وجعفر، وأمهما زينب بنت مرثد. وزينب، وأمها أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط.
وخديجة الصغرى، وأمها الحلال بنت قيس.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْجَوْهَرِيُّ، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا أحمد بن معروف، قال: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: حدّثنا محمد بن 41/ ب سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ الْكِلابِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي هَمَّامٌ، عَنْ/ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ [1] : كَانَتْ عَلَى الزُّبَيْرِ رِيطَةٌ صَفْرَاءُ مُعْتَجِرًا بِهَا يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمَلائِكَةَ نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى سِيمَاءِ الزُّبَيْرِ» [2] . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: وَأَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، [عَنْ جَابِرِ] [3] قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ» ؟ [يَوْمَ الأَحْزَابِ] فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، قَالَ: «مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟» قَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، قَالَ: «مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟» قَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لكل نبي حواريا، وإن حواري الزبير» . قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: وَأَخْبَرَنَا عَفَّانُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ [4] : قُلْتُ لأَبِي يَوْمَ الأَحْزَابِ: قَدْ رَأَيْتُكَ يَا أَبَهْ تَحْمِلُ عَلَى فَرَسٍ لَكَ أَشْقَرَ، قَالَ: قَدْ رَأَيْتَنِي أَيْ بُنَيَّ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ لِي أَبَوَيْهِ يَقُولُ: «فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي» . قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: وَأَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قال [5] :
__________
[1] الخبر في طبقات ابن سعد 3/ 1/ 72.
[2] كذا في الأصل، وفي ت: «على سيماء الزبير، وفي ابن سعد: «على سماء الزبير» .
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، وأوردناه من ت، والخبر في طبقات ابن سعد 3/ 1/ 74.
[4] الخبر في طبقات ابن سعد 3/ 1/ 74.
[5] الخبر في طبقات ابن سعد 3/ 1/ 75.(5/108)
لَمَّا وَقَفَ الزُّبَيْرُ يَوْمَ الْجَمَلِ دَعَانِي فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إِنَّهُ لا يُقْتَلُ الْيَوْمَ إِلا ظَالِمٌ أَوْ مَظْلُومٌ، وَإِنِّي لا أراني إلا سأقتل الْيَوْمَ مَظْلُومًا، وَإِنَّ مِنْ أَكْبَرِ هَمِّي لِدَيْنِي، أَفَتَرَى دَيْنَنَا يُبْقِي مِنْ مَالِنَا شَيْئًا؟ ثُمَّ قَالَ: يَا بُنَيَّ بِعْ وَاقْضِ دَيْنِي وَأَوْصِ بالثُّلُثِ، فَإِنْ فَضَلَ مِنْ مَالِنَا مِنْ بَعْدِ قَضَاءِ الدَّيْنِ شَيْءٌ فَثُلُثُهُ لِوَلَدِكَ. وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعُ بَنَاتٍ، قَالَ: فَجَعَلَ يُوصِينِي بِدَيْنِهِ وَيَقُولُ: يَا بُنَيَّ إِنْ عَجَزْتَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ فاستعن عليه مولاي. قال: فو الله مَا دَرَيْتُ مَا أَرَادَ حَتَّى قُلْتُ: يَا أبه، من مولاك؟ قال: الله، فو الله مَا وَقَعْتُ فِي كُرْبَةٍ مِنْ دَيْنِهِ إِلا قُلْتُ: يَا مَوْلَى الزُّبَيْرِ اقْضِ عَنْهُ دَيْنَهُ، فَيَقْضِيَهُ.
قَالَ: وقتل الزبير ولم يدع دينارا ولا درهما إلا أرضين فيهما الغابة، وإحدى عشرة دارا بالمدينة، ودارين بالبصرة، ودارا بالكوفة، ودارا بمصر.
قَالَ: / وإنما كان دينه الذي كان عليه أن الرجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إياه، 42/ أفيقول الزبير: لا، ولكن هو سلف، إني أخشى عليه الضيعة، وما ولي إمارة قط ولا جباية ولا خراجا ولا شيئا إلا أن يكون فِي غزو مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومع أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم.
قَالَ عَبْد اللَّهِ بن الزبير: فحسبت ما عليه من الدين فوجدته ألفِي ألف ومائتي ألف، فلقي حكيم بن حزام عَبْد اللَّهِ بن الزبير، فقَالَ: يا ابن أخي كم على أخي من الدين؟
قَالَ: فكتمته وقلت مائة ألف، فقَالَ حكيم: والله ما أرى أموالكم تتسع لهذه، فقَالَ عَبْد اللَّهِ: أفرأيتك إن كانت ألفِي ألف ومائتي ألف؟ قَالَ: ما أراكم تطيقون هذا، فإن عجزتم عن شيء منه فاستعينوا بي، وكان الزبير اشترى الغابة بسبعين ومائة ألف، فباعها عَبْد اللَّهِ بن الزبير بألف ألف وستمائة ألف، ثم قام فقَالَ: من كان له على الزبير شيء فليوافنا بالغابة، فأتاه عَبْد الله بن جعفر- وكان له على الزبير أربعمائة ألف- فقَالَ لعبد الله بن الزبير: إن شئتم تركتها لكم وإن شئتم فأخروها فيما تؤخرون، إن أخرتم شيئا، فقَالَ عَبْد اللَّهِ بن الزبير: لا، قَالَ: فاقطعوا لي قطعة، فقال له عبد الله: لك من هاهنا إلى ها هنا، قَالَ: فباعه منها بقضاء دينه، فأوفاه وبقي منها أربعة أسهم ونصف.
قَالَ: فقدم على معاوية وعنده عمرو بن عثمان والمنذر بن الزبير وابن زمعة، قَالَ: فقَالَ له معاوية: كم قومت الغابة؟ قَالَ: كل سهم مائة ألف، قَالَ: كم بقي؟ قال:(5/109)
أربعة أسهم ونصف، قَالَ: فقَالَ المنذر بن الزبير: قد أخذت سهما بمائة ألف، وقَالَ عمرو بن عثمان: قد أخذت سهما بمائة ألف، وقَالَ ابن زمعة: قد أخذت سهما بمائة ألف، فقَالَ معاوية: فكم بقي؟ قَالَ: سهم ونصف، قَالَ: أخذته بخمسين ومائة ألف.
قَالَ: وباع عَبْد اللَّهِ بن جعفر نصيبه من معاوية بستمائة ألف، فلما فرغ ابن الزبير 42/ ب من قضاء دينه، قَالَ بنو الزبير: / أقسم بيننا ميراثنا، قَالَ: لا والله لا أقسم بينكم ميراثكم حتى أنادي فِي الموسم أربع سنين: ألا من كان له على الزبير دين فليأتنا فلنقضه. قَالَ:
فجعل كل سنة ينادي بالموسم، فلما مضت أربع سنين قسم بينهم.
قَالَ: وكان للزبير أربع نسوة، قَالَ: وربع الثمن فأصاب كل امرأة ألف ألف ومائة ألف. قَالَ: فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائتا ألف.
قَالَ علماء السير: حضر الزبير يوم الجمل، ثم بدا له أن يقاتل فركب فرسه وانطلق يريد المدينة فلحقه قوم فقاتلوه، وحمل عليه عمرو بن جرموز فطعنه فأثبته فوقع فاعتوروه وأخذوا سيفه، وأخذ ابن جرموز رأسه فحمله إلى علي وأتى بسيفه فأخذه علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وقَالَ: سيف والله طال ما جلا به عن وجه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكرب. وقَالَ: بشر قاتل ابن صفية بالنار، وجلس يبكي عليه هو أصحابه، وقَالَ: إني لأرجو أن أكون أنا وطَلْحَة والزبير من الذين قَالَ الله: وَنَزَعْنا مَا في صُدُورِهِمْ من غِلٍّ 7: 43 [1] . ودفن الزبير بوادي السباع، وكانت عنده عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، وكان أهل المدينة يقولون: من أراد الشهادة فليتزوج عاتكة، لأنها كانت عند عَبْد اللَّهِ بن أبي بكر، فقتل عنها، ثم كانت عند عمر بن الخطاب فقتل عنها، ثم عند الزبير فقتل عنها وهو ابن أربع وستين سنة.
287- زيد بن صوحان بن حجر بن الهجرس، يكنى أبا عائشة، [وأبا عَبْد اللَّهِ] : [2]
سمع عمر وعليا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا. وكان يصوم بالنهار ويقوم الليل.
أَخْبَرَنَا أبو منصور عَبْد الرَّحْمَنِ بن محمد، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي [بن
__________
[1] سورة: الأعراف، الآية: 43.
[2] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 84. وتاريخ بغداد 8/ 439. وما بين المعقوفتين: من ت.(5/110)
ثَابِتٍ] [1] قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ، قال أخبرنا عثمان بن أحمد الدقاق، قال أَخْبَرَنَا أَحْمَد بن الخليل البرجلاني أبو النصر، قال: أخبرنا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلالٍ، قَالَ:
كان زيد بن صوحان يقوم الليل ويصوم النهار، فإذا كانت ليلة الجمعة أحياها، فإن كان ليكرهها [إذا جاءت] مما كان يلقى فيها، فبلغ سلمان ما كان يصنع، فأتاه فقَالَ:
أين/ زيد؟ قالت امرأته: ليس ها هنا، قَالَ: فإني أقسم عليك لما صنعت طعاما ولبست 43/ أمحاسن ثيابك، ثم بعثت إلى زيد، فجاء زيد وقرب الطعام، فقَالَ سلمان: كل يا زيد، فقَالَ: إني صائم، قَالَ: كل يا زيد لا تنقص دينك، إن شر السير الحقحقة [2] ، إن لعينك عليك حقا، وإن لبدنك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، كل يا زيد، فأكل، وترك ما يصنع.
قتل زيد يوم الجمل، فقَالَ: ادفنوني فِي ثيابي، فإني مخاصم، ولا تغسلوا عني دما، ولا تنزعوا عني ثوبا.
288- طَلْحَة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن تيم بن مرة، يكنى أبا مُحَمَّد [3] :
وأمه الصعبة بنت عمار الحضرمي [4] ، وأمها عاتكة بنت وهب بن قصي بن كلاب. وكان وهب صاحب الرفادة دون قريش كلها.
وكان لطَلْحَة من الولد مُحَمَّد، وهو السجاد، وبه كان يكنى، قتل معه يوم الجمل، وعمران، وأمهما حمنة بنت جحش. ومُوسَى، وأمه خولة بنت القعقاع بن معبد، وكان يقال للقعقاع تيار الفرات من سخائه. ويعقوب وكان جوادا قتل يوم الحرة، وإسماعيل، وإسحاق، وأمهم أم أبان بنت عقبة بن ربيعة. وزكريا، ويوسف، وعائشة، أمهم أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق. وعيسى ويَحْيَى، وأمهما سعدى بنت عوف. وأم إسحاق تزوجها الحسن بن علي، فولدت له طَلْحَة ثم توفي عنها، فخلف عليها
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من ت.
[2] سير الحقحقة: المتعب من السير، وقيل: أن تحمل الدابة ما لا تطيقه.
[3] طبقات ابن سعد 3/ 1/ 152.
[4] كذا في الأصول، وفي ابن سعد: «بنت عبد الله بن عمارة» .(5/111)
الحسين بن علي فولدت له فاطمة، والصعبة، ومريم، وصالح الأمهات.
وكان طَلْحَة آدم كثير الشعر ليس بالجعد القطط، ولا بالسبط، حسن الوجه، دقيق القرنين لا يغير شعره.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي الْبَزَّازُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الحسن بن علي الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن معروف، قَالَ: أخبرنا الحسين بن 43/ ب الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي/ الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ الْوَالِبِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ، قَالَ: قَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ [1] :
حَضَرْتُ سُوقَ بُصْرَى فَإِذَا رَاهِبٌ فِي صَوْمَعَتِهِ يَقُولُ: سَلُوا أَهْلَ هَذَا الْمَوْسِمِ أَفِيهِمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ؟ قَالَ طَلْحَةُ: فَقُلْتُ: نَعَمْ أَنَا، فَقَالَ: هَلْ ظَهَرَ أَحْمَدُ بَعْدُ؟ قَالَ:
قُلْتُ: وَمَنْ أَحْمَدُ؟ قَالَ: ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، [هَذَا شَهْرُهُ الَّذِي يَخْرُجُ فِيهِ، وَهُوَ آَخِرُ الأَنْبِيَاءِ [2] ، وَمَخْرَجُهُ مِنَ الْحَرَمِ، وَمُهَاجَرُهُ إِلَى نَخْلٍ وَحَرَّةَ وَسَبَاخَ، فَإِيَّاكَ أَنْ تُسْبَقَ إِلَيْهِ] [3] ، قَالَ طَلْحَةُ: فَوَقَعَ فِي قَلْبِي مَا قَالَ، فَخَرَجْتُ سَرِيعًا حَتَّى قَدِمْتُ مَكَّةَ، فَقُلْتُ: هَلْ كَانَ مِنْ حَدَثٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ، مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَمِينُ تَنَبَّأَ وَقَدْ تَبِعَهُ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ. قَالَ: فَخَرَجْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقُلْتُ: اتَّبَعْتَ هَذَا الرَّجُلَ؟ قَالَ:
نَعَمْ، فَانْطَلِقْ إِلَيْهِ فَادْخُلْ عَلَيْهِ فَاتَّبِعْهُ فَإِنَّهُ يَدْعُو إِلَى الْحَقِّ، فَأَخْبَرَهُ طَلْحَةُ بِمَا قَالَ الرَّاهِبُ، فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ بِطَلْحَةَ فَدَخَلَ بِهِ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَأَسْلَمَ طَلْحَةُ، وَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَالَ الرَّاهِبُ، فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ.
فَلَمَّا أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ أَخَذَهُمَا نَوْفَلُ بْنُ خُوَيْلِدِ بْنِ الْعَدَوِيَّةِ فَشَّدَهُمَا فِي حَبْلٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يَمْنَعْهُمَا بَنُو تَيْمٍ، وَكَانَ نُوْفَلُ بْنُ خُوَيْلِدٍ يُدْعَى أَسَدُ قُرَيْشٍ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَبُو بَكْرٍ وَطَلْحَةُ الْقَرِينَيْنِ.
قَالَ علماء السير: آخى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين طَلْحَة وسعيد بن زيد، وبعثهما رسول
__________
[1] الخبر في طبقات ابن سعد 3/ 1/ 153.
[2] في ت: «أمين الأنبياء» .
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(5/112)
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتحسسان خبر العير [1] ، فخرجا ففاتتهما بدر، فضرب لهما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسهامهما وأجورهما، فكانا كمن شهدها.
وشهد طَلْحَة أحدا، وثبت يومئذ حين ولى الناس، ورمى مالك بن زهير يوم أحد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاتقى طَلْحَة بيده عن وجه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأصابت خنصره فشلت أصبعاه، وجرح يومئذ أربعا وعشرين جراحة، وقع منها فِي رأسه شجه، فلما كسرت رباعية/ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشج فِي وجهه احتمله طَلْحَة ورجع به القهقرى، كلما أدركه أحد 44/ أمن المشركين قاتل دونه حتى أسنده إلى الشعب. فَقَالَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أوجب طَلْحَة» . أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي، [أخبرنا الجوهري، أخبرنا ابن حيويه، أخبرنا أحمد بْنُ مَعْرُوفٍ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَهِمِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا] [2] مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، [أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ] [3] ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَتْنِي جَدَّتِي سُعْدَى ابْنَةُ عَوْفٍ الْمُرِّيَّةُ، قَالَتْ:
دَخَلْتُ عَلَى طَلْحَةَ ذَاتَ يَوْمٍ، فَقُلْتُ: مَا لِي أَرَاكَ مَهْمُومًا؟ قَالَ: عِنْدِي مَالٌ قَدْ أَهَمَّنِي، فَقَسَمْتُهُ. فَسَأَلْتُهَا: كَمْ كان المال؟ قالت: أربعمائة أَلْفٍ [4] .
قَالَ ابْنُ سَعْدٍ [5] : وَأَخْبَرَنَا رَوْحٌ، قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، أَنَّ طَلْحَةَ بَاعَ أَرْضًا لَهُ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عفان بسبعمائة أَلْفٍ [6] ، فَحَمَلَهَا إِلَيْهِ، فَلَمَّا جَاءَ بِهَا، قَالَ: إِنَّ رَجُلا يُبَيِّتُ هَذِهِ عِنْدَهُ فِي بَيْتِهِ لا يَدْرِي مَا يَطْرُقُهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ الغرير باللَّه، فبات
__________
[1] في ت: «يتحسبان خبر العير» .
[2] ما بين المعقوفتين: من ت، وفي الأصل: «مكانه: «بإسناده عن محمد بن سعد» .
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، وأوردناه من ت.
[4] الخبر في طبقات ابن سعد 3/ 1/ 157 بأوضح من ذلك، ونصه: «دَخَلْتُ عَلَى طَلْحَةَ ذَاتَ يَوْمٍ، فَقُلْتُ:
مَا لي أراك أرابك شيء من أهلك فنعتب؟ قال: نعم حليلة المرء أنت، ولكن عندي مال قد أهمني، أو غمني، قالت: اقسمه. فدعا جاريته فقال: ادخلي على قومي، فأخذ يقسمه، فسألتها: كم كان المال؟
فقالت: أربعمائة ألف» .
[5] طبقات ابن سعد 3/ 1/ 157.
[6] في ت: «بتسعمائة ألف» .(5/113)
وَرُسُلُهُ تَخْتَلِفُ بِهَا فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ حَتَّى أَسْحَرَ وَمَا عِنْدَهُ مِنْهَا دِرْهَمٌ.
حضر طَلْحَة يوم الجمل، فرماه مروان بن الحكم فأصاب ساقه، فلم يزل ينزف الدم، فقَالَ: اللَّهمّ خذ لعثمان مني حتى يرضى، فمات وهو ابن أربع وستين سنة.
وقيل: اثنتين وستين.
وترك طَلْحَة من العين ألفِي ألف درهم ومائتي ألف دينار، وترك عروضا كثيرة، وقومت أصوله وعقاره ثمانين ألف ألف درهم.
وقَالَ عمرو بن العاص: حدثت أن طَلْحَة ترك مائة بهار فِي كل بهار ثلاثة قناطير ذهب. وسمعت أن البهار جلد ثور.
توفي يوم الجمل على ما سبق شرحه.
289- عَبْد اللَّهِ بن بديل بن ورقاء [1] :
كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثه إلى أهل اليمن، وشهد مع علي رضي الله عنه صفين، وقتل هناك.
290- عَبْد الرَّحْمَنِ بن عديس البلوي [2] :
بايع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحت الشجرة. وروى عنه عليه السلام.
44/ ب وشهد فتح مصر، / واختط بها، وكان رئيس الخيل التي سارت من مصر إلى عثمان، وقتل بفلسطين فِي هذه السنة، كان قد سجن فهرب فأدركه فارس، فقَالَ له:
اتق الله فِي دمي فإني من أصحاب الشجرة، فقَالَ: الشجر فِي الجبل كثير، [فقتله] [3] .
291- عمرو بن أبي عمرو بن ضبة، أبو شداد [4] :
شهد بدرا وتوفي في هذه السنة.
__________
[1] تاريخ بغداد 1/ 204.
[2] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 199.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] طبقات ابن سعد 3/ 1/ 304.(5/114)
292- قدامة بن مظعون بن حبيب، أبو عمر [1] :
هاجر إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية، وشهد أحدا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وتوفي في هذه السنة وهو ابن ثمان وستين سنة.
293- كعب بن سور بن بكر بن عَبْد اللَّهِ بن ثعلبة الأزدي [2] :
ولاه عمر قضاء البصرة، وكان سبب توليته إياه ما أَخْبَرَنَا بِهِ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ثَابِتُ بْن بْندار، وأحمد بن علي بن سوار، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَاقِرُ [3] ، قَالُوا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ رَزَمَةَ، قَالَ: أخبرنا أبو سعيد الحسن بن عبد الله السِّيرَافِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ:
حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ الْحِزَامِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَعْنٍ الْغِفَارِيِّ، قَالَ:
أَتَتِ امْرَأَةٌ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ زَوْجِي يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ، وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ أَشْكُوَهُ وَهُوَ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ لَهَا: نِعْمَ الزَّوْجُ زَوْجُكِ، فَجَعَلَتْ تُكَرِّرُ عَلَيْهِ الْقَوْلَ وَهُوَ يُكَرِّرُ عَلَيْهَا الْجَوَابَ، فَقَالَ لَهُ كَعْبٌ الأَزْدِيُّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَذِهِ الْمَرْأَةُ تَشْكُو زَوْجَهَا فِي مُبَاعَدَتِهِ إِيَّاهَا عَنْ فِرَاشِهِ، قَالَ لَهُ عُمَرُ: كَمَا فَهِمْتَ كَلامَهَا فَاقْضِ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ كَعْبٌ: عَلَيَّ بِزَوْجِهَا، فَأُتِيَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ:
امْرَأَتُكَ هَذِهِ تَشْكُوكَ، قَالَ: أَفِي طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ، قَالَتِ الْمَرْأَةُ تَرْتَجِزُ:
يَا أَيُّهَا الْقَاضِي الْحَكِيمُ رُشْدُهْ ... أَلْهَى خَلِيلِي [4] عَنْ فِرَاشِي مَسْجِدُهْ
زُهْدُهُ فِي مَضْجَعِي [5] تَعَبُّدُهْ ... نَهَارُهُ وَلَيْلُهُ مَا يَرْقُدُهْ
/ فَلَسْتُ فِي أَمْرِ النِّسَاءِ أَحْمَدُهْ ... فاقض القضاء يا كعب لا تردده
45/ أفقال زَوْجُهَا:
أَزْهَدَنِي فِي فَرْشِهَا وَفِي الْحِجَلْ ... أَنِّي امرؤ أذهلني ما قد نزل
__________
[1] في الأصول: «أبو عمر» . وراجع طبقات ابن سعد 3/ 1/ 291.
[2] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 65، وفيه: «بن عبد بن ثعلبة» . وفي الأصول: «الأسدي» .
[3] في ت: «محمد بن عبد الله الناقد» .
[4] في الأصل: «ألقى خليلي» .
[5] في الأصل: «إن هذه في مضجعي» .(5/115)
فِي سُورَةِ النَّحْلِ وَفِي السَّبْعِ الطُّوَلْ ... وَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَخْوِيفٌ جَلَلْ
فَقَالَ كَعْبٌ:
إِنَّ لَهَا عَلَيْكَ حَقًّا يَا رَجُلْ ... تُصِيبُهَا فِي أَرْبَعٍ لِمَنْ عَقَلْ
فَاعْطِهَا ذَاكَ وَدَعْ عَنْكَ الْعِلَلْ
ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَلَّ لَكَ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ، فَلَكَ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ تَعْبُدُ فِيهِنَّ رَبَّكَ، وَلَهَا يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مِنْ أَيِّ أَمْرٍ بِكَ أَعْجَبُ، أَمِنْ فَهْمِكَ أَمْرَهُمَا أَمْ مِنْ حُكْمِكَ؟ اذْهَبْ فَقَدْ وَلَّيْتُكَ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ.
قَالَ علماء السير: فلما قدم طَلْحَة والزبير وعائشة يرجي الله عنهم البصرة دخل كعب إلى بيت وطين عليه، وجعل فيه كوة يتناول منها طعامه وشرابه اعتزالا للفتنة، فقيل لعائشة: إن كعب بن سور إن خرج معك لم يتخلف من الأزد أحد، فركبت إليه فنادته فلم يجبها، فقالت: يا كعب ألست أمك ولي وعليك حق، فكلمها، فقالت: إنما أريد أن أصلح بين الناس، فخرج فأخذ المصحف فنشره ومشى بين الصفين يدعوهم إلى ما فيه، فجاءه سهم غرب فقتله. وكان خيرا صالحا وليس له حديث.
294- هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وهو المعروف بالمر [1] :
قَالَ: وهو أخو نافع بن عتبة، وابن أخي سعد بن أبي وقاص. أسلم يوم فتح مكة، وحضر مع عمه سعد حرب الفرس بالقادسية، فلما هزم الله العدو، ورجعوا إلى المدائن اتبعهم سعد والمسلمون، فدل علج من أهل المدائن سعدا على مخاضة، فخاضوا وأتوا المدائن فحاصروها وهاشم فيهم.
وقتل بصفين مع علي رضي الله عنه.
__________
[1] تاريخ بغداد 1/ 196، وفي ت: «هشام بن عتبة» .(5/116)
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين
فمن الحوادث فيها وقعة صفين
وذلك أن عليا رضي الله عنه [1] ومعاوية توادعا على ترك الحرب فِي شهر المحرم طمعا فِي الصلح، واختلفت بينهما الرسل، فلم تنفع.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ [2] بن المبارك، ومحمد بن ناصر [3] ، قالا: أَخْبَرَنَا المبارك بْن عَبْد الجبار، قال: أخبرنا أبو مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمُقَدِّمِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ مَرْدَانِيَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَخِي سَعِيدُ بْنُ مَرْدَانِيَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ، قَالَ: قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ الطَّائِيُّ: كُنَّا بِصِفِّينَ فِي يَوْمٍ حَارٍّ مَعَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَصَدَتْهُ وَهُوَ فِي سبعمائة مِنْ رَبِيعَةَ، فَقُلْتُ لَهُ: أَلا تَرُوحُ إِلَى الْقَوْمِ، فَإِمَّا لَنَا وَإِمَّا عَلَيْنَا، فَسَكَتَ فَلْم يُجِبْنِي، فَقُلْتُ:
مَا لِي أَرَاكَ مُخَيِّمًا، أَلا تروح إلى القوم فإما لنا وإما علينا، فقال: ادن منا يا ابن حاتم، فتخطيت الناس إليه حتى وَضَعْتُ يَدِي عَلَى رُكْبَتِهِ، فَقَالَ لِي: يَا عَدِيُّ، إِنَّ مُعَاوِيَةَ مَعَ قَوْمٍ يُطِيعُونَهُ، وَأَنَا مَعَ قَوْمٍ يَعْصُونِي، فَأَمَّا الَّذِينَ مَعِي فَأَشَدُّ مكايدة من الذين مع معاوية،
__________
[1] في الأصل: «عليّا عليه السلام» .
[2] في ت: «عبد الواحد بن المبارك» .
[3] في الأصل: «عن محمد بن ناصر» .(5/117)
فَعَذَرْتُهُ وَرَحِمْتُهُ رَحْمَةً شَدِيدَةً مَا رَحِمْتُ أَحَدًا مِثْلَهَا قَطُّ.
قَالَ علماء السير: فتناهدوا عند انسلاخ المحرم، وبات علي رضي الله عنه عنه يعبي الكتائب، ويقول: لا تقاتلوهم إلا أن يبدءوكم، فإذا قاتلتموهم فهزمتموهم فلا تقتلوا مدبرا ولا تجهزوا على جريح، ولا تأخذوا شيئا من أموالهم. وبعث على خيل أهل الكوفة الأشتر، وعلى خيل أهل البصرة سهل بن حنيف، وعلى رجالة أهل الكوفة عمار بن ياسر، وعلى رجالة أهل البصرة قيس بن سعد وهاشم بن عتبة مع ابنه.
46/ أوبعث/ معاوية على ميمنته ابن ذي الكلاع الحميري، وعلى ميسرته حبيب بن مسلمة الفهري، وعلى مقدمته أبو الأعور السلمي، وكان على خيول الشام كلها عمرو بن العاص، ومسلمة بن عقبة على رجالة أهل دمشق، والضحاك بن قيس على رجالة الناس كلهم. وبايع رجال من أهل الشام على الموت، فعقلوا أنفسهم بالعمائم وكانوا خمسة صفوف.
ثم اقتتلوا [1] فكانوا يتبارزون، التقوا جميعا فِي بعض الأيام، لا ينصرف بعضهم عن بعض إلا إلى الصلاة، وكثرت القتلى بينهم، ثم تحاجزوا عند الليل، ثم أصبحوا على القتال، وكان علي رضي الله عنه يتقدم حتى أن النبل لتمر بين عاتقه ومنكبه، وكان معاوية يقول: أردت أن أنهزم، فذكرت قول ابن الإطنابة، والإطنابة امرأة من بلقين وهو:
أبت لي عفتي وحياء نفسي ... وإقدامي على البطل المشيح [2]
وإعطائي على المكروه مالي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي
فيمنعني هذا القول من الفرار.
وكان عمار يقول: والله لو ضربونا حتى تبلغوا بنا سعفات هجر لعلمت أنا على الحق وهم على الباطل. وكان يصيح بعمرو بن العاص: يا عمرو، بعت دينك بمصر تبا
__________
[1] تاريخ الطبري 5/ 24.
[2] المشيح: المجد.(5/118)
لك تبا طالما بغيت فِي الإسلام عوجا. ثم قَالَ لأصحابه: لقد قاتلت صاحب هذه الراية- يعني عمرو بن العاص- ثلاثا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه الرابعة.
وكان علي رضي الله عنه يحمل ويضرب حتى ينثني سيفه، فقتل عمار، فقَالَ عَبْد اللَّهِ بن عمرو لأبيه: يا أبه، قتلتم هذا الرجل فِي يومكم هذا، وقد قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ويحك تقتلك الفئة الباغية» فقَالَ عمرو: أتسمع ما يقول عَبْد اللَّهِ، فقَالَ معاوية: إنك شيخ أخرق، ولا تزال تحدث بالحديث وأنت تدحض فِي بولك، أو نحن قتلنا عمارا، إنما قتل عمارا من جاء به.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي/ طَاهِرٍ، [أَخْبَرَنَا الْجَوْهَرِيُّ، أخبرنا ابن حيويه، أخبرنا ابن 46/ ب مَعْرُوفٍ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَهْمِ، أَخْبَرَنَا] [1] مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ [2] :
إِنِّي لأَسِيرُ مَعَ مُعَاوِيَةَ فِي مُنْصَرَفِهِ عَنْ صِفِّينَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: يَا أَبَهْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِعَمَّارٍ: «وَيْحَكَ يَا ابْنَ سُمَيَّةَ، تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» فَقَالَ عَمْرٌو لِمُعَاوِيَةَ: أَلا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ هَذَا؟ قَالَ: فقَالَ مُعَاوِيَةُ: مَا تَزَالُ تَأْتِينَا بِهَنَّةٍ تَدْحَضُ بِهَا فِي بَوْلِكَ، أَنَحْنُ قَتَلْنَاهُ؟ إِنَّمَا قَتَلَهُ الَّذِينَ جَاءُوا بِهِ.
قَالَ علماء السير: ولما قتل عمار حمل علي رضي الله عنه وأصحابه، فلم يبق لأهل الشام صف إلا انتقض، وقتلوا كل من انتهوا إليه حتى بلغوا معاوية، وعلي رضي الله عنه يقول [3] :
أضربهم ولا أرى معاويه ... الجاحظ العين العظيم الحاويه
ثم نادى علي: يا معاوية، علام يقتل الناس بيننا، هلم أحاكمك إلى الله، فأينا قتل صاحبه استقامت له الأمور، فقَالَ له عمرو: أنصفك [الرجل] [4] ، فقال معاوية:
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من ت، ومكانه في الأصل: «بإسناده عن ابن سعد.
[2] الخبر في طبقات ابن سعد 3/ 1/ 180.
[3] نسبه في «وقعة صفين لنصر بن مزاحم» إلى الأشتر 454.
[4] ما بين المعقوفتين: سقط من الأصل.(5/119)
إنك تعلم أنه لم يبارزه رجل قط إلا قتله، قَالَ له عمرو: ما يجمل بك إلا مبارزته، فقال معاوية: طمعت فيها بعدي.
ثم اقتتل الناس ليلة إلى الصباح، وهي ليلة الهرير، حتى تقصفت الرماح، ونفذ النبل، وصار الناس إلى السيوف، وأقبل علي رضي الله عنه يسير فِي الناس ويحرض، والأشتر فِي ميمنته، وابن عباس فِي الميسرة، وعلي فِي القلب، والناس يقتتلون من كل جانب. أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الْحَافِظُ، [أَخْبَرَنَا عَاصِمُ بْنُ الْحُسَيْنِ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بُشْرَانَ، أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا] [1] أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْبَرَاءِ، قَالَ:
لَمَّا وَلِيَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَكَانَتْ وَقْعَةُ الْجَمَلِ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَلاثِينَ، ثُمَّ رَجَعَ عَلِيٌّ إِلَى الْكُوفَةِ، ثُمَّ سَارَ إِلَى صِفِّينَ، وَكَانَتِ الْحَرْبُ سَنَتَيْنِ، وَقُتِلَ بِصِفِّينَ سَبْعُونَ أَلْفًا: خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ أَلْفًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَخَمْسَةٌ وِعْشِرُونَ أَلْفًا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، مِنْهُمْ خَمْسَةٌ وعشرون بدريا. وكان 47/ أالمقام بِصِفِّينَ/ مِائَةَ يَوْمٍ وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَكَانَ فِيهِ تِسْعُونَ وَقْعَةً، وَفِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَلاثِينَ الْتَقَى الْحَكَمَانِ.
أَخْبَرَنَا الحافظ بن عبد الوهاب وابن ناصر [قالا: أَخْبَرَنَا المبارك بْن عَبْد الجبار، أخبرنا ابن حيويه، أخبرنا أبو بكر بن الأنباري، أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن أَحْمَد المقدمي، أَخْبَرَنَا أَحْمَد بن سعد الزهري، أَخْبَرَنَا إسحاق بن أبي إسرائيل، أَخْبَرَنَا حماد بن زيد، عن هشام،] [2] عن مُحَمَّد بن سيرين، قَالَ:
قتل يوم صفين سبعون ألفا، ما عرفت عدتهم إلا بالقصب، كان يوضع على كل قتيل قصبة.
فصل
فلما رأى عمرو [3] بن العاص أن أمر العراق قد اشتد وخاف الهلاك، قال
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من ت، ومكانه في الأصل: «بإسناده عن أبي الحسن» .
[2] في الأصل: بإسنادهما عن محمد بن سيرين.
[3] تاريخ الطبري 5/ 48.(5/120)
لمعاوية: هل لك فِي أمر أعرضه عليك لا يزيدنا إلا اجتماعا، ولا يزيدهم إلا فرقة، قَالَ: نعم قَالَ: نرفع المصاحف ثم نقول: ما فيها حكم بيننا وبينكم فإن أبى بعضهم أن يقبل، وقَالَ بعضهم: بل نقبل، فتكون فرقة تقع بينهم، وإن قالوا: نقبل، رفعنا هذا القتال إلى أجل.
فرفعوا المصاحف بالرماح وقالوا: هذا كتاب الله بيننا وبينكم، من لثغور أهل الشام بعد أهل الشام، ومن لثغور أهل العراق بعد أهل العراق. فلما رأى الناس المصاحف قد رفعت، قالوا: نجيب إلى كتاب الله ونثيب إليه، فقَالَ علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ما رفعوها إلا خديعة، فقالوا له: ما يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله فنأبى أن نقبله، فقَالَ: إني إنما أقاتلهم بحكم الكتاب، فقَالَ له مسعر بن فدكي التميمي، وزيد بن حصين الطائي فِي عصابة معهما من القراء الذين صاروا خوارج بعد ذلك: يا علي، أجب إلى كتاب الله إذا دعيت إليه، وإلا ندفعك برمتك إلى القوم، أو نفعل ما فعلنا بابن عفان، إنه أبى علينا أن نعمل بما فِي كتاب الله فقتلناه، والله لتفعلنها أو لنفعلنها بك.
قَالَ: أما أنا فإن تطيعوني تقاتلوا، وإن تعصوني فاصنعوا ما بدا لكم، قالوا: فابعث إلى الأشتر فليأتك. فأرسل إليه، فقَالَ للرسول: إني قد رجوت أن يفتح الله لي فلا تعجلني. فارتفع الرهج من قبل الأشتر، فقَالَ القوم: ما نراك أمرته إلا بالقتال، فقَالَ: هل رأيتموني ساررته؟
قالوا: فابعث إليه فليأتك وإلا اعتزلناك/ فبعث إليه: أقبل إلي فإن الفتنة قد وقعت. فلما 47/ ب بلغه ذلك، قَالَ: ألرفع المصاحف؟ قَالَ: نعم، قَالَ: أما والله لقد ظننت حين رفعت أنها ستوقع اختلافا وفرقة، فقَالَ له الرسول: أتحب أن تظفرها هنا وتسلم أمير المؤمنين إلى عدوه؟ فأقبل حتى انتهى إليهم، فقَالَ: يا أهل العراق، يا أهل الذل والوهن، أحين قهرتم القوم رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها، وقد والله تركوا ما أمر الله به فيها، أمهلوني فإني قد رأيت النصر، فقالوا: إذا ندخل معك فِي خطيئتك، فقَالَ: خدعتم والله فانخدعتم، فسبوه وسبهم. وقَالَ الناس: قد قبلنا أن نجعل القرآن بيننا [وبينهم حكما] [1] .
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.(5/121)
فقَالَ الأشعث: يا معاوية، لأي شيء رفعتم هذه المصاحف؟ قَالَ: لنرجع إلى أمر الله به، تبعثون رجلا ترضون به، ونبعث منا رجلا، ثم نأخذ عليهما أن يعملا بما فِي كتاب الله لا يعدوانه، ثم نتبع ما اتفقا عليه.
فجاء الأشعث إلى علي فأخبره، فقَالَ الناس: قد رضينا، فقَالَ أهل الشام: فإنا قد اخترنا عمرو بن العاص، فقَالَ الأشعث وأولئك الذين صاروا خوارج بعد: فإنا رضينا بأبي مُوسَى الأشعري، فقَالَ علي: إنكم عصيتموني فِي أول الأمر فلا تعصوني الآن، إني لا أرى أن أولي أبا مُوسَى، فقَالَ أولئك: إنا لا نرضى إلا به، قَالَ: فهذا ابن عباس، قالوا: لا نريد إلا رجلا هو منك ومن معاوية سواء، ليس إلى واحد منكما بأدنى منه إلى الآخر، قَالَ: فإني أجعل الأشتر، قالوا: وهل سعر الأرض غير الأشتر؟ قَالَ:
فاصنعوا ما شئتم، فقَالَ الأحنف لعلي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إنك قد رميت بحجر الأرض، فإنه لا يصلح لهؤلاء القوم إلا رجل يدنو منهم حتى يصير فِي أكفهم، ويبعد حتى يصير بمنزلة النجم منهم، فإن أبيت أن تجعلني حكما فاجعلني ثانيا أو ثالثا فإنه لن يعقد عقدة إلا 48/ أحللتها، ولن يحل/ عقدة أعقدها إلا عقدت لك أخرى أحكم منها. فأبى الناس إلا أبا مُوسَى. فكتبوا: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تقاضى عليه علي أمير المؤمنين ... » . فقَالَ عمرو: اكتب اسمه واسم أبيه، وهو أميركم، أما أميرنا فلا، فقَالَ الأحنف بن قيس: لا تمح اسم «إمارة المؤمنين» فإني أخاف إن محوتها لا ترجع إليك أبدا، فأبى ذلك علي، فقَالَ له الأشعث: امح هذا الاسم برحه الله [1] ، فمحي، فقَالَ علي: الله أكبر، سنة بسنة، والله إني لكاتب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الحديبية إذ قالوا: لست رسول الله، ولا نشهد لك به، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. فكتب: هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان قاضي علي على أهل الكوفة ومن معهم من شيعتهم من المؤمنين والمسلمين، وقاضي معاوية على أهل الشام ومن كان معهم من المؤمنين والمسلمين، إنا ننزل عند حكم الله وكتابه،
__________
[1] في ت: «ببركة الله» .(5/122)
نحيي ما أحيا، ونميت ما أمات، فما وجد الحكمان فِي كتاب الله عز وجل- وهما أبو موسى الأشعري، وعمرو بن العاص- وما لم يجدا فِي كتاب الله فالسنة العادلة الجامعة غير المفرقة. وأخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين العهود والمواثيق أنهما أمنان على أنفسهما وأهلهما، والأمة لهما أنصار على الذي يتقاضيان عليه، وعلى المؤمنين والمسلمين من الطائفتين كلتيهما عهد الله وميثاقه أنا على ما فِي هذه الصحيفة، وأجلا القضاء إلى رمضان، وإن أحبا أن يؤخرا ذلك أخراه على تراض منهما. وكتب فِي يوم الأربعاء لثلاث عشر خلت من صفر سنة سبع وثلاثين، على أن يوافي عليّ ومعاوية موضع الحكمين بدومة الجندل فِي رمضان، فإن لم يجتمعا بذلك اجتمعا من العام المقبل.
وخرج الأشعث بذلك الكتاب/ يقرؤه على الناس، ويعرضه عليهم [1] ، فمر به 48/ ب على طائفة من بني تميم فيهم عروة بن أدية، فقرأه عليهم، فقَالَ عروة: تحكمون فِي أمر الله الرجال، لا حكم إلا للَّه، ثم سل سيفه فضرب به عجز دابته، فغضب للأشعث قومه [وناس كثير من أهل اليمن] [2] ، ثم سكتوا.
وأذن علي بالرحيل [3] ، فمضى علي على طريق البر على شاطئ الفرات حتى انتهى إلى هيت وعلى صندوداء.
وقَالَ سيف الضبي: أقاموا بصفين سبعة أو تسعة أشهر. وكان بينهم القتال نحو سبعين زحفا، وقتل فِي ثلاثة أيام نحو سبعين ألفا من الفريقين.
قَالَ الزهري: بلغني أنه كان يدفن فِي القبر خمسون.
قَالَ ربيعة بن لقيط: مطرت السماء عليهما دما كانوا يأخذونه بالآنية.
ذكر خروج الخوارج على أمير المؤمنين رضي الله عنه [4] .
لما رجع علي رضي الله عنه من صفين فدخل الكوفة لم تدخل معه الخوارج،
__________
[1] في الأصل: «ويقرؤه عليهم ويوصيه على الناس» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.
[3] تاريخ الطبري 5/ 60.
[4] تاريخ الطبري 5/ 63.(5/123)
وكانوا من وقت تحكيمه يردون عليه ولا يرضون بفعله، فلما رجع باينوه فأتوا حروراء، فنزل بها منهم اثنا عشر ألفا، وقالوا: لا حكم إلا للَّه- وكان ذلك أول ظهورهم- ونادى مناديهم: إن أمير القتال شبث بن ربعي التميمي، وأمير الصلاة عَبْد اللَّهِ بن الكواء اليشكري، والأمر شورى.
فبعث علي رضي الله عنه عَبْد اللَّهِ بن العباس إلى الخوارج، فقَالَ: ما نقمتم من الحكمين. أَخْبَرَنَا إسماعيل بْن أَحْمَد السمرقندي، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن هبة اللَّه الطبري، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن الحسين بْن الفضل، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر بْن درستويه، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي زُمَيْلٍ سِمَاكٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا اعْتَزَلَتِ الْخَوَارِجُ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَخْرُجُوا على عَلي بْن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عنه أتيته يوما قَبْلَ الظُّهْرِ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَبْرِدْ بِالصَّلاةِ لَعَلِّي أَدْخُلُ عَلَى هَؤُلاءِ الْقَوْمِ فَأُكَلِّمَهُمْ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ عَلْيَكَ، فَقُلْتُ: كَلا، وكنت حسن الخلق، لا أوذي 49/ أأحدا، فأذن لي/ فدخلت عليهم فَلَمْ أَرَ قَوْمًا أَشَدَّ مِنْهُمُ اجْتِهَادًا جِبَاهُهُمْ قَرِحَةٌ مِنَ السُّجُودِ، وَأَيْدِيهِمْ كَأَنَّهَا نَقْرُ الإِبِلِ [1] ، وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ مُرَحَّضَةٌ [2] مُشَمِّرِينَ، مُشَهَّمَةٌ وَجُوهُهُمْ مِنَ السَّهَرِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: مَرْحَبًا بِابْنِ عَبَّاسٍ، مَا جَاءَ بِكَ؟ فَقَالَ:
أَتَيْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَمِنْ عِنْدِ صِهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَيْهِمْ نَزَلَ الْقُرْآنُ وَهُمْ أَعْلَمُ بِتَأْوِيلِهِ مِنْكُمْ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: لا تُخَاصِمُوا قُرَيْشًا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ:
بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ 43: 58 [3] فَقَالَ اثْنَانِ أَوْ ثَلاثَةٌ: لَنُكَلِمَنَّهُ، فَقُلْتُ: هَاتُوا مَا نَقَمْتُمْ عَلَى صِهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: ثَلاثًا، أَمَّا إِحْدَاهُنَّ: فَإِنَّهُ حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي أَمْرِ اللَّهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ 6: 57 [4] ، فما شأن الرجال والحكم؟ فقلت: هذه
__________
[1] النقرة: داء يأخذ الدابة في أرجلها، وهي التواء العرقوبين.
[2] مرحضة: مغسولة.
[3] سورة: الزخرف، الآية: 58.
[4] سورة: يوسف، الآية: 67.(5/124)
وَاحِدَةٌ، قَالُوا: وَإِنَّهُ قَاتَلَ وَلَمْ يُسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ، فَلَئِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ مَا حَلَّ لَنَا قِتَالُهُمْ وَسَبْيُهُمْ. قَالُوا: وَمَحَى نَفْسَهُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ أَمِيرُ الْكَافِرِينَ.
فَقُلْتُ لَهُمْ: أَمَّا قَوْلُكُمْ: حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي أَمْرِ اللَّهِ، أَنَا أَقْرَأُ عَلَيْكُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا يَنْقُضُ قَوْلَكُمْ، إِنَّ اللَّهَ صَيَّرَ مِنْ حُكْمِهِ إِلَى الرِّجَالِ فِي رُبُعِ دِرْهَمٍ ثَمَنَ أَرْنَبٍ، وَتَلَى قَوْلُهُ تَعَالَى: لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ... 5: 95 [1] الآيَةَ. وَفِي الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها 4: 35 [2] . فَنَشَدْتُكُمُ اللَّهَ، هَلْ تَعْلَمُونَ حُكْمَ الرِّجَالِ فِي إِصْلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ، وَحَقْنِ دِمَائِهِمْ أَفْضَلَ مِنْ حُكْمِهِمْ فِي أَرْنَبٍ وَبُضْعِ امْرَأَةٍ، فَأَيُّهُمَا تَرَوْنَ أَفْضَلَ؟ قَالُوا: بَلْ هَذِهِ، قُلْتُ: خَرَجْتُ مِنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: نَعَمْ.
قُلْتُ: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: قَاتَلَ وَلَمْ يُسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ، فَتُسْبُونَ أُمَّكُمْ عَائِشَةَ، فو الله إِنْ قُلْتُمْ لَيْسَتْ بِأُمِّنَا لَقَدْ خَرَجْتُمْ مِنَ الإِسْلامِ، وَإِنْ قُلْتُمْ لَنُسبِيَنَّهَا وَنَسْتَحِلُّ مِنْهَا مَا نَسْتَحِلُّ مِنْ غَيْرِهَا خَرَجْتُمْ مِنَ الإِسْلَامِ، أَخَرَجْتُ مِنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: نَعَمْ.
قُلْتُ: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: مَحَى نَفْسَهُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ كَاتَبَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَسُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، فَقَالَ: يَا عَلِيُّ اكْتُبْ: هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالُوا: مَا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ/، وَلَوْ نَعْلَمُ مَا قَاتَلْنَاكَ، فقال: امح يا 49/ ب عَلِيُّ وَاكْتُبْ: هَذَا مَا كَاتَبَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بن عبد الله، فو الله لَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرٌ مِنْ عَلِيٍّ وَقَدْ مَحَى نَفْسَهُ.
فَرَجَعَ مِنْهُمْ أَلْفَانِ، وَخَرَجَ سَائِرُهُمْ فَتَقَاتَلُوا [3] . قَالَ علماء السير [4] : وجاء علي بن أبي طالب [رضي الله عنه إلى القوم] [5] وابن عباس يكلمهم، فقَالَ لهم: من زعيمكم؟ قالوا: ابن الكواء، قَالَ: فما أخرجكم علينا؟
__________
[1] سورة: المائدة، الآية: 95.
[2] سورة: النساء، الآية: 35.
[3] في الأصل: «وخرج منهم ألفان فقتلوا» .
[4] تاريخ الطبري 5/ 65.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(5/125)
قالوا: حكومتك يوم صفين، قَالَ: أنشدكم باللَّه، أتعلمون أنهم حيث رفعوا المصاحف فقلتم نجيبهم إلى كتاب الله قلت لكم إني أعلم بالقوم منكم، إنهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، إني عرفتهم أطفالا ورجالا، فكانوا شر أطفال وشر رجال، امضوا على حقكم، فإنما رفعهم المصاحف خديعة، فرددتم علي رأيي وقلتم: لا بل نقبل منهم، فلما أبيتم إلا الكتاب [1] اشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن، وأن يميتا ما أمات القرآن، فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف حكم من حكم بما فِي القرآن، وإن أبيا فنحن من حكمهما براء. قالوا له: فخبرنا، أتراه عدلا تحكيم الرجال فِي الدماء؟ فقَالَ: إنا لسنا حكمنا الرجال، إنما حكمنا القرآن، وهذا القرآن إنما هو خط مسطور بين دفتين، لا ينطق، إنما يتكلم به الرجال، ادخلوا مصركم، فدخلوا من عند آخرهم.
وقَالَ الخوارج منهم: كان الأمر كما وصفت، ولكن كان ذلك كفرا منا، فقد تبنا إلى الله منه، فتب كما تبنا نبايعك، وإلا فنحن مخالفون. فانصرف علي بأصحابه، فقَالَ قوم: إنه أقر لهم بالخطأ، فصعد المنبر فذكر أمرهم فعابه، فوثبوا من نواحي المسجد يقولون: لا حكم إلا للَّه، فقَالَ علي: كلمة حق أريد بها باطل.
وفِي هذه السنة كان اجتماع الحكمين [2]
فبعث عليّ رضي الله عنه أربعمائة رجل عليهم شريح بن هانئ الحارثي، وفيهم أبو مُوسَى [الأشعري] [3] ، وبعث معهم عَبْد اللَّهِ بن عباس يصلي ويلي أمورهم، ولم يحضر علي وبعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة من أهل الشام، ثم جاء معاوية، واجتمعوا بأذرح، وشهد معهم عَبْد اللَّهِ بن عمر، وعبد الله بن الزبير، 50/ أوالمغيرة بن شعبة فِي جماعة كثيرة. / وخرج عمرو بن سعد بن أبي وقاص، فأتى أباه وهو بالبادية، فقَالَ: يا أبت، قد بلغك ما كان بين الناس بصفين، وقد حكموا وقد
__________
[1] في الأصل: «إلا القتال» .
[2] تاريخ الطبري 5/ 67.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(5/126)
شهدهم نفر من قريش، فاشهدهم فإنك صاحب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأحد أهل الشورى، وأنت أحق بالخلافة، فقَالَ: لا أفعل، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إنه تكون فتنة خير الناس فيها الخفي التقي» . والتقى الحكمان، فقَالَ عمرو بن العاص: يا أبا مُوسَى، أرأيت أول ما يقضى به من الحق أن يقضى لأهل الوفاء بوفائهم، وعلى أهل الغدر بغدرهم، قَالَ: وما ذاك؟
قَالَ: ألست تعلم أن معاوية وأهل الشام قد وافوا وقدموا للموعد؟ قَالَ: بلى، قَالَ عمرو:
اكتبها، فكتبها أبو مُوسَى، قَالَ: ألست تعلم أن عثمان رضي الله عنه قتل مظلوما؟ قَالَ:
أشهد، قَالَ: أفلست تعلم أن معاوية وآل معاوية أولياؤه؟ قَالَ: بلى، قَالَ: فإن الله عز وجل قَالَ: وَمن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً 17: 33 [1] ، فما يمنعك من معاوية ولي عثمان، وبيته فِي قريش كما قد علمت، فإن قَالَ الناس ليس له سابقة فلك حجة، وهي أن تقول: إني وجدته ولي عثمان المظلوم، والطالب بدمه، وقد صحبت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقَالَ: إني لم أكن لأوليه، وأدع المهاجرين الأولين والأنصار، ولو خرج لي من سلطانه ما كنت لأرتشي فِي حكم الله، ولكنك إن شئت أحيينا اسم عمر بن الخطاب.
فأبى عمرو وقَالَ: أخبرني عن رأيك، قَالَ: رأيي أن نخلع هذين الرجلين ونجعل الأمر شورى بين المسلمين، فيختار المسلمون لأنفسهم من أحبوا، فقَالَ له عمرو: فإن الرأي ما رأيت، فأقبلا إلى الناس فقَالَ عمرو: يا أبا مُوسَى أعلمهم بأن رأينا قد اجتمع، فتكلم أبو مُوسَى فقَالَ: رأيي ورأي عمرو قد اتفق على أمر نرجو أن يصلح الله به أمر هذه الأمة، فقَالَ عمرو: صدق وبر، يا أبا مُوسَى، تقدم فتكلم. فتقدم أبو مُوسَى ليتكلم فدعاه ابن عباس فقَالَ له: ويحك، والله إني لأظنه قد خدعك إن كنتما قد اتفقتما على أمر فقدمه فليتكلم بذلك قبلك، فإني لا آمن أن يخالفك، فقَالَ: إنا قد اتفقنا.
فتقدم أبو مُوسَى، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قَالَ: أيها الناس، إنا قد نظرنا فِي أمر هذه الأمة فلم نر أصلح لأمرها ولا ألم/ لشعثها من أمر قد اجتمع عليه رأيي ورأي 50/ ب عمرو، وهو أن نخلع عليا ومعاوية، وتستقبل هذه الأمة هذا الأمر، فيولوا منهم ما أحبوا
__________
[1] سورة: الإسراء، الآية: 33.(5/127)
عليهم، وإني قد خلعت عليا ومعاوية، فاستقبلوا أمركم وولوا عليكم من رأيتموه لهذا الأمر أهلا، ثم تنحى.
وأقبل عمرو فقام مقامه، فحمد الله وأثنى عليه وقَالَ: إن هذا قد قَالَ ما سمعتم، وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه، وأثبت صاحبي [معاوية] [1] ، فإنه ولي عثمان، والطالب بدمه، وأحق الناس بمقامه، فقَالَ له أبو مُوسَى: مالك، لا وفقك الله، غدرت وفجرت، إنما مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث. قَالَ عمرو: إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفارا.
وحمل شريح بن هانئ على عمرو فقنعه بالسوط، وحمل على شريح ابن لعمرو فضربه بالسوط، وقام الناس فحجزوا بينهم. فالتمس أهل الشام أبا مُوسَى فركب راحلته ولحق بمكة. وكان يقول: اطمأننت إلى عمرو وظننت أنه لن يؤثر شيئا على نصح الأمة، ولقد حذرنيه ابن عباس.
وانصرف عمرو وأهل الشام إلى معاوية وسلموا عليه بالخلافة وقام معاوية عشية فِي النَّاسَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أما بعد، من كان متكلما فِي هذا الأمر فليطلع لنا قرنه، قَالَ ابن عمر: فأطلعت حويتي فأردت أن أقول:
يتكلم فيه رجال قاتلوك وأباك على الإسلام، ثم خشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجماعة ويسفك فيها دم وأحمل فيها على غير رأيي، وذكرت ما وعد الله فِي الجنان فأمسكت.
قَالَ عمرو بن العاص: بلغني أن عتبة بن أبي سفيان قَالَ لعبد الله بن عباس: ما منع عليّا أن يبعثك مكان أبي مُوسَى، فقَالَ عَبْد اللَّهِ: منعه والله من ذلك حاجز القدر، وقصر المدة، ومحنة الابتلاء، أما والله لو بعثني لاعترضت فِي مدارج نفس عمرو ناقضا ما أبرم ومبرما لما نقض، أسف إذا طار وأطير إذا أسف، ولكن مضى قدر وبقي أسف، والآخرة خير لأمير المؤمنين.
وقَالَ خريم بن فاتك الأسدي هذه الأبيات:
لو كان للقوم رأي يرشدون به ... أهل العراق رموكم بابن عباس
51/ أ/ للَّه در أبيه أيما رجل ... ما مثله لفصال الأمر للناس
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.(5/128)
لكن رموكم بشيخ من ذوي يمن ... لم يدر ما ضرب أخماس لأسداس [1]
أَخْبَرَنَا أبو القاسم الحريري، قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو طالب العشاري، قال: حدّثنا أبو الحسن الدار الدارقطني، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو الحسين إبراهيم بن بيان الرزاد، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو سعيد الخرقي، قالَ: حَدَّثَنِي عَبْد اللَّهِ بْنُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ، [قَالَ:
سألت أبي] قلت: ما تقول فِي علي ومعاوية؟ فأطرق ثم قَالَ: يا بني، إيش أقول فيهما، أعلم أن عليا كان كثير الأعداء ففتش له أعداؤه عيبا فلم يجدوا، فجاءوا إلى رجل قد حاربه وقاتله فوضعوا له فضائل كيدا منهم له. [أو كما قَالَ] .
وفِي هذه السنة بعث علي رضي الله عنه بعد مرجعه من صفين جعدة بن هبيرة المخزومي إلى خراسان [2]
فانتهى إلى قوم قد كفروا وامتنعوا، فرجع، فبعث مكانه خليد بن قرة اليربوعي، فحاصر أهل نيسابور حتى صالحوه، وصالحه أهل مرو فأصاب جاريتين من أبناء الملوك فنزلتا بأمان، فبعث بهما إلى علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فأعطاهما بعض الدهاقين.
وفِي هذه السنة اجتمعت الخوارج على حرب علي رضي الله عنه وتأهبوا لذلك [3]
وشرح القصة: أنه لما أراد علي رضي الله عنه أن يبعث أبا مُوسَى للحكومة أتاه رجلان من الخوارج: زرعة بن البرج الطائي، وحرقوص بن زهير السعيدي، فدخلا عليه، فقالا: لا حكم إلا للَّه، فقَالَ علي: لا حكم إلا للَّه، فقَالَ له حرقوص: تب من خطيئتك وارجع عن قضيتك واخرج بنا إلى عدونا نقاتلهم حتى نلقى ربنا، قَالَ لهم: قد أردتكم على ذلك فعصيتموني، وقد كتبنا بيننا وبين القوم كتابا وشرطنا شروطا وأعطينا عليها عهودا ومواثيقا، وقد قال الله تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا 16: 91
__________
[1] في ت البيت:
«لكن رموكم بمن لم يدر ... ما ضرب أسداس في أخماس»
[2] تاريخ الطبري 5/ 63.
[3] تاريخ الطبري 5/ 72.(5/129)
الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ الله يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ 16: 91 [1] ، فقَالَ حرقوص: ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه، فقَالَ له علي: ما هو ذنب ولكن عجز من الرأي، 51/ ب وضعف من العمل وقد/ نهيتكم عنه، فقَالَ له زرعة: أما والله يا علي، لئن لم تدع تحكيم الرجال في كتاب الله قاتلتك أطلب بذلك وجه الله ورضوانه، فقَالَ علي: بؤسا لك، ما أشقاك، كأني بك قتيلا تسفِي عليك الريح، فقَالَ: وددت أن قد كان ذلك.
فخرج علي يوما فخطب، فقالوا من جوانب المسجد: لا حكم إلا الله، وصاح منهم رجل بعلي رضي الله عنه، فقَالَ: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ من الْخاسِرِينَ 39: 65 [2] فقَالَ علي: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ 30: 60 [3] . فاجتمعت الخوارج فِي منزل عَبْد اللَّهِ بن وهب الراسبي، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قَالَ: ما ينبغي لقوم يؤمنون بالرحمن، وينيبون إلى حكم القرآن أن تكون هذه الدنيا التي [الرضا بها والركون بها والإيثار إياها عناء وتبار] [4] آثر عنده من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقول بالحق، فاخرجوا بنا إلى إخواننا من بين أهل هذه القرية الظالم أهلها إلى جانب هذا السواد، وإلى بعض كور الجبال أو إلى بعض هذه المدائن منكرين لهذه البدع المضلة، والأحكام الجائرة.
فقَالَ حرقوص بن زهير: إن المتاع بهذه الدنيا قليل، وإن الفراق لها وشيك، فلا تدعونكم زينتها وبهجتها إلى المقام بها، ولا تلفتنكم عن طلب الحق وإنكار الظلم، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.
فقَالَ حمزة بن سنان الأسدي: يا قوم، إن الرأي ما رأيتم، وإن الحق ما ذكرتم، فولوا أمركم هذا رجلا منكم، فإنه لا بد لكم من عماد وسناد وراية تحفون بها، وترجعون إليها.
__________
[1] سورة: النحل، الآية: 91.
[2] سورة: الزمر، الآية: 65.
[3] سورة: الروم، الآية: 60.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، وأوردناه من الطبري 5/ 74.(5/130)
فبعثوا إلى زيد بن حصن الكناني [1] ، وكان من رءوسهم، فعرضوها عليه فأبى، وعرضوها على عَبْد اللَّهِ بن وهب الراسبي، فقَالَ: هاتوها، أنا والله لا آخذها رغبة فِي الدنيا ولا أدعها فرقا من الموت، وذلك بعد ما عرضوها على حرقوص، فأبى وعرضوها على حمزة فأبى، وعرضوها على شريح بن أوفى/ العبسي فأبى ولم يقبلها غير ابن 52/ أوهب الراسبي، وقَالَ ما قَالَ.
ثم إنهم اجتمعوا فِي منزل زيد بن حصن، فقَالَ: إن الله قد أخذ عهودنا ومواثيقنا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد قَالَ: وَمن لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ 5: 44 [2] وَمن لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ 5: 45 [3] وَمن لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ 5: 47 [4] فاشهد على أهل دعوتنا من أهل قبلتنا أنهم قد اتبعوا الهوى ونبذوا حكم الكتاب، وجاروا فِي القول والفعل، وإن جهادهم حق على المؤمنين، وأقسم بالذي تعنو له الوجوه، وتخشع له الأبصار إني لو لم أجد على تغيير الجور، وقتال القاسطين أحدا مساعدا لمضيت فردا حتى ألقى ربي ليرى أني قد عبرت إرادة رضوانه.
فقَالَ عَبْد اللَّهِ بن وهب: اشخصوا بنا إلى بلدة نجتمع فيها [5] . فقَالَ شريح:
اخرجوا إلى المدائن فلننزلها ولنأخذ بأبوابها، ونخرج منها سكانها، ونبعث إلى إخواننا من أهل البصرة فيقدمون علينا، فقَالَ زيد: إنكم إن خرجتم يرى لكم جماعة تبعتم، ولكن اخرجوا وحدانا، فأما المدائن فإن بها قوما يمنعونها منكم، ولكن اكتبوا إلى إخوانكم من أهل البصرة فأعلموهم بمخرجكم، وسيروا حتى تنزلوا جسر النهروان، قالوا: هذا الرأي.
وأجمعوا على ذلك، وكتبوا إلى أهل البصرة، وخرجوا ليلة السبت وحدانا يتسللون، فبلغ خبرهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فكتب إليهم وهو بالنهر.
__________
[1] كذا في الأصلين، وفي الطبري: «الطائي» .
[2] سورة: المائدة، الآية: 44.
[3] سورة: المائدة، الآية: 45.
[4] سورة: المائدة، الآية: 47.
[5] في الأصل: «إلى البلدة بعد فيها» .(5/131)
بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى زيد بن حصن وعبد الله بن وهب ومن معهما من الناس. أما بعد، فإن هذين الرجلين الذين ارتضينا حكمين قد خالفا كتاب الله، واتبعا أهواءهما بغير هدى من الله، فلم يعملا بالسنة، ولم ينفذا للقرآن حكما، فبرئ الله منهما ورسوله والمؤمنون، فإذا بلغكم كتابي هذا فأقبلوا 52/ ب فإنا/ سائرون إلى عدونا ونحن على الأمر الأول الذي كنا عليه [والسلام] [1] . فكتبوا إليه: أما بعد، فإنك لم تغضب لربك، وإنما غضبت لنفسك، فإن شهدت [على نفسك] [2] بالكفر، واستقبلت التوبة، نظرنا فيما بيننا وبينك، وإلا فقد نابذناك على سواء إن الله لا يحب الخائنين.
فلما قرأ كتابهم أيس منهم.
ولقي الخوارج [3] فِي طريقهم عَبْد اللَّهِ بن خباب، فقالوا: هل سمعت من أبيك حديثا يحدثه عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم تحدثناه؟ قَالَ: نعم، سمعته يُحَدِّثُ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه ذكر فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، قَالَ: فإن أدركت ذلك فكن عَبْد اللَّهِ المقتول. قالوا: أنت سمعت هذا من أبيك يحدثه عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نعم، فقدموه على شفير النهر فضربوا عنقه، فسال دمه كأنه شراك نعل، ونقروا أم ولده عما فِي بطنها، وكانت حبلى، ونزلوا تحت نخل مواقر [4] ، فسقطت رطبة، فأخذها أحدهم فقذف بها فِي فيه، فقَالَ أحدهم: بغير حلها وبغير ثمن، فلفظها من فيه. واخترط أحدهم سيفه فأخذ يهزه، فمر خنزير لأهل الذمة [5] ، فضربه، فقالوا له: هذا فساد فِي الأرض، فلقي صاحب الخنزير فأرضاه من خنزيره.
وكان علي رضي الله عنه قد تجهز للخروج إلى قتال الشام، وندب الناس،
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.
[3] تاريخ الطبري 5/ 81.
[4] أو قرت النخلة: إذا كثر حملها، ونخل موقور، والجمع مواقر.
[5] في الأصل: «لأهل المدينة» .(5/132)
فاجتمع معه ثمانية وستون ألفا، فلما سمع الناس خبر هؤلاء قالوا: لو سار بنا إلى هؤلاء فبدأنا بهم [1] ثم وجهنا إلى المحلين [2] ، فبلغه قولهم، فقَالَ: إن غير هؤلاء أهم إلينا، فسيروا إلى قوم يقاتلونكم كيما يكونوا جبارين، فقالوا: سر بنا حيث أحببت.
فلما بلغه قتلهم عَبْد اللَّهِ بن خباب بعث إليهم الحارث بن مرة العبدي ليأتيه بخبرهم، فلما دنا منهم يسألهم قتلوه. فأتى الخبر عليا، فقام الناس/ إليه، فقالوا: يا 53/ أأمير المؤمنين، علام ندع هؤلاء وراءنا يخلفوننا فِي أموالنا وعيالنا، سر بنا إلى القوم، فإذا فرغنا مما بيننا وبينهم سرنا إلى عدونا من أهل الشام.
فنادى بالرحيل وخرج، ثم بعث إليهم: ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم نقتلهم بهم، ثم نكف عنكم، واخرجوا بنا إلى قتال عدونا وعدوكم، فبعثوا إليه كلنا قتلهم، وكلنا نستحل لدمائهم ودمائكم. وفِي رواية أخرى [3] أن عليا أتاهم فوقف عليهم، فقَالَ: أيتها العصابة التي أخرجتها اللجاجة، وصدها عن الحق الهوى، إني نذير لكم أن تصبحوا صرعى بأثناء هذا النهر، تلفيكم الأمة غدا بغير بينة من ربكم [4] ، وإن الحكمين اختلفا وخالفا كتاب الله والسنة، فنبذنا أمرهما ونحن على الأمر الأول، فما الذي بكم؟ ومن أين أتيتم؟
فقالوا: إنا لما حكمنا أثمنا وكلنا بذلك كافرين وقد تبنا قَالَ: إذا تبت كما تبنا، فنحن منك وإلا فاعتزلنا فإنا منابذوك على سواء، فقَالَ علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أصابكم حاصب ولا بقي منكم وابر [5] ، أبعد إيماني برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهجرتي معه وجهادي فِي سبيل الله أشهد على نفسي بالكفر، لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين.
__________
[1] في ت: «هؤلاء فبدأ بهم» .
[2] المحل: الّذي نقض العهد، وفي ابن الأثير والنويري: «إلى قتال المحلين» .
[3] تاريخ الطبري 5/ 84.
[4] في تاريخ الطبري: «تلفيكم الأمة غدا صرعى بأثناء هذا النهر وبأهضام هذا الغائط، بغير بينة من ربكم» .
[5] يقال ما بالدار وابر، أي: ما بالدار أحد.(5/133)
فتنادوا [1] : لا تخاطبوهم ولا تكلموهم، وتهيأوا للقاء الرب، الرواح الرواح إلى الجنة. فخرج علي فعبأ الناس، فجعل على ميمنته حجر بن عدي، وعلى ميسرته شبث بن ربعي- أو معقل بن قيس الرياحي- وعلى الخيل أبا أيوب الأنصاري، وعلى الرجالة أبا قتادة الأنصاري، وعلى أهل المدينة قيس بن سعد.
وعبأت الخوارج [2] ، فجعلوا على ميمنتهم زيد بن حصن، وعلى ميسرتهم شريح بن أوفى العبسي، وعلى خيلهم حمزة بن سنان، وعلى رجالتهم حرقوص بن زهير [3] . ودفع علي إلى أبي أيوب الأنصاري راية أمان، فناداهم أبو أيوب: من جاء هذه 53/ ب الراية منكم/ ممن لم يقتل ولم يستعرض فهو آمن، ومن انصرف منكم إلى الكوفة أو إلى المدائن وخرج من هذه الجماعة فهو آمن، إنه لا حاجة لنا بعد أن نصيب قتلة إخواننا فِي سفك دمائكم، فقال فروة بن نوفل: والله ما أدري على أي شيء نقاتل عليا، لا أرى إلا أن أنصرف حتى تنفذ لي بصيرتي فِي قتاله أو اتباعه [4] . فانصرف في خمسمائة فارس.
وخرجت طائفة [أخرى] [5] متفرقين، فنزلوا الكوفة، وخرج إلى علي منهم نحو من مائة، وكانوا أربعة آلاف، فكان الذين بقوا مع عبد الله بن وهب ألفين وثمانمائة، فزحفوا إلى علي فقَالَ علي لأصحابه: كفوا عنهم حتى يبدءوكم، فتنادوا: الرواح الرواح، فشدوا على الناس، فلم تثبت خيل علي لشدتهم، فاستقبلت الرامية وجوههم بالنبل وعطفت عليهم الخيل من الميمنة والميسرة فأناموهم، ولم يقتل من أصحاب علي رضي الله عنه إلا سبعة أولهم يزيد بن نويرة.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن على بن ثَابِتٍ، [أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ [بْنِ] [6] مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلَفٍ الْعُكَبْرِيُّ، أَخْبَرَنَا جدي، حدّثنا
__________
[1] تاريخ الطبري 5/ 85.
[2] المرجع السابق والصفحة.
[3] في الأصل: «حرقوص بن وهب» .
[4] في الأصل: «قتاله أو أتابعه» .
[5] ما بين المعقوفين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[6] «بن» : ساقطة من ت.(5/134)
إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ] [1] حَاتِمٍ الْمَدَنِيُّ، قَالَ [2] : أَوَّلُ قَتِيلٍ قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ يَوْمَ النَّهْرَوانِ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: يَزِيدُ بْنُ نُوَيْرَةَ، شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ مَرَّتَيْنِ شَهِدَ لَهُ يَوْمَ أُحُدٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ جَازَ التَّلَّ فَلَهُ الْجَنَّةُ» . فَقَالَ يَزِيدُ بْنُ نُوَيْرَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا بَيْنِي وَبَيْنَ الْجَنَّةِ هَذَا التَّلُّ، ثُمَّ أَخَذَ سَيْفَهُ فَضَارَبَ حَتَّى جَازَ التَّلَّ، فَقَالَ ابْنُ عَمٍّ لَهُ: [3] يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَجْعَلُ لي ما جعلت مِثْلَ مَا جَعَلْتَ لابْنِ عَمِّي يَزِيدَ؟ قَالَ: «نَعَمْ» ، فَقَاتَلَ حَتَّى جَازَ التَّلَّ، ثُمَّ أَقْبَلا يَخْتَلِفَانِ فِي قَتِيلٍ قَتَلاهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمَا: «كِلاكُمَا قَدْ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَلَكَ يَا يَزِيدُ عَلَى صاحبك درجة» ، قال: فشهد يزيد مَعَ عَلِيٍّ فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ يَوْمَ النَّهْرَوَانِ. قَالَ علماء السير [4] : وخرج علي فِي طلب ذي الثدية، فوجده فِي حفرة على شاطئ النهر قتيلا، فلما استخرج نظر إلى عضده فإذا لحم مجتمع/ على منكبه كثدي 54/ أالمرأة له حلمة عليها شعيرات سود، فقَالَ علي: الله أكبر، والله ما كذبت ولا كذبت، أما والله لولا أن تنكلوا عن العمل لأخبرتكم بما قضى الله على لسان نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن قاتلهم مستنصرا فِي قتالهم. أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْقَزَّازُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو الحسن علي بن أحمد بن إِبْرَاهِيمَ الْبَزَّازُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ النَّسَوِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ سفيان، قال: حدّثنا أصبغ بن الفرح، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ بَكِيرِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ بِشْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَنَّ الْحَرُورِيَّةَ لَمَّا خَرَجَتْ عَلَى عَلي بْن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عنه وَقَالُوا: لا حُكْمَ إِلا للَّه، قالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وصف لنا
__________
[1] ما بين المعقوفين: من ت، ومكانة في الأصل: «بإسناده عن حاتم المدني» .
[2] الخبر في تاريخ بغداد 1/ 203، 204.
[3] في تاريخ بغداد: «فقال ابن عمر» .
[4] تاريخ الطبري 5/ 88.(5/135)
نَاسًا إِنِّي لأَعْرِفُ صِفَتَهُمْ فِي هَؤُلاءِ، يَقُولُونَ الْحَقَّ بِأَلْسِنَتِهِمْ، لا يُجَاوِزُ هَذَا مِنْهُمْ- وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ- مِنْ أَبْغَضِ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِ، فَيهِمْ أَسْوَدُ، إِحْدَى يَدَيْهِ كَأَنَّهَا طُبْيُ [1] شَاةٍ، أَوْ حَلَمَةُ ثَدْيٍ، فَلَمَّا قَتَلَهُمْ قَالَ: انْظُرُوا، فَنَظَرُوا فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا، فَقَالَ: ارْجِعُوا، وَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ- مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا- فَوَجَدُوهُ فِي حُفْرَةٍ، فَأَتَوْا بِهِ حَتَّى وَضَعُوهُ بَيْنَ يَدَيْهِ. قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: وَأَنَا حَاضِرٌ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ وَقَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِمْ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ الْقَزَّازِ، قَالَ: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال:
أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الأَزْهَرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَكَّائِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْحَضْرَمِيُّ [2] ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحَمَّامِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ [3] ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ مَيْسَرَةَ، قَالَ:
قَالَ أَبُو جُحَيْفَةَ [4] : قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ فَرَغْنَا مِنَ الْحَرُورِيَّةِ: إِنَّ فِيهِمْ رَجُلا مُخْدَجًا [5] ، لَيْسَ فِي عَضُدِهِ عَظْمٌ، ثُمَّ عَظْمُهُ أَوْ عَضُدُهُ حَلَمَةٌ كَحَلَمَةِ الثَّدْيِ، عَلَيْهَا شُعَيْرَاتٌ طُوَالٌ عقف [6] ، 54/ ب فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ، / وَأَنَا فِيمَنْ يَلْتَمِسُ. قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ عَلِيًّا جَزِعًا قَطُّ أَشَدَّ مِنْ جَزَعِهِ يَوْمَئِذٍ، فَقَالُوا: مَا نَجِدُهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: وَيْلَكُمْ مَا اسْمُ هَذَا الْمَكَانِ؟ قَالُوا:
النَّهْرَوَانُ، قَالَ: كَذَبْتُمْ إِنَّهُ لَفِيهِمْ، فَثَوَّرْنَا [7] الْقَتْلَى فَلَمْ نَجِدْهُ، فَعُدْنَا إِلَيْهِ فَقُلْنَا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا نَجِدُهُ، قَالَ: وَيْلَكُمْ مَا اسْمُ هَذَا الْمَكَانِ؟ قَالُوا: النَّهْرَوَانُ. قَالَ: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَكَذَبْتُمْ إِنَّهُ لَفِيهِمْ فَالْتَمِسُوهُ، فَالْتَمَسْنَاهُ فِي سَاقِيَةٍ، فَوَجَدْنَاهُ فَجِئْنَا بِهِ، فَنَظَرْتُ إِلَى عَضُدِهِ لَيْسَ فِيهَا عَظْمٌ، وَعَلَيْهَا حَلَمَةٌ كَحَلَمَةِ ثدي المرأة، عليها شعرات طوال عقف.
__________
[1] الطبي: حلمات الضرع التي فيها اللبن من الخف والظلف والحافر والسباع، وقيل: هو لذوات الحافر والسباع كالثدي للمرأة وكالضرع لغيرها.
[2] في ت، والبداية والنهاية: «قَالَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عطاء، عن سليمان الحضرميّ» . وما أوردناه عن الأصل، وتاريخ بغداد.
[3] كذا في الأصول والبداية والنهاية. وفي تاريخ بغداد «عبد الله» .
[4] الخبر في تاريخ بغداد 1/ 199.
[5] «المخدج» : الناقص اليد أو الخلق، من الخداج وهو النقصان. وهي ساقطة من أ، والبداية.
[6] عقف: ملتوية معوجة.
[7] أي: آثرناهم وهيجناهم.(5/136)
قَالَ علماء السير [1] : ثم قام علي رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه، ثم قَالَ: إن الله عز وجل قد [أحسن بكم [2] ، و] أعز نصركم، فتوجهوا من فوركم هذا إلى عدوكم، فقالوا: يا أمير المؤمنين، نفدت نبالنا، وكلت سيوفنا، فارجع إلى مصرنا، واستعد بأحسن عدتنا. فأقبل حتى نزل النخيلة، فأمر الناس أن يلزموا عسكرهم، ويوطنوا على الجهاد أنفسهم، وأن يقلوا زيارة أبنائهم ونسائهم حتى يسيروا إلى عدوهم، فأقاموا أياما ثم تسللوا فدخلوا إلا قليلا منهم، فلما رأى ذلك دخل الكوفة وانكسر رأيه فِي المسير. وقد ذهب قوم إلى أن هذه الوقعة بالخوارج كانت فِي سنة ثمان وثلاثين.
وفِي هذه السنة، أعني سنة سبع وثلاثين حج بالناس [3] عبيد الله بن عباس، وكان عامل علي على اليمن ومخاليفها، وكان عامله على مكة [والطائف] [4] قثم بن العباس، وعلى المدينة سهل بن حنيف، وقيل:
كان عليها تمام بن العباس. وكان على البصرة عَبْد اللَّهِ بن العباس، وعلى قضائها أبو الأسود الدؤلي، وعلى مصر مُحَمَّد بن أبي بكر. ولما شخص علي إلى صفين استخلف على الكوفة أبا مسعود الأنصاري، وعلى خراسان خليد بن قرة اليربوعي.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
295-/ الربيع بنت معوذ بن عفراء
[5] : 55/ أأسلمت وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحدثت عنه. وكانت تغزو مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتخدم القوم وترد القتلى والجرحى إلى المدينة.
__________
[1] تاريخ الطبري 5/ 89.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.
[3] تاريخ الطبري 5/ 92.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.
[5] طبقات ابن سعد 8/ 1/ 327.(5/137)
296- خباب بن الأرت بن جندلة
[1] :
كان قد أصابه سباء فبيع بمكة واشترته أم أنمار، وهي أم سباع الخزاعية. ويقال:
بل أم سباع بن عبد العزى واحدة.
وكانت ختانة بمكة، وهي التي عنى حمزة بن عبد المطلب حين قَالَ لسباع بن عبد العزى وأمه أم أنمار: هلم يا ابن مقطعة البظور، فانضم خباب بن الأرت إلى آل سباع، وادعى حلف بني زهرة بهذا السبب. وكان يكنى أبا عَبْد اللَّهِ وأسلم قبل أن يدخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دار الأرقم، وقبل أن يدعو فيها، وكان من المستضعفين الدين يعذبون بمكة ليرجع عن دينه. وشهد بدرا والمشاهد كلها مع رَسُولُ الله صلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ، [أَخْبَرَنَا الْجَوْهَرِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ حَيُّوَيْهِ، أَخْبَرَنَا أَبُو الحسن بن مَعْرُوفٍ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَهِمِ] [2] ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَيَّانُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ [3] :
دَخَلَ خَبَّابُ بْنُ الأَرَتِّ عَلَى عُمَرَ فَأَجْلَسَهُ عَلَى مُتَّكَئِهِ، وَقَالَ: مَا عَلَى الأَرْضِ أحد أحق بهذا المجلس مِنْ هَذَا إِلا رَجُلٌ وَاحِدٌ، قَالَ لَهُ خَبَّابٌ: مَنْ هُوَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ:
بِلالٌ، قَالَ: فَقَالَ خَبَّابٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا هُوَ بِأَحَقَّ مِنِّي، إِنَّ بِلالا كَانَ لَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَنْ يَمْنَعَهُ اللَّهُ بِهِ وَلَمْ يَكُنْ لِي أَحَدٌ يَمْنَعُنِي، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمًا أَخَذُونِي وَأَوْقَدُوا لِي نَارًا ثُمَّ سَلَقُونِي فيها، ثم وضع رجل رِجْلَهُ عَلَى صَدْرِي فَمَا اتَّقَيْتُ الأَرْضَ إِلا بِظَهْرِي، قَالَ: ثُمَّ كَشَفَ عَنْ ظَهْرِهِ فَإِذَا هو قد بَرَصٌ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ [4] : وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَسَدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شهاب، قال:
__________
[1] طبقات ابن سعد 3/ 1/ 116، 8/ 1/ 6.
[2] ما بين المعقوفتين: من ت، وفي الأصل، «بإسناده عن ابن سعد» .
[3] الخبر في طبقات ابن سعد 3/ 1/ 117.
[4] طبقات ابن سعد 3/ 1/ 118.(5/138)
عَادَ خَبَّابًا نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: أَبْشِرْ/ يَا أبا عبد الله، إخوانك 55/ ب تُقْدِمُ عَلَيْهِمْ غَدًا، فَبَكَى وَقَالَ: [عَلَيْهَا مِنْ حَالِي] [1] ، أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ بِي جَزَعٌ، وَلَكِنْ ذَكَّرْتُمُونِي أَقْوَامًا وَسَمَّيْتُمُوهُمْ لِي إِخْوَانًا، وَإِنَّ أُولَئِكَ مَضَوْا وَأُجُورُهُمْ كَمَا هِيَ، وَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ ثَوَابُ مَا تَذْكُرُونَ مِنْ تِلْكَ الأَعْمَالِ مَا أُوتِينَا بَعْدَهُمْ.
توفي خباب بالكوفة فِي هذه السنة وهو ابن ثلاث وسبعين سنة، وهو أول من دفن بظهر الكوفة.
297- خزيمة بن ثابت بن الفاكه بن ثعلبة بن عامر، أبو عمارة، وهو ذو الشهادتين:
[2] أَخْبَرَنَا محمد بْن أبي طاهر، قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا أبو عمر بْن حيويه، قَالَ: أخبرنا أحمد بن معروف، قال: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال:
حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عَمِّهِ- وَكَانَ من أصحاب رسول الله صلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [3] : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتَاعَ فَرَسًا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الأَعْرَابِ، فَاسْتَتْبَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُعْطِيَهُ ثَمَنَهُ، فَأَسْرَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَشْيَ، وَأَبْطَأَ الأَعْرَابِيُّ فَطَفِقَ رِجَالٌ يَلْقَوْنَ الأَعْرَابِيَّ يُسَاوِمُونَهُ الْفَرَسَ وَلا يَشْعُرُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ ابْتَاعَهُ، حَتَّى زَادَ بَعْضُهُمُ الأَعْرَابِيَّ فِي السَّوْمِ عَلَى ثَمَنِ الْفَرَسِ الَّذِي ابْتَاعَهُ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ. فَلَمَّا زَادَهُ نَادَى الأَعْرَابِيُّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: إِنْ كُنْتَ مُبْتَاعًا هَذَا الْفَرَسَ فَابْتَعْهُ وَإِلا بِعْتُهُ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَمِعَ قَوْلَ الأَعْرَابِيِّ حَتَّى أَتَاهُ الأَعْرَابِيُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَسْتُ قَدِ ابْتَعْتُهُ مِنْكَ؟» فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: لا وَاللَّهِ مَا بِعْتُكَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلَى قَدِ ابْتَعْتُهُ مِنْكَ» فَطَفِقَ النَّاسُ يَلُوذُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالأَعْرَابِيِّ وَهُمَا يَتَرَاجَعَانِ، وَطَفِقَ الأعرابي/ يقول: هلم شهيدا 56/ أيشهد لَكَ، فَمَنْ جَاءَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ للأَعْرَابِي: وَيْلَكَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ لِيَقُلْ إِلا حَقًّا، حَتَّى جَاءَ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ، فَاسْتَمَعَ مُرَاجَعَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُرَاجَعَةَ الأَعْرَابِيِّ، فَطَفِقَ الأَعْرَابِيُّ يَقُولُ: هَلُمَّ شَهِيدًا يَشْهَدُ أَنِّي قد بايعتك، فقال خزيمة: أنا
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من ابن سعد.
[2] طبقات ابن سعد 4/ 2/ 90.
[3] الخبر في طبقات ابن سعد الموضع السابق.(5/139)
أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَايَعْتَهُ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خُزَيْمَةَ فَقَالَ: بِمَ تَشْهَدُ؟ قَالَ: بِتَصْدِيقِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهَادَةَ خُزَيْمَةَ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ. قَالَ مُحَمَّد بن عمر [1] : لم يسم لنا أخو خزيمة الذي روى هذا الحديث، وكان له أخوان، [يقال لأحدهما وحوح] [2] ولا عقب له، وعَبْد اللَّهِ وله عقب.
وفِي طريق آخر أنه قَالَ [3] : أنا أصدقك بخبر السماء، ولا أصدقك بما تقول.
قَالَ مُحَمَّد بن عمر [4] : وكانت له راية بني خطمة فِي يوم الفتح، وشهد صفين مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وقتل يومئذ.
298- سفينة- مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واسمه مهران، ويكنى أبا عَبْد الرَّحْمَنِ [5] :
اشترته أم سلمة فاعتقته واشترطت عليه يَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما عاش.
أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي، قَالَ: أَخْبَرَنَا الحسن بن علي الجوهري، قال: أخبرنا ابْنُ حَيَّوَيْهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ مَعْرُوفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن الفهم، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سعد، قال: أخبرنا الفضل بن دكين، قال: حدثنا خرجُ بْنُ نُبَاتَةَ، قَالَ:
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ جُهْمَانَ، قَالَ: سَأَلْتُ سَفِينَةَ عَنِ اسْمِهِ، فَقَالَ: سَمَّانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سفينة، قلت: وبما سَمَّاكَ سَفِينَةَ؟ قَالَ: خَرَجَ مَعَهُ أَصْحَابُهُ فَثَقُلَ عَلَيْهِمْ مَتَاعُهُمْ فَقَالَ لِي: ابْسُطْ لِي كُسَاكَ، فَبَسَطَهُ، فَحَوَّلُوا فِيهِ مَتَاعَهُمْ ثُمَّ حَمَلُوهُ عَلَيَّ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «احْمِلْ فَمَا أَنْتَ إِلا سَفِينَةَ» . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن مُوسَى، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بن المنكدر، عن سفينة:
__________
[1] طبقات ابن سعد 4/ 2/ 91.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من ابن سعد.
[3] طبقات ابن سعد 4/ 2/ 91.
[4] طبقات ابن سعد 4/ 2/ 92.
[5] تهذيب الكمال 2420، وطبقات خليفة 190، وتاريخ البخاري الكبير 4/ 3524، وحلية الأولياء 1/ 368.(5/140)
أَنَّهُ رَكِبَ سَفِينَةً فِي الْبَحْرِ، / فَانْكَسَرَتْ بِهِمْ، قال: فتعلقت بشيء منها حتى 56/ ب خرجت إلى جزيرة، فإذا فِيهَا الأَسَدُ، فَقُلْتُ: أَبَا الْحَارِثِ، إِنَّمَا سَفِينَةُ مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَطَأْطَأَ رَأْسَهُ وَجَعَلَ يَدْفَعُنِي بِجَنْبَيْهِ، يَدُلُّنِي عَلَى الطَّرِيقِ فَلَمَّا خَرَجْتُ إِلَى الطَّرِيقِ هَمَّهُمْ فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُوَدِّعُنِي.
299- سحيم، عبد بني الحسحاس: [1]
اشتراه عَبْد اللَّهِ بن عامر، فأهداه إلى عُثْمَان بْن عَفَّانَ فرده عليه وقَالَ: لا حاجة لنا فيه، وله أشعار كثيرة وأخبار.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر الحافظ، أَخْبَرَنَا أبو الحسين بن عبد الجبار، أَخْبَرَنَا الجوهري، أَخْبَرَنَا ابن حيوية، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن خلف، قَالَ: قَالَ ابن الأعرابي:
كان سحيم حبشيا وقد أدرك الجاهلية.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ الْبَزَّازُ، [عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيِّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَرَ بْنُ حَيُّوَيْهِ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْد اللَّه أَحْمَدُ بْن مُحَمَّد بْنِ إِسْحَاقَ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا] [2] الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ خَالِهِ يُوسُفَ بْنِ الْمَاجِشُونَ، قَالَ:
اشْتَرَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ سُحَيْمًا عَبْدَ بَنِي الْحَسْحَاسِ، وَكَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: إِنِّي قَدِ ابْتَعْتُ لَكَ غُلامًا حَبَشِيًّا شَاعِرًا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ: لا حَاجَةَ لِي بِهِ، فَإِنَّمَا قُصَارَى الْعَبْدِ الشَّاعِرِ، إِنْ شَبِعَ تَشَبَّبَ بِنِسَائِهِمْ، وَإِنْ جَاعَ يَهْجُوهُمْ، فَرَدَّهُ عَبْدَ اللَّهِ فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي الْحَسْحَاسِ. وَكَانَ حَبَشِيًّا أَعْجَمِيَّ اللِّسَانِ يُنْشِدُ الشِّعْرَ.
قَالَ الزبير: وحَدَّثَنِي عمر بن أبي بكر، عن أبي صالح الفقعسي، قَالَ: كان سحيم عبدا لبني الحسحاس حبشيا شاعرا، وكان يهوى ابنة مولاه عميرة بنت أبي معبد، ويكنى عن حبها إلى أن خرج مولاه أبو معبد سفرا، وخرج به معه، وكان أبو معبد يتشوق إلى ابنته ويقول:
عميرة ودع إن تجهزت غاديا
__________
[1] في أ: «بني الخشخاش» .
[2] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «بإسناده عن الزبير بن بكار» .(5/141)
[يردد النصف ولا يزيد عليه ثم قَالَ: ابعد يا سحيم، فهيج منه ما كان باطنا فقَالَ:
عميرة ودع إن تجهزت غاديا] [1] ... كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
ثم بنى عليها وأتمها قصيدة وفحش فيها فقَالَ:
وبتنا وسادانا [إلى علجانة ... وحقف تهاداه الرياح تهاديا] [2]
57/ أ/ توسدني كفا وتثني بمعصم ... علي وتحوي رجلها من ورائيا
وهبت شمالا آخر الليل قرة ... ولا ثوب إلا درعها وردائيا
فما زال ثوبي طيبا من نسيمها ... إلى الحول حتى أنهج الثوب باليا
قَالَ: فذهب به أبو معبد إلى المدينة ليبيعه بها، فقَالَ بعد أن أخرجه بها:
وما كنت أخشى معبدا أن يبيعني ... بشيء ولو أمست أنامله صفرا
أخوكم ومولى مالكم وربيبكم ... ومن قد ثوى فيكم وعاشركم دهرا
أشوقا ولما يمض لي غير ليلة ... فكيف إذا سار المطي بنا عشرا
قَالَ: فرق له ورده، وآل أمر سحيم أنه أحب امرأة من أهل بيت مولاه، فأخذوه وأحرقوه.
وقَالَ ابن قتيبة: سقوه الخمر وعرضوا عليه نسوة، فلما مرت به التي كان يتهم بها أهوى إليها فقتلوه.
300- عَبْد اللَّهِ بن الأرقم بن عبد يغوث [بن وهب] بن عبد مناف بن زهرة [3] :
أسلم يوم الفتح، وكان يكتب لرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولأبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وكتب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتاب فقَالَ: من يجيب؟ فقَالَ ابن الأرقم: أنا، فأجاب عنه ثم أتى إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأعجبه وأنفذه. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يعجبه ذلك ويقول:
أصاب ما أراد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يزل ذلك فِي قلبه، فلما ولي عمر استعمله على بيت المال، وقَالَ عمر: ما رأيت أحدا أخشى للَّه منه.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من أ.
[2] ما بين المعقوفتين: من أ، ومكانه في الأصل بياض علجانة، قال الأزهري: العلجان شجر يشبه العلندي. (لسان العرب 3066) .
[3] طبقات خليفة 16، وتاريخه 156، 179، وتاريخ البخاري الكبير 5/ 56، والمعارف 151.(5/142)
أخبرنا أبو بكر بن أبي طاهر البزاز، قَالَ: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا أَبُو عُمَرَ بْنُ حَيُّوَيْهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ معروف قال: حدثنا ابْن الفهم، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سعد، قال: أخبرنا محمد بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جعفر، عَنْ أُمِّ بَكْرٍ بِنْتِ الْمَنْصُورِ، عَنْ أَبِيهَا قَالَ:
وَلَّى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بَيْتَ مَالِ الْمُسْلِمِينَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الأَرْقَمِ الزُّهْرِيَّ/، وَكَانَ 57/ ب عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَسْتَسْلِفُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَإِذَا أَخْرَجَ الْعَطَاءَ جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ فَتَقَاضَاهُ فَيُقْضِيهِ، فَلَمَّا وَلِيَ عُثْمَانُ أَقَرَّهُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَكَانَ يَسْتَسْلِفُ مِنْهُ ثُمَّ يُقْضِيهِ كَعُمَرَ، ثُمَّ اجْتَمَعَ عِنْدَ عُثْمَانَ مَالٌ كَثِيرٌ وَحَضَرَ خُرُوجُ الْعَطَاءِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: أَدِّ الْمَالَ الَّذِي اسْتَسْلَفْتَ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: مَا أَنْتَ وَذَاكَ، إِنَّمَا أَنْتَ خَازِنٌ، فَخَرَجَ عَبْدُ ِاللَّهِ حَتَّى وَقَفَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَصَاحَ بِالنَّاسِ، فَاجْتَمَعُوا فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا قَالَ عُثْمَانُ وَقَالَ: هَذِهِ مَفَاتِيحُ بَيْتِ مَالِكُمْ.
قَالَ مؤلف الكتاب: ولما رد المفاتيح استخزن عثمان زيد بن ثابت.
301- عَبْد اللَّهِ بن خباب بن الأرت بن جندلة بن سعد بن خزيمة [1] :
ولد فِي زمان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان موصوفا بالخير والصلاح، وورد المدائن وقتله الخوارج وهو بالنهروان.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن محمد، قال: أخبرنا أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، [قَالَ:
أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَلالُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي صَابِرٍ الدَّلالُ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ عَلِيُّ بْنُ عَمْرِو بْنِ خَالِدٍ الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ عَبْدَةَ الشَّيْبَانِيُّ الْبَصْرِيُّ، عَنْ أَيُّوبُ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلالٍ] [2] ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، قَالَ [3] : كُنَّا مَعَ عَلِيٍّ يَوْمَ الْنَهْرَوَانِ [4] ، فَجَاءَتِ الْحَرُورِيَّةُ فَكَانَتْ من وراء النهر، فقال:
__________
[1] طبقات ابن سعد 5/ 1/ 182، وتاريخ بغداد 1/ 205.
[2] ما بين المعقوفتين: من ت، وفي الأصل: «بإسناد عن أبي الأحوص» .
[3] الخبر في تاريخ بغداد 1/ 205.
[4] في الأصل: «يوم النهر» .(5/143)
والله لا يقتل اليوم رجل من وراء النَّهْرِ، ثُمَّ نَزَلُوا فَقَالُوا لِعَلِيٍّ: قَدْ نَزَلُوا، قَالَ: وَاللَّهِ لا يُقْتَلُ الْيَوْمَ رَجُلٌ مِنْ وَرَاءِ النَّهْرِ، فَأَعَادُوا عَلَيْهِ هَذِهِ الْمَقَالَةَ ثَلاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ لَهُمْ عَلِيٌّ مِثْلَ قَوْلِهِ الأَوَّلِ، قَالَ: فَقَالَتِ الْحَرُورِيَّةُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: يَرَى عَلِيٌّ أَنَّا نَخَافُهُ، فَأَجَازُوا، فَقَالَ عَلِيٌّ لأَصْحَابِهِ: لا تُحَرِّكُوهُمْ حَتَّى يُحْدِثُوا حَدَثًا، فَذَهَبُوا إِلَى مَنْزِلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ وَكَانَ مِنْزُلُهُ عَلَى شَطِّ النَّهْرِ فَأَخْرَجُوهُ مِنْ مَنْزِلِهِ، فَقَالُوا: حَدِّثْنَا بِحَدِيثٍ حَدَّثَكَهُ أَبُوكَ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «تَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فيها خير من القائم، والقائم فيها خير مِنَ السَّاعِي» ، فَقَدَّمُوهُ إِلَى الْمَاءِ فَذَبَحُوهُ كَمَا تُذْبَحُ الشَّاةُ، فَسَالَ دَمُهُ فِي الْمَاءِ مِثْلَ الشراك ما امذقرّ. 58/ أقال الْحَكَمُ: فَسَأَلْتُ أَبَا أَيُّوبَ: مَا امْذَقَرَّ؟ / قَالَ: مَا اخْتَلَطَ. قَالَ: وَأَخْرَجُوا أُمَّ وَلَدِهِ فَشَقُّوا عَمَّا فِي بَطْنِهَا، فَأُخْبِرَ عَلِيٌّ بِمَا صَنَعُوا، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، نَادُوهُمْ أَخْرِجُوا لَنَا قَاتِلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ، قَالُوا: كُلُّنَا قَتَلَهُ، فَنَادَاهُمْ ثَلاثًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُونَ هَذَا الْقَوْلَ.
فَقَالَ عَلِيٌّ لأَصْحَابِهِ: دُونَكَمُ الْقَوْمُ، قَالَ: فَمَا لَبِثُوا أَنْ قَتَلُوهُمْ، فقَالَ عَلِيٌّ: اطْلُبُوا فِي الْقَوْمِ رَجُلا يَدُهُ كَثَدْيِ الْمَرْأَةِ، فَطَلَبُوهُ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْهِ فَقَالُوا: مَا وَجَدْنَا، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ وَلا كُذِبْتُ، وَإِنَّهُ لَفِي الْقَوْمِ. ثَلاثَ مَرَّاتٍ يَجِيئُونَهُ فَيَقُولُ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلَ. ثُمَّ قَامَ هُوَ بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَ لا يَمُرُّ بِقَتْلَى جَمِيعًا إِلا بَحَثَهُمْ فَلا يَجِدُهُ فِيهِمْ حَتَّى انْتَهَى إِلَى حُفْرَةٍ مِنَ الأَرْضِ فِيهَا قَتْلَى كَثِيرٌ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَبَحَثُوا فَوُجِدَ فِيهِمْ، فَقَالَ لأَصْحَابِهِ: لَوْلا أَنْ تَنْتَظِرُوا لأَخْبَرْتُكُمْ بِمَا أَعَدَّ اللَّهُ تعالى لِمَنْ قَتَلَ هَؤُلاءِ.
302- عَبْد اللَّهِ بن سعد بن أبي سرح بن الحارث بن حبيب بن خزيمة [1] :
أسلم قديما.
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي، قَالَ: أخبرنا الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أَخْبَرَنَا ابْنُ مَعْرُوفٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ قَدِيمًا، وَكَانَ يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، فربما أملى
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 190.(5/144)
عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سَمِيعٌ عَلِيمٌ» 2: 181، فيكتب «عَلِيمٌ حَكِيمٌ» 4: 26. فيقرأه رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُقِرُّهُ، فَافْتَتَنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعٍد، وَقَالَ: مَا يَدْرِي مُحَمَّدٌ مَا يَقُولُ، إِنِّي لأَكَتْبُ لَهُ مَا شِئْتُ، هَذَا الَّذِي يُوحَى إِلَيَّ كَمَا يُوحَى إِلَى مُحَمَّدٍ. وَخَرَجَ هَارِبًا مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ مُرْتَدًّا، فَأَهْدَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَمَهُ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَجَاءَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ- وَكَانَ أَخَاهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ- فَقَالَ: يَا أَخِي إِنِّي وَاللَّهِ اخْتَرْتُكَ على غيرك فاحبسني هاهنا، وَاذْهَبْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلِّمْهُ فِيَّ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا إِنْ رَآنِي ضَرَبَ الَّذِي فِيهِ عَيْنَايَ، فَإِنَّ جُرْمِي أَعْظَمُ الْجُرْمِ، وَقَدْ جِئْتُ تَائِبًا، فَقَالَ عُثْمَانُ: بَلِ اذهب معي، فقال: والله/ لئن 58/ ب رَآنِي لَيَضْرِبَنَّ عُنُقِي فَقَدْ أَهْدَرَ دَمِي وَأَصْحَابُهُ يَطْلُبُونَنِي فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، فَقَالَ عُثْمَانُ:
انْطَلِقْ مَعِي فَلا يَقْتُلَنَّكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَرْعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا بعثمان آخذا بيد عبد الله ابن أَبِي سَرْحٍ وَاقِفَيْنِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ عُثْمَانُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمَّهُ كَانَتْ تَحْمِلُنِي وَتُمْشِيهِ، وَتُرْضِعُنِي وَتَفْطِمُهُ، وَكَانَتْ تَلْطُفُنِي [1] وَتَتْرُكُهُ فَهَبْهُ لِي، فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَ عُثْمَانُ كُلَّمَا أَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَجْهِهِ اسْتَقْبَلَهُ فَيُعِيدُ عَلَيْهِ هَذَا الْكَلامَ، وَإِنَّمَا أَعْرَضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِرَادَةَ أَنْ يَقُومَ رَجُلٌ فَيَضْرِبُ عُنُقَهُ لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْهُ.
فَلَمَّا رَأَىَ أَلا يَقُومَ أَحَدٌ وَعُثْمَانُ قَدْ أَكَبَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ رَأْسَهُ وَهُوَ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُبَايِعُهُ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ» ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: «مَا مَنَعَكُمْ أَنْ يَقُومَ رَجُلٌ مِنْكُمْ إِلَى هَذَا الْكَلْبِ فَيَقْتُلَهُ» - أَوْ قَالَ: الْفَاسِقِ- فَقَالَ عَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ: أَلا أومأت إليّ يا رسول الله، فو الّذي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنِّي لأَتْبَعُ طَرَفَكَ مِنْ كُلِّ ناحية رجاء أن تشير إلي فأضرب عُنُقِهِ- وَيُقَالُ: قَالَهُ أَبُو الْيُسْرِ، وَيُقَالُ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَلَعَلَّهُمْ قَالُوا جَمِيعًا- فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لا أَقْتُلُ بِالإِشَارَةِ» .
وَقَالَ قَائِلٌ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قَالَ يومئذ: «إن النبي لا تَكُونُ لَهُ خَائِنَةُ الأَعْيُنِ» فَبَايَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الإِسْلامِ، وَجَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ بَعْدَ ذَلِكَ كُلَّمَا رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفِرُّ مِنْهُ، فَقَالَ عُثْمَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَرَاهُ يَفِرُّ مِنْكَ كُلَّمَا رَآكَ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «أو لم أبايعه وأؤمنه» قال: بلى وَلَكِنَّهُ يَتَذكر عِظَمَ جُرْمِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الإِسْلامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ» فَرَجَعَ عُثْمَانُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ فَأَخْبَرَهُ فَكَانَ/ بَعْدَ ذَلِكَ يَأْتِي فَيُسَلِّمُ عَلَى 59/ أرسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ النَّاسِ.
__________
[1] في الأصل: «تطلقني» .(5/145)
وشهد عبد الله فتح مصر، واختط بِهَا، وَوَلاهُ إِيَّاهَا عُثْمَانُ، وَغَزَا إِفْرِيقِيَّةَ وَأَرْضَ النُّوبَةِ وَذَاتَ الصَّوَارِي مِنْ أَرْضِ الرُّومِ فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ وَفَدَ عَلَى عُثْمَانَ، فَلَمَّا رَجَعَ مَنَعَهُ ابْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ دُخُولِ الْفُسْطَاطِ، فَمَضَى إِلَى عَسْقَلانَ فَأَقَامَ بِهَا وَلَمْ يُبَايِعْ لِعَلِيٍّ وَلا لِمُعَاوِيَةَ. تُوُفِّيَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
303- عمار بن ياسر بن مالك بن كنانة بن قيس، يكنى أبا اليقظان [1] :
أسلم بمكة قديما فِي دار الأرقم بعد بضعة وثلاثين رجلا، وهو معدود فِي السابقين الأولين من المهاجرين عذب فِي الله بمكة وأسلم هو وأبوه وأمه سمية مولاة أبي حذيفة بن المغيرة، وكانت قريش تعذبهم فِي الرمضاء ليرجعوا عن دينهم، ومر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهم وهم يعذبون، فقَالَ: «اصبروا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة» . وكان عمار [2] يعذب حتى لا يدري ما يقول، وهو أول من بنى مسجدا فِي بيته يصلي فيه. شهد مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدرا والمشاهد كلها، وكان طويلا أدما مضطربا، أشهل العينين، بعيد ما بين المنكبين، لا يغير شيبه.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْقَزَّازُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَافِظُ، [أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ دُحَيْمٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ، أَخْبَرَنَا قَبِيصَةُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ هَانِئِ بْنِ هَانِئٍ] [3] ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ [4] :
اسْتَأْذَنَ عَمَّارٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَفَ صَوْتَهُ، فَقَالَ: «مَرْحَبًا بِالطَّيِّبِ بْنِ الْمُطَيَّبِ» . أَخْبَرَنَا الْكَرُوخِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَامِرٍ الأَزْدِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ الْعَزْرَجِيُّ، قَالا: أَخْبَرَنَا الْجَرَّاحِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْغَنَوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا التِّرْمِذِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ الْحَسَنِ [بْنِ صَالِحٍ، عَنْ أَبِي رَبِيعَةَ الأَيَادِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ] ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم:
__________
[1] طبقات ابن سعد 3/ 1/ 176.
[2] طبقات ابن سعد 3/ 1/ 189.
[3] ما بين المعقوفتين: من ت وفي الأصل: «بإسناده عن علي» .
[4] الخبر في تاريخ بغداد 1/ 151.(5/146)
«إِنَّ الْجَنَّةَ تَشْتَاقُ إِلَى ثَلاثَةِ [نَفَرٍ] [1] : عَلِيٍّ، وَعَمَّارٍ، وَسَلْمَانَ» . أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ، [أَخْبَرَنَا الْجَوْهَرِيُّ، أخبرنا ابن حيويه، أخبرنا أحمد بن معروف، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَهْمِ، حَدَّثَنَا] [2] مُحَمَّدُ بْنُ سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدّثني يعقوب بن عَبْدُ اللَّهِ الْقُمِّيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، / أنه قال وهو يسير 59/ ب إِلَى صِفِّينَ عَلَى شَطِّ الْفُرَاتِ:
اللَّهمّ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّهُ أَرْضَى لَكَ عَنِّي أَنْ أَرْمِيَ بِنَفْسِي مِنْ هَذَا الْجَبَلِ فَأَتَرَدَّى فَأَسْقُطُ فَعَلْتُ، ولو أعلم أَنَّهُ أَرْضَى لَكَ عَنِّي أَنْ أُوقِدَ نَارًا عَظِيمَةً فَأَقَعَ فِيهَا فَعَلْتُ، اللَّهمّ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّهُ أَرْضَى لَكَ عَنِّي أَنْ أُلْقِيَ نَفْسِي فِي الْمَاءِ فَأُغْرِقَ نَفْسِي فَعَلْتُ، فَإِنِّي لا أُقَاتِلُ إِلا أُرِيدُ وَجْهَكَ، وَأَنَا أَرْجُو أَلا تُخَيِّبَنِي وَأَنَا أَرِيدُ وَجْهَكَ.
قَالَ ابْنُ سَعْدٍ [3] : وَأَخْبَرَنَا [أَبُو] [4] دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ:
أَنْبَأَنِي عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ [5] ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ [بْنَ سَلَمَةَ] [6] يَقُولُ:
رَأَيْتُ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ يَوْمَ صِفِّينَ شَيْخًا آدَمَ فِي يَدِهِ الْحَرْبَةُ، وَإِنَّهَا لَتَرْعَدُ، فَنَظَرَ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَمَعَهُ الرَّايَةُ، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ قَدْ قَاتَلْتُ بِهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ وَهَذِهِ الرَّابِعَةُ، وَاللَّهِ لَوْ ضَرَبُونَا حَتَّى يُبْلِغُونَا سَعَفَاتِ هَجَرَ لَعَرَفْتُ أَنَّ مَصْلَحَتَنَا عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّهُ عَلَى الضَّلالَةِ.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي، [أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْمَعْمَرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
[2] ما بين المعقوفتين: من ت، وفي الأصل: «بإسناده إلى محمد بن سعد» .
[3] طبقات ابن سعد 3/ 1/ 83.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[5] في ت: «حدثنا شعبة، قال: حدثني أبي، قال أنبأني عمرو بن مرة» .
[6] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من ابن سعد.(5/147)
رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَمْرٍو الضَّمْرِيُّ] [1] ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ الدُّؤَلِيِّ صَاحِبِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ [2] : رَأَيْتُ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ دَعَا بِشَرَابٍ فَأُتِيَ بِقَدَحٍ مِنْ لَبَنٍ فَشَرِبَ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، الْيَوْمَ أَلْقَى الأَحِبَّةَ مُحَمَّدًا وَحِزْبَهُ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ آخِرَ شَيْءٍ تُزَوَّدَهُ مِنَ الدُّنْيَا صُحْفَةُ لَبَنٍ» . أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أَخْبَرَنَا ابْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ صَفْوَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ:
عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ مِنْ عَبْسٍ مِنَ الْيَمَنِ، حَلِيفٌ لِبَنِي مَخْزُومٍ، وَيُكَنَّى أَبَا الْيَقْظَانِ، قُتِلَ بِصِفِّينَ مع أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلاثِينَ وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ هُنَاكَ.
قَالَ ابْنُ سَعْدٍ [3] : وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ: أَنَّ عليا صلّى على عمار ولم يغسله. 60/ أقال مؤلف الكتاب: وقد قيل إن عمارا قتل وهو ابن إحدى وتسعين سنة. وقيل:
أربع وتسعين، قتله أبو عادية المزني، طعنه برمح فسقط، فلما وقع أكب عليه/ رجل آخر فاجتز رأسه، وأقبلا يختصمان فيه، كلاهما يقول: أنا قتلته، فقَالَ عمرو بن العاص: والله إن يختصمان إلا فِي النار، فسمعها منه معاوية، فلما انصرف الرجلان قَالَ معاوية لعمرو: ما رأيت مثل ما صنعت قوم بذلوا أنفسهم دوننا تقول لهما: إنكما تختصمان فِي النار، فقَالَ عمرو: هو والله ذاك، والله إنك لتعلمه، ولوددت أني مت قبل هذا بعشرين سنة.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من ت، وفي الأصل مكانه: «بإسناده عن» .
[2] الخبر في طبقات ابن سعد 3/ 1/ 184.
[3] طبقات ابن سعد 3/ 1/ 188.(5/148)
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين
فمن الحوادث فيها مقتل مُحَمَّد بن أبي بكر رضي الله عنهما [1]
قد تقدم ذكرنا السبب فِي عزل قيس بن سعد عن مصر وتولية مُحَمَّد بن أبي بكر.
قَالَ الزهري [2] : لما حدث قيس بن سعد [بمجيء] [3] مُحَمَّد بن أبي بكر، وأنه قادم عليه أميرا، تلقاه وخلا به، وقَالَ له: إنك جئت من عند امرئ لا رأي له، وليس عزلكم إياي بمانعي أن أنصح لكم، وإني أدلك على الأمر الذي كنت أكايد به معاوية وعمرا فكايدهم به، فإنك إن تكايدهم بغيره تهلك، وحدثه بما كان يصنع، واغتشه مُحَمَّد، وخالف ما أمره به، فلما استقر مُحَمَّد نهض بأهل مصر إلى قتال أهل خربتا، وهزم مُحَمَّد، ولما قدم قيس بن سعد المدينة خافه مروان والأسود بن البخترى حتى إذا خاف أن يؤخذ ويقتل ركب راحلته فلحق بعلي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
فكتب معاوية إلى مروان والأسود يتغيظ عليهما ويقول: أمددتما عليا بقيس بن سعد ومكايده، فو الله لو أمددتموه بمائة ألف مقاتل ما كان ذلك بأغيظ لي من إخراجكما قيسا إلى علي. فلما جاء قتل مُحَمَّد عرف علي أن قيسا كان يداري أمورا كثيرة، وأن من أشار إليه بعزل قيس لم ينصحه، فبعث الأشتر.
__________
[1] تاريخ الطبري 5/ 90.
[2] الخبر في تاريخ الطبري 5/ 90.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.(5/149)
وقد ذكرنا أن قوما يقولون: إنما بعث محمدا بعد الأشتر، والله أعلم.
60/ ب ولما/ انصرف الحكمان [1] بايع أهل الشام معاوية بالخلافة ولم يزدد معاوية إلا قوة، واختلف الناس بالعراق على علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فما كان لمعاوية هم إلا مصر، وكان يرجو أنه إذا أظهر عليها ظهر على حرب علي لعظم خراجها، وكان عمرو بن العاص صالح معاوية حين بايعه على قتال علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ على أن له مصر طعمة ما بقي. فلما أراد معاوية أخذ مصر استشار أصحابه، فقَالَ عمرو: أرى أن نبعث جيشا كثيفا عليهم رجل حازم صارم تأمنه وتثق به فيأتي مصر، فإنه سيأتيه من كان على مثل ذلك فتظاهره على عدوك، فقَالَ معاوية: هل عندك غير هذا؟ قَالَ: ما أعلمه، قَالَ معاوية: بلى، فكاتب من بها، فأما شيعتنا فنأمرهم بالثبات على أمرهم ونمنيهم قدومنا عليهم، وأما عدونا فندعوهم إلى صلحنا ونمنيهم شكرنا ونخوفهم حربنا، فإن صلحوا لنا وإلا كان حربهم من وراء ذلك، فقَالَ عمرو: اعمل بما ترى، فو الله ما أرى أمرك وأمرهم يؤول إلا إلى الحرب.
فكتب معاوية إلى مسلمة بن مخلد الأنصاري، وإلى معاوية بن حديج السكوني [الكندي] [2] ، أما بعد: فإن الله تعالى قد ابتعثكما لأمر أعظم به أجركما، ورفع به ذكركما، طلبكما بدم الخليفة، فابشرا برضوان الله. فقدم به رسوله إلى مصر ومُحَمَّد بن أبي بكر أميرها، فكتبا إليه: عجل بخيلك ورجلك يفتح الله عليك. فبعث عمرو بن العاص فِي ستة آلاف، فخرج فاجتمع إليه العثمانية، وكتب إلى مُحَمَّد بن أبي بكر:
تنح عني بدمك فإني لا أحب أن يصيبك مني ظفر، وكتب إليه معاوية: إني لا أعلم أحدا كان أعظم على عثمان بلاء منك، فلا تظنن أني نائم عنك. فبعث الكتابين إلى علي وكتب إليه: أما بعد، فإن ابن العاص قد نزل أراضي مصر، واجتمع إليه أهل البلد، وقد رأيت من قبلي بعض الفشل، فإن كان لك فِي أرض مصر حاجة فأمدني بالرجال والأموال.
فكتب إليه علي: اصبر لعدوك وإن كانت فئتك أقل الفئتين، فإني باعث إليك
__________
[1] تاريخ الطبري 5/ 97.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.(5/150)
الناس، وانتدب إلى القوم كنانة بن بشر، وقام علي رضي الله عنه فحث/ الناس على 61/ أمصر، فتقاعدوا، فعاد يحثهم، فخرج نحو من ألفين، فقَالَ: أف لكم، وقام مُحَمَّد خطيبا، فقَالَ: إن القوم الذين كانوا ينتهكون الحرمة قد ساروا إليكم بالجنود فمن أراد فليخرج إليهم، انتدبوا رحمكم الله مع كنانة بن بشر. فانتدب معه نحو من ألفِي رجل، وخرج مُحَمَّد فِي ألفِي رجل، وأقبل عمرو فطرد أصحابه كنانة، فبعث إلى معاوية بن حديج فأحاط أصحابه بكنانة فقاتل حتى قتل، وتفرق عن مُحَمَّد أصحابه، فخرج يمشي حتى انتهى إلى خربة، فأوى إليها، وخرج معاوية بن حديج فِي طلب مُحَمَّد حتى انتهى إلى علوج على قارعة الطريق، فسألهم: هل مر بكم أحد تستنكرونه؟ فقَالَ أحدهم: لا والله إلا أني دخلت تلك الخربة فإذا فيها رجل جالس، فقَالَ ابن حديج: هو هو ورب الكعبة، فدخلوا عليه واستخرجوه وقد كاد يموت عطشا وأقبلوا به نحو الفسطاط، فوثب أخوه عَبْد الرَّحْمَنِ بن أبي بكر- وكان فِي جند عمرو بن العاص- وقَالَ: أيقتل أخي صبرا، ابعث إلى معاوية بن حديج فانهه، فبعث إليه: إن عمرو بن العاص يأمرك أن تأتيه بمُحَمَّد بن أبي بكر، فقَالَ: أكذاك قتلتم كنانة بن بشر وأخلي أنا عن مُحَمَّد، هيهات.
فقَالَ مُحَمَّد: اسقوني من الماء، فقَالَ معاوية: لا سقاني الله إن سقيتك قطرة أبدا، إنكم منعتم عثمان أن يشرب الماء حتى قتلتموه صائما، أتدري ما أصنع بك؟ أدخلك فِي جوف حمار ثم أحرقه بالنار. فلما بلغ الخبر عائشة جزعت عليه جزعا شديدا، وقنتت فِي دبر كل صلاة تدعو على معاوية وعمرو، وقبضت عيال مُحَمَّد إليها وولده، وكان القاسم بن مُحَمَّد فِي عيالها، وكتب عمرو بن العاص إلى معاوية بقتل مُحَمَّد وكنانة. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ الْحَافِظُ، عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَنْدَهْ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَبِي قِرَاءَةً عَلَيْهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ يُونُسَ الْحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أُسَامَةُ بْنُ أَحْمَدَ التُّجِيبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَبِي زَيْدِ بْنِ أَبِي الْعمرِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يحيى ابن زَيْدٍ، عَنْ/ إِسْحَاقَ بْنِ الْفُرَاتِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، قال: 61/ ب بَعَثَ مُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجٍ بِمَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ سُلَيْمٌ إِلَى الْمَدِينَةِ بَشِيرًا بِقَتْلِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَمَعَهُ قَمِيصُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَدَخَلَ بِهِ دَارَ عُثْمَانَ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ آلُ عُثْمَانَ مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ، وَأَظْهَرُوا السُّرُورَ بِمَقْتَلِهِ، وَأَمَرَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ بِكَبْشٍ يُشْوَى،(5/151)
وَبَعَثَتْ بِذَلِكَ إِلَى عَائِشَةَ وَقَالَتْ: هَكَذَا شُوِيَ أَخُوكِ، فَلَمْ تَأْكُلْ عَائِشَةُ شِوَاءً حَتَّى لَحِقَتْ باللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
وأما مُحَمَّد بن أبي حذيفة [1] فقد زعم قوم أنه قتل بعد قتل ابن أبي بكر. وقَالَ آخرون: بل قتل [قبل] [2] ذلك فِي سنة ست وثلاثين، وقد سبق ذكر ذلك فيما قدمنا.
وفِي هذه السنة بعد مقتل مُحَمَّد بن أبي بكر وجه معاوية عَبْد اللَّهِ بن عمرو بن الحضرمي إلى البصرة، فوجه علي رضي الله عنه أعين بن ضبيعة المجاشعي لإخراج ابن الحضرمي من البصرة مددا لزياد [3] شرح القصة [4] : لما قتل مُحَمَّد بن أبي بكر خرج ابن عباس من البصرة إلى علي بالكوفة واستخلف زيادا، وقدم ابن الحضرمي من قبل معاوية، فنزل فِي بني تميم، فأرسل زيادا إلى حضين بن المنذر، ومالك بن مسمع، فقَالَ: أنتم يا معاشر بكر بن وائل من أنصار أمير المؤمنين، وقد نزل ابن الحضرمي حيث ترون، وأتاه من أتاه، فامنعوني حتى يأتيني رأي أمير المؤمنين، فقَالَ حضين: نعم، وقَالَ مالك- وكان رأيه مائلا إلى بني أمية، وكان مروان لجأ إليه يوم الجمل: هذا أمر لي فيه شركاء، أستشير وأنظر. فلما رأى زياد تثاقل مالك خاف أن تختلف ربيعة، فأرسل إلى نافع بن خالد فسأله أن يمنعه، فأشار عليه نافع بصبرة بن شيمان الحداني، فأرسل إليه زياد فقَالَ: ألا تجيرني وبيت مال المسلمين، قَالَ: بلى إن حملته إلي ونزلت داري، ففعل وحول معه المنبر، وتحول معه خمسون رجلا، فكان زياد يصلي الجمعة فِي مسجد الحداني.
وكتب زياد إلى علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إن ابن الحضرمي قد أقبل من الشام، فنزل 62/ أفي بني تميم، ونعى ابن عفان، ودعى إلى الحرب وبايعته تميم وجل/ أهل البصرة، ولم يبق معي من أمتنع به، فاستجرت لنفسي ولبيت المال بصبرة بن شيمان، فوجه علي أعين بن ضبيعة، وكتب إلى زياد: إني قد وجهت أعين ليعرض بقومه عن ابن
__________
[1] في الأصل: «وأما محمد بن أبي بكر» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
[3] تاريخ الطبري 5/ 110.
[4] الخبر في تاريخ الطبري 5/ 110.(5/152)
الحضرمي، فإن فرق جمعه فهو ما نريد، وإن ترقت إليهم الأمور فانهض إليهم وجاهدهم، وإن رأيت ممن قبلك تثاقلا، فدارهم وطاولهم، وكأنك بجنود الله قد أظلتك.
فقدم أعين فأتى زيادا فنزل عنده، ثم أتى قومه فجمع رجالا ونهض إلى ابن الحضرمي، فدعاهم فشتموه وناوشوه وانصرف عنهم، فدخل عليه قوم فقتلوه، فلما قتل أعين، أراد زياد قتالهم، فأرسل بنو تميم إلى الأزد: إنا لم نعرض لجاركم ولا لأحد من أصحابه، فماذا تريدون من جارنا، وكرهت الأزد القتال، وقالوا: إن عرضوا لجارنا منعناه، وإن كفوا عنا كففنا عن جارهم، فأمسكوا. وكتب زياد إلى علي بقتل أعين، وأخبره أنه لم يخف معه ممن تقوى به على قتالهم، فكتب إليه علي يصوب رأيه، وبعث إليه حارثة بن قدامة فِي خمسين من بني تميم، وشريك بن الأعور في خمسمائة، فقدم حارثة البصرة، فقَالَ له زياد: احذر أن يصيبك ما أصاب صاحبك فسار حارثة إلى قومه فقرأ عليهم كتاب علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فأجابه أكثرهم، فسار إلى ابن الحضرمي فحصره فِي داره ثم أحرق عليه الدار وعلى من معه، وكانوا سبعين رجلا، وقيل: أربعين، وتفرق الناس، ورجع زياد إلى دار الإمارة.
وكان من الحوادث فِي هذه السنة إظهار الخريت [1] بن راشد فِي بني ناجية الخلاف على علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ [2] .
وذلك أنه كان مع الخريت من بني ناجية ثلاثمائة، وكانوا قدموا على علي من البصرة، فأقاموا معه بالكوفة، وخرجوا إليه يوم الجمل، وشهدوا معه صفين، فلما حكم علي جاءه الخريت فقَالَ: والله يا علي لا أطيع أمرك ولا أصلي خلفك، وإني لمفارق لك. فقَالَ علي: ثكلتك أمك، إذا تعصي ربك، وتنكث عهدك، ولا تضر إلا نفسك، لم تفعل ذلك؟ قَالَ: لأنك حكمت فِي الكتاب، / وضعفت عن الحق. ثم أنه فارقه 62/ ب وخرج بأصحابه، فقَالَ زياد بن حفصة: يا أمير المؤمنين، إنا نخاف أن يفسد علينا جماعة كبيرة فأذن لي فِي اتباعهم أردهم عليك إن شاء الله، قَالَ: فاخرج فِي آثارهم
__________
[1] في الأصل: «الحريث» .
[2] تاريخ الطبري 5/ 113، وشرح نهج البلاغة لابن أبي حديد 3/ 128- 148.(5/153)
راشدا، فخرج فِي آثارهم وقد جمع الخريت جموعا فاقتتلوا وانهزم الخريت، ثم عاد وجمع واستغوى الناس وحرضهم على قتال علي، فلقيه أصحابه فقتلوه. وفِي هذه السنة.
حج بالناس قثم بن العباس بأمر علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وهو عامله على مكة، وكان على اليمن عبيد الله بن العباس، وعلى البصرة عَبْد اللَّهِ بن العباس. وأما خراسان فكان عليها خليد بن قرة [1] اليربوعي. وقيل: ابن أبزي.
وأما مصر فكانت بيد معاوية بن أبي سفيان، وعماله عليها من جهته كما ذكرنا فِي استملاكها [2] .
ذكر من توفي فِي هذه السنة من الأكابر
304- أسماء بنت عميس [3] :
أسلمت بمكة قديما، وبايعت وهاجرت إلى الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب، فولدت له هناك عَبْد اللَّهِ، ومحمدا، وعونا، ثم قتل عنها جعفر فتزوجها أبو بكر فولدت له مُحَمَّد بن أبي بَكْر، ثم توفي عنها وأوصى أن تغسله، ثم تزوجت بعده بعلي بن أبي طالب، فولدت له يَحْيَى وعونا.
305- سهل بن حنيف بن واهب بن العكيم، أبو سعد [4] :
شهد بدرا وأحدا، وثبت مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ وبايعه على الموت، وجعل ينضح عنه بالنبل، وشهد الخندف والمشاهد كلها مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشهد يوم صفين مع علي.
وتوفي بالكوفة فِي هذه السنة، فصلى علي عليه وكبر عليه خمسا، وقيل: ستا، وقَالَ: إنه بدري.
__________
[1] في الأصل: «خالد بن قرة» .
[2] «وعماله عليها من جهته كما ذكرنا فِي استملاكها» : ساقطة من ت.
[3] طبقات ابن سعد 8/ 205.
[4] طبقات ابن سعد 3/ 2/ 39.(5/154)
306- صهيب بن سنان بن مالك، أبو يَحْيَى [1] :
وأصله من النمر بن قاسط، وكان أبوه أو عمه عاملا لكسرى على الأبلة، وكانت منازلهم بأرض الموصل، فأغارت الروم عليهم فسبت صهيبا وهو غلام صغير، فنشأ بالروم، فابتاعته كلب منهم، ثم قدمت به مكة، فاشتراه عبد الله/ بن جدعان منهم، 63/ أفأعتقه، فأقام معه بمكة إلى أن هلك عَبْد اللَّهِ بن جدعان. وبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أراد الله به من الكرامة، ومن به عليه من الإسلام.
وأما أهل صهيب وولده فيقولون: بل هرب من الروم حين بلغ، فقدم مكة فحالف عَبْد اللَّهِ بن جدعان فأقام معه إلى أن هلك.
وكان صهيب رجلا أحمر شديد الحمرة، ليس بالطويل ولا بالقصير، بل هو إلى القصر أقرب، وكان كثير شعر الرأس، وكان يخضب بالحناء، ولما أسلم عذب فصبر، وشهد بدرا والمشاهد كلها مع رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقَالَ عمر رضي الله عنه لأهل الشورى ليصلي بكم صهيب، فصلى بهم المكتوبات، وقدموه فصلى على عمر رَضِيَ الله عنه.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الباقي، قال: أخبرنا الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ مَعْرُوفٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بن الفهم، قال: أخبرنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بْن عُمَر، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قال:
قال عمار بن ياسر [2] :
لقيت صهيبا بْنَ سِنَانٍ عَلَى بَابِ دَارِ الأَرْقَمِ وَرَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا، فَقُلْتُ: مَا تُرِيدُ؟
فَقَالَ: مَا تُرِيدُ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: أَرَدْتُ أَدْخُلُ عَلَى مُحَمَّدٍ فَأَسْمَعُ كَلامَهُ، قَالَ: وَأَنَا أُرِيدُ ذَلِكَ، قَالَ: فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ، فَعَرَضَ عَلَيْنَا الإِسْلَامَ فَأَسْلَمْنَا، ثُمَّ مَكَثْنَا يَوْمَنَا ذَلِكَ حَتَّى أَمْسَيْنَا، ثُمَّ خَرَجْنَا وَنَحْنُ مُسْتَخْفُونَ. فَكَانَ إِسْلامُ عَمَّارٍ وَصُهَيْبٍ بَعْدَ بِضْعٍ وَثَلاثِينَ رَجُلا.
__________
[1] طبقات ابن سعد 3/ 1/ 161.
[2] الخبر في طبقات ابن سعد 3/ 1/ 162.(5/155)
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: وَأَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، وَعَفَّانُ، وَمُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالُوا: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ [1] : أَقْبَلَ صُهَيْبٌ نَحْوَ الْمَدِينَةِ مُهَاجِرًا، وَاتَّبَعَهُ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَنَزَلَ عَنْ رَاحِلَتِهِ وَانْتَثَلَ مَا فِي كِنَانَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مَعَاشِرَ [2] قُرَيْشٍ، لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَرْمَاكُمْ رَجُلا، وَايْمُ اللَّهِ لا تَصِلُونَ إِلَيَّ حَتَّى أَرْمِيَ بِكُلِّ سَهْمٍ مَعِي فِي كِنَانَتِي، ثُمَّ أَضْرِبُكُمْ بِسَيْفِي مَا بَقِيَ فِي يَدِي مِنْهُ شَيْءٌ، فَافْعَلُوا مَا شِئْتُمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ دَلَلْتُكُمْ عَلَى مَالِي وَخَلَّيْتُمْ سبيلي،. ففعل، فلما 63/ ب قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «رَبِحَ الْبَيْعُ أَبَا يَحْيَى، رَبِحَ الْبَيْعُ» / قَالَ: وَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَمن النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ الله وَالله رَؤُفٌ بِالْعِبادِ 2: 207 [3] . توفي صهيب فِي هذه السنة، وهو ابن سبعين سنة، ودفن بالبقيع فِي المدينة.
307- صفوان بن بيضا- أخو سهيل [4] :
شهد المشاهد مع رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتوفي فِي رمضان هذه السنة، وليس له عقب.
308- مُحَمَّد بن أبي بكر:
وقد ذكرنا صفة قتله، وإن معاوية بن حديج أحرقه بالنار، وكان قتله فِي صفر من هذه السنة.
__________
[1] الخبر في طبقات ابن سعد 3/ 1/ 162.
[2] في ت، وابن سعد: «يا معشر» .
[3] سورة: البقرة، الآية: 207.
[4] طبقات ابن سعد 3/ 1/ 303.(5/156)
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين
فمن الحوادث فيها تفريق معاوية جنوده فِي أطراف علي رضي الله عنه [1] .
ومن ذلك [2] : أنه وجه النعمان بن بشير فِي ألفِي رجل إلى عين التمر، وكان بها مالك بن كعب مسلحة لعلي فِي ألف رجل، فأذن لهم علي فأتوا الكوفة، وأتاه النعمان ولم يبق معه إلا مائة رجل، فكتب مالك إلى علي يخبره بأمر النعمان ومن معه، فخطب علي بالناس وأمرهم بالخروج، فتثاقلوا، فقَالَ: يا أهل الكوفة، كلما سمعتم بجيش من جيوش الشام أظلكم، انجحر كل امرئ منكم فِي بيته انجحار الضب فِي جحره، والضبع فِي وجارها، المغرور والله من غررتموه، ولمن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب: لا أحرار عند النداء، ولا إخوان ثقة عند النجاء، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156، ماذا منيت به منكم. وواقع مالك النعمان بن بشير فِي تلك العصابة القليلة، فوجه إليه مخنف ابنه عبد الرحمن فِي خمسين رجلا، فانتهوا إلى مالك وأصحابه، وقد كسروا جفون سيوفهم واستقتلوا، فلما رآهم أهل الشام ظنوا أن لهم مددا وانهزموا، وتبعهم مالك، فقتل منهم ثلاثة نفر، [ومضوا على وجوههم] [3] .
ومن ذلك [4] : أنه وجه معاوية فِي هذه السنة سفيان بن عوف في ستة آلاف رجل،
__________
[1] تاريخ الطبري 5/ 133.
[2] تاريخ الطبري 5/ 133، 134.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.
[4] تاريخ الطبري 5/ 134.(5/157)
وأمره أن يأتي هيت ويمضي حتى يأتي الأنبار والمدائن فيوقع بأهلها. فسار حتى أتى 64/ أهيت فلم يجد بها أحدا، [ثم أتى الأنبار] [1] / وبها مسلحة لعليّ تكون خمسمائة رجل، وقد تفرقوا فلم يبق منهم إلا مائة رجل، فقاتلهم، فصبر لهم أصحاب علي مع قلتهم ثم حملت عليهم الخيل والرجالة فقتلوا صاحب المسلحة، وهو أشرس بن حسان البلوي فِي ثلاثين رجلا، وحملوا ما كان فِي الأنبار من الأموال ورجعوا إلى معاوية وبلغ الخبر علي، فخرج حتى أتى النخيلة، فقَالَ له الناس: نحن نكفيك، قَالَ: ما تكفونني [ولا أنفسكم] [2] ، وسرح سعيد بن قيس [3] فِي أثر القوم، فخرج [فِي طلبهم] [4] حتى جاز هيت، فلم يلحقهم [فرجع] [5] .
ومن ذلك [6] : أنه وجه معاوية فِي هذه السنة عَبْد الله بن مسعدة الفزاري في ألف وسبعمائة رجل إلى تيماء، وأمره أن يصدق [7] من مر به من أهل البوادي، وأن يقتل من امتنع من عطائه صدقة ماله، ثم يأتي المدينة ومكة والحجاز يفعل ذلك. واجتمع إليه خلق كثير [8] من قومه، فلما بلغ ذلك عليا رضي الله عنه وجه المسيب بن نجبة الفزاري فِي ألفِي رجل [9] ، فسار حتى لحق ابن مسعدة بتيماء، فاقتتلوا حتى زالت الشمس قتالا شديدا، فدخل ابن مسعدة وعامة من معه إلى الحصن وهرب الباقون نحو الشام، وانتهبت الأعراب إبل الصدقة التي كانت مع ابن مسعدة، وحصره [ومن كان معه] [10] المسيب ثلاثة أيام، ثم ألقى الحطب على الباب وألهب فيه النار، فلما أحسوا بالهلاك أشرفوا على المسيب فقالوا: يا مسيب، قومك، فرق لهم، فأمر بالنار فأطفئت،
__________
[1] ما بين المعقوفتين، ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.
[3] في الأصل: «قيس بن سعيد بن قيس» .
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.
[6] تاريخ الطبري 5/ 134، 135.
[7] المصدق: هو الّذي يجمع الصدقات.
[8] في الطبري: «بشر كثير» .
[9] في ابن الأثير والنويري: «ألف رجل» ، وهي ساقطة من الطبري.
[10] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.(5/158)
وخرج ابن مسعدة ليلا بأصحابه فلحقوا بالشام.
ومن ذلك [1] : أنه وجه معاوية فِي هذه السنة الضحاك بن قيس وأمره بالمرور بأسفل واقصة، وأن يغير على كل من مر به ممن فِي طاعة علي رضي الله عنه من الأعراب، ووجه معه ثلاثة آلاف رجل، فسار وأغار على مسالح علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وأتى على عمرو بن عميس بن مسعود [2] ، وكان فِي خيل علي وهو يريد الحج، فأغار على [من كان] [3] معه، وحبسه عن المسير، فلما بلغ ذلك عليا سرح حجر بن عدي الكندي فِي أربعة آلاف، فلحق الضحاك بتدمر، فقتل منهم تسعة عشر رجلا، / وقتل 64/ ب من أصحابه رجلان، وحال بينهم الليل، فهرب الضحاك وأصحابه، ورجع حجر ومن معه.
وفِي هذه السنة وجه ابن عباس زيادا عن أمر علي رضي الله عنه إلى فارس [4]
وذلك أنه لما قتل ابن الحضرمي اختلف الناس على علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وطمع أهل فارس وأهل كرمان، فغلب أهل كل ناحية على ما يليهم وأخرجوا عمالهم، فاستشار علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رجل يوليه فارس حين امتنعوا من [أداء] [5] الخراج، فقَالَ له جارية بن قدامة: ألا أدلك يا أمير المؤمنين على رجل صليب الرأي، عالم بالسياسة، كاف لما ولي؟ قَالَ: من هو؟ قَالَ: زياد، قَالَ: هو لها، فولاه فارس وكرمان، ووجهه فِي أربعة آلاف، فدوخ تلك البلاد حتى استقاموا وأدوا الخراج. فقَالَ أهل فارس: ما رأينا سيرة أشبه بسيرة كسرى أنوشروان من سيرة هذا العربي فِي اللين والمداراة والعلم بما يأتي. وذلك أنه لما قدم فارس بعث إلى رؤسائها فوعد من نصره ومناهم، وخوف قوما وتوعدهم، وضرب بعضهم ببعض، ودل بعضهم على عورة بعض، فهربت طائفة وأقامت طائفة، وقتل بعضهم بعضا، وصفت له فارس، فلم يلق
__________
[1] تاريخ الطبري 5/ 135.
[2] في الأصل: «عمرو بن عميرة بن مسعود» .
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.
[4] تاريخ الطبري 5/ 137.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.(5/159)
فيها حربا، وفعل مثل ذلك بكرمان، ثم رجع إلى فارس، فسار فِي كورها ومناهم فسكن الناس إلى ذلك، واستقامت له البلاد، وأتى اصطخر فنزلها وحصن قلعتها، وحمل إليها الأموال فكانت تسمى قلعة زياد، ثم تحصن فيها بعد ذلك منصور اليشكري، فهي اليوم تسمى قلعة منصور.
وفِي هذه السنة سار معاوية إلى دجلة ونظر إليها ثم رجع.
واختلف العلماء فيمن حج بالناس فِي هذه السنة، فقيل: عبيد الله بن عباس، وقيل: عَبْد اللَّهِ بن عباس [1] .
قَالَ الواقدي [2] : بعث علي رضي الله عنه على الموسم سنة تسع وثلاثين عَبْد اللَّهِ بن عباس، وبعث معاوية يزيد بن شجرة الرهاوي ليقيم الحج للناس، فلما 65/ أاجتمعا بمكة تنازعا ولم يسلم أحد منهما إلى صاحبه، فاصطلحا/ على شيبة بن عثمان ابن أبي طَلْحَة.
وكان عمال علي رضي الله عنه فِي الأمصار فِي هذه السنة الذين ذكرنا أنهم كانوا عماله فِي سنة ثمان وثلاثين، غير أن ابن عباس كان شخص فِي هذه السنة عن عمله بالبصرة، واستخلف زياد بن سمية على الخراج، وأبا الأسود الدؤلي على القضاء فِي البصرة.
ذكر من توفي في هذه السنة الأكابر
309- سعد القرظ، مولى عمار بن ياسر [3] :
كان يؤذن على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر رضي الله عنه بقباء، فلما ولي عمر
__________
[1] تاريخ الطبري 5/ 136.
[2] الخبر في تاريخ الطبري 5/ 136.
[3] التاريخ الكبير للبخاريّ 4/ 1917، والتاريخ الصغير 1/ 44، 67، والجرح والتعديل 4/ 384.(5/160)
رضي الله عنه أنزله المدينة وكان يؤذن في مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتوارث أولاده الأذان بعده، وكان يحمل العنزة بين يدي أبي بكر وعمر وعثمان وعلي فِي العيد.
310- عقبة بن عمرو بن ثعلبة، أبو مسعود البدري [1] :
قد ذكر جماعة من العلماء أنه شهد بدرا، والصحيح أنه لم يشهدها، وإنما نزل ماء بدر فقيل البدري.
أَخْبَرَنَا الْقَزَّازُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الصَّيْرَفِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ بْنَ مُحَمَّدٍ الدُّورِيَّ يَقُولُ:
قِيلَ لِيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ: أَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ شَهِدَ بَدْرًا؟ فَقَالَ: مَا شَهِدَ بَدْرًا وَشَهِدَ الْعَقَبَةَ.
أنبأنا الْقَزَّازُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الخطيب، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلي بن مُحَمَّد السمسار، قَالَ:
أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّهِ بن عثمان الصفار، قَالَ: حَدَّثَنَا عبد الباقي بن نافع:
أن أبا مسعود البدري توفي سنة تسع وثلاثين.
__________
[1] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 9.(5/161)
ثم دخلت سنة أربعين
فمن الحوادث فيها توجيه معاوية بسر بن أبي أرطأة فِي ثلاثة آلاف من المقاتلة إلى الحجاز [1]
فساروا من الشام إلى المدينة وعامل علي رضي الله عنه على المدينة يومئذ أبو 65/ ب أيوب الأنصاري، ففر منهم أبو أيوب فأتى عليا بالكوفة، / ودخل بسر المدينة، فصعد منبرها، ولم يقاتله بها أحد، ودعاهم إلى البيعة فبايعوه. وأرسل إلى بني سلمة فقَالَ:
والله ما لكم عندي من أمان حتى تأتوني بجابر بن عَبْد اللَّهِ، فانطلق جابر إلى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ، فقَالَ لها: إني خشيت أن أقبل وهذه بيعة ضلالة، قالت: أرى أن تبايع فإني قد أمرت ابني عمرو بن أبي سلمة أن يبايع، فأتاه جابر فبايعه. وهدم بسر دورا بالمدينة، ثم مضى حتى أتى مكة، ثم مضى إلى اليمن وعليها عبيد الله بن العباس عامل علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ففر إلى الكوفة حتى أتى عليا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، واستخلف مكانه عَبْد اللَّهِ بن عبد المدان الحارثي، فأتاه بسر فقتله وقتل ابنه وقتل جماعة من شيعة علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وبلغ خبره إلى علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فوجه حارثة بن قدامة فِي ألفين، ووهب بن مسعود فِي ألفين، فسار حارثة حتى أتى نجران، فأخذ ناسا من شيعة عثمان فقتلهم وهرب بسر وأصحابه فاتبعهم حتى بلغ مكة، ثم سار إلى المدينة وأبو هريرة يصلي بالناس، فهرب منه.
__________
[1] تاريخ الطبري 5/ 139.(5/162)
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، ومحمد بن نَاصِرٍ، قَالا: أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ [عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ] [1] محمد النصيبي، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيل بْن سَعِيد بْن سويد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر بْن الأَنْبَارِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ النَّضْرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنِ الأَعْمَش، عَنْ عَمْرو بْن مُرَّةَ، عَنْ عَبْد اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ الأَرْقَمِ- أَوِ ابْنِ الأَقْمَرِ [2]- قَالَ: خَطَبَ بِنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ جُمُعَةٍ فَقَالَ: نُبِّئْتُ أَنَّ بُسْرًا قَدْ طَلَعَ الْيَمَنَ، وَإِنِّي وَاللَّهِ أَحْسِبُ أَنْ سَيَظْهَرُ هَؤُلاءِ الْقَوْمُ عَلَيْكُمْ وَمَا يَظْهَرُونَ عَلَيْكُمْ إِلا بِعِصْيَانِكُمْ لإِمَامِكُمْ وَطَاعَتِهِمْ، وَخِيَانَتِكُمْ وَأَمَانَتِهِمْ، وَإِفْسَادِكُمْ فِي أَرْضِكُمْ وَإِصْلاحِهِمْ، قَدْ بَعَثْتُ فُلانًا فَخَانَ وَغَدَرَ، وَبَعَثْتُ فُلانًا فَخَانَ وَغَدَرَ، وَحَمَلَ الْمَالَ إِلَى مُعَاوِيَةَ حتى لو ائتمنت أحدكم/ 66/ أعلى قدح لأخذ علاقته، اللَّهمّ قَدْ سَئِمْتُهُمْ وَسَئِمُونِي، وَكَرَهِتْهُمْ وَكَرِهُونِي، اللَّهمّ فَأَرِحْنِي مِنْهُمْ وَأَرِحْهُمْ مِنِّي، فَمَا صَلَّى الْجُمُعَةَ الأُخْرَى حَتَّى قُتِلَ.
وفِي هذه السنة جرت بين علي رضي الله عنه ومعاوية مهادنة [3]
بعد مكاتبات كثيرة على وضع الحرب بينهما، ويكون لعلي العراق، ولمعاوية الشام، ولا يدخل أحدهما على صاحبه فِي حملة بجيش ولا غارة.
قَالَ ابن إسحاق [4] : لما لم يعط أحد الفريقين صاحبه الطاعة، كتب معاوية إلى علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أما إذا شئت فلك العراق ولي الشام، وكف هذا السيف عن هذه الأمة ولا ترق دماء المسلمين. ففعل ذلك علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وتراضوا على ذلك.
وفِي هذه السنة خرج عَبْد اللَّهِ بن العباس من البصرة ولحق بمكة [5]
وذلك أنه جرى بينه وبين أبي الأسود كلام، فكتب أبو الأسود إلى علي رَضِيَ اللَّهُ
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] «أو ابن الأقمر» : ساقط من ت.
[3] تاريخ الطبري 5/ 140.
[4] الخبر في تاريخ الطبري 5/ 140.
[5] تاريخ الطبري 5/ 141.(5/163)
عَنْهُ: إن ابن عمك قد أكل ما تحت يده بغير علمك، فلم يسعني كتمانك ذلك، فكتب إلى ابن عباس فِي ذلك، فكتب ابن عباس: إن الذي بلغك باطل، فكتب إليه:
فأعلمني ما أخذت؟ ومن أين أخذت؟ وفيم وضعت؟. فكتب ابن عباس: ابعث إلى عملك من أحببت، فإني ظاعن [عنه] [1] . ورحل بمال.
قَالَ أبو عبيدة [2] : كانت أرزاقا قد اجتمعت.
وقَالَ أبو عبيدة فِي رواية أخرى [3] : إن ابن عباس لم يبرح من البصرة حتى قتل علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فشخص إلى الحسن فشهد الصلح بينه وبين معاوية، ثم رجع إلى البصرة وثقله بها فحمله وحمل مالا من بيت المال قليلا، وقَالَ: هي أرزاقي.
وقد أنكر المدائني هذا وقَالَ: إن عليا قتل وابن عباس بمكة، وإن الذي شهد الصلح بين الحسن ومعاوية عبيد الله بن العباس.
وفِي هذه السنة قتل علي رضي الله عنه [4] .
وكان عامله فِي هذه السنة على مكة والطائف قثم بن العباس، وعلى المدينة أبو 66/ ب أيوب الأنصاري، وقيل سهل/ بن حنيف حتى كان من أمر بسر بن أرطأة ما تقدم ذكره.
وكان عامله على البصرة عَبْد الله بن العباس على خلاف قد سبق ذكره.
فلما قتل علي رضي الله عنه بويع للحسن بن علي عليهما سلام الله.
ذكر خلافة الحسن بن علي رضي الله عنهما
وكان يكنى أبا مُحَمَّد، وكان يشبه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولد فِي رمضان سنة ثلاث من الهجرة، وَآَذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أذنه، وعق عنه بكبش وسماه حسنا، وكان علي رضي الله عنه قد سماه حربا. وقَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ ابني هذا سيد» وحج خمس عشرة
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.
[2] الخبر في تاريخ الطبري 5/ 142.
[3] في الأصل: «وفي رواية أبي عبيدة» . والرواية في الطبري 5/ 143.
[4] تاريخ الطبري 5/ 143.(5/164)
حجة ماشيا وخرج للَّه من ماله مرتين، وقاسم الله ماله ثلاث مرات. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال:
أخبرنا علي بن الْقَاسِمِ الشَّاهِدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَادَرَائِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ [1] ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ [2] : رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ يَحْمِلُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ عَلَى عَاتِقِهِ وَهُوَ يَقُولُ: بِأَبِي شَبِيهٌ بِالنَّبِيِّ، لَيْسَ شَبِيهَا بِعَلِيٍّ، وَعَلِيٌّ مَعَهُ يَتَبَسَّمُ. أَخْبَرَنَا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، [أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَرَ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الْكُوفِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الرَّاشِدِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ ثَابِتٍ الْعَطَّارُ، حَدَّثَنَا عبد الله بن ميسرة، وأبو مريم الأنصاري] [3] ، عَنْ عَدِيَّ بْنَ ثَابِتٍ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ [4] : رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَامِلا الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ يَقُولُ: «اللَّهمّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ» . أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الأَنْمَاطِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَاصِمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بشران، قال: حدثنا عثمان بن أحمد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْبَرَاءِ قَالَ:
أَرْخَى الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سِتْرَهُ عَلَى مِائَتَيْ حُرَّةٍ.
ذكر مبايعة الحسن رضي الله عنه [5]
أول من بايعه قيس بن سعد، قَالَ له: ابسط يدك أبايعك على كتاب الله وسنة/ 67/ أ
__________
[1] في الأصل: «عن أبي حسين» .
[2] الخبر في تاريخ بغداد 1/ 139.
[3] ما بين المعقوفتين: من ت:، وتاريخ بغداد. وفي الأصل: «بإسناده عن عدي» .
[4] الخبر في تاريخ بغداد 1/ 139.
[5] تاريخ الطبري 5/ 158.(5/165)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقتال المخالفين، فقَالَ له الحسن: على كتاب الله وسنة رسول الله [1] ، فإن ذلك يأتي من وراء كل شرط [2] ، فبايعه وسكت. قَالَ الزهري [3] : كان تحت يد قيس بن سعد فِي زمان علي أربعون ألفا، فلما قتل واستخلف الحسن، كان الحسن لا يريد القتال وإنما أراد أن يأخذ لنفسه ما استطاع من معاوية ثم يدخل في الجماعة، وعلم أن قيسا لا يوافقه على رأيه، فنزعه وأمر عبيد الله بن عباس، فلما علم عبيد الله بالذي يريد الحسن كتب إلى معاوية يسأله الأمان ويشترط لنفسه على الأموال التي أصاب، فشرط له معاوية ذلك.
ذكر خروج الحسن لحرب معاوية [4]
قَالَ إسماعيل بن راشد: لما بايع الناس الحسن خرج بالناس حتى نزل المدائن، وبعث قيس بن سعد بن عبادة على مقدمته فِي اثني عشر ألفا، فأقبل معاوية فِي أهل الشام حتى نزل مسكن، فبينا الحسن فِي المدائن إذ نادى منادي العسكر: ألا إن قيس بن سعد قد قتل، فانفروا، فنفروا [ونهبوا] سرادق الحسن حتى نازعوه بساطا كان تحته، وخرج الحسن حتى نزل المقصورة البيضاء بالمدائن، وكان عم المختار بن أبي عبيد- واسمه سعد بن مسعود- عاملا على المدائن، فقَالَ له المختار وهو غلام شاب:
هل لك فِي الغنى والشرف؟ قَالَ: وما ذاك؟ قَالَ: توثق الحسن وتستأمن به إلى معاوية، فقَالَ له سعد: عليك لعنة الله. فلما رأى الحسن تفرق الناس عنه بعث إلى معاوية يطلب الصلح. ثم قام الحسن فِي أهل العراق فقَالَ: يا أهل العراق إن شحي بنفسي عنكم ثلاث: قتلكم أبي، وطعنكم إياي، وانتهابكم متاعي. قَالَ هلال بن خباب: لما قتل علي رضي الله عنه توجه الحسن والحسين رضي 67/ ب الله عنهما إلى المدائن، فلحقهما الناس بساباط، فحمل على/ الحسن رجل فطعنه في
__________
[1] في الطبري: «سنة نبيه» .
[2] في ابن الأثير: «فإنّهما يأتيان على كل شرط» .
[3] الخبر في تاريخ الطبري 5/ 158.
[4] تاريخ الطبري 5/ 159.(5/166)
خاصرته، فسبقهم حتى دخل قصر المدائن، فأولم فيه نحوا من أربعين ليلة، ثم وجه إلى معاوية فصالحه.
وحج بالناس فِي هذه السنة المغيرة بن شعبة، وأظهر أن معاوية أمره بذلك.
وفِي هذه السنة بويع لمعاوية بالخلافة بإيلياء [1]
قَالَ سعيد بن عبد العزيز: كان علي رضي الله عنه يدعى بالعراق أمير المؤمنين، وكان معاوية يدعى بالشام الأمير، فلما قتل علي رضي الله عنه دعي معاوية بأمير المؤمنين.
ذكر من توفي فِي هذه السنة من الأكابر
311- إبراهيم القبطي، مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يكنى أبا رافع [2] :
شهد فتح مصر واختط بها، وروى عنه من أهلها علي بن رباح، وصار أبو رافع بعد ذلك إلى علي بن أبي طالب، فولاه بيت مال الكوفة.
وتوفي بالكوفة فِي هذه السنة، رضي الله عنه.
312- الأشعث بن قيس بن معديكرب بن معاوية بن جبلة بن عدي بن ربيعة، أبو مُحَمَّد [3] :
قدم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وفد كندة، ثم رجع إلى اليمن، فلما قبض رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارتد فأخذ وحمل إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه مقيدا، فأسلم ومن عليه وزوجه أخته.
__________
[1] تاريخ الطبري 5/ 161.
[2] طبقات ابن سعد 4/ 1/ 5.
[3] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 13.(5/167)
وروى عن رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ، وشهد مع سعد قتال الفرس بالعراق، وكان على راية كندة بصفين مع علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وحضر قتال الخوارج بالنهروان، وورد المدائن ثم عاد إلى الكوفة فأقام بها حتى مات فِي الوقت الذي صالح فيه الحسن معاوية، وتوفي ابن ثلاث وستين سنة.
313- بشير بن عبد المنذر، أو لبابة [1] :
رده رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الروحاء حين خرج إلى بدر، واستعمله على المدينة وضرب له بسهمه وأجره، فكان كمن شهدها، وشهد أحدا، واستخلفه على المدينة 68/ أحين خرج إلى غزاة السويق، / وكانت معه راية بني عمرو بن عوف فِي غزاة الفتح، وشهد مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جميع المشاهد، ولما استشاروه ببني قريظة أشار إليهم أنه الذبح، ثم ندم فارتبط إلى أسطوانة حتى تاب الله عليه.
314- تميم بن أوس بن خارجة بن سويد الداري، ويكنى أبا رقية [2] :
وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جماعة الداريين عند منصرفه من تبوك، فأقاموا حتى توفي رسول الله صلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الجوهري، قَالَ: أخبرنا ابن حيوية، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن معروف، قَالَ: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: أخبرنا محمد بن سعد، قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْعَطَّافُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ:
كُنْتُ بِالشَّامِ حِينَ بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَرَجْتُ إِلَى بَعْضِ حَاجَتِي، فَأَدْرَكَنِي اللَّيْلُ، فَقُلْتُ: أَنَا في جوار عَظِيمِ هَذَا الْوَادِي اللَّيْلَةَ. قَالَ: فَلَمَّا أَخَذْتُ مَضْجَعِي إِذْ مُنَادٍ يُنَادِي لا أَرَاهُ: عُذْ باللَّه فَإِنَّ الْجِنَّ لا تُجِيرُ أَحَدًا عَلَى اللَّهِ، فَقُلْتُ: مَا تَقُولُ؟ قَالَ:
قَدْ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ الأَمِينُ وَصَلَّيْنَا خَلْفَهُ بِالْحُجُونِ وَأَسْلَمْنَا وَاتَّبَعْنَاهُ وَوُهِنَ كَيْدُ الْجِنِّ وَرُمِيَتْ بِالشُّهُبِ، وَانْطَلِقْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَأَسْلِمْ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ ذَهَبْتُ إِلَى دير أيوب فسألت
__________
[1] طبقات ابن سعد 3/ 2/ 29.
[2] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 129.(5/168)
رَاهِبًا بِهِ وَأَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: قَدْ صَدَقُوكَ، نَجِدُهُ قَدْ خَرَجَ مِنَ الْحَرَمِ وَهُوَ خَيْرُ الأَنْبِيَاءِ فَلا تُسْبَقْ إِلَيْهِ، قَالَ: فَتَكَلَّفْتُ الشُّخُوصَ حَتَّى جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَسْلَمْتُ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا خَالِدٌ الحداء، عَنْ أَبِي قِلابَةَ، قَالَ:
كَانَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ يَخْتُمُ الْقُرْآنَ فِي سَبْعِ لَيَالٍ.
قَالَ علماء السير: استأذن تميم عُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّ يقص على الناس، فأذن له، فلما قتل عثمان رضي الله عنه تحول إلى الشام.
315- الحارث بن خزمة بن/ عدي بن أبي بن غنم، أبو بشير [1] :
68/ ب شهد بدرا والمشاهد كلها مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتوفي في هذه السنة، وهو ابن سبع وستين سنة.
316- خارجة بن حذافة بن غانم [2] :
شهد الفتح بمصر، واختط بها، وكان أمير المدد الذين أمد بهم عمر بن الخطاب. وكان على شرطة مصر فِي إمرة عمرو بن العاص لمعاوية، قتله خارجي بمصر فِي هذه السنة وهو يظن أنه عمرو بن العاص.
317- خوات بن جبير، أبو عَبْد اللَّهِ، وقيل أبو صالح الأنصاري المديني [3] :
وهو صاحب ذات النحيين فِي الجاهلية التي ضرب بها المثل، فقيل: «أشغل من ذات النحيين» .
أسلم خوات وخرج مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [إلى بدر] [4] ، فأصابه بالروحاء حجر، فكسر، فرده النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة، وضرب له بأجره وبسهمه فكان كمن شهدها.
__________
[1] طبقات ابن سعد 3/ 2/ 21.
[2] طبقات ابن سعد 4/ 1/ 138.
[3] طبقات ابن سعد 3/ 2/ 44.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، وأوردناه من ت.(5/169)
وذكر البخاري فِي تاريخه [1] : عن ابن عيينة أنه شهد بدرا.
وقد شهد أحدا والمشاهد بعدها مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فأما قصة ذات النحيين:
فَأَنْبَأَنَا أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ الْحَافِظُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد بن عبد الله الْحَبَّالِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الإِشْبِيلِيُّ، وَأَبُو الْحَسَنِ الْحُصَيْبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي، وَأَبُو عَلِيٍّ مُحَسِّنُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْكِرَامِ، قَالُوا: أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ السَّمَرْقَنْدِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ الْمِنْقَرِيُّ الْبَصْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَفِيفُ بْنُ سَالِمٍ الْمَوْصِلِيُّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ وَاقِدٍ، قَالَ: قَالَ خَوَّاتُ بْنُ جُبَيْرٍ: كُنْتُ صَاحِبَ ذَاتِ النِّحْيَيْنِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ- وَالنِّحْيُ الزِّقُّ الصَّغِيرُ- وَإِنِّي أتيت سوق عكاظ فإذا أنا بِجَارِيَةٍ مَعَهَا نِحْيَانِ مِنْ سَمْنٍ كَأَنَّهَا فَلْقَةُ قَمَرٍ، فَقُلْتُ لَهَا: مَنْ أَنْتِ؟ قَالَتْ:
أَنَا سلمى بنت يعار الْخَثْعَمِيَّةِ، فَقُلْتُ: لَعَلَّ سَمْنَكَ هَذَا مَشُوبًا؟ فَقَالَتْ: سبحان الله، 69/ أأو تشيب الْحُرَّةُ؟ فَقُلْتُ لَهَا: انْزِلِي إِلَى/ بَطْنِ الْوَادِي لأَذُوقَ سَمْنَكِ، فَنَزَلَتْ فَأَخَذْتُ إِحْدَى النِّحْيَيْنِ فَذُقْتُهُ، ثُمَّ قُلْتُ لَهَا: مَا هَذَا بِمَشُوبٍ، ثُمَّ دَفَعْتُهُ إِلَيْهَا فِي يَدِهَا مَفْتُوحًا، ثُمَّ أَخَذْتُ الآخَرَ فَذُقْتُهُ ثُمَّ دَفَعْتُهُ إِلَيْهَا فِي يَدِهَا الْيُسْرَى، ثُمَّ شَدَدْتُ عَلَيْهَا فَقَضَيْتُ مِنْهَا حَاجَتِي، وَكَرِهَتْ أَنْ تُرْسِلَهُ، وَكَانَ قُوتَ أَهْلِهَا، فَذَهَبَتْ مَثَلا: «أَشْغَلُ مِنْ ذَاتِ النِّحْيَيْنِ» ثُمَّ أَسْلَمْتُ وَهَاجَرْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَيْنَمَا أَنَا فِي بَعْضِ طَرِيقِ الْمَدِينَةِ إِذَا أَنَا بِبَغِيٍّ مِنْ بَغَايَا الْجَاهِلِيَّةِ قَدْ كَانَتْ لي خلا فحجبني إسلامي عنها، ودعتني نفسي إليها، فَلَمْ أَزَلْ أَلْتَفِتُ إِلَيْهَا حَتَّى تَلَقَّانِي جِدَارُ بَنِي جَذْرَةَ، فَسَالَتِ الدِّمَاءُ وَهُشِّمَ وَجْهِي، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ، فَقَالَ: «مَهِيمٌ» فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: «فَلا تَعُدْ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَجَّلَ لَهُ عُقُوبَتَهُ فِي الدُّنْيَا» .
ثُمَّ مَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ لَيَالٍ وَأَنَا جَالِسٌ مَعَ نِسْوَانٍ مِنْ نِسْوَانِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ تُنَاشِدْنَنِي وَتُضَاحِكْنَنِي وَتُمَازِحْنَنِي، قَالَ: فَعَلِمْتُ أَنَّهُ قَدْ رَآنِي، قَالَ: فَمَضَى ولم يقل
__________
[1] التاريخ الكبير 3/ ترجمة 736.(5/170)
شَيْئًا، فَلَمَّا أَنْ كَانَ مِنَ الْغَدِ غَدَوْتُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: «يَا خَوَّاتُ أَمَا آنَ لِذَلِكَ الْبَعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ شُرُودِهِ» قَالَ: قُلْتُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا شَرَدَ مُنْذُ أَسْلَمْتُ، قَالَ: «صَدَقْتَ وَلَكِنْ لا تَعُدْ إِلَى ذَلِكَ الْمَجْلِسِ فَإِنَّهُ مَجْلِسُ الشَّيْطَانِ» . [قَالَ مؤلف الكتاب رحمه الله] [1] : قد فسر هذا الحديث أبو عبيدة الهروي وقَالَ:
عرض لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقصته مع ذات النحيين. قَالَ: وأراد بقوله: «شروده» أنه لما فعل ذلك شرد فِي الأرض خوفا، وليس هذا بشيء، فإنه ما كان ليعيره بشيء كان فِي الجاهلية، وإنما لامه على مجالسته النسوان بعد الإسلام. وقد روى ذلك لنا فِي حديث أبين من هذا.
أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْن أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْنِ النَّقُّورِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الأَسَدِيُّ، قَالَ: / حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ 69/ ب يَحْيَى بْنِ الْحَارِثِ الْبَصْرِيُّ، قالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ يُحَدِّثُ أَنَّ خَوَّاتَ بْنَ جُبَيْرٍ، قَالَ: [2] نَزَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ الظَّهْرَانِ [3] ، فَخَرَجْتُ مِنْ خِبَائِي، فَإِذَا [أَنَا] [4] بِنِسْوَةٍ يَتَحَدَّثْنِ فَأَعْجَبْنَنِي فَرَجَعْتُ، فَاسْتَخْرَجْتُ حُلَّةً لِي مِنْ عَيْبَتِي فَلَبِسْتُهَا، ثُمَّ جَلَسْتُ إِلَيْهِنَّ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قُبَّتِهِ، فَقَالَ لِي: «يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا يُجْلِسُكَ إِلَيْهِنَّ» ؟ قَالَ: فَهِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جَمَلٌ لِي شَرُودٌ أَبْتَغِي لَهُ قَيْدًا قَالَ: فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَبِعْتُهُ، فَأَلْقَى إِلَيَّ رِدَاءَهُ وَدَخَلَ الأَرَاكَ [5] فَقَضَى حَاجَتَهُ وَتَوَضَّأَ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: «أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، مَا فَعَلَ شِرَادُ جَمَلِكَ؟» قَالَ: فَتَعَجَّلْتُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَاجْتَنَبْتُ الْمَسْجِدَ وَمُجَالَسَةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما طَالَ ذَلِكَ عَلَيَّ تَحَيَّنْتُ سَاعَةَ خَلْوَةٍ لِلْمَسْجِدِ فَجَعَلْتُ أُصَلِّي، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَعْضِ حُجَرِهِ فَجَاءَ فصلى ركعتين خفيفتين ثم جلس،
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] الخبر في المعجم الكبير للطبراني 4146، وتهذيب الكمال 8/ 348.
[3] في تهذيب الكمال: «من الظهران» .
[4] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من المعجم الكبير، والتهذيب.
[5] الأراك: شجر معروف.(5/171)
وَطَوَّلْتُ رَجَاءَ أَنْ يَذْهَبَ وَيَدَعَنِي، فَقَالَ: «طَوِّلْ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا شِئْتَ، فَلَسْتُ بِنَازِحٍ حَتَّى تَنْصَرِفَ» فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لأَعْتَذِرَنَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلأُبَرِئَنَّ صَدْرَهُ. قَالَ:
فَانْصَرَفْتُ، فَقُلْتُ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: «أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا فَعَلَ شِرَادُ الْجَمَلِ؟» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا شَرَدَ ذَلِكَ الْجَمَلُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ، فَقَالَ: «رَحِمَكَ اللَّهُ» مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا، ثُمَّ أَمْسَكَ عَنِّي فَلَمْ يَعُدْ. توفي خوات بن جبير بالمدينة فِي هَذِهِ السنة وَهُوَ ابْن أربع وسبعين سنة، وكان ربعة من الرجال.
318- علي بن أبي طالب رضي الله عنه [1] :
كان السبب فِي قتله [2] أن عَبْد الرَّحْمَنِ بن ملجم، والبرك بن عَبْد اللَّهِ، وعمرو بن بكر التميمي اجتمعوا فتذاكروا أمر الناس وعابوا عمل ولاتهم، ثم ذكروا أمر النهر 70/ أفترحموا عليهم، وقالوا: والله ما نصنع بالبقاء/ بعدهم شيئا، كانوا لا يخافون فِي الله لومة لائم، فلو شرينا أنفسنا فأتينا أئمة الضلال فالتمسنا قتلهم فأرحنا منهم البلاد، وأخذنا بثأر إخواننا. فقَالَ ابن ملجم: أما أنا فأكفيكم علي بن أبي طالب، وكان من أهل مصر. وقَالَ البرك بن عَبْد اللَّهِ: أنا أكفيكم معاوية، وقَالَ عمرو: أنا أكفيكم عمرو بن العاص. فتعاهدوا وتواثقوا لا ينكص رجل منهم عن صاحبه حتى يقتله أو يموت دونه، فأخذوا أسيافهم فسموها واتعدوا لسبع عشرة من رمضان أن يثب كل واحد منهم على صاحبه. وأقبل كل منهم إلى المصر الذي هو فيه يطلبه.
فأما ابن ملجم وكان عداده فِي كنده، فخرج فلقي أصحابه بالكوفة، وكاتمهم أمره كراهية أن يظهروا شيئا من أمره، ثم أنه رأى ذات يوم أصحابا له من تيم الرباب- وكان علي رضي الله عنه قتل منهم يوم النهر عدة فذكروا قتلاهم، ولقي من يومه ذلك امرأة من تيم الرباب يقال لها: «قطام» . وقد قتل علي أباها وأخاها يوم النهر- وكانت فائقة الجمال- فلما رآها التبست بعقله ونسي حاجته التي جاء لها، فخطبها، فقالت: لا أتزوجك حتى تشتفِي لي، قالَ: وما تشائين، قالت: ثلاثة آلاف، وعبد، وقينة، وقتل
__________
[1] طبقات ابن سعد 3/ 1/ 11، وتاريخ بغداد 1/ 133.
[2] تاريخ الطبري 5/ 143.(5/172)
علي، فقَالَ: والله ما جاء بي إلى هذا المصر إلا قتل علي، فلك ما سألت، قالت: إني أطلب لك من يسند ظهرك ويساعدك على أمرك، فبعثت إلى رجل من قومها من تيم الرباب يقال له: «وردان» فكلمته، فأجابها، فأتى ابن ملجم رجلا من أشجع يقال له:
شبيب بن بجرة [1] ، فقَالَ له: هل لك فِي شرف الدنيا والآخرة؟ فقَالَ: وما ذاك؟ قَالَ:
قتل علي، قَالَ: ثكلتك أمك، لقد جئت شيئا فريا إذا، كيف تقدر على علي؟ قَالَ: أكمن له فِي المسجد فإذا خرج إلى صلاة الغداة شددنا عليه فقتلناه، فإن نجونا بأنفسنا وأدركنا ثأرنا، وإن قتلنا فما عند الله خير من الدنيا وما فيها، قَالَ: ويحك لو كان غير علي أهون علي، قد عرفت بلاءه فِي الإسلام، / وسابقته مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما أجدني أنشرح صدرا 70/ ب لقتله. قَالَ: أتعلم أنه قتل أهل النهر العباد المصلين [2] ، قَالَ: بلى، قَالَ: فنقتله بمن قتل من إخواننا، فأجابه، فجاءوا قطام وهي فِي المسجد الأعظم معتكفة، فقالوا: قد اجتمع رأينا على قتل علي، قالت: فإذا أردتم ذلك فأتوني، فعادوا ليلة الجمعة التي قتل فِي صبيحتها علي، فقَالَ: هذه الليلة التي واعدت فيها أن يقتل كل واحد منا صاحبه، فأخذوا أسيافهم ووقفوا مقابل السدة التي يخرج منها علي رضي الله عنه، فلما خرج ضربه شبيب بالسيف، فوقع سيفه فِي الطاق، وضربه ابن ملجم بالسيف. وهرب وردان حتى دخل منزله، فدخل عليه رجل، فقَالَ: ما هذا السيف، فأخبره فقتله، وخرج شبيب نحو أبواب كنده فِي الغلس، وصاح الناس فلحقه رجل من حضرموت- يقال له عويم- وفِي يد شبيب السيف، فأخذه، فلما رأى الناس قد أقبلوا وسيف شبيب فِي يده خشي على نفسه فتركه ونجا بنفسه، ونجا شبيب فِي غمار الناس، فشدوا على ابن ملجم، فأخذوه. وتأخر علي ودفع فِي ظهر جعدة بن هبيرة بن أبي وهب، فصلى بالناس الغداة، ثم قَالَ علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: علي بالرجل، فأدخل عليه فقَالَ: أي عدو الله، ألم أحسن إليك؟ قَالَ: بلى، قَالَ: فما حملك على هذا؟ قَالَ: شحذت سيفِي هذا أربعين صباحا، وسألت الله أن يقتل به شر خلقه، فقَالَ: لا أراك إلا مقتولا به، ولا أراك إلا من شر خلق الله.
__________
[1] في الأصل: «نحره» هكذا بدون نقط.
[2] في الطبري: «العباد المصلين» .(5/173)
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، ومحمد بن ناصر، قالا: أَخْبَرَنَا المبارك بْن عَبْد الجبار، قَالَ: أَخْبَرَنَا الحسن بن مُحَمَّد النصيبي، قَالَ: أَخْبَرَنَا إسماعيل بن سويد، قَالَ: حَدَّثَنَا ابن الأنباري، قَالَ: حَدَّثَني أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عبيد، عن الهيثم، قَالَ: حَدَّثَنِي رجل من بجيلة، عن مشيخة قومه [1] : 71/ أان عَبْد الرَّحْمَنِ بن ملجم رأى امرأة من تيم الرباب/ يقال لها: «قطام» ، كانت من أجمل النساء، ترى رأي الخوارج، قد قتل قومها على هذا الرأي يوم النهروان، فلما أبصرها عشقها فخطبها، فقالت: لا أتزوجك إلا على ثلاثة آلاف، وقتل علي بن أبي طالب، فتزوجها على ذلك، فلما بنى بها قالت: يا هذا قد فرعت فافرع، فخرج ملتبسا سلاحه، وخرجت فضربت له قبة فِي المسجد، وخرج علي رضي الله عنه يقول:
الصلاة الصلاة، فاتبعه عَبْد الرَّحْمَنِ فضربه بالسيف على قرن رأسه، فقَالَ الشاعر فِي ذلك:
ولم أر مهرا ساقه ذو سماحة ... كمهر قطام بينا غير معجم
ثلاثة آلاف وعبد وقينة ... وقتل علي بالحسام المصمم
فلا مهر أغلى من علي وإن غلا ... ولا قتل إلا دون قتل ابن ملجم [2]
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قال: أخبرنا أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ الْقَاسِمِ الْبَصْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَادَرَائِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الصَّنْعَانِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانٍ الْوَرَّاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا نَاصِحٌ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمُحَلِّمِيُّ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ [3] :
«مَنْ أَشْقَى الأَوَّلِينَ؟» قَالَ: عَاقِرُ النَّاقَةِ، قَالَ: «فَمَنْ أَشْقَى الآخِرِينَ؟» قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قال: «قاتلك» .
__________
[1] الخبر في البداية والنهاية 7/ 359.
[2] في البداية: «ولو فتك: لا دون فتك ابن ملجم» . وقال ابن كثير: وقد عزا ابن جرير هذه الأبيات إلى ابن أبي مياس المرادي.
[3] الخبر في تاريخ بغداد 1/ 135.(5/174)
قَالَ مُحَمَّد بن الحنفية [1] : والله إني لأصلي فِي تلك الليلة التي ضرب فيها علي فِي رجال كثيرة ما هم إلا قياما وركوعا وسجودا، وما يسأمون من أول الليل إلى آخره، إذ خرج علي لصلاة الغداة، فجعل ينادي: أيها الناس، الصلاة الصلاة، إذ نظرت إلى بريق السيف، وسمعت: الحكم للَّه لا لك يا علي ولا لأصحابك، فرأيت سيفا وسمعت عليا يقول: لا يفوتنكم الرجل، وشد الناس عليه من كل جانب، فلم أبرح حتى أخذ ابن ملجم وأدخل إلى عليّ رضي الله عنه، فدخلت فيمن دخل، فسمعت عليا يقول: النفس بالنفس، إن/ هلكت فاقتلوه كما قتلني، وإن بقيت رأيت فيه رأيي. 71/ ب وكان ابن ملجم مكتوفا بين يدي علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فنادته أم كلثوم بنت علي وهي تبكي: أي والله، ويلك قتلت أمير المؤمنين، قَالَ: ما قتلت إلا أباك، قالت: إني لأرجو ألا يكون عليه بأس، قَالَ: فما لك تبكين، والله لقد سممته شهرا، ولو كانت هذه الضربة بجميع أهل الأرض [2] ما بقي منهم أحد.
قالوا: يا أمير المؤمنين: إن فقدناك أنبايع الحسن؟ فقَالَ: ما آمركم ولا أنهاكم، أنتم أبصر. ثم دعا حسنا وحسينا، فقَالَ: أوصيكم بتقوى الله، ولا تبغيا الدنيا، ولا تبكيا على شيء زوى عنكما، ثم لم ينطق إلا بلا إله إلا الله حتى قبض. وذلك فِي رمضان، وغسله الحسن والحسين عليهما السلام، وعبد الله بن جعفر، وكفن فِي ثلاثة أثواب وكبر عليه الحسن تسع تكبيرات.
أَخْبَرَنَا الْحُصَيْنُ، قال: أخبرنا ابن المذهب، قال: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّه بْن أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قال: حدثني أبي، قال: [حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ:] [3] حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ ظَبْيَانَ، عَنْ أَبِي يَحْيَى، قَالَ [4] : لَمَّا ضَرَبَ ابْنُ مُلْجَمٍ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: افْعَلُوا بِهِ كَمَا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَفْعَلَ بِرَجُلٍ أَرَادَ قتله، فقال: اقتلوه، ثم حرقوه.
__________
[1] الخبر في الطبري 5/ 146، وفي الأصل: «محمد بن حنيف» .
[2] في الأصل: «أهل المصر» .
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] الخبر في مسند أحمد بن حنبل 1/ 93.(5/175)
وذكر أبو الحسن المدائني أن ابن ملجم لما ضرب علي بن أبي طالب، قَالَ ابن ملجم: وَمن النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ الله 2: 207 [1] . وآخر ما تكلم به علي رضي الله عنه فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ 99: 7- 8 [2] .
فصل
واختلف العلماء [3] فِي وقت قتل أمير المؤمنين علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. فقَالَ أبو معشر والواقدي: قتل يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من رمضان.
وقَالَ المدائني: يوم الجمعة لإحدى عشرة. قَالَ: وقد قيل فِي ربيع الآخر.
فصل
واختلف فِي سن علي رضي الله عَنْه:
فأَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ بن مُحَمَّد، [قال: أخبرنا أحمد بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بن محمد المعدل [4] ، قال: أخبرنا ابْن صفوان، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّه بْن محمد] [5] بن أبي الدنيا، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا محمد بن عمر 72/ أالواقدي، قال: حدثنا أبو بكر عَبْد اللَّه/ بْن أَبِي سبرة، عَنْ إِسْحَاق بن عَبْد اللَّهِ بن أبي فروة، قَالَ: سألت أبا جعفر مُحَمَّد بن علي رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: كم كان سن علي رضي الله عنه يوم قتل؟ قَالَ: ثلاثا وستين سنة، قلت: أين دفن؟ قَالَ: بالكوفة ليلا وقد غبي عني دفنه.
وفِي رواية عن جعفر بن مُحَمَّد، قَالَ: كان سن علي رضي الله عنه ثمانيا وخمسين سنة.
__________
[1] سورة: البقرة، الآية: 207.
[2] سورة: الزلزلة، الآية: 7، 8.
[3] تاريخ الطبري 5/ 151، 152.
[4] في أ: «على بن أحمد المعدل» .
[5] ما بين المعقوفتين: من ت، وفي الأصل: «بإسناده إلى ابن أبي لدينا» .(5/176)
وذكر مُحَمَّد بن سعد [1] : أنه لما مات علي رضي الله عنه أخرج ابن ملجم من الحبس، فقالوا: نشفِي نفوسنا منه، فقطع عَبْد اللَّهِ بن جعفر يديه ورجليه، فلم يجزع ولم يتكلم، فكحل عينيه بمسمار محمي فلم يجزع، وأخرج لسانه ليقطع، فجزع وقَالَ: أكره أن أكون فِي الدنيا فواقا لا أذكر الله، فقطعوا لسانه ثم أحرقوه.
فصل [2]
واختلفوا فِي موضع دفنه عليه السلام.
فأَخْبَرَنَا أبو منصور القزاز، قَالَ: أخبرنا أبو بكر أَحْمَد بن علي الخطيب، قَالَ:
أَخْبَرَنَا حمزة بن مُحَمَّد بن طاهر، قَالَ: أَخْبَرَنَا الوليد بن بكر، قَالَ: حَدَّثَنَا علي بن أَحْمَد بن [زكريا، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مسلم صالح بْن أَحْمَد] [3] بن عبد الله العجْلي، قَالَ:
حَدَّثَنِي أبي، قَالَ:
علي بن أبي طالب قتل بالكوفة، [قتله عَبْد الرَّحْمَنِ بن ملجم المرادي، وقتل عَبْد الرَّحْمَنِ الحسن بن علي] [4] ، ودفن بها، ولا يعلم أين موضع قبره [5] .
وفِي رواية [6] : أنه دفن مما يلي قبلة المسجد.
وقيل: عند قصر الإمارة.
وقَالَ أبو نعيم الفضل بن دكن [7] : حوله ابنه الحسن إلى المدينة، فدفن بالبقيع عند قبر فاطمة عليها السلام.
وفِي رواية [8] : أنهم خرجوا به يريدون المدينة، فضل البعير الّذي هو عليه،
__________
[1] طبقات ابن سعد 3/ 1/ 26.
[2] هذا الفصل جاء في نهاية الترجمة في الأصل أي ص. 72/ ب من المخطوط.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من تاريخ بغداد.
[5] الخبر في تاريخ بغداد 1/ 136.
[6] تاريخ بغداد 1/ 138.
[7] تاريخ بغداد 1/ 138.
[8] الرواية في تاريخ بغداد 1/ 138.(5/177)
فأخذته طيِّئ يظنونه مالا. فلما رأوه دفنوا الصندوق بما فيه.
كان هذه الروايات رواها أبو بكر الخطيب.
وقَالَ [1] : حكى لنا أبو نعيم الحافظ، قَالَ: سمعت أبا بكر الطلحي يذكر أن مطينا كان ينكر أن يكون القبر المزور بظاهر الكوفة قبر علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان يقول: لو علمت الرافضة قبر من هذا لرجمته بالحجارة، هذا قبر المغيرة بن شعبة.
والله أعلم أي الأقوال أصح.
أما البرك بن عَبْد اللَّهِ [2] : فإنه مضى تلك الليلة، فقعد لمعاوية، فلما خرج ليصلي الغداة شد عليه بسيفه فوقع السيف فِي أليته، فأخذ، فقَالَ له: إن عندي خبرا أسرك به، فإن أخبرتك فنافعي ذلك عندك [3] ؟ قَالَ: نعم، قَالَ: إن أخا لي قتل عليا فِي هذه الليلة، قَالَ: فلعله لم يقدر على ذلك، قَالَ: بلى، إن عليا يخرج ليس معه أحد يحرسه، فأمر به معاوية فقتل.
وبعث معاوية إلى الطبيب [4] ، فلما نظر إليه قَالَ: اختر إحدى خصلتين: إما أن أحمي حديدة وأضعها موضع السيف، وإما أن أسقيك شربة تقطع عنك الولد وتبرأ، فإن ضربتك مسمومة، فقَالَ معاوية: أما النار فلا صبر لي عليها، وأما انقطاع الولد فإن فِي يزيد وعبد الله ما تقر به عيني، فسقاه تلك الشربة فبرأ ولم يولد له بعدها. وأمر معاوية عند ذلك بالمقصورة، وحرس الليل، وقيام الشرطة على رأسه إذا سجد.
وأما عمرو بن بكر [5] : فجلس لعمرو تلك الليلة فلم يخرج، وكان اشتكى بطنه، فأمر خارجة بن حذافة صاحب [6] شرطته، فخرج ليصلي، فشد عليه وهو يرى أنه 72/ ب عمرو، / فضربه، فأخذه الناس وانطلقوا به إلى عمرو، فقال: من هذا؟ فقالوا: عمرو،
__________
[1] تاريخ بغداد 1/ 38.
[2] تاريخ الطبري 5/ 149. وهي في الأصل تتبع الصفحة 72/ أمن المخطوط.
[3] في الأصول: «أفكاكي ذلك عندك» . وما أوردناه من تاريخ الطبري.
[4] سماه الطبري في تاريخه: «الساعدي» .
[5] في الأصل: «عمرو بن بكير» هكذا بدون نقط.
[6] في الأصل، وأ: «خارجة بن أبي حينه» ، والتصحيح من الطبري.(5/178)
قالَ: فمن قتلت؟ قالوا: خارجة، قَالَ: أما والله يا فاسق ما أردت غيرك، فقَالَ عمرو:
أردتني وأراد الله خارجة. فقتله عمرو.
319- لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب، أبو عقيل الشاعر [1] :
كان يقال لأبيه ربيعة المقترين، لجوده وسخائه، قدم فِي وفد فأسلموا ورجعوا إلى بلادهم وذلك بعد وفاة أخيه أربد وعامر بن الطفيل، ثم هاجر وحسن إسلامه، ونزل الكوفة فِي أيام عمر، وكان من الشعراء المجودين فِي الجاهلية وفِي الإسلام. وقَالَ له المغيرة: أنشدني ما قلت من الشعر فِي الجاهلية والإسلام، فقَالَ: قد أبدلني/ الله 73/ أبذلك سورة البقرة وآل عِمْرانَ.
وقَالَ أبو عبيدة [2] : لم يقل لبيد فِي الإسلام إلا بيتا واحدا، وهو هذا:
الحمد للَّه إذ لم يأتني أجلي ... حتى لبست من الإسلام سربالا
قَالَ عمرو بن [3] شيبة، حَدَّثَنِي عَبْد اللَّهِ بن مُحَمَّد بن حكيم، قَالَ: كان لبيد من أجواد العرب، وكان قد آلى ألا تهب الصبا إلا أطعم، وكان له جفنتان يغدا بهما ويراح فِي كل يوم على أهل مسجد قومه، فهبت الصبا يوما والوليد بن عقبة على الكوفة، فصعد الوليد المنبر فخطب الناس، ثم قَالَ: إن أخاكم لبيد بن ربيعة نذر فِي الجاهلية ألا تهب الصبا إلا أطعم، وهذا يوم من أيامه، وقد هبت الصبا فأعينوه، وأنا أول من فعل، ثم نزل عن المنبر، فأرسل إليه بمائة بكرة، وكتب إليه بأبيات قالها:
ما أرى الجزار يشحذ شفرتيه ... إذا هبت رياح أبي عقيل
أشم الأنف أصيد عامري ... طويل الباع كالسيف الصقيل
فقَالَ لابنته: أجيبيه، فلعمري لقد عشت برهة وما أنحني بجواب شاعر، فقالت:
إذا هبت رياح أبي عقيل ... دعونا عند هبتها الوليدا
__________
[1] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 20، والمعارف 332 وهنا عودة إلى الصفحة 72/ ب.
[2] في الأصل: «بذلك سورة البقرة» ووضع ثلاث نقط، هكذا: ... ، وبعدها: «قال عمران وقال أبو عبيدة» .
[3] في ت: «عمر» .(5/179)
أشم الأنف [1] أروع عبشميا ... أعان على مروءته لبيدا
بأمثال الهضاب كأن ركبا ... عليها من بني حام قعودا
أبا وهب جزاك الله خيرا ... نحرناها وأطعمنا الثريدا
فعد إن الكريم له معاد ... وظني بابن أروى أن تعودا
فقَالَ لبيد: لقد أحسنت لولا إنك استطعمتيه، فقالت: إن الملوك لا تستحي من مسألتهم، فقَالَ: وأنت فِي هذا يا بنية أشعر.
73/ ب ولما بلغ لبيد/ سبعا وسبعين سنة، قَالَ:
باتت تشكى إلي النفس مجهشة ... وقد حملتك سبعا بعد سبعينا
فإن تراءى ثلاثا تبلغي أملا ... وفِي البلاد وفاء للثمانينا
فلما بلغ التسعين، قال [2] :
كأني قد جاوزت تسعين بعد ما ... خلعت بها عن منكبي ردائيا
فلما بلغ مائة وعشرا قَالَ:
أليس فِي مائة قد عاشها رجل ... وفِي تكامل عشر بعدها عمر
فلما جاوزها قَالَ:
ولقد سئمت من الحياة وطولها ... وسؤال هذا الناس كيف لبيد
320- أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط [3] :
أسلمت بمكة، وبايعت قبل الهجرة، وهي أول من هاجر من النساء بعد أن هاجر رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم إلى المدينة، هاجرت فِي هدنة الحديبية.
أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْن عَلِيٍّ الصَّيْرَفِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بن بيان، قال:
أخبرنا أبو منصور أَحْمَدَ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّوَّاقُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَالِكٍ، قال:
__________
[1] في ت: «أشم الباع» .
[2] في الأصل: «السبعين» .
[3] طبقات ابن سعد 8/ 167.(5/180)
أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عُثْمَانَ وَقُدَامَةَ، قَالا: لا نَعْلَمُ قُرَشِيَّةً خَرَجَتْ مِنْ بَيْنِ أَبَوَيْهَا مُسْلِمَةً مُهَاجِرَةً إِلا أُمَّ كُلْثُومٍ.
قَالَتْ: كُنْتُ أَخْرُجُ إِلَى بَادِيَةٍ لَنَا فِيهَا أَهْلِي فَأُقِيمُ بِهَا الثَّلاثَ وَالأَرْبَعَ، وَهِيَ نَاحِيَةَ التَّنْعِيمِ، ثُمَّ أَرْجِعُ إِلَى أَهْلِي فلا ينكرون ذِهَابِي الْبَادِيَةَ، حَتَّى أَجْمَعْتُ الْمَسِيرَ، فَخَرَجْتُ يَوْمًا مِنْ مَكَّةَ كَأَنِّي أُرِيدُ الْبَادِيَةَ، فَلَمَّا رَجَعَ مَنْ تَبِعَنِي إِذَا رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ [قَالَ: أَيْنَ تُرِيدِينَ؟ قُلْتُ: وَمَا مَسْأَلَتُكَ وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ] [1] اطْمَأْنَنْتُ إِلَيْهِ لِدُخُولِ خُزَاعَةَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَقْدِهِ- فَقُلْتُ: إِنِّي امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَإِنِّي أُرِيدُ اللُّحُوقَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/، وَلا عِلْمَ لِي بِالطَّرِيقِ، فَقَالَ: أَنَا صَاحِبُكِ حَتَّى أُورِدَكِ الْمَدِينَةَ، ثمَّ 74/ أجاءني بِبَعِيرٍ فَرَكِبْتُهُ فَكَانَ يَقُودُ بِي الْبَعِيرَ، وَلا وَاللَّهِ مَا يُكَلِّمُنِي بِكَلِمَةٍ حَتَّى إِذَا أَنَاخَ الْبَعِيرَ تَنَحَّى عَنِّي، فَإِذَا نَزَلْتُ جَاءَ إِلَى الْبَعِيرِ فَقَيَّدَهُ بِالشَّجَرِ، وَتَنَحَّى إِلَى فَيْءِ شَجَرَةٍ حَتَّى إِذَا كَانَ الرَّوَاحُ خَدَجَ الْبَعِيرَ فَقَرَّبَهُ وَوَلَّى عَنِّي، فَإِذَا رَكِبْتُ أَخَذَ بِرَأْسِهِ فَلَمْ يَلْتَفِتْ وَرَاءَهُ حَتَّى أَنْزِلَ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَجَزَاهُ اللَّهُ مِنْ صَاحِبٍ خَيْرًا، فَدَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ وَأَنَا مُتَنَقِّبَةٌ، فَمَا عَرَفَتْنِي حَتَّى كَشَفْتُ النِّقَابَ فَالْتَزَمَتْنِي وَقَالَتْ: هَاجَرْتِ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، وَأَنَا أَخَافُ أَنْ يَرُدَّنِي كَمَا رَدَّ أَبَا جَنْدَلٍ وَأَبَا بَصِيرٍ، وَحَالُ الرِّجَالِ لَيْسَ كَحَالِ النِّسَاءِ، وَالْقَوْمُ مُصْبِحِي قَدْ طَالَتْ غَيْبَتِي عَنْهُمُ الْيَوْمَ خَمْسَةُ أَيَّامٍ مُنْذُ فَارَقْتُهُمْ، وَهُمْ يَتَحَيَّنُونَ قَدْرَ مَا كُنْتُ أَغِيبُ ثُمَّ يَطْلُبُونِي فَإِنْ لَمْ يَجِدُونِي رَحَلُوا. فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَأَخْبَرَتْهُ خبر أم كلثوم، فرحب بها وسهل، فقلت: إِنِّي فَرَرْتُ إِلَيْكَ بِدِينِي فَامْنَعْنِي وَلا تَرُدَّنِي إِلَيْهِم يَفْتِنُونِي وَيُعَذِّبُونِي وَلا صَبْرَ لِي عَلَى الْعَذَابِ، إِنَّما أَنَا امْرَأَةٌ وَضَعْفُ النِّسَاءِ عَلَى مَا تَعْرِفُ، وَقَدْ رَأَيْتُكَ رَدَدْتَ رَجُلَيْنِ حَتَّى امْتَنَعَ أَحَدُهُمَا، فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَقَضَ الْعَهْدَ فِي النِّسَاءِ» وَحَكَمَ فِي ذَلِكَ بِحُكْمِ رَضُوهُ كُلُّهُمْ وَكَانَ يَرُدُّ النِّسَاءَ، فَقَدِمَ أَخَوَاهَا الْوَلِيدُ وَعُمَارَةُ مِنَ الْغَدِ، فَقَالا: أَوْفِ لَنَا بِشَرْطِنَا وَمَا عَاهَدْتَنَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: «قَدْ نقض الله ذلك» فانصرفا.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(5/181)
قَالَ مؤلف الكتاب: ومعنى نقض العهد فِي النساء، نزول الامتحان فِي حقهن، وذلك أنه كان يقول للمرأة: والله ما أخرجك إلا حب والله ورسوله والإسلام، ولا خرجت لزوج ولا مال، فإذا قالت ذلك تركت ولم ترد.
74/ ب وكانت أم كلثوم عذراء، فتزوجها زيد بن حارثة، فلما قتل عنها، تزوجها الزبير/ فولدت له، ثم تزوجها عَبْد الرَّحْمَنِ بن عوف فولدت له، ثم تزوجها عمرو بن العاص فماتت عنده
.(5/182)
ثم دخلت سنة إحدى وأربعين
فمن الحوادث فيها تسليم الحسن رضي الله عنه الأمر لمعاوية [1]
وذلك أن الحسن لما تفرق الناس عنه بعث إلى معاوية يطلب الصلح، فبعث معاوية إليه عَبْد اللَّهِ بن عامر، وعبد الرحمن بن سمرة، فقدما عليه المدائن، فأعطياه ما أراد وصالحاه على أن يأخذ من بيت مال الكوفة خمسة آلاف ألف فِي أشياء اشترطها، وكان معاوية قد أرسل إليه قبل ذلك صحيفة بيضاء وكتب إليه اشترط فِي هذه الصحيفة ما شئت فهو لك، فاشترط أضعاف الشروط التي سألها معاوية قبل ذلك، وأمسكها عنده وأمسك معاوية صحيفة الحسن التي كتب إليه فيها، فلما التقيا سأله الحسن أن يعطيه الشروط التي شرط فِي الصحيفة، فأبى معاوية وقَالَ: لك ما كنت تسألني.
[وكان الصلح] [2] بينهم بمسكن، ثم دخلوا الكوفة، فقَالَ عمرو بن العاص لمعاوية: مر الحسن أن يقوم فيخطب، فكره معاوية ذلك وقَالَ: ما تريد بهذا؟ قَالَ: أريد أن يبدو عيه فِي الناس. فخرج معاوية فخطب ثم قَالَ: قم يا حسن فتكلم، فقام فقَالَ: أما بعد، فإن الله هداكم بأولنا وحقن دماءكم بآخرنا، والدنيا دول، [وإن الله تعالى قال لنبيه صلّى الله عليه وسلّم] [3] : وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ 21: 111 [4] . فقال معاوية:
اجلس.
__________
[1] تاريخ الطبري 5/ 162.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من الطبري 5/ 163.
[4] سورة: الأنبياء، الآية: 11.(5/183)
ثم خرج الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر من الكوفة إلى المدينة، وسلم الكوفة إلى معاوية لخمس [بقين] [1] من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين.
وقيل فِي ربيع الآخر، ويقال: فِي غرة جمادى الأولى.
ولما رحل الحسن تلقاه قوم فقالوا: يا مذل العرب.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال:
أخبرنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَخْلَدِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أحمد بن إبراهيم الحكمي، 75/ أقال: حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، / قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ [2] ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ الْهَمَذَانِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَرِيفِ، قَالَ: كُنَّا عَلَى مُقَدِّمَةِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا بِمَسْكَنٍ مُسْتَمِيتِينَ مِنَ الْجِدِّ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الشَّامِ وَعَلَيْنَا أَبُو الْعمرطَةِ [3] ، فَلَمَّا جَاءَنَا صُلْحُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ كَأَنَّمَا كُسِرَتْ ظُهُورُنَا مِنَ الْغَيْظِ، فَلَمَّا قَدِمَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَى الْكُوفَةِ، قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَّا يُقَالُ لَهُ أَبُو عَامِرٍ سُفْيَانُ بْنُ اللَّيلِ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا مُذِلَّ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: لا تَقُلْ ذَلِكَ يَا أَبَا عَامِرٍ، لَسْتُ بِمُذِلِّ الْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنِّي كَرِهْتُ أن أقتلهم على الملك.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «وهب بن معاوية» .
[3] أبو العمرطة، هو: عمير بن يزيد الكندي.(5/184)
باب ذكر خلافة معاوية [1]
هو معاوية بن أبي سفيان صخر بْنِ حَرْبِ بْنِ أُمَّيَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ بن عبد مناف.
وأمه هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس.
أسلم وهو ابن ثمان عشرة سنة، واستكتبه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وولاه عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مكان أخيه يزيد لما مات، فلم يزل كذلك خلافة عمر، وأقره عثمان وأفرد له جميع الشام، وقد ذكرنا ما جرى له مع أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ الله عنه من القتال ومصالحة الحسن إياه، ومبايعته له بالخلافة، وذلك فِي سنة إحدى وأربعين، فسمي عام الجماعة، فاستعمل على القضاء فضالة بن عبيد، فلما مات استقضى أبا إدريس الخولاني، وكان على شرطته قيس بن حمزة، وكان كاتبه وصاحب أمره سرحون بن منصور الرومي.
وكان معاوية أول من اتخذ الحرس، وأول من حزم الكتب ثم ختمها، لأنه كان قد أمر لعمرو بن الزبير بمائة ألف درهم ففض عمرو الكتاب وجعل المائة مائتين، فلما رفع حسابه إلى معاوية أنكر ذلك وأمر عمرا بردها وحبسه، فأداها أخوه عَبْد اللَّهِ بن الزبير عنه.
وفِي هذه السنة جرى الصلح بين قيس بن/ سعد ومعاوية [2]
75/ ب وذلك أن [3] قيس بن سعد كان على شرطة جيش علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وهم أربعون
__________
[1] في الأصل: «ذكر حسب معاوية» .
[2] تاريخ الطبري 5/ 163.
[3] تاريخ الطبري 5/ 164.(5/185)
ألفا فتعاقدوا هم وهو على قتال معاوية حتى يشترط لشيعة علي رضي الله عنه على أموالهم ودمائهم وما أصابوا فِي الفتنة، فأرسل معاوية إلى قيس يذكره الله تعالى، ويقول: على طاعة من تقاتل وقد بايعني الذي أعطيته طاعتك، فأبى أن يلين له، فأرسل إليه معاوية بسجل قد ختم عليه فِي أسفله، وقَالَ: اكتب فِي هذا السجل ما شئت فهو لك، فقَالَ عمرو: لا تعطه، وقاتله، فقَالَ: على رسلك، فإنا لا نخلص إلى قتال هؤلاء حتى يقتلوا أعدادهم من أهل الشام، فما خير العيش بعد ذلك، وإني لا أقاتله حتى لا أجد بدا من قتاله، فلما بعث إليه معاوية ذلك السجل اشترط لنفسه ولشيعة علي ما أصابوا من الدماء والأموال، ولم يسأل معاوية فِي سجله مالا، وأعطاه معاوية [ما سأل] [1] ، فدخل قيس بن سعد ومن معه [فِي طاعة معاوية] [2] .
وفِي هذه السنة غلب حمران بن أبان على البصرة [3]
وذلك أنه لما صالح الحسن معاوية، وثب حمران على البصرة فأخذها، فبعث إليه معاوية بسر بن أرطأة، فصعد [حمران] [4] إلى المنبر وشتم عليا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثم قَالَ: أنشد الله رجلا عليما أني صادق إلا صدقني، أو كاذب إلا كذبني، فقَالَ أبو بكرة:
لا نعلمك إلا كاذبا، فأمر به يخنق، فقام أبو لؤلؤة الضبي فرمى بنفسه عليه فمنعه، فأعطاه أبو بكرة- بعد ذلك مائة جريب، فقيل لأبي بكرة: ما أردت بهذا؟ فقَالَ: يناشدنا باللَّه ثم لا نصدقه، فأقام بسر بالبصرة ستة أشهر.
وفِي هذه السنة ولي معاوية بن عامر البصرة، وحرب سجستان وخراسان
وسبب ذلك أن معاوية أراد أن يوجه عتبة بن أبي سفيان على البصرة، فقَالَ له ابن عامر: إن لي بها أموالا وودائع فإن لم توجهني عليها ذهبت، فولاه البصرة فقدمها في
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.
[3] تاريخ الطبري 5/ 167.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.(5/186)
آخر سنة إحدى/ وأربعين وإليه على خراسان وسجستان، فولى حبيب بن شهاب [1] 76/ أشرطته- وقيل: قيس بن الهيثم- واستقضى عميرة بن يثربي.
وفِي هذه السنة.
حج بالناس عتبة بن أبي سفيان. فِي قول أبي معشر. وقَالَ الواقدي: بل عنبسة بن أبي سفيان.
وفِي هذه السنة ولد علي بن عَبْد اللَّهِ بن عباس، وقيل: بل ولد فِي سنة أربعين.
ذكر من توفي فِي هذه السنة من الأكابر
321- ركانة بن عبد يزيد [2] بن هاشم بن عبد المطلب، وأمه العجلة بنت العجلان [3] :
أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُسْلِمَةِ، [أَخْبَرَنَا الْمُخَلِّصُ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سليمان الطوسي] [4] ، حدثنا الزبير بن بكار، قال: كَانَ رُكَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَزِيدَ أَشَدَّ النَّاسِ، فقال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمَّد، إِنْ صَرَعْتَنِي آمَنْتُ بِكَ، فَصَرَعَهُ رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم، فقال: أَشْهَدُ أَنَّكَ سَاحِرٌ، ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدُ، وَنَزَلَ الْمَدِينَةَ فَمَاتَ بِهَا فِي أَوَّلِ خِلافَةِ مُعَاوِيَةَ. أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي، قَالَ: أخبرنا الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَعْرُوفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بن أبي أسامة، قال: حدثنا محمد بن سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَبِيعَةَ الْكِلابِيُّ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْعَسْقَلانِيِّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ محمد بن ركانة، عن أبيه:
__________
[1] في الأصل: «حبيب بن هشام» .
[2] في ت: «ركانة بن عبد الله بن يزيد» خطأ.
[3] مغازي الواقدي 694، وطبقات خليفة 9، وتاريخ 205، والتاريخ الكبير للبخاريّ 3/ ترجمة 1146، والجرح والتعديل 3/ ترجمة 2342.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(5/187)
أَنَّهُ صَارَعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَرَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفِي رواية: أن ركانة هذا كان لا يصرعه أحد. وأسلم يوم الفتح.
322- رفاعة [بن رافع] [1] بن مالك بن العجلان [2] :
شهد العقبة وبدرا والمشاهد كلها مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
323- صفوان بن أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح أبو وهب [3] :
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو عمر بْن حيويه، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَعْرُوفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا محمد بن عمر، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بكر بْن عَبْد اللَّه بن أبي سبرة، عن موسى بن 76/ ب عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي/ حَبِيبَةَ مَوْلَى الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ هَرَبَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ حَتَّى أَتَى الشَّعْبِيَّةَ، فَقَالَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ اللَّخْمِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ سَيِّدَ قَوْمِي خَرَجَ هَارِبًا لِيَقْذِفَ نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ، وَخَافَ أَلا تُؤَمِّنَهُ، فَأَمِّنْهُ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، قَالَ: قَدْ أَمَّنْتُهُ. فَخَرَجَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ فِي أَثَرِهِ فَأَدْرَكَهُ، فَقَالَ: جِئْتُكَ مِنْ عِنْدِ أَبَرِّ النَّاسِ وَأَوْصَلِ النَّاسِ، وَقَدْ أَمَّنَكَ، فَقَالَ: لا وَاللَّهِ حَتَّى تَأْتِيَنِي مِنْهُ بِعَلامَةٍ أَعْرِفُهَا، فَرَجَعَ عُمَيْرٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ:
«خُذْ عِمَامَتِي» ، وَهُوَ الْبُرْدُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ مُعْتَجِرًا بِهِ بُرْدٌ حَبِرَةٌ، فَخَرَجَ عُمَيْرٌ فَأَعْطَاهُ الْبُرْدَ فَعَرَفَهُ فَرَجَعَ مَعَهُ، وَانْتَهَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْعَصْرَ، فَلَمَّا سَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَرْخَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ عُمَيْرَ بْنَ وَهْبٍ جَاءَنِي بِبُرْدِكَ وَزَعَمَ أَنَّكَ دَعَوْتَنِي إِلَى الْقُدُومِ عَلَيْكَ، فَإِنْ رَضِيتُ أَمْرًا وَإِلا سَيَّرْتَنِي شَهْرَيْنِ، قَالَ: «انْزِلْ أَبَا وَهْبٍ» قَالَ: لا وَاللَّهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لِي، قَالَ: لَكَ تَسِيرُ أَرْبَعَة أَشْهُرٍ، فَنَزَلَ صَفْوَانُ، وَخَرَجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل هَوَازِنَ، وَخَرَجَ مَعَهُ صَفْوَانُ وَاسْتَعَارَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِلاحًا، فَأَعَارَهُ مِائَةَ درع بأداتها، وشهد معه حنين وَالطَّائِفَ وَهُوَ كَافِرٌ، ثُمَّ رَجَعَ الْجَعْرَانَةَ، فَبَيْنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير فِي الْغَنَائِمِ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَمَعَهُ صَفْوَانُ جَعَلَ صفوان ينظر
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردنا من كتب الرجال.
[2] طبقات ابن سعد 3/ 2/ 130.
[3] طبقات ابن سعد 5/ 1/ 332.(5/188)
إِلَى شِعْبٍ مَلاءَ نَعَمٍ وَشَاءٍ وَرعَاءٍ، فَأَدَامَ إِلَيْهِ النَّظَرَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْمُقُهُ، فَقَالَ: أَبَا وَهْبٍ، يُعْجِبُكَ هَذَا الشِّعْبُ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: هُوَ لَكَ وَمَا فِيهِ، فَقَالَ صَفْوَانُ عِنْدَ ذَلِكَ:
مَا طَابَتْ نَفْسُ أَحَدٍ بِمِثْلِ هَذَا إِلا نَفْسَ نَبِيٍّ، أشهد أن لا إله إلا الله وأن مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَسْلَمَ مَكَانَهُ وَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا/ مَعَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ خَمْسِينَ بَعِيرًا. قَالَ مُحَمَّد بن عمر: لم يزل صفوان صحيح الإسلام، ولم يبلغنا أنه غزا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئا ولا بعده، ولم يزل مقيما بمكة إلى أن مات بها فِي أول خلافة معاوية.
324- عثمان بن طَلْحَة بن أبي طَلْحَة بن عبد العزى [1] :
أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ مَعْرُوفٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَبْدَرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
قَالَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ: لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَدَعَانِي إِلَى الإِسْلَامِ، فَقُلْتُ: يَا مُحَمَّدُ، الْعَجَبُ لَكَ حَيْثُ تَطْمَعُ أَنْ أَتَّبِعَكَ وَقَدْ خَالَفْتَ دِينَ قَوْمِكَ وَجِئْتَ بِدِينٍ مُحْدَثٍ، وَفَرَّقْتَ جَمَاعَتَهُمْ، فَانْصَرَفَ، وَكُنَّا نَفْتَحُ الْكَعْبَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، فَأَقْبَلَ يَوْمًا يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ الْكَعْبَةَ مَعَ النَّاسِ، فَغَلَّظْتُ لَهُ وَنِلْتُ مِنْهُ، وَحَلُمَ عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: «يَا عُثْمَانُ، لَعَلَّكَ سَتَرَى هَذَا الْمِفْتَاحَ يَوْمًا بِيَدِي أَضَعُهُ حَيْثُ شِئْتُ» ، فَقُلْتُ لَهُ: لَقَدْ هَلَكَتْ قُرَيْشٌ يَوْمَئِذٍ وَذَلَّتْ، قَالَ: «بَلْ عَزَّتْ» . وَدَخَلَ الْكَعْبَةَ، فَوَقَعَتْ كَلِمَتُهُ مِنِّي مَوْقِعًا ظَنَنْتُ أَنَّ الأَمْرَ سَيَصِيرُ إِلَى مَا قَالَ، فَأَرَدْتُ الإِسْلامَ، فَإِذَا قَوْمِي يزئروني زئيرا شَدِيدًا، فَلَمَّا هَاجَرَ جَعَلَتْ قُرَيْشٌ تُشْفِقُ مِنْ رُجُوعِهِ عَلَيْهَا، فَهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ حَتَّى جَاءَ إِلَى بَدْرٍ، فَخَرَجْتُ فِيمَنْ خَرَجَ، وَشَهِدْتُ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَهُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ عَامَ الْقَضِيَّةِ غَيَّرَ اللَّهُ قَلْبِي وَدَخَّلَنِي الإِسْلَامَ، وَجَعَلْتُ أُفَكِّرُ فيما نحن عليه
__________
[1] طبقات ابن سعد 5/ 1/ 331.(5/189)
وَمَا نَعْبُدُ مِنْ حَجَرٍ لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ، وَأَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَظَلْفَ أَنْفُسِهِمْ عَنِ الدُّنْيَا، فَيَقَعُ ذَلِكَ مِنِّي، وَلَمْ يَعْزِمْ، إِلَى أَنْ آتِيَهُ حَتَّى انْصَرَفَ إِلَى الْمَدِينَةِ رَاجِعًا، ثُمُّ عَزَمَ 77/ ب لِي عَلَى الْخُرُوجِ إِلَيْهِ، فَأَدْلَجْتُ، فَأَلْقَى خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَاصْطَحَبْنَا حَتَّى نَزَلْنَا/ الْهَدَّةَ، فَمَا شَعَرْنَا إِلا بِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَانْقَمَعْنَا مِنْهُ وَانْقَمَعَ مِنَّا، ثُمَّ قَالَ: أَيْنَ يُرِيدُ الرَّجُلانِ؟
فَأَخْبَرْنَاهُ، فَقَالَ: وَأَنَا أُرِيدُ الَّذِي تُرِيدَانِ، فَاصْطَحَبْنَا حَتَّى قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعْتُهُ عَلَى الإِسْلَامِ وَأَقَمْتُ مَعَهُ حَتَّى دَخَلْتُ مَعَهُ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ وَدَخَلَ مَكَّةَ وَقَالَ لِي: «يَا عُثْمَانُ، ائْتِ بِالْمِفْتَاحِ» فَأَتَيْتُ بِهِ، فَأَخَذَهُ مِنِّي ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَيَّ، فَقَالَ: «خُذْهَا تَالِدَةً خَالِدَةً لا يَنْزِعُهَا إِلا ظَالِمٌ» . قَالَ مُحَمَّد بن عمر: وكان قدوم عثمان المدينة فِي صفر سنة ثمان، ولم يزل مقيما بالمدينة حتى قبض رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرجع إلى مكة، فنزلها حتى مات بها فِي أول خلافة معاوية.
325- عمرو بن الأسود السكوني [1] :
كان حسن السمت والهدي.
أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْن مالك، قَالَ: حدثنا عبد الله بن أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو اليمان، قال: أخبرنا أبو بكر بن حَكِيمِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَضَمْرَةُ بْنُ حَبِيبٍ، قَالا [2] :
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَدْيِ عَمْرِو بْنِ الأَسْوَدِ.
قَالَ المصنف: كان عمرو إذا خرج من بيته إلى المسجد قبض يمينه على شماله مخافة الخيلاء، وكان يشتري الحلة بمائتي درهم، ويصبغها بدينار ويخمرها النهار كله ويقوم فيها الليل كله.
وقد أسند عن معاذ، وعثمان، والعرباض، وغيرهم.
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 153.
[2] الخبر في مسند أحمد 1/ 19.(5/190)
326- عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى [1] :
أمها أم كرز بنت الحضرمي، أسلمت وبايعت وهاجرت، فتزوجها عَبْد اللَّهِ بن أبي بكر وجعل لها بعض أرضيه على ألا تتزوج بعده، فلما توفي بعث إليها عمر وقَالَ:
إنك قد حرمت على نفسك ما أحل الله لك، فردي المال وتزوجي، فتزوجها عمر، فأرسلت إليها عائشة أن ردي علينا أرضنا.
أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ البارع، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو جعفر بْن المسلمة، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٌ الْمُخَلِّصُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بن داود/ الطوسي، قال: حدّثنا 78/ أالزبير بْنُ بَكَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الضَّحَّاكِ الْحِزَامِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، وَأَحْمَدَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عن عبد الله بن عاصم بن الْمُنْذِرِ- يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ- قَالَ:
تَزَوَّجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقُ عَاتِكَةَ بِنْتَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَكَانَتْ حَسْنَاءَ ذَاتَ خُلُقٍ بَارِعٍ، فَشَغَلَتْهُ عَنْ مَغَازِيهِ، فَأَمَرَهُ أَبُوهُ بِطَلاقِهَا وَقَالَ: إِنَّهَا قَدْ شَغَلَتْكَ عَنْ مَغَازِيكَ، فَقَالَ:
يَقُولُونَ طَلِّقْهَا وَخَيِّمْ مَكَانَهَا ... مُقِيمًا عَلَيْهَا الْهَمَّ أَحْلامَ نَائِمِ
وَإِنَّ فِرَاقِي أَهْلَ بَيْتٍ جَمَعْتُهُمْ ... عَلَى كُرْهٍ مِنِّي لإِحْدَى الْعَظَائِمِ
ثُمَّ طَلَّقَهَا فَمَرَّ بِهِ أَبُوهُ وَهُوَ يَقُولُ:
لَمْ أَرَ مِثْلِي طَلَّقَ الْعَامَ مِثْلَهَا ... وَلا مِثْلَهَا فِي غَيْرِ جُرْمٍ يُطَلَّقُ
لَهَا خُلُقٌ جَزْلٌ وَرَأْيٌ وَمَنْصِبٌ ... وَخَلْقٌ سَوِيٌّ فِي الْحَيَاةِ مُصَدَّقُ
فَرَقَّ لَهُ أَبُوهُ وَأَمَرَهُ بِمُرَاجَعَتِهَا، ثُمَّ شَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَاةً فَأَصَابَهُ سَهْمٌ فَمَاتَ مِنْهُ فَقَالَتْ زَوْجَتُهُ عَاتِكَةُ تَبْكِيهِ:
رُزِيتُ بِخَيْرِ النَّاسِ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ ... وَبَعْدَ أَبِي بَكْرٍ وَمَا كَانَ قَصَّرَا
وَآلَيْتُ لا تَنْفَكُّ عَيْنِي حَزِينَةً [2] ... عَلَيْكَ وَلا يَنْفَكُّ جِلْدِي أَغْبَرَا
فَلِلَّهِ عَيْنَا مَنْ رأى مثله فتى ... أكر وأحمى في الهياح وأصبرا
__________
[1] طبقات ابن سعد 8/ 193.
[2] في رواية: «نفسي حزينة» .(5/191)
إِذَا شَرَعَتْ فِيهِ الأَسِنَّةُ خَاضَهَا ... إِلَى الْمَوْتِ حَتَّى يَتْرُكَ الرُّمْحَ أَحْمَرَا
ثُمَّ تَزَوَّجَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَوْلَمَ، وَكَانَ فِيمَنْ دَعَا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ الله عَنْهُ فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ دَعْنِي أُكَلِّمُ عَاتِكَةَ، فَقَالَ: كَلِّمْهَا يَا أَبَا الْحَسَنِ، فَأَخَذَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِجَانِبِ الْخِدْرِ، ثُمَّ قَالَ: يَا عَدِيَّةَ نَفْسِهَا، تَقُولِينَ:
آلَيْتُ لا تَنْفَكُّ عَيْنِي قَرِيرَةً ... عَلَيْكَ وَلا يَنْفَكُّ جلدي أصفر
فَبَكَتْ، فَقَالَ عُمَرُ: مَا دَعَاكَ إِلَى هَذَا يَا أَبَا الْحَسَنِ، كُلُّ النِّسَاءِ تَفْعَلْنَ هَذَا. ثم قتل 78/ ب عَنْهَا، / ثُمَّ تَزَوَّجَهَا الزُّبَيْرُ، فَكَانَتْ تَخْرُجُ إِلَى الْمَسْجِدِ وَكَانَ يَكْرَهُ خُرُوجَهَا وَيَحْرَجُ مِنْ مَنْعِهَا، فَخَرَجَتْ لَيْلَةً إِلَى الْمَسْجِدِ، وَخَرَجَ الزُّبَيْرُ فَسَبَقَهَا إِلَى مَكَانٍ مُظْلِمٍ، فَلَمَّا مَرَّتْ بِهِ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى بَعْضِ جَسَدِهَا، فَرَجَعَتْ تَتَشَنَّجُ ثُمَّ لَمْ تَخْرُجْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهَا الزُّبَيْرُ:
مالك لا تَخْرُجِينَ إِلَى الْمَسْجِدِ كَمَا كُنْتِ تَفْعَلِينَ؟ فَقَالَتْ: فَسَدَ النَّاسُ، فَقَالَ: أَنَا فَعَلْتُ ذَلِكَ، فَقَالَتْ: أَلَيْسَ يَقْدِرُ غَيْرُكَ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَهُ، وَلَمْ تَخْرُجْ حَتَّى قُتِلَ عَنْهَا الزُّبَيْرُ
.(5/192)
ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين
فمن الحوادث فيها [غزو المسلمين الروم] [1]
أن المسلمين غزوا الروم فهزموهم هزيمة منكرة، وقتلوا جماعة من بطارقتهم.
- وفيها ولى معاوية مروان بن الحكم المدينة.
فاستقضى مروان بن عَبْد اللَّهِ بن الحارث بن نوفل، وعلى مكة خالد بن العاص بن هشام، وكان على الكوفة من قبله المغيرة بن شعبة، وعلى القضاء شريح، وعلى البصرة عَبْد اللَّهِ بن عامر، وعلى قضائها عميرة بن يثربي، [2] وعلى خراسان قيس بن الهيثم من قبل عَبْد اللَّهِ بن عامر
. - وفيها تحركت الخوارج
الذين كانوا انحازوا عمن قتل منهم بالنهروان، ومن كان ارتث من جرحاهم بالنهروان، فبرئ، وعفا عنهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وكان حيان بن ظبيان السلمي [3] يرى رأي الخوارج، وكان ممن ارتث يوم النهروان، فعفا عنه علي رضي الله عنه في أربعمائة عفى عنهم من المرتثين يوم النهر، فلبث فِي أهله شهرا أو نحوه، ثم خرج إلى الري فِي رجال كانوا يرون ذلك الرأي، فلم
__________
[1] العنوان غير موجود في الأصول.
[2] كذا في الأصول، وفي الطبري: «عمرو بن يثربي» .
[3] تاريخ الطبري 5/ 173.(5/193)
يزالوا مقيمين بالري حتى بلغهم قتل علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فدعا أصحابه أولئك وكانوا تسعة عشر رجلا، فأتوه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قَالَ: أيها الإخوان من المسلمين، إنه قد بلغني أن أخاكم ابن ملجم قعد لعلي عند أغباش [1] الصبح، فشد عليه فقتله، فأخذ القوم يحمدون الله على قتله، فقَالَ حيان: إنه والله ما تلبث الأيام لابن آدم حتى تذيقه الموت، فيدع الدنيا التي لا يبكي عليها إلا الفجرة [2] ، فانصرفوا رحمكم الله إلى مصرنا 79/ أفلنأت/ إخواننا فلندعهم إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه لا عذر لنا فِي القعود، وولاتنا ظلمة، وسنة الهدى متروكة، فإن ظفرنا الله بهم يشفِي صدور قوم مؤمنين، وإن نقتل فهي مفارقة الظالمين ففيها راحة، ولنا فِي أسلافنا الصالحين أسوة.
فقالوا: كلنا قابل منك ما ذكرت [3] ، وحامد رأيك، فرد بنا المصر فإنا راضون بهداك.
فخرج وخرجوا معه مقبلين إلى الكوفة، فأحب العافية، [وأحسن فِي الناس السيرة] [4] ، ولم يفتش على أهل الأهواء عن أهوائهم، وكان يقال له: إن فلانا يرى رأي الشيعة، وفلانا يرى رأي الخوارج، فيقول: [قضى الله] [5] ألا تزالون مختلفين، وسيحكم الله بين عباده، فأمنه الناس، وكانت الخوارج يلقي بعضهم بعضا، ويتذاكرون مكان إخوانهم بالنهروان، ويرون فِي جهاد أهل القبلة.
ففزعوا إلى ثلاثة نفر المستورد بن علفة التيمي [6] ، وحيان بن ظبيان، ومعاذ بن حصن الطائي [7] ، فاجتمعوا فِي منزل حيان بن ظبيان، فتشاوروا فيمن يولون عليهم، فقَالَ لهم المستورد: أيها المؤمنون، ما أبالي من كان منكم الوالي، وما شرف الدنيا نريد، وما إلى البقاء فيها من سبيل، فقَالَ حيان: أما أنا فلا حاجة لي فيها، وأنا بك، وبكل امرئ من إخواني راض، فانظروا من شئتم منكم فسموه، فأنا أول من يتابعه.
__________
[1] الأغباش: جمع غبش، وهو بقية الظلمة يخالطهما بياض الفجر.
[2] في الطبري: «لا يبكي عليها إلا العجزة» .
[3] في الطبري: «كلنا قائل ما ذكرت» .
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.
[6] في الأصل: «المستورد بن علقمة» .
[7] في الطبري: «معاذ بن جوين بن حصين الطائي» .(5/194)
فقَالَ معاذ بن حصين: إذا قلتما هذا وأنتما سيدا المسلمين، فمن يرأس المسلمين وليس كلكم يصلح لهذا الأمر، وإنما ينبغي أن يلي على المسلمين إذا كانوا سواء فِي الفضل أبصرهم بالحرب، وأفقههم فِي الدين، وأنتما بحمد الله ممن يرضى بهذا الأمر فليتوله أحدكما، قالا: فتوله أنت، فقد رضيناك، فأنت والحمد للَّه الكامل فِي دينك ورأيك.
فقَالَ: أنتما أسن مني، فليتوله أحدكما. فقَالَ جماعة من الخوارج: قد رضينا بكم أيها الثلاثة، فولوا أيكم أحببتم، فليس فِي الثلاثة رجل قَالَ لصاحبه: تولها فإني بك راض، ثم بايعوا المستورد، وذلك فِي جمادى الآخرة، / ثم أجمعوا على الخروج في غرة 79/ ب هلال شعبان سنة ثلاث وأربعين.
وفِي هذه السنة قدم زياد على معاوية [1]
من فارس بعد أن كان قد امتنع بقلعة من قلاعها أكثر من سنة، فصالحه معاوية على مال يحمله إليه.
وكان سبب ذلك، أن عَبْد الرَّحْمَنِ بن أبي بكرة كان يلي ما كان لزياد بالبصرة، فبلغ معاوية أن لزياد أموالا عند عَبْد الرَّحْمَنِ، وخاف زياد على أشياء كانت فِي يدي عَبْد الرَّحْمَنِ لزياد، فكتب إليه يأمره بإحرازها، وبعث معاوية المغيرة بن شعبة لينظر فِي أموال زياد، فقدم البصرة، وأخذ عَبْد الرَّحْمَنِ وكتب إلى معاوية: إني لم أصب فِي يدي عَبْد الرَّحْمَنِ شيئا يحل لي أخذه، وكتب معاوية إلى زياد: علام تهلك نفسك أقبل فأعلمني علم ما صار إليك من المال وما خرج من يديك وما بقي عندك وأنت آمن فأتاه فأخبره فصدقه، ثم سأله أن يأذن له فِي نزول الكوفة، فأذن له فشخص إليها.
وفِي هذه السنة حج بالناس عنبسة بن أبي سفيان وفيها: ولد الحجاج بن يوسف.
__________
[1] تاريخ الطبري 5/ 176.(5/195)
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
327- عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعد بن سهم، أبو عَبْد اللَّهِ: [1]
أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا ابْنُ حَيْوَيَةَ، قالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ مُعَاوِيَةَ، قَالَ: حدثنا ابْن الفهم، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ:
كُنْتُ للإسْلامِ مُجَانِبًا مُعَانِدًا، حَضَرْتُ بَدْرًا مَعَ الْمُشْرِكِينَ فَنَجَوْتُ، ثُمَّ حَضَرْتُ أُحُدًا فَنَجَوْتُ، ثُمَّ حَضَرْتُ الْخَنْدَقَ فَنَجَوْتُ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: كَمْ أُوضَعُ؟ وَاللَّهِ لَيَظْهَرَنَّ مُحَمَّدٌ عَلَى قُرَيْشٍ فَلَمْ أَحْضُرِ الْحُدَيْبِيَةَ وَلَا صُلْحَهَا، وَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم بالصلح، 80/ أورجعت قُرَيْشٌ إِلَى مَكَّةَ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ: يَدْخُلُ مُحَمَّدٌ إِلَى/ مَكَّةَ بِأَصْحَابِهِ، مَا مَكَّةُ لَنَا بِمَنْزِلٍ وَلَا الطَّائِفُ، وَمَا شَيْءٌ خَيْرٌ مِنَ الْخُرُوجِ، وَأَنَا بَعْدُ نَأْيٌ عَنِ الإِسْلامِ، أَرَى لَوْ أَسْلَمَتْ قُرَيْشٌ كُلُّهَا لَمْ أُسْلِمْ، فَقَدِمْتُ مَكَّةَ، فَجَمَعْتُ رِجَالا مِنْ قَوْمِي كَانُوا يَرَوْنَ رَأْيِي وَيَسْمَعُونَ مِنِّي، وَيُقَدِّمُونِي فِيمَا نَابَهُمْ، فَقُلْتُ لَهُمْ: كَيْفَ أَنَا فِيكُمْ؟ قَالُوا: ذُو رَأْيِنَا وَمَدَدُ وَهْنِنَا مَعَ يُمْنِ نَقِيبَةٍ وَبَرَكَةِ أَمْرٍ، قُلْتُ: تَعْلَمُنَّ وَاللَّهِ إِنِّي لأَرَى أَمْرَ مُحَمَّدٍ يَعْلُو الأمور علوا مُنْكَرًا، وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَأْيًا، قَالُوا: مَا هُوَ؟ قُلْتُ: نَلْحَقُ بِالنَّجَاشِيِّ فَنَكُونُ عِنْدَهُ فَإِنْ يَظْهَرْ [مُحَمَّدٌ] [2] كُنَّا عِنْدَ النَّجَاشِيِّ تَحْتَ يَدَيْهِ أَحَبَّ إِلَيْنَا أَنْ نَكُونَ تَحْتَ يَدَيْ مُحَمَّدٍ، وَإِنْ تَظَهَرْ قُرَيْشٌ فَنَحْنُ مَنْ قَدْ عَرَفُوا، قَالُوا: هَذَا الرَّأْيُ، قُلْتُ فَاجْمَعُوا مَا تُهْدُونَ لَهُ، وَكَانَ أَحَبَّ مَا يُهْدَى إِلَيْهِ مِنْ أَرْضِنَا الأدَمُ، فَجَمَعْنَا أَدَمًا كَثِيرًا ثُمَّ خَرَجْنَا فقدمنا على النجاشي فو الله إنا لعنده إِذْ جَاءَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ، وَكَانَ رسول الله صلي الله عليه وسلم قد بَعَثَهُ إِلَيْهِ بِكِتَابٍ كَتَبَهُ إِلَيْهِ يُزَوِّجُهُ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، فَقُلْتُ لأَصْحَابِي: هَذَا عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ، وَلَوْ قَدْ دَخَلْتُ عَلَى النَّجَاشِيِّ سَأَلْتُهُ إِيَّاهُ فَأَعْطَانِيهِ فَضَرَبْتُ عُنُقَهُ، فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ سَرَرَتْ قُرَيْشًا وَكُنْتُ قَدْ أَجْزَأْتُ عنها حين قتلت رسول محمد.
__________
[1] طبقات ابن سعد 4/ 2/ 2، 7/ 2/ 188.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، وأوردناه من ت.(5/196)
فَدَخَلْتُ عَلَى النَّجَاشِيِّ فَسَجَدْتُ لَهُ كَمَا كُنْتُ أَصْنَعُ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِصَدِيقِي، أَهْدَيْتَ لِي مِنْ بِلادِكَ شَيْئًا؟ قُلْتُ: نَعَمْ أَيُّهَا الْمَلِكُ، أَهْدَيْتُ لك أدما كثيرا، ثم قربته إليه فأعجبه، وفرق مِنْهُ أَشْيَاءَ بَيْنَ بَطَارِقَتِهِ، وَأَمَرَ بِسَائِرِهِ فَأُدْخِلَ في موضع، فلما رَأَيْتُ طِيبَةَ نَفْسِهِ قُلْتُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنِّي رَأَيْتُ رَجُلا خَرَجَ مِنْ عِنْدِكَ وَهُوَ رَسُولُ رَجُلٍ هُوَ عَدُوُّنَا، وَقَدْ وَتَرَنَا وَقَتَلَ أَشْرَافَنَا وَخِيَارَنَا فَأَعْطِنِيهِ فَأَقْتُلُهُ، فَغَضِبَ وَرَفَعَ يَدَهُ فَضَرَبَ بِهَا أَنْفِي ضَرْبَةً ظَنَنْتُ أَنَّهُ كَسَرَهُ، وَابْتَدَرَ منخراي فجعلت أَتَلَقَّى الدَّمَ بِثِيَابِي وَأَصَابَنِي مِنَ الذُّلِّ مَا لَوْ شُقَّتِ الأَرْضُ دَخَلْتُ فِيهَا فَرَقًا مِنْهُ، فَقُلْتُ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، لَوْ ظَنَنْتُ أَنَّكَ/ تكره ما قلت 80/ ب مَا سَأَلْتُكَ إِيَّاهُ. قَالَ: فَاسْتَحْيَا وَقَالَ: يَا عمرو، تسألني أن أعطيك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من يَأْتِيهِ النَّامُوسُ الأَكْبَرُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى، وَالَّذِي كَانَ يَأْتِي عِيسَى أُعْطِيكَهُ لِتَقْتُلَهُ؟ قَالَ عَمْرٌو: وَغَيَّرَ اللَّهُ قَلْبِي عَمَّا كُنْتُ عَلَيْهِ وَقُلْتُ فِي نَفْسِي: عَرَفَ هَذَا الْحَقَّ الْعَرَبُ وَالْعَجَمُ وَتُخَالِفُ أَنْتَ، قُلْتُ: وَتَشْهَدُ أَيُّهَا الْمَلِكُ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَم أَشْهَدُ بِهِ عِنْدَ اللَّهِ يَا عَمْرُو فَأَطِعْهُ وَاتَّبِعْهُ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَعَلَى الْحَقِّ، وَلَيَظْهَرَنَّ عَلَى كُلِّ مَنْ خَالَفَهُ كَمَا ظَهَرَ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ، قُلْتُ: أَفَتُبَايِعُنِي لَهُ عَلَى الإِسْلَامِ، قَالَ: نَعَمْ، فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعْتُهُ عَلَى الإِسْلامِ، وَدَعَى لِي بِطِسْتٍ فَغَسَلَ عَنِّي الدَّمَ وَكَسَانِي ثِيَابًا وَكَانَتْ ثِيَابِي قَدِ امْتَلَأَتْ مِنَ الدَّمِ فَأَلْقَيْتُهَا ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى أصحابي، فلما رأوا كِسْوَةَ الْمَلِكِ سُرُّوا بِذَلِكَ، وَقَالُوا: هَلْ أَدْرَكْتَ مِنْ صَاحِبِكَ مَا أَرَدْتَ؟ فَقُلْتُ لَهُمْ: كَرِهْتُ أَنْ أُكَلِّمَهُ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ وَقُلْتُ: أَعُودُ إِلَيْهِ، قَالُوا: الرَّأْيُ مَا رَأَيْتَ، وَفَارَقْتُهُمْ وَكَأَنِّي أَعْمَدُ لِحَاجَةٍ، فَعَمَدْتُ إِلَى مَوْضِعِ السُّفُنِ فَوَجَدْتُ سَفِينَةً قَدْ شُحِنَتَ تَدْفَعُ، فَرَكِبْتُ مَعَهُمْ وَدَفَعُوهَا مِنْ سَاعَتِهِمْ حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الشَّعْبِيَّةِ، فَخَرَجْتُ بها ومعي نفقة واتبعت بَعِيرًا وَخَرَجْتُ أُرِيدُ الْمَدِينَةَ حَتَّى أَتَيْتُ عَلَى مر الظهران، ثم مضيت حتى إِذَا كُنْتُ بِالْهَدَّةَ إِذَا رَجُلانِ قَدْ سَبَقَا فِي بَعِيرٍ كَبِيرٍ يُرِيدَانِ مَنْزِلا وَأَحَدُهُمَا دَاخِلٌ فِي خَيْمَةٍ وَالآخَرُ قَائِمٌ يَمْسِكُ الرَّاحِلَتَيْنِ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَقُلْتُ: أَبَا سُلَيْمَانَ، قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: مُحَمَّدًا، دَخَلَ النَّاسُ فِي الإِسْلامِ فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ بِهِ طُعْمٌ، وَاللَّهِ لَوْ أَقَمْنَا لأَخَذَ بِرِقَابِنَا كَمَا يُؤْخَذُ بِرَقَبَةِ الضَّبُعِ فِي مَغَارَتِهَا، قُلْتُ: وَاللَّهِ وَأَنَا قَدْ أَرَدْتُ مُحَمَّدًا وَأَرَدْتُ الإِسْلامَ.
وَخَرَجَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ فَرَحَّبَ بِي فَنَزَلْنَا جَمِيعًا فِي الْمَنْزِلِ ثُمَّ تَرَافَقْنَا حَتَّى قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَمَا أَنْسَى قَوْلَ رَجُلٍ لَقِيَنَا بِبِئْرِ أَبِي عُتْبَةَ يَصِيحُ: يَا رَبَاحُ يَا رَبَاحُ، فتفاءلنا بقوله(5/197)
وَسُرِرْنَا، ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْنَا فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَدْ أُعْطِيَتْ مَكَّةُ الْمُقَادَةَ بَعْدَ هَذَيْنِ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَعْنِينِي وَيَعْنِي خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، ثُمَّ وَلَّى مُدْبِرًا إِلَى الْمَسْجِدِ سَرِيعًا، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُبَشِّرُ 81/ أرسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُدُومِنَا، وَكَانَ كَمَا/ ظَنَنْتُ، وَأَنَخْنَا بِالْحَرَّةِ فَلَبِسْنَا مِنْ صَالِحِ ثِيَابِنَا، وَنُودِيَ بِالْعَصْرِ فَانْطَلَقْنَا جَمِيعًا حَتَّى طَلَعْنَا عليه صلّى الله عليه وسلّم وَإِنَّ لِوَجْهِهِ تَهَلُّلا وَالْمُسْلِمُونَ حَوْلَهُ قَدْ سُرُّوا بِإِسْلامِنَا، فَتَقَدَّمَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَبَايَعَ، ثُمَّ تقدم عثمان فبايع، ثم تقدمت، فو الله مَا هُو إِلا أَنْ جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَمَا اسْتَطَعْتُ أَنْ أَرْفَعَ طَرْفِي إِلَيْهِ حَيَاءً مِنْهُ، فَبَايَعْتُهُ عَلَى أَنْ يَغْفِرَ لِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي وَلَمْ يَغْفِرْ لِي مَا تَأَخَّرَ، فَقَالَ: «إِنَّ الإِسْلامَ يَجُبُّ مَا كَانَ قبله، والهجرة تجب ما كان قبلها» . فو الله مَا عَدَلَ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِخَالِدٍ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِي فِي أَمْرِ حَرْبِهِ مِنْ حَيْثُ أَسْلَمْنَا، وَلَقَدْ كُنَّا عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ، وَلَقَدْ كُنْتُ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِتِلْكَ الْحَالِ.
قَالَ عبد الحميد: أخبرني أبي: أنهم قدموا المدينة لهلال صفر سنة ثمان.
قَالَ علماء السير [1] : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص فِي وجوه منها غزاة ذات السلاسل، وأمده فيها بثمانين منهم أبو بكر، وعمر، وأبو عبيدة، ومنها إلى صنم هذيل، وهو سواع فكسره، وإلى بني فزارة فصدقهم.
واستعمله أبو بكر على الشام وأمده بخالد بن الوليد فكان أمير الناس يوم أجنادين ويوم فحل، وفِي حصار دمشق حتى فتحت. وولاه عمر وعثمان، ثم مال إلى معاوية وكان أحد الحكمين على ما سبق ذكره.
ذكر وفاته: كان عند الموت يقول: كأن على عنقي جبال رضوى، وكأن فِي جوفِي الشوك، وكأن نفسي تخرج من ثقب إبرة، واعتق كل مملوك له.
أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عبد الجبار، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَتْحِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الحسين ابْن أخي ميمي، قَالَ: أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَوَّاصُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ مَسْرُوقٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ دِينَارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُتْبِيُّ، قَالَ: حدّثني أبي، قال:
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 188.(5/198)
دَخَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَعُودُهُ، فَقَالَ: كَيْفَ تَجِدُكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟
قَالَ: أَجِدُنِي قَدْ أَفْسَدْتُ دِينِي بِدُنْيَايَ، أَصْلَحْتُ مِنْ دُنْيَايَ قَلِيلا/ وَأَفْسَدْتُ مِنْ آخِرَتِي 81/ ب كَثِيرًا، فَوَدِدْتُ أَنَّ الَّذِي أَفْسَدْتُ هُوَ الَّذِي أَصْلَحْتُ، أَنَّ الَّذِي أَصْلَحْتُ هُوَ الَّذِي أَفْسَدْتُ، وَلَوْ كَانَ يُنَجِّينِي تَرْكُ مَا فِي يَدِي لَتَرَكْتُهُ، وَلَوْ كُنْتُ أُدْرِكُ مَا أَطْلُبُ طَلَبْتُ، فَقَدْ صِرْتُ كَالْمَنْجَنِيقِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، لا يَرَقَى بِيَدٍ، وَلا يَرْقَى بِرِجْلٍ، فَهُوَ مُتَحَيِّرٌ بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَيَأْمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَوْتِ رَاحَتُهُ، وَيَخَافُ مِمَّا قَدَّمَتْ يَدُهُ، فَعِظْنِي يَا ابْنَ أَخِي، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تَبْكِي بَكَيْتُ، فَلَسْتَ تَدْرِي مَتَى يَقَعُ الأَمْرُ وَأَنْتَ تَأْمُرُنَا بِالرَّحِيلِ وَأَنْتَ مُقِيمٌ، وَلَوْ دَعَوْتَ دَعْوَةً لا تُلْقِي صَوْلَهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ:
فَغَضِبَ عَمْرٌو وَقَالَ: تُؤْنِسُنِي مِنْ نَفْسِي وَتُؤْنِسُنِي مِنْ رَحْمَةِ رَبِّي، اللَّهمّ خُذْ مِنِّي حَتَّى تَرْضَى، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَيْهَاتَ يَا عَبْدَ اللَّهِ سَلَفْتَ جَدِيدًا وَتُعْطِي خَلِقًا، فَقَالَ عَمْرٌو:
مَا لِي وَلَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، مَا سَرَّحْتُ كَلِمَةً إِلَى رَبِّي إِلَّا أَخَذْتَ بِغَيِّهَا، ثُمَّ تَمَثَّلَ عَمْرٌو:
كَمْ عَائِد رَجُلا وَلَيْسَ يَعُودُهُ ... إِلا لِيَنْظُرَ هَلْ يَرَاهُ يَفْرَقُ [1]
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عَمْرَوَيْهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ شَعْبَانُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ [2] ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ- يَعْنِي أَبَا عَاصِمٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ شِمَّاسَةَ الْمَهْرِيُّ، قَالَ [3] :
حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَهُوَ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ، فَبَكَى طَوِيلا وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْجِدَارِ، فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ: يَا أَبَتَاهُ، أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَذَا، أَمَا بَشَّرَكَ بِكَذَا؟
قَالَ: فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: إِنَّ أَفْضَلَ مَا تَعُدُّ شَهَادَةُ أَنْ لا إله إلا الله وأن محمدا رسول اللَّهِ، إِنِّي قَدْ كُنْتُ عَلَى أَطْبَاقٍ ثَلاثٍ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَمَا أَحَدٌ أَشَدُّ بُغْضًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنِّي وَلا أَحَبُّ إِلَي مِنْ أَنْ يَكُونَ اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ فَقَتَلْتَهُ فَلَوْ مِتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَكُنْتُ من أهل
__________
[1] في ت: «يفوت» .
[2] في ت: «بن الجراح» .
[3] الخبر في طبقات ابن سعد 4/ 2/ 6.(5/199)
82/ أالنار، فَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الإِسْلَامَ فِي قَلْبِي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/، فَقُلْتُ: ابْسُطْ يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه فَقَبَضْتُ يَدِي، فَقَالَ: مَا لَكَ يَا عَمْرُو، قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ، قَالَ: مَاذَا؟ قُلْتُ: أَنْ يَغْفِرَ لِي، قَالَ: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِسْلامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ» وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا أَجَلَّ فِي عَيْنِي مِنْهُ، وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلأَ عَيْنِي مِنْهُ فَلَوْ مِتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَرَجَوْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ وُلِّينَا أَشْيَاءَ بَعْدُ، فَلَسْتُ أَدْرِي مَا حَالِي فِيهَا، فَإِذَا أَنَا مِتُّ فَلا تَصْحَبْنِي نَائِحَةٌ وَلا نَارٌ، فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَسنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ سَنًّا، ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا يُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي.
توفي عمرو بن العاص فِي هذه السنة بمصر وهو واليها، وقيل: فِي سنة ثلاث وأربعين، وكان قد عمل على مصر لعمر رضي الله عنه أربع سنين، ولعثمان أربع سنين، ولمعاوية سنتين إلا شهرا
.(5/200)
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين
فمن الحوادث فيها غزوة بسر بن أبي أرطأة الروم [1]
حتى بلغ القسطنطينية. فيما ذكر الواقدي.
وفيها ولى معاوية عَبْد اللَّهِ بن عمرو بن العاص مصر
بعد موت أبيه، فوليها له نحوا من سنتين.
وفيها قتل المستورد بن علفة الخارجي [2]
فيما ذكر هشام بن الكلبي، وقَالَ قوم: قتل فِي سنة اثنتين وأربعين.
ذكر سبب قتله
قد ذكرنا اجتماع بقايا الخوارج الذين كانوا ارتثوا [3] يوم النهر، واعتمادهم على الثلاثة الذين هذا أحدهم، ومبايعتهم المستورد، وأن ذلك كان فِي جمادى، وأنهم اجتمعوا فِي منزل حيان بن ظبيان على الخروج فِي شعبان، فبلغ خبرهم إلى المغيرة بن شعبة، فقَالَ لصاحب الشرطة: سر بالشرطة حتى تحيط بدار حيان بن ظبيان فأتني به، فأتاه ومعه نحو من عشرين من أصحابه، فانطلق به إلى المغيرة بن شعبة، فقَالَ لهم: ما حملكم على ما أردتم من شق عصا المسلمين؟ قالوا: ما أردنا من ذلك من شيء،
__________
[1] تاريخ الطبري 5/ 181.
[2] نفس المرجع والصفحة.
[3] «ارتثوا» : سقطت من ت.(5/201)
قالَ: بل بلغني وصدق ذلك عندي اجتماعكم، فقالوا: أما اجتماعنا فإن حيان بن ظبيان أقرانا للقرآن فنحن نجتمع فِي منزله فنقرأ القرآن عليه، قَالَ: اذهبوا بهم إلى السجن، فلم يزالوا فيه نحوا من سنة.
وسمع إخوانهم بأخذهم، فخرج المستورد فنزل دارا بالحيرة، وكان إخوانه يختلفون إليه ويتجهزون، فلما كثر اختلاف أصحابه إليه قَالَ: تحولوا بنا عن هذا المكان فإني لا آمن أن يطلع عليكم، فإنهم لفِي ذلك [يقول بعضهم لبعض: نأتي مكان كذا وكذا، ويقول بعضهم: نأتي مكان كذا وكذا] [1] ، إذ أشرف عليهم حجار بن أبجر وإذا بفارسين قد أقبلا فدخلا الدار، ثم جاء آخر، ثم جاء آخر، وكان خروجهم قد اقترب، فقَالَ حجار لصاحب الدار: ويحك ما هذه الخيل الذي أراها تدخل هذه الدار، فقَالَ:
لا أدري إلا أن الرجال يختلفون إلى هذه الدار رجالا وفرسانا، فركب حجار حتى انتهى إلى بابهم، وإذا عليه رجل منهم، فإذا أتى إنسان استأذن، فقَالَ له: من أنت؟ قَالَ:
حجار بن أبجر، فدخل يستأذن له، فدخل خلفه فإذا الرجل يقول لهم: قد جاء حجار فقالوا: والله ما جاء لخير، فقَالَ حجار: السلام عليكم ثم انصرف، فقَالَ بعضهم لبعض:
أدركوه فاحبسوه فإنه مؤذن بكم، فخرج منهم جماعة إليه، فإذا هو قد ركب فرسه، فقالوا: لم يأت لشيء يروعكم، قالوا: أفتؤمننا من الإذن بنا؟ قَالَ: أنتم آمنون، ثم تفرقوا عن ذلك المكان.
وبلغ خبرهم المغيرة فحذر الناس أن يؤويهم، وبعث المستورد إلى أصحابه اخرجوا، فاتعدوا سورا، وخرجوا إليها متقطعين من أربعة وخمسة. فبلغ الخبر المغيرة، فبعث معقل بن قيس فِي ثلاثة آلاف، وقَالَ له: يا معقل إني قد بعثت معك فرسان أهل 83/ أالمصر، ثم أمرت بهم فانتخبوا انتخابا، / فسر إلى هذه العصابة المارقة الذين فارقوا جماعتنا، وشهدوا علينا بالكفر، فادعهم إلى التوبة وإلى الدخول فِي الجماعة، فإن فعلوا فاقبل منهم، واكفف عنهم، وإن لم يفعلوا فناجزهم واستعن باللَّه عليهم، فقَالَ له:
هل بلغك- أصلحك الله- أين منزل القوم؟ قَالَ: نعم، كتب إلي سماك بن عبيد
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.(5/202)
القيسي، [1] وكان عاملا له على المدائن، يخبرني أنهم ارتحلوا حتى نزلوا بهرسير، وأنهم أرادوا أن يعبروا إلى المدينة العتيقة التي بها منازل كسرى، فمنعهم سماك أن يجوزوا، فنزلوا بمدينة بهرسير مقيمين، فاخرجوا إليهم، وانكمش فِي آثارهم ولا تدعهم والإقامة فِي بلد أكثر من الساعة التي تدعوهم فيها، فإن قبلوا وإلا فناهضهم، فإنهم لن يقيموا ببلد يومين إلا أفسدوا كل من خالطهم، فخرج من يومه فبات بسورا، فبعث المغيرة مولاه ورادا إلى المسجد فقام فقَالَ: أيها الناس، إن معقل قد سار إلى هذه العصبة المارقة وهو بائت الليلة بسورا، فلا يتخلف عنه أحد من أصحابه ألا وإن الأمير يخرج على كل رجل من المسلمين ويعزم عليهم أن يبيتوا [2] بالكوفة، وأيما رجل من هذا البعث وجدناه بعد يومنا هذا بالكوفة فقد أحل بنفسه.
قَالَ عَبْد الرَّحْمَنِ بن جندب، [عن عَبْد اللَّهِ بن عقبة] [3] الغنوي، [قَالَ] : [4] كنت فيمن خرج مع المستورد، وكنت أحدث رجل منهم، فخرجنا حتى أتينا الصراة، فأقمنا بها حتى تتامت جماعتنا، ثم خرجنا حتى انتهينا إلى بهرسير، فدخلناها، ونذر بنا سماك بن عبيد العبسي، وكان على المدينة العتيقة، فلما ذهبنا لنعبر الجسر إليهم قاتلنا [5] عليه، ثم قطعه علينا، فأقمنا ببهرسير. قَالَ: فدعاني المستورد فقَالَ لي:
أتكتب يا ابن أخي؟ قلت: نعم، فدعا برق ودواة، وقَالَ: اكتب: من عَبْد اللَّهِ المستورد أمير المؤمنين إلى سماك بن عبيد، أما بعد. فإنا نقمنا على قومنا الجور فِي الأحكام، وتعطيل الحدود والاستئثار بالفيء، وإنا ندعوك إلى كتاب الله، وسنة نبيه وولاية/ أبي 83/ ب بكر وعمر، والبراءة من علي وعثمان، لإحداثهما فِي الدين، وتركهما حكم الكتاب، فإن تقبل فقد أدركت رشدك، وإن لا تقبل فقد أبلغنا فِي الإعذار إليك، وقد آذناك بحرب، ونبذنا إليك على سواء، إن الله لا يحب الخائنين.
__________
[1] في الطبري: «عبيد العبسيّ» .
[2] في الأصل: «أن يبت» .
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.
[4] الخبر في تاريخ الطبري 5/ 190.
[5] في الأصل: «لنعبر الجسر عليهم قاتلنا» .(5/203)
ثم قَالَ [المستورد] : انطلق بهذا الكتاب إلى سماك، فادفعه إليه واحفظ ما يقول لك، والقني.
فقلت له: أصلحك الله، لو أمرتني أن أستعرض دجلة فألقي نفسي فيها ما عصيتك، ولكن ما آمن أن يتعلق بي سماك فيحبسني عنك، فإذا أنا قد فاتني ما أرجو من الجهاد. فتبسم وقَالَ: يا ابن أخي، إنما أنت رسول والرسول لا يعرض له ولو خشيت ذلك عليك لم أبعثك. فخرجت حتى عبرت إليهم فِي معبر، فقالوا: من أنت؟ فقلت:
رسول أمير المؤمنين المستورد، فلما وصلت إلى سماك أريته الكتاب، قَالَ: اذهب إلى صاحبك فقل له: اتق الله وارجع عن رأيك هذا، وادخل فِي جماعة المسلمين، ثم قَالَ لأصحابه: إنهم خلوا بهذا. فأخذوا يقرءون عليه القرآن، ويتخشعون [1] ويتباكون، فظن أنهم على شيء، ثم قَالَ: انطلق يا بني إلى صاحبك، إنما تندم لو قد اكتنفتكم الخيل، وأشرعت فِي صدوركم الرماح، هناك تمنى أنك كنت فِي بيت آبائك [2] .
فانصرفت من عنده إلى صاحبي، فأخبرته، فقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ 2: 6- 7 [3] .
فمكثنا يومين أو ثلاثة، فاستبان لهم مسير معقل بن قيس إلينا، فجمعنا المستورد وقَالَ: أشيروا علي، فقَالَ بعضنا: والله ما خرجنا نريد إلا الله وقد جاءونا فأين نذهب عنهم. وقالت طائفة: بل نعتزل ونتنحى، وندعو الناس.
فقَالَ: يا معشر المسلمين، إني والله ما خرجت ألتمس الدنيا ولا البقاء، وما أحب أنها لي بحذافيرها، وما أحب إلا التماس الشهادة، وإني قد نظرت فيما استشرتكم به 84/ أفرأيت ألا أقيم لهم حتى يقدمون علي [4] وهم جامّون، ولكني رأيت أن أسير/ حتى
__________
[1] في الطبري: «يتخضعون» .
[2] في الطبري: «تمنى لو كنت في بيت أمك» .
[3] سورة: البقرة، الآية: 6.
[4] في الطبري: «حتى يقدموا عليّ» .(5/204)
أمعن فإنهم إذا بلغهم ذلك خرجوا فِي طلبنا فتقطعوا وتبددوا، فعلى ذلك الحال ينبغي لنا أن نقاتلهم، فأخرجوا بنا على اسم الله.
فخرجنا فمضينا على شاطئ دجلة حتى انتهينا إلى جرجرايا، فعبرنا دجلة، فمضينا كما نحن فِي أرض جوخى [1] حتى بلغنا المذار، فأقمنا.
وقَالَ عَبْد اللَّهِ بن الحارث [2] : كنت فِي الذين خرجوا مع معقل حين خرج، وكان أول منزل نزلناه سورا.
[قَالَ] [3] : فمكثنا به يوما حتى اجتمع إليه جل أصحابه، ثم خرجنا مسرعين مبادرين لعدونا أن يفوتنا [4] ، ثم سرنا حتى دنونا من المدائن، فاستقبلنا الناس يخبروننا أنهم قد ارتحلوا، فشق ذلك علينا وأيقنا بالعناء [وطول الطلب] [5] .
وجاء معقل حتى نزل على باب مدينة بهرسير، فخرج إليه سماك فسلم عليه، وبعث إليه ما يصلح الجند، فأقام ثلاثا. ثم جمع أصحابه وقَالَ: إن هؤلاء المارقة إنما خرجوا على وجوههم إرادة أن تتعجلوا فِي آثارهم [فتقطعوا] [6] وتبددوا، وإنه ليس شيء يدخل عليكم من ذلك إلا وقد يدخل عليهم مثله، فخرج بنا من المدائن، فقدم بين يديه أبو الرواغ [7] فِي ثلاثمائة فارس، واتبع أثره فلحقهم أبو الرواغ [8] بالمذار مقيمين، فاستشار أصحابه فِي قتالهم قبل قدوم معقل عليه، فقَالَ: بعضهم: أقدم بنا، وقَالَ آخرون: حتى يأتينا أميرنا، فبات أصحاب أبي الرواغ يتحارسون، فخرج القوم عليهم وهم عدتهم هؤلاء ثلاثمائة، وهؤلاء ثلاثمائة، فلما اقتربوا شدوا على أصحاب أبي الرواغ، فانهزموا فصاح أبو الرواغ: يا فرسان السوء، قبحكم الله، الكرة الكرة، فحمل
__________
[1] في الأصل: «أرض كوخى» .
[2] الخبر في تاريخ الطبري 5/ 194.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
[4] في الأصل: «أن يفوتونا» .
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول أوردناها من الطبري.
[6] ما بين المعقوفتين: بياض في الأصل، استدركناه، من أ، والطبري.
[7] في الأصل: «أبا الوزاع» .
[8] في الأصل: «أبا الوزاع» .، وكذا في باقي الرواية.(5/205)
وحمل أصحابه ثم انكشفوا، فقَالَ أبو الرواغ: ثكلتكم أمهاتكم، انصرفوا بنا فلنكر قريبا من القوم حتى يأتينا أميرنا، فما زالوا يطاردونهم وينحاز أبو الرواغ وأصحابه.
وبلغ الخبر إلى معقل، فأسرع في نحو من سبعمائة فارس من أهل القوة والشجاعة، فلما وصل شدوا عليه، فانجفل عامة أصحابه فنزل وقَالَ: الأرض الأرض، 84/ ب/ ونزل معه أبو الرواغ ونحو من مائتي فارس، فلما غشيهم المستورد وأصحابه استقبلوهم بالرماح والسيوف، فانجفلت خيل معقل ثم كرت، وأقبل شريك بن الأعور مددا لمعقل، فرأى المستورد ما لا يطيق، فذهب بأصحابه فِي الليل، فعادوا إلى جرجرايا فتبعهم أبو الرواغ فقاتلهم قتالا شديدا وظنوا أن معقلا يأتي بعده، فذهبوا حتى قطعوا دجلة، وسار أبو الرواغ فِي آثارهم، وجاء معقل متبعا آثار أبو الرواغ، فانصرفوا إلى ساباط، ثم اقتتلوا، فهلك الخوارج، وصاح المستورد: يا معقل ابرز لي، فبرز له فأشرع المستورد الرمح فِي صدر معقل حتى خرج السنان من ظهره، وضربه معقل بالسيف على رأسه فخرا ميتين وتبدد من بقي.
وفِي هذه السنة حج بالناس مروان بن الحكم، وكان على المدينة. وكان على مكة خالد بن العاص بن هشام، وعلى الكوفة المغيرة بن شعبة، وعلى قضائها شريح، وعلى البصرة وفارس وسجستان وخراسان عَبْد اللَّهِ بن عامر، وعلى قضائها عمير بن يثربي.
ذكر من توفي فِي هذه السنة
328- عَبْد اللَّهِ بن سلام، يكنى أبا يوسف [1] :
وكان اسمه [الحصين] [2] ، فلما أسلم سماه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْد اللَّهِ، وهو من ولد يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي طاهر، قَالَ: أَخْبَرَنَا الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيويه،
__________
[1] طبقات ابن سعد 2/ 2/ 111.
[2] ما بين المعقوفتين: سقط من الأصل.(5/206)
قال: أخبرنا أحمد بن معروف، قال: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْفٌ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَبِي أَوْفَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ نَحْوَهُ وَقَالُوا: قدم رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ: وجئت انظر إِلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَيْتُ وَجْهَهُ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ ليس بوجه كذاب، فأول شيء قال: / «يا أيها النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الأَرْحَامَ، وصلّوا 85/ أوالناس نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلامٍ» . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ [1] : وَأَخْبَرَنَا عَفَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، وَحُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُخْبِرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ بِقُدُومِهِ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ أَشْيَاءَ لا يَعْلَمُهَا إِلا نَبِيٌّ، فَإِنْ أَخْبَرْتَنِي بِهَا آمَنْتُ بِكَ، وَإِنْ لَمْ تُعْلِمْنِي عَرَفْتُ أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ، قَالَ: «وَمَا هُنَّ» ؟ فَسَأَلَهُ عَنِ الشَّبَهِ وَعَنِ أَوَّلِ شَيْءٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَعَنْ أَوَّلِ شَيْءٍ يَحْشُرُ النَّاسَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَخْبَرَنِي بِهِنَّ جِبْرِيلُ آنِفًا» قَالَ: ذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ، قَالَ: «أَمَّا الشَّبَهُ فَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ ذَهَبَ بِالشَّبَهِ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ ذَهَبَ بِالشَّبَهِ. وَأَمَّا أَوَّلُ شَيْءٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ الْحُوتِ. وَأَمَّا أَوَّلُ شَيْءٍ يَحْشُرُ النَّاسَ، فَنَارٌ تَجِيءُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ فَتَحْشُرُهُمْ إِلَى الْمَغْرِبِ» . فَآمَنَ وَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ، وَإِنَّهُمْ إِنْ سَمِعُوا بِإِسْلامِي بَهَتُونِي فَأَخْبِئْنِي عِنْدَكَ، وَابْعَثْ إِلَيْهِم فَسَلْهُمْ عَنِّي، فَخَبَّأَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعَثَ إِلَيْهِمْ فَجَاءُوا، فَقَالَ: «أَيُّ رَجُلٍ عَبْدُ اللَّهِ [2] بْنُ سَلامٍ فِيكُمْ؟» قَالُوا: هُوَ خَيْرُنَا وَابْنُ خَيْرِنَا، وَسَيِّدُنَا وَابْنُ سَيِّدِنَا، وَعَالِمُنَا وَابْنُ عَالِمِنَا، فَقَالَ: «إِنْ رَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ فَتُسْلِمُونَ» ؟، قَالُوا:
أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: «يَا عَبْدَ اللَّهِ اخْرُجْ إِلَيْهِمْ» ، [فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ] [3] فَقَالَ: أشهد أن لا إله إلا الله وأن مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، قَالُوا: شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا، وجاهلنا وابن جاهلنا، فقال
__________
[1] الخبر في مسند أحمد بن حنبل «عن عفان، عن حماد، عن ثابت وحميد، عن أنس» .
[2] في ت: «أي شيء عبد الله» .
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(5/207)
ابْنُ سَلامٍ: قَدْ أَخْبَرْتُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ. توفي عَبْد اللَّهِ بن سلام بالمدينة فِي هذه السنة.
329- عَبْد الرَّحْمَنِ بن عسيلة، أبو عَبْد اللَّهِ الصنابحي [1] :
أسند عن أبي بكر الصديق، ومعاذ، وعبادة في آخرين. وكان عبادة يقول: من/ 85/ ب سره أن ينظر إلى رجل كأنما رقي به فوق سبع سماوات فعمل على ما رأى فلينظر إلى هذا.
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 199.(5/208)
ثم دخلت سنة أربع وأربعين
فمن الحوادث فيها:
دخول المسلمين مع عَبْد الرَّحْمَنِ بن خالد بن الوليد بلاد الروم ومشتاهم بها [1] .
وفيها غزا بسر بن أبي أرطأة البحر
قَالَ عبد الملك بن عمير: قرأت فِي ديوان معاوية [بعد موته] [2] كتابا من ملك الصين، فيه: من ملك الصين الذي على مربطه ألف فيل، وبنيت داره بلبن الذهب والفضة، ويخدمه بنات ألف ملك، والذي له نهران يسقيان الألوة، إلى معاوية.
وفيها عزل عَبْد اللَّهِ بن عامر عن البصرة [3] .
وكان سبب عزله أن ابن عامر كان لينا لا يأخذ على أيدي السفهاء ولا يعاقب، ففسدت البصرة بذلك، وقدم ابن الكواء- واسمه عَبْد اللَّهِ [بن أبي أوفى] [4]- على معاوية، فسأله عن الناس، فقَالَ: أما البصر فقد غلب عليها سفهاؤها وعاملها ضعيف، فعزله معاوية، وبعث الحارث بن عبد الله الأزدي.
__________
[1] تاريخ الطبري 5/ 212.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] تاريخ الطبري 5/ 212.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصلين.(5/209)
وفِي هذه السنة استلحق معاوية نسب زياد ابن سمية بأبيه أبي سفيان [1]
شهد لزياد رجل من البصرة، وكان الحسن البصري يذم هذا من فعله، ويقول:
استلحق زيادا وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» . وَأَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ، قال: أخبرنا ابن المذهب، قال: أخبرنا أحمد بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حدثني أبي، قال: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ:
حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، قَالَ [2] : لَمَّا ادَّعَى زِيَادٌ لَقِيتُ أَبَا بَكْرَةَ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا الَّذِي صَنَعْتُمْ؟ إِنِّي سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَقُولُ: سمع أذني من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: «مَنِ ادَّعَى أَبًا فِي الإِسْلامِ 86/ أغير/ أَبِيهِ- وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ [3]- فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ» فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ: وَأَنَا سَمِعْتُهُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفِي هذه السنة عمل معاوية المقصورة بالشام، وعملها مروان بالمدينة.
وفيها: حج معاوية بالناس، وكان عماله على البلاد فِي هذه السنة العمال فِي السنة التي قبلها غير البصرة، فكان عليها الحارث الأزدي.
ذكر من توفي فِي هذه السنة من الأكابر
330- رملة بنت أبي سفيان بن حرب، وهي أم حبيبة: [4]
تزوجها عَبْد اللَّهِ بن جحش، وهاجر بها إلى أرض الحبشة، فولدت هناك منه حبيبة.
__________
[1] تاريخ الطبري 5/ 214.
[2] الخبر في مسند أحمد 5/ 46.
[3] «وهو أنه غير أبيه» : ساقطة من المسند.
[4] طبقات ابن سعد 8/ 68.(5/210)
وقيل: إنها ولدتها بمكة، وهاجرت بها، ثم تنصر عَبْد اللَّهِ بن جحش وثبتت على دينها، وكتب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى النجاشي أن يزوجه أم حبيبة [1] ، فزوجه إياها، وبعث بها إليه فِي سنة سبع، وقد سبق شرح هذه القصة.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَعْرُوفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: [2] لَمَّا قَدِمَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ الْمَدِينَةَ جَاءَ إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُرِيدُ غَزْوَ مَكَّةَ، فَكَلَّمَهُ أَنْ يَزِيدَ فِي هُدْنَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَلَمْ يَقْبَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ فَدَخَلَ عَلَى ابْنَتِهِ أُمِّ حَبِيبَةَ، فَلَمَّا ذَهَبَ لِيَجْلِسَ عَلَى فِرَاشِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَوَتْهُ دُونَهُ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّةُ، أَرَغِبْتِ بِهَذَا الْفِرَاشِ عَنِّي أَمْ بِي عَنْهُ؟ قَالَتْ: بَلْ هُوَ فِرَاشُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْتَ امْرُؤٌ نَجَسٌ مُشْرِكٌ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّةُ، قَدْ أَصَابَكِ بَعْدِي شَرٌّ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ [3] : وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلٍ، عَنْ عَوْفِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ:
دَعَتْنِي/ أُمُّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عِنْدَ مَوْتِهَا، قَالَتْ: قَدْ كَانَ يَكُونُ بيننا ما يكون 86/ ب بَيْنَ الضَّرَائِرِ، فَغَفَرَ اللَّهُ لِي وَلَكِ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ، فَقُلْتُ: غَفَرَ اللَّهُ لَكِ ذَلِكَ كُلَّهُ وَتَجَاوَزَ وَحَلَّلَكِ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَتْ: سَرَرْتِنِي سَرَّكِ اللَّهُ، وَأَرْسَلَتْ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَقَالَتْ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ.
وتوفيت سنة أربع وأربعين.
__________
[1] في الأصل: «يزوجه إياها» .
[2] الخبر في طبقات ابن سعد 8/ 70.
[3] طبقات ابن سعد 8/ 71.(5/211)
ثم دخلت سنة خمس وأربعين
فمن الحوادث فيها [ولاية زياد البصرة] [1]
إن معاوية ولى الحارث بن عَبْد اللَّهِ الأزدي البصرة، فأقام بالبصرة أربعة أشهر وعزله وولى زيادا، فقدم زياد إلى الكوفة ينتظر إلى أمر معاوية، فظن المغيرة أنه قدم واليا عليها فقَالَ لوائل بن حجر الحضرمي: اعلم لي علمه، فأتاه فلم يقدر منه على شيء، وقدم رسول معاوية إلى زياد: أن سر إلى البصرة، فقدمها فِي آخر شهر ربيع الآخر أو غرة جمادى الأولى من هذه السنة، واستعمله على خراسان وسجستان، ثم جمع له الهند والبحرين وعمان.
فلما قدم البصرة وجد الفسق فيها ظاهرا، فخطب فقَالَ فِي خطبته [2] : كأنكم لم تسمعوا ما أعد الله من الثواب لأهل طاعته، والعذاب لأهل معصيته، أيكونون كمن طرفت عنه الدنيا وسدت مسامعه الشهوات، واختار الفانية على الباقية.
قَالَ الشعبي: ما سمعت متكلما قط تكلم فأحسن إلا أحببت أن يسكت [خوفا أن يسيء] [3] إلا زيادا، فإنه كان كلما أكثر كان أجود كلاما.
وما زال زياد يشدد أمر السلطان، وتجرد السيف، فخافه الناس خوفا شديدا حتى
__________
[1] تاريخ الطبري 5/ 216 والعنوان غير موجود في الأصل.
[2] ذكر الطبري هذه الخطبة في التاريخ 5/ 218، والجاحظ في البيان والتبيين 2/ 61- 66، وصاحب العقد 4/ 110، 113،
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.(5/212)
أن الشيء كان يوجد فلا يتجاسر أحد أن يرفعه حتى يأتيه صاحبه، واستعان زياد بعدة من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، منهم عمران بن حصين ولاه قضاء البصرة، والحكم بن عمرو الغفاري ولاه خراسان، وسمرة بن جندب، وعبد الرحمن بن سمرة، وأنس بن مالك.
وفِي هذه السنة شتى عَبْد الرَّحْمَنِ بن خالد بن الوليد بالشام [1] .
وفيها: حج بالناس مروان بن الحكم، / وكان على المدينة، وكانت الولاة 87/ أوالعمال على الأمصار من تقدم ذكرهم فِي السنة قبلها.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
331- حفصة بنت عمر بن الخطاب [2] :
كانت عند خنيس [3] بن حذافة السهمي، وهاجرت معه إلى المدينة، فمات عنها بعد الهجرة، فقدم النبي صلّى الله عليه وسلّم من بدر فتزوجها.
وفِي رواية أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طلقها، فقَالَ له جبريل: راجعها فإنها صوامة قوامة.
وفِي رواية أنه أراد طلاقها، فقَالَ جبريل: لا تطلقها فإنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك فِي الجنة.
توفيت فِي شعبان هذه السنة، وهي بنت ستين سنة.
وقيل: ماتت فِي خلافة عثمان بالمدينة.
332- زيد بن ثابت بن زيد بن لوذان، أبو سعيد: [4]
كان يكتب الوحي.
__________
[1] كذا في الأصول، وفي الطبري 5/ 226: «بأرض الروم» .
[2] طبقات ابن سعد 8/ 56.
[3] في ت: «كانت تحت خنيس» .
[4] طبقات ابن سعد 2/ 2/ 115.(5/213)
أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الْحَافِظُ، [أَخْبَرَنَا عَاصِم بْن الْحَسَن، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْن بْنُ بُشْرَانَ، أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ] [1] بِإِسْنَادِهِ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْبَرَاءِ، قَالَ:
كَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ تَرْجُمَانَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَاتِبَهُ إِلَى الْمُلُوكِ، وَتَعَلَّمَ الْفَارِسِيَّةَ فِي ثَمَانِ عَشْرَةَ لَيْلَةً مِنْ رَسُولِ كِسْرَى، وَتَعَلَّمَ الرُّومِيَّةَ وَالْحَبَشِيَّةَ وَالْقِبْطِيَّةَ مِنْ خَدَمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا أبو عمر بْن حيوية، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن معروف، قال: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال:
حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ، قَالَ: قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ:
كَانَتْ وَقْعَةُ بُغَاثٍ وَأَنَا ابْنُ سِتِّ سِنِينَ، وَكَانَتْ قَبْلَ هِجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسِ سِنِينَ، فَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَأَنَا ابْنُ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً، وَأُتِيَ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: غُلامٌ مِنَ الْخَزْرَجِ قَدْ قَرَأَ سِتَّ عَشْرَةَ سُورَةً، فَلَمْ أُجَزْ فِي بَدْرٍ وَلا أُحُدٍ، وَأُجِزْتُ فِي الْخَنْدَقِ.
قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أبيه، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أبيه [2] : 87/ ب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم/ أَمَرَهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ كِتَابَ يَهُودَ، وَقَالَ: «إِنِّي لا آمَنُهُمْ أَنْ يُبَدِّلُوا كِتَابِي» . فَقَالَ: فَتَعَلَّمْتُهُ فِي بِضْعَ عَشْرَ [3] . قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ كَانَ زَيْدٌ يَكْتُبُ كِتَابَ الْعَرَبِيَّةِ وَكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّةِ، وَأَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ مَعَ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخندق، وَكَانَ مِمَّنْ يَنْقُلُ التُّرَابَ يَوْمَئِذٍ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعْلَمُهُمْ بِالْفَرَائِضِ زيد» واستعمله عمر على القضاء.
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[2] الخبر في طبقات ابن سعد 2/ 2/ 115، باختلاف بسير.
[3] في ابن سعد: «نصف شهر» .(5/214)
قال ابن سعد: [1] وأخبرنا عفان، قال: حدثنا شعبة، عن ابن إسحاق، أنه سمع مسروقا يقول:
أتيت المدينة فسألت عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا زيد بن ثابت من الراسخين فِي العلم.
قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: [2] وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ أَخَذَ لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ بِالرِّكَابِ، فَقَالَ: تَنَحَّ يَا ابن عم رسول الله صلى اللَّه عليه وَسَلَّمَ، فَقَالَ: هَكَذَا يُفْعَلُ بِعُلَمَائِنَا وَكُبَرَائِنَا.
قَالَ ابن سعد: وأَخْبَرَنَا أبو معاوية الضرير، قَالَ: حَدَّثَنَا الأعمش، عن ثابت بن عبيد، قَالَ:
كان زيد بن ثابت [3] من أفكه الناس فِي بيته [4] ، وأزمته إذا خرج إلى الرجال.
قَالَ: وأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، قَالَ:
خَرَجَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ رَاجِعِينَ، فَدَخَلَ دارا، فقيل له:
فقال: من لا يستحي مِنَ النَّاسِ لا يَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ.
قَالَ ابن سعد: وأخبرنا محمد بن عمر، قال: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ السَّبَّاقِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ:
أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، فَقَالَ: إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَّر بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَذْهَبَ كَثِيرًا مِنَ الْقُرْآنِ، فَإِنِّي أَرَى أَنْ يُجْمَعَ الْقُرْآنُ، وَأَنْتَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لا نَتَّهِمُكَ، وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيَ، فتتبع القرآن فأجمعه. قال زيد: فو الله لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ أَنْقُلُهُ حَجَرًا حَجَرًا مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ، فقمت
__________
[1] الخبر في طبقات ابن سعد 2/ 2/ 116.
[2] الخبر في طبقات ابن سعد، الموضع السابق.
[3] في الأصل: «كان ثابت بن زيد» .
[4] في الأصل: «في نفسه» .(5/215)
88/ أفتتبعت الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ الرِّقَاعِ وَالْعُسْبِ وَالأَكْتَافِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ، فَوَجَدْتُ/ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ خُرَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ... 9: 128 [1] الآيَتَيْنِ.
قَالَ علماء السير: أتى خريمة بن ثابت بهاتين الآيتين، قَالَ زيد: من يشهد معك، قَالَ: عمر أنا. وكان أبو بكر قد قَالَ: إذا أتاكم أحد بشيء من القرآن تنكرانه فشهد عليه رجلان، فاثبتاه. ولما نسخ عثمان المصاحف أمر أبي بن كعب أن يملي وزيدا أن يكتب، وكان عمر رضي الله عنه يستخلف زيدا على المدينة إذا سافر، ولما حوصر عثمان كان زيد يذب عنه، ودخل عليه فقَالَ: هذه الأنصار يقولون جئنا لننصر الله مرتين، فقَالَ عثمان: أما القتال فلا.
توفي زيد بالمدينة فِي هذه السنة وهو ابن ستة وخمسين سنة، ومات قبل أن تصفر الشمس، فلم يخرج حتى أصبح، فصلى عليه مروان.
وقيل: إنه توفي سنة خمس وخمسين. وقيل: سنة إحدى وخمسين. وقَالَ ابن عباس: لقد مات اليوم علم كثير، وقَالَ أبو هريرة: مات خير هذه الأمة.
333- سلمة بن سلامة بن وقش بن زغبة، أبو عوف: [2]
شهد بدرا والمشاهد كلها مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومات بالمدينة فِي هذه السنة وهو ابن سبعين سنة، وانقرض عقبه.
334- عاصم بن عدي، أبو عمرو: [3]
خلفه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما خرج إلى بدر على قباء أهل العالية لشيء بلغه عنهم، وضرب له بسهمه وأجره، وكان كمن شهدها، وشهد أحدا والمشاهد كلها مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وبعثه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من تبوك ومعه مالك بن الدخشم فأحرقا مسجد الضرار.
وتوفي وهو ابن مائة وخمس عشرة سنة.
__________
[1] سورة التوبة، الآية: 128، 129.
[2] طبقات ابن سعد 3/ 2/ 16، وفي ت، «بن عوف» .
[3] طبقات ابن سعد 3/ 2/ 35. وفيه: «قال محمد بن عمر: كان يكنّى أبا بكر، قال عبد الله بن محمد بن عمارة الأنصاري كان يكنى أبا عبد الله» .(5/216)
ثم دخلت سنة ست وأربعين
فمن الحوادث فيها أنه شتى المسلمون بأرض الروم [1]
واختلفوا فِي أمرهم، فقيل: مالك بن عَبْد اللَّهِ، وقيل: عَبْد الرَّحْمَنِ بن خالد بن الوليد، وقيل: مالك بن هبيرة الفزاري.
وفيها انصرف عَبْد الرَّحْمَنِ بن خالد بن الوليد من بلاد الروم إلى حمص [2]
وكان قد عظم شأنه/ بالشام، ومال أهلها إليه لموضع غنائه عن المسلمين وآثار 88/ ب أبيه حتى خافه معاوية وخشي على نفسه منه لميل الناس إليه، فدس إليه عدي بن أثال شربة مسمومة فقتله بها، فمات بحمص، وخرج خالد بن عَبْد الرَّحْمَنِ بن خالد فقتل ابن أثال [3] .
وفيها: حج بالناس عتبة بن أبي سفيان، وكان العمال والولاة الذين كانوا في السنة التي قبلها.
__________
[1] تاريخ الطبري 5/ 227.
[2] تاريخ الطبري 5/ 227.
[3] قال ابن كثير: وزعم بعضهم أن دس السم له كان عن أمر معاوية له في ذلك، ولا يصح.(5/217)
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
335- سالم بن عمير بن ثابت: [1]
شهد بدرا والمشاهد كلها مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، [وهو] [2] أحد البكاءين الذين جاءوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يريد أن يخرج إلى تبوك يستحملونه، فقَالَ: لا أجد ما أحملكم عليه، فولوا وأعينهم تفيض من الدمع [3] .
336- سراقة بن كعب بن عمرو: [4]
شهد بدرا والمشاهد كلها مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
337- مُحَمَّد بن مسلمة بن خالد بن عدي بن مجدعة:
أسلم بالمدينة على يدي مصعب بن عمير قبل إسلام أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ، وشهد بدرا والمشاهد كلها مع رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير تبوك، فإن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استخلفه على المدينة، وكان مُحَمَّد فيمن قتل كعب بن الأشرف. وبعثه رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم إلى القرطاء سرية فِي ثلاثين راكبا من الصحابة، فسلم وغنم وبعثه إلى ذي القصة سرية فِي عشرة، وتوفي بالمدينة فِي صفر هذه السنة، وهو ابن سبع وسبعين سنة.
ويقال: فِي سنة ثلاث وأربعين.
338- هرم بن حيان العبدي: [5]
كان عاملا لعمر بن الخطاب، ولقي أويسا القرني، وكان من الخائفين.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بن أبي القاسم، قال: أخبرنا أحمد بن أحمد، قال: أخبرنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّه بْن مُحَمَّد، قَالَ: حدّثنا محمد بن شبل، قال:
__________
[1] طبقات بن سعد 3/ 2/ 46.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] «وأعينهم تفيض من الدمع» : ساقط من ت.
[4] طبقات ابن سعد 3/ 2/ 51.
[5] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 95.(5/218)
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ، عَنْ أَصْبَغَ الْوَرَّاقِ، عن أبي نصرة:
أَنَّ عُمَرَ بَعَثَ هَرِمَ بْنَ حَيَّانَ عَلَى الْخَيْلِ، فَغَضِبَ عَلَى رَجُلٍ فَأَمَرَ بِهِ فَوُجِئَتْ عُنُقُهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ، / فَقَالَ: لا جَزَاكُمُ اللَّهُ خَيْرًا مَا نَصَحْتُمُونِي حِينَ قُلْتُ، ولا 89/ أكففتموني عَنْ غَضَبِي، وَاللَّهِ لا أَلِي لَكُمْ عَمَلا، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لا طَاقَةَ لِي بِالرَّعِيَّةِ، فَابْعَثْ إِلَى عَمَلِكَ.
أخبرنا عَبْد اللَّه بْن علي المقري، قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو منصور مُحَمَّد بن أَحْمَد الخياط، قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو طاهر أَحْمَد بن الحسن الباقلاني، قَالَ: أَخْبَرَنَا عبد الملك بن بشران، قَالَ: حَدَّثَنَا دعلج، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّد الصائغ، قَالَ:
حَدَّثَنَا جعفر الفريابي، قَالَ: حَدَّثَنَا إبراهيم بن عثمان بن زياد، قَالَ: حَدَّثَنَا مخلد بن حسين، عن هشام، عن الحسن، قَالَ:
خرج هرم بن حيان، وعَبْد اللَّهِ بن عامر يؤمان الحجاز فجعلت أعناق رواحلهما تخالجان الشجر، فقَالَ هرم لابن عامر: أتحب أنك شجرة من هذه الشجر، فقَالَ ابن عامر: لا والله لما أرجو من ربي، فقَالَ هرم: لكني والله لوددت أني شجرة من هذه الشجر أكلتني هذه الناقة، ثم قذفتني بعراء، ولم أكابد الحساب [1] ، يا ابن عامر إني أخاف الداهية الكبرى، إما إلى الجنة وإما إلى النار.
قَالَ الحسن: وكان هرم أفقه الرجلين وأعلمهما باللَّه.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن أبي القاسم، قال: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ أحمد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم الأصفهاني، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو إسحاق بن حمزة، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بن يَحْيَى الحلواني، قَالَ: حَدَّثَنَا سعيد بن سليمان، عن عبد الواحد بن سليمان، قَالَ: حَدَّثَنَا هشام بن حسان، عن الحسن، قَالَ:
مات هرم فِي يوم صائف شديد الحر، فلما نفضوا أيديهم من قبره جاءت سحابة تسير حتى قامت على قبره، فلم تكن أطول منه ولا أقصر حتى روته ثم انصرفت.
__________
[1] في ت: «لم أواجه الحساب» .(5/219)
ثم دخلت سنة سبع وأربعين
فمن الحوادث فيها مشتى مالك بن هبيرة بأرض الروم، ومشتى أبي عَبْد الرَّحْمَنِ القيني بأنطاكية.
وفيها عزل عَبْد اللَّهِ بن عمرو بن العاص عن مصر
ووليها معاوية بن حديج.
89/ ب واختلفوا فيمن حج بالناس فِي هذه السنة. فقَالَ الواقدي/ عتبة بن أبي سفيان.
وقَالَ غيره: عنبسة بن أبي سفيان.
وكانت العمال والولاة هم الذين كانوا فِي السنة التي قبلها، غير مصر فإنها لمعاوية بن حديج.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
339- قيس بن عاصم بن سنان بن خالد بن منقر بن عبيد بن مقاعس بن عمرو بن كعب بن سعد، أبو علي المنقري، ويقال: أبو قبيصة: [1]
كان قد حرم الخمر فِي الجاهلية، وذلك أنه شرب فسكر، فعبث بذي محرم منه، فهربت، فلما أصبح قيل له في ذلك، فقال:
__________
[1] البداية والنهاية 8/ 34.(5/220)
رأيت الخمر مصلحة [1] وفيها ... مقابح تفضح الرجل الكريما
فلا والله أشربها حياتي ... ولا أشفِي بها أبدا سقيما
ثم وفد على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وفد بني تميم، فأسلم، فقَالَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هذا سيد أهل الوبر» ، وقَالَ له: «اغتسل بماء وسدر» . وكان جوادا، وهو الذي قيل فيه لما مات:
وما كان قيس موته موت واحد [2] ... ولكنه بنيان قوم تهدما
نزل البصرة، وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، قال: أخبرنا جعفر بن أحمد القاري، قال:
أخبرنا عبد العزيز بن الحسن بن إسماعيل، قَالَ: أَخْبَرَنَا أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بن مروان، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بن عباد التميمي، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو عثمان المازني، قَالَ:
سمعت الأصمعي يقول: سمعت عمرو بن العلاء، وأبا سفيان بن العلاء، يقولان:
قيل للأحنف بن قيس: ممن تعلمت الحلم، قَالَ: من قيس بن عاصم [المنقري، لقد اختلفنا إليه فِي الحكم كما نختلف إلى الفقهاء فِي الفقه، بينما نحن عند قيس بن عاصم] وهو قاعد فِي قبائه محتب بكسائه أتته جماعة فيهم مقتول ومكتوف، فقالوا: هذا ابنك قتله ابن أخيك، فو الله ما حل حبوته حتى فرغ من كلامه ثم التفت إلى ابن له فِي المسجد، فقَالَ: أطلق عن/ ابن عمك ووار أخاك واحمل إلى 90/ أأمه مائة من الإبل، فإنها غريبة، وأنشأ يقول:
إني امرؤ لا شائن حسبي ... دنس يغيره ولا أفن
من منقر فِي بيت مكرمة ... والغصن ينبت حوله الغصن
خطباء حين يقول قائلهم ... بيض الوجوه أعفة لسن
لا يفطنون لعيب جارهم ... وهم بحسن جواره فطن
وروى حكيم بن قيس أن أباه لما احتضر أومأ إلى بنيه وهم اثنان وثلاثون ذكرا،
__________
[1] في البداية: «منقصة» .
[2] في ت: «هلكه هلك واحد» ، وستأتي في آخر الترجمة بلفظ ت في الأصلين.(5/221)
فجمعهم وقَالَ: يا بني سودوا عليكم أكبركم، فإن القوم إذا سودوا أكبرهم خلفوا أباهم، وإذا سودوا أصغرهم أزري بهم عند أكفائهم، وعليكم بالمال واصطناعه فإنه منبهة للكريم ويستغني به عن اللئيم، وإياكم ومساءلة الناس فإنها من أخس مكسبة الرجل، ولا تنوحوا علي، فإن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم ينح عليه، ولا تدفنوني حيث تشعر بي بكر بن وائل، فإني كنت أعاديهم فِي الجاهلية، فرثاه الشاعر يقول:
عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترحما
تحية من ألبسته منك نعمة [1] ... إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما
فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدّما
__________
[1] في ت: والبداية: «من أوليته منك منة» .(5/222)
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين
- فمن الحوادث فيها مشتى أبي عَبْد الرَّحْمَنِ القيسي بأنطاكية، وغزوة مالك بن هبيرة اليشكري البحر، وغزوة عقبة بن عامر [1] الجهني بأهل مصر البحر.
وفيها: وجه زياد غالب بن فضالة الليثي على خراسان، وكانت له صحبة.
وفيها: حج بالناس مروان بن الحكم، وكان يتوقع العزل لموجدة كانت من معاوية عليه، وارتجاعه، فدك منه، وكان وهبها له. وكان عمال/ الأمصار في هذه السنة 90/ ب الذين كانوا فِي السنة التي قبلها.
ولم نعلم من مات من الأكابر فِي هذه السنة
__________
[1] في الأصل: «عامر بن عامر» ، وفي أ: «عتبة بن عامر» .(5/223)
ثم دخلت سنة تسع وأربعين
فمن الحوادث فيها مشتى مالك بن هبيرة الفزاري بأرض الروم. وغزوة يزيد بن شجرة الرهاوي فِي البحر.
وفيها: غزا يزيد بن معاوية أرض الروم حتى بلغ القسطنطينية ومعه ابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، وأبو أيوب الأنصاري.
وفيها: عزل معاوية مروان بن الحكم عن المدينة فِي ربيع الأول، وأمر عليها سعد بن أبي وقاص، وكانت ولاية مروان المدينة لمعاوية ثمان سنين وشهرين.
وكان على قضاء المدينة لمروان حين عزل عَبْد اللَّهِ بن الحارث بن نوفل، فلما ولى سعد عزله واستقضى أبا سلمة بن عَبْد الرَّحْمَنِ.
وفيها: وقع الطاعون بالكوفة، فهرب المغيرة بن شعبة، فلما ارتفع الطاعون قيل له: لو رجعت، فقدمها، فطعن فمات.
وقد قيل: مات المغيرة سنة خمسين.
وفِي هذه السنة أعني سنة تسع وأربعين ضم معاوية الكوفة إلى زياد، فكان أول من جمع له الكوفة والبصرة، واستخلف على البصرة سمرة بن جندب، وشخص إلى الكوفة، فكان زياد يقيم ستة أشهر بالكوفة، وستة أشهر بالبصرة.
وفيها: حج بالناس سعيد بن العاص، وكان العمال فيها هم العمال فِي التي(5/224)
قبلها، إلا أن فِي تاريخ موت المغيرة اختلافا قد ذكرناه.
ذكر من توفي فِي هذه السنة من الأكابر
340- الحسن بن عليّ بن أبي طالب رضوان الله تعالى عليهما: [1]
ولد سنة ثلاث من الهجرة، وكان يشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين الصدر إلى الرأس، والحسين/ يشبه ما كان أسفل [من ذلك] [2] ، وكان له من الولد خمسة عشر ذكرا، 91/ أوثمان بنات.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَرَ بْنُ حيويه، قَالَ: أخبرنا ابن مَعْرُوفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَهِمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ خَلادِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ:
حَجَّ الْحَسَنُ خَمْسَ عَشْرَةَ حَجَّةً مَاشِيًا وَإِنَّ النَّجَائِبَ لَتُقَادُ مَعَهُ.
وَخَرَّجَ مِنْ مَالِهِ للَّه مَرَّتَيْنِ، وَقَاسَمَ اللَّهَ مَالَهُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، حَتَّى أَنَّهُ كَانَ لَيُعْطِي نَعْلا وَيَأْخُذُ نَعْلا.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي بن سلمان، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الأَصْبَهَانِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَرُوبَةَ الْحَرَّانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَرَجُلٌ عَلَى الْحَسَنِ نَعُودُهُ، فَقَالَ: قَدْ أُلْقِيَتْ طَائِفَةٌ مِنْ كَبِدِي وَإِنِّي قَدْ سُقِيتُ السُّمَّ مِرَارًا فَلَمْ [3] أُسْقَ مِثْلَ هَذِهِ الْمَرَّةِ. ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْغَدِ وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ وَالْحُسَيْنُ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ: يَا أَخِي مَنْ تَتَّهِمُ؟ [4] قَالَ: لِمَ، لِتَقْتُلَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قال: إن
__________
[1] تاريخ بغداد 1/ 138.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من أ.
[3] في الأصل: «السم مرات» .
[4] في ت: «من هو؟» .(5/225)
يَكُنِ الَّذِي أَظُنُّ فاللَّه أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلا أُحِبُّ أَنْ يُقْتَلَ بِي بَرِيءٌ، ثُمَّ قَضَي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ خَيْرُونٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَرَ بْنُ حيويه، قال: حدثنا محمد بن خلف، قال: حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْيَمَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلامٍ الْجُمَحِيُّ، عَنِ ابْنِ جَعْدَةَ، قَالَ:
كَانَتْ جَعْدَةُ بِنْتُ الأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ تَحْتَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ فَدَسَّ إِلَيْهَا يَزِيدُ أَنْ سُمِّي حَسَنًا حَتَّى أَتَزَوَّجَكِ، فَفَعَلَتْ، فَلَمَّا مَاتَ الْحَسَنُ بَعَثَتْ جَعْدَةُ إِلَى يَزِيدَ تَسْأَلُهُ الْوَفَاءَ بِمَا وَعَدَهَا، فَقَالَ: إِنَّا وَاللَّهِ لَمْ نَرْضَكِ لِلْحَسَنِ أَفَنَرْضَاكِ لأَنْفُسِنَا.
مرض الحسن أربعين يوما، وتوفي فِي ربيع الأول من هذه السنة، وهو ابن سبع وأربعين سنة، وصلى عليه سعيد بن العاص بالمدينة، ودفن بالبقيع، وقيل: إنه توفي فِي سنة خمسين، وقيل: إحدى وخمسين
.(5/226)
ثم دخلت سنة خمسين
فمن الحوادث فيها غزاة بسر بن أبي أرطأة وسفيان بن عوف الأزدي أرض الروم.
وفيها: كانت غزاة فضالة بن عبيد البحر. وقيل: إنما كانت فِي السنة التي قبلها.
وفيها خطب زياد بالكوفة بعد أن ضمت إليه مع البصرة. [1]
فقَالَ: إن الأمر أتاني وأنا بالبصرة، فأردت أن أشخص إليكم فِي ألفين من شرطة البصرة، ثم ذكرت أنكم أهل حق فأتيتكم فِي أهل بيتي، فحصب وهو على المنبر، فدعا قوما من خاصته فأمرهم أن يأخذوا بأبواب المسجد، فمن حلف أنه ما حصبه خلاه، ومن لم يحلف حبسه حتى صاروا إلى ثلاثين. وقيل: ثمانين، فقطع أيديهم على المكان.
واتخذ مقصورة.
وفِي هذه السنة أمر معاوية بمنبر رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّ يحمل إلى الشام [2]
__________
[1] تاريخ الطبري 5/ 234.
[2] تاريخ الطبري 5/ 238.(5/227)
فحول [1] ، فكسفت الشمس حتى رئيت النجوم [2] بادية فأعظم الناس ذلك، فقَالَ: لم أرد حمله، إنما خفت أن يكون قد أرض [3] ، فنظرت إليه. ثم كساه. رواه الواقدي.
وروي [4] : أن عبد الملك بن مروان هم بالمنبر فقَالَ له قبيصة: [أذكرك] [5] الله أن نفعل، فإن معاوية حركه فكسفت الشمس، وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من حلف على منبري إثما فليتبوَّأ مقعده من النار» ، فتخرجه من المدينة وهو مقطع الحقوق بينهم [بالمدينة] [6] ، فأقصر. فلما كان الوليد [وحج] [7] هم بذلك. فأرسل سعيد بن المسيب إلى عمر بن عبد العزيز، فقَالَ: كلم صاحبك يتق الله ولا يتعرض لسخطه، فكلمه فأقصر. فلما حج سليمان بن عبد الملك أخبره عمر بن عبد العزيز بما كان من عبد الملك والوليد، فقَالَ:
ما كنت أحب أن يذكر هذا عن عبد الملك ولا عن الوليد، ما لنا ولهذا، أخذنا الدنيا فهي فِي أيدينا ونريد أن نعمد إلى علم من أعلام الإسلام فنحمله، هذا لا يصح [8] .
وفِي هذه السنة. عزل معاوية بن حديج. عن مصر وولي مسلمة بن مخلد مصر وإفريقية 92/ أوالمغرب/ كله [9] .
وكان معاوية بن أبي سفيان قد بعث قبل أن يولي مسلمة مصر وإفريقية عقبة بن
__________
[1] كذا في الأصول، وفي الطبري: «فحرّك» .
[2] في الأصل: حتى رأيت النجوم» .
[3] يقال: أرضت الخشبة، فهي مأروضة، إذا وقعت فيها الأرضة أكلتها. والأرضة: دودة بيضاء شبة النملة تظهر في أيام الربيع.
[4] تاريخ الطبري 5/ 239.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[6] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.
[7] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.
[8] في ت، والطبري، «هذا لا يصلح» .
[9] تاريخ الطبري 5/ 240.(5/228)
عامر الفهري إلى إفريقية فافتتحها واختط بها قيروانها، وكان موضعه غيضة لا ترام من السباع والحيات وغير ذلك من الدواب، فدعا الله فلم يبق منها شيء إلا خرج منها هاربا، حتى إن السباع كانت تحمل أولادها.
قَالَ علي بن أبي رباح [1] : نادى عقبة: إنا نازلون فارحلوا- أو قَالَ: فاظعنوا- فخرجن من جحرهن هوارب.
وفِي هذه السنة. غزا الحكم بن عمرو الغفاري أهل جبل الأشل [2] .
فغنم، فكتب إليه زياد: إن أمير المؤمنين كتب إلي أن أصطفى [له] [3] الصفراء والبيضاء. فلما وصل الكتاب إليه قَالَ للناس: أغدوا على [4] غنائمكم، وعزل الخمس، وقسم بينهم الغنائم. فكتب إليه زياد: والله إن بقيت لك لأقطعن منك طابقا. فقَالَ:
اللَّهمّ إن كان لي عندك خير فاقبضني إليك. فمات بمرو.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْمُبَارَكِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْمَاطِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَامِدِ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مُحَمَّدِ بن عبد الكريم المروزي، قَالَ: حَدَّثَنِي جَدِّي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ، قال: حدثنا الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانٍ الْفِرْدَوْسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي حَلَقَتِهِ فِي الْمَسْجِدِ، إِذْ مَرَّ بِنَا الْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو الْغِفَارِيُّ وَقَدْ عَقَدَ لَهُ زِيَادُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى خُرَاسَانَ، فَقِيلَ لِعِمْرَانَ: هَذَا الْحَكَمُ اسْتُعْمِلَ عَلَى خُرَاسَانَ، فَقَالَ: عَلَيَّ بِهِ. فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: يَا حَكَمُ، أَتَذكر حَدِيثًا سَمِعْتُهُ أَنَا وَأَنْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: سَمِعْنَاهُ يَقُولُ: «لا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي
__________
[1] الخبر في تاريخ الطبري 5/ 240.
[2] تاريخ الطبري 5/ 251.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من أ.
[4] في الأصل: «أعيدوا علي» .(5/229)
مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ» . قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: إِذَا شِئْتَ [فَقُمْ] [1] ، قَالَ: فَأَتَى خُرَاسَانَ فَأَصَابَ بِهَا غَنَائِمَ كَثِيرَةً، فَكَتَبَ إِلَيْهِ زِيَادٌ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ أمير المؤمنين كتب إلي أن أصطفى له الْبَيْضَاءَ وَالصَّفْرَاءَ، وَلا أَعْلَمَنَّ مَا قَسَمْتَ بَيْنَ النَّاسِ ذَهَبًا وَلا فِضَّةً. فَلَمَّا جَاءَهُ الْكِتَابُ قَالَ لِلنَّاسِ: اغْدُوا عَلَى غَنَائِمِكُمْ فَخُذُوهَا، ثُمَّ كتب 92/ ب إلى زياد: جاءني/ كتاب الأمير يَذكر أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَصْطَفِيَ بِالصَّفْرَاءِ فَلا يَعْلَمَنَّ مَا قَسَمْتُ بَيْنَ النَّاسِ ذَهْبًا وَلا فِضَّةً، وَإِنِّي وَجَدْتُ كِتَابَ الله قد سبق كتاب أمير المؤمنين، وو الله الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا عَلَى عَبْدٍ اتَّقَى اللَّهَ لَجَعَلَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ مَخْرَجًا، وَالسَّلَامُ.
وفِي هذه السنة [2] استعدت بنو نهشل وفقيم على الفرزدق
زياد بن أبي سفيان لموضع هجائه إياهم، فطلبه فهرب منه إلى سعيد بن العاص وهو والي المدينة من قبل معاوية مستجيرا به فأجاره.
وفِي هذه السنة. حج بالناس معاوية.
وقيل: يزيد. وكان الوالي على المدينة سعيد بن العاص، وعلى الكوفة والبصرة والمشرق وسجستان وفارس والهند زياد.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
341- جبير بن مطعم بْن عدي بْن نوفل بْن عَبْد مناف، أبو مُحَمَّد: [3]
كان أبوه من أشراف قريش، وقدم جبير فِي فداء أسارى بدر، قال: فنمت في
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من أ.
[2] في الأصل: «وفيها استعدت» .
[3] طبقات خليفة 9، والتاريخ الكبير للبخاريّ 2/ 1/ 223، والجرح والعديل 1/ 1/ 512.(5/230)
المسجد بعد العصر، فأقيمت المغرب، فقمت فزعا بقراءة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاستمعت قراءته حتى خرجت من المسجد، فذاك أول يوم دخل الإسلام فِي قلبي.
وأسلم قبل الفتح، ونزل المدينة، ومات فِي وسط خلافة معاوية.
342- جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار: [1]
سبيت فِي غزوة بني المصطلق، فوقعت فِي سهم ثابت بن قيس، فكاتبها، فأدى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتابتها وتزوجها. وكانت كثيرة التسبيح والتقديس [2] والذكر. وتوفيت فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَهِيَ بِنْتُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ [سنة] [3] .
343- حسان بن ثابت [بن المنذر] بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار، أبو الوليد الأنصاري: [4]
كان من فحول شعراء الجاهلية، وكان يضرب روثة أنفه من طوله ويقول: ما يسرني به مقول من العرب، والله لو وضعته على شعر لحلقه أو على صخر لفلقه. وكان يفد على/ ملوك غسان، ويمدحهم. 93/ أأسلم قديما ولم يشهد مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مشهدا، كان يجبن. عاش ستين [سنة] [5] في الجاهلية وستين [سنة] [6] في الإسلام، ووهب لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيرين أخت مارية، فولدت له عَبْد الرَّحْمَنِ، وكانت له بنت تقول الشعر، وكان ربما قَالَ بيتا فوقف ما بعده عليه فقالته، فقَالَ لها: لا قلت شعرا وأنت حية، فقالت: لا بل أنا لا أقول الشعر وأنت حي.
وكان للمشركين من الشعراء الذين هجوا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، أبو سفيان بن
__________
[1] طبقات ابن سعد 8/ 83.
[2] «التقديس» . ساقطة من ت.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] طبقات مخولة الشعراء لابن سلام 45، والتاريخ الكبير للبخاريّ 3/ ترجمة 120، وتهذيب الكمال 1188.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[6] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(5/231)
الحارث، وعمرو بن العاص، وابن الزبعري، وَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حسان، وابن رواحة، وكعب بن مالك. وكان حسان يذكر عيوب القوم وآثامهم، وكان ابن رواحة يعيرهم بالكفر، وكان كعب يذكر الحرب ويقول: فعلنا بهم وفعلنا، ويتهددهم، فكان أشده عليهم قول حسان، وأهونه قول ابن رواحة. فلما أسلموا كان أشده عليهم قول ابن رواحة، وكأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قَالَ للأنصار: ما يمنع القوم الذين نصروا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسلاحهم وأنفسهم أن ينصروه بألسنتهم. فقَالَ حسان: أنا لها، قَالَ: كيف تهجوهم وأنا منهم، قَالَ: إني أسلك منهم كما تسل الشعرة من العجين.
أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ، قال: أخبرنا ابن المذهب، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قال: حدثني أبي، قال: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: [1] أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَ لِحَسَّانٍ مِنْبَرًا فِي الْمَسْجِدِ يُنَافِحُ عَنْهُ بِالشِّعْرِ، ثُمَّ يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيُؤَيِّدُ حَسَّانَ بِرُوحِ الْقُدُسِ يُنَافِحُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ» . وقَالَ حسان فِي فتح مكة [2] :
فإما تعرضوا عنا اعتمرنا ... وكان الفتح وانكشف الغطاء
93/ ب/ وإلا فاصبروا لجلاد يوم ... يعين [3] الله فيه من يشاء
وقَالَ الله قد سيرت جندا ... هم الأنصار عرضتها اللقاء
وجبريل أمين الله [4] فينا ... وروح القدس ليس به كفاء
ألا أبلغ أبا سفيان عني ... فأنت مجوف نخب هواء
[5]
__________
[1] الخبر في مسند أحمد بن حنبل 6/ 72.
[2] هذه القصيدة وردت في ديوان حسان مع زياد، واختلاف في ترتيب الأبيات.
[3] في الأصل: «يعز الله» . وما أوردناه من ابن هشام، وأ
[4] في ابن هشام: «وجبريل رسول الله» .
[5] كذا في الأصول، والديوان، وفي ابن هشام:
ألا أبلغ أبا سفيان عني ... مغلغلة فقد برح الخفاء
والمجوف: الخالي الجوف، يريد به الجبان، وكذلك النخب والهواء.(5/232)
يعني أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، فإنه كان يهاجي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يسلم.
ولحسان: [1]
هجوت محمدا فأجبت عنه ... وعند الله فِي ذاك الجزاء
أتهجوه ولست له بكفء ... فشركما لخيركما الفداء
فإن أبي ووالدتي وعرضي [2] ... لعرض مُحَمَّد منكم وقاء
لساني صارم لا عيب فيه ... وبحري ما تكدره [3] الدلاء
أَخْبَرَنَا إسماعيل بن أَحْمَد، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن هبة الطبري، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابن الفضل، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابن درستويه، قَالَ: أَخْبَرَنَا يعقوب بن سفيان، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن سعيد بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أبيه، قَالَ:
عاش حسان بن ثابت مائة سنة وأربع سنين، وعاش أبوه ثابت مائة سنة وأربع سنين، وكان عَبْد الرَّحْمَنِ إذا حَدَّثَنَا بهذا الحديث اشرأب لها وثنى رجليه على مثلها، فمات وهو ابن ثمان وأربعين.
344- الحكم بن عمرو الغفاري [4] :
صحب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى قبض، ثم تحول إلى البصرة، فولاه زياد بن أبي سفيان خراسان. وقد ذكرنا قصته فِي تلك الولاية آنفا. وتوفي بخراسان سنة خمسين.
345- دحية بن خليفة بن فروة بن فضالة بن زيد [5] :
أسلم قديما ولم يشهد بدرا، وشهد ما بعدها، وكان جبريل يأتي في صورته،
__________
[1] هذه الأبيات من القصيدة السابقة.
[2] في ابن هشام والديوان: «فإن أبي ووالده» .
[3] في ابن هشام والديوان: «لا تكدره» .
[4] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 18.
[5] طبقات ابن سعد 4/ 1/ 184.(5/233)
94/ أوبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم/ سرية وحده، وبعث معه كتابا [1] إلى قيصر.
346- صفية بنت حيي بن أخطب من سبط هارون بن عمران [2] :
كان اصطفاها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم خيبر، وقيل: اشتراها من دحية بسبعة أرس فأسلمت وأعتقها وتزوجها، وجعل عتقها مهرها [3] . ورأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أثر خضرة قريبا من عنقها، فقَالَ: ما هذا؟ فقالت رأيت فِي المنام قمرا أقبل من يثرب فوقع فِي حجري، فذكرت ذلك لزوجي كنانة، فقَالَ: أتحبين أن تكوني تحت هذا الملك الذي يأتي من المدينة؟ فضرب وجهي. فلما رحل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن خيبر وقد طهرت [4] ، مال يريد أن يعرس بها، فأبت، فلما كان بالصهباء عرس بها هناك، فقَالَ: ما حملك على ما صنعت فِي المنزل الأول؟ قالت: خشيت عليك قرب يهود، فزادها ذلك عنده. [توفيت فِي هذه السنة] [5] ، ودفنت بالبقيع.
347- عَبْد الرَّحْمَنِ بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف، يكنى أبا سعيد [6] .
وكان اسمه عبد الكعبة، فلما أسلم سماه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْد الرَّحْمَنِ، واستعمله عَبْد اللَّهِ بن عامر على سجستان، وغزا خراسان وفتح بها فتوحا، ثم رجع إلى البصرة، فأقام بها حتى مات.
أَخْبَرَنَا القزاز، [أَخْبَرَنَا الخطيب، أَخْبَرَنَا الأزهري، أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن العباس، أَخْبَرَنَا إبراهيم بن مُحَمَّد الكندي، حَدَّثَنَا أبو] [7] مُوسَى مُحَمَّد بن المثنى، قَالَ:
مات عَبْد الرَّحْمَنِ بن سمرة سنة خمسين.
وقَالَ خليفة بن خياط: سنة إحدى وخمسين.
__________
[1] في ت: «كتابه» .
[2] طبقات ابن سعد 8/ 85.
[3] كذا في الأصل وابن سعد، وفي ت: «صداقها» .
[4] أي: من حيضتها، كما هو مبين في ابن سعد.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[6] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 8.
[7] ما بين المعقوفتين: من ت، والأصل: «بإسناد له قال موسى» .(5/234)
- 348 عمرو [بن أمية] بن خويلد، أبو أمية الضمري [1] :
شهد بدرا وأحدا مع المشركين، وكان شجاعا، ثم أسلم، فأول مشهد شهده فِي الإسلام بئر معونة، فأسرته بنو عامر يومئذ، فقَالَ له عامر بن الطفيل: إنه قد كان على أمي نسمة فأنت حر عنها، فلما انصرف من بئر معونة لقي رجلين [من بني كلاب] [2] ، فقتلهما، وقد كان لهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم أمان فوداهما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهما القتيلان اللذان/ خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [بسببهما] [3] إلى بني النضير يستعينهما في 94/ ب ديتهما. [وبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمرو بن أمية ومعه سلمة بن أسلم بن حريش الأنصاري سرية إلى مكة إلى أبي سفيان بن حرب، فعلم بمكانهما، فطلبا، فتواريا، وظفر عمرو بن أمية فِي تواريه ذلك فِي الغار بناحية مكة بعبيد الله التيمي، فقتله] [4] ، ومضى فأنزل خبيبا عن خشبته.
وبعثه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى النجاشي ليزوجه أم حبيبة [بنت أبي سفيان بن حرب] [5] ، ويحمل بقية أصحابه إلى المدينة.
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي طاهر البزار، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال:
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ حَيْوَيْهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ مَعْرُوفٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْفَهْمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا نُوحُ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِيهِ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عِيسَى بْنِ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْفَغْوَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَرَادَ أَنْ يَبْعَثَنِي بِمَالٍ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ يَقْسِمُه فِي قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ وَذَلِكَ بَعْدَ الْفَتْحِ، فَقَالَ: الْتَمِسْ صَاحِبًا، قَالَ: فَجَاءَنِي عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ، فَقَالَ:
بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ الْخُرُوجَ وَتَلْتَمِسُ صَاحِبًا، قُلْتُ: أَجَلْ، قَالَ: فَأَنَا لَكَ صَاحِبٌ، قَالَ:
فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: قَدْ وَجَدْتُ صَاحِبًا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إذا وجدت
__________
[1] طبقات ابن سعد 4/ 1/ 182، ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت، وابن سعد.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين: زيادة يقتضيها السياق.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من ابن سعد 4/ 1/ 183.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(5/235)
صاحبا فَأَذِنِّي، فَقَالَ: مَنْ؟ قُلْتُ: عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ، فَقَالَ: إِذَا هَبَطْتَ إِلَى بِلادِ قَوْمِهِ فَاحْذَرْهُ، فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ الْقَائِلُ: أَخُوكَ الْبَكْرِيُّ فَلا تَأْمَنْهُ.
قَالَ: فَخَرَجْنَا حَتَّى جِئْتُ الأَبْوَاءَ، قَالَ: إِنِّي أُرِيدُ حَاجَةً إِلَى قَوْمِي بِوَدَّانَ فَتَلَبَّثْ لِي، قَالَ: قُلْتُ رَاشِدًا، فَلَمَّا وَلَّى ذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَشَدَدْتُ عَلَى بَعِيرِي ثُمَّ خَرَجْتُ أَوْضَعُهُ حَتَّى إذا كنت بالأصافر إِذَا هُوَ يُعَارِضُنِي فِي رَهْطٍ. قَالَ: فَأَوْضَعْتُ فَسَبَقْتُهُ، فَلَمَّا رَآنِي قَدْ فُتُّهُ انْصَرَفُوا، وَجَاءَنِي فَقَالَ: كَانَتْ لِي إِلَى قَوْمِي حَاجَةٌ، قُلْتُ:
أَجَلْ. وَمَضَيْنَا حَتَّى قَدِمْنَا مَكَّةَ، فَدَفَعْتُ الْمَالَ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ.
349- عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه [1] :
وأمه فاطمة بنت أسد، وكان أسن ولد أبي طالب بعد طالب، وكان بينه وبين 95/ أطالب عشر سنين، ثم بينه وبين جعفر عشر سنين، ثم بين جعفر وبين علي/ عشر سنين، وكان علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أصغرهم سنا وأقدمهم إسلاما.
وأخرج عقيل يوم بدر مع المشركين مكرها، فشهدها وأسر، ففداه العباس. ومات عقيل بعد ما عمي بصره [فِي خلافة معاوية] [2] .
350-[عتبان بن مالك بن عمرو بن العجلان [3] :
شهد بدرا وأحدا والخندق وذهب بصره] .
351- أم شريك، واسمها غزية بنت جابر بن حكيم الدوسية [4] :
وهي التي وهبت نفسها للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. واختلفوا هل قبلها أم لا؟ على قولين، أحدهما أنه قبلها ودخل عليها، والثاني أنه لم يقبلها، فلم تتزوج حتى ماتت.
أخبرنا المحمدان ابن ناصر وابن عبد الباقي، قَالا: أَخْبَرَنَا حَمَدُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الأَصْفَهَانِيُّ [5] ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أحمد، قال: حدثنا أحمد بن
__________
[1] طبقات ابن سعد 4/ 1/ 28.
[2] ما بين المعقوفتين. ساقط من الأصل.
[3] طبقات ابن سعد 3/ 2/ 96، والترجمة كلها ساقطة من الأصل.
[4] طبقات ابن سعد 8/ 110.
[5] في الأصل: «إبراهيم الأصفهاني» .(5/236)
فَرَحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ الْمُقْرِي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ، عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
وَقَعَ فِي قَلْبِ أُمِّ شَرِيكٍ الإِسْلامُ فَأَسْلَمَتْ وَهِيَ بِمَكَّةَ، وَكَانَتْ تَحْتَ أَبِي الْعُكَيْرِ الدَّوْسِيِّ [1] ، ثُمَّ جَعَلَتْ تَدْخُلُ عَلَى نِسَاءِ قُرَيْشٍ سِرًّا فَتَدْعُوهُنَّ وَتُرَغِّبُهُنَّ فِي الإِسْلامِ حَتَّى ظَهَرَ أَمْرُهَا لأَهْلِ مَكَّةَ، فَأَخَذُوهَا وَقَالُوا: لَوْلا قَوْمُكِ لِفَعَلْنَا بِكِ وَفَعَلْنَا وَلَكِنَّا سَنَرُدُّكِ إِلَيْهِمْ.
قَالَتْ: فَحَمَلُونِي عَلَى بَعِيرٍ لَيْسَ تَحْتِي شَيْءٌ، ثُمَّ تَرَكُونِي ثَلاثًا لا يُطْعِمُونِي وَلا يَسْقُونِي، وَكَانُوا إِذَا نَزَلُوا مَنْزِلا أَوْثَقُونِي فِي الشَّمْسِ وَاسْتَظَلُّوا مِنْهَا وَحَبَسُوا عَنِّي الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ فَبَيْنَمَا هُمْ قَدْ نَزَلُوا مَنْزِلا وَأَوْثَقُونِي فِي الشَّمْسِ إِذَا أَنَا بِأَبْرَدِ شَيْءٍ عَلَى صَدْرِي فَتَنَاوَلْتُهُ فَإِذَا هُوَ دَلْوٌ مِنْ مَاءٍ فَشَرِبْتُ مِنْهُ قَلِيلا ثُمَّ نُزِعَ عَنِّي ثُمَّ عَادَ فَتَنَاوَلْتُهُ ثُمَّ رُفِعَ، ثُمَّ عَادَ فَتَنَاوَلْتُهُ ثُمَّ رُفِعَ مِرَارًا ثُمَّ نَزَلَ فَشَرِبْتُ حَتَّى رَوِيتُ ثُمَّ أَفْضَيْتُ سَائِرَهُ عَلَى جَسَدِي وَثِيَابِي، فَلَمَّا اسْتَيْقَظُوا إِذَا هُمْ بِأَثَرِ الْمَاءِ وَرَأَوْنِي حَسَنَةَ الْهَيْئَةِ، فَقَالُوا لِي: انْحَلَلْتِ فَأَخَذْتِ سِقَاءَنَا فَشَرِبْتِ مِنْهُ، قُلْتُ: لا وَاللَّهِ وَلَكِنَّهُ كَانَ مِنَ الأَمْرِ كَذَا وَكَذَا، قَالُوا: إِنْ كُنْتِ صَادِقَةً لَدِينُكِ خَيْرٌ مِنْ دِينِنَا، فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَى أَسْقِيَتِهِمْ وَجَدُوهَا كَمَا تَرَكُوهَا، فَأَسْلَمُوا عِنْدَ ذَلِكَ/ وَأَقْبَلْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ مَهْرٍ، فَقَبِلَهَا وَدَخَلَ عليها. 95/ ب
352- كعب بن مالك بن أبي كعب، أبو عَبْد الرَّحْمَنِ:
شهد العقبة وأحدا وما بعدها سوى تبوك، فإنه أحد الثلاثة الذين تخلفوا عنها وأنزلت توبته، وقد ذكرناها فيما تقدم، وكان قد ذهب بصره.
وتوفي فِي هذه السنة وهو ابن سبع وسبعين.
353- المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود بن معتب بن مالك، أبو عَبْد اللَّهِ [2] :
كان أصهب الشعر جعدا، أقلص الشفتين، ضخم الهامة، أهتم، عبل الذراعين، بعيد ما بين المنكبين.
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال:
__________
[1] في الأصل: «تحت العسكر الدوسيّ» .
[2] طبقات ابن سعد 4/ 2/ 24، 6/ 1/ 12.(5/237)
أخبرنا أبو عمر بْن حيويه، قَالَ: أخبرنا أحمد بن معروف، قال: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الثَّقَفِيُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عِيسَى، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْلَى، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِيهِ، وَغَيْرُهُمْ، قَالُوا: قَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ:
كُنَّا قَوْمًا مِنَ الْعَرَبِ مُتَمَسِّكِينَ بِدِينِنَا، وَنَحْنُ سَدَنَةُ اللاتِ، فَأَجْمَعَ نَفَرٌ مِنْ بَنِي مَالِكٍ الْوُفُودَ عَلَى الْمُقَوْقِسِ [1] وَأَهْدَوْا لَهُ هَدَايَا، فَأَجْمَعْنَا الْخُرُوجَ مَعَهُمْ فَاسْتَشَرْتُ عَمِّي عُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ فَنَهَانِي وَقَالَ: لَيْسَ مَعَكَ مِنْ بَنِي أَبِيكَ أَحَدٌ، فَأَبَيْتُ إِلَّا الْخُرُوجَ مَعَهُمْ وَلَيْسَ مَعَهُمْ أَحَدٌ مِنَ الأَحْلافِ غَيْرِي حَتَّى دَخَلْنَا الإِسْكَنْدَرِيَّةَ، فَإِذَا الْمُقَوْقِسُ فِي مَجْلِسٍ مُطِلٍّ عَلَى الْبَحْرِ، فَرَكِبْتُ زَوْرَقًا حَتَّى حَاذَيْتُ مَجْلِسَهُ، فَنَظَرَ إِلَيَّ فَأَنْكَرَنِي وَأَمَرَ مَنْ يَسْأَلُنِي مَنْ أَنَا وَمَا أُرِيدُ فَسَأَلَنِي الْمَأْمُورُ فَأَخْبَرْتُهُ بِأَمْرِنَا وَقُدُومِنَا عَلَيْهِ، فَأَمَرَنَا أَنْ نَنْزِلَ فِي الْكَنِيسَةِ، وَأَجْرَى عَلَيْنَا ضِيَافَةً ثُمَّ دَعَانَا فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ، فَنَظَرَ إِلَى رَأْسِ بَنِي مَالِكٍ، فَأْدَنَاهُ إِلَيْهِ فَأَجْلَسَهُ مَعَهُ ثُمَّ سَأَلَهُ: أَكُلُّ الْقَوْمِ مِنْ بَنِي مَالِكٍ؟ قَالَ: نَعَمْ إِلا رجلا واحدا من 96/ أالأحلاف فَعَرَّفَهُ إِيَّايَ، فَكُنْتُ أَهْوَنَ الْقَوْمِ/ عَلَيْهِ، وَوَضَعُوا هَدَايَاهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ فَسُرَّ بِهَا وَأَمَرَ بِقَبْضِهَا، وَأَمَرَ لَهُمْ بِجَوَائِزَ وَفَضَّلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَقَصَّرَ بِي وَأَعْطَانِي شَيْئًا قَلِيلا لا ذكر لَهُ، وَخَرَجْنَا وَأَقْبَلَتْ بَنُو مَالِكٍ يَشْتَرُونَ لأَهْلِيهِمْ وَهُمْ مَسْرُورُونَ، وَلَمْ يَعْرِضْ عَلَيَّ رَجُلٌ مِنْهُمْ مُوَاسَاةً، وَخَرَجُوا وَحَمَلُوا مَعَهُمُ الْخَمْرَ، فَكَانُوا يَشْرَبُونَ وَأَشْرَبُ مَعَهُمْ. وَتَأْبَى نَفْسِي أَنْ يَنْصَرِفُوا إِلَى الطَّائِفِ بِمَا أَصَابُوا وَمَا حَبَاهُمُ [الْمَلِكُ] [2] ، وَيُخْبِرُونَ قَوْمِي بِتَقْصِيرِهِ بِي وَازْدِرَائِهِ إِيَّايَ، فَأَجْمَعْتُ عَلَى قَتْلِهِمْ، فَلَمَّا كُنَّا بِبُسَاقَ تَمَارَضْتُ وَعَصَبْتُ رَأْسِي، فَقَالُوا لِي: مَالَكَ؟ قُلْتُ: أُصْدَعُ، فَوَضَعُوا شَرَابَهُمْ وَدَعَوْنِي، فَقُلْتُ رَأْسِي يُصْدِعُ، وَلَكِنِّي أَجْلِسُ فَأَسْقِيكُمْ، فَلَمْ يُنْكِرُوا شَيْئًا، فَجَعَلْتُ أَسْقِيهِمْ وَأَشْرَبُ الْقَدَحَ بَعْدَ الْقَدَحِ، فَلَمَّا دَبَّتِ الْكَأْسُ فِيهِمُ اشْتَهْوُا الشَّرَابَ، فَجَعَلْتُ أَصْرِفُ لَهُمْ وَأَتْرَعُ الْكَأْسَ فَيَشْرَبُونَ وَلا يَدْرُونَ، فَأَهْمَدَتْهُمُ الْكَأْسُ حَتَّى نَامُوا مَا يعقلون، فوثبت إليهم فقتلتهم
__________
[1] في الأصل: «القومس» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، وأوردناه من ت.(5/238)
جَمِيعًا وَأَخَذْتُ جَمِيعَ مَا كَانَ مَعَهُمْ، فَقَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَجِدُهُ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ مَعَ أَصْحَابِهِ، وَعَلَيَّ ثِيَابُ سَفَرِي، فَسَلَّمْتُ بِسَلامِ الإِسْلامِ، فَنَظَرَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ- وَكَانَ بِي عَارِفًا- فَقَالَ: ابْنُ أَخِي عُرْوَةَ، قُلْتُ: نَعَمْ، جِئْتُ أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فَقَالَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَمْدُ للَّه الَّذِي هَدَاكَ لِلإِسْلامِ» ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمِنْ مِصْرَ أَقْبَلْتُمْ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا فَعَلَ الْمَالِكِيُّونَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَكَ؟
قُلْتُ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ بَعْضُ مَا يَكُونُ بَيْنَ الْعَرَبِ وَنَحْنُ عَلَى دِينِ الشِّرْكِ فَقَتَلْتُهُمْ وَأَخَذْتُ أَسْلابَهُمْ، وَجِئْتُ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَخْمِسَهَا أَوْ يَرَى فِيهَا رَأْيَهُ، فَإِنَّمَا هِيَ غَنِيمَةٌ مِنْ مُشْرِكِينَ وَأَنَا مُسْلِمٌ مُصَدِّقٌ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أما إسلامك فنقبله/ ولا 96/ ب آخُذُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ شَيْئًا وَلا أُخْمِسُهُ لأَنَّ هَذَا غَدْرٌ، وَالْغَدْرُ لا خَيْرَ فِيهِ» . قَالَ: فَأَخَذَنِي مَا قَرَّبَ وَمَا بَعَّدَ، وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا قَتَلْتُهُمْ وَأَنا عَلى دِينِ قَوْمِي ثُمَّ أَسْلَمْتُ حَيْثُ دَخَلْتُ عَلَيْكَ السَّاعَةَ قَالَ: فَإِنَّ الإِسْلامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ. قَالَ: وكان قد قتل منهم [1] ثلاثة عشر إنسانا، فبلغ ذلك ثقيفا فتداعوا للقتال ثم اصطلحوا على أن يحمل عني عروة بن مسعود ثلاث عشرة دية.
قَالَ المغيرة: وأقمت مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى اعتمر عمرة الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الهجرة- وكانت أول سفرة خرجت معه فيها، وكنت أكون مع أبي بكر الصديق وألزم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمن يلزمه.
وبعثت قريش عام الحديبية عروة بن مسعود إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليكلمه، فأتاه فكلمه وجعل يمس لحية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمغيرة بن شعبة قائم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقنع فِي الحديد. فقَالَ لعروة وهو يمس لحية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كف يدك قبل أن لا تصل إليك، فقَالَ عروة: من هذا يا مُحَمَّد، ما أفظه وأغلظه؟ قَالَ: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة، فقَالَ عروة: يا غدر ما غسلت عني سوأتك بالأمس. وانصرف عروة إلى قريش فأخبرهم بما كلم به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وشهد المغيرة بعد ذلك المشاهد مع رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان يحمل وضوء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، ولما توفي رسول الله بعثه أبو بكر الصديق إلى أهل البحرين، ثم شهد اليمامة،
__________
[1] من هنا إلى آخر الخبر ساقط من ابن سعد.(5/239)
ثُمَّ شهد فتوح الشام مع المسلمين، ثم شهد اليرموك وأصيبت عينه يومئذ، ثم شهد القادسية، وكان رسول سعد إلى رستم، وولي لعمر فتوحا وولي له البصرة نحوا من سنتين، ففتح بيسان وغيرها، وفتح سوق الأهواز، وغزا نهر تيري، وفتح 97/ أهمدان/ وشهد نهاوند. وكان عمر قد كتب: إن هلك النعمان فالأمير حذيفة، وإن هلك حذيفة فالأمير المغيرة.
وكان المغيرة أول من وضع ديوان البصرة وجمع الناس ليعطوا عليه، وولي الكوفة لعمر بن الخطاب، فقتل عمر وهو عليها، ثم وليها بعد ذلك لمعاوية، فابتنى بها دارا ومات بها وهو وال عليها.
وَبِالإِسْنَادِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ الْعِجْلِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ [1] :
إِنَّ الْمُغِيرَةَ أَحْصَنَ مِائَةَ امْرَأَةٍ مَا بَيْنَ قُرَشِيَّةٍ وَثَقَفِيَّةٍ.
وأَخْبَرَنَا القزاز، قَالَ: أخبرنا أحمد بن على بن ثابت، قال: أَخْبَرَنَا الحسين بن أبي بَكْر، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن عَبْد اللَّهِ الشافعي، قَالَ: سمعت إبراهيم الحربي يقول:
توفي المغيرة بن شعبة سنة خمسين وهو ابن سبعين سنة.
وتوفي سنة خمسين.
وقيل: سنة تسع وأربعين.
وكذلك قَالَ خليفة بن خياط، وأبو حسان الزنادي.
__________
[1] في الأصل: «قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ الْعِجْلِيُّ، عن سعيد بن أبي بَكْر، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن عَبْد اللَّهِ الشافعي، قَالَ: سمعت إبراهيم الحربي يقول: عن عروبة، عن قتادة» .(5/240)
ثُمَّ دخلت سنة إحدى وخمسين
فمن الحوادث فيها مشتى فضالة بن عبيد بأرض الروم، وغزاة بسر بن أبي أرطأة الصائفة [1] .
وفيها: مقتل حجر بن عدي [2] .
وسببه: أن معاوية بن أبي سفيان لما ولى المغيرة بن شعبة الكوفة فقَالَ له: قد أردت أن أوصيك بأشياء كثيرة، فأنا تاركها اعتمادا على بصرك بما يرضيني ويسندد سلطاني [3] ، فأقام المغيرة على الكوفة عاملا لمعاوية سبع سنين وأشهرا وهو حسن السيرة، إلا أنه لم يدع الدعاء لعثمان والوقيعة فِي علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ [4] ، وكان حجر بن عدي إذا سمع ذلك قَالَ: أنا أشهد أن من تعيبون لأحق بالفضل وأن من تزكون لأولى بالذم، فيقول له المغيرة: ويحك اتق غضب السلطان وسطوته، فقام المغيرة/ يوما 97/ ب فأثنى على عثمان، فصاح به حجر: إنك قد حبست أرزاقنا وأصبحت مولعا بتقريظ المجرمين، وقام معه أكثر من ثلاثين يقولون: صدق حجر، فمر لنا بأعطياتنا، فنزل المغيرة ودخل عليه قومه فقالوا: علام تترك هذا الرجل يجترئ فِي سلطانك، ولو بلغ معاوية كان أسخط له عليك، فقَالَ لهم المغيرة: إني قد قتلته، إنه سيأتي أمير بعدي فيحسبه مثلي فيصنع به شبيها بما ترونه يصنع بي، فيأخذه عند أول وهلة فيقتله شر قتلة،
__________
[1] تاريخ الطبري 5/ 253.
[2] المرجع السابق. والصفحة.
[3] في الطبري: «يسعد سلطاني» . وفي أ: «يشدد سلطاني» .
[4] في الأصل: «علي عليه السلام» .(5/241)
إنه قد اقترب أجلي، ولا أحب أن أبتدئ أهل هذا المصر بقتل خيارهم، فيسعدوا بذلك وأشقى، ويعز فِي الدنيا معاوية ويذل يوم القيامة المغيرة، ولكني قابل من محسنهم، وعاف عن مسيئهم، وواعظ شقيهم حتى يفرق بيني وبينهم الموت، وسيذكروني، ولو قد جربوا العمال بعدي [1] .
فلما هلك المغيرة وولي زياد بن أبي سفيان قام فذكر عثمان وأصحابه فقرظهم وذكر قتلتهم ولعنهم، فقام حجر ففعل مثل الذي كان يفعل بالمغيرة، فقَالَ: ويل أمك يا حجر، «سقط بك العشاء على سرحان» [2] .
وفِي رواية أخرى: أن زيادا خطب فأطال الخطبة وأخر الصلاة، فقَالَ له حجر بن عدي: الصلاة فمضى فِي خطبته، ثم قَالَ: الصلاة، فلما خشي الفوت ضرب بيده إلى كف من الحصا، وثار إلى الصلاة، وثار الناس معه، فنزل زياد فصلى بالناس، ثم كتب إلى معاوية فِي أمره، فاستشهد عليه جماعة من أهل مصره، منهم أبو بردة بن أبي مُوسَى أنه خلع الطاعة ودعا إلى الفتنة.
فكتب إليه معاوية أن شده فِي الحديد ثم احمله إلي فبعثه إليه مع جماعة ممن يرى رأيه، فاستوهب بعضهم وبقي بعضهم، فقيل لهم تبرءوا من علي حتى يطلقكم، فلم يفعلوا.
فلما دخل حجر على معاوية قَالَ: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقَالَ له معاوية: لا والله لا أقيلك ولا أستقيلك، أخرجوه فاضربوا عنقه، فأخرج، فقال: دعوني 98/ أأصلي ركعتين، فصلاهما، ثم قَالَ لمن/ حضره من أهله: لا تطلقوا عني حديدا، ولا تغسلوا عني دما، فإنّي ألاقي معاوية غدا على الجادة. ثم قدم فضربت عنقه، وقتل معه جماعة من أصحابه ممن يرى رأيه.
ولما لقيت عائشة أم المؤمنين معاوية قالت [3] : يا معاوية، أين كان حلمك عن
__________
[1] الخبر في تاريخ الطبري 5/ 253- 255، والأغاني 16/ 4.
[2] مثل يضرب في طلب الحاجة يؤدي بصاحبها إلى التلف، وأصله أن رجلا خرج يلتمس العشاء، فوقع على ذئب فأكله» .
[3] تاريخ الطبري 5/ 257.(5/242)
حجر، فقَالَ لها: يا أم المؤمنين، لم يحضرني رشيد.
قَالَ ابن سيرين [1] : فبلغنا أنه لما حضرته الوفاة جعل يغرغر بالموت ويقول: يومي منك يا حجر يوم طويل.
وَرَوَى أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ [2] قَالَ: قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ عن الصعقب بْنِ زُهَيْرٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: أَرْبَعُ خِصَالٍ كن فِي مُعَاوِيَةَ، لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْهُنَّ إِلا وَاحِدَةً لَكَانَتْ مُوبِقَةً:
ابْتَزَّ هَذِهِ الأُمَّةَ أَمْرَهَا بِغَيْرِ مَشُورَةٍ مِنْهُمْ وَفِيهِمْ بَقَايَا مِنَ الصَّحَابَةِ وَذَوِي الْفَضْلِ. وَاسْتَخْلَفَ ابْنَهُ بَعْدَهُ سِكِّيرًا جِهِّيرًا، يَلْبَسُ [3] الْحَرِيرَ وَيَضْرِبُ بِالطَّنَابِيرِ، وَادَّعَى زِيَادًا وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» ، وَقَتَلَ حُجْرًا فَيَا وَيْلا لَهُ مِنْ حُجْرٍ وَأَصْحَابِهِ.
وفِي هذه السنة وجه زياد الربيع بن زياد الحارثي إلى خراسان أميرا بعد موت الحكم بن عمرو الغفاري
وكان الحكم قد استخلف على عمله أنس بن أبي إياس فعزله زياد وولى خليد بن عَبْد اللَّهِ الحنفِي أشهرا ثم عزله، وولى خراسان الربيع بن زياد فِي أول سنة إحدى وخمسين فنقل الناس عيالاتهم إلى خراسان فوطنوها، ثم غزا الربيع حين قدم إلى خراسان ففتح بلخ صلحا، وفتح قهستان عنوة، وكانت بناحيتهم أتراك فقتلهم وهزمهم، وكان ممن بقي منهم نيزك طرخان فقتله قتيبة بن مسلم فِي ولايته.
وكان الربيع قد قطع النهر فغنم وسلم، وكان الحكم بن عمرو قطع النهر قبله فِي ولايته إلا أنه لم يفتح.
فذكر المديني أن أول من شرب من النهر مولى للحكم، اغترف بترسه فشرب ثم ناول الحكم فشرب وتوضأ وصلى من وراء النهر ركعتين.
__________
[1] الخبر في تاريخ الطبري 5/ 257.
[2] تاريخ الطبري 5/ 279.
[3] في تاريخ الطبري: «سكيرا خميرا» .(5/243)
وفيها: حج بالناس يزيد بن معاوية، وكان العامل على المدينة سعيد بن العاص، 98/ ب وكان على الكوفة والبصرة والمشرق/ كله زياد ... وعلى قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة عميرة بن يثربي.
ذكر من توفي فِي هذه السنة من الأكابر
354- جعفر بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب [1] :
قدم مع أبيه على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأسلما، وغزا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة وحنينا وثبت يومئذ.
355- جرير بن عَبْد اللَّهِ بن مالك بن نصر بن ثعلبة، وقيل: جرير بن عَبْد اللَّهِ بن جابر بن مالك، يكنى أبا عمرو، وقيل: أبا عَبْد اللَّهِ: [2]
قدم المدينة فِي رمضان سنة عشر فأسلم، وقَالَ: لما دنوت من المدينة أنخت راحلتي ثم حللت عيبتي ولبست حلي، فدخلت على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يخطب، فسلمت عليه، فرماني الناس بالحدق فقلت لجليسي: هل ذكر رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أمري شيئا؟ قَالَ: نعم، ذكرك فأحسن الذكر بيننا، وهو يخطب قَالَ: «سيدخل عليكم من هذا الفج- أو من هذا الباب- الآن مِنْ خَيْرِ ذِي يَمَنٍ، عَلَى وَجْهِهِ مَسْحَةُ ملك» ، فحمدت الله على ما أبلاني.
ولما جاء جرير يبايع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسط له ثوبا ليجلس عليه، وقَالَ: «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه» . وكان جرير سيدا فِي قومه.
وبعثه رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم إلى هدم ذي الخلصة، وهو بيت لخثعم كان يسمى الكعبة اليمانية، فأضرمه بالنار. أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْجَوْهَرِيُّ، قال: أخبرنا ابن حيوية،
__________
[1] طبقات ابن سعد 4/ 1/ 38.
[2] تاريخ بغداد 1/ 187.(5/244)
قال: أخبرنا ابن معروف، قال: حدثنا ابن الْفَهْمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا وَهْبُ بْن جَرِيرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُغِيرَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ:
أَنَّ عُمَرَ كَانَ فِي بَيْتٍ وَمَعَهُ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَوَجَدَ رِيحًا، فَقَالَ: عَزَمْتُ عَلَى صَاحِبِ هَذِهِ الرِّيحِ لَمَا قَامَ فَتَوَضَّأَ، فَقَالَ جَرِيرٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ يَتَوَضَّأُ الْقَوْمُ جَمِيعًا، فَقَالَ عُمَرُ: رَحِمَكَ اللَّهُ، نِعْمَ السَّيِّدُ كُنْتَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَنِعْمَ السَّيِّدُ أَنْتَ فِي الإِسْلامِ.
قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ قَالَ لَهُ وَالنَّاسُ يَتَحَامَوْنَ الْعِرَاقَ/، وَقِتَالَ الأَعَاجِمِ: سِرْ بِقَوْمِكَ فَمَا غَلَبْتَ عَلَيْهِ فلك ربعه، فلما جمعت 99/ أالغنائم- غَنَائِمُ جَلُولاءَ- ادَّعَى جَرِيرٌ أَنَّ لَهُ رُبُعَ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَكَتَبَ سَعْدٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ عُمَرُ: صَدَقَ جَرِيرٌ وَقَدْ قُلْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَإِنْ شَاءَ أَنْ يَكُونَ قَاتَلَ هُوَ وَقَوْمُهُ عَلَى جُعْلٍ فَاعْطُوهُ جُعْلَهُ، وَأَنْ يَكُونَ قَاتَلَ للَّه وَلِدِينِهِ وَحَسَبِهِ فَهُوَ رجل من المسلمين له ما لهم وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ.
فَلَمَّا قَدِمَ الْكِتَابُ عَلَى سَعْدٍ أَخْبَرَ جَرِيرًا بِذَلِكَ، فَقَالَ جَرِيرٌ: صَدَقَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، لا حَاجَةَ لِي بِهِ، بَل أَنَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ علماء السير: شهد جرير مع المسلمين يوم المدائن، فلما مصرت الكوفة نزلها، فمكث بها إلى خلافة عثمان، ثم بدت الفتنة فانتقل إلى قرقيسيا وسكنها إلى أن مات ودفن بها.
أَخْبَرَنَا القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي الحافظ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابن حيوية، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد الله بن محمد بن جعفر، قال: حدثنا عمر بن أَحْمَد، قَالَ: حَدَّثَنَا خليفة، قَالَ:
نزل جرير قرقيسيا فمات بها سنة إحدى وخمسين.
وكذلك قَالَ مُحَمَّد بن المثنى.
وقَالَ هشام بن مُحَمَّد الكلبي: مات سنة أربع وخمسين
.(5/245)
356- حارثة بن النعمان بن نفع، أبو عَبْد اللَّهِ الأنصاري [1] :
شهد بدرا والمشاهد كلها مع رسول الله صلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا حَيْويَةَ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا معروف، قال: حدثنا ابْن الفهم، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ حَارِثَةُ [2] . رَأَيْتُ جِبْرِيلَ مَرَّتَيْنِ حِينَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، مَرَّ بِنَا فِي صُورَةِ دِحْيَةَ، وَحِينَ رَجَعْنَا مِنْ خَيْبَرَ مَرَرْتُ وَهُوَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ أُسَلِّمْ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: حَارِثَةُ، قَالَ: لَوْ سَلَّمَ لَرَدَدْنَا عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ سَعْدٍ [3] : وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَتْ لِحَارِثَةَ مِنَازِلُ قُرْبَ مَنَازِلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم بالمدينة، 99/ ب وَكَانَ كُلَّمَا أَحْدَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلا تَحَوَّلَ عَنْ مَنْزِلٍ بَعْدَ مَنْزِلٍ حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ/ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لَقَدِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ حَارِثَةَ مِمَّا يَتَحَوَّلُ لَنَا عَنْ مَنَازِلِهِ. قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يُونُسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي فُدَيْكٍ، قالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ. أَنَّ حَارِثَةَ بْنَ النُّعْمَانِ كَانَ قَدْ كُفَّ بَصَرُهُ، فَجَعَلَ خَيْطًا مِنْ مُصَلاهُ إِلَى بَابِ حُجْرَتِهِ، وَوَضَعَ عِنْدَهُ مَكْتَلا فِيهِ تَمْرٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ، فَكَانَ إِذَا سَأَلَ الْمِسْكِينُ أَخَذَ مِنْ ذَلِكَ التَّمْرِ ثُمَّ أَخَذَ عَلَى ذَلِكَ الْخَيْطِ حَتَّى يَأْخُذَ إِلَى بَابِ الْحُجْرَةِ فَيُنَاوِلَهُ الْمِسْكِينَ، فَكَانَ أَهْلُهُ يَقُولُونَ: نَحْنُ نَكْفِيكَ، فَيَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنْ مُنَاوَلَةَ الْمِسْكِينِ تَقِي مِيتَةَ السُّوءِ» .
357-[حجر بن عدي [4] :
وقد سبقت قصة قتله آنفا] :
__________
[1] طبقات ابن سعد 3/ 2/ 51.
[2] الخبر في طبقات ابن سعد 3/ 2/ 52.
[3] طبقات ابن سعد 3/ 2/ 53.
[4] طبقات ابن سعد، والترجمة ساقطة من الأصل.(5/246)
358- سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل [1] :
أسلم قبل أن يدخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دار الأرقم وقبل أن يدعو فيها [2] .
وبعثه رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ طَلْحَة [3] ، يتجسسان خبر العير ففاتتهما بدر، فضرب لهما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسهامهما وأجورهما. وقدما المدينة فِي اليوم الذي لقي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم المشركين ببدر. وشهد سعيد أحدا والخندق والمشاهد بعدها مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتوفي بالعقيق فِي هذه السنة، وغسله سعد بن أبي وقاص، وحمل إلى المدينة فدفن بها وهو ابن بضع وسبعين سنة. وكان رجلا طوالا، أدم أشعر.
359- عَبْد اللَّهِ بن أنيس بن أسعد بن حرام، أبو يَحْيَى [4] :
شهد العقبة مع السبعين، وكان يكسر أصنام بني سلمة هو ومعاذ بن جبل لما أسلما. ولم يشهد بدرا، لكنه شهد أحدا وما بعدها، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرية وحده إلى سفيان بن خالد بن نبيح الهذلي وأمره أن يقتله، فخرج فقتله ثم قدم فأخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأعطاه مخصرا- يعني عصا- فقَالَ: خذ هذه تنخصر بها يوم القيامة فإن المنخصرين يومئذ/ قليل» . فلما حضرته الوفاة أمر أن تدفن معه فِي أكفانه، ومات بالمدينة فِي خلافة معاوية.
360- نفيع بن الحارث، أبو بكرة [5] :
ويقال: اسمه مسروح، [ويقال: نفيع بن مسروح] [6] ، وأمه سمية، وهو أخو زياد ابن سمية بن أبي سفيان لأمه.
كان عبدا لبعض أهل الطائف، فلما حاصرهم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلّم نادى مناديه: أيما
__________
[1] طبقات ابن سعد 3/ 1/ 27.
[2] في الأصل: «يدعو إليها» . وما أوردناه من ت، وابن سعد 3/ 1/ 278.
[3] في الأصل «مع رجل» .
[4] طبقات خليفة 118، والتاريخ الكبير للبخاريّ 5/ ترجمة 26، والمعارف 280.
[5] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 8.
[6] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(5/247)
عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر، فخرج بضع عشر منهم أبو بكرة، تدلى من بكرة، فكني أبا بكرة.
وكان يقول: أنا مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. سكن البصرة، وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ الْقَزَّازِ، قَالَ: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال:
أخبرنا محمد بْنُ أَحْمَدَ بْنِ رِزْقٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى الْمُزَكّي، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَخْزُومِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ عُيَيْنَةَ بْنِ عَبْد الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ:
لَمَّا اشْتَكَى أَبُو بَكْرَةَ عَرَضَ عَلَيْهُ بَنُوهُ أَنْ يَأْتُوهُ بِطَبِيبٍ فَأَبَى، فلما نزل به الموت وعرف الموت مِنْ نَفْسِهِ وَعَرَفُوهُ مِنْهُ، قَالَ: أَيْنَ طَبِيبُكُمْ لِيَرُدَّهَا إِنْ كَانَ صَادِقًا، قَالُوا: وَمَا يُغْنِي الآنَ، قَالَ: وَقَبْلَ الآنَ.
قَالَ: وَجَاءَتِ ابْنَتُهُ أَمَةُ اللَّهِ، فَلَمَّا رَأَتْ مَا بِهِ بَكَتْ، فَقَالَ: أَي بُنَيَّةَ لا تَبْكِي، قَالَتْ: يَا أَبَهْ، فَإِذَا لَمْ أَبْكِ عَلَيْكَ فَعَلَى مَنْ أبكي؟ فقال: لا تبكي، فو الّذي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا عَلَى الأَرْضِ نَفْسٌ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ تَكُونَ قَدْ خَرَجَتْ مِنْ نَفْسِي هَذِهِ، وَلا نَفْسُ هَذَا الذُّبَابِ الطَّائِرِ.
وَأَقْبَلَ عَلَى حُمْرَانَ بْنِ أَبَانٍ وَهُوَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ: لا أُخْبِرُكَ مِمَّ ذَاكَ، خَشِيتُ وَاللَّهِ أَنْ يَجِيءَ أَمْرٌ يَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ الإِسْلامِ، ثُمَّ جَاءَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ فَقَعَدَ بَيْنَ يديه وأخذ بيده 100/ ب وقال: إن ابن أمك زياد أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ يُقْرِئُكَ السَّلامَ/ وَقَدْ بَلَغَهُ الَّذِي نَزَلَ بِكَ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَحَبَّ أَنْ يُحْدِثَ بِكَ عَهْدًا وَأَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْكَ وَأَنْ يُفَارِقَكَ عَنْ رِضًى، قَالَ:
أَفَمُبِلِّغُهُ أَنْتَ عَنِّي؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنِّي أُحَرِّجُ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ لِي بَيْتًا وَيَحْضُرَ لِي جِنَازَةً، قَالَ: لَمْ يَرْحَمْكَ اللَّهُ وَقَدْ كَانَ لَكَ مُعَظِّمًا وَلِبَنِيكَ وَاصِلا، قَالَ: فِي ذَلِكَ غَضِبْتُ عَلَيْهِ، قَالَ: فَفِي خَاصَّةِ نَفْسِكَ، فَمَا عَلِمْتُهُ إِلا مُجْتَهِدًا، قَالَ: فَأَجْلِسُونِي، فَأَجْلَسُوهُ فَقَالَ:
نَشَدْتُكَ باللَّه لَمَا حَدَّثْتَنِي عَنْ أَهْلِ النَّهْرِ، أَكَانُوا مُجْتَهِدِينَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: أَفَأَصَابُوا أَمْ أَخْطَأُوا، قَالَ: هُوَ ذَاكَ، ثُمَّ قَالَ: أَضْجِعُونِي. فَرَجَعَ أَنَسٌ إِلَى زِيَادٍ فَأَبْلَغَهُ، فَرَكِبَ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْكُوفَةِ فَتُوُفِّيَ، فَقَدِمَ بَنُوهُ أَبَا بَرْزَةَ فصلى عليه
.(5/248)
ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين
فمن الحوادث فيها غزوة سفيان بن عوف الأزدي ومشتاه بأرض الروم، وأنه توفي بها، واستخلف عَبْد اللَّهِ بن مسعدة الفزاري. هذا قول الواقدي [1] .
وقَالَ غيره: بل الذي شتا بأرض الروم فِي هذه السنة بالناس بسر بن أبي أرطأة ومعه سفيان بن عوف، وغزا الصائفة فِي هذه السنة مُحَمَّد بن عَبْد اللَّهِ الثقفِي.
وفيها حج بالناس سعيد بن العاص، وكان العمال فِي هذه السنة العمال الذين كانوا في السنة التي قبلها.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
361- خالد بْن يزيد [2] بن كليب بن ثعلبة، أبو أيوب الأنصاري، الخزرجي:
حضر العقبة، ونزل عليه رَسُول اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم حين قدم المدينة، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحضر مع علي بن أبي طالب حرب الخوارج بالنهروان، وورد المدائن فِي صحبته.
أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ، قال: أخبرنا ابن المذهب، قال: أخبرنا أحمد بن جعفر،
__________
[1] تاريخ الطبري 5/ 287.
[2] طبقات ابن سعد 3/ 2/ 49. وفيه: «خالد بن زيد» .(5/249)
قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ثَابِتٌ- يَعْنِي أَبَا زَيْدٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن الحارث، 101/ أعن أَفْلَحَ مَوْلَى/ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَزَلَ عَلَيْهِ، فَنَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْفَلَ الدَّارِ وَأَبُو أَيُّوبَ فِي الْعُلْوِ، فَانْتَبَهَ أَبُو أَيُّوبَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ: يُمْسِي فَوْقَ رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَاتُوا فِي جَانِبٍ فَلَمَّا أَصْبَحَ ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَسْفَلُ أَرْفَقُ بِي» ، فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ: لا أَعْلُو سُقَيْفَةً أَنْتَ تَحْتَهَا، فَتَحَوَّلَ أَبُو أَيُّوبَ فِي السِّفْلِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعُلْوِ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا الحسن بن علي الجوهري، قال: أخبرنا أبو عمر بْنُ حَيْوَيْهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ مَعْرُوفٍ، قَالَ: حدثنا الحارث بن أبي سلمة، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سعد [1] ، قَالَ: أَخْبَرَنَا بَكْرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ الْمُخْتَارِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْحَكَمِ، عِنْ مُقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ مِنْ خَيْبَرَ وَمَعَهُ صَفِيَّةُ دَخَلَ الْفُسْطَاطَ مَعَهُ السَّيْفُ وَاضِعًا رَأْسَهُ عَلَى الْفُسْطَاطِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ الْحَرَكَةَ، فَقَالَ: «مَنْ هَذَا؟» فَقَالَ:
أَنَا أَبُو أَيُّوبَ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جَارِيَةٌ شَابَّةٌ حَدِيثَةُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ وَقَدْ صَنَعَتْ بِزَوْجِهَا مَا صَنَعَتْ فَلَمْ آمَنُهَا، قُلْتُ إِنْ تَحَرَّكَتْ أَكُونُ قَرِيبًا مِنْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا أَيُّوبَ» ، مَرَّتَيْنِ. قَالَ ابن معروف [2] : وحَدَّثَنَا ابْن الفهم، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سعد، قال: قال الواقدي: توفي أبو أيوب حين غزا يزيد بن معاوية القسطنطينية فِي خلافة أبيه معاوية سنة اثنتين وخمسين، وصلى عليه يزيد، وقبره بأصل حصن القسطنطينية بأرض الروم، فلقد بلغنا أن الروم يتعاهدون قبره ويرمونه، ويستسقون به إذا قحطوا.
__________
[1] في الأصل: «أَخْبَرَنَا محمد بْن أبي طاهر، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي أُسَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سعد، قال: أخبرنا أبو عمر بن حيوية، قَالَ: حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مَعْرُوفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ أبي أسامة، قَالَ حدثنا محمد بن سعد» .
[2] طبقات ابن سعد 3/ 2/ 50.(5/250)
وقد قَالَ أبو زرعة الدمشقي أنه مات أبو أيوب سنة خمس وخمسين، والأول أثبت.
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي، قال: أخبرنا ابن الفضل، قال: أخبرنا/ عبد الله بن جعفر، قال: حدثنا يعقوب بن سفيان، قال: حدثنا 101/ ب صفوان بن صالح، قَالَ: حَدَّثَنَا الوليد، قَالَ: حَدَّثَنِي شيخ من أهل فلسطين:
أنه رأى بنية بيضاء دون حائط القسطنطينية، فقالوا: هذا قبر أبي أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأبيت تلك البنية، فرأيت قبره فِي تلك البنية وعليه قنديل معلق بسلسلة.
362- عَبْد اللَّهِ بن قيس بن سليم، أبو مُوسَى الأشعري [1] :
أمه ظبية بنت وهب بن عك، أسلمت وماتت بالمدينة.
وكان خفيف الجسم قصيرا أثط، قدم مكة (فحالف سعيد بن العاص فأسلم بمكة وهاجر إلى أرض الحبشة، ثم قدم مع أهل السفينتين ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر.
ذكره الواقدي، ولم يذكره ابن عبيد وابن إسحاق وأبو معشر فيمن هاجر إلى الحبشة.
وقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْد اللَّهِ بن جهم: ليس أبو مُوسَى من مهاجرة الحبشة، وليس له حلف فِي قريش، وكان قد أسلم بمكة قديما ثم رجع إلى بلاد قومه، فلم يزل بها حتى قدم هو وناس من الأَشْعَرِيِّينَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فوافق قدومهم قدوم أهل السفينتين جعفر وأصحابه من أرض الحبشة، ووافق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخيبر، ولما دنا أبو مُوسَى وأصحابه من المدينة جعلوا يرتجزون ويقولون:
غدا نلقى الأحبة ... محمدا وحزبه
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ حَيَّوَيْهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَعْرُوفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الحسين بن الفهم، قال: حدّثنا
__________
[1] طبقات ابن سعد 2/ 2/ 105، 4/ 1/ 78، 9/ 1/ 6.(5/251)
مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ [1] : دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْمَسْجِدَ، فَسَمِعَ قِرَاءَةَ رَجُلٍ، فَقَالَ: «مَنْ هَذَا؟» . قِيلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ، فَقَالَ: «لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ» . قَالَ مُحَمَّد بْنُ سَعْدٍ [2] : وأَخْبَرَنَا يَزِيدُ وَعَفَّانُ، قَالا: أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ:
كَانَ أَبُو مُوسَى إِذَا نَامَ يَلْبِسُ ثِيَابًا عِنْدَ النَّوْمِ مَخَافَةَ أَنْ تَنْكَشِفَ عورته.
102/ أقال ابْنُ سَعْدٍ: [3] / وأَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ: قَالَ أَبُو مُوسَى: [4] إِنِّي لأَغْتَسِلُ فِي الْبَيْتِ الْخَالِي فَيَمْنَعُنِي الْحَيَاءُ مِنْ رَبِّي أَنْ أُقِيمَ صُلْبِي.
أخبرنا ابن الحصين، قال: أخبرنا ابن المذهب، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قال: حَدَّثَنِي أَبِي: قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ:
كَتَبَ عُمَرُ فِي وَصِيَّتِهِ: أَنْ لا يُقَرَّ لِي عَامِلٌ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ، وَأَقِرُّوا الأَشْعَرِيَّ- يَعْنِي أَبَا مُوسَى- أَرْبَعَ سِنِينَ.
توفي أبو مُوسَى فِي هذه السنة، وقيل: فِي سنة اثنتين وأربعين.
363- عَبْد اللَّهِ بن مغفل، أبو سعيد [5] :
وكان من البكاءين، ومن الذين بعثهم عمر إلى البصرة يفقهونهم.
أنبأنا أبو بكر بْن أبي طاهر، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَسَن بْن علي الجوهري، قال:
__________
[1] الخبر في طبقات ابن سعد 4/ 1/ 89.
[2] طبقات ابن سعد 4/ 1/ 82.
[3] طبقات ابن سعد 4/ 1/ 84.
[4] طبقات ابن سعد 4/ 1/ 84.
[5] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 7 وورد في الأصل «عبد الله بن معقل» .(5/252)
أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ حَيُّوِيَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن معروف، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن الفهم، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا هَوْذَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْفٌ، عَنْ خُزَاعِيِّ، بْنِ زِيَادٍ، قَالَ:
أُرِيَ عَبْد اللَّهِ بْن مُغَفَّلٍ أَنَّ السَّاعَةَ قَدْ قَامَتْ وَالنَّاسُ يُعْرَضُونَ عَلَى مَكَانٍ، قَالَ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ مَنْ جَازَ ذَلِكَ الْمَكَانَ نَجَا، فَذَهَبْتُ أَدْنُو مِنْهُ، فَقَالَ: وَرَاءَكَ، أَتُرِيدُ أَنْ تَنْجُو وَعِنْدَكَ مَا عِنْدَكَ، كَلا وَاللَّهِ، قَالَ: فَاسْتَيْقَظْتُ مِنَ الْفَزَعِ، فَأَيْقَظَ أَهْلَهُ وَعِنْدَهُ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ عَيْبَةٌ مَمْلُوءَةٌ دَنَانِيرَ، فَقَالَ: يَا فُلانَةُ، أَرِنِي تِلْكَ الْعَيْبَةَ قَبَّحَهَا اللَّهُ وَقَبَّحَ مَا فِيهَا [فَمَا أَصْبَحَ حَتَّى قَسَّمَهَا] فَلَمْ يَدَعْ مِنْهَا دِينَارًا.
فَلَمَّا كَانَ الْمَرَضُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَوْصَى أَهْلَهُ، قَالَ: لا يَلِينِي إِلا أَصْحَابِي، وَلا يُصَلِّي عَلَيَّ ابْنُ زِيَادٍ، فَلَمَّا مَاتَ أَرْسَلُوا إِلَى أَبِي بَرْزَةَ وَعَائِذِ بْنِ عَمْرٍو، وَنَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوُلُّوا غَسْلَهُ وَتَكْفِينَهُ، فَلَمَّا أَخْرَجُوهُ إِذَا بِابْنِ زِيَادٍ فِي مَوْكِبِهِ بِالْبَابِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ أَوْصَى أَنْ لا تُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَسَارَ مَعَهُ حَتَّى بَلَغَ حِذَاءَ الْبَيْضَاءِ، فَمَالَ إِلَى الْبَيْضَاءِ وَتَرَكَهُ.
توفي عَبْد اللَّهِ بالبصرة [1] .
364- عمران بن حصين بن عبيد بن خلف بن عبد نهم، أبو نجيد [2] :
/ أسلم قديما، وغزا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزوات، ولم يزل فِي بلاد قومه ثم تحول 102/ ب إلى البصرة، فنزلها إلى أن مات بها.
أنبأنا أبو بكر بن عبد الباقي، قَالَ: أخبرنا الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا ابن مَعْرُوفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَهِمِ، قَالَ: حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثنا عارم بن الفضل، قال: حدثنا حماد بن زيد، قَالَ: حَدَّثَنَا هشام، عن مُحَمَّد بن سيرين، قَالَ [3] :
ما قدم من البصرة أحد من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يفضل على عمران بن حصين.
__________
[1] في الأصل: «نقل عبد الله إلى البصرة» .
[2] طبقات ابن سعد 4/ 2/ 26، 7/ 1/ 4.
[3] الخبر في طبقات ابن سعد 4/ 2/ 26.(5/253)
قَالَ ابْنُ سَعْدٍ [1] : وَأَخْبَرَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ بْنِ حَازِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ:
سَمِعْتُ حميد بن هلال يحدث عَنْ مُطَرِّفٍ، قَالَ:
قَالَ لِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ: أُشْعِرْتُ أَنَّهُ كَانَ يُسَلَّمُ عَلَيَّ فَلَمَّا اكْتَوَيْتُ انْقَطَعَ التَّسْلِيمُ، فَقُلْتُ: أَمِنْ قِبَلِ رَأْسِكَ كَانَ يَأْتِيكَ التَّسْلِيمُ أَمْ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْكَ؟ قَالَ: لا بَلْ مِنْ قِبَلِ رَأْسِي، فَقُلْتُ: لا أَرَى أَنْ تَمُوتَ حَتَّى يَعُودَ ذَلِكَ.
فَلَمَّا كَانَ بَعْدُ قَالَ لِي: أُشْعِرْتُ أَنَّ التَّسْلِيمَ عَادَ لِي. قَالَ: ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ إِلا يَسِيرًا حَتَّى مَاتَ.
قَالَ: وَقُلْتُ لِعِمْرَانَ: مَا يَمْنَعُنِي مِنْ عِيَادَتِكَ إِلا مَا أَرَى مِنْ حَالِكَ، قَالَ: لا تَفْعَلْ، فَإِنَّ أَحَبَّهُ إِلَيَّ أَحَبُّهُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
365- معاوية بن حديج بن جفنة، أبو نعيم [2] :
وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد فتح مصر، وكان الوافد إلى عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بفتح الإسكندرية، وكان أعور، ذهبت عينه فِي حرب النوبة مع عبد الله ابن سعد بن أبي سرح سنة إحدى وثلاثين، وولي الإمرة على غزو المغرب سنة أربع وثلاثين، وسنة أربعين وسنة خمسين.
روى عنه علي بن رباح، وعبد الرحمن بن سماعة، وسويد بن قيس [3] ، وغيرهم.
توفي فِي هذه السنة.
366- هانئ بن نيار بن عمرو بن عبيد، أبو بردة [4] :
وهو خال البراء بن عازب، شهد العقبة مع السعين وبدرا والمشاهد كلها مع 103/ أرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت معه راية بني/ حارثة في غزوة الفتح.
__________
[1] طبقات ابن سعد 4/ 2/ 27، 28.
[2] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 195.
[3] في الأصل: «يزيد بن قيس» خطأ.
[4] طبقات ابن سعد 3/ 2/ 25.(5/254)
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين
فمن الحوادث فيها مشتى عَبْد الرَّحْمَنِ بن أم الحكم الثقفِي بأرض الروم [1] .
وفيها: فتحت رودس [2] ، وهي جزيرة فِي البحر، فتحها جنادة بن أبي أمية الأزدي، فنزلها المسلمون، وزرعوا، واتخذوا بها الأموال والمواشي، وكان لهم ناطور [3] يحذرهم من يريدهم من البحر بكيد، وكانوا أشد شيء على الروم، يعترضونهم فِي البحر فيقطعون سفنهم، وكان معاوية يدر لهم العطاء، فلما مات معاوية أقفلهم يزيد [بن معاوية] [4] .
وقيل: هذا كان فِي سنة أربع وخمسين.
قَالَ الأصمعي: وكان بالكوفة طاعون زياد الذي مات فيه [5] فِي هذه السنة.
وقيل: كان فِي سنة أربع.
وفيها: حج بالناس سعيد بن العاص، وكان هو العامل على المدينة، وكان على الكوفة عَبْد اللَّهِ بن خالد بن أسيد، وعلى البصرة سمرة بن جندب. وعلى خراسان خليد بن عبد الله الحنفي.
__________
[1] تاريخ الطبري 5/ 288.
[2] في الأصول: «روس» . وما أوردناه من الطبري.
[3] في الأصل: «ناظر» . والناطور: حافظ الزرع والتمر والكرم.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[5] كذا في الأصول.(5/255)
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
367- جبلة بن الأيهم: [1]
كان ملك غسان، فكتب إليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعوه إلى الإسلام، فأسلم وكتب بإسلامه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهدى له هدية، ثم لم يزل مسلما حتى كان فِي زمان عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فوطئ رجل من مزينة [2] ، فوثب المزني فلطمه، وكان ذلك بدمشق، فأخذ الرجل فانطلق به إلى أبي عبيدة بن الجراح، فقالوا: هذا لطم جبلة بن الأيهم، قَالَ: فليلطمه، قالوا: وما يقتل؟ قَالَ: لا، قالوا: فما تقطع يده؟ قَالَ: لا، إنما أمر الله عز وجل بالقود، قَالَ جبلة: أترون أني جاعل وجهي ندا لوجه جدر جاء من عمق- يعني 103/ ب موضعا فِي ناحية المدينة- بئس الدين هذا. ثم ارتد نصرانيا، وترحل/ بقومه حتى دخل أرض الروم، فبلغ ذلك عمر فشق ذلك عليه.
وروي لنا خبره على غير هذا الوجه، وأنه أسلم فِي زمن عمر. قَالَ أبو عمرو الشيباني: كتب جبلة إلى عمر بن الخطاب يستأذنه فِي القدوم عليه، فأذن له عمر، فخرج إليه في خمسمائة من بنيه حتى إذا كان على مرحلتين كتب إلى عمر يعلمه بذلك، فسر عمر وبعث إليه بإنزال، وأمر جبلة مائتي رجل من أصحابه فلبسوا الديباج والحرير، وركبوا الخيل معقودة أذنابها وألبسوها قلائد الذهب والفضة، ولبس جبلة تاجه وفيه قرط مارية، وهي جدته، ودخل المدينة فلم يبق بها بكر ولا عانس إلا خرجت تنظر إليه وإلى زيه، فلما انتهى إلى عمر رحب به وألطفه وأدنى مجلسه، ثم خرج عمر إلى الحج، فحج معه جبلة، فبينما هو يطوف بالبيت وطئ إزاره رجل من بني فزارة فانحل، فرفع جبلة يده فهشم أنفه، فاستعدى عليه عمر، فبعث إلى جبلة، فقَالَ له: ما هذا؟ قَالَ: نعم يا أمير المؤمنين، إنه تعمد حل إزاري ولولا حرمة الكعبة لضربت بين عينيه بالسيف، فقَالَ له عمر: قد أقررت، فإما أن ترضي الرجل وأما أن أقيد منك، قَالَ جبلة: تصنع بي ماذا؟
قَالَ: آمر بهشم أنفك كما فعلت، قَالَ، كيف ذلك وهو سوقة وأنا ملك؟ قَالَ: إن
__________
[1] ابن خلدون 2/ 281، وخزانة البغدادي 2/ 242، والنويري 15/ 311. وفي الأصل: «ابن الأهيم» .
والبداية أيضا.
[2] راجع هذا الخبر في الأغاني 15/ 125.(5/256)
الإسلام جمعك وإياه، فلست تفضله إلا بالتقى، قَالَ جبلة: قد ضننت أني أكون فِي الإسلام أعز مني فِي الجاهلية، قَالَ عمر: دع ذا عنك [فإنك إن لم ترض الرجل] اقتدته منك، قَالَ: إذا أتنصر، قَالَ: إن تنصرت ضربت عنقك لأنك قد أسلمت فإن ارتددت قتلتك.
فلما رأى الجد من عمر قال: أنا ناظر في هذه ليلتي هذه، وقد اجتمع بباب عمر من حي هذا وحي هذا خلق كثير حتى كادت تكون بينهم فتنة، فلما أمسوا أذن له عمر فِي الانصراف حتى إذا نام الناس تحمل بخيله ورواحله إلى الشام فأصبحت مكة بلاقع منهم، فلما أتى الشام تحمل في خمسمائة رجل من قومه حتى أتى القسطنطينية فدخل إلى هرقل فتنصر هو وقومه، فسر بذلك وظن أنه/ فتح من الفتوح، وأجرى عليه ما شاء 104/ أوجعله من سماره.
[وذكر [1] ابن الكلبي أن الفزاري لما وطئ إزار جبلة، فلطمه جبلة، فلطم جبلة كما لطمه، فوثب عليه غسان فهشموا أنفه وأتوا به عمر، وذكر فِي الحديث مثل ما تقدم.
أَنْبَأَنَا مُحَمَّد بْنُ نَاصِرٍ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقَادِرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَوْهَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ بْنُ حَيُّوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْنُ مُوسَى بْنِ هَارُونَ، حَدَّثَنَا أَحْمَد بْنُ يزك، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكَلْبِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
ذَكَرُوا أَنُّه لَمَّا أَسْلَمَ جَبَلَةُ بْنُ الأَيْهَمِ الْغَسَّانِيُّ، وَكَانَ مِنْ مُلُوكِ جَفْنَةَ، وَذَلِكَ فِي خِلافَةِ عُمَرَ، وَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بِإِسْلامِهِ، وَيَسْتَأْذِنُهُ فِي الْقُدُومِ عَلَيْهِ، فَسُرَّ عُمَرُ بِذَلِكَ وَأَذِنَ لَهُ فِي الْقُدُومِ، فَخَرَجَ فِي خَمْسِينَ وَمِائَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ حَتَّى إِذَا قَارَبَ الْمَدِينَةَ عَمَدَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَحَمَلَهُمْ عَلَى الْخَيْلِ وَقَلَّدَهَا قَلائِدَ الْفِضَّةِ، وَأَلْبَسَهُمُ الدِّيبَاجَ وَالْحَرِيرَ، وَلَبِسَ تَاجَهُ وَفِيهِ قُرْطُ مَارِيَةَ جَدِّتِهِ، وَبَلَغَ عُمَرَ، فَبَعَثَ إليه بالنزل لك، ثُمَّ دَخَلَ الْمَدِينَةِ فِي هَيْئَتِهِ، فَلَمْ تَبْقَ بِكْرٌ وَلا عَانِسٌ إِلا خَرَجَتْ تَنْظُرُ، فَدَخَلَ على عمر فرحب به، ثم أقام
__________
[1] من هنا ساقط من الأصل، أوردناه من ت، وفي الأصل: «وكذلك أخبرنا محمد بن ناصر بإسناده عن هشام بن محمد الكلبي بهذا الحديث الثاني لم يزد فيه ولم ينقص حرفا إلى أن قال، فتنصر هو وقومه» .(5/257)
أَيَّامًا، وَأَرَادَ عُمَرُ الْحَجَّ، فَخَرَجَ مَعَهُ، وَكَانَ النَّاسُ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ هَيْئَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَطِئَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ إِزَارَهُ مِنْ خَلْفِهِ فَانْحَلَّ، فَرَفَعَ يَدَهُ فَهَشَّمَ أَنْفَ الْفَزَارِيِّ، فَمَضَى يَسْتَعْدِي عُمَرَ عَلَيْهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ، فَأَتَى فَقَالَ: هَشَّمْتَ أَنْفَ الرَّجُلِ؟ قَالَ: نَعَمْ، اعْتَمَدَ حَلَّ إِزَارِي، وَلَوْلا حُرْمَةُ الْكَعْبَةِ لَضَرَبْتُ بِالسَّيْفِ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَقَالَ عُمَرُ: أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ أَقْرَرْتَ، فَإِمَّا أَنْ تُرْضِيَ الرَّجُلَ وَإِلا أَقَدْتُهُ مِنْكَ، قَالَ: أَوَ خَطَر هُوَ لِي؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: كَيْفَ وَأَنَا مَلِكٌ وَهُوَ سُوقَةٌ؟ قَالَ عُمَرُ: الإِسْلامُ جَمَعَكُمَا، قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ ظَنَنْتُ أَنِّي أَكُون فِي الإِسْلامِ أَعَزَّ مني في الجاهلية، قال عمر: هُوَ مَا تَرَى، فَقَالَ: إِذِنْ أَتَنَصَّرُ، قَالَ:
إِنْ فَعَلْتَ قَتَلْتُكَ. وَاجْتَمَعَ مِنْ حَيِّ الْفَزَارِيِّ وَحَيِّ جَبَلَةَ عَلَى بَابِ عُمَرَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَقَالَ:
أنا أَنْظُرُ فِي هَذَا الأَمْرِ لَيْلَتِي هَذِهِ. فَانْصَرَفَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَلَمَّا ادْلَهَمَّ اللَّيْلُ تحمل بأصحابه إلى الشام في خمسمائة حَتَّى دَخَلَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ فِي زَمَنِ هِرْقِلَ] [1] فَتَنَصَّرَ وَقَوْمُهُ فَأَقْطَعَهُ هِرْقِلُ مَا شَاءَ، وَأَجْرَى عَلَيْهِ مَا شَاءَ وَجَعَلَهُ مِنْ سُمَّارِهِ.
فَمَكَثَ دَهْرًا ثُمَّ كَتَبَ عُمَرُ إِلَى هِرْقِلَ كِتَابًا وَبَعَثَهُ مَعَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَأَجَابَ هِرْقِلُ بِمَا أَرَادَ عُمَرُ، ثُمَّ قَالَ للرَّجُلِ: هَلْ لَقِيتَ ابْنَ عَمِّكَ جَبَلَةَ؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَالْقِهِ قَالَ: فَأَتَيْتُهُ، فَمَا أَخَالَنِي رَأَيْتُ ثِيَابَ هِرْقِلَ مِنَ السُّرُورِ وَالْبَهْجَةِ مَا رَأَيْتُ مِنْ ثِيَابِ جَبَلَةَ، فَاسْتَأْذَنْتُ، فَأَذِنَ وَقَامَ وَرَحَّبَ بِي عَانَقَنِي وَعَاتَبَنِي فِي تَرْكِ النُّزُولِ عَلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ في بهو عظيم من التماثيل والهول مالا أُحْسِنُ أَصِفُهُ وَهُوَ عَلَى سَرِيرٍ مِنْ ذَهَبٍ، لَهُ أَرْبَعُ قَوَائِمَ رَأْسُهُ مِنْ ذَهَبٍ، وَإِذَا هُوَ رَجُلٌ أَصْهَبُ ذُو سِبَالٍ، وَإِذَا هُوَ قَدْ أَمَرَ بِالذَّهَبِ الأَحْمَرِ فَسُحِلَ فَذُرَّ فِي لِحْيَتِهِ، وَاسْتَقْبَلَ عَيْنَ الشَّمْسِ ثُمَّ أَجْلَسَنِي عَلَى كُرْسِيٍّ مِنْ ذَهَبٍ، فَلَمَّا تَبَيَّنْتُهُ انْحَدَرْتُ عَنْهُ وَقُلْتُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ هَذَا، وَسَأَلَنِي عَنِ النَّاسِ وَأَلْحَفَ فِي السُّؤَالِ عَنْ عُمَرَ، ثُمَّ عَرَفْتُ الْحُزْنَ فِيهِ، فَقُلْتُ: مَا يَمْنَعُكَ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى قَوْمِكَ وَالإِسْلامِ؟ قَالَ:
بَعْدَ الَّذِي كَانَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَدْ كَانَ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ ارْتَدَّ وَضَرَبَهُمْ بِالسُّيُوفِ وَمَنَعَهُمُ الزَّكَاةَ ثُمَّ دَخَلَ فِي الإِسْلامِ، وَزَوَّجَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أُخْتَهُ، فَقَالَ: دَعْ هَذَا عَنْكَ، ثُمَّ أَوْمَأَ إِلَى وَصِيفٍ قَائِمٍ عَلَى رَأْسِهِ فَوَلَّى، فَمَا شَعَرْنَا إِلا بِالصَّنَادِيقِ يَحْمِلُهَا الرِّجَالُ، فَوُضِعَتْ أَمَامَنَا مَائِدَةً مِنْ ذَهَبٍ فَاسْتَعْفَيْتُ مِنْهَا، فَأَتَى بِمَائِدَةِ خَلَنْجَ، فوضعت أمامي
__________
[1] إلى هنا انتهى السقط من الأصل الّذي سبق التنبيه عليه.(5/258)
وَسعي عَلَيْنَا مِنْ كُلِّ حَارٍّ وَبَارِدٍ فِي صِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، وَدَارَتْ عَلَيْنَا الْخَمْرُ فَاسْتَعْفَيْتُ مِنْهَا، ثُمَّ أُتِيَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَبْرِيقٍ مِنْ ذَهَبٍ. ثُمَّ أَوْمَأَ إِلَى وَصِيفٍ لَهُ فَمَا كَانَ إِلا هُنَيْهَةً حَتَّى أَقْبَلَتْ عَشْرُ جَوَارٍ، فَقَعَدَ خَمْسٌ عَنْ يَمِينِهِ وَخَمْسٌ عن يساره/ على 104/ ب كَرَاسِيِّ الْعَاجِ، وَإِذَا عَشْرٌ أُخَرُ أَحْسَنُ مِنَ الأُوَّلِ، فَقَعَدَ خَمْسٌ عَنْ يَمِينِهِ وَخَمْسٌ عَنْ يَسَارِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ جَارِيَةٌ [مِنْ أَحْسَن مَا تَكُونُ مِنَ الْجَوَارِي] بِطَائِرٍ أَبْيَضَ، وَفِي يَدِهَا الْيُمْنَى جَامٌ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ مِسْكٌ وَعَنْبَرٌ سَحِيقَانِ، وَفِي يَدِهَا الْيُسْرَى جَامٌ مِنْ فِضَّةٍ فِيهِ [مَاءُ وَرْدٍ] مَا لَمْ أَشُمَّ مِثْلَهُ، فَنَقَرَتِ الطَّائِرَ فَوَقَعَ فِي الْجَامِ فَتَقَلَّبَ فِيهِ ثُمَّ فِي الْجَامِ الآخَرِ فَتَقَلَّبَ فِيهِ، ثُمَّ سَقَطَ عَلَى صَلِيبٍ فِي تَاجِ جَبَلَةَ، ثُمَّ حَرَّكَ جَنَاحَيْهِ فَنَثَرَ ذَلِكَ عَلَى رَأْسِ جَبَلَةَ وَلِحْيَتِهِ، ثُمَّ شَرِبَ جَبَلَةُ خَمْرًا ثُمَّ اسْتَهَلَّ وَاسْتَبْشَرَ، ثُمَّ قَالَ لِلْجَوَارِي: أَطْرِبْنَنِي، فَخَفَقْنَ بِعِيدَانِهِنَّ، فَانْدَفَعْنَ يُغَنِّينَ:
للَّه دَرُّ عِصَابَةٍ نَادَمْتُهُمْ ... يَوْمًا بِجِلقٍ فِي الزَّمَانِ الأَوَّلِ
أَوْلادُ جَفْنَةَ عِنْدَ قَبْرِ أَبِيهِمْ ... قَبْرِ ابْنِ مَارِيَةَ الْكَرِيمِ الْمُفَضَّلِ
بِيضُ الْوُجُوهِ كَرِيمَةٌ أَحْسَابُهُمْ ... شَمُّ الأُنُوفِ مِنَ الطِّرَازِ الأَوَّلِ
يُغْشَوْنَ حَتَّى مَا تَهِرُّ كِلابُهُمْ ... لا يَسْأَلُونَ عَنِ السَّوَادِ الْمُقْبِلِ
فَطَرِبَ، ثُمَّ قَالَ: هَلْ تَعْرِفُ لِمَنْ هَذَا الشِّعْرُ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: قَالَهُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، قَالَ: هُوَ حَيٌّ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، أَمَا إِنَّهُ ضَرِيرٌ كَبِيرٌ.
ثُمَّ قَالَ: أَطْرِبْنَنِي، فَغَنَّيْنَ:
لِمَنِ الدَّارُ أقفرت بمغان ... بين قرع اليرموك والضّمان [1]
ذَاكَ مُغْنٍ لآلِ جَفْنَة فِي الدَّهْرِ ... مَحَاهُ تَعَاقُبُ الأَزْمَانِ
فقَالَ: أَتَعْرِفُ قَائِلَ هَذَا، ذَاكَ حَسَّانُ. ثُمَّ سَكَتَ طَوِيلا ثُمَّ قَالَ: ابْكينَنِي. فَوَضَعْنَ عِيدَانَهُنَّ وَنَكَّسْنَ رُءُوسَهُنَّ وَقُلْنَ:
تَنَصَّرَتِ الأَشْرَافُ مِنْ عَارِ لَطْمَةٍ ... وَمَا كَانَ فِيهَا لَوْ صَبَرَتْ عَلَى ضَرَرْ
تَكَنَّفَنِي فِيهَا لجَاجٌ وَنَخْوَةٌ ... [وبعت بها العين الصحيحة بالعور] [2]
__________
[1] في رواية: «بين أعلى اليرموك فالخمّان» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(5/259)
فَيَا لَيْتَ أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي وَلَيْتَنِي ... رَجَعْتُ إلى القول الّذي قاله عمر
105/ أوياليتني أَرْعَى الْمَخَاضَ بِقَفْرَةٍ ... وَكُنْتُ أَسِيرًا فِي رَبِيعَةَ أَوْ مُضَرْ
وَيَا لَيْتَ لِي بِالشَّامِ أَدْنَى مَعِيشَةٍ ... أُجَالِسُ قَوْمِي ذَاهِب السَّمْعِ وَالْبَصَرْ
أدِينُ بِمَا دَانَوْا بِهِ مِنْ شَرِيعَةٍ ... وَقَدْ يَصْبِرُ الْعَودُ الْكَبِيرُ عَلَى الدّبرْ
ثُمَّ انْصَرَفَ الْجَوَارِي، وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى وَجْهِهِ يَبْكِي حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى دُمُوعِهِ تَجُولُ كَأَنَّهَا اللُّؤْلُؤُ، وَبَكَيْتُ مَعَهُ ثُمَّ نَشَّفَ دُمُوعَهُ بِكُمِّهِ، وَمَسَحَ وَجْهَهُ وَقَالَ: يا جارية هاتي، فأتته بخمسمائة دِينَارٍ هِرْقِلِيَّةٍ، فَقَالَ: ادْفَعْ هَذِهِ إِلَى حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ وَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلامَ. ثُمَّ قَالَ: هاتي، فأتته بمثلها، فَقَالَ: خُذْهَا صِلَّةً لَكَ، فَأَبَيْتُ وَقُلْتُ: لا أَقْبَلُ صِلَّةَ رَجُلٍ ارْتَدَّ عَنِ الإِسْلامِ، فَقَالَ: أَقْرِئْ عَلَى عُمَرَ وَالْمُسْلِمِينَ السَّلامَ.
فَجِئْتُ إِلَى عُمَرَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: وَرَأَيْتَهُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: أَبْعَدَهُ اللَّهُ، تَعَجَّلَ فَانِيَهُ بِبَاقِيهِ.
وفِي رواية أخرى أن الرسول من حمير اسمه جثامة بن مساحق الكناني.
وروى عَبْد اللَّهِ بن مسعدة الفزاري، قَالَ: وجهني معاوية إلى ملك الروم، فدخلت عليه، فإذا عنده رجل على سرير من ذهب دون مجلس الملك، فقلت: من أنت يا عَبْد اللَّهِ، فقَالَ: أنا رجل غلب علي الشقاء، أنا جبلة بن الأيهم، إذا صرت إلى منزلي فالقني. فلما انصرف إلى منزله أتيته فلقيته على شرابه وعنده قينتان تغنيانه بشعر حسان، فقَالَ لي: ما فعل حسان؟ قلت: شيخ كبير قد عمي، فدعى بألف دينار فدفعها إلي وأمرني أن أدفعها إليه وقَالَ: أترى صاحبك يفِي إن خرجت إليه؟ قلت: قل ما شئت أعرضه عليه، قَالَ: يعطيني الثنية فإنها كانت منازلنا، وعشرين قرية من الغوطة، ويفرض لجماعتنا، ويحسن جوائزنا. قلت: أبلغه. فلما قدمت على معاوية، قَالَ: وددت أنك أجبته إلى ما سأل/ فأجيزه له. وكتب إليه معاوية يعطيه ذلك، فوجده قد مات.
368- الربيع بن زياد الحارثي [1] :
وكان عامل زياد على خراسان، فبقي سنتين وأشهرا، ومات. وكان الربيع قد
__________
[1] تاريخ الطبري 5/ 291.(5/260)
خرج يوم جمعة، فقَالَ: أيها الناس، قد ملكت الحياة وأنا داع فأمنوا، ثم رفع يديه بعد الصلاة، وقَالَ: اللَّهمّ إن كان لي عندك خير فاقبضني إليك عاجلا، فأمن الناس، فخرج فسقط وحمل إلى بيته، واستخلف ابنه.
وفِي رواية: استخلف خليد بن عَبْد اللَّهِ الحنفِي وأقره زياد.
369- رويفع بن ثابت بن السكن [1] :
له صحبة، روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد فتح مصر، واختط بها [دارا] [2] ، ومنزله باق.
روى عنه مرثد بن عَبْد اللَّهِ اليزني وغيره. وله بالمغرب ولايات وفتوح. توفي ببرقة وهو أمير عليها لمسلمة بن مخلد الأنصاري أمير مصر فِي هذه السنة.
370- زياد بن سمية، وهو الذي يقال له ابن أبيه: [3]
وكان أحمر اللون، فِي عينه اليمنى انكسار.
قَالَ سفيان بن عيينة: أول من ضرب الدنانير والدراهم زياد.
وقَالَ أبو رجاء: عزل معاوية عَبْد اللَّهِ بن عامر عن البصرة وولاها زيادا، قالوا:
فملك العراق خمس سنين.
وكتب إلى معاوية: إني قد ضبطت لك العراق بشمالي وبقيت يميني فارغة فاشغلها بالحجاز، فكتب له عهده، فلما بلغ ذلك أهل الحجاز أبى نفر منهم عَبْد اللَّهِ بن عمر بن الخطاب، فذكروا ذلك له، فقَالَ: ادعوا الله عليه يكفيكموه، فاستقبل القبلة واستقبلوا، ودعا ودعوا، فخرجت طاعونة على إصبعه، فأرسل إلى شريح وكان قاضيه، فقَالَ: قد أمرت بقطعها فأشر علي، فقَالَ شريح: إني أخشى أن تكون الجراح على يدك والألم فِي قلبك، وأن يكون الأجل قد دنا وتلقى الله أجذم وقد قطعت يدك كراهية لقائه، أو أن يكون فِي الأجل تأخير وقد قطعت يدك فتعيش أجذم ويعير/ ولدك، فتركها. وخرج 106/ أ
__________
[1] طبقات ابن سعد 4/ 2/ 73.
[2] ما بين المعقوفتين: من ت.
[3] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 70، وتاريخ الطبري 5/ 289.(5/261)
شريح فسألوه فأخبرهم بما أشار عليه، فقالوا: هلا أشرت عليه بقطعها، فقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المستشار مؤتمن» . ثم عزم زياد على قطعها وقَالَ: أنام والطاعون فِي لحاف، فلما نظر إلى النار والمكاوي جزع، فترك ذلك فحضرته الوفاة، فقَالَ له ابنه: يا أبه [1] ، قد هيأت لك ستين ثوبا أكفنك فيها، فقَالَ: يا بني قد دنا من أبيك لباس خير من لباسه هذا، وسلب سريع، فمات لثلاث خلون من رمضان بالثوير بجانب الكوفة، وكان قد توجه يريد الحجاز واليا عليها، فلما بلغ الخبر ابن عمر، قَالَ: اذهب إليك ابن سمية، لا الدنيا بقيت لك، ولا الآخرة أدركت.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن ناصر، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عَبْد الْجَبَّارِ، أَخْبَرَنَا أبو الحسن أحمد بن عبد الله الأنماطي، أَخْبَرَنَا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْمَرْوَزِيُّ، قال: أخبرنا الْحَارِثِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الهيثم بن عدي، قال: حدثنا مجالد، عن الشعبي، قَالَ: حَدَّثَنَا عجلان مولى زياد وحاجبه، قَالَ:
كان زياد إذا خرج إلى المسجد مشيت أمامه حتى يدخل، وإذا دخل مشيت أمامه حتى [2] يخرج، وإذا دخل مجلسه فعلت ذلك به، فدخل يوما مجلسه، فإذا ضوء فِي الحائط مثال ثلاثين، فنظر إليه فقَالَ: يا عجلان، هل يصل إلى هذا المجلس ضوء من موضع؟ قلت: لا، قَالَ: فما هذا؟ ثم قَالَ: هيه، هذا والله أجلي، نعيت إلى نفسي ثلاثين سنة، والله ما أطمع فيها ثلاثين شهرا، والله يفعل ما يريد، أثلاثون يوما، والله يفعل ما يشاء قَالَ عجلان. فمات والله فِي آخر يوم من الثلاثين يوما.
[أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هِبَةَ اللَّهِ الْعُكَبْرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بِشْرَانَ، حَدَّثَنَا ابْن صَفْوَانَ، حَدَّثَنَا] [2] أَبُو بَكْر الْقُرَشِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ هِشَامِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ ثَعْلَبَةَ الأَنْصَارِيُّ، عَنْ أُمِّهِ عَائِشَةَ، عَنْ أَبِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ السَّائِبِ الأَنْصَارِيِّ، قال:
__________
[1] في الأصل: «يا أباه» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، وفيه: «قال أبو بكر» .(5/262)
جَمَعَ زِيَادٌ أَهْلَ الْكُوفَةِ، فَمَلأَ مِنْهُمُ الْمَسْجِدَ وَالرَّحْبَةَ وَالْقَصْرَ لِيَعْرِضَهُمْ عَلَى الْبَرَاءَةِ مِنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. / قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَإِنِّي لمع نفر من أصحابي من 106/ ب الأَنْصَارِ وَالنَّاسُ فِي أَمْرٍ عَظِيمٍ، قالَ: فَهَوَّمْتُ تَهْوِيمَةً، فَرَأَيْتُ شَيْئًا أَقْبَلَ، طَوِيلَ الْعُنُقِ مِثْلَ عُنُقِ الْبَعِيرِ، أَهْدَبَ أَهْدَلَ، فَقُلْتُ: مَا أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنَا النَّفَادُ ذُو الرَّقَبَةِ بُعِثْتُ إِلَى صاحب هذا القصر. فاستيقظت فزعا، فقلت لأصحابي: هَلْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْتُ؟ قَالُوا: لا، فَأَخْبَرْتُهُمْ، وَخَرَجَ عَلَيْنَا خَارِجٌ مِنَ الْقَصْرِ فَقَالَ: إِنَّ الأَمِيرَ يَقُولُ لَكُمْ انْصَرِفُوا عَنِّي فَإِنِّي عَنْكُمْ مشغول، وإذا الطاعون قد أصابه، فأنشأ عَبْد الرَّحْمَنِ يَقُولُ:
[مَا كَانَ مُنْتَهِيًّا عَمَّا أَرَادَ بِنَا ... حَتَّى تَنَاوَلَهُ النَّفَادُ ذُو الرَّقَبَهْ]
وَأَثْبَتَ الشّقُّ مِنْهُ ضَرْبَةٌ ثَبَتَتْ ... كَمَا تَنَاوَلَ ظُلْمًا صَاحِبَ الرَّحْبَهْ
قَالَ أبو بكر القرشي: حَدَّثَنِي زكريا بن يَحْيَى، عن عبد السلام بن مظهر، عن جعفر بن سليمان، عن عبد ربه أبي بن كعب الجرموزي:
أن زيادا لما قدم الكوفة قَالَ: أي أهل البلد أعبد؟ قالوا: فلان الحميري، فأرسل إليه، فأتاه فإذا له سمت ونجو، فقَالَ زياد: لو مال هذا مال أهل الكوفة معه، فقَالَ له:
إني بعثت إليك لأمولك وأعطيك على أن تلزم بيتك فلا تخرج، قَالَ: سبحان الله، والله لصلاة واحدة فِي جماعة أحب إليّ من الدنيا كلها، ولزيارة أخ في الله وعيادة مريض أحب إلي من الدنيا كلها، وليس إلى ذلك سبيل. قَالَ: فاخرج فصل فِي جماعة، وزر إخوانك، وعد المريض، والزم لسانك، قَالَ: سبحان الله، أرى معروفا لا أقول فيه، أرى منكرا لا أنهى عنه، فو الله لمقام من ذلك واحد أحب إلي من الدنيا كلها. قَالَ جعفر: أظن الرجل أبو المغيرة، فقَالَ: السيف، فأمر به فضربت عنقه، قَالَ جعفر:
فقيل لزياد: أبشر، قَالَ: كيف وأبو المغيرة فِي الطريق.
أنبأنا الجريري، عن العشاري، قَالَ: أَخْبَرَنَا علي بن الحسين، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن القاسم بن مهدي، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِي بْن أَحْمَد بْن أَبِي قيس، قال: حدثنا أبو بكر القرشي، قال: حدثني سعيد بن يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عمي عَبْد اللَّهِ بن سعيد، عن زياد بن عَبْد اللَّهِ، عن عوانة، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْد الرَّحْمَنِ بن الحسين، عن القاسم بن سليمان، / قَالَ: 107/ أ(5/263)
وقع طاعون بالكوفة فبدأ زياد، فخرج من الكوفة، فلما ارتفع الطاعون رجع فخرج طاعون بأصبعه. قَالَ سليم: فأرسل إلي فأتيته، فقَالَ: يا سليم، أتجد ما أجد من الحر؟ قلت: لا، قَالَ: والله إني لأجد فِي جسدي حرا كأنه النار، واجتمع إليه مائة وخمسون طبيبا، منهم ثلاثة من أطباء كسرى، فخلا سليم بطبيب [1] من أطباء كسرى فسأله عنه، فقَالَ له الطبيب ما به وهو ميت، فمره بالوصية.
371- صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم: [2] .
كان يَحْيَى الموءودة فِي الجاهلية، ثم جاء الإسلام فأسلم.
روى أبو عبده، عن عقَالَ بن شبة، قَالَ: قَالَ صعصعة: خرجت باغيا ناقتين لي فرفعت لي نار فسرت نحوها وهممت بالنزول، فجعلت النار تضيء مرة وتخبو أخرى، فلم تزل تفعل ذلك حتى قلت: اللَّهمّ لك علي إن بلغتني هذه النار أن لا أجد أهلها يوقدونها لكربة: إلا فرجتها عنهم، قَالَ: فلم أسر إلا قليلا حتى أتيتها، فإذا حي من بني أنمار، وإذا بشيخ يوقدها فِي مقدم بيته، والنساء قد اجتمعن إلى امرأة ماخض قد حبستهن ثلاث ليال، فسلمت، فقَالَ الشيخ: من أنت؟ فقلت: أنا صعصعة بن ناجية، فقَالَ: مرحبا بسيدنا، ففيم أنت يا بن أخي؟ فقلت: فِي بغاء ناقتين لي، قَالَ: قد وجدتهما بعد أن أحيى الله بهما أهل بيت من قومك، وقد تجناهما وعطفت إحداهما على الأخرى، وهم شأنك فِي أدنى الإبل، قَالَ: ففيم توقد نارك منذ الليلة، قَالَ:
أوقدتها لامرأة ماخض قد حبستنا منذ ثلاث ليال، قَالَ: فقَالَ النساء: قد جاء الولد، فقَالَ الشيخ: إن كان غلاما فو الله ما أدري ما أصنع به، وإن كانت جارية فلا أسمعن صوتها إلا قتلتها، فقلت، يا هذا، ذرها فإنها ابنتك ورزقها على الله، فقَالَ أقتلها، فقلت: أنشدك الله، فقَالَ: إني أراك بها حفيا فاشترها مني، قلت: إني أشتريها منك، فقَالَ: ما تعطيني؟ قلت: أعطيك إحدى ناقتي، قَالَ: لا، قلت: أزيدك الأخرى، فنظر إلى 107/ ب جملي الذي تحتي، فقَالَ: / لا إلا أن تزيدني جملك هذا فإني أراه حسن اللون شاب السن، فقلت: هو لك على أن تبلغني أهلي، قَالَ قد فعلت. فابتعتها منه، وأخذت عليه
__________
[1] في الأصل: «فخلا طبيب بطبيب» .
[2] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 25.(5/264)
عهد الله وميثاقه ليحسنن برها وصلتها ما عاشت حتى تبين عنه أو يدركها الموت، فلما برزت من عنده حدثت نفسي وقلت: إن هذه مكرمة ما سبقني إليها أحد من العرب، ثم قلت: اللَّهمّ إن لك علي أن لا أسمع برجل من العرب يريد أن يئد بنتا له إلا اشتريتها بلقوحة وجمل، فبعث الله عز وجل مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد أحييت مائة موءودة إلا أربعا لم يشاركني فِي ذلك أحد حتى أنزل الله عز وجل تحريمه فِي القرآن.
وفِي رواية أخرى: أنه جاء الإسلام وقد أحيى ثلاثمائة وستين موءودة.
وفي رواية أربعمائة.
وقد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وتعلم القرآن وأخبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما صنع، فقَالَ: «لك أجر ذلك إذ من الله عليك بالإسلام» . ثم توفي في هذه السنة
. [1]
__________
[1] في نسخة ترخانة نهاية المجلد السابع، وقد كتب فيها: «تم المجلد السابع» .(5/265)
ثم دخلت سنة أربع وخمسين
فمن الحوادث فيها:
مشتى مُحَمَّد بن مالك بأرض الروم، وصائفة معن بن يزيد السلمي [1] .
وفيها عزل معاوية سعيد بن العاص عن المدينة واستعمل مروان [2]
وسبب ذلك أن معاوية كان يغري بين مروان وسعيد بن العاص، فكتب إلى سعيد وهو على المدينة: اهدم دار مروان، فلم يهدمها، فأعاد إليه الكتاب مرة بعد مرة فلم يفعل، فعزله، فلما ولى مروان كتب إليه اهدم دار سعيد، فركب وجاء بالفعلة، فقَالَ له [سعيد] [3] : أتهدم داري؟ قَالَ: كتب إلي أمير المؤمنين، ولو كتب إليك فِي هدم داري لفعلت، قَالَ: ما كنت لأفعل، قَالَ: بلى والله. فجاءه بكتاب معاوية فِي ذلك فرجع ولم يهدمها.
وقَالَ الواقدي [4] : كتب إليه: اقبض أموال مروان واجعلها صافية، واقبض فدك 108/ أمنه، وكان وهبها له. فراجعه سعيد وقَالَ: قرابته قريبة، فأعاد إليه الكتاب/ فأبى وأخذ الكتابين فوضعهما عند جارية له، فلما عزل وولي مروان كتب معاوية إلى مروان يأمره بقبض أموال سعيد بن العاص بالحجاز، فأرسل إليه بكتاب مع ابنه عبد الملك وقَالَ: لو كان غير كتاب أمير المؤمنين لتجافيته. فدعى سعيد بالكتابين اللذين كتب بهما إليه فِي
__________
[1] تاريخ الطبري 5/ 293.
[2] المرجع السابق والصفحة.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.
[4] تاريخ الطبري 5/ 293.(5/266)
أموال مروان، فذهب بهما إلى مروان، فقَالَ: هو كان أوصل لنا منه إليه، وكف عن قبض أموال سعيد.
وفِي هذه السنة عزل معاوية سمرة بن جندب عن البصرة وولى عَبْد اللَّهِ بن عمرو بن غيلان [1]
وكان سمرة خليفة زياد على البصرة، فلما مات زياد أقره معاوية ستة أشهر ثم عزله، فقَالَ سمرة بن جندب: والله لو أطعت الله كما أطعت معاوية ما عذبني أبدا
. وفِي هذه السنة ولى معاوية عبيد الله بن زياد خراسان [2]
وذلك أنه لما مات زياد، وفد عبيد الله على معاوية، فقَالَ له معاوية: من استخلف أخي على عمله بالكوفة؟ قَالَ: عَبْد اللَّهِ بن خالد بن أسيد، قَالَ: وعلى البصرة سمرة بن جندب، فقَالَ: لو استعملك أبوك لاستعملتك.
وكان معاوية إذا أراد أن يولي رجلا من بني حرب ولاه الطائف، فإن رأى فيه ما يعجبه ولاه مكة معها، فإن أحسن الولاية جمع له معها المدينة، فكان إذا ولى الطائف رجلا قيل: هو فِي أبي جاد [3] ، وإذا ولاه مكة قيل: هو فِي القرار، فإذا ولاه المدينة قيل: هو قد حذق.
فولى معاوية عبيد الله بن زياد خراسان وهو ابن خمسة وعشرين سنة، فقدمها وقطع النهر إلى جبال بخارى، ففتح راميثن، ونصف بيكند- وهما من بخارى- ولقي الترك ببخارى ومع ملكهم أمرأته، فلما هزمهم الله أعجلها المسلمون عن لبس خفيها، فلبست أحدهما وبقي الآخر، فأصابه المسلمون، فقوموا الجورب بمائتي ألف درهم.
وأقام بخراسان سنتين.
وفيها: حج بالناس فِي هذه السنة/ مروان بن الحكم وكان هو على المدينة، 108/ ب
__________
[1] تاريخ الطبري 5/ 295.
[2] تاريخ الطبري 5/ 295.
[3] أي: في أول الأمر.(5/267)
وكان على الكوفة عَبْد اللَّهِ بن خالد بن أسيد، وقيل: بل كان الضحاك بن قيس. وكان على البصرة عَبْد اللَّهِ بن عمرو بن غيلان.
ذكر من توفي فِي هذه السنة
372- ثوبان مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يكنى أبا عَبْد اللَّهِ [1] :
أصابه سبي فاشتراه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأعتقه، فلم يزل معه حتى قبض رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنزل حمص فمات فِي هذه السنة.
373- الحارث بن ربعي، أبو قتادة الأنصاري [2] :
قَالَ الواقدي: اسمه النعمان.
وقَالَ الهيثم بن عدي: اسمه عمرو. والأول أصح.
شهد ما بعد بدر، وحضر مع علي قتال الخوارج بالنهروان. وقد قيل إنه مات فِي خلافته وصلى عليه، ولا يصح ذلك بل عاش بعده.
قَالَ أبو بكر بن أبي الدنيا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن عمر، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بن عَبْد اللَّهِ بن أبي قتادة، قَالَ:
توفي أبو قتادة بالمدينة سنة أربع وخمسين، وهو ابن سبعين سنة
. 374- حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى: [3]
ولد قبل الفيل باثنتي عشرة سنة، وكان آدم شديد الأدمة خفيف اللحم.
[أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْد اللَّهِ الْحُسَيْن بْن مُحَمَّد بْن عبد الوهاب، أخبرنا أبو جعفر بن الْمُسْلِمَةِ، أَخْبَرَنَا الْمُخَلِّصُ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الطوسي، حدثنا] [4] الزبير بن
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 123.
[2] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 8.
[3] طبقات خليفة 13، والتاريخ الكبير للبخاريّ 3/ ترجمة 42، وتهذيب الكمال 1454.
[4] ما بين المعقوفتين: من ت، وفي الأصل: «قال الزبير بن بكار» .(5/268)
بكّار، قالَ: حَدَّثَنِي مُصْعَب بْن عثمان، قَالَ:
دخلت أم حكيم بن حزام الكعبة معها نسوة من قريش وهي حامل بحكيم بن حزام، فضربها المخاض فِي الكعبة، فأتيت بنطع حيث أعجلتها الولادة، فولدت حكيم بن حزام فِي الكعبة على النطع [1] . وكان حكيم من سادات قريش فِي الجاهلية والإسلام.
قَالَ الزُّبَيْرُ بن بكار: حدثني محمد بن الضحاك، عن أَبِيهِ، قَالَ: لَمْ يَدْخُلْ دَارَ النَّدْوَةِ أَحَدٌ مِنْ قُرَيْشٍ لِلْمَشُورَةِ حَتَّى يَبْلُغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً إِلا حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، دَخَلَهَا وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي طاهر، قَالَ: أَخْبَرَنَا الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا أَحْمَدُ بْنُ مَعْرُوفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا/ الْحُسَيْنُ بْنُ الفهم، قال: حدّثنا 109/ أمحمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُنْذِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُنْذِرِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي حَبِيبَةَ مَوْلَى الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَمِعْتُ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ، يَقُولُ:
وُلِدْتُ قَبْلَ قُدُومِ أَصْحَابِ الْفِيلَ بِثَلاثَ عَشْرَةَ [2] سَنَةً وَأَنَا أَعْقِلُ حِينَ أَرَادَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ أَنْ يَذْبَحَ وَلَدَهُ عَبْدَ اللَّهِ حَتَّى وَقَعَ نَذْرُهُ، وَذَلِكَ قَبْلَ مَوْلِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسِ سِنِينَ.
قَالَ مُحَمَّد بن عمر: شهد حكيم بن حزام مع أبيه حرب الفجار، وقتل أبوه حزام فِي الفجار الأخير، وكان حكيم يكنى أبا خالد وكان له جماعة من الولد كلهم أدرك رسول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأسلموا يوم الفتح.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ [3] : وَأَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَحْمُودٍ، عَنْ أَبِيهِ وَغَيْرِهِ، قَالُوا: بَكَى حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ: مَا يُبْكِيكَ يَا أبه؟ قال: خصال كلها أبكاني،
__________
[1] الخبر جمهرة نسب قريش 1/ 353.
[2] كذا في الأصل. وفي ت: «اثنتي عشرة» وسبق في بداية الترجمة أنه ولد قبل قدوم أصحاب الفيل باثنتي عشرة سنة.
[3] الخبر في تهذيب الكمال 7/ 183.(5/269)
أَمَّا أَوَّلُهَا: فَبُطْءُ إِسْلامِي حَتَّى سُبِقْتُ فِي مَوَاطِنَ كُلِّهَا صَالِحَةٍ، وَنَجَوْتُ يَوْمَ بَدْرٍ وَيَوْمَ أُحُدٍ، فَقُلْتُ: لا أَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ وَلا أُوضَعُ مَعَ قُرَيْشٍ مَا بَقِيتُ، فَأَقَمْتُ بِمَكَّةَ وَيَأْبَى اللَّهُ أَنْ يَشْرَحَ قَلْبِي لِلإِسْلامِ وَذَلِكَ أَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَقَايَا مِنْ قُرَيْشٍ لَهُمْ أَسْنَانٌ مُتَمَسِّكِينَ [1] بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَقْتَدِي بِهِمْ، وَيَا لَيْتَ أَنِّي لَمْ أَقْتَدِ بِهِمْ، فَمَا أَهْلَكَنَا إِلا اقْتِدَاؤُنَا بِآبَائِنَا [2] وَكُبَرَائِنَا، فَلَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ جَعَلْتُ أُفَكِّرُ، وَأَتَانِي أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حُرْبٍ، فَقَالَ: أَبَا خَالِدٍ، وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَى أَنْ يَأْتِيَنَا مُحَمَّدٌ فِي جُمُوعِ يَثْرِبَ، فَهَلْ أَنْتَ تَابِعِي إِلَى شَرَفٍ نَتَرَوَّحُ الْخَبَرَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَخَرَجْنَا نَتَحَدَّثُ وَنَحْنُ مشاة حتى إذا 109/ ب كُنَّا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ إِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّهْمِ [3] مِنَ النَّاسِ، فَلَقِيَ الْعَبَّاسُ/ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَبَا سُفْيَانَ، فَذَهَبَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم فرجعت إِلَى مَكَّةَ فَدَخَلْتُ بَيْتِي وَآمَنَ النَّاسُ، فَجِئْتُهُ صلّى الله عليه وسلّم بَعْدَ ذَلِكَ بِالْبَطْحَاءِ وَأَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُهُ وَشَهِدْتُ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ حَقٌّ، وَخَرَجْتُ مَعَهُ إِلَى حُنَيْنٍ. فَأَعْطَى رِجَالا مِنَ الْغَنَائِمِ وَالأَمْوَالِ، وَسَأَلْتُهُ حِينَئِذٍ فألحقت المسلة. قَالَ مُحَمَّد بْن عُمَرَ: وَحَدَّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالا: حَدَّثَنَا حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَانَ بِحُنَيْنٍ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ فَأَعْطَانِيهَا، ثُمَّ سَأَلْتُهُ مِائَةً فَأَعْطَانِيهَا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِسْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلا يَشْبَعُ، فَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ» .
فَكَانَ حَكِيمٌ يَقُولُ: وَالَّذِي بَعَثَكِ بِالْحَقِّ لا أَزْرَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يَدْعُو حَكِيمًا لِيُعْطِيَهُ فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا، وَكَانَ عُمَرُ يَدْعُو حَكِيمًا إِلَى عَطَائِهِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ، فَيَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ أُشْهِدُكُمْ عَلَى حَكِيمٍ أَنِّي أَدْعُوهُ إِلَى عَطَائِهِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ، فَلَمْ يَزْرَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ شَيْئًا بَعْدَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى توفي.
__________
[1] في التهذيب: «مستمسكين» .
[2] في ت: «أهلكنا الاقتداء بآبائنا» .
[3] الدهم: الجماعة الكبيرة.(5/270)
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ أَعْتَقَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِائَةَ رَقَبَةٍ وَحَمَلَ عَلَى مِائَةِ بَعِيرٍ، ثُمَّ أَعْتَقَ فِي الإِسْلامِ مِائَةَ رَقَبَةٍ وَحَمَلَ عَلَى مِائَةِ بَعِيرٍ، ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم، فقال: يا رسول اللَّهِ، أَرَأَيْتَ شَيْئًا كُنْتُ فَعَلْتُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَتَحَنَّثُ بِهِ، هَلْ لِي فِيهِ مِنْ أَجْرٍ؟ فَقَالَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ/ لَكَ مِنْ خَيْرٍ» . أنبأنا الحسين بن محمد بن عبد الوهاب، قَالَ: أخبرنا ابن المسلمة، قَالَ:
أخبرنا المخلص، قال: أخبرنا أحمد بن سليمان الطوسي، قال: حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ: وَحَدَّثَنِي عَمِّي مصعب بن عبد الله، قال:
جاء الإسلام وَفِي يَدِ حَكِيمٍ الرِّفَادَةُ وَدَارُ النَّدْوَةِ بِيَدِهِ، فَبَاعَهَا بَعْدُ مِنْ مُعَاوِيَةَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: بِعْتَ مكرمة قريش، فقال حكيم: ذَهَبَتِ الْمَكَارِمُ إِلا التَّقْوَى يَا ابْنَ أَخِي، إِنِّي اشْتَرْيَتُ بِهَا دَارًا فِي الْجَنَّةِ، أُشْهِدُ أَنِّي قَدْ جَعَلْتُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وكان يفعل المعروف ويصل الرحم، عاش ستين سنة فِي الجاهلية وستين سنة فِي الإسلام.
قَالَ الزبير: وحَدَّثَنِي يعقوب بن مُحَمَّد بن عيسى، قَالَ: حَدَّثَنِي عثمان بن عمر بن عثمان بن سليمان بن أبي حثمة، عن أبيه، عن أبي بكر بن سليمان، قَالَ:
حج حكيم بن حزام معه مائة بدنة [قد أهداها] ، وجللها الحبرة، وكفها على أعجازها، ووقف مائة وصيف يوم عرفة فِي أعناقهم أطوقة الفضة قد نقش فِي رءوسها عتقاء الله من حكيم بن حزام، وأعتقهم وأهدى ألف شاة.
قَالَ الزبير بن بكار: وأخبرني إبراهيم بن حمزة، أن مشركي قريش حصروا بني هاشم فِي الشعب، وكان حكيم بن حزام تأتيه العير تحمل الحنطة من الشام فيقبل بها إلى الشعب، ثم يضرب أعجازها فتدخل عليهم فيأخذون ما عليها من الحنطة.
قَالَ الزُّبَيْرُ [1] : حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيم بْن الْمُنْذِرِ، عَنِ الْوَاقِدِيِّ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ قَالَ: قَالَ حَكِيمُ بن حزام:
__________
[1] الخبر في جمهرة نسب قريش 1/ 367- 371، وتهذيب الكمال 7/ 175.(5/271)
كُنْتُ أُعَالِجُ الْبَزَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكُنْتُ رَجُلا تَاجِرًا أَخْرُجُ إِلَى الْيَمَنِ وَإِلَى الشَّامِ فِي الرِّحْلَتَيْنِ، وَكُنْتُ أَرْبَحَ أَرْبَاحًا كَثِيرَةً فَأَعُودُ عَلَى فُقَرَاءِ قَوْمِي وَنَحْنُ لا نَعْبُدُ شَيْئًا نُرِيدُ بِذَلِكَ ثَرَاءَ الأَمْوَالِ وَالْمَحَبَّةَ فِي الْعَشِيرَةِ، وَكُنْتُ أحضر للأسواق، وكان لنا ثلاثة أسواق:
110/ ب سوق بعكاظ يَقُومُ صُبْحَ هِلالِ ذِي/ الْقِعْدَةِ، فَيَقُومُ عِشْرِينَ يَوْمًا وَيَحْضُرُهَا الْعَرَبُ، وَبِهَا ابْتَعْتُ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ لِعَمَّتِي خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ غلام، فأخذته بستمائة دِرْهَمٍ، فَلَمَّا تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَدِيجَةَ سَأَلَهَا زَيْدًا، فَوَهَبَتْهُ لَهُ فَأَعْتَقَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَبِهَا ابْتَعْتُ حُلَّةَ ذِي يَزَنَ، كَسَوْتُهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا رأيت أَحَدًا قَطُّ أَجْمَلَ وَلا أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَلْكَ الْحُلَّةِ.
قَالَ: وَيُقَالُ: [1] إِنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ قَدِمَ بِالْحُلَّةِ فِي هُدْنَةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَهُوَ يُرِيدُ الشَّامَ فِي عِيرٍ، فَأَرْسَلَ بِالْحُلَّةِ إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْبَلَهَا، وَقَالَ: «لا أَقْبَلُ هدية مشرك» ، قال حَكِيمٌ: فَجَزِعْتُ جَزَعًا شَدِيدًا حَيْثُ رَدَّ هَدِيَّتِي، وَبِعْتُهَا بِسُوقِ النّبْطِ مِنْ أَوَّلِ سَائِمٍ سَامَنِي، وَدَسَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهَا زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ فَاشْتَرَاهَا، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُهَا بَعْدُ.
وَكان سُوقُ مَجَنَّةَ تَقُومُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ حَتَّى إِذَا رَأَيْنَا هِلالَ ذِي الْحِجَّةِ انْصَرَفْنَا وَانْتَهَيْنَا إِلَى سُوقِ ذِي الْمَجَازِ تُقَامُ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ.
وَكُلُّ هَذِهِ الأَسْوَاقِ أَلْقَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَوَاسِمِ يَسْتَعْرِضُ الْقَبَائِلَ قَبِيلَةً قَبِيلَةً يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَلا أَرَى أَحَدًا يَسْتَجِيبُ، وَقُرَيْشٌ أَشَدُّ الْقَبَائِلِ عَلَيْهِ حَتَّى بَعَثَ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَوْمًا أَرَادَ بِهِمْ كَرَامَةَ هَذَا الْحَيِّ مِنَ الأَنْصَارِ فَبَايَعُوهُ وَآمَنُوا بِهِ وَبَذَلُوا لَهُ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ دَارَ هِجْرَةٍ. فَلَمَّا حَجَّ مُعَاوِيَةُ سَامَنِي بِدَارِي بِمَكَّةَ فَبِعْتُهَا مِنْهُ بِأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَبَلَغَنِي أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: مَا يَدْرِي هَذَا الشَّيْخُ مَا يَبِيعُ لَيُرَدَّنَّ عَلَيْهِ بَيْعُهُ. فَقُلْتُ: وَاللَّهِ مَا ابْتَعْتُهَا إِلا بِزِقٍّ مِنْ خَمْرٍ. وَكَانَ حَكِيمٌ يَشْتَرِي الظّهْرَ وَالأَدَاةَ وَالزَّادَ ثُمَّ لا يَجِيئُهُ أَحَدٌ يَسْتَحْمِلُهُ في السبيل إلا حمله.
__________
[1] جمهرة نسب قريش 1/ 368.(5/272)
وَكَانَ مُعَاوِيَةُ عَامَ حَجَّ مَرَّ بِهِ وَهُوَ ابْنُ عِشْرِينَ وَمِائَة سَنَةٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِلَقُوحٍ [يُشْرَبُ مِنْ لَبَنِهَا وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ سَأَلَهُ أَيُّ الطَّعَامِ يَأْكُلُ، فَقَالَ: أَمَّا مَضْغٌ فَلا مَضْغَ بِي، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِلَقُوحٍ] [1] / وَصَلَهُ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا وَقَالَ: لَمْ آخُذْ مِنْ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا، قَدْ 111/ أدعاني أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِلَى حَقِّي فَأَبَيْتُ.
توفي بالمدينة فِي هذه السنة وهو ابن مائة وعشرين سنة.
375- حويطب بن عبد العزى بن أبي قيس بن عبد ودّ بن نصر بن مالك بن حسل، أبو مُحَمَّد [2] :
أسلم يوم الفتح، وصحب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو أحد النفر الذين أمرهم عمر بن الخطاب بتجديد أنصاب الحرم.
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي الْبَزَّارُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَرَ بْن حيويه، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ مَعْرُوفٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الفهم، قَالَ: حدثنا محمد بن سعد، قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ مَسْلَمَةَ الأَشْهَلِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: [3] .
كَانَ حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى قَدْ بَلَغَ عِشْرِينَ وَمِائَةَ سَنَةٍ، سِتِّينَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَسِتِّينَ فِي الإِسْلامِ، فَلَمَّا وُلِّيَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ الْمَدِينَةَ فِي عَمَلِهِ الأَوَّلِ دَخَلَ عَلَيْهِ حُوَيْطِبٌ مَعَ مَشْيَخَةٍ جِلَّةٍ: حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، وَمَخْرَمَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، فَتَحَدَّثُوا عِنْدَهُ ثُمَّ تَفَرَّقُوا، فَدَخَلَ عَلَيْهِ حُوَيْطِبٌ يَوْمًا بَعْدَ ذَلِكَ فَتَحَدَّثَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ: مَا سِنُّكَ؟ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ: تَأَخَّرَ إِسْلامُكَ أَيُّهَا الشَّيْخُ حَتَّى سَبَقَكَ الأَحْدَاثُ، فقَالَ حُوَيْطِبٌ: اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَاللَّهِ لَقَدْ هَمَمْتُ بِالإِسْلامِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، كُلَّ ذَلِكَ يَعُوقُنِي أَبُوكَ، يَقُولُ: تَدَعُ شَرَفَكَ [4] ، وَتَدَعُ دِينَ آبَائِكَ لِدِينٍ مُحْدَثٍ وَتَصِيرُ تَابِعًا، قَالَ: فَأُسْكِتَ مَرْوَانُ، وَنَدِمَ على ما كان.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] طبقات ابن سعد 5/ 1/ 335، وطبقات خليفة 37، وتهذيب الكمال 1573.
[3] الخبر ساقط من ابن سعد، وأورده في تهذيب الكمال 8/ 467.
[4] في التهذيب: «تضع شرفك» .(5/273)
قَالَ لَهُ: ثُمَّ قَالَ حُوَيْطِبٌ: أَمَا كَانَ أَخْبَرَكَ عُثْمَانُ مَا كَانَ لَقِيَ مِنْ أَبِيكَ حِينَ أَسْلَمَ؟
فَازْدَادَ مَرْوَانُ غَمًّا، ثُمَّ قَالَ حُوَيْطِبٌ: مَا كَانَ فِي قُرَيْشٍ أَحَدٌ مِنْ كُبَرَائِنَا الَّذِينَ بَقَوْا عَلَى دِينِ قَوْمِهِمْ إِلَى أَنْ فُتِحَتْ مَكَّةُ، كَانَ أَكْرَهَ لِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنِّي، وَلَكِنَّ الْمَقَادِيرَ. وَلَقَدْ شَهِدْتُ بَدْرًا مَعَ الْمُشْرِكِينَ فَرَأَيْتُ عِبَرًا، رَأَيْتُ الْمَلائِكَةَ تَقْتُلُ وَتَأْسِرُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَقُلْتُ: هَذَا رَجُلٌ مَمْنُوعٌ، وَلَمْ أَذكر مَا رَأَيْتُ، فَانْهَزَمْنَا رَاجِعِينَ إلى مكة، 111/ ب فَأَقَمْنَا بِمَكَّةَ نُسْلِمُ رَجُلا رَجُلا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْحُدَيْبِيَةِ حَضَرْتُ وَشَهِدْتُ/ الصُّلْحَ وَمَشِيتُ فِيهِ حَتَّى تَمَّ، وَكُلَّ ذَلِكَ أُرِيدُ الإِسْلامَ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا مَا يُرِيدُ، فَلَمَّا كَتَبْنَا صُلْحَ الْحُدَيْبِيَةِ كُنْتُ أَنَا أَحَدَ شُهُودِهِ، قُلْتُ: لا ترى قريش من محمد إلا ما يسوؤها، قَدْ رَضِيتُ أَنْ دَافَعْتُ بِالرَّاحِ.
فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْقَضِيَّةِ، وَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ عَنْ مَكَّةَ، وَكُنْتُ فِيمَنْ تَخَلَّفَ فِي مَكَّةَ أَنَا وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو ولات يَخْرُجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا مَضَى الْوَقْتُ، وَهُو ثَلاثٌ، فَلَمَّا انْقَضَتِ الثَّلاثُ أَقْبَلْتُ أَنَا وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، فَقُلْنَا: قَدْ مَضَى شَرْطُكَ فَاخْرُجْ بِمَنْ مَعَكَ مِنْ بَلَدِنَا، فَصَاحَ: يَا بِلالُ لا تَغِيبُ الشَّمْسُ وَأَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِمَكَّةَ مِمَّنْ قَدِمَ مَعَنَا.
وَبِالإِسْنَادِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبو بكر بن عبد الله بن أبي سَبْرَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ جَهْمٍ، قَالَ: قَالَ حُوَيْطِبٌ [1] : لَمَّا دَخَلَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة عَامَ الْفَتْحِ خِفْتُ خَوْفًا شَدِيدًا، فَخَرَجْتُ مِنْ بَيْتِي وَفَرَّقْتُ عِيَالِي فِي مَوَاضِعَ يَأْمَنُونَ فِيهَا، ثُمَّ انْتَهَيْتُ إِلَى حَائِطِ عَوْفٍ، فَكُنْتُ فِيهِ فَإِذَا أَنَا بِأَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ وَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ خُلَّةٌ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ هَرَبْتُ مِنْهُ، فَقَالَ: أبا محمد، قلت:
لبيك، قال: ما لك، قُلْتُ: الْخَوْفُ، قَالَ: لا خَوْفَ عَلَيْكَ تَعَالَى أَنْتَ آمِنْ بِأَمَانِ اللَّهِ، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ وَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ لِي: اذْهَبْ إِلَى مَنْزِلِكَ، قُلْتُ: وَهَلْ سَبِيلٌ إِلَى مَنْزِلِي، وَاللَّهِ مَا أَرَانِي أَصِلُ إِلَى بَيْتِي حَيًّا حَتَّى أُلْقَى فَأُقْتَلَ أَوْ يُدْخَلَ عَلَيَّ فِي مَنْزِلِي فَأُقْتَلُ وَإِنَّ عِيَالِي فِي مَوَاضِعَ شَتَّى، قَالَ: فَاجْمَعْ عِيَالَكَ مَعَكَ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَأَنَا أَبْلُغُ مَعَكَ منزلك،
__________
[1] الخبر سقط من ابن سعد، ونقله المزي في التهذيب 8/ 467.(5/274)
فَبَلَغَ مَعِي وَجَعَلَ يُنَادِي عَلَى بَابِي: إِنَّ حُوَيْطِبَ آمِنٌ فَلا يَهْجُ. ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: «أو ليس قَدْ آمَنَّا النَّاسَ كُلَّهُمْ إِلا مَنْ أَمَرْتُ بِقَتْلِهِ» .
فَاطْمَأْنَنْتُ وَرَدَدْتُ عِيَالِي إِلَى مَوَاضِعِهِمْ، وَعَادَ إِلَيَّ أَبُو ذَرٍّ [1] فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ حَتَّى مَتَى وَإِلَى مَتَى قَدْ سَبَقْتَ فِي الْمَوَاطِنِ كُلِّهَا وَفَاتَكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ وَبَقِيَ خَيْرٌ كَثِيرٌ فَأْتِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسلم تسلم، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَرُّ النَّاسِ وَأَوْصَلُ النَّاسِ وَأَحْلَمُ النَّاسِ.
قُلْتُ: فَأَنَا أَخْرُجُ مَعَكَ/ فَآتِيهِ، فَخَرَجْتُ مَعَهُ حَتَّى أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَطْحَاءِ وعنده 112/ أأبو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَوَقَفْتُ عَلَى رَأْسِهِ وَقَدْ سَأَلْتُ أَبَا ذَرٍّ: كَيْفَ يُقَالُ إِذَا سُلِّمَ عَلَيْهِ؟ قَالَ: قُلْ السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، قَالَ: «وَعَلَيْكَ السَّلامُ، أَحُوَيْطِبٌ؟» قُلْتُ: نَعَمْ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: «الْحَمْدُ للَّه الَّذِي هَدَاكَ» . وَسُرَّ بِإِسْلَامِي وَاسْتَقْرَضَنِي مَالا فَأَقْرَضْتُهُ أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَشَهِدْتُ مَعَهُ حُنَيْنًا وَالطَّائِفَ، وَأَعْطَانِي مِنْ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ مِائَةَ بَعِيرٍ.
ثم قدم حويطب بعد ذلك المدينة فنزلها وله بها دار. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
بَاعَ حُوَيْطِبٌ دَارَهُ بِمَكَّةَ مِنْ مُعَاوِيَةَ بِأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، أَرْبَعُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ: وَمَا أَرْبَعُونَ أَلْفَ دِينَارٍ لِرَجُلٍ عِنْدَهُ خَمْسَةٌ مِنَ الْعِيَالِ.
ومات حويطب بالمدينة فِي هذه السنة وله مائة وعشرون سنة.
376- سعيد بن يربوع بن عنكثة بن عامر بن مخزوم [2] :
أسلم يوم الفتح، وشهد مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حنينا وأعطاه من غنائمها خمسين بعيرا، وكان ممن يجدد أنصاب الحرم كل سنة معرفة بها حتى ذهب بصره فِي آخر خلافة عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وتوفي بالمدينة فِي هذه السنة وهو ابن مائة وعشرين سنة.
__________
[1] في الأصل: «أبو بكر» . خطأ.
[2] طبقات خليفة 278، والتاريخ الكبير 3/ ترجمة 1511، وتهذيب الكمال 2380.(5/275)
377- سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ودّ: [1]
تزوجها السكران بن عمرو، وأسلما وخرجا إلى الحبشة فِي الهجرة الثانية، فلما قدم مكة توفي، فأرسل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليها فخطبها فتزوجها، فهي أول امرأة تزوجها بعد خديجة، وكان ذلك فِي رمضان سنة عشر من النبوة، وبنى بها بمكة، وكانت قد كبرت فأراد طلاقها، فقالت: دعني أحشر فِي جملة أزواجك وليلتي لعائشة.
وقيل: إنه طلقها، فلما قالت هذا راجعها.
112/ ب وتوفيت فِي شوال/ هذه السنة بالمدينة.
378- مرة بن شراحبيل الهمداني [2] :
ويقال له: مرة الخير، ومرة الطيب، سمي ذلك لعبادته.
وروى عن أبي بكر، وعمر، وعلي، وابن مسعود. وكان كثير الصلاة تبين فِي وجهه وكفيه آثار الركوع والسجود.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن أبي القاسم، قال: أخبرنا حمد بن أحمد، قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله الحافظ، قال: أخبرنا أبو حامد بن جبلة، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إسحاق، قَالَ: حَدَّثَنَا سعدان بن يزيد، قَالَ: حَدَّثَنَا الهيثم بن جميل، قَالَ: حَدَّثَنَا سفيان بن عيينة، عن عطاء بن السائب، قَالَ:
كان مرة يصلي كل يوم وليلة ألف ركعة، فلما ثقل وبدن صلّى أربعمائة ركعة، وكنت تنظر إلى مباركه كأنها مبارك الإبل.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا محمد بن هبة الله الطبري، قال: أخبرنا ابن بشران، قال: حدثنا ابن صفوان، قال: أخبرنا أبو بكر القرشي، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الحُسَيْن، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْنُ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ العابد، قال: حدّثنا الحارث الغنوي، قال:
__________
[1] طبقات ابن سعد 8/ 35.
[2] طبقات ابن سعد 6/ 79.(5/276)
سَجَدَ مُرَّةُ الْهَمْدَانِيُّ حَتَى أَكَلَ التُّرَابُ جَبْهَتَهُ، فَلَمَّا مَاتَ رَآهُ رَجَلٌ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَنَامِهِ كَأَنَّ مَوْضِعَ سُجُودِهِ كَهَيْئَةِ الْكَوْكَبِ الدُّرِّيِّ يَلْمَعُ. فَقُلْتُ لَهُ: مَا هَذَا الَّذِي أَرَى بِوَجْهِكَ؟ قَالَ: كَسَى مَوْضِعَ السُّجُودِ بِأَكْلِ التُّرَابِ لَهُ نُورًا، قَالَ: فَمَا مَنْزِلَتُكَ فِي الْجَنَّةِ؟
قَالَ: خَيْرُ مَنْزِلَةٍ، دَارٌ لا يَنْتَقِلُ عَنْهَا أَهْلُهَا وَلا يَمُوتُونَ.
379- النعيمان بن عمرو بن رفاعة بن الحارث [1] :
شَهِدَ بَدْرًا وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ يُؤْتَى بِهِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ فِي شُرْبِ النَّبِيذِ، فَقَالَ رَجُلٌ: اللَّهمّ الْعَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يَشْرَبُ وَأَكْثَرَ مَا يُجْلَدُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تَلْعَنْهُ [2] فإنه يحب الله ورسوله» .
__________
[1] طبقات ابن سعد 3/ 2/ 56، وفيه: «النعمان» .
[2] في ت: «أفتلعنه» .(5/277)
ثم دخلت سنة خمس وخمسين
فمن الحوادث فيها:
مشتى سفيان بن عوف الأزدي بأرض الروم فِي قول الواقدي.
وقَالَ غيره: بل الذي شتا هناك عمرو بن محرز.
وقيل: بل عَبْد اللَّهِ بن قيس الفزاري.
وقيل: بل مالك بن عبد الله [1] .
113/ أ
وفيها عزل معاوية عَبْد اللَّهِ بن عمرو بن غيلان/ عن البصرة وولى عبيد الله بن زياد [2]
وكان السبب فِي ذلك أن عَبْد اللَّهِ خطب على منبر البصرة فحصبه رجل من بني ضبة يدعى جبير بن الضحاك، فأمر به فقطعت يده، فاجتمعت عشيرته فقالت له: لا نأمن أن نبلغ خبر صاحبنا إلى أمير المؤمنين فتأتي من عنده عقوبة تعم أو تخص، فإن رأى الأمير أن يكتب لنا كتابا يخرج به أحدنا إلى أمير المؤمنين يخبره أنه قطعه على شبهة وأمر لم يصح، فكتب لهم، فأمسكوا الكتاب مدة ثم ذهبوا به إلى معاوية وقالوا: إنه قطع يد صاحبنا ظلما وهذا كتابه. فقرأ الكتاب وقَالَ: أما القود من عمالي فلا سبيل له، ولكن إن شئتم وديت صاحبكم، فوداه من بيت المال، وعزل عَبْد اللَّهِ وقَالَ: اختاروا من تحبون، فقالوا: يتخير لنا أمير المؤمنين، قَالَ: قد وليت عليكم ابن أخي عبيد الله بن زياد.
فلما ولي عبيد الله ولى أسلم بن زرعة خراسان فلم يغز ولم يفتح بها شيئا. وولى
__________
[1] تاريخ الطبري 5/ 299.
[2] المرجع السابق والصفحة.(5/278)
شرطته عبد الله بن حصن والقضاء زرارة بن أوفى ثم عزله وولى القضاء ابن أذينة العبدي.
وفِي هذه السنة عزل معاوية عَبْد اللَّهِ بن خالد بن أسيد عن الكوفة وولاها الضحاك بن قيس الفهري.
وفيها: حج بالناس مروان بن الحكم، وكان على المدينة.
ذكر من توفي فِي هذه السنة من الأكابر
380- أرقم بن أبي الأرقم بن أسد بن عَبْد اللَّهِ بن عمر بن مخزوم، أبو عَبْد اللَّهِ:
[1] وأمه أميمة بنت الحارث من خزاعة، وخاله نافع بن الحارث بن خزاعة عامل عمر بن الخطاب على مكة.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي الْبَزَّارُ، قَالَ: أخبرنا الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أَخْبَرَنَا ابْنُ مَعْرُوفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْفَهْمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سعد، قال: أخبرنا مُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ هِنْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ الأَرْقَمِ [بْنِ أَبِي الأَرْقَمِ الْمَخْزُومِيُّ] [2] ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ يَحْيَى بْنِ عِمْرَانَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ الأَرْقَمِ، قَالَ:
حَدَّثَنِي جَدِّي عُثْمَانُ بْنُ الأَرْقَمِ، قَالَ [3] : أَنَا ابْنُ سَبْعَةٍ فِي الإِسْلامِ، أَسْلَمَ أَبِي سَابِعَ سَبْعَةٍ، وَكَانَتْ دَارُهُ بِمَكَّةَ عَلَى الصَّفَا، وَهِيَ/ الدَّارُ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكُونُ فِيهَا فِي أَوَّلِ الإِسْلامِ، وفيها دعي الناس 113/ ب إِلَى الإِسْلامِ، وَأَسْلَمَ فِيهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَقَالَ لَيْلَةَ الاثْنَيْنِ فِيهَا: «اللَّهمّ أَعِزَّ الإِسْلامَ بِأَحَبِّ الرجلين إليك: عمر بن الخطاب، أو عمرو بْنِ هِشَامٍ» . فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنَ الْغَدِ بَكْرَةً فَأَسْلَمَ فِي دَارِ الأَرْقَمِ وَخَرَجُوا مِنْهَا وَكَبَّرُوا وَطَافُوا بِالْبَيْتِ طَاهِرِينَ، فَدُعِيَتْ دَارُ الأَرْقَمِ دَارُ الإِسْلامِ، وَتَصَدَّقَ بِهَا الأَرْقَمُ عَلَى وَلَدِهِ، فَقَرَأْتُ نُسْخَةَ صَدَقَةِ الأَرْقَمِ بِدَارِهِ.
«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا مَا قَضَى الأَرْقَمُ في ربعه ما حاذى الصفا، إنها
__________
[1] طبقات ابن سعد 3/ 1/ 172.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] الخبر في طبقات ابن سعد 3/ 1/ 173، 174.(5/279)
مُحَرَّمَةٌ بِمَكَانِهَا مِنَ الْحَرَمِ، لا تُبَاعُ وَلا تُورَثُ، شَهِدَ هِشَامُ بْنُ الْعَاصِ، وَفُلَانٌ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ الْعَاصِ» . فَلَمْ تَزَلْ هَذِهِ الدَّارُ صَدَقَةً قَائِمَةً فيِهَا وَلَدُهُ يَسْكُنُونَ وَيُؤَاجِرُونَ وَيَأْخُذُونَ عَلَيْهَا [1] حَتَّى كَانَ زَمَنُ أَبِي جَعْفَرٍ.
قَالَ مُحَمَّد بن عِمْرانَ: فأخبرني أبي، عن يَحْيَى بن عِمْرانَ أن ابن عثمان بن الأرقم قَالَ:
إني لأعلم اليوم الذي وقعت فِي نفس أبي جعفر، إنه ليسعى بين الصفا والمروة فِي حجة حجها ونحن على ظهر الدار فِي فسطاط فيمر تحتنا لو أشاء أن آخذ قلنسوة عليه لأخذتها، وإنه لينظر إلينا من حين يهبط بطن الوادي حتى يصعد إلى الصفا، فلما خرج مُحَمَّد بن عَبْد اللَّهِ بن حسن بالمدينة، كان عَبْد اللَّهِ بن عثمان بن الأرقم ممن تابعه ولم يخرج معه، فتعلق عليه أبو جعفر بذلك، فكتب إلى عامله بالمدينة أن يحبسه ويطرحه في حديد، ثم بعث رجلا من أهل الكوفة يقال له شهاب بن عبد رب، وكتب معه إلى عامل المدينة أن يفعل ما يأمره به، فدخل شهاب على عَبْد اللَّهِ بن عثمان الحبس- وهو شيخ كبير ابن بضع وثمانين سنة، وقد ضجر بالحديد والحبس- فقَالَ له: هل لك أن أخلصك مما أنت فيه وتبيعني دار الأرقم؟ فإن أمير المؤمنين يريدها، وعسى أن بعته إياها أن أكلمه فيك فيعفو عنك قَالَ: إنها صدقة، ولكن حقي منها له ومعي فيها شركاء إخوتي وغيرهم، فقَالَ: إنما عليك نفسك، أعطنا حقك وبرئت. فاشهد له بحقه، وكتب عليه 114/ أكتاب شراء على حساب سبعة/ عشر ألف دينار، ثم تتبع إخوته ففتنهم بكثرة المال فباعوه، فصارت لأبي جعفر ولمن أقطعها، ثم صيرها المهدي للخيزران أم مُوسَى وهارون، فبنتها وعرفت بها، ثم صارت لجعفر بن موسى أمير المؤمنين، [ثم سكنها أصحاب الشطوي والعدني، ثم اشترى] [2] عامتها غسان بن عباد من ولد موسى بن جعفر.
قَالَ علماء السير: شهد الأرقم بدرا والمشاهد كلها مع رسول الله، ومات الأرقم
__________
[1] في الأصل: «ويأخذون غلتها» . وما أوردناه من ابن سعد، أ.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(5/280)
بالمدينة فِي هذه السنة وهو ابن سبع وثمانين سنة، وصلى عليه سعد بن أبي وقاص.
381- سعد بن أبي وقاص، واسم أبي وقاص مالك بن وهيب بْن عَبْد مناف بْن زهرة بْن كلاب بن مرة ويكنى أبا إسحاق [1] :
وأمه حمنة بنت سفيان بن أمية بْن عَبْد شمس بْن عَبْد مناف بن قصي.
أسلم وهو ابن سبع عشرة سنة.
وقيل: تسع عشرة.
وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا خالي فليرني امرؤ خاله» . وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهمّ سدد رميته وأجب دعوته» . وكان مجاب الدعوة، ودعا فقَالَ: اللَّهمّ إن لي بنين صغارا فأخر عني الموت حتى يبلغوا، فأخر عنه الموت عشرين سنة.
وولي الولايات من قبل عمر وعثمان، وجعله عمر أحد أصحاب الشورى، وأمره على جيوش العراق، ثم ولاه الكوفة.
وكان قصيرا، غليظا، ذا هامة، شثن الأصابع، آدم، أفطس، أشعر الجسد، يخضب السواد. وكان له من الولد، ثمانية عشر ذكرا، وثماني عشرة أنثى.
وروى عنه من الصحابة ابن عباس، وجابر بن سمرة، والسائب بن يزيد، وعائشة أم المؤمنين.
وكان عمر يقول لابنه: إذا حدثك سعد عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئا فلا تسأل عنه غيره.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي، قال: أخبرنا الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا ابن معروف، قال: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن/ سعد، قال: أخبرنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، وَيَعْلَى وَمُحَمَّدٌ ابْنَا عبيد، قالوا: 114/ ب
__________
[1] طبقات ابن سعد 3/ 1/ 97، ونسب قريش، وطبقات خليفة 15/ 126، والتاريخ الكبير للبخاريّ 4/ ترجمة 1908.(5/281)
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ حَازِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَقُولُ: [1] .
وَاللَّهِ إِنِّي لأَوَّلُ رَجُلٍ مِنَ الْعَرَبِ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَقَدْ كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا لَنَا طَعَامٌ نَأْكُلُهُ إِلا وَرَقُ الْحُبْلَةِ وَهَذَا السَّمُرُ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَنَا لَيَضَعُ كَمَا تَضَعُ الشَّاةُ مَا لَهُ خِلْطٌ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: [2] وَأَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْدِي أَحَدًا بِأَبَوَيْهِ إِلا سَعْدًا، فَإِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ يَوْمَ أُحُدٍ: «ارْمِ سَعْدُ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي» . توفي سعد فِي قصر بالعقيق على عشرة أميال من المدينة، فحمل على أعناق الرجال إلى المدينة، وصلى عليه مروان بن الحكم وهو يومئذ والي المدينة، ثم صلى عليه أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرهن ووقف به عليهنّ فصلين عليه ودفن بالبقيع.
وكان أوصى أن يكفن فِي جبة صوف له، كان لقي المشركين فيها يوم بدر فكفن فيها وذلك في سنة خمس وخمسين. كذلك قَالَ خليفة بن خياط، وسعيد بن عمير، وعمرو بن علي المدائني.
وقَالَ أبو نعيم الفضل بن دكين: سنة ثمان وخمسين.
وقال الهيثم بن عدي: سنة خمسين.
وقَالَ ابن بكير: سنة أربع وخمسين، وهو آخر المهاجرين وفاة. والأول أثبت.
وترك يوم مات مائتي ألف وخمسين ألف درهم. وفِي مقدار عمره أقوال ثلاث، أحدها: ثلاث وثمانون. قاله إبراهيم بن سعد.
والثاني: أربع وسبعون. قاله عمرو بن علي.
__________
[1] طبقات ابن سعد 3/ 1/ 100.
[2] طبقات ابن سعد 3/ 1/ 99 والعبارة في الأصل: «قال أخبرنا سعد» .(5/282)
والثالث: اثنتان وثمانون.
وقول الغلاس أثبت.
382- سحبان بن زفر بن إياس بن عبد شمس بن الأحب الباهلي: [1]
كان خطيبا بليغا يضرب المثل بفصاحته، ودخل على معاوية بن أبي سفيان وعنده خطباء القبائل، فلما رأوه خرجوا لعلمهم/ بقصورهم عنه، فمن قوله: 115/ أ
لقد علم الحي اليمانيون أنني ... إذا قلت: أما بعد، أني خطيبها
فقال له معاوية: اخطب، فقَالَ: انظروا لي عصا تقيم من أودي، قالوا: وما تصنع بها وانت بحضرة أمير المؤمنين؟ قَالَ: ما كان يصنع بها مُوسَى وهو يخاطب ربه، فأخذها وتكلم من الظهر إلى أن قارب العصر ما تنحنح ولا سعل ولا توقف ولا ابتدأ فِي معنى فخرج عنه وقد بقيت عليه بقية فيه، فقَالَ معاوية: الصلاة، قَالَ: الصلاة أمامك ألسنا فِي تحميد وتمجيد وعظة وتنبيه وتذكير ووعد ووعيد، فقَالَ معاوية: أنت أخطب الجن والإنس، قَالَ: كذلك أنت.
383- فضالة بن عبيد بن نافذ بن قيس [2] :
كان صبيا يوم قدم رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم، فقال: لما قدم رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى قباء كنا غلمانا نحتطب، فأرسلنا إلى أهلنا وقَالَ: قولوا قد جاء صاحبكم الذي تنتظرون، فخرجنا إلى أهلنا فأخبرناهم، فأقبل القوم.
وشهد فضالة أحدا والخندق وما بعدها، وكان ممن بايع تحت الشجرة، ثم خرج إلى الشام وصار قاضيا بها فِي خلافة معاوية.
384- قثم بن العباس بن عبد المطلب: [3]
كان [يشبه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومر به] [4] رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يلعب، فحمله خلفه.
__________
[1] البداية والنهاية 8/ 77.
[2] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 124.
[3] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 101.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(5/283)
واستعمله علي بن أبي طالب على المدينة، وخرج مع سعيد بن عثمان فِي زمن معاوية، فاستشهد بسمرقند.
385- كعب بن عمرو بن عباد، أبو اليسر [1] :
شهد العقبة وبدرا وهو ابن عشرين سنة، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
115/ ب وكان قصيرا دحداحا، أبطن، وهو الذي أسر العباس بن عبد المطلب/ يوم بدر.
وتوفي بالمدينة في هذه السنة.
__________
[1] طبقات ابن سعد 3/ 2/ 118.(5/284)
ثم دخلت سنة ست وخمسين
فمن الحوادث فيها مشتى جنادة بن أبي أمية بأرض الروم.
وقيل: عَبْد الرَّحْمَنِ بن مسعود.
وفيها: غزا البحر يزيد بن شجرة الرهاوي، وغزا البر عياض بن الحارث.
وفيها: حج بالناس الوليد بن عتبة بن أبي سفيان.
وفيها: اعتمر معاوية فِي رجب [1] .
وفيها دعا الناس معاوية إلى بيعة يزيد ابنه من بعده وجعله ولي عهده [2]
وكان سبب ذلك أن المغيرة قدم على معاوية واستعفاه وشكى إليه الضعف، فأعفاه، وأراد أن يولي سعيد بن العاص، فدخل المغيرة على يزيد فعرض له البيعة، فأدى ذلك يزيد إلى أبيه، فرد معاوية المغيرة إلى الكوفة وأمره أن يعمل فِي بيعة يزيد.
فشخص إلى الكوفة فعمل فِي بيعة يزيد، وكتب معاوية إلى زياد يستشيره فِي ذلك، فبعث زياد إلى عبيد بن كعب النميري، فقَالَ: إن أمير المؤمنين قد أجمع على بيعة يزيد وهو متخوف نفرة الناس، ويزيد صاحب تهاون، مع ما قد أولع به من الصيد، فالق أمير المؤمنين مؤديا عني وأخبره عن فعلات يزيد وقل: رويدك بالأمر، فأقمن أن يتم لك ما تريد، ولا تعجل فإن دركا فِي تأخير خير من تعجيل عاقبته الفوت. فقَالَ عبيد له:
__________
[1] تاريخ الطبري 5/ 301.
[2] تاريخ الطبري 5/ 301.(5/285)
أفلا غير هذا، قَالَ: ما هو؟ قَالَ: لا تفسد على معاوية رأيه ولا تمقت إليه ابنه، وألقى أنا يزيد سرا من معاوية فأخبره عنك أن أمير المؤمنين يستشيرك فِي بيعته، وأنت تتخوف خلاف الناس لهنات ينقمونها عليه، وأنت ترى له ترك ما ينقمون عليه فتستحكم لأمير المؤمنين الحجة على الناس، ويسهل لك ما تريد، فتكون قد نصحت يزيد وأرضيت أمير المؤمنين.
فقَالَ: أشخص على بركة الله. فقدم على يزيد فذاكره ذلك، وكتب زياد إلى 116/ أمعاوية يأمره بالتؤدة/ وأن لا يعجل فقبل ذلك معاوية، وكف يزيد عن كثير مما كان يصنع، ثم قدم عبيد على زياد فأقطعه قطيعة.
فلما مات زياد دعا معاوية بكتاب، فقرأه على الناس باستخلافه يزيد إن حدث به حدث الموت فيزيد ولي عهده، فاستوثق له الناس على البيعة ليزيد غير نفر خمسة، أحدهم الحسين بن علي رَضِيَ اللهُ عنهما، فقال له معاوية: يا بن أخي، قد استوثق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر أنت تقودهم، فما إربك إلى هذا الخلاف؟ قَالَ: أنا أقودهم، قَالَ:
نعم، فأرسل إليهم فإن بايعوا كنت رجلا منهم وإلا لم تكن عجلت علي بأمر. قَالَ:
وتفعل؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فأخذ عليه أن لا يخبر بحديثهم أحدا، فالتوى عليه، ثم أعطاه ذلك، فخرج وقد أقصد له ابن الزبير رجلا بالطريق. قَالَ: يقول لك أخوك ابن الزبير: ما كان فلم يزل به حتى استخرج منه شيئا.
ثم أرسل بعده إلى ابن الزبير، فقَالَ له: قد استوثق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر من قريش أنت تقودهم يا بن أخي، فما إربك إلى الخلاف؟ قَالَ: أنا أقودهم؟ قَالَ:
نعم، قَالَ: فأرسل إليهم فإن بايعوا كنت رجلا منهم وإلا لم تكن عجلت علي بأمر، قَالَ: وتفعل؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فأخذ عليه أن لا يخبر بحديثهما أحدا، قَالَ: يا أمير المؤمنين نحن فِي حرم وعهد الله ثقيل، فأبى عليه وخرج.
ثم أرسل بعده إلى ابن عمر رضي الله عنهما فكلمه بكلام هو ألين من كلام صاحبيه، فقَالَ: إني أرهب أن أدع أمة مُحَمَّد كالضأن لا راعي لها وقد استوثق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر من قريش أنت تقودهم، فما إربك إلى الخلاف؟ قَالَ: هل لك فِي أمر يذهب الوزر، ويحقن الدم، وتدرك حاجتك؟ قَالَ: وددت، قَالَ: تبرز سريرك(5/286)
ثم أجيء فأبايعك على أني أدخل بعدك فيما يجتمع له عليه الأمة، فو الله لو أن الأمة اجتمعت بعدك على عبد حبشي لدخلت فيما تدخل فيه الأمة، قَالَ: وتفعل؟ قَالَ: نعم. ثم خرج فأتى منزله فأطبق بابه وجعل الناس يجيئون فلا يأذن لهم.
فأرسل إلى عَبْد الرَّحْمَنِ بن أبي بكر، فقَالَ: يا ابن أبي بكر بأية يد أو رجل تقدم على معصيتي، قَالَ: أرجو/ أن يكون ذلك خيرا لي، فقَالَ: والله لقد هممت أن 116/ ب أقتلك، قَالَ: لو فعلت لأتبعك الله به لعنة فِي الدنيا وأدخلك به فِي الآخرة النار.
قَالَ: ولم يذكر ابن عباس.
وحكى مُحَمَّد بن سعد: أن معاوية قَالَ للحسين، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، ولعبد الله بن الزبير: إني أتكلم بكلام فلا تردوا علي شيئا فأقتلكم. فخطب الناس وأظهر أنهم قد بايعوا ليزيد، فسكت القوم ولم ينكروا خوفا منه ورحل من المدينة.
وفِي هذه السنة ولى معاوية سعيد بن عُثْمَان بْن عَفَّانَ على خراسان [1]
وكان السبب أن سعيدا سأل ذلك، قَالَ: إن بها عبيد الله بن زياد، فقَالَ: أما والله لقد اصطنعك أبي ورقاك حتى بلغت باصطناعه المدى [الذي لا يجاري إليه ولا يسامى] [2] ، فما شكرت بلاءه ولا جازيته. فولاه حرب خراسان، وولى إسحاق بن طَلْحَة خراجها.
وكان إسحاق ابن خالة معاوية، أمه أم أبان بنت عتبة بن ربيعة، فلما صار بالري مات إسحاق بن طَلْحَة، فولي سعيد خراج خراسان وحربها، فقطع سعيد الترمذ إلى سمرقند، فخرج إليه أهل الصغد فواقفوه يوما إلى الليل ثم انصرفوا من غير قتال، فلما كان الغد خرج إليهم سعيد، وناهضه أهل الصغد فقاتلهم فهزمهم وحصرهم فِي مدينتهم، فصالحوه وأعطوه رهنا منهم خمسين غلاما يكونون فِي يده من أبناء عظمائهم، وعبر فأقام بالترمذ.
وكان العامل فِي هذه السنة على المدينة مروان بن الحكم، وعلى الكوفة
__________
[1] تاريخ الطبري 5/ 304.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(5/287)
الضحاك بن قيس، وعلى البصرة عَبْد اللَّهِ بن زياد، وعلى خراسان سعيد بن عثمان بن عفان.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
386- أم حرام بنت ملحان، أخت أم سليم: [1]
أسلمت وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان صلّى الله عليه وسلّم يقيل فِي بيتها.
أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْن مالك، قَالَ: حدثنا عبد الله بن أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا/ رَوْحٌ، قال: حدّثنا 117/ أحماد- يَعْنِي ابْنَ سَلَمَةَ- عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَيَّانَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أُمِّ حَرَامٍ أَنَّهَا قَالَتْ: [2] بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِلا فِي بَيْتِي اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي مَا يُضْحِكُكَ؟ قَالَ: «عُرِضَ عَلَيَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي يَرْكَبُونَ ظَهْرَ هَذَا الْبَحْرِ كَالْمُلُوكِ عَلَى الأَسِرَّةِ» فَقُلْتُ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ: «اللَّهمّ اجْعَلْهَا مِنْهُمْ» . ثُمَّ نَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي مَا يُضْحِكُكَ، قَالَ: عُرِضَ عَلَيَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي يَرْكَبُونَ هَذَا الْبَحْرَ كَالْمُلُوكِ عَلَى الأَسِرَّةِ، فَقُلْتُ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ: «أَنْتِ مِنَ الأَوَّلِينَ» . فغزت مع عبادة بن الصامت وكان زوجها عبادة بن الصامت فوقصتها بغلة لها شهباء فوقعت فماتت.
قَالَ هرم بن عمار: أنا رأيت قبرها ووقفت عليه بالساحل بفاقيس.
وقَالَ هشام بن الغار: قبرها بقبرص، وهم يقولون: هذا قبر المرأة الصالحة.
__________
[1] طبقات ابن سعد 8/ 318.
[2] الخبر في الطبقات 8/ 318.(5/288)
ثم دخلت سنة سبع وخمسين
فمن الحوادث فيها:
مشتى عَبْد اللَّهِ بن قيس بأرض الروم.
وفيها: صرف مروان عن المدينة فِي ذي القعدة. واستعمل الوليد بن عتبة بن أبي سفيان.
وقَالَ غيره: بل كانت المدينة فِي هذه السنة إلى مروان، وإنما صرفه فِي سنة ثمان وخمسين، واستعمل حينئذ الوليد بن عتبة.
وفيها: حج بالناس الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وكان العامل على الكوفة الضحاك بن قيس، وعلى البصرة عبيد الله بن زياد، وعلى خراسان سعيد بن عثمان.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
387- عثمان بن حنيف بن واهب بن عكيم، أبو عَبْد اللَّهِ: [1]
بعثه عمر بن الخطاب رضي الله عنه على خراج السواد، ورزقه كل يوم ربع شاة وخمسة دراهم، وأمره أن يمسح/ السواد، فلم يزل على ذلك. 117/ ب ولما قتل عثمان بعثه علي بن أبي طالب واليا على البصرة فلم يزل بها حتى قدم عليه طَلْحَة والزبير فقاتلهم ثم اصطلحوا وكتبوا بينهم كتابا بالموادعة على أن دار الإمارة والمسجد وبيت المال إلى عثمان بن حنيف، وينزل طَلْحَة والزبير وعائشة حيث شاءوا من البصرة.
وتوفي عثمان بن حنيف في خلافة معاوية.
__________
[1] تاريخ بغداد 1/ 179.(5/289)
ثم دخلت سنة ثمان وخمسين
فمن الحوادث فيها:
غزو مالك بن عَبْد اللَّهِ الخثعمي أرض الروم.
وقتل يزيد [1] بن شجرة فِي البحر فِي السفن.
وقيل: إن الذي شتى بأرض الروم فِي هذه السنة عمرو بن يزيد الجهني، والذي غزا فِي البحر جنادة بن أبي أمية [2] .
وفيها ولى معاوية الكوفة عَبْد الرَّحْمَنِ بن عَبْد اللَّهِ بن عثمان بن ربيعة الثقفِي [3] .
وهو ابن أم الحكم أخت معاوية بن أبي سفيان، وعزل عنها الضحاك بن قيس.
وفِي عمله فِي هذه السنة خرجت الطائفة التي حبسها المغيرة بن شعبة فِي السجن من الخوارج الذين كانوا بايعوا المستورد، فظفر بهم فاستودعهم السجن، فلما مات المغيرة خرجوا من السجن، فجمع حيان بن ظبيان أصحابه ثم حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بعد، فإن الله عز وجل كتب علينا الجهاد، فمنا من قضى نحبه ومنا من ينتظر، وأولئك هم الأبرار الفائزون بفعلهم، فمن كان منكم يريد الله وثوابه فليسلك سبيل أصحابه.
__________
[1] في الأصول: «وقيل: يزيد» .
[2] تاريخ الطبري 5/ 309.
[3] المرجع السابق والصفحة.(5/290)
وقَالَ معاذ بن جوين [الطائي] [1] : يا أهل الإسلام، إنا والله لو علمنا أنا إذا تركنا جهاد الظلمة وإنكار الجور، كان لنا به عند الله عذر، لكان تركه أيسر علينا وأخف من ركوبه، ولكنا قد علمنا واستيقنا أنه لا عذر لنا.
ثم قَالَ: ابسط يدك نبايعك، فبايعه وبايعه القوم، فضربوا على يد حيان فبايعوه وذلك فِي إمارة عَبْد الرَّحْمَنِ بن عَبْد اللَّهِ، / ثم أن القوم اجتمعوا في منزل معاذ بن 118/ أجوين، فقَالَ لهم حيان: عباد الله، أشيروا برأيكم، أين تأمروني أن أخرج؟ فقَالَ له معاذ: إني أرى أن تسير بنا إلى حلوان فإنها كورة بين السهل والجبل، وبين المصر والثغر، فمن كان يرى رأينا من أهل المصر والثغر والجبال والسواد لحق بنا. فقَالَ له حيان:
عدوك معاجلك قبل اجتماع الناس إليك، فلا يتروكم حتى يجتمع الناس إليكم، ولكن رأيت أن أخرج معكم فِي جانب الكوفة ثم نقاتلهم حتى نلحق بربنا، فإني [والله] [2] قد علمت أنكم لا تقدرون وأنتم دون المائة رجل أن تهزموا عدوكم، ولا أن تشتد نكايتكم فيهم، ولكن متى علم الله أنكم قد أجهدتم أنفسكم فِي جهاد عدوه وعدوكم كان لكم به العذر، وخرجتم من الإثم.
قالوا: رأينا رأيك، فقَالَ لهم عديس بن عرقوب [3] : اخرجوا بجانب من مصرهم هذا فقاتلوا، فقالوا: لن يخالفك، فمكثوا حتى إذا كان آخر سنة من سني ابن أم الحكم فِي أول يوم من ربيع الآخر اجتمعوا إلى حيان، فقَالَ: يا قوم، والله الذي لا إله غيره ما سررت قط في الدنيا بعد ما أسلمت سروري بخروجي هذا على الظلمة، إني قد رأيت أن نخرج حتى ننزل جانب دار جرير، فإذا خرج إليكم الأحزاب ناجزتموهم، فقَالَ عديس بن عرقوب:
إذا قاتلتهم فِي جوف المصر قاتلنا الرجال وصعد النساء والصبيان والإماء، فرمونا بالحجارة، فقَالَ رجل منهم: انزلوا بنا من وراء الجسر، فقَالَ معاذ: لا بل سيروا بنا
__________
[1] الخبر في تاريخ الطبري 5/ 310.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من تاريخ الطبري.
[3] في الأصل: «عريش بن عرقوب» . وفي الطبري: «عتريس بن عرقوب» .(5/291)
فلننزل بانقيا فما أسرع ما يأتيكم عدوكم، فإذا كان ذلك استقبلنا القوم وجعلنا البيوت فِي ظهورنا، فقاتلناهم من وجه واحد، فخرجوا فبعث إليهم جيش فقتلوا جميعا.
وفِي هذه السنة طرد أهل الكوفة عَبْد الرَّحْمَنِ بن أم الحكم [1]
118/ ب وذلك أنه أساء السيرة فيهم، فطردوه، فلحق بمعاوية/ وهو خاله، فقَالَ له:
أوليك خيرا منها مصر، فولاه، فتوجه إليها، وبلغ معاوية بن حديج السكوني الخبر، فخرج إليه واستقبله على مرحلتين من مصر، فقَالَ له: ارجع إلى خالك فلعمري لا تسير فينا سيرتك فِي إخواننا من أهل الكوفة.
فرجع إلى معاوية، ثم أقبل معاوية بن حديج وافدا، فدخل عليه وعنده أم الحكم، فقالت: من هذا يا أمير المؤمنين؟ قَالَ: هذا معاوية بن حديج، قالت: لا مرحبا به، «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» فقَالَ: على رسلك يا أم الحكم، أما والله لقد تزوجت فما أكرمت وولدت فما أنجبت، أردت أن يلي ابنك الفاسق علينا فيسير فينا كما سار فِي إخواننا من أهل الكوفة ما كان الله ليريه ذلك، ولو فعل ذلك لضربناه ضربا يطأطئ منه، فقَالَ لها معاوية: كفى.
قصة ابن أم الحكم مع الأعرابي
وجرت لعبد الرحمن ابن أم الحكم قصة عجيبة أَخْبَرَنَا بِهَا مُحَمَّد بْنُ نَاصِرٍ الْحَافِظُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَأَخْبَرَتْنَا شُهْدَةُ بِنْتُ أحمد الكاتبة، قالت: أَخْبَرَنَا جعفر بْن أحمد السَّرَّاجُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ: أخبرنا أبو عمر بن حيويه، قال: حدثنا مُحَمَّد بْنُ خَلَفٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقُرَشِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْنُ عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مِخْنَفٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، قَالَ:
أَذنَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ يَوْمًا، فَكَانَ فِيمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ فَتًى مِنْ بَنِي عُذْرَةَ، فَلَمَّا أَخَذَ النَّاسُ مَجَالِسَهُمْ قَامَ الْفَتَى الْعُذْرِيُّ بَيْنَ السِّمَاطينَ ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
مُعَاوِي يَا ذَا الْفَضْلِ وَالْحُكْمِ وَالْعَقْلِ ... وَذَا الْبِرِّ وَالإِحْسَانِ وَالْجُودِ وَالْبَذْلِ
أَتَيْتُكَ لَمَّا ضَاقَ فِي الأَرْضِ مَسْلَكِي ... وَأَنْكَرْتُ مِمَّا قَدْ أصبت به عقلي
__________
[1] تاريخ الطبري 5/ 312. والبداية والنهاية 8/ 89.(5/292)
فَفَرِّجْ كَلاكَ اللَّهُ عَنِّي فَإِنَّنِي ... لَقِيتُ الَّذِي لَمْ يَلْقَهُ أَحَدٌ قَبْلِي
وَخُذْ لِي هَدَاكَ اللَّهُ حَقِّي مِنَ الَّذِي ... رَمَانِي بِسَهْمٍ كَانَ أَهْوَنَهُ قَتْلِي
وَكُنْتُ أُرْجِي عَدْلَهُ إِنْ أَتَيْتُهُ ... فَأَكْثَرَ تِرْدَادِي مَعَ الْحَبْسِ وَالْكَبْلِ
/ فَطَلَّقْتُهَا مِنْ جَهْدِ مَا قَدْ أَصَابَنِي ... فَهَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ من العذل
119/ أفقال مُعَاوِيَةُ: ادْنُ بَارَكَ اللَّهُ عَلَيْكَ، مَا خَطْبُكَ؟ فَقَالَ: أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ، تَزَوَّجْتُ ابْنَةَ عَمٍّ لِي، وَكَانَتْ لِي صِرْمَةٌ مِنْ إِبِلٍ وَشُوَيْهَاتٍ، فَأَنْفَقْتُ ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَلَمَّا أَصَابَتْنِي نَائِبَةُ الزَّمَانِ وَحَادِثَاتُ الدَّهْرِ رَغِبَ عَنِّي أَبُوهَا، وَكَانَتْ جَارِيَةً فِيهَا الْحَيَاءُ وَالْكَرَمُ، فَكَرِهْتُ مُحَالَفَةَ أَبِيهَا، فَأَتَيْتُ عَامِلَكَ ابْنَ أُمِّ الْحَكَمِ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، وَبَلَغَهُ جَمَالُهَا، فَأَعْطَى أَبَاهَا عَشَرَةَ آلافِ دِرْهَمٍ وَتَزَوَّجَهَا وَأَخَذَنِي فَحَبَسَنِي وَضَيَّقَ عَلَيَّ، فَلَمَّا أَصَابَنِي مَسُّ الْحَدِيدِ وَأَلَمُ الْعَذَابِ طَلَّقْتُهَا، وَقَدْ أَتَيْتُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْتَ غَيَّاثُ الْمَحْرُوبِ وَسَنَدُ الْمَسْلُوبِ، فَهَلْ مِنْ فَرَجٍ، ثُمَّ بَكَى وَقَالَ فِي بُكَائِهِ:
فِي الْقَلْبِ مِنِّي نَارٌ وَالنَّارُ فِيهَا شَرَارٌ ... وَالْجِسْمُ مِنِّي نَحِيلٌ وَاللُّوْنُ فِيهِ اصْفِرَارٌ
وَالْعَيْنُ تَبْكِي بِشَجْوٍ وَدَمْعُهَا مِدْرَارٌ ... وَالْحُبُّ دَاءٌ عَسِيرٌ فِيهِ الطَّبِيبُ يُحَارُ
حَمَلْتُ مِنْهُ عَظِيمًا فَمَا عَلَيْهِ اصْطِبَارٌ ... فَلَيْسَ لَيْلِي بِلَيْلٍ وَلا نَهَارِي نَهَارٌ
فَرَقَّ لَهُ مُعَاوِيَةُ وَكَتَبَ لَهُ إِلَى ابْنِ أُمِّ الْحَكَمِ كِتَابًا غَلِيظًا، وَكَتَبَ فِي آخِرِهِ يَقُولُ:
رَكِبْتَ أَمْرًا عَظِيمًا لَسْتُ أَعْرِفُهُ ... أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ جَوْرِ امْرِئٍ زَانٍ
قَدْ كُنْتَ تُشْبِهُ صُوفِيًّا لَهُ كُتُبٌ ... مِنَ الْفَرَائِضِ أَوْ آثَارِ فُرْقَانٍ [1]
حَتَّى أَتَانِي الْفَتَى الْعُذْرِيُّ مُنْتَحِبًا ... يَشْكُو إِلَيَّ بِحَقٍّ غَيْرِ بُهْتَانٍ
أَعْطَى الإِلَهُ عُهُودًا لا أَجِيشُ بِهَا ... أَوْ لا فَبَرِئْتَ مِنْ دِينٍ وَإِيمَانٍ
إِنْ أَنْتَ رَاجَعْتَنِي فِيمَا كَتَبْتُ بِهِ ... لأَجْعَلَنَّكَ لَحْمًا عِنْدَ عُقْبَانِ [2]
طَلِّقْ سُعَادَ وَفَارِقْهَا بِمُجْتَمَعٍ ... وَأَشْهِدْ على ذاك نصرا وابن ظبيان
__________
[1] في الأصل: «تحت الفرائض أو آثار فرحان» .
[2] في الأصل: «بين عقبان» .(5/293)
فَمَا سَمِعْتُ كَمَا بُلِّغْتُ مِنْ عَجَبٍ ... وَلا فِعَالُكَ حَقًّا فِعْلَ فِتْيَانِ [1]
فَلَمَّا وَرَدَ كِتَابُ مُعَاوِيَةَ عَلَى ابْنِ أُمِّ الْحَكَمِ تَنَفَّسَ الصَّعْدَاءَ وقال: وددت أن 119/ ب أَمِيرَ/ الْمُؤْمِنِينَ خَلَّى بَيْنِي وَبَيْنَهَا سَنَةً ثُمَّ عَرَضَنِي عَلَى السَّيْفِ، وَجَعَلَ يُؤَامِرُ نَفْسَهُ فِي طَلاقِهَا فَلا يَقْدِرُ، فَلَمَّا أَزْعَجَهُ الْوَفْدُ طَلَّقَهَا، ثُمَّ قَالَ: يَا سُعَادُ، اخْرُجِي، فَخَرَجَتْ شَكِلَةً غَنِجَةً، ذَاتَ هَيْئَةٍ وَجَمَالٍ، فَلَمَّا رَآهَا الْوَفْدُ قالوا: ما تصلح هذه إِلا لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ لا لأَعْرَابِيٍّ، وَكَتَبَ جَوَابَ كِتَابِهِ يَقُولُ:
لا تَحْنَثَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ ... أُوفِي بِعَهْدِكَ فِي رِفْقٍ وَإِحْسَانٍ
وَمَا رَكِبْتُ حَرَامًا حَيْثُ أَعْجَبَنِي ... فَكَيْفَ سُمِّيتُ بِاسْمِ الْخَائِنِ الزَّانِ
وَسَوْفَ يَأْتِيكَ شَمْسٌ لا خَفَاءَ بِهَا ... أَبْهَى الْبَرِيَّةِ مِنْ إِنْسٍ وَمِنْ جَانٍ
حَوْرَاءُ يَقْصُرُ عَنْهَا الْوَصْفُ إِنْ وُصِفَتْ ... أَقُولُ ذَلِكَ فِي سِرٍّ وَإِعْلانٍ
فَلَمَّا وَرَدَ الْكِتَابُ عَلَى مُعَاوِيَةَ، قَالَ: إِنْ كَانَتْ أُعْطِيَتْ حُسْنَ النِّعْمَةِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَهِيَ أَكْمَلُ الْبَرِيَّةِ، فَاسْتَنْطَقَهَا فَإِذَا هِيَ أَحْسَنُ النَّاسِ كَلامًا وَأَكْمَلُهُمْ شَكْلا وَدلا، فَقَالَ: يَا أَعْرَابِيُّ فَهَلْ مِنْ سَلْوٍ عَنْهَا بِأَفْضَلِ الرَّغْبَةِ، قَالَ: نَعَمْ إِذَا فَرَّقْتَ بَيْنَ رَأْسِي وَجَسَدِي، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
لا تَجْعَلْنِي وَالأَمْثَالُ تُضْرَبُ بِي ... كَالْمُسْتَغِيثِ مِنَ الرَّمْضَاءِ بِالنَّارِ
أَرْدُدْ سُعَادَ عَلَى حَيْرَانَ مُكْتَئِبٍ ... يُمْسِي وَيُصْبِحُ فِي هَمٍّ وَتِذْكَارٍ
قَدْ شَفَّهُ قَلَقٌ مَا مِثْلُهُ قَلَقٌ ... وَأَسْعَرَ الْقَلْبُ مِنْهُ أَيَّ إِسْعَارٍ
وَاللَّهِ وَاللَّهِ لا أَنْسَى مَحَبَّتَهَا ... حَتَّى أَغِيبَ فِي رَمْسٍ وَأَحْجَارٍ
كَيْفَ السَّلْوُ وَقَدْ هَامَ الْفُؤَادُ بِهَا ... وَأَصْبَحَ الْقَلْبُ عَنْهَا غَيْرَ صَبَّارٍ
قَالَ: فَغَضِبَ مُعَاوِيَةُ غَضَبًا شَدِيدًا، ثُمَّ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي إِنْ شِئْتِ أَنَا، وَإِنْ شِئْتِ ابْنَ أُمِّ الْحَكَمِ، وَإِنْ شِئْتِ الأَعْرَابِيَّ. فَأَنْشَأَتْ سُعَادُ وَارْتَجَزَتْ تَقُولُ:
هَذَا وَإِنْ أَصْبَحَ فِي الْخِمَارِ ... وَكَانَ فِي نَقْصِ مِنَ الْيَسَارِ
أَكْثَرُ عِنْدِي مِنْ أَبِي وَجَارِي ... وَصَاحِبِ الدِّرْهَمِ والدينار
أخشى إذا غدرت حر النار
__________
[1] في الأصل: «فعل إنسان» .(5/294)
فقال معاوية: خذها/ لا بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا. فَارْتَجَزَ الأَعْرَابِيُّ يَقُولُ:
خَلُّوا عَنِ الطَّرِيقِ للأَعْرَابِيِّ ... أَلَمْ تَرْقُوا وَيْحَكُمْ لِمَا بِي
قَالَ: فَضَحِكَ مُعَاوِيَةُ وَأَمَرَ لَهُ بِعَشَرَةِ آلافِ دِرْهَمٍ وَنَاقَةٍ وَوِطَاءٍ. وَأَمَرَ بِهَا فَأُدْخِلَتْ فِي بَعْضِ قُصُورِهِ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنَ ابْنِ أُمِّ الْحَكَمِ، ثُمَّ أَمَرَ بِدَفْعِهَا إِلَى الأَعْرَابِيِّ.
وفِي هذه السنة اشتد عبيد الله بن زياد على الخوارج [1]
فقتل منهم صبرا جماعة كثيرة، وفِي الحرب جماعة أخرى، وممن قتل منهم صبرا عروة بن أدية.
وسبب ذلك أن ابن زياد خرج فِي رهان له، فلما جلس ينتظر الخيل اجتمع الناس وفيهم عروة بن أدية، فأقبل على ابن زياد، فقَالَ: خمس كن فِي الأمم [قبلنا] [2] ، فقد صرن فينا: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ 26: 128- 130 [3] وذكر خصلتين نسيهما الراوي، فلما قَالَ ذلك ظن ابن زياد أنه لم يجترئ على مثل ذلك إلا ومعه جماعة من أصحابه، فقام فركب وترك رهانه، فقيل لعروة: ما صنعت، والله ليقتلنك. فتوارى، فطلبه ابن زياد فأتى الكوفة، فأخذ به ابن زياد فأمر به فقطعت يداه ورجلاه، ثم دعاه فقَالَ: كيف ترى؟ قَالَ: أرى أنك أفسدت دنياي وأفسدت آخرتك، فقتله، وأرسل إلى ابنيه فقتلهما.
وكان ابن زياد قد حبس مرداس بن أدية، وكان السجان يرى عبادته واجتهاده، فكان يأذن له فِي الليل فينصرف، فإذا طلع الفجر أتاه فدخل السجن، فذكر ابن زياد الخوارج ليلة، فعزم على قتلهم إذا أصبح، فانطلق صديق لمرداس إلى منزله وأخبرهم، فأرسلوا إليه ليعهد، فسمع ذلك مرداس، وبلغ الخبر صاحب السجن فبات بليلة سوء إشفاقا من أن يعلم مرداس الخبر فلا يرجع. فلما كان وقت رجوعه جاء، فقَالَ له السجان: هل علمت ما عزم عليه الأمير؟ قَالَ: نعم. فلما قدم/ ليقتل، وثب 120/ ب السجان- وكان ظئرا لعبيد الله- فأخذ بقدمه وقَالَ: هبه لي، وقص عليه القصة، فوهبه له
__________
[1] تاريخ الطبري 5/ 312.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.
[3] سورة الشعراء، الآية: 128- 130.(5/295)
وأطلقه، فخرج مرداس فِي أربعين رجلا إلى الأهواز فبعث ابن زياد إليهم جيشا.
وفِي هذه السنة توفي عميرة بن يثربي [1] قاضي البصرة، فاستقضى مكانه هشام بن هبيرة.
وكان على الكوفة فِي هذه السنة عَبْد الرَّحْمَنِ بن أم الحكم.
وقَالَ بعضهم: بل الضحاك بن قيس الفهري.
وعلى البصرة عبيد الله بن زياد، وعلى قضاء الكوفة شريح.
وفيها: حج بالناس الوليد بن عتبة بن أبي سفيان.
ذكر من توفي فِي هذه السنة من الأكابر
388- سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص، يكنى أبا عثمان، ويكنى أبا سعيد:
[2] جده أبو أحيحة، قتل أبوه العاص يوم بدر كافرا، وقبض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولسعيد تسع سنين. وكان سعيد كريما، استسقى يوما من دار بالمدينة، ثم عرض صاحب الدار الدار للبيع، فقَالَ: لم يبيعها؟ قالوا: عليه دين أربعة آلاف دينار، فقَالَ: إن له لحرمة لسقيه إيانا. فركب إليه ومعه غريمه، فقَالَ للغريم: هي لك علي، وقَالَ لصاحب الدار:
استمتع بدارك.
وكان الناس يتعشون عنده، وكان فيهم رجل من القراء افتقر، فقالت له زوجته: قد بلغنا عن أميرنا هذا كرم فاذكر له حالك فلعله أن ينيلنا شيئا، فقَالَ: ويحك، لا تخلقي وجهي، قَالَتْ: فاذكر له على كل حال. فتصرم الناس ليلة عنه، وثبت الرجل، فقَالَ: سعيد: أظن جلوسك لحاجة، فسكت، فقَالَ لغلمانه:
تنحوا، ثم قَالَ له: رحمك الله، إنما أنا وأنت فاذكر حاجتك، فسكت، فأطفأ السراج ثم قَالَ: رحمك الله، لست ترى وجهي فاذكر حاجتك، فقَالَ: أصلح الله الأمير، لقد أصابتنا حاجة فأحببت ذكرها لك، فقَالَ: إذا أصبحت فالق فلانا وكيلي. فلما أصبح
__________
[1] في ت: «عميرة بن سري» .
[2] طبقات ابن سعد 5/ 1/ 19، ونسب قريش 177، والتاريخ الكبير للبخاريّ 3/ ترجمة 1672.(5/296)
الرجل لقي الوكيل، فقَالَ له: إن الأمير قد أمر لك بشيء فائت بمن يحمله معك، فقَالَ:
ما عندي من يحمل، ثم انصرف إلى زوجته فأخبرها الخبر وجعل يلومها ويقول: ما أظنه أمر لي إلا بقوصرة تمر وقفيز بز وذهب ماء وجهي، لو كانت/ دراهم أعطانيها، فقالت له 121/ أامرأته: يا هذا، قد بلغ بنا الأمر ما ترى فمهما أعطاك فإنه يقوتنا، فأتى الوكيل، فقَالَ:
أين تكون؟ أخبرت الأمير أنه ليس عندك من يحمل فأمرني أن أوجه معك من يحمل معك ما أمر به، ثم أخرج إليه ثلاثة من السودان على رأس كل واحد منهم بدرة دراهم وقَالَ: امضوا معه، فلما بلغ الرجل باب منزله فتح بدرة منها فأخرج دراهم ودفعها إلى السودان وقَالَ: انصرفوا، قَالُوا: إلى أين، نحن عبيدك، إنه ما حمل مملوك للأمير قط هدية إلى أحد فرجع المملوك إلى ملكه. قال: فصلحت حال الرجل.
ولما احتضر سعيد قَالَ لبنيه: لا يفقدن مني إخواني غير وجهي، فاصنعوا لهم ما كنت أصنع، وأجروا عليهم ما كنت أجري، فاكفوهم مئونة الطلب، فإن الرجل إذا طلب الحاجة اضطربت أركانه وارتعدت فرائصه مخافة أن يرد، فو الله لرجل يتململ على فراشه يراكم موضعا لحاجة أعظم عليكم منة منكم عليه بما تعطونه.
أنبأنا الحسين بن محمد بن عبد الوهاب الْبَارِعُ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرِ بْنُ مَسْلَمَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٌ الْمُخَلِّصُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بن داود، قال: حدثنا الزبير بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبَانٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبُرْدٍ فَقَالَتْ: إِنِّي نَوَيْتُ أَنْ أُعْطِيَ هَذَا الثَّوْبَ أَكْرَمَ الْعَرَبِ، فَقَالَ: «أَعْطِيهِ هَذَا الْغُلامَ» : يَعْنِي سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، وَهُوَ وَاقِفٌ. ومات سعيد بن العاص فِي قصره بالعرصة على ثلاثة أميال من المدينة، ودفن بالبقيع، وأوصى إلى ابنه عمرو الأشدق وأمره أن يدفنه بالبقيع، وقَالَ: إن قليلا لي عند قومي فِي بري بهم أن يحملوني على رقابهم من العرصة إلى البقيع، ففعلوا، وأمر ابنه عمرا إذا دفنه أن يركب إلى معاوية فينعاه ويبيعه منزله بالعرصة، وكان منزلا قد أنحله سعيدا، وغرس فيه النخل وزرع وبنى فيه قصرا معجبا، وقَالَ لابنه: إن منزلي هذا ليس فِي العقد، إنما هو منزل برة، فبعه من معاوية/ واقض عني ديني ومواعيدي، ولا تقبل 121/ ب من معاوية قضاء ديني فتزودنيه إلى ربي.(5/297)
فلما دفنه عمرو ووقف الناس بالبقيع فعزوه، ثم ركب رواحله إلى معاوية، فقدم عليه فنعاه له، فاسترجع وتوجع لموته، ثم قَالَ: هل ترك من دين؟ قَالَ: نعم، قَالَ:
فكم؟ قال: ثلاثمائة ألف درهم، قَالَ: هي علي، قَالَ: قد أبى ذلك وأمرني أن أقضي عنه من أمواله، أبيع ما استباع منها، قَالَ: فاعرضني ما شئت، قَالَ: أنفسها وأحبها إلينا وإليه فِي حياته، منزله فِي العرصة، فقَالَ له معاوية: هيهات لا تبيعون هذا المنزل، انظر غيره، قَالَ: فما نصنع، نحب تعجيل قضاء دينه، قال: قد أخذته بثلاثمائة ألف درهم، قَالَ: اجعلها بالواقية- يريدون درهم فارس، الدرهم زنة مثقَالَ الذهب- قَالَ: قد فعلت، قَالَ: فاحملها إلى المدينة، قَالَ: قد فعلت، فحملها له، فقدم عمرو بن سعيد فجعلها فِي ديونه وحاسبهم بما بين الدراهم الواقية- وهي البعلية- وبين الدراهم الجوار- وهي تنقص فِي العشرة ثلاثة، كل سبعة بالبعلية عشرة بالجوار- حتى أتاه فتى من قريش فذكر حقا له فِي كراع أديم بعشرين ألف درهم على سعيد بن العاص بخط مولى لسعيد كان يقوم لسعيد على بعض نفقاته، وشهادة سعيد على نفسه بخط سعيد، فعرف خط المولى وخط أبيه وأنكر أن يكون للفتى- وهو صعلوك من قريش- هذا المال، فأرسل إلى مولى أبيه الصك فلما قرأه المولى بكى ثم قَالَ: نعم أعرف هذا الصك، وهو حق، دعاني مولاي فقَالَ لي وهذا الفتى عنده على بابه، معه هذه القطعة الأديم: اكتب، فكتبت بإملائه هذا الحق، فقَالَ عمرو للفتى: وما سبب مالك هذا؟
قَالَ: رأيته يمشي وحده فقمت مشيت حتى بلغ باب منزله، ثم وقفت، فقَالَ: هل من حاجة؟ فقلت: لا، إلا أني رأيتك تمشي وحدك فأحببت أن أصل جناحك، فقَالَ:
وصلتك رحم يا ابن أخي، ابغني قطعة أديم، فأتيت خرازا عند باب داره فأخذت منه 122/ أهذه القطعة، فدعا مولاه هذا فقَالَ: اكتب، فكتب عن أبيك هذا الكتاب وكتب فيه شهادته/ على نفسه ثم دفعه إلي وقَالَ: يا ابن أخي، ليس عندنا اليوم شيء، فخذ هذا الكتاب فإذا أتانا شيء فاتنا به إن شاء الله، فمات رحمه الله قبل أن يأتيه شيء. قال عمرو: لا جرم، لا تأخذها إلا وافية، فدفعها إليه.
وروى الزبير من طريق آخر: أن معاوية اشترى العرصة بألف ألف درهم، وكان دين سعيد ثلاثة آلاف درهم، فاشترى معاوية العرصة من ابن سعيد بألف ألف، والنخل بألف ألف، والمزارع بألف ألف.(5/298)
وتوفي سعيد فِي هذه السنة، وكان عمرو بن سعيد يدعي أن مروان بن الحكم جعل إليه ولاية العهد بعد عبد الملك، ثم نقض ذلك وجعله إلى عبد العزيز، فلما خرج عبد الملك إلى حرب مصعب غلق عمرو أبواب دمشق فأعطاه عبد الملك الأمان ثم غدر به فقتله.
389- شداد بن أوس بن ثابت بن المنذر بن حرام، أبو يعلى: [1]
وهو ابن أخي حسان بن ثابت. كانت له عبادة واجتهاد.
أَخْبَرَنَا أَبُو بكر بْنُ أَبِي طَاهِرٍ الْبَزَّارُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو محمد الجوهري، قال:
أخبرنا أبو عمر بْن حيوية، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن معروف، قال: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا فَرَحُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ أَسَدِ بْنِ وَدَاعَةَ، قَالَ:
كَانَ شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كَانَ كَأَنَّهُ حَبَّةٌ عَلَى مَقْلَى، فَيَقُولُ: اللَّهمّ إِنَّ النَّارَ أَسْهَرَتْنِي، ثُمَّ يَقُومُ إِلَى الصَّلاةِ.
تحول شداد إلى فلسطين فنزل ومات بها فِي هذه السنة وهو ابن خمس وسبعين سنة.
390- عَبْد الرَّحْمَنِ بن أبي بكر الصديق، يكنى أبا عَبْد اللَّهِ [2] :
أمه أم رومان بنت عامر، وهو أخو عائشة لأبويها وكان أسن أولاد أبي بكر، لم يزل على دين قومه وشهد بدرا مع المشركين ودعا إلى المبارزة فقام أبو بكر الصديق ليبارزه، فقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «متعنا بنفسك» ، ثم أسلم عَبْد الرَّحْمَنِ فِي هدنة الحديبية، وهو الّذي قال لمروان لما دعي إلى بيعة يزيد: إنما يريدون أن يجعلوها كسروية أو هرقلية، فقَالَ مروان: أيها الناس، هذا الَّذِي قَالَ لِوالِدَيْهِ/ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ 46: 17 [3] ، 122/ ب فصاحت به عائشة: ألعَبْد الرَّحْمَنِ يقول هذا، كذبت والله ما هو به، ولو شئت أن أسمي الرجل الذي أنزل فيه لسميته، ولكني أشهد أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن أباك وأنت فِي صلبه.
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 124.
[2] البداية والنهاية 8/ 95.
[3] سورة الأحقاف، الآية: 17.(5/299)
وهاجر إلى المدينة، وأطعم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخيبر أربعين وسقا، وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكان عَبْد الرَّحْمَنِ يتجر فِي الجاهلية إلى الشام بماله ومال قريش فرأى ليلى بنت الجودي فهويها، فلما فتح خالد الشام زمن عمر صارت إليه فازداد بها شغفا.
أنبأنا الحسين بن محمد بن عبد الوهاب البارع، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو جعفر بْن المسلمة، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو طاهر المخلص، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الزُّبَير بْن بكار، قَالَ: حدثني محمد بْن الضَّحَّاكِ الْحَرَّانِيُّ، عَنْ أَبِيهِ:
أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَدِمَ الشَّامَ فِي تِجَارَةٍ، فَرَأَى هُنَاكَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا ابْنَةُ الْجُودِيِّ عَلَى طَنْفَسَةٍ لَهَا وَلائِدُ، فَأَعْجَبَتْهُ فَقَالَ لَهَا:
أَتَذكر لَيْلَى وَالسَّمَاوَةُ دُونَهَا ... وَمَا لابْنَةِ الجودي ليلى وما ليا
وَأَنَّى تَعَاطَى قَلْبَهُ حَارِثِيَّةٌ ... تَؤُمَّنَّ بُصْرَى [1] أَوْ يَحِلُ الْجَوابِيَا
وَأَنِّي بِلاقِيهَا بَلَى وَلَعَلَّهَا ... إِنِ النَّاسُ حَجُّوا قَابِلا أَنْ تُلاقِيَا [2]
فَلَمَّا بَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ جَيْشَهُ إِلَى الشَّامِ قَالَ لِصَاحِبِ الْجَيْشِ: إِنْ ظَفَرْتَ بِلَيْلَى بِنْتِ الْجُودِيِّ عَنْوَةً فَادْفَعْهَا إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، فَظَفَرَ بِهَا فَدَفَعَهَا إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَأُعْجِبَ بِهَا وَآثَرَهَا عَلَى نِسَائِهِ حَتَّى شَكَوْنَهُ إِلَى عَائِشَةَ، فَعَاتَبَتْهُ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ كَأَنِّي أَرْشِفُ بِأَنْيَابِهَا حَبَّ الرُّمَّانِ، فَأَصَابَهَا وَجَعٌ سَقَطَ لَهُ فُوهَا فَجَفَاهَا حَتَّى شَكَتْهُ إِلَى عائشة، فقالت له عائشة: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، لَقَدْ أَحْبَبْتَ لَيْلَى فَأَفْرَطْتَ وَأَبْغَضْتَهَا فَأَفْرَطْتَ، فَإِمَّا أَنْ تُنْصِفَهَا وَإِمَّا أَنْ تجهزها إلى أهلها.
123/ أقال الزُّبَيْرُ: وحَدَّثَنِي عَبْد اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ عَبْد الرَّحْمَنِ/ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ:
أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ نَفَّلَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ لَيْلَى بِنْتَ الْجُودِي حِينَ فَتَحَ دِمَشْقَ، وَكَانَتِ ابنة ملك دمشق.
__________
[1] في الأصل: «بأطلال بصرى» .
[2] في البداية: «إن توافيا» .(5/300)
ومما يروى لعبد الرحمن فِي ليلى بنت الجودي هذا:
يا ابنة الجودي قلبي [كئيب] [1] ... مستهام عندها ما يؤوب
جاورت أخوالها حي عك ... فلعلك من فؤادي نصيب [2]
ولقد لاموا فقلت ذروني ... إن من يلحون فيها الحبيب
غصن بان ما خلا الخصر منها ... ثم ما أسفل ذاك كثيب
قالت عائشة: كنت أعاتبه فِي كثرة محبته لها، ثم صرت أعاتبه فِي إساءته إليها، حتى ردها إلى أهلها.
قَالَ مُحَمَّد بْنُ سَعْدٍ: أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ لاحِقٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ:
مَاتَ عبد الرحمن بالحبشي فَحُمِلَ حَتَّى دُفِنَ بِمَكَّةَ، فَقَدِمَتْ عَائِشَةُ مِنَ الْمَدِينَةِ فَأَتَتْ قَبْرَهُ فَوَقَفَتْ عَلَيْهِ فَتَمَثَّلَتْ بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ:
وَكُنَّا كَنَدْمَانَيْ جَذِيمَةَ حِقْبَة [3] ... مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى قِيلَ لَنْ يَتَصَدَّعَا
فَلَمَّا تَفَرَّقْنَا كَأَنِّي وَمَالِكًا ... لِطُولِ اجْتِمَاعٍ لَمْ نَبِتْ لَيْلَةً مَعًا
ثُمَّ قَالَتْ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شَهِدْتُكَ مَا زُرْتُ قَبْرَكَ، وَلَوْ شَهِدْتُكَ مَا حَمَلْتُ مِنْ حَبَشِي مَيِّتًا وَلَدُفِنْتُ مَكَانَكَ.
[قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: وَأَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ] [4] بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ تُوُفِّيَ فِي مَنْزِلٍ لَهُ فَحَمَلْنَاهُ عَلَى رِقَابِنَا سِتَّةَ أَمْيَالٍ إِلَى مَكَّةَ، وَعَائِشَةُ غَائِبَةٌ، فَقَدِمَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَتْ: أروني قبر أخي، فصلت عَلَيْهِ.
[قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: وَأَخْبَرَنَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: تُوُفِّيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فِي نَوْمَةٍ نَامَهَا فَأَعْيَتْ عَنْهُ عَائِشَةُ زَمَانًا.
الحبشي موضع] [5] .
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من ت.
[2] كذا بالأصل، والشطر الثاني غير مستقيم الوزن.
[3] في البداية: «برهة» .
[4] ما بين المعقوفتين: من ت، وفي الأصل: «قال ابن أبي مليكة» .
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(5/301)
وفِي هذه السنة توفي عَبْد الرَّحْمَنِ على ما ذكره البخاري.
وقَالَ ابن سعد: سنة ثلاث وخمسين.
391- عبيد اللَّه بْن الْعَبَّاس بْن عَبْد المطلب بن هاشم، أبو مُحَمَّد الهاشمي: [1]
أمه أم الفضل، رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو غلام أصغر سنا من عَبْد اللَّهِ بسنة، وكان سخيا جوادا، كثير الإطعام للناس.
123/ ب أَنْبَأَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَارِعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو/ جعفر بْن المسلمة، قال:
أخبرنا أبو طَاهِرٍ الْمُخَلِّصُ، قَالَ: وَأَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بن داود، قال: أخبرنا الزبير بن بكار، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْجُمَحِيُّ، عن أبيه، قال:
دخل أعرابي دار العباس بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَفِي جَانِبِهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ يُفْتِي، لا يَرْجِعُ فِي شَيْءٍ يسأل عنه، وفي الجانب الآخر عبيد الله بْنُ الْعَبَّاسِ يُطْعِمُ كُلَّ مَنْ دَخَلَ، فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: مَنْ أَرَادَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ فَعَلَيْهِ بِدَارِ الْعَبَّاسِ، هَذَا الْفَتَى يُفْتِي وَيُفَقِّهُ النَّاسَ، وَهَذَا يُطْعِمُ الطَّعَامَ.
استعمل علي بن أبي طالب عبيد الله على اليمن، وأمره بالحج فحج بالناس سنة ست وثلاثين، ومات بالمدينة فِي هذه السنة. وقيل: بل مات باليمن.
392- عميرة بن يثربي: [2]
قاضي الكوفة. توفي فِي هذه السنة.
393- عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها وعن أبيها: [3]
كانت مسماة لجبير بن مطعم، فلما خطبها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استلها أبو بكر منهم فَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شوال سنة عشر من النبوة، وهي بنت ست سنين، ودخل بها بالمدينة وهي بنت تسع.
__________
[1] البداية والنهاية 8/ 97.
[2] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 108.
[3] طبقات ابن سعد 8/ 39.(5/302)
قَالَتْ: وَكُنْتُ أَلْعَبُ مَعَ الْجَوَارِي، فَمَا عَلِمْتُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَنِي حَتَّى أَخَذَتْنِي أُمِّي فَحَبَسَتْنِي فِي الْبَيْتِ عَنِ الْخُرُوجِ، فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنِّي تَزَوَّجْتُ، فَمَا سَأَلْتُهَا حَتَّى كَانَتْ هِيَ الَّتِي أَخْبَرَتْنِي. وَرَأَتْ عَائِشَةُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ، قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرَأَ عَلَيْكِ السَّلامَ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ الْكَرُوخِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عامر الأزدي وأبو بكر العوزجي، قَالا: أَخْبَرَنَا الْجَرَّاحِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْمَحْبُوبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا التِّرْمِذِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ الرَّبِيعِ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ سَلَمَةَ الْمَخْزُومِيُّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ:
مَا أَشْكَلَ عَلَيْنَا أصحاب رسول الله صلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا قَطُّ فَسَأَلْنَا عَائِشَةَ إِلا وَجَدْنَا عِنْدَهَا مِنْهُ عِلْمًا.
أَخْبَرَنَا/ ابن ناصر، قَالَ: أَخْبَرَنَا حَمَدُ بْنُ أَحْمَدَ [1] ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم 124/ أالأصفهاني [2] ، قَالَ: حَدَّثَنَا الحسن بن غيلان الورق، قَالَ: حَدَّثَنَا جعفر الفريابي، قَالَ: حَدَّثَنَا منجاب بن الحارث، قَالَ: حَدَّثَنَا علي بن مُسْهِر، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قال:
ما رأيت أحدا من الناس أعلم بالقرآن ولا بفريضة ولا بحلال ولا بحرام ولا بشعر ولا بحديث العرب ولا بنسيب من عائشة رضي الله عنها.
توفيت عائشة ليلة سبع عشرة من رمضان هذه السنة، وأوصت إلى عَبْد اللَّهِ بن الزبير، وصلى عليها أبو هريرة بعد الوتر، ودفنت بالبقيع وهي بنت ست وستين سنة، ولم يكن بالبقيع قبر مطابق بالحجارة غير قبر الحسن بن علي وقبرها.
__________
[1] في الأصل: «أحمد بن أحمد» .
[2] في أ: «أحمد بن عبيد الله الأصبهاني» .(5/303)
ثم دخلت سنة تسع وخمسين
فمن الحوادث فيها:
مشتى عمرو بن مرة الجهني بأرض الروم.
قَالَ الواقدي: ولم يكن عامئذ غزو فِي البحر.
وقَالَ غيره: غزا فِي البحر جنادة بن أمية.
وفيها عزل معاوية عَبْد الرَّحْمَنِ ابن أم الحكم عن الكوفة وولى عَبْد الرَّحْمَنِ بن زياد بن سمية خراسان [1]
وذلك أن عَبْد الرَّحْمَنِ قدم وافدا على معاوية، فقَالَ: يا أمير المؤمنين، أما لنا حق؟ قَالَ: بلى، قَالَ: فماذا توليني؟ قَالَ معاوية: النعمان بن بشير بالكوفة، وهو رجل من أصحاب رسول الله صلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعبيد الله بن زياد على البصرة وخراسان، وعباد بن زياد على سجستان، ولست أرى عملا يشبهك إلا أن أشركك فِي عمل أخيك عبيد الله بن زياد، قَالَ: أشركني فإن عمله واسع يحتمل الشركة، فولاه خراسان.
روى أبو حفص الأزدي، قَالَ: حَدَّثَنِي عمي، قَالَ: قدم علينا قيس بن الهثيم السلمي، وقد وجهه عَبْد الرَّحْمَنِ بن زياد، فأخذ أسلم بن زرعة الكلابي فحبسه، ثم قدم عَبْد الرحمن، فأغرم أسلم بن زرعة ثلاثمائة ألف درهم.
قَالَ علماء السير: أقام عَبْد الرحمن بخراسان سنتين، ثم قدم على 124/ ب يزيد بن/ معاوية بعد قتل الحسين، واستخلف على خراسان قيس بن الهثيم. فقال
__________
[1] تاريخ الطبري 5/ 315.(5/304)
يزيد لعبد الرحمن [1] : كم قدمت به معك من المال؟ قَالَ: عشرون ألف ألف درهم، قَالَ: إن شئت حاسبناك وقبضناها منك، ورددناك على عملك، وإن شئت سوغناك وعزلناك، وتعطي عبد الله بن جعفر خمسمائة ألف درهم، قَالَ: بل تسوغني ما قلت، وتستعمل عليها غيري. ثم بعث إلى ابن جعفر ألف ألف درهم، وقال: خمسمائة ألف من قبل أمير المؤمنين، وخمسمائة ألف درهم من قبلي.
وفِي هذه السنة وفد عبيد الله بن زياد على معاوية فِي أشراف أهل البصرة فعزله عنها ثم رده عليها وجدد له الولاية [2]
وسبب ذلك أن عبيد الله بن زياد وفد فِي أهل العراق على معاوية، فقَالَ له: ائذن لوفدك على منازلهم وشرفهم، فأذن لهم، ودخل الأحنف فِي آخرهم، وكان سيئ المنزلة من عبيد الله، فلما نظر معاوية رحب [3] به وأجلسه معه على سريره، ثم تكلم القوم فأحسنوا الثناء على عبيد الله، والأحنف ساكت، فقَالَ: ما لك يا أبا بحر لا تتكلم؟
قَالَ: إن تكلمت خالفت القوم، فقَالَ: انهضوا فقد عزلته عنكم فاطلبوا واليا ترضونه، ثم بعث إليهم معاوية بعد أيام، فقَالَ: من اخترتم؟ فاختلفت كلمتهم وسمى كل فريق منهم رجلا والأحنف ساكت، فقال له معاوية: ما لك لا تتكلم؟ قَالَ: إن وليت علينا من أهل بيتك لم نعدل بعبيد الله أحدا، وإن وليت علينا من غيرهم فانظر فِي ذلك، فقَالَ معاوية:
فإني قد أعدته عليكم، ثم وصاه بالأحنف وقبح رأيه فِي مباعدته. فلما هاجت الفتنة لم يف لعبيد الله غير الأحنف.
وفِي هذه السنة حج بالناس عثمان بن مُحَمَّد بن أبي سفيان وكان الوالي على المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وعلى البصرة عبيد الله بن زياد، وعلى قضائها هشام بن هبيرة، وعلى خراسان عَبْد الرَّحْمَنِ بن زياد/ وعلى سجستان عباد بن زياد، وعلى كرمان 125/ أشريك بن الأعور الحارثي من قبل عبيد الله بن زياد.
__________
[1] في الأصل: «فقال يزيد له» .
[2] تاريخ الطبري 5/ 316.
[3] في الأصل: «ترحب به» .(5/305)
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
394- أسامة بن زيد، أبو مُحَمَّد الحب ابن الحب: [1]
أمه أم أيمن واسمها بركة، حاضنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه حبا شديدا وقبض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأسامة ابن عشرين سنة.
أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي طَاهِرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن حيوية، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ مَعْرُوفٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَهْمِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: حدّثنا شريك بن الْعَبَّاسِ [2] بْنِ ذُرَيْحٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ. عَثِرَ أُسَامَةُ عَلَى عَتَبَةِ الْبَابِ فَشُجَّتْ جَبْهَتُهُ، فَقَالَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا عَائِشَةُ أَمِيطِي عَنْهُ الدَّمَ» . فَاسْتَقْذَرَتْهُ عَائِشَةُ. قَالَتْ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُصُّ شَجَّتَهُ وَيَمُجُّهُ وَيَقُولُ: «لَوْ كَانَ أُسَامَةُ جَارِيَةٌ لَكَسْوَتُهُ وَحَلَّيْتُهُ حَتَّى أُنَفِّقَهُ» . قَالَ ابْنُ سَعْدٍ [3] : وَأَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ أَخْبَرَنَا حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَّرَ الإِفَاضَةَ مِنْ عَرَفَةَ مِنْ أَجْلِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ يَنْتَظِرُهُ، فَجَاءَ غُلامٌ أَفْطَسُ أَسْوَدُ، فَقَالَ أَهْلُ الْيَمَنِ: إِنَّمَا حُبِسْنَا مِنْ أَجْلِ هَذَا. قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: [4] أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعُمَرِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ سَرِيَّةً فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَكَأَنَّ النَّاسَ طَعَنُوا فِيهِ- أَيْ فِي صِغَرِهِ- فَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، [فصعد المنبر] [5] فحمد
__________
[1] طبقات ابن سعد 4/ 1/ 42.
[2] في الأصل: «عن الياس» .
[3] طبقات ابن سعد 4/ 1/ 44.
[4] طبقات ابن سعد 4/ 1/ 46.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من ابن سعد.(5/306)
اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: «إِنَّ النَّاسَ قَدْ طَعَنُوا فِي إِمَارَةِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَقَدْ كَانُوا طَعَنُوا فِي إِمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ، وَإِنَّهُمَا لَخَلِيقَانِ لَهَا، أَوْ كَانَا خَلِيقَيْنِ لِذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ إِلا [فَاطِمَةَ] [1] ، فَأُوصِيكُمْ بِأُسَامَةَ خَيْرًا» /. قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: [2] وَأَخْبَرَنَا مَسْلَمَةُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ [3] ، قال: 125/ ب حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، قَالَ: بَلَغَتِ النَّخْلَةُ عَلَى عَهْدِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، قَالَ: فَعَمَدَ أُسَامَةُ إِلَى نَخْلَةٍ فَنَقَرَهَا وَأَخْرَجَ جُمَّارَهَا فَأَطْعَمَهَا أُمَّهُ، فَقَالُوا لَهُ: مَا يَحْمِلُكَ عَلَى هَذَا وَأَنْتَ تَرَى النَّخْلَةَ قَدْ بَلَغَتْ أَلْفَ دِرْهَمٍ؟ قَالَ: إِنَّ أُمِّي سَأَلَتْنِيهِ وَلا تَسْأَلُنِي شَيْئًا أَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلا أَعْطَيْتُهَا.
سكن أسامة بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وادي القرى، ثم نزل المدينة فمات بالجرف، فحمل إلى المدينة.
395- جرول بن مالك بن جؤية بن مخزوم بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس [4] :
وهو الحطيئة، لقب بذلك لقصره وقربه من الأرض، ويكنى أبا مليكة. وهو جاهلي إسلامي، والظاهر أنه أسلم بعد موت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه لا ذكر له فِي الصحابة ولا فِي الوفود.
وكان خبيث اللسان كثير الهجاء، هجا أباه وأمه وعمه وخاله ونفسه، فقَالَ [لأمه] [5] :
تنحي فاقعدي مني بعيدا ... أراح الله منك العالمينا
أغربالا إذا استودعت سرا ... وكانونا لدى المتحدثينا
جزاك الله شرا من عجوز ... ولقّاك العقوق من البنينا
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من ابن سعد.
[2] طبقات ابن سعد 4/ 1/ 49.
[3] في الأصل: «فروة بن خالد» .
[4] خزانة البغدادي 1/ 409، وشرح الشواهد 163، والأغاني 2/ 157، وفوات الوفيات 1/ 99.
وجاء في بعض المراجع: «جرول بن أوس بن مالك» ، وفي البداية: «جرول بن مالك بن جرول بن مالك بن جؤية بن مخزوم بن مالك بن قطيعة بن عبد بن مليكة» .
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(5/307)
وقَالَ لأبيه وعمه وخاله:
لحاك الله ثم لحاك حقا ... أبا ولحاك من عم وخال
فنعم الشيخ أنت لدى المخازي ... وبئس الشيخ أنت لدى المعالي
وقَالَ لنفسه:
أبت شفتاي اليوم ألا تكلما ... بشر فما أدري لمن أنا قائله
أرى لي وجها شوه الله خلقه ... فقبح من وجه وقبح حامله
قَالَ أبو عبيدة معمر بن المثنى: قدم على أبي بكر الصديق رضي الله عنه فِي الردة الزبرقان، فساق صدقات عوف والأبناء، فلما كان ببعض الطريق رأى الحطيئة- وكان الحطيئة أسود اللسان وداخل الفم وملتقي الشفتين- وهو يتبختر فِي هدم له، أشعث أغبر، وقد كان بين الزبرقان وبين بني قريع مقارضة ومهاجاة، فأراد أن 126/ أيستظهر/ بالحطيئة عليهم، فقَالَ له: ويلك إنك بمضيعة وأراك شاعرا، فهل لك إلى خير مواساة؟ قَالَ: وددت، قَالَ: فالحق ببني سعد حتى آتيك فإنما أؤدي هذه الصدقة إلى أبي بكر ثم ألحق بك، قَالَ: عمن أسأل؟ قَالَ: أم مطلع الشمس ثم سل عن الزبرقان بن بدر ثم ائت أم سدرة فقل لها: يقول لك بعلك الزبرقان بن بدر أحسني إلى قومك، فإنها ستفعل.
ففعل الحطيئة ذلك، فلما رأته بنو قريع قالوا: داهية، وإنما يريد أن يستظهر به علينا، فأتاه نقيض بن شماس فقَالَ: يا أبا مليكة جئت من بلادك ولا أرى فِي يدك شيئا، هل لك إلى خصلة هي خير لك مما أنت فيه، قَالَ: ما هي؟ قَالَ: مائة بعير وتتحول إلينا ونحن ضامنون لأهلك من عيالك أن يدبروا من حالك أن تخلفه، فتحول إليهم فقدم الزبرقان، فقَالَ: أين جاري؟ قالت امرأته: خبث عليك، ثم أخذ يهجو الزبرقان بن بدر، فقَالَ فِي أبيات:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
فاستعدى عليه عمر فقَالَ له: ما أراه هجاك، أما ترضى أن تكون طاعما كاسيا؟
قَالَ:
كيف تراني كيسا مكيسا أبيت بعد نافع مخيسا.(5/308)
قَالَ: إنه لا يكون فِي الهجاء أشد من هذا، فبعث عمر إلى حسان بن ثابت فسأله فقَالَ: ما هجاه ولكن سلح عليه فحبسه [فِي قعر بئر] [1] ولم تكن السجون مبنية، وأول من بناها علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بنى بالكوفة سجنا سماه مخيسا، فقَالَ عمر للحطيئة: يا خبيث لأشغلنك عن أعراض المسلمين فقَالَ:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ ... [زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم فِي قعر مظلمة ... فارفق عليك سلام الله يا عمر] [2]
الأبيات.
فرق له عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وأطلقه وأخذ عليه أن لا يهجو مسلما.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، ومحمد بن ناصر، قالا: أَخْبَرَنَا المبارك بْن عَبْد الجبار، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الجوهري، قال: أخبرنا أبو عمر بْن حيويه، قَالَ: أخبرنا أبو بكر بن الأنباري، قال: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى النَّحْوِيُّ، وَأَبُو عِمْرَانَ مُوسَى بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَيَّاطُ، / قَالا: حدّثنا الزبير بن بكار، 126/ ب قال: حدثني محمد بن الضحاك بن عثمان الْحِزَامِيُّ، عَنْ عَبْد اللَّه بْن مُصْعَبٍ، عَنْ جَدِّي، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِإِخْرَاجِ الْحُطَيْئَةِ مِنَ الْحَبْسِ وَقَدْ كلمه فيه عمرو بن العاص، وغيره، فأخرج وَأَنَا حَاضِرٌ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
مَاذَا تَقُولُ لأَفْرَاخٍ بذي مرخ ... زغب الحواصل لا ماء ولا شَجَرٌ
غَادَرْتُ كَاسِبَهُمْ فِي قَعْرِ مَظْلَمَةٍ [3] ... فَارْحَمْ هَدَاكَ مَلِيكُ النَّاسِ يَا عُمَرُ
أَنْتَ الإِمَامُ الَّذِي مِنْ بَعْدِ صَاحِبِهِ ... أَلْقَى إِلَيْكَ مَقَالِيدَ النهى البشر
لم يؤثروك بِهَا إِذْ قَدَّمُوكَ لَهَا ... لَكِنَّ لأَنْفُسِهِمْ كَانَتْ بِكَ الأَثَرُ
فَامْنُنْ عَلَى صِبْيَةٍ بِالرَّمْلِ مَسْكَنُهُمْ ... بَيْنَ الأَبَاطِحِ يَغْشَاهُمْ بِهَا الْقَدَرُ
نَفْسِي فِدَاؤُكَ كَمْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ ... مِنْ عَرْضِ دَاوِيَةٍ تَعْمَى بها الخبر
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من أ.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من أ.
[3] في أ: «في قبر مظلمة» .(5/309)
قَالَ: فَلَمَّا قَالَ الْحُطَيْئَةُ: مَاذَا تَقُولُ لأَفْرَاخٍ، بَكَى عُمَرُ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: مَا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ وَلا أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ أَعْدَلَ مِنْ رَجُلٍ يَبْكِي عَلَى تَرْكِهِ الْحُطَيْئَةَ. قَالَ عُمَرُ: أَشِيرُوا عَلَيَّ فِي الشَّاعِرِ فَإِنَّهُ يَقُولُ الْهَجْوَ وَيُشَبِّبُ بِالْحَرَمِ وَيَمْدَحُ النَّاسَ وَيَذُمُّهُمْ بِمَا لَيْسَ فِيهِمْ، مَا أَرَانِي إِلا قَاطِعًا لِسَانَهُ عَلَيَّ بِكُرْسِيٍّ، فَجَلَسَ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: عَلَيَّ بِالْمِخْصَفِ عَلَيَّ بِالسِّكِّينِ لا بَلْ عَلَيَّ بالْمُوسَى فَإِنَّهُ أَوْجَى، فَقَالُوا: لا يَعُودُ يِا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَشَارُوا إِلَيْهِ قُلْ لا أَعُودُ، فَقَالَ: لا أَعُودُ، فَقَالَ: النَّجَا، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ: ارْجِعْ يَا حُطَيْئَةُ، فَرَجَعَ، فَقَالَ لَهُ: كَأَنِّي بِكَ عِنْدَ شَابٍّ مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ كَسَرَ لَكَ نِمْرِقَةً وَبَسَطَ لَكَ أُخْرَى، [وَقَالَ: يَا حُطَيْئَةُ غَنِّنَا] [1] فَانْدَفَعْتَ تُغَنِّيهِ بِأَعْرَاضِ النَّاسِ، قَالَ أَسْلَمُ: فَرَأَيْتُ الْحُطَيْئَةُ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَدْ كَسَرَ لَهُ نِمْرِقَةً وَبَسَطَ لَهُ أُخْرَى وَقَالَ: يَا حُطَيْئَةُ غَنِّنَا، فَانْدَفَعَ يُغَنِّيهِ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا حُطَيْئَةُ أَتَذكر يَوْمَ عُمَرَ حِينَ قَالَ لَكَ مَا قَالَ، فَفَزَعَ وقال: رحم 127/ أالله ذَلِكَ الْمَرْءَ لَوْ كَانَ حَيًّا مَا فَعَلْنَا هَذَا، فَقُلْتُ لِعُبَيْدِ اللَّهِ: إِنِّي سَمِعْتُ/ أَبَاكَ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا، وَكُنْتَ أَنْتَ ذَلِكَ الرَّجُلَ.
وَبِالإِسْنَادِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الضَّحَّاكِ، عَنْ أَبِيهِ قال: أمر عمر بن الخطاب بإخراج الحطيئة مِنَ السِّجْنِ فَأُخْرِجَ، فَقَالَ لَهُ: دَعْ قَوْلَ الشِّعْرِ. فَقَالَ لا أَسْتَطِيعُ. قَالَ: لِمَ؟ قَالَ هُوَ مَأْكَلَةُ عِيَالِي، وَنَمْلَةٌ عَلَى لِسَانِي. قَالَ: فَدَعِ الْمِدْحَةَ الْمُجْحِفَةَ. قَالَ وَمَا الْمِدْحَةُ الْمُجْحِفَةُ؟ قَالَ: لا تَقُولُ بَنُو فُلانٍ [2] أَفْضَلُ مِنْ بَنِي فُلانٍ، امْدَحْ وَلا تُفَضِّلْ. قَالَ: أَنْتَ أَشْعَرُ مِنِّي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ ابْنُ الأَنْبَارِيِّ: ضَرَبَ النَّمْلَةَ مَثَلا لِمَا يَتَرَدَّدُ مِنَ قَوْلِ الشَّعْرِ فِي قَلْبِهِ، وَيُطَالِبُ بِهِ لِسَانُهُ.
وَمِنْ مَدَائِحِهِ قَوْلُهُ:
أَقِلُّوا عَلَيْهِمْ لا أَبًا لأَبِيكُمْ ... مِنَ اللَّوْمِ أَوْ سُدُّوا الْمَكَانَ الَّذِي سَدُّوا
أُولَئِكَ قَوْمٌ إِنْ بَنَوْا أَحْسَنُوا الْبُنَا ... وَإِنْ عَاهَدُوا أَوْفَوْا وَإِنْ عَقَدُوا شَدُّوا
وَإِنْ كَانَتِ النَّعْمَاءُ فِيهِمْ جَزَوْا بِهَا [3] ... وَإِنْ أَنْعَمُوا لا كدّروها ولا كدّوا
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من أ.
[2] في الأصل: بني فلان» .
[3] في الأصل: «جدوا بها» .(5/310)
وَلَمَّا احْتَضَرَ الْحُطَيْئَةُ قِيلَ لَهُ: أَوْصِ. فَقَالَ الْمَالُ لِلذُّكْرَانِ دُونَ الإِنَاثِ. فَقِيلَ لَهُ:
أَوْصِ. فقال أوصيكم بالشعر، ثم قَالَ:
الشِّعْرُ صَعْبٌ وَطَوِيلٌ سُلَّمُهُ ... إِذَا ارْتَقَى فيه الّذي لا يعمله
زَلَّتْ بِهِ إِلَى الْحَضِيضِ قَدَمُهُ ... وَالشِّعْرُ لا يَسْطِيعُهُ مَنْ يَظْلِمُهُ
أَرَادَ [1] أَنْ يُعْرِبَهُ فَيُعْجِمَهُ
396- عَبْد اللَّهِ بن عامر بن كريز بن ربيعة بن خبيب بن عبد شمس بن عبد مناف [2] :
أمه دجاجة بنت أسماء بن الصلت بن خبيب. وله أحد عشر ذكرا وأربع نسوة.
ولد بمكة بعد الهجرة بأربع سنين، فلما قدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة فِي عمرة القضاء حمل إليه وهو ابن ثلاث سنين فحنكه، فتلمظ فتثاءب، فتفل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فيه.
وكان ابن خال عُثْمَان بْن عَفَّانَ، ولم يزل شريف القدر، كريما سخيا، فلما ولي عثمان الخلافة ولاه البصرة بعد أن أقر أبا مُوسَى أربع سنين كما أوصى عمر، ثم عزله وولاه، وكان يوم ولاه ابن خمس وعشرين سنة/ فقَالَ أبو موسى: قد أتاكم فتى من 127/ ب قريش، كريم الأمهات والعمات والخالات، يقول بالمال فيكم هكذا وهكذا.
ففتح بلادا كثيرة من خراسان، وقتل يزدجرد فِي ولايته، فأحرم من نيسابور شكرا للَّه تعالى، وعمل السقايات بعرفة، فلما قتل عثمان لحق بالشام، فولاه معاوية البصرة ثلاث سنين، وزوجه ابنته هندا.
أَنْبَأَنَا [3] الْحُسَيْنُ مُحَمَّدٌ الْبَارِعُ قَالَ: أَنْبَأَنَا [4] أَبُو جَعْفَرِ بن المسلمة قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو طاهر المخلص قَالَ: أَخْبَرَنَا أحمد بن سليمان بْنُ دَاوِدَ الطُّوسِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ بكار قال: حدّثني عمي بن عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ بَعْضِ الْقُرَشِيِّينَ قَالَ: كَانَتْ هِنْدُ بِنْتُ مُعَاوِيَةَ أَبَرَّ شَيْءٍ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ، وَأَنَّهَا جَاءَتْهُ يَوْمًا بِالْمِرْآةِ وَالْمُشْطِ- وكانت تتولى خدمته
__________
[1] في الأصل: «يريد» .
[2] طبقات ابن سعد 5/ 1/ 30.
[3] في ت: «أخبرنا» .
[4] في ت: «أخبرنا» .(5/311)
بِنَفْسِهَا- فَنَظَرَ فِي الْمِرْآةِ، فَالْتَقَى وَجْهُهُ وَوَجْهُهَا فِي الْمِرْآةِ، فَرَأَى شَبَابَهَا وَجَمَالَهَا، وَرَأَى الشَّيْبَ فِي لِحْيَتِهِ قَدْ أَلْحَقَهُ بِالشُّيُوخِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهَا، فَقَالَ: الْحَقِي بِأَبِيكِ. فَانْطَلَقَتْ حَتَّى دَخَلَتْ عَلَى أَبِيهَا فَأَخْبَرَتْهُ، فَقَالَ: وَهَلْ تُطَلَّقُ الْحُرَّةُ. قَالَتْ: مَا أُوتِيَ مِنْ قِبَلِي، وَأَخْبَرَتْهُ خَبَرَهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَقَالَ: أَكْرَمْتُكَ بِابْنَتِي ثُمَّ رَدَدَتْهَا عَلَيَّ. قَالَ: إِنِّي أُخْبِرُكَ عَنْ ذَلِكَ، إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَنَّ عَلَيَّ بِفَضْلِهِ، وَجَعَلَنِي كَرِيمًا لا أُحِبُّ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيَّ أَحَدٌ، وَإِنَّ ابْنَتَكَ أَعْجَزَتْنِي مُكَافَأَتُهَا لِحُسْنِ صُحْبَتِهَا، فَنَظَرْتُ فِإِذَا أَنَا شَيْخٌ وَهِيَ شَابَّةٌ، لا أَزِيدُهَا مَالا إِلَى مَالِهَا، وَلا شَرَفًا إِلَى شَرَفِهَا، فَرَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّهَا إِلَيْكَ، فَتُزَوِّجَهَا فَتًى مِنْ فِتْيَانِكَ كَأَنَّ وَجْهَهُ وَرَقَةُ مُصْحَفٍ.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا الحسين بن أَحْمَد بن مُحَمَّد الثعالبي قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو سهل محمود بن عمر العُكْبري قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو الحسن علي بن الفرج بن أبي روح قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو بكر عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد القرشي قَالَ: حَدَّثَنِي محمد بن عباد بن مُوسَى العكلي قَالَ: حَدَّثَنَا الحسن بن علي بن زبان قَالَ: حَدَّثَنِي سفيان بن عبدة الحميري وعبيد بن يَحْيَى الهجري قَالا: خرج إلى عَبْد اللَّهِ بن عامر بن 128/ أكرز وهو عامل العراق لعُثْمَان بْن عَفَّانَ [1] / رجلان من أهل المدينة، أحدهما: ابن جابر بن عَبْد اللَّهِ الأنصاري، والآخر: من ثقيف، فكتب إلى ابن عامر فيما يكتب من الأخبار، فأقبلا يسيران حتى إذا كانا بناحية البصرة قَالَ الأنصاري للثقفي: هل لك فِي رأي رأيته: قَالَ: اعرضه. قَالَ: رأيت أن أنخ رواحلنا [2] ونتناول مطاهرنا، فنمس ماء، ثم نصلي ركعتين ونحمد الله على ما قضى من سفرنا. قَالَ: هذا الذي لا يرد، فتوضيا، ثم صليا ركعتين، فالتفت الأنصاري إلى الثقفِي فقَالَ: يا أخا ثقيف، ما رأيك؟ قال:
وأي موضع رأي هذا، قضيت سفري، وأنضيت بدني، وأنضيت راحلتي [3] ، ولا مؤمل دون ابن عامر، فهل لك رأي غير هذا؟ قَالَ: نعم، إني لما صليت هاتين الركعتين فكرت فاستحييت من ربي تبارك وتعالى أن يراني طالبا رزقا من غيره، اللَّهمّ ارزق ابن عامر وارزقني من فضلك. ثم ولى راجعا إلى المدينة، ودخل الثقفي البصرة، فمكث
__________
[1] في ت: «عثمان» بإسقاط ابن عفان.
[2] في ت: «أن ننخ رواحلنا» .
[3] في الأصل: «انضتني راحلتي» .(5/312)
أياما، فأذن له ابن عامر، فلما رآه رحب به، ثم قَالَ: ألم أخبر أن ابن جابر خرج معك؟
فخبره خبره، فبكى ابن عامر ثم قَالَ: أما والله ما قَالَ أشرا [1] ولا بطرا، ولكن رأى مجرى الرزق ومخرج النعمة، فعلم أن الله تعالى هو الذي فعل ذلك، فسأله من فضله، وأمر للثقفِي بأربعة آلاف درهم وكسوة ومطرف، وأضعف ذلك كله الأنصاري، فخرج الثقفِي وهو يقول:
أميمة [2] ما حرص الحريص بزائد ... فتيلا ولا زهد الضعيف بضائر
خرجنا جميعا من مساقط رأسنا ... على ثقة منا بخير ابن عامر
ولما أنخنا الناعجات ببابه تأخر ... عني اليثربي ابن جابر
وقَالَ سيكفيني عطية قادر ... على ما يشاء اليوم بالخلق قاهر
وإن الذي أعطى العراق ابن عامر ... لربي الذي أرجو لسد مفاقري
فلما سرى سارت عليه صبابة ... إليه كما حنت ظراب الأباعر
وأضعف عَبْد اللَّهِ إذ غاب حظه ... على حظ لهفان من الحرص فاغر
/ فأبت وقد أيقنت أن ليس نافعي ... ولا ضائري شيء خلاف المقادر
128/ ب [قال المصنف:] [3] قرأت على أبي القاسم الجريري، عن أبي طالب العشاري قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو بكر البرقاني قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُزَكِّي قَالَ: أَخْبَرَنَا محمد بْن إسحاق الثقفي قَالَ: حدثنا هارون بن عبد الله قال: حَدَّثَنَا سَيَّارٌ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ، عَنْ نَافِعٍ الطَّاحِيُّ قَالَ:
مَرَرْتُ بِأَبِي ذَرٍّ فَقَالَ لِي: مِمَّنْ أَنْتَ؟ [4] قُلْتُ: مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ. قَالَ: أَتَعْرِفُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ مَعِي وَيَلْزَمُنِي، ثُمَّ طَلَبَ الإِمَارَةَ، فَإِذَا قَدِمْتَ الْبَصْرَةَ فَتَرَاءَ لَهُ، فَإِنَّهُ سَيَقُولُ: لَكَ حَاجَةٌ؟ فَقُلْ: أَخْلِنِي وَقُلْ لَهُ: أَنَا رَسُولُ أَبِي ذَرٍّ إِلَيْكَ، وَهُوَ يُقْرِئُكَ السَّلامَ وَيَقُولُ لَكَ: إِنَّا نَأْكُلُ مِنَ التَّمْرِ، وَنَشْرَبُ من الماء،
__________
[1] في ت: «ما قالها أشرا» .
[2] في أ: «أمامة» .
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من أ.
[4] في الأصل: «مم أنت» .(5/313)
وَنَعِيشُ كَمَا تَعِيشُ. فَلَمَّا قَدِمْتُ تَرَاءَيْتُ لَهُ، فَقَالَ: لَكَ حَاجَةٌ؟ قُلْتُ: أَخْلِنِي أَصْلَحَكَ اللَّهُ. فَفَعَلَ، فَقُلْتُ: أَنَا رَسُولُ أَبِي ذَرٍّ إِلَيْكَ- فَلَمَّا قُلْتُهَا خَشَعَ قَلْبُهُ- وَهُوَ يَقْرَأَ عَلَيْكَ السَّلامُ وَيَقُولُ: إِنَّا نَأْكُلُ مِنَ التَّمْرِ، وَنُرْوَى مِنَ الْمَاءِ، وَنَعِيشُ كَمَا تَعِيشُ. قَالَ: فَحَلَّ إِزَارَهُ ثُمَّ أَدْخَلَ رَأْسَهُ فِي جَيْبِهِ ثُمَّ بَكَى حَتَّى مَلأَ جَيْبَهُ بِالْبُكَاءِ.
توفي ابن عامر فِي هذه السنة، فقَالَ معاوية: بمن نفاخر؟! بمن نباهي!؟
397- عَبْد اللَّهِ، أبو هريرة [1] :
وقد اختلفوا فِي اسمه ونسبه على ثمانية عشر قولا قد ذكرتها فِي «التلقيح» . وكان فِي صغره يلعب بهرة فكني بها [2] .
قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر فأسلم.
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي قَالَ: أخبرنا الجوهري قال: أخبرنا ابن حيوية قال: أخبرنا أحمد بن معروف قال: أخبرنا الحسين بن الفهم قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَضْرَمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ قَالَ:
حَدَّثَنِي أَبُو كَثِيرٍ الْعَبْدِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ قَالَ [3] :
وَاللَّهِ لا يَسْمَعُ بِي مُؤْمِنٌ وَلا مُؤْمِنَةٌ إِلا أَحَبَّنِي. قَالَ: قُلْتُ لَهُ: وَمَا يُعْلِمُكَ ذَلِكَ؟
قَالَ: فَقَالَ لِي: إِنِّي كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الإِسْلامِ فتأبى عليّ، فدعوتها ذات/ يوم إلى 129/ أالإسلام فَأَسْمَعَتْنِي فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَكْرَهَتْنِي، فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَبْكِي.
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَدْعُو أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَى الإِسْلامِ فَتَأْبَى عَلَيَّ، وَإِنِّي دَعَوْتُهَا الْيَوْمَ فَأَسْمَعَتْنِي فِيكَ مَا أَكْرَهُ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَى الإِسْلامِ. فَفَعَلَ، فَجِئْتُ فَإِذا الْبَابُ مُجَافٌ، وَسَمِعَتْ خَضْخَضَةَ الْمَاءِ، فَلَبِسَتْ دِرْعَهَا، وَعَجَّلَتْ عَنْ خِمَارِهَا، ثُمَّ قَالَتْ: ادْخُلْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ فَدَخَلْتُ فَقَالَتْ: أَنَا أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. فَجِئْتُ أَسْعَى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ كَمَا بَكَيْتُ مِنَ الْحَزَنِ.
فَقُلْتُ: أَبْشِر يَا رَسُولَ اللَّهِ، [فَقَدْ أَجَابَ اللَّهُ دَعْوَتَكَ، قَدْ هَدَى اللَّهُ أُمَّ أَبِي هريرة إلى
__________
[1] طبقات ابن سعد 2/ 2/ 117، 4/ 2/ 52.
[2] في ت: «وكان له في صغره هر يلعب به» .
[3] الخبر في طبقات ابن سعد 4/ 2/ 54، 55.(5/314)
الإِسْلامِ، ثُمَّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ] [1] ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُحَبِّبَنِي وَأُمِّيَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [اللَّهمّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هَذَا وَأُمَّهُ إِلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ] [2]- أَوْ إِلَى كُلِّ مُؤْمِنَةٍ وَمُؤْمِنٍ- فَلَيْسَ يَسْمَعُ بِي مُؤْمِنٌ وَلا مُؤْمِنَةٌ إِلا أَحَبَّنِي. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: وَأَخْبَرَنِي الْمُعَلَّى بْنُ رَاشِدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يُسَبِّحُ كُلَّ يَوْمٍ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَلْفَ تَسْبِيحَةً، يَقُولُ: أُسَبِّحُ بِقَدْرِ ذَنْبِي.
قَالَ: وأخبرنا عارم بن الفضل قال: حدثنا حماد بْنُ زَيْدٍ، عَنِ الْعَبَّاسِ الْجَرِيرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ النَّهْدِيَّ قَالَ:
تَضَيَّفَ أَبَا هُرَيْرَةَ سَبْعًا، فَكَانُوا يَعْتَقِبُونَ اللَّيْلَ أَثْلاثًا ثُلُثًا هُوَ، وَثُلُثًا امْرَأَتُهُ، وَثُلُثًا خَادِمُهُ.
قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: [3] وَأَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ:
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ وَرْدٍ، عَنْ سَلْمِ بْنِ بَشِيرِ [4] بْنِ حَجْلٍ قَالَ:
بَكَى أَبُو هُرَيْرَةَ فِي مَرَضِهِ، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ [5] ؟ قَالَ: أَمَا إِنِّي مَا أَبْكِي عَلَى دُنْيَاكُمْ هَذِهِ، وَلَكِنِّي أَبْكِي لِبُعْدِ سَفَرِي، وَقِلَّةِ زَادِي، وَإِنِّي أَصْبَحْتُ فِي صُعُودٍ مَهْبَطُهُ عَلَى جَنَّةٍ وَنَارٍ، فَلا أَدْرِي أَيَّهُمَا يُسْلَكُ بِي.
قَالَ: [6] وقَالَ مُحَمَّد بن عمر: كان أبو هريرة [7] ينزل ذا الحليفة وله دار بالمدينة تصدق بها على مواليه، فباعوها بعد ذلك من عمر بن بزيع، وتوفي سنة تسع وخمسين 129/ ب فِي آخر خلافة/ معاوية وكان له يومئذ ثمان وسبعون سنة، وهو صلى على عائشة وأم سلمة.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من ابن سعد.
[3] الخبر في طبقات ابن سعد 4/ 2/ 62.
[4] في الأصل: «سلمة بن بشر» .
[5] «يا أبا هريرة» : ساقطة من ت.
[6] الخبر في طبقات ابن سعد 4/ 2/ 63.
[7] في الأصل: «أبو بكر» .(5/315)
398- عَبْد اللَّهِ بن بحينة، وبحينة أمه. وأبوه مالك [1] بن القشب، ويكنى أبا مُحَمَّد [2] :
صحب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قديما، وكان ناسكا فاضلا، يصوم الدهر، وتوفي فِي خلافة معاوية.
399- قيس بن سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة، أبو عبيد الله [3] :
دفعه أبوه إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليخدمه، فكان قريبا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان جوادا شجاعا، وحمل لواء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بعض مغازيه، وولاه علي بن أبي طالب على إمارة مصر، وحضر معه حرب الخوارج بالنهروان، ووقعة صفين، وكان مع الحسن بن علي على مقدمته بالمدائن، ثم لما صالح الحسن معاوية وبايعه دخل قيس فِي المصالحة، وتابع الجماعة ورجع إلى المدينة فتوفي بها.
أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْقَزَّازُ قَالَ: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي قال: أخبرنا محمد بن أَحْمَد بْن رزق قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَان بْن أَحْمَد قَالَ: حَدَّثَنَا حنبل بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو قَالَ:
كَانَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ رَجُلا ضَخْمًا جَسِيمًا صَغِيرَ الرَّأْسِ، وَكَانَ إِذَا رَكِبَ الْحِمَارَ حَطَّتْ رِجْلاهُ فِي الأَرْضِ.
أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو طَالِبٍ مُحَمَّدِ بْنِ غَيْلانَ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ قالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الأَنْصَارِيُّ وَخَارِجَةُ بْنُ الْحَارِثِ قَالُوا [4] :
بَعَثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة في سرية فيها المهاجرون والأنصار ثلاثمائة رَجُلٍ إِلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ إِلَى حَيٍّ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَأَصَابَهُمْ جُوعٌ شَدِيدٌ، فَقَالَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ: مَنْ يَشْتَرِي مِنِّي تَمْرًا بِجَزُورٍ، وَيُوَفِّينِي الْجَزُورَ هَا هُنَا، وَأُوَفِّيهِ التَّمْرَ بِالْمَدِينَةِ فَجَعَلَ عمر يقول: وا عجبا لِهَذَا الْغُلامِ، لا مَالَ لَهُ يَدِينُ فِي مَالِ غَيْرِهِ. فَوَجَد رَجُلا مِنْ جُهَيْنَةَ يُعْطِيهِ ما
__________
[1] في ت: «وأبوه عبد الله» .
[2] طبقات ابن سعد 4/ 2/ 64.
[3] طبقات ابن سعد 5/ 1/ 355.
[4] في الأصل: «قال» .(5/316)
سَأَلَ وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَعْرِفُكَ، فَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا قَيْسُ بْنُ سَعْدِ [1] / بْنِ عُبَادَةَ. قال 130/ أالجهنيّ: مَا أَعْرَفَنِي بِنَسَبِكَ، وَابْتَاعَ مِنْهُ خَمْسَ جَزَائِرَ، كُلَّ جَزُورٍ بِوَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ. ثُمَّ قَالَ: فَأَشْهِدْ لِي فَأَشْهَدَ لَهُ نَفَرًا مِنَ الأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرِينَ، فَكَانَ فِيمَنْ أُشْهِدَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. فَقَالَ عُمَرُ: لا أَشْهَدُ هَذَا بِدَيْنٍ وَلا مَالَ لَهُ، إِنَّمَا الْمَالُ لأَبِيهِ. فَقَالَ الْجُهَنِيُّ [2] : مَا كَانَ سَعْدٌ لِيُمَنِّي بِابْنِهِ فِي شِقَّةٍ مِنْ تَمْرٍ وَأَرَى وَجْهًا حَسَنًا، وَفِعْلا شَرِيفًا. فَكَانَ بَيْنَ عُمَرَ وَقَيْسٍ كَلامٌ حَتَّى أَغْلَظَ لِقَيْسٍ، وَأَخَذَ الْجُزُرَ فَنَحَرَهَا لَهُمْ فِي مَوَاطِنَ ثَلاثٍ كُلَّ يَوْمٍ جَزُورًا، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الرَّابِعُ نَهَاهُ أَمِيرُهُ فَقَالَ: أَتُرِيدُ أَنْ تَخْفِرَ ذِمَّتَكَ وَلا مَالَ لَكَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ سَهْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: أَقْبَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَمَعَهُ عُمَرُ، فَقَالَ: عَزَمْتُ عَلَيْكَ أَنْ لا تَتَّجِرَ، أَتُرِيدُ أَنْ تَخْفِرَ ذِمَّتَكَ فَقَالَ قَيْسٍ: يَا أَبَا عُبَيْدَةَ، أَتَرَى أَبَا ثَابِتٍ يَقْضِي دُيُونَ النَّاسِ، وَيَحْمِلُ الْكَلَّ، ويُطْعِمُ فِي الْمَجَاعَةِ، لا يَقْضِي عَنِّي شِقَّةً مِنْ تَمْرٍ لِقَوْمٍ مُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَلِينُ لَهُ، وَجَعَلَ يَقُولُ لَهُ: اعْزِمْ فَعَزَمَ عَلَيْهِ، وَأَبَى أَنْ يَنْحَرَ وَبَقِيَتْ جَزُورَانِ، فَقَدِمَ بِهَا قَيْسٌ الْمَدِينَةَ ظَهْرًا يَتَعَاقَبُونَ عَلَيْهَا، وَبَلَغَ سَعْدًا مَا أَصَابَ الْقَوْمَ مِنَ الْمَجَاعَةِ فَقَالَ: إِنْ يَكُنْ قَيْسٌ كَمَا أَعْرِفُ فَيَنْحَرُ لِلْقَوْمِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَيْسٌ لَقِيَهُ سَعْدٌ فَقَالَ: ما صنعت في القوم؟ قَالَ:
نَحَرْتُ. قَالَ: أَصَبْتَ، ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: نَحَرْتُ. قَالَ: أَصَبْتَ، ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: نَحَرْتُ.
قَالَ: أَصَبْتَ، ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: نُهِيتُ. قَالَ: مَنْ نَهَاكَ؟ قَالَ: أَبُو عُبَيْدَةَ أَمِيرِي. قَالَ:
وَلِمَ؟ قَالَ: زَعَمَ أَنَّهُ لا مَالَ لِي، وَإِنَّمَا الْمَالُ لَكَ [3] ، فَقُلْتُ: أَبِي يَقْضِي عَنِ الأباعد، ويحمل الكل، ويطعم في الْمَجَاعَةَ، فَلا يَصْنَعُ هَذَا بِي. قَالَ: فَلَكَ أَرْبَعُ حَوَائِطَ أَدْنَاهَا حَائِطٌ تَحْمِلُ خَمْسِينَ وَسْقًا.
قَالَ: وَقَدِمَ الْبَدَوِيُّ مَعَ قَيْسٍ فَأَوْفَاهُ وَسْقَهُ وَحَمَلَهُ وَكَسَاهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فِعْلِ قَيْسٍ، فَقَالَ: «إِنَّهُ فِي بَيْتِ جُودٍ» . قَالَ علماء السير: مرض قيس بن سعد واستبطأ إخوانه فِي العيادة، فقيل له: إنهم
__________
[1] «بن قيس» : ساقط من ت.
[2] في الأصل: «فقال سعد» .
[3] في الأصل: «الملك لك» .(5/317)
يستحيون مما لك عليهم من الدين. قَالَ: أخزى [الله] [1] مالا يمنع الإخوان من 130/ ب الزيارة، ثم أمر مناديا/ فنادى: من كان لقيس عليه حق فهو فِي حل. فكسرت درجته بالعشي من عيادته.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ الْقَزَّازِ قَالَ: أخبرنا أحمد بن عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عُثْمَانَ قَالَ: أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُصَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْرُوقٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الأَنْصَارِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ بَشِيرٍ [2] قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ:
بَاعَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ مِنْ مُعَاوِيَةَ مَالا بِتِسْعِينَ أَلْفًا، فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى فِي الْمَدِينَةِ: مَنْ أَرَادَ الْقَرْضَ فَلْيَأْتِ مَنْزِلَ قَيْسٍ. فَأَقْرَضَ أَرْبَعِينَ أَوْ خَمْسِينَ وَأَجَازَ الْبَاقِي، وَكَتَبَ عَلَى مَنْ أَقْرَضَهُ صَكًّا، فَمَرِضَ مَرَضًا قَلَّ عُوَّادُهُ، فَقَالَ لِزَوْجَتِهِ قَرِيبَةَ بِنْتِ أَبِي قُحَافَةَ أُخْتِ أَبِي بَكْرٍ: يَا قَرِيبَةُ، لِمَ تَرَيْنَ قَلَّ عُوَّادِي؟ قَالَتْ: لِلَّذِي عَلَيْهِمْ مِنَ الدَّيْنِ. فَأَرْسَلَ إِلَى كَلِّ رَجُلٍ صَكَّهُ.
وقَالَ عُرْوَةُ: قَالَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ: اللَّهمّ ارْزُقْنِي مَالا وَفِعَالا، فَإِنَّهُ لا يَصْلُحُ الْفِعَالُ إِلا بِالْمَالِ.
أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي قَالَ: أَخْبَرَنَا ابن بشران قَالَ:
حَدَّثَنَا ابْن صفوان قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن أبي الدنيا قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سعد قال: قال الهيثم ابن عدي:
توفي قيس بن سعد بن عبادة بالمدينة فِي آخر خلافة معاوية.
400- معقل بن يسار بن عَبْد اللَّهِ، أبو عَبْد اللَّهِ. وقيل: أبو علي، المزني:
[3] صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد الحديبية، ورفع أغصان الشجرة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم بايع أهلها، ولاه عمر البصرة، فحفر النهر المنسوب إليه: نهر معقل، وبنى بالبصرة دارا فنزلها.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «أحمد بن بشر» .
[3] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 8.(5/318)
وَأَخْبَرَنَا مَوْهُوبُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ التُّسْتَرِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الصَّلْتِ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ قَالَ: حَدَّثَنَا خَلادُ بْنُ أَسْلَمَ قَالَ:
حَدَّثَنَا النَّضْرُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْفٌ، عَنِ الْحَسَنِ قال: دخل عبيد الله بن زناد عَلَى مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ فِي مَرَضِهِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ، فَقَالَ: إِنِّي مُحَدِّثُكُ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«من استرعاه الله رعية فلم يحطها بنصيحة لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ/ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا يُوجَدُ من 131/ أمسيرة مِائَةِ عَامٍ» قَالَ ابْنُ زِيَادٍ: أَلا حَدَّثْتَنِي قَبْلَ الْيَوْمِ؟ قَالَ مَعْقِلٌ: وَالْيَوْمَ لَوْ لَمْ أَكُنْ عَلَى حَالِي هَذِهِ لَمْ أُحَدِّثْكَ بِهِ.
401- هند بنت أبي أمية، واسمه سهيل، وهي أم سلمة:
كانت عند أبي سلمة، فهاجرت معه إلى الحبشة، وولدت له، وتوفي عنها فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي سنة أربع من الهجرة، وتوفيت فِي هذه السنة، وصلى عليها أبو هريرة، ودفنت بالبقيع، وكان لها يوم ماتت أربع وثمانون سنة
.(5/319)
ثم دخلت سنة ستين
فمن الحوادث فيها:
غزوة مالك بن عبيد الله سورية [1] ، ودخول جنادة بن أبي أمية رودس، وهدمه مدينتها فِي قول الواقدي.
وفِي هذه السنة: أخذ معاوية على الوفد الذين وفدوا [2] إليه مع عبيد الله بن زياد البيعة لابنه يزيد، وعهد إلى ابنه يزيد حين مرض فيها، فقَالَ له: يا بني، إني قد كفيتك الرحلة والترحال، ووطأت لك الأشياء، وذللت لك الأعداء، وأخضعت لك أعناق العرب، وإني لأتخوف عليك أن ينازعك فِي هذا الأمر الذي اسندت لك إلا أربعة نفر من قريش: الحسين بن علي، وعَبْد اللَّهِ بن عمر، وعَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر، وَعَبْد الرَّحْمَنِ بْن أبي بكر. فأما عَبْد اللَّهِ بن عمر فرجل قد وقذته العبادة، وإذا لم يبق أحد غيره بايعك. وأما الحسين فإن أهل العراق لن يدعوه حتى يخرجوه، فإن خرج عليك فظفرت به فاصفح عنه، فإن له رحما ماسة وحقا عظيما وأما ابن أبي بكر فليست له همة إلا فِي النساء واللهو، فإن رأى أصحابه صنعوا شيئا صنع مثلهم، وأما الذي يجثم جثوم الأسد ويراوغك مراوغة الثعلب فإذا أمكنته فرصة وثب فابن الزبير، فإن هو فعلها بك فقدرت عليه فقطعه إربا إربا [3] .
__________
[1] في الأصل: «صورية» .
[2] تاريخ الطبري 5/ 322.
[3] تاريخ الطبري 5/ 323، والمعمرين لأبي حاتم 155.(5/320)
ولما اشتد مرض معاوية كان يزيد غائبا، فدعا بالضحاك بن قيس الفهري- وكان/ صاحب شرطته- ومسلم بن عقبة المري فأوصى إليهما فقَالَ: بلغا يزيد وصيتي: انظر أهل الحجاز فإنهم أهلك، فأكرم من قدم عليك منهم، وتعاهد من غاب، وانظر أهل العراق، فإن سألوك أن تعزل كل يوم عاملا فافعل، فإن عزل عامل أحب إلي من أن تشهر عليك مائة ألف سيف، وانظر أهل الشام، فليكونوا بطانتك وعيبتك، فإن رابك شيء من عدوك فانتصر بهم، فإذا أصبتهم فاردد أهل الشام إلى بلادهم.
وفِي هذه السنة توفي معاوية [1] ، وبويع لابنه يزيد [2] .
__________
[1] في الأصل: «ثم توفي في هذه السنة» .
[2] في ت: «وبويع ليزيد» .(5/321)
باب ذكر بيعة يزيد بن معاوية بن أبي سفيان [1]
ويكنى أبا خالد، ولد سنة ست وعشرين هو وعبد الملك، وأمه ميسون بنت بحدل، وكان له أولاد جماعة، فمنهم: معاوية ابنه، وولي الخلافة بعده أياما. ومنهم:
عاتكة، تزوجها عبد الملك بن مروان، فولدت له أربعة أولاد، وهذه عاتكة كان لها اثنا عشر محرما كلهم خلفاء: أبوها يزيد، وجدها معاوية، وأخوها معاوية بن يزيد، وزوجها عبد الملك، وحموها مروان بن الحكم، وابنها يزيد بن عبد الملك، وابن أبيها الوليد بن يزيد، وبنو زوجها: الوليد، وسليمان، وهشام، وابنا ابن زوجها: يزيد وإبراهيم، ابنا الوليد بن عبد الملك. ولم يتفق مثل هذا [2] لامرأة سواها.
وقد أسند يزيد بن معاوية الحديث، فروى عن أبيه، عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وإسنادنا إليه متصل، غير أن الإمام أَحْمَد سئل: أيروى عن يزيد [3] الحديث؟
فقَالَ: لا، ولا كرامة، فلذلك امتنعنا أن نسند عنه.
وقد ذكرنا [4] أن معاوية لما مات كان ابنه يزيد غائبا، فلما سمع بموت أبيه معاوية قدم وقد دفن، فبويع له وهو ابن اثنتين وثلاثين سنة وأشهر، فأقر عبيد الله بن زياد على البصرة، والنعمان بن بشير على الكوفة، وكان أمير مكة عمرو بن سعيد بن العاص، وأمير المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، ولم يكن ليزيد هم حين ولي إلا
__________
[1] «بن أبي سفيان» : ساقط من ت.
[2] في الأصل: «مثل هذه» .
[3] في الأصل: «أن أروى» .
[4] تاريخ الطبري 5/ 338.(5/322)
بيعة النفر الذين أبوا على أبيه/ الإجابة إلى بيعة يزيد، فكتب إلى الوليد بن عتبة: 132/ أأما بعد، فخذ حسينا وعبد الله بن عمر، وعَبْد اللَّهِ بن الزبير بالبيعة أخذا شديدا ليست فيه رخصة حتى يبايعوا، والسلام.
فبعث إلى مروان، فدعاه واستشاره وقَالَ: كيف ترى أن أصنع؟ قَالَ: إني أرى أن تبعث الساعة إلى هؤلاء النفر فتدعوهم إلى البيعة، فإن فعلوا قبلت، وإن أبوا ضربت أعناقهم قبل أن يعلموا بموت معاوية، فإنهم إن علموا بموته وثب كل واحد منهم فِي جانب، فأظهر الخلاف والمنابذة، إلا أن ابن عمر لا أراه يرى القتال، ولا يحب الولاية، إلا أن تدفع إليه عفوا.
وأرسل عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرو بْن عثمان وَهُوَ غلام حدث إلى الحسين وابن الزبير يدعوهما، فوجدهما فِي المجلس جالسين فقالا: أجيبا الأمير. فقالا له: انصرف، فالآن نأتيه: ثم أقبل ابن الزبير على الحسين فقَالَ له: ما تظن فيما بعث إلينا؟ فقَالَ الحسين: أظن طاغيتهم قد هلك، وقد بعث هذا إلينا ليأخذنا بالبيعة قبل أن يفشوا الخبر. قَالَ: وأنا ما أظن غيره، فما تريد أن تصنع؟ قَالَ: اجمع فتياني الساعة، ثم أسير إليه، فإذا بلغت الباب احتبستهم. قال: فإني أخافه عليك إذا دخلت قَالَ: لا آتيه إلا وأنا على الامتناع.
قَالَ: فجمع مواليه وأهل بيته، ثم قام يمشي حتى انتهى إلى باب الوليد وقَالَ لأصحابه: إني داخل، فإن دعوتكم أو سمعتم صوتي قد علا فاقتحموا علي بأجمعكم، وإلا فلا تبرحوا حتى أخرج. فدخل وعنده مروان، فسلم عليه بالإمرة وجلس، فأقرأه الوليد الكتاب، ونعى إليه معاوية، ودعاه إلى البيعة، فقَالَ الحسين إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156 رحم الله معاوية، وعظم لك الأجر، أما ما سألتني من البيعة فإن مثلي لا يعطي بيعته سرا، ولا أراك تجتزي مني سرا دون أن تظهرها على رءوس الناس علانية قَالَ: أجل، قَالَ: فإذا خرجت إلى الناس فدعوتهم إلى البيعة دعوتنا مع الناس/ فكان 132/ ب أمرا واحدا. فقَالَ له الوليد وكان يحب العافية، فانصرف على اسم الله حتى تأتينا مع جماعة الناس. فقَالَ له مروان. والله إن فارقك الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبدا حتى تكثر القتلى بينك وبينه، احبس الرجل ولا يخرج من عندك حتى يبايع أو(5/323)
تضرب عنقه. فوثب الحسين عند ذلك فقَالَ: يا ابن الزرقاء، أنت تقتلني أو هو؟ كذبت والله وأثمت. ثم خرج فقَالَ مروان: والله لا يمكنك من مثلها من نفسه، فقَالَ الوليد:
والله ما أحب أن لي ما طلعت عليه الشمس وغربت، وإني قتلت حسينا. وأما ابن الزبير فقَالَ: الآن آتيكم. ثم أتى داره، فكمن فيها، فأكثر الرسل إليه، فبعث إليه جعفر بن الزبير فقَالَ له: إنك [1] قد أفزعت عَبْد اللَّهِ [بكثرة] رسلك [2] ، وهو يأتيك غدا إن شاء الله. وخرج ابن الزبير من ليلته، فتوجه نحو مكة هو وأخوه جعفر ليس معهما ثالث، وتنكب الجادة، فبعث وراءه من يطلبه فلم يقدروا عليه، وتشاغلوا عن الحسين عليه السلام فِي ذلك اليوم، فخرج من الليل ببنيه وأخوته وبني أخيه وأهل بيته إلى مكة لليلتين بقيتا من رجب، فدخلها ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان، وكان مخرج ابن الزبير قبله بليلة.
ثم بعث الوليد إلى عَبْد اللَّهِ بن عمر فقَالَ: بايع ليزيد، فقَالَ: إذا بايع الناس بايعت.
وفِي هذه السنة: عزل يزيد الوليد بن عتبة عن المدينة [3] ، عزله فِي رمضان، وأمر عليها عمرو بن سعيد، فقدمها، ووجه عمرو بن سعيد عمرو بن الزبير إلى أخيه عَبْد اللَّهِ بن الزبير ليقاتله، لما كان يعلم ما بينه وبين أخيه عَبْد اللَّهِ، ووجه معه أنيس بن عمرو الأسلمي في سبعمائة- وقيل: فِي ألفين- فعسكر فِي الجرف [4] فجاء مروان بن الحكم إلى عمرو بن سعيد، فقَالَ له: لا تقرب مكة [5] واتق الله، ولا تحل حرمة البيت، وخلوا ابن الزبير فقد كبر وهو رجل لجوج. فقَالَ عمرو: والله لنقاتلنه في جوف 133/ أالكعبة/، وسار أنيس حتى نزل بذي طوى، وسار عمرو بن الزبير إلى أخيه الأبطح، فأرسل عمرو بن الزبير إلى أخيه أن الخليفة قد حلف لا يقبل منك حتى يؤتي بك في
__________
[1] في الأصل: «فقال الله إنك» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت، وفي الأصل: «برسلك» .
[3] تاريخ الطبري 5/ 343، 344.
[4] في ت: «فعسكر بالحوف» .
[5] في الطبري: «لا تغز مكة» .(5/324)
جامعة، فبر يمينه وتعال اجعل فِي عنقك جامعة من فضة. فأرسل ابن الزبير عَبْد اللَّهِ بن صفوان إلى أنيس فِي جامعة، فقاتلوه، فهزم أنيس وتفرق عن عمرو جماعة من أصحابه، واستعمل عمرو بن سعيد على شرطته مصعب بن عَبْد الرَّحْمَنِ بن عوف، وأمره بالشدة على الناس، فهدم الدور، وضرب الرجال، وأرسل إلى المنذر بن الزبير، فجاءوا به ملببا، فقَالَ المسور بن مخرمة: اللَّهمّ إنا نعوذ بك من أمر هذا أوله. فلما حضر وقت الحج حج عمرو، وأظهر السلاح وأظهر ابن الزبير السلاح.
وفِي هذه السنة: وجه أهل الكوفة الرسل [1] إلى الحسين وهو بمكة يدعونه إلى القدوم عليهم، فوجه إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب، وكان أهل الكوفة قد بعثوا إلى الحسين عليه السلام يقولون: إنا قد حبسنا أنفسنا عليك، ولسنا نحضر الجمعة، فأقدم علينا. فبعث إليهم مسلما لينظر ما قالوا، فخرج مسلم حتى أتى المدينة، فأخذ منها دليلين فمرا به فِي البرية، فأصابهم عطش، فمات أحد الدليلين [2] .
وكتب مسلم إلى الحسين يستعفيه، فكتب إليه: امض، فقدم الكوفة، فنزل على رجل من أهلها، يقال له ابن عوسجة، فلما تحدث أهل الكوفة بمقدمه دنوا إليه فبايعوه، فبايعه منهم اثنا عشر ألفا، فقام رجل ممن يهوى يزيد، إلى النعمان بن بشير، فقَالَ له: إنك ضعيف، قد فسد البلد. فقَالَ له النعمان: أكون ضعيفا في طاعة الله أحب إلي من أن أكون قويا فِي معصية الله.
فكتب بقوله إلى يزيد، فولى الكوفة عبيد الله [3] بن زياد إضافة إلى البصرة، وأمره أن يقتل مسلم بن عقيل، فأقبل عبيد الله فِي وجوه أهل البصرة، حتى قدم الكوفة متلثما، فلا يمر بمجلس من مجالسهم فيسلم إلا قالوا: وعليك السلام يا ابن بنت رسول الله. وهم يظنونه الحسين/ حتى نزل القصر، فقَالَ عبيد الله لمولى له: هذه ثلاثة آلاف 133/ ب درهم، خذها وسل عن الذي بايع أهل الكوفة، وأعلمه أنك من حمص، وقل له: خذ هذا المال تقوى به. فمضى فسلمه إليه، فتحول مسلم بن عقيل حينئذ من الدار التي
__________
[1] تاريخ الطبري 5/ 347.
[2] في الأصل: «إحدى الدليلين» .
[3] في ت: «عبد الله» .(5/325)
كان فيها إلى منزل هانئ بن عروة المرادي، وكتب مسلم إلى الحسين ببيعة اثني عشر ألفا من أهل الكوفة، ويأمره بالقدوم، ثم دخل على عبيد الله بن زياد جماعة من وجوه أهل الكوفة، فقَالَ: ما بال هانئ بن عروة لم يأتني؟ فأخبروا هانئا، فانطلق إليه فقَالَ: يا هانئ، أين مسلم؟ قَالَ: لا أدري. فقَالَ عبيد الله لمولاه الذي أعطاه الدراهم: اخرج.
فخرج، فلما رآه قَالَ: أصلح الله الأمير، والله ما دعوته إلى منزلي، ولكنه جاء فطرح نفسه عليّ، قال: ائتني به، قَالَ: والله لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه. فضربه [على حاجبه] [1] فشجه، ثم حبسه فنادى مسلم أصحابه، فاجتمع إليه من أهل الكوفة أربعة آلاف، فمضى بهم إلى القصر، فأشرف أصحاب عبيد الله على أهاليهم يعدونهم ويقولون: غدا يأتيكم جنود الشام. فتسللوا، فما اختلط الظلام حتى بقي مسلم وحده، فأوى إلى امرأة، فعلم به ابنها، وكان عبيد الله قد نادى: إنه من وجد فِي داره فقد برئت منه الذمة، ومن جاء به فله ديته. فأخبر به، فبعث عبيد الله إليه صاحب الشرطة عمرو بن حريث، ومعه عَبْد الرَّحْمَنِ بن مُحَمَّد الأشعث، فلم يعلم مسلم حتى أحيط بالدار، فخرج إليهم بسيفه فقاتلهم، فأعطاه عَبْد الرَّحْمَنِ الأمان، فأمكنه من يده، فحملوه على بغلة، وانتزعوا سيفه منه، فقَالَ: هذا أول الغدر. وبكى، فقيل له: من يطلب مثل هذا الذي تطلب إذا نزل به مثل هذا لم يبك. فقَالَ: والله ما أبكي على نفسي، بل على حسين وآل حسين. ثم التفت إلى عَبْد الرَّحْمَنِ فقَالَ: هل يستطيع أن يبعث من عندك رجلا على لساني، يبلغ حسينا، فإني لا أراه إلا قد خرج إليكم، فيقول له ارجع ولا تغتر بأهل الكوفة.
134/ أفبعث رجلا، فلقي/ الحسين بزبالة، فأخبره [الخبر] [2] ، فقَالَ: كل ما حم نازل. ولما جيء بمسلم إلى عبيد الله بن زياد [3] أخبره عَبْد الرَّحْمَنِ أنه قد أمنه، فقَالَ:
ما أنت والأمان، إنما بعثناك لتجيء به لا لتؤمنه. فأمر به، فأصعد إلى أعلى القصر، فضربت عنقه، وألقى جثته إلى الناس، وأمر بهانئ، فقتل في السوق، وسحب إلى الكناسة، فصلب هناك.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
[3] «زياد» : ساقطة من ت.(5/326)
وقَالَ شاعرهم فِي ذلك:
فإن كنت لا تدرين ما الموت فانظري ... إلى هانئ فِي السوق وابن عقيل
تري جسدا قد غير الموت لونه ... ونضح دم قد سال كل مسيل [1]
أصابهما أمر الإمام فأصبحا ... أحاديث من يسعى بكل سبيل
وفِي رواية أخرى: أن الحسين لما خرج من المدينة قيل له: لو تجنبت الطريق [2] كما فعل ابن الزبير لأجل الطلب. قَالَ: لا والله، لا أفارقها حتى يقضي الله ما أحب.
فاستقبله عَبْد اللَّهِ بن مطيع، فقَالَ له: جعلت فداك، أين تريد؟ قَالَ: أما الآن فمكة وما بعدها، فإنّي أستخير الله، فقال: خار الله لك، وجعلنا فداك، فإذا أتيت مكة فإياك أن تقرب الكوفة، فإنها بلدة مشئومة، بها قتل أبوك، وخذل أخوك، واغتيل بطعنة كادت تأتي على نفسه، الزم الحرم، فإنك سيد العرب، ولا يعدل بك أهل الحجاز أحدا، ويتداعى الناس إليك من كل جانب. فنزل مكة، واختلف أهلها إليه وأهل الآفاق، وابن الزبير لازم جانب الكعبة، فهو قائم يصلي عندها، ويطوف، ويأتي حسينا فيمن يأتيه، ويشير عليه، وهو أثقل خلق الله على ابن الزبير لأنه قد علم أن أهل الحجاز لا يبايعونه أبدا ما دام حسين بالبلد، وقام سليمان بن صرد بالكوفة، فقَالَ: إن كنتم تعلمون أنكم تنصرون حسينا فاكتبوا إليه، وإن خفتم الفشل فلا تغروه. قالوا: بل نقاتل عدوه.
فكتبوا إليه: بسم الله الرحمن الرحيم. لحسين بن علي من سليمان بن صرد، والمسيب بن نجية، ورفاعة بن شداد، وحبيب بن مظاهر وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة. سلام عليك، فإنا نحمد إليك الله الذي لا اله إلا هو، الحمد/ للَّه الذي قصم عدوك، وإنه ليس علينا إمام، فأقبل لعل الله يجمعنا بك. 134/ ب فقدم الكتاب عليه بمكة لعشر مضين من رمضان، ثم جاءه مائة وخمسون كتابا من الرجل والاثنين والثلاثة، ثم جاءه كتاب آخر يقولون: حي هلا، فإن الناس ينتظرونك،
__________
[1] البيت ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] في الطبري 5/ 351: «لو تنكبت» .(5/327)
فالعجل العجل. وتلاقت الرسل كلها عنده. فقرأ الكتب، وكتب مع هانئ بن هاني السبيعي، وسعيد بن عبيد الحنفِي [1] ، وكانا آخر الرسل:
بسم الله الرحمن الرحيم. من حسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين. أما بعد، فإن هانئا وسعيدا قدما علي، وكانا آخر من قدم من رسلكم، وقد بعثت أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي وأمرت أن يكتب إلي بحالكم، فإن كتب إلي أنه قد أجمع رأي ملئكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت به علي رسلكم، قدمت عليكم إن شاء الله تعالى.
فلما قتل [2] مسلم بن عقيل وهانئ، وكان الحسين قد خرج من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة، وكان قد أشار عليه جماعة منهم ابن عباس أن لا يخرج، وكان من جملة ما قَالَ له: أتسير إلى قوم أميرهم عليهم قاهر لهم، وعماله تجبي بلادهم، فإنما دعوك إلى الحرب، ولا آمن أن يكذبوك. فقَالَ: أستخير الله، ثم عاد إليه فقَالَ له: إني أتصبر ولا أصبر، إني أتخوف عليك أهل العراق، فإنهم أهل غدر، أقم بهذا البلد فإنك سيد الحجاز، فإن كان أهل العراق يريدونك (فاكتب إليهم) [3] .
فلينفوا عدوهم، وإن أبيت فسر إلى اليمن، فإن بها حصونا وشعابا، وهي أرض عريضة. فقَالَ: قد أجمعت المسير. قَالَ: فلا تسر بنسائك وصبيتك، فإني أخاف ما جرى لعثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه، ولقد أقررت عيني ابن الزبير بتخليتك إياه بالحجاز، والله لو أني أعلم أنك إذا أخذت بشعرك وناصيتك حتى يجتمع علي وعليك الناس أطعتني لفعلت.
ثم خرج، فلقي ابن الزبير، فقَالَ: قرت عينك، هذا حسين يخرج إلى العراق، ويخليك والحجاز، ثم أنشد مرتجزا متمثلا: / 135/ أ
يا لك من قبرة بمعمر ... خلا لك الجو فبيضي واصفري
ونقري ما شئت أن تنقّري [4]
__________
[1] كذا في الأصول، وفي الطبري: «سعيد بن عبد الله الحنفي» .
[2] تاريخ الطبري 5/ 383.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.
[4] ينسب الرجز إلى طرفة (ملحق ديوانه 193) .(5/328)
وكتب عبيد الله إلى يزيد: أما بعد، فالحمد للَّه الذي أخذ لأمير المؤمنين بحقه، وكفاه مئونة عدوه، إن مسلم بن عقيل لجأ إلى دار هانئ بن عروة فكدتهما حتى استخرجتهما وضربت أعناقهما، وقد بعثت برأسيهما.
فكتب إليه يزيد: إنك على ما أحب عملت عمل الحازم، وصلت صولة الشجاع، وقد بلغني أن الحسين قد توجه نحو العراق، فضع المناظر والمسالح، واحترس، واجلس [1] على الظنة، وخذ على التهمة، غير أن لا تقتل إلا من قاتلك، واكتب إلي فِي كل ما يحدث من خير إن شاء الله.
قَالَ علماء السير: لما علم الحسين، بما جرى لمسلم بن عقيل هم أن يرجع، فقَالَ أخو مسلم: والله لا ترجع حتى نصيب [2] بثأرنا. فقَالَ الحسين: لا خير فِي الحياة بعدكم. فسار فلقيته أوائل خيل عبيد الله، فنزل كربلاء، فضرب أبنيته، وكان أصحابه خمسة وأربعين فارسا ومائة راجل. وفِي هذه السنة: حج بالناس عمرو بن سعيد، وكان عامل يزيد على مكة والمدينة لما نزع يزيد الوليد بن عتبة عن المدينة، وكان ذلك فِي شهر رمضان.
فحج عمرو بالناس حينئذ، وكان على الكوفة والبصرة وأعمالها عبيد الله بن زياد، وعلى خراسان عَبْد الرَّحْمَنِ بن زياد، وعلى قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
402- بلال بن الحارث، أبو عَبْد الرَّحْمَنِ [3]
وهو من بني قرة بن مازن، بعثه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى مزينة ومعه عمرو بن عوف يستنفرانهم حين أراد أن يغزو مكة، وحمل بلال أحد ألوية مزينة الثلاثة التي عقدها لهم
__________
[1] في ت: «واحبس» .
[2] في ت: «لا ترجع حيث نصيب» .
[3] طبقات خليفة 38، 77، والتاريخ الكبير 2/ 1/ 106، 107، والمعارف 110، وتهذيب الكمال 780.(5/329)
135/ ب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، وكان يسكن جبل مزينة ويأتي/ المدينة كثيرا.
وتوفي فِي هذه السنة وَهُوَ ابْن ثمَانين سنة.
403- خراش بن أمية بن ربيعة، أبو نضلة:
شهد المريسيع والحديبية، وبعثه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى قريش على جمل له يقول:
إنما جئنا معتمرين ولم نأت لقتال، فعرفوا جمل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأرادوا قتال خراش فمنعه من هناك من قومه، فرجع وأخبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما لقي، وقَالَ: ابعث أمنع مني، فدعا عمر فقَالَ: يا رسول الله، قد عرفت قريش عداوتي لها، وليس بها من بني عدي من يمنعني، فإن أحببت دخلت عليهم، فلم يقل لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئا، فقَالَ عمر: لكني أدلك على رجل أعز مني بمكة وأكثر عشيرة، وأمنع: عثمان، فدعاه، فبعثه إليهم.
وخراش هو الذي حلق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، وحلقه أيضا فِي عمرة الجعرانة، وما زال يغزو مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أن قبض، ومات فِي آخر خلافة معاوية.
404- صفوان بن المعطل بن رحضة بن المؤمل بن خزاعي، أبو عمرو [1] :
أسلم قبل غزاة المريسيع، وشهدها مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان يومئذ على ساقة الناس من ورائهم، واتفق أن عقد عائشة ضاع، فأقامت على التماسه، فرحل القوم، فجاء صفوان فرآها، فأناخ بعيره، فركبت، فلحق بها الجيش، فتكلم أهل الإفك، فحلف صفوان لئن أنزل الله عذره ليضربن حسان بن ثابت بالسيف. فلما نزل العذر ضرب حسان بن ثابت بالسيف على كتفه، فأخذه قوم حسان، وأتوا به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدفعه إليهم ليقتصوا منه، فلما أدبروا بكى رسول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم، فقيل لهم: هذا 136/ أرسول/ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبكي. فترك حسان ذلك لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقَالَ النبي عليه السلام: دعوا حسان، فإنه يحب الله ورسوله، وأعطى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حسانا شبرين عوضا. ثم شهد صفوان الخندق، والمشاهد بعدها، وكان مع كرز بن جابر فِي طلب العرنيين الذين أغاروا على لقاح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وتوفي بشمشاط فِي هذه السنة.
__________
[1] تهذيب تاريخ ابن عساكر 6/ 438، واللباب 1/ 443.(5/330)
405- عَبْد اللَّهِ بن ثوب، أبو مسلم الخولاني [1] :
أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَحْمَد قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الأَصْبَهَانِيُّ قَالَ: حدثنا أبو أحمد محمد بن أحمد قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَدِيٍّ قَالَ:
حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ عَلِيٍّ النَّوْفَلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ نَجْدَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَّاسٍ، عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ الْخَوْلانِيِّ قَالَ:
بَيْنَا الأَسْوَدُ بْنُ قَيْسٍ الْعَنسِيُّ بِالْيَمَنِ فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ فقَالَ لَهُ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَسْمَعُ، قَالَ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: مَا أَسْمَعُ قَالَ: فَأَمَرَ بِنَارٍ عَظِيمَةٍ فَأُجِّجَتْ، فَطُرِحَ فِيهَا أَبُو مُسْلِمٍ فَلَمْ تَضَرَّهُ، فَقَالَ لَهُ أَهْلُ مَمْلَكَتِهِ: إِنْ تَرَكْتَ هَذَا فِي بِلادِكَ أَفْسَدَهَا عَلَيْكَ. فَأَمَرَهُ بِالرَّحِيلِ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ وَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ، فَقَامَ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ يُصَلِّي، فَبَصُرَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ الرَّجُلُ؟ قَالَ: مِنَ الْيَمَنِ. قَالَ: فَمَا فَعَلَ عَدُوُّ اللَّهِ بِصَاحِبِنَا الَّذِي حَرَقَهُ بِالنَّارِ فَلَمْ تَضُرَّهُ؟ فَقَالَ: ذَاكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَوْبٍ. قَالَ: نَشَدْتُكَ باللَّه أَنَّكَ هُوَ. قَالَ:
اللَّهمّ نَعَمْ. قَالَ: فَقَبَّلَ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ، ثُمَّ جَاءَ بِهِ حَتَّى أَجْلَسَهُ بَيَنْهُ وَبَيْنَ أَبِي بَكْرٍ، وقَالَ:
الْحَمْدُ للَّه الَّذِي لَمْ يُمِتْنِي حَتَّى أراني مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من فعل به كما فعل/ بإبراهيم 136/ ب خَلِيلِ الرَّحْمَنِ عَلَيْهِ السَّلامُ.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن ناصر الحافظ [2] قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَحْمَد الحداد قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّهِ بن محمد قال: حَدَّثَنَا أبو زرعة قَالَ: حَدَّثَنَا سعيد بن أسد، قَالَ: حَدَّثَنَا ضمرة عن عثمان بن عطاء، عن أبيه قَالَ:
كان أبو مسلم الخولاني إذا انصرف من المسجد إلى أهله كبر على باب منزله، فتكبر امرأته، فإذا كان فِي صحن داره كبر فتجيبه امرأته. فانصرف ذات ليلة، فكبر عند باب داره، فلم يجبه أحد، فلما كان فِي الصحن كبر، فلم يجبه أحد، فلما كان فِي باب
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 157.
[2] في الأصل: «أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا الحافظ» .(5/331)
بيته [كبر] [1] فلم يجبه أحد، وكان إذا دخل بيته أخذت امرأته رداءه ونعليه، ثم أتته بطعامه. قالَ: فدخل، فإذا البيت فيه سراج، وإذا امرأته جالسة منكسة تنكث بعود معها، فقال لها: ما لك؟ قالت: أنت لك منزلة من معاوية، وليس لنا خادم، فلو سألته فأخدمنا وأعطاك. فقَالَ: اللَّهمّ من أفسد علي امرأتي فأعم بصره. قَالَ: وكانت قد جاءتها امرأة قبل ذلك فقالت: زوجك له منزلة من معاوية، فلو قلت له كتب إلى معاوية بخدمة ويعطيه عشتم. قَالَ: فبينا تلك المرأة جالسة فِي بيتها أنكرت بصرها، فقالت: ما لسراجكم طفئ؟ قالوا: لا فعرفت ذنبها، فأقبلت إلى أبي مسلم تبكي وتسأله أن يدعو لها الله عز وجل أن يرد عليها بصرها. فرحمها أبو مسلم، فدعا الله عز وجل فرد عليها بصرها. وفِي رواية: فرجعت.
406- معاوية بن أبي سفيان [2] :
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي قَالَ: أخبرنا الجوهري قال: أخبرنا ابن حيوية قال: أخبرنا أحمد بن معروف قال: أخبرنا الحسين بن الفهم قال: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي يَعْقُوبَ الثَّقَفِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ [3] قَالَ:
لَمَا ثَقُلَ مُعَاوِيَةُ وَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّهُ الْمَوْتُ، قَالَ لأَهْلِهِ: احْشُوا عَيْنَيَّ أَثْمِدًا، وَأَوْسِعُوا رَأْسِي دُهْنًا. فَفَعَلُوا، وَبَرَّقُوا وَجْهَهُ بالدهن، ثم مهّد له فجلس، فقال:
137/ أاسندوني. ثُمَّ قَالَ: ائْذَنُوا لِلنَّاسِ فَلْيُسَلِّمُوا/ قِيَامًا [4] ، وَلا يَجْلِسُ أَحَدٌ. فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَدْخُلُ فَيُسَلِّمُ قَائِمًا، فيراه مكتحلا مدهنا، فيقول: يَقُولُ النَّاسُ هُوَ لَمَّا بِهِ، وَهُوَ أَصَحُّ النَّاسِ. وَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ قَالَ:
وَتَجَلُّدِي لِلشَّامِتِينَ أُرِيهِمُ ... أَنِّي لِرَيْبِ الدَّهْرِ لا أَتَضَعْضَعُ
وَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا ... أَلْفَيْتَ كُلَّ تَمِيمَةٍ لا تنفع [5]
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
[2] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 128، وتاريخ بغداد 1/ 207.
[3] الخبر في تاريخ الطبري 5/ 326.
[4] في الأصل: «فليسلموا وقوفا قياما» .
[5] الأبيات لأبي ذؤيب الهذلي: ديوان الهذليين 1/ 38.(5/332)
قال: وكان به الثفاثة [1] مَاتَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ.
قَالَ علماء السير [2] : أوصى معاوية فقَالَ: شهدت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوما قلم أظفاره وأخذ من شعره، فجمعت ذلك فهو عندي، وأعطاني قميصه، فاجعلوه على جسدي، واسحقوا قلامة الأظفار فاجعلوها فِي عيني، واحشوا بالشعر فمي وأنفِي، فغشي، فأخرجت أكفانه فوضعت على المنبر، وقام الضحاك بن قيس الفهري خطيبا، فقَالَ: إن معاوية قد قضى نحبه، وهذه أكفانه، ونحن مدرجوه فيها، ومدخلوه قبره، ومخلوه وعمله، إن شاء ربه رحمه، وإن شاء عذبه.
أَخْبَرَنَا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا أبو الفضل قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر قال: حدثنا يعقوب بن سفيان قال: حدثني يحيى بن عبد الله، عن بكير، عن الليث قَالَ:
توفي معاوية فِي رجب لأربع ليال خلت من سنة ستين، وكانت خلافته عشرين سنة وخمسة أشهر.
وقيل: تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر.
قَالَ الواقدي: وسبعة وعشرين يوما.
واختلفوا فِي مدة عمره [3] ، فقَالَ الزهري: خمسة وسبعون، وقيل: ثمان وسبعون، وقَالَ المدائني: ثلاث وسبعون، وقيل: ثمانون، وقيل: خمس وثمانون.
407- النعمان بن بشير بن سعد بن ثعلبة بن جلاس [4] :
أُمُّهُ عَمُرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ أُخْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ وُلِدَ مِنَ الأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَحَنَّكَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَمْرَةٍ، فَتَلَمَّظَ بِهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « [انْظُرُوا] [5] إِلَى الأَنْصَارِ وحبها للتمر» .
__________
[1] في الطبري: «النّفاثات» . وفي ابن الأثير: «التفاثات» .
[2] تاريخ الطبري 5/ 327، 328.
[3] تاريخ الطبري 5/ 325.
[4] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 35، والمعارف 294، وتهذيب التهذيب 10/ 447.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.(5/333)
137/ ب توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والنعمان بن بشير/ ابن ثماني سنين. وروى [عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [[1] ، وكان ممن نصر عثمان، وقدم بقميصه الذي قتل فيه على معاوية، وبعثه معاوية على الكوفة أميرا، فأقام بها واليا عليها سبعة أشهر، ثم آل الأمر إلى أن دعا لابن الزبير فقتله أهل حمص فِي هذه السنة.
أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ الْبَزَّارُ قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو الحسين محمد بن أحمد الأبنوسي قال: أخبرنا أبو الحسن الدار الدَّارَقُطْنِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْقَاضِي قال: حدثنا عبد الله بن الْحُسَيْنِ بْنُ الرَّبِيعِ قَالَ: حَدَّثَنِي الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ قَالَ:
لَمَّا عُزِلَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ عَنِ الْكُوفَةِ وَلَّاهُ مُعَاوِيَةُ حِمْصَ، فَوَفَدَ عَلَيْهِ أعشى همدان، فقال له: ما أَقْدَمَكَ أَبَا الْمُصَبّحِ قَالَ: جِئْتُ لِتَصِلَنِيَ، وَتَحْفَظَ قَرَابَتِي، وَتَقْضِيَ دَيْنِي. فَأَطْرَقَ النُّعْمَانُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ مَا [عِنْدِي] [2] شَيْءٌ. ثُمَّ قَالَ: هِيهْ، كَأَنَّهُ ذكر شَيْئًا، فَقَامَ فصعد المنبر ثم قال: يا أَهْلَ حِمْصَ- وَهُمْ فِي الدِّيوَانِ عِشْرُونَ أَلْفًا- هَذَا ابْنُ عَمٍّ لَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ وَالشَّرَفِ، قَدِمَ عَلَيْكُمْ يَسْتَرْفِدُكُمْ، فَمَا تَرَوْنَ فِيهِ؟
فَقَالُوا: أَصْلَحَ اللَّهُ الأَمِيرَ، احْكُمْ لَهُ. فَأَبَى عَلَيْهِمْ. قَالُوا: فَإِنَّا قَدْ حَكَمْنَا لَهُ عَلَى أَنْفُسِنَا مِنْ كُلِّ رَجُلٍ فِي الْعَطَاءِ بِدِينَارٍ مِنْ دِينَارَيْنِ تَعْجَلُهَا لَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَرْبَعُونَ أَلْفَ دِينَارٍ.
فَقَبَضَهَا وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
فَلَمْ أَرَ لِلْحَاجَاتِ عِنْدَ انْكِمَاشِهَا ... كَنُعْمَانَ نُعْمَانِ النَّدَى ابْنِ بَشِيرٍ
إِذَا قَالَ أَوْفَى بِالْمَقَالَ وَلَمْ يَكُنْ ... كَمُدْلٍ إِلَى الأَقْوَامِ حَبْلَ غُرُورٍ
مَتَى أَنجد النُّعْمَانَ لا أَكُ شَاكِرًا ... وَلا خَيْرُ [3] من لا يقتدي بشكور
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «ما خير» .(5/334)
ثم دخلت سنة إحدى وستين
فمن الحوادث فيها: مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام [1]
وذلك أنه أقبل حتى نزل شراف، فبينما هم كذلك إذ طلعت عليهم الخيل، فنزل الحسين، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وأمر بأبنيته فضربت، وجاء القوم وهم ألف فارس مع الحر بن يزيد التميمي- وكان صاحب شرطة ابن زياد- حتى وقفوا مقابل الحسين عليه السلام فِي حر الظهيرة/، فأمر الحسين رجلا فأذن، ثم خرج فقَالَ: أيها الناس إنها معذرة إلى الله 138/ أوإليكم، إني لم آتكم حتى قدمت علي رسلكم، وأتتني كتبكم أن أقدم علينا، فليس لنا إمام، فإن كنتم كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلت منه، فسكتوا عنه، وقالوا للمؤذن: أقم الصلاة، فأقام الصلاة، وصلى الحسين، وصلى الحر معه، ثم تراجعوا، فجاءت العصر، فخرج يصلي بهم وقَالَ: أتتني كتبكم ورسلكم، فقَالَ الحر:
ما ندري ما هذه الكتب والرسل. فقَالَ: يا عقبة بن سمعان، أخرج إلي الخرجين.
فأخرجهما مملوءين صحفا فنشرها بين أيديهم، فقَالَ الحر: إنا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك، وقد أمرنا أن لا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على عُبَيْد الله بن زياد، فقَالَ الحسين: الموت أدنى [إليك] [2] من ذلك. وقام فركب وركب أصحابه وقَالَ: انصرفوا
__________
[1] تاريخ الطبري 5/ 400.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.(5/335)
بنا. فحالوا بينه وبين الانصراف، فقَالَ للحر: ثكلتك أمك، ما تريد؟ قَالَ: إني لم أومر بقتالك، إنما أمرت أن لا أفارقك حتى أقدمك الكوفة، فإذا أبيت فخذ طريقا لا تدخلك الكوفة، ولا تردك المدينة حتى أكتب إلى ابن زياد، وتكتب أنت إلى يزيد أو إلى ابن زياد لعل الله أن يرزقني العافية من أن أبتلى بشيء من أمرك، فتباشر الحسين والحر يسايره، ثم جاءه كتاب عبيد الله بن زياد أن جعجع [1] بالحسين حتى يبلغك كتابي، فأنزلهم الحر على غير ماء، ولا فِي قرية، وذلك فِي يوم الخميس ثاني المحرم، فلما كان من الغد قدم عمرو بن سعد من الكوفة فِي أربعة آلاف، وكان عبيد الله قد ولى عمرو بن سعد الري، فلما عرض أمر الحسين قَالَ له: اكفني أمر هذا الرجل، ثم اذهب إلى عملك. فقَالَ:
أعفني فأبى. قالَ: أنظرني الليلة، فأخره فأنظر فِي أمره، [ثم أصبح] [2] راضيا. فبعث إلى الحسين رجلا يقول له: ما جاء بك؟ فقَالَ: كتب إلي أهل مصركم، فإذا كرهتموني فإني أنصرف عنكم. وجاء كتاب عبيد الله إلى عمر: حل بين الحسين وأصحابه وبين الماء كما صنع بعثمان. فقَالَ: اختاروا مني واحدة من ثلاث: إما أن تدعوني فألحق 138/ ب بالثغور أو أذهب إلى يزيد، أو أنصرف/ من حيث جئت. فقبل ذلك عمرو، وكتب إلى عبيد الله بذلك، فكتب عبيد الله. لا ولا كرامة حتى يضع يده فِي يدي، فقَالَ الحسين:
لا والله لا يكون ذلك أبدا. وفِي رواية: أن عبيد الله قبل ذلك، فقَالَ له شمر بن ذي الجوشن: والله إن رحل عن بلادك ولم يضع يده فِي يدك ليكونن أولى بالقوة والعز، ولتكونن أولى بالضعف، والعجز، ولكن لينزلن على حكمك هو وأصحابه، فقَالَ له عبيد الله. اخرج بكتابي إلى عمرو بن سعد، وليعرض على الحسين وأصحابه النزول على حكمي، فإن فعلوا فليبعث بهم إلي سلما، وإن أبوا فليقاتلهم، فإن فعل فاسمع له وأطع، وإن أبى أن يقاتلهم فأنت أمير الناس، فثب عليه فاضرب عنقه وابعث إلي برأسه.
وكتب عبيد الله: أما بعد، فإني لم أبعثك إلى حسين لتكف عنه ولا لتطاوله ولا لتمنيه السلامة، فانظر فإن نزل حسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم إليّ
__________
[1] أي: أزعجه وأخرجه، وقال الأصمعي: يعني أحبسه.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(5/336)
سلما، فإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم، فإن قتل حسين فأوطئ الخيل صدره وظهره، فإنه عاق قاطع، فإن مضيت لأمرنا جزيناك خيرا، وإن أبيت فاعتزل عملنا وجندنا، وخل بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر، فإنا قد أمرناه، والسلام.
فلما جاء شمر بالكتاب إلى عمرو وقرأه قَالَ: ويلك، لا قرب الله دارك، قبح الله ما قدمت به علي، والله إني لأظنك أنت ثنيته أن يقبل ما كتبت به إليه، وأفسدت علينا أمرا قد كنا رجونا أن يصلح، قَالَ: فقَالَ: أخبرني ما أنت صانع لأمر أميرك؟ أتقاتل عدوه، وإلا فخل بيني وبين الجند والعسكر. فقَالَ: لا، ولا كرامة، ولكن أنا أتولى ذلك. قَالَ:
فدونك.
فنهض إليه عشية الخميس لتسع مضين من المحرم، وجاء شمر حتى وقف على أصحاب الحسين فقَالَ: أين بنو أختنا؟ فخرج إليه العباس وعَبْد اللَّهِ وجعفر بنو علي، فقالوا: مالك وما تريد؟ قَالَ: أنتم يا بني أختي آمنون، قالوا: لعنك الله، ولعن أمانك، أتؤمننا وابن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا أمان له؟! فنادى عمرو: يا خيل اركبي وأبشري.
فركب فِي الناس، ثم زحف نحوهم بعد صلاة العصر، وحسين جالس أمام بنيه مجتثيا بسيفه/ إذ خفق برأسه على ركبتيه، فسمعت أخته الضجة، فقالت: يا أخي، أما 139/ أتسمع الأصوات قد اقتربت؟ فرفع رأسه فقَالَ: إني رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المنام فقَالَ لي: «إنك تروح إلينا» فلطمت أخته وجهها وقَالَ له العباس: يا أخي، أتاك القوم.
فنهض وقَالَ: يا عباس، اركب [بنفسك] أنت يا أخي حتى تلقاهم فتقول لهم ما لكم وما بدا لكم. فأتاهم العباس فِي نحو من عشرين فارسا، فقَالَ: ما تريدون؟ فقالوا: جاء أمر الأمير بأن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو نناجزكم. قالَ: فلا تعجلوا حتى أرجع إلى أبي عَبْد اللَّهِ فأعرض عليه ما ذكرتم. فوقفوا، فرجع إلى الحسين فأخبره الخبر، ثم رجع إليهم فقَالَ: يا هؤلاء، إن أبا عَبْد اللَّهِ يسألكم أن تنصرفوا هذه العشية حتى ننظر فِي هذا الأمر، فإذا أصبحنا التقينا إن شاء الله، وإنما أراد أن يوصي أهله، فقَالَ عمرو للناس:
ما ترون؟ فقَالَ له عمرو بن الحجاج: سبحان الله، والله لو كان من الديلم، ثم سألك هذا لكان ينبغي أن تجيبه، فجمع الحسين أصحابه وقَالَ: إني قد أذنت لكم فانطلقوا فِي هذه الليلة، فاتخذوه جملا، وتفرقوا فِي سوادكم ومدائنكم، فإن القوم إنما يطلبوني، ولو قد(5/337)
أصابوني لهوا عن طلب غيري. فقَالَ أخوه العباس: لم نفعل ذلك لنبقى بعدك، لا أرانا الله ذلك أبدا.
ثم تكلم إخوته وأولاده وبنو أخيه وبنو عَبْد اللَّهِ بن جعفر بنحو ذلك، فقَالَ الحسين: يا بني عقيل، حسبكم من الفتك بمسلم [1] ، اذهبوا فقد أذنت لكم. فقالوا:
لا والله، بل نفديك بأنفسنا وأهلينا، فقبح الله العيش بعدك.
وقَالَ مسلم بن عوسجة: والله لو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لرميتهم بالحجارة، وقَالَ سعيد بن عَبْد اللَّهِ الحنفِي: والله لا نخليك حتى يعلم الله أننا قد حفظنا غيبة رسول الله فيك، والله لو علمت أني أقتل، ثم أحيا، ثم أحرق حيا، ثم أذرى تسعين مرة ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك.
وتكلم جماعة [من] [2] أصحابه بنحو هذا، فلما أمسى الحسين جعل يصلح سيفه ويقول مرتجزا:
139
/ ب يا دهر أف لك من خليل ... / كم لك بالإشراق والأصيل
من صاحب أو طالب قتيل
فلما سمعه ابنه علي خنقته العبرة، فسمعته زينب بنت علي، فنهضت إليه وهي تقول: وا ثكلاه، ليت الموت أعدمني الحياة، اليوم ماتت فاطمة أمي، وعلي أبي، يا خليفة الماضي، وثمال الباقي. فقَالَ لها الحسين: أخية، لا يذهب حلمك الشيطان.
وترقرقت عيناه، فلطمت وجهها، وشقت جيبها، وخرت مغشية عليها. فقام إليها الحسين عليه السلام فرش الماء على وجهها، وقَالَ: يا أخية اعلمي أن أهل الأرض يموتون، وأهل السماء لا يبقون، ولي أسوة برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإني أقسم عليك يا أخية لا تشقي علي جيبا ولا تخمشي وجها.
وقام الحسين وأصحابه يصلون الليل كله، ويدعون، فلما صلى عمرو بن سعد الغداة- وذلك يوم عاشوراء- خرج فيمن معه من الناس، وعبأ الحسين أصحابه، وكانوا
__________
[1] في الأصل: «القتل بمسلم» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(5/338)
اثنين وثلاثين فارسا، وأربعين راجلا، ثم ركب الحسين دابته، ودعى بمصحف فوضعه أمامه، وأمر أصحابه فأوقدوا النار فِي حطب كان وراءهم لئلا يأتيهم العدو من ورائهم.
فمر شمر فقَالَ: يا حسين، تعجلت النار فِي الدنيا. فقَالَ مسلم بن عوسجة: ألا رميته بسهم؟ فقَالَ الحسين: لا، إني لأكره أن أبدأهم، ثم قَالَ الحسين عليه السلام لأعدائه [1] : أتسبوني؟ فانظروا من أنا، ثم راجعوا أنفسكم، فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي، ألست ابن بنت نبيكم؟ وابن ابن عمه؟ أليس حمزة سيد الشهداء عم أبي؟ وجعفر الطيار عمي؟ فقَالَ شمر [بن ذي الجوشن] [2] : عبدت الله على غير حرف إن كنت أدري ما تقول [3] . فقَالَ: أخبروني، أتطلبوني بقتيل [4] منكم قتلته؟ أو مال لكم أخذته!؟ فلم يكلموه.
فنادى: يا شبث بن ربعي، يا قيس بن الأشعث، يا حجار، ألم تكتبوا إلي؟ قالوا:
لم نفعل، فقَالَ: فإذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم. فقال له قيس: أو لا تنزل على حكم ابن عمك؟ فإنه لن يصل إليك منهم مكروه، فقَالَ: لا والله، لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل.
فعطف عليه الحر فقاتل معه/ فأول من رمى عسكر الحسين عليه السلام بسهم: 140/ أعمرو بن سعد، وصار يخرج الرجل من أصحاب الحسين فيقتل من يبارزه، فقَالَ عمرو بن حجاج للناس. يا حمقى. أتدرون من تقاتلون؟ هؤلاء فرسان المصر، وهم قوم مستميتون، فقَالَ عمرو: صدقت، فحمل عمرو بن الحجاج على الحسين، فاضطربوا ساعة، فصرع مسلم بن عوسجة أول أصحاب الحسين، وحمل شمر وحمل أصحاب الحسين عليه السلام من كل جانب، وقاتل أصحاب الحسين قتالا شديدا، فلم يحملوا على ناحية إلا كشفوها، وهم اثنان وثلاثون فارسا، فرشقهم أصحاب عمرو بالنبل، فعقروا خيولهم، فصاروا رجالة، ودخلوا على بيوتهم، يقوضونها ثم أحرقوها
__________
[1] في الأصل: «لأعدائهم» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] في ت: «هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما يقول» .
[4] في الأصل: «تطالبوني» .(5/339)
بالنار، فقتل أصحاب الحسين كلهم وفيهم بضعة عشر شابا من أهل بيته منهم من أولاد علي عليه السلام: العباس، وجعفر، وعثمان، ومُحَمَّد، وأبو بكر. ومنهم من أولاد الحسين: علي، وعبد الله، وأبو بكر، والقاسم. ومنهم من أولاد عَبْد اللَّهِ بن جعفر:
عون، ومُحَمَّد. ومن أولاد عقيل: جعفر، وعبد الرحمن، وعَبْد اللَّهِ، ومسلم، قتل بالكوفة. وقتل عَبْد اللَّهِ بن مسلم بن عقيل، ومُحَمَّد بن أبي سعيد بن عقيل، وقتل عبد الله بن يقطر رضيع الحسين.
وجاء سهم فأصاب ابنا للحسين وهو فِي حجره، فجعل يمسح الدم عنه وهو يقول: اللَّهمّ احكم بيننا وبين قوم دعونا لينصرونا فقتلونا. فحمل شمر بن ذي الجوشن حتى طعن فسطاط الحسين برمحه، ونادى: علي بالنار حتى أحرق هذا البيت على أهله. فصاح النساء وخرجن من الفسطاط، وصاح به الحسين عليه السلام: حرقك الله بالنار.
ثم اقتتلوا حتى وقت الظهر، وصلى بهم الحر صلاة الخوف، ثم اقتتلوا بعد الظهر، وخرج علي بن الحسين الأكبر فشد على الناس وهو يقول:
أنا علي بن الحسين بن علي ... نحن ورب البيت أولى بالنبي
140/ ب/ تاللَّه لا يحكم فينا ابن الدعي
فطعنه مرة بن منقذ فصرعه، واحتوشوه فقطعوه بالسيوف، فقَالَ الحسين: قتل الله قوما قتلوك يا بني، على الدنيا بعدك العفاء. وخرجت زينب بنت فاطمة [تنادي] [1] : يا أخاه يا ابن أخاه. وأكبت عليه، فأخذ بيدها الحسين فردها إلى الفسطاط، وجعل يقاتل قتال الشجاع، وبقي الحسين زمانا ما انتهى إليه رجل منهم [إلا] [2] انصرف عنه وكره أن يتولى قتله، واشتد به العطش فتقدم ليشرب، فرماه حصين بن تميم بسهم فوقع فِي فمه، فجعل يتلقى الدم ويرمي به السماء ويقول: اللَّهمّ أحصهم عددا واقتلهم مددا، ولا تذر على الأرض منهم أحدا.
ثُمَّ جعل يقاتل، فنادى شمر فِي الناس: ويحكم، ما تنتظرون بالرجل، اقتلوه.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول.(5/340)
فضربه زرعة بن شريك على كتفه، وضربه آخر على عاتقه، وحمل عليه سنان بن أنس النخعي فطعنه بالرمح، فوقع، فنزل إليه فذبحه واجتز رأسه، فسلمه إلى خولى بن يزيد الأصبحي، ثم انتهبوا سلبه، فأخذ قيس بن الأشعث عمامته، وأخذ آخر سيفه، وأخذ آخر نعليه، وآخر سراويله، ثم انتهبوا ماله، فقَالَ عمرو بن سعد: من أخذ شيئا فليرده، فما منهم من رد شيئا.
وجاء سنان حتى وقف على فسطاط عمرو بن سعد، ثم نادى:
أوقر ركابي فضة وذهبا ... فقد قتلت السيد المحجبا
قتلت خير الناس أما وأبا ... وخيرهم إذ ينسبون نسبا
فقَالَ له عمرو: يا مجنون، تتكلم بهذا الكلام؟ ثم قَالَ عمرو: من يوطئ فرسه الحسين؟ فانتدب أقوام بخيولهم حتى رضوا ظهره، وأمر بقتل علي بن الحسين، فوقعت عليه زينب وقالت: والله لا يقتل حتى أقتل. فرق لها وكف عنه.
وبعث برأسه ورءوس أصحابه إلى ابن زياد، فجاءت كندة بثلاثة عشر رأسا وصاحبهم قيس بن الأشعث. وجاءت هوازن بعشرين رأسا وصاحبهم/ شمر بن ذي 141/ أالجوشن، وجاءت بنو تميم بسبعة عشر، وبنو أسد بستة، وبنو مدحج بسبعة.
فلما وصل رأس الحسين إلى ابن زياد جعل ينكث ثنيته بقضيب فِي يده، فقَالَ له زيد بن أرقم: والله الذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول للَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على هاتين الشفتين [يقبلهما] [1] . ثم نصب رأس الحسين بالكوفة بعد أن طيف به، ثم دعي زفر بن قيس، فبعث معه برأس الحسين ورءوس أصحابه إلى يزيد، فلما دخل على يزيد قَالَ:
ما وراءك؟ قَالَ: أبشر يا أمير المؤمنين بفتح الله ونصره، ورد علينا الحسين فِي ثمانية عشر من أهل بيته، وستين من شيعته، فسرنا إليهم، فسألناهم أن يستسلموا أو ينزلوا على حكم ابن زياد أو القتال، فاختاروا القتال، فغدونا عليهم من شروق الشمس، فأحطنا بهم، فجعلوا يهربون إلى غير وزر ويلوذون منا بالآكام والحفر كما تلوذ الحمائم من
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.(5/341)
صقر، فو الله ما كان إلا جزر جزور أو نومة قائل حتى أتينا على آخرهم، فهاتيك أجسادهم مجردة، وخدودهم معفرة، تصهرهم الشمس، وتسفى عليه الريح، تزاورهم العقبان والرخم بقي سبسب [1] .
فدمعت عينا يزيد وقَالَ: كنت أرضى من طاعتهم بدون قتل الحسين، لعن الله ابن سمية، أما والله لو أني صاحبه لعفوت عنه. ثم جلس يزيد، ودعى أشراف أهل الشام، وأجلسهم حوله، ثم أدخلهم عليه.
أَخْبَرَنَا [2] عبد الوهاب بن المبارك قال: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار قال:
أخبرنا الحسين بن علي الطناجيري قال: أخبرنا عمر بن أحمد بن شاهين قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سالم قَالَ: حَدَّثَنَا علي بن سهل قال: حدثنا خالد بن خداس قَالَ:
حَدَّثَنَا حماد بن زيد، عن حميل بن مرة، عن أبي الوصي قال:
141/ ب/ نحرت الإبل التي حمل عليها رأس الحسين وأصحابه، فلم يستطيعوا أكلها، كانت لحومها أمر من الصبر.
قَالَ مؤلف الكتاب [3] : ولما جلس يزيد وضع الرأس بين يديه وجعل ينكث بالقضيب على فيه ويقول:
يفلقن هاما [4] من رجال أعزة ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما
فقَالَ أبو برزة- وكان حاضرا: ارفع قضيبك، فو الله لرأيت فاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علي فيه يلثمه.
أَخْبَرَنَا ابن ناصر قَالَ: أَخْبَرَنَا ابن أَحْمَد السراج قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو طاهر مُحَمَّد بن علي العلاف قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ أَخِي مِيمِيٍّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الحسين بْنُ صَفْوَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن محمد القرشي قال: حدثني محمد بن صالح قال: حدثنا
__________
[1] القي من القواء، وهي الأرض القفر الخالية، والسبسب: المفازة.
[2] في ت: «حدثنا» وذلك في كل السند.
[3] في ت: «قال المصنف» .
[4] في ت: «تفلق هام الرجال» .(5/342)
علي بن مُحَمَّد، عن خالد بن يزيد بن بشر السكسكي، عن أبيه، عن قبيصة بن ذؤيب الخزاعي قَالَ:
قدم برأس الحسين، فلما وضع بين يدي يزيد ضربه بقضيب كان فِي يده، ثم قَالَ:
يفلقن هاما من رجال أعزة ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما
أنبأنا علي بن عبيد الله بن الزغواني قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو جعفر بن المسلمة، عن أبي عبيد الله المرزباني قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن أَحْمَد الكاتب قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّهِ بن أبي سعد الوراق قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن يَحْيَى الأحمري قَالَ:
حَدَّثَنَا ليث، عن مجاهد قَالَ:
جيء برأس الحسين بن علي، فوضع بين يدي يزيد بن معاوية، فتمثل بهذين البيتين، يقول:
ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل
فأهلوا واستهلوا فرحا ... ثم قالوا لي: بقيت [1] لأتمثل
قَالَ مجاهد: نافق فيها، ثم والله ما بقي من عسكره أحدا إلا تركه.
قَالَ علماء السير: ثم [دعا] [2] يزيد بعلي بن الحسين وصبيان الحسين ونسائه، فأدخلوا عليه/ فقَالَ لعلي: يا علي، أبوك الذي قطع رحمي، وجهل حقي، ونازعني 142/ أسلطاني، فصنع الله به ما رأيت. فقَالَ علي: مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها 57: 22 [3] . ثم دعا بالنساء والصبيان، فأجلسوا بين يديه، فرأى هيئة قبيحة، فقَالَ: قبح الله ابن مرجانة، لو كانت بينكم وبينه قرابة ما فعل بكم هذا. فرق لهم يزيد، فقام رجل أحمر من أهل الشام فقَالَ: يا أمير المؤمنين، هب لي هذه- يعني فاطمة بنت علي- وكانت وضيئة، فارتعدت وظنت أنهم يفعلون،
__________
[1] في الأصل: «يغيب» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول.
[3] سورة الحديد، الآية: 22.(5/343)
فأخذت بثياب أختها زينب- وكانت زينب أكبر منها- فقالت زينب: كذبت والله، ما ذلك لك ولا له. فغضب يزيد وقَالَ: كذبت، إن ذلك لي، ولو شئت أن أفعله لفعلته، قالت:
كلا والله، ما جعل الله ذلك لك إلا أن يخرج من ملتنا ويدين بغير ديننا، فعاد الشامين فقام وقَالَ: هب لي هذه، فقَالَ: اغرب، وهب الله لك حتفا قاضيا، ثم قَالَ يزيد للنعمان بن بشير: جهزهم بما يصلحهم، وابعث معهم رجلا من أهل الشام أمينا صالحا يسير بهم إلى المدينة.
ثم دخلن دار يزيد، فلم يبق من آل معاوية امرأة إلا استقبلتهن تبكي وتنوح على الحسين، وكان يزيد لا يتغدى ولا يتعشى إلا دعا علي بن الحسين، فدعاه يوما ودعا معه عمرو بن الحسين- وكان صغيرا- فقَالَ يزيد لعمرو: أتقاتل هذا؟ يعني ابنه خالدا. قَالَ:
لا، ولكن أعطني سكينا وأعطه سكينا، ثم أقاتله. فقَالَ يزيد: سنة أعرفها من أحرم [1] ، ثم بعث بهم إلى المدينة، وبعث برأس الحسين إلى عمرو بن سعيد بن العاص- وهو عامله على المدينة- فكفنه ودفنه بالبقيع عند قبر أمه فاطمة. هكذا قَالَ ابن سعد.
وذكر ابن أبي الدنيا أنهم وجدوا فِي خزانة يزيد رأس الحسين، فكفنوه، ودفنوه بدمشق عند باب الفراديس. 142/ ب ولما أتى أهل المدينة مقتل الحسين عليه السلام/ خرجت ابنة عقيل [2] بن أبي طالب ومعها نساؤها حاسرة وهي تبكي وتقول:
ماذا تقولون إن قَالَ النبي لكم ... ماذا فعلتم وأنتم أفضل الأمم [3]
بعترتي وبأهلي عند منطلقي [4] ... منهم أسارى ومنهم ضرجوا بدم
ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم ... أن تخلفوني بشر فِي ذوي رحم
أنبأنا الحسين بن محمد بن عبد الوهاب قال: أخبرنا أبو جعفر بن المسلمة قال:
أخبرنا أبو طاهر المخلص قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن سليمان الطوسي قال: حدثنا الزبير بن
__________
[1] في ت: «شنشنة أعرفها من أخزم» .
[2] في ت: «ولما أتى أهله المدينة خرجت ابنة عقيل» .
[3] في الطبري: «آخر الأمم» .
[4] في الطبري: «بعد مفتقدي» .(5/344)
بكار قَالَ: حدثني عمي مصعب بْن عَبْد اللَّهِ قَالَ: كان علي بن الحسين الأصغر مع أمه، وهو يومئذ ابن ثلاث وعشرين سنة، وكان مريضا، فلما قتل الحسين قَالَ عمرو بن سعد: لا تعرضوا لهذا المريض، قَالَ علي بن الحسين [1] : فغيبني رجل منهم فأكرم منزلي واختصني وجعل يبكي كلما دخل وخرج، حتى كنت أقول: إن يكن عند أحد خير فعند هذا. إلى أن نادى منادي عبيد الله بن زياد: ألا من وجد علي بن الحسين فليأت به، فقد جعلنا فيه ثلاثمائة درهم. قَالَ: فدخل علي والله وهو يبكي، وجعل يربط يدي إلى عنقي ويقول أخاف. وأخرجني إليهم مربوطا حتى دفعني إليهم وأخذ ثلاثمائة درهم وأنا أنظر، وأدخلت على ابن زياد فقَالَ: ما اسمك؟ فقلت: علي بن الحسين. فقال: أو لم يقتل الله عليا؟ قلت: كان أخي، يقال له علي أكبر مني، قتله الناس: قَالَ: بل الله قتله، قلت: الله يتوفى الأنفس حين موتها.
فأمر بقتله، فصاحت زينب بنت علي: يا ابن زياد، حسبك من دمائنا، أسألك باللَّه إن قتلته إلا قتلتني معه. فتركه، فلما صار إلى يزيد بن معاوية قام رجل من أهل الشام فقَالَ: سباياهم لنا حلال، فقَالَ علي بن الحسين: كذبت، ما ذلك لك إلا أن تخرج من ملتنا، فأطرق يزيد/ مليا ثم قَالَ لعلي بن الحسين: إن أحببت أن تقيم، عندنا فنصل 143/ أرحمك فعلت، وإن أحببت وصلتك ورددتك إلى بلدك، قَالَ: بل تردني إلى المدينة.
فوصله ورده. أخبرنا عبد الرحمن القزاز قال: أخبرنا أحمد [بن على] بن ثابت قال: أخبرنا علي بن أحمد الرزاز، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ الصواف قَالَ: حَدَّثَنَا بشر بن مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عمر بن علي قَالَ:
قتل الحسين بن علي سنة إحدى وستين، وهو يومئذ ابن ست وخمسين سنة، فِي المحرم يوم عاشوراء.
وقد قَالَ جعفر بن مُحَمَّد: وهو ابن ثمان وخمسين سنة.
وقَالَ أبو نعيم الفضل بن دكين: وهو ابن خمس وستين أو ست وستين.
__________
[1] «قال علي بن الحسين» : ساقطة من ت.(5/345)
قَالَ مؤلف الكتاب: وهذا لا وجه له، فإنه إنما ولد فِي سنة أربع من الهجرة، ومن نظر في مقدار خلافة الخلفاء إلى زمان قتله علم أنه لم يصل إلى الستين. وقول جعفر بن مُحَمَّد أصح.
وقَالَ هشام بن مُحَمَّد الكلبي: قتل سنة اثنتين وستين. وهو غلط.
أَخْبَرَنَا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ رِزْقٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْر مُحَمَّد بْن عُمَر الْحَافِظُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ الْحُبَابِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخُزَاعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَامِرِ بْنُ أَبِي عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [1] قَالَ:
رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ نِصْفَ النَّهَارِ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ، بِيَدِهِ قَارُورَةٌ، فقلت:
ما هذه القارورة؟ قَالَ: «دَمُ الْحُسَيْنِ وَأَصْحَابِهِ مَا زِلْتُ أَلْتَقِطُهُ مِنْذُ الْيَوْمِ» فَنَظَرْنَا فَإِذَا هُوَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ الْحُسَيْنُ.
أَخْبَرَنَا الْقَزَّازُ قال: أخبرنا أحمد بن علي [2] قال: أخبرنا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ ميَاحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الشَّافِعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شَدَّادٍ الْمِسْمَعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعْيَمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [3] قال:
143/ ب أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/ إِنِّي قَتَلْتُ بِيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا سَبْعِينَ أَلْفًا، وَإِنِّي قَاتِلٌ بِابْنِ ابْنَتِكَ سَبْعِينَ أَلْفًا وَسَبْعِينَ أَلْفًا.
وأَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الجبار قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْن أَحْمَد بْن مُحَمَّد العتيقي قَالَ: سمعت أبا بكر مُحَمَّد بن الحسن بن عبدان الصيرفي يقول: سمعت جعفر الخلدي يقول:
كان بي جرب عظيم فتمسحت بتراب قبر الحسين، فغفوت فانتبهت وليس علي منه
__________
[1] الخبر في تاريخ بغداد 1/ 142.
[2] في الأصل: «أخبرنا الحسين بن علي» .
[3] الخبر في تاريخ بغداد 1/ 142.(5/346)
شيء. وزرت قبر الحسين فغفوت عند القبر غفوة، فرأيت كأن القبر قد شق وخرج منه إنسان، فقلت: إلى أين يا ابن رسول الله؟ فقَالَ: من يد هؤلاء.
وفِي هذه السنة: ولى يزيد بن معاوية سالم بن زياد سجستان وخراسان، فلما شخص خرج معه المهلب بن أبي صفرة، ويَحْيَى بن معمر فِي خلق كثير من أشراف البصرة وفرسانها، ورغب قوم في الجهاد، فطلبوا إليه أن يخرجهم، وخرج معه صلة بن أشيم، فخرج سالم وأخرج معه امرأته أم مُحَمَّد بنت عَبْد اللَّهِ بن عثمان بن أبي العاص، فغزا سمرقند، فهي أول امرأة من العرب قطع بها النهر، وكان عمال خراسان يغزون، فإذا دخل الشتاء قفلوا من مغازيهم إلى مرو، وإذا انصرف المسلمون اجتمع ملوك خراسان إلى مدينة من مدائن خراسان مما يلي خوارزم يتشاورون فِي أمورهم، وكان المسلمون يطلبون إلى أمرائهم غزو تلك المدينة فيأبون عليهم، فلما قدم سالم خراسان شتا فِي بعض مغازيه، فألح عليه المهلب وسأله أن يوجه إلى تلك المدينة، فوجهه فِي ستة آلاف- ويقال: فِي أربعة آلاف- فحاصرهم، فسألوه أن يصالحهم على أن يفدوا أنفسهم، فأجابهم فصالحوه على نيف وعشرين ألف ألف، فحظي بذلك المهلب عند سالم.
وفِي هذه السنة، عزل يزيد عمرو بن سعيد بن العاص عن المدينة، وولاها الوليد بن عتبة، وذلك لهلال ذي الحجة.
وسبب ذلك: أنه لما قتل الحسين قام ابن الزبير فِي مكة، فعظم مقتل الحسين عليه السلام، وعاب أهل الكوفة، ولام أهل العراق، فثار/ [إليه] [1] أصحابه، [فقالوا: 44/ أأيها الرجل، لم يبق من بعد الحسين من ينازعك بيعتك. وقد كان بايع الناس] [2] ، سرا وأظهر أنه عائذ بالبيت، فقَالَ لهم: لا تعجلوا، فلما علم يزيد ما قد جمع ابن الزبير من الجموع أعطى الله عهدا ليوثقن فِي سلسلة. فبعث سلسلة من فضة [3] . وغلالة وابن
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
[3] «فبعث سلسلة من فضة» : ساقطة من ت.(5/347)
الزبير [1] بمكة، وكاتبه أهل المدينة، وقيل ليزيد: لو شاء عمرو بن سعيد لأخذ ابن الزبير وبعث به إليك. فعزل عمرا وبعث الوليد أميرا.
وفِي هذه السنة: حج بالناس الوليد بن عتبة، وكان عامل يزيد على المدينة، وكان على البصرة والكوفة: عبيد الله بن زياد، وعلى المدينة: الوليد بن عتبة- كما ذكرنا- وعلى خراسان وسجستان: سالم بن زياد. وعلى قضاء الكوفة: شريح، وعلى قضاء البصرة: هشام بن هبيرة.
ذكر من توفي فِي هذه السنة من الأكابر
408- جبير بن عتيك بن قيس، أبو عَبْد اللَّهِ [2] :
شهد بدرا والمشاهد كلها مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت معه راية بني معاوية يوم الفتح.
وتوفي فِي هذه السنة وهو ابن إحدى وسبعين سنة.
409- الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام [3] :
ولد فِي شعبان سنة أربع من الهجرة، وَآَذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أذنه، وكان له من الولد: علي الأكبر، وعلي الأصغر- وله العقب- وجعفر، وفاطمة، وسكينة.
وقد ذكرنا مقتله كيف كان فِي الحوادث.
أخبرنا أبو بكر بن أبي طاهر قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري قال: أخبرنا أبو عمر بْن حيوية قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن معروف الخشاب قال: أخبرنا الحسين بن الفهم قال: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عمير قال:
__________
[1] في الأصل: «وغلالة وابن الزبير» .
[2] طبقات ابن سعد 3/ 2/ 37. وفي الأصل: «جبير» .
[3] تهذيب الكمال 1323، والتاريخ الكبير 2/ ترجمة 2846، وغيرها من كتب التاريخ.(5/348)
حج الحسين بن علي عليه السلام خمسا وعشرين حجة ماشيا ونجائبه تقاد معه.
وقيل: علي بن الحسين بن علي هو الذي حج ماشيا والنجائب تقاد خلفه، رضي الله عَنْهُ.
/ تم الجزء الخامس من كتاب «المنتظم في تاريخ الملوك والأمم» تأليف الشيخ 144/ ب الإمام العالم الحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن الجوزي، عفا الله عنه.
ويتلوه في [الجزء] السادس
- شيبة بن عثمان بن أبي طلحة أخبرنا أبو بكر بن أبي طاهر قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري قال: أخبرنا أبو عمر بن حيويه قال: أخبرنا....(5/349)
[المجلد السادس]
بسم الله الرّحمن الرّحيم وبه نستعين
[تتمة سنة إحدى وستين]
[تتمة ذكر من توفى من الأكابر ... ]
410- شيبة بن عثمان بن أبي طلحة [1] :
أخبرنا أبو بكر بن أبي طاهر، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا أبو عمر بْنُ حَيْوَيْهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ مَعْرُوفٍ، قَالَ: حدثنا ابْن الفهم، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ الْوَاقِدِيُّ عَنْ أَشْيَاخٍ لَهُ:
كَانَ شَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ يُحَدِّثُ عَنْ إِسْلامِهِ فَيَقُولُ [2] : مَا رَأَيْتُ أَعْجَبَ مِمَّا كَانَ فِيهِ مِنْ لُزُومِ مَا مَضَى عَلَيْهِ آبَاؤُنَا مِنَ الضَّلالاتِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ دَخَلَ النَّبِيُّ صَلى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّمَ مَكَّةَ عَنْوَةً، قُلْتُ: أسير مَعَ قُرَيْشٍ إِلَى هَوَازِنَ بِحُنَيْنٍ فَعَسَى أَنِ اخْتَلَطُوا أَنْ أُصِيبَ مِنْ مُحَمَّدٍ غِرَّةً فَأَثْأَرُ مِنْهُ، فَأَكُونُ أَنَا الَّذِي قُمْتُ بِثَأْرِ قُرَيْشٍ كُلِّهَا، وَأَقُولُ: لَوْ لَمْ يَبَقَ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ أَحَدٌ إِلا اتَّبَع مُحَمَّدًا مَا اتَّبَعْتُهُ أَبَدًا، فَلَمَّا اخْتَلَطَ النَّاسُ اقْتَحَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ عَنْ بَغْلَتِهِ، وَأَصَلْتُ السَّيْفَ [3] فَدَنَوْتُ أُرِيدُ مَا أُرِيدُ مِنْهُ، وَرَفَعْتُ سَيْفِي فَرُفِعَ لِي شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ كَالْبَرْقِ حَتَّى كَانَ يُمْحِشُنِي، فَوَضَعْتُ يَدَيَّ عَلَى بَصَرِي خَوْفًا عَلَيْهِ، فَالْتَفَتُّ إلي رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ فناداني: «يا شبيب [4] ، ادْنُ مِنِّي» ، فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَمَسَحَ صَدْرِي وَقَالَ: «اللَّهمّ أعذه من الشيطان» . فو الله لهو كان سَاعَتَئِذٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ سَمْعِي وَبَصَرِي وَنَفْسِي، فَأَذْهَبَ اللَّهُ مَا كَانَ بِي، ثُمَّ قَالَ: «ادن فقاتل» فتقدمت أمامه
__________
[1] انظر ترجمته في: طبقات ابن سعد 5/ 1/ 331، والتاريخ الكبير للبخاريّ 4/ 2661، وتهذيب تاريخ دمشق 6/ 439، والبداية والنهاية 8/ 230.
[2] الخبر غير موجود في ابن سعد.
[3] كذا في الأصل، وفي البداية: «وانتضيت سيفي» .
[4] في ت، والبداية: «يا شيبة» .(6/3)
أَضْرِبُ بِسَيفِي، اللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّ أَنْ أَقِيَهُ بِنَفْسِي كُلَّ شَيْءٍ، وَلَوْ لَقِيتُ تِلْكَ السَّاعَةَ أَبِي لَوْ كَانَ حَيًّا لأَوْقَعْتُ بِهِ السَّيْفَ، فَلَمَّا [1] تَرَاجَعَ الْمُسْلِمُونَ وَكَرُّوا كَرَّةً وَاحِدَةً [2] ، قَرُبَتْ بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَوَى عَلَيْهَا فَخَرَجَ فِي أَثَرِهِمْ حَتَّى تَفَرَّقُوا فِي كُلِّ وَجْهٍ، وَرَجَعَ إِلَى مُعَسْكَرِهِ/ فَدَخَلَ خِبَاءَهُ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: «يَا شَيْبَةُ [3] ، الَّذِي أَرَادَ اللَّهُ بِكَ خَيْرٌ مِمَّا أَرَدْتَ بِنَفْسِكَ» ، ثُمَّ حَدَّثَنِي بِكُلِّ مَا أَضْمَرْتُ فِي نَفْسِي مِمَّا لَمْ أَكُنْ أَذْكُرُهُ لأَحَدٍ قَطُّ، فَقُلْتُ: فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا الله وأنك رسول الله، ثُمَّ قُلْتُ: اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ. قال الواقدي: كان عثمان بن أبي طلحة يلي فتح البيت إلى أن توفي، فدفع ذلك إلى شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، وهو ابن عمه، فبقيت الحجابة في ولد شيبة.
411- عبد المطلب بْن ربيعة بْن الحارث بْن عَبْد المطلب بن هاشم [4] :
صحب رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ، وروى عنه، ولم يزل بالمدينة إلى عهد عمر، ثم تحول إلى دمشق فابتنى بها دارا، وتوفي بها في خلافة يزيد [بن معاوية] [5] ، وإليه أوصى.
412- ميمونة بنت الحارث، زوج رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ [6] :
تزوجها في عمرة القضية بسرف، بعد أن خرج من مكة، وبنى بها هناك، واتفق أنها ماتت هناك في هذه السنة.
413- الوليد بن عقبة بن أبي معيط، أبو وهب [7] :
قتل عقبة يوم بدر صبرا، وأسلم الوليد يوم فتح مكة، وبعثه رسول الله صلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم علي صدقات بني المصطلق وخزاعة، وكانوا قد أسلموا وبنوا المساجد بساحاتهم، فخرجوا
__________
[1] في الأصل: «فلم تراجع» .
[2] في الأصل: «وكروا كرة رجل واحد» .
[3] في الأصول: «يا شيب» .
[4] طبقات ابن سعد 4/ 1/ 39، والإصابة 5246، وتهذيب التهذيب 6/ 383، والبداية والنهاية 8/ 231.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[6] طبقات ابن سعد 8/ 94، والبداية والنهاية 8/ 63.
[7] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 15، 7/ 2/ 176، الجرح والتعديل 9/ 8.(6/4)
يتلقونه بالسلاح، [فظنهم محاربين، فرجع فأخبر النبي صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ أنهم لما رأوه لقوه بالسلاح] [1] ومنعوا الصدقة، فهم رَسُولُ اللَّهِ صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ إِنَّ يبعث إليهم بعثا، وبلغهم ذلك، فقدموا على رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ فقالوا: سله هل ناطقنا أو كلمنا حتى رجع ونحن قوم مؤمنون، فنزل على رسول الله صَلى اللهُ عليه وسلم وهو يكلمهم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ ... 49: 6 [2] الآية.
وولاه عمر صدقات بني تغلب، وولاه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص ثم عزله عنها، فلم يزل بالمدينة حتى بويع علي، فخرج إلى الرقة فنزلها معتزلا/ لعلي ومعاوية، فمات بها، وقبره على خمسة عشر ميلا من الرقة، كان له هناك ضيعة فمات بها.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] سورة: الحجرات، الآية: 6.(6/5)
ثم دخلت سنة اثنتين وستين
فمن الحوادث فيها مقدم وفد المدينة على يزيد ومبايعتهم محمد بن حنظلة [1]
وكان السبب في ذلك أن يزيد لما عزل عمرو بن سعيد، وولى الوليد بن عتبة، قدم الوليد [المدينة] [2] فأخذ غلمانا لعمرو، نحوا من ثلاثمائة فحبسهم، فكلمه فيهم عمرو فأبى أن يخليهم، فخرج عمرو من المدينة وكتب إلى غلمانه: إني باعث إلى كل رجل منكم جملا وأداته، تناخ لكم بالسوق [3] ، فإذا أتاكم رسولي فاكسروا باب السجن، ثم ليقم كل رجل منكم إلى جمله فليركبه، ثم أقبلوا علي [4] .
ففعل ذلك، فقدم على يزيد، فرحب به وعاتبه على تقصيره في أشياء يأمره بها في ابن الزبير، فقال: يا أمير المؤمنين: الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، وإن جل أهل الحجاز مالوا إليه، ولم يكن معي جند أقوى عليه لو ناهضته، فكنت أداريه لأتمكن منه [5] ، مع أني قد ضيقت عليه، فجعلت على مكة وطرقها رجالا لا يدعون أحدا يدخلها حتى يكتبوا لي اسمه واسم أبيه، وما جاء به، فإن كان ممن أرى أنه يريده رددته صاغرا، وقد بعثت الوليد وسيأتيك من عمله ما تعرف به فضل مبايعتي ومناصحتي.
__________
[1] تاريخ الطبري 5/ 478، والبداية والنهاية 8/ 232.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من الطبري.
[3] في الأصل: «تناح لكم بالحوف» . وما أوردناه من ت، والطبري.
[4] في الأصل: «ثم أقبلوا إليّ» ، وما أوردناه من الله والطبري.
[5] كذا في الأصل، وفي الطبري: «لأستمكر منه» وساقطة من ت.(6/6)
فعزل يزيد الوليد، وبعث عثمان بن محمد بن أبي سفيان وهو حدث لم يحنكه السن، وكان لا يكاد ينظر في شيء من عمله. وبعث إلى يزيد وفدا من المدينة فيهم عبد الله بن حنظلة الغسيل، والمنذر بن الزبير، فأكرمهم وأجازهم، ثم رجعوا إلى المدينة فأظهروا شتم يزيد وقالوا: قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر، ويعزف بالطنابير ويلعب بالكلاب، وإنا/ نشهدكم أنا قد خلعناه.
وقال المنذر: والله لقد أجازني بمائة ألف درهم، وإنه لا يمنعني ما صنع إلي أن أصدقكم عنه، والله إنه ليشرب الخمر، وإنه ليسكر حتى يدع الصلاة. ثم بايعوا عبد الله بن حنظلة.
وفيها: حج بالناس الوليد بن عتبة، وكان العمال على البلاد في هذه السنة هم العمال فِي السنة التي قبلها، وقد ذكرناهم.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر.
414- بريدة بن الحصيب بن عبد الله بن الحارث بن الأعرج، أبو عبد الله: [1]
أسلم لما مر به النبي صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ في طريق الهجرة.
وذلك أن رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ لما خرج من مكة إلى المدينة فانتهى إلى الغميم أتاه بريدة بن الحصيب فدعاه رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم إلى الإسلام هو ومن معه، وكانوا زهاء ثمانين بيتا، فصلى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العشاء وصلوا خلفه ليلتئذ صدرا من سورة مريم، ثم قدم على رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ [المدينة] [2] بعد أن مضت بدر وأحد فتعلم بقية السورة، وغزا معه مغازيه [3] بعد ذلك، واستعمله على أسارى المريسيع، وأعطاه لواء يوم الفتح، وبعثه على أسلم وغفار يصدقهم، وإلى أسلم لما أراد غزوة تبوك يستنفرهم، ولم يزل مقيما بالمدينة مع رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ إلى أن توفي، فلما فتحت البصرة تحول إليها واختلط بها، ثم خرج
__________
[1] طبقات ابن سعد 4/ 1/ 78، 7/ 1/ 3، 7/ 2/ 99، والتاريخ الكبير للبخاريّ 2/ 1/ 141، والجرح والتعديل 1/ 1/ 424، وأسد الغابة 1/ 175، وسير أعلام النبلاء 2/ 469، والبداية والنهاية 8/ 234.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «معونة» .(6/7)
غازيا إلى خراسان، فمات بمرو في خلافة يزيد.
415- الرّبيع بن خيثم، أبو يزيد الثوري [1] :
روى عن ابن مسعود وغيره.
أخبرنا علي بن عبد الواحد الدينَوَريّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن عُمَر القزويني، قَالَ: أخبرنا أبو بكر بن شاذان، قال: أخبرنا البغوي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن حنبل، قَالَ: حَدَّثَنَا محمد بن فضيل، عن أبيه، عن سعيد بن مسروق، قال: قال عبد الله للربيع بن خيثم [2] :
لو رآك رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ/ لأحبك.
قال أحمد: وحدثني عبد الرحمن بن مهدي، عن عبد الواحد عن عبد الله بن الربيع، عن أبي عبيدة، قال:
كان عبد الله يقول للربيع: ما رأيتك إلا ذكرت المخبتين [3] .
وكان الربيع إذا أتى عبد الله لم يكن عليه إذن حتى يفرغ كل واحد منهما من صاحبه، وكان الربيع إذا جاء إلى باب عبد الله يقول للجارية: من بالباب؟ فتقول الجارية ذلك الشيخ الأعمى.
وروى سفيان [4] بن نسير بن ذعلوق، عن إبراهيم التيمي، قال: أخبرنا من صحب [5] الربيع بن خثيم عشرين عاما ما سمع منه كلمة تعاب.
وأخبرنا سفيان، قال: أخبرتني سرية الربيع بن خيثم قالت:
__________
[1] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 127، وطبقات خليفة 141، والتاريخ الكبير 3/ 917، وحلية الأولياء 2/ 105، وسير أعلام النبلاء 4/ 258، والجرح والتعديل 3/ 2068، والبداية والنهاية 8/ 234.
[2] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 127.
[3] المخبتون: المطمئنون، وقيل: هم المتواضعون الخاشعون لربهم.
[4] في الأصل: «عن سفيان» . وما أوردناه من ت، والخبر في طبقات ابن سعد 6/ 1/ 128.
[5] كذا في الأصل، وابن سعد، وفي ت: «من سمع» .(6/8)
كان عمل الربيع بن خثيم كله سرا، كان ليجيء الرجل وقد نشر المصحف فيغطيه بثوبه.
416- الرباب بنت امرئ القيس: [1]
تزوجها الحسين بن علي رضي الله عنهما، فولدت له سكينة، وكان يحبها حبا شديدا، ويقول:
لعمرك إنني لأحب دارا ... تحل بها سكينة والرباب
أحبهما وأبذل جل مالي [2] ... وليس لعاتب عندي عتاب
وكانت الرباب معه يوم الطف، فرجعت إلى المدينة مصابة مع من رجع، فخطبها الأشراف من قريش، فقالت: والله لا يكون حمو آخر بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فعاشت بعد الحسين رضي الله عنه سنة لم يظلها سقف، فبليت وماتت كمدا.
417- علقمة بن قيس بن عبد الله، أبو شبل النخعي الكوفي: [3]
وهو عم الأسود وعبد الله ابني يزيد. وخال إبراهيم التيمي.
روى عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وحذيفة، وأبي الدرداء، وأبي موسى، وغيرهم. روى عنه أبو وائل، والشعبي، والنخعي وابن سيرين.
وشهد حرب الخوارج بالنهروان، وكان/ من العلماء الربانيين، مقدما في الحديث والفقه والزهد والورع، وكان يشبه بابن مسعود.
418- عمرو بن حزم بن زيد بن لوذان بن عمرو بن عوف، أبو الضحاك: [4]
استعمله النبي صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ على نجران اليمن وهو ابن سبع عشرة سنة، وتوفي رسول
__________
[1] المحبر 396، وأعلام النساء 1/ 378.
[2] في الأصل: «وأبذل فوق جهدي» . وما أوردناه من ت. والبيتان في الأغاني في 16/ 147، 148.
[3] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 57، وتاريخ بغداد 12/ 296، وحلية الأولياء 2/ 98، وتذكرة الحفاظ 1/ 45، وتهذيب 7/ 276.
[4] البداية والنهاية 8/ 235، والإصابة 5812.(6/9)
الله صلى الله عليه وسلم وهو عامله على نجران، وعاش عمرو حتى أدرك معاوية وبيعته لابنه يزيد.
وتوفي بالمدينة.
419- عقبة بن نافع بن عبد قيس الفهري: [1]
وجهه معاوية إلى أفريقية غازيا في عشرة آلاف من المسلمين فافتتحها واختط قيروانها، وقد كان موضعه غيطة لا ترام من السباع والحيات وغير ذلك من الدواب، فدعا الله تعالى عليها ونادى: إنا نازلون فاظعنوا، فلم يبق شيء مما كان من السباع وغيرها إلا خرج، وجعلن يخرجن من جحرهن هوارب، حتى أن السباع كانت تحمل [2] أولادها.
ثم قدم بعد موت معاوية على يزيد فرده واليًا على أفريقية في هذه السنة، فعرض له جمع من الروم والبربر وهو في قل، فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل عقبة شهيدا.
420- مسلمة بن مخلد بن الصامت، أبو معن، ويقال: أبو سعيد: [3]
ولد حين قدم رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ المدينة. وسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد فتح مصر واختلط بها، وولي الجند لمعاوية بن أبي سفيان ولابنه يزيد.
روى عنه علي بن رباح وغيره، وتوفي في ذي القعدة من هذه [4] السنة.
421- نوفل بن معاوية بن عمرو بن صخر بن يعمر: [5]
شهد بدرا مع المشركين، وأحدا والخندق، وكان له ذكر ونكاية، ثم أسلّم بعد
__________
[1] البداية والنهاية 8/ 235، والإستقصاء 1/ 36، 38، والبيان المغربي 1/ 19، وفتح العرب للمغرب 130، 152.
[2] من هنا سقاط من الله حتى باب ذكر خلافة عبد الملك بن مروان سنة خمس وستين.
[3] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 195، والإصابة 7991، والسيرة الحلبية 2/ 138، وتهذيب 10/ 148.
[4] في الأصل: «في» وما أوردناه من ت.
[5] البداية والنهاية 8/ 235، الإستيعاب بهامش الإصابة 3/ 509، وتهذيب التهذيب 10/ 493.(6/10)
ذلك وشهد مع رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ فتح مكة وحنينا والطائف، ونزل المدينة، وحج مع أبي بكر سنة تسع، / وحج مع رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ سنة عشر.
وروى عن رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ، وعاش ستين سنة في الجاهلية، وستين سنة في الإسلام، وتوفي في خلافة يزيد، وكان له ولد اسمه سلمى، وكان أجود العرب، وفيه يقول الشاعر:
يسود أقوام وليسوا بسادة ... بل السيد المحمود سلمى بن نوفل(6/11)
ثم دخلت سنة ثلاث وستين
فمن الحوادث فيها أخرج أهل المدينة عامل يزيد وهو عثمان بن محمد بن أبي سفيان وخلعوا يزيد [1]
فذكر أبو الحسين المدائني عن أشياخه: أن أهل المدينة أتوا المنبر، فخلعوا يزيد، فقال عبد الله بن أبي عمرو بن حفص المخزومي: قد خلعت يزيد كما خلعت عمامتي- ونزعها عن رأسه- وإني لا أقول هذا وقد وصلني وأحسن جائزتي، ولكن عدو الله سكير.
وقال آخر: قد خلعته كما خلعت نعلي، حتى كثرت العمائم والنعال، ثم ولوا على قريش عبد الله بن مطيع، وعلى الأنصار عبد الله بن حنظلة، ثم حاصر القوم من كان بالمدينة من بني أمية ومواليهم ومن يرى رأيهم.
فكتب مروان وجماعة من بني أمية إلى يزيد: «إنا قد حصرنا في دار مروان، ومنعنا العذب، فيا غوثاه» .
فوصل الكتاب إليه وهو جالس على كرسي واضع قدميه في ماء في طست من وجع كان به- ويقال إنه كان به نقرس- ثم قال للرسول: أما يكون بنو أمية ومواليهم بالمدينة ألف رجل؟ فقال: بلى وأكثر، قال: فما استطاعوا أن يقاتلوا ساعة من نهار، فقال: أجمع الناس عليهم، فلم/ يكن بهم طاقة، فبعث إلى عمرو بن سعيد فأقرأه
__________
[1] تاريخ الطبري 5/ 482 وقد ورد العنوان في الأصل: «إخراج أهل» .(6/12)
الكتاب وأمره أن يسير إليهم، فقال: قد كنت ضبطت لك البلاد وأحكمت الأمور، فأما الآن فإنما هي دماء قريش تهراق، فلا أحب أن أتولى ذلك.
قال: فبعثني بالكتاب إلى مسلم بن عقبة وهو شيخ كبير، فجاء حتى دخل على يزيد، فقال: اخرج وسر بالناس. فخرج مناديه فنادى: أن سيروا إلى الحجاز على أخذ أعطياتكم كملا [1] ومعونة مائة دينار توضع في يد الرجل من ساعته، فانتدب لذلك اثني عشر ألفا، وكتب يزيد إلى ابن مرجانة: أن اغز ابن [2] الزبير، فقال: لا والله لا أجمعهما [3] للفاسق أبدا، أقتل ابْن [بنت] [4] رَسُول اللَّهِ صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ، وأغزو البيت.
وفصل ذلك الجيش من عند يزيد وعليهم مسلم بن عقبة، وقال له: إن حدث بك حادث [5] فاستخلف على الجيش حصين بن نمير السكوني، وقال له: ادع القوم ثلاثا، فإن هم أجابوك وإلا فقاتلهم، فإذا ظهرت عليهم فأبحها ثلاثا، فما فيها من مال أو سلاح أو طعام فهو للجند، فإذا مضت الثلاث فاكفف عنهم، وانظر علي بن الحسين فاستوص به [خيرا] [6] ، أدن مجلسه فإنه لم يدخل في شيء مما دخلوا فيه.
وأقبل مسلم بن عقبة بالجيش حتى إذا بلغ أهل المدينة إقباله وثبوا على من معهم من بني أمية فحصروهم [7] في دار مروان، فقالوا: لا والله لا نكف عنكم حتى نستنزلكم، ونضرب أعناقكم، أو تعطونا عهد الله وميثاقه أن لا تبغونا غائلة، ولا تدلوا لنا على عورة، ولا تظاهروا علينا عدوا، فأعطوهم العهد على ذلك، فأخرجوهم من المدينة، فخرجوا بأثقالهم حتى لقوا مسلم بن عقبة بوادي القرى، فدعا بعمرو بن عثمان وقال له: أخبرني ما وراءك، وأشر علي، قال: لا أستطيع أن أخبرك/ شيئا،
__________
[1] أي: كاملا، هكذا يتكلم به في الجميع والوحدان سواء، ولا يثنى ولا يجمع، وليس بمصدر ولا نعت، إنما كقولك أعطيته كله.
[2] في الأصل: «أن أعزوا ابن الزبير، وما أوردناه من الطبري.
[3] في الأصل: «أجمعها» . وما أوردناه من الطبري.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من الطبري.
[5] كذا في الأصل، وفي الطبري: «إن حدث بك حدث» .
[6] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من الطبري.
[7] في الأصل: «وهم محصورون» . وما أوردناه من الطبري.(6/13)
أخذت علينا العهود والمواثيق أن لا ندلك على عورة، فانتهره وقال: لولا أنك ابن عثمان لضربت، وأيم الله لا أقيلها قرشيا بعدك، فخرج بما لقي من عنده إلى أصحابه، فقال مروان لابنه عبد الملك: ادخل [1] قبلي لعله يجتزئ بك عني [2] ، فدخل عليه عبد الملك، فقال: هات ما عندك، أخبرني خير الناس، وكيف ترى؟ فقال له: أرى أن تسير بمن معك حتى تأتيهم من قبل الحرة، ففعل وقال: يا أهل المدينة، إن أمير المؤمنين يزيد يزعم أنكم الأصل، ويقول: إني أكره إراقة دمائكم، وإني أؤجلكم ثلاثا، فمن راجع الحق أمنته ورجعت عنكم وسرت إلى هذا الملحد الذي بمكة، وإن أبيتم فقد أعذرنا إليكم، فلما مضت الأيام الثلاثة قال: يا أهل المدينة ما تصنعون؟ قالوا:
نحارب، فقال: لا تفعلوا وادخلوا في الطاعة، فقالوا: لا نفعل. وكانوا قد اتخذوا خندقا ونزله منهم جماعة وكان عليهم عبد الرحمن بن زهير بن عبد عوف [3] ، وكان عبد الله بن مطيع على ربع آخر في جانب المدينة، وكان معقل بن سنان الأشجعي على ربع آخر وكان أمير جماعتهم عبد الله بن حنظلة الغسيل الأنصاري في أعظم تلك الأرباع وأكثرها عددا [4] .
وقيل: كان ابن مطيع على قريش، وابن حنظلة على الأنصار، ومعقل بن سنان على المهاجرين.
فحمل ابن الغسيل على الخيل حتى كشفها، وقاتلوا قتالا شديدا، وجعل مسلم يحرض أصحابه- وكان مريضا، فنصب له سرير بين الصفين- وقال: قاتلوا عن أميركم، وأباح مسلم المدينة ثلاثا، يقتلون الناس ويأخذون الأموال، فأرسلت سعدى بنت عوف المرية [5] إلى مسلم، تقول بنت عمك مر أصحابك لا/ يعترضوا الإبل لنا بمكان كذا، فقال: لا تبدءوا إلا بها. وجاءت امرأة إلى مسلم وقالت: أنا مولاتك وابني
__________
[1] في الأصل: «أخرج» ، وما أوردناه من الطبري.
[2] في الأصل: «يجتزي بك مني» وما أوردناه من الطبري.
[3] في الأصل: «عبد الرحمن بن أزهر» وما أوردناه من الطبري.
[4] في الأصل: «وأكثرهم عددا» . وما أوردناه من الطبري.
[5] في الطبري: «سعدى بنت عوف المدينة» .(6/14)
في الأسرى، فقال: عجلوه لمكانها، فضربت عنقه وقال: اعطوها رأسه، أما ترضين أن لا تقتلي حتى تكلمي في ابنك، ووقعوا على النساء، وقاتل عبد الله بن مطيع حتى قتل هو وبنون له سبعة، وبعث برأسه إلى يزيد.
فأفزع ما جرى من كان بالمدينة من الصحابة، فخرج أبو سعيد الخدري حتى دخل الجبل، فدخل عليه رجل بسيف، فقال: من أنت؟ فقال: أبو سعيد، فتركه.
أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا المبارك بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّد بن عبد الواحد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو بكر أحمد بْن إبراهيم بن شاذان، قال:
أخبرنا أحمد بن محمد بن شيبة البزاز، قال: أخبرنا أحمد بن الحارث الخزاز، قال:
حدثنا أبو الحسن المدائني، عن أبي عبد الرحمن القرشي، عن خالد الكندي، عن عمته أم الهيثم بنت يزيد، قالت:
رأيت امرأة من قريش تطوف، فعرض لها أسود، فعانقته وقبلته، فقلت: يا أمة الله، أتفعلين هذا بهذا الأسود، قالت: هو ابني وقع علي أبوه يوم الحرة، فولدت هذا.
وعن المدائني، عن أبي قرة، قال: قال هشام بن حسان [1] : ولدت ألف امرأة بعد الحرة من غير زوج، ثم دعى مسلم بالناس إلى البيعة ليزيد، وقال: بايعوا على أنكم خول له، وأموالكم له، فقال يزيد بن عبد الله بن ربيعة: نبايع على كتاب الله، فأمر به فضربت عنقه، وبدأ بعمرو بن عثمان، فقال: هذا الخبيث ابن الطيب، فأمر به فنتفت لحيته.
أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عبد الجبار، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عبد الواحد، قَالَ: أخبرنا أبو بكر بْن شَاذَان، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن محمد بن شيبة، قال: / أخبرنا أحمد بن الحارث، قال: حدثنا المدائني، عن حويرثة وابن جعدية:
أن مسلما نظر إلى قتلى الحرة، فقال: إن دخلت النار..... [2] بعدها ولا إني لشقي.
__________
[1] الخبر في البداية والنهاية 8/ 239.
[2] مكان النقط في الأصل بياض.(6/15)
وأسر مسلم أسراء فحبسهم ثلاثة أيام لم يطعموا فجاءوا بسعيد بن المسيب إلى مسلم، فقالوا: بايع، فقال: أبايع على سيرة أبي بكر وعمر، فأمر بضرب عنقه، فشهد له رجل أنه مجنون فخلى عنه.
وعن المدائني، عن علي بن عبد الله القرشي، وأبي إسحاق التميمي، قال: لما انهزم أهل المدينة والصبيان، فقال ابن عمر: بعثمان ورب الكعبة.
وعن المدائني، عن محمد بن عمر قال: قال ذكوان مولى مروان: شرب مسلم بن عقبة دواء بعد ما انهب المدينة، ودعا بالغداء، فقال له الطبيب: لا تعجل فإنّي أخاف عليك إن أكلت قبل أن يعمل الدواء، قال: ويحك، إنما أحب البقاء حتى أشفي قلبي- أو قال: نفسي- من قتلة عثمان، فقد أدركت ما أردت فليس شيء أحب إلي من الموت على طهارتي، فإني لا أشك أن الله قد طهرني من ذنوبي بقتلي هؤلاء الأرجاس.
وعن المدائني، عن شيخ من أهل المدينة، قال: سألت الزهري: كم كانت القتلى يوم الحرة؟ قال: سبعمائة من وجوه الناس من قريش والأنصار والمهاجرين ووجوه الموالي، وممن لا يعرف من عبد وحر وامرأة عشرة آلاف، وكانت الوقعة لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين، وانتهبوا المدينة ثلاثة أيام.
وعن المدائني، عن ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن رجل من قريش، قال: كنت أنزل بذي الحليفة فدخلت المسجد فإذا رجل مريض، قلت: من أنت؟ قال: أنا رجل من خثعم أقبلت نجران فمرضت فتركني أصحابي ومضوا، فحولته إلى المنزل، فكان عندنا حتى صح، وأقام عندنا حينا كرجل منا، وعملت لصاحبتي حليا بمائة دينار وهو يرى ذلك، ثم خرج إلى الشام، فقدم المدينة أيام الحرة وقد/ تحولنا من ذي الحليفة إلى المدينة، فلما انتهب مسلم المدينة أتانا في جماعة فسمعت الجلبة في الدار، فخرجت فإذا أنابه وأصحابه خارجا، فقلت له: قد كنا نتمناك، قال: ما جئت إلا لأدفع عن دمك، ولكني آخذ مالك، فإن الأمير قد أمرنا بالنهب، وسيؤخذ ما عندك وأنا أحق به، فقلت: أنت لعمري أحق به، فاصرف أصحابك وخذه وحدك، فخرج فرد أصحابه ورجع، فقال: ما فعل الحلي؟ قلت: على حاله، قال: فهاته، قلت: هو مدفون بذي الحليفة عند البئر التي رأيت، فإذا أمسينا خرجنا إليها فأدفعه إليك. فلما أمسيت خرجت(6/16)
أنا وهو وتبعني ابنان لي حتى انتهينا إلى البئر وطولها ثلاثون ذراعا، فأخذناه أنا وابناي، فشددناه وثاقا، وأرميناه في البئر ودفناه فيها ورجعنا، فلما أصبحنا إذا رجل ممن كان معه بالأمس قد أتانا، فقال: أين أبو المحرش؟ قلنا: غدا حين أصبح، قال: أراه والله خدعنا وأخذ المتاع، قلنا: ما أخذ شيئا، ادخل فانظر، فدخل فأغلقنا عليه الباب وقتلناه.
وعن المدائني، عن سلمان بن أبي سلمان، عن أبي بكر بن إبراهيم بن نعيم بن النحام، قال:
مر ركب من أهل اليمن إلى الشام يريدونه ومعهم رجل مريض، فأرادوا دفنه وهو حي، فمنعهم أبي فمضوا وخلفوه، فلم يلبث أن بريء وصح، فجهزه أبي وحمله، وكان ممن قدم مع مسلم، فرأته جاريه لنا، فعرفته، فقالت: عمرو، فقال: نعم وعرفها، قال:
ما فعل أبو إسحاق؟ قالت: قتل، فقال لأصحابه: هؤلاء أيسر أهل [بيت] [1] بالمدينة، فانتهبوا منزلهم، فكان يضرب به المثل بالمدينة: «وأنت أقل شكرا من عمرو» .
ثم استخلف مسلم على المدينة روح بن زنباع، وسار إلى ابن الزبير، فاحتضر في الطريق، فقال لحصين بن نمير: إنك تقدم بمكة ولا منعة لهم ولا سلاح، / ولهم جبال تشرف عليهم، فانصب عليهم المنجنيق فإنهم بين جبلين، فإن تعوذوا بالبيت فارمه واتجه على بنيانه.
قال أبو معشر والواقدي: كانت وقعة الحرة يوم الأربعاء لليلتين خلتا من ذي الحجة سنة ثلاث وستين.
وقال بعضهم: لثلاث بقين منه.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
422- ربيعة بن كعب الأسلمي: [2]
أسلم قديما وكان من أهل الصفة، وكان يَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويبيت على بابه
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من هامش الأصل.
[2] طبقات ابن سعد 4/ 2/ 44، وحلية الأولياء 2/ 31، والاستيعاب 4/ 1727، وأسد الغابة 2/ 171.(6/17)
لحوائجه، ويغزو معه، فلما مات رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ خرج فنزل [يين، وهي من بلاد أسلم، وهي] [1] على بريد من المدينة، وبقي إلى أيام الحرة.
أَخْبَرَنَا ابن الحصين، قال: أخبرنا ابن المذهب، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثِني مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ نُعَيْمٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: [2] كُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقُومُ لَهُ فِي حَوَائِجِهِ نَهَارِي أَجْمَعَ حَتَّى يُصَلِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ الآخِرَةَ، فَأَجْلِسُ بِبَابِهِ إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ أَقُولُ: لَعَلَّهُ أَنْ تَحْدُثَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّمَ حَاجَةً، فَمَا أَزَالَ أَسْمَعُهُ يَقُولُ: [3] سُبْحَانَ اللَّهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ، [سُبْحَانَ اللَّهِ] [4] وَبِحَمْدِهِ، حَتَّى أَمَلَّ [5] فَأَرْجِعُ أَوْ تَغْلِبَنِي [6] عَيْنِي فَأَرْقُدُ. [قَالَ] : فَقَالَ لِي يَوْمًا لَمَّا يَرَى مِنْ خِفَّتِي [7] [لَهُ] [8] وَخِدْمَتِي إِيَّاهُ: يَا رَبِيعَةُ، سَلْنِي أُعْطِكَ [9] . قَالَ: فَقُلْتُ: أَنْظُرُ فِي أَمْرِي يَا رَسُولَ اللَّهِ ثُمَّ أُعْلِمُكَ ذَلِكَ، قَالَ: فَفَكَّرْتُ فِي نَفْسِي فَعَرَفْتُ أَنَّ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ وَزَائِلَةٌ، وَأَنَّ لِي فِيهَا رِزْقًا سَيَكْفِينِي وَيَأْتِينِي. قَالَ: فَقُلْتُ: أَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّمَ لآخِرَتِي، فَإِنَّهُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْمَنْزِلِ الَّذِي هُوَ بِهِ، قَالَ: / فَجِئْتُهُ فَقَالَ: مَا فَعَلْتَ يَا رَبِيعَةُ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: نَعَمْ يَا رسول الله، أَسْأَلُكَ أَنْ تَشْفَعَ لِي إِلَى رَبِّكَ فَيَعْتِقَنِي مِنَ النَّارِ، قَالَ: فَقَالَ: «مَنْ أَمَرَكَ بِهَذَا يَا رَبِيعَةُ؟» قَالَ: فَقُلْتُ: لا وَاللَّهِ الَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا أَمَرَنِي بِهِ أَحَدٌ، وَلَكِنَّكَ لَمَّا قُلْتَ سَلْنِي أُعْطِكَ، وَكُنْتَ مِنَ اللَّهِ بِالْمَنْزِلِ الَّذِي أَنْتَ بِهِ نَظَرْتُ فِي أَمْرِي وعرفت أن الدنيا
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ابن سعد.
[2] الخبر في مسند أحمد بن حنبل 4/ 59.
[3] في المسند: «أسمعه يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» .
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من المسند.
[5] في الأصل: «حتى أصلي» ، وما أوردناه من المسند.
[6] في الأصل: «أمر يعلى» هكذا بدون نقط، وما أوردناه من المسند.
[7] في المسند: «حقي» .
[8] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من المسند.
[9] في المسند: «سلني يا ربيعة أعطك» .(6/18)
مُنْقَطِعَةٌ وَزَائِلَةٌ، وَأَنَّ لِيَ فِيهَا رِزْقًا سَيَأْتِينِي، فَقُلْتُ: أَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّمَ لآخِرَتِي، قَالَ:
فَصَمَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّمَ طَوِيلا، ثُمَّ قَالَ لِي: «إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ [بِكَثْرَةِ] [1] السُّجُودِ» .
423- عبد الله بن حنظلة الغسيل ابن أبي عامر الراهب: [2]
كان حنظلة لما أراد الخروج إلى أحد وقع على امرأته جميلة، فعلقت بعبد الله في شوال على رأس اثنين وثلاثين شهرا من الهجرة، وقتل حنظلة يومئذ شهيدا فغسلته الملائكة، فقال لولده: بنو غسيل الملائكة، وولدت جميلة عبد الله، فقبض رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ ولعبد الله سبع سنين.
ولما وثب أهل المدينة ليالي الحرة فأخرجوا بني أمية عن المدينة، وأظهروا عيب يزيد، أجمعوا على عبد الله، فأسندوا أمرهم إليه فبايعهم على الموت وقال: يا قوم، اتقوا الله وحده، فو الله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء، إن رجلا ينكح الأمهات والبنات والأخوات، ويشرب الخمر ويدع الصلاة، والله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت للَّه فيه بلاء حسنا. فتواثب الناس يومئذ يبايعون من كل النواحي. وما كان لعبد الله بن حنظلة تلك الليالي [3] مبيت إلا المسجد، فلما دخلوا المدينة قاتل حتى قتل يومئذ.
424- أبو عائشة الهمداني، واسمه مسروق بن الأجدع بن مالك: [4]
/ سرق وهو صغير ثم وجد فسمي مسروقا. ورأى أبا بكر وعمر وعثمان وعليا وابن مسعود، وحضر مع علي حرب الخوارج بالنهروان، وقال عمر بن الخطاب: ما اسمك؟ فقال: مسروق بن الأجدع، فقال: مسروق بن عبد الرحمن [5] .
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من المسند.
[2] طبقات ابن سعد 5/ 1/ 46، والتاريخ الكبير 5/ 168، والجرح والتعديل 5/ 131، والاستيعاب 3/ 892، وسير أعلام النبلاء 3/ 321، وتهذيب تاريخ دمشق 7/ 373.
[3] في الأصل: «تلك الليلة» وما أوردناه من ابن سعد. 5/ 1/ 48.
[4] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 50، تاريخ بغداد 13/ 232.
[5] تاريخ بغداد 13/ 232.(6/19)
وعمرو بن معديكرب خال مسروق [1] .
وقال ابن المديني [2] : ما أقدم على مسروق أحدا من أصحاب عبد الله.
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أحمد بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بن محمد المعدل، قال: أخبرنا دعلج، قال: حدثنا إبراهيم بن أبي طالب، قال:
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا حجاج، عن شعبة، عن أبي إسحاق، قال:
حج مسروق فلم ينم إلا ساجدا على وجهه حتى رجع [3] .
أخبرنا القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: حدثنا ابن رزق، قال: أخبرنا أحمد بن سلمان [4] ، قال: حدثنا ابن أبي الدنيا، قال: حدثني أزهر بن مروان، قال:
حدثنا حماد بن زيد، عن أنس بن سيرين، أن امرأة مسروق قالت:
كان يصلي حتى ورمت [5] قدماه، فربما جلست خلفه أبكي [6] مما أراه يصنع بنفسه [7] .
توفي مسروق رضي الله عنه بالكوفة في هذه السنة، وهي سنة ثلاث وستين، وله ثلاث وستون سنة.
__________
[1] تاريخ بغداد 13/ 233.
[2] في الأصل المدائني، وما أوردناه من تاريخ بغداد 13/ 233.
[3] الخبر في تاريخ بغداد 13/ 234.
[4] في الأصل: «سليمان» . والتصحيح من تاريخ بغداد 13/ 234، وهو «أحمد بن سلمان النجاد» .
[5] في تاريخ بغداد: «حتى تورم» .
[6] في تاريخ بغداد: «جلست أبكي خلفه» .
[7] الخبر في تاريخ بغداد 13/ 234.(6/20)
ثم دخلت سنة أربع وستين
فمن الحوادث فيها مسير أهل الشام إلى مكة لحرب عبد الله بن زبير ومن كان على مثل رأيه في الامتناع على يزيد بن معاوية [1]
قال علماء السير [2] : لما فرغ مسلم بن عقبة من قتال أهل المدينة وإنهاب جنده أموالهم ثلاثا، شخص بمن معه من الجند متوجها نحو مكة، وخلف على المدينة روح بن زنباع الجذامي.
وقيل: خلف عمرو بن محرز الأشجعي.
فسار ابن عقبة حتى إذا انتهى إلى فقا/ المشلل [3] نزل به الموت، وذلك في آخر المحرم سنة أربع وستين، فدعا حصين بن نمير السكوني، فقال له: يا برذعة الحمار [4] ، أما لو كان هذا الأمر إلي ما وليتك هذا الجند، ولكن أمير المؤمنين ولاك بعدي، وليس لأمره مترك [5] ، أسرع المسير، ولا تؤخر ابن الزبير ثلاثا حتى تناجزه، ثم قال: اللَّهمّ إني لم أعمل عملا قط بعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله
__________
[1] تاريخ الطبري 5/ 496، والبداية والنهاية 8/ 243.
[2] ورد في تاريخ الطبري 5/ 496 عن أبي مخنف.
[3] في تاريخ الطبري: «حتى إذا انتهى إلى المشلل، ويقال: إلى قفا المشلل» .
[4] في الطبري: «يا ابن برذعة الحمار» . وفي البداية كما في الأصل.
[5] في تاريخ الطبري 5/ 496: «وليس لأمره مردّ» .(6/21)
أحب إلي من قتل أهل المدينة، ولا أرجى [عندي] [1] في الآخرة. ومات فدفن بالمشلل [2] .
ثم خرج الحصين بن نمير بالناس، فقدم على ابن الزبير مكة لأربع بقين من المحرم، فحاصر ابن الزبير أربعا وستين يوما حتى جاءهم- يعني يزيد بن معاوية- لهلال ربيع الآخر، وكان القتال في هذه المدة شديدا، وقذف البيت بالمجانيق [3] في يوم السبت ثالث ربيع الأول، وأحرق بالنار، وكانوا يرتجزون ويقولون: [4]
كيف ترى صنيع أم فروه ... تأخذهم بين الصفا والمروه
يريدون بأم فروة: المنجنيق.
وروى الواقدي، عن أشياخه [5] : أنهم كانوا يوقدون حول البيت، فأقبلت شرارة فأحرقت ثياب الكعبة وخشب البيت في يوم السبت ثالث ربيع الأول.
وفي رواية: أن رجلا أخذ قبسا في رأس رمح له، فطارت به الريح فاحترق.
وَرَوَى الْمَدَائِنِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ، قَالَ [6] : لَمَّا سَارَ أَهْلُ الشَّامِ فَحَاصَرُوا ابْنَ الزُّبَيْرِ سَمِعَ أَصْوَاتًا مِنَ اللَّيْلِ فَوْقَ الْجَبَلِ، فَخَافَ أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الشَّامِ قَدْ وَصَلُوا إِلَيْهِ، وَكَانَتْ لَيْلَةً ظَلْمَاءَ ذَاتَ رِيحٍ شَدِيدَةٍ وَرَعْدٍ وَبَرْقٍ، فَرَفَعَ نَارًا عَلَى رَأْسِ رُمْحٍ لِيَنْظُرَ إِلَى النَّاسِ، فَأَطَارَتْهَا الرِّيحُ فَوَقَعَتْ عَلَى أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَأَحْرَقَتْهَا وَاسْتَطَارَتْ فِيهَا، وَجَهِدَ النَّاسُ فِي إِطْفَائِهَا فَلَمْ يَقْدِرُوا/ فَأَصْبَحَتِ الْكَعْبَةُ تَتَهَافَتُ، وَمَاتَتِ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَخَرَجَ النَّاسُ كُلُّهُمْ مَعَ جِنَازَتِهَا خَوْفًا مِنْ أَنْ يَنْزِلَ الْعَذَابُ عليهم، وأصبح ابن الزبير
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] في الطبري: «فدفن بقفا المشلل.
[3] في الأصل: «بالمنجنيقات» ، وما أوردناه من الطبري.
[4] كذا في الأصل، وفي الطبري: «وأخذوا يرتجزون ويقولون:
خطارة مثل الغنيق المزبد ... ترمي بها أعواد هذا المسجد
قال هشام: قال أبو عوانة: جعل عمرو بن حوط السدوسي يقول:
كيف ترى صنيع أم فروه ... تأخذهم بين الصفا والمروة
[5] تاريخ الطبري 5/ 498.
[6] أوردها ابن كثير في البداية 8/ 244، دون نسبتها، فقال: «وقيل» .(6/22)
سَاجِدًا يَدْعُو وَيَقُولُ: «اللَّهمّ إِنِّي لَمْ أَعْتَمِدْ مَا جَرَى، فَلا تُهْلِكْ عِبَادَكَ بِذَنْبِي، وَهَذِهِ نَاصِيَتِي بَيْنَ يَدَيْكَ» . فَلَمَّا تَعَالَى النَّهَارُ أَمِنَ النَّاسُ وَتَرَاجَعُوا، فَقَالَ لَهُمْ: يَنْهَدِمُ فِي بَيْتِ أَحَدِكُمْ حَجَرٌ فَيَبْنِيهِ وَيُصْلِحُهُ، وَأَتْرُكُ الْكَعْبَةَ خَرَابًا. ثُمَّ هَدَمَهَا مُبْتَدِئًا بِيَدِهِ، وَتَبِعَهُ الْفَعَلَةُ إِلَى أن بلغوا إلى قواعدها، ودعي بناءين مِنَ الْفُرْسِ وَالرُّومِ. فَبَنَاهَا.
وفي هذه السنة جاء نعي يزيد بن معاوية لهلال ربيع الآخر وفيها بويع لمعاوية بن يزيد بالشام بالخلافة، ولعبد الله بن الزبير بالحجاز [1] .
ولما هلك يزيد مكث الحصين بن نمير وأهل الشام يقاتلون ابن الزبير ولا يعلمون بموت يزيد أربعين يوما وقد حصروهم حصارا شديدا، وضيقوا عليهم، فبلغ موته ابن الزبير قبل أن يبلغ حصين، فصاح بهم ابن الزبير: إن طاغيتكم قد هلك، فمن شاء منكم أن يدخل فيما دخل فيه الناس فليفعل، ومن كره فليلحق بشآمه، فما صدقوا، حتى قدم ثابت بن قيس بن المنقع [2] النخعي، فأخبر الحصين بذلك، فبعث الحصين بن نمير إلى ابن الزبير: موعد ما بيننا وبينك الليلة الأبطح. [فالتقيا] [3] ، فقال له الحصين:
إن يك هذا الرجل قد هلك فأنت أحق بهذا الأمر، هلم فلنبايعك، ثم اخرج معي إلى الشام، فإن هذا الجند الذين معي [هم] وجوه أهل الشام وفرسانهم، فو الله لا يختلف عليك اثنان [4] ، وتؤمن الناس، وتهدر هذه الدماء التي كانت بيننا وبينك. فقال: لا أفعل، ولأقتلن بكل رجل عشرة [5] . فقال الحصين: قد كنت أظن أن لك رأيا، أنا أدعوك إلى الخلافة وأنت تعدني بالقتل.
ثم خرج وصاح في الناس/ فأقبل بهم نحو المدينة، وندم ابن الزبير على ما صنع، فأرسل إليه: أما أن أسير إلى الشام فلست فاعلا لأني أكره الخروج من مكة،
__________
[1] تاريخ الطبري 5/ 501.
[2] في الأصل: «ابن المقفع» وما أوردناه من الطبري.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من الطبري.
[4] في الأصل: «لا يختلف عليك الناس» وما أوردناه من الطبري.
[5] في الطبري: «ولا أرضى أن أقتل بكل رجل منهم عشرة» .(6/23)
ولكن بايعوا لي هناك فإني مؤمنكم. فقال الحصين: أرأيت [إن] [1] لم تقدم بنفسك، ووجدت هناك أناسا كثيرا من أهل هذا البيت يطلبونها يجيبهم الناس، [فما أنا صانع؟
فأقبل بأصحابه ومن معه نحو المدينة، فاستقبله علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب] [2] واجترأ أهل المدينة وأهل الحجاز على أهل الشام فذلوا حتى كان لا ينفرد منهم رجل إلا أخذ بلجام دابته فنكس عنها. فقالت لهم بنو أمية: لا تبرحوا حتى تحملونا معكم إلى الشام، ففعلوا ومضى ذلك الجيش حتى دخلوا الشام وقد أوصى يزيد بالبيعة لابنه معاوية.
وفي هذه السنة بايع أهل البصرة عبيد الله بن زياد [3]
على أن يقوم لهم بأمرهم حتى يصطلح الناس على إمام يرتضونه لأنفسهم، ثم أرسل [4] عُبَيْد الله رسولا إلى أهل الكوفة يدعوهم إلى مثل ذلك فأبوا عليه، وحصبوا الوالي الذي كان عليهم.
وذلك [5] أنه لما بلغت عبيد الله وفاة يزيد، قام خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا أهل البصرة، لقد وليتكم وما أحصى ديوان مقاتلتكم إلا سبعين ألف مقاتل، ولقد أحصى اليوم ثمانين ألف مقاتل، وما أحصى ديوان عمالكم [6] إلا تسعين ألفا، ولقد أحصى اليوم مائة ألف وأربعين ألفا، وما تركت لكم ذا ظنة أخافه عليكم إلا وهو في سجنكم، وإن أمير المؤمنين يزيد قد توفي، وقد اختلف أهل الشام وأنتم اليوم أكثر الناس عددا، وأوسعهم بلادا، وأغنى عن الناس [7] ، فاختاروا لأنفسكم رجلا ترضونه
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من الطبري.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من الطبري.
[3] تاريخ الطبري 5/ 503.
[4] في الأصل: «فأرسل» وما أوردناه من الطبري.
[5] تاريخ الطبري 5/ 504.
[6] في الأصل: «عيالكم» وما أوردناه من الطبري.
[7] في الطبري: «أنتم اليوم أكثر الناس عددا وأعرضه فناء، وأغناه عن الناس، وأوسعه بلادا.
وفي ابن الأثير: «أنتم اليوم أكثر الناس عددا وأعرضهم فناء، وأغنى عن الناس وأوسعهم بلادا» .(6/24)
لدينكم وجماعتكم، فأنا أول راض من رضيتموه، فإن اجتمع أهل الشام على رجل ترضونه دخلتم فيما دخل فيه المسلمون، وإن كرهتم ذلك [كنتم على جديلتكم حتى تعطوا] [1] حاجتكم، فما لكم إلى [2] أحد من أهل البلدان/ حاجة.
فقامت خطباء أهل البصرة فقالوا: والله ما نعلم أحدا أقوى منك عليها، فهلم نبايعك، فقال: لا حاجة لي في ذلك، فاختاروا لأنفسكم، فأبوا غيره وأبى عليهم حتى كرروا ذلك ثلاث مرات. فلما أبوا بسط يده فبايعوه. ثم خرجوا يمسحون أكفهم بباب الدار وحيطانه، وجعلوا يقولون: أظن ابن مرجانة أنا نوليه أمرنا في الفرقة. فكان يأمر بالأمر فلا ينفذ، ويرى الرأي فيرد عليه رأيه.
فأقام كذلك ثلاثة أشهر، وقدم مسلمة بن ذؤيب فدعا الناس إلى بيعة ابن الزبير، فمالوا إليه وتركوا ابن زياد، فكان في بيت المال يومئذ تسعة عشر ألف ألف، ففرق ابن زياد بعضها في بني أمية وحمل الباقي معه، وخرج في الليل يتخفى، فعرفه رجل فضربه بسهم فوقع في عمامته وأفلت، فطلبوه فمات وانتهبوا ما وجدوا له فطلب الناس من ثار عليهم، فبايعوا عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، فولي أمرهم أربعة أشهر، ثم ولي عبيد الله بن معمر على البصرة.
وفي هذه السنة وقع الطاعون الجارف بالبصرة [3] .
فماتت أم ابن معمر الأمير، فما وجدوا من يحملها حتى استأجروا لها أربعة أنفس، وكان وقوع هذا الطاعون أربعة أيام، فمات في اليوم الأول سبعون ألفا، وفي اليوم الثاني واحد وسبعون ألفا، وفي اليوم الثالث ثلاثة وسبعون ألفا، وأصبح الناس في اليوم الرابع موتى [إلا قليلا من] [4] الآحاد.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر الحافظ، قَالَ: أنبأنا أحمد بن أحمد الحداد، قال: أخبرنا
__________
[1] في الأصل: «كنتم على حد متى تقضوا» والتصحيح من الطبري.
[2] في الطبري: «فما بكم» .
[3] تاريخ الطبري 5/ 612، أحداث سنة 65، والبداية والنهاية 8/ 283.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه لاستقامة المعنى.(6/25)
أبو نعيم الحافظ، قال: حدثنا عبيد الله، قَالَ: حدثنا أحمد بن عصام، قَالَ: حدثني معدي عن رجل يكنى أبا النفيد وكان قد أدرك زمن الطاعون، قال [1] :
كنا نطوف في القبائل وندفن الموتى، ولما كثروا لم نقو على الدفن، فكنا ندخل الدار قد مات أهلها فنسد بابها، قال: فدخلنا دارا/ ففتشناها فلم نجد فيها أحدا حيا، فسددنا بابها، فلما مضت الطواعين كنا نطوف على القبائل ننزع تلك السدد التي سددناها، فانتزعنا سد ذلك الباب الذي دخلناه ففتشنا الدار فلم نجد أحدا حيا، فإذا نحن بغلام في وسط الدار طري دهين كأنما أخذ ساعته من حجر أمه. قال: ونحن وقوف على الغلام نتعجب منه فدخلت كلبة من شق في الحائط تلوذ بالغلام، والغلام يحبو إليها حتى مص من لبنها، فقال معدي: رأيت هذا الغلام في مسجد البصرة قد قبض على لحيته.
وقيل: كان هذا الطاعون في سنة تسع وستين.
وفي هذه السنة طرد أهل الكوفة عمرو بن حريث وأمروا عامر بن مسعود [2]
وكان ابن زياد قد قتل من الخوارج ثلاثة عشر ألفا وحبس أربعة آلاف، فلما هلك يزيد قام خطيبا فقال: إن الّذي كنا نقاتل عن طاعته قد مات، فإن أمرتموني جبيت فيئكم [3] ، وقاتلت عدوكم. وبعث بذلك إلى أهل الكوفة مقاتل بن مسمع، وسعيد [4] [بن قرحا] [5] المازني، فقام عمرو بن حريث، وقال: إن هذين الرجلين قد أتياكم من قبل أميركم يدعو انكم إلى أمر يجمع الله به كلمتكم فاسمعوا لهما، فقام ابن الحارث وهو يزيد، فقال: الحمد للَّه الذي أراحنا من ابن سمية، فأمر به عمرو إلى السجن فحالت بينه وبينه بكر، وصعد عمرو المنبر فحصبوه، فدخل داره، واجتمع الناس في
__________
[1] الخبر في البداية والنهاية 8/ 283.
[2] تاريخ الطبري 5/ 523.
[3] في الأصل: «جندت فيكم» .
[4] في الأصل: «وسعد» وما أوردناه أصح.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، وأوردناه من الطبري.(6/26)
المسجد وقالوا: نؤمر رجلا إلى أن يجتمع الناس على خليفة، فأجمعوا على عمرو بن سعد [1] بن أبي وقاص، ثم أجمعوا على عامر بن مسعود، وكتبوا بذلك إلى ابن الزبير، فأقره، واجتمع لابن الزبير أهل البصرة وأهل الكوفة ومن قبله من العرب وأهل الشام وأهل الجزيرة إلا أهل الأردن.
وفي هذه السنة بويع لمروان بالخلافة في الشام [2]
وسبب/ ذلك أن ابن الزبير كتب إلى عامله بالمدينة أن يخرج بني أمية، فخرجوا وخرج معهم مروان بن الحكم إلى الشام- وعبد الملك يومئذ ابن ثمان وعشرين سنة، فكان من رأي مروان أن يرحل إلى ابن الزبير ويبايعه. فقدم عبيد الله بن زياد، فاجتمعت عنده بنو أمية، فقال لمروان: استحييت لك مما تريده، أنت كبير قريش وسيدها، تصنع ما تصنع، فقال: والله ما فات شيء بعد، فقام معه بنو أمية ومواليهم، فبايعوه بالجابية لثلاث خلون من ذي القعدة، وتجمع إليه أهل اليمن، فسار وهو يقول: ما فات شيء بعد، فقدم دمشق وقد بايع أهلها الضحاك بن قيس الفهري على أن يصلي بهم ويقيم لهم أمرهم حتى يجتمع [أمر] [3] أمة محمد صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ.
وكان ابن الضحاك يهوى هوى ابن الزبير، فيعمل في ذلك سرا خوفا من بني أمية، وثار زفر بن الحارث الكلابي بقنسرين يبايع لابن الزبير، واختلف أهل دمشق فخرج مروان فقتله وقتل أصحابه وقتل النعمان بن بشير الأنصاري- وكان على حمص- وأطبق أهل الشام على مروان، فخرج مروان حتى أتى مصر وعليها عبد الرحمن بن جحدم القرشي يدعو إلى ابن الزبير، فخرج إليه فيمن معه من بني فهر، وبعث مروان عمرو بن سعيد الأشدق من ورائه حتّى دخل مصر، وقام على منبرها للناس، وأمر مروان الناس فبايعوه، ثم رجع إلى دمشق حتى إذا دنا منها بلغه أن ابن الزبير قد بعث أخاه مصعب بن الزبير نحو فلسطين، فسرح إليه مروان عمرو بن سعيد الأسدي في جيش، فاستقبله قبل
__________
[1] في الأصل: «عمرو بن سعيد» خطأ.
[2] تاريخ الطبري 5/ 530، والبداية والنهاية 8/ 258.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من الطبري 5/ 530.(6/27)
أن يدخل الشام، فقاتله فهزم أصحاب مصعب. وقيل لمروان: إنما ينظر الناس إلى هذا الغلام- يعنون خالد بن يزيد بن معاوية- فتزوج أمه فيكون في حجرك، فتزوجها، ثم جمع بني أمية فبايعوه.
وفي هذه السنة بايع أهل خراسان سالم بن زياد
بعد موت يزيد بن معاوية، وبعد موت ابنه معاوية، على أن يقوم بأمرهم حتى يجتمع الناس على خليفة.
وفيها كانت فتنة عبد الله بن خازم بخراسان
وذلك أن سالم بن زياد بعث بما أصاب من هدايا سمرقند وخوارزم إلى يزيد بن معاوية مع عبد الله بن خازم، وأقام سلم [1] واليا على خراسان حتى مات يزيد وابنه معاوية، فلما بلغه ذلك دعا الناس إلى البيعة على الرضا حتى يستقيم الناس على خليفة، فبايعوه، وكانوا يحبونه حتى أنهم سموا في سني ولايته أكثر من عشرين ألف مولود بسلم [2] .
وأقاموا على بيعته شهرين ثم نكثوا. فخرج عن خراسان وخلف عليها المهلب بن أبي صفرة، فلقيه عبد الله بن خازم، فقال له: اكتب لي عهدا على خراسان، فكتب له فقال: أعني الآن بمائة ألف درهم، ففعل، وأقبل فغلب على مرو، وجرت له حروب كثيرة.
وفي هذه السنة تحركت الشيعة بالكوفة [3]
واتعدوا للاجتماع بالنخيلة بالمسير إلى أهل الشام للطلب بدم الحسين عليه السلام وتكاتبوا في ذلك.
__________
[1] في الأصل: «سالم» . خطأ.
[2] في الأصل: «مولود سالما» .
[3] تاريخ الطبري 5/ 551.(6/28)
ومنذ قتل الحسين عليه السلام كانوا يتلاومون بينهم ويندمون على ترك نصرته، فرأوا أنهم قد جنوا جناية لا يكفرها إلا الطلب [بدمه] .
فاجتمع من ملأهم جماعة في بيت سليمان بن صرد، وتعاهدوا وجاءوا بأموال يجهزون بها من يعينهم، وكاتبوا شيعتهم وضربوا أجلا ومكانا، فجعلوا الأجل غرة شهر ربيع الآخر من سنة خمس وستين، والموطن النخيلة، وابتدءوا في أمورهم في سنة إحدى وستين وهي السنة التي قتل فيها الحسين عليه السلام، وما زالوا في الاستعداد ودعاء الناس في السر حتى مات يزيد، فخرجت حينئذ منهم دعاة يدعون الناس، فاستجاب لهم خلق كثير. وكان عبيد الله بن زياد قد حبس المختار بن أبي عبيد لعلمه بميله إلى شيعة علي، فكتب ابن عمر إلى يزيد: أن ابن/ زياد قد حبس المختار وهو صهري، فإن رأيت أن تكتب إلى ابن زياد يخليه، فكتب إليه يأمره بتخليته فدعاه وقال:
قد أجلتك ثلاثا فإن أدركتك بالكوفة بعدها [1] برئت منك الذمة، فخرج إلى الحجاز، وكان يقول: والله لأقتلن بالحسين عدة من قتل على دم يحيى بن زكريا، فقدم على بن الزبير فرحب به، فقال له: ما تنتظر، ابسط يدك نبايعك، ثم مضى إلى الطائف، ثم عاد بعد سنة فبايع ابن الزبير وقاتل معه وأقام عنده حتى هلك يزيد، ثم وثب فركب راحلته نحو الكوفة، فقدمها في النصف من رمضان يوم الجمعة بعد ستة أشهر من هلاك يزيد.
ورأى المختار اجتماع رءوس الشيعة على سلمان بن صرد، فقال لهم: إني قد جئتكم من قبل المهدي محمد بن الحنفية [2] ، فانشعبت إليه طائفة من الشيعة.
وكان المختار يقول لهم: إنما يريد سليمان أن يخرج فيقتل نفسه ويقتلكم، فإنه ليس [له] [3] بصر بالحروب.
وكان سليمان بن صرد وأصحابه يريدون الوثوب بالكوفة وأميرها يومئذ عبد الله بن يزيد الأنصاري من قبل ابن الزبير، فبلغه ذلك فقال: وما الذي يريدون؟ قيل: إنهم يطلبون بدم الحسين، قال: وأنا قتلت الحسين، لعن الله قاتل الحسين. ثم خطب
__________
[1] العبارة مضطربة في الأصل، وما أوردناه من الطبري 5/ 570، 571.
[2] كذا في الأصل، وابن الأثير، وفي الطبري: «محمد بن علي بن الحنفية» .
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(6/29)
فقال: قد بلغني أن طائفة من أهل هذا المصر يريدون الخروج علينا يطلبون فيما زعموا بدم الحسين، فرحم الله هؤلاء القوم، والله ما قتلته، ولقد أصبت بمقتله. فإن هؤلاء القوم آمنون فليخرجوا ولينتشروا ظاهرين، ثم نسير إلى قاتل الحسين وأنالهم على قاتله ظهير، هذا ابن زياد قاتل الحسين وقاتل خياركم قد توجه إليكم، والاستعداد له أولى من أن تجعلوا بأسكم بينكم.
فخرج سليمان بن صرد [وأصحابه] [1] ينشرون السلاح ظاهرين، ويشترون ويتجهزون لجهادهم بما يصلحهم، وجعل المختار ينتظر ما يصير إليه أمر سليمان بن صرد.
فخرج سليمان نحو الجزيرة، فجاء قوم إلى عبد الله بن يزيد أمير البلدة فحذروه المختار، وأخذوا المختار فحبسوه وقيدوه فجعل يقول: أما ورب البحار، والنخل والأشجار، والمهامة والقفار، والملائكة الأبرار، والمصطفين/ الأخيار، لأقتلن كل جبّار، بكلّ لدن خطّار، ومهند بتار في جموع من الأنصار، ليسوا بميل أغمار [2] ، ولا بعزل أشرار، حتى إذا أقمت عمود الدين، ورأيت شعب صدع المؤمنين، وشفيت غليل صدور المسلمين، وأدركت بثأر النبيين.
وفي هذه السنة هدم ابن الزبير الكعبة [3]
وكانت حيطانها قد مالت مما رميت به من حجارة المنجنيق فهدمها حتى سواها بالأرض، وحفر أساسها وأدخل الحجر فيها، وجعل الركن الأسود عنده في سرقة [4] من حرير في تابوت، وجعل ما كان من حلي البيت وما وجد فيه من ثياب أو طيب عند الحجبة في خزانة البيت حتى [أعادها لما] [5] أعاد بناءه.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من الطبري.
[2] ميل: جمع أميل، وهو الّذي لا رمح له.
والأغمار: جمع غمر، بضم فسكون، وهو الّذي لا تجربة له بالأمور.
[3] تاريخ الطبري 5/ 582.
[4] السرق: شقائق الحرير، واحده سرقة.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من الطبري.(6/30)
وفي هذه السنة حج بالناس عبد الله بن الزبير، وكان عامله على المدينة أخوه عبيد الله بن الزبير، وعلى الكوفة عبد الله بن يزيد الخطمي، وعلى قضائها سعيد بن نمران.
وأبى شريح أن يقضي فيها، وقال: لا أقضي في الفتنة. وكان على البصرة عُمَر بْن عبيد اللَّه بْن معمر التيمي، وعلى قضائها هشام بن هبيرة، وعلى خراسان عبد الله بن خازم.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
425- عبد الله بن سوار بن همام العبدي:
وكان شريفا جوادا، وولاه معاوية السند.
أنبأنا ابن ناصر، قَالَ: أخبرنا أبو عبد الله الحُمَيْدِي، قال: حدثنا محمد بن سلامة القضاعي، قال: أخبرنا أبو مسلم محمد بن أحمد الكاتب، قال: حدثنا ابن دريد، قال: أخبرنا العكلي، عن عبد الله بن أبي خالد، عن الهيثم بن عدي، عن رجاله، قالوا:
وفد على عبد الله بن سوار بن همام العبدي رجل من أهل البصرة وهو عامل معاوية على السند، فانتظر إذنه ثلاثا ثم دخل عليه فأنكره، فقال: من الرجل؟ قال: من أهل البصرة من بني تميم من بني سعد، قال: وما وراءك؟ قال: حرمة أمت بها، قال:
وما هي؟ قال: كنت تمر بمجلس بني سور فتسلم فأرد عليك أتم من سلامك بأجهر من كلامك، وأتبعك بدعائي من بين رجال قومي/ قال: حرمة والله.
وكان عبد الله بن سوار شريفا جوادا، فقال: ما حاجتك؟ قال: أملي، قال: وما أملك؟ قال: ما أستغني به عن غيرك إن عشت، وتنمو به عقبي إن مت. فأمر له بثلاثين ألفا، وكساه وقال: هي لك عندي في كل سنة إن أبقاني لك الدهر.(6/31)
426- معاوية بن يزيد بن معاوية، أبو ليلى، ويقال: أبو عبد الرحمن [عبد الله] [1] :
ولي بعد أبيه يزيد وهو ابن تسع عشرة سنة. وقيل: ثلاثة عشر وثمانية عشر يوما.
وبويع له بالشام فأقام نحو ثلاثة أشهر. وقيل: أربعين ليلة. وتوفي في هذه السنة.
وكان خيرا ذا دين، سألته، أمه أم هانئ بنت أبي هشام بن عتبة بن ربيعة في مرضه أن يستخلف أخاه خالدا بن يزيد فأبى وقال: والله لا أحملها حيا وميتا، فقالت له:
وددت أنك كنت نسيا منسيا ولم تضعف هذا الضعف، قال: وددت أني كنت نسيا منسيا ولم أسمع بذكر جهنم، ثم قال: يا حسان بن مالك، اضبط ما قبلك وصل بالناس إلى أن يرضى المسلمون بإمام يحققون عليه.
وروى أبو جعفر الطبري: أنه خطب الناس فقال: إني نظرت في أمركم فصعقت عنه فابتغيت لكم رجلا مثل عمر بن الخطاب حين فزع إليه أبو بكر فلم أجده، فابتغيت لكم سنة الشورى مثل سنة عثمان ولم أجدهم، فأنتم أولى بأمركم فاختاروا له من أحببتم، ثم دخل منزله ولم يخرج إلى الناس. فقال بعض الناس: إنه دس إليه فسقي سما. وقيل: بل طاعن.
427- المسور بن مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة، أبو عبد الرحمن [2]
أمة عاتكة بنت عوف، أخت عبد الرحمن بن عوف من المهاجرات المبايعات، قبض رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسور/ ابن ثمان سنين، وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يلازم عمر بن الخطاب ويحفظ عنه، وكان من أهل الفضل والدين، ولم يزل مع خاله عبد الرحمن مقبلا ومدبرا في أمر الشورى، ثم انحاز إلى مكة حين توفي معاوية، وكره بيعة يزيد، فلم يزل هنالك حتى قدم الحصين بن نمير وحضر حصار ابن الزبير.
أَنْبَأَنَا الْحُسَيْنُ الْبَارِعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابن المسلمة، قَالَ: أَخْبَرَنَا المخلص، قال:
__________
[1] البداية والنهاية 8/ 256، وتاريخ الطبري 5/ 501، والبدء والتاريخ 6/ 16، وتاريخ الخميس 2/ 301، ونسب قريش 128.
[2] الإصابة 7995، والبداية والنهاية 8/ 265.(6/32)
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، قَالَ:
أُتِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِبُرُودٍ مِنَ الْيَمَنِ فَقَسَمَهَا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ والأنصار، وكان فِيهَا بُرْدٌ فَائِقٌ، فَقَالَ: إِنْ أَعْطَيْتُهُ أَحَدًا مِنْهُمْ غَضِبَ أَصْحَابُهُ وَرَأَوْا أَنَّهُ فَضَّلْتُهُ عَلَيْهِمْ، فَدُلُّونِي عَلَى فَتًى مِنْ قُرَيْشٍ نَشَأَ نَشْأَةً حسنة أعطيه إياه، فأسمو الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ، فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَلَى الْمِسْوَرِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: كَسَانِيهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَجَاءَ سَعْدٌ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ: تَكْسُونِي هَذَا الْبُرْدَ وَتَكْسُو ابْنَ أَخِي أَفْضَلَ مِنْهُ؟ فَقَالَ: يَا أبا إسحاق، إني كَرِهْتُ أَنْ أُعْطِيَهُ أَحَدًا مِنْكُمْ فَيَغْضَبَ أَصْحَابُهُ فَأَعْطَيْتُهُ فَتًى نَشَأَ نَشْأَةً حَسَنَةً حَتَّى لا يُتَوَهَّمَ فِيهِ أَنِّي أُفَضِّلُهُ عَلَيْكُمْ، فَقَالَ سَعْدٌ:
فَإِنِّي قَدْ حَلَفْتُ لأَضَرِبَنَّ بِالْبُرْدِ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي رَأْسَكَ، فَخَضَعَ لَهُ عُمَرُ رَأْسَهُ وَقَالَ: عِنْدَكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ فَارْفُقِ الشَّيْخَ بِالشَّيْخِ، فَضَرَبَ رَأْسَهُ بِالْبُرْدِ.
أَخْبَرَنَا محمد بْن أبي طاهر، قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا أحمد بن معروف، قال: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا عبد الملك بن عمرو، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر، عن أم بكر بنت المسور:
أن المسور كان لا يشرب من الماء الذي يوضع في المسجد ويكرهه ويرى أنه صدقة، وأنه احتكر طعاما/ فرأى سحابا من سحاب الخريف فكرهه، فلما أصبح أتى السوق فقال: من جاءني وليته، فبلغ ذلك عمر الخطاب، فأتاه بالسوق فقال: أجننت يا مسور؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين، ولكني رأيت سحابا من سحاب الخريف فكرهته، فكرهت ما ينفع المسلمين [1] ، فكرهت أن أربح فيه وأردت ألا أربح فيه، فقال عمر:
جزاك الله خيرا.
قال ابن سعد: وأخبرنا محمد بن عمر، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنِ أم بكر بنت المسور، عن أبيها:
أنه كان يصوم الدهر وأنه أصابه حجر من المنجنيق، ضرب البيت فانفلق منه فلقة
__________
[1] في البداية: «فكرهت ما فيه الناس» .(6/33)
فأصابت جدار المسور وهو قائم يصلي، فمرض منها أياما ثم هلك في اليوم الذي جاء فيه نعي يزيد بن معاوية بمكة، وابن الزبير يومئذ لا يتسمى بالخلافة والأمر شورى، وهو ابن اثنتين وستين سنة.
428- يزيد بن الأسود الجرشي [1] :
كان عبدا صالحا، وكان القطر قد احتبس في زمن معاوية، فصعد المنبر ودعاه فصعد إليه، فقال معاوية: اللَّهمّ إنا نستشفع إليك اليوم بخيرنا وأفضلنا، اللَّهمّ إنا نستشفع إليك بيزيد بن الأسود، فسقى الناس، ثم جرى له مثل هذا مع الضحاك بن قيس.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أخبرنا أحمد بن هبة الله الطبري، قال: أخبرنا محمد بن الحسين بن الفضل، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر بن درستويه [2] ، قال:
حدثنا يعقوب بن سفيان، قال: حدثنا سعيد بن أسد، قال: حدثنا ضمرة، عن ابن أبي جميلة، قال:
أصاب الناس قحط بدمشق، وعلى الناس الضحاك بن قيس الفهري، فخرج بالناس يستسقي، فقال: أين يزيد بن الأسود الجرشي، فلم يجبه أحد مرارا، فقال:
عزمت عليه أن يسمع كلامي إلا قام، فقام فرفع يديه فقال: اللَّهمّ يا رب إن عبادك تقربوا إليك فاسقهم، فانصرف الناس وهم يخوضون/ الماء، فقال: اللَّهمّ إنه قد شهرني فأرحني منه، فما أتت عليه جمعة حتى قتل الضحاك.
429- يزيد بن معاوية بن أبي سفيان [3] :
توفي لأربع عشر خلت من ربيع الأول من هذه السنة بقرية من قرى حمص يقال لها حوارين، وهو ابن خمس وثلاثين سنة. وقيل: تسع وثلاثين.
وكانت خلافته ثلاث سنين وتسعة أشهر وقال الواقدي: وثمانية أشهر إلا ثمان ليال.
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 155، وتاريخ الخميس 2/ 300، والبدء والتاريخ 6/ 6.
[2] في الأصل: «درشنونة» وهو خطأ.
[3] البداية والنهاية 8/ 245.(6/34)
ثم دخلت سنة خمس وستين
فمن الحوادث فيها شخوص التوابين إلى ابن زياد للطلب بدم الحسين عليه السلام [1]
وذلك أن سليمان بن صرد بعث إلى رءوس أصحابه من الشيعة، فأتوه، فلما استهلوا هلال ربيع الآخر خرج في وجوه أصحابه إلى النخيلة فلم يعجبه عدد الناس [2] ، فبعث حكيم بن منقذ الكندي في خيل، وبعث الوليد بن غصين الكناني في خيل، فقال: اذهبا حتى تدخلا الكوفة، فناديا: يا لثارات الحسين، فخرج منها خلق كثير، فنظر لما أصبح في ديوانه، فوجد الذين بايعوه على الخروج ستة عشر ألفا لم يجتمع منهم [إلا] [3] أربعة آلاف [4] ، فقال: أما يذكرون ما أعطونا من العهود، فقيل له: إن المختار يثبط الناس [5] عنك، فأقام بالنخيلة ثلاثا يبعث إلى المتخلفين فيذكرهم الله عز وجل، فخرج نحو من ألف رجل، فقال له المسيب ابن نجية الفزاري: إنك لا ينفعك إلا من أخرجته النية فاكمش في أمرك [6] . فقام فقال: والله ما نأتي غنيمة نغنمها، ولا فيئا نستفيئه، وما معنا من ذهب ولا فضة، وما هي إلا سيوفنا في عواتقنا، ورماحنا في أكفنا وزاد بمقدار البلغة إلى لقاء عدونا، فمن يرى غير هذا فلا يصحبنا.
__________
[1] تاريخ الطبري 5/ 583، والبداية والنهاية 8/ 271.
[2] في الطبري: «عدة الناس» .
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من الطبري.
[4] في الأصل: «أربعة أربعة آلاف» . حذفناها لتكرارها.
[5] في الأصل: «القوم» . وكتب فوقها: «الناس» .
[6] كمش الرجل في أمره: مضى وأسرع.(6/35)
فلما عزم على المسير، قال بعض أصحابه: إن قتلة الحسين بالكوفة عمر بن سعد ورءوس القبائل، فأنى نذهب.
وقال آخرون: بل نقصد ابن زياد فهو الذي عبى الجنود إليه فإن ظهرنا عليه كان من بعده أهون شوكة، وكان عمر بن سعد في تلك الأيام لا يبيت إلا في قصر الإمارة مخافة على نفسه، وجاء عبيد الله بن يزيد والي الكوفة إلى سليمان فقال: قم حتى نبعث معك جيشا كثيفا، فلم يقم وأدلج عشية الجمعة لخمس مضين من ربيع الآخر سنة خمس وستين، ولم يزل يسير إلى أن أتى قبر الحسين عليه السلام، فأقام عنده يوما وليلة، فجعل أصحابه يبكون ويتمنون لو أصيبوا معه، وجعلوا يستغيثون: يا رب إنا خذلنا ابن بنت نبيك فاغفر لنا ما مضى منا وتب علينا.
ووصل كتاب عبد الله بن يزيد إلى سليمان بن صرد، وفيه: هذا كتاب ناصح محب، بلغني أنكم تسيرون بالعدد القليل إلى الجمع الكثير، وإنه من يرد أن ينقل الجبال عن مراتبها تكل معاوله، وينزع [وهو] مذموم العقل والفعل، ومتى أصابكم عدوكم طمع في من وراءكم: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً 18: 20 [1] . يا قوم، إن أيدينا وأيديكم واحدة، ومتى اجتمعت كلمتنا [نظهر] [2] على عدونا.
فلما قرأ الكتاب على أصحابه، قال: ما ترون؟ قالوا: إنا قد أبينا هذا عليهم ونحن في مصرنا، فالآن حين دنونا من أرض العدو، ما هذا برأي. فساروا مجدين إلى أن وصلوا عين وردة، فأقاموا بها خمسا، فأقبل أهل الشام في عساكرهم، فقدم المسيب بن نجية فلقي أوائل القوم فأصابهم بالجراح فانهزموا فأخذوا منهم ما خف، فبلغ الخبر ابن زياد، / فبعث الحصين بن نمير مسرعا في اثني عشر ألفا، فاقتتلوا فكان الظفر لسليمان إلى أن حجز بينهم الليل فأمدهم ابن زياد بذي الكلاع في ثمانية آلاف فكثروهم، فنزل سليمان ونادى: عباد الله، من أراد البكور إلى ربه، والتوبة من ذنبه، والوفاء بعهده، فإلي، ثم كسر جفن سيفه، ونزل ناس كثير، فقاتلوا فقتلوا من أهل الشام مقتلة عظيمة.
__________
[1] سورة: الكهف، الآية: 20.
[2] ما بين المعقوفتين: من هامش الأصل.(6/36)
فاكتنفهم القوم ورموهم بالنبل، فقتل سليمان ثم المسيب وقتل الخلق.
فلما جن الليل ذهب فل القوم [1] تحت الليل، فأصبح الحصين فوجدهم قد ذهبوا، فلم يبعث في آثارهم أحدا، وكان قد خرج جماعة من أهل البصرة وجماعة من أهل المدائن وأهل الكوفة، فبلغهم الخبر فرجعوا إلى بلادهم، فقال المختار لأصحابه:
عدوا لغازيكم هذا أكثر من عشر، ودون الشهر، ثم يجيئكم بضرب هبر، وطعن نتر، وأن سليمان قد قضى ما عليه، وليس بصاحبكم الّذي به تنصرون، أنا قاتل الجبارين والمنتقم من الأعداء.
وفي هذه السنة أمر مروان بن الحكم أهل الشام بعقد البيعة لابنيه عبد الملك وعبد العزيز [2]
وجعلهما وليي عهده، وكان مروان قد بعث عمرو بن سعيد بن العاص إلى مصعب بن الزبير حين وجهه أخوه عبد الله بن الزبير إلى فلسطين، فهزم ابن الزبير ورجع إلى مروان بدمشق، وبلغ مروان أن عمرا يقول: هذا الأمر لي من بعد مروان، فبايع مروان لابنيه.
وفي هذه السنة بعث مروان بعثين [3]
أحدهما إلى المدينة عليهم حبيش بن دلجة، والآخر إلى العراق وعليهم عبيد الله بن زياد، فأما ابن زياد فإنه سار حتى نزل الجزيرة، فأتاه بها موت مروان. وخرج إليه التوابون من أهل الكوفة طالبين بدم الحسين، فجرى لهم ما سبق ذكره، وسنذكر باقي خبره/ إن شاء الله.
وأما حبيش فانتهى إلى المدينة وعليها جابر بن الأسود بن عوف بن
__________
[1] فلّ القوم: المنهزمون.
[2] تاريخ الطبري 5/ 610.
[3] تاريخ الطبري 5/ 611، 612.(6/37)
عبد الرحمن بن عوف من قبل ابن الزبير، فهرب جابر، فبعث الحارث بن أبي ربيعة جيشا من البصرة، وكان ابن الزبير قد ولاه عليها، فانفذهم لمحاربة حبيش، فسار إليهم حبيش، وبعث ابن الزبير عباس بن سهل بن سعد على المدينة، وأمره أن يطلب حبيشا، فلحقهم بالربذة، فجاء سهم غرب فقتل حبيشا، وتحرز منهم نحو خمسمائة في المدينة، فقال [لهم] عباس: انزلوا على حكمي، فنزلوا، فضرب أعناقهم، ورجع فل حبيش إلى الشام.
وفي هذه السنة مات مروان، وقام مكانه ابنه عبد الملك [1] .
__________
[1] إلى هنا انتهى السقط من ت، والّذي بدأ أثناء ترجمة عقبة بن نافع بن عبد قيس الفهري في وفيات سنة 62.(6/38)
باب ذكر خلافة عبد الملك بن مروان [1]
هو عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، ويكنى أبا الوليد، وأمه عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص.
ولد في سنة ست وعشرين هو ويزيد بن معاوية.
وقيل: ولد في سنة أربع وعشرين، وحمل به ستة أشهر فقط، وكان أبيض.
وقيل: كان آدم طوالا كثير الشعر كبير اللحية والعينين، مشرق الأنف، دقيق الوجه مضبب الأسنان بالذهب، كان فقيها راويا ناسكا، يدعى حمامة المسجد، شاعرا.
وقيل لابن عمر [2] : من نسأل بعدكم، فقال: إن لمروان ابنا فقيها فسلوه.
وقال نافع: [3] أدركت المدينة وما بها شاب أنسك، ولا أشد تشميرا، ولا أكثر صلاة، ولا أطلب للعلم من عبد الملك بن مروان.
قال مؤلف الكتاب: [4] استعمله معاوية على المدينة وهو ابن ست عشرة سنة، وأول من سمي بعبد الملك بن عبد الملك بن مروان، وأول من سمي في الإسلام أحمد أبو الخليل بن أحمد العروضي. وعبد الملك أول/ من أمر أن يقال على المنابر: اللَّهمّ أصلح عبدك وخليفتك، فلما بويع له تغيرت أموره في باب الدين.
__________
[1] البداية والنهاية 8/ 281.
[2] الخبر في تاريخ بغداد 10/ 389.
[3] الخبر في تاريخ بغداد 10/ 389.
[4] في ت: «قال المصنف» .(6/39)
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قَالَ: أَخْبَرَنَا العتيقي، قال: أخبرنا عثمان بن محمد بن القاسم الأدمي، قال: أخبرنا ابن دريد، قال: أخبرنا عبد الأول بن مريد، عن ابن عائشة، قال:
أفضى الأمر إلى عبد الملك والمصحف في حجره يقرأ فأطبقه، وقال: هذا آخر العهد بك [1] .
قال مؤلف الكتاب [2] : وقد رواها ثعلب، عن ابن الزعفراني، قال: لما سلم على عبد الملك بالخلافة [3] كان في حجره مصحف، فأطبقه، وقال: هذا فراق بيني وبينك.
أَخْبَرَنَا الْقَزَّازُ بِإِسْنَادٍ لَهُ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ الْخَالِقِ بْنِ زَيْدِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، قَالَ:
كُنْتُ أُجَالِسُ بَرِيرَةَ فَقَالَتْ: إِنَّ فِيكَ خِصَالا خَلِيق أَنْ تَلِيَ الأَمْرَ فَإِنْ وُلِّيتَهُ فَاتَّقِ الدِّمَاءَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُدْفَعُ عَنْ بَابِ الْجَنَّةِ بَعْدَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا بِمِلْءِ مِحْجَمةٍ مِنْ دَمِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ [4] يُرِيقُهُ» .
وفي هذه السنة اشتدت شوكة الخوارج بالبصرة وفيها قتل نافع بن الأزرق
وذلك أن عبيد الله بن عبد الله بن معمر بعث أخاه عثمان إلى ابن الأزرق في جيش فلقيهم بموضع في الأهواز يقال له: دولاب، فاقتتلوا قتالا شديدا، وقتل نافع بن الأزرق، ثم أمرت الخوارج غيره، وجاءهم المدد وقوي القتال وقتل خلق من المؤمنين، وقدم المهلب بن أبي صفرة على تلك الحال معه عهده على خراسان من قبل ابن الزبير، فسأله المسلمون أن يلي الحرب، فأبى، فكتبوا على لسان ابن الزبير إلى المهلب أن يلي قتال الخوارج، فقال: إني لا أسير إليهم إلا أن تجعلوا لي ما غلبت عليه وتعطوني
__________
[1] الخبر في تاريخ بغداد 10/ 390.
[2] في ت: «قال المصنف» .
[3] في ت: «سلم عليه بالخلافة» .
[4] «امرئ مسلم» : ساقطة من ت.(6/40)
من بيت المال ما أقوى به، وانتخب من فرسان الناس/ ووجوههم من أحببت، فقال أهل البصرة: لك ذلك.
وجاءت الخوارج، فخرج إليهم فدفعهم عن البصرة، وما زال يدفعهم ويتبعهم، ثم التقوا فاقتتلوا قتالا شديدا حتى انهزم الناس إلى البصرة، فنادى المهلب: إلي عباد الله، ثم هجم على القوم، فأخذ عسكرهم وما فيه، وقتل الأزارقة قتلا عنيفا، وخرج فلهم إلى كرمان وأصبهان، وأقام المهلب بالأهواز، وكتب إلى ابن الزبير بما ضمن له، فأجاز ذلك.
وقيل: إن وقعة الأزارقة كانت سنة ست وستين.
وفي هذه السنة عزل عبد الله بن الزبير عبد الله بن يزيد عن الكوفة
وولاها عبد الله بن مطيع، ونزع عن المدينة أخاه عبيدة بن الزبير وولاها أخاه مصعب بن الزبير.
وكان له سبب عزله أخاه عبيدة بن الزبير أنه خطب فقال: قد رأيتم ما صنع بقوم في ناقة قيمتها خمسمائة درهم، فسمي مقوم الناقة [1] ، وبلغ ذلك ابن الزبير، فقال: هذا لهو التكلف.
وفي هذه السنة بنى ابن الزبير الكعبة
وأدخل الحجر فيها، وقد ذكرنا أنه نقضها في السنة التي قبل هذه السنة، فيمكن أن تكون الرواية مختلفة، ويمكن أن يكون النقض في سنة والبناء في السنة الأخرى.
وفي هذه السنة [2] حج بالناس عبد الله بن الزبير، وكان على المدينة مصعب بن الزبير، وعلى
__________
[1] في ت: «مقدم الناقة» .
[2] في الأصل: «وفيها» . وما أوردناه من ت.(6/41)
الكوفة في آخر السنة عبد الله بن مطيع، وعلى البصرة عبد الله بن الحارث بن أبي ربيعة، وعلى قضائها هشام بن هبيرة، وعلى خراسان عبد الله بن خازم.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
430- جميل بن معمر- وقيل ابن عبد الله- بن معمر بن الحارث بن ظبيان: [1]
رأى بثينة وهو صبي صغير فهويها، وهما من بني عذرة وتكنى/ بثينة: أم عبد الملك- فلما كبر خطبها فرد عنها فقال فيها الشعر، وكان يزورها وتزوره، ومنزلهما وادي القرى، فجمع أهلها له جمعا ليأخذوه، فأخبرته [2] بثينة [فاختفى] [3] وهجا قومها فاستعدوا عليه مروان بن الحكم [وهو] [3] يومئذ على المدينة من قبل معاوية، فنذر ليقطعن لسانه، فلحق بخذام فأقام هناك إلى أن عزل مروان.
أخبرتنا شهدة بنت أحمد الكاتبة، قالت: أَخْبَرَنَا جعفر بْن أحمد بْن السراج، قَالَ:
كنت مارا بين تيماء ووادي القرى مبادرا من مكة فرأيت صخرة عظيمة ملساء فيها تربيع بقدر ما يجلس عليها النفر [4] كالدكة، فقال بعض من كان معنا من العرب، وأظنه جهنيا: هذا مجلس جميل وبثينة فاعرفه.
ومن أشعاره المستحسنة فيها قوله:
حلت بثينة من قلبي بمنزلة ... بين الجوانح لم ينزل به أحد
صادت [5] فؤادي بعينيها ومبسمها ... كأنه حين تبديه لنا برد
وعاذلين لحوني في محبتها ... يا ليتهم وجدوا مثل الّذي أجد
__________
[1] الأغاني 8/ 95، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 3/ 395، والشعر والشعراء 166، وتزيين الأسواق 1/ 38، وخزانة البغدادي 1/ 191، وفيه: «قال ابن الكلبي: وفي اسم أبيه فمن فوقه خلاف» .
[2] في ت: «فحذرته» .
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] في ت: «التفت» .
[5] في ت: «صارت» .(6/42)
لما أطالوا عتابي فيك قلت لهم ... لا تفرطوا بعض هذا اللوم واقتصدوا
قد مات قبلي أخو نهد وصاحبه ... من قيس ثم اشتفى من عروة الكمد
وكلهم كان في عشق منيته ... وقد وجدت بها فوق [1] الذي وجدوا
إني لأحسبه أو كدت أعلمه ... أن سوف يوردني الحوض الذي وردوا
إن لم ينلني بمعروف يجود به ... أو يدفع الله عني الواحد الصمد
وقال أيضا [2] :
لحى الله من لا ينفع الود عنده ... ومن حبله إن مد غير متين
ومن هو إن تحدث له العين نظرة ... يقطع لها أسباب كل قرين
ومن هو ذو لونين ليس بدائم ... على خلق خوان كل يمين
فليت رجالا فيك قد نذروا دمي ... وهموا بقتلي يا بثين لقوني
/ إذا ما رأوني طالعا من ثنية ... يقولون من هذا وقد عرفوني
يقولون لي أهلا وسهلا ومرحبا ... ولو ظفروا بي ساعة قتلوني
وكيف ولا توفي دماؤهم دمي ... ولا مالهم مالي إذا [3] فقدوني
وقال أيضا:
فيا ويح نفسي حسب نفسي الذي بها ... ويا ويح أهلي ما أصيب به أهلي
فلو تركت عقلي معي ما طلبتها ... ولكن طلابيها لما فات من عقلي
خليلي فيما عشتما هل رأيتما ... قتيلا بكى من حب قاتله قبلي
أَخْبَرَنَا المبارك بْن عَلي الصيرفي، قَالَ: أَخْبَرَنَا محمد بن علي العلاف، قال:
حدثنا عبد الملك بن بشران، قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم الكندي، قال: حدثنا محمد بن جعفر الخرائطي، قال: حدثنا الحسن بن علي، قال: حدثنا المثنى بن سعد الجعفي، قال:
__________
[1] في الأصل: «بعض الّذي» . وما أوردناه من ت.
[2] في ت: «وله» .
[3] في الأصل: «ما لهم ذو بدهة» .(6/43)
بلغني أن كثير عزة لقي جميلا [1] ، فقال له: متى عهدك ببثينة؟ قال: ما لي بها عهد منذ عام أول وهي تغسل ثوبا بوادي الدوم، فقال كثير: أتحب أن أعدها لك الليلة؟
قال: نعم، فأقبل راجعا إلى بثينة، فقال له أبوها: يا فلان ما ردك؟ أما كنت عندنا قبيل؟
قال: بلى، ولكن حضرت أبيات قلتها في عزة، قال: وما هي؟ فقال:
فقلت لها يا عز أرسل صاحبي ... على باب داري والرسول موكل
أما تذكرين العهد يوم لقيتكم ... بأسفل وادي الدوم والثوب يغسل
فقالت بثينة: اخسأ، فقال أبوها: ما هاجك، قالت: كلب لا يزال يأتينا من وراء هذا الجبل بالليل وأنصاف النهار.
قال: فرجع إليه فقال: قد وعدتك وراء هذا الجبل بالليل وأنصاف النهار، فالقها إذا شئت.
وحكى أبو محمد بن قتيبة عن بعض الناس أنه قال: خرجت من تيماء فرأيت عجوزا على أتان، فقلت: ممن أنت؟ فقالت: من عذرة، قلت: هل تروين عن بثينة وجميل شيئا؟ فقالت: والله/ إني لعلى ماء من الجناب [2] وقد اعتزلنا الطريق وقد خرج رجالنا في سفر وخلفوا عندنا غلمانا أحداثا، وقد انحدرا لغلمان عشية إلى صرم [3] قريب منا يتحدثون إلى جوار منهم، وقد بقيت أنا وبثينة نستبرم غزلا لنا إذ انحدر علينا منحدر من هضبة حذاءنا، فسلم ونحن مستوحشون، فرددت السلام ونظرت فإذا رجل واقف شبهته بجميل، ودنا فأتيته فقلت: جميل، قال: أي والله، قلت: عرضتنا ونفسك للشر، فما جاء بك؟ قال: هذه الغول التي من ورائك، وأشار إلى بثينة، فإذا هو لا يتماسك، فقمت إلى قعب فيه أقط مطحون وتمر، وإلى عكة فيها سمن فعصرته على الأقط وأدنيته منه، فقلت: أصب من هذا، ففعل وقمت إلى سقاء فيه لبن، فصببت له في قدح، وشننت [4] عليه من الماء فشرب وتراجع، فقلت: لقد جهدت فما أمرك؟ قال: أردت
__________
[1] في الأصل: «أن كثير لقي عزة جميلا» .
[2] الجناب: موضع بعراض خيبر وسلاح ووادي القرى.
[3] الصرم: الجماعة المنعزلة.
[4] في الأصل: «وسيبت» . وما أوردناه من ت.(6/44)
مصر فجئت لأودعكم وأحدث بكم عهدا، وأنا والله في هذه الهضبة التي ترين منذ ثلاث أنتظر أن أجد فرصة حتى رأيت منحدر فتيانكم [1] العشية، فجئت لأجدد بكم العهد [2] فحدثنا ساعة ثم ودعناه وانطلق. فما لبثنا إلا يسيرا حتى أتانا نعيه من مصر.
أنبأنا عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي بإسناد له عَنْ أبي بكر بْن الأنباري، قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن المرزبان، قال: حدثنا أَبُو بكر العامري، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن محمد وهو المدائني، قال: حدثني أبو عبد الرحمن العجلاني، عن عباس بن سهل بن سعد الساعدي، قال:
كنت بالشام فقال لي قائل: هل لك في جميل فإنه لما به، فدخلت عليه وهو يجود بنفسه وما يخيل لي أن الموت يكتربه، فقال لي: يا ابن سعد، ما تقول في رجل لم يسفك دما حراما قط، ولم يشرب خمرا قط، ولم يزن قط يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله منذ خمسين سنة، قلت: من هذا؟ ما أحسبه إلا ناجيا، قال الله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً 4: 31 [3] فلعلك تعني نفسك، قال: نعم، قلت: كيف وأنت تشبب ببثينة منذ عشرين سنة، قال: هذا آخر وقت من أوقات الدنيا، وأول وقت من أوقات الآخرة، فلا نالتني شفاعة محمد إن كنت وضعت يدي عليها لريبة قط، وإن كان أكثر ما نلت منها إلا أني كنت آخذ يدها فأضعها على قلبي فأستريح إليها [4] . ثم أغمي عَلَيْهِ وأفاق فأنشأ يقول:
صرح النعي وما كنى بجميل ... وثوى بمصر ثواء غير قفول
ولقد أجر الذيل في وادي القرى ... نشوان بين مزارع ونخيل
قومي بثينة فاندبي بعويل ... وأبكي خليلك قبل كل خليل
ثم أغمي عليه فمات.
__________
[1] في ت: «صبيانكم» .
[2] في ت: «لأجدد بكم عهدا» .
[3] سورة: النساء، الآية: 31.
[4] في الأصل: «فأسترح إليها» ، وما أوردناه من ت.(6/45)
أخبرنا ابن الحصين بإسناد له عن محمد بن عبد الرحمن، عن أبيه، قال:
لما حضرت الوفاة جميلا بمصر قال: من يعلم بثينة؟ فقال رجل: أنا، فلما مات صار إلى حي بثينة فقال:
بكر النعي وما كنى بجميل ... وثوى بمصر ثواء غير قفول
[بكر النعي بفارس ذي همة ... بطل إذا حمل اللواء نديل] [1]
فخرجت بثينة مكشوفة الرأس، فقالت:
وإن سؤالي عن جميل لساعة ... من الدهر ما حانت ولا حان حينها
سواء علينا يا جميل بن معمر ... إذا مت بأساء الحياة ولينها
431- سليمان بن صرد بن الجون بن أبي الجون الخزاعي، يكنى أبا المطرف: [2]
وكانت له صحبة وسن عالية وشرف في قومه، وحضر صفين مع علي عليه السلام.
أخبرنا القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب، قال: أخبرنا عبيد الله بن عمر الواعظ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إبراهيم، قال: حدثنا محمد بن جرير، عن رجاله، قال:
سليمان بن صرد أسلم وصحب النبي صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ، وكان اسمه يسارا، فلما أسلم سماه رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ سليمان، ونزل الكوفة حين نزلها المسلمون، وشهد مع علي رضي الله عنه صفين، وكان فيمن كتب إلى الحسين بن علي رضي الله عنهما قدوم الكوفة، فلما قدمها/ ترك القتال معه، فلما قتل الحسين ندم هو والمسيب بن نجية الفزاري وجميع من خذله فلم يقاتل معه، فلما قتل الحسين ندم هو والمسيب بن نجية الفزاري وجميع من خذله فلم يقاتل معه، ثم قالوا: ما لنا توبة مما فعلنا إلا أن نقتل أنفسنا في الطلب بدمه، فعسكروا بالنخيلة وولوا أمرهم سليمان بن صرد، وخرجوا إلى الشام في الطلب بدم الحسين رضي الله عنه، فسموا التوابين، وكانوا أربعة آلاف، فقتل سليمان بن صرد
__________
[1] البيت بين المعقوفتين: ساقطة من ت.
[2] طبقات ابن سعد 4/ 2/ 30، وتاريخ بغداد 1/ 200، وطبقات خليفة 107، 136، والتاريخ الكبير 4/ 1752، والجرح والتعديل 4/ 539، والاستيعاب 2/ 649، وأسد الغابة 2/ 351، وتاريخ الإسلام 3/ 17، والإصابة 2/ 3457، والوافي بالوفيات 15/ 392.(6/46)
في هذه الوقعة، رماه يزيد بن حصين بن نمير بسهم فقتله وحمل رأسه ورأس ابن نجية إلى مروان بن الحكم، وكان سليمان يوم قتل ابن ثلاث وتسعين سنة.
432- عبد الله [1] بن عمرو بن العاص [2] :
أسلم قبل أبيه، وكان متعبدا، وقال لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ: «ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟» قال: بلى، فقال له: «صم وأفطر وصل ونم، فإن لجسدك عليك حقا، وإن لربك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا. أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْجَوْهَرِيُّ، قال: أخبرنا ابن حيوية، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَعْرُوفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْفَهْمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلالٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ:
اسْتَأْذَنْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّمَ فِي كِتَابِ مَا سَمِعْتُ مِنْهُ فَأَذِنَ لِي فَكَتَبْتُهُ. فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُسَمِّي صَحِيفَتَهُ [تِلْكَ] [3] الصَّادِقَةَ.
وَعَنْ هَارُونَ بْنِ رِئَابٍ، قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو الْوَفَاةُ، قَالَ: إِنَّهُ كَانَ خَطَبَ إِلَيَّ ابْنَتَيْ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَقَدْ كان مني إليه شبيه بالوعد، فو الله لا أَلْقَى اللَّهَ بِثُلُثِ النِّفَاقِ، اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ زَوَّجْتُهَا إِيَّاهُ.
توفي عبد الله بالشام في هذه السنة وهو ابن اثنتين وسبعين سنة.
433- مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس [4] .
قبض رَسُول اللَّهِ صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ وهو ابن ثماني سنين، فلم يزل مع أبيه بالمدينة حتى مات في
__________
[1] في الأصلين: «عبد الملك» . خطأ.
[2] طبقات ابن سعد 2/ 2/ 125، 4/ 2/ 8، 7/ 2/ 189، والتاريخ الكبير 5/ 6، والمصارف 286، 287، وحلية الأولياء 1/ 283، والاستيعاب 3/ 956، وأسد الغابة 3/ 233، وتذكرة الحفاظ 1/ 41، وسير أعلام النبلاء 3/ 79.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ابن سعد.
[4] طبقات ابن سعد 5/ 1/ 24، والبداية والنهاية 8/ 277، والإصابة 8320، وأسد الغابة 4/ 348، وتهذيب التهذيب 10/ 91، والبدء والتاريخ 6/ 19، وتاريخ الخميس 2/ 306.(6/47)
خلافة عثمان بن عفان، ولم يزل/ مع ابن عمه عثمان، وكان كاتبا له فأعطاه أموالا كثيرة يتأول صلة قرابته، فنقم الناس ذلك على عثمان، وكانوا يرون أن كثيرا مما ينسب إلى عثمان لم يأمر به، وإنما هو رأي مروان، فلما حصر عثمان قاتل قتالا شديدا، فلما سار طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة يطلبون بدم عثمان سار معهم فقاتل قتالا شديدا، فلما نظر إلى طلحة، قال: والله إن كان دم عثمان إلا عند هذا. فرماه بسهم فقتله وتوارى إلى أن أخذ له الأمان من علي، فأتاه فبايعه ثم انصرف إلى المدينة، فلم يزل بها حتى ولي معاوية فولاه المدينة سنة اثنتين وأربعين، فلما وثب أهل المدينة أيام الحرة أخرجوا بني أمية من المدينة وأخرجوه، فجعل يحرض مسلم بن عقبة عليهم، ورجع معه حتى ظفر بأهل المدينة، فانتهبها ثلاثا، وقدم على يزيد فشكر له ذلك، فلما مات يزيد ولي ابنه معاوية أياما ثم مات، ودعي لابن الزبير فخرج مروان يريد ابن الزبير [ليبايعه] [1] ، فلقيه عبد الله بن زياد فرده وقال: ادع إلى نفسك وأنا أكفيك قريشا، فبايع لنفسه بالجابية في نصف ذي القعدة سنة أربع وستين، وبعث عماله.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو القاسم بن البرني، عن أبي عبد الله بن بطة، قال: سمعت محمد بن علي بن شقيق، يقول: حدثنا أبو صالح النحويّ سلمويه، قال: أخبرني عبد الله يعني ابن المبارك قال: أخبرني يونس، عن الزهري قال:
اجتمع مروان وابن الزبير عند عائشة، فذكر مروان بيت لبيد:
وما المرء إلا كالشهاب [2] وضوؤه ... يجوز رمادا بعد إذ هو ساطع
فقال ابن الزبير: لو شئت لقلت ما هو أفضل من هذا:
ففوض إلى الله الأمور إذا اعترت ... وباللَّه لا بالأقربين لدافع [3]
فقال مروان:
وداو ضمير القلب بالبر والتقى ... ولا يستوي قلبان قاس وخاشع [4]
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «كالنهار» وما أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «فدافع» وما أوردناه من ت.
[4] في الأصل: «وجائع» وما أوردناه من ت.(6/48)
فقال ابن الزبير [1] :
ولا يستوي عبدان عبد مكلم ... عتل لأرحام الأقارب قاطع
فقال مروان: [2]
وعبد تجافى جنبه عن فراشه ... يبيت يناجي ربه وهو راكع
فقال ابن الزبير:
وللخير أهل يعرفون بهداهم ... إذا حجبتهم في الخطوب الجوامع
فقال مروان:
وللشر أهل يعرفون بشكلهم ... تشير إليهم بالفجور الأصابع
فسكت ابن الزبير، فقالت عائشة: ما لك فما سمعت بمحاورة قط أحسن من هذه، ولكن لمروان إرث في الشعر ليس لك، فقال ابن الزبير لمروان: عرضت، قال:
بل أنت أشد تعريضا، طلبت يدك فأعطيتني رجلك.
وكان قد تزوج [3] أم خالد بن يزيد بن معاوية، وكان مروان يطمعه في بعض الأمر، ثم بدا له فعقد لابنيه عبد الملك وعبد العزيز، فأراد أن يضع من خالد ويزهد الناس فيه، وكان إذا دخل عليه أجلسه معه على سريره، فدخل عليه يوما، فذهب ليجلس مجلسه، فزبره وقال: تنح يا ابن رطبة الاست، والله ما وجدت لك عقلا.
فانصرف خالد وقتئذ مغضبا حتى دخل على أمه، فقال: قد فضحتني وقصرت بي، ونكست برأسي. قالت: وما ذاك؟ قال: تزوجت هذا الرجل فصنع كذا وكذا وأخبرها بما قال له، فقالت: لا يسمع هذا منك أحد، ولا يعلم مروان أنك أعلمتني بشيء من ذلك، وادخل علي كما كنت تدخل، واطو هذا الأمر فإني سأكفيك وأنتصر لك منه، فسكت خالد ودخل مروان على أم خالد فقال: ما قال لك خالد ما قلت له اليوم؟ فقالت: ما حَدَّثَني/ بشيء ولا قال لي فقال: ألم يشكني إليك، ويذكر تقصيري به.
__________
[1] «فقال ابن الزبير» ساقطة من ت.
[2] «فقال مروان: ساقطة من ت.
[3] طبقات ابن سعد 5/ 1/ 29، 30.(6/49)
فقالت: يا أمير المؤمنين، أنت أجل في عين خالد وهو أشد لك تعظيما من أن يحكي عنك شيئا أو يجد من شيء تقوله، وإنما أنت له بمنزلة الوالد. فانكسر مروان وظن أن الأمر على ما حكت، فسكت حتى إذا كان بعد ذلك، وحانت القائلة فنام عندها، فوثبت هي وجواريها فغلقن الأبواب على مروان، ثم عمدت إلى وسادة فوضعتها على وجهه، فلم تزل هي وجواريها يغممنه حتى مات.
ثم قامت فشقت جيبها وأمرت جواريها وخدمها فشققن وصحن وقلن: مات أمير المؤمنين فجأة. وذلك لهلال رمضان سنة خمس وستين، ومروان ابن أربع وستين، وكانت ولايته على الشام ومصر لم يعد ذلك ثمانية أشهر. وقيل: ستة أشهر.
وقد قال له علي بن أبي طالب: ليحملن راية ضلالة بعد ما يشيب صدغاه وله إمرة كلحسة الكلب أنفه [1] .
__________
[1] في الأصل: «كلسحة الكلب أنفه» .(6/50)
ثم دخلت سنة ست وستين
فمن الحوادث فيها وثوب المختار بن أبي عبيد طالبا بدم الحسين رضي الله عنه [1]
وذلك أن أصحاب سليمان بن صرد لما قتلوا بعد قتل من قتل منهم كتب إليهم المختار وهو في السجن: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فإن الله عز وجل أعظم لكم الأجر، وحط عنكم الوزر بمفارقة القاسطين، وجهاد المحلين، وإنكم لم تنفقوا نفقة، ولم تقطعوا عقبة، ولم تخطوا خطوة إلا رفع الله عز وجل لكم بها درجة، وكتب لكم بها حسنة، فأبشروا، فإني لو خرجت إليكم جردت فيما بين المشرق والمغرب من عدوكم السيف بإذن الله عز وجل.
فبعثوا إليه في الجواب: إنا قد قرأنا كتابك [2] ونحن بحيث يسرك، فإن شئت أن نأتيك حتى نخرجك فعلنا، فقال لهم: إني أخرج في أيامي هذه. وشفع فيه عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن يزيد/ وإبراهيم بن محمد الأميرين على الكوفة، فضمنوه جماعة من الأكابر وأخرجوه ثم أحلفاه باللَّه الذي لا إله إلا هو، لا يبغيهما [غائلة] ، ولا يخرج عليهما ما كان لهما سلطان، فإن هو فعل فعليه ألف بدنة ينحرها [لدى] [3] رتاج الكعبة [4] ، ومماليكه كلهم أحرار، فحلف لهما.
__________
[1] تاريخ الطبري، والبداية والنهاية 8/ 284.
[2] في ت: «إنا قد آتانا كتاب» .
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، وأوردناه من ت.
[4] في ت: «ألف بدنة يذبحها لرتاج الكعبة» .(6/51)
ثم جاء إلى داره فنزلها، فقال: قاتلهم الله، ما أحمقهم حين يرون أني أفي لهم، أما حلفي باللَّه عز وجل فإنه ينبغي لي إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها أن أكفره، وخروجي عليهم خير من كفي عنهم. وأما ألف بدنة فما قدر ثمنها، وأما عتق مماليكي فوددت إن استتب لي أمري، ثم لم أملك مملوكا أبدا.
ولما استقر في داره اختلفت الشيعة إليه ورضيت به، فلم يزل أمره يقوى إلى أن عزل عبد الله بن الزبير عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد، وبعث عبد الله بن مطيع على عملهما بالكوفة، وبعث الحارث بن أبي ربيعة على البصرة، فقدم ابن مطيع الكوفة لخمس بقين من رمضان سنة خمس وستين، فقيل له: خذ المختار واحبسه، فبعث إليه فتهيأ للذهاب، فقرأ زائدة بن قدامة: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ... 8: 30 [1] ففهمها المختار، فجلس وألقى ثيابه، وقال: ألقوا علي القطيفة، ما أراني إلا قد وعكت، ثم قال: أعلموا ابن مطيع حالتي واعتذروا عنده، فأخبر بعلته، فصدقه ولهى عنه، وبعث المختار إلى أصحابه، وأخذ يجمعهم في الدور حوله، وأراد أن يثب بالكوفة في المحرم، فقال: بعض أصحابه لبعض: إن المختار يريد أن يخرج بنا وقد بايعناه ولا ندري أرسله إلينا ابن الحنفية أم لا، فانهضوا بنا إلى ابن الحنفية، فإن رخص لنا في اتباعه تبعناه، فذهبوا إليه فأخبروه فقال: والله لوددت أن الله انتصر لنا بمن أشاء، فلما قدموا قالوا: أذن لنا، ففرح المختار، وكان قد انزعج/ من خروجهم وخاف أن لا يأذن لهم، وقد كان إبراهيم بن الأشتر بعيد الصوت كثير العشيرة، فأرادوه أن يخرج مع المختار، فقال: بل أكون أنا الأمير، قالوا: إن محمد بن الحنفية قد أمر المختار بالخروج، فسكت، فصنع المختار كتابا عن ابن الحنفية إليه يأمره بالموافقة للمختار، وأقام من يشهد أنه كتاب ابن الحنفية، فبايعه وتردد إليه، فاجتمع رأيهم على أن يخرجوا ليلة الخميس لأربع عشرة من ربيع الأول سنة ست وستين.
فأتى إياس بن مضارب عبد الله بن مطيع، فقال: إن المختار خارج عليك إحدى الليلتين، فأخرج الشرط، وأقامهم على الطريق في الجبابين، خارج البلد، فخرج إبراهيم بن الأشتر، وقال: والله لأمرن على دار عمرو بن حريث إلى جانب القصر وسط
__________
[1] سورة: الأنفال، الآية: 30.(6/52)
السوق، ولأرهبن عدونا [1] ، ولأرينهم هوانهم علينا، فمر فلقيه إياس بن مضارب في الشرط مظهرين السلاح، فقال له ولأصحابه: من أنتم؟ فقال: أنا إبراهيم بن الأشتر، فقال: ما هذا الجمع معك؟ إن أمرك لمريب وما أنا بتاركك حتى آتي بك الأمير، فتناول إبراهيم رمحا من بعض أصحاب إياس فطعن به إياسا فقتله، وقال لرجل من قومه: انزل فاحتز رأسه، ففعل، فتفرق أصحابه ودخل إبراهيم على المختار، وكانت ليلة الأربعاء، فقال له: إنا اتعدنا للخروج ليلة الخميس، وقد حدث أمر لا بد له من الخروج الليلة، فقال: وما هو؟ فقال: عرض لي إياس بن مضارب فقتلته، فقال المختار: بشرك الله بخير، هذا أول الفتح، قم يا سعيد بن منقذ، فأشعل في الهرادي [2] النيران ثم ارفعها للمسلمين، وقم يا عبد الله بن شداد، فناد: «يا منصور أمت» ، وقم أنت يا سفيان بن ليل، وأنت يا قدامة بن مالك وقل: «يا لثارات الحسين» . ثم قال [المختار] : علي بدرعي وسلاحي، فأتي به، فأخذ يلبس سلاحه ويقول:
قد علمت بيضاء حسناء الطلل ... واضحة الخدين عجزاء الكفل
/ أني غداة الروع مقدام بطل
ثم إن إبراهيم قال للمختار: إن هؤلاء الذين وضعهم ابن مطيع في الجبابين يمنعون إخواننا أن يأتونا، ويضيقون عليهم، فلو أني خرجت بمن معي من أصحابي حتى آتي قومي، فيأتيني كل من قد بايعني، ثم سرت بهم في نواحي الكوفة، ودعوت بشعارنا، فخرج إلي من أراد الخروج، قال: فاعجل، ولا تقاتل إلا من قاتلك.
فخرج إبراهيم، واجتمع إليه جل من كان بايعه، فسار بهم في سكك الكوفة، وخرج فهزم كل من لقيه من المسالح، وخرج المختار حتى نزل في ظهر دير هند. وخرج أبو عثمان النهدي ونادى: يا لثارات الحسين، ألا إن أمير آل محمد قد خرج فنزل دير هند، وبعثني إليكم داعيا، فاخرجوا رحمكم الله، فخرجوا من الدور يتداعون: يا لثارات الحسين. فوافى المختار منهم ثلاثة آلاف وثمانمائة من اثني عشر ألفا كانوا
__________
[1] في الطبري: «لأرغبن عدونا» .
[2] الهردية: قصبات تضم ملوية بطاقات الكرم، تحمل عليها قضبانه.(6/53)
بايعوه، واجتمعوا له قبل انفجار الصبح [1] . وجمع ابن مطيع الناس في المسجد وبعث شبث بن ربعي إلى المختار في نحو من ثلاثة آلاف، وبعث راشد بن إياس في أربعة آلاف من الشرط، وخرج إبراهيم بن الأشتر في جماعة كثيرة واقتتلوا قتالا شديدا، فقتل راشد وانهزم أصحابه، وجاء البشير بذلك إلى المختار، فقويت نفوس أصحابه، وداخل أصحاب ابن مطيع الفشل. ودنا إبراهيم من شبث وأصحابه، فحمل عليهم فانكشفوا حتى انتهوا إلى أبيات الكوفة، ورجع الناس من السبخة منهزمين إلى ابن مطيع، وجاءه قتل راشد بن إياس، فأسقط في يده.
وخرج فحض الناس على القتال، وقال: امنعوا حريمكم [2] وقاتلوا عن مصركم، فقال إبراهيم للمختار: سر بنا، فما دون القصر أحد يمنع، ولا يمتنع كبير امتناع، فقال المختار: ليقم هاهنا كل شيخ وكل ذي علة، وضعوا ما كان لكم من ثقل ومتاع [3] بهذا الموضع. واستخلف عليهم أبا عثمان النهدي، وقدم إبراهيم أمامه.
وبعث عبد الله بن مطيع عمرو بن الحجاج في ألفين، فبعث المختار إلى إبراهيم أن أطوه ولا تقم، وأمر يزيد بن أنس/ أن يصمد لعمرو. ومضى المختار في أثر إبراهيم، وأقبل شمر بن ذي الجوشن في ألفين، فبعث إليه المختار سعيد بن منقذ، فواقعه [4] ، وبعث إلى إبراهيم أن أطوه وامض على وجهك، فمضى حتى انتهى إلى سكة شبث، وإذا نوفل بن مساحق في نحو من خمسة آلاف، وقد أمر ابن مطيع سويد بن عبد الرحمن فنادى في الناس أن يلحقوا بابن مساحق.
وولى حصار القصر إبراهيم بن الأشتر، ويزيد بن أنس، ويحمر بن شميط.
وخرج ابن مطيع فاستتر في دار، وخلى القصر، وفتح أصحابه الباب، وقالوا: يا ابن الأشتر، نحن آمنون [5] ؟ قال: نعم، فبايعوا المختار [6] .
__________
[1] في الطبري 6/ 23: «قبل انفجار الفجر» .
[2] كذا في الأصول، وتاريخ الطبري 6/ 28.
[3] في ت: «متاع وثقل» .
[4] في الأصل، وت: «فوافقه» وما أوردناه من تاريخ الطبري 6/ 29.
[5] في تاريخ الطبري 6/ 32: «آمنون نحن» .
[6] كذا في الأصل، وفي ت: «قال: فبايعوا المختار» بإسقاط: «قال: نعم» . وفي تاريخ الطبري 6/ 32:
«قال: أنتم آمنون، فخرجوا فبايعوا المختار» .(6/54)
ودخل المختار القصر، فبات به، وخرج من الغد فصعد المنبر، فقال [1] : الحمد للَّه الذي وعد وليه النصر، وعدوه الخسر، ثم نزل فبايعه الناس، فجعل يقول: تبايعون على كتاب الله وسنة رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ [2] ، والطلب بدماء أهل البيت، وجهاد المحلين، وأخذ المختار في السيرة الجميلة، فقيل له: إن ابن مطيع في الدار الفلانية [3] ، فسكت، فلما أمسى بعث إليه بمائة ألف درهم، وقال له: تجهز بهذه واخرج فإني قد شعرت بمكانك، وكان صديقه قبل ذلك.
وأصاب [4] المختار في بيت مال الكوفة سبعة آلاف ألف، فأعطى أصحابه الذين حصروا ابن مطيع في القصر- وهم ثلاثة آلاف وثمانمائة رجل [5]- كل رجل خمسمائة درهم، وأعطى ستة آلاف من أصحابه مائتين مائتين، وأدنى الأشراف، فكانوا جلساءه.
وأول رجل عقد له المختار راية عبد الله بن الحارث أخو الأشتر، عقد له على أرمينية. وبعث محمد بن عمير بن عطارد على أذربيجان، وبعث عبد الرحمن بن سعيد على الموصل. فلما قدم عليه عبد الرحمن بن سعيد من قبل المختار أميرا تنحى له عن الموصل، ثم شخص إلى المختار فبايع له.
وكان المختار يقضي بين الناس، ثم قال: لي فيما أحاول شغل عن القضاء، فأجلس للناس شريحا، فقضى بين الناس، ثم تمارض/ شريح، فأقام المختار مكانه عبد الله بن عتبة بن مسعود.
وفي هذه السنة وثب المختار بمن كان بالكوفة من قتلة الحسين والمشايعين على قتله [6]
فقتل من قدر عليه، وهرب منه بعضهم. وكان سبب ذلك أن مروان لما استوثق
__________
[1] الخطبة كلها في تاريخ الطبري 6/ 32.
[2] في ت، وتاريخ الطبري: «تبايعوني على كتاب الله وسنة نبيه» .
[3] كذا في الأصول: وفي تاريخ الطبري 6/ 33: «في دار أبي موسى» .
[4] في الأصل: «فأصاب» . وما أوردناه من ت.
[5] في أحد نسخ الطبري المخطوطة: «ثلاثة آلاف وخمسمائة» .
[6] تاريخ الطبري 6/ 38.(6/55)
لَهُ أمره بعث عبيد الله بن زياد إلى العراق، وجعل له ما غلب عليه، وأمره أن ينهب الكوفة إذا ظفر بأهلها ثلاثا.
فمر بأرض الجزيرة فاحتبس بها وبقتال أهلها عن العراق نحوا من سنة، ثم أقبل إلى الموصل، فكتب عبد الرحمن بن سعيد عامل المختار على الموصل إلى المختار:
أما بعد، فإني أخبرك أيها الأمير أن عبيد الله بن زياد قد دخل إلى أرض الموصل، وقد وجه خيله قبلي ورجاله، وأني انحزت إلى تكريت حتى يأتيني أمرك.
فكتب إليه المختار: أصبت فلا تبرح من مكانك حتى يأتيك أمري، ثم قال ليزيد بن أنس: اذهب إلى الموصل فإني ممدك بالرجال. فقال: سرح معي ثلاثة آلاف [فارس] [1] أنتخبهم، فإن احتجت إلى الرجال فسأكتب إليك. قال [المختار] : فانتخب من أحببت [2] . فانتخب ثلاثة آلاف فارس.
ثم فصل من الكوفة [3] ، فخرج معه المختار يشيعه، وقال له: إذا لقيت عدوك فلا تناظرهم، وإذا أمكنتك الفرصة فلا تؤخرها، وليكن خبرك في كل يوم عندي، وإن احتجت [4] إلى مدد فاكتب إلي، مع أني ممدك ولو لم تستمد. فقال يزيد: وأيم الله لئن لقيتهم ففاتني النصر لا تفوتني الشهادة. فكتب المختار إلى عبد الرحمن بن سعيد: أما بعد، فخل بين يزيد وبين البلاد، والسلام عليكم.
فسار حتى أتى أرض الموصل، فسأل عبيد الله بن زياد عن عدة أصحاب يزيد، فقيل: خرج مع ثلاثة آلاف، فقال: أنا أبعث إلى كل ألف ألفين.
فمرض يزيد فقال: إن هلكت فأميركم ورقاء بن عازب الأسدي، فإن هلك فأميركم عبد الله بن ضمرة العذري، / فإن هلك فأميركم سعر بن أبي سعر [5] الحنفي. ثم قال: قدموني وقاتلوا وقاتلوا عني. فأخرجوه في يوم عرفة سنة ست وستين، فجعل يقول:
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] «أنتخبهم فإن احتجت.... فانتخب من أحببت» العبارة ساقطة من ت.
[3] في الأصل: «ثم فصل عن الكوفة» .
[4] في ت: «وإذا احتجت» .
[5] في ت: «ابن أبي سعير» .(6/56)
اصنعوا كذا، افعلوا كذا، ثم يغلبه الوجع فيوضع. فاقتتل القوم قبل شروق الشمس، فهزم أصحاب عبيد الله وقتل قائدهم. ثم اقتتلوا يوم الأضحى، فهزم أصحاب عبيد الله، وقتلوا قتلا ذريعا. وأتى يزيد بن أنس بثلاثمائة أسير، فأمر بقتلهم، فقتلوا، فما أمسى يزيد حتى مات، فانكسر أصحابه بموته.
فقال ورقاء: يا قوم: إنه قد بلغني أن ابن زياد قد أقبل إلينا في ثمانين ألفا من أهل الشام، ولا طاقة لنا به، فماذا ترون؟ فإني أرى أن نرجع، قالوا: افعل، فرجع ورجعوا.
فبلغ الخبر إلى المختار، فبعث إبراهيم بن الأشتر على تسعة آلاف، ثم قال: اذهب فارددهم معك، ثمّ سر حتى تلقى عدوك فتناجزهم.
ثم إن أهل الكوفة تغيروا على المختار، وقالوا: أتأمر علينا بغير رضا منا، وزعم أن ابن الحنفية أمره بذلك ولم يفعل، فاجتمع رأيهم على قتاله، وصبروا حتى بلغ ابن الأشتر ساباط، ثم وثبوا على المختار، فمنعوا أن يصل إليه شيء وعسكروا، فبعث المختار إلى إبراهيم بن الأشتر: لا تضع كتابي من يدك حتى تقبل بجميع من معك إلي.
ثم بعث المختار إليهم: أخبروني ماذا تريدون؟ قالوا: نريد أن تعتزلنا، فإنك زعمت أن ابن الحنفية بعثك ولم يبعثك، فقال المختار: ابعثوا إليه من قبلكم وفدا، وأبعث من قبلي وفدا حتى تنظروا، إنما أراد أن يشغلهم بالحديث حتى يقدم ابن الأشتر، فأسرع إبراهيم حتى قدم صبيحة ثلاثة من مخرجهم على المختار. ثم خرج إليهم المختار فاقتتلوا كأشد قتال، ونصر عليهم المختار، وهربوا، وأدرك منهم قوم فقتلوا منهم شمر بن ذي الجوشن، وأسر سراقة بن مرداس، فقال: ما أسرتموني، وإنما أسرني قوم على دواب بلق، وجاء سراقة يحلف باللَّه الذي لا إله إلا هو، لقد رأيت الملائكة تقاتل على خيول/ بلق بين السماء والأرض، فقال له المختار: فاصعد المنبر وأعلم المسلمين، ففعل، فلما نزل خلا به المختار، فقال: قد علمت أنك لم تر الملائكة، وإنما أردت أن لا أقتلك، فاذهب عني حيث شئت، ولا تفسد علي أصحابي.
ونادى المختار: من أغلق بابه فهو آمن إلا رجلا أشرك في دم آل محمد، وخرج أشراف أهل الكوفة فلحقوا بمصعب بن الزبير بالبصرة، وتجرد المختار لقتلة الحسين، وكان يقول: لا يسوغ لي الطعام والشراب حتى أطهر الأرض منهم، وأنقي المصر(6/57)
منهم، فجعل يتبع من خرج في قتال الحسين عليه السلام فيقتلهم شر قتل، وبعث إلى خولي الأصبحي- وهو صاحب رأس الحسين- فأحاطوا بداره، فاختبأ في المخرج، فقالوا لامرأته: أين هو؟ فقالت: لا أدري، وأشارت بيدها إلى المخرج، فأخرجوه فقتلوه وأحرقوه.
وبعث إلى عمر بن سعد من قتله، وكان قد أعطاه في أول ما خرج أمانا بشرط أن لا يحدث.
وكان أبو جعفر الباقر [يقول] [1] : إنما أراد بالحدث دخول الخلاء، فجيء برأسه وابنه حفص بن عمر بن سعد جالس عند المختار، فقال له: أتعرف هذا الرأس؟
فاسترجع وقال: نعم، لا خير في العيش بعده، فقال المختار: صدقت فإنك لا تعيش بعده، فقتل، فإذا رأسه مع رأس أبيه، فقال المختار: هذا بحسين، وهذا بعلي بن حسين، ولا سواء، والله لو قتل به ثلاثة أرباع قريش ما وفوا أنملة من أنامله. ثم بعث برأسيهما إلى محمد بن علي ابن الحنفية [2] ، وكان الذي هيج على قتل عمر بن سعد، أنه بلغه عن ابن الحنفية أنه يقول: يزعم المختار أنه لنا شيعة وقتلة الحسين جلساؤه يحدثونه. فلما لبث أن قتل عمر وابنه، وطلب المختار سنان بن أنس الذي كان يدعي قتل الحسين، فوجده قد هرب إلى البصرة، فهدم داره، وما زال يتبع القوم ويقتلهم بفنون القتل، فإذا لم يجد الرجل هدم داره.
وفي هذه السنة بعث المختار جيشا إلى المدينة للمكر بابن الزبير [3]
وهو مظهر له أنه وجههم معونة/ له لحرب الجيش الذي كان بعثه عبد الملك لحربه. وسبب ذلك أنه لما ظهر المختار بالكوفة كان يدعو إلى ابن الحنفية، والطلب بدماء أهل البيت، وأخذ يخادع ابن الزبير، فكتب إليه: أما بعد، فإنك قد عرفت
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] كذا في الأصلين، وفي الطبري: «محمد بن الحنفية» .
[3] تاريخ الطبري 6/ 71.(6/58)
مناصحتي وما كنت أعطيتني إذا فعلت ذلك من نفسك، فلما وفيت لك، وقضيت مالك عليّ، لم تف لي بما عاهدتني، فإن ترد مراجعتي أراجعك، أو مناصحتي أنصح لك، وإنما أراد بذلك كفه عنه حتى يستجمع الأمر، فأراد ابن الزبير أن يعلم أسلم هو أم حرب. فدعا عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي فقال له: تجهز إلى الكوفة فقد ولّيناكها، فقال: كيف وبها المختار، فقال: إنه يزعم أنه لنا سامع مطيع.
فتجهز بما بين الثلاثين ألف درهم إلى الأربعين ألف درهم، ثم خرج مقبلا إلى الكوفة. فبلغ الخبر المختار، فدعا زائدة بن قدامة، فقال له: اجعل معك [1] سبعين ألف درهم، ضعف ما أنفق هذا في مسيره إلينا وتلقه في المفاوز، وأخرج معك بمسافر بن سعيد بن نمران في خمسمائة فارس دارع رامح، ثم قل له: خذ هذه النفقة فإنها ضعف نفقتك وانصرف، فإن فعل وإلا فأره الخيل وقل له: إن وراء هؤلاء مثلهم مائة كتيبة.
فخرج زائدة فتلقاه وعرض عليه المال وأمره زائدة بالانصراف، فقال: إن أمير المؤمنين قد ولاني الكوفة ولا بد من إنفاذ أمره، فدعا زائدة بالخيل، [فلما رآها] [2] قال:
هذا الآن عذري، فهات المال، فأخذه وذهب نحو [البصرة، ولما أخبر المختار أن أهل الشام قد أقبلوا نحو العراق خشي أن يأتيه] [3] مصعب بن الزبير من قبل البصرة، فوادع ابن الزبير وداراه وكتب إليه: قد بلغني أن عبد الملك بن مروان قد بعث إليك جيشا، فإن أحببت أن أمدك بمدد أمددتك.
فكتب إليه عجل بالجيش. فدعا المختار شرحبيل الهمداني يسرحه في ثلاثة آلاف أكثرهم الموالي، ليس فيهم إلا سبعمائة من العرب، وقال: سر حتى تدخل المدينة، فإذا/ دخلتها فاكتب إلي بذلك حتى يأتيك أمري.
__________
[1] كذا في الأصلين، وفي تاريخ الطبري 6/ 72: «احمل معك» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(6/59)
وفي هذه السنة قدمت الخشبية مكة [1]
وكان السبب في ذلك أن عبد الله بن الزبير حبس محمد ابن الحنفية ومن معه من أهل بيته، وسبعة عشر رجلا من وجوه أهل الكوفة بزمزم، وكرهوا البيعة لمن لم تجتمع عليه الأمة، وهربوا إلى الحرم، وتوعدهم بالقتل والإحراق، وأعطى الله عهدا إن لم يبايعوه أن ينفذ فيهم ما توعدهم به [2] ، وضرب لهم في ذلك أجلا، فأشار بعض من كان مع ابن الحنفية عليه أن يبعث إلى المختار وإلى من بالكوفة رسولا يعلمهم حالهم وما توعدهم به ابن الزبير، فوجه ثلاثة نفر إلى المختار وأهل الكوفة حين نام الحرس على باب زمزم، وكتب إليهم يعلمهم بالحال ويسألهم أن لا يخذلوه كما خذلوا الحسين وأهل بيته، فقدموا على المختار، فدفعوا إليه الكتاب، فنادى في الناس وقرأ عليهم الكتاب، وقال:
هذا كتاب مهديكم، وصريح أهل بيت نبيكم، وقد تركوا ينتظرون التحريق بالنار، ولست أبا إسحاق إن لم أنصرهم نصرا مؤزرا، وإن لم أسرب إليهم الخيل في أثر الخيل كالسيل حتى يحل بابن الكاهلية الويل.
ووجه أبا عبد الله الجدلي في سبعين راكبا ومعه ظبيان بن عمير [3] في أربعمائة راكبا، وأبا المعتمر في مائة، وهانئ بن قيس في مائة، وعمير بن طارق في أربعين، ويونس بن عمران في أربعين. وخرج أبو عمران حتى نزل ذات عرق، ولحقه ابن طارق وسار بهم حتى دخلوا المسجد الحرام وهم ينادون: يا لثارات الحسين، حتى انتهوا إلى زمزم وقد أعد ابن الزبير الحطب ليحرقهم، وكان قد بقي من الأجل يومين، فطردوا الحرس وكسروا أعواد زمزم، ودخلوا على ابن الحنفية، فقالوا له: خل بيننا وبين عدو
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 75، 76.
[2] في الأصل: «ما وعدهم به» . وما أوردناه من ت.
[3] في الأصلين: ظبيان بن عمير» . وهو خطأ. وما أوردناه من تاريخ الطبري. وفي أحد نسخ الطبري المخطوطة: «ظبيان بن عثمان» وهو خطأ.(6/60)
الله ابن الزبير [1] ، فقال لهم: إني لا أستحل القتال في حرم الله عز وجل، ثم تتابع المدد فخرج ابن الحنفية في أربعة آلاف.
وفي هذه السنة [2] حج عبد الله بن الزبير/ بالناس، وكان على المدينة مصعب بن الزبير، وعلى البصرة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وعلى قضائها هشام بن هبيرة، وكان المختار غالبا على الكوفة، وبخراسان عبد الله بن خازم.
وفي هذه السنة توجه إبراهيم بن الأشتر إلى عبيد الله بن زياد لحربه، وذلك لثمان بقين من ذي الحجة [3]
وقد ذكرنا أن المختار وجه إبراهيم بن الأشتر لقتال أهل العراق، فلما وثب أهل الكوفة لقتال المختار بعث إلى ابن الأشتر فرده.
فلما نصر عليهم عاد فأشخصه إلى الوجه [4] الذي بعثه فيه، فخرج يوم السبت لثمان بقين من ذي الحجة، وخرج معه المختار وبين يديه كرسي كان يستنصر به، فناجزهم ساعة تلقاهم.
وفي ذلك الكرسي قولان: [5] أحدهما: أن طفيل بن جعدة قال: كنت قد أملقت، فرأيت جارا لي زياتا [6] له كرسي قد أعلاه الوسخ، فخطر ببالي أن لو قلت للمختار في هذا، فأخذت الكرسي وأتيت المختار وقلت: إني كنت أكتمك شيئا وقد بدا لي أن أذكره، وهو كرسي كان لجعدة بن هبيرة كان يجلس عليه ويرى أن فيه أثرة من علم، فقال: ابعث به، وأمر لي باثني عشر ألفا، ثمّ دعا: الصلاة جامعة، وقال: إنه لم
__________
[1] في الأصل: «عبد الله بن الزبير» . وما أوردناه من ت.
[2] جاء هذا العنوان في الله في آخر أحداث هذه السنة.
[3] تاريخ الطبري 6/ 81.
[4] في ت: «فأشخصه للوجه الّذي» .
[5] تاريخ الطبري 6/ 82.
[6] في الأصل: «فرأيت جار إلى زياتا» . وما أوردناه من ت.(6/61)
يكن في الأمم الخالية أمر إلا وهو كائن في هذه الأمة مثله، وإنه كان في بني إسرائيل التابوت، وإن هذا فينا مثل التابوت، فرفعوا أيديهم، فلما قيل لهم: هذا عبيد الله بن زياد قد نزل بأهل الشام خرج بالكرسي على بغل يمسكه عن يمينه سبعة، وعن يساره سبعة، فندم طفيل على ما فعل.
القول الثاني [1] : إن المختار قال لآل جعدة بن هبيرة- وكانت أم جعدة أم هاني.
أخت علي بن أبي طالب: ائتوني بكرسي علي بن أبي طالب، فقالوا: والله ما هو عندنا، فقال: ائتوني به، وظن القوم أنهم لا يأتونه بكرسي، ويقولون: هذا هو إلا قبله منهم. فجاءوا بكرسي وقالوا: هذا هو. ثم قال المختار لابن الأشتر: خذ عني ثلاثا:
خف الله عز وجل في سر أمرك وعلانيته، وعجل السير، وإذا لقيت عدوك فناجزهم/ ساعة تلقاهم.
أَخْبَرَنَا المبارك بْن أَحْمَد الأنصاري، قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو محمد بن السمرقندي، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا القاضي أَبُو الحسين عَلي بْن مُحَمَّد بْن حبيب البصري، قال: حدثنا محمد بن المعلى بن عبد الله الأزدي، قال:
أخبرنا أبو جزء محمد بن حمدان القشيري، قال: حدثنا أبو العيناء، عن أبي أنس الحراني، قال: قال المختار لرجل من أصحاب الحديث:
ضع لي حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم أني كائن بعده خليفة وطالب له ثرة ولده، وهذه عشرة آلاف درهم وخلعة ومركوب وخادم، فقال الرجل: أما عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا، ولكن اختر من شئت من الصحابة واحطط من الثمن ما شئت، قال: عن النبي آكد، قال: والعذاب عليه أشد.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
434- أسماء بن حارثة بن سعيد بن عبد الله [2] :
كان محتاجا من أهل الصفة، توفي في هذه السنة وَهُوَ ابْن ثمَانين سنة.
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 84.
[2] طبقات ابن سعد 4/ 2/ 50.(6/62)
ثم دخلت سنة سبع وستين
فمن الحوادث فيها مقتل عبيد الله بن زياد [1]
وذلك أن إبراهيم بن الأشتر خرج يقصد ابن زياد، فالتقوا قريبا من الموصل، فاقتتلوا قتالا شديدا وقتل خلق كثير من الفريقين، وقال ابن الأشتر: قتلت رجلا وجدت منه ريح المسك تحت راية مفردة على شاطئ نهر فالتمسوه، فإذا هو عبيد الله بن زياد، ضربه فقده نصفين، وقتل الحصين بن نمير، وانهزم أصحاب ابن زياد، وتبعهم أصحاب إبراهيم، فكان من غرق أكثر ممن قتل، وأصابوا عسكرهم وفيه من كل شيء وخرج المختار من الكوفة، فنزل ساباط، وجاءته البشرى بقتل ابن زياد وهزيمة أصحابه، وانصرف المختار إلى الكوفة، ومضى ابن الأشتر إلى الموصل، وبعث عماله عليها.
وفي هذه السنة ولى عبد الله بن الزبير أخاه/ مصعب بن الزبير على البصرة.
فدخلها فصعد المنبر فخطب فقال: بسم الله الرحمن الرحيم طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ نَتْلُوا عَلَيْكَ من نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ 28: 1- 3 إلى قوله: إِنَّهُ كانَ من الْمُفْسِدِينَ 28: 4- وأشار بيده إلى الشام- وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ 28: 5- وأشار بيده نحو الحجاز- وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ 28: 6
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 86، والبدآية والنهاية 8/ 303.(6/63)
وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ 28: 6 [1]- وأشار بيده نحو الشام.
وفي هذه السنة [2] سار مصعب بن الزبير إلى المختار فقتله
وسبب ذلك أن شبث بن ربعي كان فيمن قاتل المختار، فهزمهم المختار، فلحقوا بمصعب بن الزبير بالبصرة، فقدم شبث على مصعب وهو على بغلة قد قطع ذنبها وطرف أذنها وشق قباءه وهو ينادي: يا غوثاه يا غوثاه. فدخل عليه ومعه أشراف الناس من المنهزمين، فأخبره بما أصيبوا به، وسألوه النصر على المختار، ثم قدم محمد بن الأشعث بن قيس أيضا، وكان المختار قد طلبه فلم يجده فهدم داره، فكتب مصعب إلى المهلب، وهو عامله على فارس: أن أقبل إلينا تشهد أمرنا، فإنا نريد المسير إلى الكوفة.
فأقبل المهلب بجموع كثيرة وأموال عظيمة، فدخل على مصعب، فأمر مصعب الناس بالمعسكر عند الجسر الأكبر، ودعا عبد الله بن مخنف وقال له: ائت الكوفة فاخرج إلي جميع من قدرت أن تخرجه، وادعهم إلى بيعتي سرا. وخذل أصحاب المختار، فمضى حتى جلس في بيته مستترا لا يظهر، وخرج مصعب ومعه المهلب، والأحنف بن قيس، وبلغ المختار الخبر، فقام في أصحابه فقال: يا أهل الكوفة، يا أعوان الحق وشيعة الرسول، إن فراركم الذين بغوا عليكم أتوا أشباههم من الفاسقين فاستغووهم، انتدبوا مع أحمد بن شميط، ودعا الرءوس الّذي كانوا مع ابن الأشتر، فبعثهم مع أحمد بن/ شميط، وإنما فارقوا ابن الأشتر لأنهم رأوه كالمتهاون بأمر المختار.
فخرج ابن شميط حتى ورد المدائن، وجاء مصعب فعسكر قريبا منه، فقال: يا هؤلاء، إنا ندعوكم إلى كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ، وإلى بيعة المختار، وإلى
__________
[1] سورة: القصص، الآيات: 1: 6.
[2] تاريخ الطبري 6/ 93، وفي الأصل: «وفيها سار ... » .(6/64)
أن يجعل هذا الأمر شورى في آل رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ. فاقتتلوا، فقتل ابن شميط، وانهزم أصحابه.
وبلغ الخبر إلى المختار، فقال: ما من موتة أموتها أحب إلي من موتة ابن شميط، وساروا فالتقوا وقد جعل مصعب على ميمنته المهلب بن أبي صفرة، وعلى ميسرته عمر بن عبيد بن معمر التيمي [1] ، وعلى الخيل عباد بن الحصين، وعلى الرجالة مقاتل بن مسمع البكري، ونزل هو يمشي متنكبا قوسا، وتزاحف الناس ودنا بعضهم إلى بعض، فبعث المختار إلى عبد الله بن جعدة: أن أحمل على من يليك، فحمل فكشفهم حتى انتهوا إلى مصعب، فجثى على ركبتيه، ولم يكن فرارا، ورمى بأسهمه، ونزل الناس عنده فقاتلوا ساعة ثم تحاجزوا، وحمل المهلب فحطم أصحاب المختار حطمة منكرة فكشفهم وقتل محمد بن الأشعث وعامة أصحابه، وتفرق أصحاب المختار، وجاء هو حتى دخل قصر الكوفة فحصر هو وأصحابه، فكانوا لا يقدرون على الطعام والشراب إلا بحيلة، وكان يخرج هو وأصحابه فيقاتلون قتالا ضعيفا، وكانت لا تخرج له خيل إلا رميت بالحجارة من فوق البيوت، وصب عليهم الماء القذر، وصار المختار وأصحابه يشربون من البئر فيصبون عليه العسل ليتغير طعمه.
ثم أمر مصعب أصحابه فاقتربوا من القصر ثم دخلوه، فقال المختار لأصحابه:
ويحكم، إن الحصار لا يزيدكم إلا ضعفا، فانزلوا بنا نقاتل لنقتل كراما، والله ما أنا بآيس إن صدقتموهم أن ينصركم الله. فتوقفوا عن قبول قوله فقال: أما أنا فو الله لا أعطي بيدي.
ثم أرسل إلى امرأته أم ثابت بنت سمرة بن جندب، فأرسلت إليه بطيب كثير، فاغتسل وتحنط ووضع ذلك الطيب على رأسه ولحيته، ثم خرج في تسعة عشر رجلا، فقال لهم: أتؤمنونني وأخرج إليكم؟ فقالوا: لا إلا على الحكم، فقال: لا أحكمكم في نفسي أبدا، فضارب بسيفه حتى قتل، ونزل أصحابه على الحكم فقتلوا، وأمر مصعب بكف المختار فقطعت ثم سمّرت بمسمار حديد إلى جنب حائط المسجد، ولم يزل
__________
[1] في ت: «ابن معمر التيمي» ، وما أوردناه من الأصل والطبري.(6/65)
على ذلك حتى قدم الحجاج بن يوسف، فنظر إليها فقال: ما هذه؟ فقالوا: كف المختار، فأمر بنزعها.
وبعث مصعب عماله على الجبال والسواد، وكتب إلى ابن الأشتر يدعوه إلى طاعته ويقول له: إن [أنت] [1] أجبتني ودخلت في طاعتي فلك الشام وأعنة الخيل وما غلبت عليه من أرض المغرب ما دام لآل الزبير سلطان. وكتب عبد الملك بن مروان من الشام إليه يدعوه إلى طاعته، ويقول: إن أجبتني ودخلت في طاعتي فلك العراق، فدعا إبراهيم بن الأشتر أصحابه وقال: ما تقولون- أو ماذا ترون؟ فقال بعضهم تدخل في طاعة عبد الملك، وقال بعضهم: تدخل في طاعة ابن الزبير، فقال ابن الأشتر: لو لم أكن أصبت عبيد الله بن زياد ولا رؤساء أهل الشام تبعت عبد الملك. وأقبل بالطاعة إلى ابن الزبير.
ولما قتل مصعب المختار ملك البصرة والكوفة، غير أنه أقام بالكوفة ووجه المهلب على الموصل والجزيرة وأذربيجان وأرمينية، وأن مصعبا لقي عبد الله بن عمر، فقال له ابن عمر: أنت القاتل سبعة آلاف من أهل القبلة في غداة واحدة، فقال مصعب:
إنهم كانوا كفرة سحرة، فقال ابن عمر: والله لو قتلت عدتهم غنما من تراث أبيك لكان ذلك سرفا.
والتراث هو الميراث.
وفي هذه السنة عزل عبد الله بن الزبير أخاه مصعب بن الزبير عن البصرة وبعث ابنه حمزة بن عبد الله إليها [2]
قال المدائني: وفد مصعب إلى عبد الله بعد قتل المختار، فعزله وحبسه عنده، واعتذر إليه من عزله، وقال: / والله إني لأعلمك أنك أكفأ من حمزة ولكني رأيت فيه ما رأى عثمان في عبد الله بن عامر حين عزل أبا موسى وولاه.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] تاريخ الطبري 6/ 117.(6/66)
فقدم حمزة البصرة، وكان يجود تارة حتى لا يدع شيئا يملكه، ثم يبخل مما لا يمنع مثله، فظهر منه ضعف وتخليط. وكتب الأحنف بن قيس إلى ابن الزبير بذلك وسأله أن يعيد مصعبا، فعزله فأخذ مالا كثيرا، وخرج إلى المدينة، فأودعه رجالا فذهبوا سوى يهودي كان أودعه فإنه وفى له. وعلم ابن الزبير بذلك، فقال: أبعده الله، أردت أن أباهي به بني مروان.
وفي هذه السنة حج بالناس عبد الله بن الزبير، وكان القاضي على الكوفة عبد الله بن عتبة بن مسعود، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة، وكان على خراسان عبد الله بن خازم السلمي، وكان بالشام عبد الملك بن مروان.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
435- عبيد الله بن زياد بن أبية [1] :
وقد ذكرنا قتله في الحوادث.
436- المختار بن أبي عبيد، واسم أبي عبيد مسعود بن عمرو بن عمير بن عوف: [2]
وأمه دومة بنت عمرو بن وهب، ويكنى المختار أبا إسحاق، وهو أخو صفية زوجة عبد الله بن عمر بن الخطاب.
خرج طالبا بدم الحسين رضي الله عنه، وجرت له عجائب قد ذكرنا بعضها. وكان يقول: قام الآن عن هذه الوسادة جبريل، وعن الأخرى ميكائيل.
أَخْبَرَنَا ابْنُ الحصين، قال: أخبرنا ابن المذهب، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قال: حدثني أبي، قال: حدّثنا ابن نمير، قال:
__________
[1] البداية والنهاية 8/ 305.
[2] البداية والنهاية 8/ 308: 315، تاريخ الطبري 6/ 93، والإصابة 8547.
وفي الأصل: «أبي عوف المختار» .(6/67)
حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا السّريُّ [1] ، عَنْ رِفَاعَةَ الْقَتْبَانِيِّ، قَالَ [2] : دَخَلْتُ عَلَى الْمُخْتَارِ، فَأَلْقَى إِلَيَّ وِسَادَةً وَقَالَ: لَوْلا أَنَّ أَخِي جِبْرِيلَ قَامَ عَنْ هَذِهِ لأَلْقَيْتُهَا لَكَ. قَالَ: فَأَرَدْتُ أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَذَكَرْتُ حَدِيثًا حَدَّثَنِي بِهِ أَخِي عَمْرُو بْنُ الْحَمِقِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا مُؤْمِنٍ أَمَّنَ مُؤْمِنًا عَلَى دَمِهِ/ فَقَتَلَهُ فَأَنَا مِنَ الْقَاتِلِ بَرِيءٌ» . قتل المختار لأربع عشرة ليلة خلت من رمضان سنة سبع وستين، وهو ابن سبع وستين [سنة] [3] .
__________
[1] في الأصول: «السدي» . وما أوردناه من المسند.
[2] الخبر في مسند أحمد بن حنبل 5/ 437.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(6/68)
ثم دخلت سنة ثمان وستين
فمن الحوادث فيها أن عبد الله بن الزبير رد أخاه مصعب بن الزبير أميرا على العراق [1]
بعد عزله إياه، فبدأ بالبصرة فدخلها. وبعث الحارث بن أبي ربيعة على الكوفة أميرا.
وفي هذه السنة رجعت الأزارقة من فارس إلى العراق [2]
حتى صاروا إلى قرب الكوفة، ودخلوا المدائن، وذلك أن الأزارقة كانت قد لحقت بفارس وكرمان ونواحي أصبهان بعد ما أوقع بهم المهلب بالأهواز. فلما وجه مصعب المهلب إلى الموصل ونواحيها عاملا عليها، وبعث عمر بن عبيد الله بن معمر على فارس انحطت الأزارقة على عمر فلقيهم بنيسابور، فقاتلهم قتالا شديدا، فقتل منهم قوم وانهزموا، وتبعهم فقطعوا قنطرة طبرستان ثم ارتفعوا إلى نحو من أصبهان وكرمان فأقاموا بها حتى قووا واستعدوا وكثروا.
ثم إن القوم أقبلوا حتى مروا بفارس، فشمر في طلبهم عمر مسرعا حتى أتى أرّجان، فوجدهم قد خرجوا منها متوجهين إلى الأهواز، وبلغ مصعبا إقبالهم، فخرج فعسكر بالناس بالجسر الأكبر، وقال: والله ما أدري ما الذي أغنى عني عمر، وضعت
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 119، والبداية والنهاية 8/ 315.
[2] تاريخ الطبري 6/ 119، والبداية والنهاية 8/ 315.(6/69)
معه جندا بفارس أجري عليهم أرزاقهم وأمده بالرجال، فقطعت الخوارج أرضه، والله لو قاتلهم لكان عندي أعذر.
وجاءت للخوارج عيونهم بأن عمر في آثارهم، وأن مصعبا قد خرج من البصرة إليهم، فذهبوا إلى المدائن فشنوا الغارة على أهلها، يقتلون الولدان والنساء والرجال ويبقرون الحبالى. وأقبلوا إلى ساباط فوضعوا أسيافهم في الناس، ثم تبعهم الناس وقاتلوهم وقتل أميرهم، فانحازوا إلى قطري فبايعوه، فذهب/ بهم إلى ناحية كرمان، فأقام بها حتى اجتمعت إليه جموع كثيرة وقوي، ثم أقبل حتى أخذ في أرض أصبهان، ثم خرج إلى الأهواز، وكتب للحارث بن أبي ربيعة وهو عامل مصعب على البصرة يخبره أن الخوارج قد انحدرت إلى الأهواز وأنه ليس لهذا الأمر إلا المهلب، فبعث إلى المهلب فأمره بقتال الخوارج والمصير إليهم، وبعث إلى عامله إبراهيم بن الأشتر، فجاء المهلب إلى البصرة وانتخب الناس، وسار بمن أحب، ثم توجه نحو الخوارج، وأقبلوا إليه حتى التقوا بسولاف، فاقتتلوا بها ثمانية أشهر أشد القتال.
وفي هذه السنة كان القحط الشديد بالشام [1]
ولم يقدروا لشدته على الغزو، وشتى عبد الملك بأرض قنسرين ثم انصرف منها إلى دمشق.
وفي هذه السنة وافت عرفات أربعة ألوية [2]
ابن الحنفية في أصحابه في لواء أقام عند جبل المشاة، وعبد الله بن الزبير في لواء، فقام مقام [3] الإمام اليوم، ثم تقدم ابن الحنفية بأصحابه حتى وقفوا حذاء ابن الزبير، ونجدة الحروري قام خلفهما في لواء بني أمية يسارهما. فكان أول من أفاض
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 127، والبداية والنهاية 8/ 316.
[2] تاريخ الطبري 6/ 138، والبداية والنهاية 8/ 317.
[3] في الأصول: «قام مقام» ، وما أوردناه من الطبري.(6/70)
لواء محمد ابن الحنفية، ثم تبعه نجدة في لواء بني أمية، ثم لواء ابن الزبير، وتبعه الناس.
وقد روى سعيد بن جبير عن أبيه، قال: خفت الفتنة فجئت إلى محمد بن علي فقلت: اتّق الله فإنا في بلد حرام، والناس وفد الله إلى هذا البيت، فلا تفسد عليهم حجتهم. فقال: والله ما أريد ذلك، ولا يؤتى أحد من الحاج من قبلي، ولكني رجل أدفع عن نفسي، فجئت إلى ابن الزبير فكلمته في ذلك فقال: أنا رجل قد أجمع الناس علي، فقلت: أرى الكف خيرا لك، قال: أفعل. فجئت نجدة فكلمته في ذلك، فقال: أما أن أبتدئ أحدا بقتال فلا، ولكن من بدأ بقتالي قاتلته. ثم جئت شيعة/ بني أمية فكلمتهم بنحو ذلك، فقالوا: نحن عزمنا على أن لا نقاتل أحدا إلا أن يقاتلنا.
وفي هذه السنة حج ابن الزبير بالناس، وكان عامله على المدينة جابر بن الأسود بن عوف الزهري، وعلى البصرة والكوفة مصعب، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة، وعلى قضاء الكوفة عبد الله بن عتبة بن مسعود، وعلى خراسان عبد الله بن خازم، وبالشام عبد الملك بن مروان.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
437- الحارث بن مالك- وقيل: الحارث بن عوف، وقيل: عوف بن الحارث- أبو واقد الليثي: [1]
أسلم قديما، وكان يحمل لواء بني ليث وضمرة وسعد بن بكر يوم الفتح، وبعثه رَسُول اللَّهِ صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ حين أراد الخروج إلى تبوك يستنفر بني ليث. وخرج إلى مكة فجاور بها فمات في هذه السنة وَهُوَ ابْن خمس وثمانين سنة، ودفن بمكة في مقبرة المهاجرين التي بفج، وإنما سميت مقبرة المهاجرين لأنه دفن فيها من مات ممن كان هاجر إلى المدينة.
__________
[1] البداية والنهاية 8/ 230.(6/71)
438- عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم، يكنى آبا العباس [1] :
وأمه لبابة بنت الحارث بن حرب الهلالية أخت ميمونة زوج النبي صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ.
ولد بمكة في شعب بني هاشم قبل الهجرة بثلاث سنين، وَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: «اللَّهمّ فقهه في الدين وعلمه الحكمة والتأويل» . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يدنيه ويحضره مع شيوخ الصحابة وأهل بدر ويقول له: والله لأنك أصبح فتياننا وجها وأحسنهم عقلا، وأفقههم في كتاب الله عز وجل. وكان يستشيره ويقول: غص غواص. وكان ابن مسعود يقول [2] : لو أن ابن عباس أدرك أسناننا ما عاشره منا أحد، وقال: نعم ترجمان القرآن ابن عباس.
وقال جابر بن/ عبد الله حين مات ابن عباس: مات أعلم الناس، وأحكم الناس.
وقال ابن الحنفية [3] : مات رباني هذه الأمة.
وقال مجاهد: كان ابن عباس يسمى البحر من كثرة علمه.
أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أخبرنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو حامد بن جبلة، قال: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْجُعْفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَمْزَة الثُّمَالِيُّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، قَالَ:
لَقَدْ رَأَيْتُ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَجْلِسًا لَوْ أَنَّ جَمِيعَ قُرَيْشٍ فَخَرَتْ بِهِ لَكَانَ لَهَا فَخْرًا، رَأَيْتُ النَّاسَ قد اجتمعوا حَتَّى ضَاقَ بِهِمُ الطَّرِيقُ، فَمَا كَانَ أَحَدٌ يقدر [على] [4] أن يجيء
__________
[1] طبقات ابن سعد 2/ 2/ 119، والبداية والنهاية 8/ 317، والتاريخ الكبير 5/ 5، وتاريخ واسط 85، 86، 92، 99، 101، والاستيعاب 3/ 933، وتاريخ بغداد 1/ 173، وأسد الغابة 3/ 192، وسير أعلام النبلاء 3/ 331.
[2] الخبر في طبقات ابن سعد 2/ 2/ 120.
[3] الخبر في طبقات ابن سعد 2/ 2/ 121.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(6/72)
وَلا أَنْ يَذْهَبَ، قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَكَانِهِمْ عَلَى بَابِهِ، فَقَالَ لِي: ضَعْ [لِي] [1] وَضُوءًا. قَالَ: فَتَوَضَّأَ وَجَلَسَ وَقَالَ: اخْرُجْ وَقُلْ لهم: من أراد أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْقُرْآنِ وَحُرُوفِهِ وَمَا أَرَادَ مِنْهُ فَلْيَدْخُلْ. قَالَ: فَخَرَجْتُ فَآذَنْتُهُمْ فَدَخَلُوا حَتَّى ملأ والبيت والحجرة وَحُرُوفِهِ وَمَا أَرَادَ مِنْهُ فَلْيَدْخُلْ. قَالَ: فَخَرَجْتُ فآذنتهم فدخلوا حتى ملئوا الْبَيْتَ وَالْحُجْرَةَ فَمَا سَأَلُوهُ عَنْ شَيْءٍ إِلا أخبرهم بِهِ وَزَادَهُمْ مِثْلَ مَا سَأَلُوا عَنْهُ أَوْ أَكْثَرَ. ثُمَّ قَالَ: إِخْوَانُكُمْ، فَخَرَجُوا.
ثُمّ قَالَ: اخرج فقل: من أراد أن يسأل عن تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَتَأْوِيلِهِ فَلْيَدْخُلْ. قَالَ:
فَخَرَجْتُ فَآذَنْتُهُمْ فدخلوا حتى ملئوا الْبَيْتَ وَالْحُجْرَةَ، فَمَا سَأَلُوا عَنْ شَيْءٍ إِلا أخبرهم بِهِ وَزَادَهُمْ مِثْلَ مَا سَأَلُوا عَنْهُ أَوْ أَكْثَرَ، ثُمَّ قَالَ: إِخْوَانُكُمْ. قَالَ: فَخَرَجُوا.
ثُمَّ قَالَ: اخْرُجْ فَقُلْ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْحَلالِ وَالْحَرَامِ وَالْفِقْهِ فَلْيَدْخُلْ، فَخَرَجْتُ فَقُلْتُ لهم. قال: فدخلوا حتى ملئوا الْبَيْتَ وَالْحُجْرَةَ، فَمَا سَأَلُوهُ عَنْ شَيْءٍ إِلا أَخْبَرَهُمْ بِهِ وَزَادَهُمْ مِثْلَ مَا سَأَلُوهُ. ثُمَّ قَالَ: إِخْوَانُكُمْ قَالَ: فَخَرَجُوا.
ثُمَّ قَالَ: اخْرُجْ فَقُلْ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْفَرَائِضِ وما أشبهها فليدخل. قال:
فخرجت فآذنتهم فدخلوا حتى ملئوا الْبَيْتَ وَالْحُجْرَةَ، فَمَا سَأَلُوهُ عَنْ شَيْءٍ إِلا أَخْبَرَهُمْ بِهِ وَزَادَهُمْ مِثْلَ مَا سَأَلُوهُ، ثُمَّ قَالَ: إِخْوَانُكُمْ. قَالَ: فَخَرَجُوا.
ثُمَّ قَالَ: اخْرُجْ/ فَقُلْ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْعَرَبِيَّةِ والشعر وكلام العرب فليدخل. قال: فدخلوا حتى ملئوا الْبَيْتَ وَالْحُجْرَةَ، فَمَا سَأَلُوهُ عَنْ شَيْءٍ إِلا أَخْبَرَهُمْ بِهِ وَزَادَهُمْ مِثْلَهُ.
قَالَ أَبُو صَالِحٍ: فَلَوْ أَنَّ قُرَيْشًا كُلَّهَا فَخَرَتْ بِذَلِكَ لَكَانَ فَخْرًا، فَمَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَذَا لأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ.
أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ القادر بن محمد، قال: أخبرنا الحسن بن علي التميمي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حدثني أبي، قال: حدثنا إِسْمَاعِيلُ يَعْنِي ابْنَ عُلَيَّةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا صَالِحُ بْنُ رُسْتُمَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مليكة، قال:
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(6/73)
صَحِبْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَكَانَ إِذَا نَزَلَ قَامَ شَطْرَ اللَّيْلِ يرتل ويكثر في ذلك التَّسْبِيحَ.
قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن أبي رجاء، قال:
كان هذا الموضوع مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ- مَجْرَى الدُّمُوعِ- كَأَنَّهُ الشَّرَكُ الْبَالِي.
أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الأَمِيرُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمُقْتَدِرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْيَشْكُرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ دُرَيْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ خَضِرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ عن سليمان بن عُمَرَ، عَنْ رِشْدِينَ بْنِ كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ:
ثَلاثَةٌ لا أُكَافِئُهُمْ: رَجُلٌ ضَاقَ مَجْلِسِي فَأَوْسَعَ لِي، وَرَجُلٌ كُنْتُ ظَمْآنَ فَسَقَانِي، وَرَجُلٌ أَغْبَرَتْ قَدَمَاهُ فِي الاخْتِلافِ إِلَى بَابِي، وَرَابِعٌ لا يَقْدِرُ عَلَى [1] مكافئته وَلا يُكَافِئْهُ عَنِّي إِلا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، رَجُلٌ حَزَبَهُ أَمْرٌ فَبَاتَ لَيْلَتَهُ سَاهِرًا فَلَمَّا أَصْبَحَ لَمْ يَجِدْ لِحَاجَتِهِ مُعْتَمَدًا غَيْرِي.
قَالَ: وَكَانَ يَقُولُ: إِنِّي لأَسْتَحِي مِنَ الرَّجُلِ يَطَأُ بِسَاطِي [2] ثَلاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ لا يَرَى عَلَيْهِ أثر مِنْ آثَارِ بِرِّي.
توفي ابن عباس بالطائف سنة ثمان وستين، ويقال: خمس وستين، ويقال: أربع وستين. والأول أصح.
وكان ابن إحدى وسبعين سنة [3] .
أخبرنا محمد بن عبد الباقي الحاجب، قال: أخبرنا حمد بن أحمد، قال: أخبرنا أَحْمَد بْن عَبْد اللَّه، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الحسن علي بن محمد بن إبراهيم، قال: حدّثنا محمد بن سليمان/ البصري، قال: حدثنا حفص بن عمر الرملي، قال: حدثنا الفرات [4] بن السائب، عن ميمون بن مهران، قال:
__________
[1] في الأصل: «لا أقدر على» .
[2] في الأصل: «لأستحي أن يطأ الرجل بساطي» .
[3] «سنة» : ساقطة من ت.
[4] في الأصل: «الفزاز» خطأ، وما أوردناه من ت.(6/74)
شهدت جنازة عبد الله بن عباس بالطائف، فلما وضع ليصلى عليه جاء طائر أبيض حتى دخل في أكفانه، فالتمس فلم يوجد، فلما سوي سمعنا صوتا ولم نر الشخص: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ [ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي في عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي] 89: 27- 30 [1] .
439- عدي بن حاتم الطائي، وأمه النوار بنت برمكة بن عكل، ويكنى أبا طريف: [2]
أَخْبَرَنَا أَبُو بكر مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ الْبَزَّازُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ معروف، قال:
أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ أَبِي عُمَيْرٍ الطَّائِيِّ، قَالَ: كَانَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ يَقُولُ [3] :
مَا كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ أَشَدَّ كَرَاهِيَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّمَ مِنِّي، وَكُنْتُ امْرَأً شَرِيفًا قَدْ سُدْتَ قَوْمِي، فَقُلْتُ: إِنِ اتَّبَعْتُهُ كُنْتُ دَنِيًّا. وَكُنْتُ نَصْرَانِيًّا، فَقُلْتُ لِغُلامٍ لِي: أَعِدَّ لِي مِنْ إِبِلِي أَجْمَالا ذُلَلا [4] سِمَانًا أَحْبِسُهَا قَرِيبًا مِنِّي، فَإِذَا سَمِعْتَ بِجَيْشِ مُحَمَّدٍ قَدْ وَطِئَ هَذِهِ الْبِلادِ فَآذِنِّي فَإِنِّي أَرَى خَيْلَهُ قَدْ وَطِئَتْ بِلادَ الْعَرَبِ كُلَّهَا. فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ غَدَاةٍ جَاءَنِي غُلامِي [5] فَقَالَ: مَا كُنْتَ صَانِعًا إِذَا غَشِيَتْكَ خَيْلُ مُحَمَّدٍ فَاصْنَعْهُ، فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَايَاتٍ فَسَأَلْتُ عَنْهَا فَقِيلَ: هَذِهِ جُيُوشُ مُحَمَّدٍ. قُلْتُ: قَرِّبْ لِي أَجْمَالِي، فَقَرَّبَهَا فَاحْتَمَلْتُ بِأَهْلِي وَوَلَدِي، ثُمَّ قُلْتُ: أَلْحَقُ بِأَهْلِ دِينِي مِنَ النَّصَارَى بِالشَّامِ، وَخَلَّفْتُ ابْنَةَ حَاتِمٍ [6] بِالْحَاضِرِ [7] .
__________
[1] سورة: الفجر، الآية: 28. وما بين المعقوفتين من ت.
[2] طبقات ابن سعد 3/ 1/ 6، وتاريخ الطبري 1/ 189، والإصابة 5477.
[3] الخبر غير موجود في ابن سعد، وهو في سيرة ابن هشام 2/ 578.
[4] ذللا، جمع ذلول: وهو الجمل السهل الّذي قد ريض.
[5] في ت: «جاءني غلام» .
[6] ابنة حاتم هذه سفانة، كما رجحه السهيليّ، إذ لا يعرف له بنت غيرها.
[7] الحاضر: الحي.(6/75)
وَتَخَالَفَتْنِي [1] خَيْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَشَنُّوا الْغَارَةَ عَلَى مَحِلَّةِ آلِ حَاتِمٍ، فَأَصَابُوا نِسَاءً وَأَطْفَالا وَشَاءً وَابْنَةَ حَاتِمٍ، فَقُدِمَ بِهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّمَ. وَقَدْ بَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَرَبِي، فَجُعِلَتِ ابْنَةُ حَاتِمٍ فِي حَظِيرَةٍ بِبَابِ الْمَسْجِدِ- كَانَتِ النِّسَاءُ يُحْبَسْنَ فِيهَا- فَمَرَّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَامَتْ إِلَيْهِ، وَكَانَتِ امْرَأَةً جَمِيلَةً جَزِلَةً، / فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَاتَ الْوَلَدُ وَغَابَ الْوَافِدُ، فَامْنُنْ عَلَيَّ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ، قَالَ: فَإِنِّي فَعَلْتُ فَلا تَعْجَلِي بِخُرُوجٍ حَتَّى تَجِدِي مِنْ قَوْمِكِ مَنْ يَكُونُ لَكِ ثِقَةٌ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَ الْوَالِدُ وَغَابَ الْوَافِدُ فَامْنُنْ عَلَيَّ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ [2] ، قَالَ: وَمَنْ وَافِدُكِ؟ قَالَتْ: عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَ: الْفَارُّ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، قَالَتْ: ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرَكَنِي حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ مَرَّ بِي فَقُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا كَانَ بعد الغد مرّ بي وقد يئست، فلم أقل شيئا، فأشار إلى رَجُلٌ خَلْفَهُ أَنْ قُومِي فَكَلِّمِيهِ، فَقُمْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَ الْوَالِدُ وَغَابَ الْوَافِدُ فَامْنُنْ عَلَيَّ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ فَعَلْتُ فَلا تَعْجَلِي بِخُرُوجٍ حَتَّى تَجِدِي مِنْ قَوْمِكِ مَنْ يَكُونُ لَكِ ثِقَةً حَتَّى يَبْلُغَكِ إِلَى بِلادِكِ، ثُمَّ آذِنِينِي.
قَالَتْ: فَسَأَلْتُ عَنِ الرَّجُلِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيَّ أَنْ أُكَلِّمَهُ، فَقِيلُ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَأَقَمْتُ حتى قدم رَكِبَ مِنْ قُضَاعَةَ. قَالَتْ: وَإِنَّمَا أُرِيدُ أَنْ آتِيَ أَخِي بِالشَّامِ، فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: قَدْ جَاءَ مِنْ قَوْمِي مَنْ لِي ثِقَةٌ وَبَلاغٌ، فَكَسَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّمَ وَحَمَلَنِي وَأَعْطَانِي نَفَقَةً، وَخَرَجْتُ مَعَهُمْ حَتَّى قَدِمْتُ الشَّامَ. قَالَ عدي: فو الله إِنِّي لَقَاعِدٌ فِي أَهْلِي إِذْ نَظَرْتُ إِلَى ظَعِينَةٍ [3] تُصَوِّبُ إِلَيَّ تَؤُمُّنَا [4] .
قُلْتُ: ابْنَةُ حَاتِمٍ، فَإِذَا هِيَ هِيَ، فَلَمَّا قَدِمَتْ عَلَيَّ انْسَحَلَتْ [5] تَقُولُ: الْقَاطِعُ الظَّالِمُ، احْتَمْلَتْ أَهْلَكَ وَوَلَدَكَ. وَتَرَكْتَ بَقِيَّةَ وَالِدِكَ، قُلْتَ: يَا أُخَيَّةُ لا تَقُولِي إلا خيرا، فقلت:
__________
[1] في ت، وابن هشام: «وتحالفني» .
[2] «قال: فإنّي فعلت فلا تعجلي ... من الله عليك» : العبارة ساقطة من ت.
[3] الظعينة: المرأة في هودجها، وقد تسمى ظعينة، وإن لم تكن فيه.
[4] تقصد وتؤم.
[5] في الأصل: «قدمت علي جعلت تقول» وما أوردناه من ت، وابن هشام، وانسحلت: أخذت في اللوم ومضت فيه مجدة.(6/76)
وَاللَّهِ مَا لِيَ مِنْ عُذْرٍ قَدْ صَنَعْتُ مَا ذَكَرْتِ، ثُمَّ نَزَلَتْ فَأَقَامَتْ عِنْدِي، فَقُلْتُ: مَا تَرَيْنَ فِي أَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ، وَكَانَتْ حَازِمَةً- وَكَانَتِ امْرَأَةً حَازِمَةً- فَقَالَتْ: أَرَى وَاللَّهِ أَنْ تَلْحَقَ بِهِ سَرِيعًا، فَإِنْ يَكُنِ الرَّجُلُ نَبِيًّا فَالسَّبْقُ إِلَيْهِ أَفْضَلُ، وَإِنْ يَكُنْ مَلِكًا فَلَنْ تُذَلَّ فِي عِزِّ الْيَمَنِ، وَأَنْتَ أَنْتَ، وأبوك أبوك، مع إِنِّي قَدْ نُبِّئْتُ أَنَّ عِلْيَةَ أَصْحَابِهِ قَوْمُكَ الأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ.
فَخَرَجْتُ حَتَّى أُقْدِمُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّمَ، فَدَخَلْتُ وَهُوَ/ فِي مَسْجِدِهِ، فَسَلَّمْتُ [عَلَيْهِ] [1] ، فَقَالَ: مَنِ الرَّجُلُ؟ فَقُلْتُ: عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، فَانْطَلَقَ بِي إِلَى بيته، فو الله إِنَّهُ لَعَامِدٌ بِي إِلَى بَيْتِهِ إِذْ لَقِيَتْهُ امْرَأَةٌ ضَعِيفَةٌ كَبِيرَةٌ فَاسْتَوْقَفَتْهُ فَوَقَفَ لَهَا طَوِيلا تُكَلِّمُهُ فِي حَاجَتِهَا، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: وَاللَّهِ مَا هَذَا بِمَلِكٍ، إِنَّ لِلْمَلِكِ حَالا غَيْرَ هَذَا. ثُمَّ مَضَى حَتَّى إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ تَنَاوَلَ وِسَادَةً مِنْ أَدَمٍ مَحْشُوَّةٍ لِيفًا، فَقَدَّمَهَا إِلَيَّ [2] ، فَقَالَ: «اجْلِسْ عَلَى هَذِهِ» فَقُلْتُ: لا بَلْ أَنْتَ. فَجَلَسَ عَلَيْهَا فَرَأَى فِي عُنُقِي وثنا من ذَهَبَ، فَتَلَا هَذِهِ الآيَةَ:
اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ 9: 31 [3] ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ، فَقَالَ: «أَلَيْسَ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ» قُلْتُ:
بَلَى، قَالَ: «فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ» . وَقَالَ: «إِيهِ يَا عَدِيُّ، أَلَمْ تَكُنْ تَسِيرُ فِي قَوْمِكَ بِالْمِرْبَاعِ فِي مَالٍ فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ يَحِلُّ لَكَ فِي دِينِكَ» ، قُلْتُ: أَجَلْ والله. فعرفت أنه نبي مرسل. ثم قَالَ: لَعَلَّكَ يَا عَدِيُّ إِنَّمَا يَمْنَعُكَ مِنَ الدُّخُولِ فِي هَذَا الدِّينِ مَا تَرَى مِنْ حاجتهم، فو الله لَيَوشَكَنَّ [هَذَا] الْمَالُ [أَنْ] [4] يَفِيضَ فِيهِمْ حَتَّى لا يُوجَدُ مَنْ يَأْخُذُهُ، وَلَعَلَّكَ إِنَّمَا يَمْنَعُكَ ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم، فو الله لَيُوشَكَنَّ أَنْ تَسْمَعَ بِالْمَرْأَةِ تَخْرُجُ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ عَلَى بَعِيرٍ حَتَّى تَزُورَ هَذَا الْبَيْتَ، لا تَخَافُ، وَلَعَلَّكَ إِنَّمَا يَمْنَعُكَ مِنَ الدُّخُولِ أَنَّ الْمَلِكَ وَالسُّلْطَانَ فِي غَيْرِهِمْ، وَايْمُ اللَّهِ لَيُوشَكَنَّ أَنْ تَسْمَعَ بِالْقُصُورِ الْبِيضِ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ قَدْ فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ» . قَالَ عَدِيٌّ: فَأَسْلَمْتُ. وَكانَ عدي يقول: قَدْ مَضَتِ اثْنَتَانِ وَبَقِيَتْ وَاحِدَةٌ: ليقض الْمَال.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من ت.
[2] في ابن هشام: «فقذفها إليّ» .
[3] سورة: التوبة، الآية: 31.
[4] في الأصول: «فو الله ليوشكن المال يفيض» . وما بين المعقوفتين من ابن هشام.(6/77)
قال علماء السير: لما قدم عدي على رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ أسلم وحسن إسلامه ورجع إلى بلاد قومه، فلما قبض رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وارتدت العرب ثبت عدي وقومه على الإسلام، وجاء بصدقاتهم إلى أبي بكر، وحضر فتح المدائن، وشهد مع علي الجمل وصفين والنهروان. وكان جوادا يفت للنمل الخبز ويقول: إنهن جارات.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ/ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: أخبرنا أَحْمَدُ بْنُ على بْن ثابت، قَالَ:
حَدَّثَنَا محمد بن الحسين بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُقْرِي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ يَحْيَى الآدَمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ [1] :
أَنَّهُ أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي أُنَاسٍ مِنْ طيِّئ- أَوْ قَالَ مِنْ قَوْمِهِ- فَجَعَلَ يَفْرِضُ لِرِجَالٍ مِنْ طيِّئ فِي ألفين أَلْفَيْنِ، فَاسْتَقْبَلْتُهُ فَأَعْرَضَ عَنِّي، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَمَا تَعْرِفُنِي؟ قَالَ: نَعَمْ إِنِّي وَاللَّهِ أعرفك، أسلمت إذ كفروا، وأقبلت إذا أَدْبَرُوا، وَوَفَيْتَ إِذْ غَدَرُوا، وَإِنَّ أَوَّلَ صَدَقَةٍ بيضت وجه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوُجُوهَ أَصْحَابِهِ صَدَقَةُ طيِّئ، جِئْتَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّمَ.
أَنْبَأَنَا عبد الوهاب الحافظ، قَالَ: أخبرنا أبو الحسين بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ علي الطَّنَاجِيرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ شَاهِينَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَابِتٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْهُذَيْلُ بْنُ عُمَيْرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنْ عَامِرٍ، قَالَ:
أَرْسَلُ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ إِلَى عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ يَسْتَعِيرُ مِنْهُ قُدُورَ حَاتِمٍ، فَأَمَرَ بِهَا عَدِيٌّ فَمُلِئَتْ وَحَمَلَهَا الرِّجَالُ إِلَى الأَشْعَثِ، فَأَرْسَلَ الأَشْعَثُ: إِنَّمَا أَرَدْنَاهَا فَارِغَةً، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ: إِنَّا لا نُعِيرُهَا فَارِغَةً.
أَخْبَرَنَا الْقَزَّازُ، قال أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا ابن بشران، قال:
__________
[1] الخبر في تاريخ بغداد 1/ 190.(6/78)
أخبرنا ابن صَفْوان، [قَالَ: أخبرنا] [1] ابن أبي الدنيا، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال [2] :
مَاتَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ.
وقد قال هشام بن الكلبي: مات سنة تسع وستين، وهو ابن مائة وعشرين سنة.
واختلفوا أين مات على قولين: أحدهما بالكوفة. قاله ابن خياط. والثاني بقرقيسياء.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال:
أخبرنا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الرَّزَّازُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إبراهيم الشافعي، قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْبَزَّازُ [3] ، قَالَ: / حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ [4] ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ [5] :
خَرَجَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ وَجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَحَنْظَلَةُ الْكَاتِبُ مِنَ الْكُوفَةِ، فَنَزَلُوا قِرْقِيسِيَا وَقَالُوا: لا نُقِيمُ بِبَلَدٍ يُشْتَمُ فِيهِ عُثْمَانُ [6] .
قال ابن ثابت: قال لي محمد بن علي الصوري: أنا رأيت قبورهم بقرقيسياء.
440- عابس بن سعيد القطيفي قاضي مصر [7] :
ولي القضاء والشرطة لمسلمة بن مخلد، روى عنه أبو قتيل المغافري.
وتوفي في هذه السنة.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] الخبر في تاريخ بغداد 1/ 190، ولفظه: «عدي بن حاتم أحد بني ثعل، مات في زمن المختار سنة ثمان وستين» .
[3] كذا في الأصول، وفي تاريخ بغداد: «البراء» .
[4] في الأصل وفي ت: «المدبر» . وما أوردناه من تاريخ بغداد.
[5] الخبر في تاريخ بغداد 1/ 191.
[6] كذا في الأصول، وفي تاريخ بغداد، وفي كتب التراجم الأخر: «يشتم فيه علي» .
[7] الأنساب للسمعاني 10/ 206، وفتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم 233: 235.(6/79)
441- قيس بن ذريح بن الحباب بن شبه بن حذافة [1] :
كان رضيع الحسين [2] بن علي بن أبي طالب، أرضعته أم قيس، وكان منزل قومه [في] [3] ظاهر المدينة، وكان هو وأبوه من حاضرة المدينة.
وقيل [4] : كان منزله بسرف.
فمر قيس ببعض حاجته بخيام بني كعب من خزاعة والحي خلوف [5] ، فوقف على خيمة للنّبيّ بنت الحباب الكعبية، فاستسقى الماء، فخرجت إليه فسقته، وكانت امرأة مديدة القامة، شهلة [6] حلوة المنظر والكلام، فلما رآها وقعت في نفسه وشرب الماء، فقالت له: انزل فتبرد عندنا، فنزل [بهم] [7] ، وجاء أبوها فنحر له وأكرمه. فانصرف قيس وفي نفسه [8] من لبني حرّ لا يطفأ، فجعل يقول الشعر [9] فيها حتى شاع وروي.
ثم أتاها يوما آخر وقد اشتد وجده بها، فسلم فظهرت له وردت سلامه ولحقت به، فشكى إليها ما يجد من حبها، فبكت وشكت إليه مثل ذلك، وعرف كل واحد منهما ما له عند صاحبه، فانصرف إلى أبيه وأعلمه [10] حاله وسأله أن يزوجه إياها، فأبى عليه، وقال: يا بني عليك بإحدى بنات عمك فهن أحق بك، وكان ذريح كثير المال موسرا،
__________
[1] الأغاني 9/ 210 (دار الكتب العلمية) ، وفوات الوفيات 2/ 134، والنجوم الزاهرة 1/ 182، وسمط اللآلئ 710، والشعر والشعراء 239، وتزين الأسواق 1/ 53، وعصر المأمون 2/ 152، ورغبة الآمل 5/ 242.
[2] في الأصل: «الحسين» . وما أوردناه من ت، والأغاني، وهو يوافق ما في المراجع. وستتكرر في الأصل «حسين» في جميع أخباره.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول.
[4] هذا القول نسبه في الأغاني 9/ 12، لخالد بن كلثوم.
[5] الحي خلوف: أي غيّب. والخلوف الحيّ: إذا خرج الرجال وبقي النساء.
[6] الشهلاء: التي يخالط سواد عينيها زرقة.
[7] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[8] في الأغاني: «في قلبه» .
[9] في الأغاني: «ينطق بالشعر» .
[10] في الأصول: «فأعلمه» .(6/80)
فأحب ألا يزوج [1] ابنه إلى غريبة [2] ، فانصرف قيس وقد ساءه ما خاطبه به أبوه، فأتى أمه فشكى إليها واستعان بها على أبيه، فلم يجد/ عندها ما يحب. فأتى الحسين [3] بن علي رضي الله عنهما وابن أبي عتيق، وكان صديقه، فشكى إليهما ما به وما رد عليه أبواه، فقال له الحسين [3] : أنا أكفيك، فمشى معه إلى أبي لبنى، فلما بصر به أعظمه ووثب إليه وقال: يا ابن رسول الله، ما حاجتك [4] ؟ قال: إن الذي جئت فيه يوجب قصدك، قد جئتك خاطبا ابنتك لبنى لقيس بن ذريح، فقال: يا ابن رسول الله، ما كنا لنعصي لك أمرا، وما بنا عن الفتى رغبة، ولكن أحب الأمرين إلينا أن يخطبها ذريح أبوه عليه، وأن يكون ذلك عن أمره، فإنا نخاف إن لم يسمح أبوه [5] في هذا أن يكون عارا علينا [6] ، فأتى الحسين [7] ذريحا [8] وقومه مجتمعون، فقاموا إليه إعظاما وقالوا له مثل الخزاعيين، فقال لذريح: أقسمت عليك إلا ما خطبت لبنى على قيس، فقال: السمع والطاعة لأمرك، فخرج معه في وجوه قومه حتى أتوا حي لبني، فخطبها ذريح على ابنه إلى أبيها، فزوجه إياها، وزفت عليه، فأقام معها مدة، وكان أبر الناس بأمه [9] ، فألهته لبنى وعكوفه عليها عن بعض ذلك، فوجدت أمه وأخذت في نفسها، وقالت: لقد شغلت هذه المرأة ابني عن بري.
ومرض قيس، فقالت أمه لأبيه: لقد خشيت أن يموت ولم يترك خلفا وقد حرم الولد من هذه المرأة، وأنت ذو مال فيصير مالك إلى الكلالة، فزوجه غيرها لعل الله أن يرزقه ولدا، وألحت عليه في ذلك، فلما اجتمع قومه دعاه فقال: يا قيس، إنك اعتللت
__________
[1] في الأغاني: «ألا يخرج ابنه» .
[2] في الأصل: «غريب» .
[3] في الأصل: «الحسن» . خطأ.
[4] في الأغاني: «ما جاء بك» .
[5] في الأغاني: «لم يسع أبوه» .
[6] في الأغاني: «عارا وسبة» .
[7] في الأصل: «الحسين» .
[8] في الأصل: «ذريحا وأبوه» . وحذفنا «أبوه» ، لأن المقصود أبو قيس.
[9] في الأصل: «أبيه» .(6/81)
فخفت عليك [ولا] [1] ولد لي سواك، وهذه المرأة ليست بولود فتزوج إحدى بنات عمك لعل الله أن يرزقك ولدا تقر به عينك وأعيننا، فقال قيس: لست متزوجا غيرها أبدا، قال أبوه، فتسر بالإماء، قال: ولا أسوءها بشيء والله أبدا، قال أبوه: فإني أقسم عليك إلا طلقتها، فأبى وقال: الموت عندي والله أسهل من ذلك، ولكني أخيرك خصلة من [ثلاث] [2] خصال، قال: وما هي؟ قال: تتزوج/ أنت فلعل الله أن يرزقك ولدا غيري، قال: ما في فضلة لذلك، قال: فدعني أترحل عنك بأهلي واصنع ما كنت صانعا لو مت في علتي هذه، قال: ولا هذه، قال: فأدع لبنى عندك وارتحل عنك فلعلي أسلوها فإني ما أحب [3] بعد أن تكون نفسي طيبة فإنها في خيالي، قال: لا أرضى أو تطلقها، وحلف لا يكنه سقف أبدا حتى يطلق لبنى. وكان يخرج فيقف في حر الشمس، فيجيء قيس فيقف إلى جانبه فيظله بردائه ويصطلي هو بحر الشمس ثم يدخل إلى لبنى فيعانقها ويبكي وتبكي هي معه، وتقول له: يا قيس، لا تطع أباك فتهلك وتهلكني، فيقول: ما كنت لأطيع فيك أحدا أبدا.
فيقال: إنه مكث لذلك سنة، وقيل: عشرين سنة، وهجره أبواه لا يكلمانه، فطلقها، فلما طلقها استطير عقله، ولحقه مثل الجنون، وجعل يبكي، فبلغها الخبر فأرسلت إلى أبيها ليحتملها، فأقبل أبوها بهودج وإبل، فقال قيس: ما هذا؟ فقالوا: لبنى ترحل الليلة أو غدا، فسقط مغشيا عليه ثم أفاق، وجعل يقول [4] :
وإني لمفن دمع عيني بالبكا ... حذار الذي قد كان أو هو كائن
وقالوا غدا أو بعد ذاك بليلة ... فراق حبيب لم يبن وهو بائن
وما كنت أخشى أن تكون منيتي ... بكفيك إلا أن ما حان حائن
وقال:
يقولون لبنى فتنة كنت قبلها ... بخير فلا تندم عليها وطلّق
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من هامش الأصل.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناها من الأغاني.
[3] في ت: «فآتي ما تحب» .
[4] الأبيات في الأغاني 9/ 216.(6/82)
فطاوعت أعدائي وعاصيت ناصحي ... وأقررت عين الشامت المتخلق
وددت وبيت الله أني عصيتهم ... وحملت في رضوانها كل موثق
وكلفت خوض البحر والبحر زاخر ... أبيت على أثباج موج مغرق
كأني أرى الناس المحبين بعدها ... عصارة ماء الحنظل المتفلق [1]
/ فتنكر عيني بعدها كل منظر ... ويكره سمعي بعدها كل منطق
وسقط غراب قريبا منه فجعل ينعق مرارا، فتطير منه وقال:
لقد نعق [2] الغراب ببين لبنى ... فطار القلب من حذر الغراب
وقال غدا تباعد دار لبنى ... وتنأى بعد ود واقتراب
فقلت تعست ويحك من غراب ... وكان الدهر سعيك في تباب
فلما ركبت هودجها تبعها وقال:
ألا يا غراب البيت هل أنت مخبري ... بخير كما خبرت بالنأى والشر
وقلت كذاك الدهر ما زال فاجعا ... صدقت وهل شيء بباق على الدهر
ثم علم أنهم يمنعونه منها، فوقف ينظر إليهم حتى غابوا، فكر راجعا ينظر إلى [أثر] [3] خف بعيرها يقبله ويقبل موضع مجلسها وأثر قدمها فعنفوه [4] على تقبيل التراب، فقال:
وما أحببت أرضكم ولكن ... أقبل إثر من وطئ الترابا
لقد لاقيت من كلفي بلبنى ... بلاء [5] ما أسيغ له شرابا
إذا نادى المنادي باسم لبنى ... عييت فما أطيق له جوابا
وقال له بعض الأطباء: منذ كم وجدت بهذه المرأة ما وجدت؟ فقال:
تعلق روحي روحها قبل خلقنا ... ومن بعد ما كنّا نطافا وفي المهد
__________
[1] في ت: «المتعلق» .
[2] في الأغاني: «لقد نادى» .
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الأغاني 9/ 217.
[4] في ت: «فعزموه» .
[5] في ت: «ثلاثة» . خطأ.(6/83)
فزاد كما زدنا فأصبح ناميا ... وليس إذا متنا بمنصرم [1] العهد
ولكنه باق على كل حادث ... وزائرنا في ظلمة القبر واللحد
فقال له الطبيب: إن مما يسليك عنها أن تذكر مساوئها وما تعافه النفس منها من أقذار بني آدم، فقال:
إذا عبتها شبهتها البدر طالعا ... وحسبك من عيب لها شبه البدر
لقد فضلت لبنى على الناس مثلما ... على ألف شهر فضلت ليلة القدر
إذا ما مشت شبرا من الأرض أرجفت ... من البهر حتى ما تزيد على شبر
لها كفل يرتج منها إذا مشت ... وقد كغصن البان منضمر [2] الخصر
فدخل أبوه والطبيب عنده، فجعل يعاتبه ويقول: يا بني الله الله في نفسك، فإنك إن دمت على هذا مت.
فقال:
وفي عروة العذري إن مت أسوة ... وعمرو بن عجلان الذي قتلت هند
وبي مثل ما ماتا به غير أنني ... إلى أجل لم يأتني وقته بعد
وقال:
هل الحب إلا عبرة بعد زفرة ... وحر على الأحشاء ليس له برد
وفيض دموع تستهل إذا بدا ... لنا علم من أرضكم لم يكن يبدو
قال: فلما طال على قيس ما به أشار قومه على أبيه أن يزوجه امرأة جميلة لعله يسلوبها، فدعاه إلى ذلك فأبى، فأعلمهم أبوه بما رد عليه، فقالوا له: مره بالمسير في أحياء العرب والنزول عليهم لعله يبصر امرأة تعجبه، فأقسم عليه أن يفعل، فسار حتى نزل بحي فرأى جارية كالبدر، فقال: ما اسمك يا جارية؟ فقالت: لبنى، فسقط على وجهه فارتاعت، وقالت: إن لم يكن هذا قيس بن ذريح، إنه لمجنون، فلما أفاق سألته أن يصيب من طعامهم، فأكل وارتحل، فأتى أخوها فرأى مناخ الناقة فلحقه فرده، فلم
__________
[1] في الأصول: «وليس وإن متنا بمنقصم» .
[2] في ت والأغاني «مفطمر» .(6/84)
يزل به حتى زوجه من أخته، فلما زفت إليه لم يلتفت إليها، وبلغ حديثه لبني، فقالت:
إنه لغدار ولقد كنت أمتنع من التزويج فالآن أتزوج، فزوجت، فاشتد جزعه.
وإن أبا لبنى شخص إلى معاوية فشكى إليه، وإنه يتعرض للبنى بعد الطلاق، فكتب/ إليه بإهدار دمه، فبعثت لبنى إليه تحذره، فقال:
فإن يحجبوها أو يحل دون وصلها ... مقالة واش أو وعيد أمير
فلن يمنعوا عيني من دائم البكا ... ولن يذهبوا ما قد أجن ضميري [1]
إلى الله أشكو ما ألاقي من الهوى ... ومن حرق [2] تعتادني وزفير
ومن حرق للحب في باطن الحشى ... وليل طويل الحزن غير قصير
وكنا جميعا قبل أن يظهر الهوى ... بأنعم حالي غبطة وسرور
فما برح الواشون حتى بدت لهم [3] ... بطون الهوى مقلوبة لظهور
لقد كنت حسب النفس لو دام وصلنا ... ولكنما الدنيا متاع غرور
ثم حج بعد ذلك وحجت، فلقيها فوقف باهتا، وبعثت إليه بالسلام. ثم إنه اقتطع قطعة من إبله وأعلم أباه أنه يريد بها المدينة ليبيعها ويمتار لأهله بثمنها، فعرف أبوه [أنه] [4] إنما يريد لبنى، فعاتبه فلم يقبل، وقدم المدينة، فبينا هو يعرضها [إذ] [4] ساومه زوج لبنى بناقة منها وهما لا يتعارفان، فباعه إياها، فقال: إذا كان في غد فاتني في دار كثير بن الصلت فاقبض الثمن، فمضى، وقال زوج لبنى لها: إني ابتعت ناقة من رجل بدوي وهو يأتينا غدا ليقبض الثمن، فأعدي له طعاما. ففعلت، فلما كان من الغد جاء فصوت بالخادم وقال: قولي لسيدك: صاحب الناقة بالباب، فعرفت لبنى نغمته فلم تقل شيئا، فقال زوجها للخادم: قولي له يدخل، فدخل فجلس، فقالت لبنى للخادم:
قولي له: مالك أشعث أغبر، فقالت له، فتنفس وقال: هكذا تكون حال من فارق الأحبة، وبكى. فقالت لبنى: قولي له: حدثنا حديثك، فلما ابتدأ يحدث كشفت
__________
[1] في الأصل: «ضمير» ، وما أوردناه من ت، والأغاني 9/ 233.
[2] في الأصول: «ومن كرب يعتادني» ، وما أوردناه من الأغاني.
[3] في الأصول: «حتى بدت لنا» . وما أوردناه من الأغاني.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من الأغاني 9/ 237.(6/85)
الحجاب، فبهت لا يتكلم ثم بكى ونهض يخرج، فناداه زوجها: ما قصتك؟ ارجع فاقبض الثمن، فلم يكلمه وخرج، فقالت لبنى لزوجها: هذا والله قيس.
وقال في طريقه فيها:
أتبكي على لبنى وأنت تركتها ... وكنت عليها بالملا [1] أنت أقدر
فإن تكن الدنيا بلبنى تقلبت ... فللدهر والدنيا بطون وأظهر [2]
لقد كان فيها للأمانة موضع ... وللكف مرتاد وللعين منظر
كأني لها أرجوحة بين أحبل [3] ... إذا ذكرة منها على القلب تخطر
ثم عاد إلى منزله فمرض مرضا أشفى منه، فدخل عليه أبوه وأهله فعاتبوه، فقال:
ويحكم، أتروني أمرضت نفسي أو وجدت لها سلوة فاخترت البلاء، أو لي في ذلك صنع، هذا ما اختاره لي أبواي فقتلاني به، فجعل أبوه يبكي ويدعو له بالفرج، ودست إليه لبنى رجلا فقالت له: قل له: لم تزوجت بعدها؟ فجاء يسأله، فحلف له أن عينه ما اكتحلت بالمرأة التي تزوجها، وأنه لو رآها في نسوة ما عرفها، وأنه ما مد إليها يدا، ولا كشف لها عن ثوب، قال: فحملني إليها ما شئت، فقال:
ألا حي لبنى اليوم إن كنت غاديا ... وألمم بها من قبل أن لا تلاقيا
وقل إنني والراقصات إلى منى ... بأجبل جمع ينظرون المناديا
أصونك عن بعض الأمور مظنة ... وأخشى عليك الكاشحين الأعاديا
أقول إذا نفسي من الوجد أصعدت ... بها زفرة تعتادني هي ما هيا
وبين الحشى والنحر مني حرارة ... ولوعة وجد تترك القلب ساهيا
ألا ليت لبنى لم تكن خلة لنا [4] ... ولم ترني لبنى ولم أدر ما هيا
خليلي ما لي قد بليت ولا أرى ... لبينى على الهجران إلا كما هيا
جزعت [5] عليها لو أرى لي مجزعا ... وأفنيت دمع العين لو كان فانيا
__________
[1] في ت: «عليها بالمد» .
[2] في الأغاني: «تقلبت عليّ فللدنيا بطون وأظهر» .
[3] في الأصول: «كأني في أرجوحة» .
[4] في الأغاني: «لم تكن لي خلة» .
[5] في الأصل: «وعبت» . وما أوردناه من ت والأغاني.(6/86)
تمر الليالي والشهور ولا أرى ... ولوعي بها يزداد إلا تماديا
واشتهر أمر قيس بالمدينة، وغنى بشعره الغريض ومالك ومعبد وغيرهم، / ولم يبق شريف ولا وضيع إلا سمع بذلك وحزن له، وجاء زوج لبنى فعاتبها فقال: فضحني بذكرك، فقالت: والله ما تزوجتك إلا بعد أن أهدر دمه، ولا حاجة لي فيك. وكان بالمدينة دار ضيافة لرجل من قريش وله زوجة يقال لها بريكة، فدخل الدار قيس في جنونه، فقال: أين بريكة؟ فلقيها، فقال لها: حاجتي نظرة إلى لبنى، فقالت: لك ذلك، فنزل فأقام عندهم وأهدى لها هدايا كثيرة، وقال لاطفيهم حتى يأنسوا بك، ففعلت وزارتهم مرارا وقالت لزوج لبنى: أخبرني أنت خير من زوجي، قال: لا، قالت: فلبنى خير مني، قال: لا، قالت: فما لي أزورها ولا تزورني، قال: ذاك إليها، فأتتها وسألتها الزيارة، وأعلمتها أن قيسا عندها فأسرعت إليها فبكيا حتى كادا يتلفان، ثم قالت له:
أنشدني ما قلت في علتك، فقال:
أعالج من نفسي بقايا حشاشة ... على ظمأ [1] والعائدات تعود
فإن ذكرت لبنى هششت لذكرها ... كما هش للثدي الدرور وليد
ورحل قيس إلى معاوية، فدخل على ابنه يزيد فامتدحه وشكى ما به، فقال: إن شئت أن أحتم على زوجها أن يطلقها، قال: لا بل أحب أن أقيم حيث تقيم وأعرف أخبارها من غير أن يهدر دمي، فأجابه، وغير ما كان كتب في إهدار دمه.
وقد اختلفوا في آخر أمر قيس [2] . فروى قوم أن لبنى ماتت فخرج قيس في جماعة من قومه، فوقف على قبرها، فقال:
ماتت لبينى فموتها موتي ... هل تنفعن حسرتي على الفوت
وسوف أبكي بكاء مكتئب ... قضى حياة وجدا على ميت
ثم أكب على القبر يبكي حتى أغمي عليه، فرفعه أهله إلى منزله وهو لا يعقل، فلم يزل عليلا لا يفيق ولا يجيب مكلما ثلاثا، ثم مات فدفن إلى جنبها.
__________
[1] في الأغاني: «على رمق» .
[2] الأغاني 9/ 251.(6/87)
وروى/ محمد بن عبد الباقي بإسناده عن أيوب بن عباية، قال: خرج قيس بن ذريح إلى المدينة يبيع ناقة له، فاشتراها زوج لبنى وهو لا يعرفه، فقال له: انطلق معي اعطك الثمن، فمضى معه، فلما فتح الباب إذا لبنى قد استقبلت قيسا، فلما رآها ولى هاربا، وخرج الرجل في أثره بالثمن ليدفعه إليه، فقال له قيس: لا تركب لي مطيتين أبدا، فقال: وأنت قيس بن ذريح؟ قال: نعم، فقال له: هذه لبنى قد رأيتها قف حتى أخيرها فإن اختارتك طلقتها، وظن القرشي أن في قلبها له موضعا وأنها لا تفعل، قال له قيس: افعل. فدخل القرشي عليها فاختارت قيسا فطلقها، وأقام قيس ينتظر انقضاء العدة ليتزوجها فماتت في العدة.
وروى آخرون أن ابن أبي عتيق جاء إلى الحسن والحسين رضي الله عنهما وابن جعفر وجماعة من قريش، فقال: إن لي حاجة إلى رجل وأخشى أن يردني، وإني أستعين بجاهكم، فمضى بهم إلى زوج لبنى، فلما رآهم أعظم مصيرهم إليه، فقالوا:
جئنا لحاجة لابن أبي عتيق، فقال: هي مقضية ما كانت، قال ابن أبي عتيق: فهب لي ولهم زوجتك لبنى وتطلقها، قال: فأشهدكم أنها طالق ثلاثا، فاستحيا القوم وقالوا: والله ما عرفنا أن حاجته هذه، وعوضه الحَسَن رضي الله عنه عن ذلك مائة ألف درهم، وحملها ابن أبي عتيق إليه، فلما انقضت العدة سأل القوم أباها فزوجها منه، فلم تزل معه حتى ماتا.
وقال قيس يمدح ابن أبي عتيق:
جزى الرحمن أفضل ما يجازي ... على الإحسان خيرا من صديق
فقد جربت إخواني جميعا ... فما ألفيت كابن أبي عتيق
سعى في جمع شملي بعد صدع ... ورأي حدت فيه عن الطريق
وأطفأ لوعة كانت بقلبي ... أغصتني حرارتها بريقي(6/88)
ثم دخلت سنة تسع وستين
فمن الحوادث فيها/ خروج عبد الملك بن مروان إلى عين وردة [1]
قال الواقدي [2] : واستخلف عمرو بن سعيد بن العاص على دمشق فتحصن بها، فبلغ ذلك عبد الملك، فرجع إلى دمشق فحاصره.
وقال غيره [3] : خرج معه إلى بعض الطريق ثم رجع إلى دمشق فتحصن بها.
قال عوانة بن الحكم [4] : خرج عبد الملك من دمشق يريد قرقيسياء، وفيها زفر بن الحارث الكلابي حتى إذا كان في بعض الطريق رجع عمرو بن سعيد عنه ليلا ومعه حميد بن حريث بن بحدل الكلابي حتى أتى دمشق وعليها عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي قد استخلفه عبد الملك، فلما بلغه رجوع عمرو هرب وترك عمله، فدخلها عمرو فغلب عليها وعلى خزائنها.
وقال آخرون: كانت هذه القصة [5] في سنة سبعين، وذلك حين سار عبد الملك إلى مصعب نحو العراق، فقال له عمرو بن سعيد [6] : إنك تخرج إلى العراق وقد كان
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 140.
[2] المرجع السابق والصفحة.
[3] المرجع السابق والصفحة.
[4] المرجع السابق والصفحة.
[5] في الأصل: «هذه القضية» . وما أوردناه من ت.
[6] تاريخ الطبري 6/ 140.(6/89)
أبوك وعدني هذا الأمر من بعده، وعلى ذلك جاهدت معه، فاجعل لي هذا الأمر من بعدك فلم يجبه، فانصرف راجعا إلى دمشق فرجع عبد الملك في أثره حتى انتهى إلى دمشق.
قالوا: لما غلب عمرو على دمشق طلب عبد الرحمن بن أم الحكم فلم يصبه، فأمر بداره فهدمت، وصعد المنبر، وقال: لكم علي حسن المؤاساة والعطية. ثم نزل، ولما أصبح عبد الملك فقد عمرو، فسأل عنه فأخبر خبره، فرجع عبد الملك إلى دمشق فاقتتلوا، ثم إن عبد الملك وعمرا اصطلحا وكتبا بينهما كتابا وأمنه عبد الملك، وذلك عشية الخميس، ثم أنه بعث إليه فأتاه في مائة رجل من مواليه، وأمر بحبس من معه وأذن له، فدخل فرأى بني مروان عنده، فأحس بالشر، وأمر عبد الملك بالأبواب فغلقت، فلما دخل عمرو رحب به عبد الملك وقال: ها هنا يا أبا أمية، وأجلسه معه على السرير، وجعل يحدثه طويلا، ثم قال يا غلام، خذ السيف عنه، فقال عمرو:
إنا للَّه يا أمير المؤمنين، فقال عبد الملك: أو تطمع أن تجلس معي متقلدا سيفك، فأخذ السيف عنه، ثم تحدثا ما شاء/ الله، ثم قال: يا أبا أمية، قال: لبيك، قال: إنك حيث خلعتني [1] آليت إذا أنا ملأت عيني منك وأنا مالك لك أن أجمعك في جامعة، فقال بنو مروان [2] : ثم تطلقه يا أمير المؤمنين، قال:
ثم أطلقه [3] ، وما عسيت أن أصنع بأبي أمية، فقال بنو مروان: أبر قسم أمير المؤمنين، فقال عمرو: وأبر قسمك يا أمير المؤمنين. فأخرج من تحت فراشه جامعة فطرحها إليه، ثم قال: يا غلام قم فاجمعه فيها، فقام الغلام فجمعه فيها، فقال عمرو:
أذكرك الله يا أمير المؤمنين أن تخرجني فيها على رءوس الناس، فقال عبد الملك: ما كنا لنخرجك في جامعة على رءوس الناس، ثم اجتبذه اجتباذة أصاب فمه السرير فكسر ثنيته، فقال عمرو: أذكرك الله يا أمير المؤمنين أن يدعوك كسر عظم مني إلى أن تركب ما هو أعظم من ذلك، فقال: والله لو أعلم أنك تبقي علي إن أبقي عليك [4]
__________
[1] في ت: «حيث خالفتني» .
[2] في ت: «فقال بنو مروان» .
[3] في الأصل: «ثم نطلقه» وما أوردناه من ت.
[4] في ت والأصل: «تبقى على أن تفي لي» وما أوردناه من الطبري.(6/90)
أو تصلح قريش لأطلقتك، ولكن ما اجتمع رجلان قط في بلدة على ما نحن عليه إلا أخرج أحدهما صاحبه.
فلما عرف عمرو ما يريد به، قال: أغدرا يا بن الزرقاء. فأمر به عبد العزيز بن مروان أن يقتله، فقام إليه بالسيف، فقال له عمرو: اذكرك الله والرحم أن تلي أنت قتلي وأن تولي ذلك من هو أبعد منك رحما، فألقى السيف وجلس. وصلى عبد الملك صلاة خفيفة ودخل وغلقت الأبواب، ورأى الناس عبد الملك وليس معه عمرو، فجاء إلى باب عبد الملك يحيى بن سعيد ومعه ألف عبد لعمرو فجعلوا يصيحون: أسمعنا صوتك يا أبا أمية، وكسروا باب القصر وضربوا الناس بالسيوف، وضرب عبد من عبيد عمرو يقال له مصقلة الوليد بن عبد الملك ضربة على رأسه، واحتمله إبراهيم بن عربي صاحب الديوان، فأدخله بيت القراطيس، ودخل عبد الملك فوجد عمرا حيا، فقال لعبد العزيز:
ما منعك أن تقتله؟ قال: منعني/ أنه ناشدني الله والرحم فرققت له، فقال عبد الملك:
أخزى الله أمك، وكانت أم عبد العزيز ليلى، وأم عبد الملك عائشة بنت معاوية بن المغيرة ...
ثم إن عبد الملك قال: يا غلام ائتني بالحربة، فأتاه بها فهزها ثم طعنه فلم تجز فيه، فضرب بيده إلى عضد عمرو، فوجد مس الدرع، فضحك ثم قال: ودارع أيضا، يا غلام ائتني بالصمصامة [1] ، فأتاه بسيفه، ثم أمر بعمرو فصرع، وجلس على صدره فذبحه. وانتفض عبد الملك رعدة، وزعموا أن الرجل إذا قتل ذا قرابة له أرعد.
فحمل عبد الملك عن صدره، فوضع على سريره، ودخل يحيى بن سعيد ومن معه على بني مروان الدار فجرحوهم [2] ومن معهم من مواليهم، فقاتلوا يحيى وأصحابه، وجاء عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي فدفع إليه الرأس. فألقاه إلى الناس.
وقد قيل إن عبد الملك بن مروان لما خرج إلى الصلاة أمر غلامه أبا الزعيزعة بقتل عمرو، فقتله وألقى رأسه إلى أصحابه.
وأمر عبد الملك بسريره فأبرز إلى المسجد وخرج فجلس عليه، وفقد الوليد
__________
[1] سيف صمصام، وصمصامة: صارم لا ينثني.
[2] في الأصل: «فخرجوا هم ومن معهم» . وما أوردناه من ت.(6/91)
فجعل يقول: ويحكم أين الوليد؟ وأبيهم إن كانوا قتلوه فلقد أدركوا بثأرهم، فأتاه إبراهيم ابن عربي، فقال: هذا الوليد عندي قد أصابته جراحة وليس عليه بأس. فأتى عبد الملك بيحيى بن سعيد، فأمر به أن يقتل، فقام إليه عبد العزيز، فقال: أذكرك الله يا أمير المؤمنين في استئصال بني أمية وإهلاكها. وأمر بعنبسة فحبس، ثم أتي بعامر بن الأسود الكلبي فضرب عبد الملك رأسه بقضيب خيزران كان معه، ثم قال: أتقاتلني مع عمرو وتكون معه علي؟ قال: نعم لأن عمرا أكرمني وأهنتني، وقربني وأبعدتني، وأحسن إلي وأسأت إلى، فكنت معه عليك. فأمر به عبد الملك أن يقتل، فقام إليه عبد العزيز، فقال: أذكرك الله يا أمير المؤمنين في خالي، فوهبه له، وأمر ببني سعيد فحبسوا، ومكث يحيى في الحبس شهرا أو أكثر/. ثم إن عبد الملك صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم استشار الناس في قتله، فقام بعض خطباء الناس، فقال: يا أمير المؤمنين، هل تلد الحية إلا حية [1] ، نرى والله أن تقتله، فإنه منافق عدو. ثم قام عبد الله بن مسعدة الفزاري، فقال: يا أمير المؤمنين، إن يحيى ابن عمك، وقرابته ما قد علمت، وقد صنعوا ما صنعوا، وصنعت بهم ما قد صنعت، وما أرى لك قتلهم، ولكن سيرهم إلى عدوك، فإن هم قتلوا كنت قد كفيت أمرهم، وإن هم رجعوا رأيت فيهم رأيك. فأخذ رأيه، فأخرج آل سعيد فألحقهم بمصعب بن الزبير.
ثم إن عبد الملك بعث إلى امرأة عمرو الكلبية: ابعثي إلي بالصلح الذي كنت كتبته لعمرو، فقالت لرسوله: ارجع إليه فقل له إني قد لففت ذلك الصلح معه في أكفانه ليخاصمك به عند ربك. ثم جمع أولاده فرق لهم وأحسن جائزتهم.
وكان الواقدي يقول [2] : إنما تحصن بدمشق في سنة تسع وستين، أما قتله إياه فكان في سنة سبعين.
وقال يحيى بن أكثم يرثيه:
أعيني جودا بالدموع [3] على عمرو ... عشية تبتز الخلافة بالغدر
__________
[1] في الأصل: «إلا حوية» . وما أوردناه من ت.
[2] تاريخ الطبري 6/ 148.
[3] في ت: «بالدمع» . وكتب على هامشها: «بالدموع» .(6/92)
كأن بني مروان إذ يقتلونه ... بغاث من الطير اجتمعن على صقر
لحى الله دنيا تدخل النار أهلها ... وتهتك ما دون المحارم من ستر
وفي هذه السنة أقام الحج للناس ابن الزبير، وكان عامله فيها على المصرين: الكوفة والبصرة أخوه المصعب، وكان على قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة، وعلى خراسان عبد الله بن حازم.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
442-/ الأحنف بن قيس بن معاوية [بن حصين] السعدي التميمي، واسمه الضحاك، وقيل: صخر، ويكنى أبا بحر [1] :
ولدته أمه وهو أحنف، فكانت ترقصه [2] ، وتقول:
والله لولا حنفة برجله ودقة في ساقه من هزله ما كان في فتيانكم من مثله أدرك زمان رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ، وبعث رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ إلى قومه من يعرض عليهم الإسلام، فقال الأحنف: إنه ليدعو إلى خير، وما أسمع إلا حسنا، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «اللَّهمّ اغفر للأحنف» . وكان الأحنف يقول: ما من شيء أرجى عندي من ذلك.
وقد روى عن عمر، وعلي، وأبي ذر. وهو الّذي افتتح مروالروذ، وكان الحسن وابن سيرين في جيشه، وكان عالما سيدا، وكان يحضر عند معاوية فيطيل السكوت،
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 66، وتهذيب الكمال 2/ 282.
[2] كذا في الأصول، وتهذيب الكمال، وفي ابن سعد: «وهي ترضعه» . وقد ذكرت معظم المصادر التي ترجمت له الأبيات باختلاف لفظي.(6/93)
فقال: يا أبا بحر، تكلم، فقال: أخشى الله إن كذبت، وأخشاكم إن صدقت [1] .
وكان يتهجد بالليل كثيرا، وكان يضع المصباح قريبا منه، ثم يقدم إصبعه إلى النار، ثم يقول: يا أحنف، ما حملك على ما فعلت في يوم كذا. وكان يصوم، فيقال له: إنك شيخ كبير والصيام يضعفك، فيقول: إني لأعده لشر طويل.
أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال:
أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا أبو عمر بْن حيويه، قَالَ: أخبرنا أبو بكر بن الأنباري، قال: حَدَّثَني أبي، قال: حدثنا علي بن عبيد الله الطوسي، قال: قال معاوية بن هشام بن عبد الملك لخالد بن صفوان:
لم بلغ فيكم للأحنف بن قيس ما بلغ؟ قال: إن شئت حدثتك ألفا، وإن شئت حذفت لك الحديث حذفا، [قال: احذفه حذفا] [2] ، قال: إن شئت ثلاثا، وإن شئت فاثنتين، وإن شئت فواحدة، [قال: ما الثلاث؟] [3] قال: أما الثلاث فإنه كان لا يشره، ولا يحسد ولا يمنع حقا. قال: فما الثنتان؟ قال: كان موفقا للخير معصوما عن الشر.
قال: فما الواحدة؟ قال: كان أشد الناس على نفسه سلطانا.
أخبرنا ابن ناصر الحافظ، قَالَ: أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ الْبَنَّاءُ، قَالَ: / أخبرنا عبيد الله بن أحمد، قال: أخبرنا عبيد الله بن عثمان، قال: أخبرنا ابن المنادي، أن إبراهيم بن مهدي الأيلي حدثهم قال: حدثني أحمد بن داود بن زياد الضبي، قال:
حدثنا كعب بن مالك الكوفي، قال: حدثنا عبد الحميد بن عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي [4] ، عن أبيه، عن الشعبي، قال: قال لي الأحنف بن قيس:
يا شعبي، قلت: لبيك، قال: ثمانية إن أهينوا فلا يلوموا إلا أنفسهم، قلت: من هم؟ قال: الآتي إلى مائدة لم يدع إليها، والداخل بين اثنين في حديثهما ولم يدخلاه،
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 67.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] في الأصل: «الدوحي» خطأ. وما أوردناه من ت. وهو الصحيح.(6/94)
والمتآمر على رب البيت في بيته، والمندلق بالدالة على السلطان، والجالس في المجلس الّذي ليس له بأهل، والمقبل بحديثه إلى من لا يسمع منه، والطامع في فضل البخيل، والمنزل حاجته بعدوه.
قال: يا شعبي، ألا أدلك على الداء الدوي [1] ؟ قلت: بلى، قال: الخلق الرديء واللسان البذيء.
قال: قلت له: دلني على مروءة ليس فيها مرزية، فقال: بخ بخ يا شعبي، سألت عظيما، الخلق الشحيح والكف عن القبيح.
وكان الأحنف يقول: إن من السؤدد الصبر على الذل، وكفى بالحلم ناصرا.
وقال: ما نازعني أحد إلا أخذت من أمري بإحدى ثلاث: إن كان فوقي عرفت له قدره، وإن كان دوني رفعت نفسي عنه، وإن كان مثلي تفضلت عليه.
وقال زياد بن الأحنف: قد بلغ من الشرف والسؤدد ما لا تنفعه [معه] [1] الولاية، ولا يضره العزل.
وقال خالد بن صفوان: كان الأحنف بن قيس يفر من الشرف والشرف يتبعه.
أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا عبد القادر بن محمد، قال: أخبرنا الحسن بن علي التَّمِيمِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، قال:
اشتكى ابن أخي الأحنف إلى الأحنف بن قيس وجع ضرسه، فقال له الأحنف:
لقد ذهبت عيني منذ أربعين سنة ما ذكرتها لأحد.
أخبرنا عبد/ الخالق بن أحمد، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قَالَ:
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْفَتْحِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن عبد الله الدقاق، قَالَ: أَخْبَرَنَا الحسين بْن صفوان، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر القرشي، قال: حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا قبيصة، قال:
قيل للأحنف بن قيس: ألا تأتي الأمراء؟ قال: فأخرج جرة مكسورة، فكبها فإذا كسر، فقال: من يجزيه مثل هذا ما يصنع بإتيانهم.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(6/95)
قال محمد بن سعد: كان الأحنف صديقا لمصعب بن الزبير، فوفد عليه الكوفة ومصعب واليها، فتوفي عنده فرئي مصعب في جنازته يمشي بغير رداء [1] .
443- ظالم بن عمر [2] بن سفيان، أبو الأسود الدؤلي [3] :
قال يوسف بن حبيب: الدول من بني حنيفة ساكن الواو، والديل عبد القيس ساكنة الياء، والدؤل في كنانة رهط أبي الأسود الدؤلي.
وقد روى أبو الأسود عن عمر، وعلي، والزبير، وأبي ذر، وعمران بن حصين.
واستخلفه عبد الله بن عباس لما خرج من البصرة، فأقره علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان يحب عليا رضي الله عنه الحب الشديد، وهو القائل [4] :
يقول الأرذلون بنو قشير ... طوال الدهر لا تنسى عليا
أحب محمدا حبا شديدا ... وعباسا وحمزة الوصيا
فإن يك حبهم رشدا أصبه ... ولست بمخطئ إن كان غيا
وهو أول من وضع النحو. قال محمد بن سلام: أول من أسس العربية ووضع قياسها، فوضع باب الفاعل والمفعول به، والمضاف، وحروف الرفع والنصب والجر والجزم، وأخذ ذلك عنه يحيى بن يعمر.
وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: أخذ أبو الأسود عن علي بن أبي طالب العربية، فكان لا يخرج شيئا مما أخذه عن علي إلى آخر حتى بعث إليه زياد: اعمل شيئا يكون إماما نعرف به كتاب الله، فلم يفعل حتى سمع قارئا يقرأ: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ 9: 3 [5] فقال: ما ظننت أن/ أمر الناس قد صار إلى هذا. وقال لزياد: أبغي كاتبا لقنا يفعل ما أقول، فأتي بكاتب من عبد القيس، فلم يرضه، فأتي بآخر، فقال له أبو
__________
[1] الخبر في طبقات ابن سعد 7/ 1/ 69.
[2] هكذا في الأصول، وفي ابن سعد والأغاني: «ابن عمرو» .
[3] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 70، والأغاني (دار الكتب العلمية) ، 12/ 346، وصبح الأعشى 3/ 161، ووفيات الأعيان 7/ 240، والإصابة 4322، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 7/ 104، وإنباه الرواة 1/ 13، وخزانة البغدادي 1/ 136.
[4] الأبيات في الأغاني 12/ 372.
[5] سورة: التوبة، الآية: 3. وحكم رسوله الرفع هنا موضع الخطأ في اللفظ.(6/96)
الأسود: إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقطه نقطة فوقه على أعلاه، وإذا ضممت فمي بالحرف فانقطه نقطة بين يدي الحرف، وإن كسرت فاجعل النقطة تحت الحرف، فإذا اتبعت شيئا من ذلك عنة فاجعل مكان النقطة نقطتين، فهذه نقط أبي الأسود.
وروى أبو العباس المبرد، قال: حدثنا المازني قال: السبب الذي وضعت له أبواب النحو وعليه أصلت أصوله أن ابنة أبي الأسود قالت له: ما أشد الحر، قال:
الحصباء بالرمضاء، قالت: إنما تعجبت من شدته، فقال: أو قد لحن الناس. فأخبر بذلك عليا رضي الله عنه، فأعطاه أصولا بنى منها، وعمل بعده عليها.
وهو أول من نقط المصاحف، وأخذ النحو عن أبي الأسود عنبسة الفيل، ثم أخذه عن عنبسة ميمون الأقرن، ثم أخذه عن ميمون عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي، ثم أخذه عنه عيسى بن عمر، وأخذه عن عيسى الخليل بن أحمد الفراهيدي، ثم أخذه عن الخليل سيبويه، ثم أخذه عن سيبويه الأخفش، وهو سعيد بن مسعدة المجاشعي.
وروى أبو حامد السجستاني قال: حدثني يعقوب بن إسحاق الحضرمي، قال:
حدثنا سعيد بن سالم الباهلي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ جَدِّي، عَنْ أَبِي الأسود الدؤلي، قال: دخلت على أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ الله عنه فرأيته مطرقا متفكرا، فقلت: فيم تفكر يا أمير المؤمنين؟ قال: إني سمعت ببلدكم لحنا فأردت أن أضع في أصول العربية، فقلت: إن فعلت هذا أحييتنا، فأتيته بعد أيام فألقى إلي صحيفة فيها:
الكلام كله: اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل. ثم قال لي: تتبعه وزد فيه ما وقع لك، / فجمعت منه أشياء وعرضتها عليه. أَخْبَرَنَا مَوْهُوبُ بْنُ أَحْمَدَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ، والمبارك بن علي، قالوا: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَلافُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ الْحَمامِيُّ، قَالَ: أخبرنا أبو طاهر عبد الواحد بن عمر بن أبي هاشم، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الثَّوْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ يَعْنِي الثَّوْرِيَّ، قَالَ:
سَمِعْتُ أَبَا عُبَيْدَةَ يَقُولُ:
أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ النَّحْوَ أَبُو الأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ، ثُمَّ مَيْمُونُ الأَقْرَنُ، ثُمَّ عَنْبَسَةُ الْفِيلُ، ثُمَّ(6/97)
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ. قَالَ: وَوَضَعَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ فِي النَّحْوِ كِتَابَيْنِ سَمَّى أَحَدَهُمَا «الْجَامِعَ» ، وَالآخَرَ «الْمُكَمِّلَ» . فَقَالَ الشَّاعِرُ:
بَطُلَ النَّحْوُ جَمِيعًا كُلُّهْ ... غَيْرَ مَا أَحْدَثَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ
ذَاكَ إِكْمَالٌ وَهَذَا جَامِعٌ ... فَهُمَا لِلنَّاسِ شَمْسٌ وَقَمَرْ
قال عمر بن شبة: وحدثنا حيان بن بشر، قال: حدثنا يحيى بن آدم، عن أبي بكر بن عاصم، قال:
أول من وضع العربية أبو الأسود الدؤلي، فجاء إلى زياد بالبصرة، فقال: إني أرى العرب قد خالطت الأعاجم، فتغيرت ألسنتهم، أفتأذن لي أن أضع للعرب كلاما يعرفون به ويقيمون به كلامهم؟ قال: لا، قال: فجاء رجل إلى زياد، فقال أصلح الله الأمير، توفي أبانا وترك بنون، فقال: ادع لي أبا الأسود، فقال: ضع للناس الذي نهيتك أن تضع لهم.
قال الجاحظ: أبو الأسود معدود في طبقات الناس، وهو في كلها مقدم، كان معدودا في التابعين والفقهاء والشعراء والمحدثين والأشراف والفرسان والأمراء والدهاة والنحويين والحاضري الجواب والنجلاء والشيعة والصلع الأشراف.
توفي أبو الأسود في هذه السنة، وَهُوَ ابْن خمس وثمانين سنة.
444- عامر بن عبد الله، وهو الذي يقال له عامر بن عبد قيس [1] :
أدرك الصدر الأول، وروى عن عمر، وكان ملازما للتعبد، غاية في التزهد، وكان كعب الأحبار يقول: هذا راهب هذه الأمة.
أخبرنا ابن ناصر، وعلي بن عمر، قالا: أخبرنا فاروق اللَّه، وطراد، قالا: أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن مُحَمَّد بْن بشران، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن صفوان، / قَالَ: حدثنا أبو بكر القرشي، قال: حدثني سلمة بن شبيب بن سهل بن عاصم، عن عبد الله بن غالب، عن عامر بن يسياف، قال: سمعت المعلى بن زياد يقول:
كان عامر بن عبد الله قد فرض على نفسه كل يوم ألف ركعة، وكان إذا صلّى
__________
[1] حلية الأولياء، 2/ 87، تهذيب التهذيب 5/ 77 وجامع كرامات الأولياء، 2/ 51، ورغبة الآمل، 2/ 37، وفي الأصول: «وهو الذي يقال له: «عامر بن عبد الله بن عبد قيس» وما حذفناه تكرار خطأ.(6/98)
العصر جلس وقد انتفخت ساقاه من طول القيام، فيقول: يا نفس، بهذا أمرت، ولهذا خلقت، يوشك أن يذهب العناء.
وكان يقول لنفسه: قومي يا مأوى كل سوءة، فو عزّة ربك لأزحفن بك زحوف البعير، وإن استطعت ألا تمس الأرض من زهمك [1] لأفعلن، ثم يتلوى كما يتلوى الحب على المقلاة، ثم يقوم فينادي: اللَّهمّ إن النار قد منعتني من النوم فاغفر لي.
445- عمرو بن سعيد بن العاص [2] :
قتله عبد الملك بن مروان بيده، وقد ذكرنا قصته في الحوادث.
446- فضالة بن عبيد بن نافذ، أبو محمد الأنصاري [3] :
صاحب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسكن الشام، وكان قاضيا لمعاوية، وتوفي في هذه السنة.
447- يزيد بن ربيعة بن مفرغ، أبو عثمان الحميري [4] :
سمي جده مفرغا لأنه راهن على سقاء لبن أن يشربه كله، فشربه حتى فرغه، فسمي مفرغا. وكان يزيد شاعرا محسنا غزلا، والسيد من ولده [5] .
ومدح مروان بن الحكم، فقال [6] :
وأقمتم سوق الثناء ولم تكن ... سوق الثناء تقام في الأسواق
فكأنما جعل الإله إليكم ... قبض النفوس وقسمة الأرزاق
وكان [7] يزيد يهوى أناهيد بنت الأعنق، وكان الأعنق دهقان من دهاقين الأهواز،
__________
[1] الزهم: الريح المنتنة.
[2] الإصابة: 6850، وفوات الوفيات 2/ 118، وتهذيب التهذيب 8/ 37.
[3] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 124.
[4] الأغاني 18/ 262، وخزانة البغدادي 2/ 212، والوفيات 2/ 289، وإرشاد الأريب 7/ 297، والشعر والشعراء 319، ورغبة الآمل 2/ 70، 4/ 63، 163.
[5] في الأصل: «غزلا والسيد وولده» . وهو خطأ والتصحيح من ت.
والسيد هو: إسماعيل بن محمد بن يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري، أبو هاشم أو أبو عامر. شاعر إمامي يشار إليه في التصوف والورع. توفي سنة 173 هجرية.
[6] الأبيات في الأغاني 18/ 297.
[7] الخبر في الأغاني 18/ 298.(6/99)
فنزل مرة بالموصل فزوجوه امرأة، فلما كان اليوم الذي يكون البناء في ليلته خرج يتصيد ومعه غلامه برد، فإذا هو بدهقان على حمار، فقال له: من أين أقبلت؟ قال: من الأهواز، قال: ما فعلت دهقانة يقال لها أناهيد بنت أعنق؟ فقال: صديقة بان مفرغ؟
قال: نعم، قال: ما تجف جفونها من البكاء عليه، فقال لغلامه برد: أتسمع؟ قال:
نعم، قال: هو بالرحمن كافر إن لم يكن/ وجهي هذا إليها، فقال له برد [1] : أكرمك القوم، وزوجوك كريمتهم، ثم تصنع هذا بهم، وتقدم على ابن زياد بعد خلاصك منه، فقال: دع ذا عنك، هو بالرحمن كافر إن رجع عن الأهواز، ومضى على وجهه إلى البصرة، ثم جعل يختلف إلى الأهواز فيزور أناهيد، وقدم على عبيد الله بن أبي بكرة، فأمر له بمائة ألف درهم، ومائة وصيف، ومائة نجيبة، وكان يزيد قد لزمه غرماؤه بدين عليه، فقال لهم: انطلقوا، فجلس على باب الأمير، فخرج من عند الأمير أبو عمر بن عبيد الله بن معمر، وأبو طلحة الطلحات، فلما رآه قال: أبا عثمان ما أقعدك ها هنا؟ قال: غرمائي هؤلاء قد لزموني بدين، قال: وكم هو؟ قال: سبعون ألفا، قال:
علي منها عشرة آلاف، ثم خرج الآخر فسأله، فقال: علي عشرة آلاف، فجعل الناس يخرجون فيضمن كل واحد منهم شيئا إلى أن خرج عبد الله بن أبي بكرة، فسأله، فأخبره، فقال: وكم ضمن عنك؟ قال: أربعون ألفا، قال: استمتع بها وعلي دينك أجمع.
وكان عم يزيد يعنفه في حب أناهيد، ويعزله ويعيره، فقال له: يا عم، إن لي بالأهواز حاجة، لي على قوم بها ثلاثون ألف درهم، فإن رأيت أن تتجشم [العناء] [2] معي وتطالب بحقي، فأجابه، فاستأجر سفينة وتوجه إلى الأهواز، فكتب إلى أناهيد:
تهيئي وتزيني واخرجي إلي مع جواريك، فإني موافيك، فلما نزلوا منزلها خرجت إليهم في هيئتها، فلما رآها عمه قال له: قبحك الله، هلا علقت مثل هذه، قال: يا عم، أوقد أعجبتك؟ قال: ومن لا تعجبه هذه، قال: أبجد [منك] [3] تقول هذا، قال: نعم والله، قال: فإنها والله هذه بعينها. فقال: إنما أشخصتني لأجلها. [قال: نعم] [4] ، ثم انصرف وأقام هو معها إلى أن مات في زمن الطاعون أيام مصعب بن الزبير.
__________
[1] في الأصل: «يزيد» خطأ.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الأغاني.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(6/100)
ثم دخلت سنة سبعين
فمن الحوادث فيها أن الروم ثارت على من بالشام من المسلمين.
فصالح عبد الملك ملك الروم على أن يؤدي إليه في كل جمعة ألف دينار خوفا منه على المسلمين.
وفيها/ شخص مصعب بن الزبير إلى مكة
فقدمها بأموال عظيمة فقسمها في قومه وغيرهم، وقدم بدواب كثيرة وظهر وأثقال، فأرسل إلى عبد الله بن صفوان، وجبير بن شيبة، وعبد الله بن مطيع مالا كثيرا، ونحر بدنا كثيرة.
وفيها: حج بالناس عبد الله بن الزبير، وكان عماله على أمصاره عماله في السنة التي قبلها على المعاون والقضاء، وبالشام عبد الملك بن مروان.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
448- قيس بن الملوح بن مزاحم، وهو مجنون ليلى [1] :
وقيل: قيس بن معاذ، وقيل: اسمه البحتري بن الجعدي، وقيل: هو الأقرع بن
__________
[1] الأغاني 2/ 3 (دار الكتب العلمية) . وفوات الوفيات 2/ 163، والنجوم الزاهرة 1/ 182، وسمط اللآلئ، 350 خزانة البغدادي 2/ 170، والآمدي 188، والشعر والشعراء 220، وتزين الأسواق 1/ 58، وأخبار القضاة لوكيع 1/ 128.(6/101)
معاذ، وهو أحد بني جعدة بن كعب بن عامر بن صعصعة، وقيل: هو من بني عقيل بن كعب بن سعد. وقد أنكر قوم وجوده وليس بشيء لأن العمل على المثبت [1] .
وأما ليلى فهي بنت مهدي، وقيل: بنت ورد من بني ربيعة. وتكنى أم مالك، وكانت من أجمل النساء وأظرفهن وأحسنهن جسما وعقلا وأدبا وشكلا.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بن محمد البخاري، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال أخبرنا ابن حيوية، قَالَ: حدثنا محمد بن خلف، قَالَ: أخبرني أبو محمد البلخي، قال: أخبرني عبد العزيز، عن أبيه، عن ابن [2] دأب، قال: حدثني رجل من بني عامر بن صعصعة يقال له: رباح [3] ، قال:
كان في بني عامر جارية من أجمل النساء، لها عقل وأدب يقال لها ليلى بنت مهدي، فبلغ المجنون خبرها وما هي عليه من الجمال والعقل، وكان صبا بمحادثة النساء، فعمد إلى أحسن ثيابه فلبسها وتهيأ، فلما جلس إليها وتحدث بين يديها أعجبته ووقعت بقلبه، فظل يومه ذلك يحدثها وتحدثه حتى أمسى، فانصرف إلى أهله بأطول ليلة حتى إذا أصبح مضى إليها فلم يزل عندها حتى أمسى ثم انصرف، فبات بأطول من ليلته الأولى، وجهد/ أن يغمض فلم يقدر على ذلك، فأنشأ يقول:
نهاري نهار الناس حتى إذا بدا ... لي الليل هزتني إليك المضاجع
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ... ويجمعني والهم بالليل جامع
فوقع في قلبها مثل الذي وقع في قلبه لها، فجاء يوما يحدثها، فجعلت تعرض عنه وتقبل على غيره، تريد أن تمتحنه وتعليم ما لها في قلبه، فلما رأى ذلك منها اشتد عليه وجزع، فلما خافت عليه أقبلت عليه وقالت:
كلانا مظهر للناس بغضا ... وكل عند صاحبه مكين
فسرى عنه، وقالت: إنما أردت أن أمتحنك، والذي لك عندي أكثر من الّذي لي
__________
[1] راجع اختلاف الرواة في وجود قيس وجنونه في الأغاني 2/ 4.
[2] في الأصل: «عن أبيه بن دأب» . وما أوردناه من ت.
[3] الخبر في الأغاني عن ابن دأب، عن رباح بن حبيب العامري، دون ذكر ما بينهما 2/ 41.(6/102)
عندك، وأنا معطية الله عهدا إن أنا جالست بعد يومي هذا رجلا سواك حتى أذوق الموت إلا أن أكره على ذلك، فانصرف وهو أسر الناس، فأنشأ يقول:
أظن هواها تاركي بمضلة ... من الأرض [1] لا مال لدي ولا أهل
ولا أحد أفضي إليه وصيتي ... ولا صاحب إلا المطية والرحل
[محا حبها حب الألى كن قبلها ... وحلت مكانا لم يكن حل من قبل] [2]
وقد روي لنا في بداية معرفتها قول آخر:
أخبرنا ابن نصر، قال: أخبرنا أحمد بن محمد البخاري، قال: أخبرنا الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن خلف، قَالَ: قَالَ العمري، عن لقيط بن بكير المحاربي:
أن المجنون علق ليلى علاقة الصبي، وذلك أنهما كانا صغيرين يرعيان أغناما لقومهما، فتعلق كل واحد منهما صاحبه، إلا أن المجنون كان أكبر منها [فلم يزالا على ذلك حتى كبرا] [3] ، فلما علم بأمرهما حجبت ليلى عنه فزال عقله، وفي ذلك يقول:
تعلقت ليلى وهي ذات ذؤابة ... ولم يبد للأتراب من ثديها حجم
صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا ... إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم
أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْد الجبار، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو القاسم التنوخي، / قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن حيوية، قَالَ: أَخْبَرَنَا محمد بن خلف، قال: قال أبو عبيدة:
كان المجنون يجلس في نادية [4] قومه وهم يتحدثون، فيقبل عليه بعض القوم فيحدثه وهو باهت ينظر إليه، وهو لا يفهم ما يحدثه به، ثم يثوب عقله فيسأل عن
__________
[1] في الأصل: «من الأهل» ما أوردناه من ت، والأغاني.
[2] هذا البيت ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] كذا في الأصول، وفي الأغاني 2/ 38: «نادي قومه» .(6/103)
الحديث فلا يعرفه. فحدثه مرة بعض أهله بحديث [1] ثم سأله عنه في غداة غد فلم يعرفه، فقال: إنك لمجنون، فقال:
إني لأجلس في النادي أحدثهم ... فأستفيق وقد غالتني الغول
يهوي بقلبي حديث النفس نحوكم ... حتى يقول جليسي أنت مخبول
قال أبو عبيدة: فتزايد الأمر به حتى فقد عقله، فكان لا يقر في موضع، ولا يأويه رحل ولا يعلوه ثوب إلا مزقه، وصار لا يفهم شيئا مما يكام به إلا أن تذكر له ليلى، فإذا ذكرت أتى بالبداية، فيرجع عقله.
و [قد] [2] روينا أن قوم ليلى شكوا منه إلى السلطان فأهدر دمه، فقال: الموت أروح لي، فعلموا أنه لا يزال يطلب غرتهم [3] ، فرحلوا، فجاء فأشرف فرأى ديارهم بلاقع [4] ، فقصد منزل ليلى فألصق صدره به وجعل يمرغ خديه على ترابه، ويقول:
أيا حرجات الحي حيث تحملوا ... بذي سلم لا جادكن ربيع
وخيماتك اللاتي بمنعرج اللوى ... بلين بلى لم تبلهن ربوع
ندمت على ما كان مني ندامة ... كما يندم المغبون حين يبيع
وقال بعض مشايخ بني عامر [5] : إن المجنون لقي ليلى وقومها قد رحلوا، فغشي عليه، فأقبل فتيان الحي فمسحوا وجهه وأسندوه إلى صدورهم، وسألوا ليلى أن تقف له، فقالت: لا يجوز أن أفتضح، ولكن يا فلانة- لأمة لها- اذهبي إليه وقولي له: ليلى تقرأ عليك السلام، وتقول لك أعزز علي بما أنت فيه، ولو وجدت سبيلا إلى شفاء دائك لوقيتك بنفسي، فمضت فأخبرته، فقال: أبلغيها السلام وقولي لها: إن دائي/ ودوائي أنت، وقد وكلت بي شقاء طويلا وبكى [6] ، وأنشأ يقول:
__________
[1] في ت: «فيحدثه عن بعض أهله بحديث» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت. وهذا الخبر في الأغاني 2/ 26.
[3] غرتهم: غفلتهم.
[4] أي: خالية.
[5] الخبر في الأغاني 2/ 59.
[6] في الله انتهى الخبر دون ذكر البيت.(6/104)
وكيف ترى ليلى تقول رجال ... الحي تطمع أن ترى ... [1]
أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ محمد البخاري، قال: أخبرنا الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن خلف، قَالَ: قَالَ أبو عمرو الشيباني:
لما ظهر من المجنون ما ظهر، ورأى قومه ما ابتلي به اجتمعوا إلى أبيه وقالوا: يا هذا، قد ترى ما ابتلي ابنك به، فلو خرجت به إلى مكة فعاذ ببيت الله، وزار قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودعا الله عز وجل رجونا أن يرجع عقله ويعافيه الله عز وجل، فخرج أبوه حتى أتى إلى مكة، فجعل يطوف [به] [2] ويدعو له بالعافية وهو يقول:
دعا المجرمون الله يستغفرونه ... بمكة وهنا أن تمحى ذنوبها
فناديت أن يا رب أول سولتي ... لنفسي ليلى ثم أنت حبيبها
[فإن أعط ليلى في حياتي لا يتب ... إلى الله خلق توبة لا أتوبها] [3]
حتى إذا كان بمنى نادى مناد من بعض تلك الخيام: يا ليلى، فخر مغشيا عليه، واجتمع الناس حوله، ونضحوا الماء على وجهه [4] وأبوه يبكي عند رأسه، ثم أفاق وقال:
وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى ... فهيج أحزان [5] الفؤاد وما يدري
دعى باسم ليلى غيرها فكأنما ... أطار بليلى طائرا كان في صدري
أخبرتنا شهدة بإسناد لها عن أبي عمرو الشيباني، عن ابن دأب، عن رباح، قال:
حدثني بعض المشايخ، قال:
خرجت حاجا حتى إذا كنت بمنى إذا جماعة على جبل من تلك الجبال فصعدت إليهم، فإذا معهم فتى أبيض حسن الوجه وقد علاه الصفار وبدنه ناحل وهم يمسكونه،
__________
[1] في الأصل بياض مكان النقط قدر سطر ونصف. وفي الأغاني أبيات أخرى.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] هذا البيت ساقط من الأصل.
[4] في ت: على وجهه الماء.
[5] في الأصل: «أطراب» . وما أوردناه من الأغاني.(6/105)
قال: فسألتهم عنه، فقالوا: هذا قيس الذي يقال له المجنون، خرج به أبوه لما بلي به يستجير له ببيت الله الحرام وقبر محمد عليه السلام فلعل الله أن يعافيه. قال: فقلت لهم: فما لكم تمسكونه؟ / قالوا: نخاف أن يجني على نفسه جناية تتلفه. قال: وهو يقول: دعوني أتنسم صبا نجد، فقال لي بعضهم: ليس يعرفك [1] ، لو شئت دنوت منه فأخبرته أنك قدمت من نجد، وأخبرته عنها، قلت: نعم أفعل، فدنوت منه، فقالوا: يا قيس، هذا رجل قدم من نجد. قال: فتنفس حتى ظننت أن كبده قد تصدعت، ثم جعل يسائلني عن موضع موضع وواد واد، وأنا أخبره وهو يبكي، ثم أنشأ يقول:
ألا حبذا نجد وطيب ترابه ... وأرواحه إن كان نجد على العهد
أخبرنا ابن ناصر بإسناد له عن زياد بن الأعرابي، قال: لما تشبث المجنون بليلى واشتهر بحبها [2] اجتمع إليه أهلها فمنعوه من محادثتها وزيارتها وتهددوه وتوعدوه بالقتل، وكان يأتي امرأة فتعرف [له] [3] خبرها، فنهوا تلك المرأة عن ذلك، فكان يأتي غفلات الحي في الليل، فلما كثر ذلك خرج أبو ليلى ومعه نفر من قومه إلى مروان بن الحكم فشكوا إليه ما ينالهم من قيس بن الملوح، وسألوه الكتاب إلى عامله بمنعه من كلام ليلي، ويتقدم إليه في ترك زيارتها، فإذا أصابه أهلها عندهم فقد أهدر دمه.
فلما ورد الكتاب على عامله بعث إلى قيس وأبيه وأهل بيته، فجمعهم وقرأ عليهم كتاب مروان، وقال لقيس: اتق الله في نفسك لا تذهب دمك هدرا، فانصرف قيس وهو يقول:
ألا حجبت ليلى وآلى أميرها ... علي يمينا جاهدا لا أزورها
وواعدني [4] فيها رجال أبوهم ... أبي وأبوها خشنت لي صدورها
على غير شيء [5] غير أني أحبها ... وأن فؤادي عند ليلى أسيرها [6]
__________
[1] في الأصل: «لعله يعرفك» وما أوردناه من ت.
[2] في ت: «نسب المجنون بليلى، وشهر بحبها» .
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] في الأغاني: «وأوعدني» .
[5] في الأغاني: «على غير جرم» .
[6] في الأغاني: «وإن فؤادي رهنها وأسيرها» .(6/106)
فلما يئس منها وعلم أن لا سبيل إليها صار شبيها بالتائه العقل، / وأحب الخلوة وحديث النفس، وتزايد الأمر به حتى ذهب عقله، ولعب بالحصى والتراب، ولم يكن يعرف شيئا إلا ذكرها، وقول الشعر فيها، وبلغها ما صار إليه قيس فجزعت أيضا لفراقه، وضنيت ضنى شديدا.
وقد روينا عن يونس النحوي [1] : أن أم قيس سألت ليلى فحضرت عنده ليلا، وقالت: إن أمك تزعم أنك جننت على رأسي، فقال:
قالت جننت على رأسي [2] فقلت لها ... الحب أعظم مما بالمجانين
الحب ليس يفيق الدهر صاحبه ... وإنما يصرع المجنون في الحين
فبكت معه وتحدثا حتى كاد الصبح [أن] [3] يسفر، ثم ودعته وانصرفت، فكان آخر عهده بها.
وقد روينا أن أبا المجنون قيده، فجعل يأكل لحم ذراعيه، ويضرب بنفسه الأرض، فأطلقه يدور في الفلاة عريانا.
ولما زوجت ليلى، وقيل غدا ترحل، قال المجنون ينشد:
كأن القلب ليلة قيل يغدى ... بليلى العامرية أو يراح
قطاة عزها شرك فباتت ... تجاذبه وقد علق الجناح
وروينا أن ليلى لما زوجت جاء المجنون إلى زوجها وهو يصلي في يوم شات، فوقف عليه ثم أنشأ يقول:
بربك هل ضممت إليك ليلى ... قبيل الصبح أو قبلت فاها
وهل رفت عليك قرون ليلى ... رفيف الأقحوانة في نداها
فقال: اللَّهمّ إذ حلفتني فنعم، فقبض المجنون بكلتا يديه قبضتين من الجمر، فما فارقهما حتّى سقط مغشيا عليه، فسقط الجمر مع لحم راحتيه.
__________
[1] الخبر في الأغاني: 2/ 34.
[2] في الأغاني: «قالت جننت على أيش» .
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من الأغاني.(6/107)
وكانت له داية يأنس بها، وكانت تخرج إلى الصحراء فتحمل له رغيفا وماء، فربما أكله وربما تركه، حتى جاءت يوما وهو ملقى بين الأحجار ميتا، فاحتملوه/ إلى الحي، فغسلوه ودفنوه، ولم يبق في بني جعدة ولا في بني الحريش امرأة إلا خرجت حاسرة صارخة عليه تندبه، واجتمع فتيان الحي يبكون عليه أشد بكاء، وينشجون أشد نشيج [1] ، وحضرهم حي ليلى معزين وأبوها معهم، وكان أشد القوم جزعا وبكاء عليه، وجعل يقول: ما علمت أن الأمر يبلغ كل هذا، ولكني امرؤ عربي أخاف من العار، وقبح الأحدوثة، فزوجتها وخرجت عن يدي، ولو علمت [2] أن أمره يجري على هذا ما أخرجتها عن يده، فما رئي يوما كان أكثر باكيا منه.
وبينما هم يقلبونه وجدوا خرقة فيها مكتوب:
ألا أيها الشيخ الذي ما بنا يرضى ... شقيت ولا هنيت من عيشك الخفضا
شقيت كما أشقيتني وتركتني ... أهيم مع الهلاك لا أطعم الغمضا
كأن فؤادي في مخاليب طائر ... إذا ذكرت ليلى يشد بها قبضا
كأن فجاج الأرض حلقة خاتم ... علي فما تزداد طولا ولا عرضا
ومن أشعاره الرائقة قوله [3] :
وشغلت عن فهم الحديث سوى ... ما كان منك فإنه شغلي [4]
وأديم لحظ محدثي ليرى ... أن [5] قد فهمت وعندكم عقلي
وقوله [6] :
عجبت لعروة العذري أمسى ... أحاديثا لقوم بعد قوم
__________
[1] في الأصل: «ينشجون أشد تشنج» وما أوردناه من الله والأغاني.
[2] في ت: «ولو كان» .
[3] الأغاني: 2/ 65.
[4] في الأصول: «فأنتم شغلي» وما أوردناه من ت.
[5] في الأصول: «وأديم نحو محدثي نظري إن قد» . وما أوردناه من الأغاني.
[6] الأغاني 2/ 77.(6/108)
وعروة مات موتا مستريحا ... وها أنا ذا أموت بكل يوم
وقد روينا متقدما أنه كان يهيم في البرية مع الوحش لا يأكل إلا ما ينبت في البر من بقل، ولا يشرب إلا مع الظباء إذا وردت مناهلها، وطال شعر جسده ورأسه، وألفته الوحش وكانت لا تفر منه، وجعل يهيم حتى بلغ حدود الشام، فإذا ثاب عقله إليه رجع وسأل من يمر من أحياء العرب عن نجد، فيقال له: أين أنت من نجد، قد شارفت الشام، فيقول: فأروني الطريق، فيدلونه.(6/109)
ثم دخلت سنة إحدى وسبعين
فمن الحوادث فيها مسير عبد الملك بن مروان إلى العراق لحرب ابن الزبير [1]
وكان عبد الملك لا يزال يقرب من مصعب، ويخرج مصعب، ثم تهجم الشتاء فيرجع كل واحد منهما إلى موضعه، ثم يعودان. ثم إن عبد الملك خرج من الشام يريد مصعبا من سنة سبعين ومعه خالد بن عبد الله، فقال له خالد: إن وجهتني إلى البصرة وأتبعتني خيلا يسيرة رجوت أن أغلبك عليها، فوجهه عبد الملك، فقدمها مستخفيا في مواليه وخاصته حتى نزل على عمرو بن أصمع الباهلي، فأجاره وأرسل إلى عباد بن الحصين- وكان على شرطة ابن معمر، وكان مصعب إذا شخص عن البصرة استخلف عبيد الله بن عبد الله بن معمر- ورجا عمرو بن أصمع أن يتابعه عباد، فقال له: إني قد أجرت خالدا، وأحببت أن تعلم ذلك لتكون لي ظهرا، فوافاه رسوله حين نزل عن فرسه، فقال له عباد: قل له: والله لا أضع لبد فرسي حتى آتيك في الخيل، فقال عمرو لخالد:
إني لا أغرك، هذا عباد يأتينا الساعة، ولا والله ما أقدر على منعك، ولكن عليك بمالك بن مسمع.
فخرج يركض، عليه قميص قوهي قد حسره عن فخذيه، وأخرج رجليه من الركابين حتى أتى مالك، فقال: إني قد اضطررت إليك فأجرني، قال: نعم. ووجه مصعب زحر بن قيس [2] مددا لابن معمر في ألف، ووجه عبد الملك عبد الله بن
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 151، والبداية والنهاية 8/ 338.
[2] في الأصل: «ابن جرير» ، وفي ت: «جزء بن قيس» ، وما أوردناه من تاريخ الطبري 6/ 153.(6/110)
زياد بن ظبيان مددا لخالد، فلما وصل علم تفرق الناس فلحق بعبد الملك ودافع مالك بن مسمع عن خالد، وكانت تجري مناوشات وقتال، وأصيبت عين مالك بن مسمع فضجر من الحرب، ومشت السفراء بينهم، [فصولح مالك] [1] على أن يخرج خالد وهو آمن، فأخرجه من البصرة.
فصل
ولما/ جد عبد الملك في قتال [2] مصعب قيل له: لو بعثت غيرك، فقال: إنه لا يقوم بهذا الأمر إلا قرشي له رأي، ولعلي أبعث من له شجاعة، ولا رأي له، وأني أجد في نفسي أني بصير بالحرب، شجاع بالسيف إن ألجأت إلى ذلك، ومصعب شجاع ولا علم له بالحرب، ومن معه يخالفه، ومن معي ينصح لي.
أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا عبد المحسن بن محمد، قَالَ: أخبرنا عبد الكريم بن محمد المحاملي، قال: أخبرنا الدار الدَّارَقُطْنِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّد بْن سَالِمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيد عَبْدُ اللَّهِ بن شبيب، قال: حدثنا الزبير، قال:
حدثني عمر بن أبي بكر القرشي، عن عبد الله بن أبي عبيدة، قال:
لما أراد عبد الملك الخروج إلى مصعب أتته امرأته عاتكة بنت يزيد فبكت وبكى جواريها، فجلس ثم قال: قاتل الله ابن أبي جمعة حيث يقول:
إذا ما أراد الغزو لم يثن همه ... حصان عليها نظم در يزينها
نهته فلما لم تر النهي عاقه ... بكت وبكى مما عناها قطينها
وسار عبد الملك حتى نزل بمسكن، وكتب إلى شيعته من أهل العراق، ثم جاء مصعب، فلما تراءى العسكران تقاعس بمصعب أصحابه [3] ، فقال لابنه عثمان: يا بني، اركب إلى عمك أنت ومن معك فأخبره بما صنع أهل العراق، ودعني فإني مقتول، فقال ابنه: الحق بالبصرة أو بأمير المؤمنين، فقال: والله لا تتحدث قريش أني فررت ولكن أقاتل، فإن قتلت فلعمري ما السيف بعار، وما الفرار لي بعادة.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «ولما جاء عبد الملك إلى قتال مصعب» .
[3] في ت: «وجاء مصعب قدامى العسكر وتقاعد بمصعب أصحابه» .(6/111)
فأرسل إليه عبد الملك بأخيه محمد بن مروان يقول له: إن ابن عمك يعطيك الأمان، فقال مصعب: إن مثلي لا ينصرف عن مثل هذا الموقف إلا غالبا أو مغلوبا.
فأثخن مصعب بالرمي، ثم شد عليه زائدة بن قدامة فطعنه وقال: يا لثارات المختار، ونزل إليه عبيد الله بن زياد بن ظبيان فاحتز رأسه، / وقال: إنه قتل أخي، فأتى به عبد الملك فأثابه ألف دينار، فأبى أن يأخذها وقال: إنما قتلته على وتر صنعه [1] بي، فلا آخذ في حمل رأس مالا.
وكان قتل مصعب على نهر يقال له الدجيل، ثم دعا عبد الملك أهل العراق [2] فبايعوه.
وفي هذه السنة دخل عبد الملك الكوفة [3]
ففرق أعمال العراق على عماله، هذا قول الواقدي.
وقال المدائني: كان ذلك في سنة اثنتين وسبعين.
ولما أتى الكوفة نزل بالنخيلة، ودعا الناس إلى البيعة، ثم ولى قطن بن عبد الله الحارثي الكوفة أربعين يوما ثم عزله، ثم ولى بشر بن مروان، وصعد المنبر فخطب فقال: إن عبد الله بن الزبير لو كان خليفة كما يزعم لخرج فآسى بنفسه ولم يغرز بذنبه [4] في الحرم، وإني قد استعملت عليكم بشر بن مروان وأمرته بالإحسان إلى أهل الطاعة، والشدة على أهل المعصية، فاسمعوا له وأطيعوا.
واستعمل محمد بن عمير على همذان، ويزيد بن رويم على الري، وفرق العمال، وصنع طعاما كثيرا وأمر به إلى الخورنق، وأذن إذنا عاما فأكلوا، فقال: ما ألذ عيشنا لو أن شيئا يدوم، ولكن كما قال الأول:
__________
[1] راجع تاريخ الطبري 6/ 159، 160.
[2] في الأصل: «بأهل العراق» .
[3] تاريخ الطبري 6/ 162.
[4] في الأصل: «ولم يعذب» وما أوردناه من ت، وهو يوافق ما في الطبري 6/ 164.(6/112)
وكل جديد يا أميم إلى بلى ... وكل امرئ يوما يصير إلى كان
ثم أتى مجلسه فاستلقى وقال:
اعمل على مهل فإنك ميت ... واكدح لنفسك أيها الإنسان
فكأن ما قد كان لم يك إذ مضى ... وكأن ما هو كائن قد كان
وفي هذه السنة بعث عبد الملك خالد بن عبد الله على البصرة واليا، ووجه خالد عبد الله بن أبي بكرة خليفة له على البصرة، ورجع عبد الملك إلى الشام.
وفيها: افتتح قيسارية.
وفيها: نزع ابن الزبير جابر بن الأسود بن عوف عن المدينة، واستعمل عليها طلحة/ بن عبيد الله بن عوف، وهو آخر وال لابن الزبير على المدينة، ثم قدم طارق بن عمرو مولى عثمان، فهرب طلحة وأقام طارق.
وفيها: قام عبد الله بن الزبير بمكة حين بلغه قتل أخيه مصعب، وقال: الحمد للَّه الذي له الخلق والأمر، إنه قد أتانا من العراق خبر أحزننا، وأفرحنا، [أتانا] [1] قتل مصعب رحمه الله، فأما الذي أفرحنا أن قتله شهادة، وأما الذي أحزننا فإن الفراق للحميم لوعة يجدها حميمه عند المصيبة، ألا إن أهل العراق أهل الغدر والنفاق أسلموه وباعوه بأقل الثمن، فلا والله ما نموت على مضاجعنا كما تموت بنو أبي العاص، والله ما قتل منهم رجل في زحف في الجاهلية ولا الإسلام، وما نموت إلا قعصا [2] بالرماح، وموتا نحت ظلال السيوف.
وفيها: حج بالناس عبد الله بن الزبير بن العوام.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «قصعا» . وما أوردناه من ت. والقعص: الموت السريع.(6/113)
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
449- مصعب بن الزبير بن العوام بن خويلد بن عبد الله [1] :
وأمه الرباب بنت أنيف الكلبية. كان من أحسن الناس وجها، وأشجعهم قلبا، وأجودهم كفا. ولما دعي لأخيه عبد الله بن الزبير بالخلافة ولى [أخاه مصعبا] [2] إمارة العراق، فلم يزل على ولايته إلى أن سار إليه عبد الملك بن مروان، فحاربه فقتل. وكان الذي تولى قتله عبيد الله بن زياد بن ظبيان على دجيل عند نهر الجاثليق [3] واحتز رأسه وحمله إلى عبد الملك، فسجد عبد الملك وقال: واروه فلقد كان من أحب الناس إلي وأشدهم لي لقاء ومودة، ولكن الملك عقيم. فقتل في هذه السنة.
وقال المدائني: قتل يوم الثلاثاء [لثلاث] [4] عشرة خلت من جمادى الأولى، / أو الآخرة.
وكتب إلى زوجته سكينة بنت الحسين رضي الله عنه بعد خروجه من الكوفة بليال:
وكان عزيزا إن أبيت وبيننا ... حجاب فقد أصبحت مني على عشر
وأبكاهما للعين والله فاعلمي ... إذا ازددت مثليها فصرت على شهر
وأبكى لقلبي منهما اليوم أنني ... أخاف بأن لا نلتقي آخر الدهر
وقال الماجشون [5] : دخل مصعب على سكينة يوم قتل، فنزع ثيابه، ولبس غلالة، وتوشح بثوب، وأخذ سيفه، فعلمت سكينة أنه لا يريد أن يرجع، فصاحت:
وا حزناه عليك يا مصعب، فالتفت إليها وقد كانت تخفي ما في قلبها عنه، فقال: أوكل
__________
[1] طبقات ابن سعد 5/ 135، وتاريخ بغداد 13/ 105، والبداية والنهاية 8/ 341، والأغاني 19/ 129.
[2] في الأصل: «ولى إمارة العراق مصعب» وما أوردناه من ت.
[3] كذا في الأصول، وفي الطبري والبداية: «على نهر دجيل عند دير الجاثليق» .
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[5] الأغاني 19/ 136.(6/114)
هذا لي في قلبك؟ قالت: وما أخفي أكثر، فقال: لو كنت أعلم هذا كانت لي ولك حال، ثم خرج فلم يرجع.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا [أحمد بن] [1] علي بن ثابت، قال:
أخبرنا عبد الكريم بن محمد الضبي [2] ، قال: أخبرنا علي بن عمر الحافظ، قال:
حدثنا أحمد بن محمد بن مسلم قال: حدثنا أبو سعيد عبد الله بن شبيب، قال: حدثنا أبو محلم، قال [3] :
لما قتل مصعب بن الزبير خرجت سكينة تطلبه في القتلى، فعرفته بشامة في خده، فأكبت عليه وقالت: يرحمك الله، نعم والله خليل المسلمة كنت، أدركك والله ما قال عنترة:
وحليل غانية تركت مجدلا ... بالقاع لم يعهد ولم يتكلم
فهتكت بالرمح الطويل إهابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي الأزهري، قال: أخبرنا محمد بن العباس، قال: حدثنا محمد بن خلف بن المرزبان، قال: أخبرنا أبو علي السجستاني، قال: حدثني عبد الله بن سلمويه، قال:
أسر مصعب بن الزبير رجلا فأمر بضرب/ عنقه، فقال: أصلح الله الأمير، ما أقبح بمثلي أن يقوم يوم القيامة [فأتعلق] بأطرافك الحسنة، وبوجهك الذي يستضاء به، فأقول: يا رب سل مصعبا فيم قتلني؟ فقال: يا غلام، أعف عنه، فقال: أصلح الله الأمير، إن رأيت أن تجعل ما وهبت لي من حياتي في عيش رخي، قال: يا غلام، أعطه مائة ألف، فقال: أيها الأمير، فإني أشهد الله وأشهدك أني قد جعلت لابن قيس الرقيات منها خمسين ألفا، فقال له: ولم؟ قال: لقوله فيك: [4]
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت. وقد ورد في الأصل: «علي بن محمد بن ثابت» .
[2] في الأصل: «الصيني» .
[3] الخبر في تاريخ بغداد 13/ 108، وفي البداية والنهاية 8/ 345.
[4] الخبر في تاريخ بغداد 3/ 106.(6/115)
إنما مصعب شهاب من الله ... تجلت عن وجهه الظلماء
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت، قال: أنبأنا علي بن أبي علي، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن المخلص، وأحمد بن عبد الله الدوري، قالا: حدثنا أحمد بن سليمان الطوسي، قال: حدثنا الزبير، قال: حدثنا محمد بن الحسن، عن زافر [1] بن قتيبة، عن الكلبي، قال: قال عبد الملك بن مروان يوما لجلسائه:
من أشجع العرب؟ فقالوا: شبيب بن قطري [2] ، وفلان وفلان، فقال: إن أشجع العرب لرجل جمع بين سكينة بنت الحسين، وعائشة بنت طلحة، وأمة الحميد بنت عبد الله بن عامر بن كريز، وابنة رباب بن أنيف الكلبي [سيد ضاحية العرب] [3] وولي العراق خمس سنين، فأصاب ألف ألف، وألف ألف، وألف ألف، وأعطي الأمان فأبى ومشى بسيفه حتى مات، ذاك مصعب بن الزبير، لا من قطع الجسور مرة هاهنا ومرة ها هنا [4] .
قال المدائني: قتل يوم الثلاثاء لثلاث عشرة خلت من جمادى الأولى أو الآخرة سنة إحدى وسبعين، وهو ابن خمس وأربعين، وقيل: خمس وثلاثين.
ومن العجائب: قول عبد الملك بن عمير الليثي: رأيت في قصر الإمارة بالكوفة رأس الحسين رضي الله عنه بين يدي عبيد الله بن زياد، ثم رأيت رأس ابن زياد بين يدي المختار، ثم رأيت رأس المختار/ بين يدي مصعب بن الزبير، ثم رأيت رأس مصعب بين يدي عبد الملك بن مروان.
__________
[1] في الأصل ت: «رافيل» والبداية والنهاية: «زفر» وما أوردناه من تاريخ بغداد.
[2] كذا في الأصول، وفي تاريخ بغداد: «مشبيب، قطري، فلان فلان» . وفي البداية والنهاية 8/ 344:
«مشبيب، وقال آخر: قطري بن الفجأة» .
[3] ما بين المعقوفتين: من تاريخ بغداد، والبداية والنهاية.
[4] الخبر في تاريخ بغداد 13/ 106، والبداية والنهاية 8/ 344.(6/116)
ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين
فمن الحوادث فيها ما كان من أمر الخوارج والمهلب [1] .
قال علماء السير: اقتتلت الأزارقة والمهلب بسولاف ثمانية أشهر أشد القتال، فأتاهم قتل مصعب بن الزبير، فبلغ ذلك إلى الأزارقة قبل المهلب، فنادت الخوارج لعسكر المهلب: ما قولكم في مصعب؟ فقالوا: إمام هدى، قالوا: فما قولكم في عبد الملك؟ قالوا: نحن براء منه، قالوا: فإن مصعب قد قتل، وستجعلون غدا عبد الملك إمامكم.
فلما كان من الغد بلغ المهلب الخبر، فبايع لعبد الملك، فقالت الخوارج: يا أعداء الله، أنتم أمس تتبرءون منه وهو اليوم إمامكم. وكان عبد الملك قد ولى على البصرة خالد بن عبد الله، فبعث خالد المهلب على خراج الأهواز، وبعث أخاه عبد العزيز على قتال الأزارقة، فهزم وأخذت زوجته بنت المنذر بن الجارود، فأقيمت فيمن يزيد، فبلغت مائة ألف، وكانت جميلة، فغار رجل من قومها كان من رءوس الخوارج، فقال: تنحوا، ما أرى هذه المشركة إلا قد فتنتكم، فضرب عنقها.
وكتب خالد إلى عبد الملك يخبره بما جرى، فكتب إليه [2] : قبح الله رأيك حين
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 168، والعنوان ساقط من ت.
[2] نص الكتاب في تاريخ الطبري 6/ 171.(6/117)
تبعث أخاك [1] أعرابيا من أهل مكة [2] على القتال وتدع المهلب يجبي الخراج وهو البصير بالحرب، فإذا أمنت عدوك فلا تعمل فيهم برأي حتى يحضر المهلب وتستشيره فيه.
وكتب عبد الملك إلى بشر بن مروان [3] : أما بعد، فإني قد كتبت إلى خالد بن عبد الله آمره بالنهوض إلى الخوارج، فسرح إليه خمسة آلاف رجل، وابعث عليهم رجلا ترضاه، فإذا قضوا غزاتهم تلك صرفتهم إلى الري فقاتلوا عدوهم.
فقطع على الكوفة خمسة آلاف، وبعث عليهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وقال: إذا قضيت غزاتك هذه فانصرف إلى/ الري، وخرج خالد بأهل البصرة حتى قدم الأهواز، فقال له المهلب: إني أرى ها هنا سفنا كثيرة، فضمها إليك، فو الله ما أرى القوم إلا محرقيها، فما لبث إلا ساعة حتى أقبلت خيل من خيلهم فحرقتها.
وبعث خالد المهلب على ميمنته، وداود بن قحذم على ميسرته، ومر المهلب على عبد الرحمن بن محمد ولم يخندق، فقال له: يا ابن أخي ما يمنعك من الخندق، فقال:
والله لهم أهون علي من ضرطة الحمار [4] ، قال: فلا يهونوا عليك فإنهم سباع العرب، لا أبرح أو تضرب عليك خندقا.
فأقاموا [5] نحو عشرين ليلة، ثم إن خالدا زحف إليهم بالناس، فرأوا عددا هائلا، فولوا وأخذ المسلمون ما في عسكرهم، واتبعهم خالد وداود في جيش من أهل البصرة يقتلونهم، وانصرف عبد الرحمن إلى الري، وأقام المهلب بالأهواز، وكتب خالد إلى عبد الملك يخبره بأن المارقين انهزموا وتبعهم فقتل من قتل منهم، وقد تبعهم داود بن قحذم. [6] فكتب عبد الملك إلى بشر بن مروان: أما بعد فابعث من قبلك رجلا شجاعا
__________
[1] في الأصل: «حين بعثت أخاك» وما أوردناه من الله والطبري.
[2] في الأصل: «الكوفة» وما أوردناه من ت، والطبري.
[3] نص الكتاب في تاريخ الطبري 6/ 171.
[4] في الأصل: «ضربة الحمال» . وفي الطبري: ضرطة الجمل» ، وما أوردناه من ت.
[5] تاريخ الطبري 6/ 172.
[6] كذا في الأصول، وفي الطبري: «فرأوا أمرا أهالهم من عدد الناس» .(6/118)
بصيرا بالحرب في أربعة آلاف فليسيروا إلى فارس في طلب المارقة، فإن خالدا كتب يخبرني أنه قد بعث في طلبهم داود بن قحذم، فمر صاحبك الذي تبعث أن لا يخالف ابن قحذم إذا التقيا.
فبعث بشر عتاب بن ورقاء على أربعة آلاف من أهل الكوفة، فخرجوا فالتقوا بداود فتبعوا القوم إلى أن نفقت [1] عامة خيولهم، ورجعوا إلى الأهواز.
وفي هذه السنة خرج أبو فديك الخارجي فغلب على البحرين [2]
فبعث خالد بن عبد الله أخاه أمية بن عبد الله بجند، فهزمهم أبو فديك، فرجع أمية إلى البصرة.
وفي هذه السنة وجه عبد الملك الحجاج بن يوسف إلى مكة لقتال ابن الزبير [3]
وكان السبب في توجيهه الحجاج دون غيره، أن عبد الملك لما أراد الرجوع إلى الشام قام إليه الحجاج بن يوسف فقال: يا أمير المؤمنين، / إني رأيت في منامي أني أخذت عبد الله بن الزبير فسلخته، فابعثني إليه وولني قتاله. فبعثه فخرج في ألفين من أهل الشام في جمادى سنة اثنتين وسبعين فلم يعرض للمدينة، فسار حتى نزل الطائف، فكان قدومه الطائف في شعبان، وقد كتب عبد الملك لأهل مكة الأمان إن دخلوا في طاعته، وكان الحجاج يبعث البعوث إلى عرفة في الخيل، ويبعث ابن الزبير بعثا فيقتتلون هناك، وفي كل ذلك تهزم خيل ابن الزبير ويرجع الحجاج بالظفر.
ثم كتب الحجاج إلى عبد الملك يستأذنه في حصار ابن الزبير ودخول الحرم عليه، ويخبره أن شوكته قد قلت، وقد تفرق عنه عامة أصحابه ويسأله أن يمده برجال.
فكتب عبد الملك إلى طارق بن عمرو يأمره أن يلحق بمن معه من الجند
__________
[1] في الأصل: «تعقرت» وفي ت: «تعبت» وما أوردناه من الطبري.
[2] تاريخ الطبري 6/ 174.
[3] تاريخ الطبري 6/ 174.(6/119)
بالحجاج، فسار في خمسة آلاف من أصحابه حتى لحق بالحجاج، فلما دخل شهر ذي القعدة رحل الحجاج من الطائف حتى نزل بئر ميمون، وحصر ابن الزبير لهلال ذي القعدة. وكان قدوم طارق مكة لهلال ذي الحجة، ولم يطف بالبيت ولم يصل إليه وهو محرم، وكان يلبس الحجاج السلاح، ولا يقرب النساء ولا الطيب إلى أن قتل ابن الزبير.
ونحر ابن الزبير بدنا بمكة يوم النحر، ولم يحج ذلك العام ولا أصحابه لأنهم لم يقفوا بعرفة، ونحر أصحاب الحجاج وطارق فيما بين الحجون إلى بئر ميمون.
وحج الحجاج بالناس ولم يطف بالبيت، وكان العامل على المدينة طارق مولى عثمان من قبل عبد الملك، وعلى الكوفة بشر بن مروان، وعلى قضائها عبد الله بن عتبة بن مسعود، وعلى البصرة خالد بن عبد الله، وعلى قضائها هشام بن هبيرة.
ذكر قصة جرت لطارق بن عمرو مع سعيد بن المسيب
أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أنبأنا علي بْنُ أَحْمَدَ السَّرِيُّ [1] ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْن بطة العكبري، قال: حدثني أبو صالح مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى الشَّيْبَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَبِيبٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ/ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَلاءِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: وَلَّى عَلَيْنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ طَارِقًا مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عنه. قال عليّ: فمشيت إِلَى سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَإِلَى الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَإِلَى أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحَمْنِ بْنِ عَوْفٍ، فَقُلْتُ: اذْهَبُوا بِنَا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ نسلم عليه ندفع بذلك عن أنفسنا. قال: فَأَتَيْنَاهُ فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَأَجْلَسَنَا عِنْدَهُ، ثُمّ قَالَ لَنَا: أَيُّكُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ؟ قَالَ: فَكَلَّمَهُ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ لَهُ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ، إِنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ قَدْ رَفَعَتْ عَنْهُ الولاة إتيانها، وَقَدْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْمَسْجِدَ، فَلَيْسَ يَبْرَحُ مِنْهُ، قَالَ: رَغِبَ أَنْ يَأْتِيَنِي، وَاللَّهِ لأَقْتُلَنَّهُ، وَاللَّهِ لأَقْتُلَنَّهُ، وَاللَّهِ لأَقْتُلَنَّهُ- ثَلاثًا- قَالَ الْقَاسِمُ:
فَضَاقَ بِنَا الْمَجْلِسُ حَتَّى قُمْنَا، فَجِئْتُ الْمَسْجِدَ فَتَطَلَّعْتُ فيه فإذا سعيد بن المسيب عند
__________
[1] في أ: «الميسيري» .(6/120)
أُسْطُوَانَتِهِ جَالِسٌ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا كَانَ وَقُلْتُ لَهُ: أَرَى لَكَ أَنْ تَخْرُجَ السَّاعَةَ إِلَى مَكَّةَ فَتَعْتَمِرُ وَتُقِيمُ بِهَا، قَالَ: مَا حَضَرَتْنِي فِي ذَلِكَ نِيَّةٌ، وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إليّ ما نويت، فقلت له: فإنّي أَرَى أَنْ تَخْرُجَ إِلَى بَعْضِ مَنَازِلِ إِخْوَانِكَ فَتُقِيمَ فِيهِ حَتَّى نَنْظُرَ مَا يَكُونُ مِنَ الرَّجُلِ، قَالَ: فَكَيْفَ أَصْنَعُ بِهَذَا الدَّاعِي الَّذِي يَدْعُونِي فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، وَاللَّهِ لا دَعَانِي إِلا أَجَبْتُهُ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ، قُلْتُ لَهُ: فَإِنِّي أَرَى أَنْ تَقُومَ مِنْ مَجْلِسِكَ هَذَا فَتَجْلِسَ إِلَى بَعْضِ هَذِهِ الأَسَاطِينِ فَإِنَّكَ إِنْ طَلَبْتَ فَإِنَّمَا تَطْلُبُ عِنْدَ أُسْطُوَانَتِكَ. قَالَ:
وَلِمَ أَقُومُ مِنْ مَوْضِعِي هَذَا الَّذِي قَدْ آتَانِيَ اللَّهُ فِيهِ الْعَافِيَةَ مِنْ كَذَا وَكَذَا سَنَةٍ، [قُلْتُ لَهُ:
رَحِمَكَ اللَّهُ، أَمَا تَخَافُ عَلَى نَفْسِكَ كَمَا يَخَافُ النَّاسُ؟ فَقَالَ لِي] [1] : وَاللَّهِ لا أَحْلِفُ باللَّه كَاذِبًا مَا خِفْتُ شَيْئًا سِوَاهُ، قُلْتُ لَهُ: فَبِمَاذَا أَقُومُ مِنْ عِنْدِكَ رَحِمَكَ اللَّهُ، فَقَدْ غَمَمْتَنِي، فَقَالَ: تَقُومُ بِخَيْرٍ، أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَنْ يُنْسِيَهُ ذِكْرِي.
قَالَ: فَانْصَرَفْتُ مِنْ عِنْدِهِ فَجَعَلْتُ أَسْأَلُ فَرَطَ الأَيَّامِ [هَلْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ خَبَرٌ؟] فَلا أُخْبَرُ إِلا بِخَيْرٍ. قَالَ: فَأَقَامَ عَلَيْنَا وَالِيًا سَنَةً لا يَذْكُرُهُ وَلا يَخْطُرُ بِبَالِهِ حَتَّى إِذَا عزل وصار بوادي القرى مِنَ الْمَدِينَةِ/ عَلَى خَمْسِ مَرَاحِلَ، قَالَ لِغُلامِهِ وهو يوضئه: ويحك أمسك، وا سوءتاه مِنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَمِنَ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَمِنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَمِنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَلَفْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ثَلاثَةَ أَيْمَانٍ لأَقْتُلَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ، وَاللَّهِ مَا ذَكَرْتُهُ إِلا فِي سَاعَتِي هَذِهِ، فقال له غلامه، يا مولاي تأذن لِي أَنْ أُكَلِّمَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا أَرَادَ اللَّهُ لَكَ خَيْرًا مِمَّا أَرَدْتَ لِنَفْسِكَ إِذْ أَنْسَاكَ ذِكْرَهُ.
فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ فَأَنْتَ حُرٌّ.
وفي هذه السنة كتب عبد الملك إلى عبد الله بن خازم السلمي يدعوه إلى بيعته [2]
ويطعمه [3] خراسان سبع سنين، فقال للرسول: لولا أن أضرب بيني وبين بني
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] تاريخ الطبري 6/ 176.
[3] في الأصل: «ويعطيه» ، وما أوردناه من ت، والطبري.(6/121)
سليم وبني عامر لقتلتك، ولكن كل هذه الصحيفة فأكلها.
وكتب عبد الملك إلى بكير بن وشاح، وكان خليفة ابن خازم على مرو وعلى خراسان، فوعده ومناه فخلع بكير عبد الله بن الزبير، ودعا إلى عبد الملك فأجابه أهل مرو، وبلغ ابن خازم فخاف أن يأتيه بكير بن وشاح بأهل مرو، فبرز له فاقتتلوا، فقتل ابن خازم وبعث برأسه إلى عبد الملك.
وبعضهم يزعم أنه إنما كتب عبد الملك إلى ابن خازم بعد قتل ابن الزبير، ونفذ رأس ابن الزبير إليه، فحلف ابن خازم أن لا يعطيه طاعة أبدا، ودعى بطست فغسل الرأس وحنطه وكفنه وصلى عليه، وبعث به إلى أهل ابن الزبير بالمدينة، وأطعم الرسول الكتاب.
وقيل: بل قطع يديه ورجليه وضرب عنقه.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
450- عبيدة السلماني المرادي الهمداني، ويكنى أبا مسلم، ويقال: أبا عمرو [1] :
أسلم قبل وفاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسنتين. وسمع من عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن الزبير، ونزل الكوفة. وروى عنه الشعبي، والنخعي.
وحضر مع علي رضي الله عنه وقعه [الخوارج] [2] بالنهروان، / وكان يوازي شريحا في القضاء، فإذا أشكل على شريح شيء دلهم عليه، وأتاه غلامان بلوحين [فيهما كتاب] [3] يتخايران، فقال: إنه حكم، وأبى.
__________
[1] كذا في الأصول وتاريخ بغداد 11/ 117، وفي طبقات ابن سعد: «عبيدة بن قيس السلماني» . وفي البداية والنهاية 8/ 353: «عبيدة السلماني القاضي، وهو عبيدة بن عمرو، ويقال: ابن قيس بن عمرو السلماني المرادي» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه في ت.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من طبقات ابن سعد.(6/122)
وكان من أصحاب عبد الله الذين يقرئون ويفتون [1] .
قال ابن سيرين: ما رأيت رجلا كان أشد توقيا من عبيدة. قال: وأدركت الكوفة.
وبها أربعة ممن يعد بالفقه، فمن بدأ بالحارث [بن قيس] [2] ثنى بعبيدة، ومن بدأ بعبيدة ثنى بالحارث، ثم علقمة، وشريح الرابع.
[توفي في هذه السنة] [3] .
__________
[1] في ت: «الذين يقولون القرآن ويفتنون» وما أوردناه من الأصل، وتاريخ بغداد 11/ 119.
[2] ما بين المعقوفتين: من هامش الأصل.
[3] ما بين المعقوفتين: من ت.(6/123)
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين
فمن الحوادث فيها مقتل عبد الله بن الزبير [1]
قد ذكرنا أن ابن الزبير حصر لهلال ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين، وما زال الحجاج يحصره ثمانية أشهر وسبع عشرة ليلة. وكانوا يضربونه بالمنجنيق.
قال يوسف بن ماهك: رأيت المنجنيق يرمى به فرعدت السماء وبرقت وعلا صوت كالرعد، فأعظم ذلك أهل الشام فأمسكوا أيديهم، فرفع الحجاج حجر المنجنيق فوضعه ثم قال: ارموا، ثمّ رمى معهم، ثم جاءت صاعقة تتبعها أخرى، فقتلت من أصحابه اثني عشر رجلا، فانكسر أهل الشام، فقال الحجاج: لا تنكروا هذا فإني ابن تهامة، هذه صواعق تهامة، هذا الفتح قد حضر، فصعقت من الغد صاعقة، فأصيب من أصحاب ابن الزبير عشرة، فقال الحجاج: ألا ترون أنهم يصابون.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أخبرنا عمر بن عبيد الله البقال، قال: أخبرنا أبو الحسين بن بشران، قال: أخبرنا عثمان بن أحمد الدقاق، قال حدثنا حنبل بن إسحاق، قال: أخبرنا الحميدي، قال: حدثنا سفيان، قال:
كانوا يرمون المنجنيق من أبي قبيس ويرتجزون.
خطارة مثل الفنيق المزبد [2] ... أرمي بها أعواد هذا المسجد
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 187، والبداية والنهاية 8/ 353.
[2] في الأصل: «المرقد» ، وما أوردناه من ت. وفي البداية:
وحجارة مثل الفنيق المزبد ... ترمى بها أعواد هذا المسجد(6/124)
/ قال: فجاءت صاعقة فأحرقتهم، فامتنع الناس من الرمي فخطبهم الحجاج فقال: ألم تعلموا أن بني إسرائيل كانوا إذا قربوا قربانا فجاءت نار فأكلته [1] علموا أنه قد تقبل منهم، وإن لم تأكله [2] قالوا لم تقبل، فما زال يخدعهم حتى عادوا فرموا.
قال علماء السير [3] : فلم تزل الحرب إلى قبيل مقتل ابن الزبير، فتفرق عامة أصحابه وخذلوه، وخرج عامة أهل مكة إلى الحجاج في الأمان حتى ذكر [أن] [4] ولديه حمزة وحبيب أخذوا لأنفسهما أمانا، فدخل عبد الله بن الزبير على أمه أسماء حين رأى من الناس ما رأى من الخذلان، فقال لها: خذلتني الناس حتى ولدي وأهلي، فلم يبق معي إلا من ليس عنده من الدفع أكثر من ساعة والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا، فما رأيك؟ فقالت: أنت والله يا بني أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامض له، وقد قتل عليك أصحابك، ولا تمكن من رقبتك فينقلب [5] بها غلمان بني أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك وأهلكت من قتل معك. وإن قلت: كنت على الحق فلما وهن أصحابك ضعفت، فليس هذا فعل الأحرار ولا أهل الدين، وكم خلودك في الدنيا! القتل [القتل] أحسن.
فدنا ابن الزبير فقبل رأسها وقال: هذا والله رأيي، والذي قمت به ما ركنت إلى الدنيا ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب للَّه عز وجل أن تستحل حرمته، ولكنني أحببت أن أعلم رأيك في مثل ذلك، فانظري يا أمي فإني مقتول في يومي [6] هذا، فلا يشتد حزنك، وسلمي الأمر للَّه، فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر، ولا عمدا بفاحشة، ولم يجر في حكم الله عز وجل، ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد، ولم يبلغني ظلم عن عمالي فرضيت به بل أنكرته، ولم يكن شيء آثر عندي من رضا
__________
[1] في الأصل: «فأكلتها» ، وما أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «تأكلها» ، وما أوردناه من ت.
[3] تاريخ الطبري 6/ 188.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أضفناها لاستقامة المعنى.
[5] في ت، والطبري. «فيتلعب» .
[6] في الطبري: «مقتول من يومي هذا» .(6/125)
ربي عز وجل، اللَّهمّ إني لا أقول هذا تزكية [مني لنفسي] ، أنت أعلم/ بي، ولكن أقوله تعزية لأمي لتسلو عني. فقالت: إني لأرجو من الله عز وجل [1] أن يكون عزائي فيك حسنا إن تقدمتني، أخرج حتى أنظر ما يصير أمرك، فقال: جزاك الله يا أماه خيرا، ولا تدعي الدعاء لي قبل وبعد. فقالت: لا أدعه أبدا، فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق. ثم قالت: اللَّهمّ ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب في الظلماء [2] ، وذلك الصوم في هواجر المدينة ومكة، وبره بأبيه وبي، اللَّهمّ إني قد أسلمته لأمرك فيه ورضيت بما قضيت فأثبني في عبد الله ثواب الصابرين الشاكرين.
وفي رواية أخرى: أنه دخل عليها وعليه الدرع والمغفر، فوقف فسلم ثم دنا فتناول يدها فقبلها، فقالت: هذا وداع فلا تقعد [3] ، فقال: جئت مودعا، إني لأرى هذا آخر أيامي من الدنيا، واعلمي يا أماه أني إن قتلت فإنما أنا لحم لا يضرني ما صنع بي، قالت: صدقت يا بني، أتمم على نصرتك، ولا تمكن ابن أبي عقيل منك، ادن مني أودعك. فدنا منها فودعها وقبلها وعانقها، وقالت حيث مست الدرع: ما [هذا] [4] صنيع من يريد ما تريد، قال: ما لبست [هذا] [5] الدرع [6] إلا لأشد منك، قالت: فإنه لا يشد مني.
ثم انصرف وهو يقول:
إني إذا أعرف يومي أصبر ... إذ بعضهم يعرف ثم ينكر
ثم إن القوم أقاموا على كل باب رجالا وقائدا، فشحنت الأبواب بأهل الشام، وكان لأهل حمص الباب الذي يواجه باب الكعبة، ولأهل دمشق باب بني شيبة، ولأهل الأردن باب الصفا، ولأهل فلسطين باب بني جمح، ولأهل قنسرين باب بني سهم،
__________
[1] في الأصل: «من عند الله عز وجل» وما أوردناه من ت، والطبري.
[2] في الطبري: «النحيب في الظمأ» .
[3] في ت. والطبري. «تبعد» .
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.
[6] «ما هذا صنيع من يريد ما تريد، قال: ما لبست هذا الدرع» ساقط من ت.(6/126)
فمرة يحمل ابن الزبير في هذه الناحية، ومرة في هذه الناحية، كأنه أسد لا يقدم عليه الرجال، وقالت لابن الزبير/ زوجته: اخرج أقاتل معك؟ فقال: لا، وأنشد:
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى المحصنات جر الذيول
فلما كان يوم الثلاثاء صبيحة سبع عشرة من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين وقد أخذ الحجاج على ابن الزبير الأبواب، وبات ابن الزبير يصلي ليلته، ثم احتبى بحمائل سيفه فأغفى، ثم انتبه، فقال: أذن يا سعد، فأذن عند المقام، وتوضأ ابن الزبير، وركع ركعتي الفجر ثم تقدم، وأقام المؤذن، فصلى بأصحابه، فقرأ: ن وَالْقَلَمِ 68: 1. وقال:
من كان سائلا عني فإني في الرعيل الأول، وأنشد:
ولست بمبتاع الحياة بسبة ... ولا مرتق من خشية الموت سلما
ثم قال: احملوا على بركة الله، ثم حمل حتى بلغ بهم الحجون، فرمي بآجرة فأصابته في وجهه فأرعش لها ودمي وجهه، فلما وجد سخونة الدم تسيل على وجهه ولحيته، قال يرتجز [1] :
فلسنا على الأعقاب تدمي كلومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدما
وتغاووا عليه [2] فقتل.
وجاء الخبر إلى الحجاج فسجد وسار حتى وقف عليه ومعه طارق بن عمرو، فقال طارق: ما ولدت النساء أذكر من هذا فبعث الحجاج رأسه ورأس عبد الله بن صفوان ورأس عمارة بن عمرو إلى المدينة، فنصبت بها، ثم ذهب بها إلى عبد الملك، وسيأتي تمام قصة ابن الزبير في ذكر من مات في هذه السنة.
وفي هذه السنة اجتمع الناس على عبد الملك
فكتب إليه ابن عمر، وأبو سعيد، وسلمة بن الأكوع بالبيعة، وكان عبد الملك يجلس للناس في كل أسبوع يومين.
__________
[1] البيت للحصين بن الحمام المري (ديوان الحماسة بشرح المرزوقي 1/ 192) .
[2] في الأصل: «وتعاونوا عليه» وفي ت: «تغاءروا» وما أوردناه من الطبري.(6/127)
أخبرنا ابن ناصر الحافظ، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أخبرنا أبو القاسم [عليّ بن الحسن التنوخي، قال: حدثنا مُحَمَّد بْن عبد الرحيم المازني، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو علي الحسين بْن القَاسِم] [1] الكوكبي، قَالَ: حدثنا أبو العباس الكديمي، قال: أخبرنا السلمي، عن محمد بن نافع مولاهم، / عن أبي ريحانة أحد حجاب عبد الملك بن مروان، قال:
كان عبد الملك يجلس في كل أسبوع يومين جلوسا عاما، فبينا هو جالس في مستشرف له وقد أدخلت عليه القصص، إذ وقعت في يده قصة غير مترجمة فيها: إن رأى أمير المؤمنين أن يأمر جاريته تغنيني ثلاثة أصوات ثم ينفذ في ما يشاء من حكمه.
فاستشاط من ذلك غضبا، وقال: يا رباح، علي بصاحب هذه القصة، فخرج الناس جميعا وأدخل عليه غلاما كما أعذر كأهنأ الصبيان وأحسنهم، فقال له عبد الملك:
يا غلام هذه قصتك؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: وما الذي غرك مني، والله لأمثلن بك، ولأردعن بك نظراءك من أهل الجسارة، علي بالجارية، فجيء بجارية كأنها فلقة قمر، وبيدها عود، فطرح لها كرسي وجلست، فقال عبد الملك: مرها يا غلام، فقال:
غني لي يا جارية بشعر قيس بن ذريح:
لقد كنت حسب النفس لو دام أو دنا ... ولكنما الدنيا متاع غرور
وكنا جميعا قبل أن يظهر الهوى ... فأنعم حالي غبطة وسرور
فما برح الواشون حتى بدت لنا ... بطون الهوى مقلوبة بظهور
فغنته وأجادت، فخرج الغلام من جميع ما كان عليه من الثياب تخريقا، ثم قال له عبد الملك: مرها تغنيك الصوت الثاني، فقال: غني بشعر جميل:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بوادي القرى إني إذا لسعيد
إذا قلت ما بي يا بثينة قاتلي ... من الحب قالت ثابت ويزيد
وإن قلت ردي بعض عقلي أعش به ... مع الناس قالت ذاك منك بعيد
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(6/128)
فلا أنا مردود بما جئت طالبا ... ولا حبها فيما يبيد يبيد
يموت الهوى مني إذا ما لقيتها ... ويحيا إذا فارقتها فيعود
فغنته الجارية وسقط مغشيا عليه ساعة، ثم أفاق، فقال له عبد/ الملك: مرها فلتغنك الصوت الثالث. فقال: يا جارية غني بشعر قيس بن الملوح:
وفي الجيرة الغادين من بطن وجرة ... غزال غضيض المقلتين ربيب
فلا تحسبي أن الغريب الذي نأى ... ولكن من تنأين عنه غريب
فغنته الجارية، فطرح الغلام نفسه من المستشرق فلم يصل إلى الأرض حتى تقطع. فقال عبد الملك: ويحه لقد عجل على نفسه، ولقد كان تقديري فيه غير الذي فعل، وأمر فأخرجت الجارية من قصره، ثم سأل عن الغلام، فقالوا: غريب لا يعرف، إلا أنه منذ ثلاث ينادي في السوق ويده على رأسه:
غدا يكثر الباكون منا ومنكم ... وتزداد داري من دياركم بعدا
وفي هذه السنة وجه عبد الملك عمر بن عبيد الله لقتال أبي فديك
وأمره أن ينتدب معه من أحب، فقدم الكوفة فندب أهلها، فانتدب معه عشرة آلاف، فأخرج لهم أعطياتهم [1] ، ثم سار بهم، فجعل أهل الكوفة على الميمنة وعليهم محمد بن موسى بن طلحة، وجعل أهل البصرة على الميسرة وعليهم ابن أخيه عمر بن موسى بن عبيد الله، وهو في القلب، حتى انتهوا إلى البحرين، فصف عمر أصحابه، وقدم الرجالة في أيديهم الرماح، فحمل أبو فديك وأصحابه حملة واحدة فكشفوا ميسرة عمر، فارتث عمر [2] ، وحمل أهل الكوفة وأهل البصرة، واستباحوا عسكر العدو، وقتلوا أبا فديك، وحصروهم، فنزلوا على الحكم، فقتلوا منهم نحوا من ستة آلاف، وأسروا ثمانمائة، وانصرفوا إلى البصرة.
__________
[1] «أعطياتهم» ساقطة من ت.
[2] المرتث: الصريع الّذي يثخن في الحرب، ويحمل حيّا ثم يموت. وقيل: هو الّذي يحمل من المعركة وبه رمق.(6/129)
وفيها: عزل عبد الملك خالد بن عبد الله عن البصرة.
وفيها: غزا محمد بن مروان الصائفة، وهزم الروم.
وكانت وقعة عثمان/ بن الوليد بالروم من ناحية أرمينية، وكان في أربعة آلاف، والروم في ستين ألفا فهزمهم وأكثر القتل فيهم.
وفي هذه السنة حج بالناس الحجاج بن يوسف وهو على مكة واليمن واليمامة، وكان على الكوفة والبصرة بشر بن مروان.
وبعضهم يقول: كان على الكوفة بشر، وعلى البصرة خالد بن عبد الله، وعلى قضاء الكوفة شريح بن الحارث، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة، وعلى خراسان بكير بن وشاح.
وقد ذكرنا في الحوادث ما فعل عبد الله بن خازم، فأقره عبد الملك على خراسان [1] .
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
451- أسماء بنت أبي بكر الصديق [2] :
أسلمت قديما، وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي ذات النطاقين.
وذلك أنها شقت نطاقها نصفين حين أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج إلى الغار، فجعلت واحدا لسفرة رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ والآخر عصاما لقربته.
تزوجها الزبير وولدت عبد الله، وعروة، والمنذر، وعاصم، والمهاجر، وخديجة، وأم الحسن، وعائشة، وطلقها. وكانت تمرض المرضة فتعتق كل مملوك
__________
[1] «وقد ذكرنا في الحوادث ... عبد الملك على خراسان» : ساقطة من ت.
[2] طبقات ابن سعد 8/ 182، وحلية الأولياء 2/ 55، وصفة الصفوة 2/ 31، وخلاصة تهذيب الكمال والسمط الثمين 173، والجمع بين رجال الصحيحين 602، وتاريخ الإسلام 3/ 133.(6/130)
لها. وماتت في هذه السنة بعد أن قتل ابنها عبد الله بن الزبير بليال.
452- بشر بن مروان بن الحكم، أخو عبد الملك [1] :
ولي الولايات.
أَخْبَرَنَا المبارك بْن علي الصيرفي، قَالَ: أخبرتنا فاطمة بنت عبد الله بن إبراهيم الجبري، قال: أَخْبَرَنَا علي بْن الحسن بْن الفضل، قَالَ: أخبرنا أحمد بْن مُحَمَّد بْن خالد الكاتب، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن عَبْد اللَّه بْن المغيرة الجوهري، قال: حدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي، قال: حدثني الزبير بن بكار، عن القاسم بن عدي، عن أبيه، قال: قال لي يتاذوق [2] الطبيب الذي كان للحجاج- وكان قد أدرك كسرى بن هرمز، وأدرك الحجاج، أتت عليه ثلاثون ومائة سنة- قال:
قال/ لي أمير من أمراء العراق ولم يسمه- قال الهيثم: وظنناه يعني بشر بن مروان، وذلك أن بشرا مات بالعراق وهو أميرها: يا يتاذوق، ما ترى هذه العلة قد طالت بي؟ فقلت: أصلح الله الأمير، لا يستقيم أن أصف لك شيئا حتى أستبرئ ما بك، وإن أحب الأمير أن أستبرئ ذلك فليدع بي على ريق النفس.
فلما كان من الغد دعا بي [3] ، فدخلت عليه واضجعته على حصير ليس تحته ولا تحت رأسه شيء، فجسست ما بين أخمص قدميه إلى هامته، ثم قلت: اجلس أيها الأمير، فجلس، فقلت: أيما أحب إليك أيها الأمير، الصدق أم الكذب؟ قال: ما حاجتي إلى الكذب، بل الصدق أحب إلي، قلت: أيها الأمير، إن الله عز وجل كتب الفناء على خلقه فهم ميتون، فاعهد عهدك واكتب وصيتك. قال: يا يتاذوق، قد نعيت إلي نفسي. قلت: أيها الأمير، إن أردت أريك إمارة ما قلت [4] ؟ قال: نعم، قلت [5] :
فادع لي بلحم أحمر، فدعى بمسلوخ، فأخذت قطعة من لحم الفخذ حراء، فرققتها
__________
[1] البداية والنهاية 9/ 7، وخزانة البغدادي 4/ 117، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 3/ 248، والمعارف 121.
[2] في الأصل: «بياذوق» وفي ت: «تياذوق» وفي الأغاني: «يتاذوق» وما أوردناه عن الأغاني.
[3] في الأصل: «من غد دعاني» وما أوردناه من ت.
[4] في ت: «تحب أيها الأمير الآن أن أريك إمارة ما قلت» .
[5] «قال: نعم، قلت» : ساقط من ت.(6/131)
حتى جعلتها مثل قشر البيض، ثم ثقبت فيها ثقبا وجعلت فيه خيط [1] إبريسم دقيق، ثم قلت: ازدردها أيها الأمير، فازدردها فتركتها في جوفه ساعة، ثم جذبتها بالخيط فأخرجتها فإذا هي مملوءة دودا، فقلت: أيها الأمير، ما بقاء جوف هذا فيه، فقال: يا يتاذوق، وأنّى أصابني هذا، فو الله لقد قدمت مصركم هذا فكتبت [2] نفسي من الحر والبرد، فقلت: أيها الأمير، منها أتيت، قدمت هذا المصر فكتبت نفسك في الشتاء باللبود [3] والنيران، فلم يصل إليك البرد، وكتبته في الصيف بثياب الكتان والماء والثلج فلم يصل إليك الحر فتفكك [4] جوفك، والأبدان لا تقوم إلا بالحر والبرد وإن أذاها.
قال: فو الله ما عاش بعد هذا الكلام إلا ثلاثة أيام حتى مات.
453- صفوان بن محرز المازني [5] :
كان من كبار العباد الصالحين. وأسند عن ابن عمر، وأبي موسى، وعمران بن حصين في آخرين.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أخبرنا محمد بن هبة الله الطبري، قال: أخبرنا محمد بن الحسين بن الفضل، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر بْن درستويه، قال: حدثنا يعقوب بن سفيان، قال: حدثنا المعلى بن راشد، قال: أخبرنا جعفر، قال: أخبرنا المعلى بن زياد الفردوسي، قال:
كان لصفوان سرب يبكي فيه.
أخبرنا عبد الوهاب الحافظ، قال: أخبرنا علي بن محمد الخطيب، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف، قَالَ: حَدَّثَنَا الحسين بْن صفوان، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو بكر
__________
[1] في ت: «وجعلت فيه خيطا» .
[2] أي: تحزم وجمع عليه ثيابه.
[3] في ت: «في الشتاء بالبرد» .
[4] في ت: «فيغلي» .
[5] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 107، وطبقات خليفة 193، والتاريخ الكبير 4/ 2926، والمعارف 458، والجرح والتعديل 4/ 1853، وحلية الأولياء 2/ 213، وسير أعلام النبلاء 4/ 286، وتذكرة الحفاظ 1/ 60، وتاريخ الإسلام للذهبي 4/ 14.(6/132)
القرشي، قال: حدثني شريح بن يونس، قال: حدثنا عثمان بن مطر، عن هشام بن حسان، عن الحسن، قال:
لقيت أقواما كانوا فيها أحل الله لهم أزهد منكم [فيما حرم الله عليكم] [1] ولقد لقيت أقواما كانوا من حسناتهم أشفق ألا تقبل منهم من سيئاتكم، ولقد صحبت أقواما كان أحدهم يأكل على الأرض وينام على الأرض، منهم صفوان بن محرز المازني، كان يقول: إذا آويت إلى أهلي وأصبت رغيفا أكلته، فجزى الله الدنيا عن أهلها خيرا، والله ما زاد على رغيف حتى فارق الدنيا، فيظل صائما ويفطر على رغيف ويشرب عليه من الماء حتى يتروى، ثم يقوم فيصلي حتى يصبح، فإذا صلى الفجر أخذ المصحف فوضعه في حجره يقرأ حتى يترجل النهار ثم يقوم فيصلي حتى ينتصف النهار، فإذا انتصف النهار رمى بنفسه على الأرض فنام إلى الظهر، وكانت تلك نومته حتى فارق الدنيا، وكان إذا صلى الظهر قام فصلى إلى العصر، فإذا صلى العصر وضع المصحف في حجره، فلا يزال يقرأ حتى تصفر الشمس.
454- عبد الله بن عمر بن الخطاب، أبو عبد الرحمن [2] :
أسلم بمكة مع أبيه وهو صغير قبل أن يبلغ، وهاجر مع أبيه، وشهد غزوة الخندق وما بعدها، وحضر يوم القادسية ويوم جلولاء [3] وما بينهما/ من وقائع الفرس.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ عبد الله رجل صالح» [4] وقال جابر بن عبد الله [5] : ما أدركنا أحدا إلا وقد مالت به الدنيا إلا ابن عمر.
وقالت عائشة: ما رأيت أحدا ألزم للأمر الأول من ابن عمر.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] طبقات ابن سعد 2/ 2/ 124، 4/ 1/ 105، وطبقات خليفة 22، 190، والتاريخ الكبير 5/ 4، وتاريخ واسط 77، 136، 180، والجرح والتعديل 5/ 492، وتاريخ بغداد 1/ 171، والاستيعاب 3/ 950، وأسد الغابة 3/ 227، وسير أعلام النبلاء 3/ 203، وتاريخ الإسلام 3/ 177، والإصابة 2/ 3834.
[3] في الأصل: «ويوم جلق» ، وما أوردناه من ت.
[4] الحديث عن حفصة، أخرجه أحمد في المسند 2/ 5، 146، والبخاري في صحيحه 2/ 61، 69، 74، 5/ 30، 31، 9/ 47، 51، ومسلم في صحيحه 7/ 158، 159، وأبو داود 3825، والترمذي 321.
[5] فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل 2/ 894، والإستيعاب لابن عبد البر 3/ 351.(6/133)
وقال سعيد بن المسيب [1] : لو شهدت لأحد أنه من أهل الجنة لشهدت لعبد الله بن عمر.
وقال طاووس: ما رأيت رجلا أورع من ابن عمر، وكان يقول في سجوده: قد تعلم أنه ما يمنعني من مزاحمة قريش على هذه الدنيا إلا خوفك.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا حمد بن أحمد، قال: أخبرنا أحمد بن عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ الْحُرَيْشِ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَصْمَعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
اجْتَمَعَ فِي الْحِجْرِ أَرْبَعَةٌ: مُصْعَبٌ، وَعُرْوَةُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بَنُو الزُّبَيْرِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، فَقَالُوا: تَمَنَّوْا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: أَمَّا أَنَا فَأَتَمَنَّى الْخِلافَةَ، وَقَالَ عُرْوَةُ: أَمَّا أَنَا فَأَتَمَنَّى أَنْ يُؤْخَذَ عَنِّيَ الْعِلْمُ [2] . وَقَالَ مُصْعَبٌ: أَمَّا أَنَا فَأَتَمَنَّى إِمْرَةَ الْعِرَاقِ وَالْجَمْعَ بَيْنَ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ وَسُكَيْنَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: وَأَمَّا أَنَا فَأَتَمَنَّى الْمَغْفِرَةَ. قَالَ: فَنَالُوا مَا تَمَنَّوْا، وَلَعَلَّ ابْنَ عُمَرَ قَدْ غُفِرَ لَهُ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ الْمُقْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ، قَالا: أَخْبَرَنَا طَرَّادُ بْن مُحَمَّد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الحسين بْنِ بِشْرَانَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنِ صَفْوان، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا، قال: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الشَّيْبَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانٍ الْعَامِرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ طَارِقِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ:
لَقَدْ رَأَيْتُ عَجَبًا، كُنَّا بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ أَنَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَمُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ وعبد الملك بن مروان، فقال القوم بعد ما فرغوا من حديثهم: ليقم رجل منكم فليأخذ بالركن اليماني وليسأل الله حاجته، فإنه يعطى سؤله، قم
__________
[1] تاريخ بغداد 1/ 172.
[2] في الأصل: «أن يؤخذ العلم عني» .(6/134)
يا عبد/ الله بن الزبير فإنك أول مولد في الهجرة، فقام فأخذ بالركن اليماني، ثم قَالَ:
اللَّهمّ إِنَّكَ عَظِيمٌ تُرْجَى لِكُلِّ عَظِيمٍ أَسْأَلُكَ بِحُرْمَةِ وَجْهِكَ وَحُرْمَةِ عَرْشِكَ [وَحُرْمَةِ بَيْتِكَ] [1] وَحُرْمَةِ نَبِيِّكَ عَلَيْهِ السَّلامُ أَلا تُمِيتَنِي مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى تُوَلِّيَنِي الْحِجَازَ وَيُسَلَّمَ عَلَيَّ بِالْخِلافَةِ. وَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ، فَقَالُوا: قُمْ يَا مُصْعَبُ، فَقَامَ فَأَخَذَ بِالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ، فَقَالَ:
اللَّهمّ إِنَّكَ رب كل شيء وإليك يصير كُلُّ شَيْءٍ، أَسْأَلُكَ بِقُدْرَتِكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ أَلا تُمِيتَنِي مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى تُوَلِّيَنِيَ الْعِرَاقَ وَتَزَوِّجَنِي سُكَيْنَةَ بِنْتَ الْحُسَيْنِ، وَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ، فَقَالُوا: قُمْ يَا عَبْدَ الْمَلِكِ، فَقَامَ فَأَخَذَ بِالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ، فَقَالَ: اللَّهمّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبَّ الأَرْضِ ذَاتِ النَّبْتِ بَعْدَ الْقَفْرِ أَسْأَلُكَ مَا سَأَلَكَ عِبَادُكَ الْمُطِيعِينَ لأَمْرِكَ، وَأَسْأَلُكَ بِحُرْمَةِ وَجْهِكَ، وَأَسْأَلُكَ بِحَقِّكَ عَلَى جَمِيعَ خَلْقِكَ، وَبِحَقِّ الطَّائِفِينَ حَوْلَ بَيْتِكَ أَلا تُمِيتُنِي مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى تُوَلِّيَنِي شَرْقَ الأَرْضِ وَغَرْبَهَا، وَلا يُنَازِعَنِي أَحَدٌ إِلا أَتَيْتُ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ جَاءَ حَتَّى جَلَسَ، ثُمَّ قَالُوا: قُمْ يَا عَبْدَ اللَّهِ بن عمر، فقام حتى أخذ بالركن اليماني ثم قال: اللَّهمّ إنك رحمان رَحِيمٌ، أَسْأَلُكَ بِرَحْمَتِكَ الَّتِي سَبَقَتْ غَضَبَكَ، وَأَسْأَلُكَ بِقُدْرَتِكَ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِكَ أَلا تُمِيتَنِي مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى تُوجِبَ لِيَ الْجَنَّةَ.
قَالَ الشَّعْبِيُّ: فَمَا ذَهَبَتْ عَيْنَايَ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى رَأَيْتُ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ قَدْ أُعْطِيَ مَا سَأَلَ، وَبُشِّرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بِالْجَنَّةِ، وَرَأَيْتُ لَهُ.
أَخْبَرَنَا ابْنُ حَبِيبٍ الْعَامِرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِي بْن الْفَضْلِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ حَيْوَيَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ خُرَيْمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ حِمَاسٍ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ [2] ، قَالَ:
خَطَرَتْ هَذِهِ الآيَةُ: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ 3: 92 [3] فَذَكَرْتُ مَا أَعْطَانِي فَمَا وَجَدْتُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ جَارِيَتِي رُمَيْثَةَ، فَقُلْتُ: هِيَ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ، فَلَوْلا أَنِّي لا أَعُودُ فِي شيء جعلته للَّه نكحتها، فأنكحها نافعا، فهي أم ولده.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] في ت: «محمد بن حماس بن حمزة بن عبد الله بن عمير، عن عبد الله بن عمر» .
[3] سورة: آل عمران، الآية: 92.(6/135)
أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا حمد/ بن أحمد، قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله الأَصْفَهَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسحاق، قال:
حدثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ خُنَيْسٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي رَوَّادٍ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ:
كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا اشْتَدَّ عَجَبُهُ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ قَرَّبَهُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ نافع: كان رقيقه قد عَرَفُوا ذَلِكَ مِنْهُ، فَرُبَّمَا شَمَّرَ أَحَدُهُمْ فَيَلْزَمُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا رَآهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ الْحَسَنَةِ أَعْتَقَهُ، فَيَقُولُ لَهُ أَصْحَابُهُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَاللَّهِ مَا بِهِمْ إِلا أَنْ يَخْدَعُوكَ، فَيَقُولُ ابْنُ عُمَرَ: مَنْ خَدَعَنَا باللَّه انْخَدَعْنَا لَهُ.
قَالَ نَافِعٌ: وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا ذَاتَ عَشِيَّةٍ وَرَاحَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى نَجِيبٍ لَهُ قَدْ أَخَذَهُ بِمَالٍ، فَلَمَّا أَعْجَبَهُ مَسِيرُهُ أَنَاخَهُ مَكَانَهُ ثُمَّ نَزَلَ عَنْهُ، فَقَالَ: يَا نَافِعُ، انْزَعُوا زِمَامَهُ وَرَحْلَهُ وَحَلِّلُوهَ وَأَشْعِرُوهَ وَأَدْخِلُوهُ فِي الْبُدْنِ. قَالَ نَافِعٌ: مَا مَاتَ ابْنُ عُمَرَ حَتَّى أَعْتَقَ أَلْفَ إِنْسَانٍ [1] ، وَمَا زَادَ. وَكَانَ يُحْيِي الليل صَلاةً، فَإِذَا جَاءَ السَّحَرُ اسْتَغَفَرَ إِلَى الصَّبَاحِ، وَكَانَ يُحْيِي مَا بَيْنَ الظُّهْرِ إِلَى الْعَصْرِ. وَكَانَ الْبِرّ لا يُعْرَفُ فِي عُمَرَ وَلا ابْنِ عُمَرَ حَتَّى يَقُولا أَوْ يَعْمَلا.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ [2] : أَخْبَرَنَا الْوَاقِدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
كَانَ زَجُّ رُمْحِ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحَجَّاجِ قَدْ أَصَابَ رِجْلَ ابْنِ عُمَرَ، فَانْدَمَلَ الْجُرْحُ، فَلَمَّا صَدَرَ النَّاسُ انْتَقَضَ عَلَى ابْنِ عُمَرَ فَدَخَلَ الْحَجَّاجُ يَعُودُهُ، فَقَالَ: مَنْ أَصَابَكَ؟ قَالَ: أَنْتَ قَتَلْتَنِي، قَالَ: وَفِيمَ؟ قَالَ: حَمَلْتَ السِّلاحَ فِي حَرَمِ اللَّهِ فَأَصَابَنِي بَعْضُ أَصْحَابِكَ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَوْصَى أَلا يُدْفَنَ فِي الْحَرَمِ، فَغُلِبَ فَدُفِنَ فِي الْحَرَمِ وَصَلَّى عَلَيْهِ الْحَجَّاجُ.
أَخْبَرَنَا الْقَزَّازُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الخطيب، قَالَ: أَخْبَرَنَا [محمد بن أحمد] [3] بن
__________
[1] في الأصل: «ألف عبدا» . وما أوردناه من ت.
[2] طبقات ابن سعد 4/ 2/ 138. وفي الأصل: «قال ابن سعيد» .
[3] ما بين المعقوفتين: من تاريخ بغداد.(6/136)
رِزْقٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ:
مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ سَنَةَ ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ [1] .
وكذلك قال أبو الفضل بن دكين وابن بكير.
وقيل: إنه مات في سنة أربع وسبعين.
وعن سعيد بن عفير/ قال: في سنة أربع [وسبعين] [2] مات عبد الله بن عمر بمكة، فدفن بذي طوى في مقبرة المهاجرين وقيل: إنه دفن بفج وهو ابن أربع وثمانين.
قال مؤلف الكتاب رحمه [3] الله: وفي مقدار عمره قول آخر:
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ [بْنُ مُحَمَّدِ] الْقَزَّازِ، [قَالَ: أخبرنا الخطيب [4]] بإسناده عن مالك، قال:
بلغ عبد الله بن عمر من السن تسعا وثمانين سنة.
455- عبد الله بن الزبير بن العوام، أبو بكر [5] :
أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق، وهو أول مولود ولد في الإسلام للمهاجرين بعد الهجرة.
ولد بقباء على رأس عشرين شهرا من الهجرة، وحنكه رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمرة، وأذن أبو بكر في أذنه. ولم يزل مقيما بالمدينة إلى أن توفي معاوية، فبعث يزيد إلى الوليد بن عتبة يأمره بالبيعة، فخرج ابن الزبير إلى مكة، وجعل يحرض الناس على بني أمية،
__________
[1] الخبر في تاريخ بغداد 1/ 173.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] في ت: «قال المصنف» .
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[5] حلية الأولياء 1/ 329، وصفة الصفوة 1/ 322، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 7/ 396، والتاريخ الكبير للبخاريّ 5/ 9، وتاريخ واسط 51، 81، 85، والجرح والتعديل 5/ 261، والاستيعاب 3/ 305، وأسد الغابة 3/ 161، وسير أعلام النبلاء 3/ 363، وتاريخ الإسلام 3/ 167، والإصابة 2/ 4682، والأغاني 4/ 215.(6/137)
فوجد عليه يزيد إلا أنه مشى ابن الزبير إلى يحيى بن الحكم والي مكة، فبايعه ليزيد، فقال يزيد: لا أقبل حتى يؤتى به في وثاق، فأبى ابن الزبير، وقال: اللَّهمّ إني عائذ ببيتك، وجرت حروب، وحوصر ابن الزبير، ثم مات يزيد، فدعى إلى نفسه، وسمي أمير المؤمنين، وولى العمال، واستوثقت له البلاد ما خلا طائفة من الشام فإنهم بايعوا مروان.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ الْبَزَّازُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُحْسِنِ التَّنُوخِيُّ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ رَأَى فِي مَنَامِهِ كَأَنَّهُ صَارَعَ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ، فَصَرَعَ عَبْدَ الْمَلِكِ، وَسَمَرَهُ فِي الأَرْضِ بِأَرْبَعَةِ أَوْتَادٍ، فَأَرْسَلَ رَاكِبًا إِلَى الْبَصْرَةِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَلْقَى ابْنَ سِيرِينَ ويقص الرؤيا عَلَيْهِ وَلا يَذكر لَهُ مَنْ أَنْفَذَهُ، وَلا يُسَمِّيَ عَبْدَ الْمَلِكِ، فَسَارَ الرَّاكِبُ حَتَّى أَنَاخَ بِبَابِ ابْنِ سِيرِينَ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْمَنَامَ، فَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: مَنْ رَأَى هَذَا؟ قَالَ: أَنَا رَأَيْتُهُ فِي رُجَلٍ بَيْنَهُ وَبَيْنِي عَدَاوَةٌ، قَالَ: لَيْسَ هَذِهِ رُؤْيَاكَ، هَذَهِ رُؤْيَا ابْنِ الزُّبَيْرِ أَوْ عَبْدِ الْمَلِكِ أَحَدُهُمَا فِي الآخَرِ، فَسَأَلَهُ الْجَوَابَ، فَقَالَ: مَا أُفَسِّرُهَا أَوْ تَصْدُقَنِي فَلَمْ يَصْدُقْهُ، فَامْتَنَعَ مِنَ التَّفْسِيرِ، فَانْصَرَف الرَّاكِبُ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ// فَأَخْبَرَهُ بِمَا جَرَى، فَقَالَ: ارْجِعْ وَاصْدُقْهُ أَنِّي رَأَيْتُهَا فِي عَبْدِ الْمَلِكِ، فَرَجَعَ الراكب إِلَى ابْنِ سِيرِينَ بِرِسَالَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَصَدَّقَهُ فَقَالَ لَهُ: قُلْ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، عَبْدُ الْمَلِكِ يَغْلِبُكَ عَلَى الأَرْضِ، وَيَلِي هَذَا الأَمْرَ مِنْ وَلَدِهِ لِظَهْرِهِ أَرْبَعَةٌ بِعَدَدِ الأَوْتَادِ التي سمرتها فِي الأَرْضِ.
فَلَمَّا مَاتَ مَرْوَانُ وَلِيَ عَبْدُ الْمَلِكِ، وَأَقْبَلَ فَقَتَلَ مُصْعَبَ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَبَعَثَ الْحَجَّاجَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ فَحَصَرَهُ وَجَرَى لَهُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.
قال علماء السير: قتل ابن الزبير يوم الثلاثاء سابع عشر جمادى الأول، وصلبه الحجاج على الثنية التي بالحجون، ثم أنزله فرماه في مقابر اليهود، وكتب إلى عبد الملك يخبره، فكتب إليه يلومه، ويقول: ألا خليت أمه تواريه، فأذن لها فوارته.
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا أحمد بن معروف، قال: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَهِمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، وَعَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَأَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، قَالُوا: حَدَّثَنَا الأَسْوَدُ بْنُ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا نَوْفَلُ بْنُ أَبِي عَقْرَبٍ:(6/138)
أَنَّ الْحَجَّاجَ لَمَّا قُتِلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ صَلَبَهُ عَلَى عَقَبَةِ الْمَدِينَةِ، فَمَرَّ بِهِ ابْنُ عُمَرَ، فوقف فقال: السلم عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ نَهَيْتُكَ عَنْ عَدُوِّ اللَّهِ [1] ، أَمَا وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ أنك [كُنْتَ] [2] صَوَّامًا قَوَّامًا، ثُمَّ اسْتَنْزَلَهُ الْحَجَّاجُ فَرَمَى بِهِ فِي مَقَابِرِ الْيَهِودِ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى أُمِّهِ وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرُهَا أَنْ تَأْتِيَهُ، فَأَبَتْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا: لَتَأْتِيَنِّي أَوْ لأَبْعَثَنَّ إِلَيْكِ مَنْ يَسْحَبُكِ بِقُرُونِكِ حَتَّى يَأْتِيَنِي بِكِ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ: إِنِّي وَاللَّهِ لا آتِيكَ حَتَّى تَبْعَثَ إِلَيَّ من يسحبني بقروني، فأتاه رسوله فأخبره، فقال: يا غلام، ناولني سبتيتي [3] ، فَنَاوَلَهُ نَعْلَيْهِ فَانْتَعَلَ ثُمَّ خَرَجَ يَتَوَذَّفُ [4] حَتَّى أَتَاهَا، فَدَخَلَ عَلَيْهَا فَقَالَ: كَيْفَ رَأَيْتِنِي صَنَعْتُ بِعَدُوِّ اللَّهِ؟ قَالَتْ:
رَأَيْتُكَ أَفْسَدْتَ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ وَأَفْسَدَ عَلَيْكَ آخِرَتَكَ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُعَيِّرُهُ فَتَقُولُ: يَا ابْنَ ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ، وَقَدْ كُنْتُ والله ذات النِّطَاقَيْنِ/ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَنِطَاقُ الْمَرْأَةِ الَّتِي لا تستغني عنه، وأما النطاق الآخر فإنّي كنت أَرْفَعُ فِيهِ طَعَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَعَامَ أَبِي مِنَ النَّمْلِ وَغَيْرِهِ، فأي ذلك ويل أمك عيّرته به، أما إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْ ثَقِيفَ رَجُلانِ: كذاب، ومبير» . فأما الكذاب فقد رَأَيْنَاهُ ابْنَ أَبِي عُبَيْدٍ، وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَأَنْتَ ذَلِكَ، فَوَثَبَ فَانْصَرَفَ عَنْهَا وَلَمْ يُرَاجِعْهَا.
أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الْحَافِظُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ [4] الْبَاقِلاوِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَاذَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا دَعْلَجٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ: [5] دَخَلَتْ عَلَيَّ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ بَعْدَ قَتْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبْيَرِ، فَقَالَتْ: بَلَغَنِي أَنَّهُمْ عَلَّقُوا عَبْدَ اللَّهِ مُنَكَّسًا، وَعَلَّقُوا مَعَهُ هِرَّةً، وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي لا أَمُوتُ حَتَّى يُدْفَعَ إِلَيَّ فَأُغَسِّلُهُ وَأُكَفِّنُهُ وَأُحَنِّطُهُ ثُمَّ أَدْفِنُهُ، فَمَا لَبِثَتْ حَتَّى جَاءَ كِتَابُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَنْ يُدْفَعَ إِلَى أَهْلِهِ، فَأَتَيْتُ بِهِ أسماء فغسلته وكفنته وحنطته ثم دفنته.
__________
[1] في ت: «نهيتك عن هذا» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] السّبت: كل جلد مدبوغ، ويقال: نعال سبتية: لا شعر عليها.
[4] الوذف والوذفان: مشية فيها اهتزاز وتبختر، والتوذف: الإسراع.
[5] في ت: «أحمد بن الحسن» .(6/139)
وَعَنْ أَيُّوبَ فَأَحْسَبُهُ [1] قَالَ: فَمَا عَاشَتْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى مَاتَتْ.
قال إبراهيم الحربي: قتل الحجاج ابن الزبير وقطعه قطعا، فغسلته أسماء أمه- وكانت مكفوفة- فكانت تغسله قطعة قطعة، ويوضع في الأكفان.
أَخْبَرَنَا ابن ناصر، قال: أخبرنا عبد القادر بن مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيم بْن عُمَرَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو يَعْقُوبَ إِسْحَاقُ بْنُ سَعْدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُمَحِيِّ، عَنْ أُمِّهِ، قَالَتْ:
دَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْمَسْجِدَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ قَدْ قُتِلَ وَصُلِبَ، فَقِيلَ لَهُ: هَذِهِ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ فِي/ الْمَسْجِدِ فَمَالَ إِلَيْهَا وَقَالَ: اصْبِرِي فَإِنَّ هَذِهِ الْجُثَثَ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ وَإِنَّمَا الأَرْوَاحُ عِنْدَ اللَّهِ، فَقَالَتْ: وَمَا يَمْنَعُنِي مِنَ الصَّبْرِ وَقَدْ أُهْدِيَ رَأْسُ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا إِلَى بَغِيٍّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ.
أَخْبَرَنا عَبْدُ الْحَقِّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو بكر ابن بشران، قال: حدثنا الدار الدَّارَقُطْنِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْبَغَوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُجَاهِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا رِيَاحٌ النُّوبِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ مَوْلَى آلِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ تَقُولُ لِلْحَجَّاجِ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّمَ احْتَجَمَ فَدَفَعَ دَمَهُ إِلَى ابْنِي فَشَرِبَهُ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: كَرِهْتُ أَنْ أَصُبَّ دَمَكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تُمْسِكِ النَّارَ» وَمَسَحَ عَلَى رَأْسِهِ، وَقَالَ: «وَيْلُ النَّاسِ مِنْكَ وَوَيْلٌ لَكَ مِنَ النَّاسِ» . أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عبد الله الزغواني، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْن عَلِيِّ بْن الْمَأْمُونِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّه بْن مُحَمَّد بْن [حبابة، قال: أخبرنا يحيى بن
__________
[1] كذا في الأصول.(6/140)
أَحْمَدَ بْنِ] [1] صَاعِدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ الْعَلاءِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، قَالَ:
أَوْصَى إِلَى الزُّبَيْرِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّمَ سَبْعَةٌ، فَكَانَ يُنْفِقُ مِنْ مَالِهِ، وَيَحْبِسُ عَلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ، مِنْهُمْ عُثْمَانُ، وَالْمِقْدَادُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ. قَالَ: وَأَوْصَى إِلَى عبد الله بن الزبير عائشة وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، وَقَالَ: اعْتَدَّ بِمَكْرُمَتَيْنِ لَمْ يَعْتَدَّ بِهِمَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، وَأَوْصَتْ لَهُ عَائِشَةُ بِحُجْرَتِهَا وَاشْتَرَى حُجْرَةَ سَوْدَةَ، فَصَارَتْ لَهُ حُجْرَتَانِ مِنْ حُجَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(6/141)
ثم دخلت سنة أربع وسبعين
فمن الحوادث فيها أن عبد الملك عزل طارق بن عمرو عن المدينة واستعمل عليها الحجاج بن يوسف [1] :
فانصرف الحجاج إلى المدينة واليا عليها في صفر، فأقام بها ثلاثة/ أشهر يعبث بأهلها ويتعنتهم ويقول: قتلتم أمير المؤمنين، وبنى بها مسجدا في بني سلمة، فهو ينسب إليه. واستخف فيها بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فختم في أعناقهم.
ودعا سهل بن سعد، فقال: ما منعك أن تنصر عثمان؟ قال: قد فعلت. قال:
كذبت، ثم، أمر به فختم في عنقه برصاص. وختم في عنق أنس بن مالك، وكلمه بالقبيح.
فلما جاءه كتاب عبد الملك بولاية العراقين أعطى البشير ثلاثة آلاف دينار وهو يقول: الحمد للَّه الذي أخرجني منها.
وفي هذه السنة استقضى عبد الملك أبا إدريس الخولاني.
وفيها: نقض الحجاج [2] بنيان الكعبة الذي كان بناه ابن الزبير، وأخرج الحجر منها وأعادها إلى بنيانها الأول.
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 195، والبداية والنهاية 9/ 3.
[2] تاريخ الطبري 6/ 195، والبداية والنهاية 9/ 4.(6/142)
وفيها ولى عبد الملك المهلب لحرب الأزارقة [1] .
وذلك أنه لما صار بشر إلى البصرة كتب إليه عبد الملك: أما بعد: فابعث المهلب بن أبي صفرة في أهل مصر إلى الأزارقة، ولينتخب من أهل مصر ووجوههم وفرسانهم، فإنه أعرف بهم، وخله ورأيه في الحرب، فإني أوثق شيء بتجربته ونصيحته للمسلمين، وابعث من أهل الكوفة بعثا كثيفا، وابعث عليهم رجلا معروفا شريفا، ثم انهض بأهل المصرين واتبعوهم أي وجه توجهوا.
ففعل ذلك، فلما تراءى العسكران برامهرمز لم يلبث الناس إلا عشرا حتى أتاهم نعي بشر، وتوفي بالبصرة.
وقد ذكرنا في رواية: أن بشرا توفي في السنة التي قبلها.
وفي هذه السنة عزل عبد الملك بكير بن وشاح، وولى أمية بن خالد بن أسد.
وفيها: حج بالناس الحجاج وهو على مكة والمدينة، وكان ولى قضاء المدينة عبد الله بن قيس بن مخرمة، وكان على الكوفة والبصرة بشر بن مروان، هذا في رواية.
وقد ذكرنا أنه توفي في السنة التي قبلها.
وكان على خراسان أمية بن عبد الله/ بن خالد، وعلى قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
456- رافع بن خديج بن رافع بن عدي بن زيد، أبو عبد الله [2] :
شهد أحدا والمشاهد بعدها مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورمي بسهم في ثندوته [3] يوم أحد،
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 195.
[2] طبقات خليفة 79، والتاريخ الكبير 3/ 1024، والمعارف 306، والجرح والتعديل 3/ 2150، والاستيعاب 2/ 479، وأسد الغابة 2/ 150، وتاريخ الإسلام 3/ 153، وسير أعلام النبلاء 3/ 181، وشذرات الذهب 1/ 1994، والبداية والنهاية 9/ 4.
[3] ويروى: «ترقوته» والثندوة: لحم الثدي، وقال ابن السكيت: هي الثندوة للحم الّذي حول الثدي. وقال غيره: الثندوة للرجل، والثدي للمرأة.(6/143)
فأتى رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم، فقال: أنزع السهم، فقال: «إن شئت نزعت السهم، والقطبة جميعا، وإن شئت نزعت السهم وتركت القطبة، وشهدت لك يوم القيامة أنك شهيد» . قال:
انزع القطبة واشهد لي. ففعل [1] ، فانتقض عليه في أول هذه السنة، فمات منه بالمدينة وهو ابن ست وثمانين سنة.
457- سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الله بن ثعلبة بن عبيد بن الأبجر، وهو خدرة بن عوف بن الحارث بن الخزرج، أبو سعيد الخدري [2] :
كان من أفاضل الأنصار، استصغر يوم أحد، فرد ثم خرج فيمن يتلقى رَسُول اللَّهِ صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ حين رجع من أحد، فنظر إليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: «سعد بن مالك» .
قال: قلت: نعم بأبي وأمي، ودنوت منه فقبلت ركبته، فقال: «آجرك الله في أبيك» . وكان قتل يومئذ شهيدا.
ثم شهد أبو سعيد الخدري الخندق وما بعدها، وورد المدائن مع علي بن أبي طالب لما حارب الخوارج بالنهروان. وروى عنه من الصحابة: جابر بن عبد الله، و [عبد الله] [3] بن عباس.
أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْقَزَّازُ [4] ، قال: أخبرنا أبو بكر [أحمد بن علي] [5] قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ السَّبَخِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أبي سفيان، عن أشياخه، قال:
__________
[1] الحديث في مسند أحمد 6/ 378، والمعجم الكبير للطبراني 4242.
[2] طبقات خليفة 96، والتاريخ الكبير 4/ 1910، والجرح والتعديل 4/ 406، وحلية الأولياء 1/ 369، وتاريخ بغداد 1/ 180، والاستيعاب 2/ 602، 4/ 1671، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 6/ 110، وتاريخ الإسلام 3/ 220، وسير أعلام النبلاء 3/ 68، وتذكرة الحفاظ، ومرآة الجنان 1/ 155.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] في الأصل: «الجزاز» خطأ. والتصحيح من ت.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(6/144)
لَمْ يَكُنْ [1] أَحَدٌ مِنْ أَحْدَاثِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَ مِنْ أَبِي/ سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ.
قَالَ أَبُو مُوسَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى: مَاتَ أَبُو سَعِيدٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ.
458- سلمة الأكوع، واسم الأكوع سنان بن عبد الله بن قشير: [2]
غزا مع رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ سبع غزوات، وشهد الحديبية، وبايعه تحت الشجرة، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة فغزا معه سبع غزوات، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فغزا معه فقتل سبعة [أهل] [3] أبيات:
أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي، قَالَ: أَخْبَرَنَا الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا ابن مَعْرُوفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَهِمِ، قَالَ: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، قَالَ [4] :
خَرَجْتُ أُرِيدُ الْغَابَةَ فَلَقِيتُ غُلامًا لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ:
أَخَذْتُ لِقَاحَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: قُلْتُ: فَمَنْ أَخَذَهَا؟ قَالَ: غَطْفَانُ. قَالَ: فَانْطَلَقْتُ فَنَادَيْتُ: يَا صَبَاحَاهُ يَا صَبَاحَاهُ حَتَّى أَسْمَعْتُ مَنْ بَيْنَ لابَتَيْهَا. ثُمَّ مَضَيْتُ فَاسْتَنْقَذْتُهَا مِنْهُمْ.
قَالَ: وَجَاءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في النَّاسِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الْقَوْمَ عِطَاشٌ، أَعْجَلْنَاهُمْ أَنْ يَسْتَقُوا لِشِفَتِهِمْ، فَقَالَ: «يَا ابْنَ الأَكْوَعِ، مَلَكْتَ فَأَسْجِحْ، إِنَّهُمُ الآنَ فِي غَطْفَانَ يُقْرَوْنَ» . قَالَ: وَأَرْدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم [خلفه] [5] .
__________
[1] «يكن» : ساقطة من ت.
[2] طبقات ابن سعد 4/ 2/ 38، طبقات خليفة 111، والتاريخ الكبير 4/ 1987، والمعارف 323، والجرح والتعديل 4/ 729، والاستيعاب 2/ 639، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 6/ 232، أسد الغابة 2/ 333، وتاريخ الإسلام 3/ 158، وسير أعلام النبلاء 3/ 326، والإصابة 2/ 3389.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من ابن سعد.
[4] الخبر في طبقات ابن سعد 4/ 2/ 38، 39.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(6/145)
قَالَ ابْنُ سَعْدٍ [1] : وَأَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ مَسْعَدَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ النَّبِّيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَدْوِ فَأَذِنَ لَهُ.
قَالَ [2] : وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عبد الْعَزِيزِ بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ، قَالَ:
تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ، وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً.
459- عمرو بن ميمون الأودي [3] :
روى عن عمر، وعلي [4] ، وابن مسعود، ومعاذ، وأبي أيوب، وأبي مسعود، وعبد الله بن عمر، وأبي هريرة، وابن عباس.
وكان من الصالحين إذ أري [5] ذكر الله عز وجل، وحج ستين حجة.
460- محمد/ بن حاطب بن الحارث، أبو القاسم الجمحي [6] :
وهو أول من سمي في الإسلام بمحمد بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وولد في السفينة حين ذهبوا إلى النجاشي، ومسح رسول الله صلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم علي رأسه وتفل في فيه ودعا له بالبركة.
روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفي بمكة في هذه السنة [7] .
__________
[1] طبقات ابن سعد 4/ 2/ 39.
[2] طبقات ابن سعد 4/ 2/ 41.
[3] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 80، وتهذيب التهذيب 8/ 109.
[4] لم تذكر المراجع أنه روى عن علي، بل أورده ابن سعد ضمن الطبقة التي لم ترو عن علي.
[5] كذا في الأصلين، وفي ابن سعد والتهذيب: «إذ رئي» .
[6] الإصابة 7767، وشذرات الذهب 1/ 882.
[7] في نسخة ترخانة (ت) : «تم المجلد الثامن، والثلث الأول، بسم الله الرحمن الرحيم» .(6/146)
ثم دخلت سنة خمس وسبعين
فمن الحوادث فيها ضرب عبد الملك الدنانير والدراهم [1]
وقد روينا أن أول من ضرب الدراهم آدم عليه السلام.
وقد وجدوا دراهم ضرب عليها اسم أردشير بن بابك قبل الإسلام بأكثر من أربعمائة سنة، فضربها عبد الملك ونقش عليها. وكانت مثاقيل الجاهلية التي ضرب عليها عبد الملك اثنين وعشرين قيراطا إلا حبة بالشامي، وكانت العشرة وزن سبعة.
وقيل: ضربها سنة ست وسبعين.
أَنْبَأَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الملك، قَالَ: أَنْبَأَنَا محمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا أبو الحسين بْنِ بِشْرَانَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنِ الصواف، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن خلف، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثني هارون بن محمد، قال: حدثنا زبير [2] ، عن عبد الرحمن بن المغيرة الجزامي، عن ابن أبي الزناد، عن أبيه [3] :
أن عبد الملك أول من ضرب الدنانير والدراهم في سنة خمس وسبعين.
وقال وكيع: وأخبرني محمد بن الهيثم، قال: سمعت ابن بكير يقول: سمعت مالك بن أنس يقول:
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 256.
[2] في ت: «عن زبير» .
[3] تاريخ الطبري 6/ 256.(6/147)
أول من ضرب الدنانير عبد الملك، وكتب عليها القرآن.
قال وكيع: وأخبرني ابن أبي خيثمة، عن مصعب بن عبد الله، قال: وكان وزن الدراهم والدنانير في الجاهلية وزنها اليوم في الإسلام مرتين تدور بين العرب، وكان ما ضرب منها ممسوحا غليظا قصيرا، وليس فيها كتاب حتى كتبها عبد الملك، فجعل في وجه: قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ، 112: 1 وفي الوجه الآخر: لا إله إلا/ الله. وطوقها بطوق فضة وكتب فيه: ضرب هذا الدرهم بمدينة كذا، وفي الطرف الآخر: محمد رسول الله أرسله ... بِالْهُدى [وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ] 9: 33 [1] .
أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: حدثنا محمد بن عبيد الله البقال، قال: حدثنا أَبُو الحسين بْن بشران، قَالَ: أَخْبَرَنَا عثمان بن أحمد الدقاق، قال: حدثنا حنبل بن إسحاق، قال: حدثنا هارون بن معروف، قال: حدثنا سفيان، قال: قال أبو سعد:
الحجاج أول من ضرب الدراهم البيض، وكتب فيها: «قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ» 112: 1. قال:
فقالوا: قاتله الله، أي شيء [هذا] يحمل الناس على أن يأخذه الجنب والحائض.
قال هارون: وقال سفيان: أول من ضرب الدراهم السود زياد، وأول من ضرب الدنانير عبد الملك بن مروان.
قال إبراهيم النخعي: جعل عمر بن الخطاب وزن عشرة دراهم ستة دنانير، فلما ولي زياد جعل وزن عشرة سبعة.
روى أبو القاسم بن زنجي الكاتب، قال: سمعت وكيعا يقول: كان القبط يكتبون على القراطيس: بسم الأب والابن وروح القدس، وكذلك على الدراهم، فوقف على ذلك عبد الملك بن مروان فأمر بتغييرها، وأن يكتب عليها من القرآن وغيره. وأدخلت بلاد الروم على حسب ما كانت تدخل، فلما رأى ملك الروم النقش مخالفا لما كان عليه سأل عنه، فترجم له، فأنكر وأهدى إلى عبد الملك هدية وكتب إليه يسأله أن يجري الأمر في القراطيس على ما كان عليه، فرد الهدية، وأبى ذلك، فبعث إليه ملك الروم
__________
[1] سورة الصف، سورة: 9.
وما بين المعقوفتين: في ت: «ومكانها في الأصل: «الآية» .(6/148)
يتوعده، فقطع الدنانير عن بلده، فبعث إليه إن تعامل بها المسلمون بعد هذا فافعل، وضرب الدنانير عبد الملك، فأما الدراهم فإنها كانت ثلاثة أصناف: الوافية، وهي النعلية، وزن الواحد مثقال. والصنف الآخر الجزية، وزن الواحد نصف مثقال، وكان يتعامل بها في المشرق. والصنف الثالث الطبرية، وزن العشرة منها ستة مثاقيل، فجمع عبد الملك الثلاثة أصناف عشرة عشرة، فصارت ثلاثين درهما عددا، وزنها واحد/ وعشرون مثقالا، فصير السبعة عشرة.
ومن الحوادث غزوة محمد بن مروان الصائفة حين خرجت الروم.
[ولاية الحجاج الكوفة وخطبته في أهلها] [1] .
وفيها: ولى عبد الملك يحيى بن الحكم بن أبي العاص المدينة، وولى الحجاج بن يوسف العراق دون خراسان وسجستان. فقدم الحجاج الكوفة بعد وفاة بشر بن مروان في اثني عشر راكبا [على النجائب] [2] حتى دخل الكوفة، فجأة، وقد كان بشر بعث المهلب إلى الحرورية فبدأ الحجاج بالمسجد فدخله، ثم صعد المنبر وهو متلثم بعمامة خز حمراء، فلما اجتمع الناس هموا به [فكشف عن وجهه] [3] وقال [4] :
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
قال مؤلف الكتاب: قد رويت لنا هذه الحالة مختلفة ونحن نذكرها بطرقها.
أخبرنا ابن المبارك الأنماطي، قال: أخبرنا أبو الحسين، ابن عبد الجبار الصيرفي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْد اللَّهِ الْحُسَيْن بْن مُحَمَّد بْن الحسن النصيبي، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيل بْن سَعِيد بْن سويد.
وأنبأنا علي بن عبيد الله، عن عبد الصمد بن المأمون، عن إسماعيل بن سعيد،
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] من قصيدة لسحيم بن وثيل الرياحي، رواها الأصمعي في الأصمعيات 73.(6/149)
قال: أخبرنا أبو بكر الأنباري، قَالَ: حَدَّثَني أبي، قَالَ: حدثنا أحمد بن عبيد الله، قال:
حدثنا محمد بن يزيد بن ريان الكلبي، عن عبد الملك بن عمير، قال:
لما اشتدت شوكة أهل العراق وطال وثوبهم بالولاة يحصبونهم ويقصرون بهم أمر عبد الملك، فنادى الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فخطبهم ثم قال: أيها الناس، إن العراق قد علا لهيبها، وسطع وميضها، وعظم الخطب فيها، فجمرها ذكي وشهابها وري [1] ، فهل من رجل ينتدب لهم ذي سلاح عتيد، وقلب شديد، فيخمد نيرانها، ويبيد شبانها، فسكت الناس، فوثب الحجاج بن يوسف، وقال: أنا يا أمير المؤمنين، قال: ومن أنت؟ قال: الحجاج بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن مسعود صاحب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعظيم القريتين، قال له: اجلس فلست هناك، ثم/ أطرق عبد الملك مليا، ثم رفع رأسه، وقال: من للعراق؟ فسكت الناس، فوثب الحجاج وقال: أنا يا أمير المؤمنين، قال: ومن أين أنت؟ قال: من قوم رغبت في مناكحتهم قريش ولم يقيت منهم، وإعادة الكلام مما ينسب صاحبه إلى العي، ولولا ذلك لأعدت الكلام الأول، فقال له: اجلس فلست هناك. ثم أطرق عبد الملك مليا ورفع رأسه وقال: من لأهل العراق؟ فسكت الناس، فقال: ما لي أرى الليوث قد أطرقت، ولا أرى أسدا يزأر نحو فريسته، فسكت الناس، فوثب الحجاج فقال: أنا للعراق، يا أمير المؤمنين، قال: وما الذي أعددت لأهل العراق؟
قال: ألبس لهم جلد النمر، ثم أخوض الغمرات، وأقتحم الهلكات، فمن نازعني طلبته، ومن لحقته قتلته بعجلة وريث، وتبسم وازورار، وطلاقة واكفهرار، ورفق وجفاء، وصلة وحرمان، فإن استقاموا كنت لهم وليا حفيا، وإن خالفوا لم أبق منهم أحدا، فهذا ما أعددت لهم يا أمير المؤمنين، ولا عليك أن تجربني، فإن كنت للطلى قطاعا وللأرواح نزاعا، وللأموال جماعا، وإلا فاستبدل بي فإن الرجال كثير.
فقال عبد الملك: أنت لها، ثم التفت إلى كاتبه، وقال: اكتب عهده، ولا تؤخره، واعطه من الرجال والكراع والأموال ما سأل.
__________
[1] ورت النار: اتقدت.(6/150)
قال عبد الملك بن عمير: فبينا نحن جلوس في المسجد الأعظم بالكوفة إذ أتانا آت فقال: هذا الحجاج بن يوسف [وقد قام] [1] أميرا على العراق، فاشرأب الناس نحوه، وأفرجوا له إفراجة عن صحن المسجد، فإذا نحن به يتنهنس في مشيته عليه عمامة حمراء متلثما بها متنكبا قوسا عربيا يؤم المنبر فما زلت أرمقه ببصري حتى صعد المنبر فجلس عليه وما تحدر اللثام عن وجهه، وأهل الكوفة يومئذ لهم حال حسنة وهيئة جميلة، وعز ومنعة، يدخل الرجل منهم المسجد معه عشرة أو عشرون رجلا من مواليه وأتباعه/ عليهم الخزوز والقوهية، وفي المسجد رجل يقال له عمير بن ضابىء البرجمي، فقال لمحمد بن عطارد التميمي: هل لك أن أحصبه لك، قال: لا حتى نسمع كلامه، فقال: لعن الله بني أمية حيث يستعملون علينا مثل هذا، ولقد ضيع العراق حيث يكون مثل هذا أميرا عليه، والله لو أن هذا كله كلام ما كان شيئا.
والحجاج ينظر يمنة ويسرة، حتى إذا غص المسجد بالناس، قال: يا أهل العراق، إني لأعرف قدر اجتماعكم، هل اجتمعتم؟ فقال رجل: قد اجتمعنا أصلحك الله، فسكت هنيهة لا يتكلم. فقال الناس: ما يمنعه من الكلام إلا العي والحصر [2] ، فقام الحجاج فحسر لثامه، وقال: يا أهل العراق، أنا الحجاج بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن مسعود، ثم قال: [2]
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا [3] ... متى أضع العمامة تعرفوني
صليت العود من سلفي نزار ... لنصل السيف وضاح الجبين
وماذا يبتغي الشعراء مني ... وقد جاوزت رأس الأربعين
أخو خمسين مجتمع لشدي ... ونجدة في مداومة الشؤون
وأني لا يعود إلي قرني ... غداة العين إلا أي حين
قال أبو بكر: قال أبي: والشعر لسحيم بن وثيل الرياحي، تمثل به الحجاج- والله
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] الحصر: ضرب من العيّ، وقيل: حصر لم يقدر على الكلام.
[3] في ت: «الثلايا» .(6/151)
يا أهل العراق إني لأرى رءوسا قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها، والله لكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى:
هذا أوان الشد فاشتدي زيم ... قد لفها الليل بسواق حطم
ليس براعي إبل ولا غنم ... ولا بجزار على ظهر وضم
[وقال] :
قد لفها الليل بعصلبي ... وشمرت عن ساق سمري
أروع خراج من الدوي ... مهاجر ليس بأعرابي/
ما علتي وأنا شيخ رود ... والنفوس فيها وتر على عود [1]
مثل ذراع البكر أو أشد ... وتروى مثل حران العود [2]
والله يا أهل العراق ما يغمز [3] جانبي كتغماز التين، ولا يقعقع لي بالشنان ولقد فرزت [4] عن ذكاء وفتشت عن تجربة، وأجريت من الغاية، وإن أمير المؤمنين نثر كنانته [5] فعجم عيدانها عودا عودا، فوجدني أمرها عودا [6] ، وأشدها مكسرا [7] ، فوجهني إليكم، فرماكم بي.
يا أهل الكوفة، يا أهل الشقاق والنفاق، ومساوىء الأخلاق، فإنكم طالما أوضعتم في أودية الفتنة، اضطجعتم في منام الضلال، وسننتم سنن الغي، وأيم الله لألحونكم لحو العود، ولأعصبنكم عصب السلمة ولأضربنكم ضرب غريبة الإبل، إني والله لا أحلف إلا بررت، ولا أعد إلا وفيت، وإياي وهذه الزرافات والجماعات، وقال وما يقول، وكان وما يكون وما أنتم وذاك.
يا أهل العراق، إنما أنتم أهلي قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً [مِنْ كُلِّ 16: 112
__________
[1] في الأصل: «والقوس فيها وتر عود» . وما أوردناه من ت.
[2] في ت: «حران العدد» .
[3] في المسعودي والطبري: «ما أغمز» .
[4] في الأصل: «ولقد فرغت» وما أوردناه من ت والمسعودي.
[5] في الأصل: «نثل» وما أوردناه من ت، والطبري.
[6] في المسعودي: «أمرها طعما» .
[7] في الطبري: «أصلبها مكسرا» . وفي المسعودي: «أشدها مكسرا» .(6/152)
مَكانٍ] فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ 16: 112 [1] فأتاها وعيد القرآن من ربها، فاستوثقوا واعتدلوا ولا تميلوا، واسمعوا وأطيعوا وتتابعوا وبايعوا [2] ، واعلموا أنه ليس مني الإكثار، لا الفرار ولا النقار، وإنما [هو] [3] انتضاء هذا السيف، ثم لا يغمد [في] الشتاء [ولا] الصيف حتى يدل [4] الله لأمير المؤمنين عزكم، ويقيم له أودكم وصفوكم [5] ، ثم أني وجدت الصدق من البر، ووجدت البر من الجنة، ووجدت الكذب من الفجور، ووجدت الفجور في النار، وإن أمير المؤمنين أمرني بإعطائكم أعطياتكم، وإشخاصكم لمجاهدة عدوكم وعدو أمير المؤمنين، وقد أمرتكم بذلك وأجلتكم ثلاثا [6] ، وأعطيت الله عهدا يؤاخذني به ويستوفيه مني، لئن تخلف رجل منكم بعد قبض عطائه لأضربن عنقه، / ولأنتهبن ماله، ثم التفت إلى أهل الشام، فقال: يا أهل الشام، أنتم الجند والبطانة والعشيرة، والله لريحكم أطيب من ريح المسك الأذفر، إنما أنتم كما قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها في السَّماءِ 14: 24 [7] .
ثم أقبل على أهل العراق، فقال: يا أهل العراق، لريحكم أنتن من ريح الأبخر [8] ، وإنما أنتم كما قال الله تعالى: وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها من قَرارٍ 14: 26 [9] .
اقرأ كتاب أمير المؤمنين يا غلام، فقال القارئ: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين إلى من بالعراق، [من المؤمنين
__________
[1] الآية الكريمة 112 من سورة النحل ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] في ت: «وتبايعوا» ، وفي المسعودي: «وشايعوا» .
[3] ما بين المعقوفتين: من هامش الأصل، وت.
[4] في المسعودي: «حتى يقيم الله» .
[5] في الأصل: «صغركم» ، وفي المسعودي: «صعبكم» .
[6] في المسعودي: «أجلت لكم» .
[7] سورة: إبراهيم. الآية: 24.
[8] البخر: النتن يكون في الفم وغيره، وهو أبخر وهي بخراء.
[9] سورة: إبراهيم، الآية: 26.(6/153)
والمسلمين] [1] ، سلام عليكم، فإنّي أحمد الله عليكم الذي لا إله إلا هو.
فسكتوا، فقال الحجاج من فوق المنبر: اسكت يا غلام، فسكت القارئ، فقال: يا أهل الشقاق، و [يا أهل] [2] النفاق، ومساوىء الأخلاق، أيسلم عليكم أمير المؤمنين فلا تردون عليه السلام، هذا أدب ابن أبيه [3] .
قال مؤلف الكتاب [4] : كذا في هذه الرواية، والصواب ابن أذينة [5] . وتأتي في طريق آخر.
والله لئن بقيت لكم لأؤدبنكم أدبا سوى أدبه، وليستقيمن [6] لي أو لأجعلن لكل أمرئ منكم في جسده شغلا، اقرأ كتاب أمير المؤمنين يا غلام، فقال القارئ:
بسم الله الرحمن الرحيم، فلما بلغ موضع السلام صاحوا: وعلى أمير المؤمنين السلام ورحمة الله وبركاته.
ثم نزل فدخل دار الإمارة وحجب الناس ثلاثة أيام، وأذن لهم في اليوم الرابع، فدخل عمير بن ضابىء، فقال: أصلح الله الأمير، إني شيخ كبير وقد خرج اسمي في هذا البعث، ولي ابن هو على الحرب والأسفار أقوى مني وأشجع عند اللقاء، فإن رأى الأمير أن يجعله مكاني فعل، فقال: انصرف أيها الشيخ راشدا، وابعث ابنك بديلا، فلما ولى قال له عنبسة بن سعيد بن العاص: أيها الأمير، أتعرف هذا؟ قال: لا والله، قال: هذا عمير بن ضابىء الذي أراد أبوه [7] أن يفتك بأمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، فلم/ يزل محبوسا في حبسه حتى أصابته الدبيلة، فمات. ثم جاء هذا فوطئ أمير المؤمنين عثمان وهو مقتول فكسر ضلعا من أضلاعه، وأبوه الذي يقول فيما يقول:
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] كذا في الأصل، وفي ت: «أدب ابن أدبه» وفي الطبري، «هذا أدب ابن نهبة» ، وفي المسعودي: «ابن سمية» وفي نسخة أخرى: «ابن نهية» .
[4] في ت: «قال المصنف» .
[5] في ت: «ابن أديبة» .
[6] في الأصل: «وليستنقمن» .
[7] في الأصل: «أبيه» وما أوردناه من ت.(6/154)
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله [1]
فقال: علي بالشيخ، فلما أتى قال: أما يوم الدار فتشهده بنفسك، وأما في قتال الخوارج فتبعث بديلا، أما والله أيها الشيخ إن في قتلك لراحة لأهل المصرين، يا حرسي اضرب عنقه، فضربت عنقه.
قال: وسمع الحجاج صوتا فقال: ما هذا؟ قالوا: البراجم ينتظرون [2] عميرا، فقال: ارموا إليهم برأسه، فرمي إليهم برأسه فولوا هاربين.
قال [3] ، وكان ابن لعبد الله بن الزبير الأسدي قد سأله أن يشفع له إلى الحجاج أن يأذن في التخلف، فلما قتل عمير خرج ولم ينتظر الإذن، فقال ابن عبد الله بن الزبير في ذلك.
أقول لإبراهيم لما لقيته [4] ... أرى الأمر أمسى مفظعا متعصبا [5]
تجهز فإما أن تزور ابن ضابىء ... عميرا وإما أن تزور المهلبا
هما خطتا خسفا نجاؤك منهما ... ركوبك حوليا من الثلج أشهبا
وإلا فما الحجاج مغمد سيفه ... مدى الدهر حتى يترك الطفل أشيبا [6]
فأضحى [7] ولو كانت خراسان دونه ... يراها مكان السوق أو هي أقربا
وكم قد رأينا تارك الغزو ناكثا ... ينكث حنو السرج حتى تحنبا [8]
فلما اتصل الخيل والرجال بالمهلب تعجب [9] وقال: لقد ولي العراق رجل ذكر.
__________
[1] في المسعودي: «فعلت وأوليت البكاء حلائله» .
[2] «ينتظرون» : تكررت في ت.
[3] تاريخ الطبري 6/ 209.
[4] في الأصل: «رأيته» ، وما أوردناه من ت والطبري، والمسعودي.
[5] كذا في الأصول، وفي الطبري: «أمسى منصبا متشعبا» . والمسعودي: «أمسى مهلكا متعصبا» .
[6] البيت ساقط من الطبري والكامل. وجاء في المسعودي 3/ 37 بعد البيت الآتي.
[7] في الطبري: «فحال» .
[8] هذا البيت ساقط من المسعودي. وفي الطبري والكامل.
فكائن ترى من مكره العدو مسمن ... تحمم حنو السرج حتى تحنبا
[9] في ت: «عجب» .(6/155)
وقد رويت لنا هذه القصة بزيادة ونقصان.
أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قَالَ:
أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عبد الرحيم المازني، قال: حدثنا أَبُو علي الحسين بْن القاسم الكوكبي، قَالَ: حدثنا عثمان بن مصعب الجندي [1] ، قال: حدثنا عبد الحميد بن سلمة، قال: حدثني أبي، عن مجالد عن عبد الملك/ بن عمير الليثي قال:
كتب روح بن زنباع الجذامي إلى أهل الكوفة، أن أمير المؤمنين لما أمضه اضطرابكم واشتد بلاؤكم، وكثر توثبكم على الولاة تحصبونهم وتقصرونهم [2] ولا تنقادون جمع أهل بيته وأكابرهم ممن لهم البأس والنجدة والعز والعدد والظفر، فقال:
أيها الناس، إن العراق قد كدر ماؤها، واملولح عذبها، وعذب ملحها، وسطع لهبها، وبرق وميضها، وثار ضرامها واشتد شعابها، والتاث أفانينها، ودام بأسها، وعظم شررها، وكثر موقدها، فحرها ذكي وخطبها وبي، ومرعاها وخيم، قد صدرهم [3] الكبار، ولا يقيم درهم الصغار، فمن ينتدب لهم منكم بسيف قاطع، وفرس راتع، وسنان لامع، وجنان غير خاضع، فيخمد نيرانها، ويبيد شبانها، ويقصم كهولها، ويقتل جهولها حتى يعيش فقيرها، وينتفع بماله غنيها، ويستقر الآئب، ويرجع الغائب، ويحيى الخراج، ويداوى الجراح، وتصفو البلاد، ويسلس القياد، فقد دعوت سلبها، وجهرت لظالمها، وليتكلم رجل يقيم أودهم بسيف أدلب، أو خرج. فسكت الناس، فقام الحجاج بن يوسف، فقال: أنا للعراق يا أمير المؤمنين، قال: ومن أنت؟ قال: [أنا الليث المنضام الهزبر [4] المقصام] [5] : أنا الحجاج بن يوسف، قال: اجلس فلست هناك. ثم أطرق مليا، وقال: من للعراق، فقد أطرقت الليوث، ولست أرى أسدا يقصد نحو فريسته، فسكت الناس، فقام الحجاج بن يوسف الثقفي فقال: أنا للعراق يا أمير
__________
[1] في الأصل: «الحريري» . وما أوردناه من ت، وهو الصحيح.
[2] في الأصل: «وتقصرون بهم» . وما أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «حذرهم» ، وما أوردناه من ت.
[4] الهزبر: من أسماء الأسد.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(6/156)
المؤمنين، قال: ومن أنت؟ قال [1] : أنا الحجاج بن يوسف، معدن العفو والبوار. قال:
اجلس فلست هناك، ثم أطرق مليا فقال: من العراق، فقد قوي الضعيف، وخضع الشديد، فقام الحجاج فقال: أنا للعراق يا أمير المؤمنين.
فقال: يا ابن يوسف، لكل أمر آلة وقلائد، فما آلتك وقلائدك؟ قال: القتل والعفو، والمكاشفة والمداراة، والحرق [2] والرفق، والعجلة والريث، والإبراق والتبسم، والإرعاد والتنفس، والإبعاد والدنو، [والرفق] [3] والجفا طورا والزيارة والصلة آونة، والتجبر والتقمص أحيانا، والحرمان، والترهيب والترغيب ألوانا، ألبس جلد النمر، وسيفا منيعا، وتوضعا في/ تجبر وخوض غمرات الفنيق، ضحضاح الثمد عند الورود، فمن رمقني حددته، ومن لوى شدقه خدعته، ومن نازعني جذبته [4] ، ومن عض منقبة بددته، ومن تغير لونه قتلته، ومن دنا أكرمته، ومن نأى طلبته، ومن ما حكني [5] غلبته، ومن أدركته كسعته، فهذه آلتي وقلادتي، ولا عليك يا أمير المؤمنين أن تجربني، فإن كنت للأعناق قطاعا، وللأوصال جزاعا، وللأرواح نزاعا، وللخراج جماعا، ولك في [هذه] [6] الأشياء نفاعا، وإلا فاستبدل بي غيري، فإن الناس كثير، ومن يسد بهم الثلم قليل.
فقال عبد الملك: أنت لها للَّه أبوك فتناولها كيف شئت ثم التفت إلى كاتبه، فقال: اكتب له عهدا على العراق جميعا، وأطلق يده في السلاح والكراع والرجال والأموال، ولا تجعل له علة، وقد كتب عهده يوم الاثنين وهو خارج يوم السبت، فالزموا طاعته يا أهل الكوفة، واحذروا صولته.
فبينا نحن جلوس في المسجد الأعظم بالكوفة إذ أتانا آت، فقال: الحجاج بن يوسف قد قدم أميرا على العراق، فاشرأب الناس نحوه ينظرون إليه، ثم أفرجوا له
__________
[1] قال: اجلس فلست هناك ... قال: ومن أنت؟ قال: «ساقط من ت» .
[2] في الأصل: «الخوف» ، وما أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] «نازعني جذبته» . ساقط من ت.
[5] في الأصل: «ومن ضاحكني» .
[6] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(6/157)
إفراجة واحدة عن صحن المسجد، وإذا هم به يمشي، عليه عمامة حمراء قد تلثم بها وهو متنكب قوسا له عربية [1] وهو يؤم المنبر [2] ، قال: فما زلت أرميه ببصري حتى جلس [3] على المنبر ما يحدر لثامه، ولا ينطق حرفا، وأهل الكوفة يومئذ ذو حالة حسنة وهيئة جميلة، في عز ومنعة، فكان الرجل يدخل المسجد ومعه الخمسة والعشرة والعشرون من مواليه وأتباعه عليهم الخزوز والقوهية، وفي المسجد يومئذ عمير بن ضابىء البرجمي، وعبد الرحمن بن محمد الأشعث، ومحمد بن عمير بن حاجب بن زرارة الحنظلي، فابتدرنا عمير، فقال: أحصبه لكم، فقلنا: لا حتى نسمع ما يقول، فأبى عمير إلا أن يحصبه، فمنعناه، فقال: لعن الله بني أمية حيث يستعملون مثل هذا، وضيع والله العراق حيث صار مثل/ هذا عليها واليا، فو الله لو كان هذا كله كلاما ما كان شيئا.
والحجاج ساكت ينظر يمينا وشمالا، فلما رأى المسجد قد غص بأهله، قال: اجتمعتم، فلم يرد عليه أحد شيئا، فقال: كأني أرى قدر اجتماعكم، فقال رجل من القوم: قد اجتمعنا أصلح الله الأمير، فسكت هنيهة، فلما رأى القوم أنه لا يحير جوابا قال بعضهم لبعض: ما يمنعه من الكلام إلا العي، وأهووا بأيديهم إلى الحصى ليحصبوه بها، ففطن الحجاج فوثب قائما وقد أحاط بالمسجد مائتا طائل، ومائتا دارع، ومائتا جاشن، ومائتا سائف، ومائتا رامح، على الطائلة سويد بن عدية العجلي، وعلى الدارعة السكن بن يوسف الثعلبي، وعلى السائفة بدر بن مدركة اليشكري، وعلى البرامجة عطية بن حويرثة [4] الأصبحي، فكان مما راعهم ذلك وأفزعهم، فأومأ الحجاج إلى الطائلة أن اسكتوا فسكتوا، فقال: أفعلتموها يا أهل العراق ويا أهل العير الداجنة أنا الحجاج بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن عامر بن مسعود عظيم القريتين ابن معتب بن مالك بن عوف بن قسي بن منبه بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس بن غيلان بن مضر، ثم قال:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
__________
[1] في الأصل: «وهو متنكبا له قوسا عربية» وما أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «فأم المنبر» ، وما أوردناه من ت.
[3] في ت: «قعد» .
[4] في الأصل: «عطية بن حورثة» ، وما أوردناه من ت.(6/158)
صليب العود من سلفي نزار ... كنصل السيف وضاح الجبين
فماذا يغمز الأقران مني ... وقد جاوزت حد الأربعين
أخو خمسين مجتمع أشدي ... وتحددني مداولة الشؤون
يا أهل الكوفة إني لأرى رءوسا قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها، للَّه أبوكم، كأني انظر إلى الدماء بين العمائم واللحى، ثم قال:
هذا أوان الشد فاشتدي زيم ... قد لفها الليل بسواق حطم
ليس براعي إبل ولا غنم ... ولا بجزار على ظهر وضم
من يلقني يودى كما أودت إرم
/ قد لفها الليل بصلبي [1] ... مهاجر ليس بأعرابي
قد شمرت عن ساق سمهري
وأيم الله يا أهل العراق لا يغمز جنابي كتغماز التين، ولا يقعقع لي بالشنان، فلقد فرغت [2] عن ذكاء، وفتشت عن تجربة، وأجريت إلى الغاية القصوى، إن أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان نكث [3] كنانته بين يديه، فعجم عيدانها عودا عودا فوجدني أمرها عودا وأصلبها مكسرا، فوجهني إليكم يا أهل العراق والشقاق والنفاق ومساوىء الأخلاق، إنكم والله طالما أوضعتم في أودية الفتنة واضطجعتم في منام الضلالة وسلكتم سنن الغي، والله لأقرعنكم قرع المروة، ولألحونكم لحو العود [4] ، ولأعصبنكم عصب السلمة والشاة السقيمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل، واعلموا أني والله لا أعد إلا وفيت، ولا أحلق إلا فريت، ولا أحلف إلا نزرت، ولا أبعد إلا شيعت، وإياكم وهذه الزرافات والخرافات والبطالات والمقالات والجماعات، وقيل وقال، وما قال وما يقول، وكان و [ما] [5] يكون، وفيم أنتم وما أنتم وذاك، يا أهل الكوفة
__________
[1] في الأصل: «يعظلني» وفي ت: «يعطلني» .
[2] في ت: والمسعودي: «فررت» .
[3] في المسعودي والطبري: «نثر» .
[4] في الأصول: لأنحرنكم نحر العود» . وما أوردناه من الطبري والمسعودي.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(6/159)
إنما أنتم أهل قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً [مِنْ كُلِّ مَكانٍ] [1] فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ، فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ 16: 112 [2] ، وآتاها وعيد القرى من ربها بسوء ما كسبت أيديهم ألا إن الأمور إذا استقرت لا يدركها إلا كل ذي لب برأيه، وإن خير الرأي ما هدى الله به العبد، وراقبوا الله واعتصموا بحبله، وأعطوا القياد خلفاءكم وأمراءكم من قبل زوال النعمة، ولا تكونوا كالذين لا يعقلون، ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ 7: 177 [3] ، فليعقل من كان له معقول، فقد أعذر من أنذر، فقد والله حلت بكم بائقة فيها بوائق تتلوها سطوة من سطوات الله تجتاح الأموال، وتهريق الدماء، ثم لا تستطيعون عند ذلك غبرا، ولا تبدلون نعما.
لا تغروني يا قوم بكم، ولا تسهروني بعد رقدتي، فإني/ راض بما صفا لي منكم من علانيتكم، ما لم تكن حيلة في سواد هذه الدهماء، ولا تحملوني على أكتافكم بأحجاركم في رقابتكم، وفي كل يوم ما الخبر، إن الحجاج ذو حسام باتر تجتلى به الأوصال، فكم له في كل حي من حرز إلا من استوثقت لنا طاعته، وخلصت لنا مودته، ودامت لنا مقته، فذاك منا ونحن منه، فأما من ركب الترهات وأخذ في النية بعد النية، فهيهات هيهات يا هيهات لأهل المعاصي والنفاق، ألا ترهبون، ويحكم أن تغير عليكم الخيل الملجمة فتترككم أمثال الرقاق المنتفخة المستوسقة الشائلة بأرجلها، ألا وإن نصلي سبك من دماء [أهل] العراق، فمن شاء فليحقن دمه، ومن أبى أوسعت بالوعة الموت دمه، وفتتت للسباع لحمه، وقامت الرخم على شلوه، وضعت الدعارع بعجمه، فمهلا يا أهل العراق مهلا، فإن تميلي بقرن الصعاب، وبذل الرقاب، ولو قل العقاب وتستقل الحروب، ألم تعلموا أني في الحروب ولدت، وفيها تلدت، وفيها فطمت، وفيها قطعت تمائمي، وبليت نواجذي، وصلع رأسي، أفأنتم تجلجونني أن يكون ذلك حتى يجلجل صم الصناخيد التي هي للأرض أوتاد، وإني قد سست وساسني السائسون، وأدبني المؤدبون.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] إشارة إلى الآية الكريمة 112، من سورة النحل.
[3] إشارة إلى الآية الكريمة 177، من سورة الأعراف.(6/160)
استوثقوا واستقيموا، وتابعوا وبايعوا، وجانبوا واحذروا واتقوا، واعلموا أنه ليس مني الإكثار ولا الإهذار، ولا مع ذلك الفرار ولا النفار، وإنما هو انتضاء السيف، ثم لا يغمد الشتاء ولا الصيف حتى تفيئوا إلى أمر الله، وتجتمعوا [1] إلى طاعته وطاعة أمير المؤمنين حتى يذل الله له صعبكم، ويقيم أودكم، ويلوي به صغيركم.
ألا وإني وجدت الصدق مع البر، والبر في الجنة، وألفيت الكذب مع الفجور، والفجور في النار. وقد وجهني أمير المؤمنين إليكم وأمرني بإعطائكم عطاياكم، وإشخاصكم إلى مجاهدة عدوكم، وقد أمرت بذلك لكم، وأجلتكم ثلاثا، وأعطي الله عهدا يأخذه مني ويستوفيه/ علي، لئن بلغني أن رجلا تخلف منكم بعد قبض عطائه يوما واحدا لأضربن عنقه، ولأنهبن ماله. اقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين يا غلام، فقال الكاتب:
«بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عبد الملك بن مروان إلى من بالعراق من المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم» . فلم يقل أحد شيئا، فغضب الحجاج وقال: يا أهل الفتن الداحية، والأهواء الراثية، والألباب الماجنة، أيسلم عليكم أمير المؤمنين فلا تردون عليه السلام، والله لأؤدبنكم غير أدب ابن أذينة- وكان ابن أذينة صاحب شرطة بالكوفة- ولأجعلن لكل امرئ منكم في جسده شغلا، أعد القراءة يا غلام، فأعاد الكاتب، فلما بلغ قوله: سلام عليكم، قال جميع من في المسجد، وعلى أمير المؤمنين السلام ورحمة الله وبركاته، ثم نزل فدخل الدار.
فلما كان اليوم الرابع أتاه عمير بن ضابىء البرجمي ومعه ابنان له وقد ركب معه جماعة من البراجمة ألفا فارس وقالوا له: إن رأيت من الأمير ريب فدماؤنا دون دمك، فقال: أيها الأمير، إني شيخ كبير، وقد خرج اسمي في هذا البعث، وابني هذا أقوى مني على السفر، وأجلد في الحرب، فإن رأى الأمير أن يمن علي بلزوم منزلي، ويقبل ابني بديلا فعل ذلك موفقا. فقال: نعم ذلك لك يا شيخ انطلق راشدا وابعث ابنك بديلا.
فلما ولي قال له عنبسة بن سعيد بن العاص: أيها الأمير، أتعرف هذا الشيخ الّذي
__________
[1] في ت: «وتجنحوا» .(6/161)
ناجاك آنفا؟ قال: لا، قال: هذا عمير بن ضابىء البرجمي الذي هجا أبوه ابن قطن في حال كلب لهم يقال له قرحان [وكان] [1] يصيد حمر الوحش، فاستعاره منهم، فلما طلبوه منه منعهم، فركبوا إليه فساءوه، فأنشأ يقول:
يكلف دوني وفد قرحان شقه ... تضلّ لها الوجناء وهي حسير
فأردفتهم كلبا فراحوا كأنما ... حباهم تناج الهرمزان أسير [2]
فيا راكبا أما عرضت فبلغن ... ثمامة عني والأمور تدور
فأمكم لا تتركوها وكلبكم ... فإن عقوق الأمهات كبير
إذا ما انتشى من آخر الليل نشوة ... يبيت له فوق الفراش هرير
فاستعدوا عليه عثمان فحبسه في السجن حتى مات، واتخذ حديدة لعثمان ليقتله بها، فعلم بذلك عثمان فحبسه حتى مات في السجن [3] ، وقد كان في مرضه قال:
وقائلة لا يبعد الله ضابئا ... إذا اخضر من دهر الشتاء أصائله
وقائله لا يبعد الله ضابئا ... إذا العرب الرعى تنضت سوائله
وقائلة لا يبعد الله ضابئا ... إذا الكبش لم يوجد له من ينازله
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حائله
فلا تتبعوني إن هلكت ملامة ... فليس بعار قتل قرن أنازله
فلما قتل عثمان دخل هذا فيمن دخل عليه يطلب ثأر أبيه، فكسر ضلعا من أضلاع عثمان وهو يقول:
أين تركت ضابئا يا نعثل قال: فقال الحجاج: ردوه، فردوه، فقال: أتشهد يوم الدار بنفسك وتطلب اليوم بديلا، هلا سألت بديلا يوم الدار، والله أيها الشيخ إن في قتلك صلاحا للمصرين، يا حرسي اضرب عنقه، ثم قال: إني والله لجواد بدمه إن قتله غيري، قربوه. فقربوه
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] في ت: «الهرمزات أمير» .
[3] «واتخذ حديدة. حتى مات في السجن» . ساقط من ت.(6/162)
فضرب عنقه، فإذا رأسه بين رجليه، ثم أخذ بلحيته فهزها وأخذ يتمثل بشعر يزيد بن أبي كاهل اليشكري:
ساء ما ظنوا وقد أبليتهم ... عند غايات المدى كيف أقع
كيف يرجون سقاطي بعد ما ... جلل الرأس بشيب وصلع
/ رب من أنضحت غيظا صدره ... قد تمنى لي موتا لم يطع
وتراني كالشجى في خلقه ... عسرا مخرجه ما ينتزع
ويحييني إذا لاقيته ... وإذا يخلو له الحي رتع
ثم سمع ضوضاء، فقال: ما هذه الضوضاء، قالوا: البراجم بالباب تنتظر عميرا، فقال: أتحفوهم برأسه، فرمى بالرأس إليهم، فلما نظروا إليه ولوا هاربين لاحقين بمراكزهم، ثم إنهم ازدحموا على الحسين بن أبي براء التميمي فاستنصروه، فقال: لأمهاتكم الهبل [1] ، ألا تتقون الله، تحملونني على إهراق الدماء، والله لا يترك الحجاج قدما إلا أوطأها عبد الملك بن مروان، ولا نزل بأحدكم أخرى إلا لحق بعمير وبمثله، والله يقرن الصعاب، ومر عبد الله بن الزبير الأسدي بابن عم له يقال له إبراهيم، فقال: ما وراءك أبا حبيب، قال: ورائي كل بلية، قتل والله عمير بن ضابىء، النجاء النجاء، وأنشأ يقول:
أقول لإبراهيم لما لقيته ... أرى الأمر أمسى هالكا متشعبا
ترحل فإما أن تزور ابن ضابىء ... عميرا وإما أن تزور المهلبا [2]
هما خطتا كره نجاؤك منهما ... ركوبك حوليا من الثلج أشبها
وإن على الحجاج فيه ألية ... بمعدلها نابا علوفا، ومحلبا
فأضحى ولو كانت خراسان دونه ... رآها مكان السوق أو هي أقربا
وإلا فما الحجاج مغمد سيفه ... مدى الدهر حتى يترك الطفل أشيبا
وكم قد رأينا تارك الغزو ناكلا ... ينكب حبو السرج حتى تنكبا
__________
[1] الهبلة: الثكلة، والهبل: الثكل.
[2] الأبيات من هنا إلى آخرها ساقط من ت.(6/163)
فخرج الناس أرسالا يؤمون خراسان نحو المهلب، فلما قدموا عليه قال المهلب:
اليوم قوتل والله العدو، ويحكم من ولي العراق؟ قالوا له: الحجاج بن يوسف، قال المهلب: وليها والله رجل ذكر، ثم قال: يا أهل العراق/ لقد داهتكم داهية، ورميتم بالخنة، ولقد مارسكم امرؤ [1] ذكر. وقصوا عليه قصة الحجاج، فقال: والله لقد تخوفت أن يكون القادم عليكم مبير ثقيف، وليخربن دياركم، وليسجد من أبناءكم، وليمزقنكم كل ممزق، اللَّهمّ لا تسلطه علينا ولا على أحد من أوليائك إنك على كل شيء قدير.
قال مؤلف الكتاب: وفي رواية أخرى: أن الحجاج لما فرغ من خطبته قال:
الحقوا بالمهلب وأتوني بالبراءات بموافاتكم، ولا تغلقوا باب الجسر ليلا ولا نهارا، فلما قتل عمير بن ضابىء خرج الناس فازدحموا على الجسر، وخرجت العرفاء إلى المهلب وهو برامهرمز فأخذوا كتبه بالموافاة، ولما وصل الحجاج إلى الكوفة بعث الحكم بن أيوب الثقفي أميرا على البصرة وأمره أن يشد على خالد بن عبد الله، فلما بلغ خالد الخبر خرج من البصرة قبل أن يدخلها الحكم، فنزل الحجاج وتبعه أهل البصرة، فلم يبرح حتى قسم فيهم ألف ألف درهم.
وفي هذه السنة ثار الناس بالحجاج بالبصرة [2]
وذلك أنه خرج من الكوفة بعد أن قتل ابن ضابىء حتى قدم البصرة، فقام فيهم بخطبة مثل التي قام بها في الكوفة، وتوعدهم مثل وعيده [3] أولئك، فأتي برجل من بني يشكر فقيل له: إن هذا عاص [4] ، قال: إن بي فتقا، وقد رآه بشر فعذرني، وهذا عطائي مردود إلى بيت المال، فلم يقبل منه وقتله، ففزع لذلك أهل البصرة، فخرجوا حتى أدركوا [5] العارض بقنطرة رامهرمز، وخرج الحجاج ونزل رستقباذ، وكان بينه وبين
__________
[1] في ت: «رجل» .
[2] تاريخ الطبري 6/ 210.
[3] في ت: «مثل وعيدهم» .
[4] في ت: «أنه عاص» .
[5] كذا في الأصل، وفي ت. وفي الطبري «تداكئوا» . وهي أصح. والمداكأة: التزاحم على المكان.(6/164)
المهلب ثمانية عشر فرسخا، فقام في الناس، فقال: إن الزيادة التي زادكم ابن الزبير في أعطياتكم زيادة فاسق منافق، ولست أجيزها، فقام إليه عبد الله بن الجارود العبدي، فقال: إنها ليست بزيادة فاسق منافق، ولكنها زيادة أمير المؤمنين عبد الملك قد أثبتها لنا، فكذبه وتوعده/ فخرج ابن الجارود على الحجاج وبايعه وجوه الناس، فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل ابن الجارود وجماعة من أصحابه، وبعث برأسه ورءوس عشرة من أصحابه إلى المهلب، ونصبت برامهرمز للناس، وانصرف إلى البصرة، وكتب إلى المهلب وإلى عبد الرحمن بن مخنف: أما بعد، فإذا أتاكم كتابي هذا فناهضوا الخوارج، والسلام.
فلما وصل الكتاب [1] إليهما ناهضا الأزارقة يوم الاثنين لعشر بقين من شعبان- وقيل: يوم الأربعاء لعشر بقين من رمضان- فأجلوهم عن رامهرمز من غير قتال، فذهبوا إلى أرض يقال لها كازرون، فسارا وراءهم حتى نزلا بهم في أول رمضان، فخندق المهلب عليه وقال لعبد الرحمن: إن رأيت أن تخندق عليك فافعل، فأبى أصحاب عبد الرحمن، وقالوا: إنما خندقنا سيوفنا، فزحفت الخوارج إلى المهلب ليلا ليبيتوه، فوجدوه قد أخذ حذره، فمالوا: إلى عبد الرحمن فقاتلوه، فانهزم عنه أصحابه، فنزل فقاتل فقتل في جماعة من أصحابه.
وكتب المهلب بذلك إلى الحجاج، فبعث مكانه عتاب بن ورقاء، وأمره أن يسمع للمهلب ويطيع، فساءه ذلك ولم يجد بدا من طاعة الحجاج، فجاء حتى أقام في العسكر وقاتل الخوارج، وكان لا يكاد يستشير المهلب في شيء فأغرى به المهلب رجالا من أهل الكوفة منهم بسطام بن مصقلة.
وجرى بين المهلب وعتاب يوما كلام، فذهب المهلب ليرفع القضيب عليه، فوثب إليه ابنه المغيرة، فقبض على القضيب، وقال شيخ من شيوخ العرب: فاحتمله وقام عتاب فاستقبله بسطام يشتمه ويقع فيه، فكتب إلى الحجاج يشكو المهلب ويخبره أنه قد أغرى به سفهاء المصر، فبعث إليه أن أقدم.
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 211.(6/165)
وفي هذه السنة تحرك صالح بن مسرح أحد بني امرئ القيس وكان يرى رأي الصفرية [1]
وقيل [2] : إنه أول من خرج منهم، وكان صالح هذا ناسكا عابدا، وله أصحاب يقرئهم القرآن، ويفقههم ويقص عليهم ويقدم الكوفة فيقيم بها الشهر/ والشهرين، وكان بأرض الموصل، وله كلام مستحسن، وكان إذا فرغ ذكر أبا بكر وعمر فأثنى عليهما، وذكر ما أحدث عثمان وعلي وتحكيمه الرجال، فيتبرأ منهما، ثم يدعو إلى مجاهدة أئمة الضلال، ويقول: تيسروا للخروج من دار الفناء إلى دار البقاء، واللحاق بإخواننا المؤمنين الذين باعوا الدنيا بالآخرة، ولا تجزعوا من القتل في الله، فإن القتل أيسر من الموت، والموت نازل بكم.
فبينا [3] هو كذلك ورد عليه كتاب شبيب يقول فيه [4] : قد كنت دعوتني يا صالح إلى أمر فاستجبت له، فإن كان ذلك من شأنك فبادر فإنك شيخ المسلمين، وإن أردت تأخير ذلك فأعلمني، فإن الآجال غادية ورائحة، ولا آمن أن تخترمني المنية ولم أجاهد الظالمين، جعلنا الله وإياك ممن يريد الله بعمله.
فأجابه صالح أني مستعد فأقدم، فقدم عليه في جماعة من أهله فواعدهم الخروج في صفر سنة ست وسبعين، ثم قال صالح لأصحابه: اتقوا الله ولا تعجلوا إلى قتال أحد إلا أن يريدوكم فإنكم خرجتم غضبا للَّه.
وحج صالح في سنة خمس وسبعين ومعه شبيب بن يزيد، وسويد، والبطين وأشباههم.
وفي هذه السنة حج عبد الملك بالناس فهم [5] شبيب بالفتك به، وبلغ عبد الملك شيء من خبرهم، فكتب إلى الحجاج بعد انصرافه يأمره بطلبهم، وكان صالح يأتي الكوفة فيقيم
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 215.
[2] تاريخ الطبري 6/ 215.
[3] تاريخ الطبري 6/ 216.
[4] في الأصل: «يكون فيه» . وما أوردناه من ت.
[5] في ت: «وحج في هذه السنة عبد الملك بالناس» .(6/166)
بها الشهر ونحوه، فنبت بصالح الكوفة لما طلبه الحجاج، فتنكبها، ووفد يحيى بن الحكم في هذه السنة على عبد الملك، واستخلف على عمله بالمدينة أبان بن عمرو ابن عثمان، فأقر عبد الملك يحيى على ما كان عليه بالمدينة، وعلى الكوفة والبصرة الحجاج، وعلى خراسان أمية بن عبد الله، وعلى قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة زرارة بن أبي أوفى.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
461- الأسود بن يزيد بن قيس بن عبد الله، أبو عمرو [1] :
وهو ابن أخي علقمة بن قيس، وهو أكبر من علقمة.
روى عن أبي بكر، وعمر، وعلي، وابن مسعود، ومعاذ، وسلمان، وأبي موسى/ وعائشة. ولم يرو عن عثمان شيئا. وكان يصوم الدهر فذهبت إحدى عينيه، وكان لسانه يسود من شدة الحر، فيقال له: لا تعذب هذا الجسد، فيقول: إنما أريد له الراحة.
أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا عبد القادر بن محمد، قال: أخبرنا إبراهيم بن عمرو [2] البرمكي، قال: أخبرنا علي بن عبد العزيز بن مردك، قال: حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ بن أبي حاتم، قَالَ: حدثنا أبو حميد الحمصي، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا يزيد بن عطاء، عن علقمة بن مرثد، قال:
كان الأسود بن يزيد يجتهد في العبادة، يصوم حتى يخضر ويصفر، فلما احتضر بكى، فقيل له: ما هذا الجزع؟ فقال: ما لي لا أجزع، ومن أحق بذلك مني، والله لو أتيت بالمغفرة من الله عز وجل لأهمني الحياء منه مما قد صنعت. إن الرجل ليكون بينه
__________
[1] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 46، والجرح والتعديل 1/ 1/ 291، وحلية الأولياء 2/ 102، وتذكرة الحفاظ 1/ 48.
[2] في ت: «ابن محمد» .(6/167)
وبين الرجل الذنب الصغير، فيعفو عنه فلا يزال مستحييا منه. قال: ولقد حج الأسود ثمانين حجة.
توفي الأسود بالكوفة، في هذه السنة.
462- توبة بن الحمير من بني عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن خفاجة [1] :
كان شاعرا، وكان أحد عشاق العرب، مشهورا بذلك، وصاحبته ليلى الأخيلية، وكان يقول فيها الشعر ولا يراها إلا متبرقعة، فأتاها يوما فسفرت له عن وجهها فأنكر ذلك، وعلم أنها لم تسفر إلا عن حدث، وكان إخوتها قد أمروها أن تعلمهم بمجيئه، فسفرت لتنذره، ففي ذلك يقول:
وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت ... فقد رابني منها الغداة سفورها
وأول الشعر:
نأتك بليلى دارها لا تزورها ... وشطت نواها واستمر مريرها
يقول رجال لا يضيرك حبها ... بلى كلما شف النفوس يضيرها
أظن بها خيرا وأعلم أنها ... ستنعم يوما أو يفك أسيرها
/ حمامة بطن الواديين ترنمي ... سقاك من الغر الغوادي مطيرها
أبيني لنا لا زال ريشك ناعما ... ولا زلت في خضراء دان بريرها
أرى اليوم يأتي دون ليلى كأنما ... أتت حجج من دونها وشهورها
أرتنا حياض الموت ليلى وراقنا ... عيون نقيات الحواشي تديرها
ألا يا صفي النفس كيف تقولها ... لو أن طريدا خائفا يستجيرها
علي دماء البدن [2] إن كان بعلها ... يرى لي ذنبا غير أني أزورها
وقد زعمت ليلى بأني فاجر ... لنفسي تقاها أو عليها فجورها
وله أيضا فيها:
فإن تمنعوا ليلى وحسن حديثها ... فلن تمنعوا عيني البكا والقوافيا
__________
[1] الأغاني 11/ 63، وفوات الوفيات 1/ 95، والآمدي 68، والشعر والشعراء 169، وسمط اللآلئ 120، 757، والبداية والنهاية 8/ 383.
[2] في الأصل: «دماء البيت» . وما أوردناه من ت.(6/168)
فهلا منعتم إذ منعتم كلامها ... خيالا يمسينا على النأي هاديا
يلومك فيها اللائمون نصاحة ... فليت الهوى باللّائمين مكانيا
لعمري لقد أسهرتني يا حمامة ... العقيق وقد أبكيت ما كان باكيا
ذكرتك بالغور التهامي فأصعدت ... شجون الهوى حتى بلغن التراقيا
كان توبة يشن الغارة على بني الحارث بن كعب وهمدان، وكانت بين أرض بني عقيل وبني مهرة مفازة، وكان يحمل معه الماء إذا أغار، فغزا هو وأخوه عبد الله وابن عم له فنذروا بهم، فانصرف محققا، فمر بجيران لبني عوف، فاطرد إبلهم وقتل رجلا من بني عوف، فطلبوه فقتلوه، وضربوا رجل أخيه فأعرجوه، فبلغ الخبر ليلى، فقالت:
فآليت أبكي [1] بعد توبة هالكا ... وأحفل إذا دارت عليه الدوائر
لعمرك ما بالقتل عار على الفتى ... إذا لم تصبه في الحياة المعايرة [2]
463- سليم بن عتر بن سلمة بن مالك:
هاجر في خلافة عمر بن الخطاب، وحضر/ خطبته بالجابية. وروى عنه، وشهد فتح مصر، وجمع له بها القضاء والقصص. وكان يسمى الناسك لشدة عبادته، وكان يختم القرآن في كل ليلة ثلاث مرات، وكان يقول: لما قدمت من البحر تعبدت في غار سبعة أيام بالإسكندرية لم أصب فيها طعاما ولا شرابا، ولولا أني خشيت أن أضعف لزدت.
روى عنه علي بن رباح، وأبو قتيل، ومسرح بن هاعان وغيرهم.
وتوفي بدمياط في هذه السنة.
464- صلة بن أشيم أبو الصهباء العدوي البصري [3] :
وكان ثقة ورعا عابدا، أسند عن ابن عياض وغيره.
وروى عنه الحسن، وحميد، وهلال.
__________
[1] في الأغاني: «أقسمت إرثي بعد» .
[2] أي: المعايب.
[3] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 97. والبداية والنهاية 9/ 17، 18.(6/169)
أخبرنا محمد بن ناصر، قَالَ: أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أحمد أبو علي التميمي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بكر بْن مالك، قَالَ: حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن جعفر، عن يزيد الرشك، عن معاذة، قالت:
كان أبو الصهباء يصلي حتى ما يستطيع أن يأتي فراشه إلا زحفا.
قال عبد الله: وحدثنا أبي، قال: حدثنا أحمد بن الحجاج، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن المبارك، قَالَ: أخبرنا المسلم بن سعيد الواسطي، قال: حدثنا حماد بن جعفر بن زيد، أن أباه أخبره قال:
خرجنا في غزاة إلى كابل وفي الجيش صلة بن أشيم، فنزل الناس عند العتمة [1] ، فقلت: لأرمقن عمله فأنظر ما يذكر الناس من عبادته، فصلى العتمة ثم اضطجع والتمس غفلة الناس حتى إذا قلت: هدأت العيون، وثب فدخل غيضة قريبا منه، ودخلت في أثره، فتوضأ ثم قام يصلي.
قال: وجاء أسد حتى دنا منه. قال: فصعدت في شجرة. قال: فتراه التفت أو عند [جروا] [2] حتى إذا سجد، فقلت: الآن يفترسه. فجلس ثم سلم، فقال: أيها السبع، اطلب الرزق من مكان آخر، فولى وإن له لزئيرا تصدع منه الجبال، فما زال كذلك. فلما كان الصبح جلس فحمد الله عز وجل بمحامد لم أسمع بمثلها إلى ما شاء الله، ثم قال:
اللَّهمّ إني أسألك أن تجيرني من النار، أو مثلي يجترئ أن يسألك الجنة، ثم رجع/ فأصبح كأنه بات على الحشايا. وأصبحت وبي من الفترة شيء الله به عليم.
قال: فلما دنونا من أرض العدو قال الأمير: لا يشدن أحد من العسكر، قال:
فذهبت بغلته بثقلها فأخذ يصلي، فقالوا له: إن الناس قد ذهبوا. فمضى ثم قال: دعوني أصلي ركعتين. فقالوا: الناس قد ذهبوا، قال: إنهما خفيفتان، قال: فدعى ثم قال:
اللَّهمّ إني أقسم عليك أن ترد بغلتي وثقلها. قال: فجاءت حتى قامت بين يديه.
__________
[1] في ت: «فنزل الناس عندها» .
[2] ما بين المعقوفتين: من البداية والنهاية.(6/170)
فلما لقينا العدو حمل هو وهشام بن عامر فصنعا بهم طعنا وضربا وقتلا. فكسر ذلك العدو، فقالوا [1] : رجلان من العرب صنعا بنا هذا، فكيف لو قاتلونا. فأعطوا المسلمين حاجتهم [2] .
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي، قال: أنبأنا أبو الفتح أحمد بن محمد الحداد، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي، أن أبا أحمد بن محمد بن محمد الحاكم النيسابورىّ أخبره قال: أخبرني أبو يوسف محمد بن سفيان الصفار، قال: حدثنا سعيد، قال: سمعت ابن المبارك، عن السري بن يحيى [3] ، قال: حدثنا العلاء بن هلال الباهلي:
أن رجلا من قوم صلة قال لصلة: يا أبا الصهباء إني رأيت أني أعطيت شهدة وأنت [4] شهدتين، فقال: خيرا رأيت، تستشهد وأستشهد أنا وابني. فلما كان يوم يزيد بن زياد لقيهم الترك بسجستان، فكان أول جيش انهزم من المسلمين ذلك الجيش. فقال صلة لابنه: يا بني، ارجع إلى أمك، فقال: يا أبه أتريد الخير لنفسك وتأمرني بالرجوع [بل ارجع] [5] أنت والله كنت خيرا مني لأمي [6] . قال: أما إن قلت هذا فتقدم، فقاتل حتى أصيب فرمى صلة عن جسده- وكان رجلا راميا- حتى تفرقوا عنه، وأقبل يمشي حتى قام عليه، فدعا له، ثم قاتل حتى قتل.
أخبرنا ابن ناصر، قَالَ: أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو علي التميمي، قال: أخبرنا أحمد بْن جَعْفَر، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حدثنا أبي، قال:
حدثنا عَفَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: أخبرنا ثابت البناني:
أن صلة بن أشيم كان في مغزى له ومعه ابنه، فقال: أي بني، تقدم فقاتل حتى أحتسبك. فتقدم فقاتل حتى قتل، ثم تقدم هو فقتل. فاجتمعت النساء عند امرأته معاذة
__________
[1] أي العدو.
[2] الخبر في البداية والنهاية 9/ 16، 17.
[3] في الأصل: «أنس بن يحيى» خطأ، والتصحيح من ت.
[4] في ت: «وأعطيت» .
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[6] في ت: «كنت خير لأمي منى» .(6/171)
العدوية، فقالت: إن كنتن جئتن لتنهنئني/ فمرحبا بكن، وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن.
قال مؤلف الكتاب رحمه الله: كانت هذه الغزاة في أول إمارة الحجاج.
465- عبد الرحمن بن مل بن عمرو بن عدي، أبو عثمان النهدي [1] :
كان في زمن رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ ولم يلقه. وأسند عن عمر، وابن مسعود، وأبي موسى، وسلمان في آخرين.
وكان يسكن الكوفة، فلما قتل الحسين تحول إلى البصرة، وقال: لا أسكن بلدا قتل فيه ابْن بنت رَسُول اللَّهِ صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ.
وهو يعد من المخضرمين: قال: أبو الحسن الأخفش: المخضرم من قولهم: ماء مخضرم. إذا تناهى في الكثرة واتسع، فسمي الذي يشهد الجاهلية والإسلام مخضرما، كأنه استوفى الأمرين. ويقال: أذن مخضرمة إذا كانت مقطوعة، فكأنه انقطع عن الجاهلية إلى الإسلام.
وتوفي أبو عثمان بالبصرة في أول ولاية الحجاج، وهو ابن ثلاثين ومائة سنة.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أخبرنا عمر بن عبيد الله البقال، قال: أخبرنا أبو الحسين بن بشران، قال: حدثنا عثمان بن أحمد، قال: حدثنا حنبل، قال: حدثنا عفان بن مسلم، قال: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنِ أبي عثمان، قال:
بلغت نحوا من ثلاثين ومائة سنة، ما من شيء إلا قد عرفت النقص فيه إلا أملي كما هو.
466- ليلى الأخيلية، وهي ليلى بنت عبد الله بن الرحال بن شداد بن كعب بن معاوية، ومعاوية هو الأخيل بن عبادة بن عقيل [2] :
أحبها توبة بن الحمير، وكانت من أشعر النساء، لا يقدم عليها في الشعر غير
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 69.
[2] الأغاني 11/ 210، فوات الوفيات 2/ 141، والنجوم الزاهرة 1/ 193، ومعجم ما استعجم 3/ 715، ورغبة الآمل 5/ 219، 8/ 177، 79، 184.(6/172)
خنساء. وكانت هاجت النابغة الجعدي، فكان مما هجاها قوله:
فكيف أهاجي شاعرا رمحه استه ... خضيب البنان ما يزال مكحلا
فقالت في جوابه:
أعيرتني هذا بأمك مثله ... وأي حصان لا يقال لها هلا
/ ودخلت [1] على عبد الملك بن مروان وقد أسنت، فقال لها: ما رأى توبة منك حتى عشقك، فقالت: ما رأى الناس منك حتى جعلوك خليفة، فضحك حتى بدت له سن سوداء كان يخفيها.
أخبرنا ابن المبارك بن علي الصوفي [2] ، قال: أخبرنا ابن العلاف [3] ، قال:
أخبرنا عبد الملك بن بشران، قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم الكندي، قال: أخبرنا أبو بكر الخرائطي [4] ، قال: حدثني إسماعيل بن أبي هاشم، قال: حدثنا عبد الله بن أبي الليث، قال:
قال عبد الملك بن مروان [5] لليلى الأخيلية: باللَّه هل كان بينك وبين توبة سوء قط؟ قالت: والذي ذهب بنفسه وهو قادر على [ذهاب] [6] نفسي ما كان بيني وبينه سوء قط إلا أنه قدم من سفر فصافحته فغمز يدي فظننت أنه يخضع [7] لبعض الأمر، قال: فما بعد ذلك؟ فقلت له [8] :
وذي حاجة قلنا له لا تبح بها ... فليس إليها ما حييت سبيل
__________
[1] الخبر في الأغاني 11/ 241.
[2] في الأصل: الصيرفي، وما أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «أخبرنا العلاء» وما أوردناه من ت.
[4] في الأصل: «المرابطي» . وما أوردناه من ت.
[5] في الأغاني: «قال الحجاج» .
[6] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[7] في ت: «يغنع لبعض الأمر» .
[8] في الأصل: «فما معنى ذلك؟ فقلت» وفي ت: «فما معنى» بسقوط باقي العبارة، وما أوردناه موافق للسياق وما في الأغاني.(6/173)
لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه ... وأنت لأخرى فارغ [1] وحليل
فقالت: لا والذي ذهب بنفسه ما كلمني بسوء قط حتى فرق بيني وبينه الموت.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، ومحمد بن ناصر الحافظان، قالا: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار، قال: أخبرنا الحسين بن محمد النصيبي، قال: أخبرنا إسماعيل بن سويد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر بْن الأنباري، قَالَ: حَدَّثَني أبي، قال: حدثني أحمد بن عبيد، قال: حدثني أبو الحسن المدائني [2] ، عمن حدثه، عن مولى لعنبسة بن سعيد بن العاص، قال:
كنت أدخل مع عنبسة بن سعيد [بن العاص] [3] إذا دخل على الحجاج، فدخل يوما ودخلت إليهما وليس عند الحجاج غير عنبسة، فقعدت، فجاء الحاجب فقال: امرأة بالباب، فقال الحجاج: ادخلها. فلما رآها الحجاج طأطأ برأسه حتى ظننت أن ذقنه قد أصابت الأرض، فجاءت حتى قعدت بين يديه فنظرت إليها فإذا امرأة قد أسنت، حسنة الخلق ومعها جاريتان لها، وإذا هي ليلى/ الأخيلية، فسألها الحجاج عن نسبها، فانتسب له، فقال لها: يا ليلى ما أتاني بك؟ فقالت: اختلاف النجوم، وقلة الغيوم، وكلب البرد، وشدة الجهد، وكنت لنا بعد الله عز وجل الرفد، فقال لها: صفي لنا الفجاج. فقالت:
الفجاج مغبرة، والأرض مقشعرة، والمبرك معتل، وذو العيال مختل، والهالك المقل، [4] والناس مسنتون، رحمة الله يرجون، وأصابتنا سنون مجحفة لم تدع لنا هبعا [5] ولا ربعا ولا عافطة ولا نافطة، أذهبت الأموال، وفرقت الرجال، وأهلكت العيال. ثم قالت: إني قد قلت في الأمير قولا، قال: هاتي، فأنشأت تقول:
أحجاج لا تفلل سلاحك إنما ... المنايا تكن [6] باللَّه حيث يراها
__________
[1] في الأصل: «صاحب» . وما أوردناه من ت، والأغاني.
[2] في ت: «عن أبي الحسين المدائني» .
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] في ت مقل.
[5] الهبع: الفصيل الّذي ينتج في الصيف، وقيل: هو الفصيل الّذي ينتج في الصيف.
[6] في الأغاني: «بكف الله» .(6/174)
أحجاج لا تعط العصاة مناهم ... ولا الله يعطي للعصاة [1] مناها
إذا هبط الحجاج أرضا مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلام إذا هز القناة سقاها
سقاها فرواها بشرب سجاله ... دماء رجال حيث قال حساها
إذا سمع الحجاج رز كتيبة ... أعد لها قبل النزول قراها
أعد لها مسمومة [2] فارسية ... بأيدي رجال يحلبون صراها
[فما ولد الأبكار والعون مثله ... هجره لا أرض تحف ثراها]
قال: فلما قالت هذا البيت، قال الحجاج: قاتلها الله، ما أصاب صفتي شاعر منذ دخلت العراق غيرها. ثم التفت إلى عنبسة بن سعيد فقال: إني والله لأعد للأمر عسى أن يكون أبدا، ثم التفت إليها فقال: حسبك، فقالت: إني قد قلت أكثر من هذا، قال: حسبك هذا، ويحك حسبك. ثم قال: اذهب يا غلام إلى فلان فقل له اقطع لسانها، قال: فأمر بإحضار الحجام، فالتفتت إليه فقالت: ثكلتك أمك، أما سمعت ما قال: إنما أمر بقطع لساني بالصلة، فبعث إليه يستثبته، فاستشاط الحجاج غضبا وهم بقطع لسانه، وقال: ارددها. / فلما دخلت عليه قالت: كاد وأمانة الله يقطع مقولي، ثمّ أنشأت [تقول] [3] :
حجاج أنت الذي ما فوقه أحد ... إلا الخليفة والمستغفر الصمد
حجاج أنت شهاب الحرب إن لقحت ... وأنت للناس نور في الدجى [4] يقد
ثم أقبل الحجاج على جلسائه، فقال: أتدرون من هذه؟ قالوا: لا والله أيها الأمير، إلا أنا لم نر امرأة قط أفصح لسانا ولا أحسن محاورة، ولا أملح وجها، ولا أرصن شعرا منها. فقال: هذه ليلى الأخيلية التي مات توبة الخفاجي من حبها. ثم التفت
__________
[1] في الأصل: «القضاة» . وما أوردناه من ت والأغاني.
[2] كذا في الأصول، وفي الأغاني: «مصقولة» .
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] في ت: «نجم في الدجى» .(6/175)
إليها، فقال: أنشدينا يا ليلى بعض ما قال فيك توبة، فقالت: نعم أيها الأمير هو الذي يقول:
وهل تبكين ليلى إذا مت قبلها ... وقام على قبري النساء النوائح
كما لو أصاب الموت ليلى بكيتها ... وجاد لها دمع من العين سافح
وأغبط من ليلى بما لا أناله ... ألا كل ما قرت به العين صالح
ولو أن ليلى الأخيلية سلمت ... على ودوني تربة وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة أو زقا ... إليها صدى من جانب القبر صائح
فقال لها الحجاج: زيدينا يا ليلى من شعره، فقالت: هو الذي يقول:
حمامة بطن الواديين ترنمي ... سقاك من الغر الغوادي مطيرها
أبيني لنا لا زال ريشك ناعما ... ولا زلت في خضراء غض نضيرها [1]
وأشرف بالغور اليفاع لعلني ... أرى نار ليلى أو يراني بصيرها
وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت ... فقد رابني منها الغداة سفورها
يقول رجال لا يضيرك نأيها ... بلى كل ما شفت النفوس يضيرها
كل بلى قد يضير العين أن يكثر البكاء ... ويمنع منها نومها وسرورها
ولقد علمت ليلى بأني فاجر ... لنفسي تقاها أو عليها فجورها
فقال/ لها الحجاج: ما الذي رابه من سفورك، قالت: أيها الأمير، كان يلم بنا كثيرا، فأرسل إلي يوما أني آتيك، وفطن الحي فأرصدوا له، فلما أتاني سفرت له، فعلم أن ذلك لشر، فلم نزد على التسليم والرجوع، فقال: للَّه درك، فهل رأيت منه شيئا تكرهينه؟ قالت: لا والله الذي أسأله أن يصلحك غير أنه قال لي مرة قولا ظننت أنه قد خضع لبعض الأمر فأنشأت أقول:
وذي حاجة قلنا له لا تبح بها ... فليس إليها ما حييت سبيل
لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه ... وأنت لأخرى فارغ وخليل
__________
[1] في الأغاني: «وإن بريرها» .(6/176)
ولا والذي أسأله أن يصلحك ما رأيت منه شيئا حتى فرق الموت بيني وبينه. قال:
ثم قالت: ثم لم يلبث أن خرج في غزاة له وأوصى إلى ابن عم له: إذا أتيت الحاضر من بني عبادة فناد بأعلى صوتك:
عفا الله عنها هل أبيتن ليلة ... من الدهر لا يسري إلي خيالها
فخرجت وأنا أقول:
وعنه عفى ربي وأحسن حاله ... فعز علينا حاجة لا ينالها
قال: ثم قالت: ثم لم يلبث أن مات، فأتانا نعيه. قال: فأنشدينا بعض ما أتاك فيه، فأنشدت تقول:
أتتك العذارى من خفاجة نسوة ... بماء شئون العبرة المتحادر
كأن فتى الفتيان توبة لم ينخ ... قلائص ينفجن الحصى بالكراكر
فأنشدته، فلما فرغت من القصيدة قال محصن الفقعسي، وكان من جلساء الحجاج: من هذا الذي تقول هذه فيه، والله إني لأظنها كاذبة، فنظرت إليه ثم قالت:
أيها الأمير إن هذا القائل لو رأى توبة لسره ألا يكون في داره عذراء إلا وهي حامل منه.
قال الحجاج: هذا وأبيك الجواب، وقد كنت عن هذا غنيا، ثم قال لها: سلي يا ليلى تعطي، قالت: أعط فمثلك أعطى فأحسن. قال: لك عشرون، قالت: زد فمثلك زاد/ فأجمل. قال: لك أربعون. قالت: زد فمثلك زاد فأفضل، قال: لك ستون، قالت: زد فمثلك زاد فأكمل، قال: لك ثمانون، قالت: زد فمثلك زاد فتمم، قال: لك مائة واعلمي [يا ليلى] [1] : أنها غنم، قالت: معاذ الله أيها الأمير أنت أجود جودا، وأمجد مجدا، وأورى زندا من أن تجعلها غنما، قال: فما هي ويحك يا ليلى؟ قالت:
مائة ناقة برعاتها. فأمر لها بها. ثم قال: ألك حاجة بعدها؟ قالت: تدفع إلي النابغة الجعدي في قرن، قال: قد فعلت، وقد كانت تهجوه ويهجوها، فبلغ النابغة ذلك، فخرج هاربا، عائذا بعبد الملك، فاتبعته إلى الشام، فهرب إلى قتيبة بن مسلم بخراسان، فاتبعته على البريد بكتاب الحجاج إلى قتيبة، فماتت بقومس.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(6/177)
ويقال: بحلوان، وفي رواية: بساوه، فقبرها هناك.
أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ، قال: حدثنا القاضي أبو الفرج، ابن الطراز، قال: حدثنا أبو علي الجيلي [1] ، قال: حدثنا عمر بن محمد بن الحكم النسائي، قال: حدثني إبراهيم بن زيد النيسابوري:
أن ليلى الأخيلية بعد موت توبة تزوجت، ثم إن زوجها بعد ذلك مر بقبر توبة وليلى معه، فقال لها: يا ليلى أتعرفين لمن هذا القبر؟ فقالت: لا، فقال: هذا قبر توبة فسلمي عليه، فقالت: امض لشأنك، فما تريد من توبة وقد بليت عظامه، قال: أريد تكذيبه، أليس هو القائل في بعض أشعاره:
ولو أن ليلى الأخيلية سلمت ... علي ودوني تربة وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة أو زقا ... إليها صدى من جانب القبر صائح
فو الله لا برحت أو تسلمي عليه، فقالت: السلام عليك يا توبة ورحمة الله، بارك الله لك فيما صرت إليه. فإذا طائر قد خرج من القبر حتى ضرب صدرها، فشهقت شهقة فماتت فدفنت إلى جانب قبره، فنبتت على قبره شجرة وعلى قبرها شجرة فطالتا فالتفتا.
__________
[1] في ت: «أبو محمد الختّليّ» .(6/178)
ثم دخلت سنة ست وسبعين
فمن الحوادث فيها خروج صالح بن مسرح [1]
وقد ذكرنا أنه كان يتنسك، وكان يقول لأصحابه: أوصيكم بتقوى الله عز وجل، والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، وكثرة ذكر الموت، وفراق الفاسقين، وحب المؤمنين، ألا إن من نعمة الله عز وجل على المؤمنين أن بعث فيهم رسولا منهم- أو قال: من أنفسهم- فعلمهم الكتاب والحكمة، ثم ولي من بعده الصديق فاقتدى بهداه، واستخلف عمر فعمل بكتاب الله عز وجل، وأحيا سنة رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ، ولم يخف لومة لائم، وولي بعده عثمان، فاستأثر بالفيء، وجار في الحكم فبرئ الله منه ورسوله وصالح المؤمنين، وولي علي بن أبي طالب فلم ينشب أن حكم في أمر الله عز وجل الرجال، وأدهن، فنحن منه ومن أشياعه براء، فتيسروا رحمكم الله لجهاد هذه الأحزاب المتحزبة، وأئمة الضلال الظلمة، وللخروج من دار الفناء إلى دار البقاء، واللحاق بإخواننا المؤمنين الذين باعوا الدنيا بالآخرة، ولا تجزعوا من القتل في الله سبحانه فإن القتل أيسر من الموت، والموت نازل بكم، ألا فبيعوا الله أنفسكم طائعين تدخلوا الجنة آمنين.
وقد ذكرنا أنه كتب إلى شبيب، فجاءه شبيب في أصحابه، وقال: أخرج بنا رحمك الله، فو الله ما تزداد السنة إلا دروسا، ولا المجرمون إلا طغيانا. فبث صالح رسله في أصحابه وواعدهم الخروج في هلال صفر سنة ست وسبعين، فاجتمعوا عنده تلك
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 216، والبداية والنهاية 9/ 14.(6/179)
الليلة، فقام إليه شبيب فقال: يا أمير المؤمنين، كيف ترى في هؤلاء الظلمة؟ أنقتلهم قبل الدعاء، أم ندعوهم قبل القتال؟ وسأخبرك برأيي فيهم قبل أن تخبرني برأيك فيهم، [1] أما أنا فأرى أن تقتل كل من لا يرى رأينا قريبا كان أو بعيدا، فإنا نخرج على قوم طاغين قد تركوا أمر الله عز وجل، فقال: لا [بل] [2] ندعوهم، فلعمري ما يجيبك إلا من يرى رأيك، والدعاء/ أقطع لحجتهم، قال: فما تقول في دمائهم وأموالهم؟ قال: إن قتلنا وغنمنا فلنا، وإن تجاوزنا وعفونا فموسع علينا.
فلما هموا بالخروج قال لهم صالح: اتقوا الله عز وجل ولا تعجلوا إلى قتال أحد إلا أن يكونوا قوما يريدونكم وينصبون لكم، فإنكم إنما خرجتم غضبا للَّه عز وجل، حيث انتهكت محارمه، وسفكت الدماء بغير حلها، ولا تعيبوا على قوم أعمالهم ثم تعملوا بها، وهذه دواب لمحمد بن مروان في هذا الرّستاق، فابدءوا بها، فشدوا عليها، وتقووا بها على عدوكم.
فخرجوا وأخذوا تلك الدواب فحملوا رجالتهم عليها، وكانوا مائة وعشرة أنفس، وأقاموا بأرض دارا ثلاثة عشر ليلة، وتحصن منهم أهل دارا وأهل نصيبين وأهل سنجار، وبلغ مخرجهم محمد بن مروان وهو يومئذ أمير الجزيرة، فاستخف بأمرهم، وبعث إليهم عدي بن عدي في خمسمائة، فقال له: أتبعثني إلى رأس الخوارج منذ عشرين سنة وقد خرج معه رجال، الرجل منهم خير من مائة فارس في خمسمائة. فزاده خمسمائة، فسار في ألف من حران وكأنما يساق إلى الموت، وكان عدي رجلا يتنسك، فلما وصل بعث رجلا إلى صالح يقول له: إن عديا يسألك أن تخرج من هذا البلد إلى بلد آخر فإنه كاره للقائك، فقال للرسول: قل له هل أنت على رأينا، فجاءه الجواب: لا ولكن أكره قتالك، فحبس الرسول عنده وقال لأصحابه: اركبوا، وحملوا عليهم وهم على غفلة، فانهزموا وحووا ما في عسكرهم، وذهب فل عدي وأوائل أصحابه حتّى دخلوا على محمد بن مروان، فغضب، ثم دعا خالد ابن جزي السلمي فبعثه في ألف وخمسمائة ودعا الحارث بن جعونة العامري، فبعثه في ألف وخمسمائة، وقال: اخرجا إلى هذه
__________
[1] في ت: «تخبرني فيهم برأيك» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(6/180)
الخارجة القليلة الخبيثة، وأغذا السير، فأيكما سبق فهو الأمير على صاحبه.
فانتهيا إلى صالح وقد نزل آمد، فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل من الخوارج أكثر من سبعين، ومن المؤمنين/ نحو من ثلاثين، فلما جن الليل ذهب الخوارج فقطعوا الجزيرة ودخلوا أرض الموصل، فبلغ ذلك الحجاج، فسرح إليهم الحارث بن عميرة الهمداني في ثلاثة آلاف رجل، فلقيهم ومع صالح تسعون رجلا، فشد عليهم فقتل صالح ولاذ الباقون بحصن هناك، فقال الحارث لأصحابه احرقوا الباب، فإذا صار جمرا فدعوهم فإنهم لا يقدرون على الخروج، فإذا أصبحنا قتلناهم ففعلوا، فقال شبيب فدعوهم فإنهم لا يقدرون على الخروج، فإذا أصبحنا قتلناهم ففعلوا، فقال شبيب لأصحابه: لئن صبحكم هؤلاء إنه لهلاككم، فأتوا باللبود فبلوها بالماء، ثم ألقوها على الجمر، ثم خرجوا على القوم فضربوهم بالسيوف، فضارب الحارث حتى صرع، واحتمله أصحابه وانهزموا، وخلوا العسكر وما فيه، ومضوا حتى نزلوا المدائن [1] ، فكان ذلك أول جيش هزمه شبيب.
وفي هذه السنة دخل شبيب الكوفة [2]
وذلك أنه لما قتل صالح، كان قتله يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة بقين من جمادى الآخرة- فقال شبيب لأصحابه: بايعوني أو بايعوا من شئتم، فبايعوه، فخرج فقتل من قدر عليه، وبعث الحجاج جندا في طلبه فهزمهم، فبعث إليهم سورة بن الأبجر، فذهب شبيب إلى المدائن فأصاب منها وقتل من ظهر له، ثم خرج فأتى النهروان، فتوضأ هو وأصحابه وصلوا، وأتوا مصارع إخوانهم الذين قتلهم علي بن أبي طالب، فاستغفروا لإخوانهم وتبرءوا من على وأصحابه، وبكوا فأطالوا البكاء، ثم خرجوا فقطعوا جسر النهروان ونزلوا في جانبه الشرقي، ثم التقوا فهزموا سورة، فمضى فله إلى الحجاج، فقال: قبح الله سورة، ثم دعا عثمان بن سعيد، فقال: تيسر للخروج إلى هذه المارقة، فإذا لقيتهم فلا تعجل عجلة الخرق النزق [3] ، ولا تحجم إحجام الواني الفرق: فقال:
__________
[1] في ت: «حتى نزل المدائن» . وما أوردناه من ت.
[2] تاريخ الطبري 6/ 224.
[3] النزق: خفة في كل أمر وعجلة في جهل وحمق» .(6/181)
لا تبعث معي أحدا من أهل هذا الفل، قال: لك ذاك، ثم أخرج معه أربعة آلاف، فجعل كلما مضى/ إلى مكان رحل شبيب إلى مكان أراده أن يتعجل إليه في فل من أصحابه، فما زالوا يتراوغون ويذهبون من مكان إلى مكان، ويقتتلون إذا التقوا وينهزمون. فطال ذلك على الحجاج، فولى سعيد بن المجالد على ذلك الجيش، وقال له: اطلبهم طلب السبع، ولا تفعل فعل عثمان.
فلقوهم فانهزم أصحاب سعيد، وثبت هو، فضربه شبيب فقتله، ورجع الناس إلى أميرهم الأول عثمان، فبعث الحجاج سويد بن عبد الرحمن في ألفي فارس، وقال:
اخرج إلى شبيب فالقه، فخرج فلقيه فحمل عليه شبيب حملة منكرة، ثم أخذ نحو الحيرة، فتبعه سويد، وخرج الحجاج نحو الكوفة، فبادره شبيب إليها، فنزل الحجاج الكوفة صلاة العصر، ونزل شبيب السبخة صلاة المغرب، ثم دخل الكوفة، وجاء حتى ضرب باب القصر بعموده، ثم خرج من الكوفة، فنادى الحجاج وهو فوق القصر: يا خيل الله اركبي.
وبعث بسر [1] بن غالب في ألفين، وزائدة بن قدامة في ألفين، وأبا الضريس في ألف من الموالى. وخرج شبيب من الكوفة فأتى المردمة ثم مضى نحو القادسية، ووجه الحجاج زحر بن قيس في جريدة خيل نقاوة ألف وثمانمائة فارس، فالتقيا، فنزل زحر فقاتل حتى صرع وانهزم أصحابه.
وانعطف شبيب على الأمراء المبعوثين [إليه، فالتقوا فاقتتلوا قتالا شديدا، وكانت الكرة لشبيب، فقال الناس: ارفعوا السيف وادعوا الناس] [2] : إلى البيعة،. ثم إنه ارتحل، وكان الحجاج يقول: أعياني شبيب.
ثم دعا [3] عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فقال: انتخب ستة آلاف واخرج في طلب هذا العدو، فلما اجتمع العسكر كتب إليهم الحجاج: أما بعد، فإنكم قد اعتدتم عادة الأذلاء، وقد صفحت لكم مرة بعد مرة، وإني أقسم باللَّه عز وجل قسما
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 242.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] تاريخ الطبري 6/ 249.(6/182)
صادقا إن عدتم لذلك لأوقعن بكم إيقاعا يكون أشد عليكم من هذا العدو الذي تهربون منه في بطون الأودية والشعاب.
وبعث إلى عبد الرحمن عند طلوع الشمس، فقال: ارتحل/ الساعة، وناد في الناس: برئت الذمة من رجل من هذا البعث وجدناه متخلفا، فخرج حتى مر بالمدائن، فنزل بها يوما وليلة، واشترى أصحابه حوائجهم، ثم نادى بالرحيل، ودخل على عثمان بن قطن، فقال له عثمان: إنك تسير إلى فرسان العرب وأبناء الحرب، وأحلاس الخيل [1] ، والله لكأنهم خلقوا من ضلوعها [2] ، الفارس منهم أشد من مائة، فلا تلقهم إلا في تعبية أو في خندق، فخرج في طلب شبيب، فارتفع شبيب إلى دقوقاء. وكتب الحجاج إلى عبد الرحمن:
أن اطلب شبيبا أين سلك حتى تدركه فتقتله أو تنفيه.
وكان شبيب يدنو من عبد الرحمن فيجده قد خندق [على نفسه] [3] وحذر، فيمضي عنه، فإذا بلغه أنه قد سار انتهى إليه، فوجده قد صف الخيل، فلا يصيب له غرة، فإذا دنا منه عبد الرحمن ارتحل خمسة عشر فرسخا أو عشرين، فنزل منزلا غليظا خشنا.
ثم إن الحجاج عزل عبد الرحمن، وولى عثمان بن قطن، [وعلى أصحابه، فخرج شبيب في مائة وواحد وثمانين رجلا، فحمل عليهم فانهزموا، ودخل شبيب عسكرهم، وقتل] [4] نحوا من ألفين من ذلك العسكر، وقيل لابن الأشعث: قد ذهب الناس [5] ، وتفرقوا وقتل خيارهم، فرجع إلى الكوفة، فاختبأ من الحجاج حتى أخذ له الأمان بعد ذلك.
__________
[1] واحدتها: حلس، والجمع أحلاس، وحلوس: كل شيء، ولى ظهر الدابة تحت الرحل، وهو كساء رقيق يكون تحت البرذعة.
[2] في الأصل، ت: «طلوعها» ، وما أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[5] في ت: «وقتل ابن الأشعث فذهب الناس» .(6/183)
في هذه السنة ولى عبد الملك أبان بن عثمان المدينة في رجب. وأقام أبان الحج للناس في هذه السنة، واستقضى أبان نوفل بن مساحق. وكان على خراسان أمية بن عبد الله بن خالد، وعلى قضاء الكوفة شريح، وكان قد استعفى من القضاء قديما، فولى مكانه أبو بردة، وعلى البصرة زرارة بن أوفى.
وفيها: ولد مروان بن محمد بن مروان.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
467- حبة بن جوين بن علي، أبو قدامة العرني، الكوفي [1] :
ورد المدائن في حياة حذيفة. وحدث عن ابن مسعود، وعن علي رضي الله عنه.
وشهد وقعة/ النهروان. وكان ثقة عند قوم، وضعفه الأكثرون [2] .
[وتوفي في هذه السنة] [3] .
468- زهير بن قيس بن شداد البلوي [4]
يقال: إن له صحبة، شهد الفتح بمصر، وقتله الروم ببرقة في هذه السنة.
وكان سبب قتله أن الصريخ أتى بنزول الروم على برقة، فأمره عبد العزيز بالنهوض إليهم، فنهض فقتل.
__________
[1] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 123، وطبقات خليفة، والتاريخ الكبير 3/ 322، وأحوال الرجال للجوزجانيّ 22، والمعارف 624، والجرح والتعديل 3/ 1130، والضعفاء للدار للدّارقطنيّ 178، وتاريخ بغداد 8/ 274، وأسد الغابة، وميزان الاعتدال 1/ 450، وديوان الضعفاء للذهبي 819، وتاريخ الإسلام 3/ 15، والوافي بالوفيات 11/ 289.
[2] قال سليمان بن معبد عن يحيى بن معين: حبة العرني ليس بثقة. وقال الجوزجاني: غير ثقة، وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال العجليّ: كوفي، تابعي ثقة.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] البداية والنهاية 9/ 19.(6/184)
469- شريح بن الحارث بن قيس، أبو أمية القاضي [1] :
ولاه عمر الكوفة، وأسند الحديث عن عمر، وعلي.
أنبأنا أبو بكر بن أبي طاهر، عن أبي محمد الجوهري، عن ابن حيوية، قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن معروف، قَالَ: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: أخبرنا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ إسماعيل، قال: حدثنا وهيب، عن داود، عن عامر [2] :
أن ابنا لشريح قال لأبيه: إن بيني وبين قوم خصومة فانظر فإن كان الحق لي خاصمتهم، وإن لم يكن لي الحق أخاصم. فقص قصته عليه، فقال: انطلق فخاصمهم. فانطلق إليهم فتخاصموا إليه فقضى على ابنه، فقال له لما رجع داره [3] :
والله لو لم أتقدم إليك لم ألمك، فضحتني. فقال: يا بني، والله لأنت أحب إلي من ملء الأرض مثلهم، ولكن الله هو أعز عليّ منك، خشيت أن أخبرك أن القضاء عليك فتصالحهم فيذهب ببعض حقهم.
أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أخبرنا الحسين بن أحمد بن عبد الله الملطي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَدِّي محمد بن عبد الكريم، قال: حدثنا الهيثم بن عدي، قال: حدثنا مجالد، عن الشعبي، قال [4] :
شهدت شريحا وجاءته امرأة تخاصم رجلا، فأرسلت عينيها فبكت، فقلت: أبا أمية ما أظن هذه البائسة إلا مظلومة، فقال: يا شعبي، إن أخوة يوسف جاءوا أباهم عشاء يبكون.
__________
[1] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 90، وطبقات خليفة 145، والتاريخ الكبير 4/ 2611، والمعارف 433، 434، والقضاة لوكيع 2/ 189، والجرح والتعديل 4/ 1458، وحلية الأولياء 4/ 132، والإستيعاب 2/ 701، وتهذيب تاريخ دمشق 6/ 305، وسير أعلام النبلاء 4/ 100، وتذكرة الحفاظ 1/ 59، وتاريخ الإسلام 3/ 160، وشذرات الذهب 1/ 85.
[2] الخبر في طبقات ابن سعد 6/ 1/ 92.
[3] في ابن سعد: «لما رجع أهله» .
[4] الخبر في تهذيب الكمال 12/ 440.(6/185)
أخبرنا محمد بن أبي القاسم، قال: أَخْبَرَنَا حَمَدُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم الحافظ، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو حامد بن جبلة، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إسحاق، قَالَ:
حَدَّثَنَا/ محمد بن مسعود، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن عون، عن إبراهيم، عن شريح [1] :
أنه قضى على رجل باعترافه، فقال: يا أبا أمية قضيت علي بغير بينة، فقال:
أخبرني ابن أخت خالتك [2] .
أخبرنا محمد بن ناصر، قَالَ: أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الحسين بْنُ عَلِيٍّ التَّمِيمِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْن مالك، قَالَ: حدثنا عبد الله بن أحمد، قال:
حدثني أبي، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن أبي حيان التيمي، قال: حدثنا أبي، قال:
كان شريح إذا مات لأهله سنور أمر بها فألقيت في جوف داره، ولم يكن له مثعب شارع إلا في جوف داره اتقاء لأذى المسلمين.
توفي شريح في هذه السنة. وقيل: سنة ثمان وسبعين. وقد بلغ مائة وثماني سنين.
[وذكر ابن عبد البر أنه توفي سنة سبع وثمانين، وأنه بلغ من العمر مائة سنة] [3] .
__________
[1] الخبر في طبقات ابن سعد، وتهذيب الكمال 12/ 440.
[2] في ت: «ابن أخت خالك» . والمعنى واحد.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(6/186)
ثم دخلت سنة سبع وسبعين
فمن الحوادث فيها قتل شبيب عتاب بن ورقاء الرياحي [1] ، وزهرة بن حيوية [2] .
وذلك أن شبيبا لما هزم الجيش الذي بعثه الحجاج مع ابن الأشعث، وقتل عثمان بن قطن، أوى من الحر إلى بلده يصيف بها، ثم خرج في نحو من ثمانمائة رجل، فأقبل نحو المدائن، فندب الحجاج الناس، فقام إليه زهرة بن حيوية وهو شيخ كبير، فقال: إنك إنما تبعث الناس متقطعين، فاستنفر الناس كافة، وابعث إليهم رجلا شجاعا ممن يرى الفرار عارا. فقال له الحجاج: فأنت لها، فقال: إني قد ضعفت، ولكن أخرجني مع الأمير أشير عليه برأيي.
فكتب الحجاج إلى عبد الملك: إن شبيبا قد شارف المدائن [3] ، وإنما يريد الكوفة، وقد عجز أهل الكوفة عن قتاله في مواطن كثيرة، في كلها يقتل أمراءهم، ويفل جنودهم فإن رأى أمير المؤمنين [أن] [4] يبعث إلى أهل الشام فيقاتلون عدوهم ويأكلون فيئهم فليفعل.
فلما قرأ الكتاب [5] بعث إليه سفيان بن الأبرد في أربعة آلاف/ وبعث حبيب بن
__________
[1] في الأصل: «ورقاء بن عتاب الرياحي» خطأ.
[2] تاريخ الطبري 6/ 257.
وفي الأصل: «بن حيويه» وسيتكرر هذا الخطأ في الخبر.
[3] في الأصل: «شارف المدينة» .
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت، والطبري.
[5] تاريخ الطبري 6/ 264.(6/187)
عبد الرحمن في ألفين، وتجهز أهل الكوفة أيضا، وقد بعث الحجاج إلى عتاب بن ورقاء وهو مع المهلب، فبعثه على ذلك الجيش، فاجتمعوا خمسين ألفا، ومع شبيب ألف رجل، فخرج في ستمائة، وتخلف عنه أربعمائة، فقال: قد تخلف عنا من لا يحب أن يرى فينا.
ثم عبى أصحابه، وحمل على الميمنة ففضها، وانهزمت الميسرة، وكان عتاب في القلب وزهرة جالسا معه، فغشيهم، فطعن عتاب بن ورقاء، ووطئت الخيل زهرة، وجاءه الفضل بن عامر الشيباني [1] فقتله، وتمكن شبيب من العسكر، وحوى ما فيه، فقال: ارفعوا عنهم السيف، ثم دعا إلى البيعة فبايعه الناس من ساعتهم وهربوا تحت الليل، فأقام شبيب يومين، وبعث إلى أخيه فأتاه من المدائن، ثم أقبل إلى الكوفة، وبعث الحجاج إليه جيشا فهزمهم، وجاء شبيب حتّى ابتنى مسجدا في أقصى السبخة، فلما كان في اليوم الثالث أخرج الحجاج مولاه أبو الورد عليه تجفاف، وأخرج مجففة كثيرة، جعلهم على هيئة الغلمان له، وقالوا: هذا الحجاج، فحمل عليه شبيب فقتله، وقال:
إن كان هذا الحجاج فقد أرحتكم منه. ثم أخرج إليه غلاما آخر فقتله.
ثم خرج [2] الحجاج وقت ارتفاع النهار من القصر، فقال: ائتوني ببغل أركبه إلى السبخة، فأتوه، فلما نظر إلى السبخة وإلى شبيب وأصحابه نزل، وكان شبيب في ستمائة فارس، فقعد الحجاج على كرسي، وأخذ يمدح أهل الشام ويقول: أنتم أهل السمع والطاعة، فلا يغلبن باطل هؤلاء الأرجاس حقكم، غضوا الأبصار واجثوا على الركب، واستقبلوا القوم بأطراف الأسنة.
فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم حمل شبيب بجميع أصحابه، ونادى الحجاج بجماعة الناس، فوثبوا في وجهه، فما زالوا يطعنون ويضربون، فنادى شبيب: يا أولياء الله، الأرض، ثم نزل وأمر أصحابه، فنزل بعضهم، / فقال خالد بن عتاب: ائذن لي في قتالهم، فإني موتور، وأنا ممن لا يتهم في نصيحته، فقال: قد أذنت، فأتاهم من
__________
[1] في الأصل: «ابن عتاب الشيبانيّ» ، وما أوردناه من ت.
[2] تاريخ الطبري 6/ 269.(6/188)
ورائهم، فقتل مصادا [1] أخا شبيب، وغزالة امرأة شبيب. وجاء الخبر إلى الحجاج، فقال لأهل الشام: شدوا عليهم فقد أتاهم ما أرعب قلوبهم، فشدوا عليهم فهزموهم.
وتخلف شبيب في حامية الناس، ثم عبر على الجسر وقطعه.
وفي رواية: أن غزالة امرأة شبيب نذرت أن تصلي في مسجد الكوفة ركعتين تقرأ فيهما البقرة وآل عمران، فدخل بها شبيب الكوفة فوفت بنذرها.
ولما رحل شبيب بعث الحجاج حبيب بن عبد الرحمن الحكمي في أثره في ثلاثة آلاف من أهل الشام، وقال له: حيث ما لقيته فنازله، وبعث الحجاج إلى العمال أن دسوا إلى أصحاب شبيب أن من جاءنا منهم فهو آمن، فكان كل من ليست له تلك البصيرة ممن قد هده القتال يجيء فيؤمن، فتفرق عنه ناس كثير من أصحابه، وبلغ شبيب أن عبد الرحمن بالأنبار، فأقبل بأصحابه فبيتهم فما قدر عليهم بشيء لأنهم قد احترزوا، وجرت مقتلة وسقطت أيد، وفقئت أعين، فقتل من أصحاب شبيب نحو من ثلاثين، ومن الآخرين نحو من مائة، فمل الفريقان بعضهم بعضا من طول القتال، ثم انصرف عنهم شبيب وهو يقول لأصحابه: ما أشد هذا الّذي بنا، لو كنا إنما نطلب الدنيا، وما أيسر هذا في جانب ثواب الله عز وجل، ثم حدث أصحابه، فقال: قتلت أمس منهم رجلين أحدهما أشجع الناس، والآخر أجبن الناس، خرجت عشية أمس طليعة لكم فلقيت منهم ثلاثة نفر دخلوا القرية يشترون منها حوائجهم، فاشترى أحدهم حاجته ثم خرج قبل أصحابه وخرجت معه، فقال لي: أتشتري علفا، فقلت: إن لي رفقاء قد كفوني ذلك، أين ترى عدونا هذا؟ فقال: قد بلغني أنه نزل قريبا منا، وأيم الله لوددت أني قد لقيت شبيبهم هذا، قلت فتحب ذلك، / قال: نعم، قلت: فخذ حذرك فأنا والله شبيب، فانتضيت سيفي، فخر والله ميتا وانصرفت، فلقيت الآخر خارجا من القرية، فقال لي:
أين تذهب الساعة؟ وإنما يرجع [2] الناس إلى عسكرهم، فلم أكلمه، ومضيت فتبعني حتى لحقني فعطفت عليه [3] ، فقلت له: مالك؟ فقال: أنت والله عدونا؟ فقلت: أجل
__________
[1] في الأصل: «فقتل معاذا» . وما أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «وثم يرجع الناس» .
[3] تاريخ الطبري 6/ 178: «فقطعت عليه» .(6/189)
والله، فقال: والله لا تبرح حتى تقتلني أو أقتلك، فحملت عليه وحمل عليّ فاضطربنا بسيفنا ساعة، فو الله ما فضلته في شدة نفس ولا إقدام إلا أن سيفي كان أقطع من سيفه، فقتلته.
وفي هذه السنة هلك شبيب الخارجي [1]
في قول هشام بن محمد ... وقال غيره: كان هلاكه في سنة ثمان وسبعين.
والسبب في هلاكه أن الحجاج أمر سفيان بن الأبرد أن يسير إلى شبيب، وكان شبيب قد أقام بكرمان حتى انجبر واستراش هو وأصحابه، ثم أقبل راجعا فاستقبله سفيان بجسر دجيل الأهواز، وكان الحجاج قد كتب إلى الحكم بن أيوب، وهو زوج بنت الحجاج وعامله على البصرة في أربعة آلاف إلى شبيب، ومره فليلحق [بسفيان بن الأبرد، وليسمع له وليطع.
فبعث إليه زياد بن عمرو العتكي في أربعة آلاف، فلم ينته إلى سفيان حتى التقى] [2] سفيان بشبيب بجسر دجيل، فعبر شبيب إلى سفيان فاقتتلوا، وكر شبيب عليهم أكثر من ثلاثين كرة، فجالدهم أصحاب سفيان حتى اضطروهم إلى الجسر، فنزل شبيب ونزل معه نحو من مائة، فاقتتلوا حتى المساء، فدعا سفيان الرماة، فقال:
ارشقوهم بالنبل، فركب شبيب وأصحابه وكروا على أصحاب النبل كرة صرعوا منهم أكثر من ثلاثين، ثم عطف خيله على الناس، فطاعنوه حتى اختلط الظلام ثم انصرف عنهم. وقد أحب الناس انصرافه لما يلقون منه، فلما أراد العبور نزل حافر فرسه عن جنب السفينة [3] ، فسقط في الماء فقال: لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا 8: 44 [4] .
فارتمس [5] في الماء، ثم ارتفع فقال: ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ 6: 96 [6] .
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 224، ومروج الذهب 3/ 146، والبداية والنهاية 9/ 22.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] كذا في الأصل، وفي ت: «في جوف السفينة» ، وفي الطبري 6/ 280. «على حرف السفينة» .
[4] سورة: الأنفال، الآية: 42.
[5] ارتمس في الماء: إذا انغمس فيه حتى يغيب رأسه وجميع جسده فيه.
[6] سورة: الأنعام، الآية: 96، وغيرها.(6/190)
وفي/ رواية [1] : أنه كان معه قوم لم يكن لهم تلك البصيرة النافذة، وقد كان قد قتل من عشائرهم خلقا كثيرا، فأوجع بذلك قلوبهم، فلما تخلف في أواخر أصحابه حين العبور قال بعضهم لبعض: هل لكم أن نقطع به الجسر فندرك ثأرنا الساعة، فقطعوا الجسر فمالت السفن، ففزع الفرس ونفر، فوقع في الماء.
والحديث الأول هو المشهور، وجاء صاحب الجسر إلى سفيان فقال: إن رجلا منهم وقع في الماء، فتنادوا بينهم: غرق أمير المؤمنين وانصرفوا وتركوا عسكرهم ليس فيه أحد، فكبر سفيان ثم أقبل حتى انتهى إلى الجسر، وبعث مهاجر بن صيفي، فعبر إلى عسكرهم فإذا ليس فيه منهم صافر [2] ولا آثر، فنزل فيه فإذا أكثر خلق الله [3] خيرا.
فاستخرجوا شبيبا وعليه الدرع، فزعموا أنه شق عن بطنه فأخرج قلبه، فكان مجتمعا صلبا كأنه صخرة، وإنه كان يضرب به الأرض فيثب قامة الإنسان.
وكان لما نعي إلى أمه [4] وقيل قتل، لم تصدق، فلما قيل لها: إنه غرق، صدقت وقالت: إني رأيت حين ولدته أنه خرج مني شهاب نار، فعلمت أنه لا يطفئه إلا الماء.
وقد روى أبو مخنف، عن فروة بن لقيط: أن يزيد بن نعيم أبا شبيب كان ممن دخل في جيش سلمان بن ربيعة إذ بعث به الوليد بن عقبة على أمر عثمان بن عفان إياه بذلك مددا لأهل الشام إلى أرض الروم، فلما قفل المسلمون أقيم السبي للبيع، فرأى يزيد بن نعيم جارية حمراء، لا شهلاء، ولا زرقاء، طويلة جميلة، تأخذها العين، فابتاعها وذلك سنة خمس وعشرين أول السنة، فلما أدخلها الكوفة قال: أسلمي، فأبت فضربها فلم تزدد إلا عصيانا، فأمر بها فأصلحت له، ثم أدخلت عليه، فلما تغشاها حملت فولدت له شبيبا في ذي الحجة يوم النحر، وكان يوم/ السبت، وأسلمت قبل أن تلده وقالت: إني قد رأيت في النوم أنه خرج من قبلي شهاب نار فسطع حتى بلغ السماء والآفاق كلها، فبينا هو كذلك إذ وقع في ماء كثير جار، فخبا، وقد ولدته في يومكم هذا
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 281.
[2] يقال: ما في الدار من صافر، أي أحد يصفر، وهو مثل.
[3] في الأصول: «خلقه» . وما أوردناه من الطبري.
[4] تاريخ الطبري 6/ 282.(6/191)
الّذي تهريقون [1] فيه الدماء، وإني قد أولت رؤياي هذه أني أرى ولدي سيكون صاحب دماء يهريقها، وإني أرى أمره سيعلو ويعظم.
وفي هذه السنة خرج مطرف بن المغيرة بن شعبة على الحجاج، وخلع عبد الملك بن مروان، ولحق بالجبل فقتل [2] .
وسبب ذلك أن الحجاج ولى أولاد المغيرة فاستعمل عروة بن المغيرة على الكوفة، ومطرف على المدائن، وحمزة على همدان. وأقبل شبيب الخارجي إلى المدائن، فكتب مطرف إلى الحجاج بخبره، فأمده بالرجال، فلما نزل شبيب بهرسير قطع مطرف الجسر فيما بينه وبينه، وبعث إلى شبيب: ابعث رجالا من صلحاء أصحابك أدارسهم القرآن فأنظر ما تدعون إليه، فبعث إليه: ابعث إلي رجالا يكونون عندي حتى ترد أصحابي، فقال له: كيف آمنك على أصحابي، وأنت لا تأمنني على أصحابك؟
فقال: إنك قد علمت أننا لا نستحل في ديننا الغدر وأنتم تفعلونه، فبعث إليهم رجالا وبعثوا إليه رجالا، فقال لأصحابهم: إلى ما تدعون؟ فقالوا: إلى كتاب الله وسنة نبيه، والذي نقمنا على قومنا الاستئثار بالفيء، وتعطيل الحدود، والتسلط بالجبرية، وما زالوا يترددون إليه حتى وقع في نفسه خلع عبد الملك والحجاج، فقيل له: إن هذا الخبر يبلغ القوم فلا تقم في مقامك، فخرج وجمع رءوس أصحابه وقال لهم: إني أشهدكم أني قد خلعت عبد الملك والحجاج فمن أحب فليصحبني ومن أبى فليذهب حيث شاء، فإني لا أحب أن يتبعني من ليست/ له نية في جهاد أهل الجور.
ثم بايعه أصحابه، ثم بعث إلى أخيه حمزة: أمددني بما قدرت عليه من مال أو سلاح، فقال للرسول: ثكلتك أمك، أنت قتلت مطرفا؟ فقال: لا، ولكن مطرفا قتل نفسه وقتلني، وليته [3] لا يقتلك، قال: ويحك، من سول له هذا الأمر؟ قال: نفسه.
ثم قوي أمر مطرف، فأخبر الحجاج، فبعث الجيوش لقتاله، وبعث إلى أخيه
__________
[1] في الأصل: «تفور» وما أوردناه من الله والطبري.
[2] تاريخ الطبري 6/ 284.
[3] في الأصل: «فليته» وما أوردناه من ت.(6/192)
حمزة من أوثقه بالحديد وحبسه، فالتقت الجيوش بمطرف فاقتتلوا، فخرج من عسكر مطرف بكير بن هارون [1] ، فصاح: يا أهل ملتنا، نسألكم باللَّه عز وجل الذي لا إله إلا هو لما أنصفتمونا، خبرونا عن عبد الملك وعن الحجاج، ألستم تعلمونهما جائرين مستأثرين يتبعان الهوى، ويأخذان على الظنة، ويقتلان على الغضب. فنادوه: كذبت.
فقال: ويلكم لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى 20: 61 [2] .
فخرج إليه رجل فاقتتلا، فقتل الرجل، ثم اشتد القتال، فانكشفت خيل مطرف فوصلوا إليه، واحتز رأسه عمرو بن هبيرة، ثم طلب الأمان لبكير بن هارون [3] ، من أمير الجيش فأمنه.
وفي هذه السنة وقع الاختلاف بين الأزارقة [4]
أصحاب قطري بن الفجاءة، فخالفه بعضهم واعتزله، وبايع عبد رب الكبير [5] .
وسبب اختلافهم أن المهلب أقام يقاتل قطريا وأصحابه من الأزارقة نحوا من سنة، وكانت كرمان في أيدي الخوارج، وفارس في يد المهلب، فضاق على الخوارج مكانهم، إذ لا يأتيهم من فارس مادة، فخرجوا إلى كرمان وتبعهم المهلب، فقاتلهم وأبعدهم عن فارس كلها، فصارت في يده، فبعث الحجاج عليها عماله وأخذها من المهلب.
فبلغ ذلك عبد الملك، فكتب إلى الحجاج: دع بيد المهلب خراج جبال فارس، فإنه لا بد للجيش من قوة، ودع له كورة إصطخر ودرابجرد [6] / فتركها له.
وكتب له الحجاج: أما بعد، فإنك لو شئت فيما أرى اصطلمت هذه الخارجة
__________
[1] في ت: «ابن معروف» خطأ.
[2] سورة: طه، الآية: 61.
[3] في ت: «ابن معروف» . خطأ.
[4] تاريخ الطبري 6/ 301.
[5] في إحدى نسخ الطبري: «عبد ربه» .
[6] في الطبري 6/ 31: «كورة فسا ودرابجرد، وكورة إصطخر» .(6/193)
المارقة، ولكنك تحب طول بقائهم لتأكل الأرض حولك، وقد بعثت إليك البراء بن قبيصة لينهضك إليهم إذا قدم عليك بجميع المسلمين، ثم جاهدهم أشد الجهاد، وإياك والعلل.
فأخرج المهلب الكتائب، وأقام البراء على تل، وقاتل الخوارج من بكرة إلى نصف النهار، فقال له البراء: والله ما رأيت كتائب ككتائبك، ولا فرسانا كفرسانك، ولا رأيت مثل قوم يقاتلونك أصبر منهم، أنت والله المعذور. ثم عاد وقت العصر، فقاتل حتى حجز الليل بينهم.
وكتب المهلب إلى الحجاج: أتاني كتاب الأمير واتهامه إياي في هذه المارقة، وقد رأى الرسول ما فعلت، فو الله لو قدرت على استئصالهم ثم أمسكت عن ذلك لقد غششت المسلمين.
ثم قاتلهم المهلب ثمانية عشر شهرا، ثم إن رجلا منهم كان عاملا لقطري على ناحية من كرمان قتل رجلا كان ذا بأس من الخوارج، فوثب الخوارج إلى قطري وقالوا:
أمكنا منه لنقتله بصاحبنا، فقال: ما أرى أن أقتل رجلا تأول فأخطأ في التأويل، قالوا:
بلى، قال: لا، فوقع الاختلاف بينهم، فولوا عبد رب الكبير وخلعوا قطريا، فلم يبق معه إلا ربعهم أو خمسهم، فجعلوا يقتتلون فيما بينهم نحوا من شهر غدوة وعشية [فكتب بذلك المهلب إلى الحجاج وقال: إني أرجو أن يكون اختلافهم سببا لهلاكهم] [1] .
فكتب إليه الحجاج: ناهضهم على اختلافهم قبل أن يجتمعوا. فكتب إليه المهلب.
لست أرى أن أقاتلهم ما دام يقتل بعضهم بعضا، فإن أتموا على ذلك فهو الذي نريد، وإن اجتمعوا لم يجتمعوا إلا وقد رقق بعضهم بعضا، فيكونون أهون شوكة.
فسكت عنه الحجاج- ثم إن قطريا خرج بمن اتبعه نحو طبرستان، وبايع عامتهم عبد رب الكبير، فنهض المهلب فقاتلوه قتالا شديدا، ثم إن الله تعالى قتلهم فلم ينج منهم إلا القليل، وأخذ عسكرهم وما فيه.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(6/194)
وفي هذه السنة هلك قطري، وعبد رب الكبير، وعبيدة بن هلال ومن كان معهم من الأزارقة [1] .
وقيل: بل كان/ هلاكهم في سنة ثمان وسبعين. وسبب هلاكهم أنهم لما اختلفوا، وتوجه قطري إلى طبرستان، ووجه الحجاج جيشا مع سفيان بن الأبرد، فاتبعهم، فلحق قطريا في شعاب طبرستان، فقاتلوه فتفرق عنه أصحابه، ووقع عن دابته في أسفل الشعب فتدهدى إلى أسفله [2] . فأتاه علج من أهل البلد، فقال له قطري:
أسقني ماء، فقال: أعطني شيئا حتى أسقيك، قال: ويحك، والله ما معي إلا ما ترى من سلاحي، فأشرف العلج عليه وحدر عليه حجرا عظيما فأصاب إحدى وركيه فأوهنه، وصاح بالناس، فأقبلوا فقتلوه.
فبعث سفيان برأسه مع أبي جهم [3] بن كنانة الكلبي إلى الحجاج، ثم أتى به عبد الملك، ثم إن سفيان أقبل إلى عسكر عبيدة بن هلال وقد تحصن في قصر بقومس فأحاط به وبأصحابه، فجهدوا حتى أكلوا دوابهم، ثم خرجوا فقاتلوه فقتلهم، وبعث برءوسهم إلى الحجاج.
وفي هذه السنة عبر أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد النهر، نهر بلخ، فحوصر حتى جهد هو وأصحابه، ثم نجوا بعد أن أشرفوا على الهلاك، فانصرفوا إلى مرو.
وفي هذه السنة غزا الصائفة الوليد بن عبد الملك.
وفيها: حج بالناس أبان بن عثمان بن عفان، وهو أمير على المدينة، وكان على خراسان أميه بن عبد الله، وعلى الكوفة والبصرة الحجاج.
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 308.
[2] في ت: «ووقع دابته في أعلى الشعب فتدهده إلى أسفله» .
[3] في تاريخ الطبري: «مع أبي الجهم» .(6/195)
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
470- زر بن حبيش، أبو مريم الأسدي [1] :
روى عن عمر، وعلي، وابن عوف، وابن مسعود، وأبي بن كعب.
أَخْبَرَنَا عَبْد الوهاب الأنماطي، قَالَ: أَخْبَرَنَا المبارك بن عبد الجبار، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْفَتْحِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عبد الله الدقاق، قال: أخبرنا الحسين بْنُ صَفْوَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن محمد بن عبيد، قال: حدثنا خلف بن هشام، قال: حدثنا حماد، عن عاصم بن أبي النجود، قال:
أدركت أقواما كانوا يتخذون هذا الليل/ جملا منهم زر، وأبو وائل.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر، قَالَ: أَخْبَرَنَا ثَابِت بْن بْندار، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر البرقاني، قال: حدثنا عمر بن نوح، قال: حدثنا عبيد الله بن سليمان، قال: حدثنا محمد بن يحيى النيسابوري، قال: حدثنا نعيم بن حماد، عن عبد الله بن إدريس، عن إسماعيل بن أبي خالد، قال:
افتض زر بن حبيش جارية وهو ابن مائة وعشرين سنة، وتوفي وهو ابن اثنين وعشرين ومائة سنة.
471- شبيب بن يزيد الخارجي [2] :
مات في هذه السنة. وقد ذكرنا قتله في الحوادث.
472- عبيد بن عمير بن قتادة، أبو عاصم الليثي الواعظ [3] :
أسند عن أبي بن كعب، وأبي ذر، وأبي قتادة، وابن عمر، وابن عمرو، وأبي هريرة، وابن عباس، وعائشة.
__________
[1] حلية الأولياء 4/ 181، والإصابة 1/ 577، وطبقات ابن سعد 6/ 1/ 71، وطبقات خليفة 140، والتاريخ الكبير 3/ 1495، والجرح والتعديل 3/ 2817، والاستيعاب 2/ 563، وتهذيب تاريخ دمشق 5/ 377، وأسد الغابة 2/ 300، وتاريخ الإسلام 3/ 249، وسير أعلام النبلاء 4/ 166، وتذكرة الحفاظ 1/ 57.
[2] في الأصل: «شبيب بن زيد» خطأ، وما أوردناه من ت.
[3] طبقات ابن سعد 5/ 1/ 341.(6/196)
وروى عنه من كبار التابعين: مجاهد، وعطاء، وأبو حازم.
وكان مجاهد يقول: كنا نفخر بفقيهنا وبقاضينا: فأما فقيهنا فابن عباس، وأما قاضينا فعبيد بن عمير.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم البغدادي، قال: أخبرنا حمد بْنُ أحمد الحداد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد، قَالَ:
حدثنا محمد بن أبي سهل، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن عبد العزيز بن رفيع، عن قيس بن سعيد، عن عبيد بن عمير، قال:
إن أهل القبور ليتلقون الموتى كما [1] يتلقى الراكب، يسألونه، فإذا سألوه: ما فعل فلان؟ فمن كان قد مات يقول: ألم يأتكم؟ فيقولون: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156 ذهب به إلى أمه الهاوية.
أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ ثَابِتِ بْنِ بُنْدَارٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبِي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ جَعْفَرٍ السَّلَمَاسِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْوَلِيدُ بْنُ بَكْرٍ الأَنْدَلُسِيُّ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بن أحمد بن زكريا الهاشمي، قال: حدثنا صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ الْعِجْلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ:
كَانَتِ امْرَأَةٌ جَمِيلَةٌ بِمَكَّةَ، وَكَانَ لَهَا زَوْجٌ، فَنَظَرَتْ يَوْمًا إِلَى وَجْهِهَا فِي الْمِرْآةِ، فَقَالَتْ لِزَوْجِهَا: أَتَرَى أَحَدًا يَرَى هَذَا الْوَجْهَ لا يُفْتَتَنُ بِهِ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: وَمَنْ؟ قَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ/ قَالَتْ: فَأْذَنْ لِي فِيهِ فَلأَفْتِنَنَّهُ، قَالَ: قَدْ أَذِنْتُ لَكِ.
قَالَ: فَأَتَتْهُ كَالْمُسْتَفْتِيَةِ، فَخَلا مَعَهَا فِي نَاحِيَةٍ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. قَالَ: فَأَسْفَرَتْ عَنْ وَجْهٍ مِثْلَ فِلْقَةِ الْقَمَرِ، فَقَالَ لَهَا: اسْتَتِرِي يَا أَمَةَ اللَّهِ، قَالَتْ: إِنِّي قَدْ فُتِنْتُ بك فانظر في أمري، قال: إني سَائِلُكِ عَنْ شَيْءٍ، فَإِنْ أَنْتِ صَدَقْتِ نَظَرْتُ فِي أَمْرِكِ، قَالَتْ: لا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ إِلا صَدَقْتُكَ. قَالَ: أَخْبِرِينِي، لَوْ أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ أَتَاكَ لِيَقْبِضَ رَوْحَكِ كَانَ يَسُرُّكِ أَنِّي قَضَيْتُ لَكِ هَذِهِ الْحَاجَةَ؟ قَالَتْ: اللَّهمّ لا. قال: صدقت، فلو أدخلت
__________
[1] في ت: «الميت» .(6/197)
قَبْرَكِ فَأُجْلِسْتِ لِلْمُسَاءَلَةِ أَكَانَ يَسُرُّكِ أَنِّي قَضَيْتُ لَكِ هَذِهِ الْحَاجَةَ؟ قَالَتْ: اللَّهمّ لا، قَالَ: صَدَقْتِ، فَلَوْ أَنَّ النَّاسَ أُعْطُوا كُتُّبَهُمْ فَلا تَدْرِينَ أَتَأْخُذِينَ كِتَابَكِ بِيَمِينِكِ أَوْ بِشِمَالِكِ، أَكَانَ يَسُرُّكِ أَنِّي قَضَيْتُ لَكِ هَذِهِ الْحَاجَةَ؟ قَالَتْ: اللَّهمّ لا، قَالَ: صَدَقْتِ، فَلَوْ أَرَدْتِ الْمَمَرَّ عَلَى الصِّرَاطِ فَلا تَدْرِينَ تَنْجِينَ أَمْ لا تَنْجِينَ، أَكَانَ يَسُرُّكِ أَنِّي قَضَيْتُ لَكِ هَذِهِ الحاجة؟ قالت: اللَّهمّ لا. قال: صدقت، فلو جِيءَ بِالْمَوَازِينِ وَجِيءَ بِكِ لا تَدْرِينَ تَخِفِّينَ أَمْ تَثْقُلِينَ، أَيَسُرُّكِ أَنِّي قَضَيْتُ لَكِ هَذِهِ الْحَاجَةَ؟ قَالَتْ: اللَّهمّ لا، قَالَ: صَدَقْتِ قَالَ: فَلَوْ وَقَفْتِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُسَاءَلَةِ، كَانَ يَسُرُّكِ أَنِّي قَضَيْتُ لَكِ هَذِهِ الْحَاجَةَ؟
قَالَتْ: اللَّهمّ لا، قَالَ: صَدَقْتِ، فَاتَّقِ اللَّهَ يَا أَمَةَ اللَّهِ، فَقَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْكِ وَأَحْسَنَ إِلَيْكِ.
قَالَ: فَرَجَعَتْ إِلَى زَوْجِهَا، قَالَ: مَا صَنَعْتِ؟ قَالَتْ: أَنْتَ بَطَّالٌ وَنَحْنُ بَطَّالُونَ.
فَأَقْبَلَتْ عَلَى الصَّلاةِ وَالصَّوْمِ وَالْعِبَادَةِ.
قَالَ: فَكَانَ زوجها يقول: ما لي وَلِعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَفْسَدَ عَلَيَّ امْرَأَتِي كَانَتْ لِي فِي كُلِّ لَيْلَةٍ عَرُوسًا، فَصَيَّرَهَا رَاهِبَةً.(6/198)
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين
فمن الحوادث فيها عزل عبد الملك بن مروان أمية بن عبد الله عن خراسان، وضمه خراسان إلى سجستان إلى الحجاج [1] .
وكان السبب أن الحجاج لما فرغ من أمر شبيب/ ومطرف شخص من الكوفة إلى البصرة، واستخلف على الكوفة المغيرة بن عبد الله بن أبي عقيل، فقدم عليه المهلب وقد فرغ من الأزارقة، فأجلسه معه وأحسن أعطيات أصحابه، وزادهم، وكان الحجاج قد ولى المهلب سجستان مع خراسان، فقال له المهلب: ألا أدلك على رجل هو أعلم مني بسجستان [2] ، قال: بلى، قال: عبد الله بن أبي بكرة، فبعثه على سجستان، وكان العامل هناك أمية بن عبد الله.
وفي هذه السنة فرغ الحجاج من بناء واسط [3]
[وسبب تسميتها] [4] أن الحجاج قال: هذا وسط ما بين المصرين: الكوفة والبصرة، وكان كتب إلى عبد الملك يستأذنه في بناء مدينة بين المصرين، فأذن له، فابتدأ في البناء من سنة خمس وسبعين، فبنى القصر والمسجد والسورين، وحفر
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 319.
[2] «بسجستان» : مطموسة في الأصل.
[3] تاريخ الطبري 6/ 383، في أحداث سنة 83.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(6/199)
الخندق في ثلاث سنين، وفرغ في هذه السنة، فأنفق عليها خراج العراق كله خمس سنين، ثم نقل إليها من وجوه أهل الكوفة، وأمرهم أن يصلوا عن يمين المقصورة، ونقل من وجوه أهل البصرة، وأمرهم أن يصلوا عن يسار المقصورة، وأمر من كان معه من أهل الشام أن يصلوا بحياله مما يلي المقصورة، وأنزل أصحاب الطعام والبزازين والصيارف والعطارين عن يمين السور، وأنزل البقالين وأصحاب السقط، وأصحاب الفاكهة في قبلة السور، وأنزل الروزجارية، والصناع عن يسار السور إلى دجلة، وجعل لأهل كل تجارة قطعة لا يخالطهم غيرهم، وأمر أن يكون مع أهل كل قطعة صيرفي، وجعل لقصره أربعة أبواب، واتخذ لهم مقبرة من الجانب الشرقي، وعقد الجسر وضرب الدراهم، وولاها لابن أخيه.
وقد جرت لابن أخيه في توليته البلد قصة طريفة [1] :
أخبرتنا شهدة بنت أحمد الكاتبة، قالت: أَخْبَرَنَا جعفر بن أحمد، قال: أخبرنا أبو طاهر أحمد بن علي السواق، قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن فارس/ قال: حدثنا عَبْد اللَّه بْن إِبْرَاهِيم الزَّيْنبيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا محمد بن خلف، قال: حدثنا أبو بكر العامري، قال: حدثنا عبد الله بن عمر، قال: حدثنا أبو عباد، قال:
أدركت الخادم الذي كان يقوم على رأس الحجاج، فقلت له: أخبرني بأعجب شيء رأيته من الحجاج، قال [2] : كان ابن أخيه أميرا على واسط، وكانت بواسط امرأة يقال إنه لم يكن بواسط في ذلك الوقت أجمل منها، فأرسل ابن أخيه إليها يريدها عن نفسها مع خادم له، فأبت عليه وقالت: إن أردتني فاخطبني إلى إخوتي. قال: وكانت لها [3] إخوة أربعة، فأبى وقال: لا إلا كذا، وعاودها فأبت عليه إلا أن يخطبها، فأما حرام فلا، وأبى هو إلا الحرام، فأرسل إليها بهدية فأخذتها فعزلتها.
قال: فأرسل إليها عشية جمعة: إني آتيك الليلة، فقالت لأمها: إن الأمير بعث إلي بكذا وكذا. قال: فأنكرت أمها ذلك، وقالت أمها لإخوتها: إن أختكم قد زعمت
__________
[1] في ت: «وولى ابن أخيه واسطا وجرت لابن أخيه قصة عجيبة» .
[2] «فقلت له أخبرني ... من الحجاج قال» : ساقطة من ت.
[3] في ت: «وكان لها» .(6/200)
كذا وكذا، فأنكروا ذلك وكذبوها، فقالت: إنه قد وعدني أن يأتيني الليلة وسترونه، قال: فقعد إخوتها في بيت حيال البيت الذي هي فيه وفيه سراج وهم يرون من يدخل إليها وجويرية لها على باب الدار قاعدة، حتى جاء فنزل عن دابته وقال لغلامه: إذا أذن المؤذن في الغلس فاتني بدابتي.
ودخل فمشت الجارية بين يديه وقالت له: ادخل وهي على سرير مستلقية، فاستلقى إلى جانبها ثم وضع يده عليها وقال: إلى كم ذا المطل؟ فقالت له: كف يدك يا فاسق.
قال: ودخل إخوتها ومعهم سيوف، فقطعوه ثم لفوه في نطع وجاءوا به إلى سكة من سكك واسط فألقوه فيها. وجاء الغلام بالدابة فجعل يدق الباب رفيقا، فلم يكلمه أحد، فلما غشي الصبح، [وخشي] [1] أن تعرف الدابة انصرف. وأصبحوا فإذا هم به، فأتوا به الحجاج، فأخذ أهل تلك السكة، فقال: أخبروني ما هذا وما قصته؟ قالوا: لا نعلم حاله غير أنا وجدناه ملقى، ففطن الحجاج، فقال: علي بمن كان يخدمه/ فأتي بذلك الخصي الذي كان الرسول، فقيل: هذا كان صاحب سره، فقال له الحجاج: ما كان حاله، وما [كانت] [2] قصته؟ فأبى، فقال: إن صدقتني لم أضرب عنقك، وإن لم تصدقني فعلت بك وفعلت.
قال: فأخبره بالأمر على جهته، فأمر بالمرأة وأمها وإخوتها، فجيء بهم فعزلت المرأة عنهم فسألها فأخبرته بمثل ما أخبره الخصي، ثم عزلها وسأل الإخوة فأخبروه بمثل ذلك وقالوا: نحن الذي صنعنا به الذي ترى، قال: فعزلهم وأمر برقيقه ودوابه وماله للمرأة، فقالت المرأة: عندي هديته، فقال: بارك الله لك فيها وأكثر في النساء مثلك، هي لك، وكل ما ترك من شيء، فهو لك، وقال: مثل هذا لا يدفن، فألقوه للكلاب.
ودعا بالخصي وقال: أما أنت فقد قلت لا أضرب عنقك، فأمر بضرب وسطه.
وفي هذه السنة حج بالناس الوليد بن عبد الملك، وكان أمير المدينة أبان، وأمير الكوفة والبصرة
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(6/201)
وخراسان وسجستان الحجاج، وعلى قضاء الكوفة شريح، وفي رواية: وعلى قضاء البصرة موسى بن أنس.
وأغزى عبد الملك في هذه السنة يحيى بن الحكم.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
473- جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام بن ثعلبة، أبو عبد الله [1] :
شهد العقبة مع السبعين، وكان أصغرهم، وأراد شهود بدر فخلفه أبوه على أخواته وكن تسعه، وخلفه أيضا حين خرج إلى أحد، وشهد ما بعد ذلك.
وتوفي في هذه السنة وهو ابن أربع وتسعين سنة، وكان قد ذهب بصره، وصلى عليه أبان بن عثمان وهو والي المدينة يومئذ.
__________
[1] طبقات خليفة 102، والتاريخ الكبير 2/ 1/ 207، والجرح والتعديل 1/ 1/ 492، والاستيعاب 1/ 219، وتهذيب تاريخ دمشق 2/ 389، وسير أعلام النبلاء 3/ 189، وتاريخ الإسلام 3/ 143.(6/202)
ثم دخلت سنة تسع وسبعين
فمن الحوادث فيها وقوع الطاعون بالشام حتى كاد الناس يفنون من شدته. ولم يغز تلك/ السنة.
وفيها: أصابت الروم أهل أنطاكية.
وفيها غزا عبيد الله رثبيل [1] :
وذلك أن الحجاج كتب [إليه] [2] : لا ترجع حتى تستبيح أرضه، وتهدم قلاعه، وتقتل مقاتلته، وتسبي ذريته، فخرج بمن معه من المسلمين وأهل الكوفة والبصرة.
وكان من أهل الكوفة شريح بن هانئ الحارثي، وكان من أصحاب علي رضي الله عنه، فمضى حتى أوغل في بلاد رثبيل، فأصاب من الغنم والبقر والأموال ما شاء، وهدم قلاعها وحصونها، ودنوا من مدينة الترك، فأخذوا على المسلمين بالعقاب والشعاب، وخلوهم والرساتيق، فسقط في يد المسلمين، فظنوا أن قد هلكوا، فبعث ابن أبي بكرة إلى شريح بن هاني: إني مصالح القوم على أن أعطيهم مالا ويخلوا بيني وبين الخروج، فأرسل إليهم فصالحهم على سبعمائة ألف درهم، فقال له شريح: إنك لا تصالح على شيء إلا حسبه السلطان عليكم في أعطياتكم [3] ، فقالوا: منعنا العطاء أهون من هلاكنا، فقال شريح: والله لقد بلغت سنا وما أظن ساعة تأتي علي فتمضي
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 322، والبداية والنهاية 9/ 32.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «عليك من أعطياتكم» .(6/203)
حتّى أموت، ولقد كنت أطلب الشهادة منذ زمان، فأتتني اليوم، يا أهل الشام [1] ، تعاونوا على عدوكم. فقال له ابن أبي بكرة: إنك شيخ قد خرفت، فقال له شريح: إنما حسبك أن يقال: بستان ابن أبي بكرة، أو حمام ابن أبي بكرة، يا أهل الشام [2] ، من أراد الشهادة فليأت، فتبعه ناس من المتطوعة، فقاتل حتى قتل في ناس من أصحابه ثم خرج المسلمون من تلك البلاد.
وفي هذه السنة قدم المهلب خراسان أميرا عليها، وانصرف أمية بن عبد الله.
وفيها: حج بالناس أبان بن عثمان، وكان أميرا على المدينة من قبل عبد الملك، وكان على العراق والمشرق كله الحجاج، وعلى خراسان المهلب من قبل الحجاج.
وقيل: إن المهلب كان على حربها، وابنه المغيرة كان على خراجها، وكان على قضاء الكوفة/ أبو بردة، وعلى قضاء البصرة موسى بن أنس.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
474- الحارث المتنبي الكذاب [2] :
روى عبد الوهاب بن نجدة الحوطي، قَالَ: حدثنا محمد بن المبارك، قَالَ:
حدثنا الوليد بْن مسلم، عَنْ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن حسان، قال [3] :
كان الحارث الكذاب من أهل دمشق، وكان مولى لأبي الجلاس، وكان له أب بالحولة، فعرض له إبليس، وكان متعبدا زاهدا لو لبس جبة من ذهب لرؤيت عليه زهادة، وكان إذا أخذ في التحميد لم يسمع السامعون بأحسن من كلامه. قال: فكتب إلى أبيه:
يا أبتاه، أعجل علي فإني قد رأيت شيئا أتخوف أن يكون من الشيطان. قال: فزاده أبوه
__________
[1] في تاريخ الطبري: «يا أهل الشام» .
[2] البداية والنهاية 9/ 30، ومعجم البلدان 2/ 323.
[3] الخبر في المراجع السابقة، وجاء في البداية محرف.(6/204)
غيا، فكتب إليه: يا بني، أقبل على ما أمرت به إن الله يقول: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ 26: 221- 222 [1] ولست بأفاك ولا أثيم، فامض لما أمرت به، وكان يجيء إلى أهل المسجد رجلا رجلا، فيذاكرهم أمره. ويأخذ عليهم العهد والميثاق إن هو رأى ما يرضي قبل، وإلا كتم عليه، وكان يريهم الأعاجيب، كان يأتي إلى رخامة [في] المسجد فينقرها بيده فتسبح. وكان يطعمهم فاكهة الصيف في الشتاء ويقول: اخرجوا حتى أريكم الملائكة، فيخرجهم إلى دير المران، فيريهم رجالا على خيل. فتبعه بشر كثير، وفشا الأمر وكثر أصحابه حتى وصل الأمر إلى القاسم بن مخيمرة [2] [فعرض على القاسم، وأخذ عليه العهد والميثاق إن رضي أمرا قبله، وإن كره كتم عليه] [3] فقال له: إني نبي، فقال القاسم: كذبت يا عدو الله، فقال له أبو إدريس: بئس ما صنعت، إذ لم تلين له حتى نأخذه، الآن يفر وقام [القاسم] [4] من مجلسه حتى دخل على عبد الملك فأعلمه بأمره، فبعث عبد الملك [5] في طلبه فلم يقدر عليه، وخرج عبد الملك حتى نزل الصبيرة [6] واتهم عامة عسكره بالحارث أن يكونوا يرون رأيه، وخرج الحارث حتى أتى بيت المقدس فاختفى فيه، وكان أصحابه يخرجون فيلتمسون الرجال، فيدخلونهم عليه، وكان رجل من أهل البصرة قد أتى بيت المقدس فدخل على الحارث فأخذ في التحميد، ثم أخبره بأمره وأنه نبي مبعوث/ مرسل، فقال له: إن كلامك لحسن ولكن في هذا نظر. قال: فانظر. فخرج البصري ثم عاد إليه فرد عليه كلامه، فقال: إن كلامك لحسن، قد وقع في قلبي وقد آمنت بك وهذا الدين المستقيم، فأمر ألا يحجب، فأقبل البصري يتردد إليه ويعرف مداخله ومخارجه وأين يهرب حتى إذا صار أخص الناس به. ثم قال له: ائذن لي، قال:
إلى أين؟ قال: إلى البصرة أكون أول داعية لك بها، فأذن له.
__________
[1] سورة: الشعراء، الآية: 221، 222.
[2] في الأصل: «إلى الحارث بن مخيمرة» . وما أوردناه من ت، وهو يوافق ما في المراجع.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من معجم البلدان.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[5] «فأعلمه بأمره فبعث عبد الملك» : ساقط من ت.
[6] في الأصل: «فنزل ضمير» خطأ. والتصحيح من الله ومعجم البلدان.(6/205)
فخرج مسرعا إلى عبد الملك وهو بالصبيرة [1] ، فلما دنا من سرادقه صاح:
النصيحة النصيحة، فقال أهل العسكر: وما نصيحتك؟ قال: نصيحة لأمير المؤمنين، قالوا: قل، قال [2] : حتى أدنو [3] من أمير المؤمنين، فأمر عبد الملك أن يأذنوا له، فدخل وعنده أصحابه. قال: فصاح: النصيحة النصيحة النصيحة، قال: اخلني لا يكن عندك أحد، فأخرج من في البيت، ثم قال له: ادنني، قال: أدن، فدنا من عبد الملك على السرير، قال: ما عندك؟ قال: الحارث، فلما ذكر الحارث رمى بنفسه عن السرير ثم قال: وأين هو؟ قال: يا أمير المؤمنين هو بيت المقدس، عرفت مداخله ومخارجه، فقص عليه قصته وكيف صنع به، فقال: أنت صاحبه، وأنت أمير بيت المقدس وأمير ها هنا فمرني بما شئت، فقال: يا أمير المؤمنين، ابعث معي قوما لا يفهمون [4] الكلام، فأمر أربعين رجلا من فرغانة، فقال: انطلقوا مع هذا فما أمركم من شيء فأطيعوه. وكتب إلى صاحب بيت المقدس: إن فلانا الأمير عليك حتى تخرج فأطعه فيما أمرك به.
فلما قدم بيت المقدس أعطاه الكتاب، فقال: مرني بما شئت، فقال: اجمع لي كل شمعة تقدر عليها ببيت المقدس، وادفع كل شمعة إلى رجل ورتبهم على أزقة بيت المقدس، وزواياها فإذا قلت: أسرجوا أسرجوا جميعا. فرتبهم في أزقة بيت المقدس وزواياها [5] بالشمع وتقدم البصري وحده إلى منزل الحارث، فأتى الباب، فقال للحاجب: استأذن لي على نبي الله، قال: في هذه الساعة ما يقدرون عليه وما يؤذن عليه حتى يصبح، قال: أعلمه أني إنما رجعت شغفا [6] إليه قبل أن أصل/ فدخل عليه فأعلمه بكلامه، فأمره ففتح، قال: ثم صاح البصري: أسرجوا، فأسرجت الشموع حتى كانت كأنها النهار [7] . ثم قال: من مر بكم فاضبطوه، ودخل هو إلى الموضع الّذي يعرفه
__________
[1] في الأصل: «بالضمير» . وفي ت: «بالبصيرة» . وكلاهما خطأ.
[2] «قالوا: قل، قال» : ساقط من ت.
[3] في ت: «حتى دنا من أمير المؤمنين» .
[4] في معجم البلدان: «لا يفقهون» .
[5] «فإذا قلت أسرجوا ... بيت المقدس وزواياها» : ساقط من ت.
[6] في ت: ومعجم البلدان: «شوقا» والمعنى واحد.
[7] في ت: «كأنها النار» . وفي معجم البلدان: «حتى كان بيت المقدس كأنه نهار» .(6/206)
فطلبه فلم يجده، فقال أصحابه: هيهات تريدون أن تقتلوا نبي الله، إنه قد رفع إلى السماء، قال: فطلبه في شق كان قد هيأه سربا، فأدخل البصري يده في ذلك السرب فإذا هو بثوبه، فاجتره فأخرجه إلى خارج، ثم قال للفرغانيين: اربطوه، فربطوه. فبينا هم يسيرون على البريد إذ قال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله، فقال أهل فرغانة أولئك العجم: هذا كراننا فهات كرانك أنت، فساروا به حتى أتي به عبد الملك، فلما سمع به أمر بخشبة فنصبت فصلبه، وأمر بحربة وأمر رجلا فطعنه فأصاب ضلعا من أضلاعه فكفت [1] الحربة، فجعل الناس يصيحون: الأنبياء لا يجوز فيهم السلاح، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين تناول الحربة ثم مشى إليه، ثم أقبل يتحسس حتى وافى بين ضلعين فطعنه بها فأنفذه فقتله.
وروى أبو الربيع عن شيخ أدرك القدماء، قال: لما حمل الحارث على البريد، وجعلت في عنقه جامعة من حديد فجمعت يده إلى عنقه، فأشرف على عقبة بيت المقدس تلى هذه الآية: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي 34: 50. فتقلقلت الجامعه ثم سقطت من يده ورقبته إلى الأرض، فوثب الحرس فأعادوها، ثم ساروا به فأشرف على عقبة أخرى فقرأ آية فسقطت من رقبته فأعادوها، فلما قدموا على عبد الملك حبسه وأمر رجالا من أهل الفقه والعلم أن يعظوه ويخوفوه ويعلموه أن هذا من الشيطان، فأبى أن يقبل منهم. فصلب وجاء رجل بحربة فطعنه فانثنت، فتكلم الناس وقالوا: ما ينبغي لمثل هذا أن يقتل. ثم أتاه حرسي برمح دقيق فطعنه بين ضلعين من أضلاعه فأنفده.
قال مؤلف الكتاب [2] : وسمعت من قال: قال/ عبد الملك للذي ضربه بالحربة فانثنت: أذكرت الله حين طعنته؟ قال: نسيت، قال: فاذكر الله. ثم اطعنه، وطعنه فأنفذها.
__________
[1] في معجم البلدان: «فكاعت الحربة» .
[2] «قال مؤلف الكتاب» : ساقطة من ت.(6/207)
475- قيس بن عبد الله بن عدس بن ربيعة، أبو ليلى [1] :
وهو النابغة، نابغة بني جعدة، وقيل: اسمه عبد الله بن قيس، والأول أصح [2] .
كان جاهليا وأدرك الإسلام، ووفد على رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ وأنشده. وقال له عمر:
أنشدنا مما عفا الله عنه. فأنشده قصيدة، وعمر في الإسلام حتى أدرك الأخطل النصراني ونازعه الشعر. قال ابن قتيبة: فغلبه الأخطل ومات بأصبهان وهو ابن عشرين ومائة سنة.
وقال الأصمعي: عاش مائة وستين.
أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الطُّوسِيُّ [3] ، وَأَبُو القاسم السمرقندي، وأبو عبد الله بن البناء، وَأَبُو الْفَضْلِ الْمُقْرِي، وَأَبُو الْحَسَنِ الْخَيَّاطُ، قَالُوا: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ النَّقُّورِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الدَّقَّاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْبَغَوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ الأَشْدَقِ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّابِغَةَ يَقُولُ [4] :
أَنْشَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم:
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا ... وإنا لنرجو بَعْدَ ذَلِكَ مَظْهَرًا [5]
فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «فَأَيْنَ الْمَظْهَرُ يَا أَبَا لَيْلَى» ، فَقُلْتُ: الْجَنَّةَ، فَقَالَ: «أَجَلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» ، ثُمَّ قُلْتُ:
وَلا خَيْرَ فِي حُلُمٍ إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ ... بَوَادِرُ تَحْمِي صَفْوَهُ أَنْ يُكَدَّرَا
وَلا خَيْرَ فِي جَهْلٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ... حَلِيمٌ إِذَا مَا أَوْرَدَ الأَمْرُ أَصْدَرَا
فقال النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ: «أَجَدْتَ لا يُفَضِّضُ اللَّهُ فَاكَ» . مَرَّتَيْنِ.
__________
[1] الأغاني 5/ 5 (دار الكتب العلمية) . وفيه: اسمه «حبان بن قيس بن عبد الله» وقال: وهو الصحيح، وشرح شواهد المغني 209، وفيه: «حسان بن قيس بن عبد الله، وأكد هذا بقوله: «كذا صححه صاحب الأغاني» ، والإصابة 3/ 537، وأمالي المرتضى 1/ 190، وسمط اللآلي 247، وطبقات فحول الشعراء 103.
[2] راجع هذا الاختلاف في اسمه في الأغاني 5/ 5، وباقي المراجع.
[3] في الأصل: «أبو نصر الطوسي» . وما أوردناه من ت.
[4] الخبر في الأغاني 5/ 12.
[5] في الأغاني: «وإنا لنبغي فوق ذلك مظهرا» .(6/208)
أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ النَّقُّورِ، قال: أخبرنا علي بن عيسى الْوَزِيرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْبَغَوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي الزُّبَيْرُ بْن بَكَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَخِي هَارُونُ بْنُ أبي بَكْرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أبيه، عن عمه عبد الله بن عَمْرٍو، قَالَ [1] :
أَقْحَمَتِ السُّنَّةُ النَّابِغَةَ- نَابِغَةَ بَنِي جَعْدَةَ- فَدَخَلَ عَلَى الزُّبَيْرِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، فَأَنْشَدَهُ:
حَكَيْتَ لَنَا الصِّدِّيقُ لَمَّا وَلِيتَنَا ... وَعُثْمَانَ وَالْفَارُوقَ فَارْتَاحَ مُعْدِمُ
وَسَوَّيْتَ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ [2] فَاسْتَوَوْا ... فَعَادَ صَبَاحًا حَالِكُ اللَّوْنِ مُظْلِمُ [3]
أَتَاكَ أَبُو لَيْلَى يَجُوبُ بِهِ الدُّجَى ... دُجَى اللَّيْلِ جَوَّابُ الفلاة عشمشم [4]
لتجبر منه جانبا دغدغدت بِهِ [5] ... صُرُوفُ اللَّيَالِي وَالزَّمَانُ الْمُصَمِّمُ
فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: هَوِّنْ عَلَيْكَ أَبَا لَيْلَى، فَإِنَّ الشِّعْرَ أهون وسائلك عندنا، أما صفوة مالنا فَلآلِ الزُّبَيْرِ، وَأَمَّا عَفْوَةُ فَإِنَّ بَنِي أَسَدٍ تَشْغِلُنَا عَنْكَ وَتَيْمَاءَ، وَلَكِنَّ لَكَ فِي مَالِ اللَّهِ حَقَّانِ: حَقٌّ بِرُؤْيَتِكَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، وَحَقٌّ بِشِرْكَتِكَ أَهْلِ الإِسْلامِ فِي فَيْئِهِمْ. ثم أخذ بيده فدخل به دار النّعم، فَأَعْطَاهُ قَلائِصَ سَبُعًا وَجَمَلا رَجِيلا [6] ، وَأَوْقَرَ لَهُ الرِّكَابَ بُرًّا وَتَمْرًا وَثِيَابًا، فَجَعَلَ النَّابِغَةُ يَسْتَعْجِلُ فَيَأْكُلُ الْحَبَّ صرفًا، فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: وَيْحَ أَبِي لَيْلَى، لَقَدْ بَلَغَ مِنْهُ الْجَهْدُ، فَقَالَ النَّابِغَةُ أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا وُلِّيَتْ قُرَيْشٌ [فَعَدَلْت] [7] فَرَحَمَتْ وَاسْتُرْحِمَتْ فَرَحَمَتْ، وَحَدَّثَتْ فَصَدَقَتْ، وَوَعَدَتْ خَيْرًا فَأَنْجَزَتْ، فأنا والنبيون فرّاط القاصفين» .
__________
[1] الخبر في الأغاني 5/ 32.
[2] على هامش ت: «بالمسجد» .
[3] البيت ساقط من الأغاني. والعثمثم: الجمل الشديد الطويل.
[4] البيت ساقط من ت.
[5] في الأغاني: «زعزعت به» .
[6] الجمل الرجيل: القوي على السير. وقد وردت في الأصل: «وخيلا» .
[7] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الأغاني.(6/209)
رواه محمد بن العباس الزبيري، عن الزبير بن بكار، وإسناد الحديث ومتنه له، قال الزبيري: والفارط الذي يتقدم فيسقي الماء للإبل التي للقوم [1] .
وأنشد القطامي:
واستعجلونا وكانوا من صحابتنا ... كما تعجل فراط لورّاد
والقاصفون: المسرعون بعضهم إثر بعض، ومنه الرعد القاصف، الريح/ يتبع بعضها بعضا. والرجيل القوي الشديد.
أَنْبَأَنَا زاهر بْن طاهر، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن الحسين الْبَيْهَقِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ، قال: سمعت أبا زكريا العنبري يقول: سمعت محمد بن داود الخطيب يقول: سمعت أحمد بن أبي سريج يقول: سمعت النضر بن شميل يقول وسئل من أكبر من لقيت؟ قال: المنتجع الأعرابي. قال: وقلت للمنتجع: من أكبر من لقيت؟ قال [2] : النابغة الجعدي، فقلت للنابغة: كم عشت في الجاهلية؟ قال:
[عشت] [3] دارين، ثم أدركت محمدا صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ فأسلمت.
قال النضر: الداران مائتا سنة. قال النابغة: فكنت أجيب عن النبي صَلى الله عليه وآله وسلم حتى قبضه الله عز وجل.
__________
[1] في ت: «لإبل القوم» .
[2] «قال المنتجع الأعرابي ... من أكبر من لقيت؟ قال» : ساقط من ت.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(6/210)
ثم دخلت سنة ثمانين
فمن الحوادث فيها [1] .
سيل وقع بمكة ذهب بالحاج، وغرق بيوت مكة، فسمي ذلك [العام] [2] عام الجحاف لأنه جحف كل شيء مر به، حتى أنه كان يأخذ الإبل عليها الحمولة والرجال والنساء ليس لأحد فيهم حيلة، وبلغ السيل الركن وجاوزه.
وفي هذه السنة قطع المهلب نهر بلخ لقتال الكفار، وصالحهم على فدية.
وفيها: كان بالبصرة الطاعون الجارف، في قول الواقدي رحمه الله.
وفيها وجه الحجاج محمد بن عبد الرحمن بن الأشعث إلى سجستان لحرب رتبيل صاحب الترك [3]
وذلك أن الحجاج جهز عشرين ألفا من أهل الكوفة، وعشرين ألفا من أهل البصرة، وأعطى الناس أعطياتهم كملا [4] ، وأخذهم بالخيول الروائع، والسلاح الكامل، وأخذ يعرض الناس، ولا يرى رجلا تذكر منه شجاعة إلا أحسن معونته، ثم بعث عليهم عبد الرحمن بن/ الأشعث، فقدم بالجيش سجستان، وصعد منبرها،
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 325.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] تاريخ الطبري 6/ 326، والبداية والنهاية 9/ 35.
[4] يقال: أعطاه المال كملا، أي: كاملا.(6/211)
فقال: إن الأمير الحجاج ولاني ثغركم، وأمرني بجهاد عدوكم الذي استباح بلادكم، وأباد أجنادكم، فإياكم أن يتخلف منكم رجل فتحل بنفسه العقوبة، اخرجوا إلى معسكركم فعسكروا مع الناس.
فعسكر الناس ووضعت لهم الأسواق، وتهيأوا للحرب. فبلغ ذلك رتبيل. فكتب إلى عبد الرحمن يعتذر إليه من مصاب المسلمين، ويخبره أنه كان لذلك كارها، وأنهم ألجئوه إلى قتالهم، ويسأله الصلح، ويعرض عليه أن يقبل منه الخراج، فلم يجبه، وسار في الجنود إليه حتى دخل أول بلاده، وأخذ رتبيل يضم جنده إليه، ويدع له الأرض رستاقا وحصنا حصينا، وطفق [1] ابن الأشعث كلما حوى بلدا بعث إليه عاملا وأعوانا، وجعل الأرصاد على العقاب والشعاب، ووضع المسالح بكل مكان مخوف، حتى إذا ملأ يديه من البقر والغنم والغنائم العظيمة حبس الناس عن الإيغال [2] في أرض رتبيل، وقال: نكتفي بما قد أصبنا العام من بلادهم حتى نجبيها ونعرفها، ثم نتعاطى في العام المقبل ما وراءها، ثم لا نزال ننتقص في كل عام طائفة من أرضهم حتى نقاتلهم على كنوزهم وذراريهم، وفي ممتنع حصونهم، ثم كتب إلى الحجاج بذلك.
وذكر بعض علماء السير في سبب تولية ابن الأشعث غير هذا، فقال: كان الحجاج قد وجه هميان بن علي السدوسي [3] إلى كرمان، وكان عاملا على سجستان، فكتب الحجاج عهد ابن الأشعث عليها، وجهز إليها جيشا أنفق عليه ألفي درهم سوى أعطياتهم، وأمره بالإقدام على رتبيل.
وفي هذه السنة أغزى عبد الملك ابنه الوليد.
وفيها حج بالناس أبان بن عثمان، وكان على المدينة، وقيل: بل سليمان بن عبد الملك، وكان على العراق والمشرق كله الحجاج، وعلى خراسان المهلب بن أبي
__________
[1] في ت: «وجعل ابن الأشعث» .
[2] كذا في الأصول، وفي تاريخ الطبري: «عن الوغول» .
[3] كذا في الأصول، وفي الطبري: «هميان بن عدي السدوسي» .(6/212)
صفرة من قبل الحجاج، وعلى قضاء الكوفة أبو بردة، وعلى/ قضاء البصرة موسى بن أنس.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
476- خيثمة بن عبد الرحمن بن أبي سبرة [1] ، واسمه يزيد بن مالك الجعفي [2] :
أدرك علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وعبد الله بن عمر، وعدي بن حاتم، والنعمان بن بشير في آخرين من الصحابة.
وكان عالما عابدا زاهدا، ورث مائتي ألف درهم فأنفقها على الفقهاء والقراء [3] .
أخبرنا محمد بن أبي القاسم، قال: أَخْبَرَنَا حَمَدُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم الأصفهاني، قال: حدثنا أبو حامد بن جبلة، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إِسْحَاق، قَالَ:
حَدَّثَنَا هناد، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، قال:
ربما دخلنا على خيثمة فيخرج العسكر من تحت السرير عليها الخبيص [4] والفالوذج، فيقول: ما أشتهيه، كلوا أما إني ما جعلته إلا لكم.
وكان موسرا، وكان يصر الدراهم، فإذا رأى الرجل من أصحابه متخرق القميص أو الرداء أو به خلة تحينه، فإذا خرج من الباب خرج هو من باب آخر حتى يلقى فيقول:
اشتر قميصا، اشتر رداء، اشتر حاجة كذا.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم، قال: حدثنا حمد بْنُ أحمد الحداد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم أَحْمَد بْن عَلي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر بْن مَالِكٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حدثني خلاد بن أسلم، قال: حدثنا سعيد بن خيثم، [قال:
حدثنا] [5] محمد بن خالد الضبي، قال:
__________
[1] في الأصول: «ابن أبي سبط» . وهو خطأ.
[2] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 200، وطبقات خليفة 156، والتاريخ الكبير 3/ 732. والجرح والتعديل 3/ 1808، وحلية الأولياء 4/ 113، وتاريخ الإسلام 3/ 247، وسير أعلام النبلاء 4/ 320.
[3] في ت: «والفقراء» .
[4] خبص الحلواء يخبصها خبصا: خلطها وعملها.
[5] ما بين المعقوفتين: من ت، ومكانها في الأصل: «عن» .(6/213)
لم نكن ندري كيف يقرأ خيثمة القرآن حتى مرض فثقل، فجاءته امرأته فجلست بين يديه فبكت، فقال لها: ما يبكيك؟ الموت لا بد منه، فقالت له المرأة: الرجال بعدك علي حرام، فقال لها خيثمة: ما كل هذا أردت منك، إنما كنت أخاف رجلا واحدا وهو أخي محمد بن عبد الرحمن، وهو رجل فاسق يتناول الشراب فكرهت أن يشرب في بيتي الشراب بعد أن القرآن يتلى فيه كل ثلاث.
قال عبد الله بن أحمد: وحدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: وحدثنا معاوية/ بن هشام [1] ، عن سفيان، عن رجل، عن خيثمة أنه أوصى أن يدفن في مقبرة فقراء قومه.
477- عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، ويكنى أبا جعفر [2] :
وأمه أسماء بنت عميس. ولد بأرض الحبشة لما هاجر والداه إليها، وقال: أنا أحفظ حين دخل رسول الله صَلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ على أمي فنعى لها أبي فأنظر إليه وهو يمسح على رأسي ورأس أخي وعيناه تهراقان بالدموع حتى تقطر على لحيته، ثم قال: «اللَّهمّ إن جعفر قد قدم إلي أحسن الثواب فأخلفه في ذريته بأحسن ما خلفت أحدا من عبادك في ذريته» . أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ الْبَزَّازُ، قَالَ: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا ابْن معروف، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن الفهم، قَالَ: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَسَدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ رِبْعِيِّ بْنِ خراش، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، أَنَّ عَلِيًّا قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَلا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ لَمْ أُعَلِّمْهُنَّ حَسَنًا وَلا حُسَيْنًا: إِذَا سَأَلْتَ اللَّهَ مَسْأَلَةً فَأَرَدْتَ أَنْ تَنْجَحَ فَقُلْ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ. أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَوْصِلِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَهْلٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، قال:
__________
[1] في ت: «وحدثنا هشام، عن سفيان» .
[2] مروج الذهب 3/ 176، والبداية والنهاية 9/ 36، وتهذيب الكمال 4/ 367.(6/214)
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ النَّخَعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ:
جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، فَقَالَتْ لَهُ: يَا سَيِّدِي، وَهَبَتْ لِي بَعْضُ جَارَاتِي بَيْضَةً فَحَضَنْتُهَا تَحْتَ ثَدْيَيَّ حَتَّى خَرَجَتْ فَرُّوجَةٌ، فَغَذَوْتُهَا بِأَطْيَبِ الطَّعَامِ حَتَّى بَلَغَتْ وَقَدْ ذَبَحْتُهَا وَشَوَيْتُهَا وَكَفَّنْتُهَا بِرقَاقَتَيْنِ وَجَعَلْتُ للَّه عَلَيَّ أَنْ أَدْفِنَهَا فِي أَكْرَمِ بُقْعَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا أَعْلَمُ وَاللَّهِ بُقْعَةً أَكْرَمَ/ مِنْ بَطْنِكَ. فَكُلْهَا. فَقَالَ: يَا بَدِيحُ، خُذْهَا مِنْهَا وَامْضِ فَانْظُرْ إِلَى الدَّارِ الَّتِي هِيَ فِيهَا، فَإِنْ كَانَتْ لَهَا فَاشْتَرِ لَهَا مَا حَوْلَهَا مِنَ الدُّورِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهَا فَاشْتَرِهَا وَاشْتَرِ لَهَا مَا حَوْلَهَا. فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: قَدِ اشْتَرَيْتُ الدَّارَ لَهَا وَمَا حَوَالَيْهَا، فقال: احمل لها على ثلاثين بعير حِنْطَةً وَشَعِيرًا وَأَرْزًا وَزَبِيبًا وَتَمْرًا وَدَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ. قَالَتِ الْعَجُوزُ: لا تُسْرِفْ، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ.
قال النخعي: وأخبرني داود بن الهيثم، عن أبيه، عن جده، عن إسحاق: أن أعرابيا أتى عبد الله بن جعفر وهو محموم، فأنشأ يقول:
كم لوعة للندى وكم قلق ... للجود والمكرمات من قلقك
ألبسك الله منه عافية ... في يومك المعترى وفي أرقك
أخرج من جسمك السقام كما ... أخرج دم الفعال من عنقك
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مَطَرٍ [1] الْحَنْبَلِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ أَخِي مِيمِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْبَغَوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ:
جَلَبَ رَجُلٌ سُكَّرًا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَكَسَدَ عَلَيْهِ، فَذكر ذَلِكَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، فَأَمَرَ قَهْرَمَانَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ وَيُنْهِبَهُ [2] النَّاسَ.
أخبرتنا شهدة بنت [أحمد] [3] الكاتبة، قال: أخبرنا أبو محمد جعفر بن أحمد
__________
[1] في الأصل: «الحسن بن نظر» وما أوردناه من ت.
[2] في البداية والنهاية: «ويهديه» .
[3] ما بين المعقوفتين: من هامش الأصل.(6/215)
السراج، قال: حدثنا أبو علي محمد بن الحسن الجازري [1] إجازة إن لم يكن سماعا، قال: حدثنا المعافى بن زكريا، قال: حدثنا أبو النضر العقيلي، عن جماعة من مشايخ أهل المدينة، قالوا:
كانت عند عبد الله بن جعفر جارية مغنية يقال لها: عمارة، وكان يجد بها وجدا شديدا، وكان لها منه مكان لم يكن لأحد من جواريه، فلما/ وفد عبد الله بن جعفر على معاوية وخرج بها معه، فزاره يزيد ذات يوم فأخرجها إليه، فلما نظر إليها وسمع غناءها وقعت في نفسه، فأخذه عليها ما لا يملكه، وجعل لا يمنعه [2] من أن يبوح بما يجد بها إلا مكان أبيه مع يأسه من الظفر بها، فلم يزل يكاتم أمرها إلى أن مات معاوية، وأفضى الأمر إليه، فاستشار بعض من قدم عليه من أهل المدينة وعامة من يثق به في أمرها، وكيف الحيلة فيها، فقيل له: إن أمر عبد الله بن جعفر لا يرام، ومنزله من الخاصة ومن العامة ومنك ما قد علمت، وأنت لا تستحسن [3] إكراهه، وهو لا يبيعها بشيء أبدا، وليس يغني في هذا إلا الحيلة.
فقال: انظروا لي رجلا عراقيا له أدب وظرف ومعرفة، فطلبوه، فأتوه به. فلما دخل رأى بيانا وحلاوة وفهما، فقال يزيد: إني دعوتك لأمر إن ظفرت به فهو حظك عندي آخر الدهر، ويد أكافئك عليها إن شاء الله. ثم أخبره بأمره، فقال له: إن عبد الله [ابن جعفر] [4] لا يرام ما قبله إلا بالخديعة، ولن يقدر أحد على ما سألت فأرجو أن أكونه، والقوة باللَّه، فأعني بالمال. قال: خذ ما أحببت، فأخذ من طرف الشام وثياب مضر، واشترى متاعا للتجارة من رقيق ودوآب وغير ذلك، ثم شخص إلى المدينة، فأناخ بعرصة عبد الله بن جعفر، واكترى منزلا إلى جانبه، ثم توسل إليه، وقال: رجل من أهل العراق قدمت بتجارة فأحببت أن أكون في عز جوارك وكنفك إلى أن أبيع ما جئت به، فبعث عبد الله بن جعفر إلى قهرمانه: أن أكرم الرجل ووسع عليه في منزله [5] فأنزله.
__________
[1] في الأصل: «الخماروي» خطأ. وما أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «ما يمنعه» . وما أوردناه من ت.
[3] في ت: «لا تستجيز» .
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[5] في ت: «ووسع عليه في نزله» .(6/216)
فلما اطمأن العراقي سلم عليه وعرفه نفسه، وهيأ له بغلة فارهة وثيابا من ثياب العراق وألطافا، فبعث بها إليه، وكتب معها: يا سيدي، إني رجل تاجر، ونعم الله علي سابغة، وقد بعثت إليك بشيء من طرف [1] وكذا من الثياب والعطر، وبعثت ببغلة خفيفة العنان وطية الظهر، وأنا أسألك بقرابتك من رسول الله صَلى اللهُ عليه وآله وَسَلَّمَ/ إلا قبلت هديتي، ولا توحشني بردها، إني أدين للَّه تعالى بحبك وحب أهل بيتك، وإن أعظم أملي في سفرتي أن أستفيد الأنس بك، والتحرم بمواصلتك. فأمر عبد الله بقبض هديته وخرج إلى الصلاة، فلما رجع مر بالعراقي في منزله، فقام إليه وقبل يده، فرأى أدبا وظرفا وفصاحة، فأعجب به وسر بنزوله عليه، فجعل العراقي في كل يوم يبعث إلى عبد الله بطرف، فقال عبد الله: جزى الله ضيفنا هذا خيرا، قد ملأنا شكرا وما نقدر على مكافأته. فإنه لكذلك إلى أن دعاه عبد الله، ودعا بعمارة في جواريه، فلما طاب لهما المجلس وسمع غناء عمارة تعجب وجعل يزيد في عجبه، فلما رأى كذلك عبد الله سر به إلى أن قال:
هل رأيت مثل عمارة؟ قال: لا والله يا سيدي ما رأيت مثلها، وما تصلح إلا لك، وما ظننت أن تكون في الدنيا مثل هذه الجارية، حسن وجه، وحسن عمل، قال: فكم تساوي عندك؟ قال: ما لها ثمن إلا الخلافة، فقال: تقول هذا لتزين لي رأيي فيها وتجلب سروري، قال له: يا سيدي، والله إني لأحب سرورك وما قلت لك إلا الجد، وبعد فإني تأجر أجمع الدرهم على الدرهم طلبا للربح، ولو أعطيتها بعشرة آلاف دينار لأخذتها، فقال عبد الله: عشرة آلاف؟ قال: نعم. ولم يكن في ذلك الزمان جارية تعرف بهذا الثمن. فقال له عبد الله: أنا أبيعكها بعشرة آلاف، قال: قد أخذتها، قال: هي لك، قال: قد وجب البيع.
وانصرف العراقي، فلما أصبح عبد الله لم يشعر إلا بالمال قد وافى به، فقيل لعبد الله: قد بعث العراقي بعشرة آلاف دينار وقال: هذا ثمن عمارة، فردها وكتب إليه إنما كنت أمزح معك، وإنما أعلمك أن مثلي لا يبيع مثلها. فقال: جعلت فداك، إن الجد والهزل في البيع سواء، فقال له عبد الله: ويحك ما أعلم جارية تساوي ما بذلت، ولو
__________
[1] في ت: «من لطف» .(6/217)
كنت بايعها من أحد لآثرتك ولكني كنت مازحا وما أبيعها بملك الدنيا/ لحرمتها بي وموضعها من قلبي، فقال العراقي: إن كنت مازحا فإني كنت جادا، وما اطلعت على ما في نفسك، وقد ملكت الجارية وبعثت إليك بثمنها، وليست تحل لك، وما لي من أخذها بد، فمانعه أياما، فقال: ليست لي بينة ولكني استحلفك عند قبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ومنبره.
فلما رأى عبد الله الجد، قال: بئس الضيف أنت، ما طرقنا طارق ولا نزل بنا نازل أعظم بلية منك، أتحلفني فيقول الناس: اضطهد عبد الله ضيفه وقهره فألجأه إلى أن استحلفه، أما والله ليعلمن الله عز وجل أني سأبليه في هذا الأمر الصبر وحسن العزاء، ثم أمر قهرمانه بقبض المال منه وتجهيز الجارية. فجهزت بنحو من ثلاثة آلاف دينار، وقال: هذا لك ولك عوضا مما ألطفتنا، والله المستعان.
فقبض العراقي الجارية وخرج بها، فلما برز من المدينة قال لها: يا عمارة، إني والله ما ملكتك قط ولا أنت لي، ولا مثلي يشتري جارية بعشرة آلاف دينار، وما كنت لأقدم على ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وأسلبه أحب الناس إليه لنفسي، ولكني دسيس من يزيد بن معاوية، وأنت له، وفي طلبك بعث بي، فاستتري مني، فإن داخلني الشيطان في أمرك أو تاقت نفسي إليك فامتنعي.
ثم مضى بها حتى ورد دمشق، فتلقاه الناس بجنازة يزيد وقد استخلف ابنه معاوية بن يزيد، فأقام أياما ثم تلطف للدخول إليه فشرح له القصة.
ويروى أنه لم يكن أحد من بني أمية يعدل بمعاوية بن يزيد في زمانه نبلا ونسكا، فلما أخبره قال: هي لك وكل ما دفعه إليك من أمرها فهو لك، فارحل من يومك فلا أسمع بخبرك في شيء من بلاد الشام.
فرحل العراقي ثم قال للجارية: إني قد قلت لك ما قلت حين خرجت بك من المدينة، فأخبرتك/ أنك ليزيد وقد صرت لي، وأنا أشهد الله أنك لعبد الله بن جعفر، وإني قد رددتك عليه فاستتري مني. ثم خرج بها حتى قدم المدينة، فنزل قريبا من عبد الله، فدخل عليه بعض خدمه فقال له: هذا العراقي ضيفك الذي صنع ما صنع، وقد نزل العرصة لا حياه الله. فقال عبد الله: مه، انزلوا الرجل وأكرموه، فلما استقر بعث(6/218)
إلى عبد الله: جعلت فداك إن رأيت أن تأذن لي أذنة خفيفة لأشافهك بشيء فعلت، فأذن له، فلما دخل عليه قبل يده وقربه عبد الله، ثم قص عليه القصة حتى إذا فرغ قال: والله وهبتها لك قبل أن أراها أو أضع يدي عليها فهي لك ومردودة عليك، وقد علم الله تعالى أني ما رأيت لها وجها إلا عندك، وبعث إليها فجاءت، وجاء بما جهزها به موفرا.
فلما نظرت إلى عبد الله خرت مغشية عليها، وأهوى إليها عبد الله فضمها إليه، وخرج العراقي، وتصايح أهل الدار: عمارة عمارة. فجعل عبد الله يقول ودموعه تجري: أحلم هذا، أحق هذا، أصدق هذا، فقال العراقي: ردها عليك إيثارك الوفاء، وصبرك على الحق وانقيادك له. فقال عبد الله: الحمد للَّه، اللَّهمّ إنك تعلم أني قد تصبرت عنها وأثرت الوفاء، وأسلمت لأمرك فرددتها على يمنك، فلك الحمد. ثم قال:
يا أخا العراق، ما على الأرض [1] أعظم منة منك، وسيجازيك الله تعالى. وأقام العراقي أياما وباع عبد الله غنما بثلاثة عشر ألف دينار، وقال لقهرمانه: احملها إليه، وقل له:
أعذر عبد الله، واعلم أني لو وصلتك بكل ما أملك لرأيتك أهلا لأكثر منه، فرحل العراقي محمودا.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، ومحمد بن ناصر، قالا: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار، قال: أخبرنا أبو محمد يحيى بن الحسن/ بن المقتدر القاضي، قَالَ:
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيل بْن سَعِيد بْن سويد، قال: حدثنا أبو بكر بن الأنباري، قال: حدثنا محمد بن أحمد المقري، قال: حدثنا عبد الله بن عمر، قال: حدثنا عَلِيّ بْن مُحَمَّد بْن سليمان النوفلي، عَنْ أبيه، عن مشيخة له، قالوا:
لما أمسك عبد الملك بن مروان يده عن عبد الله بن جعفر واحتاج وضاق إضاقة شديدة، فكان يصلي في مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وسلم عشاء الآخرة، ويقيم في المسجد إلى أن لا يبقى فيه أحد، فدنا منه ذات ليلة رجل، فشكى إليه الحاجة، فقال له: أنا في إضاقة غير أن لك عليّ وعدا إذا جاءني شيء من غلتي أن أعطيك، قال: أنا مرهق لا أجد سبيلا إلى الصبر، قال: أيقنعك أخذ ثوبي هذين- وكان عليه بردان يمانيان- قال: نعم، قال:
فما لبث حتى انصرف، فلما انصرف دفع إليه البرد ثم استقبل القبلة، فقال: اللَّهمّ إنه
__________
[1] في ت: «ما في الأرض» .(6/219)
لم يكن إلا ما أرى فاقبضني إليك. فحم ولم يخرج من منزله بعد هذا حتى خرجت جنازته.
وتوفي عبد الله بالمدينة في هذه السنة، وكان الوالي على المدينة أبان بن عثمان في خلافة عبد الملك، وهو صلى عليه وكان عمره تسعين سنة.
478- عبد الله بن أبي الهذيل، أبو المغيرة [1] :
سمع من عمار، وخباب، وعبد الله بن عمرو، وأبي هريرة وجرير، وابن عباس، وابن أبزى. وأرسل الحديث عن أبي بكر، وعمر، وعلي، وابن مسعود.
وكان شديد الخوف من الله تعالى، كأنه مذعور.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي، قال: أخبرنا حمد بن أحمد، قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله، قال: حدثنا أبو بكر بن حيان، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحسين، قال: حدثنا أبو سعيد الأشج، قال: حدثنا عبد الله بن خراش [2] ، عن العوام بن حوشب، عن عبد الله بن الهذيل أنه قال:
لقد شغلت النار من يعقل عن ذكر الجنة.
479- عبيد الله بن أبي بكرة [3] :
ولي سجستان/ أيام زياد بن أبي سفيان، وغزا رتبيل في أيام الحجاج.
وتوفي في هذه السنة.
وكان جوادا، وذكر ابن قتيبة في المعارف [4] : أن أول من قرأ بالألحان عبيد الله ابن أبي بكرة.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، ومحمد بن ناصر، قالا: أخبرنا أبو الحسين بن
__________
[1] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 78.
[2] في الأصل: «عبد الرحمن بن خراش» خطأ، وما أوردناه من ت.
[3] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 138، وتاريخ الإسلام 3/ 189، والنجوم الزاهرة 1/ 202.
[4] المعارف لابن قتيبة 533، وقال: «كان أول من قرأ بالألحان عبيد الله بن أبي بكرة، وكانت قراءته حزنا، ليست على شيء من ألحان الغناء ولا الحداء» .(6/220)
عبد الجبار، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا أبو عمر بْن حيويه، قَالَ:
أخبرنا أبو بكر بن الأنباري، قال: حَدَّثَني أبي، قال: حدثنا أحمد بن عبيد، قال:
أخبرنا المدائني، قال:
كان عبيد الله بن أبي بكرة يوما جالسا مع أصحابه، فأتي بوصيف ووصيفة أهديا إليه، فقال لبعض جلسائه: خذهما إليك. ثم فكر فقال: إيثار بعض الجلساء على بعض قبيح، فقال: يا غلمان، يضم إلى كل واحد من جلسائنا وصيف ووصيفة، فضم إليهم ثمانين بين وصيف ووصيفة.
أنبأنا مُحَمَّد بْن عبد الباقي البزاز، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ الْمُحْسِنِ التَّنُوخِيُّ، عن أبيه، أن شيخا من أهل الكوفة قال:
أملقت حتى نقضت منزلي، فلما اشتد علي الأمر جاءتني الخادمة فقالت: والله ما لنا دقيق ولا معنا ثمنه. فقلت: أسرجي حماري، فأسرجته، فخرجت هاربا حتى انتهيت إلى البصرة، فلما شارفتها فإذا أنا بالموكب مقبل، فدخلت في جملتهم، فرجعت الخيل تريد البصرة، فصرت معهم حتى دخلتها، وانتهى صاحب الموكب إلى منزله، فنزل، ونزل الموكب، ونزلت معهم، ودخلنا فإذا الدهليز مفروش والناس جلوس مع الرجل، فدعا بغداء، فجاءوه بأحسن غداء، فتغديت مع الناس، ثم دعا بالغالية فضمخنا [1] ، ثم قال: يا غلمان، هاتوا سفطا، فجاء غلمانه بسفط أبيض مشدود، ففتح فإذا فيه أكياس مشدودة، في كل كيس ألف درهم، فبدأ يعطي فأمرها عليهم، ثم انتهى إلي [فأعطاني كيسا، ثم ثنى فأعطاني آخر، ثم ثلث] [2] فأعطاني آخر، فأخذت الجماعة وبقي في السفط كيس واحد، فأخذه بيده وقال: هاك يا هذا الذي لا أعرفه، فأخذت/ أربعة أكياس، وخرجت، فقلت لإنسان: من هذا؟ فقال: عبيد الله بن أبي بكرة.
وبلغنا أن رجلا انقطع إلى عبيد الله بن أبي بكرة، فألحقه بحشمه، وكفاه مئونته، فبطر النعمة، فسعى به إلى عبيد الله بن زياد، فبلغ ذلك ابن أبي بكرة، فأطرق مفكرا،
__________
[1] الغالية: الطيب، الضمخ: لطخ الجسد بالطيب.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(6/221)
فقيل له: فيم فكرت [1] ؟ فقال: أخاف أن أكون قصرت في الإحسان إليه فحملته على مساوىء أخلاقه.
480- معاوية بن قرة بن إياس، يكنى أبا إياس [2] :
روى عن أنس، وابن عباس وغيرهما.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي، قال: أخبرنا حَمَدُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الأصفهاني، قال: حدثنا أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عيسى، قال: حدثنا عيسى بن خالد، قال: حدثنا أبو اليمان، قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن تمام بن نجيح، عن معاوية بن قرة، قال [3] :
أدركت سبعين رجلا من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، لو خرجوا فيكم اليوم ما عرفوا شيئا مما أنتم عليه إلا الآذان.
قَالَ أَبُو نعيم: وحدثنا عَبْد اللَّه بْن محمد بن جعفر، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن، قال: حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا المحاربي، عن عبيد الله بن ميمون، قال: سمعت معاوية بن قرة يقول [4] :
إن الله يرزق العبد رزق شهر في يوم واحد، فإن أصلحه أصلح الله على يديه، وعاش هو وعياله بقية شهرهم في خير، وإن هو أفسده أفسد الله تعالى عليه وعاش هو وعياله بقية شهر هم بشر.
481- همام بن الحارث النخعي [5] :
روى عن عمر، وابن مسعود، وأبي مسعود، وحذيفة، وأبي الدرداء، وعدي بن حاتم، وجرير، وعائشة.
__________
[1] في الأصل: «فيم فكرتك» وما أوردناه من ت.
[2] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 160، وتهذيب التهذيب 2/ 261، والتاريخ الكبير 4/ 1/ 330، والجرح والتعديل 8/ 387.
[3] الخبر في حلية الأولياء 2/ 299.
[4] الخبر في حلية الأولياء 2/ 299.
[5] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 81، الجرح والتعديل 9/ 106، والتاريخ الكبير 4/ 2/ 236.(6/222)
وكان الناس يتعلمون من هديه وسمته. وكان طويل السهر.
أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا جعفر بن محمد، قال: أخبرنا الحسن بن علي التَّمِيمِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ:
حدثني أبي، قال: حدثنا عبد الصمد، قال: حدثنا حرب بن شداد [1] ، قال: حدثنا حصين، عن إبراهيم، عن همام بن الحارث:
أنه كان يدعو: اللَّهمّ اشفني من النوم بالسهر، وارزقني سهرا في طاعتك، وكان لا ينام من الليل إلا هنيهة وهو قاعد.
__________
[1] في الأصل: «حرب بن سواد» وما أوردناه من ت. وهو الصحيح.(6/223)
ثم دخلت سنة إحدى وثمانين
فمن الحوادث فيها فتح قاليقلا [1]
وقال المدائني: أغزى عبد الملك ابنه عبيد الله سنة إحدى وثمانين، ففتح قاليقلا.
وفي هذه السنة قتل بحير بن ورقاء الصريمي
وكان السبب أن بحيرا هو الذي تولى قتل بكير بن وشاح بأمر أمية بن عبد الله، فتعاقد سبعة عشر من بني عوف بن كعب على الطلب بدم بكير، فذهب بعضهم فقتله.
وفيها خالف عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث الحجاج ومن معه من جند العراق [2] :
وأقبلوا إليه لحربه، هذا قول أبي المخارق الراسبي.
وقال الواقدي: إنما كان ذلك في سنة اثنتين وثمانين.
وسبب خروجه مع ما كان في نفس كل واحد منهما على الآخر، وكان الحجاج يقول: ما رأيته إلا أردت ضرب عنقه، وكان عبد الرحمن يقول: إن طال بي وبه بقاء حاولت إزالته عن سلطانه، فلما بعثه الحجاج إلى حرب رتبيل فأصاب قطعة من مملكته، وكتب إلى الحجاج: إنا قد قنعنا بما أصبنا ثم في كل سنة نصيب شيئا من ملكه.
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 331، والبداية والنهاية 9/ 38.
[2] المراجع السابقة والموضع.(6/224)
فكتب إليه الحجاج: إنك كتبت إلي كتاب أمرئ يحب الهدنة، ويستريح إلى الموادعة، لعمرك يا ابن أم عبد الرحمن، إنك حين تكف عن ذلك العدو تظنني سخي النفس عمن أصيب من المسلمين، وقد رأيت أنه لم يحملك على ما رأيت إلا ضعفك، فامض لما أمرت به من الإيغال في أرضهم، وقتل مقاتليهم، ثم أردفه كتابا آخر: أما بعد، فمر من قبلك من المسلمين أن يحرثوا ويقيموا، فإنها/ دارهم حتى يفتحها الله عز وجل عليهم. ثم أردفه كتابا آخر: أما بعد، فامض لما أمرت به وإلا فخل ما وليت لأخيك إسحاق.
فدعا الناس وقال: إن الذي رأيت وافقني فيه أهل التجارب ورضوه رأيا، وكتبت بذلك إلى الحجاج فجاءني منه كتاب يعجزني ويأمرني بتعجيل الإيغال في البلاد التي هلك فيها إخوانكم بالأمس، وإنما أنا رجل منكم أمضي إذا مضيتم، وآبى إذا أبيتم، فثار إليه الناس، وقالوا: لا بل نأبى على عدو الله ولا نطيعه.
فقام عامر بن واثلة الكناني، فقال: إن الحجاج لا يبالي بكم فإن ظفرتم أكل البلاد، وإن ظفر عدوكم كنتم الأعداء البغضاء فاخلعوه وبايعوا للأمير عبد الرحمن، وإني أشهدكم أني أول خالع. وقام عبد المؤمن بن شبث بن ربعي، فقال: إن أطعتم الحجاج جعل هذه البلاد بلادكم، فبايعوا أميركم وانصرفوا إلى عدو الله الحجاج فانفوه عن بلادكم. فوثب الناس إلى عبد الرحمن فبايعوه، فقال: تبايعونني على خلع الحجاج والنصرة لي وجهاده معي حتى ينفيه الله من أرض العراق، فبايعه الناس، ولم يذكر خلع عبد الملك، وأمر عبد الرحمن الأمراء، وبعث إلى رتبيل فصالحه على أنه إن ظهر فلا خراج عليه أبدا، وإن هزم وأراده ألجأه عنده.
وبعث الحجاج إليه الخيل، وجعل ابن الأشعث على مقدمته عطية بن عمرو العنبري، فجعل لا يلقى للحجاج خيلا إلا هزمها، ثم أقبل عبد الرحمن حتى مر بكرمان، فبعث عليها خرشة بن عمرو التميمي، فلما دخل الناس فارس اجتمع بعضهم إلى بعض، فقالوا: إنا إذا خلعنا الحجاج عامل عبد الملك فقد خلعنا عبد الملك، فاجتمعوا إلى عبد الرحمن وبايعوه، فكان يقول لهم: تبايعونني/ على كتاب الله عز وجل وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، وخلع أئمة الضلالة، وجهاد المحلين، فإذا قالوا: نعم بايع.(6/225)
فلما بلغ الحجاج أنه قد خلعه كتب إلى عبد الملك يخبره ويسأله تعجيل بعثه الجنود له، وجاء حتى نزل البصرة، وكان قد بلغ المهلب شقاق عبد الرحمن، فكتب إليه: أما بعد، فإنك قد وضعت رجلك يا بن أم محمد في غرز طويل، فاللَّه الله، انظر لنفسك لا تهلكها، ودماء المسلمين لا تسفكها، والجماعة فلا تفرقها، والبيعة فلا تنكثها.
ولما وصل كتاب الحجاج إلى عبد الملك هاله، فنزل عن سريره، وبعث إلى خالد بن يزيد بن معاوية فأقرأه الكتاب ثم خرج إلى الناس، فقال: إن أهل العراق طال عليهم عمري، اللَّهمّ سلط عليهم سيوف أهل الشام.
وأقام الحجاج بالبصرة، وتجهز للقاء ابن محمد، وفرسان أهل الشام يسقطون إلى الحجاج من قبل عبد الملك، وكتب الحجاج ورسله تسقط إلى عبد الملك، وسار الحجاج بأهل الشام حتّى نزلت تستر، فالتقت المقدمات فهزم أصحاب الحجاج، فقال: أيها الناس، ارتحلوا إلى البصرة إلى معسكر وطعام ومادة، فإن هذا المكان لا يحمل الجند. فمضى ودخل البصرة، ودخل عبد الرحمن بن محمد في آخر ذي الحجة، وقال: أما الحجاج فليس بشيء، ولكنا نريد غزو عبد الملك، فبايعه الناس على حرب الحجاج، وخلع عبد الملك جميع أهل البصرة من قرائها وكهولها، وبايعه عقبة بن عبد الغافر فخندق الحجاج عليه، وخندق عبد الرحمن [على البصرة] [1] .
وفي هذه السنة حج بالناس سليمان بن عبد الملك، وكان العامل على المدينة أبان بن عثمان، وعلى العراق والمشرق الحجاج، وعلى حرب خراسان المهلب، وعلى خراجها المغيرة بن المهلب من قبل الحجاج، وعلى قضاء الكوفة أبو بردة، وعلى قضاء البصرة ابن أذينة.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري 6/ 341.(6/226)
وفي هذه السنة [1] .
ولد ابن أبي ذئب.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
482-/ سويد بن غفلة بن عوسجة بن عامر، أبو أمية [2] :
رحل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ فوجده قد قبض، فصحب أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعليا، وشهد معه صفين. وسمع من ابن مسعود، ولم يسمع من عثمان شيئا.
أخبرنا عبد الخالق بن أحمد، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْفَتْحِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن عبد الله ابن أخي ميمي، قال: أخبرنا الحسين بْن صفوان، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بكر القرشي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن صالح، قال: حدثنا عبد الله بن حماد الجهني، عن محمد بن أبان الجهني، عن عمران بن مسلم، قال [3] :
كان سويد بن غفلة إذا قيل له أعط فلانا، وولّ فلانا، قال: حسبي كسرتي وملحي.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم، قَالَ: حَدَّثَنَا حمد بْن أَحْمَد، قَالَ: أخبرنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عبد الله بن محمد، قال: حدثنا محمد بن أبي سهل، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا إسحاق بن منصور، قال: حدثنا عبد السلام، عن يزيد بن عبد الرحمن، عن المنهال بن خيثمة، عن سويد بن غفلة [4] ، قال:
__________
[1] في الأصل: «وفيها» .
[2] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 45، والتاريخ الكبير 4/ 2255، وتاريخ واسط 131، والجرح والتعديل 4/ 1001، وحلية الأولياء 4/ 174، والاستيعاب 2/ 679، وأسد الغابة 2/ 379، وسير أعلام النبلاء 4/ 69، وتذكرة الحفاظ 1/ 53، وتاريخ الإسلام 3/ 252، والإصابة 2/ 3606، 3720.
[3] الخبر في الجرح والتعديل 4/ ترجمة 1001.
[4] الخبر في حلية الأولياء 4/ 176.(6/227)
إذا أراد الله أن ينسي [1] أهل النار جعل لكل واحد منهم تابوتا من نار على قدره ثم أقفل عليه بأقفال من نار، فلا يضرب فيهم عرق إلا وفيه مسمار من نار، ثم يجعل ذلك التابوت في تابوت آخر من نار، ثم يقفل عليه بأقفال من نار ثم يضرم بينهما نار، ثم يجعل ذلك في تابوت آخر من نار، ثم يقفل بأقفال من نار ثم يضرم بينهما، فلا يرى أحدا منهم في النار غيره.
كان سويد من المعمرين الأقوياء، تزوج وهو ابن ست عشرة سنة ومائة سنة. وكان يمشي إلى الجمعة، ويؤم قومه في رمضان.
وتوفي في هذه السنة، وقيل: في السنة التي بعدها، وهو ابن ثمان وعشرين [2] ومائة سنة.
483- محمد بن علي بن أبي طالب، وهو ابن الحنفية [3] :
واسمها خولة بنت جعفر بن قيس. وقيل: كانت أمه من سبي اليمامة، فصارت إلى علي.
وقالت أسماء بنت أبي بكر: رأيتها سندية [4] سوداء، وكانت أمة لبني حنيفة.
ويكنى محمد أبا القاسم.
أَنْبَأَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ: / أَخْبَرَنَا ابْنُ حيوية، قال: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَعْرُوفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَهِمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن سعد، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ الأَزْرَقُ، قَالا: حَدَّثَنَا قَطْرُ بْنُ خَلِيفَةَ، عَنْ مُنْذِرٍ الثَّوْرِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ ابْنَ الحنفية يقول [5] :
__________
[1] في ت: «أن يمحى» .
[2] في الأصل: «ابن ثمانية وعشرون» .
[3] طبقات ابن سعد 5/ 66، ووفيات الأعيان 1/ 449، وصفة الصفوة 2/ 42، وحلية الأولياء 3/ 174، والبدء والتاريخ 5/ 75، ونزهة الجليس 2/ 254، والبداية والنهاية 9/ 42، والجرح والتعديل 8/ 26، والتاريخ الكبير 1/ 1/ 182.
[4] في ت: «رأيتها هندية» والخبر في ابن سعد 5/ 66.
[5] الخبر في طبقات ابن سعد 5/ 66.(6/228)
كَانَتْ هَذِهِ [1] رُخْصَةً لِعَلِيِّ [بْنِ أَبِي طَالِبٍ] [2] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ وُلِدَ لِي وَلَدٌ بَعْدَكَ أُسَمِّيهِ بِاسْمِكَ، وَأُكَنِّيهِ بِكُنْيَتِكَ؟
قَالَ: نَعَمْ. قال مؤلف الكتاب رحمه الله [3] : وقد كان جماعة يسمون محمدا ويكنون بأبي القاسم، منهم: محمد بن أبي بكر، محمد بن طلحة بن عبيد الله، ومحمد بن سعد ابن أبي وقاص، ومحمد عبد الرحمن بن عوف، ومحمد بن جعفر بن أبي طالب، ومحمد بن حاطب بن أبي بلتعة، ومحمد بن الأشعث بن قيس.
وأخبرنا محمد بن ناصر، وعلي بن عمر بإسنادهما عَنْ أبي بكر بْن أبي الدنيا، قَالَ: حدثنا الحسين بن عبد الرحمن، قال: حدثني أبو عثمان المؤدب، قال: قال محمد ابن الحنفية:
من كرمت عليه نفسه لم يكن للدنيا عنده قدر.
قال أبو بكر بن عبيد: وحدثنا محمد بن عبد المجيد، أنه سمع ابن عيينة يقول:
قال محمد ابن الحنفية:
إن الله عز وجل جعل الجنة ثمنا لأنفسكم، فلا تبيعوها بغيرها.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي بن سلمان، قال: أخبرنا حمد بْنُ أحمد الحداد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أحمد بن محمد بن سنان، قال: حدثنا محمد بن إسحاق السراج، قال: حدثنا عمر بن محمد بن الحسن، قال:
حدثنا أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بن زيد بن جدعان، عن علي بن الحسين، قال [4] :
كتب ملك الروم إلى عبد الملك بن مروان يتهدده ويتواعده ويحلف أنه ليحملن
__________
[1] «هذه» : ساقطة من ت، وابن سعد.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] من ت: «قال المصنف» .
[4] الخبر في حلية الأولياء 3/ 176.(6/229)
إليه مائة ألف في البر ومائة ألف في البحر أو يؤدي إليه الجزية فسقط في درعه، فكتب إلى الحجاج: أن اكتب لمحمد ابن الحنفية فتهدده وتواعده ثم أعلمني ما يرد إليك من جوابه. فكتب الحجاج إلى ابن الحنفية بكتاب شديد ويتواعده بالقتل. قال: فكتب إليه ابن الحنفية: إن للَّه عز وجل ثلاثمائة وستين لحظة [1] في كل يوم إلى خلقه، وأنا أرجو أن/ ينظر الله، عز وجل، إلي نظرة يمنعني بها منك. قال: فبعث الحجاج بكتابه إلى عبد الملك، فكتب عبد الملك إلى ملك الروم نسخته، فقال ملك الروم: ما خرج هذا منك ولا أنت كتبت به، وما خرج إلا من بيت نبوة.
__________
[1] في البداية والنهاية: «نظرة» .(6/230)
ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين
فمن الحوادث فيها ما جرى بين الحجاج وابن الأشعث من الحرب [1]
فمن ذلك أن ابن الأشعث كان قد دخل البصرة في آخر ذي الحجة، واقتتلوا في محرم هذه السنة، وتزاحفوا ذات يوم فاشتد قتالهم فهزمهم أهل العراق حتى بلغت هزيمتهم إلى الحجاج، فلما رأى الحجاج ذلك جثا على ركبتيه وقال: للَّه در مصعب ما كان أكرمه، فعلم أنه لا يريد أن يفر، ثم هزم أهل العراق فخر ساجدا، وأقبل عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث نحو الكوفة وتبعه من كان معه من أهل الكوفة، وتبعه أهل القوة من أهل البصرة، فوثب أهل البصرة حينئذ إلى عبد الرحمن بن عياش بْن ربيعة بْن الحارث بْن عَبْد المطلب فبايعوه، فقاتل بهم الحجاج أشد قتال خمس ليال، ثم انصرف فلحق بابن الأشعث.
وفي هذه السنة كانت وقعة دير الجماجم بين الحجاج وابن الأشعث وذلك في شعبان
وبعضهم يقول: إنما كانت في سنة ثلاث وثمانين. وتلخيص القصة: ان ابن الأشعث لما جاء إلى الكوفة خرجوا لتلقيه، فلما دخل مال إليه أهل الكوفة كلهم، وسبقت همدان إليه، فحفوا به عند دار عمرو بن حريث، وبايعه الناس وتقوضت إليه المسالح والثغور، فأقبل الحجاج من البصرة فسار في البر حتى مر بين القادسية والعذيب، وبعث
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 342.(6/231)
إليه ابن الأشعث عبد الرحمن بن العباس في خيل عظيمة من خيل البصريين [1] ، فمنعوه نزول القادسية، ثم سايره حتى نزل دير قرة. ونزل عبد الرحمن بن العباس دير الجماجم، وجاء ابن الأشعث فنزل دير الجماجم، وكان الحجاج يقول: ما كان عبد الرحمن/ يزجر الطير حين رآني نزلت دير قرة، ونزل دير الجماجم، فاجتمع أهل الكوفة وأهل البصرة، وأهل الثغور والمسالح بدير الجماجم والقراء من المصرين، كلهم اجتمعوا على حرب الحجاج، وكانوا مبغضين له وهم إذ ذاك مائة ألف مقاتل [ممن] [2] يأخذ [3] العطاء، ومعهم مثلهم من مواليهم. وجاءت للحجاج أمداد من قبل عبد الملك، واشتد القتال، فقيل لعبد الملك: إن كان إنما يرضي أهل العراق أن ينزع عنهم الحجاج فانزعه تحقن [به] [4] الدماء، فإن نزعه أيسر من حربهم.
فأمر ابنه عبد الله وأخاه محمد بن مروان أن يعرضا على أهل العراق نزع الحجاج عنهم، وأن يجري عليهم أعطياتهم كما تجري على أهل الشام، فإن هم قبلوا ذلك نزع عنهم الحجاج. وكان محمد بن مروان أمير العراق فإن هم لم يقبلوا ذلك فالحجاج أمير جماعة أهل الشام، وولي القتال، ومحمد وعبد الله في طاعته، فلم يأت الحجاج أمر قط كان أشد عليه ولا أغيظ له من ذلك مخافة أن يقبلوا فيعزل عنهم.
فكتب إلى عبد الملك: يا أمير المؤمنين، والله لئن أعطيت أهل العراق نزعي فإنّهم لا يلبثون إلا قليلا حتى يخالفوك ويسيروا إليك، ولا يزيدهم ذلك إلا جرأة عليك، ألم تر وتسمع بوثوب أهل العراق مع الأشتر على عثمان بن عفان، فلما سألهم: ما تريدون، قالوا: نزع سعيد بن العاص، فلما نزعه لم تقم لهم قائمة حتى ساروا إليه فقتلوه، إن الحديد بالحديد يقرع [5] ، خار الله لك فيما ارتأيت.
فأبى عبد الملك إلا عرض هذه الخصال على أهل العراق إرادة العافية من
__________
[1] كذا في الأصول، وفي الطبري 6/ 346: «المصرين» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.
[3] في الأصل: «تأخذ» .
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من ت.
[5] في تاريخ الطبري 6/ 348: «الحديد بالحديد يفلح» .(6/232)
الحرب، فلما اجتمعا مع الحجاج خرج عبد الله، فقال: يا أهل العراق، أنا عبد الله ابن أمير المؤمنين، وهو يعطيكم كذا وكذا، فذكر الخصال التي تقدم ذكرها، وقال محمد:
أنا رسول أمير المؤمنين إليكم، وهو يعرض عليكم كذا وكذا، قالوا: نرجع العشية، فرجعوا واجتمعوا عند ابن الأشعث فلم يبق قائد ولا رأس قوم ولا فارس إلا أتاه، فحمد الله تعالى ثم قال: / أما بعد، فاقبلوا ما عرضوا عليكم وأنتم أعزاء أقوياء، والقوم لكم هائبون.
فوثب الناس من كل جانب فقالوا: إن الله عز وجل قد أهلكهم، فأصبحوا في الضنك والمجاعة والقلة والذلة، ونحن ذوو العدد الكثير، والمادة القريبة، لا والله لا نقبل.
وأعادوا خلعه ثانية، فرجع محمد بن مروان وعبد الله إلى الحجاج، فقالا: شأنك بعسكرك وجندك فاعمل برأيك، فإنا قد أمرنا أن نسمع ونطيع. وخلياه والحرب.
فبرزوا للقتال، فجعل الحجاج على ميمنته عبد الرحمن بن سليم الكناني [1] ، وعلى ميسرته عمارة بن تميم، وعلى خيله سفيان بن الأبرد، وعلى رجالته عبد الله بن حبيب [2] . وجعل ابن الأشعث على ميمنته الحجاج بن حارثة الخثعمي، وعلى ميسرته الأبرد بن قرة التميمي، وعلى خيله عبد الرحمن بن عباس الهاشمي، وعلى رجالته محمد بن سعد بن أبي وقاص، وعلى القراء جبلة بن زحر بن قيس الجعفي، وكان فيهم عامر الشعبي، وسعيد بن جبير، وأبو البختري الطائي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى.
ثم إنهم أخذوا يتزاحفون كل يوم ويقتتلون، وأهل العراق تأتيهم موادهم من الكوفة وسوادها. فهم فيما هم فيه فيما شاءوا [من خصبهم، وإخوانهم من] أهل البصرة [3] وأهل الشام في ضيق شديد، قد قل عندهم الطعام وفقدوا اللحم وكأنهم في
__________
[1] في الطبري 6/ 349: «الكلبي» .
[2] كذا في ت وأحد نسخ الطبري المخطوط، وفي المطبوع من الطبري: «عبد الرحمن بن حبيب» . وفي ابن الأثير: «ابن خبيب» .
[3] في الأصل: «فهم فيما هم فيه فيما شاءوا وأهل البصرة» وما أوردناه من ت، وما بين المعقوفتين من تاريخ الطبري 6/ 350.(6/233)
حصار وهم على ذلك يقتتلون أشد قتال، فخرجوا ذات يوم وقد عبى الحجاج جيشه، ثم زحف في صفوفه، وخرج ابن الأشعث في سبعة صفوف بعضها في أثر بعض.
أخبرنا ابن ناصر، قَالَ: أخبرنا أبو عبد الله الحُمَيْدِي، قال: أخبرنا محمد بن سلامة القضاعي، قال: أخبرنا أبو مسلم محمد بن أحمد الكاتب، قال: أخبرنا ابن دريد، قال: حدثنا أبو عثمان، قال: حدثني عبد الله، قال: حدثنا أبو التياح، قال:
شهدت الحسن وسعيد بن أبي الحسن أيام ابن الأشعث، فأما ابن الأشعث فكان يأمر بالكف وينهى عن القتال، وأما/ سعيد فكان يحرض ويأمر بالقتال، ويقول: والله ما خلعنا أمير المؤمنين ولا نريد خلعه، ولكننا نقمنا عليه الحجاج، وكان الحسن يقول: أيها الناس، تعلموا والله ما سلط الحجاج عليكم إلا عقوبة من الله، فلا تعارضوا عقوبة الله بالحمية والسيوف، ولكن عارضوها بالتضرع والاستغفار.
وفي هذه السنة توفي المغيرة بن المهلب بخراسان، وكان المهلب يومئذ وراء النهر لحرب من هناك، فولى أخاه يزيد بن المهلب مكان ولده.
وفيها: صالح المهلب من وراء النهر على شيء يؤدونه وفصل عنهم.
وفيها: توفي المهلب فولى الحجاج يزيد بن المهلب خراسان.
وفيها: عزل عبد الملك أبان بن عثمان عن المدينة لثلاث عشرة خلت من جمادى الآخرة، وولاها هشام بن إسماعيل المخزومي، فلما وليها عزل نوفل بن مساحق العامري.
وقال الواقدي: كان هذا في سنة ثلاث وثمانين، فكانت ولاية أبان المدينة سبع سنين وثلاث عشرة ليلة.
وفيها: حج بالناس أبان بن عثمان، وكان على العراق والمشرق الحجاج، وعلى خراسان يزيد بن المهلب من قبل الحجاج.(6/234)
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
484- أوس بن خالد، أبو الجوزاء الربعي: [1]
صحب ابن عباس اثنتي عشرة سنة، وسأله عن جميع آيات القرآن. وروى عن عائشة، وخرج مع ابن الأشعث فقتل أيام الجماجم.
أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا عبد القادر بن محمد، قال: أخبرنا الحسن بن علي التَّمِيمِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ:
حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري، قال: حدثنا نوح بن قيس، قال: حدثنا سليمان الربعي، قال:
كان أبو الجوزاء يواصل في الصوم بين سبعة أيام، ثم يقبض على ذراع الشاب فيكاد يحطمها.
485- أسماء/ بن خارجة، أبو مالك الفزاري الكوفي [2] :
روى عنه ابنه مالك.
روى الأصمعي، عن ابن عمرو بن العلاء، قال: دخل أسماء بن خارجة على عبد الملك بن مروان، فقال له: بلغني عنك خصال شريفة فأخبرني بهن، فقال: يا أمير المؤمنين، إن استماعهن من غيري أحسن من استماعهن مني. فقال: أقسم عليك إلا أخبرتني بهن، قال: يا أمير المؤمنين، ما سألني أحد قط حاجة إلا قضيتها كائنة ما كانت، ولا أكل رجل من طعامي ولا شرب من شرابي إلا رأيت له الفضل علي، ولا أقبل علي بحديثه إلا أقبلت عليه بسمعي وبصري حتى يكون هو المولي عني، [ولا مددت
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 162، التاريخ الكبير 1/ 2/ 17، والجرح والتعديل 1/ 1/ 305، وتاريخ الإسلام 3/ 316. وسير أعلام النبلاء 4/ 371.
وفي ت: «أويس بن خالد» .
[2] تاريخ الإسلام 2/ 372، وفوات الوفيات 1/ 11، والنجوم الزاهرة 1/ 179، ومن هذه المراجع من ذكر أن وفاته سنة 66.(6/235)
رجلي أمام جليسي فيرى أن ذلك استطالة مني عليه] [1] . قال: حسبك يا أسماء يحق لك أن تسود وتشرف وهذه خصالك.
وبلغنا أن أسماء بن خارجة رجع يوما إلى باب داره فرأى فتى على الباب، فقال:
يا فتى، ما يجلسك هاهنا؟ فقال: خير. فألح عليه، فقال: جئت سائلا إلى هذه الدار فخرجت إلي منها جارية [ترفد] [2] فاختطفت قلبي، فجلست لكي تخرج ثانية فأنظر إليها. قال: أو تعرفها؟ قال: نعم. فدعا بالجواري، فجعل يعرضهن عليه حتى مرت به، قال: هي هذه. قال: مكانك. فخرج إليه بعد قليل فجعل يعتذر إليه ويقول: إنها لم تكن لي، كانت لبعض بناتي وقد اشتريتها لك بثلاثة آلاف درهم، خذها بارك الله لك فيها.
486- خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان: [3]
كان من رجالات قريش والمعدودين من كبرائهم سخاء وفصاحة وعقلا. وكان قد شغل نفسه بعمل الكيمياء، فضاع زمانه. وكان مروان بن الحكم قد تزوج أمه أم خالد لأجل أن الناس كانوا ينظرون إلى خالد لمكان أبيه، وكان مروان يطمعه في بعض الأمر ثم بدا له فعقد لابنيه عبد الملك وعبد العزيز، وأخذ يضع من خالد حتى شتمه يوما وذكر أمه بالقبح- على ما ذكرنا في أخبار مروان بن الحكم- فكان ذلك سبب قتل مروان.
أَخْبَرَنَا المبارك بْن عَلي الصيرفي، قَالَ: أَخْبَرَنَا علي بن محمد العلاف، قال:
حدثنا عبد الملك بن بشران، قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم الكندي، قال: حدثنا/ محمد بن جعفر الخرائطي، قال: حدثنا المبرد، قال: حدثنا هشام، عَنْ أبي عبيدة معمر بْن المثني، قَالَ:
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] التاريخ الكبير 3/ 613، والمعارف 352، والجرح والتعديل 3/ 1615، تهذيب تاريخ ابن عساكر 5/ 119، وأسد الغابة 2/ 97، ومعجم البلدان 2/ 336، 3/ 402، ووفيات الأعيان 2/ 224، وتاريخ الإسلام 3/ 246، وسير أعلام النبلاء 9/ 411، والإصابة 1/ 469.(6/236)
حج عبد الملك بن مروان وحج معه خالد بن يزيد بن معاوية، وكان من رجالات قريش المعدودين وعلمائهم. وكان عظيم القدر عند عبد الملك. فبينا هو يطوف بالبيت إذ بصر برملة بنت الزبير بن العوام فعشقها عشقا شديدا، ووقعت بقلبه وقوعا متمكنا.
فلما أراد عبد الملك القفول هم خالد بالتخلف عنه، فوقع بقلب عبد الملك تهمه، فبعث إليه يسأله عن أمره، فقال: يا أمير المؤمنين، رملة بنت الزبير رأيتها تطوف بالبيت قد أذهبت عقلي، والله ما أبديت لك ما بي حتى عيل صبري، فلقد عرضت النوم على عيني فلم تقبله، والسلو على قلبي فامتنع منه، فأطال عبد الملك التعجب من ذلك وقال: ما كنت أقول إن الهوى يستأسر مثلك، فقال: وإني لأشد تعجبا من تعجبك مني، ولقد كنت أقول إن الهوى لا يتمكن إلا من صنفين من الناس: الشعراء، والأعراب. فأما الشعراء فإنّهم ألزموا قلوبهم الفكر في النساء والغزل، فمال طمعهم إلى النساء، فضعفت قلوبهم عن دفع الهوى فاستسلموا له منقادين [1] . وأما الأعراب، فإن أحدهم يخلو بامرأته فلا يكون الغالب عليه غير حبه لها، ولا يشغله شيء عنه، فضعفوا عن دفع الهوى، فتمكن منهم. وجملة أمري ما رأيت نظرة حالت بيني وبين الحرم، وحسنت عندي ركوب الإثم مثل نظرتي هذه. فتبسم عبد الملك وقال: أو كل هذا قد بلغ بك، فقال: والله ما عرفتني هذه البلية قبل وقتي هذا، فوجه عبد الملك إلى آل الزبير يخطب رملة على خالد، فذكروا لها ذلك فقالت: لا والله، أو يطلق نساءه، فطلق امرأتين كانتا عنده، إحداهما من قريش والأخرى من الأزد [2] ، وظعن بها إلى الشام. وفيها يقول:
/ أليس يزيد الشوق في كل ليلة ... وفي كل يوم من حبيبتنا قربا
خليلي ما من ساعة تذكر انها ... من الدهر إلا فرجت عني الكربا
أحب بني العوام طرا لحبها ... ومن أجلها أحببت أخوالها كلبا
تجول خلاخيل النساء ولا أرى ... لرملة خلخالا يجول ولا قلبا
قال مؤلف الكتاب رحمة الله: وقد زاد بعض أعدائه في هذه الأبيات:
فإن تسلمي نسلم وإن تتنصري ... يخط رجال بين أعينهم صلبا
__________
[1] «فضعفت قلوبهم ... منقادين» : ساقطة من ت.
[2] في الأصل: «أحدهما قريشية والأخرى من الأزد» ، وما أوردناه من ت.(6/237)
فلما سمع البيت قال من قاله: لعنة الله [عليه] وعلى من يجيبه [1] .
أخبرنا الحسين بن محمد بن عبد الوهاب، قال: أخبرنا أبو جعفر ابن المسلمة، قَالَ: أَخْبَرَنَا المخلص، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ [بْنِ دَاوُدَ] [2] ، قَالَ: حَدَّثَنَا الزبير بن بكار، قال:
دخلت رملة بنت الزبير على عبد الملك بن مروان، وكانت عند خالد بن يزيد بن معاوية، فقال لها: يا رملة، غرني عروة منك، فقالت: لم يغررك ولكن نصحك، إنك قتلت مصعبا أخي، فلم يأمني عليك. وكان عبد الملك أراد أن يتزوجها، فقال له عروة: لا أرى ذلك لك. وكان الحجاج قد بعث إلى خالد: ما كنت أراك تخطب إلى آل الزبير حتى تشاورني، فكيف خطبت إلى قوم ليسوا بأكفائك، وهم الذين نازعوا أباك [3] على الخلافة ورموه بكل قبيحة. فقال لرسوله: ارجع فقل له: ما كنت أرى أن الأمور بلغت بك إلى أن أؤامرك في خطبة النساء، وأما قولك: نازعوا أباك وشهدوا عليه بالقبيح، فإنها قريش تتقارع، فإذا أقر الله الحق مقره تعاطفوا وتراحموا. وأما قولك:
ليسوا لك بأكفاء. فقبحك الله يا حجاج ما أقل علمك بأنساب قريش، أيكون العوام كفؤا لعبد المطلب بن هاشم حتى يتزوج صفية ويتزوج رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ خديجة، ولا تراهم أكفاء لأبي سفيان.
ولما قدم الحجاج على عبد الملك مر بخالد فقال له رجل: من هذا؟ فقال خالد كالمستهزئ به: هذا عمرو/ بن العاص فرجع الحجاج إليه فقال: ما أنا بعمرو بن العاص ولكني ابن الغطاريف من ثقيف، والعقائل من قريش، ولقد ضربت بسيفي هذا أكثر من مائة ألف كلهم يشهد أن أباك وأنت وجدك من أهل النار، ثم لم آخذ لذلك عندك شكرا.
__________
[1] «فلما سمع ... وعلى من يجيبه» : ساقط من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «قارعوا أباك» . وما أوردناه من ت.(6/238)
487- سفيان بن وهب الخولاني، أبو أيمن: [1]
وفد على رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ، وشهد مع عمرو فتح مصر، وولي الإمرة لعبد العزيز بن مروان على بعث الطليعة إلى إفريقية سنة ثمان وسبعين.
روى عنه أبو غسانة، وأبو البختري، والبرني، وبكر بن سوادة.
وتوفي في هذه السنة.
488- طلق بن حبيب العنزي: [2]
روى عن ابن عباس، وجابر [3] ، وكان متعبدا.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، قال: أخبرنا أبو الحسن بن عبد الجبار، قَالَ:
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْفَتْحِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن أخي ميمي، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن صفوان، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بكر القرشي، قَالَ: حَدَّثَنِي محمد بن الحسين، قال: حدثني عبد الصمد النعماني، قال: حدثنا يوسف بن عطية، عن الحجاج بن يزيد، قال:
كان طلق بن حبيب يقول: إني لأحب أن أقوم للَّه حتى أشتكي ظهري، فيقوم فيبتدئ بالقرآن حتى يبلغ الحجر ثم يركع.
489- عمر بن عبيد الله بن معمر، أبو حفص التميمي [4] ، أمير البصرة: [5]
كان جوادا صديقا لزياد الأعجم [6] قبل أن يلي، فقال له عمر: يا أبا أمية [7] ، لو قد
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 152، والبداية والنهاية 9/ 48 وفيه: «عفان بن وهب» وهو خطأ.
[2] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 165، وطبقات خليفة 210، والتاريخ الكبير 4/ 3138، وتاريخ واسط 98، والجرح والتعديل 4/ 2157، وحلية الأولياء 3/ 63، وسير أعلام النبلاء 4/ 601، وتاريخ الإسلام 4/ 129، وميزان الاعتدال 2/ 4024.
[3] «جابر» : ساقط من ت.
[4] في ت: والبداية 9/ 50: «التميمي» .
[5] البداية والنهاية 9/ 50، ورغبة الآمل 8/ 6، 7، 37، والمحبر 66، 151، ونسب قريش 189.
والنجوم الزاهرة 1/ 192، والعقد الفريد 4/ 47.
[6] في الأصل: «زياد الأعظم» . وما أوردناه من ت.
[7] في الأصل: «يا أبا أمامة» . وما أوردناه من ت.(6/239)
وليت لتركتك لا تحتاج إلى أحد أبدا. فلما ولي عمر فارس قصده زياد، فلما لقيه أنشأ يقول:
ألا ابلغ أبا حفص رسالة ناصح ... أتت من زياد مستبينا كلامها
فإنك مثل الشمس لا ستر دونها ... فكيف أبا حفص علي ظلامها
فقال له عمر: لا يكون عليك ظلامها أبدا، فقال:
لقد كنت أدعو الله في السر أن أرى ... أمور معد في يديك نظامها
فقال: قد رأيت ذلك، فقال:
فلما أتاني ما أردت تباشرت ... بناتي وقلن العام لا شك عامها
قال: فهو عامها [1] إن شاء الله تعالى قال:
فأنى وأرض [2] أنت فيها ابن معمر ... كمكة لم يطرق لأرض حمامها
قال: فهي كذلك يا زياد، فقال:
إذا اخترت أرضا للمقام رضيتها ... لنفسي ولم يثقل علي مقامها
وكنت أمني النفس منك ابن معمر ... أماني أرجو أن تتم تمامها [3]
قال: قد أتمها الله لك، قال:
فلا أك كالمجرى إلى رأس غاية ... ترجى سماء لم تصبه غمامها
فقال: لست كذلك، فسل حاجتك، فقال نجيبة وخادمها، وفرس راتع وسائسه، وبدرة وحاملها، وجارية وخادمها، وتخت ثياب ووصيفة تحمله [4] ، فقال: قد أمرنا بجميع ما سألت، وهو لك علينا في كل سنة. فخرج من عند عمر حتى قدم على عبد الله بن الخشرج وهو بسابور، فأنزله وألطفه، فقال في ذلك:
إن السماحة والمروءة والندا ... في قبة ضربت على ابن الخشرج
__________
[1] في الأصل: «فهو عامهن» . وما أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «فاني وأرضأ» .
[3] في ت: «يتم زمامها» .
[4] في الأصل: «ووصيف يحمله» . وما أوردناه من ت.(6/240)
لما أتيتك راجيا لنوالكم ... ألفيت باب نوالكم لم يرتج
فأمر له بأربعة آلاف درهم.
أخبرتنا شهدة بنت أحمد الكاتبة، قالت: أَخْبَرَنَا جعفر بن أحمد، قال: أخبرنا علي ابن أبي علي المعدل، قال: حدثني أبي، قال: روى أبو روق الهمداني، عن الرياشي:
أن بعض أهل البصرة اشترى صبية فأحسن تأديبها وتعليمها، وأحبها كل المحبة، وأنفق عليها حتى أملق، وحتى مسه الضر الشديد، فقالت الجارية: إني لأرى لك يا مولاي مما أرى بك [1] من سوء الحال، فلو بعتني اتسعت بثمني فلعل الله أن يصنع لك وأقع/ أنا بحيث يحسن حالي فيكون ذلك أصلح لكل واحد منا. قال: فحملها إلى السوق، فعرضت على عمر بن عبد الله بن معمر [2] التيمي، وهو أمير البصرة يومئذ، فأعجبته فاشتراها بمائة ألف درهم، فلما قبض مولاها الثمن وأراد الانصراف استعبر كل واحد منهما إلى صاحبه شاكيا، فأنشأت الجارية تقول:
هنيئا لك المال الذي قد حويته [3] ... ولم يبق في كفي غير تذكري [4]
أقول لنفسي وهي في غشي كربة [5] ... أقلي فقد بان الحبيب أو أكثري
إذا لم يكن للأمر عندك حيلة ... ولم تجدي شيئا سوى الصبر فاصبري [6]
فاشتد بكاء المولى ثم أجابها يقول:
فلولا قعود الدهر بي عنك لم يكن ... يفرقنا شيء سوى الموت فاعذري [7]
أروح بهم في الفؤاد مبرح ... أناجي به قلبا شديد التفكر
__________
[1] في الأصل: «مما أرى بك يا مولاي» . وما أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «عبيد الله بن عمر» .
[3] في البداية «أخذته» .
[4] في ت: «التذكر» . وفي البداية: «تفكري» .
[5] في البداية: «وهي كرب عيشة» .
[6] الشطر الثامن في البداية: «بدا من الصبر» .
[7] في ت: «فاصبري» .(6/241)
عليك سلام لا زيارة بيننا ... ولا وصل إلا أن يشاء ابن معمر
فقال له ابن معمر: قد شئت، خذها ولك المال، فانصرفا راشدين، فو الله لا كنت سببا لفرقة محبين.
وروى ابن عائشة، عن أبيه، قال: لما خرج ابن الأشعث أرسل عبد الملك إلى عمر بن عبد الله [1] بن معمر ليقدم عليه، فمات في الطريق بالطاعون. فقام عبد الملك على قبره وقال: أما والله لقد علمت قريش أنها فقدت اليوم نابا من أنيابها.
ورثاه الفرزدق الشاعر فقال:
كانت يداه لنا سيفا نصول به ... على العدو وغيثا ينبت الشجرا
أما قريش أبا حفص قد رزيت ... بالشأم إذا فارقتك الناس والظفرا
490- المهلب بن أبي صفرة- وكان اسم أبي صفرة ظالما- ويكنى المهلب/ أبا سعيد: [2]
وقد أدرك عمر لكنه لم يرو عنه، وروى عن سمرة وغيره، وولي خراسان، وكان جوادا.
أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عبد الجبار، قال: أخبرنا محمد بن عبد الواحد بن محمد بن جعفر، قال: أخبرنا أبو عمرو بن حيوية، قال: حدثنا ابن دريد، قال: أخبرنا المعلي، عن حاتم، قال: أخبرني حفص بن عمر، قال:
نزل المهلب في دار محمد بن مخنف، فلما شخص قال: دعوا لهم المتاع، فترك لهم بسطا وغيرها بثلاثمائة ألف درهم.
أخبرنا المبارك بن علي الصيرفي، قال: حدثنا شجاع بْن فارس، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْفَتْحِ، قال: أخبرنا ابْن أخي ميمي، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن صفوان، قال:
أخبرنا أبو بكر القرشي، قال: حدثني هارون بن أبي يحيى السلمي، قال: حدثني مسامر بن جميل:
__________
[1] في الأصل: «عمرو بن عبيد الله» .
[2] الإصابة 8635، والوفيات 2/ 145، ورغبة الآمل 2/ 201، 204، 3/ 60، 116، 5/ 130، 6/ 105، وسرح العيون 103، والجرح والتعديل 4/ 1/ 369.(6/242)
أن المهلب مر بقوم فأعظموه وسودوه، فقال رجل: ألهذا الأعور تسودون، والله لو خرج إلى السوق ما جاء إلا بألفي درهم. فقال لبعض من معه: أتعرف الرجل؟ قال:
نعم، فلما انتهى إلى منزله أرسل إليه ألفي درهم، وقال: أما أنك لو زدتنا في القيمة لزدناك في العطية.
قال القرشي: وحدثني محمد بن أبي رجاء، قال: أغلظ رجل للمهلب بن أبي صفرة، فسكت، فقيل له: أربا عليك، قال: لم أعرف مساوئه فكرهت أن أبهته بما ليس فيه.
قال علماء السير: انصرف المهلب من وراء النهر يريد مرو، فمرض، فجمع من حضر من ولده، ودعا بسهام فحزمت، فقال: أترونكم كاسريها مجتمعة؟ قالوا: لا، قال: أفترونكم كاسريها متفرقة؟ قالوا: نعم، قال: فهكذا الجماعة، فأوصيكهم بتقوى الله عز وجل، وصلة الرحم، وأنهاكم عن القطيعة، واعرفوا لمن يغشاكم حقه، وكفى بغدو الرجل ورواحه إليكم تذكرة له، وآثروا الجود على البخل، وعليكم في الحرب بالأناة والمكيدة فإنها أنفع من الشجاعة، وعليكم بقراءة القرآن وتعلم السنن وآداب الصالحين، وإياكم وكثرة الكلام.
ومات في ذي/ الحجة من هذه السنة بمروالروذ، واستخلف على خراسان ولده يزيد فأقره الحجاج.
ومن العجائب: أنه كان للمهلب ثلاثة أولاد: يزيد، وزياد، ومدرك، ولدوا في سنة واحدة، وقتلوا في سنة واحدة، وأسنانهم واحدة، عاش كل واحد منهم ثمانية وأربعين سنة.
491- المغيرة بن المهلب: [1]
كان خليفة أبيه على عمله كله، فتوفي في رجب من هذه السنة.
__________
[1] البداية والنهاية 9/ 48.(6/243)
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين
فمن الحوادث فيها هزيمة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بدير الجماجم [1]
وذلك أن عبد الرحمن نزل دير الجماجم، وهو دير بظاهر الكوفة على طرف البر الذي يسلك منه إلى البصرة، وإنما سمي بدير الجماجم لأنه كان بين أياد والقين حروب فقتل من أياد والقين خلق كثير ودفنوا، فكان الناس يحفرون فتظهر لهم جماجم فسمي دير الجماجم، وذلك اليوم بيوم الجماجم.
ونزل الحجاج دير قرة- وهو مما يلي الكوفة بإزاء دير الجماجم- فقال الحجاج:
[ما اسم هذا الموضع الذي نزل فيه ابن الأشعث؟ قيل له: دير الجماجم] [2] ، فقال:
الحجاج: يقال هو بدير الجماجم فتكثر جماجم أصحابه عنده، ونحن بدير قرة ملكنا البلاد، واستقررنا فيها.
واتصلت الحرب بينهما مائة يوم كان فيها إحدى وثمانون وقعة، وكان يحمل بعضهم على بعض، فحمل أهل الشام مرة بعد مرة، فنادى عبد الرحمن بن أبي ليلى: يا معشر القراء، إن الفرار ليس بأحد من الناس بأقبح منه بكم، إني سمعت عليا عليه السلام يقول يوم لقينا أهل الشام: أيها المؤمنون، إنه من رأى عدوانا يعمل به ومنكرا يدعى إليه فأنكره بقلبه فقد سلم وبريء، ومن أنكره بلسانه فقد أجر وهو أفضل من صاحبه، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله العليا وكلمة الظالمين السفلى فذلك الذي أصاب سبيل
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 346.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من معجم البلدان 2/ 526.(6/244)
الهدى ونور قلبه باليقين/ فقاتلوا هؤلاء المحلين المحدثين المبتدعين الذين قد جهلوا الحق ولا يعرفونه، وعملوا بالعدوان فليس ينكرونه. وقال أبو البختري [1] : أيها الناس قاتلوهم على دينكم ودنياكم، فو الله لئن ظهروا عليكم ليفسدن عليكم دينكم، وليغلبن على دنياكم.
وقال الشعبي [2] : يا أهل الإسلام قاتلوهم ولا يأخذكم حرج من قتالهم، فو الله ما أعلم قوما على بسيط الأرض أعمل بظلم ولا أجور منهم في الحكم.
[وقال سعيد بن جبير: قاتلوهم ولا تأثموا من قتالهم بنية ويقين، قاتلوهم على جورهم في الحكم] [3] وتجبرهم في الدين واستذلالهم الضعفاء، وإماتتهم الصلاة.
فحمل أصحاب عبد الرحمن على القوم حتى أزالوهم عن صفهم، ثم عادوا فإذا جبلة بن زحر بن قيس الجعفي الذي كان على الرجالة صريع، فانكسر القراء، وحمل رأسه إلى الحجاج، فقال: يا أهل الشام، أبشروا هذا أول الفتح، وما زالوا يقتتلون ويتبارز الرجل والرجل مائة يوم.
ثم إن أصحاب عبد الرحمن انهزموا في بعض الأيام، وأخذوا في كل وجه، وصعد عبد الرحمن المنبر، وأخذ ينادي الناس: [عباد الله إلي إلي عباد الله، إلي أنا ابن محمد] [4] . وجاء إلى جماعة من أصحابه، فأقبل أهل الشام فحملوا عليهم وهو على المنبر، فقال له عبد الله بن يزيد الأزدي: انزل فإني أخاف عليك أن تؤسر، ولعلك إن انصرفت أن تجمع لهم جمعا يهلكهم الله به بعد اليوم. وحضر مع القوم سلمة بن كهيل، وعطاء السلمي، والمعرور بن سويد، وطلحة بن مصرف.
ورأى طلحة رجلا يضحك فقال له: أما إنك تضحك ضحك من لم يحضر الجماجم، فقيل له: وشهدت الجماجم؟، فقال: نعم ورميت فيها بسهم وليت يدي قطعت ولم أرم فيها.
__________
[1] الخبر في تاريخ الطبري 6/ 357.
[2] الخبر في تاريخ الطبري 6/ 357.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] في الأصل: «يا عباد الله إلي أنا ابن محمد، وجاء إلى جماعة» . وما أوردناه من ت.(6/245)
ثم إنه نزل من على المنبر وانهزم أهل العراق لا يلوون على شيء، ومضى عبد الرحمن في أناس من أهل بيته إلى منزله، فخرجت إليه ابنته فالتزمها، وخرج أهله يبكون، فأوصاهم بوصية، / وقال: لا تبكوا، فكم عسيت أن أبقى معكم، وإن الذي يرزقكم حي، ثم ودعهم وخرج من الكوفة، فقال الحجاج: لا تتبعوهم، ومن رجع فهو آمن.
وجاء الحجاج إلى الكوفة فدخلها، فجاء الناس إليه، فكان لا يبايعه أحد إلا قال:
أتشهد أنك كفرت، فإذا قال نعم بايعه وإلا قتله، فجاء رجل من خثعم فقال له: أتشهد أنك كافر؟ فقال: بئس الرجل أنا إن كنت عبدت الله عز وجل ثمانين سنة ثم أشهد على نفسي بالكفر، قال: إذا أقتلك، قال: وإن قتلتني فو الله ما بقي من عمري ظمء حمار [1] ، وإني لأنتظر الموت صباحا ومساء، فقال: اضربوا عنقه، فضربت عنقه.
ودعا بكميل بن زياد فقتله، وأتي برجل فقال الحجاج: إني أرى رجلا ما أظنه يشهد على نفسه بالكفر، فقال: أخادعي أنت عن نفسي، أنا أكفر أهل الأرض، وأكفر من فرعون ذي الأوتاد، فضحك الحجاج وخلى سبيله.
وأقام الحجاج بالكوفة شهرا.
وفي هذه السنة كانت الوقعة بمسكن بين الحجاج وابن الأشعث بعد ما انهزم من دير الجماجم [2]
وكان السبب أن محمد بن سعد بن أبي وقاص خرج بعد وقعة الجماجم حتى نزل المدائن، واجتمع إليه ناس كثير، وخرج عبيد الله بن عبد الرحمن بن محمد حتى قدم البصرة وهو بها، فاجتمع الناس إلى عبد الرحمن، فأقبل عبيد الله إليه وقال: إنما أخذتها لك. وخرج الحجاج قبل المدائن [3] ، فأقام بها خمسا حتى هيأ الرجال في المعابر، وخندق ابن الأشعث وأقبل نحو الحجاج والتقوا، فاقتتلوا فانهزم أهل العراق، وقتل أبو
__________
[1] في الأصل: «عظمي حمار» . في ت: «كظميء حمار» وما أوردناه من تاريخ الطبري.
[2] تاريخ الطبري 6/ 366.
[3] كذا في الأصول، وفي الطبري «فبدأ المدائن» .(6/246)
البختري الطائي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، ثم قاتلوا فكشفوا أهل الشام مرارا، ثم انهزم ابن الأشعث.
وقيل: بل بعث الحجاج جندا فأتوا عسكر ابن الأشعث من ورائهم في الليل، فتحيزوا لأن نهر دجيل عن يسارهم ودجلة/ أمامهم، فكان من غرق أكثر ممن قتل، ودخل الحجاج إلى عسكرهم فانتهب ما فيه، وقتل أربعة آلاف.
ومضى ابن الأشعث ومعه فل نحو سجستان، فأتبعهم الحجاج عمارة بن تميم اللخمي، فأدرك ابن الأشعث بالسوس، فقاتلهم ابن الأشعث ساعة، ومضى ابن الأشعث حتى مرّ بكرمان، وجاء إلى بلدة له فيها عامل فاستقبله العامل وأنزله، فلما عقل أصحاب عبد الرحمن وتفرقوا عنه أوثقه ذلك العامل وأراد أن يأمن بذلك عند الحجاج، فجاء رتبيل حتى أحاط بذلك البلد، وبعث إليه ذلك الرجل وقال: والله لئن آذيته أو ضررته لأقتلنك ومن معك، ثم أسبي ذراريكم، وأقسم أموالكم، فقال له: أعطنا أمانا ونحن ندفعه إليك سالما، فصالحهم على ذلك، فأخذه رتبيل فأكرمه.
ثم إن الفلول أقبلوا في أثر ابن الأشعث حتى سقطوا بسجستان، فكانوا نحوا من ستين ألفا، وكتبوا إلى عبد الرحمن بعددهم، فخرج إليهم فساروا إلى هراة، فخرج من جملتهم عُبَيْد الله بن عبد الرحمن في ألفين، ففارقهم، فلما أصبح ابن الأشعث قام فيهم فقال: إني قد شهدتكم في هذه المواطن فما من موطن إلا أصبر فيه نفسي حتى لا يبقى منكم أحد، فلما رأيت أنكم لا تصبرون أتيت مأمنا فكنت فيه، فجاءتني كتبكم بأن أقبل إلينا، فقد اجتمعنا، وهذا عبيد الله قد صنع ما رأيتم، فحسبي منكم يومي هذا، فاصنعوا ما بدا لكم، فإنّي منصرف إلى صاحبي الذي أتيتكم من قبله، فمن أحب منكم أن يتبعني فليتبعني، ومن كره ذلك فليذهب حيث أحب.
فمضى إلى رتبيل، ومضت معه طائفة، وبقي معظم العسكر، فوثبوا إلى عبد الرحمن بن العباس [1] فبايعوه، وذهبوا إلى خراسان حتى انتهوا إلى هراة، وسار إليهم يزيد بن المهلب فقاتلهم وأسر منهم، فبعث الأسرى إلى الحجاج فقتل منهم وعفى عن بعضهم. وجيء بفيروز فعذبه بأن شد القصب الفارسي المشقق عليه، ثم جر
__________
[1] كذا في ت، والطبري 6/ 371. وفي الأصل: «محمد بن العباس» .(6/247)
عليه، ثم نضح عليه الخل/ والملح، فلما أحس بالموت قال: لي ودائع عند الناس لا تؤدى إليكم أبدا، فأخرجوني ليعلموا أني حي فيردوا المال، فقال الحجاج: أخرجوه، فأخرج إلى باب المدينة، فقال: من كان لي عنده شيء فهو في حل منه، ثم قتل.
وذكر الحجاج [1] الشعبي فقال: أين هو؟ فقال يزيد بن أبي مسلم: بلغني أنه لحق بقتيبة بن مسلم بالري، وكان الحجاج قد نادى: من لحق بقتيبة فهو آمن، فلحق به الشعبي، فقال ليزيد: ابعث إليه فليؤت به، فكتب إلى قتيبة: أن ابعث الشعبي.
قال الشعبي وكان صديقا لابن [أبي] [2] مسلم: فلما قدمت على الحجاج لقيته، فقلت: أشر عليّ، فقال: ما أدري غير أن أعتذر ما استطعت. فلما دخلت سلمت عليه بالإمرة، ثم قلت: أيها الأمير، إن الناس قد أمروني أن أعتذر إليك بغير ما يعلمه الله عز وجل أنه الحق، وأيم الله لا أقول في هذا المقام إلا حقا، وقد والله حرضنا عليك وجهدنا كل الجهد، فما كنا فيما كنا أتقياء بررة، فإن سطوت فبذنوبنا، وإن عفوت فبحلمك، والحجة لك. فقال: أنت والله أحب إلي قولا ممن يدخل وسيفه يقطر من دمائنا، ثم يقول: ما فعلت. قد أمنت عندنا يا شعبي.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك وابن ناصر، قالا: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار، قال: أخبرنا القاضي إسماعيل بن سعيد بن سويد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر بْن الأنباري، قَالَ: حدثنا أبو الحسن بن البراء، قال: حدثنا العباس بن عبد الله، قال:
حدثني سليمان بن أحمد، عن عيسى بن موسى، عن الشعبي، قال:
انطلق بي إلى الحجاج وأنا في حلق الحديد، فلما كنت بباب القصر استقبلني يزيد بن أبي مسلم، وكان صديقا لي، فقال لي: يا شعبي وآها لما بين دفتيك من العلم، وليس بيوم شفاعة، أقر للأمير بالشرك والنفاق على نفسك فبالحرى تنجو وما أراك بناج.
ثم دخلت القصر فاستقبلني محمد بن الحجاج، فقال لي مثل مقالة يزيد، فلما دخلت على الحجاج قال لي: يا شعبي ألم أشرفك ولا يشرف مثلك؟ / ألم أوفدك ولا يوفد
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 374.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(6/248)
مثلك؟ ألم أكتب إلى ابن أبي بردة قاضي الكوفة ألا يقطع أمرا دونك؟ قلت: كل ذلك قد كان أصلح الله الأمير، قال: فما الذي أخرجك؟ قلت: أحزن بنا المنزل، وضاق بنا المسلك، وأجدب [بنا] الجناب، واكتحلنا السهر، واستشعرنا الخوف، ووقعنا في حرب والله ما كنا فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء، فقال: صدق، أطلقا عنه. فقال:
وأمرني بلزوم بابه.
وفي هذه السنة بنى الحجاج واسط القصب [1]
وكان سبب ذلك أن الحجاج ضرب البعث على أهل الكوفة إلى خراسان، فعسكروا بحمام عمر [2] . وكان فتى من أهل الكوفة حديث عهد بعرس، فانصرف إلى منزله ليلا، فإذا سكران من أهل الشام قد طرق الباب، فقالت المرأة: هذا كل ليلة يأتينا فنلقى منه المكروه، فلما دخل ضرب الفتى رأسه فأندره، فلما أصبحوا علم الناس بالقتيل، فذهبوا به إلى الحجاج، فسأل المرأة فصدقته، فقال: قتيل إلى النار، لا قود له. ثم نادى مناديه: لا ينزلن أحد على أحد، وبعث روادا يرتادون له منزلا حتى نزل أطراف كسكر. فبينا هو في موضع واسط إذا راهب قد أقبل على حماره، فلما كان في موضع واسط بالت الأتان، فنزل الراهب فاحتفر الأرض وحمل التراب فرمى به في دجلة [3] ، فقال الحجاج: علي به، فجيء به، فقال: ما حملك على ما صنعت؟
قال: نجد في كتبنا أنه يبنى في هذا الموضع مسجد يعبد الله عز وجل فيه ما دام في الأرض من يوحد [4] ، فبنى المسجد في ذلك الموضع.
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو الحسين بن النقور، قال: أخبرنا الحسين بن هارون الضبي، قال: في كتاب والدي عن البيهقي، قال: أخبرني الرياشي، قال:
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 383.
[2] في الأصول: «حمام عمره» وما أوردناه من الطبري.
[3] كذا في الأصول: «فاحتفر ذلك البول فرمى به في دجلة» .
[4] في الأصول: «فيه كما إن في الأرض من يوحده» . وما أوردناه من الطبري.(6/249)
لما فرغ الحجاج من بناء واسط، قال للحسن البصري بعد فراغه منها: كيف ترى بناءنا هذا؟ قال الحسن: إن الله أخذ عهود العلماء ومواثيقهم أن لا يقولوا إلا الحق، أما أهل السماء أيها الأمير [فقد] مقتوك [1] ، وأما أهل الأرض [فقد] غروك [2] ، أنفقت مال الله في غير طاعته، يا عدو/ نفسه. فنكس الحجاج رأسه حتى خرج الحسن، ثم قال:
يا أهل الشام، يدخل علي عُبَيْد أهل البصرة ويشتمني في مجلسي ثم لا يكون لذلك معير ولا نكير، ردوه، فخرجوا ليردوه، ودعا بالسيف ليقتله، فلما دخل الحسن دعا بدعوات لم يتمالك الحجاج أن قربه ورحب به وأجلسه على طنفسته، ثم دعا بالطيب فغلف لحيته وصرفه مكرما، فلما خرج من عنده تبعه الحاجب، وقال: يقول لك الأمير رأيتك تحرك شفتيك وقد كنت هممت بك، فماذا قلت في دعائك؟ فقال الحسن:
قلت: يا عدتي عند كربتي، ويا صاحبي عند شدتي، ويا ووليّ نعمتي، ويا إلهي وإله آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ويا كهيعص، بحق طه ويس والقرآن العظيم أرزقني معروف الحجاج ومودته، واصرف عني أذاه ومعرته، فقال الحاجب عندها: بخ بخ لهذا الدعاء. وأمر الحجاج بأن يكتب له هذا [الدعاء] [3] .
قال أبو إسحاق البيهقي: قال الرياشي: لقد دعوت بهذه الدعوات في الشدائد مرارا ففرج الله عني [4] .
وفي هذه السنة حج بالناس هشام [5] بن إسماعيل المخزومي، وهو العامل على المدينة، وكان العمال على الأمصار العمال الذين كانوا في السنة التي قبلها [6] .
__________
[1] في الأصل: «فمقتوك» . وما أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «فغروك» . وما أوردناه من ت.
[3] في ت: «أمر الحجاج بأن يكتب هذا الدعاء له» .
[4] في ت: «بهذا الدعاء في الشدائد مرارا وأفرج الله عني» .
[5] في ت: «حج بالناس في هذه السنة» .
[6] في ت: «وكان العمال فِي هذه السنة العمال الذين كانوا في السنة التي قبلها» .(6/250)
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
492- روح بن زنباع، أبو زرعة الجذامي الشامي [1] :
يقال: له صحبة. ولا يصح، وإنما يروي عن الصحابة، وكان من كتاب عبد الملك. وكان عبد الملك يقول: إن روحا الشامي الطاغية عراقي الخط، حجازي الفقه، فارسي الكتابة. وكان معاوية هم بروح بن زنباع فقال له: لا تشمتن بي عدوا أنت وقمته [2] ، ولا تسوؤنّ بي صديقا أنت سررته، ولا تهدمن مني ركنا أنت بنيته، هلا آتي حلمك وإحسانك على جهلي وإساءتي. فأمسك عنه.
493- زيد بن وهب الجهني، أبو سليمان: [3]
[رحل إلى حضرة رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم] [4] / وزيد [5] في الطريق.
روى عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وكبار الصحابة.
494- زاذان أبو عمرو، مولى كندة [6] :
روى عن علي، وابن مسعود، وابن عمر، وجرير، وسلمان [7] .
__________
[1] الإصابة 2707، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 5/ 337، والبداية والنهاية 9/ 54، وسمط اللآلي 179.
[2] وقم الرجل وقما ووقمه: أذله وقهره.
[3] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 69، وطبقات خليفة 158، والتاريخ الكبير 3/ 352، والجرح والتعديل 3/ 2600، وحلية الأولياء 4/ 171، والإستيعاب 2/ 559، وأسد الغابة 2/ 242، وتاريخ الإسلام 3/ 251، وسير أعلام النبلاء 4/ 196، وميزان الاعتدال 2/ 3031، وتذكرة الحفاظ 1/ 66.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من الأصل.
[5] في الأصل: «فلقيه وزيد في الطريق» وما أوردناه من ت.
[6] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 124، وطبقات خليفة، والتاريخ الكبير 3/ 1455، والجرح والتعديل 3/ 2781، وحلية الأولياء 4/ 199، وتاريخ بغداد 8/ 487، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 5/ 347، وتاريخ الإسلام 3/ 248، وسير أعلام النبلاء 4/ 280، وميزان الاعتدال 2/ 2817.
[7] قال ابن سعد: «كان ثقة قليل الحديث» . وقال يحيى بن معين: «كان يتغنى ثم تاب» . قال ابن عدي في الكامل: «أحاديثه لا بأس بها إذا روى عن ثقة، وكان يبيع الكرابيس، وإنما رماه من رماه لكثرة كلامه» . ووثقه العجليّ.(6/251)
وعن سالم بن أبي حفصة، أن زاذان كان يبيع الثياب، فإذا عرض الثوب ناول شر الطرفين.
495- عبد الرحمن بن أبي ليلى، أبو عيسى الأنصاري: [1]
وفي اسم أبي ليلى أربعة أقوال: أحدهما يسار، والثاني بلال، والثالث بليل، والرابع داود بن أحيحة بن الحلاج بن الحريش بن جحجبا [بن كلفة] .
ولد عبد الرحمن لست سنين بقين من خلافة عمر بن الخطاب، وروى عن عمر، وعثمان، وعلي بن أبي طالب، أبي، وكعب بن عجرة، والمقداد، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك، وغيرهم.
روى عنه مجاهد، وثابت البناني، والأعمش، وغيرهم.
وكان ثقة، سكن الكوفة، وشهد حرب الخوارج بالنهروان مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ بإسناد لَهُ عن يزيد ابن أبي زياد، قال:
قال لي عبد الله بن الحارث: اجمع بيني وبين ابن أبي ليلى، فجمعت بينهما، فقال عبد الله بن الحارث: ما شعرت أن النساء ولدت مثل هذا.
قتل عبد الرحمن في الجماجم سنة ثلاث وثمانين. وقيل سنة إحدى وثمانين.
والأول أصح.
496- عبد الرحمن بن حجيرة، أبو عبد الله الخولاني: [2]
روى عن ابن عمر، وأبي هريرة، وغيرهما.
وكان عبد الرحمن قد اجتمع له القضاء بمصر، والقصص، وبيت المال. وكان
__________
[1] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 74، تهذيب التهذيب 6/ 260.
[2] تهذيب التهذيب 6/ 160، التاريخ الكبير 3/ 1/ 276، والجرح والتعديل 5/ 227، والبداية والنهاية 9/ 56.(6/252)
يأخذ رزقه في القضاء مائتي دينار، وفي بيت المال مائتي دينار، وعطاؤه مائتا دينار، وجائزته مائتا دينار، فكان يأخذ في السنة ألف دينار، فلا يحول الحول وعنده ما يجب فيه الزكاة.
توفي في محرم هذه السنة.
497- عبد الرحمن بن عبد الله بن الحارث، أبو المصبح، وهو أعشى همدان [1] :
شاعر فصيح، كوفي، من شعراء بني أمية، وكان/ زوج أخت الشعبي، والشعبي زوج أخته. وكان أحد القراء الفقهاء ثم ترك ذلك وقال الشعر، ورأى في المنام أنه دخل بيتا فيه حنطة وشعير، فقيل له: خذ أيهما شئت، فأخذ الشعير، فقال له الشعبي: إن صدقت رؤياك تركت القرآن وقلت الشعر، فكان كذلك.
وخرج مع الأشعث فأخذه الحجاج فقتله صبرا.
498- شقيق بن سلمة، أبو وائل الأسدي [2] :
أدرك رسول اللَّه صَلى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يلقه. وسمع عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، وعمارا، وخبابا، وأبا مسعود، وأبا موسى، وأسامة بن زيد، وحذيفة بن اليمان، وابن عمر، وأبا الدرداء، وابن عباس، وجرير بن عبد الله، والمغيرة بن شعبة.
روى عنه منصور بن المعتمر، وعمرو بن مرة، والأعمش وغيرهم.
وكان من سكان الكوفة، وورد المدائن مع علي بن أبي طالب حين قاتل الخوارج بالنهروان.
قال الأعمش: [3] قال لي شقيق: يا سليمان، لو رأيتني ونحن هراب من خالد بن
__________
[1] الأغاني 6/ 41، والإكليل 10/ 58، وفيه: «عبد الرحمن بن الحارث» .
[2] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 64، وطبقات خليفة 155، والتاريخ الكبير 4/ 2681، والمعارف 449، والجرح والتعديل 4/ 1613، وحلية الأولياء 4/ 101، وتاريخ بغداد 9/ 268، والاستيعاب 2/ 710، 4/ 177، وأسد الغابة 3/ 3، وسير أعلام النبلاء 4/ 161، وتذكرة الحفاظ 1/ 60، والإصابة 2/ 3982، وتهذيب تاريخ دمشق 6/ 336.
[3] الخبر في مصنف ابن أبي شيبة 13/ 15740، وطبقات ابن سعد 6/ 1/ 64.(6/253)
الوليد يوم بزاخة، فوقعت عن البعير فكادت تندق عنقي، فلو مت يومئذ كانت النار أولى بي، وكنت يومئذ ابن إحدى عشرة سنة.
وقيل له [1] : أيما أكبر أنت أو الربيع بن خيثم؟ فقال: أنا أكبر منه سنا، وهو كان أكبر مني عقلا. وقيل له: بأي شيء تشهد على الحجاج؟ فقال: أتأمروني أنا أحكم على الله.
وكان يسمع موعظة إبراهيم التيمي فينتفض انتفاض الطير. وكان لا يلتفت في صلاة.
وقال: درهم [من] [2] تجارة أحب إلي من عشرة من عطائي.
وعن سعيد بن صالح، قال: كان أبو وائل يؤم جنائزنا وهو ابن خمسين ومائة سنة، وعن عاصم قال: كان أبو وائل ينشج [سرا] [3] ، ولو جعلت له الدنيا على أن يفعل ذلك وأحد يراه لم يفعل.
وعن عاصم قال: كان لأبي وائل خص من قصب، وهو فيه وفرسه، فكان إذا غزا نقضه، وإذا قدم بناه.
499-/ معاذة بنت عبد الله العدوية، تكنى أم الصهباء [4] :
روت عن عائشة، وروى عنها الحسن، وأبو قلابة.
وكانت تحيي الليل، [وكانت] [5] تقول: عجبت لعين تنام وقد عرفت طول الرقاد في ظلم القبور.
ولما قتل زوجها صلة بن أشيم وابنها في بعض الغزوات اجتمع النساء عندها، فقالت: مرحبا بكن إن كنتن جئتن لتهنئتي فمرحبا بكن، وإن كنتن جئتن لغير ذلك
__________
[1] الخبر في طبقات ابن سعد 6/ 1/ 64، والتاريخ الكبير 4/ 2681، عن يزيد بن أبي زياد، قال: قلت لأبي وائل» وساقه، وفي مصنف ابن أبي شيبة عن الثوري 13/ 15769.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] طبقات ابن سعد 8/ 355.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(6/254)
فارجعن. ولم تتوسد فراشا بعد ذلك، وكانت تقول: والله ما أحب البقاء إلا لأتقرب إلى ربي عز وجل بالوسائل لعله يجمع بيني وبين أبي الصهباء وولده في الجنة.
فلما احتضرت بكت ثم ضحكت، فسئلت عن ذلك، فقالت: أما البكاء فإني ذكرت مفارقة الصيام والصلاة والذكر، وأما الضحك، فإني نظرت إلى أبي الصهباء وقد أقبل في صحن الدار وعليه حلتان خضراوان وهو في نفر ما رأيت لهم في الدنيا شبها فضحكت إليه. ولا أراني أدرك بعد ذلك فرضا. فماتت قبل دخول وقت الصلاة.(6/255)
ثم دخلت سنة أربع وثمانين
فمن الحوادث فيها قتل الحجاج أيوب بن القرية [1]
وكان ممن كان مع ابن الأشعث، وكان يدخل بعد ذلك على حوشب بن يزيد- وحوشب عامل الحجاج- فيقول حوشب: أنظروا إلى هذا الواقف معي وغدا أو بعد غد يأتي كتاب من الأمير لا أستطيع إلا إنفاذه. فبينا هو ذات يوم واقف أتاه كتاب من الحجاج: أما بعد، فإنك قد صرت كهفا لمنافقي أهل العراق، فإذا نظرت في كتابي هذا فابعث إلي بابن القرية مشدودة يده إلى عنقه مع ثقة من قبلك.
فلما قرأ الكتاب رمى به إليه، [فقرأه] [2] وقال: سمعا وطاعة، فبعث به موثقا، فدخل عليه، فقال: أصلح الله الأمير، أقلني عثرتي، فإنه ليس جواد إلا وله كبوة، فأمر به فقتل.
وفي هذه السنة غزا عبد الله بن عبد الملك بن مروان/ الروم ففتح المصيصة.
وفيها: [3] فتح يزيد بن المهلب قلعة كان يراصدها، وكتب إلى الحجاج: إنا لقينا العدو فمنحنا الله أكتافهم، وقتلنا طائفة وأسرنا طائفة، ولحقت طائفة برءوس الجبال
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 385.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] تاريخ الطبري 6/ 387.(6/256)
وعراعر الأودية، وأهضام الغيطان. فقال الحجاج: من يكتب ليزيد؟ فقيل: يحيى بن يعمر، فكتب إلى يزيد ليحمله على البريد، فلما دخل عليه رأى أفصح الناس، فقال:
أين ولدت؟ قال: بالأهواز، فقال: من أين لك هذه الفصاحة؟ قال: حفظت كلام أبي وكان فصيحا. قال: فأخبرني هل يلحن عنبسة بن سعيد؟ قال: نعم كثيرا، قال: ففلان؟
قال: نعم، قال: فأخبرني عنّي أألحن [1] : قال: نعم تلحن لحنا خفيفا، تزيد حرفا وتنقص حرفا، وتجعل أن في موضع إن، قال: أجلتك ثلاثا، فإن أجدك بعد ثلاث بأرض العراق قتلتك. فرجع إلى خراسان.
وفيها: [2] حج بالناس هشام بن إسماعيل المخزومي، وكان عمال الأمصار عمالها في السنة التي قبلها.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
500- بديح، مولى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب [3] :
[وكان يقال بديح المليح، فكانت فيه فكاهة ومزاح، وكان يغني، وروى الحديث عن عبد الله بن جعفر] [4] .
قال العتبي: [5] دخل عبد الله بن جعفر على عبد الملك بن مروان وهو يتأوه، فقال: مالك؟ قال: هاج بي عرق النسا [في ليلتي] [6] هذه فبلغ مني، قال: فإن بديحا مولاي أرقى الخلق له، فوجه إليه عبد الملك، فجاء فقال: كيف رقيتك لعرق النسا؟ قال:
أرقى خلق الله، فمد رجله فتفل عليها ورقاها مرارا، فقال عبد الملك: الله أكبر وجدت [والله] خفا. يا غلام، ادع لي فلانة تجيء وتكتب الرقية، فإنا لا نأمن هيجها بالليل فلا ندعو بديحا. فلما جاءت الجارية قال بديح: يا أمير المؤمنين، امرأته طالق إن كتبتها
__________
[1] في الأصل: «ألحن» . وما أوردناه من ت.
[2] في ت: «وحج في هذه السنة هشام» .
[3] الأغاني 15/ 169 (دار الكتب العلمية) .
[4] ما بين المعقوفتين: جاء في الأصل في آخر الترجمة.
[5] الخبر في الأغاني 15/ 170.
[6] في الأصل: «قريبا» في هذه السنة» والتصحيح من الأغاني.(6/257)
حتّى تعجل حبائي، فأمر له بأربعة آلاف درهم، فلما صارت بين يديه، قال: وامرأته طالق إن كتبتها أو يصير المال في منزلي، فأمر فحمل إلى منزله، فلما أحرزه قال: امرأته طالق إن كنت/ قرأت على رجلك إلا أبيات نصيب:
ألا إن ليلى العامرية أصبحت ... على النأي مني غير ذنبي فتنقم [1]
قال: ويلك ما تقول؟ قال: امرأته طالق إن كان رقى إلا بما قال، قال: فاكتمها علي، قال: وكيف وقد سارت بها البرد إلى أخيك بمصر؟ فضحك عبد الملك حتى جعل يفحص برجليه.
توفي بديح في هذه السنة.
__________
[1] في الأغاني: «على النأي مني ذنب غير تنقم» .(6/258)
ثم دخلت سنة خمس وثمانين
فمن الحوادث فيها هلاك عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث [1]
وسبب ذلك أنه لما رجع إلى رتبيل قال له رجل [كان] [2] معه يقال له علقمة بن عمرو: ما أريد أن أدخل معك، قال: لم؟ قال: لأني أتخوف عليك وعلى من معك، والله لكأني بكتاب من الحجاج قد جاء إلى رتبيل يرغبه ويرهبه فإذا هو قد بعث بك سلما أو قتلكم، ولكن ها هنا خمسمائة قد تبايعنا على أن ندخل مدينة فنتحصن فيها، ونقاتل حتى نعطى أمانا أو نموت كراما. فقال له عبد الرحمن: أما إنك لو دخلت معي لآسيتك وأكرمتك. فأبى عليه. فدخل عبد الرحمن إلى رتبيل، وخرج هؤلاء الخمسمائة [3] فبعثوا عليهم مودودا النضري [4] ، وأقاموا حتى قدم عليهم عمارة بن تميم، فقاتلوه وامتنعوا منه حتى آمنهم، فخرجوا إليه فوفى لهم.
وتتابعت كتب الحجاج إلى رتبيل في عبد الرحمن: أن ابعث به إليّ، وإلا فو الله الّذي لا إله إلا هو لأوطئن أرضك ألف ألف مقاتل. وكان عند رتبيل رجل من بني تميم يقال له عُبَيْد بن أبي سبيع، [5] فقال له: أنا آخذ لك من الحجاج عهدا ليكفّنّ الخراج
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 389.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «الخمسة» خطأ وما أوردناه من ت.
[4] في الأصل: «مودود البصري» وما أوردناه من الله والطبري.
[5] في الأصل: «ابن أبي سميع» . وما أوردناه من الله والطبري.(6/259)
عن أرضك سبع سنين على أن تدفع إليه عبد الرحمن، فقال: إن فعلت ذلك فلك عندي ما سألت.
فكتب إلى الحجاج [1] يخبره [أن رتبيل لا يعصيه، وأنه لن يدع رتبيل حتى يبعث إليه بعبد الرحمن، فأعطاه الحجاج على ذلك مالا وأخذ من رتبيل عليه مالا] [2] ، وبعث رتبيل برأس/ عبد الرحمن إلى الحجاج، وترك له الذي كان يأخذه منه سبع سنين.
وفي رواية [3] : أن عبد الرحمن أصابه سل، فلما مات وأرادوا دفنه حز رتبيل رأسه وبعث به إلى الحجاج.
وفي رواية: [4] أن الحجاج كتب إلى رتبيل: إني قد بعثت إليك عمارة بن تميم في ثلاثين ألفا من أهل الشام يطلبون ابن الأشعث. فأبى رتبيل أن يسلمه إليهم، وكان مع ابن الأشعث عبيد بن أبي سبيع قد خص به، وتقرب من رتبيل وخص به، فقال القاسم بن محمد بن الأشعث لأخيه عبد الرحمن: إني لا آمن غدر هذا [5] ، فاقتله، فهم به، وبلغه ذلك، فخاف فوشى به إلى رتبيل، وخوفه الحجاج، وخرج سرا إلى عمارة، فاستعجل في ابن الأشعث، [فجعل له] [6] ألف ألف، فكتب بذلك عمارة إلى الحجاج، فكتب إليه الحجاج: أن أعط عبيدا ورتبيل ما سألاك، فاشترط رتبيل أشياء [7] فأعطيها، وأرسل [رتبيل] إلى ابن الأشعث وثلاثين من أهل بيته وقد أعد لهم الجوامع والقيود، فقيدهم وأرسل بهم جميعا إلى عمارة، فلما قرب ابن الأشعث من عمارة ألقى نفسه من فوق قصر فمات. فاحتز رأسه، فأتى به الحجاج، فأرسل به إلى عبد الملك.
وذكر بعضهم [8] : أن مهلك عبد الرحمن كان في سنة أربع وثمانين.
__________
[1] من هنا ساقط من الله إلى: «برأس عبد الرحمن إلى الحجاج» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.
[3] الرواية في الطبري 6/ 390.
[4] الرواية في الطبري 6/ 390.
[5] أي: عبيد بن أبي سبيع.
[6] ما بين المعقوفتين: أضفناها لاستقامة المعنى.
[7] الشروط التي اشترطها كما في الطبري 6/ 391: «ألا تغزى بلاده عشر سنين، وأن يؤدي بعد العشر سنين في كل سنة تسعمائة ألف» .
[8] تاريخ الطبري 6/ 393.(6/260)
وفي هذه السنة عزل الحجاج يزيد بن المهلب عن خراسان وولاها المفضل [1] بن المهلب أخا يزيد
وسبب ذلك [2] أن بعض أهل الكتاب قال له: يلي الأمر بعدك رجل يقال له يزيد، فقال: ليس إلا ابن المهلب، فعزله وولى المفضل فبقي تسعة أشهر، وكان يزيد قد ولي سنة اثنتين، وعزل سنة خمس.
وفيها غزا المفضل باذغيس [3]
ففتحها وأصاب منها مغنما، فقسمه بين الناس. ثم غزا مواضع أخر فظفر وغنم ولم يكن له بيت مال وإنما كان يقسم ما يغنم.
وفيها أراد عبد الملك خلع أخيه عبد العزيز [4]
فنهاه عن ذلك قبيصة بن ذؤيب، وقال: لا تفعل فإنك تبعث بهذا على نفسك العار [5] ، ولعل الموت يأتيه فتستريح منه. فكف/ عن ذلك ونفسه تنازعه، ودخل عليه روح بن زنباع، فقال: يا أمير المؤمنين، لو خلعته ما انتطح فيه عنزان، قال: ترى ذلك يا أبا زرعة؟ قال: إي والله، وأنا أول من يجيبك إلى ذلك، فقال: نصبح إن شاء الله.
فبينا هو على ذلك وقد نام عبد الملك- ونفسه تنازعه- وروح بن زنباع دخل عليهما قبيصة بن ذؤيب طروقا، وكان عبد الملك قد تقدم إلى حجابه فقال: لا يحجب عني قبيصة أي ساعة جاء ليلا أو نهارا [6] ، إن كنت خاليا أو عندي أحد، وإن كنت عند النساء أدخل المجلس وأعلمت بمكانه، فدخل وكانت الأخبار تأتي إليه قبل عبد الملك، فدخل عليه فسلم وقال: آجرك الله في أخيك عبد العزيز، قال: وهل
__________
[1] في الأصل: «الفضل» . والتصحيح من الله وكتب التواريخ.
[2] تاريخ الطبري 6/ 393.
[3] تاريخ الطبري 6/ 397.
[4] تاريخ الطبري 6/ 412.
[5] كذا في الأصل، وابن الأثير، وفي الطبري: «على نفسك صوت نعار» ومن ت: «على نفسك ضربا من العار» .
[6] في ت: «من ليل أو نهار» .(6/261)
توفي؟ قال: نعم، فاسترجع عبد الملك، ثم أقبل على روح، فقال: كفانا الله ما كنا نريد وما اجتمعنا عليه، فقال قبيصة: ما هو؟ فأخبره بما قد كان، فقال قبيصة: يا أمير المؤمنين، إن الرأي كله في الأناة، والعجلة فيها ما فيها.
وفي رواية [1] : أن عبد الملك لما أراد خلع عبد العزيز ويبايع لابنه الوليد، كتب إلى أخيه: إن رأيت أن تصير هذا الأمر لابن أخيك، فأبى، فكتب إليه: فاجعلها له من بعدك، فكتب إليه: إني أرى في ولدي ما ترى في ولدك، وإني وإياك قد بلغنا أشياء لم يبلغها [2] أحد من أهل بيتك إلا كان بقاؤه قليلا، وإني لا أدري ولا تدري أينا يأتيه الموت أولا، فإن رأيت لا تغثث [3] علي بقية عمري فافعل. فرق عبد الملك، وقال: لا أغثث عليه بقية عمره [وقال العمري: لا أعيب عليه بقية عمره] [4] . فلما مات عبد العزيز بن مروان بايع لولديه.
وفي هذه السنة بايع] [5] عبد الملك لولديه الوليد ثم سليمان بعده
وجعلهما وليي عهده، فكتب ببيعتهما إلى البلدان، وكتب إلى هشام بن إسماعيل المخزومي أن يدعو الناس إلى بيعة ابنيه الوليد وسليمان، فبايعوا غير سعيد بن المسيب فإنه أبى وقال: لا أبايع وعبد الملك حي فضربه هشام ستين سوطا، وطاف به في ثياب شعر وسرحه إلى ذباب-[ثنية] [6] بظاهر المدينة [7] كانوا يقتلون عندها ويصلبون- فظن أنهم يريدون قتله، فلما انتهوا به إلى ذلك الموضع ردوه، فقال: لو ظننت أنهم لا يقتلونني ما لبست سراويل مسوح. فبلغ عبد/ الملك، فقال: قبح الله هشاما، إنما كان
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 414.
[2] كذا في الأصلين، وفي الطبري: «قد بلغنا سنا لم يبلغها» .
[3] أي: «لا تفسد» .
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، وأوردناه من ت.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[6] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[7] «بظاهر المدينة» : ساقط من ت.(6/262)
ينبغي له أن يدعوه إلى البيعة فإن أبى كف عنه أو يضرب عنقه.
وقد ذكرنا أن ابن المسيب ضرب في بيعة ابن الزبير أيضا لأنه قال: لا أبايع حتى يجتمع الناس، فضربه جابر بن الأسود، وكان عامل ابن الزبير في أيامه على المدينة.
وفي هذه السنة [1] ولي قتيبة بن مسلم خراسان.
وفيها: حج بالناس هشام [2] بن إسماعيل المخزومي، وكان العامل على المشرق والعراق الحجاج.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
501- عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث:
وقد ذكرنا هلاكه في الحوادث.
502- عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، يكنى أبا الأصبغ: [3]
روى عن أبي هريرة، وعقبة بن عامر. وكان مروان قد فتح مصر وولاه عليها، وأقره على ذلك عبد الملك، وعقد مروان العهد لعبد الملك، وبعده عبد العزيز. ثم أراد عبد الملك خلعه ليبايع لابنيه الوليد، وسليمان. فتوفي عبد العزيز بمصر في جمادى الأولى من هذه السنة.
وقيل: بل في جمادى الآخرة [4] من سنة ست وثمانين.
وكان يقول حين حضرته الوفاة: ليتني لم أكن شيئا مذكورا. فلما بلغ الخبر عبد الملك
__________
[1] في الأصل: «وفيها» . وما أوردناه من ت.
[2] في ت: «وحج بالناس في هذه السنة هشام» .
[3] طبقات ابن سعد 5/ 175، والبداية والنهاية 9/ 62، وخزانة البغدادي 3/ 583، وخطط مبارك 10/ 583.
[4] «من هذه السنة. وقيل بل في جمادى الآخرة» : ساقط من ت.(6/263)
ليلا أصبح يدعو الناس، ويبايع للوليد بالخلافة، ثم لسليمان بعده [1] أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْوَاحِدِ بن محمد بن عثمان البجلي، قَالَ: أخبرنا أبو علي الحسن بن محمد بن موسى بن إسحاق الأنصاري، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا، قال: حدثنا محمد بن يحيى ابن أبي حاتم، قال: حدثني محمد بن هانئ الطائي، قال: حدثنا محمد بن أبي سعيد، قال: قال عبد العزيز بن مروان:
ما نظر إلي رجل قط فتأملني فاشتد تأمله إياي إلا سألته عن حاجته، ثم أبيت من ورائها، فإذا تعار من وسنه مستطيلا ليله مستبطئا لصبحه مقارفا/ للقائي، ثم غدا إلي أن تجارته في نفسه وغدا التجار إلى تجارتهم إلا رجع من غدوة إلى أربح من تجر.
وعجبا لمؤمن موقن أن الله يرزقه ويوقن أن الله يخلف عليه، كيف يحبس مالا عن عظيم جزاء وحسن سماع.
أَخْبَرَنَا مَوْهُوبُ بْنُ أَحْمَدَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ، والمبارك بن علي، قالوا: أخبرنا علي بن العلاف، قال: أخبرنا أحمد بن علي الحمامي، قال: أخبرنا عبد الواحد بن عمر بن [أبي هاشم، قال: حدثنا موسى بن عبد الله، قال: حدثنا ابن أبي سعيد الوراق، قال: حدثنا أحمد بن عمر] بن إسماعيل بن عبد العزيز الزهري، قال: حدثني محمد بن الحارث المخزومي، قال:
دخل على عبد العزيز بن مروان رجل يشكو صهرا له، فقال: إن ختني فعل بي كذا وكذا، فقال له عبد العزيز: من ختنك؟ فقال له: ختنني الختان الذي يختن الناس، فقال عبد العزيز لكاتبه: ويحك، ما أجابني، فقال له: أيها الأمير، إنك لحنت وهو لا يعرف اللحن، كان ينبغي أن تقول له: ما ختنك، فقال عبد العزيز: أراني أتكلم بكلام لا يعرفه العرب، لا شاهدت الناس حتى أعرف اللحن. قال: فأقام في البيت جمعة لا يظهر ومعه من يعلمه العربية، قال: فصلى بالناس الجمعة وهو من أفصح الناس. قال:
وكان يعطي على العربية، ويحرم على اللحن حتى قدم عليه زوار من أهل المدينة وأهل مكة من قريش، فجعل يقول للرجل منهم ممن أنت؟ فيقول من بني فلان، فيقول
__________
[1] في الأصل: «ثم لسليمان بعد الوليد» .(6/264)
للكاتب: أعطه مائتي دينار، حتى جاءه رجل من بني عبد الدار بن قصي فقال: ممن أنت؟ قال: من بنو عبد الدار [1] ، فقال له: خذها في جائزتك، وقال للكاتب: أعطه مائة دينار.
503- واثلة بن الأسقع بن عبد العزيز [2] بن عبد يا ليل بن ناشب، أبو قرصافة: [3]
أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْجَوْهَرِيُّ، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا ابن معروف، قال: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قَالَ: حدثنا محمد بْنُ عُمَرَ، قَالَ: كَانَ وَاثِلَةُ لَمَّا نَزَلَ [نَاحِيَةَ] الْمَدِينَةِ وَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فصلى مَعَهُ الصُّبْحَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى وَانْصَرَفَ تَصَفَّحَ أَصْحَابَهُ، فَلَمَّا دَنَا مِنْ وَاثِلَةَ، قَالَ: مَنْ أَنْتَ؟
فَأَخْبَرَهُ، قَالَ: مَا جَاءَ بِكَ؟ قَالَ: جِئْتُ أُبَايِعُ، فَقَالَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: / علي مَا أَحْبَبْتَ وَكَرِهْتَ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فِيمَا أَطَقْتَ، قَالَ: نَعَمْ. فَأَسْلَمَ وَبَايَعَهُ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَجَهَّزُ يَوْمَئِذٍ إِلَى تَبُوكَ، فَخَرَجَ وَاثِلَةُ إِلَى أَهْلِهِ، فَلَقِيَ أَبَاهُ الأَسْقَعَ، فَلَمَّا رَأَى حَالَهُ قَالَ: قَدْ فَعَلْتَهَا، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ أَبُوهُ: وَاللَّهِ لا أُكَلِّمُكَ أَبَدًا، فَأَتَى عَمَّهُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: قَدْ فَعَلْتَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. فَلامَهُ أَيْسَرَ مِنْ لائمة أبيه وقال: لم يكن ينبغي لَكَ أَنْ تَسْبِقَنَا بِأَمْرٍ.
فَسَمِعَتْ أُخْتَ وَاثِلَةَ كَلامَهُ، فَخَرَجَتْ إِلَيْهِ فَسَلَّمَتْ عَلَيْهِ بِتَحِيَّةِ الإِسْلامِ، فَقَالَ وَاثِلَةُ: أَنَّى لَكِ هَذَا يَا أُخَيَّةُ؟ قَالَتْ: سَمِعْتُ كَلامَكَ وَكَلامَ عَمِّكَ وَأَسْلَمْتُ، فَقَالَ: جَهِزِّي أَخَاكَ جَهَازَ غَازٍ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ. فَجَهَّزْتُهُ فَلَحِقَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَحَمَّلَ إِلَى تَبُوكَ، وَبَقِيَ غَبَرَاتٌ مِنَ النَّاسِ، وَهُمْ عَلَى الشُّخُوصِ، فَجَعَلَ يُنَادِي بِسُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعٍ:
مَنْ يَحْمِلُنِي وَلَهُ سَهْمِي؟ قَالَ: فَدَعَانِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ، فَقَالَ: أَنَا أَحْمِلُكَ، عَقَبَةً بِاللَّيْلِ وَعَقَبَةً بِالنَّهَارِ، وَيَدُكَ أُسْوَةٌ بِيَدِي، وَسَهْمُكَ لِي. قَالَ وَاثِلَةُ: فَقُلْتُ: نَعَمْ وَجَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا، لَقَدْ كَانَ يَحْمِلُنِي وَيَزِيدُنِي، وَآكُلُ مَعَهُ وَيَرْفَعُ لِي حَتَّى إِذَا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنُ الْوَلِيدِ إِلَى أُكَيْدَرِ بْنِ عَبْد الْمَلِكِ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ خَرَجَ كَعْبٌ فِي جَيْشِ خَالِدٍ، وَخَرَجْتُ مَعَهُ فَأَصَبْنَا فَيْئًا كَثِيرًا، فَقَسَّمَهُ خَالِدٌ بَيْنَنَا، فَأَصَابَنِي سِتُّ قَلائِصَ، فَأَقْبَلْتُ أَسُوقُهَا حَتَّى جِئْتُ
__________
[1] في الأصل: «بني عبد الدار» وما أوردناه من ت، وهو الصحيح، لأن المقصود أنه أخطأ.
[2] كذا في الأصلين، وفي ابن سعد: «ابن عبد العزى» .
[3] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 129، والتاريخ الكبير 4/ 2/ 187، والجرح والتعديل 9/ 47.(6/265)
بها خَيْمَةَ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، فَقُلْتُ: اخْرُجْ رَحِمَكَ اللَّهُ فَانْظُرْ إِلَى قَلائِصِكَ فَاقْبِضْهَا.
فَخَرَجَ وَهُوَ يبتسم وَيَقُولُ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا، مَا حَمَلْتُكَ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ آخُذَ مِنْكَ شَيْئًا.
وَكَانَ وَاثِلَةُ مِنْ أَهْلِ الصَّنْعَةِ، فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج إلى الشَّامِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: [1] حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ [2] ، عَنْ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ، قَالَ: مَاتَ وَاثِلَةُ بْنُ الأَسْقَعِ بِالشَّامِ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ، وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً فِي آخِرِ خلافة عبد الملك بن مروان.
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 129.
[2] في الأصل: «محمد بن صالح» . خطأ، وما أوردناه من ت وابن سعد.(6/266)
ثم دخلت سنة ست وثمانين
فمن الحوادث فيها وقوع الطاعون، ويقال طاعون الفتيات، ماتت فيه الجواري، وكان بالشام والبصرة وواسط، والحجاج يومئذ بواسط.
وقيل: إنه كان في سنة سبع وثمانين.
وفيها: مرض عبد الملك. ومات، وبويع لولده الوليد بن عبد الملك بن مروان.(6/267)
باب ذكر خلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان [1]
ويكنى أبا العباس، أمه ولادة العبسية، وكان أسمر طوالا، حسن الوجه، وكان له تسعة عشر ابنا: عبد العزيز، ومحمد أمهما أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان، وأبو عبيدة أمه فزارية، والعباس، وإبراهيم وليا الخلافة، وتمام، وخالد، وعبد الرحمن، ومبشر، ومسرور، وصدقة، ومنصور، ومروان، وعنبسة، وعمر [2] وهو فحل بني مروان وكان يركب ومعه ستون من صلبه ذكورا، وروح، وبشر [3] ، ويزيد وهو الناقص ولي الخلافة، ويحيى، لأمهات شتى.
وقد ذكرنا [4] أن عبد الملك بايع للوليد قبل موته، وكان أهل الشام يرون للوليد فضلا ويقولون: بنى مسجد دمشق ومسجد المدينة، وأعطى المجذمين، وقال: لا تسألوا الناس، وأعطى كل مقعد خادما، وكل ضرير قائدا، وكان الوليد يمر بالبقال فيقف عليه فيأخذ حزمة البقل بيده، فيقول: بكم هذه؟ فيقول: بفلس، فيقول: زد فيها. وما مات الحجاج حتى ثقل على الوليد، وكان الوليد صاحب بناء واتخاذ مصانع، وكان الناس يلتقون في زمانه فيسأل بعضهم بعضا عن البناء والمصانع، فولي سليمان، وكان صاحب نكاح وطعام، وكان/ الناس يلتقون فيسأل الرجل الرجل عن التزويج
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 423، والبداية والنهاية 9/ 77، ومروج الذهب 3/ 166.
[2] في الأصل: «عمرو» وما أوردناه من ت والطبري.
[3] في الأصول: «سبره» وما أوردناه من الطبري.
[4] تاريخ الطبري 6/ 496، 497.(6/268)
والجواري، فلما ولي عمر بن عبد العزيز كانوا يلتقون فيقول الرجل للرجل: ما وردك الليلة؟ وكم تحفظ من القرآن؟ ومتى ختمت ومتى تختم؟
وكثرت الفتوح في أيام الوليد، وكان مسلمة بن عبد الملك يتغلغل في بلاد الروم، وقتيبة بن مسلم في بلاد العجم والترك، وفتح كاشغر، وافتتح محمد بن القاسم بلاد الهند، وفتح محمد بن نصير أرض الأندلس ووجد بها مائدة سليمان بن داود عليهما السلام المرصعة بالجواهر.
وكان في الوليد نوع ذكاء وفطنة، وسمع صوت ناقوس فأمر بهدم البيعة [1] ، فكتب إليه ملك الروم: إن هذه البيعة أقرها من كان قبلك، فإن كانوا أصابوا فقد أخطأت، وإن تكن أصبت فقد أخطأوا، فقال الوليد: من يجيبه؟ فأحجم الناس، فأمر الوليد أن يكتب إليه فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً 21: 79 [2] .
وكان الوليد لحانة وكان عبد الملك يقول: أضر بالوليد حبنا له فلم نعربه في البادية- وقال لرجل: ما شأنك؟ فقال له: شيخ يانعي، فقال له عمر بن عبد العزيز: إن أمير المؤمنين يقول لك: ما شأنك؟ قال: ختني ظلمني، فقال له الوليد: من ختنك، فنكس الأعرابي رأسه وقال: ما سؤال أمير المؤمنين عن هذا؟ فقال له عمر: إنما أراد أمير المؤمنين من ختنك؟ فقال: هذا، وأشار إلى رجل معه.
وكان الوليد أول من كتب من الخلفاء في الطوامير، وعظم الكتب، وحلل الخط، وقال: لتظهر كتبي على كتب غيري.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر، قَالَ: أَخْبَرَنَا محفوظ بن أحمد الفقيه، قال: أَخْبَرَنَا أَبُو عَلي مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن الجازري، قَالَ: أَخْبَرَنَا المعافى بن زكريا، قال: حدثنا الحسن بن أحمد بن محمد الكلبي، قال: حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، قال: حدثنا عبد الله بن الضحاك، ومهدي بن سابق [3] ، قالا: حدثنا الهيثم بن عدي، عن صالح بن كيسان [4] ، قال:
__________
[1] البيعة بالكسر: كنيسة النصارى، وقيل: كنيسة اليهود.
[2] سورة: الأنبياء، الآية: 79.
[3] في الأصل: «ومهدي بن طارق» . وما أوردناه من ت.
[4] في الأصل: «حسان» . وما أوردناه من ت.(6/269)
كان عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب صديقا للوليد يأتيه ويؤانسه، فجلسا يوما يلعبان بالشطرنج إذ أتاه الإذن، فقال: أصلح الله الأمير/ رجل من أخوالك من أشراف ثقيف قدم غازيا وأحب السلام عليك، فقال: دعه، فقال عبد الله:
وما عليك ائذن له، فقال: نحن على لعبنا وقد انحجبت، قال: فادع بمنديل وضعه عليها ويسلم الرجل ونعود، ففعل ثم قال: ائذن له، فدخل وله هيئة، بين عينيه أثر السجود، وهو معتم قد رجل لحيته، فسلم وقال: أصلح الله الأمير، قدمت غازيا فكرهت أن أجوزك حتى أقضي حقك، قال: حياك الله وبارك عليك. ثم سكت عنه، فلما أنس أقبل عليه الوليد فقال: يا خال هل جمعت القرآن؟ قال: لا كانت تشغلنا عنه شواغل، قال:
هل حفظت من سنة رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ ومغازيه أو أحاديثه شيئا؟ قال: كانت تشغلنا عن ذلك أموالنا [1] ، قال: فأحاديث العرب وأيامها وأشعارها؟ قال: لا، قال: فأحاديث أهل الحجاز ومضاحكها؟ قال: لا، قال: فأحاديث العجم وآدابها؟ قال: ذلك شيء ما كنت أطلبه. فرفع الوليد المنديل، وقال: شاهك، قال عبد الله بن معاوية: سبحان الله، قال: لا والله ما معنا في البيت أحد. فلما رأى ذلك الرجل منهما خرج وأقبلوا على لعبهم.
ولما دفن [2] عبد الملك دخل الوليد المسجد فصعد المنبر، فخطب فقال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156، الله المستعان على مصيبتنا بموت أمير المؤمنين، والحمد للَّه على ما أنعم به علينا من الخلافة قوموا فبايعوا.
فكان أول من قام لبيعته عبد الله بن همام السكوني وهو يقول:
الله أعطاك التي لا فوقها ... وقد أراد المشركون [3] عوقها
عنك ويأبى الله إلا سوقها ... إليك حتى قلدوك طوقها
ثم تتابع الناس على البيعة.
__________
[1] في ت: «عن ذلك شواغل» .
[2] تاريخ الطبري 6/ 423.
[3] في الطبري: «الملحدون» .(6/270)
وفي هذه السنة قدم قتيبة بن مسلم خراسان واليا عليها من قبل الحجاج [1]
قدم والمفضل يعرض الجند، وهو يريد أن يغزو/ فخطب قتيبة وحثهم على الجهاد، ثم عرض الجند وسار واستخلف بمرو على حربها إياس بن عبد الله بن عمرو، وعلى الخراج عثمان بن السعدي، فعبر النهر وتلقته الملوك بهدايا، وافتدوا منه بلادهم فرضي ورجع إلى مرو.
وقد زعم بعضهم أن قدوم قتيبة خراسان كان في سنة خمس وثمانين، وكان فيما سبى امرأة برمك، أبي خالد بن برمك.
وفيها غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الروم
روى أبو بكر بن دريد، عن أبي حاتم، عن أبي معمر، عن رجل من أهل الكوفة، قال: كنا مع مسلمة بن عبد الملك ببلاد الروم، فسبى سبيا كثيرا وأقام ببعض المنازل، فعرض السبي على السيف، فقتل خلقا كثيرا حتى عرض عليه شيخ ضعيف، فأمر بقتله، فقال: ما حاجتك إلى قتل شيخ مثلي، إن تركتني جئتك بأسيرين من المسلمين شابين، قال: ومن لي بذلك؟ قال: إني إذا وعدت وفيت، قال: لست أثق بك، قال:
فدعني أطوف في العسكر [2] لعلي أعرف من يكلفني إلى أن أمضي وأجيء بالأسيرين.
فوكل به من أمره بالطواف معه في عسكره والاحتفاظ به، فما زال الشيخ يتصفح الوجوه حتى مر بفتى من بني كلاب قائما يحس فرسا له، فقال: يا فتى اضمني للأمير، وقص عليه قصته.
قال: فجاء الفتى معه إلى مسلمة فضمنه، فأطلقه مسلمة، فلما مضى قال:
أتعرفه؟ قال: لا والله، قال: فلم ضمنته؟ قال: رأيته يتصفح الوجوه فاختارني من بينهم فكرهت أن أخلف ظنه. [3]
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 424.
[2] في ت: «عسكرك» .
[3] في ت: «يكفل بي» .(6/271)
فلما كان من الغد عاد الشيخ ومعه أسيران من المسلمين شابان، فدفعهما إلى مسلمة وقال: أسأل الأمير أن يأذن لهذا الفتى أن يصير معي إلى حصني لأكافئه على فعله بي، قال مسلمة للفتى: إن شئت فامض معه، فمضى فلما صار إلى حصنه، قال: يا فتى، تعلم أنك ابني؟ قال: وكيف أكون ابنك وأنا رجل من العرب مسلم وأنت رجل نصراني/ من الروم [1] ؟ قال: أخبرني عن أمك ما هي؟ قال: رومية، قال: فإني أصفها لك، فباللَّه إن صدقت إلا صدقتني، قال: أفعل. وأقبل الرومي يصف أن الفتى لا يحترم منها شيئا، قال: هي كذلك، فكيف عرفت إني ابنها؟ قال: بالشبه، وتعارف الأرواح، وصدق الفراسة، ووجود شبهي فيك. ثم أخرج إليه امرأة، فلما رآها الفتى لم يشك أنها أمه لشدة شبهها بها، وخرجت معها عجوز كأنها هي، فأقبلا يقبلان رأس الفتى، فقال له الشيخ: هذه جدتك وهذه خالتك. ثم اطلع من حصنه فدعا بشباب في الصحراء فأقبلوا فكلمهم بالرومية، فجعلوا يقبلون رأس الفتى ويديه ورجليه، فقال: هؤلاء أخوالك وبنو خالاتك، وبنو عم والدتك. ثم أخرج إليه حليا كثيرة، وثيابا فاخرة، وقال: هذه لوالدتك عندنا منذ سبيت، فخذه معك وادفعه إليها فإنها ستعرفه، ثم أعطاه لنفسه مالا كثيرا وثيابا جليلة، وحمله على عدة دواب وبغال وألحقه بعسكر مسلمة وانصرف.
وأقبل الفتى قافلا حتى دخل منزله، وأقبل يخرج الشيء بعد الشيء مما عرفه الشيخ أنه لأمه، فتراه فتبكي، فيقول لها: قد وهبته لك، فلما كثر هذا عليها، قالت: يا بني، أسألك باللَّه، أي بلدة دخلت حتى صارت إليك هذه الثياب؟ وهل قتلتم أهل الحصن الذي كان فيه هذا؟ فقال لها الفتى صفة الحصن كذا، وصفة البلد كذا، ورأيت فيه قوما من حالهم كذا، فوصف لها أمها وأختها، وهي تبكي وتقلق، فقال: ما يبكيك؟
فقالت: الشيخ والله أبيك، والعجوز أمي، وتلك أختي، فقص عليها الخبر وأخرج بقية ما كان أنفذه معه أبوه إليها فدفعه إليها.
وفي هذه السنة حج بالناس هشام بن إسماعيل، [وكان الأمير على العراق والمشرق كله الحجاج،
__________
[1] في ت: «رجل من الروم نصراني» .(6/272)
وعلى الصلاة بالكوفة المغيرة بن عبد الله، وعلى البصرة أيوب بن الحكم، وعلى خراسان قتيبة بن مسلم] [1] .
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
504- عبد/ الملك بن مروان [2] :
مرض فجعل في مرضه يذم الدنيا ويقول: إن طويلك لقصير، وإن كثيرك لقليل، وأنا منك لفي غرور.
ونظر إلى غسال يلوي ثوبا بيده، فقال: لوددت أني كنت غسالا آكل من كسب يدي ولم آل شيئا من هذا الأمر، فبلغ ذلك أبا حازم، فقال: الحمد للَّه الذي جعلهم إذا احتضروا يتمنون ما نحن فيه، وإذا احتضرنا لم نتمن ما هم فيه.
ودخل عليه الوليد فتمثل عبد الملك يقول:
كم عائد رجلا وليس يعوده ... إلا ليعلم [3] هل يراه يموت
وتمثل أيضا يقول:
ومستخبر [4] عنا يريد بنا الردى ... ومستخبرات [5] والعيون سواجم
فجلس الوليد يبكي، فقال: ما هذا؟ أتحن حنين الحمامة والأمة إذا مت فشمر واتزر، والبس جلد النمر، وضع سيفك على عاتقك، فمن أبدى ذات نفسه فاضرب عنقه، ومن سكت مات بدائه.
__________
[1] في الأصل: «وكان على الأمصار من كان في السنة التي قبلها» . وما أوردناه من ت، وهو يوافق ما في تاريخ الطبري 6/ 426.
[2] تاريخ الطبري 6/ 418، واليعقوبي 3/ 14، وميزان الاعتدال 2/ 153، وتاريخ الخميس 2/ 308، 311، ومروج الذهب 3/ 99، وتاريخ بغداد 10/ 388، وفوات الوفيات 2/ 14، والبداية والنهاية 9/ 73.
[3] في مروج الذهب: «إلا ليعلم» .
[4] في المروج: «ومشتغل» .
[5] في المروج: «ومستعبرات» .(6/273)
وفي رواية أن الأطباء منعوه أن يشرب الماء ريا، فكان يشرب قليلا قليلا، فاشتد عطشه فشرب ريا فمات.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، وابن ناصر، قالا: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار الصيرفي، قَالَ: أَخْبَرَنَا القاضي أبو عبد الله الْحُسَيْن بن محمد النصيبي، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيل بْن سَعِيد بْن سويد، قال: حدثنا أبو بكر ابن الأنباري، قَالَ:
حَدَّثَني أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْد، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد المدائني، قال:
لما اشتد مرض عبد الملك بن مروان، أيقن بفراق الدنيا والإفضاء إلى الآخرة، دعى أبا علاقة مولاه فقال له: يا أبا علاقة، والله لوددت أني كنت منذ يوم ولدت إلى يومي هذا حمالا. ولم يكن لي من البنات إلا واحدة، يقال لها فاطمة، وكان قد أعطاها/ قرطي مارية والدرة اليتيمة- فقال: اللَّهمّ إني لم أخلف شيئا أهم إلي منها فاحفظها. فتزوجها عمر بن عبد العزيز. وكان عند عبد الملك بنوه: الوليد، وسليمان، ومسلمة، وهشام ويزيد، فقال لآذنه: اخرج فانظر من الباب ثم أعلمني، فخرج فنظر ثم أتاه، فقال: بالباب خالد بن يزيد بن معاوية، وخالد بن عبد الله بن أسيد بن أبي العاص، فقال: ائتني بسيفي، فأتاه به، فقال: جرده، فجرده، ثم قال: ضعه تحت ثني فراشي، ففعل ثم قال: ائذن لهما، فلما دخلا قال: أتعرفاني؟ قالا: سبحان الله يا أمير المؤمنين، أنت أمير المؤمنين وسيد الناس وولي أمرهم، قال: لا إلا باسمي واسم أبي، قالا: أنت عبد الملك بن مروان، قال: فمن هذا، وأشار إلى الوليد، وكان خلفه قد تساند إليه، قالا: هذا سيد الناس بعدك، وولي أمرهم، قال: لا إلا باسمه واسم أبيه، قالا: هذا الوليد بن عبد الملك، قال: أتدريان لماذا أذنت لكما؟ قالا: لترينا أثر نعمة الله عندك وما قد صرت إليه من التماثل والآفاقة، قال: لا ولكنه قد نزل بي من الأمر ما قد تريان، فهل في أنفسكما من بيعة الوليد شيء؟ قالا: لا ما نرى أن أحدا هو أحق بها منه بعدك، قال: أولى لكما، أما والله لو غير ذلك قلتما لضربت الّذي فيه عيناكما- ثم رفع فراشه فإذا بالسيف مجرد قد هيأه لهما، فخرجا عند ذلك.
ثم أقبل على بنيه فقال: يا بني أوصيكم بتقوى الله فإنها أزين حلة، وأحصن كهف، وأخرز جنة. وأن يعطف الكبير منكم على الصغير، وأن يعرف الصغير منكم حق(6/274)
الكبير. وإياكم والفرقة والاختلاف، فإن بها هلك الأولون، وذل به ذو العز، أنظروا مسلمة وأصدروا عن رأيه، فإنه مجنكم الذي به تستجنون، ونابكم الذي عنه تفترون، وكونوا بني آدم برره، ولا تدنوا العقارب منكم، وكونوا في الحرب أحرارا، وللمعروف منارا، فإن الحرب لن تدني منية قبل وقتها، وإن المعروف يبقى آخره وذكره، واحلولوا/ في مرارة ولينوا في شدة، وضعوا الصنائع عند ذوي الأحساب والأخطار فإنهم أصون لأحسابهم، وأشكر لما يؤتى إليهم، وإياكم أن تخالفوا وصيتي، وكونوا كما قال ابن عبد الأعلى الشيبانيّ:
إني أؤمل يا بني حرب الذرى ... أن تخلدوا وجدودكم لم تخلد
فاتقوا الضغائن والتخاذل عنكم ... عند المغيب وفي الحضور الشهد
بصلاح ذات البين طول بقائكم ... إن مد في عمري، وإن لم يمدد
وتكون أيديكم معا في عونكم ... ليس اليدان لذي التعاون كاليد
إن القداح إذا اجتمعن فرامها ... بالكسر ذو حنق وبطش أيد
عزت فلم تكسر إن هي بددت ... فالكسر والتوهين للمتبدد
ثم أقبل على الوليد فقال: يا وليد، اتق الله فيما أخلفك فيه، واحفظ وصيتي، وخذ بأمري، وانظر أخي معاوية، فإنه ابن أمي، وقد ابتلي في عقله بما قد علمت، ولولا ذلك لآثرته بالخلافة عليك، فصل رحمه واعرف حقه، واحفظني فيه. وانظر أخي محمد بن مروان فأقرره على عمله بالجزيرة ولا تعزله عنه، وانظر أخاك عبد الله بن عبد الملك، ولا تؤاخذه بشيء كان في نفسك عليه، واقرره على عمله بمصر. وانظر ابن عمنا هذا علي بن عبد الله بن عباس فإنه قد انقطع إلينا بمودته وهواه ونصيحته، وله نسب وحق، فصل رحمه، واعرف حقه، وأحسن صحبته وجواره. وانظر الحجاج بن يوسف فأكرمه فإنه هو الذي وطئ لكم المنابر، وهو سيفك يا وليد، ويدك على من ناوأك، فلا تسمعن فيه قول أحد، واجعله الشعار دون الدثار، وإن كان في نفسك عليه إحنة [1] فلا تؤاخذه بها، فإن الإحنة ليست من الخلافة في شيء، وأنت إليه أحوج منه إليك، وإلا ألفينك إذا أنا مت تعصر عينيك، وتحن/ كما تحن الأمة، شمر وائتزر
__________
[1] الإحنة: الحقد في الصدر.(6/275)
وألبس جلد النمر، وضعني في حفرتي، وخلني وشأني، وعليك بشأنك، وخذ سيفي هذا، فإنه السيف الّذي قتلت به عمرو بن سعيد، وادع الناس إلى البيعة، فمن قال بسيفه هكذا فقل بسيفك هكذا، ثم تمثل بقول عيسى بن زيد حيث يقول:
فهل من خالد إما هلكنا ... وهل بالموت يا للناس [1] عار
فلم يزل يردد هذا البيت حتى طفئ، فقام هشام بعد موته وكان أصغر الأربعة من ولده يقول:
فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما
فلطمه الوليد وقال: اسكت يا ابن الأشجعية فإنك أحول أكشف تنطق بلسان شيطانك، ألا قلت كما قال أخو بني أسد بن حجر حيث يقول:
إذا مقرم منا ذرا حد نابه ... تخمط [2] فينا ناب آخر مقرم
قال: فقال مسلمة: فيم الصياح إنكم إن صلحتم صلح الناس بكم، وإن فسدتم فالناس إلى الفساد أسرع، ثم قال: أوه، وأنشد:
لقد أفسد الموت الحياة وقد أتى ... على يومه علق إلي حبيب
فإن تكن الأيام أحسن مرة ... إلي لقد عادت لهن ذنوب
أتى دون حلو العيش حتى أمره ... كروب على آثارهن كروب
فقال سليمان: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156، مات والله أمير المؤمنين، فأصبح بمنزلة هو فيها والذليل سواء. وسمع الناس الداعية، فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى أخرجت الجنازة، وخرج الوليد في أثرها وهو محرم، فنظر إلى سعيد بن عمرو بن سعيد يحمل السرير، فقال: أشماتة يا ابن اللخناء، ثم قصده بالقضيب، فحاصره فحذفه. فلما دفن عبد الملك صعد الوليد الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمّ قَالَ: يا لها من مصيبة/ ما أعظمها وأفجعها وأخصها وأعمها وفاة أمير المؤمنين، ويا لها نعمة ما أجلها وأوجب
__________
[1] في البداية: «بالموت للباقين» .
[2] في الأصل: «تحظم» ، والتصحيح من اللسان مادة «قرم» .(6/276)
الشكر للَّه عليها خلافة سربلنيها، فإنا للَّه وإنا إليه راجعون على الرزية [1] ، والحمد للَّه على العطية.
ثم قام رجل من ثقيف والناس لا يدرون أيبتدئونه بالتعزية أم بالتهنئة، فقال: أصبحت يا أمير رزيت خير الآباء، وسميت بخير الأسماء، وأعطيت خير الأشياء، فعزم الله لك الصبر، وأعطاك في ذلك نوافل الأجر، وأعانك في حسن ثوابه على الشكر، قال: ممن أنت؟ قال: من ثقيف، قال: في كم أنت من العطاء؟ قال: في مائة، فزاده وجعله في أشرف العطاء، فكان أول من قضى له الوليد حاجة ذلك الثقفي، ثم تسايل الناس عليه بالتعزية والتهنئة.
وقد روينا أن عبد الملك كان يقول: أخاف الموت في شهر رمضان لأنني ولدت فيه، وفطمت فيه، وأعذرت فيه، واحتملت فيه، وختمت القرآن فيه، وأتتني الخلافة فيه، فكان موته في نصف شوّال من هذه السنة حين ظن أنه آمن من الموت، وصلى عليه الوليد، ودفن بالجابية وهو ابن إحدى وستين سنة.
وقيل: أربع وستين، وقيل: سبع وخمسين، وقيل: ثمان وخمسين.
واستقامت له الخلافة منذ أجمع عليه بعد قتل ابن الزبير إلى وقت وفاته ثلاث عشرة سنة وخمسة أشهر، وعلى حساب بيعته بعد موت أبيه إحدى وعشرين سنة وستة عشر يوما. وقيل اثنتين وعشرين سنة ونصفا.
__________
[1] كذا في الأصل، وفي ت: «الهدية» .(6/277)
ثم دخلت سنة سبع وثمانين
فمن الحوادث فيها أن الوليد بن عبد الملك عزل هشام بن إسماعيل عن المدينة [1]
فورد عزله عنها في ليلة الأحد لسبع ليال خلون من شهر ربيع الأول، وكانت إمارته عليها أربع سنين غير شهر أو نحوه.
وفيها ولي عمر بن عبد العزيز/ المدينة.
فقدم واليا في ربيع الأول وهو ابن خمس وعشرين سنة، فقدم على ثلاثين بعيرا، فنزل دار مروان، فلما صلى الظهر دعا عشرة من فقهاء المدينة: عروة بن الزبير، وعبيد الله بن عتبة، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وأبو بكر بن سليمان بن أبي خيثمة [2] ، وسليمان بن يسار، والقاسم بْن مُحَمَّد، وسالم بْن عَبْد اللَّه بن عمر، وعبد الله بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عامر بن ربيعة [3] ، وخارجة بن زيد، فدخلوا، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنما دعوتكم لأمر تؤجرون عليه، وتكونون فيه أعوانا على الحق، ما أريد أن أقطع أمرا إلا برأيكم أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحدا استعدى [4] أو بلغكم عن عامل لي ظلامة، فأحرج على من بلغه ذلك إلا بلغني، فجزوه خيرا وانصرفوا.
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 427.
[2] كذا في الأصول: وفي إحدى نسخ الطبري المخطوط. وفي المطبوع من الطبري: «ابن أبي حثمة» .
[3] في الأصل: «أبي عارم» . وما أوردناه من ت.
[4] كذا في الأصول، وفي الطبري: «يتعدى» .(6/278)
وفيها [1] : كتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز أن يقف هشام بن إسماعيل للناس، وكان سيئ الرأي فيه، فقال سعيد بن المسيب لولده ومواليه: إن هذا الرجل وقف للناس فلا يتعرض له أحد ولا يؤذه بكلمة، فإنا سنترك ذلك للَّه وللرحم، فأما كلامه فلا أكلمه، أبدا، فوقف عند دار مروان، وكان قد لقي منه علي بن الحسين أذى كثيرا، فتقدم إلى خاصته ألا يعرض له أحد [بكلمة] ، فمر عليه علي فناداه هشام: الله أعلم حيث يجعل رسالاته.
وفيها: غزا مسلمة أرض الروم في عدد كثير، فقتل منهم خلقا كثيرا، وفتح الله على يديه حصونا.
وقيل: إن الذي غزا الروم في هذه السنة هشام بن عبد الملك، وساق الذراري والنساء.
وفيها غزا قتيبة بن مسلم بيكند
وعبر النهر فاستنصروا عليه الصغد، وأخذوا بالطرق، فلم ينفذ له رسول، ولم يصل إليه رسول شهرين، وأبطأ خبره على الحجاج، فأمر/ الناس بالدعاء في المساجد، ونهض قتيبة يقاتل العدو فهزموا عدوهم، وركبهم المسلمون قتلا وأسرا، وأراد هدم مدينتهم، فصالحوه واستعمل عليهم رجلا ثم سار عنهم مرحلة أو مرحلتين، فنقضوا وقتلوا العامل [فبلغه الخبر] [2] فرجع وقاتلهم شهرا، فطلبوا الصلح، فأبى وظفر بهم عنوة فقتل مقاتلتهم وأصاب في المدينة من الأموال وأواني الذهب والفضة ما لا يحصى، ورجع قتيبة إلى مرو، وقوي المسلمون واشتروا السلاح.
وفي هذه السنة حج بالناس عمر بن عبد العزيز وهو أمير على المدينة، وكان على قضاء المدينة أبو بكر بن عمرو، وكان العراق والمشرق كله للحجاج، وكان خليفته على البصرة الجراح بن عبد الله، وعلى قضائها عبد الله بن أذينة، وعامله على الحرب بالكوفة
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 428.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(6/279)
زياد بن جرير بن عبد الله، وعلى قضائها أبو بكر بن أبي موسى الأشعري، وعلى خراسان قتيبة.
أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْقَزَّازُ بِإِسْنَادٍ لَهُ عَنْ الأصمعي، قال: كان أعرابيان متواخيين بالبادية غير أن أحدهما استوطن الريف والآخر اختلف إلى باب الحجاج بن يوسف فاستعمل على أصفهان، فسمع أخوه الذي بالبادية فضرب إليه فأقام ببابه حينا لا يصل إليه، ثم أذن له بالدخول وأخذه الحاجب فمشى به وهو يقول: سلام على الأمير، فلم يلتفت إلى قوله، وأنشأ يقول:
فلست مسلما ما دمت حيا ... على زيد بتسليم الأمير
فقال زيد: لا أبالي، فقال الأعرابي:
أتذكر إذ لحافك جلد شاة ... وإذ نعلاك من جلد البعير
فقال: نعم. فقال الأعرابي:
فسبحان الذي أعطاك ملكا ... وعلمك الجلوس على السرير
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
505- قبيصة بن ذؤيب بن حلحلة الخزاعي الكعبي كناه البخاري أبا سعيد، وكناه ابن سعد أبا إسحاق [1] :
ولد فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وسمع من أبي الدرداء، وزيد بن ثابت، وأبي هريرة. وكان [أعلم] [2] الناس بقضاء زيد بن ثابت.
روى عنه الزهري، وكان ثقة سكن الشام وبها توفي.
__________
[1] طبقات ابن سعد 5/ 131، 7/ 2/ 157، والبداية والنهاية 9/ 81، والجرح والتعديل 7/ 125، والتاريخ الكبير 4/ 1/ 174.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(6/280)
506- مطرف بن عبد الله بن الشخير، أبو عبد الله [1] :
روى عن عثمان، وعلي، وأبي، وأبي ذر. وكان ثقة ذا فضل وورع وعقل وافر.
وكان أكبر من الحسن البصري بعشرين سنة.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد بإسناد له، عن مهدي بن ميمون، قال: حدثنا غيلان، قال [2] : كان مطرف يلبس البرانس، ويلبس المطارف، ويركب الخيل ويغشى السلطان، غير أنك [3] كنت إذا أفضيت إليه أفضيت إلى قرة عين.
حدثنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا جعفر بن أحمد، قال: حدثنا الحسن بن علي، قال: حدثنا جعفر بن أحمد بن حمدان، قَالَ: حَدَّثَنَا [عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ:
حدثني أبي، قال: حدثنا هاشم بن القاسم، قال: حدثنا سليمان بن المغيرة، قال [4] :
كان مطرف بن عبد الله إذا دخل بيته سبحت معه آنية بيته.
قال أحمد بن حنبل: وحدثنا بهز بن أسد، قال: حدثنا جعفر بن سليمان، قال:
حدثنا] [5] ثابت، قال:
مات عبد الله بن مطرف، فخرج مطرف على قومه في ثياب حسنة وقد أدهن فغضبوا وقالوا: يموت عبد الله ثم تخرج في ثياب مثل هذه ومدهنا؟ قال: أفأستكين لها وقد وعدني ربي [تبارك وتعالى] [6] ثلاث خصال كل خصلة منها أحب إلي من الدنيا وما فيها [7] ، قال الله تعالى: الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ من رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ 2: 156- 157 [8] أفأستكين بعد هذا قال:
فهانت.
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 103، حلية الأولياء 2/ 198، ورغبة الآمل 3/ 68، ومرآة الجنان وفيات سنة 95، وتهذيب التهذيب 10/ 173، ووفيات الأعيان 2/ 97، والتاريخ الكبير 4/ 1/ 396.
[2] الخبر في طبقات ابن سعد 7/ 1/ 105.
[3] في ابن سعد: «ولكنك» .
[4] الخبر في حلية الأولياء 2/ 205.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[6] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[7] في ت: «من الدنيا كلها» .
[8] سورة: البقرة، الآية: 156.(6/281)
وقال مطرف: ما شيء أعطى به في الآخرة قدر كوز من ماء لا وددت أنه أخذ مني في الدنيا.
[وروي] [1] عن ثابت البناني ورجل آخر قد سماه: أنهما دخلا على مطرف بن عبد الله بن الشخير وهو مغمى عليه، قال: فسطعت منه ثلاثة أنوار: نور من رأسه، ونور من وسطه، ونور من رجليه. قال: فهالنا ذلك، فأفاق فقلنا: كيف تجدك يا أبا عبد الله، قال: صالح قلنا: لقد رأينا شيئا هالنا، قال: وما/ هو؟ قلنا: أنوار سطعت منك، قال:
وقد رأيتم ذلك؟ [قلنا: نعم، قال] [2] تلك ألم تنزيل السجدة وهي تسع وعشرون آية، سطع أولها من رأسي، وأوسطها من وسطي، وآخرها من قدمي، وقد صعدت لتشفع لي، وهذه تبارك تحرسني.
507- نوفل بن مساحق بن عبد الله بن مخرمة، أبو سعد القرشي [3] :
يروي عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل.
أخبرنا الحسين بن محمد بن عبد الوهاب، قال: أخبرنا أبو جعفر بن المسلمة، قال: أخبرنا الْمُخَلِّصُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنُ داود، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني مصعب بن عبد الله، قال:
كان نوفل بن مساحق من أشراف قريش، وكانت له ناجية من الوليد بن عبد الملك، وكان الوليد يعجبه الحمام ويتخذه له ويطير له، فأدخل نوفل عليه وهو عند الحمام، فقال له الوليد: إني خصصتك بهذا المدخل لأنسي بك، فقال: يا أمير المؤمنين، والله إنك ما خصصتني ولكن خسستني، إنما هذه عورة، وليس مثلي يدخل على مثل هذا. فسيره [إلى] المدينة وغضب عليه. وكان يلي المساعي، فأخذه بعض الأمراء في الحساب. فقال: أين الغنم؟ قال: أكلناها بالخبز، قال: فأين الإبل؟ قال:
حملنا عليها الرحال. وكان لا يرفع للأمراء من المساعي شيئا يقسمها ويطعمها، وكان ابنه من بعده سعد بن نوفل يسعى على الصدقات.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] طبقات ابن سعد 5/ 179، والإصابة 8911، وتهذيب التهذيب 10/ 491، وسمط اللآلي 3/ 47، والجرح والتعديل 8/ 488، والتاريخ الكبير 4/ 2/ 108.(6/282)
ثم دخلت سنة ثمان وثمانين
فمن الحوادث فيها أن مسلمة بن عبد الملك والعباس بن الوليد فتحا حصنا من حصون الروم يدعى طوانة [1]
في جمادى الآخرة، وهزموا العدو هزيمة بلغوا فيها إلى كنيستهم، ثم رجعوا فانهزم الناس حتى ظنوا أنهم لا يجتبرونها أبدا [2] ، وبقي العباس معه نفير، منهم ابن محيريز الجمحي، فقال العباس لابن محيريز: أين أهل القرآن الذين يريدون الجنة؟
فقال ابن محيريز: نادهم يأتوك، فنادى العباس: يا أهل القرآن، فأقبلوا جميعا، فهزم الله العدو حتى دخلوا طوانة، وشتوا بها.
وفيها أمر الوليد عبد الملك بهدم مسجد رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ وهدم بيوت أزواج رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ وإدخالها في المسجد [3] .
فقدم الرسول إلى عمر بن عبد العزيز في ربيع الأول. وقيل: في صفر- سنة ثمان وثمانين بكتاب الوليد يأمره بإدخال حجر أزواج رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ في مسجد رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ، وأن يشتري ما في مؤخره ونواحيه حتى يكون مائتي ذراع في مائتي ذراع، ويقول له: قدم القبلة إن قدرت، وأنت تقدر لمكان أخوالك، فإنهم لا يخالفونك، فمن أبى منهم فمر أهل المصر [4] فليقوموه قيمة عدل، ثم اهدم عليهم وادفع لهم الأثمان، فإن لك في ذلك سلف صدق، عمر وعثمان.
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 434.
[2] «أبدا» : سقطت من ت.
[3] تاريخ الطبري 6/ 436.
[4] في الأصل: «أهل البصرة» . وما أوردناه، من ت.(6/283)
فأقرأهم كتاب الوليد وهم عنده، فأجاب القوم إلى الثمن، فأعطاهم إياه، وبدأ بهدم بيوت أزواج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يمكث إلا يسيرا حتى قدم الفعلة، بعث بهم الوليد.
وبعث الوليد إلى صاحب الروم يعلمه أنه أمر بهدم مسجد رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ، وأن يعينه فيه، [فبعث إليه] [1] بمائة ألف مثقال من ذهب، وبمائة عامل، وبأربعين حملا من الفسيفساء، فبعث به إلى عمر، وتجرد عمر لذلك، واستعمل صالح بن كيسان على ذلك.
أَنْبَأَنَا أبو بكر بن أبي طاهر، قَالَ: أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا [أَبُو] عمر [2] بْن حيويه، قَالَ: أخبرنا أحمد بْنُ مَعْرُوفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَهِمِ، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْن يَزِيدَ الْهُذَلِيُّ، قَالَ: رَأَيْتُ مَنَازِلَ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ هَدَمَهَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ فِي خِلافَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَزَادَهَا فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَتِ بُيُوتًا/ بِاللَّبِنِ، وَلَهَا حُجَرٌ مِنْ جَرِيدٍ مَطْرُودٍ بِالطِّينِ، عَدَدْتُ تِسْعَةَ أَبْيَاتٍ بِحُجَرِهَا وَهِيَ مَا بَيْنَ بَيْتِ عَائِشَةَ إِلَى الْبَابِ الَّذِي يَلِي بَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّمَ إِلَى مَنْزِلِ أَسْمَاءَ بِنْتِ حَسَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَرَأَيْتُ بَيْتَ أُمِّ سَلَمَةَ وَحُجْرَتُهَا مِنْ لَبِنٍ، فَسَأَلْتُ ابْنَ ابْنِهَا، فَقَالَ: لَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَوْمَةَ الْجَنْدَلِ بَنَتْ أُمُّ سَلَمَةَ حُجْرَتَهَا بِلَبِنٍ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرَ إِلَى اللَّبِنِ فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَوَّلَ نِسَائِهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا الْبِنَاءُ؟ قَالَتْ: أَرَدْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ أَكُفَّ أَبْصَارَ النَّاسِ، فَقَالَ: «يَا أُمَّ سَلَمَةَ إِنَّ شَرَّ مَا ذَهَبَ فِيهِ مَالُ الْمُسْلِمِ الْبُنْيَانُ» . قال محمد بن عمر: حدثني معاذ بن محمد الأنصاري، قال: سمعت عطاء الخراساني في مجلس فيه عمران بن أبي أنس، يقول وهو فيما بين القبر والمنبر:
أدركت حجر أزواج رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ من جرائد النخل، على أبوابها المسوح من
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(6/284)
شعر أسود، فحضرت كتاب الوليد [بن عبد الملك] [1] يقرأ، يأمر بإدخال حجر أزواج النبي صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ [2] في مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم، فما رأيت يوما باكيا أكثر بكاء من ذلك اليوم.
قال عطاء: فسمعت سعيد بن المسيب يقول يومئذ: والله لوددت أنهم تركوها على حالها فينشأ ناشئ من أهل المدينة، ويقدم القادم من الأفق فيرى ما اكتفى به رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ في حياته فيكون ذلك مما يزهد الناس من التكاثر والتفاخر فيها.
قال معاذ: فلما فرغ عطاء الخراساني من حديثه، قال عمر بن أنس: كان بينها أربعة أبيات بلبن، لها حجر من جرائد، وكانت خمسة أبيات من جرائد مطينة لا حجر لها، على أبوابها المسوح من الشعر ذرعت الستر [منها] فوجدته ثلاثة أذرع في ذراع، فأما ما ذكرت من كثرة البكاء فلقد رأيت في مجلس فيه نفر من أبناء أصحاب رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ/ منهم أبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو أمامة بن سهل بن حنيف، وخارجة بن زيد بن ثابت، وانهم ليبكون حتى أخضل لحاهم الدمع.
وقال يومئذ أبو أمامة: ليتها تركت فلم تهدم حتى يقصر الناس عن البناء، ويرون ما رضي الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ ومفاتيح خزائن [3] الدنيا بيده.
وفي هذه السنة كتب الوليد إلى عمر بحفر الآبار بالمدينة.
وبعمل الفوارة التي عند دار يزيد بن عبد الملك، فعملها وأجرى ماءها، فلما حج الوليد وقف فنظر إليها فأعجبته، وأمر أن يسقى أهل المسجد منها.
وفي هذه السنة بنى الوليد مسجد دمشق فانفق عليه مالا عظيما.
أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الله بن أحمد السمرقندي، قال: أخبرنا
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] في ت: «بإدخال حجر أزواج رسول الله صَلى اللهُ عليه وسلم» .
[3] في الأصل: وما افتتح خزائن الدنيا» . وما أوردناه من الأصل.(6/285)
عبد العزيز بن أحمد الكناني، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن الحسين الدوري، [قال: حدثنا أبو عمر محمد بن موسى بن فضالة، قال: حدثنا أبو قصي سعيد بن محمد بن إسحاق العدوي، قال: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن [1]] ، قال: حدثنا الوليد بن مسلم. عن عمرو بن مهاجر، وكان على بيت مال الوليد بن عبد الملك، أنهم حسبوا ما انفق على الكرمة التي في قبلة مسجد دمشق فكانت سبعين ألف دينار.
قال أبو قصي: وحسبوا ما أنفق على مسجد دمشق، وكان أربعمائة صندوق، في كل صندوق ثمانية وعشرون ألف دينار.
قال أبو قصي: وأتاه حرسته فقالوا: يا أمير المؤمنين، ان أهل دمشق يتحدثون إن الوليد أنفق الأموال في غير حقها، فنادى: الصلاة جامعة، وخطب الناس فقال: إنه بلغني حرستي أنكم تقولون إن الوليد أنفق الأموال في غير حقها، ألا يا عمر بن مهاجر قم فأحضر ما قبلك من الأموال من بيت المال، قال: فأتيت البغال تحمل المال، وتصب في القبلة على الأنطاع حتى لم يبصر من في الشام من في القبلة، ولا من في القبلة من في الشام، وأتت الموازين- يعني القبابين فوزنت الأموال، وقال لصاحب الديوان:
أحضر من قبلك ممن يأخذ/ رزقنا، فوجدوا ثلاثمائة ألف ألف في جميع الأمصار، وحسبوا ما يصيبهم فوجد عنده رزق ثلاث سنين، ففرح الناس وكبروا وحمدوا الله عز وجل، وقال: إلى ما تذهب هذه الثلاث سنين قد أتانا الله بمثله ومثله، ألا وأني إنما رأيتكم يا أهل الشام تفخرون على الناس بأربع خصال فأحببت أن يكون مسجدكم الخامس، تفخرون على الناس بمائكم، وهوائكم، وفاكهتكم، وحماماتكم، فأحببت أن يكون مسجدكم الخامس، فاحمدوا الله تعالى فانصرفوا وهم شاكرين [داعين] [2] .
وقد حكى محمد بن عبد الملك الهمداني، أن الجاحظ حكى عن بعض السلف أنه قال: ما يجوز أن يكون أحد أشد شوقا إلى الجنة من أهل دمشق لما يرون من حسن مسجدهم.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(6/286)
قال: ودخله المأمون ومعه المعتصم ويحيى بن أكثم، فقال المأمون: أي شيء يعجبكم من هذا المسجد؟ فقال المعتصم: ذهبه فإنا نصنعه [1] فلا تمضى عشرون سنة حتى يتحول [2] ، وهذا بحاله كأن الصانع قد فرغ منه الآن، فقال: ما أعجبني هذا، فقال يحيى بن أكثم: الذي أعجبك يا أمير المؤمنين تأليف رخامه [3] فإن فيه عقودا ما يرى مثلها، قال: كلا، بل أعجبني أنه شيء على غير مثال شوهد.
قال: وأمر الوليد أن يسقف بالرصاص، فطلب من كل البلاد، وبقيت قطعة لم يوجد لها رصاص إلا عند امرأة، فأبت أن تبيعه إلا بوزنه ذهبا، فقال: اشتروه منها ولو بوزنه مرتين، ففعلوا ووزنوا مثله، فلما قبضته قالت: إني ظننت من صاحبكم أنه يظلم الناس في بنائه فلما رأيت إنصافه رددت الثمن. فلما بلغ ذلك الوليد أمر أن يكتب على صفائح المرأة للَّه، ولم يدخله فيما عمله، وفيما كتب عليه اسمه.
قال محمد بن عبد الملك: وقد قيل إنه أنفق عليه خراج الدنيا ثلاث مرات، وأنه بلغ ثمن البقل الذي أكله الصناع/ فيه ستة آلاف دينار، وكان فيه ستمائة سلسلة ذهب، فلم يقدر أحد أن يصلي فيه لعظم شعاعها فدخِّنت.
وعمل هذا الجامع في تسع سنين.
قال: وقال موسى بن حماد البربري: رأيت في مسجد دمشق كتابا بالذهب في الزجاج محفورا عليه سورة ألهاكم التكاثر إلى آخرها، ورأيت جوهرة حمراء ملصقة في قاف المقابر، فسألت عن ذلك، فقيل لي: كان للوليد ابنة ولها هذه الجوهرة، وكانت ابنة نفيسة فماتت، فأمرت أمها أن تدفن هذه الجوهرة معها في قبرها، فأمر الوليد بها فصيرت في قاف المقابر من ألهاكم التكاثر، ثم حلف لأمها أنه قد أودعها في المقابر فسكتت.
وفي هذه السنة حبس الوليد المجذمين أن يخرجوا على الناس، وأجرى عليهم أرزاقا.
__________
[1] في الأصل: «نهيئه» وما أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «سنة إلا حتى يتحول» وما أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «زخارفه» وما أوردناه من ت.(6/287)
وفيها: غزا مسلمة الروم ففتح على يديه حصونا، وقتل من المستعربة نحو من ألف مع سبي الذرية وأخذ الأموال.
وفيها: حج بالناس عمر بن عبد العزيز، فأحرم من ذي الحليفة، وساق بدنا، فلما كان بالتنعيم لقيه نفر من قريش فأخبروه أن مكة قليلة الماء، وأنهم يخافون على الحاج العطش، فقال عمر: تعالوا ندعو الله تعالى فدعا ودعوا، فما وصلوا إلى البيت إلا مع المطر، فجاء سيل خاف منه أهل مكة، فكثر الخصب في تلك السنة. هذا في رواية الواقدي.
وزعم أبو معشر أن الذي حج بهم في هذه السنة عمر بن الوليد بن عبد الملك، وكان العمال على الأمصار من تقدم في السنة التي قبلها. [1] وما عرفنا من الأكابر أحدا توفي في هذه السنة.
__________
[1] في ت: «وكان العمال على الأمصار هم العمال فِي السنة الَّتِي قبلها» .(6/288)
ثم دخلت سنة تسع وثمانين
فمن الحوادث فيها افتتاح المسلمين سورية [1]
وكان على الجيش مسلمة بن عبد الملك. وذكر/ الواقدي أن مسلمة والعباس دخلا جميعا في هذه السنة أرض الروم غازيين، ثم افترقا، فافتتح مسلمة حصن سورية، وافتتح أذرولية [2] ، ووافق من الروم جمعا فهزمهم، وقصد مسلمة عمورية، وغزا الترك حتى بلغ الباب من ناحية أذربيجان، ففتح حصونا ومدائن وغزا العباس الصائفة من ناحية البدندون.
وفيها: غزا قتيبة بخارى، ففتح بعض بلدانها، ولقيه الصغد فظفر بهم [3] .
وفي هذه السنة ابتدئ بالدعاء لبني العباس، وكان الدعاء لمحمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وسمي بالإمام، وكوتب وأطيع [4] ، ثم لم يزل الأمر ينمى ويقوى ويتزايد إلى أن توفي في سنة أربع وعشرين ومائة.
وفيها: حج بالناس عمر بن عبد العزيز، وكان العمال في هذه السنة على الأمصار من كان في السنة التي قبلها.
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 439.
[2] في الأصل: «أرذولية» وما أوردناه من ت والطبري.
[3] كذا في الأصول، وفي الطبري 6/ 439: «السّغد» .
[4] في ت: «وأطمع» .(6/289)
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
508- ربيعة بن عباد الديلي:
من أصحاب رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ، غزا أفريقية مع عبد الله بن سعد بن أبي سرح سنة سبع وعشرين ...
روى عنه محمد بن المنكدر، وأبو الزناد، وبكير بن الأشج، [وغيرهم] .
توفي بالمدينة في خلافة الوليد بن عبد الملك.
509-[عبد الله] بن محيريز، أبو محيريز:
أسند عن أبي سعيد، ومعاوية، وأبي محذورة.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد بإسناده عن بشير بن صالح، قال: دخل ابن محيريز حانوتا بدابق وهو يريد أن يشتري ثوبا، فقال رجل لصاحب الحانوت: هذا ابن محيريز، فأحسن بيعه، فغضب ابن محيريز وخرج وقال: إنما نشتري بأموالنا لسنا نشتري بديننا.
510- عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية:
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَاصِمُ بن الحسن، / قال: أخبرنا علي بن محمد المعدل، قال: أخبرنا أبو علي بْن صفوان، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر بْن عبيد، قال: قال الحسن بن عثمان: سمعت أبا العباس الوليد يقول عن عبد الرحمن بن جابر، قال:
كان عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية خلا لعبد الملك بن مروان، فلما مات عبد الملك وتصدع الناس عن قبره وقف عليه، فقال: أنت عبد الملك الذي كنت تعدني فأرجوك، وتتوعدني فأخافك، أصبحت وليس معك من ملكك غير ثوبيك، وليس لك غير أربعة أذرع في عرض ذراعين من الأرض، ثمّ انكفأ إلى أهله واجتهد في العبادة حتى صار كأنه شن.
قال: فدخل عليه بعض أهله فعاتبه في نفسه وإضراره بها، وقال للقائل: أسألك عن شيء تصدقني عنه؟ قال: نعم، قال: أخبرني عن حالك التي أنت عليها، أترضاها للموت؟ قال: اللَّهمّ لا، قال: فعزمت على الانتقال منها إلى غيرها، قال، ما انتصحت(6/290)
رأي في ذلك، قال: أفتأمن أن يأتيك الموت على حالك التي أنت عليها، قال: اللَّهمّ لا، قال: فحال ما أقام عليها عاقل، ثم انكفأ إلى مصلاه.
511- عمران بن حطان السدوسي البصري:
روى عن أبي موسى، وابن عمر، وعائشة. وروى عنه محمد بن سيرين، ويحيى بن أبي كثير. وكان شاعرا.
أَخْبَرَنَا المبارك بْن عَلي الصيرفي، قَالَ: أَخْبَرَنَا علي بن محمد العلاف، قال:
أخبرنا ابن بشران، قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم الكندي، قال: أخبرنا محمد بن جعفر الخرائطي، قال: حدثنا أحمد بن علي الأنباري، قال: أخبرنا الحسن بن عيسى، عن أبي الحسن المدائني، قال:
دخل عمران بن حطان على امرأته- وكان عمران قبيحا دميما قصيرا- وقد تزينت، وكانت امرأة حسناء، فلما نظر إليها ازدادت في عينه حسنا، فلم يتمالك أن يديم النظر إليها، فقالت: ما شأنك، فقال: لقد أصبحت والله جميلة، فقالت: أبشر فإني وإياك في الجنة، قال: ومن أين علمت ذلك؟ قالت: لأنك أعطيت/ مثلي فشكرت، وابتليت بمثلك فصبرت، والصابر، والشاكر في الجنة.
512- مذعور:
كان من كبار الصالحين. قال مطرف: ما تحاب اثنان في الله إلا كان أشدهما حبا لصاحبه أفضلهما، وأنا لمذعور أشد حبا، وهو أفضل مني، فكيف هذا؟ قال: فلما أمر بالرهط أن يخرجوا إلى الشام أمر بمذعور فيهم. قال: فلقيني فأخذ بلجام دابتي، فجعلت كلما أردت أن أنصرف منعني، فقلت: إن المكان بعيد، فجعل يحبسني، فقلت: أنشدك الله إلا تركتني فيم تحبسني، [فلما نشدته] [1] قال: كلمة يخفيها جهده مني، اللَّهمّ فيك، فعرفت أنه أشد حبا لي منه.
513- يزيد بن مرثد، أبو عثمان الهمداني: [2]
أسند عن معاذ، وأبي الدرداء. وكان كثير البكاء.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] التاريخ الكبير 4/ 2/ 357، والجرح والتعديل 9/ 288، وتقريب التهذيب 2/ 370.(6/291)
قرأت على أبي الْقَاسِمِ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْحَرِيرِيُّ، عَنْ أَبِي طَالِبٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْفَتْحِ العشاري، قال: أخبرنا أحمد بن محمد الخوارزمي، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُزَكِّي، قَالَ: أخبرنا محمد بن إسحاق الثقفي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا منصور بن عمار، قال: حدثنا الوليد بْن مسلم، عَنْ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن يزيد بن جابر، قال:
قلت ليزيد بن مرثد: ما لي لا أرى عيناك تجفان من الدموع، قال: وما سؤالك عن هذا؟ قلت: عسى أن ينفعني الله به، قال: هو ما ترى، قلت: [1] هكذا تكون في خلواتك قال: والله إن ذلك ليعتريني وقد قرب إلي طعامي فيحول بيني وبين أكله، وإن ذلك ليعتريني وقد دنوت من أهلي فيحول بيني وبين ما أريد حتى تبكي أهلي لبكائي ويبكي صبياننا وما يدرون ما يبكينا، وحتى تقول زوجتي: يا ويحها، ماذا خصت به من نساء المسلمين من الحزن معك، ما ينفعني معك عيش، ولا تقر عيني بما تقر به عين النساء مع أزواجهن، قلت: يا أخي ما الذي أحوجك؟ قال: والله يا أخي لو أن الله تعالى لم يتواعدني إن أنا عصيته إلا أن يحبسني في حمام لكنت حريا أن لا تجف لي دمعة، فكيف وقد تواعدني أن يسجنني في النار.
[وروي] [2] / عن سويد بن عبد العزيز، عن الوضين بن عطاء، قال: أراد الوليد بن عبد الملك أن يولي يزيد بن مرثد فبلغ ذلك يزيدا، فلبس فروة وقلبها فجعل الجلد على ظهره والصوف خارجا، وأخذ بيده رغيفا وعرقا، وخرج بلا رداء ولا قلنسوة ولا نعل ولا خف، وجعل يمشي في الأسواق ويأكل، فقيل للوليد: يزيد قد اختلط، وأخبر بما فعل، فتركه.
514- يحيى بن يعمر، أبو سليمان الليثي البصري [3] :
كان صاحب علم بالقرآن والعربية. روى عن ابن عباس، وابن عمر، وأبي الأسود
__________
[1] في ت: «قال» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول.
[3] طبقات ابن سعد 7/ 2/ 101، وتهذيب التهذيب 11/ 305، وفيه: قال ابن الأثير في الكامل: «مات سنة تسع وعشرين ومائة وفيه نظر وقال غيره في حدود العشرين» ومرآة الجنان 1/ 271، وإرشاد الأريب 7/ 296، والوفيات 2/ 226، ونزهة الألباء 19، وطبقات النحويين للزبيدي 22، وأخبار النحويين 22،(6/292)
الديليّ [1] . وروى عنه عبد للَّه بن أبي بريدة، وإسحاق بن سويد. ونزل مرو، وولي القضاء، وكان عالما فصيحا ثقة.
قال الأصمعي: كان يحيى قاضيا فتقدم إليه رجل وامرأته، فقال يحيى للرجل:
أرأيت إن سألتك حق شكرها وشبرك أنشأت تطلها وتضهلها. قال: يقول الرجل لامرأته:
لا والله لا أدري ما يقول قومي حتى تنصرف [شبرة] تطلها: تبطل حقها. وتضهلها:
تعطيها حقها قليلا قليلا، والكناية بالشكر والشبر عن النكاح.
__________
[ () ] وبغية الوعاة 417، ورغبة الآمل 1/ 234، 3/ 142، والنجوم الزاهرة 1/ 217، وغاية النهاية 2/ 381.
[1] كذا في الأصول، وفي التهذيب: أبي الأسود الدؤلي» .(6/293)
ثم دخلت سنة تسعين
فمن الحوادث فيها.
غزوة مسلمة بن عبد الملك أرض الروم، ففتح حصونا خمسة بسورية.
وفيها: غزا العباس بن الوليد حتى بلغ الأردن [1] ، وقيل: بل بلغ سورية.
وفيها: قتل محمد بن القاسم الثقفي ملك السند، وكان على جيش من قبل الحجاج.
وفيها: ولى الوليد قرة بن شريك على مصر موضع عبد الله بن عبد الملك.
وفيها: أسرت الروم خالد بن كيسان صاحب البحر، فذهبوا به إلى ملكهم، فأهداه ملك الروم إلى الوليد بن عبد الملك.
وفيها: فتح قتيبة [بن مسلم بخارى وهزم جموع العدو بها.
وفيها: جدد قتيبة] [2] الصلح بينه وبين طرخون ملك الصغد. وذلك أنه لما أوقع/ قتيبة بأهل بخاري ففض جمعهم هابه أهل الصغد، فرجع طرخون ملك الصغد حتى وقف قريبا من عسكر قتيبة وبينهم نهر بخارى، فسأل أن يبعث إليه رجلا يكلمه، فبعث قتيبة إليه رجلا، فسأل الصلح على فدية يؤديها، فأجابه قتيبة.
__________
[1] في تاريخ الطبري 6/ 442: «الأرزن» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(6/294)
وفيها: [1] غدر نيزك، فنقض الصلح الذي كان بينه وبين المسلمين، وامتنع بقلعة، فغزاه قتيبة.
وذلك أن قتيبة فصل من بخارى ومعه نيزك وقد ذعره ما رأى من الفتوح، وخاف قتيبة فاستأذنه في الرجوع إلى بخارى فأذن له، فذهب وخلع قتيبة وكتب إلى جماعة من الملوك منهم ملك الطالقان فوافقوه على ذلك وواعدوه الغزو معه في الربيع، فبعث قتيبة أخاه عبد الله إلى بلخ في اثني عشر ألفا، وقال: أقم بها ولا تحدث شيئا، فإذا انكسر الشتاء فعسكر، واعلم أني قريبا منك، فدخل قتيبة الطالقان، فأوقع بأهلها البلاء، وقتل منهم قتلة عظيمة، وصلب منهم سماطين أربعة فراسخ في نظام واحد.
وقيل: كان هذا في سنة إحدى وتسعين.
وفي هذه السنة هرب [2] يزيد بن المهلب بإخوته الذين كانوا في سجن الحجاج.
فلحقوا بسليمان بن الملك مستجيرين به من الحجاج، والوليد بن عبد الملك.
وسبب ذلك وسبب خلاصهم أن الحجاج خرج إلى رستقباذ للبعث، لأن الأكراد كانوا قد غلبوا على عامة أرض فارس، فخرج بيزيد وبإخوته المفضل وعبد الملك حتى قدم بهم رستقباذ، فجعلهم في عسكره، وجعل عليهم كهيئة الخندق، وجعلهم في فسطاط قريبا من حجرته، وجعل عليهم حرسا من أهل الشام، وأغرمهم ستة آلاف ألف، وأخذ يعذبهم، وكان يزيد يصبر صبرا حسنا، وكان ذلك يغيظ الحجاج، فبعثوا إلى مروان بن المهلب وهو بالبصرة ليهيئ لهم الخيل، وصنع يزيد طعاما كثيرا، فأطعم الحرس وسقاهم، ولبس يزيد ثياب طباخه، ووضع على لحيته لحية بيضاء وخرج فرآه [3] / بعض الحرس في الليل فقال: كأنه يزيد، ثم طالعه فقال: هذا الشّيخ. وخرج المفضل في أثره ولم يفطن له، فجاءوا إلى سفن قد هيئوها في البطائح، وبينهم وبين البصرة ثمانية عشر فرسخا، فأبطأ عليهم عبد الملك وشغل عنهم، ثم جاء فركبوا السفن وساروا ليلتهم حتى أصبحوا، ولما أصبح الحرس علموا بذهابهم، ورفع ذلك إلى
__________
[1] في ت: «وفي هذه السنة» .
[2] في الأصل: «وفيها هرب» .
[3] في الأصل: «فرأى» وما أوردناه من ت.(6/295)
الحجاج، ففزع وذهب وهمه إلى أنهم ذهبوا قبل خراسان، وبعث إلى قتيبة بن مسلم يحذره قدومهم، ويأمره أن يستعد لهم، وكان يظن أن يزيد يريد ما أراد ابن الأشعث، ولما دنا يزيد من البطائح استقبلته الخيل، قد هيئت له ولأخوته، فخرجوا عليها ومعهم دليل من كلب [1] ، فأخذ بهم على السماوة، فنزل يزيد على وهيب بن عبد الرحمن الأزدي، وكان كريما على سليمان، فجاء وهيب حتى دخل على سليمان، فقال: هذا يزيد وإخوته في منزلي وقد أتوا هرابا من الحجاج متعوذين بك، قال: فأتني بهم فإنهم آمنون، لا يوصل إليهم أبدا وأنا حي، فجاء بهم حتى أدخلهم عليه.
وكتب الحجاج: إن آل المهلب خانوا مال الله عز وجل وهربوا مني ولحقوا بسليمان، وكان الوليد قد أمر الناس بالتهيؤ إلى خراسان ظنا منه أن يزيد قد ذهب إلي ثمّ، فلما عرف هذا هان عليه الأمر، وكتب سليمان إلى الوليد: إنما على يزيد ثلاثة آلاف ألف، والحجاج قد أغرمهم ستة آلاف ألف، [فأدوا ثلاثة آلاف ألف، وبقي ثلاثة آلاف ألف] [2] ، فهي علي.
فكتب إليه: لا والله لا أؤمنه حتى تبعث به إلي، فكتب إليه: لئن أنا بعثت به إليك لأجيئن معه، فأنشدك الله أن تفضحني ولا تخفرني. فكتب إليه: والله لئن جئتني لا أؤمنه. فقال يزيد: ابعثني إليه، والله ما أحب أن أوقع بينك وبينه عداوة، فابعثني وأرسل معي ابنك، واكتب إليه باللطف [3] . فأرسل معه ابنه أيوب، فقال: يا أمير المؤمنين، نفسي فداؤك، لا تخفر ذمة أبي. فأمنه وعاد إلى سليمان، فمكث عنده تسعة أشهر وتوفي الحجاج.
وفي هذه السنة [4] حج [بالناس] عمر بن عبد العزيز [5] ، وكان عامل الوليد على مكة والمدينة
__________
[1] سماه في الطبري 6/ 449: «عبد الجبار بن يزيد بن الربعة» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري 6/ 451.
[3] في الطبري: «بألطف ما قدرت عليه» .
[4] تاريخ الطبري 6/ 447.
[5] في ت: «وحج بالناس في هذه السنة عمر بن عبد العزيز.(6/296)
والطائف، وكان على العراق/ والمشرق الحجاج بن يوسف، وكان عامل الحجاج على البصرة الجراح بن عبد الله، وعلى قضائها عبد الرحمن بن أذينة، وعلى الكوفة زياد بن جرير بن عبد الله، وعلى قضائها ابن أبي موسى، وعلى خراسان قتيبة بن مسلم، وعلى مصر قرة بن شريك
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
515- رفيع أبو العالية الرياحي: [1]
أعتقته امرأة من بني رياح. قال: كنت مملوكان لأعرابية، فدخلت المسجد معها، فوافينا الإمام على المنبر، فقبضت على يدي وقالت: اللَّهمّ أذخره عندك ذخيرة، اشهدوا يا أهل المسجد أنه سائبة للَّه، ثم ذهبت، فما تراءينا بعد.
أسند أبو العالية عن أبي بكر، وعمر، وعلي، وأبي، وأبي موسى، وأبي هريرة، وابن عباس. وكان عالما ثقة.
أخبرنا ابن ناصر بإسناده عن سفيان بن عيينة، عن عاصم، قال: كان أبو العالية إذا جلس إليه أكثر من أربعة قام [2] .
516- عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة:
وكان شاعرا مجيدا، وهو القائل لما بلغ بلكثة الشام.
بينما نحن في بلاكث بالقاع ... سراعا والعيش تهوي هويا
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 81، وطبقات ابن خليفة 202، والتاريخ الكبير 3/ 1103، والمعارف 454، والجرح والتعديل 3/ 2312، والحلية 2/ 217، وأخبار أصبهان 1/ 314، وطبقات الشيرازي 88، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 5/ 326، وأسد الغابة 2/ 186، وسير أعلام النبلاء 4/ 307، وتذكرة الحفاظ 1/ 61، وغاية النهاية 1/ 284، والإصابة 1/ 528، 4/ 838، وطبقات المفسرين للداوديّ 1/ 172.
[2] الخبر في حلية الأولياء 2/ 218.(6/297)
خطرت خطرة على القلب ... من ذكراك وهنا فما أطقت مضيا
قلت للشوق إذ دعاني لبيك ... وللحادثين ردي المطيا
517- مرثد بن عبد الله، أبو الخير الكلاعي اليزني:
يروي عن أبي أيوب الأنصاري، وزيد بن ثابت، وعقبة بن عامر، ومالك بن هبيرة، وعمرو بن العاص، وغيرهم.
وكان مفتي أهل مصر في أيامه.
توفي في هذه السنة.(6/298)
ثم دخلت سنة إحدى وتسعين
فمن الحوادث فيها غزاة عبد العزيز بن الوليد الصائفة.
وكان على الجيش مسلمة بن عبد الملك/.
وفيها غزا مسلمة الترك.
حتى بلغ الباب من ناحية أذربيجان، ففتح على يديه مدائن وحصون.
وفيها سار قتيبة إلى مروالروذ.
فبلغ الخبر إلى مرزبانها، فهرب إلى الفرس، فقدم قتيبة فأخذ ابنين له فقتلهما وصلبهما، ومضى إلى الفارياب، فخرج إليه ملك الفارياب مذعنا [1] مطيعا فرضي عنه واستعمل عليها رجلا من باهلة، وبلغ الخبر صاحب الجوزجان، فترك أرضه وخرج إلى الجبال هاربا، وسار قتيبة إلى الجوزجان، فلقيه أهلها مطيعين، فقبل منهم واستعمل عليها عامر بن مالك، وما زال ينصب المنجنيق على بلدة، ويحرق بلدة، ويبالغ في الجهاد حتى قتل في مكان واحد اثني عشر ألفا.
وفي هذه السنة ولى الوليد خالد بن عبد القسري مكة.
فلم يزل واليا إلى أن مات الوليد، فخطب خالد الناس في ولايته، فقال: إني والله
__________
[1] في الأصل: «مسرعا» وما أوردناه من ت والطبري.(6/299)
ما أوتي بأحد يطعن على إمامه إلا صلبته في الحرم.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال:
أخبرنا محمد بن عامر بن بكير، قال: أخبرنا هارون بن عيسى بن المطلب الهاشمي، قال: أخبرنا إبراهيم بن عبد الصمد بن موسى، قال: حدثنا محمد بن الوليد المخزومي، قال: حدثنا القاسم بن أبي سفيان، قال: حدثنا عبد الرحمن بن حبيب بن أبي حبيب، عن أبيه، عن جده، قال: سمعت خالد بن [عبد الله] القسري يخطب الناس فقال:
من كان منكم يريد أن يضحي فلينطلق فليضح فبارك الله له في أضحيته، فإنّي مضح بالجعد بن درهم فإنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليما ولم يتخذ إبراهيم خليلا، فسبحان الله عما يقول الجعد علوا كبيرا، ثم نزل فذبحه.
[وفي هذه السنة حج الوليد بن عبد الملك]
حج الوليد بن عبد الملك. قال الواقدي: حدثني موسى بن أبي بكر، قال:
حدثنا صالح بن كيسان، قال: فلما حضر قدوم الوليد أمر عمر بن عبد العزيز عشرين/ رجلا من قريش يخرجون معه، فخرجوا فلقوه بالسويداء، فلما دخل إلى المدينة غدا إلى المسجد ينظر إلى بنائه، فأخرج الناس منه، فما ترك فيه أحد، وبقي سعيد بن المسيب ما يجترئ أحد من الحرس أن يخرجه، وما عليه إلا ريطتان ما تساويان خمسة دراهم في مصلاه، فقيل له: لو قمت، قال: والله لا أقوم حتى يأتي الوقت الذي كنت أقوم فيه، فقيل له: لو سلمت على أمير المؤمنين، فقال: لا والله لا أقوم إليه.
قال عمر بن عبد العزيز: فجعلت أعدل بالوليد في ناحية المسجد رجاء ألا يرى سعيد بن المسيب حتى يقوم، فحانت من الوليد التفاتة- أو قال: نظرة- إلى القبلة، فقال من ذلك الجالس؟ أهو الشيخ سعيد بن المسيب؟ فقال عمر: نعم يا أمير المؤمنين، من حاله ومن حاله ... ولو علم مكانك لقام مسلما عليك، فدار في المسجد حتى وقف [على القبر، ثم أقبل حتى وقف] [1] على سعيد بن المسيب، فقال:
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(6/300)
كيف أنت أيها الشيخ؟ [فو الله ما تحرك سعيد ولا قام] [1] فقال: بخير والحمد للَّه، فكيف أمير المؤمنين وكيف حاله؟ فقال الوليد: بخير والحمد الله فانصرف وهو يقول: لعمر: هذا بقية الناس، فقال: أجل يا أمير المؤمنين.
وقسم الوليد بالمدينة رقيقا كثيرا بين الناس، وآنية من ذهب وفضة وأموالا، وخطب بها يوم الجمعة وصلى بهم.
قال الواقدي: وقدم بطيب وكسوة للكعبة.
قال المدائني: وحج محمد بن يوسف من اليمن، وحمل هدايا للوليد، فقالت أم البنين للوليد: اجعل لي هدية محمد بن يوسف، فأمر بصرفها إليها، فجاءت أم البنين إلى محمد فيها، فأبى وقال: حتى ينظر إليها أمير المؤمنين فيرى رأيه، وكانت هدايا كثيرة فقالت: يا أمير المؤمنين، إنك أمرت بهدايا محمد أن تصرف إلي ولا حاجة لي فيها، قال: ولم، قالت: بلغني أنه غصبها وكلفهم عملها وظلمهم، وحمل محمد المتاع إلى الوليد، فقال له: بلغني أنك أصبتها غصبا، قال: معاذ الله، فأمر فاستحلف بين الركن والمقام خمسين يمينا أنه ما/ غصب شيئا منها ولا ظلم أحدا ولا أصابها إلا من طيب، فحلف فقبلها الوليد ودفعها إلى أم البنين. ومات محمد باليمن، أصابه داء انقطع منه.
وكان عمال الأمصار في هذه السنة من تقدم في السنة التي قبلها، غير مكة، فإن الواقدي يقول: كان عاملها خالد بن عبد الله القسري. وقال غيره: بل كان عمر بن العزيز
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
518- الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام: [2]
أمه خولة بنت منظور بن زبان. تزوج فاطمة بنت الحسين، فولدت له عبد الله،
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] طبقات ابن سعد 5/ 234، وطبقات خليفة 240، والتاريخ الكبير 2/ 2502، والجرح والتعديل(6/301)
وتوفي عنها، فخلف عَلَيْهَا عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بن عثمان بن عفان.
519- سهل بن سعد الساعدي: [1]
توفي في هذه السنة عن خمس وسبعين سنة.
520- عمر بن يوسف، أخو الحجاج.
توفي باليمن واليا عليها، وتوفي بعده بستة أيام.
521- محمد بن الحجاج:
فقال الحجاج يرثيه:
وحسبي بقاء الله من كل ميت ... وحسبي بقاء الله من كل هالك.
إذا ما أتيت الله عني راضيا ... فإن شفاء النفس فيما هنالك
__________
[ () ] 3/ 17، وتاريخ بغداد 7/ 293، وتاريخ الإسلام 3/ 357، وسير أعلام النبلاء 4/ 483، والوافي بالوفيات 11/ 416، والبداية والنهاية 9/ 170، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 4/ 165.
[1] طبقات خليفة 98، والتاريخ الكبير 4/ 2092، وتاريخ واسط 202، والجرح والتعديل 4/ 853، والاستيعاب 2/ 664، وأسد الغابة 2/ 366 وسير أعلام النبلاء 3/ 422، والتجريد 1/ 2558، وتاريخ الإسلام 4/ 11، والإصابة 2/ 3533.(6/302)
ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين
فمن الحوادث فيها غزوة عمر بن الوليد ومسلمة أرض الروم، ففتح على يد مسلمة ثلاث حصون، وجلا خلقا كثيرا عن بلادهم.
وفيها: غزا طارق بن زياد الأندلس في اثني عشر ألفا ففتحها وقتل الملك.
وفيها: حج بالناس عمر بن العزيز وهو على المدينة وكان عمال الأمصار الذين كانوا في السنة التي قبلها.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
522- أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم ابن عدي بن النجار: [1]
أمه أم سليم بنت ملحان. لما قدم رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ المدينة ذهبت به أمه إليه ليخدمه.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي الْبَزَّازُ، قَالَ: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال:
أخبرنا ابن حيوية، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن معروف، قَالَ: حدّثنا الحسين بن الفهم،
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 10، وتهذيب ابن عساكر 3/ 139، وصفة الصفوة 1/ 1/ 298، وتهذيب الكمال 3/ 353، وجميع كتب التاريخ الإسلامي والتراجم.(6/303)
قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سعد، قَالَ: أَخْبَرَنَا سليمان بن حرب، قال: حدثنا حماد بن زَيْدٍ، عَنْ سِنَانِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: [1] . ذَهَبَتْ بِي أُمِّي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ خُوَيْدِمُكَ ادْعُ لَهُ، قَالَ:
«اللَّهمّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَأَطِلْ عُمْرَهُ وَاغْفِرْ ذَنْبَهُ» . قَالَ أَنَسٌ: فَقَدْ دَفَنْتُ مِنْ صُلْبِي مِائَةَ غَيْرَ اثْنَيْنِ- أَوْ قَالَ: مِائَةً واثنين، وإن ثمرتي لتحمل في السنة مَرَّتَيْنِ، وَلَقَدْ بَقِيتُ حَتَّى سَئِمْتُ الْحَيَاةَ، وَأَنَا أَرْجُو الرَّابِعَةَ.
قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: [2] وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ:
كَانَ كَرْمُ أَنَسٍ يَحْمِلُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّتَيْنِ. وَكَانَ أَنَسٌ يُصَلِّي فَيُطِيلُ الْقِيَامَ حَتَّى تَقْطُرُ قَدَمَاهُ دَمًا.
قال ابن سعد [3] : وحدثنا إسماعيل بن عبد الله بن زرارة الحرمي، قال: حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي، قال: حدثنا ثابت البناني، قال:
شكى قيم لأنس بن مالك في أرضه العطش، فصلى أنس فدعا، فثارت سحابة حتى غشيت أرضه فملأت صهريجه، فأرسل غلامه فقال: انظر أنى بلغت هذه، فنظر، فإذا هي لم تعد أرضه.
قال: وأخبرنا يوسف بن العرق، قال: حدثنا صالح المري، عن ثابت، قال:
كان أنس إذا أشفى على ختم القرآن من الليل بقي منه سور حتى يصبح فيختمه عند عياله.
قال: وحدثنا عفان، قال: حدثنا جعفر بن سليمان، قال: حدثنا ثابت البناني، قال: كان أنس إذا ختم القرآن جمع ولده وأهله فدعا لهم.
قال: وأخبرنا عفان، قال: حدثنا خالد بن أبي عثمان، قال: حدّثنا ثمامة بن
__________
[1] الخبر في طبقات ابن سعد 7/ 1/ 12.
[2] الخبر في طبقات ابن سعد 7/ 1/ 12.
[3] الخبر في طبقات ابن سعد 7/ 1/ 12.(6/304)
عبد الله بن أنس، قال: كان أنس إذا صلى المغرب لم يقدر عليه ما بين المغرب والعشاء قائما يصلي.
توفي أنس بالبصرة في هذه السنة وَهُوَ ابْن تسع وتسعين سنة. وقيل: / ابن مائة وسبع سنين، وهو آخر من مات من أصحاب رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ بالبصرة، ورزق مائة ولد، ولا يعرف في الإسلام من ولد له من صلبه مائة سوى أربعة [1] : أنس بن مالك، وعبد الله ابن عمير الليثي، وخليفة السعدي، وجعفر بن سليمان الهاشمي.
523- إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي، من تيم الرباب، يكنى أبا أسماء: [2]
روى عن أبيه، والحارث بن سويد في آخرين، فكان عالما عابدا.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أحمد بن يزيد، قال:
حدثنا عبد الله بن عمر، قال: حدثنا حفص الواسطي، قال: حدثنا العوام بن حوشب، قال:
ما رأيت رجلا قط خيرا من إبراهيم التيمي، وما رأيته رافعا بصره إلى السماء في صلاة ولا غيرها، وسمعته يقول: إن الرجل ليظلمه، فأرحمه.
أخبرنا ابن ناصر، وابن أبي عمر، قال: حدثنا رزق الله، وطراد، قالا: أخبرنا ابن بشران قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن صفوان، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو بكر، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أنه سمع سفيان بن عيينة يقول: قال إبراهيم:
مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: أي نفسي، أي شيء تريدين؟ قالت: أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحا قال: قلت: فأنت في الأمنية فاعملي.
__________
[1] في الأصل: ولا يعرف في الإسلام من له مائة ولد من صلبه سوى أربعة.
[2] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 199، وتهذيب الكمال 2/ 232.(6/305)
أنبأنا أبو بكر بن أبي طاهر، عن أبي محمد الجوهري، عن أبي عمر ابن حيوية، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن معروف، قَالَ: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا علي بن محمد، قال: [1] كان سبب حبس إبراهيم التيمي أن الحجاج طلب إبراهيم النخعي، فجاء الذي يطلبه، فقال: أريد إبراهيم، فقال إبراهيم التيمي: أنا إبراهيم، وهو يعلم أنه أراد النخعي، فلم يستحل أن يدله عليه، فجاء به إلى الحجاج فأمر بحبسه، ولم يكن لهم في الحبس/ ظل من الشمس، ولا كن من البرد، وكان كل اثنين في سلسلة، فتغير إبراهيم، فجاءته أمه في الحبس فلم تعرفه حتّى كلمها، فمات في السجن فرأى الحجاج قائلا يقول: مات في هذه الليلة رجل من أهل الجنة، فلما أصبح قال: هل مات الليلة أحد بواسط؟ قالوا: نعم، إبراهيم التيمي، قال: حلم نزعة من نزعات الشيطان، وأمر به فألقي على الكناسة، وذلك في هذه السنة.
524- وضاح اليمن: [2]
أَخْبَرَنَا المبارك بْن عَلي الصيرفي، قَالَ: أَخْبَرَنَا علي بن محمد العلاف، قال:
أخبرنا عبد الملك بن بشران، قال: حدثني أحمد بن إبراهيم الكندي، قال: أخبرنا جعفر بن محمد الخرائطي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد، قَالَ: حَدَّثَنَا إسحاق بن الضيف، عن أبي مسهر، قال:
كان وضاح اليمن نشأ هو وأم البنين صغيرين، فأحبها وأحبته، وكان لا يصبر عنها حتى إذا بلغت حجبت عنه، وطال بهما البلاء، فحج الوليد بن عبد الملك فبلغه جمال أم البنين وأدبها فتزوجها ونقلها إلى الشام.
قال: فذهب عقل وضاح عليها وجعل يذوب وينحل فلما طال عليه البلاء خرج إلى الشام، فجعل يطوف بقصر الوليد بن عبد الملك في كل يوم لا يجد حيلة حتى رأى
__________
[1] طبقات ابن سعد 6/ 1/ 199.
[2] الأغاني 6/ 222، واسمه عبد الرحمن بن إسماعيل وفوات الوفيات 1/ 253، والنجوم الزاهرة 1/ 226، وتهذيب تاريخ دمشق 7/ 295، والتبريزي 2/ 96، وسماه وضاح بن إسماعيل، وتبعه العيني 2/ 216.(6/306)
يوما جارية صفراء، فما زال حتى أنس بها، فقال لها: هل تعرفين أم البنين؟ فقالت:
إنك تسأل عن مولاتي، فقال: إنها لابنة عمي، فإنها تسر بمكاني وموضعي لو أخبرتها، قالت: إني أخبرها فمضت الجارية فأخبرت أم البنين، فقالت ويلك، أحي هو؟ قالت: نعم، قالت: قولي له كن مكانك حتى يأتيك رسولي. فلن أدع الاحتيال لك، فاحتالت إلى أن أدخلته إليها في صندوق، فمكث عندها حينا فإذا أنت أخرجته، فقعد معها وإذا خافت عين رقيب أدخلته الصندوق.
فأهدي يوما للوليد بن عبد الملك جوهر، فقال لبعض خدمه: خذ هذا الجوهر فامض به إلى أم البنين وقل لها: أهدي هذا إلى أمير المؤمنين، فوجه به إليك.
فدخل/ الخادم من غير استئذان ووضاح معها، فلمحه ولم تشعر أم البنين، فبادر إلى الصندوق فدخله، فأدى الرسالة، إليها، وقال لها: هبي لي من هذا الجوهر حجرا، فقالت: لا أم لك، وما تصنع أنت بهذا؟ فخرج وهو عليها حنق فجاء الوليد فخبره الخبر ووصف له الصندوق الذي رآه دخله، فقال: كذبت، لا أم لك. ثم نهض الوليد مسرعا فدخل إليها وهي في ذلك البيت وفيه صناديق، فجاء حتى جلس على ذلك الصندوق الذي وصف له الخادم، فقال لها: يا أم البنين، هبي لي صندوقا من صناديقك هذه، فقالت:
يا أمير المؤمنين، هي لك وأنا لك فقال لها: ما أريد غير هذا الذي تحتي، فقالت: يا أمير المؤمنين، إن فيه شيئا من أمور النساء، قال: ما أريد غيره، قالت: هو لك. فأمر به فحمل ودعا بغلامين وأمرهما بحفر بئر، فحفرا حتى إذا بلغا الماء وضع فمه على الصندوق وقال: أيها الصندوق، قد بلغنا عنك شيء فإن كان حقا فقد دفنا خبرك ودرسنا أثرك، وإن كان كذبا فما علينا من دفن صندوق من حرج، ثم أمر به فألقي في الحفرة، وأمر بالخادم [1] فقذف في ذلك المكان فوقه، وطم عليهما المكان. فكانت أم البنين توجد في ذلك المكان تبكي إلى أن وجدت فيه يوما مكبوبة على وجهها ميتة.
وقد روى نحو هذه الحكاية هشام بن محمد بن السائب: أن أم البنين كانت عند يزيد بن عبد الملك، وإن قصة وضاح اليمن جرت له وهي عند يزيد.
__________
[1] في ت: «وأمر بالغلام» .(6/307)
ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين
فمن الحوادث فيها غزاة العباس بن الوليد أرض الروم.
ففتح الله على يده بعضها، وغزاها أيضا مسلمة فافتتح بلادا منها.
وفيها صالح قتيبة ملك خوارزم [1]
قالوا: كان ملك خوارزم ضعيفا فغلبه أخوه خرزاذ على أمره، وكان خرزاذ/ أصغر منه، فكان إذا بلغه أن عند أحد جارية أو دابة أو متاعا فاخرا أرسل فأخذه، أو بلغه أن لأحد بنتا أو أختا أو امرأة جميلة أخذها، ولا يمتنع عليه أحد، ولا يمنعه الملك، فإذا قيل له، قال: لا أقوى عليه، فلما طال ذلك عليه كتب إلى قتيبة في السر يدعوه إلى أرضه ليسلمها إليه، وبعث إليه بمفتاح البلد واشترط عليه أن يسلم إليه أخاه وكل من يضاده، يحكم فيهم بما يرى، فرجعت الرسل بما يحب، وسار قتيبة مظهرا أنه يريد الصغد [2] ، فقال الملك لأصحابه: إن قتيبة يريد الصغد، فهل لكم أن نتنعم في ربيعنا هذا، فأقبلوا على التنعم والشراب، وأمنوا، فلم يشعروا إلا بقتيبة، فقال الملك: ما ترون؟ قالوا: نقاتله، قال: لا أرى ذلك لأنه قد عجز عنه من هو أقوى منا، ولكن نصرفه عنا بشيء نؤديه إليه، فصالحه على مال عظيم، وأخذ أخاه فدفعه إليه، ثم أتى قتيبة الصغد فصالحوه على ألفي ألف ومائتي ألف كل عام، وأن يبنى له فيها مسجد، ويضع
__________
[1] تاريخ الطبري: 6/ 469.
[2] في تاريخ الطبري: «السغد» .(6/308)
فيه منبرا فيخطب عليه، ففعلوا، فدخل فخطب [وصلى] [1] فقال: لست ببارح [فاخرجوا] ، وجاءوه بالأصنام فأحرقها، فوجدوا من بقايا ما كان فيها من مسامير الذهب والفضة خمسين ألف مثقال، ودخل المسلمون مدينة سمرقند فصالحوهم. ثم ارتحل قتيبة راجعا إلى مرو، واستخلف على سمرقند عبد الرحمن بن مسلم، وخلف عنده جندا كثيفا وآلة من آلات الحرب كثيرة.
وفي هذه السنة عزل موسى بن نصير طارق بن زياد عن الأندلس.
فلقيه موسى في عشرة آلاف فترضى طارقا فرضي عنه ووجهه إلى طليطلة- وهي من عظام مدائن الأندلس- وهي من قرطبة على عشرين يوما- فأصاب فيها مائدة سليمان بن داود عليه السلام، وفيها من الذهب والجوهر ما الله به أعلم [2] .
وفيها أجدب أهل أفريقية جدبا شديدا.
فخرج موسى بن نصير فاستسقى بالناس، ودعا وخطب، فقيل له: ألا تدعو لأمير المؤمنين، فقال: ليس هذا موضع ذلك [3] ، فسقوا سقيا كفاهم حينا.
وفي هذه السنة ضرب عمر بن عبد العزيز خبيب بن عبد الله بن الزبير بن العوام خمسين سوطا.
وقيل: مائة سوط عن أمر الوليد بن عبد الملك بذلك، وصب على رأسه قربة ماء بارد في يوم شات، ووقفه على باب المسجد [4] ، فمكث يوما ومات.
وكان السبب أن خبيبا حدث عن رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ أنه قال: «إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا اتخذوا عباد الله خولا ومال الله دولا» . أنبأنا الحسين بن محمد بن عبد الوهاب الدباس، قال: أخبرنا أبو جعفر بن المسلمة، قال: أخبرنا أبو طاهر المخلص، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن سليمان بن داود
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] في ت: «ما الله به عليم» .
[3] في الأصل: «ليس هنا موضع ذاك» . وما أوردناه من ت.
[4] في الأصل: «ماء بارد ووقفه في يوم شات على باب المسجد» .(6/309)
الطوسي، قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني عمي مصعب بن عبد الله، قال:
كان خبيب قد لقي العلماء ولقي كعب الأحبار، وقرأ الكتب، وكان من النساك، وأدركه أصحابنا وغيرهم يذكرون أنه كان يعلم علما كثيرا لا يعرفون وجهه ولا مذهبه فيه يشبه ما يدعى الناس من علوم النجوم.
قال عمي مصعب: وحدثت عن مولى لخالته أم هاشم بنت منظور يقال له يعلى بن عقبة، قال:
كنت أمشي معه وهو يحدث نفسه إذ وقف ثم قال: سأل قليلا فأعطي كثيرا، وسأل كثيرا فأعطي قليلا، فطعنه فأرداه فقتله، ثم أقبل علي فقال: قتل عمرو بن سعيد الساعة، ثم مضى، فوجدوا ذلك اليوم الذي قتل فيه عمرو بن سعيد.
وله أشباه هذا يذكرونها والله أعلم ما هي، وكان طويل الصمت [1] قليل الكلام.
وكان الوليد بن عبد الملك قد كتب إلى عمر بن عبد/ العزيز إذ كان واليا على المدينة يأمره بجلده مائة سوط [وبحبسه، فجلده عمر مائة سوط] [2] ، وبرد له ماء في جرة، ثم صبها عليه في غداه باردة، فكن فمات فيها.
وكان عمر قد أخرجه من المسجد حين اشتد وجعه وندم على ما صنع، فانتقله آل الزبير في دار من دورهم.
قال عمي مصعب: وأخبرني مصعب بن عثمان أنهم نقلوه إلى دار عمر بن مصعب بن الزبير، واجتمعوا عنده حتى مات، فبينا هم جلوس إذ جاءهم الماجشون استأذن عليهم وخبيب مسجى بثوبه، وكان الماجشون يكون مع عمر بن عبد العزيز في ولايته على المدينة، فقال عبد الله بن عروة: ائذنوا له، فلما دخل قال: كان صاحبك في مرية من موته، اكشفوا له عنه، فكشفوا له عنه، فلما رآه الماجشون انصرف. قال الماجشون: فانتهيت إلى دار مروان فقرعت الباب، فدخلت فوجدت عمر كالمرأة الماخض قائما قاعدا، فقال لي: ما وراءك؟ فقلت: مات الرجل، فسقط إلى الأرض
__________
[1] في الأصل: «طويل الصلاة» وما أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(6/310)
فزعا، ثم رفع رأسه يسترجع، فلم تزل تعرف فيه حتى مات، فاستعفى من المدينة، وامتنع من الولاية، وكان يقال: إنك قد فعلت كذا فأبشر، فيقول: فكيف بخبيب.
وحدثني عمي قال: حدثني هارون بن أبي عبيد الله بن عبد الله بن مصعب، قال: سمعت أصحابنا يقولون: قسم فينا عمر بن عبد العزيز قسما في خلافته خصنا به، فقال الناس: دية خبيب.
وفي هذه السنة عزل الوليد عمر بن عبد العزيز عن المدينة.
وكان السبب في ذلك أن عمر كتب إلى الوليد يخبره بعسف الحجاج أهل عمله بالعراق، واعتدائه عليهم، وظلمه لهم بغير حق، فبلغ ذلك الحجاج فاضطغنه [1] على عمر، وكتب إلى الوليد: إن من قبلي من مراق أهل العراق وأهل الشقاق قد جلوا عن العراق [2] ولجئوا إلى المدينة، وإن ذلك وهن/.
فكتب الوليد إلى الحجاج: أن أشر علي برجلين، فكتب إليه يشير عليه بعثمان بن حيان وخالد بن عبد الله، فولى خالدا مكة، وولى عثمان المدينة، وعزل عمر بن عبد العزيز، فخرج عمر بن عبد العزيز من المدينة معزولا في شعبان هذه السنة، واستخلف حين خرج أبا بكر بن عمرو بن حزم، وجعل يقول لمولاه مزاحم: أتخاف أن تكون ممن نفته المدينة. ووليها عثمان بن حيان في شعبان إلا أنه قدم المدينة لليلتين مضيتا من شوال.
وفي هذه السنة.
حج بالناس عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك، وكانت العمال على الأمصار عمالها في السنة التي قبلها إلا المدينة فإن عمر وليها إلى شعبان، وعثمان بن حيان وليها من شعبان، ويقال: قدمها في سنة أربع وتسعين.
__________
[1] في الأصل: «فاضغطه» وما أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «قد خلوا إلى العراق» . وما أوردناه من ت.(6/311)
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
525- إياس بن قتادة التميمي، ابن أخت الأحنف بن قيس [1] :
أسند عن قيس بن عباد، عن أبي بن كعب.
أنبأنا أبو بكر ابن أبي طاهر، عن أبي محمد الجوهري، عن ابن حيوية، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن معروف، قَالَ: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال:
أخبرت عن معتمر بن سليمان، عن سلمة بن علقمة، قال: [2] اعتم إياس بن قتادة وهو يريد بشر بن مروان، فنظر في المرآة فإذا بشيبة في دقنه، فقال: افليها يا جارية، ففلتها، فإذا هي بشيبة أخرى، فقال: أنظروا من بالباب من قومي فادخلوا عليه، فقال: يا بني تميم، إني كنت وهبت لكم شبيبتي، فهبوا لي شيبتي، ألا أراني حمير الحاجات وهذا الموت يقرب مني. ثم قال: انقضي العمامة فاعتزل يؤذن لقومه، ويعبد ربه، ولم يغش سلطانا حتى مات.
526- زرارة بن أوفى الحرشي، يكنى أبا حاجب: [3]
أسند عن أبي هريرة، وعمران، [4] وابن عباس. وتوفي في هذه السنة فجأة.
أخبرنا محمد بن طاهر، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيم بْن عُمَر البرمكي، قَالَ: أخبرنا أبو/ محمد بن ناسي، قال: حدثنا أبو جعفر أحمد بن علي الخراز، قال: حدثنا عبد الواحد بن غياث، قال: حدثنا أبو خباب القصار، قال:
صلى بنا زرارة بن أوفى الفجر، فلما بلغ: فَإِذا نُقِرَ في النَّاقُورِ 74: 8 [5] شهق شهقة فمات.
__________
[1] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 102.
[2] الخبر في طبقات ابن سعد 7/ 1/ 102.
[3] طبقات ابن سعد 7/ 1/ 109، وطبقات خليفة 197، والتاريخ الكبير 3/ 1461، وأخبر القضاة 1/ 292، والجرح والتعديل 3/ 2727، ومشاهير علماء الأمصار 701 وحلية الأولياء 2/ 258، وتاريخ الإسلام 3/ 368، وسير أعلام النبلاء 4/ 515.
[4] «عمران» : ساقط من ت.
[5] سورة المدثر، الآية: 8.(6/312)
527- عبد الرحمن بن يزيد بن جارية بن عامر الأنصاري: [1] .
وأمه جميلة بنت ثابت ابن أبي الأقلح، ولد فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
528- عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة، واسمه حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، يكنى أبا الخطاب: [2]
وكان أبو ربيعة يسمى ذا الرمحين، سمي بذلك لطوله، كأنه يمشي على رمحين.
وقيل: بل قاتل في عكاظ برمحين، فسمي بذلك.
ولد عمر ليلة قتل عمر بن الخطاب، وكانت أمه وأم إخوته نصرانية. وأبو جهل بن هشام عم أبيه، وأم عمر بن الخطاب حثمة بنت هشام بن المغيرة بنت عم أبيه، وإخوته عبد الله، وعبد الرحمن، والحارث بنو عبد الله بن أبي ربيعة. وكان أخوه عبد الرحمن تزوج بنت أبي بكر الصديق بعد طلحة، وولدت له، وأعقب الحارث ولا عقب لعمر.
وكان عمر شاعرا مجيدا.
روى الزبير بن بكار، قال: حدثني يعقوب ابن أبي إسحاق [3] ، قال: كانت العرب تقر لقريش بالتقدم في كل شيء عليها إلا في الشعر، فلما كان عمر أقرت له الشعراء بالشعر أيضا.
وقال ابن جريج: ما دخل على العواتق في حجالهن [شيء] [4] أضر عليهن من شعر عمر بن أبي ربيعة. [5] وقال هشام بن عروة: لا ترووا فتياتكم شعر عمر بن أبي ربيعة لا يتورطن في الزنا تورطا.
__________
[1] طبقات ابن سعد 5/ 60.
[2] الأغاني 1/ 70 (دار الكتاب العلمية) ووفيات الأعيان 1/ 353، 378، وسرح العيون 198، والشعر والشعراء 216، وخزانة البغدادي 1/ 240.
[3] الخبر في الأغاني 1/ 83، وفيه: يعقوب بن إسحاق» .
[4] الخبر في الأغاني 1/ 84.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الأغاني.(6/313)
وكان كثير التشبيب بالنساء، قلما يرى امرأة إلا ويتشبب بها تشبيب عاشق. وكان يحب زيارتهن، ويكثر مجالستهن، فممن شبب بهن سكينة بنت الحسين، فقال:
قالت سكينة والدموع ذوارف ... منها على الخدين والجلباب
ليت المغيري الذي لم أجزه ... فيما أطال تصيدي وطلابي
/ كانت ترد لنا المنى أيامه ... أولا تلوم [1] على هوى وتصابي
أسكين ما ماء الفرات وطيبه ... مني على ظمأ وحب شراب
بألذ منك وقد نأيت وقلما ... ترعى النساء أمانة الغياب
وشبب بفاطمة بنت عبد الملك بن مروان، فقال:
افعلي بالأسير إحدى ثلاث ... وافهميهن ثم ردي جوابي
اقتليه قتلا سريحا مريحا ... لا تكوني عليه سوط عذابي
أو اقتدي فإنما النفس بالنفس ... قضاء مفصلا في الكتاب
أوصليه وصلا تقر به العين ... وشر الوصال وصل الكذاب
فأعطت الذي جاءها بالأبيات لكل بيت عشرة دنانير.
وحج عبد الملك فلقيه عمر، فقال له عبد الملك: يا فاسق، فقال: بئس تحية ابن العم على طول السخط، قال: يا فاسق، أما أن قريشا لتعلم انك أطولها صبوة وأبطؤها توبة، ألست القائل.
ولولا أن تعنفني قريش ... فقال الناصح الأوفى الشقيق
لقلت إذا التقينا قبليني ... ولو كنا على ظهر الطريق
وكان أخوه الحارث خيرا عفيفا، فعاتبه يوما. قال عمر: وكنت على ميعاد من الثريا، فرحت إلى المسجد مع المغرب وجاءت الثريا للميعاد فتجد الحارث مستلقيا على الفراش، فألقت نفسها عليه وهي لا تشك أنه أنا، فوثب وقال: من هذه؟ قيل له:
الثريا، قال: ما أرى عمر ينتفع بوعظنا، فلما جئت للميعاد، قال: ويحك كدنا نفتن بعدك، لا والله ما شعرت إلا وصاحبتك واقعة علي، قلت: لا تمسك [النار] [2] أبدا، قال: عليك لعنة الله وعليها.
__________
[1] في الأغاني: «المنى أياما إذ لا غلام» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(6/314)
فلما تزوج سهيل بن عبد الرحمن بن عوف الثريا، قال عمر:
أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يمان
أَخْبَرَنَا المبارك بْن عَلي الصيرفي، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن مُحَمَّد بْن العلاف، قَالَ:
أخبرنا عبد الملك بن بشران، قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم الكندي، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن جعفر الخرائطي، قال: حدثنا إسماعيل بن أحمد بن معاوية الباهلي، عن أبيه، عن الأصمعي، عن أبي سفيان بن العلاء، قال:
لما بصرت الثريا بعمر بن ربيعة وهو يطوف حول البيت فتنكرت وفي كفها خلوق، فرجمته فأثر الخلوق في ثوبه، فجعل الناس يقولون: يا أبا الخطاب، ما هذا بزي محرم، فأنشأ يقول:
أدخل الله رب موسى وعيسى ... جنة الخلد من ملاني خلوقا
مسحت كفها بجيب قميصي ... حين طفنا بالبيت مسحا رفيقا
فقال له عبد الله بن عمر: مثل هذا القول تقول في هذا الموضع، فقال: يا أبا عبد الرحمن، قد سمعت مني ما سمعت، فو ربّ هذه البنية ما حللت إزاري على حرام قط.
وقد روى محمد بن الضحاك: أن عمر بن أبي ربيعة لما مرض مرض الموت أسف عليه أخوه الحارث، فقال عمر: يا أخي إن كان أسفك لما سمعت من قولي قلت لها وقالت لي، فكل مملوك لي حر إن كان كشف فرجا حراما قط، فقال الحارث:
الحمد للَّه طيبت نفسي، وكان له سبعون عبدا. [1] وقد روي عنه أنه لما كبر حلف ألا يقول بيت شعر إلا أعتق رقبة.
وروى الزبير بن بكار، عن محمد بن الضحاك، قال: عاش عمر بن [أبي] [2] ربيعة ثمانين سنة فتك منها أربعين سنة، ونسك أربعين سنة [3] .
__________
[1] جاءت هذه الرواية في ت آخر الترجمة.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
[3] وقد ورد في الأصل «تقدم هذه الحكاية قبل موته» .(6/315)
وقد روى الزبير بن بكار، قال: حدثني مصعب بن عثمان: إِنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا وُلِّيَ الخلافة لم تكن له همة إلا عمر بن أبي ربيعة والأحوص. فكتب إلى عامله على المدينة: إني قد عرفت عمر والأحوص بالخبث والشر، فإذا أتاك كتابي هذا/ فاشددهما واحملهما إلي- فلما أتاه الكتاب حملهما إليه فأقبل عليّ عمر وقال:
هيه فلم أر كالتجميز منظر ناظر كالرمي [1] ، فإذا لم يفلت الناس منك في هذه الأيام فمتى يفلتون، أما والله لو أهممت بحجبك لم تنظر إلى شيء غيرك، ثم أمر بنفيه، فقال: يا أمير المؤمنين، أو خير من ذلك، قال: ما هو؟ قال: أعاهد الله عز وجل أن لا أعود لمثل هذا الشعر، ولا أذكر النساء في شعر، وأجدد توبة على يدك، قال: أن تفعل؟ قال: نعم.
فعاهد الله على توبته وخلاه.
ثم دعا بالأحوص، فقال: من يقول:
هي الله بيني وبين قيمها ... يفر مني بها وأتبعه
بل الله بين قيمها وبينك، ثم أمر بنفيه إلى دهلك، فلم يزل بها، فسئل في رده، فقال: والله لا أرده ما كان لي سلطان.
وقد اختلفوا في سبب موته على قولين: أحدهما: أن عمر بن عبد العزيز سيره إلى دهلك ثم غزا في البحر فأحرقت السفينة التي كان فيها، فاحترق هو ومن كان معه. ذكره ابن قتيبة.
والثاني: أنه نظر إلى امرأه مستحسنة في الطواف، فكلمها فلم تجبه، فقال لها أبياتا فبلغتها، فقيل لها: اذكريها لزوجك ينكر عليه، فقالت: كلا، لا أشكوها إلا إلى الله فقالت: اللَّهمّ إن كان نوه باسمي ظالما فاجعله طعاما للريح. فضرب الدهر ضربة، فغدا يوما على فرس، فهبت الريح، فنزل إلى شجرة، فخدشه منها غصن فدمي فرمي فيه. فمات من ذلك [2] .
__________
[1] «كالرمي» : ساقط من ت.
[2] في الأصل: «قال الناقل: ولا أشك أن هذه الحكاية جرت لعبد الملك بن مروان وإلا فقد ذكر مؤلف الكتاب موت عمر بن أبي ربيعة ها هنا في خلافة الوليد، أو قد يكون في اختلاف الروايات أن عمر مات في زمان عمر بن عبد العزيز، والله أعلم بذلك» .(6/316)
ثم دخلت سنة أربع/ وتسعين
فمن الحوادث فيها غزاة العباس [1] بن الوليد أرض الروم، فقيل: إنه فتح أنطاكية. وغزا عبد العزيز بن الوليد، وغزا الوليد بن هشام فأوغلا، وغزا يزيد بن أبي كبشة أرض سورية.
وفيها: [2] افتتح القاسم بن محمد الثقفي أرض الهند.
وفيها: [3] غزا قتيبة شاش وفرغانة حتى بلغ خجندة، وافتتح قاشان [4] ، وجاءه الجنود الذين وجههم إلى الشاش وقد فتحوها، فانصرف إلى مرو.
وفيها: [5] أخذ عثمان بن حيان أمير المدينة جماعة من الخوارج فقتلهم، وبعث ببعضهم في جوامع إلى الحجاج، ونادى: برئت الذمة ممن آوى عراقيا.
وفيها: [6] استقضى الوليد سليمان بن حبيب
__________
[1] تاريخ الطبري: 6/ 483.
[2] تاريخ الطبري: 6/ 483.
[3] تاريخ الطبري: 6/ 483.
[4] في الأصل: «فاشان» . وفي الطبري «كاشان» . وما أوردناه من ت.
[5] تاريخ الطبري: 6/ 485.
[6] تاريخ الطبري: 6/ 491.(6/317)
وفيها: دامت الزلازل أربعين يوما، وشمل الهدم الأبنية الشاهقة، وتهدمت دور مدينة أنطاكية.
وفي هذه السنة قتل الحجاج سعيد بن جبير [1]
وكان سبب ذلك خروجه عليه مع من خرج مع عبد الرحمن بن الأشعث، وكان الحجاج قد جعل سعيد بن جبير على عطاء الجند حين وجه عبد الرحمن إلى رتبيل لقتاله، فلما خلع عبد الرحمن الحجاج خلعه معه سعيد بن جبير، فلما هزم عبد الرحمن وهرب إلى بلاد رتبيل هرب سعيد إلى أصفهان، فكتب الحجاج إلى واليها: أن خذه وكان الوالي يتحرج، فأرسل إلى سعيد أن أخرج وتنح عنا، فتنحى إلى أذربيجان، ثم خرج إلى مكة فأقام بها. وكان أناس ممن فعل مثله [2] يستخفون فلا يخبرون بأسمائهم.
وكتب الحجاج إلى الوليد: إن أهل الشقاق والنفاق قد لجئوا إلى مكة، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي فيهم. فكتب إلى خالد بن عبد الله القسري، فأخذ عطاء، وسعيد بن جبير، ومجاهدًا، وطلق بن حبيب، وعمرو بن دينار. فأرسل عطاء وعمرو بن/ دينار لأنهما مكيان، وبعث بالآخرين إلى الحجاج، فمات طلق في الطريق، وحبس مجاهد حتى مات الحجاج، وقتل سعيد.
واختلفوا فيمن أقام الحج للناس في هذه السنة، [3] فقال أبو معشر: مسلمة بن عبد الملك. وقال الواقدي: عبد العزيز بن الوليد، وكان العامل على المدينة عثمان بن حيان، وعلى الكوفة زياد بن جرير، وعلى قضائها أبو بكر بن موسى، وعلى البصرة الجراح بن عبد الله وعلى قضائها عبد الرحمن بن أذينة، وعلى خراسان قتيبة، وعلى مصر قرة بن شريك، وكان العراق والمشرق كله إلى الحجاج.
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 487.
[2] في ت: «وكان أناس من حزبه» وفي الطبري 6/ 488: «من ضربه» .
[3] في الأصل: «فيمن حج بالناس في هذه السنة» وما أوردناه من ت والطبري 6/ 491.
وفي مروج الذهب 4/ 499: «حج بالناس مسلمة بْن عبد الملك» .(6/318)
ذكر من توفي فِي هذه السنة من الأكابر
529- سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بْن عائذ بْن عمران بْن مخزوم بن يقظة: [1]
وكل من كان منسوبا إلى عائذ بن عمران فهو عائذي، بالذال المعجمة. ومن نسب إلى عمرو بن مخزوم فهو عائدي بالدال المهملة. وقد يقال عائذي بالذال المعجمة نسبة إلى عائذ الله بن سعيد، منهم حمزة العائذي، وسعيد بن حنظلة العائذي، وابن طلق العائذي. ويقال: عائذي نسبة إلى عائذ قريش، منهم علي بن مسهر القاضي.
وقال أبو عبد الله الصوري: اجتمع في مخزوم عائد وعائذ، وهما أبناء عم. فأما عائذ فهو ابن عمران بن مخزوم، وأما عائد فهو ابن عمرو بن مخزوم، وإذا جاء عمران فولده عائذ بالياء نقطتين من تحتها والذال المعجمة. وإذا جاء عمر، فولده عابد بالباء واحدة، والدال غير معجمة.
ويكنى سعيد أبا عبد الله، ويقال: أبا عبد الملك. ويقال: أبا محمد. وجده حزن، لقي رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ، ولد سعيد لسنتين خلتا من خلافة عمر، وقال: أصلحت بين علي وعثمان، وكان سعيد أفقه أهل الحجاز وأعبرهم للرؤيا.
أخبرنا ابن ناصر، قال: / أخبرنا أبو سعيد محمد بن عبد الملك الأسدي، قال:
أنبأنا أبو الحسين بن رزمة، قال: أخبرنا عمر بن محمد بن سيف، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْد اللَّه اليزيدي، قَالَ: حدثنا أحمد بن زهير، قال: سمعت عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، يقول:
لما مات العبادلة- عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن الزبير- صار الفقه في جميع البلدان إلى الموالي، فكان فقيه أهل مكة
__________
[1] طبقات ابن سعد 2/ 2/ 128، 5/ 88، وطبقات خليفة 244، والتاريخ الكبير 3/ 1698، والمعارف 437، والجرح والتعديل 4/ 262، وحلية الأولياء 2/ 161، ووفيات الأعيان 2/ 375، وتاريخ الإسلام 4/ 4، 118، وسير أعلام النبلاء 4/ 217، وتذكرة الحفاظ 1/ 54.
وقد ورد في الأصل: «سعيد بن المسيب بن حرب» .(6/319)
عطاء ابن أبي رباح، وفقيه أهل اليمن طاووس، وفقيه أهل اليمامة يحيى بن أبي كثير، وفقيه أهل البصرة الحسن، وفقيه [أهل] [1] الشام المكحول، وفقيه أهل خراسان عطاء الخراساني، إلا المدينة فإن الله تعالى خصها بقرشي، فكان فقيه أهل المدينة سعيد بن المسيب غير مدافع.
أخبرنا محمد بن طَاهِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عمر ابن حيوية، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن معروف، قَالَ: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا قدامة بن موسى الجمحي، قال: [2] كان سعيد بن المسيب يفتي وَأَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ أحياء.
قَالَ مُحَمَّد بْن سَعْدٍ: وَأَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هارون، والفضل بن دكين، قالا: أخبرنا مسعر بن كدام، عن سعد بن إبراهيم، عن سعيد بن المسيب، قال: [3] ما بقي أحد أعلم بكل قضاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر وعمر مني.
وقال الزبير بن بكار: [4] حدثني محمد بن الضحاك، عن عثمان الحزامي، عن مالك بن أنس: أن سعيد بن المسيب ولد في زمان عمر بن الخطاب، وكان احتلامه عند مقتل عثمان، وكان يقال لسعيد: رواية عمر بن الخطاب، وكان يتتبع أقضية عمر بن الخطاب يتعلمها، وإن كان عبد الله بن عمر ليرسل إليه يسأله/ عن القضاء من أقضية عمر فيخبره.
قال الزبير: وحدثني أبو مصعب الزهري، قال: حدثني المغيرة بن عبد الله الأخنسي، عن رجل أهل البصرة، قال:
كان الحسن بن أبي الحسن لا يدع شيئا من فعله بقول أحد حتى يقول ان سعيد بن المسيب قد قال خلافه فيأخذ به ويدع قوله.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] الخبر في ابن سعد 5/ 89.
[3] في الأصل: «عن سعيد بن المسيب، قال: قال سعيد» وحذفنا الزيادة.
والخبر في طبقات ابن سعد 5/ 89.
[4] في الأصل: «عن الزبير بن بكار قال» . وما أوردناه من ت.(6/320)
قال: وأخبرنا محمد بن عمر، قال: أخبرنا حارثة بن أبي عمران أنه سمع محمد بن يحيى بن حيان يقول.
كان رأس من بالمدينة في دهره والمقدم عليهم في الفتوى سعيد بن المسيب، ويقال: فقيه الفقهاء.
قال: وأخبرنا محمد بن عمر، قال: أخبرنا ثور بن يزيد، عن مكحول، قال:
سعيد بن المسيب عالم العلماء.
قال: وأخبرنا عبد الله بن جعفر الرقي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْمُلَيْحِ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مهران، قال:
قدمت المدينة فسألت عن أفقه الفقهاء، فدفعت إلى سعيد بن المسيب [1] .
قَالَ: وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي هشام بن سعد، قال: سمعت الزهري يقول: وسأله سائل عن من أخذ سعيد بن المسيب علمه، قال: عن زيد بن ثابت، وجالس سعد بن أبي وقاص، وابن عباس، وابن عمر، ودخل على أزواج رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ عائشة وأم سلمة، وكان قد سمع من عثمان وعلي وصهيب ومحمد بن مسلمة، وجل روايته المسندة عن أبي هريرة، وكان زوج ابنته.
قال: وأخبرني معن بن عيسى، عن مالك، قال: كان عمر بن عبد العزيز يقول:
ما كان في المدينة عالم إلا يأتيني بعلمه وأوتى بما عند سعيد بن المسيب.
أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا عبد المحسن بن محمد، قال: أخبرنا عبد الملك بن عبد الله بن سكين الفقيه، قال: أخبرنا/ أبيض بن محمد بن أبيض، قال، حدثنا عبد الرحمن النسائي، قال: حدثني أبو عبد الله الأسباطي، قال: [2] لما نزل الماء في عين سعيد بن المسيب قيل له: اقدحها، قال: فعلى من أفتحها.
__________
[1] في الأصل: تكرر هنا خبر مكحول: «سعيد بن المسيب عالم العلماء» .
[2] في ت: «قال المصنف» .(6/321)
قال مؤلف الكتاب رحمه الله: وابتلي سعيد بن المسيب بالضرب. وذلك أن عبد الله بن الزبير ولى جابر بن الأسود الزهري المدينة، فدعا الناس إلى بيعة ابن الزبير، فقال سعيد: لا حتى يجتمع الناس، فضربه ستين سوطا، فبلغ ذلك ابن الزبير، فكتب إليه يلومه ويقول: ما لنا ولسعيد، دعه.
وكان عبد الملك قد خطب بنت سعيد لابنه الوليد، فأبى، فاحتال على سعيد حتى ضربه مائة سوط في يوم بارد، وصب عليه جرة ماء وألبسه جبة صوف.
أَخْبَرَنَا إسماعيل بْن أَحْمَد السمرقندي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو بكر مُحَمَّد بْن هبة اللَّه الطبري، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن الحسين بْن الفضل قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر بْن درستويه، [1] قَالَ: حدثنا يعقوب بن سفيان، قال: حدثنا زيد بن بشير الحضرمي، قال:
حدثنا ضمام، [2] عن بعض أهل المدينة، قال:
لما كانت بيعة سليمان بن عبد الملك مع بيعة الوليد كره سعيد بن المسيب أن يبايع بيعتين، فكتب صاحب المدينة إلى عبد الملك بن مروان يخبره أن سعيد بن المسيب كره أن يبايع لهما جميعا، فكتب عبد الملك إلى صاحب المدينة. وما كان حاجتك إلى رفع هذا عن سعيد بن المسيب، ما كنا نخاف منه، فأما إذا ظهر ذلك وانتشر في الناس فادعه إلى ما دخل فيه من دخل في هذه البيعة، فإن أبى فاجلده مائة سوط، واحلق رأسه ولحيته، وألبسه ثيابا من شعر، وقفه على الناس في سوق المسلمين لئلا يجترئ علينا غيره.
فلما علم بعض من حضر من قريش سألوا الوالي أن لا يعجل عليه حتى يخوفه بالقتل فعسى أن يجيب، فأرسلوا مولى له كان في الحرس، قالوا: أذهب فأخفه/ بالقتل، وأخبره أنه مقتول لعل ذلك يخيفه حتى يدخل فيما دخل فيه الناس. فجاءه مولاه وهو يصلي فبكى المولى، فقال له سعيد: ما يبكيك؟ قال: يبكيني ما يراد بك، قد جاء كتاب فيك إن لم تبايع قتلت، فجئت لتطهر وتلبس ثيابا طاهرة، وتفرغ من عهدك، قال:
ويحك قد وجدتني أصلي، فتراني كنت أصلي ولست بطاهر، وثيابي غير طاهرة، وأما ما ذكرت من العهد فإني أضل ممن أرسلك إن كنت بت ليلة ولم أفرغ من عهدي.
__________
[1] في الأصل: «ابن درشنونة» خطأ وما أوردناه من ت وكتب التراجم، وقد تكرر هذا الخطأ أكثر من مرة.
[2] في الأصل: «صمصام» . وما أوردناه من ت، وهو الصحيح.(6/322)
فانطلق، فلما أتى الوالي دعوه فأبى أن يجيب، فأمره بالتجريد ولبس ثيابا من شعر، ثم جلده مائة سوط، وحلق رأسه ولحيته، ووقف فقال: لو كنت أعلم أنه ليس شيء إلا هذا ما نزعت ثيابي طائعا، ولا أجبت إلى ذلك.
قال ضمام: فبلغني أن هشام بن إسماعيل كان إذا خطب الناس يوم الجمعة تحول إليه سعيد بن المسيب بوجهه ما دام يذكر الله عز وجل حتى إذا رفع يذكر عبد الملك ويمدحه ويقول فيه ما يقول أعرض عنه سعيد بوجهه، فلما فطن له هشام أمر حرسيا أن يخصب وجهه إذا تحول عنه، ففعل ذلك به، فقال سعيد لهشام وأشار بيده إليه: هي ثلاث نحل. فما مر به إلا ثلاثة أشهر حتى عزل هشام.
ومعنى نحل: حسب.
[أنبأنا الحسين بن عبد الوهاب، قَالَ: أخبرنا ابن المسلمة، قَالَ:] [1] أخبرنا المخلص، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الزبير بْن بكار، قَالَ: حدثني عمي مصعب بن عبد الله، قال:
كان سعيد بن المسيب لا يقبل بوجهه على هشام بن إسماعيل إذا خطب يوم الجمعة، فأمر به هشام بعض أعوانه يعطفه عليه إذا خطب فأهوى العون يعطفه فأبى عليه فأخذه حتى عطفه، فصاح سعيد، يا هشام إنما [هي] [2] أربع بعد أربع. فلما انصرف هشام قال: ويحكم جن سعيد، فسئل سعيد: أي شيء أربع بعد أربع، سمعت في ذلك شيئا؟ قال: لا، / فقيل: ما أردت بقولك؟ قال: إن جاريتي لما أردت المسجد، قالت لي: إني رأيت هذه الليلة رؤيا فلا تخرج حتى أقصها عليك وتعبرها لي، رأيت كأن موسى غطس عبد الملك في البحر ثلاث غطسات، فمات في الثالثة، فأولت أن عبد الملك مات، وذلك أن موسى بعث على الجبارين بقتلهم، وعبد الملك جبار هذه الأمة. قال: فلم قلت أربع بعد أربع؟ قال: مسافة مسير الرسول من دمشق إلى المدينة بالخبر. فمكثوا ثماني ليال ثم جاء رسول بموت عبد الملك.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(6/323)
تزويج بنت سعيد
أخبرنا المحمدان ابن ناصر، وابن عبد الباقي، قالا: أخبرنا حمد بْنُ أحمد الحداد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم أحمد بن عبد الحافظ قال: أخبرنا عمر بن أحمد بن عثمان، قال: أخبرنا عبد الله بن سليمان بن الأشعث، قال: حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: حدثني عمي عبد الله بن وهب، عن عطاء وابن خالد، عن ابن حرملة [1] ، عن ابن أبي وداعة، قال:
كنت أجالس سعيد بن المسيب ففقدني أياما، فلما جئته، قال: أين كنت؟ قلت:
توفيت أهلي فاشتغلت بها، قال: ألا أخبرتنا فشهدناها. قال: ثم أردت أن أقوم فقال:
هل استحدثت امرأة؟ فقلت: يرحمك الله، ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة، فقال: أنا، فقلت: أو تفعل؟ نعم، ثم حمد الله وصلى على النبي صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ وزوجني على درهمين أو ثلاثة. قال: فقمت وما أدري [ما أصنع] [2] من الفرح، فصرت إلى منزلي وجعلت أتفكر ممن آخذ؟ وممن أستدين؟ فصليت المغرب، وكنت وحدي، وقدمت عشائي أفطر خبزا وزيتا، فإذا الباب يقرع، فقلت: من هذا؟ قال: سعيد، قال: فأفكرت في كل إنسان اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب، فإنه لم ير أربعين سنة إلا بين بيته والمسجد، فقمت فخرجت، فإذا سعيد بن المسيب، فإنه قد بدا له، فقلت: يا أبا محمد ألا أرسلت/ إلي فآتيك، قال: لا، أنت أحق أن تؤتى، قلت: فما تأمر؟ قال:
إنك كنت رجلا عزبا تزوجت فكرهت أن أبيتك الليلة وحدك، وهذه امرأتك [قال:] [3] فإذا هي قائمة من خلفه في طوله، ثمّ أخذ بيدها فدفعها في الباب ورد الباب، فسقطت المرأة من الحياء، فاستوثقت من الباب ثمّ تقدمتها إلى القصعة التي فيها الزيت والخبز، فوضعتها [4] في ظل السراج لكيلا تراه، ثم صعدت إلى السطح فرميت الجيران
__________
[1] في الأصل: «عن عطاف بن خالد، عن ابن حرملة، عن أبي وداعة» خطأ، وما أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: من هامش الأصل وت.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] في الأصل: «فوضعت» . وما أوردناه من ت.(6/324)
فجاءوني، فقالوا: ما شأنك؟ قلت: ويحكم، زوجني سعيد بن المسيب بنته اليوم وقد جاء بها على غفلة، فقالوا: سعيد بن المسيب زوجك؟ قلت: نعم. وهو ذا هي في الدار. قال: ونزلوا هم إليها، وبلغ أمي فجاءت وقالت: وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أصلحها إلى ثلاثة أيام.
قال: فأقمت ثلاثا ثم دخلت بها، فإذا هي من أجمل الناس، وإذا هي أحفظ الناس لكتاب اللَّه عز وجل، وأعلمهم بسنة رسوله، وأعرفهم بحق زوج. قال: فمكثت شهرا لا يأتيني سعيد ولا آتيه، فلما كان قرب الشهر أتيت سعيدا وهو في حلقته، فسلمت عليه، فرد علي السلام ولم يكلمني حتى تفرق [1] أهل المجلس، فلم يبق غيري، قال: ما حال ذلك الإنسان؟ قلت: خيرا يا أبا محمد على ما يحب الصديق ويكره العدو، فقال: إن رابك شيء فالعصا. فانصرفت إلى منزلي، فوجه إلي بعشرين ألف درهم. [1] قال عبد الله بن سليمان: وكانت بنت سعيد بن المسيب خطبها عبد الملك بن مروان لابنه الوليد حين ولاه العهد، فأبى سعيد أن يزوجه، فلم يزل عبد الملك يحتال على سعيد حتى ضربه مائة سوط في يوم بارد، وصب عليه جرة ماء وألبسه جبة صوف.
قال عبد الله: وابن أبي وداعة هو كثير بن المطلب بن أبي وداعة.
قال مؤلف الكتاب: [2] وكان لكثير هذا ولد يقال له كثير أيضا. روى الحديث، وكان شاعرا ولم يكن له عقب. فأما أبو/ وداعة فاسمه الحارث بن صبيرة بن سعيد ابن سعد بن سهم. كان قد شهد بدرا مع المشركين فأسر، فَقَالَ رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ: «تمسكوا به فإن له ابنا كيسا بمكة. فخرج المطلب ففداه بأربعة آلاف درهم. وهو أول أسير فدي، فشخص الناس بعده ففدوا أسراهم، وكان أبوه صبيرة قد جاز الأربعين سنة بقليل ثم مات.
أنبأنا الحسين بن عبد الوهاب، قال: أخبرنا ابن المسلمة، قال: أخبرنا
__________
[1] في الأصل: «حتى تفوض» وما أوردناه من ت.
[2] في ت: «قال المصنف» .(6/325)
المخلص، قال: حدثنا سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ بكار، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِي بْن صَالِح، عَن عامر بن صالح بن عبد الله بن عروة بن الزبير:
أن الناس مكثوا زمانا ومن جاز من قريش في السن أربعين سنة عمر، فجازها صبيرة بن سعيد بيسير، ثم مات فجأة، ففزع لذلك الناس، فناحت عليه الجن، فقالت:
من يأمن الحدثان بعد ... صبيرة القرشي ماتا
عجلت منيته المشيب ... فكان منيته افتلاتا
وفي رواية أن شاعرا قال:
حجاج بيت الله إن ... صبيرة القرشي ماتا
سبقت منيته المشيب ... كأن ميتته افتلاتا
فتزودوا لا تهلكوا من ... دون أهلكم خفاتا
قال مؤلف الكتاب رحمه الله: [1] ثم إن أبا وداعة أسلم يوم الفتح وبقي إلى خلافة عمر، وأسلم ابنه المطلب يوم الفتح أيضا.
توفي سعيد بالمدينة في هذه السنة وهو ابن أربع وثمانين سنة.
530- علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، أبو الحسن: [2]
أمه أم ولد اسمها غزالة. روى عن أبيه، وابن عباس، وجابر بن عبد الله، وصفية، وأم سلمة، وشهد مع أبيه كربلاء وهو ابن ثلاث وعشرين سنة، وكان مريضا/ حينئذ ملقى على الفراش، فلما قتل الحسين قال شمر: [3] اقتلوا هذا، فقال رجل من أصحابه: سبحان الله، أتقتلون غلاما حدثا مريضا لم يقاتل، وجاء عمر بن سعد بن أبي وقاص، فقال: لا تعرضوا للنسوة ولا لهذا المريض، ثم أدخل على ابن زياد، فهم
__________
[1] في ت: «قال المصنف» .
[2] طبقات ابن سعد 5/ 156، ووفيات الأعيان 1/ 320، واليعقوبي 3/ 45، وصفة الصفوة 2/ 52، وذيل المذيل 88، وحلية الأولياء 3/ 133، وابن الوردي 1/ 180، ونزهة الجليس 2/ 15.
[3] الخبر في طبقات ابن سعد 5/ 157.(6/326)
بقتله ثم تركه وبعثه إلى يزيد، فرده إلى المدينة، فالعقب من ولد الحسين لعلي من هذا، وأما الأكبر المقتول فلا عقب له.
أخبرنا المبارك بن علي الصيرفي، عن عبد الغفار بن القاسم، قال: كان علي بن الحسين خارجا من المسجد، فلقيه رجل فسبه، فثارت إليه العبيد والموالي، فقال علي بن الحسين: مهلا عن الرجل، ثم أقبل عليه، فقال: ما ستر الله عليك من أمرنا أكثر، ألك حاجة نعينك عليها؟ فاستحيا الرجل، فألقى إليه خميصة كانت عليه، وأمر له بألف درهم، فكان الرجل بعد ذلك يقول: أشهد أنك من أولاد الرسل. أنبأنا البارع بإسناد له عن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه، قال: قدم المدينة قوم من أهل العراق فجلسوا إلي ثم ذكروا أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فنسبوهما، ثم ابتركوا في عثمان ابتراكا [1] ، فقلت لهم: أخبروني، أنتم من المهاجرين الأولين الذين قال الله فيهم: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً [2] وَيَنْصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ 59: 8 [3] قالوا:
لسنا منهم قال: فأنتم من الذين قال الله عز وجل فيهم: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 59: 9 [4] قالوا: لسنا منهم. قال لهم: أما أنتم فقد تبرأتم من الفريقين أن تكونوا منهم، وأنا أشهد أنكم لستم من الفرقة الثالثة الذين قال الله عز وجل فيهم: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ 59: 10 [5] قوموا عني، لا قرب الله قربكم فأنتم تستترون بالإسلام، ولستم من أهله. [6]
__________
[1] أي: شتموه وتنقصوه.
[2] «قال الله فيهم: للفقراء» : ساقط من ت.
[3] سورة الحشر، الآية: 8.
[4] سورة الحشر، الآية: 9.
[5] سورة الحشر، الآية: 10.
[6] في الأصل: «مستترون» . وما أوردناه من ت.(6/327)
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، قال: أخبرنا علي بن محمد الأنباري، قال:
أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن صفوان، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر القرشي، قال: حدّثني محمد بن أبي معشر، قال: حدثني ابن أبي نوح الأنصاري، قال: وقع حريق في بيت فيه علي بن الحسين رضي الله عنهما وهو ساجد، فجعلوا يقولون له: يا ابن رسول الله النار، يا ابن رسول الله النار، فما رفع رأسه حتى أطفئت، فقيل له: ما الذي ألهاك عنها؟ قال: ألهتني النار الأخرى. أَخْبَرَنَا [1] مُحَمَّد بْن عَبْد الباقي بإسناد لَهُ عن عبد الله بن أبي سليمان، قال: كان علي بن الحسين رضي الله عنهما لا تجاوز يده فخذه، ولا يخطر بيده، وكان إذا قام إلى الصلاة أخذته رعدة، فقيل له: مالك؟ فقال: تدرون بين يدي من أقوم ومن أناجي. أخبرنا محمد بن أبي القاسم بإسناد له عن أبي حمزة الثمالي، قال: كان علي بن الحسين رضي الله عنهما يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدق به ويقول: إن صدقة السر تطفئ غضب الرب عز وجل. أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز [بإسناده] [2] عن جعفر بن محمد، قال: كان علي بن الحسين رضي الله عنهما لا يحب أن يعينه على طهوره أحد، كان يستقي الماء لطهوره ويخمره قبل أن ينام، فإذا قام من الليل بدأ بالسواك ثم يتوضأ ثم يأخذ في صلاته، وكان لا يدع صلاة الليل في السفر والحضر، وربما صلاها على بعيره، وكان يقول: عجبت للمتكبر الفخور الذي كان بالأمس نطفة ثم هو غدا جيفة، وعجبت كل العجب لمن شك في الله وهو يرى خلقه، وعجبت كل العجب لمن ينكر النشأة الأخرى وهو يرى الأولى، ولمن عمل لدار الفناء وترك دار البقاء.
وكان إذا أتاه سائل رحب به وقال: مرحبا بمن يحمل زادي إلى الآخرة.
__________
[1] هذا الخبر ساقط من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(6/328)
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر بإسناد لَهُ عَنْ [1] طاووس، قال: / رأيت علي بن الحسين رضي الله عنهما ساجدا، فقلت: رجل صالح من أهل بيت طيب، لأسمعن ما يقول:
فأصغيت إليه فسمعته يقول: عبيدك بفنائك، مسكينك بفنائك، سائلك بفنائك، فقيرك بفنائك. فو الله ما دعوت بها في كرب إلا كشف عني. أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، قال: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار، قال:
أخبرنا ابن عليّ الطناجيري، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَفْصِ بْنِ شَاهِينَ، قَالَ: حدثنا محمد بن الحَسَن، [2] قَالَ: حدثنا أحمد بن الحارث، قال: حدثنا جدي قال: حدثنا الهيثم بن عدي، قال: حدثنا جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ علي بن الحسين رضي الله عنهما: سألت الله عز وجل في دبر كل صلاة [سنة] [3] أن يعلمني اسمه الأعظم. قال:
فو الله إني لجالس قد صليت ركعتي الفجر إذ ملكتني عيناي، فإذا رجل جالس بين يدي قال: قد استجيب لك، فقل: اللَّهمّ إني أسألك باسمك الله الله الله الله الله الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم. ثم قال لي: أفهمت أم أعيد عليك، قلت: أعد علي، ففعل قال علي: فما دعوت بها في شيء قط إلا رأيته، وإني لأرجو أن يدخر الله لي عنده خيرا. أخبرنا عبد الوهاب، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال: حدثنا أبو محمد الجوهري، قال: حدثنا ابن حيوية، قَالَ: أَخْبَرَنَا [أَبُو بكر] [4] بْن الأنباري، قَالَ: حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، قال: حدثنا علي بن عبد الله، قال: حدثنا عبد الله بن هارون بن أبي عيسى، عن أبيه، عن حاتم بن أبي صفيرة [5] ، عن عمرو بن دينار، قال: دخل علي بن الحسين رضي الله عنهما على أسامة بن زيد في مرضه الّذي مات
__________
[1] «أخبرنا محمد بن ناصر بإسناد له» : ساقط من ت، ومكانه: «وقال طاووس» .
[2] في الأصل: «محمد بن الحسين» وما أوردناه من ت.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[5] في الأصل: «حاتم بن أبي سفرة» .(6/329)
فيه وهو يبكي، فقال له: ما يبكيك؟ قال: دين علي، قال: كم مبلغه؟ قال: خمسة عشر ألف دينار- أو بضعة عشر ألف دينار [1]- قال: فهو علي. وقال شيبة بن نعامة الضبي: كان علي بن الحسين رضي الله عنهما يبخل، فلما مات وجدوه يقوت مائة أهل بيت. وفي رواية: أنه كان إذا أقرض قرضا لم يستعده، وإذا عار ثوبا لم يرتجعه [2] ، وإذا وعد شيئا لم يأكل ولم يشرب حتى يفي بوعده، وإذا مشى في حاجة فوقفت قضاها من ماله. وكان يحج ويغزو ولا يضرب راحلته. وكان يصلي كل يوم وليلة ألف ركعة. وقال الزهري: لم أر هاشميا أفضل منه ولا أفقه منه.
أنبأنا [3] محمد بن أبي منصور الحافظ، قال: أخبرنا أبو الفضل جعفر بن يحيى بن إبراهيم المكي، قال: أخبرنا القاضي أبو الحسن محمد بن علي بن صخر، قال: أخبرني علي بن أحمد بن عبد الرحمن الأصبهاني، قال: حدثنا أحمد بن عبد الجبار، قال: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، قال: سمعت الزهري يقول:
وجه عبد الملك بن مروان رسلا في حمل علي بن الحسين فوجدوه بمكة، فحملوه مكبلا بالحديد ومنع الناس أن يدخلوا عليه.
قال ابن شهاب: فأذنت عليه، فصرفني البوابون من عند عبد الملك فأذنوا لي، فدخلت عليه الحبس وجعلت أتوجع له وأقول له: يعز عليّ يا ابن رسول الله أن أراك على مثل هذه الحالة، فلما رأى شدة حزني وبكائي، قال: يا زهري، لا تجزع إن هذا الحديد لا يؤذيني، ثم نزعه من رجله ووضعه بين يدي، وقال: لست أجوز معهم ذات عرق.
قال: ثم مضوا به محمولا، فما لبثنا بعد ذلك إلا أربعة أيام حتى [أتت] [4] رسل عبد الملك يسألون عن علي بن الحسين وقد فقدوه، فقلت كيف كان أمره؟ قالوا: لما
__________
[1] «أو بضعة عشر ألف دينار» : سقط من ت.
[2] في الأصل: «يرجعه» وما أوردناه من ت.
[3] من هنا ساقط من ت الرواية كلها.
[4] ما بين المعقوفتين: أضفناها لاستقامة المعنى.(6/330)
نزلنا ذات عرق فبتنا بها ليلتنا تلك فلما أصبحنا وجدنا حديده وفقدناه.
قال ابن شهاب: فقدمت بعد ذلك بأسبوع على عبد الملك وهو بالشام فسألني عن علي بن الحسين، فقلت: أنت أعلم به مني، فقال: إنه قدم علي في اليوم الذي فقده فيه أصحابي بذات عرق فدخل علي من هذا الباب فقال: ما أنا وأنت، فقلت:
أريد أن تقيم عندي [1] ... قال علماء السير: حج هشام بن عبد الملك ولم يل الخلافة بعد، فطاف بالبيت فجهد أن يصل إلى الحجر فيستلمه، فلم يقدر عليه، فنصب له منبر وجلس عليه ينظر إلى الناس، فأقبل علي بن الحسين فطاف بالبيت، فلما بلغ إلى الحجر تنحى له الناس حتى استلمه، / فقال رجل من أهل الشام: من هذا الذي قد هابه الناس هذه الهيبة؟
فقال هشام: لا أعرفه، مخافة أن يرغب فيه أهل الشام، وكان الفرزدق حاضرا، فقال الفرزدق: ولكني أعرفه، فقال الشامي: من هذا يا أبا فراس؟، فقال:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا التقي النقي الطاهر العلم
إذا رأته قريش قال قائلها ... إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
ينمى إلى ذروة العز [2] التي قصرت ... عن نيلها عرب الإسلام والعجم [3]
يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
لو يعلم الركن من قد جاء يلثمه ... لخر يلثم منه الكف والقدم [4]
يغضي حياء ويغضى من مهابته ... فما يكلم إلا حين يبتسم
من جده دان فضل الأنبياء له. ... وفضل أمته دانت له الأمم
__________
[1] إلى هنا انتهى السقط الّذي بدأ من أول الرواية: «أنبأنا محمد بن أبي منصور الحافظ، قال: أخبرنا أبو الفضل ... » . وهنا جاء في الأصل بعدها: «قال الناقل: وجدت هذه الحكاية في الأصل: إلى هاهنا لا غير، ووجدت مكتوبا في الأصل هذا: ولم أجد في الأصل تمامها» .
[2] في الأغاني: «ذروة الدين» .
[3] الشطر الثاني من البيت في الأغاني: «عنها الأكف وعن إدراكها القدم» .
[4] هذا البيت غير موجود في الأغاني، والبداية، وت.(6/331)
ينشق نور الهدى عن نور غرته ... كالشمس ينجاب عن إشراقها القتم [1]
مشتقة من رسول الله نبعته ... طابت عناصره [2] والخيم والشيم
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله ... بجده أنبياء الله قد ختموا
الله شرفه قدما وفضله [3] ... جرى بذاك له في لوحه القلم
وليس قولك: من هذا؟ بضائره ... العرب تعرف من أنكرت والعجم
كلتا يديه غياث عم نفعهما ... يستوكفان ولا يعروهما العدم
سهل الخليقة لا تخشى بوادره ... يزينه اثنان حسن الخلق والشيم
حمال أثقال أقوام إذا فدحوا ... رحب الفناء أريب حين يعتزم
عم البرية بالإحسان فانقشعت ... عنه الغيابة والإملاق والعدم
من معشر حبهم دين وبغضهم ... كفر وقربهم منجى ومعتصم
إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم ... أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم
لا يستطيع جواد بعد غايتهم ... ولا يدانيهم قوم وإن كرموا
هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت ... والأسد أسد الشرى والبأس محتدم
لا ينقص العسر بسطا من أكفهم ... سيان ذلك إن أثروا وإن عدموا
يستدفع السوء والبلوى بحبهم ... ويسترب به الإحسان والنعم
مقدم بعد ذكر الله ذكرهم ... في كل بدء ومختوم به الكلم
يأبى لهم أن يحل الذم ساحتهم ... خيم كريم وأيد بالندى هضم
أي الخلائق ليست في رقابهم ... لأوّليّة هذا أو له نعم
ما قال لا قط إلا في تشهده ... لولا التشهد كانت لاءه نعم
من يعرف الله يعرف أولية ذا ... الدين من بيت هذا ناله الأمم
قال: فغضب هشام وأمر بحبس الفرزدق بعسفان- بين مكة والمدينة. وبلغ ذلك علي بن الحسين، فبعث إلى الفرزدق باثني عشر ألف درهم، وقال: أعذر أبا فراس، فلو كان عندنا أكثر من هذا لوصلناك به، فردها الفرزدق وقال: يا ابن رسول الله ما قلت
__________
[1] في البداية: «الغيم» وفي الأغاني: «الظلم» .
[2] في الأغاني 21/ 379: «طابت مغارسه» .
[3] في الأغاني: «وعظمه» .(6/332)
الذي قلت إلا غضبا للَّه عز وجل ولرسوله، وما كنت لأزرأ عليه شيئا، فقال: شكر الله لك، إلا أنا أهل البيت إذا أنفذنا أمرا لم نعد فيه، فقبلها، وجعل يهجو هشاما وهو في الحبس، فكان مما هجاه به قوله:
أتحبسني بين المدينة والتي ... إليها قلوب الناس يهوى منيبها
يقلب رأسا لم يكن رأس سيد ... وعين له حولاء باد عيوبها
توفي علي بن الحسين بالمدينة في هذه السنة، ودفن بالبقيع، وهو ابن ثمان وخمسين سنة.
ومن العجائب: ثلاثة كانوا في زمان واحد، وهم بنو/ أعمام، كل واحد منهم اسمه عليّ، ولهم ثلاثة أولاد كل واحد اسمه محمد، والآباء والأبناء علماء أشراف:
علي بن الحسين بن علي، وعليّ بن عبد الله بن عباس، وعلي بن عبد الله بن جعفر.
531- عروة بن الزبير بن العوام، أبو عَبْد اللَّهِ: [1]
أمه أسماء بنت أبي بكر. روى عن أبيه، وعن زيد بن ثابت، وأسامة، وأبي أيوب، والنعمان بن بشير، وأبي هريرة، ومعاوية، وابن عمر، وابن عمرو، وابن عباس في آخرين، وكان فقيها فاضلا يسرد الصوم، مات صائما.
أَخْبَرَنَا إسماعيل بْن أَحْمَد السمرقندي، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن هبة اللَّه الطبري، قَالَ: أَخْبَرَنَا محمد بن الحسين بْن الفضل، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر بْن درستويه [2] ، قَالَ: حَدَّثَنَا يعقوب بْن سفيان، قال: حدثني سعيد بن أسد، قال: حدثنا ضمرة، عن ابن شوذب، قال:
كان عروة بن الزبير إذا كان أيام الرطب ثلم حائطه، فيدخل الناس فيأكلون ويحملون، وكان إذا دخله ردد هذه الآية فيه حتى يخرج منه: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ 18: 39 [3] .
__________
[1] طبقات ابن سعد 5/ 132، وصفة الصفوة 2/ 47، وحلية الأولياء 2/ 176، والتاريخ الكبير 4/ 1/ 33، والجرح والتعديل 6/ 395.
[2] في الأصل: «درشنونة» خطأ، وما أوردناه من ت.
[3] سورة: الكهف، الآية: 39.(6/333)
وكان عروة يقرأ ربع القرآن كل يوم نظرا في المصحف، ويقوم به الليل فما تركه إلا ليلة قطعت رجله، ثم عاود من الليلة المقبلة.
قال يعقوب: وحدثني العباس بن مزيد، قال: أخبرني أبي قال: قال أبو عمرو يعني الأوزاعي:
خرجت في بطن قدمه بثرة- يعني عروة- فترامى به ذلك إلى أن نشرت ساقه، فقال لما نشرت: اللَّهمّ إنك تعلم أني لم أمش بها إلى سوء قط.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الباقي بإسناده عَنْ هشام بن عروه، قال: خرج أبي إلى الوليد بن عبد الملك، فوقعت في رجله الأكلة، فقال له الوليد، يا أبا عبد الله، أرى لك قطعها. قال: فقطعت وإنه لصائم، فما تضور وجهه. قال: ودخل ابن له- أكبر ولده- اصطبله، فرفسته دابة فقتلته، فما سمع من أبي في ذلك شيء حتى قدم المدينة، فقال:
اللَّهمّ إنه كان لي أطراف أربعة فأخذت واحدا وأبقيت لي ثلاثة، فلك الحمد. وكان لي بنون أربعة/ فأخذت واحدا وبقيت لي ثلاثة فلك الحمد، وأيم الله لئن أخذت لقد أبقيت ولئن ابتليت لطالما عافيت.
توفي عروة بناحية الفرع في هذه السنة، ودفن هناك. وقيل: توفي في السنة التي قبلها.
532-[أبو بكر] [1] بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة: [2]
ولد في خلافة عمر، وليس له اسم. وروى عن أبي مسعود الأنصاري، وأبي هريرة، وعائشة، وأم سلمة، وكان يقال له: راهب قريش لكثرة صلاته، وكان فقيها جوادا، أودع مالا، فذهب فغرمه حفظا لعرضه، وذهب بصره، فذهب يوما إلى مغتسله فمات فجأه في هذه السنة.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] طبقات ابن سعد 5/ 153.(6/334)
ثم دخلت سنة خمس وتسعين
فمن الحوادث فيها غزوة العباس بن الوليد بن عبد الملك أرض الروم، ففتح الله على يديه ثلاثة حصون، وفتح قنسرين.
وفيها: قتل الوضاحي بأرض الروم وقتل معه نحو من ألفي رجل.
وفيها: انصرف موسى بن نصير إلى إفريقية من الأندلس.
وفيها: غزا قتيبة الشاش، فلما وصل إليها جاءه موت الحجاج، فقفل راجعا إلى مرو، فجاءه كتاب من الوليد يقول فيه: عرف أمير المؤمنين بلاءك وجهادك وجدك في جهاد أعداء المسلمين، وأمير المؤمنين رافعك وصانع بك ما تحب، فلا تغيب عن أمير المؤمنين كتبك حتّى كأني أنظر إلى بلادك، والثغر الذي أنت به.
- وفي هذه السنة مات الحجاج، فاستخلف على الصلاة ابنه عبد الرحمن وقيل: بل استخلف [يزيد بن أبي كبشة على الصلاة، و] [1] على الخراج يزيد بن أبي مسلم، وأقرهما الوليد، وأقر عمال الحجاج كلهم.
وفي هذه السنة ولد المنصور بن عبد الله بن مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس رضي الله عنه.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من ت، وفي الأصل: «بن أبي مسلم» .(6/335)
وفي هذه السنة حج بالناس بشر بن الوليد بن عبد الملك، وكان العمال فيها العمال/ في السنة التي قبلها إلا ما كان من الكوفة والبصرة، فإنها ضمت إلى من ذكرنا بعد موت الحجاج.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
533- الحجاج بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل، وهو عتبة بن مسعود بن عامر بن معتب بن مالك بن كعب بن عوف بن سعد بن عوف بن ثقيف، من الأحلاف: [1]
وأمه الفارعة بنت همام، وكانت عند المغيرة بن شعبة، فولدت له بنتا. وكان الحجاج أخفش، دقيق الصوت فصيحا حسن الحفظ للقرآن [2] ، إلا أنه قد أخذ عليه فيه لحن.
قال ليحيى بن يعمر: أتجدني ألحن، قال: الأمير أفصح من ذلك، قال: عزمت عليك لتخبرني، قال: نعم: وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ 9: 24 [3] بالرفع وأحب منصوب، قال: لا تسمعني ألحن بعدها فنفاه إلى خراسان.
وكان الحجاج أول أيامه معلما، وكان يقرأ في كل ليلة ربع القرآن. وسمع الحديث وأسنده، وليس بأهل أن يروى عنه.
وكان الحجاج قد أذل أصحاب رسول الله صلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأهل المدينة خاصة، واحتج بأنهم لم ينصروا عثمان، وقتل الخلق الكثير يحتج عليهم بأنهم خرجوا على عبد الملك.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَتْحِ الْكَرُوخِيُّ، [قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عامر الأزدي، وأبو بكر الكروخي،
__________
[1] مروج الذهب 3/ 132 وما بعدها، ووفيات الأعيان 1/ 123، وتهذيب التهذيب 2/ 210، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 4/ 48، والبدء والتاريخ 6/ 28، وتقريب التهذيب 1/ 154، والبداية والنهاية 5/ 131، والجرح والتعديل 3/ 168، والتاريخ الكبير 1/ 2/ 373، وتاريخ الطبري 6/ 493، وراجع الفهرس.
[2] في الأصل: حسن اللفظ» وما أوردناه من ت.
[3] سورة: التوبة، الآية: 24.(6/336)
قالا: أخبرنا عبد الجبار بن محمد بن الجراح، عن أبي العباس بن محبوب] [1] ، عن الترمذي، عن هشام بن حسان، قال:
أحصينا ما قتل الحجاج صبرا فبلغ مائة ألف وعشرين ألف رجل.
وأخبرنا عبد الوهاب بإسناد له عن الأصمعي، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عباد بن كثير، عن قحذم، قال:
وجد في سجن الحجاج ثلاثة وثلاثين ألفا ما يجب على أحد منهم قطع ولا قتل ولا صلب، ووجد [2] فيهم أعرابي رئي جالسا يبول عند ربض المدينة- يعني واسط- فخلى عنه، فانصرف وهو يقول:
/ إذا نحن جاوزنا مدينة واسط ... خرينا وصلينا بغير حساب
أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْبُسْرِيُّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الأَنْبَارِيِّ، قَالَ: حَدَّثَني أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْن مُحَمَّد الْكَلْبِيُّ، عَنْ عَوَانَةَ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ: [3] دَخَلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ، فَلَمَّا وَقَفَ سَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ له الحجاج: إيه إِيهِ يَا أَنَسُ، يَوْمٌ لَكَ مَعَ عَلِيٍّ، وَيَوْمٌ لَكَ مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَيَوْمٌ لَكَ مَعَ ابْنِ الأَشْعَثِ، وَاللَّهِ لأَسْتَأْصِلَنَّكَ كَمَا تُسْتَأْصَلُ الشَّأْفَةُ [4] ، وَلأدَمْغَنَّكَ كَمَا تُدْمَغُ الصَّمْغَةُ، فَقَالَ أَنَسٌ: إِيَّايَ- يَعْنِي الأَمِيرَ- أَصْلَحَهُ اللَّهُ؟ قَالَ: إِيَّاكَ صَكَّ [5] اللَّهُ سَمْعَكَ، قَالَ أَنَسٌ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، 2: 156 وَاللَّهِ لَوْلا الصِّبْيَةُ الصِّغَارُ مَا بَالَيْتُ أَيَّ قَتْلَةٍ قُتِلْتُ، وَلا أَيَّ مِيتَةٍ مِتُّ.
ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدَهُ، فَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ، فلما قرأ كتابه
__________
[1] ما بين المعقوفتين: في الأصل «أخبرنا أبو الفتح الكروخي بإسناده إلى الترمذي» وأوردناه من ت.
[2] في ت: «وأحد فيهم» .
[3] الخبر في البداية والنهاية 9/ 149.
[4] في ت «الناقة» وفي البداية: «الشاة» .
[5] في الأصل: «سد» ، وما أوردناه من ت والبداية والنهاية، وفي التهذيب «أصم الله سمعك» .(6/337)
اسْتَشَاطَ غَضَبًا وَصَفَّقَ عَجَبًا وَتَعَاظَمَ ذَلِكَ مِنَ الْحَجَّاجِ. وَكَانَ كِتَابُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْحَجَّاجَ قَالَ لِي هُجْرًا، وَأَسْمَعَنِي نُكْرًا، وَلَمْ أَكُنْ لَهُ مِنْكَ وَمِنْهُ أَهْلا، فَخَذِّلْنِي عَلَى يَدَيْهِ وَأَعِنِّي عَلَيْهِ فَإِنِّي أَمُتُّ إِلَيْكَ بِخِدْمَتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصُحْبَتِي إِيَّاهُ، وَالسَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ.
فَبَعَثَ إِلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْمُهَاجِرِ، وَكَانَ مُصَافِيًا لِلْحَجَّاجِ، فَقَالَ:
دُونَكَ كِتَابَيَّ هَذَيْنِ فَخُذْهُمَا وَارْكَبِ الْبَرِيدَ إِلَى الْعِرَاقِ، فَابْدَأْ بِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَادْفَعْ إِلَيْهِ كِتَابَهُ وَأَبْلِغْهُ مِنِّيَ السَّلامَ، وَقُلْ لَهُ: يَا أَبَا حَمْزَةَ، قَدْ كَتَبْتُ إِلَى الْمَلْعُونِ الْحَجَّاجِ كِتَابًا إِذَا قَرَأَهُ كَانَ أَطْوَعَ لَكَ مِنْ أَمَتِكَ.
وَكَانَ كِتَابُ عَبْدِ الْمَلِكِ إِلَى أَنَسٍ: بِسْمِ الله الرحمن الرحيم، من عبد الملك بن مَرْوَانَ، أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ قَرَأْتُ كِتَابَكَ وَفَهِمْتُ مَا ذَكَرْتَ مِنْ شِكَايَتِكَ/ الْحَجَّاجَ، وَمَا سَلَّطْتُهُ عَلَيْكَ، وَلا أَمَرْتُهُ بِالإِسَاءَةِ إِلَيْكَ، فَإِنْ عَادَ لِمِثْلِهَا فَاكْتُبْ إِلَيَّ بِذَلِكَ أُنْزِلْ بِهِ عُقُوبَتِي، وَتَحْسُنْ لَكَ مَعُونَتِي، وَالسَّلامُ.
فَلَمَّا قَرَأَ أَنَسٌ كِتَابَهُ قَالَ: جَزَى اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِّي خَيْرًا، وَعَافَاهُ، فَهَذَا كَانَ ظَنِّي بِه وَالرَّجَاءَ مِنْهَ. فَقَالَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ: يَا أَبَا حَمْزَةَ، الْحَجَّاجُ عَامِلُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَيْسَ بِكَ عَنْهُ غِنًى، وَلا بِأَهْلِ بَيْتِكَ، وَلَوْ جَعَلَ لَكَ فِي جَامِعَةٍ ثُمَّ دَفَعَ إِلَيْكَ قَدْرَ أَنْ يَضُرَّ وَيَنْفَعَ، فَقَارِبْهُ وَدَارَهُ، قَالَ: أَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ خَرَجَ إِسْمَاعِيلُ مِنْ عِنْدِهِ فَدَخَلَ عَلَى الْحَجَّاجِ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: مَرْحَبًا بِرَجُلٍ أُحِبُّهُ، وَقَدْ كُنْتُ أُحِبُّ لِقَاءَهُ، قَالَ: فَأَنَا وَاللَّهِ قَدْ كُنْتُ أُحِبُّ لِقَاءَكَ فِي غَيْرِ مَا أَتَيْتُكَ بِهِ، قَالَ: وَمَا أَتَيْتَنِي بِهِ؟ قَالَ: فَارَقْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَلَيْكَ غَضَبًا وَمِنْكَ بُعْدًا، فَاسْتَوَى جَالِسًا مَرْعُوبًا، فَرَمَى إِلَيْهِ بِالطُّومَارِ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ فِيهِ مَرَّةً وَيَعْرَقُ، وَيَنْظُرُ إِلَى إِسْمَاعِيلَ أُخْرَى، فَلَمَّا فَهِمَهُ قَالَ: مُرْ بِنَا إِلَى أَبِي حَمْزَةَ نَعْتَذِرُ إِلَيْهِ وَنَتَرَضَّاهُ، قَالَ: لا تَعْجَلْ، قَالَ: كَيْفَ لا أَعْجَلُ وَقَدْ أَتَيْتَنِي بِآبِدَةٍ، ثُمَّ رَمَى الطُّومَار إِلَيْهِ فَإِذَا فِيهِ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مِنْ عبد الملك بن مَرْوَانَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى(6/338)
الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ. أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكَ عَبْدٌ طَمَتْ بِكَ الأُمُورُ، فَسَمَوْتَ فِيهَا وَعَدَوْتَ طَوْرَكَ وَجَاوَزْتَ قَدْرَكَ، وَأَرَدْتَ أَنْ تَرُوزَنِي، فَإِنْ سَوَّغْتُكَهَا مَضَيْتَ قُدُمًا، وَإِنْ [لَمْ] رَجَعْتَ الْقَهْقَرَى فَلَعَنَكَ اللَّهُ عَبْدًا أَخْفَشَ الْعَيْنَيْنِ، مَنْقُوصَ الْجَاعِرَتَيْنِ، أَنَسِيتَ مَكَاسِبَ آبَائِكَ بِالطَّائِفِ، وَحَفْرَهُمُ الآبَارَ بِأَيْدِيهِمْ، وَنَقْلَهُمُ الصُّخُورَ عَلَى ظُهُورِهِمْ فِي الْمَنَاهِلِ، يَا ابْنَ الْمُسْتَفْرِمَةِ بِعُجْمِ الزَّبِيبِ، وَاللَّهِ لأَغْمِزَنَّكَ غَمْزَةَ اللَّيْثِ الثَّعْلَبَ، وَالصَّقْرِ الأَرْنَبَ، وَثِبْتَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أصحاب رسول الله صلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم بَيْنَ أَظْهُرِنَا فَلَمْ تَقْبَلْ لَهُ إِحْسَانَهُ، وَاسْتِخْفَافًا مِنْكَ بِالْعَهْدِ، وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى رأت رجلا خدم عُزَيْرِ بْنَ عُزْرَةَ وَعِيسَى بْنَ مَرْيَمَ لَعَظَّمَتْهُ وَشَرَّفَتْهُ وَأَكْرَمَتْهُ، فَكَيْفَ وَهَذَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ خَادِمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَدَمَهُ ثَمَانِيَ سِنِينَ يُطْلِعُهُ عَلَى سِرِّهِ، وَيُشَاوِرُهُ فِي أَمْرِهِ، ثُمَّ هُوَ مَعَ هَذَا بِقَيَّةٌ مِنْ بَقَايَا أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِذَا قَرَأْتَ كِتَابِي هَذَا فَكُنْ أَطْوَعَ لَهُ مِنْ خُفِّهِ وَنَعْلِهِ، وَإِلا أَتَاكَ مني سهم مثكل بحتف قاض، ولِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ 6: 67 [1] .
فَأَتَاهُ فَتَرَضَّاهُ. وَمَا عُرِفَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ مَنْقَبَةٌ أَكْرَمُ مِنْهَا.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن نَاصِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْنُ عَلِيٍّ النَّرْسِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو عبد الله محمد بن علي بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحَسَنِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا زَيْدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ حَاجِبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا صَالِحُ بْنُ وَصِيفٍ الْكِنَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْمَعْمَرِ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عُثْمَانَ الأُمَوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي محمد بن سَهْلُ بْنُ عُمَيْرٍ الْمَازِنِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قال:
عرض الحجاج بْنُ يُوسُفَ خَيْلا لَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَنَسِ بن مالك خَادِمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: أَيْنَ هَذِهِ مِنَ الَّتِي كَانَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَنَسٌ: تِلْكَ وَاللَّهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمن رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ به عَدُوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ 8: 60 [2] وَهَذِهِ هُيِّئَتْ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ: لَوْلا كِتَابُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَتَانِي لَفَعَلْتُ وَفَعَلْتُ، فَقَالَ لَهُ أَنَسٌ: تاللَّه، لَمْ تَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ، عَلَّمَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم كلمات أتحرز بهن من كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ، وَمِنْ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، قَالَ: فَجَثَا الْحَجَّاجُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ قَالَ: عَلِّمْنِيهِنَّ يَا عَمُّ، قَالَ: تاللَّه لَسْتَ لَهُنَّ
__________
[1] سورة الأنعام، الآية: 67.
[2] سورة: الأنفال، الآية: 60.(6/339)
بِأَهْلٍ. قَالَ: [1] فَدَسَّ إِلَيْهِ وَإِلَى وَلَدِهِ وَإِلَى أَهْلِهِ، فَأَبَوْا أَنْ يُعَلِّمُوهُ.
قَالَ أَبُو الْمَعْمَرِ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ: قَالَ أَبِي، قَالَ أَنَسٌ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هِيَ بِسْمِ اللَّهِ [عَلَى نَفْسِي وَدِينِي، بِسْمِ اللَّهِ] [2] عَلَى أَهْلِي وَمَالِي، بِسْمِ اللَّهِ عَلَى مَا أَعْطَانِي/ رَبِّي، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبِّي لا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، أَجِرْنِي مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ [3] ، وَمِنْ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، إِنَّ وَلِيَّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ، وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ: حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ 9: 129 [4] . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ: وَحَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: كُنْتُ فِي مَجْلِسٍ [فِيهِ] [5] الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الحسن البصري جالسا إذ مَرَّ بِهِ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ عَلَى بِرْذَوْنٍ لَهُ، فَنَزَلَ فَشَقَّ النَّاسَ حَتَّى قَعَدَ إِلَى جانب الحسن، وجعل الحسن يُحَدِّثُ النَّاسَ وَيُهْوِي بِيَدِهِ إِلَى بَغْلَةٍ كَأَنَّهُ يُرِيدُ الْقِيَامَ، فَلَمَّا رَأَى الْحَجَّاجُ مَا يَصْنَعُ قَالَ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، لَعَلَّكَ تَفْعَلُ هَذَا مِنْ أَجْلِي، قَالَ: لا، وَلَكِنْ يَمُرُّ بِنَا الضَّعِيفُ وَذُو الْحَاجَةِ فَيَشْتَغِلُ بِكَلامِنَا عَنْ حَاجَتِهِ، فَالْتَفَتَ الْحَجَّاجُ إِلَى جُلَسَاءِ الْحَسَنِ، فَقَالَ: نِعْمَ الشَّيْخُ شَيْخُكُمْ، وَنِعْمَ الْمُؤَدِّبُ مُؤَدِّبُكُمْ، وَلَوْلا الرَّعِيَّةُ وَهَذِهِ الْبَلِيَّةُ لأَحْبَبْتُ مُشَاهَدَةَ شَيْخِكِمْ. ثُمَّ قَامَ فركب، فقام رجل من أَهْلِ الدِّيوَانِ، فَقَالَ: يَا أَبَا سَعِيدٍ أُخْرِجَ عَطَائِي، وَأُمِرَ بِبَعْثِي، وَأَخَذْتُ بِفَرَسٍ وَسِلاحٍ، وَلا والله ما فيه ثم الْفَرَسِ وَلا نَفَقَةُ عِيَالِي. قَالَ: فَأَرْسَلَ الْحَسَنُ عَيْنَيْهِ بِالْبُكَاءِ، ثُمَّ قَالَ: مَا لَهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ اتَّخَذُوا عِبَادَ اللَّهِ خَوْلا، وَمَالَ اللَّهِ دُوَلا، وَكِتَابَ اللَّهِ دَغَلا، وَاسْتَحَلُّوا الْخَمْرَ بِالنَّبِيذِ، وَالنَّجَسَ بِالزَّكَاةِ، يَأْخُذُونَ مِنْ غَيْرِ حَقِّ اللَّهِ، وينفقون في سخط الله، فستردون فتعلمون وَالْحِسَابُ عِنْدَ الْبَيْدَرِ، وَإِذَا أَقْبَلَ عَدُوُّ اللَّهِ ففي سرادقات محفوفة- ويقال: رفافة- وَإِذَا أَقْبَلَ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ فَطَارَ وَأَجَّلَ مَنْفَعَةً قَلِيلَةً وَنَدَامَةً طَوِيلَةً.
قَالَ: فَمَا لَبِثَ أَنْ سَعَى بِكَلامِهِ إِلَى الْحَجَّاجِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ شُرْطِيَّيْنِ فأخذا بضبعيه
__________
[1] «فجثا الحجاج على ركبتيه ... لهن بأهل، قال» : ساقطة من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
[3] في ت: «شيطان مريد» .
[4] سورة التوبة، الآية: 129.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(6/340)
حَتَّى أَدْخَلاهُ عَلَى الْحَجَّاجِ، وَتَبِعَهُ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَمَعَهُ الْكَفَنُ وَالْحَنُوطُ، فَلَمَّا أَدْخَلَ عَلَيْهِ قَالَ: يَا ابْنَ أُمِّ الْحَسَنِ، أَنْتَ الْقَائِلُ مَا لَهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ اتَّخَذُوا عِبَادَ اللَّهِ خَوْلا وَمَالَ اللَّهِ دُوَلا وَكِتَابَ/ اللَّهِ دَغَلا، وَاسْتَحَلُّوا الْخَمْرَ بِالنَّبِيذِ، وَالنَّجَسَ بِالزَّكَاةِ، فَذكر الْكَلامَ إِلَى آخِرَهِ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَمَا الَّذِي جَرَّأَكَ عَلَيْهِ؟ قَالَ: مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَنَا، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا به ثَمَناً قَلِيلًا 3: 187 [1] فَكَرِهْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ أُولَئِكَ الْقَوْمِ، قَالَ: نِعْمَ الشَّيْخُ أَنْتَ، وَنِعْمَ الْمُؤَدِّبُ أَنْتَ، وَلَيْسَ مِثْلُكَ أَخَذَ بِكَلِمَةٍ اسْتَخْرَجَهَا، وَلَئِنْ بَلَغَنِي عَنْكَ ثَانِيًا لأُفَرِّقَنَّ بَيْنَ رَأْسِكَ وَجَسَدِكَ، فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ: لَيْسَ ذَاكَ إِلَيْكَ، ثُمَّ قَالَ يَا جَارِيَةُ، هَاتِ الْغَالِيَةِ، فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ فَقَالَ: أَفْرِغِيهِ عَلَى رَأْسِهِ، فَكَشَفَ الْحَسَنُ عَنْ شَعْرِهِ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَرَأْسٌ مَا أَصَابَهُ الدُّهْنُ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا.
فَخَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ لَهُ: ابْنُ سِيرِينَ وَثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، مَا قَالَ لَكَ الطَّاغِيَةُ؟ وَمَا رَدَدْتَ عَلَيْهِ؟ قَالَ: قَالَ لِي كَذَا وَقُلْتُ لَهُ كَذَا، وَإِنَّكُمْ سَتُطْلَبُونَ. فَخَرَجَ ابْنُ سيرين إلى بلاد الهند، خرج ثَابِتٌ إِلَى كَابُلَ، وَأَقَامَ الْحَسَنُ حَتَّى صَلَّى الْجُمُعَةَ خَلْفَ الْحَجَّاجِ، فَرَقِيَ الْحَجَّاجُ الْمِنْبَرَ فَأَطَالَ الْخُطْبَةَ حَتَّى دَخَلَ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ، فَقَالَ الْحَسَنُ: أَمَا مِنْ رَجُلٍ يَقُولُ: الصَّلاةُ جَامِعَةٌ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ تَلامِذَةِ الْحَسَنِ: يَا أَبَا سَعِيدٍ أَتَأْمُرُنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ، فَقَالَ: إنما أمرنا أن نُنْصِتُ لَهُمْ إِذَا أَخَذُوا فِي أَمْرِ دِينِنَا، فَإِذَا أَخَذُوا فِي أَمْرِ دُنْيَاهُمْ أَخَذْنَا فِي أَمْرِ دِينِنَا، قُومُوا الصَّلاةُ جَامِعَةٌ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى جُلَسَائِهِ فَقَالَ: بَعَثَ إِلَيْكُمْ أُخَيْفِشُ [2] أُعَيْمِشُ مَلْعُونٌ مُعَذَّبٌ، قُومُوا الصَّلاةُ جَامِعَةٌ، فَقَامَ الْحَسَنُ، وَقَامَ النَّاسُ لِقِيَامِ الْحَسَنِ، فَقَطَعَ الْحَجَّاجُ الْخُطْبَةَ وَنَزَلَ فصلى بِهِمْ، وَطَلَبَ الْحَجَّاجُ الْحَسَنَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ.
وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ الأَنْبَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ ابن عائشة، عن أبيه، قال:
__________
[1] سورة آل عمران، الآية: 187.
[2] خنفس عن الأمر: عدل عن الأمر.
«بعث إليكم أخنفس» ساقط من ت.(6/341)
كَانَ سِجْنُ الْحَجَّاجِ بِوَاسِطَ، إِنَّمَا هُوَ حَائِطٌ مَحُوطٌ، لَيْسَ فِيهِ مَآلٌ/ وَلا ظِلٌّ وَلا بيت [1] ، فإذا آوى المسجونون إِلَى الْجُدْرَانِ يَسْتَظِلُّونَ بِهَا رَمَتْهُمُ الْحَرَسُ بِالْحِجَارَةِ، وَكَانَ يُطْعِمُهُمْ خُبْزَ الشَّعِيرِ مَخْلُوطًا بِهِ الْمِلْحُ وَالرَّمَادُ، فَكَانَ لا يَلْبَثُ الرَّجُلُ فِيهِ إِلا يَسِيرًا حَتَّى يَسْوَدَّ فَيَصِيرَ كَأَنَّهُ زِنْجِيٌّ، فَحُبِسَ فِيهِ مَرَّةً غُلامٌ، فَجَاءَتْهُ أُمُّهُ تَتَعَرَّفُ خَبَرَهُ فَصِيحَ بِهِ لَهَا، فَلَمَّا رَأَتْهُ أَنْكَرَتْهُ وَقَالَتْ: لَيْسَ هَذَا ابْنِي، كَانَ ابْنِي أَشْقَرَ أَحْمَرَ وَهَذَا زِنْجِيٌّ، فَقَالَ لَهَا: أَنَا وَاللَّهِ يَا أماه ابنك، أنا فلان وَأُخْتِي فُلانَةُ وَأَبِي فُلانٌ، فَلَمَّا عَرَفَتْهُ شَهِقَتْ فَمَاتَتْ.
قَالَ: وَقَالَ الْحَجَّاجُ لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ: كَمْ قَدْ قَتَلْنَا فِي الظَّنَّةِ؟ قَالَ: ثمانين ألفا [2] .
قال: وحرج مِنْ سِجْنِهِ يَوْمَ مَاتَ الْحَجَّاجُ مَا مِنْهُمْ مَنْ حَلَّ مِنْ قَيْدٍ وَلا غَيَّرَ حَالا إِلا فِي بَلَدِهِ الَّذِي كَانَ مِنْهُ.
أَخْبَرَنَا عبد الوهاب بن المبارك، ومحمد بن ناصر، قالا: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْمُنْذِرِ القاضي، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيل بْن سَعِيد بْن سويد، قال: حدثنا أبو بكر بن الأنباري، قال: حَدَّثَني أبي، قال: حدثنا أحمد بن إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُثْمَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْوَرَّاقُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي يَعْقُوبَ الدينَوَريّ، قَالا:
مَرِضَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ مَرَضًا أَشْرَفَ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ، فَبَلَغَهُ أَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ يَرْجِعُونَ بِمَوْتِهِ، فَلَمَّا بريء صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قَالَ: يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ، يَا أَهْلَ الشِّقَاقِ والنفاق ومساوىء الأَخْلاقِ، قَدْ نَفَخَ الشَّيْطَانُ فِي مَعَاطِسِكُمْ-[3] أَوْ قَالَ:
مَنَاخِرِكُمْ [4]- زَعَمْتُمْ أَنَّ الْحَجَّاجَ قَدْ مَاتَ، فَإِنْ مَاتَ الْحَجَّاجُ فَمَهْ، وَاللَّهِ مَا يَسُرُّنِي أَنِّي لا أَمُوتُ وَمَا أَرْجُو الْخَيْرَ كُلَّهُ إِلا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَمَا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى الْخُلُودَ لأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ إِلا لأَهْوَنِهِمْ عَلَيْهِ إبليس، ولقد سَأَلَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ رَبَّهُ فَقَالَ: رَبِّ [اغْفِرْ لِي] وَهَبْ لِي مُلْكاً 38: 35
__________
[1] في ت: «ليس فيه سقف ولا بيت» .
[2] هذه الروآية ساقطة من ت.
[3] في ت: «مناخركم» .
[4] أو قال مناخركم» : ساقطة من ت.(6/342)
لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ من بَعْدِي 38: 35 [1] ثُمَّ اضْمَحَلَّ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ وَكُلُّكُمْ ذَلِكَ الرَّجُلُ، وَاللَّهِ لَكَأَنِّي [بِي] [2] / وَبِكُمْ، وَقَدْ صَارَ كُلُّ حَيٍّ مِنَّا مَيِّتًا، وَكُلُّ رَطْبٍ مِنَّا يَابِسًا، وَنُقِلَ كُلُّ امْرِئٍ مِنَّا فِي ثِيَابِ طُهْرِهِ إِلَى ثَلاثِ أَذْرُعٍ فِي ذِرَاعَيْنِ، فَأَكَلَتِ الأَرْضُ لَحْمَهُ وَمَصَّتْ دَمَهُ وَصَدِيدَهُ، وَرَجَعَ الْخَبِيثَانِ يُقِيمُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ خَبِيثَةً مِنْ وَلَدِهِ يُقَسِّمُ خَبِيثَةً مِنْ مَالِهِ، أَلا إِنَّ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ مَا أَقُولُ، ثُمَّ نَزَلَ.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا المبارك بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الطَّيِّبِ الطبري، قال: حدثنا المعافى بن زكريا، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ الْكَلْبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيَّا، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَائِشَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ:
لَمَّا أَرَادَ الْحَجَّاجُ الْخُرُوجَ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى مَكَّةَ خَطَبَ النَّاسَ، وَقَالَ: يَا أَهْلَ الْبَصْرَةِ، إِنِّي أُرِيدُ الْخُرُوجَ إِلَى مَكَّةَ، وَقَدِ اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْكُمْ مُحَمَّدًا ابْنِي، وَأَوْصَيْتُهُ فِيكُمْ بِخِلافِ مَا أَوْصَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الأَنْصَارِ، فَإِنَّهُ أَوْصَى فِي الأَنْصَارِ أَنْ يُقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَيُتَجَاوَزَ عَنْ مُسِيئِهِمْ، أَلا وَإِنِّي قَدْ أَوْصَيْتُهُ بِكُمْ أَلا يَقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِكُمْ، وَلا يَتَجَاوَزَ عَنْ مُسِيئِكُمْ، أَلا فَإِنَّكُمْ قَائِلُونَ: لا أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ الصَّحَابَةَ، وَإِنِّي مُعَجِّلٌ لَكُمُ الْجَوَابَ: لا أَحْسَنَ الله عليكم الخلافة.
تم الجزء السادس من كتاب المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، تأليف الشيخ الإمام العالم الحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن الجوزي عفى الله عنه وعن جميع المسلمين. يتلوه في الجزء السابع ذكر وفاة الحجاج. قد ذكرنا أن عبد الملك بن مروان أوصى الوليد بالحجاج ثم لم يلبث الحجاج.....
__________
[1] سورة: ص، الآية: 35.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(6/343)
[المجلد السابع]
بسم الله الرّحمن الرّحيم وبه نستعين
[تتمة سنة خمس وتسعين]
[تتمة ذكر من توفى في هذه السنة]
[تتمة 553- الحجاج بن يوسف]
ذكر وفاة الحجاج
قد ذكرنا أن عبد الملك بن مروان أوصى ولده الوليد بالحجاج، ثم لم يمت الحجاج حتى ثقل على الوليد، وكان الوليد قد مرض فغشي عليه، فمكث عامة يومه يحسبونه ميتا، فقدمت البرد على الحجاج بذلك فاسترجع، وأمر بحبل فشد في يده ثم أوثق إلى أسطوانة، وقال: اللَّهمّ لا تسلط علي من لا رحمة له فقد طال ما سألتك أن تجعل منيتي قبل منيته، وجعل يدعو. فقدم البريد بإفاقته، فلما أفاق الوليد، قال: ما أَحَدٌ أَسَرَّ بعافيتي من الحجاج، فقال عمر: كأني بكتاب الحجاج قد أتاك يذكر أنه لما بلغه بُرؤك خر ساجدا وأعتق كل مملوك له، فجاء الكتاب بذلك، وبقي الحجاج في إمرته [1] على العراق تمام عشرين سنة، وكان مقدما على القتل والظلم، وآخر من قتل سعيد بن جبير، فوقعت الأكلة في بطنه [2] ، فأخذ الطبيب لحما وجعله في خيط وأرسله في حلقه ثم استخرجه وقد لصق الدود به، فعلم أنه ليس بناج، فقال:
يا رب قد حلف الأعداء واجتهدوا ... أيمانهم أنني من ساكني النار
أيحلفون على عمياء ويلهم ... ما علمهم بعظيم العفو غفار
أخبرنا محمد بن [أبي] [3] القاسم، قَالَ: حَدَّثَنَا حمد بْن أَحْمَد، قَالَ: حدثنا أبو نعيم الحافظ، قال: حدثنا أبو حامد بن جبلة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال:
__________
[1] في الأصل: «على إمرته» . وما أوردناه من ت.
[2] في ت: «فأكلت الأكلة في بطنه» .
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/3)
حدثنا هارون بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مسلمة، قال: حدثنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن كاتب كان [1] للحجاج يقال له يعلى، قال:
كنت أكتب للحجاج وأنا يومئذ غلام حديث السن، فدخلت عليه يوما بعد قتل سعيد بن جبير وهو في قبة لها أربعة أبواب، فدخلت مما يلي ظهره، فسمعته يقول: ما لي ولسعيد بن جبير، فخرجت رويدا وعلمت أنه إن علم بي قتلني، [ثم لم يلبث الحجاج إلا يسيرا حتى مات] [2] .
وفي رواية أخرى: أنه كان يقول: ما لي ولسعيد بن جبير كلما أردت النوم أخذ برجلي.
ومات في شوال هذه السنة. وقيل: لخمس بقين من رمضان، وهو ابن أربع وخمسين سنة. وقيل: ثلاث وخمسين سنة.
وقال أبو عمر الجرمي [3] ، قال يونس النحوي: أنا أذكر عرس العراق، فقيل له:
وما عرس العراق؟ قال: موت الحجاج سنة خمس وتسعين.
ولما مات ولى عليها الوليد بن عبد الملك مكانه يزيد بن أبي شبل [4] .
وذكر أبو عمر أحمد بن عبد ربه في كتاب «العقد» : أن رجلا حلف بالطلاق أن الحجاج في النار، فسأل الحسن البصري، فقال: لا عليك يا ابن أخي فإن لم يكن الحجاج في النار فما ينفعك [5] أن تكون مع امرأتك في زنا.
وقال يزيد الرقاشي: إني لأرجو للحجاج، فقال الحسن: إني لأرجو أن يخلف الله رجاءك [6] .
وقيل لإبراهيم النخعي: ما ترى في لعن الحجاج؟ فقال: ألم تسمع إلى قول الله تعالى: (أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) 11: 18 [7] . وأشهد أن الحجاج كان منهم.
__________
[1] «كان» . ساقط من ت.
[2] في الأصل: «فلم ينشب الحجاج يسيرا» والتصحيح من «ت» .
[3] في الأصل: «الحزمي» . وما أوردناه من ت، وهو الصحيح.
[4] كذا في الأصلين، وفي الطبري 6/ 493: «ابن أبي كبشة» .
[5] في الأصل: «فما ينفك» . وفي ت: «فما بضرك» .
[6] في الأصول: «رجاءك» .
[7] سورة: هود، الآية: 18.(7/4)
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، ومحمد بن ناصر، قالا: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار، قال: أخبرنا الحسين بن محمد النصيبي، قال: أخبرنا إسماعيل بن سويد، قال: حدثنا أبو بكر بن الأنباري، قال: حَدَّثَني أبي، قال: حدثنا أحمد بن الحارث الخراز، قال: حدثنا أبو الحسن المدائني، قال: قال عمر بن عبد العزيز:
إذا أتت قوم فارس بأكاسرتها، والروم بقياصرتها أتينا بالحجاج فكان عدلا بهم [1] .
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بن الحسين بن خيرون، قال:
أخبرنا [2] مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ رَزَمَةَ، قَالَ: أخبرنا أبو محمد علي بن عبد الله [3] بن المغيرة، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَن أَحْمَد بْن مُحَمَّد الأسدي، قال: حدثنا العباس بن فرح الرياشي [4] ، قال: حدثنا ابن أبي سمية، عن أبي بكر بن عياش، عن الأعمش، قال:
قيل ليزيد بن أبي مسلم: أن الحجاج يسمع صياحه من قبره، قال: فانطلق في نفر من أصحابه إلى قبره فسمع الصياح، فقال: يرحمك الله أبا محمد، ما تدع تهجدك حيا ولا ميتا.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْن أَحْمَد السمرقندي، قَالَ: أَخْبَرَنَا محمد بن هبة الله الطبري، قال: حدثنا أبو الحسين بن بشران، قال: أخبرنا الحسين بْن صفوان، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بكر عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد القرشي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ جَمِيلٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، قَالَ:
أُغْمِيَ عَلَى الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى مَعَ: (الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) 4: 69 [5] وَعَبْدُ الْمَلِكِ وَالْحَجَّاجُ يَجُرَّانِ أَمْعَاءَهُمَا فِي النَّارِ.
__________
[1] في ت: «عدلا لهم» .
[2] في ت: «حدّثنا» .
[3] في ت: «عبيد بن المغيرة» .
[4] «حدّثنا العباس بن فرح الرياشي» ساقط من ت.
[5] سورة: النساء، الآية: 69.(7/5)
534- سعيد بن جبير، يكنى أبا عبد الله، مولى لبني والبة [1] بن الحارث من بني أسد بن خزيمة:
[2] روى عن علي، وأبي مسعود البدري، وابن عمر، وابن عمرو، وأبي موسى [الأشعري] [3] ، وعبد الله بن المغفل، وعدي بن حاتم، وأبي هريرة، وأكثر عن ابن عباس. وكان عالما، وكان ابن عباس يقول له: حدث وأنا حاضر.
وقال لأهل الكوفة: تسألوني وفيكم سعيد بن جبير.
وجاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن فريضة، فقال له: ائت سعيد بن جبير فإنه أعلم بالحساب مني.
وكان سعيد يقص على أصحابه بعد الفجر وبعد العصر، ويختم القرآن كل ليلتين، وكان إذا وقف في الصلاة [4] كأنه وتد. وكان يبكي [بالليل] [5] حتى عمش.
وكان يخرج في كل سنة مرتين: مرة للحج، ومرة للعمرة.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، قال: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار، قال:
أخبرنا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْفَتْحِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه الدَّقَّاق، قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو الحسين بْن صفوان، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بكر القرشي، قال: حدثنا عمر بن إسماعيل الهمداني، قال: حدثنا محمد بن سعيد الأموي، عن معاوية بن إسحاق، قال: حدثنا سعيد بن جبير عند الصباح فرأيته ثقيل اللسان، فقلت له: ما لي أراك ثقيل اللسان؟
فقال: قرأت القرآن البارحة مرتين ونصفا.
قال عمر: وحدثنا أبو معاوية، عن موسى بن المغيرة، عن حماد: أن سعيد بن
__________
[1] في الأصل: «لبني واثلة» . خطأ. وما أوردناه من ت.
[2] طبقات ابن سعد 6/ 204، التاريخ الكبير 3/ 1533، وأخبار القضاة لوكيع 2/ 411، والجرح والتعديل 4/ 29، وحلية الأولياء 4/ 272، ووفيات الأعيان 2/ 371، وتاريخ الإسلام 4/ 2، وسير أعلام النبلاء 4/ 321، والبداية والنهاية 9/ 96، وطبقات المفسرين 1/ 181.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[4] في ت: «وقف في الجماعة» .
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/6)
جبير قرأ القرآن في ركعة واحدة في الكعبة، وقرأ في الثانية بقل هو الله أحد.
ذكر مقتله [1]
كان سعيد قد خرج مع القراء الذين خرجوا على الحجاج، وشهد دير الجماجم، فلما انهزم أصحاب ابن الأشعث هرب فلحق بمكة، فبقي زمانا طويلا. ثم إن خالد بن عبد الله القسري- وكان واليا للوليد بن عبد الملك على مكة- أخذه فبعثه إلى الحجاج مع إسماعيل بن أوسط البجلي، فقال له: ما الذي أخرجك؟ قال: كانت لابن الأشعث بيعة في عنقي، وعزم علي، فقال: رأيت لعدو الله عزمة لم ترها للَّه ولا لأمير المؤمنين، والله لا أرفع قدمي [2] حتى أقتلك فأعجلك إلى النار سيف رعيب، فقام مسلم الأعور ومعه سيف فضرب عنقه.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ أَحْمَدَ بن سلمان، قال: أخبرنا حمد بْنُ أحمد الحداد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، قال: حدثنا أبو حامد بن جبلة، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إسحاق، قَالَ: حَدَّثَنَا واصل بن عبد الأعلى، قال: حدثنا أبو بكر بن عباس، عن أبي حصين، قال:
أتيت سعيد بن جبير بمكة، فقلت: إن هذا الرجل قادم- يعني خالد بن عبد الله- ولا آمنه عليك فأطعني واخرج، فقال: والله لقد فررت حتى استحييت من الله، قلت:
والله إني لأراك كما سمتك أمك سعيدا.
قال: فقدم مكة فأرسل إليه فأخذه. قال: فأخبرني يزيد بن عبد الله قال: أتينا سعيد بن جبير حين جيء به، فإذا هو طيب النفس وبنية له في حجره فنظرت إلى القيد فبكت، قال: فشيعناه إلى باب الجسر، فقال له الحرس: أعطنا كفيك فإنا نخاف أن تغرق نفسك، قال: يزيد: فكنت فيمن كفل به.
قال محمد بن إسحاق: وحدثنا محمد بن عبد العزيز الجزري [3] ، قال: حدثنا يحيى بن حسان، قال: حدثنا صالح بن عمر، عن داود بن أبي هند، قال:
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 487، البداية والنهاية 9/ 107.
[2] في ت: «لا أرفع يدي» .
[3] في الأصل: «الحروي» . وما أوردناه من ت.(7/7)
لما أخذ الحجاج سعيد بن جبير قال: ما أراني إلا مقتولا وسأخبركم أني كنت أنا وصاحبان لي دعونا حين وجدنا حلاوة الدعاء، ثم سألنا الله الشهادة، فكلا صاحبي رزقها [1] ، وأنا أنتظرها، قال: فكأنه رأى أن الإجابة عند حلاوة الدعاء.
أخبرنا إسماعيل بْنُ أَحْمَدَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ، قَالا: أَخْبَرَنَا أبو طاهر محمد بن أحمد بن أبي الصقر الأنباري، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن الفضل بن نظيف الفراء، قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن الحسن بن إسحاق بن عتبة الرازي، قال:
حدثنا هارون بن عيسى، قال: حدثنا أبو عبد الرحمن المقري [2] ، قال: حدثنا حرملة بن عمران، قال: حدثنا ابن ذكوان:
أن الحجاج بن يوسف بعث إلى سعيد بن جبير فأصابه الرسول بمكة، فلما سار به ثلاثة أيام رآه يصوم نهاره ويقوم ليله، فقال له الرسول: والله إني لأعلم أني أذهب بك إلى من يقتلك فاذهب أي الطرق شئت [3] ، فقال له سعيد: إنه سيبلغ الحجاج أنك قد أخذتني فإن خليت عني خفت أن يقتلك، ولكن اذهب بي إليه.
قال: فذهب به إليه، فلما أدخل عليه قال له الحجاج: ما اسمك؟ قال: سعيد بن جبير، قال: بل شقي بن كسير، قال: أمي سمتني [سعيدا] [4] ، قال: شقيت أنت وأمك، قال: الغيب يعلمه غيرك، قال له الحجاج: أما والله لأبدلنك من دنياك نارا تلظى، قال سعيد: لو علمت أن ذلك إليك ما اتخذت إلها غيرك، ثم قال له الحجاج: ما تقول فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نبي مصطفى خير الباقين وخير الماضين، قال: فما تقول في أبي بكر الصديق؟ قال: ثاني اثنين إذ هما في الغار، أعز به الدين وجمع به بعد الفرقة، قال: وما تقول في عمر بن الخطاب؟ قال: فاروق الله وخيرته من خلقه [5] ، أحب الله أن يعز الدين بأحد الرجلين، فكان أحقهما بالخيرة والفضيلة، قال: فما تقول في عثمان؟ قال: مجهز جيش العسرة، والمشتري بيتا في الجنة، والمقتول ظلما، قال:
__________
[1] في الأصل: «رزقاها» . وما أوردناه من ت.
[2] في ت: «أبو عبد الله المقري» .
[3] في ت: «أي الطريق شئت» .
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[5] في ت: «فاروق وخيرة الله من خلقه» .(7/8)
فما تقول في علي [بن أبي طالب] [1] ؟ قال: أولهم إسلاما، تزوج بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي أحب بناته، قال: فما تقول في معاوية؟ قال: كاتب رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فما تقول في الخلفاء منذ كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الآن؟ قال: سيجزون بأعمالهم فمسرور ومثبور لست عليهم بوكيل، قال: فما تقول في عبد الملك بن مروان؟ قال: إن يكن محسنا فعند الله ثواب إحسانه، وإن يكن مسيئا فلن يعجز الله، قال: فما تقول في؟
قال: أنت أعلم بنفسك، قال: بث في علمك، قال: إذن أسوؤك ولا أسرك، قال: بث، قال: نعم ظهر منك جور في حد الله وجرأة على معاصيه بقتلك أولياء الله، قال: والله لأقطعنك قطعا، ولأفرقن أعضاءك عضوا عضوا، قال: إذن تفسد علي دنياي وأفسد عليك آخرتك، والقصاص أمامك، قال: الويل لك من الله، قال: الويل لمن زحزح عن الجنة وأدخل النار، قال: اذهبوا به فاضربوا عنقه، قال سعيد: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أستحفظكها [2] حتى ألقاك يوم القيامة. ولما ذهبوا به ليقتل تبسم، فقال له الحجاج: مم ضحكت؟ قال: من جرأتك على الله عز وجل، فقال الحجاج: أضجعوه للذبح، فأضجع فقال: (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) 6: 79 [3] فقال الحجاج: اقلبوا ظهره إلى القبلة، فقرأ سعيد: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله) 2: 115 [4] فقال: كبوه على وجهه، فقرأ سعيد: (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) 20: 55 [5] فذبح من قفاه.
قال: فبلغ ذلك الحسن بن أبي الحسن البصري، فقال: اللَّهمّ يا قاصم الجبابرة اقصم الحجاج، فما بقي إلا ثلاثا حتى وقع الدود في بطنه فمات.
وفي رواية أخرى: أنه عاش بعده خمسة عشر يوما.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم، قال: أخبرنا حمد [6] بْن أَحْمَد، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أخبرنا أبو حامد بن جبلة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق،
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «استحفظ بها» . وما أوردناه من ت.
[3] سورة: الأنعام، الآية: 79.
[4] سورة: البقرة، الآية: 115.
[5] سورة: طه، الآية: 55.
[6] في الأصل: «أحمد بن أحمد» . خطأ، والتصحيح من ت.(7/9)
قال: حدثنا الحسن بن عبد العزيز، قال: حدثنا سنيد [1] ، عن خلف بن خليفة، عن أبيه، قال:
شهدت مقتل سعيد بن جبير، فلما بان رأسه قال: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، ثم قال الثالثة [2] فلم يتمها.
أخبرنا ابن ناصر، قَالَ: أخبرنا أبو عبد الله الحُمَيْدِي، قال: أخبرنا القضاعي، قال: أخبرنا أبو مسلم الكاتب، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن دريد، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عثمان، قال:
حدثنا عبد الله [3] ، قال: حدثنا غسان بن مضر، قال: حدثنا سعيد بن يزيد، قال:
كنا عند الحسن وهو متوار في بيت أبي خليفة، فجاءه رجل فقال له: يا أبا سعيد، قتل الحجاج سعيد بن جبير، فقال الحسن: لعنة الله على الفاسق بن يوسف، ثم قال:
والله لو أن أهل المشرق والمغرب اجتمعوا على قتل سعيد لأدخلهم الله النار.
وفي مقدار عمر سعيد بن جبير ثلاثة أقوال: أحدها سبع وخمسون، والثاني تسع وأربعون، والثالث اثنان وأربعون.
535- عبد الرحمن بن معاوية بن خديج، أبو معاوية التجيبي [4] :
روى عن ابن عمر، وابن عمرو، وأبي نضرة، وأبيه [5] جمع له عبد العزيز بن مروان بين القضاء والشرط بمصر [6] .
[وتوفي في هذه السنة] [7] .
536- قيس بن أبي حازم، واسمه حصين بن عوف، ويقال: اسمه عبد عوف بن الحارث، أبو عبد الله الأحمسي: [8]
أدرك الجاهلية، وقصد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليبايعه فوجده قد توفي.
__________
[1] في الأصل: «سند» . وما أوردناه من ت.
[2] في ت: «لا إله إلا الله، ثم قال الثانية» .
[3] في الأصل: «عبيد الله» . وما أوردناه من ت.
[4] تقريب التهذيب 1/ 498، وتهذيب التهذيب 6/ 271، والجرح والتعديل 5/ 284.
[5] في الأصل: «وابنه» وما أوردناه من ت.
[6] في الأصل: «عبد العزيز بن مروان بمصر القضاء والشرط» .
[7] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[8] تهذيب التهذيب 8/ 386، 387، وتقريب التهذيب 2/ 127، والجرح والتعديل 7/ 102.(7/10)
روى عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، وسعيد، وابن مسعود، وبلال بن أبي رباح، وعمار، وخباب، وحذيفة، وجرير [في آخرين] [1] .
وقال أبو داود: روى عن تسعة من العشرة، [ولم يرو عن عبد الرحمن بن عوف، وقال غيره: روى عن العشرة] [2] .
قال عبد الرحمن بن يوسف بن خراش الحافظ: ليس في التابعين من روى عن العشرة غيره.
وشهد النهروان مع علي رضي الله عنه.
روى عنه أبو إسحاق، وإسماعيل بن خالد، والأعمش وجاز المائة بسنين كثيرة فتغير. وتوفي في هذه السنة، وقيل: في سنة ثمان وتسعين.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/11)
ثم دخلت سنة ست وتسعين
فمن الحوادث فيها أن قتيبة بن مسلم افتتح كاشغر، وغزا الصين [1] .
وفيها: أن الوليد أراد الشخوص إلى أخيه سليمان ليخلعه ويبايع لابنه عبد العزيز بعده.
وقد ذكرنا أن عبد الملك جعلهما وليي عهده، فأراد الوليد سليمان على ذلك فأبى، وعرض عليه أموالا كثيرة فأبى. فكتب إلى عماله أن يبايعوا عبد العزيز، ودعا الناس إلى ذلك فلم يجبه إلى ذلك إلا الحجاج وقتيبة بن مسلم وخواص من الناس، فقال له عباد بن زياد: إن الناس لا يجيبونك إلى هذا، ولو أجابوك لم آمن الغدر منهم بابنك، فاكتب إلى سليمان فليقدم عليك فإن عليه طاعة فأرده على البيعة فإنه لا يقدر على الامتناع وهو عندك، وإن أبى كان الناس عليه.
فكتب الوليد إلى سليمان يأمره بالقدوم فأبطأ، فاعتزم الوليد على المسير إليه ليخلعه، فأمر الناس بالتأهب، فمرض فمات قبل أن يسير، فاستخلف سليمان.
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 500، والبداية والنهاية 9/ 157، والكامل لابن الأثير 4/ 289.(7/12)
باب ذكر خلافة سليمان بن عبد الملك [1]
ويكنى أبا أيوب، بويع يوم موت أخيه الوليد، وكان بالرملة، فوصل الخبر إليه بعد سبعة أيام، [فبويع] ، وسار إلى دمشق، فورد على فاقة من الناس إليه لما كانوا فيه من جور الوليد وعسفه، فأحسن السيرة، ورد المظالم، وفك الأسرى، وأطلق أهل السجون، واتخذ عمر بن عبد العزيز وزيرا، ثم عهد إليه.
وكان طويلا أسمرا أعرج أكولا [2] ، نشأ بالبادية عند أخواله، فلما قدم صعد المنبر، فخنقته العبرة، ثم قال:
ركب القلا به المطي فغافل ... عن سيره ومشمر لم يغفل
لا بد أن يرد المقصر والذي ... حب النجاء محله لم تحلل
يا أيها الناس، رحم الله من ذكر فاذكر، فإن العظة تجلو العمى، إنكم أوطنتم أنفسكم دار الرحلة، واطمأننتم إلى دار الغرور فألهاكم الأمل وغرتكم الأماني، فأنتم سفر وإن أقمتم، ومرتحلون وإن وطنتم، لا تشتكي مطاياكم ألم الكلال، ولا يتعبها دأب السير، ليل يدلج بكم وأنتم نائمون، ونهار يجد بكم وأنتم غافلون، لكم في كل يوم مشيع لا يستقبل، ومودع لا يؤوب. أولا ترون- رحمكم الله- إلى ما أنتم فيه منافسون، وعليه مواظبون، وله مؤثرون، من كثير يفنى، وجديد يبلى، كيف أخذ به المخلفون له، وحوسبوا عليه [3] دون المتنعم به، فأصبح كل منهم رهنا بما كسبت يداه. وما الله بظلام للعبيد.
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 505، والبداية والنهاية 9/ 186.
[2] ذكرت جميع المراجع أنه كان طويلا أبيض، ولم تذكر المراجع أنه أعرج.
[3] في ت: «وحوسبوا به دون» .(7/13)
فيا أيها اللبيب المستبصر فيهم تذهب أيامك ضياعا؟ وعما قليل [1] يقع محذورك، وينزل بك ما اطرحته وراء ظهرك، فأسلمك عشيرك، وفر منك قريبك، فنبذت بالعراء، وانفضت عنك الدنيا.
فامهد لنفسك أيها المغرور، واعمل قبل ركوب المضيق وسد الطريق، فكأني بك قد أدرجت في أطمارك، وأودعت ملحدك، وتصدع عنك أقربوك، واقتسم مالك بنوك، ورجع القوم يرعون في زهرات موبق دنياك التي كدحت لها وارتحلت عنها، فأنت كما قال الشاعر:
سترحل عن دنيا قليل بقاؤها ... عليك، وإن تبقى فإنك فان
إن الله عبادا فروا منه إليه فجالت فكرتهم في ملكوت العظمة، فعزفت عن الدنيا نفوسهم.
أيها الناس، أين الوليد وأبو الوليد وجد الوليد خلفاء الله، وأمراء المؤمنين، وساسة الرعية؟ أسمعهم الداعي، وقبض العارية معيرها، فاضمحل ما كان كأن لم يكن، وأتى ما كأنه لم يزل، وبلغوا الأمد، وانقضت بهم المدة، ورفضتهم الأيام وشمرتهم الحادثات، فسلبوا عن السلطنه، ونفضوا لدة الملك، وذهب عنهم طيب الحياة، فارقوا والله القصور وسكنوا القبور، واستبدلوا بلينة الوطاء خشونة الثرى، فهم رهائن التراب إلى يوم الحساب. فرحم الله عبدا مهد لنفسه، واجتهد لدينه، وأخذ بحظه، وعمل في حياته، وسعى لصلاحه، وعمل ليوم (تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً، وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ) 3: 30 [2] أيها الناس، إن الله عز وجل [3] جعل الموت حتما سبق به حكمه، ونفذ به قدره، لئلا يطمع أحد في الخلود، ولا يطغي المعمر عمره، وليعلم المخلف بعد المقدم أنه غير مخلد. وقد جعل الله الدنيا دارا لا تقوم إلا بأئمة العدل، ودعاة الحق، وإن للَّه عبادا
__________
[1] في الأصل: «وعن قليل يقع» . وما أوردناه من ت.
[2] سورة: آل عمران، الآية: 30.
[3] في الأصل: «إن الله جل وعز» . وما أوردناه من ت.(7/14)
يملكهم أرضه، ويسوس بهم عباده، ويقيم بهم حدوده، ويجعلهم رعاة عباده، وقد أصبحت في هذا المقام الذي أنا به غير راغب فيه، ولا منافس عليه، ولكنها إحدى الربق أعلقها الواهق مساغ المزدرد ومخرج النفس، ولولا أن الخلافة تحفة من الله كفر باللَّه [خلفها] [1] لتمنيت أني كأحد المسلمين يضرب لي بسهمي.
فعلى رسلكم بني الوليد، فإني شبل عبد الملك، وناب مروان، لا تظلعني حمل النائبة، ولا يفزعني صريف الأجفر. وقد وليت من أمركم ما كنت له مكفيا، وأصبحت خليفة وأميرا، وما هو إلا العدل أو النار، وليجدني الممارس لي [2] أخشن من مضرس الكذاب، فمن سلك المحجة حذي نعل السلامة، ومن عدل عن الطريق وقع في وادي الهلكة والضلالة. ألا فإن الله سائل كلا عن كل، فمن صحت نيته ولزم طاعته كان الله له بصراط التوفيق، وبرصد المعونة، وكتب له بسبيل الشكر والمكافأة، فاقبلوا العافية فقد رزقتموها، والزموا السلامة فقد وجدتموها، فمن سلمنا منه سلم منا، ومن تاركنا تاركناه، ومن نازعنا نازعناه.
فارغبوا إلى الله في صلاح نياتكم وقبول أعمالكم، وطاعة سلطانكم، فإني والله غير مبطل حدا، ولا تارك له حقا حتى أنكثها عثمانية عمرية، وقد عزلت كل أمير كرهته رعيته، ووليت أهل كل بلد من أجمع عليه خيارهم واتفقت عليه كلمتهم، وقد جعلت الغزو أربعة أشهر، وفرضت لذرية الغازين سهم المقيمين، وأمرت بقسمة صدقة كل مصر في أهله إلا سهم العامل عليها، وفي سبيل الله، وابن السبيل، فإن ذلك لي وأنا أولى بالنظر فيه، فرحم الله امرأ عرف منا سهو المغفل عن مفروض حق أو واجب فأعان برأي، وأنا أسأل الله العون على صلاحكم فإنه مجيب السائلين، جعلنا الله وإياكم ممن ينتفع بموعظته، ويوفي بعهده فإنه سميع الدعاء، وأستغفر الله لي ولكم.
ذكر طرف من أخباره وسيرته [3]
أَخْبَرَنَا عَبْد الوهاب بن المبارك، ومحمد بن ناصر، قالا: أخبرنا أبو الحسين بن
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] «لي» : ساقطة من ت.
[3] في الأصل: «أخباره وسيره» . وما أوردناه من ت. وانظر ترجمته في: تاريخ الطبري 6/ 546، والكامل 4/ 311، ومروج الذهب 3/ 184. وفوات الوفيات 2/ 14.(7/15)
عبد الجبار، قال: أخبرنا القاضي أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ الْمُحْسِنِ التَّنُوخِيُّ، قَالَ: أخبرنا المعافى بن زكريا، قال: أخبرنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: أخبرنا ابن أبي سعيد، قَالَ: حَدَّثَنِي علي بن مُحَمَّد بن سليمان الهاشمي، قال: حدثني عبد الله بن سليمان، عن سليمان بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن عبد الله بن الحارث، قال:
كان سليمان بن عبد الملك أكولا، وكانت بينه وبين عبد الله بن عبد الله وصلة.
قال: قال لنا سليمان يوما: إني قد أمرت قيم بستان لي أن يحبس علي الفاكهة ولا يجني منها شيئا حتى يدرك، فاغدوا علي مع الفجر- يقول لأصحابه الذين كان يأنس بهم- لنأكل الفاكهة في برد النهار. فغدونا في ذلك الوقت، وصلى الصبح وصلينا، فدخلنا معه فإذا الفاكهة متهدلة على أغصانها، وإذا كل فاكهة مختارة قد أدركت كلها، فقال:
كلوا. ثم أقبل عليها وأكلنا بمقدار الطاقة، وأقبلنا نقول: يا أمير المؤمنين، هذا العنقود، فيخرطه في فيه، يا أمير المؤمنين هذه التفاحة، وكلما رأينا شيئا نضيجا أومأنا إليه فيأخذه فيأكله حتى ارتفع الضحى وارتفع النهار ثم أقبل على قيم البستان، فقال:
ويحك يا فلان إني قد استجعت فهل عندك شيء تطعمنيه؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين عناق حولية حمراء، قال: آتني بها، ولا تأتني معها بخبز. فجاء بها على خوان لا قوائم له وقد ملأت الخوان، فأقبل يأخذ العضو فيجيء معه فيخرطه في فيه ويلقي العظم حتى أتى عليها، ثم عاد لأكل الفاكهة، فأكل فأكثر، ثم قال للقيم: ويحك ما عندك شيء تطعمنيه؟ قال: بلى يا أمير المؤمنين دجاجتان بحريتان قد عميتا شحما، قال: ائتني بهما، فأتى بهما ففعل بهما كما فعل بالعناق، ثم عاد لأكل الفاكهة، فأكل مليا، ثم قال للقيم: هل عندك شيء تطعمنيه فإني قد جعت؟ قال: عندي سويق [كأنه قطع الأوتار] [1] ، وسمن، وسكر. قال: أفلا أعلمتني قبل هذا به، ائتني به وأكثر، فأتاه بقعب يقعد فيه الرجل وقد ملأه من السويق وقد خلطه بالسكر وصب عليه السمن، وأتى بجرة من ماء بارد وكوز، فأخذ القعب على كفه وأقبل القيم يصب عليه الماء [فيحركه ويأكله- أو قال] [2]- ويشربه حتى كفاه [3] على وجهه فارغا، ثم عاد للفاكهة، فأكل مليا
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «فصب عليه الماء وهو يشرب، لم يزل كذلك حتى ألقاه.(7/16)
حتى علت الشمس [1] ، ودخل وأمرنا أن ندخل إلى مجلسه، فدخلنا وجلسنا، فما مكث أن خرج علينا، فلما جلس قام كبير الطباخين حياله يؤذنه بالغداء، فأومأ إليه أن ائت بالغداء، فأتاه به فوضع يده فأكل، فما فقدنا من أكله شيئا.
أخبرنا ابن ناصر الحافظ، قال: أخبرنا ثابت بن بندار، وأحمد بن علي بن سوار، وأبو الفضل محمد بن عبد الله الناقد، قالوا: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بن رزقه، قال: أخبرنا أبو سعيد الحسن بن عبد الله السيرافي، قال:
حدثني محمد بن يحيى، عن معن بن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، قال:
كان سليمان بن عبد الملك في نادية له، فسمر ليلة على ظهر سطح، ثم تفرق عنه جلساؤه، فدعا بوضوء، فجاءت به جارية له، فبينا هي تصب عليه إذ استمدها بيده وأشار إليها فإذا هي ساهية مصغية بسمعها مائلة بجسدها كله إلى صوت غناء تسمعه في ناحية العسكر، فأمرها فتنحت واستمع هو الصوت، فإذا صوت رجل يغني، فأنصت له حتى [إذا] [2] فهم ما يغنى به من الشعر، ثم دعا جارية من جواريه غيرها، فتوضأ.
فلما أصبح أذن للناس إذنا عاما، فلما أخذوا مجالسهم أجرى ذكر الغناء ومن كان يسمعه ولين فيه حتى ظن القوم أنه يشتهيه، فأفاضوا في ذلك في التليين والتحليل والتسهيل، وذكروا من كان يسمعه من أهل المروءات وسروات [3] الناس، ثم قال: هل بقي أحد يسمع منه؟ فقال رجل من القوم: عندي رجلان من أهل أيلة حاذقان، فقال:
أين منزلك من العسكر، فأومأ إلى الناحية التي كان فيها الغناء. فقال سليمان: يبعث إليهما، فوجد الرسول أحدهما فأقبل به حتى أدخله على سليمان، فقال له: ما اسمك؟
قال: سمير، قال: فسأله عن الغناء كيف هو فيه؟ قال: حاذق محكم، قال: فمتى عهدك به؟ قال: في ليلتي هذه الماضية، قال: وفي أي نواحي العسكر كنت؟ فذكر له الناحية التي سمع فيها الصوت، قال: فما غنيت؟ قال: فذكر الشعر الذي سمع سليمان، فأقبل سليمان، يقول: هدر الجمل فضبعت [4] الناقة، وهب التيس [5] فشكرت الشاة، وهدر
__________
[1] في الأصل: «غلبته الشمس» . وما أوردناه من ت.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «سرات» . وما أوردناه من ت.
[4] في ت: «فصنعت» .
[5] في ت: «ونب التيس» .(7/17)
الحمام فرافت، [1] وغنى الرجل فطربت المرأة. ثم أمر به فخصي. وسأل عن الغناء أين أصله، وأكثر ما يكون؟ قالوا: بالمدينة وهو في المخنثين وهم الحذاق به والأئمة فيه، فكتب إلى عامله بالمدينة وهو أبو بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أن أخص [2] من قبلك من المخنثين.
قال الزبير: وأخبرني محمد بن يحيى بن موسى بن جعفر بن أبي كثير، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه مثله.
وكان ابن أبي عبلة وسليمان بن حرب يقصان عند سليمان بن عبد الملك.
وفي هذه السنة عزل سليمان بن عبد الملك عثمان بن حيان عن المدينة لسبع بقين من رمضان.
وكانت إمرته عليها ثلاث سنين. وقيل: سنتين إلا سبع ليال.
وفيها: عزل سليمان يزيد بن أبي مسلم عن العراق. [3] [وأمر عليها يزيد بن المهلب.
وفيها: جعل سليمان صالح بن عبد الرحمن على الخراج] [4] وأمره أن يقتل آل أبي عقيل ويبسط عليهم العذاب وكان يلي عذابهم عبد الملك بن المهلب.
وفيها قتل قتيبة بن مسلم بخراسان [5] وسبب قتله أن الوليد لما أراد خلع سليمان وافقه قتيبة، فلما مات الوليد خاف قتيبة من سليمان، وحذر أن يولي يزيد بن المهلب خراسان، فكتب إلى سليمان كتابا يهنئه بالخلافة، ويعزيه على الوليد [6] ، ويعلمه بلاءه
__________
[1] في الأصل: «فزافت» . وما أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «أحضر» . وما أوردناه من ت.
[3] تاريخ الطبري 6/ 506.
[4] ما بين المعقوفتين: كتب على هامش الأصل هكذا: «وفيها جعل سليمان يزيد بن أبي مسلم على العراق» . والتصحيح من ت، والطبري 6/ 506.
[5] تاريخ الطبري 6/ 506.
[6] في الأصل: «ويعزيه بالوليد» . وما أوردناه من ت والطبري.(7/18)
وطاعته لعبد الملك والوليد، وأنه له على مثل ما كان لهما من الطاعة والنصيحة، إن لم يعزله عن خراسان. ثم كتب كتابا يعلمه فيه فتوحه وعظم قدره عند ملوك العجم، وهيبته في صدورهم، ويذم المهلب وآل المهلب، ويحلف باللَّه عز وجل لئن استعمل يزيد على خراسان ليخلعنه. ثم كتب كتابا ثالثا [فيه خلعه، وبعث بالكتب الثلاثة] [1] مع رجل من باهلة، وقال: ادفع هذا الكتاب إليه فإن قرأه وألقاه إلى يزيد فادفع هذا الكتاب إليه، وإن قرأ الأول ولم يدفعه إلى يزيد فاحتبس الكتابين الآخرين.
فقدم الرسول فدخل على سليمان وعنده يزيد بن المهلب، فدفع إليه الكتاب فقرأه ثم رمى به إلى يزيد، ثم دفع إليه الكتاب الثاني فقرأه ثم رمى به إلى يزيد، فأعطاه الثالث فتمعر لونه [2] ، ثم دعا بطين فختمه ثم أمسكه بيده، ثم أمر بالرسول إلى دار الضيافه، فلما أمسى دعا به فأعطاه دنانير وقال: هذه جائزتك، وهذا عهد صاحبك على خراسان فسر، وهذا رسولي معك بعهده. فخرج فلما كان بحلوان تلقاهم الناس بخلع قتيبة لسليمان، وكان قتيبة قد خلعه ودعا الناس إلى خلعه، فكره الناس خلع سليمان، فصعد قتيبة المنبر وسب الناس لكونهم لم يوافقوه، واجتمعوا على خلافه وخلعه، ثم قتلوه.
وفي هذه السنة عزل سليمان خالد بن عبد الله القسري عن مكة وولاها طلحة بن داود الحضرمي [3] .
وفيها: غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الصائفة ففتح حصنا يقال له: حصن عوف.
وفيها: حج بالناس [4] أبو بكر محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، وهو الأمير [5]
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] أي: تغير لونه.
[3] تاريخ الطبري 6/ 522.
[4] في ت: «وحج بالناس في هذه السنة» .
[5] في ت: «وهو كان الأمير» .(7/19)
على المدينة، وكان على مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد. وعلى حرب العراق وصلاتها يزيد بن المهلب، وعلى خراجها صالح بن عبد الرحمن، وعلى البصرة سفيان بن عبد الله الكندي من قبل يزيد بن المهلب، وعلى قضاء البصرة عبد الرحمن ابن أذينة، وعلى قضاء الكوفة أبو بكر بن أبي موسى، وعلى حرب خراسان [1] وكيع بن أبي بردة [2] .
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
537- إبراهيم بن يزيد بن الأسود، أبو عمران النخعي: [3]
كان إماما في الفقه، يعظمه الأكابر، وكان سعيد بن جبير يقول: أتستفتوني وفيكم إبراهيم.
وكان شديد الهيبة، يهاب كما يهاب الأمير، وكان يتخوف من الفتوى ويحتقر نفسه ويقول: احتيج إليّ. ويكره أن يستند إلى السارية، ولا يتكلم حتى يسأل وحمل الناس عنه العلم وهو ابن ثماني عشرة سنة. وكان يصوم يوما ويفطر يوما.
أنبأنا زاهر بن طاهر، قَالَ: أخبرنا أبو بكر أَحْمَد بْن الحسين البيهقي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم، قال: سمعت أبا علي الحسين بن علي بن يزيد الحافظ، يقول: سمعت أبا عبد الرحمن محمد بن عبد الله البيروتي، يقول: حدثنا محمد بن أحمد بن مطر بن العلاء، قال: حدثني محمد بن أحمد بن يوسف بن بشير القرشي، قال: حدثني الوليد بن محمد الموقري [4] ، قال: سمعت محمد بن مسلم الزهري، يقول:
قدمت على عبد الملك بن مروان، فقال لي: من أين [قدمت] [5] يا زهري؟
__________
[1] في ت: «على حربها» .
[2] كذا في الأصلين، وفي الطبري والبداية: «وكيع بن أبي سود» .
[3] طبقات خليفة 157، وطبقات ابن سعد 6/ 270، والجرح والتعديل 1/ 1/ 144، والتاريخ الكبير 1/ 1/ 333، وحلية الأولياء 4/ 219.
[4] في ت: «الموقدي» .
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/20)
قلت: من مكة، فقال: من خلفت بها يسود أهلها؟ قلت: عطاء بن أبي رباح، قال:
فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، قال: وبم سادهم؟ قلت: بالديانة والرواية، قال: إن أهل الديانة والرواية لينبغي أن يسودوا، فمن يسود أهل اليمن؟ قلت:
طاوس بن كيسان، قال: من العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، قال: وبم سادهم؟ قلت: بما سادهم به عطاء، قال: إنه لينبغي. قال: فمن يسود أهل مصر؟
قلت: يزيد بن أبي حبيب، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، [عبد نوبي أعتقته امرأة من هذيل] [1] ، قال: فمن يسود أهل الجزيرة؟ قلت: ميمون بن مهران، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي [2] ، قال: فمن يسود أهل البصرة؟ قلت: الحسين بن أبي الحسن، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، قال: ويلك، فمن يسود أهل الكوفة؟ قلت: إبراهيم النخعي، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من العرب، قال: ويلك يا زهري، فرجت عني، والله ليسودن الموالي على العرب حتى يخطب لها على المنابر والعرب تحتها، قلت: يا أمير المؤمنين، إنما هو أمر الله ودينه، فمن حفظه ساد، ومن ضيعه سقط.
أخبرنا يحيى بن علي المدير، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ النَّقُّورِ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن عمران، قال: حدثنا البغوي، قال: حدثنا محمد بن بكار، قال: حدثنا محمد بن طلحة، عن ميمون بن أبي حمزة، عن إبراهيم أنه قال:
قد تكلمت ولو وجدت بدا ما تكلمت، وإن زمانا أكون فيه فقيه الكوفة لزمان سوء.
أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا الحسن بن أحمد الفقيه، قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن عثمان الصوفي [3] ، قال: حدثنا أبو أحمد الأنباري، قال: حدثنا أبي، قال:
حدثنا إسحاق بن إبراهيم الكتاني، قال: حدثنا الفضل بن دكين، قال: حدثنا الأعمش، قال:
خرجت أنا وإبراهيم النخعي ونحن نريد الجامع، فلما صرنا في خلال طرقات الكوفة قال لي: يا سليمان، قلت: لبيك، قال: هل لك أن تأخذ في خلال طرقات
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من هامش الأصل.
[2] «قلت: من الموالي» : ساقطة من ت.
[3] في ت: «الصيرفي» .(7/21)
الكوفة كي لا نمر بسفهائها فينظرون إلى أعور وأعمش فيغتابونا ويأثمون؟ قلت: يا أبا عمران، وما عليك في أن نؤجر ويأثمون؟ قال: يا سبحان الله، بل نسلم ويسلمون خير من أن نؤجر ويأثمون.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي [1] ، قال: أخبرنا حمد بن أحمد الحداد، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو نعيم الأصفهاني، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بن محمد، قَالَ: [حدثنا] [2] أحمد بن روح، قَالَ: حدثنا حماد بن المؤمل، قال: حدثني إسحاق بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو معاوية، عن محمد بن سوقة، عن عمران الخياط، قال:
دخلنا على إبراهيم النخعي نعوده وهو يبكي، فقلنا: ما يبكيك؟ قال: أنتظر ملك الموت، لا أدري يبشرني بالجنة أم بالنار.
أدرك إبراهيم النخعي أبا سعيد الخدري، وعائشة، وعامة ما يروى عن التابعين كعلقمة، ومسروق، والأسود. وتوفي هذه السنة وهو ابن تسع وأربعين سنة. وقيل: ابن نيف وخمسين سنة [3] .
وكان الشعبي يقول: والله ما ترك بعده مثله.
538- عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان:
أمه حفصة بْنت عَبْد اللَّه بْن عُمَر بْن الخطاب، توفي بمصر في هذه السنة [4] .
وهذا الرجل تزوج إليه أربعة من الخلفاء، كان له بنت اسمها عبدة تزوجها الوليد بن عبد الملك، وبنت تكنى أم سعيد تزوجها يزيد بن عبد الملك، ورقية تزوجها هشام بن عبد الملك، وبنت اسمها عائشة تزوجها سليمان بن عبد الملك.
539- قتيبة بن مسلم، [أبو حفص] [5] :
كان يروي عن أبي سعيد الخدري، والشعبي. تولى خراسان سنة ست وثمانين،
__________
[1] في الأصل: «محمد بن عبد الباقي بن أحمد» خطأ.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] طبقات خليفة 259، والتاريخ الكبير للبخاريّ 5/ 466، والجرح والتعديل 5/ 537، وتاريخ الإسلام 4/ 19، وتهذيب التهذيب 5/ 338.
[4] «في هذه السنة» : سقطت من ت.
[5] ما بين المعقوفتين: جاءت في الأصل بعد «الشعبي» وترجمته في: وفيات الأعيان 1/ 428، وتاريخ(7/22)
وغزا بها غزوات إلى أن مات الحجاج، ثم قتله وكيع بن أبي الأسود الحنظلي بفرغانة، وقد سبق خبره.
540- الوليد بن عبد الملك بن مروان [1] :
توفي يوم السبت منتصف جمادى الآخرة [سنة ست وتسعين] [2] بدير مران وحمل إلى دمشق فدفن بها في مقابر الفراديس، وصلى عليه عمر بن عبد العزيز، لأن أخاه سليمان الذي كان ولي عهده كان غائبا بالرملة. وعاش اثنتين وخمسين سنة. وقيل: اثنتين وأربعين. وقيل: خمسا وأربعين.
قال الزهري: كانت خلافته عشر سنين إلا شهرا.
وقال أبو معشر: تسع سنين وأربعة أشهر.
وقال الواقدي: وثمانية أشهر.
وقال هشام بن محمد الكلبي: كانت خلافته- يعني الوليد- ثماني سنين وثلاثة أشهر.
__________
[ () ] الطبري 6/ 506، وابن خلدون 3/ 59، 66، وخزانة البغدادي 3/ 657، ورغبة الآمل 3/ 6، 6/ 118.
[1] مروج الذهب 3/ 165، وتاريخ الطبري 6/ 495، وتاريخ الخميس 2/ 211، 314.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/23)
ثم دخلت سنة سبع وتسعين
فمن الحوادث فيها تجهيز سليمان بن عبد الملك إلى القسطنطينية، واستعمال ابنه داود على الصائفة.
وفيها: غزا مسلمة أرض الروم ففتح الحصن الذي كان الوضاح افتتحه.
وفيها: غزا عمر بن هبيرة الفزاري أرض الروم، فشتى بها [1] .
وفيها: ولي سليمان يزيد بن المهلب خراسان [2]
وكان السبب في ذلك أن سليمان لما ولى يزيد بن المهلب حرب العراق والصلاة وخراجها، فنظر يزيد فإذا الحجاج قد أخرب العراق، فقال في نفسه: متى أخذت الناس بالخراج وعذبتهم عليه صرت مثل الحجاج، ومتى لم آت سليمان بمثل ما كان يأتي به الحجاج لم يقبل مني. فجاء يزيد إلى سليمان فقال: أدلك على رجل بصير بالخراج توليه؟ صالح بن عبد الرحمن مولى بني تميم، فقبل منه. فأقبل يزيد إلى العراق وقد قدم قبله عبد الرحمن، فنزل واسط، فخرج الناس يتلقون يزيد، ولم يخرج صالح حتى قرب يزيد، وكان صالح لا ينفذ أمر يزيد ويضيق عليه ويعاتبه [3] في كثرة إنفاقه، ويقول: هذا لا يرضي أمير المؤمنين.
__________
[1] كذا في الأصل والطبري، وفي ت: «فسبى بها» .
[2] تاريخ الطبري 6/ 253.
[3] في الأصل: «ويعتبه» . وفي ت: «ويعيبه» .(7/24)
فبينا هو كذلك إذ جاء كتاب سليمان بتولية يزيد خراسان، وكان قد وليها وكيع بن أبي الأسود بعد قتل قتيبة تسعة أشهر أو عشرة، فقدمها يزيد واليا عليها، وكان جوادا.
وفي هذه السنة حج بالناس [1] سليمان بن عبد الملك، وحج الشعراء معه، فلما صدر من الحج عزل طلحة بن داود الحضرمي عن مكة، وكان قد عمل عليها ستة أشهر، وولي عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وكان عمال الأمصار هم العمال فِي السنة الَّتِي قبلها، إلا خراسان فإن عاملها كان يزيد بن المهلب بن أبي صفرة [2] .
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
541- طلحة بن عبد الله بن عوف [ابن أخي عبد الرحمن بن عوف] يكنى أبا محمد: [3]
ولي المدينة، وكان من سراة [4] قريش وأجوادهم، ومدحه الفرزدق ومدح عشرة من أهل المدينة، فأعطاه طلحة ألف دينار، فلم يتجاسر أحد على نقيصة الفرزدق لئلا يتعرضوا للسانه فأتعب الناس.
وتوفي طلحة في هذه السنة عن اثنتين وسبعين [5] سنة.
__________
[1] في ت: «وحج بالناس في هذه السنة» .
[2] «ابن أبي صفرة» : ساقطة من ت..
[3] طبقات ابن سعد 5/ 119، والتاريخ الكبير للبخاريّ 4/ 3074، والقضاة لوكيع 1/ 120، والجرح والتعديل 4/ 2078، وسير أعلام النبلاء 4/ 174، وتاريخ الإسلام 4/ 6، وتهذيب التهذيب، والتقريب 1/ 379.
[4] سراة، جمع سريّ ومن السّرو وهو المروءة والشرف.
[5] في ت: «تسعين سنة» . خطأ.(7/25)
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين
فمن الحوادث فيها غزو سليمان القسطنطينية
فنزل دابق ووجه أخاه مسلمة إليها وأمره أن يقيم عليها حتى يفتحها أو يأتيه أمره، فشتى بها وصاف. ولما دنا من قسطنطينية أمر كل فارس أن يحمل على عجز فرسه مدين [1] من طعام حتى يأتي به القسطنطينية، فأمر بالطعام فألقي ناحية مثل الجبال، ثم قال للمسلمين: لا تأكلوا منه شيئا، أغيروا في أرضهم. وعمل بيوتا من خشب، فشتى فيها، وزرع الناس، ومكث ذلك الطعام [2] في الصحراء لا يكنه شيء، والناس يأكلون ما أصابوا من الغارات، ثم أكلوا من الزرع، وأقام مسلمة بالقسطنطينية قاهرا لأهلها، معه وجوه أهل الشام: خالد بن معدان، وعبد الله بن أبي زكريا الخزاعي، ومجاهد بن جبير، حتى أتاه موت سليمان.
وفي هذه السنة بايع سليمان بن عبد الملك لابنه أيوب [3]
وجعله ولي عهده، وكان عبد الملك قد أخذ على الوليد وسليمان أن يبايعا لابن عاتكة، ولمروان بن عبد الملك من بعده، فمات مروان في خلافة سليمان في منصرفه
__________
[1] المد: مكيال ضخم لأهل الشام ومصر.
[2] في الأصل: «ذلك العام» . وما أوردناه من ت والطبري.
[3] تاريخ الطبري 6/ 531.(7/26)
من مكة، فبايع سليمان حين مات لأيوب، وأمسك عن يزيد وتربص [به] [1] ، ورجا أن يهلك، فهلك وأيوب ولي عهده.
وفيها: فتحت مدينة الصقالبة.
وفيها: غزا الوليد بن هشام، فأصاب ناسا من نواحي الروم فأسر منهم خلقا كثيرا.
وفيها غزا يزيد بن المهلب جرجان وطبرستان [2]
في مائة ألف مقاتل سوى الموالي والمتطوعين. وجاء فنزل بدهستان فحاصرها ومنع عنهم المواد، فبعث إليه ملكهم: إني أريد أن أصالحك على أن تؤمنني على نفسي وأهل بيتي ومالي، وأدفع إليك المدينة وما فيها وأهلها. فصالحه ووفى له ودخل المدينة، وأخذ ما كان فيها من الأموال والكنوز، ومن السبي ما لا يحصى، وقتل أربعة عشر ألف تركي صبرا، وكتب بذلك إلى سليمان بن عبد الملك، ثم خرج حتى أتى جرجان، وقد كانوا يصالحون أهل الكوفة على مائة ألف، ومائتي ألف، وثلاثمائة ألف، وقد كانوا صالحوا سعيد بن العاص، ثم امتنعوا وكفروا، فلم يأت بعد سعيد إليهم أحد، ومنعوا ذلك الطريق فلم يسلكه أحد إلا على وجل [وخوف] [3] منهم.
فلما أتاهم يزيد استقبلوه بالصلح، فاستخلف رجلا. ودخل طبرستان، فعرض ملكها عليه الصلح [4] ، فصالحه على سبعمائة ألف درهم- أو أربعمائة ألف درهم- نقدا، وثلاثمائة ألف مؤجلة، وأربعمائة ألف حمار موقرة زعفران، وأربعمائة رجل على رأس كل رجل برنس، وعلى البرنس [5] طيلسان وجام من فضة وسرقة من حرير.
وكان شهر بن حوشب على خزائن يزيد بن المهلب، فرفع إليه أنه أخذ خريطة فسأله عنها، فأتاه بها، فقال: هي لك، فقال: لا حاجة لي فيها، فقال القطامي: [6]
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] تاريخ الطبري 6/ 532.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من الطبري.
[4] «فاستخلف رجلا ... عليه الصلح» : سقطت من ت.
[5] في الأصل: «كل رجل ترس، وعلى الترس» . وما أوردناه من ت والطبري.
[6] في الطبري بعدها: «ويقال سنان بن مكحل النميري» .(7/27)
لقد باع شهر دينه بخريطة ... فمن يأمن القراء بعدك يا شهر؟!
وكان فيما أصاب يزيد بن المهلب بجرجان تاج فيه جوهر، فقال: أترون أحدا يزهد في هذا التاج؟ قالوا: لا، فدعا محمد بن واسع فقال: خذ هذا التاج فهو لك، قال: لا حاجة لي فيه، قال: عزمت عليك إلا أخذته، فأخذه، وخرج فأمر يزيد رجلا ينظر ما يصنع به، فلقي سائلا فدفعه إليه، فأخذه الرجل السائل، فأتى به يزيد، فأخذ يزيد التاج وعوض السائل مالا.
وكان سليمان يقول ليزيد بن المهلب كلما رأى قتيبة يفتح حصنا: أما ترى ما يصنع الله عز وجل على يدي قتيبة؟ فيقول يزيد: الشأن في جرجان. فلما ولي لم يكن له همة غير جرجان، فجاء فصالحوه على ما ذكرنا.
ثم إنهم غدروا بجنده، فقتلوا منهم، ونقضوا العهد، فأعطى الله عهدا لئن ظفر بهم لا يرفع عنهم السيف [1] حتى يطحن بدمائهم ويختبز من ذلك الطحين ويأكل.
فنزل عليها سبعة أشهر لا يقدر منهم على شيء، ولا يعرف لها مأتى إلا من وجه واحد، فكانوا يخرجون فيقاتلونهم ويرجعون إلى حصنهم، فدله رجل على [طريق] [2] آخر يشرف عليهم، فبعث معه جندا، ونهض هو لقتالهم [3] ، فركبهم المسلمون، فأعطوا بأيديهم ونزلوا على حكمه، فسبى ذراريهم وقتل مقاتليهم وصلبهم على الشجر عن يمين الطريق ويساره، وقاد منهم اثني عشر ألفا إلى الوادي فقتلوا فيه، فأجرى فيه دماءهم [4] وأجرى فيه الماء وعليه أرحاء، فطحن واختبز وأكل، وبنى مدينة جرجان، ولم تكن قبل ذلك مدينة، واستعمل عليهم جهم بن زحر الجعفي، ورجع إلى خراسان، وكتب يزيد إلى سليمان [5] :
بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فإن الله تعالى ذكره قد فتح لأمير المؤمنين فتحا عظيما، وصنع للمسلمين أحسن الصنع، فلربنا الحمد [6] على نعمه وإحسانه،
__________
[1] في ت: «لا يرفع السيف عنهم» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «ونهض هو لنيلهم» .
[4] في الأصل: «فأجرى فيهم» وما أوردناه من ت والطبري.
[5] نص الكتاب في تاريخ الطبري 6/ 544.
[6] في الأصل: «فلزمنا الحمد» . وما أوردناه من ت والطبري.(7/28)
وأظهر في خلافة أمير المؤمنين على جرجان وطبرستان، وقد أعيا ذلك سابور ذا الأكتاف، وكسرى بن قباد، وكسرى بن هرمز، وأعيا الفاروق عمر بن الخطاب، وذا النورين ومن بعدهما، حتى فتح الله سبحانه ذلك لأمير المؤمنين، كرامة من الله عز وجل له، وزيادة في نعمه عليه، وقد صار عندي من خمس ما أفاء الله عز وجل على المسلمين بعد أن صار إلى كل ذي حق حقه من الفيء والغنيمة سبعة [1] آلاف ألف، وأنا حامل ذلك إلى أمير المؤمنين إن شاء الله.
وفي هذه السنة كثرت الزلازل ودامت ستة أشهر. وفتح حصن المرأة مما يلي ملطية.
وفيها: حج بالناس [2] عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وهو يومئذ أمير على مكة. وكان عمال الأمصار هم الذين كانوا في السنة التي قبلها، غير أن عامل ابن المهلب على البصرة كان سفيان بن عبد الله الكندي.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
542- عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي، ويكنى أبا عبد الله، وهو حليف بني زهرة بن كلاب: [3]
روى عن أبي هريرة، وابن عباس، وأبي طلحة، وسهل بن حنيف، وزيد بن خالد، وأبي سعيد الخدريّ، وعائشة.
وكان ثقة فقيها، وهو أحد الفقهاء السبعة ومن أكابرهم، وهو مع ذلك شاعر فصيح. وجده عتبة بن مسعود أخو عبد الله بن مسعود لأبويه، قديم الإسلام ولم يرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، ومات في خلافة عمر. وأما ابنه عبد الله فإنه نزل الكوفة ومات بها في خلافة عبد الملك. ومات عبيد الله بالمدينة في سنة ثمان وتسعين. وقيل: في سنة تسع. وكان الزهري يسميه بحرا.
__________
[1] كذا في الأصول، وفي الطبري: «ستة ألف ألف» .
[2] في ت: «وحج بالناس في هذه السنة» .
[3] الأغاني 9/ 162، تذكرة الحفاظ 1/ 74، الوفيات 1/ 271، وتهذيب التهذيب 7/ 23، وصفة الصفوة 2/ 57، وحلية الأولياء 2/ 188.(7/29)
قال عمر بن عبد العزيز: لو أدركني إذ وقعت فيما وقعت فيه. وكان عمر يقول: من لي بليلة من ليالي عبيد الله بن عبد الله بألف دينار. وكان قد ذهب بصره، [وقال شعرا] [1] .
روى عبد الرحمن بن أبي الزناد [2] ، عن أبيه، قال [3] : قدمت المدينة امرأة من هذيل، وكانت جميلة جدا، فرغب الناس فيها فخطبوها وكادت تذهب بعقول أكثرهم، فقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود:
أحبك حبا لا يحبك مثله ... قريب ولا في العاشقين بعيد
أحبك حبا لو شعرت ببعضه ... لجدت ولم يصعب عليك شديد [4]
وحبك يا أم الصبي مدلهي ... شهيدي أبو بكر فنعم شهيد
ويعرف وجدي القاسم بن محمد ... وعروة ما ألقى بكم وسعيد
ويعلم ما أخفي سليمان علمه [5] ... وخارجة يبدي بنا ويعيد
14/ أ/ متى تسألي عما أقول وتخبري ... فلله عندي طارف وتليد
فقال سعيد بن المسيب: أما أنت والله قد أمنت أن تسألنا وما طمعت إن سألتنا أن نشهد لك بزور.
قال الزبير: هؤلاء الذين استشهدهم عبيد الله وهو معهم فقهاء المدينة السبعة الذين أخذ عنهم الرأي.
توفي في هذه السنة.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[2] في الأصل: «عن عبد الرحمن» . وما أوردناه من ت.
[3] الخبر في الأغاني 9/ 173 (دار الكتب العلمية) .
[4] في الأغاني:
أحبك حبا لو علمت ببعضه ... لجدت ولم يصعب عليك شديد
وحبك يا أم الصبي مدلهي ... شهيدي أبو بكر وأي شهيد
ويعلم وجدي القاسم بن محمد ... وعروة ما ألقى بكم وسعيد
ويعلم ما أخفي سليمان علمه ... وخارجة يبدي لنا ويعيد
متى تسألي عما أقول فتخبري ... فللحب عندي طارف وتليد
[5] في الأصل: «سليمان خامسا» ، وما أوردناه من ت.(7/30)
ثم دخلت سنة تسع وتسعين
فمن الحوادث فيها وفاة سليمان بن عبد الملك [1] وخلافة عمر بن عبد العزيز.
باب ذكر خلافة عمر بن عبد العزيز [2]
هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم، ويكنى أبا حفص، وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
روى عن ابن عمر، وأنس، وعبد الله بن جعفر، وعمر بن أبي سلمة، والسائب بن يزيد. وأرسل الحديث عن جماعة من القدماء، وروى عن خلق [كثير] [3] من التابعين، وكان عالما دينا.
__________
[1] تاريخ الطبري 6/ 546، والكامل 4/ 311.
[2] تاريخ الطبري 6/ 550، 565، ومروج الذهب 3/ 192، والكامل 4/ 312، 327، والبداية والنهاية 9/ 206، 214 والأغاني 9/ 292.
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/31)
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ الْبَزَّازُ، قَالَ: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا أبو عمرو بن حيوية، قال: أخبرنا سليمان بن إسحاق الجلاب، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ، قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ [قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بن أبي إسحاق، قال: حدثنا إبراهيم بن عياش، قال: حدثني ضمرة] [1] ، قال: قال ابن شوذب:
لما أراد عبد العزيز بن مروان أن يتزوج أم عمر بن عبد العزيز قال لقيمه: اجمع لي أربعمائة دينار من طيب مالي فإني أريد أن أتزوج إلى أهل بيت لهم صلاح. فتزوج أم عمر بن عبد العزيز.
وما زال عمر يميل إلى الخير والدين مع أنه ولي الإمارة، وكانوا يفزعون إليه في أحوالهم. ولما مرض سليمان كتب العهد لابنه أيوب، ولم يكن بالغا، فرده عن ذلك رجاء بن حيوة فقال له: فما ترى في ابني داود، فقال له: هو بقسطنطينية، وأنت لا تدري أحي هو أم ميت، قال: فمن؟ فقال: رأيك يا أمير المؤمنين، قال: كيف ترى في عمر؟
فقال: أعلمه والله فاضلا خيرا [2] مسلما، فقال: لئن وليته ولم أول أحدا من ولد عبد الملك لتكونن فتنة، ولا يتركونه، فكتب له، وجعل من بعده يزيد، وختم الكتاب، وأمر أن يجمع أهل بيته، وأمر رجاء بن حيوة أن يذهب بكتابه إليهم، وأمرهم أن يبايعوا من فيه [3] ، ففعلوا، ثم دخلوا على سليمان والكتاب بيده، فقال: هذا عهدي فاسمعوا له وأطيعوا وبايعوا.
قال رجاء: فجاءني عمر بن عبد العزيز، فقال: يا رجاء، قد كانت لي بسليمان حرمة وأنا أخشى أن يكون قد أسند إلي من هذا الأمر شيئا، فإن كان فأعلمني أستعفيه، فقال رجاء: والله لا أخبرك بحرف، فمضى [قال:] [4] وجاءني هشام فقال: لي حرمة وعندي شكر فأعلمني، فقلت: لا والله لا أخبرك [5] [بحرف] [6] . فانصرف هشام وهو يضرب بيد على يد ويقول: فإلى من؟
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ابن سعد 5/ 243.
[2] في الأصل: «خيارا» . وما أوردناه من ت.
[3] في الأصل: «فليبايعوا لمن فيه» . وما أوردناه من ت.
[4] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.
[5] في الأصل: «لا أخبرتك» . وما أوردناه من ت.
[6] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/32)
فلما مات سليمان جددت البيعة قبل أن يخبر بموته، فبايعوا، ثم قرأ الكتاب، فلما ذكر عمر بن عبد العزيز نادى هشام: والله لا نبايعه، فقال له رجاء: إذن والله أضرب عنقك، قم فبايع، فقام يجر رجليه ويسترجع إذ خرج عنه الأمر، وعمر يسترجع إذ وقع فيه.
ثم جيء بمراكب الخلافة، فقال عمر: قربوا لي بغلتي، ثم أنشد يقول: [1]
ولولا التقى ثم النهى خشية الردى ... لعاصيت في حب الهوى كل زاجر
قضى ما قضى فيما مضى ثم لا ترى ... له صبوة أخرى الليالي الغوابر
ثم قال: إن شاء الله، ثم خطب فقال: يا أيها الناس، إني قد ابتليت بهذا الأمر من غير رأي كان مني فيه، ولا مشورة. وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي فاختاروا لأنفسكم، فصاح الناس صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين ورضينا بك فلي أمرنا باليمن والبركة. فقال: أوصيكم بتقوى الله، فإن تقوى الله خلف من كل شيء وليس من تقوى الله خلف، فاعملوا لآخرتكم، فإنه من عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه، وأصلحوا سرائركم يصلح الكريم علانيتكم، وأكثروا ذكر الموت وأحسنوا الاستعداد له قبل أن ينزل بكم، وإن امرأ لا يذكر من آبائه فيما بينه وبين آدم أبا حيا لمعرق [2] له في الموت.
ثم نزل فدخل فأمر بالستور فهتكت، والثياب التي كانت تبسط للخلفاء فحملت وأمر ببيعها وإدخال ثمنها في بيت المال ورد المظالم.
أخبرنا علي بن أبي عمر، قال: أخبرنا محمد بن الحسن الباقلاوي، قال: أخبرنا عبد الملك [بن بشران] [3] ، قال: أخبرنا أبو بكر الآجري، قال: حدثنا أبو عبد الله بن مخلد، قال: حدثني سهل بن عيسى المروزي، قال: حدثني القاسم بن محمد بن الحارث المروزي، قال: حدثني سهل بن يحيى بن محمد، قال: أخبرني أبي، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، قال:
لما بلغ الخوارج سيرة عمر وما رد من المظالم قالوا: ما ينبغي لنا أن نقاتل هذا
__________
[1] طبقات ابن سعد 5/ 250.
[2] أي: صار فيه عريقا وله به صلة.
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من ت.(7/33)