ألف حمل من المال والسلاح، ومن الخيل والعدد ما لا يوصف، وكان بمصر في تلك السنة غلاء عظيم ووباء، حتّى مات فيها وفي أعمالها في تلك المدة ستمائة ألف إنسان على ما قيل.
ولما كان منتصف رمضان سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، وصلت البشارة إلى المعز بفتح الديار المصرية ودخول عساكره إليها، وكانت كتب جوهر ترد [1] إلى المعز باستدعائه إلى مصر، ويحثّه كل وقت على ذلك، ثم سيّر إليه يخبره بانتظام الحال بمصر والشام والحجاز، وإقامة الدعوة له بهذه المواضع، فسرّ بذلك سرورا عظيما، ثم استخلف على إفريقية بلكين بن زيري الصنهاجي، وخرج متوجها إليها بأموال جليلة المقدار، ورجال عظيمة الأخطار، وكان خروجه من المنصورية دار ملكه يوم الاثنين ثاني عشري شوال، سنة اثنتين وستين وثلاثمائة.
ولم يزل في طريقه يقيم بعض الأوقات في بعض البلاد أياما ويجدّ السير في بعضها، وكان اجتيازه على برقة، ودخل الإسكندرية رابع عشري شعبان من السنة المذكورة، وركب فيها، ودخل الحمام، وقدم عليه بها قاضي مصر أبو طاهر محمد بن أحمد، وأعيان أهل البلاد، وسلموا عليه، وجلس لهم عند المنارة، وأخبرهم أنه لم يرد دخول مصر لزيادة في ملكه ولا لمال، وإنما أراد إقامة الحق والجهاد والحج، وأن يختم عمره بالأعمال الصالحة، ويعمل بما أمر به جدّه، صلى الله عليه وسلم، ووعظهم وأطال، حتّى بكى بعض الحاضرين، وخلع على القاضي وجماعة وودعوه وانصرفوا، ثم رحل منها في أواخر شعبان.
ونزل يوم السبت ثاني رمضان على ساحل مصر بالجيزة، فخرج إليه القائد جوهر وترجل عند لقائه، وقبّل الأرض بين يديه، واجتمع به بالجيزة
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «تردد» وما أثبته من «وفيات الأعيان» .(4/349)
أيضا الوزير أبو الفضل جعفر بن الفرات، وأقام المعز هناك ثلاثة أيام، وأخذ العسكر في التعدية بأثقالهم إلى ساحل مصر، ولما كان يوم الثلاثاء خامس رمضان، عبر المعز النيل ودخل القاهرة، ولم يدخل مصر، وكانت قد زيّنت له، وظنوا أنه يدخلها، وأهل القاهرة لم يستدعوا للقائه لأنهم بنوا الأمر على دخوله مصر أولا، ولما دخل القاهرة ودخل القصر ودخل مجلسا فيه [1] خرّ ساجدا [لله تعالى] ثم صلى فيه ركعتين، وانصرف الناس عنه.
وكان المعز عاقلا، حازما، سريا، أديبا حسن النظر في النجامة، وينسب إليه من الشعر:
لله ما صنعت بنا ... تلك المحاجر في المعاجر
أمضى وأقضى في النفو ... س من الخناجر في الحناجر
انتهى ما أورده ابن خلكان ملخصا.
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «ودخل مجلسا منه» وما بين حاصرتين زيادة منه.(4/350)
سنة ست وستين وثلاثمائة
فيها كما قال في «الشذور» حجّت جميلة بنت ناصر الدولة أبي محمد بن حمدان، فاستصحبت أربعمائة جمل عليها محامل عدّة، فلم يعلم في أيّها كانت، فلما شاهدت الكعبة، نثرت عليها عشرة آلاف دينار، وأنفقت الأموال الجزيلة. انتهى [1] .
وفيها مات ملك القرامطة، الحسن بن أحمد بن أبي سعيد الجنّابي القرمطي.
والجنّابي: بفتح الجيم، وقيل: بضمها، وتشديد النون، آخره موحدة، نسبة إلى جنّابة، بلد بالبحرين.
وكان الحسن هذا قد استولى على أكثر الشام وهزم جيش المعزّ، وقتل قائدهم جعفر بن فلاح، وذهب إلى مصر وحاصرها شهورا، قبل مجيء المعزّ، وكان يظهر طاعة الطائع لله، وله شعر وفضيلة. ولد بالأحساء، ومات بالرملة. قاله في «العبر» [2] .
والقرمطي: بكسر القاف [3] وسكون الراء، وكسر الميم، وبعدها طاء مهملة.
__________
[1] وانظر الخبر برواية أخرى عند الذهبي في «العبر» (2/ 346) .
[2] (2/ 346- 347) .
[3] قلت: وضبطها ابن منظور في «لسان العرب» (قرمط) بفتح القاف فراجعه.(4/351)
والقرمطة في اللغة تقارب الشيء بعضه من بعض، ويقال: خط مقرمط ومشي مقرمط، إذا كان كذلك، لأن أبا سعيد، والد هذا المذكور، كان قصيرا مجتمع الخلق، أسمر كريه المنظر، فلذلك قيل له: قرمطي، ونسبت إليه القرامطة.
وفيها ركن الدولة، الحسين بن بويه، أبو علي، والد عضد الدولة، ومؤيد الدولة، وأخو معز الدولة، وعماد الدولة.
كان الحسين هذا صاحب أصبهان، والرّي، وعراق العجم [1] وكان ملكا، جليلا، عاقلا، نبيلا، بقي في الملك خمسا وأربعين سنة، ووزر له ابن العميد، ووزر لولده الصاحب بن عبّاد، ومات الحسين هذا بالقولنج، وقسم الممالك على أولاده، فكلهم أقام بنوبته أحسن قيام.
وفيها المستنصر بالله [2] أبو مروان الحكم، صاحب الأندلس، وابن صاحبها الناصر لدّين الله، عبد الرحمن بن محمد الأموي المرواني، ولي ستة عشر سنة، وعاش ثلاثا وستين سنة، وكان حسن السيرة، محبّا للعلم، مشغوفا بجمع الكتب والنظر فيها، بحيث إنه جمع منها ما لم يجمعه أحد قبله ولا جمعه أحد بعده، حتّى ضاقت خزائنه عنها، وسمع من قاسم بن أصبغ وجماعة، وكان بصيرا بالأدب والشعر، وأيام الناس، وأنساب العرب، متسع الدائرة، كثير المحفوظ، ثقة فيما ينقله، توفي في صفر بالفالج.
وفيها أبو محمد عبد الله بن محمد بن علي بن زياد النيسابوري
__________
[1] عراق العجم: إقليم واسع في الغرب الأوسط من إيران المعاصرة، منه همذان، والدّينور، وحربذقان، وأصبهان، والرّيّ، وقزوين، وما بين ذلك. انظر «المشترك وضعا والمفترق صقعا» لياقوت الحموي ص (95) .
[2] في الأصل والمطبوع: «المنتصر بالله» وهو خطأ والتصحيح من «العبر» (2/ 347) و «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (8/ 677) .(4/352)
المعدّل. سمع من مسدّد بن قطن، وابن شيرويه [1] ، وفي الرحلة من الهيثم بن خلف، وهذه الطبقة. وحدّث بمسند إسحاق بن راهويه، وعاش ثلاثا وثمانين سنة.
وفيها أبو الحسن علي بن أحمد البغدادي بن المرزبان، صاحب أبي الحسين بن القطّان، أحد أئمة المذهب الشافعي وأصحاب الوجوه.
قال الخطيب البغدادي [2] : كان أحد الشيوخ الأفاضل. قال: ودرس عليه الشيخ أبو حامد [الإسفراييني] أول قدومه بغداد.
وقال الشيخ أبو إسحاق [3] : وكان فقيها ورعا، حكي عنه أنه قال:
ما أعلم أنّ لأحد عليّ مظلمة، وقد كان فقيها يعرف [4] أن الغيبة من المظالم، ودرّس ببغداد، وعليه درس الشيخ أبو حامد [الإسفراييني] . توفي في رجب بعد شيخه ابن القطّان بسبع سنين.
والمرزبان: معناه كبير الفلاحين.
نقل عنه الرافعي في مواضع محصورة، منها: أن الآجرّ المعجون بالروث يطهر ظاهره بالغسل. قاله ابن قاضي شهبة.
وفيها أبو الحسن علي بن عبد العزيز بن الحسن الجرجاني [5] القاضي بجرجان، ثم بالرّيّ.
ذكره الشيخ أبو إسحاق في «طبقاته» [6] فقال: كان فقيها، أديبا، شاعرا.
وذكره الثعالبي في «اليتيمة» [7] فقال: حسنة جرجان، وفرد الزمان،
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «وابن سيرويه» والتصحيح من «العبر» .
[2] انظر «تاريخ بغداد» (11/ 325) وما بين حاصرتين زيادة منه.
[3] انظر «طبقات الفقهاء» للشيرازي ص (117) .
[4] في «طبقات الفقهاء» : «يعلم» .
[5] قلت: الصواب أنه مات سنة (392) . انظر التعليق رقم (1) ص (355) .
[6] انظر «طبقات الفقهاء» للشيرازي ص (122) وراجع «تاريخ جرجان» ص (318) .
[7] انظر «يتيمة الدهر» (4/ 3) طبع دار الكتب العلمية ببيروت.(4/353)
ونادرة الملك [1] ، وإنسان حدقة العلم، ودرّة تاج الأدب، وفارس عسكر الشعر، جمع [2] خط ابن مقلة، ونثر الجاحظ، ونظم البحتري، وفيه يقول الصاحب بن عبّاد:
إذا نحن سلّمنا لك العلم كلّه ... فدع هذه الألفاظ ننظم شذورها [3]
ومن شعره [4] :
يقولون لي فيك انقباض وإنّما ... رأوا رجلا عن موقف الذّلّ أحجما
أرى النّاس من داناهم هان عندهم ... ومن أكرمته عزّة النّفس أكرما
وما كلّ برق لاح لي يستفزّني ... ولا كلّ من لاقيت [5] أرضاه منعما
وإني إذا ما فاتني الأمر لم أبت ... أقلب كفي إثره متندما [6]
ولم أقض حقّ العلم إن كان كلّما ... بدا طمع صيّرته لي سلّما
إذا قيل هذا منهل [7] قلت قد أرى ... ولكنّ نفس الحرّ تحتمل الظّما
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ... لأخدم من لاقيت لكن لأخدما
أأشقى به غرسا وأجنيه ذلّة ... إذا فاتباع الجهل قد كان أحزما
ولو أنّ أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظّموه في النّفوس تعظّما
ولكن أذلوه فهان [8] ودنّسوا ... محياه بالأطماع حتّى تجهّما
__________
[1] في «يتيمة الدهر» الذي بين يدي: «ونادرة الفلك» .
[2] في «يتيمة الدهر» : «يجمع» .
[3] البيت مع الخبر في «يتيمة الدهر» و «طبقات الشافعية» للسبكي (3/ 459) .
[4] الأبيات في «معجم الأدباء» لياقوت (14/ 17- 18) و «طبقات الشافعية» للسبكي (3/ 460 461) بتحقيق الطناحي والحلو. و «طبقات الشافعية» للإسنوي (1/ 349- 350) ، وبعضها في «يتيمة الدهر» (4/ 25) مع تقديم وتأخير في أبياتها.
[5] في «معجم الأدباء» : «ولا كل أهل الأرض» .
[6] هذا البيت لم يرد في «معجم الأدباء» .
[7] في «معجم الأدباء» و «يتيمة الدهر» : «إذا قيل هذا مشرب» .
[8] كذا في الأصل والمطبوع، و «طبقات الشافعية» للسبكي: «ولكن أذلوه فهان» وفي «معجم» .(4/354)
وطاف المذكور في صباه الأقاليم، ولقي العلماء، وصنّف كتاب «الوساطة بين المتنبي وخصومه» أبان فيه عن فضل كبير، وعلم غزير.
ذكر الحاكم في «تاريخ نيسابور» أنه مات بها في سلخ صفر سنة ست وستين وثلاثمائة [1] ، وحمل تابوته إلى جرجان. ودفن بها. قاله الإسنوي في «طبقاته» .
ومن شعره أيضا:
ما تطعّمت لذّة العيش حتّى ... صرت للبيت والكتاب جليسا
ليس شيء أعزّ عندي من العل ... م فلا تبتغي [2] سواه أنيسا
إنّما الذّلّ في مخالطة النّا ... س فدعهم وعش عزيزا رئيسا
وفيها أبو الحسن محمد بن الحسن بن أحمد بن إسماعيل النيسابوري السرّاج المقرئ، الرجل الصالح. رحل وكتب عن مطيّن، وأبي شعيب الحرّاني، وطبقتهما.
قال الحاكم: قلّ من رأيت أكثر اجتهادا وعبادة منه، وكان يقرئ القرآن، توفي يوم عاشوراء.
وفيها أبو الحسن محمد بن عبد الله بن زكريا بن حيّويه النيسابوري ثم المصري، القاضي. سمع بكر بن سهل الدمياطي، والنسائي، وطائفة. توفي في رجب وهو في عشر التسعين أو جاوزها.
__________
«الأدباء» : «ولكن أذلوه جهارا» .
[1] قلت: الصواب أنه مات سنة (392) كما ذكر العلّامة خير الدّين الزركلي رحمه الله في تعليق مطول له في «الأعلام» (4/ 300) وانظر «سير أعلام النبلاء» (17/ 21) .
[2] رواية البيت في «معجم الأدباء» (14/ 19) :
ليس شيء أعزّ عندي من العل ... م فلم أبتغي سواه أنيسا
ورواية البيت في «مرآة الجنان» لليافعي (2/ 387) :
ليس شيء أعز عندي من العل ... م فما أبتغي سواه أنيسا(4/355)
سنة سبع وستين وثلاثمائة
فيها كما قال السيوطي في «تاريخ الخلفاء» [1] التقى عز الدولة وعضد الدولة، فظفر عضد الدولة وأخذ عز الدولة أسيرا، وقتله بعد ذلك، وخلع الطائع على عضد الدولة خلع السلطنة، وتوجه بتاج مجوهر، وطوّقه وسوّره، وقلّده سيفا، وعقد له لواءين بيده، أحدهما مفضض على رسم الأمراء، والآخر مذهّب على رسم ولاة العهود، ولم يعقد هذا اللواء الثاني لغيره قبله، وكتب له عهد [2] ، وقرئ بحضرته، [ولم يبق أحد إلا تعجّب] [3] ولم تجر العادة بذلك، إنما كان يدفع العهد إلى الولاة بحضرة أمير المؤمنين، فإذا أخذ [4] قال أمير المؤمنين: هذا عهدي إليك فاعمل به. انتهى.
وفيها هلك صاحب هجر، أبو يعقوب يوسف بن الحسن الجنّابي القرمطي.
وفيها توفي أبو القاسم النّصرآباذي- بفتح النون والراء الموحدة وسكون الصاد المهملة آخره معجمة، نسبة إلى نصراباذ محلة بنيسابور- واسمه إبراهيم بن محمد بن أحمد بن محمويه النيسابوري، الزاهد الواعظ،
__________
[1] ص (407) .
[2] في «تاريخ الخلفاء» للسيوطي: «وكتب له عهدا» .
[3] ما بين حاصرتين زيادة من «تاريخ الخلفاء» للسيوطي.
[4] في «تاريخ الخلفاء» للسيوطي: «فإذا أخذه» .(4/356)
شيخ الصوفية والمحدّثين. سمع ابن خزيمة بخراسان، وابن صاعد ببغداد، وابن جوصا بالشام، وأحمد العسّال بمصر، وكان يرجع إلى فنون من الفقه، والحديث، والتاريخ، وسلوك الصوفية، ثم حجّ وجاور سنتين، ومات بمكة في ذي الحجة. قاله في «العبر» [1] .
وقال السخاوي: كان أوحد المشايخ في وقته علما وحالا، صحب الشّبلي، وأبا علي الرّوذباري، والمرتعش، وغيرهم. قيل له: إن بعض الناس يجالس النسوان ويقول: أنا معصوم في رؤيتهنّ، فقال: ما دامت الأشباح باقية، فإن الأمر والنهي باق، والتحليل والتحريم يخاطب [2] بهما ولن يجترئ على الشبهات إلا من يتعرض للمحرمات [3] .
وقال: الراغب في العطاء لا مقدار له، والراغب في المعطي عزيز.
وقال: العبادات إلى طلب الصّفح، والعفو عن تقصيرها، أقرب منها إلى طلب الأعواض والجزاء [بها] [4] .
وقال: جذبة من الحق تربي على أعمال الثقلين. هذا كله كلام السّلمي [5] .
وقال الحاكم [6] : الصوفي العارف أبو القاسم النّصرآباذي الواعظ، لسان أهل الحقائق، وقد كان يورّق قديما ثم تركه، غاب عن نيسابور نيّفا
__________
[1] (2/ 349) .
[2] في المطبوع و «طبقات الصوفية» للسلمي ص (487) : «مخاطب» .
[3] في الأصل: «للحرمات» وأثبت ما في المطبوع وهو موافق لما في «طبقات الصوفية» للسلمي.
[4] زيادة من «طبقات الصوفية» للسلمي.
[5] انظر «طبقات الصوفية» ص (484- 488) .
[6] قلت: وقد ساق هذا النقل باختصار الذهبي في ترجمته في «سير أعلام النبلاء» (16/ 265) فراجعه.(4/357)
وعشرين سنة، ثم انصرف إلى وطنه سنة أربعين، وكان يعظ على ستر وصيانة، ثم خرج إلى مكة سنة خمس وستين وجاور بها، ولزم العبادة فوق ما كان من عادته، وكان يعظ ويذكّر، ثم توفي بها في ذي الحجة، ودفن عند تربة الفضيل بن عياض رحمهما الله تعالى ورضي عنهما. انتهى ملخصا.
وفيها أبو منصور بختيار، الملقب عز الدولة بن الملك معز الدولة، أحمد بن بويه الدّيلمي.
ولي عز الدولة مملكة أبيه بعد موته، وتزوج الإمام الطائع ابنته شاه زمان [1] على صداق مبلغه مائة ألف دينار.
وكان عز الدولة ملكا سريّا، شديد القوى، يمسك الثور العظيم بقرنيه فيصرعه، وكان متوسطا في الإخراجات والكلف والقيام بالوظائف، حكى بشر الشمعي ببغداد قال: سئلنا عند دخول عضد الدولة بن بويه، وهو ابن عم عز الدولة المذكور، إلى بغداد لما ملكها بعد قتله عزّ الدولة، عن وظيفة الشمع الموقد بين يدي عز الدولة، فقلنا: كانت وظيفة وزيره أبي طاهر محمد بن بقية ألف من في كل شهر، فلم يعاودوا التقصّي استكثارا لذلك.
وكان بين عز الدولة وابن عمه عضد الدولة منافسات في الممالك أدّت إلى التنازع، وأفضت إلى التصافّ والمحاربة، فالتقيا يوم الأربعاء ثامن عشر شوال من هذه السنة، فقتل عز الدولة في المصافّ، وكان عمره ستا وثلاثين سنة، وحمل رأسه في طست [2] ووضع بين يدي عضد الدولة، فلما رآه وضع منديله على عينيه وبكى. قاله ابن خلّكان [3] .
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «شاه زنان» وفي فهرس الأعلام منه: «شاه زمان» كما في كتابنا، وقال محققه في هامشه: وفي نسخة (هـ) : «شاه زيان» .
[2] تحرّفت في الأصل والمطبوع إلى «دست» والتصحيح من «وفيات الأعيان» والطست: آنية.
انظر «لسان العرب» (طست) .
[3] انظر «وفيات الأعيان» (1/ 267- 268) .(4/358)
وفيها الغضنفر عدّة الدولة، أبو تغلب بن الملك ناصر الدولة بن حمدان، ولي الموصل بعد أبيه مدّة، ثم قصده عضد الدولة فعجز وهرب إلى الشام، واستولى عضد الدولة على مملكته، ومر الغضنفر بظاهر دمشق، وقد غلب عليها قسّام العيّار، ثم ركب [1] إلى العزيز العبيدي، وسأله أن يوليه نيابة الشام، ثم نزل الرملة في هذه السنة، فالتقاه مفرج الطائي فأسره، وقتله كهلا.
وفيها أبو الطاهر الذّهلي محمد بن أحمد بن عبد الله القاضي البغدادي، ولي قضاء واسط، ثم قضاء بعض بغداد، ثم قضاء دمشق، ثم قضاء الدّيار المصرية. حدّث عن بشر بن موسى، وأبي مسلم الكجّي وطبقتهما، وكان مالكي المذهب، فصيحا مفوّها، شاعرا، أخباريا، حاضر الجواب، غزير الحفظ. توفي وقد قارب التسعين.
وفيها عمر بن بشران بن محمد بن بشر بن مهران، أبو حفص السّكّري، الحافظ الثقة الضابط، وهو أخو جد أبي الحسين بن بشران. روى عن أحمد بن الحسن الصّوفي، والبغوي.
قال الخطيب [2] : حدّثنا عنه البرقاني، وسألته عنه، فقال: ثقة، ثقة، كان حافظا، عارفا، كثير الحديث.
وفيها ابن السّليم، قاضي الجماعة، أبو بكر محمد بن إسحاق بن منذر الأندلسي [3] ، مولى بني أميّة، وله خمس وستون سنة، وكان رأسا في الفقه، رأسا في الزهد والعبادة. سمع أحمد بن خالد، وأبا سعيد بن الأعرابي الفقيه بمكة، وتوفي في رمضان.
__________
[1] في «العبر» : «كتب» .
[2] انظر «تاريخ بغداد» (11/ 256) .
[3] مترجم في «سير أعلام النبلاء» (16/ 243- 244) .(4/359)
وفيها ابن قريعة القاضي البغدادي، أبو بكر، محمد بن عبد الرحمن. أخذ عن أبي بكر بن الأنباري وغيره، وكان ظريفا مزّاحا، صاحب نوادر وسرعة جواب، وكان نديما للوزير المهلّبي. ولي قضاء بعض الأعمال، وقد نيّف على الستين.
قال ابن خلّكان [1] : كان قاضي السّندية وغيرها من أعمال بغداد، ولّاه أبو السائب عتبة بن عبيد الله القاضي، وكان من [2] إحدى عجائب الدّنيا في سرعة البديهة في الجواب عن جميع ما يسأل عنه، في أفصح لفظ، وأملح سجع، وله مسائل وأجوبة مدوّنة في كتاب مشهور بأيدي الناس، وكان رؤساء ذلك العصر وفضلاؤه يداعبونه ويكتبون إليه المسائل الغريبة المضحكة، فيكتب الجواب من غير توقف ولا تلبث، مطابقا لما سألوه، وكان الوزير المهلبي يغري به جماعة يضعون له من الأسئلة الهزلية معان شتى من النوادر الظريفة [3] ليجيب عنها بتلك الأجوبة، فمن ذلك ما كتب إليه العبّاس بن المعلى الكاتب: ما يقول القاضي- وفقه الله تعالى- في يهودي زنى بنصرانية، فولدت ولدا جسمه للبشر ووجهه للبقر، وقد قبض عليهما، فما يرى القاضي فيهما، فكتب جوابه بديها: هذا من أعدل الشهود على [الملاعين] [4] اليهود بأنهم أشربوا العجل في صدورهم حتّى خرج من أيورهم، وأرى أن يناط برأس اليهودي رأس العجل، ويصلب على عنق النصرانية السّاق مع الرجل، ويسحبا على الأرض، وينادى عليهما ظلمات بعضها فوق بعض، والسلام.
ولما قدم الصاحب بن عبّاد إلى بغداد، حضر مجلس الوزير أبي محمد
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (4/ 382- 384) .
[2] لفظة «من» سقطت من المطبوع.
[3] في «وفيات الأعيان» : «من المسائل الطنزية» .
[4] ما بين حاصرتين زيادة من «وفيات الأعيان» .(4/360)
المهلبي، وكان في المجلس القاضي أبو بكر المذكور، فرأى من ظرفه وسرعة أجوبته مع لطافتها ما عظم منه تعجبه، فكتب الصاحب إلى أبي الفضل بن العميد كتابا يقول فيه: وكان في المجلس شيخ خفيف الرّوح، يعرف بالقاضي ابن قريعة، جاراني في مسائل خفّتها [1] تمنع من ذكرها، إلا أني سأطرفك [2] من كلامه، وقد سأله رجل بحضرة الوزير أبي محمد عن حدّ القفا، فقال: ما اشتمل [3] عليه جربّانك [ومازحك فيه إخوانك] [4] وأدّبك فيه سلطانك، وباسطك فيه غلمانك.
وجربّان: بضم الجيم والراء، وتشديد الباء الموحدة، وبعدها ألف، ثم نون لينة، وهي الخرقة العريضة التي فوق القبّ، وهي التي تستر القفا، والجربان لفظ فارسي معرب.
وجميع مسائله على هذا الأسلوب. انتهى ما أورده ابن خلكان ملخصا.
وقال ابن حمدون في «تذكرته» [5] : كان ابن قريعة في مجلس المهلّبي، فوردت عليه رقعة فيها: ما يقول القاضي أعزّه الله، في رجل دخل الحمّام، فجلس في الأبزن لعلة كانت به، فخرجت منه ريح، فتحول الماء زيتا، فتخاصم الحمّامي والضارط، وادّعى كل واحد منهما أنه يستحق جميع الزيت لحقه فيه، فكتب القاضي في الجواب: قرأت هذه الفتيا الظريفة في
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «خسّتها» .
[2] في «وفيات الأعيان» : «استظرفت» .
[3] في الأصل: «ما يشتمل» وأثبت لفظ المطبوع وهو موافق للفظ «وفيات الأعيان» .
[4] ما بين حاصرتين سقط من الأصل والمطبوع واستدركته من «وفيات الأعيان» .
[5] قال العلّامة المؤرخ خير الدّين الزركلي- طيّب الله ثراه- في ترجمة ابن حمدون في «الأعلام» (6/ 85) : منها خمسة أجزاء مخطوطة، طبعت قطعة صغيرة من أحدها. وانظر «كشف الظنون» (1/ 383) .(4/361)
هذه القصة السخيفة، وأخلق بها أن تكون عبثا باطلا وكذبا ماحلا، وإن كان ذلك كذلك فهو [من] أعاجيب الزمان وبدائع الحدثان، والجواب وبالله التوفيق، أن للضارط [1] نصف الزيت لحق وجعاته، وللحمامي نصف الزيت لحق مائه، وعليهما أن يصدقا المبتاع منهما عن خبث أصله وقبح فصله، حتّى يستعمله في مسرجته ولا يدخله في أغذيته. انتهى.
وقريعة: بضم القاف وفتح الراء وسكون الياء التحتية بعدها عين مهملة وهو لقب جدّه، كذا حكاه السمعاني.
وفيها أبو بكر بن القوطيّة- بضم القاف وكسر الطاء، وتشديد الياء المثناة من [2] تحت- نسبة إلى قوط بن حام بن نوح عليه السلام، نسبت إليه جدّة أبي بكر هذا وهي أم إبراهيم بن عيسى، واسمها سارة بنت المنذر بن حطية من ملوك القوط بالأندلس، وقوط أبو السودان، والهند والسّند أيضا. واسم أبي بكر هذا محمد بن عمر بن عبد العزيز بن إبراهيم بن عيسى بن مزاحم الأندلسي الإشبيلي الأصل القرطبي المولد. كان رأسا في اللغة والنحو، حافظا للأخبار وأيام الناس، فقيها محدّثا متقنا، كثير التصانيف، صاحب عبادة ونسك. كان أبو علي القالي يبالغ في تعظيمه، توفي في شهر ربيع الأول، وقد روى عن سعيد بن جابر، وطاهر بن عبد العزيز، وطبقتهما، وسمع بإشبيلية من محمد بن عبيد الزّبيدي، وبقرطبة من أبي الوليد الأعرج، وكان من أعلم أهل زمانه باللغة والعربية، وأروى الناس للأشعار وأدركهم للآثار، لا يدرك [3] شأوه ولا يشق غباره، وكان مضطلعا بأخبار الأندلس مليئا برواية سير أمرائها وأحوال فقهائها وشعرائها عن ظهر قلب.
__________
[1] في المطبوع: «للصافع» .
[2] لفظة «من» سقطت من الأصل وأثبتها من المطبوع.
[3] في المطبوع: «ولا يدرك» .(4/362)
قال ابن خلّكان [1] : وكانت كتب اللغة أكثر ما تقرأ عليه وتؤخذ عنه، ولم يكن بالضابط لروايته في الحديث والفقه، ولا كانت له أصول يرجع إليها، وكان ما يسمع عليه من ذلك إنما يحمل على المعنى لا على اللفظ، وكان كثيرا ما يقرأ عليه ما لا رواية له به على جهة التصحيح، وطال عمره فسمع الناس منه [2] طبقة بعد طبقة، وروى عنه الشيوخ والكهول، وكان قد لقي مشايخ عصره بالأندلس وأخذ عنهم، وأكثر من النقل من فوائدهم.
وصنّف الكتب المفيدة في اللغة، منها: كتاب «تصاريف الأفعال» وهو الذي فتح هذا الباب، فجاء من بعده ابن القطّاع [3] وتبعه، وله كتاب «المقصور والممدود» جمع فيه ما لا يحدّ ولا يوصف، ولقد أعجز من يأتي بعده وفاق من تقدّمه.
وكان مع هذه الفضائل من العبّاد النّساك، وكان جيد الشعر، صحيح الألفاظ، واضح المعاني، حسن المطالع والمقاطع، إلا أنه ترك ذلك [ورفضه] [4] .
حكى الشاعر أبو بكر [يحيى] بن هذيل التميمي أنه توجه يوما إلى ضيعة له بسفح جبل [5] قرطبة، وهي من بقاع الأرض الطيبة المؤنقة، فصادف أبا بكر بن القوطية المذكور صادرا عنها، وكانت له أيضا هناك ضيعة، قال:
فلما رآني عرّج عليّ واستبشر بلقائي، فقلت له: على البديهة [6] مداعبا له:
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (4/ 368- 371) .
[2] في الأصل والمطبوع: «عنه» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» .
[3] هو أبو القاسم علي بن جعفر البغدادي الصقلي، المعروف بابن القطّاع، صاحب كتاب «تثقيف اللسان» المتوفى سنة (514) ، وسوف ترد ترجمته في المجلد السادس من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى.
[4] زيادة من «وفيات الأعيان» .
[5] لفظة «جبل» لم ترد في الأصل وأثبتها من المطبوع.
[6] تحرفت في المطبوع إلى «البهديهة» .(4/363)
من أين أقبلت يا من لا شبيه له ... ومن هو الشّمس والدّنيا له فلك [1]
قال فتبسم وأجاب بسرعة:
من منزل تعجب النّسّاك خلوته ... وفيه ستر عن الفتّاك إن فتكوا [1]
قال: فما تمالكت أن قبّلت يده، إذ كان شيخي، ومجدته ودعوت له.
انتهى ما أورده ابن خلّكان ملخصا.
وفيها أبو الطاهر الوزير، نصير الدولة محمد بن محمد بن بقيّة بن علي، أحد الرؤساء والأجواد، تنقلت به الأحوال، ووزر لمعز الدولة بختيار، وقد كان أبوه فلاحا، ثم عزل وسمل، ولما تملك عضد الدولة قتله وصلبه في شوال، ورثاه محمد بن عمر الأنباري بقوله [2] :
علوّ في الحياة وفي الممات ... لحقّ أنت إحدى المعجزات
كأنّ النّاس حولك حين قاموا ... وفود نداك أيّام الصّلات
كأنّك قائم فيهم خطيبا ... وكلّهم قيام للصّلاة
مددت يديك نحوهم احتفاء ... كمدّكها [3] إليهم بالهبات
فلما ضاق بطن الأرض عن أن ... يضمّ علاك من بعد الممات
أصاروا الجوّ قبرك واستنابوا ... عن الأكفان ثوب السّافيات
لعظمك في النّفوس تبيت ترعى ... بحفّاظ وحرّاس ثقات
وتشعل عندك النّيران ليلا ... كذلك كنت أيام الحياة
ركبت مطيّة من قبل زيد ... علاها في السّنين الماضيات
وتلك فضيلة فيها تأسّ ... تباعد عنك تعيير العداة
__________
[1] البيتان مع الخبر في «يتيمة الدهر» (2/ 84) طبع دار الكتب العلمية، و «معجم الأدباء» لياقوت (18/ 274) .
[2] الأبيات في «وفيات الأعيان» (5/ 120) و «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (8/ 690) ، و «نكت الهيمان» ص (272- 273) ، و «النجوم الزاهرة» (4/ 130- 131) مع تقديم وتأخير.
[3] في «وفيات الأعيان» و «النجوم الزاهرة» : «كمدّها» وفي «الكامل» : «كمدّهما» .(4/364)
فلم أر قبل جذعك قطّ جذعا ... تمكن من عناق المكرمات
أسأت إلى النوائب فاستثارت ... فأنت قتيل ثأر النّائبات
وهي طويلة.
ولم يزل ابن بقيّة مصلوبا إلى أن توفي عضد الدولة، فأنزل عن الخشبة، ودفن في موضعه.
قال الحافظ ابن عساكر في «تاريخ دمشق» : لما صنع أبو الحسن المرثية التائية، كتبها ورماها في شوارع بغداد، فتداولتها الأدباء إلى أن وصل الخبر إلى عضد الدولة، فلما أنشدت بين يديه، تمنى أن يكون هو المصلوب دونه، وقال: عليّ بهذا الرجل، فطلب سنة كاملة، واتصل الخبر بالصاحب بن عبّاد وهو بالرّيّ، فكتب له الأمان، فلما سمع أبو الحسن ذلك قصد حضرته، فقال له: أنت القائل هذه الأبيات؟ قال: نعم، قال: أنشدنيها من فيك، فلما أنشد:
ولم أر قبل جذعك قطّ جذعا ... تمكن من عناق المكرمات
قام إليه الصاحب وقبّل فاه، وأنفذه إلى عضد الدولة، فلما مثل بين يديه قال: ما الذي حملك على رثاء عدوي؟ فقال: حقوق سلفت وأياد مضت، فقال: هل يحضرك شيء في الشموع؟ والشموع تزهر بين يديه، فأنشأ يقول:
كأنّ الشّموع وقد أظهرت ... من النّار في كلّ رأس سنانا
أصابع أعدائك الخائفين ... تضرّع تطلب منك الأمانا
فلما سمعها خلع عليه وأعطاه فرسا وردّه. انتهى.
وكان ابن بقيّة في أول أمره قد توصل إلى أن صار صاحب مطبخ معز الدولة والد عزّ الدولة، ثم انتقل إلى غيرها من الخدم، ولما مات معز الدولة(4/365)
وأفضى الأمر إلى عزّ الدولة حسنت حاله عنده، ورعى له خدمته لأبيه، وكان فيه توصل وسعة صدر، وتقدم إلى أن استوزره عز الدولة يوم الاثنين سابع ذي القعدة، سنة اثنتين وستين وثلاثمائة، ثم إنه قبض عليه لسبب يوم الاثنين سابع عشر ذي الحجة، سنة ست وستين بمدينة واسط، وسمل عينيه، ولزم بيته.
قال ابن الهمذاني في كتابه «عيون السير» : لما استوزر عز الدولة بن بقيّة بعد أن كان يتولى أمر المطبخ، قال الناس: من الغضارة إلى الوزارة، ولكن ستر كرمه عيوبه، وخلع يوما عشرين ألف خلعة. انتهى.
وتقدم أنه كان راتبه من الشمع في كل شهر ألف من، فكم يكون غيره مما تشتد الحاجة إليه، فسبحان المعز المذل، وعاش ابن بقيّة نيفا وخمسين سنة.
وفيها يحيى بن عبد الله بن يحيى بن الإمام يحيى بن يحيى اللّيثي القرطبي، أبو عيسى، الفقيه المالكي، راوي «الموطأ» عاليا.(4/366)
سنة ثمان وستين وثلاثمائة
فيها كما قال السيوطي في «تاريخ الخلفاء» [1] : أمر الطائع بأن تضرب الدبادب على باب عضد الدولة في وقت الصبح، والمغرب، والعشاء، وأن يخطب له على منابر الحضرة.
قال ابن الجوزي: وهذان أمران لم يكونا من قبله، ولا أطلقا لولاة العهود، وما حظي عضد الدولة بذلك إلا لضعف الخلافة [2] .
وفيها توفي أبو بكر القطيعي، أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك البغدادي، مسند العراق، وكان يسكن بقطيعة الدّقيق [3] ، فنسب إليها. روى عن عبد الله بن الإمام أحمد «المسند» وسمع من الكديمي، وإبراهيم الحربي والكبار، توفي في ذي الحجة، وله خمس وتسعون سنة، وكان شيخا صالحا.
وفيها السّيرافي، أبو سعيد، الحسن بن عبد الله بن المرزبان، صاحب العربية، كان أبوه مجوسيا فأسلم [4] ، وسمّي عبد الله، سمّاه به ابنه المذكور،
__________
[1] ص (407) بتحقيق الشيخ محمد محيي الدّين عبد الحميد، وقد نقل المؤلف عنه باختصار.
[2] وقد ساق الذهبي هذا الخبر في «العبر» (2/ 352) . باختصار أيضا فراجعه.
[3] كذا في الأصل والمطبوع، و «تاج العروس» (قطع) ، وفي «معجم البلدان» لياقوت (4/ 377) طبع دار صادر: «قطيعة الرّقيق» .
[4] في الأصل والمطبوع: «وأسلم» وأثبت لفظ «العبر» .(4/367)
وكان اسمه أولا [1] بهزاد [2] ، تصدّر أبو سعيد لإقراء القراءات، والنحو، واللغة، والعروض، والفقه، والحساب، وكان رأسا في النحو، بصيرا بمذهب الإمام أبي حنيفة، قرأ القرآن على ابن مجاهد، وأخذ اللغة عن ابن دريد، والنحو عن ابن السّراج، وكان ورعا يأكل من النسخ، وكان ينسخ الكراس بعشرة دراهم لبراعة خطه، ذكر عنه الاعتزال ولم يظهر منه، ومات في رجب عن أربع وثمانين سنة.
قال ابن خلّكان [3] : أبو سعيد الحسن بن عبد الله بن المرزبان السّيرافي النحوي المعروف بالقاضي. سكن بغداد وتولى القضاء بها نيابة عن أبي محمد بن معروف، وكان من أعلم الناس بنحو البصريين، وشرح «كتاب سيبويه» فأجاد فيه، وله كتاب «ألفات الوصل والقطع» وكتاب «أخبار النحويين البصريين» وكتاب «الوقف والابتداء» وكتاب «صنعة الشعر والبلاغة» و «شرح مقصورة ابن دريد» وكان الناس يشتغلون عليه بعدة فنون، القرآن الكريم، والقراءات، وعلوم القرآن، والنحو، واللغة، والفقه، والفرائض، والحساب، والكلام، والشعر، والعروض، والقوافي، وكان نزها عفيفا، جميل الأمر، حسن الأخلاق، وكان معتزليا، ولم يظهر منه شيء، وكان كثيرا ما ينشد في مجالسه:
اسكن إلى سكن تسرّ به ... ذهب الزّمان وأنت منفرد
ترجو غدا وغد كحاملة ... في الحيّ لا يدرون ما تلد
وتوفي يوم الاثنين ثاني رجب ببغداد، وعمره أربع وثمانون سنة، ودفن بمقابر [4] الخيزران.
__________
[1] في المطبوع: «وكان أولا اسمه» .
[2] تحرّف في المطبوع إلى «بهزار» .
[3] انظر «وفيات الأعيان» (2/ 78- 79) .
[4] في «وفيات الأعيان» : «بمقبرة» .(4/368)
وقال ولده أبو محمد يوسف: أصل أبي من سيراف، ومضى إلى عسكر مكرم، وأقام عند أبي محمد بن عمر المتكلم، وكان يقدمه، ويفضله [1] على جميع أصحابه، ودخل بغداد، وخلف القاضي أبا محمد بن معروف على قضاء الجانب الشرقي [ثم] [2] في الجانبين.
والسّيرافي: بكسر السين المهملة، وبعد الراء والألف فاء، نسبة إلى سيراف، وهي من بلاد فارس، على ساحل البحر، مما يلي كرمان، خرج منها جماعة من العلماء.
وفيها أبو القاسم الآبندوني- بألف ممدودة وفتح الباء الموحدة، وسكون النون، وضم المهملة، نسبة إلى آبندون من قرى جرجان- واسمه عبد الله بن إبراهيم بن يوسف الجرجاني الحافظ. سكن بغداد، وحدّث عن أبي خليفة، والحسن بن سفيان، وطبقتهما، وهو ثقة ثبت.
قال الحاكم: كان أحد أركان الحديث.
وقال البرقاني: كان محدّثا، زاهدا، متقلّلا من الدّنيا، لم يكن يحدّث غير واحد [منفرد] [3] ، لسوء أدب الطلبة وحديثهم وقت السماع، عاش خمسا وتسعين سنة، وممّن حدّث عنه البرقاني [4] ، وأبو العلاء الواسطي.
وفيها الرّخّجيّ- بالضم وتشديد المعجمة المفتوحة وجيم، نسبة إلى الرّخّجية، قرية ببغداد- القاضي أبو الحسين عيسى بن حامد البغدادي [5]
__________
[1] في الأصل: «وفضله» وأثبت لفظ المطبوع وهو موافق لما في «وفيات الأعيان» .
[2] سقطت من الأصل والمطبوع واستدركتها من «وفيات الأعيان» .
[3] زيادة من «تاريخ بغداد» (9/ 407) و «المنتظم» لابن الجوزي (7/ 96) .
[4] في الأصل والمطبوع: «الرماني» والتصحيح من «تاريخ بغداد» (9/ 407) و «المنتظم» لابن الجوزي (7/ 96) وهو أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن غالب الخوارزمي البرقاني المتوفى سنة (425) هـ. انظر «طبقات الحفاظ» للسيوطي ص (418) .
[5] قال السمعاني في «الأنساب» (6/ 97) : يعرف بابن بنت القنبيطي، وانظر تتمة كلامه عنه هناك.(4/369)
الفقيه، أحد تلامذة ابن جرير [1] . روى عن محمد بن جعفر القتّات وطبقته، ومات في ذي الحجة، عن سن عالية.
وفيها الحافظ النبيل أحمد بن موسى بن عيسى بن أحمد بن عبد الرّحمن، الوكيل الفرضي، أبو الحسن [2] بن أبي عمر الجرجاني. كان حافظا نبيها غير أنه كان يضع الحديث، نسأل الله العافية.
وفيها أبو أحمد الجلودي- بضمتين، وقيل بفتح الجيم نسبة إلى الجلود- محمد بن عيسى بن عمرويه [3] النيسابوري، راوية «صحيح مسلم» عن ابن سفيان الفقيه. سمع من جماعة، ولم يرحل.
قال الحاكم: هو من كبار عبّاد الصوفية، وكان ينسخ بالأجرة، ويعرف مذهب سفيان [4] وينتحله. توفي في ذي الحجة، وله ثمانون سنة.
وفيها أبو الحسين الحجّاجي- نسبة إلى جدّ- محمد بن محمد بن يعقوب النيسابوري، الحافظ الثقة المقرئ، العبد الصالح الصدوق، في ذي الحجة، عن ثلاث وثمانين سنة. قرأ على ابن مجاهد، وسمع عمر بن أبي غيلان، وابن خزيمة، وهذه الطبقة، بمصر، والشام، والعراق، وخراسان، وصنّف العلل، والشيوخ، والأبواب.
قال الحاكم: صحبته نيّفا وعشرين سنة، فلم [5] أعلم أن الملك كتب
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «أحد تلامذة ابن جريج» وهو خطأ، والصواب أنه أحد تلامذة محمد بن جرير الطبري كما في «الأنساب» و «العبر» (2/ 354) .
[2] في الأصل والمطبوع: «أبو الحسين» وهو خطأ، والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» (16/ 382) والمصادر المذكورة في حاشيته.
[3] انظر «الأنساب» (3/ 283) وحاشية محققه العلّامة الشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني عليه ففي ذلك فائدة عزيزة.
[4] يعني سفيان الثوري. انظر «الأنساب» (3/ 284) .
[5] في «العبر» : «فما» .(4/370)
عليه خطيئة، وسمعت أبا عليّ الحافظ يقول: ما في أصحابنا أفهم ولا أثبت منه، وأنا ألقّبه بعفّان لثبته، رحمه الله تعالى.
وفيها هفتكين التّركي الشرابي [1] ، خرج عن بغداد خوفا من عضد الدولة، ونزل الشام، فتملك دمشق بإعانة أهلها في سنة أربع وستين، وردّ الدعوة العبّاسية، ثم صار إلى صيدا، وحارب المصريين، فقدم لحربه القائد جوهر، وحاصره بدمشق سبعة أشهر، ثم ترحل عنه، فساق وراء جوهر، فالتقوا بعسقلان، فهزم جوهرا، وتحصّن جوهر بعسقلان، فحاصره هفتكين بها خمسة عشر شهرا، ثم أمّنه، فنزل وذهب إلى مصر، فصادف العزيز صاحب مصر قد جاء في نجدته، فردّ معه، فكانوا سبعين ألفا، فالتقاهم هفتكين، فأخذوه أسيرا، في أول سنة ثمان هذه، ثم من عليه العزيز، وأعطاه إمرة، فخاف منه ابن كلّس الوزير وقتله، سقاه سمّا، وكان يضرب بشجاعته المثل.
__________
[1] انظر «سير أعلام النبلاء» (16/ 307- 308) .(4/371)
سنة تسع وستين وثلاثمائة
فيها ورد رسول العزيز صاحب مصر والشام، إلى عضد الدولة، ثم ورد رسول آخر، فأجابه بما مضمونه، صدق الطّوية وحسن النيّة.
وفيها توفي أحمد بن عطاء [الرّوذباري] [1] أبو عبد الله الزاهد، شيخ الصوفية، نزيل صور [2] . روى عن أبي القاسم البغوي وطبقته.
قال القشيري: كان شيخ الشام في وقته، وضعّفه بعضهم، فإنه روى عن إسماعيل الصفّار مناكير، تفرّد بها. قاله في «العبر» [3] .
ومن كلامه: ما من قبيح إلا وأقبح منه صوفي شحيح.
وقال: الخشوع في الصلاة علامة فلاح المصلّي قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ في صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ 23: 1- 2 [المؤمنون: 1- 2] .
وقال: مجالسة الأضداد ذوبان الرّوح [4] ، ومجالسة الأشكال تلقيح العقول.
__________
[1] زيادة من «العبر» مصدر المؤلف.
[2] في الأصل: «نزيل صغد» وفي المطبوع: «نزيل صفد» وكلاهما خطأ، والتصحيح من «العبر» وانظر «تاريخ بغداد» (4/ 336) و «سير أعلام النبلاء» (16/ 227- 228) .
[3] (2/ 356) .
[4] قوله: «ذوبان الروح» سقط من الأصل وأثبته من المطبوع.(4/372)
وقال الخطيب [1] : نشأ ببغداد وأقام بها دهرا طويلا [2] ، ثم انتقل فنزل صور من ساحل بلاد الشام [3] ، وتوفي في قرية يقال لها منواث من عمل عكا، وحمل إلى صفد فدفن بها.
وفيها ابن شاقلا أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد البغدادي البزّاز، شيخ الحنابلة، وتلميذ أبي بكر عبد العزيز، توفي كهلا في رجب، وكان صاحب حلقة للفتيا والإشغال بجامع المنصور.
وفيها الجعل، واسمه حسين بن علي البصري الحنفي العلّامة، صاحب التصانيف، وله ثمانون سنة، وكان رأس المعتزلة. قاله أبو إسحاق في «طبقات الفقهاء» [4] .
وفيها ابن ماسي المحدّث، أبو محمد عبد الله بن إبراهيم بن أيوب بن ماسي البزّاز ببغداد، في رجب، وله خمس وتسعون سنة.
قال البرقاني وغيره: ثقة، ثبت. روى عن أبي مسلم الكجّي وطائفة.
وفيها الحسن بن محمد بن علي الأصفهاني أبو سعيد الحافظ المتقن. روى عن أبي قاسم البغوي، وأبي محمد بن صاعد، وهذه الطبقة.
وعنه: أبو نعيم وغيره، ووصفه أبو نعيم بالمعرفة والإتقان.
وفيها الإمام الحافظ الثبت الثقة، أبو الشيخ، وأبو محمد، عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيّان الأصبهاني، صاحب التصانيف، في سلخ المحرم، وله خمس وتسعون سنة، وأول سماعه في سنة أربع وثمانين ومائتين، من
__________
[1] انظر «تاريخ بغداد» (4/ 336) .
[2] كانت العبارة في الأصل والمطبوع: «أقام ببغداد ونشأ بها، وأقام ببغداد دهرا طويلا» وأثبت لفظ «تاريخ بغداد» .
[3] في الأصل والمطبوع: «من ساحل بلاد الروم» وأثبت لفظ «تاريخ بغداد» .
[4] انظر «طبقات الفقهاء» للشيرازي ص (143) بتحقيق الدكتور إحسان عبّاس.(4/373)
إبراهيم بن سعدان، وابن أبي عاصم، وطبقتهما، ورحل في حدود الثلاثمائة، وروى عن أبي خليفة وأمثاله، بالموصل، وحرّان، والحجاز، والعراق، وممّن روى عنه أبو بكر أحمد بن عبد الرحمن الشيرازي، والماليني، وأبو نعيم، وابن مردويه.
وقال ابن مردويه: هو ثقة مأمون، وصنّف «التفسير» والكتب الكثيرة في الأحكام وغير ذلك.
وقال الخطيب [1] : كان حافظا ثبتا متقنا.
وقال غيره: كان صالحا عابدا قانتا لله، كبير القدر.
وفيها الإمام أبو سهل محمد بن سليمان العجلي الصعلوكي النيسابوري، الحنفي نسبا والشافعي مذهبا، الفقيه، شيخ الشافعية بخراسان.
قال فيه الحاكم: أبو سهل الصعلوكي الشافعي اللغوي المفسّر النحوي المتكلم المفتي الصوفي، حبر زمانه [2] وبقية أقرانه. ولد سنة تسعين ومائتين، واختلف إلى ابن خزيمة، ثم إلى أبي علي الثقفي، وناظر وبرع، وسمع من أبي العبّاس السّراج وطبقته.
وقال الصاحب بن عبّاد: ما رأى أبو سهل مثل نفسه، ولا رأينا مثله، وهو صاحب وجه في المذهب.
وسئل أبو الوليد حسّان بن محمد الفقيه، عن أبي بكر القفّال، وأبي سهل الصعلوكي أيّهما أرجح، فقال: ومن يقدر أن يكون مثل أبي سهل.
وعنه أخذ ابنه أبو الطيب وفقهاء نيسابور.
وقال أبو عبد الرحمن السّلمي: سمعته يقول ما عقدت على شيء قطّ،
__________
[1] انظر «سير أعلام النبلاء» (16/ 278) .
[2] في الأصل والمطبوع: «خير زمانه» وما أثبته من «العبر» (2/ 358) و «سير أعلام النبلاء» (16/ 236) .(4/374)
وما كان لي قفل ولا مفتاح، وما حرزت [1] على فضّة ولا على ذهب قطّ.
قال: وسمعته يقول: من قال لشيخه لم؟ لا يفلح أبدا [2] .
ومن غرائبه وجوب النيّة لإزالة النجاسة، وأن من نوى غسل الجنابة والجماع [3] لا يجزئه لواحد منهما، وتوفي في ذي القعدة.
وفيها ابن أمّ شيبان، قاضي القضاة، أبو الحسن محمد بن صالح بن علي الهاشمي العبّاسي العيسوي الكوفي. روى عن عبد الله بن زيدان [4] البجلي وجماعة، وقدم بغداد مع أبيه، فقرأ على ابن مجاهد، وتزوج بابنة قاضي القضاة، أبي عمر محمد بن يوسف.
قال طلحة الشاهد: هو رجل عظيم القدر، واسع العلم، كثير الطّلب، حسن التصنيف، متوسط في مذهب مالك، متفنّن.
وقال ابن أبي الفوارس: نهاية في الصدق، نبيل فاضل، ما رأينا في معناه مثله. توفي فجأة في جمادى الأولى، وله بضع وسبعون سنة. قاله في «العبر» [5] .
وفيها النقّاش المحدّث، لا المقرئ، أبو بكر محمد بن علي بن
__________
[1] في «سير أعلام النبلاء» : «ما حررت» .
[2] علق الأستاذ الشيخ شعيب الأرناؤوط على هذا الخبر في «سير أعلام النبلاء» (16/ 237) بقوله: بلى والله يفلح إذا كان قصده معرفة الحقيقة، أو كان يرى في الشيخ خطأ لا يقرّه الشرع، وأراد أن ينبّه عليه بأدب ولطف، فكل بني آدم خطاء كما صحّ عنه صلى الله عليه وسلم، وقد اتخذ هذه الكلمة المنافية لما جاء به الإسلام من لا يترسّم خطى الشرع من الشيوخ ذريعة لارتكاب ما لا يحل، وفعل ما هو محرم.
[3] في الأصل والمطبوع: «والجماعة» والتصحيح من «العبر» (2/ 358) مصدر المؤلف في نقله.
[4] في الأصل والمطبوع: «ابن بدران» وهو خطأ والتصحيح من «العبر» وانظر «سير أعلام النبلاء» (16/ 226) .
[5] (2/ 358- 359) .(4/375)
الحسن المصري الحافظ، نزيل تنّيس، وله سبع وثمانون سنة. روى عن شيخ النّسائي محمد بن جعفر الإمام، ورحل، فسمع من النّسائي، وأبي يعلى، وعبدان، وخلائق، ورحل إليه الدارقطني، وكان من الحفاظ والعلماء بهذا الشأن [1] .
وفيها أبو عمرو، محمد بن محمد بن صابر البخاري، المؤذّن، صاحب صالح جزرة، الحافظ مسند أهل بخارى وعالمها.
وفيها الباقرحيّ- بفتح القاف، وسكون الراء، ثم [حاء] مهملة، نسبة إلى باقرحا من قرى بغداد- أبو علي مخلد بن جعفر الفارسي الدقاق، صاحب «المشيخة» ببغداد في ذي الحجة. روى عن يوسف بن يعقوب القاضي وطبقته، ولم يكن يعرف شيئا من الحديث، فأدخلوا عليه فأفسدوه.
قاله في «العبر» [2] .
__________
[1] يعني علوم الحديث النبوي.
[2] (2/ 360) .(4/376)
سنة سبعين وثلاثمائة
فيها رجع عضد الدولة من همذان، فلما وصل إلى بغداد، بعث إلى الطائع لله ليتلقاه، فما وسعه التخلّف، ولم تجر عادة بذلك أبدا، وأمر قبل دخوله، أن من تكلم أو دعا له قتل، فما نطق مخلوق، فأعجبه ذلك. وكان عظيم الهيبة، شديد العقوبة على الذنب الصغير.
وفيها توفي الرّازي، أبو بكر أحمد بن علي الفقيه، شيخ الحنفية ببغداد، وصاحب أبي الحسن الكرخي، في ذي الحجة، وله خمس وستون سنة. انتهت إليه رئاسة المذهب، وكان مشهورا بالزهد والدّين، عرض عليه قضاء القضاة فامتنع، وله عدة مصنفات. روى فيها عن الأصم وغيره.
وفيها اليشكري، أحمد بن منصور الدّينوري الأخباري، مؤدّب الأمير حسن بن عيسى بن المقتدر. روى عن ابن دريد وطائفة، وله أجزاء منسوبة إليه رواها الأمير حسن.
وفيها أبو سهل بشر بن أحمد الإسفراييني الدهقان المحدّث الجوّال.
روى عن إبراهيم بن علي الذّهلي، وقرأ على الحسن بن سفيان مسنده، ورحل إلى بغداد، والموصل، وأملى زمانا، وتوفي في شوال، عن نيّف وتسعين سنة.
وفيها أبو محمد السّبيعي- بفتح السين المهملة، نسبة إلى سبيع بطن(4/377)
من همدان- وهو الحافظ الحسن [بن أحمد] [1] بن صالح الحلبي. روى عن عبد الله بن ناجية وطبقته، ومات في آخر السنة في الحمام، وكان شرس الأخلاق.
قال ابن ناصر الدّين: كان على [2] تشيّع فيه ثقة.
وفيها الحسن بن رشيق العسكري، أبو محمد المصري الحافظ، في جمادى الآخرة، وله ثمان وثمانون سنة.
قال يحيى بن الطحّان: روى عن النّسائي، وأحمد بن حمّاد زغبة، وخلق لا أستطيع ذكرهم، ما رأيت عالما أكثر حديثا منه.
وفيها ابن خالويه، الأستاذ أبو عبد الله [3] الحسين بن أحمد الهمذاني النحوي اللغوي صاحب التصانيف وشيخ أهل حلب. أخذ عن ابن مجاهد، وأبي بكر بن الأنباري، وأبي عمر الزاهد.
قال ابن الأهدل: انتقل عن بغداد إلى حلب فاستوطنها، ومات بها، وكان بنو حمدان يعظّمونه، دخل على سيف الدولة، فقال له: اقعد، ولم يقل: اجلس، فاتخذت فضيلة لسيف الدولة، وذلك لأن القائم يقال له:
اقعد، والنائم والساجد: اجلس، وله مواقف مع المتنبي في مجلس سيف الدولة، ومن شعره:
إذا لم يكن صدر المجالس سيّدا ... فلا خير فيمن صدّرته المجالس
وكم قائل: ما لي رأيتك راجلا؟ ... فقلت له: من أجل أنك فارس [4]
انتهى.
__________
[1] ما بين حاصرتين سقط من الأصل والمطبوع واستدركته من «العبر» (2/ 361) وانظر «سير أعلام النبلاء» (16/ 296) .
[2] لفظة «على» سقطت من الأصل وأثبتها من المطبوع.
[3] في «العبر» : «أبو عبيد الله» وهو تحريف فيصحح فيه.
[4] البيتان في «يتيمة الدهر» (1/ 137) طبع دار الكتب العلمية ببيروت، وانظر «وفيات الأعيان» (2/ 179) .(4/378)
وفيها القبّاب [1] وهو الذي يعمل المحابر [2] أبو بكر، عبد الله بن محمد بن محمد بن فورك بن عطاء الأصبهاني المقرئ، وله بضع وتسعون سنة. قرأ على ابن شنبوذ، وروى عن محمد بن إبراهيم الجيراني [3] ، وعبد الله بن محمد بن النّعمان، والكبار، وصار شيخ ناحيته، توفي في ذي القعدة.
وفيها الإمام الإسماعيلي، أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العبّاس، أبو بكر، الجرجاني [4] ، أحد الحفاظ الأعيان. كان شيخ المحدّثين والفقهاء، وأجلّهم في المروءة والسخاء. قاله ابن ناصر الدّين.
وفيها العلّامة الأزهري، أبو منصور محمد بن أحمد بن الأزهر الهروي اللغوي النحوي الشافعي، صاحب «تهذيب اللغة» وغيره من المصنفات الكبار، الجليلة المقدار، مات بهراة [5] ، في شهر ربيع الآخر، وله ثمان وثمانون سنة. روى عن البغوي، ونفطويه، وأبي بكر بن السرّاج، وترك الأخذ عن ابن دريد تورعا، لأنه رآه سكران، وقد بقي الأزهري في أسر القرامطة مدة طويلة. قاله في «العبر» [6] .
__________
[1] تحرّفت في الأصل والمطبوع إلى «القتاب» والتصحيح من «العبر» (2/ 362) وانظر «سير أعلام النبلاء» (16/ 257) .
[2] كذا قال المؤلف، وقد تبع في ذلك الإمام الذهبي في «العبر» (2/ 362) . وقال الإمام الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (16/ 258) : القبّاب: هو الذي يعمل القبّة، يعني المحارة.
وقال الإمام السمعاني في «الأنساب» (10/ 38) : القبّاب: هذه النسبة إلى عمل القباب التي هي كالهوادج، والله أعلم.
[3] تحرفت في الأصل والمطبوع إلى «الحيراني» والتصحيح من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» .
[4] مترجم في «تاريخ جرجان» ص (108- 109) وسوف تتكرر ترجمته في حوادث سنة (371) .
[5] في الأصل: «في هراة» وأثبت ما في المطبوع وهو موافق لما في «العبر» .
[6] (2/ 362- 363) .(4/379)
وقال ابن قاضي شهبة: ولد بهراة سنة اثنتين وثمانين ومائتين، وكان فقيها صالحا، غلب عليه علم اللغة، وصنّف فيه كتابه «التهذيب» الذي جمع فيه فأوعى، في عشر مجلدات، وصنّف في التفسير كتابا سمّاه «التقريب» .
انتهى ملخصا.
وقال ابن خلّكان [1] : وحكى بعض الأفاضل أنه رأى بخطه، قال:
امتحنت بالأسر سنة عارضت القرامطة الحاجّ [2] بالهبير، وكان القوم الذي وقعت في سهمهم عربا نشؤوا في البادية يتتبعون مساقط الغيث أيام النجع، ويرجعون إلى أعداد المياه في محاضرهم زمان القيظ، ويرعون النعم ويعيشون بألبانها، وكنّا نشتّي بالدهناء، ونرتبع بالصّمّان، ونقيظ بالسّتارين، واستفدت من محاورتهم ومخاطبة بعضهم بعضا ألفاظا جمّة، ونوادر كثيرة، أوقعت أكثرها في كتابي- يعني «التهذيب» -. انتهى.
وفيها الحافظ الكبير، أبو بكر غندر، محمد بن جعفر البغدادي الورّاق الثقة. كان رحّالا جوّالا، توفي بأطراف خراسان غريبا. سمع بالشام، والعراق، ومصر، والجزيرة. وروى عن الحسن بن شبيب المعمري، ومحمد بن محمد الباغندي، وطبقتهما. وعنه: الحاكم، وأبو نعيم، وغيرهما.
قال الحاكم: دخل إلى أرض التّرك، وكتب من الحديث ما لم يتقدمه فيه أحد كثرة.
وفيها أبو زرعة اليمني الإستراباذي، محمد بن إبراهيم الحافظ [3] .
روى عن علي بن الحسين بن معدان، والسّراج، وأبي عروبة الحرّاني.
وعنه: الإدريسي، وحمزة السهمي، وهو ثقة. قاله ابن بردس.
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (4/ 334- 336) .
[2] في الأصل والمطبوع «الحج» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» .
[3] مترجم في «تذكرة الحفاظ» للذهبي (3/ 998- 999) .(4/380)
وممّن كان بعد الستين وثلاثمائة:
الرّفّاء الشاعر، أبو الحسن السّريّ بن أحمد الكندي الموصلي، صاحب الديوان المشهور. مدح سيف الدولة، والوزير المهلّبي والكبار.
قال ابن خلّكان [1] : كان في صباه يرفو ويطرز في دكان بالموصل، وهو مع ذلك يتولع بالأدب وينظم الشعر، ولم يزل حتّى جاد شعره ومهر فيه، وقصد سيف الدولة بن حمدان بحلب، وأقام عنده مدة ثم انتقل بعد وفاته إلى بغداد، ومدح الوزير المهلّبي وجماعة من رؤسائها، ونفق شعره وراج، وكان [2] بينه وبين أبي بكر محمد، وأبي عثمان سعيد بن هاشم الخالديين الموصليين الشاعرين المشهورين معاداة، فادّعى عليهما سرقة شعره، وشعر غيره.
وكان السّريّ مغرى بنسخ «ديوان كشاجم» الشاعر المشهور، وهو إذ ذاك ريحان الأدب بتلك البلاد، والسّريّ في طريقه يذهب، فكان يدسّ فيما يكتبه من شعره أحسن شعر الخالديين ليزيد في حجم ما ينسخه، وينفق سوقه، ويعلى شعره [3] بذلك عليهما، ويغضّ منهما. فمن هذه الجهة وقفت
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (2/ 359- 363) .
[2] في «وفيات الأعيان» : «وكانت» .
[3] في «وفيات الأعيان» «ويغلى سعره» .(4/381)
في بعض النسخ من «ديوان كشاجم» على زيادات ليست في الأصول المشهورة.
وكان شاعرا مطبوعا، عذب الألفاظ، مليح المأخذ، كثير الافتتان في [التشبيهات و] الأوصاف [1] ، ولم يكن له رواء ولا منظر، ولا يحسن من العلوم غير قول الشعر.
ومن شعر السّري المذكور:
وكانت الإبرة فيما مضى ... صائنة وجهي وأشعاري
فأصبح الرزق بها ضيقا ... كأنه من ثقبها جاري
ومن محاسن شعره في المديح قوله من [2] جملة قصيدة:
يلقى الّندى برقيق وجه مسفر ... فإذا التقى الجمعان عاد صفيقا
رحب المنازل ما أقام فإن سرى ... في جحفل ترك الفضاء مضيقا
وذكر له الثعالبي في كتابه «المنتحل» :
ألبستني نعما رأيت بها الدّجى ... صبحا وكنت أرى الصباح بهيما
فغدوت يحسدني الصديق وقبلها ... قد كان يلقاني العدو رحيما
ومن غرر شعره في التشبيب:
بنفسي من أجود له بنفسي ... ويبخل بالتّحية والسّلام
وحتفي كامن في مقلتيه ... كمون الموت في حدّ الحسام
وله كتاب «المحب والمحبوب والمشموم والمشروب» [3] وكانت وفاته سنة نيف وستين وثلاثمائة. انتهى ما أورده ابن خلّكان ملخصا.
__________
[1] ما بين حاصرتين استدركته من «وفيات الأعيان» .
[2] في الأصل: «في» وأثبت لفظ المطبوع.
[3] قام بطبعه مجمع اللغة العربية بدمشق وقد صدرت الأجزاء الثلاثة الأولى منه بتحقيق الأستاذ.(4/382)
وفاروق بن عبد الكبير، أبو حفص الخطّابي البصري، محدّث البصرة ومسندها. روى عن الكجّي، وهشام بن [علي] [1] السّيرافي، ومحمد بن يحيى القزّاز، وكان حيّا في سنة إحدى وستين.
وابن مجاهد المتكلم، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن يعقوب بن مجاهد الطائي، صاحب الأشعري، ذو التصانيف الكثيرة في الأصول. قدم من البصرة، فسكن بغداد، وعنه أخذ القاضي أبو بكر الباقلّاني، وكان ديّنا صيّنا خيّرا.
والنّقوي [2] أبو عبد الله، محمد بن عبد الله الصنعاني، آخر من روى في الدّنيا عن إسحاق بن إبراهيم. رحل المحدّثون إليه في سنة سبع وستين وثلاثمائة.
والنّجيرمي- بفتح النون والراء، وكسر الجيم، نسبة إلى نجيرم، محلة بالبصرة- أبو يعقوب، يوسف بن يعقوب البصري. حدّث في سنة خمس وستين عن أبي مسلم، ومحمد بن حيّان المازني.
__________
مصباح غلاونجي رحمه الله، والجزء الرابع بتحقيق الأستاذ ماجد الذهبي، وهي طبعة متقنة محررة مفهرسة.
[1] ما بين حاصرتين زيادة من «العبر» (2/ 363) و «سير أعلام النبلاء» (16/ 140) .
[2] في الأصل والمطبوع: «التقوي» وهو تصحيف، والتصحيح من «العبر» وانظر «سير أعلام النبلاء» (16/ 141) .(4/383)
سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة
فيها كما قال ابن الجوزي في «الشذور» مات عضد الدولة، والصحيح أنه مات في التي بعدها كما يأتي.
وفيها الإسماعيلي، الحبر الإمام الجامع، أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العبّاس الجرجاني [1] الحافظ الفقيه الشافعي، ذو التصانيف الكبار في الحديث والفقه بجرجان، في غرّة رجب، وله أربع وتسعون سنة. أول سماعه في سنة تسع وثمانين، ورحل في سنة أربع وتسعين، وسمع من يوسف بن يعقوب القاضي وإبراهيم بن زهير الحلواني وطبقتهما، وعنه: الحاكم، والبرقاني، وحمزة اليمني.
قال الحاكم: كان الإسماعيلي أوحد عصره وشيخ المحدّثين والفقهاء، وأجلّهم في الرئاسة والمروءة والسخاء. انتهى.
وقال الذهبي [2] : كان ثقة حجة كثير العلم. انتهى.
وفيها المطّوّعي، أبو العبّاس الحسن بن سعيد بن جعفر العبّاداني المقرئ، نزيل إصطخر، وأسند من في الدّنيا في القراءات. قرأ القراءات [3]
__________
[1] تقدمت ترجمته في حوادث سنة (370) ص (379) .
[2] انظر «العبر» (2/ 365) .
[3] قوله: «قرأ القراءات» سقط من الأصل وأثبته من المطبوع.(4/384)
على أصحاب الدّوري، وخلف، وابن ذكوان، والبزّي، وحدّث عن أبي خليفة، والحسن بن المثنّى، وضعّفه ابن مردويه.
وقال أبو نعيم: ليّن في روايته.
وقال في «العبر» [1] : عاش مائة سنة وسنتين، قال الخزاعي: كان أبوه سعيد واعظا محدّثا.
وفيها أبو محمد السّبيعي، واسمه الحسن بن أحمد بن صالح الهمداني الحلبي [2] .
قال ابن ناصر الدّين: كان على تشيع فيه ثقة، ومات في الحمام.
انتهى.
وفيها الزّبيبي [3] عبد الله بن إبراهيم بن جعفر، أبو الحسين البغدادي البزّار، في ذي القعدة، وله ثلاث وتسعون سنة. روى عن الحسن بن علّويه القطّان، والفريابي، وطائفة.
وفيها ابن التبّان، شيخ المالكية بالمغرب، أبو محمد عبد الله بن إسحاق القيرواني.
قال القاضي عياض: ضربت إليه آباط الإبل من الأمصار [لذبّه عن مذهب أهل المدينة] [4] ، وكان حافظا بعيدا من التصنّع والرّياء فصيحا [كبير القدر] [4] .
وفيها أبو زيد المروزي الإمام الشافعي القاشاني- بفاء وشين معجمة
__________
[1] (2/ 365) .
[2] مترجم في «طبقات الحفاظ» للسيوطي ص (382) .
[3] تحرّفت نسبته في الأصل المطبوع إلى «الزيني» وفي «العبر» إلى «الزيدي» والتصحيح من «الأنساب» (6/ 246) .
[4] تكملة من «سير أعلام النبلاء» (16/ 320) .(4/385)
ونون، نسبة إلى فاشان قرية من قرى مرو- واسمه محمد بن أحمد بن عبد الله الزاهد. حدّث بالعراق، ودمشق، ومكّة، وروى الصحيح عن الفربري ومات بمرو في رجب، وله سبعون سنة.
قال الحاكم: كان من أحفظ الناس لمذهب الشافعي، وأحسنهم نظرا، وأزهدهم في الدّنيا، سمعت أبا بكر البزّار يقول: عادلت [1] الفقيه أبا زيد من نيسابور إلى مكّة، فما أعلم أن الملائكة كتبت عليه خطيئة. انتهى.
وقال الخطيب [2] : حدّث ب «صحيح البخاري» عن الفربري، وأبو زيد أجلّ من روى ذلك الكتاب.
وعنه أخذ أبو بكر القفّال المروزي وفقهاء مرو، وكان من أزكى النّاس قريحة، جاور بمكة سبع سنين.
وقال ابن الأهدل: كان أول أمره فقيرا، ثم بسطت عليه الدّنيا عند كبره، وسقوط أسنانه، وانقطاعه عن الجماع، فقال مخاطبا لها: لا أهلا بك ولا سهلا، أقبلت حين لا ناب ولا نصاب، ومات وله تسعون سنة. انتهى.
وفيها محمد بن خفيف أبو عبد الله الشّيرازي، شيخ إقليم فارس، وصاحب الأحوال والمقامات. روى عن حمّاد بن مدرك وجماعة.
قال السّلمي: هو اليوم شيخ المشايخ، وتاريخ الزمان، لم يبق للقوم أقدم منه سنّا ولا أتم حالا، متمسّك [3] بالكتاب والسّنّة فقيه على مذهب الشافعي، كان من أولاد الأمراء فتزهد، توفي في ثالث رمضان عن خمس وتسعين سنة، وقيل: عاش مائة سنة وأربع سنين. قاله في «العبر» [4] .
__________
[1] قال ابن منظور: عادل الرجل الرجل: ركب معه. انظر «لسان العرب» (عدل) .
[2] انظر «تاريخ بغداد» (1/ 314) وقد نقل المؤلف عنه بتصرف واختصار.
[3] في الأصل: «متمسكا» وأثبت لفظ المطبوع وهو الصواب.
[4] (2/ 366- 367) .(4/386)
قال ابن خفيف [1] : قدم علينا بعض أصحابنا، فاعتلّ بعلة البطن، فكنت أخدمه وآخذ من تحته الطست طول الليل، فغفوت [2] عنه مرة، فقال لي: نمت! لعنك الله! فقيل له: كيف وجدت نفسك عند قوله: لعنك الله؟
قال: كقوله: رحمك الله.
ومن كلامه: التوكّل [هو] [3] الاكتفاء بضمانه، وإسقاط التّهمة عن قضائه.
وقال: الأكل مع الفقراء قربة إلى الله عزّ وجل.
وقال أحمد بن يحيى الشيرازي: ما أرى التصوف إلا يختم بأبي عبد الله بن خفيف.
وقال السبكي [4] : شيخ المشايخ، وذو القدم الراسخ في العلم والدّين، كان سيدا جليلا وإماما حفيلا، يستمطر الغيث بدعائه، ويؤوب المصرّ بكلامه عن إغوائه، من أعلم المشايخ بعلوم الظاهر، وممّن اتفقوا على عظيم تمسّكه بالكتاب والسّنّة.
وكانت له أسفار وبدايات، وأحوال عاليات ورياضات، لقي من النّسّاك شيوخا ومن السّلّاك طوائف، رسخ قدمهم في الطريق رسوخا، وصحب من أرباب الأحوال أحبارا وأخيارا، وشرب من منهل الطريق كاسات كبارا، وسافر مشرقا ومغربا، وصابر النفس حتّى انقادت له، فأصبح مثنى الثناء عليها، معربا ذا صبر على الطاعة لا يعصيه فيه قلبه، واستمرار على المراقبة، شهيد [5] عليه ربّه، وجنب لا يدري القرار، ونفس لا تعرف المأوى إلا البيداء، ولا مسكن [6] إلا القفار.
__________
[1] انظر «طبقات الصوفية» ص (464) .
[2] في الأصل والمطبوع: «فأغفلت» وما أثبته من «طبقات الصوفية» .
[3] زيادة من «طبقات الصوفية» ص (465) .
[4] انظر «طبقات الشافعية» للسبكي (3/ 149- 155) بتحقيق الطناحي والحلو.
[5] في «طبقات الشافعية» : «شهيدة» .
[6] في الأصل والمطبوع: «ولا سكن» وأثبت لفظ «طبقات الشافعية» .(4/387)
وكان من أولاد الأمراء فتزهّد، حتّى قال: كنت أذهب وأجمع الخرق من المزابل، وأغسلها وأصلح منها [1] ما ألبسه.
وروى عنه القاضي أبو بكر بن الباقلاني وغيره، ورحل إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري، وأخذ عنه، وهو من أعيان تلامذته، وصنّف من الكتب ما لم يصنّفه أحد، وعمّر حتّى عمّ نفعه البلدان، وازدحم الناس على جنازته، وصلّي عليه نحو مائة مرة. انتهى ملخصا.
__________
[1] في «طبقات الشافعية» : «وأغسله وأصلح منه» .(4/388)
سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة
في شوالها مات عضد الدولة، فناخسرو بن الملك ركن الدولة الحسن بن بويه، ولي سلطنة [بلاد] فارس بعد عمّه عماد الدولة علي، ثم حارب ابن عمه عز الدولة كما تقدم، واستولى على العراق، والجزيرة، ودانت له الأمم، وهو أول من خوطب بشاهنشاه [1] في الإسلام، وأول من خطب له على المنابر ببغداد بعد الخليفة، وكان من جملة ألقابه تاج الملّة، وهو الذي أظهر قبر الإمام علي كرّم الله وجهه، بالكوفة، وبنى عليه المشهد الذي هناك، وعمّر النواحي، وحفر الأنهار، وأصلح طريق مكة، وهو الذي بنى على مدينة النّبيّ صلى الله عليه وسلم سورا، وبنى المارستان العضدي ببغداد، وأنفق عليه أموالا لا تحصى، وكان أديبا مشاركا في فنون من العلم، حازما لبيبا، إلا أنه كان غاليا في التشيّع، وله صنّف أبو علي «الإيضاح» و «التكملة» وقصده الشعراء من البلاد، كالمتنبي، وأبي الحسن السّلامي، وكان شهما مطاعا، حازما زكيا، متيقظا مهيبا، سفّاكا للدماء [2] ، له عيون [3] كثيرة تأتيه بأخبار البلاد القاصية، وليس في بني بويه مثله، وكان قد طلب حساب ما يدخله في العام فإذا هو ثلاثمائة ألف ألف وعشرون ألف ألف درهم، وجدّد مكوسا
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «بشاه شاه» وما أثبته من «العبر» مصدر المؤلف، ومعنى شاهنشاه:
ملك الملوك.
[2] تحرّفت في المطبوع إلى: «سفاكا للدماك» .
[3] يعني جواسيس.(4/389)
ومظالم، قيل: إنه أنشد أبياتا فلازمه الصرع بعدها إلى أن مات وهي:
ليس شرب الكأس إلا في المطر ... وغناء من جوار في السّحر
غانيات [1] سالبات للنّهى ... ناغمات في تضاعيف [2] الوتر
[مبرزات الكأس من مطلعها ... ساقيات الراح من فاق البشر]
عضد الدولة وابن ركنها ... ملك الأملاك غلّاب القدر
سهّل الله له بغيته ... في ملوك الأرض ما دار القمر
وأراه الخير في أولاده ... ليساس الملك منهم [3] بالغرر [4]
ومات بعلّة الصرع في شوال، ولما نزل به الموت كان يقول: ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ 69: 28- 29 [الحاقة: 28- 29] ويردّدها إلى أن مات.
وأنشد في احتضاره قبل ترديده لهذه الآية قول القاسم بن عبيد الله [5] :
قتلت صناديد الرجال فلم أدع ... عدوّا ولم أمهل على ظنّة [6] خلقا
[وأخليت دور الملك من كلّ نازل ... وبددتهم غربا وشرّدتهم شرقا] [7]
فلما بلغت النّجم عزا ورفعة ... وصارت رقاب الخلق أجمع لي رقا
رماني الرّدى سهما فأخمد جمرتي ... فها أنا ذا في حفرتي عاجلا ملقى
فأذهبت دنياي [8] وديني سفاهة ... فمن ذا الذي مني بمصرعه أشقى [9]
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «غاليات» وما أثبته من «يتيمية الدهر» و «وفيات الأعيان» .
[2] في الأصل والمطبوع: «في تصانيف» وما أثبته من «يتيمة الدهر» .
[3] في «يتيمة الدهر» : «منه» .
[4] الأبيات في «يتيمة الدهر» (2/ 259) والأبيات الأربعة الأولى في و «وفيات الأعيان» (4/ 54) وما بين حاصرتين مستدرك منهما.
[5] هو القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب بن سعيد الحارثي الوزير، المتوفى سنة (291) هـ. انظر ترجمته ومصادرها في «سير أعلام النبلاء» (14/ 18- 20) .
[6] في الأصل والمطبوع: «على طيّه» والتصحيح من «المنتظم» و «النجوم الزاهرة» .
[7] سقط هذا البيت من الأصل والمطبوع واستدركته من «المنتظم» و «النجوم الزاهرة» .
[8] في المطبوع: «دنيائي» .
[9] الأبيات في «المنتظم» لابن الجوزي (7/ 116- 117) والبيتان الأول والثاني في «النجوم» .(4/390)
الزاهرة» (4/ 142- 143) . ومات عن سبع وأربعين سنة واحد عشر شهرا، ودفن في دار المملكة، وكتم ذلك، ثم حمل بعد ذلك إلى مشهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وفيها النضروي، أبو منصور العبّاس بن الفضل بن زكريا بن نضرويه- بضاد معجمة- مسند هراة. روى عن أحمد بن نجدة، ومحمد بن عبد الرحمن الشامي وطائفة، ووثقه الخطيب، ومات في شعبان.
وفيها الغزّي، أبو بكر محمد بن العبّاس بن وصيف، الذي يروي «الموطأ» عن الحسن بن الفرج الغزي، صاحب يحيى بن بكير. ورّخه أبو القاسم بن مندة [1] .
وفيها ابن بخيت، أبو بكر محمد بن عبد الله بن خلف بن بخيت العكبري الدّقّاق [2] ، ببغداد، في ذي القعدة. روى عن خلف العكبري، والفريابي.
وفيها ابن خميرويه [3] العدل، أبو الفضل [4] محمد بن عبد الله بن محمد بن خميرويه [3] بن سيّار الهروي، محدّث هراة. روى عن علي الجكّاني [5] ، وأحمد بن نجدة وجماعة.
__________
«الزاهرة» (4/ 142 143) .
[1] في الأصل: «القاسم بن مندة» وهو خطأ وأثبت لفظ المطبوع. وانظر «سير أعلام النبلاء» (16/ 341- 342) وقد حصل اضطراب في ترجمته في «العبر» المطبوع في الكويت.
[2] مترجم في «سير أعلام النبلاء» (16/ 334- 335) .
[3] تحرفت في الأصل إلى «خمرويه» وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب. وانظر «تاج العروس» (خمر) (11/ 222) .
[4] في الأصل والمطبوع: «أبو الفضيل» وهو خطأ، والتصحيح من «الأنساب» (5/ 180) و «سير أعلام النبلاء» (16/ 311) .
[5] في الأصل والمطبوع: «الحكّاني» وفي «العبر» طبع دار الكتب العلمية ببيروت:
«الحيكاني» وقد سقطت الترجمة من «العبر» المطبوع في الكويت، وفي «سير أعلام النبلاء» (16/ 311) : «الجكّاني» وهو ما أثبتناه.(4/391)
سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة
في المحرم أظهرت وفاة عضد الدولة، وكانت أخفيت حتّى أحضروا ولده صمصام الدولة، فجلس للعزاء، ولطموا عليه أياما في الأسواق، وجاء الطائع إلى صمصام الدولة فعزاه، ثم ولّاه الملك، وعقد له لواءين، ولقبه شمس الدولة، وبعد أيّام جاء الخبر بموت مؤيد الدولة أخو عضد الدولة بجرجان، وولي مملكته أخوه فخر الدولة، الذي وزر له إسماعيل بن عبّاد.
وفيها كان القحط الشديد ببغداد، وبلغ حساب الغرارة بأربعمائة درهم.
وفيها توفي أبو بكر الشّذائي، أحمد بن نصر البصري المقرئ [1] ، أحد القرّاء الكبار، تلا على عمر بن محمد الكاغدي، وابن شنبوذ، وجماعة، وتصدّر وأقرأ.
والشّذائي: بفتح المعجمتين، نسبة إلى شذا قرية بالبصرة.
وفيها أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن إسحاق الأصبهاني العدل، المعروف بالقصّار، نزيل نيسابور. روى عن عبد الله بن شيرويه [2] والسراج، وعدّة، وكان ممّن جاوز المائة.
__________
[1] مترجم في «الأنساب» (7/ 302- 303) .
[2] تحرّفت في الأصل والمطبوع إلى «سيرويه» والتصحيح من «العبر» (2/ 141) طبع دار الكتب.(4/392)
وفيها الأمير أبو الفتوح، بلكّين [1]- بضم الباء الموحدة واللام، وتشديد الكاف المكسورة وسكون الياء المثناة من تحت، وبعدها نون- ابن زيري- بكسر الزاي وسكون الياء المثناة من تحت وكسر الراء وبعدها ياء بن مناد الحميري الصنهاجي، ويسمى أيضا يوسف، لكن بلكّين أشهر، وهو الذي استخلفه المعزّ بن المنصور العبيدي على إفريقية عند توجهه إلى الديار المصرية، وكان استخلافه إياه يوم الأربعاء ثالث عشري ذي الحجة، سنة إحدى وستين وثلاثمائة، وأمر الناس بالسمع والطاعة له، وسلّمه البلاد، وخرجت العمال وجباة الأموال باسمه، وأوصاه المعز بأمور كثيرة، وأكد عليه في فعلها، ثم قال: إن نسيت ما أوصيتك به فلا تنس ثلاثة أشياء: إيّاك أن ترفع الجناية عن أهل البادية، والسيف عن البربر، ولا تولّ أحدا من إخوتك وبني عمّك، فإنهم يرون أنهم أحق بهذا الأمر منك، وافعل مع أهل الحاضرة خيرا، وفارقه على ذلك، وعاد من وداعه وتصرف في الولاية.
ولم يزل حسن السيرة، تام النظر في مصالح دولته ورعيته، إلى أن توفي يوم الأحد لسبع بقين من ذي الحجة، سنة ثلاث وسبعين بموضع يقال له: واركلان، مجاور إفريقية، وكانت علته القولنج، وقيل: خرجت في يده بثرة فمات منها.
وكان له أربعمائة حظية، حتّى قيل: إن البشائر وفدت عليه في يوم واحد بولادة سبعة عشر ولدا.
وفيها أبو علي الحسين بن محمد بن حبش الدّينوري المقرئ، صاحب موسى بن جرير الرقّي.
__________
العلمية ببيروت، وانظر «طبقات الحفاظ» ص (305) وهو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن شيرويه.
[1] مترجم في «وفيات الأعيان» (1/ 286- 287) وعنه أخذ المؤلف الترجمة.(4/393)
وفيها أبو عثمان [1] المغربي، سعيد بن سلّام [2] الصوفي، العارف بالله تعالى، نزيل نيسابور.
قال السلمي: لم نر مثله في علو الدرجة والحال [3] وصون الوقت.
وقال ابن الأهدل: سعيد بن سلم، أو ابن سالم، أو ابن سلّام النيسابوري.
قال اليافعي [4] : لا أدري أنه الممدوح بقول الشاعر:
ألا قل لساري الليل لا تخش ظلمة [5] ... سعيد بن سلم ضوء كلّ بلاد
لنا سيد أربى على كل سيّد ... جواد حثا في وجه كل جواد
يعني أنه سبق في الجود، والسابق يحثو التراب بحافر فرسه في وجه المسبوق أو فرسه.
وفيها أبو محمد بن السقّا الحافظ، عبد الله بن محمد بن عثمان الواسطي. روى عن أبي خليفة، وعبدان وطبقتهما. وعنه الدارقطني، وأبو نعيم، وما حدّث إلا من حفظه، توفي في جمادى الآخرة، وكان حافظا متقنا، من كبراء أهل واسط، وأولي الحشمة، رحل به أبوه.
وفيها أبو الحسن علي بن محمد بن أحمد بن كيسان الحربي، أخو محمد، وكانا توأمين. روى عن يوسف القاضي، وعاش نيفا وتسعين سنة، فاحتيج إليه، وكان جاهلا.
__________
[1] في «العبر» المطبوع في بيروت: «أبو عثمام» وهو تحريف فيصحح فيه.
[2] في الأصل والمطبوع و «العبر» : «ابن سالم» وما أثبته من «طبقات الصوفية» للسلمي ص (479) و «سير أعلام النبلاء» (16/ 320) .
[3] الذي في «طبقات الصوفية» و «سير أعلام النبلاء» : «لم نر مثله في علو الحال» .
[4] انظر «مرآة الجنان» (2/ 402) وقد نقل المؤلف عنه بتصرف.
[5] في «مرآة الجنان» : «لا تخش ضلة» .(4/394)
قال البرقاني: أعطيته الكتاب ليحدّثنا منه، فلم يدر ما يقول، فقلت له: سبحان الله، حدّثكم يوسف القاضي، فقال: سبحان الله حدّثكم يوسف القاضي.
قال الجوهري: سمعت منه في سنة ثلاث، ولم يؤرخ وفاته الخطيب ولا غيره، وجزم في «العبر» [1] أنه توفي في هذه السنة.
وفيها الفضل بن جعفر أبو القاسم التميمي المؤذّن، الرجل الصالح، بدمشق، وهو راوي نسخة أبي مسهر، عن عبد الرحمن بن القاسم الروّاس، وكان ثقة.
وفيها- أو في التي قبلها كما جزم به ابن الأهدل، أو فيما بعدها- أبو عبد الله الخضري- بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين، ولكن لثقل هذا اللفظ قالوها بكسر الخاء وسكون الضاد، وهي نسبة إلى جدّه [2] . قاله ابن قاضي شهبة.
واسم المترجم محمد بن أحمد أبو عبد الله الخضري المروزي، كان هو وأبو زيد شيخيّ عصرهما بمرو، وكثيرا ما يقول القفّال: سألت أبا زيد والخضري، وممّن نقل عنه القاضي حسين في باب استقبال القبلة في الكلام على تقليد الصبي.
قال ابن باطيش [3] : أخذ عن أبي بكر الفارسي، وأقام بمرو ناشرا لفقه الشافعي رضي الله عنه، مرغّبا فيه، وكان يضرب به المثل في قوة الحفظ وقلّة النسيان، وقال: إنه كان موجودا في سنة خمس وسبعين وثلاثمائة.
__________
[1] (2/ 142) طبع دار الكتب العلمية.
[2] وانظر ما قاله في هذه النسبة السمعاني في «الأنساب» (5/ 141) والنووي في «تهذيب الأسماء واللغات» (2/ 276) ، وابن خلكان في «وفيات الأعيان» (4/ 216) .
[3] في كتابه «طبقات الشافعية» وهو مخطوط لم ينشر بعد فيما أعلم.(4/395)
وقال ابن خلّكان [1] : توفي في عشر الثمانين وثلاثمائة.
ونقل عنه الرافعي في انغماس الجنب في الماء، وفي النجاسات، أنه خرّج هو وأبو زيد قولا: إن النار تؤثر في الطهارة كالشمس والريح.
وقال ابن الأهدل: كان تحته بنت أبي علي الشّبّوبي [2] ، فسئل يوما عن قلامة ظفر المرأة، هل هو عورة، فتوقف، فقالت له زوجته: سمعت أبي يقول: للأجنبي النظر إلى قلامة اليد دون الرجل، ففرح الخضري، وقال: لو لم أستفد من الاتصال بأهل العلم إلا هذه المسألة لكانت كافية.
وقد قرر فتواها هذه كثير من العلماء لقوله تعالى: إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها 24: 31 [النّور: 31] وهو مفسر بالوجه والكفّين. انتهى.
وفيها أبو بكر محمد بن حيويه بن المؤمل بن أبي روضة الكرخي النحوي بهمذان، وهو أحد المتروكين في الحديث، ذكر أنه بلغ مائة واثنتي عشرة سنة، وروى عن أسيد بن عاصم، وإبراهيم بن ديزيل، وإسحاق بن إبراهيم الدّبري.
وفيها محمد بن محمد بن يوسف بن مكّي أبو أحمد الجرجاني. روى عن البغوي وطبقته، وحدّث بصحيح البخاري عن الفربري، وتنقل في النواحي.
قال أبو نعيم: ضعّفوه، وسمعت منه «الصحيح» .
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (4/ 216) .
[2] في الأصل «السابوري» وفي المطبوع: «الشابوري» وكلهما خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» . وهذه النسبة إلى شبّوية، وهو اسم لبعض أجداد المنتسب إليه.(4/396)
سنة أربع وسبعين وثلاثمائة
فيها توفي إسحاق بن سعد [1] بن الحافظ الحسن بن سفيان، أبو يعقوب النّسوي [2]- بفتحتين نسبة إلى [3] مدينة بفارس- روى عن جدّه، وفي الرحلة عن محمد بن المجدر، وطبقتهما.
وفيها عبد الرحمن بن محمد بن حيكا [4] العلّامة، أبو سعيد الحنفي الحاكم، بنيسابور، في شعبان، وله اثنتان وتسعون سنة. روى عن أبي يعلى الموصلي، والبغداديين، وولي قضاء ترمذ.
وفيها أبو يحيى بن نباتة، خطيب الخطباء، عبد الرحيم بن محمد بن إسماعيل بن نباتة الفارقي اللّخمي [5] ، العسقلاني المولد، المصري الدار، ولي خطابة حلب لسيف الدولة، وفي خطبه دلالة على قوة علمه وسعته، وقوة
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «ابن أسعد» وهو خطأ، والتصحيح من «الأنساب» (12/ 83) و «المنتظم» لابن الجوزي (7/ 124) و «سير أعلام النبلاء» (16/ 365) .
[2] في الأصل والمطبوع: «الفسوي» وهو خطأ، والتصحيح من المصادر المذكورة في التعليق السابق.
[3] في الأصل والمطبوع: «نسبة إلى فسا» وهو خطأ، والتصحيح من «معجم البلدان» (5/ 282) .
[4] في الأصل: «حسكا» وفي المطبوع: «حكا» وأثبت لفظ «العبر» (2/ 143) طبع دار الكتب العلمية ببيروت.
[5] انظر «وفيات الأعيان» (3/ 156- 158) ، و «مرآة الجنان» (2/ 403- 404) و «غربال الزمان» ص (321) .(4/397)
قريحته، وأجمعوا على أنه ما عمل مثل خطبه قطّ، وهو الذي حثّ سيف الدولة بخطبه في الجهاد على التوسّع فيه وسمع على المتنبي بعض «ديوانه» وكان رجلا صالحا. رأى النّبيّ صلى الله عليه وسلم في المنام في المقابر، وقال له: «مرحبا بخطيب الخطباء» وأدناه، وتفل في فيه، فلم تزل رائحة المسك توجد فيه إلى أن مات، وأشار صلى الله عليه وسلم بيده إلى المقابر، وقال: «كيف قلت يا خطيب» قال:
قلت: لا يخبرون بما إليه آلوا، ولو قدروا على المقال لقالوا، ثم أخذ يسوقها، فاستيقظ وعلى وجهه نور وبهجة، وعاش بعد ذلك ثمانية وعشرين ليلة، لا يستطعم طعاما ولا شرابا من أجل تلك التفلة وبركتها، والخطبة التي فيها هذه الكلمات، تعرف بالمنامية.
ومولده وموته بميّافارقين، قيل: مات وعمره دون الأربعين، ورؤي بعد موته في المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: دفع إليّ رقعة فيها سطران بالأحمر وهما:
قد كان أمن لك [1] من قبل ذا ... واليوم أضحى لك أمنان
والصفح لا يحسن عن محسن ... وإنما يحسن عن جان
فاستيقظ الرائي، وهو يحفظهما.
وفيها علي بن النّعمان بن محمد، قاضي القضاة بالدّيار المصرية.
ولي بعد أبيه، وكان شيعيّا غاليا، وشاعرا مجودا [2] .
وفيها الحافظ أبو الفتح الأزدي، محمد بن الحسين بن أحمد الموصلي، نزيل بغداد، صنّف في علوم الحديث، وفي الضعفاء، وحدّث عن أبي يعلى، ومحمد بن جرير الطبري، وطبقتهما، وضعّفه البرقاني.
__________
[1] في الأصل: «قد كان لك أمن» وأثبت لفظ المطبوع.
[2] تحرفت في الأصل إلى «جوادا» وأثبت لفظ المطبوع.(4/398)
وفيها أبو بكر الرّبعي، محمد بن سليمان الدمشقي البندار. روى عن أحمد بن عامر، ومحمد بن الفيض الغسّاني، وطبقتهما، وتوفي في ذي الحجة.(4/399)
سنة خمس وسبعين وثلاثمائة
فيها كما قال ابن الأثير [1] : خرج من البحر طائر أكبر من الفيل بعمان، وصاح بصوت عال: قد قرب الأمر ثلاث مرات، ثم غاص في البحر، فعل ذلك ثلاث مرات، ثم غاب فلم يعد. انتهى.
وفيها توفي أبو زرعة الرّازي الصغير، أحمد بن الحسين الحافظ.
رحل وطوّف، وجمع وصنّف، وسمع من أبي حامد بن بلال، والقاضي المحاملي، وطبقتهما.
قال الخطيب [2] : كان حافظا متقنا [ثقة] ، جمع الأبواب والتراجم.
وفيها البحيري- بفتح الموحدة وكسر الحاء المهملة، نسبة إلى جدّه- وهو أبو الحسن أحمد بن محمد بن جعفر النيسابوري. سمع ابن خزيمة، ومحمد بن محمد الباغندي، وطبقتهما، واستملى عليه الحاكم.
وفيها حسينك الحافظ، أبو أحمد الحسين بن علي بن محمد بن يحيى التميمي النيسابوري. روى عن ابن خزيمة، والسرّاج، وعمر بن أبي غيلان، وعبد الله بن زيدان، والكبار، ومنه: الحاكم، والبرقاني، وكان ثقة حجة محتشما، توفي في ربيع الآخر.
__________
[1] انظر «الكامل في التاريخ» (9/ 46) طبعة دار صادر، وقد نقل المؤلف عنه بتصرف واختصار.
[2] انظر «تاريخ بغداد» (4/ 109) وما بين حاصرتين مستدرك منه.(4/400)
قال الحاكم: صحبته حضرا وسفرا، نحو ثلاثين سنة، فما رأيته ترك قيام الليل، وكان يقرأ في كل ليلة سبعا، وأخرج مرّة عن نفسه عشرة إلى الغزو.
وفيها العسكري، أبو عبد الله الحسين بن محمد بن عبيد الدقّاق.
روى عن محمد بن يحيى المروزي، ومحمد بن عثمان بن أبي شيبة وطبقتهما.
وفيها أبو مسلم بن مهران، الحافظ العابد العارف، عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن مهران البغدادي. روى عن البغوي، وأبي عروبة وطبقتهما. وعنه: الدارقطني، والحاكم، وكان ثقة زاهدا. رحل إلى خراسان، والشام، والجزيرة، ثم دخل بخارى، وأقام بتلك الدّيار نحوا من ثلاثين سنة. وصنّف «المسند» ثم تزهد وانقبض عن الناس، وجاور بمكة، وكان يجتهد أن لا يظهر للمحدّثين ولا لغيرهم.
قال ابن أبي الفوارس: صنّف أشياء كثيرة، وكان ثقة زاهدا، ما رأينا مثله.
وفيها الخرقي، أبو القاسم، عبد العزيز بن جعفر البغدادي. روى عن أحمد بن الحسن الصوفي، والهيثم بن خلف الدّوري، وكان ثقة.
وفيها أبو القاسم عبد العزيز بن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز الدّاركي- بفتح الراء نسبة إلى دارك من قرى أصبهان- درّس بنيسابور مدة، ثم سكن بغداد، وكانت له حلقة للفتوى، وانتهت إليه رئاسة المذهب ببغداد. تفقه على أبي إسحاق المروزي، وتفقه عليه الشيخ أبو حامد الإسفراييني بعد موت شيخه أبي الحسين بن المرزبان، وقال: ما رأيت أفقه منه.(4/401)
وقال الخطيب [1] : كان ثقة. أثنى عليه الدارقطني.
وقال ابن أبي الفوارس: كان يتّهم بالاعتزال. انتهى.
وهو صاحب وجه في المذهب، وحدّث عن جدّه لأمه الحسن بن محمد الدّاركي، وتوفي في شوال، وهو في عشر الثمانين.
وفيها أبو حفص بن الزّيّات عمر بن محمد بن علي البغدادي.
قال ابن أبي الفوارس: كان ثقة متقنا جمع أبوابا وشيوخا.
وقال البرقاني: ثقة مصنف.
وروى عن إبراهيم بن شريك، والفريابي وطبقتهما، ومات في جمادى الآخرة، وله تسع وثمانون سنة.
وفيها الأبهري- كالأحمدي نسبة إلى أبهر، قرية قرب زنجان [2] وقرية بأصبهان أيضا، لم أدر من أيّهما هذا [3]- وهو القاضي أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد التميمي شيخ المالكية العراقيين، وصاحب التصانيف، توفي في شوال، وهو في عشر التسعين، وسمع الكثير بالشام، والعراق، والجزيرة، وروى عن الباغندي، وعبد الله بن زيدان [4] البجلي وطبقتهما، وسئل أن يلي قضاء القضاة فامتنع.
وفيها الميانجي- بالفتح ومثناة تحتية وفتح النون وبالجيم، نسبة إلى ميانج، موضع بالشام- القاضي أبو بكر يوسف بن القاسم الشافعي المحدّث،
__________
[1] انظر «تاريخ بغداد» (10/ 463- 465) .
[2] تحرفت في الأصل إلى «زنجار» وأثبت ما في المطبوع، وانظر «الأنساب» (1/ 124- 125) .
[3] الصواب أنه منسوب إلى التي قرب «زنجان» كما ذكر السمعاني.
[4] تحرّفت في الأصل والمطبوع إلى «بدران» والتصحيح من «الأنساب» و «سير أعلام النبلاء» (16/ 332) .(4/402)
نزيل دمشق، ناب في القضاء مدة عن قاضي بني عبيد، أبي الحسن علي بن النّعمان، وحدّث عن أبي خليفة الجمحي، وعبدان وطبقتهما، ورحل إلى الشام، والجزيرة، وخراسان، والعراق، وتوفي في شعبان، وقد قارب التسعين.(4/403)
سنة ست وسبعين وثلاثمائة
شرعت دولة بني بويه تضعف، فمال العسكر عن صمصام الدّولة إلى أخيه شرف الدولة، فذل الصمصام، وسافر إلى أخيه، راضيا بما يعامله به، فدخل وقبّل الأرض مرات، فقال له شرف الدولة: كيف أنت؟ أوحشتنا، ثم اعتقله، فوقع بين الدّيلم- وكانوا تسعة عشر ألفا- وبين التّرك وكانوا ثلاثة آلاف، فالتقوا، فانهزمت الدّيلم، وقتل منهم ثلاثة آلاف، وحفّت التّرك بشرف الدولة، وقدموا به بغداد، فأتاه الطائع يهنئه، ثم خفي خبر صمصام الدولة، وأكحل، فلم تطل لشرف الدولة مدة.
وفيها توفي أبو إسحاق المستملي، إبراهيم بن أحمد البلخي. سمع الكثير، وخرّج لنفسه معجما، وحدّث بصحيح البخاري مرّات عن الفربري، وكان ثقة صاحب حديث.
وفيها أبو سعيد السّمسار، الحسن بن جعفر بن الوضّاح البغداديّ الحربيّ، الحرفي [1] حدّث عن محمد بن يحيى المروزي، وأبي شعيب الحرّاني، وطبقتهما.
__________
[1] في الأصل والمطبوع و «العبر» (2/ 147) طبع دار الكتب العلمية، و «النجوم الزاهرة» (4/ 150) : «الخرقي» وفي «لسان الميزان» (2/ 198) : «الحوفي» وكلاهما خطأ، والتصحيح من «الأنساب» (4/ 113) و «تاريخ بغداد» (7/ 292) و «سير أعلام النبلاء» (16/ 369) و «ميزان الاعتدال» (1/ 481) .(4/404)
قال العتيقي [1] : فيه تساهل.
وفيها أبو الحسن الجرّاحي، علي بن الحسن البغدادي، القاضي المحدّث. روى عن حامد بن شعيب، والباغندي قال البرقاني: اتهم في روايته عن حامد.
وفيها أبو الحسن البكائي- نسبة إلى البكا بطن من بني عامر بن صعصعة- علي بن عبد الرحمن الكوفي، شيخ الكوفة، روى عن مطين، وأبي حصين الوادعي، وطائفة، وعاش أكثر من تسعين سنة.
وفيها ابن سبنك [2] ، أبو القاسم، عمر بن محمد بن إبراهيم البجلي، البغدادي القاضي. روى عن محمد بن حبّان، والباغندي، وجماعة، وعاش خمسا وثمانين سنة.
وفيها قسّام الحارثي، من أهل تلفيتا [3] بجبل سنّير [4] . كان ترّابا، ثم تنقلت الأحوال به، وصار مقدّم الأحداث والشباب بدمشق، وكثرت أعوانه، حتّى غلب على دمشق، حتّى لم يبق للنائب معه أمر، فسار جيش من مصر لقصده ولمحاربته، فضعف أمر قسّام واختفى، ثم استأمن، فقيّدوه، وبعث إلى مصر في هذا العام، فعفي عنه، وخمل أمره.
وفيها أبو عمرو بن حمدان الحيري، وهو محمد بن أحمد بن حمدان بن علي النيسابوري النحوي، مسند خراسان. توفي في ذي القعدة،
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «العقيقي» وهو خطأ، والتصحيح من «تاريخ بغداد» و «سير أعلام النبلاء» و «العبر» وهو أحمد بن محمد العتيقي.
[2] في الأصل والمطبوع: «ابن شبنك» وهو تحريف، والتصحيح من «العبر» (2/ 147) وكتب الرجال التي بين يدي.
[3] تحرّفت في الأصل والمطبوع إلى «بلغينا» والتصحيح من «العبر» (2/ 148) وانظر «معجم البلدان» (2/ 42) .
[4] تصحفت في الأصل والمطبوع إلى «سنبر» والتصحيح من «معجم البلدان» .(4/405)
وله ثلاث وتسعون سنة. سمع بنيسابور، ونسا، والموصل، وجرجان، وبغداد، والبصرة. روى عن الحسن بن سفيان، وزكريا السّاجي، وعبدان، وخلائق، وكان مقرئا عارفا بالعربية، له بصر بالحديث، وقدم في العبادة.
كان المسجد فراشه ثلاثين سنة، ثم لما ضعف وعمي حوّلوه.
وفيها أبو بكر الرّازي، محمد بن عبد الله بن عبد العزيز [بن] شاذان، الصوفي الواعظ، والد المحدّث أبي مسعود أحمد بن محمد البجلي الرّازي.
روى عن يوسف بن الحسين الرّازي، وابن عقدة، وطائفة، وهو صاحب مناكير وغرائب، ولا سيما في حكايات الصوفية. قاله في «العبر» [1] .
وقال في «المغني» [2] : طعن فيه الحاكم، ولأبي عبد الرحمن السلمي عنه عجائب. انتهى.
وفيها ابن النّحاس المصري، واسمه أحمد بن محمد بن عيسى بن الجرّاح، أبو العبّاس الحافظ، نزيل نيسابور.
قال ابن ناصر الدّين: كان أحد الحفاظ المبرزين والثقات المجودين.
انتهى.
__________
[1] (2/ 148) .
[2] (2/ 603) .(4/406)
سنة سبع وسبعين وثلاثمائة
فيها رفع شرف الدولة عن العراق مظالم كثيرة، فمن ذلك أنه ردّ على الشريف أبي الحسن محمد بن عمر جميع أملاكه، وكان مغلّها في العام ألفي ألف وخمسمائة ألف درهم، وكان الغلاء ببغداد فوق الوصف.
وفيها توفي أبيض بن محمد بن أبيض بن أسود الفهري المصري.
روى عن النّسائي مجلسين، وهو آخر من روى عنه.
وفيها إسحاق بن المقتدر بالله، توفي في ذي القعدة، عن ستين سنة، وصلى عليه ولده القادر بالله، الذي ولي الخلافة بعد الطائع لله.
وفيها أمة الواحد، ابنة القاضي أبي عبد الله الحسين بن إسماعيل المحاملي، حفظت القرآن، والفقه، والنحو، والفرائض، والعلوم، وبرعت في مذهب الشافعيّ، وكانت تفتي مع أبي علي بن أبي هريرة.
وفيها أبو علي الفارسي، الحسن بن أحمد [1] بن عبد الغفار النحوي، صاحب التصانيف ببغداد، في ربيع الأول، وله تسع وثمانون سنة، وكان متهما بالاعتزال، وقد فضّله بعضهم على المبرّد، وكان عديم المثل. قاله في «العبر» [2] .
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «الحسن بن محمد» وهو خطأ، والتصحيح من المصادر التي بين يدي.
[2] 2/ 149) .(4/407)
وقال ابن خلّكان [1] : كان إمام وقته في علم النحو، ودار البلاد، وأقام بحلب عند سيف الدولة بن حمدان مدة، وكان قدومه في سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة، وجرت بينه وبين أبي الطيب المتنبي مجالس، ثم انتقل إلى بلاد فارس، وصحب عضد الدولة بن بويه، وتقدم عنده، وعلت منزلته، حتّى قال عضد الدولة: أنا غلام أبي علي في النحو، وصنّف له كتاب «الإيضاح» و «التكملة» .
ويحكى أنه كان يوما في ميدان شيراز، يساير عضد الدولة، فقال له:
لم انتصب المستثنى في قولنا: قام القوم إلا زيدا؟ فقال الشيخ: بفعل مقدّر، فقال له: كيف تقديره؟ فقال: أستثني زيدا، فقال له عضد الدولة: هلّا رفعته وقدّرت امتنع زيد؟ فانقطع الشيخ وقال: هذا الجواب ميداني، ثم إنه لما رجع إلى منزله وضع في ذلك كلاما وحمله إليه، فاستحسنه، وذكر في كتاب «الإيضاح» أنه [انتصب] بالفعل المتقدم بتقوية إلا.
وحكى أبو القاسم بن أحمد الأندلسي قال: جرى ذكر الشعر بحضرة أبي علي وأنا حاضر، فقال: إني لأغبطكم على قول الشعر، فإن خاطري لا يوافقني على قوله، مع تحقيقي العلوم التي هي من مواده، فقال له رجل:
فما قلت قطّ شيئا منه؟ قال: ما أعلم أن لي شعرا إلا ثلاثة أبيات في المشيب [2] وهي قولي:
خضبت الشّيب لمّا كان عيبا ... وخضب الشّيب أولى أن يعابا
ولم أخضب مخافة هجر خلّ ... ولا عيبا خشيت ولا عتابا
ولكنّ المشيب بدا ذميما ... فصيّرت الخضاب له عقابا
وقيل: إن السبب في استشهاده في باب كان من كتاب «الإيضاح» ببيت
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (2/ 80- 82) .
[2] في «وفيات الأعيان» : «في الشيب» .(4/408)
أبي تمام الطائي، وهو قوله:
من كان مرعى عزمه وهمومه ... روض الأماني لم يزل مهزولا [1]
لم يكن ذلك لأن أبا تمام يستشهد بشعره، لكن عضد الدولة كان يحبّ هذا البيت وينشده كثيرا، فلهذا استشهد به في كتابه، ومن تصانيفه كتاب «التذكرة» وهو كبير وكتاب «المقصور والممدود» وكتاب «الحجة في القراءات» [2] وكتاب «الأغفال» فيما أغفله الزجّاج من المعاني، وكتاب «العوامل المائة» وكتاب «المسائل الحلبيات» وكتاب «المسائل البغداديات» وكتاب «المسائل الشيرازيات» وكتاب «المسائل القصريات» وكتاب «المسائل العسكرية» ] [3] وكتاب « [المسائل] البصرية» وكتاب «المسائل المجلسيات» وغير ذلك.
وكان مولده سنة ثمان وثمانين ومائتين، وتوفي يوم الأحد لسبع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر ببغداد ودفن بالشّونزيّة [4] .
ويقال له أيضا: الفسوي- بفتح الفاء والسين المهملة، وبعدها واو- نسبة إلى مدينة فسا من أعمال فارس. انتهى ملخصا.
__________
[1] انظره في «ديوانه» (3/ 67) وهو من قصيدة له في مدح نوح بن عمرو السكسكي. قال شارح الديوان الخطيب التبريزي: هذا البيت ذكره أبو علي الفارسي في كتابه المعروف بالعضدي، وإنما ذكره على سبيل التمثيل لا أنه يستشهد به ... وقد أنكر ذلك على أبي علي لأن طبقته لم تجر عادتهم به.
[2] شرعت بنشره دار المأمون للتراث بدمشق منذ عام (1404) هـ بعنوان «الحجة للقرّاء السبعة» بعد أن انتهى تحقيقه على يد الأستاذين محمد بدر الدّين قهوجي وبشير جويجاتي، وقد صدر منه حتى الآن ثلاثة مجلدات، تولى مراجعتها الأستاذان عبد العزيز رباح وأحمد يوسف الدقاق.
[3] ما بين حاصرتين زيادة من «وفيات الأعيان» .
[4] تحرّفت في «وفيات الأعيان» إلى «الشونيزي» فتصحح فيه، فإن الشونيزية هي مقبرة بغداد الشهيرة بالجانب الغربي. انظر «معجم البلدان» (3/ 374) .(4/409)
وفيها ابن لؤلؤ [1] الورّاق، أبو الحسن، علي بن محمد بن أحمد بن نصير الثقفي البغدادي الشيعي. روى عن إبراهيم بن شريك، وحمزة الكاتب، والفريابي، وطبقتهم. توفي في المحرم، وله ست وتسعون سنة، وكان ثقة يحدّث بالأجرة.
وفيها أبو الحسن الأنطاكي علي بن محمد بن إسماعيل المقرئ الفقيه الشافعي. قرأ على إبراهيم بن عبد الرزاق الأنطاكي [2] بالرّوايات، ودخل الأندلس ونشر بها العلم.
قال ابن الفرضي: أدخل الأندلس علما جمّا، وكان رأسا في القراءات، لا يتقدمه فيها أحد، مات بقرطبة في ربيع الأول، وله ثمان وسبعون سنة. قاله في «العبر» [3] .
وقال الإسنوي: ولد بأنطاكية سنة تسع وتسعين ومائتين، ودخل الأندلس سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة. انتهى [4] .
وفيها أبو طاهر الأنطاكي، محمد بن الحسن بن علي المقرئ المحقّق.
قال أبو عمرو الداني: هو أجلّ أصحاب إبراهيم بن عبد الرزاق وأضبطهم. روى عنه القراءات جماعة من نظرائه. كابن غلبون [5] ، توفي قبل الثمانين بيسير.
__________
[1] في المطبوع و «العبر» : «ابن لولو» وانظر «سير أعلام النبلاء» (16/ 327) .
[2] في المطبوع: «إبراهيم بن عبد الرزاق والأنطاكي» وهو خطأ، وانظر «معرفة القرّاء الكبار» للذهبي (1/ 287) طبع مؤسسة الرسالة.
[3] (3/ 7) .
[4] قلت: وذكر الضبي في «بغية الملتمس» ص (414) بأنه مات سنة سبع وتسعين وثلاثمائة، ولعلها محرّفة من سبع وسبعين وثلاثمائة، والله أعلم.
[5] في الأصل والمطبوع: «قال ابن غلبون» والتصحيح من «العبر» وانظر «معرفة القرّاء الكبار» (1/ 345) .(4/410)
وفيها أبو أحمد الغطريفي- بكسر أوله والطاء، آخره فاء، نسبة إلى غطريف جد- محمد بن أحمد بن الحسين بن القاسم بن السري بن الغطريف [1] الجرجاني الرباطي الحافظ، توفي في رجب عن سن عالية.
روى عن أبي خليفة، وعبد الله بن ناجية، وابن خزيمة، وطبقتهم، وكان ثقة صوّاما، قوّاما، متقنا، مصنفا، صنّف «المسند الصحيح» وغيره.
وفيها محمد بن زيد بن علي بن جعفر بن مروان، أبو عبد الله البغدادي، نزيل الكوفة. روى عن عبد الله بن ناجية، وحامد بن شعيب.
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «ابن السري الظريف» والتصحيح من «العبر» (3/ 8) و «سير أعلام النبلاء» 16/ 354) .(4/411)
سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة
فيها أمر الملك شرف الدولة برصد الكواكب، كما فعل المأمون، وبنى لها هيكلا بدار السلطنة.
وفيها كما قال السيوطي في «تاريخ الخلفاء» [1] : اشتدّ الغلاء ببغداد جدا، وظهر الموت بها، ولحق الناس بالبصرة حرّ وسموم تساقط الناس منه.
وجاءت ريح عظيمة بفم الصلح، حرقت دجلة، حتّى ذكر أنه بانت أرضها، وغرق كثير من السفن، واحتملت زورقا منحدرا وفيه دوابّ، وطرحت ذلك في أرض جوخى [2] ، فشوهد بعد أيام. انتهى.
وفيها توفي بشر بن محمد بن محمد بن ياسين القاضي، أبو القاسم الباهلي النيسابوري، توفي في رمضان، وقد جلس وأملى عن السرّاج، وابن خزيمة.
وفيها تبوك بن الحسن [3] بن الوليد، أبو بكر الكلابي، المعدل أخو عبد الوهاب. روى عن سعيد بن عبد العزيز الحلبي، وطبقته.
__________
[1] ص (410) بتحقيق الشيخ محمد محيي الدّين عبد الحميد.
[2] تحرفت في الأصل والمطبوع إلى «خوخى» والتصحيح من «تاريخ الخلفاء» وانظر الخبر في «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (8/ 60) .
[3] تحرّفت في الأصل إلى «تبوك بن إحن» والتصحيح من «مختصر تاريخ دمشق» لابن منظور (5/ 300) طبع دار الفكر بدمشق.(4/412)
وفيها الخليل بن أحمد بن محمد أبو سعيد السّجزي [1] القاضي الفقيه الحنفي الواعظ، قاضي سمرقند وبها مات عن تسع وثمانين سنة. روى عن السرّاج، وأبي القاسم البغوي، وخلق.
وفيها أبو نصر السرّاج، عبد الله بن علي الطّوسي الزاهد، شيخ الصوفية، وصاحب كتاب «اللمع في التصوف» . روى عن جعفر الخلدي، وأبي بكر محمد بن داود الدّقي.
قال الذهبي: كان المنظور إليه في ناحيته في الفتوة ولسان القوم، مع الاستظهار بعلم الشريعة.
وقال السخاوي: كان على طريقة السّنّة، قال: خرجت مع أبي عبد الله الرّوزباري لنلقى أنبليا الراهب بصور، فتقدمنا إلى ديره وقلنا له: ما الذي حبسك هاهنا؟ قال: أسرتني حلاوة قول الناس لي يا راهب. انتهى، وتوفي في رجب.
وفيها ابن الباجي، الحافظ المحقّق، أبو محمد، عبد الله بن محمد بن علي اللّخمي الإشبيلي، الثقة الحجة، سمع [محمد بن] [2] عمر بن لبابة، وأسلم بن عبد العزيز وطبقتهما، ومنه جماعة من الأقران، ومات في رمضان، وله سبع وثمانون سنة.
قال ابن الفرضي: لم أجد أحدا أفضّله عليه في الضبط، رحلت إليه مرتين.
وفيها أبو الفتح عبد الواحد بن أحمد بن مسرور البلخي الحافظ، نزيل مصر، توفي في ذي الحجة. روى عن الحسين بن محمد المطبقي،
__________
[1] تحرّف نسبته في الأصل إلى «الشجري» وأثبت لفظ المطبوع، وانظر «العبر» (2/ 151) و «مختصر تاريخ دمشق» لابن منظور (8/ 85) و «النجوم الزاهرة» (4/ 153) .
[2] ما بين حاصرتين مستدرك من «العبر» (3/ 9) و «سير أعلام النبلاء» (16/ 377) .(4/413)
وأحمد بن سليمان بن زبّان الكندي وطبقتهما، وروى عنه الحافظ عبد الغني الأزدي [1] وآخرون، وهو من الثقات.
وفيها أبو بكر المفيد، محمد بن أحمد بن محمد بن يعقوب، بجرجرايا [2] ، وكان يفهم ويحفظ ويذاكر، وهو بيّن الضعف، واتهمه بعضهم.
روى عن أبي شعيب الحرّاني وأقرانه، وعاش أربعا وتسعين سنة.
وفيها أبو بكر الورّاق محمد بن إسماعيل بن العبّاس البغدادي المستملي، اعتنى به أبوه، وأسمعه من الحسن بن الطيب البلخي، وعمر بن أبي غيلان، وطبقتهما، وعاش خمسا وثمانين سنة، وكان صاحب حديث ثقة.
وفيها محمد بن بشر، أبو سعيد البصري، ثم النيسابوري الكرابيسي- نسبة إلى بيع الكرابيس، وهي الثياب- المحدّث الفاضل. روى عن أبي لبيد السّامي، وابن خزيمة، والبغوي، وكان ثقة صالحا.
وفيها محمد بن العبّاس بن محمد أبو عبد الله بن أبي ذهل العصمي [3] الضبّي الهروي، أحد الرؤساء الأجواد، وكانت أعشار غلّاته تبلغ ألف حمل [وقيل: كان يقوم بخمسة آلاف بيت ويموّنهم] [4] وعرضت عليه ولايات جليلة فامتنع، وكان ملك هراة من تحت أوامره، سمّوه في قميص، فمات شهيدا في صفر، وله أربع وثمانون سنة. روى عن يحيى بن صاعد وأقرانه.
__________
[1] تحرّفت في الأصل إلى «الأسدي» وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب، وانظر «تذكرة الحفّاظ» (3/ 1005) .
[2] قرية من أعمال بغداد. انظر «آثار البلاد وأخبار العباد» للقزويني ص (351) .
[3] بضم العين وسكون الصاد المهملتين، نسبة إلى «عصم» وهو اسم رجل من أجداد المنتسب إليه، وهو ينسب لبيت كبير مشهور من أهل العلم بهراة. انظر «الأنساب» (8/ 471) .
[4] ما بين حاصرتين زيادة من «العبر» (2/ 152) .(4/414)
وقال ابن ناصر الدّين: هو الفقيه الشافعي، كان حافظا نبيلا من الأخيار وذوي الأقدار العالية والبر والإشارة، وكان يموّن خمسة آلاف بيت ونيفا بهراة، ولم نسمع بحصول ذلك لأحد من أمثاله سواه، رحمه الله. انتهى.
وفيها أبو بكر، محمد بن عبيد الله [1] بن الشخّير الصيرفي البغدادي، ببغداد. روى عن عبد الله بن إسحاق المدائني، والباغندي، توفي في رجب، وله بضع وثمانون سنة.
وفيها أبو أحمد الحاكم، محمد بن محمد بن أحمد بن إسحاق النّيسابوري الكرابيسي، الحافظ الثقة المأمون، أحد أئمة الحديث، وصاحب التصانيف. روى عن ابن خزيمة، والباغندي، ومحمد بن المجدّر، وعبد الله بن زيدان البجلي، ومحمد بن الفيض الغسّاني، وطبقتهم، وأكثر الترحال، وكتب ما لا يوصف.
قال الحاكم بن البيّع: أبو أحمد الحافظ إمام عصره في الصنعة [2] ، توفي في شهر ربيع الأول، وله ثلاث وتسعون سنة، صنّف على «الصحيحين» وعلى «جامع الترمذي» وألّف كتاب «الكنى» وكتاب «العلل» وكتاب «الشروط» و «المخرج على كتاب المزني» وولي قضاء الشّاش، ثم قضاء طوس، ثم قدم نيسابور، ولزم مسجده، وأقبل على العبادة والتصنيف، وكفّ بصره قبل موته بسنتين [3] ، وهذا غير صاحب «المستدرك» بل هو شيخ ذاك، وسيأتي ذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
وفيها القاسم بن الجلّاب، الفقيه المالكي صاحب القاضي أبي بكر الأبهري. ألّف كتاب «التفريع» وكتاب «مسائل الخلاف» وفي اسمه أقوال.
__________
[1] تحرّفت في «العبر» (3/ 11) إلى «عبد الله» وانظر «الأنساب» (7/ 300) .
[2] يعني فن الحديث وما يتصل به.
[3] انظر «غربال الزمان» ص (323) .(4/415)
وفيها الحافظ الكبير يحيى بن مالك بن عائذ الأندلسي، أبو زكريا، كان حافظا كبيرا عالما، أحد الأعيان، توفي بالأندلس في شعبان.
وفيها ابن نبال، أبو الحسن علي بن محمد بن نبال البغدادي، الحافظ المشهور، تعلم الخط كبيرا، ورزق من الفهم والمعرفة شيئا كثيرا.
قاله ابن ناصر الدّين.(4/416)
سنة تسع وسبعين وثلاثمائة
فيها توفي أبو حامد، أحمد بن محمد بن أحمد بن باكويه النيسابوري. سمع محمد بن شاذل، والسرّاج، وجماعة، وهو صدوق.
وفيها علي بن أحمد بن عمر أبو الحسن السرخسي، الثقة الضابط، كان حافظا، كتب الكثير، ولم يحدّث إلا بشيء يسير. قاله ابن ناصر الدّين.
وفيها شرف الدولة، سلطان بغداد، ابن السلطان عضد الدولة الديلمي. كان فيه خير وقلّة ظلم، مرض بالاستسقاء، ومات في جمادى الآخرة، وله تسع وعشرون سنة، وتملّك بغداد سنتين وثمانية أشهر، وولي بعده أخوه أبو نصر.
وفيها محمد بن أحمد بن العبّاس، أبو جعفر، الجوهري البغدادي، نقاش الفضّة، كان من كبار المتكلّمين، وهو عالم الأشعرية في وقته، وعنه أخذ أبو علي بن شاذان علم الكلام، توفي في المحرم، وله سبع وثمانون سنة. روى عن محمد بن محمد الباغندي وجماعة.
وفيها أبو بكر الزّبيدي- بضم الزاي وفتح الموحدة، وبدال مهملة بعد الياء، نسبة إلى زبيد، واسمه منبّه بن صعب بن سعد العشيرة بن مذحج- محمد بن الحسن بن عبيد الله [1] بن مذحج- بضم الميم وسكون الذال
__________
[1] في «وفيات الأعيان» (4/ 372) و «الوافي بالوفيات» (2/ 351) : «ابن عبد الله» خلافا لجميع.(4/417)
المعجمة وكسر الحاء المهملة وبعدها جيم، اسم أكمة حمراء باليمن، ولد عليها [مالك بن أدد] فسمي باسمها.
كان صاحب الترجمة شيخ الأندلس بل وغيرها في العربية.
قال ابن خلّكان [1] : هو نزيل قرطبة، كان واحد عصره في علم النحو وحفظ اللغة، وكان أخبر أهل زمانه بالإعراب والمعاني والنوادر، أي علم السير والأخبار، ولم يكن بالأندلس في فنه مثله في زمانه، وله كتب تدل على وفور علمه منها «مختصر كتاب العين» وكتاب «طبقات النحويين واللغويين بالمشرق والأندلس» من زمن أبي الأسود الدؤلي إلى زمن شيخه أبي عبد الله النحوي الرياحي، وله كتاب «هتك ستور الملحدين» وكتاب «لحن العامة» وكتاب «الواضح في العربية» وهو مفيد جدا، وكتاب «الأبنية في النحو» ليس لأحد مثله.
واختاره الحكم المستنصر بالله صاحب الأندلس لتأديب ولده، وليّ عهده هشام المؤيد بالله، فكان الذي علمه الحساب والعربية ونفعه نفعا كثيرا، ونال أبو بكر الزّبيدي به [2] دنيا عريضة، وتولى قضاء إشبيلية وخطة الشرطة، وحصل له نعمة ضخمة لبسها بنوه من بعده زمانا. وكان الزّبيديّ شاعرا كثير الشعر، فمن ذلك قوله في أبي مسلم بن فهر:
أبا مسلم إن الفتى بجنانه ... ومقوله لا بالمراكب واللّبس
وليس ثياب المرء تغني قلامة ... إذا كان مقصورا على قصر النفس
وليس يفيد العلم والحلم والحجا ... أبا مسلم طول القعود على الكرسي
وكان في صحبة الحكم المستنصر، وترك جاريته بإشبيلية فاشتاق إليها
__________
المصادر التي بين يدي، فليحرر.
[1] انظر «وفيات الأعيان» (4/ 372- 374) .
[2] في «وفيات الأعيان» : «منه» .(4/418)
واستأذنه في العود إليها، فلم يأذن له، فكتب إليها:
ويحك يا سلم لا تراعي ... لا بدّ للبين من زماع
لا تحسبيني صبرت إلّا ... كصبر ميت على النّزاع
ما خلق الله من عذاب ... أشدّ من وقفة الوداع
ما بينها والحمام فرق ... لولا المناحات [1] والنّواعي
إن يفترق شملنا وشيكا ... من بعد ما كان ذا اجتماع
فكلّ شمل إلى افتراق ... وكلّ شعب إلى انصداع
وكلّ قرب إلى بعاد [2] ... وكلّ وصل إلى انقطاع
وكان كثيرا ما ينشد:
الفقر في أوطاننا غربة ... والمال في الغربة أوطان
والأرض شيء كلّها واحد ... والنّاس إخوان وجيران
وفيها أبو سليمان بن زبر، المحدّث الحافظ، الثقة الجليل، محمد بن القاضي عبد الله بن أحمد بن ربيعة الرّبعي الدمشقي، مات في جمادى الأولى. روى عن أبي القاسم البغوي، وجماهر الزّملكاني، ومحمد بن الرّبيع الجيزي، وخلق، وصنّف التصانيف المفيدة [3] ، وممّن أخذ عنه تمّام الرّازي، وعبد الغني بن سعيد [الأزدي] ، ومحمد بن عوف المزني.
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «المنامات» وفي «الوافي بالوفيات» : «المناجاة» وأثبت لفظ «معجم الأدباء» لياقوت (18/ 183) .
[2] في الأصل والمطبوع: «إلى وداع» وأثبت لفظ «معجم الأدباء» و «وفيات الأعيان» و «الوافي بالوفيات» .
[3] منها كتابه «وصايا العلماء عند حضور الموت» وقد نشر لأول مرة في دار ابن كثير بدمشق، وقد تولى تحقيقه الأستاذ صلاح محمد الخيمي، وقام بمراجعة تحقيقه وخرّج أحاديثه وعلّق عليه والدي الأستاذ الشيخ عبد القادر الأرناؤوط حفظه الله تعالى.(4/419)
وفيها محمد بن المظفّر بن موسى بن عيسى أبو الحسين [1] البغدادي، وله ثلاث وتسعون سنة. توفي في جمادى الأولى، وكان من أعيان الحفّاظ. سمع من أحمد بن الحسن الصوفي، وعبد الله بن زيدان، ومحمد بن خريم، وطبقتهم بالعراق، والجزيرة، والشام، ومصر، وكان يقول: عندي من الباغندي مائة ألف حديث.
قال ابن ناصر الدّين: كان محدّث العراق، حافظا، ثقة، نبيلا، مكثرا، متقنا، يميل إلى التشيّع قليلا. انتهى.
وفيها غندر النّجار، أبو بكر، محمد بن جعفر بن العبّاس. روى عن ابن المجدّر، وابن صاعد. وعنه: الحسن بن محمد الخلّال، وكان يحفظ.
قاله ابن بردس.
وفيها محمد بن النّضر، أبو الحسين الموصلي النحّاس، الذي روى ببغداد «معجم أبي يعلى» عنه.
قال البرقاني: واه لم يكن ثقة.
__________
[1] في «العبر» : «أبو الحسن» .(4/420)
سنة ثمانين وثلاثمائة
فيها توفي أبو نصر [1] ، أحمد بن الحسين بن مروان الضبيّ المرواني النيسابوري، في شعبان. روى عن السرّاج وابن خزيمة.
وفيها أبو العبّاس الصّندوقي، أحمد بن محمد بن أحمد النيسابوري.
روى عن محمد بن شادل [2] ، وابن خزيمة، وشاخ فتفرّد بالرواية عن بضعة عشر شيخا.
وفيها سهل بن أحمد الدّيباجي. روى عن أبي [3] خليفة وغيره، لكنه رافضي كذاب.
وفيها أحمد بن منصور بن ثابت الشيرازي، أبو العبّاس، أحد الحفّاظ الرحالين، ذكر الدارقطني أنه أدخل أحاديث على جماعة من الرواة، لكن يحيى بن مندة ذكر أن ذلك فعل آخر يقال له: أحمد بن منصور، سواه. قاله ابن ناصر الدّين.
وفيها الحسن بن علي بن عمرو البصري، أبو محمد، غلام الزهري،
__________
[1] قوله: «أبو نصر» سقط من الأصل وأثبته من المطبوع و «العبر» .
[2] تحرّف في الأصل والمطبوع إلى: «ابن شاذك» والتصحيح من «الأنساب» (8/ 90) وانظر المراجع التي أحال عليها محقّقه.
[3] في المطبوع: «ابن خليفة» وهو خطأ، وما جاء في الأصل هو الصواب كما في «العبر» (2/ 156) وأبو خليفة هو الفضل بن الحباب الجمحي البصري. انظر «تذكرة الحفاظ» (2/ 670- 671) و «طبقات الحفاظ» ص (292) ، وانظر في ترجمة سهل بن أحمد الديباجي «ميزان الاعتدال» (2/ 237) و «لسان الميزان» (3/ 117) .(4/421)
كان حافظا، ناقدا، مجودا. قاله ابن ناصر الدّين.
وفيها طلحة بن محمد بن جعفر، أبو القاسم، الشاهد المعدّل المقرئ، تلميذ ابن مجاهد. روى عن أبي عمر بن [أبي] غيلان وطبقته، لكنه معتزلي.
وفيها أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن يحيى بن مفرّج الأموي، مولاهم القرطبي، الحافظ الثقة، محدّث الأندلس. رحل، وسمع أبا سعيد بن الأعرابي، وخيثمة، وقاسم بن أصبغ، وطبقتهم، وكان وافر الحرمة عند صاحب الأندلس، صنّف له عدة كتب، فولّاه القضاء، توفي في رجب، وله ست وتسعون سنة [1] .
قال الحميدي: من تصانيفه «فقه الحسن البصري» في سبع مجلدات، و «فقه الزّهري» في أجزاء عديدة.
وفيها يعقوب بن يوسف بن كلّس، الوزير الكامل، أبو الفرج، وزير صاحب مصر [2] العزيز بالله، وكان يهوديا بغداديا، عجبا في الدهاء، والفطنة والمكر، وكان يتوكّل للتجار بالرّملة فانكسر وهرب إلى مصر، فأسلم بها، واتصل بالأستاذ كافور، ثم دخل المغرب، ونفق على المعز، وتقدم عنده [3] ، ولم يزل في ارتقاء إلى أن مات، وله اثنتان وستون سنة، وكان عظيم الهيئة [4] ، وافر الحشمة، عالي الهمّة، وكان معلومه على مخدومه في السنّة مائة ألف دينار، وقيل: إنه خلّف أربعة آلاف مملوك بيض وسود، ويقال: إنه حسن إسلامه. قاله في «العبر» [5] .
__________
[1] في «العبر» (2/ 16) : «وله ست وستون سنة» وهو الصواب، وانظر التعليق عليه.
[2] في الأصل: «صاحب دمشق» وقد شطب فوقها.
[3] لفظة «عنده» لم ترد في «العبر» المطبوع في بيروت.
[4] في «العبر» : «عظيم الهيبة» .
[5] (2/ 156) طبع بيروت.(4/422)
سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة
فيها تمّ أمور هائلة، وكان أبو نصر الذي ولي مملكة بغداد شابا حزما [1] والطائع لله ضعيفا، ولّاه السلطنة، ولقّبه بهاء الدولة، فلما كان في شعبان، وأمر الخليفة الطائع بحبس أبي الحسين بن المعلّم، وكان من خواصّ بهاء الدولة، فعظم على بهاء الدولة ذلك، ثم دخل على الطائع للخدمة، فلما قرب، قبّل الأرض، وجلس على كرسي فتقدم أصحابه، فشحطوا الطائع من السرير بحمائل سيفه، ولفّوه في كساء، وحمل إلى دار المملكة، وكتب عليه بخلعه نفسه وتسليم الأمر إلى القادر، فاختبطت بغداد، وظن الأجناد أن القبض على بهاء الدولة من جهة الطائع، فوقعوا في النهب، ثم إن بهاء الدولة أمر بالنداء بخلافة القادر بالله وأنفذ إلى القادر بالله سجل بخلع الطائع لله وهو بالبطائح، وأخذوا جميع ما في دار الخلافة، حتّى الرخام والأبواب، ثم أبيحت للرعاع، فقلعوا الشبابيك، وأقبل القادر بالله، أحمد بن الأمير إسحاق بن المقتدر [بالله] وله يومئذ أربع وأربعون سنة، وكان أبيض، كثّ اللحية، كثير التهجد والخير والبر، صاحب سنّة وجماعة.
وكان من جملة من حضر إهانة الطائع وخلعه الشريف الرضي، فأنشد:
أمسيت أرحم من قد كنت أغبطه ... لقد تقارب بين العزّ والهون
__________
[1] في «العبر» : «جريئا» .(4/423)
ومنظر كان بالسرّاء يضحكني ... يا قرب ما عاد بالضرّاء يبكيني
وفيها توفي أحمد بن الحسين بن مهران الأستاذ، أبو بكر الأصبهاني، ثم النيسابوري، المقرئ، العبد الصالح، مجاب الدعوة، ومصنّف كتاب «الغاية في القراءات» [1] قرأ بدمشق على أبي النّضر الأخرم، وببغداد على النقّاش، وأبي الحسن بن بويان [2] وطائفة، وسمع من السرّاج، وابن خزيمة، وطبقتهما.
قال الحاكم: كان إمام عصره في القراءات، وأعبد الناس ممّن رأينا في الدّنيا، وكان مجاب الدعوة، توفي في شوال، وله ست وثمانون سنة، وله كتاب «الشامل في القراءات» وهو كتاب كبير.
وفيها جوهر القائد، أبو الحسن الرّومي، مولى المعزّ بالله، ومقدّم جيشه، وظهيره ومؤيد دولته، وموطّد [3] الممالك له، وكان عاقلا سائسا، حسن السيرة في الرعية، على دين مواليه، ولم يزل عالي الرتبة، نافذ الكلمة، إلى أن مات. وجرت له فصول في أخذ مصر يطول ذكرها، من ذلك، ما ذكره ابن خلّكان [4] أن القائد جوهر وصل إلى الجيزة، وابتدئ في القتال في الحادي عشر من شعبان، سنة ثمان وخمسين فأسرت رجال، وأخذت خيل، ومضى جوهر إلى منية الصيادين [5] وأخذ المخاضة بمنية شلقان، واستمال [6] إلى جوهر جماعة من العسكر في مراكب، وجعل أهل
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «الغاية في القراءة» والتصحيح من «العبر» و «النجوم الزاهرة» (4/ 160) .
[2] تحرّف في «العبر» في طبعتيه إلى: «الحسن بن ثوبان» فيصحح فيهما.
[3] في «العبر» طبع الكويت: «وموطئ» .
[4] انظر «وفيات الأعيان» (1/ 378- 380) .
[5] في الأصل والمطبوع: «مينة الصيادين» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[6] في «وفيات الأعيان» : «واستأمن» وهو أصوب.(4/424)
مصر على المخاضة من يحفظها، فلما رأى ذلك جوهر، قال لجعفر بن فلاح: لهذا اليوم أرادك المعز، فعبر عريانا في سراويل وهو في مركب، ومعه الرجال خوضا، حتّى خرجوا إليهم، ووقع القتال، فقتل خلق من الإخشيذية، وأتباعهم، وانهزمت الجماعة في الليل، ودخلوا مصر، وأخذوا ما قدروا عليه من دورهم [وانهزموا] [1] وخرج حرمهم مشاة ودخلن على الشريف أبي جعفر في مكاتبة القائد بإعادة الأمان، فكتب إليه يهنئه بالفتح، وسأله إعادة الأمان، وجلس الناس عنده ينتظرون الجواب، فعاد إليهم بأمانه وحضور رسوله. ومعه بند أبيض، وطاف على الناس يؤمنهم ويمنع من النهب، فهدأ البلد وفتحت الأسواق، وسكن الناس، كأن لم تكن فتنة.
فلما كان آخر النهار ورد رسوله إلى أبي جعفر بأن تعمل على لقائي يوم الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من شعبان بجماعة الأشراف والعلماء ووجوه البلد، فانصرفوا متأهبين لذلك، ثم خرجوا ومعهم الوزير جعفر وجماعة من الأعيان إلى الجيزة، والتقوا القائد، ونادى مناد: ينزل الناس كلهم إلّا الشريف والوزير، فنزلوا وسلّموا عليه واحدا واحدا، والوزير عن شماله والشريف عن يمينه، ولما فرغوا من السلام ابتدأوا في دخول البلد، فدخلوا من زوال الشمس وعليهم السلاح والعدد، ودخل جوهر بعد العصر وطبوله وبنوده بين يديه، وعليه ثوب ديباج مثقل، وتحته فرس أصفر، وشقّ في مصر، ونزل في مناخه موضع القاهرة اليوم، واختطّ موضع القاهرة.
ولما أصبح المصريون حضروا إلى القائد للهناء، فوجدوه قد حفر أساس القصر بالليل، وكان فيه زورات جاءت غير معتدلة فلم تعجبه، ثم قال: حفرت في ساعة سعيدة فلا أغيّرها، وأقام عسكره يدخل [إلى] البلد سبعة أيام أولها الثلاثاء المذكور، وبادر جوهر بالكتاب إلى مولاه [المعز]
__________
[1] زيادة من «وفيات الأعيان» .(4/425)
يبشره بالفتح وأنفذ إليه رؤوس القتلى في الوقعة، وقطع خطبة بني العبّاس عن منابر الدّيار المصرية، وكذلك اسمهم من على السكة، وعوّض عن ذلك باسم مولاه المعز، وأزال الشعار الأسود، وألبس الخطباء الثياب البيض، وجعل يجلس بنفسه في كل يوم سبت للمظالم يحضره الوزير والقاضي وجماعة من أكابر الفقهاء.
وفي يوم الجمعة ثامن ذي القعدة أمر جوهر بالزيادة عقيب الخطبة:
اللهمّ صلّ على محمد المصطفى، وعلى عليّ المرتضى، وعلى فاطمة البتول، وعلى الحسن والحسين سبطي الرسول، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. اللهمّ وصلّ على الأئمة الطاهرين آباء أمير المؤمنين.
وفي يوم الجمعة ثامن عشر شهر ربيع الآخر، سنة تسع وخمسين، صلى القائد في جامع [ابن] طولون بعسكر كثير، وخطب عبد السميع بن عمر العبّاسي الخطيب، وذكر أهل البيت وفضائلهم، رضي الله عنهم، ودعا للقائد جوهر، وجهر القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم، وقرأ سورة الجمعة والمنافقين في الصلاة، وأذن بحيّ على خير العمل، وهو أول ما أذن به بمصر، ثم أذن به في سائر المساجد، وقنت الخطيب في صلاة الجمعة.
وفي جمادى الأولى من السنة المذكورة أذّنوا في جامع مصر العتيق بحيّ على خير العمل، وسرّ القائد جوهر بذلك، وكتب إلى المعز يبشره بذلك، ولما دعا الخطيب على المنبر للقائد جوهر، أنكر عليه، وقال: ليس هذا رسم موالينا.
وشرع في عمارة الجامع بالقاهرة، وفرغ من بنائه في سابع شهر رمضان سنة إحدى وستين، وجمع فيه الجمعة، وأظن [1] هذا الجامع المعروف بالأزهر. انتهى ملخصا.
__________
[1] القائل ابن خلّكان.(4/426)
وفيها سعد الدولة، أبو المعالي [1] شريف بن سيف الدولة علي بن عبد الله بن حمدان التغلبي، صاحب حلب، توفي في رمضان، وقد نيّف على الأربعين، وولي بعده ابنه سعد، فلما مات ابنه، انقرض ملك سيف الدولة من ذريته.
وفيها عبد الله بن أحمد بن حمّويه بن يوسف بن أعين أبو محمد السّرخسي، المحدّث الثقة. روى عن الفربري «صحيح البخاري» وروى عن عيسى بن عمر السمرقندي «كتاب الدارمي» وروى عن إبراهيم بن خريم «مسند عبد بن حميد» و «تفسيره» وتوفي في ذي الحجة، وله ثمان وثمانون سنة.
وفيها الجوهري، أبو القاسم، عبد الرحمن بن عبد الله المصري المالكي، الذي صنّف «مسند الموطّأ» توفي في رمضان.
وفيها أبو عدي، عبد العزيز بن علي بن محمد بن إسحاق المصري، المقرئ الحاذق، المعروف بابن الإمام. قرأ على أبي بكر بن سيف، صاحب أبي يعقوب الأزرق، وكان محققا ضابطا لقراءة ورش، وحدّث عن محمد بن زبّان، وابن قديد، وتوفي في شهر ربيع الأول.
وفيها أبو محمد بن معروف، قاضي القضاة، عبيد الله [2] بن أحمد بن معروف البغدادي.
قال الخطيب [3] : كان من أجلّاء [4] الرجال وألبائهم، مع تجربة وحنكة، وفطنة وعزيمة ماضية، وكان يجمع وسامة في منظره، وظرفا في
__________
[1] في «العبر» : «أبو العباس» وانظر «النجوم الزاهرة» (4/ 161) و «الأعلام» (3/ 162) .
[2] في الأصل والمطبوع: «عبد الله» وهو خطأ، والتصحيح من «تاريخ بغداد» و «العبر» .
[3] انظر «تاريخ بغداد» (10/ 366) .
[4] في الأصل والمطبوع: «من أجلاد» وفي «العبر» : «من أجواد» وما أثبته من «تاريخ بغداد» .(4/427)
ملبسه، وطلاقة في مجلسه، وبلاغة في خطابه، ونهضة بأعباء الأحكام، وهيبة في القلوب.
وقال العتيقي: كان مجردا في الاعتزال. انتهى.
قال في «العبر» [1] : قلت: ولد سنة ست وثلاثمائة، وسمع من يحيى بن صاعد، وأبي حامد الحضرمي، وجماعة، وتوفي في صفر. انتهى.
وفيها أبو الفضل، عبيد الله بن عبد الرحمن بن محمد الزّهري العوفي البغدادي. سمع إبراهيم بن شريك الأسدي، والفريابي، وعبد الله بن إسحاق المدائني وطائفة، ومات في أحد الربيعين، وله إحدى وتسعون سنة.
قال عبد العزيز الأزجي: هو شيخ ثقة، مجاب الدعاء.
وفيها ابن المقرئ، أبو بكر محمد بن إبراهيم بن علي الأصبهاني، الحافظ الثقة، صاحب الرحلة الواسعة، أول سماعه بعد الثلاثمائة، فأدرك محمد بن نصير المديني، ومحمد بن علي الفرقدي صاحبي إسماعيل بن عمرو البجلي، ثم رحل، ولقي أبا يعلى، وعبدان، وطبقتهما.
قال أبو نعيم الحافظ: كان محدّثا كبيرا ثقة صاحب مسانيد سمع ما لا يحصى كثرة [2] .
وقال ابن ناصر الدّين: كان محدّثا ثقة كبيرا، من المكثرين، وله «المعجم الكبير» و «كتاب الأربعين» . انتهى.
توفي في شوال، عن ست وتسعين سنة.
__________
[1] (3/ 20) .
[2] كذا في الأصل والمطبوع و «سير أعلام النبلاء» (16/ 400) ونص النقل في «ذكر أخبار أصبهان» (2/ 297) : «محدّث كبير، ثقة أمين، صاحب مسانيد وأصول، سمع بالعراق والشام ومصر ما لا يحصى كثرة» .(4/428)
وفيها قاضي الجماعة، أبو بكر محمد بن يبقى بن زرب القرطبي المالكي، صاحب التصانيف، وأحفظ أهل زمانه لمذهب مالك. سمع قاسم بن أصبغ وجماعة، وولي القضاء سنة سبع وستين وثلاثمائة، وإلى أن مات، وكان المنصور بن أبي عامر يعظّمه ويجلسه معه.
وفيها ابن دوست، أبو [بكر] محمد بن يوسف [1] العلّاف، ببغداد.
روى عن البغوي وجماعة.
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «أبو محمد بن يوسف» وهو خطأ، والتصحيح من «تاريخ بغداد» (3/ 409) و «العبر» (3/ 21) .(4/429)
سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة
كان أبو الحسن بن المعلّم الكوكبي، قد استولى على أمور السلطان بهاء الدولة كلها، فمنع الرافضة من عمل المأتم، يوم عاشوراء، الذي كان يعمل نحوا من ثلاثين سنة، وغلت الأسعار بالكرخ، حتّى بيع رطل من الخبز بأربعين درهما، والجوزة بدرهم.
وفيها شغبت الجند وعسكروا، وبعثوا يطلبون من بهاء الدولة أن يسلم إليهم ابن المعلّم، وصمّموا على ذلك، إلى أن قال له رسولهم: أيها الملك، اختر بقاءه أو بقاءك، فقبض حينئذ عليه وعلى أصحابه، فما زالوا به، حتّى قتله، رحمه الله، وكذلك قتلت بقية أصحابه.
وفيها توفي أبو أحمد العسكري- بفتح العين المهملة وسكون السين المهملة، وفتح الكاف، بعدها راء، نسبة إلى عسكر مكرم، مدينة من كور الأهواز- الحسن بن عبد الله بن سعيد، الأديب الأخباري العلّامة، صاحب التصانيف. روى عن عبدان الأهوازي، وأبي القاسم البغوي وطبقتهما.
قال ابن خلّكان [1] : وهو صاحب أخبار ونوادر، وله رواية متسعة، وله التصانيف المفيدة، منها: كتاب «التصحيف» [2] وكتاب «المختلف والمؤتلف»
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (2/ 83- 84) وقد نقل المؤلف عنه بتصرف.
[2] نشر المجلد الأول منه في مجمع اللغة العربية بدمشق بعنوان «شرح ما يقع فيه التصحيف.(4/430)
وكتاب «علم المنطق» وكتاب «الحكم والأمثال» وكتاب «الزواجر» وغير ذلك، وكان الصاحب بن عبّاد يودّ الاجتماع به ولا يجد إليه سبيلا، فقال لمخدومه مؤيد الدولة بن بويه: إن عسكر مكرم قد اختلف أحوالها، وأحتاج إلى كشفها بنفسي، فأذن له في ذلك، فلما أتاها توقع أن يزوره أبو أحمد المذكور، فلم يزره، فكتب الصاحب إليه:
ولمّا أبيتم أن تزوروا وقلتم ... ضعفنا فلم نقدر على الوخدان [1]
أتيناكم من بعد أرض نزوركم ... وكم منزل بكر لنا وعوان
نسائلكم هل من قرى لنزيلكم ... بملء جفون لا بملء جفان
وكتب مع هذه الأبيات شيئا من النثر، فجاوبه أبو محمد عن النثر بنثر مثله، وعن هذه الأبيات بالبيت المشهور:
أهمّ بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنّزوان
فلما وقف الصاحب على الجواب عجب من اتفاق هذا البيت له، وقال: والله لو علمت أنه يقع له هذا البيت لما كتبت [2] له على هذا الروي، وهذا البيت لصخر بن عمرو الشّريد في [أخي] الخنساء، وهو من جملة أبيات مشهورة [3] ، وكانت ولادة أبي أحمد المذكور يوم الخميس لست عشرة ليلة خلت من شوّال، وتوفي يوم الجمعة سابع ذي الحجة. انتهى ملخصا.
وفيها أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمد النّسائي، الفقيه الشافعي، الذي روى عن الحسن بن سفيان «مسنده» وعن عبد الله بن شيرويه «مسند إسحاق» .
__________
«والتحريف» وقام بتحقيقه الأستاذ الدكتور السيد محمد يوسف رحمه الله، وتولى مراجعته الأستاذ المحقّق أحمد راتب النّفّاخ.
[1] في الأصل والمطبوع: «الوجدان» وأثبت لفظ «الوفيات» .
[2] في المطبوع: «ما كتبت» .
[3] انظرها في «الأغاني» لأبي الفرج الأصبهاني (15/ 78- 79) نشر مؤسسة جمال في بيروت.(4/431)
قال الحاكم: كان شيخ العدالة والعلم بنسإ، وبه ختمت الرواية عن الحسن بن سفيان. عاش بضعا وتسعين سنة.
وفيها أبو سعيد عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب القرشي الرّازي الصوفي، الراوي عن محمد بن أيوب بن الضريس، خرج في آخر عمره إلى بخارى، فتوفي بها، وله أربع وتسعون سنة.
قال الحاكم: ولم يزل كالريحانة عند مشايخ التصوّف ببلدنا.
وفيها أبو العبّاس أحمد بن منصور بن ثابت الشيرازي. كان أحد الحفّاظ الرحّالين، كما ذكره ابن ناصر الدّين.
وفيها أبو عمر [1] بن حيّويه، المحدّث الحجة، محمد بن العبّاس بن محمد بن زكريا البغدادي الخزّاز، في ربيع الآخر، وله سبع وثمانون سنة.
روى عن الباغندي، وعبد الله بن إسحاق المدائني، وطبقتهما.
قال الخطيب [2] : ثقة [سمع الكثير، و] كتب طول عمره، وروى المصنفات الكبار.
وفيها محمد بن محمد بن سمعان أبو منصور النيسابوري المذكّر، نزيل هراة، وشيخ أبي عمر المليحي. روى عن السرّاج، ومحمد بن أحمد بن عبد الجبار الريّاني [3] .
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «أبو عمرو» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» والمصادر التي بين يدي.
[2] انظر «تاريخ بغداد» (3/ 121) وما بين حاصرتين زيادة منه.
[3] في الأصل: «الربّاني» وهو تصحيف وأثبت ما في المطبوع، وانظر «الأنساب» (6/ 203) .(4/432)
سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة
فيها كما قال في «شذور العقود» تزوج القادر سكينة بنت بهاء الدولة، بصداق مبلغه مائة ألف دينار، وغلا السعر، فبلغ الكرّ [من] الحنطة ستة آلاف وستمائة درهم، وابتاع سابور بن أزدشير وزير بهاء الدولة دارا في الكرخ بين السورين، وعمّرها، وسمّاها دار العلم، ووقفها، ونقل إليها كتبا كثيرة، وردّ النظر في أمرها إلى أبي الحسين بن السنية، وأبي عبد الله الضبّي القاضي.
انتهى.
وفيها توفي أبو بكر بن شاذان، والد أبي علي، وهو أحمد بن إبراهيم بن الحسن بن محمد بن شاذان البغدادي البزّاز، المحدّث المتقن، وكان يتجر في البزّ إلى مصر وغيرها، وتوفي في شوال، عن ست وثمانين سنة [1] . وروى عن البغوي وطبقته.
وفيها إسحاق بن حمشاد الزاهد الواعظ، شيخ الكرامية ورأسهم بنيسابور.
قال الحاكم: كان من العبّاد المجتهدين، يقال: أسلم على يديه أكثر من خمسة آلاف، ولم أر بنيسابور جمعا مثل جنازته. انتهى.
__________
[1] لفظة «سنة» سقطت من المطبوع.(4/433)
وفيها جعفر بن عبد الله بن فناكي أبو القاسم الرّازي الرّاوي، عن محمد بن هارون الرّوياني «مسنده» . انتهى.
وفيها أبو محمد بن حزم القلعي الأندلسي الزاهد، واسمه عبد الله بن محمد بن القاسم بن حزم. رحل إلى الشام، والعراق، وسمع أبا القاسم بن [أبي] العقب، وإبراهيم بن علي الهجيمي، وطبقتهما.
قال ابن الفرضي [1] : كان جليلا، زاهدا، شجاعا، مجاهدا، ولّاه المستنصر القضاء، فاستعفاه فأعفاه، وكان فقيها صلبا ورعا، كانوا يشبهونه بسفيان الثوري في زمانه، سمعت عليه علما كثيرا [2] ، وعاش ثلاثا وستين سنة. انتهى.
وفيها علي بن حسّان، أبو الحسن الجدلي الدّممي- ودممّا قرية دون الفرات [3]-. روى عن مطين، وبه ختم حديثه.
وفيها أبو بكر محمد بن العبّاس الخوارزمي [4] ، الشاعر المشهور، ويقال له: الطبرخي، لأن أباه كان من خوارزم، وأمه من طبرستان، فركب له من الاسمين نسبة، وهو ابن أخت أبي جعفر محمد بن جرير الطبري صاحب «التاريخ» وأبو بكر المذكور أحد الشعراء المجيدين الكبار المشاهير، كان إماما في اللغة والأنساب، أقام بالشام مدة وسكن بنواحي حلب، وكان مشارا إليه في عصره.
ويحكى أنه قصد حضرة الصاحب بن عبّاد وهو بأرجان، فلما وصل
__________
[1] انظر «تاريخ علماء الأندلس» ص (244- 245) وقد نقل المؤلف عنه بتصرف.
[2] في الأصل والمطبوع و «العبر» : «علماء كثير» والتصحيح من «تاريخ علماء الأندلس» ونص كلامه فيه: «وقرأت عليه علما كثيرا» .
[3] انظر «معجم البلدان» (2/ 471) .
[4] لفظة «الخوارزمي» سقطت من الأصل واستدركتها من المطبوع.(4/434)
لبابه قال لأحد حجّابه: قل للصاحب على الباب أحد الأدباء، وهو يستأذن في الدخول، فدخل الحاجب وأعلمه، فقال الصاحب: قل له: قد ألزمت نفسي أنه لا يدخل عليّ من الأدباء إلّا من يحفظ عشرين ألف بيت من شعر العرب، فخرج إليه الحاجب وأعلمه بذلك، فقال له أبو بكر: ارجع إليه وقل له: هذا القدر من شعر الرجال أم من شعر النساء؟ فدخل عليه الحاجب فأعاد عليه ما قال، فقال الصاحب: هذا يؤيد أن يكون أبا بكر الخوارزمي، فأذن له في الدخول عليه، فعرفه وانبسط معه، ولكنه لم يجزل له العطاء، ففارقه غير راض، وعمل فيه:
لا تحمدنّ ابن عبّاد وإن هطلت ... يداه بالجود حتّى أخجل الدّيما
فإنها خطرات من وساوسه ... يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرما
فبلغ ذلك ابن عبّاد، فلما بلغه خبر موته أنشد:
أقول لركب من خوارزم [1] قافل ... أمات خوارزميّكم؟ قيل لي: نعم
فقلت: اكتبوا بالجصّ من فوق قبره ... ألا لعن الرّحمن من كفر النعم
ولأبي بكر المذكور ديوان رسائل وديوان شعر.
وقد ذكره الثعالبي في «اليتيمة» [2] وذكر قطعة من نثره، ثم أعقبها بشيء من نظمه، فمن ذلك قوله:
رأيتك إن أيسرت خيّمت عندنا ... مقيما وإن أعسرت زرت لماما
فما أنت إلّا البدر إن قلّ ضوؤه ... أغبّ وإن زاد الضياء أقاما [3]
وملحه ونوادره كثيرة، ولما رجع من الشام سكن نيسابور، ومات بها في منتصف رمضان من هذه السنة.
__________
[1] في «وفيات الأعيان» (4/ 402) : «من خراسان» .
[2] انظر «يتيمة الدهر» (4/ 223) طبع دار الكتب العلمية ببيروت.
[3] البيتان في «يتيمة الدهر» (4/ 273- 274) .(4/435)
وقال ابن الأثير في «تاريخه» [1] : مات سنة ثلاث وتسعين، والله أعلم.
وفيها أبو الفضل نصر بن محمد [بن] أحمد بن يعقوب العطار بن أبي نصر الطّوسي [2] . كان حافظا ناقدا ثقة وكان رأسا في علم الصوفية. قاله ابن ناصر الدّين.
__________
[1] انظر «الكامل في التاريخ» (9/ 101) .
[2] انظر «التبيان شرح بديعة البيان» (136/ ب) و «تذكرة الحفاظ» للذهبي (3/ 1016) .(4/436)
سنة أربع وثمانين وثلاثمائة
فيها اشتد البلاء بالعيّارين ببغداد، وقووا على الدولة، وكان رأسهم عزيز البابصري، التفّ [1] عليه خلق من المؤذين، وطالبوا بضرائب الأمتعة، وجبوا الأموال، فنهض السلطان، وتفرّغ لهم، فهربوا في الظاهر، ولم يحج أحد إلا الرّكب المصري فقط.
وفيها توفي أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصّابئ المشرك الحرّاني الأديب، صاحب التّرسّل، وكاتب الإنشاء للملك عز الدولة بختيار، ألحّ عليه عز الدولة أن يسلم فامتنع، وكان يصوم رمضان، ويحفظ القرآن، وله النظم والنثر والتّرسّل الفحل، ولما مات عضد الدولة، همّ بقتله لأجل المكاتبات الفجّة التي كان يرسلها عز الدولة بإنشائه إلى عضد الدولة، ثم تركه لشفاعة، وأمره أن يضع له كتابا في أخبار الدولة الديلمية، فعمل «الكتاب التاجي» فقيل لعضد الدولة: إن صديقا للصابىء دخل عليه فرآه في شغل شاغل من التعليق والتسويد والتبييض، فسأله عمّا يعمل؟ فقال: أباطيل أنمقها وأكاذيب ألفقها، فحركت ساكنه وأهاجت حقده، ولم يزل مبعدا في أيامه، وكان له عبد أسود اسمه يمن، وكان يهواه، وله فيه المعاني البديعة فمن جملة ما ذكره له الثعالبي في كتاب «الغلمان» قوله:
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «التفت» وأثبت ما في «العبر» وهو الصواب.(4/437)
قد قال يمن وهو أسود للذي ... ببياضه استعلى علوّ الخاتن
ما فخر وجهك بالبياض وهل ترى ... أن قد أفدت به مزيد محاسن
ولو ان مني فيه خالا زانه ... ولو ان منه في خالا شانني
وذكر له فيه الثعالبي أيضا:
لك وجه كأن يمناي خطت ... هـ بلفظ تمله آمالي
فيه معنى من البدور ولكن ... نفضت صبغها عليه اللّيالي
لم يشنك السواد بل زدت حسنا ... إنما يلبس السواد الموالي
فبمالي أفديك إن لم تكن لي ... وبروحي أفديك إن كنت مالي
وله أيضا وهو معنى بديع:
أيّها اللائم الذي يتصدى ... بقبيح يقوله لجوابي
لا تؤمل إني أقول لك اخسأ ... لست أسخو بها لكل الكلاب
وتوفي الصابئ يوم الاثنين، وقيل: الخميس، لاثنتي عشرة ليلة خلت من شوال هذه السنة ببغداد، وقيل: سنة ثمانين وثلاثمائة، وعمره إحدى وسبعون سنة، ودفن بالشّونيزيّة، ورثاه الشريف الرضي بقصيدته الدالية المشهورة، التي أولها:
أرأيت من حملوا على الأعواد ... أرأيت كيف خبا ضياء النادي [1]
وعاتبه الناس لكونه شريفا يرثي صابئيا، فقال: إنما رثيت فضله.
وبالجملة فإنه كان أعجوبة من الأعاجيب، لكن أضلّه الله على علم، نعوذ برضاه من سخطه، ونسأله العافية.
والصابئ: بهمز آخره، قيل: نسبة إلى صابئ بن متوشلخ [2] بن إدريس
__________
[1] انظر «ديوانه» (1/ 381) .
[2] في «وفيات الأعيان» (1/ 54) : «متوشلح» بالحاء المهملة، وقال محققه: في «د» :(4/438)
عليه السلام، وكان على الحنيفية [1] الأولى، وقيل: [إلى] الصابئ بن ماري، وكان في عصره الخليل عليه السلام، وقيل: الصابئ عند العرب من خرج عن دين قومه وهو الأصح، ولذلك كانت قريش تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم صابئا لخروجه عن دين قومه.
قال حسن چلبي في حاشيته على «المطول» : والصابئون بالهمز وبدونها، أي الخارجون، من صبأ إذا خرج، وهم قوم خرجوا عن دين اليهود والنصارى، وعبدوا الملائكة. انتهى.
والصابئة ملّة إدريس عليه السلام.
قال السيوطي في كتابه «حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة» [2] ما لفظه: ذكر أئمة التاريخ، أن آدم عليه الصلاة والسلام، أوصى لابنه شيث، وكان فيه وفي بنيه النبوّة والدّين، وأنزل عليه تسع وعشرون صحيفة، وأنه جاء إلى أرض مصر، وكانت تدعى بابليون [3] ، فنزلها هو وأولاد أخيه، فسكن شيث فوق الجبل، وسكن أولاد قابيل أسفل الوادي، واستخلف شيث ابنه أنوش، واستخلف أنوش ابنه قينان [4] واستخلف قينان [4] ابنه مهلائيل [5] واستخلف مهلائيل ابنه يرد، ودفع الوصية إليه، وعلّمه جميع العلوم، وأخبره بما يحدث
__________
«متوشلخ» .
[1] في الأصل والمطبوع: «على الحنفية» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[2] انظره (1/ 30) .
[3] في الأصل والمطبوع: «بايلون» وفي «حسن المحاضرة» : «باب لون» والتصحيح من «معجم البلدان» (1/ 311) وانظر «تاريخ الطبري» (6/ 145) قال ياقوت: وهو اسم عامّ لديار مصر بلغة القدماء، وقيل: اسم لموضع الفسطاط خاصة، وانظر تتمة كلامه فيه فهو غاية في الفائدة.
[4] في الأصل والمطبوع: «قونان» والتصحيح من «حسن المحاضرة» وهو قينان أبو مهلائيل.
انظر «تاريخ الطبري» (1/ 154) .
[5] تحرّفت في «حسن المحاضرة» إلى «مهليائيل» .(4/439)
في العالم، ونظر في النجوم وفي الكتاب الذي أنزل على آدم عليه السلام، وولده، ليرد أخنوخ، وهو هرمس، وهو إدريس عليه السلام، وكان الملك في ذلك الوقت محويل بن أخنوخ [1] بن قابيل، وتنبأ إدريس، وهو ابن أربعين سنة، وأراده الملك بسوء، فعصمه الله، وأنزل عليه ثلاثين صحيفة، ودفع إليه أبوه وصية جدّه، والعلوم التي عنده، وولد بمصر، وخرج منها، وطاف الأرض كلها، ورجع فدعا الخلق إلى الله [عزّ وجل] فأجابوه، حتى عمّت ملّته الأرض [2] ، وكانت ملّته الصابئة، وهي توحيد الله، والطهارة، والصلاة، والصوم، وغير ذلك من رسوم التعبدات. وكان في رحلته إلى المشرق أطاعه جميع ملوكها، وابتنى مائة وأربعين مدينة أصغرها الرّها، ثم عاد إلى مصر، فأطاعه [3] ملكها وآمن به، فنظر في تدبير أمرها، وكان النّيل يأتيهم سيحا، فينحازون عن سيله إلى أعالي الجبال [4] والأرض العالية حتّى ينقص، فينزلون ويزرعون حيث [5] وجدوا الأرض بريّة [6] ، وكان يأتي في وقت الزراعة وفي غير وقتها، فلما عاد إدريس، جمع أهل مصر، وصعد بهم إلى أوّل مسيل النيل إليها، ودبّر وزن الأرض، ووزن الماء على الأرض، وأمرهم بإصلاح ما أراد [7] من إصلاح [من خفض] [8] المرتفع ورفع المنخفض، وغير ذلك مما
__________
[1] كذا في الأصل والمطبوع: «محويل بن أخنوخ» وفي «حسن المحاضرة» (1/ 30) ذكر مرة باسم «محويل بن أخنوخ» كما في كتابنا، ومرة باسم «محويل بن خنوخ» وهو كذلك في «تاريخ الطبري» (1/ 165) .
[2] قوله: «ورجع فدعا الخلق إلى الله عزّ وجل، فأجابوه، حتى عمّت ملّته الأرض» لم يرد في «حسن المحاضرة» الذي بين يدي.
[3] في الأصل والمطبوع: «وأطاعه» وأثبت لفظ «حسن المحاضرة» .
[4] في «حسن المحاضرة» : «من مساله إلى أعاله الجبل» .
[5] في «حسن المحاضرة» : «حيثما» .
[6] في «حسن المحاضرة» ، «نديّة» .
[7] في «حسن المحاضرة» : «ما أرادوا» .
[8] ما بين حاصرتين سقط من الأصل والمطبوع واستدركته من «حسن المحاضرة» .(4/440)
رأى [1] في [علم] النجوم، والهندسة، والهيئة.
وكان أول من تكلم في هذه العلوم وأخرجها من القوّة إلى الفعل، ووضع فيها الكتب، ورسم فيها التعليم [2] ثم سار إلى بلاد الحبشة، والنوبة، وغيرها، وجمع أهلها، وزاد في جري النيل ونقصه [3] بحسب [4] بطئه وسرعته في طريقه، حتّى عمل على [5] حساب جريه ووصوله إلى أرض مصر في زمن الزراعة على ما هو عليه الآن، فهو أول من دبّر جري النيل إلى مصر، ومات إدريس بمصر، والصابئة تزعم أن هرمي مصر، أحدهما قبر شيث، والآخر قبر إدريس، والأصح أنه ليس إدريس، إنما هو مصر بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام. هذا كله كلام التّيفاشي [6] . انتهى ما قاله السيوطي بحروفه.
وفيها صبح بن أحمد [7] الحافظ أبو الفضل التميمي الأحنفي الهمذاني السّمسار ويعرف أيضا بابن الكوملاذي [8] محدّث همذان. روى عن عبد الرّحمن بن أبي حاتم وطبقته، وهو الذي لما أملى الحديث باع طاحونا له بسبعمائة دينار ونثرها على المحدّثين.
__________
[1] في «حسن المحاضرة» : «مما رآه» .
[2] في «حسن المحاضرة» : «ورسم فيها العلوم» .
[3] في الأصل والمطبوع: «ونقص» والتصحيح من «حسن المحاضرة» .
[4] في الأصل والمطبوع: «بحيث» والتصحيح من «حسن المحاضرة» .
[5] لفظة «على» لم ترد في «حسن المحاضرة» .
[6] تحرّف في الأصل والمطبوع إلى «التيغاشي» وهو خطأ، والتصحيح من «حسن المحاضرة» وهو أحمد بن يوسف بن أحمد بن أبي بكر بن حمدون، شرف الدين القيسي التيفاشي، عالم بالحجارة الكريمة، غزير العلم بالأدب وغيره، مات سنة (651) هـ. انظر ترجمته ومصادرها في «الأعلام» (1/ 273- 274) .
[7] كذا الأصل والمطبوع: «صبح بن أحمد» وفي «العبر» (3/ 27) و «سير أعلام النبلاء» (16/ 518) : «صالح بن أحمد» وكذلك سيذكره المؤلف بعد قليل، ويبدو أنه كان يعرف ب «صالح» وب «صبح» .
[8] في الأصل والمطبوع «اللوملاذ» وفي «العبر» : «الكوملاذ» والتصحيح «سير أعلام النبلاء» (16/ 518) ، والكوملاذي: نسبة إلى «كوملاذ» من قرى همذان. انظر «معجم البلدان»(4/441)
قال شيرويه [1] : كان ركنا من أركان الحديث، [ثقة، حافظا] ديّنا ورعا [صدوقا] ، ولا يخاف في الله لومة لائم، وله عدة مصنفات، توفي في شعبان، والدعاء عند قبره مستجاب! ولد سنة ثلاث وثلاثمائة.
وفيها الرّمّاني، شيخ العربية، أبو الحسن علي بن عيسى النحوي [2] ببغداد، وله ثمان وثمانون سنة، وكانت ولادته أيضا ببغداد في سنة ست وتسعين ومائتين، وتوفي ليلة الأحد حادي عشر جمادى الأولى من هذه السنة على الصحيح، وقيل: سنة اثنتين وثمانين، وأصله من سرّ من رأى، وهو أحد الأئمة المشاهير، جمع بين علم الكلام والعربية، وله قريب من مائة مصنف، منها «تفسير القرآن العظيم» وكان متقنا لعلوم كثيرة، منها القراءات، والفقه، والنحو، والكلام على مذهب المعتزلة، والتفسير، واللغة، وأخذ عن ابن دريد، وأبي بكر بن السرّاج، وغيرهما.
وفيها صالح بن أحمد بن محمد بن أحمد بن صالح التميمي الأحنفي، من ولد الأحنف بن قيس، وهو المترجم بصبح قبل أسطر، وكان حافظا ثقة ديّنا، من الأبرار. قاله ابن ناصر الدّين.
وفيها أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد بن حشيش الأصبهاني العدل، مسند أصبهان في عصره. روى عن إسحاق بن إبراهيم بن جميل، ويحيى بن صاعد، وطبقتهما.
__________
(4/ 495) ، أما السمعاني فقال: «الكوملاباذي» نسبة إلى «كوملاباذ» انظر «الأنساب» (10/ 502- 503) .
[1] في الأصل والمطبوع: «سيرويه» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» وما بين حاصرتين زيادة منه.
[2] انظر ترجمته ومصادرها في «سير أعلام النبلاء» (16/ 533- 534) وانظر كتاب «الرّمّاني النحوي في ضوء شرحه لكتاب سيبويه» للعالم الجليل الدكتور مازن المبارك، أستاذ العربية في جامعة دمشق حفظه الله، فإنك ستقف فيه على فوائد عزيزة إن شاء الله تعالى.(4/442)
وفيها محدّث الكوفة، أبو الحسن، محمد بن أحمد بن حمّاد بن سفيان الكوفي الحافظ، كان أحد المعمرين المشهورين، أدرك أصحاب أبي كريب، وأبي سعيد الأشج، وجمع وألّف.
وفيها أبو الحسن محمد بن العبّاس بن أحمد بن الفرات البغدادي الحافظ. سمع من أبي عبد الله المحاملي وطبقته، وجمع ما لم يجمعه أحد في وقته.
قال الخطيب [1] : بلغني أنه كان عنده عن علي بن محمد المصري وحده [2] . ألف جزء، وأنه كتب مائة «تفسير» ومائة «تاريخ» كبير، وهو حجة ثقة.
وفيها شيخ الشافعية، أبو الحسن، الماسرجسي، محمد بن علي بن سهل النيسابوري، سبط الحسن بن عيسى بن ماسرجس- بفتح السين المهملة وسكون الراء وكسر الجيم- روى عن أبي حامد بن الشرقي وطبقته، ورحل بعد الثلاثين، وكتب الكثير بالعراق، والحجاز، ومصر.
قال الحاكم: كان أعرف الأصحاب بالمذهب وترتيبه، صحب أبا إسحاق المروزي مدة، وصار ببغداد معيدا لأبي علي بن أبي هريرة، وعاش ستا وسبعين سنة.
قال الإسنوي: أخذ عن أبي إسحاق وصحبه إلى مصر، ولازمه إلى أن توفي، فانصرف إلى بغداد، ودرّس بها، وكان المجلس له بعد قيام ابن أبي هريرة، وكان معيد درسه، ثم انصرف إلى خراسان سنة أربع وأربعين، وتوفي بها عشية الأربعاء ودفن عشية الخميس، السادس من جمادى الآخرة، وهو
__________
[1] انظر «تاريخ بغداد» (3/ 122) .
[2] تحرفت في الأصل والمطبوع إلى «وجده» والتصحيح من «تاريخ بغداد» .(4/443)
ابن ست وسبعين سنة. نقل عنه الرافعي استحباب تطويل الركعة الأولى على الثانية، وحكى عنه في باب الدّيات، أنه قال: رأيت صيادا يرمي الصيد على فرسخين.
وكان له ولد اسمه محمد، ويكنى أبا بكر، درس الفقه على أبيه، وسمع الحديث ببلاد كثيرة، وتوفي في جمادى الأولى سنة تسع وثمانين وثلاثمائة عن أربع وثلاثين سنة ودفن بداره. انتهى ملخصا.
وفيها أبو عبيد الله [1] المرزباني محمد بن عمران بن موسى بن سعيد بن عبيد الله الكاتب، الأخباري العلّامة المعتزلي، صنّف أخبار المعتزلة وأخبار الشعراء، وغير ذلك، وحدّث عن البغوي [2] ، وابن دريد، ومات في شوال، وله ثمان وثمانون سنة.
قال ابن خلّكان [3] : الخراساني الأصل، البغدادي المولد، صاحب التصانيف المشهورة والمجاميع الغريبة، وكان راوية للآداب صاحب أخبار، وتآليفه كثيرة، وكان ثقة في الحديث ومائلا إلى التشيع في المذهب، وهو أول من جمع «ديوان يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الأموي» واعتنى به وهو صغير الحجم، يدخل في مقدار ثلاث كراريس، وقد جمعه من بعده جماعات وزادوا فيه أشياء ليست له [4] ، وشعر يزيد مع قلته في غاية الحسن، ومن لطيف شعره الأبيات العينية التي منها:
إذا رمت من ليلى على البعد نظرة ... تطفّي [5] جوى بين الحشا والأضالع
__________
[1] في «العبر» : «أبو عبد الله» وهو خطأ فيصحح فيه.
[2] يعني عن أبي القاسم عبد الله بن محمد البغوي.
[3] انظر «وفيات الأعيان» (4/ 354- 356) .
[4] قلت: وقد جمع بعض شعره وبعض ما ينسب إليه من الشعر من المعاصرين الدكتور صلاح الدّين المنجد، ونشره في دار الكتاب الجديد ببيروت عام 1402 هـ.
[5] في الأصل والمطبوع: «فتطفي» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» و «شعر يزيد بن معاوية» للمنجد.(4/444)
تقول نساء الحيّ تطمع أن ترى ... محاسن ليلى؟ مت بداء المطامع
وكيف ترى ليلى بعين ترى بها ... سواها؟ وما طهّرتها بالمدامع
وتلتذّ منها بالحديث وقد جرى ... حديث سواها في خروق المسامع
أجلّك يا ليلى عن العين إنّما ... أراك بقلب خاشع لك خاضع [1]
وكانت ولادة المرزباني المذكور في جمادى الآخرة، سنة سبع وتسعين ومائتين، وتوفي يوم الجمعة ثاني شوال، سنة أربع وثمانين، وقيل: ثمان وسبعين، والأول أصح، ودفن بداره بشارع عمرو [2] الرّومي ببغداد، في الجانب الشرقي، وروى عنه [أبو] عبد الله [3] الصّيمري، وأبو القاسم التنوخي، وأبو محمد الجوهري، وغيرهم.
والمرزباني: بفتح الميم وسكون الراء، وضم الزاي، وفتح الباء الموحدة، وبعد الألف نون، نسبة إلى بعض أجداده، كان اسمه المرزبان، وهذا الاسم لا يطلق عند العجم إلّا على الرجل المقدّم العظيم القدر، وتفسيره بالعربية حافظ الحدّ. انتهى ما قاله ابن خلّكان ملخصا [4] .
وجزم الذهبي في «العبر» [5] أنه كان معتزليا.
وقال ابن الأهدل: المرزباني البغدادي، صاحب التصانيف المشهورة، كان راوية في الأدب، ثقة في الرواية. انتهى.
__________
[1] الأبيات في «وفيات الأعيان» (4/ 354- 355) و «شعر يزيد بن معاوية» للمنجد ص (20- 21) .
[2] في الأصل والمطبوع: «عمر» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» و «إنباه الرواة» (3/ 182) .
[3] في الأصل والمطبوع: «عبد الله» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» وهو الحسين بن علي بن محمد بن جعفر الصيمري القاضي أبو عبد الله. انظر «تاريخ بغداد» (8/ 78- 79) .
[4] وانظر «المعرب» للجواليقي ص (365) بتحقيق العلّامة الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله.
[5] انظر «العبر» (3/ 29) .(4/445)
وفيها القاضي التّنوخي، أبو علي المحسن [1] بن علي بن محمد بن داود بن إبراهيم بن تميم الأديب الأخباري، صاحب التصانيف. ولد بالبصرة، وسمع بها من أبي العبّاس الأثرم، وطائفة، وببغداد من الصّولي وغيره، وعاش سبعا وخمسين سنة. وذكره الثعالبي وأباه [2] في باب واحد، وقدم ذكر أبيه، ثم قال في حق أبي علي المذكور [3] هلال ذاك القمر، وغصن هاتيك الشجر، والشاهد العدل بمجد أبيه وفضله، والفرع المسند لأصله، والنائب عنه في حياته، والقائم مقامه بعد مماته، وله كتاب «الفرج بعد الشدة» ذكر في أوائل هذا الكتاب [4] أنه كان على المعيار [5] بدار الضرب بسوق الأهواز في سنة ست وأربعين وثلاثمائة، وذكر بعد ذلك بقليل [6] أنه كان على القضاء بجزيرة ابن عمر.
وله ديوان شعر أكبر من ديوان أبيه، وكتاب «نشوان المحاضرة» [7] وله كتاب «المستجاد من فعلات الأجواد» ونزل ببغداد وأقام بها، وحدّث إلى حين وفاته، وكان سماعه صحيحا، وكان أول سماعه الحديث في سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، وأول ما تقلد القضاء من قبل أبي السائب عتبة بن عبيد الله بالقصر، وبابل، وما والاها، سنة تسع وأربعين، ثم ولّاه الإمام المطيع لله
__________
[1] تحرّف في «العبر» إلى «الحسن» فيصحح فيه.
[2] انظر «يتيمة الدهر» (2/ 393- 404) طبع دار الكتب العلمية.
[3] انظر «يتيمة الدهر» (2/ 405) .
[4] انظر «الفرج بعد الشدة» (1/ 107) بتحقيق الأستاذ عبود السالجي، طبع دار صادر.
[5] المعيار: من المكاييل. انظر «لسان العرب» (عير) .
[6] انظر «الفرج بعد الشدة» (1/ 134) .
[7] كذا في الأصل والمطبوع وإحدى نسخ «وفيات الأعيان» كما ذكر محققه في حاشيته (4/ 159) و «كشف الظنون» (2/ 1953) : «نشوان المحاضرة» ، وفي معظم المصادر التي بين يدي: «نشوار المحاضرة» وهو الاسم الذي اشتهر به.(4/446)
القضاء بعسكر مكرم، [وإيذج] [1] ورامهرمز، وتقلد بعد ذلك أعمالا كثيرة في نواح مختلفة.
ومن شعره في بعض المشايخ وقد خرج ليستسقي وكان في السماء سحاب، فلما دعا أصحت السماء، فقال التنوخي:
خرجنا لنستسقي بفضل [2] دعائه ... وقد كاد هدب الغيم أن يبلغ [3] الأرضا
فلما ابتدا يدعو تقشعت [4] السما ... فما تمّ إلّا والغمام قد انفضّا
ومن المنسوب إليه أيضا [5] :
قل للمليحة في الخمار المذّهب ... أفسدت نسك أخي التّقى المترهب
نور الخمار ونور خدك تحته ... عجبا لوجهك كيف لم يتلهّب
وجمعت بين المذهبين فلم يكن ... للحسن عن ذهبيهما من مذهب
فإذا أتت عيني [6] لتسرق نظرة ... قال الشعاع لها اذهبي لا تذهبي
وأما ولده أبو القاسم علي بن المحسن بن علي التّنوخي، فكان أديبا فاضلا شاعرا، راوية للشعر الكثير، وكان يصحب أبا العلاء المعري، وأخذ عنه كثيرا، وكان من أهل بيت كلهم فضلاء، أدباء، ظرفاء، وكانت ولادة الولد المذكور في منتصف شعبان، سنة خمس وستين وثلاثمائة بالبصرة،
__________
[1] ما بين حاصرتين سقط من الأصل والمطبوع واستدركته من «وفيات الأعيان» وقد تصحفت فيه «إيذج» إلى «إيدج» فتصحح، وإيذج: كورة وبلد بين خوزستان وأصبهان، وهي أجل مدن هذه الكورة. قاله ياقوت، وانظر تتمة كلامه عنها في «معجم البلدان» (1/ 288- 289) .
[2] في «وفيات الأعيان» : «بيمن» .
[3] في «وفيات الأعيان» : «أن يلحف» .
[4] في «وفيات الأعيان» : «تكشفت» .
[5] يعني للمترجم.
[6] في «وفيات الأعيان» : «عين» .(4/447)
وتوفي يوم الأحد مستهل المحرم، سنة سبع وأربعين وأربعمائة، وكان بينه [1] وبين الخطيب أبي زكريا التبريزي مؤانسة واتحاد بطريق أبي العلاء المعري.
وقال الخطيب البغدادي [2] : وكان قد قبلت شهادته عند الحكام في حداثته، ولم يزل على ذلك مقبولا إلى آخر عمره، وكان مستحفظا في الشهادة، محتاطا صدوقا في الحديث ونقله، وتقلد قضاء نواح عدّة، منها المدائن وأعمالها، وأذربيجان، وإفريقية، وغير ذلك، وإليه كتب أبو العلاء قصيدته التي أولها:
هات الحديث عن الزّوراء أوهيتا [3]
__________
[1] لفظة «بينه» سقطت من الأصل وأثبتها من المطبوع و «وفيات الأعيان» .
[2] انظر «تاريخ بغداد» (12/ 115) .
[3] صدر بيت من قصيدة مطولة عجزه:
وموقد النّار لا تكرى بتكريتا
وانظر «شرح سقط الزند» (4/ 1553- 1555) .(4/448)
سنة خمس وثمانين وثلاثمائة
فيها توفي أبو بكر بن المهندس، أحمد بن محمد بن إسماعيل محدّث ديار مصر. كان ثقة تقيا، روى عن البغوي [1] ، ومحمد بن محمد الباهلي، وطبقتهما.
وفيها أبو القاسم، الصاحب بن عبّاد إسماعيل بن عبّاد بن العبّاس بن عبّاد بن أحمد بن إدريس الطالقاني، وزير مؤيد الدولة أبي منصور بن بويه، وفخر الدولة، وصحب أبا الفضل الوزير ابن العميد، وأخذ عنه الأدب، والشعر، والترسل، وبصحبته لقب بالصاحب، وكان من رجال الدهر، حزما، وعزما، وسؤددا، ونبلا، وسخاء، وحشمة، وإفضالا وعدلا.
قال الثعالبي في «اليتيمة» [2] في حقه: ليست تحضرني عبارة أرضاها للإفصاح عن علو محله في العلم والأدب، وجلالة شأنه في الجود والكرم، وتفرده بالغايات [3] في المحاسن، وجمعه أشتات المفاخر، لأن همة قولي تنخفض عن بلوغ أدنى فضائله ومعاليه، وجهد وصفي يقصر عن أيسر فواضله ومساعيه.
ثم شرع في وصف بعض محاسنه وطرف من أحواله.
__________
[1] يعني عن أبي القاسم البغوي الإمام الكبير، وقد تقدمت ترجمته.
[2] انظر «يتيمة الدهر» (3/ 225) وما بعدها.
[3] في «يتيمة الدهر» التي بين يدي: «بغايات» .(4/449)
وقال أبو بكر الخوارزمي في حقه [1] : الصاحب نشأ من الوزارة في حجرها، ودب ودرج من وكرها [2] ورضع أفاويق درها، وورثها عن آبائه [3] كما قال أبو سعيد الرّستمي في حقه:
ورث الوزارة كابرا عن كابر ... موصولة الإسناد بالإسناد
يروي عن العبّاس عبّاد وزا ... رته وإسماعيل عن عبّاد
وأنشده أبو القاسم الزعفراني يوما أبياتا نونية من جملتها:
أيا من عطاياه تهدي الغنى ... إلى راحتي من نأى أو دنا
كسوت المقيمين والزائرين ... كسا لم نخل مثلها ممكنا
وحاشية الدار يمشون في ... صنوف [4] من الخزّ إلا أنا
فقال الصاحب: قرأت في أخبار معن بن زائدة الشيباني، أن رجلا قال له: احملني أيها الأمير، فأمر له بناقة، وفرس، وبغل، وحمار، وجارية، ثم قال: لو علمت أن الله تعالى خلق مركوبا غير هذا لحملتك عليه، وقد أمرنا لك من الخزّ بجبة، وقميص، وعمامة، ودرّاعة، وسراويل، ومنديل، ومطرف، ورداء، وكساء، وجورب، وكيس، ولو علمنا لباسا آخر يتخذ من الخزّ لأعطيناكه.
واجتمع عنده من الشعراء ما لم يجتمع عند غيره، ومدحوه بغرر المدائح، وكان حسن الأجوبة.
كتب إليه بعضهم رقعة أغار فيها على رسائله، وسرق جملة من ألفاظه، فوقّع فيها: هذه بضاعتنا ردت إلينا.
وصنّف في اللغة كتابا سمّاه «المحيط» في سبع مجلدات [5] ، وكتاب
__________
[1] لا زال المؤلف ينقل عن «يتيمة الدهر» .
[2] في «يتيمة الدهر» الذي بين يدي: «في وكرها» .
[3] في «يتيمة الدهر» : «وورثها من أبيه» .
[4] في «يتيمة الدهر» : «ضروب» .
[5] قال ابن خلكان: رتبه على حروف المعجم، كثّر فيه الألفاظ، وقلّل الشواهد، فاشتمل من(4/450)
«الكافي» في الرسائل، وكتاب «الأعياد وفضائل النيروز» وكتاب «الإمامة» يذكر فيه فضائل عليّ رضي الله عنه، ويثبت إمامته على من تقدمه، لأنه كان شيعيا، وله غير ذلك، وله رسائل بديعة ونظم جيد، فمنه قوله:
وشادن جماله ... تقصر عنه صفتي
أهوى لتقبيل يدي ... فقلت قبّل شفتي
وله في رقة الخمر:
رقّ الزجاج وراقت الخمر ... فتشابها وتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر
وحكى أبو الحسين محمد بن الحسين الفارسي النحوي، أن نوح بن منصور، أحد ملوك بني سامان [1] ، كتب إليه ورقة في السر يستدعيه ليفوّض إليه وزارته وتدبير مملكته، وكان من جملة أعذاره إليه، أنه يحتاج في نقل كتبه خاصة إلى أربعمائة جمل، فما الظن بما يليق بها من التجمل؟! وكان مولده لأربع عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة، سنة ست وعشرين وثلاثمائة بإصطخر، وقيل: بالطّالقان، وتوفي ليلة الجمعة رابع عشري صفر بالرّيّ، ثم نقل إلى أصبهان.
ومن أخباره أنه لم يسعد أحد بعد وفاته كما كان في حياته غير الصّاحب، فإنه لما توفي أغلقت له مدينة الرّيّ، واجتمع الناس على باب القصر [2] ينتظرون خروج جنازته، وحضر مخدومه فخر الدولة وسائر القواد وقد غيّروا لباسهم، فلما خرج نعشه من الباب، صاح الناس بأجمعهم صيحة
__________
اللغة على جزء متوفر.
[1] في الأصل والمطبوع: «ساسان» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» . قال في «القاموس المحيط» (سمن) : والملوك السامانيّة تنسب إلى سامان بن حيّا.
[2] في «وفيات الأعيان» : «على باب قصره» .(4/451)
واحدة وقبّلوا الأرض، ومشى فخر الدولة أمام الجنازة مع الناس، وقعد للعزاء أياما.
ورثاه أبو سعيد الرّستمي بقوله:
أبعد ابن عبّاد يهشّ إلى السرى ... أخو أمل أو يستماح جواد
أبى الله إلّا أن يموتا بموته ... فما لهما حتّى المعاد معاد [1]
قال ابن الأهدل: ومن كلامه في وصف الأئمة الثلاثة المتعاصرين، أصحاب أبي الحسن الأشعري: الباقلاني نار محرق، وابن فورك صل مطرق، والإسفراييني بحر مغرق.
قال ابن عساكر: كأن روح القدس نفث في روعه بحقيقة حالهم.
انتهى.
وفيها أبو الحسن الأذني- بفتحتين، نسبة إلى أذنة [2] بلد بساحل الشام عند طرسوس- القاضي علي بن الحسين بن بندار المحدّث، نزيل مصر. روى الكثير عن ابن فيل، وأبي عروبة، ومحمد بن الفيض الدمشقي، وعلي الغضائري، وتوفي في شهر ربيع الأول.
وفيها الدّارقطني- بفتح الراء وضم القاف، وسكون الطاء، نسبة إلى دار القطن، محلة ببغداد- وهو أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي بن مسعود البغدادي، الإمام الحافظ الكبير، شيخ الإسلام، إليه النهاية في معرفة الحديث وعلومه، وكان يدعى فيه أمير المؤمنين.
وقال في «العبر» [3] : الحافظ المشهور، صاحب التصانيف، توفي في ذي القعدة، وله ثمانون سنة. روى عن البغوي وطبقته.
__________
[1] تنبيه: نقل المؤلف ترجمة الصاحب بن عبّاد عن «وفيات الأعيان» (1/ 228- 232) باختصار.
[2] سبق التعريف بها، وتعرف الآن ب «أضنة» ، وتقع في الجنوب الأوسط من تركيا المعاصرة.
[3] (3/ 30- 31) .(4/452)
ذكره الحاكم فقال: صار أوحد عصره في الحفظ، والفهم، والورع، إماما في القراءات، والنحو، صادفته فوق ما وصف لي، وله مصنفات يطول ذكرها.
وقال الخطيب [1] : كان فريد عصره، وقريع دهره، ونسيج وحده، وإمام وقته. انتهى إليه علم الأثر [2] والمعرفة بالعلل وأسماء الرجال [وأحوال الرواة] ، مع الصدق [والأمانة، والفقه، والعدالة، وقبول الشهادة] وصحة الاعتقاد [وسلامة المذهب] ، والاضطلاع من علوم سوى علم الحديث، منها القراءات، وقد صنّف فيها مصنفا، ومنها المعرفة بمذاهب الفقهاء، وبلغني أنه درس فقه الشافعي على أبي سعيد الإصطخري، ومنها المعرفة بالأدب والشعر، فقيل: إنه كان يحفظ دواوين جماعة.
وقال أبو ذر الهروي: قلت للحاكم: هل رأيت مثل الدارقطني؟ فقال:
هو لم ير مثل نفسه فكيف أنا؟! وقال البرقاني: كان الدارقطني يملي عليّ العلل من حفظه.
وقال القاضي أبو الطيب الطبري: الدارقطني أمير المؤمنين في الحديث. انتهى كلام «العبر» .
وقال ابن قاضي شهبة: قال الحاكم: صار أوحد أهل عصره في الحفظ، والفهم، والورع، وإماما في النحو، والقراءة، وأشهد أنه لم يخلف على أديم الأرض مثله، توفي ببغداد ودفن قريبا من معروف الكرخي.
قال ابن ماكولا: رأيت في المنام كأني أسأل عن حال الدارقطني في الآخرة، فقيل لي: ذاك يدعى في الجنة بالإمام. انتهى ملخصا.
__________
[1] انظر «تاريخ بغداد» (12/ 34- 35) وما بين حاصرتين زيادة منه.
[2] في «سير أعلام النبلاء» (16/ 452) : «علو الأثر» .(4/453)
وفيها أبو حفص بن شاهين، عمر بن أحمد بن عثمان بن أحمد بن محمد بن أيوب البغدادي، الواعظ المفسّر الحافظ، صاحب التصانيف وأحد أوعية العلم، توفي بعد الدارقطني [بشهر، وكان أكبر من الدارقطني] [1] بتسع سنين. سمع من الباغندي، ومحمد بن المجدّر، والكبار، ورحل إلى الشام، والبصرة، وفارس.
قال أبو الحسين بن المهتدي بالله: قال لنا ابن شاهين: صنّفت ثلاثمائة وثلاثين مصنفا، منها «التفسير الكبير» ألف جزء، و «المسند» ألف وثلاثمائة جزء، و «التاريخ» مائة وخمسون جزءا.
قال ابن أبي الفوارس: ابن شاهين ثقة مأمون، جمع وصنّف ما لم يصنفه أحد.
وقال محمد بن عمر الداودي: كان ثقة بحّاثا، وكان لا يعرف الفقه، ويقول: أنا محمديّ المذهب. انتهى.
وممّن أخذ عنه الماليني، والبرقاني، وخلق كثير.
وقال السيوطي في كتابه «مشتهى العقول ومنتهى النقول» : منتهى التفاسير لابن شاهين ألف مجلد، والمسند له ألف وخمسمائة مجلد، ومداد تصانيفه انتهى إلى ثمانية وعشرين قنطارا.
قال ابن الجوزي: قلت: هذا من طي الزمان. انتهى كلام السيوطي.
وفيها أبو بكر الكسائي [2] ، محمد بن إبراهيم النيسابوري، الأديب الذي روى «صحيح مسلم» عن إبراهيم بن سفيان الفقيه، توفي ليلة عيد
__________
[1] ما بين حاصرتين سقط من الأصل وأثبته من المطبوع و «العبر» .
[2] في الأصل والمطبوع: «الكبشاني» وهو خطأ، والتصحيح من «المغني في الضعفاء» و «سير أعلام النبلاء» (16/ 465) .(4/454)
النحر، ضعفه الحاكم لتسميعه الكتاب بقوله: من غير أصل.
وقال في «المغني» [1] : غمزه الحاكم، روى «الصحيح» من غير أصل.
انتهى.
وفيها أبو الحسن بن سكّرة، محمد بن عبد الله بن محمد الهاشمي البغدادي، الشاعر المشهور، العبّاسي المفلق، ولا سيّما في المجون والمزاح، وكان هو وابن حجّاج يشبّهان في وقتهما بجرير والفرزدق، ويقال:
إن «ديوان ابن سكّرة» يزيد على خمسين ألف بيت.
قال الثعالبي في ترجمته [2] : هو شاعر متسع الباع، في أنواع الإبداع، فائق في قول الظرف والملح [3] ، على الفحول والأفراد، جار في ميدان المجون والسخف ما أراد، وكان يقال: إن زمانا جاد بمثل ابن سكّرة، وابن حجّاج لسخيّ جدا.
ومن بديع تشبيهه ما قاله في غلام في يده غصن مزهر:
غصن بان بدا وفي اليد منه ... غصن فيه لؤلؤ منظوم
فتحيّرت بين غصنين في ذا ... قمر طالع وفي ذا نجوم
وله في غلام أعرج:
قالوا بليت بأعرج فأجبتهم ... العيب يحدث في غصون البان
إني أحب حديثه وأريده ... للنوم لا للجري في الميدان
وله أيضا:
أنا والله هالك ... آيس من سلامتي
أو أرى القامة التي ... قد أقامت قيامتي
__________
[1] (2/ 545) .
[2] انظر «يتيمة الدهر» (3/ 3- 34) .
[3] في «يتيمة الدهر» : «الملح والظرف» .(4/455)
وله:
قيل ما أعددت للبر ... د فقد جاء بشدّه
قلت دراعة عري ... تحتها جبة رعده
وله البيتان اللذان ذكرهما الحريري في مقاماته [1] وهما:
جاء الشتاء وعندي من حوائجه ... سبع إذا القطر عن حاجاتنا حبسا
كنّ وكيسّ وكانون وكاس طلا ... بعد [2] الكباب وكس ناعم وكسا
ومحاسن شعره كثيرة، وتوفي يوم الأربعاء حادي عشر شهر ربيع الآخر.
وفيها الفقيه العلّامة الورع الزاهد الخاشع البكّاء المتواضع أبو بكر الأودني- بالضم وفتح المهملة والنون، نسبة إلى أودنة، قرية من قرى بخارى- شيخ الشافعية ببخارى وما وراء النهر، أبو بكر، محمد بن عبد الله بن محمد بن بصير [3] ، كان علّامة زاهدا، ورعا خاشعا، ومن غرائب وجوهه في المذهب، أن الربا حرام في كل شيء، فلا يجوز بيع شيء بجنسه. روى عن الهيثم بن كليب الشّاشي، وطائفة، ومات في شهر ربيع الآخر، وقد دخل في سن الشيخوخة، ومن تلامذته المستغفري.
قال ابن قاضي شهبة: قال الحاكم: كان من أزهد الفقهاء، وأورعهم، وأعبدهم، وأبكاهم على تقصيره، وأشدهم تواضعا وإنابة.
وقال الإمام في «النهاية» [4] : وكان من دأبه أن يضنّ بالفقه على من لا
__________
[1] انظر «مقامات الحريري» ص (257) طبعة البابي الحلبي.
[2] في الأصل والمطبوع: «مع» والتصحيح من «مقامات الحريري» و «وفيات الأعيان» مصدر المؤلف.
[3] في الأصل والمطبوع و «العبر» : «ابن نصير» وهو تصحيف، والتصحيح من «الإكمال» (1/ 320) و «الأنساب» (1/ 380) و «سير أعلام النبلاء» (16/ 465) .
[4] هو «نهاية المطلب في دراية المذهب» للجويني. انظر «كشف الظنون» (2/ 1990) .(4/456)
يستحقه، وإن ظهر بسببه أثر الانقطاع عليه في المناظرة، توفي ببخارى.
انتهى ملخصا.
وفيها أبو الفتح القوّاس، يوسف بن عمر بن مسرور البغدادي الزاهد، المجاب الدعوة في ربيع الآخر، وله خمس وثمانون سنة، روى عن البغوي وطبقته.
قال البرقاني: كان من الأبدال.(4/457)
سنة ست وثمانين وثلاثمائة
فيها توفي أبو حامد النّعيمي، أحمد بن عبد الله بن نعيم السّرخسي، نزيل هراة، في ربيع الأول. روى «الصحيح» عن الفربري، وسمع من الدّغولي، وجماعة.
وفيها أبو أحمد السّامرّي- بفتح الميم وتشديد الراء، نسبة إلى سرّ من رأى- عبد الله بن الحسين بن حسنون البغدادي المقرئ، شيخ الإقراء بالدّيار المصرية. مات في المحرم وله إحدى وتسعون سنة. قرأ القرآن في الصغر، فذكر أنه قرأ على أحمد بن سهل الأشناني، وأبي عمران الرّقّي، وابن شنبوذ، وابن مجاهد، وحدّث عن أبي العلا محمد بن أحمد الوكيعي، فاتهمه الحافظ عبد الغني المصري في لقيه [1] وقال: لا أسلّم على من يكذب في الحديث، وفي «العنوان» [2] أن السامري، قرأ على محمد بن يحيى الكسائي، وهذا وهم من صاحب «العنوان» لأن محمد بن يحيى توفي قبل مولد السامري بخمس عشرة سنة أو هو محمد بن السامري [3] ، ويدل عليه
__________
[1] في «العبر» : «في لقبه» .
[2] يعني كتاب «العنوان في السبعة القراء» لأبي طاهر إسماعيل بن خلف الأنصاري السّرقسطي المتوفى سنة (455) هـ. انظر «كشف الظنون» (2/ 1176) و «الأعلام» للزركلي (1/ 313) .
[3] في المطبوع: «أو هو عمد بن السامري» وهو تحريف غير سياق النص، وانظر «العبر» (3/ 34) .(4/458)
قول محمد بن علي الصوري: قد ذكر أبو أحمد، أنه قرأ على الكسائي الصغير، فكتب في ذلك إلى بغداد، يسأل عن وفاة الكسائي، فكان الأمر من ذلك بعيدا.
قال في «العبر» [1] : قلت: ثم أمسك أبو أحمد عن هذا القول، وروى عن ابن مجاهد، عن الكسائي. انتهى.
وفيها عبيد الله بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم بن محمد بن جميل، أبو أحمد الأصبهاني. روى مسند أحمد بن منيع، عن جدّه، ومات في شعبان.
وفيها الحربي، أبو الحسن، علي بن عمر الحميري البغدادي، ويعرف أيضا بالسكري، وبالصيرفي، وبالكيّال. روى عن أحمد بن الصوفي، وعبّاد بن علي السّيريني، والباغندي، وطبقتهم.
ولد سنة ست وتسعين ومائتين، وسمع سنة ثلاث وثلاثمائة، باعتناء أخيه، وتوفي في شوال.
وفيها أبو عبد الله الختن الشافعي، محمد بن الحسن الإستراباذي- بكسر أوله والفوقية، وسكون السين، وفتح الراء والموحدة، بعدها معجمة، نسبة إلى استراباذ، من بلاد مازندران، بين سارية وجرجان- وهو ختن أبي بكر الإسماعيلي، وهو صاحب وجه في المذهب، وله مصنفات عاش خمسا وسبعين سنة، وكان أديبا، بارعا، مفسرا، مناظرا. روى عن عبد الملك بن عدي الجرجاني، وتوفي في يوم عرفة.
قال الإسنوي: نقل عنه الرافعي في كتاب الجنايات قبيل العاقلة بقليل، أن السحر لا حقيقة له، وإنما هو تخييل لظاهر الآية. انتهى.
__________
[1] (3/ 35) .(4/459)
وفيها أبو طالب صاحب «القوت» [1] محمد [بن علي] بن عطية الحارثي العجمي ثم المكّي. نشأ بمكة، وتزهد، وسلك، ولقي الصوفية، وصنّف، ووعظ، وكان صاحب رياضة ومجاهدة، وكان على نحلة أبي الحسن بن سالم البصري، شيخ السالمية. روى عن علي بن أحمد المصّيصي وغيره. قاله في «العبر» [2] .
وقال ابن خلّكان [3] : أبو طالب محمد بن علي بن عطية الحارثي، صاحب كتاب «قوت القلوب» كان رجلا صالحا مجتهدا في العبادة، ويتكلم في الجامع، وله مصنفات في التوحيد، [و] لم يكن من أهل مكة، وإنما كان من أهل الجبل، وسكن مكّة، فنسب إليها، وكان يستعمل الرياضة كثيرا، حتّى قيل: إنه هجر الطعام زمانا، واقتصر على أكل الحشائش المباحة، فاخضرّ جلده من كثرة تناولها.
ولقي جماعة من المشايخ في الحديث، وعلم الطريقة وأخذ عنهم، ودخل البصرة بعد وفاة أبي الحسن بن سالم، فانتهى إلى مقالته، وقدم بغداد، فوعظ الناس، وخلّط في كلامه فهجروه وتركوه.
قال محمد بن طاهر المقدسي في كتاب «الأنساب» [4] : إن أبا طالب المكّي لما دخل بغداد واجتمع الناس عليه في مجلس الوعظ، خلّط في كلامه، وحفظ عنه أنه قال: ليس على المخلوقين أضرّ من الخالق، فبدّعه الناس [5] وهجروه، وامتنع من الكلام بعد ذلك.
__________
[1] واسمه الكامل «قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد» .
انظر «كشف الظنون» (2/ 1361) .
[2] (3/ 35- 36) وما بين حاصرتين مستدرك ومنه ومن «سير أعلام النبلاء» (16/ 536) .
[3] انظر «وفيات الأعيان» (4/ 303) .
[4] انظر «الأنساب المتفقة» ص (153- 154) .
[5] تحرّفت في الأصل والمطبوع إلى: «فبعده الناس» والتصحيح من «وفيات الأعيان» و «الأنساب المتفقة» .(4/460)
وله كتب في التوحيد، وتوفي سادس جمادى الآخرة ببغداد، ودفن بمقبرة الملكية بالجانب الشرقي، وقبره هناك يزار، رحمه الله. انتهى بحروفه.
وفيها العزيز بالله، أبو منصور، نزار بن المعزّ [بالله] معد بن المنصور إسماعيل بن القائم بالله محمد بن المهدي العبيدي الباطني، صاحب مصر [والمغرب] [1] ، والشام، وولي الأمر بعد أبيه، وعاش العزيز اثنتين وأربعين سنة، وكان شجاعا، جوادا، حليما، وكان أسمر، أصهب، أعين، أشهل، حسن الخلق، قريبا من الناس، لا يحب سفك الدّماء، له أدب وشعر، وكان مغرى بالصيد، وقام بعده ابنه الحاكم.
وهو الذي اختطّ جامع مصر القاهرة، وبنى قصر البحر، وقصر الذهب، وجامع القرافة.
قيل: إنه كتب إلى صاحب الأندلس المرواني، يهجوه ويذم نسبه، فكتب إليه المرواني: عرفتنا فهجوتنا، ولو عرفناك لهجوناك وأجبناك [2] والسلام. فاشتد ذلك عليه وأفحمه، لأن أكثر الناس لا يسلمون للعبيديين نسبتهم إلى أهل البيت.
ووجد العزيز يوما رقعة على منبر الخطبة فيها:
إنّا سمعنا نسبا منكرا ... يتلى على المنبر بالجامع
إن كنت فيما تدّعي صادقا ... فاذكر [3] أبا بعد الأب الرابع
وإن ترد تحقيق ما قلته ... فانسب لنا نفسك كالطائع [4]
__________
[1] زيادة من «العبر» مصدر المؤلف.
[2] في «وفيات الأعيان» : «ولو عرفناك لأجبناك» .
[3] في الأصل والمطبوع: «فانسب» وهو سبق عين من المؤلف والتصحيح من «وفيات الأعيان» (5/ 373) .
[4] في الأصل والمطبوع: «كالطابع» وهو خطأ والتصحيح من «وفيات الأعيان» .(4/461)
أو فدع الأشياء مستورة ... وادخل بنا في النسب الواسع [1]
[فإنّ أنساب بني هاشم ... يقصر عنها طمع الطامع] [2]
__________
[1] رواية البيت في «وفيات الأعيان» :
أولا دع الأنساب مستورة ... وادخل بنا في النسب الواسع
[2] زيادة من «وفيات الأعيان» مصدر المؤلف.(4/462)
سنة سبع وثمانين وثلاثمائة
فيها توفي القاسم بن الثلّاج، عبد الله بن محمد البغدادي الشاهد.
في ربيع الأول، وله ثمانون سنة. روى عن البغوي وطائفة، واتّهم بالوضع.
وفيها أبو القاسم عبيد الله بن محمد بن خلف بن سهل المصري البزّاز، ويعرف بابن أبي غالب. روى عن محمد بن محمد الباهلي، وعلي بن أحمد بن علّان، وطائفة وكان من كبراء المصريين ومتموّليهم.
وفيها، وقيل: في التي قبلها، وبه جزم ابن ناصر الدّين في «بديعته» فقال:
ابن أبي اللّيث النّصيبيّ المصري ... فاضلهم في شأننا وشعر
وهو أحمد بن أبي اللّيث نصر بن محمد النّصيبيّ [1] المصريّ، أبو العبّاس، كان من الحفّاظ الأيقاظ، آية في الحفظ.
وفيها الإمام الكبير الحافظ، ابن بطّة، أبو عبد الله، عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان بن بطّة العكبري، الفقيه الحنبلي، العبد الصالح. توفي في المحرم، وله ثلاث وثمانون سنة.
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «النصيبيني» وهو خطأ، والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» (16/ 561) .(4/463)
قال في «العبر» [1] : كان صاحب حديث، ولكنه ضعيف من قبل حفظه.
روى عن البغوي، وأبي ذر بن الباغندي، وخلق، وصنّف كتابا كبيرا في السّنّة.
قال العتيقي: كان مستجاب الدعوة. انتهى كلام «العبر» .
وقال ابن ناصر الدّين: كان أحد المحدّثين العلماء الزهّاد، ومن مصنفاته «الإبانة في أصول الديانة» . انتهى.
وقال ابن أبي يعلى في «طبقاته» [2] : سمع من خلائق لا يحصون فإنه سافر الكثير إلى مكّة، والثغور، والبصرة، وغير ذلك، وصحبه جماعة من شيوخ المذهب، منهم: أبو حفص [العكبري، وأبو حفص] البرمكي، وأبو عبد الله بن حامد، [وأبو علي بن شهاب] ، وأبو إسحاق البرمكي في آخرين.
ولما رجع من الرحلة لازم بيته أربعين سنة، فلم ير في سوق ولا رئي مفطرا إلا في يوم الفطر، والأضحى، وأيام التشريق.
وقال عبد الواحد بن علي العكبري: لم أر في شيوخ أصحاب الحديث، ولا في غيرهم، أحسن هيئة من ابن بطة.
وكان أمّارا بالمعروف، ولم يبلغه خبر منكر إلا غيّره.
وقال أبو محمد الجوهري: سمعت أخي أبا عبد الله يقول: رأيت النّبيّ، صلّى الله عليه وآله وسلّم، في المنام، فقلت له: يا رسول الله، أي المذاهب خير؟ أو قال:
قلت: على أي المذاهب أكون؟ فقال: «ابن بطة، ابن بطة، ابن بطة» فخرجت من بغداد إلى عكبرا، فصادف دخولي يوم جمعة، فقصدت الشيخ
__________
[1] (3/ 37) .
[2] انظر «طبقات الحنابلة» (2/ 144- 147) وما بين حاصرتين سقط من الأصل والمطبوع واستدركته منه، وقد نقل المؤلف عنه باختصار وتصرّف.(4/464)
أبا عبد الله بن بطة إلى الجامع، فلما رآني قال لي: ابتداء: صدق رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلّم، صدق رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وقال أبو عبد الله بن بطة: ولدت يوم الاثنين لأربع خلون من شوال، سنة أربع وثلاثمائة، وولد ابن منيع، رحمه الله، سنة أربع عشرة ومائتين، ومات يوم الفطر سنة سبع عشرة وثلاثمائة، وقرأت عليه «معجمه» في نفر خاص في مدة عشرة أيام أو أقل أو أكثر، وذلك في آخر سنة خمس عشرة وأول سنة ست عشرة.
وكان بعين ابن بطة ناصور، وقد وصف له ترك العشاء، فكان يجعل عشاءه قبل الفجر بيسير، ولا ينام حتّى يصبح، وكان عالما بمنازل النّيّرين [1] .
واجتاز ابن بطّة بالأحنف العكبري، فقام له، فشق ذلك عليه، فأنشأ الأحنف:
لا تلمني على القيام فحقي ... حين تبدو أن لا أملّ القياما
أنت من أكرم البرية عندي ... ومن الحق أن أجل الكراما
فقال ابن بطّة متكلفا له الجواب:
أنت إن كنت- لاعدمتك- ترعى ... لي حقا وتظهر الإعظاما
فلك الفضل في التقدم والع ... لم ولسنا نحب منك احتشاما
فاعفني الآن من قيامك أو لا ... فسأجزيك بالقيام قياما
وأنا كاره لذلك جدّا ... إنّ فيه تملقا وآثاما
لا تكلف أخاك أن يتلقا ... ك بما يستحلّ فيه الحراما
وإذا صحّت الضّمائر منا ... اكتفينا أن نتعب الأجساما
كلنا واثق بود أخيه [2] ... ففيم انزعاجنا وعلام
__________
[1] في «طبقات الحنابلة» : «بمنازل الفجر والقمر» .
[2] في «طبقات الحنابلة» : «بود مصافيه» .(4/465)
ويقال: إنه أفتى وهو ابن خمس عشرة سنة، ومصنفاته تزيد على مائة، رحمه الله تعالى.
وفيها ابن مردك، أبو الحسن، علي بن عبد العزيز بن مردك البرذعي [1] البزّاز ببغداد، حدّث عن عبد الرّحمن بن أبي حاتم وجماعة، ووثقه الخطيب [2] ، وتوفي في المحرم، وكان عبدا صالحا.
وفيها فخر الدولة، علي بن ركن الدولة الحسن بن بويه الدّيلمي، سلطان الرّيّ، وبلاد الجبل، وزر له الصّاحب بن عبّاد، وكان ملكا شجاعا مطاعا جمّاعا للأموال، واسع الممالك، عاش ستا وأربعين سنة، وكانت أيامه أربع عشرة سنة، لقّبه الطائع ملك الأمة، وكان أجلّ من بقي من ملوك بني بويه، وكان يقول: قد جمعت لولدي ما يكفيهم ويكفي عسكرهم خمس عشرة سنة.
قال ابن الجوزي في كتابه «شذور العقود» : توفي في قلعة بالرّيّ، وكانت مفاتيح خزائنها مع ولده، ولم يحضر، فلم يوجد له كفن، فابتيع من قيم الجامع الذي تحت القلعة ثوب، فلف فيه، واختلف الجند، فاشتغلوا عنه حتّى أراح [3] ، فلم يمكنهم القرب منه، فشدّ بالحبال وجرّ على درج القلعة من بعد حتّى تقطع، وكان قد ترك ألفي ألف دينار وثمانمائة وخمسة وستين ألفا، وكان في خزانته من الجوهر، والياقوت، والؤلؤ، والبلخش [4] والماس أربعة عشر ألفا وخمسمائة قطعة، قيمتها ألف ألف دينار، ومن أواني
__________
[1] في «العبر» (3/ 37) : «البردعي» بالدال المهملة وهو تصحيف.
[2] انظر «تاريخ بغداد» (12/ 30) .
[3] أي أصبحت رائحة جيفته ظاهرة مشمومة.
[4] في الأصل: «البلخس» وهو خطأ وأثبت لفظ المطبوع وهو الصواب. قال ابن الأكفاني في كتابه «نخب الذخائر في معرفة الجواهر» ص (14- 15) : ويسمّى (اللّعل) بالفارسية، وهو جوهر أحمر شفّاف مسفر صاف يضاهي فائق الياقوت في اللون والرونق.(4/466)
الفضة ما وزنه ثلاثة آلاف ألف من، ومن الأثاث ثلاثة آلاف حمل، ومن السلاح ألفا حمل، ومن الفرش ألفان وخمسمائة حمل. انتهى ما ذكره ابن الجوزي.
وفيها أبو ذر، عمّار بن محمد بن مخلد التميمي، نزيل بخارى. روى عن يحيى بن صاعد وجماعة، ومات في صفر، وروى عنه عبد الواحد الزبيري، الذي عاش بعده مائة وثمان سنين، وهذا معدوم النظير.
وفيها أبو الحسين بن سمعون، الإمام القدوة، الناطق بالحكمة، محمد بن أحمد بن إسماعيل البغدادي الواعظ، صاحب الأحوال والمقامات.
روى عن أبي بكر بن أبي داود وجماعة، وأملى عدّة مجالس. ولد سنة ثلاثمائة، ومات في نصف ذي القعدة ولم يخلف ببغداد مثله.
قال ابن خلّكان [1] : كان وحيد دهره في الكلام على الخواطر، وحسن الوعظ، وحلاوة الإشارة، ولطف العبارة. أدرك جماعة من [جلّة] المشايخ، وروى عنهم، منهم: الشيخ أبو بكر الشبلي رحمه الله، وأنظاره، ومن كلامه ما رواه الصّاحب بن عبّاد قال: سمعت ابن سمعون يوما وهو على الكرسي في مجلس وعظه يقول: سبحان من أنطق باللحم، وبصر بالشحم، واسمع بالعظم، إشارة إلى اللسان، والعين، والأذن، وهذه من لطائف الإشارات، ومن كلامه أيضا: رأيت المعاصي نذالة، فتركتها مروءة فاستحالت ديانة، وله كل معنى لطيف.
كان لأهل العراق فيه اعتقاد كثير، ولهم به غرام شديد، وإياه عنى الحريري صاحب «المقامات» في المقامة الحادية والعشرين، وهي الرازية [2] بقوله: رأيت بها [ذات] بكرة، زمرة إثر زمرة، وهم منتشرون انتشار الجراد،
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (4/ 304- 305) .
[2] انظر «مقامات الحريري» ص (151- 152) وما بين حاصرتين مستدرك منه.(4/467)
ومستنّون استنان الجياد، ومتواصفون واعظا يقصدونه، ويحلّون ابن سمعون دونه. ولم يأت في الوعّاظ مثله.
دفن في داره بشارع العباس [1] ثم نقل يوم الخميس حادي عشر رجب، سنة ست وعشرين وأربعمائة، ودفن بباب حرب، وقيل: إن أكفانه لم تكن بليت بعد، رحمه الله تعالى. انتهى ملخصا.
وقال ابن الأهدل: هو لسان الوقت المرجوع إليه في آداب الظاهر، يذهب إلى أسد المذاهب مع ما يرجع إليه من صحة الاعتقاد، وصحبة الفقراء، وكان الباقلاني والإسفراييني يقبّلان يده، ويجلّانه، وكان أول أمره ينسخ بالأجرة، ويبرّ أمه، فأراد الحج، فمنعته أمه، ثم رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «دعيه يحجّ، فإن الخيرة له في حجّه في الآخرة والأولى» فخرج مع الحاج فأخذهم العرب وسلبوه، فاستمر حتّى ورد مكّة. قال: فدعوت في البيت فقلت: اللهمّ إنك بعلمك غنيّ عن إعلامي بحالي، اللهمّ ارزقني معيشة أشتغل بها عن سؤال الناس. قال: فسمعت قائلا يقول: اللهمّ إنه ما يحسن يدعوك، اللهمّ ارزقه عيشا بلا مشقة، فأعدت ثلاثا، وهو يعيد، ولا أرى أحدا.
وروى الخطيب [2] أن ابن سمعون خرج من المدينة الشريفة إلى بيت الله ومعه تمر صيحاني، فاشتهى الرطب، فلما كان وقت الإفطار، إذا التمر رطب، فلم يأكله، فعاد إليه من الغد، فإذا هو تمر، فأكله. انتهى ملخصا أيضا.
وفيها أبو الطيب التّيملي- بفتح الفوقية وسكون التحتية وضم الميم ولام، نسبة إلى تيم الله بن ثعلبة [3] قبيلة، وتيم اللّات بطن من كلب، لا أدري
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «بدرب العتابين» .
[2] انظر «تاريخ بغداد» (1/ 275) .
[3] وهو ما قاله السمعاني في «الأنساب» (3/ 114) .(4/468)
إلى أيّهما ينسب صاحب الترجمة- محمد بن الحسين الكوفي. سمع عبد الله بن زيدان البجلي وجماعة وكان ثقة.
وفيها أبو الفضل الشيباني، محمد بن عبد الله الكوفي، حدّث ببغداد عن محمد بن جرير الطبري، والكبار، لكنه كان يضع الحديث للرافضة فترك.
وفيها أبو طاهر، محمد بن الفضل بن محمد بن إسحاق بن خزيمة السّلمي النيسابوري. روى الكثير عن جدّه، وأبي العبّاس السرّاج، وخلق، واختلط قبل موته بثلاثة أعوام، فتجنّبوه.
وفيها محمد بن المسيّب، الأمير أبو الذّواد العقيلي، من أجلّ [1] أمراء العرب، تملك الموصل، وغلب عليها، في سنة ثمانين وثلاثمائة، وصاهر بني بويه، وتملك بعده أخوه حسام الدولة مقلّد بن المسيّب.
وفيها أبو القاسم السرّاج موسى بن عيسى البغدادي، وقد نيّف على التسعين. روى عن الباغندي وجماعة، ووثقه عبيد الله الأزهري.
وفيها نوح بن الملك منصور بن الملك نوح بن الملك نصر بن الملك أحمد بن الملك إسماعيل السّاماني [2] ، أبو القاسم، سلطان بخارى وسمرقند، وكانت دولته اثنتين وعشرين سنة، وولي بعده ابنه منصور، ثم بعد عامين توثّب عليه أخوه عبد الملك بن نوح، الذي هزمه السلطان محمد بن سبكتكين، وانقرضت الدولة السّامانيّة.
قال ابن الفرات: استولى أبو القاسم محمود بن ناصر الدولة سبكتكين، وأخذ الملك من مجد الدولة، وأسره وأنفذ مقيدا إلى خراسان، وكتب إلى
__________
[1] في «العبر» : «من أجلاء» .
[2] مترجم في «سير أعلام النبلاء» (16/ 514- 515) .(4/469)
القادر بالله يعلمه بذلك، فكتب إليه القادر عهدا على خراسان، والجبال، والسند، والهند، وطبرستان، وسجستان، ولقبه يمين الدولة، وناصر الملّة، نظام الدّين، ناصر الحق، نصير أمير المؤمنين.
قيل: وكان قبل ذلك يلقب بمولى أمير المؤمنين، ولقّب بالسلطان، وجلس على التخت، ولبس التاج، ودخل عليه البديع الهمذاني، وامتدحه بأبيات يقول فيها:
أظلت شمس محمود ... على أنجم سامان
وأضحى آل بهرام ... عبيدا لابن خاقان
انتهى.(4/470)
سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة
فيها كما قال في «الشذور» كان البرد زائدا، حتّى جمدت جوب الحمامات، وبول الدواب. انتهى.
وفيها توفي أبو بكر أحمد بن عبدان بن محمد بن الفرج الشيرازي الحافظ، كان من كبار المحدّثين، سأله حمزة السّهمي، عن الجرح والتّعديل، وعمّر دهرا. روى عن الباغندي، والكبار، وأول سماعه سنة أربع وثلاثمائة، توفي في صفر بالأهواز، وكان يقال له: الباز الأبيض.
قال ابن ناصر الدّين: كان واحد الثقات الحفّاظ.
وفيها الحافظ المتقن أحمد بن عبد البصير القرطبي، المتقن المجود.
قال ابن ناصر الدّين: معدود في حفّاظ بلاده، مذكور في محدّثيه ونقّاده. انتهى.
وفيها حمد بن محمد [1] بن إبراهيم بن خطّاب الخطّابي البستي- بضم الموحدة وسكون السين المهملة وبالفوقية، نسبة إلى بست مدينة من بلاد كابل- أبو سليمان.
__________
[1] قوله: «بن محمد» لم يرد في المطبوع.(4/471)
كان أحد أوعية العلم في زمانه، حافظا، فقيها، مبرزا على أقرانه.
وقال ابن الأهدل: أبو سليمان حمد بن محمد الخطّابي البستي الشافعي، صاحب التصانيف النافعة الجامعة، منها «معالم السنن» و «غريب الحديث» و «إصلاح غلط المحدّثين» وغيرها. روى عن جماعة من الأكابر، وروى عنه الحاكم وغيره، ومن شعره:
وما غربة [1] الإنسان في شقّة النّوى ... ولكنها والله في عدم الشّكل
وإني غريب بين بست وأهلها ... وإن كان فيها أسرتي وبها أهلي [2]
ومنه:
فسامح ولا تستوف حقّك دائما ... وأفضل فلم يستوف قطّ كريم
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد ... كلا طرفي قصد الأمور ذميم [3]
ومنه:
ما دمت حيّا فدار النّاس كلّهم ... فإنّما أنت في دار المداراة
ولا تعلق بغير الله في نوب ... إنّ المهيمن كافيك المهمات [4]
وسئل عن اسمه أحمد أو حمد، فقال: سميت بحمد وكتب الناس أحمد، فتركته. انتهى.
وفيها أبو عبد الله، الحسين بن أحمد بن عبد الله بن بكير البغدادي الصيرفي الحافظ. روى عن إسماعيل الصفّار وطبقته، وكان عجبا في حفظ
__________
[1] كذا في الأصل والمطبوع و «سير أعلام النبلاء» : «وما غربة» وفي «يتيمة الدهر» : «وما غمة» .
[2] البيتان في «يتيمة الدهر» (4/ 383) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 28) .
[3] البيتان في «يتيمة الدهر» (4/ 385) طبع دار الكتب العلمية ورواية الأول منهما فيه:
تسامح ولا تستوف حقّك كلّه ... وأبق فلم يستقص قطّ كريم
[4] البيت الأول في «يتيمة الدهر» (4/ 383) .(4/472)
الحديث وسرده، وروى عنه أبو حفص بن شاهين مع تقدمه، وتوفي في ربيع الآخر، عن إحدى وستين سنة، وكان ثقة غمزه بعضهم. قاله في «العبر» [1] .
وفيها أبو الفضل الفامي، عبيد الله بن محمد النيسابوري. روى عن أبي العبّاس السرّاج، وغيره.
وفيها أبو العلاء [2] بن ماهان، عبد الوهاب بن عيسى البغدادي ثم المصري. روى «صحيح مسلم» عن أبي بكر أحمد بن محمد الأشقر سوى ثلاثة أجزاء من أجزاء الكتاب يرويها عن الجلودي.
وفيها أبو حفص عمر بن محمد بن عراك المصري، المقرئ المجود القيّم بقراءة ورش، توفي يوم عاشوراء، وقرأ على أصحاب إسماعيل النحّاس.
وفيها أبو الفرج الشّنبوذي، محمد بن أحمد بن إبراهيم المقرئ، غلام ابن شنبوذ. قرأ عليه القراءات، وعلى ابن مجاهد، وجماعة، واعتنى بهذا الشأن، وتصدّر للإقراء، وكان عارفا بالتفسير، وكان يقول أحفظ خمسين ألف بيت من الشعر، شواهد للقرآن، تكلم فيه الدارقطني.
وفيها أبو بكر الإشتيخني- بكسر أوله والفوقية وسكون المعجمة والتحتية، ثم خاء معجمة مفتوحة، ونون، نسبة إلى إشتيخن من قرى الصّغد- محمد بن أحمد بن متّ، الرّاوي «صحيح البخاري» عن الفربري، توفي في رجب بما وراء النهر.
وفيها أبو علي الحاتمي، محمد بن الحسن بن مظفّر البغدادي اللغويّ الكاتب، أحد الأعلام المشاهير المكثرين. أخذ الأدب عن أبي عمر
__________
[1] (3/ 40- 41) .
[2] في «العبر» : «أبو العلا» .(4/473)
الزاهد غلام ثعلب، وروى عنه أخبارا وأملاها في مجالس الأدب [1] وروى عن غيره أيضا، وأخذ عنه جماعة من النبلاء منهم: القاضي التنوخي وغيره، وله «الرسالة الحاتمية» التي شرح فيها ما جرى بينه وبين أبي الطيب المتنبي من إظهار سرقاته وإبانة عيوب شعره، ولقد دلّت على غزارة مادته توفر [2] اطّلاعه.
وذكر الحاتميّ أنه اعتلّ، فتأخر عن مجلس شيخه أبي عمر الزاهد، فسأل عنه، فقيل له: إنه [3] مريض، فجاءه يعوده، فوجده قد خرج إلى الحمام، فكتب على بابه بإسفيداج:
وأعجب شيء سمعنا به ... عليل يزار [4] فلا يوجد
وفيها أبو بكر الجوزقي- بالجيم والزاي، نسبة إلى جوزق [5] كجعفر، قرية بنيسابور وأخرى بهراة- محمد بن عبد الله بن محمد بن زكريا الشيباني الحافظ المعدل، شيخ نيسابور ومحدّثها، ومصنّف «الصحيح» روى عن السرّاج، وأبي حامد بن الشرقي، وطبقتهما، ورحل إلى أبي العبّاس الدّغولي، وإلى ابن الأعرابي، وإسماعيل الصفّار.
قال الحاكم: انتقيت له فوائد في عشرين جزءا، ثم ظهر بعدها سماعه من السرّاج، واعتنى به خاله المزكي، وتوفي في شوال عن اثنتين وثمانين سنة.
وقال ابن ناصر الدّين: من مصنفاته كتاب «الصحيح» المخرّج على
__________
[1] في الأصل: «مجلس الأدب» وأثبت لفظ المطبوع وهو موافق لما في «وفيات الأعيان» (4/ 362) مصدر المؤلف في نقله.
[2] في المطبوع: «توافر» وما جاء في الأصل موافق لما في «وفيات الأعيان» .
[3] لفظة «إنه» لم ترد في الأصل وأثبتها من المطبوع و «وفيات الأعيان» .
[4] في «وفيات الأعيان» : «يعاد» .
[5] الذي في «الأنساب» (3/ 365) : «هذه النسبة إلى جوزقين» .(4/474)
كتاب مسلم، وكتاب «المتفق والمفترق» الكبير في نحو ثلاثمائة جزء خطير.
انتهى.
وفيها أبو بكر الأدفوي، محمد بن علي بن أحمد المصري المقرئ المفسر النحوي [1]- وأدفو بضم الهمزة وسكون المهملة، وضم الفاء، قرية بصعيد مصر قرب أسوان- وكان خشابا أخذ عن أبي علي جعفر النحاس فأكثر، وأتقن رواية ورش على أبي غانم المظفّر بن أحمد، وألّف «التفسير» في مائة وعشرين مجلدا، وكان شيخ الديار المصرية وعالمها، وكانت له حلقة كبيرة للعلم، وتوفي في ربيع الأول.
__________
[1] انظر «إنباه الرواة» (3/ 186- 188) و «حسن المحاضرة» (1/ 490) .(4/475)
سنة تسع وثمانين وثلاثمائة
تمادت الرافضة [1] في هذه الأعصر في غيّهم بعمل عاشوراء باللطم والعويل، وبنصب القباب، والزينة، وشعار الأعياد، يوم الغدير، فعمدت غالية السّنّة وأحدثوا في مقابلة يوم الغدير، يوم الغار، وجعلوه بعد ثمانية أيام من يوم الغدير، وهو السادس والعشرون من ذي الحجّة، وزعموا أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر اختفيا حينئذ في الغار، وهذا جهل وغلط، فإن أيام الغار إنما كانت بيقين في صفر، وفي أول شهر ربيع الأول، وجعلوا بإزاء يوم عاشوراء بعده بثمانية أيام، يوم مصرع مصعب بن الزّبير، وزاروا قبره يومئذ بمسكن، وبكوا عليه، ونظّروه بالحسين لكونه صبر وقاتل، حتّى قتل، ولأن أباه ابن عمة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وحواريه، وفارس الإسلام، كما أن أبا الحسين، ابن عم النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وفارس الإسلام، فنعوذ بالله من الهوى والفتن، ودامت السّنّة على هذا الشعار القبيح مدة سنين. قاله في «العبر» [2] .
وفيها توفي أحمد بن محمد بن عابد- بالموحدة- الأسدي الأندلسي القرطبي [3] أبو عمر، مات كهلا لم يبلغ التعمير، وكان عنده حفظ وتحرير.
قاله ابن ناصر الدّين.
__________
[1] في المطبوع: «الشيعة» .
[2] (3/ 44) .
[3] مترجم في «طبقات الحفاظ» للسيوطي ص (404) .(4/476)
وفيها أبو محمد المخلدي- بفتح أوله واللام، نسبة إلى جدّه مخلد، الذي سيذكر- الحسن بن أحمد بن محمد بن الحسن بن علي بن مخلد النيسابوري المحدّث، شيخ العدالة، وبقية أهل البيوتات، توفي في رجب، وروى عن السّراج، وزنجويه اللّباد، وطبقتهما.
وفيها أبو علي، زاهر بن أحمد السّرخسي، الفقيه الشافعي، أحد الأئمة، في ربيع الآخر، وله ست وتسعون سنة. روى عن أبي لبيد السّامي، والبغوي، وطبقتهما.
قال الحاكم: شيخ عصره بخراسان، وكان قد قرأ على ابن مجاهد، وتفقه على أبي إسحاق المروزي، وتأدب على ابن الأنباري.
وأخذ علم الكلام عن الأشعري، وعمّر دهرا.
وقال ابن قاضي شهبة: كان يقول عند الموت: لعن الله المعتزلة، موّهوا ومخرقوا، ومات وله ست وتسعون سنة.
وفيها أبو محمد بن أبي زيد القيرواني المالكي، عبد الله بن أبي زيد، شيخ المغرب، إليه انتهت رئاسة المذهب.
قال القاضي عياض: حاز رئاسة الدّين والدّنيا، ورحل إليه من الأقطار، ونجب أصحابه، وكثر الآخذون عنه، وهو الذي لخص المذهب وملأ البلاد من تآليفه، حج وسمع من أبي سعيد بن الأعرابي وغيره، وكان يسمى مالكا الأصغر.
قال الحبّال [1] : توفي للنصف من شعبان.
__________
[1] هو إبراهيم بن سعيد النعماني المصري أبو إسحاق، من حفّاظ الحديث، كان يتجر بالكتب.
له كتاب «وفيات الشيوخ» ، وهو الذي نقل عنه الذهبي وتبعه المؤلف رحمهما الله تعالى، مات سنة (482) هـ، وسوف ترد ترجمته في المجلد الخامس من كتابنا هذا إن شاء الله، وانظر «الأعلام» (1/ 40) .(4/477)
وفيها أبو الطيب بن غلبون، عبد المنعم بن عبيد الله [1] بن غلبون الحلبي المقرئ الشافعي، صاحب الكتب في القراءات. قرأ على جماعة كثيرة، وروى الحديث، وكان ثقة محققا بعيد الصيت، توفي بمصر في جمادى الأولى، وله ثمانون سنة، وأخذ عنه خلق كثير.
قال السيوطي في «حسن المحاضرة» [2] : قرأ على إبراهيم بن عبد الرزاق، وقرأ عليه ولده، ومكي بن أبي طالب [3] وأبو عمر الطّلمنكي، وكان حافظا للقراءة، ضابطا، ذا عفاف ونسك، وفضل، وحسن تصنيف. ولد في رجب سنة تسع وثلاثين، ومات بمصر في جمادى الأولى. انتهى.
وفيها أبو القاسم بن حبابة المحدّث، عبيد الله بن محمد بن إسحاق البغدادي البزّاز المتّوثي- بفتح الميم وضم التاء المثناة من فوق المشددة، آخره مثلثة، نسبة إلى متّوث بلد بين قرقوب والأهواز- وهو راوي «الجعديات» عن البغوي، توفي في ربيع الأخر.
وفيها أبو الهيثم الكشميهني- بالضم والسكون والكسر، وتحتية، وفتح الهاء، نسبة إلى كشميهن، قرية بمرو- محمد بن مكّي المروزي، راوية البخاري عن الفربري، توفي يوم عرفة، وكان ثقة، وله رسائل أنيقة.
وفيها قاضي القضاة لصاحب مصر، أبو عبد الله، محمد بن النّعمان بن محمد بن منصور الشيعي في الظاهر، الباطني في الباطن. ولد قاضي القوم وأخو قاضيهم.
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «ابن عبد الله» وهو خطأ والتصحيح من «معرفة القرّاء الكبار» للذهبي (1/ 355) و «حسن المحاضرة» .
[2] (1/ 490- 491) .
[3] في الأصل والمطبوع: «وبكر بن أبي طالب» وهو خطأ، والتصحيح من «معرفة القرّاء الكبار» و «حسن المحاضرة» .(4/478)
قال ابن زولاق: لم نشاهد بمصر لقاض من الرئاسة ما شاهدناه له، ولا بلغنا ذلك عن قاض بالعراق، ووافق ذلك استحقاقا لما فيه من العلم، والصيانة، والهيبة، وإقامة الحق، وقد ارتفعت رتبته حتّى إن العزيز أجلسه [1] معه يوم الأضحى على المنبر، وزادت عظمته في دولة الحاكم، ثم تعلّل وتنقرس، ومات في صفر، وله تسع وأربعون سنة، وولي القضاء بعده ابن أخيه الحسين بن علي الذي ضربت عنقه في سنة أربع وتسعين.
__________
[1] في المطبوع: «أجلس» وهو خطأ.(4/479)
سنة تسعين وثلاثمائة
فيها توفيت أمة السّلام [1] بنت القاضي أحمد بن كامل بن شجرة البغدادية. كانت ديّنة فاضلة [2] . روت عن محمد بن إسماعيل البصلاني، وغيره.
وفيها ابن فارس اللغوي، أبو الحسين، أحمد بن فارس بن زكريا بن محمد بن حبيب الرّازي اللغوي، كان إماما في علوم شتى، خصوصا اللغة، فإنه أتقنها، وألّف كتابه «المجمل في اللغة» [3] وهو على اختصاره، جمع شيئا كثيرا، وله كتاب «حلية الفقهاء» [4] وله رسائل أنيقة [5] . ومنه اقتبس الحريري صاحب «المقامات» ذلك الأسلوب، ووضع المسائل الفقهية في «المقامة الطيبية» وهي مائة مسألة، وكان مقيما بهمذان، وعليه اشتغل بديع الزمان
__________
[1] في «غربال الزمان» ص (332) : «أم السلام» وانظر «المنتظم» (7/ 214) و «تاريخ الإسلام» للذهبي حوادث سنة (390) هـ، وهو مخطوط، وفيه كنيتها «أم الشيخ» ، و «مرآة الجنان» (2/ 443) .
[2] في «مرآة الجنان» : «كانت ديّنة، حافظة، فاضلة» وفي «غربال الزمان» : «وكانت ديّنة، أديبة، فاضلة» .
[3] نشر أول الأمر في مؤسسة الرسالة في بيروت، ثم نشر في معهد المخطوطات العربية في الكويت.
[4] نشر نشرة علمية متقنة على يد الأستاذ الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، وقامت بتوزيعه الشركة المتحدة للتوزيع في بيروت.
[5] منها «أوجز السير لخير البشر» وهي من خيرة رسائله.(4/480)
الهمذاني صاحب «المقامات» وله أشعار جيدة، فمنها قوله:
مرّت بنا هيفاء مجدولة ... تركيّة تنمى لتركيّ [1]
ترنو بطرف فاتر فاتن ... أضعف من حجّة نحويّ [2]
وله أيضا:
اسمع مقالة ناصح ... جمع النصيحة والمقه [3]
إيّاك واحذر أن تبي ... ت من الثقات على ثقه [4]
وله أيضا:
إذا كنت في حاجة مرسلا ... وأنت بها كلف مغرم
فأرسل حكيما ولا توصه ... وذاك الحكيم هو الدّرهم [5]
وله أيضا:
سقى همذان الغيث لست بقائل ... سوى ذا، وفي الأحشاء نار تضرّم
وما لي لا أصفي الدعاء لبلدة ... أفدت بها نسيان ما كنت أعلم
نسيت الذي أحسنته غير أنني ... مدين وما في جوف بيتي درهم [6]
وله أشعار كثيرة حسنة.
توفي بالرّيّ، ودفن مقابل مشهد القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني.
__________
[1] رواية البيت في «يتيمة الدهر» :
مرّت بنا هيفاء مقدودة ... تركية تنمى إلى الترك
[2] البيتان في «يتيمة الدهر» (3/ 469) و «وفيات الأعيان» (1/ 119) .
[3] المقه: المحبة. انظر «لسان العرب» (مقه) .
[4] البيتان في «يتيمة الدهر» (3/ 469) و «وفيات الأعيان» (1/ 119) .
[5] البيتان في «يتيمة الدهر» (3/ 470) و «وفيات الأعيان» (1/ 119) .
[6] الأبيات في «يتيمة الدهر» (3/ 468) و «وفيات الأعيان» (1/ 119) .(4/481)
ومن شعره أيضا:
وقالوا كيف حالك؟ قلت خير ... تقضى حاجة وتفوت حاج
إذا ازدحمت هموم الصّدّر قلنا ... عسى يوما [1] يكون لها [2] انفراج
نديمي هرّتي وأنيس نفسي [3] ... دفاتر لي ومعشوقي السّراج [4]
وفيها جيش [5] بن محمد بن صمصامة القائد أبو الفتح الكتّانيّ [6] . ولي إمرة دمشق ثلاث مرات لصاحب مصر، وكان جبّارا، ظلوما، غشوما، سفاكا للدماء، وكثر ابتهال أهل دمشق إلى الله في هلاكه، حتّى هلك بالجذام في هذه السنة.
وفيها أبو حفص الكتّاني، عمر بن إبراهيم البغدادي المقرئ [7] ، صاحب ابن مجاهد. قرأ عليه، وسمع منه كتابه في القراءات [8] وحدّث عن البغوي وطائفة، توفي في رجب، وله تسعون سنة، وكان ثقة.
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «يوم» والتصحيح من المصادر التي بين يدي.
[2] في المطبوع: «يكون به» .
[3] كذا في الأصل والمطبوع و «يتيمة الدهر» و «وفيات الأعيان» : «وأنيس نفسي» وفي «دمية القصر» : «وسرور قلبي» .
[4] الأبيات في «يتيمة الدهر» (3/ 469) و «دمية القصر وعصرة أهل العصر» للباخرزي (2/ 489) طبع مكتبة دار العروبة في الكويت بتحقيق الدكتور سامي مكّي العاني، و «وفيات الأعيان» (1/ 120) .
[5] في الأصل والمطبوع: «حبيش» وفي «العبر» : «حنش» وكلاهما خطأ، والتصحيح من «تاريخ دمشق» لابن القلانسي ص (18 و 45 و 161) و «تاريخ الإسلام» للذهبي «مخطوط» المجلد السابع، وقفت عليه في مكتب الشركة المتحدة للتوزيع بدمشق، و «الأعلام» (2/ 149) .
[6] في الأصل والمطبوع: «الكتامي» وفي «العبر» : «الكناني» وكلاهما خطأ، والتصحيح من «دول الإسلام» و «الأعلام» .
[7] مترجم في «معرفة القرّاء الكبار» للذهبي (1/ 356- 357) .
[8] وهو «كتاب السبعة في القراءات» وقد نشر في مصر على يد العالم الكبير الدكتور شوقي ضيف حفظه الله.(4/482)
وفيها ابن أخي ميمي الدقاق، أبو الحسين محمد بن عبد الله بن الحسين البغدادي. روى عن البغوي وجماعة، وله أجزاء مشهورة، وتوفي في رجب.
وفيها أبو الحسن محمد بن عمر بن يحيى العلوي الحسيني [1] الزّيدي [2] الكوفي، رئيس العلوية بالعراق. ولد سنة خمس عشرة وثلاثمائة، وروى عن هنّاد بن السري، الصغير، وغيره، صادره عضد الدولة وحبسه وأخذ أمواله، ثم أخرجه شرف الدولة لما تملّك، وعظم شأنه في دولته، فيقال: إنه كان من أكثر علويّ مالا، وقد أخذ منه عضد الدولة [لما صودر] [3] ألف ألف دينار.
وفيها أبو زرعة الكشّي، محمد بن يوسف الجرجاني- وكشّ قرية قريبة من جرجان- سمع من أبي نعيم بن عدي، وأبي العبّاس الدّغولي، وطبقتهما، بنيسابور، وبغداد، وهمذان، والحجاز، وجمع وصنّف الأبواب والمشايخ، وجاور بمكة سنوات، وبها توفي.
وفيها المعافى بن زكريا القاضي أبو الفرج النهرواني الجريري، نسبة إلى مذهب ابن جرير الطبري، لأنه تفقه عليه، ويعرف أيضا بابن طرارا [4] .
سمع من البغوي وطبقته فأكثر، وجمع فأوعى، وبرع في عدة علوم.
__________
[1] في «العبر» : «الحسني» وهو تحريف، وانظر «تاريخ الإسلام» للذهبي المجلد السابع «مخطوط» حوادث سنة (390) هـ.
[2] في الأصل والمطبوع: «الرندي» وهو خطأ، والتصحيح من «تاريخ الإسلام» للذهبي «مخطوط» حوادث سنة (390) هـ، و «العبر» (3/ 49) .
[3] زيادة من «تاريخ الإسلام» للذهبي للتوضيح.
[4] كذا في الأصل والمطبوع، و «سير أعلام النبلاء» (16/ 544) و «طبقات الفقهاء» للشيرازي ص (93) : «ابن طرارا» وفي «تاريخ الإسلام» للذهبي «مخطوط» : «ابن طرار الفقيه» وفي «العبر» : «ابن طرار» .(4/483)
قال الخطيب [1] : كان من أعلم الناس في وقته بالفقه، والنحو، واللغة، وأصناف الآداب، وولي القضاء بباب الطاق.
وبلغنا عن الفقيه أبي محمد البافي [2] أنه كان يقول: إذا حضر القاضي أبو الفرج، فقد حضرت العلوم كلها. ولو أوصى رجل بشيء [3] أن يدفع إلى أعلم [4] الناس، لوجب أن يدفع إليه.
وقال البرقاني: كان المعافى أعلم الناس.
وقال ابن ناصر الدّين: كان حافظا علّامة، ذا فنون، من الثقات، ومن مصنفاته «التفسير الكبير» وكتاب «الجليس والأنيس» انتهى.
ومن شعره:
ألا قل لمن كان لي حاسدا ... أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في ملكه ... بأنّك لم ترض لي ما وهب
فجازاك عني بأن زادني ... وسدّ عليك وجوه الطلب [5]
وتوفي بالنهروان في ذي الحجة، وله خمس وثمانون سنة، وكان قانعا متعففا.
__________
[1] انظر «تاريخ بغداد» (13/ 230- 231) .
[2] في الأصل والمطبوع: «الباقي» بالقاق وهو تصحيف والتصحيح من «تاريخ بغداد» ، وانظر «الأنساب» للسمعاني (2/ 47) .
[3] في «تاريخ بغداد» : «بثلث ماله» .
[4] في الأصل: «لأعلم» وأثبت لفظ المطبوع وهو موافق لما في «تاريخ بغداد» .
[5] الأبيات في «تاريخ بغداد» (13/ 230) و «وفيات الأعيان» (5/ 222) .(4/484)
سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة
فيها توفي أحمد بن عبد الله بن حميد بن زريق البغدادي، أبو الحسن، نزيل مصر. كان من الثقات الأثبات. روى عن المحاملي، ومحمد بن مخلد، وجماعة، وكان صاحب حديث. رحل إلى دمشق والرّقّة.
وفيها أحمد بن يوسف الخشّاب، أبو بكر الثّقفي، المؤذّن بأصبهان.
روى عن الحسن بن دكّة [1] وجماعة كثيرة.
وفيها جعفر بن الفضل بن جعفر بن محمد بن موسى بن الفرات، أبو الفضل، ابن حنزابه البغدادي، وزير الدّيار المصرية، وابن وزير المقتدر أبي الفتح. حدّث عن محمد بن هارون الحضرمي، والحسن بن محمد الداركي، وخلق، وكان صاحب حديث. ولد سنة ثمان وثلاثمائة، ومات في ربيع الأول.
قال الحافظ السّلفي [2] : كان ابن حنزابة من الحفّاظ الثقات، يملي في حال وزارته، ولا يختار على العلم وأهله شيئا.
وكذا قال ابن ناصر الدّين.
وقال غيرهما: كان له عبادة، وتهجد، وصدقات عظيمة إلى الغاية،
__________
[1] في «العبر» : «ابن دلويه» وهو تحريف، وانظر «ذكر أخبار أصفهان» لأبي نعيم (1/ 164) .
[2] ذكر هذا النقل باختصار الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (16/ 485) .(4/485)
توفي بمصر، ونقل فدفن في دار اشتراها من الأشراف بالمدينة من أقرب شيء إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذكره الحافظ ابن عساكر في «تاريخ دمشق» وأورد من شعره:
من أخمل النّفس أحياها وروّحها ... ولم يبت طاويا منها على ضجر
إنّ الرّياح إذا اشتدّت عواصفها ... فليس ترمي سوى العالي من الشّجر [1]
وقال: كان كثير الإحسان إلى أهل الحرمين، واشترى بالمدينة دارا بالقرب من المسجد ليس بينها وبين الضريح النبوي، على ساكنه أفضل الصلاة والسلام سوى جدار واحد، وأوصى أن يدفن بها، وقرر مع الأشراف ذلك، ولما مات حمل تابوته من مصر إلى الحرمين، وخرجت الأشراف إلى لقائه وفاء بما أحسن إليهم، فحجّوا به وطافوا، ووقفوا بعرفة، ثم ردّوه إلى المدينة ودفنوه بالدّار المذكورة. انتهى كلام ابن عساكر.
ويقال: إن بعضهم أنشد:
سرى نعشه فوق الرّقاب وطالما ... سرى جوده فوق السّحاب ونائله
يمرّ على الوادي فتثنى رماله ... عليه وبالنّادي فتبكي أرامله [2]
رحمه الله تعالى.
وحنزابه: بكسر الحاء المهملة، وسكون النون، وفتح الزاي، وبعد الألف موحدة، ثم هاء ساكنة، هي أم أبيه الفضل بن جعفر، والحنزابه في اللغة: المرأة القصيرة الغليظة.
__________
[1] البيتان أوردهما ابن منظور في «مختصر تاريخ دمشق» (6/ 77) مع الخبر باختصار، وذكرهما مع الخبر ابن خلكان في «وفيات الأعيان» (1/ 349) وذكرهما ابن شاكر الكتبي في «فوات الوفيات» (1/ 293) ، وياقوت في «معجم الأدباء» (7/ 165) ، والصفدي في «الوافي بالوفيات» (11/ 119) ، وابن كثير في «البداية والنهاية» (11/ 329) .
[2] لم أعثر على البيتين في المصادر والمراجع التي بين يدي.(4/486)
وفيها ابن حجّاج الأديب، أبو عبد الله، الحسين بن أحمد بن محمد بن جعفر بن الحجّاج البغدادي الشّيعي المحتسب، الشاعر المشهور، ذو المجون، والخلاعة والسخف في شعره. كان فرد زمانه في فنه، فإنه لم يسبق إلى تلك الطريقة مع عذوبة ألفاظه، وسلامة شعره من التكلف، ويقال:
إنه في الشعر في درجة امرئ القيس، وأنه لم يكن بينهما مثلهما، لأن كل واحد منهما مخترع طريقة.
وله ديوان كبير، يبلغ عشر مجلدات، الغالب عليه الهزل، والمجون، والهجو والرفث [1] .
وكان شيعيا غاليا. انتهى [2] .
ومن جيد شعره وجدّه:
يا صاحبيّ استيقظا من رقدة ... تزري على عقل اللّبيب الأكيس
هذي المجرة والنّجوم كأنها ... نهر تدفق في حديقة نرجس
وأرى الصّبا قد غلّست بنسيمها ... فعلام شرب الراح غير مغلّس
قوما اسقياني قهوة روميّة ... من عهد قيصر دنّها لم يمسس
صرفا تضيف إذا تسلّط حكمها ... موت العقول إلى حياة الأنفس [3]
ومن شعره أيضا:
قال قوم لزمت حضرة أحمد [4] ... وتجنّبت سائر الرّؤساء
__________
[1] في «العبر» (3/ 52) : «وديوانه في عدة مجلدات، عامته في الغزل، والمجون، والهجو، والرفث» وفي «وفيات الأعيان» (2/ 168) : «وديوانه كبير، أكثر ما يوجد في عشر مجلدات، والغالب عليه الهزل» وقد لفق المؤلف الخبر منهما.
[2] يعني انتهى نقل المؤلف عن «العبر» .
[3] الأبيات في «وفيات الأعيان» (2/ 169) .
[4] في «وفيات الأعيان» : «حضرة حمد» .(4/487)
قلت ما قاله الذي أحرز المع ... نى قديما قبلي من الشعراء
يسقط الطير حيث يلتقط الحبّ ... ويغشى منازل الكرماء [1]
وهذا البيت الثالث لبشار بن برد.
وتوفي يوم الثلاثاء سابع عشري جمادى الآخرة بالنّيل وحمل إلى بغداد ودفن عند مشهد موسى بن جعفر رضي الله عنه، وكان أوصى أن يدفن عند رجليه، و [أن] يكتب على قبره: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ 18: 18 [الكهف: 18] ورآه بعد موته بعض أصحابه في المنام، فسأله عن حاله فأنشد:
أفسد سوء مذهبي ... في الشعر حسن مذهبي
لم يرض مولاي على ... سبّي لأصحاب النّبي [2]
ورثاه الشريف الرضي بقصيدة من جملتها:
نعوه على حسن ظني به ... فلله ماذا نعى النّاعيان
رضيع ولاء له شعبة ... من القلب مثل رضيع اللّبان
وما كنت أحسب أنّ الزمان ... يفلّ مضارب ذاك اللّسان
بكيتك للشّرّد السّائرا ... ت تعبق [3] ألفاظها بالمعاني
ليبك الزمان طويلا عليك ... فقد كنت خفّة روح الزّمان [4]
__________
[1] البيتان في «وفيات الأعيان» (2/ 170) .
[2] البيتان في «وفيات الأعيان» (2/ 171) .
[3] في الأصل والمطبوع و «وفيات الأعيان» : «تعنق» وأثبت لفظ «الديوان» .
[4] الأبيات في «ديوان الشريف الرضي» (2/ 441- 442) طبع دار صادر و «وفيات الأعيان» (2/ 171) ورواية البيت الأول في «ديوانه» :
نعوه على ضن قلبي به ... فلله ماذا نعى الناعيان
ورواية البيت الثالث فيه:
وما كنت أحسب أن المنون ... تفلّ مضارب ذاك اللسان(4/488)
والنّيل التي مات بها على وزن نهر مصر، بلدة على الفرات، بين بغداد والكوفة، خرج منها جماعة من العلماء، والأصل فيه نهر حفره الحجّاج بن يوسف في هذا المكان، آخذ من الفرات [1] ، وسمّاه باسم نيل مصر، وعليه قرى كثيرة.
وفيها أبو الحسن الجزري، عبد العزيز بن أحمد الفقيه، إمام أهل الظاهر في عصره. أخذ عن القاضي بشر بن الحسين، وقدم من شيراز في صحبة الملك عضد الدولة، فاشتغل عليه فقهاء بغداد.
قال أبو عبد الله الصّيمري: ما رأيت فقيها أنظر منه، ومن أبي حامد الإسفراييني الشافعي.
وفيها أبو القاسم عيسى بن الوزير علي بن عيسى بن داود بن الجرّاح البغدادي، الكاتب المنشئ. ولد سنة اثنتين وثلاثمائة، وتوفي في أول ربيع الأول.
قال ابن أبي الفوارس: كان يرمى بشيء من مذهب الفلاسفة.
وقال في «العبر» [2] : روى عن البغوي وطبقته، وله أمال سمعنا منها.
انتهى.
وفيها حسام الدّولة، مقلّد بن المسيّب بن رافع العقيلي، صاحب الموصل، تملّكها بعد أخيه أبي الذّوّاد، فكانت مدة الأخوين إحدى عشرة سنة [3] ، وقد بعث القادر إلى مقلّد خلع السلطنة، واستخدم هو نحو ثلاثة آلاف من التّرك والدّيلم، ودانت له عرب خفاجة، وله شعر حسن، وهو رافضيّ،
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «ومخرجه من الفرات» .
[2] (3/ 35) وقد نقل المؤلف الترجمة كلها عنه.
[3] في «العبر» : «فإحدى عشره سنة» وقد سقطت جملة «كانت مدة الأخوين» منه فتستدرك فيه.(4/489)
قتله غلام له في مجلس أنس، ودفن على الفرات بمكان يقال له: شقبا [1] بين الأنبار وهيت.
وحكي أن قاتله سمعه وهو يقول لرجل ودّعه يريد الحجّ: إذا جئت ضريح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقف عنده وقل له عني: لولا صاحباك لزرتك، ولما مات رثاه جماعة من الشعراء منهم الشريف الرضي [2] .
وكان ولده معتمد الدولة أبو المنيع قرواش غائبا عنه، ثم تقلد الأمر من بعده، وكان له بلاد الموصل، والكوفة، والمدائن، وشقي الفرات، وخطب في بلاده للحاكم العبيدي، ثم رجع عن ذلك، فوصلت الغزّ إلى الموصل ونهبوا دار قرواش، وأخذوا منها ما يزيد على مائتي ألف دينار، فاستنجد بنور الدولة أبي الأغر دبيس بن صدقة، فأنجده واجتمعوا على محاربة الغزّ، فنصرا عليهم وقتلوا منهم الكثير، ومدحه أبو علي بن الشبل البغدادي الشاعر المشهور بقصيدة ذكر فيها هذه الواقعة منها قوله:
نزّهت أرضك عن قبور جسومهم ... فغدت قبورهم بطون الأنسر
من بعد ما وطئوا البلاد وظفروا ... من هذه الدّنيا بكل مظفر
فطووا رياح السّدّ عن يأجوجه ... ولقوا ببابك سطوة الإسكندر [3]
وكان قرواش المذكور يلقب مجد الدّين، وهو ابن أخت الأمير أبي الهيجاء، صاحب إربل، وكان أديبا شاعرا ظريفا، وله أشعار سائرة، فمن ذلك ما أورده أبو الحسن الباخرزي في كتابه «دمية القصر» [4] :
__________
[1] لم أعثر على ذكر لها فيما بين يدي من المصادر والمراجع.
[2] قلت: عقب ابن تغري بردي في «النجوم الزاهرة» (4/ 204) على خبر قتله بقوله: هذا ما جوزي به في الدنيا، وأما في الأخرى فجهنم وبئس المصير، هو وكلّ من يعتقد معتقده إن شاء الله تعالى.
[3] الأبيات في «وفيات الأعيان» (5/ 264) ورواية البيت الأخير فيه:
فضوا رتاج السدّ عن يأجوجه ... ولقوا ببأسك سطوة الإسكندر
[4] انظر «دمية القصر» (1/ 59) طبع مكتبة دار العروبة في الكويت، بتحقيق الدكتور سامي مكّي(4/490)
لله درّ النائبات فإنها ... صدأ اللّئام وصيقل الأحرار
ما كنت إلّا زبرة فطبعتني ... سيفا وأطلق صرفهنّ غراري
وأورد له أيضا [1] :
من كان يحمد أو يذمّ مورّثا ... للمال من آبائه وجدوده
فأنا [2] امرؤ لله أشكر وحده ... شكرا كثيرا جالبا لمزيده
لي أشقر مثل العنان [3] مغاور ... يعطيك ما يرضيك من مجهوده
ومهند عضب إذا جرّدته ... خلت البروق تموج في تجريده
ومثقف لدن السّنان [4] كأنما ... أمّ المنايا ركّبت في عوده
وبذا حويت المال إلّا أنني ... سلّطت جود يدي على تبديده [5]
ما أحسن هذا الشعر وأمتنه.
وكان قرواش كريما نهّابا وهّابا، جاريا على سنن العرب.
قيل [6] : إنه جمع بين أختين في النكاح، فلامته العرب على ذلك، فقال: خبروني [7] ما الذي نستعمله مما تبيحه الشريعة؟
وكان يقول: ما في رقبتي غير خمسة من أهل البادية، قتلتهم، وأما الحاضرة فلا يعبأ الله بهم.
ودامت إمرته خمسين سنة، فوقع بينه وبين ابن أخيه بركة بن المقلد
__________
العاني، والبيتان في «وفيات الأعيان» (5/ 264) .
[1] انظر «دمية القصر» (1/ 60) والأبيات في «وفيات الأعيان» (5/ 264) .
[2] كذا في الأصل والمطبوع و «وفيات الأعيان» : «فأنا» وفي «دمية القصر» : «إني» .
[3] في الأصل والمطبوع: «مثل الغياث» والتصحيح من «دمية القصر» و «وفيات الأعيان» .
[4] في المطبوع: «اللسان» والتصحيح من «دمية القصر» و «وفيات الأعيان» .
[5] البيتان الأخيران سقطا من الأصل وأثبتهما من المطبوع.
[6] في «وفيات الأعيان» : «نقل» .
[7] في المطبوع: «أخبروني» وما جاء في الأصل موافق لما في «وفيات الأعيان» .(4/491)
وكانا خارج البلد- فقبض بركة عليه في سنة إحدى وأربعين وأربعمائة وحبسه في الخارجية إحدى قلاع الموصل، وتولى مكانه، ولقب بزعيم الدولة، وأقام في الإمارة سنتين، وتوفي سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة في ذي الحجة، فقام مقامه ابن أخيه أبو المعالي قريش بن أبي الفضل بدران بن المقلد، فأول ما فعل [أنه] [1] قتل عمه قرواش المذكور في حبسه في مستهل رجب، سنة أربع وأربعين وأربعمائة، ودفن بتلّ توبة شرقي الموصل.
__________
[1] زيادة من «وفيات الأعيان» .(4/492)
سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة
فيها توفي الحاجبيّ أبو علي، إسماعيل بن محمد بن أحمد، صاحب الكشاني السمرقندي. سمع «الصحيح» [1] من الفربري، ومات في هذه السنة أو في التي قبلها.
وفيها أبو محمد الضرّاب، الحسن بن إسماعيل المصري المحدّث، راوي «المجالسة» [2] عن الدّينوري. توفي في ربيع الآخر، وله تسع وسبعون سنة.
وفيها الأصيلي الفقيه [3] أبو محمد، عبد الله بن إبراهيم المغربي الأندلسي القاضي، أخذ عن وهب بن ميسرة، وكتب بمصر عن أبي الطاهر الذهلي وطبقته، وبمكة عن الآجري، وببغداد عن أبي علي بن الصوّاف، وكان حافظا عالما بالحديث، رأسا في الفقه.
قال الدارقطني: لم أر مثله.
وقال غيره: كان نظير أبي محمد بن أبي زيد بالقيروان، وعلى طريقته وهديه.
__________
[1] يعني «صحيح البخاري» .
[2] واسمه الكامل «المجالسة وجواهر العلم» للإمام القاضي أبي بكر أحمد بن مروان بن محمد المالكي الدّينوري. انظر حاشية «العبر» (3/ 54) و «كشف الظنون» (2/ 1591) .
[3] لفظة «الفقيه» سقطت من الأصل وأثبتها من المطبوع.(4/493)
وفيها عبد الرحمن بن أبي شريح، أبو محمد الأنصاري، محدّث هراة. روى عن البغوي، والكبار، ورحلت إليه الطلبة، وآخر من روى عنه عاليا أبو المنجّا بن اللّتي، وتوفي في صفر.
وفيها أبو الفتح بن جنّي، عثمان بن جنّي الموصلي النحوي، صاحب التصانيف، وكان أبوه مملوكا روميا لسليمان بن فهد بن أحمد الأزدي الموصلي، وإلى هذا أشار بقوله:
فإن أصبح بلا نسب ... فعلمي في الورى نسبي
على أنّي أؤول إلى ... قروم سادة نجب
قياصرة إذا نطقوا ... أرمّ [1] الدّهر ذو الخطب
أولاك دعا النّبيّ لهم ... كفى شرفا دعاء نبي [2]
وله أشعار حسنة، ويقال: إنه أعور، وأخذ عن أبي علي الفارسي، ولازمه، وله تصانيف مفيدة، منها: كتاب «الخصائص» و «سر الصناعة» و «الكافي في شرح القوافي» و «المذكر والمؤنث» و «المقصور والممدود» و «التذكرة الأصبهانية» وغير ذلك، ويقال: إن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي أخذ منه أسماء كتبه.
وشرح ابن جنّي أيضا «ديوان المتنبي» شرحا كبيرا، سمّاه «النشر» [3] وكان قد قرأ «الديوان» على صاحبه، وكان المتنبي يقول: ابن جني أعرف بشعري مني.
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «إزمّ» وما أثبته من «إنباه الرواة» و «وفيات الأعيان» .
[2] الأبيات في «إنباه الرواة» (2/ 335- 336) و «وفيات الأعيان» (3/ 246) ، و «معجم الأدباء» (12/ 83) .
[3] كذا في الأصل والمطبوع: «النشر» وفي «وفيات الأعيان» : «الفسر» وفي «إنباه الرواة» :
«الصبر» .(4/494)
وكانت ولادة ابن جنّي بالموصل قبل الثلاثمائة، وتوفي يوم الجمعة ثامن عشري صفر ببغداد.
قال ابن خلّكان [1] : وجنّي: بكسر الجيم وتشديد النون، وبعدها ياء.
وفيها الوليد بن بكر الغمري الأندلسي السرقسطي- بفتحتين وضم القاف وسكون المهملة، نسبة إلى سرقسطة مدينة بالأندلس- أبو العبّاس الحافظ. رحل بعد الستين وثلاثمائة، وروى عن الحسن بن رشيق، وعلي بن الخصيب، وخلق.
قال ابن الفرضي [2] : كان إماما في الفقه، والحديث، عالما باللغة والعربية، لقي في الرحلة أزيد من ألف شيخ.
وقال غيره: له شعر فائق، وتوفي بالدّينور.
وقال ابن ناصر الدّين: قال الحافظ عبد الرحيم: الوليد هذا عمريّ، أي بالعين المهملة، ولكن دخل إفريقية، فكان ينقط العين حتّى سلم، وقال:
إذا رجعت إلى الأندلس جعلت النقطة التي على العين ضمة [3] وأراني خطّه.
انتهى [4] .
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (3/ 248) .
[2] تنبيه: هكذا ورد هذا النقل أيضا عند الذهبي في «العبر» (3/ 55- 56) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 65) و «تذكرة الحفاظ» (3/ 1081) وقد عزاه لابن الفرضي، وتبعه المؤلف ابن العماد ناقلا ذلك عن «العبر» ولم ترد للغمري ترجمة في «تاريخ علماء الأندلس» لابن الفرضي الموجود بين يدي، ولعل الذهبي نقله عن مصدر آخر والله أعلم.
[3] لفظة «ضمة» سقطت من الأصل وأثبتها من المطبوع.
[4] تنبيه: وفيها على الصواب مات العلّامة قاضي القضاة، أبو الحسن، علي بن عبد العزيز الجرجاني، وقد وهم المؤلف فأورد ترجمته في حوادث سنة (366) وانظر التعليق على ص (355) من هذا المجلد.(4/495)
سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة
فيها أمر نائب دمشق الأسود الحاكمي بمغربيّ، فطيف به على حمار، ونودي عليه: هذا جزاء من يحب أبا بكر وعمر، ثم ضرب عنقه، رحمه الله ولا رحم قاتله، ولا أستاذه الحاكم. قاله في «تاريخ الخلفاء» [1] ومات فيها- كما قال ابن الأهدل-[ابن] وكيع [2] الشاعر المتقدم في زمانه على أقرانه ومن شعره:
لقد قنعت همّتي بالخمول ... فصدّت عن الرّتب العاليه
وما جهلت طعم طيب العلا ... ولكنها تؤثر العافيه
ونظم أبو الفتح القضاعي المدرّس بتربة الشافعي بالقرافة في هذا المعنى فقال:
بقدر الصعود يكون الهبوط ... فإياك والرّتب العاليه
وكن بمكان إذا ما سقطت ... تقوم ورجلاك في عافية
__________
[1] انظر «تاريخ الخلفاء» للسيوطي ص (414) بتحقيق الشيخ محمد محيي الدّين عبد الحميد رحمه الله، وقد ذكر الخبر بلفظه الذهبي في «تاريخ الإسلام» (مخطوط) في حوادث سنة (393) هـ، ولعل السيوطي نقله عنه.
[2] في الأصل والمطبوع: «وكيع» والتصحيح من «وفيات الأعيان» (2/ 104) و «مرآة الجنان» (2/ 445) ، و «الأعلام» (2/ 201) .(4/496)
لكن المتنبي أخذ بعلو همّته في نقض ما قالوا فقال:
إذا غامرت في شرف مروم ... فلا تقنع بما دون النّجوم
فطعم الموت في أمر حقير ... كطعم الموت في أمر عظيم [1]
انتهى.
وفيها أبو جعفر [2] أحمد بن محمد بن المرزبان الأبهري- أبهر أصبهان- سمع جزء لوين، من محمد بن إبراهيم الحزوّري، سنة خمس وثلاثمائة، وكان أديبا فاضلا.
وفيها أبو إسحاق الطّبري، إبراهيم بن أحمد المقرئ الفقيه المالكي المعدّل، أحد الرؤساء والعلماء ببغداد. قرأ القرآن على ابن بويان [3] ، وأبي عيسى بكّار، وطبقتهما، وحدّث عن إسماعيل الصفّار وطبقته، وكانت داره مجمع أهل القرآن والحديث، وإفضاله زائد على أهل العلم، وكان ثقة.
وفيها الجوهري، صاحب «الصحاح» أبو نصر إسماعيل بن حمّاد التركي اللّغوي، أحد أئمة اللسان، وكان في جودة الخط [4] في طبقة ابن مقلة، ومهلهل. أكثر الترحال، ثم سكن بنيسابور.
قال القفطي: إنه مات متردّيا من سطح جامع نيسابور [5] في هذا العام.
قال: وقيل: مات في حدود الأربعمائة، وقيل: إنه تسودن، وعمل له
__________
[1] البيتان في «ديوان أبي الطيب المتنبي» (4/ 119) بشرح العكبري، وتحقيق السقا، والأبياري، والشلبي.
[2] في الأصل والمطبوع: «أبو حفص» والتصحيح من «العبر» (3/ 56) .
[3] تحرّف في «العبر» (3/ 56) إلى «ابن ثوبان» فيصحح فيه.
[4] في الأصل والمطبوع: «في جودة الحفظ» والتصحيح من «العبر» (3/ 57) .
[5] في «إنباه الرواة» (1/ 196) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 82) و «غربال الزمان» ص (334) ، «من سطح داره» .(4/497)
شبه جناحين، وقال: أريد أن أطير، [وطفر] فأهلك نفسه، رحمه الله. قاله في «العبر» [1] .
وقال السيوطي في «طبقات النحاة» : قال ياقوت [2] : كان من أعاجيب الزّمان، ذكاء وفطنة وعلما، وأصله من فاراب من بلاد التّرك، وكان إماما في اللّغة والأدب، وكان يؤثر السّفر على الحضر، ويطوف الآفاق. دخل العراق فقرأ العربيّة على أبي عليّ الفارسي، و [أبي سعيد] السّيرافي، وسافر إلى الحجاز، وشافه باللّغة العرب العاربة، وطاف بلاد ربيعة، ومضر، ثم عاد إلى خراسان، ثم أقام بنيسابور ملازما للتدريس، والتّأليف [وتعليم الخطّ] [3] وكتابة المصاحف والدفاتر، حتّى مضى لسبيله على آثار جميلة، وصنّف كتابا في العروض، و «مقدمة» في النحو، و «الصحاح» في اللغة، مع تصحيف فيه في مواضع عدة تتبّعها عليه المحقّقون، قيل: إن سببه أنه لما صنّفه سمع عليه إلى باب الضاد المعجمة، وعرض عليه وسوسة، فانتقل إلى الجامع القديم بنيسابور، فصعد سطحه وقال: أيّها الناس، إني عملت في الدّنيا شيئا لم أسبق إليه، فسأعمل للآخرة أمرا لم أسبق [4] إليه، وضم إلى جنبيه مصراعي باب، وتأبّطهما بحبل، وصعد مكانا عاليا، وزعم أنه يطير، فوقع فمات، وبقي سائر الكتاب مسوّدة غير منقّح ولا مبيّض، فبيّضه تلميذه إبراهيم بن صالح الورّاق [5] فغلط فيه في مواضع. انتهى كلام السيوطي ملخصا.
وفيها الطائع لله، أبو بكر عبد الكريم بن المطيع لله، الفضل بن
__________
[1] (3/ 57) وما بين حاصرتين مستدرك منه. وقوله: «وطفر» أي وثب.
[2] انظر كلام ياقوت في «معجم الأدباء» (6/ 151- 157) وقد نقل السيوطي كلامه بتصرّف واختصار.
[3] زيادة من «معجم الأدباء» .
[4] في المطبوع: «لم يسبق» .
[5] انظر ترجمته ومصادرها في «إنباه الرواة» للقفطي (1/ 169- 170) .(4/498)
المقتدر جعفر، بن المعتضد أحمد [بن] الموفق العبّاسي [1] ، دخل عليه بهاء الدولة، وكان حنق عليه لسبب، فقبّل الأرض، ووقف ثم أومأ إلى جماعة من أصحابه كان واطأهم على فعل ما سنذكره، فجذبوا الطائع لله من سريره، ولفّوه في كساء، وأخرجوه من الباب المعروف بباب بدر، وحملوه إلى دار المملكة ملفوفا على قفا فراش، ثم أشهد عليه بخلع نفسه، وسملت عيناه، وقطع قطعة من إحدى أذنيه، وكان بهاء الدولة قبض عليه في يوم السبت، تاسع عشر شعبان، سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، وفي ليلة الأحد ثالث رجب سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، سلّم الطائع لله إلى القادر بالله، فأنزله حجرة من حجر خاصته، ووكّل به من يحفظه من ثقات خدمه، وأحسن ضيافته ومراعاة أموره، غير أنه تقدم بجذع أنفه، فقطع يسير من مارن أنفه [2] مع ما كان قطع أولا من أذنه. وتوفي الطائع لله يوم الثلاثاء سلخ شهر رمضان، وكانت دولته أربعا وعشرين سنة، وكان مربوعا أبيض، أشقر، مجدور الوجه، كبير الأنف، أبخر الفم، شديد القوى، في خلقه حدّة، واستمر مكرما محترما في دار عند القادر بالله، إلى أن مات، وله ثلاث وسبعون سنة، وصلى عليه القادر بالله، وشيّعه الأكابر، ورثاه الشريف الرضي [3] .
وفيها المنصور الحاجب، أبو عامر، محمد بن عبد الله بن أبي عامر القحطاني المعافري- بالفتح وكسر الفاء وراء، نسبة إلى المعافر، بطن من قحطان- الأندلسي، مدبّر دولة المؤيد بالله، هشام بن المستنصر بالله، الحكم بن عبد الرّحمن الأموي، لأن المؤيد بايعوه بعد أبيه، وله تسع سنين، وبقي صورة، وأبو عامر هو الكلّ، وكان حازما، بطلا، شجاعا، غزّاء،
__________
[1] انظر ترجمته ومصادرها في «فوات الوفيات» لابن شاكر الكتبي (2/ 375- 376) .
[2] مارن الأنف: ما لان من الأنف وفضل عن القصبة. انظر «مختار الصحاح» (مرن) .
[3] وذلك في قصيدة مطوّلة انظرها في «ديوانه» (2/ 197- 201) طبع دار صادر ببيروت.(4/499)
عادلا، سايسا، افتتح فتوحا كثيرة، وأثر آثارا حميدة، وكان لا يمكّن المؤيد من الركوب، ولا من الاجتماع بأحد إلّا بجواريه.
وفيها المخلّص، أبو طاهر محمد بن عبد الرحمن بن العبّاس البغدادي الذّهبي [1] ، مسند وقته. سمع أبا القاسم البغوي وطبقته، وكان ثقة، توفي في رمضان، وله ثمان وثمانون سنة.
وفيها أبو القاسم خلف بن القاسم بن سهل الأندلسي الحافظ، وهو إمام مقرئ، مصنف، ناقد.
قال ابن ناصر الدّين في «بديعته» :
ثم فتى دباغ بن قاسم ... شاع صلاح جمعه فلازم
__________
[1] نسبة إلى من يخلّص الذهب من الغش ويفصل بينهما. انظر «الأنساب» (11/ 189) و «سير أعلام النبلاء» (16/ 479) .(4/500)
سنة أربع وتسعين وثلاثمائة
فيها توفي أبو عمر عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب السّلمي- بالضم والفتح، نسبة إلى سليم، قبيلة مشهورة، منها العبّاس بن مرداس، والعرباض بن سارية- الأصبهاني المقرئ. روى عن عبد الله بن محمد الزهري، ابن أخي رسته، وكتب الكثير، وتوفي في ذي القعدة.
وفيها أبو الفتح إبراهيم بن علي بن سيبخت [1] . نزل مصر، وحدّث عن البغوي، وأبي بكر بن أبي داود.
قال الخطيب [2] : كان سيء الحال في الرواية. توفي بمصر.
وفيها محمد بن عبد الملك بن ضيفون [3] أبو عبد الله اللّخمي القرطبي الحداد، سمع عبد الله بن يونس القبري، وقاسم بن أصبغ، وبمكّة من أبي سعيد بن الأعرابي.
قال ابن الفرضي: [لم يكن ضابطا، اضطرب في أشياء. قاله في «العبر» [4] .
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 59) و «لسان الميزان» (7/ 151) .
[2] انظر «تاريخ بغداد» (6/ 133) .
[3] في الأصل والمطبوع: «ابن صفون» وهو تصحيف، والتصحيح من «بغية الملتمس» ص (102) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 56) .
[4] (3/ 59) .(4/501)
وقال في «المغني» [1] : سمع ابن الأعرابي.
قال ابن الفرضي] [2] : عدل صالح واضطرب في أشياء، قرئت عليه لم يسمعها، ولم يكن ضابطا. انتهى.
وفيها يحيى بن إسماعيل الحربي المزكّي، أبو زكريا، بنيسابور، في ذي الحجّة، وكان رئيسا، أديبا، أخباريا، متفننا. سمع من مكّي بن عبدان وجماعة.
__________
[1] انظر «المغني في الضعفاء» (2/ 609) .
[2] ما بين حاصرتين سقط من الأصل وأثبته من المطبوع.(4/502)
سنة خمس وتسعين وثلاثمائة
فيها توفي التّاهرتي- بفتح الهاء وسكون الراء، وفوقية، نسبة إلى تاهرت، موضع بإفريقية- أبو الفضل أحمد بن القاسم بن عبد الرحمن التميمي البزّاز [1] ، العبد الصالح. سمع بالأندلس من قاسم بن أصبغ وطبقته، وهو من كبار شيوخ ابن عبد البرّ.
وفيها أبو الحسن الخفّاف [2] أحمد بن محمد بن أحمد بن عمر الزاهد النيسابوري، مسند خراسان، توفي في ربيع الأول وله ثلاث وتسعون سنة، وهو آخر من حدّث عن أبي العبّاس السرّاج.
وفيها الإخميمي- بالكسر والسكون، نسبة إلى إخميم بلدة [3] بصعيد مصر- أبو الحسين، ومحمد بن أحمد بن العبّاس المصري. روى عن محمد بن ريّان بن حبيب، وعلي بن أحمد بن علّان، وطائفة.
وفيها أبو نصر الملاحمي، محمد بن أحمد بن محمد البخاري، راوي كتاب «القراءة [4] خلف الإمام» وكتاب «رفع الأيدي» تأليف البخاري، رواهما عن محمود بن إسحاق، وكان حافظا ثقة، عاش ثلاثا وثمانين سنة.
__________
[1] مترجم في «سير أعلام النبلاء» (17/ 79) .
[2] قال السمعاني في «الأنساب» (5/ 155) : هذه الحرفة لعمل الخفاف التي تلبس، وانظر ترجمته في «العبر» (3/ 60) .
[3] في المطبوع: «بلد» وانظر «معجم البلدان» (1/ 123- 124) .
[4] في الأصل والمطبوع: «قراءة» وأثبت لفظ «العبر» وهو الصواب.(4/503)
وفيها عبد الوارث بن سفيان أبو القاسم القرطبي الحافظ، ويعرف بالحبيب. أكثر عن القاسم بن أصبغ، وكان من أوثق النّاس فيه، توفي لخمس بقين من ذي الحجة، حمل عنه أبو عمر بن عبد البرّ الكثير [1] .
وفيها أبو عبد الله بن مندة، الحافظ العلم، محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى العبدي الأصبهاني الجوّال، صاحب التصانيف، طوّف الدّنيا، وجمع وكتب ما لا ينحصر، وسمع من ألف وسبعمائة شيخ، وأول سماعه ببلده في سنة ثمان عشرة وثلاثمائة، ومات في سلخ ذي القعدة، وبقي في الرحلة بضعا وثلاثين سنة.
قال أبو إسحاق بن حمزة الحافظ: ما رأيت مثله.
وقال عبد الرحمن بن مندة: كتب أبي عن أبي سعيد بن الأعرابي ألف جزء، وعن خيثمة ألف جزء، وعن الأصم ألف جزء، وعن الهيثم الشّاشي ألف جزء.
وقال شيخ الإسلام الأنصاري: أبو عبد الله بن مندة سيد أهل زمانه. قاله جميعه في «العبر» [2] .
وقال ابن ناصر الدّين: أبو عبد الله الإمام، أحد شيوخ الإسلام، وهو إمام حافظ جبل من الجبال، ولما رجع من رحلته كانت كتبه أربعين حملا على الجمال، حتّى قيل: إن أحدا من الحفّاظ لم يسمع ما سمع، ولا جمع ما جمع. انتهى.
وقال ابن خلّكان [3] : أبو عبد الله محمد بن يحيى بن مندة العبدي،
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «الكبير» وهو تحريف، والتصحيح من «العبر» .
[2] (3/ 61- 62) .
[3] انظر «وفيات الأعيان» (4/ 289) .(4/504)
الحافظ المشهور، صاحب كتاب «تاريخ أصبهان» . كان أحد [1] الحفاظ الثقات، وهم أهل بيت كبير، خرج منهم جماعة من العلماء، ولم يكونوا عبديين [2] وإنما أمّ الحافظ أبو عبد الله المذكور، واسمها برّة بنت محمد، كانت من بني عبد ياليل، فنسب إلى أخواله. انتهى ملخصا.
وفيها الملاحمي، أبو نصر، محمد بن أحمد بن محمد بن موسى بن جعفر البخاري، أبو نصر [3] ، حدّث عنه أبو الحسن الدارقطني وغيره، وكان من الحفّاظ المشهورين. قاله ابن ناصر الدّين.
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «أوحد» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[2] في الأصل: «عبيديين» وأثبت لفظ المطبوع وهو موافق لما في «وفيات الأعيان» .
[3] مترجم في «سير أعلام النبلاء» (17/ 86- 87) وقد مرت ترجمته ص (503) فتنبه.(4/505)
سنة ست وتسعين وثلاثمائة
فيها توفي أبو عمر الباجي، أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي اللّخمي الإشبيلي [1] الحافظ العلم المشهور، في المحرم، وله ثلاث وستون سنة، وكان يحفظ عدة مصنفات، وكان إماما في الأصول والفروع.
وفيها أبو الحسن بن الجندي، أحمد بن محمد بن عمران البغدادي.
ولد سنة ست وثلاثمائة، وروى عن البغوي، وابن صاعد، وهو ضعيف شيعيّ [2] .
وفيها أبو سعد بن الإسماعيلي، شيخ الشافعية وابن شيخهم، إسماعيل بن أحمد بن إبراهيم الفقيه، وقد روى عن الأصم ونحوه، وكان صاحب فنون وتصانيف، توفي ليلة الجمعة وهو يقرأ في صلاة المغرب إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ 1: 5 [الفاتحة: 5] ففاضت نفسه، وله ثلاث وستون سنة، رحمه الله. قاله في «العبر» [3] .
وقال ابن قاضي شهبة: العلّامة أبو سعد بن الإمام أبي بكر الإسماعيلي الجرجاني، شيخ الشافعية بها. أخذ العلم عن أبيه.
__________
[1] مترجم في «العبر» (3/ 62) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 74- 75) .
[2] مترجم في «العبر» (3/ 62) .
[3] (3/ 62- 63) .(4/506)
قال فيه حمزة السهمي: كان إمام زمانه، مقدّما في الفقه، والأصول، والعربية، والكتابة، والشروط، والكلام، صنّف في أصول الفقه كتابا كبيرا، وتخرّج على يده جماعة، مع الورع، والمجاهدة، والنصح للإسلام، والسخاء، وحسن الخلق.
قال القاضي أبو الطيب: ورد بغداد فأقام بها سنة، ثم حجّ، وعقد له الفقهاء مجلسين، تولى أحدهما أبو حامد الإسفراييني، والآخر أبو محمد الباني.
وقال الشيخ أبو إسحاق [1] : جمع بين رئاسة الدّين والدّنيا بجرجان.
انتهى.
وفيها أبو الحسين الكلابي، [2] عبد الوهاب بن الحسن بن الوليد، محدّث دمشق، ويعرف بأخي تبوك. ولد سنة ست وثلاثمائة، وروى عن محمد بن خريم، وسعيد بن عبد العزيز الحلبي وطبقتهما.
قال عبد العزيز الكتّاني: كان ثقة، نبيلا، مأمونا، توفي في ربيع الأول.
وفيها أبو الحسن الحلبي علي بن محمد بن إسحاق القاضي الشافعي، نزيل مصر. روى عن علي بن عبد الحميد الغضائري، ومحمد بن إبراهيم بن نيروز، وطبقتهما، ورحل إلى العراق، ومصر، وعاش مائة سنة.
وفيها البحيري [3] صاحب «الأربعين المروية» أبو عمرو، محمد بن
__________
[1] انظر «طبقات الفقهاء» ص (121) وزاد: وكان فقيها، أديبا، جوّادا.
[2] في الأصل والمطبوع: «أبو الحسين» والتصحيح من «العبر» (3/ 63) .
[3] تحرّفت نسبته في «العبر» (3/ 63) إلى «البختري» فتصحح فيه، وتحرّفت في «تاريخ الإسلام» (مخطوط) إلى «النحيري» وجاءت على الصواب في «سير أعلام النبلاء» (17/ 90) .(4/507)
أحمد [بن محمد] بن جعفر النيسابوري المزكّى [1] ، الحافظ الثقة. روى عن يحيى بن منصور القاضي وطبقته.
قال الحاكم: كان من حفّاظ الحديث المبرزين في المذاكرة، توفي في شعبان وله ثلاث وستون سنة.
وفيها ابن المأمون، أبو بكر محمد بن الحسن بن الفضل العبّاسي، الثقة المشهور، روى عن أبي بكر بن زياد النيسابوري وطائفة، وهو جدّ أبي الغنائم عبد الصمد بن المأمون.
وفيها ابن زنبور، أبو بكر، محمد بن عمر بن علي بن خلف بن زنبور الورّاق، ببغداد في صفر. روى عن البغوي، وابن صاعد، وابن أبي داود.
قال الخطيب [2] : ضعيف جدا.
__________
[1] تحرّفت في «سير أعلام النبلاء» إلى «المزكّي» وجاءت على الصواب في الأصل والمطبوع، و «تاريخ الإسلام» و «العبر» .
[2] انظر «تاريخ بغداد» (3/ 35) .(4/508)
سنة سبع وتسعين وثلاثمائة
فيها كان ظهور أبي ركوة، وهو أمويّ من ذرية هشام بن عبد الملك، كان يحمل الركوة في السفر ويتزهد، ولقي المشايخ، وكتب الحديث، ودخل الشام واليمن، وهو في خلال ذلك يدعو إلى القائم من بني أميّة، ويأخذ البيعة على من يستجيب له، ثم جلس مؤدّبا، واجتمع عنده أولاد العرب، فاستولى على عقولهم، وأسرّ إليهم أنه الإمام، ولقّب نفسه الثائر بأمر الله، وكان يخبرهم [1] بالمغيّبات، ويمخرق عليهم، ثم إنه حارب متولي تلك الناحية من المغرب وظفر به، وقوي بما حواه من العسكر، ونزل ببرقة، فأخذ من يهوديّ بها مائتي ألف دينار، وجمع له أهلها مائتي ألف دينار أخرى، وضرب السّكّة [2] باسمه، ولعن الحاكم، فجهّز الحاكم [3] لحربه ستة عشر ألفا، وظفروا به، وأتوا به إلى الحاكم فقتله، ثم قتل قائد الجيش الذين ظفروا به.
وفيها توفي أصبغ بن الفرج الطائي الأندلسي المالكي، مفتي قرطبة، وقاضي بطليوس، وأخو حامد الزاهد.
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «يخبر» وأثبت لفظ «العبر» مصدر المؤلف.
[2] جاء في «لسان العرب» (سكك) : السّكّة: حديدة قد كتب عليها، يضرب عليها الدراهم، وهي المنقوشة.
[3] لفظة «الحاكم» سقطت من المطبوع.(4/509)
وفيها أبو الحسن بن القصّار، علي بن عمر البغدادي الفقيه المالكي، صاحب كتاب «مسائل الخلاف» .
قال أبو إسحاق الشيرازي [1] : لا أعرف كتابا [لهم] [2] في الخلاف أحسن منه.
وقال أبو ذر الهروي: هو أفقه من لقيت من المالكية.
وفيها أبو الحسن بن القصّار، علي بن محمد بن عمر الرّازي، الفقيه الشافعي.
قال الخليلي: هو أفضل من لقيناه [3] بالرّيّ، كان مفتيها قريبا من ستين سنة، أكثر عن عبد الرحمن بن أبي حاتم، وجماعة، وكان له في كل علم حظ، وعاش قريبا من مائة سنة.
وفيها ابن واصل، الأمير أبو العبّاس أحمد. كان يخدم بالكرخ، وهم يسخرون منه، ويقول بعضهم: إن ملكت فاستخدمني، فتنقلت به الأحوال، وخرج وحارب، وملك سيراف والبصرة [4] ، ثم قصد الأهواز، وكثر جيشه، والتقى السلطان بهاء الدولة وهزمه، ثم أخذ البطائح، وأخذ خزائن متولّيها مهذب الدولة، فسار لحربه، فخرج الملك أبو غالب، فعجز ابن واصل عنه، واستجار بحسّان الخفاجي، ثم قصد بدر بن حسنويه [5] ، فقتل بواسط، في صفر من هذه السنة.
__________
[1] انظر «طبقات الفقهاء» ص (168) .
[2] سقطت من الأصل والمطبوع واستدركتها من «طبقات الفقهاء» ويقصد بقوله «لهم» فقهاء المالكية.
[3] في الأصل: «من رأيناه» وأثبت لفظ المطبوع.
[4] في الأصل والمطبوع: «وملك سيراف بالبصرة» وما أثبته من «العبر» (3/ 66) وهو الصواب، وفي «تاريخ الإسلام» للذهبي (مخطوط) : «فآل أمره إلى أن ملك سيراف ثم البصرة» .
[5] في الأصل والمطبوع: «نزار بن حسنونة» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» و «تاريخ الإسلام» للذهبي (مخطوط) .(4/510)
سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة
فيها كانت فتنة هائلة ببغداد، قصد رجل شيخ الشّيعة ابن المعلّم، وهو الشيخ المفيد، وأسمعه ما يكره، فثار تلامذته، وقاموا واستنفروا الرافضة، وأتوا دار قاضي القضاة أبي محمد بن الأكفاني، والشيخ أبي حامد بن [1] الإسفراييني، فسبّوهما، وحميت الفتنة.
ثم إنّ السّنّة أخذوا مصحفا، قيل: إنه على قراءة ابن مسعود، فيه خلاف كثير، فأمر الشيخ أبو حامد والفقهاء بتحريقه، فأحضر بمحضر منهم، فقام ليلة النصف رافضي، وشتم من أحرق المصحف، فأخذ وقتل، فثارت الشيعة، ووقع القتال بينهم وبين السّنّة، واختفى أبو حامد، واستظهرت الروافض، وصاحوا: الحاكم يا منصور، فغضب القادر بالله، وبعث خيلا لمعاونة السّنّة، فانهزمت الرافضة، وأحرقت بعض دورهم، وذلوا، وأمر عميد الجيوش بإخراج ابن المعلّم من بغداد، فأخرج، وحبس جماعة [2] ، ومنع القصّاص مدّة.
وفيها زلزلت الدّينور، فهلك تحت الردم أكثر من عشرة آلاف،
__________
[1] لفظة «ابن» سقطت من الأصل وأثبتها من المطبوع.
[2] في الأصل «جماعته» وأثبت لفظ المطبوع وموافق للفظ «العبر» مصدر المؤلف.(4/511)
وزلزلت سيراف [1] والسّيب [2] ، وغرق عدة مراكب، ووقع برد عظيم وزن أكبر ما وجد منه فكانت مائة وستة دراهم.
وفيها هدم الحاكم العبيديّ كنيسة القيامة بالقدس لكونهم يبالغون في إظهار شعارهم، ثم هدم الكنائس التي في مملكته، ونادى: من أسلم، وإلّا فليخرج من مملكتي أو يلتزم بما آمر به [3] ، ثم أمر بتعليق صلبان كبار على صدورهم، وزن الصليب أربعة أرطال بالمصري، وبتعليق خشبة كيد المكمدة [4] ، وزنها ستة أرطال في عنق اليهودي، إشارة إلى رأس العجل الذي عبدوه، فقيل: كانت الخشبة على تمثال رأس عجل، وبقي هذا سنوات، ثم رخص لهم الردّة لكونهم مكرهين، وقال: ننزّه مساجدنا عمّن لا نيّة له في الإسلام. قاله في «العبر» [5] .
وفيها توفي البديع الهمذاني، أبو الفضل، أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد، الحافظ المعروف ببديع الزمان، صاحب «المقامات» المشهورة والرسائل الرائقة. كان فصيحا مفوّها وشاعرا مفلقا. روى عن أبي الحسين أحمد بن فارس صاحب «المجمل» وعن غيره.
ومن رسائله: الماء إذا طال مكثه ظهر خبثه، وإذا سكن متنه تحرّك
__________
[1] سيراف: بلدة في الجنوب الأوسط في غرب إيران الآن على ساحل الخليج. وانظر «معجم البلدان» (3/ 294- 295) .
[2] السّيب: نهر بالبصرة عليه قرية كبيرة. انظر «معجم البلدان» (3/ 293) و «تاج العروس» (سيب) (3/ 83- 84) طبع وزارة الإعلام في الكويت، وقد تصحفت في الأصل والمطبوع إلى «السبب» وتحرفت في «المنتظم» لابن الجوزي (7/ 238) إلى «السيف» فتصحح فيه.
[3] لفظة «به» لم ترد في المطبوع و «العبر» .
[4] كذا في الأصل والمطبوع: «كيد المكمدة» وفي «العبر» طبع الكويت و «العبر» طبع بيروت «مثل المكمدة» وفي إحدى نسخ «العبر» الخطية: «كبر المكمدة» ولم أقف على ذكر للمكمدة في أيّ من المصادر والمراجع التي بين يدي.
[5] (3/ 68- 69) .(4/512)
نتنه، وكذلك الضيف يسمج لقاؤه إذا طال ثواؤه، ويثقل ظلّه إذا انتهى محلّه، والسلام.
ومن رسائله: حضرته التي هي كعبة المحتاج، لا كعبة الحجّاج، ومشعر الكرم لا مشعر الحرم، ومنى الضّيف، لا منى الخيف، وقبلة الصّلات لا قبلة الصّلاة.
ومن شعره من جملة قصيدة طويلة:
وكاد يحكيك صوت [1] الغيث منسكبا ... لو كان طلق المحيّا يمطر الذّهبا
والدّهر لو لم يخن [2] والشّمس لو نطقت ... واللّيث لو لم يصد [3] والبحر لو عذبا [4]
وله كل معنى حسن من نظم ونثر، وكانت وفاته بمدينة هراة مسموما.
وقال الحاكم أبو سعيد عبد الرحمن بن دوست، جامع «رسائل البديع» :
توفي البديع، رحمه الله تعالى، يوم الجمعة، حادي عشر جمادى الآخرة.
قال الحاكم المذكور: وسمعت الثقات يحكون أنه مات من السكتة وعجّل دفنه، فأفاق في قبره وسمع صوته بالليل، وأنه نبش عنه، فوجدوه قد قبض على لحيته، ومات من هول القبر. انتهى [5] .
والحريري به اقتدى في «مقاماته» وإيّاه عنى بإنشاده:
ولو قبل مبكاها بكيت صبابة ... بسعدي شفيت النّفس قبل التّندم
ولكن بكت قبلي فهيّج لي البكا ... بكاها فقلت الفضل للمتقدم
__________
[1] في الأصل والمطبوع: و «وفيات الأعيان» (1/ 128) «صوب» والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» .
[2] في الأصل والمطبوع: «لو لم يخف» والتصحيح من «وفيات الأعيان» و «سير أعلام النبلاء» .
[3] في «سير أعلام النبلاء» : «لو لم يصل» .
[4] البيتان في «سير أعلام النبلاء» (17/ 68) وتخريجهما فيه مستوفى فراجعه.
[5] يعني انتهى نقل المؤلف عن «وفيات الأعيان» .(4/513)
وفيها ابن لال، الإمام أبو بكر، أحمد بن علي بن أحمد الهمذاني.
قال شيرويه: كان ثقة أوحد زمانه، مفتي همذان، له مصنّفات في علوم الحديث، غير أنه كان مشهورا بالفقه، له كتاب «السنن» و «معجم الصحابة» وعاش تسعين سنة، والدعاء عند قبره مستجاب. قاله في «العبر» [1] .
وقال الإسنويّ: ابن لال- بلامين بينهما ألف، معناه أخرس- أخذ عن أبي إسحاق المروزي، وابن أبي هريرة، وكان ورعا متعبدا. أخذ عنه فقهاء همذان، ونقل عنه الرافعي قولا أن الإخوة للأبوين ساقطون في مسألة المشركة. ولد سنة سبع وثلاثمائة. انتهى ملخصا.
وفيها أبو نصر الكلاباذي- نسبة إلى كلاباذ، محلة ببخارى- الحافظ المشهور، أحمد بن محمد بن الحسين، أخذ عن الهيثم بن كليب الشّاشي، وعبد المؤمن بن خلف النّسفي وطبقتهما، وعنه: المستغفري، وقال: هو أحفظ من بما وراء النهر اليوم، ووثقه الدّارقطني، وصنّف رجال «صحيح البخاري» وغيره، وعاش خمسا وسبعين سنة.
وفيها القاضي الضبّي، أبو عبد الله، الحسين بن هارون البغدادي، ولي قضاء مدينة المنصور، وقضاء الكوفة، وأملى الكثير على المحاملي، وابن عقدة، وطبقتهما.
قال الدارقطني: وهو غاية في الفضل، والدّين، عالم بالأقضية، عالم بصناعة المحاضر والتّرسّل، موفق في أحواله كلّها، رحمه الله.
وفيها البافي- بالموحدة والفاء، نسبة إلى باف، قرية من قرى خوارزم- أبو محمد، عبد الله بن محمد البخاري الخوارزمي، نزيل بغداد، الفقيه الشافعي العلّامة، تفقه على أبي علي بن أبي هريرة، وأبي إسحاق المروزي، وهو من أصحاب الوجوه.
__________
[1] (3/ 69) .(4/514)
قال ابن قاضي شهبة: كان ماهرا في العربية، وتفقه به جماعة، منهم:
أبو الطيب، والماوردي.
قال الخطيب [1] : كان من أفقه أهل وقته في المذهب، بليغ العبارة، يعمل الخطب، ويكتب الكتب الطويلة من غير روية.
وقال الشيخ أبو إسحاق [2] : كان فقيها، أديبا، شاعرا، مترسلا، كريما، درّس ببغداد بعد الدّاركي، وتوفي في المحرم. انتهى ملخصا.
وفيها الببّغاء، الشاعر المشهور، أبو الفرج عبد الواحد بن نصر المخزومي النّصيبيني، مدح سيف الدولة والكبار، ولقبوه بالببّغاء لفصاحته، وقيل: للثغة في لسانه.
ذكره الثعالبي في «يتيمة الدهر» [3] وقال: هو من أهل نصيبين، وبالغ في الثناء عليه وذكر جملة من رسائله ونظمه.
ومن شعره:
يا سادتي هذه روحي تودّعكم ... إذ كان لا الصّبر يسليها ولا الجزع
قد كنت أطمع في روح [4] الحياة لها ... والآن إذ بنتم لم يبق لي طمع
لا عذّب الله روحي بالبقاء فما ... أظنّها بعدكم بالعيش تنتفع
وله أيضا:
ومهفهف لما اكتست وجناته ... خلع الملاحة طرّزت بعذاره
لما انتصرت عي أليم جفائه ... بالقلب كان القلب من أنصاره
__________
[1] انظر «تاريخ بغداد» (10/ 139) وقد نقل المؤلف كلامه باختصار.
[2] انظر «طبقات الفقهاء» للشيرازي ص (123) .
[3] (1/ 293) طبع دار الكتب العلمية ببيروت، والمؤلف ينقل عن «وفيات الأعيان» (3/ 199- 202) .
[4] في الأصل والمطبوع: «في روحي» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .(4/515)
كملت محاسن وجهه فكأنما اق ... تبس الهلال النور من أنواره
وإذا ألحّ القلب في هجرانه ... قال الهوى لا بدّ منه فداره
وله وهو معنى بديع:
وكأنما نقشت حوافر خيله ... للناظرين أهلّة في الجلمد
وكأن طرف الشّمس مطروف وقد ... جعل الغبار له مكان الإثمد
وأكثر شعر الببّغاء جيد، ومقاصده فيه جميلة، وكان قد خدم سيف الدولة ابن حمدان مدة، وبعد وفاته تنقل في البلاد، وتوفي يوم السبت سلخ شعبان.
وقال الخطيب في «تاريخه» [1] : توفي ليلة السبت سابع عشري شعبان.
وقال الثعالبي [2] : سمعت الأمير أبا الفضل الميكالي يقول عند صدوره من الحج وحصوله ببغداد سنة تسعين وثلاثمائة: رأيت بها أبا الفرج الببّغاء شيخا عالي السن، متطاول الأمد، قد أخذت الأيام من جسمه وقوته، ولم تأخذ من ظرفه وأدبه. انتهى.
والببّغاء: بفتح الباء الأولى، وتشديد الثانية، وفتح الغين المعجمة، وبعدها ألف.
ووجد بخط أبي الفتح بن جنّي النحوي: الففغاء، بفاءين، والله أعلم.
وفيها أبو القاسم بن الصيدلاني، نسبة إلى بيع الأدوية والعقاقير، عبد الله بن أحمد بن علي. روى مجلسين عن ابن صاعد، وهو آخر الثقات من أصحابه، وروى عن جماعة، وتوفي في رجب ببغداد.
__________
[1] انظر «تاريخ بغداد» (11/ 12) .
[2] انظر «يتيمة الدهر» (1/ 293) وقد نقل المؤلف كلامه بتصرّف.(4/516)
سنة تسع وتسعين وثلاثمائة
فيها كما قال ابن الجوزي في «المنتظم» [1] أخذ بنو زغب الهلاليون لركب البصرة ما قيمته ألف ألف دينار.
وفيها توفي أحمد بن أبي عمران، أبو الفضل الهروي، الزاهد القدوة، نزيل مكّة. روى عن محمد بن أحمد بن محبوب المروزي، وخيثمة الأطرابلسي، وطائفة، وصحب محمد بن داود الرّقّي، وروى عنه خلق كثير.
وفيها أبو العبّاس البصير، أحمد بن محمد بن الحسين الرّازي، الحافظ البارع الثقة. روى عن عبد الرحمن بن أبي حاتم، واستملى عليه [2] ، وسمع بنيسابور من [3] أبي حامد بن بلال وطائفة، وكان من أركان الحديث، وقد ولد أعمى.
وفيها النّامي، الشاعر البليغ، أبو العبّاس، أحمد بن محمد الدّارمي المصيصي، كان من الشعراء المفلقين، ومن فحول شعراء عصره، وخوّاص مدّاح سيف الدولة ابن حمدان، وكان عنده، وكان تلو أبي الطيب المتنبي في الرتبة، وكان فاضلا، أديبا، مقدّما في اللغة، عارفا بالأدب، وله أمال أملاها
__________
[1] (7/ 244) وقد نقل المؤلف كلامه عن «العبر» (3/ 71) باختصار وتصرف.
[2] في الأصل والمطبوع: «وإسماعيل عليه» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» (3/ 72) .
[3] لفظة «من» سقطت من الأصل وأثبتها من المطبوع.(4/517)
بحلب، وروى عن أبي الحسين علي بن سليمان الأخفش، وابن درستويه، وأبي عبد الله الكرماني، وأبي بكر الصّولي. وعنه: أبو القاسم الحسين بن علي بن أبي أسامة الحلبي، وأخوه أبو الحسين أحمد، وأبو الفرج الببّغاء [وأبو الخطّاب بن عون الحريري، وأبو بكر الخالدي] [1] ، والقاضي أبو طاهر، وصالح بن جعفر الهاشمي.
ومن محاسن شعره قوله فيه من جملة قصيدة:
أمير العلى إنّ العوالي كواسب ... علاءك في الدّنيا وفي جنّة الخلد
يمرّ عليك الحول سيفك في الطّلى ... وطرفك ما بين الشكيمة واللّبد
ويمضي عليك الدّهر فعلك للعلى ... وقولك للتقوى وكفك للرّفد
ومن شعره أيضا:
أحقّا إنّ قاتلتي زرود ... وأن عهودها [2] تلك العهود
وقفت وقد فقدت الصبر حتّى ... تبيّن موقفي أني الفقيد
وشكّت في عذّالي فقالوا ... لرسم الدّار أيّكما العميد
وله مع المتنبي وقائع ومعارضات في الأناشيد.
وحكى أبو الخطّاب بن عون الحريري النحوي الشاعر، أنه دخل على أبي العبّاس النّامي، قال: فوجدته جالسا ورأسه كالثّغامة [3] بياضا، وفيه شعرة واحدة سوداء، فقلت له: يا سيدي في رأسك شعرة سوداء، فقال: نعم هذه بقية شبابي وأنا أفرح بها، ولي فيها شعر، فقلت: أنشدنيه فأنشد:
رأيت في الرأس شعرة بقيت ... سوداء تهوى العيون رؤيتها
__________
[1] ما بين حاصرتين زيادة من «وفيات الأعيان» (1/ 124- 125) مصدر المؤلف.
[2] تحرّفت في الأصل إلى «أن عهودنا» .
[3] الثغامة: نبت أبيض الثمر يشبه بياض الشيب. انظر «لسان العرب» (ثغم) .(4/518)
فقلت للبيض إذ تروّعها ... بالله إلّا رحمت غربتها
فقلّ لبث السوداء في وطن ... تكون فيه البيضاء ضرّتها
ثم قال: يا أبا الخطاب، بيضاء واحدة تروّح ألف سوداء، فكيف حال سوداء بين ألف بيضاء.
وفيها أبو الرّقعمق- بفتح الراء والقاف، وسكون العين المهملة، وفتح الميم، وبعدها قاف، لقب له- الشاعر المفلق صاحب المجون والنوادر، أبو حامد، أحمد بن محمد الأنطاكي.
قال فيه الثعالبي في «اليتيمة» [1] : هو نادرة الزمان، وجملة الإنسان، وممّن تصرف بالشعر [الجزل] في أنواع الهزل والجد، وأحرز قصب السبق، وهو أحد الشعراء المجيدين، وهو في الشام كابن حجّاج بالعراق، فمن غرر محاسنه قوله يمدح ابن كلّس وزير العزيز العبيدي، صاحب مصر:
قد سمعنا مقاله واعتذاره ... وأقلنا ذنوبه [2] وعثاره
والمعاني لمن عنيت ولكن ... بك عرّضت فاسمعي يا جاره
من تراديه أنه أبد الدّه ... ر تراه محلّلا أزراره
عالم أنه عذاب من اللّ ... هـ متاح لأعين النظّاره
هتك الله ستره فلكم هت ... ك من ذي تستّر أستاره
سحرتني ألحاظه وكذا ك ... ك مليح ألحاظه سحّاره
ما على مؤثر التباعد والإع ... راض لو آثر الرّضى والزّياره
وعلى أنني وإن كان قد ع ... ذّب بالهجر مؤثر إيثاره
لم أزل لا عدمته من حبيب ... أشتهي قربه وآبى نفاره
__________
[1] انظر «يتيمة الدهر» (1/ 379- 380) طبع دار الكتب العلمية وما بين حاصرتين مستدرك منه، وقد نقل المؤلف عن «وفيات الأعيان» (1/ 131- 132) .
[2] في «يتيمة الدهر» و «وفيات الأعيان» : «وأقلناه ذنبه» .(4/519)
ومن مديحها:
لم يدع للعزيز [1] في سائر الأر ... ض عدوا إلّا وأخمد ناره
كلّ يوم له على نوب الدّه ... ر وكرّ الخطوب بالبذل غاره
ذويد شأنها الفرار من البخ ... ل وفي حومة النّدى كرّاره
هي فلّت عن العزيز عداه ... بالعطايا وكثّرت أنصاره
هكذا كلّ فاضل يده تمس ... ي وتضحي نفّاعة ضرّاره
وأكثر شعره جيد، وهو على أسلوب شعر صريع الدّلاء القصّار البصري.
وأقام بمصر زمانا طويلا، وأكثر شعره في ملوكها ورؤسائها، وتوفي يوم الجمعة، ثاني عشري شهر رمضان، وقيل: في شهر ربيع الآخر بمصر، على قول.
وفيها خلف بن أحمد بن محمد بن اللّيث البخاري، صاحب بخارى، وابن صاحبها، كان عالما جليلا، مفضّلا على العلماء، عاش بضعا وسبعين سنة، وروى عن عبد الله بن محمد الفاكهي وطبقته، مات شهيدا في الحبس ببلاد الهند.
وفيها أبو مسلم الكاتب، محمد بن أحمد بن علي البغدادي بمصر في ذي القعدة، كان آخر من روى عن البغوي، وابن صاعد، وابن أبي داود.
روى كتاب «السبعة» لابن مجاهد عنه، وسمع بالجزيرة، والشام، والقيروان، وكان سماعه صحيحا من البغوي في جزء واحد وما عداه مفسود.
وقال في «المغني» [2] : هو آخر أصحاب البغوي، ضعّف.
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «لم يدع لي العزيز» .
[2] انظر «المغني في الضعفاء» (2/ 551) .(4/520)
قال الصوري: بعض أصوله عن البغوي وغيره جياد.
وقال أبو الحسن المحدّث العطار: ما رأيت في أصول أبي مسلم [1] عن البغوي صحيحا، غير خبر واحد، وما عداه مفسود [2] . انتهى.
وفيها ابن أبي زمنين، الإمام أبو عبد الله، محمد بن عبد الله بن عيسى المرّي [3] الأندلسي الإلبيري، نزيل قرطبة وشيخها ومفتيها، وصاحب التصانيف الكثيرة في الفقه، والحديث، والزهد. سمع من سعيد بن فحلون، ومحمد بن معاوية القرشي، وطائفة، وكان راسخا في العلم، متفننا في الآداب، مقتفيا لآثار السلف، صاحب عبادة وإنابة وتقوى، عاش خمسا وسبعين سنة، وتوفي في ربيع الآخر، ومن كتبه «اختصار المدونة» ليس لأحد مثله.
وفيها أبو الحسن علي بن عبد الرحمن بن أحمد بن يونس الصّدفي- بضم الصاد المهملة- المنجم صاحب «الزيج» المصري الحاتمي المشهور، وزيجه يعرف بزيج ابن يونس، وهو زيج كبير في أربع مجلدات، بسط فيه القول والعمل، عمله للعزيز العبيدي صاحب مصر، وكان أبله مغفلا، رثّ الهيئة، إذا ركب ضحك منه الناس لطوله وسوء حالته وله إصابة بديعة في النجامة لا يشاركه فيها أحد، وأفنى عمره في النجوم، والتسيير، والتوليد، وله شعر رائق.
قال الأمير المختار في كتابه «تاريخ مصر» : بلغني أنه طلع إلى جبل [4] المقطم وقد وقف للزهرة، فنزع ثوبه وعمامته، ولبس ثوبا أحمر ومقنعة حمراء
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «ابن مسلم» والتصحيح من «المغني في الضعفاء» .
[2] في «المغني في الضعفاء» : «مفسودا» .
[3] تحرفت في المطبوع إلى «المريي» وانظر «سير أعلام النبلاء» (17/ 188) .
[4] في المطبوع: «الجبل» وانظر «وفيات الأعيان» (3/ 430) .(4/521)
تقنع بها، وأخرج عودا فضرب به، والبخور بين يديه، فكان عجبا من العجب.
وقال المختار أيضا: كان ابن يونس المذكور مغفلا، يعتمّ على طرطور طويل، ويجعل رداءه فوق العمامة، وكان طويلا، وإذا ركب ضحك الناس منه لشهرته وسوء حاله ورثاثة ثيابه، وكان له مع هذه الهيئة إصابة بديعة غريبة في النجامة، لا يشاركه فيها أحد، وكان [1] أحد الشهود، وكان متفننا في علوم كثيرة، وكان يضرب بالعود على جهة التأدب به [2] ، وله شعر حسن منه قوله:
أحمّل نشر الريح عند هبوبه ... رسالة مشتاق لوجه حبيبه
بنفسي من تحيا النفوس بقربه ... ومن طابت الدّنيا به وبطيبه
وجدّد وجدي طارق [3] منه في الكرى ... سرى موهنا في خفية من رقيبه
لعمري لقد عطلت كأسي لبعده [4] ... وغيّبتها عني لطول مغيبه
قال الحاكم العبيدي صاحب مصر- وقد جرى في مجلسه ذكر ابن يونس وتغفله-: دخل إلى عندي يوما ومداسه في يده، فقبّل الأرض وجلس، وترك المداس إلى جانبه وأنا أراه وأراها، وهو بالقرب منّي، فلما أراد أن ينصرف قبّل الأرض وقدّم المداس ولبسه وانصرف، وإنما ذكر هذا في معرض غفلته وبلهه.
قال المسبحي: وكانت وفاته يوم الاثنين ثالث شوال فجأة، وخلّف ولدا متخلعا باع كتبه وجميع تصنيفاته بالأرطال في الصابونيين.
__________
[1] في المطبوع: «كان» .
[2] لفظه «به» لم ترد في «وفيات الأعيان» مصدر المؤلف.
[3] في «وفيات الأعيان» : «طائف» وهو الأصوب.
[4] في «وفيات الأعيان» : «بعده» وقد تقدم هذا البيت فيه إلى قبل سابقه.(4/522)
سنة أربعمائة
فيها أقبل الحاكم- قاتله الله- على التألّه والدّين، وأمر بإنشاء دار العلم بمصر، وأحضر فيها الفقهاء والمحدّثين، وعمر الجامع الحاكمي بالقاهرة، وكثر الدعاء له، فبقي كذلك ثلاث سنين، ثم أخذ يقتل أهل العلم، وأغلق تلك الدار، ومنع من فعل كثير من الخير.
وفيها توفي ابن خرّشيذ قوله [1] ، أبو إسحاق، إبراهيم بن عبد الله بن محمد بن خرّشيذ قوله الأصبهاني التاجر، في المحرم، وله ثلاث وتسعون سنة. دخل بغداد سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وسمع من ابن زياد النيسابوري، وابن عقدة، والمحاملي، وكان أسند من بقي بأصبهان، رحمه الله تعالى.
وفيها أبو مسعود الدمشقي، إبراهيم بن محمد بن عبيد الحافظ، مؤلّف «أطراف الصحيحين» . روى عن عبد الله بن محمد بن السقّا، وأبي بكر بن المقرئ، وطبقتهما، وكان عارفا بهذا الشأن [2] ومات كهلا فلم ينشر حديثه، توفي في رجب.
وفيها الفقيه الزاهد، السيد الجليل، الصالح الورع، جعفر بن عبد
__________
[1] مترجم في «سير أعلام النبلاء» (17/ 69- 71) .
[2] يعني علوم الحديث النبوي.(4/523)
الرحيم اليمني، من نواحي الجند، سأله واليها الإقامة عندهم، فقال:
بشرطين، أحدهما الإعفاء عن الحكم، والثاني أن لا يأكل من طعام الوالي شيئا، فاتفق يوما أنه حضر عقدا عند الوالي، فقال الوالي: هذا الموز أهداه لي فلان، وذكر رجلا من أهل الحلّ، فأكل جعفر الثنتين ثم تقيأهما في الدهليز.
ولما تولاها الصليحي سأله تولية القضاء، فقال: لا أصلح لها، فغضب وخرج من عنده، فأمر جنده أن يلحقوه ويقتلوه، فضربوه بسيوفهم، فلم تقطع شيئا مع تكرير الضرب، فأعلموا الصليحي، فأمرهم بالكتمان.
وسئل الفقيه عن حاله حين الضرب، فقال: كنت أقرأ يس فلم أشعر بذلك. قاله ابن الأهدل.
وفيها ابن ميمون الطّليطلي- بالضم والفتح والسكون وكسر الطاء الثانية، ولام نسبة إلى طليطلة، مدينة بالأندلس- أحمد بن محمد بن محمد بن عبيدة الأموي، أبو جعفر بن ميمون، كان أحد الحفّاظ المتقنين، والعلماء المتقين، والفقهاء الورعين المتزهدين. قاله ابن ناصر الدّين.
وفيها أبو محمد القصّار، عبد الوهاب بن أبي محمد، عبد الرحيم بن هبة الله القصّار، كان حافظا متقنا.
وفيها أبو نعيم الإسفراييني عبد الملك بن الحسن، راوي «المسند الصحيح» عن خال أبيه أبي عوانة الحافظ، وكان صالحا ثقة. ولد في ربيع الأول، سنة عشر وثلاثمائة، واعتنى به أبو عوانة وأسمعه كتابه، وعمّر فازدحم عليه الطلبة وأحضروه إلى نيسابور.
وفيها وقيل في التي بعدها- أبو الفتح البستي [1] الشاعر المفلق،
__________
[1] نقل المؤلف ترجمته عن «وفيات الأعيان» (3/ 376- 378) .(4/524)
علي بن محمد الكاتب شاعر وقته وأديب ناحيته صاحب الطريقة الأنيقة في التجنيس الأنيس البديع التأسيس، فمن ألفاظه البديعة قوله: من أصلح فاسده، أرغم حاسده. من أطاع غضبه أضاع أدبه. عادات السادات سادات العادات. من سعادة جدّك وقوفك عند حدّك. الرشوة رشاء الحاجات. أجمل الناس من كان للإخوان مذلّا [1] [وعلى السلطان مدلّا] . الفهم شعاع [2] العقل. المنيّة تضحك الأمنية. حدّ العفاف الرضا بالكفاف.
ومن نادر شعره:
إن هز أقلامه يوما ليعملها ... أنساك كلّ كميّ هز عامله [3]
وإن أقرّ على رق أنامله ... أقر بالرّق كتّاب الأنام له
وله:
إذا تحدثت في قوم لتؤنسهم ... بما تحدّث من ماض ومن آت
فلا تعيدنّ حديثا [4] إنّ طبعهم ... موكل بمعاداة المعادات
وله:
تحمّل أخاك على ما به ... فما في استقامته مطمع
وأنّى له خلق واحد ... وفيه طبائعه الأربع
وله حين تغيّر عليه السلطان:
قل للأمير أدام ربي عزّه ... وأناله من فضله مكنونه
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «مولى» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» وما بين حاصرتين مستدرك منه.
[2] في الأصل والمطبوع: «شجاع» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[3] في الأصل والمطبوع: «هز وابله» وما أثبته من «وفيات الأعيان» .
[4] في «وفيات الأعيان الأعيان» : «فلا تعد لحديث» .(4/525)
إني جنيت ولم تزل أهل النّهى ... يهبون للخدام ما يجنونه
ولقد جمعت من الذنوب [1] فنونها ... فاجمع من العفو الكريم فنونه
من كان يرجو عفو من هو فوقه ... عن ذنبه فليعف عمّن دونه
وله أيضا:
إذا أحسست في فهمي فتورا ... وحفظي والبلاغة والبيان
فلا ترتب بفهمي إن رقصي ... على مقدار إيقاع الزمان
وبالجملة فمحاسنه كثيرة وشعره في غاية اللطافة، رحمه الله تعالى.
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «من العيون» .(4/526)
تمّ بعون الله تعالى وتوفيقه تحقيق المجلد الرابع من «شذرات الذهب في أخبار من ذهب» للإمام ابن العماد الحنبلي الدمشقي، وذلك في عصر يوم الثلاثاء السابع عشر من شهر ربيع الآخر من عام 1408 هـ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. وأسأل الله العليّ القدير أن يعيننا على تحقيق بقية الكتاب بحوله وقوته، إنه تعالى خير مسؤول وخير معين.
محمود الأرناؤوط(4/527)
[المجلد الخامس]
كلمة للمحقّق
ها هو ذا المجلد الخامس من «شذرات الذّهب» ينضم إلى المجلدات الأربعة التي سبقته من طبعتنا هذه، التي أكرمني الله عزّ وجل بخدمتها. ولقد بذلت جهدي في سبيل الوصول بالكتاب إلى الصورة التي ترضي الله تعالى ثم ترضي العاملين بإخلاص على نشر ما ينفع النّاس من تراث الأمة، السّاعين إلى رفع سويّة أبنائها العلمية والثقافية والوصول بهم إلى مجد يحاكي مجد آبائهم الأولين.
وقد بذلت في سبيل إخراج هذه المجلدات الخمس- وهي نصف الكتاب- من ذوب روحي، وضياء عيني ما الله به أعلم، وواصلت الليل بالنهار وأنا أحقّق نصوصه، وأراجع ما أورده المؤلّف فيه من النقول على ما أمكنني الوقوف عليه من مصادره المطبوعة منها والمخطوطة.
ولقد وصلتني بعض المصادر الهامة متأخرة بسبب الظروف المعروفة للكتاب العربي والتي لم يسبق لأمة من الأمم أن عرفتها من قبل.
وكان لتوجيهات والدي وملاحظاته وإرشاداته السديدة النافعة الدور الأهم في وصول هذه المجلدات الخمس إلى ما وصلت إليه من الإتقان، والله أسأل أن يجزيه عنّي خير ما يجزي والدا عن ولده وأستاذا عن تلميذه.
كما كان لملاحظات عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة من خلّص(5/5)
الأصدقاء ممّن يمارسون فنّ التحقيق دورها أيضا في لفت نظري إلى أمور فاتني التنبّه لها، شأن كلّ من يتصدى لخدمة كتاب كبير كهذا الكتاب، جزاهم الله تعالى خيرا وأحسن إليهم.
وأرى من المفيد أن أنبّه إلى أنني آثرت- منذ هذا المجلد- أن أرمز لمصوّرة الأصل الخطي المعتمد في التحقيق بحرف «آ» وللطبعة السابقة بحرف «ط» رغبة في التقليل من الحواشي قدر الإمكان، وسوف أرمز لمصوّرة النسخة الخطية من كتاب «منتخب شذرات الذهب» لابن شقدة [1] ب «المنتخب» ابتداء من أول المجلد السادس، إذا دعت الضرورة إلى ذلك.
وختاما أكرر ما قلته في آخر مقدمتي للمجلد الأول [2] : إن هذا الكتاب هو في نهاية الأمر إرث لأفراد الأمة جميعهم، والنصح للقائمين على تحقيقه وإخراجه هو نصح للناطقين بالعربية في مشارق الأرض ومغاربها. راجيا من جميع العاملين في فنّ التحقيق وسواهم أن لا يبخلوا عليّ بملاحظاتهم وتصويباتهم، ولسوف أذكر أصحابها بالجميل في آخر الكتاب إن شاء الله.
اللهمّ إني أسألك أن تسدّد خطاي لما فيه الخير والفلاح في الدّنيا والآخرة، وأن تجعلني ممّن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
دمشق في غرّة شهر رمضان المبارك لعام 1408 هـ.
محمود الأرناؤوط
__________
[1] وقد تفضل بإرسالها لي صديقي الفاضل الدكتور خالد عبد الكريم جمعة مدير معهد المخطوطات العربية في الكويت حفظه الله تعالى ونفع به.
[2] ص (99) .(5/6)
سنة إحدى وأربعمائة
فيها أقام صاحب الموصل الدعوة ببلده للحاكم، أحد خلفاء الباطنيّة، لأن رسل الحاكم تكرّرت إلى صاحب الموصل قرواش بن مقلّد، فأفسدوه، ثم سار قرواش إلى الكوفة، فأقام بها الخطبة للحاكم وبالمدائن، وأمر خطيب الأنبار بذلك، فهرب، وأبدى قرواش صفحة الخلاف، وعاث وأفسد، فقلق القادر بالله، وأرسل إلى الملك بهاء الدولة مع ابن الباقلاني المتكلّم، فقال: قد كاتبنا أبا عليّ عميد الجيوش في ذلك، ورسمنا بأن ينفق في العسكر مائة ألف دينار، فإن دعت الحاجة إلى مجيئنا قدمنا. ثم إن قرواش بن مقلّد خاف الغلبة، فأرسل يتعذّر [1] ، وأعاد الخطبة العباسية، ولم يحجّ ركب العراق، لفساد الوقت.
وفيها توفي أبو علي، عميد الجيوش [2] ، الحسين بن أبي جعفر، وله إحدى وخمسون سنة، كان أبوه من حجّاب عضد الدولة، فخدم أبو علي بهاء الدولة [3] ، وترقّت حاله، فولّاه بهاء الدولة نائبا عنه بالعراق، فأحسن سياستها، وحمدت [4] أيامه، وبقي عليها ثمانية أعوام وسبعة أشهر، فأبطل عاشوراء الرافضة، وأباد الحرامية والشطّار، وقد جاء في عدله وهيبته حكايات.
__________
[1] في «العبر» «يعتذر» وكلاهما صواب. انظر «لسان العرب» و «مختار الصحاح» (عذر) .
[2] انظر «العبر» (3/ 76) .
[3] قوله: «فخدم أبو علي بهاء الدولة» سقط من «آ» وأثبته من «ط» .
[4] في «آ» و «ط» : و «حميت» وهو تحريف، والتصحيح من «العبر» (3/ 76) .(5/7)
وفيها أبو عمر بن المكوي، أحمد بن عبد الملك الإشبيلي المالكي [1] ، انتهت إليه رئاسة العلم بالأندلس في زمانه، مع الورع، والصيانة، دعي إلى القضاء بقرطبة مرتين فامتنع، وصنّف كتاب «الاستيعاب» في مذهب مالك، في عشر مجلدات، توفي فجأة، عن سبع وسبعين سنة.
وفيها أبو عمر بن الجسور، أحمد بن محمد بن أحمد بن سعيد الأموي مولاهم القرطبي [2] . روى عن قاسم بن أصبغ، وخلق، ومات في ذي القعدة، وهو أكبر شيخ لابن حزم.
وفيها أبو عبيد الهروي [3] ، أحمد بن محمد بن محمد، صاحب «الغريبين» وهو الكتاب المشهور، جمع فيه بين غريب القرآن وغريب الحديث، وهو من الكتب النافعة السائرة في الآفاق.
قال الإسنوي [4] : ذكره ابن الصلاح في «طبقاته» ولم يوضح حاله، وقد أوضحه ابن خلّكان [5] فقال: كان من العلماء الأكابر، صحب أبا منصور الأزهري وبه انتفع، وكان ينسب إلى تعاطي الخمر، توفي في رجب، سنة إحدى وأربعمائة، سامحه الله تعالى. انتهى كلام الإسنوي.
وفيها أبو بكر الحنّائي- نسبة إلى الحناء المعروف [6]- عبد الله بن محمد بن هلال البغدادي [7] الأديب، نزيل دمشق. روى عن يعقوب الجصّاص وجماعة، وكان ثقة.
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 76- 77) .
[2] انظر «العبر» (3/ 77) .
[3] انظر «العبر» (3/ 77) و «غربال الزمان» ص (337) .
[4] انظر «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 519) .
[5] انظر «وفيات الأعيان» (1/ 95- 96) .
[6] في «الأنساب» (4/ 244) : «نسبة إلى بيع الحناء» .
[7] انظر «العبر» (3/ 77) .(5/8)
وفيها عبد العزيز بن محمد بن النّعمان بن محمد بن منصور [1] ، قاضي القضاة للعبيديين، وابن قاضيهم، وحفيد قاضيهم. قتله الحاكم، وقتل معه قائد القوّاد حسين، ابن القائد جوهر، وبعث من حمل إليه رأس قاضي طرابلس [2] ، أبي الحسين علي بن عبد الواحد البرّي لكونه سلّم عزاز إلى متولي حلب.
وفيها أبو مسعود، إبراهيم بن محمد بن عبيد الدمشقي [3] كان حافظا، صدوقا، ديّنا، من الفهماء. قاله ابن ناصر الدّين.
وفيها أبو الحسن العلوي الحسني النيسابوري، محمد بن الحسين بن داود [4] شيخ الأشراف. سمع أبا حامد بن الشرقي، ومحمد بن إسماعيل المروزي صاحب علي بن حجر، وطبقتهما، وكان سيّدا، نبيلا، صالحا.
قال الحاكم: عقدت له مجلس الإملاء وانتقيت له ألف حديث، وكان يعدّ في مجلسه ألف محبرة، توفي فجأة في جمادى الآخرة، رحمه الله تعالى.
وفيها أبو علي الخالدي الذّهلي، منصور بن عبد الله الهروي [5] . روى عن أبي سعيد بن الأعرابي وطائفة.
قال أبو سعيد الإدريسي: هو كذاب.
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 77) .
[2] في «ط» : «أطرابلس» ، وطرابلس المقصودة هي «طرابلس الشام» .
[3] انظر «التبيان شرح بديعة البيان» لابن ناصر الدّين (139/ ب) مصوّرة عن مخطوطة المتحف البريطاني، و «تذكرة الحفاظ» (3/ 1068- 1070) و «طبقات الحفّاظ» ص (416- 417) .
[4] انظر «العبر» (3/ 78) .
[5] انظر «العبر» (3/ 78) .(5/9)
سنة اثنتين وأربعمائة
فيها كتب محضر ببغداد في قدح النّسب الذي تدّعيه خلفاء مصر، والقدح في عقائدهم، وأنهم زنادقة، وأنهم منسوبون إلى ديصان بن سعيد الخرّمي، إخوان الكافرين، شهادة يتقرّب بها إلى الله، شهدوا جميعا أن الناجم بمصر، وهو منصور بن نزار الملقب بالحاكم، حكم الله عليه بالبوار [والخزي والنكال] [1] ، إلى أن قال: فإنه صار- يعني المهدي- إلى المغرب، وتسمى [2] بعبيد الله، وتلقّب بالمهدي، وهو ومن تقدّمه من سلفه [3] الأنجاس، أدعياء خوارج، لا نسب لهم في ولد عليّ رضي الله عنهم، ولا يعلمون أن أحدا من الطالبيين توقف عن إطلاق القول في هؤلاء الخوارج، أنهم [4] أدعياء، وقد كان هذا الإنكار شائعا بالحرمين، وأن هذا الناجم بمصر وسلفه كفّار وفسّاق، لمذهب الثّنويّة والمجوسية معتقدون [5] ، قد عطّلوا الحدود، وأباحوا الفروج، وسفكوا الدماء، وسبّوا الأنبياء، ولعنوا السّلف، وادّعوا الربوبيّة، وكتب في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعمائة،
__________
[1] زيادة من «المنتظم» (7/ 355) و «النجوم الزاهرة» (4/ 229) .
[2] في «آ» و «المنتظم» و «النجوم الزاهرة» : «تسمى» وأثبت لفظ «ط» و «العبر» مصدر المؤلف في نقله.
[3] في «ط» «من سلف» .
[4] في «آ» و «ط» : «لأنهم» وما أثبته من «العبر» و «النجوم الزاهرة» .
[5] في «آ» و «ط» : «معتدون» وما أثبته من «العبر» و «النجوم الزاهرة» وانظر «المنتظم» .(5/10)
وكتب خلق في المحضر، منهم: الشريف المرتضى، وأخوه الشريف الرضي، وجماعة من كبار العلوية، والقاضي أبو محمد ابن الأكفاني، والإمام أبو حامد الإسفراييني، والإمام أبو الحسين القدوري، وخلق.
وفيها عمل يوم الغدير ويوم الغار، لكن بسكينة.
وفيها توفي الوزير أحمد بن سعيد بن حزم، أبو عمر [1] الأندلسي، والد العلّامة أبي محمد، كان كاتبا، منشئا [2] لغويّا، متبحّرا في علم اللسان [3] .
وفيها أبو الحسين السّوسنجردي- بالضم وفتح السين المهملة الثانية، وسكون النون والراء وكسر الجيم، آخره مهملة نسبة إلى سوسنجرد قرية ببغداد [4]- أحمد بن عبد الله بن الخضر البغدادي [5] المعدّل. روى عن ابن البختري [6] وجماعة، وكان ثقة، صاحب سنّة.
وفيها قاضي الجماعة، أبو المطرّف عبد الرّحمن بن محمد بن فطيس الأندلسي القرطبي [7] صاحب التصانيف الطنّانة، منها: كتاب «أسباب النزول» في مائة جزء، وكتاب «فضائل الصحابة والتابعين» في مائتين وخمسين جزءا، وكان من جهابذة الحفّاظ والمحدّثين، جمع ما لم يجمعه أحد من أهل عصره بالأندلس، وكان يملي من حفظه، وقيل: إن كتبه بيعت بأربعين ألف دينار قاسميّة، وولي القضاء والخطابة سنة أربع وتسعين وثلاثمائة، وعزل بعد تسعة
__________
[1] في «آ» و «ط» : «أبو عمرو» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» (3/ 163) وانظر «جذوة المقتبس» ص (126) و «بغية الملتمس» ص (181) .
[2] في «آ» و «ط» : «مفتيا» والتصحيح من «العبر» .
[3] الذي في العبر: «علم البيان» . (ع) .
[4] انظر «معجم البلدان» (3/ 281) .
[5] مترجم في «الأنساب» (7/ 189) وقد تحرّفت كنيته فيه إلى «أبي الحسن» فتصحّح، وانظر «تاريخ بغداد» (4/ 237) و «العبر» (3/ 80) .
[6] في «آ» و «ط» : «ابن البحيري» وهو خطأ، والتصحيح من «الأنساب» و «العبر» .
[7] انظر «العبر» (3/ 80- 81) .(5/11)
أشهر، وقد ولّي الوزارة أيضا، وتوفي في ذي القعدة وله أربع وخمسون سنة، وسمع من أحمد بن عون وطبقته.
وفيها الحسين بن علي بن العبّاس بن الفضل بن زكريا بن النّضر بن شميل بن سويد النّضري الهروي [1] . كان حافظا مشهورا عمدة. قاله ابن ناصر الدّين.
وفيها أبو إسحاق، إبراهيم بن محمد بن حسين بن شنظير الأموي [2] ، أبو إسحاق، كان حافظا، ذا ورع وصيام وقيام كثير. قاله ابن ناصر الدّين أيضا.
وفيها أبو عمرو عثمان الباقلّاني- نسبة إلى بيع الباقلّاء- البغدادي [3] الزاهد، كان عابد أهل زمانه في بغداد [4] رحمه الله تعالى.
وفيها أبو الحسن السامريّ الرّفّاء، علي بن أحمد [5] ، صالح، ثقة.
روى عن إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي [6] .
وفيها أبو الحسن الدّاراني، علي بن داود القطّان [7] المقرئ. حدّث عن خيثمة، وقرأ على ابن النّضر الأخرم، وولي إمامة جامع دمشق.
قال رشأ بن نظيف: لم ألق مثله حذقا وإتقانا في رواية ابن عامر، وهو
__________
[1] انظر «التبيان شرح بديعة البيان» لابن ناصر الدّين (140/ ب) .
[2] انظر «التبيان شرح بديعة البيان» (140/ ب) ، و «تذكرة الحفاظ» (3/ 1092) و «طبقات الحفاظ» ص (422) .
[3] انظر «العبر» (3/ 81) .
[4] في «ط» : «كان عابد أهل بغداد في زمانه» .
[5] انظر «الأنساب» (7/ 15) و «العبر» (3/ 81) .
[6] سقطت هذه الترجمة بكاملها من «ط» .
[7] انظر «العبر» (3/ 81) ، و «معرفة القراء الكبار» (1/ 366- 367) .(5/12)
الذي طلّع كبراء دمشق، وطلبوه لإمامة الجامع فوثب أهل داريا بالسلاح فمانعوهم، وقالوا: لا ندع لكم إمامنا حتّى يقدّم أبو محمد بن أبي نصر، فقال: أما ترضون أن يسمع الناس في البلاد، أن أهل دمشق احتاجوا إليكم في إمام؟ فقالوا: رضينا، فقدّمت له بغلة القاضي، فأبى وركب حماره، وسكن في المنارة [الشرقية] [1] ، وكان لا يأخذ على الصلاة ولا الإقراء أجرا، ويقتات من أرض له.
وفيها أبو الفتح فارس بن أحمد الحمصي [2] ، المقرئ الضرير، أحد أعلام القرآن. أقرأ بمصر عن عبد الباقي بن السقا، والسامرّي، وجماعة، وصنّف «المنشأ في القراءات [الثمان] [3] » وعاش ثماني وستين سنة.
وفيها ابن جميع، أبو الحسين محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد الغسّاني [4] الصيداوي، صاحب «المعجم» المروي. رحل وكتب الكثير بالشام، والعراق، ومصر، وفارس. روى عن أبي روق الهزّاني، والمحاملي، وطبقتهما، ومات في رجب، وله سبع وتسعون سنة، وسرد الصوم، وله ثمان عشرة سنة إلى أن مات، ووثقه الخطيب.
وفيها ابن النجّار أبو الحسن محمد بن جعفر بن محمد بن هارون التميمي الكوفي [5] النحوي المقرئ. آخر من حدّث في الدّنيا عن محمد بن الحسين الأشناني، وابن دريد.
__________
[1] زيادة من «معرفة القرّاء الكبار» .
[2] انظر «العبر» (3/ 82) و «معرفة القرّاء الكبار» (1/ 379) .
[3] ما بين حاصرتين زيادة من «معرفة القرّاء الكبار» و «حسن المحاضرة» (1/ 492) وانظر «كشف الظنون» (2/ 1861) .
[4] في «ط» : «العسالي» وهو خطأ، والصواب ما جاء في «آ» وهو مترجم في «العبر» (3/ 82) وانظر «الأنساب» (9/ 150) .
[5] انظر «العبر» (3/ 82) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 100- 101) .(5/13)
قال العتيقي: هو ثقة، توفي بالكوفة في جمادى الأولى.
وقال الأزهري: كان مولده في سنة ثلاث وثلاثمائة في المحرم.
وفيها ابن اللبّان الفرضيّ [1] العلّامة أبو الحسين محمد بن عبد الله بن الحسن البصري. روى «سنن أبي داود» عن ابن داسه، وسمعها منه القاضي أبو الطيب الطبري.
قال الخطيب [2] : انتهى إليه علم الفرائض، وصنّف فيه كتبا. انتهى.
وكان يقول: ليس في الأرض فرضيّ إلّا من أصحابي وأصحاب أصحابي، أو لا يحسن شيئا.
قال الإسنوي [3] : نقل عنه الرافعي في مواضع، منها: أن زكاة الفطر لا تجب.
وكذا قال ابن قاضي شهبة، وقال أيضا: انتهى إليه علم الفرائض، وصنّف فيه كتبا، منها كتاب «الإيجاز» مجلد نفيس، وكتبا كثيرة، ليس لأحد مثلها، ولديه علوم أخر، وبنيت له مدرسة ببغداد، وكان يدرّس بها.
قال الشيخ أبو إسحاق [4] : كان إماما في الفقه والفرائض، وعنه أخذ الناس الفرائض، وممّن أخذ عنه أبو أحمد بن أبي مسلم الفرضي، أستاذ أبي حامد الإسفراييني في الفرائض. انتهى ملخصا.
وفيها أبو عبد الله الجعفي، محمد بن عبد الله بن الحسين الكوفي القاضي، المعروف بالهرواني [5]- نسبة إلى هراة مدينة ...
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 82- 83) و «غربال الزمان» ص (338) .
[2] انظر «تاريخ بغداد» (5/ 472) .
[3] انظر «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 363) .
[4] انظر «طبقات الفقهاء» للشيرازي ص (120) .
[5] انظر «العبر» (3/ 83) .(5/14)
بخراسان [1]- أحد الأئمة الأعلام في مذهب الإمام أبي حنيفة. روى عن محمد بن القاسم المحاربي [2] وجماعة.
قال الخطيب [3] : قال من عاصره بالكوفة: لم يكن بالكوفة من زمن ابن مسعود رضي الله عنه إلى وقته أحد [4] أفقه منه.
وقال العتيقي [5] : ما رأيت مثله بالكوفة.
وقال في «العبر» : ولد سنة خمس وثلاثمائة، وقد قرأ عليه أبو علي غلام الهرّاس.
وفيها منتجب الدولة، لؤلؤ الشراوي [6] ولي نيابة. دمشق للحاكم، وعزل بعد ستة أشهر، ولما همّوا بالقبض عليه من دار العقيقي، وكان نازلا بها، عبأ أصحابه، ووقع القتال بالبلد بين الفريقين إلى العتمة، وقتل جماعة ثم طلع لولو من سطح فاختفى، فنودي عليه في البلد: من جاء به فله ألف دينار، فدلّ عليه رجل وحبس، فجاء أمر الحاكم بقتله، فقتل.
وفيها ابن وجه الجنّة [7] ، أبو بكر، يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود القرطبي الخزّاز، شيخ ابن حزم. روى عن قاسم بن أصبغ وطائفة، وكان عدلا صالحا.
__________
[1] قلت: وقال ابن الأثير في «اللباب» (3/ 386) : «الهرواني» : هذه النسبة عرف بها صاحب الترجمة.
[2] في «آ» : «الجاري» وأثبت ما في «ط» وهو الصواب كما في «اللباب» .
[3] انظر «تاريخ بغداد» (5/ 472) .
[4] لفظة «أحد» لم ترد في «ط» و «تاريخ بغداد» ووردت في «آ» و «العبر» .
[5] في «ط» و «العبر» : «وقال لي العتيقي» .
[6] في «العبر» : «السمراوي» وهو مترجم فيه (3/ 83) .
[7] انظر «العبر» (3/ 84) والتعليق عليه.(5/15)
سنة ثلاث وأربعمائة
فيها سبق رجل بدويّ اسمه [أبو] فليتة بن القوي [1] الحاج إلى واقصة في ستمائة إنسان من بني خفاجة، قبيلته، فغوّر المياه، وطرح الحنظل في مصانع البرمكي والريان، وغورهما، فلما جاء الركب إلى العقبة حبسهم ومنعهم العبور، إلا بخمسين ألف دينار، فخافوا وضعفوا وعطشوا، فهجم الملعون عليهم، فلم تكن عندهم منعة، وسلّموا أنفسهم، فاحتوى على الجمال بالأحمال، فاستاقها وهلك الركب، إلا القليل، فقيل: إنه هلك خمسة عشر ألف إنسان، فأمر فخر الدولة الوزير علي بن مزيد، فسار، فأدركهم بناحية البصرة، فظفر بهم، وقتل طائفة كثيرة، وأسر ابن القوي أبا فليتة [2] والأشتر، وأربعة عشر رجلا، ووجد أموال الناس قد تمزقت [3] ، فانتزع ما أمكنه، فعطّشوا الأسرى على جانب دجلة، يرون الماء ولا يسقون، حتّى هلكوا.
وفيها توفي أبو القاسم إسماعيل بن الحسن الصّرصري [4]- بفتح
__________
[1] في «آ» و «ط» : «ابن القرى» والتصحيح من «المنتظم» (7/ 260- 261) وما بين حاصرتين مستدرك منه، وفي «العبر» «فليته بن الخفاجي» . انظر «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (11/ 9) و «العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين» للفاسي (7/ 20) و «تاج العروس» (5/ 32) و «البداية والنهاية» (11/ 347) .
[2] في «آ» و «ط» و «العبر» : «وأسروا والدفليتة» والتصحيح من «المنتظم» (7/ 261) .
[3] في «آ» و «ط» : «تمزعت» وما أثبتناه من «المنتظم» و «العبر» .
[4] انظر «العبر» (3/ 85) .(5/16)
الصادين المهملتين، نسبة إلى صرصر، قرية على فرسخين من بغداد- سمع أبا عبد الله المحاملي، وابن عقدة.
قال البرقاني: ثقة، صدوق.
وفيها بهاء الدولة، السلطان أبو نصر بن السلطان عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه الديلمي [1] صاحب العراق وفارس، توفي بأرّجان في جمادى الأولى، وله اثنتان وأربعون سنة، وكانت أيامه بضعا وعشرين سنة، ومات بعلّة الصّرع، وولي بعده ابنه سلطان الدولة، فبقي في الملك اثني عشر عاما.
وفيها الحسن بن حامد بن علي بن مروان، أبو عبد الله البغدادي [2] ، إمام الحنبلية في زمانه ومدرّسهم ومفتيهم.
قال القاضي أبو يعلى: كان ابن حامد مدرّس أصحاب أحمد وفقيههم في زمانه، وله المصنفات العظيمة، منها: كتاب «الجامع» نحو أربعمائة جزء في اختلاف العلماء، وكان معظّما مقدّما عند الدولة وغيرهم [3] .
وقال غيره: روى عن النّجّاد وغيره، وتفقّه على أبي بكر عبد العزيز، وكان قانعا، يأكل من النسخ، ويكثر الحجّ، فلما كان في هذا العام حجّ وعدم فيمن عدم، إذا أخذ الركب. قاله في «العبر» .
وقال القاضي حسين [4] في «طبقاته» : له المصنفات في العلوم المختلفات، منها «الجامع في المذهب» نحو من أربعمائة جزء، وله «شرح الخرقي» و «شرح أصول الدّين» و «أصول الفقه» . سمع أبا بكر بن مالك، وأبا
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 85- 86) .
[2] انظر «طبقات الحنابلة» (2/ 171- 178) ، و «العبر» (3/ 86) ، و «المنهج الأحمد» (2/ 98- 101) طبعة نويهض.
[3] الذي في العبر: «عند الدولة والعامة» . (ع) .
[4] كذا قال المؤلف وهو وهم منه فهو ينقل عن «طبقات الحنابلة» لابن أبي يعلى.(5/17)
بكر الشافعي، وأبا بكر النّجّاد، وأبا علي بن الصوّاف، وأحمد بن الختلي [1] في آخرين.
وقال أبو عبد الله بن حامد: اعلم- عصمنا الله وإيّاك من كل زلل- أن الناقلين عن أبي عبد الله رضي الله عنه- ممّن سمّيناهم وغيرهم- أثبات فيما نقلوه، وأمناء فيما دوّنوه، وواجب تقبّل كل ما نقوله، وإعطاء كل رواية حظها على موجبها، ولا تعل رواية وإن انفردت [ولا تنفى عنه، وإن عزبت] [2] ، ولا ينسب إليه في مسألة رجوع إلا ما وجد ذلك عنه نصا بالصريح، وإن نقل كنت أقول به وتركناه، فإن عري عن حدّ الصريح في التّرك والرجوع أقرّ على موجبه واعتبر حال الدليل فيه لا اعتقاده بمثابة ما اشتهر من روايته.
وقد رأيت بعض من يزعم أنه منتسب إلى الفقه يليّن القول في كتاب إسحاق بن منصور، ويقول: إنه يقال: إن أبا عبد الله رجع عنه، وهذا قول من لا ثقة له بالمذهب إذ لا أعلم أن أحدا من أصحابنا قال بما ذكره، ولا أشار إليه.
وكتاب ابن منصور، أصل بداية [3] حاله يطابق نهاية شأنه، إذ هو في بدايته سؤالات محفوظة، ونهايته، أنه عرض على أبي عبد الله، فاضطرب، لأنه لم يكن يقدّر أنه لما سأله [4] عنه مدوّن، فما أنكر عليه من ذلك حرفا، ولا ردّ عليه من جواباته جوابا، بل أقرّه على ما نقله [أو وصف ما رسمه] [5] واشتهر في حياة أبي عبد الله ذلك بين أصحابه، فاتخذه الناس أصلا إلى آخر أوانه.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «الحنبلي» وهو خطأ، والتصحيح من «طبقات الحنابلة» . وانظر «سير أعلام النبلاء» (17/ 203) .
[2] ما بين حاصرتين زيادة من «طبقات الحنابلة» (2/ 174) .
[3] في «آ» و «ط» : «أصل بذاته» والتصحيح من «طبقات الحنابلة» .
[4] في «طبقات الحنابلة» : «يسأله» .
[5] زيادة من «طبقات الحنابلة» .(5/18)
ولابن حامد المقام المشهود في أيام القادر، وقد ناظر أبا حامد الإسفراييني في وجوب الصيام ليلة الغمام في دار القادر بالله، بحيث يسمع [1] الخليفة الكلام، فخرجت الجائزة السنية له من أمير المؤمنين فردّها مع حاجته إلى بعضها فضلا عن جميعها تعففا وتنزها. انتهى ما قاله القاضي حسين ملخصا.
وفيها القاضي أبو عبد الله الحليمي الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم البخاري [2] ، الفقيه الشافعي، صاحب التصانيف. أخذ عن أبي بكر القفّال الشاشي، وهو صاحب وجه في المذهب.
قال ابن قاضي شهبة: قال الحاكم: أوحد الشافعيين بما وراء النهر، وأنظرهم وآدبهم بعد أستاذيه أبوي بكر، القفّال، والأودني، وكان مفننا فاضلا، له مصنفات مفيدة، نقل منها الحافظ أبو بكر البيهقي كثيرا.
وقال في «النهاية» : كان الحليمي رجلا عظيم القدر، لا يحيط بكنه علمه إلا غوّاص، ولد سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة، ومات في جمادى، وقيل:
في ربيع الأول، ومن تصانيفه «شعب الإيمان» [3] كتاب جليل في نحو ثلاث مجلدات، وآيات الساعة، وأحوال القيامة، فيه معان غريبة لا توجد في غيره.
انتهى ما قاله ابن قاضي شهبة ملخصا.
وفيها أبو علي الرّوذباري الحسين بن محمد الطوسي [4] . راوي «السنن» [5] عن ابن داسة، توفي في ربيع الأول وأكثر عنه البيهقي.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «بحيث سمع» وما أثبته من «طبقات الحنابلة» .
[2] انظر «العبر» (3/ 86) .
[3] واسمه «المنهاج في شعب الإيمان» وقد طبع في ثلاث مجلدات في دار الفكر ببيروت بعناية الأستاذ حلمي محمد فودة.
[4] انظر «الأنساب» (6/ 180) و «العبر» (3/ 87) .
[5] يعني «سنن أبي داود» .(5/19)
وفيها أبو الوليد الفرضيّ عبد الله بن محمد بن يوسف القرطبي [1] الحافظ، مؤلف «تاريخ الأندلس» .
قال ابن عبد البرّ: كان فقيها عالما في جميع فنون العلم في الحديث والرجال، قتلته البربر في داره.
وقال أبو مروان بن حيّان: وممّن قتل يوم فتح قرطبة الفقيه الأديب الفصيح ابن الفرضي، وواروه من غير غسل ولا كفن ولا صلاة، ولم ير مثله بقرطبة في سعة الرواية وحفظ الحديث والافتنان في العلوم والأدب البارع، ولي قضاء بلنسية، وكان حسن البلاغة والخط [2] ، وروي أنه تعلق بأستار الكعبة، وسأل الله الشهادة.
قال في «العبر» [3] : وعاش اثنتين وخمسين سنة.
وقال ابن ناصر الدّين: كان حافظا من الثقات.
وفيها أبو الحسن القابسي علي بن محمد بن خلف المعافري القيرواني [4] الفقيه، شيخ المالكية. أخذ عن ابن مسرور الدباغ، وفي الرحلة عن حمزة الكناني [5] وطائفة، وصنّف تصانيف فائقة في الأصول والفروع، وكان مع تقدمه في العلوم حافظا، صالحا، تقيّا، ورعا، حافظا للحديث وعلله، منقطع القرين، وكان ضريرا.
وفيها ابن الباقلّاني [6] القاضي أبو بكر محمد بن الطيّب بن محمد بن
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (3/ 105- 106) و «العبر» (3/ 87) و «التبيان شرح بديعة البيان» لابن ناصر الدّين (141/ آ) واسم كتابه «تاريخ العلماء والرواة بالأندلس» وهو من مصادر المؤلف.
[2] في «آ» و «ط» : «والحفظ» والتصحيح من «تذكرة الحفاظ» للذهبي (3/ 1077) .
[3] انظر «العبر» (3/ 87) .
[4] انظر «ترتيب المدارك وتقريب المسالك» للقاضي عياض (1/ 616- 621) و «العبر» (3/ 87- 88) .
[5] في «آ» و «ط» : «الكتاني» وهو خطأ، والتصحيح من «ترتيب المدارك» و «العبر» .
[6] انظر «ترتيب المدارك» (1/ 585- 602) و «العبر» (3/ 88) .(5/20)
جعفر البصري المالكي الأصولي، المتكلم صاحب المصنّفات، وأوحد وقته في فنه. روى عن أبي بكر القطيعي، وأخذ علم النظر عن أبي عبد الله بن مجاهد الطائي صاحب الأشعري، وكانت له بجامع المنصور حلقة عظيمة.
قال الخطيب [1] : كان ورده في الليل [2] عشرين ترويحة في الحضر والسفر [3] ، فإذا فرغ منها كتب خمسا وثلاثين ورقة من تصنيفه. قاله في «العبر» .
وقال ابن الأهدل: سيف السّنّة، القاضي أبو بكر محمد بن الطيب، المشهور بابن [4] الباقلّاني الأصولي الأشعري المالكي، مجدد الدّين على رأس المائة الرابعة على الصحيح، وقيل: جدد بأبي سهل الصّعلوكي. صنّف ابن الباقلّاني تصانيف واسعة في الرد على الفرق الضالّة.
حكي أن ابن المعلّم متكلّم الرافضة قال لأصحابه- يوما وقد أقبل ابن الباقلاني-: جاءكم الشيطان، فلما جلس ابن الباقلّاني قال: قال الله تعالى:
أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا 19: 83 [مريم: 83] .
وكان ورعا لم تحفظ عنه زلّة ولا نقيصة، وكان باطنه معمورا بالعبادة، والديانة، والصيانة.
وقال الطائي: رأيته في النوم بعد موته وعليه ثياب حسنة في رياض خضرة نضرة، وسمعته يقرأ: في عِيشَةٍ راضِيَةٍ في جَنَّةٍ عالِيَةٍ 69: 21- 22 [الحاقة:
21- 22] ورأيت قبل ذلك حسن حالهم، فقلت: من أين جئتم؟ فقالوا: من الجنّة من زيارة القاضي أبي بكر. انتهى ملخصا.
وقال ابن تيمية: القاضي أبو بكر محمد بن الطيّب الباقلّاني
__________
[1] انظر «تاريخ بغداد» (5/ 380) .
[2] كذا في «آ» و «ط» : «في الليل» وفي «تاريخ بغداد» : «في كل ليلة» .
[3] عبارة الخطيب البغدادي في «تاريخه» (5/ 380) : «ما يتركها في حضر ولا سفر» . (ع) .
[4] قوله: «المشهور بابن» سقط من «آ» وأثبته من «ط» .(5/21)
المتكلم، وهو أفضل المتكلمين المنتسبين إلى الأشعري، ليس فيهم مثله، لا قبله ولا بعده.
قال في كتاب «الإبانة» تصنيفه: فإن قال قائل: فما الدليل على أن لله وجها ويدا؟ قيل له: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ 55: 27 [الرّحمن: 27] وقوله تعالى: ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ 38: 75 [ص: 75] فأثبت لنفسه وجها ويدا، فإن قال: فما أنكرتم أن يكون وجهه ويده جارحة؟ قلنا: لا يجب هذا، كما لا يجب إذا لم نعقل حيّا عالما قادرا إلّا جسما أن نقضي نحن وأنتم بذلك على الله سبحانه وتعالى، وكما لا يجب في كل شيء كان قائما بذاته أن يكون جوهرا لأنّا وإيّاكم لا نجد قائما بنفسه في شاهدنا إلّا كذلك، وكذلك الجواب لهم إن قالوا: فيجب أن يكون علمه، وحياته، وسمعه، وبصره، وسائر صفاته، عرضا، واعتلوا بالوجود.
قال: فإن قال: فهل تقولون: إنه في كل مكان؟ قيل له: معاذ الله، بل هو مستو على عرشه كما أخبر في كتابه فقال: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى 20: 5 [طه: 5] وقال تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ 35: 10 [فاطر: 10] وقال تعالى: أَأَمِنْتُمْ من في السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ 67: 16 [الملك: 16] أَمْ أَمِنْتُمْ من في السَّماءِ 67: 17 [المُلك: 17] قال: ولو كان في كل مكان، لكان في بطن الإنسان وفمه، والحشوش [1] والمواضع التي يرغب عن ذكرها، ولوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة وينقص ينقصانها. انتهى ملخصا، فرحمه الله تعالى ورضي عنه.
وفيها أبو بكر الخوارزمي [2] محمد بن موسى شيخ الحنفية، ومن انتهت إليه رئاسة المذهب في الآفاق. أخذ عن أبي بكر أحمد بن علي
__________
[1] جمع «حش» وهو المخرج. انظر «القاموس المحيط» و «المختار الصحاح» : (حشش) .
[2] انظر «العبر» (3/ 88- 89) .(5/22)
الرّازي، وسمع من أبي بكر الشافعي.
قال البرقاني: سمعته يقول: ديننا دين العجائز، ولسنا من الكلام في شيء.
وقال القاضي الصّيمري: ما شاهد الناس مثل شيخنا أبي بكر الخوارزمي في حسن الفتوى وحسن التدريس، دعي إلى القضاء مرة [1] فامتنع، وتوفي في جمادى الأولى. قاله في «العبر» .
وفيها أبو رماد الرّمادي شاعر الأندلس يوسف بن هارون القرطبي الكندي [2] الأديب. أخذ عن أبي علي القالي وغيره. وكان فقيرا معدما، ومنهم من يلقبه بأبي حنيش [3] .
قال الحميدي في كتاب «جذوة المقتبس» [4] : أظن أحد آبائه كان من أهل رمادة، موضع بالمغرب، وهو شاعر قرطبي كثير الشعر، سريع القول، مشهور عند الخاصّة والعامّة هنالك لسلوكه في فنون كثيرة من المنظوم مسالك. نفق عند الكل، حتّى كان كثير من شيوخ الأدب في وقته يقولون:
فتح الشعر بكندة، وختم بكندة، يعنون امرأ القيس، ويوسف بن هارون، والمتنبي، وكانا متعاصرين، وصنّف كتابا في الطير، وسجن مدة.
ومدح أبا [عليّ] إسماعيل [بن القاسم] القالي عند دخوله الأندلس في سنة ثلاثين وثلاثمائة بقصيدة طنّانة منها:
__________
[1] في «العبر» : «مرارا» .
[2] انظر «العبر (3/ 89) وقد كنّي في معظم المصادر الأخرى بأبي عمر، وانظر ما قاله الأستاذ الدكتور رضوان الداية في تعليقه على «رايات المبرزين وغايات المميزين» لأبي الحسن علي ابن موسى بن سعيد الأندلسي ص (135) طبع دار طلاس بدمشق.
[3] وجاء في تعليق الأستاذ الدكتور رضوان الداية على «رايات المبرزين» : «جنيش» (بالجيم) الرّماد.
[4] ص (369- 373) وقد نقل المؤلف عن «وفيات الأعيان» (7/ 225- 227) بتصرّف وما بين حاصرتين في النقل زيادة منه.(5/23)
من حاكم بيني وبين عذولي ... الشجو شجوي والعويل عويلي
في أي جارحة أصون معذّبي ... سلمت من التعذيب والتنكيل
إن قلت في بصري فثمّ مدامعي ... أو قلت في كبدي فثمّ غليلي
وثلاث شيبات نزلن بمفرقي ... فعلمت أن نزولهنّ رحيلي
طلعت ثلاث في نزول ثلاثة ... واش ووجه مراقب وثقيل
فعزلنني عن صبوتي فلئن ذلل ... ت لقد سمعت بذلة المعزول
ومنها في المديح:
روض تعاهده السحاب كأنّه ... متعاهد من عهد إسماعيل
قسه إلى الأعراب تعلم أنّه ... أولى من الأعراب بالتفضيل
حازت قبائلهم لغات فرقت ... فيهم، وحازت لغات كلّ قبيل
فالشرق خال بعده فكأنما ... نزل الخراب بربعه المأهول
فكأنّه شمس بدت في غربنا ... وتغيبت عن شرقهم بأفول
يا سيدي هذا ثنائي لم أقل ... زورا ولا عرّضت بالتنويل
من كان يأمل نائلا فأنا امرؤ ... لم أرج غير القرب من تأميلي
وله في غلام ألثغ من جملة أبيات قوله:
لا الراء تطمع في الوصال ولا أنا ... الهجر يجمعنا فنحن سواء
فإذا خلوت كتبتها في راحتي ... وبكيت منتحبا أنا والراء
وله فيه أيضا:
أعد لثغة في الراء لو أن واصلا ... تسمّعها ما أسقط الراء واصل
وقال ابن بشكوال في كتاب «الصلة» [1] : يوسف بن هارون الرّمادي الشاعر، من أهل قرطبة، يكنى أبا عمر، كان شاعر أهل الأندلس المشهور
__________
[1] (2/ 674) .(5/24)
المقدّم [1] ذكره على الشعراء. روى عن أبي علي البغدادي- يعني القالي- كتاب «النوادر» من تأليفه، وقد أخذ عنه أبو عمر بن عبد البرّ قطعة من شعره رواها عنه وضمنها بعض تآليفه.
قال ابن حيّان [2] : وتوفي يوم العنصرة، فقيرا معدما، ودفن بمقبرة كلع.
انتهى كلامه.
ويوم العنصرة: [هو] رابع عشري حزيران، وهو موسم للنصارى مشهور ببلاد الأندلس، وفي هذا اليوم حبس الله تعالى الشمس على يوشع بن نون عليه السلام، وفيه ولد يحيى بن زكريا عليهما السلام.
__________
[1] في «الصلة» : «والمقدم» . (ع)
[2] في «آ» و «ط» : «ابن حبان» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .(5/25)
سنة أربع وأربعمائة
فيها توفي أبو الفضل السّليماني الحافظ [1] ، وهو أحمد بن علي بن عمر البيكندي- نسبة إلى بيكند، بلد على مرحلة من بخارى- البخاري محدّث تلك الدّيار، طوّف وسمع الكثير، وأكثر عن علي بن إسحاق المادرائي، والأصم، وطبقتهما، وجمع وصنّف.
قال ابن نصار الدّين: كان إماما حافظا من الثقات. وتوفي في ذي القعدة وله ثلاث وتسعون سنة.
وفيها أبو الطيب الصّعلوكي [2] سهل بن الإمام أبي سهل محمد بن سليمان العجلي النيسابوري الشافعي، مفتي خراسان، ومجدّد القرن الرابع على قول. روى عن الأصمّ وجماعة.
قال الحاكم: هو أنظر من رأينا.
وقال ابن خلّكان: كان أبو الطيب المذكور مفتي نيسابور وابن مفتيها.
أخذ الفقيه عن أبيه أبي سهل الصّعلوكي، وكان في وقته يقال له: الإمام، وهو متفق عليه، عديم المثل في علمه وديانته، وسمع أباه، ومحمد بن يعقوب
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 89- 90) ، و «طبقات الشافعية» للسبكي (4/ 41) ، و «التبيان شرح بديعة البيان» لابن ناصر الدّين (141/ آ) .
[2] انظر «وفيات الأعيان» (2/ 435- 436) و «العبر» (3/ 90) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 207- 209) ، وقد تحرّفت نسبته في «آ» إلى «الصعلوك» .(5/26)
الأصم، وابن مطر [1] وأقرانهم، وكان فقيها أديبا متكلما، خرجت له الفوائد من سماعاته، وقيل: إنه وضع له في المجلس أكثر من خمسمائة محبرة، وجمع رئاسة الدّنيا والآخرة، وأخذ عنه فقهاء نيسابور، وتوفي في المحرم.
قال عبد الواحد اللّخمي: أصاب سهل الصعلوكي رمد [2] فكان الناس يدخلون عليه وينشدونه من النظم ويروون من الآثار ما جرت العادة به، فدخل الشيخ أبو عبد الرحمن السّلمي وقال: أيها الإمام، لو أن عينيك رأتا وجهك لما [3] رمدت فقال له الشيخ سهل: ما سمعت بأحسن من هذا الكلام، وسرّ به.
ولما مات والده، كتب إليه أبو النضر عبد الجبّار يعزّيه في والده رحمه الله تعالى:
من مبلغ شيخ أهل العلم قاطبة ... عني رسالة محزون وأوّاه
أولى البرايا بحسن الصّبر ممتحنا ... من كان فتياه توقيعا عن الله
انتهى ما أورده ابن خلّكان ملخصا.
وقال ابن القاضي شبهة [4] : نقل عنه الرافعي وعن والده أنهما قالا: إن طلاق السكران لا يقع.
وسئل سهل عن الشطرنج فقال: إذا سلم المال من الخسران والصلاة من [5] النسيان، فذلك أنس بين الإخوان، وكتبه سهل بن محمد بن سليمان.
وله ألفاظ حسنة منها: من تصدّر قبل أوانه فقد تصدى لهوانه.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «ابن مسطور» وفي «وفيات الأعيان» : «ابن مطر» وهو ما أثبته.
[2] في «آ» : «رمدا» وهو خطأ.
[3] في «وفيات الأعيان» : «ما» .
[4] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 174- 175) طبع حيدر أباد.
[5] في «آ» : «عن» .(5/27)
وقوله: إنما يحتاج إلى إخوان العشرة لزمان العسرة. انتهى ملخصا أيضا.
وفيها أبو الفرج النّهرواني، مقرئ بغداد، عبد الملك بن بكران [1] .
أخذ القراءة عن زيد بن أبي بلال، وعبد الواحد بن أبي هاشم وطائفة، وسمع من أبي بكر النّجاد وجماعة، وصنّف في القراءات، وتصدر مدة. قاله في «العبر» .
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 90) و «معرفة القرّاء الكبار» (1/ 371) .(5/28)
سنة خمس وأربعمائة
فيها منع الحاكم بمصر النساء من الخروج من بيوتهنّ أبدا، ومن دخول الحمامات، وأبطل صنعة الخفاف لهنّ، وقتل عدة نسوة خالفن أمره، وغرّق جماعة من العجائز.
وفيها توفي أبو الحسن العبقسيّ- نسبة إلى عبد القيس- أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن فراس المكي العطار [1] ، مسند الحجاز في وقته، وله ثلاث وتسعون سنة، تفرّد بالسماع عن محمد بن إبراهيم الدّيبلي وغيره.
وفيها- كما قال ابن الجوزي في «شذور العقود» - بدر بن حسنويه [2] الكردي من أمراء الجبل، لقّبه القادر ناصر الدولة. وعقد له لواء، وكان يبرّ العلماء، والزهاد، والأيتام، وكان يتصدق كل جمعة بعشرة آلاف درهم، ويصرف إلى الأساكفة والحذّائين بين همذان وبغداد، ليقيموا للمنقطعين من الحاج الأحذية ثلاثة آلاف دينار، ويصرف إلى أكفان الموتى كل شهر عشرين ألف درهم، واستحدث في أعماله ثلاثة آلاف مسجد وخان للغرباء، وكان ينقل للحرمين كل سنة مصالح الطريق مائة ألف دينار، ثم يرتفع إلى خزانته بعد المؤن والصدقات عشرون ألف ألف درهم. انتهى.
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 91) و «الأنساب» (8/ 370) .
[2] في «آ» : «ابن خشنويه» وانظر «المنتظم» (7/ 271- 272) و «البداية والنهاية» (11/ 353) .(5/29)
وفيها بكر بن شاذان أبو القاسم البغدادي [1] الواعظ الزاهد. قرأ على زيد بن أبي بلال الكوفي وجماعة، وحدّث عن ابن قانع وجماعة.
قال الخطيب: كان عبدا صالحا. توفي في شوال.
قال الذهبي: وقرأ عليه جماعة.
وفيها أبو علي بن حمكان، الحسن بن الحسين بن حمكان [2]- بحاء مهملة بعدها ميم مفتوحتان وكاف- الهمذاني الفقيه الشافعي، نزيل بغداد.
روى عن عبد الرحمن بن حمدان الجلّاب، وجعفر الخلدي وطبقتهما، وعني بالحديث والفقه.
قال ابن قاضي شهبة [3] : روي عنه أنه قال: كتبت بالبصرة عن أربعمائة وسبعين شيخا، وروى عنه أبو القاسم الأزهري، وكان يضعّفه ويقول: ليس بشيء في الحديث.
قال ابن كثير: له كتاب في مناقب الشافعي، ذكر فيه مذاهب كثيرة، وأشياء تفرد بها، وكنت قد كتبت منه شيئا في ترجمة الإمام، فلما قرأتها على شيخنا [الحافظ] أبي الحجّاج المزّي، أمرني أن أضرب على أكثرها لضعف ابن حمكان. انتهى.
وفيها أبو الحسن المجبّر، أحمد بن محمد بن موسى بن القاسم بن الصّلت البغدادي [4] روى عن إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي، وأبي بكر بن الأنباري، وجماعة كثيرة. ضعّفه البرقاني وغيره، وتوفي في رجب وله إحدى وتسعون سنة.
__________
[1] انظر «تاريخ بغداد» (7/ 96- 97) و «العبر» (3/ 92) .
[2] انظر «العبر» (3/ 91) .
[3] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 167- 168) وما بين حاصرتين مستدرك منه.
[4] انظر «العبر» (3/ 91- 92) .(5/30)
وفيها أبو محمد بن الأكفاني [1] ، قاضي القضاة، عبد الله بن محمد الأسدي البغدادي. حدّث عن المحاملي، وابن عقدة، وخلق.
قال أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد الطبري: من قال إن أحدا أنفق على أهل العلم مثله فقد كذب، أنفق على أهل العلم مائة ألف دينار.
وقال الذهبي: ولي قضاء العراق سنة ست وتسعين، وعاش تسعا وثمانين سنة.
وفيها الإدريسي الحافظ، أبو سعد عبد الرّحمن بن محمد بن محمد الاستراباذي [2] ، نزيل سمرقند ومحدّثها ومؤرخها. سمع الأصمّ فمن بعده، وألّف الأبواب والشيوخ.
وقال ابن ناصر الدّين: هو عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن عبد الله [بن إدريس] بن الحسن بن متّويه [3] أبو سعد الأستراباذي، محدّث سمرقند، ومصنّف تاريخها وتاريخ بلده، كان حافظا، متقنا، راسخا، مؤلّف. انتهى.
وفيها أبو علي الحسن بن أحمد بن محمد بن اللّيث أبو علي الشيرازي الكشي [4] المقرئ الفقيه الشافعي. كان حافظا ناقدا. قاله ابن ناصر الدّين.
وفيها أبو نصر بن نباتة التميمي السعدي [5] عبد العزيز بن عمر بن محمد بن أحمد بن نباتة بن حميد بن نباتة بن الحجّاج بن مطر بن خالد بن
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 92) .
[2] انظر «العبر» (3/ 92) و «التبيان شرح بديعة البيان» لابن ناصر الدّين (141/ آ) وما بين حاصرتين زيادة منه. وانظر «الأنساب» (1/ 160) .
[3] في «آ» : «ابن منربه» وفي «ط» : «ابن منوبه» وكلاهما خطأ، والتصحيح من «التبيان شرح بديعة البيان» و «الأنساب» و «تاريخ بغداد» (10/ 302) .
[4] انظر «التبيان شرح بديعة البيان» لابن ناصر الدّين (141/ ب) وقد نقل المؤلف عنه بتصرّف واختصار، وانظر «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 91) .
[5] انظر «وفيات الأعيان» (3/ 190- 193) و «العبر» (3/ 93) .(5/31)
عمرو بن رباح بن سعد. كان شاعرا مجيدا جمع بين حسن السبك وجودة المعنى، وكان يعاب بكبر فيه، طاف البلاد ومدح الملوك، والوزراء، والرؤساء، وله في سيف الدولة غرر [1] القصائد ونخب المدائح، وكان قد أعطاه فرسا أدهم أغر محجّلا، فكتب إليه:
يا أيّها الملك الذي أخلاقه ... من خلقه ورواؤه من رائه
قد جاء بالطرف الذي أهديته ... هاديه يعقد أرضه بسمائه
أولاية أوليتها فبعثته ... رمحا سبيب [2] العرف عقد لوائه
نحتل [3] منه على أغرّ محجّل ... ماء الدّجنة قطرة من مائه
وكأنما لطم الصباح جبينه ... فاقتصّ منه فخاض في أحشائه
متمهلا والبرق في أسمائه ... متبرقعا والحسن من أكفائه
ما كانت النيران يكمن حرّها ... لو كان للنيران بعض ذكائه
لا تعلق الألحاظ في أعطافه ... إلّا إذا كفكفت من غلوائه
لا يكمل الطّرف المحاسن كلها ... حتّى يكون الطّرف من أسرائه
وله فيه أيضا من قصيدة:
قد جدت لي باللها حتّى ضجرت بها ... وكدت من ضجري أثني على البخل
إن كنت ترغب في أخذ النّوال لنا ... فاخلق لنا رغبة أو لا فلا تنل
لم يبق جودك لي شيئا أؤمّله ... تركتني أصحب الدّنيا بلا أمل
ومعظم شعره جيد، وله «ديوان» كبير، وجرى له مع ابن العميد أشياء تقدّم ذكر شيء منها في ترجمته [4] وتوفي يوم الأحد بعد طلوع الشمس، ثالث
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «غرّ» .
[2] السبيب من الفرس: شعر الذنب والعرف والناصية. (ع) .
[3] في «آ» : «نحلّ» .
[4] انظر ص (313- 316) من المجلد الرابع.(5/32)
شوال، ودفن في مقبرة الخيزران ببغداد.
وقال أبو الحسن محمد بن نصر البغدادي: عدت ابن نباتة في اليوم الذي توفي فيه، فأنشدني:
متّع لحاظك من خلّ تودّعه ... فما إخالك بعد اليوم بالوادي
وودعته وانصرفت، فأخبرت في طريقي أنه توفي.
وقال أبو علي محمد بن وشاح: سمعت ابن نباتة يقول: كنت يوما قائلا [1] في دهليزي، فدقّ عليّ الباب، فقلت: من؟ فقال: رجل من أهل المشرق [2] ، فقلت: ما حاجتك؟ فقال: أنت القائل:
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره ... تنوّعت الأسباب والدّاء واحد
فقلت: نعم، فقال: أرويه عنك؟ فقلت: نعم، فمضى، فلما كان آخر النهار دقّ عليّ الباب، فقلت: من؟ فقال: رجل من أهل تاهرت من المغرب، فقلت: ما حاجتك؟ فقال: أنت القائل:
ومن لم يمت بالسيف
فقلت: نعم، [فقال: أرويه عنك؟ فقلت: نعم] [3] ، وعجبت كيف وصل شعري [4] إلى الشرق والغرب.
وفيها أبو عبد الله الحاكم، محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه [5] بن نعيم بن البيّع الضّبّي الطّهماني النيسابوري [6] الحافظ الكبير.
__________
[1] أي نائما وقت القيلولة.
[2] في «آ» و «ط» : «الشرق» وما أثبته من «وفيات الأعيان» .
[3] تكملة من «وفيات الأعيان» .
[4] لفظة «شعري» سقطت من «وفيات الأعيان» فتستدرك فيه.
[5] تحرّف في «آ» و «ط» إلى: «حمدون» والتصحيح من «العبر» و «السير» .
[6] انظر «العبر» (3/ 94) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 162- 177) .(5/33)
ولد سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، واعتنى به أبوه، فسمّعه [1] في صغره، ثم [سمع] هو بنفسه، وكتب عن نحو ألفي شيخ، وحدّث عن الأصمّ، وعثمان بن السّمّاك وطبقتهما، وقرأ القراءات على جماعة، وبرع في معرفة الحديث وفنونه، وصنّف التصانيف الكثيرة، وانتهت إليه رئاسة الفن بخراسان لا بل الدّنيا، وكان فيه تشيّع وحطّ على معاوية، وهو ثقة حجّة. قاله في «العبر» .
وقال ابن ناصر الدّين [2] : له مصنفات كثيرة، منها «المستدرك على الصحيحين» وهو صدوق من الإثبات، لكن فيه تشيّع، ويصحح [3] واهيات. انتهى.
وقال ابن قاضي شهبة [4] : طلب العلم في صغره، وأول سماعه سنة ثلاثين، ورحل في طلب الحديث، وسمع على شيوخ يزيدون على ألفيّ شيخ، وتفقه على ابن أبي هريرة، وأبي سهل الصّعلوكي، وغيرهم. أخذ عنه الحافظ أبو بكر البيهقي فأكثر عنه، وبكتبه تفقّه وتخرّج، ومن بحره استمدّ، وعلى منواله مشى، وبلغت تصانيفه [قريبا من خمسمائة جزء، وقيل: ألف جزء، وقيل:] ألف وخمسمائة جزء.
قال الخطيب البغدادي [5] : كان ثقة. وكان يميل إلى التّشيّع.
قال الذهبي: هو معظّم للشيخين [6] بيقين، ولذي النّورين، وإنما تكلم في معاوية فأوذي. قال: وفي «المستدرك» وجملة وافرة على شرطهما [7] ،
__________
[1] في «آ» و «العبر» : «فسمّع» .
[2] انظر «التبيان شرح بديعة البيان» لابن ناصر الدّين (141/ ب) وقد نقل المؤلف كلامه باختصار وتصرّف.
[3] في «آ» و «ط» : و «تصحيح» والتصويب من «التبيان» لابن ناصر الدّين.
[4] في «طبقات الشافعية» (1/ 189- 190) ، وما بين حاصرتين مستدرك منه.
[5] انظر «تاريخ بغداد» (5/ 473- 474) .
[6] يعني لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما وأرضاهما.
[7] يعني على شرطّي البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى.(5/34)
وجملة وافرة على شرط أحدهما، لكن [1] مجموع ذلك نصف الكتاب، وفيه نحو الربع مما صحّ سنده، وفيه بعض الشيء معلل، وما بقي- وهو الربع- مناكير وواهيات لا تصحّ. وفي ذلك بعض موضوعات، قد أعلمت [2] عليها لما اختصرته. توفي فجاءة بعد خروجه من الحمام في صفر. وقد أطنب عبد الغافر [3] في مدحه، وذكر فضائله وفوائده ومحاسنه إلى أن قال: مضى إلى رحمة الله ولم يخلّف بعده مثله، وقد ترجمه الحافظ أبو موسى المديني في مصنّف مفرد. انتهى كلام ابن شهبة ملخصا.
وقال ابن خلّكان [4] : والبيّع: بفتح الباء الموحدة وكسر الياء المثناة من تحتها وتشديدها، وبعدها عين مهملة، وإنما عرف بالحاكم لتقلده [5] القضاء. انتهى.
وفيها ابن كجّ القاضي أبو القاسم يوسف بن أحمد بن كج- بفتح الكاف وتشديد الجيم، وهو في اللغة اسم للجص الذي يبيّض به الحيطان- الكجّي، نسبة إلى جدّه هذا- الدّينوري [6] صاحب الإمام أبي الحسين بن القطّان، وحضر مجلس الدّاركي، ومجلس القاضي أبي حامد المروزي.
انتهت إليه الرئاسة ببلده في المذهب، ورحل الناس إليه رغبة في علمه وجوده، وكان يضرب به المثل في حفظ المذهب.
وحكى السمعاني: أن الشيخ أبا علي السّنجي [7] [لما] انصرف من
__________
[1] في «طبقات ابن قاضي شهبة» : «لعل» .
[2] في «آ» و «ط» : «قد علمت» وما أثبته من «طبقات ابن قاضي شهبة» .
[3] هو عبد الغافر بن إسماعيل بن عبد الغافر بن محمد بن عبد الغافر الفارسي النيسابوري الشافعي، المتوفى سنة (529 هـ-) سترد ترجمته في المجلد السادس إن شاء الله تعالى.
[4] انظر «وفيات الأعيان» (4/ 281) .
[5] في «آ» و «ط» : «لتقليده» وما أثبته من «وفيات الأعيان» .
[6] انظر «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 340- 341) و «العبر» (3/ 94) .
[7] في «آ» : «البنجي» وفي «ط» : «السبخي» وكلاهما خطأ، والتصحيح من «طبقات الشافعية»(5/35)
عند الشيخ أبي حامد واجتاز به، فرأى علمه وفضله، فقال له: يا أستاذ، الاسم لأبي حامد، والعلم لك، فقال: ذاك [1] رفعته بغداد، وحطّتني الدّينور.
قتله العيارون ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان، وكان يضرب به المثل في حفظ مذهب الشافعي، وكان أيضا محتشما جوادا ممدّحا، وهو صاحب وجه، ومن تصانيفه «التجريد» . قال في «المهمات» : وهو مطول، وقد وقف عليه الرافعي.
__________
للإسنوي (2/ 341) وانظر ترجمته فيه (2/ 28- 29) وما بين حاصرتين مستدرك منه.
[1] لفظة «ذاك» لم ترد في «طبقات الشافعية» للإسنوي.(5/36)
سنة ست وأربعمائة
فيها توفي الشيخ أبو حامد الإسفراييني [1] أحمد بن أبي طاهر محمد بن أحمد، الفقيه، شيخ العراق، وإمام الشافعية، ومن إليه انتهت رئاسة المذهب. قدم بغداد صبيّا، فتفقّه على ابن المرزبان، وأبي القاسم الدّاركي، وصنّف التصانيف، وطبّق الأرض بالأصحاب، و «تعليقته» [2] في نحو خمسين مجلدا، وكان يحضر درسه سبعمائة فقيه. توفي في شوال وله اثنتان وستون سنة، وقد حدّث عن أبي أحمد بن عدي وجماعة. قاله في «العبر» .
وقال ابن شهبة [3] : ولد سنة أربع وأربعين وثلاثمائة، واشتغل بالعلم.
قال سليم [4] : وكان يحرس في درب، وكان يطالع الدرس على زيت الحرس، وأفتى وهو ابن سبع عشرة سنة، وقدم بغداد سنة أربع وستين، فتفقّه على ابن المرزبان، والدّاركي، وروى الحديث عن الدارقطني، وأبي بكر الإسماعيلي، وأبي أحمد بن عدي، وجماعة، وأخذ عن الفقهاء والأئمة
__________
[1] انظر «طبقات الشافعية» للإسنوي (1/ 57- 59) و «العبر» (3/ 94- 95) .
[2] في «آ» : «وتعليقه» .
[3] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 161- 162) .
[4] هو سليم بن أيوب بن سليم الفقيه أبو الفتح الرازي، الأديب المفسّر. انظر ترجمته في «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 233- 234) .(5/37)
ببغداد، وشرح «المختصر» في «تعليقته» التي هي في خمسين مجلدا، ذكر فيها خلاف العلماء، وأقوالهم، ومآخذهم، ومناظراتهم، حتّى كان يقال له الشافعي [الثاني] [1] ، وله كتاب في أصول الفقه.
قال الشيخ أبو إسحاق [2] : انتهت إليه رئاسة الدّين والدّنيا ببغداد، وجمع مجلسه ثلاثمائة متفقّه، واتفق الموافق والمخالف على تفضيله وتقديمه في جودة الفقه، وحسن النظر، ونظافة العلم.
وقال الخطيب أبو بكر [3] : حدّثونا عنه، وكان ثقة، وقد رأيته [غير مرّة] وحضرت تدريسه، وسمعت من يذكر أنه [4] كان يحضر درسه سبعمائة فقيه [5] ، وكان الناس يقولون: لو رآه الشافعيّ لفرح به. توفي في شوال، ودفن في داره، ثم نقل سنة عشر وأربعمائة إلى باب حرب. انتهى ما أورده ابن شهبة ملخصا.
وفيها أبو مناد باديس بن منصور بن بلكّين بن زيري بن مناد الحميري الصنهاجي المغربي الملك [6] ، متولّي إفريقية للحاكم العبيدي، وكان ملكا حازما شديد البأس، إذا هزّ رمحا كسره، ومات فجأة، وقام بعده ابنه المعز.
قال ابن خلّكان: وكانت ولايته بعد أبيه المنصور، وكان مولده ليلة الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، سنة أربع وسبعين وثلاثمائة بأشير، ولم يزل على ولايته وأموره جارية على السّداد، ولما كان يوم الثلاثاء
__________
[1] سقطت من «آ» و «ط» واستدركتها من «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة.
[2] انظر «طبقات الفقهاء» للشيرازي ص (124) .
[3] انظر «تاريخ بغداد» (4/ 369) وقد نقل ابن قاضي شهبة كلامه بتصرف وتبعه المؤلف، وما بين حاصرتين زيادة منه.
[4] في «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة «وسمعت من مذاكراته» .
[5] في «تاريخ بغداد» : «متفقه» .
[6] انظر «وفيات الأعيان» (1/ 265- 266) وما بين حاصرتين استدركته منه و «العبر» (3/ 95) .(5/38)
تاسع عشري ذي القعدة، سنة ست وأربعمائة أمر جنوده بالعرض، فعرضوا بين يديه وهو في قبّة الإسلام جالس إلى وقت الظهر، وسرّه حسن عسكره وبهجة زينتهم [1] وما كانوا عليه، وانصرف إلى قصره، ثم ركب عشية ذلك النهار في أجمل مركوب، ولعب الجيش بين يديه، ثم رجع إلى قصره شديد السرور بما رآه من كمال حاله، وقدّم السماط [بين يديه] فأكل مع خاصته وحاضري مائدته، ثم انصرفوا عنه وقد رأوا من سروره ما لم يروه منه [2] قطّ، فلما مضى مقدار نصف الليل من ليلة الأربعاء سلخ [ذي] القعدة قضى نحبه رحمه الله تعالى، فأخفوا أمره ورتبوا أخاه كرامة بن المنصور ظاهرا، حتّى وصلوا إلى ولده المعز فولّوه، وتم له الأمر.
وذكر في كتاب «الدول المنقطعة» [3] أن سبب موته أنه قصد طرابلس، ولم يزل [4] على قرب منها عازما على قتالها، وحلف أن لا يرحل عنها إلى أن يعيدها فدنا [5] للزراعة. فاجتمع أهل البلد [عند ذلك] إلى المؤدب محرز، وقالوا: يا وليّ الله، قد بلغك ما قاله باديس، فادع الله أن يزيل عنّا بأسه، فرفع يديه إلى السماء وقال: يا رب باديس اكفنا باديس، فهلك في ليلته بالذبحة.
والصّنهاجي: بضم الصاد المهملة وكسرها وسكون النون، وبعد الألف جيم، نسبة إلى صنهاجة، قبيلة مشهورة من حمير، وهي بالمغرب.
قال ابن دريد: صنهاجة بضم الصاد، لا يجوز غير ذلك. انتهى ما أورده ابن خلّكان ملخصا.
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «وأبهجه زيّهم» .
[2] لفظة «منه» سقطت من «آ» وأثبتها من «ط» و «وفيات الأعيان» .
[3] وهو للوزير جمال الدّين أبي الحسن علي بن أبي منصور ظافر الأزدي المتوفى سنة (623) هـ- وهو كتاب بديع في بابه في نحو أربع مجلدات. عن «كشف الظنون» (1/ 762) .
[4] في «وفيات الأعيان» : «ونزل» .
[5] جمع فدان. انظر «لسان العرب» (فدن) .(5/39)
وفيها أبو علي الدّقّاق، الحسن بن علي النيسابوري [1] الزاهد العارف شيخ الصوفية توفي في ذي الحجّة، وقد روى عن ابن حمدان وغيره.
قال الشيخ عبد الرؤوف المناوي في كتابه «الكواكب الدّريّة في تراجم الصوفية» ما ملخصه: الحسن بن علي الأستاذ أبو علي الدّقّاق النيسابوري الشافعي، لسان وقته وإمام عصره، كان فارها في العلم، متوسطا في الحلم، محمود السيرة، مجهود السريرة، جنيدي الطريقة، سرّيّ الحقيقة، أخذ مذهب الشافعي عن القفّال، والحصري، وغيرهما، وبرع في الأصول، وفي الفقه، وفي العربية، حتّى شدّت إليه الرحال في ذلك، ثم أخذ في العمل، وسلك طريق التصوف، وأخذ عن النّصرآباذي.
قال ابن شهبة: وزاد عليه حالا ومقالا، وعنه: القشيري صاحب «الرسالة» .
وله كرامات ظاهرة ومكاشفات باهرة. قيل له: لم زهدت في الدّنيا؟
قال: لما زهدت في أكثرها أنفت عن الرغبة في أقلها.
قال الغزالي: وكان زاهد زمانه وعالم أوانه، وأتاه بعض أكابر الأمراء، فقعد على ركبتيه بين يديه، وقال: عظني، فقال: أسألك عن مسألة وأريد الجواب بغير نفاق، فقال: نعم، فقال: أيما أحبّ إليك المال أو العدو؟
قال: المال. قال: كيف تترك ما تحبه بعدك وتستصحب العدو الذي لا تحبه معك، فبكى، وقال: نعم الموعظة هذه.
ومن كلامه: من سكت عن الحقّ فهو شيطان أخرس.
وقال: من علامة الشوق تمنّي الموت على بساط العوافي، كيوسف لما
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 95) و «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 169) .(5/40)
ألقي في الجب، ولما أدخل السجن لم يقل توفّني، ولما تمّ له الملك والنعمة قال: توفني [1] .
وكان كثيرا ما ينشد:
أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت ... ولم تخف شرّ ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت به ... وعند صفو الليالي يحدث الكدر
وقال: صاحب الحزن يقطع من الطريق في شهر ما لا يقطعه غيره في عام.
وقال: السماع حرام على العوام لبقاء نفوسهم مباح للزّهاد، لحصول مجاهداتهم مستحب لأصحابنا لحياة قلوبهم.
وقال: لو أن وليّا لله مرّ ببلدة للحق أهلها بركة مروره، حتّى يغفر لجاهلهم.
وقال: قال رجل لسهل: أريد أن أصحبك. قال: إذا مات أحدنا فمن يصحب الباقي؟ قال: الله: قال: فاصحبه الآن. انتهى ما أورده المناوي ملخصا.
وفيها أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب النيسابوري [2] المفسّر، صنّف في علوم القرآن، والآداب، وله كتاب «عقلاء المجانين» [3] سمع من الأصم وجماعة.
وفيها أبو يعلى المهلّبي، حمزة بن عبد العزيز بن محمد النيسابوري الطبيب [4] . روى عن محمد بن محمد بن أحمد بن دلويه، صاحب البخاري، وأبي حامد بن بلال، وجماعة، وتفرّد بالسماع من غير واحد، توفي يوم النّحر عن سنّ عالية.
__________
[1] لفظة «توفني» سقطت من «آ» وأثبتها من «ط» .
[2] انظر «العبر» (3/ 95) .
[3] وهو مطبوع في دار النفائس ببيروت بتحقيق الدكتور عمر الأسعد.
[4] تحرّفت في «ط» إلى «الطيب» وهو مترجم في «العبر» (3/ 96) .(5/41)
وفيها أبو أحمد الفرضي عبيد الله بن محمد بن أحمد بن محمد بن أبي مسلم [1] المقرئ، شيخ بغداد، قرأ على أحمد بن بويان، وسمع من يوسف [بن] البهلول الأزرق، والمحاملي.
قال الخطيب: كان ثقة، ورعا، ديّنا.
وقال العتيقي: ما رأينا في معناه مثله.
وقال الأزهري: إمام من الأئمة.
وقال الذهبي: عاش اثنتين وثمانين سنة.
وفيها أبو الهيثم عتبة بن خيثمة التميمي النيسابوري [2] القاضي، شيخ الحنفية بخراسان، كان عديم النظير في الفقيه والفتوى، تفقّه على أبي الحسين قاضي الحرمين، وأبي العبّاس التّبّان [3] ، وسمع لما حجّ من أبي بكر الشافعي وجماعة، وولي [قضاء] نيسابور [4] تسع سنين.
وفيها الإمام أبو بكر بن فورك- بضم الفاء وفتح الراء- الأستاذ محمد بن الحسن بن فورك الأصبهاني [5] المتكلم، صاحب التصانيف في الأصول والعلم. روى «مسند الطيالسي» عن أبي محمد بن فارس، وتصدّر للإفادة بنيسابور، وكان ذا زهد وعبادة، وتوسّع في الأدب، والكلام، والوعظ، والنحو.
قال الإسنوي في «طبقاته» : أقام بالعراق مدة يدرّس، ثم توجه إلى الرّيّ فشنعت [6] به المبتدعة، فراسله أهل نيسابور والتمسوا منه التوجّه إليهم
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 96) .
[2] انظر «العبر» (3/ 96- 97) .
[3] تحرّفت في «آ» و «ط» إلى «القبال» والتصحيح من «العبر» و «اللباب» (1/ 206) .
[4] ما بين حاصرتين مستدرك من «العبر» .
[5] انظر «العبر» (3/ 97) و «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 266- 267) .
[6] في «آ» و «ط» : «فسمعت» وهو خطأ، والتصحيح من «طبقات الشافعية» للإسنوي.(5/42)
ففعل، وورد نيسابور، فبني له بها مدرسة ودار [1] فأحيا الله تعالى به أنواعا من العلوم، وظهرت بركته على المتفقهة، وبلغت مصنفاته قريبا من مائة تصنيف، ثم دعي إلى مدينة غزنة من الهند، وجرت له بها مناظرات عظيمة، فلما رجع إلى نيسابور سمّ في الطريق، فمات، فنقل إلى نيسابور فدفن بها.
ونقل عن ابن حزم، أن السلطان محمود بن سبكتكين قتله [2] لقوله:
إن نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم، ليس هو رسول الله اليوم، لكنه كان رسول الله. انتهى كلام الإسنوي ملخصا.
وفيها الشريف الرضي [3] نقيب العلويين، أبو الحسن محمد بن الحسين بن موسى بن محمد الحسيني الموسوي البغدادي الشّيعي، الشاعر المفلق، الذي يقال: إنه أشعر قريش. ولد سنة تسع وخمسين وثلاثمائة، وابتدأ بنظم الشعر وله عشر سنين، وكان مفرط الذكاء، له ديوان في أربع مجلدات، وقيل: إنه حضر [4] مجلس أبي سعيد السّيرافي فسأله ما علامة النصب في عمر؟ فقال: بغض عليّ، فعجبوا من حدّة ذهنه، ومات أبوه في سنة أربعمائة أو بعدها، وقد نيّف على التسعين، وأما أخوه الشريف المرتضى فتأخر. قاله في «العبر» .
وقال ابن خلّكان: ذكره الثعالبي في «اليتيمة» فقال: ابتدأ بقول الشعر بعد أن جاوز عشر سنين بقليل، وهو اليوم أبدع [أبناء [5] الزمان، وأنجب سادة العراق، يتحلى مع محتده الشريف ومفخره المنيف، بأدب ظاهر
__________
[1] في «طبقات الشافعية» للإسنوي: «ودارا» .
[2] في «طبقات الشافعية» للإسنوي: «قبّله» وهو تصحيف فتصحح فيه.
[3] انظر «وفيات الأعيان» (4/ 414- 420) و «العبر» (3/ 97) و «غربال الزمان» ص (342) .
[4] في «العبر» : «أحضر» .
[5] تحرّفت في «وفيات الأعيان» إلى «أنشاء» فتصحح فيه، وانظر «يتيمة الدهر» (3/ 155) طبع دار الكتب العلمية.(5/43)
وفضل] [1] باهر، وحظّ [2] من جميع المحاسن وافر، ثم هو أشعر الطالبيين، من مضى منهم ومن غبر، على كثرة شعرائهم المفلقين، ولو قلت: إنه أشعر قريش لم أبعد عن الصدق، ويشهد بما أخبرته [3] شاهد عدل من شعره العالي القدح، الممتنع عن القدح [4] ، الذي يجمع إلى السلامة متانة، وإلى السهولة رصانة، ويشتمل على معان يقرب جناها ويبعد مداها، وكان أبوه يتولى قديما نقابة الطالبيين، ويحكم فيهم أجمعين، والنظر في المظالم والحجّ بالناس، ثم ردّت هذه الأعمال كلها إلى ولده المذكور في سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة، وأبوه حيّ.
ومن غرر شعره، ما كتبه إلى الإمام القادر بالله من جملة قصيدة:
عطفا أمير المؤمنين فإنّنا ... في دوحة العلياء لا نتفرّق
ما بيننا يوم الفخار تفاوت ... أبدا كلانا في المعالي معرق [5]
إلّا الخلافة بيّنتك [6] فإنني ... أنا عاطل منها وأنت مطوّق [7]
ومن قوله أيضا:
رمت المعالي فامتنعن ولم يزل ... أبدا يمانع عاشقا معشوق
فصبرت حتّى نلتهنّ ولم أقل ... ضجرا دواء الفارك التّطليق [8]
__________
[1] ما بين حاصرتين تكملة من «وفيات الأعيان» و «يتيمة الدهر» .
[2] في «آ» و «ط» : و «حظّه» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان و «يتيمة الدهر» .
[3] في «وفيات الأعيان» : «بما أخبر به» وفي «اليتيمة» : «بما أجريه» .
[4] تحرّفت في «آ» إلى «الندح» .
[5] تحرّفت في «آ» إلى «مفرق» .
[6] في «ديوانه» و «وفيات الأعيان» و «اليتيمة» : «ميّزتك» .
[7] الأبيات في «ديوانه» (2/ 42) طبعة دار صادر.
[8] البيتان في «ديوانه (2/ 50) والفارك: الكاره. ولعله أراد بقوله «الفارك» المرأة الكارهة لزوجها.(5/44)
وله من جملة أبيات:
يا صاحبيّ قفا لي واقضيا وطرا ... وحدّثاني عن نجد بأخبار
هل روّضت قاعة الوعساء أم مطرت ... خميلة الطّلح ذات البان والغار
أم هل أبيت ودار دون [1] كاظمة ... داراي وسمّار ذاك الحيّ سماري
تضوع أرواح نجد من ثيابهم ... عند القدوم [2] لقرب العهد بالدّار [3]
وذكر ابن جنّي، أنه تلقن القرآن بعد أن دخل في السن، فحفظه في مدة يسيرة، وصنّف كتابا في معاني القرآن يتعذر وجود مثله، دلّ على توسعه في علم النحو واللغة، وصنّف كتابا في مجازات القرآن، فجاء نادرا في بابه.
وقد عني بجمع ديوانه جماعة، وأجود ما جمع الذي جمعه أبو حكيم الخبري [4] .
وحكي أن بعض الأدباء اجتاز بدار الشريف الرضي بسرّ من رأى، وهو لا يعرفها، وقد أخنى عليها الزمان، وذهبت بهجتها، وأخلقت ديباجتها، وبقايا رسومها تشهد لها بالنّضارة وحسن البشارة، فوقف عليها متعجبا من صروف الزمان [5] وطوارق الحدثان، وتمثّل بقول الشريف الرضي المذكور:
ولقد وقفت على ربوعهم ... وطلولها بيد البلى نهب
فبكيت حتّى ضجّ من لغب ... نضوي وعجّ بعذلي الركب
__________
[1] في «ديوانه» : «عند» .
[2] في «ديوانه» : «عند النزول» .
[3] الأبيات في «ديوانه» (1/ 517) مع تقديم وتأخير ورواية البيت الأول منها فيه:
يا راكبان قفا لي واقضيا وطري ... وخبّر اني عن نجد بأخبار
[4] في «آ» و «ط» : «الحيري» وهو تصحيف، والتصحيح من «وفيات الأعيان» وانظر «سير أعلام النبلاء» (18/ 558- 559) و «الأعلام» (4/ 63) .
[5] في «آ» : «الأزمان» .(5/45)
وتلفتت عيني فمذ خفيت ... عنها الطلول تلفّت القلب [1]
فمرّ به شخص فسمعه ينشد الأبيات، فقال: هل تعرف هذه الدار لمن؟ قال: لا، قال: هذه الدار لقائل هذه الأبيات الشريف الرضي فتعجب من حسن الاتفاق.
وكانت ولادة الرضي سنة تسع وخمسين وثلاثمائة ببغداد، وتوفي بكرة يوم الخميس سادس المحرم- وقيل صفر- سنة ست وأربعمائة [2] ببغداد، ودفن في داره بخطّ مسجد الأنباريين بالكرخ، وخربت الدار ودثر [3] القبر، ومضى أخوه المرتضى أبو القاسم إلى [4] مشهد موسى بن جعفر لأنه لا يستطيع أن ينظر إلى تابوته. وصلى عليه والوزير فخر الملك في الدار مع جماعة كثيرة. انتهى ما أورده ابن خلّكان ملخصا.
وفيها، كما قال ابن ناصر الدّين، أبو بكر محمد بن أحمد بن عبد الوهاب الإسفراييني [5] كان حافظا زائدا بالحفظ على أقرانه.
قال في «بديعة البيان» :
محمد بن أحمد ذاك أبو ... بكر وفا تحفظا فقربوا
__________
[1] الأبيات في «ديوانه» (1/ 181) مع شيء من الخلاف.
[2] حصل في «آ» تقديم وتأخير في هذه الجملة وأثبت ما جاء في «ط» وهو الصواب.
[3] في «وفيات الأعيان» : «ودرس» .
[4] في «آ» و «ط» : «على» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[5] انظر «التبيان شرح بديعة البيان» (141/ ب) .(5/46)
سنة سبع وأربعمائة
فيها كما قال في «الشذور» ورد الخبر بتشعث الركن اليماني من البيت الحرام، وسقوط حائط بين يدي قبر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ووقوع القبة الكبيرة التي على الصخرة ببيت المقدس [1] .
وفيها توفي أبو بكر الشيرازي [2] أحمد بن عبد الرحمن، الحافظ مصنّف كتاب «الألقاب» . كان أحد من عني بهذا الشأن، وأكثر الترحال في البلدان، ووصل بلاد التّرك، وسمع من الطبراني وطبقته.
قال عبد الرحمن بن مندة: مات في شوال.
وفيها أبو سعد [3] الخركوشي- بفتح الخاء المعجمة وسكون الراء وضم الكاف آخره معجمة، نسبة إلى خركوش سكة بنيسابور- عبد الملك بن أبي عثمان النيسابوري، الواعظ القدوة، صنّف كتاب «الزهد» وكتاب «دلائل النبوّة» وغير ذلك.
قال الحاكم: لم أر أجمع منه علما وزهدا وتواضعا وإرشادا إلى الله- زاده الله توفيقا، وأسعدنا بأيامه-.
__________
[1] انظر «النجوم الزاهرة» (4/ 241) .
[2] انظر «العبر» (3/ 98) .
[3] في «آ» و «ط» : و «العبر» (3/ 98) : «أبو سعيد» وهو خطأ، والتصحيح من «الأنساب» (5/ 93) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 256) و «معجم البلدان» (2/ 360- 361) .(5/47)
وقال الذهبي: روى عن حامد الرّفّاء وطبقته، وتوفي في جمادى الأولى.
وفيها أبو الفضل الفلكي علي بن الحسين بن أحمد بن الحسن بن القاسم بن الحسن بن علي الهمذانيّ [1] . كان حافظا بارعا متقنا لهذا الشأن، له كتاب «المنتهى في الكمال في معرفة الرجال» كتبه في ألف جزء، ولم يبيّضه فيما يقال. قاله ابن ناصر الدّين.
وفيها أبو عبد الله محمد بن أحمد بن شاكر القطّان [2] ، مؤلف «فضائل الشافعي» توفي في المحرم. روى عن عبد الله بن الورد [3] وطائفة.
وفيها أبو الحسين المحاملي محمد بن أحمد بن القاسم بن إسماعيل الضبّي البغدادي [4] ، الفقيه الشافعي الفرضي، شيخ سليم الرّازي. روى عن إسماعيل الصفّار وطائفة.
وفيها الوزير فخر الملك أبو غالب بن الصيرفي محمد بن علي بن خلف [5] ، وزير بهاء الدولة أبي نصر بن عضد الدولة بن بويه، وبعد وفاته وزر لولده سلطان الدولة أبي شجاع فنّا خسرو. ولد فخر الملك بواسط يوم الخميس ثاني عشري شهر ربيع الآخر سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، وكان من أعظم وزراء آل بويه على الإطلاق بعد ابن العميد، والصاحب بن عبّاد، وكان أبوه صيرفيا، وكان هو واسع النعمة، فسيح مجال الهمّة، جمّ الفضائل والأفعال، جزيل العطايا والنوال. قصده جماعة من أعيان الشعراء ومدحوه بنخب المدائح، منهم: مهيار الدّيلمي، وأبو نصر بن نباتة السعدي، له فيه قصائد مختارة، منها قصيدته النونية التي من جملتها:
__________
[1] انظر «تذكرة الحفاظ» (3/ 1125) و «الرسالة المستطرفة» ص (121) طبع دار البشائر الإسلامية.
[2] انظر «غربال الزمان» ص (342) .
[3] الذي في «العبر» : «عبد الله بن جعفر بن الورد» . (ع) .
[4] انظر «العبر» (3/ 99) و «غربال الزمان» (342) .
[5] انظر «وفيات الأعيان» (5/ 124- 127) و «العبر» (3/ 99) و «غربال الزمان» ص (343) .(5/48)
لكل فتى قرين حين يسمو ... وفخر الملك ليس له قرين
أنخ بجنابه واحكم عليه ... بما أمّلته وأنا الضمين
قال بعض علماء الأدب: مدح بعض الشعراء فخر الملك بعد هذه القصيدة، فأجازه إجازة لم يرضها، فجاء إلى ابن نباتة، وقال: أنت غريتني وأنا ما مدحته إلّا ثقة بضمانك، فأعطني ما يليق بقصدي [1] ، فأعطاه من عنده شيئا رضي به، فبلغ ذلك فخر الملك، فسيّر لابن نباتة جملة مستكثرة لهذا السبب.
ومدائح فخر الملك مستكثرة، ولأجله صنّف أبو بكر محمد بن الحاسب الكرجي كتاب «الفخري» في الجبر والمقابلة، وكتاب «الكافي» في الحساب.
ورفع إليه رجل شيخ رقعة يسعى فيها بهلاك شخص، فكتب فخر الملك في ظهرها: السعاية قبيحة وإن كانت صحيحة، فإن كنت أجريتها مجرى النصح فخسرانك فيها أكثر من الربح، ومعاذ الله أن نقبل من مهتوك في مستور، ولولا أنك في خفارة من شيبك لقابلناك بما يشبه مقالك، ونردع به أمثالك، فاكتم هذا العيب، واتق من يعلم الغيب، والسلام.
ومحاسن فخر الملك كثيرة، ولم يزل في عزّه وجاهه وحرمته إلى أن نقم عليه مخدومه سلطان الدولة لسبب اقتضى ذلك، فحبسه ثم قتله بسفح جبل قريب من الأهواز، يوم السبت سابع عشري ربيع الأول، وقيل: آخره، ودفن هناك، ولم يستقص دفنه، فنبشت الكلاب قبره وأكلته، ثم أعيد دفن رمته، فشفع فيه بعض أصحابه، فنقلت عظامه إلى مشهد هناك، فدفنت في السنة التي بعدها.
__________
[1] كذا في «آ» و «ط» : «فأعطني ما يليق بقصدي» وفي «وفيات الأعيان» «فأعطني بمثل ما يليق بقصيدي» .(5/49)
سنة ثمان وأربعمائة
فيها وقعت فتنة عظيمة بين السّنّة والشيعة، وتفاقمت [1] وقتل طائفة من الفريقين، وعجز صاحب الشرطة عنهم، وقاتلوه، فأطلق النيران في سوق نهر الدجاج [2] .
وفيها استتاب القادر بالله- وكان صاحب سنّة- طائفة من المعتزلة والرافضة، وأخذ خطوطهم بالتوبة، وبعث إلى السلطان محمود بن سبكتكين، يأمره ببثّ السّنّة بخراسان، ففعل ذلك وبالغ، وقتل جماعة، ونفى جماعة كثيرة من المعتزلة، والرافضة، والإسماعيلية، والجهمية، والمشبهة، وأمر بلعنهم على المنابر.
وفيها قتل الدّرزي [3] وقطّع لكونه ادّعى ربوبية الحاكم.
وفيها توفي ابن ثرثال، أبو الحسن أحمد بن عبد العزيز بن أحمد التّيمي البغدادي [4] في ذي القعدة بمصر، وله إحدى وتسعون سنة. روى عن
__________
[1] في «آ» : «وتقاتلت» وأثبت لفظ «ط» وهو موافق لما في «العبر» .
[2] انظر «العبر» (3/ 100) .
[3] في «آ» و «ط» و «غربال الزمان» : «الدّوري» والتصحيح من «العبر» (3/ 100) و «النجوم الزاهرة» (4/ 184) وهو محمد بن إسماعيل الدّرزي، أبو عبد الله، وإليه نسبة الطائفة الدرزيّة. انظر ما كتبه عنه العلّامة الأستاذ خير الدّين الزركلي رحمه الله في كتابه النفيس «الأعلام» (6/ 35) .
[4] انظر «سير أعلام النبلاء» (17/ 220- 221) .(5/50)
المحاملي ومحمد بن مخلد، وله جزء واحد رواه عنه الصّوري، والحبّال.
وفيها عطية بن سعيد [1] ، الأندلسي القفصي- بفتح القاف وسكون الفاء، نسبة إلى قفصة، بلدة في طرف إفريقية- كنيته أبو محمد كان حافظا صوفيا زاهدا علّامة مكثرا خيرا. قاله ابن ناصر الدّين [2] .
وفيها ابن البيع، أبو محمد عبد الله بن عبيد الله بن يحيى البغدادي [3] المؤدّب، صاحب المحاملي، وثّقه الخطيب، ومات في رجب.
وفيها اليزدي، أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن جعفر الجرجاني [4] محدّث أصبهان. روى عن محمد بن الحسين القطّان، والأصم، وطبقتهما، وتوفي في رجب.
وفيها أبو الفضل الخزاعي محمد بن محمد بن جعفر بن عبد الكريم الجرجاني [5] المقرئ، مصنّف كتاب «الواضح» ، وكان كثيرا التطواف في طلب القراءات. أخذ عن الحسن بن سعيد المطّوّعي وطبقته، وكان غير ثقة ولا صادق. قاله في «العبر» .
وفيها أبو عمر البسطامي، محمد بن الحسين بن محمد بن الهيثم [6] ، الفقيه الشافعي، قاضي نيسابور، وشيخ الشافعية بها. رحل وسمع الكثير، ودرّس المذهب، وأملى عن [7] الطبراني وطبقته.
__________
[1] في «آ» : «ابن سعد» وهو خطأ وأثبت لفظ «ط» وهو الصواب.
[2] في «التبيان شرح بديعة البيان» (141/ ب- 142/ آ) .
[3] انظر «العبر» (3/ 101) .
[4] انظر «سير أعلام النبلاء» (17/ 286- 287) .
[5] انظر «العبر» (3/ 101) و «معرفة القرّاء الكبار» (1/ 380) و «غربال زمان» ص (343) .
[6] انظر «العبر» (3/ 101) .
[7] في «آ» و «ط» : «على» وما أثبته من «العبر» .(5/51)
قال ابن شهبة [1] : سمع العراق، والأهواز، وأصبهان، وسجستان، وأملى، وحدّث، وأقرأ المذهب، وكان في ابتداء أمره يعقد مجلس الوعظ والتذكير، ثم تركه وأقبل على التدريس، والمناظرة، والفتوى، ثم ولي قضاء نيسابور سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، فأظهر أهل الحديث من الفرح، والاستبشار، [والاستقبال] ، ما يطول شرحه، وكان نظير [أبي الطيب] سهل [بن محمد] الصّعلوكي حشمة، وجاها، وعلماء، فصاهره سهل، وجاء بينهما جماعة سادة فضلاء. توفي في ذي القعدة سنة ثمان، وقيل: سبع وأربعمائة. انتهى.
__________
[1] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 187) وما بين حاصرتين زيادة منه، وقد نقل المؤلف عنه بتصرف.(5/52)
سنة تسع وأربعمائة
فيها قرئ في الموكب كتاب بمذاهب السّنّة، وقيله فيه: من قال: إن القرآن مخلوق فهو كافر حلال الدّم. قاله في «الشذور» .
وفيها توفي أبو الحسين بن المتيّم [1] أحمد بن محمد بن أحمد بن حمّاد البغدادي الواعظ، في جمادى الآخرة، له جزء مشهور. روى عن المحاملي وجماعة.
وفيها ابن الصّلت الأهوازي، أحمد بن محمد بن أحمد بن موسى بن هارون بن الصّلت [2] ، ولد سنة أربع وعشرين وثلاثمائة، وسمع من المحاملي، وابن عقدة، وجماعة، وهو ثقة.
وفيها عبد الله بن يوسف بن أحمد بن باموية [3] ، الشيخ أبو محمد، المعروف بالأصبهاني، وإنما هو أردستاني- بفتح الهمزة وسكون الراء وفتح المهملة [4] فسكون المهملة ففتح الفوقية، نسبة إلى أردستان، بلد قرب أصفهان، وقيل: هو بكسر الهمزة- نزل نيسابور، وكان من كبار الصوفية وثقات المحدّثين الرّحالة. روى عن أبي سعيد بن الأعرابي، ومحمد بن
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 102) .
[2] انظر «الأنساب» (1/ 177- 178) و «العبر» (3/ 102) .
[3] في «آ» و «ط» و «الأنساب» (1/ 178) : «مامويه» وفي «معجم البلدان» : «بابويه» والتصحيح من «تبصير المنتبه» (1/ 56) .
[4] وضبطه ياقوت «الأردستاني» بكسر الدال. انظر «معجم البلدان» (1/ 146) .(5/53)
الحسين القطّان، وجماعة، وتوفي في رمضان، وله أربع وتسعون سنة.
وفيها عبد الغني بن سعيد بن علي بن سعيد بن بشر بن مروان الأزدي المصري السمرقندي [1] صاحب التصانيف، كان ثقة صاحب سنّة، حافظا علّامة، من تآليفه كتاب «المؤلف والمختلف» . مات في سابع صفر وله سبع وسبعون سنة. روى عن عثمان بن محمد السمرقندي، وإسماعيل بن الجراب [2] ، والدارقطني، وطبقتهم، ورحل إلى الشام، فسمع من الميانجي وطبقته، وكان الدارقطني يفخم أمره ويرفع ذكره، ويقول: كأنه شعلة نار.
وقال [3] منصور الطرسوسي: خرجنا نودع الدارقطني بمصر فبكينا، فقال:
تبكون وعندكم عبد الغني، وفيه الخلف.
وقال البرقاني: ما رأيت بعد الدارقطني أحفظ من بعد الغني.
وقال ابن خلّكان [4] : انتفع به خلق كثير، وكانت بينه وبين أبي أسامة جنادة اللغوي، وأبي علي المقرئ الأنطاكي مودّة أكيدة، واجتماع في دار الكتب، ومذاكرات، فلما قتلهما الحاكم صاحب مصر، استتر بسبب ذلك الحافظ عبد الغني خوفا أن يلحق بهما لاتهامه بمعاشرتهما، وأقام مستخفيا مدة حتّى حصل له الأمن، فظهر.
وقال أبو الحسن علي بن بقا، كاتب الحافظ عبد الغني: سمعت الحافظ عبد الغني يقول: رجلان جليلان لزمهما لقبان قبيحان: معاوية بن عبد الكريم الضّالّ، لم يكن ضالّا، وإنما ضلّ في طريق مكّة، وعبد الله بن محمد الضعيف، كان ضعيفا في جسمه لا في حديثه. انتهى ملخصا.
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 102- 103) و «غربال الزمان» ص (344) .
[2] في «آ» : «وإسماعيل الجراب» .
[3] في «آ» و «ط» : «وكان» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» .
[4] انظر «وفيات الأعيان» (3/ 223) .(5/54)
وفيها القاسم بن أبي المنذر الخطيب أبو طلحة القزويني [1] ، راوي «سنن ابن ماجة» عن أبي الحسن القطّان عنه، توفي في هذا العام، أو في الذي بعده.
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 103) .(5/55)
سنة عشر وأربعمائة
فيها كما قال في «الشذور» ورد إلى القادر كتاب من عين الدولة محمود بن سبكتكين يذكر ما افتتحه من بلاد الهند، فيه: إني فتحت قلاعا وحصونا، وأسلم زهاء عشرين ألفا من عبّاد الأوثان، وسلّموا قدر ألف ألف درهم من الورق [1] وبلغ عدد الهالكين منهم خمسين ألفا، ووافى العبد مدينة لهم، عاين فيها زهاء ألف قصر مشيد وألف بيت الأصنام، ومبلغ ما في الصنم ثمانية وتسعون ألف مثقال وثلاثمائة مثقال، وقلع من الأصنام الفضة زيادة على ألف صنم، فحصل منهم عشرون ألف ألف درهم، وأفرد خمس الرقيق، فبلغ ثلاثة وخمسين ألفا، واستعرض ثلاثمائة وستة وخمسين فيلا. انتهى.
وقال الذهبي [2] : وكان جيشه ثلاثين ألف فارس، سوى الرّجالة والمطّوّعة.
وقال ابن الأهدل: فتح ما لم يبلغه أحمد في الإسلام، وبنى فيها- أي الهند- مساجد، وكسر الصنم المشهور «بسر منات» وهو عند كفرة الهند يحيي ويميت، ويقصدونه لأنواع العلل، ومن لم يشف منهم الحتجّ بالذنب
__________
[1] الورق: الدراهم المضروبة. انظر «مختار الصحاح» (ورق) .
[2] انظر «العبر» (3/ 104) ، وانظر الخبر بطوله في «غربال الزمان» ص (344- 345) .(5/56)
وعدم الإخلاص، ويزعمون أن الأرواح إذا فارقت الأجساد اجتمعت إليه على مذهب أهل التناسخ، ويتركها فيمن شاء، وأن مدّ البحر وجزره عبادة له، ويتحفه كل ملوك الهند والسّند بخواص ما عندهم، حتّى بلغت أوقافه عشرة آلاف قرية، وخدمه من البراهمة ألف رجل، وثلاثمائة يحلقون رؤوسهم ولحاهم عند الورود، وثلاثمائة امرأة يغنون ويضربون عند بابه، وبين قلعة الصنم وبلاد المسلمين مسيرة شهر، مفازة قليلة الماء، صعبة المسالك، لا تهتدى طرقها، فأنفق محمود ما لا يحصى في طلبها، حتّى وصلها وفتحها في ثلاثة أيام، ودخل بيت الصنم وحوله أصنام كثيرة من الذهب المرصّع بالجوهر، محيطة بعرشه، يزعمون أنها الملائكة، فأحرق الصنم، ووجد في أذنه نيفا وثلاثين حلقة، فسألهم محمود عن تلك الحلق، فقالوا: كل حلقة عبادة ألف سنة، كلما عبدوه ألف سنة، علّقوا في أذنه حلقة، ولهم فيه أخبار طويلة. انتهى.
وفيها توفي الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه الأصبهاني [1] صاحب «التفسير» و «التاريخ» والتصانيف التي منها «المستخرج على صحيح البخاري» لستّ بقين من رمضان، وقد قارب التسعين. سمع بأصبهان، والعراق، وروى عن أبي سهل بن زياد القطّان وطبقته، وعنه عبد الرحمن بن مندة وأخوه عبد الوهاب، وخلق كثير، وكان إماما في الحديث، بصيرا بهذا الشأن.
وفيها الحافظ أبو بكر الشيرازي، أحمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن محمد [2] بن موسى الفارسي [3] الجوّال، صاحب كتاب «ألقاب الرجال» كان
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 104) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 308- 311) و «التبيان شرح بديعة البيان» (142/ آ) .
[2] في «آ» : «ابن أحمد بن أحمد» وأثبت لفظ «ط» وهو الصواب.
[3] انظر «سير أعلام النبلاء» (17/ 242- 245) و «التبيان شرح بديعة البيان» (142/ ب- 143 آ) .(5/57)
حافظا، وصدوقا متقنا. ذكره ابن ناصر الدّين في «بديعته» وأثنى عليه، وعدّه من الحفّاظ، لكن جزم بموته في السنة التي بعدها.
وفيها أبو القاسم الشّيباني، عبد الرحمن بن عمر بن نصر الدمشقي [1] المؤدّب، في رجب. روى عن خيثمة وطبقته، واتهموه في لقاء [2] أبي إسحاق بن أبي ثابت، ويذكر عنه الاعتزال. قاله في «العبر» [3] .
وفيها ابن بالويه المزكّي أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن بالويه النيسابوري [4] . آخر من روى عن محمد بن الحسين القطان، وكان ثقة نبيلا وجيها، توفي فجاءة [5] في شعبان، وكان يملي في داره.
وفيها ابن بابك، الشاعر المشهور، عبد الصمد بن منصور بن الحسين بن بابك [6] ، أحد الشعراء المجيدين المكثرين، ديوانه في ثلاث مجلدات، وله أسلوب رائق في نظم الشعر، وجاب البلاد، ومدح الرؤساء- وبابك بفتح الموحدتين- قال له الصاحب بن عبّاد: أنت ابن بابك؟ فقال:
ابن بابك، فأعجب به غاية الإعجاب.
ومن شعره:
وأغيد معسول الشمائل زارني ... على فرق والنجم حيران طالع
فلما جلى صبح [7] الدّجى قلت حاجب ... من الصبح أو قرن من الشمس لامع
إلى أن دنا والسّحر رائد طرفه ... كما ريع ضبي بالصّريمة راتع
فنازعته الصهباء والليل دامس ... رقيق حواشي البرد والنّسر واقع
__________
[1] انظر «ميزان الاعتدال» (2/ 580) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 262) .
[2] في «آ» و «ط» و «العبر» بطبعتيه: «في لقي» وما أثبته من «سير أعلام النبلاء» (17/ 262) .
[3] (3/ 104) .
[4] انظر «سير أعلام النبلاء» (17/ 240- 241) و «العبر» (3/ 104) .
[5] في «العبر» و «سير أعلام النبلاء» : «فجأة» وكلاهما صحيح.
[6] انظر «وفيات الأعيان» (3/ 196- 198) و «العبر» (3/ 104- 105) .
[7] في «وفيات الأعيان» : «صبغ» .(5/58)
عقارا [1] عليها من دم الصّبّ بعضه [2] ... ومن عبرات المستهام فواقع
تدير [3] إذا شحّت [4] عيونا كأنها ... عيون العذارى شقّ عنها البراقع
معوّدة غصب العقول كأنما [5] ... لها عند ألباب الرجال ودائع
فبتنا وظلّ الوصل دان وسرّنا ... مصون ومكتوم الصبابة ذائع
إلى أن سلا عن ورده فارط الغطا ... ولاذت بأطراف الغصون السّواجع
فولّى أسير السّكر يكبو لسانه ... فتنطق عنه بالوداع الأصابع
وله أيضا:
يا صاحبي امزجا كأس المدام لنا ... كيما يضيء لنا من نورها الغسق
خمرا إذا ما نديمي همّ يشربها ... أخشى عليه من اللألاء يحترق
لو رام يحلف أن الشمس ما غربت ... في فيه كذّبه في وجهه الشّفق
وله بيت من قصيدة وهو الغاية رقّة:
ومرّ بي النسيم فرقّ حتّى ... كأني قد شكوت إليه ما بي
وتوفي ببغداد رحمه الله تعالى.
وفيها أبو عمر بن مهدي، عبد الواحد بن محمد بن عبد الله الفارسي ثم البغدادي البزّاز [6] آخر أصحاب المحاملي، وابن مخلد، وابن عقدة.
قال الخطيب: ثقة. توفي في رجب، وله اثنتان وتسعون سنة.
وفيها القاضي أبو منصور الأزدي [7] محمد بن محمد بن عبد الله
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «عقار» .
[2] في «وفيات الأعيان» : «نفضة» .
[3] في «آ» و «ط» : «تذر» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» مصدر المؤلف.
[4] في «وفيات الأعيان» : «شجت» .
[5] في «آ» و «ط» : «كأنها» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» .
[6] انظر «تاريخ بغداد» (11/ 13- 14) و «العبر» (3/ 105) .
[7] انظر «سير أعلام النبلاء» (17/ 274) و «العبر» (3/ 105) .(5/59)
الفقيه، شيخ الشافعية بهراة، ومسند البلد، رحل وسمع ببغداد من أحمد بن عثمان الأدمي، وبالكوفة من ابن دحيم وطائفة، توفي فجاءة في المحرم.
وفيها أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش [1]- بميم مفتوحة وحاء مهملة ساكنة، بعدها ميم مكسورة، ثم شين معجمة- ابن علي بن داود بن أيوب الأستاذ، الزّيادي، الفقيه الشافعي، عالم نيسابور ومسندها. ولد سنة سبع عشرة وثلاثمائة [2] وسمع سنة خمس وعشرين من أبي حامد بن بلال، ومحمد بن الحسين القطان، وعبد الله بن يعقوب الكرماني، وخلق، وأملى ودرّس، وكان قانعا متعفّفا، له مصنّف في علم الشروط، وروى عنه الحاكم مع تقدمه عليه، وأثنى عليه، وعرف بالزّيادي لأنه كان يسكن ميدان زياد بن عبد الرحمن.
وقال ابن السمعاني: إنما سمّي بذلك نسبة إلى بعض أجداده.
وفيها هبة الله [بن] سلامة بن أبي القاسم البغدادي [3] المفسّر، مؤلف كتاب «الناسخ والمنسوخ» وجدّ رزق الله التميمي لأمه. كان من أحفظ الأئمة للتفسير، وكان ضريرا، له حلقة بجامع المنصور.
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 105) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 276- 278) .
[2] تنبيه: كذا في كتابنا و «الأنساب» (6/ 336) و «تهذيب الأسماء واللغات» (2/ 245) و «العبر» (3/ 105) و «طبقات الشافعية الكبرى» (4/ 198) و «طبقات الشافعية» للإسنوي (1/ 609) و «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 193) : «ولد سنة سبعة عشرة وثلاث مائة» وفي «سير أعلام النبلاء» (17/ 277) : «سنة سبع وعشرين وثلاث مائة» وهو خطأ فيصحح فيه.
[3] انظر «نكت الهيمان» ص (302) و «العبر» (3/ 106) و «طبقات المفسرين» للداودي (2/ 347- 348) . وما بين حاصرتين مستدرك منها.(5/60)
سنة إحدى عشرة وأربعمائة
فيها كان الغلاء المفرط بالعراق، حتّى أكلوا الكلاب والحمر.
وفيها توفي أبو نصر النّرسي، أحمد بن محمد بن أحمد بن حسنون البغدادي [1] . الصدوق الصالح. روى عن ابن البختري، وعلي بن إدريس السّتوري.
وفيها الحاكم بأمر الله، أبو علي منصور بن نزار العزيز بالله [2] بن المعز العبيدي، صاحب مصر، والشام، والحجاز، والمغرب، فقد في شوال وله ست وثلاثون سنة، قتلته أخته ست الملك، بعد أن كتب إليها ما أوحشها وخوّفها، واتهمها بالزّنى، فدسّت من قتله، وهو طليب بن دوّاس، المتهم بها، ولم يوجد من جسده شيء، وأقامت بعده ولده، ثم قتلت طليبا، وكلّ من اطّلع على أمر أخيها.
وكان الحاكم شيطانا مريدا، خبيث النفس، متلوّن الاعتقاد، سمحا جوادا، سفّاكا للدماء، قتل عددا كثيرا من كبراء دولته صبرا، وأمر بشتم الصحابة، وكتبه على أبواب المساجد، وأمر بقتل الكلاب حتّى لم يبق في
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 106) .
[2] في «آ» و «ط» : «منصور بن عبد العزيز نزار» وهو خطأ والتصحيح من كتب التاريخ والتراجم.(5/61)
مملكته منها إلّا القليل، وأبطل الفقّاع [1] ، والملوخية، والسمك الذي لا فلوس له [2] ، وأتى بمن باع ذلك سرّا فقتلهم، ونهى عن بيع الرّطب، ثم جمع منه شيئا عظيما وحرقه، وأباد أكثر الكروم، وشدّد في الخمر، وألزم [أهل] [3] الذّمة بحمل الصّلبان والقرامي في أعناقهم كما قدّمناه، وأمرهم بلبس العمائم السود، وهدم الكنائس، ونهى عن تقبيل الأرض له ديانة منه، وأمر بالسلام فقط، وأمر الفقهاء ببث [مذهب] مالك [4] ، واتخذ له مالكيين يفقهانه، ثم ذبحهما صبرا، ثم نفى المنجّمين من بلاده، وحرّم على النساء الخروج، فما زلن ممنوعات سبع سنين وسبعة أشهر، حتّى قتل، ثم تزهّد وتألّه ولبس الصوف، وبقي يركب حمارا، ويمرّ وحده في الأسواق، ويقيم الحسبة بنفسه، ويقال: إنه أراد [أن] يدّعي الإلهية كفرعون، وشرع في ذلك، فخوّفه خواصه من زوال دولته فانتهى، وكان المسلمون و [أهل] الذّمة في ويل وبلاء شديد معه.
قال ابن خلّكان [5] : والحاكم المذكور هو الذي بنى الجامع الكبير بالقاهرة، بعد أن شرع فيه والده، فأكمله هو، وبنى جامع راشدة بظاهر مصر، وكان المتولّي بناءه الحافظ عبد الغني بن سعيد، والمصحّح لقبلته ابن يونس المنجم، وأنشأ عدة مساجد بالقرافة [وغيرها] وحمل إلى الجامع من المصاحف والآلات الفضية والستور والحصر ما له قيمة طائلة.
وكان يفعل الشيء وينقضه.
__________
[1] الفقاع: شراب يتخذ من الشعير، يخمّر حتى تعلوه فقّاعاته. انظر «المعجم الوسيط» (فقع) وراجع «تاج العروس» (فقع) .
[2] جاء في «تاج العروس» (فلس) : شيء مفلس اللون كمعظّم، إذا كان على جلده لمع كالفلوس.
[3] سقطت من «آ» و «ط» واستدركتها من «العبر» .
[4] في «آ» و «ط» : «ببث ذلك» والتصحيح من «العبر» وما بين حاصرتين مستدرك منه.
[5] انظر «وفيات الأعيان» (5/ 296) .(5/62)
(وكان الحاكم المذكور سيء الاعتقاد، كثير التنقل من حال إلى حال، ابتدأ أمره بالتزيّي بزي آبائه، وهو الثياب المذهّبة والفاخرة، والعمائم المنظومة بالجواهر النفيسة، وركوب السروج الثقيلة المصوغة، ثم بدا له [تركه] بعد ذلك، وتركه على تدريج بأن انتقل منه إلى المعلّم غير المذهّب، ثم زاد الأمر به حتّى لبس الصوف، وركب الحمر، وأكثر من طلب أخبار الناس والوقوف على أحوالهم، وبعث المتجسسين من الرجال والنساء فلم يكن يخفى عليه رجل ولا امرأة من حواشيه ورعيته، وكان مؤاخذا بيسير الذنب، لا يملك نفسه عند الغضب، فأفنى رجالا وأباد أجيالا وأقام هيبة عظيمة وناموسا، وكان يقتل خاصته وأقرب النّاس إليه، وربما أمر بإحراق بعضهم، وربما أمر بحمل بعضهم وتكفينه ودفنه وبناء تربة عليه، وألزم كافة الخواص بملازمة قبره والمبيت عنده وأشياء من هذا الجنس يموّه بها على أصحاب العقول السخيفة، فيعتقدون أنه له في ذلك أغراضا صحيحة، ومع هذا القتل العظيم والطغيان المستمر، يركب وحده منفردا تارة، وفي الموكب أخرى، وفي المدينة طورا وفي البريّة آونة، والناس كافة على غاية الهيبة والخوف منه، والوجل لرؤيته، وهو بينهم كالأسد الضاري، فاستمر أمره كذلك مدة ملكه، وهو نحو إحدى وعشرين سنة، حتّى عنّ له أن يدّعي الإلهية، ويصرّح بالحلول والتناسخ، ويحمل الناس عليه، وألزم الناس بالسجود مرّة إذا ذكر، فلم يكن يذكر في محفل ولا مسجد، ولا على طريق إلّا سجد من يسمع ذكره. وقبّل الأرض إجلالا له، ثم لم يرضه ذلك حتّى كان في شهر رجب سنة تسع وأربعمائة، ظهر رجل يقال له: حسن بن حيدرة الفرغاني الأخرم، يرى حلول الإله في الحاكم، ويدعو إلى ذلك، ويتكلم في إبطال الثواب، وتأوّل جميع ما ورد في الشريعة، فاستدعاه الحاكم- وقد كثر تبعه- وخلع عليه خلعا سنيّة، وحمله على فرس مسرّج في موكبه، وذلك في ثاني رمضان منها،(5/63)
فبينما هو يسير في بعض الأيام، تقدّم إليه رجل من الكرخ على جسر طريق المقياس [1] وهو في الموكب، فألقاه عن فرسه ووالى العرب عليه، حتّى قتله، فارتجّ الموكب، وأمسك الكرخيّ فأمر به فقتل في وقته، ونهب النّاس دار الأخرم بالقاهرة، وأخذ جميع ما كان له، فكان بين الخلع عليه وقتله ثمانية أيام، وحمل الأخرم في تابوت وكفّن بأكفان حسنة، وحمل أهل السّنّة الكرخيّ ودفنوه، وبنوا على قبره، ولازم النّاس زيارته ليلا ونهارا، فلما كان بعد عشرة أيام أصبح النّاس، فوجدوا القبر منبوشا وقد أخذن جثته، ولم يعلم ما فعل بها) [2] . انتهى ما أورده ابن خلّكان ملخصا.
وفيها القاضي أبو القاسم الحسن بن الحسين بن المنذر البغدادي [3] قاضي [4] ميّافارقين، ببغداد في شعبان، وله ثمانون سنة. كان صدوقا، علّامة بالفرائض. روى عن ابن البختري، وإسماعيل الصّفّار، وجماعة.
وفيها أبو القاسم الخزاعي علي بن أحمد بن محمد البخلي، راوي «مسند» الهيثم بن كليب الشاشي عنه، وقد روى عنه جماعة كثيرة، وحدّث ببلخ، وبخارى، وسمرقند، ومات في صفر ببخارى عن بضع وثمانين سنة.
__________
[1] انظر «معجم البلدان» (5/ 178) .
[2] ما بين القوسين لم يرد في «وفيات الأعيان» الذي بين يدي فتنبه.
[3] انظر «العبر» (3/ 108- 109) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 338- 339) .
[4] لفظة «قاضي» لم ترد في «آ» وأثبتها من «ط» و «العبر» .(5/64)
سنة اثنتي عشرة وأربعمائة
فيها توفي أبو سعد الماليني [1]- نسبة إلى مالين قرية مجتمعة من أعمال هراة- أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله الهروي الصوفي، الحافظ، الثقة، المتقن، طاووس الفقراء.
قال الخطيب: كان ثقة، متقنا، صالحا [2] .
وقال غيره: سمع بخراسان، والحجاز، والشام، والعراق، ومصر، وحدّث عن أبي أحمد بن عدي وطبقته، وكتب الكتب الطوال، وأكثر التطواف إلى أن مات، وتوفي بمصر في سابع عشر شوال.
وفيها الحسين [3] بن عمر بن برهان الغزّال، أبو عبد الله البغدادي الثقة، حدّث عن ابن البختري وطبقته.
وفيها أبو محمد الجرّاحي عبد الجبار بن محمد بن عبد الله بن أبي الجراح المرزباني المروزي [4] ، راوي [5] «جامع الترمذي» عن المحبوبي.
سكن هراة، وروى بها الكتاب.
__________
[1] انظر «تاريخ بغداد» (4/ 371- 372) و «العبر» (3/ 109) .
[2] في «تاريخ بغداد» : وكان ثقة، صدوقا، متقنا، خيرا، صالحا» .
[3] تحرّف في «آ» و «ط» إلى «الحسن» والتصحيح من «تاريخ بغداد» (8/ 82) و «العبر» (3/ 110) .
[4] انظر «الأنساب» (3/ 214) و «العبر» (3/ 110) .
[5] في «ط» . «روى» .(5/65)
قال أبو سعد السمعاني: هو ثقة صالح- إن شاء الله تعالى [1]- توفي سنة اثنتي عشرة. قاله في «العبر» .
وفيها غنجار الحافظ، صاحب «تاريخ بخارى» محمد بن أحمد بن محمد بن سليمان بن كامل أبو عبد الله البخاري [2] . روى عن خلف الخيّام وطبقته.
قال ابن ناصر الدّين [3] : كان حافظا ثقة مصنفا.
وفيها ابن رزقويه الحافظ أبو الحسن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رزق البغدادي البزاز [4] . روى عن ابن البختري، ومحمد بن يحيى الطائي، وطبقتهما.
قال الخطيب: كان ثقة، كثير السماع والكتابة، حسن الاعتقاد، مديما للتلاوة، أملى بجامع المدينة مدة سنين، وكفّ بصره بأخرة [5] . ولد سنة خمس وعشرين وثلاثمائة.
وقال الأزهري: أرسل بعض الوزراء إلى ابن رزقويه بمال فردّه تورعا، توفي في جمادى الأولى.
وفيها الحافظ أبو الفتح بن أبي الفوارس، محمد بن أحمد بن محمد بن فارس البغدادي [6] المصنّف الثقة، في ذي القعدة، وله أربع
__________
[1] عبارة «إن شاء الله تعالى» تأخرت في «الأنساب» إلى عقب قوله: «توفي سنة اثنتي عشرة وأربعمائة» .
[2] انظر «العبر» (3/ 110) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 304- 305) .
[3] في «التبيان شرح بديعة البيان» (143/ ب) وقد نقل المؤلف كلامه بتصرّف.
[4] تصحفت نسبته في «آ» إلى «البزار» وأثبت لفظ «ط» وهو الصواب.
[5] في «ط» : «بآخره» .
[6] انظر «تاريخ بغداد» (1/ 352- 353) و «العبر» (3/ 111) و «طبقات الحفّاظ» ص (412- 413) .(5/66)
وسبعون سنة. سمع من جعفر الخلدي وطبقته.
قال الخطيب: كان ذا حفظ، ومعرفة وأمانة، مشهورا بالصلاح والانتخاب على المشايخ، وكان يملي في جامع الرّصافة.
وفيها أبو عبد الرحمن السّلمي محمد بن الحسين بن موسى النيسابوري [1] الصوفي الحافظ شيخ الصوفية، صحب جده أبا عمرو [2] بن نجيد، وسمع الأصمّ وطبقته، وصنف «التفسير» و «التاريخ» وغير ذلك، وبلغت تصانيفه مائة.
قال محمد بن يوسف النيسابوري القطّان: كان يضع للصوفية.
وقال الخطيب: قدر أبي عبد الرحمن عند أهل بلده جليل، وكان مع ذلك مجودا صاحب حديث، وله بنيسابور دويرة للصوفية، توفي في شعبان.
قاله جميعه في «العبر» .
وقال ابن ناصر الدّين [3] : حدّث عنه أبو القاسم القشيري، والبيهقي، وغيرهما، وهو حافظ زهاد لكن ليس بعمدة، وله في حقائق التفسير تحريف [4] كثير. انتهى.
وفيها صريع الدّلاء، قتيل الغواشي، محمد بن عبد الواحد البصري [5] الشاعر الماجن، صاحب المقصورة المشهورة:
قلقل أحشائي تباريح الجوى [6]
__________
[1] انظر «سير أعلام النبلاء» (17/ 247- 255) و «العبر» (3/ 111) و «غربال الزمان» ص (346) .
[2] في «آ» و «ط» : «أبو عمر» وهو خطأ، والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» (16/ 146) . (ع) .
[3] في «التبيان شرح بديعة البيان» (143/ ب) .
[4] في «ط» : «تخريف» وهو تصحيف.
[5] انظر «وفيات الأعيان» (3/ 383- 384) و «العبر» (3/ 112) .
[6] صدر بيت في «تتمة يتيمة الدهر» ص (23) طبع دار الكتب العلمية وعجزه:
............... وبان صبري حين حالفت الأسى(5/67)
قال ابن خلّكان: هو علي بن عبد الواحد، أبو الحسن، وقيل أبو الحسن محمد بن عبد الله بن عبد الواحد القصّار البصري، الشاعرى المشهور، ذكره الرشد أحمد بن الزبير في كتاب «الجنان» فقال: كان يسلك مسلك أبي الرّقعمق [1] ، وله قصيدة في المجون ختمها ببيت لو لم يكن له في الجدّ سواه لبلغ درجة الفضل، وأحرز معه قصب السبق، وهو:
من فاته العلم وأخطأه الغنى ... فذاك والكلب على حال [2] سوا
وكانت وفاته في رجب فجأة من شرقة لحقته عند الشريف البطائحي [3] ، وغالب ظني أنه توفي بمصر.
وفيه قال أبو العلاء المعري:
دعيت بصارع فتداركته ... مبالغة فردّ إلى فعيل
كان طلب منه شرابا وما يليق به، فسيّر إليه قليل نفقة، واعتذر بهذه الأبيات. انتهى ملخصا.
وفيها أبو العبّاس منير بن أحمد بن الحسن بن منير الخشّاب المصري المعدّل [4] ، شيخ الخلعي. روى عن علي بن عبد الله بن أبي مطر وجماعة.
قال الحبّال: كان ثقة لا يجوز عليه تدليس، توفي في ذي القعدة.
__________
[1] انظر ترجمته في «وفيات الأعيان» (1/ 131- 132) .
[2] الذي في «العبر» (3/ 112) «والبداية والنهاية» (12/ 15) «حدّ» .
[3] في «آ» و «ط» : «الطحاوي» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[4] انظر «العبر» (3/ 112) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 267) .(5/68)
سنة ثلاث عشرة وأربعمائة
فيها تقدم بعض الباطنيّة من المصريين، فضرب الحجر الأسود بدبوس ثلاث مرات، وقال: إلى متى يعبد [هذا] الحجر، ولا محمد ولا علي، أفيمنعني محمد مما أفعله، فإني اليوم أهدم [أكثر] هذه البيت، فاتقاه أكثر الحاضرين، وكاد [أن] يفلت، وكان أحمر أشقر جسيما طويلا، وكان على باب المسجد عشرة فوارس ينصرونه، فاحتسب رجل فوجأه [1] بخنجر، ثم تكاثورا عليه، فهلك وأحرق، وقتل جماعة ممّن اتّهم بمعاونته، واختبط الوفد، ومال الناس على ركب المصريين بالنهب، وتخشّن وجه الحجر، وتساقط منه شظايا يسيرة، وتشقق، وظهر مكسورة [2] أسمر يضرب إلى صفرة محببا مثل حبّ الخشخاش، فعجن الفتات بالمسك واللّك [3] وحشيت الشقوق وطليت، فهو يبين لمن تأمله.
وفيها توفي بشيراز، سلطان الدولة أبو شجاع بن بهاء الدولة أبي نصر بن عضد الدولة الدّيلمي [4] ، صاحب العراق وفارس، ولّي السلطنة بعد
__________
[1] جاء في «لسان العرب» (وجأ) : الوجء: اللّكز، وجأه باليد والسّكّين: ضربه.
[2] في «العبر» : «مكسرة» .
[3] اللّكّ: بالفتح شيء أحمر يصبغ به. انظر «مختار الصحاح» (لكك) .
[4] انظر «العبر» (3/ 113) .(5/69)
أبيه وهو صبي، وأرسل إليه القادر بالله خلع الملك إلى شيراز، وقد قدم بغداد في وسط سلطنته [ورجع] ، وكانت دولته ضعيفة متماسكة، وعاش اثنتين وعشرين سنة وخمسة أشهر.
وفيها أبو القاسم صدقة بن محمد بن أحمد بن محمد بن القاسم بن الدّلم القرشي الدّمشقي [1] ، الثقة الأمين، محدّث دمشق ومسندها. روى عن أبي سعيد بن الأعرابي، وأبي الطيب بن عبادل، وطائفة، ومات في جمادى الآخرة.
وفيها أبو المطرّف القنازعي [2] الفقيه، عبد الرحمن بن مروان القرطبيّ المالكيّ. ولد سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة، وسمع من أبي عيسى اللّيثي وطبقته، وقرأ القراءات على جماعة، منهم، علي بن محمد الأنطاكي، ورحل فأكثر عن الحسن بن رشيق، وعن أبي محمد بن أبي زيد، ورجع، فأقبل على الزهد، والانقباض، ونشر العلم، والإقراء، والعبادة، والأوراد، والمطالعة، والتصنيف، فشرح «الموطأ» وصنّف كتابا في الشروط، وكان أقرأ من بقي بالأندلس.
وفيها أبو القاسم عبد العزيز بن جعفر بن خواستي [3] ، أبو القاسم الفارسي ثم البغدادي، المقرئ المحدّث، مسند أهل الأندلس في زمانه.
ولد سنة عشرين وثلاثمائة، وسمع من إسماعيل الصّفّار، وابن داسة، وطبقتهما، وقرأ بالروايات على أبي بكر النقّاش، وعبد الواحد بن أبي هاشم، وكان تاجرا، توفي في ربيع الأول، وقد أكثر عنه أبو عمرو الدّاني.
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 114) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 266- 267) .
[2] انظر «العبر» (3/ 114) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 342- 343) .
[3] في «آ» و «ط» : «خواشتي» وهو تصحيف، والتصحيح من «العبر» (3/ 114) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 351) .(5/70)
وفيها علي بن هلال أبو الحسن بن البوّاب [1] صاحب الخط المنسوب، كتب على محمد بن أسد، وأخذ العربية عن ابن جنّي، وكان في شبيبته مزوّقا دهانا في السقوف، ثم صار يذهّب الختم وغيرها، فبرع في ذلك، ثم عني بالكتابة، ففاق فيها الأوائل والأواخر، ووعظ وعبّر الرؤيا، وقال النّظم والنثر، ونادم فخر الملك أبا غالب الوزير، ولم يعرف الناس قدر خطّه إلا بعد موته، لأنه كتب ورقة إلى كبير يشفع فيها في مساعدة إنسان بشيء لا يساوي دينارين، وقد بسط القول فيها، فلما كان بعد موته بمدة، بيعت تلك الورقة بسبعة عشر دينارا.
قال الخطيب [2] : كان رجلا ديّنا لا أعلمه روى شيئا.
وقال ابن خيرون: كان من أهل السّنّة، توفي في جمادى الأولى، ودفن [إلى] جوار الإمام أحمد بن حنبل.
ورثاه بعضهم بقوله:
استشعر الكتّاب فقدك سالفا ... وقضت بصحّة ذلك الأيام
فلذاك سوّدت الدّويّ كآبة ... أسفا عليك وشقّت الأقلام [3]
وفيها أبو الفضل الجارودي محمد بن أحمد بن محمد الهروي [4] الحافظ، في شوال، روى عن حامد الرّفّاء، والطبراني، وطبقتهم، وكان شيخ الإسلام [5] إذا روى عنه قال: حدّثنا إمام أهل المشرق الجارودي.
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 115) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 315- 320) .
[2] ساق هذا النقل الذهبي في «سير أعلام النبلاء» و «العبر» ونقله عنه المؤلف، ولم أر للمترجم ترجمة في «تاريخ بغداد» .
[3] البيتان في سياق ترجمته في «وفيات الأعيان» (3/ 342- 344) .
[4] انظر «العبر» (3/ 116) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 384- 386) .
[5] يعني عبد الله بن محمد بن علي الأنصاري الهروي، المتوفي سنة (481) هـ-، وهو ممّن أخذ عنه، وكان يلقب بشيخ الإسلام.(5/71)
وقال أبو النضر الفامي: كان عديم النظير في العلوم، خصوصا في علم الحفظ والتحديث، وفي التقلّل من الدّنيا، والاكتفاء بالقوت، وحيدا في الورع. قال في «العبر» .
وفيها المفيد أبو عبد الله محمد بن محمد بن النّعمان البغدادي الكرخي، ويعرف أيضا بابن المعلّم [1] ، عالم الشيعة، وإمام الرافضة، وصاحب التصانيف الكثيرة.
قال ابن أبي طيّ في «تاريخ الإمامية» : هو شيخ مشايخ الطائفة [2] ، ولسان الإمامية، رئيس الكلام والفقه والجدل، وكان يناظر أهل كل عقيدة، مع الجلالة العظيمة في الدولة البويهية. قال: وكان كثير الصدقات، عظيم الخشوع، كثير الصلاة والصوم، حسن اللباس.
وقال غيره: كذا عضد الدولة ربما زار الشيخ المفيد، وكان شيخا ربعة، نحيفا، أسمر، عاش ستا وسبعين سنة، وله أكثر من مائتي مصنف، كانت جنازته مشهودة [3] شيّعه ثمانون ألفا من الرافضة والشيعة [4] ، وأراح الله منه، وكان موته في رمضان، رحمه الله. قاله في «العبر» .
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 116- 117) و «ميزان الاعتدال» (4/ 26 و 30) و «الأعلام» (7/ 20) .
[2] في «ط» «الصوفية» .
[3] في «آ» و «ط» : «مشهورة» وما أثبتناه من «العبر» .
[4] في «العبر» : «من الرافضة والشيعة والخوارج» . (ع) .(5/72)
سنة أربع عشرة وأربعمائة
فيها توفي أبو القاسم تمّام بن محمد بن عبد الله بن جعفر البجلي الرّازي ثم الدمشقي [1] الحافظ، ولد الحافظ أبي الحسين، في ثالث المحرم، وله أربع وثمانون سنة. روى عن خيثمة، وأبي علي الحصائري [2] وطبقتهما.
قال الكتّاني: كان ثقة، لم أر أحفظ منه في حديث الشاميين.
وقال أبو علي الأهوازي: ما رأيت مثله في معناه.
قال أبو بكر الحداد: ما رأينا مثل تمّام في الحفظ والخير.
وفيها أبو عبد الله الغضائري الحسين بن الحسن بن محمد بن حليس المخزومي البغدادي [3] . روى عن الصّولي، والصفّار، وجماعة.
قال الخطيب: كتبنا عنه، وكان ثقة فاضلا، مات في المحرم.
وفيها الحسين بن عبد الله بن محمد بن إسحاق بن أبي كامل الأطرابلسي [4] العدل. روى عن خال أبيه خيثمة وطائفة بدمشق ومصر.
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 117- 118) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 289- 293) .
[2] تصحفت في «آ» و «ط» إلى «الحضائري» .
[3] انظر «العبر» (3/ 118) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 327- 328) .
[4] انظر «العبر» (3/ 118) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 339) .(5/73)
وفيها أبو عبد الله بن فنجويه [1] ، الحسين بن محمد بن الحسين الثقفي الدّينوري بنيسابور، في ربيع الآخر، وكان ثقة مصنفا، روى عن أبي بكر بن السّني، وعيسى بن حامد الرّخجي، وطبقتهما، وحصل له حشمة ومال.
وفيها أبو الحسن بن جهضم، علي بن عبد الله بن الحسن بن جهضم الهمذاني [2] ، شيخ الصوفية بالحرم، ومؤلف كتاب «بهجة الأسرار» في التصوف. روى عن أبي سلمة القطّان، وأحمد بن عثمان الأدمي، وعلي بن أبي العقب، وطبقتهم، وأكثر النّاس عنه، وطال عمره.
قال ابن خيرون: قيل إنه يكذب.
وقال غيره: اتهموه بوضع الحديث.
وفيها الإمام أبو الحسن بن ماشاذه، علي بن محمد بن أحمد بن ميله الأصفهاني [3] ، الفقيه الفرضي الزاهد. روى عن [أبي عمرو] أحمد [بن محمد] بن حكيم، وأبي علي المصاحفي [4] ، وعبد الله بن جعفر بن فارس، وطائفة، وأملى عدّة مجالس.
قال أبو نعيم- وبه ختم كتاب «الحلية» -: ختم التحقيق [5] بطريقة الصوفية بأبي الحسن، لما أولاه الله من فنون العلم والسخاء والفتوّه. كان عارفا
__________
[1] تحرّفت في «آ» و «ط» و «العبر» (3/ 118) إلى «فتحويه» والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» (17/ 383) و «تبصير المنتبه» (3/ 1084) .
[2] انظر «العبر» (3/ 118- 119) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 275- 276) .
[3] انظر «العبر» (3/ 119) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 297- 299) وما بين حاصرتين زيادة منهما.
[4] تحرّفت نسبته في «سير أعلام النبلاء» إلى «الصحاف» فتصحح فيه، وهو أحمد بن محمد بن إبراهيم المصاحفي. انظر «الأنساب» (11/ 338) .
[5] في «آ» و «ط» «المتحقق» وما أثبته من «حلية الأولياء» (10/ 408) و «العبر» .(5/74)
بالله، فقيها عاملا [1] ، له الحظ الجزيل من الأدب.
وقال أبو نعيم أيضا [2] : كانت لا تأخذه في الله لومة لائم، كان ينكر على المشبّهة من الصوفية [3] وغيرهم فساد مقالتهم في الحلول والإباحة والتشبيه.
وفيها أبو عمر الهاشمي، القاسم بن جعفر [4] بن عبد الواحد العبّاسي البصري، الشريف القاضي، من ولد الأمير جعفر بن سليمان، ولد سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، وسمع من اللؤلؤي «سنن أبي داود» ومن أبي العبّاسي الأثرم، وعلي بن إسحاق المادرائي [5] ، وطائفة.
قال الخطيب: كان ثقة أمينا، ولي قضاء البصرة، ومات بها في ذي القعدة.
وفيها الحافظ أبو سعيد النقّاش، محمد بن علي بن عمرو [6] بن مهدي الأصبهاني الحنبلي [7] ، صاحب التصانيف، في رمضان. روى عن ابن فارس، وإبراهيم الهجيمي [8] ، وأبي بكر الشافعي، وطبقتهم، وكان ثقة صالحا. قاله في «العبر» .
__________
[1] في «آ» : «عالما» وما أثبته من «ط» .
[2] لم يرد هذا النقل في «حلية الأولياء» الذي بين يدي.
[3] في «آ» و «ط» : «بالصوفية» وما أثبته من «العبر» .
[4] في «آ» و «ط» : «القاسم بن سعد» وهو خطأ، والتصحيح من «تاريخ بغداد» (12/ 451) و «العبر» (3/ 119) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 225) .
[5] في «آ» «ط» : «المادراي» وفي «تاريخ بغداد» : «المادراني» وكلاهما خطأ، والتصحيح من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» وانظر «الأنساب» (11/ 64) .
[6] في «آ» و «ط» : «علي بن عمر» ، والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» و «العبر» . (ع) .
[7] انظر «العبر» (3/ 120) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 307- 308) .
[8] تحرّفت نسبته في «آ» و «ط» إلى: «الجهمي» والتصحيح من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» و «تذكرة الحفاظ» (3/ 1059- 1060) .(5/75)
وقال ابن ناصر الدّين [1] : كان حافظا إماما ذا إتقان، رحل وطوّف [وجمع] ، وصنّف [وأملى الكثير] مع الصدق والأمانة والتحرير.
وفيها أبو الفتح، هلال بن محمد بن جعفر بن سعدان الحفّار [2] ببغداد، وله اثنتان وتسعون سنة. روى عن ابن عيّاش القطان، وابن البختري [3] وطائفة.
قال الخطيب: صدوق، كتبنا عنه.
وفيها أبو زكريا المزكّي، يحيى بن إبراهيم بن محمد بن يحيى النيسابوري [4] شيخ العدالة ببلده. كان صالحا زاهدا ورعا، صاحب حديث كأبيه أبي إسحاق المزكّي، روى عن الأصمّ وأقرانه، ولقي ببغداد النّجاد وطبقته، وأملى عدة مجالس، ومات في ذي الحجّة.
__________
[1] في «التبيان شرح بديعة البيان» (114/ آ) وما بين حاصرتين مستدرك منه.
[2] انظر «تاريخ بغداد» (14/ 75) و «الأنساب» (10/ 428) و «العبر» (3/ 120) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 293- 295) .
[3] تحرّفت في «آ» إلى «البحيري» وأثبت ما في «ط» وهو الصحيح.
[4] انظر «العبر» (3/ 120) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 295- 296) .(5/76)
سنة خمس عشرة وأربعمائة
فيها توفي أبو الحسن المحاملي [1] ، شيخ الشافعية، أحمد بن محمد بن أحمد بن القاسم بن إسماعيل الضّبّي. تفقه على والده أبي الحسين، وعلى الشيخ أبي حامد الإسفراييني، ورحل به أبوه، فأسمعه بالكوفة من [ابن] أبي السري [2] البكّائي، ومات في ربيع الآخر، عن سبع وأربعين سنة، وكان عديم النظير في الذكاء والفطنة، صنّف عدة كتب.
قال الشيخ أبو حامد: هو اليوم أحفظ للفقه [3] مني.
وحكي عن ابن الصلاح [4] ، عن الفقيه سليم، أن المحامليّ لما صنّف كتبه «المقنع» و «المجرد» وغير ذلك من كتب أستاذه أبي حامد، ووقف عليها [5] ، قال: بتر كتبي، بتر الله عمره [6] فما عاش إلّا يسيرا [7] ، حتّى مات
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 121) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 403- 405) .
[2] في «آ» و «ط» : (من أبي السر» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» و «تاريخ بغداد» (4/ 372) وهو أبو الحسين علي بن عبد الرحمن البكائي انظر «الأنساب» (2/ 270) .
[3] لفظة «للفقه» سقطت من «العبر» فتستدرك فيه.
[4] في «ط» : «وحكى ابن الصلاح» .
[5] يعني ووقف عليها شيخه أبو حامد.
[6] في «آ» و «ط» : «نثر كتبي، نثر الله عمر» والتصحيح من «الأسماء واللغات» للنووي (2/ 210) .
[7] في «آ» : «إلا اليسير» وأثبت لفظ «ط» .(5/77)
ونفذت فيه دعوة الشيخ أبي حامد، ومن تصانيفه «المجموع» قريب من حجم «الروضة» مشتمل على نصوص كثيرة، وكتاب «رؤوس المسائل» مجلدان، وكتاب «عدّة المسافر» وغير ذلك.
وفيها أبو العبّاس أحمد بن محمد بن الحاج بن يحيى الإشبيلي المعدّل بمصر، في صفر، سمع عثمان بن محمد السمرقندي، وأبا الفوارس الصابوني وطبقتهما، بمصر والشام، وانتقى عليه أبو نصر السّجزي.
وفيها القاضي عبد الجبّار بن أحمد أبو الحسن الهمذاني الأسداباذي [1] المعتزلي، صاحب التصانيف، عمّر دهرا في غير السّنّة، وروى عن أبي الحسن علي بن إبراهيم بن سلمة القطّان، وعبد الله بن جعفر بن فارس، وطبقتهما.
قال ابن قاضي شهبة في «طبقاته» [2] : عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار بن أحمد بن الخليل [3] ، القاضي أبو الحسن الهمذاني، قاضي الرّيّ وأعمالها، وكان شافعي المذهب، وهو مع ذلك شيخ الاعتزال، وله المصنفات الكثيرة في طريقهم [4] ، وفي أصول الفقه.
قال ابن كثير في «طبقاته» : ومن أجلّ مصنفاته وأعظمها كتاب «دلائل النبوّة» في مجلدين، أبان فيه عن علم وبصيرة جيدة، وقد طال عمره، ورحل الناس إليه من الأقطار، واستفادوا به، مات في ذي القعدة سنة خمس عشرة وأربعمائة. انتهى كلام ابن شهبة بحروفه.
__________
[1] تحرّفت في «آ» و «ط» إلى: «الاسترابادي» والتصحيح من «العبر» (3/ 121) وانظر «الأنساب» (1/ 225) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 244- 245) .
[2] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 176- 177) .
[3] تحرّفت في «آ» و «ط» إلى «الخليلي» والتصحيح من «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة و «سير أعلام النبلاء» .
[4] تحرّفت في «ط» إلى «طريقم» .(5/78)
وفيها العيسوي، أبو الحسن علي بن عبد الله بن إبراهيم الهاشمي العبّاسي البغدادي [1] قاضي مدينة المنصور، مات في رجب، وحدّث عن أبي جعفر بن البختري [2] وطائفة.
وفيها أبو الحسين بن بشران، علي بن محمد بن عبد الله بن بشران بن محمد الأموي البغدادي [3] المعدّل. سمع ابن البختري وطبقة.
قال الخطيب: كان صدوقا [ثقة] ثبتا، [حسن الأخلاق] تام المروءة، ظاهر الديانة. ولد في سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، وتوفي في شعبان، كتبنا عنه.
وفيها الجرجرائي- بفتح الجيمين والراء الثانية، نسبة إلى جرجرايا [4] ، بلد بلد بغداد وواسط- محمد بن إدريس بن الحسن بن ذئب [5] ، نزيل بخارى وبها مات، كان من الحفّاظ الأثبات، ودفن ببيكند، ذكره أبو حفص عمر بن محمد النسفي في كتابه «القند في حفّاظ سمرقند» وذكره ابن ناصر الدّين في الحفّاظ، ولكن جزم بوفاته في السنة التي قبلها.
قال في «بديعته» :
الجرجرائي فتى إدريس ... دار يروم تحفة النّفوس
وفيها أبو الحسين القطّان، محمد بن الحسين بن محمد بن الفضل
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 121- 122) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 321- 322) .
[2] تصحفت في «آ» و «ط» إلى «البحتري» .
[3] انظر «تاريخ بغداد» (12/ 98- 99) وما بين حاصرتين مستدرك منه، و «العبر» (3/ 122) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 311- 313) .
[4] تحرّفت في «آ» و «ط» إلى «جرجريا» والتصحيح من «الأنساب» و «معجم البلدان» (2/ 123) .
[5] كذا في كتابنا و «طبقات الشافعية» للسبكي (4/ 114) و «التبيان شرح بديعة البيان» لابن ناصر الدين (144/ آ) : «ابن ذئب» وفي «الأنساب» (3/ 224) : «ابن زيد» وهو خطأ، وانظر «سير أعلام النبلاء» (17/ 382) .(5/79)
الأزرق البغدادي [1] الثقة، ولد سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، وتوفي في رمضان. روى عن إسماعيل الصفّار، ومحمد بن يحيى بن علي بن حرب، وطبقتهما، وكان مكثرا.
وفيها أبو عبد الله القيرواني، محمد بن سفيان [2] صاحب كتاب «الهادي في القراءات» تفقه على أبي الحسن القابسي، ورحل فأخذ القراءات عن ابن غلبون وغيره.
قال أبو عمرو الداني: كان ذا فهم وحفظ وعفاف.
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 122) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 331- 332) .
[2] انظر «العبر» (3/ 122) و «معرفة القرّاء الكبار» (1/ 380- 381) .(5/80)
سنة ست عشرة وأربعمائة
فيها مات السلطان شرف الدولة [1] ونهبت خزائنه، وتسلطن جلال الدولة أبو طاهر ولد بهاء الدولة بن عضد الدولة، وهو يومئذ بالبصرة، فخلع على وزيره علم الدّين شرف الملك أبي سعيد بن ماكولا. ثم إن الجند عدلوا إلى الملك أبي كاليجار [2] ، ونوّهوا باسمه، وكان وليّ عهد أبيه سلطان الدولة، فخطب لهذا ببغداد، واختبط الناس، وأخذت العيارون الناس [نهارا] [3] جهارا، وكانوا يمشون بالليل بالشمع والمشاعل، ويكبسون البيت، ويأخذون صاحبه ويعذبونه، إلى أن يقرّ لهم بذخائره، وأحرقوا دار الشريف المرتضى، ولم يخرج ركب من بغداد.
وفيها توفي الحصيب بن عبد الله بن محمد بن الحسين بن الحصيب، أبو الحسين [4] القاضي المصري [5] . حدّث عن أبيه، وعثمان بن السمرقندي، وطائفة.
__________
[1] في «العبر» : «مشرف الدولة» .
[2] في «ط» : «كالبجار» وهو تصحيف.
[3] سقطت من «آ» و «ط» واستدركتها من «العبر» .
[4] في «آ» «أبو الحسن» وفي «العبر» : «أبو الخير» وكلاهما خطأ، وما أثبته من «ط» و «حسن المحاضرة» .
[5] انظر «العبر» (3/ 123) و «حسن المحاضرة» (1/ 372) .(5/81)
وفيها أبو محمد النّحاس، عبد الرحمن بن عمر المصري البزّاز [1] ، في عاشر صفر، وكان مسند الدّيار المصرية ومحدّثها، عاش بضعها وتسعين سنة، وسمع بمكّة من ابن الأعرابي، وبمصر من أبي الطاهر المديني، وعلي بن عبد الله بن أبي مطر، وطبقتهما، وأول سماعه في سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة.
وفيها أبو الحسن التّهامي [2] ، علي بن محمد الشاعر، له «ديوان» مشهور [3] ، دخل مصر بكتب من حسّان بن مفرج، فظفروا به وقتلوه سرّا في جمادى الأولى.
قال ابن بسام الأندلسي في كتاب «الذخيرة» [4] في حقه: كان متميّز [5] الإحسان، ذرب اللسان، مخلّى بينه وبين ضروب البيان، يدل شعره على فوز [6] القدح، دلالة النسيم على الصبح، ويعرب عن مكانه من العلوم إعراب الدّمع عن سرّ الهوى المكتوم.
وقال ابن خلّكان [7] : له ديوان شعر صغير، أكثره نخب، ومن لطيف نظمه قوله من جملة قصيدة طويلة يمدح بها الوزير أبا القاسم:
قلت لخلّي وثغور الربا ... مبتسمات وثغور الملاح
أيّهما أحلى ترى منظرا؟ ... فقال: لا أعلم، كلّ أقاح
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 123- 124) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 313- 314) .
[2] انظر «العبر» (3/ 124) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 381- 382) و «غربال الزمان» ص (347) .
[3] طبعة المكتب الإسلامي بدمشق منذ سنوات طويلة بتحقيق الأستاذ الشيخ شعيب الأرناؤوط ومشاركة بعض الأفاضل.
[4] انظر «الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة» القسم الرابع المجلد الثاني ص (537) .
[5] في «الذخيرة» : «مشتهر» .
[6] في «آ» : «على نور» ما أثبته من «ط» وهو موافق لما في «الذخيرة» .
[7] انظر «وفيات الأعيان» (3/ 379- 381) وفيه الأبيات.(5/82)
وله مرثية في ولده وكان قد مات صغيرا، وهي في غاية الحسن، ولم يمنعني من الإتيان بها إلا أن الناس يقولون: هي محذورة [1] فتركتها، ولكن من جملتها بيتان في الحسّاد ومعناهما غريب:
إني لأرحم حاسديّ لحرّ ما ... ضمّت صدورهم من الأوغار
نظروا صنيع الله بي فعيونهم ... في جنّة وقلوبهم في نار
ومنها في ذمّ الدّنيا:
جبلت [2] على كدر وأنت تريدها ... صفوا من الأقذاء والأكدار
ومكلّف الأيام ضد طباعها ... متطلب في الماء جذوة نار
وإذا رجوت المستحيل فإنما ... تبني الرجاء على شفير هار
ومنها:
جاورت أعدائي وجاور ربّه ... شتّان بين جواره وجواري
وتلهّب الأحشاء شيّب مفرقي ... هذا الشعاع شواظ تلك النار
وله بيت بديع من قصيدة وهو:
وإذا جفاك الدّهر وهو أبو الورى ... طرّا فلا تعتب على أولاده
ورآه بعض أصحابه بعد موته [في النوم] [3] ، فقال له: ما فعل الله بك؟
قال: غفر لي، قال: بأي الأعمال؟ قال: بقولي في مرثية ولدي:
جاورت أعدائي وجاور ربّه ... شتّان بين جواره وجواري
انتهى ما أورده ابن خلّكان ملخصا.
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «محدودة» .
[2] في «وفيات الأعيان» : «طبعت» .
[3] ما بين حاصرتين سقط من «آ» و «وفيات الأعيان» .(5/83)
وفيها أبو بكر القطّان، محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله [1] الطائي الداراني، المعروف أيضا بابن الخلّال [2] . كان زاهدا صالحا ثقة، روى عن خيثمة وجماعة كثيرة.
وفيها أبو عبد الله بن الحذاء [3] القرطبي محمد بن يحيى التميميّ [4] المالكيّ المحدّث، عاش ثمانين سنة، وروى عن أبي عيسى اللّيثي، وأحمد بن ثابت، وطبقتهما، وحجّ، فأخذ عن أبي القاسم عبد الرحمن الجوهري، وأبي بكر [بن] المهندس وطبقتهما، وتفقّه على أبي محمد الأصيلي، وألّف في تعبير الرؤيا كتاب «البشرى» في عشرة أسفار، وولي قضاء إشبيلية وغيرها.
وفيها مشرّف الدولة، السلطان أبو علي بن السلطان بهاء الدولة بن السلطان عضد الدولة الدّيلمي [5] ، ولي مملكة بغداد، وكان يرجع إلى دين وتصوف وحياء، عاش ثلاثا وعشرين سنة وثلاثة أشهر، وكان مدة ملكه خمسة أعوام، وخطب بعده لجلال الدولة بن بويه، ثم نودي بعد أيام بشعار أبي كاليجار.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «ابن عبد الله» وهو خطأ والتصحيح من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» .
[2] انظر «العبر» (3/ 124) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 399) .
[3] قال القاضي عياض في «ترتيب المدارك وتقريب المسالك» (4/ 733) : هكذا نسبهم، والحذاء بالذال المعجمة، وحكى ابن عفيف، أنهم يأبون ذلك، ويقولون: هو بدال مهملة، من حدا الإبل، وإن جدّهم الذي ينسبون إليه هو حادي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قالوا: ولكن لما سكن أوّلنا في ربض الحذائين بقرطبة، تصحّف على الناس نسبنا، لقرب الحرفتين.
[4] انظر «العبر» (3/ 124- 125) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 444- 445) و «غربال الزمان» ص (347) .
[5] انظر «العبر» (3/ 125) و «الكامل في التاريخ» (9/ 346- 347) .(5/84)
سنة سبع عشرة وأربعمائة
فيها توفي قاضي العراق ابن أبي الشوارب، أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن العبّاس [بن محمد] [1] بن عبد الملك بن أبي الشوارب الأموي [2] .
قال الخطيب: كان نزها عفيفا، سمع من عبد الباقي بن قانع، ولم يحدّث، وعاش ثمانيا وثمانين سنة، وقد ولي القضاء أربعة وعشرون نفسا من أولاد محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، منهم ثمانية ولّوا قضاء القضاة، هذا آخرهم.
وفيها أبو العلاء، صاعد بن الحسن الرّبعي البغدادي [3] اللّغوي الأديب، نزل الأندلس، وصنّف الكتب، وروى عن أبي بكر القطعي وطائفة.
قال ابن بشكوال: كان يتّهم بالكذب.
وقال ابن خلّكان: صاعد بن الحسن بن عيسى الرّبعي البغدادي
__________
[1] ما بين حاصرتين سقط من «آ» وأثبته من «ط» و «العبر» .
[2] انظر «تاريخ بغداد» (5/ 47- 48) و «العبر» (3/ 126) .
[3] انظر «تاريخ بغداد» (9/ 344- 345) و «وفيات الأعيان» (2/ 488- 489) - وما بين حاصرتين في النص منه- و «العبر» (3/ 126- 127) .(5/85)
اللّغوي، صاحب كتاب «الفصوص» روى بالمشرق عن أبي سعيد [1] السّيرافي، وأبي علي الفارسي، وأبي سليمان الخطابي، ودخل الأندلس في أيام هشام بن الحكم، وولاية المنصور بن [أبي] عامر، في حدود ثمانين وثلاثمائة. وأصله من بلاد الموصل، ودخل بغداد، وكان عالما باللغة والأدب والأخبار، وسريع الجواب، حسن الشعر، طيب المعاشرة، [ممتعا] ، فأكرمه المنصور وزاد في الإحسان إليه والإفضال عليه، وكان مع ذلك محسنا للسؤال، حاذقا في استخراج الأموال، وجمع كتاب «الفصوص» نحا فيه منحى القالي في «أماليه» وأثابه عليه خمسة آلاف دينار، وكان يتّهم بالكذب في نقله، فلهذا رفض الناس كتابه.
ولما دخل مدينة دانية وحضر مجلس الموفق مجاهد بن عبد الله العامري أمير [2] البلد، وكان في المجلس أديب [3] يقال له بشار، وكان أعمى فقال [4] : يا أبا العلاء، فقال: لبّيك، فقال: ما الجرنفل في كلام العرب فعرف أبو العلاء أنه وضع هذه الكلمة وليس لها أصل في اللغة، فقال له بعد أن أطرق ساعة، هو الذي يفعل بنساء العميان ولا يفعل بغيرهنّ، ولا يكون الجرنفل جرنفلا حتّى لا يتعداهنّ إلى غيرهنّ، فخجل بشار [وانكسر] ، وضحك من كان [حاضرا] [5] ، وتوفي صاعد بصقلية، ولما ظهر للمنصور كذبه في النقل وعدم تثبته، رمى كتاب «الفصوص» في البحر [6] ، لأنه قيل له: جميع ما فيه لا صحة له، فعمل فيه بعض شعراء عصره:
__________
[1] في «آ» عن «سعيد» وأثبت ما في «ط» وهو الصواب.
[2] في «آ» و «ط» : «أمين» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[3] في «آ» : «لبيب» وأثبت ما في «ط» وهو موافق لما في «وفيات الأعيان» .
[4] لفظة «فقال» سقطت من «ط» .
[5] لفظة «حاضرا» سقطت من «آ» .
[6] في «وفيات الأعيان» : «في النهر» .(5/86)
قد غاص في البحر كتاب الفصوص ... وهكذا كلّ ثقيل يغوص
فلما سمع صاعد هذا البيت أنشد:
عاد إلى عنصره إنما ... يخرج من قعر البحور الفصوص
وله أخبار كثيرة في الامتحان. انتهى ملخصا.
وفيها أبو بكر القفّال المروزي [1] ، [عبد الله بن] [2] أحمد، شيخ الشافعية بخراسان، صار إمام الخراسانيين، كما أن القفّال الكبير الشاشي شيخ طريقة العراقيين، لكن المروزي أكثر ذكرا في كتب الفقه، ويذكر مطلقا، وإذا ذكر الكبير قيّد بالشاشي.
قال ابن قاضي شهبة: عبد الله بن أحمد بن عبد الله المروزي، الإمام الجليل، أبو بكر القفّال الصغير، شيخ طريقة خراسان، وإنما قيل له:
القفّال، لأنه كان يعمل الأقفال في ابتداء أمره، وبرع في صناعتها، حتّى صنع قفلا بآلاته ومفتاحه، وزن أربع حبّات، فلما كان ابن ثلاثين سنة، أحسّ من نفسه ذكاء، فأقبل على الفقه، فاشتغل به على الشيخ أبي زيد وغيره، وصار إماما يقتدى به فيه، وتفقّه عليه خلق من أهل خراسان، وسمع الحديث، وحدّث وأملى.
قال الفقيه ناصر العمري: لم يكن في زمان أبي بكر القفّال أفقه منه، ولا يكون بعده مثله، وكنّا نقول: إنه ملك في صورة إنسان.
وقال الحافظ أبو بكر السمعاني في «أماليه» أبو بكر القفّال وحيد زمانه، فقها، وحفظا، وورعا، وزهدا، وله في المذهب من الآثار ما ليس لغيره من
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 126- 127) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 405- 408) و «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 175- 176) و «غربال الزمان» ص (348) .
[2] ما بين حاصرتين سقط من «آ» وأثبته من «ط» .(5/87)
أهل عصره، وطريقته المهذبة في مذهب الشافعي، التي حملها عنه أصحابه أمتن طريقة وأكثرها تحقيقا. رحل إليه الفقهاء من البلاد، وتخرّج به أئمة.
وذكر القاضي الحسين: أن أبا بكر القفّال كان في كثير من الأوقات يقع عليه البكاء في الدرس، ثم يرفع رأسه ويقول [1] : ما أغفلنا عما يراد بنا.
وقال الشيخ أبو محمد: أخرج القفّال يده، فإذا على كفّه آثار، فقال:
هذا آثار عملي في ابتداء شبيبتي، وكان مصابا بإحدى عينيه. انتهى ما أورده ابن شهبة ملخّصا.
وفيها الحافظ أبو حازم عمر [2] بن أحمد المسعودي الهذلي النيسابوري الأعرج [3] يوم عيد الفطر، وكان صدوقا، كتب عن عشرة أنفس عشرة آلاف جزء. قاله ابن الأهدل.
وقال الخطيب: كان ثقة، صادقا، حافظا، عارفا. انتهى.
وفيها أبو محمد السّكّري عبد الله بن يحيى بن عبد الجبّار البغداديّ [4] صدوق مشهور. روى عن إسماعيل الصفّار وجماعة، وتوفي في صفر.
وفيها أبو الحسن الحمّامي، مقرئ العراق، علي بن أحمد بن عمر البغدادي [5] . قرأ القراءات على النقّاش، وعبد الواحد بن أبي هاشم، وبكّار، وزيد بن أبي بلال، وطائفة، وبرع فيها، وسمع من عثمان بن السّماك
__________
[1] في «ط» : «فيقول» .
[2] في «آ» و «ط» : «عمرو» والتصحيح من المصادر المذكورة في التعليق التالي.
[3] انظر «تاريخ بغداد» (11/ 272- 273) و «العبر» (3/ 127) و «غربال الزمان» ص (348) .
[4] انظر «تاريخ بغداد» (10/ 199) و «العبر» (3/ 127) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 386- 387) .
[5] انظر «العبر» (3/ 127) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 402- 403) .(5/88)
وطبقته، وانتهى إليه علو الإسناد في القرآن، وعاش تسعا وثمانين سنة، وتوفي في شعبان.
وفيها أبو حفص العكبري [1] ، عمر بن أحمد بن عثمان البزاز. روى عن محمد بن يحيى الطائي وجماعة، وعاش سبعا وتسعين سنة، ووثّقه الخطيب.
وفيها أبو نصر بن الجندي، محمد بن أحمد بن هارون الغسّاني الدمشقي [2] ، إمام الجامع [3] ، ونائب الحكم، ومحدّث البلد، روى عن خيثمة، وعلي بن أبي العقب، وجماعة.
قال الكتّاني: كان ثقة مأمونا، توفي في صفر.
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 128) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 360- 361) .
[2] انظر «العبر» (3/ 128) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 400- 401) .
[3] يعني جامع بني أمية بدمشق.(5/89)
سنة ثماني عشرة وأربعمائة
قال في «الشذور» : جاء فيها برد وزن البردة رطلان وأكثر.
وفيها اجتمعت الحاشية ببغداد، وصمموا على الخليفة، حتّى عزل أبا كاليجار، وأعدت الخطبة لجلال الدولة أبي طاهر.
وفيها ورد كتاب الملك محمود بن سبكتكين بما فتحه من بلاد الهند، وكسره صنم سومنات، وأنهم فتنوا به، وكانوا يأتونه من كل فجّ عميق، ويقرّبون له القرابين، حتّى بلغت أوقافه عشرة آلاف قرية، وامتلأت خزانة الصنم بالأموال، وله ألف نفس يخدمونه، وثلاثمائة يحلقون [رؤوس] [1] حجّاجه [ولحاهم] [1] ، وثلاثمائة [رجل وخمسمائة امرأة] [1] يغنون [ويرقصون عند بابه] [1] ، فاستخار العبد [2] [الله] في الانتداب له، ونهض في شعبان، سنة ست عشرة وأربعمائة في ثلاثين ألف فارس، سوى المطوّعة، ووصلنا إلى بلد الصنم وملكنا الصنم والبلد، وأوقدت النيران على الصنم، حتّى تقطع، وقتلنا خمسين ألفا من أهل البلد، وتقدم طرف من ذلك في سنة عشر [3] .
وفيها توفي أبو إسحاق الإسفراييني، إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن
__________
[1] ما بين حاصرتين زيادة من «وفيات الأعيان» (5/ 178، 179) .
[2] يعني الملك محمود بن سبكتكين.
[3] انظر ص (56- 57) من هذا المجلد.(5/90)
مهران [1] الأصولي المتكلّم الشافعي، أحد الأعلام، وصاحب التصانيف.
روى عن دعلج وطبقته، وأملى مجالس، وكان شيخ خراسان في زمانه، توفي يوم عاشوراء وقد نيّف على الثمانين، وهو شيخ خراسان، يقال: إنه بلغ رتبة الاجتهاد، وله المصنفات الكثيرة، منها «الجامع في أصول الدّين» خمس مجلدات و «تعليقة» في أصول الفقه وغير ذلك، وخرّج له أبو عبد الله الحاكم عشرة أجزاء، وذكره في «تاريخه» لجلالته، وقد مات الحاكم قبله، قال في حقه: قد أقرّ له العلماء بالتقدّم، قال: وبني له مدرسة لم يبن مثلها فدرّس بها، وبه تفقّه القاضي أبو الطيب الطبري، والقشيري، والبيهقي، وكان يقول: أشتهي أن أموت بنيسابور ليصلي عليّ جميع أهلها، فتوفي بها يوم عاشوراء، ثم نقل إلى بلده إسفرايين ودفن في مشهده المعروف.
وفيها أبو القاسم المغربي الوزير، واسمه حسين بن علي الشيعي [2] ، لما قتل الحاكم بمصر أباه وعمّه وإخوته، هرب وقصد حسّان بن مفرّج الطائي ومدحه، فأكرم مورده، ثم وزر لصاحب ميّافارقين أحمد بن مروان الكردي، وله شعر رائق، وعدّة تآليف، عاش ثمانيا وأربعين سنة، وكان من أدهى البشر وأذكاهم.
وفيها أبو القاسم السرّاج، عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله القرشي النيسابوري [3] الفقيه. روى عن الأصم وجماعة، وكان من جلّة العلماء، توفي في صفر.
وفيها عبد الوهاب بن الميداني [4] محدّث دمشق، وهو أبو
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 130) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 353- 356) و «غربال الزمان» ص (348) و «طبقات الأصوليين» للمراغي (1/ 228- 229) .
[2] انظر «العبر» (3/ 130) .
[3] انظر «العبر» (3/ 130) .
[4] انظر «العبر» (3/ 130) .(5/91)
الحسين بن جعفر بن علي. [روى عن] [1] أبي علي بن هارون، واتّهم في روايته عنه، وروى عن أبي عبد الله بن مروان وخلق.
قال الكتاني: ذكر أبو الحسين أنه كتب بقنطار حبر، وكان فيه تساهل.
وفيها أبو بكر النّسائي [2] ، محمد بن زهير، شيخ الشافعية بنسإ، وخطيب البلد. روى عن الأصمّ، وأبي سهل بن زياد القطّان، وطبقتهما.
وفيها أبو الحسن محمد بن محمد بن أحمد بن الرّوزبهان البغدادي [3] . روى عن السّتوري، وابن السماك وجماعة، وتوفي في رجب.
قال الخطيب: صدوق.
وفيها معمر بن أحمد بن محمد بن زياد، أبو منصور الأصبهاني [4] الزاهد، شيخ الصوفية في زمانه بأصبهان. روى عن الطبراني، وأبي الشيخ، ومات في رمضان.
وفيها مكّي بن محمد بن الغمر، أبو الحسن التميمي الدمشقي [5] المؤدّب، مستملي القاضي الميانجي. أكثر عنه وعن أحمد بن البراثي [6] ، وهذه الطبقة، ورحل إلى بغداد، فلقي القطيعي، وكان ثقة.
وفيها أبو القاسم اللّالكلائي، هبة الله بن الحسن الطبري [7] الحافظ
__________
[1] ما بين حاصرتين سقط من «آ» وأثبته من «ط» .
[2] انظر «سير أعلام النبلاء» (17/ 392) و «العبر» (3/ 131) .
[3] انظر «تاريخ بغداد» (3/ 231) و «العبر» (3/ 131) .
[4] انظر «العبر» (3/ 131) .
[5] انظر «العبر» (3/ 131- 132) .
[6] في «آ» و «ط» : «البرامي» والتصحيح من «العبر» .
[7] انظر «العبر» (3/ 132) .(5/92)
الفقيه الشافعي، محدّث بغداد، تفقّه على الشيخ أبي حامد، وسمع من المخلص وطبقته، وبالرّيّ من جعفر بن فنّاكي.
قال الخطيب [1] : كان يحفظ ويفهم، صنّف كتابا في شرح السّنّة في مجلدين، وكتاب «رجال الصحيحين» ثم خرج في آخر أيامه إلى الدّينور، فمات بها في رمضان كهلا.
__________
[1] انظر «تاريخ بغداد» (14/ 70) (14/ 70) وقد نقل المؤلف كلامه باختصار وتصرّف تبعا للذهبي في «العبر» .(5/93)
سنة تسع عشرة وأربعمائة
فيها توفي ابن العالي، أبو الحسين، أحمد بن محمد بن [1] منصور البوشنجي [2] خطيب بوشنج. روى عن محمد بن أحمد بن ديسم [3] ، وأبي أحمد بن عدي، وطبقتهما، بهراة، وجرجان، ونيسابور، توفي في رمضان.
وفيها عبد المحسن بن محمد الصّوري [4] ، شاعر محسن، بديع القول.
قال ابن خلّكان [5] : أبو محمد عبد المحسن بن محمد بن أحمد بن غالب الصّوري، الشاعر المشهور، أحد المتقنين الفضلاء المجيدين الأدباء، شعره بديع الألفاظ، حسن المعاني، رائق الكلام، مليح النظام، من محاسن أهل الشام، له ديوان شعر أحسن فيه كل الإحسان، فمن محاسنه:
أترى بثأر أم بدين ... علقت محاسنها بعيني
في لحظها وقوامها ... ما في المهنّد والرّديني
وبوجهها ماء الشبا ... ب خليط نار الوجنتين
بكرت عليّ وقالت اخ- ... - تر خصلة من خصلتين
إما الصدود أو الفرا ... ق فليس عندي غير ذين
__________
[1] لفظة «ابن» سقطت من «آ» وأثبتها من «ط» .
[2] انظر «العبر» (3/ 133) ويقال في نسبته أيضا: «الفوشنجي» . انظر «الأنساب» (8/ 318) .
[3] في «آ» و «ط» : «وسيم» وهو تحريف والتصحيح من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» (17/ 381) .
[4] انظر «العبر» (3/ 133) .
[5] انظر «وفيات الأعيان» (3/ 232- 234) .(5/94)
فأجبتها ومدامعي ... تنهلّ فوق الوجنتين [1]
لا تفعلي، إن حان [2] ص- ... - دّك أو فراقك حان حيني
فكأنما [3] قلت انهضي ... فمضت مسارعة لبيني
ثم استقلّت أين حلّ- ... ت عيسها رميت بأين
ونوائب أظهرن أيّا ... مي إليّ بصورتين
سوّدنها وأطلنها [4] ... فرأيت يوما ليلتين
ومنها:
هل بعد ذلك من يع ... - رّفني النّضار من اللّجين
فلقد جهلتهما لبع- ... - د العهد بينهما وبيني
متكسبا بالشعر يا ... بئس البضاعة في اليدين
كانت كذلك قبل أن ... يأتي عليّ بن الحسين
فاليوم حال الشعر ثا ... لثة كحال الشعرتين
أغنى وأعفى مدحه ال- ... - عافين عن كذب ومين
وهذه القصيدة عملها عبد المحسن في علي بن الحسين والد الوزير أبي القاسم المغربي، ولها حكاية شريفة، وهي أنه كان بمدينة عسقلان رئيس يقال له ذو المنقبتين، فجاءه [5] بعض الشعراء وامتدحه بهذه القصيدة، وجاء في مديحها:
ولك المناقب كلّها ... فلم اقتصرت على اثنتين؟
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «مثل المأزمين» وعلّق محقّقه في هامشه بقوله: كتب في المسودة و «م» :
«تنهلّ فوق الوجنتين» .
[2] في «ط» : «حال» وهو خطأ.
[3] في «آ» و «ط» : «وكأنما» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» .
[4] في «آ» و «ط» : «سوّدتها وأطلتها» .
[5] في «آ» و «ط» : «فجاء» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .(5/95)
فأصغى الرئيس إلى إنشاده واستحسنها، وأجزل جائزته، فلما خرج من عنده قال له بعض الحاضرين: هذه القصيدة لعبد المحسن، فقال،: أعلم هذا وأحفظ القصيدة، ثم أنشدها، فقيل له: كيف عملت معه هذا العمل من الإقبال عليه والجائزة السنيّة؟ فقال: لم أفعل ذلك إلّا لأجل البيت الذي ضمنها وهو قوله:
ولك المناقب كلّها ... فلم اقتصرت على اثنتين؟
فإن هذا البيت ليس لعبد المحسن، وأنا ذو المنقبتين، فأعلم قطعا أن هذا البيت ما عمل إلّا في، وهو في نهاية الحسن.
واجتاز الصّوري يوما بقبر صديق له فأنشد:
عجبا لي وقد مررت على قب- ... رك كيف اهتديت قصد الطريق
أتراني نسيت عهدك يوما؟ ... صدقوا ما لميّت من صديق
انتهى ملخصا.
ومن شعره:
بالذي ألهم تعذى- ... - بي ثناياك العذابا
ما الذي قالته عينا ... ك لقلبي فأجابا
وفيها أبو الحسن الرزّاز، علي بن أحمد بن محمد بن داود البغدادي [1] توفي في ربيع الآخر، وله أربع وثمانون سنة. روى عن أبي عمرو بن السّمّاك وطبقته، وقرأ [القرآن] على أبي بكر بن مقسم [بحرف حمزة] .
قال الخطيب: كان كثير السماع والشيوخ، وإلى الصدق ما هو.
وفيها أبو بكر الذّكواني، محمد بن أبي علي أحمد بن عبد الرحمن.
__________
[1] انظر «تاريخ بغداد» (11/ 330- 331) وما بين حاصرتين زيادة منه و «العبر» (3/ 134) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 369- 370) .(5/96)
ابن محمد الهمذاني الأصبهاني [1] المعدّل المحدّث الصّدوق. عاش ستا وثمانين سنة، ورحل إلى البصرة، والكوفة، والأهواز، والرّيّ، والنواحي، وروى عن أبي محمد بن فارس، وأبي أحمد القاضي العسّال، وفاروق الخطابي، وطبقتهم، وله «معجم» وتوفي في شعبان.
وفيها أبو عبد الله بن الفخّار، محمد بن عمر بن يوسف القرطبي [2] الحافظ، شيخ المالكية، وعالم أهل الأندلس. روى عن أبي عيسى اللّيثي.
وطائفة، وكان زاهدا، عابدا، متألّها [3] ، عارفا بمذاهب العلماء، واسع الدائرة، حافظا ل «المدوّنة» عن ظهر قلب، و «النوادر» لابن أبي زيد، مجاب الدعوة.
قال القاضي عياض [4] : كان أحفظ الناس، وأحضرهم علما، وأسرعهم جوابا، وأوقفهم على اختلاف العلماء وترجيح المذاهب [5] ، حافظا للحديث والأثر [6] ، مائلا إلى الحجّة والنظر.
وقال الذهبي: عاش ستا وسبعين سنة.
وفيها أبو الحسن محمد بن محمد بن محمد بن إبراهيم بن مخلد البزّاز [7] ببغداد في ربيع الأول، وله تسعون سنة، وهو آخر من حدّث عن الصّفّار، وابن البختري، وعمر الأشناني.
قال الخطيب: كان صدوقا، جميل الطريقة، له أنسة بالعلم و [معرفة بشيء من] الفقه على مذهب أبي حنيفة، والله أعلم.
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 134) .
[2] انظر «العبر» (3/ 134- 135) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 372- 374) .
[3] أي منقطعا إلى الله تعالى.
[4] انظر «ترتيب المدارك» (4/ 724) وفيه بعض الاختلاف والزيادة عمّا هنا.
[5] في «ترتيب المدارك» : «مرجحا بين المذهبين» .
[6] في «آ» و «ط» : «حافظا للأثر» والتصحيح من «ترتيب المدارك» .
[7] انظر «تاريخ بغداد» (3/ 231- 232) و «العبر» (3/ 135) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 370- 371) .(5/97)
سنة عشرين وأربعمائة
فيها وقع برد عظام إلى الغاية، كل واحدة رطل وأكثر، حتّى قيل:
إن بردة وجدت تزيد على قنطار، وقد نزلت في الأرض نحوا من ذراع، فكانت كالثور البارك، وذلك بالنّعمانيّة [1] من العراق، وهبّت ريح لم يسمع بمثلها، قلعت الأصول العاتية من الزيتون والنخيل.
وفيها توفي أبو بكر المنقّي، أحمد بن طلحة البغدادي [2] في ذي الحجة، وكان ثقة. روى عن النّجاد، وعبد الصمد الطّستي.
وفيها أبو الحسن بن البادا [3] أحمد بن علي بن الحسن بن الهيثم البغدادي، في ذي الحجة. روى عن أبي سهل بن زياد، وابن قانع، وطائفة.
قال الخطيب: كان ثقة [فاضلا] من أهل القرآن، والأدب، والفقه، على مذهب مالك.
وفيها صالح بن مرداس، أسد الدولة الكلابي [4] ، كان من أمراء العرب.
__________
[1] النعمانية: بلدة كانت على الفضة الغربية لنهر دجلة في العراق بين واسط وبغداد في نصف الطريق. انظر «معجم البلدان» (5/ 294) .
[2] انظر «الأنساب» (11/ 504- 505) و «العبر» (3/ 138) .
[3] كذا في «آ» و «ط» و «تاريخ بغداد» (4/ 322) : «ابن البادا» وفي «العبر» (3/ 138) : «ابن الباذا» بالذال.
[4] انظر «وفيات الأعيان» (2/ 487- 488) و «العبر» (3/ 138) .(5/98)
قال ابن خلّكان: كان من عرب البادية، وقصد مدينة حلب.
وبها مرتضى الدولة بن [لؤلؤ] الجراحي [1] غلام أبي الفضائل بن سعد الدولة نصر [2] بن سيف الدولة [بن حمدان] نيابة عن الظاهر بن الحاكم العبيدي، صاحب مصر، فاستولى عليها وانتزعها منه، وكان ذا بأس وعزيمة وأهل وعشيرة وشوكة، وكان تملّكه لها في ثالث عشر ذي الحجة، سنة سبع عشرة وأربعمائة، واستقر بها، ورتب أمورها، فجهز إليها الظاهر المذكور أمير الجيوش أنوشتكين [3] الدّزبري في عسكر كثيف- والدّزبري بكسر الدال المهملة، والباء الموحدة، وبينهما زاي، وفي الآخر راء، نسبة إلى دزبر بن دويتم الدّيلمي، وهو بالدال والياء أيضا- وكان بدمشق نائبا عن الظاهر، وكان ذا شهامة وتقدمة ومعرفة بأسباب الحرب، فخرج متوجها إليه، فلما سمع صالح الخبر خرج إليه، وتقدم حتّى تلاقيا على الأقحوانة، فتصافّا، وجرت بينهما مقتلة انجلت عن قتل صالح المذكور في جمادى الأولى، وهو أول ملوك بني مرداس المتملكين بحلب.
والأقحوانة: بضم الهمزة، بلدة بالشام من أعمال فلسطين، بالقرب من طبرية. انتهى ملخصا.
وفيها الحسين بن علي بن محمد البرذعي الهمذاني [4] ، سكن سمرقند، وكان أحد محدّثيها، وكان سنوطا، والسنوط الذي لا لحية له أصلا.
قال ابن ناصر الدّين: لم يكن للبرذعي في وجهه شعرة سوى حاجبيه وأشفار عينيه.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «الجراح» والتصحيح من «وفيات الأعيان» وما بين حاصرتين مستدرك منه.
[2] في «آ» و «ط» : «غلام أبي الفضائل أبي نصر» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[3] في «آ» : «أبوشكين» وفي «ط» : «أنوشكين» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[4] مترجم في «التبيان شرح بديعة البيان» لابن ناصر الدين (144/ ب) .(5/99)
وفيها أبو القاسم الطرسوسي، عبد الجبّار بن أحمد، شيخ الإقراء بالديار المصرية، وأستاذ مصنّف «العنوان» . قرأ على أبي أحمد السّامري وجماعة، وألّف كتاب «المجتبى في القراءات» وتوفي في ربيع الآخر.
وفيها أبو محمد التميمي، عبد الرحمن بن أبي نصر، عثمان بن القاسم بن معروف الدمشقي [1] رئيس البلد، ويعرف بالشيخ العفيف. روى عن إبراهيم بن أبي [2] ثابت، وخيثمة، وطبقتهما، وعاش ثلاثا وتسعين سنة [3] .
قال أبو الوليد الدّربندي: كان خيرا من ألف مثله إسنادا وإتقانا وزهدا مع تقدّمه.
وقال رشأ بن نظيف: شاهدت سادات، فما رأيت مثل أبي محمد بن أبي نصر، كان قرّة عين.
وقال عبد العزيز الكتّاني: توفي في جمادى الآخرة، فلم أر أعظم من جنازته، حضرها جميع أهل البلد، حتّى اليهود والنصارى، وكان عدلا مأمونا ثقة، لم ألق شيخا مثله زهدا وورعا وعبادة ورئاسة، رحمه الله تعالى.
وفيها ابن العجوز، عبد الرحيم بن أحمد الكتامي [4] المالكي.
قال القاضي عياض: كان من كبار قومه [5] ، وإليه كانت الرحلة بالمغرب، وعليه دارت الفتوى، وفي عقبه أئمة نجباء. أخذ عن ابن أبي زيد، وأبي محمد الأصيلي، وغيرهما.
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 139) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 366- 368) .
[2] لفظة «أبي» سقطت من «آ» وأثبتها من «ط» و «العبر» .
[3] لفظة «سنة» سقطت من «آ» وأثبتها من «ط» و «العبر» .
[4] انظر «ترتيب المدارك» (4/ 720- 721) و «العبر» (3/ 140) وقد تحرّفت نسبته في «آ» إلى «الكتاني» .
[5] في «ترتيب المدارك» الذي بين يدي: «كان كبير قومه كتامة» .(5/100)
وفيها عبد الرحمن بن أحمد الشّيرنخشيري [1] وشيرنخشير [2] من قرى مرو. قاله ابن الأهدل أيضا.
وفيها أبو الحسن الرّبعي [3] علي بن عيسى البغدادي [4] شيخ النحو ببغداد. أخذ عن أبي سعيد السّيرافي، وأبي علي الفارسي، وصنّف «شرح الإيضاح» لأبي علي، وشرح «مختصر الجرمي» ونيّف على التسعين، وقيل:
إن أبا علي قال: قولوا لعلي [5] البغدادي: لو سرت من المشرق إلى المغرب، لم تجد أحدا أنحى منك، وكان قد لازمه بضع عشرة سنة.
وفيها أبو نصر العكبري، محمد بن أحمد بن الحسين البقّال [6] والد أبي منصور محمد بن محمد. روى عن أبي علي بن الصوّاف، وجماعة، وهو ثقة.
وفيها أبو بكر الرّباطي [7] ، محمد بن عبد الله بن أحمد. روى عن أبي أحمد العسّال، والجعابي، وطائفة، وأملى مجالس، وتوفي في شعبان.
وفيها المسبّحي الأمير المختار، عزّ الملك محمد بن عبيد الله [8] بن
__________
[1] ترجم السمعاني في «الأنساب» (7/ 463) لولده محمد بن عبد الرحمن بن أحمد الشّيرنخشيري ... وقال: وكانت وفاته في حدود سنة ثلاثين وأربعمائة.
[2] كذا ورد اسمها أيضا عند السمعاني في «الأنساب» وفي «معجم البلدان» (3/ 382) :
شير نخجير» وقال ياقوت: في معرض كلامه عنها: وبعضهم يقول: شيرنخشير يجعل بدل الجيم شينا معجمة.
[3] قوله: «أبو الحسن الربعي» سقط من «آ» وأثبته من «ط» و «العبر» .
[4] انظر «العبر» (3/ 140) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 392- 393) .
[5] لفظة «لعلي» سقطت من «آ» وأثبتها من «ط» و «العبر» .
[6] انظر «العبر» (3/ 140) .
[7] انظر «العبر» (3/ 140- 141) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 361) .
[8] في «آ» و «ط» : «عبد الملك بن محمد بن عبيد الله» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» وقد تحرّفت «عبيد الله» في «العبر» إلى «عبد الله» فتصحّح فيه.(5/101)
أحمد الحرّاني [1] الأديب العلّامة، صاحب التآليف، وكان رافضيا جاهلا، له كتاب «القضايا الصائبة في التنجيم» في ثلاثة آلاف ورقة، وكتاب «الأديان والعبادات» في ثلاثة آلاف وخمسمائة ورقة، وكتاب «التلويح والتصريح» في الشعر ثلاث مجلدات، وكتاب «تاريخ مصر» وكتاب «أنواع الجماع» في أربع مجلدات، وعاش أربعا وخمسين سنة. قاله في «العبر» .
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (4/ 377- 380) و «العبر» (3/ 141) و «الوافي بالوفيات» .
(4/ 7- 8) .(5/102)
سنة إحدى وعشرين وأربعمائة
فيها توفي القاضي أبو بكر الحيري، أحمد بن الحسن بن أحمد بن محمد بن أحمد بن حفص الحرشي [1] النيسابوري الشافعي، في رمضان، وله ست وتسعون سنة، وكان رئيسا محتشما، إماما في الفقه. انتهى إليه علو الإسناد، فروى عن أبي علي الميداني، والأصم، وطبقتهما، وأخذ ببغداد عن أبي سهل القطّان، وبمكّة عن الفاكهي، وبالكوفة، وجرجان، وتفقه على أبي الوليد الفقيه، وحذق في الأصول والكلام، وولي قضاء نيسابور. روى عنه الحاكم في «تاريخه» [2] وآخر من حدّث عنه الشيروي [3] وقد صمّ بأخرة، حتّى بقي لا يسمع شيئا، ووافق شيخه الأصم، وصنّف في الأصول والحديث.
وفيها أبو الحسين السّليطي- بفتح المهملة وكسر اللام، نسبة إلى سليط جدّ- أحمد بن محمد بن الحسين النيسابوري [4] العدل والنحوي، في جمادى الأولى. روى عن الأصمّ وغيره.
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 143- 144) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 356- 358) وقد تصحفت «الحرشي» في «آ» و «ط» إلى «الحرسي» .
[2] في «العبر» : روى عنه الحاكم في «تاريخه» مع تقدمه. (ع) .
[3] تصحفت في «آ» و «ط» إلى «السيروي» وأثبت لفظ «ط» و «العبر» وهو الصواب، وانظر «الأنساب» (4/ 109 و 289) .
[4] انظر «العبر» (3/ 144) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 389) .(5/103)
وفيها أبو عمر بن درّاج، أحمد بن محمد بن العاص بن أحمد بن سليمان بن عيسى بن درّاج الأندلسي القسطلّي [1]- بفتح القاف وسكون المهملة وفتح الطاء وتشديد اللام، نسبة إلى مدينة بالأندلس، يقال لها:
قسطلّة [2]- الشاعر الكاتب الأديب، شاعر الأندلس، الذي قال فيه ابن حزم:
لو لم يكن لنا من فحول الشعراء إلّا أحمد بن درّاج لما تأخر عن شأو «حبيب» و «المتنبي» وكان من كتّاب الإنشاء في أيام المنصور بن أبي عامر.
وقال الثعالبي: كان بصقع [3] الأندلس، كالمتنبي بصقع [3] الشام، ومن نظمه قصيدته الرائية التي عارض بها أبا نواس، وأول قصيدة ابن درّاج:
ألم تعلمي أن الثّواء هو النّوى ... وأن بيوت العاجزين قبور
[ولم تزجري طير السرى بحروفها ... فتنبيك إن يمّنّ فهو سرور] [4]
يخوّفني [5] طول السّفار وإنه ... لتقبيل كفّ العامريّ سفير
دعيني [6] أرد ماء المفاوز آجنا ... إلى حيث ماء المكرمات نمير
[واختلس الأيام خلسة فاتك ... إلى حيث لي من عدوهن خفير] [7]
فإن خطيرات المهالك ضمّن ... لراكبها أن الجزاء خطير
ومنها في وصف وداعه لزوجته وولده الصغير:
ولما تدانت للوداع وقد هفا ... بصبري منها أنّه وزفير
تناشدني عهد المودّة والهوى ... وفي المهد مبغوم النداء صغير
__________
[1] انظر «يتيمة الدهر» (2/ 119- 133) طبع دار الكتب العلمية و «العبر» (3/ 144) و «وفيات الأعيان» (1/ 135- 139) .
[2] في «آ» و «ط» : «نسبة إلى قسطلة مدينة بالأندلس يقال لها: قسطلة» .
[3] في «آ» و «ط» : «كان مصقع» والتصحيح من «يتيمة الدهر» و «العبر» .
[4] هذا البيت لم يرد في «آ» و «ط» و «الوفيات» وأثبته من «يتيمة الدهر» .
[5] في «آ» و «ط» : «تخوفني» والتصحيح من «يتيمة الدهر» .
[6] في «يتيمة الدهر» : «ذريني» .
[7] هذا البيت لم ير في «آ» و «ط» وأثبته من «يتيمة الدهر» .(5/104)
عييّ بمرجوع الخطاب ولحظه [1] ... بموقع [2] أهواء النفوس خبير
تبوّأ ممنوع القلوب ومهّدت ... له أذرع محفوفة ونحور
فكل مفدّاة الترائب مرضع ... وكل محيّاة المحاسن ظير [3]
عصيت شفيع النّفس فيه وقادني ... رواح لتدآب السّرى وبكور
وطار جناح البين بي وهفت بها ... جوانح من ذعر الفراق تطير
لئن ودّعت مني غيورا فإنني ... على عزمتي [4] من شجوها لغيور
ولو [5] شاهدتني والهواجر [6] تلتظي ... عليّ ورقراق السراب يمور
أسلّط حرّ الهاجرات إذا سطا ... على حرّ وجهي والأصيل هجير
وأستنشق النكباء وهي لوافح [7] ... واستوطئ [8] الرمضاء وهي تفور
وللموت في عين الجبان تلوّن ... وللذّعر في سمع الجريء صفير
لبان لها أنّي من البين جازع ... وأنّي على مضّ الخطوب صبور
أمير على غول النتائف ماله ... إذا ريع إلّا المشرفيّ وزير [9]
ولو بصرت بي [10] والسّرى جلّ عزمتي ... وجرسي لجنّان الفلاة سمير
ودارت نجوم القطب حتّى كأنها ... كؤوس مها [11] والى بهنّ مدير
وقد خيّلت طرق المجرّة أنها ... على مفرق الليل البهيم قتير
وثاقب عزمي والظلام مروّع ... وقد غض أجفان النّجوم فتور [12]
__________
[1] في «يتيمة الدهر» : «ولفظة» .
[2] في «يتيمة الدهر» : «بموضع» .
[3] هذا البيت لم يرد في «يتيمة الدهر» التي بين يدي.
[4] في «آ» : «على غربتي» وأثبت لفظ «ط» و «يتيمة الدهر» .
[5] في «اليتيمة» : «وما» . «ع» .
[6] في «يتيمة الدهر» : «والضواحك» .
[7] في «اليتيمة» : «وهي نوازح» . (ع) .
[8] كذا في «آ» و «ط» : «واستوطئ» وفي «يتيمة الدهر» : «وأستمطئ» .
[9] هذا البيت لم يرد في «يتيمة الدهر» التي بين يدي.
[10] في «يتيمة الدهر» : «ولو شاهدتني» .
[11] في «يتيمة الدهر» : «كؤوس طلا» .
[12] هذا البيت لم يرد في «يتيمة الدهر» التي بين يدي.(5/105)
لقد أيقنت أنّ المنى طوع همّتي ... وأنّي بعطف العامريّ جدير
وهي طويلة، وغالب شعره مستحسن، و «ديوانه» في مجلدين، وكانت ولادته في المحرم سنة سبع وأربعين وثلاثمائة، ومات ليلة الأحد لست عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة.
وفيها أبو إبراهيم إسماعيل بن ينال المروزي المحبوبي [1] ، نسبة إلى جدّه محبوب. سمع «جامع الترمذي» من أستاذهم محمد بن أحمد بن محبوب، وهو آخر من حدّث عنه، توفي في صفر عن سبع وثمانين سنة.
قال أبو بكر السمعاني: كان ثقة عالما، أدركت نفرا من أصحابه.
وفيها أبو عبد الله المعاذي، الحسن بن أحمد بن محمد بن يحيى النيسابوري الأصم [2] .
والمعاذي: بضم الميم وبالذال المعجمة نسبة إلى معاذ جدّ.
سمع من أبي العبّاس الأصم مجلسين فقط، ومات في جمادى الأولى.
قال الذهبي: وقع لنا حديثه من طريق شيخ الإسلام [الأنصاري] [3] .
وفيها أبو عبد الله الجمّال [4] الحسين بن إبراهيم الأصبهاني. روى عن أبي محمد بن فارس وجماعة، ومات في ربيع الأول، وله جزء معروف.
وفيها أبو علي البجّاني- بجّانة الأندلس [5]- الحسين بن عبد الله بن الحسين بن يعقوب المالكي [6] ، وله خمس وتسعون سنة. حمل
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 144- 145) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 376- 377) .
[2] انظر «العبر» (3/ 145) .
[3] ما بين حاصرتين سقط من «آ» و «ط» واستدركته من «العبر» .
[4] تصحفت نسبته في «آ» و «ط» إلى «الحمال» والتصحيح من «العبر» (3/ 145) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 377) .
[5] انظر «معجم البلدان» (1/ 339) .
[6] انظر «العبر» (3/ 145- 146) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 377- 379) .(5/106)
عنه ابن عبد البرّ، وأبو إسماعيل العبّاس العذري، والكبار، وكان أسند من بقي بالمغرب في رواية «الواضحة» لعبد الملك بن حبيب. سمعها من سعيد بن فحلون في سنة ست وأربعين وثلاثمائة، عن يوسف المغامي عن المؤلف.
وفيها حمام بن أحمد القاضي أبو بكر القرطبي [1] .
قال ابن حزم: كان واحد عصره في البلاغة وسعة الرواية، ضابطا [لما قيّده] [2] . أكثر عن أبي محمد الباجي، وأبي عبد الله بن مفرّج، وولي قضاء يابرة، وتوفي في رجب، وله أربع وستون سنة.
وفيها أبو سعيد الصّيرفي، محمد بن موسى بن الفضل النيسابوري [3] . كان ينفق على الأصمّ ويخدمه بماله، فاعتنى به الأصمّ وسمّعه الكثير، وسمع أيضا من جماعة، وكان ثقة، توفّي في ذي الحجّة.
وفيها السلطان محمود بن سبكتكين [4] ، سيف الدولة أبو القاسم بن الأمير ناصر الدولة أبي منصور. كان أبوه أميرا للغزاة الذين يغيرون [5] من بلاد ما وراء النهر، على أطراف الهند، فأخذ عدة حصون وقلاع، وافتتح ناحية بست، وكان كرّاميا، وأما محمود فافتتح غزنة، ثم بلاد ما وراء النهر، ثم استولى على سائر خراسان، وعظم ملكه، ودانت له الأمم، وفرض على نفسه غزو الهند كل سنة، فافتتح منه بلادا واسعة، وكان ذا عزم وصدق في الجهاد.
__________
[1] انظر «الصلة» لابن بشكوال (1/ 155) و «العبر» (3/ 146) .
[2] ما بين حاصرتين سقط من «آ» و «ط» واستدركته من «الصلة» و «العبر» .
[3] انظر «العبر» (3/ 146) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 350- 351) .
[4] انظر «وفيات الأعيان» (5/ 175- 182) و «العبر» (3/ 147) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 483- 495) .
[5] في «آ» : «يغزون» .(5/107)
قال عبد الغافر الفارسي: كان صادق النّية في إعلاء كلمة الله تعالى، مظفّرا في غزواته، ما خلت سنة من سنّي ملكه عن غزوة أو سفرة، وكان ذكيا، بعيد الغور، موفق الرأي، وكان مجلسه مورد العلماء.
قال ابن خلّكان [1] : وملك بلاد خراسان، وانقطعت الدولة السامانية منها، وذلك في سنة تسع وثمانين وثلاثمائة، واستتب [2] له الملك، وسيّر له الإمام القادر بالله خلعة السلطنة، ولقبه بيمين الدولة وأمين الملّة، وتبوأ سرير المملكة، وقام بين يديه أمراء خراسان، سماطين مقيمين برسم الخدمة، وملتزمين حكم الهيبة، وأجلسهم بعد الإذن العام على مجلس الأنس، وأمر لكل واحد منهم [ولسائر غلمانه وخاصّته ووجوه أوليائه] وحاشيته من الخلع والصّلات ونفائس الأمتعة ما لم يسمع بمثله، واتّسقت الأمور عن آخرها في كنف إيالته، واستوثقت الأعمال في ضمن كفالته، ثم إنه ملك سجستان في سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة، بدخول قوّادها وولاة أمورها في طاعته من غير قتال.
ولم يزل يفتح بلاد الهند إلى أن انتهى إلى حيث لم تبلغه في الإسلام راية. ولم تتل به سورة قطّ ولا آية، فدحض [3] عنها أدناس الشرك، وبنى بها مساجد وجوامع، وتفصيل حاله يطول شرحه.
وذكر شيخنا ابن الأثير في «تاريخه» أن بعض الملوك بقلاع الهند أهدى له هدايا كثيرة، من جملتها طائر على هيئة القمري من خاصيته أنه إذا حضر الطعام وفيه سم، دمعت عيناه، وجرى منها ماء وتحجّر، فإذا حكّ [4] ووضع
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (5/ 177- 181) وما بين حاصرتين مستدرك منه.
[2] في «آ» و «ط» : «واستثبت» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[3] في «وفيات الأعيان» : «فرحض» .
[4] في «آ» و «ط» : «حلّ» باللام وهو خطأ، والتصحيح من «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (9/ 334) طبع دار صادر، و «وفيات الأعيان» .(5/108)
على الجراحات الواسعة ألحمها. وذلك في سنة أربع عشرة وأربعمائة.
وذكر إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك الجويني في كتابه الذي سمّاه «مغيث الخلق في اختيار الأحق» أن السلطان محمود المذكور، كان على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، كان مولعا بعلم الحديث، وكانوا يسمعون الحديث من الشيوخ بين يديه وهو يسمع، وكان يستفسر الأحاديث، فوجد أكثرها موافقا لمذهب الشافعي رضي الله عنه، فوقع في خلده حكمة ذلك فصار، شافعيا، وذكر قصة القفّال في الصلاة بين يديه على كلّ من المذهبين.
وبالجملة فمناقبه كثيرة وسيرته أحسن السّير، ومولده ليلة عاشوراء، سنة إحدى وستين وثلاثمائة، وتوفي بغزنة وقبره بها يزار ويدعى عنده، وقد صنّف في حركاته وسكناته وأحواله، لحظة لحظة، رحمه الله تعالى، وتوفي في جمادى الأولى.(5/109)
سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة
فيها توفي القادر بالله الخليفة أبو العباس أحمد بن الأمير إسحاق بن المقتدر [بالله] جعفر بن المعتضد العباسي [1] توفي ليلة الحادي عشر من ذي الحجة، وله سبع وثمانون سنة. وكانت خلافته إحدى وأربعين سنة وثلاثة أشهر، وكان أبيض، كثّ اللحية طويلها، يخضب شيبه.
قال الخطيب: كان من [الستر، و] الديانة، وإدامة التهجد [2] [بالليل وكثرة [البرّ و] الصدقات على صفة اشتهرت عنه. صنّف كتابا في الأصول [ذكر] فيه فضائل [3] الصحابة رضي الله عنهم، وتكفير المعتزلة القائلين بخلق القرآن، فكان يقرأ كل جمعة ويحضره الناس مدة.
وقال أبو الحسن الأبهريّ: أرسلني بهاء الدولة إلى القادر بالله [في رسالة] [4] فسمعته ينشد:
سبق القضاء بكلّ ما هو كائن ... والله يا هذا لرزقك ضامن
__________
[1] انظر «تاريخ بغداد» (4/ 37- 38) و «الكامل في التاريخ» (9/ 414- 417) و «تاريخ الخلفاء» للسيوطي ص (411- 415) و «الأعلام» (1/ 95- 96) .
[2] في «آ» و «ط» : «التهجيد» والتصحيح من «تاريخ بغداد» وما بين حاصرتين زيادة منه.
[3] في «آ» و «ط» : «فضل» والتصحيح من «تاريخ بغداد» و «تاريخ الخلفاء» .
[4] زيادة من «الكامل في التاريخ» مصدر المؤلف في نقله.(5/110)
تعنى بما يفنى وتترك ما به ... تغنى كأنّك للحوادث آمن
أو ما ترى الدّنيا ومصرع أهله ... فاعمل ليوم فراقها يا خائن
واعلم بأنّك لا أبا لك في الذي ... أصبحت تجمعه لغيرك خازن
يا عامر الدّنيا أتعمر منزلا ... لم يبق فيه مع المنيّة ساكن
الموت شيء أنت تعلم أنّه ... حقّ وأنت بذكره متهاون
إنّ المنيّة لا تؤامر من أتت ... في نفسه يوما ولا تستأذن
فقلت: الحمد لله الذي وفّق أمير المؤمنين لإنشاد مثل هذه الأبيات.
فقال: بل لله المنّة إذ ألهمنا [1] لذكره، ووفّقنا لشكره. ألم تسمع قوله الحسن البصريّ في أهل المعاصي؟: هانوا عليه فعصوه، ولو عزّوا عليه لعصمهم.
وقال السيوطي في «تاريخ الخلفاء» [2] : قال الذهبي: كان في هذا العصر رأس الأشعرية أبو إسحاق الإسفراييني، ورأس المعتزلة القاضي عبد الجبّار، ورأس الرافضة الشّيخ المفيد [3] ، ورأس الكرامية محمد بن الهيصم [4] ورأس القرّاء أبو الحسن الحمامي، ورأس المحدّثين الحافظ عبد الغني بن سعيد، ورأس الصوفية أبو عبد الرحمن السّلمي، ورأس الشعراء أبو عمر بن درّاج، ورأس المجودين ابن البوّاب، ورأس الملوك السلطان محمود بن سبكتكين.
قلت [5] : ويضم إلى هذا رأس الزنادقة الحاكم بأمر الله، ورأس اللّغويين الجوهري، ورأس النّحاة ابن جنّي [ورأس البلغاء البديع، ورأس
__________
[1] في «الكامل في التاريخ» : «إذا لزمنا» .
[2] ص (416- 417) .
[3] كذا في «ا» و «ط» : «المفيد» وفي «تاريخ الخلفاء» : «المقتدر» ولم أتمكن من مراجعة النقل في «تاريخ الإسلام» للذهبي (المخطوط) لأنه غير متوفر بين يدي، ولا هو في مخطوطات المكتبة الظاهرية بدمشق أيضا، وما هو محفوظ منه فيها إنما هو نزر يسير من أول الكتاب فقط فيما أعلم.
[4] في «آ» و «ط» : «محمد بن الهيضم» وفي «تاريخ الخلفاء» : «محمد بن الهيصم» بالصاد المهملة وهو الصواب وهو ما أثبته، وانظر «القاموس المحيط» : (هصم) .
[5] القائل الحافظ السيوطي في «تاريخ الخلفاء» .(5/111)
الخطباء ابن نباتة، ورأس المفسرين أبو القاسم بن حبيب النيسابوري] [1] ورأس الخلفاء القادر [بالله] فإنه من أعلامهم، تفقّه وصنّف، وناهيك بأن الشيخ تقي الدّين بن الصّلاح عدّة من الفقهاء الشافعية، وأورده في طبقاتهم، ومدّته في الخلافة من أطول المدد. انتهى ما أورده السيوطي.
وقال الذهبي: لما مات القادر بالله، استخلف ابنه القائم بأمر الله، وله إحدى وثلاثون سنة فبايعه الشريف المرتضى، ثم إن الأمير حسن بن عيسى بن المقتدر قام وقامت الأتراك على القائم بالرسم الذي للبيعة، فقال:
إن القادر لم يخلّف مالا وصدق، لأنه كان من أفقر الخلفاء، وصالحهم على ثلاثة آلاف دينار ليس إلّا، وعرض القائم خانا وبستانا للبيع، وصغر دست الخلافة إلى هذا الحد. انتهى.
وفيها أبو القاسم الكتّاني، طلحة بن علي بن الصقر البغدادي [2] . كان ثقة صالحا مشهورا، عاش ستا وثمانين سنة، ومات في ذي القعدة، وروى عن النّجاد، وأحمد بن عثمان الأدمي، ودعلج، وجماعة.
وفيها أبو المطرّف بن الحصّار [3] ، قاضي الجماعة بالأندلس، عبد الرحمن بن أحمد بن سعيد بن غرسيّة. مات في آخر الكهولة، وكان عالما بارعا ذكيا متفنّنا، ففيه النفس، حاضر الحجّة، صاحب سنّة، توفي في شعبان.
وفيها القاضي عبد الوهاب بن علي بن نصر أبو محمد البغدادي [4] المالكي، أحد الأعلام. سمع من عمر بن سنبك [5] وجماعة، وتفقّه على ابن القصّار، وابن الجلّاب، ورأى أبا بكر الأبهري، وانتهت إليه رئاسة المذهب.
__________
[1] ما بين حاصرتين سقط من «آ» وأثبته من «ط» و «تاريخ الخلفاء» .
[2] انظر «تاريخ بغداد» (9/ 352- 353) و «العبر» (3/ 150) .
[3] انظر «العبر» (3/ 150- 151) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 473) .
[4] انظر «تاريخ بغداد» (11/ 31- 32) و «وفيات الأعيان» (3/ 119- 222) و «العبر» (3/ 151) .
[5] سنبك: بفتح السين المهملة والباء الموحدة وسكون النون. انظر «تبصير المنتبه» (2/ 674) .(5/112)
قال الخطيب: لم ألق في المالكية أفقه منه. ولي قضاء بادرايا، وتحول في آخر أيامه إلى مصر فمات بها في شعبان. وقد ساق القاضي ابن خلّكان [1] نسب القاضي عبد الوهاب إلى مالك بن طوق التغلبي [2] صاحب الرحبة. قاله في «العبر» .
وقال أبو إسحاق الشيرازي [3] : كلامه في النظر، وكان فقيها متأدبا شاعرا، له كتب كثيرة في كل فنّ. وعاش ستين سنة.
وذكره ابن بسام في كتاب «الذخيرة» [4] فقال: كان بقية [5] الناس، ولسان أصحاب القياس، وقد وجدت له شعرا معانيه أجلى من الصبح، وألفاظه أحلى من الظّفر بالنّجح، ونبت به بغداد كعادة البلاد بذوي فضلها، وكحكم الأيام في محسني أهلها، فودّع ماءها وظلّها، وحدّثت أنه شيّعه يوم فصل عنها من أكابرها وأصحاب محابرها، جملة موفورة، وطوائف كثيرة، وأنّه قال لهم: لو وجدت بين ظهرانيكم رغيفين كلّ غداة وعشية ما عدلت ببلدكم بلوغ أمنية، وفي ذلك يقول:
سلام على بغداد في كلّ موطن ... وحقّ لها مني سلام مضاعف
فو الله ما فارقتها عن قلى لها [6] ... وإني بشطّي جانبيها لعارف
ولكنها ضاقت عليّ بأسرها ... ولم تكن الأرزاق فيها تساعف
وكانت كخلّ كنت أهوى دنوّه [7] ... وأخلاقه تنأى به وتخالف
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (3/ 219- 222) .
[2] في «آ» و «ط» : «الثعلبي» وهو تصحيف، والتصحيح من «وفيات الأعيان» و «العبر» .
[3] انظر «طبقات الفقهاء» ص (168- 169) .
[4] انظر «الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة» القسم الرابع/ المجلد الثاني/ ص (515- 536) .
[5] في «آ» و «ط» : «فقيه» وهو تحريف والتصحيح من «الذخيرة» .
[6] في «الذخيرة» : «لعمرك ما فارقتها تاليا لها» .
[7] في «الذخيرة» : «وصاله» .(5/113)
واجتاز بطريقه بمعرّة النّعمان، وكان قاصدا مصر، وبالمعرّة يومئذ أبو العلاء، فأضافه، وفي ذلك يقول من أبيات [1] :
والمالكيّ ابن نصر زار في سفر ... بلادنا فحمدنا النأي والسّفرا
إذا تفقّه أحيا مالكا جدلا ... وينشر الملك الضّليل إن شعرا
ثم توجه إلى مصر، فحمل لواءها وملأ أرضها وسماءها واستتبع [2] ساداتها وكبراءها، وتناهت إليه الغرائب، وانثالت في يديه الرغائب، فمات الأول ما وصلها من أكلة اشتهاها فأكلها، وزعموا أنه قال وهو يتقلب [3] ونفسه تتصعد وتتصوب [4] : لا إله إلا الله، إذا عشنا متنا.
وله أشعار رائقة ظريفة فمن ذلك قوله:
ونائمة قبّلتها فتنبهت ... فقالت: تعالوا فاطلبوا اللصّ بالحدّ
فقلت لها: إنّي فديتك غاصب ... وما حكموا في غاصب بسوى الردّ
خذيها وكفّي [5] عن أثيم ظلامة [6] ... وإن أنت لم ترضي فألفا على العدّ
فقالت: قصاص يشهد العقل أنه ... على كبد الجاني [7] ألذّ من الشهد
فباتت يميني وهي هميان خصرها ... وباتت يساري وهي واسطة العقد
فقالت: ألم أخبر بأنّك زاهدا ... فقلت: بلى ما زلت أزهد في الزهد
وكانت ولادته ببغداد يوم الخميس سابع شوال سنة اثنتين وستين وثلاثمائة، وتوفي ليلة الاثنين رابع عشر صفر بمصر، ودفن بالقرافة الصغرى،
__________
[1] انظر «شروح سقط الزند» لأبي العلاء ص (1740) .
[2] في «آ» و «ط» : «وأمتع» والتصحيح من «الذخيرة» و «وفيات الأعيان» .
[3] في «الذخيرة» : «وهو يقلّب» .
[4] في «الذخيرة» ، «وتصوّب» وفي «وفيات الأعيان» : «ويتصوب» .
[5] في رواية «الذخيرة» : «وحطي» .
[6] في «آ» : «ملامة» وأثبت لفظ «ط» و «الذخيرة» و «وفيات الأعيان» .
[7] في رواية «الذخيرة» : «على المذنب الجاني» .(5/114)
فيما بين قبة الشافعي رضي الله عنه، وباب القرافة، وكان أبوه من أعيان الشهود ببغداد.
وكان أخوه أبو الحسن محمد بن علي بن نصر أديبا فاضلا، صنّف كتاب «المفاوضة» للملك العزيز جلال الدولة أبي منصور بن أبي طاهر بن بويه، جمع فيه ما شاهده، وهو من الكتاب الممتعة في ثلاثين كراسة، وله رسائل، ومولده ببغداد في إحدى الجمادين، سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة، وتوفي يوم الأحمد سابع عشري شهر ربيع الأول، سنة سبع وثلاثين وأربعمائة بواسط، وكان قد أصعد [1] إليها من البصرة فمات بها.
وتوفي أبوهما، أبو الحسن عليّ يوم السبت، ثاني شهر رمضان سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة. قاله ابن خلّكان.
وفيها أبو الحسن الطّرازي علي بن محمد بن محمد بن أحمد بن عثمان البغدادي ثم النيسابوري [2] الأديب. روى عن الأصمّ، وأبي حامد بن حسنويه وجماعة، وبه ختم حديث الأصمّ، توفي في الرابع والعشرين من ذي الحجة.
وفيها أبو الحسن بن عبد كويه [3] ، علي بن يحيى بن جعفر، إمام جامع أصبهان في المحرم. حجّ وسمع بأصبهان، والعراق، والحجاز، وحدّث عن أحمد بن بندار الشعّار، وفاروق الخطابي وطبقتهما، وأملى عدة مجالس.
وفيها محمد بن مروان بن زهر [4] أبو بكر الإيادي الإشبيلي المالكي [5]
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «صعد» .
[2] انظر «العبر» (3/ 152) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 409- 410) .
وقال السمعاني في «الأنساب» (8/ 225) : والطّرازي، نسبة لمن يعمل الثياب المطرزة أو يستعملها.
[3] انظر «العبر» (3/ 152) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 478- 479) .
[4] في «ط» «زاهر» وهو خطأ.
[5] انظر «العبر» (3/ 152) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 422- 423) .(5/115)
أحد أركان المذهب. كان واسع الرواية، عالي الإسناد، عاش ستا وثمانين سنة، وحدّث عن محمد بن معاوية القرشي، وأبي علي القالي، وطائفة، وهو والد الطبيب عبد الملك، وجدّ الطبيب العلّامة الرئيس أبي العلاء زهر.
وفيها محمد بن يوسف القطّان الحافظ، أبو أحمد الأعرج النيسابوري [1] مات كهلا ولم ينشر حديثه. روى عن أبي عبد الله الحاكم وطبقته، ورحل إلى العراق، والشام، ومصر.
وفيها أبو نصر المفسّر منصور بن الحسين [2] بنيسابور، مات قبل الطرازي، وحدّث عن الأصم وغيره.
وفيها يحيى بن عمّار، الإمام أبو زكريا الشيباني السّجستاني [3] الواعظ، نزيل هراة. روى عن حامد الرّفاء وطبقته، وكان له القبول التام بتلك الدّيار لفصاحته وحسن موعظته وبراعته في التفسير والسّنّة، وخلّف أموالا كثيرة، ومات في ذي القعدة وله تسعون سنة.
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 152) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 423) .
[2] انظر «العبر» (3/ 153) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 441- 442) .
[3] انظر «العبر» (3/ 153) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 481- 483) .(5/116)
سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة
فيها سار الملك المسعود بن محمود بن سبكتكين، فدخل أصبهان بالسيف، وقتل عالما لا يحصون، وفعل ما لا تفعله الكفرة.
وفيها توفي أبو القاسم الحرفي [1] عبد الرحمن بن عبيد [الله] الحربيّ [2] المحدّث.
قال الخطيب: كان صدوقا غير أن سماعه في بعض ما رواه عن النّجاد كان مضطربا. مات في شوال وله سبعون وثمانون سنة.
وفيها أبو الحسن النّعيمي، علي بن أحمد بن الحسن بن محمد البصري [3] الحافظ. روى عن طائفة ومات كهلا.
قال الخطيب: كان حافظا، حاذقا [4] ، متكلما، شاعرا.
وقال ابن ناصر الدّين: كان شديد العصبية في السّنّة والديانة، واتّهم بوضع حديث في صباه، ثم تاب ولازم الثقة والصيانة.
__________
[1] في «آ» : «الخرقي» وفي «ط» : «الحرقي» والتصحيح من «الأنساب» (4/ 114) و «العبر» (3/ 154) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 411) .
[2] أي ويقال له الحربي أيضا، كما في «سير أعلام النبلاء» (17/ 411) . (ع) .
[3] انظر «تاريخ بغداد» (11/ 331- 332) «العبر» (3/ 154) و «التبيان شرح بديعة البيان» (144/ ب- 145/ آ) و «غربال الزمان» ص (350) .
[4] في «تاريخ بغداد» : «عارفا» .(5/117)
وفيها أبو الفضل الكاغذي [1] منصور بن نصر السمرقندي مسند ما وراء النهر. روى عن الهيثم [بن كليب] الشاشي، ومحمد بن محمد بن عبد الله [2] بن حمزة. توفي بسمرقند في ذي القعدة وقد قارب المائة.
__________
[1] ضبطه السمعاني في «الأنساب» (10/ 327) وابن الأثير في «الباب» (3/ 76) بالذال «الكاغذي» وضبطه الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (17/ 368) وفي «العبر» (3/ 154) بالدال «الكاغذي» كما في كتابنا.
[2] في «آ» و «ط» : «محمد بن عبيد الله» وهو خطأ، والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» (17/ 368) و «العبر» (3/ 155) . (ع) .(5/118)
سنة أربع وعشرين وأربعمائة
فيها- ما قال في «العبر» - اشتد الخطب ببغداد بأمر الحراميّة، وأخذوا أموال الناس عيانا، وقتلوا صاحب الشرطة، وأخذوا لتاجر ما قيمته عشرة آلاف دينار، وبقي النّاس لا يجسرون أن يقولوا: فعل البرجميّ خوفا منه، بل يقولون عنه: القائد أبو علي، واشتهر عنه أنه لا يتعرّض لامرأة، ولا يدع أحدا يأخذ شيئا عليها [1] .
وفيها توفي أبو علي الفشيديزجي [2]- بفتح الفساء وكسر المعجمة وتحتيتين ساكنتين وفتح المهملة بينهما، والزاي وجيم، نسبة إلى فشيديزة- بلد الحسين بن الخضر البخاري، قاضي بخارى وشيخ الحنفية في عصره. روى عن محمد بن محمد بن صابر [3] وجماعة. توفي في شعبان وقد خرّج له عدة أصحاب.
وفيها أبو طاهر الدّقّاق [4] ، حمزة بن محمد بن طاهر الحافظ، أحد أصحاب الدارقطني. كان البرقاني يخضع لمعرفته وعلمه.
__________
[1] انظر رواية الخبر بأطول من هذا عند الذهبي في «العبر» (3/ 155- 156) .
[2] كذا ضبط نسبته المؤلف. وهو كذلك عند السمعاني في «الأنساب» (9/ 309) وابن الأثير في «اللباب» (2/ 433) وضبطها الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (17/ 424) بكسر الدال.
[3] في «العبر» : «ابن جابر» ، وانظر «سير أعلام النبلاء» (17/ 425) .
[4] انظر «العبر» (3/ 157) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 443) .(5/119)
وفيها الإمام أبو محمد بن ذنّين [1] عبد الله بن عبد الرّحمن بن عثمان الصّدفي الطّليطلي. روى عن أبي جعفر بن عون الله وطبقته، وأكثر عن أبي محمد بن أبي زيد القيرواني، وعن أبي بكر [بن] المهندس، وأبي الطيب بن غلبون [2] بمصر، وكان زاهدا، عابدا، خاشعا، مجاب الدعوة، منقطع القرين، عديم النظير [3] ، مقبلا على الأثر والسّنّة، أمّارا بالمعروف، لا تأخذه في الله لومة لائم، مع الهيبة والعزّة، وكان يعمل [4] في كرمه بنفسه.
وفيها أبو بكر الأردستاني [5]- بفتح الهمزة، فسكون الراء، ففتح المهملة [6] ، فسكون المهملة، ففتح الفوقية، نسبة إلى أردستان، بلد قرب أصبهان، وقيل: بكسر الهمزة والدال [7]- محمد بن إبراهيم الحافظ العبد الصالح. روى «صحيح البخاري» عن إسماعيل بن حاجب، وروى عن أبي حفص بن شاهين وهذه الطبقة.
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 156) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 426- 427) .
[2] تصحف في «العبر» إلى «غليون» فيصحح فيه.
[3] تحرّفت في «ط» إلى «عديم النظر» .
[4] في «سير أعلام النبلاء» : «يخدم» .
[5] انظر «العبر» (3/ 157- 158) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 428- 429) .
[6] وكذا ضبط نسبته السمعاني في «الأنساب» (1/ 177) وابن الأثير في «اللباب» (1/ 41) .
وقال ياقوت في «معجم البلدان» (1/ 146) : بكسر الدال.
[7] وكذا قال ابن الأثير في «اللباب» .(5/120)
سنة خمس وعشرين وأربعمائة
فيها كما قال في «الشذور» هبّت ريح سوداء بنصيبين، فقلعت من بساتينها كثيرا، ورمت قصرا مبنيا بآجر، وحجارة، وكلس، ووقع هناك برد في أشكال الأكف، والنامرد [1] ، والأصابع، وزلزلت الرّملة، فهدم نحو من نصفها، وخسف بقرى، وسقط بعض حائط بيت المقدس، وسقطت منارة جامع عسقلان، وجزر البحر نحو ثلاث [2] فراسخ، فخرج الناس يتتبعون [3] السمك والصدف، فعاد الماء، فأخذ قوما منهم. انتهى.
وفيها الحافظ الكبير الثقة أبو بكر [4] البرقاني- بالفتح، نسبة إلى برقان، قريبة بخوارزم- أحمد بن محمد بن أحمد بن غالب الخوارزمي الفقيه الشافعي. مولده بخوارزم، سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، وسمع بها بعد الخمسين من أبي العبّاس بن حمدان وجماعة، وببغداد من أبي علي بن الصوّاف وطبقته، وبهراة، وبنيسابور، وجرجان، ومصر، ودمشق.
__________
[1] لفظة «والنامرد» لم ترد في «آ» وأثبتها من «ط» .
[2] في «ط» : «ثلاثة» .
[3] في «آ» : «يتبعون» وأثبت لفظ «ط» .
[4] قوله: «أبو بكر» سقط من «ط» وانظر «العبر» (3/ 158- 159) . «سير أعلام النبلاء» 17/ 464- 468) .(5/121)
قال الخطيب [1] : كان [ثقة] ثبتا ورعا، لم ير [2] في شيوخنا أثبت منه، عارفا بالفقه، كثير التصنيف، ذا حظ من علم العربية، صنّف «مسندا» ضمّنه ما اشتمل عليه «الصحيحان» وجمع حديث الثوري، وحديث شعبة، وطائفة، وكان حريصا على العلم، منصرف الهمّة إليه.
وقال أبو محمد الخلّال: كان البرقاني نسيج وحده.
وقال الإسنوي [3] : كان المذكور إماما، حافظا، ورعا، مجتهدا في العبادة، حافظا للقرآن.
قال الشيخ في «طبقاته» [4] : تفقه في صباه، وصنّف في الفقه، ثم اشتغل بعلم الحديث، فصار فيه إماما.
وقال ابن الصلاح: كان حريصا على العلم، منصرف الهمّة إليه، لم يقطع التصنيف إلى حين وفاته. قال: وعاده الصّوري في آخر جمادى الآخرة، فقال له: سألت الله أن يؤخّر وفاتي، حتّى يهلّ رجب، فقد روي أن فيه لله تعالى عتقاء من النّار فعسى أن أكون منهم [5] ، فاستجيب له. انتهى كلام الإسنوي.
وفيها أبو علي بن شاذان البزّاز [6] الحسن [7] بن أبي بكر، أحمد بن
__________
[1] انظر «تاريخ بغداد» (4/ 374) وقد نقل المؤلف عنه بتصرف.
[2] كذا في «ط» و «تاريخ بغداد» وفي «آ» و «سير أعلام النبلاء» : «لم نر» .
[3] انظر «طبقات الشافعية» للإسنوي (1/ 231- 232) .
[4] يعني «طبقات الفقهاء» للشيرازي.
[5] ذكره ابن عراق الكناني في «تنزيه الشريعة» (2/ 333) من رواية الديلمي في «مسند الفردوس» وفي سنده الأصبغ بن نباتة، قال أبو بكر بن عيّاش: كذّاب، وانظر «ميزان الاعتدال» (1/ 271) وما قالوا في أصبغ هذا، فالحديث موضوع، ولفظه عند الدّيلمي: «أكثروا من الاستغفار في شهر رجب فإن للَّه في كل ساعة عتقاء من النار» .
[6] تصحفت نسبته في «ط» و «العبر» إلى «البزار» وانظر «سير أعلام النبلاء» (17/ 415- 418) .
[7] تحرّف في «آ» إلى «الحسين» وأثبت لفظ «ط» وهو الصواب.(5/122)
إبراهيم بن الحسن بن محمد بن شاذان البغدادي. ولد سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، وسمّعه أبوه من أبي عمرو بن السمّاك، وأبي سهل بن زياد، والعبّاداني، وطبقتهم، فأكثر، وطال عمره، وصار مسند العراق.
قال الخطيب [1] : كان صدوقا، صحيح السماع [2] ، يفهم الكلام على مذهب الأشعري. سمعت أبا القاسم الأزهري يقول: أبو علي أوثق من برأ الله في الحديث، وتوفي في آخر يوم من السنة، ودفن من الغد في أول سنة ست وعشرين.
وفيها ابن شبانة، العدل، أبو سعيد، عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الهمذاني [3] . روى عن أبي القاسم عبد الرحمن بن عبيد وطائفة، وكان صدوقا.
وفيها أبو الحسن الجوبري- بفتح الجيم والموحدة، نسبة إلى جوبر، قرية بدمشق- عبد الرحمن بن محمد بن يحيى بن ياسر التميمي الدمشقي [4] كان أبوه محدّثا، فأسمعه الكثير من علي بن أبي العقب، وطائفة، وكان أمّيّا لا يقرأ ولا يكتب.
وفيها عبد الوهاب بن عبد الله بن عمر أبو نصر المرّي [5] الدمشقي [6] ابن الحبّان الشّروطي [7] الحافظ. روى عن أبي عمر بن فضالة وطبقته، وصنّف كتبا كثيرة، قاله الكتاني، ومات في شوال.
__________
[1] انظر «تاريخ بغداد» (7/ 279) .
[2] كذا في «آ» و «سير أعلام النبلاء» (17/ 417) : «صحيح السماع» وفي «تاريخ بغداد» :
«صحيح الكتاب» .
[3] تصحفت نسبته في «آ» و «ط» و «العبر» (3/ 159) إلى «الهمداني» والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» (17/ 432) .
[4] انظر «العبر» (3/ 159- 160) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 415) .
[5] في «العبر» : «المزي» وهو خطأ. (ع) .
[6] انظر «الأنساب» (11/ 268) و «العبر» (3/ 160) .
[7] قال السمعاني في «الأنساب» (7/ 321) : الشروطي: هذه النسبة لمن يكتب الصّكاك(5/123)
وفيها أبو الفضل الهروي [1] الزاهد، عمر بن إبراهيم. روى عن أبي بكر الإسماعيلي، وبشر بن أحمد الإسفراييني وطبقتهما. وكان فقيها عالما ذا زهد، وصدق، وورع، وتبتّل.
وفيها أبو بكر بن مصعب التاجر، محمد بن علي بن إبراهيم الأصبهاني [2] . روى عن ابن فارس، وأحمد بن جعفر السمسار، وجماعة، وتوفي في ربيع الأول [3] .
__________
والسّجلات، لأنها مشتملة على الشروط، فقيل لمن يكتبها: «الشروطي» .
[1] انظر «العبر» (3/ 160) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 448- 449) .
[2] انظر «العبر» (3/ 160) .
[3] قوله: «في ربيع الأول» سقط من «آ» وأثبته من «ط» و «العبر» .(5/124)
سنة ست وعشرين وأربعمائة
فيها زاد بلاء الحراميّة، وجاهروا بأخذ الأموال، وبإظهار الفسق والفجور، والفطر في رمضان، حتّى تملّكوا بغداد في المعنى.
وفيها أبو عامر بن شهيد، أحمد بن عبد الملك بن مروان بن ذي الوزارتين، أحمد بن عبد الملك بن عمر بن شهيد الأشجعي القرطبي [1] الشاعر، حامل لواء البلاغة والشعر بالأندلس.
قال ابن حزم: توفي في جمادى الأولى، وصلى عليه أبو الحزم جهور [2] ولم يخلف له نظيرا في الشعر والبلاغة، وكان سمحا جوادا، عاش بضعا وأربعين سنة.
وفيها أبو محمد بن الشقّاق [3] عبد الله بن سعيد، كبير المالكية بقرطبة، ورأس القرّاء، توفي في رمضان، وله ثمانون سنة. أخذ عن أبي عمر بن المكوي وطائفة.
وفيها أبو بكر المنيني [4] محمد بن رزق الله بن أبي عمرو الأسود.
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 161) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 501- 502) .
[2] في «آ» و «ط» : «أبو الحرم جمهور» وهو خطأ، والتصحيح من «الصلة» لابن بشكوال ص (131) ، و «العبر» (3/ 161) .
[3] انظر «العبر» (3/ 161- 162) و «ترتيب المدارك» (2/ 729) .
[4] انظر «الأنساب» (11/ 511) و «العبر» (3/ 162) و «معجم البلدان» (5/ 218) .(5/125)
خطيب منين [1] . روى عن علي بن أبي العقب، والحسين بن أحمد بن أبي ثابت، وجماعة.
قال أبو الوليد الدربندي، لم يكن بالشام من يكتنى بأبي بكر غيره، وكان ثقة.
وقال الكتّاني: توفي في جمادى الأولى، وله أربع وثمانون سنة، وكان يحفظ القرآن بأحرف.
وفيها أبو عمرو الرّزجاهي- بفتح الراء والجيم، وسكون الزاي، نسبة إلى رزجاه، قرية ببسطام- محمد بن عبد الله بن أحمد البسطامي [2] الفقيه الأديب المحدّث، تفقّه على أبي سهل [3] الصعلوكي، وأكثر عن ابن عدي وطبقته، ومات في ربيع الأول، وله خمس وثمانون سنة، وكان يقرئ العربية. قاله في «العبر» ، والله تعالى أعلم.
__________
[1] منين: بلدة كبيرة إلى الشرق من دمشق، خرج منها علماء أفاضل منهم صاحب الترجمة.
[2] انظر «الأنساب» (6/ 110) و «العبر» (3/ 162) .
[3] في «ط» : «تفقه على أبي سعد» وهو خطأ.(5/126)
سنة سبع وعشرين وأربعمائة
فيها توفي أبو إسحاق الثّعلبي [1] أحمد بن محمد بن إبراهيم النيسابوري المفسر [2] . روى عن أبي محمد المخلدي وطبقته من أصحاب السّرّاج، وكان حافظا، واعظا، رأسا في التفسير والعربية، متين الديانة. قاله في «العبر» .
وقال ابن خلّكان [3] : كان أوحد زمانه في علم التفسير، وصنّف «التفسير الكبير» الذي فاق غيره من التفاسير، وله كتاب «العرائس» في قصص الأنبياء، وغير ذلك.
ذكره السمعاني وقال: يقال له الثعلبي والثعالبي، وهو لقب له وليس بنسب. قاله بعض العلماء.
وقال أبو القاسم القشيري: رأيت ربّ العزّة عزّ وجل في المنام وهو يخاطبني وأخاطبه، فكان في أثناء ذلك أن قال الرّبّ تعالى اسمه: أقبل الرجل الصالح، فالتفت. فإذا أحمد الثعالبي مقبل. انتهى ما قاله ابن خلّكان مختصرا.
__________
[1] في «ط» : «الثعالبي» . قال ابن الأثير في معرض ترجمته له في «اللباب» (1/ 238) :
«الثعلبي» ويقال: «الثعالبي» .
[2] انظر «العبر» (3/ 163) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 435- 437) .
[3] انظر «وفيات الأعيان» (1/ 79- 80) .(5/127)
وفيها أبو النّعمان، تراب بن عمر بن عبيد المصري الكاتب [1] .
روى عن أبي أحمد بن الناصح وجماعة، توفي في ربيع الآخر بمصر، وله خمس وثمانون سنة.
وفيها القاسم السّهمي، حمزة بن يوسف الجرجاني [2] ، الثقة الحافظ، من ذرية هشام بن العاص. سمع سنة أربع وخمسين من محمد بن أحمد بن إسماعيل الصّرّام صاحب محمد بن الضريس، ورحل إلى العراق سنة ثمان وستين، فأدرك ابن ماسي، وهو مكثر عن ابن عدي الإسماعيلي، وكان من أئمة الحديث، حفظا، ومعرفة، وإتقانا.
وفيها أبو الفضل الفلكي، علي بن الحسين الهمذانيّ [3] الحافظ.
رحل الكثير، وروى عن أبي الحسين بن بشران، وأبي بكر الحيري وطبقتهما، ومات شابا قبل أوان الرواية، ولو عاش لما تقدمه أحد في الحفظ والمعرفة لفرط ذكائه، وشدة اعتنائه، وقد صنّف كتاب «المنتهى في الكمال في معروفة الرجال» [4] ألف جزء لم يبيضه.
قال شيخ الإسلام الأنصاري: ما رأيت أحدا أحفظ من أبي الفضل بن الفلكي، ومات بنيسابور، وكان جدّه يلقب بالفلكي لبراعته في الهيئة والحساب [5] .
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 163) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 502) .
[2] انظر «العبر» (3/ 163- 164) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 502- 503) .
[3] انظر «العبر» (3/ 164) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 502- 503) .
[4] كذا اسم الكتاب في «آ» و «ط» و «العبر» ، وفي «الأنساب» (9/ 330) و «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 268) و «كشف الظنون» (2/ 1858) : «منتهى الكمال في معرفة الرجال» وفي «سير أعلام النبلاء» : «المنتهى في معرفة الرجال» .
[5] قلت: وقد تقدمت ترجمته في حوادث سنة (407) ص (48) فراجعها.(5/128)
وفيها أبو علي الجيّانيّ، الحسين بن محمد الغسّاني الأندلسي [1] المحدّث له كتاب «تقييد المهمل» أجاد فيه وأحسن، وكان من أفراد الحفّاظ مع معرفة الغريب، والشعر، والنسب، وحسن الخط.
وجيّان: بلدة كبيرة بالأندلس [2] . وجيّان أيضا، من أعمال الرّيّ [3] .
قاله ابن الأهدل.
وفيها الظاهر لإعزاز دين الله، علي بن الحاكم منصور بن العزيز [نزار بن المعز] العبيدي المصري [4] صاحب مصر والشام، بويع بعد أبيه، وشرعت دولتهم في انحطاط منذ ولي، وتغلّب حسّان بن مفرّج الطائي على أكثر الشام، وأخذ صالح بن مرداس حلب، وقوي نائبهم على القيروان، وقد وزر للظاهر، الوزير نجيب الدولة، علي بن أحمد الجرجرائي [5] ، وكان هذا أقطع اليدين من المرفقين، قطعهما الحاكم في سنة أربع وأربعمائة، فكان يكتب العلامة عنه القاضي القضاعي.
قال ابن خلّكان [6] : قطعت يداه في شهر ربيع الآخر، سنة أربع وأربعمائة على باب القصر البحري بالقاهرة، وحمل إلى داره، وكان يتولى بعض الدواوين، فظهرت عليه خيانة، فقطع بسببها، ثم بعد ذلك ولي ديوان النفقات، سنة تسع وأربعمائة، ثم وزر للظاهر في سنة اثنتي عشرة وأربعمائة، وهذا كله بعد أن تنقل [7] في الخدم بالأرياف والصعيد. وكانت علامته في الكتابة: «الحمد لله شكرا لنعمته» واستعمل العفاف والأمانة الزائدة من
__________
[1] انظر «مرآة الجنان» (3/ 46) .
[2] انظر «معجم البلدان» (2/ 195) .
[3] انظر «معجم البلدان» (2/ 195- 196) وفيه قال ياقوت: جيّان: من قرى أصبهان.
[4] انظر «العبر» (3/ 164- 165) وما بين حاصرتين مستدرك منه.
[5] تحرّفت في «آ» و «ط» إلى «الجرجراي» والتصحيح من «العبر» و «اتعاظ الحنفا» للمقريزي (2/ 183) .
[6] انظر «وفيات الأعيان» (3/ 407- 408) وقد نقل المؤلف كلامه بتصرّف.
[7] في «ط» : «انتقل» .(5/129)
الاحتراز والتحفّظ، وفي ذلك يقول جاسوس الملك [1] :
يا أحمقا اسمع وقل ... ودع الرقاعة والتحامق
أأقمت نفسك في الثقا ... ت وهبك فيما قلت صادق
فمن الأمانة والتّقى ... قطعت يداك من المرافق
وهو منسوب إلى جرجرايا- بفتح الجيمين، قرية من أرض العراق- وكانت ولادة الظاهر يوم الأربعاء عاشر شهر رمضان، سنة خمس وتسعين وثلاثمائة بالقاهرة، وكانت ولايته بعد فقد أبيه بمدة، لأن أباه لما فقد كان الناس يرجون ظهوره ويتتبعون آثاره، إلى أن تحقق عدمه، فأقاموا ولده المذكور، وتوفي ليلة الأحد منتصف شعبان بالمقس [2] بالموضع المعروف بالدّكة من القاهرة.
وتوفي وزيره الجرجرائي [3] سنة ست وثلاثين في سابع شهر رمضان، وكانت وزارته للظاهر ولولده المستنصر سبع عشرة سنة وثمانية أشهر وثمانية عشر يوما، ولما توفي الظاهر، بايعوا بعده ولده المستنصر وهو صبي.
وفيها محمد بن المزكّي أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن يحيى، أبو عبد الله النّيسابوري، مسند نيسابور في زمانه. روى عن أبيه، وحامد الرّفاء، ويحيى بن منصور القاضي، وأبي بكر بن الهيثم الأنباري، وطبقتهم، وسمع منه الشّيروي.
__________
[1] كذا في «آ» و «ط» : «جاسوس الملك» وفي «وفيات الأعيان» : «جاسوس الفلك» .
[2] في «آ» و «ط» : «بالمقص» بالصاد، والتصويب من «وفيات الأعيان» وانظر «معجم البلدان» (5/ 175) .
[3] في «آ» و «ط» : «الجرجراي» والتصحيح من «العبر» للذهبي و «اتعاظ الحنفا» للمقريزي.(5/130)
سنة ثمان وعشرين وأربعمائة
فيها توفي أبو بكر الأصبهاني اليزدي، أحمد بن علي بن محمد [1] بن منجويه الحافظ، نزيل نيسابور ومحدّثها، صنّف التصانيف الكثيرة، ورحل، ووصل إلى بخارى. وحدّث عن أبي بكر الإسماعيلي، وأبي بكر بن المقرئ، وطبقتهما. روى عنه شيخ الإسلام [2] وقال: هو أحفظ من رأيت من البشر. قاله في «العبر» .
وتوفي في المحرم، وله إحدى وثمانون سنة.
وقال ابن ناصر الدّين [3] : كان أحمد الحفّاظ المجوّدين، ومن أهل الورع والدّين. ثقة من الأثبات، صنّف على «الصحيحين» و «جامع الترمذي» و «سنن أبي داود» مصنّفات. انتهى.
وفيها أبو بكر بن النّمط، أحمد بن محمد بن الصقر، البغدادي، المقرئ، الثقة، العابد. روى عن أبي بكر الشّافعي، وفاروق، وطبقتهما.
وفيها أبو الحسين القدوري، أحمد بن محمد بن أحمد بن جعفر بن حمدان البغدادي الفقيه، شيخ الحنفية بالعراق. انتهت إليه رئاسة المذهب،
__________
[1] في «العبر» : «محمد بن علي» وهو خطأ، وانظر «سير أعلام النبلاء» (17/ 438) . (ع) .
[2] هو شيخ الإسلام عبد الله بن محمد الهروي الأنصاري، أبو إسماعيل، المتوفي سنة (481) هـ-.
[3] في «التبيان شرح بديعة البيان» (145/ ب) .(5/131)
وعظم جاهه، وبعد صيته، وكان حسن العبارة في [1] النظم، وسمع الحديث، وروى عنه أبو بكر الخطيب صاحب «التاريخ» وصنّف في المذهب «المختصر» المشهور وغيره، وكان يناظر الشيخ أبا حامد الإسفراييني الفقيه الشافعي، ويبالغ في تعظيمه بحيث حكى عنه ابن خلّكان [2] أنه كان يفضل الإسفراييني على الشافعي، وهذا عجب عجاب، وكانت ولادة القدوري سنة اثنتين وستين وثلاثمائة، وتوفي يوم الأحد خامس رجب من هذه السنة ببغداد، ودفن من يومه بداره في درب أبي خلف، ثم نقل إلى تربة في شارع المنصور، فدفن بجانب أبي بكر الخوارزمي الفقيه الحنفي.
وفيها أبو علي بن سينا الرئيس، الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا، صاحب التصانيف الكثيرة في الفلسفة، والطب، وله من الذكاء الخارق، والذهن الثاقب ما فاق به غيره، وأصله بلخيّ، ومولده ببخارى، وكان أبوه من دعاة الإسماعيلية، فأشغله في الصغر، وحصّل عدة علوم قبل أن يحتلم، وتنقل في مدائن خراسان، والجبال، وجرجان، ونال حشمة وجاها، وعاش ثلاثا وخمسين سنة.
قال ابن خلّكان في ترجمة ابن سينا [3] : اغتسل وتاب، وتصدق بما معه على الفقراء، وردّ المظالم [على من عرفه] وأعتق مماليكه [4] ، وجعل يختم في كل ثلاثة أيام ختمة، ثم مات بهمذان يوم الجمعة في شهر رمضان. قاله جميعه في «العبر» [5] .
__________
[1] لفظة «في» سقطت من «آ» وأثبتها من «ط» .
[2] انظر «وفيات الأعيان» (1/ 73) وهو مترجم فيه (1/ 78- 79) .
[3] انظر «وفيات الأعيان» (2/ 160- 161) وما بين حاصرتين زيادة منه.
[4] في «آ» و «ط» : «وأعتق مماليك» وما أثبته من «وفيات الأعيان» .
[5] (3/ 167) .(5/132)
وقال ابن خلّكان [1] : كان أبوه من العمال الكفاة، تولى العمل بقرية من ضياع بخارى يقال لها خرميثن من أمهات قراها، وولد الرئيس أبو علي وكذلك أخوه بها، واسم أمه ستارة وهي من قرية يقال لها أفشنة بالقرب من خرميثن، ثم انتقلوا إلى بخارى، وتنقل الرئيس بعد ذلك في البلاد، واشتغل بالفنون وحصّل العلوم والفنون [2] ولما بلغ عشر سنين من عمره كان قد أتقن علم القرآن العزيز والأدب، وحفظ أشياء من أصول الدّين وحساب الهندسة [3] والجبر والمقابلة، ثم توجّه نحوهم الحكيم أبو عبد الله النّاتلي فأنزله أبو الرئيس عنده، فابتدأ أبو علي يقرأ عليه «كتاب إيساغوجي» وأحكم عليه علم المنطق، وإقليدس، والمجسطي، وفاقه أضعافا كثيرة، حتّى أوضح له رموزه، وفهّمه إشكالات لم يكن النّاتلي يدريها [4] ، وكان مع ذلك يختلف في الفقه إلى إسماعيل الزاهد، يقرأ ويبحث ويناظر، ونظر في النصوص [5] والشروح، وفتح الله تعالى عليه أبواب العلوم، ثم رغب بعد ذلك في علم المطب، وتأمل الكتب المصنّفة فيه، وعالج تأدبا لا تكسّبا، وعلّمه حتّى فاق فيه على الأوائل والأواخر في أقل مدة وأصبح فيه عديم القرين، فقيد المثيل [6] ، واختلف إليه فضلاء هذا الفن [وكبراؤه] يقرؤون عليه أنواعه والمعالجات المقتبسة من التجربة، وسنّه إذ ذاك نحو ست عشرة سنة.
وفي مدة اشتغاله لم ينم ليلة واحدة بكمالها ولا اشتغل في النهار بسوى المطالعة، وكان إذا أشكلت عليه مسألة توضأ وقصد المسجد الجامع، وصلّى ودعا الله عزّ وجل أن يسهّلها عليه ويفتح مغلقها له.
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (2/ 157- 162) .
[2] في «وفيات الأعيان» : «واشتغل بالعلوم، وحصّل الفنون» .
[3] في «ط» : «وحساب الهند» وهو تحريف.
[4] في «وفيات الأعيان» : «لم يكن للناتلي يد بها» .
[5] في «آ» و «ط» : «في الفصوص» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[6] في «وفيات الأعيان» : «فقيد المثل» ولفظة «وكبراؤه» ومستدركة منه.(5/133)
وذكر عند الأمير نوح السّاماني صاحب خراسان في مرضه، فأحضره وعالجه حتّى برئ، واتصل به وقرب منه، ودخل إلى [1] دار كتبه، وكانت عديمة المثل، فيها من كل فنّ [من] الكتب المشهورة بأيدي النّاس [وغيرها مما لا يوجد في سواها، ولا سمع باسمه فضلا عن معرفته، فظفر أبو علي فيها بكتب من علم الأوائل] [2] وغيرها، وحصّل نحب فرائدها، وأطّلع على أكثر علومها، واتفق بعد ذلك احتراق تلك الخزانة، فتفرّد أبو علي بما حصّله من علومها، وكان يقال: إن أبا علي توصل إلى إحراقها ليتفرّد أبو علي بما حصّله من علومها، وكان يقال: إن أبا علي توصل إلى إحرافها ليتفرّد بمعرفة ما حصّله منها وينسبه إلى نفسه.
ولم يستكمل ثماني عشرة سنة من عمره إلّا وقد فرغ من تحصيل العلوم بأسرها التي عاناها، وتوفي أبوه وسنّ أبي عليّ اثنتان وعشرون سنة، وكان يتصرف هو ووالده في الأحوال ويتقلدون للسلطان الأعمال.
وسار إلى همذان، وتولى الوزارة لشمس الدولة، ثم تشوش العسكر عليه، فأغاروا على داره ونهبوها وقبضوا عليه، وسألوا شمس، الدولة قتله، فامتنع، ثم أطلق، فتوارى، ثم مرض شمس الدولة بالقولنج، فأحضره لمداواته، وأعاده وزيرا، ثم مات شمس الدولة، وتولى تاج الدولة، فلم يستوزره، فتوجه إلى أصبهان، وبها علاء الدولة بن كاكويه [3] فأحسن إليه.
وكان أبو علي قويّ المزاج، وتغلب عليه قوة الجماع، حتّى أنهكته ملازمته وأضعفته، ولم يكن يداوي مزاجه، فعرض له قولنج، فحقن نفسه في يوم واحد ثماني مرّات، فقرح بعض أمعائه، وظهر له سحج، واتفق سفره مع علاء الدولة، فحدث له الصرع الحادث عقيب القولنج، فأمر باتخاذ دانقين
__________
[1] لفظة «إلى» لم ترد في «ط» .
[2] ما بين حاصرتين سقط من «آ» و «ط» واستدركته من «وفيات الأعيان» .
[3] في «آ» : «ابن باكويه» وأثبت لفظ «ط» و «وفيات الأعيان» .(5/134)
من كرفس في جملة ما يحقن به، فجعل الطبيب الذي يعالجه فيه خمسة دراهم [منه] فازداد السحج به من حدّة الكرفس، وطرح بعض غلمانه في بعض أدويته شيئا كثيرا من الأفيون، وكان سببه أن غلمانه خانوه في شيء، فخافوا عاقبة أمره عند برئه وكان منذ حصل له الألم يتحامل ويجلس مرة بعد أخرى ولا يحتمي ويجامع، فكان يصلح أسبوعا ويمرض أسبوعا، ثم قصد علاء الدولة همذان ومعه الرئيس، فحصل له القولنج في الطريق، ووصل إلى همذان وقد ضعف جدا وأشرفت قوته على السقوط، فأهمل المداواة وقال:
المدبر الذي في بدني قد عجز عن تدبيره، فلا تنفعني المعالجة، ثم اغتسل وتاب وتصدق بما معه على الفقراء، وردّ المظالم على من عرفه، وأعتق مماليكه، وجعل يختم في كل ثلاثة أيام ختمة، ثم مات في التاريخ المذكور.
وكان نادرة عصره في معرفته وذكائه وتصانيفه، وصنّف كتاب «الشفاء» في الحكمة، و «النجاة» و «الإشارات» و «القانون» وغير ذلك ما يقارب مائة مصنّف [1] ما بين مطوّل [ومختصر] ورسالة في فنون شتى، وله رسائل بديعة، منها: رسالة «حيّ بن يقظان» ورسالة «سلامان [وأبسال] » ورسالة «الطير» وغيرها، وانتفع الناس بكتبه، وهو أحد فلاسفة المسلمين.
ومن شعره قوله في النفس:
هبطت إليك من المحلّ الأرفع ... ورقاء ذات تعزّر وتمنّع
محجوبة عن كل مقلة عارف ... وهي التي سفرت ولم تتبرقع
وصلت على كره إليك وربما ... كرهت فراقك وهي ذات تفجّع
أنفت وما ألفت فلما واصلت ... ألفت مجاورة الخراب البلقع
__________
[1] لفظة «مصنف» سقطت من «آ» وأثبتها من «ط» .(5/135)
وأظنّها نسيت عهودا بالحمى ... ومنازلا بفراقها لم تقنع
حتّى إذا اتّصلت بهاء هبوطها ... من ميم مركزها بذات الأجرع
علقت بها ثاء الثقيل فأصبحت ... بين المعالم والطلول الخضّع
تبكي وقد ذكرت عهودا بالحمى ... بمدامع تهمي ولم تتقطع [1]
حتّى إذا قرب المسير إلى الحمى ... ودنا الرحيل إلى الفضاء الأوسع
وغدت تغرّد فوق ذروة شاهق ... والعلم يرفع كلّ من لم يرفع
وتعود عالمة بكل خفية ... في العالمين فخرقها لم يرقع
فهبوطها إذا كان ضربة لازم ... لتكون سامعة لما لم تسمع
فلأي شيء أهبطت من شاهق ... سام إلى قعر الحضيض الأوضع
إن كان أهبطها الإله لحكمة ... طويت عن الفطن اللّبيب الأروع
إذا عاقها الشّرك الكثيف فصدّها ... قفص عن الأوج الفسح الأربع
فكأنها برق تألّق بالحمى ... ثم انطفى [2] فكأنّه لم يلمع
ومن المنسوب إليه قوله:
اجعل غذاءك كلّ يوم مرة ... واحذر طعاما قبل هضم طعام
واحفظ منيّك ما استطعت فإنه ... ماء الحياة يراق في الأرحام
وفضائله كثيرة مشهورة.
وكانت ولادته في سنة سبعين وثلاثمائة، في شهر صفر، وتوفي بهمذان يوم الجمعة من شهر رمضان، ودفن بها، وكان الشيخ كمال الدّين بن يونس رحمه الله يقول: إن مخدومه سخط عليه واعتقله، فمات في السجن، وكان يقول:
__________
[1] رواية البيت في «وفيات الأعيان» و «غربال الزمان» ص (353) :
تبكي وقد نسيت عهودا بالحمى ... بمدامع تهمي ولمّا تقلع
[2] في «وفيات الأعيان» و «غربال الزمان» : «ثم انطوى» .(5/136)
رأيت ابن سينا يداوي [1] الرّجال ... وفي السّجن مات أخسّ الممات
فلم يشف ما نابه بالشّفا ... ولم ينج من موته بالنجاة
انتهى ما أورده ابن خلّكان ملخصا.
وقال ابن الأهدل: قال اليافعي [2] : طالعت كتابه «الشفا» وما أجدره بقلب الفاء قافا، لاشتماله على فلسفة لا ينشرح لها قلب متدين، والله أعلم بخاتمته وصحة توبته، وقد كفّره الغزالي في كتابه «المنقذ من الضلال» [3] .
وقال ابن الصلاح: لم يكن من علماء الإسلام، بل كان شيطانا من شياطين الإنس. وأثنى عليه ابن خلّكان. انتهى كلام ابن الأهدل أيضا.
وقد تقدم ذكره مع ترجمة الفارابي [4] فليراجع.
وفيها ذو القرنين، أبو المطاع المطاع بن الحسن بن عبد الله بن حمدان [5] وجيه الدولة بن ناصر الدولة الموصلي، الأديب الشاعر الأمير. ولّي إمرة دمشق سنة إحدى وأربعمائة، وعزل بعد أشهر من جهة الحاكم، ثم وليها لابنه الظاهر سنة اثنتي عشرة وعزل، ثم وليها ثالثة سنة خمس عشرة، فبقي إلى سنة تسع عشرة، وله شعر فائق منه قوله:
إني لأحسد «لا» في أسطر الصّحف ... إذا رأيت عناق [6] اللام للألف
وما أظنّهما طال اعتناقهما ... إلّا لما لقيا من شدّة الشّغف
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «يعادي» .
[2] انظر «مرآة الجنان» (3/ 51) وقد تصرف ابن الأهدل في النقل عنه.
[3] انظر ص (47) من طبعته الصادرة عن الدار التونسية للنشر، والمؤسسة الوطنية للكتاب في الجزائر بتحقيق الأستاذ عبد الكريم المرّاق.
[4] انظر المجلد الرابع ص (214) وحوادث سنة (339) .
[5] كذا في «آ» و «ط» : «أبو المطاع المطاع بن الحسن بن عبد الله بن حمدان» ، وفي «العبر» :
«أبو المطاع بن الحسن» وفي «وفيات الأعيان» (2/ 279) و «النجوم الزاهرة» (5/ 27) : «أبو المطاع الحسن بن عبد الله بن حمدان» .
[6] كذا في «آ» و «ط» و «غربال الزمان» ص (354) وفي «وفيات الأعيان» و «مرآة الجنان» (3/ 51) «اعتناق» .(5/137)
وتوفي في صفر.
وفيها أبو طاهر البغدادي عبد الغفّار بن محمد المؤدّب. روى عن أبي بكر الشافعي، وأبي علي الصوّاف، وعاش ثلاثا وثمانين سنة.
وفيها أبو عمرو البغدادي، وعثمان بن محمد بن يوسف بن دوست، صدوق. روى عن النّجاد، وعبد الله بن إسحاق الخراساني، وتوفي في صفر.
وفيها أبو الحسن الحنّائي، علي بن محمد بن إبراهيم الدمشقي، المقرئ، المحدّث الحافظ الناقد الزاهد. روى عن عبد الوهاب الكلابي وخلق، ورحل إلى مصر، خرّج لنفسه معجما كبيرا.
قال الكتّاني: توفي شيخنا وأستاذنا أبو الحسن في ربيع الأول، وكان من العبّاد، وكانت له جنازة عظيمة ما رأيت مثلها، وعاش ثمانيا وخمسين سنة.
وفيها أبو علي الهاشمي الحنبلي، محمد بن أحمد بن أبي موسى البغدادي، صاحب التصانيف، ومن إليه انتهت رئاسة المذهب. أخذ عن أبي الحسن التميمي وغيره، وحدّث عن ابن المظفر وكان رئيسا رفيع القدر، بعيد الصيت.
قال ابن أبي يعلى في «طبقاته» [1] : كان سامي الذكر، له القدم العالي والحفظ الوافر [2] عند الإمامين القادر بالله والقائم بأمر الله.
صنّف «الإرشاد» في المذهب، وشرح كتاب الخرقي [3] ، وكانت حلقته
__________
[1] انظر «طبقات الحنابلة» (2/ 182- 186) .
[2] في «طبقات الحنابلة» : «والحظ الوافي» .
[3] يعني «مختصر الخرقي» للإمام أبي القاسم عمر بن الحسين الحنبلي المتوفى سنة (334) وقد تقدم الكلام عنه في الجزء الرابع ص (186) .(5/138)
بجامع المنصور، يفتي ويشهد. قرأت [1] على المبارك بن عبد الجبّار- من أصله في حلقتنا بجامع المنصور- قلت له: حدّثك القاضي الشريف أبو علي قال: باب ما تنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة من واجب الديانات.
حقيقة الإيمان عند أهل الأديان: الاعتقاد بالقلب، والنطق باللّسان: أن الله عزّ وجل واحد أحد، فرد صمد، لا يغيّره الأبد، ليس له والد ولا ولد، وأنه سميع بصير، بديع قدير، حكيم خبير، عليّ كبير، وليّ نصير، قوي مجير، ليس له شبيه [2] ولا نظير، ولا عون ولا ظهير، ولا شريك ولا وزير، ولا ندّ ولا مشير، سبق الأشياء، فهو قديم لا كقدمها [3] ، وعلم كون وجودها في نهاية عدمها، لم تملكه الخواطر فتكيّفه، ولم تدركه الأبصار فتصفه، ولم يخل من علمه مكان فيقع به التأيين، ولم يعدمه زمان فينطلق [4] عليه التأوين. ولم يتقدمه دهر ولا حين، ولا كان قبله كون ولا تكوين، ولا تجري ماهيته في مقال، ولا تخطر كيفيته ببال، ولا يدخل في الأمثال والأشكال، صفاته كذاته، ليس بجسم في صفاته، جلّ أن يشبّه بمبتدعاته أو يضاف إلى مصنوعاته لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ 42: 11 [الشورى:
11] أراد ما العالم فاعلوه ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعا لأطاعوه. خلق الخلائق وأفعالهم، وقدّر أرزاقهم وآجالهم، لا سمّي له في أرضه وسماواته، على العرش استوى، وعلى الملك احتوى، وعلمه محيط بالأشياء. كذلك سئل [الإمام] أحمد بن محمد بن حنبل عن قوله عزّ وجل ما يَكُونُ من نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى من ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا 58: 7 [المجادلة: 7] فقال: علمه.
__________
[1] تحرّفت في «آ» إلى «قراءة» وأثبت لفظ «ط» و «طبقات الحنابلة» .
[2] في «ط» : «شبه» .
[3] في «آ» و «ط» : «فهو قديم قدمها» والتصحيح من «طبقات الحنابلة» .
[4] في «آ» : «فيطلق» وأثبت لفظ «ط» و «طبقات الحنابلة» .(5/139)
والقرآن [1] كلام الله تعالى، وصفة من صفات ذاته، غير محدث ولا مخلوق، كلام ربّ العالمين، في صدور الحافظين، وعلى ألسن الناطقين، وفي أسماع السامعين، وبأكف الكاتبين، وبملاحظة الناظرين [2] ، برهانه ظاهر، وحكمه قاهر، ومعجزة باهر.
وأن الله تعالى كلّم موسى تكليما، وتجلى للجبل فجعله دكا هشيما.
وأنه خلق النفوس وسوّاها، وألهمها فجورها وتقواها.
والإيمان بالقدر خيره وشرّه، وحلوه ومرّه، وأن مع كل عبد [3] رقيبا وعتيدا، وحفيظا وشهيدا، يكتبان حسناته ويحصيان سيئاته، وأن كل مؤمن وكافر وبرّ فاجر، يعاين عمله عند حضور منيّته، ويعلم مصيره قبل ميتته.
وأن منكرا ونكيرا إلى كل أحد ينزلان، سوى النبيين، فيسألان ويمتحنان عما يعتقده من الإيمان [4] .
وأن منكرا ونكيرا إلى كل أحمد ينزلان، سوى النبيين، وفيسألان ويمتحنان عما يعتقده من الإيمان [4] .
وأن المؤمن يخبر في قبره بالنعيم، والكافر يعذّب بالعذاب الأليم، وأنه لا محيص لمخلوق من القدر المقدور، ولن يتجاوز ما خطّ في الألواح المسطور.
وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور.
وأن الله جلّ اسمه يعيد خلقه كما بدأهم، ويحشرهم كما ابتدأهم من صفائح القبور، وبطون الحيتان في تخوم البحور، وأجواف السباع، وحواصل النسور.
وأن الله تعالى يتجلى في القيامة لعباده الأبرار، فيرونه بالعيون والأبصار.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «القرآن» وأثبت الواو من «طبقات الحنابلة» .
[2] في «طبقات الحنابلة» : «وأكفّ الكاتبين، وملاحظة الناظرين» .
[3] في «آ» : «مع كل جسد» وأثبت لفظ «ط» و «طبقات الحنابلة» .
[4] في «طبقات الحنابلة» : «من الأديان» .(5/140)
وأنه يخرج أقواما من النار، فيسكنهم دار القرار، وأنه يقبل شفاعة محمد المختار في أهل الكبائر والأوزار.
وأن الميزان حق، توضع فيه أعمال العباد، فمن ثقلت موازينه نجا من النار، [ومن خفّت موازينه أدخل جهنم وبئس القرار] [1] .
وأن الصراط حق، تجوزه الأبرار، وأن حوض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حق يرده المؤمنون ويذاد عنه الكفّار.
وأن الإيمان غير مخلوق، وهو قول باللسان، وإخلاص بالجنان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالأوزار [2] .
وأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم خاتم النبيين، وأفضل المرسلين، وأمته خير الأمم أجمعين. وأفضلهم القرن الذين شاهدوه، وآمنوا به وصدقوه، وأفضل القرن الذين صحبوه، وأربع عشرة مائة، بايعوه بيعة الرّضوان، وأفضلهم أهل بدر [إذ] نصروه، وأفضلهم أربعون في الدار كنفوه، وأفضلهم عشرة عزّروه ووقروه، شهد لهم بالجنة، وقبض وهو عنهم راض، وأفضل هؤلاء العشرة الأبرار، والخلفاء الراشدون المهديون الأربعة الأخيار، وأفضل الأربعة أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، عليهم الرضوان.
وأفضل القرون بعدهم القرن الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يتبعونهم.
وأن نتوالى أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم [3] بأسرهم، ولا نبحث عن اختلافهم في أمرهم، ونمسك عن الخوض في ذكرهم إلّا بأحسن الذكر لهم.
__________
[1] ما بين حاصرتين سقط من «آ» و «ط» واستدركته من «طبقات الحنابلة» (2/ 184) .
[2] في «طبقات الحنابلة» : «وينقص بالعصيان» .
[3] في «آ» و «ط» : «عليه السلام» وأثبت لفظ «طبقات الحنابلة» .(5/141)
وأن نتولى [1] أهل القبلة ممّن ولي حرب المسلمين على ما كان منهم [2] من عليّ، وطلحة، والزّبير، وعائشة، ومعاوية، رضوان الله عليهم، ولا ندخل فيما شجر بينهم، اتباعا لقول ربّ العالمين: وَالَّذِينَ جاؤُ من بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ، وَلا تَجْعَلْ في قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ 59: 10 [الحشر: 10] .
وذكر أبو علي بن شوكة قال: اجتمعنا جماعة من الفقهاء، فدخلنا على القاضي أبي علي بن أبي موسى الهاشمي، فذكرنا له فقرنا وشدّة ضّرّنا، فقال لنا: اصبروا، فإن الله سيرزقكم ويوسع عليكم. وأحدّثكم في مثل هذا بما تطيب [3] به قلوبكم. أذكر سنة من السنين وقد ضاق بي الأمر [من] شيء عظيم، حتّى بعث رجل داري [4] ونفذ جميعه، ونقضت الطبقة الوسطى من داري، وبعث أخشابها، وتقوّت بثمنها، وقعدت في البيت لم أخرج، وبقيت سنة، فلما كان بعد سنة قالت لي المرأة: الباب يدق، فقلت [لها] : افتحي له الباب، ففعلت فدخلت، فدخل رجل فسلّم عليّ، فلما رأى حالي لم يجلس حتّى أنشدني وهو قائم:
ليس من شدّة تصيبك إلّا ... سوف تمضي وسوف تكشف كشفا
لا يضق ذرعك الرّحيب فإنّ الن- ... - ار يعلو لهيبها ثمّ تطفأ
قد رأينا من كان أشفى على الهلا ... ك فوافت [5] نجاته حين أشفى
__________
[1] تحرّفت في «آ» و «ط» إلى «نتوالى» .
[2] في «طبقات الحنابلة» : «فيهم» .
[3] في «آ» و «ط» : «ما تطيب» وأثبت لفظ «طبقات الحنابلة» .
[4] في «آ» و «ط» : «رجلا» و «رجل الدار» نصفها. جاء في «لسان العرب» (رجل) وفي حديث عائشة رضي الله عنها: أهدي لنا رجل شاة ... ترديد نصف شاة طولا، فسمتها باسم بعضها.
[5] في «آ» : «فواته» وفي «ط» : «فراته» وأثبت لفظ «طبقات الحنابلة» . والأصح لو أنه استبدل لفظة «الهلاك» في البيت ب- «الموت» لكي يستقيم الوزن.(5/142)
ثم خرج عني ولم يقعد، فتفاءلت بقوله، فلم يخرج اليوم [عنّي] [1] حتّى جاءني رسول القادر بالله، ومعه ثياب، ودنانير، وبغلة بمركب، ثم قال لي: أجب أمير المؤمنين، وسلّم إليّ الدنانير، والثياب، والبغلة، فغيّرت عن [2] حالي، ودخلت الحمّام، وصرت إلى القادر بالله فردّ إليّ قضاء الكوفة وأعمالها، وأثرى [3] حالي، أو كما قال.
مولده في ذي القعدة سنة خمس وأربعين وثلاثمائة، ووفاته في ربيع الآخر، ودفن بقرب قبر إمامنا [أحمد] . انتهى ما قاله ابن أبي يعلى ملخصا.
وفيها أبو علي العكبري، الحسن بن شهاب بن الحسن بن علي بن شهاب، الفقيه الثقة الأمين. ولد بعكبرا في محرم، سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، وقيل: سنة إحدى وثلاثين، وسمع الحديث على كبر السنّ من ابن الصوّاف وطبقته، ولازم أبا عبد الله بن بطة إلى حين وفاته، وله اليد الطولى في الفقه، والأدب، والإقراء، والحديث، والشعر، والفتيا.
وقال الخطيب [4] : سمعت البرقاني- وذكر بحضرته ابن شهاب- فقال:
ثقة أمين.
وقال ابن شهاب: كسبت في الوراقة خمسة وعشرين ألف درهم راضيّة، وكنت أشتري كاغذا بخمسة دراهم، فاكتب فيه «ديوان المتنبي» في ثلاث ليال، وأبيعه بمائتي درهم وأقلّه بمائة وخمسين درهما.
وقال ابن شهاب: أقام أخي أبو الخطّاب معي في الدار عشرين سنة، ما كلّمته، وأشار إلى أنه كان ينسب إلى الرفض. وصنّف أبو علي المصنّفات
__________
[1] سقطت من «آ» و «ط» واستدركتها من «طبقات الحنابلة» .
[2] في «ط» : «من» .
[3] في «آ» و «ط» : «وأثر» والتصحيح من «طبقات الحنابلة» .
[4] انظر «تاريخ بغداد» (7/ 329- 330) وقد نقل المؤلف كلامه باختصار وتصرّف.(5/143)
في الفقه، والفرائض، والنحو، وتوفي في رجب ودفن بعكبرا.
وقال الأزهري: أخذ السلطان من تركة ابن شهاب ما قدره ألف دينار سوى ما خلّفه من الكروم والعقار، وكان أوصى بثلث ماله لمتفقّهة الحنابلة، ولم يعطوا شيئا، وقيل: إنه صلى سبعين سنة التراويح.
وفيها ابن باكويه، الإمام أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبيد الله الشيرازي الصوفي، أحمد المشايخ الكبار، وصاحب محمد بن خفيف. رحل، وعني بالحديث وكتب بفارس، والبصرة، وجرجان، وخراسان، وبخارى، ودمشق، والكوفة، وأصبهان فأكثر، وحدّث عن أبي أحمد بن عدي، والقطيعي، وطبقتهما.
قال أبو صالح المؤذّن: نظرت في أجزائه، فلم أجد عليها آثار السماع، وأحسن ما سمعت عليه الحكايات. قاله في «العبر» [1] .
وفيها مهيار بن مرزويه الدّيلمي، أبو الحسن، الكاتب الشاعر المشهور. كان مجوسيا، فأسلم على يد أستاذه في الأدب، الشريف الرّضي، فقال له ابن برهان: يا مهيار! انتقلت من زاوية إلى زاوية في النار، فإنك كنت مجوسيا، ثم صرت سبّابا لأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وكان شاعرا مجيدا مقدّما على شعراء عصره، وديوانه في ثلاث مجلدات.
ذكر ابن الأثير في «تاريخه» [2] أن إسلامه كان سنة أربع وتسعين وثلاثمائة. قال: وكان شاعرا جزل القول مقدما على أهل وقته، وهو رقيق الحاشية طويل النفس في قصائده.
__________
[1] (3/ 169) .
[2] انظر «الكامل في التاريخ» (9/ 456) وقد نقل المؤلف ما تقدّم عنه.(5/144)
وذكره أبو بكر الخطيب في «تاريخ بغداد» [1] وأثنى عليه [2] .
وأثنى عليه الباخرزي في كتابه «دمية القصر» [3] فقال في حقه: هو شاعر، له في مناسك الفضل مشاعر، وكاتب تجلى تحت كل كلمتين من كلماته كاعب، وما في قصيدة من قصائده بيت يتحكم عليه بلو، وليت، فهي مصبوبة في قوالب القلوب، وبمثلها يعتذر [4] الزمان المذنب عن الذنوب.
وذكره أبو الحسن علي بن بسام في كتاب «الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة» [5] وبالغ في الثناء عليه، وذكر شيئا من شعره.
ومن غرر قصائده قصيدته التي مطلعها:
بكر العارض تحدوه النّعامى ... فسقاك [6] الريّ يا دار أماما
ومن ذلك قصيدته المشهورة التي أولها:
سقى دارها بالرقمتين وحيّاها [7]
وكذلك قوله من قصيدته الطنانة السائرة:
بطرفك والمسحور يقسم بالسّحر ... أعمدا رماني أم أصاب ولا يدري
تعرض بي في القانصين مسددا ... إشارة مدلول السّهام على النّحر
رنا اللحظة الأولى فقلت: مجرب ... وكرّرها أخرى فأحسست بالشرّ
فهل ظنّ ما قد حرّم الله من دمي ... مباحا له أم نام قومي عن الوتر؟!
__________
[1] انظر «تاريخ بغداد» (13/ 276) .
[2] انظر «دمية القصر» (1/ 218) بتحقيق الدكتور سامي مكي العاني.
[3] في «دمية القصر» يتعذر.
[4] قوله الأول: «وأثنى عليه» سقط من «آ» وأثبته من «ط» .
[5] انظر «الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة» القسم الرابع من المجلد الثاني ص (549- 560) .
[6] في «آ» و «ط» : «وسقيت» وأثبت لفظ «الذخيرة» .
[7] صدر بيت عجزه:
............... ...... ملثّ يحيل الترب في الدّار أمواها
انظر «وفيات الأعيان» (5/ 360) .(5/145)
وهي طويلة حسنة في بابها.
ومن نظمه الحسن قصيدته التي أولها، وهو من مطلع البدور:
بكى النّار سترا على الموقد ... وغار مغالطة المنجد
إلى غير ذلك من نظمه اللطيف.(5/146)
سنة تسع وعشرين وأربعمائة
فيها توفي أبو عمر الطّلمنكي- بفتحات وسكون النون، نسبة إلى طلمنكة، مدينة بالأندلس- أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي عيسى [1] المعافري- بالفتح وكسر الفاء وراء، نسبة إلى المعافر بطن من قحطان- الأندلسي المقرئ المحدّث الحافظ، عالم أهل قرطبة، صاحب التصانيف، وله تسعون سنة. روى عن أبي عيسى اللّيثي، وأحمد بن عون الله، وحجّ، فأخذ بمصر عن أبي بكر الأدفوي، وأبي بكر [بن] المهندس، وخلق كثير، وكان خبيرا في علوم القرآن، تفسيره، وقراءاته، وإعرابه، وأحكامه، ومعانيه، وكان ثقة صاحب سنة، واتباع، ومعرفة بأصول الديانة.
قال ابن بشكوال [2] : كان سيفا مجرّدا على أهل الأهواء والبدع، قامعا لهم، غيورا على الشريعة، شديدا في ذات الله تعالى.
وفيها أبو يعقوب القرّاب، إسحاق بن إبراهيم بن محمد السرخسي، ثم الهروي الحافظ، محدّث هراة، وله سبع وسبعون سنة. روى عن زاهر بن أحمد السرخسي وخلق كثير، وزاد عدد شيوخه على ألف ومائتي نفس، وصنّف تصانيف كثيرة، وكان زاهدا صالحا مقلّا من الدّنيا.
وفيها يونس بن عبد الله بن محمد بن مغيث، قاضي الجماعة بقرطبة،
__________
[1] في «آ» و «ط» : «بن عيسى» والصواب ما أثبتناه. انظر «العبر» (3/ 170) . (ع) .
[2] انظر «الصلة» (1/ 44- 45) .(5/147)
أبو الوليد، ويعرف بابن الصفّار، وله إحدى وتسعون سنة. روى عن محمد بن معاوية القرشي، وأبي عيسى اللّيثي، والكبار، وتفقّه على أبي بكر بن زرب [1] ، وولي القضاء مع الخطابة والوزارة، ونال رئاسة الدّين والدّنيا، وكان فقيها، صالحا، عدلا، حجّة، علّامة في اللغة، والعربية، والشعر، فصيحا مفوّها، كثير المحاسن، له مصنفات في الزهد وغيره، توفي في رجب. قاله في «العبر» [2] .
__________
[1] في «آ» و «ط» : «ابن ذرب» بالذال وهو تحريف، والتصحيح من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» (17/ 570) .
[2] (3/ 171) .(5/148)
سنة ثلاثين وأربعمائة
فيها قويت شوكة الغزّ، وتملّك بنو سلجوق خراسان، وأخذوا البلاد من السلطان مسعود.
وفيها لقّب أبو منصور بن السلطان جلال الدولة، بالملك العزيز، وهو أول من لقّب بهذا النوع من ألقاب ملوك زماننا. قاله في «العبر» [1] .
وفيها توفي أبو نعيم الأصبهاني، أحمد بن عبد الله بن أحمد الحافظ الصوفي الأحوال الشافعي، سبط الزاهد محمد بن يوسف البنّا بأصبهان، في المحرم، وله أربع وتسعون سنة. اعتنى به أبوه، وسمّعه في سنة أربع وأربعين وثلاثمائة، وبعدها [استجاز له خيثمة الأطرابلسي، والأصم، وطبقتهما] [2] ، وتفرّد في الدنيا بعلو الإسناد، مع الحفظ والاستبحار من الحديث وفنونه. روى عن ابن فارس، والعسّال، وأحمد بن معبد السمسار، وأبي علي بن الصوّاف، وأبي بكر بن خلّاد وطبقتهم، بالعراق، والحجاز، وخراسان، وصنّف التصانيف الكبار المشهورة في الأقطار. منها كتاب «حلية الأولياء» .
قال ابن ناصر الدّين [3] : ولما صنّف كتاب «الحلية» حملوه إلى نيسابور
__________
[1] (3/ 171- 172) .
[2] ما بين حاصرتين سقط من «آ» و «ط» واستدركته من «العبر» .
[3] في «التبيان شرح بديعة البيان» (146/ آ) (مخطوط) .(5/149)
فأبيع بأربعمائة دينار، ولا يلتفت إلى قول من تكلّم فيه، لأنه صدوق عمدة، كما لا يسمع قول أبي نعيم في ابن منذة، وكلام كلّ منهما في الآخر غير مقبول. انتهى.
وقال ابن النجار [1] : هو تاج المحدّثين، وأحد أعلام الدّين.
وفيها أبو بكر الأصبهاني، أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن الحارث التميمي المقرئ النحوي، سكن نيسابور، وتصدّر للحديث ولإقراء العربية، وروى عن أبي الشيخ وجماعة، وروى «السّنن» عن الدّارقطني، وتوفي في ربيع الأول، وله إحدى وثمانون سنة.
وفيها أبو عبد الرّحمن الحيري [2] ، إسماعيل بن أحمد النيسابوري الضرير المفسّر. روى عن زاهر السرخسي وطبقته، وصنّف التصانيف في القراءات، والتفسير، والوعظ، والحديث، وكان أحد الأئمة.
قال الخطيب: قدم علينا حاجّا، ونعم الشيخ كان، علما وأمانة وصدقا وخلقا [3] .
ولد سنة إحدى وستين وثلاثمائة، وكان معه «صحيح البخاري» فقرأت جميعه عليه في ثلاثة مجالس.
وقال عبد الغافر: كان من العلماء العاملين، نفّاعا للخلق، مباركا.
وفيها أبو زيد الدّبّوسي- بفتح الدّال المهملة، وضم الموحدة
__________
[1] انظر «المستفاد من ذيل تاريخ بغداد» ص (145) تحقيق الأستاذ محمد مولود خلف.
[2] تصحّفت نسبته في «آ» و «ط» إلى «الجيزي» والتصحيح من «الأنساب» (4/ 289) و «العبر» (3/ 173) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 539) .
[3] انظر «تاريخ بغداد» (6/ 313- 314) وقد نقل المؤلف عنه باختصار وتصرّف، وفيه «ونعم الشيخ كان، فضلا، وعلما، ومعرفة، وفهما، وأمانة، وصدقا، وديانة، وخلقا» .(5/150)
المخففة، ومهملة [نسبة] إلى دبّوسيّة، بلد بين بخارى وسمرقند- عبد الله بن عمر بن عيسى الحنفي القاضي العلّامة. كان أحد من يضرب به المثل في النظر واستخراج الحجج، وهو أول من أبرز علم الخلاف إلى الوجود، وكان شيخ تلك الدّيار، توفي ببخارى.
وفيها أبو القاسم بن بشران، عبد الملك بن محمد بن عبد الله بن بشران بن محمد الأموي مولاهم البغدادي، الواعظ المحدّث، مسند وقته ببغداد، في ربيع الآخر، وله إحدى وتسعون سنة. سمع النّجاد، وأبا سهل القطّان، وحمزة الدّهقان [1] وطبقتهم.
قال الخطيب [2] : كان ثقة ثبتا صالحا، وكان الجمع في جنازته يتجاوز الحدّ ويفوت الإحصاء، رحمه الله تعالى.
وفيها أبو منصور الثّعالبي، عبد الملك بن محمد بن إسماعيل النيسابوري، الأديب الشاعر، صاحب التصانيف الأدبية السائرة في الدنيا.
عاش ثمانين سنة.
قال ابن بسام صاحب «الذخيرة» [3] : كان في وقته راعي تلعات [4] العلم، وجامع أشتات النثر والنظم، رأس المؤلفين في زمانه، وإمام المصنّفين بحكم قرانه [5] ، سار ذكره سير المثل، وضربت إليه آباط الإبل، وطلعت دواوينه في المشارق والمغارب طلوع النجم في الغياهب، وتآليفه
__________
[1] تحرّفت في «العبر» إلى «الدهان» فتصحّح فيه.
[2] انظر «تاريخ بغداد» (10/ 432- 433) وفيه: «وكان صدوقا، ثبتا، صالحا» .
[3] انظر «الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة» القسم الرابع من المجلد الثاني ص (560) .
[4] تحرّفت في «آ» و «ط» إلى «بليغات» والتصحيح من «الذخيرة» و «وفيات الأعيان» (3/ 178) ، والتلعات جمع تلعة، والتلعة: أرض مرتفعة غليظة يتردد فيها السيل، ثم يندفع منها إلى تلعة أسفل منها. انظر «لسان العرب» (تلع) .
[5] في «آ» و «ط» : «أقرانه» والتصحيح من «الذخيرة» و «وفيات الأعيان» .(5/151)
أشهر مواضع، وأبهر مطالع، وأكثر راو لها وجامع، من أن يستوفيها حدّ أو وصف، أو يوفيها حقوقها نظم أو رصف، وذكر له طرفا من النثر وأورد شيئا من نظمه، فمن ذلك ما كتبه إلى الأمير أبي الفضل الميكالي:
لك في [1] المفاخر [2] معجزات جمّة ... أبدا لغيرك في الورى لم تجمع
بحران: بحر في البلاغة شابه [3] ... شعر الوليد وحسن لفظ [4] الأصمعي
كالنّور أو كالسحر أو كالبدر أو ... كالوشي في برد عليه موشّع
شكرا فكم من فقرة لك كالغنى ... وافى الكريم بعيد فقر مدقع
وإذا تفتّق [5] نور شعرك ناضرا ... فالحسين بين مرصّع ومضرّع
أرجلت فرسان الكلام [6] ورضت أف- ... - راس البديع وأنت أمجد [7] مبدع
ونقشت في فصّ الزّمان بدائعا ... تزري بآثار الربيع الممرع
وله من التآليف «يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر» وهو أكبر كتبه وأحسنها وأجمعها، وفيها يقول ابن قلاقس:
أبيات أشعار اليتيمة ... أبكار أفكار قديمة
ماتوا وعاشت بعدهم ... فلذاك سمّيت اليتيمة
وله أيضا كتاب «فقه اللغة» و «سحر البلاغة وسرّ البراعة» وفي كتبه دلالة على كثرة اطّلاعه. وله أشعار كثيرة، وكانت ولادته سنة خمسين وثلاثمائة، وتوفي في هذه السنة أو التي قبلها، ونسبته إلى خياطة جلود الثعالب وعملها، قيل له ذلك لأنه كان فرّاء.
وفيها الحوفي أبو الحسن، علي بن إبراهيم بن سعيد، صاحب
__________
[1] لفظة «في» سقط من «آ» .
[2] في «يتيمة الدهر» : «في المحاسن» . (ع) .
[3] في «آ» و «ط» و «وفيات الأعيان» : «شأنه» والتصحيح من «الذخيرة» و «يتيمة الدهر» (4/ 408)
[4] في «اليتيمة» : «حفظ» . (ع) .
[5] في «آ» و «ط» : «تبين» والتصحيح من «الذخيرة» و «اليتيمة» .
[6] في «اليتيمة» : «فرسان القريض» . (ع) .
[7] في «اليتيمة» : «أفرس» . (ع) .(5/152)
«إعراب القرآن» في عشر مجلدات. كان إماما في العربية، والنحو، والأدب، وله تصانيف كثيرة.
قال في «العبر» [1] : هو تلميذ الأدفوي. انتفع به أهل مصر وتخرّجوا به في النحو. انتهى.
وقال السيوطي في «حسن المحاضرة» [2] : هو من قرية يقال لها شبرا [3] من أعمال الشرقية. انتهى.
وقال أيضا من «لباب الأنساب» [4] : والحوفي: بالفاء، نسبة إلى حوف، وكنت أظن أنها قرية بمصر، حتى رأيت [5] في «تاريخ البخاري» أنها من عمان.
قلت [6] : بل هي ناحية بمصر كبيرة معروفة، فيها قرى كثيرة، وجزم به ياقوت [7] رحمه الله تعالى، وغيره. انتهى.
وفيها أبو عمران الفاسي، موسى بن عيسى بن أبي حاج البربري الغفجومي نسبة إلى غفجوم بطن من زناتة- قبيلة من البربر بالمغرب [8]- شيخ المالكية بالقيروان، وتلميذ أبي الحسن القابسي. دخل الأندلس، وأخذ عن عبد الوارث بن سفيان وطائفة، وحجّ مرّات، وأخذ علم الكلام ببغداد عن ابن الباقلّاني، وقرأ على الحمامي، وكان إمام في القراءات، بصيرا بالحديث، رأسا في الفقه، تخرّج به خلق في المذهب، ومات في شهر رمضان، وله اثنتان وستون سنة.
__________
[1] (3/ 174) .
[2] انظره (1/ 532) .
[3] قلت: وقد شاع نطق اسمها «شبرا» بالضم عند إخواننا المصريين في أيامنا.
[4] انظر «لب اللباب في تحرير الأنساب» ص (85) مصوّرة مكتبة المثنى ببغداد.
[5] في «آ» : «فرأيت» وأثبت لفظ «ط» وهو موافق لما في «لب اللباب» .
[6] القائل: السيوطي.
[7] انظر «معجم البلدان» (2/ 322) .
[8] انظر «ترتيب المدارك» (2/ 702) .(5/153)
سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة
فيها توفي أبو الحسن، بشرى بن عبد الله الرّومي القاضي، ببغداد، يوم الفطر، وكان صالحا صدوقا. روى عن أبي بكر بن الهيثم الأنباري وخلق.
وفيها ابن دوما، أبو علي الحسن بن الحسين [1] النّعالي ببغداد، ضعيف، ألحق نفسه في طباق [2] . روى عن أبي بكر الشافعي، وطائفة.
وفيها أبو العلاء الأستوائي، صاعد بن محمد بن النيسابوري الحنفي، قاضي نيسابور، ورئيس الحنفية وعالمهم، توفي في آخر السنة. روى عن إسماعيل بن نجيد وجماعة، وعاش سبعا وثمانين سنة.
وفيها ابن الطّبيز أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد العزيز الجلبي السرّاج الرّامي، نزل دمشق، وله مائة سنة. روى عن محمد بن عيسى العلّاف، وابن الجعابي، وجماعة. تفرد في الدّنيا عنهم، وهو ثقة، وهو توفي في جمادى الأولى، وفيه تشيع. آخر من روى عنه الفقيه نصر المقدسي.
__________
[1] في «آ» : «الحسن بن الحسن» وهو تحريف، وأثبت لفظ «ط» وهو الصواب. انظر «تاريخ بغداد» (7/ 300) و «العبر» (3/ 175) .
[2] وقال الخطيب في «تاريخ بغداد» : «وكان كثير السماع، إلّا أنه أفسد أمره بأن ألحق لنفسه السماع في أشياء لم تكن سماعه» .(5/154)
وفيها أبو عمرو القسطاني- بالضم، نسبة إلى قسطانة قرية بين الرّيّ وساوة- عثمان بن أحمد القرطبي نزيل إشبيلية. سمّعه أبوه «الموطأ» من أبي عيسى اللّيثي، وسمع من أبي بكر بن السّليم، وابن القوطيّة، وجماعة، وكان خيّرا، ثقة، توفي في صفر، وله ثمانون سنة.
وفيها أبو بكر، وأبو حامد، أحمد بن علي [الإسفراييني] . كان من الحفّاظ الأيقاظ، والمحدّثين. قاله ابن ناصر الدّين [1] .
وفيها أبو العلاء الواسطي، محمد بن علي بن أحمد بن يعقوب، القاضي المقرئ المحدّث. قرأ بالروايات على جماعة كثيرة، وجرّد [2] العناية لها، وأخذ بالدّينور عن الحسين بن محمد بن حبش، وروى عن القطيعي ونحوه. حكى عنه الخطيب [3] أشياء توجب ضعفه، ومات في جمادى الآخرة، وله اثنتان وثمانون سنة.
وفيها أبو الحسن، محمد بن عوف المزني [4] الدمشقي، وكانت كنيته الأصلية أبا بكر، فلما منعت الدولة الباطنية من التكنّي بأبي بكر، تكنّى بأبي الحسن. روى عن أبي علي الحسن بن منير، والميانجي، وطائفة.
قال الكتّاني: كان ثقة نبيلا مأمونا، توفي في ربيع الآخر.
وفيها محمد بن الفضل بن نظيف، أبو عبد الله المصري الفرّاء، مسند الدّيار المصرية. سمع أبا الفراس الصابوني، والعبّاس بن محمد الرّافعي وطبقتهما، وأمّ بمسجد عبد الله سبعين سنة، وكان شافعيا، عمّر تسعين سنة وشهرين، وتوفي في ربيع الآخر.
وفيها المسدّد بن علي أبو المعمّر الأملوكي- بضم أوله واللام، نسبة
__________
[1] في «التبيان شرح بديعة البيان» (146/ ب) وما بين حاصرتين زيادة مستدركة منه.
[2] في «ط» : «جرّد» .
[3] انظر «تاريخ بغداد» (3/ 95- 99) .
[4] تحرف في «العبر» إلى المزي.(5/155)
إلى أملوك بطن من ردمان، قبيلة من رعين- كان خطيب حمص. سمع الميانجي وجماعة، ثم سكن دمشق، وأمّ بمسجد سوق الأحد.
قال الكتّاني: فيه تساهل.
وفيها المفضل بن إسماعيل بن أبي بكر، أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي الجرجاني، أبو معمر [1] الشافعي، مفتي جرجان ورئيسها ومسندها. كان من أذكياء زمانه. روى عن جدّه وطائفة كثيرة، وتوفي في ذي الحجة.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «الجرجاني المعمر» والتصحيح من «العبر» (3/ 178) مصدر المؤلف، و «سير أعلام النبلاء» (17/ 518) .(5/156)
سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة
فيها توفي المستغفري الحافظ أبو العبّاس جعفر بن محمد بن المعتز [بن محمد] [1] بن المستغفر بن الفتح النّسفي، صاحب التصانيف الكثيرة. روى عن زاهر السرخسي وطبقته. عاش ثمانين سنة، وكان محدّث ما وراء النهر في زمانه.
قال ابن ناصر الدّين [2] : كان حافظا مصنفا ثقة مبرزا على أقرانه، لكنه يروي الموضوعات من غير تبيين.
وفيها أبو القاسم الطحّان، عبد الباقي بن محمد البغدادي الثقة، عاش ثماني وثمانين سنة، وروى عن ابن الصوّاف وغيره.
وفيها أبو حسّان المزّكّي، محمد بن أحمد بن جعفر، شيخ التزكية والحشمة بنيسابور، وكان فقيها ثقة صالحا خيّرا، حدّث عن محمد بن إسحاق الضّبعي، وابن نجيد، وطبقتهما.
وفيها أبو طاهر الغباري [3] ، محمد بن أحمد بن محمد الحنبلي، له النبل والفضل، صحب جماعة، منهم: أبو الحسن الجزري، وكانت له
__________
[1] ما بين حاصرتين مستدرك من «الأنساب» (11/ 297) و «العبر» (3/ 179) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 564) و «التبيان شرح بديعة البيان» .
[2] في «التبيان شرح بديعة البيان» (146/ ب) .
[3] انظر «طبقات الحنابلة» (2/ 188) و «المنهج الأحمد» (2/ 119- 120) .(5/157)
حلقتان إحداهما بجامع المنصور، والأخرى بجامع الخليفة، وتوفي في ذي القعدة، وله ثمانون سنة.
وفيها محمد بن عمر بن بكير [1] النجّار، أبو بكر البغدادي المقرئ، عن ست وثمانين سنة. روى عن أبي بحر البربهاري، وابن خلّاد النّصيبيني، وطائفة.
__________
[1] تصحف في «آ» و «ط» إلى «نكير» بالنون، والتصحيح من «العبر» (3/ 179) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 472) .(5/158)
سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة
فيها توفي أبو نصر الكسّار القاضي، أحمد بن الحسين الدّينوري.
سمع «سنن النسائي» من ابن السّني، وحدّث بن في شوال من السنة.
وفيها أبو الحسين بن فاذشاه، الرئيس أحمد بن محمد بن الحسين الأصبهاني الثاني. راوي «المعجم الكبير» عن الطبراني، توفي في صفر، وقد رمي بالتشيّع والاعتزال.
وفيها أبو عثمان القرشي، سعيد بن العبّاس الهروي المزكّي الرئيس، في المحرم، وله أربع وثمانون سنة. روى عن حامد الرفّاء، وأبي الفضل بن خميرويه [1] ، وطائفة، وتفرد بالرواية عن الجماعة.
وفيها أبو سعيد النّصرويي [2] عبد الرحمن بن حمدان النيسابوري، مسند وقته، وراوي «مسند» إسحاق بن راهويه عن السّمّذي. روى عن ابن نجيد، وأبي بكر القطيعي، وهذه الطبقة. توفي في صفر، وهو منسوب إلى جدّه نصرويه.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «حمرويه» وهو تصحيف، والتصحيح من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» (17/ 553) .
[2] في «آ» و «ط» : «أبو سعيد النصروي» وفي «العبر» (3/ 180) : «أبو سعيد النضروي» وكلاهما خطأ، والتصحيح من «اللباب» (3/ 311) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 553) .(5/159)
وفيها أبو القاسم الزّيدي الحرّاني، علي بن محمد بن علي العلوي الحسيني الحنبلي المقرئ، في شوال بحرّان، وهو آخر من روى عن النقّاش القراءات والتفسير، وهو ضعيف.
قال عبد العزيز الكتّاني- وقد سئل عن شيء-: ما يكفي علي بن محمد الزّيدي أن يكذب، حتّى يكذب عليه.
قال في «العبر» [1] : وكان صالحا ربانيا. انتهى.
وفيها مات الفقيه المشهور سالم بن عبد الله الهروي، المعروف بغويلة، تصغير غول، وهو معدود في طبقة الشيخ أبي محمد، وهو الذي قيل: إنه ما عبر جسر بغداد مثله. قاله ابن الأهدل.
وفيها عالم همذان، عبد الله بن عبدان، حكى عنه شيرويه في كتابه «المنامات» أنه قال: رأيت الحق في النوم، فقال لي [2] : ما يدل على أنه يخاف عليّ الإعجاب. قاله بن الأهدل أيضا.
فانظر إلى هذا وأضعافه مما وقع لكثير من كبراء الأمة [3] ، كالإمام الأعظم، والإمام أحمد، والإمام القشيري، وصاحب هذه الترجمة، وأضعافهم، من إخبارهم برؤيته تعالى في المنام، وقول المتكلمين بجوازها، حتى قال اللّقاني في «شرح الجوهرة» : وأما رؤيته تعالى مناما فجائزة اتفاقا، وهي حقّ فإن الشيطان لا يتمثل به تعالى، كما لا يتمثل بالأنبياء، وإلى قول بعض الحنفية رضي الله تعالى عنهم: ويكفر من قال رأيت الله في المنام انتهى. ولكن لا ينبغي إطلاق اللسان بالتكفير في مثل هذا.
قال التمرتاشي في «شرح تنوير الأبصار» في أول باب المرتد ما لفظه:
__________
[1] (3/ 181) .
[2] لفظة «لي» لم ترد في «ط» .
[3] في «ط» : «مما وقع لكبراء الأمة» .(5/160)
وفي «فتح القدير» : ومن هزل بلفظ كفر ارتد، وإن لم يعتقد للاستخفاف، فهو ككفر العناد، والألفاظ التي يكفّر بها تعرف في الفتاوى. انتهى.
وقد أعرضنا عن ذكرها هنا لأنها أفردت بالتأليف، وأكثر من إيرادها أصحاب الفتاوى، مع أنه لا يفتي بشيء منها بالكفر، إلا فيما اتفق المشايخ عليه، لاتفاق كلمتهم في الفتاوى وغيرها، أنه لا يفتي بتكفير مسلم أمكن حمل كلامه على محمل حسن، أو كان في كفره اختلاف ولو رواية ضعيفة.
قال شيخنا: وهو الذي تحرر من كلامهم، ثم قال: فعلى هذا فأكثر ألفاظ التكفير المذكورة لا يفتي بالتكفير بها، وقد ألزمت نفسي أن لا أفتي بشيء منها. انتهى كلام التمرتاشي بحروفه.
وفيها أبو الحسن بن السّمسار، علي بن موسى الدمشقي، حدّث عن أبيه وأخويه: محمد وأحمد، وعلي بن أبي العقب، وأبي عبد الله بن مروان، والكبار، وروى البخاريّ [1] عن أبي زيد المروزي، وانتهى إليه علو الإسناد بالشام.
قال الكتّاني: كان فيه تساهل، ويذهب إلى التشيّع، توفي في صفر، وقد كمّل التسعين.
وفيها أبو القاسم المعتمد بن عبّاد القاضي، محمد بن إسماعيل بن عبّاد بن قريش اللّخمي الإشبيلي الذي ملّكه أهل إشبيلية عليهم، عند ما قصدهم الظالم يحيى بن علي الإدريسي، الملقب بالمستعلي، وكانت لصاحب الترجمة أخبار ومناقب وسيرة عالية.
قال ابن خلّكان [2] : كان المعتمد المذكور صاحب قرطبة وإشبيلية وما والاهما من جزيرة الأندلس، وفيه وفي أبيه المعتضد يقول بعض الشعراء:
__________
[1] يعني «صحيح البخاري» وكانت العبارة في «آ» و «ط» : «وروى عن البخاري عن أبي زيد المروزي» والتصحيح من «العبر» (3/ 181) وانظر «سير أعلام النبلاء» (17/ 506) .
[2] انظر «وفيات الأعيان» (5/ 21) .(5/161)
من بني المنذرين وهو انتساب ... زاد في فخره بنو عبّاد
فتية لم تلد سواها المعالي ... والمعالي قليلة الأولاد
وكان من بلاد الشرق من أهل العريش، المدينة القديمة الفاصلة بين مصر والشام [1] في أول الرمل من جهة الشام، فتوجه به أبوه إلى المغرب فاستوطنا قرية تومين [2] من إقليم طشانة من أرض إشبيلية.
ومحمد هذا أول من نبغ في تلك البلاد وتقدم بإشبيلية إلى أن ولي القضاء بها، فأحسن السياسة مع الرعية وتلطف بهم، فوثقته القلوب، وكان يحيى المستعلي صاحب قرطبة، مذموم السيرة، فتوجه إلى إشبيلية محاصرا لها، فلما نزل عليها اجتمع رؤساء إشبيلية وأعيانها، وأتوا القاضي محمدا المذكور، وقالوا له: [أما] ترى ما حلّ بنا من هذا الظالم، وما أفسد من أموال الناس؟ فقم بنا نخرج إليه ونملّكك، ونجعل الأمر لك [3] ، ففعل، ووثبوا على يحيى، فركب إليهم وهو سكران فقتل.
وتم الأمر لمحمد، ثم ملك بعد ذلك قرطبة وغيرها. ثم قيل له بعد تملّكه واستيلائه على البلاد: إن هشام بن الحكم في مسجد بقلعة رباح، فأرسل إليه من أحضره، وفوّض الأمر إليه، وجعل لنفسه كالوزير بين يديه، وفي هذه الواقعة يقول الحافظ أبو محمد بن حزم الظاهري في كتابه «نقط العروس» : أعجوبة [4] لم يقع في الدّهر مثلها، فإنه ظهر رجل يقال له خلف الحضري [5] بعد نيّف وعشرين سنة من موت هشام بن الحكم، المنعوت بالمؤيد، وادّعى أنه هشام، فبويع وخطب له على جميع منابر الأندلس في
__________
[1] في «ط» : «بين الشام ومصر» .
[2] انظر التعليق على «وفيات الأعيان» (5/ 21) .
[3] في «وفيات الأعيان» : «إليك» .
[4] في «وفيات الأعيان» : «أخلوقة» .
[5] في «وفيات الأعيان» : «الحصري» .(5/162)
أوقات شتى، وسفك الدماء، وتصادمت الجيوش في أمره، وأقام المدّعي أنه هشام نيفا وعشرين سنة، والقاضي محمد بن إسماعيل في رتبة الوزير بين يديه، والأمر إليه، ولم يزل [الأمر] كذلك إلى أن توفي المدعو هشاما، فاستبد القاضي محمد بالأمر بعده، وكان من أهل العلم والأدب والمعرفة التامة بتدبير الدول، ولم يزل ملكا مستقلا إلى [1] أن توفي يوم الأحد، تاسع عشري جمادى الأولى، ودفن بقصر إشبيلية، وقيل: إنه عاش إلى قريب خمسين وأربعمائة، واختلف أيضا في مبدأ استيلائه، فقيل: سنة أربع عشرة [وأربعمائة] وهو الذي ذكره العماد الكاتب في «الخريدة» [2] وقيل: سنة أربع وعشرين.
ولما مات محمد القاضي قام مقامه ولده المعتضد بالله عبّاد. انتهى ما أورده ابن خلّكان ملخصا.
وفيها السلطان مسعود بن السلطان محمود بن سبكتكين، تملّك بعد أبيه خراسان، والهند، وغزنة، وجرت له حروب وخطوب، مع بني سلجوق، وظهروا على ممالكه، وضعف أمره، فقتله أمراؤه.
__________
[1] لفظة «إلى» سقطت من «آ» وأثبتها من «ط» و «وفيات الأعيان» .
[2] انظر «خريدة القصر» - قسم شعراء المغرب والأندلس- (2/ 25- 43) .(5/163)
سنة أربع وثلاثين وأربعمائة
فيها كانت الزلزلة العظمى بتبريز، فهدمت أسوارها، وأحصي من هلك تحت الردم [1] ، فكانوا أكثر من أربعين ألفا.
وفيها توفي أبو ذرّ الهروي، عبد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن غفير الأنصاري، الحافظ الثقة الفقيه المالكي، نزيل مكّة. روى عن أبي الفضل بن خميرويه [2] ، وأبي عمر بن حيّويه، وطبقتهما، وروى «الصحيح» [3] عن ثلاثة من أصحاب الفربري، وجمع لنفسه «معجما» وعاش ثمانيا وسبعين سنة. وكان ثقة متقنا ديّنا عابدا ورعا بصيرا بالفقه والأصول. أخذ علم الكلام عن ابن الباقلاني، وصنّف مستخرجا على الصحيحين، وكان شيخ الحرم في عصره، ثم إنه تزوج بالسّروات [4] ، وبقي يحج كل عام ويرجع.
وفيها أبو محمد الهمداني، عبد الله بن غالب بن تمّام المالكي، مفتي أهل سبتة وزاهدهم وعالمهم، دخل الأندلس، وأخذ عن أبي بكر
__________
[1] في «العبر» : «الهدم» .
[2] تحرّف في «آ» إلى: «حمرويه» وتصحف في «ط» إلى «حميرويه» والتصحيح من «العبر» وانظر «سير أعلام النبلاء» (17/ 555) .
[3] يعني «صحيح البخاري» .
[4] كذا في «آ» و «ط» و «العبر» وفي «سير أعلام النبلاء» و «نفح الطيب» : «ثم تزوّج في العرب، وسكن السروات» .(5/164)
الزّبيدي، وأبي محمد الأصيلي، ورحل إلى القيروان، فروى عن أبي محمد بن أبي زيد، وبمصر عن أبي بكر [بن] المهندس، وكان علّامة، متيقظا، ذكيا، متبحرا في العلوم، فصيحا، مفوّها، قليل النظير، توفي في صفر، عن سنّ عالية.(5/165)
سنة خمس وثلاثين وأربعمائة
فيها استولى طغرلبك السلجوقي على الرّيّ، وخرّبها [1] عسكره بالقتل والنهب، حتّى لم يبق بها إلّا نحو ثلاثة آلاف نفس، وجاءت رسل طغرلبك إلى بغداد، فأرسل القاضي الماوردي إليه بذم ما صنع في البلاد، ويأمره بالإحسان إلى الرعية، فتلقّاه طغرلبك واحترمه، إجلالا لرسالة الخليفة.
واتفق موت جلال الدولة السلطان ببغداد بالخوانيق، وكان ابنه الملك العزيز بواسط.
وكان جلال الدولة ملكا جليلا سليم الباطن، ضعيف السلطنة، مصرّا على اللهو والشرب، مهملا لأمر الرعية، عاش اثنتين وخمسين سنة، وكانت دولته سبع عشرة سنة، وخلّف عشرين ولدا بنين وبنات، ودفن بدار السلطنة ببغداد ثم نقل.
وفيها توفي أبو الحزم، جهور بن محمد بن جهور، أمير قرطبة ورئيسها وصاحبها، ساس البلد أحسن سياسة، وكان من رجال الدّهر حزما، وعزما، ودهاء، ورأيا، ولم يتسمّ بالملك، وقال: أنا أدبر الناس إلى أن يقوم لهم من يصلح، فجعل ارتفاع الأموال بأيدي الأكابر وديعة، وصيّر العوّام جندا، وأعطاهم أموالا مضاربة، وقرر عليهم السلاح والعدّة، وكان يشهد الجنائز ويعود المرضى، وهو بزيّ الصالحين، لم يتحول من داره إلى دار السلطنة، وتوفي في المحروم، عن إحدى وسبعين سنة، وولي بعده ابنه أبو الوليد.
__________
[1] تحرّفت في «آ» و «ط» إلى «وخسر بها» والتصحيح من «العبر» .(5/166)
وفيها أبو القاسم الأزهري، عبيد الله بن أحمد بن عثمان البغدادي الصيرفي الحافظ. كتب الكثير، وعني بالحديث. وروى عن القطيعي وطبقته، توفي في صفر، عن ثمانين سنة.
وفيها جلال الدولة، سلطان بغداد، أبو طاهر فيروزجرد بن [الملك] بهاء الدولة أبي نصر بن الملك عضد الدولة أبي شجاع بن ركن الدولة بن بويه الدّيلمي، وولي بعده ابنه الملك العزيز أبو منصور، فضعف وخاف، وكاتب ابن عمّه، أبا كاليجار مرزبان بن سلطان الدولة، فوعده بالجميل، وخطب للاثنين معا.
وفيها أبو بكر الميماسي محمد بن جعفر بن علي، الذي روى «الموطأ» عن يحيى بن بكير [1] عن ابن وصيف، توفي في شوال، وهو من كبار شيوخ نصر المقدسي.
وفيها أبو الحسين محمد بن عبد الواحد بن رزمة البغدادي البزّاز.
روى عن أبي بكر بن خلّاد وجماعة.
قال الخطيب [2] : صدوق، كثير السماع، مات في جمادى الأولى.
وفيها أبو القاسم المهلّب [بن] أحمد بن أبي صفرة [3] الأندلسي الأسدي، قاضي المريّة. أخذ عن أبي محمد الأصيلي، وأبي الحسن القابسي، وطائفة، وكان من أهل الذكاء المفرط، والاعتناء التام بالعلوم، وقد شرح «صحيح البخاري» وتوفي في شوال في سنّ الشيخوخة.
__________
[1] في «العبر» : «ابن بكبر» .
[2] انظر «تاريخ بغداد» (2/ 361) .
[3] في «آ» و «ط» : «المهلّب أحمد بن أبي صفرة» والصحيح من «الصلة» لابن بشكوال (2/ 626) و «العبر» (3/ 186) .(5/167)
سنة ست وثلاثين وأربعمائة
فيها دخل السلطان أبو كاليجار بغداد، وضربت له الطبول في أوقات الصلوات الخمس، ولم تضرب لأحد قبله إلّا ثلاث مرات.
وفيها توفي تمّام بن غالب، أبو غالب بن التّيّاني القرطبي، لغوي الأندلس، بمرسية، له مصنّف بديع في اللغة، وكان علّامة ثقة في نقله، ولقد أرسل إليه صاحب مرسية الأمير أبو الجيش مجاهد، ألف دينار، على أن يزيد في خطبة هذا الكتاب، أنه ألّفه لأجله، فامتنع تورعا، وقال: ما صنفته إلّا مطلقا.
وفيها أبو عبد الله الصّيمري- بفتح الصاد المهملة والميم وسكون الياء وراء آخره، نسبة إلى صيمر، نهر بالبصرة عليه عدة قرى- الحسين [1] بن علي الفقيه، أحد الأئمة الحنفية ببغداد. روى عن أبي الفضل الزّهري وطبقته، وولي قضاء ربيع الكرخ، وكان ثقة صاحب حديث، مات في شوال، وله خمس وثمانون سنة.
وفيها الشريف المرتضى، نقيب الطالبيين، وشيخ الشيعة ورئيسهم بالعراق، أبو طالب علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، الحسيني
__________
[1] تحرّف في «العبر» إلى «الحسن» فيصحح فيه.(5/168)
الموسوي، وله إحدى وثمانون سنة، وكان إماما في التشيّع، والكلام، والشعر، والبلاغة، كثير التصانيف متبحرا في فنون العلم. أخذ عن الشيخ المفيد، وروى الحديث عن سهل الدّيباجي الكذّاب، وولي النقابة بعده ابن أخيه عدنان بن الشريف الرّضي.
قال ابن خلّكان [1] : كان إماما في علم الكلام والشعر والأدب، وله تصانيف على مذهب الشيعة، ومقالة في أصول الدّين، وله ديوان شعر، إذا وصف الطيف أجاد فيه، وقد استعمله في كثير من المواضع. وقد اختلف الناس في كتاب «نهج البلاغة» المجموع من كلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، هل هو جمعه أم جمع أخيه الرّضي، وقد قيل: إنه ليس من كلام عليّ، وإنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه، والله أعلم. وله الكتاب الذي سمّاه «الدّرر والغرر» [2] وهو في مجالس أملاها تشتمل على فنون في معاني الأدب، تكلّم فيها على النحو، واللغة، وغير ذلك، وهو كتاب ممتع، يدل على فضل كثير، وتوسّع في الاطّلاع على العلوم.
وذكره ابن بسام في آخر كتاب «الذخيرة» [3] فقال: كان [هذا] الشريف إمام أئمة العراق، على الاختلاف والاتفاق، إليه فزع علماؤها، وعنه أخذ عظماؤها، صاحب مدارسها، وحمى سالكها وآنسها [4] ممّن سارت أخباره، وعرفت به أشعاره، وحمدت في ذات الله مآثره وآثاره، إلى تواليفه في الدّين، وتصانيفه في أحكام المسلمين، مما يشهد له [5] أنّه فرع تلك الأصول، ومن [أهل] ذلك البيت الجليل، وأورد له عدة مقاطيع، فمن ذلك قوله:
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (3/ 313- 316) .
[2] وهو مطبوع باسم «أمالي الشريف المرتضى» .
[3] انظر «الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة» القسم الرابع، المجلد الثاني ص (465- 475) .
[4] في «الذخيرة» و «وفيات الأعيان» : «وجامع شاردها وآنسها» .
[5] في «الذخيرة» : «بما يشهد له» .(5/169)
ضنّ عني بالنّزر إذ أنا يقظا ... ن وأعطى كثيره في المنام
والتقينا كما اشتهينا ولا عي ... ب سوى أنّ ذاك في الأحلام
وإذا كانت الملاقاة ليلا ... فالليالي خير من الأيام
ومن ذلك أيضا:
يا خليلي من ذؤابه قيس ... في التصابي رياضة الأخلاق
علّلاني [1] بذكرهم [2] تطرباني ... واسقياني دمعي بكأس دهاق
وخذا النوم عن جفوني فإني ... قد خلعت الكرى على العشاق
فلما وصلت هذه الأبيات إلى البصري [3] الشاعر قال: المرتضى خلع ما لا يملك على من لا يقبل.
ومن شعره أيضا:
ولما تفرقنا كما شاءت النّوى ... تبيّن ودّ خالص وتودّد
كأني وقد سار الخليط عشية ... أخو جنّة مما أقوم وأقعد
وله:
قل لمن خدّه من اللحظ دام ... رق لي من جوانح فيك تدمى
يا سقيم الجفون من غير سقم ... لا تلمني إن متّ فيهنّ سقما
أنا خاطرت في هواك بقلب ... ركب البحر فيك إمّا وإمّا
وحكى الخطيب أبو زكريا يحيى بن علي التّبريزي اللغوي، أن أبا الحسن علي بن أحمد بن سلّك الفالي- بالفاء، نسبة إلى فالة، بلدة بخوزستان- الأديب كانت له نسخة كتاب «الجمهرة» لابن دريد في غاية
__________
[1] كذا في «آ» و «ط» و «وفيات الأعيان» وفي «الذخيرة» : «غنياني» .
[2] في «آ» و «ط» : «يذكركم» وما أثبتناه من «الذخيرة» و «وفيات الأعيان» .
[3] في «وفيات الأعيان» : «البصروي» .(5/170)
الجودة، فدعته الحاجة إلى بيعها، فباعها واشتراها الشريف المرتضى بستين دينارا، وتصفحها فوجد فيها أبياتا بخط الفالي وهي:
أنست بها عشرين حولا وبعتها ... لقد طال وجدي بعدها وحنيني
وما كان ظنّي أنني سأبيعها ... ولو خلّدتني في السجون ديوني
ولكن لضعف وافتقار وصبية ... صغار عليهم تستهلّ عيوني [1]
فقلت ولم أملك سوابق عبرة ... مقالة مكويّ الفؤاد حزين
وقد تخرج الحاجات يا أمّ مالك ... كرائم من مولى [2] بهنّ ضنين
فيقال: إنه بعث بها إليه.
وملح المرتضى وفضائله كثيرة. وكانت ولادته في سنة خمس وخمسين وثلاثمائة، وتوفي يوم الأحد خامس عشري شهر ربيع الأول ببغداد، ودفن في داره عشية ذلك النهار، رحمه الله تعالى. انتهى ملخصا.
وفيها أبو عبد الرحمن النّيلي، محمد بن عبد العزيز بن عبد الله شيخ الشافعية بخراسان، وله ثمانون سنة. روى عن أبي عمرو بن حمدان وجماعة.
قال الإسنوي [3] : كان إماما في المذهب، أديبا، شاعرا، صالحا، زاهدا، ورعا. سمع، وحدّث، وأملى، وطال عمره.
ولد سنة سبع وخمسين وثلاثمائة، وله ديوان، شعر، ومنه:
ما حال من أسر الهوى ألبابه ... ما حال من كسر التّصابي نابه
نادى الهوى أسماعه فأجابه ... حتّى إذا ما جاز أغلق بابه
أهوى لتمزيق الفؤاد فلم يجد ... في صدره قلبا فشقّ ثيابه
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «شؤوني» .
[2] في «وفيات الأعيان» : «من ربّ» .
[3] انظر «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 490- 491) .(5/171)
انتهى ملخصا.
وفيها أبو الحسين البصري، محمد بن علي بن الطّيب، شيخ المعتزلة، وصاحب التصانيف الكلامية، وكان من أذكياء زمانه، توفي ببغداد في ربيع الآخر، وكان يقرئ الاعتزال ببغداد، وله حلقة كبيرة. قاله في «العبر» [1] .
وقال ابن خلّكان [2] : كان جيد الكلام، مليح العبارة، غزير المادة، إمام وقته، وله التصانيف الفائقة في الأصول، منها «المعتمد» وهو كتاب كبير، ومنه أخذ فخر الدّين الرّازي كتاب «المحصول» وله «تصفح الأدلة» في مجلدين، و «غرر الأدلة» في مجلد كبير، و «شرح الأصول الخمسة» وكتاب في الإمامة، [وغير ذلك في] [3] أصول الدّين، وانتفع الناس بكتبه، وسكن بغداد وتوفي بها يوم الثلاثاء خامس ربيع الآخر، ودفن بمقبرة الشّونيزيّة [4] ، وصلى عليه القاضي أبو عبد الله الصّيمري. انتهى ملخصا.
__________
[1] (3/ 189) .
[2] انظر «وفيات الأعيان» (4/ 271) .
[3] ما بين حاصرتين سقط من «آ» و «ط» واستدركته من «وفيات الأعيان» .
[4] في «آ» و «ط» : «بمقبرة الشونيز» وفي «وفيات الأعيان» : «بمقبرة الشونيزي» والتصحيح من «معجم البلدان» (3/ 374) .(5/172)
سنة سبع وثلاثين وأربعمائة
فيها وقيل في التي قبلها، وبه جزم ابن ناصر الدّين، توفي أبو حامد أحمد بن محمد بن أحيد بن عبد الله بن ماما الأصبهاني، كان حافظا بصيرا بالآثار، وله ذيل على تاريخ بخارى لغنجار.
وفيها أبو نصر المنازي [1] أحمد بن يوسف السليكي الكاتب، كان من أعيان الفضلاء، وأماثل الشعراء، وزر لأبي نصر أحمد بن مروان الكردي صاحب ميّافارقين، وديار بكر، أرسله إلى القسطنطينية مرارا، وجمع كتبا كثيرة، ثم وقفها على جامع ميّافارقين، وجامع آمد، وهي موجودة بخزائن الجامعين، ومعروفة بكتب المنازي، وكان قد اجتمع بأبي العلاء المعري بمعرة النّعمان، فشكا أبو العلاء إليه حاله، وأنه منقطع عن الناس. وهم يؤذونه، فقال: ما لهم ولك وقد تركت لهم الدّنيا والآخرة؟ فقال أبو العلاء:
والآخرة أيضا، والآخرة أيضا، وجعل يكررها ويتألم لذلك، وأطرق فلم يكلمه إلى أن قام، وكان قد اجتاز في بعض أسفاره بوادي بزاعا، فأعجبه حسنة وما هو عليه، فعمل فيه هذه الأبيات:
وقانا لفحة الرّمضاء واد ... وقاه مضاعف الغيث العميم
نزلنا دوحه فحنا علينا ... حنّو المرضعات على الفطيم
__________
[1] نسبة إلى «منازجرد» بلد مشهور بين خلاط وبلاد الرّوم يعدّ في إرمينية وأهله أرمن وروم. انظر «معجم البلدان» (5/ 202) و «وفيات الأعيان» (1/ 143- 145) وتقع الآن في تركية.(5/173)
يصدّ الشمس أنّى واجهتنا ... فيحجبها ويأذن للنّسيم [1]
يروع حصاه حالية العذارى ... فتلمس جانب العقد النّظيم
ذكر أنه عرض هذا القصيد في جماعة من الشعراء على أبي العلاء المعري، فقال له: أنت أشعر من بالشام، ثم بعد خمس عشرة سنة عرض عليه مع جماعة من الشعراء قوله:
لقد عرض الحمام لنا بسجع ... إذا أصغى له ركب تلاحى
شجى قلب الخلي فقيل غنّى ... وبرّح بالشجيّ فقيل ناحا
وكم للشوق في أحشاء صبّ ... إذا اندملت أجدّ لها جراحا
ضعيف الصّبر عنك وإن تقاوى ... وسكران الفؤاد وإن تصاحا
كذاك بنو الهوى سكرى صحاة ... كأحداق المها مرضى صحاحا [2]
فقال له أبو العلاء: ومن العراق، عطفا على قوله السابق: أنت أشعر من بالشام.
ومن شعره أيضا:
ولي غلام طال في دقّة ... كخطّ إقليدس لا عرض له
وقد تناهى عقله خفّة ... فصار كالنقطة لا جزء له
والمنازي: بفتح الميم والنون، نسبة إلى منازجرد، بزيادة جيم مكسورة، وهي مدينة عند خرت برت، وهي غير منازكرد القلعة التي من أعمال خلاط [3] .
__________
[1] رواية البيت في «وفيات الأعيان» :
يراعي الشمس أنّي قابلته ... فيحجبها ويأذن للنّسيم
قلت: وبين البيتين الثاني والثالث في «وفيات الأعيان» بيت آخر هو،
وأرشفنا على ظمإ زلالا ... ألذّ من المدامة للنديم
[2] الأبيات في «الوافي بالوفيات» (8/ 286) في سياق ترجمته.
[3] قلت: هذه من أوهام المؤلف رحمه الله تعالى، بل هي هي، حتى إن ياقوت قال في «معجم البلدان» (5/ 202) : وأهله يقولون: «منازكرد» بالكاف. وانظر بلدان الحلافة الشرقية (148(5/174)
وفيها أبو محمد القيسي مكي بن أبي طالب حمّوش بن محمد بن مختار القيسيّ [1] المقرئ، أصله من القيروان، وانتقل إلى الأندلس، وسكن قرطبة، وهو من أهل التبحّر في العلوم، خصوصا القرآن، كثير التصنيف والتصانيف، عاش اثنتين وثمانين سنة، ورحل غير مرة، وحجّ وجاور، وتوسع في الرواية، وبعد صيته، وقصده الناس من النواحي لعلمه ودينه، وولي خطابة قرطبة لأبي الحزم جهور، وكان مشهورا بالصلاح وإجابة الدعوة، حسن الفهم والخلق، جيد الدّين والعقل، وحجّ أربع حجج متوالية، ثم رجع من مكّة إلى مصر، ثم إلى القيروان، ثم ارتحل إلى الأندلس، ثم صنّف التصانيف الكثيرة، ومنها: «الهداية إلى بلوغ النهاية» في معاني القرآن الكريم وتفسيره وأنواع علومه، وهو سبعون جزءا، وكتاب «التبصرة في القراءات» [2] في خمسة أجزاء، وهو من أشهر تآليفه، وكتاب «المأثور عن مالك في أحكام القرآن وتفسيره» عشرة أجزاء وكتاب «مشكل المعاني والتفسير» خمسة عشر جزءا [3] ، ومصنفاته تفوت العدّ كثرة، ومن نظمه قوله من قصيدة:
عليك بإقلال الزّيارة إنها ... إذا كثرت كانت إلى الهجر مسلكا
ألم تر أنّ الغيث يسأم دائما ... ويطلب بالأيدي إذا هو أمسكا
__________
و180) ففيه أشكال أخرى لهذه اللفظة.
[1] انظر «وفيات الأعيان» (5/ 274- 277) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 591- 593) ، و «العبر» (3/ 189- 190) .
[2] نشره معهد المخطوطات العربية في الكويت بتحقيق الدكتور محيى الدّين رمضان في مجلد واحد.
[3] ونشر مجمع اللغة العربية بدمشق كتابه «مشكل إعراب القرآن» في مجلدين بتحقيق الأخ الأستاذ ياسين محمد السوّاس، ثم قامت بتصوير طبعته هذه دار المأمون للتراث بدمشق، ومن ثم صورت في إيران أيضا، ويقوم الأستاذ السوّاس بإعادة تحقيق الكتاب وسيطبع قريبا إن شاء الله وله أخرى كثيرة، انظر كتب «إنباه الرّواة» (3/ 315- 319) .(5/175)
سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة
فيها توفي أبو علي البغدادي، والحسن بن محمد بن إبراهيم المالكي، مصنّف «الروضة في القراءات العشر» .
وفيها أبو محمد الجويني [1]- نسبة إلى جوين، ناحية كبيرة من نواحي نيسابور، تشتمل على قرى كثيرة- عبد الله بن يوسف بن محمد بن حيّويه- بمثناتين تحت أولاهما مضمومة مشددة والثانية مفتوحة- شيخ الشافعية، ووالد إمام الحرمين.
قال ابن شهبة في «طبقاته» [2] : كان يلقب ركن الإسلام، أصله من قبيلة من العرب. قرأ الأدب بناحية جوين على والده، والفقه على أبي يعقوب الأبيوردي، ثم خرج إلى نيسابور، فلازم أبو الطيب الصّعلوكي، ثم رحل إلى مرو لقصده القفّال، فلازمه حتّى برع عليه خلافا ومذهبا، وعاد إلى نيسابور سنة سبع وأربعمائة، وقعد للتدريس والفتوى، وكان إماما في التفسير، والفقه، والأدب، مجتهدا في العبادة، ورعا مهيبا، صاحب جدّ ووقار.
قال شيخ الإسلام أبو عثمان الصّابوني: لو كان الشيخ أبو محمد في بني إسرائيل لنقلت إلينا أوصافه، وافتخروا به.
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (3/ 47- 48) و «العبر» (3/ 190) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 617- 618) .
[2] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 211- 212) .(5/176)
وقال أبو سعيد عبد الواحد بن أبي القاسم القشيري صاحب «الرسالة» :
إن المحقّقين من أصحابنا يعتقدون فيه من الكمال، أنه لو جاز أن يبعث الله تعالى نبيّا في عصره لما كان إلّا هو. توفي بنيسابور في ذي القعدة.
قال الحافظ أبو صالح المؤذن: غسلته، فلما لففته في الأكفان، رأيت يده اليمنى إلى الإبط منيرة كلون القمر، فتحيرت وقلت: هذه بركة فتاويه، وصنّف تفسيرا كبيرا يشتمل على عشرة أنواع من العلوم، في كل آية، وله «تعليقة» في الفقيه متوسطة، و «الفروق» مجلد ضخم و «السلسلة» مجلد، وكتاب «المختصر» وهو «مختصر مختصر المزني» وكتاب «التبصرة» مجلد لطيف، غالبه في العبادات، وغير ذلك. انتهى كلام ابن شهبة.
وقال الإسنوي [1] : وكان له أخ فاضل، يقال له: أبو الحسن [2] علي، رحل وسمع الكثير، وعقد له مجلس الإملاء بخراسان، وكان يعرف بشيخ الحجاز، غلب عليه التصوف، وصنّف فيه كتابا حسنا، سمّاه «كتاب السلوة» مات في ذي القعدة، سنة ثلاث وستين وأربعمائة. انتهى.
__________
[1] انظر «طبقات الشافعية» للإسنوي (1/ 340) .
[2] كذا في كتابنا و «اللباب» (1/ 351) «أبو الحسن» وفي «طبقات الشافعية» للإسنوي: «أبو الحسين» .(5/177)
سنة تسع وثلاثين وأربعمائة
فيها توفي أبو محمد الخلّال، الحسن بن محمد بن الحسن البغدادي الحافظ، في جمادى الأولى، وله سبع وثمانون سنة. روى عن القطيع، وأبي سعيد الحرفي [1] وطبقتهما.
قال الخطيب [2] : كان ثقة، له معرفة، [وتنبه] خرّج «المسند على الصحيحين» وجمع أبوابا وتراجم كثيرة.
قال في «العبر» [3] : آخر من روى عنه أبو سعد أحمد بن الطّيوري.
وفيها علي بن منير بن أحمد الخلّال، أبو الحسن المصري الشاهد، في ذي القعدة. روى عن الذّهلي، وأبي أحمد بن النّاصح.
وفيها النّذير الواعظ، أبو عبد الله محمد بن أحمد الشيرازي. روى عن إسماعيل بن حاجب الكشّاني، وجماعة، ووعظ ببغداد، فازدحموا عليه وشغفوا به، ورزق قبولا لم يرزقه أحد، صار يظهر الزهد، ثم إنه تنعّم وقبل الصّلات، فأقبلت الدنيا عليه، وكثر مريدوه، ثم إنه حضّ على الجهاد،
__________
[1] في «آ» و «ط» و «العبر» : «الحرقي» بالقاف وهو تصحيف، والتصحيح من «تذكرة الحفاظ» (3/ 1110) وانظر «الأنساب» (4/ 113) .
[2] انظر «تاريخ بغداد» (7/ 425) وما بين حاصرتين مستدرك من.
[3] (3/ 191) .(5/178)
فسارع إليه الخلق من الأقطار، واستجمع له جيش من المطّوعة، فعسكر بظاهر بغداد، وضرب له الطبل، وسار بهم إلى الموصل، واستفحل أمره، فصار إلى أذربيجان، وضاهى أمير تلك الناحية، ثم خمد سوقه، وتراجع عامّة أصحابه، ثم مات. قاله في «العبر» [1] .
وفيها محمد بن عبد الله بن عابد، أبو عبد الله المعافري، محدّث قرطبة. روى عن أبي عبد الله بن مفرّج [2] وطبقته، ورحل، فسمع من أبي محمد بن أبي زيد، وأبي بكر بن المهندس، وطائفة، وكان ثقة عالما جيد المشاركة في الفضائل. توفي في جمادى الأولى، عن بضع وثمانين سنة، وهو آخر من حدّث عن الأصيلي.
وفيها محمد بن حامد المعروف بابن جبّار [3] الحنبلي، وكان ينزل بإسكاف، وله قدم في أنواع العلوم، والآداب، والفقه، وكان يشار إليه بالصلاح والزهد.
وفيها هبة الله بن محمد بن أحمد أبو الغنائم بن البغدادي، أنفذه والده أبو طاهر إلى أبي يعلى، فدرس عليه، وأنجب، وأفتى، وناظر، وجلس بعد موت أبيه في حلقته.
__________
[1] (3/ 191- 192) .
[2] تصحف في «آ» و «ط» إلى «مفرح» والتصحيح من «العبر» وانظر «الصلة» لابن بشكوال (2/ 530) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 615) .
[3] في «آ» و «ط» : «ابن خيار» والتصحيح من «طبقات الحنابلة» لابن أبي يعلى (2/ 189) و «المنهج الأحمد» (2/ 123) طبعة عالم الكتب.(5/179)
سنة أربعين وأربعمائة
فيها مات السلطان أبو كاليجار واسمه مرزبان بن سلطان الدولة بن بهاء الدولة الدّيلمي البويهي- نسبة إلى بويه- مات بطريق كرمان وفصدوه [1] في يوم ثلاث مرات، وكان معه، نحو أربعة آلاف من التّرك والدّيلم، فنهبت خزائنه، وحريمه، وجواريه، وطلبوا شيراز، فسلطنوا ابنه الملك الرحيم أبا نصر، وكانت مدة أبي كاليجار أربع سنين، وكان مولده بالبصرة، سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، سامحه الله.
وفيها أقام المعزّ بن باديس الدعوة بالمغرب للقائم بأمر الله العباسي، وخلع طاعة المستنصر العبيدي، فبعث المستنصر جيشا من العبر يحاربونه، فذلك أول دخول العربان إلى إفريقية، وهم بنو رياح، وبنو زغبة، وتمّت لهم أمور يطول شرحها.
وفيها توفي الحليمي [2] ، أبو الحسن أحمد بن محمد بن أحمد بن نصر المصري الورّاق، يوم الأضحى، وله إحدى وثمانون سنة. روى عن أبي الطاهر الذّهلي وغيره.
وفيها الحسن بن عيسى بن المقتدر بالله جعفر بن المعتضد، الأمير أبو محمد العبّاسي. روى عن مؤدبه أحمد اليشكري، وكان رئيسا ديّنا حافظا
__________
[1] تصحفت في «آ» و «ط» إلى «وقصدوه» والتصحيح من «العبر» (3/ 193) وانظر «المنتظم» (8/ 136) والفصد: شقّ العرق. انظر «لسان العرب» (فصد) .
[2] تحرّفت في «العبر» إلى «الحكيمي» فتصحح فيه.(5/180)
لأخبار الخلفاء، توفي في شعبان، وله نيّف وتسعون سنة.
وفيها أبو القاسم عبيد الله بن أبي حفص، عمر بن شاهين. روى عن أبيه، وأبي بحر البربهاري، والقطيعي، وكان صدوقا عالي الإسناد. توفي في ربيع الأول.
وفيها أبو طالب، أحمد بن عبد الله بن سهل، المعروف بابن البقّال [1] الحنبلي، صاحب الفتيا، والنظر، والمعرفة، والبيان، والإفصاح، واللسان.
سمع أبا العبّاس عبد الله بن موسى الهاشمي، وأبا بكر بن شاذان في آخرين، ودرس الفقه على أبي عبد الله بن حامد، وكانت له حلقة بجامع المنصور، وله المقامات المشهودة [2] بدار الخلافة، من ذلك قوله بالدّيوان- والوزير يومئذ [ابن] حاجب النّعمان [3]-: الخلافة بيضة والحنبليون حضانها، ولئن انفقست البيضة عن محّ [4] فاسد. الخلافة خيمة والحنبليون أطنابها [5] ولئن سقطت الطّنب لتهوينّ الخيمة، وغير ذلك. وتوفي في شهر ربيع الأول ودفن في مقبرة [6] إمامنا.
وفيها علي بن ربيعة أبو الحسن التميمي المصري البزّاز، راوية الحسن بن رشيق، توفي في صفر.
وفيها أبو ذر، محمد بن إبراهيم بن علي الصالحاني- بسكون اللام، نسبة إلى صالحان، محلة بأصبهان- الأصبهاني الواعظ. روى عن أبي
__________
[1] انظر «طبقات الحنابلة» لابن أبي يعلى (2/ 189- 190) و «المنهج الأحمد» (2/ 122) .
[2] في «آ» و «المنهج الأحمد» : «المشهورة» .
[3] في «آ» و «ط» : «حاجب النعمان» وفي «طبقات الحنابلة» : «ابن صاحب النعمان» والتصحيح من «المنهج الأحمد» وانظر «الأعلام» (4/ 300) .
[4] جاء في «لسان العرب» (محح) : المحّ والمحّة: صفرة البيض.
[5] في «ط» : «طنابها» .
[6] في «ط» و «المنهج الأحمد» : «بمقبرة» وما جاء في «آ» موافق لما في «طبقات الحنابلة» .(5/181)
الشيخ، ومات في ربيع الأول.
وفيها أبو عبد الله الكارزيني، محمد بن الحسين الفارسي المقري، نزيل الحرم، ومسند القرّاء، توفي فيها أو بعدها، وقد قرأ القراءات على المطّوّعي. قرأ عليه جماعة كثيرة، وكان من أبناء التسعين.
قال الذهبي [1] : ما علمت فيه جرحا.
وفيها مسند أصبهان أبو بكر بن ريذة، محمد بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم الأصبهاني التاجر، راوية أبي القاسم الطبراني، توفي في رمضان، وله أربع وتسعون سنة.
قال يحيى بن مندة: ثقة أمين، كان أحد وجوه الناس، وافر العقل، كامل الفضل، مكرما لأهل العلم، حسن الخط، يعرف طرفا من النحو واللغة.
وفيها مسند العراق، أبو طالب بن غيلان، محمد بن محمد بن إبراهيم بن غيلان الهمداني البغدادي البزّاز. سمع من أبي بكر الشافعي أحد عشر جزءا، وتعرف ب- «الغيلانيات» لتفرّده بها.
قال الخطيب [2] : كان صدوقا صالحا ديّنا.
وقال الذهبي [3] : مات في شوال، وله أربع وتسعون سنة.
وفيها أبو منصور السوّاق، محمد بن محمد بن عثمان البغدادي البندار، وثّقه الخطيب، ومات في آخر العالم، عن ثمانين سنة. وروى عن القطيعي، ومخلد بن جعفر.
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 195) .
[2] انظر «تاريخ بغداد» (3/ 234- 235) .
[3] انظر «العبر» (3/ 196) .(5/182)
سنة إحدى وأربعين وأربعمائة
فيها توفي أبو علي أحمد بن عبد الرحمن بن عثمان بن القاسم بن أبي نصر التميمي الدمشقي المعدّل، أحد الأكابر بدمشق. روى عن يوسف الميانجي وجماعة.
وفيها أبو الحسن العتيقي أحمد بن محمد بن أحمد البغدادي التاجر السفّار المحدّث. روى عن علي بن محمد بن سعيد الرزّاز [1] ، وإسحاق بن سعد النّسوي، وطبقتهما، وجمع، وخرّج على الصحيحين، وكان ثقة فهما، توفي في صفر.
وفيها أبو العبّاس البرمكي، أحمد بن عمر بن أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل الحنبلي. سمع أبا حفص بن شاهين وأبا القاسم بن حبابة.
قال الخطيب [2] : كتبت عنه وكان صدوقا، سألته عن مولده، فقال:
في ذي الحجة سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة، ومات في ليلة الخميس الثالث والعشرين من جمادى الآخرة، ودفن في مقبرة إمامنا أحمد، وصحب أباه، وقرأ على أبي عبد الله بن حامد [3] .
__________
[1] تحرّفت في «آ» إلى «الرازي» .
[2] انظر «تاريخ بغداد» (4/ 295- 296) .
[3] انظر «المنهج الأحمد» (2/ 124) .(5/183)
وفيها أبو الحسن أحمد بن المظفر بن أحمد بن مزداد [1] الواسطي العطّار، راوي «مسند» مسدّد عن ابن السقا، توفي في شعبان.
وفيها أبو القاسم الإفليلي- وإفليل [2] قرية بالشام- ثم القرطبي إبراهيم بن محمد بن زكريا الزّهري الوقّاصي، توفي في ذي القعدة بقرطبة، وله تسع وثمانون سنة. روى عن أبي عيسى اللّيثي، وأبي بكر الزّبيدي، وطائفة، وولي الوزارة لبعض أمراء الأندلس وكان رأسا في اللغة والشعر، أخباريا، علّامة، صادق اللهجة، حسن الغيب، صافي الضمير، عني بكتب جمّة، وشرح «ديوان المتنبي» شرحا جيدا، وهو مشهور.
وفيها أبو الحسن بن سختام، الفقيه علي بن إبراهيم بن نصرويه بن سختام بن هرثمة الغزني [3] الحنفي السمرقندي المفتي. رحل ليحجّ، وحدّث ببغداد ودمشق، عن أبيه، ومحمد بن أحمد بن متّ الإشتيخني، وجماعة، وحدّث في هذا العام، وتوفي فيه أو بعده في عشر الثمانين.
وفيها ابن حمّصة، أبو الحسن علي بن عمر الحرّاني ثم المصري الصوّاف، عنده مجلس واحد عن حمزة الكتّاني، يعرف بمجلس البطاقة، توفي في رجب. قاله في «العبر» [4] .
وفيها قرواش بن مقلّد بن المسيّب، الأمير أبو المنيع، معتمد الدولة
__________
[1] في «العبر» : «ابن يزداد» .
[2] قال الحميري في «الروض المعطار» ص (50) : إفليل: مدينة برأس عين من أرض الجزيرة ما بين دجلة والموصل، منها أبو القاسم إبراهيم بن محمد الإفليلي، وفي «معجم البلدان» (1/ 232) «إفليلاء» وقال ياقوت: قال ابن بشكوال: إفليلاء: قرية من قرى الشام ينسب إليها أبو القاسم إبراهيم بن محمد بن زكريا بن مفرّج بن يحيى بن زياد بن عبد الله بن خالد بن سعد بن أبي وقاص. انظر «الصلة» لابن بشكوال (1/ 93) .
[3] كذا في «آ» و «ط» : «الغزني» وفي «سير أعلام النبلاء» (17/ 604) : «الغزّي» وانظر التعليق عليه.
[4] (3/ 198) .(5/184)
العقيلي، صاحب الموصل. كانت دولته خمسين سنة، وكان أديبا شاعرا نهّابا وهّابا، على دين الأعراب وجاهليتهم وتقدّم الكلام عليه [1] .
وفيها أبو الفضل السعدي، محمد بن أحمد بن عيسى البغدادي الفقيه الشافعي، تلميذ أبي حامد الإسفراييني، وراوي «معجم الصحابة» للبغوي عن ابن بطّة، توفي في شعبان، وقد روى عن جماعة كثيرة بالعراق، والشام، ومصر.
وفيها أبو عبد الله الصّوري، محمد بن علي بن عبد الله بن رحيم الساحلي الحافظ، أحمد أركان الحديث، توفي ببغداد في جمادى الآخرة، وقد نيّف على الستين. روى عن ابن جميع، والحافظ عبد الغني المصري [2] ولزمه مدة، وأكثر عن المصريين والشاميين، ثم رحل إلى بغداد، فلقي بها ابن مخلد صاحب الصفّار وهذه الطبقة.
قال الخطيب [3] : كان من أحرص الناس على الحديث، وأكثرهم كتبا له، وأحسنهم معرفة [به] ، لم يقدم علينا [من الغرباء الذين لقيتهم] أفهم منه، وكان دقيق الخط [صحيح النقل] يكتب ثمانين سطرا في ثم الكاغذ الخراساني، وكان يسرد الصوم [ولا يفطر إلّا يومي العيدين، وأيام التشريق] .
وقال أبو الوليد الباجي: هو أحفظ من رأيناه.
وقال أبو الحسين بن الطيوري: ما رأيت أحفظ من الصّوري، وكان بفرد عين، وكان متفننا يعرف من كل علم، وقوله حجّة، وعنه أخذ الخطيب علم الحديث. وله شعر فائق.
وقال ابن ناصر الدّين [4] : كان آية في الإتقان، مع حسن خلق ومزاح
__________
[1] انظر المجلد الرابع حوادث سنة (391) ص (490- 492) من هذا المجلد.
[2] يعني الحافظ عبد الغني بن سعيد الأزدي المصري المتوفى سنة (409) وقد تقدمت ترجمته انظر ص (54) .
[3] انظر «تاريخ بغداد» (3/ 103) وما بين حاصرتين زيادة منه.
[4] في «التبيان شرح بديعة البيان» (1489/ آ) .(5/185)
مع الطالبين، وكان خطه دقيقا مع التحرير والمعرفة الزائدة. كتب «صحيح البخاري» في سبعة أطباق من الورق البغدادي.
وفيها السلطان مودود، صاحب غزنة، ابن السلطان مسعود بن محمود بن سبكتكين، وكانت دولته عشر سنين، ومات في رجب، وله تسع وعشرون سنة. وأقاموا بعده ولده وهو صبي صغير، ثم خلعوه.(5/186)
سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة
فيها عيّن ابن النّسوي لشرطة بغداد، فاتفقت الكلمة من [1] السّنّة والشيعة، أنّه متى ولي نزحوا عن البلد، ووقع الصلح بهذا السبب بين الفريقين، وصار أهل الكرخ يترحمون على الصحابة، وصلّوا في مساجد السّنّة، وخرجوا كلهم إلى زيارة المشاهد، وتحابّوا وتواددوا [2] ، وهذا شيء لم يعهد من دهر. قاله في «العبر» [3] .
وفيها أبو الحسين التُّوزيّ [4] أحمد بن علي البغدادي المحتسب.
روى عن ابن لؤلؤ وطبقته، وكان ثقة صاحب حديث.
وفيها الملك العزيز أبو منصور بن الملك جلال الدولة بن بويه، توفي بظاهر ميّافارقين، وكانت مدته سبع سنين، وكان أديبا فاضلا له شعر حسن.
وفيها أبو الحسن بن القزويني، علي بن عمر الحربي، الزاهد القدوة، شيخ العراق. روى عن أبي عمر بن حيّويه وطبقته.
__________
[1] في «العبر» : «في» .
[2] في «العبر» : «وتوادّوا» .
[3] (3/ 201) .
[4] في «آ» و «ط» : «الثوري» وهو خطأ، والتصحيح من «تاريخ بغداد» (4/ 324) و «الأنساب» (3/ 104) و «العبر» (3/ 201) .(5/187)
قال الخطيب [1] : كان أحمد الزهاد، ومن عباد الله الصالحين، يقرئ ويحدّث، ولا يخرج [من بيته] إلّا إلى الصلاة، وعاش اثنتين وثمانين سنة، توفي في شعبان، وغلّقت جميع بغداد يوم دفنه، ولم أر جمعا أعظم من ذلك الجمع.
وقال المناوي في «طبقات الأولياء» : أخذ النحو عن ابن جنّي، وكان شافعيا، تفقّه على الدّاركي، وسمع حديثا كثيرا، ومن كراماته أنّه سمع الشاة تذكر الله تعالى، تقول: لا إله إلّا الله، وكان يتوضأ للعصر، فقال لجماعته:
لا تخرج هذه الشاة غدا للمرعى، فأصبحت ميتة.
وقال بعضهم: مضيت لزيارة قبره، فحصل ما يذكر الناس عنه من الكرامات، فقلت: ترى أيش منزلته عند الله، وعلى قبره مصحف، ففتحته، فإذا في أول ورقة منه وَجِيهاً في الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ 3: 45 [آل عمران: 3] .
وقال الماوردي: صلّيت خلفه، وعليه ثوب مطرز، فقلت في قلبي:
أين المطرز من الزهد، فلما قضى صلاته قال: سبحان الله، المطرز لا ينقص أحكام الزهد، وكرره ثلاثا.
وقال ابن هبة: صليت خلفه العشاء بالحربية، فخرج وأنا معه بالقنديل بين يديه، فإذا أنا بموضع أطواف به مع جماعة، ثم عدنا إلى الحربية قبل الفجر، فأقسمت عليه أين كنّا قال: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ 43: 59 [الزّخرف: 59] ذلك البيت الحرام، وله حكايات كثيرة تدل على أن الله أكرمه بطيّ الأرض.
وقال ابن الدلّال: كنت أقرأ على ابن فضلان، فقال- وقد جرى ذكر كرامات القزويني-: لا تعتقد أنّ أحدا يعلم ما في قلبك، فخرجت فدخلت
__________
[1] انظر «تاريخ بغداد» (12/ 43) وقد نقل المؤلف كلامه عن «العبر» للذهبي وهو بدوره نقل عن «تاريخ بغداد» بتصرف، وما بين حاصرتين زيادة منه.(5/188)
على القزويني، فقال: سبحان الله مقاومة معارضة. روي عن المصطفى [صلّى الله عليه وسلّم] أنه قال: «إنّ تحت العرش ريحا هفّافة تهبّ إلى قلوب العارفين» [1] . وروى عنه [صلّى الله عليه وسلّم] : « [قد] كان فيمن مضى قبلكم محدّثون، فإن يكن في أمتي [أحد] فعمر» [2] . وقال بعضهم: أصابتني ريح المفاصل، حتّى زمنت لأجلها، فأمرّ القزوينيّ يده عليها من وراء كمّه، فقمت من ساعتي معافي.
وقال ابن طاهر: أدركت سفرا وكنت خائفا، فدخلت للقزويني أسأله الدعاء، فقال- قبل أن أسأله-: من أراد سفرا ففزع من عدو أو وحش، فليقرأ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ 106: 1 [قريش: 1] فإنها أمان من كل سوء [3] ، فقرأتها، فلم يعرض لي عارض حتّى الآن.
ولما مات أغلقت البلد لمشهده، ولم ير في الإسلام بعد جنازة أحمد بن حنبل أعظم من جنازته. انتهى ما أورده الشيخ عبد الرؤوف المناوي ملخصا.
وفيها أبو القاسم الثمانيني- بلفظ العدد، نسبة إلى ثمانين، قرية بالموصل، وهي أول قرية بنيت بعد الطوفان، سمّيت بعدد الجماعة الذين خرجوا من السفينة مع نوح عليه السلام، فإنهم كانوا ثمانين، وهي عند الجبل الجودي- عمر بن ثابت الضرير النحوي، أحد أئمة العربية بالعراق.
أخذ النحو عن أبي الفتح بن جنّي، وأخذ عنه الشريف أبو المعمر يحيى بن
__________
[1] ذكره السبكي في «طبقات الشافعية الكبرى» (5/ 264) مرفوعا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولم ينسبه لأحد من أصحاب المصادر.
[2] حديث صحيح تقدم تخريجه في المجلد الأول ص (177) فراجعه.
[3] قلت: أراد- رحمة الله تعالى- قرّاء السورة كلها، لأن قوله تعالى في آخرها: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ من جُوعٍ وَآمَنَهُمْ من خَوْفٍ 106: 3- 4 هو بيت القصيد من وصيته، والله أعلم.(5/189)
محمد بن طباطبا العلوي الحسني، وكان هو وأبو القاسم بن برهان والعوّام يقرؤون على الثمانيني، وتوفي في ذي القعدة. انتهى ملخصا.
وفيها محمد بن عبد الواحد بن زوج الحرّة، أبو الحسن أخو أبي يعلى، وأبي عبد الله، وكان أوسط الثلاثة. روى عن ابن لؤلؤ وطائفة.
وفيها أبو طاهر بن العلّاف، محمد بن علي بن محمد البغدادي الواعظ. روى عن القطيعي وجماعة، وكان نبيلا وقورا [1] ، له حلقة للعلم بجامع المنصور.
__________
[1] لفظة: «وقورا» سقطت من «آ» وأثبتها من «ط» و «العبر» .(5/190)
سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة
فيها على ما قاله في «الشذور» ظهر كوكب له ذؤابة، غلب نوره على نور الشمس، وسار سيرا بطيئا، ثم انقضّ.
وفيها كما قال في «العبر» [1] في صفر زال الأنس بين السّنّة والشيعة، وعادوا إلى أشدّ ما كانوا عليه، وأحكم [2] الرافضة سوق الكرخ، وكتبوا على الأبراج: محمد وعليّ خير البشر، فمن رضي فقد شكر، ومن أبي فقد كفر.
واضطرمت [3] الفتنة، وأخذت ثياب الناس في الطرق، وغلّقت الأسواق، واجتمع للسّنّة جمع لم ير مثله، وهجموا [على] [4] دار الخلافة، فوعدوا بالخير، وثار أهل الكرخ، والتقى الجمعان، وقتل جماعة، [ونهب باب التّبن] [5] ونبشت عدّة قبول للشيعة [وأحرقوا] [5] ، مثل العوني، والناشي [6] ، والجذوعي، وطرحوا النيران في التّرب [7] ، وتم على الرافضة خزي عظيم،
__________
[1] (3/ 203) .
[2] تحرّفت في «ط» إلى «وأحكموا» .
[3] في «آ» : «واضطربت» .
[4] لفظة «على» سقطت من «آ» و «ط» واستدركتها من «العبر» .
[5] ما بين حاصرتين سقط من «آ» و «ط» واستدركته من «العبر» .
[6] في «آ» و «ط» : «الناسي» بالسين وهو تصحيف، والتصحيح من العبر» وانظر «المنتظم» لابن الجوزي (8/ 150) .
[7] في «آ» و «ط» : «في التراب» وما أثبته من «العبر» وانظر «المنتظم» .(5/191)
فعمدوا إلى خان الحنفية فأحرقوه، وقتلوا مدرّسهم أبا سعد [1] السرخسي رحمه الله.
وقال الوزير: إن وأخذنا الكلّ خربت البلد. انتهى.
وفيها توفي أبو علي الشّاموخي [2]- بضم الميم وخاء معجمة، نسبة إلى شاموخ قرية بنواحي البصرة- الحسن بن علي المقرئ بالبصرة، وله جزء مشهور، روى فيه عن أحمد بن محمد بن العبّاس صاحب أبي خليفة.
وفيها علي بن شجاع الشيباني أبو الحسن المصقلي- بفتح أوله والقاف، نسبة إلى مصقلة [3] جدّ- الأصبهاني الصوفي، في ربيع الأول.
روى عن الدّارقطني وطبقته، وأسمع ولديه كثيرا.
وفيها أبو القاسم الفارسي، علي بن محمد بن علي، مسند الدّيار المصرية. أكثر عن أحمد بن الناصح، والذهلي، وابن رشيق، وتوفي في شوال.
وفيها محمد بن عبد السلام بن سعدان، أبو عبد الله الدّمشقي. روى عن [جمح بن القاسم، وأبي عمر بن فضالة، وجماعة، وتوفي يوم عرفة وعنده ستة أجزاء.
وفيها أبو الحسن بن] [4] صخر الأزدي القاضي، محمد بن علي بن محمد البصري، بزبيد، في جمادى الآخرة، عن سن عالية. أملى مجالس كثيرة عن أحمد بن جعفر وخلق.
__________
[1] في «آ» : «أبو سعيد» وأثبت لفظ «ط» و «العبر» .
[2] انظر «غاية النهاية في طبقات القرّاء» لابن الجزري (1/ 226) .
[3] بلد بصقلية. انظر «معجم البلدان» (5/ 143) .
[4] ما بين حاصرتين سقط من «آ» وأثبته من «ط» و «العبر» .(5/192)
سنة أربع وأربعين وأربعمائة
فيها كما قال في «الشذور» كانت بأرّجان، والأهواز، وتلك النواحي زلازل، انقلعت منها الحيطان، فحكى من يعتمد على قوله، أنه كان قاعدا في إيوان داره، فانفرج حتّى رأى السماء من وسطه، ثم رجع إلى حاله.
وفيها توفي أبو غانم الكراعي، أحمد بن علي بن الحسين [المروزيّ. روى عن أبي العبّاس عبد الله بن الحسين] [1] النّضري، صاحب الحارث بن أبي أسامة، وكان حافظ خراسان ومسندها في وقته، وآخر من روى عنه حفيده.
وفيها أبو علي بن المذهّب، الحسن بن علي بن محمد التميمي البغدادي الواعظ، راوية «المسند» لأحمد.
قال الخطيب [2] : كان سماعه للمسند من القطيعي صحيحا إلّا في أجزاء، فإنه ألحق اسمه فيها، وعاش تسعا وثمانين سنة.
قال ابن نقطة [3] : لو بيّن الخطيب في أيّ مسند هي لأتى بالفائدة.
__________
[1] ما بين حاصرتين سقط من «آ» و «ط» واستدركته من «العبر» (3/ 207) .
[2] انظر «تاريخ بغداد» (7/ 390) .
[3] يغلب على الظن أن ابن نقطة قال كلامه هذا في كتاب «الاستدراك» وهو كتاب قيّم، يقوم بتحقيقه الدكتور عبد القيوم عبد رب النّبي، ويجري طبعه في السعودية بجامعة أم القرى.(5/193)
وقال الذهبي [1] : توفي في تاسع عشري ربيع الآخر.
وفيها رشأ [2] بن نظيف ابن ما شاء الله، أبو الحسن الدمشقي المقرئ المحدّث. قرأ بدمشق، ومصر، وبغداد بالروايات، وروى عن أبي مسلم الكاتب، وعبد الوهّاب الكلابي، وطبقتهما.
قال الكتّاني: توفي في المحرم، وكان ثقة مأمونا، انتهت إليه الرئاسة في قراءة ابن عامر.
وفيها المحدّث أبو القاسم الأزجي، عبد العزيز بن علي الخيّاط.
روى عن ابن عبيد [3] العسكري، وعلي بن لؤلؤ وطبقتهما، فأكثر، توفي في شعبان، وله ثمان وثمانون سنة، وكان صاحب حديث وسنّة.
وفيها أبو نصر السجزي- نسبة إلى سجستان- الحافظ عبيد الله بن سعيد بن حاتم الوائلي البكري، نزيل مصر. توفي بمكة في المحرم، وكان متقنا مكثرا، بصيرا بالحديث والسّنّة، واسع الرواية. رحل بعد الأربعمائة، فسمع بخراسان، والعراق، والحجاز، ومصر. وروى عن الحاكم، وأبي أحمد الفرضي، وطبقتهما.
قال الحافظ بن طاهر [4] : سألت الحبّال عن الصّوري، والسجزي
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 207) .
[2] في «آ» و «العبر» : «ورشاء» وأثبت لفظ «ط» ، وانظر «معرفة القرّاء الكبار» (1/ 401) .
[3] قلت: في «آ» : «عن أبي عبيد» وما جاء في «ط» موافق لما في «العبر» ولكن يغلب على الظن أن ما جاء في «العبر» هو سبق قلم، فإن «ابن عبيد العسكري» هو أبو عبد الله الحسين بن محمد بن عبيد ... الدقاق، المعروف بابن العسكري كما في «الأنساب» (8/ 455) وهو غير الذي روى عنه المترجم، وأن الصواب «عن أبي عبد الله» وهو الحسين بن علي بن العسكري كما جاء مبيّنا في ترجمة المترجم في «الأنساب» (1/ 197) والله أعلم.
[4] انظر «الأنساب المتفقة» ص (164) وما بين حاصرتين مستدرك منه.(5/194)
أيّهما [1] أحفظ؟ فقال: السجزي أحفظ من خمسين [ومن ستين] مثل الصّوري، وله كتاب «الإبانة في القرآن» .
وفيها أبو عمرو الدّاني، عثمان بن سعيد القرطبي بن الصيرفي، الحافظ المقرئ، أحد الأعلام، صاحب المصنفات الكثيرة، منها «التيسير» توفي بدانية في شوال، وله ثلاث وسبعون سنة.
قال: ابتدأت بطلب العلم سنة ست وثمانين وثلاثمائة، ورحلت إلى الشمرق سنة سبع وتسعين، فكتبت بالقيروان، ومصر.
قال الذهبي [2] : سمع من أبي مسلم الكاتب، وبمكّة من أحمد بن فراس، وبالمغرب من أبي الحسن القابسي، وقرأ القراءات على عبد العزيز بن جعفر الفارسي، وخلف بن خاقان، وطاهر بن غلبون، وجماعة.
وقال ابن بشكوال [3] : كان أحمد الأئمة في علم القرآن، روايته، وتفسيره، ومعانيه، وطرقه، وإعرابه، وله معرفة بالحديث، وطرقه، ورجاله، وكان جيد الضّبط، من أهل الحفظ [والعلم] والذكاء [والفهم] ، والتفنّن [4] ، ديّنا، ورعا، سنّيا.
وقال غيره [5] : كان مجاب الدّعوة، مالكي المذهب.
وفيها أبو الفتح القرشي، ناصر بن الحسين العمري المروزي الشافعي، مفتي أهل مرو، تفقّه على أبي بكر القفّال، وأبي الطيب
__________
[1] في «الأنساب المتفقة» : «أيّما» .
[2] انظر «العبر» (3/ 209) .
[3] انظر «الصلة» (2/ 406) وما بين حاصرتين زيادة منه.
[4] في «آ» و «ط» : «واليقين» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» مصدر المؤلف في نقله.
[5] المقصود بقوله: «غيره» المغامي كما في «الصلة» .(5/195)
الصّعلوكي، وروى عن أبي سعيد عبد الله الرّازي، صاحب ابن الضّريس، وعبد الرحمن بن أبي شريح، وعليه تفقّه البيهقي، وكان فقيرا، متعفّفا، متواضعا.
قال ابن شهبة [1] : صار عليه مدار الفتوى، والتدريس، والمناظرة، وصنّف كتبا كثيرة. توفي بنيسابور في ذي القعدة.
__________
[1] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 250) .(5/196)
سنة خمس وأربعين وأربعمائة
فيها توفي تاج الأئمة، مقرئ الدّيار المصرية، أبو العبّاس، أحمد بن علي بن هاشم المصري. قرأ على عمر بن عراك، وأبي عديّ، وجماعة، ثم رحل وقرأ على أبي الحسن الحمامي، وتوفي في شوال في عشر التسعين.
قال السيوطي في «حسن المحاضرة» [1] : أقرأ الناس دهرا طويلا بمصر، وحدّث عنه أبو عبد الله محمد بن أحمد الرّازي في مشيخته.
وفيها أبو إسحاق البرمكي، إبراهيم بن عمر البغدادي الحنبلي. روى عن القطيعي، وابن ماسي، وطائفة.
قال الخطيب [2] : كان صدوقا، ديّنا، فقيها، على مذهب أحمد، له حلقة للفتوى، توفي يوم التروية، وله أربع وثمانون سنة.
وقال ابن أبي يعلى في «طبقاته» [3] : له إجازة من أبي بكر عبد العزيز، وصحب ابن بطة، وابن حامد.
قال إبراهيم البرمكي: أخبرنا علي بن عبد العزيز بن مردك، قال:
حدّثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم، قال: حدّثنا صالح بن أحمد بن حنبل، قال- وذكره عنده، يعني [عند] أبيه رجل- فقال: يا بني، الفائز من فاز غدا، ولم يكن لأحد عنده تبعة.
__________
[1] (1/ 493) .
[2] انظر «تاريخ بغداد» (6/ 139) .
[3] انظر «طبقات الحنابلة» (2/ 190- 191) .(5/197)
ولد البرمكي في شهر رمضان سنة إحدى وستين وثلاثمائة، وتوفي في ذي الحجة، ودفن في مقبرة إمامنا، وكانت حلقته بجامع المنصور. انتهى ملخصا.
وفيها أبو سعد السمّان إسماعيل بن علي الرّازي الحافظ. سمع بالعراق، ومكّة، ومصر، والشام، وروى عن المخلّص وطبقته.
قال الكتّاني: كان من الحفّاظ الكبار، زاهدا، عابدا، يذهب إلى الاعتزال.
وقال الذهبي [1] : كان متبحّرا في العلوم، وهو القائل: من لم يكتب الحديث، لم يتغرغر بحلاوة الإسلام، وله تصانيف كثيرة، يقال: إنه سمع من ثلاثة آلاف شيخ، وكان رأسا في القراءات، والحديث، والفقه، بصيرا بمذهبي أبي حنيفة، والشافعي، لكنه في رؤوس المعتزلة. انتهى كلام الذهبي [2] .
وفيها أبو طاهر الكاتب، محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الرحيم، مسند أصبهان، وراوية أبي الشيخ، توفي في ربيع الآخر، وهو في عشر التسعين، وكان ثقة، صاحب رحلة إلى أبي الفضل الزّهري وطبقته.
وفيها أبو عبد الله العلوي، محمد بن علي بن الحسن بن عبد الرحمن الكوفي، مسند الكوفة، في ربيع الأول. روى عن البكّائي [3] وطائفة.
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 211) وسير أعلام النبلاء 18/ 57.
[2] قلت: بل جاء في آخر كلام الذهبي: «وكان يقال: إنه ما رأى مثل نفسه» .
[3] في «آ» و «ط» : «المكاي» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» (3/ 212) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 636) .(5/198)
سنة ست وأربعين وأربعمائة
فيها توفي أبو علي الأهوازي، الحسن بن علي بن إبراهيم، المقرئ المحدّث، مقرئ أهل الشام، وصاحب التصانيف. ولد سنة اثنتين وستين وثلاثمائة، وعني بالقراءات، ولقي فيها الكبار، كأبي الفرج الشّنبوذي، وعلي بن الحسين الغضائري، وقرأ بالأهواز لقالون، في سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة، وروى الحديث عن نصر المرجى، والمعافي الجريري، وطبقتهما، وهو ضعيف اتّهم في لقي بعض الشيوخ، توفي في ذي الحجّة.
وفيها أبو يعلى الخليلي، الخليل بن عبد الله بن أحمد القزويني الحافظ، أحد أئمة الحديث. روى عن علي بن أحمد بن صالح القزويني، وأبي حفص الكتّاني، وطبقتهما، وكان أحد من رحل وتعب وبرع في الحديث.
قال ابن ناصر الدّين [1] : أبو يعلى القاضي، كان إماما حافظا، من المصنفين، وله كتاب «الإرشاد في معرفة المحدّثين» .
وفيها أبو محمد بن اللّبّان التيمي، عبد الله بن محمد الأصبهاني.
قال الخطيب [2] : كان أحد أوعية العلم. سمع أبا بكر بن المقرئ، وأبا
__________
[1] في «التبيان شرح بديعة البيان» (148/ ب) .
[2] انظر «تاريخ بغداد» (10/ 144) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 653- 654) .(5/199)
طاهر المخلص وطبقتهما، وكان ثقة، صحب ابن الباقلاني [1] ، ودرس عليه الأصول، وتفقه على أبي حامد الإسفراييني، وقرأ القراءات [2] ، وله مصنّفات كثيرة. سمعته يقول: حفظت القرآن ولي خمس سنين، مات بأصبهان في جمادى الآخرة.
وفيها محمد بن عبد الرّحمن بن عثمان بن أبي نصر، أبو الحسين التميمي المعدّل الرئيس، مسند دمشق، وابن مسندها. سمع أبا بكر الميانجي، وأبا سليمان بن زبير، وتوفي في رجب.
__________
[1] في «تاريخ بغداد» : «صحب القاضي أبا بكر الأشعري» .
[2] في «تاريخ بغداد» : «وقرأ القرآن» .(5/200)
سنة سبع وأربعين وأربعمائة
فيها توفي أبو عبد الله القادسي، الحسين بن أحمد بن محمد بن حبيب البغدادي البزّاز. روى عن أبي بكر القطيعي وغيره، ضعّفه الخطيب [1] وفيه أيضا رفض، توفي في ذي القعدة.
وفيها قاضي القضاة، أبو عبد الله بن ماكولا، الحسين بن علي بن جعفر العجلي الجرباذقاني- بفتح الجيم والموحدة والقاف، وسكون الراء والذال المعجمة، نسبة إلى جرباذقان، بلد بين جرجان واستراباذ وأخرى بين أصبهان والكرج لا أدري إلى أيّهما ينسب- كان شافعي المذهب.
قال الإسنوي [2] : هو من ولد الأمير أبي دلف العجلي، ويعرف بابن ماكولا، وهو الأمير أبو نصر، مصنّف «الإكمال في أسماء الرجال» تولى أبو عبد الله المذكور قضاء القضاة ببغداد، سنة عشرين وأربعمائة.
قال الخطيب: كان عارفا بمذهب الشافعي، وسمع من ابن مندة بأصبهان، قال: ولم نر قاضيا أعظم نزاهة منه. ولد سنة ثمان وستين وثلاثمائة، ومات في شوال وهو على قضائه. انتهى ما قاله الإسنوي.
وفيها حكم بن محمد بن حكم، أبو العاص الجذامي- نسبة إلى
__________
[1] انظر «تاريخ بغداد» (8/ 17) .
[2] انظر «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 406- 407) .(5/201)
جذام قبيلة باليمن- القرطبي مسند الأندلس، حجّ فسمع من أبي محمد بن أبي زيد، وإبراهيم بن علي التمّار، وأبي بكر بن المهندس، وقرأ على عبد المنعم بن غلبون، وكان صالحا، ثقة، ورعا، صلبا في السّنّة، مقلّا، زاهدا، توفي في ربيع الآخر، عن بضع وتسعين سنة.
وفيها أبو الفتح سليم بن أيوب بن سليم- بالتصغير فيهما- الرّازي الشافعي المفسّر، صاحب التصانيف والتفسير، وتلميذ أبي حامد الإسفراييني. روى عن أحمد بن محمد البصير [1] وطائفة كثيرة، وكان رأسا في العلم والعمل، غرق في بحر القلزم [2] في صفر بعد قضاء حجّه.
قال ابن قاضي شهبة [3] : تفقه وهو كبير، لأنه كان اشتغل في صدر عمره باللغة، والنحو، والتفسير، والمعاني، ثم لازم الشيخ أبا حامد [4] ، وعلّق منه التعليق، ولما توفي الشيخ أبو حامد جلس مكانه، ثم إنه سافر إلى الشام، وأقام بثغر صور مرابطا، ينشر العلم، فتخرّج عليه أئمة، منهم:
الشيخ نصر المقدسي، وكان ورعا زاهدا، يحاسب نفسه على الأوقات، لا يدع وقتا يمضي بغير فائدة.
قال الشيخ أبو إسحاق [5] : إنه كان فقيها أصوليا.
وقال أبو القاسم بن عساكر: بلغني أن سليما تفقه بعد أن جاوز الأربعين، وغرق في بحر القلزم عند ساحل جدّة، بعد الحج في صفر، ومن تصانيفه «كتاب التفسير» سمّاه «ضياء القلوب» وغير ذلك من الكتب النافعة.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «النصير» وهو تصحيف، والتصحيح من «العبر» (3/ 215) وانظر «المستفاد من ذيل تاريخ بغداد» لابن النجار ص (248) طبع مؤسسة الرسالة.
[2] المعروف الآن ب- «البحر الأحمر» .
[3] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 233- 234) .
[4] يعني الإسفراييني.
[5] انظر «طبقات الفقهاء» للشيرازي ص (132) .(5/202)
وسئل ما الفرق بين مصنفاتك ومصنفات رفيقك المحاملي؟ يعرّض السائل بأن تلك أشهر، فقال: الفرق أن تلك صنّفت بالعراق ومصنفاتي صنّفت بالشام.
انتهى.
وفيها أبو سعيد إسماعيل بن علي بن الحسين بن زنجويه الرّازي.
كان حافظا علّامة تاريخ الزمان، وهو معتزلي المذهب، وهو إمام في عدّة علوم، ومن كلامه: من لم يكتب الحديث لم يتغرغر بحلاوة الإسلام. قاله ابن ناصر الدّين، وجزم أنه توفي في هذه السنة [1] ، وقد تقدم الكلام عليه في سنة خمس وأربعين قريبا [2] .
وفيها عبد الوهاب بن الحسين بن برهان، أبو الفرج البغدادي الغزّال. روى عن أبي عبد الله العسكري، وإسحاق بن سعد، وخلق، وسكن صور، وبها مات في شوال، عن خمس وثمانين سنة.
وفيها أبو أحمد الغندجاني- بضم الغين المعجمة، وسكون النون وفتح المهملة، وجيم، نسبة إلى غندجان، مدينة بالأهواز- عبد الوهاب بن علي بن محمد بن موسى. روى «تاريخ البخاري» عن أحمد بن عبدان الشيرازي.
وفيها أبو القاسم التّنوخي، علي بن أبي علي المحسّن بن علي البغدادي. روى عن علي بن محمد بن كيسان، والحسين بن محمد العسكري وخلق كثير، وأول سماعه في سنة سبعين.
قال الخطيب [3] : صدوق متحفّظ في الشهادة، ولي قضاء المدائن ونحوها.
__________
[1] انظر «التبيان شرح بديعة البيان» لابن ناصر الدّين (148/ ب) .
[2] انظر ص (198) .
[3] انظر «تاريخ بغداد» (12/ 115) .(5/203)
وقال ابن خيرون [1] قيل: كان راية [2] الرفض والاعتزال، مات في ثاني المحرم. قاله في «العبر» [3] .
وفيها ذخيرة الدّين، ولي العهد، محمد بن القائم بأمر الله عبد الله بن القادر بأمر الله أحمد، توفي في ذي القعدة، وله ست عشرة سنة، وكان قد ختم القرآن، وحفظ الفقه، والنحو، والفرائض، وخلّف سرية حاملا، فولدت ولدا سمّاه جدّه عبد الله، فهو المقتدي الذي ولي الخلافة بعد جده.
وفيها محمد بن علي بن يحيى بن سلوان المازني، ما عنده سوى نسخة أبي مسهر وما معها، توفي في ذي الحجة، وهو ثقة. قاله في «العبر» [4] .
__________
[1] هو الحافظ أبو الفضل محمد بن الحسن بن خيرون. انظر «تبصير المنتبه» (2/ 545) .
[2] في «العبر» و «سير أعلام النبلاء» (17/ 650) : «رأيه» .
[3] (3/ 216) .
[4] (3/ 217) .(5/204)
سنة ثمان وأربعين وأربعمائة
فيها تزوج القائم بأمر الله، بأخت طغرلبك، وتمكّن القائم، وعظمت الخلافة بسلطنة طغرلبك.
وفيها كان القحط الشديد بديار مصر والوباء المفرط، وكانت العراق تموج بالفتن والخوف والنهب، من جماعة طغرلبك، ومن الأعراب، ومن البساسيري.
قال ابن الجوزي في «الشذور» : ثم وقع الغلاء والوباء في الناس، وفسد الهواء، وكثر الذباب، واشتد الجوع، حتّى أكلوا الميتة، وبلغ المكوك من بزر البقلة سبعة دنانير، والسفرجلة والرّمانة دينارا، والخيارة واللينوفرة دينارا، وعمّ الغلاء والوباء جميع البلاد، وورد كتاب من مصر أن ثلاثة من اللصوص نقبوا دارا فوجدوا عند الصباح موتى، أحدهم على باب البيت، والثاني على رأس الدرجة، والثالث على الثياب المكورة. انتهى.
وفيها توفي عبد الله بن الوليد بن سعيد أبو محمد الأنصاري الأندلسي، الفقيه المالكي. حمل عن أبي محمد بن أبي زيد، وخلق، وعاش ثمانيا وثمانين سنة، وسكن مصر، وتوفي بالشام في رمضان.
وفيها أبو الحسين، عبد الغافر بن محمد بن عبد الغافر الفارسي، ثم النيسابوري راوي «صحيح مسلم» عن ابن عمرويه، و «غريب» الخطابي، عن(5/205)
المؤلّف [1] كمّل خمسا وتسعين سنة، ومات في خامس شوال، وكان عدلا جليل القدر.
وفيها أبو الحسن [2] القالي- نسبة إلى قاليقلا من ديار بكر [3]- علي بن أحمد بن علي المؤدّب الثقة. روى عن أبي عمر الهاشمي وطبقته.
وفيها أبو الحسن الباقلاني، علي بن إبراهيم بن عيسى البغدادي.
روى عن القطيعي وغيره.
قال الخطيب [4] : لا بأس به.
وفيها أبو حفص بن مسرور، عمر بن أحمد بن عمر النيسابوري الزاهد. روى عن ابن نجيد [5] ، وبشر الإسفراييني، وأبي سهل الصّعلوكي، وطائفة.
قال عبد الغافر: هو أبو حفص الفاميّ [6] الماوردي، الزاهد الفقيه.
كان كثير العبادة والمجاهدة، كانوا يتبركون بدعائه، وعاش تسعين سنة، ومات في ذي القعدة.
وفيها ابن الطفّال، أبو الحسن محمد بن الحسين بن محمد النيسابوري، ثم المصري المقرئ البزاز التاج، ولد سنة تسع وخمسين وثلاثمائة، وروى عن ابن حيّويه، وابن رشيق وطبقتهما.
__________
[1] يعني عن مؤلّفه الإمام أبي سليمان الخطّابي. انظر «سير أعلام النبلاء» (17/ 19- 20) .
[2] كذا في «آ» و «ط» : «أبو الحسن» وفي «معجم المؤلفين» (7/ 20) و «كشف الظنون» (2/ 1389) : «أبو الحسين» .
[3] تنبيه: هكذا ضبطه المؤلف «القالي» وهو خطأ، والصواب «الفالي» كما جاء في «العبر» (3/ 218) وهو مصدر المؤلف في نقله، وجاء في «الأنساب» (9/ 233) و «معجم البلدان» (4/ 232) : أنه منسوب إلى «فالة» بلدة قريبة من «أيذخ» من بلاد خوزستان. وانظر «سير أعلام النبلاء» (18/ 54) .
[4] أنظر «تاريخ بغداد» (11/ 342) .
[5] في «آ» : «عن أبي نجيد» وهو خطأ وأثبت لفظ «ط» وهو الصواب.
[6] تحرّف في «ط» إلى «القاص» وانظر «سير أعلام النبلاء» (18/ 10) و «العبر» (3/ 219) .(5/206)
وفيها ابن التّرجمان، محمد بن الحسين بن علي الغزّي، شيخ الصوفية بديار مصر. روى عن محمد بن أحمد الحندري، وعبد الوهاب الكلابي وطائفة، ومات في جمادى الأولى بمصر، وله خمس وتسعون سنة، وكان صدوقا. قاله في «العبر» [1] .
وفيها أبو بكر محمد بن عبد الملك بن محمد بن عبد الله بن بشران الأموي البغدادي، راوي «السنن» عن الدّارقطني، توفي في جمادى الأولى، وكان ثقة حسن الأصول.
وفيها أبو الحسين هلال بن المحسّن بن أبي إسحاق إبراهيم بن زهرون بن حيّون الصابئ الحرّاني الكاتب، وهو حفيد أبي إسحاق الصابئ صاحب الرسائل المشهورة. سمع هلال المذكور أبا علي الفارسي النحوي، وعلي بن عيسى الرّماني وغيرهم، وذكره الخطيب في «تاريخ بغداد» [2] وقال:
كتبنا عنه وكان صدوقا، وكان أبوه المحسّن صابئا على دين جدّه إبراهيم، وأسلم هلال المذكور في آخر عمره، وسمع العلماء في حال كفره، لأنه كان يطلب الأدب، وله كتاب «الأماثل والأعيان ومنتدى العواطف والإحسان» وهو مجلد، وكان ولده غرس النّعمة، أبو الحسن محمد بن هلال ذا فواضل [3] وتواليف نافعة، منها «التاريخ الكبير» ومنها الكتاب الذي سمّاه «الهفوات النادرة من المغفّلين الملحوظين، والسقطات البادرة من المغفّلين المحظوظين» وكانت ولادة هلال المذكور في شوال، سنة تسع وخمسين وثلاثمائة، وتوفي ليلة الخمسين سابع عشر رمضان، رحمه الله.
__________
[1] (3/ 219) وقد تصحفت «الغزّي» في «سير أعلام النبلاء» (18/ 50) إلى «العزّي» فتصحح.
[2] (14/ 76) .
[3] في «ط» : «فضائل» وكلاهما بمعنى.(5/207)
سنة تسع وأربعين وأربعمائة
فيها كما قال في «الشذور» بلغت كارة الخشكار- أي النخالة- عشرة دنانير، ومات من الجوع خلق كثير، وأكلت الكلاب، وورد كتاب من بخارى أنه وقع في تلك الدّيار وباء، حتّى أخرج في يوم ثمانية عشر ألف جنازة، وأحصي من مات إلى تاريخ هذا الكتاب ألف ألف وستمائة وخمسون ألفا، وبقيت الأسواق فارغة والبيوت خالية، ووقع الوباء بأذربيجان وأعمالها، والأهواز وأعمالها، وواسط، والكوفة، وطبق الأرض، حتّى كان يحفر للعشرين والثلاثين زبية [1] فيلقون فيها، وكان سببه الجوع، وباع رجل أرضا له بخمسة أرطال خبز فأكلها ومات في الحال، وتاب الناس كلّهم، وأراقوا الخمور، وكسروا المعازف، وتصدقوا بمعظم أموالهم، ولزموا المساجد، وكان كلّ من اجتمع بامرأة حراما ماتا من ساعتهما، ودخلوا على مريض قد طال نزعه سبعة أيام، فأشار بإصبعه إلى بيت في الدّار، فإذا بجانبه خمر فقلبوها، فمات، وتوفي رجل كان مقيما بمسجد، فخلّف خمسين ألف درهم، فلم يقبلها أحد ورميت في المسجد، فدخل أربعة أنفس ليلا إلى المسجد فماتوا، ودخل رجل على ميت سجي [2] بلحاف فاجتذبه عنه، فمات، وطرفه في يده. انتهى.
__________
[1] جاء في «مختار الصحاح» (زبا) : الزبية: الرّابية لا يعلوها الماء.
[2] في «ط» : «مسجى» .(5/208)
وفيها توفي أبو العلاء المعرّي، أحمد بن عبد الله بن سليمان التّنوخي، اللّغوي. الشاعر، صاحب التصانيف المشهورة، والزندقة المأثورة، والذكاء المفرط، والزهد الفلسفي، وله ست وثمانون سنة. جدر [1] وهو ابن ثلاث سنين، فذهب بصره، ولعله مات على الإسلام، وتاب من كفرياته، وزال عنه الشك. قاله في «العبر» [2] .
وقال ابن خلّكان [3] : الشاعر اللغوي، كان متضلعا من فنون الأدب، قرأ النحو واللغة على أبيه بالمعرّة، وعلى محمد بن عبد الله بن سعد النحوي بحلب، وله التصانيف الكثيرة المشهورة، والرسائل المأثورة، وله من النظم «لزوم ما لا يلزم» وهو كبير، يقع في خمس مجلدات أو ما يقاربها، وله «سقط الزّند» أيضا وشرحه بنفسه، وسمّاه «ضوء السقط» وله كتاب «الهمزة والردف» أكثر من مائة مجلد، وله غير ذلك.
أخذ عنه أبو القاسم بن المحسّن التّنوخي، والخطيب أبو زكريا التّبريزي، وغيرهما.
وكانت ولادته يوم الجمعة عند مغيب الشمس، سابع عشري شهر ربيع الأول، سنة ثلاث وستين وثلاثمائة بالمعرّة، وعمي من الجدري أول سنة سبع وستين، غشي يمنى عينيه بياض، وذهبت اليسرى جملة.
قال الحافظ السّلفي: أخبرني أبو محمد بن عبد الله بن الوليد بن غريب الإيادي، أنه دخل مع عمّه على أبي العلاء يزوره، فرآه قاعدا على سجّادة لبد، وهو شيخ، قال: فدعا لي ومسح على رأسي، وكان [4] صبيا، قال:
__________
[1] يعني أصيب بمرض الجدري.
[2] (3/ 220) .
[3] انظر «وفيات الأعيان» (1/ 113- 116) .
[4] يعني الإيادي.(5/209)
وكأني أنظر إليه الآن، وإلى عينيه، إحداهما نادرة والأخرى غائرة جدا، وهو مجدّر الوجه، نحيف الجسم.
وكان يقول: كأنما نظر المتنبي إليّ بلحظ الغيب حيث يقول:
أنا الّذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي من به صمم [1]
وشرح «ديوان أبي تمام» وسمّاه «ذكرى حبيب» و «ديوان البحتري» وسمّاه «عبث الوليد» و «ديوان المتنبي» وسمّاه «معجز أحمد» وتكلم على غريب أشعارهم ومعانيها ومآخذهم من غيرهم وما أخذ عليهم، وتولى الانتصار لهم والنقد في بعض المواضع عليهم والتوجيه في أماكن لخطئهم.
ودخل بغداد سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، ودخلها ثانيا [2] ، سنة تسع وتسعين، وأقام بها سنة وسبعة أشهر، ثم رجع إلى المعرّة ولزم منزله، وشرع في التصنيف، وأخذ عنه الناس، وسار إليه الطلبة من الآفاق، وكاتبه العلماء والوزراء، وأهل الأقدار، وسمى نفسه رهن المحبسين [3] ، للزومه منزله ولذهاب عينيه، ومكث مدة خمس وأربعين سنة لا يأكل اللحم تدينا، لأنه كان يرى رأي الحكماء المتقدمين، وهم لا يأكلونه، كيلا يذبحوا [4] الحيوان، ففيه تعذيب له، وهم لا يرون إيلام جميع الحيوانات.
وعمل الشعر وهو ابن إحدى عشرة سنة، ومن شعره في «اللزوم» :
لا تطلبنّ بآلة لك رفعة [5] ... قلم البليغ بغير جدّ مغزل
سكن السما كان السماء كلاهما ... هذا له رمح وهذا أعزل
__________
[1] البيت في «ديوان المتنبي» بشرح العكبري (3/ 367) .
[2] في «وفيات الأعيان» : «ثانية» .
[3] في «آ» و «ط» : «رهن الحبسين» وهو خطأ والتصحيح من «وفيات الأعيان» وانظر «سير أعلام النبلاء» (18/ 26) .
[4] في «آ» و «ط» : «كيلا يذبحون» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[5] في «وفيات الأعيان» : «رتبة» .(5/210)
وتوفي ليلة الجمعة ثالث، وقيل: ثاني شهر ربيع الأول، وقيل: ثالث عشرة، وبلغني أنه أوصى أن يكتب على قبره:
هذا جناه أبي عليّ ... وما جنيت على أحد
وهو أيضا متعلق باعتقاد الحكماء، فإنهم يقولون إيجاد الولد وإخراجه إلى هذا العالم جناية عليه، لأنه يتعرّض للحوادث والآفات.
وكان مرضه ثلاثة أيام، ومات في اليوم الرابع، ولم يكن عنده غير بني عمه، فقال لهم في اليوم الثالث: اكتبوا عنّي، فتناولوا الدّواة [1] والأقلام، فأملى عليهم غير الصواب، فقال القاضي أبو محمد [2] التّنوخي: أحسن الله عزاءكم في الشيخ، فإنه ميت، فمات ثاني يوم.
والمعرّيّ: نسبة إلى معرّة النّعمان، بلدة صغيرة بالشام، بالقرب من حماة، وشيزر، وهي منسوبة إلى النّعمان بن بشير الأنصاري رضي الله عنه.
انتهى ما أورده ابن خلّكان ملخصا.
وقال ابن الأهدل: حضر مرة مجلس الشريف المرتضى ببغداد، وكان الشريف يغضّ من المتنبي، والمعرّي يثني عليه، فقال المعرّيّ: لو لم يكن من شعره إلّا قوله:
لك يا منازل في القلوب منازل [3]
لكفاه، فأمر الشريف بإخراجه، وقال: ما أراد القصيدة، فإنها ليست من غرر قصائده، وإنما أراد البيت فيها وهو قوله:
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «الدّويّ» وهي جمع «الدواة» .
[2] في «آ» : «القاضي محمد» وهو خطأ، وأثبت لفظ «ط» وهو الصواب.
[3] صدر بيت في «ديوان المتنبي» بشرح العكبري (3/ 249) من قصيدة مدح بها القاضي أحمد بن عبد الله الأنطاكي، وعجزه:
............ أقفرت أنت وهنّ منك أواهل(5/211)
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأنّي كامل [1]
انتهى.
وقال غيره: قيل: ولد أعمى، وترك أكل البيض، واللّبن، واللّحم، وحرّم إتلاف الحيوان، وكان فاسد العقيدة، يظهر الكفر، ويزعم أن له باطنا وأنه مسلم في الباطن، وأشعاره الدالّة على كفره كثيرة منها:
أتى عيسى فأبطل شرع موسى ... وجاء محمد بصلاة خمس
وقالوا: لا نبيّ بعد هذا ... فضلّ القوم بين غد وأمس
ومهما عشت في دنياك هذي ... فما يخليك من قمر وشمس
إذا قلت المحال رفعت صوتي ... وإن قلت الصّحيح أطلت همسي
وقال:
تاه النّصارى والحنيفية ما اهتدت ... ويهود بطرى والمجوس مضلّلة
قسم الورى قسمين هذا عاقل ... لا دين فيه وديّن لا عقل له
انتهى.
وفيها أبو مسعود البجلي، أحمد بن محمد بن عبد الله بن عبد العزيز الرّازي الحافظ، وله سبع وثمانون سنة. توفي في المحرم ببخارى، وكان كثير الترحال، طوّف، وجمع، وصنّف الأبواب، وروى عن أبي عمرو بن حمدون، وحسينك التميمي، وطبقتهما. وهو ثقة.
قال ابن ناصر الدّين [2] : كان حافظا صدوقا بين الأصحاب تاجرا تقيا، صنّف على الأبواب.
وفيها أبو عثمان الصّابوني، شيخ الإسلام، إسماعيل بن عبد الرحمن
__________
[1] البيت في «ديوان المتنبي» بشرح العكبري (3/ 260) .
[2] في «التبيان شرح بديعة البيان» (148/ ب) .(5/212)
النيسابوري الشافعي، الواعظ المفسّر المصنّف، أحد الأعلام. روى عن زاهر السّرخسي وطبقته، وتوفي في صفر، وله سبع وسبعون سنة، وأول ما جلس للوعظ وله عشر سنين.
قال ابن ناصر الدّين [1] : كان إماما حافظا، عمدة، مقدّما في الوعظ والأدب وغيرهما من العلوم، وحفظه للحديث وتفسير القرآن معلوم، ومن مصنفاته كتاب «الفصول في الأصول» .
وقال الذهبي [2] : كان شيخ خراسان في زمانه.
وقال ابن قاضي شهبة [3] : [كان أبوه من أئمة الوعظ بنيسابور] فتوفي [4] ولولده هذا تسع سنين، فأجلس مكانه، وحضر أول مجلس أئمة الوقت في بلده، كالشيخ أبي الطيب الصّعلوكي، والأستاذ أبي بكر بن فورك، والأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني، ثم كانوا يلازمون مجلسه، ويتعجبون من فصاحته، وكمال ذكائه، وحسن إيراده.
قال عبد الغافر الفارسي: كان أوحد وقته في طريقته [5] ، وعظ المسلمين سبعين سنة، وخطب، وصلّى في الجامع نحوا من عشرين سنة، وكان حافظا كثير السماع والتصنيف، حريصا على العلم. سمع الكثير، ورحل ورزق العزّة والجاه في الدّين والدّنيا، وكان جمالا في البلد، مقبولا عند الموافق والمخالف، مجمعا على أنه عديم النظير، وكان سيف السنّة،
__________
[1] في «التبيان شرح بديعة البيان» (149/ آ) .
[2] انظر «العبر» (3/ 221) .
[3] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 231) .
[4] في «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة: «فقتل» وما بين حاصرتين زيادة منه لتوضيح الكلام.
[5] في «آ» و «ط» : «في طريقه» ، وما أثبته من «طبقات ابن قاضي شهبة» .(5/213)
ودافع [1] أهل البدعة، وقد طوّل عبد الغافر في ترجمته، وأطنب في وصفه.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: شيخ الإسلام صدقا وإمام المسلمين حقا، أبو عثمان الصّابوني. انتهى ملخصا.
وفيها ابن بطّال، مؤلف «شرح البخاري» أبو الحسن علي بن خلف بن عبد الملك بن البطّال القرطبي. روى عن أبي المطرّف القنازعي، ويونس بن عبد الله القاضي، وتوفي في صفر.
وفيها أبو عبد الله الخبّازي، محمد بن علي بن محمد النيسابوري المقرئ، عن سبع وسبعين سنة. روى عن أبيه القراءات، وتصدّر وصنّف فيها، وحدّث عن أبي محمد الخلدي وطبقته، وكان كبير الشأن، وافر الحرمة، مجاب الدعوة، آخر من روى عنه الفراوي.
وفيها أبو الفتح الكراجكي- أي الخيمي- رأس الشيعة، وصاحب التصانيف، محمد بن علي، مات بصور في ربيع الآخر، وكان نحويا لغويا، منجما، طبيبا، متكلّما، متفنّنا، من كبار أصحاب الشريف المرتضى، وهو مؤلّف كتاب «تلقين أولاد المؤمنين» .
__________
[1] في «آ» و «ط» : «وأفعى» وهو خطأ، والتصحيح من «طبقات ابن قاضي شهبة» ولفظة «أهل» سقطت من «آ» وأثبتها من «ط» .(5/214)
سنة خمسين وأربعمائة
فيها توفي الونّي، صاحب الفرائض، استشهد في فتنة البساسيري، وهو أبو عبد الله [الحسين بن محمد بن عبد الواحد البغدادي.
وأبو الطيب الطبري] [1] طاهر بن عبد الله بن طاهر القاضي الشافعي، أحد الأعلام. روى عن أبي أحمد الغطريقي وجماعة، وتفقّه بنيسابور على أبي الحسن الماسرجسي، وسكن بغداد، وعمّر مائة وسنتين.
قال الخطيب [2] : كان عارفا بالأصول والفروع، محقّقا، صحيح المذهب.
قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في «الطبقات» [3] :
ومنهم: شيخنا وأستاذنا أبو الطيب الطبري، توفي عن مائة وسنتين، ولم يختلّ عقله، ولا تغيّر فهمه، يفتي مع الفقهاء، ويستدرك عليهم الخطأ، ويقضي ويشهد، ويحضر المواكب، إلى أن مات. تفقه بآمل على الزجاجي [4] ، صاحب ابن القاص، وقرأ على أبي سعد الإسماعيلي، وأبي القاسم بن كجّ
__________
[1] ما بين حاصرتين سقط من «آ» و «ط» واستدركته من «العبر» (3/ 224) مصدر المؤلف في نقله.
[2] انظر «تاريخ بغداد» (9/ 359) .
[3] انظر «طبقات الفقهاء» للشيرازي ص (127- 128) .
[4] تحرّف في «آ» إلى «الزجّاج» وأثبت ما في «ط» وهو الصواب.(5/215)
بجرجان، ثم ارتحال إلى نيسابور، وأدرك أبا الحسن الماسرجسي، وصحبه أربع سنين، ثم ارتحل إلى بغداد، وعلّق على أبي محمد البافي [الخوارزمي] صاحب الداركي، وحضر مجلس أبي حامد [الإسفراييني] . ولم أر ممّن رأيت أكمل اجتهادا، وأشد تحقيقا، وأجود نظرا منه. شرح «مختصر المزني» وصنّف في الخلاف، والمهذب، والأصول، والجدل، كتبا كثيرة، ليس لأحد مثلها، ولازمت مجلسه بضع عشرة سنة، ودرّست أصحابه في مجلسه بإذنه، ورتبني في حلقته، وسألني أن أجلس في مجلسه [1] للتدريس، ففعلت في سنة ثلاثين وأربعمائة، أحسن الله عني جزاءه ورضي عنه.
وقال الخطيب البغدادي [2] : كان أبو الطيب ورعا، عارفا بالأصول والفروع، محقّقا، حسن الخلق، صحيح المذهب، اختلفت إليه، وعلّقت عنه الفقه سنين.
وقال: سمعت أبا بكر محمد بن محمد المؤدّب، سمعت أبا محمد البافي يقول: أبو الطيب أفقه من أبي حامد الإسفراييني، وسمعت أبا حامد [الإسفراييني] يقول: أبو الطيب أفقه من أبي محمد البافي.
وعن القاضي أبي الطيب أنّه رأى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في المنام، وقال له:
«يا فقيه» وأنّه كان يفرح بذلك ويقول: سمّاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقيها.
وقال القاضي أبو بكر الشامي: قلت للقاضي أبي الطيب- وقد عمّر-: لقد متّعت بجوارحك أيّها الشيخ، فقال: ولم لا؟ وما عصيت الله بواحدة منها قطّ، أو كمال قال.
وقال ابن الأهدل: بلغ أبو الطيب مبلغا في العلم، والدّيانة، وسلامة الصدر، وحسن السمت والخلق، وعليه تفقّه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وولي القضاء ببغداد بربع الكرخ دهرا طويلا، وعاش مائة وسنتين، ويقال:
__________
[1] في «طبقات الفقهاء» : «في مسجد» .
[2] انظر «تاريخ بغداد» (9/ 358- 360) .(5/216)
وعشرين، ولم يضعف جسده ولا عقله، حتّى حكي أنّه اجتاز بنهر يحتاج إلى وثبة عظيمة، فوثب وقال، أعظما حفظها الله في صغرها، فقوّاها في كبرها، وكان يحضر المواكب في دار الخلافة، ويقول الشعر، ومن شعره من ألغز به على أبي العلاء المعرّي:
وما ذالت درّ لا يحلّ لحالب ... تناولها واللّحم منها محلل
في أبيات في هذا المعنى، فأجابه المعرّي ارتجالا:
جوابان عن هذا السؤال كلاهما ... صواب وبعض القائلين مضلّل
فمن ظنّه كرما فليس بكاذب ... ومن ظنّه نخلا فليس يجهّل
يكلّفني القاضي الجليل مسائلا [1] ... هي البحر قدرا بل أعزّ وأطول
فأجابه القاضي يثني عليه وعلى علمه وبديهته، فأجابه المعرّيّ أيضا:
فؤادك معمور من العلم آهل ... وجدّك في كل المسائل مقبل
فإن كنت بين النّاس غير مموّل ... فأنت من الفهم المصون مموّل
كأنّك من في الشّافعيّ مخاطب ... ومن قلبه تملي فما تتمهّل
وكيف يرى علم ابن إدريس دارسا ... وأنت بإيضاح الهدى متكفّل
تجمّلت الدّنيا بأنّك فوقها ... ومثلك حقّا من به يتجمّل
وفيها أبو الفتح بن شيطا، مقرئ العراق، ومصنّف «التذكار في القراءات العشر» عبد الواحد بن الحسين بن أحمد. أخذ عن الحمامي وطائفة، وحدّث عن محمد بن إسماعيل الورّاق [2] وجماعة، وتوفي في صفر، وله ثمانون سنة.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «انحلال مسائل» وما أثبته من «مرآة الجنان» (3/ 70) أصل كتاب ابن الأهدل.
[2] في «آ» و «ط» : «البراق» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» (3/ 225) وانظر «معرفة القرّاء الكبار» (1/ 415) .(5/217)
وفيها أبو الحسن [1] علي بن بقا المصري الورّاق الناسخ، محدّث ديار مصر. روى عن القاضي أبي الحسن الحلبي وطائفة، وكتب الكثير.
وفيها الماوردي أقضى القضاة، أبو الحسن، علي بن محمد بن حبيب البصري الشافعي، مصنّف «الحاوي» و «الإقناع» و «أدب الدّنيا والدّين» وكان إماما في الفقه، والأصول، والتفسير، بصيرا بالعربية، ولي قضاء بلاد كثيرة، ثم سكن بغداد، وعاش ستا وثمانين سنة. تفقه على أبي القاسم الصّيمري بالبصرة، وعلى أبي حامد ببغداد، وحدّث عن الحسن الجيلي صاحب أبي خليفة الجمحي وجماعة، وآخر من روى عنه أبو العزّ بن كادش.
قال ابن قاضي شهبة [2] : هو أحد أئمة أصحاب الوجوه.
قال الخطيب [3] : كان ثقة، من وجوه الفقهاء الشافعيين، وله تصانيف عدّة في أصول الفقه وفروعه، وفي غير ذلك. وكان ثقة، ولي قضاء بلدان شتى، ثم سكن بغداد.
وقال ابن خيرون: كان رجلا عظيم القدر، متقدما عند السلطان، أحد الأئمة، له التصانيف الحسان في كل فن من العلم، وذكره ابن الصلاح في «طبقاته» وأتّهم بالاعتزال في بعض المسائل بحسب ما فهم عنه في «تفسيره» في موافقة المعتزلة فيها، ولا يوافقهم في جميع أصولهم، ومما خالفهم فيه، أن الجنة مخلوقة. نعم يوافقهم في القول في القدر، وهي بلية غلبت [4] على البصريين. توفي في ربيع الأول، سنة خمسين، بعد موت أبي الطيب بأحد عشر يوما عن ست وثمانين سنة.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «أبو الحسين» والتصحيح من «العبر» (3/ 225) و «حسن المحاضرة» (1/ 374) .
[2] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 240) .
[3] انظر «تاريخ بغداد» (12/ 102) .
[4] لفظة «غلبت» سقطت من «ط» .(5/218)
وذكر ابن خلّكان في «الوفيات» [1] أنه لم يكن أبرز شيئا من مصنفاته في حياته، وإنما أوصى رجلا من أصحابه إذا حضره الموت أن يضع يده في يده، فإن رآه قبض على يده فلا يخرج من مصنفاته شيئا وإن رآه بسط يده أي علامة قبولها، فليخرجها.
ومن تصانيفه «الحاوي» .
قال الإسنوي [2] : ولم يصنّف مثله، وكتاب «الأحكام السلطانية» وهو تصنيف عجيب مجلد، و «الإقناع» مختصر، يشتمل على غرائب، و «التفسير» ثلاث مجلدات، و «أدب الدّين والدّنيا» وغير ذلك. انتهى ما ذكره ابن شهبة ملخصا.
وقال ابن الأهدل: لما خرج المارودي من بغداد إلى البصرة أنشد أبيات ابن الأحنف:
أقمنا كارهين لها فلما ... ألفناها خرجنا مكرهينا
وما حب البلاد بنا ولكن ... أمرّ العيش فرقة من هوينا
خرجت أقرّ ما كانت لعيني ... وخلّفت الفؤاد بها رهينا
وهو منسوب إلى بيع الماورد. انتهى.
وفيها أبو القاسم الخفّاف، عمر بن الحسين البغدادي، صاحب المشيخة. روى عن ابن المظفر وطبقته.
وفيها أبو منصور السّمعاني، محمد بن عبد الجبّار القاضي المروزي الحنفي، والد العلّامة أبي المظفر السّمعاني، مات بمرو في شوال، وكان إماما، ورعا، نحويا، لغويا، علّامة، له مصنفات.
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (3/ 282- 284) .
[2] قلت: لم يرد ما ذكره ابن قاضي شهبة في «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 387- 388) .(5/219)
وفيها منصور بن الحسين التّانئ- بالنون، نسبة إلى التنائية [1] وهي الدهقنة، ويقال لصاحب الضياع والعقار- أبو الفتح الأصبهاني المحدّث، صاحب ابن المقرئ. كان من أروى الناس عنه، توفي في ذي الحجّة، وكان ثقة.
وفيها الملك الرحيم، أبو نصر بن الملك أبي كاليجار بن الملك سلطان الدولة بن بهاء الدولة بن عضد الدولة بن ركن الدولة الحسن بن بويه الدّيلمي، آخر ملوك الدّيلم، مات محبوسا بقلعة الرّيّ في اعتقال طغرلبك.
__________
[1] انظر التعليق الذي كتبه حول هذه النسبة العلّامة الشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني رحمه الله تعالى على «الأنساب» (3/ 13) .(5/220)
سنة إحدى وخمسين وأربعمائة
فيها توفي ابن سميق، أبو عمر، أحمد بن يحيى بن أحمد بن سميق القرطبي، نزيل طليطلة، ومحدّث وقته. روى عن أبي المطرّف بن فطيس، وابن أبي زمنين، وطبقتهما، وكان قوي المشاركة في عدة علوم، حتّى في الطب، مع العبادة والجلالة، وعاش ثمانين سنة.
وفيها الأمير المظفّر أبو الحارث أرسلان بن عبد الله البساسيري التّركي، مقدّم الأتراك ببغداد، يقال: إنه كان مملوك بهاء الدولة بن بويه، وهو الذي خرج على الإمام القائم بأمر الله ببغداد، وكان قدّمه على جميع الأتراك، وقلّده الأمور بأسرها، وخطب له على منابر العراق، وخوزستان، فعظم أمره، وهابته الملوك، ثم خرج على الإمام القائم بأمر الله من بغداد، وخطب للمستنصر العبيدي صاحب مصر، فراح الإمام القائم إلى أمير العرب محيي الدّين أبي الحارث مهارش بن المجلّي العقيلي صاحب الحديثة وأعانه [1] ، فآواه، وقام بجميع ما يحتاج إليه مدة سنة كاملة، حتّى جاء طغرلبك السلجوقي، وقاتل البساسيري المذكور، وقتله، وعاد القائم إلى بغداد، وكان دخوله إليها في مثل اليوم الذي خرج منها، بعد حول كامل، وكان ذلك من غرائب [2] الاتفاق، وقصته مشهورة، قتله عسكر السلطان
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «وعانه» .
[2] في «آ» و «ط» ، «من غريب» وما أثبته من «وفيات الأعيان» .(5/221)
طغرلبك السلجوقي ببغداد يوم الخميس، منتصف ذي الحجة، وطيف برأسه في بغداد، وصلب قبالة باب النوبي.
والبساسيري: بفتح الباء الموحدة والسين المهملة، وبعد الألف سين مكسورة، ثم ياء ساكنة مثناة من تحتها، وبعدها راء، هذه النسبة إلى بلدة بفارس يقال لها بسا [1] وبالعربية فسا [1] ، والنسبة إليها بالعربية فسوي، ومنها الشيخ أبو علي الفارسي النحوي، وأهل فارس يقولون في النسبة إليها البساسيري، وهي نسبة شاذة على خلاف الأصل، وكان سيد أرسلان المذكور من بسا، فنسب إليه المملوك، واشتهر بالبساسيري. قاله ابن خلّكان [2] .
وفيها أبو عثمان النّجيرمي- بفتح النون والراء، وكسر الجيم، نسبة إلى نجيرم، محلة بالبصرة [3]- سعيد بن محمد بن أحمد بن محمد النيسابوري، محدّث خراسان ومسندها. روى عن جدّه أبي الحسين، وأبي عمرو بن حمدان وطبقتهما، ورحل إلى مرو، وإسفرايين، وبغداد، وجرجان، وتوفي في ربيع الآخر.
وفيها أبو المظفّر عبد الله بن شبيب الضبّي، مقرئ أصبهان، وخطيبها، وواعظها، وشيخها، وزاهدها، أخذ القراءات عن أبي الفضل الخزاعي، وسمع من أبي عبد الله بن مندة وغيره، وتوفي في صفر.
وفيها أبو الحسن الزّوزني- بفتح الزايين وسكون الواو، نسبة إلى زوزن، بلد بين هراة ونيسابور- علي بن محمود بن ماخرة، شيخ الصوفية
__________
[1] قال ياقوت في «معجم البلدان» (1/ 412) : بسا: بالفتح، ويعرّبونها فيقولون فسا، مدينة بفارس.
[2] انظر «وفيات الأعيان» (1/ 192- 193) .
[3] وقال ياقوت في «معجم البلدان» (5/ 274) : نجيرم: بليدة مشهورة دون سيراف مما يلي البصرة على جبل هناك على ساحل البحر.(5/222)
ببغداد، في رمضان، عن خمس وثمانين سنة. وكان كثير الأسفار، سمع بدمشق عن عبد الوهاب الكلابي وجماعة.
وفيها أبو طالب العشاري، محمد بن علي بن الفتح الحربي الصالح.
روى عن الدّارقطني وطبقته، وعاش خمسا وثمانين سنة، وكان جسده طويلا، فلقبوه العشاري، وكان فقيها حنبليا، تخرّج على أبي حامد، وقبله على ابن بطة، وكان خيّرا، عالما، زاهدا.
قال ابن أبي يعلي في «طبقات الحنابلة» [1] : كان العشاري من الزهّاد، صحب أبا عبد الله بن بطة، وأبا حفص البرمكي، وأبا عبد الله بن حامد.
وقال ابن الطيوري: قال في بعض أهل البادية: إنا [2] إذا قحطنا [3] استسقينا بابن العشاري، فنسقى.
وقال: لما قدم عسكر طغرلبك، لقي بعضهم ابن العشاري في يوم الجمعة، فقال له: أيش معك يا شيخ؟ قال: ما معي شيء، ونسي أن في جيبه نفقة، ثم ذكر، فنادى بذلك القائل له، وأخرج ما في جيبه وتركه بيده، وقال: هذا معي، فها به ذلك الشيخ، وعظّمه ولم يأخذه.
وله كرامات كثيرة. مولده سنة ستين وثلاثمائة، وموته يوم الثلاثاء تاسع عشري جمادى الأولى، سنة إحدى وخمسين وأربعمائة، ودفن في مقبرة إمامنا بجنب أبي عبد الله بن طاهر، وكان كل واحد منهما، زوجا لأخت الآخر.
انتهى ملخصا.
__________
[1] (2/ 192) .
[2] لفظة «إنّا» لم ترد في «طبقات الحنابلة» الذي بين يدي.
[3] في «طبقات الحنابلة» : «قحطتنا» .(5/223)
سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة
فيها توفي الماهر، أبو الفتح أحمد بن عبيد الله بن فضال الحلبي الموازيني [1] الشاعر المفلق بالشام.
وفيها علي بن حميد أبو الحسن الذّهلي إمام جامع همذان، وركن السّنّة والحديث بها. روى عن أبي بكر بن لال وطبقته، وقبره يزار ويتبرك به.
وفيها القزويني، محمد بن أحمد بن علي المقرئ، شيخ الإقراء بمصر. أخذ عن طاهر بن غلبون، وسمع من أبي الطيب والد طاهر، وعبد الوهاب الكلابي، وطائفة، وتوفي في ربيع الآخر.
قال في «حسن المحاضرة» [2] : وقرأ عليه يحيى الخشّاب، وعلي بن بليمة. انتهى.
وفيها ابن عمروس أبو الفضل، محمد بن عبيد الله البغدادي، الفقيه المالكي.
قال الخطيب [3] : انتهت إليه الفتوى ببغداد، وكان من القرّاء المجودين. حدّث عن ابن شاهين وجماعة، وعاش ثمانين سنة.
__________
[1] انظر «مختصر تاريخ دمشق» لابن منظور (3/ 148- 149) .
[2] (1/ 493) .
[3] انظر «تاريخ بغداد» (2/ 339) .(5/224)
سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة
فيها توفي أبو العبّاس بن نفيس، شيخ القرّاء، أحمد بن سعيد بن أحمد بن نفيس المصري في رجب، وقد نيّف على التسعين، وهو أكبر شيخ لابن الفحّام. قرأ على السّامري، وأبي عديّ عبد العزيز، وسمع من أبي القاسم الجوهري وطائفة، وانتهى إليه علو الإسناد في القراءات، وقصد من الآفاق.
وفيها صاحب ميّافارقين، وديار بكر، نصر الدولة أحمد بن مروان بن دوستك الكردي، أبو نصر، كان عاقلا، حازما، عادلا، لم يفته الصبح، مع انهماكه على اللّذات، وكان له ثلاثمائة وستون سرّية، يخلو كل ليلة بواحدة، وكانت دولته إحدى وخمسين سنة، وعاش سبعا وسبعين سنة، وقام بعده ولده نصر.
وقال ابن خلّكان [1] : ملك البلاد بعد أن قتل أخوه أبو سعيد منصور بن مروان في قلعة الهتّاخ [2] ليلة الخميس، خامس جمادى الأولى، سنة إحدى وأربعمائة، وكان رجلا مسعودا، عالي الهمّة، حسن السياسة، كثير الحزم، قضى من اللذات وبلغ من السعادة ما يقصر الوصف عن شرحه. وكان قد قسم أوقاته، فمنها ما ينظر فيه في مصالح دولته، ومنها ما يتوفر فيه على لذّاته والاجتماع بأهله، وخلّف أولادا كثيرة، وقصده شعراء عصره، ومدحوه وخلّدوا مدائحه في دواوينهم.
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (1/ 177- 178) .
[2] قال ياقوت: الهتّاخ: قلعة حصينة في ديار بكر قرب ميّافارقين. انظر «معجم البلدان» (5/ 392) .(5/225)
ومن جملة سعاداته أنه وزر له وزيران كانا وزيري خليفتين، أحدهما أبو القاسم الحسين بن علي، المعروف بابن المغربي، صاحب «الديوان» - الشعر، والرسائل- والتصانيف، المشهورة. كان وزير خليفة مصر وانفصل عنه، وقدم على الأمير أبي نصر المذكور فوزر له مرتين، والآخر فخر الدولة أبو نصر بن جهير، كان وزير، ثم انتقل إلى وزارة بغداد.
ولم يزل على سعادته وقضاء أوطاره إلى أن توفي تاسع عشري شوال.
انتهى ملخصا.
وفيها أبو مسلم، عبد الرحمن بن غزو النّهاوندي العطّار. حدّث عن أحمد بن فراس العبقسي وخلق، وكان ثقة صدوقا.
وفيها أبو أحمد المعلّم عبد الواحد بن أحمد الأصبهاني، راوي مسند أحمد بن منيع، عن عبيد الله بن جميل، وروى عن جماعة، وتوفي في صفر.
وفيها علي بن رضوان أبو الحسن المصري الفيلسوف، صاحب التصانيف. كان رأسا في الطب وفي التنجيم، من أذكياء زمانه بديار مصر.
وفيها أبو القاسم السّميساطي، واقف الخانكاه قرب جامع بني أمية بدمشق- وسميساط: بضم السين المهملة الأولى وفتح الميم والسين الثانية، بينهما مثناة تحتية، وآخره طاء مهملة، بلد بالشام- علي بن محمد بن يحيى السّلمي الدمشقي. روى عن عبد الوهاب الكلابي وغيره، وكان بارعا في الهندسة، والهيئة، صاحب حشمة وثروة واسعة، عاش ثمانين سنة.
قال في «القاموس» [1] : سميساط، كطريبال بسينين، بلد [2] بشاطئ
__________
[1] انظر «القاموس المحيط» ص (867) طبع مؤسسة الرسالة، وانظر «معجم البلدان» (3/ 258) .
[2] في «آ» : «بلدة» .(5/226)
الفرات، منه الشيخ أبو القاسم علي بن محمد بن يحيى السّلمي الدّمشقي السّميساطي، من أكابر الرؤساء والمحدّثين بدمشق، وواقف الخانقاه بها.
انتهى.
وفيها قريش [1] بن بدران بن مقلّد بن المسيّب العقيلي أبو المعالي، صاحب الموصل، وليها عشر سنين، وذبح عمّه قرواش بن مقلّد صبرا، ومات بالطاعون عن إحدى وخمسين سنة، وقام بعده ابنه شرف الدولة مسلم، الذي استولى على ديار ربيعة ومضر [2] ، وحلب، وحاصر دمشق، فكاد أن يملكها، وأخذ الحمل من بلاد الرّوم.
وفيها أبو سعيد الكنجرودي- بفتح الكاف والجيم بينهما نون ساكنة وآخره دال مهملة نسبة إلى كنجرود قرية بنيسابور ويقال لها جنزرود [3]- محمد بن عبد الرحمن بن محمد النيسابوري الفقيه النحوي، الطبيب الفارس.
قال عبد الغافر: له قدم في الطب، والفروسية، وأدب السلاح، وكان بارع وقته لاستجماعه فنون العلم. حدّث عن أبي عمرو بن حمدان وطبقته، وكان مسند خراسان في عصره، وتوفي في صفر.
__________
[1] تحرّف في «آ» إلى «قرويش» .
[2] في «آ» و «ط» : «ومصر» وهو تصحيف، والتصحيح من «العبر» (3/ 232) .
[3] تنبيه: كذا قال المؤلف رحمه الله وهو خطأ، والصواب: «الكنجرودي» نسبة إلى «كنجروذ» وهي قرية على باب نيسابور، في ربضها، وتعرّب، فيقال لها: «جنزروذ» . قاله السمعاني في «الأنساب» (10/ 479) وانظر «معجم البلدان» (4/ 481- 482) و «سير أعلام النبلاء» (18/ 101) .(5/227)
سنة أربع وخمسين وأربعمائة
فيها زادت [1] دجلة إحدى وعشرين ذراعا، وغرقت بغداد وبلاد.
وفيها التقى صاحب حلب، معز الدولة ثمال بن صالح الكلابي، وملك الرّوم على أرتاح [2] من أعمال حلب، وانتصر المسلمون، وغنموا، وسبوا، حتى بيعت السّرّية الحسناء بمائة درهم، وبعدها بيسير، توفي ثمال بحلب.
وفيها توفي أبو سعد بن أبي شمس النيسابوري أحمد بن إبراهيم بن موسى، المقرئ المجود، الرئيس الكامل، توفي في شعبان، وهو في عشر التسعين. روى عن أبي محمد المخلدي وجماعة، وروى «الغاية في القراءات» عن ابن مهران المصنف [3] .
وفيها أبو محمد الجوهري، الحسن بن علي الشيرازي، ثم البغدادي المقنّعي، لأنه كان يتطيلس ويلفّها من تحت حنكه. انتهى إليه علو الرواية في الدّنيا، وأملى مجالس كثيرة، وكان صاحب حديث. روى عن أبي بكر القطيعي، وأبي عبد الله العسكري، وعلي بن لؤلؤ، وطبقتهم، وعاش نيّفا وتسعين سنة، وتوفي في سابع ذي القعدة.
__________
[1] في «العبر» : «بلغت» . (ع) .
[2] قال ياقوت في «معجم البلدان» (1/ 140) : أرتاح: اسم حصن منيع، كان من العواصم من أعمال حلب.
[3] في «آ» و «ط» : «المص» والتصحيح من «العبر» (3/ 233) مصدر المؤلّف.(5/228)
وفيها أبو نصر، زهير بن الحسن السرخسي، الفقيه الشافعي، مفتي خراسان. أخذ ببغداد عن أبي حامد الإسفراييني ولزمه، وعلّق عنه تعليقة مليحة، وروى عن زاهر السرخسي، والمخلّص وجماعة، وتوفي بسرخس، وقيل: توفي سنة خمس وخمسين. قاله في «العبر» [1] .
وقال الإسنوي [2] : ولد بسرخس، بعد السبعين وثلاثمائة، وتفقه على الشيخ أبي حامد، وبرع في الفقه، وسمع الكثير من جماعة، منهم: زاهر السرخسي، ورجع إلى سرخس، ودرّس بها، وأسمع إلى أن مات [3] سنة خمس وخمسين وأربعمائة. انتهى.
وفيها عبد الرحمن بن أحمد بن الحسن بن بندار العجلي، أبو الفضل الرّازي، الإمام المقرئ الزاهد، أحد العلماء العاملين.
قال أبو سعد السمعاني [4] : كان مقرئا [فاضلا] كثير التصانيف، زاهدا، [متعبّدا] ، خشن العيش، قانعا، منفردا عن الناس، يسافر وحده ويدخل البراري.
سمع بمكّة من ابن فراس، وبالرّيّ من جعفر بن فنّاكي، وبنيسابور من السّلمي، وبنسإ من محمد بن زهير النّسوي، وبجرجان من أبي نصر بن الإسماعيلي، وبأصبهان من ابن مندة الحافظ، وببغداد، والبصرة، والكوفة، وحرّان، وفارس، ودمشق، ومصر، وكان من أفراد الدّهر. قاله في «العبر» [5] .
__________
[1] (3/ 234) .
[2] انظر «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 42) .
[3] في «آ» و «ط» : «إلى زمان» والتصحيح من «طبقات الشافعية» للإسنوي.
[4] انظر «سير أعلام النبلاء» (18/ 137- 138) وما بين حاصرتين مستدرك منه وقد عزا الذهبي النقل إلى «الذيل» للسمعاني.
[5] (3/ 234) .(5/229)
وفيها أبو حفص الزّهراوي، عمر بن عبيد الله الذّهلي القرطبي، محدّث الأندلس، مع ابن عبد البرّ، توفي في صفر، عن ثلاث وتسعين سنة. روى عن عبد الوارث بن سفيان، وأبي محمد بن أسد، والكبار، ولحقته في آخر عمره فاقة، فكان يستعطي، وتغيّر ذهنه.
وفيها القضاعي، القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر بن علي بن حكمون المصري، الفقيه الشافعي، قاضي الدّيار المصرية، ومصنّف كتاب «الشهاب» [1] وكتاب «مناقب الإمام الشافعي وأخباره» وكتاب «الإنباء عن الأنبياء» و «تواريخ الخلفاء» وكتاب «خطط مصر» .
قال ابن ماكولا [2] : كان متفنّنا في عدة علوم، لم أر بمصر من يجري مجراه.
وقال في «العبر» [3] : روى عن أبي مسلم الكاتب فمن بعده، وذكر السمعاني في «الذيل» في ترجمة الخطيب البغدادي، أنه حجّ سنة خمس وأربعين وأربعمائة، وحجّ تلك السنة القضاعي المذكور، وسمع منه الحديث. انتهى، وتوفي بمصر في ذي الحجة، وصلّي عليه يوم جمعة بعد العصر.
وفيها المعزّ بن باديس بن منصور بن بلكّين الحميري الصنهاجي، صاحب المغرب، وكان الحاكم العبيدي قد لقّبه شرف الدولة، وأرسل له الخلعة والتقليد، في سنة سبع وأربعمائة، وله تسعة أعوام، وكان ملكا جليلا
__________
[1] واسمه كما في «كشف الظنون» (2/ 1067) «شهاب الأخبار في الحكم والأمثال والآداب» وقد نشر في مؤسسة الرسالة ببيروت عام (1405 هـ) باسم «مسند الشهاب» في مجلدين وقام بتحقيقه وتخريج أحاديثه الأستاذ الشيخ حمدي عبد المجيد السّلفي.
[2] انظر «الإكمال» (7/ 147) وقد نقل المؤلف كلامه عن «العبر» للذهبي الذي نقله عنه باختصار.
[3] (3/ 235) .(5/230)
عالي الهمّة، محبّا للعلماء، جوادا، ممدّحا، أصيلا في الإمرة، حسن الديانة، حمل أهل مملكته على الاشتغال بمذهب مالك، وخلع طاعة العبيديين في أثناء أيامه، وخطب لخليفة العراق، فجهز المستنصر لحربه جيشا، وطال حربهم له، وخربوا حصون برقة، وإفريقية، وتوفي في شعبان بالبرص، وله ست وخمسون سنة. قاله في «العبر» [1] .
وقال ابن خلّكان [2] : كان واسطة عقد أهل [3] بيته، وكانت حضرته محط الآمال، وكان مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه بإفريقية أظهر المذاهب، فحمل المعزّ المذكور جميع أهل إفريقية [4] والمغرب على التمسك بمذهب مالك بن أنس رضي الله عنه، وحسم مادة الخلاف في المذاهب، واستمر الحال في ذلك إلى الآن.
وكان المعزّ يوما جالسا في مجلسه وعنده جماعة من الأدباء، وبين يديه أترجة ذات أصابع، فأمرهم المعز أن يعملوا فيها شيئا، فعمل أبو الحسن بن رشيق القيرواني الشاعر المشهور بيتين:
أترجة سبطة الأطراف ناعمة ... تلقى العيون بحسن غير منحوس
كأنما بسطت كفّا لخالقها ... تدعو بطول بقاء لابن باديس
انتهى ملخصا.
__________
[1] (3/ 236) .
[2] انظر «وفيات الأعيان» (5/ 233) .
[3] لفظة «أهل» لم ترد في «وفيات الأعيان» .
[4] لفظة «إفريقية» هذه لم ترد في «ط» و «وفيات الأعيان» .(5/231)
سنة خمس وخمسين وأربعمائة
فيها دخل السلطان أبو طالب محمد بن ميكال [1] ، سلطان الغزّ، المعروف بطغرلبك بغداد، فنزلوا في دور الناس، وتعرّضوا لحرمهم، حتّى إن قوما من الأتراك صعدوا إلى جامات الحمامات، ففتحوها، ثم نزلوا، فهجموا عليهنّ، وأخذوا من أرادوا منهنّ، وخرج الباقيات عراة.
ثم في ليلة الاثنين خامس عشر صفر، زفّت ابنة القائم بأمر الله إلى طغرلبك، وضربت لها سرادق من دجلة إلى الدّار، وضربت البوقات عند دخولها إلى الدّار، فجلست على سرير ملبّس بالذهب، ودخل السلطان، فقبّل الأرض، وخرج من غير أن يجلس، ولم تقم له، ولا كشفت برقعها، ولا أبصرته، وأنفذ لها عقدين فاخرين وقطعة ياقوت حمراء، ودخل من الغد، فقبّل الأرض أيضا وجلس على سرير ملبّس بالفضة بإزائها ساعدة، ثم خرج وأنفذ لها جواهر كثيرة وفرجية مكلّلة بالحب، ثم أخرجها معه من بغداد على كره إلى الرّيّ.
قال في «العبر» [2] : وهو أول ملوك السلجوقية، وأصلهم من أعمال
__________
[1] كذا في «آ» و «ط» و «غربال الزمان» ص (364) : «محمد بن ميكال» وفي معظم المصادر الأخرى «محمد بن ميكائيل» فتنبّه.
[2] (3/ 237- 238) .(5/232)
بخارى وهم أهل عمود. أول ما ملك هذا الرّيّ، ثم نيسابور، ثم أخذ أخوه داود بلخ وغيرها، واقتسما الممالك، وملك طغرلبك العراق، وقمع الرافضة، وزال به شعارهم، وكان عادلا في الجملة، حليما، كريما، محافظا على الصلوات، يصوم الخميس والاثنين، ويعمر المساجد.
ودخل بابنة القائم وله سبعون سنة، وعاش عقيما ما بشّر بولد، ومات بالرّيّ، وحملوا تابوته، فدفنوه بمرو، عند قبر أخيه داود بن جغريبك [1] .
انتهى.
وقال السيوطي في «تاريخ الخلفاء» [2] : وفي سنة أربع وخمسين، زوّج الخليفة ابنته لطغرلبك [3] ، بعد أن دافع بكل ممكن، وانزعج واستعفى، ثم لان لذلك [4] برغم منه، وهذا أمر لم ينله أحد من ملوك بني بويه، مع قهرهم للخلفاء وتحكّمهم فيهم [5] .
قلت [6] : والآن زوّج خليفة عصرنا ابنته من واحد من مماليك السلطان، فضلاء عن السلطان، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. 2: 156 ثم قدم طغرلبك في سنة خمس [وخمسين] فدخل بابنة الخليفة، وأعاد المواريث والمكوس، وضمن بغداد بمائة وخمسين ألف دينار، ثم رجع إلى الرّيّ فمات بها في رمضان، فلا عفا الله عنه! وأقيم في السلطنة بعده ابن أخيه عضد الدولة ألب أرسلان صاحب خراسان، وبعث إليه القائم بالخلع والتقليد.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «جعفر بيك» وما أثبته من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» (18/ 106) .
[2] انظر «تاريخ الخلفاء» للسيوطي ص (420) .
[3] في «آ» و «ط» : «بنته بطغرلبك» وما أثبته من «تاريخ الخلفاء» .
[4] في «آ» و «ط» : «لان الملك» وما أثبته من «تاريخ الخلفاء» .
[5] في «آ» و «ط» : «فيه» والتصحيح من «تاريخ الخلفاء» .
[6] القائل الحافظ السيوطي.(5/233)
قال الذهبي: وهو أول من ذكر بالسلطان على منابر بغداد، وبلغ ما لم يبلغه أحد من الملوك، وافتتح بلادا كثيرة من بلاد النصارى، واستوزر نظام الملك، فأبطل ما كان عليه الوزير قبله عميد الملك من سبّ الأشعرية، وانتصر [1] للشافعية، وأكرم إمام الحرمين، وأبا القاسم القشيري، وبنى النّظامية، قيل: وهي أوّل مدرسة بنيت للفقهاء. انتهى كلام السيوطي.
وطغرلبك: بضم الطاء المهملة، وسكون الغين المعجمة، وضم الراء، وسكون اللام، وفتح الموحدة، وبعدها كاف، هو اسم تركي مركب من طغرل: وهو بلغة التّرك [اسم] علم لطائر معروف عندهم، وبه سمي الرجل، وبك: معناه أمير [2] .
وفيها أحمد بن محمود أبو طاهر الثّقفي الأصبهاني المؤدّب [3] . سمع كتاب «العظمة» من أبي الشيخ، وما ظهر سماعة منه إلّا بعد موته، وكان صالحا ثقة سنّيا، كثير الحديث، توفي في ربيع الأول، وله خمس وتسعون سنة. روى عن أبي بكر بن المقرئ وجماعة.
وفيها سبط بحرويه، أبو القاسم إبراهيم بن منصور السّلمي الكرّاني [4] الأصبهاني. صالح، ثقة، عفيف. روى «مسند أبي يعلى» عن ابن المقرئ، ومات في ربيع الأول، وله ثلاث وتسعون سنة.
وفيها أبو يعلى الصّابوني إسحاق بن عبد الرحمن النيسابوري [5] ، أخو شيخ الإسلام أبي عثمان. روى عن عبد الله بن محمد بن عبد الوهّاب الرّازي،
__________
[1] في «آ» و «ط» : «فانتصر» وأثبت لفظ «تاريخ الخلفاء» .
[2] انظر «وفيات الأعيان» (5/ 68) .
[3] انظر «سير أعلام النبلاء» (18/ 123- 124) .
[4] تحرّفت في «آ» إلى «الكيرواني» وفي «ط» إلى «الكيراني» والتصحيح من «الأنساب» (10/ 378) و «سير أعلام النبلاء» (18/ 73) .
[5] انظر «سير أعلام النبلاء» (18/ 75- 76) .(5/234)
وأبي محمد المخلدي، وطبقتهما، وكان صوفيا مطبوعا، ينوب عن أخيه في الوعظ، توفي في ربيع الآخر وقد جاوز الثمانين.
وفيها محمد بن محمد بن حمدون السّلمي، أبو بكر النيسابوري، آخر من روى عن أبي عمرو بن حمدان، توفي في المحرم.(5/235)
سنة ست وخمسين وأربعمائة
فيها على ما قاله في «الشذور» غزا السلطان أبو الفتح ملكشاه الرّوم، ودخل بلدا لهم فيه سبعمائة ألف دار وألف بيعة ودير، فقتل ما لا يحصى، وأسر خمسمائة ألف.
وفيها نازل ألب أرسلان هراة، فأخذها من عمّه، ولم يؤذه وتسلّم الرّيّ وسار إلى أذربيجان، وجمع الجيوش، وغزا الرّوم، فافتتح عدة حصون، وهابته الملوك. وعظم سلطانه، وبعد صيته، وتوفر الدعاء له، لكثرة ما افتتح من بلاد النصارى، ثم رجع إلى أصبهان ومنها إلى كرمان، وزوّج ابنه ملكشاه بابنة خاقان صاحب ما وراء النهر، وابنه أرسلان شاه بابنة صاحب غزنة، فوقع الائتلاف، واتفقت الكلمة، ولله الحمد.
وفيها توفي الحافظ عبد العزيز بن محمد بن محمد بن عاصم الأستغداديزي- بضم أوله والفوقية وسكون السين المهملة [وضم التاء المثناة] والغين المعجمة ثم مهملتين بينهما ألف، ثم تحتية وزاي، نسبة إلى أستغداديزة من قرى نسف [1]- النّخشبي، ونخشب هي نسف. روى عن جعفر المستغفري وابن غيلان، وطبقتهما، بخراسان، وأصبهان، والعراق،
__________
[1] انظر «معجم البلدان» (1/ 175) وما بين حاصرتين مستدرك منه.(5/236)
والشام، ومات كهلا، وكان من كبار الحفّاظ الرحّالين، والأئمة المخرّجين المصنّفين.
وفيها أبو القاسم عبد الواحد بن علي بن برهان العكبري النحوي، صاحب التصانيف.
قال الخطيب [1] : كان مضطلعا بعلوم كثيرة، منها: النحو، واللغة، و [معرفة] النسب، وأيام العرب، و [أخبار] المتقدمين، وله أنس شديد بعلم الحديث.
وقال ابن ماكولا [2] : سمع من ابن بطة، وذهب بموته عليم العربية من بغداد. وكان أحد [3] من يعرف الأنساب، لم أر مثله وكان فقيها حنفيا، أخذ علم الكلام عن أبي الحسين البصري، وتقدم فيه.
وقال ابن الأثير [4] : له اختيار في الفقه، وكان يمشي [5] في الأسواق مكشوف الرأس، ولا يقبل من أحد شيئا، مات في جمادى الآخرة، وقد جاوز الثمانين، وكان يميل إلى إرجاء المعتزلة [6] ويعتقد أن الكفّار لا يخلّدون في النار. قاله في «العبر» [7] .
وفيها ابن رشيق القيرواني، أبو علي الحسن بن رشيق [8] ، أحد الأفاضل البلغاء، له التصانيف الحسنة، منها كتاب «العمدة في صناعة الشعر
__________
[1] انظر «تاريخ بغداد» (11/ 17) .
[2] انظر «الإكمال» (1/ 246- 247) .
[3] في «الإكمال» : «آخر» .
[4] انظر «الكامل في التاريخ» (10/ 42- 43) .
[5] لفظة «يمشي» سقطت من «آ» وأثبتها من «ط» و «الكامل» .
[6] كذا في «آ» و «ط» و «العبر» وفي «الكامل» : «إلى مذهب مرجئة المعتزلة» .
[7] (3/ 239- 240) .
[8] انظر «وفيات الأعيان» (2/ 85- 89) مصدر المؤلف.(5/237)
ونقده وعيوبه» وكتاب «الأنموذج» والرسائل الفائقة، والنظم الجيد.
قال ابن بسام في كتاب «الذخيرة» [1] : بلغني أنه ولد بالمسيلة، وتأدب بها قليلا، ثم ارتحل إلى القيروان سنة ست وأربعمائة.
وقال غيره: ولد بالمهدية سنة تسعين وثلاثمائة، وأبوه مملوك رومي من موالي الأزد، وكانت صنعة أبيه في بلده المحمدية الصياغة، فعلّمه أبوه صنعته، وقرأ الأدب بالمحمدية، وقال الشعر، وتاقت نفسه إلى التزيّد منه، وملاقاة أهل الأدب، فرحل إلى القيروان، واشتهر بها، ومدح صاحبها، واتصل بخدمته، ولم يزل بها إلى أن هاجم [2] العرب القيروان، وقتلوا أهلها، وأخربوها، فانتقل إلى جزيرة صقلية، وأقام بها إلى أن مات، ومات في هذه السنة، وقيل: سنة ثلاث وستين وأربعمائة، وهو الأصح [3] ، ومن شعره:
أحبّ أخي وإن أعرضت عنه ... وقلّ على مسامعه كلامي
ولي في وجهه تقطيب راض ... كما قطّبت في وجه المدام
وربّ تقطّب من غير بغض ... وبغضّ كان من تحت ابتسام
ومن شعره:
يا ربّ لا أقوى على دفع الأذى ... وبك استعنت [4] على الضعيف الموذي
مالي بعثت إليّ ألف بعوضة ... وبعثت واحدة إلى نمروذ؟
ومن شعره ما حكاه ابن بسام:
أسلمني حبّ سليمانكم ... إلى هوى أيسره القتل
__________
[1] انظر «الذخيرة» في محاسن أهل الجزيرة» لابن بسام القسم الرابع، المجلد الثاني، ص (597) .
[2] في «آ» و «ط» : «وهجم» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[3] في «آ» : «على الأصح» وأثبت لفظ «ط» .
[4] في «الذخيرة» : «استغثت» .(5/238)
قالت لنا جند ملاحاته ... لما بدا ما قالت النمل؟ [1]
قوموا ادخلوا مسكنكم قبل أن ... تحطمكم أعينه [2] النجل
ومن لطيف شعره ما نقله الدّميري:
فكّرت ليلة وصلها في صدّها ... فجرت بقايا أدمعي كالعندم
فطفقت أمسح مقلتي في نحرها ... إذ عادة الكافور إمساك الدّم
ومن تصانيفه أيضا «قراضة الذهب» وهو كتاب لطيف الجرم [3] كبير الفائدة، رحمه الله تعالى.
وفيها أبو شاكر، عبد الواحد بن محمد التّجيبيّ القبريّ [4] ، نزيل بلنسية، وأجاز له أبو محمد بن أبي زيد، وسمع من أبي محمد الأصيلي، وأبي حفص بن نابل [5] ، وولي القضاء والخطابة ببلنسية، وعمّر.
وفيها أبو محمد بن حزم، العلّامة علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح الأموي مولاهم، الفارسي الأصل، الأندلسي القرطبي الظاهري، صاحب المصنّفات. مات مشردا عن بلده من قبل الدولة ببادية لبلة- بفتح اللّامين، وبينهما موحدة، بلدة بالأندلس- بقرية له ليومين بقيا من شعبان، عن اثنتين وسبعين سنة. روى عن أبي عمر بن الجسور، ويحيى بن
__________
[1] كذا رواية البيت في «آ» و «ط» و «وفيات الأعيان» (2/ 88) وفي «الذخيرة» القسم الرابع المجلد الثاني ص (612) .
لما بدا جند ملاحته ... قال الورى ما قالت النمل
[2] في «الذخيرة» : «أجفانه» .
[3] كذا في «آ» و «ط» و «وفيات الأعيان» وعلّق محقّقه بقوله: في النسخة «ج» : «لطيف الحجم» وجاء في «لسان العرب» (جرم) : والجرم: بالكسر: الجسد. قلت: ولعلّ ابن خلّكان أراد «لطيف الهيئة والحجم» فعبّر عن ذلك بقوله: «لطيف الجرم» وتبعه ابن العماد، والله أعلم.
[4] في «آ» و «ط» : «القنبري» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» (3/ 240) مصدر المؤلف وانظر «جذوة المقتبس» ص (290) و «الصلة» (2/ 384) و «سير أعلام النبلاء» (18/ 179) .
[5] في «آ» و «ط» : «ابن نابك» وهو خطأ، والتصحيح من «الصلة» و «العبر» و «سير أعلام النبلاء» .(5/239)
مسعود، وخلق، وأول سماعه سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، وكان إليه المنتهى في الذكاء، وحدّة الذهن، وسعة العلم بالكتاب، والسّنّة، والمذاهب، والملل والنّحل، والعربية، والآداب، والمنطق، والشعر، مع الصدق والدّيانة والحشمة، والسؤدد، والرئاسة، والثروة، وكثرة الكتب.
قال الغزالي: وجدت في أسماء الله تعالى كتابا لأبي محمد بن حزم يدل على عظم حفظه وسيلان ذهنه.
وقال صاعد [1] في «تاريخه» : كان ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام، وأوسعهم [معرفة] مع توسعه في علم اللّسان، والبلاغة، والشعر، والسّير، والأخبار، أخبرني ابنه الفضل، أنه اجتمع عنده بخط أبيه من تآليفه نحو أربعمائة مجلد. قاله في «العبر» [2] .
وقال ابن خلّكان [3] : كان حافظا، عالما بعلوم الحديث [وفقهه] ، مستنبطا للأحكام من الكتاب والسّنّة، بعد أن كان شافعي المذهب، فانتقل إلى مذهب أهل الظاهر، وكان متفننا في علوم جمّة، عاملا بعلمه، زاهدا في الدّنيا بعد الرئاسة التي كانت له ولأبيه من قبله في الوزارة وتدبير الملك، متواضعا، ذا فضائل [جمّة] وتآليف كثيرة، وجمع من الكتب في علم الحديث، والمصنفات، والمسندات، شيئا كثيرا، وسمع سماعا جمّا. وألّف في فقه الحديث كتابا سمّاه كتاب «الإيصال إلى فهم كتاب الخصال [4]
__________
[1] في «آ» و «ط» : «ابن صاعد» والتصحيح من «العبر» ، وهو صاعد بن أحمد الأندلسي التغلبي أبو القاسم، المتوفى سنة (462) هـ-. انظر ترجمته ومصادرها في «الأعلام» للزركلي (3/ 186) .
[2] (3/ 241) وما بين حاصرتين استدركته منه.
[3] انظر «وفيات الأعيان» (3/ 325- 330) .
[4] في «آ» و «ط» : «الإيصال إلى الفهم وكتاب الخصال ... » إلخ والتصحيح من «وفيات الأعيان» وانظر «جذوة المقتبس» ص (308- 309) و «كشف الظنون» (1/ 704) .(5/240)
الجامعة نحل شرائع الإسلام في الواجب والحلال والحرام والسّنّة والإجماع» أورد فيه أقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين رضي الله عنهم أجمعين، وله كتاب في مراتب العلوم وكيفية طلبها وتعلق بعضها ببعض، وكتاب «إظهار تبديل اليهود والنصارى التوراة والإنجيل وبيان ناقض ما بأيديهم من ذلك مما لا يحتمل التأويل» وهذا معنى لم يسبق إليه وكتاب «التقريب بحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية [والأمثلة الفقهية] » إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة، وكان له كتاب صغير سمّاه «نقط العروس» جمع فيه كل غريبة ونادرة.
وقال الحافظ أبو عبد الله محمد بن فتوح [1] : ما رأينا مثله فيما [2] اجتمع له، مع الذّكاء، وسرعة الحفظ، وكرم النّفس، والتديّن. وما رأيت من يقول الشعر على البديهة أسرع منه، قال: أنشدني لنفسه:
لئن أصبحت مرتحلا بجسمي [3] ... فروحي عندكم أبدا مقيم
ولكن للعيان لطيف معنى ... له سأل المعاينة الكليم
وله:
وذو عذل فيمن سباني بحسنة [4] ... يطيل ملامي في الهوى ويقول
أفي حسن وجه لاح لم تر غيره ... ولم تدر كيف الجسم أنت قتيل؟
فقلت له: أسرفت في اللّوم ظالما ... وعندي ردّ لو أردت طويل
ألم تر أنّي ظاهريّ وأنّني ... على ما بدا حتّى يقوم دليل
__________
[1] انظر «جذوة المقتبس» ص (309- 310) .
[2] في «آ» و «ط» : «مما» والتصحيح من «جذوة المقتبس» و «وفيات الأعيان» .
[3] في «آ» و «ط» و «وفيات الأعيان» : «بجسمي» وفي «جذوة المقتبس» : «بشخصي» .
[4] رواية هذه الشطرة في «وفيات الأعيان» .
وذي غذل فيمن سباني حسنه............... .......(5/241)
وروى له الحافظ الحميدي [1] :
أقمنا ساعة ثمّ ارتحلنا ... وما يغني المشوق وقوف ساعه
كأن الشّمل لم يك ذا اجتماع ... إذا ما شتّت البين اجتماعه
وكان ابن حزم كثير الوقوع في العماء المتقدمين، لا يكاد أحد يسلم من لسانه، فنفرت عنه القلوب، واستملل من فقهاء وقته فمالوا على بغضه [2] وردّوا قوله، وأجمعوا على تضليله، وشنعوا عليه، وحذروا سلاطينهم من فتنته، ونهوا عوامهم عن الدنو إليه والأخذ عنه، فأقصته الملوك، وشردته عن بلاده.
وقال ابن العريف: كان لسان ابن حزم، وسيف الحجّاج شقيقين.
انتهى ما أورده ابن خلّكان ملخصا.
وفيها ابن النّرسي، أبو الحسين محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد حسنون البغدادي [3] ، في صفر، عن تسع وثمانين سنة. روى في «مشيخته» عن محمد بن إسماعيل الورّاق، وطبقته.
وفيها قتلمش بن إسرائيل بن سلجوق، الملك شهاب الدولة، وابن عم السلطان طغرلبك. كانت له قلاع وحصون بعراق العجم، فعصى على قرابته، السلطان ألب أرسلان، وواقعة [4] فقتل في المعركة، وهو جدّ سلاطين الرّوم السلجوقية، وكان بطلا شجاعا.
وفيها أبو الوليد الدّربندي- نسبة إلى دربند، وهو باب الأبواب- الحسن بن محمد بن علي بن محمد البلخي، طوّف البلاد، وحصّل الإسناد،
__________
[1] لم ترد هذه الفقرة في «جذوة المقتبس» الذي بين يدي.
[2] في «وفيات الأعيان» : «واستهدف فقهاء وقته، فتمالؤوا على بغضه» .
[3] انظر «العبر» (3/ 242) و «سير أعلام النبلاء» (18/ 84- 85) .
[4] في «آ» و «ط» : «ووافقه» والتصحيح من «العبر» (3/ 242) .(5/242)
وهو حافظ صدوق من المكثرين، لكنه رديء الحفظ [1] بين المحدّثين. قاله ابن ناصر الدّين [2] .
وفيها المطرّز، صاحب «المقدمة اللطيفة» [3] محمد بن علي بن محمد بن صالح السّلمي الدمشقي أبو عبد الله، النحوي المقرئ، في ربيع الأول. روى عن تمّام وجماعة، وآخر من حدّث عنه النّسيب [4] في «فوائده» .
وفيها أبو سعيد الخشّاب محمد بن علي بن محمد النيسابوري المحدّث، خادم أبي عبد الرحمن السّلمي. روى عن أبي محمد المخلدي، والخفّاف، وطائفة.
وفيها عميد الملك [5] ، الوزير أبو نصر محمد بن منصور الكندري، وزير السلطان طغرلبك، وكان من رجال العالم حزما ورأيا وشهامة وكرما، وقد جبّ مذاكيره لأمر، ثم قتله ألب أرسلان، بمرو الرّوذ في آخر العام، وحمل رأسه إلى نيسابور قاله. في «العبر» [6] .
وقال ابن خلّكان [7] : الستوزره السلطان طغرلبك السّلجوقي، ونال عنده الرتبة العالية والمنزلة الجليلة، ولم يكن لأحد من أصحابه معه كلام، وهو
__________
[1] في «سير أعلام النبلاء» : «رديء الخط» .
[2] في «التبيان شرح بديعة البيان» (49/ آ) .
[3] وتعرف ب- «المطرّزة» قال حاجي خليفة في «كشف الظنون» (2/ 1804) : عزاها السيوطي في «طبقات النحاة» إلى صاحب «المغرب» - يعني لأبي الفتح المطرّزي-. وقال الحافظ الذهبي: إنها ليست له بل مؤلفها دمشقي قديم، وهو أبو عبد الله بن محمد بن علي بن صالح السلمي المطرّز، المتوفي سنة (456) هـ-.
[4] يعني علي بن إبراهيم بن العباس بن الحسن بن العباس بن الحسن بن الحسين أبو القاسم العلوي الحسني ويعرف ب- «النّسيب» المتوفي سنة (508) هـ-. انظر «مرآة الزمان» (8/ 33) «مخطوط» و «العبر» (4/ 17) .
[5] تحرّفت في «ط» إلى «عبد الملك» .
[6] (3/ 242) .
[7] انظر «وفيات الأعيان» (5/ 138- 142) .(5/243)
أول وزير كان لهذه الدولة، ولو لم تكن له منقبة إلّا صحبة إمام الحرمين أبي المعالي الشافعي على ما ذكره ابن السمعاني في ترجمة أبي المعالي المذكور في كتاب «الذيل» فإنه قال بعد الإطناب في وصف إمام الحرمين وذكر تنقله في البلاد. ثم قال: وخرج إلى بغداد، وصحب العميد الكندري أبا نصر مدة يطوف معه ويلتقي في حضرته بالأكابر من العلماء ويناظرهم [وتحنك بهم] ، حتى تهذب في النظر وشاع ذكره.
قال ابن خلّكان: وهذا خلاف ما ذكره شيخنا ابن الأثير في «تاريخه» [1] في سنة ست وخمسين وأربعمائة، فإنه قال: إن الوزير المذكور كان شديد التعصب على الشافعية، كثير الوقيعة في الشافعي رضي الله عنه، حتّى بلغ في تعصبه أنه خاطب السلطان ألب أرسلان السّلجوقي في لعن الرافضة على منابر خراسان، فأذن له في ذلك، فأمر بلعنهم، وأضاف إليهم الأشعرية، فأنت من ذلك أئمة خراسان، منهم أبو القاسم القشيري، وإمام الحرمين الجويني، وغيرهما، ففارقوا خراسان، وأقام إمام الحرمين بمكة أربع سنين.
يدرّس ويفتي، فلهذا قيل له إمام الحرمين، فلما جاءت الدولة النظامية أحضر من انتزح منهم وأكرمهم وأحسن إليهم، وقيل: إنه تاب عن [2] الوقيعة في الشافعي رحمه الله، فإن صحّ فقد أفلح.
وكان عميد الملك ممدّحا مقصدا للشعراء، مدحه جماعة من أكابر شعراء عصره، منهم: الباخرزي [3] وصرّدرّ، وفيه يقول قصيدته النونية [4] :
__________
[1] انظر «الكامل في التاريخ» (10/ 138) .
[2] في «آ» : «من» .
[3] انظر «دمية القصر» (2/ 138- 147) بتحقيق الدكتور سامي مكي العاني، طبع مكتبة دار العروبة للنشر والتوزيع في الكويت.
[4] وقد ذكرها ابن خلكان في «وفيات الأعيان» كاملة وهي سبعة وثلاثون بيتا، وعزاها محققه إلى «ديوانه» ص (53) .(5/244)
أكذا يجازى ودّ كل قرين ... أم هذه شيم الظباء العين
قصّوا عليّ حديث من قتل الهوى ... إن التأسّي روح كلّ حزين
ولئن كتمتم مشفقين لقد درى ... بمصارع العذريّ والمجنون
ومنها:
ووراء ذيّاك المقبّل مورد ... حصباؤه من لؤلؤ مكنون
إما بيوت النحل بين شفاههم ... منضودة أو حانة الزرجون
ومنها:
وخشيت من قلبي الفرار إليهم [1] ... حتّى لقد طالبته بضمين
ومنها:
يا عين مثل قذاك رأية معشر ... عار على دنياهم والدّين
لم يشبهوا الإنسان إلّا أنهم ... متكونون من الحما المسنون
نجس العيون فإن رأتهم مقلتي ... طهرتها ونزحت ماء جفوني
أنا إن هم حسبوا الذخائر دونهم ... وهم إذا عدّوا الفضائل دوني
لا يشمت الحسّاد أن مطامعي ... عادت إليّ بصفقة المغبون
لا يستدير البدر إلا بعد ما ... أبصرته في الغيم [2] كالعرجون
فإذا عميد الملك حلّى ربعه ... ظفرا بفأل الطائر الميمون
وهي طويلة طنّانة آخرها:
شهدت علاه أن عنصر ذاته ... مسلك وعنصر غيره من طين
ولما قام بالمملكة ألب أرسلان أقرّه على حاله وزاد في إكرامه ورتبته، ثم إنه سيّره إلى خوارزم شاه ليخطب له ابنته، فأرجف أعداؤه أنه خطبها لنفسه، وشاع ذلك بين الناس، فبلغ عميد الملك الخبر، فخاف تغيّر قلب
__________
[1] في «آ» و «ط» : «عليهم» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» .
[2] في «آ» : «في الضيم» وفي «وفيات الأعيان» : «في الضمر» .(5/245)
مخدمه عليه، فعمد إلى لحيته فحلقها، وإلى مذاكيره فجبّها، فكان ذلك سبب سلامته من ألب أرسلان.
وقيل: إن السلطان خصاه، ثم إن ألب أرسلان عزله ونقله إلى مرو الرّوذ وحبسه في داره [1] ، وكان في حجرة تلك الدّار عياله، وكانت له بنت واحدة لا غير، فلما أحسّ بالقتل دخل الحجرة وأخرج كفنه وودع عياله، وأغلق باب الحجرة واغتسل وصلى ركعتين، وأعطى الذي همّ بقتله مائة دينار نيسابورية، وقال: حقي عليك أن تكفّنني في هذا الثوب الذي غسلته بماء زمزم، وقال لجلّاده، قل للوزير نظام الملك: بئس ما فعلت، علّمت الأتراك قتل الوزراء وأصحاب الديوان، ومن حفر مهواة وقع فيها، ومن سنّ [سنّة] [2] سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة [3] ورضي بقضاء الله المحتوم، وقتل يوم الأربعاء سادس عشري ذي الحجة [4] وعمره يومئذ نيف وأربعون سنة.
ومن العجائب أنه دفنت مذاكيره بخوارزم، وأريق دمه بمرو الرّوذ، ودفن جسده بقرية كندر [5] ، وجمجمته ودماغه بنيسابور، وحشيت جلده [6] بالتبن، ونقلت إلى كرمان، وفي ذلك عبرة لمن اعتبر.
وكندر: قرية من قرى طريثيث [7] من نواحي نيسابور. انتهى ملخصا.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «في دار» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[2] لفظة «سنة» سقطت من «آ» و «ط» واستدركتها من «وفيات الأعيان» .
[3] اقتباس من حديث طويل رواه مسلم رقم (1017) في الزكاة: باب الحثّ على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة، والنسائي (5/ 75 و 76) في الزكاة: باب التحريض على الصدقة من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه.
[4] في «وفيات الأعيان» : «وقتل يوم الأحد سادس عشر ذي الحجة» .
[5] انظر «معجم البلدان» (4/ 482) .
[6] في «ط» : «جثته» وفي «وفيات الأعيان» : «سوأته» .
[7] في «آ» و «ط» : «طرثيث» وهو خطأ والتصحيح من «وفيات الأعيان» وانظر «معجم البلدان» (4/ 33) .(5/246)
سنة سبع وخمسين وأربعمائة
فيها دخل السلطان ألب أرسلان إلى ما وراء النهر، فنازل مدينة [1] جند، وجدّه [سلجوق] [2] مدفون بها، [فنزل صاحبها إلى خدمته، فأحسن إليه وأقرّه بها] [2] .
وفيها توفي أحمد بن نعيم أبو عثمان النيسابوري الصّوفي. روى «صحيح البخاري» عن محمد بن عمر بن شبّوية [3] ، وروى عن أبي طاهر بن خزيمة، والمخلدي، والكبار، وانتقى عليه البيهقيّ، وتوفي بغزنة في ربيع الأول، وله مائة سنة وزيادة، وقد رحل بنفسه في الحديث سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة.
__________
[1] لفظة «مدينة» سقط من «ط» .
[2] ما بين حاصرتين سقط من «آ» وأثبته من «ط» و «العبر» (3/ 243) .
[3] في «آ» و «ط» : «ابن شبّة» وهو خطأ، والتّصحيح من «العبر» مصدر المؤلف، وانظر «سير أعلام النبلاء» (18/ 86) .(5/247)
سنة ثمان وخمسين وأربعمائة
فيها كما قال ابن الأثير [1] وابن الجوزي [2] والذهبي [3] والسيوطي [4] ولدت بنت لها رأسان، ورقبتان، ووجهان، على بدن واحد ببغداد بباب الأزج وماتت.
وفيها كما قال في «الشذور» ظهر كوكب عظيم كبير، له ذؤابة عرضها نحو ثلاثة أذرع، وطوله أذرع كثيرة، ولبث ليال كثيرة، ثم غاب ثم ظهر، وقد اشتد نوره كالقمر، وبقي عشرة أيام، حتّى اضمحل، ووردت كتب التّجار بأنّه في الليلة الأخيرة من طلوع هذا الكوكب، غرقت ستة وعشرون مركبا، وهلك فيها [5] نحو من ثمانية عشر ألف إنسان، وكان من جملة المتاع الذي فيها عشرة آلاف طبلة كافور، وكانت الزلزلة بخراسان، ولبثت أياما، فتصدعت منها الجبال، وخسف بعدة قرى. انتهى.
وفيها توفي البيهقي الإمام العلم، أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي الخسروجردي- بضم الخاء المعجمة، وسكون السين المهملة، وفتح الراء
__________
[1] انظر «الكامل في التاريخ» (10/ 52)
[2] انظر «المنتظم» (8/ 240)
[3] انظر «العبر» (3/ 244)
[4] انظر «تاريخ الخلفاء» ص (420)
[5] لفظة «فيها» سقط من «آ» وأثبتها من «ط» .(5/248)
الأولى، وكسر الجيم، آخره مهملة، نسبة إلى خسروجرد، قرية ببيهق- الشافعي الحافظ، صاحب التصانيف.
قال ابن ناصر الدّين [1] : كان واحد زمانه، وفرد أقرانه، حفظا وإتقانا وثقة، وعمدة، وهو شيخ خراسان، وله «السنن الكبرى» و «الصغرى» و «المعارف» وكتاب «الأسماء والصفات» و «دلائل النبوّة» و «الآداب والدعوات» و «الترغيب والترهيب» و «الزهد» وغير ذلك [2] . انتهى.
وقال في «العبر» [3] : توفي في [4] عاشر جمادى الأولى بنيسابور، ونقل تابوته إلى بيهق، وعاش أربعا وسبعين سنة. لزم الحاكم مدة، وأكثر عن أبي الحسن العلوي، وهو أكبر شيوخه، وسمع ببغداد من هلال الحفّار، وبمكّة والكوفة، وبلغت تصانيفه ألف جزء، ونفع الله بها المسلمين شرقا وغربا لأمانة الرجل [5] ، ودينه، وفضله، وإتقانه، فالله يرحمه. انتهى.
وقال ابن قاضي شهبة [6] : قال عبد الغافر في «الذّيل» [7] : كان على سيرة العلماء، قانعا من الدنيا باليسير، متجملا في زهد وورعه. وذكر غيره أنّه سرد الصوم ثلاثين سنة.
وقال إمام الحرمين: ما من شافعي إلّا وللشافعي عليه منّة إلّا البيهقي، فإن له على الشافعي منّة لتصانيفه في نصرة مذهبه.
__________
[1] في «التبيان شرح بديعة البيان» (150/ آ)
[2] في «التبيان شرح بديعة البيان» الذي بين يدي: «وغيرها من المصنفات»
[3] (3/ 244)
[4] لفظة «في» لم ترد في «العبر»
[5] في «العبر» : «الإمامة الرجل»
[6] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 226- 227)
[7] في «آ» و «ط» : «الدلائل» وهو خطأ، والتصحيح من «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة، وهو «السّياق لتاريخ نيسابور» وقد جعله تكملة لكتاب «تاريخ نيسابور» للحاكم النيسابوري انظر «سير أعلام النبلاء» (20/ 17) والتعليق عليه.(5/249)
ومن تصانيفه «المبسوط في جمع [1] نصوص الشافعي» وكتاب «الخلاف» وكتاب «دلائل النبوة» وكتاب «البعث والنشور» و «مناقب الشافعي» و «مناقب أحمد» وكتاب «الاعتقاد» مجلد، وغير ذلك من المصنفات الجامعة المفيدة.
انتهى ملخصا.
وقال ابن خلّكان [2] : وهو أول من جمع نصوص الشافعي في عشر مجلدات، وكان [من] أكثر الناس نصرا لمذهب الشافعي، وطلب إلى نيسابور لنشر العلم، فأجاب، وانتقل إليها. انتهى ملخصا أيضا.
وفيها عبد الرزاق بن عمر بن شمة [3] أبو الطيب الأصفهاني التاجر.
روى عن ابن المقرئ.
وفيها أبو الحسن بن سيده، علي بن إسماعيل المرسي، العلّامة، صاحب «المحكم في اللغة» وكان أعمى ابن أعمى، رأسا في العربية، حجّة في نقلها.
قال أبو عمر الطّلمنكي: أتوني بمرسية ليسمعوا مني «غريب المصنف» فقلت: انظروا من يقرأ لكم، فأتوني برجل أعمى هو ابن سيده، فقرأ من حفظه فعجبت [4] .
قال ابن خلّكان [5] : كان إماما في اللغة والعربية، حافظا لهما، وقد جمع في ذلك جموعا، من ذلك كتاب «المحكم» في اللغة، وهو كتاب كبير
__________
[1] في «آ» و «ط» «في جميع» والتصحيح من «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة.
[2] انظر «وفيات الأعيان» (1/ 76) ولفظة «من» مستدركة منه.
[3] في «آ» و «ط» : «ابن شماسة» وفي «العبر» : «ابن سمة» وكلاهما خطأ، والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» للذهبي (18/ 149) وانظر التعليق عليه.
[4] في «العبر» : «فقرأه، فعجبت من حفظه» وفي «الصلة» : «فقرأه عليّ من أوله إلى آخره، فعجبت من حفظه» .
[5] انظر «وفيات الأعيان» (3/ 330) .(5/250)
جامع مشتمل على أنواع اللغة، وله كتاب «المخصص» في اللغة أيضا، وهو كبير، وكتاب «الأنيق في شرح الحماسة» في ست مجلدات، وغير ذلك من المصنفات.
وكان ضريرا، وأبوه ضريرا، وكان أبوه أيضا قيّما بعلم اللغة، وعليه أشغل [1] ولده في أول أمره، ثم على أبي العلاء صاعد البغدادي، وقرأ على أبي عمر الطّلمنكي.
وتوفي بحضرة دانية [2] عشية يوم الأحد سادس عشري جمادى الآخرة،:
وعمره ستون سنة أو نحوها. رأيت على ظهر مجلد [من «المحكم» ] [3] بخطّ بعض فضلاء الأندلس، أن ابن سيده المذكور، كان يوم الجمعة قبل يوم الأحد المذكور صحيحا سويّا إلى وقت صلاة المغرب، فدخل المتوضأ فأخرج منه وقد سقط لسانه وانقطع كلامه، فبقي على تلك الحال إلى العصر من يوم الأحد، ثم توفي رحمه الله.
وسيده: بكسر السين المهملة وسكون التحتية وفتح الدال المهملة وبعدها هاء ساكنة.
والمرسي: بضم الميم وسكون الراء، وبعدها سين مهملة، نسبة إلى مرسية [وهي] مدينة في شرق الأندلس. انتهى ملخصا.
وفيها العبّادي القاضي، أبو عاصم محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن عبد الله بن عبّاد الهروي، شيخ الشافعية، وصاحب التصانيف.
تفقه على القاضي أبي منصور الأزدي، وبنيسابور على أبي عمر البسطامي، وكان دقيق النظر، إماما واسع العلم [4] له «المبسوط» و «أدب القاضي»
__________
[1] في «ط» و «الوفيات» : «اشتغل» وكلاهما صحيح. انظر «لسان العرب» (شغل) .
[2] مدينة بالأندلس من أعمال بلنسية. انظر «معجم البلدان» (2/ 434) .
[3] ما بين حاصرتين استدركته من «وفيات الأعيان» .
[4] في «العبر» : «وكان إماما دقيق النظر، واسع العلم» .(5/251)
و «الهادي» وكتاب «المياه» وكتاب «الأطعمة» وكتاب «الزيادات» و «زيادات الزيادات» وكتاب «طبقات الفقهاء» [1] وأخذ عنه أبو سعيد الهروي، وولده أبو الحسن العبّادي، وغيرهما.
قال أبو سعد السمعاني [2] : كان إماما ثبتا [3] مناظرا، دقيق النظر، سمع الكثير، وتفقه، وصنّف كتبا في الفقه، مات في شوال.
وفيها أبو يعلى بن الفرّاء، شيخ الحنابلة، القاضي، الحبر، محمد بن الحسين بن محمد بن خلف البغدادي، صاحب التصانيف، وفقيه العصر.
كان إماما لا يدرك قراره، ولا يشقّ غباره، عاش ثماني وسبعين سنة، وحدّث عن أبي [الحسن علي بن عمر] [4] الحربي، والمخلّص، وطبقتهما، وأملى عدّة مجالس، وولي قضاء الحريم، وتوفي في تاسع عشر رمضان، وتفقه على أبي عبد الله بن حامد وغيره، وجميع الطائفة [5] معترفون بفضله ومغترفون من بحره. قاله في «العبر» [6] .
__________
[1] وهو من مصادر المؤلف.
[2] انظر «الأنساب» (8/ 336- 337) وقد نقل المؤلف عنه بتصرف.
[3] في «الأنساب» : «مفتيا» .
[4] ما بين حاصرتين مستدرك من «الأنساب» (4/ 99) .
[5] يعني جميع أتباع الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله.
[6] (3/ 245- 246) .(5/252)
سنة تسع وخمسين وأربعمائة
في ذي القعدة منها، فرغت المدرسة النظامية، التي أنشأها [الوزير] نظام الملك ببغداد، وقرّر لتدريسها الشيخ أبا إسحاق [1] واجتمع الناس فلم يحضر، لأنه لقيه صبيّ، فقال: كيف تدرّس في مكان مغصوب؟ [فوسوسه] ، فاختفى فلما أيسوا من حضوره، درّس ابن الصباغ، مصنف «الشامل» فلما وصل الخبر إلى الوزير، أقام القيامة على العميد أبي سعيد، فلم يزل يرفق بأبي إسحاق حتّى درّس بها، ولكنه كان يصلي في غيرها، لعمله أن أكثر آلاتها غصب.
وفيها توفي ابن طوق، أبو نصر أحمد بن عبد الباقي بن الحسين الموصلي، الراوي عن نصر المرجي، صاحب أبي يعلى، توفي بالموصل في رمضان، وله سبع وسبعون سنة.
وفيها أبو بكر أحمد بن منصور بن خلف المغربي ثم النيسابوري.
روى عن أبي الفضل بن خزيمة وطائفة، وتوفي في رمضان، وكان بزازا.
وفيها أبو القاسم الحنّائي، صاحب «الأجزاء الحنائيات» الحسين بن محمد بن إبراهيم الدمشقي المعدّل الصالح، وله ثمانون سنة. روى عن عبد الوهاب الكلابي، والحسن بن محمد بن درستويه، وطائفة.
__________
[1] يعني الشيرازي صاحب «طبقات الفقهاء» .(5/253)
وفيها أبو مسلم الأصبهاني الأديب المفسّر المعتزلي، محمد بن علي بن محمد [بن مهربزد] [1] ، آخر أصحاب ابن المقرئ موتا، له تفسير في عشرين مجلدا، توفي في جمادى الآخرة، وله ثلاث وتسعون سنة. قاله في «العبر» [2] .
__________
[1] ما بين حاصرتين مستدرك من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» (18/ 146) .
[2] (3/ 247) .(5/254)
سنة ستين وأربعمائة
فيها على ما قال ابن الأثير [1] ، وابن الجوزي [2] واللفظ له، كانت زلزلة بفلسطين وغيرها، أهلكت من أهل الرملة خمسة عشر ألفا، ووقعت شرفتان من مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وانشقت الأرض عن كنوز من المال، وانشقت صخرة بيت المقدس، ثم عادت فالتأمت، وغار البحر من الساحل مسيرة يوم، وساح في البر، ودخل الناس إلى أرضه يلتقطون، فرجع عليهم، فأهلك خلقا كثيرا منهم، وبلغت هذه الزلزلة إلى الرحبة والكوفة.
وفيها توفي الباطرقاني- بكسر الطاء المهملة وسكون الراء وبالقاف، نسبة إلى باطرقان من قرى أصبهان- أبو بكر أحمد بن الفضل الأصبهاني المقرئ الأستاذ، توفي في صفر عن ثمان وثمانين سنة، وله مصنفات في القراءات، وكان صاحب حديث وحفظ. روى عن أبي عبد الله بن مندة وطبقته.
وفيها ابن القطّان، أبو عمر أحمد بن محمد بن عيسى القرطبي المالكي، رئيس المفتين بالأندلس، وله سبعون سنة. روى عن يونس بن عبد الله القاضي وجماعة.
__________
[1] انظر «الكامل في التاريخ» (10/ 57) .
[2] انظر «المنتظم» (8/ 248) .(5/255)
وفيها خديجة بنت محمد بن علي الشّاهجانيّة، الواعظة ببغداد، كتبت بخطها عن جماعة، وتوفيت في المحرم، عن أربع وثمانين سنة.
وفيها عائشة بنت الحسن الوركانية [1] الأصبهانية. روت عن أبي عبد الله بن مندة.
وفيها عبد الدائم بن الحسين [2] الهلالي الحوراني ثم الدمشقي، آخر أصحاب عبد الوهاب الكلابي، عن ثمانين سنة.
__________
[1] تحرّفت في «آ» و «ط» إلى «الموركانية» والتصحيح من «العبر» (3/ 249) و «سير أعلام النبلاء» (18/ 302) .
[2] في «العبر» : «الحسن» .(5/256)
سنة إحدى وستين وأربعمائة
في نصف شعبان منها، احترق جامع دمشق كله من حرب وقع بين الدولة، فضربوا بالنار دارا مجاورة للجامع، فقضي الأمر، واشتد الخطب، وأتى الحريق على سائره، ودثرت محاسنه، وانقضت مدة ملاحته. قاله في «العبر» [1] .
وفيها توفي الفوراني، أبو القاسم، عبد الرحمن بن محمد بن فوران- بالضم- المروزي، شيخ الشافعية وتلميذ القفال، وذو التصانيف الكثيرة، وعنه أخذ أبو سعد [2] المتولّي صاحب «التتمة» ، وكان صاحب «النهاية» يحطّ على الفوراني بلا حجة.
قال الإسنوي [3] : تفقه القفّال، وبرع حتّى صار شيخ الشافعية [بمرو] ، وصنّف «الإبانة» وهو كتاب معروف كثير الوجود، و «العميد» [4] وهو غريب عزيز الوجود. انتهى ملخصا.
__________
[1] (3/ 249) .
[2] في «آ» و «ط» و «طبقات الشافعية» للإسنوي (1/ 305) : «أبو سعيد» وهو تحريف، والتصحيح من «وفيات الأعيان» (3/ 133) و «العبر» (3/ 249) و «سير أعلام النبلاء» (18/ 585) .
[3] انظر «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 255) وما بين حاصرتين مستدرك منه.
[4] كذا في «آ» و «ط» : «العميد» وفي «طبقات الشافعية الكبرى» (5/ 110) : «العمد» وفي «طبقات الشافعية» للإسنوي: «العمدة» .(5/257)
وفيها عبد الرحيم التميمي بن أحمد البخاري الحافظ، أبو زكريا، ذو الرحلة الواسعة. سمع ببخارى من الحليمي، وبخراسان من أبي يعلى المهلّبي، وبدمشق من تمّام، وبمصر من عبد الغني، وببغداد من أبي عمر بن مهدي.
قال ابن ناصر الدّين [1] : كان من الحفّاظ الثقات، والرحّالين الأثبات.
انتهى.
وعاش تسعا وسبعين سنة.
وفيها أبو الحسين محمد بن مكي بن عثمان الأزدي المصري. روى بمصر ودمشق عن أبي الحسن الحلبي، ومحمد بن أحمد الإخميمي، وطبقتهما، وتوفي في جمادى الأولى بمصر، وله ست وسبعون سنة، ووثّقه الكتّاني وغيره.
وفيها مقرئ مصر، أبو الحسين نصر بن عبد العزيز الفارسي الشّيرازي، شيخ ابن الفحّام. قرأ القراءات على السوسنجردي، وابن الحمّامي، وجماعة. وروى الحديث عن أبي الحسين بن بشران، وحدّث عنه روزبه [2] بن موسى.
__________
[1] في «التبيان شرح بديعة البيان» (150/ آ) .
[2] في «آ» و «ط» : «ودوزبة» والتصحيح من «معرفة القرّاء الكبار» (1/ 422) ..(5/258)
سنة اثنتين وستين وأربعمائة
فيها كما قال في «الشذور» كانت زلزلة بالرملة، فذهب أكثرها، وعمّ ذلك بيت المقدس، وانخسفت إيلة كلها، وانجفل البحر وقت الزلزلة، حتّى انكشفت أرضه، ثم عاد. انتهى.
وفيها كما قال في «العبر» [1] نزلت [2] جيوش الرّوم، فنزلوا على منبج، واستباحوها، وأسرعوا الكرّة، لفرط القحط، أبيع فيهم رطل الخبز بدينار.
وفيها أقيمت الخطبة العباسيّة بالحجاز، وقطعت خطبة المصريين لاشتغالهم بما هم فيه من القحط والوباء الذي لم يسمع في الدهور بمثله، وكاد الخراب يستولي على وادي مصر، حتّى إن صاحب «مرآة الزمان» نقل أن امرأة خرجت وبيدها مدّ جوهر، فقالت: من يأخذه بمدّ برّ، فلم يلتفت إليها أحد، فألقته في الطريق، وقالت: هذا ما نفعني وقت الحاجة، فلا أريده، فلم يلتفت أحد إليه.
وفيها توفي القاضي حسين [3] بن محمد بن أحمد أبو علي
__________
[1] (3/ 250- 251) .
[2] في «العبر» : «أقبلت» .
[3] في «آ» و «ط» : «الحسين» والتصحيح من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» .(5/259)
المرّوذي [1] المرورّوذي، شيخ الشافعية في زمانه، وأحد أصحاب الوجوه، تفقه على أبي بكر القفّال، وهو والشيخ أبو علي أنجب تلامذته. وروى عن أبي نعيم الإسفراييني.
قال عبد الغفار: كان فقيه خراسان، وكان عصره تاريخا به.
وقال الرافعي في «التذنيب» [2] : إنه كان كبيرا غوّاصا في الدقائق، من الأصحاب الغرّ الميامين، وكان يلقب بحبر الأمة.
وقال النووي في «تهذيبه» [3] : وله «التعليق الكبير» [4] وما أجزل فوائده وأكثر فروعه المستفادة، وله «الفتاوى» المشهورة، وكتاب «أسرار الفقه» وغير ذلك، وممّن أخذ عنه أبو سعد [5] المتولي، والبغوي.
قال: ويقال: إنّ أبا المعالي تفقه عليه أيضا.
ومتى أطلق القاضي في كتب متأخري المراوزة فالمراد المذكور.
وقال ابن الأهدل: متى أطلق القاضي في فروع الشافعية فهو هو، وفي كتب أصول أهل السّنّة فهو الباقلاني، وإذا قالوا: القاضيان فهو هو وعبد
__________
فائدة: قال الإمام النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» (1/ 165) : أعلم أنه متى أطلق القاضي في كتب متأخري الخراسانيين كالنهاية، و «التتمة» و «التهذيب» وكتب الغزالي ونحوها، فالمراد القاضي حسين. ومتى أطلق القاضي في كتب متوسط العراقين، فالمراد القاضي أبو حامد المروذي. ومتى أطلق في كتب الأصول لأصحابنا، فالمراد القاضي أبو بكر الباقلاني الإمام المالكي في الفروع. ومتى أطلق في كتب المعتزلة أو كتب أصحابنا الأصوليين حكاية عن المعتزلة، فالمراد به القاضي الجبّائي، والله أعلم.
[1] في «آ» و «ط» : «المروزي» وهو خطأ، والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» (18/ 261) وانظر التعليق عليه.
[2] واسمه الكامل «التذنيب في الفروع» . انظر «كشف الظنون» (1/ 394) .
[3] انظر «تهذيب الأسماء واللغات» (1/ 164- 165) وقد نقل المؤلف كلامه بتصرف.
[4] في «سير أعلام النبلاء» : «التعليقة الكبرى» .
[5] في «آ» و «ط» : «أبو سعيد» والصواب ما أثبته.(5/260)
الجبّار المعتزلي، وإذا قالوا: الشيخ، فهو أبو الحسن الأشعري، وإذا أطلقه [1] الفقهاء، فهو أبو محمد الجويني والد إمام الحرمين. انتهى.
وفيها أبو غالب بن بشران الواسطي، صاحب اللغة، محمد بن أحمد بن سهل المعدّل الحنفي، ويعرف بابن الخالة، وله اثنتان وثمانون سنة. ولم يكن بالعراق أعلم منه باللغة. روى عن أحمد بن عبيد بن بيري وطبقته.
وفيها شعبة النّسفي الحافظ، أبو اللّيث، أحمد بن جعفر بن مدني بن عيسى بن عدنان بن محمود النّسفي الكائني، الملقب شعبة، ختن الإمام جعفر المستغفري، وهو الذي بشعبة لقّبة، لما رأى من حذقه وحفظه وأعجبه. سمع وهو شاب بسمرقند الكثير، وحدّث بها وهو شيخ كبير، وذكره في حفّاظ سمرقند أبو حفص النسفي في كتابه «القند» [2] . قاله ابن ناصر الدّين [3] .
وفيها أبو عبد الله محمد بن عتّاب الجذامي مولاهم المالكي، مفتي قرطبة وعالمها ومحدّثها وورعها، توفي في صفر ومشى في جنازته المعتمد بن عبّاد [4] ، وله تسع وسبعون سنة. روى عن أبي المطرّف القنازعي، وخلق.
__________
[1] في «ط» : «أطلقته» .
[2] واسمه الكامل «القند في تاريخ سمرقند» وهو لأبي حفص نجم الدّين عمر بن محمد النسفي السمرقندي المتوفى سنة (537) هـ-. انظر «كشف الظنون» (2/ 1356) .
[3] في «التبيان شرح بديعة البيان» (150) آ- 150 ب) .
[4] في «آ» و «ط» : «أحمد بن عبّاد» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» (3/ 252) و «سير أعلام النبلاء» (18/ 330) .(5/261)
سنة ثلاث وستين وأربعمائة
فيها كما قال ابن الأهدل، خرج أرمانوس الرّومي في مائتي ألف فارس من الرّوم، والفرنج، والكزج- بالزّاي والجيم-[1] وأرسل إليه السلطان ألب أرسلان يريد المهادنة، فأبى، فاستعد للشهادة، وعهد إلى ولده ملكشاه، ثم حمل عليهم في خمسة عشر ألف فارس، فأعطاه الله النصر، وقتل ما لا يحصى، وأسير كثيرا، وجيء بملكهم إلى بين يديه، فضربه بيده، ثم فاداه يألف ألف وخمسمائة ألف دينار، وبكل أسير معهم من المسلمين، ولما أطلقه خلع عليه وهادنه خمسين سنة وزوّده عشرة آلاف دينار، انتهى.
وفيها توفي أبو حامد الأزهري، أحمد بن الحسن بن محمد بن الحسن بن الأزهر النيسابوري الشّروطي [2] الثقة. روى عن [أبي] محمد المخلدي، وجماعة، ومات في رجب عن تسع وثمانين سنة، وآخر أصحابه وجيه [3] .
وفيها أبو بكر الخطيب، أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي البغدادي، الحافظ، أحد الأئمة الأعلام، وصاحب التآليف المنتشرة في
__________
[1] تنبيه: كذا قال المؤلف رحمه الله، وهو وهم منه، والصواب: «الكرج» بالراء وهم جيل من الناس نصارى كانوا يسكنون في جبال القبق: وانظر «معجم البلدان» (4/ 446) و «العبر» (3/ 253) و «مرآة الجنان» (3/ 86) .
[2] انظر «سير أعلام النبلاء» (18/ 254- 255) وما بين حاصرتين مستدرك منه.
[3] يعني وجيه بن طاهر الشحامي المتوفى سنة (542) هـ، وسوف ترد ترجمته في المجلد السادس إن شاء الله تعالى.(5/262)
الإسلام. ولد في جمادى الآخرة سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة، وسمع أوّل سنة ثلاث وأربعمائة، وتفقه في مذهب الشافعي على القاضي أبي الطّيب الطبري، وأبي الحسن المحاملي، وغيرهما، وروى عن أبي عمر بن مهدي، وابن الصّلت الأهوازي، وطبقتهما.
قال ابن ماكولا: كان أحد الأعيان ممّن شاهدناه، معرفة، وحفظا، وإثباتا، وضبطا لحديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتفنّنا في علله وأسانيده، وعلما بصحيحه وغريبه، وفرده ومنكره [ومطروحة] [1] . قال: ولم يكن للبغداديين بعد الدارقطني مثله.
وقال ابن السمعاني [2] : كان مهيبا، وقورا، ثقة، متحريا، حجّة، حسن الخط [3] ، كثير الضبط، فصيحا، ختم به الحفّاظ.
وقال غيره: كان يتلو في كل يوم وليلة ختمة، وكان حسن القراءة، جهوري الصوت، وله «تاريخ بغداد» الذي لم يصنّف مثله.
وقال ابن الأهدل: تصانيفه قريب من مائة مصنّف في اللغة، وبرع فيه، ثم غلب عليه الحديث والتاريخ، وكان الشيخ أبو إسحاق [4] يراجعه في الحديث، ويعمل بقوله، وحمل نعشه يوم مات، وكان أبو بكر بن أزهر الصوفي قد أعدّ لنفسه قبرا إلى جانب قبر بشر الحافي، وكان يبيت فيه في الأسبوع مرّة ويقرأ فيه القرآن كله، وكان الخطيب قد أوصى أن يدفن إلى جانب بشر الحافي، فسأل المحدّثون ابن أزهر أن يؤثرهم بقبره للخطيب، فامتنع، فألحّ عليه الشيخ أبو سعيد الصوفي، فسمح، فدفن فيه الخطيب، وكان قد تصدّق بجميع ماله،
__________
[1] زيادة من «سير أعلام النبلاء» (18/ 275) وانظر التعليق عليه.
[2] نقل المؤلف هذا الخبر عن «الذيل» للسمعاني كما هو مبين في «سير أعلام النبلاء» (18/ 277) .
[3] في «آ» : «حسن الحفظ» وما جاء في «ط» موافق لما عند الذهبي في «سير أعلام النبلاء» .
[4] يعني الشيرازي.(5/263)
وهو مائتا دينار على العلماء والفقراء، وأوصى أن يتصدّق بثيابه، ووقف كتبه على المسلمين، ولم يكن له عقب. انتهى.
وفيها ابن زيدون، شاعر الأندلس، أبو الوليد، أحمد بن عبد الله بن أحمد بن غالب بن زيدون المخزومي الأندلسي القرطبي، الشاعر المشهور.
قال ابن بسام صاحب «الذخيرة» [1] في حقه: كان أبو الوليد غاية [2] منثور ومنظوم، وخاتمة شعراء بني مخزوم، أحد من جرّ الأيام جرّا، وفات الأنام طرّا، وصرّف السلطان نفعا وضرّا، ووسع البيان نظما ونثرا، إلى أدب ليس للبحر تدفقه، ولا للبدر تألّقه، وشعر ليس للسحر بيانه، ولا للنجوم الزهر اقترانه. وحظ [3] من النثر، غريب المباني، شعري الألفاظ والمعاني.
وكان من أبناء وجوه الفقهاء بقرطبة، وبرع [4] أدبه، وجاد شعره، وعلا شأنه، وانطلق لسانه.
ثم انتقل من قرطبة إلى المعتمد بن عبّاد صاحب إشبيلية سنة إحدى وأربعين وأربعمائة، فجعله من خواصه، يجالسه في خلواته، ويركن إلى إشاراته، وكان معه في صورة وزير، وذكر له شيئا كثيرا من الرسائل والنظم فمن ذلك قوله:
بيني وبينك ما لو شئت لم يضع ... سرّ إذا ذاعت الأسرار لم يذع
يا بائعا حظّه مني ولو بذلت ... لي الحياة بحظي منه لم أبع
يكفيك أنّك إن حمّلت قلبي ما ... لا تستطيع قلوب الناس يستطع
ته أحتمل واستطل أصبر وعزّ أهن ... وولّ أقبل وقل أسمع ومر أطع
__________
[1] انظر المجلد الأول من القسم الأول ص (336- 433) .
[2] في «الذخيرة» : «صاحب» وعلق محقّقه الأستاذ الدكتور إسحان عبّاس بقوله: في «ب س» :
«غاية» .
[3] في «آ» و «ط» : «وخط» والتصحيح من «الذخيرة» .
[4] في «الذخيرة» : «وفرّع» .(5/264)
ومن شعره:
ودّع الصبر محبّ ودّعك ... ذائع من سرّه ما استودعك
يقرع السّنّ على أن لم يكن ... زاد في تلك الخطا إذا شيّعك
يا أخا البدر سناء وسنا ... حفظ الله زمانا أطلعك
إن يطل بعدك ليلي فلكم ... بتّ أشكو قصر الليل معك
وله القصائد الطنّانة ومن بديع قصائده القصيدة النونية التي منها:
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا ... يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
حالت لبعدكم أيامنا فغدت ... سودا وكانت بكم بيضا ليالينا
بالأمس كنّا ولا نخشى تفرقنا ... واليوم نحن وما يرجى تلاقينا
وهي طويلة كل أبياتها نخب.
وله في ولّادة «الرسالة الطنانة» وكذا «الرسالة الجهورية» وشرح كلّ من رسالتيه هاتين.
وما جراياته مع ابن جهور لما حبسه وفرّ منه بعد أن استعطفه بكل ممكن فلم يطلقه، مشهورة فلا نطيل بها.
وفيها أبو علي حسّان بن سعيد المنيعي- نسبة إلى منيع جدّ- كان حسّان هذا رئيس مرو الرّوذ الذي عمّ خراسان ببرّه وإفضاله، وأنشأ الجامع المنيعي، وكان يكسي في العام نحو ألف نفس، وكان أعظم من وزير، رحمه الله. روى عن أبي طاهر بن محمش وجماعة، وكان خطيب جامعه إمام الحرمين، وأصل ماله من التجارة، حتّى قال السلطان: في مملكتي من لا يخافني، وإنما يخاف الله عزّ وجل، يعنيه، وكان على قدم من الجدّ والاجتهاد والمعرفة. روى عنه البغوي وجماعة.
قال الإسنائي: هو من ذريّة خالد بن الوليد رضي الله عنه.(5/265)
وفيها أبو عمر المليحي- بالفتح والتحتية، نسبة إلى مليح بلد بمصر- عبد الواحد بن أحمد بن أبي القاسم الهروي المحدّث. راوي «الصحيح» عن النّعيمي في جمادى الآخرة، وله ست وتسعون سنة. سمع بنيسابور من المخلدي، وأبي الحسين الخفّاف، وجماعة، وكان [ثقة] صالحا، أكثر عنه محيي السّنّة [1] .
وفيها كريمة بنت أحمد بن محمد بن حاتم، أمّ الكرام المروزيّة، المجاورة بمكّة. روت «الصحيح» عن الكشميهني، وروت عن زاهر السرخسي، وكانت تضبط كتابها وتقابل بنسخها. لها فهم ونباهة، وما تزوجت قطّ، وقيل: إنها بلغت المائة. قاله في «العبر» [2] .
وعدّها ابن الأهدل من الحفّاظ.
وفيها أبو الغنائم بن الدّجاجي، محمد بن علي البغدادي. روى عن علي بن عمر الحربي، وابن معروف، وجماعة. توفي في شعبان، وله ثلاث وثمانون سنة.
وفيها أبو علي محمد بن وشاح الزّينبي. روى عن أبي حفص بن شاهين، وجماعة.
قال الخطيب: كان معتزليا.
وقال في «العبر» [3] : توفي في رجب.
وفيها العلّامة العلم الحافظ، أبو عمر بن عبد البرّ، يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البرّ بن عاصم النّمري القرطبي، أحد الأعلام،
__________
[1] يعني الإمام البغوي صاحب «شرح السّنّة» المطبوع في المكتب الإسلامي بتحقيق الأستاذ الشيخ شعيب الأرناؤوط حفظه الله تعالى.
[2] انظر «العبر» (3/ 256) .
[3] (3/ 257) .(5/266)
وصاحب التصانيف، توفي في سلخ ربيع الآخر، وله خمس وتسعون سنة وخمسة أيام. روى عن سعيد بن نصر، وعبد الله بن أسد، وابن ضيفون [1] ، وأجاز له من مصر، أبو الفتح بن سيبخت الذي يروي عن أبي القاسم البغوي، وليس لأهل المغرب أحفظ منه، مع الثقة، والدّين، والنزاهة، والتبحّر في الفقه، والعربية، والأخبار. قاله في «العبر» [2] .
وقال ابن خلّكان [3] : إمام عصره في الحديث والأثر وما يتعلق بهما.
روى بقرطبة عن أبي القاسم خلف بن القاسم الحافظ، وأبي عمر الباجي، وأبي عمر الطّلمنكي وأضعافهم، وكتب إليه من أهل المشرق أبو القاسم السقطي المكّي، وعبد الغني بن سعيد الحافظ، وأبو ذر الهروي، وغيرهم.
قال القاضي [أبو] علي بن سكّرة [4] : سمعت شيخنا القاضي أبا الوليد الباجي يقول: لم يكن بالأندلس مثل أبي عمر بن عبد البرّ في الحديث.
قال الباجي أيضا: أبو عمر أحفظ أهل المغرب.
وقال أبو علي الحسين الغسّاني الأندلسي: ابن عبد البرّ شيخنا من أهل قرطبة، بها طلب العلم وتفقّه [5] ، ولزم أبا عمر أحمد [6] بن عبد الملك الفقيه الإشبيلي، وكتب بين يديه، ولزم أبا الوليد بن الفرضي الحافظ، وعنه أخذ كثيرا من علم الحديث، ودأب في طلب العلم، وتفنن [7] فيه، وبرع
__________
[1] في «آ» : «وابن صفوان» وفي «ط» : «وابن صيفون» وكلاهما خطأ، والتصحيح من «العبر» وانظر «سير أعلام النبلاء» (18/ 154) .
[2] (3/ 257) .
[3] انظر «وفيات الأعيان» (7/ 66- 71) .
[4] في «آ» و «ط» : «علي بن سكرة» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[5] في «وفيات الأعيان» : «بها طلب الفقه» .
[6] في «وفيات الأعيان» : «ولزم أبا عمر وأحمد» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[7] في «وفيات الأعيان» : «وافتنّ» .(5/267)
براعة فاق فيها من تقدمه من رجال الأندلس، وألّف في «الموطأ» كتبا مفيدة، منها كتاب «التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد» ورتب أسماء [1] شيوخ مالك على حروف المعجم، وهو كتاب لم يتقدمه أحد إلى مثله، وهو سبعون جزءا.
قال أبو محمد بن حزم: لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله، فكيف أحسن منه؟ ثم وضع كتاب «الاستذكار لمذاهب علماء الأمصار فيما تضمنه الموطأ من المعاني والآثار» شرح فيه «الموطأ» على وجهه، ونسق أبوابه، وجمع في أسماء الصحابة رضي الله عنهم كتابا جليلا مفيدا سمّاه «الاستيعاب» وله كتاب «جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله» [2] وكتاب «الدّرر في اختصار المغازي والسّير» [3] وكتاب «العقل والعقلاء وما جاء في أوصافهم» وكتاب صغير في قبائل العرب وأنسابهم [4] وغير ذلك، وكان موفقا في التأليف، معانا عليه، ونفع الله به، وكان مع تقدمه في علم الأثر، وبصره في الفقه ومعاني الحديث، له بسطة كبيرة في علم النسب.
وفارق قرطبة، وجال في غرب الأندلس، وسكن دانية من بلادها، وبلنسية، وشاطبة، في أوقات مختلفة. وتولى قضاء الأشبونة [5] ، وشنترين في
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «ورتبه على أسماء» .
[2] وهو مطبوع، وقد قام الشيخ أحمد بن عمر المحمصاني البيروتي الأزهري المتوفي سنة (1320 هـ-) باختصاره إلى مقدار النصف، وعلّق عليه تعليقات مفيدة، وطبع سنة (1320) هـ- وهو من المختصرات التي تستحق النشر من جديد في طبعة حديثة محققة، ولعلّي أفعل ذلك مستقبلا إن شاء الله تعالى.
[3] وقد طبع في دمشق بعناية الأستاذ الدكتور مصطفى البغا حفظه الله تعالى ونفع به، وطبع أيضا في القاهرة وبيروت.
[4] وقد طبع في القاهرة سنة (1350) هـ- باسم «القصد والأمم في التعريف بأصول أنساب العرب والعجم» .
[5] في «آ» و «ط» : «الأشبون» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» وانظر «معجم البلدان» (1/ 195) .(5/268)
أيام ملكها المظفر بن الأفطس، وصنّف كتاب «بهجة المجالس وأنس المجالس» في ثلاثة أسفار، جمع فيه أشياء مستحسنة تصلح للمذاكرة والمحاضرة [1] . انتهى ما أورده ابن خلّكان ملخصا.
وذكر ابن عبد البرّ المذكور والده أبا محمد عبد الله بن محمد بن عبد البرّ، وأنه توفي في شهر ربيع الآخر سنة ثمانين وثلاثمائة رحمه الله.
وكان ولده أبو محمد عبد الله بن يوسف بن أهل الأدب البارع والبلاغة، وله رسائل وشعر، فمن شعره:
لا تكثرنّ تأملا ... واحبس عليك عنان طرفك
فلربما أرسلته ... فرماك في ميدان حتفك
قيل: إنه مات سنة ثمان وخمسين وأربعمائة [2] .
__________
[1] وهو مطبوع طبعة متقنة مفهرسة بتحقيق الأستاذ الدكتور محمد مرسي الخولي رحمه الله تعالى، وقد صدرت طبعة مصوّرة عنها حديثا عن دار الكتب العلمية ببيروت.
[2] قلت: وما جاء من كلام عن والده وولده نقله المؤلف عن «وفيات الأعيان» (7/ 71- 72) .(5/269)
سنة أربع وستين وأربعمائة
فيها توفي أبو الحسن جابر بن ياسين البغدادي الحنّائي. روى عن أبي حفص الكتّاني، والمخلّص.
وفيها المعتضد بالله، أبو عمرو عبّاد بن القاضي محمد بن إسماعيل بن عبّاد اللّخمي، صاحب إشبيلية، ولي بعد أبيه، وكان شهما مهيبا صارما، داهية [1] مقداما، جرس على سنن أبيه، ثم تلقب بأمير المؤمنين، وقتل جماعة صبرا، وصادر آخرين، ودانت له الملوك. قاله في «العبر» [2] .
وقال ابن خلّكان [3] : قال أبو الحسن علي بن بسام صاحب «الذخيرة» في حقه: ثم أفضى الأمر بعد محمد القاضي إلى عبّاد سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، وتسمى أولا بفخر الدولة، ثم بالمعتضد، قطب رحى الفتنة، ومنتهى غاية المحنة، [ناهيك] [4] من رجل لم يثبت له قائم ولا حصيد، ولا سلم منه قريب ولا بعيد، جبار أبرم الأمر وهو متناقض، وأسد فرس الطلا،
__________
[1] في «آ» و «ط» : «ذا هيبة» والتصحيح من «العبر» .
[2] (3/ 258) .
[3] انظر «وفيات الأعيان» (5/ 23- 24) .
[4] لفظة «ناهيك» لم ترد في «آ» و «وفيات الأعيان» وأثبتها من «ط» .(5/270)
وهو رابض، متهور [1] يتحاماه الدّهاة، وجبّار [2] لا تأمنه الكماة، متعسّف اهتدى، ومنبت قطع فما أبقى [ثار والناس حرب] ، ضبط شأنه بين قائم وقاعد، حتّى طالبت يده واتسع بلده وكثر عديده، وعدده، وكان قد أوتي أيضا من جمال الصورة، وتمام الخلقة، وفخامة الهيئة، وسباطة البنان، وثقوب الذهن، وحضور الخاطر، وصدق الحدس [3] ، ما فاق على نظرائه، ونظر مع ذلك في الأدب قبل ميل الهوى به إلى طلب السلطان، وأدنى نظر بأذكى طبع، حصل [منه] لثقوب ذهنه على قطعة وافرة علقها من غير تعمّد لها ولا إمعان في غمارها ولا إكثار من مطالعتها، ولا منافسة في اقتناء صحائفها، أعطته سجيته على ذلك ما شاء من تحبير الكلام، وقرض قطعا من العشر [ذات طلاوة] وهي في معان أمدّته فيها الطبيعة، وبلغ فيها الإرادة، واكتتبها الأدباء للبراعة، جمع هذه الخلال الظاهرة إلى جود كفّ، بارى السحاب بها.
وأخبار المعتضد في جميع أنحائه وضروب أفعاله [4] [غريبة] بديعة.
وكان ذا كلف بالنساء فاستوسع في اتخاذهنّ، وخلّط في أجناسهنّ [5] ، فانتهى في ذلك إلى مدّى لم يبلغه أحد من نظرائه، ففشا نسله لتوسعته في النكاح وقوته عليه، فذكر أنّه كان له من الولد نحو العشرين ذكورا، ومن الإناث مثلهم، وأورده له عدة مقاطيع فمن ذلك قوله:
شربنا وجفن اللّيل يغسل كحله ... بماء صباح والنسيم رقيق
معتّقة كالتبر أما نجارها [6] ... فضخم وأما جسمها فدقيق
__________
[1] في «آ» و «ط» : «مشهور» وما أثبته من «وفيات الأعيان» .
[2] في «وفيات الأعيان» : «جبان» .
[3] في «وفيات الأعيان» : «وصدق الحس» .
[4] في «وفيات الأعيان» : «في جميع أفعاله وضروب أنحائه» .
[5] في «وفيات الأعيان» : «في جنوسهنّ» .
[6] في «آ» و «ط» : «بخارها» والتصحيح من «وفيات الأعيان» و «الذخيرة» في محاسن أهل الجزيرة» القسم الثاني المجلد الأول ص (31) .(5/271)
ولولده المعتمد فيه من جملة أبيات:
سميدع يهب الآلاف مبتدئا ... ويستقلّ عطاياه ومعتذر
له يد كلّ جبّار يقبّلها ... لولا نداها لقلنا إنها الحجر
ولم يزل في عزّ سلطانه واغتنام مساره، حتّى أصابته علّة الذبحة، فلم تطل مدتها، ولما أحسّ بتداني حمامه، استدعى مغنيا يغنيه ليجعل ما يبدأ به فألا، فأول ما غنى:
نطوي الليالي علما أن ستطوينا ... فشعشعيها بماء المزن واسقينا
فتطيّر من ذلك ولم يعش بعده سوى خمسة أيام، وقيل: إنه ما غنّى منها إلّا خمسة [1] أبيات، وتوفي يوم الاثنين غرّة جمادى الآخرة، ودفن ثاني يوم بمدينة إشبيلية.
وقام بالمملكة بعده ولده أبو القاسم محمد. انتهى ملخصا.
وفيها ابن حيد [2] أبو منصور بكر بن محمد بن علي بن محمد [3] بن حيد [2] النيسابوري التاجر، ويلقب بالشيخ المؤتمن. روى عن أبي الحسين الخفاف وجماعة وكان ثقة. حدّث بخراسان والعراق، وتوفي في صفر.
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «بخمسة» .
[2] في «آ» و «ط» : «ابن حيدر» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» وانظر «سير أعلام النبلاء» (18/ 252) .
[3] في «آ» و «ط» : «بكر بن محمد بن محمد بن علي بن حيدر» والتصحيح من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» .(5/272)
سنة خمس وستين وأربعمائة
فيها كما قال السيوطي في «تاريخ الخلفاء» [1] اشتدّ الغلاء بمصر، حتّى أكلت امرأة رغيفا بألف دينار. انتهى.
وفيها قتل أبو شجاع محمد بن جغريبك [2] داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقاق، الملقب عضد الدولة ألب أرسلان، وهو ابن أخي السلطان طغرلبك وتقدم ذكره، واستولى ألب أرسلان على الممالك بعد عمّه طغرلبك وعظمت مملكته، ورهبت سطوته، وفتح من البلاد ما لم يكن لعمّه، مع سعة ملك عمّه، فقصد هذا بلاد الشام، فانتهى إلى مدينة حلب، وصاحبها يومئذ محمود بن نصر بن صالح بن مرداس [3] الكلابي، فحاصره مدة، ثم جرت المصالحة بينهما، فقال ألب أرسلان: لا بدّ له من دوس بساطي، فخرج إليه محمود ذليلا، ومعه أمه، فتلقاهما بالجميل، وخلع عليهما، وأعادهما إلى البلد، ورحل عنهما.
قال المأموني في «تاريخه» : قيل: إنه لم يعبر الفرات في قديم الزمان ولا حديثه في الإسلام ملك تركي قبل ألب أرسلان، فإنه أول من عبرها من ملوك التّرك.
__________
[1] ص (422) .
[2] في «آ» و «ط» : «جعري بك» وهو تحريف والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» (18/ 106) ورسمها ابن خلّكان في «وفيات الأعيان» (5/ 69) «جعفري بك» .
[3] في «آ» و «ط» : «فارس» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .(5/273)
ولما عاد عزم على قصد بلاد التّرك، وقد كمل عسكره مائتي ألف فارس أو يزيدون فمدّ [1] على جيحون- النهر المشهور- جسرا، وأقام العسكر يعبر عليه شهرا، وعبر هو بنفسه أيضا، ومدّ السماط في بليدة يقال لها فربر، ولتلك البليدة حصن على شاطئ جيحون، في سادس ربيع الأول من هذه السنة، فأحضر إليه أصحابه مستحفظ القلعة [2] يقال له يوسف الخوارزمي، كان قد ارتكب جريمة في أمر الحصن، فحمل مقيدا، فلما قرب منه أمر أن تضرب له أربعة أوتاد لتشدّ أطرافه الأربعة إليها ويعذبه ثم يقتله، فقال له يوسف: يا مخنث! مثلي يقتل هذه القتلة؟ فاحتدّ السلطان وأخذ القوس والنشابة، وقال: حلّوه من قيوده، فحلّ، فرماه فأخطأه، وكان مدلّا برميه، قلما يخطئ فيه، وكان جالسا على سريره، فنزل فعثر ووقع على وجهه، فبادره يوسف المذكور، وضربه بسكين كانت معه في خاصرته، فوثب عليه فرّاش [3] أرمني، فضربه في رأسه بمرزبة فقتله، فانتقل ألب أرسلان إلى خيمة أخرى مجروحا وأحضر وزيره نظام الملك، وأوصى به إليه، وجعل ولده ملكشاه أبو شجاع محمد وليّ عهده، ثم توفي يوم السبت عاشر الشهر المذكور، وكانت ولادته سنة أربع وعشرين وأربعمائة، وكانت مدة مملكته تسع سنين وأشهرا، ونقل إلى مرو، ودفن عند قبر أبيه داود وعمه طغرلبك، ولم يدخل بغداد ولا رآها، مع أنها كانت داخلة في مملكته، وهو الذي بنى على قبر الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه القبة، وبنى ببغداد مدرسة أنفق عليها أموالا عظيمة.
وألب أرسلان: بفتح الهمزة وسكون اللام، وبعدها باء موحدة، اسم
__________
[1] في «آ» و «ط» : «فمرّ» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[2] في «وفيات الأعيان» : «الحصن» .
[3] في «آ» و «ط» : «فارس» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .(5/274)
تركي معناه شجاع أسد، فألب، شجاع، وأرسلان أسد.
وقال في «العبر» [1] : كان ألب أرسلان في آخر دولته من أعدل الناس، وأحسنهم سيرة، وأرغبهم في الجهاد، وفي نصر الإسلام، وكان أهل سمرقند قد خافوه، وابتهلوا إلى الله، وقرؤوا الختم ليكفيهم أمر ألب أرسلان، فكفوا.
انتهى ملخصا.
وفيها ابن المأمون، أبو الغنائم، عبد الصمد بن علي بن محمد الهاشمي العبّاسي البغدادي، في شوال، وله تسع وثمانون سنة. سمع جدّه أبا الفضل بن المأمون، والدارقطني، وجماعة.
قال أبو سعد السمعاني: كان ثقة نبيلا مهيبا، تعلوه سكينة ووقار، رحمه الله.
وفيها أبو القاسم القشيري عبد الكريم بن هوازن النيسابوري الصّوفي الزاهد، شيخ خراسان، وأستاذ الجماعة، ومصنّف «الرسالة» [2] توفي في ربيع الآخر، وله تسعون سنة. روى عن أبي الحسين الخفّاف، وأبي نعيم، وطائفة.
قال أبو سعد السمعاني: لم ير أبو القاسم مثل نفسه، في كماله وبراعته، جمع بين الشريعة والحقيقة، رحمه الله. قاله في «العبر» [3] .
وقال السخاوي: عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة بن محمد القشيري أبو القاسم المفسّر المحدّث، الفقيه الشافعي، المتكلم الأصولي، الأديب النحوي، الكاتب الشاعر، الصوفي، لسان عصره، وسيد وقته، سيد لم ير مثل نفسه في كماله وبراعته، جمع بين علمي الشريعة.
__________
[1] (3/ 260) .
[2] المعروفة ب- «الرسالة القشيرية» وهي مطبوعة.
[3] (3/ 261) .(5/275)
والحقيقة، وصنّف «التفسير الكبير» قبل العشر والأربعمائة، وخرج في رفقة إلى الحجّ، فيها الإمام أبو محمد الجويني، وأحمد بن الحسين البيهقي الإمام، وكان أملح خلق الله، وأظرفهم شمائل. ولد سنة ست وسبعين وثلاثمائة في ربيع الأول، وتوفي في صبيحة يوم الأحد قبل طلوع الشمس، سادس عشر ربيع الآخر، ودفن في المدرسة بجانب شيخه أبي علي الدّقّاق، ولا مسّ أحد ثيابه، ولا كتبه، ولا دخل بيته إلّا بعد سنين، احتراما وتعظيما له.
وقال السبكي [1] : ومن تصانيفه «التفسير الكبير» وهو من أجود التفاسير وأوضحها، و «الرسالة» المشهورة المباركة، التي قلّ ما تكون في بيت وينكب و «التّحبير في التّذكير» ، و «أدب الصّوفية» [2] و «لطائف الإشارات» وكتاب «الجواهر» و «عيون الأجوبة في أصول الأسئلة» وكتاب «المناجاة» وكتاب «نكت [3] أولي النّهى» [4] وكتاب «أحكام السّماع» وغير ذلك.
ومن شعره:
لا تدع خدمة الأكابر واعلم ... أن في عشرة الصّغار الصّغارا
وابغ من في يمينه لك يمن ... وترى في اليسار منه اليسارا
انتهى ملخصا.
وقال ابن خلّكان [5] : توفي أبوه وهو صغير، وقرأ الأدب في صباه،
__________
[1] انظر «طبقات الشافعية الكبرى» (5/ 159) .
[2] في «طبقات الشافعية الكبرى» : «آداب الصوفية» .
[3] لفظة «نكت» لم ترد في «آ» وأثبتها من «ط» .
[4] في «سير أعلام النبلاء» (18/ 230) و «هدية العارفين» (1/ 608) : «المنتهى في نكت أولي النهى» .
[5] انظر «وفيات الأعيان» (3/ 205- 208) .(5/276)
وكانت له قرية مثقلة الخراج بنواحي أستوا [1] فرأى من الرأي أن يحضر إلى نيسابور يتعلم طرفا من الحساب ليتولى الاستيفاء، ويحمي القرية من الخراج، فحضر نيسابور على هذا العزم، فاتفق حضوره مجلس الشيخ أبي علي الحسين بن علي النيسابوري المعروف بالدقاق، وأقبل عليه وتفرّس فيه النجابة، وجذبه بهمّته، وأشار عليه بالاشتغال بالعلم، فخرج إلى درس أبي بكر محمد بن أبي بكر الطّوسي، وشرع في الفقه حتّى فرغ من تعليقه، ثم اختلف إلى الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني، وقعد يسمع درسه أياما، فقال له الأستاذ: هذا العلم لا يحصّل بالسماع. ولا بدّ من الضبط بالكتابة، فأعاد عليه جميع ما سمعه في تلك الأيام، فعجب منه، وعرف محلّه، فأكرمه وقال له: ما تحتاج إلى درس، بل يكفيك أن تطالع مصنّفاتي، فقعد وجمع بين طريقته وطريقة ابن فورك، ثم نظر في كتب القاضي أبي بكر الباقلاني، وهو مع ذلك يحضر مجلس أبي علي الدقاق، وزوّجه ابنته، مع كثرة أقاربها.
وبعد وفاة أبي علي سلك مسلك المجاهدة والتجريد، وأخذ في التصنيف. وسمع من جماعة مشاهير الحديث ببغداد والحجاز، وكان له في الفروسية واستعمال السلاح يد بيضاء، وأما مجالس الوعظ والتذكير، فهو إمامها، وعقد لنفسه مجلس الإملاء في الحديث، سنة سبع وثلاثين وأربعمائة.
وذكره الباخرزي في كتاب «دمية القصر» [2] فقال: لو قرع الصّخر بسوط [3] تحذيره لذاب، ولو ربط إبليس في مجلسه لتاب.
__________
[1] قال ياقوت في «معجم البلدان» (1/ 175) : أستوا، كورة من نواحي نيسابور، معناه بلسانهم المضحاة والمشرقة، تشتمل على ثلاث وتسعين قرية، وقصبتها خبوشان، وانظر تتمة كلامه فيه.
[2] (2/ 246- 248) .
[3] في «وفيات الأعيان» : «بصوت» فيصحح فيه.(5/277)
وذكره الخطيب في «تاريخه» [1] وقال: قدم علينا- يعني إلى بغداد- في سنة ثمان وأربعين [وأربعمائة] ، وحدّث ببغداد، وكتبنا عنه، وكان ثقة، وكان يقصّ، وكان حسن الموعظة، مليح الإشارة، وكان يعرف الأصول على مذهب الأشعري، والفروع على مذهب الشافعي.
ومن شعره:
سقى الله وقتا كنت أخلو بوجهكم ... وثغر الهوى في روضة الأنس ضاحك
أقمنا زمانا والعيون قريرة ... وأصبحت يوما والجفون سوافك
وفي «رسالته» بيتان حسنان وهما:
ومن كان في طول الهوى ذاق سلوة ... فإني من ليلى لها غير ذائق
وأكثر شيء نلته من وصالها ... أمانيّ لم تصدق كخطفة بارق
وكان ولده [2] أبو نصر عبد الرحيم إماما كبيرا، أشبه أباه في علومه ومجالسه، ثم واظب درس [3] إمام الحرمين أبي المعالي، حتّى حصّل [4] طريقه في المذهب والخلاف، ثم خرج للحجّ [5] ، فوصل إلى بغداد، وعقد بها مجلس وعظ، وحصل له قبول عظيم، وحضر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي مجلسه، وأطبق علماء بغداد أنهم لم يروا مثله.
وجرى له مع الحنابلة خصام بسبب الاعتقاد، لأنه تعصب للأشاعرة، وانتهى الأمر إلى فتنة، قتل فيها جماعة من الفريقين. وتوفي بنيسابور ضحوة نهار الجمعة سابع عشري جمادى الآخرة، سنة أربع عشرة وخمسمائة، ودفن بالمشهد المعروف بهم.
__________
[1] انظر «تاريخ بغداد» (11/ 83) .
[2] في «ط» : «والده» وهو تحريف.
[3] في «وفيات الأعيان» : «دروس» .
[4] في «آ» و «ط» : «حتى وصل» والتصحيح من «وفيات الأعيان» (3/ 208) .
[5] في «ط» : «للجم» وهو تحريف.(5/278)
والقشيري: بالضم والفتح، نسبة إلى قشير بن كعب، قبيلة كبيرة.
انتهى ما أورده ابن خلّكان ملخصا.
وفيها صرّدرّ الشاعر، صاحب «الديوان» أبو منصور علي بن الحسن بن علي بن الفضل الكاتب، الشاعر المشهور، أحد نجباء شعراء عصره. جمع بين جودة السبك وحسن المعنى، وعلى شعره طلاوة [1] رائقة وبهجة فائقة، وله ديوان شعر، وهو صغير، وما ألطف قوله من جملة قصيدة:
نسائل عن ثمامات بحزوى ... وبان الرّمل يعلم ما عنينا
وقد كشف الغطاء فما نبالي ... أصرّحنا بذكرك أم كنينا
ألا لله طيف منك يسعى ... بكاسات الكرى زورا ومينا
مطيّته طوال الليل جفني ... فكيف شكا إليك وجى وأينا [2]
فأمسينا كأنّا ما افترقنا ... وأصبحنا كأنّا ما التقينا
وقوله في الشيب:
لم أبك أن رحل الشّباب وإنما ... أبكي لأن يتقارب الميعاد
شعر الفتى أوراقه فإذا ذوى ... جفّت على آثاره الأعواد
وله في جارية سوداء وهو معنى حسن:
علّقتها سوداء مصقولة ... سواد قلبي صفة فيها
ما انكسف البدر على تمّه ... ونوره إلّا ليحكيها
لأجلها الأزمان أوقاتها ... مؤرخات [3] بلياليها
وإنما قيل له صرّدرّ، لأن أباه كان يلقب «صرّبعر» لشحه، فلما نبغ ولده
__________
[1] في «آ» و «ط» : «حلاوة» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» .
[2] في «آ» و «ط» : «وحافينا» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[3] في «آ» و «ط» : «متزوجات» والتصحيح من «وفيات الأعيان» (3/ 386) .(5/279)
المذكور، وأجاد في الشعر، قيل له: صرّدرّ.
وقد هجاه البيّاضي الشاعر فقال:
فقال:
لئن لقّب النّاس قدما أباك ... وسمّوه من شحّه صرّبعرا
فإنّك تنشر [1] ما صرّه ... عقوقا له وتسمّيه شعرا
ولعمري ما أنصف هذا الهاجي، فإن شعره نادر [2] وإنما العدو لا يبالي بما يقول.
وكانت وفاته في صفر في قرية بطريق خراسان، وكانت ولادته قبل الأربعمائة. قاله ابن خلّكان [3] .
وفيها أبو سعد السّكّري، علي بن موسى بن عبد الله بن عمر النيسابوري السّكّري. كان حافظا مفيدا، من حفّاظ خراسان. قاله ابن ناصر الدّين [4] .
وفيها أبو جعفر بن المسلمة، محمد بن أحمد بن محمد بن عمر بن الحسن السّلمي البغدادي. كان ثقة نبيلا، عالي الإسناد، كثير السماع، متين الدّيانة. توفي في جمادى الأولى، عن إحدى وتسعين سنة. وهو آخر من روى عن أبي الفضل الزّهري، وأبي محمد بن معروف.
وفيها أبو الحسن الآمدي، علي بن محمد بن عبد الرحمن الحنبلي، ويعرف قديما بالبغدادي. نزل ثغر آمد، وأخذ عن أكابر أصحاب القاضي أبي يعلى.
قال ابن عقيل فيه: بلغ من النظر الغاية، وكان له مروءة يحضر عنده
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «تنثر» .
[2] في «آ» و «ط» : «بارد» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[3] في «وفيات الأعيان» (3/ 385- 386) .
[4] في «التبيان شرح بديعة البيان» (151/ آ) .(5/280)
الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وأبو الحسن الدامغاني، وكانا فقيهين، فيضيفهما بالأطعمة الحسنة، ويتكلم معهما، إلى أن يمضي من الليل أكثره، وكان هو المتقدم على جميع أصحاب القاضي أبي يعلى.
وقال القاضي الحسين [1] وتبعه ابن السمعاني: أحد الفقهاء الفضلاء، والمناظرين الأذكياء. وسمع من أبي القاسم بن بشران، وأبي إسحاق البرمكي، وابن المذهب، وغيرهم. وجلس [2] في حلقة النظر والفتوى بجامع المنصور، في موضع ابن حامد، ولم يزل يدرّس ويفتي ويناظر، إلى أن خرج من بغداد، ولم يحدّث ببغداد بشيء، لأنه خرج منها في فتنة البساسيري في سنة خمسين وأربعمائة، إلى آمد، وسكن بها، واستوطن، ودرّس الفقه، إلى أن مات بها في هذه السنة، والصحيح أنه توفي سنة سبع وستين، أو ثمان وستين، كما جزم به ابن رجب [3] وله كتاب «عمدة الحاضر وكفاية المسافر» وهو كتاب جليل، يقول فيه: ذكر شيخنا ابن أبي موسى، فالظاهر أنه تفقه عليه أيضا.
وفيها ابن الغريق الخطيب، أبو الحسين محمد بن علي بن محمد بن عبيد الله بن عبد الصمد بن محمد بن الخليفة المهتدي بالله محمد بن الواثق العبّاسي، سيد بني العبّاس في زمانه وشيخهم. مات في ذي الحجة، وله خمس وتسعون سنة، وهو آخر من حدّث عن ابن شاهين، والدارقطني، وكان ثقة، نبيلا، صالحا، متبتلا، كان يقال له: راهب بني هاشم، لدينه، وعبادته، وسرده الصوم.
وفيها هنّاد بن إبراهيم، أبو المظفر النّسفي، صاحب مناكير
__________
[1] انظر «طبقات الحنابلة» (2/ 234) فهو ينقل عنه.
[2] في «طبقات الحنابلة» : «وأجلس» .
[3] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» لابن رجب (1/ 9) .(5/281)
وعجائب. روى عن القاضي أبي عمر الهاشمي، وغنجار، وطبقتهما. وعده ابن ناصر الدّين [1] من الحفّاظ، وقال في حقه: هنّاد بن إبراهيم بن محمد بن نصر أبو المظفر النّسفي القاضي، كان من المحدّثين المكثرين، والحفّاظ المشهورن، لكنه ضعيف مكثر من رواية الموضوعات.
وفيها أبو القاسم الهذلي، يوسف بن علي بن جبارة المغربي [2] [المقرئ] المتكلم النحوي، صاحب كتاب «الكامل في القراءات» وكان كثير الترحال حتّى وصل إلى بلاد التّرك في طلب القراءات المشهورة والشاذة.
__________
[1] في «التبيان شرح بديعة البيان» (151/ آ) .
[2] انظر «العبر» (3/ 262) وما بين حاصرتين مستدرك منه، و «غاية النهاية في طبقات القراء» (2/ 397- 398) .(5/282)
سنة ست وستين وأربعمائة
فيها كان الغرق الكثير ببغداد، فهلك خلق تحت الردم، وأقيمت الجمعة في الطيّار [1] على ظهر الماء، وكان الموج كالجبال، وبعض المحال غرقت بالكليّة، وبقيت كأن لم تكن، وقيل: إن ارتفاع الماء بلغ ثلاثين ذراعا.
وفيها توفي أبو سهل الحفصي، محمد بن أحمد بن عبيد الله المروزي، راوي «الصحيح» عن الكشميهني، كان رجلا عاميّا مباركا. سمع منه نظام الملك، وأكرمه، وأجزل صلته. قاله في «العبر» [2] .
وفيها- أو في التي قبلها كما جزم به ابن قاضي شهبة [3]- طاهر بن عبد الله أبو الرّبيع الإيلاقي- بالكسر والتحتية نسبة إلى إيلاق، ناحية من بلاد الشّاش- التّركي.
قال ابن شهبة: من أصحابنا أصحاب الوجوه، تفقه بمرو على القفّال، وببخارى على الحليمي، وبنيسابور على الزيادي، وأخذ الأصول عن أبي إسحاق الإسفراييني، وتفقه عليه أهل الشّاش، وكان إمام بلاده.
وفيها أبو محمد الكتّاني عبد العزيز بن أحمد التميمي الدمشقي
__________
[1] الطيار: نوع من أنواع السفن كان يسير في نهر دجلة آنذاك. انظر حاشية «العبر» (3/ 263) .
[2] (3/ 263) .
[3] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 262) .(5/283)
الصّوفي الحافظ. روى عن تمّام الرّازي [1] وطبقته، ورحل سنة سبع عشرة وأربعمائة إلى العراق، والجزيرة.
قال ابن ماكولا [2] : مكثر متقن.
وقال الذهبي [3] : توفي في جمادى الآخرة.
وفيها أبو بكر العطّار، محمد بن إبراهيم بن علي الحافظ الأصبهاني، مستملي الحافظ أبي نعيم. روى عن ابن مروديه، والقاضي أبي عمر الهاشمي، وطبقتهما.
قال الدّقاق: كان من الحفّاظ، يملي من حفظه، توفي في صفر.
وفيها ابن حيّوس الفقيه أبو المكارم، محمد بن سلطان الغنوي الدمشقي الفرضي. روى عن خاله أبي نصر الجندي، وعبد الرحمن بن أبي نصر، وتوفي في ربيع الآخر.
وفيها أبو بكر يعقوب بن أحمد الصّيرفي النيسابوري المعدّل. روى عن أبي محمد المخلدي والخفّاف، توفي في ربيع الأول.
__________
[1] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «المرادي» والتصحيح من «العبر» .
[2] انظر «الإكمال» (7/ 187) .
[3] انظر «العبر» (3/ 263) .(5/284)
سنة سبع وستين وأربعمائة
فيها عمل السلطان ملكشاه الرصد، وأنفق عليه أموالا عظيمة.
قال السيوطي [1] : فيها جمع نظام الملك المنجمين، وجعلوا النيروز أوّل نقطة من الحمل، وكان قبل ذلك عند دخول [2] الشمس نصف الحوت، وصار ما فعله النظام مبدأ التقاويم. انتهى.
وفيها توفي أبو عمر بن الحذّاء محدّث الأندلس، أحمد بن محمد بن يحيى القرطبي، مولى بني أميّة، حضّه أبوه على الطّلب في صغره، فكتب عن عبد الله بن أسد، وعبد الوارث، وسعيد بن نصر، والكبار، في سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة، وانتهى إليه علو الإسناد بقطره، وتوفي في ربيع الآخر، عن سبع وثمانين سنة.
وفيها القائم بأمر الله، أبو جعفر عبد الله بن القادر بالله أحمد بن إسحاق بن المقتدر العبّاسي، توفي في شعبان، وله ست وسبعون سنة، وبقي في الخلافة أربعا وأربعين سنة وتسعة أشهر، وأمّه أرمنيّة. كان أبيض مليح الوجه مشربا حمرة، ورعا، ديّنا، كثير الصدقة، له علم وفضل، من خير الخلائف [3] ولا سيما بعد عوده إلى الخلافة في نوبة البساسيري، فإنه صار
__________
[1] انظر «تاريخ الخلفاء» ص (423- 424) .
[2] في «تاريخ الخلفاء» : «عند حلول» .
[3] تصحفت في «العبر» إلى «الخلائق» فتصحح فيه.(5/285)
يكثر الصيام والتهجد، غسّله الشريف أبو جعفر بن أبي موسى، شيخ الحنابلة، وبويع حفيده المقتدي بأمر الله، عبد الله بن محمد بن القائم. قاله في «العبر» [1] .
وقال ابن الفرات: أول من بايعه الشريف أبو القاسم المرتضى وأنشده:
فإما مضى جبل وانقضى ... فمنك لنا جبل قد رسا
وإما فجعنا ببدر التّمام ... فقد بقيت منه شمس الضّحى
فكم حزن في محل السّرور ... وكم ضحك في خلال البكا
وقال السيوطي في «تاريخ الخلفاء» [2] : ولد القائم في نصف ذي القعدة سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة، وأمه أم ولد ارمنيّة اسمها بدر الدّجى، وقيل:
قطر النّدى.
ولي الخلافة بعد موت أبيه سنة اثنتين وعشرين، وكان ولي عهده في الحياة، وهو الذي لقّبه بالقائم بأمر الله.
قال ابن الأثير: كان جميلا، مليح الوجه، ورعا، ديّنا، زاهدا، عالما، قوي اليقين بالله، كثير الصدقة والصبر، له عناية بالأدب، ومعرفة حسنة بالكتابة، مؤثرا للعدل والإحسان، وقضاء الحوائج، لا يرى المنع من شيء طلب منه.
ولم يزل أمره مستقيما إلى أن قبض عليه في سنة خمسين. وسجنه البساسيري في غاية [3] ، فكتب وهو في السجن قصة وأنفذها إلى مكّة، فعلّقت في الكعبة فيها: إلى الله العظيم من المسكين عبده، اللهمّ إنك
__________
[1] (3/ 266) .
[2] ص (417- 422) .
[3] تصحفت في «آ» و «ط» إلى «عانة» والتصحيح من «تاريخ الخلفاء» .(5/286)
العالم بالسرائر، المطّلع على الضمائر، اللهمّ إنك غنيّ بعلمك، واطّلاعك على خلقك، عن إعلامي، هذا عبد قد كفر نعمك وما شكرها، وألغى العواقب وما ذكرها، أطغاه حلمك حتّى تعدّى علينا بغيا، وأساء إلينا عتوّا وعدوا. اللهمّ قلّ الناصر، واغترّ الظالم، وأنت المطّلع العالم، والمنصف الحاكم، بك نعتزّ عليه، وإليك نهرب من يديه، فقد تعزز [1] علينا بالمخلوقين، ونحن نعتز بك، وقد حاكمناه [2] إليك، وتوكلنا في إنصافنا منه عليك، ورفعنا ظلامتنا هذه إلى حرمك، ووثقنا في كشفها بكرمك، فاحكم بيننا بالحقّ وأنت خير الحاكمين.
ومات القائم ليلة الخميس الثلاث عشر من شعبان، وذلك أنه افتصد [ونام] [3] ، فانحلّ موضع الفصد، وخرج منه دم كثير، فاستيقظ وقد انحلّت قوته، فطلب حفيده ولي عهده عبد الله بن محمد، ووصّاه، ثم توفي. انتهى ملخصا.
وفيها أبو الحسن الدّاوودي، جمال الإسلام عبد الرحمن بن محمد بن محمد [4] بن المظفر البوشنجي، شيخ خراسان، علما، وفضلا، وجلالة، وسندا. روى الكثير عن أبي محمد بن حمّويه وهو آخر من حدّث عنه، وتفقّه على القفّال المروزي، وأبي الطيب الصّعلوكي، وأبي حامد الإسفراييني. توفي في شوّال، وله أربع وتسعون سنة، وصحب أبا علي الدقاق، وأبا عبد الرحمن السّلمي، ثم استقر ببوشنج للتصنيف، والتدريس، والفتوى، والتذكير، وصار وجه مشايخ خراسان. بقي أربعين سنة لا يأكل
__________
[1] تصحفت في «ط» إلى «تعزر» .
[2] في «آ» و «ط» : «قد حاكمنا» وما أثبته من «تاريخ الخلفاء»
[3] سقطت من «آ» و «ط» واستدركتها من «تاريخ الخلفاء»
و [4] قوله «ابن محمد» الثاني لم يرد في معظم المصادر التي بين يدي. انظر «الأنساب» (5/ 63) و «المنتظم» (8/ 296) و «سير أعلام النبلاء» (18/ 223) .(5/287)
اللّحم لمّا نهب التّركمان تلك الناحية، وبقي يأكل السمك، فحكي له أن بعض الأمراء أكل على حافة النهر الذي يصاد منه السمك ونفض في النهر ما فضل، فلم يأكل السمك بعد ذلك.
ومن شعره:
كان في الاجتماع من قبل نور ... فمضى النّور وادلهمّ الظّلام
فسد النّاس والزّمان جميعا ... فعلى النّاس والزّمان السّلام
وفيها أبو الحسن الباخرزي، الرئيس الأديب، علي بن الحسن بن أبي الطيب، مؤلف كتاب «دمية القصر» [1] كان رأسا في الكتابة، والإنشاء، والعشر، والفضل، والحائز القصب في نظمه ونثره، وكان في شبابه مشتغلا بالفقه على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه، واختصّ بملازمة درس أبي محمد الجويني، ثم شرع في فنّ الكتابة، واختلف إلى ديوان الرسائل، فارتفعت به الأحوال وانخفضت، ورأى من الدهر العجائب سفرا وحضرا، وغلب أدبه على فقهه، فاشتهر بالأدب وعمل الشعر، وسمع الحديث، وصنّف كتاب «دمية القصر وعصرة أهل العصر» وهو ذيل «يتيمة الدّهر» للثعالبي، وجمع فيها خلقا كثيرا.
وقد وضع على هذا الكتاب أبو الحسن علي بن زيد كتابا سمّاه «وشاح الدّمية» وهو كالذيل لها، وكالذي سمّاه السمعاني «الذيل» .
وللباخرزي ديوان شعر مجلد كبير، والغالب عليه الجودة، فمن معانيه الغريبة قوله:
وإني لأشكو لسع أصداغك التي ... عقاربها في وجنتيك تحوم
__________
[1] واسمه الكامل «دمية القصر وعصرة أهل العصر» كما سيذكره المؤلف بعد قليل، وقد طبع عدة مرات ولأبي سعد بن علي الخطيري المعروف ب (دلّال الكتب) ذيل عليه سماه «زينة الدّهر» .(5/288)
وأبكي لدرّ الثغر منك ولي أب ... فكيف يديم الضّحك وهو يتيم
وقوله في شدة البرد:
كم مؤمن قرصته أظفار الشتا ... فغدا لسكّان الجحيم حسودا
وترى طيور الماء في وكناتها ... تختار حر النّار والسّفّودا [1]
وإذا رميت بفضل كأسك في الهوى ... عادت عليك من العقيق عقودا
يا صاحب العودين لا تهملهما ... حرّق لنا عودا وحرّك عودا
وقوله من جملة أبيات:
يا فالق الصّبح من لآلاء غرّته ... وجاعل اللّيل من أصداغه سكنا
بصورة الوثن استعبدتني وبها ... فتنتني وقديما هجت لي شجنا
لا غرو إن أحرقت نار الهوى كبدي ... فالنّار حقّ على من يعبد الوثنا
وقتل الباخرزي في الأندلس، وذهب دمه هدرا.
وباخرز: بالباء الموحدة، وفتح الخاء المعجمة، وبعد الراء زاي، ناحية من نواحي نيسابور، تشتمل على قرى ومزارع، خرج منها جماعة من الفضلاء.
وفيها أبو الحسن بن صصرى [2] علي بن الحسين [3] بن أحمد بن محمد التغلبي الدمشقي المعدّل. روى عن تمّام الرّازي وجماعة، وتوفي في المحرم.
وفيها أبو بكر الخيّاط مقرئ العراق، محمد بن علي بن محمد بن موسى الحنبلي، الرجل الصالح. سمع من إسماعيل بن الحسن الصّرصري، وأبي الحسن المحبّر [4] ، وقرأ على ابن أبي أحمد الفرضي، وأبي الحسين السّوسنجردي وجماعة.
__________
[1] جاء في «مختار الصحاح» (سفد) : السّفود بوزن التّنّور، الحديدة التي يشوى بها اللّحم.
[2] تحرّفت في «آ» إلى «حصري» وانظر «العبر» (3/ 67) و «النجوم الزاهرة» (5/ 100) .
[3] في «العبر» : «علي بن الحسن» . (ع) .
[4] في العبر: المجبر.(5/289)
قال ابن الجوزي [1] : ما يوجد في عصره في القراءات مثله، وكان ثقة صالحا.
وقال المؤتمن السّاجي: كان شيخا، ثقة في الحديث والقراءة، صالحا، صبورا على الفقر.
وقال أبو ياسر [2] البرداني: كان من البكّائين عند الذكر [قد] أثّرت الدّموع في خدّيه.
وقال ابن النجار: كان شيخ القراء في وقته مفردا بروايات، وكان عالما ورعا ديّنا [3] .
وذكره الذهبي في «طبقات القراء» فقال: كان كبير القدر، عديم النظير، بصيرا بالقراءات [4] ، صالحا، عابدا، ورعا، ناسكا، بكّاء، قانتا، خشن العيش، فقيرا، متعففا، ثقة، فقيها، على مذهب أحمد، وآخر من روى عنه بالإجازة أبو الكرم الشّهرزري.
وقال ابن الجوزي: توفي ليلة الخميس، ثالث جمادى الأولى، سنة ثمان وستين.
وفيها محمود بن نصر بن صالح بن مرداس الأمير عزّ الدولة [5] الكلابي، صاحب حلب، ملكها عشرة أعوام، وكان شجاعا، فارسا، جوادا، ممدّحا، يداري المصريين والعبّاسيين، لتوسط داره بينهما، وولي بعده ابنه نصر، فقلته بعض الأتراك بعد سنة.
__________
[1] عبارة «المنتظم» (8/ 297) : «وتوحد في عصره في القراءات» .
[2] في «سير أعلام النبلاء» (18/ 436) : «ابن ياسر» وما بين حاصرتين زيادة منه.
[3] في «ط» : «متدينا» .
[4] في «ط» : «بالقرآن» .
[5] في «آ» : «ابن الأمير عزّ الدولة» وهو خطأ وأثبت ما في «ط» وانظر «العبر» (3/ 268) و «سير» أعلام النبلاء» (18/ 358) .(5/290)
سنة ثمان وستين وأربعمائة
فيها توفي أبو علي غلام الهرّاس، مقرئ واسط، الحسن بن القاسم الواسطي، ويعرف أيضا بإمام الحرمين. كان أحد من عني بالقراءات، ورحل فيها إلى البلاد، وصنّف فيها. قرأ على أبي الحسين [1] السّوسنجردي، والحمامي، وطبقتهما، ورحل القرّاء إليه من الآفاق، وفيه لين. قاله في «العبر» .
وفيها عبد الجبّار بن عبد الله بن إبراهيم بن برزة، أبو الفتح الرازي، الواعظ، الجوهري، التاجر. روى عن علي بن محمد القصّار وطائفة، وعاش تسعين سنة، وآخر من حدّث عنه إسماعيل الحمّامي.
وفيها أبو نصر التّاجر، عبد الرحمن بن علي النيسابوري المزكّي [2] .
روى عن يحيى بن إسماعيل الحربي النيسابوري، وجماعة.
وفيها أبو الحسن الواحدي المفسّر، علي بن أحمد النيسابوري،
__________
[1] في «آ» و «ط» : و «الأنساب» (7/ 189) و «على أبي الحسن» وهو خطأ، وتحرّف كذلك في حاشية المحققين على «معرفة القرّاء الكبار» للذهبي (1/ 428) طبع مؤسسة الرسالة، وجاء على الصواب في أول هذا المجلد من ترجمته ص (11) وفي «العبر» (3/ 80) و «معرفة القرّاء الكبار» (1/ 363) .
[2] قال السمعاني في «الأنساب» (11/ 278) : المزكّي: هذا اسم لمن يزكّي الشهود ويبحث عن حالهم، ويبلغ القاضي حالهم.(5/291)
تلميذ أبي إسحاق الثعلبي، وأحمد من برع في العلم، وكان شافعي المذهب.
روى في كتبه عن ابن محمش، وأبي بكر الحيري، وطائفة، وكان رأسا في اللغة والعربية. [توفي في جمادى الآخرة، وكان من أبناء السبعين.] قال ابن قاضي شهبة [1] : كان فقيها إماما في النحو واللغة] [2] وغيرهما، شاعرا، وأما التفسير، فهو إمام عصره فيه. أخذ التفسير عن أبي إسحاق الثعلبي، واللغة عن أبي الفضل العروضي صاحب أبي منصور الأزهري، والنحو عن أبي الحسن القهندزي- بضم القاف والهاء وسكون النون، وفي آخره زاي- الضرير. صنّف الواحدي «البسيط» في نحو ستة عشر مجلدا، والوسيط في أربع مجلدات، و «الوجيز» [3] ومنه أخذ الغزّالي هذه الأسماء.
و «أسباب النزول» وكتاب «نفي التحريف عن القرآن الشريف» وكتاب «الدعوات» وكتاب «تفسير أسماء النّبيّ صلى الله عليه وسلّم» [4] وكتاب «والمغازي» وكتاب «الإغراب في الإعراب» و «شرح ديوان المتنبي» . وأصله من ساوة، من أولاد التجار، وولد بنيسابور ومات بها بعد مرض طويل في جمادى الآخرة، سنة ثمان وستين. ونقل عنه في «الروضة» في مواضع من كتاب السير، في الكلام على السلام [5] .
وفيها ابن عليّك، أبو القاسم، علي بن عبد الرحمن بن الحسن النيسابوري. روى عن أبي نعيم الإسفراييني وجماعة.
__________
[1] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 277- 279) وقد تصحفت «القهنذزي» فيه إلى «القهندري» فتصحح وانظر «الأنساب» (11/ 274) .
[2] ما بين حاصرتين سقط من «آ» وأثبته من «ط» .
[3] وقد حصلت على نسختين خطيتين نفيستين منه وسوف أشرع بتحقيقه قريبا إن شاء الله تعالى، راجيا من الله العون والتوفيق والسّداد.
[4] في «سير أعلام النبلاء» (18/ 341) : «تفسير النبيّ صلّى الله عليه وسلّم» فتستدرك لفظه «أسماء» فيه.
[5] في «آ» و «ط» : «على الإسلام» والتصحيح من «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة.(5/292)
وقال ابن نقطة: حدّث عن أبي الحسين الخفّاف، ومات في رجب بتفليس.
وفيها أبو بكر الصّفّار محمد بن القاسم بن حبيب بن عبدوس النيسابوري الشافعي، أحد الكبار المتقنين، تفقه على أبي محمد الجويني، وجلس بعده في حلقته، وروى عن أبي نعيم الإسفراييني وطائفة، وتوفي في ربيع الآخر.
قال الإسنوي [1] : وهو جدّ الفقهاء المعروفين في نيسابور بالصّفّارين.
كان إماما فاضلا ديّنا خيّرا، سليم الجانب، محمود الطريقة، مكثرا من الحديث والإملاء، حسن الاعتقاد والخلق، بهي المنظر، متجملا، مع قلة ذات اليد، وكان من أبناء المشايخ والبيوتات والمياسير. انتهى.
وفيها علي بن الحسين بن أحمد بن إبراهيم بن جدّا، أبو الحسن العكبري.
ذكره ابن شافع [2] في «تاريخ» فقال: هو الشيخ الزاهد الفقيه، الأمّار بالمعروف، والنّهاء عن المنكر. سمع أبا علي بن شاذان، والبرقاني، وأبا القاسم الخرقي، وابن بشران، وغيرهم. وكان فاضلا، خيّرا، ثقة، صيّنا، شديدا في السّنّة، على مذهب أحمد.
وقال القاضي [3] الحسين وابن السمعاني: كان شيخا، صالحا، ديّنا، كثير الصلاة، حسن التلاوة للقرآن [4] ذا لسن وفصاحة في المجالس والمحافل، وله في ذلك كلام منثور وتصنيف مذكور مشهور.
__________
[1] انظر «طبقات الشافعية» للإسنوي (1/ 139) .
[2] هو أحمد بن صالح بن شافع الجيلي، المتوفى سنة (565) هـ- وسوف تردد بترجمته في المجلد السادس إن شاء الله تعالى.
[3] انظر «طبقات الحنابلة» (2/ 234- 235) فهو ينقل عنه لكن وهم في اسمه.
[4] في «آ» : «للقراءة» وأثبت لفظ «ط» و «طبقات الحنابلة» .(5/293)
وفيها أبو القاسم المهرواني، يوسف بن محمد الهمذاني [1] الصوفي، العبد الصالح، الذي خرّج له الخطيب خمسة أجزاء. روى عن أبي أحمد الفرضي، وأبي عمر بن مهدي، ومات في ذي الحجة.
وفيها يوسف بن محمد بن يوسف أبو القاسم الخطيب، محدّث همذان وزاهدها. روى عن أبي بكر بن لال، وأبي أحمد الفرضي، وأبي عمر بن مهدي، وطبقتهم. وجمع ورحل، وعاش سبعا وثمانين سنة.
وفيها البيّاضي الشاعر، أبو جعفر [2] مسعود بن عبد العزيز بن المحسّن بن الحسن بن عبد الرزاق المشهور، وهو من الشعراء المجيدين في المتأخرين، وديوان شعره صغير، وهو في غاية الرّقة، وليس فيه من المديح إلّا اليسير، فمن أحسن شعره قصيدته القافية التي أولها:
إن غاض دمعك والركاب تساق ... مع ما بقلبك فهو منك نفاق
لا تحبسن ماء الجفون فإنّه ... لك يا لديغ هواهم ترياق [3]
واحذر مصاحبة العذول فإنّه ... مغر فظاهر عذله إشفاق
لا يبعدن زمن مضت أيّامه ... وعلى متون غصونها أوراق
أيام نرجسنا العيون ووردنا ... حمر الخدود وخمرنا الأرياق
ولنا بزوراء العراق مواسم ... كانت تقام لطيبها أسواق
فلئن بكت عيني دما شوقا إلى ... ذاك الزّمان فمثله يشتاق
إن الأغيلمة الأولى لولاهم ... ما كان طعم هوى الملاح يذاق
وكأنّما أرماحهم بأكفّهم ... أجسامهم ونصولها الأحداق
__________
[1] في «آ» و «ط» : «الهمداني» وهو تصحيف، وانظر «العبر» (3/ 270) و «سير أعلام النبلاء» (18/ 346) .
[2] في «آ» : «أبو حفص» والصواب ما في «ط» وانظر «وفيات الأعيان» (5/ 197) و «سير أعلام النبلاء» (18/ 409) .
[3] في «آ» و «ط» : «درياق» وما أثبته من «وفيات الأعيان» .(5/294)
شنّوا الإغارة في القلوب بأعين ... لا يرتجى لأسيرها إطلاق
واستعذبوا ماء الجفون فعذّبوا ال ... أسراء [1] حتّى ذرت الآماق
ونمى الحديث بأنّهم نذروا دمي ... أولي دم يوم الفراق يراق
وشعره كله على هذا الأسلوب، وقيل له البيّاضي، لأن أحد أجداده كان في مجلس بعض الخلفاء مع جماعة من العبّاسيين، وكانوا قد لبسوا سوادا ما عداه، فإنه لبس بياضا، فقال الخليفة: من ذلك البيّاضي؟ فثبت الاسم عليه، واشتهر به.
وفيها ابن جابار [2] ، مكي بن عبد الله الدّينوري، أبو بكر، اجتهد في هذا الشأن، وهو حافظ. قاله ابن ناصر الدّين [3] .
__________
[1] في «آ» و «ط» : «الأسرار» وما أثبته من «وفيات الأعيان» .
[2] في «آ» و «ط» : «ابن حابار» وهو تصحيف والتصحيح من «التبيان شرح بديعة البيان» .
[3] في «التبيان شرح بديعة البيان» (151/ ب) .(5/295)
سنة تسع وستين وأربعمائة
فيها توفي أبو الحسن أحمد بن عبد الواحد بن أبي الحديد السّلمي، أحد رؤساء دمشق وعدولها. روى عن جدّه أبي بكر محمد بن أحمد بن عثمان، وجماعة. وسمع بمكّة من ابن جهضم، توفي في ربيع الأول، في عشر التسعين. قاله في «العبر» [1] .
وفيها حاتم بن محمد بن الطرابلسي أبو القاسم التميمي القرطبي المحدّث المتقن، مسند الأندلس، في ذي القعدة، وله إحدى وتسعون سنة.
روى عن عمر بن نابل [2] وأبي المطرّف بن فطيس، وطبقتهما. ورحل فأكثر عن أبي الحسن القابسي، وسمع بمكّة من ابن فراس العبقسي، وكان فقيها مفتيا.
وفيها حيّان بن خلف بن حسين بن حيّان، أبو مروان القرطبي الأديب، مؤرخ الأندلس ومسندها. توفي في ربيع الأول، وله اثنتان وتسعون سنة. سمع من عمر بن نابل، وله كتاب «المبين في تاريخ الأندلس» ستون مجلدا، وكتاب «المقتبس» في عشر مجلدات، وقد رؤي في النوم، فسئل
__________
[1] (3/ 271) .
[2] في «آ» : «عن عثمان نابل» وفي «ط» : «عن عثمان بن نابل» وكلاهما خطأ، والتصحيح من «الصلة» لابن بشكوال (1/ 157) و «العبر» (3/ 272) .(5/296)
عن التاريخ الذي عمله، فقال: لقد ندمت عليه، إلّا أنّ الله غفر لي بلطفه، وأقالني.
وقال ابن خلّكان [1] : ذكره أبو علي الغسّاني فقال: كان عالي السنّ، قوي المعرفة، متبحرا في الآداب، بارعا فيها، صاحب لواء التاريخ بالأندلس، أفصح الناس فيه وأحسنهم نظما له، لزم ابن الحباب النحوي، وصاعد [بن الحسن] الرّبعي، وأخذ عنه كتابه المسمى ب «الفصوص» وسمع الحديث، وسمعته يقول: التهنئة بعد ثلاث استخفاف بالمودّة، والتعزية بعد ثلاث إغراء بالمصيبة.
وتوفي يوم الأحد لثلاث بقين من ربيع الأول، ووصفه الغسّاني بالصدق فيما حكاه في «تاريخه» . انتهى ملخصا.
وفيها حيدرة بن علي الأنطاكي، أبو المنجّا المعبّر. حدّث بدمشق عن عبد الرحمن بن أبي نصر وجماعة.
قال ابن الأكفاني: كان يذكر أنه يحفظ في علم التعبير [2] عشرة آلاف ورقة وأكثر [3] .
وفيها أبو الحسن طاهر بن أحمد بن بابشاذ المصري الجوهري النحوي، صاحب التصانيف. دخل بغداد تاجرا في الجوهر، وأخذ عن [4] علمائها، وخدم بمصر في ديوان الإنشاء، وكان كتّاب الإنشاء لا يتقدمون بكتبهم حتّى تعرض عليه، وله مرتب على ذلك، ثم تزهد ورغب عن الخدمة، واستغنى بالله تعالى ولزم بيته، فكان ملطوفا به حتّى مات، وسببه أنه شاهد سنّورا أعمى في سطح الجامع يرقى إليه بقوته سنّور آخر ويخدمه،
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (2/ 218- 219) .
[2] تحرّفت في «آ» إلى «التفسير» .
[3] في «العبر» : «وزيادة» . (ع) .
[4] في «آ» : «من» .(5/297)
فكان له فيه عبرة، ومن تصانيفه «المقدّمة» وشرحها، و «شرح الجمل» و «شرح كتاب الأصول» لابن السرّاج، ومسودّات. توفي قبل تمامها قريب من خمسة عشر مجلدا، قيل: إنه مات مترديا من غرفة، وأصله من الدّيلم.
وبابشاذ: كلمة أعجمية يتضمن معناها السرور والفرح.
وفيها، وجزم ابن ناصر الدّين في التي قبلها [1] ، عمر بن علي بن أحمد بن اللّيث اللّيثي البخاري، أبو مسلم الحافظ الجوّال. تكلم يحيى بن مندة فيه [2] ، وكان فيه تدليس وعجب بنفسه وتيه.
وفيها أو في التي قبلها- وهو الصحيح- أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله بن علي بن الحسن بن زكريا الجرجاني الزّنجي، كان حافظا ثقة. قاله ابن ناصر الدّين [3] .
وفيها كرّكان الزاهد القدوة، أبو القاسم عبد الله بن علي الطّوسي، شيخ الصوفية، وصاحب «الدّويرة والأصحاب» . روى عن حمزة المهلّبي وجماعة، ومات في ربيع الأول.
وفيها أبو محمد الصّريفيني، عبد الله بن محمد بن عبد الله بن هزار مرد [4] ، المحدّث، خطيب صريفين، توفي في جمادى الآخرة، عن خمس وثمانين سنة. روى عن أبي القاسم بن حبابة، وأبي حفص الكتّاني، وكان ثقة.
__________
[1] مترجم في «التبيان شرح بديعة البيان» (151/ ب) .
[2] قلت: وذلك في كتابه المهم «التنبيه على أحوال الجهال والمنافقين» وهو من الكتب التي لا نعرف مكان وجودها وقد كانت عند الحافظ ابن ناصر الدّين الدّمشقي نسخة خطية منه كما ذكر العلّامة الزركلي في «الأعلام» (8/ 156) .
[3] في «التبيان شرح بديعة البيان» (151/ ب) .
[4] في «آ» و «ط» : «ابن هراوذ» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» (3/ 273) و «سير أعلام النبلاء» (18/ 330) .(5/298)
وفيها عبيد الله بن الحسين الفراء أبو القاسم بن القاضي أبي يعلي، ذكره أخوه في «الطبقات» [1] وأنه ولد يوم السبت سابع شعبان، سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة. وقرأ بالروايات على أبي بكر الخيّاط، وابن البنّا، وأبي الخطّاب الصّوفي، وغيرهم. وسمع الحديث من والده وجدّه لأمه جابر بن ياسين وغيرهم، ورحل في طلب الحديث والعلم إلى واسط، والبصرة، والكوفة، وعكبرا، والموصل، والجزيرة، وآمد، وغير ذلك. وكان يتكلم مع شيوخ عصره، وكان والده يأتمّ به في صلاة التراويح إلى أن توفي، وكان أكبر أولاد القاضي أبي يعلى، وكان ذا عفة، وديانة وصيانة، حسن التلاوة للقراءة، كثير الدرس، له معرفة بعلومه، وله معرفة بالجرح والتعديل، وأسماء الرجال والكنى، وغير ذلك من علوم الحديث. وله خط حسن، ولما وقعت فتنة ابن القشيري، خرج إلى مكّة، فتوفي في مضيّه إليها بموضع يعرف بمعدن النّقرة [2] ، أواخر ذي القعدة، وله ست وعشرون سنة وثلاثة أشهر ونيّف وعشرون يوما تقريبا، رحمه الله تعالى.
وفيها أبو الحسن البرداني محمد بن أحمد بن محمد بن الحسن بن علي بن الحسين بن هارون الفرضي الأمين، والد الحافظ أبي علي.
ولد بالبردان، وسمع الكثير من ابن رزقويه، وابن بشران، وابن شاذان، والبرقاني، وخلق، وروى عنه ولداه أبو علي وأبو ياسر.
قال ابن النجار: كان رجلا، صالحا، صدوقا، حافظا لكتاب الله
__________
[1] انظر «طبقات الحنابلة» (2/ 235- 236) .
[2] في «آ» و «ط» : «بمعدن البقرة» وهو تحريف، والتصحيح من «طبقات الحنابلة» . وقال ياقوت في «معجم البلدان» (5/ 298) : النّقرة: كل أرض متصوّبة في وهدة فهي نقرة، وبها سمّيت النقرة بطريق مكة.(5/299)
تعالى، عالما بالفرائض وقسمة التركات، كتب بخطه الكثير، وخرّج تخاريج، وجمع فنونا من الأحاديث وغيرها.
وقال ابن الجوزي: كان ثقة عالما صالحا أمينا، وتوفي يوم الخميس تاسع عشري ذي القعدة، وله كتاب «فضيلة الذكر والدعاء» .(5/300)
سنة سبعين وأربعمائة
فيها توفي أبو صالح المؤذّن، أحمد بن عبد الملك بن علي النيسابوري الحافظ، محدّث خراسان في زمانه. روى عن أبي نعيم الإسفراييني، وأبي الحسن العلوي، والحاكم، وخلق، ورحل إلى أصبهان، وبغداد، ودمشق، في حدود الثلاثين وأربعمائة، وله ألف حديث عن ألف شيخ، وثّقه الخطيب وغيره، ومات في رمضان، عن اثنتين وثمانين سنة، وله تصانيف ومسوّدات.
وفيها أبو الحسين بن النّقور، أحمد بن محمد بن أحمد البغدادي البزّاز، المحدّث الصدوق. روى عن علي الحربي، وأبي القاسم بن حبابة، وطائفة. وكان يأخذ على نسخة طالوت دينارا، أفتاه بذلك الشيخ أبو إسحاق، لأن الطلبة كانوا يفوتونه الكسب لعياله، مات في رجب عن تسعين سنة.
وفيها أبو نصر بن طلّاب الخطيب، الحسين بن أحمد بن محمد القرشي مولاهم الدمشقي، خطيب دمشق. روى عن ابن جميع «معجمة» [1] ، وعن أبي بكر بن أبي الحديد. وكان صاحب مال وأملاك، وفيه عدالة وديانة، توفي في صفر، وله إحدى وتسعون سنة.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «مجمعه» وهو خطأ، والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» (17/ 153) و «الأعلام» (5/ 313) وفيه قال العلّامة الزركلي: منه الجزءان الأول والثاني في الأزهر، باسم «معجم الغسّاني» في تراجم شيوخه الذين أجازوه وأخذ عنه.(5/301)
وفيها عبد الله بن الخلّال [1] أبو القاسم بن الحافظ أبي محمد الحسن بن محمد البغدادي. سمّعه أبوه من أبي حفص الكتّاني، والمخلّص، ومات في صفر، عن خمس وثمانين سنة.
قال الخطيب [2] : كان صدوقا.
وفيها أبو جعفر بن أبي موسى، شيخ الحنابلة، عبد الخالق بن عيسى بن أحمد.
كان ورعا، زاهدا، علّامة، كثير الفنون، رأسا في الفقه، شديدا على المبتدعة، نافذ الكلمة. روى عن أبي القاسم بن بشران، وقد أخذ في فتنة ابن القشيري، وحبس أياما. قاله في «العبر» [3] .
وقال ابن السمعاني: كان إمام الحنابلة في عصره بلا مدافعة، مليح التدريس، حسن الكلام في المناظرة، ورعا، زاهدا، متقنا، عالما بأحكام القرآن والفرائض، مرضي الطريقة.
وقال ابن عقيل: كان يفوق الجماعة من مذهبه وغيرهم في علم الفرائض، وكان عند الإمام- يعني الخليفة- معظما، حتّى إنّه وصّى عند موته بأن يغسله تبركا به، وكان حول الخليفة ما لو كان غيره لأخذه، وكان ذلك كفاية عمره، فو الله ما التفت إلى شيء منه، بل خرج ونسي مئزره، حتّى حمل إليه، قال: ولم يشهد منه أنه شرب ماء في حلقته مع شدة الحرّ، ولا غمس يده في طعام أحد من أبناء الدّنيا.
وقال ابن رجب: له تصانيف عدّة، منها «رؤوس المسائل» و «شرح
__________
[1] في «آ» و «ط» : «ابن الحلال» وهو تصحيف، والتصحيح من «العبر» (3/ 275) و «سير أعلام النبلاء» (18/ 368) .
[2] انظر «تاريخ بغداد» (9/ 439) .
[3] (3/ 275- 276) .(5/302)
المذهب» وله جزء في أدب الفقه، وفي فضائل أحمد وترجيح مذهبه، وتفقه عليه طائفة من أكابر المذهب، كالحلواني، والقاضي أبي الحسين، وغيرهم.
وكان معظما عند الخاصة والعامة، زاهدا في الدنيا إلى الغاية، قائما في إنكار المنكرات بيده ولسانه، مجتهدا في ذلك.
وتوفي رحمه الله ليلة الخميس سحرا، خامس شهر صفر، وصلّي عليه يوم الجمعة ضحى بجامع المنصور، وأمّ الناس أخوه الشريف أبو الفضل، ولم يسع الجامع الخلق، ولم يتهيأ لكثير منهم الصلاة، ولم يبق رئيس ولا مرؤوس إلّا حضره إلّا من شاء الله، ودفنوه في قبر الإمام أحمد، وما قدر أحد أن يقول للعوام: لا تنبشوا قبر الإمام أحمد، وادفنوه بجنبه. فقال أبو محمد التميمي- من بين الجماعة-: كيف تدفنونه في قبر الإمام أحمد، وبنت أحمد مدفونة معه؟ فإن جاز دفنه مع الإمام لا يجوز دفنه مع ابنته. فقال بعض العوام: اسكت، فقد زوّجنا بنت أحمد من الشريف، فسكت التميمي.
ولزم الناس قبره، فكانوا يبيتون عنده كل ليلة أربعاء، ويختمون الختمات، فيقال: إنه قرئ على قبره تلك الأيام عشرة آلاف ختمة.
ورآه بعضهم في المنام فقال له: ما فعل الله بك؟ قال: لما وضعت في قبري، رأيت قبة من درّة بيضاء، لها ثلاثة أبواب، وقائل يقول: هذه لك، أدخل من أيّ أبوابها شئت.
وفيها أبو القاسم بن مندة، عبد الرحمن بن محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن إبراهيم بن الوليد بن مندة بن بطة بن استندار، واسمه الفيرزان بن جهان بخت العبدي الأصبهاني، الإمام الحافظ، ابن الحافظ الكبير أبي عبد الله بن مندة. ومندة لقب إبراهيم جدّه الأعلى.
ذكره ابن الجوزي في «طبقات الحنابلة» وترجمه في «تاريخه» [1] فقال:
__________
[1] انظر «المنتظم» (9/ 315) .(5/303)
ولد سنة ثلاث وثمانين [1] وثلاثمائة، وسمع أباه، وأبا بكر بن مردويه، وخلقا كثيرا، وكان كثير السماع، كبير الشأن، سافر [إلى] البلاد، وصنّف التصانيف، وخرّج التخاريج، وكان ذا وقار وسمت وأتباع، فيهم كثرة، وكان متمسكا بالسّنّة، معرضا عن أهل البدع، آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، لا يخاف في الله لومة لائم.
وقال ابن السمعاني: كان كبير الشأن، جليل القدر، كثير السماع، واسع الرواية، سافر إلى الحجاز، وبغداد، وهمذان، وخراسان، وصنّف التصانيف.
وقال سعد بن محمد الزّنجاني: حفظ الله الإسلام برجلين، أحدهما بأصبهان، والآخر بهراة، عبد الرحمن بن مندة، وعبد الله الأنصاري.
وقال يحيى بن مندة: كان عمي سيفا على أهل البدع، وهو أكبر من أن ينبّه عليه مثلي، كان والله آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، وفي الغدو والآصال ذاكرا، ولنفسه في المصالح قاهرا، أعقب الله من ذكره بالشرّ الندامة، وكان عظيم الحلم، كبير العلم، قرأت عليه قول شعبة: من كتبت عنه حديثا فأنا له عبد، فقال: من كتب عنّي حديثا، فأنا له عبد.
وقال ابن تيمية: وكان أبو القاسم بن مندة من الأصحاب، وكان يذهب إلى الجهر بالبسملة في الصلاة.
وقال ابن مندة في كتابه «الرد على الجهمية» : التأويل عند أصحاب الحديث نوع من الكذب.
وقال في «العبر» [2] : كان ذا سمت ووقار، وله أصحاب وأتباع، وفيه
__________
[1] في «المنتظم» : «سنة ثمان وثمانين» وفي «سير أعلام النبلاء» (18/ 350) : «سنة إحدى وثمانين» وانظر التعليق عليه.
[2] (3/ 276) .(5/304)
تسنّن مفرط، أوقع بعض العلماء في الكلام في معتقده، وتوهّموا فيه التّجسيم، وهو بريء منه فيما علمت، ولكن لو قصّر من شأنه لكان أولى به، أجاز له زاهر بن أحمد السرخسي، وروى الكثير عن أبيه، وأبي جعفر الأبهري، وطبقتهما، وسمع بنيسابور من أصحاب الأصمّ، وبمكّة من ابن جهضم، وبهمذان، والدّينور، وشيراز، وبغداد، وعاش تسعا وثمانين سنة.
انتهى كلام «العبر» .
وفيها أبو بكر بن حمّدوية [1] ، أحمد بن محمد بن أحمد بن يعقوب الرزّاز [2] المقرئ الزاهد.
ذكره ابن الجوزي في «الطبقات» و «التاريخ» [3] . ولد يوم الأربعاء لثمان عشرة ليلة خلت من صفر سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، وحدّث عن خلق كثير، منهم: ابن بشران، وابن القوّاس، وهو آخر من حدّث عن أبي الحسين بن سمعون، وتفقه على القاضي أبي يعلى [4] ، وكان ثقة زاهدا متعبدا، حسن الطريقة، وحدّث عنه الخطيب في «تاريخه» [5] وتوفي يوم السبت رابع عشري ذي الحجة.
قال ابن نقطة [6] : حمّدوية: بضم الحاء والميم المشددة أيضا وبالياء.
__________
[1] تحرّف في «تاريخ بغداد» إلى «حمدوه» فيصحح.
[2] في «آ» : «الدرار» وفي «المنتظم» : «الوزان» وأثبت لفظ «ط» و «تاريخ بغداد» .
[3] انظر «المنتظم» (8/ 313) .
[4] في «آ» : «أبو علي» .
[5] انظر «تاريخ بغداد» (4/ 381) .
[6] في «الاستدراك» (باب حمّدوية، وحمدونة، وحمدوية، وحمديّة) مصور عن مخطوطة دار الكتب الوطنية الظاهرية بدمشق.(5/305)
سنة إحدى وسبعين وأربعمائة
فيها توفي أبو علي بن البنّا، الفقيه الزاهد، الحسن [1] بن أحمد بن عبد الله الحنبلي البغدادي، الإمام، المقرئ، المحدّث، الفقيه، الواعظ، صاحب التصانيف.
ولد سنة ست وتسعين وثلاثمائة، وقرأ القراءات السبع على أبي الحسن الحمامي وغيره، وسمع الحديث على القاضي أبي يعلى، وهو من قدماء أصحابه، وحضر عند ابن أبي موسى، وناظر في مجلسه، وتفقه أيضا على أبي الفضل التميمي، وأخيه أبي الفرج، وقرأ عليه القرآن جماعة، مثل عبد الله البارع، وأبي العز القلانسي، وغيرهما. وسمع منه الحديث خلق كثير، وقرأ عليه الحافظ الحميدي كثيرا. ودرّس الفقه كثيرا، وأفتى زمانا طويلا، وصنّف كتبا في الفقه، والحديث، والفرائض، وأصول الدّين، وفي علوم مختلفات.
قال ابن الجوزي: ذكر عنه أنه قال: صنّفت خمسمائة مصنّف. وتراجم كتبه مسجوعة.
وقال ابن شافع: كتبت الحديث عن نحو من ثلاثمائة شيخ، ما رأيت فيهم من كتب بخطه أكثر من ابن البنّا. قال: وقال لي هو رحمه الله: ما رأيت
__________
[1] تحرّف في «آ» إلى «الحسين» .(5/306)
بعيني من كتب أكثر مني. قال: وكان طاهر الأخلاق، حسن الوجه والشيبة، محبّا لأهل العلم، مكرما لهم، وتوفي رحمه الله ليلة السبت خامس رجب، ودفن بباب حرب، رحمه الله.
وفيها أبو يعلى حمزة بن الكيال البغدادي، الفقيه الحنبلي. ذكره ابن [1] أبي يعلي في «طبقاته» [2] وأنه ممّن تردد إلى والده زمانا مواصلا، وسمع منه علما واسعا، وكان عبدا صالحا. وقيل: إنه كان يحفظ الاسم الأعظم.
وقال ابن شافع في «تاريخه» : كان رجلا صالحا ملازما لبيته ومسجده، حافظا للسانه، معتزلا عن الفتن، توفي يوم الأربعاء، سابع عشري شهر رمضان، ودفن بمقبرة باب الدّير.
وفيها أبو علي الوخشي- بالفتح والسكون، نسبة إلى وخش، بلد بنواحي بلخ- الحسن بن علي البلخي، الحافظ، الثقة، المكثر الكبير، رحل وطوّف، وجمع وصنّف، وعاش ستا وثمانين سنة. روى عن تمّام الرّازي، وأبي عمر بن مهدي، وطبقتهما، بالشام، والعراق، ومصر، وخراسان، وكان من الثقات.
وفيها أبو القاسم الزّنجاني، سعد بن علي بن محمد بن علي بن الحسين، شيخ الحرم والحفّاظ، كان حافظا، قدوة، علما، ثقة، زاهدا، نزيل الحرم، وجار بيت الله. روى عن أبي عبد الله بن نظيف الفرّاء، وعبد الرحمن بن ياسر، وخلق.
وسئل محمد بن طاهر المقدسي عن أفضل من رأى؟ فقال: سعد
__________
[1] لفظة «ابن» سقطت من «آ» .
[2] انظر «طبقات الحنابلة» (2/ 252) .(5/307)
الزّنجاني، [وشيخ الإسلام الأنصاري، فقيل له: أيّهما أفضل؟ فقال الأنصاري كان متفننا [1] ، وأما الزّنجاني] [2] فكان أعرف بالحديث منه.
وسئل إسماعيل التّيمي عنه، فقال: إمام كبير، عارف بالسّنة.
وقال ابن الأهدل: كان صاحب كرامات وآيات، يزدحم الناس عليه عند الطواف كازدحامهم على الحجر.
وقال غيره: توفي في أول سنة إحدى وسبعين، أو في آخر سنة سبعين، عن تسعين سنة.
وفيها عبد الباقي بن محمد بن غالب أبو منصور الأزجي العطّار، وكيل القائم والمقتدي، صدوق، جليل، روى عن المخلّص وغيره، وتوفي في ربيع الآخر.
وفيها أبو القاسم عبد العزيز بن علي الأنماطي، ابن [بنت السّكّري.
روى عن المخلّص.
وقال عبد الوهاب الأنماطي: هو ثقة.
وآخر من روى عنه ابن الطلاية] [3] الزاهد، وتوفي في رجب.
وفيها عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني، أبو بكر النحوي، صاحب التصانيف، منها «المغني في شرح الإيضاح» ثلاثون مجلدا، وكان شافعيا أشعريا. قاله في «العبر» [4] .
وقال ابن قاضي شهبة [5] : كان شافعي المذهب، متكلما، على طريقة الأشعري، وفيه دين، وله فضيلة تامة في النحو، وصنّف كتبا كثيرة، فمن
__________
[1] في «مرآة الجنان» (3/ 101) : «كان متقنا» .
[2] ما بين حاصرتين سقط من «آ» وأثبته من «ط» و «العبر» .
[3] ما بين حاصرتين سقط من «آ» وأثبته من «ط» .
[4] (3/ 279) .
[5] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 271) .(5/308)
أشهرها كتاب «الجمل» وشرحه [1] ، وكتاب «العمدة» في التصريف وكتاب «المفتاح» و «شرح الفاتحة» في مجلد، وغير ذلك. أخذ النحو بجرجان عن أبي الحسين محمد بن الحسن الفارسي، ابن أخت الشيخ أبي علي الفارسي، وأخذ عنه علي بن أبي زيد الفصيحي.
وذكره السّلفيّ في «معجمه» [2] فقال: دخل عليه لص وهو في الصلاة، فأخذ جميع ما وجد، والجرجانيّ ينظر إليه، ولم يقطع صلاته.
وله نظم فمنه:
كبّر على العقل لا ترضه [3] ... ومل إلى الجهل ميل هائم
وعش حمارا تعش سعيدا ... فالسعد في طالع البهائم
انتهى ملخصا.
وفيها أبو عاصم الفضيلي الفقيه، الفضيل بن يحيى الهروي، شيخ أبي الوقت، توفي في جمادى [الأولى] وله ثمان وثمانون سنة. قاله في «العبر» [4] .
وقال الإسنويّ في ترجمة والد هذا [5] : أبو محمد إسماعيل بن الفضيل الهروي المعروف بالفضيل، نسبة إلى جدّ له يسمى الفضيل، تصغير الفضل. ذكره أبو نصر عبد الرحمن الهروي في «تاريخ هراة» فقال: هو الفحل المقرم [6] والإمام المقدّم في فنون الفضل وأنواع العلم، توفي سنة ثمان وثمانين وأربعمائة.
__________
[1] في «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة، أنه سمى شرحه «التلخيص» .
[2] قلت: واسم معجمه «معجم السفر» وقد طبعه- فيما أعلم- المكتب الإسلامي ببيروت منذ سنوات بتحقيق الدكتور حسن عبد الحميد رحمه الله، وليس بين يدي نسخة منه.
[3] في «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة: «لا ترمه» .
[4] (3/ 279) وما بين حاصرتين مستدرك منه.
[5] انظر «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 271) .
[6] في «آ» و «ط» : «المقدّم» والتصحيح من «طبقات الشافعية» للإسنوي والمقرم: المكرم. انظر «مختار الصحاح» (كرم) .(5/309)
قال: وهو والد الإمام أبي عاصم الصغير الهروي، كذا نقله ابن الصلاح في «طبقاته» وأنشد له:
تعوّد أيّها المسكين صمتا [1] ... فنعم جواب من آذاك ذاكا
وإن عوفيت مما عبت فافتح ... بحمد للذي عافاك فاكا
وذكر الذهبي أن أبا عاصم الفضيلي الفقيه، واسمه الفضيل، ممّن توفي سنة إحدى وسبعين، فإن كان كذلك، فيكون الابن قد مات قبل والده بنحو العشرين. انتهى كلام الإسنوي.
قلت: وعلى هذا، فالأب جاوز المائة بلا ريب، والله أعلم.
وفيها أبو الفضل القومساني، نسبة إلى قومسان، من نواحي همذان، محمد بن عثمان بن زيرك [2] ، شيخ عصره بهمذان، فضلا، وعلما، وجلالة، وزهادة، وتفننا في العلوم، مات عن بضع وسبعين سنة. روى عن علي بن أحمد بن عبدان، وجماعة.
وفيها محمد بن أبي عمران، أبو الخير المرندي- بفتحتين، وسكون النون ومهملة، نسبة إلى مرند بلد بأذربيجان [3] الصفّار [4] آخر أصحاب الكشميهني، ومن به ختم سماع البخاري عاليا، ضعفه ابن طاهر.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «صما» وما أثبته من «طبقات الشافعية» للإسنوي.
[2] في «آ» و «ط» : «ابن زبرك» وهو تصحيف، والتصحيح من «العبر» (3/ 279) و «سير أعلام النبلا» (18/ 433) و «الوافي بالوفيات» (4/ 84) .
[3] تنبيه: كذا نسبه المؤلف رحمه الله تعالى وهو خطأ، إنما هو «المروزي» كما جاء على الصواب في «الأنساب» (10/ 437) ضمن ترجمة شيخه محمد بن مكّي بن محمد الكشميهني، وفي «العبر» (3/ 279) .
[4] تحرّف في «ط» إلى «الصغار» .(5/310)
سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة
فيها توفي أبو علي الحسين بن عبد الرحمن الشافعي المكّي الحنّاط المعدّل. روى عن أحمد بن فراس العبقسي، وعبيد الله بن أحمد السقطي، وتوفي في ذي القعدة.
وفيها محمد بن أبي مسعود عبد العزيز بن محمد، أبو عبد الله الفارسي ثم الهروي. روى جزء أبي الجهم وغير ذلك، عن أبي محمد السّريجي [1] في شوال.
وفيها أبو منصور العكبري، محمد بن محمد بن أحمد الأخباري النديم عن تسعين سنة، وهو صدوق. روى عن محمد بن عبد الله الجعفي، وهلال الحفّار، وطائفة، وتوفي في شهر رمضان.
وفيها هيّاج بن عبيد، الزاهر القدوة، أبو محمد الخطيبي [2] ، نسبة إلى جدّ كان خطيبا [2] .
قال هبة الله الشيرازي: أما هيّاج الزاهد الفقيه، ما رأت عيناي مثله في الزهد والورع.
__________
[1] في «العبر» : «الشريحي» .
[2] تنبيه: كذا نسبه المؤلف رحمه الله تعالى وهو خطأ، إنما هو «الحطّيني» نسبة إلى «حطين» الواقعة الآن في شمال فلسطين العزيزة- ردّها الله تعالى إلى أيدي المسلمين بفضله وكرمه- إلى الشرق من عكا. وانظر «الأنساب» للسمعاني (4/ 170) والعبر (2/ 331) وكلام المؤلف في الصفحة التالية.(5/311)
وقال ابن طاهر [1] : بلغ من زهده، أنه يوالي [بالصوم] ثلاثة أيام، لكن يفطر على ماء زمزم، فإذا كان اليوم الثالث من أتاه بشيء أكله، وكان قد نيّف على الثمانين، وكان يعتمر في كل يوم ثلاث عمر على رجليه، ويدرّس عدة دروس لأصحابه، وكان يزور النّبيّ صلى الله عليه وسلم في كل سنة من مكّة حافيا ذاهبا وراجعا. روى عن أبي ذر الهروي وطائفة.
وقال السخاوي في «طبقاته» : هيّاج بن عبيد بن الحسين أبو محمد الفقيه الحطّيني الزاهد المقيم بالحرم. كان أوحد عصره في الزهد والورع، وكان يصوم ويفطر بعد ثلاث، ولم يكن يدّخر شيئا، ولا يملك غير ثوب واحد، وكان يزور النّبيّ صلى الله عليه وسلم في كل سنة ماشيا حافيا، وكذلك عبد الله بن عبّاس بالطائف، ويأكل بمكّة أكلة وبالطائف أخرى. ولم يلبس نعلا منذ دخل الحرم، وأقام بالحرم نحو أربعين سنة، لم يحدّث بالحرم، وإنما كان يحدّث بالحلّ حين يخرج للإحرام بالعمرة، وكان قد ناف على مائة سنة. استشهد بمكة في وقعة وقعت بين أهل السّنّة والرافضة، فحمله أميرها محمد بن هاشم وضربه ضربا شديدا على كبر السنّ، ثم حمل إلى منزله بمكّة، فمات.
قيل: إنه مات يوم الأربعاء بين الصلاتين. انتهى ملخصا.
__________
[1] انظر «الأنساب المتفقة» ص (43- 44) وقد نقل المؤلف كلامه بتصرف، وما في كتابنا قريب مما عند الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (18/ 394) فراجعه.(5/312)
سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة
فيها توفي أبو القاسم الفضل بن عبد الله المحب، الواعظ النيسابوري، آخر أصحاب أبي الحسين الخفّاف موتا. روى عن العلويّ وغيره.
وفيها أبو الفتيان بن حيّوس، الأمير مصطفى الدولة، محمد بن سلطان بن محمد بن حيّوس بن محمد بن المرتضى بن محمد بن القاسم بن عثمان، اللّغوي الشاعر المشهور. كان يدعى بالأمير، لأن أباه كان من أمراء العرب، وهو من فحول الشعراء الشاميين المجيدين. له ديوان شعر كبير.
لقي جماعة من الملوك والأكابر، ومدحهم وأخذ جوائزهم، وكان منقطعا إلى بني مرداس أصحاب حلب، وله فيهم قصائد نفيسة، وكان قد أثرى وحصلت له نعمة ضخمة من بني مرداس فبنى دارا بمدينة حلب وكتب على بابها من شعره:
دار بنيناها وعشنا بها ... في نعمة من آل مرداس
قوم نفوا بؤسي ولم يتركوا ... عليّ للأيام من باس
قل لبني الدّنيا ألا هكذا ... فليصنع النّاس مع النّاس
ومن غرر قصائده السائرة قوله من قصيدة:
هو ذاك ربع المالكية فاربع ... واسأل مصيفا عافيا عن مربع
واستسق للدّمن [1] الخوالي بالحمى ... غرّ السحائب واعتذر عن أدمعي
فلقد فنين أمام دان هاجر ... في قربه، ووراء ناء مزمع
__________
[1] في «آ» و «ط» : «للأمن» وما أثبته من «وفيات الأعيان» (4/ 442) مصدر المؤلف.(5/313)
لو تخبر الركبان عني حدّثوا ... عن مقلة عبرى وقلب موجع
ردّي لنا زمن الكثيب فإنّه ... زمن متى يرجع وصالك يرجع
لو كنت عالمة بأدنى لوعة ... لرددت أقصى نيلك المسترجع
بل لو قنعت من الغرام بمظهر ... عن مضمر بين الحشا والأضلع
أغنيت إثر تعتّب ووصلت غ ... - بّ [1] تجنّب وبذلت بعد تمنّع
ولو انني أنصفت نفسي صنتها ... عن أن أكون كطالب لم ينجع
إني دعوت ندى الكرام فلم يجب ... فلأشكرنّ ندى أجاب وما دعي
ومن العجائب والعجائب جمّة ... شكري بطيء عن ندى متسرع
وله بيت مفرد في شرف الدولة سالم بن قريش:
أنت الذي نفق الثناء بسوقه ... وجرى الندى بعروقه قبل الدّم
ولما وصل ابن الخيّاط الشاعر إلى حلب، كتب لأبي الفتيان المذكور:
لم يبق عندي ما يباع بدرهم ... وكفاك مني منظري عن مخبري
إلّا بقية ماء وجه صنتها ... عن أن تباع وقد وجدتك مشتري
فقيل له: لو قال: وأنت نعم المشتري كان أحسن.
وكانت ولادة ابن حيّوس يوم السبت سلخ صفر، سنة أربع وسبعين [2] وثلاثمائة، فيكون عمّر تسعة وتسعين سنة [3] وهو شيخ ابن الخيّاط الشاعر المشهور.
وحيّوس: بالحاء المهملة، والياء التحتية المشددة، وفي شعراء المغاربة ابن حبّوس بالباء الموحدة.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «عقب» وما أثبته من «وفيات الأعيان» .
[2] في «سير أعلام النبلاء» (18/ 379) : «توفي سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة» .
[3] الذي في «العبر» أنه توفي عن ثمانين سنة (ع) .(5/314)
سنة أربع وسبعين وأربعمائة
فيها توفي أبو الوليد الباجي، سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب التّجيبي القرطبيّ [1] بالمريّة في رجب، عن إحدى وسبعين سنة. روى عن يونس بن عبد الله بن مغيث، ومكّي بن أبي طالب، وجاور ثلاثة أعوام، ولازم أبا ذرّ الهروي، وكان يمضي معه إلى السراة، ثم رحل إلى بغداد، وإلى دمشق. وروى عن عبد الرّحمن بن الطّبيز [2] وطبقته بدمشق، وابن غيلان وطبقته ببغداد، وتفقه على أبي الطيب الطبري وجماعة، وأخذ الكلام بالموصل عن أبي جعفر السّمناني، وسمع الكثير، وبرع في الحديث، والفقه، والأصول، والنظر، وردّ إلى وطنه بعد ثلاث عشرة سنة بعلم جمّ، مع الفقر والقناعة، وكان يضرب ورق الذهب للغزل، ويعقد الوثائق، ثم فتحت عليه الدّنيا، وأجزلت صلاته، وولي قضاء أماكن، وصنّف التصانيف الكثيرة.
قال أبو علي بن سكّرة: ما رأيت أحدا على سمته وهيئته وتوقير مجلسه. قاله في «العبر» [3] .
__________
[1] انظر «الأمصار ذوات الآثار» للذهبي ص (52) .
[2] في «آ» و «ط» : «ابن الطيوري» والتصحيح من «العبر» (3/ 282) و «سير أعلام النبلاء» (18/ 537) .
[3] (3/ 282- 283) .(5/315)
وقال ابن خلّكان [1] : كان من علماء الأندلس وحفّاظها. سكن شرق الأندلس، ورحل إلى المشرق سنة ست وعشرين وأربعمائة، فأقام بمكّة مع أبي ذرّ الهروي ثلاثة أعوام، وحجّ فيها أربع حجج، ثم رحل إلى بغداد وأقام بها ثلاثة أعوام يدرّس الفقه، ويملي الحديث، ولقي بها سادة من العلماء، كأبي الطيب الطبري، وأبي إسحاق الشيرازي، وأقام بالموصل مع أبي جعفر السّمناني عاما يدرس عليه الفقه، وكان مقامه بالمشرق نحو ثلاثة أعوام، وروى عن الحافظ أبي بكر الخطيب، وروى الخطيب أيضا عنه.
وقال أنشدني أبو الوليد الباجي لنفسه:
إذا كنت أعلم علما يقينا ... بأنّ جميع حياتي كساعه
فلم لا أكون ضنينا بها ... وأجعلها في صلاح وطاعة؟!
وصنّف كتبا كثيرة، منها «التعديل والتجريح فيمن روى عنه البخاري في الصحيح» وغير ذلك.
وممّن أخذ عنه أبو عمر بن عبد البرّ صاحب «الاستيعاب» . وبينه وبين ابن حزم الظاهري مناظرات ومجالس. انتهى ملخصا.
وقال ابن ناصر الدّين [2] : أنكروا عليه في [إثباته] قصة الحديبية [2] الكتابة وشنعوا عليه ذلك وقبحوا عند العامة جوابه، وقال قائلهم:
برئت ممّن شرى دنيا بآخرة ... وقال: إنّ رسول الله قد كتبا
انتهى.
وفيها أبو القاسم بن البسري، علي بن أحمد البغدادي البندار.
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (2/ 408- 409) .
[2] في «التبيان شرح بديعة البيان» (152/ ب) ولفظة «إثباته» مستدركة منه، ولفظة «الحديبية» تحرفت في «آ» و «ط» إلى «حديثه» .(5/316)
قال أبو سعد السمعاني: كان صالحا، ثقة، فهما، ورعا، مخلصا، عالما. سمع المخلّص وجماعة، وأجاز له ابن بطة، ونصر المرجي، وكان متواضعا حسن الأخلاق، ذا هيبة ووقار [1] . توفي في سادس رمضان.
وفيها- وجزم ابن رجب أنه توفي في التي قبلها- علي بن محمد بن الفرج بن إبراهيم البزّاز الحنبلي، المعروف بابن أخي نصر العكبري.
ذكره ابن الجوزي في «الطبقات» وقال: سمع من أبي علي بن بابشاد، والحسن بن شهاب العكبري، وكان له تقدم في القرآن، والحديث، والفقه، والفرائض، وجمع إلى ذلك النّسك والورع.
وذكر ابن السمعاني نحو ذلك، ثم قال: كان فقيه الحنابلة بعكبرا، والمفتي بها، وكان خيّرا، ورعا، متزهدا، ناسكا، كثير العبادة. وكان له ذكر شائع في الخير، ومحل رفيع عند أهل بلده. وروى عنه إسماعيل بن السّمرقندي، وأخوه، وغيرهما.
وفيها أبو بكر محمد بن المزكّي أبي زكريا يحيى بن إبراهيم بن محمد النيسابوري المزكّي المحدّث، من كبار الطلبة. كتب عن خمسمائة نفس، وأكثر عن أبيه، وأبي عبد الرحمن السّلمي، والحاكم. وروى عنه الخطيب مع تقدمه، وتوفي في رجب، رحمه الله.
وفيها، وجزم ابن خلّكان [2] وابن الأهدل أنه في التي قبلها.
قال ابن الأهدل: وفي سنة ثلاث وسبعين، أبو الحسن علي بن محمد الصّليحي القائم باليمن. كان أبوه قاضيا باليمن سيء العقيدة، وكان الدّاعي عامر بن عبد الله الرّواحي يتردد إليه لرئاسته وصلاحه، فاستمال الدّاعي ولده المذكور، وهو دون البلوغ، قيل: إنه رأى حليته في «كتاب الصور» وتنقل حاله وما يؤول إليه، وهو عندهم من الذخائر القديمة المظنونة، فأطلعه على
__________
[1] في «العبر» : «ذا هيئة ورواء» . (ع) .
[2] انظر «وفيات الأعيان» (3/ 413- 414) .(5/317)
ذلك، وكتمه عن أبيه وأهله، ومات الرّواحيّ على القرب من ذلك، وأوصى له بكتبه، فعكف على درسها مع فطنته، فلم يبلغ الحلم حتى تضلع من علوم الباطنية الضلالية الأوهامية الإسماعيلية متبصرا في علم التأويل المخالف لمفهوم التنزيل، ثم صار يحجّ بالنّاس دليلا في طريق السّررات [1] والطائف خمس عشرة سنة، وشاع في الناس أنه يملك اليمن بأسره، وكان يكره من يقول له ذلك، فلما كان سنة تسع وعشرين وأربعمائة، ارتقى جبل مسور وهو أعلى جبال اليمن ذروة ومعه ستون رجلا قد حالفهم بمكّة على الموت، فلما صعده لم ينتصف النهار حتّى أحاط به عشرون ألف ضارب، وقالوا: إن نزلت وإلّا قتلناك بالجوع، فقال لهم: لم أفعل ذلك إلّا خشية أن يركبه غيرنا ويملكونكم، فإن تركتموني وإلّا نزلت، فانصرفوا عنه، فبنى فيه بعد هذا واستعد بأنواع العدّة، واستفحل أمره، وكان يدعو للمنتصر العبيدي الباطني صاحب مصر خفية، ويخاف من نجاح صاحب تهامة اليمن ويداريه، حتّى قتله بالسم مع جارية جميلة أهداها له بالكدراء، ثم استأذن المنتصر في إظهار الدعوة فأذن له، فطوى البلاد، وافتتح الحصون سريعا، وقال في خطبته في جامع الجند: في مثل هذا اليوم يخطب على منبر عدن، ولم يكن ملكها بعد، فقال بعض من حضر: سبّوح قدّوس [2] فالله أعلم، قالها استهزاء أو تعظيما، وكلا الأمرين لا ينبغي، وإن كان أحدهما أهون من الآخر، فكان
__________
[1] كذا في «آ» و «ط» : «السررات» وفي «مرآة الجنان» (3/ 103) : «السّراة» ولعل الصواب «السّرر» وهو موضع قرب مكة على أربعة أميال منها. انظر «معجم ما استعجم» للبكري (1/ 427) أثناء الكلام على (الحجون) و «تاج العروس» للزبيدي (سرر) (12/ 12) طبع الكويت.
[2] قلت: وذلك اقتباس من حديث صحيح رواه مسلم رقم (487) في الصلاة: باب ما يقال في الركوع والسجود، وتمامه: عن مطرف بن عبد الله بن الشّخّير، أن عائشة رضي الله عنها نبّأته، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول في ركوعه وسجوده «سبّوح قدّوس ربّ الملائكة والرّوح» .(5/318)
كما قال. فقام ذلك الإنسان، وغلا في القول، ودخل في بيعته ومذهبه، واستقر ملكه في صنعاء، وولّى حصون اليمن غير أهلها، وحلف أن لا يولّي تهامة إلّا من وزن له مائة ألف دينار، فوزنتها زوجته أسماء بنت شهاب عن أخيها سعد بن شهاب، فولّاه، وقال: يا مولاتنا! أَنَّى لَكِ هذا؟ قالَتْ: هُوَ من عِنْدِ الله، إِنَّ الله يَرْزُقُ من يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ 3: 37 [1] ، فتبسم وقال: هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا 12: 65.
وعزم على الحجّ في سنة ثلاث وسبعين في ألف فارس، منهم من آل الصّليحي مائة وستون شخصا، واستخلف ولده أحمد المكّرم، فننزل بقرب المهجم بضيعة تسمى أمّ البهم، وبئر أمّ معبد، فهجمه سعيد الأحول بن نجاح، الذي كان قتله بالسم، ولم يشعر عسكره ونواحي جيشه إلّا وقد قتل، فانزعروا [2] وفزعوا، وكان أصحاب الأحول سبعين رجلا رجالة، بيد كل واحد منهم جريدة في رأسها مسمار حديد، وتركوا جادة الطريق وسلكوا الساحل، فوصلوا في ثلاثة أيام، وكان الصّليحي قد سمع بهم وأرصد لهم نحو خمسة آلاف من الحبشة، فاختلف طريقهم، ولما رآهم الصّليحيّ مع ما هم فيه من التعب والجوع والحفاء، ظنّ أنهم من جملة عسكره، فقال له أخوه: اركب فهذا والله الأحول، فلم يبرح الصّليحيّ من مكانه، حتّى وصل إليه الأحول، فقتله وقتل أخاه وسائر الصّليحيين، وصالح بقية العسكر، وقال: إنما أخذت بثأري، ثم رفع رأس الصّليحيّ على رأس عود المظلّة، وقرأ القارئ:
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ من تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ 3: 26 الآية [آل عمران: 26] ورجع الأحول إلى زبيد سالما غانما.
__________
[1] قلت: وذلك أيضا اقتباس من سورة آل عمران، الآية (37) أثناء ذكر قصة مريم بنت عمران عليها السلام.
[2] «انزعروا» : أي تفرّقوا. نقول: زعر الشّعر والريش والوبر زعرا: قلّ وتفرّق حتى يبدو الجلد.
ويقال: زعر المكان: إذا كان قليل النبات، متفرّقه. انظر «لسان العرب» (زعر) .(5/319)
وكان قد قام بالدعوة الباطنية قبل الصّليحي علي بن فضل من ولد خنفر بن سبأ [1] سنة سبعين ومائتين، وملك تهامة وجبالها، وطرد الناصر بن الهادي، والله أعلم. انتهى ما أورده ابن الأهدل اليمني في «تاريخه» .
وفيها قتيبة العثماني، أبو رجاء النّسفي، قتيبة بن محمد بن محمد بن أحمد بن عثمان. كان حافظا مشهورا. قاله ابن ناصر الدّين [2] .
__________
[1] في «آ» و «ط» : «جنفر بن سبأ» وهو خطأ، والتصحيح من «مرآة الجنان» (3/ 107) وفيه قال اليافعي: خنفر: بفتح الخاء المعجمة، وسكون النون، وفتح الفاء في آخره راء، ابن سبأ.
[2] في «التبيان شرح بديعة البيان» (152/ ب) .(5/320)
سنة خمس وسبعين وأربعمائة
فيها توفي محدّث أصبهان ومسندها، عبد الوهاب بن الحافظ أبي عبد الله محمد بن إسحاق بن مندة، أبو عمرو العبديّ الأصبهاني، الثقة المكثر. سمع أباه، وأبا [إسحاق بن] خرّشيذ قوله [1] وجماعة، وتوفي في جمادى الآخرة.
وفيها محمد بن أحمد بن علي السّمسار، أبو بكر الأصبهاني. روى عن إبراهيم بن خرّشيذقوله وجماعة، ومات في شوال وله مائة سنة. وروى عنه خلق كثير.
وفيها أبو الفضل المطهّر بن عبد الواحد البزاني [2] الأصبهاني، توفي فيها أو في حدودها. روى عن ابن المرزبان الأبهري جزء لوين، وعن ابن مندة، وابن خرّشيذقوله.
وفيها عبد الرحمن بن محمد بن ثابت النّابتي الخرقي- منسوب إلى خرق، بخاء معجمة مفتوحة ثم راء ساكنة، بعدها قاف، قرية من قرى مرو- المعروف بمفتي الحرمين، تفقه أولا بمرو على البوراني ثم بمرو الرّوذ على
__________
[1] ما بين حاصرتين زيادة من «سير أعلام النبلاء» (18/ 440) .
[2] في «آ» و «ط» : «البراني» وهو تصحيف، والتصحيح من «العبر» (3/ 284) و «سير أعلام النبلاء» (18/ 549) و «توضيح المشتبه» (1/ 409) .(5/321)
القاضي الحسين، ثم ببخارى على أبي سهل الأبيوردي، ثم ببغداد على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي. وسمع الحديث وأسمع، ثم حجّ وجاور بمكّة سنة، ثم رجع إلى وطنه، وسكن قريته، واشتغل بالزهد والفتوى، إلى أن مات في شهر ربيع الأول.(5/322)
سنة ست وسبعين وأربعمائة
فيها عزم أهل حرّان، وقاضيهم ابن جلبة الحنبلي على تسليم حرّان إلى جنق [1] أمير التّركمان، لكونه سنّيّا، وعصوا على [2] مسلم بن قريش، صاحب الموصل، لكونه رافضيا، ولكونه مشغولا بمحاصرة دمشق مع المصريين. كانوا يحاصرون بها تاج الدولة تتش [3] فأسرع إلى حرّان، ورماها بالمجانيق، وأخذها، وذبح القاضي وولديه رحمهم الله تعالى. قاله في «العبر» [4] .
وفيها توفي الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزآباذي الشافعي، جمال الدّين. أحد الأعلام، وله ثلاث وثمانون سنة.
تفقه بشيراز، وقدم بغداد، وله اثنتان وعشرون سنة، فاستوطنها ولزم القاضي أبا الطيب إلى أن صار معيده في حلقته، وكان أنظر أهل زمانه، وأفصحهم وأورعهم، وأكثرهم تواضعا وبشرا، وانتهت إليه رئاسة المذهب في الدّنيا.
روى عن أبي علي بن شاذان، والبرقاني، ورحل إليه الفقهاء من الأقطار،
__________
[1] كذا في «آ» و «ط» و «العبر» ، وفي «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (10/ 130) : «جبق» وأثبت في الباء نقطة تحت السكون إشارة إلى شك الناشر في وجه الصواب في الاسم.
[2] لفظة «على» سقطت من «آ» وأثبتها من «ط» و «العبر» .
[3] تصحف في «آ» و «ط» إلى «تنش» والتصحيح من «العبر» .
[4] (3/ 285) .(5/323)
وتخرّج به أئمة كبار، ولم يحجّ ولا وجب عليه، لأنه كان فقيرا متعفّفا، قانعا باليسير. ودرّس بالنظامية، وله شعر حسن. توفي في الحادي والعشرين من جمادى الآخرة. قاله في «العبر» [1] .
وقال ابن قاضي شهبة [2] : قال الشيخ أبو إسحاق: كنت أعيد كل قياس ألف مرة، فإذا فرغت أخذت قياسا آخر على هذا، وكنت أعيد كل درس مائة مرة، وإذا كان في المسألة بيت يستشهد به، حفظت القصيدة التي فيها البيت.
وكانت الطلبة ترحل من الشرق والغرب إليه، والفتاوى تحمل من البرّ والبحر إلى بين يديه.
قال رحمه الله: لما خرجت في رسالة الخليفة إلى خراسان، لم أدخل بلدا ولا قرية إلّا وجدت قاضيها، أو خطيبها، أو مفتيها، من تلامذتي.
وبنيت له النظامية ودرّس بها إلى حين وفاته، ومع هذا فكان لا يملك شيئا من الدنيا، بلغ به الفقر حتّى كان لا يجد في بعض الأوقات قوتا ولا لباسا، وكان طلق الوجه، دائم البشر، كثير البسط، حسن المجالسة، يحفظ كثيرا من الحكايات الحسنة والأشعار، وله شعر حسن.
قال أبو بكر الشّاشي: الشيخ أبو إسحاق حجّة الله تعالى على أئمة العصر.
وقال ابن السمعاني: إن الشيخ أبا إسحاق قال: كنت نائما ببغداد، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومعه أبو بكر وعمر، فقلت [3] : يا رسول الله، بلغني
__________
[1] (3/ 285- 286) .
[2] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 252- 253) .
[3] تحرّفت في «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة إلى «فقال» فتصحح.(5/324)
عنك أحاديث كثيرة عن ناقلي الأخبار، وأريد أن أسمع منك خبرا أتشرف به في الدّنيا، وأجعله ذخيرة للآخرة. فقال لي: «يا شيخ» وسمّاني شيخا، وخاطبني به،- وكان يفرح بهذا- ثم قال: «قل عنّي، من أراد السّلامة فليطلبها في سلامة غيره» .
وقد أخذ هذا المعنى بعضهم فنظمه في أبيات هي كالشرح لهذا الخبر، فقال:
إذا [1] شئت أن تحيا ودينك سالم ... وحظّك موفور وعرضك صين
لسانك لا تذكر به عورة امرئ ... فعندك عورات وللنّاس ألسن
وعينك إن أبدت إليك معايبا ... لقوم فقل: يا عين للنّاس أعين
وصاحب بمعروف وجانب من اعتدى ... وفارق ولكن بالتي هي أحسن
وقال ابن الأهدل: لما قدم الشيخ نيسابور رسولا من جهة المقتدر، تلقاه النّاس، وحمل إمام الحرمين الغاشية بين يديه وناظره، فغلبه الشيخ بقوة الجدل قيل: [قال] له: ما غلبتني إلّا بصلاحك.
ولما شافهه المقتدر بالرسالة، قال له: وما يدريني أنك الخليفة ولم أرك قبلها، فتبسم، وطلب من عرّفه به، وتراكب الناس عليه في بلاد العجم، حتّى تمسحوا بأطراف ثيابه وتراب نعليه.
ومن شعره رضي الله عنه:
سألت النّاس عن خلّ وفي ... فقالوا ما إلى هذا سبيل
تمسّك إن ظفرت بودّ حرّ ... فإنّ الحرّ في الدّنيا قليل
وذكر النووي في «تهذيبه» [2] أن الشيخ أبا إسحاق كان طارحا للتكلف.
__________
[1] في «آ» : «إن» .
[2] انظر «تهذيب الأسماء واللغات» (2/ 173) .(5/325)
وروي أنه جيء بسؤال وهو عند دكان خباز أو بقّال، فأخذ قلمه ودواته وأجاب على السؤال، ثم مسح بالقلم ثوبه.
وعلى الجملة فإنه ممّن أطبق الناس على فضله وسعة علمه، وحسن سمته وصلاحه، مع القبول التام من الخاص والعام، وقد أثنى عليه علماء وقته بما يطول شرحه.
وقال فيه عاصم بن الحسين:
تراه من الذّكاء نحيف جسم ... عليه من توقّده [1] دليل
إذا كان الفتى ضخم المعاني ... فليس يضره [2] الجسم النّحيل
وله مؤلفات كثيرة شهيرة نافعة، رحمه الله تعالى.
وفيها أبو الوفاء، طاهر بن الحسين بن أحمد بن عبد الله بن القوّاس البغدادي، الفقيه الحنبلي، الزاهد الورع.
ولد سنة تسعين وثلاثمائة، وقرأ القرآن [3] على أبي الحسن الحمّامي، وسمع الحديث من هلال الحفّار، وأبي الحسين بن بشران، وغيرهما [4] .
وتفقه أولا على القاضي [أبي الطيب الطبري الشافعي، ثم تركه، وتفقّه على القاضي] [5] أبي يعلى، ولازمه حتّى برع في الفقه، وأفتى ودرّس، وكانت له حلقة بجامع المنصور للفتوى والمناظرة، وكان يلقي المختصرات من تصانيف
__________
[1] في «آ» و «ط» : «توجده» والتصحيح من «وفيات الأعيان» (1/ 30) و «سير أعلام النبلاء» (18/ 463) .
[2] في «سير أعلام النبلاء» : «يضيره» وكلاهما بمعنى.
[3] كذا في «ط» و «طبقات الحنابلة» (2/ 244) و «المنتظم» (9/ 8) ، وفي «آ» : «وقرأ القراءات» .
[4] في «ط» : «وغيرهم» .
[5] ما بين حاصرتين سقط من «آ» وأثبته من «ط» .(5/326)
شيخه القاضي أبي يعلى، ويلقي مسائل الخلاف درسا، وكان إليه المنتهى في العبادة، والزهد، والورع.
وذكره ابن السمعاني في «تاريخه» فقال: من أعيان فقهاء الحنابلة وزهّادهم، كان قد أجهد نفسه في الطاعة والعبادة، واعتكف في بيت الله خمسين سنة، وكان يواصل الطاعة ليله بنهاره، وكان قارئا للقرآن [1] ، فقيها، ورعا، خشن العيش. انتهى.
وكانت له كرامات ظاهرة، ذكر ابن شافع في ترجمة صاحبه أبي الفضل بن العالمة الإسكاف المقرئ، أنّه كان يحكي من كرامات الشيخ أبي الوفاء أشياء عجيبة، منها أنه قال: كنت أحمل معي رغيفين كل يوم فأعبر- يعني في السفينة- برغيف، وأمشي إلى مسجد الشيخ فأقرأ، ثم أعود ماشيا إلى ذلك الموضع، فأنزل بالرغيف الآخر، فلما كان يوم من الأيام أعطيت الملاح الرغيف، فرمى به واستقله، فألقيت إليه الرغيف الآخر، وتشوش قلبي لما جرى، وجئت إلى الشيخ، فقرأت عليه عادتي، وقمت على العادة، فقال لي: قف، ولم تجر عادته قطّ بذلك، ثم أخرج من تحت وطائه قرصا فقال:
أعبر بهذا.
وفيها عبد الوهاب [2] بن أحمد بن عبد الوهاب بن جلبة البغدادي ثم الحرّاني، الخزّاز أبو الفتح، قاضي حرّان. اشتغل ببغداد، وتفقه بها على القاضي أبي يعلى، وسمع الحديث من البرقاني، وأبي طالب العشاري، وأبي على بن شاذان، وغيرهم. ثم استوطن حرّان، وصحب بها الشريف أبا القاسم الزيدي، وأخذ عنه، وتولى بها القضاء.
__________
[1] في «آ» : «للقراءات» .
[2] في «آ» و «ط» : «عبد الله» وهو خطأ، والتصحيح من «طبقات الحنابلة» (2/ 245) و «العبر» (3/ 286) و «عبد الوهاب» الثانية لم ترد فيه، و «المنهج الأحمد» (2/ 173) بعناية الأستاذ عادل نويهض.(5/327)
قال عنه ابن السمعاني: كان فقيها، واعظا، فصيحا.
وقال ابن أبي يعلى [1] : كان يلي قضاء حرّان من قبل الوالد، كتب له عهدا بولاية القضاء بحرّان. وكان ناشرا للمذهب، داعيا إليه، وكان مفتي حرّان، وواعظها، وخطيبها، ومدرّسها.
وقال ابن رجب [2] : له تصانيف كثيرة. وسمع منه جماعة، منهم: هبة الله بن عبد الوارث الشيرازي، ومكّي الرّميلي وغيرهما. وفي زمانه كانت حرّان لمسلم بن قريش صاحب الموصل، وكان رافضيا، فعزم القاضي أبو الفتح على تسليم حرّان إلى جبق [3] أمير التّركمان لكونه سنيا، فأسرع ابن قريش إلى حرّان، وحصرها، ورماها بالمجانيق، وهدم سورها، وأخذها، ثم قتل القاضي أبا الفتح، وولديه، وجماعة من أصحابه، وصلبهم على السور، وقبورهم بحرّان تزار، رحمة الله عليهم.
وذكر ابن تيمية في «شرح العمدة» أن أبا الفتح بن جلبة كان يختار استحباب مسح الأذنين بماء جديد، بعد مسحهما بماء الرأس، وهو غريب جدا.
وفيها أبو محمد عبد الله بن عطاء بن عبد الله بن أبي منصور بن الحسن بن إبراهيم الإبراهيمي الهروي، المحدّث الحافظ، أحد الحفّاظ المشهورين الرّحالين. سمع بهراة من عبد الواحد المليحي، وشيخ الإسلام الأنصاري، وببوشنج من أبي الحسن الدّاوودي، وبنيسابور من أبي القاسم القشيري وجماعة، وببغداد من ابن النّقور وطبقته، وبأصبهان من عبد الوهاب، وعبد الرحمن ابني مندة، وجماعة. وكتب بخطه الكثير، وخرّج
__________
[1] في «طبقات الحنابلة» (2/ 245) .
[2] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 43) .
[3] في «آ» و «ط» : «جنق» بالنون وهو تصحيف، والتصحيح من «ذيل طبقات الحنابلة» وانظر «الكامل في التاريخ» (10/ 130) .(5/328)
التاريخ للشيوخ، وحدّث، وروى عنه أبو محمد سبط الخيّاط، وابن الزعفراني، وآخر من روى عنه أبو المعالي بن النّحاس، ووثّقه طائفة، منهم:
المؤتمن السّاجي.
وقال شهردار الدّيلمي عنه: كان صدوقا، حافظا، متقنا، واعظا، حسن التذكير [1] ، وقد تكلم فيه هبة الله السقطي- والسقطيّ مجروح لا يقبل قوله- وقد ردّ قوله ابن السمعاني، وابن الجوزي، وغيرهما، وتوفي في طريق مكّة بعد عوده منها، على يومين من البصرة.
وفيها أبو الخطّاب، علي بن أحمد بن عبد الله المقرئ الصّوفي المؤدب البغدادي.
ولد سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة، وقرأ على أبي الحسن الحمّامي وغيره بالسبع، وقرأ عليه خلق كثير، منهم أبو الفضل بن المهتدي، وروى عنه الحديث أبو بكر بن عبد الباقي وغيره، وله مصنف في السبعة [2] ، وقصيدة في السنّة، وقصيدة في عدد الآي، وكان من شيوخ الإقراء ببغداد المشهورين، ومن حنابلتها المجتهدين، وكان سابقا شافعيا، ثم رأى الإمام أحمد، وسأله عن أشياء، وأصبح وقد تحنبل، وصنّف في معتقدهم.
وفيها أبو حكيم [3] الخبري- نسبة إلى خبر بنواحي شيراز- كان فقيها صالحا، وكان يكتب في مصحف، فألقى القلم من يده واستند، وقال: والله إن هذا هو موت هنيّ طيب ثم مات، رحمه الله تعالى. قاله ابن الأهدل.
وفيها البكري، أبو بكر، المغربي [4] الواعظ، من دعاة الأشعرية،
__________
[1] في «آ» : «التذكرة» .
[2] يعني في القراءات السبعة.
[3] في «آ» و «ط» : «أبو حليم» وما أثبته من «الأنساب» (5/ 39) .
[4] لفظة «المغربي» سقطت من «آ» وتحرّفت في «ط» إلى «المقرئ» والتصحيح من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» (18/ 561) .(5/329)
وفد على نظام الملك بخراسان، فنفق عليه، وكتب له سجلا أن يجلس بجوامع بغداد، فقدم وجلس ووعظ، ونال من الحنابلة سبّا وتكفيرا، ونالوا منه، ولم تطل مدته. قاله في «العبر» [1] .
وفيها أبو طاهر، محمد بن أحمد بن محمد أبي الصّقر اللّخمي الأنباري الخطيب، في جمادى الآخرة، وله ثمانون سنة. سمع بالحجاز، والشام، ومصر، وأكبر مشايخه ابن أبي نصر التميمي.
وفيها مقرئ الأندلس في زمانه، أبو عبد الله محمد بن شريح [2] الرّعيني الإشبيلي المقرئ، مصنف كتاب «الكافي» وكتاب «التذكير» توفي في شوال، وله أربع وثمانون سنة، وقد حجّ وسمع من أبي ذرّ الهروي، وجماعة [3] .
__________
[1] (3/ 286) .
[2] في «آ» و «ط» : «ابن سريج» وهو خطأ والتصحيح من «العبر» - وقد ضبطه محققه بفتح الشين وهو خطأ- و «سير أعلام النبلاء» (18/ 554) .
[3] قلت: وفيها على الصواب إمام العربية، أبو الحجّاج، يوسف بن سليمان بن عيسى الشنتمري الأندلسي. انظر «الصلة» لابن بشكوال (2/ 681) و «وفيات الأعيان» (7/ 81) و «سير أعلام النبلاء» (18/ 555- 557) والتعليق عليه. وقد وهم المؤلّف ابن العماد- رحمه الله- فأورده في وفيات سنة (495) فليحرر.(5/330)
سنة سبع وسبعين وأربعمائة
فيها توفي إسماعيل بن مسعدة بن إسماعيل بن الإمام أبي بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي الجرجاني أبو القاسم، صدر، عالم، نبيل، وافر [1] ، له يد في النظم والنثر. روى عن حمزة السّهمي وجماعة، وعاش سبعين سنة، وروى «الكامل» لابن عدي.
وفيها بيبى [2] بنت عبد الصمد بن علي أمّ الفضل، وأمّ عزّى [3] الهرثميّة الهرويّة، لها جزء مشهور، ترويه عن عبد الرحمن بن أبي شريح، توفيت في هذه السنة أبو في التي بعدها، وقد استكملت تسعين سنة.
وفيها أبو سعد، عبد الله بن الإمام عبد الكريم بن هوازن القشيري النيسابوري، أكبر الإخوة، في ذي القعدة، وله أربع وستون سنة. روى عن القاضي أبي بكر الحيري، وجماعة، وعاشت أمّه فاطمة بنت أبي علي الدّقّاق بعده أربعة أعوام.
قال ابن الأهدل: الإمام الكبير البارع، أبو سعيد [4] . كانت فيه أوصاف قلّ أن يحتويها إنسان، أو يعبّر عنها لسان، وكان أبوه يحترمه ويعامله معاملة الأقران لما ظهر له منه.
__________
[1] في «العبر» : «وافر الحشمة» . (ع) .
[2] قال في «تاج العروس» (بيب) : بيبى كضيزى. ثم ذكر المترجمة.
[3] في «آ» و «ط» و «العبر» : «أم عربي» والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» (18/ 403) .
[4] في «ط» : «أبو سعيد» وهو خطأ.(5/331)
وفيها عبد الرحمن بن محمد بن عفيف البوشنجي، آخر أصحاب عبد الرحمن بن أبي شريح [الهروي] موتا [1] ، وهو من كبار شيوخ أبي الوقت.
وفيها أبو نصر بن الصّبّاغ، عبد السيّد بن محمد بن عبد الواحد البغدادي الشافعي، أحد الأئمة، ومؤلّف «الشامل» [2] كان نظير الشيخ أبي إسحاق [3] ، ومنهم من يقدّمه على أبي إسحاق في نقل المذهب، وكان ثبتا، حجّة، ديّنا، خيّرا، ولي النظامية بعد أبي إسحاق، ثم كفّ بصره. وروى عن محمد بن الحسين القطّان، وأبي علي بن شاذان، وكان مولده في سنة أربعمائة، توفي في جمادى الأولى ببغداد، ودفن في داره. قاله في «العبر» [4] .
وقال ابن شهبة [5] . كان ورعا، نزها، ثبتا، صالحا، زاهدا، فقيها، أصوليا، محقّقا.
قال ابن عقيل: كملت له شرائط الاجتهاد المطلق.
وقال ابن خلّكان: كان ثبتا، صالحا، له كتاب «الشامل» وهو من أصح كتب أصحابنا وأتقنها أدلة.
قال ابن كثير [6] : وكان من أكابر أصحاب الوجوه، ومن تصانيفه كتاب «الكامل» في الخلاف بيننا وبين الحنفية، وكتاب «الطريق السالم» و «العمدة في أصول الفقه» .
__________
[1] ما بين حاصرتين زيادة من «العبر» (3/ 289) .
[2] قال ابن خلّكان في «وفيات الأعيان» (3/ 217) : وهو من أجود كتب أصحابنا- يعني أتباع الإمام الشافعي- وأصحها نقلا، وأثبتها أدلة، وانظر «كشف الظنون» (2/ 1025) .
[3] يعني الشيرازي.
[4] (3/ 289- 290) .
[5] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 270) .
[6] يعني في كتابه «طبقات الشافعية» وهو مخطوط لم ينشر بعد فيما أعلم.(5/332)
وفيها أبو علي الفارمذي- بفتح الفاء والراء والميم ومعجمة [1] نسبة إلى فارمذ قرية بطّوس- الفضل بن محمد الزاهد، شيخ خراسان.
قال عبد الغافر: هو شيخ الشيوخ في عصره، المنفرد بطريقته في التذكير، التي لم يسبق إليها في عبارته وتهذيبه، وحسن أدائه، ومليح استعارته، [ودقيق إشارته] ورقة ألفاظه.
دخل نيسابور، وصحب القشيري، وأخذ في الاجتهاد البالغ، إلى أن قال: وحصل له عند نظام الملك [قبول] [2] خارج عن الحدّ. روى عن أبي عبد الله بن باكويه، وجماعة، وعاش سبعين سنة. توفي في ربيع الآخر.
قاله في «العبر» [3] .
وقال الشيخ عبد الرؤوف المناوي في «طبقات الأولياء» : كان عالما، شافعيا، عارفا بمذاهب السّلف، ذا خبرة بمناهج الخلف، وأما التصوف فذاك عشّه الذي منه درج، وغابه الذي ألفه ليثه ودخل وخرج، تفقه على الغزالي الكبير، وأبى عثمان الصّابوني، وغيرهما، وأخذ عنه حجّة الإسلام، وجدّ واجتهد، وكان ملحوظا من القشيري بعين العناية، موفرا عليه منه طريق الهداية، حتّى فتح عليه لوامع من أنواع المجاهدة، وصار من مذكوري الزمان ومشهوري المشايخ، وكان لسان الوقت.
وقال السمعاني [4] : كان لسان خراسان، وشيخها، وصاحب الطريقة الحسنة في [5] تربية المريدين، وكان مجلس وعظه روضة ذات أزهار.
__________
[1] كذا قال المؤلّف وقد تبع في ذلك السمعاني في «الأنساب» (9/ 218) وقال ياقوت في «معجم البلدان» (4/ 228) : بالراء الساكنة يلتقي بسكونها ساكنان، وفتح الميم وآخره زال معجمة.
[2] لفظة «قبول» سقطت من «آ» و «ط» واستدركتها من «العبر» .
[3] (3/ 290) و «سير أعلام النبلاء» (18/ 565) وما بين حاصرتين مستدرك منه.
[4] انظر «الأنساب» (9/ 219) وقد نقل المؤلف كلامه بتصرف.
[5] في «الأنساب» : «من» .(5/333)
وفيها محمد بن عمّار أبو بكر المهري، ذو الوزارتين، شاعر الأندلس، كان هو وابن زيدون كفرسي رهان وكان ابن عمّار قد اشتمل عليه المعتمد وبلغ الغاية، إلى أن استوزره، ثم جعله نائبا على مرسية، فخرج عليه، ثم ظفر به المعتمد فقتله.
قال ابن خلّكان [1] : وكانت ملوك الأندلس تخاف ابن عمّار لبذاءة لسانه وبراعة إحسانه، لا سيما حين اشتمل عليه المعتمد على الله بن عبّاد صاحب غرب الأندلس، وأنهضه جليسا وسميرا، وقدّمه وزيرا ومشيرا، ثم رجّع إليه [2] خاتم الملك، ووجهه أميرا، وقد أتى عليه حين من الدّهر لم يكن شيئا مذكورا، فتبعته المواكب، والمضارب، والجنائب، والنجائب، والكتائب، وضربت خلفه الطبول، ونشرت على رأسه الرايات والبنود، فملك مدينة تدمير [3] وأصبح راقي منبر وسرير، مع ما كان فيه من عدم السياسة وسوء التدبير، ثم وثب على مالك رقّه، ومستوجب شكره ومستحقه، فبادر إلى عقوقه وبخس [4] حقوقه، فتحيّل المعتمد عليه، وسدّد سهام المكائد إليه، حتّى حصل في يده قنيصا [5] ، وأصبح لا يجد له محيصا، إلى أن قتله المعتمد بيده ليلا في قصره بمدينة إشبيلية.
وكانت ولادته في سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، ولما قتله المعتمد، رثاه صاحبه ابن وهبون الأندلسي بقوله من جملة قصيدة:
عجبا له أبكيه ملء مدامعي ... وأقول: لا شلّت يمين القاتل
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (4/ 425- 429) .
[2] في «وفيات الأعيان» : «ثم خلع عليه» .
[3] قال ياقوت: تدمير: كورة بالأندلس، تتصل بأحواز كورة جيّان، وهي شرقي قرطبة، وانظر تتمة كلامه عنها في «معجم البلدان» (2/ 19) .
[4] في «آ» و «ط» : «وغش» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[5] في «آ» : «محيصا» وما أثبته من «ط» و «وفيات الأعيان» .(5/334)
ومن مشاهير قصائد ابن عمّار:
أدر الزجاجة فالنّسيم قد انبرى ... والنّجم قد صرف العنان عن السّرى
والصّبح قد أهدى لنا كافوره ... لما استردّ اللّيل منّا العنبرا
ومن مديحها [1] وهي في المعتمد بن عبّاد:
ملك إذا ازدحم الملوك بمورد ... ونحاه لا يردون حتّى يصدرا
أندى على الأكباد من قطر النّدى ... وألذ في الأجفان من سنة الكرى
قدّاح زند المجد لا ينفك عن [2] ... نار الوغى إلّا إلى نار القرى
ومن جملة ذنوبه عند المعتمد بيتان هجاه وهجا ابنه المعتضد بهما وهما:
مما يقبّح عندي ذكر أندلس ... سماع معتضد فيها ومعتمد
أسماء مملكة في غير موضعها ... كالهرّ يحكي انتفاخا صولة الأسد
وكان أقوى الأسباب على قتله أنه هجاه بشعر ذكر فيه أم بنيه المعروفة بالرّميكية، منها:
تخيّرها [3] من بنات الهجان ... رميكيّة [4] لا تساوي عقالا
فجاءت بكلّ قصير الذراع ... لئيم النّجارين [5] عمّا وخالا
وهذه الرّميكيّة [4] كانت سريّة المعتمد، اشتراها من رميك بن حجّاج، فنسبت إليه، وكان قد اشتراها في أيام أبيه المعتضد، وأفرط في الميل إليها،
__________
[1] يعني من أبيات المديح في القصيدة نفسها.
[2] في «وفيات الأعيان» : «من» .
[3] في «وفيات الأعيان» : «تخيرتها» .
[4] قلت: وكانت شاعرة، ماتت سنة (488) هـ-. انظر «الأعلام» للعلّامة الزركلي (1/ 334) .
[5] في «آ» و «ط» : «النجادين» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» . وقال ابن منظور في «لسان العرب» (نجر) : النّجر والنَّجار والنُّجار: الأصل والحسب.(5/335)
وغلبت عليه، واسمها اعتماد، وهي التي أغرت المعتمد على قتل ابن عمّار لكونه هجاها.
وفيها مسعود بن ناصر السّجزي [1] أبو سعيد الرّكّاب، الحافظ، رحل، وصنّف، وحدّث عن أبي حسّان المزكّي، وعلي بن بشر بن اللّيثي، وطبقتهما، ورحل إلى بغداد، وإصبهان.
قال الدّقاق: ولم أر [في المحدّثين] [2] أجود إتقانا ولا أحسن ضبطا منه.
توفي بنيسابور في جمادى الأولى.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «الشحري» وهو تصحيف، والتصحيح من «الأنساب» (7/ 47) و «سير أعلام النبلاء» (18/ 532) .
[2] زيادة من «سير أعلام النبلاء» .(5/336)
سنة ثمان وسبعين وأربعمائة
فيها أخذ الأذفونش [1] لعنه الله، مدينة طليطلة من الأندلس، بعد حصار سبع سنين، فطغى وتمرد، وحملت إليه ملوك الأندلس الضريبة، حتّى المعتمد بن عبّاد، ثم استعان المعتمد على حربه بالملثّمين، وأدخلهم الأندلس.
وفيها توفي أبو العبّاس العذري، أحمد بن عمر بن أنس بن دلهاث الأندلسي الدّلائي- ودلايه من عمل المريّة- كان حافظا، محدّثا، متقنا، مات في شعبان، وله خمس وثمانون سنة. حج سنة ثمان وأربعمائة مع أبويه، فجاوروا ثمانية أعوام، وصحب هو أبا ذرّ، فتخرّج به، وروى عن أبي الحسن بن جهضم وطائفة، ومن جلالته أن إمامي الأندلس ابن عبد البرّ، وابن حزم، رويا عنه، وله كتاب «دلائل النبوة» .
وفيها أبو سعد المتولّي، عبد الرحمن بن مأمون النيسابوري، شيخ الشافعية، وتلميذ القاضي الحسين، وهو صاحب «التّتمة» تمم به «الإبانة» لشيخه أبي القاسم الفوراني، تفقه بمرو على الفوراني، وبمرو الرّوذ على القاضي حسين، وببخارى على أبي سهل الأبيوردي، وبرع في الفقه، والأصول، والخلاف.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «الأدقيش» وفي «العبر» : «الأذفنش» وما أثبته من «الكامل في التاريخ» (10/ 142) و «البيان المغرب» (4/ 35) .(5/337)
قال الذهبي: كان فقيها محقّقا، وحبرا مدقّقا.
وقال ابن كثير [1] : هو أحد أصحاب الوجوه في المذهب، وصنّف «التتمة» ولم يكمله، وصل فيه إلى القضاء، وأكمله غير واحد، ولم يقع شيء من تكملتهم على نسبته، وصنّف كتابا في أصول الدّين، وكتابا في الخلاف، ومختصرا في الفرائض، ومولده بنيسابور، سنة ست. وقيل: سبع وعشرين وأربعمائة، وتوفي ببغداد في شوال.
قال ابن خلّكان [2] : ولم أقف على المعنى الذي سمّي به المتولّي.
وفيها أبو المعالي أحمد بن مرزوق بن عبد الرزاق الزّعفراني [3] الحنبلي، المحدّث. سمع الكثير، وطلب بنفسه، وكتب بخطّه.
قال أبو علي البرداني: كان همّه [4] جمع الحديث وطلبه، حدّث باليسير عن أحمد بن عمر بن الأحصر، وأبي الحسين العكبري وغيرهم، وروى عنه البرداني، وقال: إنه مات ليلة الثلاثاء، مستهل المحرم.
وفيها أبو معشر الطبري، عبد الكريم بن عبد الصمد الطبري القطّان المقرئ، نزيل مكّة، وصاحب كتاب «التلخيص» وغيره. قرأ بحرّان على أبي القاسم الزّيدي، وبمكّة على الكارزيني، وبمصر على جماعة، وروى عن أبي عبد الله بن نظيف، وجلس للإقراء بمكّة.
وفيها إمام الحرمين، أبو المعالي الجويني، عبد الملك بن أبي محمد عبد الله بن يوسف، الفقيه الشافعي ضياء الدّين. أحد الأئمة الأعلام.
__________
[1] في «طبقات الشافعية» وهو مخطوط كما ذكرت من قبل.
[2] انظر «وفيات الأعيان» (3/ 134) وقد نقل المؤلف كلامه بتصرف.
[3] انظر «الوافي بالوفيات» (8/ 174- 175) و «المنهج الأحمد» (2/ 179) .
[4] في «آ» و «ط» : «همته» والتصحيح من «المنهج الأحمد» .(5/338)
قال ابن الأهدل: تفقه على والده في صباه، واشتغل به مدته، فلما توفي والده، أتى على جميع مصنّفاته، ونقلها ظهرا لبطن، وتصرّف فيها، وخرّج المسائل بعضها على بعض، ولم يرض بتقليد والده من كل وجه، حتى أخذ في تحقيق المذهب والخلاف، وسلك طريق المباحثة والمناظرة، وجمع الطرق بالمطالعة، حتّى أربى على المتقدمين، وأنسى مصنّفات الأولين. توفي والده وهو دون العشرين سنة، فأقعد مكانه للتدريس، وكان يتردد إلى المشايخ في أنواع العلوم، حتى ظهرت براعته، ولما ظهر التعصب بين الأشعرية والمبتدعة، خرج مع المشايخ إلى بغداد، فلقي الأكابر، وناظر، فظهرت فطنته، وشاع ذكره، ثم خرج إلى مكة، فجاور بها أربع سنين ينشر العلم، ولهذا قيل له: إمام الحرمين، ثم رجع بعد مضي نوبة التعصب إلى نيسابور في ولاية ألب أرسلان السّلجوقي، ثم قدم بغداد، فتولى تدريس النظامية، والخطابة، والتذكير، والإمامة، وهجرت له المجالس، وانغمر ذكر غيره من العلماء، وشاعت مصنفاته وبركاته، وكان يقعد بين يديه كل يوم نحو ثلاثمائة رجل، من الطلبة، والأئمة، وأولاد الصدور، وحصل له من القبول عند السلطان ما هو لائق بمنصبه، بحيث لا يذكر غيره والمقبول من انتمى إليه وقرأ عليه، وصنّف النظامي والغيّاثي، فقوبل بما يليق به من الشكر، والخلع الفائقة، والمراكب الثمينة، ثم قلّد رعاية الأصحاب، ورئاسة الطائفة، وفوّض إليه أمر الأوقاف، وسار إلى أصبهان بسبب مخالفة الأصحاب، فقابله نظام الملك بما هو لائق بمنصبه، وعاد إلى نيسابور، وصار أكثر عنايته ب- «نهاية المطلب في دراية المذهب» وأودعه من التدقيق والتحقيق ما تعلم به مكانته من العلم والفهم، واعترف أهل وقته بأنه لم يصنّف في المذهب مثله، وصنّف «الشامل في أصول الدّين» و «الإرشاد» و «العقيدة النظامية» و «غياث الأمم» في الإمامة، و «مغيث الخلق في اختيار(5/339)
الأحق» و «البرهان في أصول الفقه» وغيرها، وكان مع رفعة قدره وجلالته، له حظ وافر من التواضع، فمن ذلك أنه لما قدم عليه أبو الحسن المجاشعي، تلمذ له، وقرأ عليه كتاب «إكسير الذهب في صناعة الأدب» من تصنيفه، وقد تقدم أنه حمل بين يدي الشيخ أبي إسحاق الغاشية، وقد أثنى عليه علماء وقته بما يطول شرحه، من ذلك قول الشيخ أبي إسحاق: تمتعوا بهذا الإمام، فإنه نزهة هذا الزمان.
وقال له في أثناء كلامه: يا مفيد أهل المشرق والمغرب، أنت إمام الأئمة اليوم.
وقال المجاشعي: ما رأيت عاشقا للعلم في أيّ فنّ كان مثل هذا الإمام، وكان لا يستصغر أحدا، حتى يسمع كلامه، ولا يستنكف أن يعزو الفائدة إلى قائلها، ويقول: استفدتها من فلان، وإذا لم يرض كلامه زيّفه، ولو كان أباه.
وقال في اعتراض على والده، وهذه زلّة من الشيخ رحمه الله، وكان إذا شرع في حكايات الأحوال، وعلوم الصوفية، ومجالس [1] الواعظ والتذكير، بكى طويلا، حتّى يبكي غيره لبكائه، وربما زعق ولحقه الاحتراق العظيم، لا سيما إذا أخذ في التفكّر.
وسمع الحديث من جماعة كثيرة، وأجاز له أبو نعيم صاحب «الحلية» وسمع «سنن الدارقطني» من ابن عليك، وكان يعتمد تلك الأحاديث في مسائل الخلاف، ويذكر الجرح والتعديل في الرواية.
وروي أن والده في ابتداء أمره، كان ينسخ بالأجرة، حتّى اجتمع له شيء، فاشترى به جارية صالحة، ووطئها فلما وضعت إمام الحرمين، أوصاها
__________
[1] في «ط» : «ومجلس» .(5/340)
أن لا ترضعه من غيرها، فأرضعته يوما جارة لهم، فاجتهد الشيخ في تقييئها، حتّى تقايأها، وكان ربما لحقته فترة بعد إمامته، فيقول: لعل هذه من بقايا تلك الرضعة، ولما مات لحق الناس عليه ما لا يعهد لغيره، وغلقت أبواب البلد، وكشفت الرؤوس، حتّى ما اجترأ أحد من الأعيان يغطي رأسه، وصلى عليه ولده أبو القاسم بعد جهد عظيم من الزحام، ودفن في داره بنيسابور، ثم نقل بعد سنين إلى مقبرة الحسين، وكسر منبره في الجامع، وقعد الناس للعزاء أياما، وكان طلبته نحو أربعمائة يطوفون في البلد نائحين عليه، وكان عمره تسعا وخمسين سنة، وآثاره في الدّين باقية، وإن انقطع نسله ظاهرا، فنشر علمه يقوم مقام كل نسب.
ومن كلامه في كتابه «الرسالة النظامية» [1] : اختلفت مسالك العلماء في هذه الظواهر، فرأى بعضهم تأويلها، والتزم ذلك في آي الكتاب، وما يصحّ من السنن، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل، وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الربّ. قال:
والذي نرتضيه رأيا، وندين لله [2] به عقدا، اتباع سلف الأمة، والدليل السمعيّ القاطع في ذلك أن إجماع الأمة حجّة متبعة، وهو مستند الشريعة، وقد درج صحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ترك التعرّض لمعانيها، ودرك ما فيها، وهم صفوة الإسلام، والمستقلون بأعباء الشريعة، وكانوا لا يألون جهدا في ضبط قواعد الملّة، والتواصي بحفظها، وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها، فلو كان تأويل هذه الظواهر مشروعا أو محتوما، لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم عصرهم على الإضراب عن التأويل، كان ذلك هو الوجه المتبع، فحق على كل ذي دين أن يعتقد تنزيه الباري عن
__________
[1] وتسمى أيضا «العقيدة النظامية» وقد طبعت في القاهرة بتحقيق العلّامة الشيخ محمد زاهد الكوثري عام (1367) هـ-، ولكنها ليست بمتناول يدي.
[2] في «ط» : «وندين الله» .(5/341)
صفات المحدثين، ولا يخوض في تأويل المشكلات، ويكل معناها إلى الربّ، فليجر آية الاستواء والمجيء، وقوله: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ 38: 75 [ص:
75] وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ 55: 27 [الرحمن: 27] وقوله:
تَجْرِي بِأَعْيُنِنا 54: 14 [القمر: 14] . وما صحّ من أخبار الرسول، كخبر النزول وغيره كما ذكرنا، انتهى بحروفه.
ومن شعر أبي المعالي:
نهاية إقدام العقول عقال ... وغاية آراء الرّجال ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وغاية دنيانا أذى ووبال
وذكر المناوي في شره على «الجامع الصغير» [1] ما نصه: وقال السمعاني في «الذيل» عن الهمداني: سمعت أبا المعالي- يعني إمام الحرمين- يقول: قرأت خمسين ألفا في خمسين ألفا، ثم خليت أهل الإسلام بإسلامهم فيها وعلومهم الظاهرة، وركبت البحر الخضم، وغصت في الذي نهى [2] أهل الإسلام عنه، كل ذلك في طلب الحقّ، وهربا من التقليد [3] ، والآن [قد] رجعت من العمل إلى كلمة الحقّ «عليكم بدين العجائز» [4] فإن لم يدركني الحقّ بلطفه، وأموت على دين العجائز، ويختم عاقبة أمري [عند الرحيل] على الحق، وكلمة الإخلاص، لا إله إلا الله [5] ، فالويل لابن الجويني. انتهى بحروفه، فرحمه الله ورضي عنه.
__________
[1] انظر «فيض القدير» (1/ 424) وما بين حاصرتين مستدرك منه.
[2] في «آ» : «ينهى» .
[3] في «آ» و «ط» : «وهو يأمن التقليد» ، والتصحيح من «فيض القدير» .
[4] ذكره الحافظ السيوطي في «الدرر المنتثرة» ص (98) طبع مكتبة دار العروبة في الكويت، وعزاه للديلمي من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بلفظ: «إذا كان آخر الزمان واختلفت الأهواء، فعليكم بدين أهل البادية والنساء» وقال: سنده واه. وقال الصنعاني:
موضوع. انظر «الدّر الملتقط في تبيين الغلط» ص (43) طبع دار الكتب العلمية ببيروت.
[5] في «آ» و «ط» : «وإلا» وما أثبته من «فيض القدير» .(5/342)
وفيها أبو علي بن الوليد، شيخ المعتزلة، محمد بن أحمد بن عبد الله ابن أحمد بن الوليد الكرخي، وله اثنتان وثمانون سنة. أخذ عن أبي الحسين البصري، وغيره، وبه انحرف ابن عقيل عن السّنّة قليلا، وكان ذا زهد، وورع، وقناعة، وتعبد، وله عدة تصانيف، ولما افتقر جعل ينقض داره ويبيع خشبها ويتقوت [به] ، وكانت من حسان الدّور ببغداد. قاله في «العبر» [1] .
وفيها قاضي القضاة أبو عبد الله الدامغاني، محمد بن علي بن محمد الحنفي، تفقه بخراسان ثم ببغداد، على القدوري، وسمع من الصّوري وجماعة، وعاش ثمانين سنة. وكان نظير القاضي أبي يوسف في الجاه، والحشمة، والسؤدد، وبقي في القضاء دهرا، ودفن في القبة إلى جانب الإمام أبي حنيفة، رحمهما الله تعالى.
وفيها مسلم، الملك شرف الدولة، أبو المكارم بن الملك أبي المعالي قريش بن بدران بن مقلّد العقيلي، صاحب الجزيرة وحلب، وكان رافضيا اتسعت ممالكه، ودانت له العرب، وطمع في الاستيلاء على بغداد عند موت طغرلبك، وكان شجاعا، فاتكا، مهيبا، داهية [2] ، ماكرا، التقى هو والملك سليمان بن قتلمش [3] السلجوقي، صاحب الرّوم، على باب أنطاكية، فقتل في المصاف.
__________
[1] (3/ 293- 294) .
[2] في «آ» و «ط» : «ذا هيبة» والتصحيح من «العبر» مصدر المؤلف في نقله.
[3] في «آ» و «ط» : «سلمان بن قتلمش» والتصحيح من «العبر» (3/ 294) وانظر «الكامل في التاريخ» (10/ 138) .(5/343)
سنة تسع وسبعين وأربعمائة
فيها كانت وقعة الزلّاقة بين الأذفونش [1] والمعتمد بن عبّاد، ومعه الملثّمون، فأتوا الزلّاقة من عمل بطليوس، فالتقى الجمعان، فوقعت الهزيمة على الملاعين، وكانت ملحمة عظيمة، في أول جمعة من رمضان، وجرح المعتمد عدّة جراحات سليمة، وطابت الأندلس للملثّمين، فعمل أميرهم ابن تاشفين على ملكها [2] .
وفيها أعيدت الخطبة العبّاسية بالحرمين، وقطعت خطبة العبيديين.
وفيها كما قال السيوطي في «تاريخ الخلفاء» [3] أرسل يوسف بن تاشفين صاحب سبتة ومراكش إلى المعتمد أن يسلطنه، وأن يقلده ما بيده من البلاد، فبعث إليه الخلع، والأعلام، والتقليد، ولقبه بأمير المؤمنين، ففرح بذلك، وسرّ به فقهاء المغرب، وهو الذي أنشأ مدينة مراكش.
وفيها توفي أبو سعد النيسابوري، شيخ الشيوخ ببغداد، أحمد بن محمد بن دوست، كان كبير الحرمة في الدولة، له رباط مشهور ومريدون، وكان نظام الملك يعظّمه.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «الأذفوش» وهو تحريف والصواب ما أثبته، وانظر التعليق على ص (337) من هذا المجلد.
[2] في «العبر» : «على تملكها» . (ع) .
[3] لم أقف على هذا النقل في «تاريخ الخلفاء» الذي بين يدي.(5/344)
وفيها أبو القاسم إسماعيل بن زاهر النّوقاني- بالفتح والسكون كما قال السيوطي [1] : وبالضم كما قال الإسنوي [1] نسبة إلى نوقان، مدينة بطوس- النيسابوري الشافعي الفقيه، وله اثنتان وثمانون سنة. روى عن أبي الحسن العلوي، وعبد الله بن يوسف، وابن محمش، وطائفة، ولقي ببغداد أبا الحسن [2] بن بشران وطبقته، وأملى وأفاد.
وفيها طاهر بن محمد أبو عبد الرحمن الشّحّامي المستملي، والد زاهر [3] . روى عن الحيري، وطائفة، وكان فقيها صالحا، ومحدّثا عارفا. له بصر تام بالشروط، توفي في جمادى الآخرة، وله ثمانون سنة.
وفيها أبو علي التّستري، علي بن أحمد بن علي البصري السّقطي، راوي «السنن» [4] عن أبي عمر الهاشمي.
وفيها أبو الحسن علي بن فضّال المجاشعي القيراوني، صاحب المصنفات في العربية، والتفسير، توفي في ربيع الأول، وكان من أوعية العلم، تنقل بخراسان، وصحب نظام الملك.
وفيها أبو الفضل محمد بن عبيد الله الصّرّام [5] النيسابوري، الرجل الصالح. روى عن أبي نعيم الإسفراييني، وأبي الحسن العلوي، وطبقتهما، وتوفي في شعبان.
وفيهما مسند العراق، أبو نصر الزّينبي [6] محمد بن محمد بن علي
__________
[1] انظر «لب اللباب في تحرير الأنساب» ص (266) و «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 493) في آخر ترجمة (ناصر بن إسماعيل النوقاني) أما المترجم فلم يرد له ذكر عنده.
[2] في «العبر» : «ولقى ببغداد أبا الحسن» . (ع) .
[3] يريد والد (زاهر بن طاهر) والشحامي: نسبة لبيع الشحم. انظر «لب اللباب» ص (151) .
[4] يعني «سنن أبي داود» كما جاء مبينا في «سير أعلام النبلاء» (18/ 481) .
[5] تحرّفت نسبته في «آ» إلى «الصوّام» .
[6] تصحفت نسبته في «آ» و «ط» إلى «الزبيبي» والتصحيح من «العبر» (3/ 297) و «سير أعلام النبلاء» (18/ 443) .(5/345)
الهاشمي العبّاسي آخر أصحاب المخلّص، ومحمد بن عمر الورّاق [1] توفي في جمادى الآخرة، وله اثنتان وتسعون سنة وأربعة أشهر، وكان ثقة خيّرا.
وفيها القاضي أبو علي ناصر بن إسماعيل النّوقاني الحاكم.
قال عبد الغافر: كان فاضلا كبيرا من وجوه أصحاب الشافعي، حسن الكلام في المناظرة، درّس سنين بنوقان، وأجرى بها القضاء على وجهه، وقتل بها شهيدا. قاله الإسنوي [2] .
__________
[1] واسمه: أبو بكر محمد بن عمر بن زنبور الوراق. انظر «الأنساب» (6/ 346) و «سير أعلام النبلاء» (18/ 444) .
[2] انظر «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 492- 493) .(5/346)
سنة ثمانين وأربعمائة
فيها توفي مقرئ الأندلس، عبد الله بن سهل الأنصاري المرسي.
أخذ القراءات عن أبي عمر الطّلمنكي، وأبي عبد الله محمد بن سفيان، ومكّي، وجماعة.
وفيها شافع بن صالح بن حاتم بن أبي عبد الله الجيلي أبو محمد، قدم بغداد بعد الثلاثين وأربعمائة، وسمع من أبي علي بن المذهب، والعشاري، وابن غيلان، والقاضي أبي يعلى، وعليه تفقه وكتب معظم تصانيفه في الأصول والفروع، ودرّس الفقه بمسجد الشريف أبي جعفر وخلفه أولاده من بعده في ذلك، حتّى عرف المسجد بهم.
قال ابن الجوزي: كان متعففا متقشفا، ذا صلاح.
وقال ابن السمعاني: كتب التصانيف في مذهب الإمام أحمد كلها، ودرّس الفقه، وتوفي يوم الثلاثاء سادس عشري صفر.
وفيها عبد الله بن نصر الحجازي أبو محمد الزاهد.
قال ابن الجوزي [1] : سمع الحديث، وصحب الزّهاد، وتفقه على مذهب أحمد، وكان خشن العيش متعبدا، وحجّ على قدميه بضع عشرة حجة، وتوفي في ربيع الأول.
__________
[1] انظر «المنتظم» (9/ 39) وقد نقل المؤلف عنه بتصرف.(5/347)
وفي آخر يوم من هذه السنة- وهو يوم الأحد سلخ ذي الحجة- أبو بكر محمد بن علي بن الحسين بن القيّم الخزاز [1] الحريمي الحنبلي، ودفن بباب حرب. طلب الحديث، وسمع من أبي الغنائم بن المأمون، والعشاري، وغيرهما، وكتب بخطه الحديث والفقه، وحدّث باليسير، وسمع منه أبو طاهر بن الرّحبي القطّان، وأبو المكارم الظاهري.
وفيها فاطمة بنت الشيخ أبي علي الحسن بن علي الدّقاق الزاهد [2] ، زوجة القشيري، كانت كبيرة القدر، عالية الإسناد، من عوابد زمانها. روت عن أبي نعيم الإسفراييني، والعلوي، والحاكم، وطائفة. توفيت في ذي القعدة، عن تسعين سنة.
وفيها فاطمة بنت الحسن بن علي الأقرع، أمّ الفضل، البغدادية الكاتبة، التي جوّدوا على خطّها، وكانت تنقل طريقة ابن البوّاب، حكت أنها كتبت ورقة للوزير الكندري، فأعطاها ألف دينار، وقد روت عن أبي عمر بن مهدي الفارسي.
وفيها السيد المرتضى، ذو الشرفين. أبو المعالي محمد بن محمد بن زيد العلوي الحسيني الحافظ، قتله الخاقان بما وراء النهر مظلوما، وله خمس وسبعون سنة. روى عن أبي علي بن شاذان وخلق، وتخرّج بالخطيب ولازمه، وصنّف التصانيف، وحدّث بسمرقند، وأصبهان، وبغداد، وكان متموّلا، معظّما، وافر الحشمة، كان يفرّق في العام نحو العشرة آلاف دينار، ويقول: هذه زكاة مالي.
__________
[1] تصحفت في «آ» و «ط» إلى «الحزار» والتصحيح من «المنهج الأحمد» (2/ 180) .
[2] كذا في «آ» و «ط» و «سير أعلام النبلاء» (18/ 479) وفي «العبر» (3/ 298) : «الزاهدة» .(5/348)
سنة إحدى وثمانين وأربعمائة
فيها توفي أبو بكر الغورجي- بالضم وفتح الراء وجيم [نسبة] إلى غورة، قرية بهراة- أحمد بن عبد الصمد الهروي، راوي «جامع الترمذي» عن الجرّاحي. توفي في ذي الحجة.
وفيها أبو إسحاق الطيّان، إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الأصبهاني القفّال، صاحب إبراهيم بن خرّشيذ [1] قوله، توفي في صفر.
وفيها أبو إسماعيل الأنصاري، شيخ الإسلام، عبد الله بن محمد بن علي الهروي، الصّوفي القدوة الحنبلي الحافظ، أحد الأعلام، توفي في ذي الحجة وله ثمانون سنة وأشهر. سمع من عبد الجبار الجرّاحي، وأبي منصور محمد بن محمد الأزدي، وخلق كثير، وبنيسابور من أبي سعيد الصّيرفي، وأحمد السليطي، صاحبي الأصم، وكان قذى في أعين المبتدعة، وسيفا على الجهمية، وقد امتحن مرات، وصنّف عدة مصنفات، وكان شيخ خراسان في زمانه غير مدافع. قاله في «العبر» [2] .
ومن شعره:
سبحان من أجمل الحسنى لطالبها ... حتّى إذا ظهرت في عبده مدحا
ليس الكريم الذي يعطي ليمدحه ... إنّ الكريم الذي يثني بما منحا
__________
[1] تصحفت في «آ» و «ط» إلى «خورشيد» والتصحيح من «العبر» مصدر المؤلف في نقله.
[2] (3/ 299- 300) .(5/349)
وفيها عثمان بن محمد بن عبيد الله المحمي- كالمرمي نسبة إلى محم جدّ- أبو عمرو المزكّي بنيسابور، في صفر. روى عن أبي نعيم الإسفراييني، والحاكم.
وفيها ابن ماجة الأبهري أبو بكر، محمد بن أحمد بن الحسن الأصبهاني، وأبهر أصبهان قرية، وأما أبهر زنجان، فمدينة- عاش خمسا وتسعين سنة، وتفرّد في الدّنيا بجزء لوين عن ابن المرزبان الأبهري.(5/350)
سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة
فيها توفي أحمد بن محمد بن صاعد بن محمد أبو نصر الحنفي، رئيس نيسابور وقاضيها وكبيرها. روى عن جدّه، والقاضي أبي [بكر] الحيري [1] وطائفة، وكان يقال له: شيخ الإسلام، وكان مبالغا في التعصب في المذهب، فأغرى بعضا ببعض، حتّى لعنت الخطباء أكثر الطوائف في دولة طغرلبك، فلما مات طغرلبك خمد هذا ولزم بيته مدة، ثم ولي القضاء.
وفيها أبو إسحاق الحبّال، الحافظ إبراهيم بن سعيد النّعماني، مولاهم المصري، عن تسعين سنة. سمع أحمد بن ثرثال [2] ، والحافظ عبد الغني، ومنير بن أحمد، وطبقتهم، وكان يتجر في الكتب، وكانت بنو عبيد قد منعوه من التحديث في أواخر عمره، وكان ثقة، صالحا، حجّة، ورعا، كبير القدر.
وفيها الحسن بن أحمد بن عبد الواحد بن محمد بن عبد الواحد بن محمد بن أحمد بن عثمان بن الوليد بن أبي الحديد أبو عبد الله السّلمي الدمشقي الخطيب، نائب الحكم بدمشق. روى عن عبد الرحمن بن الطّبيز [3] وطائفة، وعاش ستا وستين سنة.
__________
[1] في «ط» : «الحري» وما بين حاصرتين مستدرك من «سير أعلام النبلاء» (19/ 8) .
[2] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «بريال» والتصحيح من «العبر» (3/ 302) .
[3] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «ابن الطيير» والتصحيح من «العبر» (3/ 302) .(5/351)
وفيها القاضي أبو منصور بن شكرويه [1] محمد بن أحمد بن علي الأصبهاني، الحافظ المكثر. توفي في شعبان، وله تسع وثمانون سنة، وهو آخر من روى عن أبي علي البغدادي، وابن خرّشيذقوله، ورحل وأخذ بالبصرة عن أبي عمر الهاشمي بعض «السنن» [2] أو كله، وفيه ضعف.
وفيها أبو الخير محمد بن أحمد بن عبد الله بن ورا [3] الأصبهاني.
روى عن عثمان البرجي وطبقته، وكان واعظا زاهدا، وأمّ مدة بجامع أصبهان.
وفيها الطبسي- بفتح الطاء المهملة والموحدة التحتية ومهملة، نسبة إلى طبس مدينة بين نيسابور، وأصبهان، وكرمان- محمد بن أحمد بن أبي جعفر المحدّث، مؤلّف كتاب «بستان العارفين» روى عن الحاكم وطائفة، توفي في شهر رمضان، وكان صوفيا، عابدا، ثقة، صاحب حديث وسنّة.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «ابن سمكويه» والتصحيح من «العبر» (3/ 302) و «سير أعلام النبلاء» (18/ 493) .
[2] يعني «سنن أبي داود» كما جاء مبينا في «سير أعلام النبلاء» (18/ 493) وفيه قال الذهبي:
إلّا أنه خلط في كتاب «سنن أبي داود» ما سمعه منه بما لم يسمعه، وحكّ بعض السماع.
[3] في «آ» و «ط» : «ابن زر» وما أثبته من «العبر» (3/ 302) .(5/352)
سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة
فيها كانت فتنة هائلة لم يسمع بمثلها بين السّنّة والرافضة، وقتل بينهم عدد كثير، وعجز والي البلد، واستظهرت السّنّة بكثرة من معهم من أعوان الخليفة، واستكانت الشيعة وذلّوا ولزموا التقية، وأجابوا إلى أن كتبوا على مساجد الكرخ خير الناس بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبو بكر.
وفيها توفي خواهر زاده الحنفي، شيخ الطائفة بما وراء النهر، وهو أبو بكر محمد بن الحسين البخاري القديديّ [1]- مصغرا نسبة إلى قديد بين مكّة والمدينة شرّفهما الله تعالى- روى عن منصور الكاغذي وطائفة، وبرع في المذهب، وفاق الأقران، وطريقته أبسط طريقة للأصحاب، وكان يحفظها، وتوفي في جمادى الأولى ببخارى.
وفيها عاصم بن الحسن أبو الحسين العاصمي الكرخي، الشاعر المشهور. روى عن ابن المتيّم، وعن أبي عمر بن مهدي، وكان شاعرا، محسنا، ظريفا، صاحب ملح ونوادر، مع الصلاح والعفّة والصدق، مرض في آخر عمره، فغسل ديوان شعره، ومات في جمادى الآخرة، عن ست وثمانين سنة.
__________
[1] انظر «الأنساب» (10/ 77) .(5/353)
وفيها أبو نصر التّرياقي، عبد العزيز بن محمد الهروي، راوي الترمذي [1] سوى آخر جزء منه، عن الجرّاحي [2] ، كان ثقة، أديبا، عاش أربعا وتسعين سنة.
وترياق: من قرى هراة.
وفيها أبو الحسن علي بن حمد [3] بن علي بن عبد الله بن محمد بن الحسين الطبري الرّوياني. نزل بخارى وبها مات، وكان حافظا، مكثرا، أحد النقاد. قاله ابن ناصر الدّين.
وفيها أبو بكر التّفلسي- بفتح فسكون، وبعد اللام سين مهملة، نسبة إلى تفلس بلد بأذربيجان [4]- محمد بن إسماعيل بن محمد النيسابوري المولد الصّوفي المقرئ. روى عن حمزة المهلّبي، وعبد الله بن يوسف الأصبهاني، وطائفة، ومات في شوال.
وفيها العلّامة أبو بكر الخجندي- بخاء معجمة مضمومة، ثم جيم مفتوحة، وسكون النون، ومهملة، نسبة إلى خجندة، مدينة بطرف سيحون- محمد بن ثابت بن الحسن الشافعي الواعظ، نزيل أصبهان، ومدرّس نظاميتها، وشيخ الشافعية بها ورئيسها، كان إليه المنتهى في الوعظ، توفي في ذي القعدة.
__________
[1] يعني راوي «سنن الترمذي» .
[2] تقدمت ترجمته.
[3] في «آ» و «ط» : «علي بن أحمد» وما أثبته من «التبيان شرح بديعة البيان» لابن ناصر الدّين (154- آ- ب) مصدر المؤلف. وعلق العلّامة الشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني على «الأنساب» (6/ 191) بقوله على ترجمة المترجم: في النسخة «ك» - وهي الأصل الذي اعتمد عليه- «علي بن حمد» كما عند ابن ناصر الدّين في «التبيان» ولكنه أثبت في المتن «علي بن أحمد» متابعا في ذلك السبكي في «طبقات الشافعية الكبرى» .
[4] تنبيه: كذا قال المؤلف وهو خطأ، والصواب: «التّفليسي» نسبة إلى «تفليس» وهي آخر بلدة من بلاد أذربيجان مما يلي الثغر. انظر «الأنساب» (3/ 65) و «معجم البلدان» (2/ 35) .(5/354)
قال الإسنوي [1] : له يد باطشة في النظر والأصول، انتشر علمه في الآفاق، وتخرّج به وبكلامه جماعة، وتفقه على أبي سهل الأبيوردي، وسمع الحديث من جماعة، وحدّث عنهم، وكان حسن السيرة، من رؤساء الأئمة، ذا حشمة ونعمة.
وكان له ولد يقال له أبو سعيد أحمد، تفقّه على والده، حتّى برع في المذهب، وسمع وحدّث، ولما مات أبوه فوّض تدريس النظامية إلى غيره، فلزم بيته إلى أن مات في شعبان، سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة، عن عثمان وثمانين سنة. قاله ابن السمعاني [2] .
وفيها أبو نصر محمد بن سهل السّرّاج الشّاذياخي- بشين معجمة وسكون الذال المعجمة وتحتية وخاء معجمة، نسبة إلى قرية بنيسابور أو إلى شاذياخ [3] ببلخ- آخر أصحاب أبي نعيم عبد الملك الإسفراييني. روى عن جماعة، وكان ظريفا، نظيفا، لطيفا، توفي في صفر عن تسعين سنة.
وفيها أبو الغنائم بن أبي عثمان محمد بن علي بن حسن [الدقاق] [4] ، بغدادي، متميّز، صدوق. روى عن أبي عمر بن مهدي وجماعة.
وفيها فخر الدولة بن جهير الوزير، أبو نصر محمد بن محمد بن جهير الثّعلبي، ولي نظر حلب، ثم وزر لصاحب ميّافارقين، ثم وزر للقائم بأمر الله مدّة، وكان من رجال العالم ودهاة بني آدم، وكان رئيسا جليلا، خرج من بيتهم جماعة من الوزراء والرؤساء ومدحهم أعيان الشعراء، فمنهم صرّدرّ
__________
[1] انظر «طبقات الشافعية» للإسنوي (1/ 478) .
[2] انتهى نقل المؤلف عن «طبقات الشافعية» للإسنوي.
[3] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «شاذخ» والتصحيح من «الأنساب» (7/ 242) و «معجم البلدان» (3/ 305) .
[4] زيادة من «العبر» (3/ 306) مصدر المؤلف.(5/355)
المتقدم ذكره [1] وهي من غرر قصائده ومشاهيرها، وأولها:
لجاجة قلب ما يفيق غرورها ... وحاجة نفس ليس يقضى يسيرها
وقفنا صفوفا في الدّيار كأنّها ... صحائف [2] ملقاة ونحن سطورها
يقول خليلي والظّباء سوانح ... أهذا الذي تهوى؟ فقلت: نظيرها
لئن شابهت أجيادها وعيونها ... لقد خالفت أعجازها وصدورها
فيا عجبا منها يصدّ [3] أنيسها ... ويدنو على ذعر إلينا نفورها
وما ذاك إلّا أن غزلان عامر ... تيقنّ أن الزائرين صقورها
ألم يكفها ما قد جنته شموسها ... على القلب حتّى ساعدتها بدورها
نكصنا على الأعقاب خوف إناثها ... فما بالها تدعو نزال ذكورها
وو الله ما أدري غداة نظرننا ... أتلك سهام أم كؤوس تديرها
فإن كنّ من نبل فأين حفيفها ... وإن كنّ من خمر فأين سرورها
أيا صاحبيّ استأذنا لي خمارها ... فقد أذنت لي في الوصول خدورها
فلا تحسبا قلبي طليقا فإنما ... لها الصّدر سجن وهو فيه أسيرها
أراك الحمى قل لي بأيّ وسيلة ... توسلت حتّى قبّلتك ثغورها؟
أعدت إلى جسم الوزارة روحه ... وما كان يرجى بعثها ونشورها
أقامت زمانا عند غيرك طامثا [4] ... وهذا رعاك الله وقت طهورها
من الحقّ أن يحبى بها مستحقها ... وينزعها مردودة مستعيرها
إذا ملك الحسناء من ليس كفأها ... أشار عليها بالطّلاق مشيرها
وكانت ولادة فخر الدولة المذكور سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة
__________
[1] انظر ترجمته في ص (279- 280) من هذا المجلد.
[2] في «آ» و «ط» : «صحيفة» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» .
[3] في «آ» و «ط» : «يصيد» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» (5/ 129) مصدر المؤلف.
[4] في «آ» و «ط» : «ضامنا» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .(5/356)
بالموصل، وتوفي بها في رجب، وقيل: في المحرم، ودفن في تل التوبة، وهو تل قبالة الموصل، يفصل بينهما عرض الشطّ.
وأما ولده عميد الدولة فقد ذكره محمد بن عبد الملك الهمذاني في «تاريخه» فقال: انتشر عنه الوقار، والهيبة، والعفّة، وجودة الرأي، وخدم ثلاثة من الخلفاء، ووزر لاثنين منهم، وكان عليه رسوم كثيرة وصلات جماعة، وكان نظام الملك يصفه دائما بالأوصاف العظيمة، ويشاهده بعين المكافئ الشهم، ويأخذ رأيه في أهم الأمور، ويقدّمه على الكفاة والصدور، ولم يكن يعاب بأشد من الكبر الزائد، فإنّ كلماته كانت محفوظة مع ضنّه بها، ومن كلّمه بكلمة قامت عنده مقام بلوغ الأمل، فمن جملة ذلك أنه قال لولد الشيخ الإمام أبي نصر بن الصباغ: اشتغل وادأب وإلا كنت صبّاغا بغير أب. انتهى كلام ابن الهمذاني.
وكان نظام الملك قد زوّجه بنته زبيدة، وكان قد عزل عن [1] الوزارة ثم أعيد إليها بسبب المصاهرة، وفي ذلك يقول الشريف أبو يعلى بن الهبّارية:
قل للوزير ولا تفزعك هيبته ... وإن تعاظم واستولى لمنصبه
لولا ابنة الشيخ ما استوزرت ثانية ... فاشكر حرّا صرت مولانا الوزير به [2]
ولعميد الدولة شعر ذكره في «الخريدة» لكنه غير مرضي.
وذكره ابن السمعاني في كتاب «الذيل» ومدحه خلق كثير من شعراء عصره.
وفيه يقول صرّدرّ قصيدته العينية المشهورة التي أولها:
قد بان عذرك والخليط مودّع ... وهوى النّفوس مع الهوادج يرفع
__________
[1] في «ط» : «من» .
[2] كذا في «آ» و «ط» و «وفيات الأعيان» (5/ 132) ولا يستقيم وزن البيت الثاني والأصح أن يقال:
............... ............. ... فاشكر لمن صرت مولانا الوزير به(5/357)
لك حيثما سمت الركائب لفتة ... أترى البدور بكل واد تطلع
في الظّاعنين من الحمى بدر له ال ... أحشاء مرعى والمآقي مكرع
ممنوع أطراف الجمال رقيبة ... حذرا عليه من العيون البرقع
عهد الحبائل صائدات شبهه ... فارتاع فهو لكل حبل يقطع
لم يدر حامي سربه أني إذا ... حرم الكلام له لساني الإصبع
وإذا الطّيوف إلى المضاجع أرسلت ... بتحية منه فعيني تسمع
وهي طويلة ومن غرر الشعر.
وعزل عميد الدولة عن الوزارة في شهر رمضان سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة.
وجهير: بفتح الجيم وكسر الهاء، وقال ابن السمعاني: بضم الجيم، وهو غلط. يقال: رجل جهير بيّن الجهارة، أي ذو منظر، ويقال: رجل جهير الصوت، بمعنى جهوري الصوت. قاله ابن خلّكان [1] .
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (1/ 127- 134) .(5/358)
سنة أربع وثمانين وأربعمائة
فيها توفي أبو الحسين أحمد بن عبد الرحمن الذّكواني الأصبهاني، يوم عرفة، وله تسعون سنة. روى عن جدّه ابن أبي علي، وعثمان البرجي، وطبقتهما، وكان ثقة.
وفيها أبو الحسن طاهر [1] بن مفوّز المعافري الشّاطبي، تلميذ أبي عمر بن عبد البرّ. كان من أئمة هذا الشأن، مع الورع، والتّقي، والاستبحار في العلم. وعدّه ابن ناصر الدّين من الحفّاظ المكثرين الضابطين، وقال: هو أخو عبد الله زاهد زمانه. وتوفي طاهر [1] في شعبان وله خمس وخمسون سنة.
وفيها عبد الملك بن علي بن شغبة أبو القاسم الأنصاري البصري، الحافظ الزاهد. استشهد بالبصرة، وكان يروي جملة من «سنن أبي داود» عن أبي عمر الهاشمي، أملى عدة مجالس، وكان من العبادة والخشوع بمحلّ.
وفيها أبو طاهر بن دات عبد الرحمن بن أحمد بن علك بن دات- بدال مهملة يليها ألف ثم مثناة فوق- الشّاوي الحافظ، إمام أهل الحديث بسمرقند في زمانه. قاله ابن ناصر الدّين [2] .
__________
[1] في «آ» و «ط» : «ظاهر» وهو تصحيف، والتصحيح من «العبر» (3/ 307) و «التبيان شرح بديعة البيان» لابن ناصر الدّين (154/ ب) .
[2] في «التبيان شرح بديعة البيان» (154/ ب) .(5/359)
وفيها أبو نصر الكركانجي- بالضم والسكون آخره جيم، نسبة إلى كركانج، وهي مدينة خوارزم- محمد بن أحمد بن علي شيخ المقرئين بمرو ومسند الآفاق، توفي في ذي الحجة، وله أربع وتسعون سنة. وكان إماما في علوم القرآن، كثير التصانيف، متين الديانة. انتهى إليه علو الإسناد، قرأ ببغداد على أبي الحسن الحمّامي، وبحرّان على الشريف الزبيدي، وبمصر على إسماعيل بن عمر الحداد، وبدمشق، والموصل، وخراسان.
وفيها أبو منصور المقوّمي- بالضم والفتح وكسر الواو المشددة- محمد بن الحسين بن الهيثم القزويني، راوي «سنن ابن ماجة» عن القاسم بن المنذر [1] ، توفي فيها أو بعدها عن بضع وثمانين سنة.
وفي رجب قاضي القضاة [أبو بكر] النّاصحي محمد بن عبد الله بن الحسين النيسابوري. روى عن أبي بكر الحيري وجماعة.
قال عبد الغافر: هو أفضل عصره في أصحاب أبي حنيفة، وأعرفهم بالمذهب، وأوجههم في المناظرة، مع حفظ وافر من الأدب والطب، ولم تحمد سيرته في القضاء. قاله في «العبر» [2] .
وفيها المعتصم، محمد بن معن بن محمد بن صمادح، أبو يحيى التّجيبي الأندلسي صاحب المريّة، توفي وجيش ابن تاشفين محاصرون له.
قال ابن بسام في «الذخيرة» [3] : كانت بين المعتصم وبين الله [سريرة، أو سلفت له] عند الحمام يد مشكورة، فمات وليس بينه وبين حلول الفاقرة به إلّا أيام يسيرة في سلطانه وبلده، وبين أهله وولده.
__________
[1] في «العبر» : «القاسم بن أبي المنذر» . (ع) .
[2] (3/ 308) .
[3] انظر «الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة» القسم الأول (المجلد الثاني» ص (734) وما بين حاصرتين مستدرك منه.(5/360)
حدّثني من لا أردّ خبره عن أروى بعض [مسانّ] حظايا أبيه قالت: إني لعنده وهو يوصي بشأنه، وقد غلب عليه أكثر يده ولسانه، ومعسكر أمير المؤمنين [1]- يعني يوسف بن تاشفين- يومئذ بحيث نعدّ خيامهم [2] ، ونسمع اختلاط أصواتهم، إذا سمعت [3] وجبة من وجباتهم، فقال: لا إله إلّا الله، نغّص علينا كل شيء حتّى الموت! قالت أروى: فدمعت عينيّ، فلا أنسى طرفا إليّ يرفعه، وإنشاده لي [4] بصوت لا أكاد أسمعه:
ترفّق بدمعك لا تفنه ... فبين يديك بكاء طويل
انتهى كلام ابن بسام.
ومات المعتصم في أثر ذلك عند طلوع الشمس، يوم الخميس ثاني عشري ربيع الأول، بالمريّة، ودفن في تربة له عند باب الخوخة.
__________
[1] في «الذخيرة» : «أمير المسلمين» .
[2] في «الذخيرة» : «خيماتهم» .
[3] في «الذخيرة» : «سمع» .
[4] في «الذخيرة» «وإنشاده إياي» .(5/361)
سنة خمس وثمانين وأربعمائة
فيها توفي أبو الفضل جعفر بن يحيى الحكّاك، محدّث مكّة، وكان متقنا، حجّة، صالحا. روى عن أبي ذرّ الهروي وطائفة، وعاش سبعين سنة.
وفيها نظام الملك الوزير أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق الطّوسي قوام الدّين. كان من جلّة الوزراء.
ذكره ابن السمعاني فقال: كعبة المجد، ومنبع الجود. وكان مجلسه عامرا بالقرّاء والفقهاء، أنشأ المدارس بالأمصار، ورغب في العلم، وأملى وحدّث، وعاش ثماني وسبعين سنة. أتاه شاب صوفيّ الشكل من الباطنية، ليلة عاشر رمضان، فناوله قصّة، ثم ضربه بسكين في صدره، فقضى عليه، فيقال: إن ملكشاه دسّ عليه هذا، والله أعلم.
وقال ابن السمعاني أيضا في كتاب «الأنساب» [1] في ترجمة الرّاذكان:
إنها بليدة صغيرة بنواحي طوس، قيل: نظام الملك كان من نواحيها.
وكان من أولاد الدّهاقين، واشتغل بالحديث والفقه، ثم اتصل بخدمة علي بن شاذان المعتمد عليه بمدينة بلخ- وكان يكتب له- فكان يصادره في كل سنة، فهرب منه، وقصد داود بن ميكائيل بن سلجوق والد السلطان ألب أرسلان، وظهر له منه النصح والمحبة، فسلّمه إلى ولده ألب أرسلان، وقال:
__________
[1] انظر «الأنساب» (6/ 37) وقد نقل المؤلف عنه بتصرف واختصار.(5/362)
اتخذه والدا، لا تخالفه فيما يشير به، فلما ملك ألب أرسلان، دبّر أمره، فأحسن التدبير، وبقي في خدمته عشر سنين، فلما مات ألب أرسلان وطّد المملكة لولده ملكشاه، فصار الأمر كله لنظام الملك، وليس للسلطان إلّا التخت والصيد، وأقام على هذا عشر سنين [1] .
ودخل على الإمام المقتدي بالله، فأذن له بالجلوس بين يديه، وقال له:
يا حسن، رضي الله عنك برضا أمير المؤمنين عنك.
وكان مجلسه عامرا بالفقهاء والصوفية، كثير الإنعام على الصوفية، وسئل عن سبب ذلك فقال: أتاني صوفيّ وأنا في خدمة بعض الأمراء، فوعظني وقال: اخدم من تنفعك خدمته، ولا تشتغل بمن تأكله الكلاب غدا، فلم أعلم معنى قوله، فشرب ذلك الأمير من الغد، وكانت له كلاب كالسباع تفترس الغرباء بالليل، فغلبه السكر، فخرج وحده، فلم تعرفه الكلاب، فمزقته، فعلمت أن الرجل كوشف بذلك، فأنا أخدم الصوفية لعلّي أظفر بمثل ذلك.
وكان إذا سمع الأذان أمسك عن جميع ما هو فيه، وكان إذا قدم عليه إمام الحرمين، والإمام القشيري، بالغ في إكرامهما، وأجلسهما في مستنده، وبنى المساجد والرّبط، وهو أول من أنشأ المدارس، فاقتدى الناس به.
وسمع نظام الملك الحديث وأسمعه، وكان يقول: إني أعلم أني لست أهلا لذلك، ولكني أريد أربط نفسي في قطار النّقلة لحديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
ويروى له من الشعر قوله:
بعد الثّمانين ليس قوّه ... قد ذهبت شرّة الصّبوّه
كأنني والعصا بكفّي ... موسى ولكن بلا نبوّه
__________
[1] في «وفيات الأعيان» (2/ 128) مصدر المؤلف: «عشرين سنة» .(5/363)
وكانت ولادة نظام الملك يوم الجمعة، حادي عشري ذي القعدة، سنة ثمان وأربعمائة بنوقان، إحدى مدينتي طوس، وتوجّه صحبة ملكشاه إلى أصبهان، فلما كانت ليلة السبت عاشر رمضان، أفطر وركب في محفته، فلما بلغ إلى قرية قريبة من نهاوند، يقال لها سحنة، قال: هذا الموضع قتل فيه خلق كثير من الصحابة زمن عمر بن الخطاب، فطوبى لمن كان معهم [1] فاعترضه صبيّ ديلميّ على هيئة الصوفية، معه قصّة، فدعا له وسأله تناولها في يده، فمدّ يده ليأخذها، فضربه بسكين في فؤاده، فحمل إلى مضربه فمات، وقتل القاتل في الحال بعد أن هرب، فعثر في طنب [2] خيمة فوقع، وركب السلطان إلى معسكره، فسكّنهم وعزّاهم، وحمل إلى أصبهان فدفن بها.
وقيل: إن السلطان دسّ عليه من قتله، فإنه سئم طول حياته، واستكثر ما بيده من الإقطاعات، ولم يعش السلطان بعده سوى خمسة وثلاثين يوما، فرحمه الله، فلقد كان من حسنات الدهر.
ورثاه أبو الهيجاء البكري- وكان ختنه، لأن نظام الملك زوّجه ابنته- فقال:
كان الوزير نظام الملك لؤلؤة ... نفيسة صاغها الرّحمن من شرف
عزّت فلم تعرف الأيام قيمتها ... فردّها غيرة منه إلى الصّدف
وقد قيل: إنه قتل بسبب تاج الملك أبي الغنائم المرزبان بن خسرو فيروز، المعروف بابن دارست، فإنه كان عدو نظام الملك، وكان كبير المنزلة عند مخدومه ملكشاه، فلما قتل رتّبه موضعه في الوزارة، ثم إن غلمان نظام الملك وثبوا عليه فقتلوه وقطعوه إربا إربا في ليلة الثلاثاء ثاني عشر المحرم
__________
[1] في «آ» و «ط» : «منهم» والتصحيح من «وفيات الأعيان» (2/ 130) .
[2] الطنب: حبل. انظر «مختار الصحاح» (طنب) .(5/364)
[من] سنة ست وثمانين وأربعمائة، وعمره سبع وأربعون سنة، وهو الذي بنى على قبر الشيخ أبي إسحاق الشيرازي. قاله ابن خلّكان [1] .
وفيها أبو عبد الله بن المرابط قاضي المريّة وعالمها، محمد بن خلف بن سعيد الأندلسي. روى عن المهلّب بن أبي صفرة وجماعة، وصنّف شرحا للبخاري، وكان رأسا في مذهب مالك، ارتحل الناس إليه، توفي في شوال. قاله في «العبر» [2] .
وفيها أبو بكر الشّاشي، محمد بن علي بن حامد، شيخ الشافعية، وصاحب الطريقة المشهورة والمصنفات المليحة. درّس مدة بغزنة، ثم بهراة ونيسابور، وحدّث عن منصور الكاغدي، وتفقه ببلاده على أبي بكر السّنجي، وعاش نيفا وتسعين سنة، وتوفي بهراة.
قال ابن قاضي شهبة [3] : ولد سنة سبع وتسعين وثلاثمائة، وتفقه في بلاده على السّنجي، وكان من أنظر أهل زمانه، استوطن غزنة- وهي في أوائل الهند- فأقبلوا عليه وأكرموه، وبعد صيته، وحدّث، وصنّف تصانيف كثيرة، ثم استدعاه نظام الملك إلى هراة، فشقّ على أهل غزنة مفارقته، ولكن لم يجدوا بدّا من ذلك، فجهّزوه، فولّاه تدريس النظامية [بها] وتوفي في شوال. انتهى.
وفيها محمد بن عيسى بن فرج أبو عبد الله التّجيبي المغامّي- بالضم [4] ، نسبة إلى مغامة مدينة بالأندلس- الطّليطلي، مقرئ الأندلس. أخذ عن أبي عمرو الدّاني، ومكّي بن أبي طالب، وجماعة، وأقرأ الناس مدة.
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (2/ 128- 131) .
[2] (3/ 310) .
[3] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (2/ 94) وما بين حاصرتين مستدرك منه.
[4] في «معجم البلدان» : (5/ 161) : بالفتح واسم المدينة عنده «مغام» .(5/365)
وفيها أبو عبد الله البانياسي، مالك بن أحمد بن علي بن الفرّاء البغدادي. احترق في الحريق العظيم الذي وقع في هذه السنة ببغداد، واحترق فيه من الناس عدد كثير، وكان في جمادى الآخرة، وتوفي وله سبع وثمانون سنة، وهو آخر من حدّث عن أبي الحسن بن الصّلت المجبر، وسمع من جماعة.
وفيها السلطان ملكشاه، أبو الفتح جلال الدولة بن السلطان ألب أرسلان، محمد بن داود السّلجوقي التّركي، تملك بلاد ما وراء النهر، وبلاد الهياطلة، وبلاد الرّوم، والجزيرة، والشام، والعراق، وخراسان، وغير ذلك.
قال في «العبر» [1] : ملك من مدينة كاشغر الترك إلى بيت المقدس طولا، ومن القسطنطينية وبلاد الخزر إلى نهر الهند [2] عرضا، وكان حسن السيرة، محسنا إلى الرعية، وكانوا يلقّبونه بالسلطان العادل، وكان ذا غرام بالعمائر والصيد، مات في شوال بعد وزيره النظام بشهر، فقيل: إنه سمّ في خلال، ونقل في تابوت فدفن بأصبهان في مدرسة كبيرة له.
وقال ابن الأهدل: كان مغرما بالصيد، حتّى قيل: إنه صاد بيده عشرة آلاف أو أكثر، حتّى بنى من حوافر الحمر وقرون الظباء منارة على طريق الحاج، تعرف بمنارة القرون، وتصدّق عن كل نسمة صادها بدينار، وقال:
إني أخاف الله سبحانه وتعالى من إزهاق النفوس بغير فائدة ولا مأكلة، وكان المقتدر قد تزوج بابنته، وكان السفير في زواجها الشيخ أبو إسحاق، وزفّت إليه سنة ثمانين، ورزق منها ولديه، ولما مات السلطان لم يفعل به كسائر السلاطين، ولم يحضر جنازته أحمد ظاهرا ولم تقطع أذناب الخيل لأجله، ولما
__________
[1] (3/ 311) .
[2] في «العبر» : «بحر الهند» . (ع) .(5/366)
مات ملكشاه سار أخوه تتش- بتاءين فوقيتين وشين معجمة- من الشام، فالتقاه إبراهيم العقيلي في ثلاثين ألفا، فأسر إبراهيم وقتل صبرا.
وقال السيوطي في «تاريخ الخلفاء» [1] : وفي سنة أربع وثمانين قدم السلطان ملكشاه بغداد، وأمر بعمل جامع كبير بها، وعمل الأمراء حوله دورا ينزلونها، ثم رجع إلى أصبهان، وعاد إلى بغداد في سنة خمس وثمانين عازما على الشرّ، وأرسل إلى الخليفة يقول: لا بدّ أن تترك لي بغداد وتذهب إلى أيّ بلد شئت، فانزعج الخليفة، وقال: أمهلني ولو شهرا، قال: ولا ساعة واحدة. فأرسل الخليفة إلى وزراء السلطان يطلب المهلة عشرة أيام، فاتفق مرض السلطان وموته، وعدّ ذلك كرامة للخليفة، وقيل: إن الخليفة جعل يصوم، فإذا أفطر جلس على الرماد ودعا على ملكشاه، فاستجاب الله دعاءه، وذهب إلى حيث ألقت، ولما مات كتمت زوجته تركان [خاتون] موته، وأرسلت إلى الأمراء سرّا فاستحلفتهم [2] لولده محمود، وهو ابن خمس سنين. فحلفوا له، وأرسلت إلى المقتدي في أن يسلطنه فأجاب، ولقبه ناصر الدّنيا والدّين، ثم خرج عليه أخوه بركياروق بن ملكشاه، فقلده الخليفة، ولقبه بركن الدّين، وذلك في محرم سنة سبع وثمانين، وعلم الخليفة على تقليده، ثم مات الخليفة من الغد فجأة. انتهى كلام السيوطي.
__________
[1] ص (425- 426) وما بين حاصرتين زيادة منه.
[2] في «آ» : «فاستخلفتهم» .(5/367)
سنة ست وثمانين وأربعمائة
فيها توفي حمد بن أحمد بن الحسن أبو الفضل الأصبهاني الحداد.
روى ببغداد وأصبهان عن علي بن ماشاذه وطائفة، وروى «الحلية» ببغداد، وتوفي في جمادى الأولى.
وفيها الملنجي- بالكسر نسبة إلى ملنجة بلد بأصبهان- سليمان بن إبراهيم بن محمد بن سليمان الأصبهاني الحافظ.
قال السمعاني: جمع، وصنّف، وخرّج على «الصحيحين» ، وروى عن محمد بن إبراهيم الجرجاني، وأبي بكر بن مردويه، وخلق، ولقي ببغداد أبا بكر المنقّي وطبقته، وتكلم فيه ابن مندة، وهو مقبول لأنه قد قبله عدّة.
وقال ابن ناصر الدّين في «بديعته» :
الأصبهاني ذا الملنجي المكثر ... تكلّموا فيه وقوّى الأكثر
وتوفي في ذي القعدة، عن تسع وثمانين سنة وشهرين.
وفيها أبو الفضل الدّقّاق عبد الله بن علي بن أحمد بن محمد بن زكري [1] البغدادي الكاتب. روى عن [أبي] الحسين بن بشران، وغيره، وكان صالحا، ثقة.
__________
[1] تحرّفت في «العبر» (3/ 314) إلى «ذكرى» فتصحح فيه، ولفظة «أبي» مستدركة منه.(5/368)
وفيها الشيخ أبو الفرج الشيرازي الحنبلي، عبد الواحد بن محمد بن علي بن أحمد الشيرازي، ثم المقدسي، ثم الدمشقي، الفقيه الزاهد الأنصاري السّعدي العبّاسي الخزرجي، شيخ الشام في وقته، الواعظ الفقيه القدوة. سمع بدمشق من أبي الحسن بن السمسار، وأبي عثمان الصابوني، وتفقه ببغداد زمانا على القاضي أبي يعلى، ونشر بالشام مذهب أحمد، وتخرّج به الأصحاب، وكان إماما عارفا بالفقه والأصول، صاحب حال وعبادة وتألّه، وكان تتش صاحب الشام يعظّمه لأنه كاشفه مرّة، وذلك أنه دعاه أخوه السلطان وهو ببغداد، فرعب وسأل أبا الفرج الدعاء له، فقال له: لا تراه ولا تجتمع به، فقال له تتش: هو مقيم ببغداد ولا بدّ من المصير إليه، فقال له: لا تراه، فعجب من ذلك، وبلغ هيت، فجاءه الخبر بوفاة السلطان ببغداد، فعاد إلى دمشق، وزادت حشمة أبي الفرج عنده، ومنزلته لديه.
قال ابن رجب [1] : وكان أبو الفرج ناصرا لاعتقادنا، متجردا في نشره، مبطلا لتأويلات أخبار الصفات، وله تصنيف في الفقه، والوعظ، والأصول، ومات في مجلس وعظه شخص لوقع وعظه في القلوب ولإخلاصه.
وقال أبو يعلى بن القلانسي في «تاريخه» [2] : كان وافر العلم، متين الدين، حسن المواعظ، محمود السمت، توفي يوم الأحد ثامن عشري ذي الحجة بدمشق، ودفن بمقبرة الباب الصغير وقبره مشهور يزار، وله ذرية فيهم كثير من العلماء يعرفون ببيت ابن الحنبلي.
وفيها أبو القاسم عبد الواحد بن علي بن محمد بن فهد العلّاف البغدادي، الرجل الصالح. روى عن أبي الفتح بن أبي الفوارس، وأبي الفرج الغوري، وبه ختم حديثهما، وكان ثقة، مأمونا، خيّرا.
__________
[1] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 70) .
[2] انظر «تاريخ دمشق» لابن القلانسي ص (206) بتحقيق الدكتور سهيل زكّار، وعنده «حسن الوعظ» .(5/369)
وفيها شيخ الإسلام الهكّاري، أبو الحسن علي بن أحمد بن يوسف الأموي من ذرية عتبة بن أبي سفيان بن حرب، وكان زاهدا، عابدا، ربانيا، ذا وقار وهيبة وأتباع ومريدين. رحل في الحديث، وسمع ابن نظيف الفراء، وأبا القاسم بن بشران [وطائفة] .
قال ابن ناصر: توفي في أول السنة.
وقال ابن عساكر: لم يكن موثقا في روايته.
وقال الذهبي [1] : ولد سنة تسع وأربعمائة.
وفيها أبو الحسن الأنباري، علي بن محمد بن محمد بن الأخضر الخطيب، في شوال، عن أربع وتسعين سنة. وكان آخر من حدّث عن أبي أحمد الفرضي، وسمع أيضا من أبي عمر بن مهدي وطائفة، وتفقه لأبي حنيفة، وكان ثقة، نبيلا، عالي الإسناد.
وفيها أبو المظفّر موسى بن عمران الأنصاري النيسابوري، مسند خراسان، في ربيع الأول، وله ثمان وتسعون سنة. روى عن أبي الحسن العلوي، والحاكم، وكان من كبار الصوفية.
وفيها أبو الفتح نصر بن الحسن السّكشي- بكسر السين المهملة والكاف، ومعجمة، نسبة إلى سكة سكش بنيسابور [2]- الشاشي، نزيل سمرقند، وله ثمانون سنة. روى «صحيح مسلم» عن عبد الغافر، وسمع بمصر من الطفّال وجماعة، ودخل الأندلس للتجارة، فحدّث بها، وكان ثقة.
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 314- 315) وقد نقل المؤلف الترجمة بكاملها عنه وما بين حاصرتين مستدرك منه.
[2] تنبيه: كذا قال المؤلف وهو خطأ، إنما هو «التّنكنتي» نسبة إلى تنكت، وهي مدينة من مدن الشاش من وراء نهر جيحون. انظر «الأنساب» (3/ 88) و «معجم البلدان» (2/ 50) وقد ضبطها ياقوت بضم الكاف، و «العبر» (3/ 316) .(5/370)
وفيها هبة الله بن عبد الوارث الشيرازي، أبو القاسم، الحافظ، محدّث جوّال. سمع بخراسان، والعراق، وفارس، واليمن، ومصر، والشام، وحدّث عن أحمد بن عبد الباقي بن طوق، وأبي جعفر بن المسلمة، وطبقتهما، ومات كهلا، وكان صوفيا، صالحا، متقشفا.(5/371)
سنة سبع وثمانين وأربعمائة
فيها توفي أبو بكر بن خلف الشيرازي ثم النيسابوري، مسند خراسان، أحمد بن علي بن عبد الله [بن عمر بن خلف] [1] . روى عن الحاكم، وعبد الله بن يوسف، وطائفة.
قال عبد الغافر: هو شيخنا الأديب المحدّث المتقن، الصحيح السماع، ما رأينا شيخا أورع منه، ولا أشدّ إتقانا، توفي في ربيع الأول، وقد نيّف على التسعين.
وفيها آق سنقر، قسيم الدولة أبو الفتح، مولى ملكشاه السلطان، وقيل: هو لصيق به، وقيل: اسم أبيه الترعان لما افتتح ملكشاه حلب، استناب عليها آق سنقر في سنة ثمانين وأربعمائة، فأحسن السياسة وضبط الأمور، وتتبّع المفسدين، حتّى صار دخله كل يوم ألفا وخمسمائة دينار.
أسر [2] في المصاف ثم قتل، ذبحه تتش صبرا، ودفن هناك، ثم نقله ولده الأتابك زنكي، فدفنه بالمدرسة الزجاجية داخل حلب.
وفيها أبو نصر، الحسن بن أسد الفارقي الأديب، صاحب النظم والنثر، وله الكتاب المعروف في الألغاز، توثّب بميّافارقين على الإمرة،
__________
[1] ما بين حاصرتين سقط من «آ» وأثبته من «ط» .
[2] تحرّفت في «ط» إلى «رأس» وانظر «العبر» (3/ 318) .(5/372)
ونزل بقصر الإمارة، وحكم أياما، ثم ضعف وهرب، ثم قبض عليه وشنق.
وفيها المقتدي بالله أبو القاسم عبد الله بن الأمير ذخيرة الدّين محمد بن القائم بأمر الله عبد الله بن القادر بالله أحمد بن الأمير إسحاق بن المقتدر العبّاسي، بويع بالخلافة بعد جدّه في ثالث عشر شعبان، سنة سبع وستين، وله تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر.
قال السيوطي في «تاريخ الخلفاء» [1] : مات أبوه في حياة القائم- وهو حمل- فولد بعد وفاة أبيه بستة أشهر، وأمه أم ولد اسمها أرجوان.
وبويع له بالخلافة عند موت جدّه، وكانت البيعة بحضرة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وابن الصباغ، والدّامغاني، وظهر في أيامه خيرات كثيرة، وآثار حسنة في البلدان.
وكانت قواعد الخلافة في أيامه باهرة وافرة الحرمة، بخلاف من تقدمه.
ومن محاسنه أنه نفى المغنيات والحواظي [2] ببغداد، وأمر أن لا يدخل أحد الحمّام إلّا بمئزر، وخرّب أبراج الحمام صيانة لحرم الناس.
وكان ديّنا، خيّرا، قوي النفس، عالي الهمّة، من نجباء بني العبّاس.
انتهى.
ومات فجأة في ثامن عشر المحرم، عن تسع وثلاثين سنة، وبويع بعده ابنه المستظهر بالله أحمد، وقيل: إن جاريته [3] سمّته.
وقال ابن الجوزي: في «الشذور» : توفي المقتدي، وكان أصحّ
__________
[1] انظر «تاريخ الخلفاء» ص (423) .
[2] في «تاريخ الخلفاء» : «والخواطي» .
[3] في «آ» : «جارته» .(5/373)
ما كان، بينما هو جالس، قال لقهرمانته: من هؤلاء الأشخاص الذين قد دخلوا علينا بلا إذن، فالتفتت فلم تر أحدا، فسقط إلى الأرض ميتا.
وفيها الحسن بن عبد الملك بن الحسين بن علي بن موسى بن عمران بن إسرافيل النّسفي الحافظ. حصّل العالي من الإسناد. قاله ابن ناصر الدّين [1] .
وفيها أبو القاسم بن أبي العلاء المصّيصي علي بن محمد بن علي بن أحمد.
قال الإسنوي [2] : كان فقيها، فرضيا، تفقه على القاضي أبي الطيب، وروى الحديث عن جماعة بمصر، والشام، والعراق، واستوطن دمشق، ومات بها، وروى عنه جماعة.
وأصله من المصّيصة، وولد بمصر في رجب سنة أربع وأربعمائة، ومات في جمادى الآخرة، ودفن بمقابر باب الفراديس.
قال الذهبي [3] : كان فقيها ثقة.
وفيها ابن ماكولا، الحافظ الكبير، الإمام أبو نصر علي بن هبة الله بن علي بن جعفر بن علي بن محمد بن دلف بن الأمير الجواد أبي دلف القاسم بن عيسى العجلي، الأمير سعد الملك أبو نصر بن ماكولا، أصله من جرباذقان من نواحي أصبهان، فهو الجرباذقاني ثم البغدادي، النسّابة، صاحب التصانيف، ولم يكن ببغداد بعد الخطيب أحفظ منه. ولد بعكبرا سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، وزر أبوه للقائم بأمر الله، وتولى عمه [أبو] عبد الله [الحسين] [4] قضاء القضاة.
__________
[1] في «التبيان شرح بديعة البيان» (155/ آ) .
[2] انظر «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 412- 413) .
[3] انظر «العبر» (3/ 319) .
[4] في «آ» و «ط» : «وتولى عمّه عبد الله» وفي «العبر» : «وتولى عمه الحسين» وكلاهما خطأ،(5/374)
وسمع هو من أبي طالب بن غيلان وطبقته.
قال الحميدي: ما راجعت الخطيب في شيء إلّا وأحالني على الكتاب، وقال: حتّى أكشفه، وما راجعت ابن ماكولا إلّا وأجابني حفظا، كأنه يقرأ من كتاب.
وقال أبو سعد السمعاني [1] : كان لبيبا، عارفا، ونحويا مجوّدا، وشاعرا مبرّزا.
وقال الذهبي [2] : اختلف في وفاته على أقوال.
وقال ابن خلّكان [3] : للأمير أبي نصر المذكور كتاب «الإكمال» وهو في غاية الإفادة في رفع الالتباس والضبط والتقييد، وعليه اعتماد المحدّثين وأرباب هذا الشأن، فإنه لم يوضع مثله- أبي في المؤتلف والمختلف ومشتبه النسب- وهو في غاية الإحسان. وما يحتاج الأمير المذكور مع هذا الكتاب إلى فضيلة أخرى، ففيه دلالة على كثرة اطّلاعه وضبطه وإتقانه.
ومن الشعر المنسوب إليه:
قوّض خيامك عن أرض [4] تهان بها ... وجانب الذّلّ إنّ الذّلّ يجتنب [5]
وارحل إذا كان في الأوطان منقصة [6] ... فالمندل [7] الرّطب في أوطانه حطب
__________
[ (-) ] والتصحيح من «وفيات الأعيان» (3/ 305) .
[1] في «آ» و «ط» : «ابن سعد السمعاني» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» (3/ 319) و «سير أعلام النبلاء» (18/ 575) ونص النقل عنده أطول مما في كتابنا و «العبر» فراجعه.
[2] في «العبر» (3/ 320) .
[3] انظر «وفيات الأعيان» (3/ 305) .
[4] كذا في «آ» و «ط» و «وفيات الأعيان» مصدر المؤلّف، وفي «سير أعلام النبلاء» (18/ 577) :
«عن دار» .
[5] في «سير أعلام النبلاء» : «مجتنب» .
[6] في «سير أعلام النبلاء» : «مضيعة» .
[7] جاء في «لسان العرب» (ندل) : المندل: العود الرّطب. وانظر تتمة كلامه فهو مفيد.(5/375)
وكانت ولادته في عكبرا، في خامس شعبان، سنة إحدى وعشرين وأربعمائة، وقتله غلمانه بجرجان، وقيل: بخوزستان، وقيل: بالأهواز.
قال الحميدي: خرج إلى خراسان ومعه غلمان له ترك، فقتلوه بجرجان وأخذوا ماله وهربوا، وطاح دمه هدرا، رحمه الله.
وفيها أبو عامر الأزدي، القاضي، محمود بن القاسم بن القاضي أبي منصور محمد بن محمد بن عبد الله بن محمد المهلّبي الهروي، الفقيه الشافعي، راوي «جامع الترمذي» عن الجراحي.
قال أبو نصر الفامي: هو عديم النظير زهدا، وصلاحا، وعفة.
ولد سنة أربعمائة وتوفي في جمادى الآخرة.
وفيها المستنصر بالله، أبو تميم معد بن الظاهر علي بن الحاكم بأمر الله [1] منصور بن العزيز بن المعزّ العبيدي الرافضي، صاحب مصر، وكانت أيامه ستين سنة [وأربعة أشهر، وقد خطب له ببغداد في سنة إحدى وخمسين، ومات في ذي الحجة عن ثمان وستين سنة] [2] وبويع بعده ابنه المستعلي. قاله في «العبر» [3] .
وقال ابن خلّكان [4] : اتفق للمستنصر هذا أمور لم تتفق لغيره، وسردها. منها: أنه أقام في الأمر ستين سنة، وهذا شيء لم يبلغه أحد من أهل بيته، ولا من بني العبّاس.
ومنها: أنه ولي وهو ابن سبع سنين.
__________
[1] قوله: «بأمر الله» لم يرد في «العبر» .
[2] ما بين حاصرتين سقط من «آ» وأثبته من «ط» و «العبر» .
[3] (3/ 320) .
[4] انظر «وفيات الأعيان» (5/ 229) .(5/376)
ومنها: أنه حدث في أيامه الغلاء العظيم، الذي ما عهد مثله منذ زمان يوسف عليه السلام، وأقام سبع سنين، وأكل الناس بعضهم بعضا.
وكانت ولادته صبيحة يوم الثلاثاء سابع عشر [جمادى الآخرة سنة عشرين وأربعمائة، وتوفي في ليلة الخميس ثامن عشر] [1] ذي الحجة، وهذه الليلة تسمى عيد الغدير، أعني غدير خمّ- بضم الخاء المعجمة وتشديد الميم، اسم مكان بين مكّة والمدينة- فيه غدير ماء، يقال: إنه غيض [2] هناك، فلما رجع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من حجّة الوداع، ووصل إلى هذا المكان وآخى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «عليّ مني كهارون من موسى» [3] «اللهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله» [3] وللشيعة فيه تعلّق كبير، وهذا المكان موصوف بكثرة الوخامة وشدة الحمى. انتهى ملخصا.
__________
[1] ما بين حاصرتين سقط من «آ» وأثبته من «ط» .
[2] في «وفيات الأعيان» : «غيضة» .
[3] هذا الحديث ملفق من حديثين أما الشطر الأول منه فقد ذكره صاحب «كنز العمال» (11/ 603) وعزاه لأبي بكر المطيري في «جزئه» من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، ولفظه عنده: «علي منّي بمنزلة هارون من موسى، إلّا أنه لا نبيّ بعدي» .
وأما الشطر الثاني فقد ذكره بهذا السياق الحافظ ابن كثير في «البداية والنهاية» (5/ 211) وقال: قال عبد الله بن أحمد: حدّثنا أحمد بن عمير الوكيعي، ثنا زيد بن الحباب، ثنا الوليد بن عقبة بن ضرار القيسي، أنبأنا سماك، عن عبيد بن الوليد القيسي قال:
دخلت على عبد الرحمن بن أبي ليلى فحدّثني أنه شهد عليا في الرحبة قال: أنشد بالله رجلا سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشهده يوم غدير خم إلا قام ولا يقوم إلا من قد رآه، فقام اثنا عشر رجلا، فقالوا: قد رأيناه وسمعناه حيث أخذ بيده يقول ... وذكر الحديث بتمامه كما في كتابنا.
وذكره الحافظ ابن كثير أيضا في «البداية والنهاية» (5/ 209- 214) بألفاظ عدّة وصيغ مختلفة، فراجعه.
وذكره الحاكم في «المستدرك» (3/ 109) مختصرا من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه، وقال: هذا الحديث على شرط الشيخين ولم يخرجاه بطوله، وسكت عنه الذهبي.(5/377)
ويقال: إنه صلّى الله عليه وسلّم لما قدم المدينة توخمت على أصحابه، فإنها كانت من أكثر بلاد الله تعالى حمّى، فأمر صلّى الله عليه وسلّم الحمّى أن تخرج من المدينة إلى خم، وحتّى يقال: إن أكثر أهل خم لم يتجاوزوا الحلم لكثرة الحمّى بها، وحتّى إنه قلّ من يمرّ بها ولا يحمّ.(5/378)
سنة ثمان وثمانين وأربعمائة
فيها قدم الإمام الغزالي دمشق متزهدا، وصنّف «الإحياء» وأسمعه بدمشق، وأقام بها سنتين، ثم حج وردّ إلى وطنه.
وفيها توفي أبو الفضل، أحمد بن الحسن بن خيرون البغدادي الحافظ، في رجب، عن اثنتين وثمانين سنة وشهر. روى عن أبي علي بن شاذان، والبرقاني، وطبقتهما، وكتب ما لا يوصف، وكان ثقة، ثبتا، صاحب حديث.
قال أبو منصور بن خيرون: كتب عمي عن أبي علي بن شاذان ألف جزء.
وقال السّلفي: كان يحيى بن معين وقته، رحمه الله.
وفيها أمير الجيوش بدر الأرمني، ولي إمرة دمشق في سنة خمس وخمسين وأربعمائة، وانفصل بعد عام، ثم وليها والشام كلّه في سنة ثمان وخمسين، ثم سار إلى الدّيار المصرية والمستنصر في غاية الضعف، فشيّد [1] دولته، وتصرّف في الممالك، وولي وزارة السيف والقلم، وامتدّت أيامه، ولما أيس منه، ولي الأمر بعده ابنه الأفضل، وتوفي في ذي القعدة.
__________
[1] في «العبر» : «فشدّ» .(5/379)
وفيها تتش، السلطان تاج الدولة أبو سعيد بن السلطان ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق التّركي السّلجوقي. كان شهما، شجاعا، مقداما، فاتكا، واسع الممالك، كاد أن يستولي على ممالك أخيه ملكشاه، قتل بنواحي الرّيّ، وتملّك بعده ابناه، بحلب ودمشق.
وفيها رزق الله بن عبد الوهّاب بن عبد العزيز بن الحارث الإمام أبو محمد التميمي البغدادي، الفقيه الواعظ، شيخ الحنابلة. قرأ القرآن على أبي الحسن الحمّامي، وتقدم في الفقه، والأصول، والتفسير، والعربية، واللغة، وحدّث عن أبي الحسين بن المتيّم، وأبي عمر بن مهدي، والكبار. وتوفي في نصف جمادى الأولى عن ثمان وثمانين سنة.
قال أبو علي بن سكرة: قرأت عليه ختمة لقالون، وكان كبير بغداد وجليلها، وكان يقول: كل الطوائف تدّعيني. قاله في «العبر» [1] .
وقال ابن عقيل: في «فنونه» : ومن كبار مشايخي أبو محمد التميمي، شيخ زمانه، كان حسنة العالم، وماشطة بغداد. وقال: كان سيد الجماعة من [2] أصحاب أحمد بيتا، ورئاسة، وحشمة، أبو محمد التميمي، وكان أحلى الناس عبارة في النظر، وأجرأهم قلما في الفتيا، وأحسنهم وعظا.
وفيها يعقوب بن إبراهيم بن أحمد بن سطور العكبري البرزبيني- بفتح الباء الموحدة أوله، والزاي ثالثة، ثم باء موحدة مكسورة، وتحتية، نسبة إلى برزبين، قرية ببغداد- القاضي أبو علي، قاضي باب الأزج. قدم بغداد بعد الثلاثين والأربعمائة، وسمع الحديث من أبي إسحاق البرمكي، وتفقه، على القاضي أبي يعلى، حتّى برع في الفقه، ودرّس في حياته، وشهد عند الدّامغاني، هو والشريف أبو جعفر في يوم واحد، سنة ثلاث
__________
[1] (3/ 322- 323) .
[2] لفظة «من» لم ترد في «آ» وأثبتها من «ط» .(5/380)
وخمسين، وزكّاهما شيخهما القاضي، وتولى يعقوب القضاء بباب الأزج، والشهادة سنة اثنتين وسبعين، ثم عزل نفسه عنهما، ثم عاد إليهما سنة ثمان وسبعين، واستمر إلى موته، وكان ذا معرفة تامة بأحكام القضاء وإنفاذ السجلات، متعففا في القضاء، متشددا في السّنّة.
وقال ابن عقيل: كان أعرف قضاة الوقت بأحكام القضاء والشروط، وله المقامات المشهودة بالديوان، حتّى يقال: إنه كعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة من الصحابة في معرفة الرأي.
وذكره ابن السمعاني [1] فقال: كانت له يد قوية في القرآن، والحديث، [والفقه] ، والمحاضرة. قرأ عليه عامة الحنابلة ببغداد، وانتفعوا به، وكان حسن السيرة جميل الطريقة.
وفيها أبو يوسف القزويني، عبد السلام بن محمد بن يوسف بن بندار، شيخ المعتزلة وصاحب التفسير الكبير، الذي هو أزيد من ثلاثمائة مجلد. درس الكلام على القاضي عبد الجبّار بالرّيّ، وسمع منه، ومن أبي عمر بن مهدي الفارسي، وتنقل في البلاد، ودخل مصر، وكان صاحب كتب كثيرة، وذكاء مفرط، وتبحر في المعارف واطّلاع كثير، إلّا أنه كان داعية إلى الاعتزال. مات في ذي القعدة، وله خمس وتسعون سنة وأشهر.
وفيها أبو الحسن الحصري، المقرئ الشاعر، نزيل سبتة، علي بن عبد الغني الفهري، وكان مقرئا محقّقا وشاعرا مفلقا. مدح ملوكا ووزراء، وكان ضريرا.
قال ابن بسام في حقه [2] : كان بحر براعة، ورأس صناعة، وزعيم
__________
[1] انظر «الأنساب» (2/ 147) وما بين حاصرتين مستدرك منه.
[2] انظر «الذخيرة» (4/ 1/ 245- 246) .(5/381)
جماعة، طرأ على جزيرة الأندلس، منتصف المائة الخامسة من الهجرة، بعد خراب وطنه من القيروان، والأدب يومئذ بأفقنا نافق السّوق، معمور الطريق، فتهادته ملوك طوائفها تهادي الرياض بالنّسيم، وتنافسوا فيه تنافس الديار في الأنس المقيم، على أنه كان فيما بلغني ضيق العطن، مشهور اللّسن، يتلفت إلى الهجاء تلفت الظمآن إلى الماء، ولكنه طوي على غرّه، واحتمل بين زمانته [1] وبعد قطره، ولما خلع ملوك الطوائف بأفقنا، اشتملت عليه مدينة طنجة، وقد ضاق [2] ذرعه، وتراجع طبعه.
وقال ابن خلّكان [3] : وهذا أبو الحسن- أي صاحب الترجمة- ابن خالة أبي إسحاق الحصري صاحب «زهر الآداب» .
وذكره ابن بشكوال في كتاب «الصلة» [4]- والحميدي [4] أيضا- وقال:
كان عالما بالقراءات وطرقها، وأقرأ الناس القرآن الكريم بسبتة وغيرها، وله قصيدة نظمها في قراءة نافع، عدد أبياتها مائتان وتسعة. وله ديوان شعر، فمن قصائده السائرة القصيدة التي أولها:
يا ليل الصّبّ متى غده ... أقيام السّاعة موعده
رقد السّمّار فأرّقه ... أسف للبين يردّده
وله أيضا:
أقول له وقد حيّا بكاس ... لها من مسك ريقته ختام
أمن خدّيك تعصر؟ قال: كلّا ... متى عصرت من الورد المدام؟
ولما كان بمدينة طنجة أرسل غلامه إلى المعتمد بن عباد صاحب
__________
[1] في «آ» و «ط» : «زمانية» والمثبت من «الذخيرة» و «وفيات الأعيان» .
[2] في «آ» و «ط» : «وقد ضاقت» والمثبت من «الذخيرة» و «الوفيات» .
[3] انظر «وفيات الأعيان» (3/ 332) .
[4] انظر «الصلة» (2/ 432) و «جذوة المقتبس» ص (314) .(5/382)
إشبيلية واسمها في بلادهم حمص، فأبطأ عنه وبلغه أن المعتمد ما احتفل به فقال:
نبّه الرّكب الهجوعا ... ولم الدّهر الفجوعا
حمص الجنّة قالت ... لغلامي لا رجوعا
رحم الله غلامي ... مات في الجنّة جوعا
وقد التزم في هذه الأبيات لزوم ما لا يلزم، رحمه الله تعالى.
وفيها المعتمد على الله، أبو القاسم محمد بن المعتضد عبّاد بن القاضي محمد بن إسماعيل اللّخمي الأندلسي، صاحب الأندلس. كان ملكا جليلا، وعالما ذكيا، وشاعرا محسنا، وبطلا شجاعا، وجوادا ممدّحا. كان بابه محطّ الرّحال، وكعبة الآمال، وشعره في الذروة العليا، ملك من الأندلس، من المدائن، والحصون، والمعاقل مائة وثلاثين سورا [1] ، وبقي في المملكة نيفا وعشرين سنة، وقبض عليه أمير المسلمين ابن تاشفين، لما قهره، وغلب على ممالكه، وسجنه بأغمات، حتّى مات في شوال بعد أربع سنين من زوال ملكه [2] ، وخلع من ملكه عن ثمانمائة سرّيّة، ومائة وسبعين ولدا [3] ، وكان راتبه في اليوم ثمانمائة رطل لحم. قاله جميعه في «العبر» [4] .
وقال ابن خلّكان [5] : جعل خواص الأمير يوسف بن تاشفين يعظّمون عنده بلاد الأندلس- لأنهم كانوا بمراكش، وهي بلاد بربر وأجلاف العربان- فجعلوا يحسّنون له أخذ الأندلس، ويوغرون [6] قلبه على المعتمد بأشياء
__________
[1] في «العبر» : «مسورا» .
[2] في «آ» و «ط» : «بعد أربع وستين سنة» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» مصدر المؤلف.
[3] في «العبر» : «ومائة وثلاثة وسبعين ولدا» (ع) .
[4] (3/ 323- 324) .
[5] انظر «وفيات الأعيان» (5/ 30) .
[6] تحرّفت في «وفيات الأعيان» إلى «ويغرون» فتصحح فيه. جاء في «لسان العرب» (وغر) :
وغر صدره عليه ... إذا امتلأ غيظا وحقدا.(5/383)
نقلوها عنه، فتغير عليه وقصده، فلما انتهى إلى سبته، جهز إليه العساكر، وقدّم عليها سير [1] بن أبي بكر الأندلسي، فوصل إلى إشبيلية وبها المعتمد، فحاصره أشد محاصرة، وظهر من مصابرة المعتمد وشدة بأسه وتراميه على الموت بنفسه ما لم يسمع بمثله، والناس بالبلد قد استولى عليهم الفزع وخامرهم الجزع، يقطعون سبلها سياحة ويخوضون نهرها سباحة، ويترامون من شرفات الأسوار. فلما كان يوم الأحد عشري رجب سنة أربع وثمانين، هجم عسكر الأمير يوسف البلد وشنّوا فيه الغارات، ولم يتركوا لأحد شيئا، وخرج الناس من منازلهم يسترون عوراتهم بأيديهم، وقبض على المعتمد وأهله، وكان قد قتل له ولدان قبل ذلك، أحدهما المأمون، كان ينوب عن والده في قرطبة فحصروه بها إلى أن أخذوه وقتلوه، والثاني الرّاضي، كان أيضا نائبا عن أبيه في رندة وهي من الحصون الممتنعة، فنازلوها وأخذوها، وقتلوا الرّاضي، ولأبيهما المعتمد فيهما مراث كثيرة.
وبعد ذلك جرى بإشبيلية على المعتمد ما ذكرناه. ولما أخذ المعتمد قيدوه من ساعته، وجعل مع أهله في سفينة.
قال ابن خاقان في «قلائد العقيان» : ثم جمع هو وأهله وحملتهم الجواري المنشآت، وضمّتهم كأنهم أموات، بعد ما ضاق عنهم القصر، وراق منهم العصر، والناس قد حشروا بضفتي الوادي، يبكون [2] بدموع الغوادي، فساروا والنوح يحدوهم، والبوح باللوعة لا يعدوهم، وفي ذلك يقول ابن اللبانة:
تبكي السّماء بدمع رائح غادي ... على البهاليل من أبناء عبّاد
يا ضيف أقفر بيت المكرمات فخذ ... في ضم رحلك واجمع فضلة الزّاد
__________
[1] تحرّف في «آ» و «ط» إلى «سيرين» والتصحيح من «وفيات الأعيان» وانظر «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (10/ 189 و 190 و 193) .
[2] في «آ» و «ط» : «وبكوا» وما أثبته من «وفيات الأعيان» .(5/384)
وقال في هذه الحال وصفتها ابن حمديس الصّقلي:
ولما رحلتم بالنّدي في أكفكم ... وقلقل رضوى منكم وثبير
رفعت لساني بالقيامة قد دنت ... فهذي الجبال الراسيات تسير
وهي أبيات كثيرة.
وتألم المعتمد يوما من قيده وضيقه وثقله، فأنشد:
تبدّلت من ظل عزّ البنود ... بذلّ الحديد وثقل القيود
وكان حديدي سنانا ذليقا ... وعضبا رقيقا صقيل الحديد
وقد صالا ذاك وذا أدهما ... يعضعض [1] ساقيّ عضّ الأسود
ثم إنهم حملوه إلى الأمير يوسف بمراكش، فأمر بإرسال المعتمد إلى مدينة أغمات، واعتقله بها، فلم يخرج إلى الممات.
قال ابن خاقان: ولما أجلي عن بلاده، وأعري من طارفه وتلاده، وحمل في السفين، وأحل في العدوة محلّ الدّفين، تندبه منابره وأعواده، ولا يدنو [2] منه زوّاره ولا عوّاده، بقي آسفا تتصعد زفراته، [وتطرد اطّراد المذانب عبراته، ويخلو بمؤانس، ولا يرى إلا عرينا بدلا من تلك المكانس، ولما يجد سلوّا ولم يؤمل دنوّا، ولم ير وجه مسرّة مجلوّا، وتذكر منازله فشاقته] [3] وتصوّر بهجتها [فراقته] [4] ، وتخيّل استيحاش أوطانه، وإجهاش قصره ورأى [5] إظلام جوّه من أقماره، وخلوه من حرّاسه وسمّاره.
__________
[1] كذا في «آ» و «ط» : «يعضض» وفي «وفيات الأعيان» : «يعضّ بساقيّ» .
[2] في «آ» و «ط» : «ولا تدنو» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» .
[3] ما بين حاصرتين تأخر في «آ» و «ط» إلى عدة أسطر فأعدته إلى مكانه كما في «وفيات الأعيان» (5/ 32) ولفظة «فشاقته» مستدركة منه.
[4] لفظة «فراقته» مستدركة من «وفيات الأعيان» .
[5] لفظة «رأى» لم ترد في «وفيات الأعيان» الذي بين يدي.(5/385)
وفي اعتقاله يقول أبو بكر الدّاني قصيدته المشهورة التي أولها:
لكلّ شيء من الأشياء ميقات ... وللمنى من مناياهنّ غايات
والدّهر في صبغة الحرباء منغمس ... ألوان حالاته فيها استحالات
ونحن من لعب الشطرنج في يده ... وربما قمرت بالبيدق الشاة
انفض يديك من الدّنيا وساكنها ... فالأرض قد اقفرت والنّاس قد ماتوا
وقل لعالمها الأرضي قد كتمت ... سريرة العالم العلوي أغمات
وهي طويلة.
ودخل عليه يوما بناته السجن، وكان يوم عيد، وكنّ يغزلن للناس بالأجرة في أغمات، حتّى إن إحداهنّ غزلت لبيت صاحب الشرطة الذي كان في خدمة أبيها وهو في سلطانه، فرآهنّ في أطمار رثّة وحالة سيئة، فصدعن قلبه، وأنشد:
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا ... فساءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعة ... يغزلن للنّاس لا يملكن قطميرا [1]
برزن نحوك للتّسليم خاشعة ... أبصارهنّ حسيرات مكاسيرا
يطأن في الطّين والأقدام حافية ... كأنّها لم تطأ مسكا وكافورا
ومنها:
قد كان دهرك إن تأمره ممتثلا ... فردّك الدّهر منهيّا ومأمورا
من بات بعدك في دهر [2] يسرّ به ... فإنما بات بالأحلام مغرورا
__________
[1] تحرّفت في «آ» و «ط» إلى «قمطيرا» والتصحيح من «وفيات الأعيان» (5/ 35) . والقطمير:
الفوفة التي في النّواة، وهي القشرة الرقيقة، وقيل: هي النّكتة البيضاء التي في ظهر النواة تنبت منها النخلة. انظر «مختار الصحاح» (قطمر) .
[2] في «وفيات الأعيان» : «في ملك» .(5/386)
وله:
قالت لقد هنّا هنا ... مولاي أين جاهنا
قلت لها إلى هنا ... صيّرنا إلهنا
ودخل عليه وهو في تلك الحال ولده أبو هاشم والقيود قد عضّت بساقيه عض الأسود، والتوت عليه التواء الأساور السود، وهو لا يطيق إعمال قدم، ولا يريق دمعا إلّا ممتزجا بدم، بعد ما عهد نفسه فوق منبر وسرير، ووسط جنّة وحرير، تخفق عليه الألوية، وتشرق منه الأندية، فلما رآه بكى وأنشد:
قيدي أما تعلمني مسلما ... أبيت أن تشفق أو ترحما
دمي شراب لك واللّحم قد ... أكلته لا تهشّم الأعظما
يبصرني فيك أبو هاشم ... فينثني والقلب قد هشّما
ارحم طفيلا طائشا لبّه ... لم يخش أن يأتيك مسترحما
وارحم أخيّات له مثله ... جرعتهنّ السمّ والعلقما
منهنّ من يفهم شيئا فقد ... خفنا عليه للبكاء العمى
والغير لا يفهم شيئا فما ... يفتح إلّا للرضاع الفما
وكان قد اجتمع عنده جماعة من الشعراء وألحّوا عليه في السؤال، وهو على تلك الحال فأنشد:
سألوا اليسير من الأسير وإنه ... بسؤالهم لأحقّ منهم فاعجب
لولا الحياء وعزة لخميّة ... طيّ الحشا لحكاهم في المطلب
وأشعار المعتمد وأشعار الناس فيه كثيرة، وكانت ولادته في ربيع الأول، سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة بمدينة باجة من بلاد الأندلس، وملك بعد وفاة أبيه هناك، وتوفي في السجن بأغمات حادي عشر شوال، وقيل: في [ذي] الحجة، رحمه الله.(5/387)
ومن النادر الغريب أنه نودي في جنازته بالصلاة على الغريب، بعد عظم سلطانه وجلالة شأنه، فتبارك من له البقاء والعزّة والكبرياء، واجتمع عند قبره جماعة من الشعراء، الذين كانوا يقصدونه بالمدائح، ويجزل لهم المنائح، فرثوه بقصائد مطولات، وأنشدوها عند قبره، وبكوا عليه، فمنهم:
أبو بحر عبد الصمد شاعره المختص به، رثاه بقصيدة طويلة أجاد فيها وأولها:
ملك الملوك أسامع فأنادي ... أم قد عدتك عن [1] السماع عوادي
لمّا نقلت عن القصور ولم تكن ... فيها كما قد كنت بالأعياد
أقبلت [2] في هذا الثّرى لك خاضعا ... وجعلت قبرك موضع الإنشاد
ولما فرغ من إنشادها قبّل الثرى، ومرغ جسمه، وعفّر خده، فأبكى كل من حضر.
ورأى أبو بكر الدّاني حفيد المعتمد- وهو غلام وسيم- قد اتخذ الصياغة صناعة، وكان يلقب في أيام دولتهم فخر الدولة، وهو من الألقاب السلطانية عندهم، فنظر إليه وهو ينفخ في الفحم بقصبة الصائغ، فقال من جملة قصيدة:
شكاتنا فيك يا فخر العلى عظمت ... والرزء يعظم فيمن قدره عظما
طوّقت من نائبات الدّهر مخنقة ... ضاقت عليك وكم طوّقتنا نعما
وعاد طوقك في دكان قارعة [3] ... من بعد ما كنت في قصر حكى إرما
صرفت في آلة الصّياغ أنملة ... لم تدر إلا النّدى والسيف والقلما
يد عهدتك للتّقبيل تبسطها ... فتستقلّ الثريا أن تكون فما
يا صائغا كانت العليا تصاغ له ... حليا وكان عليه الحليّ منتظما
__________
[1] في «آ» و «ط» : «من» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» (5/ 37) .
[2] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «قبلت» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[3] تصحفت في «آ» و «ط» إلى «فارغة» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .(5/388)
للنفخ في الصور هول ما حكاه سوى ... أني رأيتك فيه تنفخ الفحما
وددت إذ نظرت [1] عيني إليك به ... لو أن عيني تشكوا قبل ذاك عمى
ما حطّك الدّهر لما حطّ عن شرف ... ولا تحيّف من أخلاقك الكرما
لح في العلا كوكبا إن لم تلح قمرا ... وقم بها ربوة إن لم تقم علما
والله لو أنصفتك الشهب لانكسفت ... ولو وفي لك دمع العين لانسجما
أبكى حديثك حتّى الدّهر حين غدا ... يحكيك رهطا وألفاظا ومبتسما
ويكفي هذا المقدار، ولولا خوف الإطالة لبيّضت الليالي بلآلئ نظامه، ولسوّدت سطور الطّروس بمصابه ونكبة أيامه، فرحمة الله عليه، وعوّضه بنعيم الفردوس لديه.
وفيها محمد بن علي بن أبي صالح البغوي الدبّاس، آخر من روى «الترمذي» عن الجراحي، توفي ببغشور [2] في ذي القعدة، وكان من الفقهاء.
وفيها قاضي القضاة الشامي [3] أبو بكر محمد بن المظفر بن بكران الحموي الشافعي. كان من أزهد القضاة، وأورعهم، وأتقاهم لله، وأعرفهم بالمذهب.
ولد بحماة سنة أربعمائة، وسمع ببغداد من عثمان بن دوست وطائفة، وولي بعد أبي عبد الله الدامغاني، وكان من أصحاب القاضي أبي الطيّب الطبري. لم يأخذ على القضاء رزقا، ولا غيّر ملبسه. ولي القضاء سنة ثمان وسبعين، بعد ما امتنع، فألحوا عليه، فاشترط عليهم أن لا يأخذ عليه معلوما،
__________
[1] في «آ» و «ط» : «أن نظرت» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» .
[2] في «آ» و «ط» : «ببشفور» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» (3/ 324) و «سير أعلام النبلاء» (19/ 6) .
[3] تحرّفت في «آ» و «ط» إلى «المشامي» والتصحيح من «العبر» (3/ 324) و «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 297) .(5/389)
وأن لا يقبل من أحد شفاعة، ولا يغيّر ملبسه، فأجابوه، فأجابهم إلى ذلك، وكان يقول: ما دخلت في القضاء حتّى وجب عليّ.
وقيل: إنه لم يتبسم قطّ، وكان له أجور من أملاكه تبلغ في الشهر دينارا ونصفا ينتفع بذلك.
قال أبو علي بن سكرة: أما العلم فكان يقال: لو رفع المذهب أمكنه أن يمليه من صدره.
وقال السمعاني: هو أحد المتقنين لمذهب الشافعي، وله اطّلاع على أسرار الفقه، وكان ورعا، زاهدا، جرت أحكامه على السداد.
وقال ابن النجار: صنّف كتاب «البيان في أصول الدّين» وكان على طريقة السلف.
وقال غيره: لم يقبل من سلطان عطية، ولا من صديق [1] هدية، وكان يعاب بالحدّة وسوء الخلق. توفي عاشر شعبان ودفن قرب ابن سريج.
وفيها أبو عبد الله الحميدي محمد بن [أبي] نصر [2] فتّوح بن عبد الله بن فتّوح بن حميد بن يصل [3] الميورقي- بفتح الميم وضم التحتية، وسكون الراء، وقاف، نسبة إلى ميورقة، جزيرة قرب الأندلس- الأندلسي الحافظ الحجّة العلّامة، مؤلف «الجمع بين الصحيحين» توفي في ذي الحجة، عن نحو سبعين سنة. وكان أحد أوعية العلم، وكان ظاهري المذهب، أكثر عن ابن حزم، وابن عبد البرّ، وحدّث عن خلق، ورحل في حدود الخمسين، فسمع بالقيروان، والحجاز، ومصر، والشام، والعراق، وكتب عن خلق كثير، وكان دؤوبا على الطلب للعلم، كثير الاطّلاع، ذكيا،
__________
[1] ي «آ» و «ط» : «ولا من صديقه» وما أثبته من «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة.
[2] في «آ» و «ط» : «محمد بن نصر» وهو خطأ، والتصحيح من «الأنساب» (4/ 233) و «العبر» (3/ 325) .
[3] في «آ» و «ط» : «ابن بطل» وما أثبته من «العبر» (3/ 325) .(5/390)
فطنا، صيّنا، ورعا، أخباريا، متقنا [1] ، كثير التصانيف، حجة، رحمه الله تعالى [2] .
وفيها نجيب بن ميمون [3] أبو سهل الواسطي ثم الهروي. روى عن أبي علي الخالدي وجماعة، وعاش بضعا وتسعين سنة.
وفيها هبة الله بن علي بن محمد بن أحمد بن علي بن عمر أبو نصر البغدادي الحافظ. سمع وألّف، وجمع وصنّف، ومات كهلا عن ست وأربعين سنة.
__________
[1] في «العبر» : «متفننا» . (ع) .
[2] قال العامري في «غربال الزمان» ص (391) في آخر ترجمته: قال أبو بكر بن طرخان: أنشد في نفسه:
فأقلل من لقاء النّاس إلّا ... لأخذ العلم أو إصلاح حال
[3] في «آ» و «ط» : «محبب بن ميمون» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» (3/ 326) وانظر «الأنساب» (5/ 25) ضمن ترجمة شيخه (الحسين بن علي الخالدي النيسابوري) .(5/391)
سنة تسع وثمانين وأربعمائة
فيها توفي أبو طاهر أحمد بن الحسن بن أحمد الباقلّاني الكرخي ثم البغدادي، توفي في ربيع الآخر، وله ثلاث وسبعون سنة. تفرّد بسنن سعيد بن منصور، عن أبي علي بن شاذان، وكان صالحا، زاهدا، منقضبا [1] عن الناس، ثقة، حسن السيرة.
وفيها أبو منصور الشّيحي، عبد المحسن بن محمد بن علي البغدادي، المحدّث التاجر السفّار. روى عن ابن غيلان، والعتيقي، وطبقتهما.
ولد سنة إحدى وعشرين [2] . وسمع بدمشق، ومصر، والرحبة، وكتب وحصّل الأصول.
وفيها عبد الملك بن سراج، أبو مروان الأموي، مولاهم القرطبي، لغويّ الأندلس بلا مدافعة. توفي في ذي الحجّة عن تسعين سنة. روى عن يونس بن مغيث، ومكّي بن أبي طالب، وطائفة، وكان أحد أوعية العلم.
وفيها أبو عبد الله الثقفي القاسم بن الفضل بن أحمد، رئيس أصبهان ومسندها، عن اثنتين وتسعين سنة. روى عن محمد بن إبراهيم الجرجاني، وابن محمش، وطبقتهما بأصبهان، ونيسابور، وبغداد، والحجاز.
__________
[1] تحرفت في «آ» إلى «متقبضا» .
[2] تحرفت في «ط» إلى «إحدى وعشر» .(5/392)
وفيها أبو بكر بن الخاضبة، محمد بن أحمد بن عبد الباقي البغدادي الحافظ، مفيد بغداد. روى عن أبي بكر الخطيب، وابن المسلمة، وطبقتهما، ورحل إلى الشام، وسمع طائفة، وكان كبير القدر، نقّادا، علّامة، محببا إلى الناس كلهم، لدينه، وتواضعه، ومروءته، ومسارعته في قضاء حوائج الناس، مع الصّدق، والورع، والصّيانة التامة، وطيب القراءة.
قال ابن طاهر: ما كان في الدنيا أحد [1] أحسن قراءة للحديث منه.
وقال أبو الحسن الفصيحي: ما رأيت في المحدّثين أقوم باللغة من ابن الخاضبة.
توفي في ربيع الأول.
وفيها أبو أحمد القاسم بن مظفّر الشّهرزوري [2] . ولي قضاء إربل، ثم سنجار [3] ، وله أولاد وحفدة أنجبوا [4] .
ومن شعره:
همتي دونها السّها والثّريا [5] ... قد علت جهدها فما تتوانى [6]
وقيل: إنه [7] لولده قاضي الخافقين، وقيل له: قاضي الخافقين لسعة ما تولى.
وشهرزور: من أعمال إربل، مات بها الإسكندر ذو القرنين، وقيل: مات
__________
[1] في «ط» : «أحدا» وهو خطأ.
[2] مترجم في «الأنساب» (7/ 419) و «مرآة الجنان» (3/ 150) . و «غربال الزمان» ص (391) .
[3] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «سيحان» والتصحيح من «مرآة الجنان» و «غربال الزمان» .
[4] يعني صاروا علماء نجباء. انظر «مرآة الجنان» .
[5] تحرّفت في «آ» و «ط» و «مرآة الجنان» إلى «الزبانا» والتصحيح من «غربال الزمان» .
[6] في «مرآة الجنان» : «فما ابتدأنا» .
[7] يعني البيت المتقدم.(5/393)
بمدائن كسرى، وحمل إلى الإسكندرية فدفن عند أمه، والله أعلم.
وفيها الإمام العلّامة أبو المظفّر السمعاني، منصور بن محمد التميمي المروزي الحنفي، ثم الشافعي. تفقه على والده وغيره، وكان إمام وقته في مذهب أبي حنيفة، فلما حجّ ظهر له بالحجاز ما اقتضى انتقاله إلى مذهب الشافعي، ولما عاد إلى مرو لقي أذى عظيما بسبب انتقاله، وصنّف في مذهب الشافعي كتبا كثيرة، وصنّف في الرّد على المخالفين، وله «الطبقات» أجاد فيه وأحسن، وله تفسير جيد حسن، وجمع في الحديث ألف جزء عن مائة شيخ وسمعان بطن من تميم، ويجوز كسر السين.
وفيها أبو عبد الله العميري- مكبرا، نسبة إلى عميرة، بطن من ربيعة- محمد بن علي بن محمد الهروي العبد الصالح. توفي في المحرم، وله إحدى وتسعون سنة، وأول سماعه سنة سبع وأربعمائة، وقد رحل إلى نيسابور، وبغداد، وروى عن أبي بكر الحيري وطبقته، وكان من أولياء الله تعالى.
قال الدقاق: ليس له نظير بهراة.
وقال أبو النضر الفامي: توحّد عن أقرانه بالعلم، والزهد في الدّنيا، والإتقان في الرواية، والتجرّد من الدّنيا.(5/394)
سنة تسعين وأربعمائة
فيها قتل أرسلان أرغون بن السلطان ألب أرسلان السلجوقي، صاحب مرو، وبلخ، ونيسابور، وترمذ، وكان جبّارا عنيدا، قتله غلام له، وكان بركياروق قد جهز الجيش مع أخيه سنجر لقتال عمّه أرغون، فبلغهم قتله بالدامغان، فلحقهم بركياروق، فتسلم نيسابور وغيرها بلا قتال، ثم تسلم بلخ، وخطبوا له بسمرقند، ودانت له الممالك، واستخلف سنجر على خراسان، وكان حدثا، فرتب في خدمته من يسوس المملكة، واستعمل على خوارزم محمد بن أفشتكين [1] مولى الأمير ميكائيل السلجوقي، ولقبه خوارزم شاه، وكان عدلا، محبا للعلماء، وولي بعده ابنه أتسز [2] .
وفيها توفي أبو يعلى العبدي، أحمد بن محمد، من ذرية الحسن البصري، ويعرف بابن الصوّاف، شيخ مالكية العراق، وله تسعون سنة. تفقه على القاضي علي بن هارون، وحدّث عن البرقاني وطائفة، وكان علّامة، زاهدا، مجتهدا في العبادة، عارفا بالحديث.
قال بعضهم: كان إماما في عشرة أنواع من العلوم، توفي في رمضان بالبصرة.
__________
[1] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «محمد بن أتستكين» والتصحيح من «العبر» (3/ 329) وانظر «الكامل في التاريخ» (10/ 267) .
[2] تحرف في «آ» و «ط» إلى «أسر» والتصحيح من «العبر» (3/ 329) وانظر «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (11/ 209) .(5/395)
وفيها الحسن بن أحمد بن محمد بن القاسم بن [1] جعفر القاسمي، أبو محمد السمرقندي، قوّام السنّة. كان إماما، حافظا، جليلا، رحّالا، ثقة، نبيلا، ومن مصنفاته «بحر الأسانيد في صحاح المسانيد» يشتمل على مائة ألف من الأخبار، وهو في ثمانمائة جزء كبار. قاله ابن ناصر الدّين [2] .
وفيها أبو نصر [3] السمسار، عبد الرحمن بن محمد الأصبهاني، توفي في المحرم، وهو آخر من حدّث عن محمد بن إبراهيم الجرجاني.
وفيها أبو الفتح عبدوس بن عبيد الله بن محمد بن عبدوس، رئيس همذان ومحدّثها. أجاز له أبو بكر بن لال، وسمع من محمد بن أحمد بن حمدويه الطّوسي، والحسين بن فتحويه، مات في جمادى الآخرة، عن خمس وتسعين سنة. وروى عنه أبو زرعة.
وفيها الفقيه نصر بن إبراهيم بن نصر بن إبراهيم بن داود، أبو الفتح المقدسي النابلسي الزاهد، شيخ الشافعية بالشام، وصاحب التصانيف. كان إماما، علّامة، مفتيا، محدّثا، حافظا، زاهدا، متبتلا، ورعا، كبير القدر، عديم النظير. سمع بدمشق من عبد الرحمن بن الطّبيز، وأبي الحسن السمسار، وطائفة، وبغزة من أبي جعفر الميماسي [4] ، وبآمد، وصور، والقدس، وأملى وصنّف، وكان يقتات من غلة تحمل إليه من أرض له بنابلس، وهو بدمشق، فيخبز له كل ليلة قرص في جانب الكانون، وعاش أكثر من ثمانين سنة، وتوفي يوم عاشوراء. قاله في «العبر» [5] .
__________
[1] لفظة «ابن» سقطت من «آ» .
[2] في «التبيان شرح بديعة البيان» (156/ آ) .
[3] في «ط» : «أبو نضر» وهو خطأ.
[4] في «آ» و «ط» : «الميماشي» والتصحيح من «العبر» مصدر المؤلف.
[5] (3/ 331) .(5/396)
وقال ابن شهبة [1] : تفقه على سليم بن أيوب الرازي، وصحبه بصور أربع سنين، وعلّق عنه تعليقه- قال الذهبي في ثلاثمائة جزء- وسمع الحديث الكثير وأملى وحدّث. أقام بالقدس مدة طويلة، ثم قدم دمشق سنة ثمانين فسكنها وعظم شأنه، مع العبادة، والزهد الصادق، والورع، والعلم، والعمل.
قال الحافظ ابن عساكر: لم يقبل من أحد صلة بدمشق، قال: وحكى بعض أهل العلم قال: صحبت إمام الحرمين، ثم صحبت الشيخ أبا إسحاق، فرأيت طريقته أحسن طريقة، ثم صحبت الشيخ نصر، فرأيت طريقته أحسن منها.
ولما قدم الغزالي دمشق اجتمع به واستفاد منه، وتفقه به جماعة من دمشق وغيرها، ودفن بباب الصغير، وقبره ظاهر يزار.
قال النووي [2] : سمعنا الشيوخ يقولون: الدعاء عند قبره يوم السبت مستجاب.
ومن تصانيفه «التهذيب» و «التقريب» وكتاب «المقصود» له وهو أحكام مجردة وكتاب «الكافي» وله شرح متوسط على كتاب «الإشارة» لشيخه سليم، وله كتاب «الحجّة على تارك المحجّة» وغير ذلك، رحمه الله.
وفيها أبو القاسم يحيى بن أحمد السّيبي [3] القصري، المقرئ ببغداد، وله مائة وسنتان، قرأ القرآن على أبي الحسن الحمّامي، وسمع أبا
__________
[1] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 302- 303) .
[2] انظر «تهذيب الأسماء واللغات» (2/ 126) .
[3] في «آ» و «ط» : «السبتي» وهو خطأ، والتصحيح من «الأنساب» (7/ 216) و «العبر» (3/ 332) .(5/397)
الحسن بن الصّلت، وأبا الحسين بن بشران، وجماعة، وختم عليه خلق، وكان خيّرا، ثقة، توفي في ربيع الآخر، وكان يمشي ويتصرف في مصالحه في هذا السنّ.(5/398)
سنة إحدى وتسعين وأربعمائة
فيها خرج الفرنج في ألف ألف وحاصروا أنطاكية سبعة أشهر، وأخذوها [1] عنوة، وخرج إليهم المسلمون وانكسروا، وتبعهم الفرنج إلى المعرّة، وقتلوا، وفتكوا، وأقاموا بها، وقتلوا فيها مائة ألف مسلم، وبعد أربعين يوما ساروا إلى حمص، فصالحهم أهلها، ثم توجهوا إلى القدس.
وفيها توفي أبو العبّاس أحمد بن عبد الغفّار بن أشته الأصبهاني.
روى عن علي بن ميلة، وأبي سعيد النقاش، وطائفة، وعاش اثنتين وثمانين سنة.
وفيها سهل بن بشر، أبو الفرج الإسفراييني، ثم الدمشقي، الصّوفى المحدّث. سمع بدمشق من ابن سلوان وطائفة، وبمصر من الطفّال وطبقته.
ولد ببسطام في سنة تسع وأربعمائة، ومات بدمشق في ربيع الأول.
وفيها أبو الفوارس، طرّاد بن محمد بن علي، النقيب الكامل، الهاشمي العبّاسي الزّينبي البغدادي، نقيب النقباء، ومسند العراق. روى عن هلال الحفّار، وابن رزقويه، وأبي نصر النّرسي، وجماعة، وأملى مجالس كثيرة، وازدحموا عليه، ورحلوا إليه، وكان أعلى الناس منزلة عند الخليفة، توفي في شوال، وله ثلاث وتسعون سنة.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «وأخذوا» وما أثبته يقتضيه السياق.(5/399)
وفيها أبو الحسن الكرجي [1] مكّي بن منصور بن محمد بن علّان الرئيس [السّلّار] ، نائب [2] الكرخ ومعتمدها، توفي بأصبهان في جمادى الأولى، عن بضع وتسعين سنة. رحل، وسمع من الحيري، والصّيرفي، وأبي الحسين بن بشران، وجماعة، وكان محمود السيرة، وافر الحرمة.
وفيها هبة الله بن عبد الرزاق، أبو الحسن الأنصاري البغدادي، رئيس، جليل، خيّر، توفي في ربيع الآخر، عن تسع وثمانين سنة. روى عن هلال وجماعة، وهو آخر من حدّث عن أبي الفضل عبد الواحد التميمي.
وفيها محمد بن الحسين بن محمد الجرمي أبو سعد المكّي، نزيل هراة، كان إماما، حافظا، من العلماء، قدوة، معدودا من الأولياء.
قال ابن ناصر الدّين في «بديعته» :
محمد فتى الحسين الجرمي ... تم صلاح أمره الأشم
__________
[1] في «آ» و «ط» : «الكرخي» وهو تصحيف، والتصحيح من «العبر» (3/ 333) و «سير أعلام النبلاء» (19/ 71) وما بين حاصرتين زيادة منهما.
[2] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «باب» والتصحيح من «العبر» مصدر المؤلف.(5/400)
سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة
فيها انتشرت دعوة الباطنية بأصبهان وأعمالها، وقويت شوكتهم، وأخذت الفرنج بيت المقدس، بكرة الجمعة لسبع بقين من شعبان، بعد حصار شهر ونصف.
قال ابن الأثير [1] : قتلت الفرنج بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفا.
وقال ابن الجوزي في «الشذور» : أخذوا من عند الصخرة نيفا وأربعين قنديلا فضة، كل قنديل وزنه ثلاثة آلاف وستمائة درهم، وأخذوا تنّور فضة وزنه أربعون رطلا، وأخذوا نيفا وعشرين قنديلا من ذهب.
وفيها توفي أبو الحسين أحمد بن عبد القادر بن محمد بن يوسف البغدادي اليوسفي. ثقة جليل القدر، روى عن ابن شاذان وطبقته، وتوفي في شعبان، وله إحدى وثمانون سنة.
وفيها أبو القاسم الخليلي، أحمد بن [محمد] الدّهقان [2] ، عن مائة سنة وسنة، حدّث ببلخ بمسند الهيثم بن كليب، عن أبي القاسم الخزاعي عنه، وتوفي في صفر.
__________
[1] انظر «الكامل في التاريخ» (10/ 283) .
[2] تحرّفت في «ط» إلى «الداهقان» ولفظة «محمد» زيادة من «العبر» (3/ 335) .(5/401)
وفيها أبو تراب المراغي، عبد الباقي بن يوسف، نزيل نيسابور.
قال السمعاني: عديم النظير في فنه، بهي النظر، سليم النفس، عامل بعلمه، نفّاع للخلق، ففيه النفس، قوي الحفظ، تفقه ببغداد على القاضي أبي الطيب [1] وسمع أبا علي بن شاذان، وكان شافعيا، وتوفي في ذي القعدة، وله إحدى وتسعون سنة.
وفيها القاضي الخلعي، أبو الحسن، علي بن الحسن المصري، الفقيه الشافعي، وله ثمان وثمانون سنة. سمع عبد الرحمن بن عمر النحّاس، وأبا سعيد الماليني وطائفة، وانتهى إليه علو الإسناد بمصر.
قال ابن سكرة: فقيه له تصانيف، ولي القضاء، وحكم يوما واستعفى، وانزوى بالقرافة، توفي في ذي الحجة.
وكان يوصف بدين وعبادة [2] .
وقال ابن قاضي شهبة [3] : ذكروا له كرامات وفضائل، وأنه كان لا يبالي بالحرّ، ولا بالبرد، بسبب منام رآه.
قال ابن الأنماطي: قبره بالقرافة يعرف بإجابة الدعاء عنده، وخرّج له أبو نصر الشيرازي عشرين جزءا وسمّاها «الخلعيات» ومن تصانيفه «المغني» في الفقه، في أربعة أجزاء، وهو حسن.
وفيها- أو في التي قبلها، وجزم به ابن رجب- عبد الوهاب بن رزق الله بن عبد الوهاب أبو الفضل التميمي.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «تفقه ببغداد على أبي علي الطبري» والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» (19/ 170) .
[2] قاله الذهبي في «العبر» (3/ 336) وقد نقل المؤلف الترجمة بتمامها عنه.
[3] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 294- 295) .(5/402)
ذكره ابن السمعاني فقال: كان حنبليا، فاضلا، متقنا، واعظا، جميل المحيا. سمع أبا طالب بن غيلان.
وذكر أبو الحسين في «الطبقات» [1] أنه كان يحضر بين يدي أبيه في مجالس وعظه، بمقبرة الإمام أحمد، وينهض بعد كلامه قائما على قدميه، ويورد فصولا مسجوعة [2] .
وفيها أبو الحسن علي بن الحسين بن علي بن أيّوب البزاز [3] ببغداد، في يوم عرفة، عن اثنتين وثمانين سنة. روى عن أبي علي بن شاذان، والحرفي [4] .
وفيها مكّي بن عبد السلام أبو القاسم بن الرّميلي المقدسي الحافظ، أحد من استشهد بالقدس. رحل، وجمع، وعني بهذا الشأن، وكان ثقة، متحريا. روى عن محمد بن يحيى بن سلوان المازني، وأبي عثمان بن ورقاء، وعبد الصمد بن المأمون وطبقتهم، وعاش ستين سنة.
__________
[1] انظر «طبقات الحنابلة» (2/ 250) وقد نقل المؤلف عنه بتصرف.
[2] في «طبقات الحنابلة» : «مجموعة» .
[3] تصحفت في «آ» و «ط» إلى «البزار» والتصحيح من «العبر» (3/ 336) و «سير أعلام النبلاء» (19/ 145) .
[4] تصحفت في «آ» و «ط» إلى «الحرقي» والتصحيح من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» .(5/403)
سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة
فيها توفي العبّاداني، أبو طاهر جعفر بن محمد القرشي البصري.
روى عن أبي عمر الهاشمي أجزاء ومجالس، وكان شيخا، صالحا، أميّا، معمّرا.
وفيها النّعالي، أبو عبد الله، الحسين بن أحمد بن محمد بن طلحة البغدادي الحمّامي، رجل عاميّ من أولاد المحدّثين، عمّر دهرا، وانفرد بأشياء، وروى عن أبي عمر بن مهدي، وأبي سعد الماليني، وطائفة، وتوفي في صفر.
وفيها زياد [بن علي] بن هارون أبو القاسم الجيلي الفقيه الحنبلي [1] ، نزيل بغداد.
سمع بها من أبي مسلم اللّيثي البخاري، وحدّث عنه بكتاب «الوجيز» لابن خزيمة. سمعه منه أبو الحسن الزّعفراني [2] ، وأبو الحسين بن الأبنوسي، وتوفي زياد هذا في طاعون.
وفيها سليمان بن عبد الله بن الفتى أبو عبد الله النّهرواني [3] النحوي
__________
[1] مترجم في «المنهج الأحمد» (2/ 206) بعناية نويهض، وما بين حاصرتين استدركته منه.
[2] كذا في «آ» و «المنهج الأحمد» وفي «ط» : «الزاغوني» .
[3] انظر «إنباه الرواة» (2/ 26- 28) .(5/404)
اللغوي، صاحب التصانيف، من ذلك كتاب «القانون» في اللغة، عشر مجلدات، وكتاب في التفسير، تخرّج به أهل أصبهان، وروى عن أبي طالب بن غيلان وغيره، وهو والد الحسن مدرّس النظامية.
وفيها عبد الله بن جابر بن ياسين أبو محمد الحنّائي الحنبلي، تفقه على القاضي أبي يعلى، وروى عن أبي علي بن شاذان، وكان ثقة نبيلا. قاله في «العبر» [1] .
وفيها عبد الباقي بن حمزة بن الحسين الحداد الحنبلي الفرضي أبو الفضل.
ولد سنة خمس وعشرين وأربعمائة.
قال ابن السمعاني: شيخ صالح خيّر، كان قد قرأ الفقه، وكانت له يد في الفرائض، والحساب. سمع أبا محمد الجوهري وغيره.
وقال ابن ناصر: هو ثقة خيّر، وروى عنه سعيد بن الرزّاز الفقيه، وسبط الخيّاط، وغيرهم، وتوفي يوم السبت، رابع عشر شعبان، وله كتاب «الإيضاح» في الفرائض، صنّفه على مذهب أحمد، وحرّر فيه نقل المذهب تحريرا جيدا، ومما ذكر فيه في باب توريث ذوي الأرحام في ثلاث عمّات مفترقات المال بينهم [2] على خمسة، قال: وهذا هو المنصوص عن أحمد.
وفيها عبد القاهر بن عبد السلام أبو الفضل العبّاسي النقيب المكّي المقرئ. أخذ القراءات عن أبي عبد الله الكارزيني، وتصدّر للإقراء ببغداد.
وفيها أبو الفضل عبد الكريم بن المؤمّل السّلمي الكفر طابي، ثم الدمشقي البزاز. روى جزءا عن عبد الرحمن بن أبي نصر.
__________
[1] (3/ 338) .
[2] في «ط» : «بينهنّ» .(5/405)
وفيها عميد الدولة أبو منصور، محمد بن فخر الدولة محمد بن محمد بن جهير، الوزير ابن الوزير [وزر للمقتدي بالله سنة اثنتين وسبعين، ثم عزل بعد خمس سنين بالوزير] [1] أبي شجاع، ثم وزر سنة أربع وثمانين إلى أن مات، وكان رئيسا، كافيا، شجاعا، مهيبا، فصيحا، مفوّها، أحمق، صودر قبل موته وحبس، ثم قتل سرّا. قاله في «العبر» [2] وقد تقدم ذكره عند ذكر أبيه.
__________
[1] ما بين حاصرتين سقط من «آ» وأثبته من «ط» .
[2] (3/ 339) .(5/406)
سنة أربع وتسعين وأربعمائة
فيها كثرت الباطنية بالعراق والجبل، وزعيمهم الحسن بن صباح، فملكوا القلاع، وقطعوا السبيل، وأهمّ النّاس شأنهم، واستفحل أمرهم لاشتغال أولاد ملكشاه بنفوسهم.
وفيها حاصر كند فري [1]- الذي أخذ القدس- عكّا، فأصابه سهم فقتله.
وفيها توفي أبو الفضل أحمد بن علي بن الفضل بن طاهر بن الفرات الدّمشقي. روى عن عبد الرحمن بن أبي نصر وجماعة، ولكنه رافضيّ معتزلي، وله كتب موقوفة بجامع دمشق. قاله في «العبر» [2] .
وفيها أبو الفرج الزّاز- بالزاي المكررة- عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن زاز بن حميد الأستاذ السرخسي، ثم المروزي، فقيه مرو، وتلميذ القاضي حسين.
مولده سنة إحدى أو اثنتين وثلاثين وأربعمائة، وتفقه على القاضي حسين.
__________
[1] علّق الأستاذ فؤاد سيد على «العبر» (3/ 340) بقوله: كذا بالأصول العربية، وهو الدوق جودفري LGodfrey سيد بويون Bouillon وهي مقاطعة صغيرة في بلجيكا، وكان يجمع بين صفات الجندي والراهب، شديد التعصب لدينه، وكان على رأس الجيوش الصليبية الأولى عند غزوها للشرق وبلاد الإسلام. «قصة الحضارة» المجلد الرابع ص (20- 21) .
[2] (3/ 341) .(5/407)
قال ابن السمعاني في «الذيل» : كان أحد أئمة الإسلام، وممّن يضرب به المثل في الآفاق في حفظ مذهب الشافعي، رحلت إليه الأئمة من كل جانب، وكان ديّنا، ورعا، محتاطا في المأكول والملبوس. قال: وكان لا يأكل الأرز لأنه يحتاج إلى ماء كثير، وصاحبه قلّ أن لا يظلم غيره، ومن تصانيفه كتاب «الأمالي» .
قال الإسنوي في «المهمات» : إن غالب نقل الرافعي من ستة تصانيف غير كلام الغزالي المشروح، «التهذيب» و «النهاية» و «التتمة» و «الشامل» و «تجريد ابن كج» و «أمالي أبي الفرج السرخسي» يعني صاحب الترجمة.
وفيها أبو سعيد عبد الواحد بن الأستاذ أبي القاسم القشيري، كان صالحا، عالما، كثير الفضل. روى عن علي بن محمد الطرازي وجماعة، وسماعه حضورا في الرابعة من الطرازي، توفي في جمادى الآخرة.
وفيها أبو الحسن المديني علي بن أحمد بن الأخرم النيسابوري، المؤذن الزاهد، أملى مجالس عن أبي زكريا المزكّي، وأبي عبد الرحمن السّلمي، وأبي بكر الحيري، وتوفي في المحرم.
وفيها أبو المعالي عزيزي بن عبد الملك [1] بن منصور الجيلي، القاضي المعروف بشيذلة، الفقيه الشافعي الواعظ. كان فقيها، فاضلا، واعظا، ماهرا، فصيح اللسان، حلو العبارة، كثير المحفوظات، صنّف في الفقه، وأصول الدّين، والوعظ، وجمع كثيرا من أشعار العرب، وتولى القضاء بمدينة بغداد بباب الأزج، وكانت في أخلاقه حدّة، وسمع الحديث الكثير من جماعة كثيرة، وكان يناظر بمذهب الأشعري، ومن كلامه: إنما قيل لموسى
__________
[1] كذا في «آ» و «ط» و «وفيات الأعيان» : (3/ 259) و «العبر» (3/ 341) : «عزيزي بن عبد الملك» وهو الصواب وفي «مرآة الجنان» (3/ 157) و «البداية والنهاية» (12/ 160) و «غربال الزمان» ص (393) : «عزيز بن عبد الملك» وهو خطأ.(5/408)
عليه السلام: لَنْ تَرانِي 7: 143، لأنه لما قيل له: انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ 7: 143 نظر إليه، فقيل له:
يا طالب النظر إلينا لم تنظر إلى سوانا:
يا مدّعي بمقاله ... صدق المحبة والإخاء
لو كنت تصدق في المقا ... ل لما نظرت إلى سوائي
فسلكت سبل محبتي ... واخترت غيري في الصّفاء
هيهات أن يهوى الفؤا ... د محبتين على استواء
وقال أنشدني والدي عند خروجه من بغداد إلى الحج:
مددت إلى التّوديع كفّا ضعيفة ... وأخرى على الرمضاء فوق فؤادي
فلا كان هذا العهد آخر عهدنا ... ولا كان ذا التّوديع آخر زادي
وتوفي يوم الجمعة سابع عشر صفر. قاله ابن خلّكان [1] .
وفيها أبو الخطّاب نصر بن أحمد بن عبد الله بن البطر [2] البزّاز، مسند بغداد. روى عن أبي محمد بن البيّع، وابن رزقويه، وطائفة، وتوفي في ربيع الأول، عن ست وتسعين سنة، وكان صحيح السماع، انفرد برواية عن جماعة.
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (3/ 259- 260) .
[2] في «آ» و «ط» : «النظر» وهو تصحيف، والتصحيح من «العبر» (3/ 342) مصدر المؤلف، و «سير أعلام النبلاء» (19/ 46) .(5/409)
سنة خمس وتسعين وأربعمائة
فيها توفي المستعلي بالله أبو القاسم، أحمد بن المستنصر صاحب مصر، ولي الأمر بعد أبيه ثماني سنين، ومات في صفر وله تسع وعشرون سنة، وفي أيامه انقطعت دولته من الشام، واستولى عليها الأتراك والفرنج، ولم يكن له مع الأفضل حلّ ولا ربط، بل كان الأفضل أمير الجيوش، هو الكلّ، وفي أيامه هرب أخوه نزار، الذي تنسب إليه الدعوة النّزارية بقلعة الألموت [1] ، فدخل الإسكندرية وبايعه أهلها، وساعده قاضيها ابن عمّار، ومتولّيها أفتكين، فنازلهم الأفضل، فبرز لحربه أفتكين وهزمه، ثم نازلهم ثانيا، وظفر بهم، ورجع إلى القاهرة بأفتكين ونزار، فذبح أفتكين، وبنى على نزار حائطا فهلك.
وفيها أبو العلاء صاعد بن سيّار الكنانيّ قاضي هراة [2] .
روى عن أبي سعيد الصّيرفي، والطرازي، وطائفة.
وفيها سعيد بن هبة الله أبو الحسن، شيخ الأطباء بالعراق، وكان صاحب تصانيف في الفلسفة، والطب، والمنطق، وله عدة أصحاب.
وفيها عبد الواحد بن عبد الرحمن الزّبيري الوركي الفقيه.
قال السمعاني: عمر مائة وثلاثين سنة، وكتب إملاء عن أبي ذرّ
__________
[1] انظر «بلدان الخلافة الشرقية» ص (256) .
[2] في «العبر» : «قاضي القضاة بهراة» .(5/410)
عمّار بن محمد، صاحب يحيى بن محمد بن صاعد، وقال: زرت قبره بوركة على فرسخين من بخارى.
وقال الذهبي [1] : ما كان في الدنيا له نظير، في علو الإسناد، ولم يضعّفه أحد. انتهى.
وفيها أبو عبد الله الكامخي، محمد بن أحمد بن محمد. روى عن أبي بكر الحيري، وهبة الله اللّالكائي، وطائفة، وتوفي بها ظنا. قاله في «العبر» [2] .
وفيها أبو ياسر الخيّاط [3] محمد بن عبد العزيز البغدادي، رجل خيّر. روى عن أبي علي بن شاذان، وجماعة، وتوفي في جمادى الآخرة.
وفيها أبو الحجّاج يوسف بن سليمان الأعلم النحوي [4] . رحل إلى قرطبة، وأخذ عن جماعة، ورحل إليه الناس من كل وجه، وممّن أخذ عنه أبو علي الحسين بن محمد الغسّاني الجيّاني، وشرح «جمل الزجاجي» وشرح شعره شرحا مفردا، وكفّ بصره في آخر عمره، وسمّي الأعلم لكونه مشقوق الشفّة العليا، ويقال لمشقوق السفلى: أفلح، وكان عنترة العبسي المشهور يلقب بالفلحاء لفلحة كانت به، وإنما أنّثوا لأنهم أرادوا الشفة، وكان سهيل بن عمرو أعلم، ولذلك قال عمر: يا رسول الله، دعني أنزع ثنيته، فلا يقوم عليك خطيبا بعده، لأنه كان مشقوق الشفة العليا، وإذا نزعت ثنيته تعذّر كلامه مع الفصاحة. قاله ابن الأهدل.
__________
[1] انظر «العبر» (3/ 344) .
[2] (3/ 344) .
[3] في «آ» و «ط» : «الحناط» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» (3/ 344) وانظر «سير أعلام النبلاء» (17/ 417) ضمن ترجمة شيخه ابن شاذان.
[4] قلت: الصواب أن وفاته كانت سنة (476) هـ- كما ذكرت في تعليقي على ص (330) من هذا المجلد.(5/411)
سنة ست وتسعين وأربعمائة
فيها توفي ابن سوّار، مقرئ العراق، أبو طاهر أحمد بن علي بن عبيد الله بن عمر بن سوّار، مصنّف «المستنير في القراءات» . كان ثقة مجوّدا، أقرأ خلقا، وسمع الكثير، وحدّث عن ابن غيلان، وطبقته.
وفيها أبو داود سليمان بن نجاح الأندلسي، مولى المؤيد بالله الأموي، مقرئ الأندلس، وصاحب أبي عمرو الدّاني، وهو أنبل أصحابه، وأعلمهم، وأكثرهم تصانيف، توفي في رمضان، عن ثلاث وثمانين سنة.
وفيها أبو الحسن بن الرّوش، علي بن عبد الرحمن الشّاطبي المقرئ. قرأ القراءات على أبي عمرو الدّاني، وسمع من ابن عبد البرّ، وتوفي في شعبان.
وفيها أبو الحسين بن البيّاز [1] يحيى بن إبراهيم بن أبي زيد المرسي. قرأ على أبي عمرو الدّاني، ومكّي.
قال ابن بشكوال [2] : لقي بمصر القاضي عبد الوهاب، وأخذ عنه كتابه
__________
[1] في «آ» و «ط» و «العبر» (3/ 346) : «البيار» وفي «الصلة» لابن بشكوال: «ابن البيان» وما أثبته من «معرفة القرّاء الكبار» (1/ 448) و «ميزان الاعتدال» (4/ 360) و «غاية النهاية في معرفة القراء» (2/ 364) .
[2] انظر «الصلة» ص (670) وما بين حاصرتين استدركته منه.(5/412)
«التلقين» وأقرأ الناس [القرآن] وعمّر، وأسنّ، وسمعت بعضهم ينسبه إلى الكذب.
توفي في المحرم، وقد اختلط في آخر عمره، وعاش تسعين سنة.
وفيها أبو العلاء محمد بن عبد الجبّار الفرساني الأصبهاني. روى عن أبي بكر بن أبي علي المعدّل، وجماعة.
وفيها الفانيدي، أبو سعد الحسين بن الحسين البغدادي. روى عن أبي علي بن شاذان، وتوفي في شوال.
وفيها أبو ياسر، محمد بن عبيد الله بن كادش الحنبلي المحدّث.
كتب الكثير وتعب، وكان قارئ أهل بغداد بعد ابن الخاضبة. روى عن أبي محمد الجوهري، وخلق.
وفيها أبو البركات محمد بن المنذر بن طيبان الكرخي، كذّبه [1] ابن ناصر، وقد روى عن عبد الملك بن بشران، ومات في صفر. قاله في «العبر» [2] .
__________
[1] في «آ» و «ط» : «كنيته» والتصحيح من «العبر» (3/ 347) مصدر المؤلف.
[2] (3/ 347) .(5/413)
سنة سبع وتسعين وأربعمائة
فيها أخذت الفرنج جبيل [1] صلحا، ونكثوا وأخذوا عكّا بالسيف، وهرب متولّيها زهر الدولة بنا الجيوشي [2] ، وهرب في البحر، ونزلت [3] الفرنج حرّان، فالتقاهم سقمان [4] ومعه عشرة آلاف، فانهزموا وتبعهم الفرنج فرسخين، ثم نزل النصر، وكبّر المسلمون، فقتلوهم كيف شاءوا، وكان فتحا عظيما.
وفيها توفي أبو ياسر أحمد بن بندار البقال، أخو ثابت. روى عن بشرى الفاتني وطائفة، ومات في رجب. قاله في «العبر» [5] .
وفيها أبو بكر الطّريثيثي- بضم المهملة أوله، وفتح الراء وسكون التحتية، ومثلثتين، بينهما تحتية، نسبة إلى طريثيث، ناحية بنيسابور- أحمد بن علي بن حسين بن زكريا، ويعرف بابن زهراء [6] الصّوفي البغدادي،
__________
[1] في «آ» و «ط» : «جبل» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» (3/ 347) وجبيل تصغير جبل، بلدة مشهورة شرقي بيروت. انظر «معجم البلدان» (2/ 109) .
[2] في «آ» و «ط» : «ابن الجيوشي» والتصحيح من «العبر» (3/ 347) وانظر «الكامل في التاريخ» (10/ 373) .
[3] في «العبر» : «ونازلت» .
[4] ويقال له أيضا: سكمان. انظر التعليق على «العبر» (3/ 347) .
[5] (3/ 348) .
[6] في «آ» و «ط» : «ابن زهر» وفي «العبر» : «ابن زهيرا» والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» (19/ 160) و «الوافي بالوفيات» (7/ 202) .(5/414)
من أعيان الصوفية ومشاهيرهم. روى عن أبي الفضل القطّان، واللالكائي، وطائفة، وهو ضعيف، عاش ستا وثمانين سنة.
وفيها أبو علي الجاجرمي- بفتح الجيمين وسكون الراء، نسبة إلى جاجرم، بلد بين نيسابور وجرجان- إسماعيل بن علي النيسابوري، الزاهد، القدوة، الواعظ، وله إحدى وتسعون سنة. روى عن عبد الله بن باكويه وعدة.
قال السخاوي: حضر درس زين الإسلام القشيري وخدمه مدة، ثم اشتغل بالعزلة، وكان يجلس في الأسبوع يوما للتذكير.
قال إسماعيل: كان والدي دعا بمكة اللهمّ ارزقني ولدا لا يكون وصيا، ولا صاحب وقف، ولا قاضيا، ولا خطيبا. قال: فقلت له: يا أبت، وما للخطيب؟ قال: يا بني أليس يدعو للظلمة.
وتوفي إسماعيل في عصر يوم الخميس ثامن عشر المحرم، وصلّي عليه يوم الجمعة العصر تاسع عشرة، ودفن في مشهد الإمام محمد بن خزيمة.
وفيها دقاق، شمس الملوك أبو نصر بن تاج الدولة تتش بن السلطان ألب أرسلان السّلجوقي، صاحب دمشق، ولي دمشق بعد أبيه عشر سنين، ومرض مدة، ومات في رمضان، وقيل: سمّوه في عنب، ودفن بخانكاه الطواويس.
وفيها أبو عبد الله بن البسري، الحسين بن علي بن أحمد بن محمد البندار [البغدادي] [1] توفي في جمادى الآخرة وله ثمان وثمانون سنة.
قال السّلفي: لم يرو لنا عن عبد الله بن يحيى السّكّريّ سواه.
__________
[1] زيادة من «العبر» (3/ 349) مصدر المؤلف.(5/415)
وفيها أبو ياسر الطباخ، طاهر بن أسد الشيرازي ثم البغدادي المواقيتي. روى عن عبد الملك بن بشران وغيره، وتوفي في رجب.
وفيها أحمد بن بشرويه الأصبهاني. كان صالحا من الأعيان.
قال ابن ناصر الدّين في «بديعته» :
وأحمد بن بشرويه صالح ... ذا الأصبهاني زانه تصافح
وفيها أبو مسلم السّمناني عبد الرحمن بن عمر، شيخ بغدادي. روى عن أبي علي بن شاذان، ومات في المحرم.
وفيها أبو الخطّاب بن الجرّاح، علي بن عبد الرحمن بن هارون البغدادي الشافعي، المقرئ الكاتب الرئيس. روى عن عبد الملك بن بشران، وكان لغوي زمانه له منظومة في القراءات، توفي في ذي الحجة، وقد قارب التسعين.
وفيها أبو مكتوم، عيسى بن الحافظ أبي ذرّ عبد الرحمن بن أحمد الهروي ثم السّروي الحجازي.
ولد سنة خمس عشرة بسراة بني شبابة، وروى عن أبيه «صحيح البخاري» وعن أبي عبد الله الصنعاني جملة من تآليف عبد الرزاق.
وفيها أبو منصور الخياط محمد بن أحمد بن عبد الرزاق، الشيرازي الأصل، البغدادي الصّفّار، الحنبلي المقرئ الزاهد.
ولد سنة إحدى وأربعمائة في شوال- أو في ذي القعدة- وقرأ القرآن [1] على أبي نصر أحمد بن عبد الوهاب بن مسرور وغيره، وسمع الحديث في
__________
[1] في «آ» و «ط» : «القراءات» والتصحيح من «ذيل طبقات الحنابلة» .(5/416)
كبره [1] من أبي القاسم بن بشران، وأبي منصور بن السوّاق وغيرهما.
وتفقه على القاضي أبي يعلى، وصنّف كتاب «المهذب في القراءات» وروى الحديث الكثير.
وروى عنه سبطه أبو محمد عبد الله بن علي المقرئ، وأخوه أبو عبد الله بن الحسين، وابن الأنماطي، وابن ناصر السّلفي، وغيرهم.
وكان إماما بمسجد ابن جردة ببغداد، بحريم دار الخلافة. اعتكف فيه مدة طويلة يعلّم العميان القرآن لوجه الله تعالى، ويسأل لهم، وينفق عليهم، فختم عليه القرآن خلق كثير، حتى بلغ عدد من أقرأهم القرآن من العميان سبعين ألفا.
قال ابن النجار: هكذا رأيته بخط أبي نصر اليونارتي الحافظ، وقد زعم بعض الناس أن هذا كلام مستحيل، وأنه من سبق القلم، وإنما أراد سبعين نفسا، وهذا كلام ساقط، فإن أبا منصور قد تواتر عنه إقراء الخلق الكثير في السنين الطويلة.
قال ابن الجوزي: أقرأ الخلق السنين الطويلة، وختم عليه القرآن ألوف من الناس.
وقال القاضي أبو الحسين: أقرأ بضعا وستين سنة، ولقن أمما، وهذا موافق لما قاله أبو نصر. وهذا أمر مشهور عن أبي منصور.
قال ابن الجوزي: كان أبو منصور من كبار الصالحين الزاهدين المتعبدين، كان له ورد بين العشاءين، يقرأ فيه سبعا من القرآن قائما وقاعدا، حتّى طعن في السنّ.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «في كثرة» والتصحيح من «ذيل طبقات الحنابلة» .(5/417)
وقال ابن ناصر عنه: كان شيخا صالحا زاهدا صائما أكثر وقته، ذا كرامات ظهرت له بعد موته.
قال عبد الوهاب الأنماطي: توفي الشيخ الزاهد أبو منصور، في يوم الأربعاء، وقت الظهر، السادس عشر من المحرم.
قال ابن الجوزي: مات وسنّه سبع وتسعون سنة، ممتعا بسمعه وبصره وعقله، وحضر جنازته ما لا يعدّ [1] من الناس.
قال السّلفي: وختم في ثاني جمعة من وفاة الشيخ على قبره مائتان وإحدى وعشرون ختمة، وحكى السّلفي أيضا، أن يهوديا استقبل جنازة الشيخ فرأى كثرة الزحام والخلق، فقال: أشهد أن هذا الدّين هو الحق، وأسلم.
وذكر ابن السمعاني، أن الشيخ أبا منصور الخيّاط رؤي في النوم، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي بتعليم الصبيان فاتحة الكتاب.
والصحيح أنه توفي سنة تسع وتسعين وأربعمائة. قاله جميعه ابن رجب [2] .
وفيها أبو مطيع، محمد بن عبد الواحد المديني المصري الأصل، الصحّاف الناسخ، وانتهى إليه علو الإسناد بأصبهان. روى عن أبي بكر بن مردويه، والنّقاش، وابن عقيل البارودي، وطائفة، وعاش بضعا وتسعين سنة.
وفيها أبو عبد الله بن الطّلّاع محمد بن فرج [3] ، مولى محمد بن يحيى الطّلّاع القرطبي المالكي، مفتي الأندلس ومسندها، وله ثلاث وتسعون سنة. روى عن يونس بن مغيث، ومكّي [بن أبي طالب] القيسي، وخلق، وكان رأسا في العلم والعمل، قوّالا بالحقّ. رحل الناس إليه من الأقطار لسماع «الموطأ» و «المدونة» .
__________
[1] في «ذيل طبقات الحنابلة» : «ما لا يحدّ» .
[2] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 95- 98) بتحقيق الأستاذ الشيخ محمد حامد الفقي رحمه الله.
[3] تصحف في «العبر» (3/ 351) إلى «ابن فرح» .(5/418)
سنة ثمان وتسعين وأربعمائة
فيها توفي بركياروق، الملقب ركن الدّين بن السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق، أحد الملوك السلجوقية. ولي المملكة بعد موت أبيه، وكان أبوه قد ملك ما لم يملكه غيره، وكان بركياروق مسعودا، عالي الهمّة، لم يكن فيه عيب سوى ملازمته للشراب والإدمان عليه، ومولده سنة أربع وسبعين وأربعمائة، وتوفي في ثاني عشر ربيع الآخر، وقيل: الأول ببروجرد، وأقام في السلطنة اثنتي عشرة سنة. قاله ابن خلّكان [1] .
وفيها الحافظ أبو علي البرداني- بفتحات ودال مهملة، نسبة إلى بردان، قرية ببغداد- أحمد بن محمد بن أحمد البغدادي، الثقة المصنف الحنبلي، مات عن اثنتين وسبعين سنة في شوال. روى عن ابن غيلان، وأبي الحسن القزويني، وطبقتهما، وكان بصيرا بالحديث، محقّقا، حجّة.
وفيها أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن موسى بن مردويه الأصبهاني. روى عن أبي بكر بن أبي علي وطائفة، وكان ثقة نبيلا، حدّث قديما.
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (1/ 268- 269) .(5/419)
وفيها ثابت بن بندار أبو المعالي البقال، المقرئ ببغداد. روى عن أبي علي بن شاذان وطبقته، وهو ثقة فاضل، توفي في جمادى الآخرة.
وفيها أبو عبد الله الطبري، الحسين بن علي بن الحسين، الفقيه الشافعي، محدّث مكّة ونزيلها، توفي في شعبان، وله ثمانون سنة. روى «صحيح البخاري» عن عبد الغافر بن محمد، وكان فقيها مفتيا، تفقه على ناصر بن الحسين العمري، وجرت له فتن وخطوب مع هيّاج ابن عبيد، وأهل السّنّة بمكّة، وكان عارفا بمذهب الأشعري. قاله في «العبر» [1] .
وقال ابن قاضي شهبة [2] : تفقه على ناصر العمري بخراسان، وعلى القاضي أبي الطيب الطبري ببغداد، ثم لازم الشيخ أبا إسحاق الشيرازي، حتّى برع في المذهب والخلاف، وصار من عظماء أصحابه، ودرّس بنظامية بغداد قبل الغزالي، وكان يدعى إمام الحرمين، لأنه جاور بمكّة نحوا من ثلاثين سنة، يدرّس ويفتي ويسمع، وتوفي بها في شعبان، وكتابه «العدّة» خمسة أجزاء ضخمة.
وفيها أبو علي الغسّاني الحسين بن محمد الجيّاني- بالفتح والتشديد ونون، نسبة إلى جيّان بلد بالأندلس-، الأندلسي. أحد أركان الحديث بقرطبة. روى عن حكم الجذامي، وحاتم بن محمد، وابن عبد البرّ، وطبقتهم، وكان كامل الأدوات في الحديث، علّامة في اللغة، والشعر، والنّسب، حسن التصنيف، نقّادا، توفي في شعبان عن اثنتين وسبعين سنة، وأصابته في الآخر زمانة.
وفيها سقمان بن أرتق بن أكسب التّركماني، صاحب ماردين، وجدّ
__________
[1] (3/ 353) .
[2] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 287) .(5/420)
ملوكها. كان أميرا، جليلا، فارسا، موصوفا، حضر عدة حروب، وتوفي بالشام.
وفيها محمد بن أحمد بن محمد بن قيداس [1] أبو طاهر التّوثي [2]- بضم الفوقية وآخره مثلثة، نسبة إلى توث، قرية بمرو [3]- الخطّاب سمع أبا علي بن شاذان، والحرقي، وأجاز له أبو الحسين بن بشران، وتوفي في المحرم.
وفيها محمد بن عبد السّلام الشريف أبو الفضل الأنصاري البزاز، بغدادي، جليل، صالح. روى عن البرقاني، وابن شاذان، وتوفي في ربيع الآخر.
وفيها نصر الله بن أحمد بن عثمان الخشنامي النيسابوري. ثقة صالح، عالي الإسناد. روى عن أبي عبد الرحمن السّلمي، والحيري، وطائفة.
__________
[1] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «منداس» والتصحيح من «العبر» (3/ 354) و «توضيح المشتبه» (1/ 658) ، و «تاج العروس» (قدس) (16/ 358) .
[2] تنبيه: تصحف في «تاج العروس» إلى «البوني» فيصحح فيه.
[3] ونسبه ابن ناصر الدّين في «توضيح المشتبه» (1/ 658) إلى «توثة» محلة متصلة بالشونيزية.(5/421)
سنة تسع وتسعين وأربعمائة
فيها ظهر بنهاوند رجل ادّعى النّبوّة، وكان ساحرا، صاحب مخاريق، فتبعه خلق، وكثرت عليهم الأموال، وكان لا يدّخر شيئا، فأخذ وقتل، ولله الحمد.
وفيها ظفر طغتكين بالفرنج مرتين، فأسر وقتل، وزيّنت دمشق.
وفيها أخذت الفرنج [حصن] فامية، وأما طرابلس ففتحت الحصار، وجعل [1] المسلمون يخرجون منها، وينالون من الفرنج، ومرض ملك الفرنج صنجيل [2] ومات، وحمل ودفن بالقدس، وأقامت الفرنج غيره.
وفيها مات أبو القاسم عبد الله بن علي بن إسحاق الطّوسي، أخو نظام الملك. سمع أبا حسّان المزّكّي، وأبا حفص بن مسرور، وعاش خمسا وثمانين سنة.
وفيها أبو البركات بن الوكيل، محمد بن عبد الله بن يحيى الخبّاز الدبّاس الكرخي الشافعي. قرأ بالروايات على [3] أبي علي [4] الواسطي،
__________
[1] لفظة «جعل» سقطت من «العبر» (3/ 355) فتستدرك فيه ولفظة «حصن» مستدركة منه.
[2] تحرف في «آ» و «ط» إلى «صخيل» والتصحيح من «العبر» . وانظر «الكامل في التاريخ» (10/ 411) .
[3] في «آ» و «ط» : «عن» وما أثبته من «العبر» .
[4] في «العبر» : «أبو العلا» . (ع) .(5/422)
والحسن بن الصّقر، وجماعة، وتفقه على أبي الطّيب الطبري، وسمع من عبد الملك بن بشران، وكان يتّهم بالاعتزال، ثم تاب وأناب، وتوفي في ربيع الأول، عن ثلاث وتسعين سنة. قاله في «العبر» [1] .
وفيها أبو البقاء الحبّال، المعمّر بن محمد بن علي الكوفي الخزّاز.
روى عن جناح [2] بن نذير المحاربي وجماعة، وتوفي في جمادى الآخرة بالكوفة.
__________
[1] (3/ 356) .
[2] في «سير أعلام النبلاء» (19/ 209) : «نجاح» . (ع) .(5/423)
سنة خمسمائة
فيها غزا السلطان محمد بن ملكشاه الباطنية، وأخذ قلعتهم [1] بأصبهان، وقتل صاحبها أحمد بن عبد الملك بن عطّاش، وكان قد تملكها اثنتي عشرة سنة، وهي من بناء ملكشاه، بناها على رأس جبل، وغرم عليها ألفي ألف دينار.
وفيها غرق قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش، صاحب قونية ووجد قد انتفخ.
وفيها توفي أبو الفتح الحداد، أحمد بن محمد بن أحمد بن سعيد الأصبهاني الشافعي التاجر الخوافي- وخواف قرية من أعمال نيسابور- كان ورعا، ديّنا، كثير الصدقات. توفي في ذي القعدة، عن اثنتين وتسعين سنة.
روى عن أبي مظفر الشافعي، وكان من ملازمي الإمام، وبه تفقه، وحظي عنده، وكان إمام الحرمين معجبا بفصاحته وحسن كلامه، ثم درّس في حياة الإمام، وولي قضاء طوس، ثم صرف، وكما رزق الغزالي السعادة في حسن التصنيف، رزق هذا السعادة في المناظرة، والعبارة الحسنة المهذّبة، والتصنيف على الخصم.
__________
[1] ذكر ابن الأثير في «الكامل في التاريخ» (10/ 430) أن اسم هذه القلعة «شاه دز» وانظر تتمة الخبر عنده.(5/424)
قال الذهبي: وكان أعلم أهل طوس مع الغزالي، وكان من أنظر أهل زمانه.
وفيها أو بعدها الفقيه الإمام الفرضي، إسحاق بن يوسف بن يعقوب الصّردفي [1] نسبة إلى صردف [2] بلد باليمن. صنّف كتاب «الكافي» في الفرائض، وهو كتاب لم يسبق إلى تدريجه للمبتدئ، وهو من الكتب المباركة النافعة. قيل: اشتري مرة بوزنه، واستغني به عن كتب الفن جميعها، وأصل الشيخ من المعافر، وسكن صردف [3] وكان له ابنتان، زوّج إحداهما واسمها ملكة الفقيه زيد بن عبد الله اليفاعي، فأولدها هندة [4] أم محمد بن سالم الإمام بجامع ذي أشرق، ولذلك صارت كتب زيد اليفاعي بأيديهم، لأنه لم يرثه غير أمهم هذه، وتزوّج الأخرى إمام مسجد الجند حسّان بن محمد، فأولدها ولد، فصار إليه بعض كتب جدّه [5] إسحاق. قاله ابن الأهدل.
وفيها جعفر بن أحمد بن حسين، أبو محمد البغدادي الحنبلي السرّاج، المعروف بالقارئ. كان حافظ عصره، وعلّامة زمانه، وله التصانيف العجيبة، منها: كتاب «مصارع العشاق» وغيره، وحدّث عن أبي علي بن شاذان، وأبي القاسم بن شاهين، والخلّال، والبرمكي، وغيرهم وأخذ عنه خلق كثير، وروى عنه الحافظ أبو طاهر السّلفي، وكان يفتخر بروايته عنه [6] مع أنه لقي أعيان ذلك الزمان، وأخذ عنهم.
وله شعر حسن، فمنه:
__________
[1] تحرّفت في «آ» و «ط» إلى «الصروفي» والتصحيح من «غربال الزمان» للعامري ص (396) .
[2] تحرّفت في «آ» و «ط» إلى «ضروف» والتصحيح من «معجم البلدان» (3/ 401) .
[3] في «آ» و «ط» : «صروف» والتصحيح من «غربال الزمان» .
[4] في «غربال الزمان» : «هندا» .
[5] تحرفت لفظة «جده» في «غربال الزمان» إلى «أبي» فتصحح فيه.
[6] لفظة «عنه» لم ترد في «وفيات الأعيان» .(5/425)
بان الخليط فأدمعي ... وجدا عليهم تستهلّ
وحدا بهم حادي الفرا ... ق عن المنازل فاستقلّوا
قل للذين ترحّلوا ... عن ناظري والقلب حلّوا
ودمي بلا جرم أتى ... ت غداة بينهم استحلّوا
ما ضرّهم لو أنهلوا ... من ماء وصلهم وعلّوا
ومن شعره أيضا:
وعدت بأن تزوري كلّ شهر ... فزوري قد تقضّى الشهرزوري
وشقة بيننا نهر المعلى ... إلى البلد المسمّى شهرزور
وأشهر هجرك المحتوم صدق ... ولكن شهر وصلك شهر زور
وأورد له العماد الكاتب:
ومدّع شرخ شباب وقد ... عمّمه الشّيب على وفرته
يخضب بالوشمة [1] عثنونه ... يكفيه أن يكذب في لحيته
وكان مولده ببغداد سنة ست عشرة وأربعمائة، وتوفي بها ليلة الأحد الحادي والعشرين من صفر. قاله ابن خلّكان [2] .
وفيها أبو غالب الباقلّاني [3] محمد بن الحسن بن أحمد بن الحسن البغدادي الفامي، الرجل الصالح. روى عن ابن شاذان، والبرقاني، وطائفة، وتوفي في ربيع الآخر، عن ثمانين سنة.
وفيها أبو الحسين بن الطّيوري، المبارك بن عبد الجبّار بن أحمد بن قاسم الصّيرفي البغدادي المحدّث. سمع أبا علي بن شاذان فمن بعده.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «بالوثمة» والتصحيح من «وفيات الأعيان» مصدر المؤلف.
[2] انظر «وفيات الأعيان» (1/ 357- 358) .
[3] تحرفت في «ط» إلى «الباقلاقي» .(5/426)
قال ابن السمعاني: كان مكثرا، صالحا، أمينا، صدوقا، صحيح الأصول، ديّنا، صيّنا، وقورا، كثير الكتابة.
وقال غيره: توفي في ذي العقدة عن تسع وثمانين سنة، وكان عنده ألف جزء بخط الدّارقطني. قاله في «العبر» [1] .
وفيها المبارك بن فاخر أبو الكرم الدبّاس الأديب، من كبار أئمة اللّغة والنحو ببغداد، وله مصنّفات. روى عن القاضي أبي الطّيب الطبري، وأخذ اللغة عن عبد الواحد بن برهان، ورماه ابن ناصر بالكذب في الرواية، وتوفي في ذي القعدة عن سبعين سنة.
وفيها يوسف بن تاشفين أبو يعقوب، أمير المسلمين وملك الملثمين، وهو الذي اختطّ مدينة مرّاكش، وكان عظيم الشأن، كبير السلطان، معتدل القامة، أسمر اللون، نحيف الجسم، خفيف العارضين، دقيق الصوت، وكان يخطب لبني العبّاس، وهو أول من تسمى بأمير المسلمين، ولم يزل على حاله وعزة سلطانه إلى أن توفي يوم الاثنين ثالث محرم هذه السنة، وعاش تسعين سنة، ملك منها خمسين سنة.
قال ابن الأثير في «تاريخه» [2] : كان حسن السيرة، خيّرا، عادلا، يميل إلى أهل العلم والدّين، ويكرمهم، ويحكّمهم في بلاده ويصدر عن رأيهم، وكان يحبّ العفو والصفح عن الذنوب العظام، فمن ذلك أنّ ثلاثة نفر اجتمعوا، فتمنى أحدهم ألف دينار يتجر بها، وتمنى الآخر زوجته [3] وكانت من أحسن النساء، ولها الحكم في بلاده، وتمنى الآخر عملا [يعمل فيه] [4] ،
__________
[1] (3/ 358) .
[2] انظر «الكامل في التاريخ» (10/ 417- 418) .
[3] في «الكامل في التاريخ» : «زوجته النفراوية» .
[4] ما بين حاصرتين تكملة من «الكامل في التاريخ» .(5/427)
فبلغه الخبر، فأحضرهم، وأعطى متمنّي المال ألف دينار، واستعمل الآخر، وقال للذي تمنّى زوجته: يا جاهل! ما حملك على هذا الذي لا تصل إليه، ثم أرسله إليها فتركته في خيمة ثلاثة أيام يحمل إليه [1] في كلّها طعام واحد، ثم أحضرته وقالت له: ما أكلت في هذه الثلاثة أيام، فقال: طعاما واحدا، فقالت: كل النساء شيء واحد، وأمرت له بمال وكسوة وأطلقته.
وقال ابن الأهدل: يوسف بن تاشفين أبو يعقوب البربري الملثم. كان أعظم ملوك الدّنيا في عصره، وكان عديم الرفاهية، تملّك الأندلس، واختطّ مرّاكش، وجعلها دار الإمارة، وفي آخر أيامه بعث إليه الخليفة من بغداد الخلع والتقليد واللّواء، فأقيمت الخطبة العباسية بمملكته، وكان أولا مقدّم أبي بكر بن عمر الصنهاجي، وكان الصنهاجي مقدّم الملثمين من ملوك حمير المغرب، واختلف لم سمّوا بذلك. وفيهم يقول الشاعر:
قوم لهم درك العلا في حمير ... وإن انتموا صنهاجة فهم هم
لما علوا أحرار كل قبيلة ... غلب الحياء عليهم فتلثموا [2]
وعهد ابن تاشفين بالأمر إلى ولده تومرت. انتهى.
وفيها عبد الوهاب بن محمد بن عبد الوهاب بن محمد الفارسي الفامي، أبو محمد الفقيه الشافعي المفتي.
ولد سنة أربع عشرة، واشتغل في العلوم، وصنّف سبعين مصنّفا، وله تفسير ضمّنه مائة ألف بيت شعر [على ما ذكر] ، وكان بارعا في معرفة المذهب. قدم بغداد سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وقد أملى بجامع القصر،
__________
[1] في «الكامل في التاريخ» : «تحمل إليه» .
[2] رواية البيت في «مرآة الجنان» (3/ 167) .
لما حووا إحراز كل فضيلة ... غلب الحياء عليهم فتلثموا(5/428)
وحفظت عليه غلطات في الحديث، وإسقاط رجال، وتصحيف فاحش. أورد منه ابن السمعاني أشياء كثيرة.
وقال يحيى بن مندة: هو أحفظ من رأيناه لمذهب الشافعي.
صنّف كتاب «تاريخ الفقهاء» ومات بشيراز في رمضان. قاله ابن قاضي شهبة [1] .
__________
[1] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 292- 293) وما بين حاصرتين في الترجمة زيادة منه.(5/429)
تمّ بعون الله تعالى وتوفيقه تحقيقنا للمجلد الخامس من كتاب «شذرات الذهب في أخبار من ذهب» للإمام ابن العماد الحنبلي الدمشقي في الخامس عشر من شهر شعبان عام (1408) هـ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأسأل الله تعالى أن يعيننا على الانتهاء من تحقيق بقية مجلداته بحوله وقوته، إنه خير مسؤول.
محمود الأرناؤوط(5/430)
[المجلد السادس]
كلمة حول منتخب شذرات الذهب لابن شقدة
الحمد لله وحده، والصلاة والسّلام على من لا نبيّ بعده.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
وبعد: فقد سبقت الإشارة في الكلمة التي كتبتها بين يدي المجلد الخامس من الكتاب، إلى أنني رمزت للنسخة الخطية المعتمدة في تحقيق الكتاب بحرف «آ» وإلى النسخة المطبوعة سابقا في مصر بحرف «ط» وإلى «منتخب شذرات الذهب» ب «المنتخب» ابتداء من المجلد السادس، وذلك في المواطن التي رجعت فيها إليه للتثبت من حال بعض الألفاظ.
وأجدني الآن- وقد أنهيت تحقيق المجلد السادس- مضطرّا إلى تعريف القراء ب «منتخب» ابن شقدة وصاحبه. فكتاب «منتخب شذرات الذهب» ليس بمنتخب لكتاب «شذرات الذهب» وحسب كما قد يتبادر إلى الأذهان، بل إنه يضم في ثناياه إضافات وتعقيبات وفوائد ذوات أهمية كبرى، فقد جاء في مقدمة ابن شقدة له ما نصه: «أما بعد: فإني وقفت على كتاب شذرات الذهب في أخبار من ذهب، للشيخ عبد الحي بن أحمد بن محمد بن العماد، الملقب بأبي الفلاح الحنبلي- سقى الله ثراه طيّب الرّحمة والرّضوان، وأسكنه أعلى فراديس الجنان- فوجدته تاريخا ظريفا، جامعا لذكر من سلف من العلماء، والأولياء، والصالحين، وغيرهم. وبعض قصصهم وأيّامهم ونوادرهم وأخبارهم، ما هو فوق المراد، لكن في حجمه كبر على بعض العباد، فاختصرته إلى نحو نصفه،(6/1)
وانتخبت منه التراجم الظريفة، الحاوية للنّكت والفوائد الشريفة، وحذفت منه نحو النّصف، وذلك طلبا لتسهيل المراجعة والمطالعة، وتقريب الوصول إلى المقصود، بإعانة ربّنا الواحد المعبود، وضممت إليه بعض نكت وحكايات وتراجم وجدتها في بعض كتب التاريخ، ميّزتها بقولي في أولها: قلت، وفي آخرها: انتهى» .
وتتألف مخطوطة «منتخب شذرات الذهب» من ثلاثمائة وإحدى وثلاثين ورقة، وقد جاء في آخرها ما نصه: «نقلت من نسخة غالبها من خطّ المؤلّف- رحمه الله- أفقر العباد أبي الفلاح عبد الحي بن أحمد بن محمد [بن] العماد، غفر الله له ولمن ستر عيبا رآه، وأصلح فيه خللا أبصرته عيناه. وقد اختصره قريبة الفقير عبد الرحيم بن الشيخ مصطفى بن أحمد بن محمد [بن] شقدة إلى نحو نصفه بعد أن نخبه ونقّاه، وسمّاه منتخب شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لطلب تسهيل المراجعة والمطالعة، وذلك في أواخر شعبان سنة أربعين ومائة وألف» .
وأما مؤلّف «المنتخب» العلّامة المؤرخ البارع الشيخ عبد الرحيم بن مصطفى ابن شقدة الدّمشقي الصّالحي [1]- فهو كشيخه ابن العماد- لا يمكن التعريف به تعريفا وافيا إلّا من خلال استقراء شامل لكتابه، بل لمجمل آثاره [2] .
وختاما أسأل الله- عزّ وجلّ- أن يعينني على الانتهاء من تحقيق بقيّة الكتاب، وأن يمدّني ويمدّ والدي [3]- المشرف على تحقيق الكتاب- بعونه وتأييده، إنه نعم المولى ونعم النّصير.
دمشق الشام في التاسع عشر من شهر ربيع الأول لعام 1410 هـ.
محمود الأرناؤوط
__________
[1] انظر ترجمته في «سلك الدّرر» للمرادي (3/ 5) و «الأعلام» للزركلي (3/ 348- 349) الطبعة الرابعة.
[2] وذلك ما سأقوم به وقت دفع «المنتخب» للطبع إن شاء الله تعالى.
[3] تنويه: كل تعليق مختوم بحرف (ع) من الحواشي هو مما تفضل بإضافته والدي حفظه الله أثناء مراجعته للكتاب قبل دفعه للطبع، جزّاه الله عني كل خير.(6/2)
راموز الصفحة الأولى من منتخب شذرات الذهب(6/3)
راموز الصفحة الأخيرة من منتخب شذرات الذهب(6/4)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سنة إحدى وخمسمائة
فيها كانت وقعة كبيرة بالعراق، بين سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس، أمير العرب، وبين السلطان محمّد، فالتقيا، فقتل صدقة يوم الجمعة، سلخ جمادى الآخرة، وقتل معه ثلاثة آلاف فارس، وأسر ابنه دبيس، وصاحب جيشه سعيد بن حميد، وكان صدقة شيعيّا له محاسن، ومكارم، وحلم، وجود، ملك العرب بعد أبيه اثنتين وعشرين سنة، وهو الذي اختطّ الحلّة السيفية [1] سنة خمس وتسعين وأربعمائة، ومات جده دبيس سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة.
وفيها توفي تميم بن المعزّ بن باديس، السلطان أبو يحيى الحميري، صاحب القيروان، ملك بعد أبيه، وكان حسن السّيرة، محبا للعلماء، مقصدا للشعراء، كامل الشجاعة، وافر الهيبة، عاش تسعا وسبعين سنة، وامتدت أيّامه، وكانت دولته ستا وخمسين سنة، وخلّف أكثر من مائة ولد، وتملّك بعده ابنه يحيى. قاله في «العبر» [2] .
وساق العماد الكاتب في «الخريدة» [3] نسبه إلى نوح عليه السّلام.
__________
[1] أي مدينة الحلّة وقد نسبت إليه لأنه كان أول من عمرها. انظر خبرها في «معجم البلدان» (2/ 294- 295) .
[2] انظر «العبر» (4/ 1) .
[3] (1/ 141- 142) (قسم شعراء المغرب) . قلت: ونقله عنه ابن خلّكان في «وفيات الأعيان» (1/ 304) فراجعه.(6/5)
وقال ابن خلّكان [1] : ملك إفريقية وما والاها بعد أبيه المعزّ، وكان حسن السيرة، محمود الآثار.
ومن شعره:
إن نظرت مقلتي لمقلتها ... تعلم ممّا أريد نجواه
كأنّها في الفؤاد ناظرة ... تكشف أسراره وفحواه
[1] وله أيضا:
سل المطر العام الذي عمّ أرضكم ... أجاء بمقدار الذي فاض من دمعي
[2]
إذا كنت مطبوعا على الصدّ والجفا ... فمن أين لي صبر فأجعله طبعي
وله:
فكّرت في نار الجحيم وحرّها ... يا ويلتاه ولات حين مناص
فدعوت ربّي أنّ خير وسيلتي ... يوم المعاد شهادة الإخلاص
وأشعاره وفضائله كثيرة، وكان يجيز الجوائز السنية، ويعطي العطاء الجزل [3] ، وكانت ولادته بالمنصورية، التي تسمى صبرة [4] من بلاد إفريقية، يوم الاثنين ثالث عشر رجب، سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، وفوّض إليه أبوه ولاية المهديّة في صفر، سنة خمس وأربعين، ولم يزل بها إلى أن توفي والده في شعبان، سنة خمس وأربعين، فاستبد بالملك، ولم يزل إلى أن توفي ليلة السبت، منتصف رجب، وخلّف من البنين أكثر من مائة، ومن البنات ستين، على ما ذكره حفيده عبد العزيز بن شدّاد في كتاب «أخبار القيروان» .
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (1/ 304) وانظر رواية البيتين في «الخريدة» (1/ 159) .
[2] في «آ» : «مدمعي» ولا يستوي بها الوزن وأثبت لفظ «ط» وهو موافق لما في «وفيات الأعيان» .
[3] في «وفيات الأعيان» : «الجزيل» .
[4] بلد قريب من مدينة القيروان. انظر «معجم البلدان» (3/ 391) .(6/6)
وفيها أبو علي التّككيّ، الحسن بن محمد بن عبد العزيز البغدادي، في رمضان. روى عن أبي علي بن شاذان.
وفيها أبو محمد الدّوني- بضم المهملة، نسبة إلى دون قرية بهمذان [1]- عبد الرحمن بن حمد [2] الصوفي، الرجل الصالح، راوي «السنن» [3] عن أبي نصر الكسّار. كان زاهدا عابدا، سفيانيّ المذهب، توفي في رجب.
وفيها أبو سعد الأسديّ، محمد بن عبد الملك بن عبد القاهر بن أسد البغدادي المؤدّب. روى عن أبي علي بن شاذان، وضعّفه ابن ناصر.
وفيها أبو الفرج القزويني، محمد ابن العلّامة أبي حاتم محمود بن حسن الأنصاري، فقيه صالح، استملى عليه السّلفي مجلسا مشهورا، وتوفي في المحرم.
__________
[1] انظر «اللباب في تهذيب الأنساب» لابن الأثير (1/ 517) و «معجم البلدان» (2/ 490) وترجمته فيه.
[2] في «آ» و «ط» و «معجم البلدان» (2/ 490) : «ابن محمد» وما أثبتناه من «اللباب في تهذيب الأنساب» (1/ 517) و «سير أعلام النبلاء» (19/ 239) . (ع) .
[3] يعني «سنن النسائي» كما صرح بذلك ابن الأثير في «اللباب» وقال الذهبي في «سير أعلام النبلاء» : كان آخر من روى كتاب «المجتبى من سنن النسائي» .(6/7)
سنة اثنتين وخمسمائة
فيها قتلت الباطنية بهمذان قاضي قضاة أصبهان عبيد الله بن علي الخطيبي.
وقتلت بأصبهان يوم عيد الفطر أبا العلاء صاعد بن محمد البخاري، وقيل: النيسابوري الحنفي المفتي، أحد الأئمة عن خمس وخمسين سنة.
وقتلت بجامع آمل يوم الجمعة في المحرم فخر الإسلام القاضي أبا المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الرّوياني، شيخ الشافعية، وصاحب التصانيف، وشافعيّ الوقت. أملى مجالس عن أبي غانم الكراعي، وأبي حفص بن مسرور، وطبقتهما، وعاش سبعا وثمانين سنة.
قال ابن قاضي شهبة [1] : كانت له الوجاهة والرئاسة والقبول التام عند الملوك فمن دونها. أخذ عن والده وجدّه، وبميّافارقين عن محمد بن بيان [الكازروني] ، وبرع في المذهب، حتّى كان يقول: لو احترقت كتب الشافعيّ لأمليتها من حفظي، ولهذا كان يقال له: شافعي زمانه. ولي قضاء طبرستان، وبنى مدرسة بآمل، وكان فيه إيثار للقاصدين إليه.
ولد في ذي الحجة سنة خمس عشرة وأربعمائة، واستشهد بجامع آمل
__________
[1] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 318- 319) وما بين الحاصرتين زيادة منه.(6/8)
عند ارتفاع النهار بعد فراغه من الإملاء يوم الجمعة حادي عشر المحرم، ومن تصانيفه «البحر» وهو بحر كاسمه، و «الكافي» و «الحلية» مجلد متوسط، فيه اختيارات كثيرة، وكثير منها يوافق [1] مذهب مالك، وكتاب «المبتدي» - بكسر الدال- وكتاب «القولين والوجهين» مجلدان. انتهى ملخصا.
وعظم الخطب بهؤلاء الملاعين، وخافهم كل أمير وعالم، لهجومهم على الناس.
وفيها أبو القاسم الرّيفي علي بن الحسين الفقيه الشافعي المعتزلي، ببغداد. روى عن أبي الحسن بن مخلد، وابن بشران، وتوفي في رجب عن ثمان وثمانين سنة.
وفيها محمد بن عبد الكريم بن خشيش أبو سعد البغدادي، في ذي القعدة، عن تسع وثمانين سنة. روى عن ابن شاذان.
وفيها أبو زكريا التّبريزيّ الخطيب، صاحب اللغة، يحيى بن علي ابن محمد الشيباني، صاحب التصانيف. أخذ اللغة عن أبي العلاء المعرّي، وسمع من سليم بن أيوب بصور، وكان شيخ بغداد في الأدب. توفي في جمادي الآخرة عن إحدى وثمانين سنة.
وقال ابن خلّكان [2] : سمع الحديث من سليم الرّازي وغيره من الأعيان، وروى عنه الخطيب الحافظ البغدادي، صاحب «تاريخ بغداد» والحافظ ابن ناصر، وغيرهما من الأعيان، وتخرّج عليه خلق كثير وتلمذوا له.
ذكره الحافظ أبو سعد السمعاني في كتاب «الذيل» وكتاب «الأنساب» وعدّد فضائله، ثم قال: سمعت أبا منصور محمد بن عبد الملك بن الحسن بن خيرون المقرئ يقول: أبو زكريا يحيى بن علي التّبريزي ما كان بمرضيّ
__________
[1] في «آ» و «ط» : «موافق» وأثبت لفظ «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة.
[2] انظر «وفيات الأعيان» (6/ 191- 196) .(6/9)
الطريقة، وذكر عنه أشياء، ثم قال: وتذاكرت [1] أنا مع أبي الفضل محمد بن ناصر الحافظ بما ذكره ابن خيرون المقرئ، فسكت وكأنه ما أنكر ما قال، ثم قال: ولكن كان ثقة في اللغة، وما كان ينقله. وصنّف في الأدب كتبا مفيدة، منها: «شرح الحماسة» و «شرح ديوان المتنبي» و «شرح سقط الزّند» و «شرح اللّمع» لابن جني، و «شرح مقصورة ابن دريد» [2] و «شرح المعلقات السبع» وله «تهذيب غريب الحديث» و «تهذيب الإصلاح» و «الملخص في إعراب القرآن» في أربع مجلدات، وغير ذلك من الكتب الحسنة المفيدة.
وكان، قد دخل مصر في عنفوان شبابه، فقرأ عليه بها ابن بابشاذ النحوي شيئا من اللغة، ثم عاد إلى بغداد واستوطنها إلى الممات، وكان يروي عن أبي الحسن محمد بن المظفر بن نحرير [3] البغدادي جملة من شعره، فمن ذلك قوله- وهي من أشهر أشعاره-:
خليليّ ما أحلى صبوحي بدجلة ... وأطيب منه بالصّراة غبوقي
شربت على الماءين من ماء كرمة ... فكانا كدرّ ذائب وعقيق
على قمري أفق وأرض تقابلا ... فمن شائق حلو الهوى ومشوق
فما زلت أسقيه وأشرب ريقه ... وما زال يسقيني ويشرب ريقي
وقلت لبدر التّمّ تعرف ذا الفتى؟ ... فقال: نعم هذا أخي وشقيقي.
وهذه الأبيات من أملح الشعر وأظرفه.
وكانت ولادة يحيى هذا سنة إحدى وعشرين وأربعمائة، وتوفي فجاءة [4] يوم الثلاثاء ثامن عشري جمادى الآخرة ببغداد.
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «وذاكرت» .
[2] قوله: «وشرح اللمع» لابن جنّي، و «شرح مقصورة ابن دريد» لم يرد في «وفيات الأعيان» الذي بين يدي.
[3] كذا في «آ» : «ابن نحرير» و «وفيات الأعيان» ، وفي «ط» : «ابن محيريز» .
[4] في «وفيات الأعيان» : «فجأة» وكلاهما بمعنى. انظر «مختار الصحاح» (فجأ) .(6/10)
سنة ثلاث وخمسمائة
فيها أخذت الفرنج طرابلس [1] بعد حصار سبع سنين.
وفيها توفي أحمد بن علي بن أحمد العلثي [2] أبو بكر الزاهد الحنبلي.
قال ابن الجوزي في «طبقاته» [3] : هو أحد المشهورين بالزهد والصلاح، سمع الحديث على القاضي أبي يعلى، وقرأ عليه شيئا من المذهب. وكان يعمل بيده تجصيص [4] الحيطان، ثم ترك ذلك، ولازم المسجد يقرئ القرآن ويؤم الناس، وكان عفيفا لا يقبل من أحد شيئا، ولا يسأل أحدا حاجة لنفسه من أمر الدّنيا، مقبلا على شأنه ونفسه، مشتغلا بعبادة
__________
[1] يعني طرابلس الشام كما هو مبين في «الكامل في التاريخ» (10/ 475) .
[2] في «آ» و «ط» : «العلبي» والتصحيح من «طبقات الحنابلة» لابن أبي يعلى (2/ 255) و «المنتظم» لابن الجوزي (9/ 163) و «المنهج الأحمد» (2/ 222) و «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 104) .
[3] ذكر ابن الجوزي في هذا الكتاب- أي «الطبقات» - مناقب الصحابة والتابعين والأكابر من الزهاد والصالحين، طبقة بعد طبقة، وهو مخطوط لم يطبع بعد فيما أعلم، ويقع في (293) ورقة، وهو محفوظ بدار الكتب الوطنية بتونس برقم (2434) ويحتفظ معهد المخطوطات العربية في الكويت بمصورة عنه برقم (226) وانظر «طبقات الحنابلة» (2/ 255- 257) .
و «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 104- 105) .
[4] كذا في «آ» و «ط» : «تجصيص» وفي «ذيل طبقات الحنابلة» : «يجصص» .(6/11)
ربّه، كثير الصوم والصلاة، مسارعا إلى قضاء حوائج المسلمين، مكرّما عند الناس أجمعين.
وكان يذهب بنفسه كل ليلة إلى دجلة، فيأخذ في كوز له ماء يفطر عليه.
وكان يمشي بنفسه في حوائجه ولا يستعين بأحد، وكان إذا حجّ يزور القبور بمكّة، ويجيء إلى قبر الفضيل بن عياض، ويخطّ بعصاه، ويقول:
يا ربّ هاهنا، يا ربّ ها هنا، فاتفق أنه خرج في سنة ثلاث وخمسمائة إلى الحجّ، وكان قد وقع من الجمل في الطريق دفعتين، فشهد عرفة محرما ومعه بقية من ألم الوقوع.
وتوفي عشية ذلك اليوم- يوم الأربعاء، يوم عرفة- في أرض عرفات، فحمل إلى مكّة، فطيف به البيت، ودفن يوم النحر إلى جنب قبر الفضيل بن عياض، رضي الله عنهما.
وممن روى عنه ابن ناصر، والسّلفي. قاله ابن رجب [1] .
وفيها أبو بكر أحمد بن المظفّر بن سوسن التمّار، ببغداد. روى عن الحرفي [2] ، وابن شاذان، وضعفه شجاع الذّهلي، وتوفي في صفر عن اثنتين وتسعين سنة.
وفيها أبو الفتيان عمر بن عبد الكريم الدّهستاني- بكسر الدال المهملة والهاء وسكون المهملة وفوقية، نسبة إلى دهستان مدينة عند مازندران [3]- الحافظ الرّوّاسي.
__________
[1] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 104- 105) .
[2] في «آ» و «ط» : «الحرقي» وهو تصحيف، والتصحيح من «الأنساب» (4/ 112) وهو أبو القاسم عبد الرحمن بن عبيد الله بن عبد الله الحرفي.
[3] تحرفت في «آ» إلى «مازندران» وأثبت ما جاء في «ط» وهو الصواب. انظر «الأنساب» (5/ 379) و «معجم البلدان» (5/ 41) .(6/12)
طوّف خراسان، والعراق، والشام، ومصر، وكتب ما لا يوصف، وروى عن أبي عثمان الصّابوني وطبقته، وتوفي بسرخس.
قال ابن ناصر الدّين [1] : كان ثقة في نقله، لكنه حدّث بطوس ب «صحيح مسلم» من غير أصله.
وفيها أبو سعد المطرّز محمد بن محمد بن محمد الأصبهاني [2] ، في شوال، عن نيف وتسعين سنة. سمع الحسين بن إبراهيم الحمّال، وأبا علي غلام محسن، وابن عبد كويه، وهو أكبر شيخ للحافظ أبي موسى المديني.
سمع منه حضورا.
__________
[1] في «التبيان شرح بديعة البيان» (157/ آ) .
[2] انظر «سير أعلام النبلاء» (19/ 254- 255) .(6/13)
سنة أربع وخمسمائة
فيها أخذت الفرنج بيروت بالسيف، ثم أخذوا صيدا بالأمان.
وفيها توفي إسماعيل بن أبي الحسين عبد الغافر بن محمد الفارسي ثم النيسابوري أبو عبد الله. روى عن أبي حسّان [1] المزكّي، وعبد الرحمن ابن حمدان النّصروي، وطبقتهما، ورحل فأدرك أبا محمد الجوهريّ ببغداد.
توفي في ذي القعدة عن إحدى وثمانين سنة.
وفيها أبو يعلى حمزة بن محمّد بن علي البغداديّ، أخو طراد الزّينبي، توفي في رجب، وله سبع وتسعون سنة، والعجب كيف لم يسمع من هلال الحفّار. روى عن أبي العلاء محمد بن علي الواسطي وجماعة.
قاله في «العبر» [2] .
وفيها أبو الحسن إلكيا الهرّاسي- وإلكيا بهمزة مكسورة ولام ساكنة، ثم كاف مكسورة، بعدها ياء مثناة من تحت، معناه الكبير بلغة الفرس.
والهرّاسي: براء مشدّدة وسين مهملة، لا تعلم نسبته لأي شيء-.
علي بن محمد بن علي الطبرستاني الشافعي عماد الدّين، شيخ
__________
[1] في «آ» و «ط» : «عن أبي حيّان» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» (19/ 262) .
[2] (4/ 8) .(6/14)
الشافعية ببغداد، تفقه على إمام الحرمين، وكان فصيحا، مليحا، مهيبا، نبيلا، قدم بغداد، ودرّس بالنّظاميّة وتخرّج به الأصحاب، وعاش أربعا وخمسين سنة.
قال ابن خلّكان [1] : ذكره الحافظ عبد الغافر في «تاريخ نيسابور» فقال:
كان من رؤوس معيدي إمام الحرمين في الدرس، وكان ثاني أبي حامد الغزالي، بل أفضل وأصلح وأطيب في الصوت والنظر، ثم اتصل بخدمة مجد الملك [2] بركياروق بن ملكشاه السلجوقي، وحظي عنده بالمال والجاه، وارتفع شأنه، وتولى القضاء بتلك الدولة، وكان محدّثا يستعمل الأحاديث في مناظراته ومجالسته.
ومن كلامه: إذا جالت فرسان الأحاديث في ميادين الكفاح، طارت رؤوس المقاييس في مهابّ الرياح.
وحدّث الحافظ أبو طاهر السّلفي [قال] : استفتيت شيخنا إلكيا الهرّاسي ما يقول الإمام- وفقه الله تعالى- في رجل أوصى بثلث ماله للعلماء والفقهاء، أتدخل كتبة الحديث تحت هذه الوصية أم لا؟ فكتب الشيخ تحت السؤال:
نعم، كيف لا، وقد قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلم: «من حفظ على أمتي أربعين حديثا من أمر دينها بعثه الله يوم القيامة فقيها عالما» [3] .
وسئل إلكيا أيضا عن يزيد بن معاوية فقال: إنه لم يكن من الصحابة، لأنه ولد في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأما قول السّلف، فقيه
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (3/ 286- 288) .
[2] في «آ» و «ط» : «محمد الملك» وهو تصحيف، والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[3] رواه جماعة من الأئمة الحفّاظ من رواية عدد من الصحابة رضوان الله عليهم، وقال الإمام النووي: اتفق الحفّاظ على أنه حديث ضعيف وإن كثرت طرقه. انظر «شرح الأربعين النووية» ص (12- 13) طبع دار ابن كثير، وانظر كلام الحافظ السخاوي عليه في «المقاصد الحسنة» ص (411) .(6/15)
لأحمد قولان، تلويح وتصريح، ولمالك فيه قولان، تلويح وتصريح، ولأبي حنيفة قولان، تلويح وتصريح، ولنا قول واحد، تصريح دون التلويح، وكيف لا يكون كذلك، وهو اللاعب بالنرد، والمتصيد بالفهود، ومدمن الخمر، وشعره في الخمر معلوم ومنه قوله:
أقول لصحب ضمّت الكأس شملهم ... وداعي صبابات الهوى يترنّم
خذوا بنصيب من نعيم ولذة ... وكلّ وإن طال المدى يتصرّم
وكتب فصلا طويلا ثم قلب الورقة وكتب: لو مددت ببياض لمددت العنان في مخازي هذا الرجل، وقد أفتى الإمام أبو حامد الغزالي في مثل هذه المسألة بخلاف ذلك.
قال ابن الأهدل: أفتى الغزالي بخلاف جواب إلكيا، وتضمن جوابه، أنه وإن غلب الظن بقرائن حاله أنه رضي قتل الحسين، أو أمر به، فلا يجوز لعنه، ويجعل كمن فعل كبيرة.
وأفتى ابن الصلاح بنحوه، وأقرهما اليافعي.
قلت: الحاصل من ذلك أن يزيد إن صحّ عنه ما جرى منه على الحسين وآله من المثلة وتقلّب [1] الرأس الكريم بين يديه، وإنشاده الشعر في ذلك مفتخرا، فذلك دليل الزندقة والانحلال من الدّين، فإنّ مثل هذا لا يصدر من قلب سليم، وقد كفّره بعض المحدّثين، وذلك موقوف على استحلاله لذلك، والله أعلم.
وقال الإمام التّفتازاني: أمّا رضا يزيد بقتل الحسين وإهانته أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فمما يقطع به، وإن كان تفصيله آحادا فلا يتوقف في كفره، لعنة الله عليه وعلى أنصاره وأعوانه. انتهى كلام ابن الأهدل.
__________
[1] في «ط» : «وتقليب» .(6/16)
وقال ابن خلّكان: كانت ولادة إلكيا في ذي القعدة، سنة خمسين وأربعمائة، وتوفي يوم الخميس وقت العصر، مستهل المحرم، سنة أربع وخمسمائة ببغداد، ودفن في تربة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وحضر دفنه الشريف أبو طالب الزّينبي، وقاضي القضاة أبو الحسن بن الدامغاني، وكانا مقدّمي الطائفة الحنفية، وكان بينه وبينهما في حال الحياة منافسة، فوقف أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فقال ابن الدامغانيّ متمثلا:
وما تغني النّوادب والبواكي ... وقد أصبحت مثل حديث أمس
وأنشد الزّينبيّ متمثلا:
عقم النساء فلم [1] يلدن شبيهه ... إنّ النّساء بمثله عقم
انتهى ملخصا.
وقال السبكي [2] : له كتاب «شفاء المسترشدين» و «نقض مفردات [الإمام] أحمد» وكتب [3] في أصول الفقه.
وفيها أبو الحسين الخشّاب، يحيى بن علي بن الفرح المصري، شيخ [الإقراء] [4] . قرأ بالروايات على ابن نفيس، وأبي الطاهر إسماعيل بن خلف، وأبي الحسين الشيرازي، وتصدر للإقراء.
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «فما» .
[2] انظر «طبقات الشافعية الكبرى» (7/ 232) .
[3] في «طبقات الشافعية الكبرى» : «وكتاب» وجاء في حاشية التحقيق فيه ما نصه: «وفي الطبقات الوسطى: «كتابان» .
[4] مستدركة من «العبر» (4/ 8) مصدر المؤلف.(6/17)
سنة خمس وخمسمائة
فيها توفي أبو محمد بن الآبنوسي، عبد الله بن علي البغدادي، الوكيل المحدّث، أخو الفقيه أحمد بن علي. سمع من أبي القاسم التّنوخي، والجوهري، وتوفي في جمادى الأولى.
وفيها أبو الحسن العلّاف، علي بن محمد بن علي بن محمد البغدادي، الحاجب، مسند العراق، وآخر من روى عن الحمّامي، وكان يقول: ولدت في المحرم سنة ست وأربعمائة، وسمعت من أبي الحسين بن بشران، وتوفي في المحرم عن مائة إلّا سنة، وكان أبوه واعظا مشهورا.
وفيها الإمام [الغزّالي] [1] زين الدّين، حجّة الإسلام، أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطّوسي [2] الشافعي، أحد الأعلام. تلمذ لإمام الحرمين، ثم ولّاه نظام الملك تدريس مدرسته ببغداد، وخرج له أصحاب، وصنّف التصانيف، مع التصوّن والذكاء المفرط والاستبحار في
__________
[1] ما بين حاصرتين زيادة من «العبر» مصدر المؤلف.
قال ابن خلّكان في «وفيات الأعيان» (1/ 98) : الغزّالي: بفتح الغين المعجمة وتشديد الزاي المعجمة وبعد الألف لام، هذه النسبة إلى الغزّال، على عادة أهل خوارزم وجرجان، فإنهم ينسبون إلى القصار القصّاري، وإلى العطار العطّاري، وقيل: إن الزاي مخففة، نسبة إلى غزالة وهي قرية من قرى طوس، وهو خلاف المشهور، لكن هكذا قاله السمعاني في كتاب «الأنساب» والله أعلم. قلت: ولم أقف على نسبة الغزّالي في «الأنساب» المطبوع واستدركها المحقق في الحاشية (9/ 140) .
[2] انظر «سير أعلام النبلاء» (19/ 322- 346) و «الأمصار ذوات الآثار» ص (79) طبع دار ابن كثير.(6/18)
العلم، وبالجملة ما رأى الرجل مثل نفسه. توفي في رابع عشر جمادى الآخرة بالطّابران، قصبة بلاد طوس، وله خمس وخمسون سنة.
والغزّالي: هو الغزّال، وكذا العطّاري والخبّازي [1] ، على لغة أهل خراسان. قاله في «العبر» [2] .
وقال الإسنوي في «طبقاته» [3] : الغزّالي إمام باسمه تنشرح الصدور، وتحيا النفوس، وبرسمه تفتخر المحابر وتهتزّ الطّروس، وبسماعه تخشع الأصوات وتخضع الرؤوس.
ولد بطوس، سنة خمسين وأربعمائة، وكان والده يغزل الصّوف ويبيعه في حانوته، فلما احتضر أوصى به وبأخيه أحمد إلى صديق له صوفي صالح، فعلمهما الخطّ وأدبهما، ثم نفد منه ما خلّفه أبوهما، وتعذّر عليه القوت، فقال: لكما أن تلجئا إلى المدرسة، قال الغزالي: فصرنا إلى المدرسة نطلب الفقه لتحصيل القوت، فاشتغل بها مدة ثم ارتحل إلى أبي نصر الإسماعيلي بجرجان، ثم إلى إمام الحرمين بنيسابور، فاشتغل عليه ولازمه، حتّى صار أنظر أهل زمانه، وجلس للإقراء في حياة إمامه، وصنّف. وكان الإمام في الظاهر يظهر التبجح به، وفي الباطن عنده منه شيء لما يصدر منه من سرعة العبارة وقوة الطبع. وينسب إليه تصنيفان ليسا له بل وضعا عليه، وهما «السرّ المكتوم» و «المضنون به على غير أهله» وينسب إليه شعر، فمن ذلك ما نسبه إليه ابن السمعاني في «الذيل» والعماد الأصبهاني في «الخريدة» :
حلّت عقارب صدغه في خدّه ... قمرا فجلّ به عن التّشبيه
ولقد عهدناه يحلّ ببرجها ... فمن العجائب كيف حلّت فيه
__________
[1] تصحفت في «آ» إلى «الجنازي» وأثبت لفظ «ط» .
[2] (4/ 10) .
[3] انظر «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 242- 245) .(6/19)
وأنشد العماد له أيضا:
هبني صبوت كما ترون بزعمكم ... وحظيت منه بلثم ثغر أزهر
إني اعتزلت فلا تلوموا أنّه ... أضحى يقابلني بوجه أشعري
فلما مات إمامه خرج إلى العسكر وحضر مجلس نظام الملك [وكان مجلسه محطّ رحال العلماء، ومقصد الأئمة والفصحاء، فوقع للغزّاليّ أمور تقتضي علو شأنه من ملاقاة الأئمة ومجاراة الخصوم اللّد، ومناظرة الفحول، ومناطحة الكبار، فأقبل عليه نظام الملك وحلّ منه] [1] محلا عظيما، فعظمت منزلته، وطار اسمه في الآفاق، وندب للتدريس بنظاميّة بغداد، سنة أربع وثمانين، فقدمها في تجمل كبير، وتلقاه النّاس، ونفذت كلمته، وعظمت حشمته، حتّى غلبت على حشمة الأمراء والوزراء، وضرب به المثل، وشدت إليه الرّحال، إلى أن شرفت نفسه عن رذائل الدّنيا فرفضها واطّرحها، وأقبل على العبادة والسياحة، فخرج إلى الحجاز في سنة ثمان وثمانين، فحجّ ورجع إلى دمشق واستوطنها عشر سنين بمنارة الجامع، وصنّف فيها كتبا، يقال إن «الأحياء» منها، ثم صار إلى القدس والإسكندرية، ثم عاد إلى وطنه بطوس، مقبلا على التصنيف والعبادة، وملازمة التّلاوة، ونشر العلم، وعدم مخالطة الناس.
ثم إن الوزير فخر الدّين بن نظام الملك حضر إليه وخطبه إلى نظامية نيسابور، وألحّ عليه كل الإلحاح، فأجاب إلى ذلك، وأقام عليه مدة، ثم تركه وعاد إلى وطنه، على ما كان عليه، وابتنى إلى جواره خانقاه للصوفية، ومدرسة للمشتغلين، ولزم الانقطاع، ووظف أوقاته على وظائف الخير، بحيث لا يمضي لحظة منها إلّا في طاعة من التلاوة، والتدريس،
__________
[1] ما بين حاصرتين سقط من «آ» وأثبته من «ط» و «طبقات الشافعية» للإسنوي.(6/20)
والنظر في الأحاديث، خصوصا البخاري، وإدامة الصيام، والتهجّد، ومجالسة أهل القلوب، إلى أن انتقل إلى رحمة الله تعالى، وهو قطب الوجود، والبركة الشاملة لكل موجود، وروح خلاصة أهل الإيمان، والطريق الموصلة إلى رضا الرحمن، يتقرب إلى الله تعالى به كل صديق، ولا يبغضه إلّا ملحد أو زنديق، قد انفرد في ذلك العصر عن أعلام الزمان كما انفرد في هذا الفصل، فلم يترجم فيه معه في الأصل لإنسان. انتهى كلام الإسنوي [1] .
وقال ابن قاضي شهبة [2] : ومن تصانيفه «البسيط» وهو كالمختصر للنهاية، و «الوسيط» ملخص منه، وزاد فيه أمورا من «الإبانة» للفوراني، ومنها أخذ هذا الترتيب الحسن الواقع في كتبه، وتعليق القاضي حسين، و «المهذّب» واستمداده منه كثير، كما نبّه عليه في المطلب، ومن تصانيفه أيضا «الوجيز» و «الخلاصة» مجلد دون «التنبيه» وكتاب «الفتاوى» له مشتمل على مائة وتسعين مسألة، وهي غير مرتبة وله فتاوى أخرى غير مشهورة، أقل من تلك، وصنّف في الخلاف المآخذ جمع مأخذ [3] ، ثم صنّف كتابا آخر في الخلاف سماه «تحصيل المأخذ» [4] وصنّف في المسألة السريجية مصنفين، اختار في أحدهما عدم وقوع الطلاق وفي الآخر الوقوع، وكتاب «الإحياء» وهو الأعجوبة العظيم الشأن، و «بداية الهداية» في التصوف، و «المستصفى» في أصول الفقه، و «إلجام العوام عن علم الكلام» ، و «الرد على الباطنية» ، و «مقاصد الفلاسفة» ، و «تهافت الفلاسفة» و «جواهر القرآن» و «شرح الأسماء
__________
[1] أقول: كلام الإسنوي في مدح الإمام الغزالي فيه مبالغات لا يرضاها الشرع، ولا يقرها الغزالي نفسه. (ع) .
[2] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 327- 328) .
[3] في «آ» : «المآجد جمع ماجد» وأثبت لفظ «ط» وهو موافق لما في «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة.
[4] في «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة: «تحصين المأخذ» .(6/21)
الحسنى» ، و «مشكاة الأنوار» و «المنقذ من الضلال» وغير ذلك. انتهى.
وذكر الشيخ علاء الدّين علي بن الصيرفي في كتابه «زاد السالكين» أن القاضي أبا بكر بن العربي قال: رأيت الإمام الغزالي في البريّة وبيده عكازة، وعليه مرقعة، وعلى عاتقه ركوة، وقد كنت رأيته ببغداد يحضر مجلس درسه نحو أربعمائة عمامة من أكابر الناس وأفاضلهم، يأخذون عنه العلم. قال:
فدنوت منه وسلّمت عليه، وقلت له: يا إمام! أليس تدريس العلم ببغداد خير من هذا؟ قال: فنظر إلي شزرا [1] وقال: لما طلع بدر السعادة في فلك الإرادة- أو قال سماء الإرادة- وجنحت شمس الوصول في مغارب الأصول:
تركت هوى ليلى وسعدى [2] بمعزل ... وعدت إلى تصحيح أول منزل
ونادت بي الأشواق مهلا فهذه ... منازل من تهوى رويدك فانزل
غزلت لهم غزلا دقيقا فلم أجد ... لغزلي نسّاجا فكسّرت مغزلي
انتهى.
__________
[1] قال في «مختار الصحاح» (شزر) : نظر إليه شزرا، وهو نظر الغضبان بمؤخر عينيه.
[2] في «آ» : «وشعري» ..(6/22)
سنة ست وخمسمائة
فيها توفي أبو غالب أحمد بن محمد بن أحمد الهمذاني العدل.
روى عن أبي سعيد عبد الرحمن بن شبانة [1] وجماعة، أو توفي في العام الآتي. قاله في «العبر» [2] .
وفيها أبو القاسم إسماعيل بن الحسن السّنجبستي- بفتح السين [3] المهملة والجيم والموحدة، وسكون النون والمهملة الثانية وفوقية، نسبة إلى سنجبست، منزل بين نيسابور وسرخس- الفرائضي. توفي في صفر بسنجبست. روى عن أبي بكر الحيري، وأبي سعيد الصيرفي، وعاش خمسا وتسعين سنة.
وفيها الفضل بن محمد بن عبيد القشيري النيسابوريّ الصّوفيّ العدل. روى عن أبي حسّان المزّكّي، وعبد الرحمن بن النّصرويي [4] ، وطائفة، وعاش خمسا وثمانين سنة، وهو أخو عبيد القشيري.
وفيها أبو سعد المعمّر بن علي بن المعمّر بن أبي عمامة [5] البقّال
__________
[1] في «آ» و «ط» : «شبابة» وهو تصحيف، والتصحيح من «العبر» مصدر المؤلف، و «سير أعلام النبلاء» (19/ 272) .
[2] (4/ 11) .
[3] وكذا في «الأنساب» (7/ 162) و «اللباب» (2/ 146) وضبطها ياقوت في «معجم البلدان» (3/ 263) بكسر السين.
[4] في «آ» و «ط» و «العبر» بطبعتيه و «سير أعلام النبلاء» (19/ 293) : «النصروي» وهو خطأ، والتصحيح من «الأنساب» (12/ 91) و «اللباب» (3/ 311) .
[5] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «عمارة» والتصحيح من «العبر» (4/ 11) و «سير أعلام النبلاء»(6/23)
البغدادي، الحنبلي، الفقيه، الواعظ، ريحانة البغداديين.
ولد سنة تسع وعشرين وأربعمائة، وسمع من ابن غيلان، والخلّال، والجوهري، والأزجي، وغيرهم.
وكان فقيها مفتيا واعظا بليغا فصيحا، له قبول تام، وجواب سريع، وخاطر حاد، وذهن بغداديّ، وكان يضرب به المثل في حدة الخاطر، وسرعة الجواب بالمجون، وطيب الخلق، وله كلمات في الوعظ حسنة، ورسائل مستحسنة، وجمهور وعظه [1] حكايات السلف، وكان يحصل بوعظه نفع كثير [2] ، وكان في زمن أبي علي بن الوليد شيخ المعتزلة، يجلس في مجلسه، ويلعن المعتزلة.
وخرج مرة فلقي مغنية قد خرجت من عند تركي، فقبض على عودها، وقطّع أوتاره، فعادت إلى التّركي فأخبرته، فبعث من كبس دار أبي سعد وأفلت هو، فاجتمع بسبب ذلك الحنابلة، وطلبوا من الخليفة إزالة المنكرات كلها، فأذن لهم في ذلك.
وكان أبو سعد يعظ بحضرة الخليفة [المستظهر] والملوك، ووعظ يوما نظام الملك الوزير بجامع المهدي، فقال من جملة ما قال: لما تقلدت أمور البلاد وملكت أزمّة العباد، اتخذت الأبواب والبواب، والحجاب والحجّاب، ليصدّوا عنك القاصد، ويردّوا عنك الوافد؟ فاعمر قبرك كما عمّرت قصرك، وانتهز الفرصة ما دام الدهر [أمّرك، فلا تعتذر، فما ثمّ من] يقبل عذرك.
وهذا ملك الهند، وهو عابد صنم، ذهب سمعه، فقال: ما حسرتي (19/ 451) و «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 107) .
__________
[1] يعني ومعظم وعظه.
[2] في «آ» و «ط» : «كبير» والتصحيح من «ذيل طبقات الحنابلة» مصدر المؤلف، وقد نقل عنه بتصرف، وما بين حاصرتين في الترجمة مستدرك منه.(6/24)
لذهاب هذه الجارحة من بدني، ولكن تأسفي لصوت المظلوم لا أسمعه فأغيثه [1] ثم قال: إن كان ذهب سمعي فما ذهب بصري، فليؤمر كل ذي ظلامة أن يلبس الأحمر حتّى، إذا رأيته عرفته فأنصفته [2] . وهذا أنوشروان، قال له رسول الرّوم: لقد أقدرت عدوك عليك بتسهيل الوصول إليك، فقال:
إنما أجلس هذا المجلس لأكشف ظلامة، وأقضي حاجة. وأنت يا صدر الإسلام أحق بهذه المأثره، وأولى بهذه وأحرى، فأعدّ جوابا [3] لتلك المسألة، فإن السائل الله تعالى، الذي تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ 19: 90 [مريم: 90] في موقف ما فيه إلّا خاشع، أو خاضع، أو مقنع، فينخلع فيه القلب، ويحكم فيه الرّب، ويعظم فيه الكرب، ويشيب فيه الصغير، ويعزل فيه الملك والوزير، يوم يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى 89: 23 [الفجر: 23] يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ من خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ من سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً 3: 30 [آل عمران: 30] . وقد استجلبت لك الدعاء، وخلدت لك الثناء، مع براءتي من التهمة، فليس لي- بحمد الله تعالى- في أرض الله ضيعة ولا قرية، ولا بيني وبين أحد خصومة، ولا بي بحمد الله فقر ولا فاقة.
فلما سمع، نظام الملك هذه الموعظة بكى بكاء شديدا، وأمر له بمائة دينار، فأبى أن يأخذها، [وقال: أنا في ضيافة أمير المؤمنين، ومن يكن في ضيافة أمير المؤمنين يقبح عليه أن يأخذ عطاء غيره] ، فقال [له] : فصلها [4] إلى الفقراء، فقال هم على بابك أكثر منهم على بابي، ولم يأخذ شيئا.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «فأعينه» وما أثبته من «ذيل طبقات الحنابلة» .
[2] في «آ» و «ط» : «فأنصفه» وأثبت لفظ «ذيل طبقات الحنابلة» .
[3] في «ذيل طبقات الحنابلة» : «وأحرى، من أعدّ» .
[4] كذا في «آ» و «ط» : «فصلها» وفي «ذيل طبقات الحنابلة» : «فضها» .(6/25)
وتوفي أبو سعد يوم الاثنين ثامن عشري ربيع الأول، ودفن من الغد بمقبرة باب حرب، رحمه الله تعالى.
وفيها جعفر بن الحسن الدّرزيجاني- بفتح الدال المهملة وسكون الراء وكسر الزاي، وتحتية ساكنة، وجيم، نسبة إلى درزيجان، قرية ببغداد- المقرئ الفقيه الزاهد.
ذكره القاضي أبو الحسين [1] فيمن تفقه على أبيه، وسمع الحديث.
وقال ابن شافع: هو الأمّار بالمعروف، والنهّاء على المنكر، ذو المقامات المشهودة في ذلك، والمهيب بنور الإيمان واليقين لدى الملوك والمتصرفين.
صحب القاضي أبا يعلى، وتفقه عليه، ثم تمّم على صاحبه الشريف أبي جعفر، وختم عليه القرآن خلق لا يحصون كثرة.
وكان من عباد الله الصالحين، لا تأخذه في الله لومة لائم، مهيبا، وقورا، له حرمة عند الملوك والسلاطين، ولا يتجاسر أحد أن يقدم عليه إذا أنكر منكرا.
وله المقامات المشهودة في ذلك، مداوما للصيام والتهجد والقيام، وله ختمات كثيرة جدا، كل ختمة منها في ركعة واحدة. وسمع الحديث من أبي علي بن البناء، وتوفي في الصلاة ساجدا في شهر ربيع الآخر بدرزيجان، رحمه الله تعالى.
__________
[1] انظر «طبقات الحنابلة» (2/ 257) .(6/26)
سنة سبع وخمسمائة
فيها توفي أبو بكر الحلواني أحمد بن علي بن بدران، ويعرف بخالوه [1] . ثقة زاهد متعبد. روى عن القاضي أبي الطّيب الطبري وطائفة.
وفيها رضوان، صاحب حلب ابن تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان السلجوقي، ومنه أخذت الفرنج أنطاكية، وملك بعده ابنه ألب أرسلان الأخرس.
وفيها الحافظ شجاع بن فارس أبو غالب الذّهلي السّهروردي- بضم السين المهملة وسكون الهاء وفتح الراء والواو وسكون الراء ومهملة، نسبة إلى سهرورد بلد عند زنجان [2]- ثم البغدادي، وله تسع وسبعون سنة. نسخ ما لا يدخل تحت الحصر من التفسير، والحديث، والفقه، لنفسه وللناس، حتّى إنه كتب شعر ابن الحجّاج سبع مرّات، وروى عن ابن غيلان، وعبد العزيز الأزجي، وخلق، وتوفي في جمادى الأولى.
قال ابن ناصر الدّين [3] : هو حافظ عمدة إمام.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «بحالويه» وهو تحريف. والتصحيح من «العبر» (4/ 13) مصدر المؤلف، و «سير أعلام النبلاء» (19/ 380) .
[2] انظر «معجم البلدان» (3/ 289- 290) .
[3] في «التبيان شرح بديعة البيان» (157/ ب) وقد نقل المؤلف عنه بتصرف.(6/27)
وفيها عبد الله بن مرزوق أبو الخير الأصم الهروي، مولى شيخ الإسلام أبي إسماعيل الأنصاري. كان من الحفّاظ الزهّاد المتقنين. قاله ابن ناصر الدّين [1] .
وفيها الشّاشي المعروف بالمستظهري، فخر الإسلام أبو بكر محمد ابن أحمد بن الحسين، شيخ الشافعية. ولد بميّافارقين سنة تسع وعشرين، وتفقه على محمد بن بيان الكازروني، ثم لزم ببغداد الشيخ أبا إسحاق [2] ، وابن الصباغ، وصنّف وأفتى، وولي تدريس النظامية، وتوفي في شوال، ودفن عند الشيخ أبي إسحاق، وقيل: معه في قبر واحد. ومن تصانيفه «حلية العلماء» وسماه «المستظهري» وغيره، وانتهت إليه رئاسة الشافعية بعد انقراض مشايخه، فكان ينشد:
خلت الدّيار فسدت غير مسوّد ... ومن العناء تفرّدي بالسؤدد
[3] ذكره في بعض دروسه ووضع المنديل على عينيه وبكى بكاء شديدا.
قال ابن شهبة [4] : كان مهيبا، وقورا، متواضعا، ورعا، وكان يلقب بين الطلبة في حداثته بالجنيد، لشدة ورعه، وله شعر حسن. وقع بينه وبين الدامغاني، فأنشأ فيه الشاشي:
حجاب [5] وإعجاب وفرط تصلف ... ومدّ يد نحو العلا بتكلّف
ولو كان هذا من وراء كفاية ... لهان ولكن من وراء تخلّف
__________
[1] في «التبيان شرح بديعة البيان» (158/ آ) .
[2] يعني الشيرازي.
[3] البيت في «الوافي بالوفيات» (2/ 73) .
[4] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 324) .
[5] كذا في «آ» و «ط» و «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة، وفي «طبقات الشافعية» للإسنوي:
«عجاب» .(6/28)
ومن تصانيفه «الشافي في شرح الشامل» في عشرين مجلدا، ومات وقد بقي منه نحو الخمس [1] وكتاب «الحلية» في مجلدين، وذكر فيه خلافا كثيرا للعلماء، صنفه للخليفة المستظهر بالله، ولذلك يلقب بالمستظهري، وتصنيف لطيف في [المسألة] السريجية واختار فيه عدم الوقوع. انتهى ملخصا.
وفيها أبو منصور علي بن محمد بن علي بن إسماعيل الأنباري، القاضي الفقيه الحنبلي الواعظ.
ولد يوم الخميس خامس عشري ذي الحجة، سنة خمس وعشرين وأربعمائة، وقرأ القرآن على ابن الشّرمقاني [2] .
وسمع الحديث من أبي طالب بن غيلان، والجوهري وأبي إسحاق البرمكي، وأبي بكر بن بشران، وغيرهم.
وسمع من القاضي أبي يعلى، وتفقه عليه حتّى برع في الفقه، وأفتى ووعظ، وكان مظهرا للسّنّة في مجالسه.
وشهد عند ابن [3] الدامغاني، وأبي بكر السّامي، وغيرهما. وولي القضاء بباب الطاق، وحدّث وانتشرت الرواية عنه. روى عنه عبد الوهاب الأنماطي، والسّلفي، وغيرهما، وتوفي يوم السبت رابع عشري جمادى الآخرة، ودفن من الغد بمقبرة باب حرب، وتبعه من الخلق ما لا يحصى كثرة، ولا يعدّهم إلّا أسرع الحاسبين. قاله ابن رجب [4] .
__________
[1] في «آ» : «نحو الخمسين» .
[2] هو أبو علي الحسن بن أبي الفضل الشرمقاني، المقرئ المؤدّب، المتوفى سنة (451) هـ.
انظر «الأنساب» (7/ 326- 327) ووقع اسمه في «معرفة القراء الكبار» للذهبي (1/ 412) طبع مؤسسة الرسالة: «الحسن بن الفضل» وانظر التعليق عليه.
[3] لفظة «ابن» لم ترد في «آ» وأثبتها من «ط» وفي «ذيل طبقات الحنابلة» : «عند أبي عبد الله بن الدامغاني» .
[4] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 110- 111) .(6/29)
وفيها أبو الفضل محمد بن طاهر بن علي بن أحمد الشيباني المقدسي الحافظ القيسراني، ذو الرحلة الواسعة، والتصانيف والتعاليق، عاش ستين سنة، وسمع بالقدس أولا من ابن ورقاء، وببغداد من أبي محمد الصّريفيني، وبنيسابور من الفضل بن المحب، وبهراة من بيبى [1] ، وبأصبهان، وشيراز، والرّي، ودمشق، ومصر، من هذه الطبقة، وكان من أسرع الناس كتابة، وأذكاهم وأعرفهم بالحديث، والله يرحمه ويسامحه. قاله الذهبي [2] .
وقال إسماعيل محمد بن الفضل الحافظ: أحفظ من رأيت محمد بن طاهر.
وقال السّلفي: سمعت ابن طاهر يقول: كتبت البخاريّ، ومسلم، وأبا داود، وابن ماجة سبع مرات بالوراقة.
وقال الحافظ ابن ناصر الدّين [3] : كان حافظا، مكثرا، جوّالا في البلاد، كثير الكتابة، جيد المعرفة، ثقة في نفسه، حسن الانتقاد ولولا ما ذهب إليه من إباحة السماع لا نعقد على ثقته الإجماع.
وفيها أبو المظفّر الأبيوردي- بفتح الهمزة وكسر الباء الموحدة وسكون الياء التحتية وفتح الواو وسكون الراء وبعدها دال مهملة، نسبة إلى أبيورد، ويقال لها: أبا ورد وباورد، وهي بلدة بخراسان [4]- محمد بن أبي العبّاس أحمد بن إسحاق الأموي المعاوي اللّغوي الشاعر الأخباري النسابة، صاحب
__________
[1] جاء في «تاج العروس» (بيب) (2/ 54) طبع الكويت: بيبى كضيزى، أم الفضل بيبى بنت عبد الصمد بن علي بن محمد الهرثميّة، ذكرها الذهبي في «التاريخ الكبير» يعني «تاريخ الإسلام» .
[2] انظر «العبر» (4/ 14) .
[3] في «التبيان شرح بديعة البيان» (157/ ب) .
[4] انظر «معجم البلدان» (1/ 86 و 333) .(6/30)
التصانيف والبلاغة والفصاحة، وكان رئيسا عالي الهمة، ذا بأو وتيه وصلف، توفي [1] بأصبهان مسموما. قاله في «العبر» [2] .
وقال ابن خلّكان [3] : كان من الأدباء المشاهير، راوية، نسابة، شاعرا ظريفا، قسم ديوانه إلى أقسام، منها: «العراقيات» ومنها «الوجديات» ، ومنها «النجديات» وغير ذلك، وكان من أخبر الناس بعلم الأنساب، نقل عنه الحفاظ الأثبات الثقات.
وقد روى عنه أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي في غير موضع من كتابه الذي وضعه في «الأنساب» [4] وقال في حقه في ترجمة المعاوي [5] : إنه كان أوحد أهل زمانه في علوم عدّة، وقد أوردنا عنه في غير موضع من هذا الكتاب أشياء، وكان يكتب في نسبه [6] المعاوي، وأليق ما وصف به بيت أبي العلاء المعري:
وإنّي وإن كنت الأخير زمانه ... لآت بما لم تستطعه الأوائل
انتهى كلام المقدسي.
وذكره أبو زكريا بن مندة في «تاريخ أصبهان» فقال: فخر الرؤساء أفضل الدولة، حسن الاعتقاد، جميل الطريقة، يتصرف [7] ، في فنون جمة من العلوم، عارف بأنساب العرب، فصيح الكلام، حاذق في تصنيف الكتب، وافر العقل، كامل الفضل، فريد دهره ووحيد عصره. وكان فيه تيه وكبر وعزة
__________
[1] في «ط» : «وتوفي» .
[2] (4/ 14) .
[3] انظر «وفيات الأعيان» (4/ 445- 449) وما بين حاصرتين في الترجمة مستدرك منه.
[4] وهو المعروف ب «الأنساب المتفقة» .
[5] انظر «الأنساب المتفقة» ص (151) .
[6] في «الأنساب المتفقة» : «في نسبته» .
[7] في «وفيات الأعيان» : «متصرف» .(6/31)
نفس، وكان إذا صلى يقول: اللهم ملكني مشارق الأرض ومغاربها.
وذكر عنه ابن السمعاني أنه كتب رقعة إلى أمير المؤمنين المستظهر بالله، وعلى رأسها الخادم المعاوي، فكره الخليفة النسبة إلى معاوية، فحكّ الميم ورد الرقعة إليه، فصار العاوي.
ومن محاسن شعره:
ملكنا أقاليم البلاد فأذعنت ... لنا رغبة أو رهبة عظماؤها
فلما انتهت أيامنا علقت بنا ... شدائد أيام قليل رخاؤها
[1]
وكان إلينا في السّرور ابتسامها ... فصار علينا في الهموم بكاؤها
وصرنا نلاقي النائبات بأوجه ... رقاق الحواشي كاد يقطر ماؤها
إذا ما هممنا أن نبوح بما جنت ... علينا الليالي لم يدعنا حياؤها
وقوله أيضا:
تنكّر بي دهري ولم يدر أنني ... أعزّ وأحداث الزّمان تهون
فبات يريني الخطب كيف اعتداؤه ... وبتّ أريه الصّبر كيف يكون
ومن شعره:
وهيفاء لا أصغي إلى من يلومني ... عليها ويغريني بها أن أعيبها
أميل بإحدى مقلتيّ إذا بدت ... إليها وبالأخرى أراعي رقيبها
وقد غفل الواشي فلم يدر أنني ... أخذت لعيني من سليمى نصيبها
ومن معانيه البديعة قوله من جملة أبيات في وصف الخمرة:
ولها من ذاتها طرب ... فلهذا يرقص الحبب
وله من قصيدة:
__________
[1] في «آ» و «ط» : «قليل رجاؤها» وما أثبته من «وفيات الأعيان» .(6/32)
فسد الزمان فكلّ من صاحبته ... راج [1] ينافق أو مداج خاشي
وإذا اختبرتهم ظفرت بباطن ... متجهّم [2] وبظاهر هشّاش
وله تصانيف كثيرة، منها «تاريخ أبيورد ونسا» و «المختلف والمؤتلف» [و «طبقات كل فنّ» و «ما اختلف وائتلف] في أنساب العرب» .
وله في اللغة مصنفات لم يسبق إلى مثلها، وكان حسن السيرة، جميل الأثر [3] .
وكانت وفاته يوم الخميس بين الظهر والعصر عشري ربيع الأول مسموما بأصبهان. انتهى ما أورده ابن خلّكان ملخصا.
وفيها ابن اللّبانة، أبو بكر محمد بن عيسى اللّخمي الأندلسي الأديب، من جلّة [4] الأدباء وفحول الشعراء، له تصانيف عديدة في الآداب، وكان من شعراء دولة المعتمد بن عبّاد. قاله في «العبر» [5] .
وفيها المؤتمن بن أحمد بن علي بن نصر الرّبعي البغدادي الحافظ، ويعرف بالسّاجي، حافظ محقّق، واسع الرحلة، كثير الكتابة، متين الورع والديانة. روى عن أبي الحسين بن النّقور، وأبي بكر الخطيب، وطبقتهما بالشام، والعراق، وأصبهان، وخراسان، وتفقه وكتب «الشامل» عن مؤلّفه ابن الصبّاغ، وتوفي في صفر عن اثنتين وستين سنة، وكان قانعا متعففا.
وفيها كما قال السيوطيّ في «تاريخ الخلفاء» [6] : جاء صاحب الأندلس
__________
[1] في «آ» و «ط» : «داج» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[2] في «آ» و «ط» : «متهجم» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[3] في «آ» و «ط» : «جميل الأمر» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[4] في «آ» و «ط» : «من جملة» وما أثبته من «العبر» .
[5] (4/ 15) .
[6] انظر «تاريخ الخلفاء» ص (430) .(6/33)
مودود بعسكر ليقاتل ملك الفرنج، الذي بالقدس، فوقع بينهم معركة هائلة، ثم رجع مودود إلى دمشق، فصلى الجمعة يوما في الجامع، وإذا بباطني وثب عليه فجرحه فمات من يومه، فكتب ملك الفرنج إلى صاحب دمشق كتابا فيه: وإنّ أمّة قتلت عميدها في يوم عيدها في بيت معبودها لحقيق على الله أن يبيدها. انتهى كلام السيوطي.
ومودود هذا غير مودود الأعرج صاحب الموصل أيضا، فإن ذاك توفي سنة خمس وستين وخمسمائة، كما يأتي إن شاء الله تعالى [1] .
__________
[1] انظر ص (358) .(6/34)
سنة ثمان وخمسمائة
فيها كما قال في «الشذور» ورد كتاب أنه حدث زلزلة، فوقع من سور الرّها ثلاثة عشر برجا وبعض سور حرّان، وخسف بسميساط، وتساقط في بالس نحو مائة دار، وقلب نصف القلعة.
وفيها هلك بغدوين صاحب القدس من جراحة أصابته يوم مصافّ طبريّة.
وفيها مات أحمديل [1] ، صاحب مراغة، وكان شجاعا جوادا، وعسكره خمسة آلاف، فتكت به الباطنية.
وفيها أحمد بن محمد بن غلبون، أبو عبد الله، الخولاني القرطبي ثم الإشبيلي، وله تسعون سنة. سمّعه أبوه معه من عثمان بن أحمد القيشاطي [2] وطائفة، وأجاز له يونس بن عبد الله بن مغيث، وأبو عمر
__________
[1] في «ط» : «أحمد بك» وهو كذلك في «المنتظم» (9/ 185) وما جاء في «آ» موافق لما في «تاريخ دمشق» لابن القلانسي ص (315) وقد جعله من وفيات سنة (510) و «الكامل في التاريخ» (10/ 487) و «العبر» (4/ 15) و «سير أعلام النبلاء» (19/ 383) و «النجوم الزاهرة» (5/ 208) .
[2] في «آ» : «القسطالي» وقال ناشر «ط» الأستاذ حسام الدّين القدسي رحمه الله تعالى: والذي حرره العلّامة المحقق الشيخ أحمد رافع الطّهطاوي () في «ثبته» أنه «القيشاطي» نسبة إلى قيشاطة، بفتح القاف، وسكون المثناة التحتية، بعدها شين معجمة، وهي مدينة بالأندلس من أعمال جيّان، ويقال لها قيجاطة، بالجيم بدل الشين، وعلى الأول اقتصر الصاغاني في () كان من أفاضل علماء عصره في مصر، صنّف مصنفات عدة تدل على فضله وسعة علمه في الفقه، والتفسير، والأدب. مات سنة (1355 هـ) . انظر «الأعلام للزركلي» (1/ 124) .(6/35)
الطّلمنكي، وأبو ذرّ الهروي، والكبار [1] ، وكان صالحا خيّرا، عالي الإسناد، منفردا.
وفيها أبو حازم إسماعيل بن المبارك [2] بن أحمد بن محمد بن وصيف البغدادي [3] ، الفقيه الحنبلي.
ولد سنة خمس وثلاثين وأربعمائة. وقرأ الفقه على القاضي أبي يعلى، وسمع من ابن العشاري [4] والجوهري، وروى عنه أبو معمر [5] الأنصاري وبالإجازة ابن كليب، وتوفي في رجب.
وفيها أبو العباس المخلّطي- بالضم وفتح الخاء واللام المشددة، نسبة إلى بيع المخلّط، وهو الفاكهة اليابسة- أحمد بن الحسن بن أحمد البغدادي [6] ، الفقيه الحنبلي. صحب القاضي أبا يعلى، وتفقه عليه، ولازمه، وسمع منه الحديث، وكتب الخلاف وغيره من تصانيفه.
وسمع أيضا من أبي الحسين [7] بن المهتدي، وابن المسلمة، وغيرهم، وحدّث عنهم.
__________
«التكملة» وأصحاب «القاموس» و «معجم البلدان» و «لب اللباب» والثاني هو الموجود في تواريخ المغرب، وقد ذكره كثير من أئمة اللغة، ولا مخالفة بينهما، لأن الجيم فيه فارسية مشوبة بالشين المعجمة، فيجوز رسمها جيما تحتها ثلاث نقط، ورسمها شينا.
[1] في «آ» و «ط» : «والأبار» وما أثبته من «العبر» .
[2] في «آ» و «ط» : «ابن المبرك» وما أثبته من «ذيل طبقات الحنابلة» .
[3] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 112) .
[4] في «آ» و «ط» : «سمع من أبي العشاري» والتصحيح من «ذيل طبقات الحنابلة» .
[5] في «آ» و «ط» : «ابن المعمري» والتصحيح من «ذيل طبقات الحنابلة» وانظر «الأنساب» (11/ 190) .
[6] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 112- 113) .
[7] كذا في «آ» و «ط» و «المنهج الأحمد» (2/ 151 و 204 و 283) وفي «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 112) : «من أبي الحسن» .(6/36)
قال ابن ناصر الحافظ: وسمعت منه، قال: وكان رجلا صالحا من أهل القرآن والسّتر والصيانة، ثقة مأمونا، توفي ليلة الأربعاء ثاني عشر جمادى الأولى، ودفن من الغد بمقبرة باب حرب، رحمه الله تعالى.
وفيها أبو علي إسماعيل بن محمد بن الحسن بن داود الأصبهاني الخيّاط [1] الفقيه الحنبلي. دخل بغداد سنة سبع وخمسمائة، وحدّث بها عن والده وعن أبي بكر محمد بن أحمد بن الحسن بن ماجة، وأبي مطيع المصري وغيرهم. سمع منه أبو منصور محمد بن ناصر البردني، وقال: كان من الأئمة الكبار، وهو أخو أبي سعد محمد بن أحمد بن داود.
قال ابن النجار: قرأت بخط أخيه أبي سعيد، توفي أخي أبو علي إسماعيل في العشر الآخر من جمادى الآخرة، سنة ثمان وخمسمائة، رحمه الله تعالى.
وفيها ألب أرسلان، صاحب حلب، وابن صاحبها، رضوان بن تتش السلجوقيّ التركيّ، تملّك وله ست عشرة سنة، فقتل أخويه بتدبير البابا لؤلؤ، وقتل جماعة من الباطنية، وكانوا قد كثروا في دولة أبيه. ثم قدم دمشق ونزل بقلعتها، ثم رجع وفي خدمته طغتكين، وكان سيّئ السيرة، فاسقا، فقتله البابا وأقام أخا له طفلا له ست سنين، ثم قتل البابا سنة عشر.
وفيها أبو الوحش، سبيع بن المسلّم الدّمشقي، المقرئ الضرير، ويعرف بابن قيراط. قرأ لابن عامر على الأهوازيّ، ورشأ، وروى الحديث عنهما، وعن عبد الوهاب بن برهان، وكان يقرئ من السّحر إلى الظهر.
توفي في شعبان عن تسع وثمانين سنة.
وفيها النّسيب أبو القاسم، علي بن إبراهيم بن العبّاس الحسيني
__________
[1] انظر «المنهج الأحمد» (2/ 230) .(6/37)
الدمشقي، الخطيب، الرئيس، المحدّث، صاحب «الأجزاء العشرين» التي خرّجها له الخطيب، توفي في ربيع الآخر، عن أربع وثمانين سنة. قرأ على الأهوازي، وروى عنه، وعن سليم، ورشأ [1] وخلق، وكان ثقة، نبيلا، محتشما، مهيبا، سديدا، شريفا، صاحب حديث وسنّة.
وفيها السلطان علاء الدولة مسعود، صاحب الهند وغزنة، ولد السلطان إبراهيم بن السلطان مسعود بن السلطان الكبير محمود بن سبكتكين، مات في شوال، وتملّك بعده ولده أرسلان شاه.
__________
[1] لفظة «ورشأ» سقطت من «آ» وأثبتها من «ط» و «العبر» .(6/38)
سنة تسع وخمسمائة
فيها توفي ابن ملّة [1] أبو عثمان إسماعيل بن محمد الأصبهاني الواعظ المحتسب، صاحب تلك المجالس.
قال ابن ناصر [2] : وضع حديثا وكان يخلّط.
وقال الذهبي [3] : روى [4] عن ابن ريذة وجماعة.
وفيها أبو شجاع الدّيلمي، شيرويه بن شهردار بن شيرويه بن فنّا خسرو- بفاء ونون، وخاء معجمة، وسين وراء مهملتين، بعدهما واو- الهمذاني الحافظ، صاحب كتاب «الفردوس» و «تاريخ همذان» وغير ذلك، توفي في رجب عن أربع وسبعين سنة. وغيره أتقن منه. سمع الكثير من يوسف بن محمد المستملي وطبقته.
وقال ابن شهبة في «طبقات الشافعية» [5] : وهو من ولد الضحّاك بن فيروز الصحابي.
ذكره ابن الصلاح فقال: كان محدّثا، واسع الرحلة، حسن الخلق
__________
[1] في «آ» و «ط» و «العبر» : «ابن مسلمة» وهو تحريف، والتصحيح من «المستفاد من ذيل تاريخ بغداد» ص (198) بتحقيق الأستاذ محمد مولود خلف، و «سير أعلام النبلاء» (19/ 381) .
[2] في «آ» : «ابن ناصر الدين» ، وما أثبته من «ط» وهو الصواب كما في «العبر» .
[3] في «العبر» (4/ 18) .
[4] في «ط» : «وروى» .
[5] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 316) .(6/39)
والخلق، ذكيا، صلبا في السّنّة، قليل الكلام، صنّف تصانيف اشتهرت عنه، منها «كتاب الفردوس» وكتاب في حكايات المنامات، وكتابا في تاريخ همذان.
ولد سنة خمس وأربعين وأربعمائة، وتوفي في رجب، سنة تسع وخمسمائة. انتهى.
وفيها غيث بن علي أبو الفرج الصّوري [الأرمنازي [1] ، خطيب صور] ومحدّثها.
روى عن أبي بكر الخطيب، ورحل إلى دمشق ومصر، وعاش ستا وستين سنة.
وفيها الشريف أبو يعلى بن الهبّارية [2]- بفتح الهاء وتشديد الباء الموحدة، وبعد الألف راء، نسبة إلى هبّار جد أبي يعلى المذكور- محمد بن محمد بن صالح الهاشمي، الشاعر المشهور الهجّاء، الملقب نظام الدّين البغدادي. كان شاعرا مجيدا حسن المقاصد، لكنه خبيث اللسان، كثير الهجاء والوقوع في الناس، لا يكاد يسلم من لسانه أحد.
ذكره العماد الكاتب في «الخريدة» فقال: من شعراء نظام الملك، غلب على شعره الهجاء، والهزل، والسخف، وسبك في قالب ابن حجّاج، وسلك أسلوبه، وفاقه في الخلاعة. والنظيف من شعره في غاية الحسن [3] .
انتهى كلام العماد.
وكان ملازما لخدمة نظام الملك وولده ملكشاه.
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 18) وما بين الحاصرتين مستدرك منه.
[2] انظر «وفيات الأعيان» (4/ 453- 457) .
[3] في «آ» و «ط» : «والتلطف في شعره، وشعره في غاية الحسن» وما أثبته من «وفيات الأعيان» مصدر المؤلف.(6/40)
ومن معاني شعره الغريبة قوله:
قالوا أقمت وما رزقت وإنما ... بالسير يكتسب اللّبيب ويرزق
فأجبتهم ما كلّ سير نافعا ... الحظّ ينفع لا الرحيل المقلق
كم سفرة نفعت وأخرى مثلها ... ضرّت [1] ويكتسب الحريص ويخفق
كالبدر يكتسب الكمال بسيره ... وبه إذا حرم السعادة يمحق
وله أيضا:
خذ جملة البلوى ودع تفصيلها ... ما في البرية كلها إنسان
وإذا البياذق في الدّسوت تفرزنت ... فالرأي أن يتبيذق الفرزان
وله على سبيل الخلاعة والمجون:
يقول أبو سعيد إذ رآني ... عفيفا منذ عام ما شربت
على يد أي شيخ تبت قل لي ... فقلت على يد الإفلاس تبت
وله في المعنى أيضا:
رأيت في الليل عرسي وهي ممسكة ... ذقني وفي يدها شيء من الأدم
[2]
معوّج الشكل مسودّ به نقط ... لكنّ أسفله في هيئة القدم
حتى تنبّهت محمّر القذال ولو ... طال المنام على الشيخ الأديب عمي
وله كتاب «نتائج الفطنة [3] في نظم كليلة ودمنة» وديوان شعره [كبير] يدخل في أربع مجلدات، ومن غرائب نظمه كتاب «الصادح والباغم» نظمه على أسلوب «كليلة ودمنة» وهو أراجيز، وعدد بيوته ألفا بيت، نظمها في عشر
__________
[1] في «ط» : «خسرت» .
[2] رواية الشطرة الثانية من البيت في «وفيات الأعيان» :
أذني، وفي كفها شيء من الأدم
[3] في «آ» و «ط» : «تاريخ الفطنة» والتصحيح من «وفيات الأعيان» و «كشف الظنون» (2/ 1924) .(6/41)
سنين، ولقد أجاد فيه كل الإجادة، وسيّر الكتاب على يد ولده إلى الأمير أبي الحسن صدقة بن منصور الأسدي، صاحب الحلّة، وختمه بهذه الأبيات:
هذا كتاب حسن ... تحار فيه الفطن
أنفقت فيه مدّه ... معشر سنين عدّه
منذ سمعت باسمكا ... وضعته برسمكا
بيوته ألفان ... جميعها معاني
لفضل كلّ شاعر [1] ... وناظم وناثر
كعمر نوح التالد ... في نظم بيت واحد
من مثله لما قدر ... ما كل من قال شعر
أنفذته مع ولدي ... بل مهجتي وكبدي
وأنت عند ظني ... أهل لكل من
وقد طوى إليكا ... توكلا عليكا
مشقة شديده ... وشقة بعيده
ولو تركت جيت [2] ... سعيا وما ونيت
إن الفخار والعلى ... إرثك من دون الورى
فأجزل صلته وأسنى جائزته.
وتوفي ابن الهبّارية بكرمان.
وفيها أبو البركات بن السّقطي، هبة الله بن المبارك البغدادي [3] الحنبلي، اتهمه بالوضع ابن حجر في كتابه «تبيين العجب بما ورد في شهر رجب» وقال عن السقطي: هذا آفة، يعني في وضع الأحاديث.
__________
[1] رواية الشطرة الأولى من البيت في «وفيات الأعيان» :
لو ظل كل شاعر ...
[2] في «ط» : «جئت» .
[3] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 114- 115) و «المنهج الأحمد» (2/ 231- 232) .(6/42)
قال في «العبر» [1] : أحد المحدّثين الضعفاء. له «معجم» في مجلد.
كذّبه ابن ناصر.
وفيها أبو البركات العسّال [2] ، محمد بن سعد بن سعيد المقرئ الحنبلي ابن الحنبلي.
ولد في ربيع الآخر، سنة ستين وأربعمائة، وقرأ بالروايات على رزق الله التميمي وغيره، وسمع من أبي نصر الزّينبي، وأبي الغنائم، وغيرهما، وعلّق الفقه على ابن عقيل.
وكان من القراء المجوّدين الموصوفين بحسن الأداء وطيب النغمة، يقصد في رمضان لسماع قراءته في صلاة التراويح، من الأماكن البعيدة، وكان ديّنا صالحا ورعا [3] صدوقا، وسمع منه ابن ناصر، والسّلفي، وقال:
كتب الحديث الكثير معنا وقبلنا، وهو حنبلي المذهب، علّق الفقه على ابن عقيل، وتوفي يوم الثلاثاء سابع رمضان.
وفيها يحيى بن تميم بن المعزّ بن باديس، السلطان أبو طاهر الحميري صاحب إفريقية، نشر العدل وافتتح عدة حصون لم يتهيأ لأبيه فتحها، وكان جوادا ممدّحا، عالما، كثير المطالعة، توفي فجأة يوم الأضحى، وخلّف ثلاثين ابنا، فتملك بعده ابنه عليّ ستة أعوام، ومات، فملّكوا بعده ابنه الحسن بن علي وهو مراهق، فامتدت دولته إلى أن أخذت الفرنج طرابلس الغرب بالسيف، سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، فخاف وفرّ من المهدية، والتجأ إلى عبد المؤمن. قاله في «العبر» [4] .
__________
[1] (4/ 19) .
[2] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 113) .
[3] لفظة «ورعا» لم ترد في «ط» و «ذيل طبقات الحنابلة» .
[4] (4/ 19) .(6/43)
سنة عشر وخمسمائة
فيها توفي أبو الكرم خميس بن علي الواسطي الحوزي- نسبة إلى الحوز، قرية قرب واسط- الحافظ، محدّث واسط، رحل وسمع ببغداد من أبي القاسم ابن البسري، وكان عالما فاضلا ثقة شاعرا.
وفيها أبو بكر الشّيروي [1]- بالكسر والضم، نسبة إلى شيرويه جدّ- عبد الغفّار [2] بن محمد بن الحسين [3] بن علي بن شيرويه- النيسابوري التاجر.
مسند خراسان، وآخر من حدّث عن الحيري، والصّيرفي، صاحبي الأصم.
توفي في ذي الحجة، عن ست وتسعين سنة.
قال السمعاني: كان صالحا عابدا، رحل إليه من البلاد.
وفيها أبو القاسم الرزّاز علي بن أحمد بن محمد بن بيان، مسند العراق، وآخر من حدّث عن أبي مخلد البزاز [4] وطلحة الكتاني، والحرفي.
توفي في شعبان عن سبع وتسعين سنة.
وفيها الغسّال أبو الخير المبارك بن الحسين البغدادي [5] ، المقرئ
__________
[1] ويقال «الشيرويي» بياءين أيضا. انظر «الأنساب» (7/ 467) «سير أعلام النبلاء» (19/ 246- 248) .
[2] في «آ» و «ط» : «عبد الغافر» والتصحيح من «الأنساب» و «سير أعلام النبلاء» .
[3] في «آ» و «ط» : «حسين» وما أثبته من «الأنساب» و «سير أعلام النبلاء» .
[4] تصحفت في «ط» إلى «البزار» والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» (19/ 257) .
[5] انظر «معرفة القراء الكبار» للذهبي (1/ 465) .(6/44)
الأديب، شيخ الإقراء ببغداد، قرأ على أبي بكر محمد بن علي الخيّاط وجماعة، وبواسط على غلام الهرّاس، وحدّث عن أبي محمد الخلّال وجماعة، ومات في جمادى الأولى عن بضع وثمانين سنة.
وفيها أبو الخطّاب محفوظ بن أحمد بن الحسن بن أحمد الكلوذانيّ [1]- بفتح أوله والواو ومعجمة وسكون اللام، نسبة إلى كلواذي قرية ببغداد- ثم الأزجي، شيخ الحنابلة، وصاحب التصانيف. كان إماما علّامة، ورعا صالحا، وافر العقل، غزير العلم، حسن المحاضرة، جيد النظم، تفقه على القاضي أبي يعلى، وحدّث عن الجوهري، وتخرّج به أئمة. روى عنه ابن ناصر، وأبو المعمر الأنصاري، وغيرهم. وقرأ عليه الفقه جماعة من أئمة المذهب، منهم: عبد الوهاب بن حمزة، وأبو بكر الدّينوري، والشيخ عبد القادر الجيلي الزاهد صاحب «الغنية» وغيرهم.
قال أبو بكر بن النقور: كان إلكيا الهرّاسي إذا رأى الشيخ أبا الخطّاب مقبلا قال: قد جاء الفقه.
وقال السّلفيّ: أبو الخطّاب من أئمة أصحاب أحمد، يفتي في [2] مذهبه ويناظر.
وكان عدلا رضيا [3] ثقة.
وذكر ابن السمعاني: أن أبا الخطّاب جاءته فتوى في بيتي شعر وهما:
قل للإمام أبي الخطّاب مسألة ... جاءت إليك وما يرجى سواك لها
__________
[1] تنبيه: كذا ضبطه المؤلف وابن أبي يعلى في «طبقات الحنابلة» (2/ 258) وابن رجب في «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 116) . «الكلوذاني» وضبطه ياقوت في «معجم البلدان» (4/ 477) «الكلواذي» وضبطه «السمعاني» في «الأنساب» (10/ 461) والذهبي في «سير أعلام النبلاء» (19/ 348) و «العبر» (4/ 21) «الكلواذاني» فليحرر.
[2] في «ذيل طبقات الحنابلة» : «على» .
[3] في «آ» : «رضي» وفي «ط» : «رضا» والتصحيح من «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 117) .(6/45)
ماذا على رجل رام الصلاة فمذ ... لاحت لناظره ذات الجمال لها؟
فكتب عليها أبو الخطاب:
قل للأديب الذي وافى بمسألة ... سرّت فؤادي لمّا أن أصخت لها
إنّ التي فتنته عن عبادته ... خريدة ذات حسن فانثنى ولها
إن تاب ثمّ قضى عنه عبادته ... فرحمة الله تغشى من عصى ولها
توفي- رحمة الله تعالى عليه- في آخر يوم الأربعاء عشري جمادى الآخرة، وترك يوم الخميس، وصلّي عليه يوم الجمعة في جامع القصر، ودفن إلى جانب قبر الإمام أحمد.
قال ابن رجب [1] : قرأت بخطّ أبي العبّاس بن تيمية [2] في تعاليقه القديمة: رؤي الإمام أبو الخطّاب في المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟ فأنشد:
أتيت ربي بمثل هذا ... فقال ذا المذهب الرّشيد
محفوظ نم في الجنان حتّى ... ينقلك السائق الشهيد
وفيها أبو نصر محمد بن الحسن بن أحمد بن عبد الله بن البنّاء البغدادي [3] الواعظ.
ولد في حادي عشري صفر، سنة أربع وثلاثين وأربعمائة.
وسمع من الجوهري، وأبي بكر بن بشران، والعشاري، ووالده، وغيرهم، وتفقه على أبيه.
وروى عنه أبو المعمر الأنصاري، وابن ناصر، وأثنى عليه ووثقه، وكان
__________
[1] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 118) وقد نقل المؤلف الترجمة كلها عنه.
[2] يعني شيخ الإسلام تقي الدّين أبي العبّاس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحرّاني الدمشقي، طيّب الله ثراه.
[3] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 115- 116) .(6/46)
من أهل الدّين، والصدق، والعلم، والمعرفة، وخلف أباه في حلقتيه بجامع القصر وجامع المنصور، وتوفي ليلة الأربعاء خامس عشر ربيع الأول، ودفن بباب حرب.
وفيها أبو طاهر الحنّائي، محمد بن الحسين بن محمد الدمشقي [1] من بيت الحديث والعدالة.
سمع أباه أبا القاسم، ومحمد وأحمد ابني عبد الرحمن بن أبي نصر، وابن سعدان، وطائفة، وتوفي في جمادى الآخرة، عن سبع وسبعين سنة.
وفيها أبي النّرسيّ، أبو الغنائم، محمد بن علي بن ميمون [2] الكوفي، الحافظ القارئ. لقب أبيا لجودة قراءته، وكان ثقة مكثرا ذا إتقان.
روى عن محمد بن علي بن عبد الرحمن العلوي وطبقته بالكوفة، وعن أبي إسحاق البرمكي وطبقته ببغداد، وناب في خطابة الكوفة، وكان يقول:
ما بالكوفة من أهل السّنّة والحديث إلّا أنا.
وقال ابن ناصر [3] : كان [ثقة] حافظا متقنا ما رأينا مثله، كان يتهجّد، ويقوم الليل.
وكان أبو عامر العبدري [4] يثني عليه ويقول: ختم به هذا الشأن.
توفي في شعبان، عن ست وثمانين سنة، وكان ينسخ ويتعفف.
وفيها أبو بكر السمعانيّ [5] ، تاج الإسلام، محمد بن العلّامة أبي
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 21- 22) .
[2] انظر «العبر» (4/ 22) و «سير أعلام النبلاء» (19/ 274- 276) .
[3] انظر «سير أعلام النبلاء» (19/ 275) وما بين حاصرتين مستدرك منه.
[4] تصحفت نسبته في «آ» إلى «العندري» وفي «ط» إلى «الغندري» والتصحيح من «تذكرة الحفاظ» (4/ 1261) و «سير أعلام النبلاء» (19/ 275) و «العبر» (4/ 22) .
[5] انظر «العبر» (4/ 22- 23) و «سير أعلام النبلاء» (19/ 371- 373) و «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 31- 32) .(6/47)
المظفّر منصور بن محمد التميمي المروزي الحافظ، والد الحافظ أبي سعد.
كان بارعا في الحديث ومعرفته، والفقه ودقائقه- وكان شافعيا- والأدب وفنونه، والتاريخ والنسب والوعظ. روى عن محمد بن أبي عمران الصفّار، ورحل فسمع ببغداد من ثابت بن بندار وطبقته، وبنيسابور من نصر الله الخشنامي وطبقته، وبأصبهان، والكوفة، والحجاز، وأملى الكثير، وتقدم على أقرانه، وعاش ثلاثا وأربعين سنة.
قال عبد الغافر في «الذيل» : هو الإمام ابن الإمام ابن الإمام، ووالد الإمام، شاب نشأ في عبادة الله تعالى وفي التحصيل من صباه، حتّى أرضى أباه، حظي [1] من الأدب والعربية، وتميّز فيهما [2] ، نظما ونثرا بأعلى المراتب، ثم برع في الفقه، مستدرا خلافة [3] من أبيه، بالغا في المذهب والخلاف أقصى مراميه، وزاد على أقرانه وأهل عصره بالتبحر في علم الحديث، ومعرفة الرجال والأسانيد، وحفظ المتون، وجمعت فيه الخلال الجميلة من الإنصاف والتواضع والتودد، وأطال في وصفه كثيرا.
وذكره ولده في «الذيل» وقال، من جملة كلام طويل: صنف في الحديث [4] تصانيف كثيرة.
ولد سنة ست وستين وأربعمائة، وتوفي بمرو في صفر، سنة عشر وخمسمائة، وله شعر كثير، قيل إنه غسله قبل موته، وأن الذي ينسب إليه ما كان محفوظا عنه.
__________
[1] في «طبقات الشافعية» للإسنوي: «إلى أن أرضى أباه، حتى من الأدب ... » .
[2] في «طبقات الشافعية» للإسنوي: «بها» .
[3] كذا في «آ» وفي «ط» : «خلافة» وفي «طبقات الشافعية» للإسنوي: «أخلاقه» .
[4] في «ط» : «الأحاديث» .(6/48)
سنة إحدى عشرة وخمسمائة
فيها كما قال في «الشذور» زلزلت بغداد يوم عرفة، فكانت الحيطان تذهب وتجيء، وكان عقيبها موت المستظهر. انتهى.
وفيها كما قال في «الدول» [1] : جاء سيل عظيم عرم على سنجار، هدم أسوارها، وغرق خلق، وحمل باب البلد مسيرة نصف يوم، وطمره السيل سنوات، وحمل السيل سريرا فيه طفل فعلق بزيتونة وعاش الطفل وكبر.
وفيها مات بغدوين، الذي افتتح القدس، وكان جبّارا خبيثا، شجاعا، همّ بأخذ مصر، وسار في جموعه حتّى وصل بلبيس، ثم رجع عليلا، فمات بسبخة بردويل [2] ، فشقّوه وصبّروه، ورموا حشوته هناك، فهي ترجم إلى اليوم، ودفن بقمامة، وتملّك القدس بعده القمص صاحب الرّها، وكان قدم القدس زائرا، فوصى بغدوين له بالملك بعده. انتهى كلام صاحب «الدول» .
وفيها كما قال في «العبر» [3] : ترحلت العساكر عن حصار الباطنية بالألموت لمّا بلغهم موت السلطان محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان بن
__________
[1] في «آ» : «الذيل» وهو خطأ، وأثبت ما جاء في «ط» وهو الصواب، فهو ينقل عن «دول الإسلام» للذهبي (2/ 38) طبع الهيئة المصرية العامة للكتاب.
[2] في «آ» و «ط» : «بصنجة بردويل» وما أثبته من «دول الإسلام» وجاء في حاشيته: سبخة بردويل: تقع في الجنوب الغربي من مدينة العريش، وتطل على ساحل بحيرة بردويل من البحر الأبيض المتوسط.
[3] (4/ 23) .(6/49)
جغريبك بن ميكائيل بن سلجوق التركي غياث الدّين أبو شجاع [1] . كان فارسا شجاعا فحلا، ذا برّ ومعروف، استقلّ بالملك بعد موت أخيه بركياروق وقد تمّت لهما حروب عديدة، وخلّف محمد أربعة قد ولّوا السلطنة: محمود ومسعود [2] ، وطغرلبك، وسليمان، ودفن في ذي الحجة بأصبهان في مدرسة عظيمة للحنفية، وقام بعده ابنه محمود ابن أربع عشرة سنة، ففرّق الأموال.
وقد خلّف محمد أحد عشر ألف ألف دينار سوى ما يناسبها من الحواصل، وعاش ثماني وثمانين سنة، سامحه الله تعالى. انتهى.
وفيها توفي حمد بن نصر بن أحمد بن محمد بن عمر بن علي بن معروف الهمذاني الأعمش، أبو العلاء. كان ثقة عمدة حافظا. قاله ابن ناصر الدّين [3] .
وفيها أبو نصر الكاساني- بمهملة، نسبة إلى كاسان، بلد وراء الشّاش- أحمد بن إسماعيل [4] بن نصر بن أبي سعيد. أخذ عن جماعة من الأعيان بالعراق والحجاز، وسمرقند، وخراسان.
وفيها أبو طاهر عبد الرحمن بن أحمد بن عبد القادر بن محمد بن يوسف اليوسفي البغدادي [5] راوي «سنن الدارقطني» عن أبي بكر بن بشران عنه، وكان رئيسا وافر الجلالة، توفي في شوال، عن ست وسبعين سنة [6] .
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 23- 24) و «سير أعلام النبلاء» (19/ 506- 507) .
[2] في «آ» و «ط» : «وسعود» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» (5/ 200) و «العبر» (4/ 24) .
[3] في «التبيان شرح بديعة البيان» (159/ آ) .
[4] كذا في «آ» و «ط» . وفي «الأنساب» (10/ 320) : «أحمد بن سليمان بن نصر» ولعله المترجم في كتابنا، والله أعلم.
[5] انظر «العبر» (4/ 24) .
[6] لفظة «سنة» لم ترد في «آ» .(6/50)
وفيها أبو القاسم غانم بن محمد بن عبيد الله البرجي- وبرج من قرى أصبهان- سمع أبا نعيم الحافظ، وأجاز له ابن شاذان، والحسين الجمّال، وكان صدوقا فاضلا، توفي في ذي القعدة، عن أربع وتسعين سنة.
وفيها أبو علي بن نبهان الكاتب، محمد بن سعيد بن إبراهيم الكرخي، مسند العراق. روى عن ابن شاذان [1] وبشرى [2] الفاتني، وابن دوما، وهو آخر أصحابهم.
قال ابن ناصر: فيه [3] تشيع وسماعه صحيح، بقي قبل موته سنة ملقى على ظهره لا يعقل ولا يفهم، وذلك من أول سنة إحدى عشرة، وتوفي في شوال وله مائة سنة كاملة، وله شعر وأدب.
وفيها أبو الفضل محمد بن علي [بن طالب] بن محمد بن زببيا [4] الخرقي البزّار، الفقيه الحنبلي.
ولد في العشر الأخير من المحرم، سنة ست وثلاثين وأربعمائة، وسمع من القاضي أبي يعلى، والجوهري، وابن المذهب، وغيرهم، وحدّث وروى عنه السّلفيّ وجماعة كثيرة، منهم: ابن ناصر [5] ، وذكر عنه أنه كان يعتقد عقيدة الفلاسفة تقليدا عن غير معرفة، نسأل الله العافية.
وقال ابن الجوزي: قال شيخنا ابن ناصر: لم يكن بحجة، كان على غير السمت المستقيم، توفي ليلة السبت تاسع شوال، سامحه الله ورحمه.
__________
[1] في «آ» : «عن شاذان» وما أثبته من «ط» وهو الصواب.
[2] هو بشرى بن مسيس الرّومي الفاتني أبو الحسن. انظر «تاريخ بغداد» (7/ 135) و «الأنساب» (9/ 208) والتعليق عليه لصديقي الفاضل الأستاذ رياض عبد الحميد مراد حفظه الله تعالى ونفع به.
[3] لفظة «فيه» سقطت من «آ» .
[4] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 137- 138) وما بين حاصرتين مستدرك منه.
[5] في «آ» : «ابن ناصر الدين» وهو خطأ.(6/51)
وفيها أبو زكريا يحيى بن عبد الوهاب بن الحافظ محمد بن إسحاق بن مندة العبدي الأصبهاني [1] الحافظ الحنبلي، صاحب «التاريخ» . روى الكثير عن جماعة، منهم: أبوه وعماه، وابن ريذة- وسمع منه «المعجم الكبير» للطبراني- وخلق. وسمع منه الكبار، منهم: الحافظ أبو القاسم إسماعيل التيمي، ومحمد بن عبد الواحد الدقّاق، وخلق لا يحصون، وقدم بغداد حاجّا في الشيخوخة، فأملى وحدّث بها، وأسمع بها أبا منصور الخيّاط، وأبا الحسين بن الطّيوري، وهما [2] أسنّ منه، وأقدم إسنادا، وسمع منه بها أيضا ابن ناصر، وعبد الوهاب الأنماطي، والشيخ عبد القادر الجيلي، وابن الخشّاب، والحافظ السّلفي، وقال فيه يمدحه:
إنّ يحيى فديته من إمام ... حافظ متقن تقي حليم
جمع النّبل والأصالة والعق ... ل وفي العلم فوق كلّ عليم
وقال عبد الغافر في «تاريخ نيسابور» : هو رجل فاضل، من بيت العلم والحديث، المشهور في الدّنيا. سمع من مشايخ أصبهان، وسافر، ودخل نيسابور، وأدرك المشايخ، وسمع منهم، وجمع وصنّف على «الصحيحين» وعاد إلى بلده.
وقال ابن السمعاني في حقه: جليل القدر، وافر الفضل، واسع الرواية، ثقة، حافظ، فاضل، مكثر، صدوق، كثير التصانيف، حسن السيرة، بعيد التكلف، أوحد بيته في عصره، صنف «تاريخ أصبهان» وغيره من المجموع.
__________
[1] انظر «سير أعلام النبلاء» (19/ 395- 396) و «المستفاد من ذيل تاريخ بغداد» ص (431- 433) طبع مؤسسة الرسالة.
[2] لفظة «وهما» سقطت من «آ» .(6/52)
قال ابن رجب [1] : صنّف مناقب العبّاس في أجزاء كثيرة، ومناقب أحمد- رضي الله عنه- في مجلد كبير، وتوفي في ذي الحجة، وله أربع وسبعون سنة، وآخر أصحابه الطّرسوسي.
__________
[1] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 129- 137) .(6/53)
سنة اثنتي عشرة وخمسمائة
في الثالث والعشرين من شهر ربيع الآخر، توفي الإمام المستظهر بالله أبو العبّاس، أحمد بن المقتدي بالله عبد الله بن الأمير محمد بن القائم [1] العبّاسي، وله اثنتان وأربعون سنة. وكانت خلافته خمسا وعشرين سنة وثلاثة أشهر، وكان قوي الكتابة، جيد الأدب والفضيلة، كريم الأخلاق، مسارعا في أعمال البرّ، توفي بالخوانيق، وغسّله ابن عقيل شيخ الحنابلة، وصلّى عليه ابنه المسترشد بالله، وخلّف جماعة أولاد.
وتوفيت جدّته أرجوان بعده بيسير، وهي سرّية محمد الذخيرة. قاله في «العبر» [2] .
وقال السيوطيّ في «تاريخ الخلفاء» [3] : ولد في شوال سنة سبعين وأربعمائة، وبويع له عند موت أبيه وله ستّ عشرة سنة.
قال ابن الأثير [4] : كان لين الجانب، كريم الأخلاق، يسارع في أعمال البرّ، حسن الخطّ، جيد التوقيعات، لا يقاربه فيها أحد، يدلّ على فضل غزير، وعلم واسع، سمحا، جوادا، محبا للعلماء والصلحاء، ولم تصف له الخلافة، بل كانت أيامه مضطربة، كثيرة الحروب، ومن شعره:
__________
[1] تحرف في «ط» إلى «القاسم» .
[2] (4/ 26) .
[3] ص (426- 431) .
[4] انظر «الكامل في التاريخ» (10/ 536) .(6/54)
أذاب حرّ الهوى في القلب ما جمدا ... لمّا [1] مددت إلى رسم الوداع يدا
وكيف أسلك نهج الاصطبار وقد ... أرى طرائق في مهوى [2] الهوى قددا
إن كنت أنقض عهد الحبّ يا سكني [3] ... من بعد حبي [4] فلا عاينتكم [5] أبدا
انتهى كلام السيوطي ملخصا.
وفيها شمس الأئمة أبو الفضل، بكر بن محمد بن علي الأنصاري الجابري الزّرنجري- بفتح الزاي والراء والجيم، وسكون النون، نسبة إلى زرنجرى [6] ، قرية ببخارى- الفقيه شيخ الحنفية بما وراء النهر، وعالم تلك الدّيار، ومن كان يضرب به المثل في حفظ مذهب أبي حنيفة.
ولد سنة سبع وعشرين وأربعمائة، وتفقه على شمس الأئمة محمد بن أبي سهل السّرخسي، وشمس الأئمة عبد العزيز بن أحمد الحلواني، وسمع من أبيه، ومن أبي مسعود البجلي وطائفة. وروى «البخاري» عن أبي سهل الأبيوردي، عن ابن حاجب الكشّاني.
وفيها نور الهدى أبو طالب، الحسين بن محمد الزّينبي [7] ، أخو طراد، توفي في صفر، وله اثنتان وتسعون سنة. وكان شيخ الحنفية ورئيسهم بالعراق. روى عن ابن غيلان وطبقته، وحدّث بالصحيح غير مرة، عن كريمة المروزية، وكان صدرا نبيلا علّامة.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «يوما» وما أثبته من «تاريخ الخلفاء» و «الكامل في التاريخ» .
[2] في «آ» و «ط» : «من يهوى» وما أثبته من «تاريخ الخلفاء» و «الكامل في التاريخ» .
[3] في «الكامل في التاريخ» : «في خلدي» .
[4] في «الكامل في التاريخ» و «تاريخ الخلفاء» : «من بعد هذا» .
[5] في «آ» : «عاتبتكم» وفي «الكامل في التاريخ» : «عاينته» وما أثبته من «ط» و «تاريخ الخلفاء» .
[6] كذا في «آ» و «ط» و «معجم البلدان» (3/ 138) وفيه قال ياقوت: وربما قيل لها زرنكرى.
وفي «سير أعلام النبلاء» (19/ 415) : «زرنجر» .
[7] انظر «العبر» (4/ 27) .(6/55)
وفيها أبو القاسم الأنصاري، العلّامة سلمان بن ناصر بن عمران النيسابوري [1] الشافعي المتكلم، تلميذ إمام الحرمين، وصاحب التصانيف، وكان صوفيّا زاهدا، من أصحاب القشيري. روى الحديث عن أبي الحسين عبد الغافر الفارسي وجماعة، وتوفي في جمادى الآخرة.
قال ابن شهبة [2] : كان فقيها، إماما في علم الكلام والتفسير، زاهدا، ورعا، يكتسب من خطّه، ولا يخالط أحدا، وشرح «الإرشاد» للإمام [3] ، وله كتاب «الغنية» . أصابه في آخر عمره ضعف في بصره ويسير وقر في أذنه [4] .
انتهى ملخصا.
وفيها أبو البركات العاقولي [5] ، طلحة بن أحمد بن طلحة بن أحمد ابن الحسين بن سليمان، الفقيه الحنبلي القاضي.
ولد يوم الجمعة بعد صلاتها، ثالث عشري شعبان، سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة بدير العاقول، وهي على [6] خمسة عشر فرسخا من بغداد، ودخل بغداد سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، واشتغل بالعلم سنة اثنتين وخمسين، وسمع من أبي محمد الجوهري سنة ثلاث وخمسين، ومن القاضي أبي يعلي، وأبي الحسين بن حسنون وغيرهم.
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 27- 28) .
[2] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 314) .
[3] أي إمام الحرمين، وهو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني أبو المعالي ركن الدين، لقب بإمام الحرمين، من العلماء المتأخرين من أصحاب المذهب الشافعي، من مؤلفاته «الإرشاد» في أصول الدين، وقد مضت ترجمته في المجلد الخامس ص (338- 343) فراجعها. (ع) .
[4] كذا في «ط» و «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة: «في أذنه» وفي «آ» : «في أذنيه» .
[5] انظر «المنهج الأحمد» (2/ 248- 249) .
[6] لفظة «على» لم ترد في «آ» .(6/56)
قال ابن الجوزي: قرأ الفقه على القاضي يعقوب، وهو من متقدمي أصحابه، وكان عارفا بالمذهب، حسن المناظرة.
وقال ابن شافع: سماعه صحيح، وكان ثقة أمينا، ومضى على السلامة والستر.
وقال ابن رجب: روى عنه ابن ناصر، والشيخ عبد القادر بالإجازة.
وتوفي طلحة العاقولي ليلة الثلاثاء، ثاني أو ثالث شعبان.
وفيها عبيد بن محمد بن عبيد أبو العلاء القشيري [1] التاجر، مسند نيسابور. روى عن أبي حسّان المزّكّي، وعبد الرحمن النّصرويي [2] ، وطائفة، ودخل المغرب للتجارة، وحدّث هناك، توفي في شعبان، وله خمس وتسعون سنة.
وفيها أبو القاسم بن الشوا [3] ، يحيى بن عثمان بن الحسين بن عثمان بن عبد الله البيع الأزجي [4] الفقيه الحنبلي.
ولد في شوال، سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة، وقرأ القرآن بالروايات، وسمع من ابن المهتدي، وابن المسلمة، والجوهري، والقاضي أبي يعلى، وغيرهم. وتفقه على القاضي أبي يعلى، ثم على القاضي يعقوب، وكان فقيها حسنا، صحيح السماع، وحدّث بشيء يسير، وروى عنه ابن المعمّر الأنصاري في «معجمه» وتوفي ليلة الثلاثاء تاسع عشر جمادى الآخرة، ودفن بمقبرة باب حرب، رحمه الله تعالى.
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 28) .
[2] في «آ» و «ط» و «العبر» بطبعتيه و «سير أعلام النبلاء» (19/ 293) : «النصروي» وهو خطأ، والتصحيح من «الأنساب» (12/ 91) و «اللباب» (3/ 311) .
[3] في «ط» : «ابن الشرا» وهو تحريف.
[4] انظر «المنهج الأحمد» (2/ 248) .(6/57)
سنة ثلاث عشرة وخمسمائة
قال في «العبر» [1] : فيها ظهر قبر إبراهيم خليل الله عليه الصلاة والسلام، وإسحاق ويعقوب، ورآهم جماعة لم تبل أجسادهم وعندهم في تلك المغارة قناديل من ذهب وفضّة. قاله حمزة بن القلانسي في «تاريخه» .
انتهى.
وفيها توفي أبو الوفاء علي بن عقيل بن محمد بن عقيل البغدادي الظّفري [2] ، شيخ الحنابلة، وصاحب التصانيف، ومؤلّف كتاب «الفنون» الذي يزيد على أربعمائة مجلد، وكان إماما مبرزا، كثير العلوم، خارق الذكاء، مكبّا على الاشتغال والتصنيف، عديم النظير. روى عن أبي محمد الجوهري، وتفقه على القاضي أبي يعلى وغيره، وأخذ علم الكلام عن أبي علي بن الوليد، وأبي القاسم بن التبّان.
قال السّلفي: ما رأيت مثله، وما كان أحد يقدر أن يتكلّم معه لغزارة علمه، وبلاغة كلامه، وقوة حجته، توفي في جمادى الأولى، وله ثلاث وثمانون سنة. قاله جميعه في «العبر» [3] .
__________
[1] (4/ 29) وانظر الخبر بروايته الكاملة في «تاريخ» ابن القلانسي ص (321) بتحقيق الدكتور سهيل زكّار، فهو مفيد.
[2] انظر «سير أعلام النبلاء» (19/ 443- 451) .
[3] (4/ 29- 30) .(6/58)
وقال ابن رجب في «طبقاته» [1] : ولد سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، في جمادى الآخرة، كذا نقله [عنه] ابن ناصر، والسّلفي، وحفظ القرآن، وقرأ بالقراءات والروايات على أبي الفتح بن شيطا، [وكان يقول: شيخيّ في القراءة: ابن شيطا] ، وفي الزهد: أبو بكر الدّينوري، وأبو بكر بن زيدان، وأبو الحسين القزويني، وذكر جماعة غيرهم من الرجال والنساء.
وفي آداب [2] التصوف: أبو منصور صاحب الزيادة العطار، وأثنى عليه. وفي الحديث: ابن النّوري، وأبو بكر بن بشران، والعشاري، والجوهري، وغيرهم. وفي الشعر والترسل: ابن شبل، وابن الفضل.
وفي الفرائض [3] : أبو الفضل الهمذاني، وفي الوعظ: أبو طاهر بن العلّاف صاحب ابن سمعون، وفي الأصول: أبو الوليد وأبو القاسم بن التبّان. وفي الفقه: القاضي أبو يعلى المملوء عقلا وزهدا وورعا، قرأت عليه سنة سبع وأربعين ولم أخل بمجالسه وخلواته التي تتسع لحضوري والمشي معه ماشيا، وفي ركابه إلى أن توفي. وحظيت من قربه بما لم يحظ به أحد من أصحابه مع حداثة سني. والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، إمام الدّنيا وزاهدها، وفارس المناظرة وواحدها. كان يعلمني المناظرة، وانتفعت بمصنفاته.
ومن مشايخي أبو محمد التميمي، كان حسنة العالم، وماشطة بغداد.
ومنهم: أبو بكر الخطيب، كان حافظ وقته. وكان [4] أصحابنا الحنابلة يريدون مني هجران جماعة من العلماء. وكان ذلك يحرمني علما نافعا.
__________
[1] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 142- 162) وما بين حاصرتين في النص مستدرك منه.
[2] في «ط» : «في أدب» .
[3] قوله: «وفي الفرائض» سقط من «آ» وأثبته من «ط» .
[4] في «ط» : «كان» .(6/59)
ثم قال: وعانيت من الفقر والنسخ بالأجرة مع عفة وتقى، ولا أزاحم فقيها في حلقة ولا تطلب نفسي رتبة من رتب أهل العلم القاطعة لي عن الفائدة، وتقلبت عليّ الدول، فما أخذتني دولة سلطان ولا عامة عما اعتقد أنه الحق، فأوذيت من أصحابي، حتّى طلب الدم، وأوذيت في دولة النظام بالطلب والحبس- فيا من خفت الكلّ لأجله لا تخيب ظني فيك- وعصمني الله تعالى في عنفوان [1] شبابي بأنواع [من] العصمة، وقصر محبتي على العلم وأهله، فما خالطت لعّابا قطّ، ولا عاشرت إلا [2] أمثالي من طلبة العلم.
والأذية التي ذكرها من أصحابه له، وطلبهم منه هجران جماعة من العلماء، نذكر بعض شرحها، وذلك:
أن أصحابنا كانوا ينقمون على ابن عقيل تردده إلى ابن الوليد، وابن التبّان [3] شيخي المعتزلة، وكان يقرأ عليهما في السرّ علم الكلام، ويظهر منه في بعض الأحيان نوع انحراف عن السّنّة، وتأول لبعض الصفات، ولم يزل فيه بعض ذلك إلى أن مات، رحمه الله.
ففي سنة إحدى وستين اطلعوا له على كتب فيها شيء من تعظيم المعتزلة، والترحّم على الحلّاج، وغير ذلك. ووقف على ذلك الشريف أبو جعفر وغيره، فاشتد ذلك عليهم، وطلبوا أذاه، فاختفى. ثم التجأ إلى دار السلطان، ولم يزل أمره في تخبيط إلى سنة خمس وستين، فحضر في أولها إلى الديوان، ومعه جماعة من الأصحاب، واصطلحوا، ولم يحضر الشريف أبو جعفر.
فمضى ابن عقيل إلى بيته وصالحه وكتب خطّه بالتبري من موالاة
__________
[1] في «آ» : «عنوان» وهو خطأ.
[2] في «ط» : «من» .
[3] في «ط» : «وابن التباني» .(6/60)
أهل البدع، والترحم على أمواتهم، وعلى الحلّاج وأمثاله، وأشهد عليه جماعة كثيرة من الشهود والعلماء.
قال ابن الجوزي وأفتى ابن عقيل، ودرّس وناظر الفحول، واستفتي في الديوان في زمن القائم في زمرة من الكبار. وجمع علم الفروع والأصول، وصنّف فيها الكتب الكبار، وكان دائم التشاغل بالعلم، حتّى إني رأيت بخطه:
إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتّى إذا تعطّل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي، وأنا منطرح [1] فلا أنهض إلّا وقد خطر لي ما أسطره.
وقال ابن الجوزي أيضا: وكان ابن عقيل قويّ الدّين، حافظا للحدود.
وكان كريما ينفق ما يجد، فلم يخلّف سوى كتبه وثياب بدنه، وكانت بمقدار كفنه، وأداء دينه. انتهى.
وكان- رحمه الله تعالى- بارعا في الفقه وأصوله. له في ذلك استنباطات عظيمة حسنة، وتحريرات كثيرة مستحسنة.
وله تصانيف كثيرة في أنواع العلم، وأكبر تصانيفه كتاب «الفنون» وهو كبير جدا، فيه فوائد كثيرة جليلة، في الوعظ، والتفسير، والفقه، والأصول [2] والنحو، واللغة، والشعر، والتاريخ، والحكايات. وفيه مناظراته ومجالسه التي وقعت له، وخواطره، ونتائج فكره قيّدها فيه.
قال ابن الجوزي: وهذا الكتاب مائتا مجلد.
وقال عبد الرزاق الرسعني في «تفسيره» : قال لي أبو البقاء اللّغوي:
سمعت الشيخ أبا حكيم النّهرواني يقول: وقفت على السّفر الرابع بعد الثلاثمائة من كتاب «الفنون» .
__________
[1] كذا في «آ» و «ط» : «منطرح» وفي «ذيل طبقات الحنابلة» : «مستطرح» .
[2] كذا في «آ» : «والأصول» وفي «ط» و «ذيل طبقات الحنابلة» : «والأصلين» .(6/61)
وقال الحافظ الذهبي في «تاريخه» : لم يصنّف في الدنيا أكبر من هذا الكتاب. حدثني من رأى منه المجلد الفلاني بعد الأربعمائة.
وقال بعضهم: هو ثمانمائة مجلد [1] .
وله في الفقه كتاب «الفصول» ويسمى «كفاية المفتي» في عشر مجلدات، وله كتب كثيرة غير ذلك.
قال السّلفي: ما رأت عيناي مثل الشيخ أبي الوفاء بن عقيل، ما كان أحد يقدر أن يتكلم معه لغزارة علمه، وحسن إيراده، وبلاغة كلامه، وقوة حججه، ولقد تكلم يوما مع شيخنا أبي الحسن إلكيا الهرّاسي في مسألة، فقال له شيخنا: ليس هذا بمذهبك. فقال: أنا لي اجتهاد، متى طالبني خصمي بحجة، كان عندي ما أدفع به عن نفسي، وأقول له بحجتي. انتهى.
وكان ابن عقيل كثير التعظيم للإمام أحمد وأصحابه، والردّ على مخالفيهم.
وله مسائل كثيرة ينفرد بها.
منها: أن الرّبا لا يجري إلّا في الأعيان الستة المنصوص عليها.
ومنها: أن المشروع في عطية الأولاد التسوية بين الذكور والإناث.
ومنها أنه يجوز استئجار الشجر المثمر تبعا للأرض، لمشقة التفريق بينهما.
ومنها: أن الزروع [2] والثمار التي تسقى بماء نجس طاهرة مباحة، وإن لم تسق بعده بماء طاهر.
ومنها: أنه لا يجوز وطء المكاتبة، وإن اشترط وطأها في عقد الكتابة.
__________
[1] في «ذيل طبقات الحنابلة» : «مجلدة» .
[2] في «ط» : «الزرع» .(6/62)
ومنها: أنه لا زكاة في حليّ المواشط المعد للكراء.
إلى غير ذلك.
وتوفي أبو الوفاء- رحمه الله تعالى- بكرة الجمعة، ثاني عشر جمادى الأولى، وصلّي عليه في جامعي القصر والمنصور. وكان الجمع يفوت الإحصاء.
قال ابن ناصر: حزرتهم بثلاثمائة ألف. ودفن في دكة قبر الإمام أحمد رضي الله عنه. وقبره ظاهر، رضي الله عنه.
وقال ابن الجوزي: حدثني بعض الأشياخ: أنه لما احتضر ابن عقيل، بكى النساء، فقال: قد وقّعت عنه [1] خمسين سنة، فدعوني أتهنأ بلقائه.
انتهى ما أورد ابن رجب ملخصا كثيرا.
ثم قال [2] : وكان لابن عقيل ولدان ماتا في حياته، أحدهما:
أبو الحسن عقيل. كان في غاية الحسن، وكان شابا فهما، ذا خطّ حسن.
قال ابن القطيعي: حكى والده أنه ولد ليلة حادي عشري [3] رمضان، سنة إحدى وثمانين وأربعمائة.
وحكى غيره أنه سمع من هبة الله بن عبد الرزاق الأنصاري، وعلي بن حسين بن أيوب، وغيرهما. وتفقه على أبيه، وناظر في الأصول والفروع.
وسمع الحديث الكثير، وشهد عند قاضي القضاة أبي الحسن ابن
__________
[1] يعني عن الله تعالى.
[2] القائل ابن رجب في «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 163- 165) .
[3] في «ذيل طبقات الحنابلة» : «حادي عشر» .(6/63)
الدامغاني، فقبل قوله. وكان فقيها فاضلا، يقول الشعر، وكان يشهد مجلس الحكم، ويحضر الموكب.
وتوفي- رحمه الله- يوم الثلاثاء، منتصف محرم، سنة عشر، وقيل سنة ثلاث عشرة، قبل والده بشهر واحد، وكان له من العمر سبع وعشرون سنة، ودفن في داره [بالظفرية] ، فلما مات أبوه نقل معه إلى دكة الإمام أحمد.
قال والده: مات ولدي عقيل، وكان قد تفقّه وناظر، وجمع أدبا حسنا فتعزّيت بقصة عمرو بن عبد ودّ الذي قتله علي رضي الله عنه، فقالت أمّه ترثيه:
لو كان قاتل عمرو غير قاتله ... ما زلت أبكي عليه دائم الأبد
لكنّ قاتله من لا يقاد به ... من كان يدعى أبوه بيضة البلد
فأسلاها وعزاها جلالة القاتل، وفخرها بأن ابنها مقتوله. فنظرت إلى قاتل ولدي الحكيم المالك، فهان عليّ القتل والمقتول لجلالة القاتل، وأكب عليه وقبّله، وهو في أكفانه. وقال: يا بني استودعتك الله الذي لا تضيع ودائعه. الرّبّ خير لك مني، ثم مضى وصلى عليه.
ومن شعر عقيل هذا:
شاقه والشوق من غيره ... طلل عاف سوى أثره
مقفر إلّا معالمه ... واكف بالودق من مطره
فانثنى والدمع منهمل ... كانسلال السلك عن درره
طاويا كشحا على نوب ... سبحات لسن من وطره
رحلة الأحباب عن وطن ... وحلول الشّيب في شعره
شيم للدّهر سالفة ... مستبينات لمختبره
وقبول الدّر مبسمها ... أبلج يفترّ عن خصره(6/64)
هزّ عطفيها الشباب كما ... ماس غصن البان في شجره
ذات فرع فوق ملتمع ... كدجى أبدى سنا قمره
خصرها يشكو روادفها ... كاشتكاء الصبّ من سهره
نصبت قلبي لها غرضا ... فهو مصمى بمعتوره
والآخر:
أبو منصور هبة الله. ولد في ذي الحجة، سنة أربع وسبعين وأربعمائة، وحفظ القرآن، وتفقه، وظهر منه أشياء تدل على عقل غزير ودين عظيم. ثم مرض وطال مرضه، وأنفق عليه أبوه مالا في المرض وبالغ.
قال أبو الوفاء: قال لي ابني لما تقارب أجله: يا سيدي قد أنفقت وبالغت في الأدوية، والطب والأدعية [1] ، ولله تعالى في اختيار، فدعني مع اختياره. قال: فو الله ما أنطق الله سبحانه وتعالى ولدي بهذه المقالة التي تشاكل قول إسحاق لإبراهيم [2] : افْعَلْ ما تُؤْمَرُ 37: 102 [الصافات: 103] إلّا وقد اختاره للحظوة.
__________
[1] قوله: «والطب والأدعية» سقط من «آ» .
[2] قلت: اختلف العلماء في الذّبيح على قولين. أحدهما أنه إسماعيل، والآخر أنه إسحاق، عليهما السلام، والأول هو الصحيح.
قال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» (4/ 14) : قال تعالى: فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ 37: 101 وهذا الغلام هو إسماعيل عليه السّلام، فإنه أول ولد بشّر به إبراهيم عليه السلام، وهو أكبر من إسحاق باتفاق المسلمين وأهل الكتاب، بل في نص كتابهم أن إسماعيل عليه السلام ولد ولإبراهيم عليه السلام ست وثمانون سنة. وولد إسحاق وعمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام تسع وتسعون سنة. وعندهم أن الله تبارك وتعالى أمر إبراهيم أن يذبح ابنه وحيده، وفي نسخة أخرى بكره، فأقحموا ها هنا كذبا وبهتانا إسحاق ولا يجوز هذا لأنه مخالف لنص كتابهم، وإنما أقحموا إسحاق لأنه أبوهم وإسماعيل أبو العرب، فحسدوهم، فزادوا ذلك وحرّفوا وحيدك بمعنى الذي ليس عندك غيره، فإن إسماعيل كان [إبراهيم قد] ذهب به وبأمه إلى مكة، وهو تأويل وتحريف باطل، فإنه لا يقال وحيدك إلا لمن ليس له غيره، وأيضا فإن أول ولد ولد له بعزّه ما ليس لمن بعده من الأولاد، فالأمر بذبحه أبلغ في الابتلاء والاختبار.(6/65)
توفي- رحمه الله تعالى- سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وله نحو أربع عشرة سنة.
وحمل أبو الوفاء- رحمه الله تعالى- في نفسه من شدة الألم أمرا عظيما، ولكنه تصبّر ولم يظهر جزعا، وكان يقول: لولا أن القلوب توقن باجتماع ثان لانفطرت المرائر لفراق المحبوبين. انتهى ملخصا أيضا.
وفيها قاضي القضاة، أبو الحسن الدّامغاني [1] ، علي بن قاضي القضاة أبي عبد الله الحنفي، ولي القضاء بضعا وعشرين سنة، وكان ذا حزم، ورأي، وسؤدد، وهيبة وافرة، وديانة ظاهرة. روى عن أبي محمد الصريفيني وجماعة، وتفقّه على والده، وتوفي في المحرم، عن أربع وستين سنة.
وفيها أبو سعد المخرّمي، المبارك بن علي بن الحسن بن بندار البغدادي [2] . الفقيه الحنبلي. روى عن القاضي أبي يعلى، وابن المهتدي، وابن المسلمة، والصّريفيني، وابن النّقور، وغيرهم. وسمع من القاضي أبي وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق، وحكي ذلك عن طائفة من السلف، حتى نقل عن بعض الصحابة رضي الله عنهم أيضا، وليس ذلك في كتاب ولا سنّة، وما أظن ذلك تلقي إلا عن أخبار أهل الكتاب، وأخذ ذلك مسلّما من غير حجة، وهذا كتاب الله شاهد ومرشد إلى إسماعيل، فإنه ذكر البشارة بغلام حليم، وذكر أنه الذبيح، ثم قال بعد ذلك: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا من الصَّالِحِينَ 37: 112 ولما بشرت الملائكة إبراهيم بإسحاق قالوا:
إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ 15: 53. انتهى كلام ابن كثير.
أقول: وقال الإمام ابن قيم الجوزية في «زاد المعاد» (1/ 71) طبع مؤسسة الرسالة:
وإسماعيل هو الذبيح على القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وأما القول بأنه إسحاق فباطل بأكثر من عشرين وجها، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول:
هذا القول إنما هو متلقى عن أهل الكتاب، مع أنه باطل بنص كتابهم، فإن فيه: إن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه بكره، وفي لفظ: وحيده، ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده. (ع) .
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 30) .
[2] انظر «العبر» (4/ 31) و «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 166- 171) .(6/66)
يعلى شيئا من الفقه، ثم تفقه على صاحبه الشريف أبي جعفر، ثم القاضي يعقوب، ثم القاضي البرزبيني. وأفتى ودرّس، وجمع كتبا كثيرة لم يسبق إلى جمع مثلها. وكان حسن السيرة، جميل الطريقة، سديد الأقضية، وتوفي في [ثاني] عشر المحرم، ودفن إلى جانب أبي بكر الخلّال عند رجلي الإمام أحمد، رضي الله عنه.
وفيها أبو الفضل بن الموازيني، محمد بن الحسن بن الحسين السّلمي الدمشقي [1] العابد، أخو أبي الحسن. روى عن أبي عبد الله بن سلوان وجماعة.
وفيها أبو بكر محمد بن طرخان بن بلتكين بن مبارز التّركي ثم البغدادي [2] ، الشافعي، المحدّث النحوي، أحد الفضلاء. روى عن أبي جعفر بن المسلمة وطبقته، وتفقّه على الشيخ أبي إسحاق، وكان ينسخ بالأجرة، وفيه زهد وورع تام.
وفيها خوروست، أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن الحسين الأصبهاني [3] المجلّد. روى عن أبي الحسين بن فاذشاه، وابن ريذة، وتوفي في جمادي الأولى.
وفيها محمد بن عبد الباقي، أبو عبد الله الدّوريّ [4] ، السّمسار الصالح. روى عن الجوهري، وأبي طالب العشاري، ومات في صفر، عن تسع وسبعين سنة.
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 30) .
[2] انظر «العبر» (4/ 30) .
[3] انظر «العبر» (4/ 30) و «سير أعلام النبلاء» (19/ 419- 420) .
[4] انظر «العبر» (4/ 31) .(6/67)
سنة أربع عشرة وخمسمائة
فيها توفي أبو علي بن بلّيمة، الحسن بن خلف القيرواني [1] المقرئ، مؤلّف «تلخيص العبارات في القراءات» توفي في رجب، في الإسكندرية، وهو في عشر التسعين. قرأ على جماعة، منهم: أبو العبّاس أحمد بن نفيس.
وفيها الطّغرائي، الوزير مؤيد الدّين أبو إسماعيل، الحسين بن علي الأصبهاني، صاحب «ديوان الإنشاء» للسلطان محمد بن ملكشاه، واتصل بابنه مسعود ثم أخذ الطّغرائي أسيرا وذبح بين يدي الملك محمود، في ربيع الأول، وقد نيّف على الستين. وكان من أفراد الدّهر، وحامل لواء النظم والنثر، وهو صاحب «لامية العجم» . قاله في «العبر» [2] .
وقال ابن خلّكان [3] : ذكره ابن السمعاني وأثنى، عليه وأورد [4] قطعة من شعره في صفة الشمعة.
وللطغرائي المذكور ديوان شعر جيد، ومن محاسن شعره قصيدته
__________
[1] انظر «معرفة القراء الكبار» (1/ 469- 470) .
[2] انظر «العبر» (4/ 32) .
[3] انظر «وفيات الأعيان» (2/ 185- 190) وما بين حاصرتين مستدرك منه.
[4] في «ط» : «وأورد له» .(6/68)
المعروفة ب «لامية العجم» وكان عملها ببغداد، في سنة خمس وخمسمائة، يصف حاله ويشكو زمانه، وهي التي أولها:
أصالة الرأي صانتني عن الخطل ... وحلية الفضل زانتني لدى العطل
ومن رقيق شعره قوله:
يا قلب ما لك والهوى من بعد ما ... طاب السلوّ وأقصر العشاق
أوما بدا لك في الإفاقة والألى [1] ... نازعتهم كأس الغرام أفاقوا
مرض النّسيم فصحّ والدّاء الذي ... تشكوه [2] لا يرجى له إفراق
وهدا خفوق البرق والقلب الذي ... تطوى عليه أضالعي خفّاق
وله أيضا:
أجمّا البكا يا مقلتيّ فإننا ... على موعد للبين لا شكّ واقع
إذا جمع العشاق موعدهم غدا ... فوا خجلتا إن لم تعنّي المدامع
[3] وذكر العماد الكاتب في كتاب «نصرة الفترة وعصرة القطرة [4] » أن الطّغرائيّ المذكور، كان ينعت بالأستاذ، وكان وزير السلطان مسعود بن محمد السلجوقي بالموصل، وأنه لما جرى بينه وبين أخيه السلطان محمود المصافّ بالقرب من همذان، وكانت النصرة [5] لمحمود، فأول من أخذ الأستاذ أبو إسماعيل وزير مسعود، فأخبر به وزير محمود، وهو الكمال نظام الدّين أبو طالب [علي] بن أحمد بن حرب السّميرمي، فقال الشهاب أسعد- وكان طغرائيا في ذلك الوقت، نيابة عن النصير الكاتب: هذا الرجل ملحد، يعني
__________
[1] في «آ» و «ط» : «والأولى» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[2] تحرفت في «آ» إلى «ترجوه» .
[3] في «وفيات الأعيان» : «مدامعي» .
[4] في «وفيات الأعيان» : «الفطرة» وهو تصحيف، وانظر «كشف الظنون» (2/ 1956) .
[5] كذا في «آ» و «وفيات الأعيان» : «النصرة» وفي «ط» : «الظفرة» .(6/69)
الأستاذ، فقال وزير محمود: من يكن ملحدا يقتل، فقتل ظلما.
وقد كانوا خافوا منه، و [قيل] قتل سنة أربع عشرة [وقيل ثمان عشرة] [1] وقد جاوز ستين سنة، وفي شعره ما يدلّ على أنه بلغ سبعا وخمسين سنة، لأنه قال: وقد جاءه مولود:
هذا الصغير الذي وافى على كبري ... أقرّ عيني ولكن زاد في فكري
سبع وخمسون لو مرّت على حجر ... لبان تأثيرها في ذلك الحجر
والله تعالى أعلم بما عاش بعد ذلك.
وقتل الكمال السّميرمي، الوزير المذكور، يوم الثلاثاء سلخ صفر، سنة ست عشرة وخمسمائة، في السوق ببغداد، عند المدرسة النظامية، قيل: قتله عبد أسود كان للطّغرائي المذكور، لأنه قتل أستاذه.
والطّغرائي: بضم الطاء المهملة، وسكون الغين المعجمة، نسبة إلى من يكتب الطّغرى [2] ، وهي الطّرّة التي تكتب فوق البسملة في أعلى الكتب بالقلم الغليظ، ومضمونها نعوت الملك الذي صدر الكتاب عنه، وهي لفظة أعجمية. انتهى ما أورده ابن خلّكان ملخصا.
وفيها أبو علي بن سكّرة، الحافظ الكبير، حسين بن محمد [3] بن فيرّه بن حيّون الصّدفي السرقسطي الأندلسي. سمع من أبي العبّاس بن دلهاث وطائفة، وحجّ سنة إحدى وثمانين، فدخل على الحبّال، وسمع ببغداد من مالك البانياسي وطبقته، وأخذ «التعليقة الكبرى» عن أبي علي الشّاشي
__________
[1] ما بين حاصرتين سقط من «آ» .
[2] في «آ» و «ط» : «الطغراء» والتصحيح من «وفيات الأعيان» ، وانظر «تاج العروس» (طغر) (12/ 430) طبع الكويت.
[3] في «آ» و «ط» : «ابن محمود» وهو خطأ، والتصحيح من «الصلة» (1/ 144) و «سير أعلام النبلاء» (19/ 376) و «العبر» (4/ 32) .(6/70)
المستظهري. وأخذ بدمشق عن الفقيه نصر المقدسي، وردّ إلى بلاده بعلم جمّ، وبرع في الحديث وفنونه، وصنّف التصانيف، وقد أكره على القضاء، فوليه ثم اختفى حتّى أعفي واستشهد في مصافّ قتندة، في ربيع الأول، وهو من أبناء الستين، وأصيب المسلمون يومئذ.
قال ابن ناصر الدّين [1] : هو حافظ متقن كبير ثقة مأمون.
وفيها توفي بالجند- كما قال ابن الأهدل [2]- الفقيه الإمام زيد بن عبد الله بن جعفر اليفاعي اليمني- نسبة إلى يفاعة مكان باليمن- تفقه على الشيخ الإمام أبي بكر بن جعفر المخائي- والمخا من سواحل اليمن [3]- وكانت وفاة المخائي سنة خمسمائة، وقد تخرّج به جماعة، وكان يحفظ «المجموع» للمحاملي و «الجامع في الخلاف» لأبي جعفر، وتفقه زيد اليفاعي بأبي إسحاق الصّردفي [4] وزوّجه الصّردفي [4] ابنته كما تقدم، ثم ارتحل زيد إلى مكّة المرّة الأولى، فقرأ على تلميذ الشيخ أبي إسحاق ارتحل زيد إلى مكّة المرّة الأولى، فقرأ على تلميذ الشيخ أبي إسحاق الشيرازي: الحسين بن علي الشّاشي، مصنّف «العدة» وغيره، ثم رجع إلى الجند، واجتمع عليه الموافق والمخالف من أهل اليمن، وقرأ عليه الإمام يحيى صاحب «البيان» نكت الشيخ أبي إسحاق في الخلاف، وعدة كتب، وقرأ عليه أيضا عبد الله الهمداني، وعبد الله بن يحيى الصّعبي، وذلك في دولة أسعد بن أبي الفتوح الحميري، الذي قتله أصحابه بحصن تعز ودفنوه فيه، ونبشه سيف الإسلام أبو أيوب، ودفنه في مقابر المسلمين.
وكان زيد صغير الجسم، وله مهابة عظيمة.
__________
[1] في «التبيان شرح بديعة البيان» (159/ آ) .
[2] انظر «مرآة الجنان» (3/ 205- 206) و «غربال الزمان» ص (405- 406) .
[3] وقال ياقوت في «معجم البلدان» (5/ 67) : المخا: موضع باليمن بين زبيد وعدن بساحل البحر.
[4] كذا في «آ» و «ط» و «غربال الزمان» : «الصردفي» وفي «مرآة الجنان» : «الصروفي» .(6/71)
وسئل زيد عن الفقيه إبراهيم بن علي بن الإمام الحسين بن علي الطبري صاحب «العدة» كيف حاله في العلم، فقال: هو مجوّد لولا أنه اشتغل بالعبادة [مع الصوفية، فقيل له: هذه طريقة غير ملومة، فقال: كان جدّه الحسين الطبري يكره ذلك ويقول: اشتغال العالم بالعبادة] [1] فرار من العلم.
وقد نص الشافعيّ- رحمه الله تعالى- أن طلب العلم أفضل من صلاة النافلة [2] ، وحديث «لأن يهدي الله بك رجلا واحدا» [3] دليل على ذلك.
وعلم الباطن هو نتيجة العلم الظاهر، [لأن الأنبياء قادة الخلق إلى الله، والعلماء ورثتهم، ولم يرثوا غير العلم الظاهر] [4] ، فمن استعمل رسوم الشريعة الظاهرة كما جاءت عن الأنبياء فقد اهتدى وهدى، وهم المشار إليهم بقوله تعالى: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا 21: 73 [الأنبياء: 71] ، ولا شكّ أن العالم بأحكام الله إذا استبطن التقوى واستشعر العمل، أورثه ذلك العلم بالله الذي هو أجلّ العلوم، والمراد بالعلم بالله علم التوحيد الذي هو إثبات وحدانيته بنفي الشريك والأضداد، إيمانا جازما، وإثبات [5] الصفات، والملائكة، والأنبياء، والكتب المنزلات.
وأفضل العلوم بعده علم الفقه، الذي يستفاد من الكتاب والسّنّة اللذين
__________
[1] ما بين حاصرتين سقط من «غربال الزمان» المطبوع فيستدرك من هنا.
[2] في «آ» و «ط» : «النفل» وأثبت لفظ «غربال الزمان» .
[3] قطعة من حديث طويل رواه البخاري رقم (3701) في فضائل الصحابة: باب مناقب علي ابن أبي طالب رضي الله عنه، ومسلم رقم (2406) في فضائل الصحابة: باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ورواه أبو داود رقم (3661) مختصرا في العلم: باب فضل نشر العلم، كلهم من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه.
[4] ما بين حاصرتين سقط من «غربال الزمان» المطبوع فيستدرك من هنا.
[5] في «ط» و «آيات الصفات» .(6/72)
ضمن الله العصمة في جانبهما، ولم يضمنها في جانب الكشف والإلهام والمشاهدة [1] .
كذا نقله صاحب الأصل [2] عن غير واحد من المحقّقين، منهم: الشيخ القطب أبو الحسن الشاذلي نفع الله به. انتهى كلام ابن الأهدل بحروفه.
وفيها أبو نصر عبد الرحيم بن الإمام عبد الكريم أبي القاسم بن هوازن القشيري، وكان إماما، مناظرا، مفسّرا، أديبا، علّامة، متكلّما. وهو الذي [كان] أصل الفتنة ببغداد بين الأشاعرة والحنابلة، ثم فتر أمره. وقد روى عن أبي حفص بن مسرور وطبقته، وآخر من روى عنه سبطه أبو سعيد ابن الصفّار. توفي في جمادى الآخرة، وهو في عشر الثمانين، وأصابه فالج في آخر عمره. قاله في «العبر» [3] .
وقال ابن الأهدل [4] : ولما توفي دفن بمشهدهم المعروف بهم.
وفيه يقول إمام الحرمين:
يميس بغصن إذا ما بدا ... ويبدو كشمس ويرنو كريم
معاني النجابة مجموعة ... لعبد الرحيم بن عبد الكريم
وحكايته عنه في «النهاية» من أعظم الإنصاف.
ومنه قوله في ولده فضل الله:
كم حسرة لي في الحشا ... من ولدي حين نشا
كنّا نشا فلاحه ... فما نشا كما نشا
انتهى.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «والمشاهد» وما أثبته من «غربال الزمان» .
[2] يعني اليافعي صاحب «مرآة الجنان» الذي اختصر ابن الأهدل كتابه وأضاف إليه إضافات كثيرة في مواطن عديدة.
[3] (4/ 33) .
[4] انظر «مرآة الجنان» (3/ 210- 211) .(6/73)
وفيها أبو القاسم علي بن جعفر البغدادي الصقلي بن القطّاع [1] ، المصري الدّار والوفاة، اللغوي.
كان أحد أئمة الأدب، خصوصا اللغة، وله تصانيف نافعة، منها كتاب «الأفعال» أحسن فيه كل الإحسان، وهو أجود [2] من «الأفعال» لابن القوطيّة.
وكان ذاك قد سبقه إليه، وله كتاب «أبنية الأسماء» جمع فيه فأوعى [3] ، وفيه دلالة على كثرة اطلاعه، وله عروض حسن جيد، وله كتاب «الدّرة الخطيرة في المختار من شعراء الجزيرة» وكتاب «لمح الملح» جمع فيه خلقا كثيرا من شعراء الأندلس، وكانت ولادته في عاشر صفر، سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة بصقلية. وقرأ الأدب على فضلائها، كابن عبد البرّ وأمثاله، وأجاد النحو غاية الإجادة، ورحل عن صقلية لما أشرف على تملكها الفرنج، ووصل إلى مصر في حدود سنة خمسمائة [4] ، وبالغ أهل مصر في إكرامه، وكان ينسب إلى التساهل في الرواية، ونظم الشعر في سنة ست وأربعين، ومن شعره في ألثغ:
وشادن في لسانه عقد ... حلّت عقودي وأوهنت جلدي
عابوه جهلا بها فقلت لهم ... أما سمعتم بالنّفث في العقد
وله في غلام اسمه حمزة:
يا من رمى النّار في فؤادي ... وأمطر [5] العين بالبكاء
اسمك تصحيفه بقلبي ... وفي ثناياك برء دائي
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (3/ 322- 324) .
[2] في «آ» : «أجد» وفي «ط» : «أجدى» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[3] في «وفيات الأعيان» : «فأوعب» .
[4] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «خمسين» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[5] في «وفيات الأعيان» : «وأنبط» أي أنبع. انظر «مختار القاموس» (نبط) .(6/74)
اردد
سلامي فإنّ نفسي ... لم يبق منها سوى الذّماء
[1]
وارفق بصبّ أتى ذليلا ... قد مزج اليأس بالرجاء
أنهكه [2] في الهوى التّجنّي ... فصار في رقة الهواء
وكانت ولادته في سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة. هكذا ذكره في كتابه «الدّرة الخطيرة في شعراء الجزيرة» عند ذكر ترجمة نفسه، رحمه الله تعالى، في أواخر الكتاب المذكور، وتوفي بمصر. قاله ابن خلّكان [3] .
وفيها أبو الحسن عبد العزيز بن عبد الملك بن شفيع الأندلسي المرييّ [4] ، المقرئ، تلميذ عبد الله بن سهل. تصدّر للإقراء مدة، وحدّث عن ابن عبد البرّ وجماعة، وفي روايته عن ابن عبد البرّ كلام. توفي في عشر التسعين.
وفيها أبو الحسن بن الموازيني، علي بن الحسن السّلمي، أخو محمد. روى عن ابن سعدان، وابني عبد الرحمن بن أبي نصر، وطائفة، وعاش أربعا وثمانين سنة.
وفيها محمود بن إسماعيل أبو منصور الأصبهاني الصيرفي الأشقر، راوي «المعجم الكبير» عن ابن فاذشاه، عن مؤلّفه الطبراني، وله ثلاث وتسعون سنة. توفي في ذي القعدة.
قال السّلفي: كان صالحا.
__________
[1] تصحفت في «آ» و «ط» إلى «الدماء» والتصحيح من «وفيات الأعيان» والذّماء: بقية النفس.
انظر «مختار القاموس» (ذمي) .
[2] في «آ» و «ط» : «أنحله» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» .
[3] انظر «وفيات الأعيان» (3/ 322- 324) .
[4] كذا في «آ» و «ط» و «العبر» (4/ 33) : «المريّي» وفي «غاية النهاية في طبقات القراء» .
(1/ 394) : «المريّ» بياء واحدة.(6/75)
سنة خمس عشرة وخمسمائة
فيها احترقت دار السلطنة ببغداد، وذهب ما قيمته ألف ألف دينار.
وفيها توفي أبو علي الحدّاد الحسن بن أحمد بن الحسن الأصبهاني المقرئ المجوّد، مسند الوقت. توفي في ذي الحجة، عن ست وتسعين سنة. وكان مع علو إسناده أوسع أهل وقته رواية. حمل عن أبي نعيم، وكان خيّرا، صالحا، ثقة.
وفيها الأفضل أمير الجيوش، شاهنشاه [1] أبو القاسم ابن أمير الجيوش بدر الجمالي الأرمنيّ. وكان في الحقيقة هو صاحب الديار المصرية. ولي بعد أبيه، وامتدت أيامه. وكان شهما، مهيبا، بعيد الغور فحل الرأي. ولي وزارة السيف والقلم للمستعلي، ثم للآمر. وكانا معه صورة بلا معنى.
وكان قد أذن للناس في إظهار عقائدهم، وأمات شعار دعوة الباطنيّة، فمقتوه لذلك. وكان مولده بعكّا سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، وخلّف من الأموال ما يستحيا [2] من ذكره. وثب عليه ثلاثة من الباطنية فضربوه بالسكاكين فقتلوه. وحمل بآخر رمق، وقيل: [إن] الآمر دسّهم عليه بتدبير أبي عبد الله
__________
[1] في «آ» و «ط» : «شاه شاه» والتصحيح من «العبر» (4/ 34) و «دول الإسلام» (2/ 42) .
[2] في «العبر» : «ما يستحى» . وكلاهما صواب.(6/76)
البطائحي الذي وزر بعده ولقّب بالمأمون. قاله في «العبر» [1] .
وفيها أبو سعد عبد الوهاب بن حمزة بن عمر البغدادي، الفقيه الحنبلي المعدّل. ولد في أحد الربيعين، سنة سبع وخمسين وأربعمائة.
وسمع من ابن النّقور، والصريفيني، وابن البسري، والحميدي، وتفقه على أبي الخطّاب، وأفتى، وبرع في الفقه، وشهد عند قاضي القضاة أبي الحسن ابن الدامغاني. وكان مرضي الطريقة جميل السيرة من أهل السنة، وهو شيخ أبي حكيم النهرواني، الذي تفقّه عليه. وروى عنه حكاية، ولم يحدّث إلا باليسير. توفي ليلة الثلاثاء ثالث شعبان، ودفن بمقبرة الإمام أحمد. قاله ابن رجب [2] .
وفيها أبو بكر بن الدّنف، محمد بن علي بن عبيد بن الدّنف البغدادي، المقرئ الزاهد، أبو بكر. ولد في صفر سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة. وسمع الحديث من ابن المسلمة، وابن المهتدي، والصريفيني، وابن النّقور، وطبقتهم. وتفقّه على الشريف أبي جعفر، وحدّث بشيء يسير.
سمع منه ابن ناصر، وروى عنه المبارك بن خضير، و [ذاكر] ابن كامل، وابن بوش وغيرهم. وكان من الزهاد الأخيار، ومن أهل السّنّة. انتفع به خلق كثير، ذكره ابن الجوزي وتوفي يوم الاثنين سابع شوال، ودفن بمقبرة الإمام أحمد.
والدّنف: بفتح الدال المهملة، وكسر النون، وآخره فاء. قاله ابن رجب [3] .
وفيها أبو علي بن المهدي، محمد بن محمد بن عبد العزيز
__________
[1] (4/ 35) .
[2] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 172) .
[3] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 172- 173) وما بين حاصرتين مستدرك منه.(6/77)
الخطيب. روى عن ابن غيلان، والعتيقي، وجماعة. وكان صدوقا، نبيلا، ظريفا، توفي في شوال، عن ثلاث وثمانين سنة.
وفيها هزارسب بن عوض، أبو الخير الهرويّ الحافظ. توفي في ربيع الأول، وكان عالما صاحب حديث وإفادة بليغة، وحرص على الطلب.
سمع من طراد ومن بعده، ومات قبل أوان الرواية.(6/78)
سنة ست عشرة وخمسمائة
فيها توفي إيل غازي بن أرتق [1] بن أكسب نجم الدّين التركماني، صاحب ماردين، وليها بعد أخيه سقمان، وكانا من أمراء تتش صاحب الشام، وكان إيل غازي قد استولى على حلب بعد موت أولاد تتش، واستولى على ميّافارقين، وكان فارسا شجاعا كثير الغزو كثير العطاء، ولّى بعده بماردين ابنه حسام الدّين تمرتاش.
وفيها الباقرحي- بفتح القاف وسكون الراء، ثم مهملة، نسبة إلى باقرحا من قرى بغداد- أبو علي الحسن بن محمد بن إسحاق. روى عن أبي الحسن القزويني، والبرمكي، وخلق، وتوفي في رجب.
وفيها البغوي محيي السّنّة أبو محمد. الحسين بن مسعود بن محمد ابن الفراء، ويعرف تارة بالفراء [2] ، الشافعي المحدّث المفسّر، صاحب التصانيف، وعالم أهل خراسان. روى عن أبي عمر المليحي، وأبي الحسن الداودي، وطبقتهما. وكان سيدا، زاهدا، قانعا يأكل الخبز وحده، فليم [3] في ذلك، فصار يأكله بالزيت. وكان أبوه يصنع الفراء. وتوفي ركن الدّين محيي السّنّة بمرو الرّوذ في شوال، ودفن عند شيخه القاضي حسين. قاله في «العبر» [4] .
__________
[1] في «آ» و «ط» : «رائق» والتصحيح من «دول الإسلام» للحافظ الذهبي. (ع) .
[2] انظر «العبر» (4/ 37) و «سير أعلام النبلاء» (19/ 439- 443) والتعليق عليه.
[3] في «المنتخب» (106/ ب) : «فلاموه» .
[4] (4/ 37) .(6/79)
وقال ابن الأهدل هو صاحب الفنون الجامعة، والمصنّفات النافعة، مع الزهد، والورع، والقناعة، وتفقّه بالقاضي حسين ولازمه، وسمع الحديث على جماعة، ثم برع، فصنّف التصانيف النافعة، منها «معالم التنزيل» [1] و «الجمع بين الصحيحين» و «المصابيح» [2] وغيرها. وصنّف في الفقه «التهذيب» و «شرح السّنّة» [3] وكان لا يلقي الدرس إلّا على طهارة.
ونسبته إلى بغ [4] قرية بقرب هراة. انتهى.
وقال السبكي في «تكملة شرح المهذب» : قلّ أن رأيناه يختار شيئا إلّا وإذا بحث عنه وجد أقوى من غيره. هذا مع اختصار كلامه، وهو يدل على نبل كثير، وهو حري بذلك، فإنه جامع لعلوم القرآن، والسّنّة، والفقه.
انتهى.
قال الذهبي: ولم يحج، وأظنه جاوز الثمانين، رحمه الله تعالى.
وفيها أبو محمد السمرقندي الحافظ، عبد الله بن أحمد بن عمر بن أبي الأشعث، أخو إسماعيل. ولد بدمشق، وسمع بها من أبي بكر الخطيب، وابن طلّاب، وجماعة. وببغداد من أبي الحسين بن النّقور، ودخل إلى نيسابور، وأصبهان، وعني بالحديث، وخرّج لنفسه «معجما» في مجلد،
__________
[1] طبع في بيروت بعناية الأستاذين خالد عبد الرحمن العك ومروان سوار، وصدر عن دار المعرفة في أربع مجلدات كبار.
[2] طبع عدة مرات أفضلها التي صدرت عن دار المعرفة ببيروت في ثلاث مجلدات بتحقيق الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي.
[3] طبع أول مرة في المكتب الإسلامي بدمشق بين عامي (1390- 1399) هـ، وانفرد بتحقيقه وتخريج أحاديثه والتعليق عليه الأستاذ المحقّق الشيخ شعيب الأرناؤوط، وصدر في خمسة عشر جزءا، ثم أتبع بجزء فهرست فيه أحاديث الكتاب تمّ إعداده وطبعه في المكتب الإسلامي ببيروت.
[4] قلت: ويقال لها أيضا «بغشور» . انظر «معجم البلدان» (1/ 467- 468) .(6/80)
وعاش اثنتين وسبعين سنة.
قال ابن ناصر الدّين [1] : كان من الثقات النّقاد.
وفيها أبو القاسم بن الفحّام الصقلي، عبد الرحمن بن أبي بكر، عتيق بن خلف، مصنف «التجريد في القراءات» كان أسند من بقي بالدّيار المصرية في القراءات. قرأ على ابن نفيس وطبقته، ونيّف على التسعين، وتوفي في ذي القعدة.
وفيها أبو طالب اليوسفي، عبد القادر بن محمد بن عبد القادر البغدادي، في ذي الحجة، وهو في عشر التسعين. روى الكتب الكبار عن ابن المذهب، والبرمكي، وكان ثقة، عدلا، رضيا، عابدا. قاله في «العبر» [2] .
وفيها أبو طالب السّميرمي [3] ، علي بن أحمد الوزير، وزر ببغداد للسلطان محمود، وظلم، وفسق، وتجبّر، ومرق، حتّى قتل على يدي الباطنية. قاله في «العبر» أيضا [4] .
وفيها أبو محمد الحريري، صاحب «المقامات» القاسم بن علي بن محمد بن عثمان البصري، الأديب، حامل لواء البلاغة، وفارس النظم والنثر، وكان من رؤساء بلده. روى الحديث عن أبي تمّام محمد بن الحسين وغيره، وعاش سبعين سنة، وتوفي في رجب، وخلّف ولدين: النجم عبد الله، وضياء الإسلام عبيد الله، قاضي البصرة. قاله في «العبر» [5] .
__________
[1] في «التبيان شرح بديعة البيان» (160/ آ) .
[2] (4/ 37- 38) .
[3] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «السّمناني» والتصحيح من «العبر» (4/ 38) و «سير أعلام النبلاء» (19/ 432) .
[4] (4/ 38) وانظر «سير أعلام النبلاء» (19/ 386- 387) .
[5] (4/ 38) .(6/81)
وقال ابن خلّكان [1] : كان أحد أئمة عصره، ورزق الحظوة التامة في عمل المقامات، واشتملت على شيء كثير من كلام العرب، من لغاتها، وأمثالها، ورموز أسرار كلامها، ومن عرفها حقّ معرفتها، استدل بها على فضل هذا الرجل، وكثرة اطلاعه، وغزارة مادته، وكان سبب وضعها ما حكاه ولده أبو القاسم عبد الله، قال: كان أبي جالسا في مسجد بني حرام، فدخل شيخ ذو طمرين، عليه أهبة السفر، رثّ الحال، فصيح الكلام، حسن العبارة، فسألته الجماعة: من أين الشيخ؟ فقال: من سروج، فاستخبروه عن كنيته فقال: أبو زيد، فعمل أبي المقامة المعروفة بالحرامية، وهي الثامنة والأربعون، وعزاها إلى أبي زيد المذكور، واشتهرت عنه [2] فبلغ خبرها الوزير شرف الدّين أنو شروان بن خالد بن محمد القاشاني، وزير الإمام المسترشد بالله، فلما وقف عليها أعجبته، فأشار إلى والدي أن يضم إليها غيرها، فأتمها خمسين، وإلى الوزير المذكور أشار الحريري في خطبة المقامات بقوله: فأشار من إشارته حكم، وطاعته غنم، إلى أن أنشئ مقامات أتلو فيها تلو البديع، وإن لم يدرك الظالع شأو الضليع. فهذا كان مستنده في نسبها إلى أبي زيد السروجي.
وذكر القاضي جمال الدّين بن الحسن بن علي الشيباني القفطي وزير حلب، في كتابه المسمى «إنباه الرواة على أنباء [3] النحاة» [4] أن أبا زيد المذكور اسمه المطهّر بن سلّار كان [5] بصريا [6] ، نحويا، لغويا، صحب
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (4/ 63- 68) .
[2] لفظة «عنه» لم ترد في «وفيات الأعيان» الذي بين يدي.
[3] في «آ» و «ط» : «ألباب» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[4] انظر «إنباه الرواة على أنباء النحاة» (3/ 276) ترجمة المطهر بن سلار.
[5] لفظة «كان» لم ترد في «آ» .
[6] في «آ» و «ط» : «بصيرا» وما أثبتناه من «إنباه الرواة» و «وفيات الأعيان» .(6/82)
الحريري المذكور، واشتغل عليه بالبصرة وتخرّج به، وروى عنه القاضي أبو الفتح محمد بن أحمد بن المندائيّ [1] الواسطي ملحة الإعراب وذكر أنه سمعها منه عن الحريري، وقال: قدم علينا واسط سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة، فسمعنا منه، وتوجه منها مصعدا إلى بغداد، فوصلها وأقام بها مدة يسيرة، وتوفي بها، وكذا ذكره السمعاني في «الذيل» والعماد في «الخريدة» وأما تسميته الراوي [لها] بالحارث بن همّام، فإنما عنى به نفسه وهو مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم: «كلّكم حارث وكلّكم همّام» [2] فالحارث الكاسب، والهمّام الكثير الاهتمام، وما من شخص إلّا وهو حارث وهمّام، لأنّ كل أحد كاسب ومهتم بأموره.
وقد اعتنى بشرحها خلق كثير، فمنهم: من طوّل ومنهم من اختصر.
ورأيت في بعض المجاميع أن الحريري لما عمل «المقامات» عملها أربعين مقامة، وحملها من البصرة إلى بغداد، وادعاها فلم يصدقه جماعة من أدباء بغداد، وقالوا: إنها ليست من تعليقه [3] بل هي لرجل مغربي من أهل البلاغة، مات بالبصرة، ووقعت أوراقه إليه فادعاها، فاستدعاه الوزير إلى الديوان، وسأله عن صناعته، فقال: أنا رجل منشئ، فاقترح عليه إنشاء رسالة في واقعة عيّنها، فانفرد في ناحية من الديوان، وأخذ الدواة والورقة،
__________
[1] في «آ» و «ط» : «المندالي» وهو خطأ، والتصحيح من «إنباه الرواة» و «وفيات الأعيان» .
[2] لا يعرف بهذا اللفظ، ذكره العجلوني في «كشف الخفاء» رقم (1945) وقال: قال- يعني ابن الدّيبع- في «التمييز» : ليس بحديث، ويقرب منه «أصدق الأسماء حارث وهمّام» وقال النجم تبعا ل «المقاصد» : ذكره الحريري في صدر «مقاماته» وجعله مقولة، والوارد ما عند البخاري في «الأدب المفرد» وأبي داود، والنسائي عن أبي وهب الجشمي، وكانت له صحبة: «تسموا بأسماء الأنبياء، وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمّام، وأقبحها حرب ومرة» : وإنما كان «حارث وهمّام» أصدق الأسماء لأن الحارث الكاسب، والهمّام الذي يهيم مرة بعد أخرى، وكل الناس لا ينفك عن هذين، والله أعلم.
[3] في «وفيات الأعيان» : «إنها ليست من تصنيعه» .(6/83)
ومكث زمانا فلم يفتح الله عليه بشيء من ذلك، فقام وهو خجلان، وكان في جملة من أنكر دعواه في عملها أبو القاسم علي بن أفلح الشاعر، فلما لم يعمل الحريري الرسالة التي اقترحها الوزير أنشد ابن أفلح:
شيخ لنا من ربيعة الفرس ... ينتف عثنونه من الهوس
أنطقه الله بالمشان كما ... رماه وسط الديوان بالخرس
وكان الحريري يزعم أنه من ربيعة الفرس، وكان مولعا بنتف لحيته عند الفكرة، وكان يسكن في مشان البصرة، فلما رجع إلى بلده عمل عشر مقامات أخر وسيّرها [1] ، واعتذر من عيه وحصره بالديوان، مما لحقه من المهابة.
وللحريري تآليف حسان، منها: «درة الغواص في أوهام الخواص» ومنها «ملحة الإعراب» وشرحها، وله ديوان رسائل، وشعر كثير، غير شعره الذي في «المقامات» فمن ذلك قوله وهو معنى حسن:
قال العواذل ما هذا الغرام به ... أما ترى الشّعر في خدّيه قد نبتا
فقلت والله لو أن المفنّد لي ... تأمّل الرشد في عينيه ما ثبتا
ومن أقام بأرض وهي مجدبة ... فكيف يرحل عنها والرّبيع أتى
وذكر له العماد الكاتب في «الخريدة» :
كم ظباء بحاجر ... فتنت بالمحاجر
ونفوس نفائس ... خدرت بالمخادر
وتثنّ لخاطر ... هاج وجدا لخاطري
وعذار لأجله ... عاذلي فيه [2] عاذري
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «وسيرهن» .
[2] في «وفيات الأعيان» : «عاد» .(6/84)
وشجون تضافرت [1] ... عند كشف الضّفائر
ويحكى أنه كان ذميما قبيح المنظر، فجاءه شخص غريب يزوره ويأخذ عنه شيئا، فلما رآه استزرى شكله، ففهم الحريري ذلك منه، فلما التمس منه أن يملي عليه، قال له: اكتب:
ما أنت أول سار غرّه قمر ... ورائد أعجبته خضرة الدّمن
فانظر [2] لنفسك غيري إنني رجل ... مثل المعيديّ فاسمع بي ولا ترني
فخجل الرجل منه وانصرف عنه.
وكانت ولادة الحريري في سنة ست وأربعين وأربعمائة. وتوفي بالبصرة في سكة بني حرام، وخلّف ولدين.
قال أبو منصور الجواليقي: أجازني «المقامات» نجم الدّين عبد الله، وقاضي قضاة البصرة ضياء الإسلام عبيد الله، عن أبيهما منشئها.
والمشان: بليدة فوق البصرة، كثيرة النخل، موصوفة بشدة الوخم [3] ، وكان أهل الحريري منها، ويقال: إنه كان له بها ثمانية عشر ألف نخلة، وأنه كان من ذوي اليسار. انتهى ما أورده ابن خلّكان ملخصا.
ويحكى أن الحريريّ جاءه رجل يقرأ عليه «مقاماته» فلما وصل إلى قوله:
يا أهل ذا المغني وقيتم شرّا ... ولا لقيتم ما بقيتم ضرّا
قد دفع اللّيل الذي اكفهرّا ... إلى حماكم [4] شعثا مغبرّا
[5]
__________
[1] في «آ» و «ط» : «تظافرت» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» .
[2] في «وفيات الأعيان» : «فاختر» .
[3] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «الرخم» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[4] في نسخة «المقامات المطبوعة التي بين يدي» : «ذراكم» .
[5] البيتان في «مقامات الحريري» ص (32- 33) طبعة البابي الحلبي.(6/85)
فصحفها «سغبا معترّا» فقال له الحريري الرواية: «شعثا مغبرّا» ولكن والله لولا أني كتبت خطي على أكثر من خمسمائة نسخة، وطارت في الآفاق لأصلحت البيت، وجعلته كما أنشدته أنت، فإن الطارق ليلا المناسب له أن يكون «سبغا معترّا» لا «شعثا مغبرّا» وعكسه الآتي نهارا.
وبالجملة فالشيخ- رحمه الله تعالى- كان أعجوبة الدّهر ونادرة الزمان، فرحمه الله تعالى وأجزل له الغفران، آمين.
وفيها الدّقّاق أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد الأصبهاني الحافظ الرحّال، عن ثمانين سنة. روى عن عبد الله بن شبيب الخطيب، والباطرقاني، وعبد الرحمن بن أحمد الرّازي [1] ، وعني بهذا الفن، وكتب عمّن دبّ ودرج، وكان محدّثا، أثريا، فقيرا، متقللا. توفي في شوال.
__________
[1] تحرفت في «آ» إلى «المرارة» وفي «ط» إلى «المراري» والتصحيح من «العبر» (4/ 39) و «سير أعلام النبلاء» (19/ 474) .(6/86)
سنة سبع عشرة وخمسمائة
في أولها التقى الخليفة المسترشد بالله، ودبيس الأسدي، وكان دبيس قد طغى وتمرّد، ووعد عسكره بنهب بغداد، فجرد المسترشد يومئذ سيفه، ووقف على تلّ، فانهزم جمع دبيس، وقتل خلق منهم، وقتل من جيش الخليفة نحو العشرين، وعاد مؤيدا منصورا. وذهب دبيس فعاث ونهب، وقتل بنواحي البصرة.
وفيها توفي ابن الطّيوري أبو سعد، أحمد بن عبد الجبّار الصيرفي، ببغداد، في رجب، عن ثلاث وثمانين سنة، وكان صالحا أكثر بإفادة أخيه المبارك، وروى عن ابن غيلان، والخلّال، وأجاز له الصّوري، وأبو علي الأهوازي.
وفيها ابن الخيّاط الشاعر المشهور أبو عبد الله أحمد بن محمد بن علي بن يحيى بن صدقة التّغلبي [1] الدمشقي الكاتب، كان من الشعراء المجيدين، طاف البلاد، وامتدح الناس، ودخل بلاد العجم، وامتدح بها، ولما اجتمع بأبي الفتيان بن حيّوس، الشاعر بحلب، وعرض عليه شعره، قال: قد نعاني هذا الشاب إلى نفسي، فقلما نشأ ذو صناعة مهر فيها إلا وكان دليلا على موت الشيخ من أبناء جنسه.
__________
[1] تصحفت في في «آ» و «ط» و «المنتخب» إلى «الثعلبي» والتصحيح من «وفيات الأعيان» (1/ 145) و «العبر» (4/ 39) و «سير أعلام النبلاء» (19/ 476) .(6/87)
وشعره في الذّروة العليا، ولو لم يكن له إلّا قصيدته البائية لكفاه، فكيف وأكثر قصائده غرر، وهي:
خذا من صبا نجد أمانا لقلبه ... فقد كاد ريّاها يطير بلبّه
وإياكما ذاك النّسيم فإنه ... متى هبّ كان الوجد أيسر خطبه
خليليّ لو أحببتما لعلمتما ... محلّ الهوى من مغرم القلب صبّه
تذكّر والذّكرى تشوق وذو الهوى ... يتوق ومن يعلق به الحبّ يصبه
غرام على يأس الهوى ورجائه ... وشوق على بعد المزار وقربه
وفي الرّكب مطويّ الضلوع على جوى ... متى يدعه داعي الغرام يلبّه
إذا خطرت من جانب الرمل نفحة ... تضمّن منها داءه دون صحبه
ومحتجب بين الأسنّة معرض ... وفي القلب من إعراضه مثل حجبه
أغار إذا آنست في الحيّ أنّة ... حذارا وخوفا أن تكون لحبّه
وهي طويلة.
وله بيتان من قصيدة:
وبالجزع حيّ كلما عنّ ذكرهم ... أمات الهوى مني فؤادا وأحياه
تمنّيتهم [1] بالرقمتين ودارهم ... بوادي الغضا يا بعد ما أتمنّاه
قال صاحب «العبر» [2] : يعرف ابن الخياط بابن سني الدولة [3] الطرابلسي، عاش سبعا وستين سنة، وكتب أولا لبعض الأمراء، ثم مدح الملوك والكبار، وبلغ في النظم الذّروة العليا. أخذ يحدّث عن أبي الفتيان محمد بن حيّوس، وأخذ عنه ابن القيسراني.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «تمنيهم» والتصحيح من «المنتخب» و «وفيات الأعيان» .
[2] (4/ 39- 40) .
[3] في «آ» و «ط» و «المنتخب» (107/ آ) : «سناء الدولة» والتصحيح من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» .(6/88)
قال السّلفي: كان شاعر الشام في زمانه، قد اخترت من شعره مجلّدة لطيفة فسمعتها منه.
قال ابن القيسراني: وقّع الوزير هبة الله بن بديع لابن الخيّاط مرّة بألف دينار، توفي في رمضان بدمشق.
وفيها حمزة بن العبّاس العلوي أبو محمد الأصبهاني الصوفي. روى عن أبي الطاهر بن عبد الرّحيم، وتوفي في جمادى الأولى.
وفيها ظريف بن محمد بن عبد العزيز أبو الحسن الحيري النيسابوري. روى عن أبي حفص بن مسرور وطائفة، وكان ثقة من أولاد المحدّثين. توفي في ذي القعدة، وله ثمان وثمانون سنة.
وفيها أبو محمد الشّنتريني- بفتح المعجمة أوله والفوقية، وسكون النون وكسر الراء، نسبة إلى شنترين، مدينة من عمل باجة. قاله السيوطي [1] .
وقال ابن خلّكان [2] : هي بلدة في غرب جزيرة الأندلس- عبد الله بن محمد بن سارة [3] البكري، الشاعر المفلق اللغوي، وله ديوان معروف.
قال ابن خلّكان [4] : كان شاعرا ماهرا، ناظما ناثرا، إلّا أنه كان قليل الحظ، إلّا من الحرمان لم يسعه مكان، ولا اشتمل عليه سلطان، ذكره صاحب «قلائد العقيان» وأثنى عليه ابن بسام في «الذخيرة» وقال: إنه تتبع المحقرات، وبعد جهد ارتقى إلى كتابة بعض الولاة، فلما كان من خلع
__________
[1] انظر «لب اللباب في تحرير الأنساب» ص (157) مصورة مكتبة المثنى ببغداد.
[2] انظر «وفيات الأعيان» (3/ 95) .
[3] ويقال: «ابن صارة» أيضا. انظر «سير أعلام النبلاء» (19/ 459) .
[4] انظر «وفيات الأعيان» (3/ 93- 95) .(6/89)
الملوك ما كان، أوى إلى إشبيلية أوحش حالا من الليل وأعثر [1] انفرادا من سهيل، وتبلّغ بالوراقة، وله منها جانب، وبها بصر ثاقب، فانتحلها على كساد سوقها، وخلو [2] طريقها، وفيها يقول:
أمّا الوارقة فهي أنكد [3] حرفة ... أوراقها وثمارها الحرمان
شبّهت صاحبها بصاحب إبرة ... تكسو العراة وجسمها عريان
وله أيضا:
ومعذّر راقت [4] حواشي حسنه ... فقلوبنا وجدا عليه رقاق
لم يكس عارضة السواد وإنما ... نفضت عليه سوادها الأحداق
وله في غلام أزرق العينين:
ومهفهف أبصرت في أطواقه [5] ... قمرا بأطراف [6] المحاسن يشرق
تقضي على المهجات منه صعدة ... متألّق فيها سنان أزرق
وأورد له صاحب [كتاب] «الحديقة» :
أسنى ليالي الدّهر عندي ليلة ... لم أخل فيها الكأس من أعمالي
فرّقت فيها بين جفني والكرى ... وجمعت بين القرط والخلخال
وله في الزهد:
يا من يصيخ إلى داعي السّفاه [7] وقد ... نادى به النّاعيان: الشّيب والكبر
__________
[1] كذا في «آ» و «ط» و «المنتخب» : «وأعثر» وفي «وفيات الأعيان» : «وأكثر» .
[2] في «آ» و «ط» و «المنتخب» : «وخلق» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[3] في «وفيات الأعيان» : «أيكة» .
[4] في «وفيات الأعيان» : «رقّت» .
[5] في «آ» و «ط» و «المنتخب» : «في أطرافه» وفي «وفيات الأعيان» : «في أطواقه» وهو ما أثبته.
[6] في «وفيات الأعيان» : «بآفاق» .
[7] في «آ» و «ط» و «المنتخب» : «السقاة» والمثبت من «وفيات الأعيان» .(6/90)
إن كنت لا تسمع الذّكرى ففيم ثوى ... في رأسك الواعيان: السّمع والبصر
ليس الأصمّ ولا الأعمى سوى رجل ... لم يهده الهاديان: العين والأثر
لا الدّهر يبقى ولا الدّنيا ولا الفلك ال ... أعلى ولا النّيّران الشمس والقمر
ليرحلنّ عن الدّنيا وإن كرها ... فراقها الثّاويان: البدو والحضر
وله ديوان شعر أكثره جيد، وكانت وفاته بمدينة المريّة من جزيرة الأندلس.
وفيها أبو نعيم عبيد الله بن أبي علي الحسن بن أحمد الحداد الأصبهاني، الحافظ مؤلف «أطراف الصحيحين» كان عجبا في الإحسان إلى الرحّالة وإفادتهم، مع الزهد، والعبادة، والفضيلة التامة. روى عن عبد الوهاب بن مندة، ولقي بنيسابور أبا المظفر موسى بن عمران وطبقته، وبهراة العميري، وببغداد النّعالي [1] ، توفي في جمادى الأولى، عن أربع وخمسين سنة.
وفيها أبو سعد محمد بن أحمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن الحسن بن داود الأصبهاني [2] ، ويعرف بالخيّاط الحنبلي، من أهل أصبهان.
قدم بغداد واستوطنها مدة طويلة، وسمع من مشايخها، وانتخب وعلّق، وكتب بخطه كثيرا، وحصّل الأصول والنّسخ، وجمع كثيرا جدا من الحديث، والفقه، وأنفذه إلى أصبهان، وأدركه أجله ببغداد. حدّث ببغداد عن أبي القاسم بن مندة إجازة، وعن غيره سماعا، وكتب عنه ابن عامر العبدريّ [3] وابن ناصر.
__________
[1] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «المنعالي» والتصحيح من «العبر» (4/ 41) و «سير أعلام النبلاء» (19/ 486) .
[2] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 173) .
[3] في «آ» و «ط» : «الغندري» وهو تصحيف، والتصحيح من «ذيل طبقات الحنابلة» .(6/91)
قال ابن النجار: كان من أهل السّنّة المحقّقين، المبالغين، المشدّدين، ظاهر الصلاح، قليل المخالطة للناس. كان حنبليا متعصبا لمذهبه، مشددا في ذلك.
توفي يوم الخميس سادس عشري ذي الحجة، ودفن بباب حرب، ولم يخلّف وارثا ولم يتزوج قطّ.
وفيها أبو الغنائم بن المهتدي بالله محمد بن محمد بن أحمد [1] الهاشمي الخطيب. روى عن أبي الحسن القزويني، والبرمكي، وطائفة، وتوفي في ربيع الأول.
وفيها أبو الحسن الزّعفراني، محمد بن مرزوق البغدادي، الحافظ التاجر، أكثر عن ابن المسلمة، وأبي بكر الخطيب، وسمع بدمشق [2] ، ومصر، وأصبهان، وتوفي في صفر، عن خمس وسبعين سنة، وكان متقنا ضابطا، يفهم ويذاكر.
وفيها أبو صادق، مرشد بن يحيى بن القاسم المديني ثم المصري.
روى عن ابن حمّصة، وأبي الحسن الطّفّال، وعلي بن محمد الفارسي، وعدة، وكان أسند من بقي بمصر، مع الثقة والخير، توفي في ذي القعدة، عن سنّ عالية.
__________
[1] «ابن محمد» الثانية سقطت من «العبر» طبع الكويت (4/ 41) وفي «العبر» (2/ 409) طبع بيروت: «محمد بن أحمد بن محمد» وهو خطأ. وانظر «سير أعلام النبلاء» (19/ 469) و «مرآة الجنان» (3/ 221) .
[2] لفظة «بدمشق» سقطت من «آ» وأثبتها من «ط» و «العبر» .(6/92)
سنة ثمان عشرة وخمسمائة
فيها أخذت الفرنج صور بالأمان، وبقيت في أيديهم إلى سنة تسعين وستمائة [1] .
وفيها توفي أبو الفضل، أحمد بن محمد بن الفضل بن عبد الخالق، المعروف بابن الخازن، الكاتب الشاعر، الدّينوري الأصل، البغدادي المولود والوفاة، كان فاضلا نادر الخط [2] ، أوحد وقته فيه، وهو والد أبي الفتح نصر الله الكاتب المشهور.
ومن شعر أحمد صاحب الترجمة قوله:
من يستقم يحرم مناه ومن يزغ ... يختصّ بالإسعاف والتمكين
انظر إلى الألف استقام ففاته ... عجم وفاز به اعوجاج النّون
قال ابن خلّكان [3] : وجل شعره مشتمل على معان حسان.
وكانت وفاته في صفر سنة ثمان عشرة وخمسمائة.
وكان ولده أبو الفتح نصر الله المذكور حيّا في سنة خمس وسبعين وخمسمائة، ولم أقف على تاريخ وفاته. انتهى.
__________
[1] انظر «دول الإسلام» للذهبي (2/ 44) .
[2] في «وفيات الأعيان» (1/ 149) مصدر المؤلف: «نادرة في الخط» .
[3] انظر «وفيات الأعيان» (1/ 151) .(6/93)
وفيها أبو الفضل أحمد بن محمد الميداني النيسابوري، الأديب اللغوي، اختص بصحبة الواحدي المفسر، وقرأ عليه، وله في اللغة تصانيف مفيدة، منها كتاب «الأمثال» لم يعمل مثله [1] ، وكتاب «السامي في الأسامي» وسمع الحديث، وكان ينشد:
تنفّس صبح الشّيب في ليل عارضي ... فقلت عساه يكتفي بعذاري
فلما فشا عاتبته فأجابني ... ألا هل [2] ترى صبحا بغير نهار.
قاله ابن الأهدل.
وقال ابن خلّكان [3] : توفي يوم الأربعاء خامس عشري شهر رمضان، سنة ثمان عشرة وخمسمائة، رحمه الله، بنيسابور، ودفن على باب ميدان زياد.
والميداني: بفتح الميم، وسكون المثناة من تحتها، وفتح المهملة، وبعد الألف نون، هذه النسبة إلى ميدان زياد، وهي محلّة في نيسابور.
وابنه أبو سعد سعيد بن أحمد، كان أيضا فاضلا ديّنا، وله كتاب «الأسمى في الأسماء» وتوفي سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، رحمه الله. انتهى.
وفيها داود ملك الكرج، الذي أخذ تفليس من قريب، وكان عادلا في الرعية، يحضر [يوم] الجمعة ويسمع الخطبة ويحترم المسلمين [4] .
__________
[1] قال الصفدي في «الوافي بالوفيات» (7/ 326) : وفيه ستة آلاف مثل ... قال: ولما صنف «الأمثال» وقف عليه الزمخشري فحسده، وزاد في لفظة «الميداني» نونا قبل الميم فصارت «النميداني» وهو بالفارسية الذي لا يعرف شيئا، فعمد المصنف إلى تصنيف الزمخشري وزاد في نسبته وعمل الميم نونا، فصارت الزنخشري، وهو بالفارسية بائع زوجته.
[2] في «آ» و «ط» و «المنتخب» و «مرآة الجنان» (3/ 223) : «أيا» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» و «الوافي بالوفيات» .
[3] انظر «وفيات الأعيان» (1/ 148) .
[4] انظر «العبر» (4/ 42) وما بين حاصرتين زيادة منه.(6/94)
وفيها الحسن بن صبّاح [1] صاحب الألموت، وزعيم الإسماعيلية، وكان داهية، ماكرا، زنديقا، من شياطين الإنس.
وفيها أبو الفتح سلطان بن إبراهيم بن المسلم المقدسي الشافعي.
الفقيه.
قال السّلفي: كان من أفقه الفقهاء بمصر، عليه تفقه أكثرهم.
وقال الذهبي [2] : أخذ عن نصر المقدسي، وسمع من أبي بكر الخطيب وجماعة، وعاش ستا وسبعين سنة. توفي في هذه السنة أو في التي تليها.
وقال ابن شهبة [3] : تفقّه على نصر المقدسي.
قال الإسنوي [4] : وعلى سلامة المقدسي، وبرع في المذهب، ودخل مصر بعد السبعين، وسمع بها، وكان من أفقه الفقهاء بمصر، وعليه قرأ أكثرهم. وروى عن السّلفي وغيره وصنف كتابا في أحكام التقاء الختانين.
قال ابن نقطة: توفي سنة خمس وثلاثين. انتهى.
وفيها أبو بكر غالب بن عبد الرحمن بن غالب بن تمّام بن عطيّة المحاربي الغرناطي الحافظ. توفي في جمادى الآخرة بغرناطة، عن سبع وسبعين سنة. روى عن الأندلسيين [5] ، ورحل سنة تسع وستين، وسمع «الصحيحين» بمكّة.
__________
[1] في «العبر» بطبعتيه «الحسين بن الصباح» وهو خطأ فيصحح، وانظر «الكامل في التاريخ» (10/ 625) و «ميزان الاعتدال» (1/ 500) و «الأعلام» (2/ 193) .
[2] انظر «العبر» (4/ 43) .
[3] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 312) .
[4] انظر «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 422) وقد نقل المؤلف عنه بتصرف.
[5] في «آ» و «ط» : «عن الأندلسي» والتصحيح من «العبر» (4/ 43) .(6/95)
قال ابن بشكوال [1] : كان حافظا للحديث وطرقه وعلله، عارفا برجاله ذاكرا لمتونه ومعانيه، قرأت بخط بعض أصحابي أنه كرر « [صحيح] البخاري» سبعمائة مرة، وكان أديبا شاعرا ديّنا لغويا. قاله في «العبر» [2] .
__________
[1] انظر «الصلة» (2/ 458) وقد نقل المؤلف عنه بتصرف واختصار تبعا للذهبي في «العبر» .
[2] (4/ 43) .(6/96)
سنة تسع عشرة وخمسمائة
فيها توفي الإمام الحافظ ألب أرسلان أبو علي الحسن بن الحسين الزّركراني [1] . كان إماما حافظا مؤتمنا، وعاش مائة سنة وتسعا وثلاثين سنة.
قاله ابن ناصر الدّين [2] .
وفيها أبو الحسن بن الفرّاء الموصلي ثم المصري علي بن الحسين ابن عمر. راوي «المجالسة» عن عبد العزيز بن الضرّاب، وقد روى عن كريمة وطائفة، وانتخب عليه السّلفي مائة جزء، مولده سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة.
وفيها ابن عيذون [3] الهذلي التونسي أبو الحسن علي بن عبد الجبّار، لغوي المغرب.
وفيها أبو عبد الله بن البطائحي محمد بن المأمون، وزير الديار المصرية للآمر. كان أبوه جاسوسا للمصريين فمات وربي محمد هذا يتيما، فصار يحمل في السوق، فدخل مع الحمّالين إلى دار أمير الجيوش، فرآه شابا ظريفا فأعجبه، فاستخدمه مع الفراشين، ثم تقدم عنده، ثم آل أمره إلى
__________
[1] قال ابن ناصر الدّين في «التبيان شرح بديعة البيان» : «وزركران من قرى سمرقند» وانظر «معجم البلدان» (3/ 137) .
[2] في «التبيان شرح بديعة البيان» (160/ آ- 160/ ب) وقد نقل المؤلف عنه بتصرف.
[3] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «ابن عبدون» والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» (19/ 531) .(6/97)
أن ولي الأمر بعده، ثم إنه مالأ أخا الآمر على قتل الآمر [1] ، فأحس الآمر بذلك، فأخذه وصلبه. وكانت أيامه ثلاث سنين.
وفيها أبو البركات بن البخاري- يعني المبخّر- البغدادي [2] المعدّل، هبة الله بن محمد بن علي. توفي في رجب، عن خمس وثمانين سنة. روى عن ابن غيلان، وابن المذهب والتنوخي.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «ثم إنه أخر عامل على قتل الآمر» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» (4/ 45) مصدر المؤلف.
[2] انظر «العبر» (4/ 45) .(6/98)
سنة عشرين وخمسمائة
فيها توفي أبو الفتوح الغزّالي أحمد بن محمد الطّوسي الواعظ، شيخ مشهور فصيح مفوّه، صاحب قبول تامّ لبلاغته وحسن إيراده وعذوبة لسانه. وهو أخو الشيخ أبي حامد. وعظ مرّة عند السلطان محمود، فأعطاه ألف دينار. ولكنه كان رقيق الديانة متكلّما في عقيدته، حضر يوسف الهمذاني عنده، فسئل عنه فقال: مدد كلامه شيطانيّ لا رباني. ذهب دينه والدنيا لا تبقى له. قاله في «العبر» [1] .
وقال ابن قاضي شهبة [2] : كان فقيها، غلب عليه الوعظ والميل إلى الانقطاع والعزلة، وكان صاحب عبارات وإشارات، حسن النظر، درّس بالنظامية ببغداد لما تركها أخوه زهدا فيها، واختصر «الأحياء» في مجلد سمّاه «لباب الإحياء» وله مصنف آخر سمّاه «الذخيرة في علم البصيرة» توفي بقزوين سنة عشرين وخمسمائة، وقد تكلّم فيه غير واحد وجرّحوه. انتهى بحروفه.
وذكره ابن النجار في «تاريخ بغداد» [3] فقال: كان قد قرأ القارئ بحضرته قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ 39: 53 [الزمر: 53] الآية، فقال: شرّفهم بياء الإضافة إلى نفسه، بقوله يا عبادي، ثم أنشد:
__________
[1] (4/ 45- 46) .
[2] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 309- 310) .
[3] انظر «المستفاد من ذيل تاريخ بغداد» ص (186) وقد نقل المؤلف عنه بتصرف.(6/99)
وهان عليّ اللّوم في جنب حبّها ... وقول الأعادي إنه لخليع
أصمّ إذا نوديت باسمي وإنني ... إذا قيل لي يا عبدها لسميع
انتهى.
وفيها آق سنقر البرسقي، قسيم الدولة، ولي إمرة الموصل والرحبة للسلطان محمود، ثم ولي بغداد، ثم سار إلى الموصل ثم كاتبه الحلبيون، فملك [1] حلب ودفع عنها الفرنج، قتلته الإسماعيلية وكانوا عشرة، وثبوا عليه يوم جمعة بالجامع في ذي القعدة، وكان ديّنا عادلا عالي الهمّة. قتل خلقا من الإسماعيلية.
وفيها أبو بحر الأسدي سفيان بن العاص الأندلسي، محدّث قرطبة.
روى عن ابن عبد البرّ، وأبي العبّاس العذري، وأبي الوليد الباجي، وكان من جلّة [2] العلماء. عاش ثمانين سنة.
وفيها صاعد بن سيّار أبو العلاء الإسحاقي- نسبة إلى إسحاق جدّ- الهروي الدهّان. قرأ عليه ابن ناصر ببغداد «جامع الترمذي» عن أبي عامر الأزدي.
قال السمعاني [3] : كان حافظا متقنا، كتب الكثير، وجمع الأبواب، وعرف الرّجال.
وقال ابن ناصر الدّين [4] : كان حافظا، متقنا، مكثرا، حسن الحال.
__________
[1] في «العبر» : «فتملك» .
[2] في «آ» : «جملة» .
[3] قلت: ذكر هذا النقل الذهبي في «العبر» (4/ 47) وفي «سير أعلام النبلاء» (19/ 590) بزيادة «واسع الرواية» وقد وهم محققه الأستاذ الشيخ شعيب الأرناؤوط حفظه الله، فأحال على «الأنساب» (1/ 223) ولم يصب في ذلك، فإن هذا النقل أخذه الذهبي عن «الذيل» وليس عن «الأنساب» وما جاء في «الأنساب» إنما هو أول النقل فقط.
[4] في «التبيان شرح بديعة البيان» (160/ ب) .(6/100)
وفيها أبو محمد بن عتّاب عبد الرحمن بن محمد بن عتّاب القرطبي، مسند الأندلس. أكثر عن أبيه، وعن حاتم الطرابلسي، وأجاز له مكي بن أبي طالب والكبار، وكان عارفا بالقراءات، واقفا على كثير من التفسير، واللغة، والعربية، والفقه، مع الحلم، والتواضع، والزهد، وكانت الرحلة إليه. توفي في جمادى الأولى عن سبع وثمانين سنة.
وفيها أبو الفتح أحمد بن علي بن برهان- بفتح الباء- الشافعي [1] .
ولد ببغداد في شوال، سنة تسع وسبعين وأربعمائة، وتفقه على الغزالي، والشّاشي، وإلكيا [2] الهرّاسي، وبرع في المذهب، وفي الأصول، وكان هو الغالب عليه، وله فيه التصانيف المشهورة، منها «البسيط» و «الوسيط» و «الوجيز» وغيرها. درّس بالنظامية شهرا واحدا، وكان ذكيا يضرب به المثل في حلّ [3] الإشكال.
قال المبارك بن كامل: كان خارق الذكاء، لا يكاد يسمع شيئا إلّا حفظه، ولم يزل يبالغ في الطلب، والتحقيق، وحلّ المشكلات، حتى صار يضرب به المثل في تبحره في الأصول والفروع، وصار علما من أعلام الدّين. قصده الطلاب من البلاد، حتّى صار جميع نهاره وقطعة من ليله يستوعب في الإشتغال وإلقاء الدروس.
توفي سنة عشرين وخمسمائة. كذا قاله ابن خلّكان [4] .
والمعروف أنه توفي سنة ثمان عشرة، قيل: في ربيع الأول، وقيل: في
__________
[1] لفظة «الشافعي» لم ترد في «آ» و «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة.
[2] أقول: ضبطوه بهمزة مكسورة، ولام ساكنة، ثم كاف مكسورة بعدها ياء، ومعناه: الكبير القدر، بلغة الفرس، وهو علي بن محمد بن علي الطبري، الملقب بعماد الدين. كبير علماء الشافعية في عصره. (ع) .
[3] لفظة «حلّ» لم ترد في «آ» .
[4] انظر «وفيات الأعيان» (1/ 99) .(6/101)
جمادى الأولى نقل عنه في «الروضة» [1] في كتاب القضاء أن العامي لا يلزمه التقيد بمذهب [2] معيّن، ورجحه الإمام [3] . قاله جميعه ابن قاضي شهبة [4] .
وفيها أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد المالكيّ، قاضي الجماعة بقرطبة ومفتيها. روى عن أبي علي الغسّاني، وأبي مروان بن سرّاج، وخلق، وكان من أوعية العلم. له تصانيف مشهورة، عاش سبعين سنة. قاله في «العبر» [5] .
وفيها أبو عبد الله محمد بن بركات بن هلال الصّعيدي المصري، النحوي اللغوي، البحر الحبر، وله مائة سنة وثلاثة أشهر. توفي في ربيع الآخر. روى عن عبد العزيز الضرّاب، والقضاعي، وسمع «البخاريّ» من كريمة بمكّة. قاله في «العبر» [6] .
وفيها أبو بكر الطّرطوشي- وطرطوشة من نواحي الأندلس- محمد بن الوليد القرشي الفهري الأندلسي المالكي، المعروف بابن أبي زيد. نزيل الإسكندرية، وأحد الأئمة الكبار. أخذ عن أبي الوليد الباجي، ورحل فأخذ «السنن» [7] عن أبي على التّستري، وسمع ببغداد من رزق الله التميمي وطبقته، وتفقه على أبي بكر الشّاشي.
__________
[1] انظر «روضة الطالبين» للإمام النووي (11/ 117) بتحقيقي بالاشتراك مع زميلي الأستاذ الشيخ شعيب الأرناؤوط، طبع المكتب الإسلامي بدمشق. (ع) .
[2] في «آ» و «ط» و «المنتخب» (107/ ب) : «التقليد لمذهب» وما أثبته من «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة و «طبقات الشافعية» للإسنوي (1/ 208) .
[3] يعني الإمام النووي.
[4] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 307- 309) .
[5] (4/ 47) .
[6] (4/ 47) .
[7] يعني «سنن أبي داود» كما جاء ذلك مبينا في «سير أعلام النبلاء» (19/ 490) .(6/102)
قال ابن بشكوال [1] : كان إماما، عالما، زاهدا، ورعا، [ديّنا] متقشفا، متقللا [من الدنيا] راضيا باليسير.
وقال ابن خلّكان [2] : كان يقول: إذا عرض لك أمران، أمر دنيا وأمر أخرى، فبادر بأمر الأخرى يحصل لك أمر الدنيا والأخرى.
وسكن الشام مدّة، ودرّس بها، وكان كثيرا ما ينشد:
إنّ لله عبادا فطنا ... طلّقوا الدّنيا وخافوا ألفتنا
فكّروا فيها فلمّا علموا ... أنها ليست لحيّ وطنا
جعلوها لجّة واتّخذوا ... صالح الأعمال فيها سفنا
ولما دخل على الأفضل شاهنشاه ابن أمير الجيوش، بسط مئزرا كان معه تحته، وجلس عليه، وكان إلى جانب الأفضل رجل نصراني، فوعظ الأفضل حتّى بكى، وأنشده:
يا ذا الذي طاعته قربة ... وحقّه مفترض واجب
إنّ الذي شرّفت من أجله ... يزعم هذا أنّه كاذب
وأشار إلى النصراني، فأقامه الأفضل من موضعه. وكان الأفضل قد أنزل الشيخ في مسجد شقيق الملك بالقرب من الرصد، وكان يكرهه، فلما طال مقامه [به] ضجر وقال لخادمه: إلى متى نصبر؟ اجمع لي المباح، فجمع له، فأكله ثلاثة أيام، فلما كان عند صلاة المغرب قال لخادمه: رميته الساعة، فلما كان من الغد ركب الأفضل فقتل، وولي بعده المأمون ابن البطائحي، فأكرم الشيخ إكراما كثيرا، وصنّف له كتاب «سراج الملوك» وهو حسن في بابه.
__________
[1] انظر «الصلة» (2/ 575) وما بين حاصرتين مستدرك منه.
[2] انظر «وفيات الأعيان» (4/ 262- 264) .(6/103)
وله غيره. وله طريقة في الخلاف، ومن المنسوب إليه:
إذا كنت في حاجة مرسلا ... وأنت بإنجازها مغرم
فأرسل بأكمه خلّابة ... به صمم أفطس [1] أبكم
ودع عنك كل رسول سوى ... رسول يقال له الدّرهم
وقال الطّرطوشي: كنت ليلة نائما في بيت المقدس، فبينما أنا في جنح الليل، إذ سمعت صوتا حزينا [2] ينشد:
أخوف ونوم إنّ ذا لعجيب ... ثكلتك من قلب فأنت كذوب
أما وجلال الله لو كنت صادقا ... لما كان للإغماض منك نصيب
قال: فأيقظ النوّام وأبكى العيون.
وكانت ولادة الطّرطوشي المذكور سنة إحدى وخمسين وأربعمائة تقريبا، وتوفي ثلث الليل الآخر سادس عشري جمادى الأولى سنة عشرين وخمسمائة بثغر الإسكندرية، وصلى عليه ولده محمد. انتهى ما أورده ابن خلّكان ملخصا.
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «أغطش» .
[2] في «آ» و «ط» : «صوت حزين» وما أثبته من «وفيات الأعيان» مصدر المؤلف.(6/104)
سنة إحدى وعشرين وخمسمائة
فيها توفي أبو السعادات أحمد بن أحمد بن عبد الواحد [1] الهاشمي العبّاسي المتوكلي. شريف صالح خيّر. روى عن الخطيب، وابن المسلمة، وعاش ثمانين سنة. ختم التراويح ليلة سبع وعشرين في رمضان، ورجع إلى منزله فسقط من السطح فمات، رحمه الله تعالى.
وفيها أبو الحسن الدّينوري علي بن عبد الواحد. روى عن القزويني، وأبي محمد الخلّال وجماعة، وهو أقدم شيخ لابن الجوزي. توفي في جمادي الآخرة.
وفيها أبو الحسن بن الفاعوس علي بن المبارك بن علي البغدادي الحنبلي الإسكاف الزاهد. كان يقصّ يوم الجمعة، وللناس فيه عقيدة لصلاحه وتقشّفه وإخلاصه. روى عن القاضي أبي يعلى وغيره، وسمع منه أبو المعمر الأنصاري، وكان يأتي ساقي الماء في مجلس إملائه فيتناول منه ليوهم الحاضرين أنه مفطر وأنه يشرب، ويكون صائما غالبا.
توفي ابن الفاعوس ليلة السبت تاسع عشر شوال وصلّي عليه من الغد بجامع القصر، وكان يوما مشهودا، ودفن قريبا من قبر الإمام أحمد، رضي الله
__________
[1] في «آ» : «ابن عبد الوهاب» وهو خطأ.(6/105)
عنه. وغلّقت في ذلك اليوم أسواق بغداد، وكان أهل بغداد يصيحون في جنازته: هذا يوم سنّيّ حنبليّ، رحمه الله تعالى.
وفيها أبو العزّ القلانسيّ محمد بن الحسين بن بندار الواسطي، مقرئ العراق، وصاحب التصانيف في القراءات. أخذ عن أبي يعلى غلام الهرّاس، وسمع من أبي جعفر بن المسلمة، وفيه ضعف وكلام. توفي في شوال عن خمس وثمانين سنة.
وفيها أبو محمد عبد الله بن محمد البطليوسي- بفتحتين وسكون اللام نسبة إلى بطليوس مدينة بالأندلس- النحوي كان عالما بالآداب واللغات، متبحرا فيها متبحرا في معرفتها وإتقانها، سكن مدينة بلنسية، وكان الناس يجتمعون إليه، ويقرؤون عليه، ويقتبسون منه، وكان حسن التعليم، جيد التفهيم، ثقة، ضابطا، ألّف كتبا نافعة ممتعة، منها كتاب «المثلث» في مجلدين أتى فيه بالعجائب، ودلّ على اطلاع عظيم [1]- فإن مثلثة قطرب في كراسة واحدة، واستعمل فيها الضرورة وما لا يجوز وغلط في بعضها- وله كتاب «الاقتضاب في شرح أدب الكتاب» وشرح «سقط الزند» لأبي العلاء [المعري شرحا استوفى فيه المقاصد، وهو أحسن من شرح أبي العلاء] [2] صاحب «الديوان» وله كتاب في الحروف الخمسة [3] وهي السين والصاد والضاد والظاء والدال، جمع فيه كل غريب، وله كتاب «الحلل في شرح أبيات الجمل» و «الخلل في أغاليط الجمل» أيضا وكتاب «التنبيه على
__________
[1] وقد طبع القسم الأول منه في وزارة الثقافة والإعلام في العراق بتحقيق الدكتور صلاح مهدي الفرطوسي.
[2] ما بين حاصرتين سقط من «آ» وأثبته من «ط» .
[3] واسمه «الفرق بين الحروف الخمسة» وقد نشر أول مرة في مكتبة المتنبي في القاهرة عام 1402 هـ بتحقيق الدكتور حمزة عبد الله النشرتي، وهي نشرة سقيمة كثيرة الخطأ، ثم نشر نشرة جيدة في دار المأمون للتراث بدمشق بتحقيق الأستاذ عبد الله الناصري.(6/106)
الأسباب الموجبة لاختلاف الأمة» وكتاب «شرح الموطأ» وغير ذلك. وقيل:
إنه لم يخرج من المغرب. وبالجملة فكل شيء تكلم فيه ففي غاية الجودة، وله نظم حسن، فمن ذلك قوله:
أخو العلم حيّ خالد بعد موته ... وأوصاله تحت التّراب رميم
وذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى ... يظنّ من الأحياء وهو عديم
وله في طول الليل:
أرى [1] ليلنا شابت نواصيه كبرة [2] ... كما شبت أم في الجوّ روض بهار
كأنّ الليالي السّبع في الجوّ جمّعت ... ولا فصل فيما بينها لنهار
ومولده سنة أربع وأربعين وأربعمائة بمدينة بطليوس، وتوفي في منتصف رجب بمدينة بلنسية.
__________
[1] في «وفيات الأعيان» (3/ 97) : «ترى» .
[2] في «آ» و «ط» : «كرة» وما أثبته من «وفيات الأعيان» (3/ 97) .(6/107)
سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة
فيها توفي طغتكين أتابك ظهير الدّين، وكان من أمراء تتش السلجوقي بدمشق، فزوّجه بأم ولده دقاق ثم إنه صار أتابك دقاق، ثم تملّك دمشق، وكان شهما، شجاعا، مهيبا، مدبرا، سائسا، له مواقف مشهورة [1] مع الفرنج توفي في صفر، ودفن بتربته قبل المصلّى. وملك بعده ابنه تاج الملوك بوري، فعدل ثم ظلم. قاله في «العبر» [2] .
وفيها أبو محمد الشّنتريني الإشبيلي الحافظ، عبد الله بن أحمد.
روى «الصحيح» [3] عن ابن منظور [4] ، عن أبي ذرّ. وسمع من حاتم بن محمد وجماعة.
قال ابن بشكوال [5] : كان حافظا للحديث وعلله، عارفا برجاله، وبالجرح والتعديل، ثقة، كتب الكثير، واختص بأبي علي الغسّاني، وله تصانيف في الرجال.
توفي في صفر، عن ثمان وسبعين سنة.
__________
[1] كذا في «ط» و «العبر» : «مشهورة» وفي «آ» : «مشهودة» بالدال.
[2] (4/ 51) .
[3] يعني «صحيح البخاري» كما جاء ذلك مبينا في «سير أعلام النبلاء» (19/ 578) .
[4] تحرف في «ط» إلى «ابن منصور» .
[5] انظر «الصلة» (1/ 293) .(6/108)
وفيها الوزير أبو علي الحسن بن علي بن صدقة جلال الدّين، وزير المسترشد، كان ذا حزم وعقل ودهاء ورأي وأدب وفضل.
وفيها أبو القاسم النشادري [1] موسى بن أحمد بن محمد النشادري [1] ، الفقيه الحنبلي. كان يذكر أنه من أولاد أبي ذرّ الغفاري، رضي الله عنه.
سمع الحديث الكثير، وقرأ بالروايات، وتفقّه على أبي الحسن بن الزّاغوني وناظر.
قال ابن الجوزي [2] : رأيته يتكلم كلاما حسنا.
توفي رابع رجب، ودفن بمقبرة الإمام أحمد.
__________
[1] في «ط» : «النشاوري» وفي «المنتظم» لابن الجوزي: «السّامري» وما جاء في «آ» موافق لما في «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 176) و «المنهج الأحمد» (2/ 274) .
[2] انظر «المنتظم» (10/ 10) .(6/109)
سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة
فيها قتل بدمشق نحو ستة آلاف ممن كان يرمى بعقيدة الإسماعيلية، وكان قد دخل الشام بهرام الأسدآباذي وأضل خلقا، ثم إن طغتكين ولّاه بانياس، فكان سيئة من سيئات طغتكين، وأقام بهرام له داعيا بدمشق، فكثر أتباعه بدمشق، وملك هو عدة حصون بالشام، منها القدموس. وسلّم بهرام بانياس للفرنج.
وفيها توفي جعفر بن عبد الواحد أبو الفضل الثقفي الأصبهاني، الرئيس. روى عن ابن ريذة [1] وطائفة، وعاش تسعا وثمانين سنة.
وفيها المردغاني، الوزير كمال الدّين طاهر بن سعد، وزير تاج الملوك بوري بن طغتكين، قتله وعلّق رأسه على القلعة.
وفيها أبو سعد النّسفي عبد الله بن أبي المظفّر بن أبي نعيم بن أبي تمّام بن الحارث، القاضي الحافظ. أحد حفّاظ سمرقند وما والاه. قاله ابن ناصر الدّين [2] .
وفيها أبو الحسن عبيد الله بن محمد بن الإمام أبي بكر البيهقي.
__________
[1] تحرفت في «آ» إلى «ابن زيدة» وفي «العبر» بطبعتيه إلى «ابن مندة» والصواب ما جاء في «ط» وانظر «التحبير في المعجم الكبير» (1/ 160) و «سير أعلام النبلاء» (19/ 527) .
[2] في «التبيان شرح بديعة البيان» (160/ ب) وقد ترجم له هناك بأطول مما هنا.(6/110)
سمع الكتب من جدّه، ومن أبي يعلى الصابوني، وجماعة، وحدّث ببغداد، وكان قليل الفضيلة، توفي في جمادى الأولى، وله أربع وسبعون سنة.
وفيها يوسف بن عبد العزيز أبو الحجّاج الميورقيّ [1] ، الفقيه العلّامة. نزيل الإسكندرية، وأحد الأئمة الكبار، تفقّه ببغداد على إلكيا الهرّاسي، وأحكم الأصول والفروع، وروى «البخاري» عن واحد عن أبي ذرّ، و «مسلما» عن أبي عبد الله الطبري، وله «تعليقة» في الخلاف.
توفي في آخر السنة.
قال السّلفي: حدّث ب «الترمذي» وخلّط في إسناده.
__________
[1] تحرفت نسبته في «آ» و «ط» إلى «المنورقي» والتصحيح من «العبر» (4/ 54) و «النجوم الزاهرة» (5/ 235) .(6/111)
سنة أربع وعشرين وخمسمائة
فيها كما قال في «العبر» [1] : ظهرت ببغداد عقارب طيّارة، قتلت جماعة أطفال.
وفيها أبو إسحاق الغزّيّ إبراهيم بن عثمان، شاعر العصر، وحامل لواء القريض، وشعره كثير سائر متنقل في بلد الجبال، وخراسان. وتوفي بناحية بلخ، وله ثلاث وثمانون سنة. قاله في «العبر» [2] .
وقال ابن النجّار في «تاريخ بغداد» [3] : هو إبراهيم بن عثمان بن عيّاش بن محمد بن عمر بن عبد الله الأشهبي الغزّي الكلبي، الشاعر المشهور، شاعر محسن.
وذكره الحافظ ابن عساكر في «تاريخ دمشق» [4] فقال: دخل دمشق [5]
__________
[1] (4/ 55) .
[2] (4/ 55) .
[3] هو «ذيل تاريخ بغداد» طبعت منه بعض الأجزاء في حيدر أباد الدكن بالهند تضم تراجم من (حرف العين) فقط.
[4] نقل المؤلف كلام الحافظ ابن عساكر عن «وفيات الأعيان» (1/ 57- 62) وهو في «تاريخ دمشق» (2/ 469- 470) مصورة دار البشير بعمّان مختصرا ولعل ابن خلّكان قد اطلع على نسخة أخرى من «تاريخ دمشق» والله أعلم.
[5] قوله: «فقال: دخل دمشق» سقط من «آ» .(6/112)
وسمع بها من الفقيه نصر المقدسي، سنة إحدى وثمانين وأربعمائة، ورحل إلى بغداد، وأقام بالمدرسة النظامية سنين كثيرة، ومدح ورثى غير واحد من المدرسين بها وغيرهم، ثم رحل إلى خراسان وامتدح بها جماعة من رؤسائها، وانتشر شعره هناك، وذكر له عدة مقاطيع من الشعر، وأثنى عليه.
انتهى.
وله ديوان شعر اختاره بنفسه وذكر في خطبته أنه ألف بيت.
وقال العماد الكاتب: جاب [1] البلاد، وأكثر النّقل والحركات، وتغلغل في أقطار خراسان وكرمان، ولقي الناس، ومدح ناصر الدّين مكرم بن العلاء، وزير كرمان بقصيدته البائية التي يقول فيها، ولقد أبدع:
حملنا من الأيام ما لا نطيقه ... كما حمل العظم الكسير العصائبا
ومنها في قصر الليل وهو معنى لطيف:
وليل رجونا أن يدبّ عذاره ... فما اختطّ حتّى صار بالفجر شائبا
ومن جيد شعره المشهور قوله:
قالوا هجرت الشّعر قلت ضرورة ... باب الدّواعي والبواعث مغلق
خلت الدّيار فلا كريم يرتجى ... منه النّوال ولا مليح يعشق
ومن العجائب أنه لا يشترى ... ويخان فيه مع الكساد ويسرق
[2] ومن شعره وفيه صناعة حسنة:
وخز الأسنّة والخضوع لناقص ... أمران في ذوق النّهى مرّان
__________
[1] في «آ» : «جال» .
[2] رواية البيت في «مختصر تاريخ دمشق» (4/ 82) اختصار وتحقيق الأستاذ الفاضل إبراهيم الصالح، طبع دار الفكر بدمشق:
ومن العجائب أنه لا يشترى ... ومع الكساد يخان فيه ويسرق(6/113)
والرّأي أن يختار فيما دونه ال ... مرّان وخز أسنّة المرّان
وله:
وجفّ النّاس حتّى لو بكينا ... تعذّر ما تبلّ به الجفون
فما يندى لممدوح بنان ... ولا يندى لمهجوّ جبين
ولد الغزّيّ هذا بغزة هاشم سنة إحدى وأربعين وأربعمائة، وتوفي ما بين مرو وبلخ من بلاد خراسان، ونقل إلى بلخ ودفن بها، ونقل عنه أنه كان يقول لما حضرته الوفاة: أرجو أن يغفر لي ربي لثلاثة أشياء: كوني من بلد الإمام الشافعي، وأني شيخ كبير، وأني غريب، رحمه الله تعالى وحقّق رجاءه.
وفيها الإخشيذ إسماعيل بن الفضل الأصبهاني السرّاج التاجر. قرأ القرآن على جماعة وروى الكثير عن ابن عبد الرحيم، وأبي القاسم بن أبي بكر الذكواني، وطائفة، وعمّر ثمانيا وثمانين سنة.
وفيها البارع، وهو أبو عبد الله الحسين بن محمد بن عبد الوهاب البغدادي الدبّاس، المقرئ الأديب الشاعر، وهو من ذريّة أبي القاسم بن عبيد الله [1] وزير المعتضد. قرأ القرآن على أبي بكر محمد بن علي الخيّاط وغيره، وروى عن أبي جعفر بن المسلمة، وله مصنفات وشعر فائق.
قال ابن خلّكان [2] : كان نحويّا لغويّا مقرئا، حسن المعرفة بصنوف من الآداب، وأفاد خلقا كثيرا، خصوصا بإقراء القرآن الكريم.
وهو من بيت الوزارة، فإن جدّه القاسم كان وزير المعتضد والمكتفي
__________
[1] تحرفت في «العبر» بطبعتيه إلى «عبد الله» فتصحح، وانظر «معرفة القراء الكبار» (1/ 476) طبع مؤسسة الرسالة.
[2] انظر «وفيات الأعيان» (2/ 181- 184) .(6/114)
بعده، وهو الذي سمّ ابن الرّومي الشاعر، وعبيد الله كان وزير المعتضد أيضا قبل ابنه القاسم، وسليمان بن وهب الوزير تغني شهرته عن ذكره.
والبارع المذكور من أرباب الفضائل، وله مؤلفات حسان وتأليف غريبة، وديوان شعر جيد. وكان بينه وبين ابن الهبّارية مداعبات لطيفة، فإنهما كانا رفيقين ومتّحدين في الصحبة.
ومن شعر البارع:
أفنيت ماء الوجه من طول ما ... أسأل من لا ماء في وجهه
أنهي إليه شرح حالي الذي ... يا ليتني متّ ولم أنهه
فلم ينلني كرما رفده ... ولم أكد أسلم من جبهه
والموت من دهر نحاريره ... ممتدة الأيدي إلى بلهه
وكانت ولادته في عاشر صفر سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة ببغداد.
وتوفي يوم الثلاثاء سابع جمادى الآخرة، وقيل: الأولى، وكان قد عمي في آخر عمره، رحمه الله.
وفيها ابن الغزال أبو محمد عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن الغزال المصري [1] المجاور، شيخ صالح مقرئ، قد سمع السّلفيّ في سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة من إسماعيل الحافظ عنه. سمع القضاعي، وكريمة [2] ، وعمّر دهرا.
وفيها فاطمة الجوزدانية أم إبراهيم بنت عبد الله بن أحمد بن القاسم ابن عقيل الأصبهانية. سمعت من ابن ريذة «معجمي» الطبراني [3] سنة خمس
__________
[1] انظر «العقد الثمين» (5/ 242- 243) .
[2] سمع منها «صحيح البخاري» كما جاء ذلك مبينا في «العقد الثمين» .
[3] وهما «المعجم الكبير» و «المعجم الصغير» ذكر ذلك الحافظ الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (19/ 504) .(6/115)
وثلاثين، وعاشت تسعا وتسعين سنة، وتوفيت في شعبان.
وفيها أبو الأعزّ قراتكين بن الأسعد الأزجي. روى عن الجوهري وجماعة، وكان عاميّا، توفي في رجب ببغداد.
وفيها أبو عامر العبدري [1] محمد بن سعدون بن مرجّى الميورقي، الحافظ الفقيه الظاهري. نزيل بغداد. أدرك أبا عبد الله البانياسي، والحميدي، وهذه الطبقة.
قال ابن عساكر: كان فقيها على مذهب داود، وكان أحفظ شيخ لقيته.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي: هو أنبل من لقيته.
وقال ابن ناصر: كان فهما، عالما، متعففا مع فقره.
وقال السّلفيّ: كان من أعيان علماء الإسلام، متصرفا في فنون من العلوم.
وقال ابن عساكر: بلغني أنه قال: أهل البدع يحتجّون بقوله تعالى:
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ 42: 11 [الشورى: 11] أي في الإلهية، فأما في الصّورة، فمثلنا. ثم يحتج بقوله تعالى: [يا نِساءَ النَّبِيِ] لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ من النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ 33: 32 أي في الحرمة.
وقال ابن ناصر الدّين [2] : كان من أعيان الحفّاظ، لكن تكلم في مذهبه في القرآن ابن ناصر، وحطّ عليه بما لا يثبت عنه [3] ابن عساكر.
__________
[1] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «العبدوي» والتصحيح من «العبر» (4/ 57) و «سير أعلام النبلاء» (19/ 579) وانظر تتمة ترجمته فيه.
[2] في «التبيان شرح بديعة البيان» (161/ آ) وتمام قوله فيه: «كان فقيها ظاهريا من أعيان الحفاظ والأئمة العلماء المتقنين الأيقاظ.
[3] لفظة «عنه» سقطت من «آ» .(6/116)
وفيها محمد بن عبد الله بن تومرت المصمودي البربري، المدعي أنه علويّ، حسنيّ، وأنه المهدي. رحل إلى المشرق، ولقي الغزالي وطائفة، وحصّل فنونا [1] من العلم، والأصول، والكلام، وكان رجلا ورعا ساكنا ناسكا في الجملة. زاهدا متقشفا شجاعا جلدا عاقلا، عميق الفكر، بعيد الغور، فصيحا مهيبا، لذته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد، ولكن جرّه إقدامه وجرأته على حب الرئاسة والظهور وارتكاب المحظور، ودعوى الكذب والزور، من أنه حسنيّ، وهو هرغيّ [2] بربريّ وأنّه إمام [3] معصوم، وهو بالإجماع مخصوم. فبدأ أولا في الإنكار بمكّة، فآذوه، فقدم مصر وأنكر، فطردوه، فأقام بالثغر مدّة فنفوه، وركب البحر، فشرع ينكر على أهل المركب ويأمر وينهى، ويلزمهم بالصلاة. وكان مهيبا وقورا بزيق الفقر، فنزل بالمهديّة في غرفة، فكان لا يرى منكرا أو لهوا إلّا غيره بيده ولسانه، فاشتهر وصار له زبون وشباب يقرؤون عليه في الأصول، فطلبه أمير البلد يحيى بن باديس وجلس له، فلما رأى حسن سمته وسمع كلامه احترمه وسأله الدعاء. فتحول إلى بجاية، وأنكر بها، فأخرجوه، فلقي بقرية ملّالة عبد المؤمن بن علي شابا مختطا مليحا. فربطه عليه، وأفضى إليه بسرّه وأفاده جملة من العلم، وصار معه نحو خمسة [4] أنفس، فدخل مرّاكش، وأنكر كعادته، فأشار مالك بن وهيب الفقيه على علي بن يوسف بن تاشفين بالقبض عليهم سدّا للذريعة، وخوفا من الغائلة، وكانوا بمسجد داثر بظاهر مرّاكش،
__________
[1] في «العبر» بطبعتيه: «فنا» .
[2] قال ابن خلّكان في «وفيات الأعيان» (5/ 55) : الهرغيّ: بفتح الهاء وسكون الراء، وبعدها غين معجمة، هذه النسبة إلى هرغة، وهي قبيلة كبيرة من المصامدة في جبل السوس في أقصى المغرب تنسب إلى الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، يقال: إنها نزلت في ذلك المكان عند ما فتح المسلمون البلاد على يد موسى بن نصير.
[3] لفظة «إمام» سقطت من «ط» .
[4] في «ط» : «خمس» .(6/117)
فأحضرهم وعقد لهم مجلسا حافلا، فواجهه ابن تومرت بالحقّ المحض ولم يحابه [1] ، ووبّخه ببيع الخمر جهارا وبمشي الخنازير التي للفرنج بين أظهر المسلمين، وبنحو ذلك من الذنوب، وخاطبه بكيفية ووعظ، فذرفت عينا الملك وأطرق، فقويت التهمة عند ابن وهيب وأشباهه من العقلاء، وفهموا مرام ابن تومرت. فقيل للملك: إن لم تسجنهم وتنفق عليهم كل يوم دينارا وإلّا أنفقت عليهم خزائنك [2] ، فهوّن الوزير أمرهم لِيَقْضِيَ الله أَمْراً كانَ مَفْعُولًا 8: 42 [الأنفال: 42] . فصرفه الملك وطلب منه الدعاء، واشتهر اسمه وتطلعت النفوس إليه، وسار إلى أغمات، وانقطع بجبل تينملّ [3] ، وتسارع إليه أهل الجبل يتبرّكون به. فأخذ يستميل الشباب الأغتام [4] والجهلة الشجعان، ويلقي إليهم ما في نفسه، وطالت مدته، وأصحابه يكثرون، وهو يأخذهم بالديانة والتقوى، ويحضهم على الجهاد وبذل النفوس في الحق، وورد أنه كان حاذقا في ضرب الرّمل، قد وقع بجعفر فيما قيل، واتفق لعبد المؤمن أنّه كان قد رأى أنه يأكل في صحفة مع ابن تاشفين ثم اختطف [5] الصحفة منه، فقال له المعبّر: هذه الرؤيا لا ينبغي أن تكون لك،
__________
[1] في «العبر» بطبعتيه: «يجابه» بالجيم، ومعنى «ولم يحابه» من المحاباة، والله تعالى أعلم.
[2] في «العبر» بطبعتيه: «خزانتك» .
[3] في «العبر» بطبعتيه: «اتينمل» وقد جاءت عند المؤلف بلام واحدة كما هي عند ابن خلّكان في «وفيات الأعيان» (5/ 48) وقد ضبطها فيه (5/ 55) بكسر التاء المثناة من فوقها، وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون ثم ميم مفتوحة ولام مشددة. وفي «معجم البلدان» (2/ 69) وعند المقري في «نفح الطيب» (1/ 615) : «تينملل» بلامين، وقال ياقوت: الميم مفتوحة، واللام الأولى مشددة مفتوحة.
[4] في «آ» و «ط» : «الأغنام» وهو تصحيف، والأغتام، جمع غتمي.
جاء في «لسان العرب» (غتم) : الغتمة عجمة في المنطق، ورجل أغتم وغتمي: لا يفصح شيئا، وامرأة غتماء، وقوم غتم وأغتام، وانظر «أساس البلاغة» للزمخشري (غتم) . وقد تفضّل بكتابة هذا التعليق صديقي الفاضل الأستاذ المحقق يحيى مير علم حفظه الله تعالى وزاده توفيقا.
[5] في «العبر» بطبعتيه: «ثم اختطفت» .(6/118)
بل هي لرجل يخرج على ابن تاشفين، ثم يغلب على الأمر.
وكانت تهمة ابن تومرت في إظهار العقيدة والدعاء إليها، وكان أهل المغرب على طريقة السلف ينافرون الكلام وأهله.
ولما كثرت أصحابه أخذ يذكر المهديّ ويشوّق إليه، ويروي الأحاديث التي وردت فيه. فتلهفوا على لقائه، ثم روى ظمأهم وقال: أنا هو، وساق لهم نسبا ادّعاه وصرّح بالعصمة، وكان على طريقة مثلي لا تنكر [1] معها العصمة، فبادروا إلى متابعته، وصنّف لهم مصنفات مختصرات، وقوي أمره في سنة خمس عشرة وخمسمائة.
فلما كان في [سنة] سبع عشرة جهّز عسكرا من المصامدة أكثرهم من أهل تينملّ، والسّوس، وقال: اقصدوا هؤلاء المارقين [من] المرابطين، فادعوهم إلى إزالة البدع والإقرار بالإمام المعصوم، فإن أجابوكم وإلّا فقاتلوهم.
وقدم عليهم عبد المؤمن، فالتقاهم الزّبير ولد أمير المسلمين، فانهزمت المصامدة [2] ونجا عبد المؤمن، ثم التقوهم مرّة أخرى فنصرت الصامدة واستفحل أمرهم، وأخذوا في شنّ الإغارات على بلاد ابن تاشفين، وكثر الداخلون في دعوتهم، وانضم إليهم كل مفسد ومريب، واتّسعت عليهم الدّنيا، وابن تومرت في ذلك كله لون واحد من الزهد، والتقلل، والعبادة، وإقامة السّنن والشعائر، لولا ما أفسد القضية بالقول بنفي الصفات كالمعتزلة، وبأنّه المهدي، وبتسرعه في الدماء، وكان ربما كاشف أصحابه ووعدهم بأمور فتوافق، فيفتنون به، وكان كهلا أسمر عظيم الهامة ربعة حديد النظر، مهيبا، طويل الصمت، حسن الخشوع والسمت، وقبره مشهور معظّم، ولم
__________
[1] في «العبر» بطبعتيه: «لا ينكر» .
[2] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «المصادمة» والتصحيح من «العبر» (4/ 61) .(6/119)
يملك شيئا من المدائن، إنما مهّد الأمور وقرّر القواعد فبغته الموت، وكانت الفتوحات والممالك لعبد المؤمن. قاله في «العبر» [1] .
وفيها الآمر بأحكام الله أبو علي منصور بن المستعلي بالله أحمد بن المستنصر بالله معد بن الظاهر بن الحاكم العبيدي الرافضي، صاحب مصر.
كان فاسقا مشتهرا ظالما، امتدت دولته، ولما كبر وتمكّن قتل وزيره الأفضل، وأقام في الوزارة البطائحيّ المأمون، ثم صادره وقتله. ولي الخلافة سنة خمس وتسعين، وهو ابن خمس سنين فانظر إلى هذه الخلافة الباطلة من وجوه:
أحدها: السنّ.
الثاني: عدم النسب، فإن جدّهم دعيّ في بني فاطمة بلا خلاف.
الثالث: أنهم خوارج على الإمام.
الرابع: خبث المعتقد الدائر بين الرفض والزندقة.
الخامس: تظاهره بالفسق.
وكانت أيامه ثلاثين سنة [2] . خرج في ذي القعدة إلى الجيزة فكمن له قوم بالسلاح، فلما مر على الجسر نزلوا عليه بالسيوف، ولم يعقّب، وبايعوا بعده ابن عمّه الحافظ عبد المجيد ابن الأمير محمد بن المستنصر، فبقي إلى عام أربعة وأربعين، وكان الآمر ربعة شديد الأدمة، جاحظ العينين، عاقلا، ماكرا [3] مليح الخطّ. ولقد ابتهج الناس بقتله لفسقه وجوره وسفكه الدماء، وإدمان الفواحش.
وفيها أبو محمد بن الأكفاني هبة الله بن أحمد بن محمد الأنصاري
__________
[1] (4/ 57- 62) .
[2] لفظة «سنة» سقطت من «آ» .
[3] لفظة «ماكرا» سقطت من «العبر» طبع الكويت، واستدركت في «العبر» طبع بيروت.(6/120)
الدمشقي، الحافظ، وله ثمانون سنة. سمع أباه، وأبا القاسم الحنّائي، وأبا بكر الخطيب، وطبقتهم، ولزم أبا محمد الكتّاني مدة. وكان ثقة فهما، شديد العناية بالحديث والتاريخ، كتب الكثير، وكان من كبار العدول، توفي في سادس المحرم.
وفيها أبو سعد المهراني هبة الله بن القاسم بن عطاء النيسابوري.
روى عن عبد الغافر الفارسي، وأبي عثمان الصابوني، وطائفة، وعاش ثلاثا وتسعين سنة، وكان ثقة جليلا خيّرا. توفي في جمادى الأولى.(6/121)
سنة خمس وعشرين وخمسمائة
فيها توفي أبو السعود بن المجلّي أحمد بن علي البغدادي البزّاز، شيخ مبارك عامّيّ. روى عن القاضي أبي يعلى، وابن المسلمة، وطبقتهما.
وفيها أبو المواهب بن ملوك الورّاق، أحمد بن محمد بن [عبد الملك البغدادي، عن خمس وثمانين سنة، وكان صالحا خيّرا، روى عن القاضي أبي الطيب، والجوهري] [1] .
وفيها أبو نصر الطّوسي أحمد بن محمد بن عبد القاهر الفقيه، نزيل الموصل. تفقه على الشيخ أبي إسحاق، وسمع من عبد الصمد بن المأمون وطائفة.
وفيها الشيخ حمّاد بن مسلم [2] بن ددّوة الدّبّاس أبو عبد الله الرّحبي الزاهد، شيخ الشيخ عبد القادر الكيلاني. نشأ ببغداد، وكان له معمل للدّبس، وكان أمّيا لا يكتب. له أصحاب وأتباع وأحوال وكرامات. دوّنوا كلامه في مجلدات، وكان شيخ العارفين في زمانه، وكان ابن عقيل يحطّ عليه ويؤذيه. قاله في «العبر» [3] .
__________
[1] ما بين حاصرتين سقط من «آ» و «ط» واستدركته من «العبر» (4/ 64) مصدر المؤلف.
[2] قوله: «ابن مسلم» سقط من «آ» .
[3] (4/ 64) .(6/122)
وقال السخاوي: كان قد سافر وتغرّب، ولقي المشايخ، وجاهد نفسه بأنواع المجاهدات، وزاول أكثر المهن والصنائع في طلب الحلال، والتورع في الكسب، والتحري، ثم فتح له بعد ذلك خير كثير، وأملى في الآداب، والأعمال، والعلوم المتعلقة بالمعرفة وتصحيح المعاملات شيئا كثيرا، وكان كأنه مسلوب الاختيار، مكاشفا بأكثر الأحوال، ومن كلامه: انظر إلى صنعه تستدل عليه ولا تنظر إلى صنع غيره فتعمى عنه. اللّسان ترجمان القلب والنظر، فإذا زال ما في القلب والنظر من الهوى، كان نطقه حكمة.
والحساب على أخذك من ماله، وهو الحلال، والعقاب [1] على أخذك من مالهم وهو الحرام.
وقال- رضي الله عنه-: من هرب من البلاء لا يصل إلى باب الولاء.
وقال- رضي الله عنه-: ما لأحد في مأكول عليّ منّة، فإنّي بالغت في طلب الرزق الحلال بكد يميني، وعملت في كلّ شيء إلّا أني ما كنت غلاما لقصاب، ولا لوقاد، ولا لكنّاس، فإن هذه الحرف تؤدي إلى إسقاط المروءة.
وكان الشيخ يأكل من النذر، كأن يقول بعضهم: إن سلم مالي، أو ولدي، أو قرابتي، فلله عليّ أن أعطي حمّادا كذا، ثم ترك ذلك لأنه بلغه حديث النّبي- صلّى الله عليه وسلم-: «النّذر لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل» [2]
__________
[1] سبق قلم ناسخ النسخة «آ» فكتب «والحساب» هنا أيضا وقد وردت في السطر الذي سبقه.
[2] قطعة من حديث رواه البخاري رقم (6692) في الأيمان والنذور: باب الوفاء بالنذر، وقوله تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ 76: 7 [الإنسان: 7] ، و (6608) في القدر: باب إلقاء العبد النذر إلى القدر، ومسلم رقم (1639) (4) في النذر: باب النهي عن النذور أنه لا يرد شيئا، وأبو داود رقم (3287) في الأيمان والنذور: باب النهي عن النذور، والترمذي رقم (1538) في النذور والأيمان: باب في كراهية النذر، وأحمد في «المسند» (2/ 61 و 235 و 301 و 412 و 463) من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.(6/123)
فكره أكل مال البخيل، وصار يأكل بالمنامات، كأن يرى الإنسان في النوم أن قائلا يقول له: أعط حمّادا كذا، فيصبح، ويحمل الذي قيل له إلى الشيخ.
توفي- رحمه الله تعالى- ليلة السبت، الخامس من شهر رمضان، ودفن في الشونيزية، وكان مسلوب الاختيار، تارة زيه زيّ الأغنياء، وتارة زيّ الفقراء، متلون كيف أدير دار، أي شيء كان في يده جاد به، وكانت المشايخ بين يديه كالميت بين يدي الغاسل. انتهى كلام السخاوي ملخصا [1] .
وفيها أبو العلاء زهر بن عبد الملك بن محمد بن مروان [بن] زهر الإيادي الإشبيلي، طبيب الأندلس، وصاحب التصانيف. أخذ عن أبيه، وحدّث عن أبي علي الغسّاني، وجماعة، ونال دنيا عريضة ورئاسة كبيرة، وله شعر رائق، نكب في الآخر من الدولة.
قال ابن الأهدل: له شعر رائق، ورئاسة عظيمة، وأموال عميمة، وهو أحد شيوخ أبي الخطّاب بن دحية، وكان يحفظ شعر ذي الرّمّة، وهو ثلث اللغة، مع معرفة الطب التامة، وأهل بيته كلهم وزراء علماء. انتهى.
وفيها عين القضاة الهمذاني أبو المعالي عبد الله بن محمد الميانجي- بالفتح وفتح النون، نسبة إلى ميانة بلد بأذربيجان- الفقيه العلّامة الأديب، وأحد من كان يضرب به المثل في الذكاء. دخل في التصوف ودقائقه ومعاني إشارات القوم، حتى ارتبط عليه الخلق، ثم صلب بهمذان على تلك الألفاظ الكفرية، نسأل الله العفو. قاله في «العبر» [2] .
وفيها أبو عبد الله الرّازي، صاحب «السداسيات» و «المشيخة» .
__________
[1] قلت: وعقب ابن شقدة في «المنتخب» (108/ آ) بقوله: قلت: وترجمه الشيخ محمود البصروي في «تاريخه» ثم سرد ترجمته عنده.
[2] (4/ 65) .(6/124)
محمد بن أحمد بن إبراهيم الشاهد، المعروف بابن الحطّاب [1] ، مسند الدّيار المصرية وأحد عدول الإسكندرية. توفي في جمادى الأولى، عن إحدى وتسعين سنة. سمّعه أبوه الكثير من [2] مشيخة مصر: ابن حمّصة، والطّفّال، وأبي القاسم الفارسي، وطبقتهم.
وفيها أبو غالب الماوردي محمد بن الحسن [3] بن علي البصريّ، في رمضان ببغداد، وله خمس وسبعون سنة. روى عن أبي علي التّستري، وأبي الحسن بن النّقور، وطبقتهما. وكان ناسخا فاضلا صالحا. رحل إلى أصبهان، والكوفة، وكتب الكثير، وخرّج «المشيخة» .
وفيها الشيخ الفقيه محمد بن عبدويه المدفون بجزيرة كمران من اليمن ببحر القلزم [4] تفقّه بالشيخ أبي إسحاق ببغداد، وقرأ عليه كتابه «المهذب» ونكته في الأصول والجدل، وهو أول من دخل ب «المهذب» إلى [5] اليمن، وكان سكن عدن، ثم انتقل إلى زبيد في دولة الحبشة، فلما دخل مفضل بن أبي البركات بعسكر من العرب انتهب مالا لابن عبدويه، كان يتجر فيه في جملة من انتهب، ثم خرج إلى كمران وأقام بها إلى أن توفي وقبره هناك مشهور مزور، وكان زاهدا ورعا لا يأكل إلّا رزا يأتي من بلاد الهند، وكان عبيده يسافرون إلى الحبشة، والهند، ومكة، وعدن، للتجارة، فأخلفه الله مالا عن ماله المنهوب، وكان ينفق على طلبة العلم، وكانت طريقته سنّية سنية، وله تصنيف في أصول الفقه يسمى «الإرشاد» وكان له ولد عالم في الأصول والفقه، يسمى عبد الله، تفقّه بأبيه، ومات قبله، وله ذرية
__________
[1] انظر «حسن المحاضرة» (1/ 375) .
[2] لفظة «من» سقطت من «آ» .
[3] لفظة «الحسن» سقطت من «آ» .
[4] يعني البحر الأحمر. انظر «صفة جزيرة العرب» للهمداني ص (92) و (232) .
[5] لفظة «إلى» لم ترد في «ط» و «المنتخب» (108/ ب) .(6/125)
بمشهده، أخيار أبرار، وابتلي بذهاب بصره، فأتي بقداح [1] فأنشد:
وقالوا قد دهى عينيك سوء ... فلو عالجته بالقدح زالا
فقلت الرّبّ مختبري بهذا ... فإن أصبر أنل منه النّوالا
وإن أجزع حرمت الأجر منه ... وكان خصيصتي منه الوبالا
وإني صابر راض شكور ... ولست مغيّرا ما قد أنالا
صنيع مليكنا حسن جميل ... وليس لصنعه شيء مثالا
وربّي غير متصف بحيف ... تعالى ربّنا عن ذا تعالى
روي [2] أنه لما قال هذه الأبيات أعاد الله عليه بصره. قاله ابن الأهدل.
وفيها السلطان محمود بن السلطان محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان السّلجوقي، الملقب مغيث الدّين. ولي بعد أبيه سنة اثنتي عشرة، وخطب له ببغداد وغيرها، ولعمه سنجر معا، وكان له معرفة بالشعر، والنحو، والتاريخ، وكان متوقدا ذكاء، قوي المعرفة بالعربية، حافظا للأشعار والأمثال، عارفا بالتواريخ والسّير، شديد الميل إلى أهل العلم والخير، وكان حيص بيص [3] الشاعر قد قصده من العراق، ومدحه بقصيدته الدالية المشهورة، التي أولها:
ألق الحدائج تلق [4] الضّمّر القود ... طال السّرى وتشكّت وخدك البيد
يا ساري الليل لا جدب ولا فرق ... فالنبت أغيد والسلطان محمود
قيل تألفت الأضداد خيفته ... فالمورد الضنك فيه الشاء والسيّد
وهي طويلة من غرر القصائد، وأجازه عليها جائزة سنية.
__________
[1] تحرفت في «ط» إلى «بقراح» .
[2] في «المنتخب» (108/ ب) : «وروي» .
[3] سترد ترجمته في وفيات سنة (574) ص (408- 409) من هذا المجلد.
[4] في «وفيات الأعيان» (5/ 182) : «ترع» .(6/126)
وكانت السلطنة في آخر [1] أيامه قد ضعفت وقلّت أموالها، حتّى عجزوا عن إقامة وظيفة الفقاعي، فدفعوا له يوما بعض صناديق الخزانة حتّى باعها وصرف ثمنها في حاجته، وكان في آخر مدته قد دخل بغداد، ثم خرج منها [2] فمرض في الطريق، واشتد به المرض، وتوفي يوم الخميس منتصف شوال بباب أصبهان، ودفن بها.
وفيها أبو القاسم بن الحصين هبة الله بن محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن العبّاس بن الحسين الشيباني البغدادي، الكاتب الأزرق، مسند العراق.
ولد في ربيع الأول، سنة اثنتين وثلاثين، وسمع ابن غيلان، وابن المذهب، والحسن بن المقتدر، والتنوخي، وهو آخر من حدّث عنهم، وكان ديّنا صحيح السماع، توفي في رابع عشر شوال.
وفيها يحيى بن المشرف بن علي أبو جعفر المصري التمّار. روى عن أبي العبّاس بن نفيس، وكان صالحا من أولاد المحدّثين. توفي في رمضان.
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «أواخر» .
[2] في «آ» و «ط» : «عنها» وما أثبتناه من «وفيات الأعيان» .(6/127)
سنة ست وعشرين وخمسمائة
فيها كانت الوقعة بناحية الدّينور بين السلطان سنجر وبين ابني [1] أخيه سلجوق ومسعود.
قال ابن الجوزي [2] : كان مع سنجر مائة وسبعون ألفا، ومع مسعود ثلاثون ألفا، وبلغت القتلى أربعين ألفا، وقتلوا قتلة جاهلية على الملك لا على الدّين، وقتل قراجا [3] أتابك سلجوق، وجاء مسعود لما رأى الغلبة إلى بين يدي سنجر فعفا عنه، وأعاده إلى كنجة، وقرر سلطنة بغداد لطغربك [4] ورجع إلى خراسان.
وفيها توفي الملك الأكمل أحمد بن الأفضل أمير الجيوش شاهنشاه ابن أمير الجيوش بدر الجمالي المصري. سجن بعد قتل أبيه مدّة إلى أن قتل الآمر وأقيم الحافظ. فأخرجوا الأكمل وولي وزارة السيف والقلم، وكان شهما مهيبا عالي الهمّة كأبيه وجده، فحجر على الحافظ ومنعه من الظهور، وأخذ أكثر ما في القصر، وأهمل ناموس الخلافة العبيدية، لأنه كان سنّيا كأبيه،
__________
[1] في «آ» و «ط» : «ابن» والتصحيح من «العبر» (4/ 67) .
[2] انظر «المنتظم» (10/ 26) وفيه: «مائة ألف وستون ألفا» .
[3] في «آ» : «فواجا» وفي «ط» : «ثراجا» والتصحيح من «المنتظم» و «العبر» .
[4] كذا في «آ» و «ط» و «دول الإسلام» (2/ 48) : «طغربك» وفي «المنتظم» : «تغرل» وفي «الكامل في التاريخ» (10/ 678) : «طغرل» .(6/128)
لكنه أظهر التمسّك بالإمام المنتظر [1] ، وأبطل من الأذان (حيّ على خير العمل) وأبطل [2] قواعد القوم، فأبغضه الدعاة والقوّاد، وعملوا عليه. فركب للعب الكرة في المحرم، فوثبوا عليه، وطعنه مملوك الحافظ [بحربة] [3] ، وأخرجوا الحافظ، ونزل إلى دار الأكمل، واستولى على خزائنه، واستوزر يانس مولاه، فهلك بعد عام.
وفيها أبو العزّ بن كادش [4] أحمد بن عبيد الله بن محمد السّلمي العكبري، في جمادى الأولى، عن تسعين سنة. وهو آخر من روى عن القاضي أبي الحسن الماوردي، وروى عن الجوهري، والعشاري، والقاضي أبي الطيب، وكان قد طلب الحديث بنفسه، وله فهم.
قال عبد الوهاب الأنماطي: كان مخلّطا.
وفيها تاج الملوك، بوري، صاحب دمشق وابن صاحبها طغتكين، مملوك تاج الدولة تتش السلجوقي، وكانت دولته أربع سنين، قفز عليه الباطنية فجرح وتعلّل أشهرا، ومات في رجب، وولي بعده ابنه شمس الملوك إسماعيل، وكان شجاعا مجاهدا جوادا كريما، سدّ مسدّ أبيه، وعاش ستا وأربعين سنة.
وفيها عبد الله بن أبي جعفر المرسي العلّامة أبو محمد المالكي، انتهت إليه رئاسة المالكية، وتوفي في رمضان، وقد روى عن أبي حاتم بن محمد، وابن عبد البرّ، والكبار، وسمع بمكة «صحيح مسلم» من أبي عبد الله الطبري.
__________
[1] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «المنتصر» والتصحيح من «العبر» (4/ 68) .
[2] في «العبر» : «وغيّر» .
[3] سقطت من «آ» و «ط» واستدركتها من «العبر» .
[4] في «ط» : «كاوش» وهو تحريف.(6/129)
وفيها عبد الكريم بن حمزة أبو محمد السّلمي الدمشقي الحداد، مسند الشام. روى عن أبي القاسم الحنّاني، والخطيب، وأبي الحسين بن مكّي، وكان ثقة توفي في ذي القعدة.
وفيها القاضي أبو الحسين بن الفرّاء محمد بن القاضي أبي يعلى محمد بن الحسين البغدادي الحنبلي، وله أربع وسبعون سنة. سمع أباه، وعبد الصمد بن المأمون، وطبقتهما، وكان مفتيا مناظرا عارفا بالمذهب ودقائقه، صلبا في السّنّة، كثير الحطّ على الأشاعرة، استشهد ليلة عاشوراء، وأخذ ماله، وقتل قاتله، وألّف «طبقات الحنابلة» . قاله في «العبر» [1] .
وقال ابن رجب [2] : كان عارفا بالمذهب، متشددا في السنّة، وله تصانيف كثيرة في الفروع والأصول وغير ذلك، منها «المجموع في الفروع» ، «رؤوس المسائل» ، «المفردات في أصول الفقه» ، «التمام لكتاب الروايتين والوجهين» الذي لأبيه، «المفردات في أصول الفقه» ، «طبقات الأصحاب» ، «إيضاح الأدلة في الردّ على الفرق الضالة المضلة» ، «الرد على زائغي [3] الاعتقادات في منعهم من سماع الآيات» ، «المفتاح في الفقه» . وغير ذلك.
وقرأ عليه جماعة كثيرة، منهم عبد المغيث الحربي، وغيره. وحدّث عنه، وسمع منه خلق كثير من الأصحاب وغيرهم، منهم: ابن ناصر، ومعمر ابن الفاخر، وابن الخشّاب، وأبو الحسين البراندسي الفقيه، وابن المرحب البطائحي، وابن عساكر الحافظ، وغيرهم. وبالإجازة أبو موسى المديني، وابن كليب.
وكان للقاضي أبي الحسين بيت في داره بباب المراتب يبيت فيه
__________
[1] (4/ 69- 70) .
[2] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 176- 177) .
[3] في «آ» : «زائفي» .(6/130)
وحده، فعلم بعض من كان يخدمه ويتردد إليه بأن له مالا، فدخلوا عليه ليلا وأخذوا المال وقتلوه ليلة الجمعة-[ليلة] عاشوراء- ودفن عند أبيه بمقبرة باب حرب، وكان يوما مشهودا. وقدر الله سبحانه وتعالى ظهور قاتليه، فقتلوا كلهم.
وفيها علي بن الحسن الدّواحي أبو الحسن [1] ، الواعظ، تفقّه على أبي الخطّاب الكلوذاني، وسمع منه الحديث، وتوفي ليلة الجمعة خامس شوال، ودفن بباب حرب.
__________
[1] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 178) .(6/131)
سنة سبع وعشرين وخمسمائة
فيها توفي أبو غالب بن البناء أحمد بن علي بن أحمد بن عبد الله البغدادي الحنبلي، مسند العراق، وله اثنتان وثمانون سنة. توفي في صفر.
سمع الجوهري وأبا يعلى بن الفرّاء، وطائفة، وله «مشيخة» مرويّة.
وفيها أبو العبّاس بن الرّطبي أحمد بن سلامة بن عبد الله بن مخلد الكرخيّ، برع في مذهب الشافعي وغوامضه على الشيخين أبي إسحاق، وابن الصبّاغ، حتّى صار يضرب به المثل في الخلاف والمناظرة، ثم علّم أولاد الخليفة. قاله في «العبر» [1] .
وفيها العلّامة مجد الدّين أبو الفتح، وأبو سعيد، أسعد بن أبي النصر ابن الفضل الميهنتيّ- بكسر الميم- وقيل بفتحها- ثم مثناة، ثم هاء مفتوحة، ثم نون مفتوحة، وفي آخره تاء التأنيث [2] ، نسبة إلى ميهنة قرية بقرب طوس بين سرخس وأبيورد- صاحب «التعليقة» تفقّه بمرو، وشاع فضله، وبعد صيته، وولي نظامية بغداد مرتين، وخرج له عدة تلامذة، وكان يتوقد ذكاء، تفقّه على أبي المظفر السمعاني، والموفق الهروي، وكان يرجع إلى دين
__________
[1] (4/ 71) .
[2] تنبيه: كذا قال المؤلف رحمه الله تعالى، وتبعه ابن شقدة في «المنتخب» (108/ آ) وقد وهما في ذلك، والصواب «الميهني» بكسر الميم وسكون الياء وفتح الهاء وفي آخرها نون، كما في «الأنساب» (11/ 580) و «العبر» (4/ 71) و «سير أعلام النبلاء» (19/ 633) .(6/132)
وخوف. ولد بميهنة، سنة إحدى وستين وأربعمائة، ورحل إلى غزنة- بغين معجمة من نواحي الهند- واشتهر بتلك النواحي، وشاع فضله، ثم ورد إلى بغداد، وانتفع الناس به وبطريقته الخلافية، ثم توجه من بغداد رسولا إلى همذان، فتوفي بها.
وفيها الحافظ أبو نصر اليونارتي- بضم التحتية، ونون مفتوحة، وسكون الراء، وفوقية، نسبة إلى يونارت، قرية بأصبهان- الحسن بن محمد ابن إبراهيم الحافظ. سمع أبا بكر بن ماجة، وأبا بكر بن خلف الشيرازي، وطبقتهما، ورحل إلى هراة، وبلخ، وبغداد، وعني بهذا الشأن، وكان جيد المعرفة، متقنا. توفي في شوال، وقد جاوز الستين.
وفيها ابن الزّاغوني أبو الحسن علي بن عبيد الله بن نصر بن السّريّ [1]- كذا نسبه ابن شافع وابن الجوزي- الفقيه الحنبلي، شيخ الحنابلة، وواعظهم، وأحد أعيانهم.
ولد في جمادى الأولى سنة خمس وخمسين وأربعمائة، وقرأ القرآن بالروايات، وطلب الحديث بنفسه، وقرأ وكتب بخطه، وسمع من أبي الغنائم ابن المأمون، وأبي جعفر بن المسلمة، وابن النّقور، وغيرهم، وقرأ الفقه على القاضي يعقوب البرزبيني [2] . وقرأ الكثير من كتب اللغة [3] ، والنحو، والفرائض، وكان متقنا في علوم شتى، من الأصول، والفروع، والوعظ، والحديث، وصنّف في ذلك كله.
__________
[1] انظر «سير أعلام النبلاء» (19/ 605- 607) و «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 180- 184) .
[2] في «آ» : «البرنسي» وفي «ط» : «البرنشي» وفي «المنتظم» (10/ 32) : «البرزباني» وذلك كله من التحريف الذي لحق بنسبته على أيدي النسّاخ والله أعلم، والصواب: «البرزبيني» كما في «الأنساب» (2/ 147) و «اللباب» (1/ 137) و «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 180) وهو ما أثبته.
[3] تحرفت في «ط» إلى «الفقه» .(6/133)
قال ابن الجوزي: كان له في كل فنّ من العلم حظ وافر، ووعظ مدة طويلة.
قال [1] : وصحبته زمانا، فسمعت منه الحديث، وعلّقت عنه من الفقه والوعظ، وكانت له حلقة بجامع المنصور، يناظر فيها يوم الجمعة قبل الصلاة، ثم يعظ فيها بعد الصلاة، ويجلس يوم السبت أيضا.
وذكر ابن ناصر أنه كان فقيه الوقت، وكان مشهورا بالصلاح، والدّيانة، والورع، والصيانة.
وقال ابن السمعاني: ذكر بعض الناس ممن يوثق بهم، أنّه رأى في المنام ثلاثة، يقول واحد منهم: اخسف، وواحد يقول: أغرق، وواحد يقول: أطبق، يعني البلد، فأجاب بعضهم لا، لأن بالقرب منا ثلاثة: أبو الحسن ابن الزّاغوني، والثاني أحمد بن الطلاية، والثالث محمد بن فلان من الحربية.
ولابن الزّاغوني تصانيف كثيرة، منها في الفقه «الإقناع» و «الواضح» و «الخلاف الكبير» و «المفردات» في مجلدين، وهي مائة مسألة وله «التخليص» في الفرائض، ومصنف في الدّور والوصايا، وله «الإيضاح» في أصول الدّين مجلد، و «غرر البيان في أصول الفقه» مجلدات عدة، وله ديوان خطب [أنشأها] [2] ، ومجالس في الوعظ، وله «تاريخ» على السنين [من أول ولاية المسترشد إلى حين وفاته هو] [2] ومناسك الحج، وفتاوى، ومسائل في القرآن، وغير ذلك.
قال الحافظ ابن رجب: كان ثقة، صحيح السماع، صدوقا، حدّث بالكثير، وروى عنه ابن ناصر، وابن عساكر، وابن الجوزي، وابن طبرزد، وغيرهم، وتفقّه عليه جماعة، منهم صدقة بن الحسين، وابن الجوزي،
__________
[1] القائل ابن الجوزي.
[2] زيادة من «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 181) .(6/134)
وتوفي يوم الأحد سادس عشر المحرم، ودفن بمقبرة الإمام أحمد، وكان له جمع عظيم يفوت الإحصاء. انتهى ملخصا.
وفيها محمد بن الحسين بن علي بن إبراهيم بن عبيد الله الشيباني المزرفي [1] ، المقرئ الفرضي، أبو بكر.
ولد في سلخ سنة تسع وثلاثين وأربعمائة، وقرأ القرآن بالروايات على جماعة من أصحاب الحمامي، منهم أبو بكر بن موسى الخيّاط، وسمع من ابن المسلمة وخلائق.
ذكر ابن ناصر أنه كان مقرئ زمانه، قرأ القراءات [2] عليه جماعة، منهم: أبو موسى المديني الحافظ، وعلي بن عساكر، وغيرهما. وحدّث عنه ابن ناصر، وابن عساكر، وابن الجوزي [وغيرهم.
قال ابن الجوزي] [3] : كان ثقة عالما ثبتا، حسن العقيدة، حنبليا، توفي يوم السبت مستهل السنة فجأة، وقيل: إنه توفي في سجوده، ودفن بباب حرب.
والمزرفي: [نسبة إلى المزرفة] [3] بين بغداد وعكبرا، وهي بتقديم الزاي على الراء، وبالقاف، ولم يكن منها إنما نقل أبوه إليها أيام الفتنة فأقام بها مدة.
وفيها محمد بن محمد بن الحسين بن محمد بن أحمد بن خلف بن الفرّاء [4] ، الفقيه الحنبلي الزاهد، أبو خازم، ابن القاضي الإمام أبي يعلى، وأخو القاضي أبي الحسين.
__________
[1] تنبيه: في «آ» و «ط» : «المزرقي» بالقاف، وهو تصحيف، والصواب «المزرفي» بالفاء وهو ما أثبته: انظر «المنتظم» (10/ 33) و «العبر» (4/ 72) و «معرفة القراء الكبار» (1/ 484) و «سير أعلام النبلاء» (19/ 631) والمرزفة: على ثلاثة فراسخ فوق بغداد. انظر «بلدان الخلافة الشرقية» ص (71) .
[2] في «آ» : «القرآن» .
[3] ما بين حاصرتين سقط من «آ» وأثبته من «ط» .
[4] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 184- 185) .(6/135)
ولد في صفر سنة سبع وخمسين وأربعمائة. وسمع الحديث من ابن المسلمة، وابن المأمون، وغيرهما.
وذكر ابن نقطة أنّه حدّث عن أبيه وما أظنه إلّا بالإجازة، فإنه ولد قبل موت والده بسنة.
وذكر أخوه أن والده أجاز له ولأخيه.
وقرأ محمد هذا الفقه على القاضي يعقوب. ولازمه، وعلّق عنه، وبرع في معرفة المذهب، والخلاف، والأصول، وصنّف تصانيف مفيدة، وله كتاب «التبصرة» في الخلاف، وكتاب «رؤوس المسائل» و «شرح مختصر الخرقي» وغير ذلك.
وكان من الفقهاء الزاهدين، والأخيار الصالحين. وحدّث وسمع منه جماعة، منهم ابناه [1] وأبو المعمر الأنصاري، ويحيى بن بوش [2] ، وتوفي يوم الاثنين تاسع عشري صفر، ودفن بداره بباب الأزج، ونقل في سنة أربع وثلاثين إلى مقبرة الإمام أحمد فدفن عند أبيه.
وأبو خازم: بالخاء والزاي المعجمتين.
وفيها محمد بن أحمد بن صاعد أبو سعيد النيسابوري الصّاعدي، وله ثلاث وثمانون سنة. وكان رئيس نيسابور، وقاضيها، وعالمها، وصدرها.
روى عن أبي الحسين بن عبد الغافر، وابن مسرور.
__________
[1] كذا في «آ» و «ط» : «ابناه» وفي «ذيل طبقات الحنابلة» : «ابنته» وفي «الوافي بالوفيات» (1/ 160) : «روى عنه أولاده: أبو يعلى محمد، وأبو الفرج علي، وأبو محمد عبد الرحيم» .
[2] في «آ» و «ط» : «ابن يونس» والتصحيح من «الوافي بالوفيات» و «ذيل طبقات الحنابلة» .(6/136)
سنة ثمان وعشرين وخمسمائة
فيها توفي أبو الوفاء أحمد بن علي الشيرازي الزاهد الكبير، صاحب الرباط [1] ، والأصحاب، والمريدين ببغداد، وكان يحضر السماع.
وفيها أبو الصّلت أميّة بن عبد العزيز بن أبي الصّلت الدّاني الأندلسي، صاحب الفلسفة، وكان ماهرا في علوم الأوائل الطبيعي، والرياضي، والإلهي، كثير التصانيف، بديع النظم، عاش ثماني وستين سنة، وكان رأسا في معرفة الهيئة، والنجوم، والموسيقا.
تنقل في البلاد ومات غريبا، وذكره العماد الكاتب في «الخريدة» وأثنى عليه، وذكر شيئا من نظمه، ومن جملة ما ذكر قوله [2] :
وقائلة ما بال مثلك خاملا ... أأنت ضعيف الرأي أم أنت عاجز
فقلت لها ذنبي إلى القوم أنّني ... لما لم يحوزوه من المجد حائز
وما فاتني شيء سوى الحظّ وحده ... وأمّا المعالي فهي عندي غرائز
وله أيضا [3] :
__________
[1] تحرفت في «آ» إلى «الرباني» .
[2] الأبيات في «الخريدة» (قسم شعراء المغرب) (1/ 226) النشرة الثالثة، طبع الدار التونسية للنشر، و «وفيات الأعيان» (1/ 244) و «نفح الطيب» (3/ 356- 357) .
[3] الأبيات في «الخريدة» (قسم شعراء المغرب) (1/ 204) و «وفيات الأعيان» (1/ 244) و «نفح الطيب» (3/ 357) ولم يرد عنده البيت الرابع.(6/137)
جدّ بقلبي وعبث ... ثمّ مضى وما اكترث
وا حربا [1] من شادن ... في عقد الصّبر نفث
يقتل من شاء بعيني ... هـ ومن شاء بعث
فأيّ ودّ لم يخن ... وأيّ عهد ما نكث
وله أيضا [2] :
دبّ العذار بخدّه ثم انثنى ... عن لثم مبسمه البرود الأشنب
لا غرو إن خشي الردى في لثمه ... فالرّيق سمّ قاتل للعقرب
ومن شعره أيضا [3] :
ومهفهف تركت [4] محاسن وجهه ... ما مجّه في الكأس من إبريقه
ففعالها من مقلتيه ولونها ... من وجنتيه وطعمها من ريقه
وأورد له أيضا في كتاب «الخريدة» [5] :
عجبت من طرفك في ضعفه ... كيف يصيد البطل الأصيدا
يفعل فينا وهو في غمده ... ما يفعل السيف إذا جرّدا
وشعره كثير وجيد، وآخر شعر قاله أبيات أوصى أن تكتب على قبره وهي [5] :
سكنتك يا دار الفناء مصدّقا ... بأني إلى دار البقاء أصير
وأعظم ما في الأمر أنّي صائر ... إلى عادل في الحكم ليس يجور
فيا ليت شعري كيف ألقاه عندها ... وزادي قليل والذنوب كثير
__________
[1] كذا في «آ» و «ط» و «وفيات الأعيان» (1/ 244) و «نفح الطيب» (3/ 357) : «وا حربا» وفي «الخريدة» : «وا حزني» .
[2] البيتان في «الخريدة» (1/ 199) .
[3] البيتان في «وفيات الأعيان» (1/ 245) و «نفح الطيب» (2/ 107) .
[4] في «وفيات الأعيان» : «شركت» وفي «نفح الطيب» : «شربت» .
[5] لم أجد هذه الأبيات في «خريدة القصر» (قسم شعراء المغرب) .(6/138)
فإن أك مجزيّا بذنبي فإنني ... بشرّ عقاب المذنبين جدير
وإن يك عفو منه عني ورحمة ... فثمّ نعيم دائم وسرور
ولما اشتد مرض موته قال لولده عبد العزيز:
عبد العزيز خليفتي ... ربّ السماء عليك بعدي
أنا قد عهدت إليك ما ... تدريه فاحفظ فيه عهدي
فلئن عملت به فإن ... ك لا تزال حليف رشد
ولئن نكثت لقد ضلل ... ت وقد نصحتك حسب جهدي
وقال ابن خلّكان [1] : وجدت في مجموع لبعض المغاربة، أن أبا الصّلت المذكور مولده في دانية مدينة من بلاد الأندلس في قران سنة ستين وأربعمائة، وأخذ العلم عن جماعة من أهل الأندلس كأبي الوليد الوقّشي قاضي دانية وغيره، وقدم الإسكندرية مع أمه في يوم عيد الأضحى من سنة تسع وثمانين وأربعمائة، ونفاه الأفضل شاهنشاه [2] من مصر سنة خمس وخمسمائة، وتردّد بالإسكندرية إلى أن سافر سنة ست وخمسمائة، فحلّ بالمهدية، ونزل من صاحبها علي بن يحيى بن تميم بن المعزّ بن باديس، منزلة جليلة، وولد له بها ولد سمّاه عبد العزيز، وكان شاعرا ماهرا، له في الشطرنج يد بيضاء. وتوفي هذا الولد ببجاية في سنة ست وأربعين وخمسمائة.
وصنف أمية وهو في اعتقال الأفضل بمصر رسالة «العمل بالأسطرلاب» وكتاب «الوجيز» في علم الهيئة، وكتاب «الأدوية المفردة» وكتابا في المنطق سماه «تقويم الأذهان» [3] وغير ذلك. ولما [4] صنّف «الوجيز» للأفضل عرضه
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (1/ 246- 247) .
[2] في «آ» و «ط» : «شاهان شاه» وما أثبته من «وفيات الأعيان» .
[3] في «وفيات الأعيان» : «تقويم الذهن» وهو كذلك في «كشف الظنون» (1/ 469) .
[4] في «ط» : «وبها» .(6/139)
على منجمه أبي عبد الله الحلبي، فلما وقف عليه قال له: هذا الكتاب لا ينتفع به المبتدئ، ويستغني عنه المنتهي.
وله من أبيات:
كيف لا تبلى غلائله ... وهو بدر وهي كتّان
انتهى ما أورده ابن خلّكان ملخصا.
وفيها أبو علي الفارقي، الحسن بن إبراهيم بن علي بن برهون، شيخ الشافعية.
ولد بميّافارقين سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، وتفقّه على محمد بن بيان [1] الكازروني، ثم ارتحل إلى الشيخ أبي إسحاق وحفظ عليه «المهذب» وتفقّه على ابن الصباغ، وحفظ عليه «الشامل» .
وكان ورعا زاهدا صاحب حقّ، مجوّدا لحفظ الكتابين، يكرر عليهما.
وقد سمع من أبي جعفر بن المسلمة وجماعة، وولي قضاء واسط مدّة. وبها توفي في المحرم عن خمس وتسعين سنة، وعليه تفقّه القاضي أبو سعد بن أبي عصرون.
وفيها عبد الله بن المبارك، ويعرف بعسكر بن الحسن العكبري، المقرئ الفقيه، أبو محمد، ويعرف بابن نبال [2] الحنبلي. سمع من أبي نصر الزّينبي، وأبي الحسين العاصمي، وغيرهما، وتفقّه على أبي الوفاء بن عقيل، وأبي سعد البرداني، وكان يصحب شافعا الجيلي [3] ، فأشار عليه
__________
[1] تحرفت في «ط» إلى «عيان» .
[2] كذا في «آ» و «ط» و «المنتخب» (109/ آ) و «المنتظم» (10/ 38) : «ابن نبال» وفي «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 185) و «المنهج الأحمد» (2/ 281) : «ابن نيال» .
[3] تحرفت في «ذيل طبقات الحنابلة» و «المنهج الأحمد» في ترجمة المترجم إلى «الحنبلي» وجاءت على الصواب في ترجمته في «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 49) و «المنهج الأحمد» (2/ 179) .(6/140)
بشراء كتب ابن عقيل، فباع ملكا له واشترى بثمنه كتاب «الفنون» وكتاب «الفصول» ووقفهما [1] على المسلمين. وكان خيّرا من أهل السّنّة، وحدّث.
وتوفي ليلة الثلاثاء ثاني عشري جمادى الأولى عن نيف وسبعين سنة.
ودفن بمقبرة الإمام أحمد.
وفيها عبد الواحد بن شنيف بن محمد بن عبد الواحد الدّيلمي البغدادي، الفقيه الحنبلي، أبو الفرج، أحد أكابر الفقهاء. تفقّه على أبي علي البرداني، وبرع، وكان مناظرا مجوّدا وأمينا من قبل القضاة، ويباشر بعض الولايات، وله دنيا واسعة. وكان ذا فطنة، وشجاعة، وقوة قلب، وعفة، ونزاهة، وأمانة.
قال ابن النجار [2] : كان مشهورا بالديانة وحسن الطريقة، ولم تكن له رواية في الحديث. توفي- رحمه الله تعالى- ليلة السبت حادي عشري شعبان، وصلى عليه الشيخ عبد القادر، ودفن بمقبرة الإمام أحمد، رضي الله عنه.
وفيها أبو الحسن علي بن أبي القاسم بن أبي زرعة الطبري، المقرئ المحدّث، الفقيه الحنبلي الزاهد، من أهل آمل طبرستان.
ذكره ابن السمعاني فقال: شيخ صالح خيّر ديّن كثير العبادة والذكر، مستعمل السنن [3] مبالغ فيها جهده. وكان مشهورا بالزهد والديانة، رحل بنفسه في طلب الحديث إلى أصبهان، وسمع بها جماعة من أصحاب أبي نعيم الحافظ، كأبي سعد المطرّز [4] ، وأبي علي الحداد، وغيرهما. وسمع.
__________
[1] في «ذيل طبقات الحنابلة» و «المنهج الأحمد» : «ووقفها» .
[2] انظر «ذيل تاريخ بغداد» (1/ 238- 239) .
[3] في «ذيل طبقات الحنابلة» : (2/ 188) «للسنن» .
[4] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «المطرب» والتصحيح من «ذيل طبقات الحنابلة» .(6/141)
ببلده آمل من أبي المحاسن الرّوياني الفقيه، وأبي بكر بن الخطّاب، وتوفي بالعسيلة [1] بعد فراغه من الحج، والعمرة، والزيارة، في المحرم ودفن بها.
انتهى.
وفيها أبو القاسم هبة الله بن أحمد الواسطي الشّروطي. روى عن الخطيب وابن المسلمة، وتوفي في ذي الحجة.
__________
[1] انظر «معجم البلدان» (4/ 125) .(6/142)
سنة تسع وعشرين وخمسمائة
فيها هجم على سرادق المسترشد بالله أبي منصور الفضل بن المستظهر بالله أحمد بن المقتدي بالله عبد الله بن محمد بن القائم الهاشمي العبّاسي، سبعة عشر من الباطنية فقتلوه وقتلوا بظاهر مراغة، وكانت ولادته في ربيع الأول، سنة خمس وثمانين وأربعمائة، وبويع له بالخلافة عند موت أبيه في ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وخمسمائة، وكان ذا همة عالية، وشهامة زائدة، وإقدام، ورأي، وهيبة شديدة. ضبط الأمور- أي أمور الخلافة- ورتبها أحسن ترتيب، وأحيا رميمها، ونشر عظامها، وشيّد أركان الشريعة، وطرّز أكمامها، وباشر الحروب بنفسه، وخرج عدة نوب إلى الحلّة، والموصل، وطريق خراسان، إلى أن خرج النّوبة الأخيرة وكسر جيشه بقرب همذان، وأخذ أسيرا إلى أذربيجان في هذه السنة.
وكان قد سمع الحديث من أبي القاسم بن بيان، وعبد الوهاب بن هبة الله السبتي. وروى عنه محمد بن عمر بن مكّي الأهوازي، ووزيره علي ابن طراد، وإسماعيل بن طاهر الموصلي.
وذكره ابن الصلاح في «طبقات الشافعية» وناهيك بذلك، فإنه قال: هو الذي صنّف له أبو بكر الشاشي كتابه «العمدة» في الفقه، وبلقبه اشتهر الكتاب، فإنه كان حينئذ يلقب عمدة الدّنيا والدّين.(6/143)
وذكره ابن السبكي في «طبقات الشافعية» [1] فقال: كان في أول أمره تنسّك، ولبس الصوف، وانفرد في بيت للعبادة، وكان مولده يوم الأربعاء ثامن عشر شعبان سنة ست وثمانين وأربعمائة، وخطب له أبوه بولاية العهد، ونقش اسمه على السكّة في شهر ربيع الأول سنة ثمان وثمانين، وكان مليح الخط، ما كتب أحد من الخلفاء قبله مثله، يستدرك على كتّابه ويصلح أغاليط في كتبهم. وأما شهامته وهيبته وشجاعته وإقدامه، فأمر أشهر من الشمس. ولم تزل أيامه مكدرة بكثرة التشويش والمخالفين، وكان يخرج بنفسه لدفع ذلك، إلى أن خرج الخرجة الأخيرة إلى العراق، فكسر [2] وأخذ، ورزق الشهادة.
وقال الذهبي: مات السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه سنة خمس وعشرين، فأقيم ابنه داود مكانه، فخرج عليه عمه مسعود بن محمد، فاقتتلا ثم اصطلحا على الاشتراك بينهما، ولكلّ مملكة، وخطب لمسعود بالسلطنة ببغداد ومن بعده لداود، وخلع عليهما، ثم وقعت بين الخليفة ومسعود، وحشة [3] فخرج لقتاله، فالتقى الجمعان، وغدر بالخليفة أكثر عسكره، فظفر به مسعود، وأسر الخليفة وخواصّه، فحبسهم بقلعة بقرب همذان، فبلغ أهل بغداد ذلك، فحثوا في الأسواق على رؤوسهم التراب، وبكوا وضجوا، وخرج النساء حاسرات يندبن الخليفة، ومنعوا الصلاة والخطبة.
قال ابن الجوزي: وزلزلت بغداد مرارا كثيرة، ودامت كل يوم خمس مرّات أو ست مرات، والناس يستغيثون، فأرسل السلطان سنجر إلى ابن أخيه مسعود يقول: ساعة وقوف الولد غياث الدّنيا والدّين على هذا المكتوب، يدخل على أمير المؤمنين، ويقبّل الأرض بين يديه، ويسأله العفو والصفح،
__________
[1] انظر «طبقات الشافعية الكبرى» (7/ 258) .
[2] في «تاريخ الخلفاء» ص (432) وهو مصدر المؤلف: «وانكسر» .
[3] لفظة «وحشة» لم ترد في «تاريخ الخلفاء» الذي بين يدي.(6/144)
ويتنصل غاية التنصل، فقد ظهر عندنا من الآيات السماوية والأرضية ما لا طاقة لنا بسماع مثلها، فضلا عن المشاهدة: من العواصف، والبروق، والزلازل، ودوام [1] ذلك عشرين يوما، وتشويش العساكر، وانقلاب البلدان.
ولقد خفت على نفسي من جانب الله، وظهور آياته، وامتناع الناس من الصلوات في الجوامع، ومنع الخطباء ما لا طاقة لي بحمله، فالله الله، تتلافى [2] أمرك وتعيد أمير المؤمنين إلى مقرّ [3] عزّة، وتحمل الغاشية [4] بين يديه كما جرت عادتنا وعادة آبائنا، ففعل مسعود جميع ما أمر به، وقبّل الأرض بين يدي الخليفة، ووقف يسأل العفو.
ثم أرسل سنجر رسولا آخر ومعه عسكر يستحثّ مسعود على إعادة الخليفة إلى مقرّ عزّة، فجاء في العسكر سبعة عشر من الباطنية، فذكر أن مسعودا ما علم بهم، وقيل: بل هو الذي دسّهم، فهجموا على الخليفة في مخيّمه [5] ففتكوا به، وقتلوا معه جماعة من أصحابه، فما شعر بهم العسكر إلّا وقد فرغوا من شغلهم، فأخذوهم وقتلوهم إلى لعنة الله، وجلس السلطان للعزاء، وأظهر المساءة بذلك، ووقع النحيب والبكاء، وجاء الخبر إلى بغداد، فاشتد ذلك على الناس، وخرجوا حفاة مخرّقين الثياب، والنساء ناشرات الشعور يلطمن ويقلن المراثي، لأن المسترشد كان محببا فيهم [ببرّه] ، ولما فيه [6] من الشجاعة والعدل والرّفق بهم.
__________
[1] في «تاريخ الخلفاء» : «ودام» .
[2] تصحفت في «آ» و «ط» إلى «بتلاقي» والتصحيح من «المنتظم» (10/ 47) و «تاريخ الخلفاء» ص (433) .
[3] في «المنتظم» : «مستعر» وفي «تاريخ الخلفاء» : «منرّ» وهي محرّفة من «مقرّ» .
[4] في «آ» و «ط» : «الفاشية» وهو تحريف، والتصحيح من «المنتظم» و «تاريخ الخلفاء» .
[5] في «تاريخ الخلفاء» : «خيمته» .
[6] لفظة «ببرّه» سقطت من «آ» و «ط» واستدركتها من «تاريخ الخلفاء» وقوله: «لما فيه» تحرف في «ط» إلى «بمرة شافية» .(6/145)
وقتل المسترشد بمراغة يوم الخميس سادس عشر ذي القعدة.
وقال الذهبي: وقد خطب المسترشد [1] بالناس يوم عيد أضحى، فقال:
الله أكبر ما سحّت [2] الأنواء، وأشرق الضياء، وطلعت ذكاء، وعلت على الأرض السماء، الله أكبر ما همع [3] سحاب، ولمع سراب، وأنجح طلاب، وسرّ قادما إياب. وذكر خطبة بليغة ثم جلس، ثم قام فخطب وقال: اللهم أصلحني في ذريتي وأعني على ما ولّيتني وأوزعني شكر نعمتك، ووفقني وانصرني، فلما فرغ منها وتهيأ للنزول بدره أبو المظفر الهاشمي فأنشده:
عليك سلام الله يا خير من علا ... على منبر قد حفّ أعلامه النّصر
وأفضل من أمّ الأنام وعمّهم ... بسيرته الحسنى وكان له الأمر
وهي طويلة.
وبالجملة فإنه كان من حسنات الخلفاء، رحمه الله تعالى.
وفيها، أو في التي قبلها، الحسن بن أحمد بن جكّينا [4] ، الشاعر المشهور.
قال العماد الكاتب: أجمع أهل بغداد على أنه لم يرزق أحد من الشعراء لطافة طبعه، وكان يلقب بالبرغوث ومن شعره:
لافتضاحي في عوارضه ... سبب والنّاس لوّام
كيف يخفى ما أكابده ... والذي أهواه نمّام
وله أيضا:
__________
[1] لفظة «المسترشد» لم ترد في «تاريخ الخلفاء» الذي بين يدي.
[2] كذا في «آ» و «ط» : «ما سحّت» أي ما سالت الأمطار وفي «تاريخ الخلفاء» : «ما سبحت» .
[3] في «آ» : «ماهع» وفي «تاريخ الخلفاء» : «ما همى» . وجاء في «مختار الصحاح» (همع) :
وسحاب همع، أي ماطر.
[4] تصحفت في «آ» و «ط» إلى «حكّينا» والتصحيح من «الوافي بالوفيات» (11/ 387) و «فوات الوفيات» (1/ 319) .(6/146)
لمّا بدا خطّ العذا ... ريزين عارضه [1] بمشق
وظننت أنّ سواده ... فوق البياض كتاب عتقي [2]
فإذا به من سوء حظ ... ي عهدة كتبت برقّي
وفيها- أو في التي قبلها- علي بن عطية اللّخمي البلنسي، الشاعر المشهور، عرف بابن الزقّاق. كان شاعرا مفلقا حسن السبك رشيق العبارة.
ومن شعره قوله في غلام أصابته جراحة في وجنته:
وما شق وجنته عابثا ... ولكنها آية للبشر
جلاها لنا الله كيما نرى ... بها كيف كان انشقاق القمر
وفيها- أو في التي قبلها، وبه جزم ابن خلّكان وابن شهبة [3]- محمد ابن عبد الله بن أحمد أبو نصر الأرغياني- بالفتح، فالسكون، فكسر المعجمة، وفتح التحتية، نسبة إلى أرغيان، من نواحي نيسابور- الشافعي صاحب «الفتاوى» المعروفة، وهي في مجلدين ضخمين، يعبر عنها تارة ب «فتاوى الأرغياني» وتارة ب «فتاوى إمام الحرمين» لأنها أحكام مجرّدة، أخذها مصنّفها من «النهاية» . قرأ على إمام الحرمين. وسمع من أبي الحسن الواحدي المفسر، وروى عنه في تفسير قوله تعالى: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ 12: 94 [يوسف: 94] فقال: إن ريح الصبا استأذنت ربها أن تأتي يعقوب عليه السّلام بريح يوسف عليه السلام، قبل أن يأتيه البشير بالقميص، فأذن لها فأتته بذلك، فلذلك يتروح كل محزون بريح الصبا، وهي من ناحية المشرق إذا هبّت على الأبدان نعمتها ولينتها، وهيّجت الأشواق إلى الأوطان والأحباب. انتهى.
__________
[1] في «الوافي بالوفيات» و «فوات الوفيات» : «يزين خدّيه» .
[2] في «آ» و «ط» : «عتق» وما أثبته من «الوافي بالوفيات» و «فوات الوفيات» .
[3] انظر «وفيات الأعيان» (4/ 221- 222) و «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 348- 349) .(6/147)
قال ابن السمعاني: ولد المذكور بأرغيان سنة أربع وخمسين وأربعمائة، وقدم نيسابور، وتفقّه على إمام الحرمين، وبرع في الفقه، وكان إماما متنسكا، كثير العبادة، حسن السيرة، مشتغلا بنفسه، توفي في ذي القعدة بنيسابور وله شعر.
وفيها طراد السّلمي السّنبسي البلنسي، عرف بزربول الأدب، وفيه يقول بعضهم، وقد أرسل معه كتاب جراب الدولة لصديق له يداعبه:
وما يهدى مع الزّربول يوما ... إلى خلّ بأظرف من جراب
ومن شعره هو:
بادروا بالفرار من مقلتيه ... قبل أن تخسروا النّفوس عليه
واعلموا أنّ للغرام ديونا ... ما لها الدّهر منقذ من يديه
وفيها شمس الملوك، أبو الفتح إسماعيل بن تاج الملوك بوري بن طغتكين، ولي دمشق بعد أبيه، وكان وافر الحرمة، موصوفا بالشجاعة، كثير الإغارة على الفرنج. أخذ منهم عدة حصون، وحاصر أخاه ببعلبك مدّة، لكنه كان ظالما مصادرا، جبّارا [مسودنا] . رتّبت أمّه زمرّد خاتون من وثب عليه من قلعة دمشق في ربيع الأول، وكانت دولته نحو ثلاث سنين، وترتّب بعده في الملك أخوه محمود، وصار أتابكه معين الدّين أنر الطّغتكيني، فبقي أربع سنين وقتله غلمانه. قاله في «العبر» [1] .
وفيها الحسن بن الحافظ لدّين الله عبد المجيد العبيدي المصري، ولي عهد أبيه ووزيره، ولي ثلاثة أعوام، فظلم، وغشم، وفتك، حتّى إنه قتل في ليلة أربعين أميرا، فخافه أبوه، وجهز لحربه جماعة، فالتقاهم واختبطت مصر، ثم دسّ عليه أبوه من سقاه سمّا فهلك.
__________
[1] (4/ 77- 78) وما بين حاصرتين مستدرك منه.(6/148)
وفيها دبيس بن صدقة ملك العرب نور الدولة أبو الأعزّ [1] ولد الأمير سيف الدولة الأسدي، صاحب الحلّة. كان فارسا، شجاعا، مقداما، جوادا، ممدحا، أديبا، كثير الحروب والفتن، خرج على المسترشد بالله غير مرة، ودخل خراسان، والشام، والجزيرة، واستولى على كثير من العراق، وكان مسعّر حرب وجمرة بلاء. قتله السلطان مسعود بمراغة في ذي الحجة، وأظهر أنه قتله أخذا بثأر المسترشد، فلله الحمد على قتله.
وله نظم حسن منه:
تمتّع بأيام السّرور فإنما ... عذار الأماني بالهموم يشيب
ونسب العماد الكاتب في «الخريدة» إليه الأبيات اللّامية التي من جملتها:
أسلمه حبّ سليمانكم ... إلى هوى أيسره القتل
وفيها ظافر بن القاسم بن منصور بن عبد الله بن خلف بن عبد الغني أبو المنصور الجذامي الإسكندري، المعروف بالحداد، الشاعر المشهور.
كان من الشعراء المجيدين، وله ديوان شعر أكثره [2] جيد، ومدح جماعة من المصريين، وروى عنه الحافظ أبو طاهر السّلفي وغيره من الأعيان، ومن مشهور شعره قوله:
لو كان بالصبر الجميل ملاذه ... ما سحّ وابل دمعه ورذاذه
ما زال جيش الحبّ يغزو قلبه ... حتّى وهي وتقطّعت أفلاذه
لم يبق فيه مع الغرام بقيّة ... إلّا رسيس يحتويه جذاذه
من كان يرغب في السلامة فليكن ... أبدا من الحدق المراض عياذه
__________
[1] كذا في «آ» و «ط» و «سير أعلام النبلاء» (19/ 612) : «أبو الأعز» وفي «المنتظم» (10/ 52) ، و «وفيات الأعيان» (2/ 263) و «العبر» (4/ 78) طبع الكويت، و (2/ 435) طبع بيروت، و «النجوم الزاهرة» (5/ 256) : «أبو الأغرّ» .
[2] كذا في «ط» و «وفيات الأعيان» (2/ 540) : «أكثره» وفي «آ» : «كثيره» .(6/149)
لا تخدعنّك بالفتور فإنّه ... نظر يضرّ بقلبك استلذاذه
يا أيها الرّشأ الذي من طرفه ... سهم إلى حبّ القلوب نفاذه
درّ يلوح بفيك من نظّامه؟ ... خمر يجول عليه من نبّاذه
وقناة ذاك القدّ كيف تقوّمت؟ ... وسنان ذاك اللحظ ما فولاذه؟
رفقا بجسمك لا يذوب فإنني ... أخشى بأن يجفو عليه لاذه
هاروت يعجز عن مواقع سحره ... وهو الإمام فمن ترى أستاذه؟
تالله ما علقت محاسنك امرأ ... إلّا وعزّ على الورى استنقاذه
أغريت حبّك بالقلوب فأذعنت ... طوعا وقد أودى بها استحواذه
ما لي أتيت الحظّ من أبوابه ... جهدي فدام نفوره ولواذه
إيّاك من طمع المنى فعزيزه ... كذليله وغنيّه شحّاذه
ذالّية ابن دريد استهوى بها ... قوما [1] غداة نبت به بغداذه
دانوا [2] لزخرف قوله فتفرّقت ... طمعا بهم صرعاه أو جذّاذه
من قدّر الرزق السنيّ لك آنما [3] ... قد كان ليس يضرّه إنفاذه
وهذه القصيدة من غرر القصائد.
ومن شعره:
رحلوا فلولا أنّني ... أرجو الإياب قضيت نحبي
والله ما فارقتهم ... لكنني فارقت قلبي
وذكره علي بن ظافر بن أبي المنصور في كتابه «بدائع البدائه» وأثنى
__________
[1] في «آ» و «ط» : «قوم» وما أثبته من «وفيات الأعيان» (2/ 541) .
[2] في «آ» و «ط» : «دانت» وأثبت لفظ «ديوانه» ص (129) بتحقيق الدكتور حسين نصّار، و «وفيات الأعيان» .
[3] كذا في «آ» و «ط» و «وفيات الأعيان» وفي «ديوانه» : «أينما» .(6/150)
عليه، وأورد فيه عن القاضي أبي عبد الله محمد بن الحسين الآمدي النائب.
كان في الحكم بثغر الإسكندرية، قال: دخلت على الأمير السعيد بن ظفر أيام ولايته الثغر، فوجدته يقطر دهنا على خنصره، فسألته عن سببه، فذكر ضيق خاتمه عليه، وأنّه ورم بسببه، فقلت له: الرأي قطع حلقته قبل أن يتفاقم الأمر به، فقال: اختر من يصلح لذلك، فاستدعيت أبا المنصور ظافر الحداد فقطع الحلقة وأنشد بديها:
قصّر عن أوصافك العالم ... وكثّر [1] الناثر والناظم
من يكن البحر له راحة ... يضيق عن خنصره الخاتم
فاستحسنه الأمير ووهب له الحلقة، وكانت من ذهب. وكان بين يدي الأمير غزال مستأنس، وقد ربض وجعل رأسه في حجره، فقال ظافر بديها:
عجبت لجرأة هذا الغزال ... وأمر تخطّى له واعتمد
وأعجب به إذ بدا جاثما ... وكيف اطمأن وأنت الأسد
فزاد الأمير والحاضرون في الاستحسان، وتأمل ظافر شيئا على باب المجلس يمنع الطير من دخولها فقال:
رأيت ببابك هذا المنيف ... شباكا فأدركني بعض شكّ
وفكرت [2] فيما رأى خاطري ... فقلت البحار مكان الشبك
ثم انصرف وتركنا متعجبين من حسن بديهته، رحمه الله تعالى.
وكانت وفاته بمصر في المحرم. قاله ابن خلّكان [3] .
__________
[1] في «آ» و «ط» : «وأكثر» وفي «النجوم الزاهرة» (5/ 376) : «فاعترف» وما أثبته من «وفيات الأعيان» (2/ 543) و «ديوانه» ص (299) .
[2] في «وفيات الأعيان» : «وفكّر» .
[3] في «وفيات الأعيان» (2/ 540- 543) .(6/151)
وفيها ثابت بن منصور بن المبارك الكيلي [1] المقرئ المحدّث الحنبلي أبو العزّ.
سمع من أبي محمد التميمي، وأبي الغنائم بن أبي عثمان، وغيرهما.
وعني بالحديث، وسمع الكثير، وكتب الكثير، وخرّج تخاريج لنفسه عن شيوخه في فنون، وحدّث وسمع منه جماعة، وروى عنه السّلفي، والمبارك ابن أحمد، وابن الجوزي، وغيرهم.
وقال أبو الفرج: كان ديّنا ثقة صحيح الإسناد، ووقف كتبه قبل موته.
وقال السّلفيّ عنه: فقيه مذهب أحمد. كتب كثيرا، وسمع معنا وقبلنا على شيوخ، وكان ثقة وعر الأخلاق.
وتوفي يوم الاثنين سابع عشر ذي الحجة.
قال ابن رجب: قيل توفي سنة ثمان وعشرين، ورأيت جماعة من المحدّثين وغيرهم نعتوه في طباق السماع بالإمام الحافظ، رحمه الله.
وهو منسوب إلى كيل [2] قرية على شاطئ دجلة على مسيرة يوم من بغداد مما يلي طريق واسط ويقال لها جيل أيضا. انتهى.
ومنها [3] الشيخ عبد القادر [4] .
وفيها أبو الحسن عبد الغافر بن إسماعيل بن عبد الغافر بن محمد الفارسي، الحافظ الأديب، صاحب «تاريخ نيسابور» ومصنّف «مجمع الغرائب» ومصنّف «المفهم في شرح مسلم» كان إماما في الحديث، واللغة،
__________
[1] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 93- 94) .
[2] انظر «معجم البلدان» (4/ 498) .
[3] يعني من «كيل» ، أو من «جيل» .
[4] هو شيخ الشيوخ الإمام عبد القادر الكيلاني، ويقال: الجيلاني، المتوفى سنة (561) هـ، وسوف ترد ترجمته في ص (329- 335) من هذا المجلد.(6/152)
والأدب، والبلاغة، فقيها شافعيا، أكثر الأسفار، وحدّث عن جدّه لأمه أبي القاسم القشيري وطبقته، وأجاز له أبو محمد الجوهري وآخرون.
وتفقّه بإمام الحرمين، لازمه أربع سنين، وأخذ عنه الخلاف والفقه، ورحل فأكثر الأسفار، ولقي العلماء، ثم رجع إلى نيسابور، وولي خطابتها، وأخذ التفسير والأصول عن خالية أبي سعيد عبد الله، وأبي سعيد عبد الواحد، ابني أبي القاسم القشيري، ومات بنيسابور عن ثمان وسبعين سنة.
وفيها قاضي الجماعة أبو عبد الله بن الحاج التّجيبي القرطبي [1] المالكي، محمد بن أحمد بن خلف. روى عن أبي علي الغسّاني وطائفة، وكان من جلّة العلماء وكبارهم، متبحرا في العلوم والآداب، ولم يكن أحد في زمانه أطلب للعلم منه، مع الدّين، والخشوع، قتل ظلما بجامع قرطبة في صلاة الجمعة، عن إحدى وسبعين سنة.
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 79) .(6/153)
سنة ثلاثين وخمسمائة
فيها كبس عسكر حلب بلاد الفرنج بالساحل، فأسروا، وسبوا، وغنموا، وشرع أمر الفرنج يتضعضع.
وفيها حصل بين السلطان مسعود وبين الخليفة الراشد بالله خلف، وجمعت العساكر من الفريقين، وذهب الخليفة إلى الموصل، ودخل السلطان مسعود بغداد، واحتوى على دار الخلافة [1] ، واستدعى الفقهاء، وأخرج خطّ والد الخليفة المسترشد أنّه من خرج من بغداد لقتال السلطان فقد خلع نفسه من الخلافة، فأفتى من أفتى من الفقهاء بخلعه، فخلعه في [2] يوم الاثنين، سادس عشر ذي القعدة بحكم الحاكم، وفتيا الفقهاء، واستدعى بعمه المقتفي بن المستظهر بالله، فبويع له بالخلافة.
قال ابن الجوزي في «الشذور» : وقد ذكر الصولي شيئا فتأملته، فإذا هو عجيب. قال الناس: إن كل سادس يقوم بأمر النّاس منذ أول الإسلام لا بد أن يخلع، فاعتبرت أنا هذا فوجدته كذلك، انعقد الأمر لنبينا محمد- صلّى الله عليه وسلم- ثم قام أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والحسن، وخلع، ثم معاوية، ويزيد ابن معاوية، ومعاوية بن يزيد، ومروان، وعبد الملك، وابن الزّبير، فخلع وقتل. ثم لم ينتظم لبني أميّة أمر، فولي السفّاح، والمنصور، والمهدي، والهادي، والرشيد، والأمين، فخلع وقتل، ثم المأمون، والمعتصم، والواثق،
__________
[1] في «آ» : «الخليفة» .
[2] لفظة «في» سقطت من «آ» .(6/154)
والمتوكل، والمنتصر، والمستعين، فخلع وقتل، ثم المعتز، ثم المقتدي، ثم المعتمد، ثم المعتضد، ثم المكتفي، ثم المقتدر، فخلع، ثم ردّ ثم قتل، ثم القاهر، والراضي، والمتقي، والمستكفي، والمطيع، والطائع. فخلع، ثم القادر، والقائم، والمقتدي، والمستظهر، والمسترشد، والراشد، فخلع، ثم ولي المقتفي.
وفيها توفي أبو منصور البأآر- كالقفّال- نسبة إلى عمل البئر- إبراهيم ابن الفضل الأصبهاني الحافظ. روى عن أبي الحسين بن النّقور وخلق.
قال ابن السمعاني: رحل وسمع، وما أظن أحدا بعد ابن طاهر المقدسي رحل وطوّف مثله، أو جمع الأبواب كجمعه، إلّا أن البأآر لحقه الإدبار [1] في آخر الأمر، فكان يقف في سوق أصبهان ويروي من حفظه بسنده، وسمعت أنه يضع في الحال.
وقال لي إسماعيل بن محمد الحافظ: أشكر الله كيف ما لحقته.
وأما ابن طاهر المقدسي فجرب عليه الكذب مرّات. قاله في «العبر» [2] .
وفيها سلطان بن يحيى بن علي بن عبد العزيز زين القضاة أبو المكارم القرشي الدمشقي. روى عن أبي القاسم بن أبي العلاء وجماعة وناب في القضاء عن أبيه ووعظ وأفتى.
وفيها علي بن أحمد بن منصور بن قيس الغسّاني أبو الحسن المالكي، النحوي الزاهد، شيخ دمشق ومحدّثها. روى عن أبي القاسم السميساطي، وأبي بكر الخطيب، وعدة.
قال السّلفي: لم يكن في وقته مثله بدمشق، كان زاهدا عابدا، ثقة.
__________
[1] لفظة «الإدبار» سقطت من «آ» .
[2] (4/ 81- 82) .(6/155)
وقال ابن عساكر: كان متحرّزا، متيقظا، منقطعا في بيته بدرب النقاشة [1] أو ببيته الذي في المنارة الشرقية بالجامع، مفتيا يقرئ الفرائض والنحو.
وفيها أبو سهل محمد بن إبراهيم بن سعدويه الأصبهاني المزكّي.
راوي «مسند البرقاني» عن أبي الفضل الرازي، توفي في ذي القعدة.
وفيها أبو عبد الله محمد بن حمّويه الجويني الزاهد، شيخ الصوفية بخراسان. له مصنّف في التصوف، وكان زاهدا، عارفا، قدوة، بعيد الصيت. روى عن موسى بن عمران الأنصاري وجماعة، وعاش اثنتين وثمانين سنة، وهو جدّ بني حمّويه.
قال السخاوي: دفن في داره ببحيراباذا، إحدى قرى جوين، وقرأ الفقه والأصول على إمام الحرمين، ثم انجذب إلى الزهد وحجّ مرّات، وكان مستجاب الدعاء، وصنّف كتاب «لطائف الأذهان في تفسير القرآن» و «سلوة الطالبين في سيرة سيد المرسلين» صلّى الله عليه وسلم» وكتابا في علم الصوفية، وغير ذلك.
ولد سنة تسع وأربعين وأربعمائة، وأخذ طريقة التصوف عن أبي الفضل علي بن محمد الفارمذي عن أبي القاسم الطّوسي عن أبي عثمان سعيد بن سلام المغربي عن الزجاجي، عن الجنيد. انتهى.
وفيها أبو بكر محمد بن علي بن أبي ذرّ [2] الصالحاني، مسند
__________
[1] تصحفت في «آ» و «ط» إلى «النقاسة» والتصحيح من «العبر» (4/ 82) وعلّق عليه الأستاذ الدكتور صلاح الدّين المنجد فقال: ما يزال حتى اليوم ويسمى حارة النقاشة، وأحال على كتابه «معجم الأماكن الطبوغرافية» .
[2] في «آ» و «ط» : «ابن شاذان» وهو خطأ، فابن شاذان هو محمد بن عبد الله بن الحسين بن مهران بن شاذان بن يزيد الفامي الصالحاني، مات سنة (440) هـ. انظر «الأنساب» (8/ 13) ، وما أثبته من «العبر» (4/ 83) طبع الكويت، و (2/ 438) طبع بيروت، و «سير أعلام النبلاء» (19/ 585) .(6/156)
أصبهان في زمانه، وآخر من حدّث عن أبي طاهر بن عبد الرحيم الكاتب.
كان صالحا صحيح السماع، توفي في جمادى الآخرة عن اثنتين وتسعين سنة، وآخر أصحابه عين الشمس. قاله في «العبر» [1] .
وفيها [أبو] عبد الله الفراوي- بضم الفاء، نسبة إلى فراوة بلد قرب خوارزم- محمد بن الفضل بن أحمد الصّاعدي النيسابوري، راوي «صحيح مسلم» عن الفارسي، ومسند خراسان، وفقيه الحرم. كان شافعيا مفتيا مناظرا، صحب إمام الحرمين مدّة، وعاش تسعين سنة.
قال ابن شهبة [2] : يعرف بفقيه الحرم، لأنه أقام بالحرمين مدة طويلة، ينشر العلم، ويسمّع الحديث، ويعظ الناس، ويذكّرهم. أخذ الأصول والتفسير عن أبي القاسم القشيري، وتفقّه بإمام الحرمين، وسمع من خلق كثير، وتفرّد ب «صحيح مسلم» .
وقال ابن السمعاني: هو إمام مفت، مناظر، واعظ، حسن الأخلاق والمعاشرة، جواد، مكرم للغرباء، ما رأيت في شيوخنا مثله. ثم حكي عن بعضهم [3] أنه قال: الفراوي ألف راوي [4] .
قال الذهبي: وقد أملى أكثر من ألف مجلس، توفي في شوال، ودفن إلى جانب ابن خزيمة.
وفيها كافور النبويّ [5] من خدّام النّبيّ، صلى الله عليه وسلم، كان أسود، خصيا، طويلا، لا لحية له.
__________
[1] (4/ 83) .
[2] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 352) .
[3] أقول: هو عبد الرشيد بن علي الطبري كما في «سير أعلام النبلاء» (19/ 618) . (ع) .
[4] أقول: أي يقدّر بألف راو. (ع) .
[5] كذا في «آ» و «ط» و «المنتخب» (109/ ب) ولم أقف على ذكر له فيما بين يدي من المصادر والمراجع.(6/157)
ومن شعره:
حتّام همّك في حلّ وترحال ... تبغي العلا والمعالي مهرها غالي
يا طالب المجد دون المجد ملحمة ... في طيّها تلف للنّفس والمال
ولليالي صروف قلّما انجذبت ... إلى مراد امرئ يسعى لآمال(6/158)
سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة
فيها توفي أبو البركات أحمد بن علي بن عبد الله بن الأبرادي [1] البغدادي، الفقيه الحنبلي الزاهد. سمع من أبي الغنائم بن أبي عثمان، وأبي الحسن بن الأخضر الأنباري وخلق، وقرأ الفقه على ابن عقيل، وصحب الفاعوس وغيره من الصالحين. وتعبد ووقف دارا بالبدرية شرقي بغداد على أصحاب أحمد. وسمع منه جماعة منهم: أبو المعمر الأنصاري، وأبو القاسم ابن عساكر، ورويا عنه، وتوفي ليلة الخميس ثاني عشر رمضان ودفن بباب أبرز.
وفيها إسماعيل بن أبي القاسم [بن أبي بكر] القارئ [2] أبو محمد النيسابوري. روى عن أبي الحسين عبد الغافر، وأبي حفص بن مسرور، وكان صوفيّا صالحا، ممن خدم أبا القاسم القشيري، ومات في رمضان وله اثنتان وتسعون سنة. وقد روى «صحيح مسلم» كلّه.
وفيها تميم بن أبي سعيد [3] أبو القاسم الجرجاني. روى عن أبي
__________
[1] تصحفت في «آ» و «ط» إلى «الإيرادي» والتصحيح من «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 188) و «المنهج الأحمد» (2/ 284) .
[2] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «الغازي» والتصحيح من «العبر» (4/ 84) طبع الكويت و (2/ 439) طبع بيروت، و «النجوم الزاهرة» (5/ 260) وما بين حاصرتين زيادة منه.
[3] انظر «سير أعلام النبلاء» (20/ 20) .(6/159)
حفص بن مسرور، وأبي سعد الكنجروذي، والكبار، وكان مسند هراة في زمانه، توفي في هذه السنة أو قبلها. قاله في «العبر» [1] .
وفيها طاهر بن سهل بن بشر أبو محمد الإسفراييني الدمشقي الصائغ، عن إحدى وثمانين سنة. سمع أباه، وأبا بكر الخطيب، وأبا القاسم الحنّائي، وطائفة، وكان ضعيفا.
قال ابن عساكر: حكّ اسم أخيه وكتب بدله اسمه.
وفيها الحسن بن يحيى بن روبيل الدمشقي الأبّار. كان يبيع الإبر، وكان صالحا ناسكا مغرى بهجاء زوجته، لأنها أشارت عليه أن يمدح كبيرا فما نفع، فهجاه فصفع، فقال: لولا زوجتي لما صفعت ولولا تغريرها [2] في لما وقعت.
وفيها أبو جعفر الهمذاني محمد بن أبي علي الحسن بن محمد، الحافظ الصدوق، رحل وروى عن ابن النّقور، وأبي صالح المؤذّن، والفضل ابن المحبّ، وطبقتهم بخراسان، والعراق، والحجاز، والنواحي.
قال ابن السمعاني: ما أعرف أن أحدا في عصره سمع أكثر منه. توفي في ذي القعدة.
وقال ابن ناصر الدّين [3] : كان حافظا من المكثرين.
وفيها أبو القاسم بن الطّبر هبة الله بن أحمد بن عمر الحريري البغدادي المقرئ. قرأ بالروايات على أبي بكر محمد بن موسى الخيّاط [4] ،
__________
[1] (4/ 85) .
[2] في «ط» : «تعذيرها» وهو تحريف.
[3] انظر «التبيان شرح بديعة البيان» (161/ ب) .
[4] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «الحنّاط» والتصحيح من «العبر» (4/ 86) و «معرفة القراء الكبار» (1/ 485) و «سير أعلام النبلاء» (19/ 593) .(6/160)
وهو آخر أصحابه. وسمع من أبي إسحاق البرمكي وجماعة، وكان ثقة صالحا ممتعا بحواسه. توفي في جمادى الآخرة عن ست وتسعين سنة.
وفيها أبو عبد الله يحيى بن الحسن بن أحمد بن البنّاء البغدادي الحنبلي. روى عن أبي الحسين بن الأبنوسي، وعبد الصمد بن المأمون، وكان ذا علم وصلاح، وهو أخو أبي نصر المتقدم ذكره.
قال ابن رجب [1] : ولد يوم الجمعة رابع عشري ذي القعدة، سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة، وبكّر به أبوه في السماع، فسمع من أبي الحسين بن المهتدي، وابن الأبنوسي، وابن النّقور، ووالده أبي علي بن البنا، وغيرهم.
وحدّث وروى عنه جماعة من الحفّاظ، منهم: ابن عساكر، وابن الجوزي، وابن بوش.
وروى عنه ابن السمعاني إجازة. وقال: كان شيخا صالحا، حسن السيرة، واسع الرواية، حسن الأخلاق، متودّدا، متواضعا، برا، لطيفا بالطلبة، مشفقا عليهم، وتوفي ليلة الجمعة ثامن شهر ربيع الأول.
__________
[1] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 189) .(6/161)
سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة
فيها توفي أبو نصر الغازي أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني الحافظ.
قال ابن السمعاني: ثقة حافظ، ما رأيت في شيوخي أكثر رحلة منه.
سمع أبا القاسم ابن مندة، وأبا الحسين بن النّقور، والفضل بن المحبّ، وطبقتهم. وكان جماعة من أصحابنا يفضّلونه على إسماعيل التيمي الحافظ.
توفي في رمضان.
وقال الذهبيّ [1] : عاش ثلاثا وثمانين سنة.
وفيها أحمد بن محمد بن أحمد بن مخلد بن عبد الرحمن بن أحمد ابن الحافظ بقي بن مخلد أبو القاسم القرطبي المالكي، أحد الأئمة. روى عن أبيه، وابن الطّلاع، وأجاز له أبو العبّاس بن دلهاث، وتوفي في سلخ العام عن سبع وثمانين سنة.
وفيها الفقيه الحنبلي أبو بكر الدّينوري أحمد بن أبي الفتح محمد بن أحمد، من أئمة الحنابلة ببغداد. تفقّه على أبي الخطّاب، وبرع في الفقه، وتقدم في المناظرة على أبناء جنسه، حتّى كان أسعد الميهني شيخ الشافعية يقول: ما اعترض أبو بكر الدّينوري على دليل أحد إلّا ثلم فيه ثلمة.
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 87) .(6/162)
وله تصانيف في المذهب، منها كتاب «التحقيق في مسائل التعليق» وتخرّج به أئمة منهم: أبو الفتح بن المنّي، والوزير ابن هبيرة.
قال ابن الجوزي: حضرت درسه بعد موت شيخنا ابن الزّاغوني [1] نحوا من أربع سنين.
قال: وأنشدني- أي لنفسه-:
تمنّيت أن تمسي [2] فقيها مناظرا ... بغير عناء والجنون فنون
وليس اكتساب المال دون مشقّة ... تلقّيتها فالعلم كيف يكون
وقال ابن الجوزي: كان يرق عند ذكر الصالحين ويبكي، ويقول:
للعلماء عند الله قدر، فلعل الله أن يجعلني منهم. توفي يوم السبت غرة جمادى الأولى، ودفن عند رجلي [3] أبي منصور الخيّاط، قريبا من قبر الإمام أحمد، رضي الله عنه.
وفيها إسماعيل بن أبي صالح أحمد بن عبد الملك، المؤذّن الفقيه، أبو سعد النيسابوري الشافعي. روى عن أبيه، وأبي حامد الأزهري، وطائفة، وتفقّه على إمام الحرمين، وبرع في الفقه، ونال جاها ورئاسة عند سلطان كرمان. وتوفي ليلة الفطر وله نيّف وثمانون سنة.
وفيها سعيد بن أبي الرجاء محمد بن أبي [منصور] بكر أبو الفرج الأصبهاني الصّيرفي الخلّال السّمسار [4] . توفي في صفر عن سنّ عالية، فإنه
__________
[1] تحرفت في «آ» إلى «الزعفراني» .
[2] في «آ» و «ط» : «أن أمسي» وما أثبتناه من «المنتظم» (10/ 73) و «البداية والنهاية» (12/ 213) و «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 190) و «المنهج الأحمد» (2/ 285) .
[3] في «ذيل طبقات الحنابلة» إلى «رجل» .
[4] انظر «العبر» (4/ 87- 88) و «سير أعلام النبلاء» (19/ 622) وما بين حاصرتين مستدرك منه.(6/163)
سمع سنة ست وأربعين من أحمد بن محمد بن النّعمان القصّاص، وروى «مسند أحمد بن منيع» و «مسند العدني [1] » و «مسند أبي يعلى» وأشياء كثيرة، وكان صالحا ثقة.
وفيها عبد المنعم بن أبي القاسم عبد الكريم بن هوازن أبو المظفّر القشيري النيسابوري، آخر أولاد الشيخ وفاة، عاش سبعا وثمانين سنة، وحدّث عن سعيد البحيري، والبيهقي، والكبار، وأدرك ببغداد أبا الحسين بن النّقور وجماعة.
وفيها أبو الحسن الجذامي علي بن عبد الله بن محمد بن سعيد بن موهوب الأندلسي، أحد الأئمة، أجاز له أبو عمر بن عبد البرّ، وأكثر عن أبي العبّاس بن دلهاث العذري، وصنّف تفسيرا وكتابا في الأصول، وعمّر إحدى وتسعين سنة.
وفيها علي بن علي بن عبيد الله أبو منصور الأمين، والد عبد الوهاب ابن سكينة. روى «الجعديات» عن الصّريفيني، وكان خيّرا زاهدا، يصوم صوم داود، وكان أمينا على أموال الأيتام ببغداد، عاش أربعا وثمانين سنة.
وفيها فاطمة بنت علي بن المظفّر بن زعبل [2] ، أم الخير، البغدادية الأصل، النيسابورية المقرئة. روت «صحيح مسلم» و «غريب» الخطابي عن أبي الحسين الفارسي، وعاشت سبعا وتسعين سنة، وكانت تلقن النساء، وقيل: توفيت في العام المقبل. قاله في «العبر» [3] .
__________
[1] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «الغربي» والتصحيح من «العبر» (4/ 88) و «سير أعلام النبلاء» (19/ 622) .
[2] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «دعبل» والتصحيح من «العبر» (4/ 89) و «سير أعلام النبلاء» (19/ 625) .
[3] (4/ 89) .(6/164)
وفيها أبو الحسن الكرجي محمد بن عبد الملك بن محمد بن عمر، الفقيه الشافعي، شيخ الكرج وعالمها ومفتيها.
قال ابن السمعاني: إمام ورع فقيه مفت محدّث أديب. أفنى عمره في طلب العلم ونشره. وروى عن مكّي السلّار وجماعة، وله القصيدة المشهورة في السّنّة نحو مائتي بيت، شرح فيها عقيدة السلف، وله تصانيف في المذهب والتفسير.
وقال ابن كثير في «طبقاته» : له كتاب «الفصول في اعتقاد الأئمة الفحول» حكى فيه عن أئمة عشرة من السلف، الأئمة الأربعة، وسفيان الثوري، والأوزاعي، وابن المبارك، واللّيث، وإسحاق بن راهويه أقوالهم في أصول العقائد. انتهى. كذا قال، ولم يذكر العاشر، وله مختصر في الفقه يقال له «الذرائع في علم الشرائع» وله تفسير، وكان لا يقنت في الفجر، ويقول: لم يصح في ذلك حديث، وقد قال الشافعي: إذا صحّ الحديث فاضربوا بقولي الحائط.
وقال ابن شهبة [1] : ولد سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، وتوفي في شعبان.
والكرجيّ: بكاف وراء مفتوحتين، وبالجيم. انتهى [2] .
وفيها الراشد بالله أبو جعفر منصور بن المسترشد بالله الفضل بن المستظهر بالله أحمد بن المقتدي بالله الهاشمي العبّاسي، خطب له بولاية العهد أكثر أيام والده وبويع بعده، وكان شابا أبيض، مليح الوجه، تام
__________
[1] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 351) .
[2] قلت: وكان شاعرا أيضا، وقد أورد الإسنويّ من شعره هذين البيتين في «طبقات الشافعية» (2/ 349) :
كلّ العلوم سوى القرآن مشغلة ... إلّا الحديث وإلّا الفقه في الدّين
العلم ما كان فيه قال حدّثنا ... وما سوى ذاك وسواس الشياطين(6/165)
الشكل، شديد البطش، شجاع النفس، حسن السيرة، جوادا كريما، شاعرا فصيحا، لم تطل دولته. خرج من بغداد إلى الجزيرة وأذربيجان، فخلعوه لذنوب ملفّقة، فدخل مراغة وعسكر فيها، وسار إلى أصبهان ومعه السلطان داود بن محمود، فحاصرها وتمرّض هناك، فوثبت عليه جماعة من الباطنية فقتلوه وقتلوا، وقيل: قتلوه صائما يوم سادس عشري رمضان، وله ثلاثون سنة. وخلّف نيفا وعشرين ابنا. وقد غزا أهل همذان وعبرها في أيام عزله، وظلم وعسف وقتل كغيره. قاله في «العبر» [1] .
وفيها أبو شروان بن خالد الوزير أبو نصر القاشاني [2] ، وزر للمسترشد والسلطان محمود، وكان من عقلاء الرجال ودهاتهم، وفيه دين وحلم وجود، مع تشيّع قليل.
وكان محبا للعلماء موصوفا بالجود والكرم، أرسل إليه القاضي الأرجاني يطلب منه خيمة، فلم يكن عنده، فجهز له خمسمائة دينار، وقال:
اشتر بهذه خيمة، فقال:
لله درّ ابن خالد رجلا ... أحيا لنا الجود بعد ما ذهبا
سألته خيمة ألوذ بها ... فجاد لي ملء خيمة ذهبا
وكان هو السبب في عمل «مقامات الحريري» وإيّاه عنى الحريريّ في أول «مقاماته» [3] بقوله: فأشار عليّ من إشارته حكم وطاعته غنم.
وفيها القاضي الأعز محمد بن هبة الله بن خلف التميمي، ولي بانياس، وكان ذا كرم ومروءة، ومات بدمشق، وهو الذي يكثر هجوه ابن منير الشاعر، من ذلك قوله من قصيدة:
__________
[1] (4/ 89- 90) .
[2] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «الغاسّاني» والتصحيح من «العبر» (4/ 90) وتحرفت «أنوشروان» فيه وفي طبعة بيروت منه إلى «نوشروان» . فتصحح وانظر «النجوم الزاهرة» (5/ 261) .
[3] انظر «مقامات الحريري» ص (4) طبعة البابي الحلبي، ولفظة «عليّ» لم ترد فيها.(6/166)
هو قاض كما يقول ولكن ... ما عليه من القضاء علامة
عمّة تملأ الفضاء عليه ... فوق وجه كعشر عشر القلامة
وعليها من التّصاوير ما لم ... يجمع القدس مثله والقمامة
وفيها أبو الحسن يونس بن محمد بن مغيث بن محمد بن يونس بن عبد الله بن مغيث القرطبي [1] العلّامة. أحد الأئمة بالأندلس. كان رأسا في الفقه، واللغة، والأنساب، والأخبار، وعلو الإسناد. روى عن أبي عمر بن الحذّاء، وحاتم بن محمد، والكبار، وتوفي في جمادى الآخرة عن خمس وثمانين سنة.
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 90) .(6/167)
سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة
فيها كما قال في «الشذور» كانت زلزلة بجنزة [1] أتت على مائتي ألف وثلاثين ألفا فأهلكتهم، وكانت الزلزلة عشرة فراسخ.
وفيها توفي الشيخ أبو العبّاس أحمد بن عبد الملك بن أبي جمرة المرسي. روى عن جماعة وانفرد بالإجازة عن أبي عمرو الدّاني.
وفيها زاهر بن طاهر أبو القاسم الشّحّامي النيسابوري، المحدّث المستملي الشّروطي، مسند خراسان. روى عن أبي سعد الكنجروذي، والبيهقي، وطبقتهما، ورحل في الحديث أولا وآخرا، وخرّج التخاريج [2] ، وأملى نحوا من ألف مجلس، ولكنه كان يخلّ بالصلوات، فتركه جماعة لذلك. توفي في ربيع الآخر. قاله في «العبر» [3] .
وفيها جمال الإسلام أبو الحسن علي بن المسلّم بن محمد بن علي السّلمي الدمشقي، الفقيه الشافعي الفرضي، مدرس الغزالية والأمينية، ومفتي الشام في عصره، وهو أول من درّس بالأمينية المنسوبة لأمين الدولة سنة أربع
__________
[1] في «آ» و «ط» : «بخبزة» وهو تصحيف، والتصحيح من «المنتظم» (10/ 78) و «العبر» بطبعتيه. وجنزة: اسم أعظم مدينة بأرّان، وهي بين شروان وأذربيجان. انظر «معجم البلدان» (2/ 171) .
[2] تصحفت في «آ» و «ط» إلى «التاريخ» وما أثبتناه من «العبر» .
[3] (4/ 91- 92) .(6/168)
عشرة وخمسمائة، وصنّف في الفقه، والتفسير، وتصدّر للاشتغال والرواية، فحدّث عن أبي نصر بن طلاب، وعبد العزيز الكتاني، وطائفة، وتفقّه على ابن عبد الجبّار المروزي، ثم على نصر المقدسي، ولزم الغزالي مدة مقامه بدمشق، ودرّس في حلقة الغزالي مدّة.
قال الحافظ ابن عساكر: بلغني أن الغزالي قال: خلّفت بالشام شابا إن عاش كان له شأن، قال: فكان كما تفرس فيه، سمعنا منه الكثير، وكان ثقة ثبتا عالما بالمذهب والفرائض، وكان حسن الخطّ، موفقا في الفتاوى، وكان على فتاويه عمدة أهل الشام، وكان يكثر من عيادة المرضى وشهود الجنائز، ملازما للتدريس والإفادة، حسن الأخلاق، ولم يخلّف بعده مثله. انتهى.
وفيها أبو جعفر الكلواذي [1]- بفتح أوله والواو والمعجمة وسكون اللام، نسبة إلى كلواذى قرية ببغداد- محمد بن محفوظ بن محمد بن الحسن ابن أحمد، وهو ابن الإمام أبي الخطّاب الحنبلي. المتقدم ذكره [2] .
ولد سنة خمسمائة، وتفقّه على أبيه، وبرع في الفقه، وصنّف كتابا سمّاه «الفريد» . قاله ابن القطيعي.
وفيها أبو بكر محمد بن باجه السّرقسطي، عرف بابن الصائغ [3] ، الفيلسوف الشاعر، ذكره صاحب كتاب «قلائد [4] العقيان» فقال: هو رمد جفن الدّين [5] ، وكمد نفوس المهتدين، اشتهر سخفا وجنونا، وهجر [6] مفروضا
__________
[1] تحرفت نسبته إلى «الكلوذاني» في «آ» و «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 191) مصدر المؤلف، وما جاء في «ط» هو الصواب.
[2] انظر وفيات سنة (510) هـ ص (45- 46) .
[3] انظر «وفيات الأعيان» (4/ 429- 431) و «نفح الطيب» (7/ 17) وما بعدها.
[4] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «فرائد» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[5] في «آ» و «ط» : «العين» وما أثبتناه من «نفح الطيب» .
[6] في «آ» و «ط» : «وهجا» والتصحيح من «نفح الطيب» .(6/169)
ومسنونا، فما يتشرّع، ولا يأخذ في غير الأباطيل [1] ولا يشرع إلى غير ذلك من كلام كثير.
وفيها محمود بن بوري بن طغتكين، الملك شهاب الدّين، صاحب دمشق، ولي بعد قتل أخيه شمس الملوك إسماعيل، وكانت أمّه زمرّد هي الكلّ، فلما تزوّج بها الأتابك زنكي وسارت إلى حلب، قام بتدبير المملكة معين الدّين أنر [2] الطغتكيني، ووثب على محمود هذا جماعة من المماليك فقتلوه في شوال، وأحضروا أخاه محمدا من مدينة بعلبك فملّكوه.
وفيها هبة الله بن سهل السّيّدي أبو محمد البسطامي ثم النيسابوري.
فقيه صالح متعبد، عالي الإسناد. روى عن أبي حفص بن مسرور، وأبي يعلى الصّابوني، والكبار، وتوفي في صفر.
وفيها هبة الله بن الحسين [3] بن يوسف، وقيل: أحمد، المنعوت بالبديع الأسطرلابي- نسبة إلى الأسطرلاب، بفتح الهمزة، وسكون السين، وضم الطاء، كلمة يونانية معناها ميزان الشمس. وقال بعضهم: «اللاب» اسم الشمس بلسان اليونان، فكأنه قيل: أسطر الشمس إشارة إلى الخطوط التي فيه، قيل: إن أوّل من وضعه بطليموس صاحب المجسطي- كان صاحب الترجمة شاعرا مشهورا، أحد الأدباء الفضلاء، وكان وحيد زمانه في عمل الآلات الفلكية، متقنا لهذه الصناعة، وحصل له من جهة عملها مال جزيل في خلافة المسترشد.
__________
[1] في «نفح الطيب» : «الأضاليل» .
[2] في «آ» و «ط» و «الكامل في التاريخ» (11/ 22 و 38 و 305) و «وفيات الأعيان» (1/ 297) «أنز» بالزاي، وفي «وفيات الأعيان» (5/ 184) و «العبر» (4/ 92) طبع الكويت، و (2/ 445) طبع بيروت و «سير أعلام النبلاء» (20/ 229) : «أنر» بالراء وهو ما أثبته.
[3] تحرف في «آ» و «ط» إلى «الحسن» والتصحيح من «وفيات الأعيان» (6/ 50) و «معجم الأدباء» (19/ 273) و «مرآة الجنان» (3/ 261) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 52) .(6/170)
وذكره العماد في «الخريدة» وأثنى عليه، وأورد له مقاطيع من شعره، فمن ذلك قوله:
أهدي لمجلسه الكريم [1] وإنما ... أهدي له ما حزت من نعمائه
كالبحر يمطره السحاب وما له ... من عليه [2] لأنّه من مائه
وقوله أيضا:
أذاقني حمرة المنايا ... لمّا اكتسى خضرة العذار
وقد تبدّى السّواد فيه ... وكارتي بعد في العيّار
وقوله أيضا:
قال قوم عشقته أمرد [3] الخ ... د وقد قيل: إنّه نكريش
قلت فرخ الطاووس أحسن ما كا ... ن إذا ما علا عليه الريش
قوله نكريش: لفظة عجمية، والأصل فيها نيك ريش، معناه لحية جيدة، فنيك: جيد، وريش: لحية.
وله أيضا:
ولمّا بدا خطّ بخدّ معذّبي ... كظلمة ليل في ضياء نهار
خلعت عذاري في هواه فلم أزل ... خليع عذار في جديد عذار
قال ابن خلّكان: وكان كثير الخلاعة، يستعمل المجون في أشعاره، حتى يفضي به إلى الفاحش في اللفظ، وكان ظريفا في جميع حركاته، توفي بعلة الفالج، ودفن بمقبرة الوردية من بغداد. انتهى ملخصا.
__________
[1] كذا في «آ» و «ط» و «وفيات الأعيان» (6/ 51) : «لمجلسه الكريم» ، وفي «معجم الأدباء» (19/ 275) : «لمجلسك الشريف» .
[2] في «وفيات الأعيان» و «معجم الأدباء» : «فضل عليه» .
[3] في «آ» و «ط» : «أمر» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .(6/171)
سنة أربع وثلاثين وخمسمائة
فيها كما قال في «الشذور» خسف بجنزة [1] ، وصار مكان البلد ماء أسود، وقدم التجار من أهلها فلزموا المقابر يبكون على أهلهم.
وفيها توفي محمد بن أحمد بن علي، ويعرف بزفره، ويقال: ابن زفره، كان إماما جليلا حافظا عمدة.
قال ابن ناصر الدّين في «بديعته» :
محمد بن أحمد بن زفره ... درّ له ثناؤه المسرّه
[2] وفيها عبد الجبّار بن محمد الخواري [3]- بالضم والتخفيف وراء، نسبة إلى خوار، بلد الرّيّ- كان إماما جليلا، سمع الواحدي وغيره.
وفيها أبو الفضل محمد بن إسماعيل الفضيلي الهروي العدل. روى عن أبي عمر المليحي، ومحلم الضبي، وتوفي في صفر.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «بخبزة» وهو تصحيف، والصواب ما أثبته، وانظر التعليق على ص (168) .
[2] قلت: وقال ابن ناصر الدّين في «التبيان شرح بديعة البيان» (161/ ب) : سمع من محدّثين عدة، منهم: محمد بن أحمد بن محمد الفارسي، ويحيى بن عبد الوهاب بن مندة، وكان أحد من عني بهذا الشأن- يعني علم الحديث-.
[3] قلت: وترجم له ياقوت ترجمة مفيدة أثناء كلامه في «معجم البلدان» (2/ 394) على من أنجبتهم «خوار» من العلماء، وذكر بأنه مات سنة (536) ، فيحسن بالقارئ الوقوف عليها، وقد تحرفت نسبته في «غربال الزمان» ص (430) إلى «الخوارزمي» وتحرفت «خوار» إلى «خوارزم» .(6/172)
وفيها محمد بن بوري بن طغتكين جمال الدّين [1] . كان ظالما سيئ السيرة، ولي دمشق عشرة أشهر ومات في شعبان، وأقيم بعده ابنه آبق صبي مراهق.
وفيها يحيى بن علي بن عبد العزيز القاضي المنتجب أبو الفضل القرشي زكي الدّين، قاضي دمشق وأبو قاضيها، المعروف بابن الصائغ، الدمشقي الشافعي.
قال الإسنوي [2] : كان فاضلا، رحل إلى بغداد فتفقه على الشاشي، وقرأ العربية على أبي علي الفارسي [3] ، وتولى القضاء بدمشق، وكان محمود السيرة.
ولد سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة. انتهى. وتوفي في ربيع الأول.
وكان له ولد يقال له منتجب الدّين محمد، خال الحافظ ابن عساكر، ووالده [4] القاضي الزكي. تفقّه على الشيخ نصر المقدسي، وناب عن والده لما حجّ سنة عشر وخمسمائة، ثم اشتغل بالحكم لما كبر والده وبعد موته أيضا، وكان نزها عفيفا، صلبا في الأحكام، وقورا، متوددا، شفوقا، حسن النظر.
ولد سنة سبع وستين وأربعمائة، وتوفي في ربيع الأول سنة تسع وثلاثين وخمسمائة. ذكره ابن عساكر في «تاريخه» .
وفيها يحيى بن بطريق الطّرسوسي [ثم] الدّمشقي [5] . روى عن أبي بكر الخطيب، وأبي الحسين محمد بن مكّي، وتوفي في رمضان.
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (1/ 296- 297) و «النجوم الزاهرة» (5/ 266) .
[2] انظر «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 141- 142) .
[3] قلت: وهو وهم تابع فيه المؤلف الإسنويّ، إذ أن وفاة أبي علي الفارسي كانت سنة (377) هـ.
[4] في «طبقات الشافعية» للإسنوي: «ووالد» .
[5] انظر «العبر» (4/ 94) وما بين حاصرتين زيادة منه.(6/173)
سنة خمس وثلاثين وخمسمائة
فيها توفي إسماعيل بن محمد بن الفضل، الحافظ الكبير، قوام السّنّة، أبو القاسم التّيمي الطّلحي الأصبهاني [1] الشافعي. روى عن أبي عمرو بن مندة وطبقته بأصبهان، وأبي نصر الزّينبي ببغداد، ومحمد بن سهل السرّاج بنيسابور. ذكره أبو موسى المديني فقال: أبو القاسم إمام أئمة وقته، وأستاذ علماء عصره، وقدوة أهل السّنّة في زمانه، أصمت في صفر سنة أربع وثلاثين، ثم فلج بعد مدة، وتوفي بكرة يوم عيد الأضحى، وكان مولده سنة سبع وخمسين وأربعمائة.
وقال ابن السمعاني: هو أستاذي في الحديث، وعنه أخذت [2] هذا القدر. وهو إمام في التفسير، والحديث، واللغة، والأدب، عارف بالمتون والأسانيد، أملى بجامع أصبهان قريبا من ثلاثة آلاف مجلس.
وقال أبو عامر العبدري [3] : ما رأيت شابا ولا شيخا قطّ مثل إسماعيل التّيمّي. ذاكرته فرأيته حافظا للحديث، عارفا بكل علم، متفننا.
__________
[1] انظر «سير أعلام النبلاء» (20/ 80) .
[2] في «آ» و «ط» : «وعنه أحدّث» وما أثبته من «العبر» (4/ 95) طبع الكويت و (2/ 447) طبع بيروت، و «سير أعلام النبلاء» (20/ 84) .
[3] تصحفت في «آ» و «ط» إلى «الغندري» والتصحيح من «العبر» بطبعتيه، و «سير أعلام النبلاء» .
(20/ 85) .(6/174)
وقال أبو موسى: صنّف شيخنا إسماعيل «التفسير» في ثلاثين مجلدة كبار، وسماه «الجامع» وله «الإيضاح» في التفسير أربع مجلدات، و «الموضح» في التفسير ثلاث مجلدات، وله «المعتمد» في التفسير عشر مجلدات، و «تفسير» بالعجمي عدة مجلدات، رحمه الله تعالى.
وقال ابن شهبة [1] : له كتاب «الترغيب والترهيب» و «شرح صحيح البخاري» و «صحيح مسلم» وكان ابنه شرع [2] فيهما فمات في حياته، فأتمهما، وله كتاب «دلائل النبوة» وكتاب «التذكرة» نحو ثلاثين جزءا، وغير ذلك.
وقال ابن مندة: في «الطبقات» : ليس في وقتنا مثله، وكان أئمة بغداد يقولون: ما رحل إلى بغداد بعد أحمد بن حنبل أفضل ولا أحفظ منه، ولم ينكر أحد شيئا من فتاويه قطّ.
وأما ولده فهو أبو عبد الله محمد. ولد في حدود سنة خمسمائة، ونشأ في طلب العلم، فصار إماما، مع الفصاحة، والذكاء، وصنّف تصانيف كثيرة، مع صغر سنه. اخترمته المنية بهمذان سنة ست وعشرين وخمسمائة.
وفيها رزين بن معاوية، أبو الحسن العبدري الأندلسي السّرقسطي، مصنّف «تجريد الصحاح» [3] . روى كتاب البخاري عن أبي مكتوم بن أبي ذرّ، وكتاب مسلم عن الحسين الطبري [4] ، وجاور بمكّة دهرا، وتوفي في المحرم.
__________
[1] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 338- 339) .
[2] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «شرح» والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» (20/ 85) و «طبقات الشافعية» للإسنوي (1/ 360) .
[3] جمع فيه بين «الموطأ» للإمام مالك، و «صحيح البخاري» و «صحيح مسلم» و «سنن أبي داود» و «سنن الترمذي» و «المجتبى من سنن النسائي» ورتبه الإمام المبارك بن الأثير بعد ذلك وسماه «جامع الأصول في أحاديث الرسول» .
[4] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «الطري» والتصحيح من «العبر» بطبعتيه، و «سير أعلام النبلاء» (20/ 205) و «العقد الثمين» (4/ 399) .(6/175)
وفيها أبو منصور القزّاز عبد الرحمن بن محمد بن عبد الواحد الشيباني البغدادي، ويعرف بابن زريق. روى عن الخطيب، وأبي جعفر بن المسلمة، والكبار، وكان صالحا كثير الرواية، توفي في شوال عن بضع وثمانين سنة.
وفيها عبد الوهاب بن شاه أبو الفتوح الشّاذياخي النيسابوري التاجر.
سمع من القشيري «رسالته» ومن أبي سهل الحفصي «صحيح البخاري» ومن طائفة، وتوفي في شوال.
وفيها أبو نصر الفتح بن محمد بن خاقان القيسي الإشبيلي، صاحب كتاب «قلائد العقيان» . له عدة تصانيف، منها الكتاب المذكور، وقد جمع فيه من شعراء المغرب [1] طائفة كثيرة، وتكلّم على ترجمة كل واحد منهم بأحسن عبارة وألطف إشارة، وله أيضا كتاب «مطمح الأنفس ومسرح التأنس في ملح أهل الأندلس» وهو ثلاث نسخ: كبرى، ووسطى، وصغرى، وهو كتاب كثير الفائدة، لكنه قليل الوجود، وكلامه في هذه الكتب يدل على فضله وغزارة مادته، وكان كثير الأسفار، سريع التنقلات، وتوفي قتيلا بمدينة مرّاكش في الفندق. قاله ابن خلّكان [2] .
وقال غيره: مات بمراكش قتيلا ذبح بمسكنه في فندق من فنادقها، وكان يتكلم على الشعراء في كتابه «قلائد العقيان» بألفاظ كالسحر الحلال والماء الزلال، يقال: إنه أراد أن يفضح الشعراء الذين ذكرهم بنشره، وكان يكتب إلى المغاربة ورؤسائها يعرّف كلا على انفراده أنه عزم على كتاب «القلائد» وأن يبعث إليه بشيء من شعره ليضعه في كتابه، وكانوا يخافونه ويبعثون إليه الذي طلب، ويرسلون له الذهب والدنانير، فكل من أرضاه أثنى
__________
[1] في «آ» و «ط» : «الغرب» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[2] انظر «وفيات الأعيان» (4/ 23- 24) .(6/176)
عليه، وكل من قصّر هجاه وثلبه، وممن تصدى له وأرسل إليه ابن باجه وزير صاحب المريّة، وهو أحد الأعيان في العلم والبيان، يشبهونه في المغرب بابن سينا في المشرق، فلما وصلته رسالة ابن خاقان تهاون بها ولم يعرها طرفه، فذكره ابن خاقان بسوء ورماه بداهية.
وفيها أبو الحسن بن توبة محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الجبّار ابن توبة الأسدي العكبري [1] الشافعي المقرئ. روى عن أبي جعفر بن المسلمة، وأبي بكر الخطيب، وطائفة وتوفي في صفر.
وتوفي أخوه عبد الجبّار بعده بثلاثة أشهر، وروى عن أبي محمد الصّريفيني، وجماعة، وكان الأصغر. قاله في «العبر» [2] .
وفيها أبو بكر محمد بن عبد الباقي بن محمد- يتصل نسبه بكعب بن مالك الأنصاري أحد الثلاثة الذين خلّفوا ثم تاب الله عليهم- القاضي أبو بكر الأنصاري البغدادي الحنبلي البزّاز [3] ، مسند العراق، ويعرف بقاضي المارستان. حضر أبا إسحاق البرمكي، وسمع من علي بن عيسى الباقلاني، وأبي محمد الجوهري، وأبي الطيب الطبري، وطائفة، وتفقّه على القاضي أبي يعلى، وبرع في الحساب والهندسة، وشارك في علوم كثيرة، وانتهى إليه علو الإسناد في زمانه، توفي في رجب وله ثلاث وتسعون سنة وخمسة أشهر.
قال ابن السمعاني: ما رأيت أجمع للفنون منه، نظر في كل علم، وسمعته يقول: تبت من كل علم تعلمته إلّا الحديث وعلمه. قاله في «العبر» .
__________
[1] تحرفت في «ط» إلى «الطبري» وما جاء في «آ» هو الصواب. انظر «سير أعلام النبلاء» . (20/ 34) و «العبر» (4/ 96) طبع الكويت و (4/ 448) طبع بيروت.
[2] (4/ 96) .
[3] انظر «العبر» (4/ 96- 97) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 23- 28) و «البداية والنهاية» .
(12/ 217- 218) و «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 192- 198) .(6/177)
ومن شعره قوله:
احفظ لسانك لا تبح بثلاثة ... سنّ ومال ما استطعت ومذهب
فعلى الثّلاثة تبتلى بثلاثة ... بمكفّر وبحاسد ومكذّب
وكان يقول: من خدم المحابر خدمته المنابر.
وقال ابن رجب في «طبقاته» [1] : ولد يوم الثلاثاء عاشر صفر سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة، وحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، وسمع على خلائق، وتفقّه على القاضي أبي يعلى، وقرأ الفرائض، والحساب، والجبر، والمقابلة، والهندسة، وبرع في ذلك، وله فيه تصانيف، وشهد عند الدّامغاني، وتفنن في علوم كثيرة.
قال ابن السمعاني: كان حسن الكلام، حلو المنطق، مليح المحاورة، ما رأيت أجمع للفنون منه. نظر في كل علم، وكان سريع النسخ، حسن القراءة للحديث، سمعته يقول: ما ضيّعت ساعة من عمري في لهو أو لعب.
قال: وسمعته يقول أسرتني الرّوم وبقيت في الأسر سنة ونصفا، وكان خمسة أشهر الغلّ في عنقي والسلاسل على يدي ورجلي، وكانوا يقولون لي: قل المسيح ابن الله! حتّى نفعل ونصنع في حقك، فامتنعت وما قلت، ووقت أن حبست كان ثم معلّم يعلم الصبيان الخط بالرومية، فتعلمت في الحبس الخطّ الرّوميّ. وسمعته يقول: حفظت القرآن ولي سبع سنين، وما من علم في عالم الله إلّا وقد نظرت فيه وحصّلت منه كله أو بعضه، ورحل إليه المحدّثون من البلاد.
وقال ابن الجوزي: ذكر لنا أن منجمين حضرا حين ولد أبو بكر بن
__________
[1] يريد «ذيل طبقات الحنابلة» والنقل عنده (1/ 193) .(6/178)
عبد الباقي، فأجمعا أن عمره اثنتان وخمسون سنة. قال: وها أنا قد تجاوزت التسعين.
قال: ورأيته بعد ثلاث وتسعين صحيح الحواس لم يتغير منها شيء، ثابت العقل، يقرأ الخط الدقيق من بعد. ودخلنا عليه قبل موته بمديدة فقال:
قد نزلت في أذني مادة، فقرأ علينا من حديثه، وبقي على هذا نحوا من شهرين، ثم زال ذلك وعاد إلى الصحة، ثم مرض فأوصى أن يعمق قبره زيادة على العادة، وأن يكتب عليه قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ 38: 67- 68 [ص: 68- 69] وبقي ثلاثة أيام قبل موته لا يفتر من قراءة القرآن، إلى أن توفي يوم الأربعاء ثاني رجب، ودفن بباب حرب إلى جانب أبيه قريبا من بشر الحافي، رحمه الله.
وقال ابن الخشاب: كان مع تفرّده بعلم الحساب والفرائض، وافتنانه في علوم عديدة [1] صدوقا ثبتا في الرواية، متحريا فيها.
وقال ابن ناصر: لم يخلّف بعده من يقوم مقامه في علمه.
وقال ابن شافع: ما رأيت ابن الخشاب يعظم أحدا من مشايخه تعظيمه له.
وقال ابن أبي الفوارس: سمعت القاضي أبا بكر بن عبد الباقي يقول:
كنت مجاورا بمكة- حرسها الله تعالى- فأصابني يوما جوع شديد لم أجد شيئا أدفع به عني الجوع، فوجدت كيسا من إبريسم مشدودا بشرابة إبريسم أيضا، فأخذته وجئت إلى بيتي، فحللته فوجدت فيه عقدا من لؤلؤ لم أر مثله، فخرجت فإذا شيخ ينادي عليه ومعه خرقة فيها خمسمائة دينار، وهو يقول: هذا لمن يردّ علينا الكيس الذي فيه اللؤلؤ، فقلت: أنا محتاج، وأنا
__________
[1] في «آ» : «كثيرة» .(6/179)
جائع، فآخذ هذا الذهب فأنتفع به، وأرد عليه الكيس، فقلت له: تعال [إليّ] [1] ، وجئت به إلى بيتي، فأعطاني علامة الكيس، وعلامة الشرابة، وعلامة اللؤلؤ، وعدده، والخيط الذي هو مشدود به، فأخرجته ودفعته إليه.
فسلّم إليّ خمسمائة دينار، فما أخذتها، وقلت: يجب أن أعيده إليك ولا آخذ له جزاء، فقال لي: لا بد أن تأخذ، وألح عليّ كثيرا، فلم أقبل، فتركني ومضى، وخرجت من مكّة وركبت البحر، فانكسر المركب وغرق الناس وهلكت أموالهم، وسلمت أنا على قطعة من المركب، فبقيت مدّة في البحر لا أدري أين أذهب، فوصلت إلى جزيرة فيها قوم، فقعدت في بعض المساجد، فسمعوني أقرأ، فلم يبق أحد إلّا جاءني [2] وقال: علمني القرآن، فحصل لي منهم شيء كثير من المال. ثم رأيت [في ذلك المسجد] [3] أوراقا من مصحف، فأخذتها، فقالوا: تحسن تكتب؟ فقلت: نعم، فقالوا: علمنا الخطّ، وجاءوا بأولادهم من الصبيان والشباب، وكنت أعلمهم، فحصل لي أيضا من ذلك شيء كثير، فقالوا لي بعد ذلك: عندنا صبية يتيمة ولها شيء من الدنيا نريد أن تتزوج بها، فامتنعت، فقالوا: لا بد، والزموني، فأجبتهم فلما زفوها مددت عيني أنظر إليها فوجدت ذلك العقد بعينه معلقا في عنقها، فما كان لي حينئذ شغل إلّا النظر إليه، فقالوا: يا شيخ كسرت قلب هذه اليتيمة من نظرك إلى هذا العقد، ولم تنظر إليها، فقصصت عليهم قصة العقد، فصاحوا بالتهليل والتكبير، حتى بلغ إلى جميع أهل الجزيرة، فقلت:
ما بكم؟ فقالوا: ذلك الشيخ الذي أخذ منك العقد أبو هذه الصبية، وكان يقول: ما وجدت في الدنيا مسلما كهذا الذي ردّ عليّ هذا العقد، وكان يدعو
__________
[1] مستدركة من «ذيل طبقات الحنابلة» .
[2] في «ذيل طبقات الحنابلة» : «جاء إليّ» .
[3] ما بين حاصرتين زيادة من «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 197) .(6/180)
ويقول: اللهم اجمع بيني وبينه حتى أزوجه بابنتي، والآن قد حصلت، فبقيت معها مدة ورزقت منها ولدين.
ثم إنها ماتت فورثت العقد أنا وولدي، ثم مات الولدان، فحصل العقد لي فبعته بمائة ألف دينار، وهذا المال الذي ترون معي [1] من بقايا ذلك المال.
وقد تضمنت هذه القصة: أنه لا يجوز قبول الهدية على ردّ الأمانات، لأنه يجب عليه ردّها بغير عوض، وهذا إذا كان لم يلتقطها بنيّة أخذ الجعل المشروط، وقد نص أحمد، رضي الله عنه، على مثل ذلك في الوديعة، وأنه لا يجوز لمن ردّها إلى صاحبها قبول هديته إلّا بنية المكافأة. انتهى ما أورده ابن رجب ملخصا.
وفيها أبو يعقوب يوسف بن أيوب الهمذاني الزاهد، شيخ الصوفية بمرو، وبقية مشايخ الطريق العاملين. تفقّه على الشيخ أبي إسحاق فأحكم مذهب الشافعي، وبرع في المناظرة، ثم ترك ذلك وأقبل على شأنه. وروى عن الخطيب، وابن المسلمة، والكبار، وسمع بأصبهان، وبخارى، وسمرقند، ووعظ، وخوّف، وانتفع به الخلق، وكان صاحب أحوال وكرامات. توفي في ربيع الأول، عن أربع وتسعين سنة. قاله في «العبر» [2] .
وقال السخاوي في «طبقاته» وابن الأهدل: أبو يعقوب الهمذاني، الفقيه الزاهد، العالم العامل الرباني، صاحب المقامات والكرامات. قدم بغداد في صباه بعد ستين وأربعمائة، ولازم الشيخ أبا إسحاق الشيرازي، وتفقّه عليه، حتّى برع في الأصول، والمذهب، والخلاف، ثم زهد في
__________
[1] لفظة «معي» سقطت من «آ» .
[2] (4/ 97) .(6/181)
ذلك، واشتغل بالزهد، والعبادة، والرياضة [1] ، والمجاهدة، حتّى صار علما من أعلام الدّين، يهتدي به الخلق إلى الله، ثم قدم بغداد في سنة خمس وخمسمائة وعقد بها مجلس الوعظ بالمدرسة النظامية، وصادف بها قبولا عظيما من الناس، وكان قطب وقته في فنّه.
وذكر ابن النجار في «تاريخه» أن فقيها يقال له ابن السّقّاء سأله عن مسألة وأساء معه الأدب، فقال له الإمام يوسف: اجلس فإني أجد- ويروى أشم- من كلامك رائحة الكفر، وكان أحد القراء حفظة القرآن، فاتفق أنه [2] تنصّر ومات عليها، نعوذ بالله من سوء الخاتمة، وذلك أنه خرج إلى بلد الرّوم رسولا من الخليفة، فافتتن بابنة الملك، فطلب زواجها فامتنعوا إلّا أن يتنصّر، فتنصّر، ورؤي في القسطنطينية مريضا وبيده خلق مروحة يذب بها الذباب عن وجهه، فسئل عن القرآن، فذكر أنه نسيه إلّا آية واحدة وهي رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ 15: 2 [الحجر: 2] وذكرت حكاية ابن السّقّاء في «البهجة» المصنفة في مناقب الشيخ عبد القادر، وأن ابتلاءه كان بسبب [3] إساءته إلى بعض الأولياء، يقال له: الغوث، فالله أعلم.
__________
[1] في «آ» : «والرئاسة» .
[2] أي السائل.
[3] في «آ» : «سبب» .(6/182)
سنة ست وثلاثين وخمسمائة
فيها كانت ملحمة عظيمة بين السلطان سنجر وبين التّرك الكفرة بما وراء النهر، أصيب [فيها] [1] المسلمون، وأفلت سنجر في نفر يسير، بحيث أنه وصل بخل في ستة أنفس، وأسرت زوجته وبنته، وقتل من جيشه مائة ألف أو أكثر، وكانت التّرك في ثلاثمائة ألف فارس.
وفيها توفي أبو سعد الزّوزني- بفتح الزايين وسكون الواو، نسبة إلى زوزن، بلد بين هراة ونيسابور- أحمد بن محمد بن الشيخ أبي الحسن علي ابن محمود بن ماخوّة الصوفي. روى عن القاضي أبي يعلى، وأبي جعفر بن المسلمة، والكبار، وتوفي في شعبان عن سبع وثمانين سنة.
قال ابن ناصر: كان متسمّحا، فرأيته في النوم، فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي وأنا في الجنّة.
وفيها أبو العبّاس بن العريف أحمد بن محمد بن موسى الصنهاجي الأندلسي الصوفي الزاهد.
قال ابن بشكوال [2] : كان مشاركا في أشياء، ذا عناية في القراءات،
__________
[1] لفظة «فيها» سقطت من «آ» وأثبتها من «ط» و «العبر» .
[2] انظر «الصلة» (1/ 81) .(6/183)
وجمع الروايات والطرق وحملتها، وكان متناهيا في الفضل والدّين، وكان الزهاد والعبّاد يقصدونه.
وقال الذهبي [1] : لما كثر أتباعه توهّم السلطان، وخاف أن يخرج عليه، فطلبه، فأحضر إلى مرّاكش، فتوفي في الطريق قبل أن يصل، وقيل: توفي بمرّاكش، وله ثمان وسبعون سنة، وكان من أهل المريّة.
وفيها إسماعيل بن أحمد بن عمر بن أبي الأشعث أبو القاسم بن السمرقندي الحافظ.
ولد بدمشق سنة أربع وخمسين، وسمع بها من الخطيب، وعبد الدائم الهلالي، وابن طلّاب، والكبار، وببغداد من الصّريفيني فمن بعده.
قال أبو العلاء الهمذاني: ما أعدل به أحدا من شيوخ العراق، وهو من شيوخ ابن الجوزي، توفي في ذي القعدة.
وفيها إسماعيل بن عبد الواحد بن إسماعيل بن محمد الإمام أبو سعد البوشنجي، نزيل هراة.
ولد سنة إحدى وستين وأربعمائة، وكان شافعيا عالما بالمذهب، درّس، وأفتى، وصنّف.
قال ابن السمعاني: كان فاضلا غزير الفضل حسن المعرفة بالمذهب، جميل السيرة، مرضي الطريقة، كثير العبادة، ملازما للذكر، قانعا باليسير، خشن العيش، راغبا في نشر العلم، ملازما للسنّة غير ملتفت إلى الأمراء وأبناء الدنيا.
وقال عبد الغافر: شاب نشأ في عبادة الله، مرضي السيرة على منوال أبيه، وهو فقيه مناظر مدرس زاهد.
__________
[1] انظر «العبر» (1/ 99) .(6/184)
وقال الرافعي في كتاب «الخلع [1] » : هو إمام غوّاص متأخرّ، لقيه من لقيناه. توفي بهراة.
وله كتاب سمّاه [2] «المستدرك» وقف عليه الرّافعي ونقل عنه في مواضع.
قاله ابن قاضي شهبة [3] .
وفيها عبد الجبّار بن محمد بن أحمد أبو محمد الخواري [4]- بضم الخاء والتخفيف، نسبة إلى خوار بلد بالرّي- الشافعي المفتي إمام جامع نيسابور، تفقّه على إمام الحرمين وسمع البيهقي، والقشيري، وجماعة، وتوفي في شعبان عن إحدى وتسعين سنة.
وفيها ابن برّجان أبو الحكم، عبد السلام بن عبد الرحمن بن أبي الرجال اللّخمي الإفريقي ثم الإشبيلي العارف، شيخ الصوفية، مؤلّف «شرح الأسماء الحسنى» توفي غريبا بمرّاكش.
قال [ابن] الأبّار: كان من أهل المعرفة بالقراءات، والحديث، والتحقيق، بعلم الكلام والتصوف، مع الزهد والاجتهاد في العبادة، وقبره بإزاء قبر ابن العريف.
وفيها شرف الإسلام عبد الوهاب ابن الشيخ أبي الفرج الحنبلي عبد الواحد بن محمد الأنصاري الشيرازي ثم الدمشقي [5] الفقيه الواعظ شيخ الحنابلة بالشام بعد والده ورئيسهم وهو باني مدرسة الحنبلية [6] داخل
__________
[1] تحرف في «ط» إلى «الجامع» وانظر «طبقات الشافعية» للإسنوي (1/ 209) .
[2] في «ط» : «أسماه» .
[3] انظر «طبقات الشافعية» (1/ 336- 337) .
[4] سبق للمؤلف أن ذكره في وفيات سنة (534) انظر ص (172) .
[5] انظر «العبر» (4/ 100) .
[6] في «ط» «مدرسة الحنابلة» وما جاء في «آ» موافق لما جاء في «العبر» وانظر «الدارس في تاريخ المدارس» (2/ 64) .(6/185)
باب الفراديس، سكنها الشيخ محمد الأسطواني من سنة خمس وأربعين وتسعمائة إلى نيف وسبعين وتسعمائة. كذا رأيته على هامش «طبقات» ابن رجب.
وقال ابن رجب في «الطبقات» [1] : توفي والد عبد الوهاب وهو صغير فاشتغل بنفسه، وتفقّه، وبرع، وناظر، وأفتى، ودرّس الفقه والتفسير، ووعظ، واشتغل عليه خلق كثير، وكان فقيها بارعا وواعظا فصيحا وصدرا معظما، ذا حرمة، وحشمة، وسؤدد ورئاسة ووجاهة وهيبة وجلالة، كان ينشد على الكرسي بجامع دمشق إذا طاب وقته قوله:
سيّدي علّل الفؤاد العليلا ... وأحيني قبل أن تراني قتيلا
إن تكن عازما على قبض روحي ... فترفّق بها قليلا قليلا
ولشرف الإسلام تصانيف في الفقه، والأصول، منها «المنتخب في الفقه» في [2] مجلدين، و «المفردات» و «البرهان في أصول الدّين» وغير ذلك، وحدّث عن أبيه وغيره، وسمع منه ببغداد ابن كامل.
توفي- رحمه الله- في ليلة الأحد سابع عشر صفر، سنة ست [وثلاثين وخمسمائة] ودفن عند والده بمقابر الشهداء من مقابر الباب الصغير.
وفيها أبو عبد الله المازري محمد بن علي بن عمر المالكي المحدّث، مصنّف «المعلم في شرح مسلم» كان من كبار أئمة زمانه.
قال ابن الأهدل: نسبة إلى مازر بفتح الزاي وكسرها، بلدة بجزيرة صقلية [3] ، وكان ذا فنون من أئمة المالكية وله «المعلم بفوائد مسلم» ومنه أخذ القاضي عياض شرحه «الإكمال» .
__________
[1] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 198- 200) .
[2] لفظة «في» سقطت من «آ» .
[3] انظر «معجم البلدان» (5/ 40) .(6/186)
توفي بالمهدية، عن ثلاث وثمانين سنة.
وفيها هبة الله بن أحمد بن عبد الله بن طاووس أبو محمد البغدادي إمام جامع دمشق. ثقة، مقرئ، محقّق، ختم عليه خلق، وله اعتناء بالحديث. روى عن أبي العبّاس بن قبيس [1] ، وأبي عبد الله بن أبي الحديد، وببغداد من البانياسي وطائفة، وبأصبهان من ابن شكرويه [2] وطائفة، وآخر أصحابه ابن أبي لقمة.
وفيها يحيى بن علي أبو محمد [3] بن الطرّاح المدبّر. روى عن عبد الصمد بن المأمون وأقرانه، وكان صالحا ساكنا، توفي في رمضان.
__________
[1] تحرف في «آ» و «ط» إلى «ابن قيس» والتصحيح من «العبر» (4/ 101) طبع الكويت و (2/ 451) طبع بيروت، و «سير أعلام النبلاء» (20/ 98) .
[2] تصحفت في «آ» و «ط» إلى «سكرويه» بالسين المهملة، والتصحيح من «العبر» بطبعتيه، و «سير أعلام النبلاء» .
[3] في «آ» : «ابن محمد» وهو خطأ وانظر «العبر» (4/ 101) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 77- 78) .(6/187)
سنة سبع وثلاثين وخمسمائة
فيها توفي أحمد بن محمد بن أبي المختار، الشريف العلوي النّوبندجاني، شاعر مفلق. ومن شعره:
اخضرّ بالزّغب المنمنم خدّه ... فالخدّ ورد بالبنفسج معلم
يا عاشقيه تمتّعوا بعذاره ... من قبل أن يأتي السّواد الأعظم
وفيها توفي صاحب ملطية محمد بن الدانشمند، واستولى على مملكة مسعود بن قلج أرسلان صاحب قونية.
وفيها الحسين بن علي سبط الخيّاط البغدادي المقرئ، أبو عبد الله.
قال ابن السمعاني: شيخ صالح ديّن حسن الإقراء، يأكل من كدّ يده.
سمع الصّريفيني، وابن المأمون، والكبار.
وفيها أبو الفتح بن البيضاوي، القاضي عبد الله بن محمد بن محمد ابن محمد، أخو قاضي القضاة أبي القاسم الزّينبي لأمه. سمع أبا جعفر بن المسلمة، وعبد الصمد بن المأمون، وكان متحرّيا في أحكامه، توفي في جمادى الأولى ببغداد.
وفيها علي بن يوسف بن تاشفين، أمير المسلمين، صاحب المغرب، كان يرجع إلى عدل ودين وتعبّد وحسن طويّة وشدّة إيثار لأهل(6/188)
العلم، وتعظيم لهم، وذمّ للكلام وأهله. ولما وصلت إليه كتب أبي حامد [1] أمر بإحراقها وشدّد في ذلك، ولكنه [كان] [2] مستضعفا مع رؤوس أمرائه، فلذلك ظهرت مناكير وخمور في دولته، فتغافل وعكف على العبادة، وتوثب عليه ابن تومرت، ثم صاحبه عبد المؤمن. توفي في رجب عن إحدى وستين سنة، وتملّك بعده ابنه تاشفين. قاله في «العبر» [3] .
وقال ابن الأهدل: كان من أئمة الهدى علما وعملا.
وفيها عمر بن محمد بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن لقمان النّسفي السمرقندي الحنفي الحافظ، ذو الفنون، يقال: له مائة مصنّف. روى عن إسماعيل بن محمد النّوحي فمن بعده، وله أوهام كثيرة. قاله في «العبر» [4] .
وقال غيره: كان فاضلا مفسرا أديبا، صنّف كتبا في التفسير، والفقه، ونظم «الجامع الصغير» لمحمد بن الحسن [5] ، وقدم بغداد وحدّث بكتاب «تطويل الأسفار لتحصيل الأخبار» من جمعه، وروى عنه عامة مشايخه.
وفيها كوخان [6] سلطان التّرك والخطا، الذي هزم المسلمين وفعل
__________
[1] يعني الغزالي.
[2] مستدركة من «العبر» مصدر المؤلف، وقد سبقني إلى استدراكها الأستاذ حسام الدّين القدسي ناشر الطبعة السابقة رحمه الله دون أن يشير إلى المصدر الذي استدركها عنه.
[3] (4/ 102) .
[4] (4/ 102) .
[5] يعني الإمام محمد بن الحسن الشيباني المتوفى سنة (189) هـ رحمه الله، وكتابه «الجامع الصغير» في فقه الإمام أبي حنيفة النعمان، جمع فيه أربعين كتابا مشتملة على مسائل الفقه ولم يبوب الأبواب لكل كتاب منها، ثم إن القاضي أبا طاهر بن الدبّاس بوبه ورتبه ليسهل على المتعلمين حفظه ودراسته، وقد طبع في إدارة القرآن والعلوم الإسلامية في كراتشي بالباكستان مع شرحه «النافع الكبير» للكنوي، وذلك عام (1407) هـ.
[6] في «آ» : «كوخان خان» وفي «ط» : «كوخان خال» وما أثبته من «العبر» بطبعتيه. وقال ابن الأثير في «الكامل» (11/ 83) : «كو» بلسان الصين، لقب لأعظم ملوكهم، و «خان» لقب(6/189)
الأفاعيل في السنة الماضية، واستولى على سمرقند وغيرها، هلك في رجب ولم يمهله الله، وكان ذا عدل على كفره، وكان مليح الشكل، حسن الصورة، كامل الشجاعة، لا يمكّن أميرا من إقطاع بل يعطيهم من خزانته، ويقول: إن أخذوا الإقطاعات ظلموا الناس. وكان يعاقب على السّكر، ولا ينكر الزّنا ولا يستقبحه، وتملّكت ابنته بعده، ولم تطل مدتها، وتملّكت أمّها [1] بعدها، فحكمت على الخطا وما وراء النهر.
وفيها محمد بن يحيى بن علي بن عبد العزيز، القاضي المنتجب، أبو المعالي القرشي الدمشقي الشافعي، قاضي دمشق، وابن قاضيها القاضي الزكي. سمع أبا القاسم بن أبي العلاء وطائفة، وسمع بمصر من الخلعي، وتفقّه على نصر المقدسي وغيره، وتوفي في ربيع الأول عن سبعين سنة.
وفيها مفلح بن أحمد أبو الفتح الرّومي ثم البغدادي الورّاق. سمع من أبي بكر الخطيب، والصّريفيني، وجماعة. توفي في المحرم.
لملوك الترك، فمعناه أعظم الملوك.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «أمّه» وهو تحريف، والتصحيح من «العبر» بطبعتيه، وانظر «الكامل في التاريخ» (11/ 86) .(6/190)
سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة
فيها توفي أبو المعالي عبد الخالق بن عبد الصمد بن البدن البغدادي الصفّار المقرئ. روى عن ابن المسلمة، وعبد الصمد بن المأمون.
وفيها أبو البركات عبد الوهاب بن المبارك بن أحمد الأنماطي الحافظ الحنبلي، مفيد بغداد. سمع الصّريفيني ومن بعده.
قال أبو سعد [1] : حافظ، متقن، كثير السماع.
وقال ابن رجب [2] : ولد في رجب سنة اثنتين وستين وأربعمائة، وسمع الكثير من خلق كثير، وكتب بخطه الكثير، وسمع العالي والنازل، حتى إنه قرأ على ابن الطيّوري جميع ما عنده.
قال ابن ناصر عنه: كان بقية الشيوخ، وكان ثقة ولم يتزوج قطّ.
وقال الحافظ أبو موسى المديني في «معجمه» : هو حافظ عصره ببغداد.
وذكره ابن السمعاني فقال: حافظ، ثقة، متقن، واسع الرواية، دائم البشر، سريع الدمعة عند الذكر، حسن المعاشرة، جمع الفوائد، وخرّج
__________
[1] يعني السمعاني، وقد نقل المؤلف كلامه عن «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 202) .
[2] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 201- 203) وما بين حاصرتين مستدرك منه.(6/191)
التخاريج، لعله ما بقي جزء مروي إلّا وقد قرأه، وكان متفرغا للتحديث إما أن يقرأ عليه، أو ينسخ [شيئا] .
وذكره تلميذه ابن الجوزي في عدة مواضع من كتبه، كمشيخته، و «طبقات الأصحاب المختصرة» و «التاريخ» و «صفة الصفوة» و «صيد الخاطر» وأثنى عليه كثيرا، وقال: كان ثقة ثبتا ذا دين وورع، وكنت أقرأ عليه الحديث وهو يبكي، فاستفدت ببكائه أكثر من استفادتي بروايته، وكان على طريقة السلف، وانتفعت به ما لم أنتفع بغيره، ودخلت عليه في مرضه وقد بلي وذهب لحمه، فقال: إن الله- عزّ وجلّ- لا يتّهم في قضائه. وما رأينا في مشايخ الحديث أكثر سماعا منه، ولا أكثر كتابة للحديث منه، مع المعرفة به، ولا أصبر على الإقراء، ولا أكثر دمعة وبكاء، مع دوام البشر وحسن اللقاء، وكان لا يغتاب أحدا ولا يغتاب عنده أحد. وكان سهلا في إعارة الأجزاء، لا يتوقف.
توفي- رحمه الله- يوم الخميس حادي عشر المحرم، ودفن من الغد بالشونيزية وهي مقبرة أبي القاسم الجنيد، غربي بغداد.
وفيها علي بن طراد، الوزير الكبير، أبو القاسم الزّينبي العبّاسي، وزير المسترشد والمقتفي. سمع من عمه أبي نصر الزّينبي، وأبي القاسم بن البسري، وكان صدرا مهيبا نبيلا، كامل السؤدد، بعيد الغور، دقيق النظر، ذا رأي ودهاء وإقدام، نهض بأعباء بيعة المقتفي وخلع الراشد في نهار واحد، وكان الناس يتعجبون من ذلك، ولما تغيّر عليه المقتفي وهمّ بالقبض عليه، احتمى منه بدار السلطان مسعود، ثم خلّص ولزم داره، واشتغل بالعبادة والخير، إلى أن مات في رمضان، وكان يضرب المثل بحسنه في صباه.
وفيها محمد بن الخضر بن أبي المهزول المعروف بالسّابق [1] من
__________
[1] انظر «الوافي بالوفيات» (3/ 39- 41) و «فوات الوفيات» (3/ 347- 349) .(6/192)
أهل المعرّة، كان شاعرا مجوّدا، دخل بغداد، وجالس ابن ناقيا [1] ، والأبيوردي، وأبا زكريا التبريزي، وأنشدهم، ولقي ابن الهبّارية، وعمل رسالة لقبها «تحية الندمان» .
ومن شعره في مليح حلقوا رأسه:
وجهك المستنير قد كان بدرا ... فهو شمس لنفي صدغك عنه
ثبتت آية النهار عليه ... إذ محا القوم آية الليل منه
وفيها أبو البركات محمد بن علي بن صدقة بن جلب، الصائغ الحنبلي [2] ، أمين الحكم بباب الأزج. سمع من أبي محمد التميمي، وقرأ الفقه على القاضي أبي خازم.
وذكر ابن القطيعي عن أبي الحسين بن أبي البركات الصائغ قال:
سمعت أبي قال: جاءت فتوى إلى القاضي أبي خازم وفيها مكتوب:
ما يقول الإمام أصلحه اللّ ... هـ[إلهي] وللسبيل هداه
في محبّ أتى إليه حبيب ... في ليالي صيامه فأتاه
أفتنا هل صباح ليلته أف ... طر أم لا وقل لنا ما تراه
قال: فقال لي القاضي أبو خازم: أجب يا أبا البركات، فكتبت الجواب، وبالله التوفيق:
أيها السائلي عن الوطء في لي ... لة الصيام الذي إليه دعاه
وجده بالذي أحب وقد أح ... رق نار الغرام منه حشاه
كيف يعصي ولو تفكّر في قد ... رة ربّي مفكّرا ما عصاه
__________
[1] في «آ» و «ط» : «ابن ماقيا» وفي «الوافي بالوفيات» : «ابن باقيا» وهو خطأ، والتصحيح من «فوات الوفيات» و «وفيات الأعيان» (3/ 98- 99) .
[2] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 204) و «المنهج الأحمد» (2/ 292- 293) .(6/193)
أأمنت الذي دحا الأرض أن يط ... بق دون الورى عليك سماه
ليس فيما أتيت ما يبطل الصو ... م جوابي فاعلم هداك الله
توفي ليلة الثلاثاء سابع عشر رجب، ودفن بباب حرب، وسبب موته أن زوجته سمّته في طعام قدمته له، وأكل معه منه رجلان، فمات أحدهما من ليلته والآخر من غده، وبقي أبو البركات مريضا مديدة، ثم مات، رحمه الله تعالى.
وفيها أبو الفتوح الإسفراييني محمد بن الفضل بن محمد، ويعرف أيضا بابن المعتمد، الواعظ المتكلم. روى عن أبي الحسن بن الأخرم المديني، ووعظ ببغداد، وجعل شعاره إظهار مذهب الأشعري، وبالغ في ذلك، حتى هاجت فتنة كبيرة بين الحنابلة والأشعرية، فأخرج من بغداد، فغاب مدة ثم قدم وأخذ يثير الفتنة ويبث اعتقاده ويذم الحنابلة، فأخرج من بغداد، وألزم بالإقامة ببلده، فأدركه الموت ببسطام في ذي الحجة، وكان رأسا في الوعظ أوحد في مذهب الأشعري، له تصانيف في الأصول والتصوف.
قال ابن عساكر: أجرأ من رأيته لسانا وجنانا، وأسرعهم جوابا، وأسلسهم خطابا. لازمت حضور مجلسه، فما رأيت مثله واعظا ولا مذكّرا.
قاله في «العبر» [1] .
وفيها أبو القاسم الزّمخشري، محمود بن عمر بن محمد الخوارزمي النحوي اللغوي المفسر المعتزلي، صاحب «الكشاف» و «المفصّل» عاش إحدى وسبعين سنة، وسمع ببغداد من ابن البطر [2] ، وصنّف عدة تصانيف،
__________
[1] (4/ 105) .
[2] في «ط» : «ابن الطبر» وهو خطأ.(6/194)
وسقطت رجله، فكان يمشي في جاون خشب، وكان داعية إلى الاعتزال، كثير الفضائل. قاله في «العبر» [1] .
وقال ابن خلّكان [2] : الإمام الكبير في التفسير، والحديث، والنحو، واللغة، وعلم البيان. كان إمام عصره من غير مدافع، تشد إليه الرحال في فنونه. أخذ النحو عن أبي مضر [3] منصور، وصنّف التصانيف البديعة، منها «الكشاف» في تفسير القرآن العظيم، لم يصنّف قبله مثله، و «الفائق» في تفسير [4] الحديث، و «أساس البلاغة» في اللغة، و «ربيع الأبرار وفصوص الأخبار» و «متشابه أسامي الرواة» و «النصائح الكبار» و «النصائح الصغار» و «ضالة الناشد» و «الرائض في علم الفرائض» و «المفصل» في النحو، وقد اعتنى بشرحه خلق كثير، و «الأنموذج» في النحو، و «المفرد والمؤلّف» في النحو، و «رؤوس المسائل» في الفقه، و «شرح أبيات سيبويه» و «المستقصى في أمثال العرب» و «صميم العربية» و «سوائر الأمثال» و «ديوان التمثيل» [5] و «شقائق النعمان» [6] و «شافي العيّ [7] من كلام الشافعي» و «القسطاس» في العروض، و «معجم الحدود» و «المنهاج» في الأصول، و «مقدمة من الآداب» و «ديوان الرسائل» و «ديوان الشعر» و «الرسالة الناصحة» والأمالي في كل فنّ، وغير ذلك.
__________
[1] (4/ 106) .
[2] انظر «وفيات الأعيان» (5/ 168- 174) .
[3] تحرفت في «آ» إلى «مظفر» .
[4] لفظة «تفسير» سقطت من «ط» .
[5] في «آ» و «ط» و «كشف الظنون» : «ديوان التمثل» وما أثبته من «معجم الأدباء» لياقوت (19/ 134) و «وفيات الأعيان» .
[6] واسمه الكامل كما في «معجم الأدباء» (19/ 135) و «وفيات الأعيان» : «شقائق النعمان في حقائق النّعمان» وقد خصصه للكلام على مناقب أبي حنيفة النعمان رحمه الله تعالى.
[7] في «آ» و «ط» : «العيي» وما أثبته من «معجم الأدباء» و «وفيات الأعيان» .(6/195)
وكان قد سافر إلى مكّة- حرسها الله تعالى- وجاور بها زمانا، فصار يقال له «جار الله» لذلك، فكان هذا الاسم علما عليه. وسمعت من بعض المشايخ أن إحدى رجليه كانت ساقطة [1] و [أنّه] كان يمشي في جاون خشب، وكان سبب سقوطها أنه في بعض أسفاره في بلاد خوارزم أصابه ثلج كثير وبرد شديد في الطريق فسقطت منه رجله، وأنه كان بيده محضر فيه شهادة خلق كثير ممن اطلعوا على حقيقة ذلك، خوفا من أن يظن من لم [2] يعلم الحال أنها قطعت لريبة.
ورأيت في تاريخ [بعض] المتأخرين، أن الزّمخشري لما دخل بغداد واجتمع بالفقيه الحنفي الدامغاني سأله عن [سبب] قطع رجله، فقال: دعاء الوالدة، وذلك أنني في صباي أمسكت عصفورا وربطته بخيط في رجله، وأفلت من يدي، فأدركته وقد دخل في خرق، فجذبته فانقطعت رجله في الخيط، فقالت والدتي: قطع الله رجل الأبعد كما قطعت رجله، فلما وصلت إلى سنّ الطلب رحلت [3] إلى بخارى لطلب العلم، فسقطت عن الدابة فانكسرت رجلي، وعملت عليّ عملا [4] أوجب قطعها.
وكان الزّمخشري المذكور معتزلي الاعتقاد متظاهرا به، حتّى نقل عنه أنه كان إذا قصد صاحبا له واستأذن عليه في الدخول يقول لمن يأخذ له الإذن: قل له أبو القاسم المعتزلي بالباب. وأول ما صنّف كتاب «الكشّاف» استفتح الخطبة بقوله: «الحمد لله الذي خلق القرآن» فيقال: إنه قيل متى تركته على هذه الهيئة هجره الناس ولا يرغب أحد فيه، فغيّره بقوله:
__________
[1] في «آ» و «ط» : «سقطت» وما أثبته من «وفيات الأعيان» وما بين حاصرتين مستدرك منه.
[2] لفظة «لم» سقطت من «ط» .
[3] في «آ» و «ط» «دخلت» وما أثبتناه من «وفيات الأعيان» .
[4] في «آ» و «ط» : «عمل» وما أثبتناه من «وفيات الأعيان» .(6/196)
«الحمد لله الذي جعل القرآن» وجعل عندهم بمعنى خلق. ورأيت في كثير من النسخ «الحمد لله الذي أنزل القرآن» وهذا إصلاح الناس لا إصلاح المصنّف.
وكان الحافظ أبو الطاهر السّلفي كتب إليه من الإسكندرية وهو يومئذ مجاور بمكة يستجيزه في مسموعاته ومصنفاته، فردّ جوابه بما لا يشفي الغليل، فلما كان في العام الثاني كتب إليه أيضا مع بعض الحجّاج استجازة أخرى، ثم قال في آخرها: ولا يحوج- أدام الله توفيقه- إلى المراجعة، فالمسافة بعيدة، وقد كاتبه في السنة الماضية فلم يجبه بما يشفي الغليل، وفي ذلك الأجر الجزيل. فكتب [إليه] الزّمخشري جوابه بأفصح عبارة وأبلغها، ولم يصرح له بمقصوده.
ومن شعره السائر قوله:
ألا قل لسعدى ما لنا فيك [1] من وطر ... وما النّجل [2] من أعين البقر
فإنّا اقتصرنا بالذين تضايقت ... عيونهم والله يجزي من اقتصر
مليح ولكن عنده كلّ [3] جفوة ... ولم أر في الدّنيا صفاء بلا كدر
ولم أنس إذ غازلته قرب روضة ... إلى جنب حوض فيه للماء منحدر [4]
فقلت له: جئني بورد وإنما ... أردت به ورد الخدود وما شعر
فقال: انتظرني رجع طرف أجئ به ... فقلت له: هيهات ما لي منتظر
فقال: ولا ورد سوى الخدّ حاضر ... فقلت له: إنّي قنعت بما حضر
__________
[1] في «آ» و «ط» : «فيه» وما أثبته من «وفيات الأعيان» .
[2] في «آ» و «ط» : «وما بطنين النحل» وما أثبته من «وفيات الأعيان» و «العقد الثمين» (7/ 147) والنجل: سعة فتحة العين. ورواية البيت في «سير أعلام النبلاء» (20/ 155) :
ألا قل لسعدى ما لنا فيك من وطر ... وما تطّبينا النّجل من أعين البقر
[3] لفظة «كل» سقطت من «آ» .
[4] في «آ» و «ط» : «منحصر» وما أثبته من «وفيات الأعيان» و «سير أعلام النبلاء» .(6/197)
ومن شعره يرثي شيخه أبا مضر [1] منصورا:
وقائلة: ما هذه الدّرر التي ... تساقط من عينيك سمطين سمطين؟
فقلت لها: الدّر الذي كان قد حشا ... أبو مضر أذني تساقط من عيني
ومن شعره:
أقول لظبي مرّ بي وهو راتع ... أأنت أخو ليلى فقال: يقال
فقلت وفي حكم الصبابة والهوى ... يقال أخو ليلى فقال: يقال
فقلت وفي ظل الأراكة والحمى ... يقال ويستسقي فقال: يقال
ومما أنشد لغيره في كتاب «الكشّاف» [2] في سورة البقرة، عند قوله تعالى: إِنَّ الله لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها 2: 26 [البقرة:
26] فإنه قال: أنشدت لبعضهم:
يا من يرى مدّ البعوض جناحها ... في ظلمة اللّيل البهيم الأليل
ويرى مناط عروقها في نحرها ... والمخّ في تلك العظام النّحل
اغفر لعبد تاب عن فرطاته ... ما كان منه في الزمان الأول
وكانت ولادة الزمخشري يوم الأربعاء سابع عشري رجب، سنة سبع وستين وأربعمائة بزمخشر، وتوفي ليلة عرفة بجرجانيّة خوارزم، بعد رجوعه من مكّة. انتهى ما أورده ابن خلّكان ملخصا [3] .
وقال ابن الأهدل: كان من أئمة الحنفية، معتزلي العقيدة، عظم صيته في علوم الأدب، وسلّم مناظروه له. انتهى ملخصا أيضا.
__________
[1] لفظة «مضر» سقطت من «آ» .
[2] انظر «الكشاف» (1/ 265) مصورة دار المعرفة ببيروت.
[3] لفظة «ملخصا» لم ترد في «آ» .(6/198)
سنة تسع وثلاثين وخمسمائة
فيها توفي أبو البدر الكرخي إبراهيم بن محمد بن منصور [1] . ثقة ذو مال، حدّث عن ابن سمعون، وعن خديجة الشاهجانية، وسمع أيضا من الخطيب وطائفة، وتوفي في ربيع الأول.
وفيها تاشفين [2] صاحب المغرب، أمير المسلمين، ولد علي بن يوسف بن تاشفين المصمودي البربري الملثّم، ولي بعد أبيه سنتين وأشهرا، وكانت دولته في ضعف وانتقال، وزوال، مع وجود عبد المؤمن، فتحصّن بمدينة وهران، فصعد ليلة في رمضان إلى مزار بظاهر وهران، فبيّته أصحاب عبد المؤمن، فلما أيقن بالهلكة ركض فرسه فتردّى به إلى البحر، فتحطم وتلف، ولم يبق لعبد المؤمن منازع، فأخذ تلمسان.
وفيها ولّى جقر [3] بالموصل رجلا ظالما يقال له القزويني، فسار سيرة قبيحة، وشكا الناس إليه، فولّى مكانه عمر بن شكله، فأساء السيرة أيضا، فقال الحسن بن أحمد الموصلي:
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 106) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 79- 80) .
[2] انظر «العبر» (4/ 106- 107) و «النجوم الزاهرة» (5/ 275) .
[3] هو أبو سعيد جقر بن يعقوب الهمذاني، الملقب نصير الدّين. كان نائب عماد الدّين زنكي صاحب الجزيرة والموصل والشام، استنابه عنه بالموصل، وكان جبارا عسوفا، سفاكا للدماء، مستحلا للأموال. مات يوم الخميس التاسع من ذي القعدة سنة (539) هـ. انظر «الكامل في التاريخ» (11/ 100- 101) و «وفيات الأعيان» (1/ 364- 365) .(6/199)
يا نصير الدّين يا جقر ... ألف قزويني ولا عمر
لو رماه الله في سقر ... لاشتكت من ظلمه سقر
وفيها توفي أبو منصور بن الرزّاز، سعيد بن محمد بن عمر البغدادي، شيخ الشافعية، ومدرّس النظامية، تفقّه على الغزالي، وأسعد الميهني، وإلكيا الهرّاسي، وأبي بكر الشاشي، وأبي سعد المتولي. وروى عن رزق الله التميمي، وبرع وساد، وصار إليه رئاسة المذهب، وكان ذا سمت ووقار وجلالة، كان مولده سنة اثنتين وستين وأربعمائة، وتوفي في ذي الحجة، ودفن بتربة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي.
وفيها أبو الحسن شريح بن محمد بن شريح الرّعيني الإشبيلي، خطيب إشبيلية ومقرئها ومسندها. روى عن أبيه، وأبي عبد الله بن منظور، وأجاز له ابن حزم، وقرأ القراءات على أبيه وبرع فيها، ورحل الناس إليه من الأقطار للحديث والقراءات، ومات في شهر جمادى الأولى عن تسع وثمانين سنة.
وفيها- أو في التي قبلها كما جزم به ابن ناصر الدّين [1]- أبو المعالي عبد الله بن أحمد بن أحمد بن محمد المروزي الحلواني- بفتح الحاء [المهملة] ، نسبة إلى الحلوى- البزّاز. كان حافظا فقيها عالما نبيها. قاله ابن ناصر الدّين.
وفيها علي بن هبة الله بن عبد السلام، أبو الحسن الكاتب البغدادي. سمع الكثير بنفسه، وكتب، وجمع، وحدّث عن الصريفيني، وابن النّقور، وتوفي في رجب عن ثمان وثمانين سنة.
وفيها أبو البركات عمر بن إبراهيم بن محمد الزّيدي الكوفي النحوي
__________
[1] في «التبيان شرح بديعة البيان» (162/ آ) وما بين حاصرتين مستدرك منه.(6/200)
الحنفي. أجاز له محمد بن علي بن عبد الرحمن العلوي، وسمع من أبي بكر الخطيب وخلق، وسكن الشام مدة، وله مصنفات في العربية، وكان يقول:
أفتي برأي أبي حنيفة ظاهرا، وبمذهب جدّي زيد بن علي تديّنا.
وقال أبيّ النّرسي: كان جاروديا [1] لا يرى الغسل من الجنابة.
وقال في «العبر» [2] : قلت: وقد اتهم بالرفض، والقدر، والتجهّم.
توفي في شعبان، وله سبع وتسعون سنة، وشيّعه نحو ثلاثين ألفا، وكان مسند الكوفة. انتهى.
وفيها فاطمة بنت محمد بن أبي سعد البغدادية أم البهاء الواعظة، مسندة أصبهان. روت عن أبي الفضل الرازي [3] وسبط بحرويه [4] ، وأحمد ابن محمود الثقفي، وسمعت «صحيح البخاري» من سعيد العيّار. وتوفيت في رمضان، ولها أربع وتسعون سنة.
وفيها القاسم بن المظفّر علي بن القاسم الشهرزوري، والد قاضي الخافقين أبي بكر محمد، والمرتضى أبي محمد عبد الله، وأبي منصور المظفّر، وهو جد بيت الشهرزوري، قضاة الشام، والموصل، والجزيرة، وكلهم إليه ينتسبون. كان حاكما بمدينة إربل مدة، وبمدينة سنجار مدة، وكان من أولاده وحفدته أولاد علماء نجباء كرماء، نالوا المراتب العلية، وتقدموا
__________
[1] نسبة أبي الجارود زياد بن المنذر الهمذاني، وقيل الثقفي، ويقال النهدي الأعمى. كان رافضيا يضع الحديث في الفضائل والمثالب، وإليه ينسب الجارودية، ويقولون: إن عليا- رضي الله عنه- أفضل الصحابة، وتبرءوا من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وزعموا أن الإمامة مقصورة على ولد فاطمة رضي الله عنها، وبعضهم يرى الرجعة ويبيح المتعة. قال ابن معين: كذّاب عدوّ الله. عن «ميزان الاعتدال» للذهبي (2/ 93- 94) باختصار.
[2] (4/ 108) .
[3] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «المرازي» والتصحيح من «العبر» (4/ 109) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 148) .
[4] تصحفت في «آ» و «ط» إلى «نحرويه» والتصحيح من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» .(6/201)
عند الملوك، وتحكموا وقضوا، ونفقت أسواقهم، خصوصا حفيده القاضي كمال الدّين محمد، ومحيي الدّين بن كمال الدّين، وقدم بغداد غير مرّة، وذكره جماعة وأثنوا عليه، منهم: أبو البركات المستوفي في «تاريخ إربل» [1] وأورد له شعرا، فمن ذلك قوله:
همّتي دونها السّها والزّبانا ... قد علت جهدها فما تتدانى
فأنا متعب معنىّ إلى أن ... تتفانى الأيام أو نتفانى
هكذا وجدت هذه الترجمة في «تاريخ الإسلام» لابن شهبة.
والصحيح أن البيتين لولده أبي بكر محمد قاضي الخافقين، فإنه المتوفى في هذا التاريخ.
وأما والده القاسم فذكر ابن خلّكان [2] أن وفاته سنة تسع وثمانين وأربعمائة، وهذا غاية البعد والوهم، وكانت ولادة قاضي الخافقين بإربل سنة ثلاث أو أربع وخمسين وأربعمائة، وتوفي في جمادى الآخرة ببغداد، ودفن بباب أبرز، وإنما قيل له قاضي الخافقين لكثرة البلاد التي وليها، وممن سمع منه، السمعاني، وقال في حقه: إنه اشتغل بالعلم على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وولي القضاء بعدة بلاد، ورحل إلى العراق، وخراسان، والجبال، وسمع الحديث الكثير.
وأما أخو قاضي الخافقين المرتضى، فهو أبو محمد عبد الله بن القاسم بن المظفّر والد القاضي كمال الدّين، كان أبو محمد المذكور مشهورا بالفضل والدّين، مليح الوعظ، مع الرشاقة والتجنيس، أقام ببغداد مدة يشتغل بالحديث والفقه، ثم رحل إلى الموصل، وتولى بها القضاء، وروى
__________
[1] انظر «تاريخ إربل» (1/ 203) بتحقيق الأستاذ سامي الصقار.
[2] انظر «وفيات الأعيان» (4/ 69) .(6/202)
الحديث، وله شعر رائق، فمن ذلك قصيدته التي على طريقة الصوفية، ولقد أحسن فيها، ومنها:
لمعت نارهم وقد عسعس اللي ... ل وملّ الحادي وحار الدليل
فتأمّلتها وفكري من البي ... ن عليل ولحظ عيني كليل
وفؤادي ذاك الفؤاد المعنّى ... وغرامي ذاك الغرام الدخيل
ثم قابلتها وقلت لصحبي ... هذه النّار نار ليلى فميلوا
فرموا نحوها لحاظا صحيحا ... ت وعادت خواسئا وهي حوّل
ثم مالوا إلى الملام وقالوا ... خلّب ما رأيت أم تخييل
فتنحّيتهم وملت إليها ... والهوى مركبي وشوقي الزميل
وهي طويلة.
ومن شعره قوله:
يا ليل ما جئتكم زائرا ... إلّا وجدت الأرض تطوى لي
ولا ثنيت العزم عن بابكم ... إلّا تعثرت بأذيالي
وكانت ولادته في شعبان سنة خمس وستين وأربعمائة وتوفي في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة وخمسمائة بالموصل ودفن بالتربة المعروفة بهم.
وأما أخوه المظفّر، فإن السمعاني ذكره في «الذيل» فقال: ولد بإربل، ونشأ بالموصل، وورد بغداد وتفقّه بها على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، ورجع إلى الموصل، وولي قضاء سنجار على كبر سنه وسكنها، وكان قد أضرّ، ثم قال: سألته عن مولده فقال: ولدت في جمادى الآخرة- أو رجب- سنة سبع وخمسين وأربعمائة بإربل، ولم يذكر وفاته، والله أعلم.
وفيها أبو المعالي محمد بن إسماعيل الفارسي ثم النيسابوري [1] ،
__________
[1] انظر «سير أعلام النبلاء» (20/ 93) وما بين حاصرتين زيادة منه.(6/203)
راوي «السّنن الكبير» عن البيهقي وراوي « [صحيح] البخاري» عن [سعيد] العيّار، توفي في جمادى الآخرة، وله إحدى وتسعون سنة.
وفيها [أبو عبد الله] محمد بن عبد العزيز السّوسي [ثم البصري] الشاعر [1] . كان ظريفا [ماجنا] ، له منظر حسن، ورث من أبيه مالا جزيلا فأنفقه في اللهو وافتقر، فعمل قصيدته الظريفة المعروفة بالسّوسية، التي أولها
الحمد لله ليس [لي] بخت ... ولا ثياب يضمّها تخت
وفيها أبو المنصور محمد بن عبد الملك بن الحسن بن محمد بن خيرون البغدادي المقرئ الدبّاس، مصنّف «المفتاح» و «الموضح في القراءات» أدرك أصحاب أبي الحسن الحمّامي، وسمع الحديث من أبي جعفر بن المسلمة، والخطيب، والكبار، وتفرّد بإجازة أبي محمد الجوهري.
توفي في رجب، وله خمس وثمانون سنة.
وفيها أبو المكارم المبارك بن علي السّمّذي- بكسرتين وتشديد الميم، نسبة إلى السّمّذ، وهو الخبز الأبيض، يعمل للخواص- البغدادي سمع الصريفيني وطائفته، ومات يوم عاشوراء.
__________
[1] انظر «الوافي بالوفيات» (3/ 261) وما بين حاصرتين في الترجمة منه.(6/204)
سنة أربعين وخمسمائة
فيها توفي أبو سعد البغدادي الحافظ أحمد بن محمد بن أبي سعد أحمد بن الحسن الأصبهاني. ولد سنة ثلاث وستين وأربعمائة، وسمع من عبد الرحمن، وعبد الوهاب ابني مندة وطبقتهما، وببغداد من عاصم بن الحسن.
قال [أبو] سعد بن السمعاني: حافظ، ديّن، خيّر، يحفظ «صحيح مسلم» وكان يملي من حفظه.
وقال الذهبي [1] : حجّ مرّات، ومات في ربيع الآخر بنهاوند، ونقل إلى أصبهان.
وقال ابن ناصر الدّين [2] : كان ثقة متقنا ديّنا خيّرا واعظا، و «صحيح مسلم» من بعض حفظه.
وفيها أبو بكر عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن البحيري.
روى عن القشيري، وأحمد بن منصور المغربي. توفي في جمادى الأولى عن سبع وثمانين سنة.
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 110) .
[2] في «التبيان شرح بديعة البيان» (162/ ب) .(6/205)
وفيها [أبو الفتح] محمد بن محمد بن الخشّاب الكاتب [1] ، أحد الفضلاء. فمن شعره:
أراك اتّخذت سواكا أراكا ... لكيما أراك وأنسى سواكا
سواك فما أشتهي أن أرى ... فهب لي رضابا وهب لي سواكا
ومن هنا أخذ القائل:
ما أردت الأراك إلّا لأني ... إن ذكرت الأراك قلت أراكا
وهجرت السواك إلّا لأني ... إن ذكرت السواك قلت سواكا
وقال الآخر:
طلبت منك سواكا ... وما طلبت سواكا
وما طلبت أراكا ... إلّا أردت أراكا
وكان حسن الخطّ [والعبارة] والتّرسل، له حظ [وافر] من العربية، وكان يضرب به المثل في الكذب ووضع الخيالات [2] والحكايات المستحيلات، منهمكا على الشرب مع كبر سنه.
وفيها [أبو عبد الله] محمد بن مزّاح الأزدي [3] .
من شعره في ثقيل:
لنا صديق زائد ثقله ... فظفره كالجبل الرّاسي
تحمل منه الأرض أضعاف ما ... تحمله من سائر النّاس
ولبعض الأندلسيين:
ليس بإنسان ولكنّه ... يحسبه النّاس من النّاس
__________
[1] انظر «الأنساب» (5/ 120) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 76- 77) و «الوافي بالوفيات» (1/ 165) وما بين حاصرتين زيادة منه.
[2] في «الوافي بالوفيات» : «ووضع المحالات» .
[3] انظر «الوافي بالوفيات» (5/ 17) وما بين حاصرتين زيادة منه.(6/206)
أثقل في أنفس إخوانه ... من جبل راس على راس
وفيها أبو إسحاق الضرير، إبراهيم بن محمد الطّليطلي، وهو القائل:
أتاك العذار على غرّة ... فإن كنت في غفلة فانتبه
وقد كنت تأبى زكاة الجمال ... فصار شجاعا تطوّقت به
وفيها أبو الحسن محمد بن الحسن أبو علي بن أبي جعفر الطّوسي [1] ، شيخ الرافضة [2] وعالمهم، وابن شيخهم وعالمهم، رحلت إليه طوائف الشيعة من كل جانب إلى العراق وحملوا إليه، وكان ورعا عالما كثير الزهد.
وأثنى عليه السمعاني.
وقال العماد الطبري: لو جازت على غير الأنبياء صلاة صليت عليه.
وفيها أبو منصور بن الجواليقي، موهوب بن أحمد بن محمد بن الخضر بن الحسن البغدادي الحنبلي [3] .
قال ابن رجب [4] : هو شيخ أهل اللغة في عصره. ولد في ذي الحجة سنة خمس وستين وأربعمائة، وسمع الحديث الكثير من أبي القاسم بن البسري، وأبي طاهر بن أبي الصّقر، وابن الطّيوري، وخلق، وبرع في علم اللغة والعربية، ودرّس العربية في النظامية بعد شيخه أبي زكريا مدة، ثم قرّبه المقتفي لأمر الله تعالى، فاختص بإمامته في الصلوات، وكان المقتفي يقرأ عليه شيئا من الكتب، وانتفع به، وبان أثره في توقيعاته، وكان من أهل السّنّة المحامين عنها، ذكر ذلك ابن شافع.
وقال ابن السمعاني في حقه: إمام اللغة والأدب، وهو من مفاخر
__________
[1] انظر «الوافي بالوفيات» (2/ 349) .
[2] في «ط» و «الوافي بالوفيات» : «شيخ الشيعة» .
[3] انظر «سير أعلام النبلاء» (20/ 89- 91) .
[4] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 204- 206) .(6/207)
بغداد، وهو متدين ثقة ورع، غزير الفضل، كامل العقل، مليح الخط، كثير الضبط، صنّف التصانيف وانتشرت عنه، وشاع ذكره، ونقل بخطه الكثير.
وكذلك قال عنه تلميذه ابن الجوزي. وقال: وقرأت عليه كتابه «المعرّب» [1] وغيره من تصانيفه.
وقال ابن خلّكان [2] : صنف التصانيف، وانتشرت عنه، مثل «شرح كتاب أدب الكاتب» وكتاب «المعرّب» و «تتمة درّة الغوّاص» للحريري.
وكان يصلي بالمقتفي بالله، فدخل عليه- وهو أول ما دخل- فما زاد على أن قال: السلام على أمير المؤمنين. فقال: ابن التلميذ النصراني- وكان قائما وله إدلال الخدمة والطب-: ما هكذا يسلّم على أمير المؤمنين يا شيخ، فلم يلتفت إليه ابن الجواليقي، وقال: يا أمير المؤمنين: سلامي هو ما جاءت به السّنّة النبوية. وروى الحديث، ثم قال: يا أمير المؤمنين لو حلف حالف أن نصرانيا أو يهوديا لم يصل إلى قلبه نوع من أنواع العلم على الوجه [المرضي] لما لزمته كفّارة، لأن الله تعالى ختم على قلوبهم ولن يفك ختم الله إلّا الإيمان، فقال: صدقت وأحسنت [3] وكأنما ألجم ابن التلميذ بحجر مع فضله وغزارة أدبه.
وقال المنذري: سمع منه جماعة، منهم: ابن ناصر، وابن السمعاني، وابن الجوزي، وأبو اليمن الكندي، وتوفي سحر يوم الأحد خامس عشر المحرم، ودفن بباب حرب عند والده، رحمهما الله تعالى.
__________
[1] وهو مطبوع في دار الكتب المصرية بالقاهرة بتحقيق العلّامة الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله تعالى.
[2] انظر «وفيات الأعيان» (5/ 342- 343) .
[3] لفظة «وأحسنت» سقطت من «آ» .(6/208)
سنة إحدى وأربعين وخمسمائة
فيها أخذت الفرنج طرابلس المغرب بالسيف ثم عمروها.
وفيها توفي أبو البركات إسماعيل بن الشيخ أبي أحمد بن محمد النيسابوري [1] ثم البغدادي، شيخ الشيوخ، وله ست وسبعون سنة. روى عن أبي القاسم بن البسري وطائفة. وكان مهيبا جليلا وقورا متصوّفا [2] .
وفيها حنبل بن علي أبو جعفر البخاري [السّجزي] الصوفي. سمع من شيخ الإسلام [3] بهراة، وصحبه، وببغداد من أبي عبد الله النّعالي، توفي بهراة في شوال.
وفيها زنكيّ الأتابك عماد الدّين [4] ، صاحب الموصل وحلب، ويعرف أبوه بالحاجب قسيم الدولة آق سنقر التّركي. ولي شحنكيّة بغداد في آخر دولة المستظهر بالله، ثم نقل إلى الموصل، وسلّم إليه السلطان محمود ولده فروخشاه الملقّب بالخفاجي ليربيه، ولهذا قيل له أتابك. وكان فارسا شجاعا ميمون النقيبة، شديد البأس، قوي المراس، عظيم الهيبة، فيه ظلم وزعارة،
__________
[1] انظر «سير أعلام النبلاء» (20/ 160- 161) و «مختصر تاريخ دمشق» لابن منظور (9/ 336- 337) .
[2] في «آ» و «ط» : «مصونا» وما أثبته من «العبر» (4/ 111) طبع الكويت و (2/ 459) طبع بيروت.
[3] يعني الإمام القدوة أبي إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري، كما جاء مبينا في «الأنساب» (7/ 47) ولفظة «السّجزي» التي بين الحاصرتين في الترجمة زيادة منه.
[4] انظر «العبر» (4/ 112) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 189- 191) .(6/209)
ملك الموصل، وحلب، وحماة، وحمص، وبعلبك، والرّها، والمعرّة. قتله بعض غلمانه وهو نائم وهربوا إلى قلعة جعبر، ففتح لهم صاحبها عليّ بن مالك العقيلي، وكان زنكي- سامحه الله- حسن الصورة، أسمر، مليح العينين، قد وخطه الشيب، وجاوز الستين، قتل في ربيع الآخر، وتملّك الموصل بعده ابنه غازي، وتملّك حلب وغيرها ابنه الآخر نور الدّين محمود.
وفيها أبو الحسن سعد الخير بن محمد بن سهل الأنصاري الأندلسي، البلنسي المحدّث. رحل إلى المشرق، وسافر في التجارة إلى الصين، وكان فقيها عالما متقنا. سمع أبا عبد الله النّعالي، وطراد بن محمد، وطائفة، وسكن أصبهان مدة ثم بغداد، وتفقّه على الغزالي، وتوفي في المحرم.
وفيها سبط الخيّاط الإمام أبو محمد عبد الله بن علي البغدادي، المقرئ الفقيه، الحنبلي النحوي، شيخ المقرئين بالعراق، وصاحب التصانيف.
ولد سنة أربع وستين وأربعمائة، وسمع من أبي الحسين بن النّقّور وطائفة، وقرأ القرآن على جدّه الزاهد أبي منصور، والشريف عبد القادر، وطائفة، وبرع في العربية على ابن فاخر، وأمّ بمسجد [ابن] جردة بضعا وخمسين سنة، وقرأ عليه خلق. وكان من أندى الناس صوتا بالقرآن، توفي في ربيع الآخر، وكان الجمع في جنازته يفوت الإحصاء. قاله في «العبر» [1] .
وقال ابن الجوزي: قرأت عليه القرآن والحديث الكثير، ولم أسمع قارئا قطّ أطيب صوتا منه، ولا أحسن أداء على كبر سنه، وكان كثير التلاوة، لطيف الأخلاق، ظاهر الكياسة والظرافة وحسن المعاشرة للعوام والخواص، قويا في السّنّة، وكان طول عمره منفردا في مسجده.
__________
[1] (4/ 113) .(6/210)
وقال ابن شافع: سار ذكر سبط الخيّاط في الأغوار والأنجاد، ورأس أصحاب الإمام أحمد، وصار واحد وقته ونسيج وحده، لم أسمع في جميع عمري من يقرأ الفاتحة أحسن ولا أفصح منه. وكان جمال العراق بأسره، ظريفا كريما لم يخلّف مثله في أكثر فنونه.
وقال ابن نقطة: كان شيخ العراق، يرجع إلى دين وثقة وأمانة، وكان ثقة صالحا من أئمة المسلمين، وله شعر حسن، فمنه:
يا من تمسّك بالدنيا ولذتها ... وجدّ في جمعها بالكدّ والتعب
هلّا عمرت لدار سوف تسكنها ... دار القرار وفيها معدن الطلب
فعن قليل تراها وهي داثرة ... وقد تمزّق ما جمّعت من نشب
وقوله أيضا:
أيّها الزائرون بعد وفاتي ... جدثا ضمّني ولحدا عميقا
سترون الذي رأيت من المو ... ت عيانا وتسلكون الطريقا
وقوله أيضا:
الفقه علم به الأديان ترتفع ... والنحو عزّ به الإنسان ينتفع
ثم الحديث إذا ما رمته فرج ... من كل معنى به الإنسان يبتدع
ثم الكلام فذره فهو زندقة ... وخرّقه فهو خرق ليس يرتقع
قال ابن الجوزي: توفي بكرة الاثنين ثاني عشر ربيع الآخر، وتوفي في غرفته التي في مسجده فحطّ تابوته بالحبال من سطح المسجد، وأخرج إلى جامع القصر، فصلى عليه عبد القادر، وما رأيت جمعا أكثر من جمعه ودفن في دكة الإمام أحمد عند جده أبي منصور.
وفيها أبو بكر وجيه بن طاهر بن محمد الشحّامي، أخو زاهر، توفي في جمادي الآخرة عن ست وثمانين سنة. سمع القشيري، وأبا حامد(6/211)
الأزهري، ويعقوب الصّيرفي، وطبقتهم، وطائفة، بهراة، وببغداد، والحجاز، وأملى مدة، وكان خيّرا متواضعا متعبدا لا كأخيه، وتفرّد في عصره. قاله في «العبر» [1] .
__________
[1] (4/ 113) .(6/212)
سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة
فيها غزا نور الدّين محمود بن زنكي، فافتتح ثلاثة حصون للفرنج بأعمال حلب.
وفيها كان الغلاء المفرط- بل وقبلها بسنوات- بإفريقية [حتى أكلوا لحوم الآدميين] [1] .
وفيها توفي أبو الحسن بن الأبنوسي أحمد بن أبي محمد عبد الله بن علي البغدادي الشافعي الوكيل. سمع أبا القاسم بن البسري وطبقته، وتفقّه وبرع، وقرأ الكلام والاعتزال، ثم لطف الله به، وتحوّل سنّيا. توفي في ذي الحجة عن بضع وسبعين سنة.
وفيها أبو جعفر البطروجي [2] أحمد بن عبد الرحمن الأندلسي، أحد الأئمة. روى عن أبي عبد الله الطّلّاعي، وأبي علي الغسّاني، وطبقتهما، وكان إماما حافلا [3] بصيرا بمذهب مالك ودقائقه، إماما في الحديث ومعرفة
__________
[1] ما بين حاصرتين تكملة من «العبر» مصدر المؤلف.
[2] جاء في هامش «ط» ما نصه: «البطروجي: لا أدري نسبته لأي شيء، وما رأيت من تكلم عليه. (المؤلف) » .
قلت: وكذا ضبط الذهبيّ نسبته في «العبر» (4/ 114) : «البطروجي» وتابعه المؤلف، وقال في «سير أعلام النبلاء» (20/ 116) : «البطروجي» ويقال: «البطروشي» وانظر «معجم البلدان» (1/ 447) .
[3] في «ط» : «عاقلا» .(6/213)
رجاله وعلله، له مصنّفات مشهورة، ولم يكن في وقته بالأندلس مثله، ولكنه كان قليل العربية، رثّ الهيئة، خاملا. توفي في المحرم.
وفيها أبو بكر بن الأشقر أحمد بن علي بن عبد الواحد الدلّال. روى عن المهتدي بالله، والصّريفيني، وكان خيّرا، صحيح السماع، توفي في صفر.
وفيها دعوان [1] بن علي بن حمّاد بن صدقة الجبّائي، ويقال له الجبّي أيضا- نسبة إلى قرية [2] بسواد بغداد عند العقر على طريق خراسان- المقرئ الفقيه الحنبلي أبو محمد.
ولد سنة ثلاث وستين وأربعمائة بالجبة المذكورة، وقدم بغداد فسمع بها من أبي محمد التميمي، وأبي عبد الله بن البسري وجماعة، وقرأ بالروايات على الشريف عبد القاهر المكّي، وابن سوار، وتفقّه على أبي سعد المخرّمي، وأحكم [3] الفقه، وأعاد لشيخه المذكور، وأقرأ القرآن، وحدّث وانتفع به الناس. قرأ عليه جماعة، وحدّث عنه آخرون، منهم: ابن السمعاني.
قال ابن الجوزي: كان خيّرا [4] ، ديّنا ذا ستر وصيانة وعفاف وطرائق محمودة [5] على سبيل السلف الصالح. توفي يوم الأحد سادس عشري ذي القعدة، ودفن من الغد بمقبرة أبي بكر غلام الخلّال إلى جانبه.
وفيها علي بن عبد السيّد أبو القاسم بن العلّامة أبي نصر بن الصبّاغ
__________
[1] في «آ» و «ط» : «عوان» والتصحيح من «المنتظم» (10/ 127) و «العبر» بطبعتيه.
[2] وهي قرية «جبّى» كما جاء ذلك مبينا في «معجم البلدان» (2/ 97) .
[3] لفظة «وأحكم» سقطت من «آ» .
[4] لفظة «خيرا» لم ترد في «المنتظم» المطبوع.
[5] في «المنتظم» : «وطريق محمودة» .(6/214)
الشاهد. سمع من الصريفيني كتاب «السبعة» لابن مجاهد، وعدة أجزاء، وكان صالحا حسن الطريقة، توفي في جمادى الأولى.
وفيها عمر بن ظفر أبو حفص المغازليّ، مفيد بغداد. سمع أبا القاسم ابن البسري فمن بعده، وأقرأ القرآن مدة، وكتب الكثير. توفي في شعبان.
وفيها أبو عبد الله الجلّابي [1] القاضي، محمد بن علي بن محمد بن محمد بن الطيب الواسطي المغازلي. سمع من محمد بن محمد بن مخلد الأزدي، والحسن بن أحمد الغندجاني، وطائفة، وأجاز له أبو غالب بن بشران اللغوي وطبقته، وكان ينوب في الحكم بواسط.
وفيها أبو الفتح نصر الله بن محمد بن عبد القوي المصّيصي ثم اللّاذقي ثم الدمشقي، الفقيه الشافعي الأصولي الأشعري. سمع من أبي بكر الخطيب، وتفقه على الفقيه نصر المقدسي، وسمع ببغداد من رزق الله، وعاصم. وبأصبهان من ابن شكرويه، ودرّس بالغزالية، ووقف وقوفا، وأفتى وأشغل، وصار شيخ دمشق في وقته، توفي في ربيع الأول، وله أربع وتسعون سنة، وآخر أصحابه ابن أبي لقمة.
قال ابن شهبة [2] : كان منقبضا عن الدخول على السلاطين، ودفن بمقابر باب الصغير.
وفيها أبو السعادات بن الشّجريّ، هبة الله بن علي بن محمد بن حمزة الشريف العلوي الحسيني البغدادي النحوي، صاحب التصانيف.
قال ابن خلّكان [3] : كان إماما في النحو واللغة وأشعار العرب وأيامها
__________
[1] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «الحداني» والتصحيح من «الأنساب» (3/ 400) و «العبر» بطبعتيه.
[2] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 372) .
[3] انظر «وفيات الأعيان» (6/ 45- 50) .(6/215)
وأحوالها، كامل الفضائل، متضلعا من الأدب، صنّف فيه عدة تصانيف، فمن ذلك كتاب «الأمالي» وهو أكبر تآليفه وأكثرها إفادة، أملاه في أربعة وثمانين مجلسا، وهو يشتمل على فوائد جمّة من فنون الأدب، وختمه بمجلس قصره على أبيات من شعر المتنبي، تكلّم عليها، وذكر ما قاله الشرّاح فيها، وزاد من عنده ما سنح له، وهو من الكتب الممتعة، ولما فرغ من إملائه حضر إليه أبو محمد بن الخشّاب، والتمس منه سماعه عليه، فلم يجبه إلى ذلك، فعاداه وردّ عليه في مواضع من الكتاب، ونسبه فيها إلى الخطأ، فوقف أبو السعادات على ذلك الردّ، فردّ عليه في ردّه وبيّن وجوه غلطه وجمعه كتابا سماه «الانتصار» وهو على صغر حجمه مفيد جدا، وسمعه عليه الناس، وجمع أيضا كتابا سماه «الحماسة» ضاهى به «حماسة أبي تمام» وهو كتاب غريب أحسن فيه، وله في النحو عدة تصانيف، وله «ما اتفق لفظه واختلف معناه» ، وشرح «اللمع» لابن جنّي وشرح «التصريف المملوكي» .
وكان حسن الكلام، حلو الألفاظ، فصيحا، جيد البيان والتفهيم، وقرأ الحديث بنفسه على جماعة، منهم ابن المبارك الصيرفي، وابن نبهان الكاتب، وغيرهما.
وحكى أبو البركات عبد الرحمن بن الأنباري في كتاب «مناقب الأدباء» أنّ العلّامة الزّمخشري لما قدم بغداد قاصدا للحج، مضى إلى زيارته [1] شيخنا أبو السعادات بن الشّجري ومضينا إليه معه، فلما اجتمع به أنشده قول المتنبي [2] :
وأستكبر الأخبار قبل لقائه ... فلما التقينا صغّر الخبر الخبر
ثم أنشده بعد ذلك:
__________
[1] تحرفت في «وفيات الأعيان» إلى «زيارة» فتصحح فيه.
[2] انظر «ديوانه» بشرح العكبري (2/ 155) .(6/216)
كانت مساءلة الرّكبان تخبرني ... عن جعفر بن فلاح أحسن الخبر
حتّى التقينا فلا والله ما سمعت ... أذني بأطيب [1] مما قد رأى بصري
وهذان البيتان منسوبان لابن هانئ الأندلسي.
قال ابن الأنباري: فقال العلّامة الزّمخشري: روي عن النّبيّ- صلى الله عليه وسلم- أنه لما قدم عليه زيد الخيل قال له: «يا زيد! ما وصف لي أحد في الجاهلية فرأيته في الإسلام إلّا رأيته دون ما وصف لي، غيرك» [2] .
قال ابن الأنباري: فخرجنا من عنده ونحن نعجب كيف يستشهد الشريف بالشعر والزّمخشريّ بالحديث، وهو رجل أعجمي.
وكان أبو السعادات نقيب الطالبيين بالكرخ نيابة عن والده الطاهر، وله شعر حسن، فمن شعره قوله في ابن جهير الوزير:
هذي السّديرة والغدير الطافح ... فاحفظ فؤادك إنني لك ناصح
يا سدرة الوادي الذي إن ضلّه ال ... ساري هداه نشره المتفاوح
هل عائد قبل الممات لمغرم ... عيش تقضّى في ضلالك صالح
ما أنصف الرشأ الضنين بنظرة ... لما دعا مصغي الصبابة طامح
شطّ المزار به وبوّئ منزلا ... بصميم قلبك فهو دان نازح
غصن يعطّفه النسيم وفوقه ... قمر يحفّ به ظلام جانح
وإذا العيون تساهمته لحاظها ... لم يرو منه الناظر المتراوح
ولقد مررنا بالعقيق وشاقنا ... فيه مراتع للمها ومسارح
ظلنا به نبكي فكم من مضمر ... وجدا أذاع هواه دمع سافح
برت الشئون رسومها فكأنّما ... تلك العراص المقفرات نواضح
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «بأحسن» .
[2] ذكره عماد الدّين بن الأثير في «أسد الغابة» (2/ 301) وابن حجر في «الإصابة» (3/ 35) مصورة دار الكتب العلمية ببيروت.(6/217)
يا صاحبيّ تأمّلا حييتما ... وسقى دياركما الملثّ الرائح
أدمى بدت لعيوننا أم ربرب ... أم خرّد أكفالهنّ رواجح
أم هذه مقل الصّوار [1] بدت لنا ... خلل البراقع أم قنا وصفائح
لم تبق جارحة وقد واجهننا ... إلّا وهنّ لهابهنّ [2] جوارح
كيف ارتجاع القلب من أسر الهوى ... ومن الشقاوة أن يراض القارح
ثم خرج إلى المديح.
وكان بينه وبين ابن جكّينا الشاعر تنافس جرت العادة به بين أهل الفضائل، فلما وقف على شعره عمل فيه:
يا سيدي والذي أراحك من ... نظم قريض يصدى به الفكر
مالك من جدّك النّبيّ سوى ... أنك ما ينبغي لك الشعر
وكانت ولادته في شهر رمضان سنة خمسين وأربعمائة، وتوفي يوم الخميس ثاني عشري رمضان، ودفن من الغد في داره بالكرخ من بغداد، رحمه الله تعالى.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «الصرار» والتصحيح من «وفيات الأعيان» مصدر المؤلف.
[2] في «آ» و «ط» : «لبازهن» وما أثبته من «وفيات الأعيان» .(6/218)
سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة
في ربيع الأول نازلت الفرنج دمشق في عشرة آلاف فارس وستين ألف راجل، فخرج المسلمون من دمشق للمصاف، فكانوا مائة وثلاثين ألف رجل وعسكر البلد. فاستشهد نحو المائتين، ثم برزوا في اليوم الثاني فاستشهد جماعة، وقتل من الفرنج عدد كثير، فلما كان في اليوم الخامس وصل غازي بن أتابك، وأخوه نور الدّين في عشرين ألفا إلى حماه، وكان أهل دمشق في الاستغاثة والتضرّع إلى الله تعالى، وأخرجوا المصحف العثماني إلى صحن الجامع، وضجّ الناس والنساء والأطفال [مكشّفي الرؤوس، وصدقوا الافتقار إلى الله] [1] فأغاثهم، وركب قسيس الفرنج وفي عنقه صليب وفي يديه صليبان، وقال: أنا قد وعدني المسيح إلى أن [2] آخذ دمشق، فاجتمعوا حوله، وحمل على البلد، فحمل عليه المسلمون فقتلوه وقتلوا جماعة [3] وأحرقوا الصلبان، ووصلت النجدة، فانهزمت الفرنج، وأصيب منهم خلق.
وفيها كان شدة القحط بإفريقية، فانتهز رجّال صاحب صقلية الفرصة، فأقبل في مائتين وخمسين مركبا، فهرب منه صاحب المهدية،
__________
[1] ما بين حاصرتين مستدرك من «العبر» بطبعتيه.
[2] لفظة «أن» سقطت من «ط» .
[3] في «العبر» بطبعتيه: «وقتلوا حماره» .(6/219)
فأخذها الملعون بلا ضربة ولا طعنة، وصار للفرنج من طرابلس المغرب إلى قريب تونس.
وفيها توفي أبو تمّام أحمد بن أبي العزّ محمد بن المختار بن المؤيد بالله الهاشمي العبّاسي البغدادي السفّار، نزيل خراسان. سمع أبا جعفر بن المسلمة وغيره، وتوفي في ذي القعدة بنيسابور عن بضع وتسعين سنة.
وفيها أبو إسحاق الغنوي- نسبة إلى غني بن أعصر [1]- إبراهيم بن محمد بن نبهان الرّقّي الصوفي، الفقيه الشافعي. سمع رزق الله التميمي، وتفقّه على الغزالي وغيره، وكان ذا سمت ووقار وعبادة، وهو راوي خطب ابن نباتة. توفي في ذي الحجة عن خمس وثمانين سنة.
وفيها قاضي العراق أبو القاسم الزّينبي [2] علي بن نور الهدى أبي طالب الحسين بن محمد بن علي العبّاسي الحنفي. سمع من أبيه وعمه وطراد، وكان ذا عقل ووقار ورزانة وعلم وشهامة ورأي. أعرض عنه في الآخر المقتفي وجعل معه في القضاء ابن المرخّم، ثم مرض ومات يوم الأضحى.
وفيها صالح بن شافع بن صالح بن حاتم بن أبي عبد الله الجيلي الحنبلي [3] الفقيه المعدل، أبو المعالي.
ولد ليلة الجمعة لست خلون من المحرم سنة أربع وسبعين وأربعمائة، وسمع من أبي منصور الخيّاط، و [ابن] الطيوري، وغيرهما. وصحب ابن عقيل وغيره من الأصحاب، وتفقّه ودرّس.
__________
[1] في «الأنساب» (9/ 184) : «وهو غني بن يعصر وقيل أعصر، واسمه منبه بن سعد بن قيس ابن عيلان بن مضر» وانظر ترجمته ومصادرها في «سير أعلام النبلاء» (20/ 175- 176) .
[2] انظر «الجواهر المضية» (2/ 568) والمصادر المذكورة في حاشيته.
[3] انظر «الوافي بالوفيات» (16/ 258) و «المنهج الأحمد» (2/ 302- 303) و «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 213- 214) .(6/220)
قال ابن الميداني [1] في «تاريخ القضاة» : كان فقيها زاهدا من سروات الناس.
وقال المنذري: كان أحد الفضلاء والشهود، وحدّث عنه الحافظان أبو القاسم الدمشقي، وأبو سعد بن السمعاني، توفي يوم الأربعاء سادس عشر رجب، ودفن في دكة الإمام أحمد.
وذكر ابن الجوزي أنه دفن على ابن عقيل.
وفيها المبارك بن كامل بن أبي غالب محمد بن أبي طاهر الحسين ابن محمد البغدادي الطّفري [2] المحدّث الحنبلي، مفيد العراق، أبو بكر، ويعرف أبوه بالخفّاف.
ولد يوم الخميس ثاني عشر ذي الحجة سنة خمس وتسعين وأربعمائة، وقرأ القرآن بالروايات، وسمع الحديث الكثير، وأول سماعه سنة ست وخمسمائة، وعني بهذا الشأن. سمع من أبي القاسم بن بيان [3] ، وابن نبهان، وغيرهما.
قال ابن الجوزي: وما زال يسمع العالي والنازل، ويتتبع الأشياخ في الروايات وينقل السماعات، فلو قيل: إنه سمع من ثلاثة آلاف شيخ لما ردّ القائل. وجالس الحفّاظ وكتب بخطه الكثير، وانتهت إليه معرفة المشايخ ومقدار ما سمعوا والإجازات، إلّا أنه كان قليل التحقيق فيما ينقل من السماع
__________
[1] كذا في «آ» و «ط» : «ابن الميداني» وفي «ذيل طبقات الحنابلة» مصدر المؤلف: «ابن المنذري» .
[2] في «آ» و «ط» : «الطغري» وهو تحريف، والتصحيح من «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 214) و «المنهج الأحمد» (2/ 301) وانظر «سير أعلام النبلاء» (20/ 299) وذكره ابن ناصر الدّين في «التبيان شرح بديعة البيان» (163/ آ) .
[3] تصحف في «آ» و «ط» إلى «ابن تبان» والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» و «ذيل طبقات الحنابلة» .(6/221)
مجازفة لكونه يأخذ عن ذلك ثمنا، وكان فقيرا إلى ما يأخذ، وكان كثير التزويج والأولاد، وله كتاب «سلوة الأحزان» نحو ثلاثمائة جزء وأكثر، وكان صدوقا. توفي يوم الجمعة تاسع عشر جمادى الأولى ودفن بالشونيزية.
وفيها الجوزقاني الحسين بن إبراهيم بن حسين بن جعفر الهمذاني.
كان حافظا عالما بما يحويه. ومن مصنفاته كتاب «الموضوعات» أجاد فيه. قاله ابن ناصر الدّين [1] .
وفيها ابن بجنّك أحمد بن محمد بن الفضل بن عمر بن أحمد بن إبراهيم الأصبهاني، حافظ مشهور عمدة. نقله ابن ناصر الدّين أيضا [2] .
وفيها أبو الدرّ ياقوت الرّومي التاجر، عتيق ابن البخاري. حدّث بدمشق، ومصر، وبغداد، عن الصريفيني بمجالس المخلّص وغير ذلك.
توفي بدمشق في شعبان.
وفيها أبو الحجّاج الفندلاوي [3] يوسف بن دوناس [4] المغربي المالكي. كان فقيها عالما صالحا، حلو المجالسة، شديد التعصب للأشعرية، صاحب تحرّق على الحنابلة. قتل في سبيل الله في حصار الفرنج لدمشق مقبلا غير مدبر بالنّيرب أول يوم جاءت الفرنج، وقبره يزار بمقبرة باب الصغير. خرج راجلا مع أصحابه لقتال الفرنج، فقال له معين الدّين: يا شيخ إن الله قد عذرك، ليس لك قوة على القتال أنا أكفيك، فقال: قد بعت وأشتري، لا أقيله ولا أستقيله، وقرأ: إِنَّ الله اشْتَرى 9: 111 الآية [التوبة:
__________
[1] في «التبيان شرح بديعة البيان» (162/ ب- 163/ آ) .
[2] في «التبيان شرح بديعة البيان» (163/ آ) .
[3] تصحف في «آ» و «ط» إلى «القندلاوي» والتصحيح من «العبر» (4/ 120) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 209) .
[4] تصحف في «آ» و «ط» و «العبر» بطبعتيه إلى «دوباس» والتصحيح من «اللباب في تهذيب الإنسان» (2/ 442) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 209) .(6/222)
111] ومضى نحو الرّبوة، فالتقاه طلّب الفرنج فقتلوه، وحمل إلى باب الصغير، وقبره من جانب المصلى قريبا من الحائط، وعليه بلاطة منقورة فيها شرح حاله.
ورآه بعض أصحابه في المنام فقال له: ما فعل الله بك؟ قال: أنا في جنّات مع قوم على سرور متقابلين [1] .
__________
[1] اقتباس من قوله تعالى في الآية (46) من سورة الحجر: إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ 15: 47.(6/223)
سنة أربع وأربعين وخمسمائة
فيها توفي القاضي ناصح الدّين أبو بكر الأرّجاني أحمد بن محمد ابن الحسين، قاضي تستر، وحامل لواء الشعر بالمشرق، وله ديوان مشهور.
روى عن ابن ماجة الأبهري، وتوفي في ربيع الأول، وقد شاخ.
وأرّجان: مشدّد [1] ، بلد صغير من عمل الأهواز. قاله في «العبر» [2] .
وقال ابن خلّكان [3] : منبت شجرته أرّجان، وموطن أسرته تستر وعسكر مكرم من خوزستان، وهو وإن كان في العجم مولده، فمن العرب محتده، سلفه القديم من الأنصار، لم تسمح [4] بنظيره سالف الأعصار، أوسيّ الأسّ خزرجيّه، قسّيّ النطق إياديّه، فارسيّ القلم وفارس ميدانه، وسلمان برهانه، من أبناء فارس الذين نالوا العلم المتعلق [5] بالثّريا، جمع بين العذوبة والطيب في الرّي والرّيّا. انتهى كلام العماد [6] .
وقال ابن خلّكان أيضا: وكان فقيها شاعرا، وفي ذلك يقول:
أنا أشعر الفقهاء غير مدافع ... في العصر، أو أنا أفقه الشعراء
__________
[1] في «آ» و «ط» : «مشددا» وما أثبتناه من «العبر» .
[2] (4/ 121) .
[3] انظر «وفيات الأعيان» (1/ 152- 154) .
[4] في «آ» : «لم تسمع» وفي «وفيات الأعيان» : «لم يسمح» .
[5] كذا في «آ» : «المعلق» وفي «ط» و «وفيات الأعيان» : «المتعلق» .
[6] يريد انتهى نقل ابن خلّكان عن «الخريدة» للعماد الأصبهاني.(6/224)
شعري إذا ما قلت دوّنه الورى ... بالطبع لا بتكلّف الإلقاء
كالصوت في ظلّ [1] الجبال إذا علا ... للسمع هاج تجاوب الأصداء
ومن شعره أيضا:
شاور سواك إذا نابتك نائبة ... يوما، وإن كنت من أهل المشورات
فالعين تنظر منها ما نأى ودنا [2] ... ولا ترى نفسها إلا بمرآة
ومن شعره وهو معنى غريب:
رثى لي وقد ساويته في نحوله ... خيالي لمّا لم يكن لي راحم
فدلّس بي حتّى طرقت مكانه ... وأوهمت إلي أنه بي حالم
وبتنا ولم يشعر بنا الناس ليلة ... أنا ساهر في جفنه وهو نائم
وله أيضا:
لو كنت أجهل ما علمت لسرّني ... جهلي كما قد ساءني ما أعلم
كالصّعو [3] يرتع في الرياض وإنما ... حبس الهزار لأنه يترنّم
وله ديوان شعر فيه كل معنى لطيف، ومولده سنة ستين وأربعمائة، وتوفي بمدينة تستر، وقيل بعسكر مكرم، رحمه الله تعالى.
وفيها أبو المحاسن أسعد بن علي بن الموفق الهروي الحنفي، العبد الصالح، راوي «الصحيح» [4] و «الدارمي» [5] و [ «عبد» ] [6] عن الداودي، عاش خمسا وثمانين سنة.
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «في ملل» .
[2] في «وفيات الأعيان» : «ما رنا ونأى» .
[3] في «آ» و «ط» : «كالصقر» والتصحيح من «وفيات الأعيان» و «مرآة الجنان» (3/ 281) والصّعو: طائر.
[4] يعني «صحيح البخاري» كما جاء مبينا في «سير أعلام النبلاء» (20/ 212) .
[5] يعني «سنن الدارمي» .
[6] ما بين حاصرتين مستدرك من «العبر» (4/ 121) ويعني ب «عبد» «مستند عبد بن حميد» .(6/225)
وفيها الأمير معين الدّين أنر [1] الطّغتكيني، مقدّم جيش دمشق، ومدبّر الدولة، وكان عاقلا سايسا، حسن الديانة، ظاهر الشجاعة، كثير الصدقات، وهو مدفون بقبته التي بين دار البطيخ والشامية، توفي في ربيع الآخر وله مدرسة بالبلد.
وفيها الحافظ لدين الله، أبو الميمون، عبد المجيد بن محمد بن المستنصر بالله العبيدي الرافضي، صاحب مصر، بويع يوم مصرع ابن عمه الآمر، فاستولى عليه أحمد بن الأفضل أمير الجيوش، وضيّق عليه، فعمل عليه الحافظ وجهز من قتله واستقلّ بالأمور، وعاش سبعا وسبعين سنة، وكان يعتريه القولنج، فعمل شيرماه الدّيلمي طبلا مركبا من المعادن السبعة، إذا ضربه من به داء القولنج خرج منه ريح متتابع واستراح. مات في جمادى الأولى، وكانت دولته عشرين سنة إلّا خمسة أشهر، وقام بعده ابنه الظافر.
وفيها أبو الفضل القاضي عياض بن موسى بن عياض، العلّامة اليحصبي السّبتيّ المالكي الحافظ، أحد الأعلام.
ولد سنة ست وسبعين وأربعمائة، وأجاز له أبو علي الغسّاني، وأبو محمد بن عتّاب، وطبقتهما. ولي قضاء سبتة مدة، ثم قضاء غرناطة، وصنّف التصانيف البديعة، وسمع من أبي علي بن سكّرة وغيره، ومن مصنّفاته «الشفاء» الذي لم يسبق إلى مثله، ومنها «مشارق الأنوار» [2] في غريب «الصحيحين» و «الموطأ» ، وكان إمام وقته في علوم شتى، مفرطا في الذكاء، وله شعر حسن، منه قوله:
الله يعلم أني منذ لم أركم ... كطائر خانه ريش الجناحين
__________
[1] انظر «النجوم الزاهرة» (5/ 286) .
[2] وهو من خيرة كتبه أيضا.(6/226)
فلو قدرت ركبت البحر نحوكم ... فإنّ بعدكم عنّي جنى حيني
وقوله:
انظر إلى الزرع وخاماته ... تحكي وقد ماست أمام الرياح
كتيبة خضراء مهزومة ... شقائق النّعمان فيها جراح
وبالجملة فإنه كان عديم النظير، حسنة من حسنات الأيام، شديد التعصب للسّنّة والتمسك بها، حتّى أمر بإحراق كتب الغزالي لأمر توهمه منها، وما أحسن قول من قال فيه:
ظلموا عياضا وهو يحلم عنهم ... والظلم بين العالمين قديم
جعلوا مكان الراء عينا في اسمه ... كي يكتموه وإنه معلوم
لو لاه ما فاحت [1] أباطح سبتة ... والنّبت حول خبائها [2] معدوم
وفيها أبو بكر عبد الله بن عبد الباقي بن التّبّان الواسطي ثم البغدادي أبو بكر [3] ، الفقيه الحنبلي ويسمى محمد وأحمد أيضا.
قال ابن الجوزي: كان من أهل القرآن، سمع من أبي الحسين بن الطيوري، وتفقّه على ابن عقيل، وناظر، وأفتى، ودرّس، وكان أمّيّا لا يكتب، توفي في شوال عن تسعين سنة، ودفن بمقبرة باب حرب، رحمه الله تعالى. انتهى.
وقال ابن شافع: كان مذهبيا جيدا، وخلافيا مناظرا، ومن أهل القرآن.
بقي على حفظه لعلومه إلى أن مات، وله تسعون سنة أو أزيد.
وقال ابن النجّار: سمع منه المبارك بن كامل، وأبو الفضل بن شافع.
__________
[1] كذا في «آ» و «ط» : «ما فاحت» وفي «وفيات الأعيان» (3/ 485) : «ما ناحت» .
[2] في «وفيات الأعيان» : «والروض حول فنائها» .
[3] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 216) .(6/227)
وفيها غازي [1] السلطان سيف الدّين، صاحب الموصل، وابن صاحبها زنكي بن آق سنقر. كان فيه دين وخير وشجاعة وإقدام. توفي في جمادى الآخرة، وقد نيّف على الأربعين، وتملّك بعده أخوه قطب الدّين مودود.
__________
[1] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «غاز» والتصحيح من «العبر» (4/ 123) .(6/228)
سنة خمس وأربعين وخمسمائة
فيها أخذت العربان ركب العراق، وراح للخاتون أخت السلطان مسعود ما قيمته مائة ألف دينار، وتمزّق الناس، ومات خلق جوعا وعطشا.
وفيها توفي الرئيس أبو علي الحسين بن علي الشحّامي النيسابوري.
روى عن الفضل بن المحب وجماعة، توفي بمرو في شعبان.
وفيها أبو المفاخر الحسن بن ذي النّون [1] الواعظ. كان يعيد الدرس خمسين مرّة، ويقول لمن لم يعد كذلك، لم يستقر، جلس ببغداد وأنشد:
أهوى عليّا وإيماني محبته ... كم مشرك دمه من سيفه وكفى
إن كنت ويحك لم تسمع مناقبه ... فاسمعه من هل أتى يا ذا الغبي وكفى
وفيها عبد الملك بن أبي نصر الجيلاني ثم البغدادي [2] الشافعي.
كان صالحا يأوي الخرب، ليس له مسكن معلوم ولا قوت مفهوم، تفقّه على الرّوياني وغيره. قاله ابن الأهدل.
وفيها أبو بكر محمد بن عبد العزيز بن علي الدّينوري ثم البغدادي
__________
[1] في «آ» و «ط» : «ابن الليث» والتصحيح من «المنتظم» (10/ 143) و «الكامل في التاريخ» (11/ 153) و «النجوم الزاهرة» (5/ 298) و «البداية والنهاية» (12/ 228) .
[2] انظر «غربال الزمان» ص (426) .(6/229)
البيّع. سمع أبا نصر الزّينبي، وعاصم بن الحسن وجماعة، وتوفي [في المحرم، وله سبعون سنة.
وفيها المبارك بن أحمد الكندي البغدادي الخبّاز، شيخ فقير يخبز بيده ويبيعه. سمع أبا نصر الزّينبي وعاصم بن الحسن، وطائفة، وتوفي] [1] في شوال.
__________
[1] ما بين حاصرتين سقط من «ط» .(6/230)
سنة ست وأربعين وخمسمائة
فيها انفجر بثق النهروان الذي أصلحه بهزور.
وفيها توفي أبو نضر الفامي عبد الرحمن بن عبد الجبّار الحافظ، محدّث هراة، وله أربع وسبعون سنة، وكان خيّرا متواضعا صالحا [1] ، فاضلا ثقة، مأمونا مؤرّخا. سمع شيخ الإسلام [2] ونجيب بن ميمون، وطبقتهما.
وفيها زاكي بن [كامل بن] علي القطيعي أبو الفضائل، قتيل الرّيم وأسير الهوى [3] .
من شعره:
عيناك لحظهما أمضى من القدر ... ومهجتي منهما أضحت على خطر
يا أحسن النّاس لولا أنت أبخلهم ... ماذا يضرّك لو متّعت بالنّظر
جد بالخيال وإن ضنّت يداك به ... لا تبتلي مقلتي بالدّمع والسّهر
وفيها أبو الأسعد هبة الرحمن بن عبد الواحد بن أبي القاسم القشيري، خطيب نيسابور ومسندها. سمع من جدّه حضورا، ومن جدّته
__________
[1] لفظة «صالحا» سقطت من «ط» .
[2] يعني أبا إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري. انظر «الأنساب» (9/ 235) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 296) و «تذكرة الحفاظ» (4/ 1309) .
[3] انظر «فوات الوفيات» (2/ 27- 28) وما بين حاصرتين مستدرك منه.(6/231)
فاطمة بنت الشيخ أبي علي الدقّاق، ويعقوب بن أحمد الصّيرفي، وطائفة.
روى الكتب الكبار ك «البخاري» و «مسند أبي عوانة» ومات في شوال عن سبع وثمانين سنة.
وفيها القاضي أبو بكر بن العربي محمد بن عبد الله بن محمد الإشبيلي المالكي الحافظ، أحد الأعلام، وعالم أهل الأندلس ومسندهم.
ولد سنة ثمان وستين وأربعمائة، ورحل مع أبيه سنة خمس وثمانين، ودخل الشام، فسمع من الفقيه نصر المقدسي، وأبي الفضل بن الفرات، وببغداد من أبي طلحة النّعالي، وطراد، وبمصر من الخلعي، وتفقّه على الغزالي، وأبي بكر الشّاشي، والطرطوشي، وكان من أهل اليقين في العلوم والاستبحار فيها، مع الذكاء المفرط. ولي قضاء إشبيلية مدة وصرف، فأقبل على نشر العلوم وتصنيفه في التفسير، والحديث، والفقه، والأصول. قاله في «العبر» [1] .
وقال ابن ناصر الدّين [2] : رحل مع أبيه أبي محمد الوزير، فسمع من خلق كثير. كان من الثقات الأثبات والأئمة المشهورين [3] . وله عدة مصنفات.
وقال ابن بشكوال في كتاب «الصلة» [4] : هو الإمام [العالم] الحافظ المتبحر [5] ختام علماء الأندلس، وآخر أئمتها وحفاظها. لقيته بمدينة إشبيلية ضحوة يوم الاثنين ثاني جمادى الآخر سنة ست عشرة وخمسمائة، فأخبرني
__________
[1] (4/ 125) .
[2] في «التبيان شرح بديعة البيان» (163/ آ) .
[3] في «التبيان شرح بديعة البيان» : «وكان أحد الحفّاظ المشهورين والأئمة المعتبرين من الثقات الأثبات» .
[4] (2/ 590- 591) وما بين حاصرتين مستدرك منه.
[5] كذا في «آ» و «ط» : «المتبحر» وفي «الصلة» : «المستبحر» .(6/232)
أنه رحل إلى المشرق مع أبيه يوم الأحد مستهل ربيع الأول سنة خمس وثمانين وأربعمائة، وأنه دخل الشام ولقي بها أبا بكر محمد بن الوليد الطرطوشي، وتفقّه عنده. ودخل بغداد وسمع بها من جماعة من أعيان مشايخها، ثم دخل الحجاز فحجّ في موسم سنة تسع وثمانين ثم عاد إلى بغداد، وصحب بها أبا بكر الشّاشي، وأبا حامد الغزالي، وغيرهما من العلماء والأدباء، ثم صدر عنهم. ولقي بمصر والإسكندرية جماعة من المحدّثين، فكتب عنهم واستفاد منهم وأفادهم، ثم عاد إلى الأندلس سنة ثلاث وتسعين وقدم إلى إشبيلية بعلم كثير لم يدخل به أحد قبله ممن كانت له رحلة إلى المشرق.
وكان من أهل التفنن في العلوم والاستبحار فيها والجمع لها، متقدما [1] في المعارف كلها، متكلما في أنواعها، ناقدا في جميعها، حريصا على أدائها ونشرها، ثاقب الذهن في تمييز الصواب منها، ويجمع إلى ذلك كله آداب الأخلاق، مع حسن المعاشرة ولين الكنف، وكثرة الاحتمال وكرم النفس، وحسن العهد، وثبات الودّ. واستقضي ببلده فنفع الله به أهله [2] لصرامته وشدّته، ونفوذ أحكامه. وكانت له في الظالمين صورة [3] مرهوبة، ثم صرف عن القضاء وأقبل على نشر العلم وبثه. وسألته عن مولده فقال: ولدت يوم [4] الخميس ثاني عشري شعبان، سنة ثمانين وأربعمائة، وتوفي بالغدوة [5] ودفن بمدينة فاس في شهر ربيع الآخر، رحمه الله تعالى. انتهى.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «مقدما» وما أثبته من «الصلة» .
[2] في «آ» و «ط» : «أهلها» وما أثبتناه من «الصلة» .
[3] في «الصلة» : «سورة» .
[4] في «الصلة» : «ليلة» .
[5] كذا في «آ» و «ط» : «بالغدوة» بالغين المعجمة، وفي «الصلة» : «بالعدوة» بالعين المهملة، وعند المقري في «نفح الطيب» (2/ 28) : «توفي بمغيلة بمقربة من مدينة فاس» .(6/233)
وقال ابن خلّكان [1] : وهذا الحافظ له مصنفات، منها كتاب «عارضة الأحوذي في شرح الترمذي» وغيره من الكتب.
وتوفي والده بمصر منصرفا عن المشرق في السفرة التي كان ولده [2] المذكور صحبه، وذلك في المحرم سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة [ومولده سنة خمس وثلاثين وأربعمائة] [3] وكان من أهل الآداب الواسعة والبراعة والكتابة، رحمه الله تعالى.
ومعنى «عارضة الأحوذي» فالعارضة: القدرة على الكلام، يقال: فلان شديد العارضة، إذا كان ذا قدرة على الكلام.
والأحوذيّ: الخفيف في المشي [4] لحذقه.
وقال الأصمعي: الأحوذي المشمّر في الأمور القاهر لها، الذي لا يشذّ عليه منها شيء. انتهى كلام ابن خلّكان ملخصا.
فيها نوشتكين الرّضواني، مولى ابن رضوان المرسي [5] شيخ صالح متودّد. روى عن علي بن البسري، وعاصم، وتوفي في ذي القعدة، عن اثنتين وثمانين سنة.
وفيها أبو الوليد بن الدبّاغ يوسف بن عبد العزيز بن يوسف بن عمر ابن فيرّه اللّخمي الأندلسي الأندي- بالضم وسكون النون، نسبة إلى أندة، مدينة بالأندلس [6]- محدّث الأندلس، كان حافظا متقنا مصنفا ثقة نبيلا متقننا
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (4/ 297) .
[2] في «ط» : «والده» .
[3] ما بين حاصرتين سقط من «ط» .
[4] في «وفيات الأعيان» : «الخفيف في الشيء» .
[5] كذا في «آ» و «ط» : «المرسي» وفي «العبر» بطبعتيه: «المراتبي» .
[6] انظر «العبر» (4/ 126) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 220) .(6/234)
إماما رأسا في الحديث وطرقه ورجاله، وهو تلميذ أبي علي بن سكرة، عاش خمسا وستين سنة.
وفيها الجنيد بن يعقوب بن الحسن بن الحجّاج بن يوسف الجيلي [1] الفقيه الحنبلي الزاهد أبو القاسم.
ولد [سنة إحدى] وخمسين [2] وأربعمائة بناحية من أرض جيلان [3] ثم قدم بغداد وأقام بباب الأزج، وقرأ الفقه على يعقوب الزّينبي، والأدب على ابن الجواليقي، وسمع الحديث من أبي محمد بن التميمي، والقاضي أبي الحسين، وغيرهما. وحدّث باليسير، وكتب بخطّه الكثير، وكان فاضلا، ديّنا حسن الطريقة، جمع كتابا كبيرا في استقبال القبلة ومعرفة أوقات الصلاة، وروى عنه ابن عساكر، والسمعاني.
قال ابن لبيدة عنه: كان صادقا زاهدا ثبتا، لم يعرف عليه إلّا خير، وتوفي يوم الأربعاء سادس عشري جمادى الآخرة، وصلى عليه الشيخ عبد القادر [4] .
وفيها- أو في التي قبلها، وجزم به ابن رجب [5]- عبد الملك بن عبد الوهاب بن عبد الواحد بن محمد بن علي الأنصاري الشيرازي ثم الدمشقي، القاضي بهاء الدّين بن شرف الإسلام بن الشيخ أبي الفرج، وقد تقدّم ذكر أبيه وجدّه، تفقّه ودرّس، وأفتى وناظر، وكان إماما مناظرا مستقلا متفننا على مذهب الإمام أحمد وأبي حنيفة، بحكم ما كان عليه عند إقامته
__________
[1] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 216- 217) و «المنهج الأحمد» (2/ 306- 307) .
[2] ما بين حاصرتين سقط من «آ» وأثبته من «ط» .
[3] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «جيلا» والتصحيح من «ذيل طبقات الحنابلة» و «المنهج الأحمد» .
[4] يعني الجيلاني، رحمه الله.
[5] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 219) .(6/235)