِ فلما خرج إِلَى الشام أقفله وَقَالَ:
لا تفتحوه إِلَى أن يبلغكم موتي، فلما بلغهم قتله، فتحوه فأصابوا فيه قبرا محفورا وغلا من حديد.
__________
[1] في ت: «لا يكاد يسكت عنه» .(8/292)
ثم دخلت سنة ثمان وستين ومائة
فمن الحوادث فِيهَا:
نقض الروم الصلح الَّذِي جرى بينهم وبين هارون وقد تقدم ذكره، وَكَانَ بين أول الصلح وبين أول الغدر اثنان وَثَلاثُونَ شهرا، فوجه عَلِيّ بْن سليمان/ وَهُوَ يومئذ 132/ أعلى الجزيرة وقيس بن يزيد بْن المنذر بْن البطال سرية فِي خيل إِلَى الروم فظفروا وغنموا [1] .
وَفِيهَا: وجه المهدي سَعِيد الحرشي إِلَى طبرستان فِي أربعين ألفا [2] .
وَفِيهَا: قتل المهدي جماعة من الزنادقة ببغداد [3] .
وَفِيهَا: ولى المهدي عَلِيّ بْن يقطين زمام الأزمة عَلَى عُمَر وابْن بزيع، وَكَانَ عُمَر أول من عمل ديوان الزمام فِي خلافة المهدي، وذلك: أنه جمعت لَهُ الدواوين، ففكر فإذا هو لا يضبطها إلا بزمام يكون لَهُ عَلَى كل ديوان [فاتخذ دواوين الأزمة وولى كل ديوان] [4] رجلا وَكَانَ وإليه عَلَى ديوان الخراج إِسْمَاعِيل بْن صبيح، ولم يكن لبني أمية دواوين أزمّة [5] .
__________
[1] انظر: تاريخ الطبري 8/ 167.
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 167.
[3] انظر تاريخ الطبري 8/ 167.
[4] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[5] انظر: تاريخ الطبري 8/ 167.(8/293)
وَفِيهَا حج بالناس عَلِيّ بْن [1] المهدي الَّذِي يقال لَهُ ابْن ريطة [2]
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
901- الحسن بن زيد بْن الْحَسَن بْن عَلِيّ بْن أبي طالب [رضي اللَّه عنهم] ، أَبُو مُحَمَّد الهاشمي المَدِينيّ [3] .
حدث عَنْ أبيه، وعن عكرمة، روى عنه: ابْن إِسْحَاق، ومالك وابْن أبي ذئب وابْن أبي الزناد. وَكَانَ أحد الأجواد، وولاه المنصور خمس سنين، ثُمَّ غضب عليه فعزله واستصفى كل شيء له وحبسه ببغداد فلم يزل محبوسا حَتَّى مات المنصور، فأخرجه المهدي ورد عليه مَا أخذ منه ولم يزل معه.
أخبرنا أبو منصور القزاز قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بكر [أَحْمَد بْن عَلِيّ بْن] ثَابِت قَالَ:
أَخْبَرَنَا الْحَسَن بْن زكريا قَالَ: أَخْبَرَنَا الحسين بْن مُحَمَّد بْن يَحْيَى العلوي قَالَ:
حَدَّثَنَا جدي قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيّ بْن إِبْرَاهِيم بْن الْحَسَن قَالَ: حَدَّثَنِي عمي عبيد اللَّه بْن حسن وعَبْد اللَّه بْن الْعَبَّاس [بْن مُحَمَّد] [4] قالا: كَانَ أول مَا عرف به شرف الْحَسَن بْن زيد أن أباه تُوُفِّيَ وَهُوَ غلام وخلف دينا أربعة آلاف دينار فحلف الحسن بن زيد أن لا يظل رأسه سقف بيت إلا سقف مسجد أو سقف بيت رجل يكلمه فِي حاجة حَتَّى يقضي دين 132/ ب أبيه، فلم يظل رأسه/ سقف بيت حَتَّى قضي دين أبيه [5] .
تُوُفِّيَ الْحَسَن بالحاجر عَلَى خمسة أميال من المدينة وَهُوَ يريد مكة من العراق في هذه السنة وَهُوَ ابْن خمس وثمانين سنة وصلى عليه المهدي [6] :
قَالَ الناقل: وهذا الْحَسَن هو أَبُو السيدة نفيسة رضي اللَّه عنها المدفونة فِي الديار المصرية [7] .
__________
[1] في ت: «وحج في هذه السنة» .
[2] انظر: تاريخ الطبري 8/ 167.
[3] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 7/ 309- 313.
[4] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[5] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 7/ 309.
[6] انظر: تاريخ بغداد 7/ 113.
[7] عبارة الناقل غير موجودة في ت:(8/294)
902- حماد بْن سلمة، أَبُو سلمة مولى لبْني تميم، وَهُوَ ابْن أخت حميد الطويل
كَانَ عالما عابدا محاسبا لنفسه لا يضيع لحظة فِي غير طاعة.
قَالَ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد: لو قيل لحماد بْن سلمة إنك تموت غدا مَا قدر أن يزيد فِي العمل شيئا. وَكَانَ يبيع الثياب، فإذا ربح حبة أو حبتين نهض.
أَخْبَرَنَا المبارك بْن أَحْمَد الأنصاري قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّه بْن أَحْمَد السمرقندي قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن عَبْد الملك بْن شبابة قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الرازي قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن مهدي قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن عَمْرو المروزي قَالَ: حَدَّثَنَا مقاتل بْن صالح الخراساني قَالَ:
دخلت عَلَى حماد بْن سلمة [فإذا] [1] ليس فِي بيته إلا حصير وَهُوَ جالس عليه، ومصحف يقرأ فيه وجراب فيه علمه، ومطهرة يتوضأ فيها، فبينا أنا عنده جالس دق داق الباب، فَقَالَ: يا صبية أخرجي فانظري من هَذَا؟ فقالت: رَسُول مُحَمَّد بْن سليمان، قَالَ: قولي لَهُ يدخل وحده، فدخل فناوله كتابا فَإِذَا فِيهِ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّد بْن سليمان إِلَى حماد بْن سلمة أما بعد، فصبحك اللَّه بما صبح به أولياءه وأهل طاعته، وقعت مسألة، فإننا نسألك عنها والسلام.
فَقَالَ: يا صبية هلمي الدواة، ثُمَّ قَالَ لي: اقلب الكتاب واكتب:
أما بعد: وأنت فصبحك اللَّه بما صبح به أولياءه وأهل طاعته إنا أدركنا العلماء وهم لا يأتون أحدا، فإن كانت وقعت مسألة فأتنا وسلنا عَلَى مَا بدا لك، فإن أتيتني [2] فلا تأتني إلا وحدك، ولا تأتني بخيلك ورجلك، فلا أنصحك ولا أنصح نفسي والسلام.
فبينا أنا عنده/ دق الباب، فَقَالَ: يا صبية، أخرجي فانظري من هَذَا؟ فقالت: 133/ أمحمد بْن سليمان، قَالَ: قولي لَهُ ليدخل وحده، فدخل فسلم ثُمَّ جلس بين يديه، فَقَالَ: مَا لي إذا نظرت إليك امتلأت رعبا، فقال حماد: سمعت ثابت البناني يقول:
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[2] في ت: «ولكن إذا أتيتني» .(8/295)
سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ الْعَالِمَ إِذَا أَرَادَ بِعِلْمِهِ وَجْهَ اللَّهِ هَابَهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَكْتَنِزَ بِهِ الْكُنُوزَ هَابَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ» . فَقَالَ: [أربعون] ألف درهم تأخذها تستعين بها عَلَى مَا أنت عليه. فَقَالَ: أرددها عَلَى من ظلمته بها، فَقَالَ: والله مَا أعطيك إلا مَا ورثته، قَالَ: لا حاجة لي فِيهَا أزوها عني زوى اللَّه عنك أوزارك، قَالَ: فنقسمها، قَالَ: فلعلي إن عدلت فِي قسمتها أن يقول بعض من لم يرزق منها لم يعدل، أزوها عني زوى اللَّه عنك أوزارك.
[قَالَ مؤلف الكتاب] [1] : أسند حماد بْن سلمة عَنْ خلق كثير من التابعين.
وتوفي في هذه السنة فِي المسجد وَهُوَ يصلي.
أَخْبَرَنَا ابْن ناصر، وعلي بْن أبي عُمَر قالا: أَخْبَرَنَا رزق اللَّه وطراد قالا: أَخْبَرَنَا علي بن محمد بْنُ بِشْرَانَ قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْن صَفْوَانَ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر بْن عبيد قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَبْد اللَّه التَّمِيمِيّ، عَنْ أبيه قَالَ: رأيت حماد بْن سلمة فِي النوم، فقلت: مَا فعل اللَّه بك؟ قَالَ: خيرا: قلت: فماذا؟ قَالَ: قيل لي طال مَا كدرت نفسك فاليوم أطيل راحتك وراحة المتعوبين فِي الدنيا، بخ بخ ماذا أعددت لهم.
903- حماد عجرد [2] .
أَخْبَرَنَا القزاز قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر الخطيب قَالَ: هو حماد بْن عُمَر بْن يونس بْن كليب، مَوْلَى لبْني سوأة بْن عامر بْن صعصعة، يكنى أبا عَمْرو، وَهُوَ كوفي. ويقال:
واسطي، ويقال: إن أعرابيا، مر به وَهُوَ غلام يلعب مَعَ الصبيان فِي يوم شديد البرد وَهُوَ عريان، فَقَالَ لَهُ: تعجردت يا غلام، فسمي عجرد، والمتعجرد المتعري، وَكَانَ خليعا ماجنا ظريفا، ونادم الوليد بن يزيد وهاجى بشار بْن برد- وَهُوَ فحل الشعراء/ المجيدين فانتصف منه، وَكَانَ بشار يضج منه، وقدم بغداد في أيام المهدي [3] .
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[2] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 8/ 148- 149.
[3] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 8/ 149.(8/296)
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا الخطيب قَالَ: قرأت عَلَى الْحَسَن بْن عَلِيّ الجوهري، عَنْ مُحَمَّد بْن عِمْرَانَ المرزباني قَالَ: وجدت بخط مُحَمَّد بْن القاسم بْن مهرويه قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن إِسْمَاعِيل اليزيدي قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيّ بْن الجعد قَالَ: قدم علينا في أيام المهدي حماد عجرد ومطيع بْن إياس الكناني، ويحيى بْن زياد، فنزلوا بالقرب منا، وكانوا لا يطاقون خبثا ومجانة [1] .
قال المرزباني: وأخبرني علي بن أبي عبد اللَّه الفارسي قَالَ: أَخْبَرَنِي أبي قَالَ:
حَدَّثَنِي العنزي قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَر بْن شبة قَالَ: كَانَ مطيع بْن إياس، وحماد عجرد، ويحيى بْن زياد يقولون بالزندقة [2] .
وذكر ابْن قتيبة فِي «طبقات الشعراء» قَالَ: كَانَ بالكوفة ثلاثة يقال لهم الحمادون:
حماد عجرد، وحماد الراوية، وحماد بْن الزبرقان النحوي، وكانوا يتعاشرون وكانوا كلهم يرمون بالزندقة، وحماد عجرد هو القائل:
إن الكريم لتخفى عنك عسرته ... حَتَّى تراه غنيا وَهُوَ مجهود
وللبخيل عَلَى أمواله علل ... زرق العيون عَلَيْهَا أوجه سود
إذا تكرمت أن تعطي القليل ولم ... تقدر عَلَى سعة لم يظهر الجود
بيت النوال فلا يمنعك قلته ... فكل ما سد فقرا فهو محمود
روى حماد بْن إِسْحَاق، عَنْ أبيه قَالَ: اجتمع حفص بْن أبي بردة، وحماد عجرد، وكان حفص أعمش أفطس، أغصف، مقبح الوجه، فأخذ حفص يطعن عَلَى مرقش ويعيب شعره فَقَالَ حماد:
لقد كَانَ فِي عينيك يا حفص شاغل ... وأنف كمثل العود عما تتبع
تتبع لحنا فِي كلام مرقش ... وجهك مبْني عَلَى اللحن أجمع
فأذناك إقواء وأنفك كفّأ ... وعيناك إيطاء فأنت مرقّع
/ 134/ أ
904- عُمَر الكلوذاني [3] .
الَّذِي ولي عَلَى قتل الزنادقة. تُوُفِّيَ في هذه السنة، فولي مكانه حمدويه، وَهُوَ مُحَمَّد بْن عِيسَى من أَهْل ميسان.
__________
[1] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 8/ 149.
[2] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 8/ 149.
[3] جاءت هذه الترجمة في النسخة ت قبل ترجمة «حماد عجرد» .(8/297)
905- عبيد اللَّه بْن الْحَسَن بْن الحصين بْن أبي الحر [1] العنبري.
قاضي البصرة، سمع داود بْن أبي هند، وخالد الحذاء، وسعيد الجريري، روى عنه: ابْن مهدي، وَكَانَ فقيها ثقة، وولي القضاء سنة ست وخمسين بعد سوار بْن عَبْد اللَّه العنبري.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا الجوهري قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن عمران المرزباني قَالَ: حدثنا عبد الْوَاحِدِ بْن مُحَمَّد الخصيبي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عيسى بْن حمدون قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سهل الرازي قَالَ: لم يشرك فِي القضاء بين أحد قط إلا بين عبيد اللَّه بْن الْحَسَن وبين عُمَر بْن عامر عَلَى قضاء البصرة، فكانا يجتمعان جميعا فِي المجلس وينظران جميعا بين الناس. قَالَ:
فقدم إليهما قوم فِي جارية لا تنبت، فَقَالَ فِيهَا عُمَر بْن عامر: هَذِهِ فضيلة فِي الجسم، وَقَالَ عبيد اللَّه بْن الْحَسَن: كل ما خالف ما عليه الخلقة فهو عيب [2] .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ محمد قال: أخبرنا [أحمد بن علي] بن ثَابِتٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا العتيقي قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْعَبَّاس قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن مُحَمَّد بْن صاعد قَالَ:
حَدَّثَنَا الحسين بْن الْحَسَن المروزي قَالَ: سمعت عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مهدي يَقُول: كنا فِي جنازة فِيهَا عبيد اللَّه بْن الْحَسَن وَهُوَ عَلَى القضاء، فلما وضع السرير جلس وجلس الناس حوله، فسألته عَنْ مسألة فغلط فِيهَا، فقلت أصلحك اللَّه، القول فِي هَذِهِ المسألة كذا وكذا، فأطرق ساعة، ثم رفع رأسه فقال: إذن أرجع وأنا صاغر، إذن أرجع وأنا صاغر، لأن أكون ذنبا فِي الحق أحب إلي من أن أكون رأسا فِي الباطل [3] .
أَخْبَرَنَا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثَابِتٍ قَالَ: حَدَّثَنِي الخلال قَالَ:
حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم بْن شَاذَان قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَن بن محمد بن سعدان قال:
134/ ب حَدَّثَنِي سليمان بْن يزيد قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو علي إِسْمَاعِيل/ بْن إِبْرَاهِيم القرشي قَالَ:
حَدَّثَنَا أصحابنا أن المهدي كتب إلى عبيد الله بن الحسن- وهو قاضي البصرة- كتابا
__________
[1] في تاريخ بغداد: «بن الحر» .
انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 10/ 306- 310.
[2] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 10/ 308.
[3] انظر الخبر في: تاريخ بغداد 10/ 308.(8/298)