وحكي أنه كتب أبياتا قبل موته يخاطب الرّشيد:
سينقطع التّلذذ عن أناس ... أداموه وتنقطع الهموم
ستعلم في الحساب إذا التقينا ... غدا عند الإله من الظّلوم
ألا يا بائعا دينا بدنيا ... غرورا لا يدوم لها نعيم
تخلّ من الذّنوب فأنت منها ... على أن لست ذا سقم سقيم
تنام ولم تنم عنك المنايا ... تنبّه للمنيّة يا نؤوم
تروم الخلد في دار التّفاني ... وكم قد رام قبلك ما تروم
إلى ديّان يوم الدّين نمضي ... وعند الله تجتمع الخصوم
ولم يزل يحيى بن خالد وابنه الفضل في الرافقة- وهي الرّقّة القديمة المجاورة للرّقّة الجديدة، وهي البلد المشهورة الآن على شاطئ الفرات، ويقال: لهما الرّقّتان تغليبا كالعمرين- في حبس الرّشيد إلى أن مات يحيى في الثالث من المحرم سنة تسعين وهو ابن سبعين سنة، وصلّى عليه ابنه الفضل بن يحيى ودفن في شاطئ الفرات في ربض هرثمة، ووجد في جيبه رقعة فيها مكتوب بخطه: قد تقدم الخصم والمدّعي عليه في الأثر، والقاضي هو الحكم العدل الذي لا يجور ولا يحتاج إلى بيّنة، ولما قرأ الرّشيد الرقعة بكى يومه كله، واستمر أياما يتبيّن الأسى في وجهه، ونام يحيى فمات فجأة، فقال الرّشيد: اليوم مات عاقل النّاس.
وقال يحيى بن أكثم: سمعت المأمون يقول: لم يكن ليحيى بن خالد ولولده أحد في الكفاية، والبلاغة، والجود، والشجاعة. انتهى.(2/419)
سنة إحدى وتسعين ومائة
فيها أمر الرّشيد بتغيير هيئة أهل الذّمة.
وفيها توفي سلمة بن الأبرش قاضي الرّيّ، وراوي المغازي عن ابن إسحاق، وهو مختلف في الاحتجاج به، ولكنه في ابن إسحاق ثقة.
وفيها الإمام أبو عبد الله بن عبد الرّحمن بن القاسم العتقيّ، مولاهم، المصريّ الفقيه، صاحب مالك وله ستون سنة، وقد أنفق أموالا كثيرة في طلب العلم، ولزم مالكا مدّة، وسأله عن دقائق الفقه.
قال السيوطيّ في «حسن المحاضرة» [1] : عبد الرّحمن بن القاسم بن خالد العتقيّ المصريّ أبو عبد الله، الفقيه، راوية المسائل عن مالك. روى عن ابن [2] عيينة وغيره. وعنه أصبغ، وسحنون، وآخرون.
قال ابن حبّان: كان حبرا، فاضلا، تفقّه على مذهب مالك، وفرّع على أصوله. ولد سنة ثمان وعشرين ومائة، ومات في صفر سنة إحدى وتسعين ومائة. وكان زاهدا، صبورا، مجانبا للسّلطان. انتهى.
وفيها الفضل بن موسى السّينانيّ شيخ مرو ومحدّثها- وسينان من قرى
__________
[1] (1/ 303) .
[2] لفظة «ابن» سقطت من الأصل، وأثبتها من المطبوع، وقد تحرّفت في «حسن المحاضرة» إلى «أبي» فتصحح فيه.(2/420)
مرو [1]-. ارتحل وكتب الكثير، وحدّث عن هشام بن عروة وطبقته.
قال أبو نعيم الكوفيّ: هو أثبت من ابن المبارك.
وقال وكيع: أعرفه ثقة صاحب سنّة.
وقال ابن ناصر الدّين: كان ثقة، متقنا، من كبار أهل مرو، صاحب سنّة [2] .
وفيها محمد بن سلمة الحرّانيّ الفقيه. محدّث حرّان [3] ومفتيها. روى عن هشام بن حسّان وطبقته.
قال ابن سعد: كان ثقة فاضلا له رواية وفتوى [4] .
ومخلد [5] بن الحسين الأزديّ المهلّبيّ البصريّ، نزيل المصّيصة.
وكان من عقلاء زمانه وصلحائهم.
ومعمر بن سليمان الرّقّيّ. روى عن إسماعيل بن أبي خالد وطبقته.
وكان من أجلّاء المحدّثين. ذكره الإمام أحمد فذكر من فضله وهيبته.
وقال أبو عبيد: كان من خير من رأيت.
__________
[1] انظر خبرها في «معجم البلدان» (3/ 300) .
[2] انظر ترجمته في «الأنساب» سمعاني (7/ 230) .
[3] يعني حرّان جزيرة أقور التي بين سورية والعراق وتركيا.
[4] قاله الذهبي في «العبر» (1/ 308) .
[5] في الأصل، والمطبوع: «مجالد» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 308) وانظر «تهذيب التهذيب» (10/ 72) .(2/421)
سنة اثنتين وتسعين ومائة
فيها أول ظهور الخرّميّة [1] ثاروا بجبال أذربيجان [2] ، فغزاهم حازم بن خزيمة، أو عبد الله بن مالك، فسبى ذراريهم وبيعوا ببغداد [3] .
وفيها هدم حائط جامع المنصور وأعيد بناؤه، وزيد في توسعته.
وفيها توفي الإمام الكبير أبو محمد عبد الله بن إدريس الأوديّ [4] الكوفيّ الحافظ العابد. روى عن حصين بن عبد الرّحمن وطبقته. وقد روى عن مالك مع قدمه وجلالته.
__________
[1] في الأصل: «الحرامية» ، وفي المطبوع: «الخرامية» وكلاهما خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 308) و «البداية والنهاية» لابن كثير (10/ 207) .
قال السمعاني في «الأنساب» (5/ 96) : هذه النسبة إلى طائفة من الباطنية يقال لهم الخرّمدينية، يعني يدينون بما يريدون ويشتهون، وإنما لقبوا بذلك لإباحتهم المحرمات من الخمر وسائر اللذات، ونكاح ذوات المحارم، وفعل ما يتلذذون به، فلما شابهوا في هذه الإباحة المزدكية من المجوس الذين خرجوا في أيام قباذ وأباحوا النساء كلهنّ وأباحوا سائر المحرمات إلى أن قتلهم أنوشروان بن قباذ، قيل لهم بهذه المشابهة: خرمدينية، كما قيل للمزدكية: خرمدينية.
[2] في الأصل: «باروا بجبال أذربيجان» ، وفي المطبوع: «بأروا بجبال أذربيجان» وكلاهما خطأ، والتصحيح من «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 436) .
[3] راجع نص الخبر في «تاريخ الطبري» (8/ 339) ، و «العبر» و «دول الإسلام» للذهبي و «البداية والنهاية» لابن كثير (10/ 207) .
[4] في «العبر» للذهبي (1/ 308) ، و «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 436) : «الأزديّ» وهو خطأ فيصحح فيهما.(2/422)
قال أحمد بن حنبل: كان عبد الله بن إدريس نسيج وحده.
وقال ابن عرفة: ما رأيت بالكوفة أفضل منه.
وقال أبو حاتم: هو إمام من أئمة المسلمين، حجّة.
وقال غيره: لم يكن بالكوفة أعبد لله [1] منه. عاش اثنتين وسبعين سنة.
وقال ابن ناصر الدّين: نسيج وحده علما، وعملا، وعبادة، وورعا، وكان إذا لحن أحد في كلامه لم يحدّثه. انتهى.
وفيها عليّ بن ظبيان العبسيّ الكوفيّ القاضي، أبو الحسن. ولي قضاء الجانب الشرقيّ ببغداد، ثم ولي قضاء القضاة. وروى عن أبي حنيفة، وإسماعيل بن أبي خالد. وكان محمود الأحكام، ديّنا، متواضعا، ضعيف الحديث.
وفيها الفضل بن يحيى [2] بن خالد البرمكيّ أخو جعفر البرمكي. مات في السجن، وقد ولي أعمالا جليلة، وكان أندى كفّا من جعفر مع كبر، وتيه [3] ، له أخبار في السخاء المفرط، حتّى إنه وصل مرة بعض أشراف العرب بخمسين ألف دينار. قاله في «العبر» [4] .
وقال ابن الأهدل: قال محمد بن يزيد الدمشقيّ: ولد للفضل ولد، فقام الشعراء يوم سابعه يهنئونه، فنثر عليهم الدنانير مطيّبة بالمسك، وأخذوا وأخذت معهم، ولما خرجوا وخرجت، استدعاني فقال: أحبّ أن تسمعني
__________
[1] لفظ الجلالة لم يرد في «العبر» للذهبي.
[2] في المطبوع: «الفضل بني يحيى» وهو خطأ.
[3] في الأصل: «مع كبروته» وما أثبته من المطبوع و «العبر» للذهبي.
[4] (1/ 309) .(2/423)
في المولود [1] ، شيئا، فاستعفيته، فقال: لا بدّ ولو بيتا واحدا، فقلت:
ونفرح بالمولود من آل برمك ... ولا سيّما إن كان من ولد الفضل
ويعرف فيه اليمن [2] عند ولاده ... ببذل النّدى والجود والمجد والفضل [3]
فأمر لي بعشرة آلاف درهم، فلما نكبوا اتصل بي الولد المولود في أسوأ حال، فقلت له: كلّ ما ترى من المال من أجلك فخذه، فلا وارث لي، وأنا أعيش في فضلك حتّى أموت، فبكى وأبى، فعزمت عليه في البعض، فأبى وكان آخر عهدي به.
وكان الفضل كثير البرّ بأبيه حتّى في السّجن، وكان في السجن ينشد قول أبي العتاهية:
إلى الله فيما نالنا نرفع الشّكوى ... ففي يده كشف المضرّة والبلوى
خرجنا من الدّنيا ونحن من أهلها ... فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا
إذا جاءنا السجّان يوما لحاجة ... عجبنا وقلنا جاء هذا من الدّنيا [4]
ولما بلغ الرّشيد خبر موته قال: أمري قريب من أمره، فكان كذلك.
انتهى ما قاله ابن الأهدل.
وقال ابن خلّكان [5] : كان الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك البرمكي من أكثرهم كرما، مع كرم البرامكة وسعة جودهم، وكان أكرم من أخيه
__________
[1] في الأصل: «في المولد» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع.
[2] في «مرآة الجنان» : «ويعرف فيه الخير» .
[3] حصل تقديم وتأخير وبعض التصحيف في البيتين في الأصل والمطبوع، وأثبت ما جاء في «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 440 و 441) وهو مصدر ابن الأهدل الذي نقل عنه المؤلف رحمه الله.
[4] الأبيات في «مرآة الجنان» (1/ 447) وتخريجها فيه فراجعه، وفي البيت الثاني عنده بعض الخلاف.
[5] في «وفيات الأعيان» (4/ 27- 29) .(2/424)
جعفر، [وكان جعفر] [1] أبلغ في الرسائل والكتابة منه، وكان هارون الرّشيد قد ولّاه الوزارة قبل جعفر، وأراد أن ينقلها إلى جعفر، فقال لأبيهما يحيى:
يا أبت- وكان يدعوه: يا أبت- إني أريد أن أريد أن أجعل الخاتم الذي لأخي الفضل لجعفر وكان يدعو الفضل: يا أخي، فإنهما متقاربان في المولد، وكانت أمّ الفضل قد أرضعت الرّشيد، واسمها زبيدة من مولّدات المدينة، والخيزران أمّ الرّشيد أرضعت الفضل، فكانا أخوين من الرّضاع، وفي ذلك قال مروان بن أبي حفصة يمدح الفضل:
كفى لك فضلا أنّ أفضل حرّة ... غذتك بثدي والخليفة واحد
لقد زنت يحيى في المشاهد كلّها ... كما زان يحيى خالدا في المشاهد [2]
وقال الرّشيد ليحيى: قد احتشمت من الكتاب إليه في ذلك فاكفنيه، فكتب والده إليه: قد أمر أمير المؤمنين بتحويل الخاتم من يمينك إلى شمالك، فكتب إليه الفضل: قد سمعت ما قاله [3] أمير المؤمنين في أخي وأطعت، وما انتقلت عنّي نعمة صارت إليه، ولا غربت عني رتبة طلعت عليه، فقال جعفر: لله أخي ما أنفس نفسه، وأبين دلائل الفضل عليه، وأقوى منّة العقل فيه، وأوسع في البلاغة ذرعه.
وكان الرّشيد قد جعل محمدا في حجر الفضل بن يحيى، والمأمون في حجر جعفر، فاختصّ كل واحد منهما بمن في حجره، ثم إن الرشيد قلّد الفضل عمل [4] خراسان، فتوجّه إليها وأقام بها مدة، فوصل كتاب صاحب البريد بخراسان إلى الرّشيد ويحيى جالس بين يديه، ومضمون الكتاب أن
__________
[1] ما بين حاصرتين سقط من الأصل، وأثبته من المطبوع، و «وفيات الأعيان» .
[2] البيتان في «وفيات الأعيان» (4/ 27) .
[3] في «وفيات الأعيان» : «مقالة» .
[4] في «وفيات الأعيان» : «بعمل» .(2/425)
الفضل بن يحيى متشاغل بالصيد وإدمان اللّذات عن النظر في أمر الرعيّة، فلما قرأه الرّشيد رمى به إلى يحيى، وقال له: اقرأ هذا الكتاب واكتب إليه بما يردعه عن هذا، فكتب يحيى على ظهر كتاب صاحب البريد: حفظك الله يا بني وأمتع بك، قد انتهى إلى أمير المؤمنين ما أنت عليه من التشاغل بالصيد ومداومة اللّذات عن النظر في أمر [1] الرعية ما أنكره، فعاود ما هو أزين بك، فإنه من عاد إلى ما يزينه وترك ما يشينه لم يعرفه أهل بلده إلّا به [2] والسّلام، وكتب في أسفله هذه الأبيات:
انصب نهارا في طلاب العلا ... واصبر على فقد لقاء الحبيب
حتّى إذا اللّيل أتى مقبلا ... واستترت فيه عيون الرقيب
فكابد اللّيل بما تشتهي ... فإنما اللّيل نهار الأريب
كم من فتى تحسبه ناسكا ... يستقبل الليل بأمر عجيب
غطّى عليه اللّيل أستاره ... فبات في لهو وعيش خصيب
ولذّة الأحمق مكشوفة ... يسعى بها كلّ عدوّ رقيب [3]
والرّشيد ينظر إلى ما يكتب، فلما فرغ قال: قد [4] أبلغت يا أبت، ولما ورد الكتاب على الفضل لم يفارق المسجد [نهارا] [5] إلى أن انصرف من عمله.
ومن مناقبه أنه لما ولي [6] خراسان، دخل إلى بلخ وهي [7] وطنهم،
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «أمور» .
[2] في «وفيات الأعيان» : «إلى ما يزينه أو يشينه لم يعرفه أهل دهره إلا به» .
[3] الأبيات في «وفيات الأعيان» (4/ 28) .
[4] لفظة «قد» لم ترد في «وفيات الأعيان» .
[5] زيادة من «وفيات الأعيان» .
[6] في «وفيات الأعيان» : «لما تولى» .
[7] في «وفيات الأعيان» : «وهو» .(2/426)
وبها النوبهار، وهو بيت النّار التي كانت المجوس تعبدها، وكان جدّهم برمك خادم ذلك البيت، فأراد الفضل هدم ذلك البيت، فلم يقدر لإحكام بنائه، فهدم منه ناحية وبنى فيها مسجدا. انتهى ملخصا.
وفيها مفتي الأندلس وخطيب قرطبة، صعصعة بن سلّام الدمشقيّ. أخذ عن الأوزاعيّ، ومالك، والكبار. وأخذ عنه عبد الملك بن حبيب وجماعة.(2/427)
سنة ثلاث وتسعين ومائة
فيها سار الرّشيد إلى خراسان ليمهّد قواعدها، وكان قد بعث في العام الماضي هرثمة بن أعين فقبض له على الأمير عليّ بن عيسى بن ماهان بحيلة وخديعة، واستصفى أمواله وخزائنه، فبعث بها، فوافت الرّشيد وهو بجرجان، على ألف وخمسمائة جمل [1] ثم سار إلى طوس في صفر وهو عليل، وكان رافع بن اللّيث قد استولى على ما وراء النهر وعصى، فالتقى جيشه وعليهم أخوه وهرثمة [2] فهزمهم وقتل أخو رافع، وملك هرثمة بخارى.
وفي ذي القعدة، توفي الإمام العلم أبو بشر إسماعيل بن عليّة الأسديّ، مولاهم، البصريّ، واسم أبيه إبراهيم بن مقسم، وعليّة أمّه. سمع أيوب وطبقته.
قال يزيد بن هارون [3] : دخلت البصرة وما بها أحد يفضل في الحديث على ابن عليّة.
وقال أحمد: إليه المنتهى في التثبت بالبصرة.
__________
[1] تصحفت في الأصل، والمطبوع إلى «حمل» والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 310) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «وعليهم أخوهم وهرثمة» ، وأثبت لفظ «العبر» للذهبي وهو مصدر المؤلف في نقله.
[3] تحرّف في «العبر» للذهبي (1/ 310) إلى «فهد بن هارون» .(2/428)
وقال ابن معين: كان ثقة، ورعا، تقيا.
وقال شعبة: ابن عليّة سيّد المحدّثين.
وقال ابن ناصر الدّين: كان ثبتا، متقنا، لم يحفظ عنه خطأ فيما يرويه، وشهرته بأمه عليّة دون أبيه. انتهى.
وبعده بأيام توفي محمد بن جعفر غندر الحافظ، أبو عبد الله، البصريّ، صاحب شعبة. وقد روى عن حسين المعلّم وطائفة. وقال: لزمت شعبة عشرين سنة.
قال ابن معين: كان من أصحّ النّاس كتابا.
وقال غيره: مكث غندر خمسين سنة يصوم يوما ويفطر يوما.
وقال ابن ناصر الدّين: روى عنه أحمد، وابن المديني، وغيرهما. كان أصحّ النّاس كتابا في زمانه، وكان فيه بعض تغفل مع إتقانه. انتهى.
وفيها مخلد بن يزيد [1] الحرّانيّ محدّث رحّال. روى عن يحيى بن سعيد الأنصاري وطبقته.
وفيها في ذي الحجة أبو عبد الله مروان بن معاوية الفزاريّ الكوفيّ الحافظ نزيل دمشق، وابن عمّ أبي إسحاق [الفزاريّ] [2] . روى عن حميد الطّويل وطبقته.
قال أحمد: ثبت حافظ.
وقال ابن المديني: ثقة فيما روى عن المعروفين.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «مجالد بن يزيد» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 311) ، و «تهذيب التهذيب» لابن حجر (10/ 77) .
[2] زيادة من «العبر» للذهبي (1/ 311) .(2/429)
وقال ابن ناصر الدّين: كان ثقة حجة.
وقال في «المغني» [1] : ثقة حجة. لكنه يكتب عمّن دبّ ودرج، فينظر في شيوخه.
وفيها الإمام أبو بكر بن عيّاش الأسديّ مولاهم، الكوفيّ الحنّاط [2] شيخ الكوفة في القراءة [والحديث] [3] وله بضع وتسعون سنة. كان أجلّ أصحاب عاصم. قطع الإقراء [من] [4] قبل موته بتسع عشرة سنة.
وقال ابن المبارك: ما رأيت أحدا أسرع إلى السّنّة من أبي بكر بن عيّاش.
وقال غيره: كان لا يفتر من التلاوة، قرأ اثنتي عشرة [5] ألف ختمة. وقيل أربعين ألف ختمة [6] .
وفيها العبّاس بن الأحنف أحد الشعراء المجيدين، ولا سيما في الغزل، ومن شعره:
إذا هي لم تأتيك إلّا بشافع ... فلا خير في ودّ يكون بشافع
__________
[1] «المغني في الضعفاء» للذهبي (2/ 652) .
[2] تحرّفت في «العبر» للذهبي إلى «الخياط» فتصحح فيه.
قال الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (8/ 436) : وفي اسمه أقوال: أشهرها شعبة، فإن أبا هاشم الرفاعي، وحسين بن عبد الأول سألاه عن اسمه، فقال: شعبة. وسأله يحيى بن آدم وغيره عن اسمه، فقال: اسمي كنيتي. وأما النسائيّ فقال: اسمه محمد. وقيل: اسمه مطرف. وقيل: رؤبة. وقيل: عتيق. وقيل: سالم، وقيل: أحمد، وعنترة، وقاسم، وحسين، وعطاء، وحمّاد، وعبد الله.
[3] زيادة من «العبر» للذهبي، وهو مصدر المؤلف في نقله.
[4] زيادة من «العبر» للذهبي.
[5] في الأصل: «اثنتي عشر» .
[6] في «العبر» للذهبي: «وقيل: أربعة وعشرين ألف ختمة» .(2/430)
فأقسم ما تركي عتابك عن قلى ... ولكن لعلمي أنّه غير نافع
وإني وإن لم ألزم الصّبر طائعا ... فلا بدّ منه مكرها غير طائع [1]
وفي ثالث جمادى الآخرة توفي هارون الرّشيد أبو جعفر بن المهدي محمد بن المنصور بن عبد الله العبّاسي بطوس. روى عن أبيه، وجدّه، ومبارك بن فضالة، وحجّ مرّات في خلافته، وغزا عدة غزوات، حتّى قيل فيه:
فمن يطلب لقاءك أو يرده ... فبالحرمين أو أقصى الثّغور [2]
وكان شهما، شجاعا، حازما، جوادا، ممدّحا، فيه دين وسنّة مع انهماكه على اللّذات، والقيان، وكان أبيض، طويلا، سمينا، مليحا، قد وخطه الشّيب. وورد أنه كان يصلّي في اليوم مائة ركعة إلى أن مات.
ويتصدّق كل يوم من بيت ماله بألف درهم. وكان يخضع للكبار ويتأدب معهم.
وعظه الفضيل، وابن السمّاك، وغيرهما. وله مشاركة في الفقه، والعلم، والأدب. قاله في «العبر» [2] .
وقال ابن الفرات: كان الرّشيد يتواضع لأهل العلم والدّين، ويكثر من محاضرة العلماء والصالحين.
قال عليّ بن المديني: سمعت أبا معاوية الضّرير يقول: أكلت مع الرّشيد طعاما يوما من الأيام، فصبّ على يديّ رجل لا أعرفه، فقال هارون:
يا أبا معاوية! تدري من يصبّ على يديك؟ قلت: لا. قال: أنا. قلت: أنت أمير المؤمنين! قال: نعم إجلالا للعلم.
__________
[1] لم أجد الأبيات في «ديوانه» طبع دار صادر، وهي في «مرآة الجنان» (1/ 447) مع بعض الخلاف.
[2] (1/ 312) .(2/431)
ودخل عليه منصور بن عمّار، فأدناه، وقرّبه. فقال له منصور:
لتواضعك في شرفك أحبّ إلينا من شرفك. فقال له: يا أبا السّريّ عظني وأوجز، فقال: من عفّ في جماله، وواسى [1] من ماله، وعدل في سلطانه، كتبه الله من الأبرار. وكان طيّب النفس فكها، يحبّ المزح [2] ويميل إلى أهل العفّة، ويكره المراء في الدّين.
قال عليّ بن صالح: كان مع الرّشيد ابن أبي مريم المديني، وكان مضحاكا، محداثا، فكها، وكان الرّشيد لا يصبر عن محادثته، وكان قد جمع إلى ذلك المعرفة بأخبار أهل الحجاز، ولطائف المجان، فبلغ من خصوصيته به أنه أنزله منزلا في قصره، وخلطه ببطانته وغلمانه، فجاء ذات ليلة وهو نائم وقد طلع الفجر، فكشف اللحاف عن ظهره، ثم قال له: كيف أصبحت؟
فقال: يا هذا ما أصبحت بعد، مر إلى عملك. قال: ويلك قم إلى الصّلاة، فقال: هذا وقت صلاة أبي الجارود [3] وأنا من أصحاب أبي يوسف القاضي، فمضى وتركه نائما، وقام الرّشيد إلى الصّلاة، وأخذ يقرأ في الصلاة الصبح وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي 36: 22 [يس: 22] وأرتج عليه [4] فقال له ابن أبي مريم: لا أدري والله لم لا تعبده. فما تمالك الرّشيد أن ضحك في صلاته، ثم التفت إليه كالمغضب. وقال: يا هذا ما صنعت؟ قطعت عليّ الصّلاة.
__________
[1] في الأصل: «وأوسي» وهو خطأ، وأثبت ما جاء في المطبوع.
[2] في المطبوع: «المزاح» .
[3] هو زياد بن المنذر الهمذاني، أبو الجارود، رأس «الجارودية» من الزيدية. من أهل الكوفة.
كان من غلاة الشيعة. افترق أصحابه فرقا، وفيهم من كفّر الصحابة بتركهم بيعة عليّ رضي الله عنه بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم. له كتب، منها «التفسير» رواية عن أبي جعفر الباقر. وكان يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم نصّ على إمامة عليّ بالوصف لا بالتسمية. مات سنة (150) هـ. انظر «الأعلام» للزركلي (3/ 55) .
[4] أي لم يقدر على القراءة، كأنه أطبق عليه كما يرتج الباب. انظر «مختار الصحاح» ص (232) «رتج» . (ع) .(2/432)
قال: والله ما فعلت، إنما سمعت منك كلاما غمّني حين سمعته، فضحك الرّشيد. وقال: إيّاك والقرآن والدّين، ولك ما شئت بعدهما.
وكان للرّشيد فطنة وذكاء.
قال الأصمعيّ: تأخرت عن الرّشيد ثم جئته، فقال: كيف كنت يا أصمعي؟ قلت: بتّ والله بليلة النابغة، فقال: أنا والله هو:
فبتّ كأنّي ساورتني ضئيلة ... من الرّقش في أنيابها السّمّ ناقع
فعجبت من ذكائه وفطنته لمّا قصدته.
ودخل الأصمعيّ على الرّشيد ومعه بنيّة له، فقال له الرّشيد: قبّلها، فسكت الأصمعيّ، فقال: قبّل ويلك، فقال الأصمعيّ في نفسه: إن فعلت قتلني، ثم قام فوضع كمّه على رأسها، ثم قبّل. فقال: والله لو أخطأت هذا لضربت عنقك.
وكان الرّشيد- رحمه الله- يحبّ الحديث وأهله، وسمع الحديث من مالك بن أنس، وإبراهيم بن سعد الزّهري، وأكثر حديثه عن آبائه. وروى عنه القاضي أبو يوسف، والإمام الشّافعي رضي الله عنهما. ذكر ذلك ابن الجوزي.
ومما رواه الرّشيد عن النّبيّ- صلى الله عليه وسلم- «عقّوا عن أولادكم فإنها نجاة لهم من كلّ آفة» [1] .
وكان كثير البكاء من خشية الله تعالى، سريع الدمعة عند الذكر، محبّا للمواعظ.
__________
[1] لم أره بهذا اللفظ، والمحفوظ ما رواه البيهقي في «السنن الكبرى» (9/ 301- 302) : «عقوا عن الغلام شاتين، وعن الجارية شاة» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(2/433)
قال يحيى بن أيوب العابد: سمعت منصور بن عمّار يقول: ما رأيت أغزر دمعا عند الذّكر من ثلاثة: فضيل بن عياض، وأبي عبد الرّحمن الزّاهد، وهارون الرّشيد.
ودخل الإمام الشّافعيّ- رضي الله عنه- على الرّشيد فقال له: عظني، فقال: على شرط رفع الحشمة، وترك الهيبة، وقبول النصيحة. قال: نعم.
قال: اعلم أن من أطال عنان الأمل في الغرّة طوى عنان الحذر في المهلة.
ومن لم يعوّل على طريق النجاة خسر يوم القيامة إذا امتدت إليه [1] يد الندامة. فبكى هارون ووصله بمال جزيل.
ودخل ابن السّمّاك على الرّشيد، فاستسقى الرّشيد ماء، فقال له ابن السّمّاك: بالله يا أمير المؤمنين لو منعت هذه الشربة بكم تشتريها؟ قال:
بملكي. قال: لو منعت خروجها بكم كنت تشتريه؟ قال: بملكي. فقال: إن ملكا قيمته شربة ماء لجدير أن لا ينافس فيه.
وكان للرّشيد شعر حسن منه:
ملك الثّلاث الغانيات عناني ... وحللن من قلبي بكلّ مكان
ما لي تطاوعني البريّة كلّها ... وأطيعهنّ وهنّ في عصياني
ما ذاك إلّا أن سلطان الهوى ... وبه قوين أعزّ من سلطاني
وكان نقش خاتم الرّشيد، العظمة والقدرة لله. انتهى ما قاله ابن الفرات ملخصا.
وقال ابن قتيبة في «المعارف» [2] : وأفضت الخلافة إلى هارون الرّشيد سنة سبعين ومائة. وبويع له في اليوم الذي توفي فيه موسى ببغداد. وولد له
__________
[1] لفظة «إليه» سقطت من المطبوع.
[2] ص (381- 383) بتحقيق الدكتور ثروة عكاشة، طبع دار المعارف بمصر، والمؤلف ينقل عنه بتصرف.(2/434)
ابنه عبد الله المأمون ليلة أفضت الخلافة إليه في صبيحتها. وأمه الخيزران وكانت تنزل الخلد ببغداد في الجانب الغربيّ.
وكان يحيى بن خالد وزيره، وابناه الفضل، وجعفر، ينزلون في رحبة الخلد، ثم ابتنى جعفر قصره بالدّور، ولم ينزله حتّى قتل. وحجّ هارون بالنّاس ستّ حجج، آخرها سنة ستّ وثمانين ومائة.
وحجّ معه في هذه السنة ابناه ووليّا عهده: محمد الأمين، وعبد الله المأمون. وكتب لكل واحد منهما على صاحبه كتابا، وعلّقه في الكعبة.
فلما انصرف، نزل الأنبار.
ثم حجّ بالناس سنة ثمان وثمانين [ومائة] [1] .
وقتل جعفر بن يحيى بالعمر [2] موضع بقرب الأنبار سنة تسع وثمانين ومائة [3] آخر يوم من المحرم، وبعث بجثته إلى بغداد.
ولم يزل يحيى بن خالد، وابنه الفضل محبوسين حتّى ماتا بالرّقّة.
وخرج الوليد بن طريف الشّاري في خلافته، وهزم غير مرة عسكره [4] ، فوجّه إليه يزيد بن مزيد، فظفر به فقتله.
وخرج بعده خراشة [5] الشّاري أيضا.
وقتل هارون أنس بن أبي شيخ، وهو ابن أخي خالد الحذّاء [6]
__________
[1] زيادة من «المعارف» .
[2] في الأصل: «بالقم» وهو خطأ، وأثبت ما جاء في المطبوع وهو موافق لما في «المعارف» .
[3] كذا في الأصل، والمطبوع: «سنة تسع وثمانين ومائة» ، وفي «المعارف» ط. د. ثروة عكاشة ص (382) ، وط. الصاوي ص (167) : «سنة سبع وثمانين ومائة» .
[4] في «المعارف» بطبعتيه: «وهزم غير مرة عسكر» .
[5] في الأصل، والمطبوع، و «المعارف» ط. الصاوي: «حراشة» وهو تصحيف، والتصحيح من «المعارف» ط. د. عكاشة.
[6] في الأصل، والمطبوع: «وهو ابن أبي خالد الحذاء» وما أثبته من «المعارف» بطبعتيه.(2/435)
المحدّث. وكان أنس صديقا لجعفر بن يحيى، وصلبه بالرّقّة، وكان يرمى بالزندقة. وكذلك البرامكة [كانوا] [1] يرمون بالزّندقة، إلّا من عصم الله منهم، ولذلك قال الأصمعيّ فيهم:
إذا ذكر الشّرك في مجلس ... أضاءت قلوب [2] بني برمك
وإن تليت عندهم آية ... أتوا بالأحاديث عن مزدك
وغزا هارون سنة تسعين ومائة الرّوم، فافتتح هرقلة، وظفر ببنت بطريقها، فاستخلصها لنفسه، فلما انصرف ظهر رافع بن ليث بن نصر بن سيّار بطخارستان مباينا لعلي بن عيسى، فوجّه إليه هرثمة لمحاربته وإشخاص علي بن عيسى إليه، فلما قدم عليه أمر بحبسه واستصفى [3] أمواله، وأموال ولده.
وتوجّه هارون سنة اثنتين وتسعين ومائة ومعه المأمون نحو خراسان حتّى قدم طوس فمرض بها ومات، وقبره [4] هناك.
وكانت وفاته ليلة السبت، لثلاث خلون من جمادى الآخرة، سنة ثلاث وتسعين ومائة، وقد بلغ من السن سبعا وأربعين سنة. وكانت ولايته ثلاثا وعشرين سنة، وشهرين، وسبعة عشر يوما. ومن ولد هارون: محمد، أمه زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر، والمأمون، واسمه عبد الله، وأمه تسمى مراجل. والمؤتمن واسمه القاسم، وصالح، وأبو عيسى، وأبو إسحاق المعتصم [وأبو يعقوب] [5] ، وحمدونة، وغيرهم. انتهى ما قاله ابن قتيبة.
__________
[1] زيادة من «المعارف» لابن قتيبة ط. د. عكاشة.
[2] في الأصل، والمطبوع: «أثارت قلوب» وأثبت ما في «المعارف» .
[3] في «المعارف» : «واستصفاء» .
[4] في «المعارف» : «فقبره» .
[5] زيادة من «المعارف» لابن قتيبة.(2/436)
وقال ابن الأهدل: وفي إمرة الرّشيد وأخيه الهادي قام يحيى بن عبد الله بن الحسن المثنّى وبثّ دعاته في الأرض، وبايعه كثيرون من أهل الحرمين، واليمن، ومصر، والعراقين. وبايعه من العلماء محمد بن إدريس الشّافعي، وعبد ربّه بن علقمة، وسليمان بن جرير، وبشر بن المعتمر، والحسن بن صالح، وغيرهم. وكان هذا في زمن الهادي، فلما فتّش عنه الرّشيد وأخذ عليه بالرصد والطلب، وأمعن في ذلك، فلحق يحيى بخاقان ملك التّرك، وأقام عنده سنتين وستة أشهر والكتب ترد عليه من هارون، وعماله يسألونه تسليم يحيى، فأبى وقال: لا أرى في ديني الغدر، وهو رجل من ولد نبيّكم، شيخ عالم. وقيل: إنه أسلم على يديه سرّا، ثم رحل يحيى من عنده إلى طبرستان، ثم إلى الدّيلم، فأنفذ هارون في طلبه الفضل بن يحيى البرمكي في ثمانين ألف رجل، وكاتبه ملك الدّيلم من الرّيّ، وبذلوا له الأموال حتّى انخدع، ولما فهم يحيى فشله قبل أمان الرّشيد بالأيمان المغلّظة، وكتب له بذلك نسختين، ونسخة عنده، ونسخة عند يحيى البرمكي، فلما قدم عليه أظهر برّه وكرامته. وأعطاه مالا جزيلا، ثم خرج إلى المدينة بإذنه، وقيل: بإذن الفضل دونه، وفرّق المال بالمدينة على قرابته، وقضى دين الحسين بن علي، وحجّ ولم يزل آمنا حتّى وشى به عبد الله بن مصعب الزّبيريّ، فاستدعاه الرّشيد وأخبره بقول الزّبيريّ، فقال يحيى: إن هذا قد كان بايع أخي محمدا ومدحه بقوله:
قوموا بأمركم ننهض بنصرتنا ... إنّ الخلافة فيكم يا بني الحسن
واليوم يكذب عليّ ويسعى بي إليك، فصدّقه هارون وعذره، ومات ابن مصعب في اليوم الثالث.
قيل: وسبب نقض أمان يحيى أنه قال له الرشيد في مناظرات عددها ويحيى في كلّها يقيم له الحجّة على نفسه اتقاء لشرّه، حتّى قال له: من(2/437)
أقرب إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منّا؟ فاستعفاه فلم يعفه، وكرّر ذلك مرارا، فلم يعفه، فقال له يحيى بعد لجاج عظيم: لو بعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أكان له أن يتزوج فيكم؟ فقال الرّشيد: نعم، قال: فنحن له أن يتزوج فينا؟ قال: لا.
قال: فهذه حسب، فأنف الرّشيد وغضب، وطلب الفقهاء، فاستفتاهم في نقض أمان يحيى، فأحجم بعضهم، وتكلم بعضهم بموجب العلم أنه لا سبيل إلى نقضه، وقال بعضهم: هذا رجل شقّ عصا المسلمين، وسفك الدماء، لا أمان له، فأمر الرّشيد بحبسه، وضيّق عليه حتّى مات محبوسا.
وقيل: إنه شدّ إلى جدار، وسمر على يديه ورجليه، وسدّ عليه المنافذ حتّى مات، وقيل: إنه وقع رقعة [1] ودفعها إلى يحيى بن خالد وحرّج عليه بوقوفه بين يدي الله إلّا كتمها إلى موته، ثم يدفعها إلى هارون، فدفعها بعد موته إلى هارون، فإذا فيها:
بسم الله الرّحمن الرّحيم، يا هارون المستعدى [عليه] [2] ، قد تقدم والخصم بالأثر، والقاضي لا يحتاج إلى بيّنة.
وأما إدريس بن عبد الله بن الحسن المثنّى فإنه لما انفلت من وقعة فخّ لحق بالمغرب ومعه ابن أخيه محمد بن سليمان الذي قتل بفخّ، فتمكن بها ودعا ونشر دعوته، وأجابوه، واستعمل ابن أخيه على أدنى المغرب من تاهرت إلى فاس، وبقي بها وولده يتوارثونها، وانتشر ملكهم، واستقروا.
يقال: إن إدريس أدرك بالسمّ إلى هناك، وأوصى إلى ابنه إدريس بن إدريس، فقام بالأمر إحدى وعشرين سنة، وأوصى إلى ابنه إدريس المثلث، وكان أحد العلماء.
قال صاحب كتاب «روضة الأخبار» : وهم على ذلك إلى هذه الغاية،
__________
[1] في المطبوع: «وقع في رقعة» .
[2] لفظة «عليه» لم ترد في الأصل وأثبتها من المطبوع.(2/438)
يتوارثون المغرب، والبربر.
ويقال: إن عبد المؤمن القائم اليوم بأرض المغرب ينسب إلى بني الحسن بن علي، ظهر على الأندلس سنة أربعين وخمسمائة، وفيه يقول الشاعر من قصيدة طويلة:
ما هزّ عطفيه بين البيض والأسل ... مثل الخليفة عبد القائم بن علي
وقد ملكوا المغرب كلهم والأندلس إلى يومنا هذا، وهي سنة سبع وعشرين وستمائة. انتهى ما قاله ابن الأهدل.
وفيها، وقيل: بعدها فقيه الأندلس زياد بن عبد الرّحمن اللّخميّ شبطون، صاحب مالك، وعليه تفقّه يحيى بن يحيى قبل أن يرحل إلى مالك، وكان زياد ناسكا، ورعا، أريد على القضاء فهرب.
وفيها قتل نقفور ملك الرّوم في حرب برجان [1] وكانت مملكته تسعة أعوام، وملك بعده ابنه شهرين وهلك، فملك زوج أخته ميخائيل بن جرجس لعنهم الله تعالى.
__________
[1] قال الدكتور صلاح الدّين المنجد في تعليقه على «العبر في خبر من عبر» للذهبي (1/ 313) : كذا كان يسمى ملك البلغار، فإن الحرب التي قتل فيها نقفور كانت مع البلغار.(2/439)
سنة أربع وتسعين ومائة
فيها وثبت [1] الرّوم على ملكهم ميخائيل، فهرب وترهّب، وقام بعده ليون القائد.
وفيها مبدأ الفتنة بين الأمين والمأمون. وكان الرّشيد أبوهما قد عهد [2] بالعهد للأمين، ثم [من] [3] بعده للمأمون. وكان المأمون على إمرة خراسان، فشرع الأمين في العمل على خلع أخيه ليقدّم ولده ابن خمس سنين، وأخذ يبذل [4] الأموال للقوّاد ليقوموا معه في ذلك. ونصحه أولو الرّأي فلم يرعو [5] حتّى آل الأمر إلى أن قتل.
وفي آخرها توفي الإمام أبو عمر حفص بن غياث بن طلق النّخعيّ قاضي الكوفة، وقاضي بغداد. روى عن الأعمش وطبقته، وعاش خمسا وسبعين سنة.
قال يحيى القطّان: حفص أوثق أصحاب الأعمش.
__________
[1] في «العبر» : «وثب» .
[2] في «العبر» : «عقد» .
[3] زيادة من «العبر» .
[4] في «العبر» : «يهدي» .
[5] في الأصل: «يرعوي» وأثبت ما في المطبوع.(2/440)
وقال سجّادة [1] : كان يقال: ختم القضاء بحفص بن غياث.
وقال ابن معين: جميع ما حدّث به حفص بالكوفة، وبغداد فمن حفظه.
وقال حفص: والله ما وليت القضاء حتّى حملت لي الميتة.
وقال ابن ناصر الدّين: كان حفص ثقة متقنا، تكلّم في بعض حفظه.
وفيها سويد بن عبد العزيز الدّمشقيّ قاضي بعلبك، قرأ القرآن على يحيى الذّماري. روى عن أبي الزّبير المكّي، وعاش بضعا وثمانين سنة وضعفوه.
وعبد الوهّاب بن عبد المجيد الثقفيّ محدّث البصرة. روى عن أيوب السّختياني، ومالك بن دينار، وطبقتهما.
وقال الفلّاس: كانت غلّته في السنة أربعين ألفا ينفقها كلّها على أصحاب الحديث.
وقال أبو إسحاق النظّام المتكلّم: وذكر عبد الوهّاب، هو والله أحلى من أمن بعد خوف، وبرء بعد سقم، وخصب بعد جدب، وغنى بعد فقر، ومن طاعة المحبوب وفرج المكروب.
وقال ابن ناصر الدّين: هو ثبت متقن.
ومحمد بن [أبي] [2] عدي البصريّ المحدّث. روى عن حميد وطبقته، وكان أحد الثقات الكبار، ويقال له: محمد بن إبراهيم بن أبي عدي [3] .
__________
[1] هو الحسن بن حمّاد بن كسيب الحضرمي، أبو علي، البغدادي، يلقب سجادة. انظر «تقريب التهذيب» لابن حجر (1/ 165) .
[2] لفظة «أبي» التي بين حاصرتين سقطت من الأصل، والمطبوع، واستدركتها من «العبر» للذهبي (1/ 315) .
[3] انظر «تهذيب التهذيب» لابن حجر (9/ 12) .(2/441)
قال ابن ناصر الدّين: مشهور بالحفظ والثقة.
ومحمد بن حرب الخولانيّ الأبرش الحمصيّ، قاضي دمشق. روى عن الزّبيدي فأكثر، وعن محمد بن زياد الألهاني، وكان حافظا مكثرا.
ويحيى بن سعيد بن أبان الأمويّ الكوفيّ الحافظ، ولقبه جمل [1] روى عن الأعمش وخلق، وحمل المغازي عن ابن إسحاق، واعتنى بها وزاد فيها أشياء.
وقال ابن ناصر الدّين: يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص بن الأحيحة أبو أيوب القرشيّ الأمويّ الكوفيّ، كان ثبتا، حافظا، نبيلا، كان يلقب جملا [2] عنده عن الأعمش غرائب، ووهم من جعله أحد الأخوة، عمر الأشدق، وعبد الله، وعنبسة، إنما ذلك أخو أبان جدّ يحيى المذكور، وكان من التابعين. انتهى.
وفيها استشهد في غزوة أبو علي شقيق البلخيّ الزّاهد، شيخ خراسان.
سافر مرّة وفي صحبته ثلاثمائة مريد. وهو شيخ حاتم الأصم [3] .
وفيها قاسم بن يزيد الجرمي الموصلي عالم الموصل وزاهدها ومحدّثها المشهور وعابدها.
وفيها سلم بن سالم [3] البلخيّ الزّاهد. روى عن ابن جريج وجماعة، وكان صوّاما، قوّاما، عجبا في الأمر بالمعروف.
وقال أبو مقاتل السّمرقنديّ: سلم [4] في زماننا كعمر بن الخطّاب في زمانه.
__________
[1] في الأصل: «جميل» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع.
[2] في الأصل: «جميل» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع.
[3] تأخر ورود هذه الفقرة في المطبوع إلى عقب الخبر عن قاسم بن يزيد الجرمي.
[4] في الأصل، والمطبوع: «سالم بن سالم» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي. وانظر «المغني في الضعفاء» للذهبي أيضا (1/ 273) .(2/442)
قال في «العبر» [1] : قلت: هو وشقيق ضعيفان في الحديث. انتهى.
وفيها عمر بن هارون البلخيّ. روى عن جعفر الصّادق وطبقته، وكان كثير الحديث، بصيرا بالقراءات، تركوه. قاله في «العبر» [2] .
__________
[1] (1/ 316) .
[2] (1/ 316) .(2/443)
سنة خمس وتسعين ومائة
لما تيقّن المأمون أن الأمين خلعه تسمّى بإمام المؤمنين، وكوتب بذلك، وجهّز الأمين عليّ بن عيسى بن ماهان في جيش عظيم أنفق عليهم أموالا لا تحصى، وأخذ عليّ معه [1] قيد فضّة ليقيّد به المأمون بزعمه. فبلغ إلى الرّيّ، وأقبل طاهر بن الحسين الخزاعيّ في نحو أربعة آلاف، فأشرف على جيش ابن ماهان وهم يلبسون السلاح، وقد امتلأت الصحراء بهم [2] بياضا وصفرة في العدد المذهّبة. فقال طاهر: هذا ما لا قبل لنا به، ولكن اجعلوها خارجية، واقصدوا القلب [3] ، ثم قبل ذلك ذكّروا ابن ماهان الأيمان التي في عنقه للمأمون، فلم يلتفت، وبرز فارس من جند ابن ماهان فحمل عليه طاهر بن الحسين فقتله، وشدّ داود سياه [4] على علي بن عيسى بن ماهان فطعنه وصرعه، وهو لا يعرفه، ثم ذبحه بالسيف، فانهزم جيشه، فحمل
__________
[1] في الأصل: «معه عليّ» ، وأثبت ما في المطبوع.
[2] في «العبر» : «بهم الصحراء» .
[3] في الأصل: «اقصدوا الكلب» وأثبت ما في المطبوع وهو موافق لما في «العبر» للذهبي (1/ 316) .
[4] في الأصل: «داود شياه» ، وفي المطبوع، و «العبر» للذهبي «داود شباه» . والتصحيح من «تاريخ الطبري» (8/ 393) ، و «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (6/ 244 و 457) .(2/444)
رأسه [1] على رمح، وأعتق طاهر مماليكه شكرا لله، وشرع أمر الأمين في سفال، وملكه في زوال.
قيل: إنه لما بلغه قتل ابن ماهان وهزيمة جيشه كان يتصيّد سمكا، فقال لليزيديّ [2] : ويلك دعني كوثر [قد] [3] صاد سمكتين وأنا ما صدت شيئا بعد، وندم في الباطن على خلع أخيه، وطمع فيه أمراؤه، ولقد فرّق عليهم أموالا لا تحصى حتّى فرّغ الخزائن وما نفعوه، وجهّز جيشا فالتقاهم طاهر أيضا بهمذان [4] فقتل في المصافّ خلق كثير من الفريقين، وانتصر طاهر بعد وقعتين أو ثلاث.
وقتل مقدّم جيش الأمين عبد الرّحمن الأساوي أحد الفرسان المذكورين بعد أن قتل جماعة، وزحف طاهر حتّى نزل بحلوان [5] .
وفيها ظهر بدمشق أبو العميطر السفيانيّ، فبايعوه بالخلافة، واسمه علي بن عبد الله بن خالد بن الخليفة يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، فطرد عاملها الأمير سليمان بن المنصور، فسيّر إليه الأمين عسكرا لحربه، فنزلوا الرّقّة ولم يقدموا عليه. قاله في «العبر» [6] .
وفيها توفي إسحاق بن يوسف الأزرق محدّث واسط.
روى عن
__________
[1] في «العبر» للذهبي «وحمل رأسه» .
[2] في «العبر» : «للبريدي» .
[3] لفظة «قد» سقطت من الأصل، وأثبتها من المطبوع، و «العبر» للذهبي.
[4] في «العبر» : «بهمدان» وهو خطأ، فهمدان قبيلة من قبائل العرب، وهمذان بلد من بلدان فارس. انظر «اللباب في تهذيب الأنساب» لابن الأثير (3/ 391) ، و «معجم البلدان» (5/ 410) .
[5] قال ياقوت: حلوان: بليدة بقوهستان نيسابور، وهي آخر حدود خراسان مما يلي أصبهان.
انظر «معجم البلدان» (2/ 294) .
[6] (1/ 317- 318) .(2/445)
الأعمش وطبقته، وكان حافظا، عابدا، يقال: إنه بقي عشرين سنة لم يرفع رأسه إلى السماء.
قال ابن ناصر الدّين: إسحاق بن يوسف بن مرداس القرشيّ الواسطيّ أبو محمّد، حدّث عنه خلق، منهم: أحمد، وابن معين. كان من الحفّاظ النّقّاد، والصلحاء العبّاد. انتهى.
وفيها بشر بن السّريّ البصريّ الأفوه نزيل مكّة. كان فصيحا بالمواعظ مفوّها ذا صلاح.
وقال أحمد: كان متقنا للحديث عجبا. روى عن مسعر، والثّوري، وطبقتهما.
قال في «المغني» [1] : بشر بن السّريّ أبو عمرو الأفوه، وثّقه ابن معين وغيره، وأما الحميديّ أبو بكر فقال: كان جهميا لا يحلّ أن يكتب عنه.
وقال ابن عديّ: يقع في حديثه منكر، وهو في نفسه لا بأس به.
قلت [2] : رجع عن التجهّم. انتهى.
وفيها أبو معاوية الضّرير محمد بن معاوية الكوفيّ الحافظ، ولد سنة ثلاث عشرة ومائة، ولزم الأعمش عشر سنين.
قال أبو نعيم: سمعت الأعمش يقول لأبي معاوية: أمّا أنت فقد ربطت رأس كيسك.
وكان شعبة إذا توقّف في حديث الأعمش راجع أبا معاوية وسأله عنه.
وقال ابن ناصر الدّين: أبو معاوية محمد بن خازم الضّرير التّيميّ السعديّ، كان حافظا، ثبتا، محدّث الكوفة، وكان من الثقات وربما دلّس،
__________
[1] يعني «المغني في الضعفاء» للذهبي (1/ 105) .
[2] القائل الحافظ الذهبي في «المغني» .(2/446)
وكان يرى الإرجاء، فيقال: إن وكيعا لم يحضر جنازته لذلك. انتهى.
وفيها عبد الرّحمن بن محمّد المحاربيّ الحافظ. روى عن عبد الملك بن عمير وخلق.
قال وكيع: ما كان أحفظه للطّوال. توفي بالكوفة.
وفيها، أو في التي مضت، عثّام بن علي الكوفيّ. روى عن هشام بن عروة [1] ، والأعمش.
وفيها، أو في الماضية، محمد بن فضيل بن غزوان الضّبيّ، مولاهم، الكوفيّ، الحافظ. روى عن حصين بن عبد الرّحمن، وطبقته.
قال في «المغني» [2] : ثقة، مشهور، لكنه شيعي.
قال ابن سعد: بعضهم لا يحتجّ به. انتهى.
وفيها محدّث الشّام أبو العبّاس الوليد بن مسلم الدّمشقيّ، وله ثلاث وسبعون سنة. توفي بذي المروة راجعا من الحج في المحرم. روى عن يحيى الذّماري، ويزيد ابن أبي مريم، وخلائق. وصنّف التصانيف.
قال ابن جوصاء: لم نزل نسمع أنه من كتب مصنفات الوليد صلح أن يلي القضاء، وهي سبعون كتابا.
وقال أبو مسهر: كان مدلّسا ربما دلّس عن الكذّابين.
وقال ابن ناصر الدّين: الوليد بن مسلم الدّمشقيّ أبو العبّاس الأمويّ، مولاهم، كان إماما، حافظا، عالم الدّمشقيين، لكنه فيما ذكره أبو مسهر وغيره
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «عروة بن هشام» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 319) وانظر «تهذيب الكمال» للمزي (2/ 905) مصوّرة دار المأمون للتراث بدمشق.
[2] (2/ 625) .(2/447)
كان مدلّسا وربما دلّس عن الكذّابين، وهو واسع العلم، صدوق من الأثبات. انتهى.
وفيها يحيى بن سليم الطائفيّ الحذّاء بمكّة، وكان ثقة صاحب حديث. روى عن عبد الله بن عثمان بن خثيم [1] وطبقته.
قال الخليل [2] في «الإرشاد» : أخطأ يحيى في أحاديث، ثم ذكر حديث ابن عمران، أن النّبيّ- صلى الله عليه وسلم- قال: «من مرّ بحائط فليأكل منه ولا يتخذ خبنة [3] » [4] . قال الخليل: لم يسنده عن النّبيّ- صلى الله عليه وسلم- والباقون عن ابن عمر، عن عمر.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «عبد الله بن عثمان بن خيثم» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 320) ، وانظر «تقريب التهذيب» لابن حجر (1/ 432) .
[2] هو خليل بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم بن الخليل القزويني، أبو يعلى الخليلي، المتوفى سنة (446) واسم كتابه الذي أشار إليه المؤلف «الإرشاد في معرفة المحدّثين» أو «الإرشاد في علماء البلاد» وهو مخطوط لم يطبع بعد. وسوف ترد ترجمته في المجلد الخامس من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى.
[3] قال ابن الأثير: الخبنة معطف الإزار وطرف الثوب، أي لا يأخذ منه في ثوبه. «النهاية» (2/ 9) .
[4] رواه الترمذي رقم (1287) في البيوع: باب ما جاء في الرخصة في أكل الثمرة للمارّ بها.
أقول: وفي سنده يحيى بن سليم الطائفي، وهو صدوق سيء الحفظ، ولذلك قال الترمذي:
هذا حديث غريب لا نعرفه من هذا الوجه إلا من حديث يحيى بن سليم، قال: وفي الباب عن عبد الله بن عمر، وعبّاد بن شرحبيل، ورافع بن عمرو، وعمير مولى آبي اللحم، وأبي هريرة. أقول: وله شاهد عند الترمذي رقم (1289) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جدّه، وإسناده حسن. قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» : قال البيهقي: لم يصحّ، يعني حديث ابن عمر، وجاء من أوجه أخر غير قوية. قال الحافظ ابن حجر: والحق أن مجموعها لا يقصر عن درجة الصحيح، وقد احتجّوا في كثير من الأحكام بما هو دونها. قال الترمذي: وقد رخص فيه بعض أهل العلم لابن السبيل في أكل الثمار، وكرهه بعضهم إلا بالثمن، وانظر «تحفة الأحوذي» (4/ 510) ، ولفظه عند الترمذي: «من دخل حائطا ...
الحديث» .(2/448)
وقال في «المغني» [1] : يحيى بن سليم الطائفي، مشهور، وثّقه ابن معين، وقال النّسائيّ: ليس بالقويّ.
وقال أحمد: رأيته يخلط في الأحاديث فتركته. انتهى.
وقال ابن ناصر الدّين: روى عنه الشّافعيّ، وكان يعدّه [2] من الأبدال، وفي بعض أحاديثه مقال. انتهى.
__________
[1] (2/ 737) .
[2] في الأصل: «وكان يعدوه» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع.(2/449)
سنة ست وتسعين ومائة
فيها توثّب الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان ببغداد، فخلع الأمين في رجب وحبسه، ودعا إلى بيعة المأمون، فلم يلبث [1] [أن وثب] [2] الجند عليه، فقتلوه وأخرجوا الأمين، وجرت أمور طويلة، وفتنة كبيرة.
وفيها توفي قاضي البصرة أبو المثنى معاذ بن معاذ العنبريّ في ربيع الآخر، روى عن حميد الطويل وطبقته، وكان أحد الحفّاظ.
قال يحيى القطّان: ما بالبصرة ولا بالكوفة ولا بالحجاز، أثبت من معاذ ابن معاذ.
وقال أحمد: كان ثبتا، وما رأيت أعقل منه.
وفيها قاضي شيراز ومحدّثها، سعد بن الصّلت الكوفيّ. روى عن الأعمش وطبقته، وكان حافظا.
قال سفيان: ما فعل سعد بن الصلت؟ قالوا: ولي القضاء قال: ذره [3] واقعد [4] في الحشّ.
__________
[1] في «العبر» : «فلم ينشب» .
[2] زيادة من «العبر» (1/ 320) .
[3] أي دعه واتركه.
[4] في الأصل والمطبوع: «وقع» وما أثبته من «العبر» وهو الصواب.(2/450)
قال في «العبر» : قلت: آخر من روى عنه سبطه إسحاق بن إبراهيم شاذان [1] . انتهى.
وفيها أبو نواس الحسن بن هانئ الحكميّ الأديب، شاعر العراق.
قال ابن عيينة: هو أشعر النّاس.
وقال الجاحظ: ما رأيت أعلم باللغة منه.
قال ابن الأهدل: كان أبوه من جند مروان الصغير الأموي، فتزوج امرأة بالأهواز، فولدت أبا نواس، فلما ترعرع أصحبته أبا أسامة الشاعر، فنشأ على يديه، وقدم به بغداد فبرع في الشعر، وعداده في الطبقة الأولى من المولّدين، وشعره عشرة أنواع، وقد اعتنى بشعره جماعة فجمعوه، ولهذا يوجد «ديوانه» مختلفا، وكان المأمون يقول: لو وصفت الدّنيا نفسها ما بلغت قول أبي نواس:
ألا كلّ حيّ [2] هالك وابن هالك ... وذو نسب في الهالكين عريق
إذا امتحن الدّنيا لبيب تكشّفت ... له عن عدو في ثياب صديق [3]
وكني بأبي نواس، لذؤابتين كانتا على عاتقه تنوسان، وأثنى عليه ابن عيينة وعلماء عصره بالفصاحة والبلاغة.
وقال أبو حاتم: لو كتبت بيتيه هذين بالذّهب لما كثر وهما:
ولو أني استزدتك فوق ما بي ... من البلوى لأعوزك المزيد
__________
[1] في «العبر» للذهبي (1/ 320) : «ابن شاذان» وهو خطأ، ف «شاذان» لقب له كما ذكر الحافظ ابن حجر في «لسان الميزان» (1/ 347) .
[2] في «مرآة الجنان» : «ألا كل شيء» .
[3] لم أجد البيتين في «ديوانه» طبع دار صادر، وهما في «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 454) طبع مؤسسة الرسالة.(2/451)
ولو عرضت على الموتى حياتي ... بعيش مثل عيشي لم يريدوا [1]
وله نوادر حسان رائقة، واقترح عليه الرّشيد مرّات أن ينظم له [على] [2] قضايا خفيّة يعرفها في داره ونسائه فيأتي على البديهة بما لو حضرها وعاينها لم يزد على ذلك. انتهى كلام ابن الأهدل.
ومن لطيف شعره قوله بديها، وهو من ألطف بديهة وأبدعها:
ودار ندامى عطّلوها وأدلجوا ... بها أثر منهم جديد ودارس
مساحب من جرّ الزّقاق على الثرى ... وأضغاث ريحان جنيّ ويابس
ولم أدر [3] من هم؟ غير ما شهدت به ... بشرقيّ ساباط الدّيار البسابس
حبست بها صحبي فجدّدت عهدهم ... وإني على أمثال تلك لحابس
أقمنا بها يوما ويوما وثالثا ... ويوما له يوم الترحّل خامس
تدار علينا الرّاح في عسجديّة ... حبتها بأنواع [4] التّصاوير فارس
قرارتها كسرى وفي جنباتها ... مها تدّريها بالقسيّ الفوارس
فللخمر ما زرّت [5] عليه جيوبها ... وللرّاح [6] ما دارت عليه القلانس [7]
وقد اختلف في معنى قوله «أقمنا بها يوما ويوما إلخ» فقال ابن هشام:
ثمانية أيام.
وقال الدّمامينيّ في «شرح المغني» : سبعة، لأن يوم الترحل ليس من
__________
[1] لم أجد البيتين في «ديوانه» طبع دار صادر، وهما في «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 454) .
[2] لفظة «على» لم ترد في الأصل، وأثبتها من المطبوع.
[3] في الأصل، والمطبوع: «ولم أدر منهم غير من شهدت به» وأثبت ما في «ديوانه» .
[4] في «ديوانه» : «بألوان» .
[5] في الأصل، والمطبوع: «وللماء ما ذرت» وأثبت ما في «ديوانه» .
[6] في «ديوانه» : «وللماء» .
[7] الأبيات في «ديوانه» ص (361) طبع دار صادر في بيروت.(2/452)
أيام الإقامة، فليتأمل.
وقال ابن الفرات: أبو نواس الحسن بن هانئ البصريّ مولى الحكم بن سعد العشيرة- سمي سعد العشيرة لأنه لم يمت حتّى ركب معه من ولده وولد ولده مائة رجل- وتوفي وعمره اثنتان وخمسون سنة، والحسن أحد المطبوعين، وكان كثير المجون.
قيل: عاتب أبو العتاهية الحسن على مجونه، فقال الحسن:
والنّفس لا تقلع عن غيّها ... ما لم يكن منها لها زاجر [1]
فقال أبو العتاهية: وددت أنّ هذا البيت بشعري كلّه، ورأى رجل الحسن في النوم فقال له: ما فعل الله بك؟ قال: رحمني بأبيات قلتها، وهي:
يا ربّ إن عظمت ذنوبي كثرة ... فلقد علمت بأنّ عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلّا محسن ... فبمن يلوذ ويستجير المجرم
أدعوك ربّ كما أمرت تضرّعا ... ولئن رددت يدي فمن ذا يرحم
ما لي إليك وسيلة إلّا الرّجا ... وجميل ظنّي [2] ثمّ إني مسلم [3]
انتهى.
وقال الحصري في كتابه «قطب السرور» : قال ابن نوبخت: توفي أبو نواس في منزلي، فسمعته يوم مات يترنّم بشيء، فسألته عنه، فأنشدني:
باح لساني بمضمر السّرّ ... وذاك أني أقول بالدّهر
__________
[1] لم أجد البيت في «ديوانه» طبع دار صادر ولا في المراجع الأخرى التي بين يدي.
[2] في «ديوانه» : «وجميل عفوك» .
[3] الأبيات في «ديوانه» ص (587) طبع دار صادر.(2/453)
وليس بعد الممات منقلب ... وإنّما الموت بيضة العمر [1]
والتفت إلى من حوله فقال: لا تشربوا الخمر صرفا، فإني شربتها صرفا فأحرقت كبدي ثم طفئ. انتهى، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. 2: 156
__________
[1] لم أجد البيتين في «ديوانه» الذي بين يدي.(2/454)
سنة سبع وتسعين ومائة
فيها حوصر الأمين ببغداد، وأحاط به أمراء المأمون، وهم طاهر بن الحسين [1] ، وهرثمة بن أعين، وزهير بن المسيّب في جيوشهم. وقاتلت مع الأمين الرعيّة وقاموا معه قياما لا مزيد عليه. ودام الحصار سنة، واشتد البلاء وعظم الخطب.
وفيها توفي الإمام الحبر أبو محمّد عبد الله بن وهب الفهريّ، مولاهم، المقرئ أحد الأعلام في شعبان، ومولده سنة خمس وعشرين ومائة، وطلب العلم بعد الأربعين ومائة بعام أو عامين. وروى عن ابن جريج، وعمرو بن الحارث، وخلق، وتفقّه بمالك، واللّيث.
قال أبو سعيد بن يونس: جمع ابن وهب بين الفقه، والرّواية، والعبادة، وله تصانيف كثيرة.
وقال أحمد بن صالح المصريّ: حدّث ابن وهب بمائة ألف حديث، ما رأيت أحدا أكثر حديثا منه.
وقال ابن خداش: قرئ على ابن وهب كتابه في أهوال القيامة، فخرّ مغشيّا عليه، فلم يتكلم بكلمة حتّى مات بعد أيام.
__________
[1] في الأصل: «طاهر بن الحسن» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.(2/455)
وقال يونس بن عبد الأعلى: كانوا أرادوه على القضاء فتغيّب. قاله في «العبر» [1] .
وقال ابن الأهدل: صحب مالكا عشرين سنة، وصنّف «الموطأ» الكبير والصغير. وحدّث بمائة ألف حديث. وكان مالك يكتب إليه في المسائل، ولم يكن يفعل هذا لغيره، وقال: ابن وهب عالم، وابن القاسم فقيه.
وكتب إليه الخليفة في قضاء مصر، فاختبأ ولزم بيته، فاطّلع عليه بعضهم يوما فقال له: يا ابن وهب ألا تخرج فتقضي بين النّاس بكتاب الله وسنّة رسوله؟ فقال: أما علمت أن العلماء يحشرون مع الأنبياء والقضاة مع السلاطين.
وقرئ عليه كتاب الأهوال من جامعه فغشي عليه، فحمل إلى داره فمات لحينه رحمه الله تعالى. انتهى.
وفيها محدّث الشّام الإمام أبو يحمد [2] بقيّة بن الوليد الكلاعيّ الحمصيّ الحافظ، ومولده سنة عشر ومائة. روى عن محمد بن زياد الألهاني، وبحير بن سعد [3] والكبار، وأخذ عمّن دبّ ودرج. وتفقّه بالأوزاعيّ. وكان مشهورا بالتدليس، كالوليد بن مسلم.
وقال ابن معين: إذا روى عن ثقة فهو حجّة.
وقال بقية: قال لي شعبة: إني لأسمع منك أحاديث لو لم أسمعها لطرت. قاله في «العبر» [4] .
__________
[1] (1/ 322- 323) .
[2] في الأصل: «أبو محمد» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[3] في «العبر» للذهبي: «بجير بن سعد» وهو خطأ فيصحّح فيه.
[4] (1/ 323) .(2/456)
وقال ابن ناصر الدّين: بقية بن الوليد بن صائد الحميريّ الكلاعيّ الحمصيّ أبو يحمد [1] محدّث الشّام، كان إماما، مكثرا، ويدلّس عن المتروكين، لكن إذا قال: حدّثنا، أو أخبرنا، فهو مقبول. انتهى.
وفيها شعيب بن حرب المدائنيّ الزّاهد، أحد علماء الحديث. روى عن مالك بن مغول وطبقته.
قال الطّيب بن إسماعيل: دخلنا عليه وقد بنى له كوخا، وعنده خبز يابس [يبلّه] يأكله [2] ، وهو جلد وعظم.
قال أحمد بن حنبل: حمل على نفسه في الورع.
وفيها شيخ الإقراء بالدّيار المصرية أبو سعيد عثمان بن سعيد القيروانيّ ثم المصريّ. ورش، صاحب نافع، وله سبع وثمانون سنة.
قال السّيوطيّ في «حسن المحاضرة» [3] : ورش، وهو [4] عثمان بن سعيد أبو سعيد المصريّ، وقيل: أبو عمرو، وقيل: أبو القاسم، أصله قبطيّ، مولى آل الزّبير بن العوّام. ولد سنة [خمس] عشرة [5] ومائة، وأخذ القراءة عن نافع، وهو الذي لقّبه بورش لشدّة بياضه، وقيل: لقبه بالورشان، ثم خفّف. انتهت إليه رياسة الإقراء بالدّيار المصرية في زمانه، وكان ماهرا في العربية. انتهى.
وفيها محمّد بن فليح بن سليمان المدنيّ. روى عن هشام بن عروة وطبقته.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «أبو محمد» وهو خطأ، والصواب ما أثبته، وانظر «تهذيب الكمال» للمزّي (4/ 192) طبع مؤسسة الرسالة.
[2] ما بين حاصرتين زيادة من «العبر» للذهبي (1/ 323) .
[3] (1/ 485) .
[4] لفظة «وهو» لم ترد في «حسن المحاضرة» وإنما هي زيادة من المؤلف رحمه الله.
[5] في الأصل، والمطبوع: «عشر ومائة» والتصحيح من «حسن المحاضرة» .(2/457)
قال في «المغني» [1] : ثقة.
قال: أبو حاتم: ليس بذاك القويّ. انتهى.
وفيها قاضي صنعاء وعالمها هشام بن يوسف الصنعانيّ، أخذ عن معمر، وابن جريج، وجماعة.
قال ابن معين: هو أثبت من عبد الرّزّاق في ابن جريج.
وقال ابن ناصر الدّين: كان ثقة، برز وفاق على أقرانه.
وفيها الإمام العلم أبو سفيان وكيع بن الجرّاح الرّؤاسي في المحرم، راجعا من الحجّ بفيد [2] وله سبع وستون سنة. روى عن الأعمش وأقرانه.
قال ابن معين: كان وكيع في زمانه كالأوزاعيّ في زمانه.
وقال أحمد: ما رأيت أوعى للعلم ولا أحفظ من وكيع.
وقال القعنبيّ: كنّا عند حمّاد بن زيد، فخرج وكيع، فقالوا: هذا راوية سفيان. قال: إن شئتم أرجح من سفيان.
وقال يحيى بن أكثم: صحبت وكيعا، فكان يصوم الدّهر ويختم القرآن كل ليلة.
وقال أحمد: ما رأت عينيّ مثل وكيع قطّ.
وقال ابن معين: ما رأيت أحفظ [3] من وكيع. كان يحفظ حديثه، ويقوم الليل، ويسرد الصوم، ويفتي بقول أبي حنيفة. قال: وكان يحيى القطّان يفتي بقوله أيضا.
__________
[1] يعني «المغني في الضعفاء» (2/ 625) .
[2] في الأصل: «بغند» وهو خطأ، وأثبت ما في «المطبوع» وهو موافق لما في «العبر» للذهبي.
وانظر «معجم البلدان» (4/ 282) .
[3] في «العبر» : «أفضل» .(2/458)
وقال ابن ناصر الدّين: وكيع بن الجرّاح بن مليح بن عدي بن فرس الرّؤاسيّ الكوفيّ أبو سفيان محدّث العراق، ثقة، متقن، ورع.
قال أحمد بن حنبل: ما رأيت رجلا قطّ مثل وكيع في العلم، والحفظ، والإسناد، والأموات، مع خشوع وورع. انتهى.(2/459)
سنة ثمان وتسعين ومائة
في المحرم ظفر طاهر بن الحسين- بعد أمور يطول شرحها- بالأمين، فقتله. ونصب رأسه على رمح، وكان مليحا، أبيض، جميل الوجه، طويل القامة، عاش سبعا وعشرين سنة. واستخلف ثلاث سنين وأياما. وخلع في رجب سنة ست وتسعين، وحارب سنة ونصفا، وهو ابن زبيدة بنت جعفر بن المنصور، وكان مبذّرا للأموال، قليل الرّأي، كثير اللّعب، لا يصلح للخلافة سامحه الله ورحمه. قاله في «العبر» [1] .
وكتبت زبيدة إلى المأمون تحرّضه على قتل طاهر بن الحسين قاتل ابنها الأمين، فلم يلتفت إليها، فكتبت إليه ثانية بقول أبي العتاهية:
ألا إنّ ريب الدّهر يدني ويبعد ... ويؤنس بالألّاف طورا ويفقد
أصابت لريب الدّهر منّي يدي يدي ... فسلّمت للأقدار والله أحمد
فقلت لريب الدّهر إن ذهبت يد ... فقد بقيت والحمد لله لي يد
إذا بقي المأمون لي فالرّشيد لي ... ولي جعفر لم يفقدا ومحمّد [2]
تعني بجعفر أباها، وبمحمد ابنها الأمين.
__________
[1] (1/ 325) .
[2] الأبيات في تكلمة «ديوانه» ص (518- 519) من كتاب «أبو العتاهية أشعاره وأخباره» للدكتور شكري فيصل رحمه الله.(2/460)
وقال ابن قتيبة في «المعارف» [1] : بويع محمد الأمين [2] بن هارون بطوس، وولي [أمر] [3] البيعة صالح بن هارون، وقدم عليه بها رجاء الخادم للنّصف من جمادى الآخرة، فخطب النّاس.
وبويع ببغداد، وأخرج من الحبس من كان أبوه حبسه، فأخرج عبد الملك بن صالح، والحسن بن علي بن عاصم، وسالم بن سالم [البجلي] [4] ، والهيثم بن عدي.
ومات إسماعيل بن عليّة، وكان على مظالم محمد في ذي القعدة سنة ثلاث وتسعين ومائة. فولي مظالمه محمّد بن عبد الله الأنصاريّ- من ولد أنس بن مالك- والقضاء ببغداد.
وبعث إلى وكيع بن الجرّاح فأقدمه بغداد على أن يسند إليه أمورا من أموره، فأبى وكيع أن يدخل في شيء، وتوجه وكيع إلى مكّة فمات في طريق مكّة.
واتخذ الفضل بن الرّبيع وزيرا، وجعل إسماعيل بن صبيح كاتبه، وجعل العبّاس بن الفضل بن الرّبيع حاجبه، فأغرى الفضل بينه وبين المأمون، فنصّب محمد ابنه موسى بن محمد لولاية العهد بعده، وأخذ البيعة له، ولقّبه الناطق [بالحق] [5] ، سنة أربع وتسعين ومائة. وجعله في حجر علي بن عيسى، وأمر عليّا بالتوجّه إلى خراسان [لحرب المأمون] [6] سنة
__________
[1] ص (384- 386) والمؤلف ينقل عنه بتصرّف.
[2] في «المعارف» : «الأمين محمد» .
[3] لفظة «أمر» سقطت من الأصل، وأثبتها من المطبوع، و «المعارف» .
[4] زيادة من «المعارف» ص (384) .
[5] لفظة «بالحق» سقط من الأصل، واستدركتها من المطبوع، و «المعارف» .
[6] ما بين حاصرتين سقط من الأصل، وأثبته من المطبوع، وفي «المعارف» : «لمحاربة المأمون» .(2/461)
خمس وتسعين ومائة. فوجّه المأمون هرثمة من مرو [و] على مقدّمته [1] طاهر بن الحسين، فالتقى عليّ بن عيسى، وطاهر بالرّيّ، فاقتتلوا، فقتل عليّ بن عيسى وجماعة من ولده في شهر رمضان سنة خمس وتسعين ومائة، وظفر طاهر بجميع ما كان معه من الأموال والعدّة، والكراع، فوجّه محمد بن عبد الرّحمن بن جبلة الأنباري، فالتقى هو وطاهر بهمذان، فقتله طاهر، ودخل همذان، واجتمع طاهر وهرثمة، فأخذ طاهر على الأهواز، وأخذ هرثمة على الجادّة طريق حلوان، ووجّه الفضل بن زهير بن المسيّب على طريق كرمان، فأخذ كرمان، ثم دخل البصرة، ولما أتى طاهر الأهواز وجد عليها واليا من المهالبة لمحمد فقتله، واستولى على الأهواز، ثم سار إلى واسط، وسار هرثمة إلى حلوان، ووثب الحسين بن علي بن عيسى ببغداد في جماعة، فدخل على محمد وهو في الخلد، فأخذه وحبسه في برج من أبراج مدينة أبي جعفر، فتقوّضت عساكر محمّد من جميع الوجوه، وتغيّب الفضل بن الرّبيع يومئذ فلم ير له أثر حتّى دخل المأمون بغداد، ووجّه الحسين بن علي إلى هرثمة وطاهر يحثّهما على [الدخول إلى] [2] بغداد، ووثب أسد الحربيّ وجماعة فاستخرجوا محمّدا وولده، واعتذروا [إليه] [3] ، وأخذوا الحسين بن علي فأتوه به، فعفا عنه بعد أن اعترف بذنبه وتاب منه، وأقرّ أنه مخدوع مغرور، فأطلقه، فلما خرج من عنده وعبر الجسر نادى:
يا مأمون! يا منصور! وتوجّه نحو هرثمة، وتوجهوا في طلبه فأدركوه بقرب نهر تيرى [4] ، فقتلوه وأتوا محمدا برأسه، وصار هرثمة إلى [النهروان، ثم زحف
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «على مقدمه» وأثبت ما في «المعارف» .
[2] ما بين حاصرتين زيادة من «المعارف» ص (385) .
[3] سقطت من الأصل، وأثبتها من المطبوع، و «المعارف» .
[4] في الأصل، والمطبوع: «نهروين» وفي «المعارف» : «نهر تير» وكلاهما خطأ، والتصحيح من «معجم البلدان» (5/ 319) ، و «تاج العروس» (تير) . وعند ياقوت «تيرى» بلد من نواحي(2/462)
إلى] [1] نهر تيرى [2] ، ونزل طاهر باب الأنبار، وصار زهير بن المسيّب بكلواذى، ولم يزالوا في محاربة.
وكان طاهر كاتب القاسم بن هارون المؤتمن، وكان نازلا في قصر جعفر بن يحيى بالدّور، وسأله أن يخرج، ففعل، وسلم إليه القصر، ولم يزل الأمر على محمد مختلّا حتّى لجأ إلى مدينة أبي جعفر، وبعث إلى هرثمة إني أخرج إليك هذه [3] الليلة، فلما خرج محمد صار في أيدي أصحاب طاهر، فأتوا به طاهرا فقتله من ليلته، فلما أصبح نصب رأسه على الباب الحديد. ثم أنزله [4] وبعث به إلى خراسان مع ابن عمه محمد بن الحسن بن مصعب، ودفنت جثّته في بستان مؤنسة. انتهى ما قاله ابن قتيبة.
وقال ابن الفرات ما ملخصه: لما صار محمد الأمين بمدينة أبي جعفر علم قوّاده أنه ليس معهم عدّة الحصار، فأتوه وقالوا: لا بقاء لنا وقد بقي من خيار خيلك سبعة آلاف فرس، فاختر لها سبعة آلاف رجل تخرج إلى الجزيرة فتفرض الفروض، فعزم على ذلك، فبلغ الخبر طاهر، فكتب إلى سليمان بن أبي جعفر، ومحمد بن عيسى، والسّدي بن شاهك: لئن لم تردّوه عن هذا الرّأي لاقتنصنّ ضياعكم، ولأسعينّ في هلاككم، فدخلوا على محمّد وقالوا:
إن خرجت أخذوك أسيرا وتقرّبوا بك، فرجع إلى قبول الأمان والخروج إلى هرثمة، فقالوا له: الخروج إلى طاهر خير، فقال: أنا أكره ذلك لأني رأيت في المنام كأني على حائط رقيق وطاهر يحفره حتّى هدمه، وهرثمة مولانا، وبمنزلة الوالد، وأنا أثق به.
__________
الأهواز، ونهرها حفره أردشير الأصغر بن بابك.
[1] زيادة من «المعارف» .
[2] في الأصل، والمطبوع: «نهروين» وهو خطأ، والتصحيح من «المعارف» .
[3] لفظة «هذه» لم ترد في المطبوع، و «المعارف» .
[4] في الأصل، والمطبوع: «ثم أنزل» وأثبت ما في «المعارف» ص (386) .(2/463)
قال إبراهيم بن المهديّ: بعث إليّ محمد الأمين ليلة وقد خرج إلى قصر لينفرج مما كان فيه، وشرب وسقاني، ودعا جارية اسمها ضعف لتغنّيه، فتطيّر إبراهيم من اسمها فغنّته:
كليب لعمري كان أكثر ناصرا ... وأيسر ذنبا منك ضرّج بالدّم
فتطيّر محمّد وقال: غنّي غير هذا، فغنّت:
ما زال يعدو عليهم ريب دهرهم ... حتّى تفانوا وريب الدّهر عدّاء
فغضب وقال: غنّي غير هذا. فغنّت:
«أما وربّ السكون والحركات» الأبيات. فقال: قومي لا بارك الله عليك. فقامت وعثرت بقدح من بلّور كان يسمّيه رباح فكسرته، فقال:
يا إبراهيم أما ترى ما كان؟ ما أظن أمري إلا قد اقترب. قال: بل أعزّ ملكك وكبت [1] عدوّك، فسمعا صارخا من دجلة يقول: قضي الأمر الذي فيه تستفتيان، فقال: يا إبراهيم أما تسمع؟ فقال: ما أسمع شيئا وقد كان سمعه، فقتل بعد ليلتين، ومنع طاهر محمدا الأمين ومن معه الماء والدقيق، فهمّ محمد بالخروج إلى هرثمة، فلما بلغ طاهر اشتد عليه وقال: أنا فعلت ما فعلت به ويكون الفتح لهرثمة، وأتى معاقدوه إلى طاهر إلى أن يدفع له الخاتم، والقضيب، والبردة، ويخرج محمد إلى هرثمة، فرضي بذلك، فلما علم الهرش الخبر، تقرّب إلى طاهر، وقال: مكر بك، وقال: إن الخاتم، والبرد، والقضيب، يحمل مع محمد الأمين إلى هرثمة، فاغتاظ وكمّن حول القصر الرّجال، فلما خرج محمد وصار في الحراقة مع هرثمة، خرج طاهر وأصحابه فرموها بالحجارة وغرّقوها، فسبح الأمين وخرج إلى بستان موسى
__________
[1] في الأصل: «وبكت» . قال في «مختار الصحاح» ص (560) : كبت الله العدو أي صرفه وأذلّه.(2/464)
وأخرج رجل من الملّاحين هرثمة- وكان به نقرس- فلما خرج محمد الأمين أخذه إبراهيم بن جعفر البلخي، ومحمد بن حميد- وهو ابن أخي شكلة أمّ إبراهيم بن المهدي- وألقى عليه إزارا من أزر الجند، وحمل إلى دار إبراهيم بن جعفر بباب الكوفة، وكان أحمد بن سلام صاحب المظالم ممّن غرق مع هرثمة، فأخذ، فكان مع محمد الأمين في دار إبراهيم بن جعفر، فقال له الأمين: ادن منّي وضمّني إليك، فإني أجد وحشة شديدة، ففعل، وكان على كتفيه خرقة، فنزع أحمد ثوبه، وقال: البسه، فقال: دعني، فهذا لي من الله خير كثير في هذا الموضع، ثم دخل إليه حمرويه غلام قريش مولى طاهر في جماعة، فأخذ محمد وسادة وضربه بها، وأخذ السيف من يده، فصاح بأصحابه فقتلوه.
ونصب طاهر رأسه، ثم بعث رأسه إلى المأمون، والرداء والقضيب.
قال الموصلي: كتب أحمد بن يوسف إلى المأمون عن لسان طاهر بقتل [محمد] [1] الأمين.
أما بعد: فإنّ المخلوع قسيم أمير المؤمنين في النسب واللّحمة، قد فرّق الله بينه وبينه في الولاية والحرمة لمفارقته عصم الدّين، وخروجه من الأمر الجامع للمسلمين. قال الله- عزّ وجلّ- في ابن نوح- على نبيّنا وعليه السلام-: إِنَّهُ لَيْسَ من أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ 11: 46 [هود: 46] ولا طاعة لأحد في معصية الله، ولا قطيعة إذا كانت في جنب الله، ثم أنشد طاهر بعد قتل الأمين:
ملكت النّاس قسرا واقتدارا ... وقتّلت الجبابرة الكبارا
ووجّهت الخلافة نحو مرو ... إلى المأمون تبتدر ابتدارا
__________
[1] لفظة «محمد» لم ترد في الأصل، وأثبتها من المطبوع.(2/465)
وسوف أدين قيس الشّام ضربا ... يطيّر من رؤوسهم الشّرارا [1]
قيل: أتي محمد الأمين بأسد فأطلقه، فقصد محمدا فاستتر منه بمرفقه ثم يده، فضربه في أصل أذنه، فخرّ الأسد ميتا، وزالت كل قصبة في يده من موضعها، وكان الأمين- رحمه الله- سبطا، أنزع، صغير العينين، جميلا، طويلا، بعيد ما بين المنكبين، ويكنّى أبا موسى، وقيل: أبا عبد الله. انتهى وفيها توفي في أول رجب شيخ الحجاز، وأحد الأعلام، أبو محمد سفيان بن عيينة الهلاليّ، مولاهم، الكوفيّ، الحافظ، نزيل مكّة، وله إحدى وتسعون سنة. سمع زياد بن علاقة، والزّهري، والكبار.
قال الشّافعيّ: لولا مالك، وابن عيينة لذهب علم الحجاز.
وقال ابن وهب: لا أعلم أحدا أعلم بالتفسير من ابن عيينة.
وقال أحمد العجلي: كان حديثه نحوا من سبعة آلاف حديث [و] لم يكن له كتب.
وقال بهز بن أسد [2] : ما رأيت مثل ابن عيينة.
وقال أحمد بن حنبل: ما رأيت أحدا أعلم بالسنن من ابن عيينة.
وقال ابن ناصر بالدّين: هو الإمام العلم محدّث الحرم. روى عنه الأعمش، وابن جريج، وشعبة، وهم من شيوخه، والشّافعيّ، وابن المبارك، وأحمد، وخلق.
قال أحمد: ما رأيت أعلم بالسنن منه.
وحجّ سفيان سبعين حجّة.
__________
[1] البيتان الأول والثاني في «تاريخ الطبري» (8/ 499) .
[2] في «العبر» (1/ 326) : «فهر بن أسد» وهو خطأ فيصحّح فيه. وانظر «تهذيب الكمال» للمزّي (4/ 257) طبع مؤسسة الرسالة.(2/466)
وقال الشّافعيّ: ما رأيت أحدا [فيه] [1] من الفتيا ما فيه، ولا أكفّ عن الفتيا منه.
وفي جمادى الآخرة أبو سعيد عبد الرّحمن بن مهدي البصريّ اللؤلؤيّ الحافظ، أحد أركان الحديث بالعراق، وله ثلاث وستون سنة. روى عن هشام الدّستوائي وخلق. وأوّل طلبه سنة نيّف وخمسين ومائة. فكتب عن صغار التابعين كأيمن [2] بن نابل [3] وغيره.
وقال أحمد بن حنبل: هو أفقه من يحيى القطّان، وأثبت من وكيع.
وقال ابن المديني: كان عبد الرّحمن بن مهدي أعلم النّاس. لو حلّفت [لحلفت] [4] بين الرّكن والمقام أني لم أر أعلم منه [5] .
قلت [6] : وكان أيضا رأسا في العبادة رحمه الله تعالى. قاله في «العبر» [7] .
وهو أحد الموالي المنجبين من البصريين.
وقال ابن ناصر الدّين: عبد الرحمن بن مهدي بن حسّان الأزديّ، مولاهم، وقيل: العنبريّ، البصريّ، اللؤلؤيّ، أبو سعيد، الحافظ المشهور،
__________
[1] لفظة «فيه» سقطت من الأصل، وأثبتها من المطبوع.
[2] في الأصل، والمطبوع: «أيمن» وأثبت ما في «العبر» للذهبي.
[3] تحرّفت «نابل» إلى «نائل» في «العبر» فتصحّح فيه. وانظر «تهذيب الكمال» للمزّي (3/ 477) طبع مؤسسة الرسالة.
[4] لفظة: «لحلفلت» سقطت من الأصل، والمطبوع، واستدركتها من «العبر» للذهبي (1/ 327) .
[5] في الأصل، والمطبوع: «أني لم أر مثله أعلم منه» وأثبت لفظ «العبر» للذهبي مصدر المؤلف في نقله.
[6] القائل الحافظ الذهبي في «العبر» .
[7] (1/ 326- 327) .(2/467)
والإمام المنشور، كان فقيها، مفتيا، عظيم الشأن، وهو فيما ذكره أحمد أفقه من يحيى القطّان، وأثبت من وكيع في الأبواب. انتهى.
وفيها الإمام أبو يحيى بن معن بن عيسى المدنيّ القزّاز، صاحب مالك. روى عن موسى بن علي بن رباح وطائفة. وكان ثبتا، ثقة، حجّة، صاحب حديث.
قال أبو حاتم: هو أثبت أصحاب مالك، وأوثقهم.
وفي صفر الإمام أبو سعيد يحيى بن سعيد القطّان البصريّ الحافظ، أحد الأعلام، وله ثمان وسبعون سنة. روى عن عطاء بن السّائب، وحميد، وخلق.
قال أحمد بن حنبل: ما رأيت بعينيّ مثله.
وقال ابن معين: قال لي عبد الرّحمن بن مهدي: لا ترى بعينيك مثل يحيى القطّان.
وقال بندار: اختلفت إليه عشرين سنة فما أظن [1] أنه عصى الله قطّ.
وقال ابن معين: أقام يحيى القطّان عشرين سنة يختم كلّ ليلة، ولم يفته الزوال في المسجد أربعين سنة.
وقال ابن ناصر الدّين: يحيى بن سعيد بن فروخ التيميّ، مولاهم، البصريّ أبو سعيد القطّان الأحول، سيّد الحفّاظ في زمانه، والمنتهى إليه في هذا الشأن [2] بين أقرانه. انتهى.
وفيها أبو عبد الرّحمن مسكين بن بكير الحرّانيّ. روى عن جعفر بن برقان وطبقته، وكان مكثرا، ثقة.
__________
[1] في «العبر» : «فما أظنه» .
[2] يعني علوم الحديث النبوي الشريف.(2/468)
وفيها انتدب محمّد بن صالح بن بيهس [1] الكلابيّ أمير عرب الشّام لحرب السفيانيّ [2] ولمن قام معه من الأمويّة، وأخذ منهم دمشق. وهرب أبو العميطر السفيانيّ في إزار إلى المزّة، وجرت بين أهل المزّة وداريّا، وبين ابن بيهس [3] حروب ظهر فيها عليهم، فاستولى على دمشق، وأقام الدّعوة للمأمون. قاله في «العبر» [4] .
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «بهيش» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي.
[2] في الأصل، والمطبوع: «السيناني» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي.
[3] في الأصل، والمطبوع: «ابن بهيش» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي.
[4] (1/ 328) .(2/469)
سنة تسع وتسعين ومائة
فيها فتنة ابن طباطبا العلويّ. وهو محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن [1] بن علي بن أبي طالب، ظهر بالكوفة، وقام بأمره أبو السرايا، السّريّ بن منصور الشيبانيّ، وشرع النّاس إلى ابن طباطبا، وغلب على الكوفة، وكثر جيشه، فسار لحربه زهير بن المسيّب في عشرة آلاف، فالتقوا، فهزم زهير واستبيح عسكره. وذلك في سلخ جمادى الآخرة، فلما كان من الغد أصبح ابن طباطبا ميتا. فقيل: إنّ أبا السرايا سمّه لكونه لم ينصفه في الغنيمة. وأقام بعده في الحال محمد بن محمد بن يزيد بن علي الحسني [2] شابّ أمرد.
ثم جهّز الحسن بن سهل جيشا عليهم عبدوس المزّوذيّ، فالتقوا فقتل عبدوس، وأسر عمّه [3] وقتل خلق من جيشه، وقوي العلويّون.
ثم استولى أبو السرايا على واسط، فسار لحربه هرثمة بن أعين، فالتقوا، فقتل خلق من أصحاب أبي السرايا، وتقهقر إلى الكوفة. ثم التقوا ثانيا. وعظمت الفتنة.
__________
[1] «ابن الحسن» الثانية سقطت من «العبر» للذهبي فتستدرك فيه. وانظر «الأعلام» (9/ 293) .
[2] في «العبر» : «الحسيني» .
[3] في «العبر» : «وأسر عمير» وانظر «تاريخ الطبري» (8/ 580) .(2/470)
وفيها توفي إسحاق بن سليمان الرّازيّ الكوفيّ الأصل. روى عن ابن أبي ذئب وطبقته. وكان عابدا [1] خاشعا، يقال: إنه من الأبدال.
وحفص بن عبد الرّحمن البلخيّ ثم النيسابوريّ، أبو عمر، قاضي نيسابور. روى عن عاصم الأحول، وأبي حنيفة، وطائفة. وكان ابن المبارك يزوره ويقول: هذا اجتمع فيه الفقه والوقار، والورع.
وقال في «المغني» [2] : صدوق.
قال أبو حاتم: مضطرب الحديث. انتهى.
وفيها أبو مطيع الحكم بن عبد الله البلخيّ الفقيه، صاحب أبي حنيفة، وصاحب «كتاب الفقه الأكبر» وله أربع وثمانون سنة. ولي قضاء بلخ، وحدّث عن ابن عوف وجماعة.
قال أبو داود: كان جهميّا، تركوا حديثه. وبلغنا أنّ أبا مطيع كان من كبار الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
وفيها شعيب بن اللّيث بن سعد المصريّ الفقيه.
وفيها عبد الله بن نمير الخارفي أبو هاشم الكوفيّ، أحد أصحاب الحديث المشهورين. روى عن هشام بن عروة وطبقته. وعاش بضعا وثمانين سنة. ووثّقه ابن معين وغيره.
والخارفي: نسبة إلى خارف بطن من همدان، نزلوا الكوفة.
وعمرو بن محمّد العنقزيّ الكوفيّ.
والعنقز: هو المرزنجوش. روى عن ابن جريج وطبقته، وكان صاحب حديث.
__________
[1] في المطبوع: «عابد» وهو خطأ.
[2] يعني «المغني في الضعفاء» للذهبي (1/ 180) .(2/471)
ومحمد بن شعيب بن شابور [1] الدّمشقيّ ببيروت. روى عن عروة بن رويم وطبقته، وكان من علماء المحدّثين وعقلائهم [2] المشهورين.
وفيها يونس بن بكير أبو بكر الشيبانيّ الكوفيّ الحافظ. صاحب المغازي. روى عن الأعمش وخلق.
قال ابن معين: صدوق.
وقال ابن ناصر الدّين: كان صدوقا شيعيا من مورطي الأعيان.
وقال ابن معين: ثقة إلا أنه مرجئ يتبع الشيطان، وليّنه غير واحد.
وروى له مسلم متابعة، والبخاريّ في الشواهد. انتهى.
قال في «المغني» [3] : صدوق، مشهور، شيعي. روى له مسلم أحاديث في الشواهد لا الأصول.
قال ابن معين: ثقة إلا أنه مرجئ يتبع الشيطان.
وقال أبو حاتم محلّه الصدق.
وقال أبو زرعة: أما في الحديث فلا أعلمه مما ينكر عليه.
وقال أبو داود: ليس بحجة عندي. سمع هو والبكائي من ابن إسحاق بالرّيّ.
وقال النّسائيّ: ليس بالقوي. انتهى.
وفيها، وقيل: في التي تليها، سيّار بن حاتم العنزيّ البصريّ، صاحب القصص والرقائق، ورواية جعفر بن سليمان الضّبعيّ. وقد خرّج له الترمذيّ
__________
[1] في «العبر» : «ابن سابور» وهو تصحيف فيصحّح فيه.
[2] في «العبر» : «وعقلاء» .
[3] (2/ 765) .(2/472)
والنّسائيّ وغيرهما، ووثّقه ابن حبّان.
قال في «المغنّي» [1] : صالح الحديث، فيه خفّة، ولم يضعف. انتهى.
__________
[1] (1/ 291) .(2/473)
سنة مائتين
فيها أحصي ولد العبّاس، فبلغوا ثلاثة وثلاثين ألفا ما بين ذكر وأنثى.
قاله ابن الجوزي في «الشذور» [1] .
وفي أوّلها هرب أبو السرايا والعلويّون من الكوفة إلى القادسيّة، وضعف سلطانهم، فدخل هرثمة الكوفة وآمن أهلها. ثم ظفر أصحاب المأمون بأبي السرايا ومحمّد بن محمد العلويّ. فأمر الحسن بن سهل بقتل أبي السرايا، وبعث بمحمد إلى المأمون، وخرج بالبصرة وبالحجاز آخرون فلم تقم لهم قائمة بعد فتن وحروب.
وفيها طلب المأمون هرثمة بن أعين، فشتمه، وضربه، وحبسه، وكان الفضل بن سهل الوزير يبغضه، فقتله في الحبس سرّا.
وفيها قتلت الرّوم عظيمهم إليون، وكانت أيامه سبع سنين ونصفا.
وأعادوا الملك إلى ميخائيل الذي ترهب.
وفيها توفي أسباط بن محمد أبو محمد الكوفيّ، وكان ثقة صاحب حديث. روى عن الأعمش وطبقته.
قال في «المغني» [2] : أسباط بن محمد القرشيّ، ثقة، مشهور.
__________
[1] يعني «شذور العقود في تاريخ العهود» وهو مخطوط كما أشرت إلى ذلك من قبل.
[2] (1/ 66) .(2/474)
قال ابن سعد: ثقة فيه بعض الضعف. انتهى.
وفيها أبو ضمرة أنس بن عياض الليثيّ المدنيّ، وله ستّ وتسعون سنة.
روى عن سهيل بن أبي صالح وطبقته، وكان مكثرا صدوقا.
قال ابن ناصر الدّين: أنس بن عياض اللّيثيّ المدنيّ، أبو حمزة، محدّث المدينة، كان من الثقات المتقنين. انتهى.
وسلم بن قتيبة بالبصرة. روى عن يونس بن أبي إسحاق وطبقته، وأصله خراساني.
وفيها عبد الملك بن الصباح المسمعيّ الصنعانيّ البصريّ. روى عن ثور بن يزيد، وابن عون.
وفيها عمر بن عبد الواحد السّلميّ الدّمشقيّ. ولد سنة ثمان عشرة ومائة. وقرأ القرآن [1] على يحيى الذّماري. وحدّث عن جماعة، وكان من ثقات الشاميين [2] .
وفيها قتادة بن الفضل الرّهاويّ. رحل وسمع من الأعمش وعدّة.
وفيها أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك الدّيليّ [3] ، مولاهم، المدني، الحافظ. روى عن سلمة بن وردان، وكان كثير الحديث.
قال في «المغني» [4] : محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، ثقة، مشهور.
وقال ابن سعد: وحده ليس بحجة. انتهى.
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «القراءات» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 333) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «من الثقات الشاميين» وأثبت ما في «العبر» للذهبي وهو أصوب.
[3] في الأصل: «الديلمي» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[4] (2/ 556) .(2/475)
وفيها أبو عبد الله أميّة بن خالد أخو هدبة. روى عن شعبة والثّوريّ.
وفيها صفوان بن عيسى القسّام بالبصرة يروي عن يزيد بن عبيد وطبقته.
وفيها محمّد بن الحسن الأسديّ الكوفيّ ابن التّلّ. روى عن فطر بن خليفة وطبقته.
قال في «المغني» [1] : محمد بن الحسن الأسديّ. عن الأعمش. وعنه داود بن عمرو.
قال ابن معين ليس بشيء. انتهى.
وفي صفر محمد بن حمير السّليحيّ، محدّث حمص. روى عن محمد بن زياد الألهاني وطائفة. وثّقه ابن معين ودحيم.
وقال أبو حاتم: لا يحتجّ به.
وقال يعقوب الفسويّ: ليس بالقويّ.
وقال الدّارقطنيّ: خرّجه بعض شيوخنا، ولا بأس به.
وفيها أبو إسماعيل مبشر بن إسماعيل الحلبيّ. روى عن جعفر بن بريان وطبقته. وكان صاحب حديث وإتقان.
قال في «المغني» [2] : مبشر بن إسماعيل الحلبيّ [3] ، ثقة مشهور، تكلّم فيه بلا حجة. انتهى.
ومعاذ بن هشام بن أبي عبد الله الدّستوائيّ. روى عن أبيه، وابن عون، وطائفة، وكان صاحب حديث، له أوهام يسيرة.
__________
[1] (2/ 567) ونص كلامه فيه مختلف فراجعه.
[2] (2/ 540) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «الحارثي» وهو خطأ، والتصحيح من «المغني» وكتب الرجال.(2/476)
قال في «المغني» [1] : معاذ بن هشام الدّستوائيّ، صدوق.
وقال ابن معين: صدوق ليس بحجة.
وقال ابن عدي: أرجو أنه صدوق.
وقال غيره: له غرائب وإفرادات. انتهى.
وفيها المغيرة بن سلمة المخزوميّ بالبصرة.
قال ابن المديني: ما رأيت قرشيّا أفضل منه، ولا أشدّ تواضعا. أخبرني بعض جيرانه أنه كان يصلي طول الليل. وروى عن القاسم بن الفضل الحدّاني وطبقته.
وفيها القاضي أبو البختري وهب بن وهب القرشيّ المدنيّ ببغداد.
وكان جوّادا محتشما، حتّى قيل: إنه كان إذا بذل ظهر عليه السرور، بحيث إنه يظن أنه هو المبذول له. روى عن هشام بن عروة وطائفة واتّهم بالكذب.
قال ابن قتيبة [2] : أبو البختري، هو: وهب بن وهب بن وهب بن كثير بن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطّلب بن أسد بن عبد العزّى بن قصي.
قدم بغداد، فولّاه هارون القضاء بعسكر المهديّ، ثم عزله، فولّاه مدينة الرّسول- صلى الله عليه وسلم- بعد بكّار بن عبد الله، وجعل إليه حربها مع القضاء. ثم عزل، فقدم بغداد، فتوفي بها سنة مائتين. وكان ضعيفا في الحديث. انتهى.
وقال في «المغني» [3] : كذّبه أحمد وغيره. انتهى.
__________
[1] (2/ 665) .
[2] في «المعارف» ص (516) طبع دار المعارف بمصر.
[3] يعني «المغني في الضعفاء» (2/ 727) .(2/477)
وهو الذي وضع حديث المسابقة بذي الجناح.
وفيها القدوة الزّاهد معروف الكرخيّ أبو محفوظ، صاحب الأحوال والكرامات. كان من موالي علي بن موسى الرضا. كان أبواه نصرانيين فأسلماه إلى مؤدّبهم، فقال له: إن الله ثالث ثلاثة، فقال: بل هو الله أحد، فضربه، فهرب وأسلم على يد علي بن موسى الرضا، ورجع إلى أبويه، فأسلما، واشتهرت بركاته وإجابة دعوته، وأهل بغداد يستسقون بقبره ويسمّونه ترياقا مجربا.
قال مرّة لتلميذه السّري السّقطيّ: إذا كانت لك إلى الله حاجة فاقسم عليه بي.
وكان من المحدّثين، ومن كلامه علامة مقت الله للعبد أن يراه مشتغلا بما لا يعنيه من أمره نفسه.
وقال: طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب، وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور، وارتجاء رحمة من لا يطاع جهل وحمق.(2/478)
تمّ المجلد الثاني من «شذرات الذهب في أخبار من ذهب» لابن العماد، والحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات.
وكان الفراغ من تحقيقة بعون الله تعالى وتوفيقه في غرّة شهر شوّال من عام (1406) هـ.
محمود الأرناؤوط(2/479)
[المجلد الثالث]
سنة إحدى ومائتين
فيها عمد [1] المأمون إلى عليّ بن موسى العلوي، فعهد إليه بالخلافة [من بعده] [2] ولقبه بالرّضا، وأمر الدولة بترك السّواد ولبس الخضرة، وأرسل إلى العراق بهذا، فعظم هذا على بني العبّاس الذين ببغداد، ثم خرجوا عليه وأقاموا منصور بن المهديّ، ولقبوه بالمرتضى، فضعف عن الأمر وقال: إنما أنا خليفة المأمون، فتركوه وعدلوا إلى أخيه إبراهيم بن المهديّ الأسود، فبايعوه بالخلافة، ولقّبوه بالمبارك، وخلعوا المأمون، وجرت بالعراق حروب شديدة، وأمور عجيبة [3] .
وفيها أول ظهور بابك الخرّميّ [4] الكافر، فعاث، وأفسد، وكان يقول بتناسخ الأرواح.
وفيها توفي أبو أسامة حمّاد بن أسامة الكوفيّ الحافظ، مولى بني هاشم، وله إحدى وثمانون سنة. روى عن الأعمش، والكبار.
قال أحمد: ما [كان] أثبته [5] ، لا يكاد يخطئ.
__________
[1] في «العبر» للذهبي: «عهد» .
[2] ما بين حاصرتين زيادة من «العبر» للذهبى (1/ 335) .
[3] في «العبر» للذهبي: «وأمور مزعجة» .
[4] في الأصل: «الحرميّ» وهو تصحيف، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[5] في الأصل، والمطبوع: «ما أثبته» وأثبت لفظ «العبر» للذهبي (1/ 336) مصدر المؤلف وهو(3/5)
وقال ابن ناصر الدّين: ثقة، كيس.
وفيها حمّاد بن مسعدة بالبصرة. روى عن هشام بن عروة وعدّة، وكان ثقة صاحب حديث.
وفيها حرميّ بن عمارة بن أبي حفصة [1] البصريّ. روى عن قرّة بن خالد، وشعبة.
وفيها سعد بن إبراهيم بن سعد الزّهريّ العوفيّ. قاضي واسط.
سمع أباه، وابن أبي ذئب.
وفيها عليّ بن عاصم أبو الحسن الواسطيّ. محدّث واسط، وله بضع وتسعون سنة. روى عن حصين بن عبد الرّحمن، وعطاء بن السّائب، والكبار. وكان يحضر مجلسه ثلاثون ألفا.
قال وكيع: أدركت النّاس والحلقة لعلي بن عاصم بواسط.
وضعّفه غير واحدٍ لسوء حفظه.
وكان إماما، ورعا، صالحا، جليل القدر.
وفيها قتل المسيّب بن زهير أكبر قوّاد المأمون، وضعف أمر الحسن ابن سهل بالعراق، وهزم جيشه مرّات، ثم ترجح أمره.
وحاصل القصة، أن أهل بغداد أصابهم بلاء عظيم في هذه السنوات، حتّى كادت تتداعى بالخراب، وجلا خلق من أهلها عنها للنهب [2] والسبيّ، والغلاء، وخراب الدّور.
__________
موافق لما عند المزي في «تهذيب الكمال» (7/ 222) طبع مؤسسة الرسالة.
[1] في الأصل، والمطبوع: «جرير بن عمارة بن أبي حفصة» وهو خطأ. والتصحيح من «العبر» للذهبي مصدر المؤلف في نقله. وانظر: «تهذيب الكمال» للمزي (5/ 556) طبع مؤسسة الرسالة.
[2] في «العبر» للذهبي (1/ 337) : «بالنهب» .(3/6)
قال ابن الأهدل: ولما عجز بنو العبّاس وتكرر عفو المأمون عنهم، وجّهوا إليه زينب بنت سليمان بن علي، عمة جده المنصور، فقالت: يا أمير المؤمنين! إنك على برّ أهلك العلويين والأمر فينا، أقدر منك على برّهم والأمر فيهم، فلا تطمعنّ أحدا فينا. فقال: يا عمة، والله ما كلّمني أحد في هذا المعنى بأوقع من كلامك هذا، ولا يكون إلا ما تحبون، ولبس السواد، وترك الخضرة. انتهى.
وكان ميل المأمون للعلويين اصطناعا ومكافأة لفعل عليّ- كرم الله وجهه- لما ولي الإمامة لبني هاشم خصوصا بني العبّاس.
وفيها توفي يحيى بن عيسى النهشليّ [1] الكوفيّ الفاخوريّ بالرّملة.
روى عن الأعمش وجماعة، وهو حسن الحديث.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «العسلي» وهو خطأ. والتصحيح من «العبر» للذهبي مصدر المؤلف.
وانظر: «تهذيب الكمال» للمزي (3/ 1514) مصورة دار المأمون للتراث بدمشق.(3/7)
سنة اثنتين ومائتين
فيها خلع أهل بغداد المأمون لكونه أخرج الخلافة من بني العبّاس، وبايعوا إبراهيم بن المهدي.
وتزوج المأمون بوران بنت الحسن بن سهل، وزوّج ابنته أمّ حبيب عليّ ابن موسى الرّضا. وزوّج ابنته أمّ الفضل محمد بن علي بن موسى. قاله ابن الجوزي في «الشذور» [1] .
وفيها على الصحيح توفي ضمرة بن ربيعة [2] في رمضان بفلسطين.
روى عن الأوزاعيّ وطبقته. وكان من العلماء المكثرين.
قال ابن ناصر الدّين: حمزة بن ربيعة الدّمشقيّ القرنيّ، مولاهم، كان ثقة مأمونا. انتهى.
وفيها أبو بكر عبد الحميد بن أبي أويس [3] المدنيّ، أخو إسماعيل.
__________
[1] يعني «شذور العقود في تاريخ العهود» وهو مخطوط. وانظر: «مروج الذهب» للمسعودي (4/ 28) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «حمزة بن ربيعة» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 337) ، و «تهذيب الكمال» للمزي (2/ 620 و 807) مصورة دار المأمون للتراث بدمشق.
[3] في الأصل، والمطبوع: «أبو بكر بن عبد الحميد بن أبي أويس» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي، وانظر: «تقريب التهذيب» لابن حجر (1/ 468) و (2/ 396) .(3/8)
روى عن ابن أبي ذئب، وسليمان بن بلال، وطائفة.
قال في «المغني» [1] : ثقة، أخطأ الأزديّ حيث قال: كان يضع الحديث. انتهى.
وقد خرّج له الشيخان.
وفيها أبو يحيى عبد الحميد بن عبد الرّحمن الحمّانيّ الكوفيّ.
روى عن الأعمش وجماعة.
قال أبو داود: وكان داعية إلى الإرجاء.
وقال النّسائيّ: ليس بالقويّ.
وفيها أبو حفص عمر بن شبيب [2] المسلي [3] الكوفيّ. روى عن عبد الملك بن عمير والكبار.
قال النّسائيّ: ليس بالقويّ.
وقال أبو زرعة: واهي الحديث.
وضعفه الدارقطنيّ.
وفيها يحيى بن المبارك اليزيديّ المقرئ النحويّ اللغويّ. صاحب التصانيف الأدبية، وتلميذ أبي عمرو بن العلاء. وله أربع وسبعون سنة. وهو بصري. نزل بغداد.
قال ابن الأهدل: عرف باليزيديّ لصحبته يزيد بن منصور خال المهديّ، وتأديب بنيه.
أخذ عن الخليل وغيره، وله كتاب «النوادر في اللغة» وغيره.
__________
[1] «المغني في الضعفاء» (1/ 368) .
[2] في «العبر» للذهبي (1/ 338) : «عمرو بن شبيب» وهو خطأ، فيصحح فيه.
[3] في الأصل: «المسكي» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب. وانظر: «تقريب التهذيب» (2/ 57) .(3/9)
ولما قدم مكّة أقبل على العبادة، وحدّث بها عن أبي عمرو بن العلاء.
وروى عنه ابنه محمد، وأبو عمرو الدّوريّ. وأبو شعيب السّوسيّ، وغيرهم.
وخالف أبا عمرو في حروف يسيرة، وكان يجلس هو والكسائيّ في مجلس واحد، ويقرئان النّاس. وتنازعا مرّة في مجلس المأمون قبل أن يلي الخلافة في بيت شعر، فظهر اليزيديّ وضرب بقلنسوته الأرض، وقال: أنا أبو محمد. فقال المأمون: والله لخطأ الكسائي مع حسن أدبه أحسن من صوابك مع سوء أدبك. فقال: إن حلاوة الظّفر أذهبت عني حسن التحفّظ.
وكان الكسائيّ يؤدّب الأمين ويأخذ عليه حرف حمزة، وهو يؤدّب المأمون ويأخذ عليه حرف أبي عمرو. انتهى.
وفيها الفضل بن سهل ذو الرّياستين، وزير المأمون، قتله بعض أعدائه في حمام بسرخس، فانزعج المأمون وتأسّف عليه، وقتل به جماعة، وكان من مسلمة المجوس.
وقال ابن الأهدل [1] : الفضل بن سهل وزير المأمون السرخسيّ، وسرخس- بالخاء المعجمة- مدينة بخراسان، وكان يلقّب بذي الرياستين، وكان محتدا في علم النجوم، كثير الإصابة فيه، من ذلك أن المأمون لما أرسل طاهرا لحرب الأمين، وكان طاهر ذا يمينين، أخبره أنه يظفر بالأمين ويلقّب بذي اليمينين، وكان كذلك، واختار لطاهر وقتا عقد له فيه اللواء. وقال:
__________
[1] هو حسين بن عبد الرحمن بن محمد الحسيني العلوي الهاشمي بدر الدين أبو محمد، المعروف بابن الأهدل، والأهدل أحد جدوده، كان مفتي الديار اليمنية في عصره، توفي سنة (855) هـ، والمؤلف ينقل عن كتابه «مختصر تاريخ اليافعي» ، وهو من المخطوطات المحفوظة في خزانة الشيخ محمد سرور الصبان بجدة في المملكة العربية السعودية كما ذكر العلّامة الزركلي في «الأعلام» (2/ 240) .
قلت: ولكنه على الرغم من تسمية كتابه ب «مختصر تاريخ اليافعي» - يعني «مرآة الجنان» - إلا أنه يضيف إليه بعض الأخبار التي لم ترد في كتاب اليافعي.(3/10)
عقدته لك خمسا وستين لا يحل. فكان كذلك. ووجد في تركته أخبار عن نفسه، أنه يعيش ثماني وأربعين سنة ثم يقتل بين الماء والنار. فعاش هذه المدة [1] . ثم دسّ عليه خال المأمون غالب، فدخل عليه الحمام بسرخس ومعه جماعة، فقتلوه في السنة المذكورة. وقيل: في التي تليها، وله ثمان وأربعون سنة وأشهر. وقد مدحه الشعراء فأكثروا. من ذلك قول مسلم بن الوليد [2] الأنصاري من قصيدة له:
أقمت خلافة وأزلت أخرى ... جليل ما أقمت وما أزلتا
انتهى.
__________
[1] أقول: هذه مبالغة، ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى. (ع) .
[2] في الأصل والمطبوع: «سالم بن الوليد» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» (4/ 43) و «مرآة الجنان» (1/ 470) طبع مؤسسة الرسالة، وانظر البيت فيهما.(3/11)
سنة ثلاث ومائتين
فيها استوثقت الممالك للمأمون، وقدم بغداد في رمضان من خراسان واتخذها سكنا.
وفيها في [ذي] الحجّة حدث بخراسان زلازل أقامت سبعين يوما، وهلك بها خلق كثير وبلاد كثيرة.
وفيها غلبت السوداء على عقل الحسن بن سهل حتّى شدّ في الحديد.
وفيها توفي أزهر بن سعد السّمّان، أبو بكر البصريّ. روى عن سليمان التّيميّ وطبقته، وعاش أربعا وتسعين سنة.
قال ابن ناصر الدّين: كان ثقة من فضلاء الأئمة وعلماء الأمة.
وقال ابن الأهدل: كان يصحب المنصور قبل خلافته، فجاء يسلّم عليه بالخلافة ويهنّئه، فحجبه، فترصد يوم جلوسه العام، فقال له: ما جاء بك؟ قال:
جئت مهنئا للأمير، فأعطاه ألفا وقال: لا تعد فقد قضيت التهنئة، فجاءه من قابل، فسأله، فقال: سمعت بمضرك فجئت عائدا، فأمر له بألف، وقال:
قولوا له: لا تعد فقد قضيت وظيفة العيادة وأنا قليل المرض. ثم جاء من قابل، فسأله فقال: سمعت منك دعاء فأردت أتحفظه، فقال: إنه غير مستجاب لأني دعوت به أن لا تعود فعدت. انتهى.(3/12)
وفي ذي القعدة الإمام حسين بن علي الجعفيّ، مولاهم، الكوفيّ، المقرئ الحافظ. روى عن الأعمش وجماعة.
قال أحمد بن حنبل: ما رأيت أفصل منه، ومن سعيد بن عامر [1] الضّبعي.
وقال يحيى بن يحيى النيسابوري: إن بقي أحد من الأبدال فحسين [2] الجعفي، وكان مع تقدّمه في العلم رأسا في الزهد والعبادة.
وقال ابن ناصر الدّين: هو ثقة، وكان يقال له: راهب الكوفة.
وفيها الحسين بن الوليد النيسابوري [الفقيه] [3] . رحل وأخذ عن مالك بن مغول وطبقته. وقرأ القرآن على الكسائي. وكان كثير الغزو والجهاد والكرم.
وفيها خزيمة بن خازم [4] الخراسانيّ الأمير، أحد القوّاد الكبار العباسيّة.
وداود بن يحيى بن يمان العجليّ، ثقة.
وزيد بن الحباب أبو الحسين الكوفيّ. سمع مالك بن مغول وخلقا كثيرا [5] وكان حافظا صاحب حديث، واسع الرحلة، صابرا على الفقر والفاقة.
وفيها عثمان بن عبد الرّحمن الحرّانيّ الطرائفيّ، وكان يتتبّع [6] طرائف الحديث، فقيل له: الطرائفيّ. روى عن هشام بن حسّان وطبقته، وهو صدوق.
__________
[1] في «العبر» للذهبي (1/ 339) : «سعد بن عامر» وهو خطأ فيصحح فيه.
[2] في الأصل: «فحسن» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع، وهو الصواب.
[3] زيادة من «العبر» للذهبي.
[4] في «العبر» : «خزيمة بن حازم» وهو تصحيف فيصحح فيه.
[5] في «العبر» : «وخلقا كبيرا» .
[6] في الأصل والمطبوع: «يتبّع» ، وفي «العبر» : «وكان يبيع» ، والتصحيح من «تهذيب الكمال» (2/ 914) مصورة دار المأمون للتراث.(3/13)
وعليّ بن موسى الرّضا، الإمام أبو الحسن الحسينيّ بطوس، وله خمسون سنة، وله مشهد كبير بطوس يزار. روى عن أبيه موسى الكاظم، عن جده جعفر بن محمد الصّادق. وهو أحد الأئمة الاثني عشر في اعتقاد الإمامية. ولد بالمدينة سنة ثلاث أو إحدى وخمسين ومائة، ومات بطوس، وصلى عليه المأمون ودفنه بجنب أبيه الرّشيد. وكان موته بالحمى، وقيل:
بالسم، وكان المأمون أرسله إلى أخيه زيد بن موسى، وقد قام بالبصرة ليرده عن ذلك، فقال علي: يا زيد ما تريد بهذا؟ فعلت بالمسلمين الأذى وتزعم أنك من ولد فاطمة، والله لأشدّ النّاس عليك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يا زيد ينبغي لمن أخذ برسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يعطي به. ولما بلغ كلامه المأمون بكى.
وقال في «المغني» [1] : عليّ بن موسى بن جعفر الرّضا، عن آبائه.
قال ابن طاهر: يأتي عن آبائه بعجائب.
قلت [2] : الشأن في صحة الإسناد إليه، فإنه كذب عليه وعلى جده.
انتهى.
وفيها أبو داود الحفريّ عمر بن سعد بالكوفة. روى عن مالك بن مغول ومسعر. وكان من عبّاد المحدّثين.
قال أبو حمدون المقرئ: لما دفنّاه تركنا بابه مفتوحا، ما خلّف شيئا.
وقال ابن المديني: ما رأيت بالكوفة أعبد منه.
وقال وكيع: إن كان يدفع [البلاء] [3] بأحد في زماننا فبأبي داود الحفري.
__________
[1] «المغني في الضعفاء» للذهبي (2/ 682) .
[2] القائل الذهبي في «المغني في الضعفاء» .
[3] لفظة: «البلاء» سقطت من الأصل، والمطبوع واستدركتها من «العبر» (1/ 340) .(3/14)
وفيها عمر بن عبد الله بن رزين السلميّ النيسابوريّ. رحل وسمع محمد بن إسحاق وطبقته.
قال سهل بن عمّار: لم يكن بخراسان أنبل منه.
وفيها أبو حفص عمر بن يونس اليمامي [1] . روى عن عكرمة بن عمّار وجماعة، وكان ثقة مكثرا.
وفيها محمد بن بكر البرسانيّ بالبصرة. روى عن ابن جريج [وطبقته] [2] . وكان أحد الثقات الأدباء الظرفاء.
ومحمد بن بشر العبديّ الكوفيّ الحافظ. روى عن الأعمش وطبقته.
قال أبو داود: هو أحفظ من كان بالكوفة في وقته.
وقال ابن ناصر الدّين: محمد بن بشر العبديّ الكوفيّ أبو عبد الله ثقة، أحفظ من كان بالكوفة. انتهى.
ومحمد بن عبد الله أبو أحمد الزّبيريّ الأسديّ مولاهم الكوفيّ.
روى عن يونس بن إسحاق وطبقته.
وقال أبو حاتم: كان ثقة حافظا عابدا مجتهدا، له أوهام.
وأبو جعفر محمّد بن جعفر الصّادق بن محمد الباقر بن علي بن الحسين، الحسينيّ المدنيّ، الملقب بالدّيباج. روى عن أبيه، وكان قد خرج بمكّة سنة مائتين ثم عجز وخلع نفسه، وأرسل إلى المأمون فمات بجرجان، ونزل المأمون في لحده. وكان عاقلا شجاعا يصوم يوما ويفطر يوما.
يقال: إنه جامع وافتصد ودخل الحمام في يوم [واحد] [3] فمات فجأة.
__________
[1] في الأصل: «اليماني» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع، وهو الصواب.
[2] زيادة من «العبر» للذهبي (1/ 341) .
[3] زيادة من «العبر» (1/ 342) .(3/15)
وفيها مصعب بن المقدام الكوفيّ. روى عن ابن جريج وجماعة.
وفيها النّضر بن شميل بن خرشة بن يزيد بن كلثوم المازنيّ- مازن ابن مالك بن عمرو بن تيم بن مر- أبو الحسن البصريّ نزيل مرو وعالمها.
كان إماما حافظا جليل الشأن، وهو أول من أظهر السّنّة بمرو وجميع بلاد خراسان. روى عن حميد وهشام بن عروة وطبقته [1] [والكبار] [2] وكان رأسا في الحديث، رأسا في اللغة والنحو، ثقة، صاحب سنة.
قال ابن الأهدل: ضاقت معيشته بالبصرة فرحل إلى خراسان فشيّعه من البصرة نحو من ثلاثمائة عالم، فقال لهم: لو وجدت كل يوم كيلجة [3] باقلاء ما فارقتكم، فلم يكن فيهم من تكفّل له بذلك، وأقام بمرو، واجتمع له هناك مال. سمع النّضر من هشام بن عروة وغيره من أئمة التّابعين. وسمع عليه ابن معين، وابن المديني، وغيرهم.
وروى المأمون يوما عن هشيم بسنده المتصل إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إذا تزوّج المرأة لدينها وجمالها، فيها سداد من عوز» [4] بفتح السين، فرده النّضر وقال: هو بكسر السين، فقال له المأمون: تلحّنني! فأقصر، فقال: إنما لحن هشيم، وكان لحّانة، لأن السداد بالفتح: القصد في الدّنيا والسبيل، وبالكسر: البلغة، وكل ما سددت به شيئا فهو سداد يعني بكسر السين، ومنه قول العرجي [5] :
__________
[1] لفظة: «وطبقته» سقطت من المطبوع.
[2] لفظة: «والكبار» سقطت من الأصل، وأثبتها من المطبوع.
[3] قال ابن منظور: [قال] ابن الأعرابي: الكيلجة: مكيال، والجمع كيالج وكيالجة أيضا، والهاء للعجمة. «لسان العرب» (كلج) .
[4] ذكر ابن خلكان قصة الحديث في «وفيات الأعيان» (5/ 398- 399) نقلا عن «درة الغواص في أوهام الخواص» للحريري، فراجعه.
[5] هو عبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفّان بن أبي العاص بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف القرشيّ الأمويّ العثمانيّ أبو عمر، المعروف ب «العرجي» وإنما قيل له العرجي،(3/16)
أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر [1]
فأمر له بجائزة جزيلة.
والعرجيّ المذكور، منسوب إلى العرج منزلة بين مكّة والمدينة، شاعر مشهور أموي. حبسه محمد بن هشام المخزومي أمير مكّة وخال عبد الملك لما شبّب بأمه، فأقام في الحبس سبع سنين ومات فيه عن ثمانين سنة وبعد البيت المذكور:
وصبر عند معترك المنايا ... وقد شرعت أسنّتها بنحري [2]
انتهى.
وفيها الوليد بن القاسم الهمدانيّ [3] الكوفي. روى عن الأعمش وطبقته وكان ثقة.
وفيها الوليد بن مزيد العذريّ البيروتيّ صاحب الأوزاعيّ [4] .
__________
لأنه كان يسكن عرج الطائف، على ما ذكره الزّبير بن بكار، وكان شاعر غزل، مطبوع، ينحو نحو عمر بن أبي ربيعة. وكان مشغوفا باللهو والصيد. وكان من الأدباء الظرفاء الأسخياء، ومن الفرسان المعدودين. مات سنة (120) هـ. انظر خبره في «الشعر والشعراء» لابن قتيبة ص (365- 366) ط. ليدن، و «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني (1/ 383- 417) ، و «العقد الثمين» للفاسي (5/ 219- 222) ، و «الأعلام» للزركلي (4/ 109) ، وكلام المؤلف عنه الذي سيرد بعد قليل.
[1] البيت في «ديوانه» ص (34) طبع بغداد، و «الأغاني» (1/ 413 و 414) ، و «الشعر والشعراء» ص (365) ، و «وفيات الأعيان» (5/ 399) ، و «العقد الثمين» (5/ 220) .
[2] البيت في «ديوانه» ص (34) ، و «الأغاني» (1/ 413) ، و «العقد الثمين» (5/ 220) ورواية البيت في كتابنا موافقة لروايته في «الأغاني» ، وأما رواية البيت في «ديوانه» فهي:
وخلّوني بمعترك المنايا ... وقد شرعت أسنّتها لنحري
ورواية البيت في «العقد الثمين» :
وخلّوني بمعترك المنايا ... وقد شرعت أسنّتها بصدري
[3] في الأصل، والمطبوع: «الهمذاني» وهو تصحيف، والتصويب من «العبر» للذهبي (1/ 342) ، وانظر: «تهذيب الكمال» للمزي (3/ 1472) مصورة دار المأمون للتراث.
[4] انظر ترجمته مفصلة في «تهذيب الكمال» للمزي (3/ 1474) مصوّرة دار المأمون للتراث.(3/17)
وفيها الإمام الحبر أبو زكريا يحيى بن آدم الكوفيّ المقرئ الحافظ الفقيه، أخذ القراءة عن أبي بكر بن عيّاش. وسمع من يونس بن أبي إسحاق، ونصر بن خليفة، وهذه الطبقة. وصنف التصانيف.
قال أبو أسامة: كان بعد الثوري في زمانه يحيى بن آدم.
وقال أبو داود: يحيى بن آدم واحد النّاس.
وذكره ابن المديني فقال: رحمه الله، أيّ علم كان عنده!.
وقال ابن ناصر الدّين: يحيى بن آدم بن سليمان القرشيّ مولاهم الكوفيّ الأحول، أبو زكريا. روى عنه أحمد، وإسحاق، وغيرهما. وكان إماما علّامة من المصنّفين، حافظا ثقة فقيها من المتقنين. انتهى
.(3/18)
سنة أربع ومائتين
فيها أعاد المأمون لبس السواد.
وفيها في سلخ رجب توفي فقيه العصر والإمام الكبير والجليل الخطير، أبو عبد الله محمد بن إدريس الشّافعيّ المطلبيّ بمصر، وله أربع وخمسون سنة. أخذ عن [1] مالك، ومسلم بن خالد الزّنجي، وطبقتهما. وكان مولده بغزّة. ونقل إلى مكّة وله سنتان.
قال المزنيّ: ما رأيت أحسن وجها من الشّافعيّ، إذا قبض على لحيته لا تفضل عن قبضته.
وقال الزّعفرانيّ: كان خفيف العارضين يخضب بالحناء. وكان حاذقا بالرّمي يصيب تسعة من العشرة.
وقال الشّافعيّ: استعملت اللّبان سنة للحفظ [2] فأعقبني صبّ الدّم سنة.
قال يونس بن عبد الأعلى: لو جمعت أمة لوسعهم [عقله] [3] .
__________
[1] في الأصل: «أخذ من» وأثبت ما في المطبوع.
[2] في المطبوع: «الحفظ» ، واللّبان: نبات، وانظر الخبر والتعليق عليه في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (10/ 15) تحقيق الأستاذ الفاضل محمد نعيم العرقسوسي، بإشراف الأستاذ الشيخ شعيب الأرناؤوط، وفي «العبر» (1/ 344) .
[3] زيادة من «سير أعلام النبلاء» .(3/19)
وقال إسحاق بن راهويه: لقيني أحمد بن حنبل بمكّة فقال: تعال حتّى أريك [رجلا] [1] لم تر عيناك مثله. قال: فأقامني على الشّافعيّ.
وقال أبو ثور الفقيه: ما رأيت مثل الشّافعيّ، ولا رأى مثل نفسه.
وقال الشّافعيّ: سمّيت ببغداد ناصر الحديث.
وقال أبو داود: ما أعلم للشافعيّ حديثا خطأ.
وقال الشّافعيّ: ما شيء أبغض إليّ من الكلام وأهله [2] . قاله في «العبر» [3] .
وقال السيوطيّ في «حسن المحاضرة» [4] : الإمام الشافعيّ أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العبّاس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد [5] بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب [6] بن عبد مناف، جدّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والسائب جده صحابي أسلم يوم بدر، وكذا ابنه شافع، لقي النّبيّ- صلى الله عليه وسلم- وهو مترعرع.
ولد الشافعيّ سنة خمسين ومائة بغزّة، أو بعسقلان، أو اليمن، أو منى، أقوال، ونشأ بمكة، وحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، و «الموطأ» وهو ابن عشر، وتفقه على مسلم بن خالد الزّنجي مفتي مكّة وأذن له في الإفتاء وعمره خمس عشرة سنة، ثم لازم مالكا بالمدينة، وقدم بغداد سنة خمس وتسعين فاجتمع عليه علماؤها وأخذوا عنه، وأقام بها حولين، وصنّف بها كتابه القديم، ثم عاد
__________
[1] سقطت لفظة: «رجلا» من الأصل، وأثبتها من المطبوع.
[2] في «العبر» : «ما شيء أبغض إليّ من الرأي وأهله» .
[3] (1/ 344) .
[4] (1/ 303- 304) .
[5] في «حسن المحاضرة» : «ابن عبيد الله» وهو خطأ. وانظر: «تهذيب الأسماء واللغات» للنووي (1/ 44) .
[6] في «حسن المحاضرة» : «ابن عبد المطلب» وهو خطأ.(3/20)
إلى مكة، ثم خرج إلى بغداد سنة ثمان وتسعين فأقام بها شهرا، ثم خرج إلى مصر [1] وصنف بها كتبه الجديدة ك «الأم» و «الأمالي الكبرى» و «الإملاء الصغير» و «مختصر البويطي» و «مختصر المزني» و «مختصر الرّبيع» و «الرسالة» و «السنن» .
قال ابن زولاق [2] : صنف الشّافعيّ نحوا من مائتي جزء ولم يزل بها ناشرا للعلم، ملازما للاشتغال [3] [بجامع عمرو] [4] إلى أن أصابته ضربة شديدة فمرض بسببها أياما، ثم مات يوم الجمعة سلخ رجب سنة أربع ومائتين.
قال ابن عبد الحكم: لما حملت أم الشّافعيّ به رأت كأنّ المشتري خرج من فرجها حتّى انقضّ بمصر، ثم وقع في كل بلد منه شظية [5] فتأوله [6] أصحاب الرؤيا أنه يخرج عالم يخصّ علمه أهل مصر، ثم يتفرق في سائر البلدان.
وقال الإمام أحمد: إن الله تعالى يقيّض للنّاس في كل رأس مائة سنة من يعلّمهم السنن، وينفي عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الكذب، فنظرنا فإذا في رأس المائة عمر بن عبد العزيز، وفي رأس المائتين الشّافعيّ.
__________
[1] قوله: «وأقام بها حولين وصنف بها كتابه القديم، ثم عاد إلى مكة، ثم خرج إلى بغداد سنة ثمان وتسعين فأقام بها شهرا ثم خرج إلى مصر» ، لم يرد في «حسن المحاضرة» .
[2] هو الحسن بن إبراهيم بن الحسين بن الحسن، من ولد سليمان بن زولاق، الليثي بالولاء، أبو محمد، مؤرخ مصري، زار دمشق سنة (330) هـ. وولي المظالم في أيام الفاطميين بمصر، وكان يظهر التشيّع لهم. من كتبه: «خطط مصر» و «أخبار قضاة مصر» و «رسالة الموازنة بين مصر وبغداد في العلم والعلماء والخيرات» و «مختصر تاريخ مصر» . مات سنة (387) هـ. عن «الأعلام» للزركلي (2/ 178) .
[3] في «حسن المحاضرة» : «للإشغال» .
[4] ما بين الحاصرتين سقط من الأصل، والمطبوع، واستدركته من «حسن المحاضرة» .
[5] في الأصل، والمطبوع: «شطية» وهو تصحيف، والتصحيح من «حسن المحاضرة» .
[6] في «حسن المحاضرة» : «فتأول» .(3/21)
وقال الرّبيع [1] : كان الشّافعيّ يفتي وله خمس عشرة سنة، وكان يحيي الليل إلى أن مات.
وقال أبو ثور: كتب عبد الرّحمن بن مهدي إلى الشّافعي أن يضع له كتابا فيه معاني القرآن ويجمع مقبول الأخبار [2] فيه، وحجة الإجماع، وبيان النّاسخ والمنسوخ من القرآن والسّنّة، فوضع له كتاب «الرسالة» .
قال الإسنوي [3] : الشّافعي أول من صنف في أصول الفقه بالإجماع [4] وأوّل من قرر ناسخ الحديث من منسوخه، وأول من صنف في أبواب كثيرة [من] [5] الفقه معروفة. انتهى كلام السيوطي.
وكان يقول: وددت أن لو أخذ عني هذا العلم من غير أن ينسب إليّ منه شيء.
وقال: ما ناظرت أحدا إلا وددت أن يظهر الله الحق على يديه.
وكان يقول لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله أنت أعلم بالحديث مني، فإذا صحّ الحديث فأعلمني حتّى أذهب إليه شاميا كان أو كوفيا أو بصريا.
وكان- رضي الله عنه- مع جلالة قدره شاعرا مفلقا مطبوعا، فمن شعره الرائق الفائق قوله:
وما هي إلّا جيفة مستحيلة ... عليها كلاب همّهنّ اجتذابها
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «قال ابن الربيع» والتصحيح من «حسن المحاضرة» وهو الربيع بن سليمان المرادي.
[2] في «حسن المحاضرة» : «ويجمع قبول الأخيار» .
[3] في المطبوع: «الأسنوي» ، وهو خطأ.
[4] في الأصل، والمطبوع: «بإجماع» وما أثبته من «حسن المحاضرة» .
[5] لفظة: «من» سقطت من الأصل، وأثبتها من المطبوع.(3/22)
فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها ... وإن تجتذبها نازعتك كلابها [1]
وقوله:
ما حكّ جلدك مثل ظفرك ... فتولّ أنت جميع أمرك
وإذا بليت بحاجة [2] ... فاقصد لمعترف بقدرك [3]
وقوله معارضا لابن الأزرق وهو الغاية في المتانة:
إنّ الذي رزق اليسار ولم ينل [4] ... أجرا ولا حمدا لغير موفّق
الجدّ يدني كلّ أمر شاسع ... والجدّ يفتح كلّ باب مغلق [5]
فإذا سمعت بأنّ مجدودا حوى ... عودا فأثمر في يديه فصدّق
وإذا سمعت بأنّ محروما [6] أتى ... ماء ليشربه فغاص فحقّق
لو أنّ [7] بالحيل الغنى لوجدتني ... بنجوم أرجاء [8] السّماء تعلّقي
لكنّ من رزق الحجا حرم الغنى ... ضدّان مفترقان أيّ تفرّق
وأحقّ خلق الله بالهمّ امرؤ ... ذو همّة يبلى برزق ضيّق
ومن الدّليل على القضاء وحكمه [9] ... بؤس اللّبيب وطيب عيش الأحمق [10]
__________
[1] البيتان في «ديوانه» ص (25) ، تحقيق الأستاذ إسماعيل اليوسف، طبع دار الخير.
[2] في «ديوانه» : «فإذا قصدت لحاجة» .
[3] البيتان في «ديوانه» ص (70) .
[4] في «ديوانه» : «فلم ينل» .
[5] البيتان في «ديوانه» ص (67) .
[6] في الأصل، والمطبوع: «مجذوذا» والتصحيح من «ديوانه» .
[7] في «ديوانه» : «لو كان» .
[8] في «ديوانه» : «بنجوم أقطار» .
[9] في الأصل، والمطبوع: «وكونه» وأثبت لفظ «ديوانه» .
[10] الأبيات في «ديوانه» ص (66- 67) .(3/23)
وله:
من نال منّي أو علقت بذمّته ... أبرأته لله شاكر منّته
أرى معوّق مؤمن يوم الجزا ... أو أن أسوء محمّدا في أمّته [1]
وقال:
إذا المرء أفشى سرّه لصديقه ... ودلّ عليه غيره فهو أحمق
إذا ضاق صدر المرء عن سرّ نفسه ... فصدر الذي يستودع [2] السرّ أضيق [3]
[ومما ينسب إليه:
عليّ ثياب لو تباع جميعها ... بفلس لكان الفلس منهنّ أكثرا
وفيهنّ نفس لو تقاس بمثلها ... نفوس الورى كانت أعزّ وأكبرا] [4]
وفيها قاضي ديار مصر، إسحاق بن الفرات أبو نعيم التّجيبيّ، صاحب مالك.
قال الشّافعيّ: ما رأيت بمصر أعلم باختلاف النّاس من إسحاق بن الفرات، رحمه الله.
وقد روى إسحاق- رحمه الله- أيضا عن حميد بن هانئ، واللّيث بن سعد، وغيرهما.
وفي ثامن عشر شعبان أشهب بن عبد العزيز، أبو عمرو العامريّ،
__________
[1] لم أجد البيتين في «ديوانه» الذي بين يدي.
[2] في الأصل، والمطبوع: «فصدر الذي أودعته» وأثبت لفظ ديوانه.
[3] البيتان في «ديوانه» ص (67) مع شيء من الخلاف في ألفاظهما.
[4] ما بين حاصرتين سقط من الأصل، واستدركته من المطبوع. والبيتان في «ديوانه» ص (46- 47) ورواية البيت الثاني فيه:
فيهن نفس لو تقاس ببعضها ... نفوس الورى كانت أجلّ وأكبرا(3/24)
صاحب مالك، وله أربع وستون سنة. وكان ذا مال وحشمة وجلالة.
قال الشّافعيّ: ما أخرجت مصر أفقه من أشهب لولا طيش فيه.
وكان محمد بن عبد الله بن [عبد] [1] الحكم صاحب أشهب يفضّل أشهب على ابن القاسم.
قال ابن عبد الحكم: سمعت أشهب يدعو على الشّافعيّ بالموت، فبلغ ذلك الشّافعيّ فقال:
تمنّى رجال أن أموت وإن أمت ... فتلك طريق [2] لست فيها بأوحد
فقل للّذي يبغي خلاف الذي مضى ... تزوّد لأخرى مثلها فكأن قد [3]
ومكث أشهب بعد الشّافعيّ شهرا.
قال ابن عبد الحكم: وكان قد اشترى من تركة الشّافعيّ عبدا، فاشتريت ذلك العبد من تركة أشهب.
وفيها أبو علي الحسن بن زياد اللؤلؤيّ الكوفيّ، قاضي الكوفة وصاحب أبي حنيفة، وكان يقول: كتبت عن ابن جريج اثني عشر ألف حديث.
قال في «العبر» [4] : ولم يخرّجوا له في الكتب الستة لضعفه، وكان رأسا في الفقه. انتهى.
وفيها الإمام أبو داود الطّيالسيّ، واسمه سليمان بن داود البصريّ الحافظ صاحب «المسند» ، كان يسرد من حفظه ثلاثين ألف حديث.
__________
[1] لفظة: «عبد» سقطت من الأصل، وأثبتها من المطبوع.
[2] في «ديوانه» : «فتلك سبيل» .
[3] البيت الأول في «ديوانه» ص (39) ، والبيتان في «سير أعلام النبلاء» (10/ 72) ، وانظر تخريجهما فيه.
[4] (1/ 345) .(3/25)
قال الفلّاس: ما رأيت أحفظ منه.
وقال عبد الرّحمن بن مهدي: هو أصدق النّاس.
قال في «العبر» [1] : قلت: كتب [2] عن ألف شيخ، منهم ابن عون [3] وطبقته. انتهى.
وقال ابن ناصر الدّين: الحافظ الكبير، من الحفاظ المكثرين، قيل:
غلط في أحاديث رواها من لفظه، وأتي في ذلك من قبل اتكاله على حفظه.
قال عمر بن شبّة [4] : كتبوا عن أبي داود من حفظه أربعين ألف حديث.
انتهى.
وقيل: إنه أكل حبّ البلاذر [5] لأجل الحفظ والفهم، فأحدث له جذاما وبرصا.
وفيها شجاع بن الوليد الكوفيّ، أبو بدر.
قال ابن ناصر الدّين: كان ثقة ورعا عابدا متقنا. انتهى.
وقال في «العبر» [6] : كان من صلحاء المحدّثين وعلمائهم. روى عن الأعمش والكبار.
قال سفيان الثّوري: ليس بالكوفة أعبد من شجاع بن الوليد. انتهى.
وفيها أبو بكر الحنفيّ عبد الكبير بن عبد المجيد أخو أبي علي
__________
[1] (1/ 346) .
[2] تحرفت لفظة: «كتب» في «العبر» إلى «كتبت» .
[3] في الأصل، والمطبوع: «أبو عون» والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 346) ، وانظر:
«تهذيب الكمال» (1/ 534) مصورة دار المأمون للتراث بدمشق.
[4] في الأصل، والمطبوع: «ابن شيبة» والتصحيح من «تهذيب الكمال» (1/ 535) .
[5] في الأصل، والمطبوع: «البلادر» وهو تصحيف، والتصحيح من «تاج العروس» (بلذر) وفيه البلاذر: حب الفهم.
[6] (1/ 346) .(3/26)
الحنفي، بصريّ مشهور. صاحب حديث. روى عن خثيم بن عراك، وجماعة.
وفيها أبو نصر عبد الوهّاب بن عطاء الخفّاف. بصري. صاحب حديث وإتقان. سمع من حميد، وخالد الحذّاء، وطائفة.
قال ابن ناصر الدّين: عبد الوهّاب بن عطاء العجليّ الخفّاف أبو نصر، أحد علماء البصرة والحفاظ المهرة. جاء توثيقه عن الدّارقطنيّ وابن معين، وتكلم فيه البخاريّ وغيره بأنه ليس بالقويّ، ففيه لين. انتهى.
وفيها هشام بن محمّد بن السّائب الكلبيّ الأخباريّ النسّابة صاحب كتاب «الجمهرة» في النسب [1] ومصنفاته تزيد على مائة وخمسين تصنيفا في التاريخ، والأخبار، وكان حافظا علامة إلّا أنه متروك الحديث، فيه رفض.
روى عن أبيه، وعن مجالد بن سعيد، وغيرهما. قاله في «العبر» [2] .
__________
[1] طبع المجلد الأول منه في وزارة الإعلام في الكويت بتحقيق الأستاذ عبد الستار أحمد فراج، رحمه الله، وصدر كاملا عن دار اليقظة بدمشق بعناية الأستاذ محمود فردوس العظم.
[2] (1/ 346- 347) .(3/27)
سنة خمس ومائتين
فيها توفي إسحاق بن منصور السّكونيّ الكوفيّ. روى عن إسرائيل وطبقته.
وفيها أبو عبد الله بسر بن بكر الدّمشقيّ ثم التّنّيسيّ، محدّث تنّيس [1] . حدّث عن الأوزاعيّ وجماعة.
وفي جمادى الأولى أبو محمد روح بن عبادة القيسيّ البصريّ الحافظ. روى عن ابن عون وابن جريج. وصنف في السنن والتفسير وغير ذلك، وعمّر دهرا.
قال ابن ناصر الدّين: روح بن عبادة بن العلاء بن حسّان القيسيّ البصريّ أبو محمّد. ثقة، مكثر، مفسر. انتهى.
وفيها الزّاهد القدوة أبو سليمان الدّارانيّ العنسيّ أحد الأبدال. كان عديم النظير زهدا وصلاحا، وله كلام رفيع في التصوف والمواعظ.
__________
[1] قال المقريزي: تنيس بكسر التاء المنقوطة باثنتين من فوقها، وكسر النون المشددة وياء آخر الحروف، وسين مهملة: بلدة من بلاد مصر في وسط الماء وهي كورة الخليج، سميت بتنيس ابن حام بن نوح، ويقال: بناها قليمون من ولد أتريب بن قبطم أحد ملوك القبط في القديم.
وانظر تتمة كلامه عنها في «الخطط المقريزية» (1/ 176- 182) ، وراجع خبرها في «معجم البلدان» لياقوت (2/ 51- 54) .(3/28)
من كلامه: من أحسن في نهاره كوفئ في ليله، ومن أحسن في ليله كوفئ في نهاره. ومن صدق في ترك شهوة، ذهب الله بها من قلبه، والله أكرم من أن يعذب قلبا ترك شهوة له. وأفضل الأعمال خلاف هوى النفس. وله كرامات وخوارق. ونسبته إلى داريّا قرية بغوطة دمشق [1] أو داران [2] ، قيل:
وهذا الصحيح. والعنسيّ نسبة إلى عنس بن مالك رجل من مذحج.
وفيها، أو في التي قبلها- وبه جزم ابن ناصر الدّين- أبو عامر العقديّ عبد الملك بن عمرو البصريّ أحد الثقات المكثرين. روى عن هشام الدستوائي وأقرانه.
قال ابن ناصر الدّين: كان إماما أمينا ثقة مأمونا.
وفيها محمد بن عبيد الطّنافسيّ الأحدب الكوفيّ الحافظ. سمع هشام بن عروة والكبار.
قال ابن سعد: كان ثقة صاحب سنّة.
وقال ابن ناصر الدّين: هو وأخواه يعلى وعمر من الموثقين. انتهى.
وفيها قارئ أهل البصرة يعقوب بن إسحاق الحضرميّ مولاهم المقرئ النحويّ أحد الأعلام. قرأ على أبي المنذر سلّام الطّويل. وسمع من شعبة وأقرانه. تصدر للإقراء والتحديث، وحمل عنه خلق كثير. وله في القراءة رواية مشهورة ثامنة على قراءة السبعة، رواها عنه روح بن عبد المؤمن وغيره. واقتدى به البصريون، وأكثرهم على مذهبه بعد أبي عمرو بن العلاء.
__________
[1] قلت: لقد كانت هذه القرية من أجمل قرى غوطة دمشق الغريبة، ثم تحولت خلال السنوات الخمس الأخيرة إلى مدينة صغيرة على أثر تشييد العدد الكبير من العمارات فوق أراضيها الخصبة المنتجة من قبل أهلها وتجار دمشق، دون الأخذ بعين الاعتبار ما لفقدان الأراضي الزراعية من أثر سيىء على مناخ دمشق، ولقد طالت هذه الآفة معظم قرى غوطتي دمشق الشرقية والغربية في الآونة الأخيرة، حتى كادت تقضي على الغوطتين معا ولا حول ولا قوة إلا بالله. وانظر خبرها في «معجم البلدان» لياقوت (2/ 431- 432) .
[2] وذكر ذلك أيضا الزبيدي في «تاج العروس» (دار) وعزاه لسيبويه.(3/29)
وقد حافظ البغويّ في «تفسيره» على رواية قراءته وقراءة أبي جعفر يزيد بن القعقاع، وذكر سندهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو حاتم السجستانيّ: كان يعقوب الحضرمي أعلم من أدركنا في الحروف والاختلاف في القرآن العظيم وتعليله ومذاهبه ومذاهب النحويين فيه، وكتابه «الجامع» جمع فيه بين عامة الاختلاف ووجوه القراءات ونسب كل حرف إلى من قرأ به
.(3/30)
سنة ست ومائتين
فيها استعمل المأمون على بغداد إسحاق بن إبراهيم الخزاعيّ فوليها مدة، وهو الذي كان يمتحن النّاس بخلق القرآن في أيام المأمون، والمعتصم، والواثق.
وفيها كان المدّ الذي غرق منه السواد وذهبت الغلّات.
وفيها نكث بابك الخرّميّ عيسى بن محمد بن أبي خالد.
وفيها استعمل المأمون على محاربة [1] نصر بن شبث [2] [عبد الله بن طاهر] [3] وولاه الديار المصرية.
وفيها- في رجب- توفي أبو حذيفة إسحاق بن بشر البخاريّ صاحب «المبتدأ» روى عن إسماعيل بن أبي خالد، وابن جريج، والكبار، فأكثر وأغرب، وأتى بالطّامّات، فتركوه [4] .
__________
[1] في الأصل: «على تجارة» ، وفي المطبوع: «على تجارته» وكلاهما خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 348) ، وانظر: «تاريخ الطبري» (8/ 581) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «نصر بن شيث» وهو تصحيف، وفي «العبر» : «نصر بن شبيب» وهو خطأ، والتصحيح من «تاريخ الطبري» ، و «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (6/ 388) .
[3] ما بين حاصرتين سقط من الأصل، والمطبوع، واستدركته من «العبر» للذهبي، وانظر:
«تاريخ الطبري» .
[4] في «العبر» (1/ 349) : «فاتهموه وتركوه» .(3/31)
وفيها- في ربيع الأول- حجّاج بن محمّد المصّيصيّ الأعور، صاحب ابن جريج، وأحد الحفاظ، الثقات، المتقنين، المكثرين، الضابطين.
قال أحمد: ما كان أصحّ حديثه وأضبطه، وأشدّ تعاهده للحروف.
وشبابة بن سوّار المدائنيّ الحافظ. روى عن ابن أبي ذئب وطبقته، وكان ثقة مرجئا.
وفي رمضان عبد الله بن نافع المدنيّ الصائغ الفقيه، صاحب مالك.
روى عن زيد بن أسلم وطائفة.
قال أحمد بن صالح: كان أعلم النّاس برأي مالك وحديثه.
وقال أحمد بن حنبل: لم يكن صاحب حديث، بل كان صاحب رأي مالك، ومفتي [أهل] المدينة.
وخرّج له مسلم، والأربعة.
قال في «المغني» [1] : عبد الله بن نافع الصائغ، عن مالك، وثق.
وقال البخاريّ: في حفظه شيء.
وقال أحمد بن حنبل: لم يكن بذاك في الحديث. انتهى.
وفيها محاضر بن المورّع الكوفيّ. روى عن عاصم الأحول وطبقته.
وهو صدوق. وقد خرّج له مسلم، وأبو داود، والنسائيّ.
قال في «المغني» [2] : عن الأعمش وغيره.
قال أبو زرعة: صدوق.
وقال أبو حاتم: ليس بالقويّ.
وقال أحمد: كان مغفّلا جدّا، لم يكن من أصحاب الحديث. انتهى.
__________
[1] «المغني في الضعفاء» (1/ 360) .
[2] «المغني في الضعفاء» (2/ 542) .(3/32)
وفيها قطرب النحويّ صاحب سيبويه، وهو الذي سماه قطربا، لأنه كان يبكّر في المجيء إليه. فقال: ما أنت إلّا قطرب ليل- وهي دويبة لا تزال تدب ولا تهتدي- فغلب عليه، وكنية قطرب أبو علي، واسمه محمد بن المستنير البصريّ اللغويّ. كان من أئمة عصره. صنف «معاني القرآن» و «كتاب الاشتقاق» و «كتاب القوافي» و «كتاب النوادر» و «كتاب الأزمنة» و «كتاب الأصول» و «كتاب الصفات» و «كتاب العلل في النحو» و «كتاب الأضداد» و «كتاب خلق الإنسان» و «كتاب خلق الفرس» و «كتاب غريب الحديث» و «كتاب الهمز» و «كتاب فعل وأفعل» و «كتاب الرد على الملحدين» في متشابه القرآن، وغير ذلك. وهو أول من وضع المثلث في اللغة. وتبعه البطليوسي، والخطيب، وكان يعلّم أولاد أبي دلف العجلي.
وفيها مؤمّل بن إسماعيل في رمضان بمكّة، وكان من ثقات البصريين. روى عن شعبة والثّوري.
وفيها أبو العبّاس وهب بن جرير بن حازم الأزديّ البصريّ الحافظ.
أكثر عن أبيه وابن عون، وعدة.
وفيها الإمام الربّاني [1] يزيد بن هارون أبو خالد الواسطيّ الحافظ.
روى عن عاصم الأحول والكبار.
قال علي بن المديني: ما رأيت رجلا قطّ أحفظ من يزيد بن هارون.
يقول: أحفظ أربعة وعشرين ألف حديث بإسنادها ولا فخر.
وقال يحيى بن يحيى التميميّ: هو أحفظ من وكيع.
وقال أحمد بن سنان القطّان: كان هو وهشيم معروفان [2] بطول صلاة الليل والنهار.
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «الزيّاتي» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» (2/ 350) .
[2] في الأصل: «معروفا» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع.(3/33)
وقال يحيى بن أبي طالب: سمعت من يزيد ببغداد، وكان يقال: إن في مجلسه سبعين ألفا.
وقال ابن ناصر الدّين: كان حافظا إماما ثقة مأمونا مناقبه جمّة خطيرة.
قال [علي بن] شعيب [1] : سمعت يزيد يقول: أحفظ أربعة وعشرين ألف حديث ولا فخر، وأحفظ للشاميين عشرين ألفا لا أسأل عنها. انتهى.
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «قال شعيب» وهو خطأ، والتصحيح من «تاريخ بغداد» (14/ 339) ، و «سير أعلام النبلاء» (9/ 359) . وهو علي بن شعيب بن عدي السّمسار، البغدادي، المتوفى سنة (253) . انظر ترجمته في «تهذيب الكمال» للمزي (2/ 970) مصورة دار المأمون للتراث، و «تقريب التهذيب» ص (402) بتحقيق الأستاذ محمد عوّامة.(3/34)
سنة سبع ومائتين
فيها توفي طاهر بن الحسين فجأة على فراشه وحمّ ليلة. وكان تلك الأيام قد قطع دعوة المأمون وعزم على الخروج عليه، فأتى الخبر إلى المأمون بأنه خلعه، فما أمسى حتّى جاءه الخبر بموته. وقام بعده ابنه طلحة، فأقره المأمون على خراسان، فوليها سبع سنين. وبعده ولي أخوه عبد الله.
قال ابن الأهدل: طاهر بن الحسين الخزاعيّ، وقيل: مولاهم، الملقّب، ذا اليمينين، كان جوادا شجاعا ممدّحا، وهو الذي قتل الأمين. وكان المأمون قد أخدمه غلاما رباه وأمره إن رأى منه ما يريبه سمّه. فلما تمكن طاهر من خراسان قطع خطبة المأمون- أي وخطب لنفسه- فأصبح يوم السبت ميتا. واستخلف المأمون ولده طلحة بن طاهر، وقيل: جعله نائبا لأخيه عبد الله بن طاهر، وسيأتي ذكر ولده عبد الله سنة ثلاثين، وولد ولده سنة ثلاثمائة. انتهى.
وفيها أبو عون جعفر بن عون بن جعفر بن عمرو بن حريث المخزوميّ العمريّ الكوفيّ عن نيف وتسعين سنة. سمع من الأعمش، وإسماعيل بن أبي خالد، والكبار.
قال أبو حاتم: صدوق.
وعبد الصّمد بن عبد الوارث بن سعيد التميميّ التّنّوريّ أبو سهل.(3/35)
روى عن أبيه وهشام الدّستوائيّ، وشعبة. وكان ثقة صاحب حديث.
قال ابن ناصر الدّين: كان محدّث البصرة وأحد الثقات. انتهى.
وفيها عمر بن حبيب العدويّ البصريّ في أول السنة. روى عن حميد الطّويل، ويونس بن عبيد، وجماعة. وولي قضاء الشرقية للمأمون.
قال ابن عدي: هو مع ضعفه حسن الحديث.
وقال في «المغني» [1] : عمر بن حبيب العدويّ القاضي. عن هشام بن عروة. كذّبه ابن معين.
وقال النسائيّ: ضعيف.
وقال ابن عدي: مع ضعفه يكتب حديثه. انتهى.
وفيها قراد أبو نوح عبد الرّحمن بن غزوان [2] الخزاعيّ. توفي ببغداد، وحدّث عن عوف، وشعبة، وطائفة.
قال أحمد بن حنبل: كان عاقلا من الرّجال.
وقال ابن المديني: ثقة.
وقال ابن معين: ليس به بأس.
وكثير بن هشام الكلابي الرّقّيّ. راوية جعفر بن برقان، توفي ببغداد في شعبان.
وفيها محمد بن عبد الله بن كناسة الأسديّ النحويّ الأخباريّ الكوفيّ. سمع هشام بن عروة والأعمش، ومات في شوال على الصحيح.
قال في «المغني» [3] : محمد بن كناسة الأسدي. عن الأعمش. وثقة ابن معين وغيره.
__________
[1] «المغني في الضعفاء» للذهبي (2/ 464) .
[2] في الأصل: «قرار أبو نوح بن غزوان عبد الرحمن بن غزوان» ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 352) ، و «لسان الميزان» لابن حجر (4/ 471) .
[3] «المغني في الضعفاء» (2/ 596) .(3/36)
وقال أبو حاتم: لا يحتج به. انتهى.
والواقديّ قاضي بغداد أبو عبد الله محمد بن عمر بن واقد الأسلميّ المدنيّ، العلّامة، أحد أوعية العلم. روى عن ثور بن يزيد، وابن جريج وطبقتهما. وكان يقول: حفظي أكثر من كتبي. وقد تحول مرّة فكانت كتبه مائة وعشرين حملا. ضعفه الجماعة كلّهم.
قال ابن ناصر الدّين: أجمع الأئمة على ترك حديثه حاشا ابن ماجة، لكنه لم يجسر أن يسمّيه حين أخرج حديثه في اللباس يوم الجمعة [1] ، وحسبك ضعفا بمن لا يجسر أن يسميه ابن ماجة. انتهى.
وقال الذهبيّ في كتابه «المغني في الضعفاء» [2] : محمد بن عمر بن واقد الأسلميّ مولاهم الواقديّ صاحب التصانيف مجمع على تركه.
وقال ابن عدي: يروي أحاديث غير محفوظة والبلاء منه.
وقال النسائيّ: كان يضع الحديث.
وقال ابن ماجة: حدثنا ابن أبي شيبة، حدثنا شيخ [لنا] [3] ، حدثنا عبد الحميد بن جعفر [4] فذكر حديثا في لباس الجمعة وحسبك بمن لا يجسر ابن ماجة أن يسميه.
قلت: وقد كذّبه أحمد، والله أعلم.
وقال ابن الأهدل: الإمام الواقديّ أبو عبد الله محمد بن [عمر بن] واقد الأسلمي قاضي بغداد. كان يقول: حفظي أكثر من كتبي. وكانت كتبه مائة
__________
[1] هو في «سنن ابن ماجة» رقم (1095) في إقامة الصلاة: باب ما جاء في الزينة يوم الجمعة.
[2] (2/ 619) .
[3] لفظة «لنا» زيادة من «سنن ابن ماجة» .
[4] في الأصل، والمطبوع: «عبد الحميد بن صفوان» وهو خطأ، والتصحيح من «المغني في الضعفاء» ، و «تهذيب الكمال» (3/ 1249) .(3/37)
وعشرين حملا. وضعفه أهل الحديث، ووثقوا كاتبه محمد بن سعد. من تصانيفه «كتاب الردّة» ذكر فيه المرتدين وما جرى بسببهم. وكان المأمون يكرمه ويراعيه.
روي عنه قال: كان لي صديقان أحدهما هاشمي، وكنّا كنفس واحدة، فشكوت إليه عسرة، فوجّه إليّ كيسا مختوما فيه ألف درهم، فما استقر في يدي حتّى جاءني كتاب صديقي الآخر يشكو مثل ذلك، فوجهته إليه كما هو، وخرجت إلى المسجد، فبتّ فيه حياء من زوجتي، ثم إن صديقي الهاشمي شكا إلى صديقي الآخر فأخرجه إليه بحاله، فجاءني به حين عرفه، وقال:
أصدقني كيف خرج منك، فعرّفته الحكاية، فتواجهنا وتواسيناه بيننا، وعزلنا للمرأة مائة درهم، ونمي الخبر إلى المأمون، فوجه إلى كل منا ألف دينار وللمرأة ألفا، وقد ذكر هذه الحكاية الخطيب البغدادي في «تاريخ بغداد» [1] .
انتهى كلام ابن الأهدل.
وفيها بشر بن عمر [2] الزّهرانيّ. كان ثقة متقنا ذا علم وحديث.
وكنيته أبو محمد.
وفيها أبو كامل مظفر بن مدرك الخراسانيّ ثم البغداديّ. كان ثقة مأمونا. أخذ عنه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وآخرون.
وفيها أبو النّضر [3] هاشم بن القاسم الخراسانيّ. قيصر. نزل بغداد، وكان حافظا قوّالا بالحق. سمع شعبة، وابن أبي ذئب، وطبقتهما.
ووثّقه جماعة.
__________
[1] (3/ 4- 5) . قلت: ولكن سياق القصة فيه يختلف عمّا في كتابنا قليلا.
[2] في «العبر» للذهبي (1/ 351) : «يزيد بن عمر» وهو خطأ فيصحح فيه.
[3] في الأصل، والمطبوع: «أبو نضر» ، وما أثبته من «العبر» للذهبي (1/ 353) ، و «تقريب التهذيب» لابن حجر (2/ 481) .(3/38)
قال ابن ناصر الدّين: هو ثقة ماجد، شيخ لأحمد بن حنبل. انتهى.
وفيها الهيثم بن عدي أبو عبد الرّحمن الطائيّ الكوفيّ الأخباريّ المؤرّخ. روى عن مجالد، وابن إسحاق وجماعة، وهو متروك الحديث.
وقال أبو داود السجستاني: كذّاب.
وفيها الفرّاء يحيى بن زياد الكوفيّ النحويّ. نزل بغداد وحدّث في مصنفاته عن قيس بن الرّبيع، وأبي الأحوص، وهو أجلّ أصحاب الكسائيّ.
كان رأسا في النحو واللغة.
قال ابن الأهدل في «تاريخه» : الإمام البارع يحيى بن زياد الفراء [1] .
كوفي، أجلّ أصحاب الكسائيّ، هو والأحمر. قيل: لولاه لما كانت عربية، لأنه هذّبها وضبطها.
وقال ثمامة بن أشرس المعتزليّ: ذاكرت الفرّاء فوجدته في النحو نسيج وحده. وفي اللغة بحرا. وفي الفقه عارفا باختلاف القوم. وفي الطب خبيرا.
وبأيام العرب وأشعارها حاذقا.
ولحن يوما بحضرة الرّشيد فرد عليه، فقال: يا أمير المؤمنين إن طباع الأعراب والحضر اللّحن، فإذا تحفّظت لم ألحن، وإذا رجعت إلى الطبع لحنت.
صنف الفرّاء للمأمون «كتاب الحدود» في النحو، و «كتاب المعاني» واجتمع لإملائه خلق كثير، منهم ثمانون قاضيا. وعمل كتابا على جميع القرآن في نحو ألف ورقة لم يعمل مثله، وكل تصنيفه حفظا لم يأخذ بيده نسخة إلّا كتاب ملازم، وكتاب نافع. وعجب له تعظيم الكسائي وهو أعلم بالنحو منه.
__________
[1] في المطبوع: «الفرائي» .(3/39)
قال الفرّاء: أموت وفي نفسي من حتّى شيء لأنها تجلب الحركات الثلاث.
ولم يعمل الفراء ولا باعها، وإنما كان يفري الكلام. وقطعت يد والده في مقتلة الحسين بن علي رضي الله عنهما.
وكان يؤدّب ابني المأمون، فطلب نعليه يوما فابتدر أيهما [1] يسبق إلى تقديمهما له، فقال له المأمون: ما أعزّ من يتبادر إلى تقديم نعليه وليّا عهد المسلمين. فقال: ما كنت أدفعهما عن مكرمة سبقا إليها وشريفة حرصا عليها. وقد أمسك ابن عبّاس بركابي الحسن والحسين وقد خرجا من عنده، فقال المأمون: لو منعتهما لأوجعتك لوما، فلا يحسن ترفّع الرجل عن ثلاثة:
والده، وسلطانه، ومعلّمه. وأعطاهما عشرين ألف دينار، وأعطاه عشرة آلاف.
وروي أن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة سأل الفرّاء- وهو ابن خالته- عمّن سها في سجود السهو؟ فقال: لا شيء عليه، لأن المصغر لا يصغر. وروي مثلها عن الكسائيّ. انتهى كلام ابن الأهدل.
__________
[1] في المطبوع: «إليهما» .(3/40)
سنة ثمان ومائتين
فيها جاء سيل بمكّة حتّى بلغ الماء الحجر والباب، وهدم أكثر من ألف دار، ومات نحو من ألف إنسان.
وفيها سار الحسن بن الحسين بن مصعب الخزاعيّ إلى كرمان فخرج بها. فسار لحربه أحمد بن أبي خالد فظفر به، وأتى به [إلى] [1] المأمون فعفا عنه.
وفيها توفي الأسود بن عامر شاذان [2] أبو عبد الرّحمن ببغداد. روى عن هشام بن حسّان، وشعبة، وجماعة.
قال ابن ناصر الدّين: كان ثقة حافظا.
وسعيد بن عامر الضّبعيّ أبو محمد البصريّ أحد الأعلام في العلم والعمل. روى عن يونس بن عبيد، وسعيد بن أبي عروبة، وطائفة.
قال أحمد بن حنبل: ما رأيت أفضل منه.
وقال ابن ناصر الدّين: وأخذ عنه أحمد بن حنبل وغيره.
__________
[1] زيادة من «العبر» للذهبي (1/ 354) .
[2] في الأصل: «سادان» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.(3/41)
وقال يحيى القطّان: هو شيخ المصر [1] منذ أربعين سنة. انتهى [2] .
وتوفي في شوال.
وعبد الله بن بكر السّهميّ [3] الباهليّ أبو وهب البصريّ. روى عن حميد الطّويل، وبهز بن حكيم. وطائفة. وكان ثقة مشهورا. توفي في المحرم ببغداد.
والفضل بن الرّبيع بن يونس الأمير، حاجب الرّشيد وابن حاجب المنصور، وهو الذي قام بأعباء خلافة الأمين، ثم اختفى مدة بعد قتل الأمين. توفي في ذي القعدة.
قال ابن الأهدل: هو وزير الرّشيد بدلا عن البرامكة. وقد كان بينه وبينهم إحن [4] وشحناء. دخل يوما على يحيى بن خالد وابنه جعفر يوقّع بين يديه، فعرض عليه الفضل عشر رقاع للنّاس، فلم يوقّع له في واحدة منهن، فجمع رقاعه وقال: ارجعن خائبات، وخرج وهو يقول:
عسى وعسى يثني الزّمان عنانه ... بتصريف حال والزّمان عثور
فتقضى لبانات وتشفى حسائف [5] ... ويحدث [6] من بعد الأمور أمور [7]
والحسائف: الضغائن.
__________
[1] يعني شيخ البصرة.
[2] يعني انتهى نقل المؤلف عن ابن ناصر الدّين.
[3] في المطبوع: «عبد الله بن السهمي» ، وفي «العبر» (1/ 354) : «عبد الله بن أبي بكر» وكلاهما خطأ. وانظر: «الأنساب» للسمعاني (7/ 200) ، و «تقريب التهذيب» لابن حجر (1/ 404) .
[4] أي أحقاد. انظر: «مختار الصحاح» للرازي ص (8) .
[5] في «البداية والنهاية» : «وتشفى حزائر» .
[6] في «البداية والنهاية» : «وتحدث» .
[7] البيتان في «البداية والنهاية» لابن كثير (10/ 263) .(3/42)
فقال له يحيى: عزمت عليك يا أبا العبّاس إلا رجعت، فرجع، فوقّع له فيها كلها. ولم يمتد أمرهم بعدها. وكانت نكبتهم على يديه. انتهى.
وفيها توفيت السيدة نفيسة بنت الأمير حسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب الحسنيّة، صاحبة المشهد بمصر. ولي أبوها إمرة المدينة للمنصور، ثم حبسه دهرا. ودخلت هي مصر مع زوجها إسحاق بن جعفر الصّادق. وتوفيت في شهر رمضان.
قال ابن الأهدل: وقيل: قدمت مصر مع ابنها، وكانت من الصالحات.
سمع عليها الشّافعيّ، وحملت جنازته يوم مات فصلت عليه. ولما ماتت همّ زوجها إسحاق بحملها إلى المدينة فأبى أهل مصر فدفنت بين القاهرة ومصر.
يقال: إن الدعاء مستجاب [1] عند قبرها.
قال الذّهبيّ: ولم يبلغنا شيء من مناقبها، وللجهّال فيها اعتقاد لا يجوز، وقد يبلغ بهم إلى الشرك بالله، فإنهم يسجدون للقبر ويطلبون منه المغفرة.
وكان أخوها القاسم بن حسن زاهدا عابدا.
قلت: وسلسلتها في النسب وسماع الشّافعيّ منها وعليها، وحمله ميتا إلى بيتها، أعظم منقبة، فلم يكن ذلك إلا عن قبول وإقبال وصيت وإجلال، نفع الله بها ومبلغها. انتهى ما قاله ابن الأهدل.
وفيها القاسم بن الحكم العرنيّ [2] الكوفيّ، قاضي همذان [3] . روى
__________
[1] في المطبوع: «يستجاب» .
[2] في «المغني في الضعفاء» : «العريني» وهو خطأ فيصحح فيه.
[3] في الأصل، والمطبوع: «همدان» وهو تصحيف، وما أثبته هو الصواب، لأن «همذان» إقليم في إيران، و «همدان» قبيلة من قبائل العرب.(3/43)
عن زكريّا ابن أبي زائدة [1] وأبي حنيفة، وجماعة. وقد كان أراد الإمام أحمد أن يرحل إليه.
وخرّج له الترمذيّ.
قال في «المغني» [2] : وثقه النسائيّ.
وقال أبو حاتم: لا يحتجّ به. انتهى.
وقريش بن أنس البصريّ. روى عن حميد، وابن عون، وجماعة.
قال النسائيّ: ثقة، إلا أنه تغير. ومات في رمضان.
ومحمّد بن مصعب القرقسانيّ [3] . روى عن الأوزاعي، وإسرائيل، وضعفه النسائيّ وغيره.
وهارون بن عليّ المنجّم الفاضل البغدادي. صنف «تاريخ المولّدين» جمع مائة وأحد وستين شاعرا، افتتحه بذكر بشّار بن برد، وختمه بمحمد بن عبد الملك بن صالح، واختار من شعرهم الزّبد دون الزّبد، وصنف غير ذلك [4] .
ويحيى بن حسّان التّنّيسي، أبو زكريا. روى عن معاوية بن سلّام، وحمّاد بن سلمة وطائفة. وكان إماما حجة من جلّة المصريين. توفي في رجب.
__________
[1] في المطبوع: «زكريا بن يحيى بن أبي زائدة» وهو خطأ، وانظر: «تهذيب الكمال» للمزي (1/ 430) مصورة دار المأمون للتراث بدمشق، و «العبر» للذهبي (1/ 355) ، و «تقريب التهذيب» لابن حجر (1/ 261) .
[2] «المغني في الضعفاء» للذهبي (2/ 518) .
[3] نسبة إلى قرقيسيا بلدة من بلدان جزيرة أقور التي بين نهري دجلة والفرات. انظر: «الأنساب» للسمعاني (10/ 105) ، و «معجم البلدان» لياقوت (4/ 328- 329) .
[4] الذي في «سير أعلام النبلاء» (13/ 404) أنه توفي سنة (288 هـ) وهو كذلك في «الأعلام» للزركلي (8/ 61) بينما ذكره المؤلف هنا فيمن توفي سنة (208) هـ. (ع) .(3/44)
ويحيى بن بكير العبدي، قاضي كرمان. حدّث عن شعبة وأبي جعفر الرّازي، والكبار. وثقه ابن معين وغيره.
قال ابن ناصر الدّين: واسم أبيه قيس بن أبي أسيد بالتصغير. وكان ثقة أخطأ في إسناد واحد مع كثرة حفظه. انتهى.
ويعقوب بن إبراهيم بن سعد الزّهريّ العوفيّ المدنيّ نزيل بغداد.
سمع أباه، وعاصم بن محمد العمري، واللّيث بن سعد. وكان إماما ثقة ورعا كبير القدر.
ويونس بن محمد البغداديّ المؤدّب الحافظ. روى عن شيبان [1] ، وفليح بن سليمان، وطائفة، وتوفي في صفر.
قال ابن ناصر الدّين: يونس بن محمد بن مسلم المؤدّب [2] كان ثقة.
انتهى.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «سفيان» وهو خطأ. والتصحيح من «تهذيب الكمال» للمزي (3/ 1571) ، و «العبر» للذهبي (1/ 356) . وهو شيبان بن عبد الرحمن النحوي.
[2] في الأصل، والمطبوع: «المكتب» .(3/45)
سنة تسع ومائتين
فيها طال القتال بين عبد الله بن طاهر، ونصر بن شبث [1] العقيلي، إلى أن حصره في قلعة ونال منه. فطلب نصر الأمان، فكتب له المأمون أمانا وبعثه إليه، فنزل وهدم الحصن.
وفيها توفي الحسن بن الأشيب أبو عليّ البغدادي قاضي طبرستان بعد قضاء الموصل. روى عن شعبة وحريز بن عثمان وطائفة. وكان ثقة مشهورا.
وحفص بن عبد الله السّلميّ أبو عمرو النيسابوريّ، قاضي نيسابور.
سمع مسعرا، ويونس بن أبي إسحاق. وأكثر عن إبراهيم بن طهمان. ومكث عشرين سنة يقضي بالآثار. وكان صدوقا.
وأبو علي الحنفيّ عبيد الله بن عبد المجيد [2] البصريّ. روى عن قرّة بن خالد، ومالك بن مغول، وطائفة.
__________
[1] تحرفت في الأصل والمطبوع إلى «شبيب» .
[2] في الأصل، والمطبوع: «عبد الحميد» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 357) ، و «تقريب التهذيب» لابن حجر (1/ 536) .(3/46)
وعثمان بن عمر بن فارس العبديّ البصريّ، الرّجل الصالح. روى عن ابن عون، وهشام بن حسّان [1] ، ويونس بن يزيد، وطائفة. توفي في ربيع الأول بالبصرة.
ويعلى بن عبيد الطنافسيّ، أبو يوسف الكوفيّ. روى عن الأعمش، ويحيى بن سعيد الأنصاري، والكبار.
فعن أحمد بن يونس قال: ما رأيت أفضل منه، [وكان يريد بعمله الله تعالى] [2] .
__________
[1] في «العبر» للذهبي (1/ 357) : «هشام بن حبّان» وهو خطأ فيصحح فيه.
[2] زيادة من «العبر» للذهبي (1/ 358) .(3/47)
سنة عشر ومائتين
فيها على ما قاله ابن الجوزي في «الشذور» [1] عرّس المأمون على بوران، ففرش له يوم البناء حصير من ذهب، ونثر عليه ألف حبة من الجوهر، وأشعل بين يديه شمعة عنبر وزنها مائة رطل. ونثر على القواد رقاع بأسماء ضياع. فمن وقعت بيده رقعة أشهد له الحسن بالضيعة. وكان الحسن بن سهل يجري في مدة إقامة المأمون عنده على ستة وثلاثين ألف ملاح، فلما أراد المأمون الإصعاد أمر له بألف ألف دينار، وأقطعه مدينة الصلح.
وقال ابن الأهدل: وفي سنة عشر ومائتين، تزوج المأمون بوران بنت الحسن بن سهل [2] بواسط، وكان عرسا لم يسمع بمثله في الدّنيا، نثر فيه على الهاشميين، والقواد، والوجوه، بنادق مسك فيها رقاع متضمنة لضياع، وجوار، ودواب، ومن وقع في حجره بندقة ملك ما فيها. وأقام أبوها الجيش كله بضعة عشر يوما، فكتب له المأمون بخراج فارس والأهواز سنة، ودخل عليها في الليلة الثالثة من وصوله، فلما قعد عندها نثرت جدّتها ألف درّة، فقال لها: سلي حوائجك. فقالت: الرضى عن إبراهيم بن المهدي [3] ففعل، ولما أصبح جلس للنّاس، فقال له أحمد بن يوسف الكاتب: باليمن
__________
[1] يعني: «شذور العقود في تاريخ العهود» .
[2] في الأصل: «الحسن بن صالح» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب. وانظر:
«الأعلام» للزركلي (2/ 77) .
[3] في الأصل: «إبراهيم المهدي» وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.(3/48)
والبركة، وشدة الحركة، والظفر في المعركة. فقال يعرّض بحيضها:
فارس ماض بحربته ... صادق بالطّعن في الظّلم
رام أن يدمي فريسته ... فاتّقته من دم بدم [1]
انتهى ما قاله ابن الأهدل.
وفيها توفي أبو عمرو الشّيبانيّ، إسحاق بن مرار الكوفيّ اللغويّ صاحب التصانيف، وله تسعون سنة. وكان ثقة علّامة خيّرا فاضلا.
والحسن بن محمد بن أعين الحرّانيّ أبو علي مولى بني أميّة. روى عن فليح بن سليمان، وزهير بن معاوية، وطائفة.
وفيها علي بن جعفر الصّادق بن محمد بن علي بن الحسين العلويّ الحسينيّ. روى عن أبيه، وأخيه موسى، وسفيان الثوريّ، وكان من جلّة السادة الأشراف.
ومحمد بن صالح بن بيهس الكلابيّ، أمير عرب الشّام وسيّد قيس، وفارسها، وشاعرها، والمقاوم لأبي العميطر السفياني والمحارب له، حتّى شتّت جموعه، فولاه المأمون دمشق، وكانت له آثار حسنة.
وفيها مروان بن محمد الطّاطريّ [2] أبو بكر الدّمشقيّ، صاحب سعيد ابن عبد العزيز. كان إماما ثقة متقنا صالحا خاشعا من جلّة الشاميين.
قال الطبرانيّ: كل من يبيع ثياب الكرابيس بدمشق يسمى الطّاطري.
انتهى.
__________
[1] البيتان في «مرآة الجنان» لليافعي (2/ 48) برواية أخرى فيها بعض التحريف.
[2] انظر: «الأمصار ذوات الآثار» للذهبي ص (25) طبع دار ابن كثير.(3/49)
وفيها، أو في التي قبلها- كما جزم به ابن الجوزي، وابن ناصر الدّين- أبو عبيدة معمر بن المثنّى التيميّ البصريّ اللغويّ العلّامة الأخباريّ صاحب التصانيف. روى عن هشام بن عروة، وأبي عمرو بن العلاء. وكان أحد أوعية العلم.
قال ابن ناصر الدّين: حكى عنه البخاريّ في تفسير القرآن لبعض لغاته، وكان حافظا للعلوم، إماما في مصنفاته.
قال الدارقطنيّ: لا بأس به، إلّا أنه يتّهم بشيء من رأي الخوارج.
انتهى.
وقال ابن الأهدل: وفي سنة تسع ومائتين توفي معمر بن المثنّى التيمي- تيم قريش- مولاهم. كان مع استجماعه لعلوم جمة مقدوحا فيه بأنه يرى رأي الخوارج ويدخله في نسبه وغير ذلك. وكانت تصانيفه نحو مائتي مصنف. قرأ عليه الرّشيد شيئا منها.
قال أبو نواس: الأصمعي بلبل في قفص، وأبو عبيدة أديم طوي على علم، وخلف الأحمر جمع علوم النّاس وفهمها.
وإنما قال ذلك، لأن الأصمعيّ كان حسن العبارة، وكان معمر سيء العبارة.
وحضر أبو عبيدة ضيافة لموسى بن عبد الرّحمن الهلالي فوقع على ثوبه المرق، فأقبل موسى يعتذر إليه، فقال: لا عليك فإن مرقكم لا يؤذي.
أي ما فيه دسم.
وله «كتاب المجاز» . وسبب تصنيفه أنه سئل عن قوله تعالى:
طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ 37: 65 [الصافات: 65] . قيل له: إن الوعد والإيعاد لا يكون إلّا بما عرف، وهذا لم يعرف. فقال: خوطب العرب بقدر كلامهم، كقول امرئ القيس:(3/50)
أيقتلني [1] والمشرفيّ مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال [2]
والغول لم يروها قطّ، ولكنها مما يهولهم. وله مع الأصمعيّ مناظرات.
وممن أخذ عنه أبو عبيد القاسم بن سلّام. انتهى كلام ابن الأهدل، والله أعلم.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «أتقبلني» ، وأثبت لفظ «الديوان» .
[2] البيت في «ديوان امرئ القيس» ص (33) بتحقيق الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم، طبع دار المعارف بمصر.(3/51)
سنة إحدى عشرة ومائتين
وفيها أمر المأمون فنودي: برئت الذّمة ممن ذكر معاوية بخير، وأن أفضل الخلق بعد النّبيّ- صلى الله عليه وسلم- عليّ رضي الله عنه [1] .
وفيها توفي [2] أبو الجوّاب أحوص بن جوّاب الكوفيّ. روى عن يونس بن أبي إسحاق، وسفيان الثوري، وجماعة.
وخرّج له مسلم، وأبو داود، والترمذي، وغيرهم.
قال في «المغني» [3] : أحوص بن جوّاب صدوق.
وقال ابن معين: ليس بذاك القوي.
وقال أبو حاتم: صدوق. انتهى.
وأبو العتاهية إسماعيل بن القاسم العنزيّ الكوفيّ الشّاعر المشهور مولى عنزة. مولده بعين التّمر بليدة بالحجاز بقرب [4] المدينة، وأكثر النّاس ينسبونه إلى القول بمذهب الفلاسفة. وكان يقول بالوعيد وتحريم المكاسب، ويتشيّع على مذهب الزيدية. وكان محيّرا وهو من مقدّمي المولّدين، ومن
__________
[1] قلت: هذا كلام لا يجوز إطلاقه على هذا النحو بأيّ حال.
[2] لفظة: «توفي» لم ترد في الأصل، وأثبتها من المطبوع.
[3] «المغني في الضعفاء» (1/ 63) .
[4] في المطبوع: «قرب» .(3/52)
طبقة بشّار بن برد، وأبي نواس. أعطاه المهديّ مرّة سبعين ألفا وخلع عليه.
ولما ترك الشعر حبسه في سجن الجرائم وحبس معه بعض أصحاب زيد الهاشمي، حبس ليدل عليه فأبى، فضربت عنقه.
وقيل لأبي العتاهية: إن قلت الشعر وإلا فعلنا بك مثله. فقاله فأطلقوه.
ويقال: إن أبا نواس وجماعة من الشعراء معه، دعا [1] أحدهم بماء يشربه فقال:
عذب الماء فطابا ثم قال: أجيزوا، فتردّدوا ولم يعلم أحد منهم ما يجانسه في سهولته وقرب مأخذه، حتّى طلع أبو العتاهية، فقالوا: هذا، قال: وفيم أنتم؟ قالوا:
قال أحدنا نصف بيت ونحن نخبط في تمامه. قال: وما الذي قال؟ قالوا:
عذب الماء فطابا فقال أبو العتاهية:
حبّذا الماء شرابا ومن رائق شعره قوله في عتبة جارية الخيزران- وكان يهواها ويشبّب بها- وهو [2] :
بالله يا حلوة العينين زوريني ... قبل الممات وإلّا فاستزيريني
هذان أمران فاختاري أحبّهما ... إليك أو لا فداعي الموت يدعوني
إن شئت موتا [3] فأنت الدّهر مالكة ... روحي وإن شئت أن أحيا فأحيني [4]
__________
[1] لفظة: «دعا» سقطت من الأصل، وأثبتها من المطبوع.
[2] في الأصل: «وهي» وأثبت ما في المطبوع.
[3] في الأصل، والمطبوع: «إن شئت مت» ، وأثبت ما في كتاب «أبو العتاهية أشعاره وأخباره» .
[4] في الأصل، والمطبوع: «فتحييني» ، وأثبت ما في كتاب «أبو العتاهية أشعاره وأخباره» .(3/53)
يا عتب ما أنت إلّا بدعة خلقت ... من غير طين وخلق النّاس من طين
إنّي لأعجب من حبّ يقرّبني ... ممّن يباعدني منه ويقصيني [1]
أمّا الكثير فلا أرجوه منك ولو ... أطمعتني في قليل كان يكفيني [2]
وقوله في تشبيه البنفسج:
ولاز ورديّة تزهو بزرقتها ... بين الرّياض على حمر اليواقيت
كأنّها ورقاق القضب تحملها ... أوائل النّار في أطراف كبريت [3]
قال الشريف العباسي في «شرح الشواهد» : كان أبو العتاهية في أول أمره يتخنّث ويحمل زاملة المخنّثين، ثم كان يبيع الفخار، ثم قال الشعر فبرع فيه وتقدّم.
ويقال: أطبع الناس بالشعر بشار، والسيد الحميري، وأبو العتاهية.
وحدّث خليل بن أسد النّوشجاني [4] : قال: أتى [5] أبو العتاهية إلى منزلنا فقال: زعم الناس أني زنديق، والله ما ديني إلا التوحيد، فقلنا: فقل شيئا نتحدث به عنك، فقال:
ألا إنّنا كلّنا بائد ... وأيّ بني آدم خالد
وبدؤهم كان من ربّهم ... وكلّ إلى ربّه [6] عائد
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «ويعصيني» ، والتصحيح من كتاب «أبو العتاهية أشعاره وأخباره» .
[2] الأبيات في كتاب «أبو العتاهية أشعاره وأخباره» للدكتور شكري فيصل- رحمه الله- ص (652- 653) وبين البيتين السادس والسابع بيتان هما:
لو كان ينصفني مما كلفت به ... إذا رضيت وكان النّصف يرضيني
يا أهل ودّي إنّي قد لطفت بكم ... في الحبّ جهدي ولكن لا تبالوني
[3] البيتان في كتاب «أبو العتاهية أشعاره وأخباره» ص (510- 511) .
[4] في الأصل: «النبرشجاني» ، وفي المطبوع: «الفرشجاني» وكلاهما خطأ، والتصحيح من «الأغاني» (4/ 35) .
[5] في المطبوع: «أتانا» ، وفي «الأغاني» : «جاءنا» .
[6] في الأصل، والمطبوع: «ربهم» ، وأثبت ما في كتاب «أبو العتاهية أشعاره وأخباره» .(3/54)
فيا عجبا كيف يعصى الإل ... هـ أم كيف يجحده الجاحد
وفي كلّ شيء له شاهد [1] ... يدلّ على أنّه واحد [2]
وكان من أبخل النّاس مع يساره وكثرة ما جمع من الأموال.
وأبو العتاهية لقب غلب عليه لأنه كان يحب الشهوة والمجون، فكني بذلك لعتوه. انتهى ملخصا.
وفيها أبو زيد الهرويّ سعيد بن الرّبيع البصريّ، وكان يبيع الثياب الهرويّة [3] . روى عن قرّة بن خالد وطائفة.
وفيها، أو في سنة عشر- وهو الصحيح- يحيى السّيلحيني بن إسحاق [4] . والسّيلحين موضع بالحيرة [5] . كان ثقة صدوقا.
وطلق بن غنّام النخعيّ الكوفيّ كاتب حكم شريك القاضي. روى عن مالك بن مغول وطبقته. وهو وأبو زيد الهروي أقدم من مات من شيوخ البخاري.
وفيها عبد الله بن صالح العجليّ الكوفيّ المقرئ المحدّث، والد الحافظ أحمد بن عبد الله العجلي نزيل المغرب. قرأ القرآن على حمزة.
وسمع من إسرائيل وطبقته، وأقرأ وحدّث ببغداد.
وفيها عبد الرّزّاق بن همّام العلّامة الحافظ أبو بكر الصنعانيّ، صاحب
__________
[1] في كتاب «أبو العتاهية» : «له آية» .
[2] الأبيات في كتاب «أبو العتاهية أشعاره وأخباره» للدكتور شكري فيصل- رحمه الله- ص (103- 104) وبين البيتين الثالث والرابع بيت آخر هو:
ولله في كل تحريكة ... علينا وتسكينة شاهد
[3] في الأصل: «الهرية» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع.
[4] انظر: «الأنساب» للسمعاني (7/ 226) .
[5] انظر خبرها في «معجم البلدان» لياقوت (3/ 298) .(3/55)
المصنفات. روى عن معمر، وابن جريج، وطبقتهما. ورحل الأئمة إليه إلى اليمن. وله أوهام مغمورة في سعة علمه. عاش بضعا وثمانين سنة، وتوفي في شوال.
قال ابن ناصر الدّين: وثقه غير واحد، لكن نقموا عليه التشيّع. انتهى.
وعليّ بن الحسين بن واقد، محدّث مرو، وابن محدّثها. روى عن أبيه، و [عن] أبي حمزة السّكّري [1] .
وخرّج له الأربعة.
قال في «المغني» [2] : علي بن الحسين بن واقد المروزيّ صدوق وثق.
وقال أبو حاتم: ضعيف. انتهى.
ومعلّى بن منصور الرّازيّ الفقيه نزيل بغداد [3] . روى عن اللّيث بن سعد وغيره.
روي أنه كان يصلي فوقع عليه كور الزنابير، فأتم صلاته، فنظروا فإذا رأسه قد صار هكذا من الانتفاخ، وهو من الثقات.
__________
[1] في «العبر» للذهبي (1/ 361) : «السكوني» وهو خطأ فيصحح فيه. وانظر «الأنساب» للسمعاني (7/ 95- 96) ، و «تقريب التهذيب» لابن حجر (2/ 212 و 414) .
[2] «المغني في الضعفاء» (2/ 446) .
[3] في المطبوع: «نزيل ببغداد» .(3/56)
سنة اثنتي عشرة ومائتين
فيها جهّز المأمون جيشا عليهم محمد بن حميد الطّوسيّ لمحاربة بابك الخرّمي.
وفيها أظهر المأمون القول بخلق القرآن مع ما أظهر في العام الماضي من التشيّع، فاشمأزت منه القلوب، وقدم دمشق فصام بها رمضان، ثمّ حجّ بالنّاس.
وفيها توفي الحافظ أسد بن موسى الأمويّ نزيل مصر، ويقال له:
أسد السّنّة. روى عن شعبة وطبقته، ورحل في الحديث، وصنف التصانيف، وهو أحد الثقات الأكياس.
والفقيه أبو حيّان إسماعيل بن حمّاد بن أبي حنيفة الإمام. روى عن مالك بن مغول وجماعة. وولي قضاء الجانب الشرقي ببغداد، ثم ولي قضاء البصرة، وكان موصوفا بالزهد، والعبادة، والعدل في الأحكام.
والحسين بن حفص الهمدانيّ الكوفيّ قاضي أصبهان ومفتيها. أكثر عن سفيان الثّوري وغيره. وكان دخله في العام مائة ألف درهم، وما وجبت عليه زكاة.
وفيها المحدّث خلّاد بن يحيى الكوفيّ بمكة. روى عن عيسى بن طهمان وطبقته، وهو من كبار شيوخ البخاري.(3/57)
وزكريا بن عدي الكوفيّ. روى عن جعفر بن سليمان وطائفة.
قال ابن عوف البزوريّ [1] : ما كتبت عن أحد أفضل منه، وحديثه في «الصحيحين» .
وأبو عاصم النّبيل، الضّحّاك بن مخلد [2] الشيبانيّ محدّث البصرة، توفي في ذي الحجة وقد نيّف على التسعين. سمع من يزيد بن أبي عبيد وجماعة من التابعين. وكان واسع العلم. ولم ير في يده كتاب قطّ.
قال عمر بن شبّة [3] : ما رأيت مثله.
وقال البخاريّ: سمعت أبا عاصم يقول: ما اغتبت أحدا قطّ منذ عقلت أن الغيبة حرام.
وروى عنه أحمد، والبخاريّ، وغيرهما، وهو ثقة متقن.
وفيها أبو المغيرة، عبد القدّوس بن حجّاج الخولانيّ الحمصيّ الحافظ محدّث حمص. سمع الأوزاعيّ وطبقته، وأدركه البخاريّ وهو ثقة.
وفيها الفقيه أبو مروان عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون صاحب مالك. كان فصيحا مفوّها، وعليه دارت الفتيا في زمانه بالمدينة.
وفيها مفتي الأندلس عيسى بن دينار الغافقيّ، صاحب ابن القاسم، وكان صالحا ورعا مجاب الدعوة، مقدّما [4] في الفقه على يحيى بن يحيى
__________
[1] في المطبوع: «البزوزي» وهو تصحيف.
قال السمعاني في «الأنساب» (2/ 198) : البزوري: هذه النسبة إلى البزور، وهي جمع البزر، وعندنا يقال هذا لمن يبيع البزور للبقول وغيرها.
[2] في الأصل، «ابن مجلد» وهو تصحيف، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[3] في الأصل، والمطبوع: «عمر بن شيبة» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي، وكتب الرجال التي بين يدي.
[4] في «العبر» للذهبي (1/ 363) : «متقدما» .(3/58)
وفيها أبو عبد الله محمد بن يوسف الفريابيّ الحافظ، في أول السنة بقيساريّة. أكثر عن الأوزاعيّ والثّوري. أدركه البخاريّ، ورحل إليه الإمام أحمد فلم يدركه، بل بلغه موته بحمص، فتأسّف عليه، وهو ثقة ثبت.(3/59)
سنة ثلاث عشرة ومائتين
فيها توفي أسد بن الفرات الفقيه أبو عبد الله المغربيّ، صاحب مالك، وصاحب «المسائل الأسدية» التي كتبها عن ابن القاسم.
وخالد بن مخلد القطوانيّ، أحد الحفّاظ بالكوفة. رحل وأخذ عن مالك وطبقته.
وقال أبو داود: صدوق شيعيّ.
وعبد الله بن داود الخريبيّ [1] الحافظ الزاهد. سمع الأعمش والكبار. وكان من أعبد أهل زمانه. توفي بالكوفة في شوال وقد نيّف على التسعين، وهو ثقة.
وأبو عبد الرّحمن المقرئ، عبد الله بن يزيد، شيخ مكّة وقارئها ومحدّثها. روى عن ابن عون والكبار، ومات في عشر المائة، وقرأ القرآن سبعين سنة.
وعمرو [2] بن عاصم الكلابيّ الثقة البصريّ. روى عن طبقة شعبة.
قال في «المغني» [3] : صدوق مشهور.
قال بندار: لولا شيء لتركته. انتهى.
__________
[1] في الأصل: «الحريثي» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[2] في الأصل: «عمر» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[3] «المغني في الضعفاء» (2/ 485) .(3/60)
وفيها عبيد الله بن موسى العبسيّ [1] الكوفيّ الحافظ. روى عن هشام بن عروة والكبار، وقرأ القرآن على حمزة، وكان إماما في الفقه، والحديث، والقرآن. موصوفا بالعبادة والصلاح، لكنه من رؤوس الشيعة.
وعمرو بن أبي سلمة التّنّيسيّ [2] الفقيه. وأصله دمشقي. روى عن الأوزاعيّ وطبقته.
قال في «المغني» [3] : ثقة.
وقال أبو حاتم: لا يحتج به. انتهى.
ومحمد بن سابق البغداديّ. روى عن مالك بن مغول وجماعة.
وقيل: توفي في السنة الآتية.
ومحمد بن عرعرة بن البرند الشّاميّ البصريّ. روى عن شعبة وطائفة. توفي في شوال.
وفيها الهيثم بن جميل البغداديّ الحافظ، نزيل أنطاكية. روى عن جرير بن حازم وطبقته، وكان من ثقات المحدّثين وصلحائهم وأثباتهم [4] .
ويعقوب بن محمد الزّهريّ المدنيّ الفقيه الحافظ. روى عن إبراهيم بن سعد وطبقته، وهو ضعيف يكتب حديثه.
وفيها قتل المأمون عليّ بن جبلة الشاعر العكوّك السمين، أحد المبرزين من الموالي في الشعر، وكان ولد أعمى، وقيل: عمي صغيرا من الجدري [5] .
__________
[1] في الأصل: «العنشي» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[2] في الأصل: «التنيشي» وهو تحريف، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[3] «المغني في الضعفاء» (2/ 484) .
[4] راجع ترجمته في «تهذيب الكمال» للمزي (3/ 1454) مصورة دار المأمون للتراث بدمشق.
[5] قلت: يحسن بالقارئ الكريم الرجوع إلى ديوان شعره الذي جمعه وحققه وقدم له الدكتور حسين عطوان، ونشرته دار المعارف بمصر، ففي ذلك فائدة.(3/61)
حكى المبرّد قال: أخبرني علي بن القاسم قال: قال لي عليّ بن جبلة: زرت أبا دلف العجلي، فكنت لا أدخل إليه إلّا تلقّاني ببشره، ولا أخرج عنه إلّا تلافاني ببرّه. فلما أكثر ذلك هجرته أياما حياء منه، فبعث إليّ أخاه معقلا، فقال: يقول لك الأمير: هجرتنا وقعدت عنا، فإن كنت رأيت تقصيرا فيما مضى فاعذر فإننا نتلافاه في المستقبل ونزيد فيما يجب من برّك.
فكتبت إليه بهذه الأبيات:
هجرتك لم أهجرك من كفر نعمة ... وهل يرتجى نيل الزيادة [1] بالكفر
ولكنّني لمّا أتيتك زائرا ... فأفرطت في برّي عجزت عن الشّكر
فم الآن [2] لا آتيك إلّا مسلّما ... أزورك في الشّهرين يوما أو الشّهر
فإن زدتني برّا تزايدت جفوة ... فلا نلتقي طول الحياة إلى الحشر [3]
فلما نظر فيها معقل استحسنها- وكان أديبا شاعرا أشعر من أخيه أبي دلف- فقال: جوّدت والله، وأحسنت، أما إن الأمير سيعجب بهذه الأبيات والمعاني، فلما أوصلها إلى أبي دلف استحسنها وكتب إليّ بهذه الأبيات:
ألا ربّ ضيف [4] طارق قد بسطته ... وآنسته قبل الضيافة بالبشر
أتاني يرجّيني فما حال دونه ... ودون القرى من نائلي عنده ستري [5]
رأيت له [6] فضلا عليّ بقصده ... إليّ وبرّا لا يعادله شكري [7]
فلم أعد أن أدنيته وابتدأته ... ببشر وإكرام وبرّ على برّ
__________
[1] في الأصل: «نيل الزيارة» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[2] كذا في الأصل، والمطبوع: «فم الآن» وفي «تاريخ بغداد» : «فملّان» ، وفي «الأغاني» :
«فها أنا» .
[3] الأبيات في «الأغاني» (20/ 24) ، و «تاريخ بغداد» (9/ 488) منسوبة إلى دعبل.
[4] في الأصل، والمطبوع: «ألا رب طيف» ، والتصحيح من «الأغاني» .
[5] في الأصل، والمطبوع: «مني ومن نائلي شرى» ، وأثبت ما في «الأغاني» .
[6] في «الأغاني» : «وجدت له» .
[7] في «الأغاني» : «يستحق به شكري» .(3/62)
وزوّدته مالا سريعا نفاده [1] ... وزوّدني مدحا يدوم [2] على الدّهر [3]
ووجّه الأبيات مع وصيف وألف دينار، فلذلك قلت فيه قصيدتي الغرّاء التي سارت واشتهرت في العجم والعرب:
إنما الدّنيا أبو دلف ... بين باديه ومحتضره
فإذا ولّى أبو دلف ... ولّت الدّنيا على أثره [4]
حدّث الزّعفرانيّ قال: لما بلغ المأمون قول عليّ بن جبلة في أبي دلف:
كلّ من في الأرض من عرب ... بين باديه إلى حضره
مستعير منك مكرمة ... يكتسيها يوم مفتخره [5]
استشاط غضبا وقال: ويل لابن الزانية، يزعم أنا لا نعرف مكرمة إلّا وهي مستعارة من أبي دلف، وطلبه، فهرب، فكتب في طلبه وأخذه، فحمل إليه، فلما مثل بين يديه قال: يا ابن اللّخناء [6] أنت القائل كيت وكيت؟ وقرأ البيتين. أجعلتنا نستعير المكارم منه. فقال: عنيت أشكال أبي دلف، وأما أنتم فقد أبانكم الله بالفضل عن سائر عباده لما اختصكم به من النّبوّة، والكتاب، والحكمة، والملك، وما زال يستعطفه حتّى عفا عنه.
__________
[1] في «الأغاني» : «قليل بقاؤه» .
[2] في الأصل، والمطبوع: «يقيم» وأثبت لفظ «الأغاني» .
[3] الأبيات في «الأغاني» (20/ 25) .
[4] البيتان في «الورقة» ص (107) ، و «الأغاني» (20/ 15 و 25) ، و «وفيات الأعيان» (3/ 351) ، و «سير أعلام النبلاء» (10/ 192) .
[5] البيتان في «الأغاني» (20/ 41) ، و «وفيات الأعيان» لابن خلكان (3/ 351) ، و «سير أعلام النبلاء» (10/ 192- 193) .
[6] في الأصل: «يا ابن الخناء» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
قال ابن منظور: اللّخن: قبح ريح الفرج، وامرأة لخناء. ويقال: اللّخناء التي لم تختن.
«لسان العرب» (لخن) .(3/63)
وقال بعض الرّواة: قتله، وقال: أما إني لا أستحلّ دمك بهذا القول، ولكني أستحلّه بكفرك وجرأتك على الله سبحانه إذ تقول في عبد ضعيف مهين تسوي بينه وبين ربّ العزّة:
أنت الذي تنزل الأيام منزلها ... وتنقل الدّهر من حال إلى حال
وما مددت مدى طرف إلى أحد ... إلّا قضيت بأرزاق وآجال [1]
ذاك الله- عزّ وجلّ- ثم أمر فسلّ لسانه من قفاه. والأول أصح، وأنه مات حتف أنفه.
ومن مدح العكوّك لحميد بن عبد العزيز الطّوسي:
إنّما الدّنيا حميد ... وأياديه الجسام
فإذا ولّى حميد ... فعلى الدّنيا السّلام [2]
وفيها توفي إسحاق بن مرار النحويّ اللغويّ أحد الأئمة الأعلام.
أخذ عنه أحمد بن حنبل، وأبو عبيد القاسم بن سلّام، ويعقوب بن السّكّيت.
وقال في حقّه: عاش مائة وعشرين سنة، وكان يكتب بيده إلى أن مات رحمه الله تعالى.
__________
[1] البيتان في «الأغاني» (20/ 42) ، و «وفيات الأعيان» (3/ 353) ، و «سير أعلام النبلاء» (10/ 193- 194) .
[2] البيتان في «الورقة» ص (108) ، و «الأغاني» (20/ 37) ، و «وفيات الأعيان» (3/ 352) .(3/64)
سنة أربع عشرة ومائتين
وفيها التقى محمد بن حميد الطّوسيّ وبابك الخرّمي، فهزمهم بابك وقتل الطّوسيّ.
وفيها توجّه [1] عبد الله بن طاهر بن الحسين على إمرة خراسان.
وأعطاه المأمون خمسمائة ألف دينار. وكان عبد الله من آدب النّاس وأعلمهم بأيام العرب. وسيأتي ذكره في سنة ثمان وعشرين ومائتين. عند ذكر وفاته [2] .
وكان من أخصّائه وأخصاء والده عوف بن محلّم [3] الشاعر، اختصّه بمنادمته طاهر بن الحسين، فلما مات طاهر اعتقد عوف أنه يخلص من قيد الملازمة، فلوى عبد الله بن طاهر هذا يده عليه، وتمسّك به، واجتهد عوف على التخلّص منه فلم يقدر، حتّى خرج عبد الله من العراق يريد خراسان وعوف عديله يسامره ويحادثه، فلما شارفوا الرّيّ سحرة وقد أدلجوا، فإذا بقمريّ [4] يغرّد على سروة بأشجى صوت وأرقّ نغمة، فالتفت عبد الله إلى
__________
[1] في «العبر» للذهبي (1/ 366) : «وجّه» .
[2] قلت: الصواب أنه ذكر فيمن توفي سنة (230) انظر ص (137) .
[3] قلت: وكنيته التي اشتهر بها: «أبو المنهال» ، انظر «الأعلام» (5/ 96) .
[4] قال ابن منظور: القمريّ: طائر يشبه الحمام القمر البيض. وانظر تتمة كلامه في «لسان العرب» (قمر) .(3/65)
عوف فقال: ألا تسمع هذا الصوت ما أرقّه وأشجاه، قاتل الله أبا كبير [1] الهذلي حيث يقول:
ألا يا حمام الأيك فرخك [2] حاضر ... وغصنك ميّاد ففيم تنوح [3]
فقال عوف: أيها الأمير أحسن والله أبو كبير [4] وأجاد، إنه كان في هذيل أربعون شاعرا من المحسنين دون المتوسطين، وكان أبو كبير [4] من أشعرهم، وأشهرهم، وأذكرهم، وأقدرهم.
قال عبد الله: أقسمت عليك إلا أجزت له هذا البيت، فقال: أصلح الله الأمير، شيخ مسنّ وأحمل على [5] البديهة وعلى معارضة مثل أبي كبير [6] وهو من قد علمت! فقال: سألتك بحق طاهر إلّا أجزته، فقال:
أفي كلّ عام غربة ونزوح ... أما للنّوى من ونية فيريح
لقد طلّح البين المشتّ ركائبي ... فهل أرينّ البين وهو طليح [7]
وأرّقني بالرّيّ شجو [8] حمامة ... فنحت وذو الشوق المشتّ [9] ينوح
على أنها ناحت ولم تذر عبرة [10] ... ونحت وأسراب الدموع سفوح
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «أبو كثير» وهو خطأ، والتصحيح من «الشعر والشعراء» ص (420) ط. ليدن، و «تاج العروس» (كبر) (14/ 15) ، و «الأعلام» للزركلي (3/ 250) ، واسمه عامر ابن الحليس.
[2] في «فوات الوفيات» : «إلفك» .
[3] البيت في «تاريخ بغداد» (9/ 486) . و «فوات الوفيات» (3/ 163) .
[4] في الأصل، والمطبوع: «أبو كثير» وهو خطأ، كما بينته في التعليق رقم (1) .
[5] لفظة: «على» سقطت من الأصل، وأثبتها من المطبوع.
[6] في الأصل، والمطبوع: «أبو كثير» والصواب ما أثبته.
[7] في «فوات الوفيات» : «طريح» .
[8] في «فوات الوفيات» : «نوح» .
[9] في «فوات الوفيات» : «وذو البثّ الغريب» .
[10] في «فوات الوفيات» : «ولم تذر دمعة» .(3/66)
وناحت وفرخاها بحيث تراهما ... ومن دون أفراخي مهامه فيح
ألا يا حمام الأيك فرخك [1] حاضر ... وغصنك ميّاد ففيم تنوح
أفق لا تنح من غير شيء فإنني ... بكيت زمانا والفؤاد صحيح
ولوعا وشطّت غربة دار زينب ... فها أنا أبكي والفؤاد قريح
عسى جود عبد الله أن يعكس النّوى ... فتضحي [2] عصا التّطواف وهي طليح
فإنّ الغنى يدني الفتى من صديقه ... وعدم الفتى بالمقترين [3] طروح [4]
فاستعبر عبد الله ورقّ له لمّا سمع من تشوّقه إلى أولاده. وقال: يا أبا محلّم ما أحسن ما تلطفت به لحاجتك، وإني والله بك لضنين وبقربك لشحيح، ولكن والله لا جاوزت هذا حتّى ترجع إلى أهلك، وأمر له بثلاثين ألف درهم نفقة، ورحّله وردّه من موضعه، فأدركته المنية قبل وصوله إلى أهله، ولما ردّه عبد الله قال عوف:
يا بن الذي دان له المشرقان ... وألبس الأمن به [5] المغربان
إن الثمانين وبلّغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
وأبدلتني بالنّشاط [6] انحنا ... وكنت كالصّعدة تحت السّنان
وعوّضتني من زماع الفتى ... وهمّه همّ الهجين الهدان
وهمت بالأوطان وجدا بها ... وبالغواني أين مني الغوان
فقرّباني بأبي أنتما ... من وطني قبل اصفرار البنان
__________
[1] في «فوات الوفيات» : «إلفك» .
[2] في «تاريخ بغداد» : «فنلقي» .
[3] في «فوات الوفيات» : «بالمعسرين» .
[4] الأبيات في «فوات الوفيات» (3/ 163) عدا البيتين السابع والثامن، وبعض الأبيات في «تاريخ بغداد» للخطيب (9/ 486- 487) .
[5] في الأصل: «منه» ، وأثبت ما في المطبوع وهو موافق لما في «فوات الوفيات» .
[6] في «فوات الوفيات» : «وبدّلتني بالشطاط» وفي «معجم البلدان» : «وبدلتني من نشاط» .(3/67)
وقبل منعاي إلى نسوة ... أوطانها حوران والرّقّتان
حيا قصور الشّاذياخ [1] الحيا ... من بعد عهدي وقصور المباني [2]
وهذه القصور التي ذكرها كلها بمرو، ونيسابور، وهي مساكن آل طاهر، وكان عوف يألفها لكثرة غشيانه إيّاها ومقامه معهم فيها، فلذلك دعا لها.
ومن شعر عوف:
وكنت إذا صحبت رجال قوم ... صحبتهم وشيمتي [3] الوفاء
فأحسن حين يحسن محسنوهم [4] ... وأجتنب الإساءة إن أساءوا
وأبصر ما يريبهم بعين ... عليها من عيونهم غطاء [5]
وكان عوف من بلغاء الشعراء وفصحائهم واختصت به بنو طاهر ولزمهم لمزيد ميلهم إليه وكثرة منحهم له كأبي الطّيب مع بني حمدان، غير أن عوفا لم يلحقه طمع أبي الطيب الذي فارق له بني حمدان.
وفيها توفي أحمد بن خالد الذّهبيّ الحمصيّ راوي المغازي عن ابن إسحاق، وكان مكثرا حسن الحديث.
وأبو أحمد حسين بن محمد المرّوذيّ [6] المؤدّب ببغداد، ونسبته
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «الشادباخ» وهو خطأ، وأثبت ما في «فوات الوفيات» والشاذياخ: اسم نيسابور القديم. انظر «تاج العروس» (شذخ) .
[2] الأبيات في «معجم البلدان» (5/ 239- 240) وهي في «فوات الوفيات» (3/ 164) عدا الثالث منها، وفي روايتها فيهما بعض الخلاف.
[3] في «فوات الوفيات» : «ونيّتي» .
[4] في المطبوع: «محسونهم» وهو خطأ.
[5] الأبيات في «فوات الوفيات» (3/ 164) مع بعض الخلاف فيها عنده.
[6] ويقال: المرو الرّوذي، انظر: «الأنساب» للسمعاني (11/ 253 و 255) ، و «معجم البلدان» لياقوت (5/ 112) ، و «تاريخ بغداد» للخطيب (8/ 88) ، و «تهذيب الكمال» للمزي (1/ 294) مصورة دار المأمون للتراث بدمشق.
قلت: وقد تحرفت نسبته في «السابق واللاحق» للخطيب ص (186) ، و «تهذيب الكمال»(3/68)
بفتح الميم وضم الراء مع سكون الواو ويليها ذال مكسورة معجمة بعدها ياء النسبة، نسبة إلى مرو الرّوذ من أشهر مدن خراسان، وكان من حفاظ الحديث الثقات. روى عن ابن أبي ذئب، وشيبان [1] ، وأحمد بن حنبل [2] . وروى عنه أحمد أيضا وغيره.
وفيها الفقيه عبد الله بن عبد الحكم أبو محمد المصريّ وله ستون سنة. وكان من جلّة [3] أصحاب مالك. أفضت إليه الرياسة بمصر بعد أشهب، وسمع «الموطأ» على مالك.
يقال: إنه دفع للشّافعيّ عند قدومه ألف دينار، وأخذ له من تاجر ألفا، ومن رجلين آخرين ألفا. وله مصنفات في الفقه، وهو مدفون إلى جانب الشّافعيّ.
وفيها معاوية بن عمرو الأزديّ أبو عمرو البغداديّ الحافظ المجاهد.
روى عن زائدة وطبقته، وأدركه البخاريّ. وكان بطلا شجاعا معروفا بالإقدام.
كثير الرّباط.
__________
(6/ 471) بتحقيق الأستاذ الدكتور بشار عواد معروف، و «العبر» للذهبي (1/ 366) إلى «المروزي» فتصحح. فإن «المروزي» ينسب إلى «مرو الشاهجان» وليس إلى «مرو الرّوز» كما هو معروف.
[1] في «العبر» للذهبي: «وسفيان» وهو خطأ، فيصحح فيه.
[2] لم أقف على ذكر له في عداد من روى عن الإمام أحمد فيما بين يدي من المصادر والمراجع.
[3] في الأصل: «أجلة» ، وأثبت ما في المطبوع وهو موافق لما في «العبر» للذهبي مصدر المؤلف.(3/69)
سنة خمس عشرة ومائتين
فيها دخل المأمون من درب المصّيصة إلى الرّوم، وافتتح حصن قرّة عنوة، وتسلّم ثلاثة حصون بالأمان، ثم قدم دمشق.
وفيها توفي الحافظ إسحاق بن عيسى بن الطّباع البغداديّ نزيل أدنه. سمع الحمّادين وطائفة.
وفيها مفتي أهل بلخ أبو سعيد خلف بن أيوب العامريّ صاحب أبي يوسف. سمع من عوف الأعرابي وجماعة من الكبار، وكان زاهدا قدوة. روى عنه يحيى بن معين والكبار.
وفيها العلّامة أبو زيد الأنصاري سعيد بن أوس البصريّ اللغويّ وله ثلاث وتسعون سنة. روى عن سليمان التيمي، وحميد الطّويل، والكبار.
وصنف التصانيف.
قال بعض العلماء: كان الأصمعيّ يحفظ ثلث اللغة، وكان أبو زيد يحفظ ثلثي اللغة، وكان صدوقا صالحا. وغلبت عليه النوادر كالأصمعيّ، مع أن الأصمعيّ كان يقبّل رأسه ويقول: أنت سيدنا منذ خمسين سنة.
وكان سفيان الثّوري يقول: الأصمعيّ أحفظ [1] الناس، وأبو عبيدة أجمعهم، وأبو زيد أوثقهم.
__________
[1] في المطبوع: «حفظ» وهو خطأ.(3/70)
وكان النّضر بن شميل، وأبو زيد، واليزيديّ في معاملة واحدة.
وصنف أبو زيد في اللغة نحو عشرين مصنفا. وضجر شعبة يوما من إملاء الحديث، فرأى أبا زيد في أخريات الحلقة، فقال:
استعجمت دار ميّ ما تكلّمنا ... والدّار لو كلّمتنا ذات أخبار
ألا تعال يا أبا زيد، فجاءه، فتحادثا وتناشدا الأشعار، فقال له بعض الحاضرين: يا أبا بسطام، نقطّع [1] إليك ظهور الإبل فتدعنا وتقبل على الأشعار؟ فقال: أنا أعلم بالأصلح لي. أنا والله الذي لا إله إلا هو في هذا أسلم مني في ذلك، كأنه يروّح قلبه عند السآمة.
ومثل هذا ما روي أن ابن عبّاس كان يقول لأصحابه: أحمضوا.
وكما قال أبو الدّرداء: إني لأجمّ [2] نفسي بشيء من الباطل لأستعين به على الحق.
وفيها محمد بن عبد الله الأنصاريّ بن المثنى أبو عبد الله قاضي البصرة وعالمها ومسندها. سمع سليمان التّيمي، وحميد، والكبار، وعاش سبعا وتسعين سنة. وهو من كبار شيوخ البخاري، وهو ثقة مشهور.
وفيها محمد بن المبارك الصّوريّ أبو عبد الله الحافظ صاحب سعيد ابن عبد العزيز.
قال يحيى بن معين: كان شيخ دمشق بعد أبي مسهر.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «تقطع» وهو تصحيف، والتصحيح من «مرآة الجنان» لليافعي (2/ 59) المطبوع في مطبعة دائرة المعارف النظامية في حيدر أباد.
[2] في الأصل: «لأجع» ، وفي «مرآة الجنان» : «لأحم» وكلاهما خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
قال ابن منظور: الجمام، بالفتح: الراحة ... ويقال: أجمّ نفسك يوما أو يومين، أي أرحها. ويقال: إني لأستجم قلبي بشيء من اللهو لأقوى به على الحق. «لسان العرب» (جمم) .(3/71)
وقال أبو داود [1] : هذا رجل الشّام بعد أبي مسهر.
وهو شيخ الإسلام. ومن كلامه السديد المتين: كذب من ادعى محبة الله ويده في قصاع المترفين.
وفيها [أبو] السّكن [2] مكي بن إبراهيم البلخيّ الحافظ. روى عن هشام بن حسّان والكبار، وهو آخر من روى من الثقات عن يزيد بن أبي عبيد [3] ، عاش نيفا وتسعين سنة.
وفيها أبو عامر قبيصة بن عقبة السّوائيّ الكوفيّ العابد الثقة. أحد الحفاظ. روى عن فطر بن خليفة [4] وطبقته، وأكثر عن الثّوري، وهو أحد شيوخ الإمام أحمد.
قال إسحاق بن سيّار: ما رأيت شيخا أحفظ منه.
وقال آخر: كان يقال [له] : راهب الكوفة [5] .
وكان هنّاد بن السري إذا ذكره دمعت عيناه، وقال: الرجل الصالح [6] .
وفيها محدّث مرو علي بن الحسن [7] بن شقيق [8] . روى عن أبي
__________
[1] في الأصل: «ابن داود» وهو خطأ. وفي «العبر» : «كان رجل السّنّة بعد أبي مسهر» .
[2] في الأصل، والمطبوع: «وفيها السكن» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 368) .
و «تقريب التهذيب» (2/ 273) .
[3] في الأصل: «يزيد بن عبيد» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[4] في الأصل، والمطبوع: «قطر بن خليفة» وهو تصحيف، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 368) ، وانظر: «تقريب التهذيب» (2/ 114) .
[5] في «العبر» للذهبي (1/ 368) : «كان يقال له: زاهد الكوفة» ، ولفظة: «له» التي بين حاصرتين زيادة منه.
[6] قلت: كذا أرخ وفاته المؤلف، والذهبيّ في «سير أعلام النبلاء» (10/ 135) ، وجزم السمعاني في «الأنساب» (7/ 183) بأن وفاته كانت سنة (225) هـ.
[7] في الأصل، والمطبوع: «علي بن الحسين» وهو خطأ، والتصحيح من «الأنساب» للسمعاني (7/ 95) ، و «تهذيب الكمال» للمزي (2/ 960) مصورة دار المأمون للتراث، و «سير أعلام النبلاء» للذهبي (10/ 349) ، و «العبر» للذهبي (1/ 368) .
[8] في «العبر» للذهبي: «ابن سفيان» وهو خطأ فيصحح فيه.(3/72)
حمزة السّكّري وطائفة. وعنه البخاريّ وغيره. وكان محدّث مرو. وكان حافظا كثير العلم، كثير الكتب. كتب الكثير حتّى كتب التوراة، والإنجيل، وجادل اليهود والنصارى.
ويحيى بن حمّاد البصريّ الحافظ، ختن [1] أبي عوانة. سمع شعبة وطبقته.
وفيها الأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة، إمام العربية، المجاشعيّ البصريّ. كان يقول: ما وضع سيبويه في «كتابه» شيئا إلا وعرضه عليّ. وكان يرى أنه أعلم به مني، وأنا اليوم أعلم به منه. وزاد في العروض بحرا على الخليل [2] ، وكان أجلع [3]- وهو الذي لا تنضم شفتاه على أسنانه [4] ، والخفش: صغر العينين مع سوء بصرهما- ومصنفاته بضعة عشر مصنفا.
وأما الأخفش الأكبر، فهو عبد الحميد بن عبد الحميد. أخذ عنه أبو عبيدة، وسيبويه، وهو مجهول الوفاة.
وأما الأخفش الصغير، فهو عليّ بن سليمان البغداديّ النحويّ. قاله ابن الأهدل [5] .
__________
[1] قال ابن منظور: ختن الرجل: المتزوج بابنته أو بأخته. قال الأصمعيّ ... : الختن أبو امرأة الرجل، وأخو امرأته، وكل من كان من قبل امرأته، والجمع أختان، والأنثى ختنة. وخاتن الرجل الرجل: إذا تزوج إليه، وفي الحديث: عليّ ختن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أي زوج ابنته.
«لسان العرب» (ختن) .
[2] يعني الخليل بن أحمد الفراهيدي صاحب كتاب «العين» .
[3] في الأصل: «أخلع» وهو تصحيف، وأثبت ما في المطبوع، وهو الصواب.
[4] انظر: «لسان العرب» (جلع) ، و (خفش) .
[5] انظر: «مرآة الجنان» (1/ 61 و 267- 268) فهو الأصل الذي اختصره ابن الأهدل وزاد عليه.(3/73)
وفيها كما قاله ابن ناصر الدّين، بدل بن المحبّر [1] اليربوعيّ، حدّث عنه البخاريّ وغيره [2] .
__________
[1] في المطبوع: «ابن محبر» .
قال الزبيديّ في «تاج العروس» (حبر) (10/ 512) : المحبّر: من البراغيث جلده، فبقي فيه حبر، أي آثار.
[2] انظر ترجمته ومصادرها في «تهذيب الكمال» للمزي (4/ 28- 31) طبع مؤسسة الرسالة.(3/74)
سنة ست عشرة ومائتين
فيها عزا المأمون، فدخل الرّوم وأقام بها ثلاثة أشهر، وافتتح أخوه عدة حصون، وأغار جيشه، فغنموا وسبوا، ثم رجع إلى دمشق، ودخل الدّيار المصرية.
وفيها توفي أبو حبيب حبّان [1] بن هلال البصريّ الحافظ الثقة. روى عن شعبة وطبقته.
قال الإمام أحمد: إليه المنتهى في التثبّت بالبصرة.
توفي في رمضان، وكان قد امتنع من التحديث قبل موته بأعوام.
وفيها أبو العلاء الحسن بن سوّار البغويّ نزيل بغداد. روى عن عكرمة بن عمّار وأقرانه. وكان ثقة صاحب حديث.
وعبد الله بن نافع الأسديّ الزّبيريّ المدنيّ الفقيه. روى عن مالك وجماعة، ووصفه الزّبير بن بكّار بالفقه والعبادة والصوم.
وخرّج له مسلم، والأربعة.
قال في «المغني» [2] : عبد الله بن نافع الصائغ عن مالك، وثّق.
__________
[1] في الأصل: «حباب» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع، وهو الصواب، وانظر: «تهذيب الكمال» (5/ 328- 330) طبع مؤسسة الرسالة.
[2] «المغني في الضعفاء» (1/ 360) .(3/75)
وقال البخاري: في حفظه شيء.
وقال أحمد بن حنبل: لم يكن بذاك في الحديث. انتهى.
وعبد الصّمد بن النّعمان البزّاز ببغداد. روى عن عيسى بن طهمان وطبقته، وكان أحد الثقات. ولم تقع له رواية في الكتب الستة.
وفيها العلّامة أبو سعيد عبد الملك بن قريب الباهليّ البصريّ الأصمعيّ اللغويّ الأخباريّ. سمع ابن عون والكبار، وأكثر عن أبي عمرو بن العلاء، وكانت الخلفاء تجالسه وتحب منادمته، وعاش ثمانيا وثمانين سنة، وله عدة مصنفات. قاله في «العبر» [1] .
وقال ابن الأهدل: تصانيفه تزيد على ثلاثين.
روي عنه أنه قال: أحفظ أربعة عشر ألف أرجوزة [2] منها المائة والمئتان.
وكان الشافعيّ يقول: ما عبّر أحد بأحسن من عبارة الأصمعي.
وعنه [3] قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن ثمانية آلاف مسألة، وما مات حتّى أخذ عني ما لا يعرفه فيقبله مني ويعتقده.
وعنه [3] قال: كنت بالبادية طوّافا وأكتب ما سمعت، فقال لي أعرابي:
أنت كالحفظة تكتب لفظ اللفظة، فكتبته أيضا.
وعنه قال: رأيت شيخا بالبادية قد سقط حاجباه [على عينيه] [4] وله مائة وعشرون سنة وفيه بقية، فسألته، فقال: تركت الحسد فبقي الجسد، وأنشد:
ألا أيّها الموت الذي ليس تاركي ... أرحني فقد أفنيت كلّ خليل
__________
[1] (1/ 370) .
[2] في «مرآة الجنان» لليافعي (2/ 94) : «ستة عشر ألف أرجوزة» .
[3] يعني عن الأصمعي.
[4] زيادة من «مرآة الجنان» (2/ 69) . والبيتان فيه.(3/76)
أراك بصيرا بالّذين أحبّهم ... كأنّك تنحو نحوهم بدليل
ونوادره تحتمل مجلدات، وإعطاء الرّشيد والمأمون له واسع.
ولما صنف كتابا في الخيل مجلدا واحدا، وصنف أبو عبيدة في ذلك خمسين مجلدا، امتحنهما الرّشيد، فقرب لهما فرسا فلم يعرف أبو عبيدة أعيان الأعضاء، وأما الأصمعيّ فجعل يسمي كل عضو ويضع يده عليه، وينشد ما قالت العرب فيه. فقال له الرّشيد: خذه. قال: فكنت إذا أردت أن أغضب أبا عبيدة ركبته إليه.
ورثى أبو العالية الشّاميّ [1] الأصمعيّ فقال:
لا درّ درّ نبات [2] الأرض إذ فجعت ... بالأصمعيّ لقد أبقت لنا أسفا
عش ما بدا لك في الدّنيا فلست ترى ... في النّاس منه ولا من علمه خلفا [3]
ومن مسنده عن عائشة- رضي الله عنها- عن النّبيّ- صلى الله عليه وسلم- قال: «إيّاكم ومحقّرات الذّنوب، فإنّ لها من الله طالبا» [4] . وبإسناده عن عليّ- كرم الله وجهه- أنه قال: هذا المال لا يصلحه إلّا ثلاث: أخذه من حلّه، ووضعه في حقّه، ومنعه من السّرف. وبإسناده قال: قال النّبي- صلى الله عليه وسلم- «من أنعم الله عليه، فليحمد الله، ومن
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «السّامي» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» ، و «مرآة الجنان» .
[2] كذا في الأصل، و «تاريخ بغداد» : «نبات الأرض» ، وفي المطبوع، و «وفيات الأعيان» :
«بنات الأرض» ، وفي «مرآة الجنان» : «باب الأرض» .
[3] البيتان في «تاريخ بغداد» للخطيب (10/ 419- 420) ، و «وفيات الأعيان» لابن خلكان (3/ 176) ، و «مرآة الجنان» لليافعي (2/ 76) .
[4] ورواه أيضا أحمد في «المسند» (6/ 70 و 151) والدارمي في «سننه» (2/ 303) وابن ماجة رقم (4243) في الزهد: باب ذكر الذنوب، وابن حبان رقم (5542) بترتيب ابن بلبان، والقضاعي في «مسند الشهاب» (2/ 95) عن عائشة بلفظ «إياك ... » . وله شاهدان من حديث سهل بن سعد وعبد الله بن مسعود بلفظ «إياكم» وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده.(3/77)
استبطأ الرّزق فليستغفر الله، ومن حزبه أمر فليقل: لا حول ولا قوّة إلّا بالله» [1] . وقد أورده الحافظ ابن حجر في «أسماء الرجال» [2] وقال فيه: صدوق سنّيّ. وجعله في الطبقة التاسعة من صغار أتباع التابعين، كالشّافعيّ، ويزيد ابن هارون، وعبد الرّزّاق، وغيرهم. انتهى.
وفيها قاضي دمشق محمّد بن بكّار بن بلال العامليّ. أخذ عن سعيد ابن عبد العزيز وطبقته، وكان من العلماء الثقات.
ومحمد بن سعيد بن سابق الرّازيّ محدّث قزوين. روى عن أبي جعفر الرّازي وطبقته.
وهود بن خليفة الثقفيّ البكراويّ البصريّ الأصمّ، وله إحدى وتسعون سنة. روى عن يونس بن عبيد، وسليمان التيمي، والكبار.
قال الإمام أحمد: ما كان أضبطه عن عوف الأعرابي.
وقال ابن معين: ضعيف.
وأبو يوسف محمد بن كثير الصنعانيّ ثم المصّيصيّ. روى عن الأوزاعي، ومعمر، وكان محدّثا حسن الحديث.
__________
[1] رواه بهذا اللفظ البيهقي في «شعب الإيمان» من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
انظر «كنز العمال» (3/ 259) و «الفتح الكبير في ضم الزيادة إلى الجامع الصغير» (3/ 173) وإسناده ضعيف، ولكن لفقراته شواهد بالمعنى.
[2] يقصد كتابه «تقريب التهذيب» ، وقد نقل عنه (1/ 522) .(3/78)
سنة سبع عشرة ومائتين
في وسطها دخل المأمون بلاد الرّوم، فنازل لؤلؤة [1] مائة يوم، ولم يظفر بها، فترك [2] على حصارها عجيفا [3] فخدعه أهلها وأسروه ثم أطلقوه بعد جمعة، ثمّ أقبل عظيم الرّوم توفيل فأحاط بالمسلمين، فجهّز المأمون نجدة وغضب، وهمّ بغزو قسطنطينيّة، ثم فتر لشدة الشتاء.
وفيها كان الحريق العظيم [4] بالبصرة، حتّى أتى على أكثرها كما قيل [5] .
وفيها، وقيل في التي مضت، توفي الحجّاج بن منهال البصريّ أبو
__________
[1] قلعة قرب طرسوس تقع الآن في الجنوب الأوسط من تركيا المعاصرة. انظر: «معجم البلدان» لياقوت (5/ 26) ، و «أطلس التاريخ العربي» للأستاذ شوقي أبو خليل ص (57) طبع دار الفكر بدمشق.
قلت: ولكن ما جاء في «تاريخ الطبري» (8/ 628) و «معجم البلدان» يشير إلى فتح القلعة آخر الأمر.
[2] في الأصل والمطبوع: «فنزّل» وما أثبته من «العبر» للذهبي (1/ 371) ، وفي «تاريخ الطبري» : «فخلّف» .
[3] هو عجيف بن عنبسة. انظر: «تاريخ الطبري» (8/ 628) .
[4] في «العبر» للذهبي: «الفناء العظيم» .
[5] في المطبوع، و «العبر» : «فيما قيل» .(3/79)
محمد الأنماطيّ السّمسار [1] كان سمسارا بأنماط [2] وكان يأخذ من كل دينار حبة إذا باع بالسّمسرة. حدّث عنه البخاريّ وغيره. وسمع شعبة وطائفة.
وكان ثقة صاحب سنّة.
وفيها شريح بن النّعمان البغداديّ الجوهريّ الحافظ يوم الأضحى.
روى عن حمّاد بن سلمة وطبقته، وكان ثقة مبرّزا.
وفيها موسى بن داود الضبّيّ أبو عبد الله الكوفيّ الحافظ. سمع شعبة وخلقا.
[قال الدارقطنيّ] [3] : كان مصنّفا مكثرا مأمونا.
وقال ابن عمّار: كان ثقة زاهدا صاحب حديث، وولي قضاء طرسوس حتّى مات.
وهشام بن إسماعيل الدّمشقيّ العطّار، أبو عبد الملك، الخزاعيّ القدوة. روى عن إسماعيل بن عيّاش، وكان ثقة.
__________
[1] قال ابن منظور: السمسار: الذي يبيع البرّ للناس ... والسّمسار فارسية معربة، والجمع السّماسرة، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سماهم التّجار، بعد ما كانوا يعرفون بالسماسرة، والمصدر السّمسرة، وهو أن يتوكل الرجل من الحاضرة للبادية فيبيع لهم ما يجلبونه ... وهو في البيع اسم للذي يدخل بين البائع والمشتري متوسطا لإمضاء البيع. وانظر تتمة كلامه في «لسان العرب» (سمسر) .
[2] في «العبر» : «في الأنماط» .
[3] ما بين حاصرتين زيادة من «العبر» للذهبي (1/ 372) مصدر المؤلف.(3/80)
سنة ثماني عشرة ومائتين
فيها احتفل المأمون لبناء مدينة طوانة من أرض الرّوم [1] وحشد لها الصنّاع من البلاد، وأمر ببنائها ميلا في ميل [2] وولّى ولده العبّاس أمر بنائها.
وفيها امتحن المأمون العلماء بخلق القرآن، وكتب في ذلك إلى نائبه على بغداد، وبالغ في ذلك، وقام في هذه البدعة قيام متعبّد بها، فأجاب أكثر العلماء على سبيل الإكراه، وتوقف طائفة ثم أجابوا وناظروا فلم يلتفت إلى قولهم، وعظمت المصيبة بذلك وتهدّد على ذلك بالقتل، ولم يصب [أحد] [3] من علماء العراق إلّا أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح، فقيّدا وأرسلا إلى المأمون وهو بطرسوس. فلما بلغا الرّقّة جاءهم الفرج بموت المأمون.
قال ابن الأهدل: ومرض محمد بن نوح ومات بالطريق، وهو الذي كان يشدّ أزر أحمد ويشجّعه.
ولما مات المأمون عهد إلى أخيه المعتصم، فامتحن الإمام أيضا وضرب
__________
[1] قلت: وتقع الآن في الجنوب الأوسط من تركيا المعاصرة. وانظر «معجم البلدان» (45- 46) .
[2] قال ابن منظور: الميل من الأرض: قدر منتهى مدّ البصر، والجمع أميال وميول. «لسان العرب» : (ميل) .
قلت: ومساحة الميل المربع في أيامنا تساوي ألفا وخمسمئة متر مربع تقريبا.
[3] في الأصل، والمطبوع: «ولم يصف» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 373) ، ولفظة: «أحد» التي بين حاصرتين زيادة منه.(3/81)
بين يديه بالسّياط، حتّى غشي، ثم أطلقه وندم على ضربه، ولحق من تولى ضربه عقوبات ظاهرة.
وكان المأمون يكنى بأبي العبّاس ويسمّى بعبد الله، وكان أبيض ربعة، حسن الوجه، أعين، أديبا، شجاعا، له همّة عالية في الجهاد، ومشاركته في علوم كثيرة. وكان في اعتقاده معتزليا شيعيا. استقل بالخلافة عشرين سنة، ومات وله ثمان وأربعون سنة. انتهى كلام ابن الأهدل.
وقال ابن الفرات: روى يحيى بن حمّاد الموكبيّ عن أبيه قال:
وصفت للمأمون- رحمه الله- جارية بكل ما توصف به امرأة من الجمال والكمال، فبعث في شرائها، فأتي بها في وقت خروجه إلى بلاد الرّوم، فلما همّ بلبس درعه خطرت بباله، فأمر بإخراجها فأخرجت إليه، فلما نظر إليها أعجب بها وأعجبت به، فقالت: ما هذا؟ قال: أريد الخروج إلى بلاد الرّوم، فقالت: يا سيدي قتلتني والله، وتحدّرت دموعها وأنشأت:
سأدعو دعوة المضطرّ ربّا ... يثيب على الدّعاء ويستجيب
لعلّ الله أن يكفيك حربا [1] ... ويجمعنا كما تهوى القلوب [2]
فضمّها المأمون إلى صدره وأنشد:
فيا حسنها إذ يغسل الدّمع كحلها ... وإذ هي تذري دمعها بالأنامل [3]
صبيحة قالت في الوداع [4] قتلتني ... وقتلي بما قالت بتلك المحافل
ثم قال للخادم: احتفظ بها وأصلح لها ما تحتاج إليه من المقاصير
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «أن يكفيك حزنا» ، والتصحيح من «الجليس والأنيس» للنهرواني (1/ 426) المطبوع في بيروت بتحقيق الدكتور محمد مرسي الخولي رحمه الله تعالى.
[2] البيتان في «الجليس والأنيس» للنهرواني (1/ 426) .
[3] في «الجليس والأنيس» : وإذا هي تذري الدمع منها الأنامل.
[4] في «الجليس والأنيس» : «في العتاب» والبيتان فيه (1/ 426) .(3/82)
والجواري إلى وقت رجوعي، فلولا ما قال الأخطل:
قوم إذا حاربوا شدّوا مآزرهم ... دون النّساء ولو باتت بأطهار [1]
لأقمت.
قال [2] : فلما دخلت الجارية إلى منزلها وخرج المأمون اعتلّت علّة شديدة، وورد نعي المأمون- رحمه الله تعالى- فلما بلغها ذلك تنفّست الصعداء وقالت- وهي تجود بنفسها-:
إنّ الزّمان سقانا من مرارته ... بعد الحلاوة كاسات فأروانا
أبدى لنا تارة منه فأضحكنا ... ثمّ انثنى تارة أخرى فأبكانا [3]
ثم شهقت شهقة واحدة فماتت. انتهى.
وحكي أن المأمون أتي بجارية فائقة الجمال بارعة الكمال، وكان في رجلها عرج، فلما نظر إليها المأمون أعجبه جمالها وساءه عرجها، فقال للنخّاس [4] : خذ بيد جاريتك، فلولا عرجها لاشتريتها. فقالت: يا أمير المؤمنين إني وقت حاجتك إليّ تكون رجلي بحيث لا تراها، فأعجبه جوابها وأمر بشرائها، وأن يعطى مولاها ما احتكم، وحظيت عنده.
وكان له حلم شديد، كان يقول: والله إني لأخشى أن لا أثاب على الحلم والعفو لما أرى فيهما من اللّذة، ولو علم النّاس ذلك لتقرّبوا إليّ بالجناية.
وكان حسن المحاضرة، لطيف المسامرة. فمن ذلك ما ذكر أبو الفرج الأصفهاني في كتاب «الأغاني» [5] قال: لمّا تواتر النقل عند المأمون عن
__________
[1] البيت في «ديوانه» ص (120) المطبوع في قطر على نفقة الشيخ على آل ثاني حاكم قطر الأسبق رحمه الله تعالى، و «الجليس الأنيس» (1/ 426) .
[2] القائل ابن الفرات في «تاريخه» .
[3] البيتان في «الجليس والأنيس» (1/ 426- 427) .
[4] يعني لبائع الرقيق. انظر: «لسان العرب» (نخس) .
[5] الخبر في «الأغاني» (20/ 255) وقد نقل المؤلف عنه بتصرّف.(3/83)
يحيى بن أكثم بن محمد بن قطن [1] بن سمعان التميميّ الأسديّ [2] المروزيّ القاضي بأنه يلوط أراد امتحانه، استدعاه وأوصى مملوكا له بأن يقف عندهما وحده، وإذا خرج المأمون يقف المملوك عند يحيى ولا ينصرف، وكان المملوك في غاية الحسن، فلما اجتمعا في المجلس وتحادثا ساعة قام المأمون كأنه يقضي حاجة، فوقف المملوك وتجسس المأمون عليهما، وكان أمره أن يعبث بيحيى، فلما عبث به المملوك، سمعه المأمون وهو يقول: لولا أنتم لكنا مؤمنين، فدخل المأمون وهو ينشد:
وكنّا نرجّي أن نرى العدل ظاهرا ... فأعقبنا بعد الرّجاء قنوط
متى تصلح الدّنيا ويصلح أهلها ... وقاضي قضاة المسلمين يلوط! [3]
وهذان البيتان لأبي حكيمة راشد بن إسحاق الكاتب [4] وله فيه مقاطيع كثيرة. انتهى كلام صاحب «الأغاني» .
وروى الحافظ أبو بكر أحمد صاحب «تاريخ بغداد» في «تاريخه» [5] أن المأمون قال ليحيى بن أكثم من الذي يقول؟:
قاض يرى الحدّ في الزّناء ولا ... يرى على من يلوط من باس
قال: أما تعرف يا أمير المؤمنين من قاله؟ قال: لا. قال: يقوله الفاجر أحمد بن أبي نعيم الذي يقول:
لا أحسب الجور ينقضي وعلى ال ... أمّة وال من آل عبّاس
قال: فأفحم المأمون خجلا وقال: ينبغي أن ينفى أحمد بن أبي نعيم
__________
[1] في الأصل: «ابن وطن» ، وأثبت ما في المطبوع، وهو موافق لما في «تاريخ بغداد» للخطيب (14/ 191) ، و «الأعلام» للزركلي (8/ 138) .
[2] في «الأعلام» للزركلي: «الأسيدي» .
[3] والبيتان في «الأغاني» (20/ 255) ، وفي «وفيات الأعيان» (6/ 155) أيضا.
[4] انظر ترجمته ومصادرها في «فوات الوفيات» لابن شاكر الكتبي (2/ 15- 19) .
[5] (14/ 196) وقد نقل المؤلف عنه بتصرف.(3/84)
إلى السّند، وهذان البيتان من أبيات أولها [1] :
أنطقني الدّهر بعد إخراس ... لنائبات أطلن وسواسي
يا بؤس للدّهر لا يزال كما ... يرفع ناسا يحطّ من ناس
لا أفلحت أمّة وحقّ لها ... بطول نكس وطول إعكاس
ترضى بيحيى يكون سائسها ... وليس يحيى لها بسوّاس
قاض يرى الحدّ في الزّناء ولا ... يرى على من يلوط من باس
يحكم للأمرد الغرير على ... مثل جرير ومثل عبّاس
فالحمد لله كيف قد ذهب ال ... عدل وقلّ الوفاء في النّاس
أميرنا يرتشي وحاكمنا ... يلوط والرّاس شرّ ما راس
لو صلح الدّين واستقام لقد ... قام على النّاس كلّ مقياس
لا أحسب الجور [2] ينقضي وعلى ال ... أمّة وال من آل عبّاس
انتهى.
وحكى أبو الفرج معافى بن زكريا النهرواني [3] في كتاب «الجليس والأنيس» [4] عن محمد [بن مسلم] [5] السّعدي قال: وجّه إليّ القاضي يحيى ابن أكثم قاضي المأمون- رحمهما الله- فصرت إليه، فإذا عن يمينه قمطرة [6] مجلّدة، فجلست، فقال [لي] : افتح هذه القمطرة [7] ففتحتها فإذا بشيء [8]
__________
[1] وهي في «تاريخ بغداد» (14/ 196) و «وفيات الأعيان» (6/ 154) مع بعض الخلاف.
[2] في المطبوع: «لا أحسب الدهر» .
[3] سترد ترجمته في حوادث سنة (390) من المجلد الرابع إن شاء الله تعالى.
[4] (2/ 71- 72) وقد نقل المؤلف عنه بتصرف يسير.
[5] زيادة من «الجليس والأنيس» .
[6] في «الجليس والأنيس» : «قمطر» . والقمطرة: ما يصان فيه الكتب. انظر: «مختار الصحاح» ص (551) .
[7] في «الجليس والأنيس» : «القمطر» .
[8] في «الجليس والأنيس» : «فإذا شيء» .(3/85)
قد خرج إليّ [1] منها، رأسه رأس إنسان، وهو من أسفله إلى سرّته زاغ [2] في [ظهره، و] [3] صدره سلعتان [4] فكبّرت وهلّلت وفزعت، ويحيى يضحك، فقال بلسان فصيح [طلق] [5] ذلق [6] :
أنا الزّاغ أبو عجوة ... أنا ابن اللّيث واللّبوه
أحبّ الرّاح والرّيحا ... ن والنّشوة والقهوه
فلا عدوى يدي تخشى ... ولا تحذر لي سطوة [7]
ولي أشياء تستظرف ... بيوم [8] العرس والدّعوة
فمنها سلعة في الظّه ... ر لا تسترها الفروة
وأمّا السّلعة الأخرى ... فلو كان لها عروه
لما شكّ [9] جميع النّا ... س فيها أنّها ركوة [10]
ثم قال: يا كهل! أنشدني شعرا غزلا، فقال يحيى: قد أنشدك
__________
[1] لفظة: «إليّ» لم ترد في المطبوع، و «الجليس والأنيس» .
[2] قال الفيروزآبادي: الزاغ: غراب صغير إلى البياض. «القاموس المحيط» (3/ 111) .
[3] ما بين حاصرتين زيادة من «الجليس والأنيس» للنهرواني.
[4] السلعة: ورم غليظ غير ملتزق باللحم يتحرك عند تحريكه، وله غلاف، ويقبل الزيادة لأنه خارج عن اللحم ... وزيادة تحدث في الجسد في العنق وغيره، تكون قدر الحمّصة إلى البطيخة. انظر: «القاموس المحيط» (3/ 41) ، و «المعجم الوسيط» (1/ 443) .
[5] زيادة مستدركة من «الجليس والأنيس» .
[6] في الأصل، والمطبوع: «زلق» وهو تحريف، والتصحيح من «الجليس والأنيس» . قال في «مختار الصحاح» ص (223) : ذلق اللسان، أي صار حادا، ويقال أيضا ذلق اللسان بالضم ذلقا بوزن ضرب فهو ذليق بيّن الذّلاقة.
[7] لفظ البيت في الأصل، والمطبوع:
فلا غدري بدا يخسى ... ولا يحذر لي سطوة
وأثبت ما جاء في «الجليس والأنيس» مصدر المؤلف.
[8] في الأصل، والمطبوع: «يوم» ، والتصحيح من «الجليس والأنيس» .
[9] في الأصل، والمطبوع: «لما شكّت» وأثبت ما في «الجليس والأنيس» .
[10] الأبيات في «الجليس والأنيس» (2/ 72) و «حياة الحيوان الكبرى» (الزاغ) .(3/86)
[الزّاغ] [1] فأنشدته:
أغرّك أن أذنبت ثمّ تتابعت ... ذنوب فلم أهجرك ثمّ ذنوب
وأكثرت حتّى قلت ليس بصارمي ... وقد يصرم الإنسان وهو حبيب [2]
فصاح: زاغ زاغ زاغ، ثم طار، وسقط في القمطرة [3] ، فقلت ليحيى:
أعزّ الله القاضي، وعاشق أيضا؟! فضحك، فقلت: أيها القاضي ما هذا؟
فقال: هو ما ترى [4] ، وجّه به صاحب اليمن إلى أمير المؤمنين، وما رآه بعد، وكتب كتابا لم أفضضه وأظنه ذكر فيه [5] شأنه وحاله. انتهى.
وقال ابن خلّكان [6]- رحمه الله-: رأيت في بعض الكتب أن المأمون رحمه الله كان يقول: لو وصفت الدّنيا نفسها لما وصفت بمثل قول أبي نواس:
ألا كلّ حيّ هالك وابن هالك ... وذو نسب في الهالكين عريق
إذا امتحن الدّنيا لبيب تكشّفت ... له عن عدوّ في ثياب صديق [7]
انتهى.
وقال المأمون: الإخوان ثلاث طبقات: طبقة كالغذاء لا يستغنى عنه أبدا، وهم إخوان الصفا، وإخوان كالدواء يحتاج إليهم في بعض الأوقات، وهم الفقهاء. وإخوان كالداء لا يحتاج إليهم أبدا، وهم المنافقون.
وكان سبب وفاة المأمون- رحمه الله تعالى- أنه جلس على شاطئ نهر
__________
[1] سقطت من الأصل، والمطبوع واستدركتها من «الجليس والأنيس» .
[2] البيتان في «سير أعلام النبلاء» (12/ 12- 13) ، ولفظ البيت الثاني منهما فيه:
وأكثرت حتى قلت ليس بصارمي ... وقد يصدم الإنسان وهو حبيب
وقد ساق الذهبي فيه هذه القصة باختصار في ترجمة يحيى بن أكثم.
[3] في المطبوع، و «الجليس والأنيس» : «في القمطر» .
[4] في «الجليس والأنيس» : «قال: هو ما تراه» .
[5] في «الجليس والأنيس» : «وأظن أنه ذكر في الكتاب» .
[6] في «وفيات الأعيان» (2/ 97) .
[7] البيتان في «ديوانه» ص (465) طبع دار صادر، ورواية الأول منهما فيه:
أرى كل حي هالكا وابن هالك ... وذا نسب في الهالكين عريق(3/87)
السّدون ودلّى رجليه في مائه، فأعجبه برد مائه وصفاؤه، فقال: لو أكلنا رطبا وشربنا من هذا الماء البارد لكان حسنا، فلم يخرج الكلام من فيه إلّا ومواقع حوافر خيل البريد أقبلت من آزاد [1] وعليها حقائب الرّطب، فحمد الله تعالى على ذلك وأكل منه، فحمّ وتحركت عليه مادة في حلقه فبطت [2] قبل بلوغها غايتها، فكانت سبب وفاته.
وحال وفاته كتب وصية: هذا ما أشهد به عليه عبد الله بن هارون أمير المؤمنين، أنه يشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له في ملكه، ولا مدبّر غيره، وأنه خالق وما سواه مخلوق، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الموت حق، والبعث والحساب حقّ، والجنّة والنّار حق، وأن محمدا- صلى الله عليه وسلم- بلّغ عن ربه شرائع [3] دينه، وأدّى النصيحة إلى أمته حتّى توفاه الله إليه، فصلى الله عليه أفضل صلاة صلاها على أحد من ملائكته المقربين وأنبيائه والمرسلين، وإني مقرّ بذنبي أخاف وأرجو، إلّا أني إذا ذكرت عفو الله رجوت، فإذا أنا متّ فوجّهوني وغمّضوني، وأسبغوا وضوئي، وأجيدوا كفني، وليصل عليّ أقربكم مني نسبا وأكبركم سنا، وليكبّر خمسا [4] ، ولينزل في حفرتي أقربكم مني قرابة، وضعوني في لحدي، وسدّوا عليّ باللبن، ثم احثوا التراب عليّ وخلّوني وعملي، فكلكم لا يغني عني شيئا، ولا يدفع عني مكروها، ثم قفوا بأجمعكم فقولوا خيرا إن علمتم، وأمسكوا عن ذكر شر إن عرفتم. ثم قال: يا ليت عبد الله لم يكن شيئا، يا ليته لم يخلق. ثم قال لأخيه وولي عهده المعتصم: يا أبا إسحاق ادن مني واتّعظ بما ترى، وخذ
__________
[1] لم أقف على ذكر لها فيما بين يدي من كتب البلدان والأنساب ومعجمات اللغة، ولعلّ الصواب «من آزاذوار» بليدة من أعمال نيسابور، أو «أرّان» والله أعلم. انظر «معجم البلدان» (1/ 167) .
[2] أي انشقّت. انظر «لسان العرب» (بطط) .
[3] في الأصل: «شعائر» وأثبت لفظ المطبوع.
[4] أقول: ثبت في السنة أن التكبير على الجنازة ما بين أربع إلى تسع، وقد كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمه حمزة تسع تكبيرات. (ع) .(3/88)
بسيرة أخيك، واعمل في الخلافة إذا طوّقكها الله عمل المريد لله الخائف من عقابه، ولا تغترّ بالله وإمهاله، فكأن قد نزل بك الموت، ولا تغفل عن أمر الرعية، فإنما الملك يقوم بهم [1] . ولا يتبين لك أمر فيه صلاح المسلمين إلّا وقدّمه على غيره وإن خالف هواك، وخذ من قويّهم لضعيفهم، واتق الله في أمرك كله، والسلام.
ثم قال: هؤلاء بنو عمك لا تغفل عن صلاتهم فإنها واجبة عليك، ثم تلا: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ 3: 102 [آل عمران: 102] . وكانت وفاته يوم الخميس لاثنتي عشرة [2] ليلة بقيت من شهر رجب سنة ثماني عشرة ومائتين، ونقله ابنه العبّاس إلى طرسوس فدفنه بها، ووكل بقبره مائة من الحرس، وأجرى على كل رجل منهم تسعين درهما في كل شهر، وكان له عدة أولاد، لم يشتهر منهم سوى العبّاس، وعليّ، فأما العبّاس فكان مغرما بشراء الضياع والعقار، وكان المعتصم مغرى [3] بجمع المال واقتناء الغلمان والعدة والرجال. قاله ابن الفرات.
وفي هذه السنة عهد المأمون بالخلافة إلى أخيه المعتصم، فأمر بهدم طوانة، وبنقل ما فيها، وبصرف أهلها إلى بلادهم.
وفيها دخل خلق من أهل بلاد همذان [4] في دين الخرّمية المجوس الباطنية، وعسكروا، فندب المعتصم لهم أمير بغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فالتقاهم في ذي الحجّة بأرض همذان فكسرهم وقتل منهم ستّين ألفا وانهزم من بقي إلى ناحية الرّوم.
__________
[1] في الأصل: «فإنما الملك إنما يقوم بهم» ، وأثبت لفظ المطبوع.
[2] في الأصل: «لاثني عشرة» .
[3] أي مولعا. انظر «لسان العرب» (غرا) .
[4] في الأصل: «همدان» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب، فهمدان اسم لقبيلة من قبائل العرب، وهمذان إقليم من أقاليم إيران في أيامنا.(3/89)
وفيها توفي بمصر إسحاق بن بكر بن مضر الفقيه، وكان يجلس في حلقة اللّيث فيفتي ويحدّث.
قال في «العبر» [1] : لا أعلمه يروي عن غير أبيه.
وفيها بشر المريسيّ الفقيه المتكلم، وكان داعية للقول بخلق القرآن. هلك في آخر السنة ولم يشيعه أحد من العلماء، وحكم بكفره طائفة من الأئمة. روى عن حمّاد بن سلمة، وعاش نيفا وسبعين سنة. قاله في «العبر» [2] .
قال ابن الأهدل: كان مرجئا داعية إلى الإرجاء، وإليه تنسب طائفة المريسيّة المرجئة. كان أبوه يهوديا صباغا في الكوفة، وكان يناظر الشّافعيّ وهو لا يعرف النحو [3] فيلحن لحنا فاحشا. انتهى.
وفيها عبد الله بن يوسف التّنّيسيّ الحافظ أحد الأثبات، أصله دمشقي، وسمع من سعيد بن عبد العزيز، ومالك، واللّيث.
وفيها عالم أهل الشّام أبو مسهر الغسانيّ الدمشقيّ عبد الأعلى بن مسهر، في حبس المأمون ببغداد في رجب لمحنة القرآن. سمع سعيد بن عبد العزيز، وتفقه عليه، وولد سنة أربعين ومائة، وكان علّامة بالمغازي والأثر، كثير العلم، رفيع الذّكر.
قال يحيى بن معين: منذ خرجت من باب الأنبار إلى أن رجعت لم أر مثل أبي مسهر.
وقال أبو حاتم: ما رأيت أفصح منه، وما رأيت أحدا في كورة من الكور أعظم قدرا ولا أجل عند أهلها من أبي مسهر بدمشق، إذا خرج اصطفّ النّاس يقبّلون يده.
__________
[1] «العبر في خبر من عبر» (1/ 373) .
[2] (1/ 373) .
[3] في الأصل: «وهو لا يعرف اللحن» وهو خطأ، وأثبت ما جاء في المطبوع، وهو الصواب.(3/90)
وقال ابن ناصر الدّين: هو ثقة.
وفيها عبد الملك بن هشام البصريّ، النحويّ صاحب المغازي.
هذّب السّيرة ونقلها عن البكّائيّ [1] صاحب ابن إسحاق. وكان أديبا أخباريا نسّابة. سكن مصر وبها توفي.
ومحمد بن نوح العجليّ، ناصر السّنّة. حمل مقيّدا مع الإمام أحمد ابن حنبل متزاملين، فمرض ومات بغابة في الطريق، فوليه أحمد ودفنه، وكان في الطريق يثبّت أحمد ويشجّعه.
قال أحمد: ما رأيت أقوم بأمر الله منه.
روى عن إسحاق الأزرق، ومات شابا رحمه الله. قاله في «العبر» [2] .
ومعلّى بن أسد البصريّ، أخو بهز بن أسد. روى عن وهيب بن أسد وطبقته، وكان ثقة مؤدّبا.
ويحيى [بن عبد الله] [3] البابلتّي الحرّاني [أبو سعيد] [3] . روى عن الأوزاعيّ، وابن أبي ذئب، وطائفة، وليس بالقويّ في الحديث.
__________
[1] هو أبو محمد زياد بن عبد الله بن طفيل بن عامر القيسيّ العامريّ من بني صعصعة ثم من بني البكّاء، روى «سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم» عن محمد بن إسحاق، ورواها عنه عبد الملك بن هشام الذي رتبها ونسبت إليه. وكان صدوقا، ثقة، خرّج عنه البخاري في كتاب الجهاد، ومسلم في مواضع من كتابه، وذكر البخاري في «تاريخه» عن وكيع قال: زياد أشرف من أن يكذب في الحديث. وروى عن الأعمش، وروى عنه أحمد بن حنبل، وغيره. وفي حديثه عن غير ابن إسحاق لين. مات سنة (183) هـ. انظر: ترجمته في «تهذيب الكمال» للمزي (1/ 442- 443) مصورة دار المأمون للتراث، و «وفيات الأعيان» لابن خلكان» (2/ 338- 339) ، و «ميزان الاعتدال» للذهبي (2/ 91) ، و «تقريب التهذيب» لابن حجر (1/ 268) ، و «الأعلام» للزركلي (3/ 54) .
[2] (1/ 375- 376) .
[3] زيادة من «الأنساب» للسمعاني (2/ 14) ، و «العبر» للذهبي (1/ 376) ، و «تقريب التهذيب» لابن حجر (2/ 351) ، و «معجم البلدان» لياقوت (1/ 309) .
ونسبته إلى باب لت قرية بالجزيرة بين حران والرّقة. ذكر ذلك ياقوت.(3/91)
سنة تسع عشرة ومائتين
فيها، وقيل: في التي بعدها، امتحن المعتصم الإمام أحمد بن حنبل، وضرب بين يديه بالسّياط حتّى غشي عليه، فلما صمم ولم يجب أطلقه وندم على ضربه. قاله في «العبر» [1] .
وفيها توفي علي بن عيّاش الألهانيّ [2] الحمصيّ الحافظ. محدّث حمص وعابدها. سمع من حريز بن عثمان [3] وطبقته، وذكر فيمن يصلح لقضاء حمص.
وفيها أبو أيوب سليمان بن داود بن علي الهاشميّ العباسيّ. سمع إسماعيل بن جعفر وطبقته، وكان إماما حجّة فاضلا شريفا. روي أن أحمد بن حنبل أثنى عليه، وقال: يصلح للخلافة.
وعالم أهل مكّة الحافظ أبو بكر عبد الله بن الزّبير القرشيّ الحميديّ. روى عن فضيل بن عياض وطبقته، وكان إماما حجّة.
قال أحمد بن حنبل: الحميديّ، والشّافعيّ، وابن راهويه، كل كان [4]
__________
[1] (1/ 376) .
[2] لفظة: «الألهاني» سقطت من الأصل، وأثبتها من المطبوع.
[3] في الأصل: «حرير بن عثمان» ، وفي المطبوع: «جرير بن عثمان» وكلاهما خطأ، والتصحيح من «تقريب التهذيب» لابن حجر (1/ 159) .
[4] لفظة: «كان» سقطت من الأصل، وأثبتها من المطبوع.(3/92)
إماما، أو كلاما هذا معناه. وصحب الحميديّ الشّافعيّ، ووالاه بعد أن كان نافرا عنه، وصحبه في رحلته إلى مصر.
قال ابن ناصر الدّين: حدّث عنه البخاريّ وغيره من كبار الأئمة.
وفيها أبو نعيم الفضل بن دكين الملائيّ الحافظ محدّث الكوفة.
روى عن الأعمش، وزكريا بن أبي زائدة، والكبار.
قال ابن معين: ما رأيت أثبت من أبي نعيم، وعفّان.
وقال أحمد: كان يقظان في الحديث عارفا، وقام في أمر الامتحان بما لم يقم غيره- عافاه الله- وكان أعلم من وكيع بالرّجال وأنسابهم، ووكيع أفقه منه.
وقال غيره: لما امتحنوه، قال: والله عنقي أهون من زرّي هذا، ثم قطع زرّه ورماه.
وقال ابن ناصر الدّين: الفضل بن دكين، هو عمرو بن حمّاد [1] التيميّ مولاهم الكوفيّ الملائيّ التاجر. حدّث عنه أحمد، وإسحاق، والبخاري، وغيرهم. وكان حافظا ثبتا فقيها واسع المجال. شارك الثّوريّ [2] في أكثر من مائة من الرّواة، وكان غاية في إتقان ما حفظه ووعاه. انتهى.
وفيها أبو غسّان مالك بن إسماعيل النّهديّ الكوفيّ الحافظ. روى عن إسرائيل وطبقته.
قال ابن معين: ليس بالكوفة أتقن منه.
وقال ابن ناصر الدّين: مالك بن إسماعيل النّهديّ مولاهم الكوفيّ،
__________
[1] في الأصل: «عمر بن حمّاد» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع، وانظر: «طبقات الحفاظ» للسيوطي ص (159) .
[2] في الأصل: «شارك النووي» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.(3/93)
ثقة، متقن، ذو فضل وأمانة وعبادة [واستقامة، على تشيع فيه. كما كان أبو داود يحكيه. انتهى.
وقال أبو حاتم الرّازيّ: كان ذا فضل وصلاح وعبادة] [1] . كنت إذا نظرت إليه كأنه خرج من قبر، ولم أر بالكوفة أتقن منه، لا أبو نعيم ولا غيره.
وقال أبو داود: كان شديد التشيع.
وفيها أبو الأسود، النّضر بن عبد الجبّار المراديّ المصريّ الزّاهد.
روى عن اللّيث وطبقته.
قال أبو حاتم: صدوق عابد، شبّهته بالقعنبيّ [2] رحمهما الله.
__________
[1] ما بين حاصرتين سقط من الأصل، وأثبته من المطبوع.
[2] في الأصل: «العقنبي» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.(3/94)
سنة عشرين ومائتين
وفيها اتخذ المعتصم سرّ من رأى [1] مسكنا.
وفيها عقد المعتصم للأفشين [2] على حرب بابك الخرّميّ الذي هزم الجيوش وخرّب البلاد منذ عشرين سنة.
ثم جهز محمد بن يوسف الأمين ليبني الحصون التي خرّبها بابك، فالتقى الأفشين [3] ببابك فهزمه وقتل من الخرّمية نحو ألف وهرب بابك إلى موقان [4] ثم جرت لهما أمور يطول شرحها.
وفيها غضب المعتصم على وزيره الفضل بن مروان وأخذ منه عشرة آلاف ألف دينار، ثم نفاه واستوزر محمد بن عبد الملك بن الزّيّات.
وفيها توفي آدم بن أبي إياس الخراسانيّ ثم البغداديّ، نزيل عسقلان. روى عن ابن أبي ذئب، وشعبة، وكان صالحا ثقة قانتا لله. لما احتضر قرأ الختمة ثم قال: لا إله إلا الله، ثم فارق.
__________
[1] مدينة على شاطئ دجلة في العراق. انظر خبرها في «معجم البلدان» لياقوت (3/ 215) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «للأقشين» وهو تصحيف، والتصحيح من «العبر» للذهبي مصدر المؤلف، وانظر: «تاريخ الطبري» (8/ 625) ، و «الكامل» لابن الأثير (6/ 420) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «الأقشين» وهو تصحيف، والتصحيح من المصادر المذكورة في التعليق السابق.
[4] بلدة تقع في أراضي إيران الآن. انظر خبرها في «معجم البلدان» لياقوت (5/ 225- 226) .(3/95)
قال أبو حاتم: ثقة، مأمون، متعبّد.
وخلّاد بن خالد الصّيرفيّ الكوفيّ قارئ الكوفة وتلميذ سليمان. تصدّر للإقراء، وحمل عنه طائفة، وحدّث عن الحسن بن صالح بن حيّ وجماعة.
قال أبو حاتم: صدوق.
وعاصم بن يوسف اليربوعيّ الكوفيّ الخياط. روى عن إسرائيل وجماعة. وروى البخاريّ عن أصحابه.
. وعبد الله بن جعفر الرّقّيّ الحافظ. روى عن عبيد الله بن عمرو الرّقّي وطبقته، وقد تغير حفظه قبل موته بسنتين.
وفيها أبو عمرو عبد الله بن رجاء الغدانيّ [1] بالبصرة يوم آخر السنة.
وكان ثقة حجة، روى عن عكرمة بن عمّار [2] وطبقته.
وعثمان بن الهيثم مؤذّن جامع البصرة في رجب. روى عن هشام بن حسّان [3] وابن جريج، والكبار.
قال أبو حاتم [4] : كان بآخرة [يتلقن ما] يلقن.
وعفّان بن مسلم الأنصاريّ مولاهم البصريّ الصّفّار أبو عثمان أحد أركان الحديث. نزل بغداد ونشر بها علمه، وحدّث عن شعبة وأقرانه.
قال ابن معين [5] : أصحاب الحديث خمسة: ابن جريج، ومالك، والثّوري، وشعبة، وعفّان.
__________
[1] في الأصل: «العداني» وهو خطأ وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب. وانظر: «تقريب التهذيب» (1/ 414) .
[2] في المطبوع: «عكرمة بن حمّاد» وهو خطأ. وأنظر: «تهذيب الكمال» (2/ 680) مصورة دار المأمون للتراث بدمشق.
[3] في «العبر» للذهبي (1/ 380) : «هشام بن حبان» وهو خطأ، فيصحح فيه.
[4] انظر: «الجرح والتعديل» (6/ 172) وما بين حاصرتين زيادة منه.
[5] في المطبوع: «قال يحيى بن معين» .(3/96)
وقال أحمد بن حنبل: كتب المأمون إلى متولّي بغداد يمتحن النّاس، فامتحن عفّان، وكتب المأمون: فإن لم يجب عفّان فاقطع رزقه. وكان له في الشهر خمسمائة درهم. فلم يجبهم، وقال: وَفي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ 51: 22 [الذاريات: 22] .
وقال ابن ناصر الدّين: جعل له عشرة آلاف دينار على أن يقف عن تعديل رجل وعن جرحه، فأبى وقال: لا أبطل حقا من الحقوق.
. وفيها أبو عمر حفص بن عمر الضرير البصريّ، صدوق.
. وقالون القارئ، قارئ أهل المدينة، صاحب نافع، وهو أبو موسى عيسى بن مينا [1] الزهريّ مولاهم المدني.
قال الذهبي في «المغني» [2] : حجة في القراءة لا في الحديث. سئل عنه أحمد بن صالح، فضحك وقال: يكتبون [3] عن كل أحد. انتهى.
. وفيها الشريف أبو جعفر محمد بن علي الرضا بن موسى [4] الحسيني، أحد الاثني عشر إماما الذين تدّعي فيهم الرافضة العصمة، وله خمس وعشرون سنة. وكان المأمون قد نوّه بذكره، وزوّجه بابنته، وسكن بها بالمدينة، فكان المأمون ينفذ إليه في السنة ألف ألف درهم وأكثر، ثم وفد على المعتصم فأكرم مورده، وتوفي ببغداد آخر السنة، ودفن عند جده موسى، ومشهدهما ينتابه العامة بالزيارة.
__________
[1] انظر: «سير أعلام النبلاء» (10/ 326) ، و «معرفة القرّاء الكبار» (1/ 155) ، و «الأعلام» (5/ 110) .
[2] «المغني في الضعفاء» (2/ 502) .
[3] في «المغني في الضعفاء» : «تكتبون» .
[4] في الأصل، والمطبوع: «محمد الجواد بن علي بن موسى الرضا» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 380) ، و «الأعلام» للزركلي (6/ 271) .(3/97)
وفيها أبو حذيفة النّهديّ موسى بن مسعود البصريّ المؤدّب في جمادى الآخرة. سمع أيمن بن بابك وطبقته.
قال أبو حاتم: روى عن سفيان الثّوري بضعة عشر ألف حديث، وكان يصحّف.
قال في «المغني» [1] : موسى بن مسعود أبو حذيفة النّهديّ، صدوق مشهور، من مشيخة البخاري. تكلم فيه أحمد وليّنه.
وقال ابن خزيمة: لا أحدّث عنه.
وقال أبو حفص الفلّاس: لا يروي عنه من يبصر [2] الحديث. انتهى.
__________
[1] «المغني في الضعفاء» (1/ 687) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «يصنف» وأثبت لفظ «المغني في الضعفاء» .(3/98)
سنة إحدى وعشرين ومائتين
فيها كانت وقعة عظمى، فكسر بابك الخرمي بغا الكبير، ثمّ تقوّى بغا وقصد بابك، فالتقوا، فانهزم بابك.
وفيها توفي أبو علي الحسن بن الرّبيع البجليّ البورانيّ القسري [1] الكوفيّ. روى عن قيس بن الرّبيع وطبقته. وهو من شيوخ البخاري، وكان ثقة ثبتا عابدا.
وعاصم بن علي بن عاصم الواسطيّ الحافظ أبو الحسن في رجب.
سمع ابن أبي ذئب، وشعبة، وخلقا. وقدم بغداد، فازدحموا عليه من كل مكان، حتّى حزر مجلسه بمائة ألف، وكان ثقة حجة.
وفيها محدّث مرو وشيخها عبد الله بن عثمان، عبدان [2] المروزيّ.
سمع شعبة، وأبا حمزة السّكّري، والكبار. وعاش ستا وسبعين سنة. وكان ثقة جليل القدر معظّما، تصدّق في حياته بألف ألف درهم، وروى عنه البخاريّ وغيره.
وفيها الإمام الربانيّ أبو عبد الرّحمن عبد الله بن مسلمة [3] بن قعنب الحارثيّ المدنيّ القعنبيّ الزّاهد. سكن البصرة ثم مكّة، وتوفي بها في
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «القصبي» وهو خطأ، والتصحيح من «تهذيب الكمال» (7/ 148) طبع مؤسسة الرسالة.
[2] عبدان، لقب له. (ع) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «عبد الله بن سلمة» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 382) ، و «طبقات الحفاظ» للسيوطي ص (165) .(3/99)
المحرم. روى عن سلمة بن وردان [1] وأفلح بن حميد، والكبار، وهو أوثق من روى «الموطأ» .
وخرّج له أصحاب الكتب الستة.
قال أبو زرعة: ما كتبت عن أحد أجلّ في عيني من القعنبيّ [2] .
وقال أبو حاتم: ثقة حجة، لم أر أخشع منه.
وقال الخريبيّ: حدثني العقنبيّ عن مالك، وهو والله عندي خير من مالك.
وقال الفلّاس: كان القعنبيّ مجاب الدعوة.
وقال محمد بن عبد الوهّاب الفرّاء: سمعتهم بالبصرة يقولون: القعنبيّ من الأبدال.
. وفيها محمد بن بكير الحضرميّ البغداديّ. حدّث بأصبهان [3] عن شريك وطبقته.
وقال أبو حاتم: صدوق يغلط أحيانا.
. وفيها أبو همّام الدلّال محمد بن محبّب. بصريّ مشهور. روى عن الثّوري وطبقته.
وفيها الفقيه هشام بن عبيد الله [4] الرّازيّ الحنفيّ. روى عن [ابن] أبي ذئب [5] ومالك وطبقتهما. وكان كثير العلم، واسع الرّواية. وفيه ضعف.
وقد جاء عنه أنه قال: أنفقت في طلب العلم سبعمائة ألف درهم.
__________
[1] في «العبر» للذهبي: «مسلمة بن وردان» وهو خطأ فيصحح فيه.
[2] تحرّفت نسبته في هذا الموطن وما يليه من الترجمة في الأصل إلى: «العقنبي» . وأثبت ما في المطبوع.
[3] في «العبر» للذهبي (1/ 383) : «بإصبهان» .
[4] في الأصل، والمطبوع: «هشام بن عبد الله» ، وفي «العبر» للذهبي: «همّام بن عبد الله» وكلاهما خطأ، والتصحيح من «المغني في الضعفاء» للذهبي (2/ 711) ، و «تهذيب التهذيب» لابن حجر (11/ 47) .
[5] في الأصل، والمطبوع، و «العبر» للذهبي: «روى عن أبي ذئب» وهو خطأ، والتصحيح من «المغني في الضعفاء» للذهبي.(3/100)
سنة اثنتين وعشرين ومائتين
. فيها [1] التقي الأفشين [2] والخرمية- لعنهم الله- وهزمهم ونجا بابك، فلم يزل الأفشين [2] يتحيل عليه حتّى أسره. وقد عاش [3] هذا الملعون وأفسد العباد والبلاد [4] وامتدت أيامه نيفا وعشرين سنة، وأراد أن يقيم ملة المجوس بطبرستان [واستولى على أذربيجان وغيرها، وفي أيامه ظهر المازيار [5] القائم بملة المجوس بطبرستان] [6] .
وقد بعث المعتصم في أول السنة خزائن أموال إلى الأفشين [7] ليتقوى بها، وكانت ثلاثين ألف ألف درهم.
وافتتحت مدينة بابك في رمضان بعد حصار شديد، فاختفى بابك في
__________
[1] في المطبوع: «فها» وهو خطأ.
[2] في الأصل، والمطبوع: «الأقشين» وهو تصحيف، والتصحيح من «العبر» للذهبي والمصادر الأخرى التي بين يدي.
[3] في المطبوع: «عاث» .
[4] في المطبوع: «البلاد والعباد» .
[5] في الأصل، والمطبوع: «الماربان» وهو خطأ، والتصحيح من «تاريخ الطبري» (9/ 80) ، و «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (6/ 498- 504) ، و «مرآة الجنان» لليافعي (2/ 83) ، وهو مازيار بن قارن.
[6] ما بين حاصرتين سقط من الأصل، وأثبته من المطبوع.
[7] في الأصل، والمطبوع: «الأقشين» .(3/101)
غيضة في الحصن وأسر جميع خواصه وأولاده. وبعث إليهم المعتصم الأمان فخرقه وسبّه. وكان قويّ النفس شديد البطش، صعب المراس. فطلع من تلك الغيضة في طريق يعرفها في الجبل، وانقلب ووصل إلى جبال إرمينية فنزل على البطريق سهل. فأغلق عليه، وبعث يعرّف الأفشين [1] فجاء الأفشينية [2] فتسلّموه، وكان المعتصم قد جعل لمن جاء به حيّا ألفي ألف درهم، ولمن جاء برأسه ألف ألف درهم، وكان دخوله بغداد يوما مشهودا.
وفيها توفي أبو اليمان الحكم بن نافع البهرانيّ الحمصيّ الحافظ.
روى عن حريز بن عثمان [3] وطبقته، وكان ثقة حجة كثير الحديث. ولد سنة ثمان وثلاثين ومائة، ومات في ذي الحجة. وقد سئل أبو اليمان مرّة عن حديث لشعيب بن أبي حمزة فقال: ليس هو مناولة، لم أخرجها إلى أحد.
. وعمر بن حفص بن غياث الكوفيّ. روى عن أبيه وطبقته، ومات كهلا في ربيع الأول، وكان ثقة متقنا عالما.
. وفيها أبو عمرو مسلم بن إبراهيم الفراهيديّ مولاهم البصريّ القصّاب الحافظ محدّث البصرة. سمع من ابن عون حديثا واحدا، ومن قرّة ابن خالد، ولم يرحل، لكن سمع من ثمانمائة شيخ بالبصرة، وكان ثقة حجة أضرّ [4] بآخرة، وكان يقول: ما أتيت حراما ولا حلالا قطّ، أي لم يفعل إلّا فرضا أو سنّة. توفي في صفر.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «الأقشين» .
[2] في الأصل، والمطبوع: «الأقشينية» وهو خطأ، والصواب ما أثبته.
[3] في الأصل: «جرير بن عثمان» ، وفي المطبوع: «جرير بن عبد الحميد» وكلاهما خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 384) وانظر «تهذيب الكمال» (1/ 315) مصوّرة دار المأمون للتراث.
[4] في الأصل: «أخبر» ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.(3/102)
وفيها فقيه حمص ومحدّثها، يحيى بن صالح الوحاظيّ [1] . ولد سنة سبع وثلاثين ومائة، وسمع من سعيد بن عبد العزيز، وفليح بن سليمان، وطبقتهما. وعيّن لقضاء حمص.
قال العقيليّ: هو حمصيّ جهميّ.
وقال الجوزجاني: كان مرجئا خبيثا.
ووثقه غيره.
__________
[1] في الأصل: «الوضاطي» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.(3/103)
سنة ثلاث وعشرين ومائتين
. فيها أتى المعتصم ببابك الخرّمي.
قال ابن الجوزي في «الشذور» : أنبأنا محمد بن عبد الباقي، أنبأنا علي ابن الحسن [1] عن أبيه، أن أخا بابك الخرمي قال له لما دخل على المعتصم:
يا بابك! إنك قد عملت ما لم يعمل أحد، فاصبر الآن صبرا لم يصبره أحد.
فقال له: سترى صبري، فأمر المعتصم بقطع أيديهما بحضرته، فبدأ ببابك، فقطعت يمينه، فأخذ الدم فمسح به وجهه، وقال: لئلا يرى في وجهي صفرة فيظن أني جزعت من الموت. ثم قطعت أربعته وضربت عنقه وقذف في النّار. وفعل ذلك بأخيه، فما فيهما من صاح.
وخرج المعتصم إلى عموريّة فقتل ثلاثين ألفا وسبى مثلها، وطرح فيها النّار وجاء ببابها إلى العراق، فهو الذي يسمى باب العامة. انتهى.
وتوجّ المعتصم الأفشين ووصله بعشرين ألف ألف درهم، نصفا له ونصفا لعسكره [2] .
__________
[1] في المطبوع: «علي بن المحسن» ولم أقف على ذكر له فيما بين يدي من المصادر.
قال السمعاني في تلميذه محمد بن عبد الباقي في «الأنساب» (12/ 94) حدّث عن شيوخ له لم يحدّث عنهم أحد في عصره.
قلت: ولعل شيخه علي بن الحسن منهم، والله أعلم.
[2] في المطبوع: «نصفها له ونصفها لعسكره» .(3/104)
وفيها التقى المسلمون وعليهم الأفشين وطاغية الرّوم، فاقتتلوا أياما وكثرت القتلى، ثم انهزم الملاعين، وكان طاغيتهم في هذا الوقت توفى [1] ابن ميخائيل بن جرجيس- لعنهم الله- نزل على زبطرة [2] في مائة ألف أياما وافتتحها بالسيف، ثم أغار على ملطية، ثم أذلّه الله بهذه الكسرة.
وفيها توفي خالد بن خداش المهلّبيّ البصريّ المحدّث في جمادى الآخرة. روى عن مالك وطبقته، وخرّج له البخاريّ في «التاريخ» ومسلم، والنسائي.
قال أبو حاتم، وغيره: صدوق.
وقال ابن المديني: ضعيف.
وفيها أبو الفضل صدقة بن الفضل المروزيّ عالم أهل مرو ومحدّثهم. رحل وكتب عن ابن عيينة وطبقته. وأقدم شيخ له أبو حمزة السّكّري.
قال بعضهم: كان ببلده كأحمد بن حنبل ببغداد.
وفيها عبد الله بن صالح أبو صالح الجهنيّ المصريّ الحافظ. كاتب اللّيث بن سعد. توفي في يوم عاشوراء وله ستّ وثمانون سنة. حدّث عن معاوية بن صالح وعبد العزيز [بن] الماجشون [3] وخلق.
قال ابن معين: أقل أحوال أبي صالح أنه قرأ هذه الكتب على اللّيث فأجازها له.
__________
[1] في «العبر» للذهبي: «تيوفيل» وهو خطأ فيصحح فيه.
[2] في الأصل، والمطبوع: «ريطرة» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 386) .
و «معجم البلدان» لياقوت (3/ 130) . وهي بلدة في الجنوب الأوسط من تركيا المعاصرة جنوب ملطية. انظر «أطلس التاريخ العربي» للأستاذ شوقي أبو خليل ص (9) طبع دار الفكر بدمشق.
[3] في الأصل: «عبد العزيز الماجشوني» ، وفي المطبوع: «عبد العزيز الماجشون» وأثبت ما في(3/105)
وقال ابن ناصر الدّين: روى عنه البخاري في «الصحيح» وله مناكير.
وقال الفضل الشعراني: ما رأيت عبد الله بن صالح إلّا يحدّث أو يسبّح.
وضعفه آخرون كما قال في «العبر» [1] .
وفيها أبو بكر بن أبي الأسود، واسمه عبد الله بن محمد بن حميد، قاضي همذان. سمع مالكا وأبا عوانة. وكان حافظا متقنا.
وأبو عثمان عمرو بن عون الواسطيّ. سمع الحمّادين وطائفة.
قال أبو حاتم: ثقة حجة.
وكان يحيى بن معين يطنب في الثناء عليه.
وقال ابن ناصر الدّين: هو ابن أخت عبد الرّحمن بن مهدي، حدّث عنه البخاريّ وغيره. وكان ثبتا متقنا. انتهى.
. وفيها محمد بن سنان العوقي [2] أبو بكر البصريّ أحد الأثبات. روى عن جرير بن حازم وطبقته.
. وفيها أبو عبد الله محمد بن كثير العبديّ البصريّ المحدّث. روى عن حمّاد بن سلمة وطبقته.
قال ابن معين: كيّس صادق كثير الحديث.
وفيها معاذ بن أسد بالبصرة، وهو مروزيّ. روى عن ابن المبارك وكان كاتبه.
وموسى بن إسماعيل أبو سلمة المنقري التّبوذكيّ البصريّ الحافظ، «العبر للذهبي مصدر المؤلف وهو الصواب.
__________
[1] (1/ 387) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «العوفي» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 388) ، وانظر «الأنساب» للسمعاني (9/ 91) .(3/106)
أحد أركان الحديث. سمع من شعبة [1] حديثا واحدا [2] وأكثر عن حمّاد بن سلمة وطبقته.
قال عبّاس الدّوري: كتبت عنه خمسة وثلاثين ألف حديث.
وقال ابن ناصر الدّين: ثقة.
والحسن البورانيّ، على ما ذكره ابن ناصر الدّين، وقال: هو ثقة، وشيخ للبخاري [3] .
__________
[1] في «العبر» للذهبي: «من سعيد» وهو خطأ فيصحح فيه.
[2] كذا جزم الذهبي في «العبر» بأنه سمع من شعبة حديثا واحدا، ونقله عنه المؤلف. وقال المزي في «تهذيب الكمال» (3/ 1382) مصورة دار المأمون للتراث: يقال حديثا واحدا.
[3] تقدمت ترجمته في وفيات سنة (221) وانظر «الأنساب» للسمعاني (2/ 334) ، و «طبقات الحفاظ» للسيوطي ص (221) .(3/107)
سنة أربع وعشرين ومائتين
فيها زلزلت مدينة فرغانة فمات منها أكثر من خمسة عشر ألفا، قاله [1] في «الشذور» .
وفيها ظهر مازيار بطبرستان، وخلع المعتصم، فسار لحربه عبد الله ابن طاهر، وظلم مازيار وعسف، وصادر، وخرّب أسوار آمل، والرّي، وجرجان، وجرت له حروب وفصول، ثم اختلف [2] عليه جنده، إلى أن قتل في السنة الآتية.
وفيها توفي الأمير إبراهيم بن المهدي بن محمد المنصور العباسي الأسود، ولذلك ولضخامته يقال: له التنين. ويقال له: ابن شكله، وهي أمه. وكان فصيحا أديبا [3] شاعرا محسنا [4] رأسا في معرفة الغناء وأنواعه.
ولي إمرة دمشق لأخيه الرشيد، وبويع بالخلافة ببغداد، ولقب بالمبارك [5] عند ما جعل المأمون ولي عهده علي بن موسى الرضا، فحاربه الحسن بن
__________
[1] يعني الحافظ ابن الجوزي، واسم كتابه المذكور «شذور العقود في تاريخ العهود» .
[2] في المطبوع: «اختف» وهو خطأ.
[3] كذا في الأصل، و «العبر» للذهبي: «فصيحا أديبا» وفي المطبوع: «أديبا فصيحا» .
[4] لفظة «محسنا» سقطت من «العبر» فتستدرك فيه.
[5] في الأصل، والمطبوع: «المبارك» وأثبت ما في «العبر» للذهبي.(3/108)
سهل فانكسر، ثم حاربه حميد الطّوسي، فانكسر جيش إبراهيم وانهزم فاختفى، وذلك في سنة ثلاث، وبقي في الاختفاء سبع سنين، ثم ظفروا به وهو في إزار، فعفا عنه المأمون، وذلك لأنه استشار خاصته في أمره، فكلّ أشار بقتله قائلا: من ذاق حلاوة الخلافة لا تصح [1] منه توبة إلّا يحيى بن أكثم [2] فإنه أجاب بما معناه: لقد سمعنا بمن جنى كجنايته كثيرا، وإنه إذا قدر عليه قتل، ولم نسمع أنه إذا قدر عليه عفي عنه، فاجعل عفوك عنه خيرا ومكرمة تذكر إلى آخر الدّهر، فقبل رأي يحيى وأطلقه مكرما.
وفيها إبراهيم بن أبي سويد البصريّ، الذّارع، أحد أصحاب الحديث. روى عن حمّاد بن سلمة وأقرانه.
قال أبو حاتم: ثقة رضي.
وأيوب بن سليمان بن بلال، له نسخة صحيحة يرويها عن عبد الحميد بن أبي أويس، عن أبيه، عن سليمان بن بلال، ما عنده سواها.
وفيها أبو العبّاس حيوة بن شريح [3] الحضرميّ الحمصيّ الحافظ.
سمع إسماعيل بن عيّاش وطائفة.
وربيع بن يحيى الأشنانيّ البصريّ. يروي [4] عن مالك بن مغول والكبار، وكان ثقة صاحب حديث.
وبكّار بن محمّد بن عبد الله بن محمد بن سيرين السّيرينيّ. روى عن ابن عون والكبار، وفيه ضعف يسير.
وقال في «المغني» [5] : عن ابن عون.
__________
[1] في المطبوع: «لا يصح» .
[2] في المطبوع: «يحيى بن أكتم» وهو خطأ.
[3] في الأصل، والمطبوع: «حياة بن شريح» وهو خطأ، والتصحيح من «طبقات الحفاظ» للسيوطي ص (80) وغيره من كتب الرجال.
[4] في المطبوع: «روي» .
[5] «المغني في الضعفاء» (1/ 111) .(3/109)
قال أبو زرعة: ذاهب الحديث انتهى.
وفيها سعيد بن أبي مريم الحكم بن محمّد بن سالم الجمحيّ مولاهم المصريّ الثقة، أحد أركان الحديث، وله ثمانون سنة. روى عن يحيى بن أيوب، وأبي غسّان محمد بن مطرّف. وطبقتهما من المصريين والحجازيين.
وفيها قاضي مكّة أبو أيوب سليمان بن حرب الأزديّ الواشحيّ البصريّ الحافظ في ربيع الآخر، وهو في عشر التسعين. سمع شعبة وطبقته.
قال أبو داود: سمعته يقع في معاوية، وكان بشر الحافي يهجره لذلك وكان لا يدلّس ويتكلم في الرّجال، وقرأ الفقه، وقد ظهر من حديثه نحو عشرة آلاف حديث، وما رأيت في يده كتابا قطّ، وحضرت مجلسه ببغداد فحزر بأربعين ألفا، وحضر جلسه المأمون من وراء ستر.
وقال ابن ناصر الدّين: هو ثقة ثبت.
وفيها أبو معمر المقعد، وهو عبد الله بن عمرو المنقريّ مولاهم البصريّ الحافظ، صاحب عبد الوارث.
قال ابن معين: ثقة ثبت.
وقال ابن ناصر الدّين: كنيته أبو معمر [1] ، حدث عن البخاري وغيره، وهو ثقة.
وفيها عمرو بن مرزوق الباهليّ مولاهم البصريّ الحافظ. روى عن مالك بن مغول وطبقته.
قال محمد بن عيسى بن السّكن [2] : سألت ابن معين عنه فقال: ثقة
__________
[1] في الأصل: «أبو عمرو» وفي المطبوع: «أبو عمر» وكلاهما خطأ، والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» للذهبي (10/ 622) وغيره من كتب الرجال.
[2] في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (10/ 419) : «محمد بن عيسى بن أبي قماش» .(3/110)
مأمون صاحب غزو [1] وحمده [جدا] [2] .
وفيها أبو الحسن علي بن محمد المدائنيّ البصريّ الأخباريّ صاحب التصانيف والمغازي والأنساب، وله ثلاث وتسعون سنة. سمع ابن أبي ذئب وطبقته، وكان يسرد الصوم، ووثقه ابن معين وغيره.
وفيها العلّامة العلم، أبو عبيد القاسم بن سلّام البغداديّ، صاحب التصانيف. سمع شريكا، وابن المبارك، وطبقتهما.
وقال إسحاق بن راهويه: الحق يحبّه الله [3] ، أبو عبيد أفقه مني وأعلم.
وقال أحمد: أبو عبيد أستاذ.
وقال ابن ناصر الدّين: هو ثقة إمام فقيه، مجتهد، أحد الأعلام، وكان [4] إماما في القراءات، حافظا للحديث وعلله الدقيقات، عارفا بالفقه والتعريفات، رأسا في اللغة، ذا مصنفات. انتهى.
وقال ابن الأهدل: قيل إنه أول من صنف غريب الحديث، وصنف نيفا وعشرين كتابا.
وعنه [5] قال: مكثت في «الغريب» أربعين سنة. ووقف عليه عبد الله بن طاهر [6] فاستحسنه وقال: إن عقلا دعا صاحبه إلى مثل [7] هذا حقيق أن لا يحوج إلى طلب المعاش، وأجرى له كل شهر عشرة آلاف درهم. ولي القضاء بمدينة طرسوس ثماني عشرة سنة، وكان يقسم الليل أثلاثا [8] : صلاة،
__________
[1] في الأصل: «صاحب عزو» وهو تصحيف، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[2] زيادة من «سير أعلام النبلاء» .
[3] في الأصل والمطبوع: «يجب الله» ، والتصحيح من «تهذيب التهذيب» (8/ 316) . (ع)
[4] في الأصل: «كان» وأثبت ما في المطبوع.
[5] يعني عن أبي عبيد.
[6] سترد ترجمته في حوادث سنة (230) من هذا المجلد.
[7] في المطبوع: «لمثل» .
[8] في الأصل: «ثلاثا» وأثبت ما في المطبوع.(3/111)
ونوما، وتصنيفا. وكان أحمر الرأس واللحية، يخضب بالحناء، وكان مهيبا.
توفي بمكّة بعد أن حجّ وعزم على الانصراف إلى العراق مع الناس. قال فرأيت النّبيّ- صلى الله عليه وسلم- وأردت الدخول عليه فمنعت وقيل لي [1] : لا تدخل عليه ولا تسلم وأنت خارج إلى العراق. فقلت: لا أخرج إذا، فأخذوا عهدي على ذلك وخلّوا بيني وبينه، فسلمت عليه وصافحني. فأقام بمكّة حتّى مات.
وعنه قال: كنت مستلقيا بالمسجد الحرام، فجاءتني عائشة المكية وكانت من العارفات، فقالت: يا أبا عبيد لا تجالسه إلّا بأدب وإلا محاك من ديوان العلماء والصالحين.
وقال هلال بن العلاء الرّقّي: من الله سبحانه على هذه الأمة بأربعة في زمانهم: الشافعيّ، ولولاه ما تفقه الناس في حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وأحمد ولولاه ابتدع الناس، ويحيى بن معين نفى الكذب عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وأبي عبيد فسّر غريب الحديث، ولولاه اقتحم النّاس الخطأ.
وكان أبو عبيد موصوفا بالدّين، وحسن المذهب، والسيرة الجميلة، والفضل البارع، وأثنى عليه علماء وقته بما يطول ذكره. انتهى.
وكان أبو عبدا روميا لرجل من أهل هراة.
وفيها أبو الجماهر محمد بن عثمان التنوخيّ الكفرسوسيّ. سمع سعيد بن عبد العزيز وطبقته.
قال أبو حاتم: ما رأيت أفصح منه ومن أبي مسهر.
وقال ابن ناصر الدّين: هو ثقة.
وفيها أبو جعفر محمد بن عيسى بن الطّبّاع الحافظ، نزيل الثّغر بأذنه [2] . سمع مالكا وطبقته.
__________
[1] في المطبوع: «فقيل لي» .
[2] في الأصل، والمطبوع: «بأدنه» وهو خطأ، والتصحيح من «معجم البلدان» لياقوت(3/112)
قال أبو حاتم: ما رأيت أحفظ للأبواب منه.
وقال أبو داود: كان يتفقه ويحفظ نحوا من أربعين ألف حديث.
وفيها أبو النّعمان محمد بن الفضل- ويعرف بعارم- السّدوسيّ البصريّ الحافظ، أحد أركان الحديث. روى عن الحمّادين وطبقتهما، ولكنه اختلط بآخره، وكان سليمان بن حرب يقدمه على نفسه، وكان حافظا ثبتا قد اختلط بآخره وزال عقله فيما يذكر، ولم يظهر له بعد اختلاطه فيما قاله الدارقطني شيء منكر. قاله ابن ناصر الدّين.
وفيها على ما ذكره ابن ناصر الدّين، يزيد بن عبد ربّه الزّبيديّ الجرجسيّ [1] الثبت.
__________
(1/ 132) . قلت: وهي الآن في الجنوب الأوسط من تركيا المعاصرة، وتعرف في أيامنا ب «أضنة» .
[1] قال السمعاني في «الأنساب» (3/ 225) : كان ينزل بحمص عند كنيسة جرجس فنسب إليها.
وانظر «تذكرة الحفاظ» للذهبي (1/ 423- 424) .(3/113)
سنة خمس وعشرين ومائتين
فيها على ما قاله في «الشذور» كانت رجفة بالأهواز عظيمة تصدّعت منها الجبال، وهرب أهل البلد إلى البر وإلى السفن، وسقطت فيها دور كثيرة، وسقط نصف الجامع، ومكثت ستة عشر يوما.
وفيها احترقت الكرخ، فأسرعت النّار في الأسواق، فوهب المعتصم للتجار وأصحاب العقار خمسة آلاف ألف درهم.
وفيها توفي الفقيه أصبغ بن الفرج أبو عبد الله المصريّ الثقة مفتي أهل مصر، وورّاق [1] ابن وهب. أخذ عن ابن وهب، وابن القاسم، وتصدّر للاشتغال [2] والحديث.
قال ابن معين: كان من أعلم خلق الله كلهم برأي مالك، يعرفها مسألة مسألة متى قالها مالك ومن خالفه فيها.
وقال أبو حاتم: هو أجلّ أصحاب ابن وهب.
وقال بعضهم: ما أخرجت مصر مثل أصبغ.
وقد كان ذكر لقضاء مصر، وله مصنفات حسان.
__________
[1] في الأصل: «وراوي» وأثبت ما في المطبوع، وانظر «تهذيب التهذيب» (1/ 361) .
[2] في المطبوع: «للاشغال» .(3/114)
وفيها حفص بن عمر [1] أبو عمر الحوضيّ الحافظ بالبصرة. روى عن هشام الدّستوائي والكبار.
قال أحمد بن حنبل: [ثقة] [2] ثبت، متقن [3] ، لا يوجد عليه حرف واحد.
وقال ابن ناصر الدّين: هو ثقة.
وفيها سعدويه الواسطي، سعيد بن سليمان الحافظ ببغداد. روى عن حمّاد بن سلمة وطبقته.
قال أبو حاتم: ثقة مأمون لعله أوثق من عفّان.
وقال صالح جزرة: سمعت سعدويه يقول: حججت ستين حجة.
وقال ابن ناصر الدّين: هو سعيد بن سليمان الضّبّيّ البزّار، رمي بالتصحيف.
وقال أبو حاتم: ثقة. انتهى.
وفيها أبو عبيدة شاذ بن فيّاض اليشكريّ البصريّ، واسمه هلال. روى عن هشام الدّستوائي والكبار فأكثر.
وفيها أبو عمر الجرميّ النحويّ، صالح بن إسحاق، وكان ديّنا ورعا نبيلا رأسا في اللغة والنحو. نال بالأدب دنيا عريضة.
وقال ابن الأهدل: كان ديّنا ورعا حسن العقيدة، صنّف في النحو وناظر الفرّاء. وحدّث عنه المبرد، وله كتاب في السير عجيب، وكتاب غريب سيبويه، والعروض.
وجرم المنسوب إليها في العرب كثيرة، منهم:
__________
[1] في الأصل: «جعفر بن عمر» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[2] لفظة «ثقة» لم ترد في الأصل، و «العبر» للذهبي مصدر المؤلف في نقله، وأثبتها من المطبوع.
[3] لفظة «متقن» سقطت من المطبوع.(3/115)
جرم بن علقمة بن أنمار [1] .
ومنهم جرم بن ربّان [2] . انتهى. [3] .
وفيها فروة بن أبي المغراء الكوفيّ المحدّث. روى عن شريك وطبقته.
وفيها الأمير أبو دلف قاسم بن عيسى العجليّ صاحب الكرخ. أحد الأبطال المذكورين الممدوحين، والأجواد المشهورين، والشعراء المجيدين، وقد ولي إمرة دمشق للمعتصم.
يحكى عنه أنه قال يوما: من لم يكن مغاليا في التشيّع فهو ولد زنا.
فقال له ولده: يا أبت لست على مذهبك، فقال له أبوه: لما وطئت أمّك [وعلقت بك] [4] ما كنت بعد استبريتها، فهذا من ذاك.
وقال ابن الأهدل: مدحه أبو تمّام وغيره، وله صنعة في الغناء، وصنف «كتاب البزاة والصيد» و «السلاح» و «سياسة الملوك» [5] . وغير ذلك. كان لكثرة عطائه قد ركبته الديون، فلما مات رآه ابنه دلف جالسا عريانا على أسوأ حال، وأنشده أبياتا منها:
__________
[1] في «الأنساب» للسمعاني (3/ 233) : «جرم بن علقة بن أنمار» نقلا عن ابن حبيب، وعزا محققه العلّامة الشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني هذا النقل لابن ماكولا في «الإكمال» (2/ 452) نقلا عن ابن حبيب.
قلت: والذي في «الإكمال» : «جرم بن علقمة بن أنمار» ولم أر هذا النقل عند ابن حبيب في «مختلف القبائل ومؤتلفها» .
[2] في الأصل، والمطبوع: «جرم بن ريان» وهو تصحيف، والتصحيح من «مختلف القبائل ومؤتلفها» لابن حبيب ص (60) بتحقيق الأستاذ إبراهيم الأبياري، طبع دار الكتاب العربي بيروت، و «جمهرة أنساب العرب» لابن حزم ص (451) .
[3] قال اليافعي في «مرآة الجنان» (2/ 91) : وذكر بعضهم أن الجرمي المذكور مولى جرم بن زبان.
[4] ما ين حاصرتين لم يرد في الأصل وأثبته من المطبوع.
[5] في المطبوع: «مناسبة الملوك» وهو خطأ، والتصحيح من «الفهرست» للنديم ص (130) بتحقيق الأستاذ رضا تجدد المطبوع في إيران.(3/116)
ولو كنّا [1] إذا متنا تركنا ... لكان الموت راحة كل حيّ
ولكنّا إذا متنا بعثنا ... ونسأل بعده عن كلّ شيّ [2]
وكان أبو قد شرع في عمران مدينة الكرخ ثم أتمها هو، وكان بها أولاده وعشيرته. انتهى.
وفيها محمّد بن سلّام البيكنديّ الحافظ. رحل وسمع من مالك وخلق كثير، وكان يحفظ خمسة آلاف حديث، وقال: أنفقت في طلب العلم أربعين ألفا، وفي نشر مثلها.
وقال ابن ناصر الدّين: به تخرّج البخاريّ. انتهى.
__________
[1] في «مروج الذهب» : «فلوأنا» وهو المحفوظ.
[2] البيتان في «مروج الذهب» للمسعودي (4/ 63) .(3/117)
سنة ست وعشرين ومائتين
فيها كما قال في «الشذور» مطر أهل تيماء مطرا وبردا كالبيض، فقتل ثلاثمائة وسبعين إنسانا، وهدم دورا، وسمع في ذلك صوت يقول: ارحم عبادك، اعف عن عبادك، ونظر إلى أثر قدم طولها ذراع بلا أصابع، وعرضها شبران، من الخطوة إلى الخطوة خمسة أذرع أو ست، فاتبعوا الصوت، فجعلوا يسمعون صوتا ولا يرون شخصا.
وفيها غضب المعتصم على الأفشين وسجنه وضيّق عليه، ومنع من الطعام حتّى مات أو خنق، ثم صلب إلى جانب بابك وأتي بأصنام من داره اتّهم بعبادتها فأحرقت، وكان أقلف [1] متّهما [2] في دينه. وأيضا خافه المعتصم.
وكان من أولاد ملوك الأكاسرة، واسمه حيدر بن كاوس، وكان بطلا شجاعا مطاعا ليس في الأمراء أكبر منه.
وأيضا ظفر المعتصم بمازيار الذي فعل الأفاعيل بطبرستان وصلبه إلى جنب بابك والأفشين.
وفيها توفي أحمد بن عمرو الحرشيّ [3] النيسابوريّ. سمع مسلم بن
__________
[1] قال الفيروزآبادي في «القاموس المحيط» (قلف) : الأقلف الذي لم يختن.
[2] في الأصل: «متهم» وأثبت ما في المطبوع.
[3] في «العبر» : «الخرشي» وهو تصحيف. وانظر «الأنساب» للسمعاني (4/ 111) .(3/118)
خالد الزّنجي وطبقته، ولزم محمد بن نصر المروزي فأكثر عنه.
قال الحاكم: كان إمام عصره في العلم والحديث والزهد، ثقة.
وإسحاق بن محمد الفرويّ المدني [1] الفقيه. روى عن مالك وطبقته [2] .
وإسماعيل بن أبي أويس [3] الحافظ أبو عبد الله الأصبحيّ المدنيّ.
سمع من خاله مالك وطبقته، وفيه ضعف لم يؤخره عن الاحتجاج به عند صاحبي «الصحيحين» .
وقال ابن ناصر الدّين: أثنى عليه أحمد، والبخاريّ وتكلم فيه النسائيّ وغيره. انتهى.
وفيها سعيد بن كثير بن عفير، أبو عثمان المصريّ الحافظ العلّامة قاضي الدّيار المصرية. روى عن اللّيث، ويحيى بن أيوب والكبار، وكان فقيها نسابة أخباريّا شاعرا، كثير الاطلاع، قليل المثل، صحيح النقل، ثقة، روى عنه البخاريّ وغيره.
وفيها محدّث الموصل غسّان بن الرّبعى الأزديّ. روى عن عبد الرّحمن بن ثابت بن ثوبان وطبقته، وكان ورعا كبير القدر، [لكن] [4] ليس بحجة.
وصدقة بن الفضل المروزيّ أبو الفضل، البحر في العلوم. روى عنه البخاريّ وغيره، وكان شيخ مرو على الإطلاق. قاله ابن ناصر الدّين [5] .
__________
[1] في «العبر» للذهبي (1/ 396) : «المديني» .
[2] انظر ترجمته ومصادرها في «سير أعلام النبلاء» (10/ 649- 651) .
[3] في «العبر» للذهبي: «ابن أويس» بفتح الهمزة وهو خطأ فيصحح فيه.
[4] لفظة «لكن» زيادة من «العبر» للذهبي (1/ 396) .
[5] انظر ترجمته ومصادرها في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (10/ 489- 490) .(3/119)
وحسين بن داود المصّيصي المحتسب أبو علي الحافظ، لقبه سنيد، وبه اشتهر، أحد أوعية العلم والأثر، تكلم فيه أحمد وغيره، ووثقه ابن حبّان والخطيب البغدادي. قاله ابن ناصر الدّين.
ومحمد بن مقاتل المروزيّ شيخ البخاري بمكّة. روى عن ابن المبارك وطبقته.
وفيها شيخ خراسان الإمام يحيى بن يحيى بن بكر التميميّ النيسابوريّ في صفر بنيسابور [1] .
قال ابن راهويه: ما رأيت مثل يحيى بن يحيى ولا أحسبه رأى مثل نفسه، ومات وهو إمام لأهل الدّنيا.
__________
[1] في المطبوع: «في نيسابور» .(3/120)
سنة سبع وعشرين ومائتين
. فيها قدم على إمرة دمشق أبو المغيث الرافعيّ [1] فخرجت عليهم قيس لكونه صلب منهم خمسة عشر رجلا وأخذوا خيل الدولة من المرج، فوجّه أبو المغيث إليهم جيشا فهزموه، ثم استفحل شرّهم وعظم جمعهم، وزحفوا على دمشق وحاصروها، فجاء رجاء الحضاري [2] الأمير في جيش من العراق، ونزل بدير مرّان، والقيسية بالمرج. فوجه إليهم يناشدهم الطاعة، فأبوا إلّا أن يعزل أبو المغيث [3] فأنذرهم القتال يوم الاثنين، ثم كبسهم يوم الأحد بكفر بطنا، وكان جمهور القيسية بدومة، فوضع السيف في كفر بطنا، وسقبا، وجسرين، حتّى قتل ألفا وخمسمائة، وقتلوا الصبيان [وجرحت النساء] [4] ووقع النهب. قاله في «العبر» [5] .
وفيها توفي أحمد بن عبد الله بن يونس أبو عبد الله اليربوعيّ الكوفيّ الحافظ. سمع الثّوريّ وطبقته، وعاش أربعا وتسعين سنة.
__________
[1] في «العبر» للذهبي: «الرافقي» .
[2] في الأصل، والمطبوع: «رجاء الحصاري» وهو تصحيف، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 397) وانظر «تاريخ الطبري» (9/ 28) .
[3] في «العبر» : «فأبوا إلا أن يعزل أبا المغيث» .
[4] ما بين حاصرتين زيادة من «العبر» .
[5] (1/ 397- 398) .(3/121)
قال أحمد بن حنبل لرجل سأله عمّن أكتب؟ قال: اخرج إلى أحمد بن يونس اليربوعي، فإنه شيخ الإسلام. انتهى [1] .
وهو من الثقات الأثبات.
وإبراهيم بن بشّار [2] الرّماديّ الزاهد، صاحب سفيان بن عيينة.
قال ابن عدي: سألت محمد بن أحمد الزريقي عنه، فقال: كان والله أزهد أهل زمانه.
وقال ابن حبّان: كان متقنا ضابطا.
وأبو النّضر إسحاق بن إبراهيم الدّمشقيّ الفراديسيّ، من أعيان الشيوخ بدمشق. روى عن سعيد بن عبد العزيز وجماعة.
قال في «المغني» [3] : إسحاق بن إبراهيم أبو النّضر [4] الفراديسيّ مشهور، ثقة.
قال ابن عديّ: له أحاديث غير محفوظة. انتهى.
وإسماعيل بن عمرو البجليّ محدّث أصبهان، وهو كوفيّ. روى عن مسعر [5] وطبقته. وثقه ابن حبّان وغيره، وضعفه الدّارقطنيّ، وهو مكثر عالي الإسناد.
وفيها الربّانيّ القدوة أبو نصر بشر بن الحارث المروزيّ الزاهد، المعروف ببشر الحافي. سمع من حمّاد بن زيد، وإبراهيم بن سعد، وطبقتهما، وعني بالعلم، ثم أقبل على شأنه، ودفن كتبه [6] . حدّث بشيء يسير.
وكان في الفقه على مذهب الثّوريّ، وقد صنف العلماء مناقب بشر وكراماته
__________
[1] يعني انتهى نقله عن «العبر» للذهبي.
[2] في «العبر» للذهبي (1/ 398) : «بشار بن إبراهيم» وهو خطأ فيصحح فيه، وانظر «الأنساب» للسمعاني (6/ 158) .
[3] «المغني في الضعفاء» (1/ 68) .
[4] في الأصل، والمطبوع: «ابن النّضر» وهو خطأ، والتصحيح من «المغني في الضعفاء» .
[5] في «العبر» للذهبي (1/ 399) : «مسهر» وهو خطأ فيصحح فيه.
[6] أقول: لا يجوز دفن الكتب إلا إذا كان فيها ضلال وإلحاد وكفر. (ع) .(3/122)
رحمه الله، عاش خمسا وسبعين سنة، وتوفي ببغداد [1] في ربيع الأول. قاله في «العبر» [2] .
وقال السخاويّ [3] في «طبقات الأولياء» : قال ابن حبّان في «الثقات» : أخباره وشمائله في التقشّف وخفيّ الورع أشهر من أن يحتاج إلى الإغراق في وصفها. وكان ثوريّ المذهب في الفقه والورع جميعا.
وقال الخطيب [4] : وهو ابن عم علي [5] بن خشرم، وكان ممن فاق أهل عصره في الورع والزهد، وتفرد بوفور العقل، وأنواع الفضل، وحسن الطريقة [واستقامة المذهب] [6] وعزوف النفس، وإسقاط التكلف [7] ، والفضول.
وكان كثير الحديث، إلّا أنه لم ينصب نفسه للرّواية، وكان يكرهها، ودفن كتبه لأجل ذلك.
وقال ابن الجوزي: هو مروزيّ [8] الأصل، من قرية على ستة أميال من مرو، ويقال لها: ما ترسام بالتاء الفوقية [9] وكان من أبناء الرؤساء والكتبة.
وولد في سنة خمسين ومائة بمرو، ولم يملك بشر بغداد ملكا قطّ، وكان
__________
[1] لفظة «ببغداد» سقطت من الأصل، وأثبتها من المطبوع، و «العبر» للذهبي.
[2] (1/ 399) .
[3] في الأصل: «البخاري» وأبقيت ما في المطبوع. لكني لم أقف على ذكر لهذا الكتاب فيما عدده السخاوي من مؤلفاته في «الضوء اللامع» ولم أر أحدا من أصحاب كتب التراجم من المتأخرين عنه ذكره في عداد مصنفاته. وقد وقفت على هذا النقل في كتاب «الثقات» لابن حبان (8/ 143) المطبوع في الهند، وقد ذكر ابن حبان فيه بأن وفاته كانت سنة (229) .
[4] في «تاريخ بغداد» (7/ 67) وقد نقل المؤلف عنه باختصار وتصرف.
[5] لفظة «علي» سقطت من الأصل، وأثبتها من المطبوع و «تاريخ بغداد» .
[6] ما بين حاصرتين زيادة من «تاريخ بغداد» .
[7] لفظة «التكلف» لم ترد في «تاريخ بغداد» المطبوع.
[8] في الأصل: «مروي» ، وأثبت ما في المطبوع.
[9] كذا قال وهو خطأ، ولست أدري هل جملة «بالتاء الفوقية» لابن الجوزي، أم هي مما أضافه المؤلف تصرفا وتوضيحا فظن الفتحة التي فوق الباء نقطتان فوقع له هذا التحريف.
قال ياقوت في «معجم البلدان» (5/ 32) : مابرسام، بفتح الباء، وسكون الراء، وسين مهملة، وآخره ميم: قرية من قرى مرو، ويقال لها ميم سام.(3/123)
لا يأكل من غلّة بغداد ورعا، لأنها من أرض السواد التي لم تقسم، وكان في حداثته [1] يطلب العلم ويمشي في طلبه حافيا حتّى اشتهر بهذا الاسم.
قال مسعر: من طلب الحديث فليتقشف وليمش حافيا.
وصح عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: من اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ في سَبِيلِ الله حَرَّمَهُمَا الله عَلَى النَّارِ [2] فرأى بشر أن طالب العلم يمشي في سبيل الله، فأحب تعميم قدميه بالغبار.
ولم يتزوج بشر قط، ولم يعرف النساء. قيل له: لم لا تتزوج؟ قال: لو أظلني زمان عمر وأعطاني كنت أتزوج. وقيل له: لو تزوجت تم نسكك.
قال: أخاف أن تقوم بحقي ولا أقوم بحقها. قال تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ 2: 228 [البقرة: 228] . وكان يعمل المغازل ويعيش منها حتّى مات. وكان لا يقبل من أحد شيئا عطية أو هدية سوى رجل من أصحابه ربما قبل منه.
وقال: لو علمت أن أحدا يعطي لله لأخذت منه، ولكن يعطي بالليل ويتحدث بالنهار.
وقال لابن أخته عمر: يا بني اعمل فإن أثره في الكفين أحسن من أثر السجدة بين العينين.
وقال ليس شيء من أعمال البرّ أحبّ إليّ من السخاء، ولا أبغض إليّ من الضيق وسوء الخلق.
وسئل أحمد بن حنبل عن مسألة في الورع فقال: أستغفر الله لا يحل لي أن أتكلم في الورع، أنا [3] آكل من غلة بغداد، ولو [4] كان بشر، صلح أن
__________
[1] في المطبوع: «في حدائته» وهو خطأ.
[2] رواه بهذا اللفظ البخاري رقم (907) في الجمعة: باب المشي إلى الجمعة، وقول الله جلّ ذكره: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ الله 62: 9 [الجمعة: 9] ، وأحمد في «المسند» (3/ 479) من حديث أبي عبس رضي الله عنه، وهو أبو عبس بن جبر، واسمه عبد الرحمن، وليس له في «صحيح البخاري» سوى هذا الحديث الواحد. وانظر «جامع الأصول» (9/ 432- 432) .
[3] في المطبوع: «وأنا» .
[4] في المطبوع: «لو» .(3/124)
يجيبك عنه، فإن كان لا يأكل من غلة بغداد ولا من طعام السواد، يصلح أن يتكلم في الورع.
وقال بشر: إذا قلّ عمل العبد ابتلي بالهمّ.
وقال: ما من أحد خالط لحمه ودمه ومشاشه حب النّبيّ- صلى الله عليه وسلم- فيرى النّار.
وقال: كانوا لا يأكلون تلذّذا ولا يلبسون تنعّما، وهذا طريق الآخرة والأنبياء والصالحين، فمن زعم أن الأمر غير هذا فهو مفتون.
ونظر إلى الفاكهة فقال: ترك هذه عبادة، ثم التفت إلى سجن باب الشام فقال: ما هذا؟ قالوا: سجن، فقال: هذه الشهوات أدخلت هؤلاء هذا المدخل.
وقال: الفكرة في أمر الآخرة تقطع حب الدّنيا وتذهب شهواتها.
وقال: من طلب الدّنيا فليتهيأ للذلّ.
قال جميع ذلك ابن الجوزي في «مناقبه» .
وأسند الخطيب [1] عنه أنه قال: لو لم يكن في القناعة شيء إلا التمتّع بعزّ الغنى [2] لكان ذلك يجزئ، ثم أنشد:
أفادتني القناعة أيّ عزّ ... ولا عزّ من القناعة
فخذ منها لنفسك رأس مال ... وصيّر بعدها التّقوى بضاعة
تحز حالين تغنى عن بخيل ... وتسعد [3] في الجنان بصبر ساعه
وأسند الخطيب [4] عن أحمد بن مسكين قال: خرجت في طلب بشر
__________
[1] في «تاريخ بغداد» (7/ 76) .
[2] تحرفت في «تاريخ بغداد» إلى «الغناء» فتصحح فيه.
[3] في المطبوع: «وتحظى» .
[4] في «تاريخ بغداد» (7/ 76- 77) .(3/125)
[ابن الحارث] [1] من باب حرب، فإذا به جالس وحده، فأقبلت نحوه، فلما رآني مقبلا خطّ بيده على الجدار وولّى، فأتيت موضعه فإذا هو قد خط بيده.
الحمد لله لا شريك له ... في صبحه دائما وفي غلسه
لم يبق لي مؤنس فيؤنسني ... إلّا أنيس أخاف من أنسه
فاعتزل النّاس يا أخيّ ولا ... تركن إلى من تخاف من دنسه
قال عبد الله بن الإمام أحمد: مات بشر قبل المعتصم بستة أيام، وأسند عن أبي حسّان الزيادي قال: مات بشر سنة سبع وعشرين ومائتين عشية الأربعاء لعشر بقين من ربيع الأوّل وقد بلغ من السن خمسا وسبعين سنة، وحشد النّاس لجنازته، وكان أبو نصر التمّار [2] وعليّ بن المديني يصيحان في الجنازة: هذا والله شرف الدّنيا قبل شرف الآخرة.
وأخرجت جنازته بعد صلاة الصبح ولم يحصّل في القبر إلّا في الليل، وكان نهارا صائفا.
وقال عمر بن أخته: كنت أسمع الجن تنوح على خالي في البيت الذي كان فيه غير مرّة.
وعن القاسم بن منبّه قال: رأيت بشرا في النوم فقلت [3] : ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي، وقال: يا بشر قد غفرت لك ولكل من تبع جنازتك.
قال: فقلت: يا رب ولكل من أحبني. قال: ولكل من أحبك إلى يوم القيامة. انتهى ما أورده الخطيب مختصرا [4] .
وفيها أبو عثمان سعيد بن منصور الخراسانيّ الحافظ، صاحب
__________
[1] زيادة من «تاريخ بغداد» .
[2] سترد ترجمته في حوادث سنة (228) إن شاء الله تعالى.
[3] في الأصل: «فقال» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[4] انظر «تاريخ بغداد» (7/ 79- 80) .(3/126)
«السنن» [1] . روى عن فليح بن سليمان، وشريك، وطبقتهما. وجاور بمكة وبها مات في رمضان، وقد روى البخاري عن رجل عنه، وكان من الثقات المشهورين.
وسهل بن بكّار البصري. روى عن شعبة وجماعة.
وفيها محمد بن الصّبّاح البغداديّ البزاز المزنيّ مولاهم الدولابيّ أبو جعفر. روى عن شريك وطبقته، وله «سنن» صغيرة، وهو ثقة. روى عنه أحمد، والشيخان، وغيرهم.
وفيها أبو الوليد الطّيالسيّ هشام بن عبد الملك الباهليّ مولاهم البصريّ الحافظ، أحد أركان الحديث في صفر وله أربع وتسعون سنة. سمع عاصم بن محمد العمري، وهشام الدستوائي، والكبار.
قال أحمد بن سنان: كان أمير المحدّثين.
وقال أبو زرعة: كان إماما في زمانه جليلا عند النّاس.
وقال أبو حاتم: إمام، فقيه، عاقل، ثقة، حافظ. ما رأيت في يده كتابا قطّ.
وقال ابن وارة: ما أراني [2] أدركت مثله.
وفيها يحيى بن بشر [3] الحريريّ الكوفيّ. سمع بدمشق من معاوية ابن سلّام وجماعة، وعمّر دهرا، وهو مجهول [4] .
وفي ربيع الأول الخليفة المعتصم، أبو إسحاق محمد بن هارون
__________
[1] وقد نشر الموجود منه في دار الكتب العلمية ببيروت وقام بتحقيقه الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي حفظه الله تعالى.
[2] في الأصل: «ما أرى» وأثبت ما في المطبوع وهو موافق لما في «العبر» للذهبي (1/ 400) .
[3] في المطبوع: «يحيى بن بشير» وهو خطأ.
[4] قلت كذا جزم المؤلف- رحمه الله- بأنه مجهول. وهو معروف مصدق موثوق الرواية. انظر «سير أعلام النبلاء» للذهبي (10/ 647) ، و «تقريب التهذيب» لابن حجر (2/ 343) .(3/127)
الرّشيد بن المهدي العباسي وله سبع وأربعون سنة. وعهد إليه بالخلافة المأمون، وكان أبيض أصهب اللحية طويلها، مربوعا، مشرق اللون، قويا إلى الغاية، شجاعا، شهما، مهيبا، وكان كثير اللهو مسرفا على نفسه، وهو الذي افتتح عموريّة من أرض الرّوم. وكان يقال له: المثمّن لأنه ولد سنة ثمانين ومائة في ثامن شهر فيها، وهو شعبان وتوفي أيضا في ثامن عشر رمضان، وهو ثامن الخلفاء من بني العبّاس، وفتح ثمان فتوح عموريّة، ومدينة بابك، ومدينة الزّط [1] وقلعة الأجراف [2] ، ومصر، وأذربيجان، وديار ربيعة، وإرمينية [3] .
ووقف في خدمته ثمان [4] ملوك: الأفشين، ومازيار، وبابك، وباطس ملك عمّورية، وعجيف ملك أشياحيج [5] ، وصول صاحب أسبيجاب، وهاشم ناحور ملك طخارستان، وكناسة ملك السّند، فقتل هؤلاء سوى صول وهاشم، واستخلف ثمان سنين وثمانية أشهر وثمانية أيام.
وخلّف ثمانية بنين وثماني بنات، وخلّف من الذهب ثمانية آلاف ألف دينار، ومن الدراهم ثمانية عشر ألف ألف درهم، ومن الخيل ثمانين ألف فرس، ومن الجمال والبغال مثل ذلك، ومن المماليك ثمانية آلاف [مملوك] [6] وثمانية آلاف جارية، وبنى ثمانية قصور.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «ومدينة البط» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» (1/ 401) ، و «سير أعلام النبلاء» (10/ 302) . وانظر «القاموس المحيط» ص (863) طبع مؤسسة الرسالة.
[2] في الأصل، والمطبوع: «قلعة الأحراف» ، وفي «العبر» للذهبي: «قلعة الأحزان» ، وما أثبته من «سير أعلام النبلاء» (10/ 302) .
[3] في المطبوع: «وأرمينية، وديار ربيعة» وفي «سير أعلام النبلاء» : «وعرب ديار ربيعة» ولم يرد ذكر لإرمينية فيه.
[4] في المطبوع: «ثمانية» .
[5] في «العبر» للذهبي (1/ 401) : «وعجيف ملك اسباخنج» ولم أقف على ذكر لها فيما بين يدي من المصادر والمراجع.
[6] زيادة من «العبر» للذهبي.(3/128)
وكان له نفس سبعيّة إذا غضب لم يبال من قتل ولا ما فعل. وقام بعده ابنه الواثق. قال جميع ذلك في «العبر» [1] .
ومن عجيب ما اتفق له أنه كان قاعدا في مجلس أنسه والكأس في يده، فبلغه أن امرأة شريفة في الأسر عند علج من علوج الرّوم في عموريّة، وأنه لطمها على وجهها يوما فصاحت: وا معتصماه. فقال لها العلج: ما يجيء إليك إلّا على أبلق، فختم المعتصم الكأس وناوله للساقي، وقال: والله ما شربته إلا بعد فك الشريفة من الأسر وقتل العلج. ثم نادى في العساكر المحمدية بالرحيل إلى غزو عموريّة، وأمر العسكر أن لا يخرج أحد منهم إلّا على أبلق، فخرجوا معه في سبعين ألف أبلق، فلما فتح الله تعالى عليه بفتح عمّورية دخلها وهو يقول: لبيك لبيك، وطلب العلج صاحب الأسيرة الشريفة، وضرب عنقه، وفك قيود الشريفة، وقال للساقي: ائتني بكأسي المختوم، ففك ختمه وشربه، وقال: الآن طاب شرب الشراب، سامحه الله تعالى وجزاه خيرا.
__________
[1] (1/ 400- 402) .(3/129)
سنة ثمان وعشرين ومائتين
فيها غلا السّعر بطريق مكّة، فبيعت راوية الماء بأربعين درهما، وسقطت قطعة من الجبل عند جمرة العقبة فقتلت عدة من الحجّاج.
وفيها توفي داود بن عمرو بن زهير بن عمرو بن جميل [1] الضبّيّ البغدادي. سمع نافع بن عمر الجمحي وطائفة، وكان صدوقا صاحب حديث.
قال ابن ناصر الدّين: كنيته أبو سليمان. حدّث عنه أحمد، ومسلم، وغيرهما. وكان ثقة مبرّزا على أصحابه، وكان أحمد بن حنبل إذا أراد أن يركب داود يأخذ له بركابه. انتهى.
وفيها حمّاد بن مالك الأشجعيّ الحرستاني [2] ، شيخ معمر، مقبول الرواية، روى عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، والأوزاعي.
وفيها أبو نصر التمّار، عبد الملك بن عبد العزيز الزاهد ببغداد، في أول العام. روى عن حمّاد بن سلمة وطبقته، وكان ثقة، ثبتا، عالما، عابدا، قانتا، ورعا، يعد من الأبدال.
وعبيد الله بن محمد العيشيّ البصريّ الأخباريّ، أحد الفصحاء الأجواد. روى عن حمّاد بن سلمة.
قال يعقوب بن شيبة: أنفق ابن عائشة على إخوانه أربعمائة ألف دينار في الله.
__________
[1] جاء في حاشية «الخلاصة» للخزرجي ص (110) ما نصه: كذا نسبه ابن سعد، والبغوي، وقال غيرهما: بالحاء المهملة المضمومة. وانظر تتمة كلامه هناك.
[2] في الأصل والمطبوع و «العبر» (1/ 402) : «الخراساني» وهو خطأ، والتصحيح من «معجم البلدان» (2/ 241) ، وانظر «الجرح والتعديل» (3/ 149) .(3/130)
وعن إبراهيم الحربي قال: ما رأيت مثل ابن عائشة.
وقال ابن خراش [1] : صدوق.
وقال ابن الأهدل: أمه عائشة بنت طلحة.
ومن كلامه: جزعك في مصيبة صديقك أحسن من صبرك، وصبرك.
في مصيبتك أحسن من جزع. ووقف على قبر ابن له مات فقال:
إذا ما دعوت الصّبر بعدك والبكا ... أجاب البكا طوعا ولم يجب الصّبر
فإن ينقطع منك الرّجاء فإنّه ... سيبقى عليك الحزن ما بقي الدّهر [2]
وعنه [3] قال: ما أعرف كلمة بعد كلام الله ورسوله أخصر لفظا ولا أكمل وصفا [4] ولا أعم نفعا من قول علي- كرم الله وجهه-: قيمة كل امرئ ما يحسن.
ومن قوله: أول الفراعنة سنان بن علوان بن عبيد بن عوج بن عمليق، وهو صاحب القضية مع سارة وإبراهيم وأخدمها هاجر.
والثاني صاحب يوسف، ريان بن الوليد وهو خيرهم. يرجع نسبه إلى عمرو بن عمليق. يقال: إنه أسلم على يد يوسف.
والثالث فرعون موسى، الوليد بن مصعب بن معاوية، وهو أخبثهم، يرجع إلى عمرو بن عمليق أيضا.
والرابع نوفل الذي قتله بختنصّر حين غزا مصر.
والخامس كان طوله ألفي ذراع، وكان قصيراه جسر نيل مصر [5] . انتهى ما قاله ابن الأهدل.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «ابن حراش» وهو تصحيف، والتصحيح من «تذكرة الحفاظ» (1/ 684) ، و «العبر» (1/ 403) ، و «طبقات الحفاظ» ص (297) .
[2] البيتان في «مرآة الجنان» لليافعي (2/ 95) .
[3] يعني عن عبيد الله بن محمد العيشي.
[4] في المطبوع: «ولا أكمل وضعا» ، وما جاء في الأصل موافق لما في «غربال الزمان» للعامري ص (214) .
[5] أقول: فيه مبالغة شديدة لا يقبلها العقل. (ع) .(3/131)
وفيها علي بن عثّام بن علي العامريّ الكوفيّ، نزيل نيسابور. سمع مالكا وطبقته، وكان حافظا زاهدا فقيها أديبا كبير القدر، توفي مرابطا بطرسوس. روى مسلم في «صحيحه» عن رجل عنه.
وفيها أبو الجهم العلاء بن موسى الباهليّ ببغداد، وله جزء مشهور من أعلى المرويات، روى فيه عن اللّيث بن سعد وجماعة.
قال الخطيب [1] : صدوق.
وخرّج له الترمذي.
وقال في «المغني» : العلاء الباهلي الرّقّي.
قال البخاريّ وغيره: منكر الحديث.
فأما العلاء بن هلال البصري [عن شهر] [2] فما فيه تخريج. انتهى.
وفيها محمد بن الصّلت أبو يعلى الثوريّ ثم البصريّ الحافظ. سمع الدّراوردي وطبقته.
قال أبو حاتم: كان يملي علينا التفسير من حفظه.
وفيها العتبيّ الأخباريّ [الشاعر] [3] وهو أبو عبد الرّحمن محمد بن عبيد الله بن عمرو الأمويّ، أحد الفصحاء الأدباء من ذرية عتبة بن أبي سفيان ابن حرب، وكان من أعيان الشعراء بالبصرة. سمع أباه، وسمع أيضا من سفيان بن عيينة عدة أحاديث. والأخبار أغلب عليه. قال في «العبر» [4] .
وقال ابن الأهدل: روى عنه أبو الفضل الرّقاشي، وله عدة تصانيف، ومن قوله:
رأين الغواني الشّيب لاح بعارضي ... فأعرضن عنّي بالخدود النّواضر
وكنّ متى أبصرنني أو سمعنني ... سعين يرفّعن اللّوا بالمحاجر
__________
[1] انظر «تاريخ بغداد» (12/ 241) .
[2] ما بين حاصرتين زيادة من «المغني في الضعفاء» .
[3] زيادة من هامش الأصل.
[4] (1/ 403- 404) .(3/132)
فإن عطفت عني أعنّة أعين ... نظرن بأحداق المها والجآذر
فإنّي من قوم كرام ثناؤهم ... لأقدامهم صيغة رؤوس المنابر
خلائف في الإسلام في الشّرك قادة ... بهم وإليهم فخر كلّ مفاخر [1]
وله وقد مات ولد له:
أضحت بخدّي للدّموع رسوم ... أسفا عليك وفي الفؤاد كلوم
والصّبر يحمد في المواطن كلّها ... إلا عليك فإنّه مذموم [2]
انتهى.
وفيها مسدّد بن مسرهد بن مسربل بن مغربل بن مرعبل بن مطربل ابن أرندل بن سرندل بن غرندل بن ماسك بن المستورد الأسديّ بالسكون، ويقال بالتحريك.
كان يحيى بن معين إذا ذكر نسب مسدّد قال: هذه رقية عقرب.
قال ابن الأهدل في شرحه للبخاري: نسب مسدّد إذا أضيف إليه بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 1: 1 كانت رقية من العقرب، والخمسة الأول بصيغة المفعول، والثلاثة الأخيرة أعجمية. وكان [مسدد أحد الحفاظ الثقات، وهو ممن انفرد به البخاريّ دون مسلم. انتهى.
وقال في «العبر» [3]] [4] : مسدد بن مسرهد الحافظ، أبو الحسن البصري. سمع جويرية بن أسماء، وأبا عوانة، وخلقا. وله «مسند» في مجلد سمعت بعضه. انتهى.
وفيها نعيم بن حمّاد أبو عبد الله الفارض الأعور. منهم من وثقه، والأكثر منهم ضعفه.
__________
[1] الأبيات في «وفيات الأعيان» لابن خلكان (4/ 399) مع شيء من الخلاف الطفيف.
[2] البيتان في «وفيات الأعيان» لابن خلكان (4/ 399) .
[3] (1/ 404) .
[4] ما بين حاصرتين سقط من الأصل، وأثبته من المطبوع.(3/133)
قال في «المغني» [1] : نعيم بن حمّاد أحد الأئمة. وثقه أحمد بن حنبل وغيره، وابن معين في رواية، وقال في رواية أخرى: يشبّه له فيروي ما لا أصل له.
وقال النسائيّ: ليس بثقة.
وقال الدارقطنيّ: كثير الوهم.
وقال أبو حاتم: محله الصدق.
[وقال أبو زرعة الدمشقي: وصل أحاديث يوقفها الناس] [2] .
وقال العبّاس بن مصعب: وضع كتبا في الرد على أبي حنيفة.
قال الأزديّ: كان يضع الحديث في تقوية السّنّة وحكايات مزوّرة في ثلب أبي حنيفة، كلها كذب، وكان من أعلم الناس بالفرائض. انتهى ملخصا.
وفيها نعيم بن الهيصم [3] الهرويّ ببغداد. روى عن أبي عوانة وجماعة، وهو من ثقات شيوخ البغوي.
وفيها أبو زكريا يحيى بن عبد الحميد الحمّانيّ الكوفيّ الحافظ أحد [4] أركان الحديث.
قال ابن معين: ما كان بالكوفة من يحفظ معه. سمع قيس بن الرّبيع وطبقته، وهو ضعيف.
[قلت] [5] : لكن وثقه ابن معين.
__________
[1] «المغني في الضعفاء» (2/ 700) .
[2] ما بين حاصرتين زيادة من «المغني في الضعفاء» .
[3] في الأصل والمطبوع و «العبر» (1/ 404) : «ابن الهيضم» وهو تصحيف، والتصحيح من «تاريخ بغداد» (13/ 305) ، و «السابق واللاحق» ص (350) .
[4] لفظة: «أحد» سقطت من الأصل، وأثبتها من المطبوع و «العبر» للذهبي.
[5] زيادة مني لتوضيح الكلام وفصله، لأن ما تقدم من الكلام نقله المؤلف عن «العبر» للذهبي،(3/134)
سنة تسع وعشرين ومائتين
فيها توفي الإمام أبو محمد خلف بن هشام البزّار [1] شيخ القراء والمحدّثين ببغداد. سمع من مالك بن أنس وطبقته، وله اختيار خالف فيه حمزة في أماكن، وكان عابدا صالحا كثيرا العلم صاحب سنة، رحمه الله تعالى.
وعبد الله بن محمد الحافظ أبو جعفر الجعفيّ البخاريّ المسنديّ لقّب بذلك لأنه كان يتتبّع [2] المسند ويتطلّبه. رحل وكتب الكثير عن سفيان ابن عيينة وطبقته، وكان ثبتا.
روى عنه البخاريّ وغيره.
وفيها نعيم بن حمّاد الخزاعيّ المروزيّ الفرضيّ [3] الحافظ. أحد
__________
وقوله: «لكن وثقه ابن معين» ، إنما هو رأي المؤلف رحمه الله، وانظر: روايات توثيق ابن معين له في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (10/ 536- 537) .
[1] في الأصل: «البزار» وهو تصحيف، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب. انظر: «الأنساب» للسمعاني (2/ 182) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «يتبع» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 405) ، ومعنى كان يتتبع المسند، أي كان يتحرى في الرواية، رواية الأحاديث المسندة الموثوقة.
[3] في المطبوع: «الغرضي المروزي» وهو خطأ.
أقول: وقد تقدمت ترجمة نعيم بن حماد فيمن توفي سنة (228) انظر صفحة (134) في أعلاها. نعيم بن حماد أبو عبد الله الفارض الأعور، وهو نفسه الخزاعي المروزي الفرضي الذي هنا، وقد اختلف في وفاته (228) أو (229) هـ. (ع) .(3/135)
علماء الأثر. سمع أبا حمزة السّكّري، وهشيما وطبقتهما، وصنف التصانيف، وله غلطات ومناكير مغمورة في كثرة ما روى. وامتحن بخلق القرآن فلم يجب [فحبس] [1] ، وقيّد ومات في الحبس، رحمه الله تعالى. قاله في «العبر» [2] .
وفيها يزيد بن صالح الفرّاء أبو خالد النّيسابوريّ العبد الصّالح.
روى عن إبراهيم بن طهمان، وقيس بن الرّبيع، وطائفة. وكان ورعا قانتا مجتهدا في العبادة.
قال في «المغني» [3] : يزيد بن صالح اليشكريّ النيسابوريّ الفراء، مجهول.
قلت [4] : بل مشهور صدوق. انتهى.
__________
[1] لفظة: «فحبس» سقطت من الأصل، والمطبوع، واستدركتها من «العبر» للذهبي.
[2] (1/ 405) .
[3] «المغني في الضعفاء» (2/ 750) .
[4] القائل الحافظ الذهبي في «المغني» .(3/136)
سنة ثلاثين ومائتين
وفيها توفي إبراهيم بن حمزة الزّبيريّ المدنيّ الحافظ. روى عن إبراهيم بن سعد وطبقته ولم يلق مالكا.
وفيها سعيد بن محمد الجرميّ الكوفيّ. روى عن شريك، وحاتم ابن إسماعيل، وطائفة، وكان صاحب حديث.
خرّج له الشيخان، وأبو داود، [وغيرهم.
قال في «المغني» [1] : سعيد بن محمد الجرمي، عن حاتم بن إسماعيل، ثقة إلا أنه شيعي. ووثقه أبو داود] [2] وخلق. انتهى.
وفيها أمير المشرق أبو العبّاس عبد الله بن طاهر بن الحسين الخزاعيّ وله ثمان وأربعون سنة، وكان شجاعا، مهيبا، عاقلا، جوادا، كريما، يقال: إنّه وقّع مرّة على قصص [3] بصلات بلغت أربعة آلاف ألف درهم، وقد خلّف من الدراهم خاصة أربعين ألف درهم، وقد تاب قبل موته وكسر آلات اللهو [4] واستفك أسرى بألفي ألف درهم، وتصدق بأموال كثيرة،
__________
[1] «المغني في الضعفاء» (1/ 265) .
[2] ما بين حاصرتين سقط من الأصل، وأثبته من المطبوع و «المغني في الضعفاء» .
[3] جمع قصة. قال الزبيدي في «تاج العروس» (قصص) : القصّة الأمر. وفي «سير أعلام.
النبلاء» (10/ 685) : «وقّع مرة على رقاع» .
[4] في «العبر» للذهبي: «آلات الملاهي» .(3/137)
وفيه يقول أبو تمام- وقد قصده من العراق- من قصيدته المشهورة:
أمطلع الشّمس تبغي أن تؤمّ بنا ... فقلت كلّا ولكن مطلع الجود [1]
وفي سفرة أبي تمام هذه ألّف كتاب «الحماسة» فإنه حكم عليه البرد هناك، ووقع على خزانة كتب فاختار منها «الحماسة» .
وفيها علي بن الجعد أبو الحسن الهاشميّ مولاهم البغداديّ الجوهريّ الحافظ. محدّث بغداد، في رجب، وله ست وتسعون سنة. روى عن شعبة، وابن أبي ذئب، والكبار، فأكثر، وكان يحدّث من حفظه.
قال البغويّ: أخبرت أنه مكث ستين سنة يصوم يوما ويفطر يوما.
وقال ابن ناصر الدّين: هو شيخ بغداد، وصاحب العالي من الإسناد.
خرّج عنه البخاريّ وغيره. وكان ثقة عجبا في حفظه، لم يرو عنه مسلم لبدعة وتجهّم كان فيه. انتهى.
وفيها علي بن محمد بن إسحاق أبو الحسن الطّنافسيّ الكوفيّ الحافظ محدّث قزوين، وأبو قاضيها الحسين. سمع سفيان بن عيينة وطبقته فأكثر.
وثقه أبو حاتم وقال: هو أحبّ إليّ من [أبي بكر] بن أبي شيبة في الفضل والصلاح.
وعون بن سلّام الكوفيّ وله تسعون سنة. سمع أبا بكر النّهشلي، وزهير بن معاوية.
قال في «المغني» [2] : صدوق وقد ليّن.
وفيها محمد بن إسماعيل بن أبي سمينة البصريّ الحافظ المجاهد.
روى عن معتمر بن سليمان وطبقته.
__________
[1] البيت في ديوانه « (2/ 132) بشرح الخطيب التبريزي، و «غربال الزمان» ص (216) .
[2] «المغني في الضعفاء» (2/ 495) .(3/138)
وفيها الإمام الحبر أبو عبد الله محمد بن سعد الحافظ كاتب الواقدي وصاحب «الطبقات» و «التاريخ» ببغداد في جمادى الآخرة، وله اثنتان وستون سنة. روى عن سفيان بن عيينة، وهشيم، وخلق كثير.
قال أبو حاتم: صدوق.
قال ابن الأهدل: قيل: إنه مكث ستين سنة يصوم يوما ويفطر يوما.
وفيها أبو غسّان مالك بن عبد الواحد المسمعيّ البصريّ المحدّث.
روى عن معتمر بن سليمان وطبقته.
وفي حدود الثلاثين إبراهيم بن موسى الرّازيّ الفرّاء الحافظ أبو إسحاق، أحد أركان العلم. رحل وسمع أبا الأحوص، وخالد بن عبد الله الواسطي، وطبقتهما.
قال أبو زرعة الحافظ: كتبت عنه مائة ألف حديث، وهو أتقن من أبي بكر بن أبي شيبة وأصحّ حديثا.(3/139)
سنة إحدى وثلاثين ومائتين
فيها ورد كتاب الواثق على أمير البصرة يأمره بامتحان الأئمة والمؤذنين بخلق القرآن، وكان قد تبع أباه في امتحان الناس.
وفيها قتل أحمد بن نصر الخزاعيّ الشهيد، كان من أولاد الأمراء فنشأ في علم وصلاح، وكتب عن مالك وجماعة، وحمل عن هشيم مصنفاته وما كان يحدّث. و [كان] يزري على نفسه، قتله الواثق بيده لامتناعه من القول بخلق القرآن، ولكونه أغلظ للواثق في الخطاب، وقال له: يا صبي.
وكان رأسا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقام معه خلق من المطوّعة واستفحل أمرهم، فخافت الدولة من فتق يتمّ بذلك.
قال ابن الأهدل: روي أنه صلب فاسودّ وجهه، فتغيرت قلوب الناس، ثم ابيض سريعا فرؤي في النوم فقال: لما صلبت رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأعرض عني بوجهه فاسود وجهي غضبا، فسألته- صلى الله عليه وسلم- عن سبب إعراضه، فقال: «حياء منك، إذ قتلك واحد من أهل بيتي» فابيضّ وجهي [1] . انتهى.
وفيها إبراهيم بن محمد بن عرعرة الشاميّ البصريّ، أبو إسحاق الحافظ، ببغداد، في رمضان. سمع جعفر بن سليمان الضّبعي.
__________
[1] ذكره اليافعي في «مرآة الجنان» (2/ 101) وقال في آخره: هذا معنى ما قيل في ذلك والله أعلم، ولم أره في غيره من المصادر.(3/140)
وعبد الوهّاب الثقفي، وطائفة.
قال عثمان بن خرّزاذ: ما رأيت أحفص من أربعة، فذكر منهم إبراهيم هذا.
وفيها أميّة بن بسطام أبو بكر العيشيّ البصريّ، أحد الأثبات. روى عن ابن عمه يزيد بن زريع وطبقته.
وفيها عبد الله بن محمد بن أسماء الضّبعيّ البصريّ أحد الأئمة.
روى عن عمه جويرية بن أسماء وجماعة.
قال أحمد الدّورقي: لم أر بالبصرة أحفظ منه [1] .
وذكر لعلي بن المديني فعظّمه.
وقال ابن ناصر الدّين: كنيته أبو عبد الرّحمن، وهو حجة ثقة.
وفيها كامل بن طلحة [الجحدريّ، البصريّ] [2] وله ست وثمانون سنة. روى عن مبارك بن فضالة وجماعة.
قال أبو حاتم: لا بأس به.
وقال في «المغني» [3] : قال أبو داود: رميت بكتبه.
وقال أحمد: ما أعلم أحدا يدفعه بحجة.
وقال ابن معين: ليس بشيء.
وقال أبو حاتم، وغيره: لا بأس به.
وقال الدّارقطنيّ: ثقة. انتهى.
وفيها ابن الأعرابي صاحب اللغة، وهو أبو عبد الله محمد بن زياد، توفي بسامرّاء وله ثمانون سنة، وكان إليه المنتهى في معرفة لسان العرب.
__________
[1] في «العبر» للذهبي: «لم أر بالبصرة أفضل منه» .
[2] ما بين حاصرتين زيادة من «العبر» للذهبي (1/ 409) .
[3] «المغني في الضعفاء» (2/ 529) .(3/141)
قال ابن الأهدل: هو مولى بني العبّاس. أخذ عن أبي معاوية الضرير، والكسائي، وأخذ عنه الحربيّ، وثعلب، وابن السّكّيت. واستدرك على من قبله. وله بضعة عشرة مصنفا، منها: «كتاب النوادر» و «كتاب الخيل» و «كتاب تفسير الأمثال» و «كتاب معاني الشعر» وكان يحضر مجلسه مائة مستفيد. انتهى.
وفيها محمد بن سلّام الجمحيّ البصريّ الأخباريّ الحافظ أبو عبد الله. روى عن حمّاد بن سلمة. وجماعة، وصنف كتبا منها «كتاب الشعراء» [1] وكان صدوقا.
وفيها أبو جعفر محمد بن المنهال البصريّ الضرير الحافظ. روى عن أبي عوانة، ويزيد بن زريع، وجماعة. وكان أبو يعلى الموصلي يفخّم أمره ويقول: كان أحفظ من بالبصرة وأثبتهم في وقته.
وهو من الثقات.
قال في «العبر» [2] : قلت: ومات قبله بيسير أو بعده، محمد بن المنهال [البصريّ] [3] العطّار، أخو حجّاج بن منهال. روى عن يزيد بن زريع وجماعة، وكان صدوقا. روى عن [الرجلين] [3] أبو يعلى الموصلي. انتهى.
وفيها منجاب بن الحارث الكوفيّ. روى عن شريك وأقرانه.
وفيها أبو علي هارون بن معروف [4] الضرير ببغداد. روى عن
__________
[1] وهو المنشور في مصر في مجلدين كبيرين بعنوان «طبقات فحول الشعراء» بتحقيق المحقق الكبير الأستاذ محمود محمد شاكر حفظه الله تعالى.
[2] (1/ 410) .
[3] زيادة من «العبر» للذهبي، ويعني بالرجلين محمد بن المنهال البصري الضرير، ومحمد بن المنهال البصري العطّار.
[4] في الأصل، والمطبوع: «هارون بن معرف» وهو خطأ والتصحيح من «العبر» للذهبي، و «تقريب التهذيب» لابن حجر (2/ 312) .(3/142)
عبد العزيز الدّراوردي وطبقته، وكان من حفاظ الوقت، صاحب سنة.
وفيها الحافظ أبو زكريا يحيى بن عبد الله بن بكير المخزوميّ مولاهم المصريّ في صفر. سمع مالكا، واللّيث، وخلقا كثيرا، وصنف التصانيف.
وسمع «الموطأ» من مالك سبع عشرة مرّة.
قال ابن ناصر الدّين: هو صاحب مالك والليث، ثقة، وإن كان أبو حاتم والنسائي تكلما فيه، فقد احتج البخاريّ ومسلم في «صحيحهما» بما يرويه. انتهى.
وفيها العلّامة أبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطيّ الفقيه صاحب الشافعي، ببغداد في السجن والقيد ممتحنا بخلق القرآن، وكان عابدا مجتهدا دائم الذّكر كبير القدر.
قال الشافعيّ: ليس في أصحابي أعلم من البويطي.
وقال أحمد العجلي: ثقة صاحب سنة. وسمع أيضا من [1] ابن وهب.
وقال الإسنويّ في «طبقاته» : كان ابن أبي اللّيث الحنفي يحسده، فسعى به إلى الواثق بالله أيام المحنة بالقول بخلق القرآن، فأمر بحمله إلى بغداد مع جماعة من العلماء، فحمل إليها على بغل مغلولا مقيّدا مسلسلا في أربعين رطلا من حديد، وأريد منه القول بذلك فامتنع، فحبس ببغداد على تلك الحالة إلى أن مات يوم الجمعة قبل الصلاة. وكان في كل جمعة يغسل ثيابه، ويتنظف، ويغتسل، ويتطيب، ثم يمشي إذا سمع النداء إلى باب السجن، فيقول له السجّان: ارجع رحمك الله، فيقول البويطي: اللهم إني أجبت داعيك فمنعوني. انتهى ملخصا.
وفيها أبو تمام الطائيّ حبيب بن أوس الحورانيّ، مقدّم شعراء العصر، توفي في آخر السنة [بالموصل] [2] كهلا.
سئل الشريف الرضي عن أبي تمام، والبختري، والمتنبي، فقال: أما
__________
[1] لفظة «من» سقطت من الأصل وأثبتها من المطبوع.
[2] زيادة من «العبر» للذهبي (1/ 411) .(3/143)
أبو تمام فخطيب منبر، وأما البحتري فواصف جؤذر [1] وأما المتنبي فقائد عسكر.
وقال أبو الفتح بن الأثير في كتاب «المثل السائر» [2] يصف الثلاثة:
[وهؤلاء الثلاثة] [3] هم لات الشعر، وعزّاه، ومناته، الذين ظهرت على أيديهم حسناته ومستحسناته، وقد حوت أشعارهم غرابة المحدثين، وفصاحة القدماء، وجمعت بين الأمثال السائرة وحكمة الحكماء [4] .
أما أبو تمّام فربّ معان وصيقل ألباب وأذهان، وقد شهد له بكل معنى مبتكر لم يمش فيه على أثر، فهو غير مدافع عن مقام الإغراب الذي يبرز فيه على الأضراب، ولقد مارست من الشعر كل أول وأخير، ولم أقل ما أقول فيه إلّا عن تنقيب وتنقير، فمن حفظ شعر الرّجل وكشف عن غامضه وراض فكره برائضه أطاعته أعنة الكلام، وكان قوله في البلاغة ما قالت حذام: فخذ مني في ذلك قول حكيم، وتعلّم ففوق كل ذي علم عليم.
وأما البحتريّ، فإنه أحسن في سبك اللفظ على المعنى، وأراد أن يشعر فغنّى، ولقد حاز طرفي الرّقّة والجزالة على الإطلاق، فبينا يكون في شظف، نجد، حتّى يتشبّب [5] بريف العراق.
وسئل أبو الطيب عنه، وعن أبي تمّام، وعن نفسه، فقال: أنا وأبو تمام حكيمان، والشاعر البحتري.
قال [6] : ولعمري لقد أنصف في حكمه، وأعرب بقوله هذا عن متانة علمه، فإن أبا عبادة أتى في شعره بالمعنى المقدود من الصخرة الصماء، في اللفظ المصوغ من سلاسة الماء، فأدرك بذلك بعد المرام، مع قربه من
__________
[1] الجؤذر: ولد البقرة الوحشية. انظر «مختار الصحاح» ص (90) .
[2] (2/ 368- 370) بتحقيق الشيخ محمد محيي الدّين عبد الحميد رحمه الله تعالى.
[3] ما بين حاصرتين لم يرد في الأصل، وأثبته من المطبوع، و «المثل السائر» .
[4] في الأصل، والمطبوع: «وكلمة الحكماء» وأثبت ما في «المثل السائر» .
[5] في «المثل السائر» : «يتشبث» .
[6] القائل ابن الأثير في «المثل السائر» .(3/144)
الأفهام، وما أقول إلّا أنه أتى في معانيه بأخلاط الغالية، ورقي في ديباجة لفظه إلى الدرجة العالية.
وأما أبو الطيب المتنبي فأراد أن يسلك مسلك أبي تمّام فقصرت عنه خطاه، ولم يعطه الشعر [من قياده] ما أعطاه، لكنه حظي في شعره بالحكم والأمثال، واختصّ بالإبداع في وصف مواقف القتال.
قال [1] : وأنا أقول قولا لست فيه متأثّما، ولا منه متلثّما [2] ، وذلك أنه إذا خاض في وصف معركة كان لسانه أمضى من نصالها، وأشجع من أبطالها، وقامت أقواله للسامع مقام أفعالها، حتّى تظن الفريقين فيه تقابلا، والسلاحين فيه تواصلا، وطريقه في ذلك يضل بسالكه، ويقوم بعذر تاركه، ولا شك أنه كان يشهد الحروب مع سيف الدولة ابن حمدان، فيصف لسانه، وما أدّى إليه عيانه. ومع هذا فإني رأيت النّاس عادلين فيه عن سنن التوسط، فإما مفرط فيه وإما مفرّط، وهو وإن انفرد في طريق وصار أبا عذره، فإن سعادة الرجل كانت أكبر من شعره، وعلى الحقيقة فإنه كان خاتم الشعراء، ومهما وصف به فهو فوق الوصف وفوق الإطراء، ولقد صدق في قوله من أبيات يمدح بها سيف الدولة:
لا تطلبنّ كريما بعد رؤيته ... إنّ الكرام بأسخاهم يدا ختموا
ولا تبال بشعر بعد شاعره ... قد أفسد القول حتّى أحمد الصّم
انتهى ما قاله ابن الأثير.
وقال ابن الأهدل: ألّف أبو تمّام كتاب «الحماسة» وكتاب «فحول الشعراء» جمع فيه بين الجاهليين، والمخضرمين، والإسلاميين، وكتاب
__________
[1] القائل ابن الأثير في «المثل السائر» .
[2] في الأصل، والمطبوع: «متثلما» والتصحيح من «المثل السائر» .(3/145)
«الاختيارات من شعر الشعراء» وكان يحفظ أربعة آلاف أرجوزة غير القصائد والمقاطيع. وجاب البلاد، ومدح الخلفاء وغيرهم، وكان قصد البصرة في جماعة من أتباعه وبها شاعرها عبد الصّمد بن المعذّل [1] فخاف عبد الصمد أن يميل النّاس إليه فكتب إليه قبل قدومه:
أنت بين اثنتين تبرز للنّا ... س وكلتاهما بوجه مذال
أيّ ماء يبقى بوجهك هذا [2] ... بين ذلّ الهوى وذلّ السؤال [3]
فلما وقف عليه رجع، وكتب على ظهر ورقته:
أفيّ تنظم قول الزّور والفند ... وأنت أنقض [4] من لا شيء في العدد
أسرجت قلبك من غيظ على حنق [5] ... كأنّها حركات الرّوح في الجسد
أقدمت ويحك من هجوي على خطر ... كالعير يقدم من خوف على الأسد
قيل: إن العير إذا شمّ رائحة الأسد وثب عليه فزعا.
ومدح أبو تمّام الخليفة بحضرة أبي يوسف الفيلسوف الكنديّ [6] فقال:
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «ابن المعدل» بالدال وهو تصحيف، والتصحيح من «فوات الوفيات» لابن شاكر (2/ 330) ، و «الأعلام» للزركلي (3/ 11) .
[2] في «الأغاني» : «أي ماء لحرّ وجهك يبقى» .
[3] البيتان في «الأغاني» (13/ 253) وبينهما بيت آخر هو:
لست تنفكّ طالبا لوصل ... من حبيب أو طالبا لنوال
[4] في «الأغاني» : «وأنت أبرز» .
[5] في «الأغاني» : «أشرجت قلبك من بغضي على حرق» .
[6] هو يعقوب بن إسحاق بن الصباح الكنديّ، أبو يوسف، فيلسوف العرب والإسلام في عصره، وأحد أبناء الملوك من كندة. نشأ في البصرة، وانتقل إلى بغداد، فتعلم واشتهر بالطب والفلسفة والموسيقا، والهندسة والفلك، وألف وترجم وشرح كتبا كثيرة يزيد عددها عن ثلاثمائة، ولقي في حياته ما يلقاه أمثاله من فلاسفة الأمم، فوشي به إلى المتوكل العباسي، فضرب وأخذت كتبه، ثم ردّت إليه. وأصاب عند المأمون والمعتصم منزلة عظيمة وإكراما.
قال ابن جلجل: ولم يكن في الإسلام غيره احتذى حذو أرسطاطاليس. من كتبه «اختيارات(3/146)
إقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس [1]
فقال له الفيلسوف: أتشبّه الخليفة بأجلاف العرب؟ فقال: نور الله سبحانه شبّه بمصباح في مشكاة للتقريب [2] فقال للخليفة: أعطاه ما سأل فإنه لا يعيش أكثر من أربعين يوما، لأنه قد ظهر في عينيه الدم من شدة الفكر.
وقيل: قال: إنه يموت قريبا أو شابا. فقيل له: وكيف ذلك؟ فقال:
رأيت فيه من الذكاء والفطنة ما علمت أن النفس الروحاني تأكل جسمه كما يأكل السيف المهنّد غمده. فقال له الخليفة: ما تشتهي؟ قال: الموصل فأعطاه إياها، فمات سريعا وقد نيّف على الثلاثين، وبين عليه أبو نهشل بن حميد [3] قبّة، ورثاه جماعة منهم: أبو نهشل بن حميد، الذي ولاه الموصل فقال:
فجع القريض بخاتم الشعراء ... وغدير روضتها حبيب الطّائي
ماتا معا فتجاورا في حفرة ... وكذاك كانا قبل في الأحياء
ورثاه محمد بن عبد الملك الزّيّات وزير المعتصم فقال:
نبأ أتى من أعظم الأنباء ... لمّا ألمّ مقلقل الأحشاء
قالوا حبيب قد ثوى فأجبتهم ... ناشدتكم لا تجعلوه الطائي
انتهى ما قاله ابن الأهدل.
__________
الأيام» و «تحاويل السنتين» و «رسم المعمور» ، و «القول في النفس» و «رسائل الكندي» و «حوادث الجو» . مات سنة (260) هـ. عن «الأعلام» للزركلي (8/ 195) .
[1] البيت في «ديوانه» بشرح الخطيب التبريزي (2/ 249) طبع دار المعارف بمصر.
[2] يريد قوله تعالى: الله نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ في زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ من شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي الله لِنُورِهِ من يَشاءُ وَيَضْرِبُ الله الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 24: 35 [النّور: 35] .
[3] هو محمد بن حميد بن عبد الحميد الطائيّ الطوسيّ. انظر «معجم الشعراء» المرزباني ص (368) .(3/147)
قلت: ومن شعر أبي تمّام هذه الأبيات الثلاثة وتطلب المناسبة بينها وهي:
لولا العيون وتفّاح الخدود [1] إذا ... ما كان يحسد أعمى من له بصر [2]
قالوا أتبكي على رسم فقلت لهم ... من فاته العين يذكي شوقه [3] الأثر
إنّ الكرام كثير في البلاد وإن ... قلّوا كما غيرهم قلّ وإن كثروا [4]
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «وتفاح النهود» وأثبت لفظ «ديوانه» بشرح الخطيب التبريزي.
[2] البيت في «ديوانه» بشرح الخطيب التبريزي (2/ 185) .
[3] في «ديوانه» : «هدّى شوقه» .
[4] البيتان في «ديوانه» (2/ 186) .(3/148)
سنة اثنتين وثلاثين ومائتين
. وفيها توفي الحكم بن موسى أبو صالح القنطريّ البغداديّ الحافظ أحد العبّاد في شوال. سمع إسماعيل بن عيّاش وطبقته.
وفيها عبد الله بن عون الخرّاز الزّاهد، أبو محمد البغداديّ المحدّث، وكان يقال: إنه من الأبدال. وروى عن مالك وطبقته. توفي في رمضان.
قال السخاويّ في «طبقاته» : عبد الله الخرّاز من كبار مشايخ الرّيّ ومن كبار فتيانهم.
قال عبد الله بن عبد الوهّاب: كان عبد الله الخرّاز إذا دخل مكّة يقول المجاورون: طلعت شمس الحرم.
وقال الجنيد: لا يأتينا من هذه الناحية مثل عبد الله الخرّاز.
وقال يوسف بن الحسين: لم أر مثل عبد الله الخرّاز، ولا رأى عبد الله مثل نفسه. انتهى.
وفيها عمرو بن محمّد النّاقد الحافظ أبو عثمان البغداديّ نزيل الرّقّة وفقيهها ومحدّثها. سمع هشيما وطبقته. توفي في ذي الحجّة ببغداد.
وفيها أبو يحيى هارون بن عبد الله الزّهريّ العوفيّ المكيّ المالكيّ، الإمام القاضي نزيل بغداد. تفقه بأصحاب مالك.
قال أبو إسحاق الشيرازيّ [1] : هو أعلم من صنّف الكتب في مختلف قول مالك.
__________
[1] في «طبقات الفقهاء» ص (153) بتحقيق الدكتور إحسان عبّاس.(3/149)
وقال الخطيب [1] : إنه سمع من مالك، وإنه ولي قضاء العسكر [2] ثم قضاء مصر.
وفيها يوسف بن عديّ الكوفيّ نزيل مصر، أخو زكريا بن عدي.
حدّث عن مالك، وشريك. وكان محدّثا تاجرا.
وفي ذي الحجّة توفي الواثق بالله أبو جعفر، وقيل: أبو القاسم هارون ابن المعتصم محمد بن الرّشيد بن المهدي العبّاسي عن بضع وثلاثين سنة.
وكانت أيامه خمس سنين وأشهرا. ولّي بعهد من أبيه، وكان أديبا شاعرا، أبيض، تعالوه صفرة، حسن اللّحية، في عيينة نكتة. دخل في القول بخلق القرآن وامتحن النّاس. وقوّى عزمه ابن أبي داود [3] القاضي، ولما احتضر ألصق خده بالأرض وجعل يقول: يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه. واستخلف بعده أخوه المتوكل، فأظهر السّنّة، ورفع المحنة، وأمر بنشر أحاديث الرؤية والصّفات. قاله في «العبر» [4] .
قال ابن الجوزي في «الشذور» : وسلّم على المتوكل بالخلافة ثمانية كلهم أولاد خليفة، المنتصر ابنه، ومحمد بن الواثق، وأحمد بن المعتصم، وموسى بن المأمون، وعبد الله بن الأمين، وأبو أحمد بن الرّشيد، والعبّاس ابن الهادي، ومنصور بن المهدي، وكانت عدة كل نوبة من نوب الفرّاشين في دار المتوكل أربعة آلاف فرّاش. انتهى.
__________
[1] انظر «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي (14/ 13) .
[2] يعني ولي قضاء عسكر المهدي ببغداد أيام المأمون. وهو ما ذكره الخطيب البغدادي في «تاريخ بغداد» .
[3] في الأصل: «ابن أبي داود» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب. انظر:
«العبر» للذهبي (1/ 412) ، و «غربال الزمان» ص (218) وقد ذكر العامري فيه بأن اسمه «أحمد بن أبي دؤاد» .
[4] (1/ 412- 413) .(3/150)
قال ابن الفرات: كان الواثق مشغوفا بحب الجواري، واتخاذ السراري، والتمتع بالأنكحة. روي أنه كان يحب جارية حملت إليه من مصر هدية، فغضبت يوما من شيء جرى بينه وبينها، فجلست مع صاحبات لها، فقالت لهن: لقد هجرته منذ أمس وهو يروم أن أكلّمه فلم أفعل، فخرج من مرقده على غفلة فسمع هذا القول منها، فأنشأ يقول:
يا ذا الذي بعذابي ظلّ مفتخرا ... هل أنت إلّا مليك جار إذ قدرا
لولا الهوى لتجارينا على قدر ... وإن أفق منه يوما ما فسوف ترى
فاصطلحا، ولحّنته وجعلت تغنيه به بقية يومه ذلك.
وقيل: كان مع جارية فظنها نامت، فقام إلى أخرى فشعرت به التي كان معها. فقامت مغضبة، فبعث إلى الخليع البصري [1] وأخبره بقصته فقال:
غضبت إذ زرت [2] أخرى خلسة ... فلها العتبى لدينا والرّضا
يا فدتك النفس كانت هفوة ... فاغفريها واصفحي عمّا مضى
واتركي العذل على من قاله ... وانسبي جوري إلى حكم القضا
فلقد نبّهتني من رقدتي ... وعلى قلبي كنيران الغضا [3]
__________
[1] هو الحسين بن الضحاك بن ياسر البصري الباهلي، أبو علي، شاعر من ندماء الخلفاء، قيل أصله من خراسان. ولد ونشأ في البصرة، وتوفي ببغداد. اتصل بالأمين العباسي ونادمه ومدحه. ولما ظفر المأمون خافه الخليع فانصرف إلى البصرة حتى صارت الخلافة للمعتصم.
فعاد ومدحه ومدح الواثق، ولم يزل مع الخلفاء إلى أيام المستعين. وهو شاعر ماجن مطبوع حسن الافتتان في ضروب الشعر وأنواعه. وبلغ سنا عالية يقال: إنه ولد في سنة (162) هـ ومات في سنة (250) . انظر «الأغاني» (7/ 146- 226) و «تاريخ بغداد» (8/ 54- 55) و «الأعلام» (2/ 239) .
[2] في «الأغاني» : «غضبت أن زرت أخرى» .
[3] في الأصل، والمطبوع: «وعلى قلبي كيزان الفضا» والتصحيح من «الأغاني» والأبيات فيه (7/ 161) .(3/151)
فاصطلحا وأجازه.
وكان الواثق شديد الاعتزال، وقام في أيام المحنة بخلق القرآن القيام الكلّي، وشدد على النّاس في ذلك، وكان سبب موته أن طبيبه ميخائيل [1] عبر عليه ذات يوم فقال له: يا ميخائيل ابغ لي دواء للباه. فقال يا أمير المؤمنين خف الله في نفسك، النكاح يهد البدن. فقال: لا بد من ذلك.
فقال: إذا كان ولا بد، فعليك بلحم السبع، اغله بالخلّ سبع غليات، وخذ منه ثلاثة دراهم على الشراب، وإيّاك أن تكثر منه تقع في الاستسقاء. ففعل الواثق ذلك، وأخذ منه فأكثر لمحبته في الجماع، فاستسقى بطنه فأجمع الأطباء أن لا دواء له إلّا أن يسجر له تنّور [2] بحطب الزيتون، وإذا ملئ جمرا نحى ما في جوفه وألقي فيه على ظهره، ويجعل تحته وفوقه الأشياء الرطب، ويودع فيه ثلاث ساعات، وإذا طلب ماء لم يسق، فإن سقي كان تلفه فيه. فأمر الواثق فصنع به كذلك، وأخرج من التّنّور وهو في رأي العين أنه احترق، فلما أصاب جسمه روح الهواء اشتد عليه، فجعل يخور كما يخور الثور، ويصيح: ردّوني إلى [3] التنور. فاجتمعت جواريه ووزيره محمد بن الزّيّات، فردوه إلى التّنّور، فلما ردوه إليه سكن صياحه وأخرج ميتا.
وقد عدت ميتته هذه من فضائل الإمام أحمد بن حنبل- رضي الله عنه- فإن المعتصم لما امتحنه للمقالة بخلق القرآن كان الواثق يقول له: لم لا تقول بمقالة أمير المؤمنين؟ قال: لأنها باطلة. قال: لئن كان ما تقوله أنت حقا أحرقني الله بالنّار، فما مات حتّى حرق بالنّار. انتهى ما قاله ابن الفرات ملخصا.
__________
[1] لم أقف على ذكر له فيما بين يدي من المصادر والمراجع.
[2] سجر التنور: أحماه. انظر «مختار الصحاح» ص (287) .
[3] لفظة «إلى» لم ترد في الأصل، وأثبتها من المطبوع.(3/152)
سنة ثلاث وثلاثين ومائتين
فيها كما قال ابن الجوزي في «الشذور» رجفت دمشق رجفة شديدة من ارتفاع الضحى، أي إلى ثلاث ساعات كما قاله في «العبر» [1] فانتقضت منها البيوت وزالت الحجارة العظيمة، وسقطت عدة طاقات من الأسواق على من فيها فقتلت خلقا كثيرا، وسقط بعض شرفات الجامع، وانقطع ربع منارته، وانكفأت قرية من عمل الغوطة على أهلها فلم ينج منهم إلّا رجل واحد، واشتدت الزلازل على أنطاكية، والموصل، ووقع أكثر من ألفي دار على أهلها فقتلتهم، ومات من أهلها عشرون ألفا، وفقد من بستان أكثر من مائتي نخلة من أصولها فلم يبق لها أثر. انتهى.
وفيها توفي إبراهيم بن الحجّاج الشّاميّ المحدّث بالبصرة. روى عن الحمّادين وجماعة، وخرّج له النسائيّ.
وفيها حبّان بن موسى المروزيّ. سمع أبا حمزة السّكري، وأكثر عن ابن المبارك، وكان ثقة مشهورا.
وسليمان بن عبد الرحمن بن بنت شرحبيل، أبو أيوب التميميّ الشاميّ الحافظ، محدّث دمشق في صفر وله ثمانون سنة. سمع إسماعيل بن عيّاش ويحيى بن حمزة وطبقتهما، وعني بهذا الشأن، وكتب عمّن دبّ ودرج.
__________
[1] (1/ 413) والمؤلف ينقل عنه بتصرف.(3/153)
وسهل بن عثمان العسكريّ الحافظ أحد الأئمة، توفي فيها أو في حدودها. روى عن شريك وطبقته.
وفيها القاضي أبو عبد الله محمد بن سماعة الفقيه ببغداد وقد جاوز المائة وتفقه على أبي يوسف، ومحمد، وروى عن اللّيث بن سعد، وله مصنفات واختيارات في المذهب، وكان ورده في اليوم والليلة مائتي ركعة.
وفيها الحافظ أبو عبد الله محمد بن عائذ الدمشقيّ الكاتب، صاحب المغازي والفتوح وغير ذلك من المصنفات المفيدة. روى عن إسماعيل بن عيّاش، والوليد بن مسلم، وخلق، وكان ناظر خراج الغوطة.
وفيها الوزير أبو جعفر محمد بن عبد الملك بن الزّيّات وزر [1] للمعتصم، والواثق، والمتوكل. ثم قبض عليه المتوكل وعذّبه وسجنه حتّى هلك.
كان أديبا بليغا وشاعرا محسنا كامل الأدوات، جهميا.
قال ابن الأهدل: كان أول أمره كاتبا، فاتفق أنّ المعتصم سأل وزيره أحمد بن عمّار البصري عن الكلأ ما هو؟ فقال: لا أدري. فقال المعتصم:
خليفة أميّ ووزير عاميّ. انظروا من بالباب من الكتّاب؟ فوجدوا ابن الزّيّات، فسأله عن الكلأ، فقال: العشب على الإطلاق. فإن كان رطبا فهو الخلى، وإن كان يابسا فهو الحشيش، وشرع في تقسيم النبات. فاستوزره وارتفع شأنه.
وظلم واتخذ تنورا من حديد يحبس فيه المصادرين، فإذا سئل الرّحمة، قال:
الرّحمة خور [2] في الطبيعة. فأمسكه المتوكل في خلافته وأدخله التنور وقيّده بخمسة عشر رطلا من حديد، فافتقده بعد حين فوجده ميتا فيه.
__________
[1] في الأصل: «وزير» وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[2] في الأصل، والمطبوع: «قال: الرحمة جور» وهو خطأ، والتصحيح من «غربال الزمان» للعامري ص (220) . قال ابن منظور: الخور، بالتحريك: الضعف ... ورجل خوّار:
ضعيف. «لسان العرب» (خور) .(3/154)
وله ديوان شعر رائق. انتهى ملخصا.
وقال ابن الفرات: قال صالح بن سليمان العبديّ: كان ابن الزّيّات يتعشّق جارية فبيعت من رجل من أهل خراسان وأخرجها. قال: فذهل عقل محمد بن الزّيّات حتّى خشي عليه ثم أنشأ يقول:
يا طول ساعات ليل العاشق الدّنف ... وطول رعيته للنجم في السّدف
ماذا تواري ثيابي من أخي حرق ... كأنّما الجسم منه دقّة الألف
ما قال يا أسفي يعقوب من كمد ... إلا لطول الذي لاقى من الأسف
من سرّه أن يرى ميت الهوى دنفا ... فليستدلّ على الزّيّات وليقف [1]
وفيها يحيى بن أيوب المقابريّ [2] أبو زكريا البغداديّ العابد. أحد أئمة الحديث والسّنّة. روى عن إسماعيل بن جعفر وطبقته. توفي في ربيع الأول وله ست وسبعون سنة.
وفيها الإمام أبو زكريا يحيى بن معين البغداديّ الحافظ. أحد الأعلام وحجّة الإسلام في ذي القعدة بمدينة النّبيّ- صلى الله عليه وسلم- متوجها إلى الحجّ، وغسل على الأعواد التي غسل عليها النّبيّ- صلى الله عليه وسلم- وعاش خمسا وسبعين سنة. سمع هشيما، ويحيى بن أبي زائدة، وخلائق. وحدّث عنه الإمام أحمد، والشيخان.
وجاء عنه أنه قال: كتبت بيدي هذه ستمائة ألف حديث يعني بالمكرر.
وقال أحمد بن حنبل: كلّ حديث لا يعرفه يحيى بن معين فليس بحديث.
وقال ابن المديني: انتهى علم النّاس إلى يحيى بن معين.
__________
[1] الأبيات في «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي (2/ 343) .
[2] نسبة إلى المقابر. انظر «اللباب» لابن الأثير (3/ 244) .(3/155)
قال في «العبر» [1] : حديثه في الكتب الستة.
وقال ابن الأهدل: كان بينه وبين أحمد مودّة، واشتراك في طلب الحديث ورجاله، وقيل: لما خرج من المدينة إلى مكّة سمع هاتفا في النوم يقول: يا أبا زكريا أترغب عن جواري؟ فرجع وأقام بالمدينة ثلاثا ومات رحمه الله، وكان ينشد:
المال يذهب حلّه وحرامه ... طوعا [2] وتبقى في غد آثامه
ليس التّقيّ بمتّق لإلهه ... حتّى يطيب شرابه وطعامه
ويطيب ما تحوي [3] وتكسب كفّه ... ويكون في حسن الحديث كلامه
نطق النّبيّ لنا به عن ربّه ... فعلى النّبيّ صلاته وسلامه
__________
[1] (1/ 415) .
[2] كذا في الأصل، والمطبوع: «طوعا» وفي «تاريخ بغداد» (14/ 185) ، و «مرآة الجنان» (2/ 108) : «طرا» وفي «سير أعلام النبلاء» (11/ 94) ، و «غربال الزمان» . ص (218) :
«يوما» .
[3] في «سير أعلام النبلاء» ، و «مرآة الجنان» : «ما يحوي» .(3/156)
سنة أربع وثلاثين ومائتين
قال في «الشذور» : هبّت ريح شديدة لم يعهد مثلها، فاتصلت نيفا وخمسين يوما وشملت بغداد، والبصرة، والكوفة، وواسط، وعبّادان، والأهواز، ثم إلى همذان، فأحرقت الزرع، ثم ذهبت إلى الموصل، فمنعت النّاس من الانتشار، وعطلت الأسواق. وزلزلت هراة حتّى سقطت الدور. انتهى.
وفيها توفي أحمد بن حرب النيسابوري الزّاهد الذي قال فيه يحيى بن يحيى: إن لم يكن من الأبدال فلا أدري من هم؟. رحل وسمع من ابن عيينة وجماعة، وكان صاحب غزو، وجهاد، ومواعظ، ومصنفات، في العلم.
وخرّج له النسائيّ.
قال في المغني [1] : عن ابن عيينة، له مناكير.
قال أبو حاتم: وكان صدوقا. انتهى.
وفيها الأمير إيتاخ [2] التّركيّ مقدّم الجيوش وكبير الدولة. خافه المتوكّل وعمل عليه بكلّ حيلة حتّى قبض له عليه نائبه على بغداد إسحاق بن إبراهيم، وأميت عطشا، وأخذ له المتوكل من الذهب ألف ألف دينار.
وفيها الإمام أبو خيثمة زهير بن حرب النسائي [3] الحافظ ببغداد، في شعبان، وله أربع وسبعون سنة. رحل وكتب الكثير عن هشيم وطبقته،
__________
[1] «المغني في الضعفاء» (1/ 36) .
[2] في الأصل: «انباخ» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[3] تحرفت في الأصل والمطبوع إلى «الشيباني» والتصحيح من «الأنساب» (12/ 79) .(3/157)
وصنف. وهو والد صاحب «التاريخ» أحمد بن أبي خيثمة.
قال ابن ناصر الدّين: زهير بن حرب بن شدّاد الحرشي [1] مولاهم النسائي أبو خيثمة، ثقة. انتهى.
وفيها أبو أيوب سليمان بن داود الشّاذكونيّ البصريّ الحافظ، الذي قال فيه صالح بن محمد: ما رأيت أحفظ منه. سمع حمّاد بن زيد وطبقته.
وكان آية في كثرة الحديث وحفظه ينظّر بعلي بن المديني، ولكنه متروك الحديث. قاله في «العبر» [2] .
وقال ابن ناصر الدّين: سليمان بن داود الشّاذكونيّ المنقريّ أبو أيوب، كان من كبار الحفاظ، لكنه اتهم بالكذب.
وقال البخاريّ: فيه نظر.
وقال ابن عدي: سألت عبدان عنه فقال: معاذ الله أن يتّهم، إنما كان قد ذهبت كتبه، وكان يحدّث حفظا. انتهى.
وفيها أبو جعفر النّفيليّ الحافظ، أحد الأعلام، عبد الله بن محمد بن عليّ بن نفيل الحرّانيّ، في ربيع الآخر، عن سن عالية. روى عن زهير بن معاوية والكبار.
قال أبو داود: لم أر أحفظ منه. قال: وكان الشّاذكوني لا يقر لأحد بالحفظ إلا للنّفيليّ.
وقال أبو حاتم: ثقة مأمون.
وقال محمد بن عبد الله بن نمير: كان النفيليّ رابع أربعة: وكيع، وابن المهدي، وأبو نعيم، وهو.
وفيها أبو الحسن بن بحر بن برّي القطّان البغداديّ الحافظ بناحية الأهواز. كتب الكثير عن عبد العزيز الدراوردي وطبقته.
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «الحرثي» وهو خطأ، والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» (11/ 489) .
[2] (1/ 416- 417) .(3/158)
وقال ابن ناصر الدّين: هو علي بن بحر بن برّي الفارسيّ البغداديّ.
روى عنه أحمد وغيره، ووثق. انتهى.
وفيها علي بن المديني، وهو الإمام أحد الأعلام، أبو الحسن علي بن عبد الله بن جعفر بن نجيح السعديّ مولاهم البصريّ الحافظ، صاحب التصانيف. سمع من حمّاد بن زيد، وعبد الوارث، وطبقتهما.
قال البخاريّ: ما استصغرت نفسي عند أحد إلّا عند ابن المديني.
وقال أبو داود: ابن المديني أعلم باختلاف الحديث من أحمد بن حنبل.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: علي بن المديني أعلم الناس بحديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وخاصة بحديث سفيان بن عيينة.
توفي في ذي القعدة وله ثلاث وسبعون سنة.
وفيها محمد بن عبد الله بن نمير الحافظ أبو عبد الرّحمن الهمذانيّ الكوفيّ، أحد الأئمة، في شعبان. سمع أباه، وسفيان بن عيينة، وخلقا.
قال أبو إسماعيل الترمذي [1] : كان أحمد بن حنبل يعظّم محمد بن عبد الله بن نمير تعظيما عجيبا [2] .
__________
[1] في «العبر» : «القرمزي» وهو خطأ فيصحح فيه. وهو محمد بن إسماعيل بن محمد بن يوسف السلمي الترمذي أبو إسماعيل، من أهل بغداد، ترمذي الأصل، فقيه عالم ثقة صدوق مكثر من الحديث، مشهور بالطلب. رحل إلى الحجاز، ومصر. سمع محمد بن عبد الله الأنصاري، وأبا نعيم الفضل بن دكين، وقبيصة بن عقبة، وإسحاق بن محمد الفروي، وأيوب ابن سليمان بن بلال، وعبد العزيز بن عبد الله الأويسي، وعبد الله بن مسلمة القعنبي، وعارم ابن الفضل، وأبا صالح كاتب الليث، ويحيى بن عبد الله بن بكير، وأبا بكر عبد الله بن الزّبير الحميدي. وروى عنه أبو بكر بن أبي الدنيا، وموسى بن هارون، وجعفر بن محمد الفريابي، وأبو عيسى الترمذي، وأبو عبد الرحمن النسائي وأخرجا عنه في كتابيهما، وأثنى عليه النسائي. وقال: محمد بن إسماعيل الترمذي خراساني ثقة. وقال غيره: كان فهما، متقنا، مشهورا بمذهب السنة، ومات في شهر رمضان سنة ثمانين ومائتين ودفن عند قبر الإمام أحمد ابن حنبل. عن «الأنساب» للسمعاني (3/ 47- 48) .
[2] في الأصل: «عجبا» وأثبت ما في المطبوع.(3/159)
وقال علي بن الحسين بن الجنيد الحافظ: ما رأيت بالكوفة مثله، قد جمع العلم، والسّنّة، والزّهد، وكان فقيرا يلبس في الشتاء [1] لبّادة.
وقال ابن صالح المصري: ما رأيت بالعراق مثله ومثل أحمد بن حنبل جامعين، لم أر مثلهما بالعراق [2] .
وفيها محمد بن أبي بكر [3] بن علي بن عطاء بن مقدّم مولى ثقيف، الحافظ أبو عبد الله المقدّميّ البصريّ. توفي في أول السنة. روى عن حمّاد ابن زيد وطبقته.
وفيها المعافى بن سليمان الرّسعنيّ، محدّث رأس العين. روى عن فليح بن سليمان، وزهير بن معاوية، وكان صدوقا.
وفيها شيخ الأندلس يحيى بن يحيى بن كثير الفقيه، أبو محمد اللّيثيّ، مولاهم، الأندلسيّ في رجب. وله اثنتان وثمانون سنة. روى «الموطأ» عن مالك سوى فوت من الاعتكاف. وانتهت إليه رياسة الفتوى ببلده. وخرج له عدة أصحاب. وبه انتشر مذهب مالك بناحيته، وكان إماما كثير العلم، كبير القدر، وافر الحرمة، كامل العقل، خيّر النفس [4] كثير العبادة والفضل. كان يوما عند مالك فقدم فيل وخرج النّاس ينظرون إليه ولم يخرج، فقال له مالك: لم لا تخرج تنظره فإنه ليس ببلدك فيل؟ فقال: إنما جئت من بلدي لأنظر إليك وأتعلم هديك وعلمك، فقال له: أنت عاقل الأندلس، رحمه الله تعالى.
__________
[1] في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (11/ 456) : «في الشتاء الشاتي» وانظر تتمة الخبر فيه.
[2] في المطبوع: «في العراق» .
[3] في الأصل، والمطبوع: «محمد بن بكير» وهو خطأ والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 419) وانظر «اللباب» لابن الأثير (3/ 247) ، و «طبقات الحفاظ» للسيوطي ص (203) .
[4] قوله: «خير النفس» لم يرد في «العبر» للذهبي المطبوع.(3/160)
سنة خمس وثلاثين ومائتين
فيها كما قاله في «الشذور» : أمر المتوكل بأخذ أهل الذّمّة بلبس الطيالس العسلية والزنانير، وترك ركوب السروج، ونهى أن يستعان بهم في الدواوين، وأن يتعلم أولادهم في كتاتيب المسلمين، ولا يعلّمهم مسلم.
وفي ذي الحجّة تغير ماء دجلة إلى الصفرة فبقي ثلاثة أيام، ففزع النّاس لذلك ثم صار في لون الورد. انتهى.
وفيها توفي إسحاق بن إبراهيم الموصليّ النديم، أبو محمد. كان رأسا في صناعة الطرب والموسيقا [1] أديبا، عالما، أخباريا، شاعرا، محسنا، كثير الفضائل. سمع من مالك وهشيم وجماعة، وعاش خمسا وثمانين سنة، وكان نافق السوق عند الخلفاء إلى الغاية، يعدّ من الأجواد. وثقه إبراهيم الحربي. قاله في «العبر» [2] .
وقال ابن الأهدل: كان المأمون يقول: لولا ما سبق لإسحاق من الشهرة بالغناء لوليته القضاء، فإنه أولى، وأعفّ، وأصدق، وأكثر دينا وأمانة من هؤلاء القضاة، لكن طعن فيه الخطابيّ كما نقله النواوي عنه وقال: إنه معروف بالسخف، والخلاعة، وإنه لما وضع كتابه في الأغاني وأمعن في تلك الأباطيل، لم يرض بما تزود من إثمها حتّى صدّر كتابه بذم أصحاب الحديث، وزعم أنهم يروون ما لا يدرون. انتهى.
__________
[1] في «العبر» للذهبي (1/ 420) : «كان رأسا في صناعة الأدب والموسيقى» .
[2] (1/ 420) .(3/161)
وقال ابن الفرات: كان إسحاق- رحمه الله- من العلماء باللغة، والفقه، والكلام، والأشعار، وأخبار الشعراء، وأيام النّاس، وكان كثير الكتب، حتّى قال ثعلب: رأيت لإسحاق الموصلي ألف جزء من لغات العرب كلها سماعه، وما رأيت اللغة في منزل أحد أكثر منها في منزل إسحاق ثم منزل ابن الأعرابي، وهو صاحب كتاب «الأغاني» الذي يرويه عنه ابنه حمّاد، وقد روى عنه أيضا الزّبير بن بكّار، ومصعب بن عبيد الزّبيري، وأبو العيناء، وميمون بن هارون، وغيرهم.
وقال عون بن محمد الكلبي: حدثنا محمد بن عطية العطويّ الشاعر، أنه كان عند يحيى بن أكثم في مجلس له يجتمع النّاس فيه، فرآني إسحاق بن إبراهيم، فأخذ يناظر أهل الكلام حتّى انتصف منهم، ثم تكلم في الفقه فأحسن، وقاس، واحتج، وتكلم في الشعر واللغة، ففاق من حضر، فأقبل على يحيى وقال: أعزّ الله القاضي، أفي شيء مما ناظرت فيه وحكيته نقص أو مطعن؟ قال: لا.
وكان إسحاق قد عمي قبل وفاته بسنتين.
حدّث أبو عبد الله النديم قال: لقيت إسحاق بن إبراهيم الموصلي بعد ما كفّ بصره، فسألني عن أخبار النّاس والسلطان، فأخبرته.
ومن أخباره ما روي عنه أنه قال: أخبرني رجل من بني تميم أنه خرج في طلب ناقة له، قال: فوردت على ماء من مياه طيء فإذا خباءان أحدهما قريب من الآخر، وإذا في أحد الخباءين شاب كأنه الشّنّ [1] البالي، فدنوت منه فرأيت من حاله ما رثيت له، فسألته عن خبره؟ فأعلمني أنه عاشق لابنة عمّ له. وقد كان يأتيها فيتحدث معها، وقد منع من لقائها [2] فنحل لذلك جسمه وطال همّه، وأنشأ يقول:
__________
[1] قال ابن منظور: الشّنّ والشّنّة: الخلق من كل آنية صنعت من جلد. «لسان العرب» (شنن) .
[2] في المطبوع: «لقياها» .(3/162)
ألا ما للخليلة [1] لا تعود ... أبخل بالخليلة [2] أم صدود
مرضت فعادني أهلي جميعا ... فما لك لم أر فيمن يعود
وما استبطأت غيرك فاعلميه ... وحولي من بني عمّي عديد
فلو كنت السقيمة جئت أسعى ... إليك ولم ينهنهني [3] الوعيد
قال: فسمعت كلامه الذي عناها به، فخرجت من ذلك الخباء كالبدر ليلة تمّه وهي تقول:
وعاق لأن أزورك يا خليلي ... معاشر كلّهم واش حسود
أشاعوا ما علمت من الدّواهي ... وعابونا وما فيهم رشيد
فلا يا حبّ ما طابت حياتي ... وأنت ممرّض فرد وحيد [4]
فتبادر النساء إليها وتعلقن بها، وأحس بها فوثب إليها، فتبادر الرجال نحوه فتعلقوا به، فجعلت تجذب نفسها والشاب يجذب نفسه حتّى تخلصا، فالتقيا واعتنقا، ثم شهقا شهقة واحدة وخرّا من قامتيهما متعانقين ميتين، فخرج شيخ من تلك الأخبية فوقف عليهما وقال: رحمكما الله، أما والله لئن لم أجمع بينكما في حياتكما لأجمعن بينكما بعد وفاتكما، ثم أمر بهما فغسلا وكفنا في كفن واحد، وحفر لهما قبرا واحدا ودفنهما فيه، فسألته عنهما؟
فقال: ابنتي وابن أخي، بلغ بهما الحب إلى ما رأيت، ففارقته وانصرفت.
ومن شعر إسحاق النديم- رحمه الله- ما كتبه إلى هارون الرشيد رحمه الله من أبيات:
أرى النّاس خلّان الجواد [5] ولا أرى ... بخيلا له في العالمين خليل
__________
[1] في المطبوع: «ما للحليلة» وهو تصحيف.
[2] في المطبوع: «بالحليلة» وهو تصحيف.
[3] في الأصل: «ولم ينهني» وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب. قال في «مختار الصحاح» ص (682) : نهنهه عن الشيء فتنهنه، أي كفّه وزجره فكفّ. والأبيات في «عيون الأخبار» (4/ 128) .
[4] الأبيات في «عيون الأخبار» (4/ 129) .
[5] في «الأغاني» : «خلان الكرام» .(3/163)
وإني رأيت البخل يزري بأهله ... فأكرمت نفسي أن يقال بخيل
ومن خير حالات الفتى لو علمته ... إذا نال شيئا [1] أن يكون ينيل [2]
عطائي عطاء المكثرين تكرّما ... ومالي كما قد تعلمين قليل
وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى ... ورأي أمير المؤمنين جميل [3]
انتهى ما أورده ابن الفرات ملخصا.
وفيها الأمير إسحاق بن إبراهيم بن مصعب الخزاعيّ، ابن عم طاهر ابن الحسين. ولي بغداد أكثر من عشرين سنة، وكان يسمى صاحب الجسر، وكان صارما سايسا حازما، وهو الذي كان يطلب العلماء ويمتحنهم بأمر المأمون، مات في آخر السنة.
وفيها سريج بن يونس البغداديّ أبو الحارث، الجمّال [4] العابد، أحد أئمة أصحاب الحديث.
سمع إسماعيل بن جعفر وطبقته، وهو الذي رأى ربّ العزّة في المنام [5] . وهو جدّ أبي العبّاس بن سريج.
وفيها شيبان بن فروخ الأبلّي [6] وهو من كبار الشيوخ وثقاتهم. روى عن جرير بن حازم وطبقته.
قال عبدان: كان عنده خمسون ألف حديث.
__________
[1] في «الأغاني» : «إذا نال خيرا» .
[2] في الأصل: «نبيل» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو موافق لما في «الأغاني» .
[3] في الأصل: «جليل» وأثبت ما في المطبوع وهو موافق لما في «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني (5/ 322) والأبيات فيه عدا البيت الرابع. وانظر «وفيات الأعيان» (1/ 204) .
[4] كذا نعته المؤلف بالجمّال تبعا للذهبي في «العبر» وهو خطأ، فإن الجمّال لقب لسريع بن عبد الله الوسطي. انظر «الكاشف» للذهبي (1/ 275) طبع دار الكتب العلمية، و «تهذيب التهذيب» (3/ 459) .
[5] انظر قصة منامه في «سير أعلام النبلاء» (11/ 146) .
[6] في الأصل، والمطبوع: «الإيلي» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 421) مصدر المؤلف. وانظر «الأنساب» (1/ 121) ، و «تقريب التهذيب» لابن حجر ص (269) .(3/164)
وفيها أبو بكر بن أبي شيبة، وهو الإمام أحد الأعلام، عبد الله بن محمّد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان العبسيّ الكوفيّ، صاحب التصانيف الكبار، توفي في المحرم وله بضع وسبعون سنة. سمع من شريك فمن بعده.
قال أبو زرعة: ما رأيت أحفظ منه.
وقال أبو عبيد: انتهى علم الحديث إلى أربعة: أبي بكر بن أبي شيبة، أسردهم له، وابن معين، وهو أجمعهم له، وابن المديني، وهو أعلمهم به، وأحمد بن حنبل، وهو أفقههم فيه.
وقال صالح جزرة: أحفظ من رأيت عند المذاكرة أبو بكر بن أبي شيبة.
وقال نفطويه: لما قدم أبو بكر بن أبي شيبة بغداد في أيام المتوكل حزروا مجلسه بثلاثين ألفا.
قال ابن ناصر الدّين: كان ثقة عديم النظير.
وخرّج له الشيخان.
وفيها عبد الله بن عمر القواريريّ البصريّ الحافظ أبو سعيد ببغداد في ذي الحجة. روى عن حمّاد بن زيد وطبقته فأكثر.
وقال صالح جزرة: هو أعلم من رأيت بحديث أهل البصرة.
وقال ابن ناصر الدّين: هو عبيد الله [1] بن عمر بن ميسرة، ثقة.
وفيها، وقيل سنة ست وعشرين، أبو الهذيل العلّاف، محمّد بن هذيل بن عبيد الله البصريّ، شيخ المعتزلة، ورأس البدعة، وله نحو من مائة سنة. قاله في «العبر» [2] .
وكان يقول بفناء أهل النّار.
__________
[1] في الأصل: «عبد الله» وهو خطأ وأثبت ما في المطبوع.
[2] (1/ 422) .(3/165)
سنة ست وثلاثين ومائتين
قال في «الشذور» : فيها حجت شجاع [1] أمّ المتوكل، فشيّعها المتوكل إلى النجف، فلما صارت إلى الكوفة أمرت لكل رجل من الطالبيين والعباسيين بألف درهم، ولأبناء المهاجرين بخمسمائة درهم، وأمرت لكل امرأة من الهاشميات بخمسمائة درهم.
وفيها أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي، وكان كثير البغض في علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- ولكنه منع من [2] القول بخلق القرآن.
انتهى.
وفيها توفي إبراهيم بن المنذر الحزاميّ المدنيّ الحافظ، أبو إسحاق محدّث المدينة. روى عن ابن عيينة، والوليد بن مسلم، وطبقتهما فأكثر.
وفيها، أو في التي قبلها، وجزم به ابن ناصر الدّين، السّمين محمد ابن حاتم بن ميمون المروزيّ ثم البغداديّ القطيعيّ، أبو عبد الله، وله كتاب «تفسير القرآن» وكان إماما، حافظا من الموثقين. وثقه ابن عدي، والدارقطني، وليّنه يحيى بن معين، وخرّج له مسلم، وأبو داود.
وفيها أبو معمر القطيعيّ، إسماعيل بن إبراهيم ببغداد. روى عن شريك وطبقته، وكان ثقة صاحب حديث وسنة.
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «سجاع» وهو تصحيف، والتصحيح من «تاريخ الطبري» (9/ 185) و «النجوم الزاهرة» (2/ 286) .
[2] لفظة «من» سقطت من الأصل، وأثبتها من المطبوع.(3/166)
وفيها وزير المأمون وحموه أبو محمد الحسن بن سهل، وله سبعون سنة، وكان سمحا إلى الغاية جوادا ممدّحا. يقال: إنه أنفق على عرس بنته بوران على المأمون أربعة آلاف ألف دينار.
قال ابن الأهدل: الحسن بن سهل السّرخسيّ- وسرخس مدينة من خراسان [1]- وكان موته لغلبة المرّة السوداء لشدة حزنه على أخيه الفضل حين قتل معافصة [2] في الحمام، وكان عالي الهمّة ممدّحا، ودام في الوزارة كأخيه مدة طويلة، وفيهما قال الشاعر:
تقول حليلتي لمّا رأتني ... أشدّ مطيّتي من بعد حلّ
أبعد الفضل ترتحل المطايا ... فقلت نعم إلى الحسن بن سهل [3]
انتهى.
وفيها مصعب بن عبد الله بن مصعب، الحافظ أبو عبد الله الأسديّ الزّبيريّ المدنيّ النسابة الأخباريّ. سمع مالكا وطائفة.
قال الزّبير: كان عمّي مصعب وجه قريش، مروءة، وعلما، وشرفا، وبيانا، وقدرا، وجاها. وكان نسّابة قريش. عاش ثمانين سنة، وكان ثقة.
وفيها هدبة بن خالد القيسيّ البصريّ أبو خالد الحافظ. سمع حمّاد ابن سلمة، ومبارك بن فضالة، والكبار، فأكثر.
قال عبدان الأهوازي: كنا لا نصلي خلف هدبة مما يطوّل. كان يسبّح في الركوع والسجود نيفا وثلاثين تسبيحة، وكان من أشبه خلق الله بهشام بن عمّار، لحيته ووجهه وكل شيء منه حتّى صلاته.
__________
[1] انظر «معجم البلدان» لياقوت (3/ 208- 209) .
[2] العفاص: غلاف يغطّى به رأس القارورة من جلد أو خرقة أو غير ذلك. كناية عن أنه خنق خنقا. انظر «لسان العرب» (عفص) ، و «المعجم الوسيط» (2/ 611) .
[3] البيتان في «غربال الزمان» للعامري ص (222) .(3/167)
سنة سبع وثلاثين ومائتين
فيها على ما قال [1] في «الشذور» تمّ جامع سرّ من رأى، فبلغت النفقة عليه ثلاثمائة ألف وثمانية آلاف ومائتين واثني عشر دينارا. انتهى.
وفيها وثبت بطارقة إرمينية على متوليها يوسف بن محمّد فقتلوه، فجهز المتوكل لحربهم بغا الكبير، فالتقوا عند أردبيل [2] فكسرهم بغا، وقتل منهم زهاء ثلاثين ألفا وسبى، وغنم، ونزل بناحية تفليس.
وفيها غضب المتوكل على أحمد بن أبي دواد القاضي وآله وصادرهم، وأخذ منهم ستة عشر ألف ألف درهم.
وفيها توفي حاتم الأصمّ، أبو عبد الرّحمن الزّاهد، صاحب المواعظ والحكم بخراسان، وكان يقال له: لقمان هذه الأمة.
قال أبو عبد الرحمن السّلمي في «طبقاته» [3] : حاتم الأصم البلخي [4] .
وهو حاتم بن عنوان، ويقال: حاتم بن يوسف، كنيته أبو عبد الرّحمن، وهو من
__________
[1] في المطبوع: «على ما قاله» .
[2] في الأصل، والمطبوع: «عندوبيل» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 424) .
وأردبيل الآن في الشمال الشرقي من إيران على مقربة من بحر قزوين. انظر «معجم البلدان» لياقوت (1/ 145- 146) ، و «أطلس التاريخ العربي» للأستاذ شوقي أبو خليل ص (40) .
[3] «طبقات الصوفية» ص (91- 95) وقد نقل المؤلف عنه باختصار وتصرف.
[4] لفظة «البلخي» لم ترد في «طبقات الصوفية» الذي بين يدي.(3/168)
قدماء مشايخ خراسان، ومن أهل بلخ [1] ، صحب شقيق بن إبراهيم، وكان أستاذ أحمد بن حضرويه، وهو مولى للمثنّى بن يحيى المحاربي [2] وله ابن يقال له: خشنام بن حاتم. مات عند رباط يقال له: رأس سرود على جبل فوق واشجرد.
قال حاتم: من دخل في مذهبنا هذا فليجعل على نفسه أربع خصال من الموت:
موت أبيض، وموت أسود، وموت أحمر، وموت أخضر.
فالموت الأبيض: الجوع.
والموت الأسود: احتمال الأذى [3] .
والموت الأحمر: مخالفة النّفس.
والموت الأخضر: طرح الرّقاع بعضها على بعض.
وقال: من أصبح وهو مستقيم في أربعة أشياء، فهو يتقلّب في رضا الله.
أولها الثقة بالله، ثم التّوكّل، ثم الإخلاص، ثم المعرفة، والأشياء كلها تتم بالمعرفة.
وقال: الواثق من رزقه من لا يفرح بالغنى [4] ولا يغتم بالفقر [5] ولا يبالي أصبح في عسر أو يسر.
وقال: يعرف الإخلاص بالاستقامة، والاستقامة بالرّجاء، والرّجاء بالإرادة، والإرادة بالمعرفة.
وقال: أصل الطاعة ثلاثة أشياء:
__________
[1] في «طبقات الصوفية» : «من أهل بلخ» .
[2] في الأصل، والمطبوع: «المثنى بن يحيى البخاري» وهو خطأ، والتصحيح من «طبقات الصوفية» .
[3] في «طبقات الصوفية» : «احتمال أذى الناس» .
[4] في الأصل، والمطبوع: «الوثق برزقه هو أن لا يفرح بالغنى» وأثبت لفظ «طبقات الصوفية» .
[5] في «طبقات الصوفية» : «ولا يهتم بالفقر» .(3/169)
الخوف، والرّجاء، والحبّ.
وأصل المعصية ثلاثة أشياء: الكبر، والحسد، والحرص.
وقال: إذا أمرت النّاس بالخير فكن أنت أولى به وأحقّ، واعمل فيما تأمر، وكذا فيما تنهى.
وأسند في «الحلية» [1] قال: مرّ عصام بن يوسف بحاتم الأصم وهو يتكلم في مجلسه، فقال: يا حاتم تحسن تصلي؟ قال: نعم. قال: كيف تصلي؟ قال حاتم: أقوم بالأمر، وأمشي بالخشية، وأدخل بالنية، وأكبّر بالعظمة، وأقرأ بالترتيل والتفكر، وأركع بالخشوع، وأسجد بالتواضع، وأجلس للتشهد بالتمام، وأسلّم بالسبل والسّنّة، وأسلمها بالإخلاص لله- عزّ وجلّ- وأرجع على نفسي بالحق [2] ، وأخاف أن لا تقبل مني، واحفظه عني إلى الموت. قال: تكلم فأنت تحسن تصلي. انتهى ما ذكره السلميّ ملخصا.
قال ابن الجوزي: ولم يكن أصم، وإنما كانت امرأة [3] تسأله فخرج منها صوت، فخجلت، فقال: ارفعي صوتك حتّى أسمع، فزال خجلها، وغلب عليه هذا الاسم.
وفيها عبد الأعلى بن حمّاد [النّرسيّ] [4] الحافظ في جمادى الآخرة.
روى عن حمّاد بن سلمة، ومالك، وخلق، وكان ممن قدم على المتوكل فوصله بمال.
__________
[1] (8/ 74- 75) .
[2] في «الحلية» : «بالخوف» .
[3] في الأصل: «امرأته» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب. وانظر «تاريخ بغداد» (8/ 244) .
[4] زيادة من «العبر» للذهبي (1/ 424) ، وانظر «اللباب» لابن الأثير (3/ 302) .(3/170)
وعبيد الله [1] بن معاذ بن معاذ العنبريّ البصريّ سمع أباه، ومعتمر [2] ابن سليمان.
قال أبو داود: كان فصيحا يحفظ نحو أربعة آلاف حديث.
والفضيل بن الحسين [3] الجحدريّ، ابن أخي كامل بن طلحة. سمع حمّاد بن سلمة والكبار، وكان له حفظ ومعرفة.
وأبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن العبّاس بن عثمان المطّلبيّ، ابن عم الشّافعي. سمع الفضيل بن عياض وطائفة، وكان كثير الحديث ثقة.
وفيها وثيمة بن موسى الوشّاء، سمي به لبيعه الوشي، وهو نوع من ثياب الإبريسم، وكان وثيمة أحد الحفاظ، صنف كتاب «أخبار الردة» أجاد فيه وأوسع.
قال في «المغني» [4] : قال ابن [أبي] [5] حاتم: يحدّث عن سلمة بن الفضل بأحاديث موضوعة. انتهى.
__________
[1] في «العبر» للذهبي: «عبد الله» وهو خطأ فيصحح فيه. وانظر «سير أعلام النبلاء» (11/ 384) ، و «تقريب التهذيب» ص (374) .
[2] في الأصل والمطبوع و «العبر» (1/ 425) : «ومعمر» وهو خطأ، والتصحيح من «تهذيب الكمال» (2/ 889) مصورة دار المأمون للتراث.
[3] في «العبر» : «الفضل بن الحسين» وهو خطأ فيصحح فيه. انظر «سير أعلام النبلاء» (11/ 111) ، و «تقريب التهذيب» ص (447) .
[4] «المغني في الضعفاء» (2/ 719) .
[5] سقطت من الأصل، والمطبوع، واستدركتها من «المغني في الضعفاء» .(3/171)
سنة ثمان وثلاثين ومائتين
فيها جاءت الرّوم في ثلاثمائة مركب، وأحرقوا كثيرا من ديار المسلمين ومسجد الجامع بدمياط، وسبوا نساء مسلمات عدّتهنّ ستمائة.
قاله [1] في «العبر» [2] .
قال ابن حبيب: وفي صفر وجّه عبد الله بن طاهر إلى المتوكل حجرا سقط بناحية طبرستان وزنه ثمانمائة وأربعون درهما، أبيض فيه صدع، وذكروا أنه سمع لسقوطه هدة أربعة فراسخ في مثلها، وأنه ساخ في الأرض خمسة أذرع. ذكره [3] في «الشذور» .
وفيها توفي إسحاق بن راهويه، وهو الإمام عالم المشرق أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظليّ المروزيّ ثم النيسابوريّ الحافظ، صاحب التصانيف. سمع الدراوردي، وبقيّة، وطبقتهما، وعاش سبعا وسبعين سنة، وقد سمع من ابن المبارك وهو صغير فترك الرّواية عنه لصغره.
قال أحمد بن حنبل: لا أعلم بالعراق له نظيرا، وما عبر الجسر مثل إسحاق.
وقال محمد بن أسلم: ما أعلم أحدا كان أخشى لله من إسحاق، ولو كان سفيان حيا لاحتاج إلى إسحاق.
__________
[1] في المطبوع: «كما قاله» .
[2] (1/ 425- 426) والمؤلف ينقل عنه بتصرف.
[3] يعني ابن الجوزي.(3/172)
وقال أحمد بن سلمة: أملى علي إسحاق التفسير عن [1] ظهر قلبه.
وجاء من غير وجه أن إسحاق كان يحفظ سبعين ألف حديث.
قال أبو زرعة: ما رؤي أحفظ من إسحاق.
توفي إسحاق ليلة نصف شعبان بنيسابور. قاله في «العبر» [2] .
وناظر الشافعيّ في بيع دور مكة، فلما عرف فضله صحبه وصار من أصحاب الشافعي، رضي الله عنه. قاله ابن الأهدل.
وفيها بشر بن الحكم العبديّ النّيسابوريّ الفقيه، والد عبد الرّحمن، توفي قبل إسحاق [3] بشهر.
قال أبو زرعة: ما رؤي أحد أحفظ منه، وقد رحل قبله ولقي مالكا والكبار، وعني بالأثر.
وفيها بشر بن الوليد الكنديّ، القاضي العلّامة أبو الوليد ببغداد، في ذي القعدة، وله سبع وتسعون سنة. تفقه على أبي يوسف، وسمع من مالك وطبقته، وولي قضاء مدينة المنصور، وكان محمود الأحكام كثير العبادة والنوافل.
وفيها الحسين بن منصور أبو علي السّلميّ النيسابوريّ الحافظ.
رحل وأكثر عن ابن عيّاش، وابن عيينة، وطبقتهما، وعرض عليه قضاء نيسابور فاختفى، ودعا الله فمات في اليوم الثالث.
وفيها طالوت بن عبّاد أبو عثمان البصريّ، له نسخة [4] مشهورة عالية. روى عن حمّاد بن سلمة وطبقته، وكان ثقة، ولم يخرّجوا له شيئا.
وعمرو بن زرارة الكلابيّ النّيسابوريّ، وله ثمان وسبعون سنة. روى عن
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «على» وأثبت ما في «العبر» للذهبي (1/ 426) .
[2] (1/ 426) .
[3] يعني إسحاق بن راهويه.
[4] في «العبر» (1/ 427) : «فشيخة» وانظر «سير أعلام النبلاء» (11/ 26) .(3/173)
هشيم وطبقته، وكان ثقة صاحب حديث.
وعبد الملك بن حبيب مفتي الأندلس ومصنف «الواضحة» وغير ذلك في رابع رمضان، وله أربع وستون [1] سنة تفقه بالأندلس على أصحاب مالك، زياد بن عبد الرّحمن شبطون وغيره، وحج سنة ثمان ومائتين، فحمل عن عبد الملك بن الماجشون وطائفة، وهو في الحديث ليس بحجة.
قال في «المغني» [2] : عبد الملك بن حبيب القرطبيّ الفقيه، كثير الوهم، صحفيّ [3] وقد اتهم [4] . انتهى.
وفيها عبد الرّحمن بن الحكم بن هشام بن الدّاخل الأمويّ، صاحب الأندلس، وقد نيّف على الستين، وكانت أيامه اثنتين وثلاثين سنة، وكان محمود السيرة عادلا جوادا مفضّلا، له نظر في العقليات، ويقيم للناس الصلوات، ويهتم بالجهاد.
وفيها محمد بن بكّار بن الرّيّان، ببغداد في ربيع الآخر. سمع فليح ابن سليمان، وقيس بن الرّبيع، والكبار.
وفيها أبو جعفر محمد بن الحسين البرجلانيّ، مصنف «الزهديات» وشيخ ابن أبي الدّنيا.
وفيها محمّد بن عبيد بن حساب الغبريّ [5] بالبصرة. روى عن
__________
[1] في «العبر» للذهبي: «أربع وسبعون» ولعله وهم من الناسخ، فإن الصواب ما جاء في كتابنا لأن ولادته كانت سنة (174) .
[2] «المغني في الضعفاء» (2/ 404) .
[3] قال ابن منظور: «المصحّف والصّحفيّ: الذي يروي الخطأ عن قراءة الصحف بأشباه الحروف. «لسان العرب» (صحف) .
[4] قلت: ولكن في الرجل كلام فيه بعض التعديل عند الذهبي في «ميزان الاعتدال» (2/ 652- 653) ، و «لسان الميزان» لابن حجر (4/ 59- 60) ويحسن بالقارئ الرجوع إليهما.
[5] في الأصل: «العبري» وهو تصحيف، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب، وانظر «تقريب التهذيب» لابن حجر ص (495) .(3/174)
حمّاد بن زيد، وطبقته، وكان ثقة حجة.
ومحمد بن أبي السّري العسقلانيّ في شعبان. سمع الفضيل بن عياض، وطبقته.
وفيها أبو سعيد يحيى بن سليمان الجعفيّ الكوفيّ المقرئ الحافظ، نزيل مصر، وقيل: في السنة التي قبلها. سمع عبد العزيز الدّراوردي وطبقته.(3/175)
سنة تسع وثلاثين ومائتين
فيها على ما قاله في «الشذور» أخذ المتوكل أهل الذّمّة بلبس رقعتين عسليتين على الأقبية والدّراريع، وأن يصبغ النساء مقانعهن عسليات، وأن يقتصروا على ركوب البغال، والحمير، دون الخيل، والبراذين.
وغزا بلاد الرّوم علي بن يحيى الأرمينيّ فقتل عشرة آلاف علج، وسبى عشرة آلاف فارس، ومن الدواب سبعة آلاف دابة، وأحرق أكثر من ألف قرية، ورجفت طبرية بالليل [1] حتّى مادت الأرض واصطكت الجبال، ثم انقطع من الجبل المطلّ عليها قطعة ثمانين ذراعا طولا في خمسين ذراعا، فمات منها خلق كثير. انتهى.
وفيها على ما قاله في «العبر» [2] غزا المسلمون وعليهم عليّ الأرمني، حتّى شارفوا القسطنطينيّة، فأغاروا وأحرقوا ألف قرية، وقتلوا وسبوا.
وفيها عزل يحيى بن أكثم من القضاء وصودر، وأخذ منه مائة ألف درهم [3] .
__________
[1] في المطبوع: «في الليل» .
[2] (1/ 429) .
[3] في «مرآة الجنان» لليافعي (2/ 122) : «وأخذ منه ألف دينار» ، وفي «العبر» للذهبي (1/ 429) : «وصودر منه مائة ألف دينار» ولعل الصواب ما جاء في كتابنا و «مرآة الجنان» فإن(3/176)
وفيها توفي مفتي بلخ أبو إسحاق إبراهيم بن يوسف الباهليّ البلخيّ الحنفيّ الفقيه، في جمادى الأولى. أخذ عن أبي يوسف، وسمع من مالك وجماعة، وكان رئيسا مطاعا فأخرج قتيبة من بلخ لعداوة بينهما.
وخرّج له النسائيّ، وهو شيخه.
قال في «المغني» [1] : ثقة فقيه.
قال أبو حاتم: لا يشتغل به. انتهى.
وفيها داود بن رشيد أبو الفضل الخوارزميّ ببغداد في شعبان. سمع إسماعيل بن جعفر وطبقته، وكان ثقة واسع الرّواية.
وفيها صفوان بن صالح، أبو عبد الملك مؤذّن جامع دمشق. روى عن الوليد بن مسلم وطبقته، وكان حنفيّ المذهب. [2] والصّلت بن مسعود الجحدريّ قاضي سامرّاء في صفر. روى عن حمّاد بن زيد وطبقته.
وفيها عبد الله بن عمر بن أبان [الكوفيّ مشكدانة] [3] روى عن أبي الأحوص وجماعة كثيرة [4] .
وفيها عثمان بن محمد بن أبي شيبة العبسيّ الكوفيّ الحافظ، وكان أكبر من أخيه أبي بكر. رحل، وطوّف، وصنف «التفسير» و «المسند» ، وحضر مجلسه ثلاثون ألفا. روى عن شريك، وأبي الأحوص، وخلق. وروى عنه
__________
الدينار يساوي مائة درهم، وعلى ذلك يكون ما صودر له ألف دينار وهي تساوي مائة ألف درهم، والله أعلم.
[1] (1/ 31) .
[2] في المطبوع: «مشكل» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 430) ، و «تقريب التهذيب» لابن حجر ص (315) .
[3] ما بين حاصرتين سقط من الأصل وأثبته من المطبوع. ومشكدانة: وعاء المسك بالفارسية.
[4] في «العبر» : «وجماعة كبيرة» .(3/177)
الشيخان وغيرهما، وكان ثقة.
وفيها محمد بن مهران [1] أبو جعفر الرّازي الجمّال الحافظ، رحل وطوّف، وروى عن فضيل بن عياض، وخلق كثير، وحدّث عنه الشيخان وغيرهما، وكان ثقة.
وفيها محمد بن يحيى بن أبي سمينة [2] أبو جعفر، البغداديّ التمّار الحافظ، في ربيع الأول. سمع المعافى بن عمران وطائفة.
وفيها محمود بن غيلان أبو أحمد المروزيّ الحافظ، محدّث مرو.
حجّ وحدّث ببغداد عن الفضل بن موسى، وابن عيينة، وطائفة.
قال أحمد بن حنبل: أعرفه بالحديث صاحب سنّة. حبس بسبب القرآن.
وقال ابن ناصر الدّين: حدّث عنه الشيخان، والترمذي، والنسائيّ، وابن ماجة، وغيرهم، وكان حافظا ثقة. انتهى.
وفيها وهب بن بقيّة الواسطيّ، ويقال له: وهبان. روى عن هشيم وأقرانه.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «محمد بن يحيى بن مهران» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 430) مصدر المؤلف. وانظر «تهذيب الكمال» للمزّي (3/ 1277) مصوّرة دار المأمون للتراث بدمشق، و «سير أعلام النبلاء» (11/ 143) ، و «طبقات الحفّاظ» ص (195) .
[2] في المطبوع: «محمد بن أبي سمينة» .(3/178)
سنة أربعين ومائتين
فيها كما قاله في «الشذور» أخذ أهل الذّمّة بتعليم أولادهم العبرانية، والسريانية، ومنعوا من العربية، ونادى المنادي بذلك، فأسلم منهم خلق كثير.
وفيها خرجت ريح من بلاد التّرك، فمرّت بمرو، فقتلت خلقا كثيرا بالزّكام، ثم صارت إلى نيسابور، وإلى الرّيّ، وإلى همذان، وحلوان، ثم إلى العراق، وأصاب أهل بغداد، وسرّ من رأى، حمّى، وسعال، وزكام.
وقال محمد بن حبيب: جاءت الكتب من المغرب أن ثلاثة عشر قرية من القيروان خسف بها، فلم ينج من أهلها إلّا اثنان وأربعون رجلا سود الوجوه، فأتوا القيروان، فأخرجهم أهلها، فقالوا أنتم مسخوط عليكم [1] ، فبنى لهم العامل حظيرة خارج المدينة فنزلوها. انتهى ما ذكره في «الشذور» .
وفيها توفي أحمد بن أبي دواد- على وزن فؤاد- قاضي القضاة أبو عبد الله الإياديّ، وله ثمانون سنة. وكان فصيحا، مفوّها، شاعرا، جوادا، ممدّحا، رأسا في التجهّم، وهو الذي شغب على الإمام أحمد بن حنبل وأفتى بقتله. قاله في «العبر» [2] .
__________
[1] في الأصل: «عليهم» ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[2] (1/ 431) .(3/179)
وقال ابن الأهدل: كان عالما، جوادا، ممدّحا، معتزليا، وكان له القبول التام عند المأمون والمعتصم، وهو أول من بدأ الخلفاء بالكلام وكانوا لا يكلّمون حتّى يتكلموا، وبسببه وفتياه امتحن الإمام أحمد وأهل السّنّة بالضرب والهوان على القول بخلق القرآن، وابتلي ابن أبي دواد بعد ذلك بالفالج نحو أربع سنين، ثم غضب عليه المتوكل فصادره [1] هو وأهله وأخذ منهم ستة عشر ألف ألف درهم، وأخذ من والده مائة ألف وعشرين ألف دينار، وجوهرا بأربعين ألف دينار، وقيل: إنه صالحه على ضياعه وضياع أبيه بألف ألف دينار. ولأحمد بن أبي دواد عطايا جزيلة وشفاعة إلى الخلفاء مقبولة، وفيه يقول الشاعر:
لقد أنست مساوئ كلّ دهر ... محاسن أحمد بن أبي دواد
وما سافرت في الأقطار إلّا ... ومن جدواك راحلتي وزادي [2]
وكان بينه وبين ابن الزّيّات شحناء ومهاجاة عظيمة. انتهى ما قاله ابن الأهدل.
وفيها أبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبيّ البغداديّ الفقيه أحد الأعلام.
تفقه [بالشّافعيّ] [3] ، وسمع من ابن عيينة وغيره، وبرع في العلم، ولم يقلّد أحدا.
قال أحمد بن حنبل: أعرفه بالسّنّة منذ خمسين سنة. وهو عندي في صلاح سفيان الثوري. انتهى.
قال ابن الأهدل: صنف فجمع في تصنيفه بين الحديث والفقه،
__________
[1] في الأصل: «فصادروه» وأثبت ما في المطبوع.
[2] البيتان لأبي تمام، وهما في «ديوانه» (1/ 374) وذكرهما ابن كثير في «البداية والنهاية» (10/ 320) والعامري في «غربال الزمان» ص (223) .
[3] سقطت من الأصل، والمطبوع، واستدركتها من «العبر» للذهبي (1/ 431) .(3/180)
واستعمل أولا مذهب أهل الرّأي حتّى قدم الشافعيّ العراق وصحبه فاتبعه، وهو غير مقلّد لأحد.
وقال له محمد بن الحسن: غلبنا عليك هذا الحجازيّ- يعني الشافعيّ- فقال: أجد الحق معه. انتهى.
وقال ابن ناصر الدّين: هو ثقة مأمون مجتهد. انتهى.
والحسن بن عيسى بن ماسرجس أبو علي النيسابوريّ. توفي في أول السنة بطريق مكّة، وكان ورعا ديّنا ثقة، أسلم على يد ابن المبارك، وسمع الكثير منه، ومن أبي الأحوص، وطائفة، ولما مرّ ببغداد حدّث بها، وعدوا في مجلسه اثني عشر ألف محبرة.
وفيها أبو عمرو [1] خليفة بن خيّاط [العصفريّ] [2] البصريّ الحافظ شباب [3] ، صاحب «التاريخ» و «الطبقات» وغير ذلك. سمع من يزيد بن زريع [4] وطبقته، وحدّث عنه البخاريّ وغيره، وكان ثبتا يقظا.
وسويد بن سعيد أبو محمد الهرويّ ثم الحدثانيّ، نسبة إلى الحديثة [5] التي تحت عانة. سمع مالكا وشريكا وطبقتهما، وكان مكثرا حسن الحديث، بلغ مائة سنة.
قال أبو حاتم: صدوق كثير التدليس.
قال في «المغني» [6] : سويد بن سعيد الحدثانيّ شيخ مسلم. محدّث نبيل، له مناكير.
__________
[1] في «تقريب التهذيب» لابن حجر ص (195) بتحقيق الأستاذ الفاضل محمد عوّامة: «أبو عمر» وهو خطأ فيصحح فيه. انظر «الأنساب» (8/ 467) و «سير أعلام النبلاء» (11/ 472) .
[2] لفظة «العصفري» لم ترد في الأصل وأثبتها من المطبوع.
[3] وهو لقب عرف به.
[4] في المطبوع: «يزيد بن ربيع» وهو خطأ.
[5] انظر خبرها في «معجم البلدان» لياقوت (2/ 230) وتعرف بحديثة الفرات، وحديثة النورة.
[6] (1/ 290) .(3/181)
قال أبو حاتم: صدوق.
وقال أحمد: متروك.
وقال النسائيّ: ليس بثقة.
وقال البخاريّ: عمي وكان يقبل التلقين. انتهى.
وسويد بن نصر المروزيّ. رحل وكتب عن ابن المبارك، وابن عيينة، وعمّر تسعين سنة.
وسحنون مفتي القيروان وقاضيه، أبو سعيد عبد السّلام بن سعيد بن حبيب التنوخيّ الحمصيّ الأصل ثم المغربي المالكيّ [1] صاحب «المدوّنة» .
أخذ عن ابن القاسم، وابن وهب، وأشهب، وله عدة أصحاب، وعاش ثمانين سنة.
وعبد الواحد بن غياث المربديّ [2] البصريّ. سمع حمّاد بن سلمة وطبقته.
وفيها محدّث خراسان أبو رجاء قتيبة بن سعيد الثقفيّ مولاهم البلخيّ ثم البغلانيّ [3] الحافظ، واسمه يحيى، وقيل: علي، ولقبه قتيبة [4] .
سمع مالكا، واللّيث، والكبار. ورحل العلماء إليه من الأقطار، وكان من الأغنياء.
قال ابن ناصر الدّين: حدّث عنه أصحاب الكتب إلّا ابن ماجة، وروى عنه أحمد، وابن معين. إليه المنتهى في الثقة. انتهى.
__________
[1] لفظة «المالكي» لم ترد في الأصل وأثبتها من المطبوع.
[2] في الأصل، والمطبوع: «المرثدي» وهو خطأ والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 431) ، وانظر «الأنساب» للسمعاني (11/ 234) .
[3] قال السمعاني: هذه النسبة إلى بغلان، وهي بلدة بنواحي بلخ، وظني أنها من طخارستان، وهي العليا والسفلى، وهما من أنزه بلاد الله تعالى على ما قيل. «الأنساب» (2/ 257) .
[4] في «العبر» : «وقتيبة لقبه» .(3/182)
وأبو بكر الأعين محمد بن أبي عتّاب [1] الحسن بن طريف البغداديّ الحافظ في جمادى الأولى. سمع زيد بن الحباب وطبقته، ورحل إلى الشام، ومصر، وجمع وصنف.
واللّيث بن خالد أبو الحارث المقرئ الكبير، صاحب الكسائي، وكان من أعيان أهل الأداء ببغداد، وتوفي قبل الأربعين ومائتين تقريبا.
وسليمان بن أحمد الدمشقيّ ثم الواسطيّ الحافظ. روى عن الوليد ابن مسلم وجماعة، وهو مضعّف [2] .
قال البخاريّ: فيه نظر.
وفيها عبد العزيز بن يحيى الكنانيّ [3] المكيّ. سمع من سفيان بن عيينة، وناظر بشرا المريسي [4] في مجلس المأمون بمناظرة عجيبة غريبة، فانقطع بشر وظهر عبد العزيز، ومناظرتهما مشهورة مسطورة، وعبد العزيز هو صاحب كتاب «الحيدة» [5] وهو معدود في أصحاب الشافعيّ.
وفيها نصير [6] بن يوسف الرّازيّ النحويّ المقرئ، تلميذ الكسائي.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «محمد بن أبي غياث» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 433) ، و «طبقات الحفاظ» للسيوطي ص (247) .
[2] في «العبر» : «وهو ضعيف» .
[3] في الأصل، والمطبوع: «الكتاني» وهو تصحيف، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 434) ، و «تقريب التهذيب» ص (359) .
[4] في المطبوع: «وناظر بشر المريسي» .
[5] في «غربال الزمان» ص (224) : «الجيدة» وهو تصحيف فيصحح فيه.
وقال الذهبي في «ميزان الاعتدال» (2/ 639) : قلت: لم يصح إسناد كتاب «الحيدة» إليه، فكأنه وضع عليه، والله أعلم.
[6] تحرف في «العبر» للذهبي (1/ 434) إلى «نصر» فيصحح فيه، وانظر «غاية النهاية في طبقات القراء» لابن الجزري (2/ 340- 341) .(3/183)
وعمر بن زرارة الحدثيّ. ثقة، له نسخة [1] مشهورة. روى عن شريك وجماعة.
وفيها أبو يعقوب الأزرق صاحب ورش، وكان مقرئ ديار مصر في زمانه، واسمه يوسف بن عمرو بن يسار [2] .
قال في «حسن المحاضرة» [3] : أبو يعقوب الأزرق يوسف بن عمرو بن يسار المدنيّ ثم المصريّ. لزم ورشا مدة طويلة، وأتقن عنه الأداء وخلفه في الإقراء بالدّيار المصرية، وانفرد عنه بتغليظ اللّامات وترقيق الراءات.
قال أبو الفضل الخزاعي: أدركت أهل مصر والمغرب على أبي يعقوب عن ورش [4] لا يعرفون غيرها. انتهى.
وفيها أحمد بن المعدّل بن غيلان العبديّ البصريّ الفقيه المالكيّ المتكلم، صاحب عبد الملك الماجشون. كان فصيحا مفوها. له عدة مصنفات. وعليه تفقه إسماعيل القاضي، والبصريون.
__________
[1] في «العبر» للذهبي: «مشيخة» . وانظر «سير أعلام النبلاء» (11/ 407- 408) .
[2] في «العبر» للذهبي: «واسمه عمرو بن يسار» وهو خطأ فيصحح فيه.
[3] (1/ 486) .
[4] في «حسن المحاضرة» : «عن أبي يعقوب وورش» .(3/184)
سنة إحدى وأربعين ومائتين
فيها على ما قاله في «الشذور» ماجت النجوم في السماء وجعلت تطاير شرقا وغربا كالجراد من قبل غروب الشفق إلى قريب من الفجر، ولم يكن مثل هذا إلّا عند ظهور رسول الله- صلى الله عليه وسلم- انتهى.
وفيها توفي في ثاني عشر ربيع الأول بكرة الجمعة، شيخ الأمة وعالم أهل العصر، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الذّهليّ الشيبانيّ المروزيّ ثم البغداديّ، أحد الأعلام ببغداد، وقد تجاوز سبعا وسبعين سنة بأيام، وكان أبوه جنديا فمات شابّا أول طلب أحمد للعلم، في سنة تسع وسبعين ومائة، فسمع أحمد من هشيم، وإبراهيم بن سعد، وطبقتهما. وكان شيخا أسمر مديد القامة، مخضوبا، عليه سكينة ووقار، وقد جمع ابن الجوزي أخباره في مجلد، وكذلك البيهقيّ، وشيخ الإسلام الهرويّ، وكان إماما في الحديث وضروبه، إماما في الفقه ودقائقه، إماما في السّنّة ودقائقها [1] ،، إماما في الورع وغوامضه، إماما في الزّهد وحقائقه. قاله في «العبر» [2] .
وقال الحافظ عبد الغني في كتابه «الكمال في أسماء الرّجال» : أحمد ابن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حيّان بن
__________
[1] في «العبر» للذهبي: «وطرائقها» .
[2] (1/ 435) .(3/185)
عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة [1] بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان الشيباني، أبو عبد الله. خرج من مرو حملا، وولد ببغداد، ونشأ بها ومات بها، ورحل إلى الكوفة، والبصرة، ومكّة، والمدينة، واليمن، والشام، والجزيرة.
وسمع من سفيان بن عيينة، وإبراهيم بن سعد، ويحيى بن سعيد القطّان، وهشيم بن بشير، ومعتمر [2] بن سليمان، وإسماعيل بن عليّة، ووكيع ابن الجرّاح، وعبد الرّحمن بن مهدي، وخلق.
وروى عنه عبد الرّزّاق بن همّام، ويحيى بن آدم، وأبو الوليد هشام بن عبد الملك الطّيالسي، وأبو عبد الله محمد بن إدريس [3] الشّافعي، والأسود ابن عامر شاذان، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، وأكثر عنه في «كتاب السنن» .
وروى الترمذيّ عن أحمد بن الحسن الترمذي عنه.
وروى النسائي عن عبد الله بن أحمد بن حنبل عنه، وعن محمد بن عبد الله عنه.
وروى ابن ماجة عن محمد بن يحيى الذّهلي عنه.
وإبراهيم الحربي، والأثرم [4] وأبو بكر أحمد المرّوذيّ [5] ، وعثمان بن
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «جذيلة» بالذال وهو تصحيف، والتصحيح من «جمهرة أنساب العرب» لابن حزم ص (295) . وانظر «الأعلام» للزركلي (2/ 114) .
[2] في الأصل: «ومعمر» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب. انظر «تهذيب الكمال» (1/ 439) طبع مؤسسة الرسالة.
[3] تحرف في المطبوع إلى «محمد بن دربس» .
[4] هو أبو بكر أحمد بن محمد بن هاني الأثرم الطائي. انظر «تهذيب الكمال» (1/ 440) طبع مؤسسة الرسالة.
[5] تحرفت في الأصل، والمطبوع إلى «المروزي» ، والتصحيح من «الأنساب» للسمعاني(3/186)
سعيد الدّارمي [1] ومحمد بن يحيى الذّهلي النيسابوري، وخلق لا يحصون.
قال إبراهيم الحربي: أدركت ثلاثة لن يرى مثلهم أبدا، يعجز النساء أن يلدن مثلهم، رأيت أبا عبيد القاسم بن سلّام ما أمثله إلّا بجبل نفخ [2] فيه روح، ورأيت بشر بن الحارث ما شبّهته إلّا برجل عجن من قرنه إلى قدمه عقلا، ورأيت أحمد بن حنبل، كأن الله- عز وجل- جمع له علم الأولين من كل صنف، يقول ما شاء ويمسك ما شاء.
وعن الحسن بن العبّاس قال: قلت لأبي مسهر: هل تعرف أحدا يحفظ على هذه الأمة أمر دينها؟ قال: لا أعلم إلّا شابا بالمشرق، يعني أحمد بن حنبل.
وقال قتيبة بن سعيد: لو أدرك أحمد بن حنبل عصر الثوري، والأوزاعي، ومالك، واللّيث بن سعد، لكان هو المقدّم.
وقيل لقتيبة: يضم أحمد بن حنبل إلى التابعين؟ قال: إلى كبار التابعين.
وقال يحيى بن معين: دخلت على أبي عبد الله أحمد بن حنبل فقلت له: أوصني، فقال: لا تحدّث المسند إلّا من كتاب [3] .
وقال علي بن المديني: قال لي سيدي أحمد بن حنبل: لا تحدّث إلا من كتاب.
وقال يوسف بن مسلم: قال حدّث الهيثم بن جميل بحديث عن جميل بحديث عن هشيم فوهم فيه، فقيل له: خالفوك في هذا، فقال: من خالفني؟
قالوا: أحمد بن حنبل. قال: وددت أنه نقص من عمري وزيد في عمر أحمد ابن حنبل.
(11/ 255) ، و «تهذيب الكمال» (1/ 440) طبع مؤسسة الرسالة.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «عمر بن سعيد الدارمي» وهو خطأ. والتصحيح من «تهذيب الكمال» للمزي (1/ 441) .
[2] في الأصل: «ينفخ» وأثبت ما في المطبوع.
[3] يعني لا تحدّث الأحاديث بالإسناد إلا من كتاب.(3/187)
وقيل لأبي زرعة: من رأيت من المشايخ المحدّثين أحفظ؟ قال: أحمد ابن حنبل، حزر كتبه اليوم الذي مات فيه فبلغ اثني عشر حملا وعدلا، ما على ظهر كتاب منها حديث فلان، ولا في بطنه حدثنا فلان، وكل ذلك كان يحفظه من ظهر قلبه.
وروي عن أبي عبد الله أحمد بن حنبل إمام الحفاظ أنه قال: إذا جاء الحديث في فضائل الأعمال وثوابها وترغيبها تساهلنا في إسناده، وإذا جاء الحديث في الحدود، والكفّارات، والفرائض، تشددنا فيه.
وقال إبراهيم بن شمّاس: خاض النّاس فقالوا: إن وقع أمر في أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- فمن الحجّة على وجه الأرض، فاتفقوا كلهم على أن أحمد بن حنبل حجّة [1] . انتهى ما قاله في «الكمال» ملخصا.
وقال ابن الأهدل: كان أحمد من خواص أصحاب الشافعي، وكان الشافعيّ يأتيه إلى منزله، فعوتب في ذلك فأنشد:
قالوا يزورك أحمد وتزوره ... قلت الفضائل لا تفارق منزله
إن زارني فبفضله أو زرته ... فلفضله فالفضل في الحالين له [2]
رضي الله عنهما.
وكان أحمد يحفظ ألف ألف حديث.
قال الرّبيع: كتب إليه الشّافعيّ من مصر، فلما قرأ الكتاب بكى، فسألته عن ذلك فقال: إنه يذكر أنه رأى النّبيّ- صلى الله عليه وسلم- وقال: «اكتب إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل واقرأ عليه مني السّلام وقل له: إنك ستمتحن على القول بخلق القرآن فلا تجبهم، نرفع لك علما إلى يوم القيامة» .
قال الربيع: فقلت له: البشارة، فخلع عليّ قميصه وأخذت جوابه، فلما
__________
[1] في المطبوع: «حجته» .
[2] البيتان في «غربال الزمان» لليافعي ص (224) ولم أجدهما في «ديوانه» المطبوع.(3/188)
قدمت على الشافعيّ وأخبرته بالقميص قال: لا نفجعك فيه [1] ولكن بلّه وادفع إليّ ماءه حتّى أكون شريكا لك فيه.
وكان يخضب بالحناء خضابا [2] ليس بالقاني.
وحزر من حضر جنازته من الرجال فكانوا ثمانمائة ألف، ومن النساء ستين ألفا، وأسلم يوم موته عشرون ألفا من اليهود، والنصارى، والمجوس.
وحكي عن إبراهيم الحربي قال: رأيت بشرا الحافي في النوم كأنه خارج من مسجد الرّصافة وفي كمه شيء يتحرك، فقلت: ما هذا في كمك؟
فقال: نثر علينا لقدوم روح أحمد الدّر والياقوت، فهذا ما التقطته. انتهى ما ذكره ابن الأهدل ملخصا.
وفيها توفي جبارة بن المغلّس الحمّانيّ الكوفيّ عن سن عالية. روى عن شبيب بن شيبة [وأبي بكر] النهشلي [3] .
قال في «المغني» [4] : جبارة بن المغلّس شيخ ابن ماجة، واه.
قال ابن نمير: صدوق، كان يوضع له الحديث، يعني فلا يدري.
وقال البخاريّ: مضطرب الحديث.
قال أبو حاتم: وقال ابن معين: كذّاب. انتهى.
وفيها الحسن بن حمّاد الإمام أبو علي الحضرميّ البغداديّ سجّادة. روى عن أبي بكر بن عيّاش وطبقته، وكان ثقة صاحب سنة وله حلقة وأصحاب.
وفيها أبو توبة [5] الحلبيّ، واسمه الرّبيع بن نافع الحافظ. سمع
__________
[1] في المطبوع: «لا نفجعك به» .
[2] لفظة «خضابا» سقطت من الأصل وأثبتها من المطبوع.
[3] في الأصل والمطبوع: «روى عن شبيب بن أبي شيبة النهشلي» وهو خطأ، والتصحيح من «تهذيب الكمال» (4/ 489- 490) .
[4] (1/ 127) .
[5] في الأصل، والمطبوع: «أبو ثوبة» وهو تصحيف، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 436) ، و «تقريب التهذيب» ص (207) .(3/189)
معاوية بن سلّام، وشريكا، والكبار. وروى عنه أحمد وغيره بلا واسطة، والشيخان بواسطة. كان أحد الثقات، ونزل طرسوس، فكان شيخها وعالمها.
وعبد الله بن منير أبو عبد الرّحمن المروزيّ الزّاهد القانت، الذي قال البخاريّ: لم أر مثله. روى عن يزيد بن هارون وطبقته، وكان ثقة.
ويعقوب بن حميد بن كاسب المحدّث مدني مشهور. نزل مكّة وروى عن إبراهيم بن سعد وطبقته، وكان يكنى أبا يوسف. قواه البخاري، ووثقه ابن معين، وضعفه جماعة.
وفيها عبيد الله بن سعيد [السّرخسيّ أبو قدامة اليشكريّ] [1] المولى الرّضي، العلّامة الثقة. روى عنه الشيخان، والنسائي، وابن خزيمة. أظهر السّنّة بسرخس ودعا إليها وحده.
وفيها الحسن بن إسحاق بن زياد، حسنويه [2] ، أحد الثقات. روى عنه البخاريّ، والنسائيّ، وغيرهما.
__________
[1] ما بين حاصرتين سقط من الأصل، وأثبته من المطبوع.
[2] في الأصل والمطبوع: «حسنونة» وهو خطأ، والتصحيح من «تهذيب الكمال» (7/ 56) .(3/190)
سنة اثنتين وأربعين ومائتين
وفيها على ما قاله في «الشذور» رجمت قرية يقال لها: السويداء بناحية مضر [1] بخمسة أحجار، فوقع حجر منها على خيمة أعرابي فاحترقت، وزن منها حجر فكان عشرة أرطال، فحمل منها [2] أربعة إلى الفسطاط، وواحد إلى تنّيس. وزلزلت الرّيّ، وجرجان، وطبرستان، ونيسابور، وأصبهان، وقم، وقاشان، كلها في وقت واحد، وتقطعت جبال، ودنا بعضها من بعض، وسمع للسماء والأرض أصوات عالية، وسار جبل كان باليمن عليه مزارع قوم إلى مزارع قوم آخرين فوقف عليها، وزلزلت الدّامغان، فسقط نصفها على أهلها، فهلك بذلك خمسة وعشرون ألفا، وسقطت بلدان كثيرة على أهلها، ووقع طائر أبيض دون الرّخمة [3] وفوق الغراب على دلبة بحلب لسبع مضين من رمضان، فصاح: يا معشر النّاس اتقوا الله، الله، الله، حتّى صاح أربعين صوتا، ثم طار وجاء من الغد، فصاح أربعين صوتا، وكتب صاحب البريد بذلك وأشهد خمسمائة إنسان سمعوه، ومات رجل في بعض كور الأهواز، فسقط طائر أبيض فصاح بالفارسية وبالحورية: إن الله قد غفر لهذا
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «بناحية مصر» وهو تصحيف والتصحيح من «معجم البلدان» (3/ 286) .
[2] لفظة «منها» لم ترد في المطبوع.
[3] قال الدميري في «حياة الحيوان الكبرى» (1/ 470) : الرخمة: طائر أبقع يشبه النسر في الخلقة.(3/191)
الميت ولمن شهده. انتهى ما ذكره ابن الجوزي في «الشذور» .
وفيها توفي أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزّهري الفقيه، قاضي المدينة ومفتيها، في رمضان، وله اثنتان وتسعون سنة. تفقه على مالك، وسمع منه «الموطأ» ولزمه مدة، وسمع من جماعة، وكان ثقة.
قال الزّبير بن بكّار: مات وهو فقيه المدينة غير مدافع.
وفيها القاضي أبو حسّان الزّيادي، وهو الحسن بن عثمان، في رجب ببغداد، وكان إماما، ثقة، أخباريا، مصنفا، كثير الاطلاع. سمع حمّاد ابن زيد وطبقته.
قيل: إن الشّافعيّ نزل عليه ببغداد.
وفيها الحافظ أبو محمد الحسن بن علي الحلوانيّ الخلّال. سمع حسين بن علي الجعفي وطبقته. كان محدّث مكّة. ثقة مكثرا.
قال إبراهيم بن أرومة: بقي اليوم في الدّنيا ثلاثة: محمد بن يحيى الذّهلي بخراسان، وأحمد بن الفرات بأصبهان، والحسن بن عليّ الحلواني بمكّة.
وفيها الإمام أبو عمرو عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان المقرئ إمام جامع دمشق، قرأ على أيوب بن تميم، وسمع من الوليد بن مسلم وطائفة.
قال أبو زرعة الدمشقي: ما في الوقت أقرأ من ابن ذكوان.
وقال أبو حاتم: صدوق.
قال في «العبر» [1] : قلت: عاش سبعين سنة. انتهى.
وفيها الإمام الرّبّانيّ محمد بن أسلم الطّوسيّ الزّاهد، صاحب
__________
[1] (1/ 437) .(3/192)
«المسند» و «الأربعين» ، وكان يشبّه في وقته بابن المبارك. رحل وسمع الحديث من يزيد بن هارون، وجعفر بن عون وطبقتهما. وروى عنه إمام الأئمة ابن خزيمة، وقال: لم تر عيناي مثله.
وقال غيره: كان يعد من الأبدال، وكان يقال له: ربّانيّ هذه الأمة.
قال ابن ناصر الدّين: قيل: إنه صلى عليه لما مات ألف ألف إنسان.
وفيها أبو عبد الله محمد بن رمح التّجيبيّ مولاهم المصريّ الحافظ في شوّال. سمع اللّيث، وابن لهيعة.
قال النسائيّ: ما أخطأ في حديث واحد.
وقال ابن يونس: ثقة ثبت. كان أعلم الناس بأخبار بلدنا.
وفيها محمد بن عبد الله بن عمّار الموصليّ الحافظ أبو جعفر، صاحب «التاريخ» و «علل الحديث» . سمع المعافي بن عمران، وابن عيينة، وطبقتهما، وكان عبيد العجلي يعظم أمره ويرفع قدره.
قال النسائيّ: ثقة صاحب حديث.
قال في «المغني» [1] : ثقة، أساء أبو يعلى القول فيه. انتهى.
وفيها نوح بن حبيب [2] القومسيّ الحافظ. في رجب. روى عن عبد الله بن إدريس، ويحيى القطّان، وطبقتهما، وكان ثقة صاحب سنّة.
وفيها يحيى بن أكثم القاضي، أبو محمد المروزيّ ثم البغداديّ، أحد الأعلام، في آخر السنة بالرّبذة، منصرفا من الحج، وله بضع وسبعون
__________
[1] (2/ 598) .
[2] كذا في الأصل، و «العبر» للذهبي: «نوح بن حبيب» وهو الصواب، وفي المطبوع، و «تقريب التهذيب» ص (566) بتحقيق الأستاذ الفاضل محمد عوّامة: «نوح بن أبي حبيب» وهو خطأ فيصحح فيه. انظر «الأنساب» للسمعاني (10/ 261) ، و «تهذيب الكمال» للمزي (3/ 1425) مصوّرة دار المأمون للتراث، و «تهذيب التهذيب» (10/ 481) .(3/193)
سنة. سمع جرير بن عبد الحميد وطبقته، وكان فقيها مجتهدا مصنفا.
قال طلحة الشاهد: يحيى بن أكثم أحد أعلام الدّنيا، قائم بكل معضلة، غلب على المأمون حتّى أخذ بمجامع [1] قلبه، وقلّده القضاء وتدبير مملكته، وكانت الوزراء لا تعمل الشيء إلّا بعد مطالعته. قاله في «العبر» [2] .
وقال ابن الأهدل: كان سنيّ العقيدة، غلب على المأمون فقلّده القضاء وتدبير مملكته، ثم عزله المعتصم بابن أبي دواد، ثم رده المتوكل وعزل ابن أبي دواد، حتّى طابت عقائد أهل السّنّة، وكان يحيى كثير المزاح، واختلف المحدّثون في توثيقه، ولي قضاء البصرة وهو ابن ثماني عشرة سنة، وقال له المأمون: كم سنك؟ فقال: كعتّاب بن أسيد حين أمّره النّبيّ- صلى الله عليه وسلم- على مكّة.
وسئل أحمد عما يذكر عنه من الهنات فأنكره إنكارا شديدا.
وله الأثر المحمود والمقام التام يوم نادى المأمون بتحليل المتعة، فردّه بصريح النقل حتّى رجع واستغفر، ولما استدعاه المأمون للقضاء، نظر إليه، وكان دميم الخلق، فعلم أنه استحقره، فقال: يا أمير المؤمنين، سلني إن كان القصد عليّ لا خلقي، فسأله عن المسألة المعروفة بالمأمونية، وهي أبوان وابنتان ولم تقسم التركة حتّى ماتت إحدى البنتين، عمن في المسألة، فقال:
الميت الأول رجل أو امرأة، فقال له: إذا سألت عن الميت الأول فقد عرفتها. انتهى ما قاله ابن الأهدل ملخصا.
قلت: لأن الميت الأول إن كان رجلا فالأب وارث في المسألة الثانية، لأنه أبو أب، وإلّا فلا، لأنه أبو أم.
__________
[1] في الأصل: «بجامع» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع.
[2] (1/ 439) والمؤلف ينقل عنه بتصرف.(3/194)
وروى أبو القاسم القشيريّ [1] ، رحمه الله تعالى، في «الرسالة» [2] قال:
حكى أبو عبد الله الحسين بن عبد الله بن سعيد، قال: كان القاضي يحيى بن أكثم صديقا لي، وكان يودني وأوده، فمات، فكنت أشتهي أن أراه في المنام، فأقول له: ما فعل الله بك، فرأيته ليلة في المنام، فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي، إلّا أنه وبخني، ثم قال لي: يا يحيى خلّطت على نفسك في دار الدّنيا. فقلت: يا رب اتكلت على حديث حدثني به أبو معاوية الضّرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، إنك قلت: «إني لأستحي أن أعذّب شيبة بالنّار» . فقال: قد عفوت عنك يا يحيى، وصدق نبيي، إلا أنك خلّطت على نفسك في دار الدّنيا. انتهى كلامه.
وأكتم بالمثناة والمثلثة: العظيم البطن.
__________
[1] هو عبد الكريم بن هوازن النيسابوري، شيخ خراسان في عصره، المتوفي سنة (465) هـ، وسوف ترد ترجمته في المجلد الخامس من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى.
[2] ص (327) ، وساق هذا النقل ابن خلكان في «وفيات الأعيان» (6/ 163- 164) وفيه بعض الاختلاف.(3/195)
سنة ثلاث وأربعين ومائتين
وفيها توفي أبو عبد الله أحمد بن سعيد الرّباطيّ [الأشقر] [1] الحافظ بنيسابور، وقيل: في سنة خمس أو ست وأربعين. سمع [وكيعا ورحل إلى عبد الرزاق، وحدّث عنه الأئمة سوى ابن ماجة، وكان علّامة مفيدا متقنا.
وفيها أبو عبد الله أحمد بن عيسى المصريّ، المعروف بابن التّستريّ.
سمع ضمام بن إسماعيل و] [2] ابن وهب، ونزل بغداد.
وحدّث عنه الشيخان، والنسائي، وغيرهم.
قال في «المغني» [3] : عن ابن وهب، ثقة. كذّبه ابن معين، وقال النسائيّ: لا بأس به. انتهى.
وفيها إبراهيم بن العبّاس الصوليّ البغداديّ، أحد الشعراء المجيدين [4] والكتّاب المنشئين. كان موصوفا بالبلاغة والبراعة، وله ديوان مشهور فيه أشياء بديعة.
قال دعبل: لو تكسّب إبراهيم بن العبّاس بالشعر لتركنا في غير شيء.
__________
[1] لفظة «الأشقر» لم ترد في الأصل، و «العبر» للذهبي مصدر المؤلف، وأثبتها من المطبوع، وانظر «سير أعلام النبلاء» للذهبي (12/ 207) .
[2] ما بين حاصرتين سقط من «العبر» للذهبي فيستدرك فيه.
[3] «المغني في الضعفاء» (1/ 51) .
[4] في «العبر» : «المجودين» .(3/196)
وقال ابن خلّكان [1] : وله ديوان شعر كله نخب، وهو صغير، ومن رقيق شعره:
دنت بأناس عن تناء زيارة ... وشطّت [2] بليلى عن دنوّ مزارها
وإنّ مقيمات بمنعرج اللّوى ... لأقرب من ليلى وهاتيك دارها [3]
وله نثر بديع، فمن ذلك ما كتبه عن أمير المؤمنين، إلى بعض البغاة الخارجين يتهددهم ويتوعدهم، وهو:
أما بعد: فإن لأمير المؤمنين أناة، فإن لم تغن عقّب بعدها وعيدا، فإن لم يغن أغنت عزائمه، والسلام.
وهذا الكلام مع وجازته في غاية الإبداع، فإنه ينشأ منه بيت شعر وهو:
أناة فإن لم تغن عقّب بعدها ... وعيدا فإن لم يغن أغنت عزائمه
وكان يقول: ما اتكلت في مكاتبتي [قطّ] [4] إلّا على ما يجلبه خاطري، ويجيش به صدري. انتهى ما قاله ابن خلّكان ملخصا.
وفيها الزّاهد الناطق بالحكمة: الحارث بن أسد المحاسبيّ، صاحب المصنفات في التصوف والأحوال. روى عن يزيد بن هارون وغيره.
قال ابن الأهدل: كان أحد الخمسة الجامعين بين العلمين في واحد:
هو، والجنيد، وأبو محمد، وأبو العبّاس بن عطاء، وعمرو بن عثمان المكي.
وله مصنفات نفيسة في السلوك والأصول، ولم يأخذ من ميراث أبيه شيئا لأن أباه كان قدريّا.
__________
[1] في «وفيات الأعيان» (1/ 44) .
[2] في «وفيات الأعيان» : «وشطّ» .
[3] البيتان في «وفيات الأعيان» وعزاهما محققه الأستاذ الدكتور إحسان عبّاس إلى «ديوانه» ص (145) .
[4] زيادة من «وفيات الأعيان» .(3/197)
ومن قوله: فقدنا ثلاثة أشياء: حسن الوجه مع الصيانة، وحسن القول مع الأمانة [1] ، وحسن الإخاء مع الوفاء. وهو أحد شيوخ الجنيد. انتهى.
وفيها الفقيه أبو حفص حرملة بن يحيى التّجيبيّ المصريّ الحافظ، مصنف «المختصر» و «المبسوط» وغيرهما. روى عن ابن وهب مائة ألف حديث، وتفقه بالشّافعيّ، وخرّج له مسلم، والنسائي.
قال في «المغني» [2] : هو شيخ مسلم، صدوق، يغرب.
قال أبو حاتم: لا يحتج به.
وقال عبد الله بن محمد الفرهياني [3] : ضعيف.
وقال ابن عدي: قد تبحرت في حديثه وفتشته الكثير، فلم أجد له ما يضعف من أجله. انتهى.
وقال الإسنوي: حرملة بن يحيى بن عبد الله بن حرملة المصريّ التّجيبيّ نسبة إلى تجيب [4] بتاء مثناة من فوق مضمومة، وقيل: مفتوحة، ثم جيم بعدها ياء بنقطتين من تحت ثم موحدة، وهي قبيلة نزلت بمصر وأصلها اسم امرأة.
كان حرملة إماما حافظا للحديث والفقه، صنف «المبسوط» و «المختصر» المعروف به. ولد سنة ست وستين ومائة، وتوفي في شوال سنة ثلاث وأربعين ومائتين. انتهى ملخصا.
__________
[1] كذا في الأصل، والمطبوع، و «مرآة الجنان» (2/ 143) : «مع الأمانة» ، وفي «غربال الزمان» ص (226) : «مع الإصابة» .
[2] «المغني في الضعفاء» (1/ 153) .
[3] ويقال: الفرهاذاني، نسبة إلى «فرهاذان» من قرى نسا بخراسان. انظر «معجم البلدان» لياقوت (4/ 258) ، و «اللباب» لابن الأثير (2/ 427) .
[4] في المطبوع: «تجنيب» وهو خطأ، وانظر «معجم البلدان» لياقوت (2/ 16) ، و «اللباب» لابن الأثير (1/ 207) .(3/198)
وفيها عبد الله بن معاوية الجمحيّ البصريّ وقد نيّف على المائة.
روى عن القاسم بن الفضل الحدّانيّ، والحمّادين، وكان ثقة صاحب حديث.
وفيها عقبة بن مكرم أبو عبد الملك العمّيّ البصريّ الحافظ. روى عن غندر [1] وطبقته، وكان ثبتا حجة.
ومات قبله بأعوام [2] عقبة بن مكرم الضّبّيّ الكوفيّ. روى عن ابن عيينة، ويونس بن بكير، ولم تقع له رواية في شيء من الكتب الستة.
وفيها محمد بن يحيى بن أبي عمر، أبو عبد الله العدنيّ الحافظ، صاحب «المسند» بمكة، في آخر السنة. روى عن الفضيل بن عياض، والدّراوردي، وخلق. وكان عبدا صالحا، خيرا.
وقال مسلم، وغيره: هو حجة صدوق.
وفيها هارون بن عبد الله الحافظ أبو موسى البغداديّ البزّاز المعروف بالحمّال. رحل وسمع عبد الله بن نمير، وابن أبي فديك، وطبقتهما.
قيل: إنه تزهد وصار يحمل بأجرة يتقوت بها.
وفيها هنّاد بن السّريّ، الحافظ الزّاهد القدوة أبو السّريّ الدّارميّ الكوفيّ، صاحب كتاب «الزّهد» . روى عن شريك، وإسماعيل بن عيّاش، وطبقتهما فأكثر، وجمع، وصنف.
وروى عنه [3] أصحاب الكتب الستة إلّا البخاري [3] .
__________
[1] تحرفت في «العبر» للذهبي (1/ 441) إلى «عبيد» فتصحح فيه.
[2] وجزم الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (12/ 179) بأنه مات سنة أربع وثلاثين ومائتين.
[3] في الأصل: «وروي عن» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
قال الحافظ المزي في «تهذيب الكمال» (3/ 1450) مصورة دار المأمون للتراث بدمشق:
روى عنه البخاري في «أفعال العباد» والباقون، يعني من أصحاب الكتب الستة.(3/199)
وفيها أبو همّام الوليد بن شجاع السّكونيّ الحافظ الكوفيّ. سمع شريكا، وابن جعفر، وطبقتهما.
قال في «المغني» [1] : ثقة مشهور.
قال أبو حاتم: لا يحتج به. انتهى.
__________
[1] «المغني في الضعفاء» (2/ 722) .(3/200)
سنة أربع وأربعين ومائتين
فيها على ما قاله في «الشذور» اتفق عيد الأضحى، وعيد الفطير لليهود، وشعانين النصارى.
وفيها توفي أحمد بن منيع الحافظ الكبير أبو جعفر البغويّ الأصم، صاحب «المسند» ببغداد في شوال. سمع هشيما وطبقته، وهو جد أبي القاسم البغوي لأمه.
وقد خرّج له الجماعة، لكن البخاري بواسطة واحد، وكان أحد الثقات المشهورين.
وإبراهيم بن عبد الله الهرويّ الحافظ ببغداد في رمضان. روى عن إسماعيل بن جعفر، وكان من أعلم الناس بحديث هشيم، وكان صوّاما، عابدا، تقيا.
قال في «المغني» [1] : إبراهيم بن عبد الله الهرويّ شيخ الترمذي.
قال النسائي: ليس بالقويّ.
وقال أبو داود: ضعيف، وقد وثق. انتهى.
وفيها إسحاق بن موسى الأنصاري الخطميّ المدنيّ ثم الكوفيّ، أبو موسى، قاضي نيسابور. روى عن ابن عيينة وطبقته. أطنب أبو حاتم الرّازي
__________
[1] «المغني في الضعفاء» (1/ 17) .(3/201)
في الثناء عليه، وكان كثير الأسفار، فتوفي بجوسية [1] من أعمال حمص.
والحسن بن شجاع أبو علي البلخيّ الحافظ، أحد أركان الحديث في شوال كهلا، ولم ينتشر [2] حديثه. سمع عبيد الله بن موسى وطبقته، روى الترمذيّ عن رجل عنه.
قال ابن ناصر الدّين: الحسن بن شجاع بن رجاء البلخيّ أبو علي.
روى عنه البخاريّ، وغيره، وكان من نظراء أبي زرعة، لكن لم يشتهر لموته كهلا قبل أوان السماع. انتهى.
وفيها أبو عمّار الحسين بن حريث المروزيّ الحافظ. سمع جرير بن عبد الحميد وطبقته ولم يرحل [3] .
وحمدويه، وهو حميد بن مسعدة بن المبارك السّاميّ البصريّ الثقة، قرأ وأقرأ، وسمع وحدّث. روى عنه أصحاب الكتب الستة إلّا البخاري [4] .
وفيها عبد الحميد بن بيان الواسطيّ. روى عن خالد الطحّان، وهشيم فأكثر [5] .
وفيها عليّ بن حجر الحافظ الإمام أبو الحسن السّعديّ المروزيّ، نزيل نيسابور في جمادى الأولى وله نحو من تسعين سنة. روى عن إسماعيل ابن جعفر، وشريك، وخلق، وكان من الثقات الأخيار.
ومحمد بن أبان أبو بكر المستمليّ، مستملي وكيع، لقي ابن عيينة، وابن وهب، والكبار.
__________
[1] أنظر خبرها في «معجم البلدان» لياقوت (2/ 185) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «ولم ينشر» وما أثبته من «العبر» للذهبي مصدر المؤلف.
[3] انظر ترجمته في «تهذيب الكمال» للمزي (6/ 358- 361) ، و «سير أعلام النبلاء» للذهبي (11/ 400- 401) .
[4] انظر ترجمته في «تهذيب الكمال» للمزي (7/ 395- 397) .
[5] انظر ترجمته في «تهذيب الكمال» للمزي (2/ 765) مصورة دار المأمون للتراث بدمشق.(3/202)
وفيها أبو عبد الله محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب الأمويّ البصريّ في جمادى الأولى. سمع أبا عوانة وطبقته، وكان صاحب حديث.
ولي القضاء جماعة من أولاده.
وفيها يعقوب بن السّكّيت، النحويّ، أبو يوسف البغدادي، صاحب كتاب «إصلاح المنطق» و «تفسير دواوين الشعراء» وغير ذلك. سبق أقرانه في الأدب مع حظ وافر في السنن والدّين، وكان قد ألزمه المتوكل تأديب ابنه المعتز، فلما جلس عنده، قال له: يا بني بأي شيء يحب الأمير أن يبتدئ من العلوم. قال: بالانصراف، قال ابن السّكّيت: فأقوم. قال المعتز: أنا أخف نهوضا منك، فقام المعتز مسرعا، فعثر بسراويله فسقط، فالتفت خجلا، فقال ابن السّكّيت:
يصاب الفتى من عثرة بلسانه ... وليس يصاب المرء من عثرة الرّجل
فعثرته بالقول تذهب رأسه ... وعثرته بالرّجل تبرا [1] على مهل [2]
فلما كان من الغد دخل على المتوكل، فقال له: قد بلغني البيتان، وأمر له بخمسين ألف درهم.
وقال أحمد بن محمد بن شدّاد: شكوت إلى ابن السكيت ضائقة فقال:
هل قلت شيئا؟ قلت: لا. قال: فأقول: أنا، ثم أنشد:
نفسي تروم أمورا لست أدركها ... ما دمت أحذر ما يأتي به القدر
ليس ارتحالك في كسب الغنى سفرا ... لكن مقامك في ضرّ هو السّفر
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «تبرئ» ، والتصويب من مصادر التخريج.
[2] البيتان في «وفيات الأعيان» لابن خلّكان (6/ 399) ، و «سير أعلام النبلاء» للذهبي (12/ 19) ، و «مرآة الجنان» لليافعي (2/ 148) ، و «غربال الزمان» للعامري ص (228) ، وفي رواية البيتين بعض الخلاف في كل من «الوفيات» و «السير» .(3/203)
وقال ابن السّكّيت: كتب رجل إلى صديق له: قد عرضت لي قبلك حاجة، فإن نجحت فألفاني منها حظي والباقي حظك، وإن تعذرت فالخير مظنون بك والعذر مقدم لك، والسلام.
وكان ابن السّكّيت يوما عند المتوكل، فدخل عليه ابناه المعتز، والمؤيد، فقال له: يا يعقوب! أيّما أحبّ إليك، ابناي هذان، أم الحسن والحسين؟ فغض [1] من ابنيه، وذكر محاسن الحسن والحسين، فأمر المتوكل الأتراك فداسوا بطنه، وحمل إلى داره فمات من الغد.
وروي أنه قال له: والله إن قنبرا خادم عليّ خير منك ومن ابنيك، فأمر بسلّ لسانه من قفاه، رحمه الله ورضي عنه.
ويقال: إنه حمل ديته إلى أولاده.
__________
[1] في الأصل: «فغضب» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.(3/204)
سنة خمس وأربعين ومائتين
فيها كما قاله في «الشذور» زلزلت بلاد المغرب حتّى تهدمت الحصون، والمنازل، والقناطر، فأمر المتوكل بتفرقة ثلاثة آلاف ألف درهم في الذين أصيبوا بمنازلهم، وكانت بأنطاكية زلزلة ورجفة قتلت خلقا كثيرا وسقط منها ألف وخمسمائة دار، ووقع من سورها نيّف وتسعون برجا، وسمع أهلها أصواتا هائلة لا يحسنون وصفها، فتركوا المنازل وهرب الناس إلى الصحراء، وسمع أهل تنّيس [1] صيحة عالية دامت، فمات منها خلق كثير، وذهبت جبلة بأهلها. انتهى.
وفيها توفي أحمد بن عبدة الضّبيّ بالبصرة. سمع حمّاد بن زيد، والكبار. وروى الكثير.
وإسحاق بن أبي إسرائيل إبراهيم بن كامجرا [2] المروزيّ الحافظ، في شوّال ببغداد وله خمس وتسعون سنة. سمع حمّاد بن زيد وطبقته، وكان من كبار المحدّثين.
__________
[1] في «النجوم الزاهرة» لابن تغري بردي (2/ 319) : «بلبيس» ، وانظر هذا الخبر فيه فإن فيه بعض الزيادة.
[2] كذا في الأصل، والمطبوع، و «العبر» للذهبي، و «تهذيب التهذيب» (1/ 223) ، و «تقريب التهذيب «ص (100) : «كامجرا» ، وفي «تهذيب الكمال» (2/ 398) طبع مؤسسة الرسالة، و (1/ 81) مصورة دار المأمون للتراث، و «سير أعلام النبلاء» للذهبي (11/ 476) : «كامجر» .(3/205)
قال ابن ناصر الدّين: هو ثقة لكن تكلّم فيه. انتهى.
وفيها إسماعيل بن موسى الفزاريّ الكوفيّ الشيعيّ المحدّث، ابن بنت السّدّي. روى عن مالك وطبقته، وروى عن عمر بن شاكر عن أنس بن مالك.
وخرّج له أبو داود، والترمذي، وغيرهما.
قال في «المغني» [1] : إسماعيل بن موسى الفزاريّ السّدّيّ يترفّض، وقال أبو داود: يتشيع. انتهى.
وفيها ذو النّون المصريّ أبو الفيض ثوبان، ويقال: الفيض بن إبراهيم، أحد رجال الطريقة، وواحد وقته. كان أبوه نوبيّا، سعي به إلى المتوكل فسجنه، وأهدي له طعام في السجن فكرهه لكون السجان حمله بيده.
ولما أطلق اجتمع عليه الصوفية ببغداد في الجامع واستأذنوه في السماع، وحضر حضرته القوّال، فأنشد:
صغير هواك عذّبني ... فكيف به إذا احتنكا
وأنت جمعت من قلبي ... هوى قد كان مشتركا [2]
فتواجد ذو النون، وسقط فانشج [3] رأسه، وقطر منه دم، ولم يقع على الأرض، فقام شابّ يتواجد، فقال له ذو النّون: الذي يراك حين تقوم، فقعد الشاب.
قال بعضهم: كان ذو النون صاحب إسراف، والشاب صاحب إنصاف.
__________
[1] «المغني في الضعفاء» (1/ 88) .
[2] البيتان مع الخبر في «غربال الزمان» ص (229) .
[3] في «غربال الزمان» : «وانشدخ» .(3/206)
ومن كلامه: علامة محب الله متابعة الرّسول في كل ما أمر به.
قال السيوطي في كتاب «حسن المحاضرة» [1] : ذو النون المصري، ثوبان بن إبراهيم، أبو الفيض، أحد مشايخ الطريق المذكورين في رسالة القشيري، وهو أول من عبّر عن علوم المنازلات، وأنكر عليه أهل مصر، وقالوا: أحدثت [2] علما لم تتكلم فيه الصحابة، وسعوا به إلى الخليفة المتوكل، ورموه عنده بالزندقة، وأحضروه من مصر على البريد، فلما دخل سرّ من رأى، وعظه، فبكى المتوكل، وردّه مكرّما. وكان مولده بإخميم [3] .
وحدّث عن مالك، واللّيث، وابن لهيعة. وروى عنه الجنيد، وآخرون. وكان أوحد وقته علما، وورعا، وحالا، وأدبا، مات في ذي القعدة سنة خمس وأربعين ومائتين، وقد قارب التسعين.
قال السّلميّ: كان أهل مصر يسمونه بالزّنديق، فلما مات أظلّت الطير الخضر جنازته ترفرف عليه إلى أن وصل إلى قبره. انتهى ما ذكره السيوطي.
وفيها سوّار بن عبد الله بن سوّار التميميّ العنبريّ البصريّ، أبو عبد الله [قاضي الرّصافة ببغداد. روى عن يزيد بن زريع وطبقته.
قال في «المغني» [4] : سوّار بن عبد الله] [5] بن قدامة العنبريّ ليس بشيء. انتهى.
وكان من الشعراء المجيدين.
__________
[1] (1/ 511- 512) .
[2] في المطبوع: «حدثت» وهو خطأ، وفي «حسن المحاضرة» : «أحدث» .
[3] قال ياقوت: إخميم بلد ... على شاطئ النيل بالصعيد، وفي غربيّه جبل صغير، من أصغى إليه بأذنيه سمع خرير الماء، ولغطا شبيها بكلام الآدميين، لا يدرى ما هو، وبإخميم عجائب كثيرة قديمة، منها البراني وغيرها، والبراني أبنية عجيبة فيها تماثيل وصور، واختلف في بانيها. وانظر تتمة كلامه فيه (1/ 123- 124) .
[4] «المغني في الضعفاء» (1/ 289) .
[5] ما بين حاصرتين سقط من الأصل، وأثبته من المطبوع.(3/207)
ودحيم الحافظ الحجّة، أبو سعيد عبد الرّحمن بن إبراهيم الدمشقي، قاضي فلسطين والأردن، وله خمس وسبعون سنة. سمع ابن عيينة، والوليد ابن مسلم، وطبقتهما. وروى عنه البخاريّ وغيره.
قال أبو داود: لم يكن في زمانه مثله.
وفيها أبو تراب النّخشبيّ [1] العارف، واسمه عسكر بن الحصين، من كبار مشايخ القوم، صحب حاتم الأصم وغيره.
قال السخاويّ في «طبقاته» : عسكر بن حصين أبو تراب النّخشبيّ، ويقال: عسكر بن محمد بن حصين، أحد فتيان خراسان، والمذكورين بالأحوال السنية الرفيعة، وأحد علماء هذه الطائفة، صحب حاتم الأصم حتّى مات، ثم خرج إلى الشّام، وكتب الحديث الكثير، ونظر في كتب الشافعي، ثم نزل مكّة، ثم كان يخرج إلى عبّادان، والثغر، ويرجع إلى مكّة، ومات بين المسجدين، ودخل البصرة وتزوج بها، وصحب شقيقا البلخي.
قال أبو تراب: من كان غناه بماله لم يزل فقيرا، ومن كان غناه في قلبه لم يزل غنيا، ومن كان غناه بربه فقد قطع عنه اسم الفقر والغنى، لأنه دخل في حيز ما لا وصف له.
وقال ابن الجلاء [2] : قال أبو تراب: إذا ألفت القلوب الإعراض عن الله صحبتها الوقيعة في الأولياء.
وقال: أشرف القلوب قلب حيّ بنور الفهم عن الله عز وجل.
وقال: ليس في العبادات شيء أنفع من إصلاح خواطر القلوب.
__________
[1] نسبة إلى نخشب من مدن ما وراء النهر بين جيحون، وسمرقند. انظر «معجم البلدان» لياقوت (5/ 276) ، و «اللباب» لابن الأثير (3/ 303) .
[2] هو أبو عبد الله أحمد بن يحيى بن الجلاء، كان أصله من بغداد، وأقام بالرّملة، ودمشق، وكان من جلّة مشايخ الشام. مات سنة (306) هـ. انظر «طبقات الصوفية» للسلمي ص (176- 179) ، و «البداية والنهاية» لابن كثير (11/ 129) .(3/208)
وقال: إن الله ينطق العلماء في كل زمان بما يشاكل [1] أعمال ذلك الزمان.
وقال: من أشغل مشغولا بالله عن الله، أدركه المقت من ساعته.
دخل بغداد مرّات، واجتمع بالإمام أحمد بن حنبل، فجعل الإمام أحمد يقول: فلان ضعيف، فلان ثقة، فقال له أبو تراب: لا تغتب العلماء، فالتفت إليه الإمام أحمد وقال له: ويحك هذا نصيحة ليس هذا غيبة. انتهى ما ذكره السخاويّ ملخصا.
وفيها محمد بن رافع أبو عبد الله القشيريّ مولاهم النيسابوريّ الحافظ. سمع ابن عيينة، ووكيعا، وخلائق. وروى عنه الشيخان، وغيرهما، وكان ثقة، زاهدا، صالحا، قد أرسل إليه عبد الله بن طاهر [2] نوبة خمسة آلاف درهم، فردّها، ولم يكن لأهله يومئذ خبز.
وفيها محمد بن هشام التميميّ السعديّ.
قال ابن الأهدل: كان ممدوحا بالحفظ وحسن الرّويّة.
قال مؤرّج [3] : أخذ منّي كتابا فحبسه ليلة ثم جاء به وقد حفظه.
وقال له سفيان بن عيينة: لا أراك تخطئ شيئا مما تسمع، ثم قال له:
حدّثني الزّهري عن عكرمة، عن ابن عبّاس أنه قال: يولد في كل سبعين سنة
__________
[1] في المطبوع: «بما يشاء كل» وهو خطأ.
[2] وكان أميرا لخراسان، ومن أشهر الولاة في العصر العباسي، مات سنة (230) هـ. انظر ترجمته ومصادرها في «الأعلام» للزركلي (4/ 93- 94) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «مؤرخ» وهو تصحيف، وهو مؤرّج بن عمرو بن الحارث.
السّدوسي، أبو فيد، عالم بالعربية والأنساب، من أعيان أصحاب الخليل بن أحمد الفراهيدي، من أهل البصرة، كان له اتصال بالمأمون العباسي، ورحل معه إلى خراسان، فسكن مدة بمرو، وانتقل إلى نيسابور. من كتبه «جماهير القبائل» ، و «حذف من نسب قريش» و «غريب القرآن» و «كتاب الأمثال» ، و «المعاني» . مات سنة (195) هـ. انظر «الأعلام» (7/ 318) .(3/209)
من يحفظ كل شيء. قال: وضرب بيده على جنبي وقال: أراك منهم.
انتهى [1] .
وفيها هشام بن عمّار الإمام أبو الوليد السّلميّ، خطيب دمشق، وقارئها، وفقيهها، ومحدّثها في سلخ المحرم، عن سنتين وتسعين سنة. روى عن مالك وطبقته، وقرأ على عراك، وأيوب بن تميم عن قراءتهما على يحيى الذّماري صاحب ابن عامر.
قال في «المغني» [2] : هشام بن عمّار، خطيب دمشق ومقرئها، ثقة مكثر، له ما ينكر.
قال أبو حاتم: صدوق وقد تغير، فكان كلما لقنه تلقّن.
وقال أبو داود: حدّث بأربعمائة حديث لا أصل لها.
وقال ابن معين: ثقة.
وقال مرّة: كيّس كيّس.
وقال النسائي: لا بأس به.
وقال الدارقطني: صدوق كبير المحل [3] .
وقال صالح جزرة: كان يأخذ على الرّواية. انتهى كلام «المغني» .
__________
[1] انظر «غربال الزمان» للعامري ص (229) .
[2] «المغني في الضعفاء» (2/ 711) .
[3] في الأصل: «كثير المحل» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.(3/210)
سنة ست وأربعين ومائتين
فيها كما قاله في «الشذور» مطرت سكّة ببلخ دما عبيطا [1] .
وفيها توفي أحمد بن إبراهيم بن كثير أبو عبد الله العبديّ البغداديّ الدّورقيّ [2] الحافظ الثقة. سمع جرير بن عبد الحميد وطبقته، وصنف التصانيف الحسنة المفيدة.
وفيها أحمد بن أبي الحواري الزّاهد الكبير، أبو الحسن الدّمشقيّ [3] . سمع أبا معاوية وطبقته، وكان من كبار المحدّثين والصوفية، وأجلّ أصحاب أبي سليمان الدّاراني، وله كلام في الحقائق، منه: ما ابتلى الله عبدا بشيء أشد من القسوة والغفلة.
وقالت له زوجته رابعة الشامية: أحبك حب الإخوان لا حب الأزواج.
وكانت زوجته أيضا من كبار الصالحات الذاكرات، وكانت تطعمه الطيّب وتطيّبه وتقول: اذهب بنشاطك إلى أهلك، وتقول عند تقريبها الطعام إليه: كل فما نضج إلّا بالتسبيح. وتقول إذا قامت من الليل:
__________
[1] ذكر ابن تغري بردي هذا الخبر في «النجوم الزاهرة» (2/ 322) برواية أخرى.
[2] انظر «تهذيب الكمال» للمزي (1/ 249- 251) طبع مؤسسة الرسالة.
[3] انظر «طبقات الصوفية» ص (98- 102) ، و «تهذيب الكمال» للمزي (1/ 369- 375) .(3/211)
قام المحبّ إلى المؤمّل قومة ... كاد الفؤاد من السّرور يطير [1]
وقال السخاويّ في «طبقات الأولياء» : أحمد بن أبي الحواري، كنيته أبو الحسن، وأبو الحواري، اسمه ميمون من أهل دمشق، صحب أبا سليمان الدّاراني، وسفيان بن عيينة، وأبا عبد الله النياحي، وغيرهم، وله أخ يقال له:
محمد، يجري مجراه في الزّهد والوّرع، وابنه عبد الله بن أحمد بن أبي الحواري من الزّهاد، وأبو أيضا كان من العارفين والورعين، فبيتهم بيت الوّرع والزّهد، ومن كلامه: من عمل بلا اتّباع سنة فعمله باطل.
وقال: إني لأقرأ القرآن فأنظر في آية آية، فيحار عقلي وأعجب من حفّاظ القرآن كيف يهنيهم النوم، ويسعهم أن يشتغلوا بتدبير الدّنيا وهم يتلون كلام الرّحمن، أما لو فهموا ما يتلون، وعرفوا حقه، وتلذذوا به، واستحلوا المناجاة به، لذهب عنهم النوم فرحا بما رزقوا ووفّقوا.
وقال الحافظ الذّهبيّ في «التهذيب» [2] : قال محمد بن عوف الحمصي:
رأيت أحمد بن أبي الحواري صلى العتمة ثم قام يصلي، فاستفتح ب الْحَمْدُ 1: 2 إلى إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ 1: 5 [الفاتحة: 5- 1] فطفت الحائط كله ثم رجعت، فإذا هو لا يجاوز إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ 1: 5 ثم نمت ومررت به سحرا، وهو يقرأ [3] : إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ 1: 5 فلم يزل يردّدها إلى الصبح. انتهى ملخصا.
وفيها أبو عبد الله الحسين بن الحسن المروزيّ الحافظ، صاحب ابن المبارك بمكة، وقد سمع من هشيم والكبار.
وفيها أبو عمر الدّوري القارئ [4] شيخ المقرئين في عصره، وله
__________
[1] البيت في «غربال الزمان» ص (230) .
[2] (1/ 17) (مخطوط) وقفت عليه في مكتب الشركة المتحدة للتوزيع بدمشق.
[3] في الأصل، والمطبوع: «وهو يقول» وما أثبته من مخطوطة «التذهيب» .
[4] لفظة «القارئ» لم ترد في المطبوع، و «العبر» للذهبي مصدر المؤلف.(3/212)
ستّ وتسعون سنة.
وهو حفص بن عمر بن عبد العزيز بن صهبان المقرئ قرأ على الكسائي، وإسماعيل بن جعفر، ويحيى اليزيدي، وحدّث عن طائفة، وصنف في القراءات، وكان صدوقا. قرأ عليه خلق كثير.
قال: أدركت حياة نافع، ولو كان عندي شيء لرحلت إليه.
وفيها دعبل بن علي الخزاعيّ [1] الشاعر المشهور الرافضيّ، مدح الخلفاء والملوك، وكان يحب الهجاء [2] . وقد أجازه عبد الله بن طاهر على أبيات ستين ألف درهم.
قال ابن خلّكان [3] : قيل: إن دعبلا لقب، واسمه الحسن. وقيل:
عبد الرحمن، وقيل: محمد، وكنيته أبو جعفر، وقيل [4] : إنه كان أطروشا [5] وفي قفاه سلعة [6] .
كان شاعرا مجيدا، إلا أنه بذيء اللسان مولعا بالهجاء [7] والحطّ من أقدار النّاس، وهجاء الخلفاء ومن دونهم، وطال عمره، فكان يقول: لي خمسون سنة أحمل خشبتي على كتفي، أدور على من يصلبني عليها فما أجد من يفعل ذلك.
وكان بين دعبل، ومسلم بن الوليد الأنصاري اتحاد كثير، وعليه تخرج
__________
[1] انظر ترجمته ومصادرها في «وفيات الأعيان» (2/ 266- 270) ، و «الأعلام» (2/ 339) .
[2] في «العبر» للذهبي: «وكان خبيث الهجاء» .
[3] في «وفيات الأعيان» (2/ 266) .
[4] في «وفيات الأعيان» : و «يقال» .
[5] قال ابن منظور: الأطروش: الأصم. «لسان العرب» (طرش) .
[6] قال ابن منظور: السّلعة بكسر السين: الضّواة، وهي زيادة تحدث في الجسد مثل الغدة، وقال الأزهري: هي الجحدرة تخرج بالرأس وسائر الجسد تمور بين الجلد واللحم إذا حركتها، وقد تكون لسائر البدن، في العنق وغيره، وقد تكون من حمصة إلى بطيخة. «لسان العرب» (سلع) .
[7] في «وفيات الأعيان» : «مولعا بالهجو» .(3/213)
دعبل في الشعر، فاتفق أن ولي مسلم جهة في بعض بلاد خراسان، وهي جرجان، فقصده دعبل لما يعلمه من الصحبة التي بينهما، فلم يلتفت مسلم إليه، ففارقه وقال:
غششت الهوى حتّى تداعت أصوله ... بنا وابتدلت الوصل حتّى تقطّعا
وأنزلت من بين الجوانح والحشا ... ذخيرة ودّ طالما قد تمنّعا
فلا تعذلنّي ليس لي فيك مطمع ... تخرّقت حتّى لم أجد لك مرقعا
وهبك يميني استأكلت فقطعتها ... وصبّرت قلبي بعدها فتشجّعا [1]
ومن شعره في الغزل:
لا تعجبي يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى
يا ليت شعري كيف نومكما [2] ... يا صاحبيّ إذا دمي سفكا
لا تأخذا بظلامتي أحدا ... قلبي وطرفي في دمي اشتركا [3]
ولما مات دعبل- وكان صديقا للبحتريّ، وكان أبو تمام قد مات قبله- رثاهما البحتريّ فقال:
قد زاد في كلفي وأوقد لوعتي ... مثوى حبيب يوم مات ودعبل [4]
في أبيات. انتهى ملخصا.
__________
[1] الأبيات في «وفيات الأعيان» (2/ 268) ، وهي في «ديوانه» ص (182- 183) صنعة الدكتور عبد الكريم الأشتر، طبع مجمع اللغة العربية بدمشق، ورواية البيت الأخير منها فيه:
فهبك يميني استأكلت فاحتسبتها ... وجشّمت قلبي قطعها فتشجّعا
[2] في الأصل، والمطبوع: «كيف نومكم» والتصحيح من «وفيات الأعيان» ، و «ديوانه» .
[3] الأبيات في «وفيات الأعيان» (2/ 268- 269) وهي الأبيات الثاني، والسابع، والثامن من قصيدة في «ديوانه» ص (204- 205) .
[4] البيت في «ديوان البحتري» (3/ 1790) بتحقيق الأستاذ حسن كامل الصيرفي، طبع دار المعارف بمصر.(3/214)
وفيها العبّاس بن عبد العظيم، أبو الفضل العنبريّ البصريّ الحافظ، أحد علماء السّنّة. سمع يحيى القطّان وطبقته، وتوفي في رمضان، وكان من الثقات الأخيار.
ولوين، واسمه محمد بن سليمان، أبو جعفر الأسديّ البغداديّ ثم المصّيصيّ. سمع مالكا، وحمّاد بن زيد، والكبار، وعمّر دهرا طويلا وجاوز المائة، وكان كثير الحديث ثقة. قاله في «العبر» [1] .
وفيها محمد بن يحيى بن فيّاض الزّمّانيّ البصريّ. روى عن عبد الوهّاب الثقفي وطبقته فأكثر، وحدّث في آخر عمره بدمشق، وبأصبهان.
والمسيّب بن واضح الحمصيّ. روى عن إسماعيل بن عيّاش والكبار، وتوفي في آخر السنة.
قال أبو حاتم: صدوق يخطئ.
وفيها المفضّل [2] بن غسّان الغلابي ببغداد. روى عن عبد الرّحمن ابن مهدي وطبقته، وله «تاريخ» مفيد [3] .
__________
[1] (1/ 447) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «الفضل» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 448) ، وانظر «اللباب» لابن الأثير (2/ 395) .
[3] قلت: وفيها مات محمد بن مصفّى الحمصيّ، أبو عبد الله. انظر ترجمته ومصادرها في «سير أعلام النبلاء» (12/ 94- 96) .(3/215)
سنة سبع وأربعين ومائتين
فيها توفي إبراهيم بن سعيد الجوهريّ أبو إسحاق البغداديّ الحافظ، مصنف «المسند» . روى عن هشيم وخلق كثير. مات مرابطا بعين زربة [1] وكان من أركان الحديث. خرّج «مسند أبي بكر الصّدّيق» في نيف وعشرين جزءا.
وفيها أبو عثمان المازنيّ النحويّ، صاحب التصانيف، واسمه بكر بن محمد.
قال تلميذه المبرّد: لم يكن بعد سيبويه أعلم من أبي عثمان المازني بالنحو.
قال ابن خلّكان [2] : كان في غاية الورع.
ومما رواه المبرّد، أن بعض أهل الذّمّة قصده ليقرأ عليه «كتاب سيبويه» وبذل له مائة دينار في تدريسه إياه، فامتنع أبو عثمان من ذلك. قال: فقلت له: جعلت فداك أتردّ هذه المنفعة مع فاقتك وشدة إضاقتك؟ فقال: إن هذا الكتاب يشتمل على ثلاثمائة وكذا وكذا آية من كتاب الله- عزّ وجل- ولست
__________
[1] قال الزبيدي في «تاج العروس» (زرب) : عين زربة بالضم، أو زربي، كسكرى، وعلى الأول اقتصر ابن العديم في «تاريخ حلب» ، ثغر مشهور قرب المصيصة من الثغور الشامية، وانظر «معجم البلدان» لياقوت (4/ 177- 178) ، و «الروض المعطار» للحميري ص (422) .
[2] في «وفيات الأعيان» (1/ 284- 285) .(3/216)
أرى أن أمكّن منها ذمّيا غيرة على كتاب الله- عزّ وجلّ- وخشية له [1] .
قال: فاتفق أن غنّت جارية بحضرة الواثق بقول العرجيّ:
أظلوم إن مصابكم رجلا ... أهدى السّلام تحية ظلم [2]
فاختلف من بالحضرة في إعراب رجلا [3] فمنهم من نصبه وجعله اسم «إن» ومنهم من رفعه على أنه خبرها، والجارية مصرّة على أن شيخها أبا عثمان المازني لقنها إياه بالنصب، فأمر الواثق بإشخاصه.
قال أبو عثمان: فلما مثلت بين يديه قال: ممن الرجل؟ قلت: من بني مازن. قال: أيّ الموازن؟ أمازن تميم، أم مازن قيس، أم مازن ربيعة؟ فقلت:
من مازن ربيعة، فكلمني بكلام قومي، وقال باسمك [4] ، لأنهم يقلبون الميم باء والباء ميما، فكرهت أن أجيبه على لغة قومي لئلا أواجهه بالمكر، فقلت: بكر يا أمير المؤمنين، ففطن لما قصدته، وأعجب [5] به ثم قال: ما تقول في قول الشاعر:
أظلوم إن مصابكم رجلا»
البيت.
أترفع رجلا أم تنصبه؟ فقلت: بل الوجه النصب يا أمير المؤمنين، فقال: ولم ذلك [6] ؟ فقلت: هو بمنزلة قولك: إن ضربك زيدا ظلم، فالرجل مفعول مصابكم وهو منصوب به، والدليل عليه أن الكلام معلق إلى أن تقول [7] : ظلم، فاستحسنه الواثق وقال: هل لك من ولد؟ قلت: نعم يا أمير
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «وحميّة له» .
[2] البيت في «ديوان العرجي» ص (193) . كما ذكر الدكتور إحسان عباس في تعليقه على «الوفيات» .
[3] في الأصل: «رجل» وأثبت ما في المطبوع وهو موافق لما في «وفيات الأعيان» .
[4] في الأصل، والمطبوع: «باأسبك» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[5] في الأصل: «وتعجب» وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[6] في المطبوع: «ولما ذاك» ، وفي الأصل: «ولما ذلك» وما أثبته من «وفيات الأعيان» .
[7] في الأصل، والمطبوع: «إلى أن يقول» ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» .(3/217)
المؤمنين بنيّة، قال: ما قالت لك عند مسيرك؟ قلت: أنشدت قول الأعشى [1] :
أيا أبتا لا ترم عندنا ... فإنّا بخير إذا لم ترم
أرانا إذا اضمرتك البلا ... د، نجفى وتقطع منّا الرّحم [2]
قال: فما قلت لها؟ قال: قلت قول جرير:
ثقي بالله ليس له شريك ... ومن عند الخليفة بالنّجاح [3]
قال: على النجاح إن شاء الله تعالى، ثم أمر لي بألف دينار، وردّني مكرما.
قال المبرّد: فلما عاد إلى البصرة قال لي: كيف رأيت يا أبا العبّاس؟ رددنا لله مائة فعوّضنا ألفا. انتهى ما ذكره ابن خلّكان ملخصا.
وفيها في شوال، قتل المتوكل على الله أبو الفضل جعفر بن المعتصم محمد بن الرشيد العباسي، فتكوا به في مجلس لهوه بأمر ابنه المنتصر، وعاش أربعين سنة، وكان أسمر نحيفا، مليح العينين، خفيف العارضين، ليس بالطويل، وهو الذي أحيا السّنّة، وأمات التجهّم، ولكنه كان فيه نصب ظاهر، وانهماك على اللذّات والمكاره، وفيه كرم وتبذير، وكان قد عزم على ابنه المنتصر وتقدم إليه بتقديم المعتز عليه لفرط محبته لأمه، وبقي يؤذيه ويتهدده إن لم ينزل عن العهد، واتفق مصادرة المتوكل لوصيف، فتعاملوا عليه، ودخل عليه خمسة
__________
[1] هو ميمون بن قيس بن جندل، من بني قيس بن ثعلبة الوائلي، أبو بصير، المعروف بأعشى قيس، ويقال له: أعشى بكر، والأعشى الكبير، من شعراء الطبقة الأولى في الجاهلية أحد أصحاب المعلقات. مات سنة (7) هـ. انظر ترجمته ومصادرها في «الأعلام» للزركلي (7/ 341) .
[2] البيتان في «ديوانه» ص (41) بتحقيق الدكتور م. محمد حسين، طبع مكتبة الآداب، ورواية البيت الأول منهما فيه:
ويا أبتا لا تزل عندنا ... فإنا نخاف بأن تخترم
[3] البيت في «ديوانه» بشرح الصاوي ص (98) .(3/218)
في جوف الليل فنزلوا عليه بالسيوف، فقتلوه وقتلوا وزيره الفتح بن خاقان معه، ولما قتلا أصبح النّاس يقولون: قتل المتوكل والفتح بن خاقان دبّر عليهما المنتصر ولد المتوكل، وكان النّاس على لسان واحد يقولون: والله لا عاش المنتصر إلا ستة أشهر كما عاش شيرويه بن كسرى حيث قتل أباه، فكان الأمر كذلك، وكان قتله ليلة الأربعاء لثلاث خلون من شوال.
وكان للمتوكل خمسمائة وصيفة للفراش، ولم يكن فيهن أحظى من صبيحة أم ولده المعتز، وبسبب ميله إليها أراد يقدم ولدها بالعهد، وكان أصغر من المنتصر، وكان تقدم منه العهد للمنتصر، ثم لأخويه من بعده، وفي ذلك يقول السّلميّ:
لقد شدّ ركن الدّين بالبيعة الرّضا ... وسار بسعد جعفر بن محمّد
لمنتصر بالله أثبت عهده ... وأكّد بالمعتز ثم المؤيّد [1]
ورزق المتوكل من الحظ من العامة لتركه الهزل واللهو إلا أنه كان يتشبه في الغضب بخلق الجبابرة، وبلغ المتوكل أن صالح بن أحمد بن حنبل رأى في نومه قائلا يقول:
ملك يقاد إلى مليك عادل ... متفضّل بالعفو ليس بحائر [2]
فصدقه بذلك.
وروى علي بن الجهم قال: لما أفضت الخلافة إلى المتوكل، أهدى له الناس على أقدارهم، فأهدى له محمد بن عبد الله بن طاهر ثلاثمائة جارية من أصناف الجواري، وكان فيهن جارية يقال لها: محبوبة، وقد نشأت بالطائف، فوقعت من قلب المتوكل موقعا عظيما، وحلّت من نفسه محلا جسيما، وكانت تسامره ولا تفارقه، فغاضبها يوما وأمرها بلزوم مقصورتها، وأمر أن لا يدخل الجواري عليها.
__________
[1] البيتان في «غربال الزمان» للعامري ص (230) ، وفيه «سدّ ركن الدّين» .
[2] البيت في «غربال الزمان» ص (230) .(3/219)
قال علي بن الجهم: فبينا أنا عنده جالس يوما إذ قال لي: يا علي، رأيت البارحة كأنني صالحت محبوبة، فقلت: أقر الله عينك وجعله حقيقة في اليقظة، وإنا لفي ذلك، إذ أقبلت وصيفة كانت تقف على رأسه، فقالت: يا أمير المؤمنين، سمعت الساعة في منزل محبوبة غناء، فقال لي: يا علي، قم بنا الساعة، فإنا سنرد على بوادر ظريفة، فأخذ بيدي وجعلنا نمشي رويدا لئلا يسمع حسنا، فوقف على باب المقصورة، وإذا بها تضرب بالعود وتغني:
أدور في القصر لا أرى أحدا ... أشكو إليه ولا يكلّمني
حتّى كأنّي جنيت معصية ... ليست لها توبة تخلّصني
فهل شفيع لنا إلى ملك ... قد زارني في الكرى وصالحني
حتّى إذا ما الصباح لاح لنا ... عاد إلى هجره فصارمني [1]
فنفر المتوكل طربا ونفرت معه لنفيره، فأحست بنا، فخرجت حافية ثم أكبت على رجلي أمير المؤمنين ويديه ورأسه، ثم قالت: يا أمير المؤمنين، رأيت البارحة في النوم كأني قد صالحتك. قال لها: وأنا والله رأيت مثل ذلك. قالت:
فإن رأى أمير المؤمنين أن يتمم المنة فهو المنعم على كل حال، فقال: ادخل فإنا سنرد على ما نحب. قال: فمكثنا ثلاثة أيام ونحن كأننا في بعض رياض الجنة، ووصلني بعد ذلك ببدرة، فأخذتها وانصرفت.
قيل: قرئ على المتوكل كتاب فيه ملاحم، فمر القارئ فيه على موضع فيه: إن الإمام العاشر من بني العبّاس يقتل في مجلسه على فراشه، فقال: ليت شعري من الشقي الذي يقتله، ثم وجم، فقيل له: أنت الحادي عشر، وعدوا إبراهيم بن المهدي من جملة الخلفاء فسرّي عنه.
وقيل: رأى المتوكل في منامه كأن دابّة تكلّمه، فقال لبعض جلسائه:
ما تفسره، ففسره له بشيء آخر، ثم قال لبعض من حضر سرا: حان رحيله لقوله
__________
[1] الأبيات في «مروج الذهب» للمسعودي (4/ 126) مع شيء من الخلاف في روايتها.(3/220)
تعالى: وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً من الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ 27: 82 [النمل: 82] .
وقيل: رأى المتوكل في منامه رؤيا، فقصها على الفتح بن خاقان وزيره، فقال: يا أمير المؤمنين أضغاث أحلام، ولو تشاغلت بالشرب والغناء لسرّي عنك هذا، فقطع عامة نهاره بالتشاغل، فلما جاءه الليل أمر بإحضار الندماء والمغنين، وجلس بقصره المعروف بالجعفري وعنده الفتح، فقال للمغنّين:
غنّوا، فغنّوا، ثم قام ولده محمد المنتصر ومعه الحاجب يشيعه، فخلا الموضع، فدخل عليه خمسة من الأتراك، فقتلوه وقتلوا الفتح أيضا.
وفيها توفي سلمة [1] بن شبيب أبو عبد الرّحمن النيسابوريّ، الحافظ الموثق في رمضان بمكة. روى عن يزيد بن هارون وطبقته، وقد روى عنه من الكبار أحمد بن حنبل، وأصحاب الكتب الستة إلّا البخاري.
وفيها، أو بعدها، محمد بن مسعود الحافظ، ابن العجميّ [2] . سمع عيسى بن يونس، ويحيى بن سعيد القطّان، وطبقتهما، ورابط بطرسوس.
قال محمد بن وضاح القرطبي: هو رفيع الشأن، فاضل، ليس بدون أحمد بن حنبل، يعني في العمل لا في العلم، والله أعلم. قاله في «العبر» [3] .
__________
[1] في الأصل، و «العبر» للذهبي (1/ 449) : «مسلمة» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[2] انظر «تهذيب الكمال» للمزي. (3/ 1267) مصورة دار المأمون للتراث بدمشق، و «سير أعلام النبلاء» (12/ 249- 250) ، و «تقريب التهذيب» ص (506) .
[3] (1/ 449- 450) .(3/221)
سنة ثمان وأربعين ومائتين
فيها، بل في التي قبلها كما جزم به في «الشذور» ، توفيت شجاع أمّ المتوكل، وكانت خيّرة كثيرة الرغبة في الخير، وخلّفت من العين خمسة آلاف ألف دينار وخمسين ألف دينار، ومن الجوهر قيمته ألف ألف دينار، ولا يعرف امرأة رأت ابنها وهو جدّ وثلاثة أولاد ولاة عهود إلّا هي. قاله في «الشذور» .
وفيها توفي الإمام العلم أبو جعفر أحمد بن صالح الطبريّ ثم المصريّ الحافظ. سمع ابن عيينة، وابن وهب، وخلقا. وكان ثقة.
قال محمد بن عبد الله بن نمير: إذا جاوزت الفرات فليس أحد مثل أحمد ابن صالح.
وقال ابن وارة الحافظ: أحمد بن حنبل ببغداد، وأحمد بن صالح بمصر، وابن نمير بالكوفة، والنفيليّ بحرّان، هؤلاء أركان الدّين.
وقال يعقوب الفسويّ: كتبت عن ألف شيخ حجتي فيما بيني وبين الله رجلان: أحمد بن صالح، وأحمد بن حنبل.
وفيها الحسين بن علي الكرابيسيّ الفقيه المتكلم أبو علي ببغداد، وقيل مات في سنة خمس وأربعين. تفقه على الشافعيّ، وسمع من إسحاق الأزرق وجماعة، وصنف التصانيف، وكان متضلّعا من الفقه والحديث والأصول ومعرفة الرّجال.(3/222)
والكرابيس الثياب الغلاظ.
وفيها بغا الكبير أبو موسى التركيّ، مقدّم قوّاد المتوكل، عن سنّ عالية، وكان بطلا شجاعا مقداما، له عدة فتوح ووقائع، باشر الكثير من الحروب فما جرح قطّ، وخلّف أموالا عظيمة.
وفيها أمير خراسان وابن أميرها، طاهر بن عبد الله بن طاهر بن الحسين الخزاعيّ، في رجب، ولي إمرة خراسان بعد أبيه ثمان عشرة سنة. ووليها بعده ولده محمد بن طاهر عشرين سنة [1] . وقد حدّث طاهر عن سليمان بن حرب.
وفيها عبد الجبّار بن العلاء بن عبد الجبّار، أبو بكر البصريّ ثم المكيّ العطّار. روى عن سفيان بن عيينة وطبقته، وكان ثقة صاحب حديث.
وعبد الملك بن شعيب بن الليث بن سعد المصريّ: سمع أباه، وابن وهب، وكان أحد الفقهاء.
وعيسى بن حمّاد زغبة التجيبيّ، مولاهم، المصريّ، راوية اللّيث بن سعد [2] .
والقاسم بن عثمان الدمشقيّ الزّاهد المعروف بالجوعي [3] ، من كبار الصوفية والعارفين، صحب أبا سليمان الدّاراني، وروى عنه سفيان بن عيينة وجماعة.
قال أبو حاتم [4] : صدوق.
وفيها محمد بن حيمد الرّازيّ، أبو عبد الله، الحافظ. روى عن جرير
__________
[1] كذا في الأصل، والمطبوع، وفي «العبر» ، و «دول الإسلام» للذهبي ص (134) طبعة مؤسسة الأعلمي: «عشر سنين» .
[2] انظر ترجمته ومصادرها في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (11/ 506- 507) .
[3] انظر ترجمته ومصادرها في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (12/ 77- 79) .
[4] في «الجرح والتعديل» (7/ 144) .(3/223)
ابن عبد الحميد، ويعقوب القمّي، وخلق، وكان من أوعية العلم، لكن لا يحتجّ به، وله ترجمة طويلة.
أثني عليه أحمد بن حنبل.
وقال ابن خزيمة: لو عرفه أحمد لما أثنى عليه.
وقد خرّج له أبو داود، والترمذي وغيرهما.
قال الذهبيّ في «المغني» [1] : محمد بن حميد الرّازي الحافظ، عن يعقوب القمّي [2] وجرير، وابن المبارك، ضعّف لا من قبل الحفظ.
قال يعقوب بن شيبة: كثير المناكير.
وقال البخاريّ: فيه نظر.
وقال أبو زرعة: يكذب.
وقال النسائيّ: ليس بثقة.
وقال صالح جزرة: ما رأيت أحذق بالكذب منه، ومن ابن الشاذكوني.
انتهى ما قاله في «المغني» .
وفي ربيع الآخر المنتصر بالله أبو جعفر محمد بن المتوكل على الله جعفر ابن المعتصم محمد بن الرّشيد [العبّاسي] [3] بالخوانيق، وكانت خلافته سبعة أشهر [4] وعاش ستا وعشرين سنة، وأمه رومية تسمى حبشيّة [5] ، وكان ربعة جسيما، أعين، أقنى، بطينا، مليح الصورة، مهيبا، وكان كامل العقل محبا للخير، محسنا إلى آل عليّ، بارّا بهم.
__________
[1] «المغني في الضعفاء» (2/ 573) .
[2] في الأصل، و «المغني في الضعفاء» : «العمي» وهو خطأ، وأثبت لفظ المطبوع وهو الصواب.
[3] زيادة من «العبر» للذهبي.
[4] كذا في الأصل، والمطبوع: «سبعة أشهر» ، وفي «العبر» مصدر المؤلف: «ستة أشهر» ، وفي «سير أعلام النبلاء» : «ستة أشهر وأياما» .
[5] في الأصل، والمطبوع: «حبشة» والتصحيح من «العبر» (1/ 452) ، و «سير أعلام النبلاء» (12/ 42) .(3/224)
وقيل: إن أمراء الترك خافوه، فلما حمّ دسوا إلى طبيبه ابن الطيفوري [1] ثلاثين ألف دينار ففصده بريشة مسمومة، وقيل: سم في كمثرى. قاله في «العبر» [2] .
وقال ابن الأهدل: قيل: إن أمه جاءته عائدة فبكى وقال: يا أماه! عاجلت أبي فعوجلت، ثم أنشأ يقول:
فما فرحت نفسي بدنيا أخذتها ... ولكن إلى الملك القدير أصير
وما لي شيء غير أنّي مسلم ... بتوحيد ربّي مؤمن [3] وخبير [4]
وبايع التّرك بعده لأحمد بن محمد بن المعتصم، خوفا منهم أن يبايعوا لأحد من أولاد المتوكل فيقتلهم بأبيه، وسمّوه المستعين. انتهى ما ذكره ابن الأهدل.
وقال ابن الفرات: قيل: رأى المنتصر بالله أباه المتوكل على الله في منامه، فقال له: ويحك يا محمد ظلمتني وقتلتني، والله لا متّعت بالدّنيا بعدي.
وقد أجمعوا على أن المنتصر بالله مات مسموما، وكان سبب ذلك أنه رأى باغر التركي في حفدته الأتراك، فقال: قتلني الله إن لم أقتلكم جميعا، فبلغهم
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «ابن طيفور» وهو خطأ، والتصحيح من «تاريخ الطبري» (9/ 252) ، و «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (7/ 114- 115) ، و «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» ص (225) ، وهو إسرائيل بن زكريا الطيفوري، كان مقدما في صناعة الطب، جليل القدر عند الخلفاء والملوك. وكان المنتصر قد وجد حرارة فأمر ابن الطيفوري بفصده، ففصده بمبضع مسموم، فكان فيه منيته، وأن ابن الطيفوري لما انصرف إلى منزله وجد حرارة، فدعا تلميذا له وأمره بفصده ووضع مباضعه بين يديه ليتخيّر أجودها، وفيها المبضع المسموم الذي فصد به المنتصر، وقد نسبه، فلم يجد التلميذ في المباضع التي وضعت بين يديه مبضعا أجود من المبضع المسموم، ففصد به أستاذه وهو لا يعلم أمره، فلما فصده به نظر إليه صاحبه فعلم أنه هالك، فأوصى من ساعته، وهلك من يومه.
[2] (1/ 452- 453) .
[3] في «غربال الزمان» : «موقن» .
[4] البيتان في «غربال الزمان» للعامري ص (231) .(3/225)
الخبر، فسمّوه في ريشة الفاصد، ومات وله من العمر خمس وعشرون سنة.
وفيها محمد بن زنبور أبو صالح المكيّ. روى عن حمّاد بن زيد، وإسماعيل بن جعفر، وكان صدوقا.
وفيها [محدّث الكوفة] [1] أبو كريب محمد بن العلاء الهمدانيّ الحافظ في جمادى الآخرة. سمع ابن المبارك، وعبد الله بن إدريس، وخلائق، وكان ثقة مكثرا.
وفيها أبو هشام الرّفاعيّ محمد بن يزيد الكوفي القاضي، أحد أعلام القرآن، قرأ على سليم، وسمع من أبي خالد الأحمر، وابن فضيل وطبقتهما، وكان إماما مصنفا في القراءات. ولي القضاء ببغداد.
قال في «المغني» [2] : محمد بن يزيد أبو هشام الرّفاعي.
قال أحمد العجلي: لا بأس به.
وقال غيره: صدوق.
وأما البخاريّ فقال: رأيتهم مجمعين على ضعفه.
وروى ابن عقدة عن مطين، عن ابن نمير، كان يسرق الحديث. انتهى.
__________
[1] ما بين حاصرتين سقط من الأصل، وأثبته من المطبوع.
[2] «المغني في الضعفاء» (2/ 644) .(3/226)
سنة تسع وأربعين ومائتين
فيها توفي الحسن بن الصّبّاح، الإمام أبو عليّ البزّار. سمع سفيان بن عيينة، وأبا معاوية وطبقتهما، وكان أحمد بن حنبل يرفع قدره، ويجلّه، ويحترمه.
وروى عنه البخاريّ، وقال: أبو حاتم صدوق. كانت له جلالة عجيبة ببغداد، رحمه الله تعالى.
والبزّار بالراء آخره، لعله منسوب إلى بيع البزر، وكذلك محمد بن السّكن البزّار، وبشر بن ثابت البزّار، وخلف بن هشام البزّار المقرئ، وكل من في البخاريّ ومسلم سوى هؤلاء الأربعة فهو البزّاز بزايين.
وفيها رجاء بن مرّحي [1] أبو محمد السّمرقنديّ الحافظ ببغداد. روى عن النّضر بن شميل فمن بعده.
قال الخطيب [2] : كان ثقة، ثبتا، إماما في الحفظ والمعرفة.
وعبد بن حميد الحافظ، أبو محمد الكشّي، صاحب «المسند» و «التفسير» واسمه عبد الحميد، فخفف. سمع يزيد بن هارون، وابن أبي فديك، وطبقتهما، وكان ثقة ثبتا.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «رجاء بن مرجاء «وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» ، و «سير أعلام النبلاء» (12/ 98) ، و «تقريب التهذيب» ص (208) .
[2] في «تاريخ بغداد» (8/ 411) ولفظ النقل فيه: «وكان ثقة، ثبتا، إماما في علم الحديث وحفظه، والمعرفة به» .(3/227)
وفيها أبو حفص عمرو بن علي الباهليّ البصريّ الصيرفيّ الفلّاس الحافظ، أحد الأعلام. سمع معتمر بن سليمان وطبقته، وصنف، وعني بهذا الشأن [1] .
قال النسائيّ: ثقة، حافظ.
وقال أبو زرعة: ذاك من فرسان الحديث.
وقال أبو حاتم: كان أوثق من علي بن المديني.
وفيها محمد بن عبد الله بن عبد الرّحيم بن سعيه [2] بن أبي زرعة الزّهريّ، مولاهم، المصريّ، أبو عبيد الله بن البرقيّ. حدّث عنه أبو داود، والنسائي، وغيرهما، وهو صاحب «كتاب الضعفاء» . قاله ابن ناصر الدّين.
__________
[1] يعني بعلوم الحديث النبوي الشريف.
[2] كذا في الأصل، والمطبوع و «تهذيب التهذيب» (9/ 263) : «ابن سعيه» ، وفي «تذكرة الحفاظ» للذهبي (1/ 569) ، و «الرسالة المستطرفة» للكتاني ص (144) «ابن سعيد» .(3/228)
سنة خمسين ومائتين
فيها توفي العلّامة أبو الطاهر، أحمد بن عمرو بن السّرح [1] المصريّ الفقيه، مولى بني أميّة.
روى عن ابن عيينة، وابن وهب، وشرح «الموطأ» .
وروى عنه مسلم، وأبو داود، والنسائي وابن ماجة، وغيرهم.
وفيها أبو الحسن أحمد بن محمد البزّيّ المقرئ [2] مؤذن المسجد الحرام، وشيخ الإقراء. ولد سنة سبعين ومائة، وقرأ على عكرمة بن سليمان، وأبي الإخريط [3] . وقرأ عليه جماعة، وكان لين الحديث حجة في القرآن.
قال الذهبيّ في «المغني» [4] : أحمد بن محمد بن عبد الله البزّيّ مقرئ مكّة. ثقة في القراءة، وأما في الحديث، فقال أبو جعفر العقيلي:
منكر الحديث، يوصل الأحاديث، ثم ساق له حديثا متنه: «الدّيك الأبيض الأفرق حبيبي وحبيب حبيبي» [5] .
__________
[1] انظر ترجمته ومصادرها في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (12/ 62- 63) .
[2] في «الضعفاء الكبير» : «أحمد بن محمد بن أبي بزة المقرئ» .
[3] هو وهب بن واضح، أبو الإخريط، ويقال: أبو القاسم، المكي. انتهت إليه رئاسة الإقراء بمكة. مات سنة (190) هـ. انظر «غاية النهاية في طبقات القراء» لابن الجزري (2/ 361) .
[4] «المغني في الضعفاء» (1/ 55) .
[5] ذكره العقيلي في «الضعفاء الكبير» (1/ 127) بتحقيق الدكتور عبد المعطي قلعجي، طبع دار الكتب العلمية ببيروت، وتمامه فيه: حدثنا أبو سعيد عبد الرحمن بن عبد الله مولى بني(3/229)
وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، سمعت منه ولا أحدث عنه.
وقال ابن أبي حاتم: روى حديثا منكرا. انتهى ما أورده الذهبي في «المغني» .
وفيها الحارث بن مسكين، الإمام أبو عمرو، قاضي الدّيار المصرية وله ست وتسعون سنة. سأل اللّيث بن سعد [1] . وسمع الكثير من ابن عيينة، وابن وهب، وأخذ في المحنة فحبس دهرا حتّى أخرجه المتوكل وولاه قضاء مصر، وكان من كبار أئمة السّنّة الثقات.
قال السيوطيّ في «حسن المحاضرة» [2] : الحارث بن مسكين بن محمد ابن يوسف الأموي أبو عمرو المصريّ الحافظ الفقيه العلّامة. روى عنه أبو داود، والنسائي.
قال الخطيب: كان فقيها على مذهب مالك، ثقة في الحديث، ثبتا، وله تصانيف. ولد سنة أربع وخمسين ومائة، ومات ليلة الأحد لثلاث بقين من ربيع الأول سنة خمسين ومائتين. انتهى.
وفيها، ويقال في سنة خمس وخمسين، الإمام أبو حاتم السّجستانيّ [3] سهل بن محمد، النحويّ المقرئ اللغويّ، صاحب المصنفات، حمل العربية عن أبي عبيدة، والأصمعي، وقرأ القرآن على يعقوب [4] وكتب الحديث عن طائفة.
قوّمت كتبه يوم مات بأربعة عشر ألف دينار، واشتراها ابن السّكّيت بدون ذلك محاباة.
__________
هاشم، قال: حدثنا الربيع بن صبيح، عن الحسن، عن أنس، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «الديك الأبيض الأفرق حبيبي، وحبيب حبيبي جبرائيل، يحرس بيته وستة عشر بيتا من جيرته:
أربعة عن اليمين، وأربعة عن الشمال، وأربعة من قدّام، وأربعة من خلف» ، ورواه أيضا أبو الشيخ في «العظمة» وهو حديث موضوع.
[1] لفظة «سعد» سقطت من الأصل، وأثبتها من المطبوع.
[2] (1/ 308) .
[3] انظر ترجمته ومصادرها في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (12/ 268- 270) .
[4] هو يعقوب بن إسحاق بن زيد الحضرمي البصري، البصري، أبو محمد، أحد القراء(3/230)
وفيها عبّاد بن يعقوب الأسديّ الرّواجنيّ [1] الكوفيّ الحافظ. سمع من شريك، والوليد بن أبي ثور، والكبار.
قال ابن حبّان: كان داعية إلى الرفض [2] .
وقال ابن خزيمة: حدثنا الصدّوق في روايته، المتهم في دينه، عبّاد بن يعقوب.
وروى عنه البخاريّ مقرونا بآخر.
وفيها عمرو بن بحر الجاحظ، أبو عثمان البصريّ المعتزليّ، وإليه تنسب الفرقة الجاحظية من المعتزلة، صنّف الكثير من الفنون. كان بحرا من بحور العلم، رأسا في الكلام والاعتزال، وعاش تسعين سنة، وقيل: بقي إلى سنة خمس وخمسين. أخذ عن القاضي أبي يوسف، وثمامة بن أشرس، وأبي إسحاق النّظّام.
قال في «المغني» [3] : عمرو بن بحر الجاحظ المتكلم، صاحب الكتب.
قال ثعلب: ليس بثقة ولا مأمون. انتهى.
وقال غيره: أحسن تآليفه وأوسعها فائدة «كتاب الحيوان» و «كتاب البيان والتبيين» وكان مشوّه الخلق. استدعاه المتوكل لتأديب ولده، فلما رآه ردّه وأجازه، وفلج في آخر عمره، فكان يطلي نصفه بالصّندل [4] والكافور لفرط
__________
العشرة، المتوفى سنة (205) هـ. وقد تقدمت ترجمته في ص (29) من هذا المجلد فراجعها.
[1] قال السمعاني في «الأنساب» (6/ 170) : هذه النسبة سألت عنها أستاذي أبا القاسم إسماعيل ابن محمد بن الفضل الحافظ بأصبهان فقال: هذا نسب أبي سعيد عباد بن يعقوب شيخ البخاري، وأصل هذه النسبة الدواجن بالدال المهملة، وهي جمع داجن، وهي الشاة التي تسمّن في الدار، فجعلها الناس الرواجن بالراء، ونسب عباد إلى ذلك هكذا، قال: ولم يسند الحكاية إلى أحد، وظني أن الرواجن بطن من بطون القبائل، والله أعلم.
[2] هكذا نسب هذا القول في الأصل، والمطبوع، و «تهذيب التهذيب» (5/ 110) إلى ابن حبان، ونسب في «العبر» للذهبي إلى الإمام أحمد بن حنبل.
[3] «المغني في الضعفاء» (2/ 481) .
[4] قال ابن منظور: الصّندل خشب أحمر، ومنه الأصفر، وقيل: الصندل شجر طيب الريح.(3/231)
الحرارة، ونصفه الآخر لو قرض بالمقاريض ما أحسّ به لفرط البرودة، وسمي جاحظا لجحوظ عينيه، أي نتوئهما، وكان موته بسقوط مجلدات العلم عليه [1] .
وفيها الفضل بن مروان بن ماسرجس، كان وزير المعتصم، وهو الذي أخذ له البيعة ببغداد، وكان المعتصم يومئذ ببلاد الرّوم صحبة أخيه المأمون، فاتفق موت المأمون هناك، وتولى بعده واعتدّ له المعتصم [2] بها يدا عنده، وفوّض إليه الوزارة يوم دخوله بغداد، وهو يوم السبت مستهل شهر رمضان سنة ثماني عشرة ومائتين، وخلع عليه، ورد أموره كلها إليه، فغلب عليه لطول خدمته وتربيته إياه، فاستقل بالأمور، وكذلك كان في أواخر دولة المأمون، وكان نصراني الأصل، قليل المعرفة بالعلم، حسن المعرفة بخدمة الخلفاء، وله ديوان رسائل، وكتاب «المشاهدات والأخبار» التي شاهدها.
ومن كلامه: مثل الكاتب كالدولاب، إذا تعطل انكسر، وكان قد جلس يوما لقضاء أشغال الناس، ورفعت إليه قصص العامة، فرأى في جملتها ورقة مكتوب فيها:
تفرعنت [3] يا فضل بن مروان فاعتبر ... فقبلك كان الفضل والفضل والفضل
ثلاثة أملاك مضوا لسبيلهم ... أبادتهم الأقياد والحبس والقتل
__________
«لسان العرب» (صندل) .
[1] قلت: جزم ابن خلكان في «وفيات الأعيان» (3/ 474) بأن وفاته كانت سنة خمس وخمسين ومائتين. وقال الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (11/ 527) : قال ابن زبر: مات سنة خمسين ومائتين، وقال الصّولي: مات سنة خمس وخمسين، وأرخ الزركلي وفاته في «الأعلام» (5/ 74) سنة (255) ، وقد تبع المؤلف العامري صاحب «غربال الزمان» ص (232- 233) في تأريخ وفاته.
[2] سقطت لفظة «المعتصم» من الأصل، وأثبتها من المطبوع.
[3] في الأصل: «تفرغت» وهو خطأ وأثبت ما في المطبوع.(3/232)
وإنك قد أصبحت في النّاس ظالما ... ستودي كما أودى الثلاثة من قبل [1]
أراد بالفضول الثلاثة: الفضل بن يحيى البرمكي، والفضل بن سهل، والفضل بن الرّبيع.
وذكر المرزبانيّ، والزمخشري في «ربيع الأبرار» أن هذه الأبيات للهيثم ابن فراس السامي، من سامة بن لؤي.
وقال الصولي: أخذ المعتصم من داره لما نكبه ألف ألف دينار، وأخذ أثاثا وآنية بألف ألف دينار، وحبسه خمسة أشهر ثم أطلقه وألزمه بيته، واستوزر أحمد بن عمّار.
ومن كلام الفضل هذا أيضا: لا تتعرض لعدوك وهو مقبل، فإن إقباله يعينه عليك، ولا تتعرض له وهو مدبر، فإن إدباره يكفيك أمره [2] .
وفيها كثير من عبيد المذحجيّ الحذّاء، إمام جامع حمص، أمّه مدة ستين سنة، قيل: إنه ما سها في صلاة مدة ما أمّ. حدّث عن ابن عيينة، وبقيّة، وطائفة، وكان عبدا صالحا.
وأبو عمرو نصر بن علي الجهضميّ، وقيل: علي بن نصر الجهضميّ الصغير، البصريّ الحافظ الثقة، أحد أوعية العلم. روى عن يزيد ابن زريع وطبقته، وعنه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وغيرهم.
قال أبو بكر بن أبي داود: كان المستعين طلب نصر بن علي ليوليه القضاء، فقال لأمير البصرة: حتّى أرجع فأستخير الله، فرجع وصلى ركعتين، وقال: اللهم إن كان لي عندك خير فاقبضني إليك، ثم نام فنبّهوه، فإذا هو ميت، رحمه الله تعالى. مات في ربيع الآخر.
__________
[1] الأبيات في «وفيات الأعيان» (4/ 45) .
[2] نقل المؤلف ترجمة الفضل عن «وفيات الأعيان» لابن خلكان (4/ 45- 46) بتصرف.(3/233)
سنة إحدى وخمسين ومائتين
فيها توفي إسحاق بن منصور الكوسج، الإمام الحافظ أبو يعقوب المروزيّ، بنيسابور، في جمادى الأولى. سمع ابن عيينة وخلقا، وتفقه على أحمد، وإسحاق، وكان ثقة نبيلا.
وفيها، بل في التي قبلها كما جزم به ابن خلّكان [1] وغيره، الحسين ابن الضّحّاك بن ياسر، الشاعر البصريّ المعروف بالخليع، سمّي خليعا لكثرة مجونه وخلاعته. كان مولى لولد سليمان بن ربيعة الباهلي الصحابي، رضي الله عنه، وأصله من خراسان، وهو شاعر ماجن مطبوع حسن الافتنان في ضروب الشعر وأنواعه، اتصل بمنادمة الخلفاء إلى ما لم يتصل إليه إسحاق النديم، فإنه قاربه في ذلك وساواه، وأول من نادمه منهم محمد الأمين بن هارون الرّشيد، ولم يزل مع الخلفاء بعده إلى أيام المستعين، وهو في الطبقة الأولى من الشعراء المجيدين، وبينه وبين أبي نواس ماجريات لطيفة ووقائع حلوة، ومن شعره قوله:
صل بخدّي خدّيك تلق [2] عجيبا ... من معان يحار فيها الضّمير
فبخدّيك للرّبيع رياض ... وبخديّ للدموع غدير
__________
[1] في «وفيات الأعيان» (2/ 168) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «تلقى» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» .(3/234)
وقوله:
إذا خنتم بالغيب عهدي فما لكم ... تدلّون إدلال المقيم على العهد
صلوا وافعلوا فعل المدلّ بوصله ... وإلّا فصدّوا وافعلوا فعل ذي صدّ [1]
وعمّر نحو المائة.
وفيها حميد بن زنجويه، أبو أحمد النسائيّ الحافظ، صاحب التصانيف، منها كتاب «الآداب النبوية» و «الترغيب والترهيب» وغيرهما، وكان من الثقات. روى عن النّضر بن شميل وخلق بعده.
وفيها عمرو بن عثمان الحمصيّ، محدّث حمص. كان ثقة عدلا، روى عن إسماعيل بن عيّاش، وبقيّة، وابن عيينة.
قال أبو زرعة: كان أحفظ من محمد بن مصفّى.
وفيها أبو التّقى هشام بن عبد الملك اليزنيّ الحمصيّ الحافظ الثقة المتقن. روى عن إسماعيل بن عيّاش، وبقيّة، وكان ذا معرفة تامة.
__________
[1] البيتان في «وفيات الأعيان» (2/ 164) .(3/235)
سنة اثنتين وخمسين ومائتين
قتل المستعين بالله أبو العبّاس أحمد بن المعتصم محمد بن الرّشيد العباسيّ، ولد سنة إحدى وعشرين ومائتين، وبويع بعد المنتصر، وكان أمراء الترك قد استولوا على الأمر وبقي المستعين مقهورا معهم، فتحول من سامراء إلى بغداد غضبان، فوجهوا يعتذرون إليه ويسألونه الرجوع فامتنع، [فعمدوا [1] إلى الحبس] [2] فأخرجوا المعتزّ بالله وحلفوا له، وخلّفوه [3] وجاء أخوه أبو أحمد لمحاصرة المستعين، فتهيأ المستعين ونائب بغداد ابن طاهر للحرب، وبنوا سور بغداد، ووقع القتال، ونصبت المجانيق، ودام الحصار أشهرا، واشتدّ البلاء، وكثرت القتلى [4] ، وجهد أهل بغداد، حتّى أكلوا الجيف، وجرت عدة وقعات بين الفريقين، قتل في وقعة منها نحو الألفين من البغاددة [5] إلى أن كلّوا وضعف أمرهم، وقوي أمر المعتز، ثم تخلى ابن طاهر عن المستعين لمّا رأى البلاء، وكاتب المعتز، ثم سعوا في الصلح على خلع المستعين،
__________
[1] في المطبوع: «فعهدوا» والتصحيح من «العبر» للذهبي (2/ 8) .
[2] ما بين حاصرتين سقط من الأصل، واستدركته من المطبوع، و «العبر» للذهبي بتحقيق الأستاذ فؤاد سيد، طبع وزارة الإعلام في الكويت.
[3] لفظة «وخلّفوه» لم ترد في «العبر» ومعنى: «وخلّفوه» أي نصبوه خليفة.
[4] في «العبر» : «وكثر القتل» .
[5] في المطبوع: «البغادنة» .(3/236)
فخلع نفسه على شروط مؤكّدة في أول هذه السنة، ثم أنفذوه إلى واسط، فاعتقل تسعة أشهر، ثم أحضر إلى سامراء [فقتلوه بقادسية سامراء] [1] في آخر رمضان. قاله في «العبر» [2] .
وقال ابن الأهدل: اتفق الصلح على خلع المستعين، فخلع نفسه على شروط لم تف، وشاور أصحابه في أي البلاد يسكن، فأشار عليه بعضهم بالبصرة، فقيل: إنها حارّة، فقال: أترونها أحرّ من فقد الخلافة، فأقام حينئذ، ثم استدعاه المعتز وقتله وهو ابن خمس وثلاثين سنة، وكانت مدته من يوم بويع إلى أن خلع ثلاث سنين وأشهرا، وبين خلعه وقتله تسعة أشهر، وفيه يقول حبيب [3] الكاتب المعروف بالحاسة [4] :
خلع الخليفة أحمد بن محمد ... وسيقتل التالي له أو يخلع
إيها بني العبّاس [5] إن سبيلكم ... في قتل أعبدكم سبيل مهيع
رقّعتم دنياكم فتمزّقت ... بكم الحياة تمزّقا لا يرقع [6]
وكان يقول في دعائه: اللهم إذ خلعتني من الخلافة فلا تخلعني من رحمتك ولا تحرمني جنتك. انتهى.
وكان سبب قتله على ما ذكره ابن الفرات، أن المعتز بالله حين همّ بقتله، كتب إلى محمد بن عبد الله بن طاهر، فوجه أحمد بن طولون التركي في جيش، فأخرج المستعين، فلما وافى به القاطول [7] قتله عليه وحمل رأسه إلى المعتز، وكفن ابن طولون جثته ودفنه.
__________
[1] ما بين حاصرتين زيادة من «العبر» للذهبي.
[2] (2/ 9) .
[3] في الأصل: «حسد» ، وفي المطبوع: «حينئذ» ، وأثبت ما في «غربال الزمان» ص (234) .
[4] في «غربال الزمان» : «المعروف بالجابية» .
[5] في الأصل: «أيا بني العباس» وأثبت لفظ المطبوع، و «غربال الزمان» .
[6] الخبر والأبيات في «غربال الزمان» ص (234) .
[7] نهر كان في موقع سامراء قبل أن تعمّر. انظر «معجم البلدان» (4/ 297) .(3/237)
وقيل: بل كان أحمد بن طولون موكلا بالمستعين، فوجه المعتز سعيد بن صالح في جماعة فحمله وقتله بالقاطول.
وقيل: إنه أدخله إلى منزله بسرّ من رأى فعذبه حتّى مات.
وقيل: بل ركّبه معه في زورق وشدّ في رجليه حجرا وأغرقه.
وقيل: بل وكلّ به رجلا من الأتراك، وقال له: اقتله، فلما أتى إليه ليقتله، قال له: دعني حتّى أصلي ركعتين، فخلاه في الركعة الأولى، وضرب رأسه، وأتي المعتز برأسه وهو يلعب بالشطرنج، فقيل له: هذا رأس المخلوع، فقال: دعوه حتّى أفرغ من الدست، فلما فرغ دعا به ونظر إليه وأمر بدفنه، وأمر لسعيد بن صالح بخمسين ألفا، وولاه البصرة. انتهى.
وكان المستعين ربعة خفيف العارضين، أحمر الوجه، مليحا، بوجهه أثر جدري، ويلثغ في السين نحو الثاء، وكان مسرفا في تبذير الخزائن والذخائر، سامحه الله تعالى.
وفيها إسحاق بن بهلول، أبو يعقوب التّنوخيّ الأنباريّ الحافظ.
سمع ابن عيينة وطبقته، وكان من كبار الأئمة. صنف في القراءات، وفي الحديث، والفقه.
قال ابن صاعد: حدّث إسحاق بن بهلول بنحو [1] خمسين ألف حديث من حفظه، وعاش ثمانيا وثمانين سنة.
وفيها أبو هاشم زياد بن أيوب الطّوسيّ ثم البغداديّ دلّويه، الحافظ.
سمع هشيما وطبقته، وحدّث عنه البخاريّ، وأحمد، وغيرهما، وكان ثقة ثبتا، وكان يقال له: شعبة الصغير، لإتقانه ومعرفته.
وفيها بندار محمد بن بشّار بن عثمان بن داود بن كيسان العبديّ
__________
[1] في «العبر» للذهبي: «نحو» .(3/238)
البصريّ، أبو بكر، الحافظ الثقة، في رجب. سمع معتمر بن سليمان، وغندرا [1] وطبقتهما.
قال أبو داود: كتبت عنه خمسين ألف حديث.
وفيها محمد بن المثنّى بن عبيد بن قيس بن دينار، أبو موسى العنزي [2] البصريّ الزّمن، في ذي القعدة، ومولده عام توفي حمّاد بن سلمة.
سمع معتمر بن سليمان، وسفيان بن عيينة، وطبقتهما. وروى عنه الأئمة الستة، وابن خزيمة، وغيرهم، وكان حجة حافظا.
وفيها يعقوب بن إبراهيم بن كثير بن زيد بن أفلح بن منصور بن مزاحم، أبو يوسف، العبديّ النّكريّ الدّورقيّ البغداديّ الحافظ الثقة الحجة.
سمع هشيما، وإبراهيم بن سعد، وطبقتهما. وروى عنه الستة وغيرهم.
وفيها، بل في التي قبلها، كما جزم به ابن ناصر الدّين، عليّ الأفطس بن الحسن الذّهليّ.
قال في «المغني» [3] : علي بن الحسن الذّهليّ الأفطس النيسابوريّ.
عن ابن عيينة.
قال ابن الشرقي: متروك الحديث. انتهى.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «وغندر» ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (2/ 10) .
[2] في الأصل والمطبوع: «العتري» وهو خطأ، والتصحيح من «الأنساب» (9/ 76) .
[3] (2/ 445) .(3/239)
سنة ثلاث وخمسين ومائتين
فيها توفي أحمد بن سعيد بن صخر الحافظ، أبو جعفر الدّارميّ السّرخسيّ، أحد الفقهاء والأئمة في الأثر. سمع النّضر بن شميل وطبقته، وكان ثقة. روى عنه الأئمة إلّا النسائي.
وفيها أحمد بن المقدام، أبو الأشعث البصريّ العجليّ المحدّث، في صفر. سمع حمّاد بن زيد وطائفة كثيرة.
قال في «المغني» [1] : ثقة ثبت، وإنما ترك أبو داود الرواية عنه لمزاحه، كان بالبصرة مجّان يلقون صرة الدراهم ويرقبونها، فإذا جاء من يرفعها، صاحوا به وخجّلوه، فعلّمهم أحمد أن يتخذوا صرة فيها زجاج، فإذا أخذوا صرة الدراهم فصاح صاحبها، وضعوا بدلها صرة الزجاج.
وقال النسائيّ: ليس به بأس. انتهى كلام «المغني» .
وفيها السّريّ بن المغلّس السّقطيّ، أبو الحسن، البغداديّ، أحد الأولياء الكبار، وله نيّف وتسعون سنة. سمع من هشيم وجماعة، وصحب معروفا الكرخي [وله أحوال وكرامات.
قال ابن الأهدل: هو خال الجنيد، وأستاذه، وتلميذ معروف الكرخي] [2] .
__________
[1] «المغني في الضعفاء» (1/ 60) .
[2] ما بين حاصرتين سقط من الأصل، وأثبته من المطبوع.(3/240)
قال الجنيد: دفع لي السريّ رقعة وقال: هذه خير لك من سبعمائة فضة، فإذا فيها:
ولما ادعيت الحبّ قالت كذبتني ... فما لي أرى الأعضاء منك كواسيا
فما الحب حتّى يلصق الظهر بالحشا ... وتذبل حتّى لا تجيب المناديا
وتنحل حتّى لا يبقّي لك الهوى ... سوى مقلة تبكي بها وتناجيا [1]
انتهى.
وقال السخاويّ في «طبقات الأولياء» : هو إمام البغداديين في الإشارات، وكان يلزم بيته ولا يخرج منه، لا يراه إلّا من يقصده إلى بيته.
انقطع عن الناس وعن أسبابهم، وأسند عن الجنيد قال: ما رأيت أعبد من السّريّ، أتت عليه ثمان وتسعون سنة ما رؤي مضطجعا إلا في علة الموت.
وسئل عن المتصوف فقال: هو اسم لثلاثة معان، وهو الذي لا يطفئ نور معرفته نور ورعه، ولا يتكلم بباطن ينقضه عليه ظاهر الكتاب، ولا تحمله الكرامات من الله على هتك أستار محارم الله. انتهى ما ذكره السخاوي ملخصا.
وفيها الأمير محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين الخزاعيّ، نائب بغداد. كان جوادا ممدّحا [عالما] [2] ، قوي المشاركة، جيد الشعر، مات بالخوانيق.
وفيها وصيف التركي، كان [من] [3] أكبر أمراء الدولة، وكان قد استولى على المعتز، واصطفى الأموال لنفسه، وتمكن ثم قتل [4] .
__________
[1] الأبيات في «غربال الزمان» للعامري ص (234) مع بعض الاختلاف في ألفاظها.
[2] لفظة «عالما» سقطت من الأصل، والمطبوع، واستدركتها من «العبر» للذهبي (2/ 11) مصدر المؤلف.
[3] لفظة «من» سقطت من الأصل، والمطبوع، واستدركتها من «العبر» .
[4] في «العبر» : «وتمكن حتى قتل» .(3/241)
سنة أربع وخمسين ومائتين
فيها قتل بغا الصغير الشّرابيّ، وكان قد تمرّد وطغى، وراح نظيره وصيف، فتفرد واستبد بالأمور، وكان المعتز بالله يقول: لا أستلذ بحياة ما بقي بغا، ثم إنه وثب فأخذ من الخزائن مائتي ألف دينار، وسار نحو السّنّ [1] فاختلف عليه أصحابه وفارقه عسكره فذل وكتب يطلب الأمان وانحدر في مركب فأخذته المغاربة وقتله وليد المغربي وأتى برأسه، فأعطاه المعتز عشرة آلاف دينار.
وفيها أبو الحسن علي بن الجواد محمد بن الرضا علي بن الكاظم موسى بن جعفر الصادق العلويّ الحسنيّ، المعروف بالهادي، كان فقيها إماما متعبّدا، وهو أحد الأئمة الاثني عشر الذين تعتقد غلاة الشيعة عصمتهم كالأنبياء. سعي به إلى المتوكل، وقيل له: إن في بيته سلاحا وعدة ويريد القيام، فأمر من هجم [2] عليه [في] [3] منزله فوجده في بيت مغلق، وعليه مدرعة من شعر، يصلي ليس بينه وبين الأرض فراش، وهو يترنّم بآيات من
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «السند» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (2/ 12) ، وانظر «تاريخ الطبري» (9/ 379) ، و «الكامل» لابن الأثير (7/ 186) .
قال ياقوت: السّنّ: يقال لها سنّ بارما، مدينة على دجلة فوق تكريت، لها سور وجامع كبير، وفي أهلها علماء. «معجم البلدان» (3/ 268) ، وانظر «بلدان الخلافة الشرقية» ص (120) .
[2] قال ابن منظور: هجم على القوم يهجم هجوما: انتهى إليهم بغتة. «لسان العرب» (هجم) .
[3] زيادة من «غربال الزمان» ص (235) .(3/242)
القرآن في الوعد والوعيد، فحمل إليه ووصف له حاله، فلما رآه عظّمه وأجلسه إلى جنبه، وناوله شرابا، فقال: ما خامر لحمي ولا دمي فاعفني منه، فأعفاه وقال له: أنشدني شعرا، فأنشده أبياتا [1] أبكاه بها، فأمر له بأربعة آلاف دينار، وردّه مكرما.
وإنما قيل [له] [2] العسكري، لأنه [لما] [2] سعي به إلى المتوكل، أحضره من المدينة- وهي مولده- وأقرّه بمدينة العسكر، وهي سرّ من رأى، سميت بالعسكر لأن المعتصم حين بناها انتقل إليها بعسكره، فسميت بذلك، وأقام بها صاحب الترجمة عشرين سنة، فنسب إليها.
وفيها محمد بن عبد الله بن المبارك المخرّميّ [3] ، الحافظ أبو جعفر ببغداد. روى عن وكيع وطبقته. وعنه البخاري، وأبو داود، والنسائي، وغيرهم، وكان من كبار الحفاظ الثقات المأمونين. لما قدم ابن المديني بغداد قال: وجدت أكيس القوم هذا الغلام المخرّمي.
وفيها أبو أحمد المرّار بن حمّوية الثقفيّ الهمذانيّ الفقيه. سمع أبا نعيم، وسعيد بن أبي مريم، وكان موصوفا بالحفظ وكثرة العلم [4] .
وفيها العتبيّ [5] صاحب «العتبيّة» [6] في مذهب مالك، واسمه محمد
__________
[1] انظرها في «غربال الزمان» ص (235) .
[2] زيادة من «غربال الزمان» .
[3] في الأصل: «المخزومي» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع، ووهم الأستاذ فؤاد سيد في ضبطها في «العبر» (2/ 12) فضبط نسبته بفتح الميم وسكون الخاء وفتح الراء، نسبة إلى المسور بن مخرمة، وتبعه محقق «العبر» المنشور في دار الكتب العلمية ببيروت. والصواب أنه منسوب إلى المخرم، وهي محلة ببغداد. انظر «اللباب» لابن الأثير (3/ 178) .
[4] انظر ترجمته ومصادرها في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (12/ 308- 311) .
[5] نسبة إلى عتبة بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس أخي معاوية بن أبي سفيان. انظر «الأنساب» للسمعاني (8/ 379- 380) ، و «اللباب» لابن الأثير (2/ 320) .
[6] انظر «كشف الظنون» (2/ 1124) .(3/243)
ابن أحمد بن عبد العزيز بن عتبة الأمويّ العتبيّ القرطبيّ الأندلسيّ الفقيه، أحد الأعلام [ببلده] [1] . أخذ عن يحيى [بن يحيى] [2] ، ورحل فأخذ بالقيروان عن سحنون [3] ، وبمصر عن أصبغ، وصنف «المستخرجة» [4] وجمع فيها أشياء غريبة عن مالك.
وفيها مؤمّل بن إهاب، أبو عبد الرحمن، الحافظ في رجب بالرّملة.
روى عن ضمرة [5] بن ربيعة، ويحيى بن آدم، وطبقتهما.
وفيها- على ما جزم به ابن ناصر الدّين- أبو عاصم خشيش بن أصرم بن الأسود النسائي، أخذ العلم عن الكبار، وحدّث عنه عدة، منهم أبو داود، والنسائي، وغيرهم، وكان ثقة [6] .
__________
[1] زيادة من «العبر» للذهبي (2/ 13) .
[2] ما بين حاصرتين سقط من الأصل، والمطبوع، واستدركته من «العبر» .
[3] ضبطه الأستاذ فؤاد سيد في «العبر» بضم السين وسكون النون «سحنون» وهو خطأ فيصحح فيه.
[4] قلت: ولكن السمعاني ذكر في «الأنساب» بأن «المستخرجة» و «العتبية» مصنف واحد لا مصنفين كما جاء في كتابنا، وفي «العبر» ، وفي «سير أعلام النبلاء» (12/ 335) .
[5] ضبطه محقق «العبر» (2/ 13) طبع الكويت بضم الضاد، وهو خطأ، وتبعه محقق «العبر» طبع بيروت، فيصحح فيهما.
[6] انظر ترجمته ومصادرها في «سير أعلام النبلاء» (12/ 250- 251) .(3/244)
سنة خمس وخمسين ومائتين
فيها فتنة الزّنج، وخروج العلويّ قائد الزّنج بالبصرة، خرج بالبصرة فعسكر ودعا إلى نفسه، وزعم أنه عليّ بن محمد بن أحمد بن علي بن عيسى بن الشهيد زيد بن علي [1] ولم يثبتوا نسبه، فبادر إلى دعوته عبيد أهل البصرة السودان، ومن ثم قيل: الزّنج، والتف إليه كل صاحب فتنة، حتّى استفحل أمره، وهزم جيوش الخليفة، واستباح البصرة وغيرها، وفعل الأفاعيل، وامتدت أيامه إلى أن قتل إلى غير رحمة الله في سنة سبعين.
وفيها خرج غير واحد من العلوية، وحاربوا بالعجم وغيرها.
وفيها توفي الإمام الحبر، أبو محمد عبد الله بن عبد الرّحمن التميميّ الدارميّ السمرقنديّ، الحافظ الثقة، صاحب «المسند» المشهور. رحل وطوّف، وسمع النّضر بن شميل، ويزيد بن هارون، وطبقتهما.
قال أبو حاتم: هو إمام أهل زمانه.
وقال محمد بن عبد الله بن نمير: غلبنا الدّارميّ بالحفظ والورع.
وقال رجاء بن مرجّى [2] : ما رأيت أعلم بالحديث منه.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «ابن الشهيد بن زيد بن علي» وأثبت ما في «العبر» للذهبي.
[2] في الأصل، والمطبوع: «رجاء بن مرجا» والتصحيح من «العبر» للذهبي (2/ 15) ، وانظر «تقريب التهذيب» ص (208) .(3/245)
وفيها قتل [1] المعتز بالله أبو عبد الله محمد بن المتوكل [على الله] [2] جعفر بن المعتصم محمد بن الرّشيد العباسي، في رجب، خلعوه وأشهد على نفسه مكرها، ثم أدخلوه بعد خمسة أيام إلى حمام فعطش حتّى عاين الموت، وهو يطلب الماء فيمنع، ثم أعطوه ماء بثلج، فشربه وسقط ميتا، واختفت أمه قبيحة [3] وسبب قتله، أن جماعة من الأتراك قالوا: أعطنا أرزاقنا، فطلب من أمه مالا فلم تعطه، وكانت ذات أموال عظيمة إلى الغاية، منها جوهر، وياقوت، وزمرّد، قوّموه بألفي ألف دينار، ولم يكن [بقي] [4] إذ ذاك في خزائن الخلافة شيء، فحينئذ أجمعوا على خلعه، ورأسهم [5] حينئذ، صالح بن وصيف، ومحمد بن بغا، فلبسوا السلاح، وأحاطوا بدار الخلافة، وهجم على المعتز طائفة منهم، فضربوه بالدبابيس، وأقاموه في الشمس حافيا ليخلع نفسه، فأجاب، وأحضروا محمد بن الواثق من بغداد، فأول من بايعه، المعتز بالله، وعاش المعتز ثلاثا وعشرين سنة، وكان من أحسن أهل زمانه، ولقّبوا محمدا بالمهتدي بالله. قاله في «العبر» [6] .
وقال ابن الفرات: كانت وفاته في شعبان من هذه السنة، وكان عمره اثنتين وعشرين سنة وثلاثة أشهر، وكانت خلافته من يوم بويع له ببغداد- بعد خلع المستعين بالله نفسه- ثلاث سنين وستة أشهر وأربعة وعشرين يوما، وأشهر ولد المعتز عبد الله بن المعتز الشاعر، وبه كان يكنى. انتهى.
__________
[1] تحرفت في المطبوع إلى «قتل» .
[2] زيادة من «العبر» .
[3] في الأصل، والمطبوع: «صبيحة» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (2/ 15) و «الكامل في التاريخ» (7/ 200) ، وفيه قال ابن الأثير: وكان المتوكل سماها قبيحة لحسنها وجمالها، كما يسمى الأسود كافورا. وانظر «أعلام النساء» لكحالة (4/ 184- 187) طبع مؤسسة الرسالة.
[4] زيادة من «العبر» للذهبي.
[5] في «العبر» : «ورئيسهم» .
[6] (2/ 15- 16) .(3/246)
وفيها محمد بن عبد الرحيم، أبو يحيى، البغداديّ الحافظ البزّاز، ولقبه صاعقة.
سمع عبد الوهاب بن عطاء الخفّاف وطبقته، وكان أحد الثقات [1] الأثبات المجوّدين.
وفيها محمد بن كرّام، أبو عبد الله السجستانيّ، الزّاهد، شيخ الطائفة الكرّامية، وكان من عبّاد المرجئة. قاله في «العبر» [2] .
وقال في «المغني» [3] : محمد بن كرّام السّجزي، العابد، المتكلم، شيخ الكرامية. أكثر عن الجويباري [4] ، ومحمد بن تميم السعدي، وكانا ساقطين.
قال ابن حبّان: خذل حتّى التقط من المذاهب أردأها، ومن الأحاديث أوهاها.
وقال أبو العبّاس السرّاج [5] : شهدت البخاريّ ودفع إليه كتاب [من] [6]
__________
[1] لفظة «الثقات» سقطت من «العبر» للذهبي فتستدرك فيه.
[2] (2/ 16) .
[3] «المغني في الضعفاء» (2/ 627) .
[4] في الأصل والمطبوع: «الجويباري» وهو خطأ، والتصحيح من «الأنساب» . وهو أحمد بن عبد الله بن خالد بن موسى بن فارس بن مرداس بن نهيك التميمي القيسي الجويباري، نسبة إلى «جويبار» إحدى قرى هراة، قاله السمعاني في «الأنساب» (3/ 381) . وقال ابن حبان في «المجروحين» (1/ 142) : دجال من الدجاجلة كذاب، يروي عن ابن عيينة، ووكيع، وأبي ضمرة، وغيرهم من الثقات أصحاب الحديث، ويضع عليهم ما لم يحدثوا، وقد روى عن هؤلاء الأئمة ألوف حديث ما حدثوا بشيء منها، كان يضعها عليهم، لا يحل ذكره في الكتب إلا على سبيل الجرح فيه. وقال النسائي في «الضعفاء الصغير» ص (22) : كذاب. وقال الذهبي في «ميزان الاعتدال» (1/ 107) : هو ممن يضرب المثل بكذبه. وقال ابن حجر في «لسان الميزان» (1/ 194) : قال الخليلي: كذاب، يروي عن الأئمة أحاديث موضوعة، وكان يضع لابن كرّام أحاديث مصنوعة، وكان ابن كرام يسمعها وكان مغفلا.
[5] في الأصل، والمطبوع: «سراج» والتصحيح من «المغني في الضعفاء» .
[6] زيادة من «المغني في الضعفاء» .(3/247)
ابن كرّام، يسأله عن أحاديث، فيها [1] الزّهري، عن سالم، عن أبيه، يرفعه «الإيمان لا يزيد ولا ينقص» . فكتب أبو عبد الله على ظهر كتابه: من حدّث بهذا استوجب الضرب الشديد، والحبس الطويل.
وقال ابن حبّان: جعل ابن كرّام الإيمان قولا بلا معرفة.
وقال ابن حزم: قال ابن كرّام: الإيمان قول باللسان، وإن اعتقد الكفر بقلبه فهو مؤمن.
قلت [2] : هذه أشنع بدعة. وقوله في الرّبّ: جسم لا كالأجسام. انتهى ما قاله الذهبيّ في «المغني في الضعفاء» .
وفيها موسى بن عامر المرّيّ الدّمشقيّ. سمع الوليد بن مسلم، وابن عيينة، وكان أبوه أبو الهيذام [3] عامر بن عمارة سيد قيس وزعيمها وفارسها، وكان طلب من الوليد بن مسلم فحدث ابنه هذا بمصنفاته.
قال في «المغني» [4] : موسى بن عامر المرّي صاحب الوليد بن مسلم، صدوق تكلّم فيه بلا حجة، ولا ينكر له تفرده عن الوليد، فإنه يكثر عنه. انتهى.
__________
[1] في «المغني في الضعفاء» : «منها» .
[2] القائل الحافظ الذهبي.
[3] في المطبوع: «أبو الهندام» وهو خطأ، وانظر «جمهرة أنساب العرب» لابن حزم ص (252) .
[4] «المغني في الضعفاء» (2/ 684) .(3/248)
سنة ست وخمسين ومائتين
كان صالح بن وصيف التركي قد ارتفعت منزلته، وقتل المعتز وظفر بأمه قبيحة [1] فصادرها حتّى استصفى نعمتها، وأخذ منها نحو ثلاثة آلاف ألف دينار، ونفاها إلى مكّة، ثم صار خاصّة المعتز وكتّابه، وهم: أحمد بن إسرائيل، والحسن بن مخلد، وأبو نوح عيسى بن إبراهيم [2] ، ثم قتل أبا نوح، وأحمد، فلما دخلت هذه السنة أقبل موسى بن بغا وعبأ جيشه في أكمل أهبة، ودخلوا سامراء ملبّين، قد أجمعوا على قتل صالح بن وصيف، وهم يقولون: قتل المعتز، وأخذ أموال أمه، وأموال الكتّاب، وصاحت العامة:
يا فرعون جاءك موسى، ثم هجم موسى بمن معه على المهتدي بالله، وأركبوه فرسا، وانتهبوا القصر، ثم أدخلوا المهتدي دار باجور [3] ، وهو يقول:
يا موسى ويحك، ما تريد؟ فيقول: وتربة المتوكل لا نالك سوء، ثم حلّفوه لا يمالئ صالح بن وصيف عليهم، وبايعوه، وطلبوا صالحا يناظروه [4] على
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «صبيحة» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (2/ 16) و «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (7/ 200) ، وانظر التعليق رقم (3) في حاشية الصفحة (246) من هذا المجلد.
[2] في الأصل، والمطبوع: «وأبو نوح وعيسى بن إبراهيم» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (2/ 17) . وانظر «تاريخ الطبري» (9/ 397) .
[3] في الأصل: «بادور» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو موافق لما في «العبر» (2/ 17) .
وانظر «تاريخ الطبري» (9/ 381) .
[4] في «العبر» : «ليناظروه» .(3/249)
أفعاله فاختفى، وردوا المهتدي إلى داره، وبعد شهر قتل صالح بن وصيف.
وفي رجب، قتل المهتدي بالله أمير المؤمنين أبو إسحاق محمد بن الواثق بالله هارون بن المعتصم [بالله] [1] محمد بن الرّشيد العبّاسي، وكانت دولته سنة، وعمره [2] نحو ثمان وثلاثين سنة، وكان أسمر، رقيقا، مليح الصورة، ورعا، تقيا، متعبدا، عادلا، فارسا، شجاعا، قويا في أمر الله، خليقا للإمارة، لكنه لم يجد ناصرا ولا معينا على الخير. وقيل: إنه سرد الصوم مدة إمرته، وكان يقنع بعض الليالي بخبز وزيت وخلّ، وكان يشبّه بعمر بن عبد العزيز.
وورد أنه كان له جبة صوف وكساء يتعبد فيه بالليل، وكان قد سدّ باب الملاهي والغناء، وحسم الأمراء عن الظلم، وكان يجلس بنفسه لعمل حساب الدواوين بين يديه، ثم إن الأتراك خرجوا عليه فلبس السلاح وشهر سيفه [3] ، وحمل عليهم فجرح، ثم أسروه وخلعوه، ثم قتلوه إلى رحمة الله ورضوانه، وأقاموا بعده المعتمد على الله. قاله في «العبر» [4] .
وقال ابن الفرات: أرادوا أن يبايعوا المهتدي بالله على الخلافة، فقال:
لا أقبل مبايعتكم حتّى أسمع بأذني خلع المعتز نفسه، فأدخلوه عليه، فسلّم عليه بالخلافة، وجلس بين يديه، فقال له الأمراء: ارتفع، فقال: لا أرتفع إلّا أن يرفعني الله، ثم قال للمعتز: يا أمير المؤمنين خلعت أمر الرعية من عنقك طوعا ورغبة، وكل من كانت لك في عنقه بيعة فهو بريء منها، فقال المعتز من الخوف: نعم، فقال: خار الله لنا ولك يا أبا عبد الله، ثم ارتفع حينئذ إلى
__________
[1] زيادة من «العبر» للذهبي.
[2] في «العبر» : «وعمّر» .
[3] في الأصل، والمطبوع: «وأشهر سيفه» وما أثبته من «العبر» للذهبي.
[4] (2/ 17- 18) .(3/250)
صدر المجلس، وكان أول من بايعه، وكان المهتدي ورعا، زاهدا، صوّاما، لم تعرف له زلّة، وكان سهل الحجاب، كريم الطبع، يخاطب أصحاب الحوائج بنفسه، ويجلس للمظالم، ويلبس القميص الصوف الخشن تحت ثيابه على جلده، وكان من العدل على جانب عظيم.
حكي أن رجلا من الرّملة تظلّم إلى المهتدي بالله من عاملها، فأمر بإنصافه، وكتب إليه كتابا بخطه، وختمه بيده، وسلّمه إلى الرجل، وهو يدعو له، فشاهد الرجل من رحمة المهتدي وبره بالرعية، وتوليته أمورهم بنفسه ما لم ير مثله، فاهتز ووقع مغشيا عليه، والمهتدي يعاينه، فلما أفاق قال له المهتدي: ما شأنك، أبقيت لك حاجة؟ قال: لا والله، ولكني ما رجوت أن أعيش حتّى أرى مثل هذا العدل، فقال له المهتدي: كم أنفقت منذ خرجت من بلدك؟ فقال: أنفقت عشرين دينارا، فقال المهتدي: إنا لله وإنا إليه راجعون، كان الواجب علينا أن ننصفك وأنت في بلدك ولا نحوجك إلى تعب وكلفة، وإذا أنفقت ذلك فهذه خمسون دينارا من بيت المال، فإني لا أملك مالا، فخذها لنفقتك واجعلنا في حل من تعبك وتأخّر حقك، فبكى الرجل حتّى غشي عليه ثانيا، وبهت بعض الناس، وبكى بعضهم، فقال أحد الجماعة: أنت والله يا أمير المؤمنين كما قال الأعشى [1] :
حكّمتموه فقضى بينكم ... أبلج مثل القمر الزّاهر
لا يقبل الرّشوة في حكمه ... ولا يبالي غبن الخاسر [2]
فقال المهتدي: أمّا أنت فأحسن الله جزاءك، وأما أنا فما رويت هذا الشعر ولا سمعت به، ولكني أذكر قول الله عزّ وجل:
__________
[1] تقدم التعريف به في حاشية الصفحة (218) .
[2] البيتان في «ديوانه» ص (141) من قصيدة مؤلفة من (38) بيتا. وروايتهما فيه:
حكمتمو بي فقضى بينكم ... أبلج مثل القمر الباهر
لا يأخذ الرشوة في حكمه ... ولا يبالي غبن الخاسر(3/251)
وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ من خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ 21: 47 [الأنبياء: 47] ، فما بقي في المجلس إلّا من استغرق بالدعاء له بطول العمر ونفاذ الأمر، وكان يقول: لو لم يكن الزّهد في الدّنيا والإيثار لما عند الله من طبعي لتكلّفته، فإن منصبي يقتضيه، لأني خليفة الله في أرضه والقائم مقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- النائب عنه في أمته، وإني لأستحيي أن يكون لبني مروان عمر بن عبد العزيز، وليس لبني العبّاس مثله، وهم آل الرّسول صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وفيها الزّبير بن بكّار، الإمام أبو عبد الله الأسديّ الزّبيريّ، قاضي مكّة، في ذي القعدة. سمع سفيان بن عيينة فمن بعده، وصنف «كتاب النسب» [1] وغير ذلك، وكان ثقة ولا يلتفت إلى من تكلم فيه كما قال ابن ناصر الدّين.
وفيها ليلة عيد الفطر، الإمام، حبر الإسلام، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه [2] البخاريّ مولى الجعفيين، صاحب «الصحيح» والتصانيف. ولد سنة أربع وتسعين ومائة، وارتحل سنة عشر ومائتين، فسمع مكي بن إبراهيم، وأبا عاصم النّبيل، وأحمد بن حنبل، وخلائق عدتهم ألف شيخ، وكان من أوعية العلم، يتوقد ذكاء، ولم يخلف
__________
[1] واسمه: «نسب قريش وأخبارها» ، وقد نشر في مصر بتحقيق المحقق الكبير الأستاذ محمود محمد شاكر باسم «جمهرة نسب قريش» .
[2] قال الحافظ ابن حجر في «مقدمة فتح الباري» ص (477) : بردزبة بفتح الباء الموحدة، وسكون الراء المهملة، وكسر الدال المهملة، وسكون الزاي المعجمة، وفتح الباء الموحدة بعدها هاء، هذا هو المشهور في ضبطه، وبه جزم ابن ماكولا، وقد جاء في ضبطه غير ذلك. وبردزبه بالفارسية الزراع كذا يقوله أهل بخارى، وكان بردزبه فارسيا على دين قومه ثم أسلم والده المغيرة على يد اليمان الجعفي وأتى بخارى فنسب إليه نسبة ولاء عملا بمذهب من يرى أن من أسلم على يده شخص كان ولاؤه له، وإنما قيل له الجعفي لذلك. وانظر:
«تهذيب الأسماء واللغات» للنووي (1/ 67) مصورة دار الكتب العلمية ببيروت.(3/252)
بعده مثله. قاله في «العبر» [1] .
وقال الحافظ عبد الغني في كتابه «الكمال» ما ملخصه: محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبة، يكنى أبا عبد الله، وبردزبة مجوسي مات عليها، والمغيرة أسلم على يدي يمان البخاري والي بخارى، ويمان هو أبو جد عبد الله بن محمد بن جعفر بن يمان، وهذا هو الإمام أبو عبد الله الجعفي مولاهم البخاري صاحب «الصحيح» إمام هذا الشأن، والمقتدى به فيه [2] ، والمعوّل على كتابه بين أهل الإسلام. رحل في طلب العلم إلى سائر محدثي الأمصار، وكتب بخراسان، والجبال، ومدن العراق كلها، وبالحجاز، والشام، ومصر.
قال ابن وضّاح، ومكي بن خلف: سمعنا محمد بن إسماعيل يقول:
كتبت عن ألف نفر من العلماء وزيادة ولم أكتب إلّا عمّن قال: الإيمان قول وعمل.
وعن أبي إسحاق الريحاني، أن البخاري كان يقول: صنفت «كتاب الصحيح» بست عشرة سنة خرجته من ستمائة ألف حديث وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى.
وقال محمد بن سليمان بن فارس: سمعت أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري يقول: رأيت النّبيّ، صلى الله عليه وسلم، كأني واقف بين يديه وبيدي مروحة أذبّ عنه، فسألت بعض المعبرين فقال: إنك تذبّ عنه الكذب، فهو الذي حملني على إخراج «الصحيح» .
وقال أبو حامد أحمد بن حمدون الأعمشي: سمعت مسلم بن الحجّاج
__________
[1] (2/ 18- 19) .
[2] لفظة: «فيه» سقطت من الأصل، وأثبتها من المطبوع.(3/253)
يقول لمحمد بن إسماعيل البخاري: لا يعيبك إلّا حاسد، وأشهد أن ليس في الدّنيا مثلك.
وقال أحمد بن حمدون الأعمشي: رأيت محمد بن إسماعيل في جنازة أبي عثمان سعيد بن مروان ومحمد بن يحيى يسأله عن الأسامي والكنى وعلل الحديث، ويمر فيه محمد بن إسماعيل مثل السهم، كأنه يقرأ: قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ 112: 1 [الإخلاص: 1] .
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي يقول: ما أخرجت خراسان مثل محمد بن إسماعيل البخاري.
وروى أبو إسحاق المستملي، عن محمد بن يوسف الفربري أنه كان يقول: سمع كتاب «الصحيح» من محمد بن إسماعيل تسعون ألف رجل، وما بقي أحد يروي عنه غيري.
وقال محمد بن إسماعيل: ما أدخلت في كتابي «الجامع» إلّا ما صحّ، وتركت من الصحاح لحال الطول.
وقال النسائيّ: ما في هذه الكتب كلها أجود من كتاب محمد بن إسماعيل.
وقال بكر بن منير: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول:
أرجو أن ألقى الله عزّ وجل ولا يحاسبني أني اغتبت أحدا.
وقال عبد الواحد بن آدم الطواويسي: رأيت النّبيّ، صلى الله عليه وسلم، في النوم ومعه جماعة من أصحابه وهو واقف في موضع ذكره، فسلمت عليه، فرد السلام، فقلت: ما يوقفك يا رسول الله؟ قال: «أنتظر محمّد بن إسماعيل البخاري» فلما كان بعد أيام بلغني موته، فنظرنا فإذا هو قد مات في الساعة التي رأيت النّبيّ، صلى الله عليه وسلم، فيها.
وقال عبد القدوس بن عبد الجبار السمرقندي: جاء محمد بن إسماعيل(3/254)
إلى خرتنك- قرية من قرى سمرقند على فرسخين- وكان له أقرباء فنزل عليهم، قال: فسمعته ليلة من الليالي وقد فرغ من صلاة الليل يدعو ويقول:
اللهم قد ضاقت عليّ الأرض بما رحبت فاقبضني إليك. قال: فما تم الشهر حتّى قبضه الله عز وجل، وقبره بخرتنك.
ولد البخاريّ يوم الجمعة بعد صلاة الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال، سنة أربع وتسعين ومائة، وتوفي ليلة السبت عند صلاة العشاء ليلة الفطر، ودفن يوم الفطر بعد صلاة الظهر لغرة شوال سنة ست وخمسين ومائتين، وعاش اثنتين وستين سنة إلا ثلاثة عشر يوما. انتهى ما لخصته من «الكمال» .
وقال ابن الأهدل- بعد الإطناب في ذكره-: أجمع النّاس على صحة كتابه، حتّى لو حلف حالف بطلاق زوجته ما في «صحيح البخاري» حديث مسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلّا وهو صحيح عنه كما نقله، ما حكم بطلاق زوجته، نقل ذلك غير واحد من الفقهاء وقرّروه.
ونقل الفربريّ عنه قال: ما وضعت في كتابي الصحيح حديثا إلّا وقد اغتسلت قبله وصليت ركعتين. انتهى.
وفيها يحيى بن حكيم البصريّ المقوّم أبو سعيد الحافظ، سمع سفيان بن عيينة وغندرا، وطبقتهما.
قال أبو داود: كان حافظا متقنا.(3/255)
سنة سبع وخمسين ومائتين
فيها وثب العلويّ قائد الزّنج على الأبلّة، فاستباحها وأحرقها، وقتل بها نحو ثلاثين ألفا، فساق لحربه سعيد الحاجب، فالتقوا فانهزم سعيد واستحر القتل [1] بأصحابه، ثم دخلت الزّنج البصرة، وخرّبوا الجامع، وقتلوا بها اثني عشر ألفا، فهرب باقي أهلها بأسوأ حال، فخربت ودثرت.
وفيها قتل [ميخائيل بن] توفيل [2] طاغية الرّوم، قتله بسيل [3] الصّقلبيّ.
وفيها توفي المحدّث المعمّر، أبو علي الحسن بن عرفة العبديّ البغداديّ المؤدّب، وله مائة وسبع سنين. سمع إسماعيل بن عيّاش وطبقته، وكان يقول: كتب عني خمسة قرون.
قال النسائيّ: لا بأس به.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «واستبحر القتل» والتصحيح من «العبر» للذهبي (2/ 19) ، و «مرآة الجنان» لليافعي (2/ 169) .
[2] قلت: في الأصل، والمطبوع، و «العبر» للذهبي (2/ 19) : «وفيها قتل توفيل» وهو خطأ، والتصحيح من «تاريخ الطبري» (9/ 489) ، و «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (7/ 249) طبع دار صادر، والصواب في قتل والده «توفيل» أنه كان سنة (227) . انظر: «تاريخ الطبري» (9/ 121) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «سيل» وهو خطأ، والتصحيح من «تاريخ الطبري» ، و «الكامل» لابن الأثير، و «العبر» للذهبي.(3/256)
وفيها زهير بن محمد بن قمير المروزيّ، ثم البغداديّ، الحافظ.
سمع يعلى بن عبيد، ورحل إلى عبد الرزاق، وكان من أولياء الله تعالى، ثقة مأمونا.
قال البغويّ: ما رأيت بعد أحمد بن حنبل أفضل منه، كان يختم في رمضان [1] .
وفيها زيد بن أخزم [2] الشهيد الطائيّ النبهانيّ البصريّ، أبو طالب، ثقة. حدّث عنه أصحاب الكتب [الستة] إلّا مسلما، وذبحته الزّنج.
وفيها الحافظ أبو داود سليمان بن معبد السّنجيّ [3] المروزيّ. روى عن النّضر بن شميل، وعبد الرزاق، وكان أيضا مقدما في العربية.
والرّياشي، أبو الفضل، العبّاس بن الفرج، قتلته الزّنج بالبصرة وله ثمانون سنة. أخذ عن أبي عبيدة ونحوه، وكان إماما في اللغة والنحو، أخباريا علّامة ثقة.
خرّج له أبو داود في «سننه» .
وفيها أبو سعيد الأشجّ، عبد الله بن سعيد الكنديّ الكوفيّ الحافظ، صاحب التصانيف في ربيع الأول وقد جاوز التسعين. روى عن هشيم، وعبد الله بن إدريس، وخلق، وكان ثقة حجّة.
قال أبو حاتم: هو إمام أهل زمانه.
وقال محمد بن أحمد الشّطوي: ما رأيت أحفظ منه.
__________
[1] في «العبر» للذهبي مصدر المؤلف: «كان يختم في رمضان تسعين ختمة» وهو كذلك في «تاريخ بغداد» (8/ 485) .
[2] تصحفت في «العبر» إلى «أخرم» فتصحح فيه.
[3] في الأصل، والمطبوع: «السبخي» وهو خطأ، والتصحيح من «الأنساب» للسمعاني (7/ 165) ، و «العبر» للذهبي (2/ 20) .(3/257)
سنة ثمان وخمسين ومائتين
فيها توجه منصور بن جعفر فالتقى الخبيث قائد الزّنج وهو، فقتل منصور في المصاف، واستبيح ذلك الجيش، فسار أبو أحمد الموفق أخو الخليفة في جيش عظيم، فانهزمت الزّنج وتقهقرت، ثم جهز الموفق فرقة عليهم مفلح، فالتقوا الزّنج، فقتل مفلح في المصاف وانهزم النّاس، وتحيز الموفق إلى الأبلّة، فسيّر قائد الزّنج جيشا عليهم يحيى بن محمد، فانتصر المسلمون، وقتل في الوقعة خلق، وأسروا يحيى، فأحرق بعد ما قتل ببغداد، ثم وقع الوباء في جيش الموفق، وكثر [بالعراق] [1] ثم كانت وقعة هائلة بين الزّنج والمسلمين، فقتل خلق من المسلمين، وتفرق عن الموفق عامة جنده.
وفيها توفي أحمد بن بديل الإمام أبو جعفر الياميّ الكوفيّ، قاضي الكوفة، ثم قاضي همذان. روى عن أبي بكر بن عيّاش وطبقته، وخرّج له الترمذيّ وغيره، وكان صالحا عادلا في أحكامه، وكان يسمى راهب الكوفة لعبادته.
قال الدارقطنيّ: فيه لين.
وقال في «المغني» [2] : أحمد بن بديل الكوفي القاضي، مشهور غير متهم.
__________
[1] سقطت من الأصل، والمطبوع، واستدركتها من «العبر» للذهبي (2/ 22) .
[2] (1/ 34) .(3/258)
قال ابن عدي: يكتب حديثه مع ضعفه.
وقال النسائي: لا بأس به [1] . انتهى.
وأبو علي أحمد بن حفص بن عبد الله السلميّ النيسابوري، قاضي نيسابور، روى عن أبيه وجماعة.
وفيها أحمد بن سنان القطّان، أبو جعفر الواسطيّ، الحافظ. سمع أبا معاوية وطبقته، وروى عنه أصحاب الكتب الستة إلّا الترمذي، وصنف «المسند» وكتب عنه ابن أبي حاتم، وقال: هو إمام أهل زمانه.
وفيها أحمد بن الفرات، بن خالد، أبو مسعود [2] الرّازيّ الثقة، أحد الأعلام في شعبان بأصبهان، طوّف النواحي، وسمع أبا أسامة وطبقته، وكان ينظّر بأبي زرعة الرّازي في الحفظ، وصنف «المسند» و «التفسير» . وقال:
كتبت ألف ألف وخمسمائة ألف حديث.
ومحمد بن سنجر، أبو عبد الله الجرجاني الحافظ، صاحب «المسند» في ربيع الأول بصعيد مصر. سمع أبا نعيم وطبقته، وكان ثقة خيرا.
ومحمد بن عبد الملك بن زنجويه، أبو بكر. الحافظ البغدادي.
الغزّال، مات في جمادى الآخرة ببغداد، وكان ثقة. رحل إلى عبد الرزاق فأكثر عنه وصنف.
ومحمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد بن فارس، أبو عبد الله الذّهلي النيسابوري، أحد الأئمة الأعلام الثقات، سمع عبد الرّحمن [بن
__________
[1] قوله: «وقال النسائي: لا بأس به» سقط من «المغني في الضعفاء» الذي بين يدي فيستدرك فيه.
[2] في الأصل، والمطبوع: «ابن مسعود» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» (2/ 22) ، و «سير أعلام النبلاء» (12/ 481) ، و «طبقات الحفاظ» ص (239) .(3/259)
مهدي] [1] وطبقته، وأكثر الترحال، وصنف التصانيف، وكان الإمام أحمد يجلّه ويعظّمه.
قال أبو حاتم: كان إمام أهل زمانه.
وقال أبو بكر بن أبي داود: هو أمير المؤمنين في الحديث.
ويحيى بن معاذ الرّازيّ الزّاهد [العارف] [2] ، حكيم زمانه وواعظ عصره، توفي في جمادى الأولى بنيسابور، وقد روى عن إسحاق بن سليمان الرّازي وغيره.
وقال السلميّ في «طبقات الصوفية» [3] : يحيى بن معاذ بن جعفر الرّازي الواعظ، تكلم في علم الرجال [4] فأحسن الكلام فيه.
وكانوا ثلاثة إخوة: يحيى، وإبراهيم، وإسماعيل، أكبرهم سنا إسماعيل، ويحيى أوسطهم، وإبراهيم أصغرهم، وكلّهم كانوا زهّادا.
وأخوه إبراهيم خرج معه إلى خراسان وتوفي بين نيسابور وبلخ، وأقام يحيى ببلخ مدة، ثم خرج إلى نيسابور ومات بها.
ومن كلامه: من استفتح باب المعاش بغير مفاتيح الأقدار وكل إلى المخلوقين.
وقال: العبادة حرفة، وحوانيتها الخلوة، وآلاتها المخادعة [5] ورأس مالها [6]
__________
[1] زيادة من «العبر» للذهبي.
[2] زيادة من «العبر» للذهبي.
[3] في الأصل، والمطبوع: «في طبقات الأولياء» وهو سبق قلم من المؤلف رحمه الله، والصواب ما أثبته فإنه ينقل عن «طبقات الصوفية» للسلمي ص (107- 114) بتصرّف، ومعلوم بأن كتاب «طبقات الأولياء» لابن الملقن وليس للسلمي.
[4] في «طبقات الصوفية» : «في علم الرجاء» .
[5] قوله: «وآلاتها المخادعة» لم يرد في «طبقات الصوفية» المطبوع.
[6] في الأصل: «ورأس ماله» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.(3/260)
الاجتهاد بالسّنّة، وربحها الجنّة.
وقال: الصبر على الخلوة [1] من علامات الإخلاص.
وقال: الدّنيا دار الأشغال، والآخرة دار الأهوال، ولا يزال العبد متردّدا بين الأشغال والأهوال حتّى يستقر به القرار، إما إلى جنّة وإما إلى نار.
وقال: على قدر حبّك لله يحبّك الخلق، وعلى قدر خوفك من الله تعالى يهابك الخلق، وعلى قدر شغلك بالله يشتغل في أمرك الخلق.
وسئل عن الرقص فقال:
دققنا الأرض بالرّقص ... على غيب معانيكا
ولا عيب على رقص ... لعبد هائم فيكا
وهذا دقّنا للأر ... ض إذ طفنا بواديكا [2]
انتهى ملخصا.
وفيها الفضل بن يعقوب الرّخاميّ العالم الفاضل العلم الثقة.
__________
[1] في المطبوع: «والصبر على الخلق» وما جاء في الأصل موافق لما في «طبقات الصوفية» .
أقول: ليس في الإسلام خلوة سوى الاعتكاف. (ع) .
[2] الأبيات في «حلية الأولياء» (10/ 61) .
أقول: ليس في الإسلام ذكر بالرقص كما يفعله بعض المتصوفة. (ع) .(3/261)
سنة تسع وخمسين ومائتين
كان طاغية الزّنج قد نزل البطيحة [1] ، وشق حوله الأنهار، وتحصّن، فهجم عليه الموفق، فقتل من أصحابه خلقا، وحرق أكواخه، واستنقذ من النساء خلقا كثيرا، فسار الخبيث إلى الأهواز، ووضع السيف في الأمة، فقتل خمسين ألفا، وسبى مثلهم، فسار لحربه موسى بن بغا، فحاربه بضعة عشر شهرا، وقتل خلق من الفريقين.
وفيها نزلت الرّوم- لعنهم الله- على ملطية، فخرج أحمد القابوس في أهلها، فالتقى الرّوم، فقتل مقدمهم الأقريطشي، فانهزموا، ونصر الله المسلمين.
وفيها استفحل أمر يعقوب بن اللّيث الصفّار، ودوّخ الممالك، واستولى على إقليم خراسان، وأسر محمد بن طاهر أمير خراسان.
وفيها توفي أحمد بن إسماعيل أبو حذافة، السهميّ المدنيّ، صاحب مالك ببغداد، وهو في عشر المائة، ضعفه الدّارقطنيّ وغيره، وهو آخر من حدّث عن مالك.
__________
[1] قال الزبيدي في «تاج العروس» (بطح) : البطيحة: ما بين واسط والبصرة، وهو ماء مستنقع لا يرى طرفاه من سعته، وهو مغيض ماء دجلة والفرات، وكذلك مغايض ما بين بصرة والأهواز، والطّفّ: ساحل البطيحة.(3/262)
وقال ابن عدي: حدّث بالبواطيل.
وفيها الإمام إبراهيم بن يعقوب أبو إسحاق الجوزجانيّ صاحب التصانيف. سمع الحسين بن علي الجعفي، وشبابة، وطبقتهما، وكان من كبار العلماء، ونزل دمشق، وجرّح وعدّل، وهو من الثقات.
وحجّاج بن يوسف الشاعر، ابن حجّاج الثقفيّ البغداديّ، أبو محمود، الحافظ الكبير الثقة المشهور، أحد الأثبات. سمع عبد الرزاق وطبقته.
وفيها عبّاسويه، وهو العبّاس بن يزيد بن أبي حبيب، أبو الفضل، البحرانيّ البصريّ، صدوق، ثبت، ثقة.
وفيها حيويه، وهو محمد بن يحيى بن موسى الإسفراييني [1] الحافظ، محدّث إسفرايين في ذي الحجة. سمع سعيد بن عامر الضّبعي وطبقته، وبه تخرّج الحافظ أبو عوانة.
وفيها إسحاق بن إبراهيم [بن موسى] [2] العصّار، الوزدوليّ، أحد الثقات الأخيار [3] .
وفيها الحافظ أبو الحسن محمود بن سميع الدمشقيّ، صاحب «الطبقات» وأحد الأثبات. سمع إسماعيل بن أبي أويس وطبقته.
قال أبو حاتم: ما رأيت بدمشق أكيس منه.
__________
[1] في المطبوع: «الإسفرائني» .
[2] ما بين حاصرتين سقط من الأصل، وأثبته من المطبوع.
[3] انظر ترجمته ومصادرها في «طبقات الحفاظ» للسيوطي ص (243) .(3/263)
سنة ستّين ومائتين
فيها كما قال في «الشذور» بلغ كرّ [1] الحنطة مائة وخمسين دينارا، ودام أشهرا.
وفيها صال يعقوب بن اللّيث وجال، وهزم الشجعان والأبطال، وترك النّاس بأسوأ حال، ثم قصد الحسن بن زيد العلوي صاحب طبرستان، فالتقوا، فانهزم العلويّ وتبعه يعقوب في تلك الجبال، فنزلت على يعقوب كسرة سماوية، ونزل [2] على أصحابه ثلج عظيم حتّى أهلكهم، ورجع إلى سجستان بأسوأ حال، وقد عدم من جيوشه أربعون ألفا، وذهبت عامّة خيله وأثقاله.
وفيها توفي الإمام أبو علي الحسن بن محمد الصّبّاح الزّعفرانيّ، [3] الفقيه الحافظ، صاحب الشافعي ببغداد. روى عن سفيان بن عيينة وطبقته، وكان من أذكياء العلماء. وروى عنه البخاريّ، وأبو داود، والترمذيّ،
__________
[1] قال ابن منظور: الكرّ: مكيال لأهل العراق، وهو عندهم ستّون قفيزا، والقفيز ثمانية مكاكيك، والمكّوك صاع ونصف، وهو ثلاث كيلجات، قال الأزهري: والكر من هذا الحساب اثنا عشر وسقا، كلّ وسق ستّون صاعا. «لسان العرب» (كرر) بتصرّف.
[2] في «العبر» : «نزل» .
[3] في الأصل والمطبوع و «غربال الزمان» «زعفرانة» وما أثبته من «الأنساب» للسمعاني (6/ 280) ، و «وفيات الأعيان» لابن خلكان (2/ 74) ، و «معجم البلدان» لياقوت (3/ 141) .(3/264)
وغيرهم، ونسبته إلى الزّعفرانيّة [1] قرية قرب بغداد، ودرب الزعفران ببغداد الذي فيه مسجد الشافعي ينسب إلى هذا الإمام.
قال الشيخ أبو إسحاق في «طبقاته» [2] كنت أدرّس فيه.
والزّعفراني، وأحمد بن حنبل، وأبو ثور، والكرابيسي، رواة قديم الشافعي، وروى الجديد: المزني، وحرملة، والبويطي، ويونس بن عبد الأعلى، والرّبيع الجيزي، والرّبيع المرادي.
وللزعفراني هذا عدّة مصنفات [3] .
وفيها الحسن بن علي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق العلويّ الحسينيّ، أحد الاثني عشر الذين تعتقد الرافضة فيهم العصمة، وهو والد المنتظر محمد صاحب السرداب [4] .
وفيها حنين [5] بن إسحاق النّصرانيّ [6] ، شيخ الأطباء بالعراق، ومعرّب الكتب اليونانية، ومؤلّف المسائل [7] المشهورة.
وفيها مالك [8] بن طوق التّغلبيّ [9] أمير عرب الشام وصاحب الرّحبة وبانيها.
__________
[1] في الأصل والمطبوع و «غربال الزمان» : «زعفرانه» وما أثبته من «الأنساب» (6/ 280) و «وفيات الأعيان» (2/ 74) و «معجم البلدان» (3/ 141) .
[2] «طبقات الشافعية» ص (101) بتحقيق الدكتور إحسان عبّاس، طبع دار الرائد العربي ببيروت.
[3] انظر «غربال الزمان» للعامري ص (239- 240) .
[4] انظر ترجمته ومصادرها في «الأعلام» للزركلي (2/ 200) .
[5] في الأصل والمطبوع: «حسين وما أثبته من «العبر» للذهبي (2/ 26) .
[6] في المطبوع: «الشعراني» .
[7] في «العبر» : «الرسائل» ولعلّه الصواب، إلا أن الذي حال بيني وبين إثبات ما جاء في «العبر» أن لحنين رسالتان الأولى: «المسائل في العين» وهو مطبوع، والثانية: «المسائل في الطب للمتعلمين» . وانظر ترجمته ومصادرها في «الأعلام» للزركلي (2/ 287- 288) .
[8] في المطبوع: «ملك» .
[9] في الأصل والمطبوع: «الثعلبي» وما أثبته من «العبر» للذهبي.(3/265)
سنة إحدى وستّين ومائتين
فيها كانت الفتن تغلي وتستعر بخراسان، بيعقوب بن اللّيث، وبالأهواز بقائد الزّنج، وتمّت لهما حروب وملاحم.
وفيها توفي أحمد بن سليمان الرّهاوي [أبو الحسين] [1] الحافظ، أحد الأئمة، طوّف وسمع زيد بن الحباب وأقرانه، وهو ثقة ثبت.
وفيها أحمد بن عبد الله بن صالح، أبو الحسن، العجليّ الكوفيّ، نزيل طرابلس المغرب، وصاحب «التاريخ» و «الجرح والتعديل» وله ثمانون سنة، نزح إلى المغرب أيام محنة القرآن وسكنها، روى عن حسين الجعفي، وشبابة وطبقتهما.
قال ابن ناصر الدّين: كان إماما، حافظا، قدوة، من المتقنين، وكان يعدّ كأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وكتابه في الجرح والتعديل، يدلّ على سعة حفظه وقوة باعه الطويل. انتهى.
وفيها أبو بكر الأثرم، أحمد بن محمد بن هانئ الطائي، الحافظ الثبت الثقة، أحد الأئمة المشاهير. روى عن أبي نعيم، وعفّان، وصنّف التصانيف، وكان من أذكياء الأمّة.
__________
[1] زيادة من «العبر» للذهبي.(3/266)
قال ابن أبي يعلى في «طبقاته» [1] : أحمد بن محمد بن هانئ الطائي، ويقال: الكلبي الأثرم الإسكافي، أبو بكر، جليل القدر، حافظ، إمام، سمع حرميّ بن حفص، وعفّان بن مسلم، وأبا بكر بن أبي شيبة، وعبد الله بن مسلمة القعنبي [2] ، وإمامنا في آخرين. نقل عن إمامنا مسائل كثيرة وصنّفها ورتبها أبوابا. وروى عن الإمام قال: سمعت أبا عبد الله يسأل عن المسح على العمامة، قيل له: تذهب إليه؟ قال: نعم. قال: أبو عبد الله ثبت من خمسة وجوه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقال: كنت أحفظ الفقه والاختلاف، فلما صحبت أحمد بن حنبل تركت ذلك كله.
وكان معه تيقّظ عجيب حتّى نسبه يحيى بن معين، ويحيى بن أيوب المقابري، فقالا: أحد أبوي الأثرم جني.
وقال أبو القاسم بن الجيلي: قدم رجل فقال: أريد رجلا يكتب لي من كتاب الصلاة ما ليس في كتب ابن أبي شيبة. قال: فقلنا له: ليس لك إلّا أبو بكر الأثرم. قال: فوجّهوا إليه ورقا، فكتب ستمائة ورقة من كتاب الصلاة.
قال: فنظرنا فإذا ليس في كتاب ابن أبي شيبة منه شيء.
وقال الحسن بن علي بن عمر الفقيه: قدم شيخان من خراسان للحج فحدّثا، فلما خرجا طلب قوم من أصحاب الحديث تحديثهما، قال: فخرجا- يعني إلى الصحراء- فقعد هذا الشيخ ناحية معه خلق من أصحاب الحديث، والمستملي، وقعد الآخر ناحية، وقعد الأثرم بينهما، فكتب ما أملى هذا وما أملى هذا.
وقال الأثرم: كنت عند خلف البزّار يوم جمعة، فلما قمنا من المجلس
__________
[1] (1/ 66- 73) وقد نقل المؤلف عنه باختصار وتصرف.
[2] تحرّفت في الأصل إلى «القعبني» وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.(3/267)
صرت إلى قرب الفرات فأردت أن أغتسل للجمعة، فغرقت فلم أجد شيئا أتقرب به إلى الله عزّ وجلّ أكثر عندي من أن قلت: اللهمّ إن نجّيتني لأتوبنّ من صحبة حارث، يعني المحاسبي.
قال الأثرم: كان حارث في عرس لقوم، فجاء يطّلع على النساء من فوق الدرابزين، ثم ذهب يخرجه- يعني رأسه- فلم يستطع، فقيل له: لم فعلت هذا؟ فقال: أردت أن أعتبر بالحور العين. انتهى ملخصا.
وفيها حاشد بن إسماعيل بن عيسى البخاريّ الحافظ بالشّاش [1] من إقليم التّرك. روى عن عبيد الله بن موسى، ومكّي بن إبراهيم، وكان ثبتا إماما.
والحسن بن سليمان أبو علي البصريّ المعروف بقبيطة. كان حافظا، ثقة، إماما نبيلا [2] .
والحسن بن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، الأمويّ، قاضي المعتمد وكان أحد الأجواد الممدّحين.
وفيها شعيب بن أيوب، أبو بكر الصّريفيني [3] ، مقرئ واسط وعالمها، قرأ على يحيى بن آدم، وسمع من يحيى القطّان وطائفة، وكان ثقة.
وأبو شعيب السّوسيّ، صالح بن زياد، مقرئ أهل الرّقّة وعالمهم، قرأ على يحيى اليزيدي، وروى عن عبد الله بن نمير وطائفة، وتصدّر للإقراء، وحمل عنه طوائف [4] .
قال أبو حاتم: صدوق.
__________
[1] تقع الآن في الجنوب الغربي من الاتحاد السوفييتي وتعرف بطشقند، وقد أنجبت فيما مضى عددا كبيرا من العلماء. انظر خبرها في «معجم البلدان» لياقوت (3/ 308- 309) ، و «الأمصار ذوات الآثار» ص (94) بتحقيقي، و «الروض المعطار» للحميري ص (335) .
[2] انظر ترجمته ومصادرها في «طبقات الحفّاظ» للسيوطي ص (253) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «الصيرفي» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (2/ 28) ، وانظر «اللباب» لابن الأثير (2/ 240) .
[4] في «العبر» : «وحمل عنه طائفة» .(3/268)
وأبو يزيد البسطاميّ العارف الزّاهد المشهور، واسمه طيفور بن عيسى، وكان يقول: إذا نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتّى يرتفع في الهواء فلا تغترّوا به، حتّى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الشريعة.
قال أبو عبد الرحمن السّلميّ في «طبقاته» [1] : طيفور بن عيسى بن سروسان [2] البسطامي وسروسان [2] كان مجوسيا فأسلم وكانوا ثلاثة إخوة: آدم أكبرهم، وطيفور أوسطهم، وعليّ أصغرهم، وكلّهم كانوا زهّادا عبّادا.
ومات عن ثلاث وسبعين سنة، وهو من قدماء مشايخ القوم، له كلام حسن في المعاملات، ويحكى عنه في الشطح أشياء منها ما لا يصحّ ويكون مقولا عليه.
قال أبو يزيد: من لم ينظر إلى شاهدي بعين الاضطرار، وإلى أوقاتي بعين الاغترار، وإلى أحوالي بعين الاستدراج، وإلى كلامي بعين الافتراء، وإلى عبراتي بعين الاجتراء، وإلى نفسي بعين الازدراء، فقد أخطأ النظر في.
ذكرت لأبي عثمان المغربي هذه الحكاية، فقال: لم أسمع لأبي يزيد حكاية أحسن منها، وإنما تكلم عن عين الفناء، أي قوله: سبحاني.
وقال أبو يزيد: لو صفا لي تهليلة ما باليت بعدها بشيء.
وكتب يحيى بن معاذ لأبي يزيد: سكرت من كثرة ما شربت من كأس محبته.
فكتب إليه أبو يزيد في جوابه: سكرت وما شربت من الدّور وغيرك قد
__________
[1] ص (67) .
[2] كذا في الأصل، والمطبوع، و «اللباب» لابن الأثير (1/ 152) : «سروسان» ، وفي «طبقات الصوفية» و «المنتظم» لابن الجوزي (5/ 28) : «سروشان» ، وفي «سير أعلام النبلاء» للذهبي (13/ 86) : «شروسان» .(3/269)
شرب بحور السماوات والأرض، وما روي بعد، ولسانه خارج من العطش، ويقول: هل من مزيد.
وقال الجنيد: كل الخلق يركضون فإذا بلغوا ميدان أبي يزيد هملجوا.
وكان أبو يزيد إذا ذكر الله يبوّل الدم.
وحكي عنه أنه قال: نوديت في سرّي فقيل لي: خزائننا مملوءة من الخدمة، فإن أردتنا فعليك بالذلّ والافتقار.
وحكى عنه صاحبه أبو بكر الأصبهاني، أنه أذّن مرّة فغشي عليه، فلما أفاق قال: العجب ممّن لا يموت إذا أذّن. انتهى ملخصا.
وفيها الإمام مسلم بن الحجّاج بن مسلم بن ورد بن كوشاذ [1] القشيريّ النيسابوريّ، صاحب «الصحيح» أحد الأئمة الحفّاظ وأعلام المحدّثين. رحل إلى الحجاز، والعراق، والشام، وسمع يحيى بن يحيى النيسابوري، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعبد الله بن مسلمة، وغيرهم، وقدم بغداد غير مرّة، فروى عنه أهلها، وآخر قدومه إليها في سنة تسع وخمسين ومائتين، وروى عنه الترمذيّ، وكان من الثقات المأمونين.
قال محمد الماسرجسي: سمعت مسلم بن الحجّاج يقول: صنّفت هذا «المسند الصحيح» من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة.
وقال الحافظ أبو علي النيسابوري: ما تحت أديم السماء أصحّ من كتاب مسلم في علم الحديث.
وقال الخطيب البغدادي: كان مسلم يناضل عن البخاري حتّى أوحش ما بينه وبين محمد بن يحيى الذّهلي بسببه.
__________
[1] في المطبوع: «كرشان» . وانظر «وفيات الأعيان» لابن خلكان (5/ 194) ، و «سير أعلام النبلاء» للذهبي (12/ 558) .(3/270)
وقال أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ: لما استوطن البخاري نيسابور أكثر مسلم من الاختلاف إليه، فلما وقع بين محمد بن يحيى والبخاري ما وقع في مسألة اللفظ، فنادى عليه، ومنع الناس من الاختلاف إليه، حتّى هجر وخرج من نيسابور في تلك المحنة، وقطعه أكثر النّاس غير مسلم، فإنه لم يتخلّف عن زيارته، فانتهى [1] إلى محمد بن يحيى أن مسلم بن الحجّاج على مذهبه قديما وحديثا، وأنه عوقب على ذلك بالحجاز، والعراق، ولم يرجع عنه، فلما كان يوم مجلس محمد بن يحيى قال في آخر مجلسه: ألا من قال باللفظ فلا يحلّ له أن يحضر مجلسنا، فأخذ مسلم الرداء فوق عمامته، وقام على رؤوس النّاس وخرج عن مجلسه، وجمع كل ما كتب منه وبعث به على ظهر حمّال إلى باب محمد بن يحيى، فاستحكمت بذلك الوحشة وتخلّف عنه وعن زياراته.
ومحمد هذا هو محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد بن فارس بن ذؤيب الذّهلي النيسابوري، كان أحد الحفّاظ الأعيان. روى عنه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، وكان ثقة مأمونا، وكان سبب الوحشة بينه وبين البخاري، أنه لما دخل البخاريّ مدينة نيسابور شنّع [2] عليه محمد بن يحيى في مسألة خلق اللفظ، وكان قد سمع منه، فلم يمكنه ترك الرواية عنه، وروى عنه في الصوم، والطب، والجنائز، والعتق، وغير ذلك، مقدار ثلاثين موضعا، ولم يصرّح باسمه، لا يقول [3] : حدّثنا محمد بن يحيى الذّهلي، بل يقول: حدّثنا محمد، ولا يزيد عليه أو يقول [4] : محمد بن عبد الله [فينسبه إلى
__________
[1] في المطبوع، و «وفيات الأعيان» : «فأنهي» .
[2] تحرّفت في «وفيات الأعيان» إلى «شعث» فتصحح فيه.
[3] في «وفيات الأعيان» : «فيقول» .
[4] في «وفيات الأعيان» : «ويقول» .(3/271)
جدّه] [1] وينسبه [أيضا] لجدّ أبيه. انتهى من ابن خلّكان [2] ملخصا.
قلت: وقد مرّت ترجمة محمد المذكور، والله أعلم [3] .
وقال في «العبر» [4] : مسلم بن الحجّاج، أبو الحسين القشيريّ النيسابوريّ الحافظ، أحد أركان الحديث، وصاحب «الصحيح» وغير ذلك، في رجب، وله ستّون سنة، وكان صاحب تجارة بخان بحمس بنيسابور [5] وله أملاك وثروة، وقد حجّ سنة عشرين ومائتين، فلقي القعنبيّ وطبقته.
__________
[1] ما بين حاصرتين لم يرد في الأصل والمطبوع، وأثبته من «وفيات الأعيان» .
[2] في «وفيات الأعيان» (5/ 194- 196) .
[3] قلت: أجل مرت ترجمته انظر ص (259- 260) من هذا المجلد.
[4] (2/ 29) .
[5] في «العبر» : «وكان صاحب تجارة، وكان محسن نيسابور» .(3/272)
سنة اثنتين وستّين ومائتين
لما عجز المعتمد على الله عن يعقوب بن اللّيث، كتب إليه بولاية خراسان وجرجان، فلم يرض حتّى يوافي باب الخليفة، وأضمر في نفسه الاستيلاء على العراق، والحكم على المعتمد، فتحوّل عن سامرّا إلى بغداد، وجمع أطرافه وتهيأ للملتقى، وجاء يعقوب في سبعين ألفا، فنزل واسط فتقدّم المعتمد، وقصده يعقوب، فقدّم المعتمد أخاه الموفّق بجمهرة الجيش، فالتقيا في رجب، واشتد القتال، فوقعت الهزيمة على الموفّق، ثم ثبت وأسرعت الكسرة [1] على أصحاب يعقوب، فولّوا الأدبار، واستبيح عسكرهم، وكسب أصحاب الخليفة ما لا يحدّ ولا يوصف، وخلّصوا محمد بن طاهر، وكان مع يعقوب في القيود، ودخل يعقوب إلى فارس، وخلع المعتمد على محمد بن طاهر أمير خراسان، وردّه إلى عمله، وأعطاه خمسمائة ألف درهم، وعاثت [2] جيوش الخبيث [3] عند اشتغال العساكر، فنهبوا البطيحة [4] وقتلوا وأسروا، فسار عسكر [الموفّق] [5] لحربهم فهزمهم، وقتل منهم مقدّم كبير يعرف بالصعلوك.
__________
[1] في «العبر» : «وشرعت الكسرة» .
[2] في الأصل، والمطبوع: «وعاث» وما أثبته من «العبر» للذهبي (2/ 30) .
[3] لفظة «الخبيث» سقطت من الأصل، وأثبتها من المطبوع و «العبر» للذهبي.
[4] البطيحة: أرض واسعة بين واسط والبصرة. انظر «معجم البلدان» لياقوت (1/ 450- 451) .
[5] لفظة «الموفق» سقطت من الأصل والمطبوع، واستدركتها من «العبر» للذهبي.(3/273)
وفيها توفي عمر بن شبّة، أبو زيد النميريّ البصريّ، الحافظ العلّامة الأخباريّ، الثقة، صاحب التصانيف. حدّث عن عبد الوهاب الثقفي، وغندر وطبقتهما، وكان ثقة. وشبّة لقب أبيه، واسمه زيد، لقّب بذلك، لأن أمّه كانت ترقّصه وتقول:
يا ربّ ابني شبّا ... وعاش حتّى دبّا
شيخا كبيرا خبّا [1]
كذا رواه محمد بن إسحاق السرّاج عن عمر بن شبّة.
وفيها أبو سيّار محمد بن عبد الله بن المستورد، أبو بكر، البغداديّ، يعرف بأبي سيّار، ثقة خيّر. قاله ابن ناصر الدّين.
وفيها، وجزم ابن ناصر الدّين أنه في التي قبلها، محمد بن الحسين بن إبراهيم بن الحر بن زعلان العامري، أبو جعفر بن إشكاب البغداديّ. حدّث عنه عدة، منهم: البخاريّ، وأبو داود، والنسائي، وكان صدوقا حافظا، ثقة [2] .
وفيها محمد بن عاصم الثقفيّ أبو جعفر الأصبهانيّ العابد. سمع سفيان بن عيينة، وأبا أسامة، وطبقتهما.
قال إبراهيم بن أورمة [3] : ما رأيت مثل ابن عاصم، ولا رأى مثل نفسه.
__________
[1] الأبيات وتخريجها في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (12/ 371) وروايتها فيه:
يا بأبي وشبا ... وعاش حتى دبا
شيخا كبيرا خبا
[2] انظر ترجمته ومصادرها في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (12/ 152) .
[3] في الأصل والمطبوع: «ابن أرومة» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» (2/ 31) و «طبقات الحفّاظ» ص (277) .
أقول: قال في «تاج العروس» (أرم) : والأرمة: القبيلة، وإبراهيم بن أرمة الأصبهاني الحافظ، بالضم، وقد تمد الضمة فيقال: أورمة. (ع)(3/274)
وفيها يعقوب بن شيبة السّدوسيّ البصريّ الحافظ، أحد الأعلام، وصاحب «المسند المعلل» الذي ما صنّف أحد أكبر منه [1] ولم يتمّه، وكان سريّا محتشما، عيّن لقضاء القضاة، ولحقه على ما خرّج من «المسند» نحو عشرة آلاف مثقال، وكان صدوقا. قاله في «العبر» [2] .
وقال ابن ناصر الدّين:
يعقوب نجل شيبة بن صلت ... سادهم رواية بثبت
وقال في «شرحها» : ابن صلت بن عصفور، أبو يوسف، السّدوسيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقة. انتهى.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «أكثر منه» وما أثبته من «العبر» للذهبي.
[2] (2/ 31) .(3/275)
سنة ثلاث وستّين ومائتين
فيها توفي أحمد بن الأزهر بن منيع بن سليط، أبو الأزهر، النيسابوري الحافظ، وقيل: سنة إحدى وستّين. رحل وسمع أبا ضمرة أنس بن عياض وطبقته، ووصل إلى اليمن.
قال النسائيّ: لا بأس به.
قال ابن ناصر الدّين: كان حافظا صدوقا من المهرة، أنكر عليه ابن معين أربعين حديثا ثم عذره. انتهى.
وفيها الحسن بن أبي الرّبيع الجرجانيّ الحافظ ببغداد. سمع أبا يحيى الحمّاني، ورحل إلى عبد الرزاق وأقرانه.
وفيها الوزير عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزير المتوكل، وقد نفاه المستعين إلى برقة، ثم قدم بعد المستعين فوزر للمعتمد إلى أن مات.
وفيها محمد بن علي بن ميمون الرّقّيّ العطار الحافظ. روى عن محمد بن يوسف الفريابي، والقعنبي، وأقرانهما.
قال الحاكم: كان إمام أهل الجزيرة في عصره، ثقة مأمون.
وفيها معاوية بن صالح الحافظ، أبو عبيد الله الأشعري الدمشقي، روى عن عبيد الله بن موسى، وأبي مسهر، وسأل يحيى بن معين، وتخرّج به
.(3/276)
سنة أربع وستّين ومائتين
فيها أغارت الزّنج على واسط، وهجّ أهلها حفاة عراة، ونهبت ديارهم وأحرقت، فسار لحربهم الموفّق.
وفيها غزا المسلمون الرّوم، وكانوا أربعة آلاف، عليهم ابن كاوس، فلما نزلوا البذندون [1] تبعتهم البطارقة، وأحدقوا بهم، فلم ينج منهم إلّا خمسمائة، واستشهد الباقون، وأسر أميرهم جريحا.
وفيها مات الأمير موسى بن بغا الكبير، وكان من كبار القواد وشجعانهم كأبيه.
وفيها أحمد بن عبد الرّحمن بن وهب، أبو عبيد الله المصريّ المحدّث. روى الكثير عن عمّه عبد الله، وله أحاديث مناكير، وقد احتجّ به مسلم. قاله في «العبر» [2] .
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «البديدون» وهو خطأ، والتصحيح من «معجم البلدان» (1/ 361) وفيه قال ياقوت: بذندون بفتحتين (أي بفتح الباء والذال) وسكون النون ودال مهملة وواو ساكنة ونون: قرية بينها وبين طرسوس يوم من بلاد الثغر، مات بها المأمون، فنقل إلى طرسوس، ودفن بها. وتقع الآن في الجنوب الأوسط من تركيا.
قلت: وقد تحرّفت في «العبر» للذهبي (2/ 33) إلى «البدندون» في المتن والحاشية على الرغم من رجوع محقّقه الأستاذ فؤاد سيد إلى «معجم البلدان» في ضبطها!.
[2] (2/ 34) .(3/277)
وفيها أحمد بن يوسف السّلميّ النيسابوريّ [1] الحافظ، أحد الأثبات، ويلقب حمدان. كان ممّن رحل إلى اليمن، وأكثر عن عبد الرزاق وطبقته، وكان يقول: كتبت عن عبيد الله بن موسى ثلاثين ألف حديث، وكان ثقة.
وفيها المزنيّ الفقيه، أبو إبراهيم، إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل المصريّ، صاحب الشافعي في ربيع الأول، وهو في عشر التسعين.
قال الشافعيّ: المزنيّ ناصر مذهبي.
وكان زاهدا عابدا يغسّل الموتى حسبة. صنّف «الجامع الكبير» و « [الجامع] الصغير» ومختصره «مختصر المزني» و «المنثور» و «المسائل المعتبرة» و «الترغيب في العلم» و «كتاب الوثاق» وغيرها، وصلّى لكل مسألة في مختصره ركعتين، فصار أصل الكتب المصنفة في المذهب، وعلى منواله رتّبوا، ولكلامه فسّروا وشرحوا، وكان مجاب الدعوة، عظيم الورع، حكي عنه أنه كان إذا فاتته الجماعة صلّى منفردا خمسا وعشرين مرّة، ولم يتقدم عليه أحد من أصحاب الشافعي، وهو الذي تولى غسله يوم مات. قيل:
وعاونه الرّبيع، ودفن إلى جنبه بالقرافة الصغرى، ونسبته إلى مزينة بنت كلب بن وبرة أمّ القبيلة المشهورة. انتهى.
وفيها أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم القرشيّ مولاهم الرّازيّ الحافظ، أحد الأئمة الأعلام في آخر يوم من السنة. رحل وسمع من أبي نعيم، والقعنبي وطبقتهما.
قال أبو حاتم: لم يخلّف بعده مثله علما، وفقها، وصيانة، وصدقا، وهذا ما لا يرتاب فيه، ولا أعلم في المشرق والمغرب من كان يفهم هذا
__________
[1] انظر ترجمته ومصادرها في «الأنساب» للسمعاني (7/ 112) ، و «تهذيب الكمال» للمزّي (1/ 522) ، و «سير أعلام النبلاء» للذهبي (12/ 384- 388) .(3/278)
الشأن [1] مثله.
وقال إسحاق بن راهويه: كل حديث لا يحفظه أبو زرعة ليس له أصل.
وقال محمد بن مسلم: حضرت أنا وأبو حاتم عند أبي زرعة- والثلاثة رازيّون- فوجدناه في النزع، فقلت لأبي حاتم: إني لأستحيي من أبي زرعة أن ألقّنه الشهادة، ولكن تعال حتّى نتذاكر الحديث، لعله إذا سمعه يقول، فبدأت فقلت: حدّثني محمد بن بشار، أنبأنا أبو عاصم النبيل، أنا عبد الحميد بن جعفر، فأرتج عليّ الحديث، كأني ما سمعته ولا قرأته، فبدأ أبو حاتم فقال: حدّثنا محمد بن بشّار، أنا أبو عاصم النبيل، أنا عبد الحميد بن جعفر [فأرتج عليه كأنه ما سمعه، فبدأ أبو زرعة فقال: حدّثنا محمد بن بشّار، أنا أبو عاصم النبيل، أنا عبد الحميد، عن جعفر] [2] عن صالح بن أبي عريب [3] عن كثير بن مرّة، عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، «من كان آخر كلامه لا إله إلّا الله، فخرجت روحه مع الهاء قبل أن يقول، دخل الجنّة» [4] . وقال محمد أبو العبّاس المرادي [5] : رأيت أبا زرعة في المنام فقلت:
ما فعل الله بك؟ فقال: لقيت ربّي عزّ وجلّ فقال: يا أبا زرعة إني أوتى بالطفل فآمر به إلى الجنة، فكيف بمن حفظ السنن على عبادي؟ فأقول له:
تبوأ من الجنة حيث شئت.
__________
[1] يعني علوم الحديث النبوي.
[2] ما بين حاصرتين سقط من المطبوع.
[3] في الأصل: «صالح بن أبي غريب» وهو تصحيف، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
وانظر «تهذيب الكمال» للمزّي (2/ 599) مصوّرة دار المأمون للتراث بدمشق.
[4] رواه الإمام أحمد في «المسند» (5/ 233 و 247) ، وأبو داود رقم (3116) في الجنائز: باب في التلقين، والحاكم في «المستدرك» (1/ 351) دون جملة «فخرجت روحه مع الهاء قبل أن يقول» وصحّحه، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا، فإنه حديث صحيح بطرقه وشواهده.
[5] في المطبوع: «المرداوي» وهو خطأ، وانظر «تاريخ بغداد» (10/ 336) .(3/279)
قال: ورأيته مرة أخرى يصلّي بالملائكة في السماء الرابعة. فقلت: يا أبا زرعة بم نلت أن تصلّي بالملائكة؟ قال: برفع اليدين.
وفيها يونس بن عبد الأعلى الإمام أبو موسى الصدفيّ المصريّ الفقيه المقرئ المحدّث، وله ثلاث وتسعون سنة. روى عن ابن عيينة، وابن وهب، وتفقّه على الشافعيّ، وكان الشافعيّ يصف عقله [1] . وقرأ القرآن على ورش، وتصدّر للإقراء والفقه، وانتهت إليه مشيخة بلده، وكان ورعا، صالحا، عابدا، كبير الشأن.
قال ابن ناصر الدّين: كان ركنا من أركان الإسلام.
__________
[1] قال الذهبي في «تذكرة الحفّاظ» (2/ 527) : روي عن الشافعي قال: ما رأيت بمصر أحدا أعقل من يونس.(3/280)
سنة خمس وستّين ومائتين
فيها توفي أحمد بن الخصيب [1] ، الوزير، أبو العبّاس، وزر للمنتصر وللمستعين، ثم نفاه المستعين إلى المغرب، وكان أبوه أمير مصر في دولة الرّشيد.
وفيها أحمد بن منصور، أبو بكر، الرّماديّ الحافظ ببغداد، وكان أحد من رحل إلى عبد الرزّاق. وثّقه أبو حاتم وغيره.
وقال ابن ناصر الدّين: كان حافظا عمدة.
وفيها إبراهيم بن هانئ النيسابوريّ الثقة العابد. رحل وسمع من يعلى بن عبيد وطبقته.
قال أحمد بن حنبل: إن كان أحد من الأبدال، فإبراهيم بن هانئ.
وفيها سعدان بن نصر أبو عثمان الثقفيّ البغداديّ البزّاز. رحل في الحديث وسمع من ابن عيينة، وأبي معاوية، والكبار، ووثّقه الدارقطنيّ [2] .
وفيها صالح بن أحمد بن محمد بن حنبل الشيبانيّ الإمام، أبو الفضل، قاضي أصبهان في رمضان وله اثنتان وستّون سنة. سمع من عفّان وطبقته، وتفقّه على أبيه.
__________
[1] تصحفت في الأصل إلى «الحصيب» وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[2] انظر ترجمته ومصادرها في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (12/ 357- 358) .(3/281)
قال ابن أبي حاتم: صدوق.
وفيها علي بن حرب، أبو الحسن، الطائيّ الموصليّ المحدّث الأخباريّ، صاحب «المسند» في شوّال. سمع ابن عيينة، والمحاربي، وطبقتهما، وعاش تسعين سنة.
وتوفي قبله أخوه أحمد بن حرب بسنتين [1] .
وفيها أبو حفص النيسابوريّ الزّاهد، شيخ خراسان، واسمه عمرو بن مسلم، وكان كبير القدر، صاحب أحوال وكرامات، وكان عجبا في الجود والسماحة، وقد نفّذ مرّة بضعة عشر ألف دينار يستفكّ [2] بها أسارى، وبات وليس له عشاء. وكان يقول: ما استحق اسم السخاء من ذكر العطاء أو لمحه [3] بقلبه.
وقال: حسن أدب الظاهر عنوان أدب الباطن، والفتوّة أداء الإنصاف وترك طلب الانتصاف، ومن لم يربّ أفعاله وأحواله كل وقت بالكتاب والسّنّة ولم يتّهم خواطره فلا تعدّه من الرّجال.
والإمام محمد بن الحسن العسكري بن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق العلويّ الحسينيّ أبو القاسم، الذي تلقّبه الرافضة بالخلف وبالحجّة، وبالمهدي، وبالمنتظر، وبصاحب الزّمان، وهو خاتمة الاثني عشر إماما عندهم، ويلقبونه أيضا بالمنتظر، فإنهم يزعمون أنه أتى السرداب بسامرا فاختفى، وهم ينتظرونه [4] إلى الآن، وكان عمره لمّا عدم تسع سنين أو دونها، وضلال الرافضة ما عليه مزيد، قاتلهم الله تعالى.
__________
[1] انظر ترجمته ومصادرها في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (12/ 253- 254) .
[2] في «العبر» للذهبي (2/ 37) : «يفتك» .
[3] في «العبر» : «ولا لمحة» .
[4] قوله: «هم ينتظرونه» لم يرد في «العبر» للذهبي.(3/282)
وفيها العلّامة محمد بن سحنون [1] المغربيّ المالكيّ مفتي القيروان.
تفقّه على أبيه، وكان إماما مناظرا كثير التصانيف معظّما بالقيروان خرّج له عدة أصحاب وما خلّف بعده مثله.
وفيها يعقوب بن اللّيث الصّفّار، الذي غلب على بلاد الشرق، وهزم الجيوش، وقام بعده أخوه عمرو بن اللّيث، وكانا شابّين صفّارين، فيهما شجاعة مفرطة، فصحبا صالح بن النّضر، الذي كان يقاتل الخوارج بسجستان، فآل أمرهما إلى الملك، فسبحان من له الملك، ومات يعقوب بالقولنج في شوّال بجنديسابور [2] وكتب على قبره: هذا قبر يعقوب المسكين، وقيل: إن الطبيب قال له: لا دواء لك إلّا الحقنة، فامتنع منها، وخلّف أموالا عظيمة، منها من الذهب ألف ألف دينار، ومن الدراهم خمسين ألف ألف درهم، وقام بعده أخوه بالعدل والدخول في طاعة الخليفة، وامتدت أيامه.
__________
[1] ضبطه الأستاذ فؤاد سيد في «العبر» بضم السين وهو خطأ، والصواب بفتح السين.
[2] مدينة بخوزستان بناها سابور بن أردشير فنسبت إليه وأسكنها سبي الرّوم وطائفة من جنده، وقال حمزة: جنديسابور تعريب «به از انديوشافور» ومعناه خير من أنطاكية، «معجم البلدان» (2/ 170) .(3/283)
سنة ست وستّين ومائتين
فيها أخذت الزّنج رامهرمز [1] فاستباحوها قتلا وسبيا.
وفيها خرج أحمد بن عبد الله الخجستاني [2] ، وحارب عمرو بن اللّيث الصّفّار، فظهر عليه، ودخل نيسابور [3] فظلم وعسف.
وفيها خرجت جيوش الرّوم ووصلت إلى الجزيرة، فعاثوا وأفسدوا.
وفيها توفي إبراهيم بن أورمة أبو إسحاق الأصبهاني الحافظ، أحد أذكياء المحدّثين [في ذي الحجة ببغداد. روى عن عبّاس العنبري وطبقته، ومات قبل أوان الرواية.
قال ابن ناصر الدّين] [4] : فاق أهل عصره في الذكاء والحفظ.
ومحمد بن شجاع بن الثّلجيّ، فقيه العراق وشيخ الحنفية، سمع من إسماعيل بن عليّة، وتفقّه بالحسن بن زياد اللّؤلؤي، وصنّف واشتغل، وهو
__________
[1] قال ياقوت: معنى رامهرمز بالفارسية المراد والمقصود، وهرمز أحد الأكاسرة، فكأن هذه اللفظة مركبة معناها: مقصود هرمز، أو مراد هرمز، وقال حمزة: رامهرمز اسم مختصر من رامهرمز أردشير، وهي مدينة مشهورة بنواحي خوزستان. «معجم البلدان» (3/ 17- 18) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «السجستاني» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (2/ 39) ، وانظر «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (7/ 296) .
[3] في «العبر» : «ودخل بنيسابور» .
[4] ما بين حاصرتين سقط من الأصل واستدركته من المطبوع.(3/284)
متروك الحديث، توفي ساجدا في صلاة العصر [1] وله نحو من تسعين سنة، قاله في «العبر» [2] .
وقال في «المغني» [3] : محمد بن شجاع بن الثلجي الفقيه.
قال ابن عديّ: كان يضع الأحاديث في التشبيه ينسبها إلى أصحاب الحديث يثلبهم بذلك.
وفيها محمد بن عبد الملك بن مروان، أبو جعفر، الدقيقيّ الواسطيّ في شوّال. روى عن يزيد بن هارون وطبقته، وكان إماما [4] ثقة صاحب حديث.
__________
[1] في «العبر» للذهبي: «في صلاة الصبح» . وعلّق محقّقه فقال: في جميع المصادر أنه مات ساجدا في صلاة العصر، وأحال على «تهذيب التهذيب» (9/ 220) ، و «اللباب» (1/ 241) .
[2] (2/ 39) .
[3] (2/ 591) .
[4] لفظة «إماما» لم ترد في «العبر» للذهبي.(3/285)
سنة سبع وستّين ومائتين
فيها دخلت الزّنج واسط، فاستباحوها ورموا النّار فيها، فسار لحربهم أبو العبّاس، وهو المعتضد، فكسرهم، ثم التقاهم ثانيا بعد أيام فهزمهم، ثم واقعهم ونازلهم، وتصابروا على القتال شهرين فذلّوا، ووقع في قلوبهم رعب [1] من أبي العبّاس بن الموفّق ولجأوا [2] إلى الحصون، وحاربهم في المراكب، فغرق منهم خلق، ثم جاء أبوه الموفّق في جيش لم ير مثله، فهزموا [الزّنج] [3] ، هذا وقائدهم العلوي غائب عنهم، فلما جاءته الأخبار بهزيمة جنده مرات [4] ذلّ واختلف إلى الكنيف مرارا، وتقطّعت كبده، ثم زحف عليهم أبو العبّاس، وجرت لهم حروب يطول شرحها، إلى أن برز الخبيث قائد الزّنج بنفسه في ثلاثمائة ألف فارس [5] [وراجل، والمسلمون في خمسين ألفا] [6] ونادى الموفّق بالأمان، فأتاه خلق، ففتّ ذلك في عضد
__________
[1] في «العبر» للذهبي: «الرعب» .
[2] في «العبر» للذهبي «فنجوا» .
[3] سقطت من الأصل والمطبوع، واستدركتها من «العبر» للذهبي.
[4] لفظة «مرات» سقطت من الأصل وأثبتها من المطبوع و «العبر» للذهبي.
[5] في «العبر» : «في ثلاثة آلاف فارس» وما جاء في كتابنا موافق لما في «البداية والنهاية» لابن كثير (11/ 41) .
[6] ما بين حاصرتين سقط من «العبر» للذهبي فيستدرك.(3/286)
الخبيث، ولم تجر وقعة لأن النهر فصل بين الجيشين. قاله في «العبر» [1] .
وقال في «الشذور» : حارب أبو أحمد الموفّق الزّنج، وكان بعض لطلب الدنيا قد استغوى جماعة من المماليك، وقال: إنكم في العذاب والخدمة فتخلصوا، فصاروا ينهبون البلاد ويقتلون العباد، فجاء بهم الموفّق، فاستنقذ من أيديهم زهاء خمسة عشر ألف امرأة من المسلمات كانوا قد تغلبوا عليهنّ، فجئن منهم بالأولاد. انتهى.
وفيها توفي إسماعيل بن عبد الله الحافظ، أبو بشر العبديّ الأصبهانيّ، سمويه. سمع بكر بن بكّار، وأبا مسهر، وخلقا من هذه الطبقة.
قال أبو الشيخ: كان حافظا متقنا يذاكر بالحديث.
وقال ابن ناصر الدّين: ثقة.
وفيها المحدّث إسحاق بن إبراهيم الفارسي شاذان [2] في جمادى الآخرة بشيراز. روى عن جدّه قاضي شيراز سعد بن الصّلت وطائفة. وثّقه ابن حبّان.
وفيها بحر بن نصر بن سابق الخولانيّ المصريّ. سمع ابن وهب وطائفة، وكان أحد الثقات الأثبات. روى النسائي في جمعه لمسند مالك، عن رجل، عنه.
وفيها حمّاد بن إسحاق بن إسماعيل الفقيه، أبو إسماعيل القاضي، وأخو إسماعيل القاضي، تفقّه على أحمد بن محمد المعذل [3] ، وحدّث عن القعنبي، وصنّف التصانيف، وكان بصيرا بمذهب مالك.
__________
[1] (2/ 40- 41) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «سادان» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (2/ 41) .
[3] في الأصل: «ابن المعداب» وهو خطأ، وفي «العبر» : «ابن المعدل» ، وأثبت ما في المطبوع وهو موافق لما في «ترتيب المدارك وترتيب المسالك» للقاضي عياض (2/ 181) .(3/287)
وفيها عبّاس التّرقفي [1] ببغداد أحد الثقات العبّاد. سمع محمد بن يوسف الفريابي [2] وطبقته [3] .
وفيها عبد العزيز [بن] منيب، أبو الدرداء، المروزيّ، الحافظ، رحل وطوّف وحدّث عن مكّي بن إبراهيم وطبقته.
وفيها محمد بن عزيز الأيلي بأيلة. روى عن سلامة بن روح وغيره.
قال في «المغني» [4] : قال النسائي: صويلح. وقال أبو أحمد الحاكم:
فيه نظر. انتهى.
ويحيى بن محمد بن يحيى بن عبد الله [5] الذّهلي الحافظ، شيخ نيسابور. بعد أبيه، ويقال له: حيكان. رحل وسمع من سليمان بن حرب وطبقته، وكان أمير المطوعة المجاهدين، ولما غلب أحمد الخجستاني [6] على نيسابور، وكان ظلوما غشوما، فخرج منها هاربا، فخافت النيسابوريون كرته فاجتمعوا على باب حيكان وعرضوا في عشرة آلاف مقاتل، فردّ إليهم أحمد، فانهزموا واختفى حيكان، وصحب قافلة، ولبس عباءة فعرف، وأتي به إلى أحمد فقتله.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «البرقفي» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي. قلت: كذا ضبطها السمعاني في «الأنساب» (3/ 40) ، وابن حجر في «تقريب التهذيب» ص (293) بفتح التاء، وضبطها ابن الأثير في «اللباب» (1/ 212) بضم التاء.
[2] في الأصل، والمطبوع: «عبد العزيز منيب» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي.
[3] تقدمت هذه الترجمة في المطبوع على ترجمة «عبد العزيز بن منيب» وما جاء في الأصل موافق لما في «العبر» .
[4] (2/ 614) .
[5] في الأصل، والمطبوع: «أبو عبد الله» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (2/ 42) ، وانظر «تاريخ الطبري» (9/ 557) .
[6] في الأصل، والمطبوع إلى «الحجستاني» والتصحيح من «العبر» للذهبي.(3/288)
قال ابن ناصر الدّين: هو ثقة.
وفيها يونس بن حبيب، أبو بشر، العجليّ مولاهم الأصبهاني، راوي «مسند الطّيالسي» . كان ثقة ذا صلاح وجلالة.(3/289)
سنة ثمان وستين ومائتين
فيها غزا نائب الثغور الشّامية خلف التركي الطولوني، فقتل من الرّوم بضعة عشر ألفا، وغنموا غنيمة هائلة، حتّى بلغ السهم أربعين دينارا.
وفيها كان المسلمون يحاصرون الخبيث مقدّم الزّنج [1] في مدينته المسمّاة بالمختارة.
وفيها توفي الإمام محدّث مرو، أحمد بن سيّار المروزيّ الحافظ، مصنّف «تاريخ مرو» في منتصف شهر ربيع الآخر ليلة الاثنين. سمع إسحاق بن راهويه، وعفّان، وطبقتهما، وكان يشبّه في عصره بابن المبارك علما وزهدا، وكان صاحب وجه في مذهب الإمام الشافعي. نقل عنه الرّافعيّ أنه أوجب الأذان للجمعة دون غيرها، وأن الواجب من الأذانين لها هو الذي يفعل بين يدي الخطيب [2] .
وفيها أبو عبد المؤمن أحمد بن شيبان الرّمليّ في صفر. روى عن ابن عيينة وجماعة، ووثّقه الحاكم، وقال ابن حبّان: يخطئ.
__________
[1] هو علي بن محمد بن عبد الرحيم العقبسي، أحد الخوارج على الدولة العباسية، ادّعى أنه من أهل البيت، وقد التفّ حوله خلق كثير من الزّنج الذين كانوا يكسحون السباج بظاهر البصرة، وعظمت فتنته واستمرت من سنة (255) إلى سنة (270) هـ حيث قتله عساكر الموفق. انظر تفاصيل ذلك في «تاريخ الطبري» ، و «الكامل في التاريخ» لابن الأثير.
[2] انظر ترجمته ومصادرها في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (12/ 609- 611) .(3/290)
وأحمد بن يونس [1] الضّبّيّ الكوفيّ بأصبهان. روى عن حجّاج الأعور وطبقته، وكان ثقة محتشما.
وفي شوّال أحمد بن عبد الله الخجستاني [2] كان من أمراء يعقوب الصّفّار، وكان جبّارا عنيدا، خرج على يعقوب، وأخذ نيسابور، وله حروب ومواقف مشهورة، ذبحه غلمانه وقد سكر.
وفيها عيسى بن أحمد العسقلانيّ الحافظ، وهو بغدادي، نزل عسقلان محلّة ببلخ [3] . روى عن ابن وهب، وبقية، وطبقتهما.
ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم، الإمام أبو عبد الله المصري، مفتي الديار المصرية، تفقّه بالشافعي وأشهب، وروى عن ابن وهب وعدّة.
قال ابن خزيمة: ما رأيت أعرف بأقاويل الصحابة والتابعين منه. وله مصنفات كثيرة، وتوفي في نصف ذي القعدة.
__________
[1] في «العبر» : «أحمد بن يوسف» وهو خطأ فيصحح فيه، وانظر «سير أعلام النبلاء» للذهبي (12/ 595) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «الحجستاني» وهو تصحيف، والتصحيح من «العبر» للذهبي.
[3] انظر «المشترك وضعا والمفترق صقعا» لياقوت ص (309) مصوّرة عالم الكتب ببيروت.(3/291)
سنة تسع وستين ومائتين
فيها ظفر المسلمون بمدينة الخبيث [1] وحصروه في قصره فأصاب الموفّق سهم فتألم منه ورجع بالجيش، حتّى عوفي، فحصن الخبيث مدينته وبين ما تهدم.
وفيها تخيّل المعتمد على الله من أخيه الموفّق، ولا ريب في أنه كان مقهورا مع الموفّق، فكاتب أحمد بن طولون، واتفقا، وسافر المعتمد في خواصه من سامرّا، يريد اللحاق بابن طولون في صورة متنزّه متصيّد، فجاء كتاب الموفّق إلى إسحاق بن كنداخ [2] يقول: متى اتفق ابن طولون مع المعتمد لم يبق منكم باقية. وكان إسحاق على نصيبين في أربعة آلاف، فبادر إلى الموصل، فإذا بحرّاقات المعتمد وأمراؤه، فوكّل بهم، وتلقى المعتمد بين الموصل والحديثة فقال: يا إسحاق لم منعت الحشم [من] [3] الدخول إلى الموصل؟ فقال: أخوك يا أمير المؤمنين في وجه العدو، وأنت تخرج من مستقرك، فمتى علم رجع عن قتال الخبيث، فيغلب عدوّك على دار آبائك،
__________
[1] المعروفة بالمختارة.
[2] كذا في الأصل، والمطبوع: «ابن كنداخ» واسمه من الأسماء التي حصل فيها تحريف وتصحيف. انظر «العبر» للذهبي (2/ 45) والتعليق عليه.
[3] زيادة من «العبر» للذهبي.(3/292)
ثم كلّم المعتمد بكلام قويّ ووكّل به وساقه وأصحابه إلى سامرّا، فتلقاه صاعد كاتب الموفّق، فتسلمه من إسحاق وأنزله في دار أحمد بن الخصيب، ومنعه من دخول دار الخلافة، ووكّل بالدار خمسمائة، يمنعون من يدخل إليه، وبقي صاعد يقف في خدمته، ولكن ليس له حلّ ولا ربط.
وأما ابن طولون، فجمع الأمراء والقضاة، وقال: قد نكث الموفق بأمير المؤمنين فاخلعوه من العهد، فخلعوه إلّا القاضي بكّار، فقيّده وحبسه، وأمر بلعنة الموفّق على المنابر.
وفيها توفي إبراهيم بن منقذ الخولاني المصري، صاحب ابن وهب، وكان ثقة.
وفيها الأمير عيسى بن الشيخ الذّهلي، وكان قد ولي دمشق، فأظهر الخلاف في سنة خمس وخمسين، وأخذ الخزائن وغلب على دمشق، فجاء عسكر المعتمد، فالتقاهم ابنه ووزيره فهزموا، وقتل ابنه وصلب وزيره، وهرب عيسى، ثم استولى على آمد، وديار بكر مدة.(3/293)
سنة سبعين ومائتين
فيها التقى المسلمون والخبيث علي بن محمد العبقسيّ المدّعي أنه علويّ، فاستظهروا عليه. ثم وقعة أخرى قتل فيها، وعجّل الله بروحه إلى النّار، ولقد طال قتال المسلمين له، واجتمع مع الموفّق نحو ثلاثمائة ألف مقاتل، أجناد ومطوّعة، وفي آخر الأمر التجأ الخبيث إلى جبل، ثم تراجع هو وأصحابه إلى مدينتهم، فحاربهم المسلمون، فانهزم الخبيث، وتبعهم أصحاب الموفّق يأسرون ويقتلون، ثم استقبل هو وفرسانه، وحملوا على النّاس فأزالوهم، فحمل عليه الموفّق والتحم القتال، فإذا بفارس قد أقبل ورأس الخبيث في يده، فلم يصدّقه، فعرفه جماعة من الناس، فحينئذ ترجّل الموفّق وابنه المعتضد والأمراء فخرّوا سجّدا لله، وكبّروا، وسار الموفّق فدخل بالرأس بغداد، وعملت القباب، وكان يوما مشهودا، وأمن الناس وشرعوا يتراجعون إلى الأمصار التي أخذها الخبيث، وكانت أيامه خمس عشرة سنة.
قال الصولي: قتل من المسلمين ألف ألف وخمسمائة ألف. قال: وقتل في يوم واحد بالبصرة ثلاثمائة ألف، وكان يصعد على المنبر فيسبّ عثمان، وعليّا، ومعاوية، وعائشة، وهو اعتقاد الأزارقة، وكان ينادي في عسكره على العلوية بدرهمين وثلاثة، وكان عند الواحد من الزّنج العشر من العلويات يفترشهنّ، وكان الخبيث خارجيّا يقول: لا حكم إلّا لله.(3/294)
وقيل: كان زنديقا يتستر بمذهب الخوارج، وهو أشبه، فإن الموفّق كتب إليه وهو يحاربه في سنة سبع وستّين، يدعوه إلى التوبة والإنابة إلى الله، مما فعل من سفك الدماء، وسبي الحريم، وانتحال النّبوّة والوحي، فما زاده الكتاب إلّا تجبّرا وطغيانا.
ويقال: إنه قتل الرسول، فنازل الموفّق مدينته المختارة، فتأملها فإذا [هي] مدينة حصينة محكمة الأسوار، عميقة الخنادق، فرأى شيئا مهولا، ورأى من كثرة المقاتلة ما أذهله، ثم رموه رمية واحدة بالمجانيق والمقاليع والنّشّاب، وضجوا ضجة [1] ارتجّت منها الأرض، فعمد الموفّق إلى مكاتبة قوّاد الخبيث واستمالهم، فاستجاب له عدد منهم، فأحسن إليهم.
وقيل: كان الخبيث منجما يكتب الحروز، وأول شيء كان بواسط، فحبسه محمد بن أبي عون ثم أطلقه، فلم يلبث أن خرج بالبصرة واستغوى السودان، والزبّالين، والعبيد، فصار أمره إلى ما صار. ذكر جميع ذلك في «العبر» [2] .
وفيها، في ذي القعدة، توفي أمير الدّيار المصرية والشامية أبو العبّاس أحمد بن طولون وهو في عشر الستين. [وخلّف عشرة آلاف دينار، وكان له أربعة عشر ألف مملوك، وكان كريما، شجاعا، مهيبا، حازما، لبيبا] [3] .
قال القضاعي: كان طائش السيف، فأحصي من قتله صبرا، أو مات في سجنه، فكانوا ثمانية عشر ألفا، وكان يحفظ القرآن، وأوتي حسن الصوت به، وكان كثير التلاوة، وكان أبوه من مماليك المأمون، مات سنة أربعين
__________
[1] في «العبر» للذهبي: «وصاحوا صيحة» .
[2] «العبر في خبر من عبر» للذهبي (2/ 47- 49) .
[3] ما بين حاصرتين زيادة من «العبر» للذهبي (2/ 49) .(3/295)
ومائتين، وملك أحمد الدّيار المصرية ستة عشرة سنة.
قال ابن الجوزي في كتابه «شذور العقود في التاريخ العهود» [1] :
أحمد بن طولون، وكان أبوه طولون تركيا من مماليك المأمون فولد له أحمد، وكان عالي الهمّة، ولم يزل يرتقي حتّى ولي مصر، فركب يوما إلى الصيد، فغاصت رجل دابة بعض أصحابه في مكان من البرية، فأمر بكشف المكان، فوجد مطلبا، فإذا فيه من المال ما قيمته ألف ألف دينار، فبنى الجامع المعروف بين مصر والقاهرة، وتصدّق ببعض، فقال له وكيله يوما: ربما امتدت إليّ الكفّ المطرّفة [2] والمعصم فيه السّوار، والكم الناعم، أفأمنع هذه الطبقة، فقال له: ويحك هؤلاء المستورون الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفّف احذر [أن] تردّ يدا امتدت إليك، وكان يجري على أهل المساجد كل شهر ألف دينار، وعلى فقراء الثغر كذلك، وبعث إلى فقراء بغداد في مدة ولايته ما بلغ ألفي ألف ومائتين ألف دينار، وكان راتب مطبخه كل يوم ألف دينار، ولما مرض خرج المسلمون بالمصاحف، واليهود بالتوراة، والنصارى بالإنجيل، والمعلّمون بالصبيان إلى الصحراء والمساجد، يدعون له، فلما أحسّ بالموت رفع يده وقال: يا ربّ ارحم من جهل مقدار نفسه [3] وأبطره حلمك عنه، وخلّف ثلاثة وثلاثين ولدا، وعشرة آلاف ألف دينار، وسبعة آلاف مملوك، وسبعة آلاف فرس، وكان خراج مصر في أيامه أربعة آلاف ألف وثلاثمائة ألف دينار، وكان بعض النّاس يقرأ عند قبره فانقطع عنه، فسئل عن ذلك، فقال رأيته في المنام فقال لي: أحبّ أن لا يقرأ
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «شذور العقود في التاريخ المعهود» والتصحيح من «كشف الظنون» (2/ 1030) .
[2] في المطبوع: «المظرفة» وهو تصحيف، وانظر «لسان العرب» (طرف) .
[3] في المطبوع: «فقدان نفسه» .(3/296)
عندي، فما يمرّ بي آية إلّا قرّعت بها، وقيل لي: أما سمعت هذه في دار الدّنيا. انتهى ما ذكره ابن الجوزي.
وفيها أسيد بن عاصم الثّقفيّ الأصبهانيّ، أخو محمد بن عاصم، رحل وصنّف «المسند» . وسمع من سعيد بن عامر الضّبعي وطبقته.
وفيها أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم بن سعية بن أبي زرعة، الزّهري، المصري، أبو بكر بن البرقي الحافظ، كان حافظا عمدة. قاله ابن ناصر الدّين [1] .
وفيها بكّار بن قتيبة الثقفيّ البكراويّ، أبو بكرة، الفقيه البصريّ، قاضي الدّيار المصرية، في ذي الحجّة. سمع أبا داود الطّيالسي وأقرانه، وله أخبار في العدل، والعفّة، والنزاهة، والورع. ولّاه المتوكل القضاء في سنة ست وأربعين.
وفيها الحسن بن علي بن عفّان، أبو محمد العامري، الكوفي، في صفر. روى عن عبد الله بن نمير، وأبي أسامة وعدّة.
قال أبو حاتم: صدوق.
وفيها داود بن علي، الإمام أبو سليمان الأصبهاني ثم البغدادي، الفقيه الظاهري، صاحب التصانيف، في رمضان، وله سبعون سنة. سمع القعنبيّ، وسليمان بن حرب وطبقتهما، وتفقّه على أبي ثور، وابن راهويه، وكان ناسكا زاهدا.
قال ابن ناصر الدّين: تكلّم أبو الفتح الأزدي وغيره فيه، ومنعه أحمد بن حنبل من الدخول عليه لقوله المعروف في القرآن. بلّغه الذّهلي
__________
[1] انظر ترجمته في «تذكرة الحفّاظ» للذهبي (2/ 570) ، و «طبقات الحفّاظ» للسيوطي ص (253) .(3/297)
لأحمد، وكتب به إليه، وكان داود حافظا مجتهدا، إمام أهل الظاهر. انتهى ملخصا.
وقال ابن خلّكان [1] : أبو سليمان داود بن علي بن خلف الأصبهاني، الإمام المشهور، المعروف بالظاهري، كان زاهدا، متقلّلا، كثير الورع، أخذ العلم عن إسحاق بن راهويه، وأبي ثور، وكان من أكثر الناس تعصبا للإمام الشافعي، رضي الله عنه، وصنّف في فضائله والثناء عليه كتابين، وكان صاحب مذهب مستقل، وتبعه جمع كثير يعرفون بالظاهرية، وكان ولده أبو بكر محمد على مذهبه، وانتهت إليه رياسة العلم ببغداد.
قيل: إنه كان يحضر مجلسه أربعمائة صاحب طيلسان أخضر.
قال داود: حضر مجلسي يوما أبو يعقوب الشريطي، وكان من أهل البصرة وعليه خرقتان، فتصدّر لنفسه من غير أن يرفعه أحد وجلس إلى جانبي، وقال لي:
سل [يا فتى] [2] عمّا بدا لك، فكأني غضبت منه، فقلت له مستهزئا: أسألك عن الحجامة، فبرك [أبو يعقوب] [2] ثم روى طريق «أفطر الحاجم والمحجوم» [3] ومن أرسله، ومن أسنده، ومن وقفه، ومن ذهب إليه من الفقهاء. وروى اختلاف طرق [4] احتجام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإعطاء الحاجم [5] أجره، ولو كان حراما لم يعطه، ثم روى طرقا [6] أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، احتجم بقرن، وذكر أحاديث صحيحة في الحجامة، ثم ذكر الأحاديث المتوسطة مثل
__________
[1] في «وفيات الأعيان» (2/ 255- 257) وقد نقل المؤلف عنه باختصار.
[2] زيادة من «وفيات الأعيان» .
[3] رواه الترمذي رقم (774) في الصوم: باب كراهية الحجامة للصائم من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه، وقال والدي في تعليقه على «جامع الأصول» (6/ 294) : إسناده صحيح، ولكنه منسوخ، فقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في الحجامة للصائم.
[4] في «وفيات الأعيان» : «طريق» .
[5] في «وفيات الأعيان» : «الحجّام» .
[6] في «وفيات الأعيان» : «طرق» .(3/298)
«ما مررت بملإ من الملائكة» [1] ومثل «شفاء أمتي في ثلاث» [2] . وما أشبه ذلك وذكر الأحاديث الضعيفة، مثل قوله عليه الصلاة والسلام: «لا تحتجموا يوم كذا وساعة كذا» [3] ثم ذكر ما ذهب إليه أهل الطب من الحجامة في كل زمان، وما ذكروه فيها، ثم ختم كلامه بأن قال: وأول ما خرجت الحجامة من أصبهان، فقلت له: والله لا حقرت [4] بعدك أحدا أبدا.
وكان داود من عقلاء الناس.
قال أبو العبّاس ثعلب في حقه: كان عقل داود أكبر [5] من علمه.
ونشأ ببغداد وتوفي بها سنة سبعين في ذي القعدة، وقيل: في شهر رمضان، ودفن بالشونيزية، وقيل: في منزله.
وقال ولده أبو بكر محمد: رأيت أبي داود في المنام فقلت له: ما فعل
__________
[1] رواه الترمذي في الطب: باب ما جاء في الحجامة، وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عبّاد بن منصور، وفي الباب عن عائشة رضي الله عنه. ورواه أيضا الحاكم (4/ 209) وصححه ووافقه الذهبي، وهو حديث حسن.
[2] رواه البخاري رقم (5680) و (5681) في الطب: باب الشفاء في ثلاث، من حديث ابن عباس، ولفظه «الشفاء في ثلاث: في شرطة محجم ... » .
[3] جاء في حديث عند ابن ماجة رقم (3487) في الطب، باب في أيّ الأيام يحتجم، من حديث ابن عمر «اجتنبوا الحجامة يوم الأربعاء والجمعة والسبت والأحد» وهو حديث ضعيف.
قال السفاريني في «شرح ثلاثيات مسند أحمد» (1/ 451) . قال الحافظ في «الفتح» :
ولكون هذه لم يصح فيها شيء، قال حنبل بن إسحاق: كان الإمام أحمد يحتجم في أيّ وقت هاج به الدم وأيّ ساعة كانت. وعند الأطباء: إن أنفع الحجامة ما يقع في الساعة الثانية أو الثالثة، وأن لا يقع عقب استفراغ من حمام أو جماع أو غيرهما، ولا عقب شبع ولا جوع.
قال الحافظ في «الفتح» : وقد اتفق الأطباء على أن الحجامة في النصف الثاني من الشهر ثم في الربع الثالث من أرباعه، أنفع من الحجامة في أوله وآخره (ع) .
[4] في الأصل، والمطبوع: «لا حضرت» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[5] في «وفيات الأعيان» : «أكثر» .(3/299)
الله بك؟ فقال: غفر لي وسامحني، فقلت: غفر لك، فبم سامحك؟ [1] فقال: يا بني الأمر عظيم، والويل كل الويل [2] لمن لم يسامح، رحمه الله.
انتهى ما ذكره ابن خلّكان.
وفيها الرّبيع بن سليمان المرادي، مولاهم، المصري الفقيه، صاحب الشافعي، وهو في عشر المائة. سمع من ابن معين، كان إماما ثقة صاحب حلقة بمصر.
قال الشافعي: ما في القوم أنفع لي منه.
وقال: وددت أني حسوته العلم.
وقال في المزني: سيأتي عليه زمان لا يفسّر شيئا فيخطئه، وفي البويطي: يموت في حديدة، وفي ابن عبد الحكم: سيرجع إلى مذهب مالك. والربيع هذا آخر من روى عن الشافعي بمصر.
وفيها أيضا الرّبيع بن سليمان الجيزي، صاحب الشافعي، أبو محمد، وهو قائل الرواية عن الشافعي، وكان ثقة. روى عنه أبو داود، والنسائي، وتوفي بالجيزة [3] .
وفيها زكريا بن يحيى بن أسد، أبو يحيى المروزي ببغداد، روى عن سفيان [بن عيينة] وأبي معاوية.
قال الدارقطني: لا بأس به.
وفيها العبّاس بن الوليد بن مزيد [4] العذريّ البيروتيّ، المحدّث
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «ففيم سامحك» .
[2] قوله «كل الويل» سقط من المطبوع.
[3] مدينة تقع اليوم في غربي مدينة القاهرة الكبرى بمصر. انظر خبرها في «معجم البلدان» لياقوت (2/ 200) والذي في «تهذيب التهذيب» (3/ 245) أنه توفي سنة (256) هـ.
[4] في الأصل، والمطبوع: «ابن زيد» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (2/ 52) ، وانظر «تقريب التهذيب» ص (294) .(3/300)
العابد، في ربيع الآخر، وله مائة سنة تامة. روى عن أبيه، ومحمد بن شعيب، وجماعة.
قال أبو داود: كان صاحب ليل.
وفيها أبو البختري، عبد الله بن محمد بن شاكر العنبريّ ببغداد في ذي الحجة. سمع حسين بن علي الجعفي، وأبا أسامة، ووثّقه الدّارقطنيّ وغيره.
وفيها محمد بن إسحاق أبو بكر الصّاغانيّ [1] ثم البغداديّ الحافظ الحجة، في صفر. سمع يزيد بن هارون وطبقته.
وفيها محمد بن مسلم بن عثمان بن وارة، أبو عبد الله الحافظ المجوّد، سمع أبا عاصم النبيل وطبقته.
قال النسائي: ثقة صاحب حديث، وكان مع إمامته وعلمه فيه تعظيم لنفسه [2] .
وفيها محمد بن هشام بن ملّاس [3] ، أبو جعفر، النّميريّ الدمشقيّ، عن سبع وتسعين سنة. روى عن مروان بن معاوية الفزاري وغيره، وكان صدوقا.
وفيها الفضل بن العبّاس الصائغ، أبو بكر المروزي، كان حافظا نقّادا.
قال: عجزت أن أغرّب على أبي زرعة بعدد شعره. ذكره ابن ناصر الدّين.
__________
[1] ويقال: «الصّغاني» أيضا.
[2] قوله: «قال النسائي: ثقة، صاحب حديث، وكان مع إمامته وعلمه فيه تعظيم لنفسه» الذي أورده المؤلف هنا، ورد في المطبوع في آخر ترجمة الصاغاني أيضا، وهو خطأ. انظر «العبر» (2/ 52) .
[3] انظر ترجمته ومصادرها في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (12/ 353- 354) .(3/301)
سنة إحدى وسبعين ومائتين
فيها وقعة الطواحين [1] ، وكان ابن طولون قد خلع الموفّق من ولاية العهد، وقام بعده ابنه خمارويه على ذلك، فجهّز الموفّق ولده أبا العبّاس المعتضد، في جيش كبير، وولّاه مصر والشام، فسار حتّى نزل بفلسطين وأقبل خمارويه، فالتقى الجمعان بفلسطين وحمي الوطيس حتّى حرّت [2] الأرض من الدماء، ثم انهزم خمارويه إلى مصر، ونهبت خزائنه، وكان سعد الأعسر كمينا لخمارويه، فخرج على أبي العبّاس وهم غازون [3] فأوقعوا بهم، فانهزم هو وجيشه أيضا، حتّى وصل طرسوس في نفر يسير، وذهبت أيضا خزائنه، حواها سعد وأصحابه.
وفيها توفي عبّاس بن محمد الدّوريّ الحافظ، أبو الفضل، مولى بني هاشم ببغداد في صفر. سمع الحسين بن علي الجعفي، وأبا النّضر، وطبقتهما، وكان من أئمة الحديث الثقات.
وفيها أبو معشر المنجّم [4] كان قاطع النظراء في وقته، حتّى حكي أن
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «وقعت الطواعين» ، وما أثبته من «العبر» للذهبي (2/ 53) ، وانظر «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (7/ 414) ، و «دول الإسلام» للذهبي ص (150) من نشرة مؤسسة الأعلمي ببيروت.
[2] في المطبوع: «احمرّت» . وحرّت: أي سخنت. انظر «تاج العروس» (حرر) .
[3] في «العبر» : «وهم غارون» .
[4] واسمه جعفر بن محمد بن عمر البلخي. انظر ترجمته ومصادرها في «وفيات الأعيان» لابن(3/302)
بعض أكابر الدولة اختفى وخشي من المنجم أن يحكم بطرقه التي يستخرج بها الخبايا، فأخذ طستا وملأه دما، وعمل في الطست هاون ذهب، وقعد على الهاون أياما، فبحث المنجم في أمره وبقي مفكّرا، فقال له الملك: فيم تفكّر؟ قال: أرى المطلوب على جبل من ذهب والجبل في بحر من دم، ولا أعلم في العالم موضعا على هذه الصفة، فنادى الملك بالأمان للرجل فظهر وأخبرهم، فتعجب الملك من صنيعهما.
وفيها عبد الرّحمن بن منصور الحارثيّ البصريّ [1] ، أبو سعيد، صاحب يحيى القطّان، يوم الأضحى بسامرّاء، وفيه لين.
ومحمد بن حمّاد الظّهرانيّ الرّازيّ الحافظ، أحد من رحل إلى عبد الرزّاق. حدّث بمصر، والشام، والعراق، وكان ثقة، عارفا، نبيلا.
وفيها أبو الحسن محمد بن سنان القزّاز [2] . بصري، نزل بغداد، وروى عن عمر بن يونس اليمامي وجماعة.
قال الدارقطني: لا بأس به.
وقال أبو داود: يكذب.
وفيها كيلجة، واسمه محمد بن صالح بن عبد الرحمن، أبو بكر، الأنماطي، ثقة ماجد. قاله ابن ناصر الدّين.
وفيها يوسف بن سعيد بن مسلم الحافظ، أبو يعقوب، محدّث المصّيصة. روى عن حجّاج الأعور، وعبيد الله بن موسى، وطبقتهما.
__________
خلكان (1/ 358- 359) ، و «الأعلام» للزركلي (2/ 127) .
[1] انظر «العبر» للذهبي (2/ 54) ، و «البداية والنهاية» (11/ 49) .
[2] انظر ترجمته في «تهذيب الكمال» للمزّي (3/ 1207) مصوّرة دار المأمون للتراث بدمشق، و «تقريب التهذيب» لابن حجر ص (482) .(3/303)
قال النسائي: ثقة حافظ.
وقال ابن ناصر الدّين: كان أحد الحفّاظ المعتمدين، والأيقاظ الصدوقين.
وفيها يحيى بن عبدك القزوينيّ، محدّث قزوين. طوّف ورحل إلى [1] البلدان، وسمع أبا عبد الرّحمن المقرئ، وعفّان.
__________
[1] لفظة «إلى» سقطت من الأصل وأثبتها من المطبوع.(3/304)
سنة اثنتين وسبعين ومائتين
فيها كما قاله في «الشذور» زلزلت مصر زلزالا أخرب الدّور والجوامع، وأحصي بها في يوم واحد ألف جنازة.
وفيها البرلّسيّ، وهو إبراهيم بن سليمان بن داود الأسديّ، أسد خزيمة، أبو إسحاق بن أبي داود، ثبت مجوّد. ذكره ابن ناصر الدّين [1] .
وفيها أحمد بن عبد الجبّار العطارديّ الكوفيّ، في شعبان. ببغداد، في عشر المائة. سمع أبا بكر بن عيّاش، وعبد الله بن إدريس، وطبقتهما.
وثّقه ابن حبّان.
وفيها أحمد بن الفرج [2] ، أبو عتبة الحمصيّ المعروف بالحجازيّ.
روى عن بقيّة وجماعة.
قال ابن عديّ: هو وسط ليس بحجّة.
وفيها أحمد بن مهدي بن رستم الأصبهانيّ الزّاهد، صاحب «المسند» . رحل وسمع أبا نعيم وطبقته.
وفيها أبو معين الرّازيّ، الحسين بن الحسن، وقيل: محمد بن
__________
[1] قلت: وذكره أيضا السمعاني في «الأنساب» (2/ 167- 168) بترجمة أطول من التي في كتابنا فراجعها.
[2] في المطبوع، و «العبر» للذهبي بطبعتيه: «ابن الفرح» وهو تحريف فيصحّح فيهما.(3/305)
الحسين [1] ، وكان من كبار الحفّاظ والمكثرين الأيقاظ. رحل وسمع سعيد بن أبي مريم، وأبا سلمة التّبوذكي، وطبقتهما.
وسليمان بن سيف بن يحيى بن درهم الطائيّ، مولاهم، الحرّانيّ، أبو داود، ثقة. كذا ذكره ابن ناصر الدّين.
وقال في «العبر» [2] : سليمان بن سيف الحافظ، أبو داود، محدّث حرّان وشيخها في شعبان. سمع [يزيد] بن هارون وطبقته. انتهى.
ومحمد بن عبد الوهّاب [العبديّ، أبو أحمد] [3] الفرّاء النيسابوريّ الفقيه الأديب، أحد أوعية العلم. سمع حفص بن عبد الله، وجعفر بن عون، والكبار، ووثّقه مسلم.
وفيها محمد بن عبيد الله بن يزيد، أبو جعفر بن المنادي [4] المحدّث في رمضان ببغداد، وله مائة سنة وستة عشر شهرا. سمع حفص بن غياث، وإسحاق الأزرق، وطبقتهما.
وفيها محمد بن عوف بن سفيان، أبو جعفر الطائي الحافظ، محدّث حمص. سمع محمد بن يوسف الفريابي وطبقته، وكان من أئمة الحديث.
__________
[1] انظر «طبقات الحفّاظ» للسيوطي ص (269) .
[2] (2/ 56) .
[3] ما بين حاصرتين زيادة من «العبر» للذهبي (2/ 56) . وانظر «سير أعلام النبلاء» (12/ 606) .
[4] تحرّفت في الأصل إلى «المناوي» وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.(3/306)
سنة ثلاث وسبعين ومائتين
فيها توفي إسحاق بن سيّار النّصيبينيّ [1] محدّث نصيبين، في ذي الحجّة. سمع أبا عاصم وطبقته.
وفيها حنبل بن إسحاق الحافظ، أبو علي، ابن عمّ الإمام أحمد وتلميذه في جمادى الأولى. سمع أبا نعيم الفضل بن دكين، وأبا غسّان مالك بن إسماعيل [النّهدي] [2] ، وعفّان بن مسلم، وسعيد بن سليمان، وعارم بن الفضل، وسليمان بن حرب، وإمامنا أحمد في آخرين.
وحدّث عنه: ابنه عبيد الله، أبو عبد الله، وعبد الله البغوي، ويحيى بن صاعد، وأبو بكر الخلّال، وغيرهم.
وذكره ابن ثابت، فقال: كان ثقة ثبتا.
وقال الدارقطني: كان صدوقا.
وكان حنبل رجلا فقيرا، خرج إلى عكبرا [3] فقرأ مسائله عليهم، وخرج إلى واسط أيضا.
__________
[1] في «سير أعلام النبلاء» (13/ 194) : «النّصيبي» .
[2] زيادة من «طبقات الحفّاظ» للسيوطي ص (171) .
[3] قال ياقوت: عكبرا: اسم بليدة من نواحي دجيل قرب صريفين، وأونا، بينهما وبين بغداد عشرة فراسخ، والنسبة إليها عكبري، وعكبراوي. انظر «معجم البلدان» (4/ 142) .(3/307)
وقال حنبل جمعنا عمّي- يعني الإمام أحمد- أنا، وصالح، وعبد الله- يعني أبناء أحمد- وقرأ علينا «المسند» وما سمعه منه- يعني تامّا- غيرنا.
وقال لنا: إن هذا الكتاب قد جمعته وانتقيته من أكثر من تسعمائة [1] وخمسين ألفا، فما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فارجعوا إليه، فإن وجدتموه فيه، وإلا فليس بحجة.
ومات حنبل بواسط في جمادى الأولى. انتهى ملخصا.
وفيها أبو أميّة الطّرسوسيّ، محمد بن إبراهيم بن مسلم الحافظ.
سمع عبد الوهّاب بن عطاء، وشبابة، وطبقتهما، وكان من ثقات المصنفين.
قال ابن ناصر الدّين: هو صاحب «المسند» كان حافظا، ثقة، كبيرا.
وفيها الإمام الحافظ أبو عبد الله، محمد بن يزيد بن ماجة، الكبير الشأن، القزوينيّ صاحب «السنن» و «التفسير» و «التاريخ» . سمع أبا بكر بن أبي شيبة، ويزيد بن عبد الله اليمامي، وهذه الطبقة. قاله في «العبر» [2] .
وقال ابن ناصر الدّين: محمد بن يزيد بن ماجة، أبو عبد الله، الرّبعيّ، مولاهم، القزوينيّ، أحد الأئمة الأعلام، وصاحب «السنن» أحد كتب الإسلام، حافظ ثقة كبير، صنّف «السنن» و «التاريخ» و «التفسير» . لم يحتو كتابه «السنن» على ثلاثين حديثا في إسنادها ضعف. انتهى.
وقال ابن خلّكان [3] : كان إماما في الحديث، عارفا بعلومه وجميع ما يتعلق به، ارتحل إلى العراق، والبصرة، والكوفة، وبغداد، ومكة، والشام،
__________
[1] جاء في هامش المطبوع: وفي «مختصر طبقات ابن أبي يعلى» ، و «خصائص المسند» لأبي موسى المديني: «سبعمائة» .
[2] (2/ 57) .
[3] في «وفيات الأعيان» (4/ 279) .(3/308)
ومصر، والرّيّ، لكتب الحديث، وله «تفسير القرآن العظيم» و «تاريخ» مليح، وكتابه في الحديث أحد الصحاح الستة.
وكانت ولادته سنة تسع ومائتين، وتوفي يوم الاثنين، ودفن يوم الثلاثاء لثمان بقين من شهر رمضان، وصلّى عليه أخوه أبو بكر، وتولى دفنه أخواه أبو بكر، وأبو عبد الله [وابنه عبد الله] [1] . انتهى.
وفيها أحمد بن الوليد الفحّام، أبو بكر، البغداديّ. روى عن عبد الوهّاب بن عطاء وطائفة، وكان ثقة.
وفي صفر صاحب الأندلس، محمد بن عبد الرّحمن بن الحكم بن هشام، الأمويّ، الأمير، أبو عبد الله، وكانت دولته خمسا وثلاثين سنة، وكان فقيها، عالما، فصيحا، مفوّها، رافعا لعلم الجهاد.
قال بقيّ بن مخلد: ما رأيت ولا سمعت أحدا من الملوك أفصح منه ولا أعقل.
وقال أبو المظفر [سبط] [2] ابن الجوزي: هو صاحب وقعة وادي سليط، التي لم يسمع بمثلها، يقال: إنه قتل فيها ثلاثمائة ألف كافر.
__________
[1] ما بين حاصرتين زيادة من «وفيات الأعيان» (4/ 279) . و «سير أعلام النبلاء» للذهبي (13/ 279) . وفي «وفيات الأعيان» : «وتولى دفنه أخواه أبو بكر، وعبد الله، وابنه عبد الله» فتصحّح العبارة فيه.
[2] سقطت من الأصل والمطبوع، واستدركتها من «العبر» للذهبي.(3/309)
سنة أربع وسبعين ومائتين
فيها توفي أحمد بن محمد بن أبي الخناجر، أبو علي الأطرابلسيّ، في جمادى الآخرة. روى عن مؤمّل بن إسماعيل وطبقته، وكان من نبلاء العلماء. قاله في «العبر» [1] .
وفيها الحسن بن مكرم بن حسّان، أبو علي، ببغداد. روى عن علي بن عاصم وطبقته ووثّق.
وفيها خلف بن محمد الواسطيّ، كردوس [2] الحافظ. سمع يزيد بن هارون، وعلي بن عاصم.
وفيها عبد الملك بن عبد الحميد، الفقيه، أبو الحسن، الميمونيّ، الرّقّيّ، صاحب الإمام أحمد، في ربيع الأول. روى عن إسحاق الأزرق، ومحمد بن عبد، وطائفة، وكان جليل القدر في أصحاب الإمام أحمد بن حنبل، وكان سنّه يوم مات دون المائة، وكان أحمد يكرمه ويجلّه ويفعل معه ما لا يفعل مع أحد غيره.
وقال: صحبت أبا عبد الله على الملازمة من سنة خمس ومائتين، إلى سنة سبع وعشرين. قال: وكنت بعد ذلك أخرج وأقدم عليه الوقت بعد
__________
[1] (2/ 58- 59) .
[2] انظر ترجمته ومصادرها في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (13/ 199) .(3/310)
الوقت. قال: وكان أبو عبد الله يضرب لي مثل ابن جريج في عطاء من كثرة ما أسأله، ويقول لي: ما أصنع بأحد ما أصنع بك.
وقال الميمونيّ [1] : قلت لأحمد، من قتل نفسه، يصلي الإمام عليه؟
قال: لا يصلّي الإمام على من قتل نفسه، ولا على من غلّ. قلت:
فالمسلمون؟ قال: يصلّون عليهما.
وقال: المرداويّ في أواخر «الإنصاف» : عبد الملك بن عبد الحميد الميمونيّ، كان الإمام أحمد يكرمه، وروى عنه مسائل كثيرة جدا، ستة عشر جزءا، وجزءين كبيرين. انتهى.
وقال الحافظ ابن ناصر الدّين في «بديعة البيان» :
عبد المليك الحافظ الميموني ... روى علوم ديننا القويم
وقال في شرحها: هو عبد الملك بن عبد الحميد بن ميمون بن مهران، الميمونيّ، الجزريّ، الرّقّيّ، أبو الحسن، وثّقه النسائيّ، وأبو عوانة، وغيرهم. انتهى.
وفيها محمد بن عيسى بن حيّان [2] المدائنيّ. روى عن سفيان بن عيينة وجماعة. ليّنه الدارقطنيّ، وقال البرقانيّ: لا بأس به. قاله في «العبر» [3] .
وقال في «المغني» [4] : محمد بن عيسى بن [5] حيّان المدائنيّ، صاحب ابن عيينة.
__________
[1] يعني صاحب الترجمة.
[2] في «العبر» بطبعتيه: «ابن حبان» فيصحّح فيهما. وانظر «سير أعلام النبلاء» (13/ 21- 23) .
[3] (2/ 59) .
[4] (2/ 622) .
[5] لفظة «ابن» سقطت من الأصل، وأثبتها من المطبوع.(3/311)
قال الدارقطني: ضعيف متروك.
وقال غيره: كان مغفّلا.
وقال الحاكم: متروك. انتهى.(3/312)
سنة خمس وسبعين ومائتين
فيها توفي أبو بكر المرّوذيّ [1] ، الفقيه، أحمد بن محمد بن الحجّاج، في جمادى الأولى ببغداد، وكان اجلّ أصحاب الإمام أحمد، إماما في الفقه، والحديث، كثير التصانيف، خرج مرة إلى الرّباط [2] ، فشيّعه نحو خمسين ألفا من بغداد إلى سامرّاء. قاله في «العبر» .
وقال في «الإنصاف» : كان ورعا، صالحا، خصّيصا بخدمة الإمام أحمد، وكان يأنس به وينبسط إليه ويبعثه في حوائجه، وكان يقول: كلّ ما قلت فهو على لساني وأنا قلته، وكان يكرمه ويأكل من تحت يده، وهو الذي تولى إغماضه لمّا مات وغسله. روى عنه مسائل كثيرة، وهو المقدّم من أصحاب الإمام أحمد لفضله وورعه. انتهى.
وفيها أحمد بن ملاعب الحافظ، أبو الفضل، المخزوميّ، وله أربع وثمانون سنة. سمع عبد الله بن بكر، وأبا نعيم، وطبقتهما، وكان ثقة نبيلا.
وفيها الإمام أبو داود السّجستانيّ، سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير الأزديّ صاحب «السنن» والتصانيف المشهورة، في شوّال بالبصرة، وله بضع وسبعون سنة. سمع مسلم بن إبراهيم، والقعنبي، وطبقتهما، وطوّف
__________
[1] انظر ترجمته في «الأنساب» للسمعاني (11/ 255) .
[2] يعني إلى ملازمة ثغر العدو. ويقال: المرابطة أيضا. انظر «مختار الصحاح» (ربط) .(3/313)
الشام، والعراق، ومصر، والحجاز، والجزيرة، وخراسان، وكان رأسا في الحديث، رأسا في الفقه، ذا جلالة وحرمة وصلاح وورع، حتّى إنه كان يشبّه بشيخه أحمد بن حنبل. قاله في «العبر» [1] .
وقال ابن خلّكان [2] : أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شدّاد بن عمرو بن عمران الأزديّ السجستانيّ، أحد حفّاظ الحديث وعلمه وعلله، وكان في الدرجة العالية من النّسك والصلاح. طوّف البلاد وكتب عن العراقيين، والخراسانيين، والشاميين، والمصريين، والجزريين [3] ، وجمع كتاب «السنن» قديما وعرضه على الإمام أحمد بن حنبل، رضي الله عنه، فاستحسنه واستجاده، وعدّه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في «طبقات الفقهاء» [4] من جملة أصحاب الإمام أحمد بن حنبل.
وقال إبراهيم الحربي: لما صنّف أبو داود كتاب «السنن» : ألين لأبي داود الحديث كما ألين لداود الحديد.
وكان يقول: كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خمسمائة ألف حديث انتخبت [5] منها ما ضمنته هذا الكتاب- يعني «السنن» - جمعت فيه أربعة آلاف وثمانمائة حديث، ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه، ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث:
أحدها قوله صلى الله عليه وسلم: «إنّما الأعمال بالنّيّات» [6] .
__________
[1] (2/ 60- 61) .
[2] في «وفيات الأعيان» (2/ 404- 405) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «والحرميين» وما أثبته من «تاريخ بغداد» (9/ 55) ، و «وفيات الأعيان» مصدر المؤلف.
[4] انظر ص (171) منه.
[5] لفظة «انتخبت» سقطت من الأصل، والمطبوع، واستدركتها من «وفيات الأعيان» .
[6] رواه البخاري رقم (1) في بدء الوحي: باب كيف كان الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، و (54) في الإيمان: باب ما جاء إنّ الأعمال بالنيّة والحسبة، ولكل امرئ ما نوى، و (2529) في(3/314)
والثاني قوله صلى الله عليه وسلم: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» [1] . والثالث قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يكون المؤمن مؤمنا حتّى يرضى لأخيه ما يرضاه لنفسه» [2] . والرابع قوله صلى الله عليه وسلم: «الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبين ذلك أمور مشتبهات» [3] الحديث بكامله.
__________
العتق: باب الخطأ والنسيان في العتاقة والطلاق ونحوه، ولا عتاقة إلا لوجه الله تعالى و (3898) في مناقب الأنصار: باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، و (5070) في النكاح: باب ما هاجر أو عمل خيرا لتزويج امرأة فله ما نوى و (6689) في الأيمان والنذور:
باب النيّة في الأيمان، و (6953) في الحيل: باب في ترك الحيل، وأن لكل امرئ ما نوى، ومسلم رقم (1907) في الإمارة: باب قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيّة» . وقد استوفيت تخريجه في كتابي «شرح الأربعين النووية» ص (19) طبع دار ابن كثير، فليرجع إليه من شاء.
[1] لم أقف عليه بهذا اللفظ في «سنن أبي داود» ولكن ساقه به ابن الأثير في «جامع الأصول» (1/ 190) ، والمزي في «تهذيب الكمال» (1/ 531) ، والذهبي في «سير أعلام النبلاء» (13/ 210) في معرض خبر نسبوه لأبي بكر بن داسة، ورواه الترمذي رقم (2317) في الزهد: باب رقم (11) ، وابن ماجة رقم (3976) في الفتن، باب: كفّ اللسان في الفتنة.
وقال والدي حفظه الله تعالى في تعليقه على كتابي «شرح الأربعين النووية» ص (37) : وهو حديث صحيح لشواهده الكثيرة.
[2] لم أقف عليه بهذا اللفظ في «سنن أبي داود» الذي بين يدي، ولكن ساقه به ابن الأثير في «جامع الأصول» (1/ 190) ، والمزّي في «تهذيب الكمال» (1/ 531) مصوّرة دار المأمون للتراث بدمشق، والذهبي في «سير أعلام النبلاء» (13/ 210) في معرض خبر نسبوه لأبي بكر بن داسة.
والمحفوظ ما رواه البخاري رقم (13) ، ومسلم رقم (45) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ولفظه: «لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه» .
[3] هو في «سننه» رقم (3329) في البيوع والإجارات: باب في اجتناب الشبهات. وهو عند البخاري رقم (52) في الإيمان: باب فضل من استبرأ لدينه، و (2051) في البيوع: باب الحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات، وعند مسلم رقم (1599) في المساقاة:
باب أخذ الحلال وترك الشبهات. وقد استوفيت تخريجه في كتابي «شرح الأربعين النووية» ص (28) .(3/315)
وجاءه سهل بن عبد الله التّستريّ، رحمه الله تعالى، فقال له: يا أبا داود، لي إليك حاجة، قال: وما هي؟ قال: حتّى تقول: قضيتها مع الإمكان، قال: قد قضيتها مع الإمكان، قال: أخرج [لي] [1] لسانك الذي حدّثت به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتّى أقبّله، قال: فأخرج [له] لسانه فقبّله.
وكانت ولادته في سنة اثنتين ومائتين، وقدم بغداد مرارا، ثم نزل إلى البصرة وسكنها، وتوفي بها يوم الجمعة منتصف شوّال سنة خمس وسبعين ومائتين رحمه الله تعالى.
وكان ولده أبو بكر عبد الله بن أبي داود سليمان من أكابر الحفّاظ ببغداد، عالما متفقا عليه، إماما ابن إمام [2] وله كتاب «المصابيح» وشارك أباه في شيوخه بمصر والشام، وسمع ببغداد، وخراسان، وأصبهان [وسجستان] [3] وشيراز، وتوفي سنة ست عشرة وثلاثمائة، واحتجّ به ممّن صنّف الصحيح أبو علي الحافظ النيسابوري، وابن حمزة الأصبهاني. انتهى ما أورده ابن خلّكان.
وفيها، أي سنة خمس وسبعين، يحيى بن أبي طالب جعفر بن عبد الله بن الزّبرقان، أبو بكر البغدادي، المحدّث في شوّال. روى عن علي بن عاصم، ويزيد بن هارون، وجماعة، وصحّح الدّارقطنيّ حديثه.
__________
[1] زيادة من «وفيات الأعيان» مصدر المؤلف.
[2] في «وفيات الأعيان» : «إمام بن إمام» .
[3] زيادة من «وفيات الأعيان» .(3/316)
سنة ست وسبعين ومائتين
فيها على ما ذكره في «الشذور» انفجر تل نهر [1] الصّلح [2] عن شبه الحوض [3] من حجر في لون المسنّ، وفيه سبعة أقبر فيها سبعة أبدان صحاح أكفانهم جدد، كأنهم ماتوا بالأمس. انتهى.
وفيها جرت حروب صعبة بين صاحب مصر خمارويه، وبين محمد بن أبي السّاج، ثم ضعف محمد وهرب إلى بغداد.
وفيها توفي [4] الحافظ أبو عمرو، أحمد بن حازم بن أبي غرزة الغفاريّ، محدّث الكوفة في ذي الحجّة، صنّف «المسند» والتصانيف.
وروى عن جعفر بن عون وطبقته.
قال ابن حبّان: كان متقنا.
__________
[1] في «تاريخ الطبري» (10/ 16) ، و «النجوم الزاهرة» : «بنهر» (3/ 75) .
[2] في المطبوع و «تاريخ الطبري» : «الصلة» وما جاء في الأصل موافق لما في «النجوم الزاهرة» (3/ 75) وهو الصواب.
قال ياقوت: الصّلح كورة فوق واسط لها نهر يستمد من دجلة على الجانب الشرقي يسمى فم الصلح- وفيه بنى المأمون ببوران- وبها كانت دار الحسن بن سهل وزير المأمون.
انظر «معجم البلدان» (3/ 421) و (4/ 276) .
[3] في الأصل: «عن شبه حوض» وأثبت ما في المطبوع وهو موافق لما في «تاريخ الطبري» .
[4] لفظة «توفي» لم ترد في الأصل وأثبتها من المطبوع.(3/317)
وقال ابن ناصر الدّين: كان ثقة.
وفيها الإمام بقيّ بن مخلد، أبو عبد الرّحمن، الأندلسيّ الحافظ، أحد الأئمة الأعلام، في جمادى الآخرة، وله خمس وسبعون سنة. سمع يحيى بن يحيى اللّيثي، ويحيى بن بكير، وأحمد بن حنبل، وطبقتهم، وصنّف «التفسير الكبير» و «المسند الكبير» .
قال ابن حزم: أقطع أنه لم يؤلّف في الإسلام مثل تفسيره، وكان [بقيّ] [1] فقيها، علّامة، مجتهدا، قوّاما، ثبتا، عديم المثل.
وفيها الإمام أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدّينوريّ، وقيل:
المروزيّ، الإمام النحويّ اللغويّ صاحب «كتاب المعارف» و «أدب الكاتب» و «غريب القرآن» و «مشكل الحديث» و «طبقات الشعراء» و «إعراب القرآن» و «كتاب الميسر والقداح» وغيرها، وكان فاضلا، ثقة، سكن بغداد، وحدّث بها عن ابن راهويه وطبقته. روى عنه ابنه أحمد، وابن درستويه، وكان موته فجاءة.
قيل: إنه أكل هريسة فأصابته حرارة، فصاح صيحة شديدة، ثم أغمي عليه، ثم أفاق فما يزال يتشهّد حتّى مات. قاله ابن الأهدل.
وقال ابن خلّكان [2] : كان فاضلا ثقة، سكن بغداد وحدّث بها عن إسحاق بن راهويه، وأبي إسحاق إبراهيم بن سفيان بن سليمان بن أبي بكر بن عبد الرّحمن بن زياد، وأبي حاتم السجستاني وتلك الطبقة. وتصانيفه كلها مفيدة منها «غريب القرآن» و «غريب الحديث» ، و «عيون الأخبار» ، و «مشكل القرآن» ، و «مشكل الحديث» ، و «طبقات الشعراء» ، و «الأشربة» ، و «إصلاح الغلط» ، وغير ذلك، وأقرأ كتبه ببغداد إلى حين وفاته، وقيل: إن أباه
__________
[1] زيادة من «العبر» للذهبي (2/ 62) .
[2] في «وفيات الأعيان» (3/ 42- 43) .(3/318)
مروزي، وأما هو فمولده ببغداد، وقيل: بالكوفة، وأقام بالدّينور قاضيا مدة فنسب إليها.
وكانت ولادته سنة ثلاث عشرة ومائتين، وكانت وفاته فجاءة، صاح صيحة سمعت من بعد، ثم أغمي عليه إلى وقت الظهر، ثم اضطرب ساعة، ثم هدأ، فما يزال يتشهّد إلى وقت السحر، ثم مات رحمه الله تعالى.
وكان ولده أبو جعفر أحمد بن عبد الله المذكور فقيها، وروى عن أبيه كتبه المصنفة كلها، وتولى القضاء بمصر، وقدمها في ثامن عشر جمادى الآخرة سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وتوفي بها في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، وهو على القضاء ومولده ببغداد. انتهى ما أورده ابن خلّكان ملخصا.
وقال الذّهبيّ في «المغني» [1] : عبد الله بن مسلم بن قتيبة، أبو محمد، صاحب التصانيف، صدوق، سمع إسحاق بن راهويه.
قال الحاكم: أجمعت الأمة على أن القتيبيّ كذّاب.
قلت: هذا بغي وتخرّص، بل قال الخطيب: هو ثقة. انتهى كلام الذهبي.
وفيها أبو قلابة عبد الملك بن محمد الرّقاشيّ البصريّ الحافظ، أحد العبّاد والأئمة، في شوّال ببغداد. روى عن يزيد بن هارون وطبقته، ووثّقه أبو داود.
قال أحمد بن كامل: قيل عنه إنه كان يصلّي في اليوم والليلة أربعمائة ركعة، ويقال: إنه روى من حفظه ستّين ألف حديث.
__________
[1] انظر «المغني في الضعفاء» (1/ 357) .(3/319)
قال ابن ناصر الدّين في «بديعة البيان» :
ثمّ ابن عيسى الطّرسوسي الدّار ... كأحمد بن حازم الغفاري
عبد المليك ذا الرّقاشي الثالث ... كلّ رشيد عمدة وباحث
انتهى.
وفيها محدّث الأندلس قاسم بن محمد بن قاسم الأمويّ، مولاهم، القرطبيّ، الفقيه، له رحلتان إلى مصر، وتفقّه على الحارث بن مسكين، وابن عبد الحكم، وكان مجتهدا لا يقلّد أحدا.
قال رفيقه: بقيّ بن مخلد: هو أعلم من محمد بن عبد الله بن عبد الحكم.
وقال [1] : لم يقدم علينا من الأندلس أعلم من قاسم.
وقال محمد بن عمر بن لبابة: ما رأيت أفقه منه.
وروى عن إبراهيم بن المنذر الحزامي [2] وطبقته.
وفيها محدّث مكّة محمد بن إسماعيل الصائغ، أبو جعفر، وقد قارب التسعين. سمع أبا أسامة، وشبابة، وطبقتهما.
وفيها محدّث دمشق، أبو القاسم، يزيد بن عبد الصمد. سمع أبا مسهر، والحميدي، وطبقتهما، وكان ثقة بصيرا بالحديث.
__________
[1] في «العبر» للذهبي: «وأما ابن عبد الحكم فقال: لم يقدم ... إلخ» .
[2] تصحفت في الأصل، والمطبوع إلى «الحرامي» والتصحيح من «العبر» (2/ 63) ، وانظر «الأنساب» للسمعاني (4/ 129) .(3/320)
سنة سبع وسبعين ومائتين
فيها توفي حافظ المشرق، أبو حاتم الرّازيّ، محمد بن إدريس، الحنظليّ، في شعبان، وهو في عشر التسعين، وكان بارع الحفظ واسع الرحلة، من أوعية العلم. سمع محمد بن عبد الله الأنصاري، وأبا مسهر، وخلقا لا يحصون، وكان ثقة جاريا في مضمار البخاري، وأبي زرعة الرّازي.
وكان يقول: مشيت على قدميّ في طلب الحديث أكثر من ألف فرسخ.
وقال ابن ناصر الدّين: محمد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران الحنظليّ أبو حاتم الرّازي. كان في مضمار البخاري، وأبي زرعة، جاريا، وبمعاني الحديث عالما، وفي الحفظ غالبا، وأثنى عليه خلق من المحدّثين، وتوفي وهو في عشر التسعين. انتهى.
وفيها المحدّث أبو جعفر محمد بن الحسين بن أبي الحنين [1] الحنينيّ الكوفيّ، صاحب «المسند» . روى عن عبيد الله بن موسى [وأبي نعيم] [2] وطبقتهما، وكان ثقة.
[والإمام يعقوب بن سفيان الفسويّ الحافظ، أحد أركان الحديث،
__________
[1] لفظة «الحنين» لم ترد في الأصل، وأثبتها من المطبوع، و «العبر» .
[2] ما بين حاصرتين سقط من الأصل، وأثبته من المطبوع، و «العبر» .(3/321)
وصاحب «المشيخة» و «التاريخ» في وسط السنة، وله بضع وثمانون سنة.
سمع أبا عاصم، وعبيد الله [1] بن موسى وطبقتهما وكان ثقة] [2] بارعا، عارفا، ماهرا.
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «وعبد الله» والتصحيح من «العبر» (2/ 65) وانظر «سير أعلام النبلاء» (13/ 180) .
[2] ما بين حاصرتين سقط من الأصل، وأثبته من المطبوع، و «العبر» .(3/322)
سنة ثمان وسبعين ومائتين
فيها مبدأ ظهور القرامطة بسواد الكوفة، وهم قوم [1] خوارج زنادقة مارقة من الدّين.
قال في «الشذور» : وكان ابتداء أمرهم أن رجلا قدم إلى سواد الكوفة، فأظهر الزهد وجعل يسفّ الخوص [2] ، ويأكل من كسبه، ويصلّي ويصوم، ثم صار يدعو إلى إمام من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأخذ من كلّ من دخل في قوله دينارا، فاجتمع إليه جماعة، فاتخذ منهم اثني عشر نقيبا، وقال أنتم كحواري عيسى، وكان قد أوى إلى بيت رجل يقال له: كرميته، فسمّي باسمه، ثم خفّف فقيل: قرمط. انتهى.
وفيها توفي الموفّق، أبو أحمد طلحة، ويقال: محمد [3] بن المتوكل، ولي عهد أخيه المعتمد، في صفر، وله تسع وأربعون سنة، وكان ملكا مطاعا، وبطلا شجاعا، ذا بأس وأيد، ورأي وحزم، حارب الزّنج حتّى أبادهم، وقتل طاغيتهم، وكان جميع أمر [4] الجيوش إليه، وكان محبّبا إلى
__________
[1] لفظة «قوم» سقطت من «العبر» للذهبي فتستدرك فيه.
[2] أي: ينسج ورق النخل. انظر «لسان العرب» (خوص) و (سفف) .
[3] في الأصل: «ويقال: أحمد» وأثبت ما في المطبوع، وهو موافق لما في «تاريخ بغداد» (2/ 127) و «العبر» للذهبي (2/ 65) .
[4] في الأصل، والمطبوع: «أمراء» وهو خطأ، وما أثبته من «العبر» للذهبي.(3/323)
الخلق، وكان المعتمد مقهورا معه، اعتراه نقرس فبرّح به، وأصاب رجله داء الفيل [1] ، وكان يقول: قد أطبق ديواني على مائة ألف مرتزق، وما أصبح فيهم أسوأ حالا منّي، واشتد ألم رجله وانتفاخها، إلى أن مات منها، وكان قد ضيّق على ابنه أبي العبّاس وخاف منه، فلما احتضر، رضي عليه، ولما توفي ولّاه المعتمد ولاية العهد، ولقّبه المعتضد، وكان بعض الأعيان يشبّه الموفّق بالمنصور في حزمه، ودهائه، ورأيه، وجميع الخلفاء إلى [2] اليوم من ذريّته.
قاله في «العبر» [3] .
وفيها عبد الكريم بن الهيثم، [أبو يحيى] [4] ، الدّير عاقولي، رحل، وحصّل، وجمع، وروى عن أبي نعيم، وأبي اليمان، وطبقتهما، وكان أحد الثقات المأمونين.
وفيها- بل في التي قبلها على ما جزم به ابن ناصر الدّين- عيسى بن غاث بن عبد الله بن سنان بن دلويه، أبو موسى، موثّق متقن.
وفيها موسى بن سهل بن كثير الوشّاء ببغداد في ذي القعدة، وهو آخر من حدّث عن ابن عليّة، وإسحاق الأزرق. ضعّفه الدّارقطني، وقيل: في اسم أبيه وهب.
__________
[1] جاء في «المعجم الوسيط» (2/ 709) : داء الفيل: تضخم في الجلد وما تحته، ينشأ عن سدّ الأوعية اللمفاوية، ويحدثه جنس من الديدان الخيطية.
[2] في الأصل، والمطبوع: «وإلى» وما أثبته من «العبر» للذهبي (2/ 66) وهو الصواب.
[3] (2/ 65- 66) .
[4] ما بين حاصرتين زيادة من «العبر» للذهبي، و «اللباب» لابن الأثير (1/ 523) .(3/324)
سنة تسع وسبعين ومائتين
فيها نودي ببغداد: لا يقعد على الطريق منجّم، ولا تباع كتب الكلام والفلسفة.
وفيها تمكّن المعتضد أبو العبّاس أحمد بن الموفّق طلحة من الأمور، وأطاعته الأمراء، حتّى ألزم عمّه المعتمد أن يقدّمه في العهد على ابنه المفوّض، ففعل مكرها.
قال أبو العبّاس المذكور: كان المعتمد على الله قد حبسني، فرأيت في منامي وأنا محبوس أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، يقول لي: أمر الخلافة يصل إليك فاعتضد بالله وأكرم بنيّ. قال: فانتبهت ودعوت الخادم الذي كان يخدمني في الحبس، وأعطيته فصّ خاتم، وقلت له:
امض إلى النّقّاش وقل له: انقش عليه «المعتضد بالله أمير المؤمنين» فقال:
هذه مخاطرة بالنفس، وأين الخلافة منّا، وغاية أملنا الخلاص من السجن؟
فقلت: امض لما أمرتك، فمضى ونقش عليه ما قلت له بأوضح خط، فقلت: اطلب لي دواة وكاغذا، فجاءني بهما، فجعلت أرتّب الأعمال، وأولّي العمّال وأصحاب الدواوين، فبينما أنا كذلك إذ جاء القوم وأخرجوني، ثم إن المعتمد على الله فوّض ما كان لناصر دين الله الموفّق لولده أحمد المذكور، فاستبدّ بالأمر، واستخفّ بعمّه المعتمد، ولم يرجع إليه في شيء من عقده(3/325)
وحلّه، ثم إن أحمد المذكور دخل على عمّه المعتمد على الله وقصّ عليه رؤياه التي رآها في الحبس، وقال: إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، ولّاني هذا الأمر، ومتى لم تخلع ابنك جعفرا من الخلافة طائعا وإلا خلعته كارها، فخلع المعتمد ابنه وجعل العهد لابن أخيه أحمد المذكور.
وفيها كما قال في «العبر» [1] منع المعتضد من بيع كتب الفلاسفة والجدل، وتهدد على ذلك، ومنع المنجّمين والقصّاص من الجلوس فكان ذلك من حسناته. انتهى [2] .
وفيها، في رجب، توفي المعتمد على الله، أحمد بن المتوكل على الله جعفر، العباسي، وله خمسون سنة، وكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة ويومين، وكان أسمر، ربعة، نحيفا، مدوّر الوجه، صغير اللحية، مليح العينين، ثم سمن وأسرع إليه الشيب، ومات فجأة، وأمه أمّ ولد اسمها قينان [3] ، وله شعر متوسط، وكان قد أكل رؤوس جداء فمات من الغد بين المغنّين والندماء، فقيل: سمّ في الرؤوس، وقيل: نام فغمّ في بساط، وقيل:
سمّ في كأس الشراب، فدخل عليه القاضي والشهود فلم يروا به أثرا، وكان منهمكا في اللّذات، فاستولى أخوه على المملكة وحجر عليه في بعض الأشياء، فاستصحب المعتضد الحال بعد أبيه.
وعن أحمد بن يزيد قال: كنّا عند المعتمد، وكان كثير العربدة إذا سكر، فذكر حكاية. قاله في «العبر» [4] .
__________
[1] (2/ 67) .
[2] سبق أن ذكر المؤلف هذا الخبر في أول كلامه عن حوادث هذه السنة باختصار، وأظنه كان ينقل هناك عن كتاب «شذور العقود في تاريخ العهود» لابن الجوزي والله أعلم.
[3] في «العبر» : «فتيان» .
[4] (2/ 67) .(3/326)
وامتد ملكه على المهانة بتدبير أخيه، ولو شاء خلعه لخلعه.
قال ابن الفرات: كان في خلافته محكوما عليه، حتّى إنه احتاج في بعض الأوقات إلى ثلاثمائة دينار فلم يجدها في ذلك الوقت، فقال:
أليس من العجائب أن مثلي ... يرى ما قلّ ممتنعا عليه
وتؤخذ باسمه الدّنيا جميعا ... وما من ذاك شيء في يديه
إليه تحمل الأموال طرّا ... ويمنع بعض ما يجبى إليه
[1] وفيها توفي أحمد بن أبي خيثمة، زهير بن حرب الحافظ ابن الحافظ، أبو بكر النّسائي، ثم البغدادي، مصنّف «التاريخ الكبير» ، وله أربع وتسعون سنة. سمع أبا نعيم، وعفّان، وطبقتهما.
قال الدارقطني: ثقة، مأمون.
وفيها إبراهيم بن عبد الله بن عمر العبسيّ. القصّار، الكوفيّ أبو إسحاق، آخر أصحاب وكيع وفاة.
وفيها جعفر بن محمد بن شاكر الصائغ ببغداد، وله تسعون سنة.
روى عن أبي نعيم وطبقته، وكان زاهدا، عابدا، ثقة، ينفع الناس ويعلّمهم الحديث.
وأبو يحيى عبد الله بن زكريا بن أبي ميسرة، محدّث مكّة في جمادى الأولى. روى عن أبي عبد الرّحمن المقرئ وطبقته.
وفيها الإمام أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضحّاك السّلميّ، أبو عيسى، الترمذيّ الضرير، تلميذ أبي عبد الله البخاري، ومشاركه فيما يرويه في عدة من مشايخه. سمع منه شيخه البخاري وغيره، وكان مبرّزا على الأقران، آية في الحفظ والإتقان.
__________
[1] في «وفيات الأعيان» (4/ 278) .(3/327)
قال ابن خلّكان [1] : أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضّحّاك السّلميّ الضرير البوغيّ الترمذيّ، الحافظ المشهور، أحد الأئمة الذين يقتدى بهم في علم الحديث. صنّف «كتاب الجامع» و «العلل» [2] تصنيف رجل متقن، وبه يضرب المثل، وهو تلميذ أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، وشاركه في بعض شيوخه، مثل قتيبة بن سعيد، وعلي بن حجر، وابن بشّار، وغيرهم. انتهى.
قيل: إنه ولد أكمه [3] .
وفيها أبو الأحوص، محمد بن الهيثم [الحافظ] [4] قاضي عكبرا، في جمادى الآخرة، وكان أحد من عني بهذا الشأن [5] فروى عن عبد الله بن رجاء، وسعيد بن عفير، وطبقتهما، وهو ثقة.
وأبو عبد الله، محمد بن جابر بن حمّاد، أحد أئمة زمانه، والمبرز بالفضل على أقرانه.
قال ابن ناصر الدّين في «بديعة البيان» :
ثمّ ابن عيسى التّرمذي محمّد ... طاب رحيب علمه فقيدوا
مثل الفقيه المروزي النّقّاد ... محمّد بن جابر بن حمّاد
__________
[1] في «وفيات الأعيان» (4/ 278) .
[2] العلل للترمذي، جعله في آخر كتابه الجامع ويقال: إن كتاب العلل، تأليف مستقل، ولكن قول الترمذي: جميع ما في هذا الكتاب من الحديث معمول به، وبه أخذ بعض أهل العلم ما خلا حديثين ... يبين أن كتاب العلل ملحق بالسنن. وقد شرح «العلل» الحافظ ابن رجب الحنبلي شرحا جيدا، وقد حققه أول مرة الأستاذ الشيخ صبحي السامرائي في العراق في مجلد واحد، ثم أعاد تحقيقه الدكتور نور الدين عتر في دمشق وصدر عن دار الملاح في مجلدين. (ع) .
[3] يعني أعمى (ع) .
[4] زيادة من «العبر» للذهبي.
[5] يعني بعلوم الحديث النبوي الشريف.(3/328)
سنة ثمانين ومائتين
فيها كما قال في «الشذور» زلزلت دبيل [1] في الليل، فأصبحوا فلم يبق من المدينة إلّا اليسير، فأخرج من تحت الهدم خمسون ومائة ألف ميت.
انتهى [2] .
وفيها توفي القاضي أبو العبّاس أحمد بن محمد بن عيسى البرتي، الفقيه الحافظ، صاحب «المسند» روى عن أبي نعيم، ومسلم بن إبراهيم، وخلق، وكان ثقة، بصيرا بالفقه، عارفا بالحديث وعلله، زاهدا، عابدا، كبير القدر، من أعيان الحنفية.
وفيها الإمام قاضي الدّيار المصرية أحمد بن أبي عمران، أبو جعفر، الفقيه الحنفيّ، تفقّه على محمد بن سماعة، وحدّث عن عاصم بن علي وطائفة، وروى الكثير من حفظه لأنه عمي بمصر، وهو شيخ الطحاوي في الفقه.
قال في «حسن المحاضرة» [3] : وثّقه ابن يونس.
__________
[1] دبيل: مدينة بإرمينية تتاخم أرّان، فتحت في أيام أمير المؤمنين عثمان بن عفّان رضي الله عنه، على يد حبيب بن مسلمة. انظر «معجم البلدان» لياقوت (2/ 439) .
[2] انظر تفاصيل الخبر في «تاريخ الطبري» (10/ 34- 35) ، و «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (7/ 465) .
[3] (1/ 463) .(3/329)
وفيها الإمام أبو سعيد عثمان بن سعيد الدّارميّ السّجزيّ [1] الحافظ، صاحب «المسند» والتصانيف. روى عن سليمان بن حرب وطبقته، وكان جذعا، وقذى [2] في أعين المبتدعة، قيّما بالسّنّة، ثقة، حجّة، ثبتا.
قال يعقوب بن إسحاق الهروي [3] : ما رأينا أجمع منه، أخذ الفقه عن البويطي، والعربية عن ابن الأعرابي، والحديث عن ابن المديني.
توفي في ذي الحجة وقد ناهز الثمانين.
قال الإسنوي: هو أحد الحفّاظ الأعلام، تفقّه على البويطي، وطاف الآفاق في طلب الحديث، وصنّف «المسند الكبير» . انتهى.
وفيها الحافظ أبو إسماعيل، محمد بن إسماعيل السّلميّ الترمذيّ، أحد أعلام السّنّة. سمع محمد بن عبد الله الأنصاري، وسعيد بن أبي مريم، وطبقتهما، وجمع، وصنّف.
قال ابن ناصر الدّين: ثقة متقن.
وفيها حرب بن إسماعيل الكرمانيّ، صاحب الإمام أحمد، حافظ، فقيه، نبيل، نقل عن الإمام أحمد مسائل كثيرة.
__________
[1] ويقال: السجستاني أيضا، نسبة إلى سجستان. انظر «الأنساب» للسمعاني (7/ 43 و 45) ، و «معجم البلدان» لياقوت (3/ 190- 192) .
[2] لفظة «قذى» سقطت من «العبر» بطبعتيه فتستدرك. قال ابن منظور: القذى: ما يقع في العين وما ترمى به وجمعه أقذاء وقذي. «لسان العرب» (قذي) .
[3] كذا في الأصل والمطبوع و «العبر» ، وانظر «سير أعلام النبلاء» للذهبي (13/ 321) فإن الخبر فيه برواية أخرى غير التي ذكرها المؤلف في كتابنا.(3/330)
قال ابن أبي يعلى في «طبقاته» [1] : كان حرب فقيه البلد، وكان السلطان قد جعله على أمر الحكم وغيره في البلد.
قال حرب: سألت أحمد عن قراءة حمزة؟ فقال: لا تعجبني.
قال: وقلت لأحمد: الإدغام؟ فكرهه.
وقال: سمعت الإمام أحمد يكره الإمالة مثل وَالضُّحى 93: 1، وَالشَّمْسِ وَضُحاها 91: 1، وقال: أكره الخفض الشديد والإدغام.
وقال حرب: سمعت أحمد بن حنبل يقول: الناس يحتاجون إلى العلم مثل الخبز والماء، لأن العلم يحتاج إليه في كل ساعة، والخبز والماء في كل يوم مرّة أو مرّتين. انتهى ملخصا.
وفيها أبو عمر [2] هلال بن العلاء بن هلال الرّقّيّ، محدّث الرّقّة وشيخها في ذي الحجة وقد قارب التسعين. روى عن حجّاج الأعور، وخلق كثير، وله شعر رائق. قاله في «العبر» [3] .
وقال ابن ناصر الدّين: تكلّم فيه لمناكير عنده رواها عن أبيه. انتهى.
__________
[1] (1/ 145) .
[2] في المطبوع: «أبو عمرو» وهو خطأ.
[3] (2/ 70) .(3/331)
سنة إحدى وثمانين ومائتين
فيها توفي إبراهيم بن الحسين الكسائيّ الهمذانيّ، ابن ديزيل، ويعرف بدابّة عفّان للزومه، وكان ثقة جوّالا، صالحا، يصوم صوم داود، وسمع أيضا أبا مسهر، وأبا اليمان، وطبقتهما، وكان من أكثر الحفّاظ حديثا، ويلقب أيضا سيفنّة [1] .
قال ابن ناصر الدّين: هو ثقة مأمون.
وفيها الإمام أبو زرعة عبد الرّحمن بن عمرو النّصريّ الدّمشقيّ، الحافظ، في جمادى الآخرة. سمع أبا مسهر، وأبا نعيم، وطبقتهما، وصنّف التصانيف، وكان محدّث الشام في زمانه.
قال ابن ناصر الدّين: علم، حافظ، ثبت.
وفيها الحافظ أبو عمرو، عثمان بن عبد الله بن خرزاذ الأنطاكيّ، أحد أركان الحديث. سمع عفّان، وسعيد [بن كثير] بن عفير [2] والكبار.
__________
[1] قال الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (13/ 185) : وسيفنّة: طائر ببلاد مصر، لا يكاد يحط على شجرة إلا أكل ورقها، حتى يعريها، وكذلك كان إبراهيم، إذا ورد على شيخ لم يفارقه حتى يستوعب ما عنده.
[2] في الأصل، والمطبوع: «سعيد بن عفير» وما أثبته من «تهذيب الكمال» (2/ 913) مصوّرة دار المأمون للتراث بدمشق، و «تقريب التهذيب» ص (240) .(3/332)
وقال محمد بن حمويه: هو أحفظ من رأيت، توفي في آخر السنة، وكان ثقة ثبتا.
وفيها العلّامة أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الموّاز الإسكندرانيّ المالكيّ، صاحب التصانيف، أخذ عن أصبغ بن الفرج، وعبد الله بن عبد الحكم، وانتهت إليه رياسة المذهب، وإليه كان المنتهى في تفريع المسائل.(3/333)
سنة اثنتين وثمانين ومائتين
فيها وقع الصلح بين المعتضد وخمارويه، وتزوج المعتضد بابنة خمارويه الملقبة قطر النّدى [1] على مهر مبلغه ألف ألف درهم، فأرسلت إلى بغداد وبنى بها المعتضد، وقوّم جهازها بألف ألف دينار، وأعطت ابن الجصاص الذي مشى في الدلالة مائة ألف درهم.
وفيها توفي الحافظ أبو إسحاق الطّوسيّ العنبريّ إبراهيم بن إسماعيل. سمع يحيى بن يحيى التميمي فمن بعده، وكان محدّث الوقت وزاهده بعد محمد بن أسلم بطوس، صنّف «المسند الكبير» في مائتي جزء.
وفيها العلّامة أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حمّاد بن زيد الأزديّ مولاهم البصريّ، الفقيه المالكي، القاضي ببغداد، في ذي الحجة فجأة، وله ثلاث وثمانون سنة وأشهر. سمع مسلم بن إبراهيم وطبقته، وصنّف التصانيف في القراءات، والحديث، والفقه، وأحكام القرآن، والأصول. وتفقّه على أحمد بن المعذل، وأخذ علم الحديث عن
__________
[1] واسمها أسماء بنت خمارويه. انظر ترجمتها ومصادرها في «تاريخ مدينة دمشق» لابن عساكر «تراجم النساء» ص (312) ، و «معجم النساء» لكحالة (4/ 212- 215) ، وسوف يتكلم المؤلف عنها في الصفحتين (336- 337) و (365) من هذا المجلد.(3/334)
ابن المديني، وكان إماما في العربية، حتّى قال المبرد: هو أعلم بالتصريف منّي.
وفيها الحافظ أبو الفضل، جعفر بن محمد بن أبي عثمان الطّيالسيّ البغداديّ في رمضان. سمع عفّان وطبقته، وكان ثقة متحرّيا إلى الغاية في التحديث.
وفيها الحافظ أبو محمد الحارث بن محمد بن أبي أسامة التميميّ البغداديّ، صاحب «المسند» يوم عرفة، وله ست وتسعون سنة. سمع عن علي بن عاصم، وعبد الوهّاب بن عطاء، وطبقتهما.
قال الدارقطني: صدوق.
وقيل: فيه لين، كان لفقره يأخذ على التحديث أجرا.
وفيها الحسين بن الفضل بن عمير البجليّ الكوفيّ المفسّر، نزيل نيسابور، كان آية في معاني القرآن [1] ، صاحب فنون وتعبّد.
قيل: إنه كان يصلي في اليوم والليلة ستمائة ركعة، وعاش مائة وأربع سنين، وروى عن يزيد بن هارون والكبار.
وفيها خمارويه بن أحمد بن طولون، الملك، أبو الجيش، متولّي مصر والشام، وحمو المعتضد [بالله] . فتك به غلمان له راودهم في ذي القعدة بدمشق، وعاش اثنتين وثلاثين سنة، وكان شهما صارما كأبيه. قاله في «العبر» [2] .
وقال ابن خلّكان [3] : أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون، لما
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «آية في معان» وأثبت ما في «العبر» للذهبي مصدر المؤلف.
[2] (2/ 74) .
[3] في «وفيات الأعيان» (2/ 249) .(3/335)
توفي أبوه اجتمع الجند على توليته مكانه، فولي وهو ابن عشرين سنة، وكانت ولايته في أيام المعتمد على الله، وفي سنة ست وسبعين تحرّك الأفشين محمد بن أبي الساج ديوداد بن ديودست [1] من إرمينية والجبال في جيش عظيم، وقصد مصر، فلقيه خمارويه في بعض أعمال دمشق، وانهزم الأفشين، واستأمن أكثر عسكره، وسار خمارويه حتّى بلغ الفرات، ودخل أصحابه الرّقة، ثم عاد وقد ملك من الفرات إلى بلاد النوبة.
فلما مات المعتمد وتولى المعتضد الخلافة، بادر إليه خمارويه بالهدايا والتّحف، فأقرّه [المعتضد] [2] على عمله، وسأل خمارويه أن يزوّج ابنته قطر النّدى- واسمها أسماء- للمكتفي بالله بن المعتضد [بالله] [3] ، وهو إذ ذاك وليّ العهد، فقال المعتضد [بالله] [3] : بل أنا أتزوجها، فتزوجها في سنة إحدى وثمانين ومائتين، والله أعلم.
وكان صداقها ألف ألف درهم، وكانت موصوفة بفرط الجمال والعقل.
حكي أن المعتضد خلا بها يوما للأنس في مجلس أفرده لها ما أحضره سواها، فأخذت الكأس منه، فنام على فخذها، فلما استثقل وضعت رأسه على وسادة، وخرجت فجلست في ساحة القصر، فاستيقظ فلم يجدها، فاستشاط غضبا ونادى بها، فأجابته عن قرب، فقال: ألم أخلك إكراما لك؟
ألم أدفع إليك مهجتي دون سائر حظاياي؟ فتضعين رأسي على وسادة وتذهبين؟! فقالت: يا أمير المؤمنين! لم أجهل [4] قدر ما أنعمت عليّ به،
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «ديوذار بن يوسف» ، وفي «وفيات الأعيان» : «ديوداذ بن دوست» وكلاهما خطأ، والتصحيح من «تاريخ الطبري» (9/ 353) ، و «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (7/ 168) .
[2] زيادة من «وفيات الأعيان» .
[3] زيادة من «وفيات الأعيان» .
[4] في «وفيات الأعيان» : «ما جهلت» .(3/336)
ولكن فيما أدّبني به أبي أن قال: لا تنامي مع القيام [1] ولا تجلسي مع النيام.
ويقال: إن المعتضد أراد بنكاحها افتقار الطولونية، وكذا كان، فإن أباها جهّزها بجهاز لم يعمل مثله، حتّى قيل: إنه كان لها ألف هاون ذهبا، وشرط عليه المعتضد أن يحمل كل سنة بعد القيام بجميع وظائف مصر وأرزاق أجنادها مائتي ألف دينار، فأقام على ذلك إلى أن قتله غلمانه بدمشق على فراشه ليلة الأحد لثلاث بقين من ذي القعدة سنة اثنتين وثمانين، وعمره اثنتان وثلاثون سنة، وقتل قتلته أجمعون، وحمل تابوته إلى مصر، ودفن عند أبيه بسفح المقطّم، رحمهما الله تعالى.
وكان من أحسن النّاس [2] خطّا. انتهى ما أورده ابن خلّكان.
وفيها الحافظ أبو محمد، الفضل بن محمد بن المسيّب، البيهقيّ الشعرانيّ، طوّف الأقاليم، وكتب الكثير، وجمع وصنّف. روى عن سليمان بن حرب، وسعيد بن أبي مريم، وطبقتهما.
قال في «المغني» [3] : قال أبو حاتم: تكلموا فيه.
وفيها محمد بن الفرج الأزرق، أبو بكر، في المحرم ببغداد. سمع حجّاج بن محمد [4] ، وأبا النّضر، وطبقتهما.
قال في «المغني» [5] : محمد بن الفرج الأزرق، له جزء معروف، وهو صدوق، تكلم الحاكم فيه لصحبته الكرابيسي، وهذا تعنّت. انتهى.
وفيها العلّامة أبو العيناء، محمد بن القاسم بن خلّاد البصريّ الضرير اللغويّ الأخباري، وله إحدى وتسعون سنة، وأضرّ وله أربعون سنة، أخذ عن
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «لا تنامي مع الجلوس» .
[2] لفظة «الناس» سقطت من الأصل، وأثبتها من المطبوع.
[3] (2/ 513) .
[4] في الأصل: «محمد بن حجاج» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب. وانظر «تهذيب الكمال» للمزّي (3/ 1257) مصوّرة دار المأمون للتراث بدمشق.
[5] (2/ 623) .(3/337)
أبي عبيدة، وأبي عاصم النّبيل، وجماعة، وله نوادر وفصاحة وأجوبة مسكتة.
قاله في «العبر» [1] .
وقال ابن خلّكان [2] : أصله من اليمامة، ومولده بالأهواز، ومنشؤه بالبصرة، وبها طلب الحديث وكسب الأدب [3] ، وسمع من أبي عبيدة، والأصمعي، وأبي زيد الأنصاري، والعتبي، وغيرهم، وكان من أفصح الناس لسانا وأحفظهم، وكان من ظرائف العالم، وفيه من اللّسن وسرعة الجواب والذكاء ما لم يكن في أحد من نظرائه، وله أخبار حسان وأشعار ملاح مع أبي علي الضرير.
وحضر يوما مجلس بعض الوزراء، فتفاوضوا حديث البرامكة وكرمهم وما كانوا عليه من البذل [4] والإفضال، فقال الوزير: قد أكثرت من ذكرهم ووصفك إياهم، وإنما هذا تصنيف الورّاقين وكذب المؤلفين، فقال أبو العيناء: فلم لا يكذب الورّاقون عليك أيها الوزير؟ فسكت الوزير، وعجب الحاضرون من إقدامه عليه.
وشكا إلى عبد الله بن سليمان بن وهب الوزير سوء الحال، فقال له:
أليس قد كتبنا إلى إبراهيم بن المدبّر في أمرك؟ قال: نعم، قد كتبت إلى رجل قد قصر من همّته طول الفقر، وذلّ الأسر، ومعاناة الدّهر، فأخفق سعيي وخابت طلبتي، فقال عبد الله [5] : أنت اخترته، فقال: وما عليّ أيّها الوزير في ذلك، وقد اختار موسى قومه سبعين رجلا فما كان فيهم رشيد، واختار النّبيّ صلى الله عليه وسلم، عبد الله بن سعد بن أبي سرح كاتبا، فرجع إلى المشركين مرتدّا،
__________
[1] (2/ 75) .
[2] في «وفيات الأعيان» (4/ 343) .
[3] في الأصل والمطبوع: و «كتب الأدب» وما أثبته من «وفيات الأعيان» مصدر المؤلف.
[4] في «وفيات الأعيان» : «وما كانوا عليه من الجود» .
[5] في «وفيات الأعيان» : «عبيد الله» .(3/338)
واختار علي بن أبي طالب أبا موسى الأشعري حكما له، فحكم عليه، وإنما قال: ذلّ الأسر، لأن إبراهيم المذكور كان قد أسره علي بن محمد صاحب الزّنج بالبصرة وسجنه، فنقب السجن وهرب.
ودخل أبو العيناء على أبي الصقر إسماعيل بن بلبل [1] الوزير يوما، فقال له: ما الذي أخّرك عنّا يا أبا العيناء، فقال سرق حماري. قال: وكيف سرق؟ قال: لم أكن مع اللّصّ فأخبرك. قال: فهلّا أتيتنا على غيره؟ قال:
قعد بي عن الشراء قلّة يساري [2] وكرهت ذلّة المكاري ومنّة العواري [3] .
وخاصم علويا، فقال له العلويّ: أتخاصمني وأنت تقول [كل يوم] [4] :
اللهمّ صلّ على محمد وعلى آله؟ قال: لكني أقول: الطيبين الطاهرين ولست منهم.
ووقف عليه رجل من العامّة فلما أحسّ به قال: من هذا؟ قال: رجل من بني آدم، فقال أبو العيناء، مرحبا بك- أطال الله بقاءك- ما كنت أظن هذا النّسل إلا قد انقطع.
وصار يوما إلى باب صاعد بن مخلد، فاستأذن عليه، فقيل: هو مشغول بالصلاة، فقال: لكل جديد لذّة، وكان صاعد قبل الوزارة نصرانيا.
ومرّ بباب عبد الله بن منصور وهو مريض وقد صحّ [5] ، فقال لغلامه كيف خبره؟ فقال: كما تحب، فقال: ما لي لا أسمع الصراخ عليه؟.
ودعا سائلا ليعشّيه فلم يدع شيئا إلا أكله، فقال، يا هذا، دعوتك رحمة فتركتني رحمة.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «إسماعيل بن بابك» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» ، وانظر «تاريخ الطبري» (9/ 544) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «قلة إيساري» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[3] الخبر في «معجم الأدباء» لياقوت (18/ 293- 294) .
[4] زيادة من «وفيات الأعيان» .
[5] في الأصل: «وقد صلح» وأثبت ما في المطبوع.(3/339)
وكان بينه وبين ابن مكرم مداعبات فسمع ابن مكرم رجلا يقول: من ذهب بصره قلّت حيلته، فقال: ما أغفلك عن أبي العيناء! ذهب بصره فعظمت حيلته.
وقد ألمّ أبو علي البصير بهذا المعنى، يشير به إلى أبي العيناء:
قد كنت خفت يد الزّما ... ن عليك إذ ذهب البصر
لم أدر أنّك بالعمى ... تغنى ويفتقر البشر [1]
وقال له ابن مكرم يوما يعرّض به: كم عدد المكدّين بالبصرة؟ فقال:
مثل عدد البغائين ببغداد.
وروي عنه أنه قال: كنت عند أبي الحكم إذ أتاه رجل فقال له:
وعدتني وعدا، فإن رأيت أن تنجزه، فقال: ما أذكره، فقال: إن لم تذكره فلأن من تعده مثلي كثير، وأنا لا أنساه، لأن من أسأله مثلك قليل، فقال:
أحسنت، لله أبوك، وقضى حاجته.
وكان جدّه الأكبر لقي علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، فأعياه [في] المخاطبة معه، فدعا عليه بالعمى له ولولده، فكلّ من عمي من ولد جدّ أبي العيناء فهو صحيح النسب فيهم، هكذا قاله أبو سعد الطلحي [2] وخرج من البصرة وهو بصير، وقدم سرّ من رأى، فاعتلت عيناه، فعمي [وسكن بغداد مدة] [3] وعاد إلى البصرة ومات بها. انتهى ما أورده ابن خلّكان مخلصا [4] .
__________
[1] البيتان في «وفيات الأعيان» (4/ 345) ، و «نكت الهيمان» ص (265) ، و «الوافي بالوفيات» (4/ 341) .
[2] في المطبوع: «أبو سعد الطلمي» ، وفي «وفيات الأعيان» : «أبو سعيد الطلحي» .
[3] زيادة من «وفيات الأعيان» .
[4] قلت: وفيها مات الإمام المؤرّخ المهندس أبو حنيفة أحمد بن داود بن ونند الدّينوري، أحد نوابغ الدهر، وصاحب «الأخبار الطوال» وغير ذلك من المصنفات النافعة. وقد استوفيت التعريف به في مقدمتي لهذا الكتاب (1/ 28- 29) وانظر «الأعلام» للزركلي (1/ 123) .(3/340)
سنة ثلاث وثمانين ومائتين
فيها ظفر المعتضد بهارون الشّاري، رأس الخوارج بالجزيرة، وأدخل راكبا فيلا، وزيّنت بغداد [1] .
وفيها أمر المعتضد في سائر البلاد بتوريث ذوي الأرحام، وإبطال دواوين المواريث في ذلك، وكثر الدعاء له، وكان قبل ذلك قد أبطل النيروز، وقيد النيران، وأمات سنّة المجوس.
وفيها التقى عمرو بن اللّيث الصّفّار، ورافع بن هرثمة، فانهزمت جيوش رافع وهرب، وساق [2] الصّفّار وراءه، فأدركه بخوارزم فقتله، وكان المعتضد قد عزل رافعا عن خراسان، واستعمل عليها عمرو بن اللّيث في سنة تسع وسبعين، فبقي رافع بالرّيّ، وهادن الملوك المجاورين له، ودعا إلى العلوي.
وفيها وصلت تقادم [3] عمرو بن اللّيث إلى المعتضد، من جملتها مائتا حمل مال.
__________
[1] انظر تفاصيل الخبر في «تاريخ الطبري» (10/ 43- 44) ، و «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (7/ 476- 477) .
[2] قال ابن منظور: السّاقة جمع سائق، وهم الذين يسوقون جيش الغزاة، ويكونون من ورائه يحفظونه. «لسان العرب» (سوق) .
[3] أي وصلت تحف. انظر «دول الإسلام» للذهبي (1/ 171) .(3/341)
وفيها توفي القدوة العارف أبو محمد سهل بن عبد الله التّستريّ الزّاهد في المحرم عن نحو من ثمانين سنة، وله مواعظ، وأحوال، وكرامات، وكان من أكبر مشايخ القوم.
ومن كلامه- وقد رأى أصحاب الحديث فقال-: اجهدوا أن لا تلقوا الله ومعكم المحابر.
وقيل له: إلى متى يكتب الرجل الحديث؟ قال: حتّى يموت ويصبّ باقي حبره في قبره.
وقال: من أراد الدّنيا والآخرة فليكتب الحديث، فإن فيه منفعة الدّنيا والآخرة.
وقال السّلميّ في «الطبقات» [1] : هو سهل بن عبد الله بن يونس بن عيسى بن عبد الله بن رفيع وكنيته أبو محمد، أحد أئمة القوم وعلمائهم، والمتكلمين في علوم الإخلاص والرياضات وعيوب الأفعال.
صحب خاله محمد بن سوّار، وشاهد ذا النّون المصريّ سنة خروجه إلى الحج. وأسند الحديث.
وأسند عنه قال: الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا [2] ، وإذا انتبهوا ندموا، وإذا ندموا لم تنفعهم الندامة [3] .
وقال: شكر العلم العمل، وشكر العمل زيادة العلم.
وقال: ما من قلب ولا نفس إلا والله مطّلع عليه في ساعات الليل والنهار، فأيّما [4] قلب أو نفس رأى فيه حاجة إلى سواه سلّط عليه إبليس.
__________
[1] ص (206- 211) .
[2] قوله: «فإذا ماتوا انتبهوا» لم يرد في «طبقات الصوفية» المطبوع.
[3] في «طبقات الصوفية» : «لم تنفعهم ندامتهم» .
[4] في الأصل، والمطبوع: «فأي» وأثبت لفظ «طبقات الصوفية» ص (208) .(3/342)
وقال: الذي يلزم الصوفي ثلاثة أشياء: حفظ سرّه، وأداء فرضه، وصيانة فقره.
وقال: من أراد أن يسلم من الغيبة فليسدّ على نفسه باب الظّنون، فمن سلم من الظّن سلم من التجّسس، ومن سلم من التجسّس سلم من الغيبة، ومن سلم من الغيبة سلم من الزّور، ومن سلم من الزّور سلم من البهتان.
وقال ذروا التدبير والاختيار فإنّهما يكدّران على الناس عيشهم.
وقال: الفتن ثلاثة: فتنة العامّة من إضاعة العلم، وفتنة الخاصّة من الرّخص والتأويلات، وفتنة أهل المعرفة أن يلزمهم حقّ في وقت فيؤخّروه إلى وقت ثان [1] .
وقال: أصولنا ستة [أشياء] [2] : التمسك بكتاب الله تعالى، والاقتداء بسنّة رسوله [3] صلى الله عليه وسلم، وأكل الحلال، وكفّ الأذى، واجتناب الآثام، وأداء الحقوق.
وقال: لا معين إلّا الله، ولا دليل إلّا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا زاد إلا التّقوى، ولا عمل إلا الصّبر [4] .
وقال: الأعمال بالتوفيق، والتوفيق من الله، ومفتاحه الدعاء والتضرّع.
وطريقة سهل تشبه طريق الملامية [5] ، وله كرامات كثيرة، وكان يعتقد مذهب مالك، رضي الله عنهما. انتهى ملخصا.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «فيؤخّرونه إلى وقت الثاني» وأثبت ما جاء في «طبقات الصوفية» ص (210) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «ستة» وفي «طبقات الصوفية» سبعة، ولفظة «أشياء» زيادة منه.
[3] في الأصل، والمطبوع: «والاقتداء بسنّة رسول الله» وأثبت ما في «طبقات الصوفية» .
[4] في الأصل، والمطبوع: «ولا عمل إلا الصبر عليه» وأثبت لفظ «طبقات الصوفية» وهو الصواب.
[5] تحرفت في الأصل والمطبوع إلى «الملامتية» ، والتصحيح من «شرح العقيدة الطحاوية» لابن أبي الغرض (575) طبع المكتب الإسلامي، وفيه قال: الملامية: هم الذين يفعلون ما يلامون عليه، ويقولون: نحن متبعون في الباطن.(3/343)
وقال في «الحلية» [1] : عامّة كلامه في تصفية الأعمال [وتنقية الأحوال] [2] من المعايب والإعلال.
وأسند عنه فيها أنه قال: من كان اقتداؤه بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم، لم يكن في قلبه اختيار لشيء من الأشياء [ولا يجول قلبه] [3] سوى ما أحبّ الله ورسوله.
وقال: الدّنيا كلها جهل [4] إلّا العلم منها [5] والعلم كله وبال إلّا العمل به، والعمل كله هباء منثور [6] إلّا الإخلاص فيه، والإخلاص [فيه] [7] أنت منه على وجل حتّى تعلم هل قبل أم لا. انتهى ملخصا أيضا.
وقال الشيخ الأكبر محيي الدّين محمد بن عربي الحاتمي الطائي، رضي الله عنه، في كتاب «بلغة الغوّاص» ما معناه، إن لم يكن لفظه، قال إمامنا وعالمنا سهل بن عبد الله التّستريّ: رأيت إبليس فعرفته وعرف أنّي عرفته، فجرى بيننا كلام ومذاكرة، وكان [8] [من آخره] [9] أن قلت له: لم لم تسجد لآدم؟ فقال: غيرة منّي عليه أن أسجد لغيره، فقلت: هذا لا يكفيك بعد أن أمرك، وأيضا فآدم قبلة والسجود له تعالى، ثم قلت له: وهل تطمع بعد هذا في المغفرة، فقال: كيف لا أطمع وقد قال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ 7: 156 قال: فوقفت كالمتحيّر، ثم تذكرت ما بعدها، فقلت:
إنها مقيّدة بقيود. قال: وما هي؟ قلت: قوله تعالى بعدها: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ 7: 156
__________
[1] (10/ 190) .
[2] ما بين حاصرتين سقط من الأصل، والمطبوع، وأثبته من «حلية الأولياء» .
[3] زيادة من «حلية الأولياء» .
[4] في المطبوع: «جبل» وهو خطأ.
[5] في «حلية الأولياء» (10/ 194) : «فيها» .
[6] في الأصل: «منثورا» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[7] سقطت من الأصل، والمطبوع، واستدركتها من «حلية الأولياء» .
[8] في المطبوع: «كان» .
[9] ما بين حاصرتين لم يرد في الأصل وأثبته من المطبوع.(3/344)
الآية [الأعراف: 156] قال: فضحك وقال: والله ما ظننت أن الجهل يبلغ بك هذا المبلغ، أما علمت أن القيد بالنسبة إليك لا بالنسبة إليه؟
فقال: فو الله لقد أفحمني، وعلمت أنه طامع في مطمع [1] . انتهى، فتأمل.
وفيها أبو محمد عبد الرّحمن بن يوسف بن خراش المروزيّ ثم البغداديّ الحافظ، صاحب «الجرح والتعديل» أخذ عن أبي حفص الفلّاس وطبقته.
قال أبو نعيم بن عدي: ما رأيت أحفظ منه.
وقال بكر بن محمد الصيرفي: سمعته يقول: شربت بولي في طلب هذا الشأن خمس مرات.
وقال الذهبيّ في «المغني» [2] : قال عبدان: كان يوصل المراسيل [3] .
وقال ابن ناصر الدّين في «بديعة البيان» [4] :
لابن خراش الحالة الرّذيله ... ذا رافضيّ جرحه فضيله
وقال في «شرحها» : هو عبد الرّحمن بن يوسف بن سعيد بن خراش، أبو محمد، كان حافظا بارعا من الرّحالين، لكن لم ينفعه ما وعى، هو رافضي، شيخ شين، صنّف كتابا في مثالب الشيخين.
قال الذهبي [5] : هذا والله الشيخ المعثّر [6] الذي ضلّ سعيه. انتهى ما أورده ابن ناصر الدّين ملخصا.
__________
[1] أقول: لا مطمع للشيطان في رحمة الله بعد أن طرده الله من رحمته، ولعنه إلى يوم الدين، والله تعالى كتب الرحمة للذين يتقون في الآخرة، وإبليس ليس من المتقين، بل من الملعونين. (ع) .
[2] «المغني في الضعفاء» (2/ 390) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «المرسل» وأثبت ما في «المغني في الضعفاء» .
[4] في الأصل: «بدعية البيان» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[5] في «ميزان الاعتدال» (2/ 600) .
[6] في المطبوع: «المغتر» .(3/345)
وفيها توفي قاضي القضاة، أبو الحسن، علي بن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب [1] الأمويّ البصريّ، كان رئيسا، معظّما، ديّنا، خيّرا، روى عن أبي الوليد الطّيالسي وجماعة. قاله في «العبر» [2] .
وفيها محمد بن سليمان بن الحارث، أبو بكر، الباغنديّ، محدّث واسطي، نزل بغداد، وحدّث عن الأنصاري، وعبيد الله بن موسى، وكان صدوقا، وهو والد الحافظ محمد بن محمد.
وفيها تمتام الحافظ، أبو جعفر، محمد بن غالب بن حرب الضّبيّ البصريّ، في رمضان ببغداد. روى عن أبي نعيم، وعفّان وطبقتهما، وصنّف وجمع، وهو ثقة.
وفيها عبد الله بن محمد بن مالك بن هانئ، أبو محمد [3] النيسابوريّ، لقبه عبدوس، كان من الأعيان.
قال ابن ناصر الدّين في «بديعة البيان» :
ثمّ الرّضي تمتام الضّبيّ ... محمد بن غالب البصريّ
كذا فتى محمد عبدوس ... كلّ جميل فاضل رئيس
__________
[1] في الأصل: «الشواب» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع.
[2] (2/ 77) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «أبو أحمد» والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» للذهبي (14/ 11) تحقيق الأستاذ أكرم البوشي بإشراف الأستاذ الشيخ شعيب الأرناؤوط، و «تذكرة الحفّاظ» (2/ 675) ، و «طبقات الحفّاظ» ص (294) .(3/346)
سنة أربع وثمانين ومائتين
فيها كما قال في «الشذور» ظهرت ظلمة بمصر وحمرة في السماء شديدة، حتّى كان الرجل ينظر إلى وجه الأرض فيراه أحمر، وكذلك الحيطان وغيرها، [ومكثوا كذلك] [1] من العصر إلى العشاء، فخرج الناس يدعون الله تعالى ويستغيثون إليه، ووعد الناس المنجمون بالغرق، فغارت المياه واحتاجوا إلى الاستسقاء. انتهى.
وفيها كما قاله في «العبر» [2] قال محمد بن جرير [3] : عزم المعتضد على لعنة [4] معاوية على المنابر، فخوّفه الوزير [عبيد الله بن سليمان] [5] من اضطراب العامّة، فلم يلتفت إليه [6] وتقدّم إلى العامّة بلزوم أشغالهم وترك الاجتماع، ومنع القصّاص من الكلام، ومن اجتماع الخلق في الجوامع، وكتب كتابا في ذلك، واجتمع له الناس يوم الجمعة بناء على أن الخطيب يقرؤه، فما قرئ، وكان من إنشاء الوزير عبيد الله، وهو طويل، فيه مصائب
__________
[1] زيادة من «تاريخ الطبري» (10/ 53) .
[2] (2/ 78) .
[3] انظر «تاريخ الطبري» (10/ 54) .
[4] في «تاريخ الطبري» : «لعن» .
[5] ما بين حاصرتين زيادة من «تاريخ الطبري» و «العبر» للذهبي.
[6] قوله: «فلم يلتفت إليه» لم يرد في «العبر» المطبوع في الكويت، واستدرك في المطبوع منه في بيروت مع تصرّف في النص.(3/347)
ومعايب، فقال القاضي يوسف بن يعقوب: يا أمير المؤمنين أخاف الفتنة عند سماعه، فقال: إن تحرّكت العامّة وضعت فيهم السيف، قال: فما تصنع بالعلوية الذين هم في كل ناحية قد خرجوا عليك، وإذا سمع الناس هذا من فضائل أهل البيت مالوا إليهم، وصاروا أبسط ألسنة، فأمسك المعتضد.
انتهى.
وفيها توفي محدّث نيسابور ومفيدها، أبو عمرو، أحمد بن المبارك المستمليّ الحافظ. سمع قتيبة وطبقته، وكان مع سعة روايته راهب عصره، ومجاب الدّعوة.
وفيها أبو يعقوب إسحاق بن الحسن الحربي [1] سمع أبا نعيم، والقعنبي، وكان ثقة صاحب حديث.
وفيها أبو عبادة الوليد بن عبيد الطّائيّ المنبجيّ البحتريّ، أمير شعراء العصر، وحامل لواء القريض، أخذ عن أبي تمّام الطائي.
قال المبرّد: أنشدنا شاعر دهره ونسيج وحده، أبو عبادة البحتري.
قال ابن الأهدل: نسبة إلى بحتر جد من أجداده، واسمه الوليد بن عبيد، أخذ عن أبي تمّام [الطائي ومدح المتوكل ومن بعده، وكان أقام ببغداد دهرا ثم رجع إلى الشام، وعرض أول شعره على أبي تمّام] [2] وهو بحمص، فقال له: أنت أشعر من أنشدني، وكتب له بذلك فعظّم وبجّل.
وروي عنه قال: لما سمع أبو تمّام شعري، أقبل على تقريظي، والتقريض بالظاء والضاد: مدح الإنسان في حياته بحق أو باطل.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «إسحاق بن الحر الحربي» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (2/ 79) ، وانظر «تهذيب الكمال» للمزّي (2/ 742) ترجمة عبد الله بن مسلمة بن قعنب.
[2] ما بين حاصرتين سقط من الأصل وأثبته من المطبوع.(3/348)
وعنه قال: لما أنشدت أبا تمّام، أنشد بيت أوس بن حجر، بفتح الحاء والجيم:
إذا مقرم منّا ذرا حدّ نابه ... تخمّط فينا ناب آخر مقرم [1]
وقال: نعيت إليّ نفسي، فقلت: أعيذك بالله، فقال: إن عمري ليس بطويل، وقد نشأ لطيء مثلك، فمات أبو تمّام بعد هذا بسنة.
وقال لغلامه مرّة وهو مريض: اصنع لي مزوّرة وعنده بعض الرؤساء جاء عائدا له، فقال ذلك الرئيس: عندي طبّاخ من صفته كذا وذا، ونسي الرئيس أمرها، فكتب إليه البحتري:
وجدت وعدك زورا في مزوّرة ... حلفت مجتهدا إحكام طاهيها
فلا شفى الله من يرجو الشّفاء بها ... ولا علت كفّ ملق كفّه فيها
فاحبس رسولك عنّي أن يجيء بها ... فقد حبست رسولي عن تقاضيها [2]
وله بيتان في هجو رجل اسمه شهاب: وفي فهم معناهما عسر، وهما:
وهما:
قد كنت أعهد أنّ الشّهب ثاقبة ... فقد رأينا شهابا وهو مثقوب
في كفّه الدّهر أم في ظهره قلم ... فنصفه كاتب والنّصف مكتوب [3]
وأخباره كثيرة، وكان شعره غير مرتب، فرتبه أبو بكر الصّولي على
__________
[1] حصل بعض التحريف بألفاظ البيت في الأصل، وأثبت لفظ المطبوع، والبيت في «لسان العرب» لابن منظور (قرم) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «فقد حبست رسولا» والتصحيح من «غربال الزمان» للعامري ص (255) .
[3] لم أجدهما في «ديوانه» ولا في المصادر الموجودة بين يدي.(3/349)
الحروف، ثم جمعه علي بن حمزة الأصبهاني على الأنواع، مثل «حماسة» أبي تمّام.
وسئل أبو العلاء المعرّي عنه، وعن أبي تمّام، والمتنبي، فقال: هما حكيمان، والشاعر البحتري. انتهى.
وقال ابن خلّكان [1] : قال البحتريّ: أنشدت أبا تمّام شعرا لي في بعض بني حميد، وصرت به إلى مال له خطر، فقال لي: أحسنت، أنت أمير الشعراء من بعدي [2] ، فكان قوله هذا أحبّ إليّ من جميع ما حويته.
وقال ميمون بن هارون [3] : رأيت أبا جعفر أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البلاذري المؤرّخ، وحاله متماسكة، فسألته، فقال: كنت من جلساء المستعين، فقصده الشعراء، فقال: لست أقبل إلّا من قال مثل قول البحتري في المتوكل:
فلو أنّ مشتاقا تكلّف فوق ما [4] ... في وسعه لمشى إليك المنبر [5]
فرحت إلى داري [6] وأتيته، وقلت: قد قلت فيك أحسن مما قاله البحتريّ، فقال: هاته، فأنشدته:
ولو أنّ برد المصطفى إذ لبسته ... يظن لظن البرد أنك صاحبه
وقال وقد أعطيته وكسيته ... نعم هذه أعطافه ومناكبه
__________
[1] في «وفيات الأعيان» (6/ 24) .
[2] في «وفيات الأعيان» : «أنت أمير الشعراء بعدي» .
[3] في الأصل، والمطبوع: «ميمون بن مهران» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» ، وانظر «الأعلام» (7/ 342) .
[4] في «ديوانه» : «غير ما» .
[5] البيت في «ديوان البحتري» (2/ 1073) بتحقيق الأستاذ حسن كامل الصيرفي، طبع دار المعارف بمصر.
[6] في «وفيات الأعيان» : «فرجعت إلى داري» .(3/350)
فقال: ارجع إلى منزلك وافعل ما آمرك به، فرجعت، فبعث لي سبعة آلاف دينار، وقال: ادّخر هذه للحوادث من بعدي، ولك عليّ الجراية والكفاية ما دمت حيّا.
ومن أخبار البحتري أنه كان له غلام اسمه نسيم، فباعه، فاشتراه أبو الفضل الحسن بن وهب الكاتب، ثمّ إن البحتريّ ندم على بيعه وتتبعته نفسه، فكان يعمل فيه الشعر، ويذكر فيه أنه خدع، وأن بيعه له لم يكن عن مراده، فمن ذلك قوله:
أنسيم هل للدّهر وعد صادق ... فيما يؤمّله المحبّ الوامق
ما لي فقدتك في المنام ولم تزل ... عون المشوق إذا جفاه الشّائق
اليوم جاز بي الهوى مقداره ... في أهله وعلمت أني عاشق
فليهنأ الحسن بن وهب انه ... يلقى أحبّته ونحن نفارق [1]
وكان البحتريّ كثيرا ما ينشد لبعض الشعراء، ويعجبه قوله:
حمام الأراك ألا فأخبرينا ... لمن تندبين ومن تعولينا
فقد شقت بالنّوح منّا القلوب ... وأبكيت بالنّدب منّا العيونا
تعالى نقم مأتما للهموم ... ونعول إخواننا الظّاعنينا
ونسعدكنّ وتسعدننا ... فإنّ الحزين يوافي الحزينا
[2] وأخباره ومحاسنه كثيرة، فلا حاجة إلى الإطالة.
وكانت ولادته سنة ست، أو سبع، وقيل: خمس، وقيل: اثنتين، وقيل: إحدى ومائتين، والأول أصحّ، وتوفي سنة أربع، وقيل خمس، وقيل ثلاث وثمانين ومائتين، والأول أصح. انتهى ما ذكره ابن خلّكان ملخصا.
وفيها، والصحيح أنه في التي قبلها كما جزم به ابن الأهدل، وقدّمه
__________
[1] الأبيات في «ديوانه» ص (1513) طبع دار المعارف بمصر.
[2] الأبيات في «وفيات الأعيان» (6/ 27) .(3/351)
ابن خلّكان [1] ، فقال: توفي يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين، وقيل: ست وسبعين ومائتين، أبو الحسن علي بن العبّاس بن جريج، وقيل ابن جورجيس [2] المعروف بابن الرّومي، مولى عبد الله بن عيسى بن جعفر المنصور، صاحب النظم العجيب، والتوليد الغريب، يغوص على المعاني النادرة فيستخرجها من مكامنها ويبرزها في أحسن صورة، ولا يترك المعنى حتّى يستوفيه إلى آخره ولا يبقى فيه بقية، وكان شعره غير مرتّب، ثم رتبه أبو بكر الصولي على الحروف.
وله القصائد المطوّلة والمقاطيع البديعة، وله في الهجاء كل شيء ظريف، وكذلك في المديح، فمن ذلك قوله:
المنعمون وما منّوا على أحد ... يوم العطاء ولو منّوا لما مانوا [3]
كم ضنّ بالمال أقوام وعندهم ... وفر وأعطى العطايا وهو يدّان [4]
وله وقال: ما سبقني أحد إلى هذا المعنى:
آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم ... في الحادثات إذا دجون نجوم
منها معالم للهدى ومصابح ... تجلو الدّجى والأخريات رجوم [5]
ومن معانيه البديعة قوله:
__________
[1] في «وفيات الأعيان» (3/ 361) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «وقيل ابن جرجيس» ، وما أثبته من «معجم الشعراء» للمرزباني ص (145) ، و «وفيات الأعيان» (3/ 358) ، و «الأعلام» (4/ 297) .
[3] البيت في «ديوانه» ص (2427) بتحقيق الدكتور حسين نصّار، طبع مطبعة دار الكتب وروايته فيه:
المنعمين وما منّوا على أحد ... يوما بنعمى ولو منّوا لما مانوا
[4] البيت في «ديوانه» ص (2431) وروايته فيه:
كم ضنّ بالفرض أقوام وعندهم ... وفر وأعطى العطايا وهو يدان
[5] البيتان في «ديوانه» ص (2345) .(3/352)
وإذا امرؤ مدح امرأ لنواله ... وأطال فيه فقد أراد هجاءه
لو لم يقدّر فيه بعد المستقى ... عند الورود لما أطال رشاءه [1]
وقال في بغداد وقد غاب عنها في بعض أسفاره:
بلد صحبت بها الشّبيبة والصّبا ... ولبست ثوب العزّ وهو جديد
وإذا تمثّل في الضّمير رأيته ... وعليه أغصان الشباب تميد [2]
وكان سبب موته، رحمه الله، أن الوزير أبا الحسين القاسم بن عبيد الله وزير المعتضد [3] ، كان يخاف من هجوه وفلتات لسانه [بالفحش] [4] فدسّ عليه مأكلا مسموما [وهو] [4] في مجلسه، فلما أحسّ بالسّمّ قام، فقال له الوزير: أين تذهب؟ قال: إلى الموضع الذي بعثتني إليه، فقال: سلّم على والديّ، فقال: ما طريقي على النار، وخرج إلى منزله، فأقام أياما ومات.
وكان الطبيب يتردد إليه ويعالجه بالأدوية النافعة للسّمّ، فزعم أنه غلط في بعض العقاقير.
قال نفطويه: رأيت ابن الرّومي يجود بنفسه، فقلت: ما حالك، فأنشد:
غلط الطّبيب عليّ غلطة مورد ... عجزت موارده [5] عن الإصدار
__________
[1] لم أجدهما في «ديوانه» بتحقيق الدكتور حسين نصّار، ولكن عزاهما الدكتور إحسان عبّاس في تعليقه على «وفيات الأعيان» (3/ 359) إلى «ديوانه» ص (97) طبع دار إحياء التراث العربي ببيروت.
[2] البيتان في «ديوانه» ص (766) وروايتهما فيه:
بلد صحبت به الشبيبة والصبا ... ولبست فيه العيش وهو جديد
فإذا تمثل في الضمير رأيته ... وعليه أفنان الشباب تميد
[3] في الأصل، والمطبوع: «أن الوزير أبا الحسن بن عبد الله وزير المعتضد» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» (3/ 361) ، و «إعتاب الكتاب» لابن الأبار، ص (185) تحقيق الدكتور صالح الأشتر، طبع مجمع اللغة العربية بدمشق.
[4] زيادة من «وفيات الأعيان» .
[5] في «ديوانه» : «محالته» .(3/353)
والنّاس يلحون الطّبيب وإنّما ... غلط الطّبيب إصابة المقدار [1]
وقال أبو عثمان النّاجم [2] الشاعر: دخلت على ابن الرّومي أعوده، فوجدته يجود بنفسه، فلما قمت من عنده قال لي منشدا:
أبا عثمان أنت حميد قومك [3] ... وجودك في العشيرة دون لومك [4]
تزوّد [5] من أخيك فما أراه [6] ... يراك ولا تراه بعد يومك [7]
وبالجملة فمحاسنه كثيرة، وله في الطيرة أشياء معروفة، فلا نطيل بذلك والله أعلم.
__________
[1] البيتان في «ديوانه» ص (1111) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «الناجمة» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» ، و «الأعلام» للزركلي (3/ 84) .
[3] كذا في الأصل، والمطبوع، و «وفيات الأعيان» : «أنت حميد قومك» ، وفي «ديوانه» : «أنت عميد قومك» .
[4] في الأصل، والمطبوع: «دون نومك» والتصحيح من «وفيات الأعيان» ، ومن «ديوانه» .
[5] في «ديوانه» : «تمتع» .
[6] في الأصل، والمطبوع: «فما تراه» ، وما أثبته من «الوفيات الأعيان» ، ومن «ديوانه» .
[7] البيتان في «ديوانه» ص (1889) .(3/354)
سنة خمس وثمانين ومائتين
فيها على ما قال في «الشذور» ارتفعت ريح صفراء بنواحي الكوفة، ثمّ استحالت سوداء، وارتفعت ريح بالبصرة كذلك، ومطر وبرد في الواحدة مائة وخمسون درهما. انتهى.
وفيها وثب صالح بن مدرك الطائي في طيء، فانتهبوا الرّكب العراقي، وبدعوا، وسبوا النسوان، وذهب للناس ما قيمته ألف ألف دينار.
قاله في «العبر» [1] .
وفيها توفي الإمام الحبر إبراهيم بن إسحاق بن بشير أبو إسحاق الحربيّ الحافظ، أحد أركان الدّين، والأئمة الأعلام، ببغداد، في ذي الحجة، وله سبع وثمانون سنة. سمع أبا نعيم، وعفّان، وطبقتهما. وتفقّه على الإمام أحمد، وبرع في العلم والعمل، وصنّف التصانيف الكثيرة، وكان يشبّه بأحمد بن حنبل في وقته.
قال المرداويّ [2] في «الإنصاف» : كان إماما في جميع العلوم، متقنا،
__________
[1] (2/ 80) .
[2] هو علي بن سليمان بن أحمد المرداوي ثم الدمشقي، فقيه حنبلي، من العلماء، ولد في «مردا» قرب نابلس، وانتقل في كبره إلى دمشق فتوفي فيها سنة (885) هـ. من كتبه «الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف» وهو الذي نقل المؤلف عنه. انظر ترجمته ومصادرها في «الأعلام» للزركلي (4/ 292) .(3/355)
مصنّفا، محتسبا عابدا، زاهدا، نقل عن الإمام أحمد مسائل كثيرة جدا حسانا جيادا. انتهى.
وفيها إسحاق بن إبراهيم الدّبريّ [1] المحدّث، راوية عبد الرزاق، بصنعاء، عن سنّ عالية، اعتنى به أبوه، وأسمعه الكتب من عبد الرزاق في سنة عشر ومائتين، وكان صدوقا.
وفيها أبو العبّاس المبرّد، محمد بن يزيد الأزديّ البصريّ، إمام أهل النحو في زمانه، وصاحب المصنفات. أخذ عن أبي عثمان المازني، وأبي حاتم السجستاني، وتصدّر للاشتغال ببغداد، وكان وسيما، مليح الصورة، فصيحا، مفوّها، أخباريّا، علّامة، ثقة. توفي في آخر السنة. قاله في «العبر» [2] .
قال ابن خلّكان [3] : كان إماما في النحو واللغة، وله التآليف النافعة في الأدب، منها كتاب «الكامل» [4] ، ومنها «الروضة» و «المقتضب» وغير ذلك.
أخذ الأدب عن أبي عثمان المازني، وأبي حاتم السجستاني، وأخذ عنه نفطويه وغيره من الأئمة، وكان المبرّد المذكور، وأبو العبّاس أحمد بن يحيى الملقب بثعلب، صاحب كتاب «الفصيح» عالمين متعاصرين، قد ختم بهما تاريخ الأدباء، وفيهما يقول بعض أهل عصرهما من جملة أبيات، وهو أبو بكر بن [أبي] [5] الأزهر:
__________
[1] نسبة إلى «الدبر» وهي قرية من قرى صنعاء اليمن. انظر «الأنساب» للسمعاني (5/ 271) .
[2] (2/ 80- 81) .
[3] في «وفيات الأعيان» (4/ 314) .
[4] وقد طبع عدة مرات، أجودها التي صدرت حديثا عن مؤسسة الرسالة في بيروت بتحقيق الأستاذ محمد أحمد الدالي.
[5] سقطت من الأصل، والمطبوع، واستدركتها في «وفيات الأعيان» ، وهو محمد بن أحمد بن مزيد بن محمود، أبو بكر الخزاعي البوشنجي، المتوفى سنة (325) هـ. انظر ترجمته ومصادرها في «الأعلام» (5/ 309) .(3/356)
أيا طالب العلم لا تجهلن ... وعذ بالمبرّد أو ثعلب
تجد عند هذين علم الورى ... فلا تك كالجمل الأجرب
علوم الخلائق مقرونة ... بهذين في الشرق والمغرب [1]
وكان المبرّد يحبّ الاجتماع في المناظرة بثعلب والاستكثار منه، وثعلب يكره ذلك ويمتنع منه.
حكى جعفر بن أحمد بن حمدان الفقيه الموصلي، وكان صديقهما، قال: قلت لأبي عبد الله الدّينوري، ختن ثعلب: لم يأبى ثعلب الاجتماع بالمبرّد؟ فقال: لأن المبرّد حسن العبارة، حلو الإشارة، فصيح اللسان، ظاهر البيان، وثعلب مذهبه مذهب المعلمين، فإذا اجتمعا في محفل، حكم للمبرّد على الظاهر إلى أن يعرف الباطن. انتهى ملخصا.
__________
[1] الأبيات في «وفيات الأعيان» (4/ 314) .(3/357)
سنة ست وثمانين ومائتين
فيها التقى إسماعيل بن أحمد بن أسد الأمير، وعمرو بن اللّيث الصّفّار بما وراء النهر، فانهزم أصحاب عمرو، وكانوا قد ضجروا منه، ومن ظلم خواصه [1] ولا سيما أهل بلخ، فإنهم نالهم بلاء شديد من الجند، فانهزم عمرو إلى بلخ، فوجدها مغلوقة، ففتحوا له، ولجماعة يسيرة، ثم وثبوا عليه، فقيّدوه [2] وحملوه إلى إسماعيل أمير ما وراء النهر. فلما أدخل إليه، قام له واعتنقه وتأدّب معه [3] فإنه كان في أمراء عمرو غير واحد مثل إسماعيل وأكبر، وبلغ ذلك المعتضد، ففرح وخلع على إسماعيل خلع السلطنة وقلّده خراسان، وما وراء النهر، وغير ذلك، وأرسل إليه يلحّ عليه في إرسال عمرو بن اللّيث، فدافع، فلم ينفع، فبعثه وأدخل بغداد على جمل، بعد أن كان يركب في مائة ألف، وسجن ثم خنق وقت موت المعتضد.
وفيها ظهر بالبحرين، أبو سعيد الجنّابيّ القرمطيّ، وقويت شوكته، وانضم إليه جمع من الأعراب، فعاث، وأفسد، وقصد البصرة، فحصّنها المعتضد، وكان أبو سعيد كيّالا بالبصرة، وجنّابة من قرى الأهواز [4] .
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «ومن ظلم خراجه» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (2/ 81) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «وقيدوه» وأثبت ما في «العبر» للذهبي مصدر المؤلف.
[3] لفظة «معه» لم ترد في المطبوع و «العبر» للذهبي.
[4] انظر خبرها في «معجم البلدان» لياقوت (2/ 165- 166) .(3/358)
قال الصوليّ: كان أبو سعيد فقيرا يرفو غربال الدقيق [1] فخرج إلى البحرين، وانضم إليه طائفة من بقايا الزّنج واللصوص، حتّى تفاقم أمره، وهزم جيوش الخليفة مرّات.
وقال غيره: ذبح أبو سعيد الجنّابي في حمام بقصره، وخلفه ابنه أبو طاهر الجنّابي القرمطي، الذي أخذ الحجر الأسود.
وفيها توفي أحمد بن سلمة النيسابوريّ الحافظ، أبو الفضل، رفيق مسلم في الرحلة إلى قتيبة.
قال ابن ناصر الدّين: أحمد بن سلمة البزّار، أبو الفضل، النيسابوري، كان حافظا من المهرة، له صحيح ك «صحيح مسلم» . انتهى.
وفيها الزّاهد الكبير، أحمد بن عيسى أبو سعيد الخرّاز، شيخ الصوفية، وهو أوّل من تكلم في علم الفناء والبقاء.
قال الجنيد: لو طالبنا الله بحقيقة ما عليه أبو سعيد الخرّاز لهلكنا.
وعن أبي سعيد قال: رأيت إبليس في المنام وهو [يمرّ] [2] عنّي ناحية.
فناديته، فقال: أيّ شيء أعمل بكم، وأنتم طرحتم ما أخادع الناس به، غير أنّ لي فيكم لطيفة وهي صحبة الأحداث.
وقال السّلميّ في «التاريخ» [3] : أبو سعيد إمام القوم في كل فن من علومهم، بغدادي الأصل، له في مبادئ أمره عجائب وكرامات مشهورة، ظهرت بركته عليه وعلى من صحبه، وهو أحسن القوم كلاما ما خلا الجنيد،
__________
[1] في «العبر» : «يرفو أعدال الدقيق» .
[2] سقطت من الأصل، والمطبوع، واستدركتها من «طبقات الصوفية» للسلمي ص (232) ، و «غربال الزمان» للعامري ص (256) .
[3] يعني كتابه «تاريخ الصوفية» وهو مما ألّفه السّلميّ قبل تأليفه لكتابه الشهير «طبقات الصوفية» كما ذكر الأستاذ نور الدين شريبة في مقدمته لكتابه «الطبقات» ص (34) .(3/359)
فإنه الإمام، ومن كلامه: كل باطن يخالفه ظاهر فهو باطل [1] .
وقال: الاشتغال بوقت ماض تضييع وقت ثان.
وقال السخاوي في «طبقاته» : قال أبو سعيد: إن الله، عزّ وجلّ، عجّل لأرواح أوليائه التلذّذ بذكره والوصول إلى قربه، وعجّل لأبدانهم النّعمة بما نالوه من مصالحهم، وأجزل لهم [2] نصيبهم من كلّ كائن، فعيش أبدانهم عيش الجنانيّين، وعيش أرواحهم عيش الرّبّانيّين. لهم لسانان: لسان في الباطن يعرّفهم صنع الصانع في المصنوع، ولسان في الظاهر يعلّمهم علم الخالق في المخلوق [3] .
وقال: مثل النّفس كمثل ماء واقف طاهر صاف، فإن حركته ظهر ما تحته من الحمأة، وكذلك النّفس تظهر [4] عند المحن والفاقة والمخالفة ما فيها [5] ، ومن لم يعرف ما في نفسه كيف يعرف ربّه؟!.
وقال في معنى حديث «جبلت القلوب على حبّ من أحسن إليها» [6] :
وا عجبا ممّن لا يرى محسنا إليه [7] غير الله، كيف لا يميل بكلّيته إليه.
قال ابن كثير: وهذا الحديث ليس بصحيح، لكن كلامه عليه من أحسن ما يكون. انتهى.
وفيها عبد الرّحيم بن عبد الله بن عبد الرّحيم بن البرقيّ [أبو سعيد] [8]
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «فهو باطن» والتصحيح من «طبقات الصوفية» ص (231) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «وأخذلهم» وما أثبته من «طبقات الصوفية» ص (229) .
[3] في «طبقات الصوفية» : «يعلمهم علم المخلوقين» .
[4] في الأصل، والمطبوع: «الظهر» وما أثبته من «طبقات الصوفية» ص (231) .
[5] لفظة «ما فيها» سقطت من «طبقات الصوفية» فتستدرك فيه.
[6] حديث باطل مرفوعا وموقوفا كما قال الحافظ السخاوي في «المقاصد الحسنة» وانظر تخريجه المطوّل له ص (171- 172) .
[7] لفظة «إليه» سقطت من «طبقات الصوفية» فتستدرك فيه.
[8] زيادة من «العبر» للذهبي (2/ 83) ، وانظر «سير أعلام النبلاء» (13/ 48) .(3/360)
مولى الزّهريين. روى السيرة عن ابن هشام، وكان ثقة وهو أخو [1] المحدّثين أحمد، ومحمد.
وفيها عليّ بن عبد العزيز، أبو الحسن، البغوي المحدّث، بمكة.
وقد جاوز التسعين. سمع أبا نعيم وطبقته، وهو عمّ البغوي عبد الله بن محمد، وكان فقيها مجاورا في الحرم، وشيخه، ثقة ثبتا.
وفيها، بل في التي قبلها، كما جزم به ابن ناصر الدّين حيث قال في منظومته:
كذا فتى سوادة السّلامي ... هلاكه رزيّة في العام
وقال في «شرحها» : هو عبد الله بن أحمد بن سوادة الهاشميّ مولاهم البغداديّ، أبو طالب. كان صدوقا من المكثرين. انتهى.
ثم قال في «المنظومة» :
وبعده ثلاثة فجازوا [2] ... ذا أحمد بن سلمة البزّار [3]
وتقدّم الكلام عليه [3] .
كذا الفتى محمّد بن سندي ... كالخشني القرطبي عدّ
وقال في «شرحها» : محمد بن محمد بن رجاء بن السّنديّ الإسفراييني، أبو بكر، وكان حافظا ثبتا تقوم به الحجّة والاحتجاج، وله مستخرج على «صحيح مسلم بن الحجّاج» .
والثاني هو: محمد بن عبد السّلام بن ثعلبة القرطبيّ، أبو الحسن، ثقة. انتهى.
__________
[1] في الأصل: «أحد» وهو خطأ، وأثبت ما جاء في المطبوع وهو موافق لما في «العبر» للذهبي.
[2] في الأصل: «فجاوزوا» .
[3] في الأصل والمطبوع: «البزّاز» وهو تصحيف. وانظر ترجمته في ص (359) .(3/361)
وفيها محمد بن وضّاح، الحافظ الإمام، أبو عبد الله، الأندلسيّ، محدّث قرطبة، وهو في عشر التسعين. رحل مرتين إلى المشرق، وسمع إسماعيل بن أبي [1] أويس، وسعيد بن منصور، والكبار، وكان فقيرا، زاهدا، قانتا لله، بصيرا بعلل الحديث.
وفيها الكديميّ، وهو أبو العبّاس محمد بن يونس القرشيّ السّاميّ [2] ، [البصريّ] [3] ، الحافظ، في جمادى الآخرة، وقد جاوز المائة بيسير. روى عن أبي داود الطيالسي، وزوج أمه، روح بن عبادة، وطبقتهما، وله مناكير ضعّف بها.
قال في «المغني» [4] : هالك.
قال ابن حبّان، وغيره: كان يضع الحديث على الثقات. انتهى.
وقال ابن ناصر الدّين: كان من الحفّاظ الأعلام، غير أنه أحد المتروكين. وثّقه إسماعيل الخطبي، وكأنه خفي عليه أمره. انتهى.
__________
[1] لفظة «أبي» سقطت من المطبوع.
[2] كذا هو في جميع المصادر التي بين يدي «السامي» بالسين المهملة، وفي «الأنساب» للسمعاني (10/ 367) : «الشامي» بالشين المعجمة، وحذفها ابن الأثير من ترجمته في «اللباب» (3/ 87) ، وعلّق الأستاذ فؤاد سيد على «العبر» للذهبي (2/ 84) بقوله: السامي:
بالسين المهملة. نسبة إلى لؤي بن غالب. وأحال على «اللباب» في كلامه عن «السامي» ولكن الأستاذ غفل عن كون المترجم لم يذكر فيمن ذكرهم ابن الأثير في كلامه عن نسبة «السامي» وفاته البحث عنه في نسبة «الكديمي» ولو فعل لوقف على حذف ابن الأثير لنسبة «السامي» من ترجمته في كتابه!.
[3] زيادة من «العبر» للذهبي (2/ 84) .
[4] (2/ 646) .(3/362)
سنة سبع وثمانين ومائتين
في المحرم قصدت طيء ركب العراق لتأخذه كعام أوّل بالمعدن، وكانوا في ثلاثة آلاف، وكان أمير الحاج أبو الأغر، فواقعهم يوما وليلة، والتحم القتال، وجدّلت الأبطال، ثم أيّد الله الوفد، وقتل رئيس طيء صالح بن مدرك، وجماعة من أشراف قومه، وأسر خلق، وانهزم الباقون. ثم دخل الركب بالأسرى والرؤوس على الرّماح.
وفيها سار العبّاس الغنويّ في عسكر [1] ، فالتقى أبا سعيد الجنّابي [2] فأسر العبّاس وانهزم عسكره، وقيل: بل أسر سائر العسكر، وضربت رقابهم، وأطلق العبّاس، فجاء وحده إلى المعتضد برسالة الجنّابي، أن كفّ عنّا واحفظ حرمتك.
قال ابن الجوزي في «الشذور» : ومن العجائب أن المعتضد بعث العبّاس بن عمر الغنويّ في عشرة آلاف إلى حرب القرامطة، فقبض عليهم القرامطة، فنجا العبّاس وحده، وقتل الباقون.
وفيها غزا المعتضد، وقصد طرسوس، وردّ إلى أنطاكية، وحلب.
وفيها سار الأمير بدر، فبيّت القرامطة، وقتل منهم مقتلة عظيمة.
__________
[1] في «العبر» للذهبي: «في عسكره» .
[2] قال ياقوت: جنّابة بلدة صغيرة من سواحل فارس، ووهّم من ذكر بأنها من البحرين. انظر «معجم البلدان» (2/ 165- 166) . وأبو سعيد الجنّابي، اسمه «الحسن بن بهرام» وانظر «شرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد» للسفاريني (1/ 230) طبع المكتب الإسلامي.(3/363)
وفيها توفي الإمام أبو بكر، أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النّبيل الشيبانيّ البصريّ الحافظ، قاضي أصبهان، وصاحب المصنفات، وهو في عشر التسعين، في ربيع الآخر. سمع من جدّه لأمه موسى بن إسماعيل، وأبي الوليد الطّيالسي، وطبقتهما. وكان إماما، فقيها، ظاهريّا، صالحا، ورعا، كبير القدر، صاحب مناقب.
قال السخاوي في «طبقاته» : أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النّبيل، ورد أصبهان، وسكنها، وولي القضاء بعد وفاة صالح بن أحمد بن حنبل، وكان من الصيانة والعفّة بمحل عجيب، رؤي في النوم بعد موته بقليل، فقيل له:
ما فعل الله بك؟ قال: يؤنسني ربي. قال الرائي: فشهقت شهقة وانتبهت.
وقال: ذهبت كتبي فأمليت من ظهر قلبي خمسين ألف حديث.
وقيل له: أيّها القاضي! بلغنا أن ثلاثة نفر كانوا بالبادية وهم يلقمون الرمل، فقال واحد من القوم: إنك قادر على أن تطعمنا خبيصا [1] على لون هذا الرمل، فإذا هم بأعرابي وبيده طبق، فسلّم عليهم، ووضع بين أيديهم طبقا عليه خبيص حارّ، فقال ابن أبي عاصم: قد كان ذاك، وكان الثلاثة، عثمان بن صخر الزّاهد أستاذ أبي تراب النّخشبيّ، وأبو تراب، وأحمد بن عمرو، أي صاحب الترجمة. وهو الذي دعا.
وقال أبو موسى المديني: جمع بين العلم، والفهم، والحفظ، والزّهد، والعبادة، والفقه، من أهل البصرة. قدم أصبهان، وصحب جماعة من النّسّاك، منهم: أبو تراب النّخشبيّ، وسافر معه، وقد عمّر، وكان فقيها ظاهريّ المذهب، وصنّف في الردّ على داود الظاهري، وكان بعد ما دخل في القضاء، إذا سئل عن مسألة الصوفية، يقول: القضاء والدنية والكلام في علم الصوفية محال.
__________
[1] قال ابن منظور: الخبيص الحلواء المخبوصة. «لسان العرب» (خبص) .(3/364)
وكان يقول: لا أحب أن يحضر مجلسي مبتدع، ولا مدّع، ولا طعّان، ولا لعّان، ولا فاحش، ولا بذيء، ولا منحرف عن الشافعي وأصحاب الحديث، رحمه الله تعالى.
وفيها زكريا بن يحيى السّجزيّ الحافظ، أبو عبد الرّحمن، خيّاط السّنّة، بدمشق، وقد نيّف على التسعين. روى عن شيبان بن فرّوخ وطبقته، وكان من علماء الأثر، ثقة، وقيل: توفي في سنة تسع وثمانين، وبه جزم ابن ناصر الدّين.
وفيها يحيى بن منصور، أبو سعيد، الهرويّ الحافظ، شيخ هراة ومحدّثها، وزاهدها، في شعبان، وقيل: توفي سنة اثنتين وتسعين.
وفي رجبها قطر النّدى بنت الملك خمارويه بن أحمد بن طولون زوجة المعتضد، وكانت شابة بديعة الحسن، عاقلة، رحمها الله تعالى
.(3/365)
سنة ثمان وثمانين ومائتين
فيها ظهر أبو عبد الله الشيعيّ [1] بالمغرب، فدعا العامّة إلى الإمام المهدي عبيد الله، فاستجابوا له.
وفيها كان الوباء المفرط بأذربيجان، حتّى فقدت الأكفان، وكفّنوا باللّبّود، ثم بقي الموتى مطروحين في الطرق.
ومات أمير أذربيجان، محمد بن أبي السّاج وسبعمائة من خواصّه وأقربائه [2] .
وفيها بشر بن موسى الأسديّ [أبو علي] [3] ابن صالح بن شيخ بن عميرة البغداديّ، في ربيع الأول، ببغداد. روى عن هوذة بن خليفة، والأصمعي، وسمع من روح بن عبادة حديثا واحدا، وكان ثقة محتشما، كثير الرّواية، عاش ثمانيا وتسعين سنة.
وفيها ثابت بن قرّة بن هارون- ويقال: ابن هارون [4]- الحاسب،
__________
[1] هو الحسين بن أحمد بن محمد بن زكرياء الشيعي من أهل صنعاء. انظر «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (8/ 31) .
[2] في «العبر» للذهبي (2/ 86) : «ومات ابنه الأفشين» .
[3] ما بين حاضرتين زيادة من «العبر» للذهبي (2/ 86) . وانظر «سير أعلام النبلاء» (13/ 352) .
[4] أراد ويقال: ثابت بن هارون، والله أعلم، وفي «وفيات الأعيان» : «ويقال ابن زهرون» وهو خطأ، فإن ابن زهرون الحرّاني مات سنة (369) هـ. انظر «الأعلام» (2/ 97) .(3/366)
الحكيم، الحرّانيّ. كان في مبدأ أمره بحرّان، ثمّ انتقل إلى بغداد، فاشتغل بعلوم الأوائل، فمهر فيها، وبرع في الطب، وكان الغالب عليه الفلسفة، حتّى قال ابن خلّكان [1] : كان صابئيّ النّحلة وله تآليف كثيرة في فنون من العلم مقدار عشرين تأليفا، منها «تاريخ» حسن، وأخذ كتاب إقليدس [2] ، فهذّبه، ونقّحه، وأوضح منه ما كان مشتبها، وكان من أعيان أهل عصره في الفضائل، وجرى بينه وبين أهل مذهبه أشياء أنكروها عليه في المذهب، فرفعوه [3] إلى رئيسهم، فأنكر عليه مقالته ومنعه من دخول الهيكل، فتاب ورجع عن ذلك، ثم عاد بعد مدة إلى تلك المقالة، فمنعوه من الدخول إلى المجمع، فخرج من حرّان ونزل كفرتوثا- قرية كبيرة بالجزيرة الفراتية [4]- وأقام بها مدة، إلى أن قدم محمد بن موسى من بلاد الرّوم راجعا إلى بغداد، فاجتمع به، فرآه فاضلا فصيحا، فاستصحبه إلى بغداد، وأنزله في داره، ووصله بالخليفة، فأدخله في جملة المنجّمين، فسكن بغداد وأولد أولادا [5] منهم ولده:
إبراهيم بن ثابت، بلغ رتبة أبيه في الفضل، وكان من حذّاق الأطباء، ومقدّم أهل زمانه في صناعة الطب، وعالج مرّة السّريّ الرّفّاء [6] الشاعر، فأصاب العافية، فعمل فيه وهو أحسن ما قيل في طبيب:
__________
[1] في «وفيات الأعيان» (1/ 313- 315) وقد نقل المؤلف عنه بتصرّف واختصار.
[2] في المطبوع: «إقليدوس» وهو خطأ، وانظر «إخبار العلماء بأخبار الحكماء» للقفطي ص (45) طبع مكتبة المتنبي بالقاهرة.
[3] في «وفيات الأعيان» : «فرافعوه» .
[4] انظر «معجم البلدان» لياقوت (4/ 468- 469) .
[5] في «وفيات الأعيان» : «وأولد الأولاد» .
[6] هو السري بن أحمد بن السري الكندي، أبو الحسن، وسوف ترد ترجمته مفصّلة في المجلد الرابع من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى.(3/367)
هل للعليل سوى ابن قرّة شافي [1] ... بعد الإله وهل له من كافي [2]
أحيا لنا رسم الفلاسفة الذي ... أودى وأوضح رسم طبّ عافي [3]
فكأنّه عيسى ابن مريم ناطقا ... يهب الحياة بأيسر الأوصاف
مثلت له قارورتي فرأى بها ... ما اكتنّ بين جوانحي وشغافي [4]
يبدو له الدّاء الخفيّ كما بدا ... للعين رضراض الغدير الصّافي [5]
ومن حفدة ثابت المذكور:
أبو الحسن ثابت بن سنان بن قرّة، وكان صابئيّ النّحلة أيضا، وكان في أيام معزّ الدولة بن بويه، وكان طبيبا عالما، نبيلا، يقرأ عليه كتاب بقراط، وجالينوس، وكان فكّاكا للمعاني، وكان سلك مسلك جدّه ثابت في نظره في الطب، والفلسفة، والهندسة، وجميع الصناعات الرياضية للقدماء، وله تصنيف في التاريخ أحسن فيه.
فائدة: الحرّاني: نسبة إلى حرّان، وهي مدينة مشهورة بالجزيرة [6] ، خرج منها علماء أجلّاء، منهم: بنو تيميّة وغيرهم.
ذكر ابن جرير الطبري في «تاريخه» [7] أن هاران عمّ إبراهيم الخليل وأبو زوجته سارة هو الذي عمرها، فسمّيت به، ثم عربت به، فقيل: حرّان، وكان لإبراهيم- صلى الله عليه وعلى نبيّنا وبقية الأنبياء وسلّم- أخ يسمى هاران [8]
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «شاف» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» ، و «يتيمة الدهر» .
[2] في الأصل، والمطبوع: «كاف» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» ، و «يتيمة الدهر» .
[3] في الأصل، والمطبوع: «عاف» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» ، و «يتيمة الدهر» .
[4] في الأصل، والمطبوع: «وشفافي» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» ، و «يتيمة الدهر» ، والشغاف حجاب القلب، وهو جلدة دونه كالحجاب. انظر «مختار الصحاح» (شغف) .
[5] الأبيات في «وفيات الأعيان» (1/ 314) ، و «يتيمة الدهر» (2/ 312) .
[6] يعني جزيرة أقور. انظر خبرها في كتاب «الأمصار ذوات الآثار» للذهبي ص (57) ، طبع دار ابن كثير.
[7] (1/ 313) والمؤلف ينقل كلامه عن «وفيات الأعيان» .
[8] في الأصل، والمطبوع: «يسمى بهاران» ، وأثبت ما جاء في «وفيات الأعيان» .(3/368)
أيضا، وهو والد لوط عليه السلام.
وقال [الجوهريّ] في «الصحاح» [1] : وحرّان اسم بلد، والنسبة إليه حرنانيّ على غير قياس، والقياس حرّانيّ على ما عليه العامّة. انتهى.
وفيها- أي سنة ثمان وثمانين- توفي مفتي بغداد، الفقيه عثمان بن سعيد بن بشّار، أبو القاسم البغداديّ الأنماطيّ، صاحب المزنيّ، في شوّال، وهو الذي نشر مذهب الشافعيّ ببغداد، وعليه تفقّه ابن سريج. قاله في «العبر» [2] .
وقال الإسنوي: والأنماطي منسوب إلى الأنماط، وهي البسط التي تفرش، أخذ الفقه عن المزنيّ، والرّبيع. وأخذ عنه ابن سريج.
قال الشيخ أبو إسحاق [3] : كان الأنماطي هو السبب في نشاط الناس للأخذ بمذهب الشافعيّ في تلك البلاد. قال: ومات ببغداد سنة ثمان وثمانين ومائتين.
زاد ابن الصلاح في «طبقاته» ، وابن خلّكان في «تاريخه» [4] : أنه في شوّال.
نقل عنه الرافعيّ في الحيض، وفي زكاة الغنم، وغيرهما. انتهى ما قاله الإسنوي.
وفيها معلّى بن المثنى بن معاذ العنبريّ البصريّ المحدّث. روى عن
__________
[1] انظر «الصحاح» (حرن) ص (2098) بتحقيق الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار، طبع دار الكتاب العربي بمصر على نفقة السيد حسن شربتلي.
[2] (2/ 87) .
[3] يعني أبا إسحاق الشيرازي، وقد نقل المؤلف عن كتابه «طبقات الفقهاء» ص (104) بتصرف.
[4] يعني «وفيات الأعيان» والمؤلف ينقل عنه (3/ 241) .(3/369)
القعنبيّ. وطبقته، وسكن بغداد، وكان ثقة عارفا بالحديث.
وفيها الفقيه العلّامة أبو عمرو [1] يوسف بن يحيى المغاميّ [2] الأندلسيّ، تلميذ عبد الملك بن حبيب، وصاحب التصانيف. ألّف كتابا في الردّ على الشافعيّ، واستوطن القيروان، وتفقّه به خلق كثير. قاله في «العبر» [3] .
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «أبو عمر» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (2/ 87) ، وانظر «سير أعلام النبلاء» (13/ 336) .
[2] في الأصل: «الغامي» وهو خطأ وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب. والمغامي نسبة إلى «مغام» أو «مغامة» بلد بالأندلس. انظر «الأنساب» للسمعاني (11/ 418) ، و «اللباب» لابن الأثير (3/ 240) ، و «معجم البلدان» لياقوت (5/ 161) .
[3] (2/ 87) .(3/370)
سنة تسع وثمانين ومائتين
قال في «الشذور» : فيها صلّى النّاس العصر يوم عرفة ببغداد في ثياب الصيف، ثم هبّت ريح، فبرد الهواء حتّى احتاجوا إلى التدفّي بالنّار، وجمد الماء. انتهى.
وفيها خرج بالشّام يحيى بن زكرويه القرمطيّ، وقصد دمشق، فحاربه طغج بن جف متولّيها غير مرّة، إلى أن قتل يحيى في أول سنة تسعين.
وفيها توفي المعتضد أبو العبّاس أحمد بن الموفق وليّ عهد المسلمين، أبي أحمد طلحة بن المتوكل جعفر بن المعتصم العبّاسيّ، في ربيع الآخر، ومرض أياما، وكانت خلافته أقلّ من عشر سنين، وعاش ستّا وأربعين سنة، وكان أسمر نحيفا معتدل الخلق، تغيّر مزاجه من إفراط الجماع، وعدم الحمية في مرضه، وكان شجاعا، مهيبا، حازما، فيه تشيّع، ويسمى السّفّاح الصغير، لأنه قتل أعداء بني العبّاس من مواليهم وغيرهم، وكان قد سلب [1] الدهر شطريه، وتأدب بصروف الزمان، وكان من أكمل الخلفاء المتأخرين، وولي الأمر بعده ولده المكتفي علي بن أحمد المعتضد.
قال ابن الفرات: كان المعتضد بالله من أكمل النّاس عقلا، وأعلاهم همّة، مقداما، عالما، سخيّا. وضع عن الناس السقايا، وأسقط المكوس
__________
[1] في المطبوع و «غربال الزمان» ص (257) : «حلب» .(3/371)
التي كانت تؤخذ بالحرمين، وضبط الأمر، وكانت الخلافة قد وهى أمرها وضعف، فأعزّها الله تعالى بالمعتضد، وأيّدها بتدبيره وسياسته، فكان يقال له:
السّفّاح الثاني، وكانت أم المعتضد أمّ ولد تسمى ضرار [1] ، وكان له خادم يقال له: بدر، من أغزر النّاس مروءة، وأظرفهم وأحسنهم أدبا، وكان المعتضد يحبّه حبّا شديدا.
قال أبو الحسن علي بن محمد الأنطاكي: كنت يوما بين يدي المعتضد- وهو مغضب- إذ دخل عليه خادمه بدر، فلما رآه تبسّم وقال لي: يا علي من هو قائل:
في وجهه شافع يمحو إساءته ... من القلوب وجيها أينما شفعا
قلت: يقوله الحسن بن أبي القاسم البصري، فقال: لله درّه، أنشدني بقية هذا الشعر، فأنشدته قوله:
ويلي على من أطار النّوم فامتنعا ... وزاد قلبي إلى أوجاعه وجعا
كأنّما الشّمس من أعطافه لمعت ... يوما أو البدر من أزراره طلعا
مستقبل بالذي يهوى وإن كثرت ... منه الذّنوب ومعذور بما صنعا [2]
في وجهه شافع.... البيت قال: فلما فرغت من إنشاده، أجازني وانصرفت.
قال ابن حمدون: كنت مع المعتضد يوما وقد انفرد من العسكر، وتوسطنا الصحراء، إذ خرج علينا أسد وقرب منّا وقصدنا، فقال لي: يا ابن حمدون فيك خير؟ قلت: لا والله يا سيدي. قال: ولا تلزم لي فرسي؟ قلت:
__________
[1] في الأصل، المطبوع: «صرار» وهو تصحيف، والتصحيح من «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (7/ 514) .
[2] الأبيات في «النجوم الزاهرة» (3/ 129) والبيتان الأولان في «الأغاني» (14/ 164) ونسبتها في المصدرين إلى الحكم بن قنبر المازني.(3/372)
بلى. فنزل عن فرسه ولزمتها، وتقدّم إلى الأسد وأنا أنظره، وجذب سيفه، فوثب الأسد عليه ليلطمه، فتلقاه بضربة وقعت في جبهته، فقسمها نصفين، ثم وثب الأسد ثانية وثبة ضعيفة فتلقاه بضربة أخرى أبان بها يده، ثم وثب المعتضد عليه، فركبه ورمى السيف من يده، وأخرج سكينا كانت في وسطه فذبحه من قفاه، ثم قام وهو يمسح السكين والسيف بشعر الأسد، وعاد وركب فرسه، وقال: إياك أن تخبر بهذا أحدا، فإنما قتلت كلبا.
قال ابن حمدون: فما حدّثت بهذا إلّا بعد موت المعتضد.
وكان الثوب يقيم عليه السنة والأقل والأكثر، لا ينزعه عن بدنه لكثرة اشتغاله بأمور الرّعية.
ومات في يوم الجمعة تاسع عشر شهر ربيع الآخر، وقيل: مات ليلة الاثنين لسبع بقين من شهر ربيع الآخر، ولما حضرته الوفاة أنشد:
تمتّع من الدّنيا [1] فإنك لا تبقى ... وخذ صفوها ما إن صفت ودع الرّنقا [2]
ولا تأمننّ الدّهر إني أمنته ... فلم يبق لي حالا ولم يرع لي حقّا
قتلت صناديد الرّجال ولم أدع ... عدوّا ولم أمهل على ظنّة [3] خلقا
وأخليت دار الملك من كلّ نازع ... فشرّدتهم غربا وشرّدتهم شرقا
فلمّا بلغت النّجم عزّا ورفعة ... وصارت رقاب الخلق لي أجمعا رقّا [4]
رماني الرّدى سهما فأخمد جمرتي ... فها أنا ذا في حفرتي عاجلا ألقى
ولم يغن عنّي ما جمعت ولم أجد ... لدى ملك الأحياء في حيّها رفقا [5]
__________
[1] في الأصل: «تمتع بالدنيا» وأثبت لفظ المطبوع وهو موافق لما في «الكامل في التاريخ» .
[2] في الأصل، والمطبوع: «ودع الرقا» وأثبت ما جاء في «الكامل في التاريخ» .
[3] في «الكامل في التاريخ» : «طغية» وذكر ناشرها الأول بأنه جاءت في النسخة (أ) منه:
«خلقة» .
[4] في «الكامل في التاريخ» : «وصارت رقاب الخلق أجمع لي رقا» .
[5] في «الكامل في التاريخ» : «لذي الملك والأحياء في حسنها رفقا» .(3/373)
فيا ليت شعري بعد موتي ما أرى [1] ... أفي نعمة الله [2] أم ناره ألقى [3]
ويقال: إن إسماعيل بن بلبل وزير المعتضد سقاه سمّا فمات، ودفن ببغداد. انتهى ما ذكره ابن الفرات ملخصا.
وفيها توفي بدر التّركيّ مولى المعتضد، ومقدّم جيوشه، عمل الوزير القاسم بن عبيد الله عليه [4] ووحّش قلب المكتفي بالله عليه، وكان في جهة فارس يحارب، فطلبه المكتفي، وبعث إليه أمانا وغدر به، وقتله في رمضان.
وفيها بكر بن سهل الدّمياطيّ المحدّث، في ربيع الأول. سمع عبد الله بن يوسف التّنّيسيّ وطائفة، ولما قدم القدس جمعوا له ألف دينار، حتّى روى لهم التفسير.
وفيها حسين بن محمد أبو علي القبانيّ النيسابوريّ الحافظ، صاحب «المسند» و «التاريخ» . سمع إسحاق بن راهويه وخلقا من طبقته، وكان أحد أركان الحديث، واسع الرحلة، كثير السماع، يجتمع أصحاب الحديث إليه بنيسابور بعد مسلم.
وفيها الحسين بن محمد بن فهم، أبو علي، البغداديّ الحافظ، أحد أئمة الحديث. أخذ عن يحيى بن معين، وروى «الطبقات» عن ابن سعد.
قال ابن ناصر الدّين: الحسين بن محمد بن عبد الرّحمن بن فهم بن محرز البغدادي، أبو علي، الحافظ الكبير. كان واسع الحفظ، متقنا للأخبار، عالما بالرّجال والنسب والأشعار، لكنه ليس بالقوي في سيره عند الدارقطني وغيره. انتهى.
__________
[1] في «الكامل في التاريخ» : «ما ألقى» .
[2] في «الكامل في التاريخ» : «إلى نعم الرحمن» .
[3] الأبيات في «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (7/ 514- 515) .
[4] في «العبر» : «الوزير عبيد الله» وهو خطأ، فيصحّح الاسم فيه: «القاسم بن عبيد الله» . وانظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 18- 20) ، و «الأعلام» للزركلي (5/ 177) .(3/374)
وفيها علي بن عبد الصّمد الطّيالسي، ولقبه علّان. روى عن أبي معمر الهذلي وطبقته.
وفيها عمرو بن اللّيث الصّفّار الذي كان ملك خراسان. قتل في الحبس عند موت المعتضد، لأنه كان له أياد على المكتفي بالله، فخاف الوزير أن يخرجه ويتمكّن، فينتقم من الوزير.
وفيها محمد بن محمد أبو جعفر التمّار البصريّ، صاحب أبي الوليد الطّيالسيّ.
وفيها محمد بن هشام [بن أبي الدّميك] [1] ، أبو جعفر الحافظ، صاحب سليمان بن حرب، ببغداد، وهو والذي قبله من أكابر مشايخ الطّبراني.
وفيها يحيى بن أيوب العلّاف المصريّ من كبار شيوخ الطّبراني أيضا، وصاحب سعيد بن أبي مريم.
وفيها يوسف بن يزيد بن كامل، أبو يزيد القراطيسيّ المصريّ، صاحب أسد [بن موسى، ويقال له: أسد] [2] السّنّة، وهو أيضا من كبار شيوخ الطّبراني، والله أعلم.
__________
[1] قوله: «ابن أبي الدميك» سقط من الأصل، وأثبته من المطبوع و «العبر» للذهبي» (2/ 90) .
[2] ما بين حاصرتين سقط من الأصل، والمطبوع، واستدركته من «العبر» للذهبي (2/ 90) .(3/375)
سنة تسعين ومائتين
فيها زاد أمر القرامطة، وحاصر رئيسهم دمشق، ورئيسهم يحيى بن زكرويه، وكان زكرويه هذا يدّعي أنه من أولاد علي، رضي الله عنه، ويكتب إلى أصحابه من عبيد الله بن عبد الله المهدي، المنصور بالله، الناصر لدين الله، القائم بأمر الله، الحاكم بحكم الله، الداعي إلى كتاب الله، الذابّ عن حريم الله، المختار من ولد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقتل، وخلفه أخوه الحسين صاحب الشّامة، فجهز المكتفي عشرة آلاف لحربهم، عليهم الأمير أبو الأغر، فلما قاربوا حلب، كبستهم القرامطة ليلا، ووضعوا فيهم السيف [1] ، فهرب أبو الأغرّ في ألف نفس، ودخل حلب وقتل تسعة آلاف، ووصل المكتفي إلى الرّقّة، وجهّز الجيوش إلى أبي الأغر، وجاءت من مصر العساكر الطولونية، مع بدر الحمّامي، فهزموا القرامطة، وقتلوا منهم خلقا، وقيل: بل كانت الوقعة بين القرامطة والمصريين بأرض مصر، وأن القرمطي صاحب الشّامة انهزم إلى الشام، ومرّ على الرّحبة، وهيت [2] ، ينهب، ويسبي الحريم [3] ، حتّى دخل الأهواز.
__________
[1] في «العبر» للذهبي: «السيوف» .
[2] لفظة «وهيت» سقطت من «العبر» (2/ 91) طبع الكويت، وتحرّفت في المطبوع منه في بيروت إلى «وهبّ» فتصحّح فيه. وهيت: بلدة على الفرات من نواحي بغداد فوق الأنبار.
انظر «معجم البلدان» (5/ 421) .
[3] في «العبر» بطبعتيه: «الحرم» .(3/376)
وفيها دخل عبيد الله- الملقّب بالمهدي- المغرب متنكّرا، والطّلب عليه من كل وجه، فقبض عليه متولّي سجلماسة، وعلى ابنه، فحاربه أبو عبد الله الشّيعي داعي المهدي، فهزمه ومزّق جيوشه، وجرت بالمغرب أمور هائلة، واستولى على المغرب المهديّ المنتسب إلى الحسين بن علي أيضا بكذبه، وكان باطنيّ الاعتقاد، وهو الذي بنى المهديّة [1] .
والباطنية فرقة من المبتدعة، قالوا لظواهر القرآن بواطن مرادة غير ما عرف من معانيها اللغوية.
وفيها الحافظ أبو عبد الرّحمن عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل الذّهليّ الشيبانيّ، ببغداد، في جمادى الآخرة، وله سبع وسبعون سنة كأبيه، وكان إماما خبيرا بالحديث وعلله، مقدّما فيه، وكان من أروى الناس عن أبيه، وقد سمع من صغار شيوخ أبيه، وهو الذي رتب مسند والده. وروى عنه أبو القاسم البغوي، والمحاملي، وأبو بكر الخلّال، وغيرهم. وكان ثبتا، فهما، ثقة، ولد في جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة ومائتين.
يقال: إن والده حفّظه خمسة عشر ألف حديث عن ظهر قلب، ثم قال له: لم يقل النّبيّ، صلى الله عليه وسلم، شيئا من هذا، فقال: ولم أذهبت أيامي في حفظ الكذب؟ قال: لتعلم الصحيح، فمن الآن احفظ الصحيح.
وروى عبد الله عن أبيه أنه قال: قد روي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: « [إنّما] نسمة المؤمن- إذا مات- طير تعلق [2] في شجر الجنّة حتّى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه» [3] .
__________
[1] مدينة تقع الآن في شرق تونس على ساحل البحر الأبيض المتوسط، انظر خبرها في «معجم البلدان» (5/ 229- 232) ، و «أطلس التاريخ العربي» للأستاذ شوقي أبو خليل ص (44) .
[2] في «مسند الإمام أحمد» وبقية المصادر: «يعلق» .
[3] رواه أحمد في «المسند» (3/ 455 و 456 و 460) ، ورواه أيضا مالك في «الموطأ» (1/ 240) ، والنسائي (4/ 108) في الجنائز: باب أرواح المؤمنين، وابن ماجة رقم (4271)(3/377)
وذكر أبو يعلى في «المعتمد» قال: روى عبد الله عن أبيه، قال: أرواح الكفّار في النّار، وأرواح المؤمنين في الجنة، والأبدان في الدّنيا، يعذّب الله من يشاء، ويرحم من يشاء، ولا نقول: إنهم تفنيان، بل هما على علم الله عزّ وجلّ، باقيتان.
قال القاضي أبو يعلى: وظاهر هذا، أن الأرواح تنعم وتعذب على الانفراد، وكذلك الأبدان.
وقال عبد الله: كان في دهليزنا دكان، وكان إذا جاء إنسان يريد أبي أن يخلو معه أجلسه على الدكان، وإذا لم يرد أن يخلو معه أخذ بعضادتي الباب وكلّمه، فلما كان ذات يوم جاء إنسان، فقال لي: قل لأحمد، أبو إبراهيم السائح، فخرج إليه أبي فجلسا على الدكان، فقال لي أبي: سلّم عليه، فإنه من كبار المسلمين، أو من خيار المسلمين، فسلّمت عليه، فقال له أبي:
حدّثني يا أبا إبراهيم، فقال له: خرجت إلى الموضع الفلاني بقرب الدّير الفلاني، فأصابتني علّة منعتني من الحركة، فقلت في نفسي: لو كنت بقرب الدّير الفلاني لعلّ من فيه من الرّهبان يداووني، فإذا أنا بسبع عظيم يقصد نحوي، حتّى جاءني، فاحتملني على ظهره حملا رفيقا، حتّى ألقاني عند الدّير، فنظر الرّهبان إلى حالي مع السّبع، فأسلموا كلهم، وهم أربعمائة راهب.
ثم قال أبو إبراهيم لأبي: حدّثني يا أبا عبد الله، فقال له أبي: كنت قبل الحجّ بخمس ليال أو أربع ليال، فبينا أنا نائم، إذ رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال لي: «يا أحمد حجّ» ، فانتبهت، ثم أخذني النوم، فإذا أنا بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال لي:
«يا أحمد حجّ» ، فانتبهت، وكان من شأني إذا أردت سفرا جعلت في مزودي [1] فتيتا، ففعلت ذلك، فلما أصبحت قصدت نحو الكوفة، فلما انقضى بعض النهار
__________
في الزهد: باب ذكر القبر والبلى، من حديث كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه، وهو حديث صحيح، والنسمة: الرّوح والنّفس، وتعلق: تأكل.
[1] في المطبوع: «مزودلي» .(3/378)
إذا أنا بالكوفة، فدخلت مسجد الجامع، فإذا أنا بشاب حسن الوجه، طيب الرّيح، فقلت: سلام عليكم، ثم كبّرت أصلّي، فلما فرغت من صلاتي قلت له: رحمك الله، هل بقي أحد يخرج إلى الحج؟ فقال لي: انتظر حتّى يجيء أخ من إخواننا، فإذا أنا برجل في مثل حالي، فلم نزل نسير، فقال الذي معي: رحمك الله، إن رأيت أن ترفق بنا، فقال له الشاب: إن كان معنا أحمد بن حنبل فسوف يرفق بنا، فوقع في نفسي أنه الخضر، فقلت للذي معي: هل لك في الطعام؟ فقال لي: كل مما تعرف وآكل مما أعرف، ولما أصبنا من الطعام غاب الشاب من بين أيدينا، ثم رجع بعد فراغنا، فلما كان بعد ثلاث إذا نحن بمكة.
ومات عبد الله يوم الأحد ودفن في آخر النهار لتسع بقين من جمادى الآخرة.
وفيها على ما ذكره ابن ناصر الدّين، وهذا لفظ «بديعته» :
بعد الإمام ابن الإمام المفضل ... ذاك الرّضى بن أحمد بن حنبل
وأحمد الأبّار وابن النّضر ... ذا أحمد قرطمة كالبحر
محمّد البوشنجي خذه الخامسا ... وعدّ بالآذان ذاك السّادسا
فأما الأبّار، فهو أحمد بن عليّ بن مسلم النّخشبيّ البغداديّ محدّث بغداد، وكان ثقة، فاضلا، جامعا، محصّلا، كاملا.
وأما ابن النّضر، فهو أحمد بن النّضر بن عبد الوهاب، أبو الفضل، النيسابوريّ. حدّث عنه البخاريّ، وهو أكبر منه، وكان البخاري ينزل عليه وعلى أخيه محمد بنيسابور، وتحديثه عنهما في «صحيحه» مشهور.
وأما قرطمة، فهو محمد بن علي البغدادي [1] ، أبو عبد الله، وكان
__________
[1] مترجم في «سير أعلام النبلاء» (14/ 82- 83) .(3/379)
أحد الأئمة الرحّالين، والحفّاظ المجوّدين المعدلين، وهذا غير قرطمة ورّاق سفيان بن وكيع، فإن ذاك من المجروحين.
وأما البوشنجيّ، فهو محمد بن إبراهيم بن سعيد بن عبد الرّحمن بن موسى العبديّ، أبو عبد الله، الفقيه المالكي، كان رأسا في علم اللسان، حافظا، علّامة من أئمة هذا الشأن.
قال في «العبر» [1] : البوشنجي الإمام الحبر، أبو عبد الله، شيخ أهل الحديث بخراسان. رحل وطوّف، وروى عن أحمد بن يونس، ومسدّد، والكبار، وكان من أوعية العلم. قد روى عنه البخاريّ حديثا في «صحيحه» عن النّفيلي، وآخر من روى عنه إسماعيل بن نجيد. انتهى.
وأما أبو الآذان، فهو عمر بن إبراهيم بن سليمان بن عبد الملك الخوارزميّ، ثم البغداديّ [2] ، نزيل سامرّاء، وكنيته أيضا أبو بكر، كان من الثقات الأخيار.
وقال ابن ناصر الدّين في «بديعته» أيضا:
وقبل تسعين قضى القويم ... العنبري الطّوسيّ إبراهيم
قال في «شرحها» : هو إبراهيم بن إسماعيل الطوسيّ، أبو إسحاق وكان حافظا علّامة، له رحلة إلى عدّة أقطار، وصنّف «المسند» فأتقنه وأحكمه، وكان محدّث أهل عصره بطوس، وزاهدهم بعد شيخه محمد بن أسلم.
انتهى.
وفيها، أي سنة تسعين، محمد بن زكريا الغلابيّ [3] الأخباريّ، أبو
__________
[1] (2/ 96) .
[2] مترجم في «طبقات الحفّاظ» للسيوطي ص (313- 314) .
[3] انظر «الأنساب» (9/ 193) .(3/380)
جعفر، بالبصرة. روى عن عبد الله بن رجاء الغداني وطبقته.
قال ابن حبّان: يعتبر بحديثه إذا روى عن الثقات.
وقال في «المغني» [1] : قال الدّارقطنيّ: يضع الحديث. انتهى.
وفيها محمد بن يحيى بن المنذر، أبو سليمان، القزّاز بصري معمّر، توفي في رجب، وقد قارب المائة، أو كمّلها. روى عن سعيد بن عامر الضّبعيّ، وأبي عاصم، والكبار.
__________
[1] (2/ 581) .(3/381)
سنة إحدى وتسعين ومائتين
فيها خرجت التّرك في جيش لجب [1] ، فاستنفر إسماعيل بن أحمد النّاس عامة، وكبس التّرك في الليل، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وكانت من الملاحم الكبار، ونصر الله تعالى المسلمين [2] ، لكن أصيب المسلمون من جهة أخرى، خرجت الرّوم في مائة ألف، فوصلوا إلى الحدث [3] فقتلوا، وسبوا، وأحرقوا، ورجعوا سالمين، فنهض جيش من طرسوس، عليهم غلام زرافة، فوغلوا في الرّوم، حتّى نازلوا أنطالية [4]- مدينة صغيرة قريبة من قسطنطينية العظمى- فافتتحوها عنوة، وقتلوا من الرّوم نحو خمسة آلاف، وغنموا غنيمة لم يعهد مثلها، بحيث إنه بلغ سهم الفارس ألف دينار، ولله الحمد.
وأما القرمطيّ، صاحب الشامة، واسمه حسين، فعظم به الخطب، والتزم له أهل دمشق بمال عظيم، حتّى ترحّل عنهم، وتملّك حمص، وسار إلى حماة، والمعرّة، فقتل وسبى، وعطف إلى بعلبك، فقتل أكثر أهلها، ثم سار فأخذ سلميّة وقتل أهلها قتلا ذريعا، حتّى ما ترك بها عينا تطرف، وجاء
__________
[1] قال ابن منظور: عسكر لجب: عرمرم وذو لجب وكثرة. «لسان العرب» (لجب) .
[2] لفظة «المسلمين» لم ترد في المطبوع، و «العبر» للذهبي.
[3] قلعة حصينة بين ملطية وسميساط ومرعش، من الثغور، ويقال لها: الحمراء، لأن تربتها جميعا حمراء، وقلعتها على جبل يقال له الأحيدب. انظر «معجم البلدان» (2/ 227) .
[4] في الأصل، والمطبوع، و «العبر» للذهبي (2/ 93) : «أنطاكية» وهو خطأ، والتصحيح من «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (7/ 533) ، وانظر «معجم البلدان» (1/ 270) ، و «بلدان الخلافة الشرقية» ص (183- 184) .(3/382)
جيش المكتفي، فالتقاهم بقرب حمص، فكسروه، وأسر خلق من جنده، وركب هو وابن عمّه الملقّب بالمدّثر، وآخر، فاخترقوا ثلاثتهم البريّة، فمرّوا بداليّة بن طوق، فأنكرهم، وإلى تلك الناحية فقرّرهم، فاعترف صاحب الشامة، فحملهم إلى المكتفي، فقتلهم وأحرقهم [1] .
وقام بأمر القرامطة بعدهم أخوهما أبو الفضل، وسار إلى أذرعات [2] وبصرى من حوران، والبثنيّة [3] من أعمال دمشق، فخرج إليه السلطان حمدان بن حمدون التغلبي، فهزمه القرمطي، وسار إلى هيت وحرّقها بالنّار بعد قتل أهلها، ورجع إلى ناحية البر، فأنفذ المكتفي جيشا عظيما، فخاف أصحاب القرمطي إحاطة الجيوش بهم، فقتله رجل منهم يعرف بأبي الذّيب غيلة، وحمل رأسه إلى المكتفي، ثم خرج بعدهم من القرامطة زكرويه بن مهرويه، وقيل: هو أبو من تقدّم ذكره، وعاث في البلاد فأكثر فيها الفساد، وقتل ثلاثة ركوب راجعة من الحج، وبلغ عدد المقتولين منهم خمسين ألفا.
وقيل: إن هذا العدد في الركب الثالث وحده. وخذلهم الله على يدي وصيف بن صول الجزري، وأسر زكرويه جريحا، ومات من الغد، وحمل رأسه إلى المكتفي ببغداد.
وفيها توفي علّامة الأدب أبو العبّاس، ثعلب، أحمد بن يحيى بن يزيد الشيبانيّ مولاهم العبسيّ البغداديّ، شيخ اللغة والعربية. حدّث عن غير واحد، وعنه غير واحد، منهم الأخفش الصغير. وسمع من القواريري مائة ألف حديث، فهو من المكثرين، وسيرته في الدّين والصلاح مشهورة. قاله ابن ناصر الدّين.
__________
[1] في «العبر» : «وحرّقهم» .
[2] وهي المعروفة الآن ب «درعا» مدينة كبيرة تبعد عن دمشق قرابة (110) كم من جهة الجنوب.
انظر خبرها في «معجم البلدان» لياقوت (1/ 130- 131) .
[3] انظر خبرها في «معجم ما استعجم» للبكري (1/ 226) ، و «معجم البلدان» لياقوت (1/ 338) .(3/383)
وقال ابن مجاهد المصري: قال ثعلب: اشتغل أهل القرآن والحديث والفقه بذلك ففازوا، واشتغلت بزيد وعمرو، ليت شعري ما يكون حظّي في الآخرة.
قال ابن مجاهد: فرأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم، في المنام، فقال لي: «أقرئ أبا العبّاس ثعلب عنّي السّلام وقل له: أنت صاحب العلم المستطيل» .
قال العبد الصالح أبو عبد الله الرّوذباري: أراد صلى الله عليه وسلم، أن الكلام به يكمل، والخطاب به يجمل، وأن جميع العلوم تفتقر إليه.
صنّف ثعلب التصانيف المفيدة، منها «كتاب الفصيح» وهو صغير الحجم، كبير [1] الفائدة، و «كتاب القراءات» و «كتاب إعراب القرآن» ، وغير ذلك، وكان ثقة صالحا، مشهورا بالحفظ والمعرفة، وكان أصمّ، فخرج من الجامع بعد العصر وفي يده كتاب ينظر إليه وهو يمشي، فصدمته فرس فألقته في هوّة، فأخرج منها وهو كالمختلط، فمات في اليوم الثاني، وكان حنبليا.
قال ابن أبي يعلى في «طبقاته» [2] : قال ثعلب: كنت أحبّ أن أرى [2] أحمد بن حنبل، فصرت إليه، فلما دخلت عليه قال لي: فيم تنظر؟ فقلت في النحو والعربية. فأنشدني أبو عبد الله أحمد بن حنبل:
إذا ما خلوت الدّهر يوما فلا تقل ... خلوت ولكن قل عليّ رقيب
ولا تحسبنّ الله يغفل ما مضى ... ولا أنّ ما تخفي [3] عليه يغيب
لهونا عن الأيّام حتّى تتابعت ... ذنوب على آثارهنّ ذنوب
فيا ليت أنّ الله يغفر ما مضى ... ويأذن في توباتنا فنتوب
انتهى.
__________
[1] في الأصل: «كثير» وأثبت ما في المطبوع.
[2] (1/ 83) وفيه: «أحببت أن أرى» والأبيات فيه وفي «تاريخ بغداد» (5/ 205) .
[3] في الأصل والمطبوع: «ما يخفى» وهو خطأ والتصحيح من «طبقات ابن أبي يعلى» ، و «تاريخ بغداد» .(3/384)
وفيها علي بن الحسين بن الجنيد الرّازيّ، الحافظ الكبير الثقة، أبو الحسن، في آخر السنة، ويعرف بالمالكي لتصنيفه حديث مالك. طوّف الكثير، وسمع أبا جعفر النّفيلي وطبقته، وعاش نيفا وثمانين سنة.
وقنبل قارئ أهل مكة، وهو أبو عمرو [1] محمد بن عبد الرّحمن المخزوميّ [2] ، مولاهم، المكيّ، وله ست وتسعون سنة. شاخ وهرم، وقطع الإقراء قبل موته بسبع سنين. قرأ على أبي الحسن القوّاس، ورحل إليه القرّاء، وجاوروا وحملوا عنه.
وفيها القاسم بن عبيد الله الوزير ببغداد، وزر للمعتضد وللمكتفي، وكان أبوه أيضا وزير المعتضد، وكان القاسم قليل التقوى، كثير الظلم، وكان يدخله من ضياعه في العام سبعمائة ألف دينار، ولما مات أظهر الناس الشّماتة بموته.
وفيها محمد بن أحمد بن البراء القاضي، أبو الحسن، العبديّ ببغداد. روى عن ابن المديني وجماعة.
وفيها محمد بن أحمد بن النّضر بن سلمة الجاروديّ أبو بكر الأزديّ، ابن بنت معاوية بن عمرو، وله خمس وتسعون سنة. روى عن جدّه، والقعنبي، وكان إماما، حافظا، ثقة، من الرؤساء.
وفيها محدّث مكّة محمد بن علي بن زيد الصّائغ، في ذي القعدة، وهو في عشر المائة. روى عن القعنبيّ، وسعيد بن منصور.
وفيها مقرئ أهل دمشق هارون بن موسى بن شريك، المعروف بالأخفش، صاحب ابن ذكوان، في عشر المائة.
__________
[1] كذا في الأصل والمطبوع، و «الوافي بالوفيات» (3/ 226) وفي معظم المصادر: «أبو عمر» .
[2] انظر ترجمته ومصادرها في «معرفة القرّاء الكبار» للذهبي (1/ 230) .(3/385)
سنة اثنتين وتسعين ومائتين
فيها خرج عن الطاعة صاحب مصر هارون بن خمارويه الطولوني، فسارت جيوش المكتفي لحربه، وجرت لهم وقعات، ثم اختلف أمراء هارون واقتتلوا، فخرج ليسكّنهم، فجاءه سهم فقتله، ودخل الأمير محمد بن سليمان قائد جيش المكتفي، فتملّك الإقليم، واحتوى على الخزائن، وقتل [من آل طولون] [1] بضعة عشر رجلا، وحبس طائفة، وكتب بالفتح إلى المكتفي، وقيل: إنه همّ بالمضيّ إلى المكتفي- أعني هارون- فامتنع عليه أمراؤه، وشجّعوه، فأبى، فقتلوه غيلة، ولم يمتع محمد بن سليمان، فإنه أرعد وأبرق، وخيف من غيلته وغلبته على بلاد مصر [2] وكاتب وزير المكتفي القواد فقبضوا عليه.
وفيها خرج الخلنجيّ القائد بمصر، وحارب الجيوش، واستولى على مصر.
وفيها توفي القاضي الحافظ، أبو بكر المروزيّ أحمد بن علي بن سعيد، قاضي حمص [3] ، في آخر السنة. روى عن ابن الجعد وطبقته، وحدّث عنه الطبرانيّ وغيره، وكان ثقة، أحد أوعية العلم.
__________
[1] زيادة من «العبر» للذهبي (2/ 97) .
[2] في «العبر» : «وخيف من غلبته على بلاد مصر» .
[3] وهو صاحب «مسند أبي بكر الصّدّيق» المطبوع طبعة متقنة نافعة في المكتب الإسلامي بدمشق بتحقيق الأستاذ الشيخ شعيب الأرناؤوط.(3/386)
وفيها الحافظ أبو بكر البزّار، أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البصري، صاحب المسند الكبير، في ربيع الأول بالرّملة [1] . روى عن هدبة بن خالد وأقرانه، وحدّث في آخر عمره بأصبهان، والعراق، والشام.
قال الدارقطنيّ: ثقة يخطئ ويتّكل على حفظه.
وقال في «المغني» [2] : أحمد بن عمرو، أبو بكر البزّار الحافظ، صاحب «المسند» ، صدوق.
قال أبو أحمد الحاكم: يخطئ في الإسناد والمتن. انتهى.
وفيها، أحمد بن محمد بن الحجّاج بن رشدين بن سعد الحافظ، أبو جعفر، المهديّ المصريّ المقرئ. قرأ القرآن على أحمد بن صالح، وروى عن سعيد بن عفير وطبقته، وفيه ضعف.
قال ابن عدي: يكتب حديثه.
وأبو مسلم الكجّيّ، إبراهيم بن عبد الله البصريّ الحافظ، صاحب «السّنن» ومسند الوقت، في المحرم، وقد قارب المائة أو كمّلها [3] . سمع أبا عاصم النبيل، والأنصاري، والكبار. وثّقة الدارقطني، وكان محدّثا، حافظا، محتشما، كبير الشأن.
قيل: إنه لما فرغوا من سماع «السّنن» عليه عمل لهم مأدبة [4] غرم عليها ألف دينار، تصدّق بجملة منها، ولما قدم بغداد ازدحموا عليه، حتّى حزر مجلسه بأربعين ألفا وزيادة، وكان في المجلس سبعة مستملين، كل واحد يبلّغ الآخر.
__________
[1] هي مدينة عظيمة، تقع في الغرب الأوسط من فلسطين المغتصبة، ردّها الله تعالى إلى المسلمين بفضله وكرمه. انظر خبرها في «معجم البلدان» (3/ 69- 70) .
[2] (1/ 51) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «وكملها» وأثبت ما في «العبر» للذهبي (2/ 99) مصدر المؤلف.
[4] في «العبر» : «فائدة» .(3/387)
وفيها إدريس بن عبد الكريم، أبو الحسن الحدّاد المقرئ المحدّث، يوم الأضحى ببغداد، وله نحو من تسعين سنة. روى عن عاصم بن علي وطبقته، وقرأ القرآن على خلف، وتصدّر للإقراء والعلم.
قال الدارقطني: هو فوق الثقة بدرجة.
وفيها محدّث واسط بحشل، وهو الحافظ أبو الحسن أسلم بن سهل الرزّاز، روى عن جدّه لأمّه وهب بن بقيّة وطبقته، وصنّف التصانيف، وهو ثقة ثبت.
وفيها قاضي القضاة، أبو حازم، عبد الحميد بن عبد العزيز الحنفي ببغداد، وكان من القضاة العادلة، له أخبار ومحاسن، ولما احتضر، كان يقول: يا رب من القضاء إلى القبر، ثم يبكي، روى عن بندار.
وفيها عيسى بن محمد بن عيسى الطّعمانيّ المروزيّ اللغويّ. ذكر عنه ابن السبكي في «طبقاته الكبرى» [1] قصة مطوّلة ملخصها، قال الحاكم:
سمعت أبا زكريا يحيى بن محمد العنبري يقول: سمعت أبا العبّاس [2] عيسى بن محمد بن عيسى الطّهمانيّ المروزيّ يقول: إني وردت في سنة ثمان وثلاثين ومائتين مدينة من مدائن خوارزم تدعى هزاراسب [3] فخبّرت أن بها امرأة من نساء الشهداء، رأت رؤيا كأنها أطعمت شيئا في منامها، فهي لا تأكل شيئا، ولا تشرب من حين ذلك، ثم مررت بتلك المدينة سنة اثنتين وأربعين ومائتين، فرأيتها، وحدّثتني بحديثها، فلم أستقص عليها لحداثة سنّي، ثم إني عدت إلى خوارزم في آخر سنة اثنتين وخمسين ومائتين، فرأيتها باقية، ووجدت حديثها شائعا مستفيضا، وهذه المدينة على مدرجة
__________
[1] (7/ 8- 15) بتحقيق الدكتورين عبد الفتاح محمد الحلو، ومحمود محمد الطناحي، وقد نقل المؤلف عنه باختصار وتصرف.
[2] تحرّفت في المطبوع إلى «البعاس» .
[3] في الأصل والمطبوع: «هزار نيف» وهو خطأ، والتصحيح من «آثار البلاد وأخبار العباد» للقزويني ص (567) ، و «طبقات الشافعية الكبرى» (7/ 9) . وقال صديقي الدكتور خالد قوطرش: الصواب «هزارهسب» ومعناها: بالفارسية مدينة الألف حصان.(3/388)
القوافل، وكان الكثير ممّن ينزلها إذا بلغتهم قصتها أحبّوا أن ينظروا إليها، فلا يسألون عنها رجلا، ولا امرأة، ولا غلاما إلّا عرفها ودلّ عليها، فلما وافيت الناحية طلبتها، فوجدتها غائبة على عدّة فراسخ، فمضيت في أثرها من قرية إلى قرية فأدركتها بين قريتين، تمشي مشية قوية، وإذا هي امرأة نصف، جيدة القامة، حسنة البدن، ظاهرة الدم، متورّدة الخدّين، ذكية الفؤاد، فسايرتني وأنا راكب، فعرضت عليها مركبا فلم تركبه، وأقبلت تمشي معي بقوة.
وكان ذكر لي الثقات من أهل تلك الناحية أنه كان من يلي خوارزم من العمّال يحصرونها الشهر والشهرين والأكثر في بيت يغلقونه عليها، ويوكّلون بها من يراعيها، فلا يرونها تأكل ولا تشرب، ولا يجدون لها أثر بول ولا غائط، فيبرّونها ويكسونها، ويخلون سبيلها.
فلما تواطأ أهل الناحية على تصديقها، استقصصتها [1] عن حديثها، وسألتها عن اسمها وشأنها كلّه، فذكرت أن اسمها رحمة بنت إبراهيم، وأنه كان لها زوج نجّار فقير، معيشته من عمل يده، لا فضل في كسبه عن قوت أهله، وأن لها منه عدّة أولاد، وأن الأقطع ملك التّرك قتل من قريتهم خلقا كثيرا، من جملتهم زوجها، ولم يبق دار إلا حمل إليها قتيل.
قالت: فوضع زوجي بين يدي قتيلا، فأدركني من الجزع ما يدرك المرأة الشابة على زوج أبي الأولاد.
قالت: واجتمع النساء من قراباتي والجيران يسعدنني [2] على البكاء، وجاء الصبيان- وهم أطفال لا يعقلون من الأمر شيئا- يطلبون الخبز، وليس عندي ما أعطيهم، فضقت صدرا بأمري، ثم إني سمعت أذان المغرب، ففزعت إلى الصلاة، فصلّيت ما قضى لي ربي، ثم سجدت أدعو وأتضرّع إلى الله، أسأله الصبر، وأن يجبر يتم صبياني، فنمت في سجودي، فرأيت
__________
[1] في الأصل: «قصصتها» ، وفي المطبوع: «اقتصصتها» وما أثبته من «طبقات الشافعية الكبرى» .
[2] يعني يعاونني. انظر «لسان العرب» (سعد) .(3/389)
كأني في أرض خشناء [1] ، ذات حجارة، وأنا أطلب زوجي، فناداني رجل:
أيّتها الحرّة، خذي ذات اليمين، فأخذت ذات اليمين، فرفعت إلى أرض [سهلة] طيبة الثرى، ظاهرة العشب، وإذا قصور وأبنية لا أحفظ أن أصفها، أو لم أر مثلها، وإذا أنهار تجري على وجه الأرض، ليس لها حافات، فانتهيت إلى قوم جلوس حلقا، حلقا [2] عليهم ثياب خضر، وقد علاهم النور، فإذا هم الذين قتلوا في المعركة، يأكلون على موائد بين أيديهم، فجعلت أتخلّلهم وأتصفّح وجوههم، أبغي زوجي، فناداني: يا رحمة، يا رحمة، فيممت الصوت، فإذا أنا به في مثل حال من رأيت من الشهداء، ووجهه مثل القمر ليلة البدر، وهو يأكل مع رفقة له قتلوا يومئذ معه، فقال لأصحابه: إن هذه البائسة جائعة منذ اليوم، أفتأذنون [لي] أن أناولها شيئا تأكله؟ فأذنوا له، فناولني كسرة خبز، أشدّ بياضا من الثلج واللبن، وأحلى من العسل والسكر، وألين من الزبد والسمن، فأكلتها، فلما استقرت في جوفي، قال: اذهبي، كفاك الله مؤونة الطعام والشراب ما حييت في الدّنيا.
فانتبهت من نومي شبعاء ريّاء، لا أحتاج إلى طعام ولا شراب، وما ذقتهما من ذلك اليوم إلى يومي هذا، ولا شيئا تأكله الناس.
قلت: فهل تتغذّي بشيء، أو تشربي شيئا غير الماء؟ فقالت: لا.
فسألتها هل يخرج منها ريح أو أذى كما يخرج من النّاس؟ فقالت: لا. قلت:
والحيض؟ وأظنها قالت: انقطع بانقطاع الطّعم. قلت: فهل تحتاجين حاجة النساء إلى الرجال [3] ؟ قالت: أما تستحي منّي، تسألني عن مثل هذا. قلت:
أي لعلّي أحدّث الناس عنك، ولا بدّ أن أستقصي، قالت: لا أحتاج. قلت:
أفتنامين؟ قالت: نعم أطيب نوم. قلت: فما ترين في منامك؟ قالت: مثل
__________
[1] في «طبقات الشافعية الكبرى» : «حسناء» .
[2] لفظة «حلقا» الثانية لم ترد في المطبوع.
[3] في المطبوع: «حاجة الرجال إلى النساء» ، وهو خطأ.(3/390)
ما ترون. قلت: فتجدي لفقد الطعام وهنا في نفسك؟ قالت: ما أحسست بالجوع منذ طعمت ذلك الطعام. وذكرت لي أن بطنها لاصق بظهرها، فأمرت امرأة من نسائنا فنظرت، فإذا بطنها كما وصفت، وإذا بها قد اتخذت كيسا ضمنته القطن وشدّته على بطنها كي لا ينقصف ظهرها إذا مشت. هذا ملخص ما أورده ابن السبكي.
وقال ابن الأهدل: وفيها- أي سنة اثنتين وتسعين ومائتين- عيسى بن محمد المروزيّ اللغويّ، وهو الذي رأى بخوارزم امرأة بقيت نيفا وعشرين سنة لا تأكل ولا تشرب.
وروى اليافعي [1] عن الشيخ صفي الدّين، أنه ذكر أن امرأة بجيزة مصر [2] ، قامت ثلاثين سنة لا تأكل ولا تشرب في مكان واحد لا تتألم بحرّ ولا برد. انتهى ما قاله ابن الأهدل بحروفه.
وقال في «العبر» [3] : وفيها- أي سنة ثلاث وتسعين- عيسى بن محمد أبو العبّاس الطّهمانيّ المروزيّ اللغويّ، كان إماما في العربية. روى عن إسحاق بن راهويه، وهو الذي رأى بخوارزم المرأة التي بقيت نيفا وعشرين سنة، لا تأكل ولا تشرب.
وفيها محمد بن أحمد بن سليمان الإمام، أبو العبّاس، الهرويّ فقيه محدّث، صاحب تصانيف. رحل إلى الشام والعراق، وحدّث عن أبي حفص الفلّاس وطبقته.
وفيها يحيى بن منصور الهرويّ. أبو سعد، أحد الأئمة الثقات في العلم والعمل، حتّى قيل: إنه لم ير مثل نفسه. روى عن سويد بن نصر وطبقته.
__________
[1] انظر «مرآة الجنان» (2/ 221- 222) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «ببحيرة مصر» وهو خطأ، والتصحيح من «مرآة الجنان» .
[3] (2/ 102) .(3/391)
سنة ثلاث وتسعين ومائتين
فيها التقى الخلنجيّ [1] المتغلّب على مصر، وجيش المكتفي بالعريش، فهزمهم أقبح هزيمة.
وفيها عاثت القرامطة بالشام، وقتلوا وسبوا، وما أبقوا ممكنا في حوران [2] ، وطبريّة، وبصرى، ودخلوا السّماوة، فطلعوا إلى هيت فاستباحوها، ثم وثبت هذه الفرقة الملعونة على زعيمها أبي غانم فقتلوه، ثم جمع رأس القوم زكرويه، والد صاحب الشامة جموعا، ونازل الكوفة فقاتله [3] أهلها، ثم جاءه جيش الخليفة، فالتقاهم وهزمهم، ودخل الكوفة يصيح قومه: يا ثارات الحسين، يعنون صاحب الشّامة [4] ، ولد زكرويه، لا رحمه الله. قاله في «العبر» [5] .
وفيها سار فاتك المعتضديّ، فالتقى الخلنجيّ [6] فانهزم الخلنجيّ،
__________
[1] في الأصل، والمطبوع و «البداية والنهاية» (11/ 100) : «الخليجي» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (2/ 100) . وانظر «تاريخ الطبري» (9/ 344 و 371) و «الأعلام» (6/ 272) .
والخلنجي: نسبة إلى خلنج، وهو نوع من الخشب. انظر «الأنساب» للسمعاني (5/ 166) .
[2] في المطبوع، و «العبر» : «بحوران» .
[3] تحرّفت في الأصل، والمطبوع: «فعاقله» وأثبت ما في «العبر» اللذهبي.
[4] ويقال له أيضا: صاحب الخال. انظر ترجمته ومصادرها في «الأعلام» للزركلي (2/ 238) .
[5] (2/ 101) .
[6] في الأصل، والمطبوع: «الخليجي» وانظر التعليق رقم (1) .(3/392)
وكثر القتل في جيشه، واختفى الخلنجيّ [1] ، فدلّ عليه رجل، فبعثه فاتك في عدّة من قوّاده إلى بغداد، فأدخلوا على الجمال وحبسوا.
وفيها توفي أبو العبّاس الناشئ الشاعر المتكلّم عبد الله بن محمد بمصر.
قال ابن خلّكان [2] : أبو العباس عبد الله بن محمد الناشيّ [3] الأنباريّ، المعروف بابن شرشير، الشاعر، كان من الشعراء المجيدين، وهو في طبقة ابن الرّومي، والبحتري، وأنظارهما، وهو الناشيّ الأكبر، وكان نحويا، عروضيا، متكلّما، أصله من الأنبار، وأقام ببغداد مدة طويلة، ثم خرج إلى مصر، وأقام بها إلى آخر عمره، وكان متبحّرا في علوم من جملتها علم المنطق. وكان بقوة علم الكلام نقض علل النّحاة، وأدخل على قواعد العروض شبها، ومثّلها بغير أمثلة الخليل، وكلّ ذلك لحذقه وقوة فهمه وفطنته [4] .
وله قصيدة في فنون من العلم على رويّ واحد، تبلغ أربعة آلاف بيت، وله تصانيف جميلة، وله أشعار كثيرة في جوارح الصيد وآلاته، [والصّيود] [5] وما يتعلق بها، كأنه كان صاحب صيد، وقد استشهد كشاجم [6] بشعره في كتاب «المصايد والمطارد» في مواضع، فمن ذلك قوله في طريدة في وصف باز:
لمّا تفرّى الليل عن أثباجه ... وارتاح ضوء الصبح لانبلاجه
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «الخليجي» وهو خطأ، وانظر الصفحة السابقة.
[2] في «وفيات الأعيان» (3/ 91- 92) .
[3] في «الأعلام» للزركلي (4/ 118) : «الناشئ» .
[4] في المطبوع: «لحذقه وقوة فطنته» ، وفي «وفيات الأعيان» : «بحذقه وقوة فطنته» .
[5] لفظة «والصّيود» سقطت من الأصل، والمطبوع، واستدركتها من «وفيات الأعيان» .
[6] سترد ترجمته في المجلد الرابع من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى.(3/393)
غدوت أبغي الصّيد في منهاجه ... يا قمرا أبدع في نتاجه
ألبسه الخالق من ديباجه ... وشيا يحار الطرف في اندراجه
في نسق منه وفي انعراجه ... وزان فوديه إلى حجاجه
بزينة كفته نظم تاجه ... منسره ينبئ [1] عن خلاجه
وظفره ينبئ عن علاجه ... لو استضاء المرء في إدلاجه
بعينه كفته عن [2] سراجه ومن شعره في جارية مغنية بديعة الجمال:
فديتك لو أنهم أنصفوك ... لردّوا النواظر عن ناظريك
تردّين أعيننا عن سواك ... وهل تنظر العين إلّا إليك
وهم جعلوك رقيبا علينا ... فمن ذا يكون رقيبا عليك
ألم يقرؤوا ويحهم ما يرو ... ن من وحي حسنك في وجنتيك
وشرشير: بكسر الشينين المعجمتين وبينهما راء ساكنة ثم ياء مثناة من تحتها وبعدها راء: اسم طائر يصل إلى الديار المصرية في البحر في زمن الشتاء، وهو أكبر من الحمام بقليل، وهو كثير الوجود بساحل دمياط، وباسمه سمي الرجل، والله أعلم. انتهى ملخصا.
وفيها محمد بن أسد المديني، أبو عبد الله الزاهد. كان يقال: إنه مجاب الدعوة، عمر أكثر من مائة سنة. وحدّث عن أبي داود الطّيالسي بمجلس واحد.
قال في «المغني» [3] : محمد بن أسد المدينيّ الأصبهاني، آخر أصحاب أبي داود الطيالسي.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «منشرة تنبئ» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» .
[2] في «وفيات الأعيان» : «كفته من» .
[3] (2/ 554) .(3/394)
قال أبو عبد الله بن مندة: حدّث عن أبي داود بمناكير. انتهى.
وفيها محمد بن عبدوس، واسم عبدوس، عبد الجبار بن كامل السرّاج الحافظ، ببغداد، في رجب. روى عن علي بن الجعد وطبقته، وحدّث عنه الطبرانيّ، وهو ثقة.
وفيها أحمد بن محمد بن عبد الله بن صدقة البغداديّ. روى عنه ابن قانع والطبراني وغيرهما، وكان إماما حافظا ذا دراية.
وعبدان، عبد الله بن محمد بن عيسى بن محمد المروزيّ، الحافظ النبيه. حدّث عنه الطبراني وغيره، وكان من الأئمة الحفّاظ.(3/395)
سنة أربع وتسعين ومائتين
فيها أخذ ركب العراق زكرويه القرمطي، وقتل الناس قتلا ذريعا، وسبى نساء، وأخذ ما قيمته ألفي ألف [1] دينار، وبلغت عدّة القتلى عشرين ألفا، ووقع البكاء والنوح في البلدان، وعظم هذا على المكتفي، فبعث الجيش لقتاله وعليهم وصيف بن صوارتكين، فالتقوا، فأسر زكرويه وخلق من أصحابه، وكان مجروحا، فمات إلى لعنة الله بعد خمسة أيام، فحمل ميتا إلى بغداد، وقتل أصحابه، ثم أحرقوا، وتمزق أصحابه في البرية.
وفيها توفي الحافظ الكبير، أبو علي صالح بن محمد بن عمرو الأسديّ البغداديّ، جزرة، محدّث ما وراء النهر، نزل بخارى وليس معه كتاب، فروى بها الكثير من حفظه، روى عن سعدويه الواسطي، وعلي بن الجعد، وطبقتهما، ورحل إلى الشام، ومصر، والنواحي، وصنّف، وجرّح، وعدّل، وكان صاحب نوادر ومزاح.
قال ابن ناصر الدّين: حدّث عن خلق، منهم يحيى بن معين، وعنه مسلم خارج «صحيحه» وغيره، وهو ثقة ثبت. انتهى.
وفيها صباح بن عبد الرّحمن، أبو الغصن، العتقيّ الأندلسيّ المعمّر،
__________
[1] في «العبر» للذهبي (2/ 102) : «ألف ألف» .(3/396)
مسند العصر بالأندلس. روى عن يحيى بن يحيى، وأصبغ بن الفرج، وسحنون.
قال ابن الفرضي: بلغني [1] أنه عاش مائة وثمانية عشر عاما، وتوفي في المحرم.
وعبيد العجل، الحافظ، وهو أبو علي الحسين بن محمد بن حاتم [2] ، في صفر.
قال ابن ناصر الدّين: هو تلميذ يحيى بن معين، وحدّث عنه الطبرانيّ، وكان من الحفّاظ المتقنين.
وفيها محمد بن الإمام إسحاق بن راهويه، القاضي، أبو الحسن.
روى عن أبيه، وعلي بن المديني. قتل يوم أخذ الركب شهيدا.
وفيها محمد بن أيوب بن يحيى بن الضّريس، الحافظ أبو عبد الله البجليّ الرّازيّ، محدّث الرّيّ، يوم عاشوراء، وهو في عشر المائة. روى عن مسلم بن إبراهيم، والقعنبي، والكبار، وجمع وصنّف، وكان ثقة.
ومحمد بن معاذ، درّان، الحلبيّ، محدّث تلك الناحية، أصله من البصرة. روى عن القعنبيّ، وعبد الله بن رجاء، وطبقتهما، ورحل إليه المحدّثون.
وفيها محمد بن نصر المروزيّ، الإمام، أبو عبد الله، أحد الأعلام، كان رأسا في الفقه، رأسا في الحديث، رأسا في العبادة، ثقة عدلا خيّرا.
قال الحافظ أبو عبد الله بن الأخرم [3] : كان محمد بن نصر يقع على
__________
[1] في المطبوع: «المغني» وهو خطأ.
[2] في «العبر» : «الحسين بن حاتم بن محمد» وهو خطأ. وانظر «طبقات الحفّاظ» للسيوطي ص (293) .
[3] تحرّفت في المطبوع إلى «الأحزم» .(3/397)
أذنه الذباب وهو في الصلاة فيسيل الدم ولا يذبّه. كان ينتصب كأنه خشبة.
وقال أبو إسحاق الشيرازيّ [1] : كان من أعلم النّاس بالاختلاف، وصنّف كتبا.
وقال شيخه في الفقه محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: كان محمد بن نصر عندنا إماما، فكيف بخراسان؟
وقال غيره: لم يكن للشافعية في وقته مثله. سمع يحيى بن يحيى، وشيبان بن فرّوخ، وطبقتهما، وتوفي في المحرم بسمرقند، وهو في عشر التسعين.
قال الإسنويّ في «طبقاته» : محمد بن نصر المروزيّ، أحد أئمة الإسلام، قال فيه الحاكم: هو الفقيه، العابد، العالم، إمام أهل الحديث في عصره بلا مدافعة.
وقال الخطيب في «تاريخ بغداد» [2] : كان من أعلم الناس باختلاف الصحابة ومن بعدهم [في الأحكام] [3] .
ولد ببغداد سنة اثنتين ومائتين، ونشأ بنيسابور، وتفقه بمصر على أصحاب الشافعيّ، وسكن سمرقند إلى أن توفي بها سنة أربع وتسعين ومائتين. ذكره النوويّ في «تهذيبه» [4] ، نقل عنه الرافعيّ في مواضع منها، أنه قال: يكفي في صحة الوصية الإشهاد عليه بأن هذا خطي وما فيه وصيتي، وإن لم يعلم الشاهد ما فيه.
__________
[1] في «طبقات الفقهاء» ص (107) وقد نقل المؤلف عنه بتصرّف.
[2] (3/ 315) .
[3] ما بين حاصرتين زيادة من «تاريخ بغداد» .
[4] (1/ 92- 94) وموطن النقل عنده ص (94) .(3/398)
وفي «طبقات العبادي» عنه، أنه يكفي الكتابة بلا شهادة بالكلية، والمعروف خلاف الأمرين، ومنها أن الإخوة ساقطون بالجدّ.
والمروزيّ نسبة إلى مرو، وزادوا عليها الزاي شذوذا، وهي إحدى مدن خراسان الكبار، فإنها أربعة: نيسابور، وهراة، وبلخ، ومرو، وهي أعظمها، وأما مرو الرّوذ، فإنها تستعمل مقيدة.
والرّوذ: براء مهملة مضمومة وذال معجمة، هو النهر بلغة فارس، والنسبة إلى الأولى مروزي، وإلى الثانية مروروذي بثلاث راآت، وقد يخفّف فيقال: مرّوذي، وبين المدينتين ثلاثة أيام. انتهى ما ذكره الإسنويّ ملخصا.
وفيها الإمام موسى بن هارون بن عبد الله، أبو عمران، البغداديّ البزّاز، الحافظ، ويعرف أبو بالحمّال. كان إمام وقته في حفظ الحديث وعلله.
قال أبو بكر الضّبعي: ما رأينا في حفّاظ الحديث أهيب ولا أورع من موسى بن هارون. سمع علي بن الجعد، وقتيبة، وطبقتهما.
وقال ابن ناصر الدّين: هو محدّث العراق. حدّث عنه خلق، منهم الطبرانيّ، وكان إماما، حافظا، حجة.(3/399)
سنة خمس وتسعين ومائتين
فيها توفي إبراهيم بن أبي طالب النيسابوريّ [1] الحافظ، أحد أركان الحديث. روى عن إسحاق بن راهويه وطبقته.
قال عبد الله بن سعد النيسابوري: ما رأيت مثل إبراهيم بن أبي طالب، ولا رأى مثل نفسه.
وقال أبو عبد الله بن الأخرم: إنما أخرجت نيسابور ثلاثة: محمد بن يحيى، ومسلم بن الحجّاج، وإبراهيم بن أبي طالب.
وقال ابن ناصر الدّين: هو ثقة.
وإبراهيم بن معقل، أبو إسحاق السّانجنيّ- بفتح الجيم وسكون النون التي قبلها نسبة إلى سانجن قرية بنسف [2]- كان قاضي نسف، وعالمها، ومحدّثها، وصاحب «التفسير» و «المسند» وكان بصيرا بالحديث، عارفا بالفقه والاختلاف. روى «الصحيح» عن البخاري، وروى عن قتيبة، وهشام بن عمّار، وطبقتهما.
وفيها الحافظ أبو علي الحسن بن علي بن شبيب المعمريّ، نسبة
__________
[1] انظر «الأمصار ذوات الآثار» للذهبي ص (75) بتحقيقي طبع دار ابن كثير.
[2] انظر «الأنساب» للسمعاني (7/ 17) ، و «اللباب» لابن الأثير (2/ 95) ، و «معجم البلدان» لياقوت (3/ 178) .(3/400)
إلى جدّه لأمه محمد بن سفيان بن حميد المعمري، صاحب معمر ببغداد في المحرم. روى عن عليّ بن المديني، وجبارة بن المغلّس، وطبقتهما، وعاش اثنتين وثمانين سنة، وله أفراد وغرائب مغمورة في سعة علمه.
قال ابن ناصر الدّين: كان من أوعية العلم، تكلم فيه عدّة، وقوّاه آخرون. انتهى.
وقال في «المغني» [1] : تفرّد برفع أحاديث تحتمل له. انتهى.
وفيها الحكم بن معبد الخزاعيّ الفقيه، مصنّف كتاب «السّنّة» بأصبهان. روى عن محمد بن حميد الرّازي، ومحمد بن المثنى، وطبقتهما، وكان من كبار الحنفية وثقاتهم.
وفيها أبو شعيب الحرّاني، عبد الله بن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الأمويّ المؤدّب، نزيل بغداد في ذي الحجة. روى عن يحيى البابلتي، وعفّان، وعاش تسعين سنة، وكان ثقة.
وأمير خراسان وما وراء النهر، إسماعيل بن أحمد بن أسد بن سامان، في صفر ببخارى، وكان ذا علم، وعدل، وشجاعة، ورأي، وكان يعرف بالأمير الماضي أبي إبراهيم، جمع بعض الفضلاء شمائله [وسيرته] [2] في كتاب، وكان ذا اعتناء زائد بالعلم والحديث. قاله في «العبر» [3] .
وفيها أبو علي، عبد الله بن محمد بن علي البلخيّ الحافظ، أحد أركان الحديث ببلخ. سمع قتيبة وطبقته، وصنّف «التاريخ» و «العلل» .
وفيها المكتفي بالله، الخليفة أبو الحسن علي بن المعتضد أحمد بن
__________
[1] (1/ 163) .
[2] زيادة من «العبر» للذهبي.
[3] (2/ 108) .(3/401)
أبي أحمد الموفّق بن المتوكل بن المعتصم العباسيّ، وله إحدى وثلاثون سنة، وكان وسيما جميلا، بديع الجمال، معتدل القامة درّيّ اللون، أسود الشعر، استخلف بعد أبيه، وكانت دولته ست سنين ونصفا، وتوفي في ذي القعدة، وفيه يقول أحد أعيان الأدباء وقد أبان زوجته عن نشوز وعقوق:
قايست بين جمالها وفعالها ... فإذا الملاحة بالخلاعة لا تفي
والله لا راجعتها ولو انّها ... كالبدر أو كالشّمس أو كالمكتفي [1]
وقيل للمكتفي في مرضه الذي مات فيه: لو وكّلت بعبد الله بن المعتز، ومحمد بن المعتمد، قال: ولم؟ قيل: لأن الناس يرجفون لهما بالخلافة بعدك، فتكون مستظهرا حتّى لا يخرج الأمر عن أخيك جعفر، فقال: وأيّ ذنب لهما؟ أليس هما من أولاد الخلفاء، وإن يكن ذلك، فليس بمنكر، والله يؤتي الملك من يشاء، فلا تتعرضوا لهما.
وكان المكتفي كثير العساكر، كثير المال، يخصّ أهل بيته بالكرامة والحباء الكثير، ولم يل الخلافة بعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم، من اسمه علي إلّا علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، والمكتفي بالله.
ولما توفي المكتفي ولي بعده أخوه المقتدر، وله ثلاث عشرة سنة وأربعون يوما، ولم يل أمر الأمة صبي قبله.
وفيها عيسى بن مسكين، قاضي القيروان وفقيه المغرب، أخذ عن سحنون، وبمصر عن الحارث بن مسكين، وكان إماما، ورعا، خاشعا، متمكّنا من الفقه والآثار، مستجاب الدعوة، يشبّه بسحنون في سمته وهيئته، أكرهه ابن الأغلب الأمير على القضاء، فولي ولم يأخذ رزقا، وكان يركب حمارا ويستقّي الماء لبيته، رحمه الله تعالى.
__________
[1] البيتان في «غربال الزمان» ص (262) .(3/402)
ومحمد بن أحمد بن جعفر، الإمام أبو جعفر، التّرمذيّ الفقيه، كبير الشافعية بالعراق، قبل ابن سريج، في المحرم، وله أربع وتسعون سنة. وكان قد اختلط في أواخر أيامه، وكان زاهدا، ناسكا، قانعا باليسير، متعفّفا.
قال الدارقطنيّ: لم يكن للشافعية بالعراق أرأس ولا أورع منه، وكان صبورا على الفقر. روى عن يحيى بن بكير وجماعة، وكان ثقة.
قال الإسنوي: كان أولا أبو جعفر حنفيا، فحجّ، فرأى ما يقتضي انتقاله لمذهب الشافعي، فتفقّه على الرّبيع وغيره من أصحاب الشافعي، وسكن بغداد، وكان ورعا، زاهدا، متقلّلا جدا، كانت نفقته في الشهر أربعة دراهم، نقل عنه الرّافعيّ مواضع قليلة، منها أن فضلات النّبيّ صلى الله عليه وسلم، طاهرة، وأن الساجد للتلاوة خارج الصلاة لا يكبّر للافتتاح لا وجوبا ولا استحبابا، وأنه إذا رمي إلى حربي فأسلم، ثم أصابه السهم فلا ضمان، والمعروف خلافه فيهنّ.
ولد في ذي الحجة، سنة ثمانين، وتوفي لإحدى عشرة ليلة خلت من المحرم سنة خمس وتسعين ومائتين.
وترمذ مدينة على طريق نهر جيحون، وفيها ثلاثة أقوال:
الأول فتح التاء وكسر الميم، وهو المتداول بين أهلها.
والثاني كسرهما.
والثالث ضمّهما.
قال: وهو الذي يقول أهل المعرفة. انتهى ملخصا.
قال العلّامة ابن ناصر الدّين في «بديعته» :
ثمّ الحكيم التّرمذيّ هواه ... في ذلك الجرح الذي رماه
لكنه مجهول عند الأكثر ... موتا وفيها كان حيّا حرر(3/403)
وقال في «شرحها» : أي في سنة خمس وثمانين، لأنه قدم فيها نيسابور، وأخذ عن علمائها المأثور، ومن حينئذ جهلت وفاته عند الجمهور، وهو محمد بن علي بن بشر الترمذيّ الحكيم، أبو عبد الله، الزّاهد الحافظ، كان له كلام في إشارات الصوفية، واستنباط معان غامضة من الأخبار النبوية، وبعضها تحريف عن مقصده، وبسبب ذلك امتحن، وتكلموا في معتقده، وله عدة مصنفات في منقول ومعقول، ومن أنظفها «نوادر الأصول» . انتهى.
وفيها، أي سنة خمس وتسعين، توفي الحافظ أبو بكر محمد بن إسماعيل الإسماعيلي، أحد المحدّثين الكبار بنيسابور، له تصانيف مجودة ورحلة واسعة. سمع إسحاق بن راهويه، وهشام بن عمّار.(3/404)
سنة ست وتسعين ومائتين
دخلت والملأ يستصبون المقتدر، ويتكلمون في خلافته، فاتفق طائفة على خلعه، وخاطبوا عبد الله بن المعتز، فأجاب بشرط أن لا يكون فيها حرب، وكان رأسهم محمد بن داود بن الجرّاح، وأحمد بن يعقوب القاضي، والحسين بن حمدان، واتفقوا على قتل المقتدر، ووزيره العبّاس بن الحسن، وفاتك الأمير، فلما كان في عاشر ربيع الأول، ركب الحسين بن حمدان، والوزير، والأمراء، فشدّ ابن حمدان على الوزير فقتله، فأنكر فاتك قتله، فعطف على فاتك فألحقه بالوزير، ثم ساق ليثلّث بالمقتدر، وهو يلعب بالصوالجة، فسمع الهيعة [1] ، فدخل وأغلقت الأبواب، ثم نزل ابن حمدان بدار سليمان بن وهب، واستدعى ابن المعتز، وحضر الأمراء والقضاة، سوى خواصّ المقتدر، فبايعوه ولقّبوه الغالب بالله، فاستوزر ابن الجرّاح، واستحجب يمن الخادم، ونفذت الكتب بخلافته إلى البلاد، وأرسلوا إلى المقتدر ليتحوّل من دار الخلافة، فأجاب، ولم يكن بقي معه غير مؤنس [2] الخادم، ومؤنس الخازن، وخاله الأمير غريب، فتحصنوا، وأصبح الحسين بن
__________
[1] قال ابن منظور: الهيعة: صوت الصارخ للفزع، وقيل: الهيعة الصوت الذي تفزع منه وتخافه من عدوّ. «لسان العرب» (هيع) .
[2] في الأصل والمطبوع: «يونس» وهو خطأ والتصحيح من «العبر» (2/ 110) وانظر «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (8/ 15) .(3/405)
حمدان على محاصرتهم، فرموه بالنشاب، وتناخوا [1] ، ونزلوا على حميّة، وقصدوا ابن المعتز، فانهزم كلّ من حوله، وركب ابن المعتز فرسا ومعه وزيره وحاجبه، وقد شهر سيفه، وهو ينادي: معاشر العامة، ادعوا لخليفتكم، وقصد سامرّا ليثبّت بها أمره، فلم يتبعه كثير [2] أحد، وخذل، فنزل عن فرسه، فدخل دار ابن الجصّاص، واختفى وزيره، ووقع النهب والقتل في بغداد، وقتل جماعة من الكبار، واستقام الأمر للمقتدر، ثم أخذ ابن المعتز وقتل سرّا، وصودر ابن الجصّاص، وقام بأعباء الخلافة الوزير ابن الفرات، ونشر العدل، واشتغل المقتدر باللعب.
وأما الحسين بن حمدان، فأصلح أمره، وبعث إلى ولاية قم، وقاشان.
رجع إلى الكلام على ابن المعتز.
قال ابن خلّكان رحمه الله تعالى [3] : أبو العبّاس عبد الله بن المعتز بن المتوكل بن المعتصم بن هارون الرّشيد بن المهدي بن المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن العبّاس بن عبد المطّلب الهاشمي، أخذ الأدب عن أبي العبّاس المبرّد، وأبي العبّاس ثعلب، وغيرهما، وكان أديبا، بليغا، شاعرا، مطبوعا، مقتدرا على الشعر، قريب المأخذ، سهل اللفظ، جيّد القريحة، حسن الإبداع للمعاني، مخالطا للعلماء والأدباء، معدودا من جملتهم، إلى أن جرت له الكائنة في خلافة المقتدر، واتفق معه جماعة من رؤساء الأجناد ووجوه الكتّاب، فخلعوا المقتدر يوم السبت لعشر بقين من شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين ومائتين، وبايعوا عبد الله المذكور، ولقّبوه المرتضي بالله،
__________
[1] لفظة «وتناخوا» لم ترد في «العبر» الذي بين يدي.
[2] في الأصل: «كبير» وأثبت لفظ المطبوع.
[3] في «وفيات الأعيان» (3/ 76- 79) .(3/406)
وقيل: المنصف بالله، وقيل: الغالب بالله، وقيل: الراضي بالله، وأقام يوما وليلة، ثم إن أصحاب المقتدر تحزّبوا وتراجعوا، وحاربوا أعوان ابن المعتز وشتتوهم، وأعادوا المقتدر إلى دسته، واختفى ابن المعتز في دار أبي عبد الله بن الحسين [بن عبد الله بن الحسين] [1] المعروف بابن الجصاص الجوهري، فأخذه المقتدر وسلّمه إلى مؤنس الخادم الخازن، فقتله وسلّمه إلى أهله ملفوفا في كساء، وقيل: إنه مات حتف أنفه، وليس بصحيح، بل خنقه مؤنس، وذلك يوم الخميس ثاني عشر ربيع الآخر سنة ست وتسعين ومائتين، ودفن في خرابة بإزاء داره، رحمه الله تعالى.
ومولده لسبع بقين من شعبان سنة سبع وأربعين، وقال سنان بن ثابت:
سنة ست وأربعين ومائتين.
ثم قبض المقتدر على ابن الجصّاص المذكور وأخذ منه مقدار ألفي ألف دينار، وسلّم له بعد ذلك مقدار سبعمائة ألف دينار، وكان في ابن الجصّاص غفلة وبله، وتوفي يوم الثلاثاء [2] لثلاث عشرة ليلة خلت من شوّال سنة خمس عشرة وثلاثمائة.
ولعبد الله المذكور من التصانيف كتاب «الزهر والرياض» وكتاب «البديع» وكتاب «مكاتبات الإخوان بالشعر» وكتاب «الجوارح والصيد» وكتاب «السرقات» وكتاب «أشعار الملوك» وكتاب «الآداب» وكتاب «حليّ الأخبار» وكتاب «طبقات الشعراء» وكتاب «الجامع في الغناء» وأرجوزة في ذمّ الصّبوح.
ومن كلامه: البلاغة البلوغ إلى المعنى، ولم يطل سفر الكلام.
ورثاه علي بن بسام الشاعر بقوله:
__________
[1] ما بين حاصرتين زيادة من «وفيات الأعيان» .
[2] في «وفيات الأعيان» : «يوم الأحد» .(3/407)
لله درّك من ملك [1] بمضيعة ... ناهيك في العلم والآداب والحسب
ما فيه لوّ، ولا لولا فتنقصه ... وإنّما أدركته حرفة الأدب [2]
ولابن المعتز أشعار رائقة وتشبيهات بديعة، فمن ذلك قوله:
سقى المطيرة ذات الظلّ والشجر ... ودير عبدون هطّال من المطر
فطالما نبّهتني للصّبوح بها ... في غرّة الفجر والعصفور لم يطر
أصوات رهبان دير في صلاتهم ... سود المدارع نعّارين في السّحر
مزنّرين على الأوساط قد جعلوا ... على الرؤوس أكاليلا من الشّعر
كم فيهم من مليح الوجه مكتحل ... بالسحر يطبق جفنيه على حور
لاحظته بالهوى حتّى استقاد له ... طوعا وأسلفني الميعاد بالنّظر
وجاءني في قميص اللّيل مستترا ... يستعجل الخطو من خوف ومن حذر
فقمت [3] أفرش خدّي في الطريق له ... ذلّا وأسحب أذيالي [4] على الأثر
ولاح ضوء هلال كاد يفضحنا ... مثل القلامة قد قدّت من الظّفر
وكان ما كان ممّا لست أذكره ... فظنّ خيرا ولا تسأل عن الخبر
وله في الخمر المطبوخة، وهو معنى بديع، وفيه دلالة على أنه كان حنفي المذهب:
خليلي قد طاب الشّراب المورّد ... وقد عدت بعد النّسك والعود أحمد
فهات [5] عقارا في قميص زجاجة ... كياقوتة في درّة تتوقّد
__________
[1] في الأصل، والمطبوع، و «وفيات الأعيان» ، و «فوات الوفيات» : من «ميت» وأثبت لفظ «تاريخ بغداد» ، و «معاهد التنصيص» .
[2] البيتان في «تاريخ بغداد» للخطيب (10/ 101) ، و «فوات الوفيات» لابن شاكر (2/ 240) ، و «معاهد التنصيص» للعباسي (2/ 43- 44) .
[3] في «خزانة الأدب» للبغدادي (11/ 52) : «فبتّ» .
[4] في «خزانة الأدب» : «أكمامي» .
[5] في «وفيات الأعيان» : «فهاتا» .(3/408)
يصوغ عليها الماء شبّاك فضّة ... له حلق بيض تحلّ وتعقد
وقتني من نار الجحيم بنفسها ... وذلك من إحسانها ليس يجحد [1]
وكان ابن المعتز شديد السمرة، مسنون الوجه يخضّب بالسواد.
ورأيت في بعض المجاميع، أن عبد الله بن المعتز كان يقول: أربعة من الشعراء سارت أسماؤهم بخلاف أفعالهم، فأبو العتاهية سار شعره بالزهد، وكان على الإلحاد، وأبو نواس سار شعره باللواط وكان أزنى من قرد، وأبو حكيمة الكاتب سار شعره بالعنّة وكان أهبّ من تيس، ومحمد بن حازم سار شعره بالقناعة، وكان أحرص من كلب. انتهى ما أورده ابن خلّكان ملخصا.
وفي سنة ست وتسعين، وصل إلى مصر أمير إفريقية زيادة الله بن الأغلب [2] ، هاربا من المهدي عبيد الله وداعية أبي عبد الله الشيعي، فتوجّه [3] إلى العراق.
وفيها أحمد بن حمّاد بن مسلم، أخو عيسى زغبة التجيبيّ بمصر، في جمادى الأولى. روى عن سعيد بن أبي مريم، وسعيد بن عفير، وطائفة، وعمّر أربعا وتسعين سنة.
__________
[1] الأبيات في «وفيات الأعيان» (3/ 79) .
[2] هو زيادة الله بن أبي العبّاس عبد الله بن إبراهيم بن أحمد بن الأغلب الأغلبي، أبو مضر، آخر أمراء الدولة الأغلبية بتونس، ولد ونشأ بتونس، وكان ميّالا إلى اللهو، وولّاه أبوه إمارة صقلية، فعكف على لذّاته، فعزله عنها وسجنه، فدسّ لأبيه ثلاثة من خصيان الصقالبة، فقتلوه، ونادوا بزيادة الله أميرا على إفريقية، فتولاها سنة (290) ، وقتل الخصيان الثلاثة. وفتك بمن قدر عليه من أعمامه وإخوته، وعاد إلى ملازمة الندماء، فأهمل شؤون الملك، فاستفحل أمر الثائر أبي عبد الله الشيعي، فصبر له زيادة الله ودافعه زمنا إلى أن يئس من الظفر، وكان مقيما برقّادة، فجمع أهله وماله وفرّ من إفريقية سنة (296) فنزل بمصر، ثم قصد بغداد، فمرّ بالرّقّة، فاستوقفه الوزير ابن الفرات مدة، واستأذن فيه المقتدر العباسي، فأمر بردّه إلى المغرب، فعاد إلى مصر، فمرض، فقصد بيت المقدس فمات بالرملة سنة (304) وانقرضت به دولة الأغالبة في إفريقية، وهو ثالث من سمّي «زيادة الله» من الأغالبة. عن «الأعلام» للزركلي (3/ 56) وانظر مصادر ترجمته فيه.
[3] في «العبر» (2/ 111) : «فوجّه» .(3/409)
وفيها أحمد بن نجدة الهرويّ [1] المحدّث. روى عن سعيد بن منصور وطائفة.
وفيها أحمد بن يحيى الحلوانيّ، أبو جعفر، الرّجل الصالح ببغداد.
سمع أحمد بن يونس، وسعدويه، وكان من الثقات.
وأحمد بن يعقوب، أبو المثنى القاضي، أحد من قام في خلع المقتدر تديّنا، ذبح صبرا.
وخلف بن عمرو العكبريّ، محتشم نبيل، ثقة. روى عن الحميديّ، وسعيد بن منصور.
وفيها أبو حصين الوادعيّ [2]- بكسر المهملة ثم مهملة نسبة إلى وادعة بطن من همدان- وهو القاضي محمد بن الحسين بن حبيب، في رمضان، صنّف «المسند» ، وكان من حفّاظ الكوفة الثقات، روى عن أحمد بن يونس وأقرانه.
وفيها محمد بن داود الكاتب، أبو عبد الله، الأخباريّ العلّامة، صاحب المصنفات. كان أوحد أهل زمانه في معرفة أيام النّاس. أخذ عن عمر بن شبّة [3] وغيره، وقتل في فتنة ابن المعتز.
__________
[1] ذكره المزّي في «تهذيب الكمال» (1/ 505) مصورة دار المأمون للتراث، فيمن روى عن سعيد بن منصور.
[2] أقول: الذي في «القاموس المحيط» : «أبو الحصين الوداعي» وكذلك في «اللباب في تهذيب الأنساب» الوداعي. (ع) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «عمرو بن شيبة» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (2/ 112- 113) وغيره.(3/410)
سنة سبع وتسعين ومائتين
قال ابن الجوزي في «الشذور» : قال ثابت بن سنان المؤرّخ: رأيت في بغداد امرأة بلا ذراعين، ولا عضدين، ولها كفّان بأصابع معلقات برأس [1] كتفيها، لا تعمل بهما شيئا، وكانت تعمل أعمال اليدين برجليها، ورأيتها تغزل برجليها، وتمدّ الطاقة وتسوّيها. انتهى.
وفيها عبيد بن غنّام بن حفص بن غياث الكوفيّ، أبو محمد، راوية أبي بكر بن أبي شيبة، وكان محدّثا، صدوقا، خيّرا. روى عن جبارة بن المغلّس وطبقته.
وفيها محمد بن أحمد بن أبي خيثمة، زهير بن حرب، أبو عبد الله، الحافظ ابن الحافظ ابن الحافظ.
قال محمد بن كامل: ما رأيت أحفظ من أربعة، أحدهم: محمد بن أحمد بن أبي خيثمة، وكان أبوه يستعين به في تصنيف «التاريخ» . سمع أبا حفص الفلّاس وطبقته، ومات في عشر السبعين.
وفيها عمرو [2] بن عثمان أبو عبد الله المكّيّ الزاهد، شيخ الصوفية وصاحب التصانيف في الطريق. صحب أبا سعيد الخرّاز، والجنيد. وروى عن يونس بن عبد الأعلى وجماعة.
__________
[1] في المطبوع: «في رأس» .
[2] في الأصل: «عمر» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.(3/411)
قال السخاويّ في «طبقاته» : عمرو بن عثمان بن كرب بن غصص المكّيّ، أبو عبد الله، كان ينتسب إلى الجنيد، وكان قريبا منه في السن والعلم، وكان أحد الأعيان، ولما ولي قضاء جدّة، هجره الجنيد، فجاء إلى بغداد وسلّم عليه، فلم يجبه، فلما مات حضر الجنيد جنازته ولم يصل عليه إماما.
ومن كلامه: اعلم أن كل ما توهمه قلبك من حسن، أو بهاء، أو أنس، أو ضياء، أو جمال أو شبح، أو نور، أو شخص، أو خيال، فالله بعيد من ذلك كله، بل هو أعظم وأجلّ وأكبر، ألا تسمع إلى قوله عزّ وجلّ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ 42: 11 [الشورى: 11] .
وقال: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ 112: 3- 4 [الإخلاص:
3- 4] [1] .
وقال: المروءة التغافل عن زلل الإخوان، وقال: لا يقع على كيفية الوجد عبارة لأنه سرّ الله عند المؤمنين الموقنين. انتهى ملخصا.
وفيها محمد بن داود بن علي الظّاهريّ، الفقيه، أبو بكر، أحد أذكياء زمانه، وصاحب كتاب «الزّهرة» تصدّر للاشتغال [2] ، والفتوى ببغداد بعد أبيه، وكان يناظر أبا العبّاس بن سريج، وله شعر رائق، وهو ممّن قتله الهوى، وله نيّف وأربعون سنة. قاله في «العبر» [3] .
وفيها مطيّن، وهو الحافظ أبو جعفر محمد بن عبد الله بن سليمان الحضرميّ الكوفيّ [4] ، في ربيع الآخر بالكوفة، وله خمس وتسعون سنة،
__________
[1] ذكر أبو نعيم هذا الأثر عنه في «حلية الأولياء» (10/ 291) برواية أخرى فراجعه.
[2] في الأصل، والمطبوع: «للاشغال» وأثبت ما في «العبر» للذهبي.
[3] (2/ 114) .
[4] لفظة «الكوفي» لم ترد في الأصل، و «العبر» للذهبي، وأثبتها من المطبوع.(3/412)
دخل على أبي نعيم، وروى عن أحمد بن يونس وطبقته.
قال الدارقطنيّ: ثقة جبل.
وقال في «الإنصاف» : نقل عن الإمام أحمد مسائل حسانا جيادا.
وفيها محمد بن عثمان بن أبي شيبة، الحافظ ابن الحافظ، أبو جعفر العبسيّ الكوفيّ، نزيل بغداد، في جمادى الأولى، وهو في عشر التسعين.
روى الكثير عن أبيه، وعمّه، وأحمد بن يونس، وخلق، وله تاريخ كبير، وثّقه صالح جزرة، وضعفه الجمهور.
وأما ابن عدي فقال: لم أر له حديثا منكرا فأذكره.
قال ابن ناصر الدّين: كذّبه عبد الله بن الإمام أحمد، وضعّفه آخرون، وقال بعضهم: هو عصا موسى تتلقف ما يأفكون. انتهى.
وفيها موسى بن إسحاق بن موسى الأنصاريّ الخطميّ- بالفتح والسكون نسبة إلى بني خطمة، بطن من الأنصار- القاضي، أبو بكر، الفقيه الشافعيّ بالأهواز، وله سبع وثمانون سنة. ولي قضاء نيسابور وقضاء الأهواز، وحدّث عن أحمد بن يونس وطائفة، وهو آخر من حدّث عن قالون [1] .
صاحب نافع القارئ، وكان يضرب به المثل في ورعه وصيانته في القضاء، وثّقه ابن أبي حاتم، وقطع ابن ناصر الدّين بتوثيقه.
قال الإسنويّ: وكان يضرب به المثل في ورعه وصيانته في القضاء، حتّى إن الخليفة أوصى وزيره به وبالقاضي إسماعيل، وقال: بهما يدفع البلاء عن أهل الأرض، وكان كثير السماع. سمع أحمد بن حنبل وغيره، وكان لا يرى متبسما قطّ، فقالت له يوما امرأته: لا يحلّ لك أن تحكم بين النّاس،
__________
[1] هو عيسى بن مينا بن وردان الزرقي، تقدّمت ترجمته في ص (97) من هذا المجلد فراجعها هناك.(3/413)
فإن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: «لا يحلّ للقاضي أن يقضيّ وهو غضبان» [1] فتبسم.
انتهى ملخصا.
وفيها يوسف بن يعقوب، القاضي أبو محمد الأزديّ، ابن عمّ إسماعيل القاضي، ولي قضاء البصرة وواسط، ثم ولي قضاء الجانب الشرقي [2] ، وولد سنة ثمان ومائتين، وسمع في صغره من مسلم بن إبراهيم، وسليمان بن حرب وطبقتهما، وصنّف «السّنن» وكان حافظا، ديّنا، عفيفا، مهيبا.
وقال ابن ناصر الدّين: ثقة.
__________
[1] رواه أحمد في «المسند» (5/ 37) ، وابن ماجة رقم (2316) بلفظ «لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان» . ورواه البخاري رقم (7158) في الأحكام: باب هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان، بلفظ «لا يقضينّ حكم بين اثنين وهو غضبان» ومسلم رقم (1717) في الأقضية، باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان، وأبو داود رقم (3589) بلفظ «لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان» ، ورواه الترمذي رقم (1334) كلهم من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
[2] يعني الجانب الشرقي من مدينة بغداد.(3/414)
سنة ثمان وتسعين ومائتين
فيها ولي الحسين بن حمدان ديار بكر [1] ، وربيعة.
وفيها خرج على عبيد الله المهدي، داعياه: أبو عبد الله الشيعي، وأخوه أبو العبّاس، وجرت لهما معه وقعة هائلة، وذلك في جمادى الآخرة، فقتل الداعيان وأعيان جندهما، وصفا الوقت لعبيد الله، فعصى عليه أهل طرابلس، فجهّز لحربهم ولده القائم أبا القاسم، فأخذها بالسيف في سنة ثلاثمائة.
وفيها توفي أبو العبّاس أحمد بن مسروق الطّوسيّ الزاهد، ببغداد، في صفر، وكان من سادات الصوفية ومحدّثيهم. روى عن علي بن الجعد، وابن المديني، وجمع وصنّف، وهو من رجال «الرسالة القشيرية» [2] وصحب المحاسبيّ، والسقطي، ومحمد بن منصور الفارسي، وغيرهم.
وقال جعفر الخلديّ: سألته عن مسألة في العقل، فقال: يا أبا محمد، من لم يحترز بعقله من عقله لعقله، هلك بعقله.
__________
[1] ديار بكر: بلاد كبيرة واسعة، تنسب إلى بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معدّ بن عدنان، تقع الآن في الجنوب الأوسط من تركية المعاصرة، ينسب إليها من المحدّثين عمر بن علي بن حسن الديار بكري. انظر خبرها في «معجم البلدان» (2/ 494) .
[2] (1/ 169) وبهامشها «نتائج الأفكار القدسية في بيان شرح الرسالة القشيرية» للعروسي.(3/415)
وقال: الزاهد الذي لا يملك مع الله سببا.
وقال: لا يصلح السماع إلا لمذبوح النفس، محترق الطبع، ممحق الهوى، صافي السرّ، طاهر القلب، عالي الهمّة، دائم الوجد، تام العلم، كامل العقل، قوي الحال، وإلا خسر من حيث يلتمس الربح، وضلّ من حيث يطلب الهدى، وهلك بما يرجو به النجاة، وليس في علوم التصوّف علم ألطف ولا في طرقه طريق أدقّ من علم السماع، وطريق أهله فيه.
وقال: كثرة النظر في الباطن تذهب بمعرفة الحق من القلب.
وتوفي في صفر، وله أربع وثمانون سنة، ودفن في مقابر باب حرب بغداد.
وفيها قاضي الأنبار وخطيبها البليغ المصقع، أبو محمد، بهلول بن إسحاق بن بهلول بن حسّان التنوخيّ- نسبة إلى تنوخ قبائل أقاموا بالبحرين- كان ثقة صاحب حديث. سمع بالحجاز سعيد بن منصور وإسماعيل بن أويس.
وفيها شيخ الصوفية، تاج العارفين، أبو القاسم، الجنيد بن محمد القواريريّ الخزّاز- بالزاي المكررة- صحب خاله السّريّ، والمحاسبيّ، وغيرهما من الجلّة، وصحبه أبو العبّاس بن سريج، وكان إذا أفحم مناظريه قال: هذا من بركة مجالستي للجنيد، وأصل الجنيد من نهاوند، ونشأ بالعراق، وتفقّه على أبي ثور، وقيل: كان على مذهب سفيان الثوري، وكان يقول: من لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر، لأن علمنا مقيد بالكتاب والسّنّة.
وقال له خاله: تكلم على النّاس فاستصغر نفسه، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأمره بذلك، فلما جلس لذلك جاءه غلام نصراني وقال: ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم:(3/416)
«اتّقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» [1] فأطرق ساعة، ثم رفع رأسه وقال له: أسلم فقد حان وقت إسلامك، فأسلم الغلام.
ولما صنّف عبد الله بن سعيد بن كلاب كتابه الذي ردّ فيه على جميع المذاهب، سأل عن شيخ الصوفية، فقيل له: الجنيد، فسأله عن حقيقة مذهبه، فقال: مذهبنا إفراد القدم عن الحدث، وهجران الإخوان والأوطان، ونسيان ما يكون وما كان، فقال ابن كلاب: هذا كلام لا يمكن فيه المناظرة، ثم حضر مجلس الجنيد، فسأله عن التوحيد، فأجابه بعبارة مشتملة على المعارف، ثم قال: أعد عليّ لا بتلك العبارة، ثم استعاده الثالثة، فأعاده بعبارة أخرى، فقال: أمله عليّ، فقال: لو كنت أجرّده كنت أمليه، فاعترف بفضله.
وقال الكعبيّ المعتزليّ لبعض الصوفية: رأيت لكم ببغداد شيخا يقال له: الجنيد، ما رأت عينيّ مثله، كان الكتبة يحضرونه لألفاظه، والفلاسفة لدقة كلامه، والشعراء لفصاحته، والمتكلمون لمعانيه، وكلامه ناء عن فهمهم.
وسئل السّريّ عن الشكر؟ والجنيد صبي يلعب، فأجاب الجنيد: هو أن لا يستعين بنعمه على معاصيه.
وسئل الجنيد عن العارف؟ فقال: من نطق عن سرّك وأنت ساكت.
وقال الجنيد: ما انتفعت بشيء انتفاعي بأبيات سمعتها، قيل: وما هي؟
قال: مررت بدرب القراطيس، فسمعت جارية تغني من دار، فأنصت لها، فسمعتها تقول:
__________
[1] رواه الترمذي رقم (3127) في التفسير: باب ومن سورة الحجر، وفي سنده عطية العوفي وهو ضعيف، وذكره السخاوي في «المقاصد الحسنة» ص (19) والسيوطي في «الدرّ المنثور» ونسباه لجمهرة من الأئمة الحفّاظ في مصنفات مختلفة.(3/417)
إذا قلت أهدى الهجر لي حلل البلى ... تقولين لولا الهجر لم يطب الحبّ
وإن قلت هذا القلب أحرقه الهوى ... تقولي بنيران الهوى شرف القلب
وإن قلت ما أذنبت قالت مجيبة ... وجودك [1] ذنب لا يقاس به ذنب [2]
فصعقت وصحت، فبينما أنا كذلك، إذا بصاحب الدار قد خرج، وقال: ما هذا يا سيدي؟ فقلت له: مما سمعت، فقال: هي هبة منّي إليك، قلت: قد قبلتها وهي حرّة لوجه الله تعالى، ثم دفعتها لبعض أصحابنا بالرّباط [3] ، فولدت له ولدا نبيلا.
ونشأ الجنيد أحسن نشء، وحجّ على قدميه ثلاثين حجّة.
وقال الجريريّ: كنت واقفا على رأس الجنيد في وقت وفاته، وكان يوم جمعة، ويوم نيروز الخليفة، وهو يقرأ القرآن، فقلت له: يا أبا القاسم، ارفق بنفسك. فقال لي: يا أبا محمد، أرأيت أحدا أحوج إليه منّي في هذا الوقت، وهو ذا تطوى صحيفتي، وكان قد ختم القرآن الكريم، ثم بدأ بالبقرة، فقرأ سبعين آية، ثم مات رحمه الله تعالى.
ومناقبه كثيرة، ولو أرسلنا عنان القلم لسوّدنا أسفارا من مناقبه، رضي الله عنه، ودفن بالشونيزية عند خاله سري السقطي، رضي الله عنهما.
وفيها العلّامة أبو يحيى زكريا بن يحيى النيسابوريّ المزكّيّ، شيخ الحنفية، وصاحب التصانيف بنيسابور في ربيع الآخر، وقد ناهز الثمانين.
روى عن إسحاق بن راهويه وجماعة، وكان ذا عبادة وتقى.
وفيها الزاهد الكبير، أبو عثمان الحيريّ، سعيد بن إسماعيل، شيخ نيسابور. وواعظها، وكبير الصوفية بها، في ربيع الآخر، وله ثمان وستّون
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «حياتك» .
[2] الأبيات في «وفيات الأعيان» (1/ 374) .
[3] الرباط: المرابطة وهي ملازمة ثغر العدو. انظر «مختار الصحاح» (ربط) .(3/418)
سنة. صحب العارف أبا حفص النيسابوري، وسمع بالعراق من حميد بن الربيع، وكان كبير الشأن، مجاب الدعوة. قاله في «العبر» [1] .
وقال السّلميّ في «التاريخ» [2] هو رازيّ الأصل، ذهب إلى شاه الكرماني، ووردا جميعا إلى نيسابور زائرين لأبي حفص، ونزلا محلة الحيرة في دار علكان، وأقاما بها أياما، فلما أراد الشاه الخروج، خرجا جميعا إلى قرية أبي حفص على باب مدينة نيسابور، وهي قرية تسمى كورداباذ [3] ، فقال أبو حفص لأبي عثمان: إن كان الشاه يرجع إلى طاعة أبيه، فأنت إلى أين تذهب، فنظر أبو عثمان إلى الشاه، فقال الشاه: أطع الشيخ، فرجع مع أبي حفص إلى نيسابور، وخرج الشاه وحده.
وقال أبو عثمان: صحبت أبا حفص وأنا شاب، فطردني مرّة وقال: لا تجلس عندي، فقمت من عنده، ولم أولّ ظهري عليه، وانصرفت أمشي إلى وراء، ووجهي إلى وجهه، حتّى غبت عنه، وجعلت في نفسي أن أحفر على بابه حفرة وأدخل فيها ولا أخرج منها إلا بأمره، فلما رأى ذلك منّي أدناني، وقرّبني، وجعلني من خواصّ أصحابه.
وقال أبو عمرو بن نجيد [4] : في الدّنيا ثلاثة لا رابع لهم: أبو عثمان بنيسابور، والجنيد ببغداد، وأبو عبد الله بن الجلاء بالشام.
ومن كلامه: من أمّر السّنّة على نفسه قولا وفعلا، نطق بالحكمة، ومن
__________
[1] (2/ 117) .
[2] وهو كتابه «تاريخ الصوفية» وهو مخطوط لم ينشر بعد. انظر مقدمة الأستاذ نور الدّين شريبة لكتابه «طبقات الصوفية» ص (34) .
[3] في الأصل، والمطبع: «كوزذاباذ» وهو خطأ، والتصحيح من «طبقات الصوفية» ص (115) و «معجم البلدان» (4/ 489) .
[4] هو إسماعيل بن نجيد السلمي، أبو عمرو، وسوف ترد ترجمته في المجلد الرابع من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى.(3/419)
أمّر الهوى على نفسه نطق بالبدعة، لأن الله تعالى يقول: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا 24: 54 [النور: 54] .
وقال: موافقة الإخوان خير من الشفقة عليهم.
ودفن بنيسابور في مقبرة الحيرة على الشارع مع قبر أستاذه أبي حفص.
وفيها فقيه قرطبة، ومسند الأندلس، أبو مروان عبيد الله بن الإمام، يحيى بن يحيى اللّيثيّ، في عاشر رمضان، وكان ذا حرمة عظيمة وجلالة.
روى عن والده «الموطأ» وحمل عنه بشر كثير.
وفيها محمد بن يحيى بن سليمان، أبو بكر المروزيّ، في شوّال ببغداد. روى عن عاصم بن علي، وأبي عبيد.
وفيها محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر بن الحسين الخزاعيّ، أبو العبّاس الأمير ببغداد، ودفن عند عمّه محمد بن عبد الله. سمع من إسحاق بن راهويه وغيره، وولي إمرة خراسان بعد والده، سنة ثمان وأربعين وهو شاب، ثم خرج عليه يعقوب الصّفّار وحاربه، وأسره يعقوب في سنة تسع وخمسين، ثم خلّص من أسره سنة اثنتين وستين، ثم بقي خاملا إلى أن مات.(3/420)
سنة تسع وتسعين ومائتين
فيها قبض المقتدر على الوزير ابن الفرات، ونهبت دوره، ووقع النهب والخبطة في بغداد.
وفيها توفي شيخ نيسابور، أبو عمرو أحمد بن نصر الخفّاف، الزّاهد الحافظ. سمع إسحاق بن راهويه وجماعة.
قال الضّبعيّ: كنّا نقول: إنه يفي بمذاكرة مائة [1] ألف حديث.
وقال ابن خزيمة، يوم وفاته: لم يكن بخراسان أحفظ للحديث منه.
وقال يحيى العنبري: لمّا كبر أبو عمرو، وأيس من الولد، تصدّق بأموال يقال: قيمتها خمسون ألفا [2] .
وقال ابن ناصر الدّين: أحمد بن نصر بن إبراهيم الخفّاف النيسابوري، أبو عمرو، الحافظ الملقب بزين الأشراف، وكان طوّافا حافظا، صائم الدهر، كثير البرّ، تصدّق حين كبر بأموال لها شأن. انتهى.
وقال العلّامة ابن ناصر الدّين في «بديعته» :
ثمّ احمد بن نصر الخفّاف ... صالحهم راوية طوّاف
__________
[1] في «العبر» : «ثلاث مائة» وما في كتابنا موافق لما عند الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (13/ 561) ، و «تذكرة الحفّاظ» (2/ 655) .
[2] في «سير أعلام النبلاء» ، و «تذكرة الحفّاظ» : «يقال: إن قيمتها خمسة آلاف ألف درهم» .(3/421)
ومثله عليّك ذاك عليّ ... فتى سعيد بن بشير أجمل
وقال في «شرحها» : عليك هو علي بن سعيد بن بشير بن مهران، أبو الحسين الرّازي. كان حافظا لم يكن بذاك، وكان والي قرية بمصر. انتهى.
وقال في «المغني» [1] : قال الدارقطني: ليس بذاك، تفرّد بأشياء.
انتهى.
وأبو الحسن، محمد بن أحمد بن كيسان البغداديّ النحويّ، صاحب التصانيف في القراءات، والغريب، والنحو. كان أبو بكر بن مجاهد يعظّمه ويقول: هو أنحى من الشيخين، يعني ثعلبا والمبرد، توفي في ذي القعدة.
ومحمد بن يزيد بن عبد الصّمد المحدّث، أبو الحسن. روى عن صفوان بن صالح وطبقته، وكان صدوقا.
وفيها محمد بن يحيى، المعروف بحامل كفنه.
قال ابن الجوزي في «الشذور» : كان قد حدّث عن أبي بكر بن أبي شيبة، أخبرنا أبو منصور القزّاز، أخبرنا أبو بكر الخطيب، قال: بلغني أن المعروف بحامل كفنه، توفي، وغسّل، وصلّي عليه، ودفن، فلما كان الليل جاءه نبّاش فنبش عنه، فلما أحلّ أكفانه ليأخذها، استوى قاعدا، فهرب النبّاش، فقام وحمل كفنه، وجاء إلى منزله وأهله يبكون، فطرق الباب، فقالوا: من هذا؟ قال: أنا فلان، فقالوا: يا هذا لا يحلّ لك أن تزيدنا على ما بنا، فقال: يا قوم افتحوا فأنا والله فلان، فعرفوا صوته، ففتحوا، فعاد حزنهم فرحا، وسمّي حامل كفنه.
ومثل هذا، سعيد بن الخمس الكوفيّ، فإنه لما دلّي في قبره اضطرب، فحلّت عنه الأكفان، فقام ورجع إلى منزله، وولد له بعد ذلك ابنه مالك. انتهى ما ذكره ابن الجوزي في «الشذور» .
__________
[1] (2/ 448) .(3/422)
سنة ثلاثمائة
قال في «الشذور» أيضا: فيها كثرت الأمراض ببغداد في النّاس، وكلبت الكلاب [1] والدواب في البادية، وكانت تطلب النّاس والدواب، فإذا عضّت إنسانا هلك. انتهى.
وفيها توفي صاحب الأندلس، أبو محمد، عبد الله بن محمد بن عبد الرّحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرّحمن بن معاوية الأمويّ المروانيّ، في ربيع الآخر، وكانت دولته خمسا وعشرين سنة. ولي بعد أخيه المنذر في سنة خمس وسبعين، وكان ذا صلاح، وعبادة، وعدل، وجهاد، يلتزم الصلوات في الجامع، وله غزوات كبار، أشهرها غزوة ابن حفصون، وكان ابن حفصون قد نازل حصن بلي [2] في ثلاثين ألفا، فخرج عبد الله من قرطبة في أربعة عشر ألفا، فالتقيا، فانكسر ابن حفصون، وتبعه عبد الله يأسر ويقتل، حتّى لم ينج منهم أحد، وكان ابن حفصون من الخوارج، وولي
__________
[1] قال ابن منظور: كلب الكلب، واستكلب: ضري وتعوّد أكل الناس. «لسان العرب» (كلب) .
[2] كذا في الأصل، والمطبوع، و «سير أعلام النبلاء» ، و «العبر» للذهبي، وفي كتاب «دول الإسلام في الأندلس» للأستاذ محمد عبد الله عنان: «بلاي» وقد علق في الحاشية بقوله: هي بالإسبانية (بولي) أو (بلي) وما يزال موقعها قائما معروفا إلى اليوم تحتله قرية أجيلار الحديثة الواقعة جنوبي قرطبة.(3/423)
الأندلس بعده حفيده الناصر لدين الله، عبد الرّحمن بن محمد بن عبد الله، فبقي في الإمرة خمسين عاما.
وفيها أبو الحسن علي بن سعيد العسكريّ الحافظ، أحد أركان الحديث، روى عن محمد بن بشّار وطبقته، وتوفي بخراسان.(3/424)
تمّ المجلد الثالث من كتاب «شذرات الذهب في أخبار من ذهب» للإمام ابن العماد الحنبلي، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
وكان الفراغ من تحقيقه والتعليق عليه في ظهيرة يوم الثلاثاء التاسع من شهر جمادى الآخرة لعام (1407) هـ، ونسأل الله عزّ وجلّ أن يعيننا على إتمام تحقيق بقية مجلداته بفضله وكرمه، إنه خير مسؤول.
محمود الأرناؤوط(3/425)
[المجلد الرابع]
سنة إحدى وثلاثمائة
فيها أدخل الحلّاج بغداد مشهورا على جمل، وعلّق مصلوبا، ونودي عليه [1] : هذا أحد دعاة القرامطة فاعرفوه، ثم حبس وظهر أنه ادّعى الإلهية، وصرّح بحلول اللّاهوت في الأشراف [2] وكانت مكاتباته تنبئ بذلك، فاستمال أهل الحبس بإظهار السّنّة، فصاروا يتبركون به. قاله في «العبر» [3] .
وفيها كما قال العلّامة ابن ناصر الدّين في «بديعته» [4] :
وبكر بن أحمد بن مقبل ... أفاد شأن الأثر المبجّل
وتسعة مثاله ذا أحمد ال ... برديجي البردعي [5] والمسند
محمد بن مندة فسلم ... كذا فتى العبّاس نجل الأخرم
مثل فتى ناجية ذا البربري ... كالفريابي الدّينوريّ جعفر
شبه الحسين ذا فتى إدريس ... مثل الهسنجاني الرضى الرئيس
والهروي محمد ذا السّامي ... كالفرهياني العارف الإمام
فأما الأول، فهو: بكر بن أحمد بن مقبل، البصريّ الحافظ الثبت
__________
[1] لفظة «عليه» لم ترد في «العبر» للذهبي.
[2] في «العبر» : «بحلول اللاهوت في الناسوت» ، والناسوت تعني «الناس» في السريانية. انظر «المنجد في اللغة» (نست) .
[3] (2/ 122- 123) .
[4] في الأصل: «بديعيته» وأثبت ما في المطبوع.
[5] في الأصل: «البرذعي» وهو تصحيف، والتصحيح من «العبر» للذهبي (2/ 124) ، وانظر «الأنساب» للسمعاني (2/ 140) .(4/5)
المجود. روى عن عبد الله بن معاوية الجمحيّ وطبقته.
وأما الثاني فهو: أحمد بن هارون بن روح أبو بكر البردعيّ [1] ، نزيل بغداد. كان من الثقات الأخيار ومشاهير علماء الأمصار.
وأما الثالث فهو: محمد بن يحيى بن إبراهيم مندة [2] بن الوليد بن سندة بن بطة بن استندار، واسمه فيرازان بن جهاربخت العبديّ، مولاهم، الأصبهانيّ، أبو عبد الله، جدّ الحافظ أبي عبد الله محمد بن إسحاق. روى عن لوين، وأبي كريب، وخلق. وحدّث عنه الطبرانيّ وغيره، وكان من الثقات.
قال أبو الشيخ: كان أستاذ شيوخنا وإمامهم.
وقيل: إنه كان يجاري أحمد بن الفرات وينازعه.
وأما الرابع، فهو محمد بن العبّاس بن أيوب بن الأخرم، أبو جعفر الأصبهانيّ، كان حافظا، نبيها، محدّثا، فقيها.
وأما الخامس، فهو عبد الله بن محمد بن ناجية بن نجية، أبو محمد البربريّ البغداديّ، كان حافظا مسندا. صنف مسندا في مائة واثنين [3] وثلاثين جزءا.
وأما السادس، فهو جعفر بن محمد بن الحسن بن المستفاض التركيّ، أبو بكر الفريابيّ، قاضي الدّينور. كان إماما حافظا علامة من النقادين، وهو صاحب التصانيف. رحل من بلاد التّرك إلى مصر، وعاش أربعا وتسعين سنة، وكان من أوعية العلم. روى عن علي بن المديني، وأبي جعفر النّفيلي وطبقتهما، وأول سماعه سنة أربع وعشرين ومائتين.
قال ابن عدي: كنّا نحضر مجلسه وفيه عشرة آلاف أو أكثر.
__________
[1] انظر التعليق رقم (5) في الصفحة السابقة.
[2] يعني أن اسمه «إبراهيم» وعرف ب «مندة» . انظر «تذكرة الحفاظ» (2/ 741) .
[3] في الأصل: «واثنتين» وأثبت ما في المطبوع.(4/6)
وأما السابع، فهو الحسين بن إدريس بن المبارك بن الهيثم الأنصاريّ الهرويّ، أبو علي بن حزم. وثقه الدارقطنيّ، وجزم ابن ناصر الدّين بتوثيقه، وكان حافظا من المكثرين. رحل وطوّف وصنف، وروى عن سعيد بن منصور، وسويد بن سعيد، وخلق.
وأما الثامن، فهو إبراهيم بن يوسف بن خالد بن إسحاق الرّازيّ الهسنجانيّ- بكسر الهاء والمهملة، وسكون النون الأولى، وجيم، نسبة إلى هسنجان قرية بالرّيّ [1]- كان إماما، عالما، محدّثا، ثقة.
وأما التاسع، فهو محمد بن عبد الرّحمن الهرويّ السّاميّ الحافظ، في ذي القعدة. طوّف، ورحل، وروى عن أحمد بن حنبل، وأحمد بن يونس، والكبار، ويكنى أبا أحمد، ويقال: أبا عبد الله.
وأما العاشر، فهو عبد الله بن محمد بن سيّار الفرهيانيّ، ويقال:
الفرهاذانيّ، كان عالما خيّرا من الأثبات.
وفيها، وجزم صاحب «العبر» [2] وغيره، أنه في التي قبلها [3] أحمد بن يحيى بن الرّاونديّ الملحد، لعنه الله، ببغداد، وكان يلازم الرافضة والزنادقة.
قال ابن الجوزي: كنت أسمع عنه بالعظائم حتّى رأيت في كتبه ما لم يخطر على قلب أنه يقوله عاقل، فمن كتبه كتاب «نعت الحكمة» وكتاب «قضيب الذهب» وكتاب «الزمردة» .
وقال ابن عقيل: عجبي كيف لم يقتل وقد صنّف «الدامغ» [4] يدمغ به
__________
[1] قلت: وتقع في الغرب الأوسط من إيران الآن. انظر خبرها في «معجم البلدان» (5/ 406) وقد ضبطها ياقوت فيه بفتح السين.
[2] (2/ 122) .
[3] قلت: وجزم الزركلي في «الأعلام» (1/ 267) بأنه مات سنة (298) هـ.
[4] في الأصل: «الدابغ» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.(4/7)
القرآن، و «الزمردة» يزري بها على النبوات. قاله في «العبر» [1] .
وقال ابن الأهدل ما ملخصه: له مقالات في علم الكلام، وينسب إليه الإلحاد، وله مائة وبضعة عشر كتابا، وله كتاب «نصيحة المعتزلة» ردّ فيه عليهم، وأصحابنا ينسبونه إلى ما هو أصل من مذهبهم، عاش نحوا من أربعين سنة- وراوند قرية من قرى قاسان بالمهملة من نواحي أصبهان [2]- قيل: وهو الذي لقّن اليهود القول بعدم نسخ شريعتهم، وقال لهم: قولوا: إن موسى أمرنا أن نتمسك بالسبت ما دامت السماوات والأرض، ولا تأمر الأنبياء إلا بما هو حق. انتهى.
والعجب من ابن خلّكان كيف يترجمه [3] ترجمة العلماء ساكتا عن عواره مع سعة اطلاع ابن خلّكان ووقوفه على إلحاده، وقد اعترض جماعات كثيرة على ابن خلّكان من أجل ذلك، حتّى قال العماد بن كثير [4] : هذا على عادته، من تساهله وغضّه عن عيوب مثل هذا الشقي، والله أعلم.
وفيها، أو في التي قبلها، كما جزم به في «العبر» [5] حيث قال:
محمد بن أحمد بن جعفر الكوفيّ أبو العلاء الذّهلي الوكيعيّ بمصر، عن ست وتسعين سنة، روى عن علي بن المديني وجماعة.
__________
[1] (2/ 122) .
[2] انظر «الأنساب» للسمعاني (6/ 56) ، و «اللباب» لابن الأثير (2/ 11) . وجاء في «معجم البلدان» لياقوت (3/ 19) : راوند: بليدة قرب قاشان وأصبهان. وانظر تعليق العلّامة الشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني رحمه الله على «الأنساب» وانظر «معجم البلدان» لياقوت (4/ 295) ، و «وفيات الأعيان» (1/ 94- 95) .
[3] في «وفيات الأعيان» (1/ 94 95) .
[4] انظر «البداية والنهاية» (11/ 113) وقد نقل المؤلف كلامه وزاد عليه.
[5] (2/ 121) .(4/8)
وفيها محمد بن الحسن بن [موسى بن] [1] سماعة الحضرميّ الكوفيّ في جمادى الأولى.
ومحمد بن جعفر القتّات الكوفي أبو عمر [2] في جمادى الأولى أيضا.
رويا كلاهما على ضعف فيهما عن أبي نعيم [3] .
وفيها محمد بن جعفر الرّبعيّ البغداديّ، أبو بكر، المعروف بابن الإمام، في آخر السنة بدمياط، وهو في عشر المائة. روى عن إسماعيل بن أبي أويس، وأحمد بن يونس.
وفيها أبو الحسن مسدّد بن قطن [4] النيسابوري. روى عن جدّه لأمه بشر بن الحكم وطبقته بخراسان والعراق.
قال الحاكم: كان مزنيّ عصره، والمقدّم في الزّهد والورع. انتهى.
فعدّ هؤلاء في الثلاثمائة.
وفيها- أي سنة إحدى وثلاثمائة- الحسن بن بهرام أبو سعيد الجنّابيّ القرمطيّ صاحب هجر، قتله خادم له صقلبيّ راوده في الحمام، ثم خرج فاستدعى رئيسا من خواص الجنابي، وقال: السيد يطلبك، فلما دخل قتله،
__________
[1] زيادة من «تهذيب الكمال» للمزّي (2/ 1097) مصورة دار المأمون للتراث.
[2] في الأصل، والمطبوع: «أبو عمرو» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» (2/ 121) ، و «تهذيب الكمال» للمزّي (2/ 1097) و «لسان الميزان» (5/ 106) .
[3] يعني عمرو بن حماد التيمي الطلحي أبو نعيم، الملقب ب «الفضل بن دكين» وقد تقدمت ترجمته في المجلد الثالث ص (93) ، وانظر ترجمته الموسعة في «تهذيب الكمال» للمزّي (2/ 1096- 1098) مصوّرة دار المأمون للتراث بدمشق.
[4] في الأصل، والمطبوع: «مسدّد بن فطن» ، وفي «العبر» للذهبي: «مسرّد بن قطن» وكلاهما خطأ، والتصحيح من «تهذيب الكمال» للمزّي (4/ 116) طبع مؤسسة الرسالة.(4/9)
ثم دعا آخر كذلك، حتّى قتل أربعة، ثم صاح النساء وتكاثروا على الخادم فقتلوه، وكان هذا الملحد قد تمكن وهزم الجيوش، ثم هادنه الخليفة.
وفيها سار عبيد الله المهدي المتغلّب على المغرب في أربعين ألفا ليأخذ مصر، حتّى بقي بينه وبين مصر أيام [1] ، ففجرت كبراء الخاصة النيل [2] ، فحال الماء بينهم وبين مصر، ثم جرت بينهم وبين جيش المقتدر حروب، فرجع المهديّ إلى برقة، بعد أن ملك الإسكندرية، والفيّوم.
وفيها توفي أبو نصر أحمد بن الأمير إسماعيل بن أحمد السّامانيّ، صاحب ما وراء النهر، قتله غلمانه، وتملك بعده ابنه نصر.
وفيها أبو بكر أحمد بن [محمد بن] [3] عبد العزيز بن الجعد البغداديّ الوشّاء، الذي روى «الموطأ» عن سويد [4] .
وفيها المحدّث المعمّر [محمد] بن حبّان بن الأزهر أبو بكر الباهليّ البصريّ القطّان، نزيل بغداد. روى عن أبي عاصم النبيل، وعمرو بن مرزوق، وهو ضعيف.
وفيها الأمير علي بن أحمد الرّاسبيّ، أمير جنديسابور [5] ، والسوس، وخلّف ألف فرس، وألف ألف دينار، ونحو ذلك.
وفيها- على ما قال ابن الأهدل- الوزير ابن الفرات، وكان عالما محبّا للعلماء، وبسببه سار الإمام الدارقطنيّ من العراق إلى مصر، ولم يزل
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «أياما» والتصحيح من «العبر» للذهبي (2/ 132) .
[2] في «العبر» : «فانفجرت مخاضة النيل» .
[3] زيادة من «العبر» للذهبي (2/ 124) ، وانظر «تهذيب الكمال» ص (560) مصوّرة دار المأمون للتراث بدمشق، و «سير أعلام النبلاء» (11/ 411) .
[4] يعني سويد بن سعيد الهروي الحدثاني.
[5] في الأصل والمطبوع: «جند سابور» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» (2/ 127) وانظر «معجم البلدان» (2/ 170) .(4/10)
عنده حتّى فرغ من تأليف «مسنده» وكان كثير الإحسان إلى أهل الحرمين، واشترى بالمدينة دارا ليس بينها وبين الضريح النبويّ إلّا جدار واحد ليدفن فيها، ولما مات حمل تابوته إلى مكة، ووقف به في مواقف الحج، ثم إلى المدينة، وخرجت الأشراف إلى لقائه لسالف إحسانه، ودفن حيث أمر، وقيل: دفن بالقرافة، رحمه الله تعالى [1] .
__________
[1] قلت: وقد ساق الخبر أيضا العامري في «غربال الزمان» ص (268) .(4/11)
سنة اثنتين وثلاثمائة
فيها عاد المهديّ ونائبه حباسة إلى الإسكندرية، فتمّت وقعة كبيرة، قتل فيها حباسة، فردّ المهديّ إلى القيروان.
وفيها صادر المقتدر أبا عبد الله الحسين بن الجصّاص الجوهري وسجنه، وأخذ من الأموال ما قيمته أربعة آلاف ألف دينار.
وأما أبو الفرج بن الجوزي فقال: أخذوا منه ما مقداره: ستة عشر ألف ألف دينار، عينا، وورقا، وقماشا، وخيلا.
وقيل: كانت عنده ودائع عظيمة، لزوجة المعتضد قطر الندى بنت خمارويه.
وقال بعض الناس: رأيت سبائك الذهب والفضة [1] تقبّن بالقبّان من بيت ابن الجصّاص.
وفيها أخذت طيء الركب العراقي، وتمزّق الوفد في البرية، وأسروا من النساء مائتين وثمانين امرأة.
وفيها توفي العلّامة فقيه المغرب، أبو عثمان الحداد الإفريقيّ المالكيّ، سعيد بن محمد بن صبيح، وله ثلاث وثمانون سنة. أخذ عن
__________
[1] لفظة «والفضة» لم ترد في «العبر» مصدر المؤلف في نقله.(4/12)
سحنون وغيره، وبرع في العربية والنظر، ومال إلى مذهب الشافعي، وأخذ يسمي «المدونة» المدوّدة، فهجره المالكية، ثم أحبّوه لما قام على أبي عبد الله الشيعي وناظره ونصر السّنّة.
وفيها إبراهيم بن شريك الأسديّ الكوفيّ، صاحب أحمد بن يونس ببغداد.
وحمزة بن محمد بن عيسى الكاتب، صاحب نعيم بن حمّاد ببغداد.
وإبراهيم بن محمد بن الحسن بن متّويه، العلّامة، أبو إسحاق الأصفهاني، إمام جامع أصبهان، وأحد العبّاد والحفّاظ. سمع محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، ومحمد بن هاشم البعلبكي، وطبقتهما.
وفيها محمد بن زنجويه القشيريّ النيسابوريّ، صاحب إسحاق بن راهويه.
وفيها القاضي أبو زرعة، محمد بن عثمان الثقفيّ، مولاهم، قاضي دمشق بعد قضاء مصر [وكان جدّه يهوديا فأسلم، وولي أبو زرعة قضاء مصر] [1] ثمان سنين، والشام ما يزيد على العشرة، وكان ثبتا موثقا، وكان أكولا، يأكل سلّة عنب، وسلّة تين. قاله الذهبي في «تاريخ الإسلام» .
وفيها محمد بن محمد بن سليمان بن الحارث الواسطيّ، ثم البغداديّ، أبو بكر، الباغنديّ، ولتدليسه رمي بالتجريح، مع أنه كان حافظا بحرا.
قال في «المغني» [2] : فيه لين.
__________
[1] ما بين حاصرتين سقط من الأصل وأثبته من المطبوع.
[2] (2/ 629) .(4/13)
قال ابن عدي: أرجو أنه كان لا يتعمد الكذب، وكان مدلّسا. انتهى.
وفيها الإمام عبدوس، عبد الرّحمن بن أحمد بن عبّاد بن سعيد الهمذانيّ السّرّاج، أبو محمد، كان ثقة، فاضلا، نبيلا.(4/14)
سنة ثلاث وثلاثمائة
فيها عسكر الحسين بن حمدان، والتقى هو ورائق، فهزم رائقا، فسار لحربه مؤنس الخادم، فحاربه، وتمّت لهما خطوب، ثم أخذ مؤنس يستميل أمراء الحسين، فتسرعوا إليه، ثم قاتل الحسين فأسره واستباح أمواله، وأدخل بغداد على جمل [هو] [1] وأعوانه، ثم قبض على أخيه أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان وأقاربه.
وفيها توفي الإمام، أحد الأعلام، صاحب المصنفات، التي منها «السنن» أبو عبد الرّحمن أحمد بن شعيب بن علي النّسائي- نسبة إلى نسا مدينة بخراسان- توفي في ثالث عشر صفر، وله ثمان وثمانون سنة. سمع قتيبة، وإسحاق [2] وطبقتهما، بخراسان، والحجاز، والشام، والعراق، ومصر، والجزيرة، وكان رئيسا، نبيلا، حسن البزّة، كبير القدر، له أربع زوجات يقسم لهنّ، ولا يخلو من سرّيّة لنهمته في التّمتّع، ومع ذلك كان يصوم صوم داود، ويتهجد.
قال ابن المظفّر الحافظ: سمعتهم بمصر يصفون اجتهاد النّسائي في العبادة بالليل والنهار، وأنه خرج إلى الغزو مع أمير مصر، فوصف من شهامته
__________
[1] زيادة من «العبر» للذهبي (2/ 129) .
[2] لفظة «وإسحاق» سقطت من «العبر» للذهبي فتستدرك فيه.(4/15)
وإقامته السّنن في فداء المسلمين، واحترازه عن مجالس الأمير.
وقال الدارقطنيّ: خرج حاجّا، فامتحن بدمشق، وأدرك الشهادة، فقال: احملوني إلى مكّة، فحمل، وتوفي بها في شعبان.
قال: وكان أفقه مشايخ مصر في عصره وأعلمهم بالحديث. قاله في «العبر» [1] .
وقال السيوطيّ في «حسن المحاضرة» [2] : الحافظ [الإمام] [3] شيخ الإسلام، أحد الأئمة المبرّزين والحفاظ المتقنين [4] والأعلام المشهورين، جال البلاد، واستوطن مصر، فأقام بزقاق القناديل.
قال أبو علي النيسابوري: رأيت من أئمة الحديث أربعة في وطني وأسفاري: النسائي بمصر، وعبدان بالأهواز، ومحمد بن إسحاق، وإبراهيم بن أبي طالب بنيسابور.
وقال الحاكم: النسائيّ أفقه مشايخ أهل [5] مصر في عصره، وأعرفهم بالصحيح والسّقيم من الآثار، وأعرفهم بالرّجال.
وقال الذهبيّ: هو أحفظ من مسلم، له من المصنفات «السّنن الكبرى» و «الصّغرى» وهي إحدى الكتب الستة [6] ، و «خصائص علي» و «مسند علي»
__________
[1] (2/ 129- 130) .
[2] (1/ 349- 350) .
[3] زيادة من «حسن المحاضرة» .
[4] في «حسن المحاضرة» : «المثقفين» .
[5] لفظة «أهل» لم ترد في «حسن المحاضرة» .
[6] قلت: نقل المؤلف هذا الكلام عن «حسن المحاضرة» للسيوطي، الذي عزاه إلى الحافظ الذهبي ولم يصرح باسم المصدر الذي نقل عنه كلامه، وهذا الكلام يؤيد ما ذكره الإمام ابن الأثير في «جامع الأصول» (1/ 197) ووافقه عليه عدد كبير من أهل العلم فيما بعد، وذكر الحافظ الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (14/ 131) رأيا آخر قال فيه بأن «السنن الصغرى» أو ما يعرف ب «المجتنى» أو «المجتبى» من اختيار ابن السني، وتبعه بعض العلماء المعاصرين.(4/16)
و «مسند مالك» . ولد سنة خمس وعشرين ومائتين.
قال ابن يونس: كان خروجه من مصر في سنة اثنتين وثلاثمائة، ومات بمكّة، وقيل: بالرملة. انتهى ما قاله السيوطي.
وقال ابن خلّكان [1] : قال محمد بن إسحاق الأصبهاني: سمعت مشايخنا بمصر يقولون: إن أبا عبد الرّحمن فارق مصر في آخر عمره، وخرج إلى دمشق، فسئل عن معاوية وما روي من فضائله، فقال: أما يرضى معاوية أن يخرج رأسا برأس، حتى يفضّل؟
وفي رواية [أخرى] [2] ما أعرف له فضيلة إلا «لا أشبع الله بطنك» [3] .
وكان يتشيّع، فما زالوا يدافعونه في خصيتيه [4] ، وداسوه، ثم حمل إلى مكّة فتوفي بها [5] وهو مدفون بين الصّفا والمروة.
وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني: لما داسوه بدمشق مات بسبب ذلك الدّوس، فهو مقتول [6] وكان صنّف كتاب «الخصائص» في فضل علي بن أبي طالب، رضي الله عنه وأهل البيت، وأكثر روايته [7] فيه عن الإمام أحمد بن حنبل، رضي الله عنه، فقيل له: ألا صنّفت في فضل الصحابة، رضي الله عنهم، كتابا، فقال: دخلت دمشق والمنحرف عن علي رضي الله
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (1/ 77- 78) والمؤلف ينقل عنه باختصار وتصرف.
[2] زيادة من «وفيات الأعيان» .
[3] رواه مسلم رقم (2604) في البر والصلة: باب من لعنه النبيّ، صلى الله عليه وسلم، وسبّه أو دعا عليه وليس هو أهلا لذلك، كان له زكاة وأجرا ورحمة، من حديث عبد الله بن عبّاس، رضي الله عنهما بلفظ: «لا أشبع الله بطنه» .
[4] في «وفيات الأعيان» : «يدفعون في خصييه» .
[5] في «وفيات الأعيان» : «ثم حمل إلى الرملة فمات بها» وهو ما رجحه الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (14/ 132) .
[6] في «وفيات الأعيان» : «وهو منقول» .
[7] في «وفيات الأعيان» : «وأكثر رواياته» .(4/17)
عنه كثير، فأردت أن يهديهم الله بهذا الكتاب، وكان إماما في الحديث، ثقة، ثبتا، حافظا. انتهى ملخصا.
وفيها الحافظ الكبير أبو العبّاس الحسن بن سفيان الشّيبانيّ النّسويّ نسبة إلى نسا مدينة بخراسان- صاحب «المسند» و «الأربعين» . تفقه على أبي ثور، وكان يفتي بمذهبه، وسمع من أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، والكبار، وكان ثقة، حجة، واسع الرحلة.
قال الحاكم: كان محدّث خراسان في عصره، مقدّما في التثبت، والكثرة، والفهم، والأدب، والفقه، توفي في رمضان.
وقال ابن ناصر الدين: الحسن بن سفيان بن عامر، أبو العبّاس، الشيباني النسائي، ويقال: النسوي، صاحب «المسند» الكبير، و «كتاب الأربعين» وكان شيخ خراسان في وقته، مقدّما في حفظه، وفقهه، وأدبه، وثقته، وثبته. قلبت عليه أحاديث وعرضت، فردّها كما كانت ورويت. انتهى.
وفيها أبو علي الجبّائي- بالضم والتشديد، نسبة إلى جبّى بالقصر قرية بالبصرة [1]- وهو محمد بن عبد الوهاب البصري، شيخ المعتزلة، وأبو شيخ المعتزلة أبي هاشم، وعن أبي علي أخذ شيخ زمانه أبو الحسن الأشعري، ثم رجع عن مذهبه، وله معه مناظرات في الثلاثة الأخوة وغيرها، دوّنها النّاس، وسيأتي شيء منها في ترجمة الأشعري [2] إن شاء الله تعالى.
__________
[1] قلت: وهو خطأ. قال ياقوت في «معجم البلدان» (2/ 97) : جبّى: بالضم ثم التشديد، والقصر: بلد، أو كورة من عمل خوزستان، ومن الناس من جعل عبّادان من هذه الكورة، وهي في طرف من البصرة والأهواز، حتّى جعل من لا خبرة له «جبّى» من أعمال البصرة، وليس الأمر كذلك، ومن «جبّى» هذه أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبّائي المتكلم المعتزلي صاحب التصانيف، مات سنة (303) ، وانظر «المشترك وضعا والمفترق صقعا» لياقوت ص (92) ، ونسب الزّبيدي المترجم في «تاج العروس» (جبأ) إلى «الجبّاء» فراجعه.
[2] انظر ص (131- 132) من هذا المجلد.(4/18)
وفيها أحمد بن الحسين بن إسحاق، أبو الحسين [1] البغداديّ، المعروف بالصّوفيّ الصغير. روى عن إبراهيم التّرجماني، وجماعة.
قال في «المغني» [2] : وثقه الحاكم وغيره، ولّينه بعضهم. انتهى.
وفيها أبو جعفر أحمد بن فرح البغداديّ المقرئ الضرير، صاحب أبي عمرو الدّوري، تصدّر للإقراء مدة طويلة. وروى الحديث عن ابن المديني.
وفيها إسحاق بن إبراهيم النيسابوري البشتي [3] روى عن قتيبة وخلق.
وقال ابن ناصر الدّين: هو إسحاق بن إبراهيم بن نصر النيسابوري البشتي، أبو يعقوب، كان إماما حافظا. صنّف «المسند» في ثلاث مجلدات كبار وهو غير أبي محمد بن إسحاق بن إبراهيم البستي- بسين مهملة على الصحيح- وهذا أي الثاني يروي عن هشام بن عمّار. توفي سنة سبع وثلاثمائة، وقد بينت ذلك في [4] كتابي «التوضيح» [5] . انتهى.
قلت: والبشتي: بضم الباء وسكون المعجمة، نسبة إلى بشت قرية بهراة، وبلدة بنيسابور [6] منها صاحب الترجمة.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «أبو إسحاق» وهو خطأ، والتصحيح من «تاريخ بغداد» (4/ 98) ، و «سير أعلام النبلاء» (14/ 153) ، و «العبر» (2/ 131) .
[2] «المغني في الضعفاء للذهبي (1/ 37) .
[3] انظر «الإكمال» لابن ماكولا (1/ 433) و «الأنساب» للسمعاني (2/ 227) ، و «معجم البلدان» (1/ 425) .
[4] لفظة «في» سقطت من الأصل وأثبتها من المطبوع.
[5] انظر «توضيح المشتبه» (1/ 497- 498) بتحقيق الأستاذ الفاضل محمد نعيم العرقسوسي، طبع مؤسسة الرسالة ببيروت.
[6] انظر «معجم البلدان» (1/ 425) .(4/19)
وفيها إبراهيم بن إسحاق النيسابوري، أبو إسحاق الأنماطي [1] هو حافظ، ثبت، رحّال، وهو صاحب «التفسير» روى عن إسحاق بن راهويه، وأحمد بن حنبل، وكان الإمام أحمد ينبسط في منزله، ويفطر عنده.
وفيها جعفر بن أحمد بن نصر الحافظ، أبو محمد النيسابوري، المعروف بالحصيري [2] . سمع إسحاق بن راهويه، وكان حافظا عابدا.
وعبد الله بن محمد بن يونس السّمناني [3] أبو الحسين، أحد الثقات الرّحالة. سمع إسحاق، وعيسى زغبة [4] وطبقتهما.
وفيها عمر بن أيوب السّقطي [5] ، ببغداد. روى عن بشر بن الوليد وطبقته.
وفيها محمد بن العبّاس الدّرفس [6] الغسّاني، أبو عبد الرحمن [7] الدمشقي، الرجل الصالح. روى عن هشام بن عمّار، وعدة.
ومحمد بن المنذر، أبو عبد الرّحمن الهروي الحافظ، المعروف بشكّر [8] . طوّف وجمع، وروى عن محمد بن رافع وطبقته.
قال ابن ناصر الدين: وشكّر، هو محمد بن المنذر بن سعيد بن عثمان ابن رجاء بن عبد الله بن العبّاس بن مرداس السّلمي الهروي القهندي، أبو جعفر، ويقال: أبو عبد الرحمن، ثقة. انتهى.
__________
[1] انظر ترجمته في «تذكرة الحفاظ» للذهبي (1/ 701) و «طبقات المفسرين» للداودي (1/ 5) .
[2] انظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 217- 220) .
[3] انظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 194- 195) .
[4] هو عيسى بن حماد بن مسلم التّجيبي، أبو موسى. تقدمت ترجمته في المجلد الثالث من كتابنا هذا ص (223) فراجعها هناك.
[5] انظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 245) .
[6] انظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 245- 246) وفيه قال الذهبي: الدّرفس: من أسماء الأسد.
[7] في المطبوع: «أبو عبد الرحمن الغساني» .
[8] انظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 221- 222) .(4/20)
سنة أربع وثلاثمائة
قال في «الشذور» : فيها استوزر أبو الحسن بن الفرات [1] ، فركب إلى داره، فسقى النّاس يومئذ في داره أربعين ألف رطل من الثلج. انتهى.
وفيها غزا مؤنس الخادم بلاد الرّوم من ناحية ملطية، وافتتح حصونا وأثر أثرة [حسنة] [2] .
وفيها توفي أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله المخرّمي [3] . روى عن عبيد الله القواريري وجماعة، ضعفه الدارقطني.
وقال في «المغني» [4] : قال الدارقطني: ليس بثقة، حدّث ببواطيل.
انتهى.
وإسحاق بن إبراهيم أبو يعقوب المنجنيقي. روى عن داود بن رشيد وطبقته، وهو بغدادي نزل مصر، وكان يحدّث عن منجنيق بجامع مصر، فقيل له: المنجنيقي.
__________
[1] هو الوزير الكبير أبو الحسن علي بن أبي جعفر محمد بن موسى بن الحسن بن الفرات، العاقولي، الكاتب. انظر ترجمته ومصادرها في «سير أعلام النبلاء» (14/ 474- 479) .
[2] زيادة من «العبر» للذهبي (2/ 133) مصدر المؤلف في نقله.
[3] في الأصل: «المخزومي» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب، وانظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 196- 197) .
[4] انظر «المغني في الضعفاء» للذهبي (1/ 18) .(4/21)
قال ابن ناصر الدّين: حدّث عنه النّسائيّ فيما قيل، وله كتاب «رواية الكبار عن الصغار والآباء عن الأبناء» . انتهى.
وفيها مات الأمير زيادة الله بن عبد الله الأغلبي من أمراء القيروان.
حارب المهديّ الذي خرج بالقيروان، ثمّ عجز عنه، وهرب إلى الشام، ومات بالرّقّة، وقيل: بالرّملة.
وفيها الحافظ عبد الله بن مظاهر الأصبهاني شابا، وكان قد حفظ جميع «المسند» وشرع في حفظ أقوال الصحابة والتابعين. روى عن مطيّن يسيرا.
وفيها القاسم بن اللّيث بن مسرور الرّسعنيّ العتّابيّ، أبو صالح، نزيل تنّيس. روى عن المعافي الرّسعني، وهشام بن عمّار.
وفيها يموت بن المزرّع، أبو بكر العبدي البصري [1] الأخباري العلّامة، وهو في عشر الثمانين. روى عن خاله الجاحظ، وأبي حفص الفلّاس وطبقتهما.
وقال ابن الأهدل: هو ابن أخت أبي عمرو الجاحظ. كان أديبا أخباريا، صاحب ملح ونوادر، وكان لا يعود مريضا خشية أن يتطيروا باسمه، ومدحه منصور الضرير فقال:
أنت تحيا والذي يك ... ره أن تحيا يموت [2]
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «النضري» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (2/ 134) .
وانظر «وفيات الأعيان» (7/ 53- 61) ، و «سير أعلام النبلاء» (14/ 247- 248) .
[2] رواية البيت في الأصل، والمطبوع:
أنت يحيى والذي يك ... ره أن يحيا يموت
وأثبت رواية «وفيات الأعيان» (7/ 54) .(4/22)
أنت صنو النّفس بل أن ... ت لروح النّفس قوت
[1] انتهى.
وزاد ابن خلّكان بيتا وهو:
أنت للحكمة بيت ... لا خلت منك البيوت
وقال ابن خلّكان [2] : وكان يقول: بليت بالاسم الذي سمّاني به أبي [3] فإني إذا عدت مريضا فاستأذنت عليه، فقيل: من هذا؟ قلت: ابن المزرع، وأسقطت اسمي.
وقال ابن المزرع [4] : رؤي قبر بالشام عليه مكتوب: لا يغترنّ أحد بالدّنيا فإني ابن من كان يطلق الرّيح إذا شاء ويحبسها إذا شاء، وبحذائه قبر مكتوب عليه: كذب الماصّ بظر أمه، لا يظن أحد أنه ابن سليمان بن داود، عليهما السلام، إنما هو ابن حدّاد يجمع الريح في الزّق ثم ينفخ بها النّار [5] .
قال: فما رأيت قبلهما قبرين يتشاتمان.
وكان له ولد يدعى أبا نضلة [6] مهلهل بن يموت بن المزرع، وكان شاعرا مجيدا ذكره المسعودي في «مروج الذهب ومعادن الجوهر» [7] فقال:
هو من شعراء زمانه.
وفيه يقول أبوه مخاطبا له:
__________
[1] رواية البيت في الأصل والمطبوع:
أنت ضوء الشمس بل أن ... ت لروح النفس قوت
وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» و «غربال الزمان» للعامري ص (270) .
[2] في «وفيات الأعيان» (7/ 54) .
[3] في «وفيات الأعيان» : «الذي سمّاني أبي به» .
[4] لا زال المؤلف ينقل عن «وفيات الأعيان» (7/ 57) .
[5] في «وفيات الأعيان» : «الجمر» .
[6] في الأصل والمطبوع: «أبو فضلة» والتصحيح من «وفيات الأعيان» و «تاريخ بغداد» (13/ 273) .
[7] (4/ 197) .(4/23)
مهلهل قد حلبت شطور دهري ... وكافحني بها الزّمن العنوت
وحاربت الرّجال بكلّ ربع ... فأذعن لي الحثالة والرّتوت
فأوجع ما أجنّ [1] إليه قلبي ... كريم غشّه [2] زمن عنوت [3]
كفي حزنا بضيعة ذي قديم ... وأبناء العبيد لها التّخوت [4]
وقد أسهرت [5] عيني بعد غمض ... مخافة أن تضيع إذا فنيت
وفي لطف المهيمن لي عزاء ... بمثلك إن فنيت وإن بقيت
وفي لطف المهيمن لي عزاء ... بمثلك إن فنيت وإن بقيت
فجب في الأرض وابغ بها علوما ... ولا تقطعك جائحة شتوت [6]
وإن بخل العليم عليك يوما ... فذلّ له وديدنك السّكوت
وقل بالعلم كان أبي جوادا ... يقولوا من أبوك [7] فقل يموت
يقرّ لك الأباعد والأداني ... بعلم ليس يجحده البهوت
ومن شعر مهلهل [8] :
جلّت محاسنه عن كلّ تشبيه ... وجلّ عن واصف في النّاس يحكيه
انظر إلى حسنه واستغن عن صفتي ... سبحان خالقه، سبحان باريه
النّرجس الغضّ والورد الجنيّ له ... والأقحوان النّضير النّضر في فيه
دعا بألحاظه قلبي إلى عطبي ... فجاءه مسرعا طوعا يلبّيه
مثل الفراشة تأتي إذ ترى لهبا ... إلى السّراج فتلقي نفسها فيه
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «ما أحن» وأثبت لفظ «مروج الذهب» و «وفيات الأعيان» .
[2] في «مروج الذهب» : «عضه» وفي «وفيات الأعيان» : «غته» .
[3] في «مروج الذهب» : «عتوت» ، وفي «وفيات الأعيان» : «غتوت» .
[4] في «وفيات الأعيان» : «النجوت» .
[5] في «مروج الذهب» : «أشهرت» .
[6] في «مروج الذهب» : «سنوت» ، وفي «وفيات الأعيان» : «سبوت» ، وفي رواية هذا البيت والذي قبله وبعده بعض الخلاف في «مروج الذهب» .
[7] في «مروج الذهب» و «وفيات الأعيان» : «يقال ومن أبوك» .
[8] في «وفيات الأعيان» : «ومن المنسوب إلى مهلهل أيضا» .(4/24)
وفيها توفي الشيخ الكبير، شيخ الرّيّ والجبال في التصوف، أبو يعقوب، يوسف بن الحسين الرّازي، كان نسيج وحده في إسقاط التصنّع.
صحب ذا النّون [المصري] [1] وأبا تراب [النّخشبي] [2] .
ومن كلامه: لأن ألقى الله تعالى بجميع المعاصي، أحبّ إليّ من أن ألقاه بذرّة من التصنّع، وإذا رأيت المريد يشتغل بالرخص، فاعلم أنه لا يجيء منه شيء.
وكتب إلى الجنيد: لا أذاقك الله طعم نفسك، فإنك إن ذقتها لا تذوق بعدها خيرا أبدا.
وقال: علم القوم بأنّ الله يراهم، فاستحيوا من نظره أن يراعوا شيئا سواه [3] .
وكان يقول: اللهم إنك تعلم أني نصحت النّاس قولا، وخنت نفسي فعلا، فهب لي خيانة نفسي بنصيحتي للنّاس.
وروى عن أحمد بن حنبل، ودحيم، وطائفة.
__________
[1] زيادة من «العبر» للذهبي (2/ 134) مصدر المؤلف في نقله.
[2] زيادة من «طبقات الصوفية» للسلمي ص (185) .
[3] انظر «طبقات الصوفية» ص (187) .(4/25)
سنة خمس وثلاثمائة
فيها على ما قاله في «الشذور» أهدى صاحب عمان للسلطان طرائف من البحر، فيها طائر أسود يتكلم بالفارسية والهندية، أفصح من الببّغاء.
انتهى.
وفيها قدم رسول ملك الرّوم بطلب [1] الهدنة، فاحتفل المقتدر بجلوسه له.
قال الصولي، وغيره: أقاموا الجيش بالسلاح من باب الشّمّاسية، وكان مائة وستين ألفا، ثم الغلمان، وكانوا سبعة آلاف، وكانت الحجّاب سبعمائة، وعلّقت ستور الدّيباج، فكانت ثمانية وثلاثين ألف ستر، ومن البسط وغيرها ما يذهب بالبصر حسنا، ومما كان في الدار مائة سبع مسلسلة، ثم أدخل الرسول دار الشجرة، وفيها بركة فيها شجرة لها أغصان، عليها طيور مذهّبة، وورقها ألوان مختلفة، وكل طائر يصفّر لونا بحركات مصنوعة [تغنّي] [2] ، ثم أدخل إلى داره المسمّاة [3] بالفردوس، وفيها من الفرش والآلات ما لا يقوّم.
وفيها أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الرّحمن بن شيرويه بن أسد القرشيّ المطلبيّ النيسابوري [4] ، أحد الحفاظ. سمع إسحاق بن
__________
[1] في المطبوع و «العبر» : «يطلب» .
[2] زيادة من «العبر» للذهبي (2/ 135) مصدر المؤلف في نقله.
[3] قوله «إلى داره المسماة» لم يرد في «العبر» للذهبي.
[4] انظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 166- 168) .(4/26)
راهويه، وأحمد بن منيع وطبقتهما، وصنف التصانيف، وكان ثقة.
وفيها محدّث جرجان عمران بن موسى [1] . سمع هدبة بن خالد وطبقته، ورحل وصنّف، وكان من الثقات الأثبات، وتوفي في رجب.
وفيها [2] أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحيّ البصريّ [3] مسند العصر، في ربيع الآخر، وله مائة سنة إلا بعض سنة، وكان محدّثا، متقنا، ثبتا أخباريا، عالما. روى عن مسلم بن إبراهيم، وسليمان بن حرب وطبقتهما.
وفيها علي بن سعيد العسكري [4] نزيل الرّيّ. كان من الأثبات الحفاظ.
وفيها القاسم بن زكريا أبو بكر المطرّز، ببغداد، روى عن سويد بن سعيد وأقرانه، وقرأ على الدّوري [5] وأقرأ النّاس، وجمع وصنف، وكان ثقة.
ومحمد بن إبراهيم بن أبان السّرّاج [6] البغدادي. روى عن يحيى الحمّاني، وعبيد الله القواريري وجماعة.
وفيها محمد بن إبراهيم بن نصر [7] بن شبيب، أبو بكر، الأصبهاني. روى عن أبي ثور الكلبي وجماعة [8] .
__________
[1] انظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 136- 137) .
[2] لفظة «فيها» لم ترد في المطبوع.
[3] انظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 7- 11) .
[4] انظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 463- 464) .
[5] هو حفص بن عمر بن عبد العزيز بن صبهان الدوري البغدادي. تقدمت ترجمته في المجلد الثالث من كتابنا هذا ص (212- 213) فراجعها.
[6] انظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 222) .
[7] في «العبر» للذهبي (2/ 136) : «يحيى بن نصر» وهو خطأ. انظر «تهذيب الكمال» للمزي (1/ 53) مصوّرة دار المأمون للتراث بدمشق، و «تهذيب التهذيب» لابن حجر (1/ 118) .
[8] في المطبوع و «العبر» للذهبي: «وغيره» .(4/27)
وفيها محمد بن نصير [1] أبو عبد الله المدني [2] روى عن إسماعيل ابن عمرو البجلي وجماعة، ووثقه الحافظ أبو نعيم.
وفيها محمد بن إبراهيم بن حيّون الأندلسي الحجازي [3] ، أبو عبد الله، ثقة، صدوق.
__________
[1] في «العبر» : «محمد بن نصر» وهو خطأ. وانظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 138) .
[2] في «العبر» و «سير أعلام النبلاء» : «المديني» وهو صواب أيضا، فالنسبة إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، «مدني» و «مديني» . انظر «الأنساب « (11/ 202) .
[3] انظر «سير أعلام النبلاء» للذهبي (14/ 412- 413) .(4/28)
سنة ست وثلاثمائة
فيها وقبلها، أمرت أم المقتدر في أمور الأمة ونهت لركاكة ابنها، فإنه لم يركب للنّاس ظاهرا منذ استخلف إلى سنة إحدى وثلاثمائة، ثم ولّى ابنه عليا إمرة مصر وغيرها، وهو ابن أربع سنين، وهذا من الوهن الذي دخل على الأمة.
ولما كان في هذا العام أمرت أمّ المقتدر ثمل [1] القهرمانة أن تجلس للمظالم وتنظر في القصص كل جمعة بحضرة القضاة، وكانت تبرز التواقيع وعليها خطها.
وفيها أقبل القائم محمد بن المهدي صاحب المغرب في جيوشه، فأخذ الإسكندرية وأكثر الصعيد ثم رجع.
وفيها توفي أحمد بن الحسن بن عبد الجبّار، أبو عبد الله الصوفي [2] ببغداد. روى عن علي بن الجعد، ويحيى بن معين، وجماعة. وكان ثقة صاحب حديث، مات عن نيّف وتسعين سنة.
وفيها القاضي أبو العبّاس أحمد بن عمر بن سريج البغدادي [3] شيخ
__________
[1] في «العبر» : «مثل» وهو خطأ. وانظر «صلة تاريخ الطبري» للقرطبي ص (109) ، و «تكملة تاريخ الطبري» للهمذاني ص (227) طبع دار المعارف بمصر.
[2] انظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 152- 153) .
[3] انظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 201- 204) .(4/29)
الشافعية وصاحب التصانيف، في جمادى الأولى، وله سبع وخمسون سنة وستة أشهر، وكان يقال له: الباز الأشهب، ولي قضاء شيراز، وله من المصنفات أربعمائة مصنف. روى الحديث عن الحسن بن محمد الزّعفراني وجماعة.
قال الإسنوي: قال الشيخ أبو إسحاق: كان ابن سريج يفضّل على جميع أصحاب الشافعيّ حتّى على المزني. انتهى.
وقال ابن خلّكان [1] : وأخذ الفقه عن أبي القاسم الأنماطي، وعنه أخذ فقهاء الإسلام، ومنه انتشر مذهب الإمام الشافعي في أكثر الآفاق.
وكان يناظر أبا بكر محمد بن داود الظاهري، وحكي أنه قال له أبو بكر يوما: أبلعني ريقي، فقال له: أبلعتك دجلة.
وقال له يوما: أمهلني ساعة، قال: أمهلتك من الساعة إلى قيام الساعة.
وقال له يوما: أكلمك من الرّجل فتجيبني من الرأس، فقال له: هكذا البقر، إذا جفّت [2] أظلافها [3] دهنت قرونها.
وكان يقال له في عصره: إن الله تعالى بعث عمر بن عبد العزيز على رأس المائة من الهجرة فأظهر كل سنّة وأمات كل بدعة، ومن الله تعالى على رأس المائتين بالإمام الشّافعيّ حتّى أظهر السّنّة وأخفى البدعة، ومن الله تعالى على رأس الثلاثمائة بك حتّى قويت كل سنّة وأضعفت كل بدعة.
وكان له مع فضائله نظم حسن. انتهى كلام ابن خلّكان.
__________
[1] في «وفيات الأعيان» (1/ 66- 67) .
[2] في «وفيات الأعيان» : «إذا حفيت» .
[3] الأظلاف: جمع ظلف. قال ابن منظور: الظّلف للبقر والغنم كالحافر للفرس والبغل، والخف للبعير، وقد يطلق الظّلف على ذات الظّلف أنفسها مجازا. «لسان العرب» (ظلف) .(4/30)
قلت: وإليه تنسب المسألة السريجية، وهي أن يقول الرجل لزوجته:
كلما، أو إن وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا، ثم يقول: أنت طالق.
قال ابن سريج: لا يقع شيء للدور.
قال البلقيني بجواز تقليد مصحح الدور في السريجية ومقلده لا يأثم، وإن كنت لا أفتي بصحته لأن الفروع الاجتهادية لا يعاقب عليها، وإن ذلك ينفع عند الله تعالى، ذكره عنه ابن حجر الهيتمي، والله أعلم.
وقال ابن الأهدل: ومن غرائب ابن سريج أنه كان يقول بلزوم الحكم بالحكاية. انتهى.
وفيها أبو عبد الله بن الجلّاء [1] الزاهد المشهور، شيخ الصوفية، واسمه أحمد بن يحيى [2] . صحب ذا النّون المصري والكبار، وكان قدوة أهل الشام. توفي في رجب. وقد سئل عن المحبة فقال: ما لي وللمحبة، أنا أريد أن أتعلم التوبة.
قال السخاوي في «طبقاته» [3] : أحمد بن يحيى بن الجلّاء بغدادي الأصل، أقام بالرّملة ودمشق، وكان من جلّة مشايخ الشام. صحب أباه يحيى بن الجلّاء، وأبا تراب النّخشبي، وذا النّون المصري، وأبا عبيد البسري، وكان أستاذ محمد بن داود الدّقّي.
وكان عالما ورعا. كان يقال: إن في الدّنيا ثلاثة من أئمة الصوفية، لا رابع لهم: الجنيد ببغداد، وأبو عثمان الحيري بنيسابور، وأبو عبد الله أحمد بن الجلّاء بالشام.
__________
[1] انظر «طبقات الصوفية» ص (176- 179) ، و «سير أعلام النبلاء» (14/ 251- 252) .
[2] في «طبقات الصوفية» و «سير أعلام النبلاء» : «ويقال محمد بن يحيى» .
[3] قلت: الذي جاء في النص هنا يماثل ما عند السلمي في «طبقات الصوفية» ص (176) فراجعه.(4/31)
قال ابن الجلّاء: من بلغ بنفسه إلى رتبة سقط عنها، ومن بلغ بالله ثبت عليها.
وسئل: على أيّ شيء تصحب الخلق [1] ؟ فقال: إن لم تبرّهم فلا تؤذهم، وإن لم تسرّهم فلا تسؤهم.
وقال: لا تضيّعنّ حقّ أخيك اتّكالا على ما بينك وبينه من المودّة والصداقة، فإن الله تعالى فرض لكل مؤمن حقوقا لا يضيّعها إلا من لم يراع حقوق الله عليه.
وقال: من استوى عنده المدح والذمّ فهو زاهد، ومن حافظ على الفرائض في أول مواقيتها فهو عابد، ومن رأى الأفعال كلّها من الله [عزّ وجل] فهو موحّد.
وسئل: ما تقول في الرجل يدخل البادية بلا زاد؟ قال: هذا من فعل رجال الله [عزّ وجل] .
قيل: فإن مات؟ قال: الدّيّة على القاتل [2] .
وقال: اهتمامك بالرزق يزيلك عن الحق، ويفقرك إلى الخلق.
وسئل مرة عن علم الصفات: فقال:
كيفية المرء ليس المرء يدركها ... فكيف كيفيّة الجبّار في القدم
هو الذي أحدث الأشياء مبتدعا ... فكيف يدركه مستحدث النسم
انتهى.
وفيها حاجب [بن مالك] [3] بن أركين الفرغاني الضّرير المحدّث.
روى عن أحمد بن إبراهيم الدّورقي وجماعة، وله جزء مشهور.
__________
[1] في «طبقات الصوفية» للسلمي: «على أي شرط أصحب الخلق» وهو أصوب.
[2] أقول: من السّنّة أن يحمل الزاد، ويعمل بالأسباب، وهذا فعل المتوكلين على الله تعالى. (ع) .
[3] ما بين حاصرتين زيادة من «سير أعلام النبلاء» (14/ 258) و «مختصر تاريخ دمشق» لابن منظور (6/ 145) طبع دار الفكر بدمشق.(4/32)
والحسين بن حمدان التّغلبي [1] ذبح في حبس المقتدر بأمره.
وفيها الإمام أبو محمد، عبدان بن أحمد بن موسى الأهوازي الجواليقي [2] ، الحافظ الثقة، صاحب التصانيف. سمع سهل بن عثمان، وأبا بكر بن أبي شيبة، وطبقتهما، وكان يحفظ مائة ألف حديث، ورحل إلى البصرة ثماني عشرة مرّة. توفي في آخر السنة، وله تسعون سنة وأشهر.
وفيها محمد بن خلف بن [حيّان بن صدقة] [3] ، وكيع القاضي [4] أبو بكر الأخباري، صاحب التصانيف. روى عن الزّبير بن بكّار وطبقته، وولي قضاء الأهواز.
قال في «المغني» [5] : مشهور، له تآليف [6] .
قال ابن المنادي: فيه لين. انتهى.
وفيها الفقيه الإمام أبو الحسن منصور بن إسماعيل بن عمر التميمي [7] [المصري] الضّرير. أصله من رأس عين، بلدة بالجزيرة [8] له مصنفات في مذهب الشافعي حسان، وشعر جيد، أصابته فاقة في سنة قحط، فنادى بأعلى صوته فوق داره:
__________
[1] انظر «الوافي بالوفيات» للصفدي (12/ 360) ، و «العبر» للذهبي (2/ 138) .
[2] انظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 168- 173) و «العبر» (2/ 139) .
[3] زيادة من «سير أعلام النبلاء» (14/ 237) والمصادر التي ذكرت في هامشه.
[4] انظر «العبر» (2/ 139) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 237) .
[5] انظر «المغني في الضعفاء» للذهبي (2/ 576) .
[6] في «المغني» : «له تواليف» .
[7] انظر «غربال الزمان» ص (271) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 238) .
[8] قال ياقوت في «معجم البلدان» (3/ 14) : وهي مدينة كبيرة مشهورة من مدن الجزيرة بين حرّان ونصيبين ودنيسر، وبينها وبين نصيبين خمسة عشر فرسخا وقريب من ذلك بينها وبين حرّان، وهي إلى دنيسر أقرب، بينهما نحو عشرة فراسخ. وفي الأصل والمطبوع: «بلدة بالجيزة» وهو خطأ.
قلت: وتقع الآن في أقصى الشمال الأوسط من سورية.(4/33)
الغياث الغياث يا أحرار ... نحن فقراء [1] وأنتم تجار
إنما تحسن المواساة في الش ... دة لا حين ترخص الأسعار
[2] فسمعه جيرانه، فأصبح على بابه مائة حمل برّ.
قال الإسنويّ: كان فقيها متصرفا في علوم كثيرة، لم يكن في زمانه في مصر مثله.
قال الشيخ أبو إسحاق [3] : قرأ على أصحاب الشافعي، وأصحاب أصحابه، وله مصنفات في الفقه [4] مليحة، منها «الهداية» و «المسافر» و «الواجب» و «المستعمل» وغيرها. وله شعر مليح، وكان شاعرا خبيث اللسان في الهجو، وكان جنديا، ومن شعره:
لي حيلة فيمن ينمّ ... وليس في الكذّاب حيله
من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتي فيه قليله
[5] وله أيضا:
الكلب أحسن عشرة ... وهو النهاية في الخساسة
ممّن ينازع في الرّيا ... سة قبل أوقات الرّياسه
[6] نقل عنه الرافعي في الجنايات أن مستحق القصاص يجوز له استيفاؤه بغير إذن الإمام. انتهى ملخصا.
__________
[1] في «غربال الزمان» و «وفيات الأعيان» (5/ 290) : «نحن خلجناكم» .
[2] في الأصل، والمطبوع ورد البيتان على شكل كلام نثري للمترجم وهو خطأ، وقد حصل بعض التحريف في بعض ألفاظ البيتين في «غربال الزمان» و «وفيات الأعيان» .
[3] انظر «طبقات الفقهاء» للشيرازي ص (107- 108) وقد نقل المؤلف عنه بتصرّف.
[4] في «طبقات الفقهاء» و «وفيات الأعيان» : «في المذهب» .
[5] البيتان في «وفيات الأعيان» (5/ 290) وهما في «سير أعلام النبلاء» برواية أخرى.
[6] البيتان في «وفيات الأعيان» (5/ 290) .(4/34)
سنة سبع وثلاثمائة
فيها كما قال في «الشذور» : انقضّ كوكب عظيم وتقطّع ثلاث قطع، وسمع بعد انقضاضه صوت رعد عظيم هائل من غير غيم.
وفيها كانت الحروب والأراجيف الصعبة بمصر، ثم لطف الله وأوقع المرض في المغاربة، ومات جماعة من أمرائهم، واشتدت علّة القائم محمد بن المهدي.
وفيها دخلت القرامطة البصرة، فنهبوا وسبوا.
وفيها توفي أبو العبّاس الأشناني، أحمد بن سهل [1] المقرئ المجوّد، صاحب عبيد بن الصبّاح، وكان ثقة. روى الحديث عن بشر بن الوليد وجماعة.
وفيها أبو يعلى الموصلي، أحمد بن علي بن المثنّى بن يحيى التميمي [2] الحافظ، صاحب «المسند» [3] روى عن علي بن الجعد،
__________
[1] انظر «العبر» (2/ 139- 140) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 226- 227) .
[2] انظر «العبر» (2/ 140) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 174- 182) .
[3] قلت: الصواب أن لهذا الإمام الكبير مسندان، الأول: «المسند الكبير» وهو مخطوط لا نعلم مكان وجوده. والثاني «المسند الصغير» وهو الذي قام بتحقيقه وتخريج أحاديثه الأستاذ المحقّق حسين الأسد، بتكليف من دار المأمون للتراث بدمشق، وقد صدر منه حتى الآن عشر مجلدات.(4/35)
وغسّان بن الرّبيع، والكبار. وصنّف التصانيف، وكان ثقة صالحا متقنا. توفي وله تسع وتسعون [1] سنة.
وفيها أبو يحيى زكريا بن يحيى السّاجي [2] البصري الحافظ، محدّث البصرة. روى عن هدبة بن خالد وطبقته. وله كتاب في علل الحديث.
قال الإسنوي: منسوب إلى السّاج، وهو نوع من الخشب.
كان أحد الأئمة الفقهاء الحفّاظ الثقات.
ذكره الشيخ أبو إسحاق في «طبقاته» [3] فقال: أخذ [الفقه] عن الرّبيع، والمزني. وصنّف كتاب «اختلاف الفقهاء» وكتاب «علل الحديث» وتوفي بالبصرة. انتهى.
وفيها أبو بكر عبد الله بن مالك بن سيف التّجيبي [4] مقرئ الدّيار المصرية. روى عن محمد بن رمح، وتلا على أبي يعقوب الأزرق صاحب ورش، وحدّث عنه ابن يونس، وتوفي في جمادي الآخرة، وعمّر دهرا طويلا.
وفيها أبو جعفر محمد بن صالح بن ذريح العكبري [5] المحدّث.
روى عن جبارة بن المغلّس وطائفة.
وفيها محمد بن علي بن مخلد بن فرقد الدّاركي الأصبهاني [6] آخر أصحاب إسماعيل بن عمرو البجلي، وآخر أصحابه أبو بكر بن المقرئ.
وفيها محمد بن هارون أبو بكر الرّوياني [7] الحافظ الكبير، صاحب
__________
[1] في «العبر» : «سبع وتسعون» وهو الصواب، فإنه ولد سنة (210) كما في «سير أعلام النبلاء» (14/ 174) .
[2] انظر «العبر» (2/ 140) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 197- 200) .
[3] انظر «طبقات الفقهاء» للشيرازي ص (104) وما بين حاصرتين زيادة منه.
[4] انظر «العبر» (2/ 140) و «معرفة القرّاء الكبار» للذهبي (1/ 231- 232) .
[5] انظر «العبر» (2/ 140) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 259- 260) .
[6] انظر «العبر» (2/ 141) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 137- 138) .
[7] انظر «العبر» (2/ 141) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 507- 510) .(4/36)
«المسند» . روى عن أبي كريب وطبقته، وله تصانيف في الفقه، وكان من الثقات.
وفيها أبو عمران الجوني موسى بن سهل [1] بالبصرة، وسكن بغداد، وكان ثقة رحّالا حافظا. سمع محمد بن رمح، وهشام بن عمّار وطبقتهما.
وفيها الحافظ أبو محمد الهيثم بن خلف الدّوري [2] ببغداد. روى عن عبيد الله بن عمر القواريري وطبقته، وجمع وصنّف، وكان ثقة.
ويحيى بن زكريّا النيسابوري أبو زكريّا الأعرج [3] أحد الحفّاظ بمصر، وهو عمّ محمد بن عبد الله بن زكريّا بن حيّويه [4] النيسابوري. دخل مصر على كبر السن، وروى عن قتيبة، وابن راهويه.
__________
[1] انظر «العبر» (2/ 141) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 261) .
[2] انظر «العبر» (2/ 141) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 261- 262) .
[3] انظر «العبر» (2/ 141) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 243- 244) .
[4] في الأصل، والمطبوع: «حيوة» والتصحيح من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» و «تذكرة الحفاظ» (2/ 744) و «تهذيب التهذيب» (11/ 210) .(4/37)
سنة ثمان وثلاثمائة
فيها ظهر اختلال الدولة العباسية، وجيّشت الغوغاء ببغداد، فركب الجند، وسبب ذلك كثرة الظلم من الوزير حامد بن العبّاس، فقصدت العامة داره، فحاربتهم غلمانه، وكان له مماليك كثيرة، فدام القتال أياما، وقتل عدد كثير، ثم استفحل البلاء، ووقع النهب في بغداد.
وجرت فيها فتن وحروب بمصر، وملك العبيديون جيزة الفسطاط، فجزعت الخلق وشرعوا في الهرب.
وفيها توفي الحافظ أبو الحسن علي بن سراج بن أبي الأزهر المصري [1] ، وكان من الضعفاء لفسقه بشرب المسكر.
قال الحافظ ابن ناصر الدّين في «بديعة البيان» :
ثمّ علي بن سراج المصري ... حوّله شرابه ففرّ
أي: حوّله عن العدالة إلى الفسق وعدم قبول الرّواية.
شربه المسكر ففرّ، أي: انفر منه وهو أمر من الفرار.
__________
[1] كذا في الأصل والمطبوع، و «تاريخ بغداد» (11/ 431) و «ميزان الاعتدال» (3/ 131) و «لسان الميزان» (4/ 230) : «المصري» وفي «تذكرة الحفاظ» (2/ 756) و «طبقات الحفاظ» ص (318) : «البصري» .(4/38)
وفيها إبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه أبو إسحاق النيسابوري [1] الرجل الصالح، راوي «صحيح مسلم» . روى عن محمد بن رافع، ورحل وسمع ببغداد، والكوفة، والحجاز، وقيل: كان مجاب الدعوة. قاله في «العبر» [2] .
وفيها أبو محمد إسحاق بن أحمد الخزاعي [3] مقرئ أهل مكّة وصاحب البزّي. روى «مسند العدني» [4] عن المصنّف [5] وتوفي في رمضان وهو في عشر التسعين.
وعبد الله بن [محمد بن] وهب الحافظ الكبير، أبو محمد الدّينوري [6] ، سمع الكثير، وطوّف الأقاليم، وروى عن أبي سعيد الأشجّ وطبقته.
قال ابن عدي [7] : سمعت عمر بن سهل يرميه بالكذب.
وقال الدار قطنّي: متروك.
__________
[1] انظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 311- 313) .
[2] (2/ 142) .
[3] انظر «العبر» (2/ 142- 143) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 289) و «معرفة القرّاء الكبار» (1/ 227) .
[4] في الأصل، والمطبوع: «مسند العدلي» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» و «معرفة القرّاء الكبار» .
[5] يعني عن مصنفه الإمام الحافظ محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني. تقدمت ترجمته في المجلد الثالث ص (199) .
[6] انظر «العبر» (2/ 143) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 400- 402) وما بين حاصرتين زيادة منهما، ويقال له أيضا: عبد الله بن حمدان بن وهب الدّينوري كما في «الكامل» لابن عدي.
[7] في «الكامل» (4/ 1579) طبع دار الفكر ببيروت، وفيه «عمر بن سهيل» .(4/39)
وقال أبو علي النيسابوري: بلغني أن أبا زرعة [1] كان يعجز عن مذاكرته.
وقال ابن ناصر الدّين: كان حافظا رحّالا لكنه عند الدارقطني وغيره من المتروكين، وقد قبله قوم وصدقوه فيما ذكره ابن عدي وعنه نقلوه. انتهى.
وفيها أبو الطيب محمد بن المفضّل بن سلمة بن عاصم الضّبيّ [2] ، الفقيه الشافعيّ، صاحب ابن سريج. أحد الأذكياء. صنّف الكتب، وهو صاحب وجه، وكان يرى تكفير تارك الصلاة، ومات شابا، وأبوه وجدّه من أئمة العربية.
وفيها المفضّل بن محمد أبو سعيد الجندي [3] ، محدّث مكّة. روى عن إبراهيم بن محمد الشافعي، والعدني، وجماعة، ووثّقه أبو علي النيسابوري.
وفيها أبو الفرج يعقوب بن يوسف [4] وزير العزيز بن المعتز العبيدي، صاحب مصر، وكان يعقوب أولا يهوديا يزعم أنه من ولد السّموأل بن عادياء صاحب حصن الأبلق باليمن، وكان في خدمة كافور الإخشيدي، وبعد وفاة كافور ولي الوزارة للعزيز، وكان يحب العلم والعلماء.
وقال له العزيز في مرضه: لو كنت تشترى لاشتريتك بملكي وولدي، ولما مات صلى عليه ودخل قبره. قاله ابن الأهدل، وهي من غلطاته، فإنه في هذا التاريخ لم يكن وجد، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى [5] .
__________
[1] في المطبوع: «بلغني أن أبا ذرعة» بالذال وهو خطأ.
[2] انظر «العبر» (2/ 143) و «وفيات الأعيان» (4/ 205) .
[3] انظر «العبر» (2/ 143) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 257- 258) .
[4] انظر «وفيات الأعيان» (7/ 27- 35) و «الأعلام» (8/ 202- 203) .
[5] انظر ص (422) من هذا المجلد.(4/40)
سنة تسع وثلاثمائة
فيها أخذت الإسكندرية، واستردّت إلى نوّاب الخليفة، ورجع العبيديّ إلى المغرب.
وفيها قتل أبو عبد الله الحسين بن منصور بن محمّى الفارسي الحلّاج، وكان محمّى مجوسيا.
قال في «العبر» [1] : تصوّف [2] الحلّاج وصحب سهل بن عبد الله التّستري، ثم قدم بغداد، فصحب الجنيد، والنّوري، وتعبّد فبالغ في المجاهدة والتّرقب [3] ، ثم فتن ودخل عليه الداخل من الكبر والرئاسة، فسافر إلى الهند وتعلم السّحر، فحصل له به حال شيطاني، وهرب منه الحال الإيماني، ثم بدت منه كفريات أباحت دمه وكسّرت صنمه، واشتبه على النّاس السّحر بالكرامات، فضلّ به خلق كثير، كدأب من مضى ومن يكون، إلى مقتل الدجال الأكبر [4] والمعصوم من عصمه الله [5] وقد جال هذا الرجل بخراسان، وما وراء النهر، والهند، وزرع في كل ناحية زندقة، فكانوا
__________
[1] (2/ 144) .
[2] تحرفت في «العبر» إلى «تطوّف» فتصحح فيه.
[3] في «العبر» : «والترهب» .
[4] في «العبر» : «مثل الدجال الأكبر» .
[5] في «العبر» : «من عصم الله» .(4/41)
يكاتبونه من الهند بالمغيث، ومن بلاد التّرك بالمقيت، لبعد الدّيار [1] عن الإيمان. وأما البلاد القريبة فكانوا يكاتبونه من خراسان بأبي عبد الله الزاهد، ومن خوزستان [2] بالشيخ حلّاج الأسرار، وسمّاه أشياعه ببغداد المصطلم، وبالبصرة المحير [3] ، ثم سكن بغداد في حدود الثلاثمائة وقبلها، واشترى أملاكا [4] وبنى دارا، وأخذ يدعو النّاس إلى أمور، فقامت عليه الكبار، ووقع بينه وبين الشّبلي، والفقيه محمد بن داود الظاهري، والوزير علي بن عيسى، الذي كان في وزارته، كابن هبيرة في وزارته، علما، ودينا، وعدلا، فقال ناس: ساحر فأصابوا، وقال ناس: به مسّ من الجن، فما أبعدوا، لأن الذي كان يصدر منه لا يصدر من عاقل، إذ ذلك موجب حتفه، أو هو كالمصروع أو المصاب، الذي يخبر بالمغيّبات، ولا يتعاطى بذلك حالا، ولا أنّ ذلك من قبيل الوحي ولا الكرامات. وقال ناس من الأغتام [5] : بل هذا رجل عارف، وليّ لله، صاحب كرامات، فليقل ما شاء، فجهلوا من وجهين أحدهما أنه وليّ، والثاني أن الولي يقول ما شاء، فلن يقول إلا الحق، وهذه بليّة عظيمة، ومرضة مزمنة، أعيا الأطباء داؤها [6] ، وراج بهرجها، وعزّ ناقدها، والله المستعان.
قال أحمد بن يوسف التنوخي الأزرق: كان الحلّاج يدعو كل وقت إلى شيء، على حسب ما يستبله طائفة.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «لبعد الدار» وأثبت ما في «العبر» (2/ 144) .
[2] تصحفت في المطبوع إلى «خوزستان» .
[3] كذا في الأصل والمطبوع و «البداية والنهاية» (11/ 133) : «المحير» وفي «العبر» : «المجير» .
[4] قوله «واشترى أملاكا» لم يرد في «العبر» للذهبي.
[5] قال ابن منظور: الغتمة: عجمة في المنطق. ورجل أغتم وغتميّ: لا يفصح شيئا. «لسان العرب» (غتم) .
[6] في «العبر» : «دواؤها» .(4/42)
أخبرني جماعة من أصحابه، أنه لما افتتن به الناس بالأهواز لما يخرج لهم من الأطعمة في غير وقتها والدراهم، ويسمّيها دراهم القدرة، حدّث الجبائيّ بذلك فقال: هذه الأشياء تمكن [1] الحيل فيها، ولكن أدخلوه بيتا من بيوتكم، وكلّفوه أن يخرج منه جرزتي شوك، فبلغ الحلّاج قوله، فخرج من الأهواز.
وروي عن عمرو بن عثمان المكّي، أنه لعن الحلّاج وقال: قرأت آية من القرآن، فقال: يمكنني أن أؤلّف مثلها.
وقال أبو يعقوب الأقطع: زوّجت بنتي بالحلّاج فبان لي بعد أنه ساحر محتال.
وقال الصّولي: جالست الحلّاج، فرأيت جاهلا يتعاقل، وعييا [2] يتبالغ، وفاجرا يتزهد.
وكان ظاهره أنه ناسك، فإذا علم أن أهل بلد يرون الاعتزال صار معتزليا، أو يرون التشيّع تشيّع، أو يرون التّسنّن تسنّن، وكان يعرف الشعبذة، والكيمياء، والطب، ويتنقل في البلدان، ويدّعي الربوبية، ويقول للواحد من أصحابه: أنت آدم، ولذا أنت نوح، ولهذا أنت محمد، ويدّعي التناسخ، وأن أرواح الأنبياء انتقلت إليهم.
وقال الصّولي أيضا: قبض عليّ الرّاسبي أمير الأهواز على الحلّاج في سنة إحدى وثلاثمائة، وكتب إلى بغداد، يذكر أن البيّنة قامت عنده أن الحلّاج يدّعي الربوبية ويقول بالحلول، فحبس مدة، وكان يري الجاهل شيئا من
__________
[1] في «العبر» : «يمكن» .
[2] أي لم يهتد لوجه مراده، أو عجز عنه، ولم يطق إحكامه. انظر «لسان العرب» (عيا) . وفي «العبر» و «البداية والنهاية» (11/ 139) : «وغبيا» .(4/43)
شعبذته، فإذا وثق به، دعاه إلى أنه إله، ثم قيل: إنه سنّي وإنما يريد قتله الرافضة، ودافع عنه نصر الحاجب قال: وكان في كتبه إنه مغرق قوم نوح، ومهلك عاد وثمود.
وكان الوزير حامد، قد وجد له كتابا فيه: أن المرء إذا عمل كذا وكذا من الجوع والصدقة ونحو ذلك، أغناه ذلك [1] عن الصوم، والصلاة، والحج، فقام عليه حامد فقتل. وأفتى جماعة من العلماء بقتله، وبعث حامد بن العبّاس بخطوطهم إلى المقتدر، فتوقف المقتدر، فراسله، أن هذا قد ذاع كفره وادّعاؤه الربوبية، وإن لم يقتل افتتن به الناس، فأذن في قتله، فطلب الوزير صاحب الشرطة، وأمره أن يضربه ألف سوط، فإن لم يمت وإلا قطع أربعته [2] ، فأحضر وهو يتبختر في قيده، فضرب ألف سوط ثم قطع يده ورجله، ثم حزّ رأسه وأحرقت جثته.
وقال ثابت بن سنان: انتهى إلى حامد في وزارته أمر الحلّاج، وأنه قد موّه على جماعة من الخدم والحشم وأصحاب المقتدر، بأنه يحيي الموتى، وأن الجن يخدمونه ويحضرون إليه ما يريد، وكان محبوسا بدار الخلافة فأحضر جماعة إلى حامد، فاعترفوا أن الحلّاج إله، وأنه يحيي الموتى، ثم وافقوه وكاشفوه [فأنكر] [3] . وكانت زوجة السمري عنده في الاعتقال، فأحضرها حامد فسألها، فقالت: قد قال مرّة: زوّجتك بابني وهو بنيسابور، فإن جرى [4] منه ما تكرهين فصومي واصعدي على السطح على الرماد، وأفطري على الملح، واذكري ما تكرهينه، فإني أسمع وأرى.
قالت: وكنت نائمة وهو قريب منّي، فما أحسست إلا وقد غشيني،
__________
[1] لفظة «ذلك» لم ترد في «العبر» (2/ 147) .
[2] في «العبر» (2/ 148) : «فإن مات وإلا قطع أربعته» .
[3] سقطت من الأصل والمطبوع واستدركتها من «العبر» للذهبي.
[4] في الأصل والمطبوع: «وإن جرى» وأثبت لفظ «العبر» للذهبي.(4/44)
فانتبهت فزعة، فقال: إنما جئت لأوقظك للصلاة.
وقالت لي بنته يوما: اسجدي له، فقلت: أو يسجد أحد لغير الله، وهو يسمعني، فقال: نعم إله في السماء وإله في الأرض.
وقال ابن باكويه: سمعت أحمد [1] بن الحلاج يقول: سمعت أحمد بن فاتك تلميذ والدي يقول بعد ثلاث من قتل والدي: رأيت ربّ العزّة في المنام، فقلت: يا رب ما فعل الحسين بن منصور؟ قال: كاشفته بمعنى، فدعا الخلق إلى نفسه، فأنزلت به ما رأيت.
وقال يوسف بن يعقوب النّعماني: سمعت محمد بن داود بن علي الأصبهاني الفقيه يقول: إن كان ما أنزل الله على نبيّه حقا [2] ، فما يقول الحلاج باطل.
وعن أبي بكر بن سعدان، قال لي الحلّاج: تؤمن بي حتّى أبعث لك بعصفورة، تطرح من ذرقها [وزن حبّة] [3] على كذا منّا نحاسا فيصير ذهبا.
قلت: أفتؤمن بي حتّى أبعث إليك بفيل يستلقي فتصير قوائمه في السماء، فإذا أردت أن تخفيه، أخفيته في عينك، فأبهته، وكان مموّها مشعوذا. انتهى كلام «العبر» [4] بحروفه.
وفي «تاريخ ابن كثير» [5] قال: وقد صحب الحلّاج جماعة من سادات المشايخ، كالجنيد، وعمرو بن عثمان المكّي، وأبي الحسين النوري.
قال الخطيب البغدادي [6] : والصوفية مختلفون فيه، فأكثرهم نفى أن
__________
[1] تحرف في المطبوع إلى «حمد» .
[2] في الأصل: «حق» وما أثبتناه من المطبوع و «العبر» .
[3] ما بين حاصرتين سقط من الأصل والمطبوع، واستدركته من «العبر» للذهبي (2/ 149) .
[4] (2/ 144- 150) .
[5] يعني «البداية والنهاية» وقد نقل المؤلف عنه (11/ 132) .
[6] انظر «تاريخ بغداد» (8/ 112) .(4/45)
يكون الحلّاج منهم [وأبى أن يعدّه فيهم] [1] ، وقبله أبو العبّاس بن عطاء [البغدادي] ومحمد بن خفيف [2] الشيرازي، وأبو القاسم النّصرآباذي [النيسابوري] ، وصححوا حاله، ودوّنوا كلامه، حتّى قال ابن خفيف:
الحسين بن منصور عالم رباني [3] .
وعوتب النّصرآباذي في شيء حكي عن الحلّاج في الروح، فقال: إن كان بعد النبيين والصدّيقين موحّد فهو الحلّاج.
وقال السّلميّ: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت الشبلي يقول:
كنت أنا والحسين بن منصور شيئا واحدا، إلا أنه أظهر وكتمت.
قال الخطيب: والذي نفاه من الصوفية نسبوه إلى الشعبذة في فعله، وإلى الزندقة في عقيدته وعقده. وأجمع الفقهاء ببغداد أنه قتل كافرا، وكان ممخرقا مموّها مشعبذا، وبهذا قال أكثر الصوفية فيه، ومنهم طائفة كما تقدم أجملوا القول فيه، وغرّهم ظاهره ولم يطّلعوا على باطنه ولا باطن قوله. ولما أنشد لأبي عبد الله بن خفيف قول الحلّاج بن منصور:
سبحان من أظهر ناسوته ... سرّ سنا لاهوته الثّاقب
ثم بدا في خلقه ظاهرا ... في صورة الآكل والشارب
حتّى لقد عاينه خلقه ... كلحظة [4] الحاجب بالحاجب
[5]
__________
[1] ما بين حاصرتين استدركته من «البداية والنهاية» و «تاريخ بغداد» .
[2] في الأصل والمطبوع: «محمد بن جعفر» وهو خطأ والتصحيح من «البداية والنهاية» و «تاريخ بغداد» وانظر «طبقات الصوفية» للسلمي ص (462- 466) .
[3] في الأصل والمطبوع: «وهو محمد بن جعفر الشيرازي: الحسين بن منصور عالم رباني» وذلك خطأ ووهم من النسّاخ، وأبقيت النص كما جاء في «البداية والنهاية» و «تاريخ بغداد» .
[4] في الأصل والمطبوع: «كخطة» وأثبت لفظ «تاريخ بغداد» و «البداية والنهاية» .
[5] الأبيات في «تاريخ بغداد» (8/ 129) و «البداية والنهاية» (11/ 134) .(4/46)
فقال ابن خفيف: على من يقول هذا لعنة الله؟ فقيل له: إن هذا من شعر الحلّاج، فقال: قد يكون مقولا عليه.
ولما كان يوم الثلاثاء لتسع بقين من ذي القعدة سنة تسع وثلاثمائة، أحضر الحلّاج إلى مجلس [1] الشرطة بالجانب الغربي فضرب نحو ألف سوط، ثم قطعت يداه ورجلاه، ثم ضربت عنقه وأحرقت جثته بالنّار. ونصب رأسه على سور الجسر الجديد، وعلّقت يداه ورجلاه إلى جانب رأسه.
وذكر السّلميّ بإسناده [2] ، قال أبو بكر بن ممشاذ [3] : حضر عندنا بالدينور رجل ومعه مخلاة فوجدوا فيها كتابا للحلّاج عنوانه: من الرحيم الرحمن إلى فلان بن فلان يدعوه إلى الضلالة والإيمان به، فبعث بالكتاب إلى بغداد، فسئل الحلّاج عن ذلك فأقرّ أنه كتبه، وعلى هذا جرى ما جرى.
انتهى ما قاله ابن كثير، نقله عنه السخاوي.
وفيها توفي أبو العبّاس أحمد بن محمد بن سهل بن عطاء الأدميّ [4] الزاهد أحد مشايخ الصوفية القانتين الموصوفين بالاجتهاد في العبادة.
قيل: إنه كان ينام في اليوم والليلة ساعتين، ويختم القرآن كل يوم.
سئل ما المروءة؟ قال: أن لا يستكثر له عملا.
وقال: من ألزم نفسه آداب السّنّة نوّر الله قلبه بنور المعرفة، ولا مقام أشرف من مقام متابعة الحبيب [صلى الله عليه وسلم] [5] في أوامره، وأفعاله، وأخلاقه،
__________
[1] في «البداية والنهاية» : «محل» .
[2] في المطبوع: «بسنده» .
[3] في الأصل والمطبوع: «ابن ممشاد» وهو تصحيف، والتصحيح من «طبقات الصوفية» ص (509) .
[4] تحرّفت في «العبر» (2/ 150) إلى «الأزدي» فتصحح فيه. وانظر «طبقات الصوفية» ص (265- 272) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 255- 256) .
[5] ما بين حاصرتين سقط من الأصل والمطبوع واستدركته من «طبقات الصوفية» ص (268) .(4/47)
والتأدّب بآدابه قولا وفعلا، وعزما، ونيّة، وعقدا.
وقال: العلم الأكبر، الهيبة والحياء، فمن عرّي منهما [1] عرّي عن الخيرات.
وقال: من حرم الآداب حرم جوامع الخيرات.
وقال: أصحّ العقول، عقل وافق التوفيق، وشرّ الطاعات طاعة أورثت عجبا، وخير الذنوب، ذنب أعقب توبة وندما.
توفي في ذي القعدة بالعراق.
وفيها حامد بن محمد بن شعيب أبو العبّاس البلخيّ [2] المؤدّب ببغداد. روى عن سريج بن يونس [3] وطائفة، وكان ثقة. عاش ثلاثا وتسعين سنة.
وعمر بن إسماعيل [4] بن أبي غيلان، أبو حفص، الثقفيّ البغداديّ.
سمع علي بن الجعد وجماعة، ووثّقه الخطيب.
وفيها أبو بكر محمد بن الحسين بن المكرم [5] البغداديّ بالبصرة، وكان أحد الحفّاظ المبرّزين. روى عن بشر بن الوليد وطبقته.
وفيها عبد الرّحمن بن عبد المؤمن بن خالد المهلّبيّ الأزديّ [6] أبو محمد، وكان من الثقات الحفّاظ، والأثبات الأيقاظ.
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «عنهما» وما أثبتناه من «طبقات الصوفية» ص (269) .
[2] انظر «العبر» (2/ 150) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 291) .
[3] في الأصل والمطبوع، و «العبر» : «شريح بن يونس» وهو خطأ، والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» و «تقريب التهذيب» ص (229) .
[4] في الأصل والمطبوع: «عمرو بن إسماعيل» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» (14/ 186) .
[5] في «العبر» (2/ 150) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 286) و «ابن مكرم» .
[6] انظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 222- 223) .(4/48)
ومحمد بن خلف بن المرزبان [1] أبو بكر البغداديّ الأخباريّ، صاحب التصانيف. روى عن الزّبير بن بكّار وطبقته، وكان صدوقا.
وفيها محمد بن أحمد بن راشد بن معدان الثقفي [2] ، مولاهم، أبو بكر، الأصبهاني، ابن معدان. كان حافظا رحّالا، كثير المصنفات.
__________
[1] انظر «العبر» (2/ 258) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 264- 265) .
[2] انظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 404- 405) .(4/49)
سنة عشر وثلاثمائة
فيها كما قال [1] في «الشذور» انبثق بواسط تسعة عشر بثقا [2] أصغرها مائتا ذراع وأكبرها ألف ذراع، وغرق من أمهات القرى ألف وثلاثمائة قرية. انتهى.
وفيها توفي الحافظ الكبير الثقة، أبو جعفر، أحمد بن يحيى [بن زهير التّستري] [3] . سمع أبا كريب وطبقته، وروى عنه ابن حبّان، والطبراني، وكان مع حفظه زاهدا خيّرا.
قال أبو إسحاق بن حمزة الحافظ: ما رأيت أحفظ منه.
وقال ابن المقرئ فيه: حدّثنا تاج المحدّثين، فذكر حديثا.
وفيها إسحاق بن إبراهيم بن محمد بن جميل، أبو يعقوب، الأصبهانيّ [4] ، الرّاوي عن أحمد بن منيع «مسنده» عن سنّ عالية.
__________
[1] القائل الحافظ عبد الرحمن بن الجوزي في «شذور العقود في تاريخ العهود» .
[2] قال ابن منظور: البثق: كسرك شطّ النهر لينشق الماء. [وقال] ابن سيدة: بثق شقّ النهر يبثقه بثقا كسره لينبعث ماؤه. واسم ذلك الموضع البثق والبثق. وقيل: هما منبعث الماء، وجمعه بثوق.
[3] ما بين حاصرتين سقط من الأصل والمطبوع واستدركته من «العبر» (2/ 151) وانظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 362- 365) .
[4] انظر «العبر» (2/ 151) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 265- 266) .(4/50)
قال حفيده عبيد الله بن يعقوب: عاش جدّي مائة وسبع عشرة سنة.
وفيها أبو شيبة داود بن إبراهيم بن روزبه البغدادي [1] بمصر. روى عن محمد بن بكّار بن الرّيّان وطائفة.
قال في «المغني» [2] : داود بن إبراهيم بن روزبه، أبو شيبة. معروف صدوق، أخطأ ابن الجوزي ووهاه مرّة، على أنه لم يذكره في الضعفاء انتهى.
وفيها علي بن العبّاس البجلي الكوفي المقانعي [3] ، أبو الحسن.
روى عن أبي كريب وطبقته.
وفيها على الصحيح، أو في سنة إحدى عشرة أو ست عشرة، أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن السّريّ بن سهل الزّجّاج [4] النحوي.
قال ابن خلّكان [5] : كان من أهل العلم والأدب والدين المتين [6] ، وصنّف كتابا في معاني القرآن، وله كتاب «الأمالي» وكتاب «ما فسّر من جامع [7] المنطق» وكتاب «الاشتقاق» وكتاب «العروض» وكتاب «النوادر» وكتاب «الأنواء» وغيرها.
وأخذ الأدب عن المبرّد، وثعلب، وكان يخرط الزّجاج، ثم تركه واشتغل بالأدب، فنسب إليه. واختصّ بصحبة الوزير عبيد الله بن سليمان، وعلّم ولده
__________
[1] انظر «العبر» (2/ 151) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 244- 245) .
[2] انظر «المغني في الضعفاء» (1/ 216) .
[3] انظر «العبر» (1/ 151) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 430) .
[4] انظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 360) ومقدمة الأستاذ أحمد يوسف الدقاق لكتاب المترجم «تفسير أسماء الله الحسنى» ص (17- 20) طبع دار المأمون للتراث بدمشق.
[5] انظر «وفيات الأعيان» (1/ 49- 50) والمؤلف ينقل عنه باختصار وتصرف.
[6] في «وفيات الأعيان» : «من أهل العلم بالأدب والدّين المتين» .
[7] في الأصل المطبوع: «من جمع» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» .(4/51)
القاسم الأدب. ولما استوزر القاسم أفاد بطريقته [1] مالا جزيلا.
وحكى أبو علي الفارسي النحوي قال: دخلت مع شيخنا أبي إسحاق على القاسم بن عبيد الله الوزير، فورد الخادم فسارّه بسرّ استبشر له [2] ، ثم نهض فلم يكن بأسرع من [أن] [3] عاد وفي وجهه أثر الوجوم، فسأله شيخنا عن ذلك، فقال له: كانت تختلف إلينا جارية لإحدى القينات، فسمتها أن تبيعني إياها، فامتنعت من ذلك، ثم أشار عليها أحد من ينصحها بأن تهديها إليّ رجاء أن أضاعف لها ثمنها، فلما جاءت أعلمني الخادم بذلك، فنهضت مستبشرا لافتضاضها، فوجدتها قد حاضت، فكان منّي ما ترى، فأخذ شيخنا الدواة وكتب:
فارس ماض بحربته ... حاذق بالطعن بالظّلم
رام أن يدمي فريسته ... فاتّقته من دم بدم
[4] انتهى ملخصا.
وفيها أبو بشر الدّولابي، وهو محمد بن أحمد بن حمّاد الأنصاري الرّازي الحافظ [5] صاحب التصانيف. روى عن بندار محمد بن بشّار وخلق.
وعاش ستّا وثمانين سنة.
قال أبو سعيد بن يونس: كان من أهل الصنعة، وكان يضعّف. وروى عنه ابن أبي حاتم، وابن حبّان، والطبراني.
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «بطريقة» .
[2] في الأصل: «فسره بسرّ فاستبشره» وفي المطبوع: «فساه بسرّ فاستبشره» وما أثبته من «وفيات الأعيان» .
[3] سقطت من الأصل والمطبوع واستدركتها من «وفيات الأعيان»
[4] قلت: البيتان في «وفيات الأعيان» (1/ 289- 290) وقد نسبهما ابن خلّكان للمأمون العباسي نقلا عن «الكنايات» للجرجاني فراجعه.
[5] انظر «العبر» (2/ 151- 152) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 309- 311) .(4/52)
قال الدارقطني: تكلموا فيه.
وقال ابن عدي: ابن حمّاد متّهم. قاله ابن بردس.
توفي الدّولابيّ بين مكّة والمدينة.
وفيها الحبر البحر الإمام أبو جعفر، محمد بن جرير الطبري [1] صاحب «التفسير» و «التاريخ» والمصنفات الكثيرة. سمع إسحاق بن [أبي] [2] إسرائيل، ومحمد بن حميد الرّازي وطبقتهما. وكان مجتهدا لا يقلّد أحدا.
قاله في «العبر» .
قال إمام الأئمة ابن خزيمة: ما أعلم على الأرض أعلم من محمد بن جرير.
وقال أبو حامد الإسفراييني [3] الفقيه: لو سافر رجل إلى الصين، حتّى يحصّل تفسير محمد بن جرير، لم يكن كثيرا.
وكذلك أثنى ابن تيميّة على تفسيره للغاية. ومولده بآمل طبرستان [4] سنة أربع وعشرين ومائتين، وتوفي ليومين بقيا من شوّال، وكان ذا زهد وقناعة. وتوفي ببغداد.
وممّن أخذ عنه العلم، مخلد [بن جعفر] الباقرحي [5] والطبراني، وخلق.
__________
[1] انظر «العبر» (2/ 152) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 267- 282) .
[2] سقطت من الأصل والمطبوع واستدركتها من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» .
[3] في المطبوع: «الإسفرائني» .
[4] وكانت آمل أكبر مدن إقليم طبرستان، وتقع الآن في الشمال الأوسط من إيران. انظر «معجم البلدان» لياقوت (1/ 57) و «الأنساب» للسمعاني (1/ 22) .
[5] في الأصل: «محمد الباقزحي» وفي المطبوع: «محمد الباقرحي» وكلاهما خطأ، والتصحيح من «تاريخ بغداد» (2/ 162) و «تهذيب الأسماء واللغات « (1/ 78) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 269) و «تذكرة الحفاظ» (1/ 710) .(4/53)
قال الخطيب [1] : كانت الأئمة تحكم بقوله وترجع إلى رأيه لمعرفته وفضله [2] جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وذكر له ترجمة طويلة.
وفيها على الصحيح، العالم المحدّث، أبو العبّاس، محمد بن الحسن بن قتيبة العسقلاني [3] محدّث فلسطين. روى عن صفوان بن صالح المؤذّن، ومحمد بن رمح والكبار. وعنه ابن عدي، وأبو علي النّيسابوري، وخلق. وكان حافظا ثقة ثبتا.
وفيها تقريبا، أبو عمران الرّقّي، موسى بن جرير [4] المقرئ النحوي، صاحب أبي شعيب السّوسي [5] تصدّر للإقراء مدة.
وفيها الوليد بن أبان الحافظ، أبو العبّاس، الأصبهاني [6] بأصبهان، وكان ثقة. صنّف «المسند» و «التفسير» وطوّف الكثير، وحدّث عن أحمد بن الفرات الرّازي وطبقته. وعنه أبو الشيخ، والطبراني، وأهل أصبهان.
__________
[1] انظر «تاريخ بغداد» (2/ 163) وقد نقل المؤلف عنه بتصرف.
[2] في «تاريخ بغداد» : «وكان أحد أئمة العلماء يحكم بقوله، ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله» .
[3] انظر «العبر» (1/ 153) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 292- 293) .
[4] انظر «العبر» (2/ 151) و «معرفة القرّاء الكبار» (1/ 245- 246) .
[5] هو صالح بن زياد السّوسي، وقد تقدمت ترجمته في المجلد الثالث ص (268) فراجعها.
[6] انظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 288- 289) .(4/54)
سنة إحدى عشرة وثلاثمائة
فيها دخل أبو طاهر سليمان بن الحسن الجنّابي القرمطي البصرة في الليل، في ألف وسبعمائة فارس. نصبوا السلالم على السور ونزلوا، فوضعوا السيف في البلد، وأحرقوا الجامع، وهرب خلق إلى الماء فغرقوا، وسبوا الحريم، واستمروا سبعة عشر يوما يحملون ما أرادوا من الأموال والحريم، والله المستعان [1] .
وفيها توفي أبو جعفر أحمد بن حمدان بن عليّ بن سنان الحيريّ النيسابوريّ [2] ، الحافظ الزاهد المجاب الدّعوة. والد المحدّث أبي عمرو بن حمدان.
روى عن عبد الرّحمن بن بشر بن الحكم وطبقته، وصنّف «الصحيح» على شرط مسلم، وكان يحيي الليل.
وفيها أبو بكر الخلّال أحمد بن محمد بن هارون البغداديّ [3] الفقيه الحبر الذي أنفق عمره في جمع مذهب الإمام أحمد وتصنيفه. تفقه على
__________
[1] انظر الخبر في «العبر» للذهبي (2/ 153) ، و «الكامل» لابن الأثير (8/ 143- 144) و «غربال الزمان» العامري ص (275) .
[2] انظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 299- 303) .
[3] انظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 297- 298) .(4/55)
المرّوذي [1] . وسمع من الحسن بن عرفة وأقرانه. وروى عنه تلميذه أبو بكر عبد العزيز بن جعفر، يعرف بغلام الخلّال، ومحمد بن المظفّر الحافظ، وغير واحد.
قال ابن ناصر الدّين: هو رحّال، واسع العلم، شديد الاعتناء بالآثار.
له «كتاب السنّة» ثلاث مجلدات كبار، و «كتاب العلل» في عدّة أسفار، و «كتاب الجامع» وهو كبير جليل المقدار. انتهى.
وتوفي في ربيع الأول.
وفيها عبد الله بن إسحاق المدائني الأنماطي [2] ببغداد. روى عن عثمان بن أبي شيبة وطبقته، وكان ثقة محدّثا.
وعبد الله بن محمود السّعديّ أبو عبد الرّحمن [3] محدّث مرو.
وعبد الله بن عروة الهرويّ [4] الحافظ أبو محمد. كان من الأثبات الثقات. صنّف. وسمع أبا سعيد الأشجّ وطبقته. وروى عنه أبو منصور اللّغوي، وأبو منصور الهروي، وآخرون.
وفيها الحافظ الكبير، أبو حفص، عمر بن محمد بن بجير الهمذانيّ السّمرقنديّ [5] صاحب «الصحيح» و «التفسير» وذو الرّحلة الواسعة. روى عن عيسى بن حمّاد زغبة، وبشر بن معاذ العقدي، وطبقتهما. وعنه محمد بن محمد بن صابر، وأعين بن جعفر السّمرقندي، وعاش ثمانيا وثمانين سنة، وكان صدوقا.
__________
[1] يعني شيخ الإسلام أحمد بن محمد بن الحجّاج المرّوذي. انظر ترجمته في المجلد الثالث ص (313) .
[2] انظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 437- 438) .
[3] انظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 399- 400) .
[4] انظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 294) .
[5] انظر «العبر» (2/ 155) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 402- 404) وفيه «الهمداني» فتصحح.(4/56)
وفيها تقريبا [1] ، محمد بن إبراهيم بن شعيب، أبو الحسين، الغازي [2] كان رحّالا ثقة.
قال ابن ناصر الدين في «بديعة البيان» :
وبعد بضع عشرة المجازي ... محمد الجرجاني ذاك الغازي
انتهى.
وفيها إمام الأئمة أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة السّلميّ النيسابوريّ [3] الحافظ. صاحب التصانيف. شيخ الإسلام. ولد سنة اثنتين وعشرين ومائتين، وروى عن عليّ بن حجر، وابن راهويه، ومحمود بن غيلان، وخلق. وعنه البخاريّ ومسلم خارج «صحيحيهما» ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم، وأبو علي النيسابوري. قاله ابن بردس.
وهو حافظ ثبت إمام. رحل إلى الشام، والحجاز، والعراق، ومصر.
وتفقّه على المزني وغيره.
قال الحافظ أبو علي النيسابوري: لم أر مثل محمد بن إسحاق [4] .
وقال أبو زكريا العنبري: سمعت ابن خزيمة يقول: ليس لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قول إذا صحّ الخبر عنه.
وقال أبو علي الحافظ: كان ابن خزيمة يحفظ الفقهيّات من حديثه كما يحفظ القارئ السورة.
وقال ابن حبّان: لم ير مثل ابن خزيمة في حفظ الإسناد والمتن.
وقال الدارقطنيّ: كان إماما معدوم النظير.
__________
[1] في «طبقات الحفّاظ» للسيوطي ص (320) : «مات سنة بضع عشرة وثلاثمائة» .
[2] انظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 407) .
[3] انظر «العبر» (2/ 155) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 365- 382) .
[4] يعني ابن خزيمة.(4/57)
وقال الإسنويّ في «طبقاته» [1] : صار ابن خزيمة إمام زمانه بخراسان، رحلت إليه الطلبة من الآفاق.
قال شيخه الرّبيع: استفدنا من ابن خزيمة أكثر مما استفاد منا، وكان متقلّلا، له قميص واحد دائما، فإذا جدّد آخر، وهب ما كان عليه.
نقل عنه الرافعي في مواضع، منها: أنه إن رجّع في الأذان، ثنّى الإقامة، وإلّا أفردها.
ومنها أن الركعة لا تدرك بالركوع. انتهى ملخصا.
وفيها أبو العبّاس محمد بن شادل [2] النيسابوري [3] سمع ابن راهويه، وأبا مصعب [4] وخلقا. وكان يختم القرآن في كلّ يوم.
ومحمد بن زكريّا الرّازي [5] الطبيب العلّامة، صاحب المصنّفات في الطب والفلسفة، وإنما اشتغل بعد أن بلغ الأربعين. وكان في صباه مغنيّا بالعود. قاله في «العبر» [6] .
وقال ابن الأهدل: هو الطبيب الماهر، أبو بكر، محمد بن زكريا الرّازي، المشهور، وله في الطب كتاب «الحاوي» [7]
__________
[1] هو عبد الرحيم بن الحسن بن علي الإسنوي الشافعي أبو محمد جمال الدين، فقيه أصولي و «طبقاته» هي «طبقات الشافعية» وسوف ترد ترجمته في المجلد الثامن إن شاء الله.
[2] في المطبوع: «محمد بن شاذل» وهو تصحيف. وانظر «القاموس المحيط» (3/ 422) .
[3] انظر «العبر» (2/ 156) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 263- 264) .
[4] يعني قاضي المدينة وفقيهها أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزّهري. انظر ترجمته في المجلد الثالث ص (192) .
[5] انظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 354- 355) .
[6] (2/ 156) .
[7] قال ابن أبي أصيبعة: وهو أجلّ كتبه وأعظمها في صناعة الطب. انظر «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» ص (421) .(4/58)
و «الأقطاف» [1] وكتاب «المنصوري» [2] وحجمه صغير جمع فيه بين العلم والطب والعمل.
ومن قوله: مهما أمكن العلاج بالأغذية فلا يعالج بالأدوية، والمفرد أولى من المركب.
وكان شغله بالطب بعد أربعين من عمره. انتهى.
وفيها حامد بن العبّاس [3] الوزير. كان يخدمه ألف وسبعمائة حاجب. قاله ابن الجوزي في «الشذور» .
__________
وقال علي بن العباس المجوسي في كتابه «كامل الصناعة الطبية» : ذكر فيه ما يحتاج إليه من حفظ الصحة ومداواة الأمراض، ولم يغفل في ذكر شيء إلا أنه لم يستقص شرح شيء مما يحتاج إليه الطبيب من تدبير الأمراض والعلل. ثم إن رشيد الدّين أبا سعيد بن يعقوب المسبحي القدسي المتوفي سنة (646) هـ. علق عليه تعاليق. انظر «كشف الظنون» (1/ 628) قلت: واختصر «الحاوي» عبد الرحيم بن علي بن حامد المعروف ب «الدّخوار» المتوفى سنة (628) هـ. انظر «الأعلام» للزركلي (3/ 347)
[1] كذا في الأصل والمطبوع: «الأقطاف» وفي «مرآة الجنان» لليافعي (2/ 263) : «كتاب الأقطاب» ولعله محرّف من «الأعصاب» والله أعلم.
[2] في الأصل والمطبوع: «المنصور» وأثبت ما في «عيون الأنباء» ص (423) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 354) .
[3] انظر ترجمته ومصادرها في «الأعلام» للزركلي (2/ 161) .(4/59)
سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة
فيها كما قال في «الشذور» ورد الخبر بأن أبا طاهر الجنّابي- نسبة إلى جنّابة بلد بالبحرين [1]- ورد إلى الهبير [2] فلقي حاج سنة إحدى عشرة في رجوعهم، وأنه قتل منهم قتلا مسرفا، وسبى من اختار من الرجال، والنساء، والصبيان، والجمال. وكان الرجال ألفين ومائتين، والنساء نحوا من خمسمائة، وسار بهم إلى هجر [3] وترك باقي الحاج مكانه بلا زاد ولا جمال، فماتوا بالعطش، وحصل له ما حزر بألف ألف دينار، ومن الطيب والأمتعة بنحو ألف ألف، وكان سنّه يومئذ سبع عشرة سنة [4] .
وفيها ألحّ مؤنس الخادم، ونصر الحاجب، وهارون ابن خال المقتدر، على المقتدر، حتّى أذن في قتل علي بن محمد [بن موسى] بن الحسن بن الفرات [5] ، وولده المحسّن، فذبحا، وعاش ابن الفرات إحدى
__________
[1] انظر «معجم البلدان» (2/ 165- 166) .
[2] قال ياقوت: الهبير رمل زرود في طريق مكة، كانت عنده وقعة [أبي طاهر] بن أبي سعيد الجنّابي القرمطي بالحاج يوم الأحد لاثنتي عشرة ليلة بقيت من المحرم سنة (312) هـ قتلهم وسباهم، وأخذ أموالهم. «معجم البلدان» (5/ 392) .
[3] قال ياقوت: هجر مدينة، وهي قاعدة البحرين. «معجم البلدان» (5/ 393) وانظر «معجم ما استعجم» للبكري (2/ 1340) .
[4] انظر الخبر في «العبر» (2/ 156- 157) و «غربال الزمان» ص (275) .
[5] انظر «وفيات الأعيان» (3/ 421- 429) . وانظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 474- 479) وما بين حاصرتين زيادة منهما.(4/60)
وسبعين سنة، وعاش بعد حامد بن العبّاس نصف سنة، وكان جبّارا، فاتكا، كريما، سايسا، متموّلا. كان يقدر على عشرة آلاف ألف دينار. [وقد وزر للمقتدر ثلاث مرات، وقيل: كان يدخله من أملاكه في العام ألفا ألف [1] دينار] [2] . قاله في «العبر» [3] .
وكان علي بن الفرات هذا وأخوه أبو العبّاس آية في معرفة حساب الديوان، وكان ولده المحسّن متموّلا أيضا، وكان اختفى ثم ظفر به في زيّ امرأة قد خضب يديه، فعذّب، وأخذ خطه بثلاثة آلاف ألف دينار، وولي الوزارة عبيد الله بن محمد الخاقاني، فعذّب بني الفرات واصطفى أموالهم، فيقال: أخذ منهم ألفي ألف دينار.
وفيها افتتح المسلمون فرغانة إحدى مدائن التّرك.
وفيها توفي الحافظ أحمد بن عمرو بن منصور الأموي [4] مولاهم الأندلسي، محدّث الأندلس، أبو جعفر. روى عن يونس بن عبد الأعلى، والرّبيع بن سليمان، وغيرهما. وكان بصيرا بعلل الحديث، إماما فيه.
وفيها الحسن بن علي بن نصر الطّوسي [5] أبو علي الخراساني، يعرف بكردوش [6] ، الحافظ المشهور. روى عن محمد بن رافع، وبندار،
__________
[1] كذا في الأصل والمطبوع، و «وفيات الأعيان» (3/ 422) : «ألفا ألف» وفي «العبر» : «ألف ألف» .
[2] ما بين حاصرتين سقط من الأصل وأثبته من المطبوع.
[3] (2/ 158) .
[4] انظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 569) .
[5] انظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 287- 288) و «تذكرة الحفاظ» (2/ 787- 788) و «طبقات الحفاظ» ص (330) .
[6] في الأصل والمطبوع: «يعرف بكردس» وفي «لسان الميزان» لابن حجر (2/ 232) : «يلقب بكردوس» وكلاهما خطأ والتصحيح من المصادر المذكورة في التعليق السابق.
قال الذهبي في «سير أعلام النبلاء» : وقال أبو النصر القاضي: يعرف بمكردش.(4/61)
وإسحاق الكوسج. وعنه محمد بن جعفر البستي، وأحمد بن محمد بن عبدوس، وأبو أحمد الحاكم. وله تصانيف تدل على معرفته.
قال في «المغني» [1] : قال أبو أحمد الحاكم: تكلموا في روايته «كتاب النسب» عن الزّبير. انتهى.
وفيها علي بن الحسن بن خلف بن قديد [2] أبو القاسم المصري، المحدّث. وله بضع وثمانون سنة. روى عن محمد بن رمح، وحرملة [بن يحيى] [3] .
وفيها عبد الرّحمن بن أحمد بن عبّاد الثقفي الهمذاني [4] المعروف بعبدوس، الحافظ المجوّد، أبو محمد.
روى عن محمد بن عبيد الأسدي، ويعقوب الدّورقي.
وعنه أحمد بن عبيد الأسدي، وأبو أحمد الغطريفي، وأبو أحمد الحاكم وكان ثقة متقنا.
وفيها محمد بن سليمان بن فارس أبو أحمد الدلّال النيسابوري [5] أنفق أموالا جليلة في طلب العلم، وأنزل البخاريّ عنده لما قدم نيسابور، وروى عن محمد بن رافع، وأبي سعيد الأشج، وكان يفهم ويذاكر.
__________
[1] انظر «المغني في الضعفاء» للذهبي (1/ 163) .
[2] انظر «العبر» (2/ 159) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 435) .
[3] زيادة من «سير أعلام النبلاء» .
[4] انظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 438- 439) .
[5] انظر «العبر» (2/ 159) .(4/62)
ومحمد بن محمد [1] بن سليمان، الحافظ الكبير، أبو بكر بن الباغندي [2] أحد أئمة الحديث، في ذي الحجة ببغداد، وله بضع وتسعون سنة.
روى عن علي بن المديني، وشيبان بن فرّوخ.
وطوّف بمصر، والشام، والعراق.
روى أكثر حديثه من حفظه.
قال القاضي أبو بكر الأبهري: سمعته يقول: أجيب [3] في ثلاثمائة ألف مسألة في حديث النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقال الإسماعيلي: لا أتّهمه، ولكنه خبيث التدليس، ومصحّف أيضا.
وقال الخطيب [4] : رأيت كافة شيوخنا يحتجّون به.
وقال في «المغني» [5] : قال ابن عدي: أرجو أنه كان لا يتعمّد الكذب.
وكان مدلّسا. انتهى.
وفيها أبو بكر بن المجدّر. وهو محمد بن هارون البغدادي [6] . روى عن داود بن رشيد وطبقته، وكان معروفا بالانحراف عن عليّ رضي الله عنه.
قال في «المغني» [7] : محمد بن هارون بن المجدّر، أبو بكر، صدوق مشهور، فيه نصب وانحراف. انتهى.
__________
[1] قلت: «ابن محمد» الثانية لم ترد في «العبر» طبع الكويت.
[2] انظر «العبر (2/ 159) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 383- 387) .
[3] في المطبوع و «العبر» : «أجبت» وانظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 384) .
[4] في «تاريخ بغداد» (3/ 213) : «لم يثبت من أمر ابن الباغندي ما يعاب به، سوى التدليس، ورأيت كافة شيوخنا يحتجون بحديثه ويخرجونه في الصحيح» .
[5] انظر «المغني في الضعفاء» (2/ 629) .
[6] انظر «العبر» (2/ 160) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 436) .
[7] انظر «المغني في الضعفاء» (2/ 640) .(4/63)
سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة
فيها كما قال في «الشذور» انقضّ كوكب قبل مغيب الشمس بأربع ساعات، من ناحية الجنوب إلى الشمال، فأضاءت منه الدّنيا، وكان له صوت كصوت الرعد [1] .
وفيها سار [الرّكب العراقي، ومعهم ألف فارس، فاعترضهم القرمطيّ بزبالة [2] ، وناوشهم، فردّ الناس ولم يحجّوا] [3] ونزل القرمطيّ على الكوفة، فقاتلوه، فغلب على البلد، ونهبه، فندب المقتدر مؤنسا، وأنفق في الجيش ألف ألف دينار. فسار القرمطيّ عن الكوفة، وتسلّم الأنبار، وعاث في البلاد وعظم ضرره ولم يقدر عليه.
وفيها توفي أحمد بن عبد الله بن سابور الدّقّاق [4] الثقة ببغداد. كان واسع الرحلة.
__________
[1] ذكر ابن الأثير هذا الخبر برواية أخرى مختصرة في كتابه «الكامل» (8/ 160) .
[2] قال ياقوت: زبالة: منزل معروف بطريق مكة من الكوفة، وهي قرية عامرة بها أسواق بين واقصة والثعلبية. «معجم البلدان» (3/ 129) .
وقال الحميري: زبالة من قرى المدينة، سميت بضبطها الماء وأخذها منه كثيرا. «الروض المعطار» ص (284) .
[3] ما بين حاصرتين سقط من الأصل والمطبوع واستدركته من «العبر» (2/ 160- 161) وانظر الخبر برواية أخرى في «غربال الزمان» ص (275) .
[4] انظر «العبر» (2/ 161) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 462- 463) .(4/64)
روى عن أبي بكر بن أبي شيبة، وأبي نعيم الحلبي، وعدّة.
وفيها أبو العبّاس أحمد بن محمد بن الحسين الماسرجسي [1] .
سمع من جدّه لأمه، الحسن بن عيسى بن ماسرجس، وإسحاق، وشيبان بن فرّوخ.
وفيها جماهر بن محمد بن أحمد أبو الأزهر الأزدي الزّملكاني [2] .
روى عن هشام بن عمّار وطبقته.
وفيها ثابت بن حزم السّرقسطي [3] اللغوي العلّامة.
قال ابن الفرضي: كان مفتيا بصيرا بالحديث، والنحو، واللغة، والغريب، والشعر، وعاش خمسا وتسعين سنة. روى عن محمد بن وضّاح وطائفة.
وفيها عبد الله بن زيدان بن بريد أبو محمد البجلي الكوفي [4] عن إحدى وتسعين سنة. روى عن أبي كريب وطبقته.
قال محمد بن أحمد بن حمّاد الحافظ: لم تر عيني مثله. كان ثقة حجة. كان أكثر كلامه في مجلسه: يا مقلّب القلوب، ثبّت قلبي على طاعتك.
[أخبرت أنه] [5] مكث نحو ستين سنة لم يضع جنبه على مضرّبة، وكان صاحب ليل.
__________
[1] انظر «العبر» (2/ 161) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 405- 406) .
[2] انظر «العبر» (2/ 161) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 406) .
[3] انظر «العبر» (2/ 161- 162) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 562- 563) .
[4] انظر «العبر» (2/ 162) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 436- 437) .
[5] زيادة من «العبر» .(4/65)
وعلي بن عبد الحميد الغضائري [1]- نسبة إلى الغضار بالغين المعجمة وهو الإناء الذي يؤكل فيه- أبو الحسن [2] بحلب في شوال. روى عن بشر بن الوليد، والقواريري، وعدّة.
وقال: حججت من حلب ماشيا أربعين حجّة.
وعلي بن محمد بن بشّار [3] ، أبو الحسن، وأبو صالح، البغدادي الزاهد، شيخ الحنابلة. أخذ عن صالح بن أحمد بن حنبل، والمرّوذي [4] .
وجاء عنه أنه قال: أعرف رجلا منذ ثلاثين سنة يشتهي أن يشتهي ليترك لله ما يشتهي فلا يجد شيئا يشتهي. قاله في «العبر» [5] .
وقيل له: كيف الطريق إلى الله؟ فقال: كما عصيت الله سرّا تطيعه سرّا، حتّى يدخل إلى قلبك لطائف البر.
وكان له كرامات ظاهرة وانتشار ذكر في الناس، يتبرك الناس بزيارته.
قاله السخاوي.
وقال ابن أبي يعلى في «الطبقات» [6] : حدّثنا إسماعيل الصابوني، ثنا إسحاق بن إبراهيم العدل، ثنا محمد بن أحمد بن حمّاد الورّاق، ثنا أبو
__________
[1] انظر «العبر» (2/ 162) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 432- 433) .
[2] في الأصل والمطبوع: «أبو الحسب» وهو خطأ، والتصحيح من المصدرين المذكورين في التعليق السابق وغيرهما من كتب الرجال التي بين يدي.
[3] انظر «العبر» (2/ 162- 163) و «تاريخ بغداد» (12/ 66) و «المنهج الأحمد» (2/ 10- 15) .
[4] هو أبو بكر أحمد بن محمد بن الحجاج المرّوذي. تقدمت ترجمته في المجلد الثالث ص (313) .
[5] (2/ 163) .
[6] انظر «طبقات الحنابلة» لابن أبي يعلى (2/ 58) بعناية الشيخ محمد حامد الفقي رحمه الله، طبع مطبعة السنّة المحمدية في مصر.(4/66)
الحسن القتّات الصوفي، ثنا أبو صالح الحسن بن بشار العبد الصالح، حدّثني عبد الله بن أحمد قال: مرّت بنا جنازة ونحن قعود على مسجد أبي، فقال أبي: ما كان صنعة صاحب الجنازة؟ قالوا: كان يبيع على الطريق.
قال: في فنائه أو فناء غيره؟ قالوا: في فناء غيره. قال: عزّ عليّ، عزّ عليّ، إن كان في فناء يتيم أو غيره، فقد ذهبت أيامه عطلا. ثم قال: قم نصلّي عليه، عسى الله أن يكفّر عنه سيئاته. قال: فكبّر عليه أربع تكبيرات، ثم حملناه إلى قبره ودفناه، ونام أبي في تلك الليلة وهو مغتم به، فإذا نحن بامرأة قالت:
نمت البارحة، فرأيت صاحب الجنازة الذي مررت معه وهو يجري في الجنّة جريا وعليه حلّتان خضراوان [1] ، فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: غضبان عليّ وقت خروج روحي، فصلى عليّ أحمد بن حنبل، فغفر لي ذنوبي ومتّعني بالجنة.
وأنبأنا علي المحدّث، عن أبي عبد الله الفقيه، أنه قال: إذا رأيت البغدادي يحب أبا الحسن بن بشار، وأبا محمد البربهاري، فاعلم أنه صاحب سنّة.
وكان ابن بشّار يقول: من زعم أن الكفّار يحاسبون، ما يستحيي [2] من الله، ثم قال: من صلّى خلف من يقول هذه المقالة يعيد. انتهى ملخصا.
أي خلافا للسالمية، فإنهم يقولون بحساب الكفّار كالمسلمين، والحق أنهم تحصى أعمالهم ويطّلعون عليها ويقرّعون بها تقريعا من غير وزن وحساب، لقوله تعالى: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً 18: 105 [الكهف: 105] والله أعلم.
__________
[1] في الأصل: «خضراوتان» وأثبت لفظ المطبوع وهو موافق لما في «طبقات الحنابلة» .
[2] في «طبقات الحنابلة» : «يستحيي» وهو خطأ فتصحح فيه.(4/67)
وفيها محمد بن إبراهيم [بن زياد] الرّازي الطّيالسي [1] روى عن إبراهيم بن موسى الفرّاء، وابن معين، وخلق.
قال الدارقطني: متروك.
قال في «المغني» [2] : محمد بن إبراهيم بن زياد الطيالسي، عن ابن معين. قال الدارقطني: متروك، وضعّفه أبو أحمد الحاكم. انتهى.
[وأبو لبيد محمد بن إدريس السّامي السّرخسي] . روى عن سويد [3] ، وأبي مصعب، وطبقتهما [4] .
وفيها أبو العبّاس محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن مهران السرّاج [5] الحافظ، صاحب التصانيف. روى عن قتيبة، وإسحاق [6] وخلق. وعنه الشيخان خارج «صحيحيهما» ، وكان إمام هذا الشأن.
قال أبو إسحاق المزكّي: سمعته يقول: ختمت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، اثني عشر ألف ختمة، وضحّيت عنه اثني عشر ألف أضحية [7] .
قال محمد بن أحمد الدّقّاق: رأيت السرّاج يضحي كل أسبوع أو
__________
[1] انظر «العبر» (2/ 163) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 458- 460) .
[2] انظر «المغني في الضعفاء» (2/ 546) .
[3] هو سويد بن سعيد الحدثاني. تقدمت ترجمته في المجلد الثالث ص (181- 182) .
[4] ما بين حاصرتين سقط من الأصل والمطبوع واستدركته من «العبر» (2/ 163) وقوله: «روى عن سويد، وأبا مصعب وطبقتهما» أقحم ضمن ترجمة محمد بن إبراهيم بن زياد الرّازي الطياليسي في الأصل والمطبوع. ولفظة «السامي» تحرّفت في «العبر» إلى «الشامي» فتصحّح فيه. وانظر «الأنساب» للسمعاني (7/ 16) .
[5] انظر «العبر» (2/ 163) و «الأمصار ذوات الآثار» ص (76) بتحقيقي، طبع دار ابن كثير، و «سير أعلام النبلاء» (14/ 388- 398) .
[6] يعني إسحاق بن راهويه، وهو إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي أبو محمد بن راهويه المروزي، وهو قرين أحمد بن حنبل.
[7] انظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 393) .(4/68)
أسبوعين [1] أضحية، ثم يجمع [2] أصحاب الحديث عليها. وقد ألّف السرّاج مستخرجا على «صحيح مسلم» وكان أمّارا بالمعروف نهّاء عن المنكر. عاش سبعا وتسعين سنة.
وفيها أبو قريش محمد بن جمعة بن خلف القهستاني الأصم [3] الحافظ المتقن الثقة الرحّال، صاحب المسندين [4] على الرّجال وعلى الأبواب. أكثر التّطواف، وروى عن أحمد بن منيع وطبقته.
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «كل أسبوع وأسبوعين» وأثبت لفظ «العبر» .
[2] في الأصل والمطبوع: «لم يجمع» وهو خطأ والتصحيح من «العبر» .
[3] انظر «العبر» (2/ 164) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 304- 306) .
[4] في «العبر» : «صاحب المسند» وهو خطأ فيصحّح فيه.(4/69)
سنة أربع عشرة وثلاثمائة
فيها كما قال في «الشذور» وقع حريق في نهر طابق [1] ، فاحترقت منه ألف دار، واشتد برد الهواء في كانون الأول، فتلف أكثر نخل بغداد وسوادها، وجمدت الخلجان والآبار، ثم جمدت دجلة، حتّى عبرت الدواب عليها.
وفيها أخذت الرّوم- لعنهم الله- ملطية عنوة واستباحوها، ولم يحجّ أحد من العراق خوفا من القرامطة، ونزح أهل مكّة عنها خوفا منهم.
وفيها أبو بكر أحمد بن محمد بن عمر التيمي المنكدري الحجازي [2] . نزيل خراسان. روى عن عبد الجبّار بن العلاء وخلق.
قال الحاكم: له أفراد وعجائب.
ومحمد بن محمد بن [عبد الله بن] النّفّاح بن بدر الباهلي [3] أبو
__________
[1] قال ياقوت: نهر الطابق: محلة ببغداد من الجانب الغربي قرب نهر القلّائين شرقا، وإنما هو نهر بابك، منسوب إلى بابك بن بهرام بن بابك، وهو قديم، وبابك هو الذي اتخذ العقد الذي عليه قصر عيسى بن علي واحتفر هذا النهر، ومأخذه من كرخايا ويصب في نهر عيسى عند دار بطيخ، وقرأت في بعض التواريخ المحدثة قال: وفي سنة (488) أحرقت محلة نهر طابق وصارت تلولا لفتنة كانت بينهم وبين محلة باب الأرحاء. «معجم البلدان» (5/ 321) .
[2] انظر «العبر» (2/ 165) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 532- 533) .
[3] انظر «العبر» (2/ 165) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 295) وما بين حاصرتين زيادة منه.(4/70)
الحسن، بغدادي حافظ خيّر متعفّف. توفي بمصر في ربيع الآخر. روى عن إسحاق بن أبي إسرائيل وطبقته.
وفيها محمد بن عمر بن لبابة، أبو عبد الله، القرطبي [1] مفتي الأندلس. كان رأسا في الفقه، محدّثا، أديبا، أخباريا، شاعرا، مؤرّخا. توفي في شعبان، وولد سنة خمس وعشرين ومائتين. روى عن أصبغ [بن الخليل] ، والعتبي وطبقتهما من أصحاب يحيى بن يحيى، وتفقه به خلق.
وفيها نصر بن القاسم أبو اللّيث البغدادي الفرائضي [2] روى عن شريح بن يونس وأقرانه، وكان ثقة من فقهاء أهل الرّيّ.
__________
[1] انظر «العبر» (2/ 165) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 495) .
[2] انظر «العبر» (2/ 166) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 465) .(4/71)
سنة خمس عشرة وثلاثمائة
فيها كان أول ظهور الدّيلم، وأول من غلب منهم على الرّيّ لبكي بن النّعمان [1] .
وفيها أخذت الرّوم سميساط، واستباحوها، وضربوا الناقوس في الجامع، فسار مؤنس بالجيوش، ودخل الرّوم، وتمّ مصاف كثيرة، هزمت فيها الرّوم، وقتل منهم خلق.
وأما القرامطة فنازلت الكوفة، فسار يوسف بن أبي السّاج فالتقاهم، فأسر يوسف، وانهزم عسكره، وقتل منهم عدّة، وسار القرمطي إلى أن نزل غربي الأنبار، فقطع المسلمون الجسر، فأخذ يتحيل في العبور، ثم عبروا وأوقع بالمسلمين [2] ، فخرج نصر الحاجب، ومؤنس، فعسكروا بباب الأنبار، وخرج أبو الهيجاء بن حمدان وإخوته، ثم ردّت القرامطة، فما جسر العسكر عليهم، وهذا خذلان إلهي، فإن القرامطة كانوا ألفا وسبعمائة من فارس وراجل، والعسكر أربعين ألف فارس.
ثم إن القرمطيّ قتل ابن أبي السّاج وجماعة منهم. ثم سار إلى هيت،
__________
[1] انظر «النجوم الزاهرة» (3/ 216) وحاشيته.
[2] في الأصل: «بين المسلمين» وأثبت ما في المطبوع وهو موافق لما في «العبر» .(4/72)
فبادر العسكر وحصّنوها [1] ، فردّ القرمطي إلى البرّية، فدخل الوزير ابن عيسى على المقتدر، وقال: قد تمكّنت هيبة هذا الكافر من القلوب، فخاطب السيدة في مال تنفقه في الجيش، وإلّا فمالك إلّا أقاصي خراسان، فأخبر أمه، فأخرجت خمسمائة ألف دينار، وأخرج المقتدر ثلاثمائة ألف دينار، ونهض ابن عيسى في استخدام العساكر، وجدّدت على بغداد الخنادق، وعدمت هيبة المقتدر من القلوب، وشتمته الجند. قاله في «العبر» [2] .
وفيها توفي الحافظ أبو بكر، أحمد بن علي بن شهريار الرّازي ثم النيسابوري [3] ، صاحب التصانيف، وله أربع وخمسون سنة. رحل وأدرك إبراهيم بن عبد الله القصّار وطبقته بخراسان، والرّيّ، وبغداد، والكوفة، والحجاز.
وأبو القاسم عبد الله بن محمد بن جعفر القزويني [4] الفقيه، قاضي دمشق ثم قاضي الرّملة. روى عن يونس بن عبد الأعلى وطبقته، وكان له حلقة بمصر للفتوى.
قال ابن يونس: خلّط ووضع أحاديث.
وقال في «المغني» [5] : كذبه الدارقطني.
وفيها أبو الحسن علي بن سليمان البغدادي النحوي، وهو الأخفش الصغير [6] . روى عن ثعلب والمبرّد.
__________
[1] في الأصل: «وحصنها» وأثبت ما في المطبوع وهو موافق لما في «العبر» مصدر المؤلف.
[2] (2/ 166- 167) .
[3] انظر «العبر» (2/ 167) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 245- 246) و «النجوم الزاهرة» (3/ 219) .
[4] انظر «العبر» (2/ 168) و «ميزان الاعتدال» (2/ 495) و «النجوم الزاهرة» (2/ 219) .
[5] انظر «المغني في الضعفاء» (1/ 353) .
[6] انظر «العبر» (2/ 168) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 480- 482) .(4/73)
قال ابن خلّكان [1] : روى عن المبرّد، وثعلب، وغيرهما. وروى عنه المرزبانيّ، وأبو الفرج المعافى [الجريري] وغيرهما، وهو غير الأخفش الأكبر والأخفش الأوسط. وكان بين ابن الرّومي وبين الأخفش المذكور منافسة، وكان الأخفش يبادر [2] داره ويقول عند بابه كلاما يتأذى به، وكان ابن الرّومي كثير التطيّر، فإذا سمع كلامه لا يخرج ذلك اليوم من بيته، فكثر ذلك منه، فهجاه ابن الرّومي بأهاج كثيرة، وهي مثبتة في «ديوانه» ، وكان الأخفش يحفظها ويوردها استحسانا لها في جملة ما يورده، وافتخارا أنه نوّه بذكره إذ هجاه، فلما علم ابن الرّومي ذلك أقصر عنه.
وقال المرزباني: لم يكن الأخفش المذكور بالمتّسع في الرواية للأخبار [3] والعلم بالنحو، وما علمته صنّف شيئا البتة، ولا قال شعرا، وكان إذا سئل عن مسألة في النحو ضجر وانتهر من يسأله.
ومات [4] فجأة ببغداد، ودفن بمقبرة قنطرة بردان.
والأخفش: هو صغير العين مع سوء بصرها. انتهى ملخصا.
وفيها محمد بن الحسين، أبو جعفر الخثعميّ الكوفيّ الأشنانيّ [5] .
أحد الأثبات. روى ببغداد عن أبي كريب وطبقته.
وفيها محمد بن الفيض أبو الحسن الغسّاني [6] محدّث دمشق. روى
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (3/ 301- 302) .
[2] في «وفيات الأعيان» : «يباكر» .
[3] في «وفيات الأعيان» : «في الرواية للأشعار» وانظر حاشيته.
[4] يعني صاحب الترجمة.
[5] انظر «العبر» (2/ 168) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 529) .
[6] انظر «العبر» (2/ 168) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 427- 428) .(4/74)
عن صفوان بن صالح [المؤذّن] [1] والكبار، وتوفي في رمضان عن ست وتسعين سنة.
ومحمد بن المسيب الأرغياني [2] الحافظ الجوّال، الزاهد المفضال، شيخ نيسابور، الإسفنجيّ. روى عن محمد بن رافع، وبندار، ومحمد بن هاشم البعلبكي، وطبقتهم. وكان يقول: ما أعلم منبرا من منابر الإسلام بقي عليّ لم أدخله لسماع الحديث.
وقال: كنت أمشي في مصر وفي كمّي مائة جزء، في الجزء ألف حديث.
قال الحاكم: كان دقيق الخط، وكان [3] هذا كالمشهور من شأنه، وعاش اثنتين وتسعين سنة.
قال ابن ناصر الدّين: حدّث عن خلق، وعنه خلق، وكان من العبّاد المجتهدين، والزهّاد البكّائين. انتهى.
__________
[1] زيادة من «سير أعلام النبلاء» .
[2] انظر «العبر» (2/ 168- 169) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 422- 426) .
[3] في «العبر» : «وصار» .(4/75)
سنة ست عشرة وثلاثمائة
فيها دخل القرمطي الرحبة بالسيف واستباحها، ثم نازل الرّقّة وقتل جماعة بربضها، وتحوّل إلى هيت، فرجموه [1] بالحجارة، وقتلوا صاحبه أبا الزوّار، فسار إلى الكوفة [2] ، ثم انصرف وبنى دارا سمّاها دار الهجرة، ودعا إلى المهديّ، وتسارع إليه كل مريب، ولم يحج أحد، ووقع بين المقتدر وبين مؤنس الخادم، واستعفى ابن عيسى من الوزارة، وولي بعده أبو علي بن مقلة الكاتب.
وفيها توفي بنان الحمّال بن محمد بن حمدان بن سعيد، أبو الحسن [3] الزاهد الواسطي، نزيل مصر وشيخها. كان ذا منزلة عظيمة في النفوس، وكانوا يضربون بعبادته المثل. صحب الجنيد، وحدّث عن الحسن بن محمد الزّعفراني وجماعة. وثّقه أبو سعيد بن يونس وقال: توفي [4] في رمضان وخرج في جنازته أكثر أهل مصر، وكان شيئا عجيبا.
وقال السيوطي في «حسن المحاضرة» [5] : جاءه رجل فقال: لي على
__________
[1] في «العبر» : «فرموه» .
[2] قوله: «وقتلوا صاحبه أبا الزوار، فسار إلى الكوفة» سقط من «العبر» طبع الكويت.
[3] انظر «العبر» (2/ 169- 170) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 488- 490) .
[4] قوله: «وقال توفي» سقط من «العبر» المطبوع في الكويت.
[5] (1/ 513) .(4/76)
رجل مائة دينار، وقد ذهبت الوثيقة، وأخشى أن ينكر، فادع لي. فقال له:
إني رجل قد كبرت، وأنا أحبّ الحلوى، فاذهب فاشتر لي رطلا وأتني به حتّى أدعو لك، فذهب الرجل فاشترى، فوضع له البائع الحلوى في ورقة، فإذا هي وثيقته بالمائة دينار، فجاء إلى الشيخ فأخبره، فقال: خذ الحلوى فأطعمها صبيانك.
وقال السخاوي [1] : هو من جلّة المشايخ، والقائلين بالحق، له المقامات المشهورة، والآيات المذكورة. كان أستاذ أبي الحسن النّوري.
قال بنان: من كان يسرّه ما يضرّه متى يفلح؟.
وقال: إن أفردته [2] بالرّبوبية، أفردك بالعناية. والأمر بيدك، إن نصحت صافوك، وإن خلّطت جافوك [3] .
وقال: أجلّ أحوال الصوفية الثّقة بالمضمون، والقيام بالأوامر، ومراعاة السّر، والتخلّي عن الكونين بالتشبّث بالحق.
وقال: رؤية الأسباب على الدوام قاطعة عن مشاهدة المسبب والإعراض عن الأسباب جملة [4] يؤدّي بصاحبه إلى ركوب البواطل.
وقال: ليس بمتحقّق في الحبّ من راقب أوقاته، أو تحمّل [5] في كتمان حبه، حتّى يهتك [6] ويفتضح ويخلع العذار، ولا يبالي عمّا يرد عليه
__________
[1] لعل المؤلف ينقل عن «طبقات الصوفية» للسلمي باختصار. انظره ص (291- 294) .
[2] يعني إن أفردت الله عزّ وجلّ.
[3] في الأصل والمطبوع: «خلوك» وما أثبته من «طبقات الصوفية» ص (293) .
[4] لفظة «جملة» تقدمت سهوا في الأصل والمطبوع فأثبتت إلى جوار لفظة «الأسباب» التي مضت قبل سطر، فأعدتها إلى مكانها الصحيح معتمدا في ذلك على «طبقات الصوفية» ص (294) .
[5] في الأصل والمطبوع: «تجمل» وما أثبته من «طبقات الصوفية» ص (294) .
[6] في «طبقات الصوفية» : «ينهتك» والهتك: خرق السّتر.(4/77)
من جهة محبوبه أو بسببه، ويتلذذ بالبلاء [في الحبّ] [1] كما يتلذذ [2] الأغيار بأسباب النعم.
وأنشد على أثره:
لحاني العاذلون فقلت مهلا ... فإنّي لا أرى في الحبّ عارا
وقالوا قد خلعت فقلت لسنا ... بأول خالع خلع العذارا
وأسند في «الحلية» [3] عن أبي علي الرّوذباري قال: كان سبب دخولي مصر حكاية بنان، وذلك أنه أمر ابن طولون بالمعروف، فأمر أن يلقى بين يدي السبع، فجعل السبع يشمّه ولا يضرّه، فلما أخرج من بين يدي السبع، قيل له: ما الذي كان في قلبك حين شمّك السبع؟ قال: كنت أتفكر في اختلاف الناس في سؤر السباع ولعابها.
واحتال عليه أبو عبيد الله القاضي، حتّى ضرب سبع درر، فقال له:
حبسك الله بكل درّة سنة. فحبسه ابن طولون سبع سنين.
ومن كلامه: الحرّ عبد ما طمع، والعبد حر ما قنع [4] .
وبنان: بضم الباء الموحدة ونون، وبعد الألف نون، ولقّب بالحمّال لأنه خرج إلى الحج سنة وحمل على رقبته زاده، وكان متوكلا، فرأته عجوز في البادية فقالت: أنت حمّال ما أنت متوكل. ما ظننت أن الله يرزقك حتّى حملت إلى بيته.
وفيها أبو بكر عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعث الحافظ السّجستاني [5] بن الحافظ. ولد بسجستان سنة ثلاثين ومائتين، ونشأ بنيسابور
__________
[1] ما بين حاصرتين سقط من الأصل والمطبوع واستدركته من «طبقات الصوفية» .
[2] في المطبوع: «كما تتلذذ» .
[3] انظر «حلية الأولياء» (10/ 324) .
[4] ورد قوله هذا في المطبوع على هيئة بيت الشعر، والصواب ما جاء في الأصل وهو موافق لما في «حلية الأولياء» مصدر المؤلف.
[5] انظر «العبر» (2/ 170- 171) و «سير أعلام النبلاء» (13/ 221- 237) .(4/78)
وغيرها وسمع من محمد بن أسلم الطّوسي، وعيسى بن زغبة، وخلائق بخراسان، والشام، والحجاز، ومصر، والعراق، وأصبهان. وجمع وصنّف، وكان عنده عن أبي سعيد الأشجّ ثلاثون ألف حديث. وحدّث بأصبهان من حفظه بثلاثين ألف حديث.
وقال ابن شاهين: كان ابن أبي داود يملي علينا من حفظه، وكان يقعد على المنبر بعد ما عمي، ويقعد تحته بدرجة ابنه أبو معمر، وبيده كتاب يقول له: حديث كذا، فيسرد من حفظه، حتّى يأتي على المجلس.
وقال محمد بن عبد الله بن الشّخّير: كان زاهدا ناسكا.
وقال عبد الأعلى بن أبي بكر بن أبي داود: صلّي على أبي ثمانين مرة.
وممّن روى عنه ابن المظفر، والدارقطني، وأبو أحمد الحاكم وغيرهم.
وقال في «المغني» [1] : عبد الله بن سليمان السجستاني، ثقة، كذبه أبوه في غير حديث. انتهى [2] .
وفيها محمد بن خريم أبو بكر العقيلي [3] محدّث دمشق، في جمادى الآخرة، روى عن هشام بن عمّار وجماعة.
وفيها العلّامة أبو بكر بن السّرّاج، واسمه محمد بن السّريّ [4] البغدادي النحوي، صاحب الأصول في العربية. له مصنفات كثيرة، منها «شرح كتاب سيبويه» أخذ عن المبرّد وغيره، وأخذ عنه السيرافي وغيره، ونقل عنه الجوهري في «صحاحه» .
__________
[1] انظر «المغني في الضعفاء» (1/ 341) .
[2] أقول: وانظر «لسان الميزان» لابن حجر (3/ 297) حيث قال: إنما ذكرته لأنزهه. (ع) .
[3] انظر «العبر» (2/ 171) و «تلخيص المتشابه» للخطيب البغدادي (1/ 268- 269) بتحقيق الأستاذة سكينة الشهابي، طبع دار طلاس بدمشق، و «سير أعلام النبلاء» (14/ 428- 429) .
[4] انظر «العبر» (2/ 171) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 483- 484) .(4/79)
قال في «العبر» [1] : كان مغرى بالطرب والموسيقا. انتهى.
وقال ابن الأهدل: من شعره:
ميّزت بين جمالها وفعالها ... فإذا الملاحة بالخيانة [2] لا تفي
حلفت لنا أن لا تخون عهودنا ... وكأنما حلفت لنا أن لا تفي
والله لا كلّمتها ولو انها ... كالبدر أو كالشمس أو كالمكتفي
قال اليافعي [3] : يحسن استعارة هذه الأبيات لوصف الدنيا.
وفيها محمد بن عقيل بن الأزهر البلخي [4] الحافظ، شيخ بلخ ومحدّثها. صنّف «المسند» و «التاريخ» وغير ذلك. وسمع علي بن خشرم، وعبّاد بن الوليد الغبري وطبقتهما. ومنه [محمد بن] عبد الله الهندواني، وعبد الرحمن بن أبي شريح. وكان حسن الحديث.
وفيها أبو عوانة، يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم بن يزيد الإسفراييني [5] الحافظ، صاحب «الصحيح المسند» . رحل إلى الشام، والحجاز، واليمن، ومصر، والجزيرة، والعراق، وفارس، وأصبهان. وروى عن يونس بن عبد الأعلى، وعلي بن حرب وطبقتهما. وعنه أبو علي النيسابوري، والطبراني. ثقة جليل، وعلى قبره مشهد بإسفرايين، وكان مع حفظه فقيها شافعيا إماما.
__________
[1] (2/ 171) .
[2] في الأصل والمطبوع: «بالجناية» وما أثبته من «إنباه الرواة» للقفطي (3/ 147) و «وفيات الأعيان» (4/ 340) و «غربال الزمان» للعامري ص (277) و «مرآة الجنان» (2/ 270) . وفيه البيتان الأول والثاني فقط، وانظر «المحمدون من الشعراء وأشعارهم» ص (471) بتحقيق صديقي الفاضل الأستاذ رياض عبد الحميد مراد، طبع مجمع اللغة العربية بدمشق.
[3] انظر «مرآة الجنان» (2/ 270) وفيه قال اليافعي: وهذان البيتان يحسن استعارتهما لوصف الدنيا. وقيل إنهما لابن المعتز، وقيل لعبيد الله بن عبد الله بن طاهر.
[4] انظر «العبر» (2/ 171) و «سير أعلام النبلاء» (4/ 415- 416) .
[5] انظر «العبر» (2/ 171) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 417- 422) .(4/80)
سنة سبع عشرة وثلاثمائة
فيها حجّ بالنّاس منصور الدّيلمي، فدخلوا مكّة سالمين، فوافاهم يوم التروية عدو الله أبو طاهر القرمطي، فقتل الحجيج قتلا ذريعا في المسجد، وفي فجاج مكة. وقتل أمير مكّة ابن محارب، وقلع باب الكعبة واقتلع الحجر الأسود وأخذه إلى هجر، وكان معه تسعمائة نفس، فقتلوا في المسجد ألفا وسبعمائة نسمة، وصعد على باب البيت وصاح:
أنا بالله وبالله أنا ... يخلق الخلق وأفنيهم أنا
وقيل: إن الذي قتل بفجاج مكة وظاهرها زهاء ثلاثين ألفا، وسبي من النساء والصبيان نحو ذلك، وأقام بمكة ستة أيام ولم يحج أحد.
قال محمود الأصبهاني: دخل قرمطيّ وهو سكران، فصفّر لفرسه فبال عند البيت، وقتل جماعة، ثم ضرب الحجر الأسود بدبوس فكسر منه قطعة، ثم قلعه، وبقي الحجر الأسود بهجر نيّفا وعشرين سنة [1] .
وفيها قتل بمكة الإمام أحمد بن الحسين أبو سعيد البردعي [2] ، شيخ
__________
[1] انظر الخبر برواية أخرى في «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (8/ 207- 208) و «النجوم الزاهرة» (3/ 224- 226) و «شرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد بن حنبل» للسفاريني (1/ 230) المطبوع في المكتب الإسلامي بدمشق.
[2] في الأصل والمطبوع: «البرذعي» بالذال وهو خطأ، والتصحيح من «تاريخ بغداد» (4/ 99) و «طبقات الفقهاء» للشيرازي ص (141) و «العبر» (2/ 174) . و «الجواهر المضية» (1/ 163) .(4/81)
حنفية بغداد. أخذ عنه أبو الحسن الكرخي، وقد ناظر مرة [1] داود الظاهري، فقطع داود. لكنه معتزلي.
وفيها الحافظ الشهيد أبو الفضل محمد الجارودي بن أحمد بن عمّار الجارودي الهروي [2] قتل بباب الكعبة، وهو آخذ بحلقة الباب. روى عن أحمد بن نجدة وطبقته، ومات كهلا.
وفيها أحمد بن محمد بن أحمد بن حفص بن مسلم أبو عمرو الجبّري [3] نسبة إلى جبّر بالفتح والتشديد جد كان أحمد هذا مزكّى من كبار مشايخ نيسابور ورؤسائها. روى عن محمد بن رافع، والكوسج ورحل وطوّف، وتوفي في ذي القعدة.
وحرميّ بن أبي العلاء المكّي [4] ، نزيل بغداد، وهو أبو عبد الله أحمد بن محمد بن أبي خميصة الشّروطيّ [5] كاتب أبي عمر القاضي. روى «كتاب النّسب» عن الزّبير بن بكّار.
__________
و «العقد الثمين» (3/ 33) و «النجوم الزاهرة» (3/ 226) و «الطبقات السنية في تراجم الحنفية» (1/ 394) و «الفوائد البهية في تراجم الحنفية» ص (19)
[1] في الأصل والمطبوع: «وقد ناهز أمره» والتصحيح من «العبر» .
[2] انظر «العبر» (2/ 175) و «الأنساب» (3/ 159) .
[3] تنبيه: كذا في الأصل والمطبوع: «الجبّري» وهو خطأ، وتبع المؤلف في ذلك محقق «العبر» (2/ 175) طبع الكويت فنقل ضبط ابن العماد لنسبته ودونه في حاشيته، وحرّف النسبة في المتن، والصواب «الحيري» كما جاء على الصواب في «تهذيب الكمال» (2/ 476) فيمن روى عن (إسحاق بن منصور الكوسج) و «تذكرة الحفاظ» (3/ 798) و «توضيح المشتبه» (2/ 395) من المنسوخ، وقد أذن لي بالاطلاع عليه محققه الأستاذ الفاضل محمد نعيم العرقوسي، جزاه الله تعالى خيرا.
[4] انظر «العبر» (2/ 175) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 485- 486)
[5] قال السمعاني في «الأنساب» (7/ 321) : هذه النسبة لمن يكتب الصّكاك والسّجلات، لأنها مشتملة على الشروط، فقيل لمن يكتبها «الشروطي» .(4/82)
وفيها القاضي المعمّر، أبو القاسم، بدر بن الهيثم اللّخميّ الكوفيّ [1] ، نزيل بغداد. روى عن أبي كريب وجماعة.
قال الدارقطني: كان نبيلا، بلغ مائة وسبع عشرة سنة.
وفيها الحسن بن محمد أبو علي الدّاركي [2] محدّث أصبهان في جمادى الآخرة. روى عن محمد بن حميد الرّازي، ومحمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة وطائفة.
وفيها البغويّ، أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز [3] ليلة عيد الفطر ببغداد، وله مائة وثلاث سنين وشهر، وكان محدّثا حافظا مجوّدا مصنّفا. انتهى إليه علوّ الإسناد في الدّنيا، فإنه سمع في الصغر بعناية جدّه لأمه، أحمد بن منيع، وعمّه علي بن عبد العزيز، وحضر مجلس عاصم بن علي، وروى الكثير عن علي بن الجعد، ويحيى الحمّاني، وأبي نصر التّمار، وعلي بن المديني، وخلق. وأول ما كتب الحديث سنة خمس وعشرين ومائتين، وكان ناسخا مليح الخط، نسخ الكثير لنفسه ولجده [وعمّه] [4] .
وفيها علي بن أحمد بن سليمان الصّيقل، أبو الحسن المصري، ولقبه علّان المعدّل [5] روى عن محمد بن رمح وطائفة، وتوفي في شوّال عن تسعين سنة.
وفيها محمد بن أحمد بن زهير، أبو الحسن الطّوسي [6] ، حافظ مصنّف، سمع إسحاق الكوسج، وعبد الله بن هاشم، وطبقتهما.
__________
[1] انظر «العبر» (2/ 175) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 530- 531) .
[2] «العبر» (2/ 176) وانظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 486) .
[3] «العبر» (2/ 176) وانظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 440- 457) .
[4] زيادة من «العبر» .
[5] «العبر» (2/ 176- 177) وانظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 496) .
[6] «العبر» (2/ 177) وانظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 493- 494) .(4/83)
وفيها محمد بن زبّان [1] بن حبيب أبو بكر المصري [2] في جمادى الأولى. سمع زكريا بن يحيى كاتب العمري، ومحمد بن رمح، وعاش اثنتين وتسعين سنة.
وفيها المنجم المشهور صاحب الزّيج والأعمال، محمد بن جابر البتّاني [3] توفي بموضع يقال له الحضر، وهي مدينة بقرب الموصل [4] وهي مملكة السّاطرون [5] وكان حاصرها أزدشير وقتله وأخذها. ذكره ابن هشام في «السيرة» [6] .
وفيها نصر بن أحمد البصري [الخبز أرزّيّ] الشاعر [7] وكان أميّا وله الأشعار الفائقة منها:
خليليّ هل أبصرتما أو سمعتما ... بأحسن [8] من مولى تمشّى إلى عبد
أتى زائرا من غير وعد وقال لي ... أجلّك عن تعليق قلبك بالوعد
فما زال نجم الوصل بيني وبينه ... يدور بأفلاك السعادة والسعد
__________
[1] في «العبر» بطبعتيه: «ابن ريّان» .
[2] «العبر» (2/ 177) وانظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 519- 520) .
[3] في الأصل والمطبوع: «التباني» وهو خطأ، والتصحيح من «غربال الزمان» ص (279) مصدر المؤلف. وانظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 518- 519) و «توضيح المشتبه» لابن ناصر الدّين (1/ 608) بتحقيق الأستاذ الفاضل محمد نعيم العرقسوسي، طبع مؤسسة الرسالة.
[4] وتقع الآن في الشمال الغربي من العراق إلى الجنوب من الموصل وتعرف الآن ب «عربايا» .
انظر «معجم ما استعجم» (1/ 453) و «معجم البلدان» (2/ 267- 268) و «أطلس التاريخ العربي» ص (9) .
[5] تصحفت في الأصل والمطبوع إلى «الشاطرون» والتصحيح من «غربال الزمان» و «السيرة النبوية» و «معجم ما استعجم» .
[6] انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (1/ 71- 73) .
[7] «وفيات الأعيان» (5/ 376- 382) . وما بين حاصرتين زيادة منه وفي سنة وفاته خلاف، وقد بسط القول في ذلك العلّامة خير الدّين الزركلي رحمه الله في «الأعلام» (8/ 21) فراجعه.
[8] في المراجع التي بين يدي: «بأكرم» .(4/84)
سنة ثمان عشرة وثلاثمائة
هبت ريح من المغرب في آذار، وحملت رملا أحمر يشبه رمل الصاغة، فامتلأت منه أسواق بغداد في الجانبين وسطحها ومنازلها. قاله في «الشذور» .
وفيها توفي القاضي أبو جعفر أحمد بن إسحاق بن بهلول بن حسّان التّنوخيّ الحنفيّ الأنباري الأديب [1] أحد الفصحاء البلغاء، وله سبع وثمانون سنة. روى عن أبي كريب وطبقته، وولي قضاء مدينة المنصور عشرين سنة، وله مصنف في نحو الكوفيين.
وفيها أحمد بن محمد بن المغلّس البزّاز [2] ، أخو جعفر. كان ثقة نبيلا، روى عن لوين، وعدة.
وفيها إسماعيل بن داود بن وردان المصري [3] . روى عن زكريّا كاتب العمري، ومحمد بن رمح، وتوفي في ربيع الآخر عن اثنتين وتسعين سنة.
وفيها أبو بكر الحسن بن علي بن بشّار بن العلّاف البغدادي
__________
[1] «العبر» (2/ 177) وانظر «الوافي بالوفيات» (6/ 235- 237) و «الجواهر المضية في طبقات الحنفية» (1/ 137- 142) .
[2] «العبر» (2/ 178) وانظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 520- 521) .
[3] «العبر» (2/ 178) وانظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 521- 522) .(4/85)
المقرئ [1] صاحب الدّوري، وكان أديبا ظريفا نديما للمعتضد، ثم شاخ وعمي.
قال ابن خلّكان [2] : كان من الشعراء المجيدين. وحدّث عن أبي عمرو الدّوري المقرئ، وحميد بن مسعدة [3] البصري وغيرهما، وكان ينادم الإمام المعتضد بالله.
وحكى قال: بتّ ليلة في دار المعتضد مع جماعة من ندمائه، فأتانا خادمه ليلا وقال: يقول أمير المؤمنين: أرقت الليلة بعد انصرافكم، فقلت:
ولما انتبهنا للخيال الذي سرى ... إذا الدّار قفر [4] والمزار بعيد
وقال: قد أرتج عليّ تمامه، فمن أجازه بما يوافق غرضي أمرت له بجائزة.
قال: فأرتج على الجماعة، وكلهم شاعر فاضل، فابتدرت وقلت:
فقلت لعيني عاودي النوم واهجعي ... لعلّ خيالا طارقا سيعود
فرجع الخادم [إليه] ثم عاد، فقال: أمير المؤمنين يقول: لقد أحسنت، و [قد] أمر لك بجائزة.
وكان لأبي بكر المذكور هرّ يأنس به، وكان يدخل أبراج الحمام التي لجيرانه ويأكل أفراخها [5] وكثر ذلك منه، فأمسكه أربابها وذبحوه، فرثاه بهذه القصيدة.
__________
[1] «العبر» (2/ 178) وانظر «وفيات الأعيان» (2/ 107- 111) و «سير أعلام النبلاء» (14/ 514- 518) . و «نكت الهيمان» ص (139- 142) و «الوافي بالوفيات» (12/ 169- 173) .
[2] في «وفيات الأعيان» والمؤلف ينقل عنه بتصرف واختصار، وما بين حاصرتين زيادة منه.
[3] في الأصل والمطبوع: «وحميد بن سعيد» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» و «نكت الهيمان» ص (139) و «سير أعلام النبلاء» وغيرها.
[4] في الأصل: «قفرى» وأثبت ما في المطبوع وهو موافق لما في المصادر التي بين يدي وهو الصواب.
[5] في «وفيات الأعيان» : «فراخها» .(4/86)
وقد قيل: إنه رثى بها عبد الله بن المعتز، وخشي من الإمام المقتدر أن يتظاهر بها، لأنه هو الذي قتله، فنسبها إلى الهرّ وعرّض به في أبيات منها، وكانت بينهما صحبة أكيدة.
وذكر صاعد اللغوي في كتاب «الفصوص» قال: حدّثني أبو الحسن المرزباني قال: هويت جارية لعلي بن عيسى غلاما لأبي بكر بن العلّاف الضرير، ففطن بهما فقتلا جميعا وسلخا وحشيت [1] جلودهما تبنا. فقال أبو بكر مولاه هذه القصيدة يرثيه [بها] وكنى عنه بالهرّ. وهي من أحسن الشعر وأبدعه، وعددها خمسة وستون بيتا، وطولها يمنع من الإتيان بجميعها فنأتي بمحاسنها، وفيها أبيات مشتملة على حكم فنأتي بها، وأولها:
يا هرّ فارقتنا ولم تعد ... وكنت عندي بمنزل الولد
فكيف ننفكّ عن هواك وقد ... صرت [2] لنا عدّة من العدد
تطرد عنّا الأذى وتحرسنا ... بالغيب من حيّة ومن جرد [3]
وتخرج الفأر من مكامنها ... ما بين مفتوحها إلى السّدد
يلقاك في البيت منهم مدد ... وأنت تلقاهم بلا مدد
لا عدد كان منك منفلتا ... منهم ولا واحد من العدد
وكان يجري ولا سداد لهم ... أمرك في بيتنا على السّدد
حتّى اعتقدت الأذى لجيرتنا ... ولم تكن للأذى بمعتقد
وحمت حول الرّدى بظلمهم ... ومن يحم حول حوضه يرد
وكان قلبي عليك مرتعدا ... وأنت تنساب غير مرتعد
تدخل برج الحمام متّئدا ... وتبلع الفرخ غير متئد [4]
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «وحشي» وأثبت ما في «وفيات الأعيان» مصدر المؤلف.
[2] في المراجع التي بين يدي: «كنت» .
[3] أقول الأصل أن يقول: «ومن جرذ» بالذال المعجمة، ضرب من الفأر، وقد ذكره بالدال لأجل القافية. (ع)
[4] في «الوافي بالوفيات» : «وتبلع اللحم غير مزدرد» .(4/87)
أطعمك الغيّ لحمها فرأى ... قتلك أصحابها [1] من الرّشد
حتّى إذا داوموك واجتهدوا ... وساعد النصر كيد مجتهد
صادوك غيظا عليك وانتقموا ... منك وزادوا ومن يصد يصد
ثم شفوا بالحديد أنفسهم ... منك ولم يرعووا إلى أحد
فلم تزل للحمام مرتصدا ... حتى سقيت الحمام بالرّصد
لم يرحموا صوتك الضعيف كما ... لم ترث منها لصوتها الغرد
وكنت بدّدت شملهم زمنا ... فاجتمعوا بعد ذلك البدد [2]
كأنّ حبلا حوى بجودته ... جيدك للخنق كان من مسد
كأنّ عيني تراك مضطربا ... فيه وفي فيك رغوة الزّبد
وقد طلبت الخلاص منه فلم ... تقدر على حيلة [3] ولم تجد
فجدت بالنفس والبخيل بها ... أنت ومن لم يجد بها تجد
فما سمعنا بمثل موتك إذ ... متّ ولا مثل عيشك [4] النّكد
عشت حريصا يقوده طمع ... ومتّ ذا قاتل بلا قود
فلم تخف وثبة الزّمان كما ... وثبت في البرج وثبة الأسد [5]
عاقبة الظلم لا تنام وإن ... تأخّرت مدة من المدد
أردت أن تأكل الفراخ ولا ... يأكلك الدّهر أكل مضطهد
هذا بعيد من القياس وما ... أعزّه في الدّنوّ والبعد
لا بارك الله في الطعام إذا ... كان هلاك النفوس في المعد
كم دخلت لقمة حشا شره ... فأخرجت روحه من الجسد
ما كان أغناك عن تصعّدك [6] ال ... برج ولو كان جنّة الخلد
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «أربابها» .
[2] تأخر هذا البيت في المراجع التي بين يدي إلى ما بعد أبيات عدّة.
[3] في «الوافي بالوفيات» : «على حيله» .
[4] في «سير أعلام النبلاء» : «ولا مثل حالك» .
[5] رواية البيت في الأصل والمطبوع و «وفيات الأعيان» تختلف قليلا عن روايتها في المراجع الأخرى.
[6] في «وفيات الأعيان» : «عن تسورك» وفي المراجع الأخرى: «عن تسلقك» .(4/88)
قد كنت في نعمة وفي دعة ... من العزيز المهيمن الصّمد
تأكل من فأر بيتنا [1] رغدا ... وأين بالشّاكرين للرّغد
انتهى ما أورده ابن خلكان ملخصا.
ومات عن مائة سنة.
وفيها أبو عروبة الحسين بن أبي معشر محمد بن مودود السّلميّ الحرّاني [2] الحافظ، محدّث حرّان، وهو في عشر المائة. روى عن إسماعيل بن موسى السّدّي وطبقته. وعنه أبو حاتم بن حبّان، وأبو أحمد الحاكم، وكان عارفا بالرّجال. رحل إلى الجزيرة، والشام، والعراق. ورحل إليه النّاس.
وفيها سعيد بن عبد العزيز أبو عثمان الحلبيّ الزاهد [3] نزيل دمشق.
صحب سريّا السّقطي. وروى عن أبي نعيم عبيد بن هشام الحلبي، وأحمد بن أبي الحواري وطبقتهما.
قال أبو أحمد الحاكم: كان من عباد الله الصالحين.
وفيها أبو بكر عبد الله بن محمد بن مسلم الإسفراييني [4] الحافظ المصنّف، وله ثمانون سنة. روى عن الحسن بن محمد الزعفراني [والذّهلي] [5] ، وطبقتهما ورحل الكثير، وكان ثبتا مجوّدا.
وفيها محمد بن إبراهيم الحافظ الأوحد العلّامة أبو بكر بن إبراهيم بن
__________
[1] في «سير أعلام النبلاء» : «دارنا» .
[2] «العبر» (2/ 178- 179) وانظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 510- 512) .
[3] «العبر» (2/ 179) وانظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 513- 514) .
[4] «العبر» (2/ 179) وانظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 547- 548) .
[5] ما بين حاصرتين سقط من الأصل والمطبوع، واستدركته من «العبر» .(4/89)
المنذر النيسابوري [1] شيخ الحرم [2] . روى عن محمد بن ميمون، ومحمد بن إسماعيل الصائغ وخلق، وعنه ابن المقرئ، ومحمد بن يحيى الدمياطي، وغيرهما. وكان مجتهدا لا يقلد أحدا، وله تآليف حسان.
قال ابن ناصر الدّين: هو شيخ الحرم ومفتيه، ثقة مجتهد فقيه.
وفيها محمد بن إبراهيم بن نيروز [3] ، أبو بكر الأنماطي [4] سمع أبا حفص [الفلّاس] وطبقته.
وفيها يحيى بن محمد بن صاعد الحافظ الثقة الحجّة أبو محمد البغدادي [5] مولى بني هاشم، في ذي القعدة، وله تسعون سنة. عني بالأثر، وجمع وصنّف، وارتحل إلى الشام، والعراق، ومصر، والحجاز. وروى عن لوين وطبقته.
قال أبو علي النيسابوري: لم يكن بالعراق في أقران ابن صاعد أحد في فهمه، والفهم عندنا أجلّ من الحفظ، وهو فوق أبي بكر بن أبي داود في الفهم والحفظ. انتهى.
وممّن روى عنه: أبو القاسم البغوي، والدارقطني، وخلق.
وقال الدارقطني: هو ثقة ثبت حافظ.
__________
[1] وهو صاحب الكتب التي لم يصنّف مثلها، مثل «المبسوط» في الفقه، وكان مجتهدا لا يقلد أحدا (ع) .
[2] انظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 490- 492) .
[3] في «العبر» «فيروز» .
[4] «العبر» (2/ 179) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 9- 10) .
[5] «العبر» (2/ 179) وانظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 501- 507) .(4/90)
سنة تسع عشرة وثلاثمائة
فيها على ما قاله في «الشذور» قدم مؤتمن الخادم، وكان قد خاف من الهجري، فضلّ بالقافلة عن الجادة، فحدّث أصحابه أنهم رأوا في البرية آثارا عجيبة وصورا لناس من حجارة، ورأوا امرأة قائمة على تنّور، وهي من حجر والخبز من حجر. انتهى.
وفيها استولى مرداويج الدّيلمي على همذان، وبلاد الجبل، إلى حلوان، وهزم عسكر الخليفة.
وفيها استوحش مؤنس الخادم من الوزير والمقتدر، فأخذ يتعنت على المقتدر ويحتكم عليه في إبعاد ناس [1] وتقديم غيرهم، ثم خرج مغاضبا بأصحابه [2] إلى الموصل، فاستولى الوزير على حواصله، وفرح المقتدر بالوزير، وكتب اسمه على السّكّة، وكان مؤنس في ثمانمائة، فحارب جيش الموصل، وكانوا ثلاثين ألفا، فهزمهم وملك الموصل في سنة عشرين، ولم يحجّ أحد من بغداد، وأخذ الدّيلمي الدّينور، وفتك بأهلها ووصل إلى بغداد من انهزم، ورفعوا المصاحف على القصب، واستغاثوا وسبّوا المقتدر، وغلّقت الأسواق، وخافوا من هجوم القرامطة.
__________
[1] في «العبر» : «في إبعاد خاصته» .
[2] لفظة «بأصحابه» لم ترد في «العبر» .(4/91)
وفيها توفي أبو الجهم أحمد بن الحسين بن أحمد بن طلّاب الدمشقي المشغراني [1] خطيب مشغرى [2] . وقع من على [3] الدابة فمات لوقته. روى عن هشام بن عمّار وطائفة.
وفيها الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الملك بن مروان القرشي الدمشقي [4] محدّث دمشق في رجب. روى عن موسى بن عامر المرّيّ، ويونس بن عبد الأعلى، وطبقتهما.
وفيها قاضي الجماعة، أبو الجعد، أسلم بن عبد العزيز الأموي الأندلسي المالكي [5] ، في رجب، وهو من أبناء التسعين، وكان نبيلا رئيسا كبير الشأن. رحل فسمع من يونس بن عبد الأعلى، والمزني، وصحب بقيّ بن مخلد مدّة، وأضرّ بآخر عمره [6] وضعف من الكبر.
وفيها أبو سعيد، الحسن بن علي بن زكريا البصري العدوي الكذّاب [7] ببغداد. روى بوقاحة عن عمرو بن مرزوق، ومسدّد، والكبار.
__________
[1] كذا في الأصل والمطبوع و «معجم البلدان» : «المشغراني» وفي «العبر» (2/ 181) و «الأنساب» (11/ 333) و «اللباب» : «المشغرائي» .
[2] علّق الصديق العزيز الأستاذ رياض عبد الحميد مراد على اسم هذه القرية في «الأنساب» بقوله: وتقع مشغرة اليوم في لبنان في محافظة البقاع إلى الغرب من راشيا. وانظر «معجم البلدان» (5/ 134) . وقد رسم اسم القرية في الأصل والمطبوع و «العبر» و «اللباب» (3/ 217) و «البداية والنهاية» (2/ 291) : «مشغرا» بالألف الممدودة، وأثبت لفظ «الأنساب» و «معجم البلدان» .
[3] لفظة «على» سقطت من «العبر» فتستدرك فيه.
[4] «العبر» (2/ 181) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 62) .
[5] «العبر» (2/ 181) وانظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 549) .
[6] قوله: «وأضرّ بآخر عمره» سقط من «العبر» طبع الكويت فيستدرك فيه.
[7] انظر «الكامل» لابن عدي (2/ 750- 754) و «تاريخ بغداد» (7/ 381- 384) و «ميزان الاعتدال» (1/ 506- 509) و «الكشف الحثيث عمّن رمي بوضع الحديث» للإمام برهان الدين الحلبي ص (137) طبع وزارة الأوقاف العراقية، و «لسان الميزان» (2/ 228- 231) .(4/92)
قال ابن عدي [1] : كان يضع الحديث. قاله في «العبر» [2] .
وفيها الكعبي، شيخ المعتزلة، أبو القاسم عبد الله بن أحمد البلخي [3] .
قال ابن خلّكان [4] : أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي البلخي، العالم المشهور. كان رأس طائفة من المعتزلة يقال لهم: «الكعبية» وهو صاحب مقالات، ومن مقالاته [5] أن الله سبحانه وتعالى ليست له إرادة، وأن جميع أفعاله واقعة منه بغير إرادة ولا مشيئة منه لها.
وكان من كبار المتكلمين، وله اختيارات في علم الكلام. انتهى [6] .
وفيها القاضي أبو عبيد بن حربويه [7] البغدادي علي بن الحسين بن حرب [8] ، الفقيه الشافعي، قاضي مصر، وهو من أصحاب الوجوه. روى عن أحمد بن المقدام، والزّعفراني، وطبقتهما.
قال أبو سعيد بن يونس: كان شيئا عجبا ما رأينا مثله، لا قبله ولا بعده، وكان تفقه [9] على مذهب أبي ثور.
وفيها محمد بن الفضل البلخيّ [10] الزاهد، أبو عبد الله، نزيل سمرقند، وكان إليه المنتهى في الوعظ والتذكير.
__________
[1] في «الكامل» (1/ 750) .
[2] (2/ 181) .
[3] «وفيات الأعيان» (3/ 45) و «العبر» (2/ 182) وانظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 313) و (15/ 255- 256) .
[4] في «وفيات الأعيان» (3/ 45) .
[5] في «وفيات الأعيان» : «ومن مقالته» .
[6] قلت: وفي سنة وفاته خلاف عند أصحاب كتب الرجال يحسن بالقارئ الوقوف عليه.
[7] في الأصل والمطبوع: «جويرية» والتصحيح من «العبر» وكتب الرجال.
[8] «العبر» (2/ 182) وانظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 536- 538) .
[9] في «العبر» : «وكان يتفقه» .
[10] «العبر» (2/ 182) وانظر «طبقات الصوفية» للسلمي ص (212- 213) .(4/93)
يقال: إنه مات في مجلسه أربعة أنفس.
صحب أحمد بن خضرويه [1] البلخي، وهو آخر من روى عن قتيبة، وقد أجاز لأبي بكر بن المقرئ.
وقال السخاوي [2] : هو محمد بن الفضل بن العباس بن حفص، أبو عبد الله، أصله من بلخ، خرج منها لسبب المذهب، فدخل سمرقند ومات بها، وهو من جلّة مشايخ خراسان، ولم يكن أبو عثمان يميل إلى أحد من المشايخ ميله إليه.
وقال أبو عثمان: لو وجدت في نفسي قوّة، لرحلت إلى أخي محمد بن الفضل، فأستروح سرّي برؤيته.
قال ابن الفضل: الدّنيا بطنك فبقدر زهدك في بطنك زهدك في الدنيا.
وقال: العجب ممّن يقطع الأودية والقفار والمفاوز، حتّى يصل إلى بيته وحرمه وكعبته [3] لأن فيه آثار أنبيائه. كيف لا ينقطع عن نفسه وهواه، حتى يصل إلى قلبه، فإنّ فيه آثار مولاه، وتوحيده ومعرفته.
وقال: أنزل نفسك منزلة من لا حاجة له فيها، ولا بدّ له منها، فإن من ملك نفسه عزّ ومن ملكته نفسه ذلّ.
وقال: ستّ خصال يعرف بها الجاهل: الغضب من غير شيء، والكلام في غير نفع، والعطيّة في غير موضعها، وإفشاء السّرّ، والثقة بكل أحد، وألّا يعرف [4] صديقه من عدوه.
__________
[1] تصحف في الأصل والمطبوع إلى: «ابن حضرويه» والتصحيح من «طبقات الصوفية» و «العبر» وكتب الرجال.
[2] انظر «طبقات الصوفية» للسلمي ولعلّ المؤلف ينقل عنه لا عن كتاب السخاوي كما أشرت إلى ذلك من قبل.
[3] لفظة «وكعبته» لم ترد في «طبقات الصوفية» للسلمي.
[4] في الأصل والمطبوع: «ولا يعرف» وأثبت ما في «طبقات الصوفية» .(4/94)
وقال: خطأ العالم أضرّ من عمد [1] الجاهل.
وقال: من ذاق حلاوة العلم لا يصبر [2] عنه. ومن ذاق حلاوة المعاملة أنس بها.
وقال: العلوم ثلاثة: علم بالله، وعلم من الله، وعلم مع الله.
فالعلم بالله، معرفة صفاته ونعوته.
والعلم من الله، علم الظاهر والباطن، والحلال والحرام، والأمر والنهي، والأحكام.
والعلم مع الله، هو علم الخوف والرجاء والمحبة والشوق.
وقال: ثمرة الشّكر الحبّ لله والخوف من الله.
وقال: ذكر اللسان كفّارات [3] ودرجات، وذكر القلب زلف [4] وقربات، وذكر السّرّ مشاهدة ومناجاة [5] . انتهى ملخصا.
وفيها محدّث الأندلس، أبو عبد الله محمد بن فطيس بن واصل الغافقي الإلبيري [6] الفقيه الحافظ. روى عن محمد بن أحمد العتبي، وأبان بن عيسى، ورحل وسمع من أحمد ابن أخي ابن وهب، ويونس بن عبد الأعلى، وطبقتهم. وصنّف، وجمع، وسمع بأطرابلس المغرب [7] ، من أحمد بن عبد الله بن صالح العجلي الحافظ.
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «عمل» والتصحيح من «طبقات الصوفية» .
[2] في الأصل والمطبوع: «لم يصبر» وما أثبته من «طبقات الصوفية» .
[3] في الأصل والمطبوع: «كفارة» وما أثبته من «طبقات الصوفية» .
[4] في الأصل والمطبوع: «زلفى» وما أثبته من «طبقات الصوفية» .
[5] قوله: «وذكر السر مشاهدة ومناجاة» لم يرد في «طبقات الصوفية» .
[6] «العبر» (2/ 183) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 79- 80) .
[7] وهي عاصمة ليبيا في هذه الأيام، وتعرف الآن ب «طرابلس الغرب» . انظر خبرها في «معجم البلدان» (1/ 217- 218) .(4/95)
قال [ابن] الفرضي [1] : كان ضابطا، نبيلا، صدوقا، وكانت الرحلة إليه [بإلبيرة] [2] حدّثنا عنه غير واحد. وتوفي في شوال عن تسعين سنة.
وفيها المؤمّل بن الحسن بن عيسى بن ما سرجس [3] ، الرئيس أبو الوفاء النيسابوري، لم يدرك الأخذ عن أبيه، وأخذ عن إسحاق الكوسج، والحسين الزعفراني، وطبقتهما. وكان صدر نيسابور. وروي أن أمير خراسان ابن طاهر اقترض منه ألف ألف درهم.
وقال أبو علي النيسابوري: خرّجت [4] لأبي الوفاء عشرة أجزاء، وما رأيت أحسن من أصوله، فأرسل إليّ مائة دينار وأثوابا.
__________
[1] انظر «تاريخ علماء الأندلس» (2/ 41- 42) وقد نقل عنه صاحب «العبر» باختصار وتصرّف.
[2] زيادة من «تاريخ علماء الأندلس» .
[3] «العبر» (2/ 183) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 21- 23) .
[4] في «سير أعلام النبلاء» : «نظرت» .(4/96)
سنة عشرين وثلاثمائة
لما استفحل أمر مرداويج الدّيلمي، لاطفه الخليفة، وبعث إليه بالعهد واللواء والخلع، وعقد له على أذربيجان، وإرمينية، وأرّان [1] ، وقمّ، ونهاوند، وسجستان.
وفيها نهب الجند دار الوزير [2] ، فهرب، وسخّم [3] الهاشميون وجوههم، وصاحوا: الجوع الجوع! للغلاء، لأن القرمطي ومؤنسا منعوا الجلب، وتسلل الجند إلى مؤنس، وتملك الموصل، ثم تجهزوا في جمع [4] عظيم، فأمر المقتدر هارون بن غريب أن يلتقي بهم، فامتنع ثم قالت الأمراء للمقتدر: أنفق في العساكر، فعزم على التوجّه إلى واسط في الماء، ليستخدم منها، ومن البصرة، والأهواز، فقال له محمد بن ياقوت: اتق الله ولا تسلّم بغداد بلا حرب، فلما أصبحوا، ركب في موكبه وعليه البردة، وبيده القضيب، والقرّاء والمصاحف حوله، والوزير خلفه، فشقّ بغداد إلى الشمّاسيّة، وأقبل مؤنس في جيشه، وشرع القتال، فوقف المقتدر على تلّ، ثم جاء إليه ابن ياقوت، وأبو العلاء بن حمدان، فقالا: تقدم، فأبى، فألحّوا
__________
[1] تحرّفت في المطبوع إلى «إيران» .
[2] هو الوزير الفضل بن جعفر بن الفرات. انظر «النجوم الزاهرة» (3/ 232) .
[3] أي سوّدوها. يقال: سخّم الله وجهه، أي سوّده. انظر «لسان العرب» (سخم) .
[4] في الأصل: «في جيش» وأثبت ما في المطبوع وهو موافق لما في «العبر» (2/ 184) .(4/97)
عليه، فتقدّم وهم يستدرجونه، حتّى صار في وسط المصافّ [1] ، في طائفة قليلة، فانكشف أصحابه، وأسر منهم جماعة، وأبلى ابن ياقوت، وهارون بن غريب بلاء حسنا، وكان معظم جيش مؤنس الخادم البربر، فجاء علي بن بليق [2] فترجّل وقال: مولاي أمير المؤمنين، وقبّل الأرض، فعطف جماعة [من البربر] [3] إلى نحو المقتدر، فضربه رجل من خلفه ضربة سقط إلى الأرض، وقيل: رماه بحربة وحزّ رأسه بالسيف، وحمل على رمح، ثم سلب ما عليه، وبقي مهتوك العورة حتى ستر بالحشيش، ثم حفر له حفرة، فطم وعفا أثره، وذلك لثلاث بقين من شوال.
وهو أبو الفضل جعفر بن المعتضد بالله أحمد بن الموفق طلحة بن المتوكل بن المعتصم العباسي [4] ، وفي أيامه اضمحلت دولة الخلافة العباسية وصغرت، وسمع أمير الأندلس بذلك، فقال: أنا أولى بإمرة المؤمنين، فلقّب نفسه أمير المؤمنين الناصر لدين الله عبد الرحمن، وبقي في الخلافة إلى سنة خمسين وثلاثمائة. ولا شك أن حرمته ودولته كانت أمتن من دولة المقتدر ومن بعده، وقد خلع المقتدر مرتين وأعيد، وكان ربعة جميل الصورة، أبيض مشربا حمرة، أسرع الشيب إلى عارضيه، وعاش ثمانيا وثلاثين سنة، وكانت خلافته خمسا وعشرين سنة إلا أياما، وكان جيد العقل والرأي، لكنه كان يؤثر اللعب والشهوات، غير ناهض بأعباء الخلافة. كانت أمّه، وخالته، والقهرمانة يدخلن في الأمور الكبار، والولايات، والحلّ، والعقد.
__________
[1] قال ابن منظور: المصفّ: الموقف في الحرب، والجمع المصاف. انظر «لسان العرب» (صفف) .
[2] تحرّف في «العبر» إلى «علي بن يلبق» فيصحح فيه، وانظر «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (8/ 251) و «صلة تاريخ الطبري» ص (272 و 273) .
[3] ما بين حاصرتين زيادة من «العبر» .
[4] للتوسّع في دراسة حياته راجع «مروج الذهب» للمسعودي (4/ 292- 311) و «الأعلام» للزركلي (2/ 121) ومصادره.(4/98)
قال الوزير علي بن عيسى: ما هو إلّا أن يترك [1] النبيذ خمسة أيام [متتابعة حتى يصح ذهنه] ، وكان ربما يكون في إصابة الرأي كأبيه، وكالمأمون.
ومن العجائب أنه لم يل الخلافة من اسمه جعفر إلّا هو والمتوكل، وكلاهما قتل في شوال.
وندم مؤنس على قتله وقال: لنقتلنّ كلنا، ثم بايعوا القاهر، فصادر بعض خواص المقتدر، وعذب أمه، حتّى ماتت معلّقة، وبالغ في الظلم، واستوزر ابن مقلة، وكان المقتدر مسرفا مبذّرا [ناقص الرأي] [2] محق الذخائر حتّى إنه أعطى بعض جواره الدرة اليتيمة، التي وزنها ثلاثة مثاقيل، ويقال:
إنه ضيّع من الذهب ثمانين ألف ألف دينار، وكان في داره عشرة آلاف خصيّ من الصقالبة، وأهلك نفسه بيده بسوء تدبيره، وخلّف عدة أولاد، منهم:
الراضي بالله محمد، والمتقي لله إبراهيم، والأمير إسحاق ولد القادر، والمطيع لله، وذكر طبيبه ثابت بن سنان في «تاريخه» أن المقتدر أتلف نيّفا وسبعين ألف ألف دينار.
وفيها توفي الحافظ، محدّث الشام، أبو الحسن، أحمد بن عمير [3] بن يوسف بن موسى بن جوصا [4] . سمع كثير بن عبيد، وطبقته. وعنه الطبراني، وحمزة الكتاني، وأبو علي الحافظ، والحاكم [5] . حطّ عليه حمزة الكتاني، وأثنى عليه الدارقطني، وجمع وصنّف وتبحر في الحديث.
قال أبو علي النيسابوري: كان ركنا من أركان الحديث.
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «ما هو إلا لا يترك» وهو خطأ، والتصحيح من «تاريخ بغداد» (7/ 218) وما بين حاصرتين زيادة منه.
[2] ما بين حاصرتين سقط من الأصل والمطبوع واستدركته من «العبر» (2/ 186) .
[3] في الأصل والمطبوع: «ابن عمر» وهو تحريف والتصحيح من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» .
[4] «العبر» (2/ 186- 187) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 15- 21) .
[5] هو أبو أحمد محمد بن محمد بن أحمد بن إسحاق النيسابوري الكرابيسي، ويعرف بالحاكم الكبير، المتوفى سنة (378) وسوف ترد ترجمته في ص (415) من هذا المجلد.(4/99)
وقال محمد بن إبراهيم: كان ابن جوصا بالشام كابن عقدة بالكوفة.
وقال غيره: كان ابن جوصا كثير الأموال، يركب البغلة، وتوفي في جمادى الأولى.
وقال الدارقطني: تفرّد بأحاديث، ولم يكن بالقويّ.
وفيها أبو بكر أحمد بن القاسم بن نصر [1] أخو أبي اللّيث الفرائضي، ببغداد، في ذي الحجّة، وله ثمان وتسعون سنة. روى عن لوين، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وعدّة [2] .
وفيها الحافظ الجوّال، أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن عبيد بن جهينة الشهرزوريّ [3] روى عن أبي زرعة الرّازي، والزعفراني. وعنه أهل الرّيّ، وقزوين، منهم: أحمد بن علي بن حسن الرّازي، وأبو بكر بن يحيى الفقيه، وغيرهما. قاله ابن بردس [4] .
وفيها أبو العبّاس عبد الله بن عتّاب بن الزّفتي [5] محدّث دمشق، وله ست وتسعون سنة. روى عن هشام بن عمّار، وعيسى بن حمّاد زغبة، وخلق.
قال أبو أحمد الحاكم: رأيناه ثبتا.
وفيها الحافظ الثقة أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد الكريم ابن
__________
[1] «العبر» (2/ 187) وانظر «سير أعلام النبلاء» (1/ 466- 467) .
[2] قلت وقد ساق الخطيب البغدادي بيتان من الشعر له في «تاريخ بغداد» (4/ 352) جديران بالذكر وهما:
لا تترك الحزم في أمر هممت به ... فإن سلمت فما بالحزم من باس
العجز ضر، وما بالحزم من ضرر ... وأحزم الحزم سوء الظنّ بالناس
[3] «تذكرة الحفاظ» (3/ 846) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 249- 250) .
[4] تحرّف في المطبوع إلى «ابن درباس» وهو إسماعيل بن محمد بن قيس بن نصر بن بردس بن رسلان البعلي الحنبلي، المتوفى سنة (785) هـ، وسوق ترد ترجمته في المجلد الثامن من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى، وكتابه الذي ينقل عنه هو «نظم وفيات تذكرة الحفاظ» وهو مخطوط لم يطبع بعد.
[5] «العبر» (2/ 188- 189) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 64) .(4/100)
أخي أبي زرعة الرّازي [1] . روى عن يونس بن عبد الأعلى، وأحمد بن منصور الرّمادي، وطبقتهما.
وفيها أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطر الفربريّ [2] صاحب البخاري، وقد سمع من علي بن خشرم لمّا رابط بفربر، وكان ثقة ورعا، توفي في شوال، وله تسع وثمانون سنة. وكانت ولادته سنة إحدى وثلاثين ومائتين، ورحل إليه الناس، وسمعوا منه «صحيح البخاري» وهو أحسن من روى الحديث عن البخاري.
وفربر: بفتح الفاء [3] والراء وسكون الباء الموحدة، وفي آخره راء ثانية، وهي بليدة على طرف جيحون مما يلي بخارى. قاله ابن خلّكان [4] .
وفيها أو قبلها أو بعدها، توفي القاضي الحافظ محمد بن يحيى العدني [5] قاضي عدن، ونزيل مكة. سمع منه مسلم بن الحجّاج، والترمذي. وروى عن سفيان بن عيينة وطبقته. روى عنه الترمذيّ أنه قال:
حججت ستين حجّة ماشيا على قدمي. قاله ابن الأهدل [6] .
وفيها الحافظ الكبير أبو بكر محمد بن حمدون بن خالد النيسابوري [7] الثقة الإمام. روى عن الذهلي، وعيسى بن أحمد، والربيع
__________
[1] «العبر» (2/ 189) و «الأنساب» (6/ 43) .
[2] «العبر» (2/ 189) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 10- 13) .
[3] قلت: وبكسرها أيضا. انظر «تاج العروس» للزبيدي (فربر) .
[4] في «وفيات الأعيان» (4/ 290) .
[5] «مرآة الجنان» (2/ 280) و «غربال الزمان» ص (285) .
[6] قلت: قاله ابن الأهدل في «مختصر تاريخ اليافعي» وهو مخطوط كما ذكرت من قبل، وقد اختصر فيه «مرآة الجنان» . ولكن إيراد هذه الترجمة هنا خطأ تبع فيه ابن الأهدل اليافعي صاحب «مرآة الجنان» وتبعهما اليافعي صاحب «غربال الزمان» وقد تابعهم على هذا الخطأ المؤلف ابن العماد، فالصواب أن وفاة الحافظ محمد بن يحيى العدني كانت سنة (243) هـ كما ذكر المؤلف في حوادث السنة المذكورة من المجلد الثالث ص (199) نقلا عن «العبر» للذهبي (1/ 441) فتنبّه، وانظر «سير أعلام النبلاء» (12/ 96- 98) .
[7] نقل المؤلف هذه الترجمة عن كتاب «نظم وفيات تذكرة الحفاظ» لابن بردس، وهو مخطوط لم يطبع بعد كما ذكرت من قبل. وانظر «تذكرة الحفاظ» (3/ 807- 811) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 60- 61) .(4/101)
المرادي. وعنه محمد بن صالح بن هاني، وأبو علي الحافظ. ووثقه الحاكم. قاله ابن بردس [1] .
وفيها قاضي القضاة أبو عمر محمد بن يوسف بن يعقوب بن إسماعيل الأزدي مولاهم البغدادي [2] وكان من خيار القضاة حلما، وعقلا، وجلالة، وذكاء، وصيانة.
ولد بالبصرة سنة ثلاث وأربعين ومائتين، وروى عن زيد بن أخزم [3] ، والحسن ابن أبي الربيع، وجماعة حمل عنهم في صغره، وولي قضاء مدينة المنصور في خلافة المعتضد، ثم ولي قضاء الجانب الشرقي للمقتدر، ثم ولي قضاء القضاة سنة سبع عشرة وثلاثمائة، وكان له مجلس في غاية الحسن كان يقعد للإملاء، والبغويّ [4] عن يمينه، وابن صاعد عن يساره، وابن زياد النيسابوري بين يديه. وقد حفظ من جده حديثا وهو ابن أربع سنين.
وفيها ميمون بن عمر الإفريقي [5] المالكي، أبو عمر، الفقيه قاضي القيروان، وقاضي صقلّيّة. عاش مائة سنة أو أكثر، وكان آخر من روى بالمغرب عن سحنون، وعن أبي مصعب الزّهريّ [6] وزمن [7] في آخر عمره وهرم [8] .
__________
لم يطبع بعد كما ذكرت من قبل. وانظر «تذكرة الحفاظ» (3/ 807 811) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 60 61) .
[1] في الأصل والمطبوع: «ابن برداس» وهو خطأ.
[2] «العبر» (2/ 189- 190) وانظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 555- 557) .
[3] في الأصل: «يزيد بن أخرم» وفي المطبوع: «يزيد بن أحزم» وفي «العبر» : «زيد بن أخرم» وكله خطأ، والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» و «تقريب التهذيب» ص (221) .
[4] يعني أبا القاسم عبد الله بن محمد البغوي، المتوفى سنة (317) هـ. انظر ترجمته في ص (83) من هذا المجلد.
[5] «العبر» (2/ 190) وانظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 355- 356) .
[6] في الأصل والمطبوع: «الزهرة» وهو خطأ والتصحيح من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» .
[7] أي: ابتلي. انظر «لسان العرب» و «مختار الصحاح» (زمن) .
[8] في «العبر» : «وزمن وانهزم» .(4/102)
وفيها أبو علي الحسين بن صالح بن خيران البغدادي [1] .
قال الإسنوي: كان إماما جليلا وربما كان يعيب على ابن سريج في القضاء ويقول: هذا الأمر لم يكن في أصحابنا إنما كان في أصحاب أبي حنيفة. وطلبه الوزير ابن الفرات بأمر الخليفة للقضاء فامتنع فوكل ببابه وختم عليه بضعة عشر يوما حتّى احتاج إلى الماء فلم يقدر عليه إلا بمناولة بعض الجيران، فبلغ، الخبر إلى الوزير، فأمر بالإفراج عنه، وقال: ما أردنا بالشيخ أبي علي إلا خيرا، أردنا أن يعلم أن في مملكتنا رجلا يعرض عليه قضاء القضاة شرقا وغربا وفعل به مثل هذا وهو لا يقبل، توفي- رحمه الله تعالى- يوم الثلاثاء لثلاث عشرة بقيت من ذي الحجة. انتهى ملخصا.
وتفقه به جماعة.
وفيها أبو عمرو [2] الدمشقي [3] الزاهد من كبار مشايخ الصوفية وساداتهم. روي عنه أنه قال: كما فرض الله تعالى على الأنبياء إظهار [الآيات و] [4] المعجزات، [كذلك] [4] فرض الله على الأولياء كتمان الكرامات، لئلا يفتتنوا بها [5] .
__________
[1] «العبر» (2/ 190) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 58- 60) .
[2] في الأصل والمطبوع و «العبر» : «أبو عمر» وهو خطأ والتصحيح من «طبقات الصوفية» و «حلية الأولياء» .
[3] «العبر» (2/ 190) وانظر «طبقات الصوفية» ص (277- 279) و «حلية الأولياء» (10/ 346- 347) .
[4] ما بين حاصرتين سقط من الأصل والمطبوع و «العبر» واستدركته من «طبقات الصوفية» و «حلية الأولياء» .
[5] في «طبقات الصوفية» : «حتى لا يفتتن الخلق بها» .(4/103)
سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة
فيها بدت من القاهر شهامة وإقدام، فتحيّل حتّى قبض على مؤنس الخادم وبليق، وابنه علي بن بليق، ثم أمر بذبحهم، وطيف برؤوسهم ببغداد، ثم أمر بذبح يمن، وابن زيرك [1] فاستقامت بغداد، وأطلقت أرزاق الجند، وعظمت هيبة القاهر في النفوس، ثم أمر بتحريم القيان والخمر، وقبض على المغنّين، ونفى المخانيث، وكسر آلات الطرب، إلا أنه كان لا يكاد يصحو [2] من السّكر ويسمع [3] القينات. قاله في «العبر» [4] .
وفيها توفي أبو حامد، ويقال: أبو تراب، أحمد بن حمدون بن أحمد بن عمارة بن رستم الأعمشي النيسابوري [5] الحافظ، وأبوه حمدون القصّار كان أعمى من الموثقين، وكان قد جمع حديث الأعمش كله وحفظه، فلقب بذلك.
سمع محمد بن رافع، وأبا سعيد الأشج، وطبقتهما. ومنه: أبو الوليد الفقيه [6] وأبو علي الحافظ، و [أبو أحمد] الحاكم.
__________
[1] في الأصل: «ابن برك» وفي المطبوع: «زبرك» وكلاهما خطأ، والتصحيح من «العبر» (2/ 191) وانظر «دول الإسلام» (1/ 195) .
[2] في «دول الإسلام» للذهبي: «لا يكاد يصبر» .
[3] في «العبر» : «وسماع» وما جاء في الأصل والمطبوع موافق لما في «دول الإسلام» .
[4] (2/ 191) .
[5] «العبر» (2/ 191) وانظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 553- 555) .
[6] في الأصل والمطبوع: «أبو الوليد الثقة» وهو خطأ والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» و «تذكرة الحفّاظ» (3/ 806) .(4/104)
قال ابن بردس [1] : لا بأس به، وكان صاحب بسط ودعابة.
وفيها أحمد بن عبد الوارث بن جرير الأسواني العسّال [2] في جمادى الآخرة، وهو آخر من حدّث عن محمد بن رمح، ووثّقه ابن يونس.
وفيها أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطّحاويّ الحنفي [3] الأزديّ الحجريّ المصري [4] شيخ الحنفية، الثقة الثبت. سمع هارون بن سعيد الأيلي، وطائفة من أصحاب ابن عيينة، وابن وهب، ومنه: أحمد بن القاسم الخشّاب [5] ، والطبراني [6] ، وصنّف التصانيف، منها «العقيدة السّنيّة السّنيّة» [7] ، وبرع في الفقه والحديث. توفي في ذي القعدة وله اثنتان وثمانون سنة.
قال ابن يونس: كان ثقة ثبتا لم يخلف مثله.
وقال الشيخ أبو إسحاق [8] : انتهت إليه رياسة الحنفية بمصر، وقرأ أولا على المزني.
قيل: وكان ابن أخته، فقال له يوما: والله لا جاء منك شيء. فغضب وانتقل إلى جعفر بن عمران الحنفي، ففاق أهل عصره، وكان يقول بعد:
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «ابن برداس» وهو خطأ.
[2] «العبر» (2/ 191) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 24) .
[3] لفظة «الحنفي» لم ترد في المطبوع و «العبر» .
[4] «العبر» (2/ 192) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 27- 33) .
[5] في الأصل والمطبوع: «الحساب» وهو خطأ، والتصحيح من «تذكرة الحفاظ» للذهبي (3/ 809) و «النجوم الزاهرة» (3/ 240) .
[6] قوله: «ومنه أحمد بن القاسم الخشاب والطبراني» لم يرد في «العبر» .
[7] وقد شرحها شرحا وافيا نافعا الإمام القاضي محمد بن علي بن أبي العز الحنفي الصالحي المتوفى سنة (792) هـ وسمى شرحه «شرح العقيدة الطحاوية» وقد طبع هذا الشرح عدة مرات في عدة بلدان إسلامية، ويعدّ هذا «الشرح» من خيرة المصنفات التي تحدثت عن العقيدة الإسلامية عند أتباع أهل السّنّة والجماعة.
[8] يعني الشيرازي. انظر «طبقات الفقهاء» ص (142) .(4/105)
رحم الله أبا إبراهيم- يعني المزني- لو كان حيّا لكفّر عن يمينه. وصنّف كثيرا. ونسبته إلى طحا، قرية بصعيد مصر [1] .
وفيها أبو علي أحمد [بن محمد] بن علي بن رزين الباشاني [2] بهراة. روى عن علي بن خشرم، وسفيان بن وكيع، وطائفة من الثقات.
وفيها الأمير تكين الخاصة [3] ولي دمشق ثم مصر وبها مات، ونقل إلى بيت المقدس.
وفيها أبو يزيد، حاتم بن محبوب الشامي [4] بهراة. حج وسمع محمد بن زنبور، وسلمة بن شبيب وكان ثقة.
والحسن بن محمد بن النّضر [5] أبو علي بن أبي هريرة [6] بأصبهان.
روى عن إسماعيل بن يزيد القطان، وأحمد بن الفرات. وعنه: ابن مندة وهو من أكبر شيوخه [7] .
وفيها أبو هاشم عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب البصري الجبّائي [8] شيخ المعتزلة وابن شيخهم. توفي في شعبان ببغداد.
وفيها أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد بن عتاهية الأزدي البصري [9] اللغوي العلّامة، صاحب التصانيف. أخذ عن الرّياشي، وأبي حاتم
__________
[1] انظر «معجم البلدان» (4/ 22) .
[2] «العبر» (2/ 192) وانظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 523) وما بين حاصرتين مستدرك منهما.
[3] «العبر» (2/ 192) وانظر «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (8/ 273) .
[4] «العبر» (2/ 193) وانظر «تهذيب الكمال» (1/ 524) مصوّرة دار المأمون للتراث (ضمن ترجمة سلمة بن شبيب) .
[5] في «العبر» : «الحسن بن محمد البصري، أبو علي» .
[6] «العبر» (2/ 193) و «ذكر أخبار أصبهان» لأبي نعيم (1/ 270) .
[7] في «العبر» : «وهو من كبار شيوخ ابن مندة» .
[8] «العبر» (2/ 193) وانظر «النجوم الزاهرة» (3/ 242) و «غربال الزمان» ص (281) .
[9] «العبر» (2/ 193) وانظر «النجوم الزاهرة» (3/ 240- 241) .(4/106)
السّجستاني، وابن أخي الأصمعي. وعاش ثمانيا وتسعين سنة.
قال أحمد بن يوسف الأزرق: ما رأيت أحفظ من ابن دريد، ما رأيته قرئ عليه ديوان إلّا وهو يسابق في قراءته.
وقال الدّارقطني: تكلموا فيه. قاله في «العبر» .
وقال ابن خلّكان [1] : إمام عصره في اللغة، والآداب، والشعر الفائق.
قال المسعوديّ في كتاب «مروج الذهب» [2] في حقه: كان ابن دريد ببغداد ممّن برع في زماننا هذا في الشعر، وانتهى في اللغة، لم يوجد مثله في فهم كتب المتقدمين، وقام مقام الخليل بن أحمد فيها، وكان يذهب بالشعر كل مذهب، فطورا يجزل، وطورا يرق، وشعره أكثر من أن نحصيه، فمن جيّد شعره قصيدته المقصورة التي أولها:
إمّا تري رأسي حاكى لونه ... طرّة صبح تحت أذيال الدّجى
واشتعل المبيضّ في مسودّه ... مثل اشتعال النّار في جمر [3] الغضا
وكان من تقدم من العلماء يقول: إن ابن دريد أعلم الشعراء وأشعر العلماء.
ومن مليح شعره قوله:
غرّاء لو جلت الخدور [4] شعاعها ... للشمس عند شروقها [5] لم تشرق
غصن على دعص تأوّد فوقه ... قمر تألّق تحت ليل مطبق
__________
[1] في «وفيات الأعيان» (4/ 323) .
[2] (3/ 320- 321) .
[3] في «مروج الذهب» و «وفيات الأعيان» : «في جزل» . والجزل ما عظم من الخطب ويبس.
انظر «مختار الصحاح» (جزل) .
[4] في الأصل والمطبوع: «عزراء لو جلت الخدور» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» .
[5] في «وفيات الأعيان» : «طلوعها» .(4/107)
لو قيل للحسن احتكم لم يعدها ... أو قيل خاطب غيرها لم ينطق
فكأننا من فرعها في مغرب ... وكأننا من وجهها في مشرق
تبدو فيهتف بالعيون ضياؤها ... الويل حلّ بمقلة لم تطبق
وكانت ولادته بالبصرة في سكة صالح سنة ثلاث وعشرين ومائتين، ونشأ بها وتعلم فيها، وسكن عمان وأقام بها ثنتي عشرة سنة، ثم عاد إلى البصرة وسكنها زمانا، ثم خرج إلى نواحي فارس، وصحب ابني ميكال، وكانا يومئذ على عمالة فارس، وعمل لهما كتاب «الجمهرة» وقلداه ديوان فارس، فكانت تصدر كتب فارس عن رأيه، ولا ينفذ أمر إلا بعد توقيعه، فأفاد معهما أموالا عظيمة، وكان لا يمسك درهما سخاء وكرما، ومدحهما بقصيدته المقصورة، فوصلاه بعشرة آلاف درهم، ثم انتقل إلى بغداد، وعرف الإمام المقتدر بالله خبره ومكانه من العلم [1] ، فأمر أن يجرى عليه خمسون دينارا في كل شهر، ولم تزل جارية عليه إلى حين وفاته.
وكان واسع الرواية، لم ير أحفظ منه. وسئل عنه الدارقطني أثقة هو أم لا؟ فقال: تكلموا فيه.
وقيل: إنه كان يتسامح في الرواية فيسند إلى كل واحد ما يخطر له.
وقال أبو منصور الأزهري [2] : دخلت عليه فرأيته سكران، فلم أعد إليه.
وقال ابن شاهين: كنّا ندخل عليه فنستحي [3] [مما نرى] من العيدان المعلّقة والشراب المصفّى. وذكر أن سائلا سأله شيئا فلم يكن عنده غير دنّ [4]
__________
[1] في المطبوع: «بالعلم» .
[2] في الأصل والمطبوع: «البغوي» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» (4/ 326) وقد نقل ابن خلكان كلام الأزهري باختصار وتصرف. انظر «تهذيب اللغة» (1/ 31) بتحقيق العلّامة الأستاذ عبد السلام هارون.
[3] في «وفيات الأعيان» : «ونستحي» وما بين حاصرتين زيادة منه.
[4] الدّنّ: وعاء شبيه بالجرّة. انظر «لسان العرب» (دنن) و (حبب) .(4/108)
من نبيذ فوهبه له، فأنكر عليه أحد غلمانه، وقال: تتصدق بالنبيذ؟ فقال: لم يكن عندي شيء سواه، ثم أهدي له بعد ذلك عشر دنان من النبيذ، فقال لغلامه: أخرجنا دنّا فجاءنا عشرة. وينسب إليه من هذه الأمور شيء كثير.
وعرض له فالج، فسقي الترياق فشفي [منه] ثم عاوده الفالج بعد حول لغذاء ضارّ تناوله، فبطل من محزمه إلى قدميه، وكان مع هذا الحال ثابت العقل صحيح الذهن [1] يردّ فيما يسأل ردّا صحيحا.
وقال المرزباني: قال لي ابن دريد: سقطت من منزلي بفارس، فانكسرت ترقوتي، فسهرت ليلتي، فلما كان آخر الليل غمضت عيني فرأيت رجلا طويلا أصفر الوجه كوسجا [2] دخل عليّ وأخذ بعضادتي الباب وقال:
أنشدني أحسن ما قلت في الخمر، فقلت: ما ترك أبو نواس لأحد شيئا، فقال: أنا أشعر منه، فقلت: من أنت؟ فقال: أنا أبو ناجية من أهل الشام، وأنشدني:
وحمراء قبل المزج صفراء بعده ... أتت بين ثوبي نرجس وشقائق
حكت وجنة المعشوق صرفا فسلّطوا ... عليها مزاجا فاكتست لون عاشق
فقلت له: أسأت. فقال: ولم؟ قلت: لأنك قلت: «حمراء» فقدمت الحمرة، ثم قلت: «بين ثوبي نرجس وشقائق» فقدمت الصفرة، فهلّا قدّمتها على الأخرى. فقال: وما هذا الاستقصاء يا بغيض؟.
وتوفي يوم الأربعاء لثنتي عشرة ليلة بقيت من شعبان.
ودريد: بضم الدال المهملة، وفتح الراء، وسكون الياء المثناة من تحتها، وبعدها دال مهملة، وهو تصغير أدرد، والأدرد: الذي ليس فيه سن،
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «ثابت الذهن كامل العقل» .
[2] قال ابن منظور: الكوسج: الأثطّ، وفي «المحكم» : الذي لا شعر على عارضيه. «لسان العرب» (كسج) .(4/109)
وهو تصغير ترخيم لحذف الهمزة من أوله، كما تقول في تصغير أسود: سويد، و [تصغير] أزهر زهير. انتهى ما أورده ابن خلّكان ملخصا.
وفيها محمد بن هارون أبو حامد الحضرمي [1] محدّث بغداد في وقته، وله نيّف وتسعون سنة. روى عن إسحاق بن أبي إسرائيل، وأبي همّام السّكوني.
وفيها محمد بن مكحول البيروتي [2] وهو أبو عبد الرحمن محمد بن عبد الله بن عبد السلام الحافظ الثقة الثبت. سمع محمد بن هاشم البعلبكي، وأبا عمير بن النّحّاس، وطبقتهما بمصر، والشام، والجزيرة، وعنه: أبو سليمان بن زين، وأبو محمد بن ذكوان البعلبكي، والحاكم.
وفيها محمد بن نوح الحافظ أبو الحسن الجنديسابوري [3] الثقة.
روى عن الحسن بن عرفة وغيره، وعنه: الدارقطني وغيره.
وفيها مؤنس الخادم [4] الملقب بالمظفّر، عن نحو تسعين سنة. وكان أميرا معظّما شجاعا منصورا، لم يبلغ أحد من الخدّام منزلته، إلا كافور صاحب مصر.
__________
[1] «العبر» (2/ 194) وانظر «النجوم الزاهرة» (3/ 242) .
[2] «العبر» (2/ 193- 194) وانظر «النجوم الزاهرة» (3/ 242) .
[3] «تذكرة الحفاظ» (3/ 826- 827) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 34- 35) ، وقد تحرفت نسبته في الأصل إلى «الجند النيسابوري» وأثبت ما في المطبوع.
[4] «العبر» (2/ 194) وانظر «النجوم الزاهرة» (3/ 242) .(4/110)
سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة
فيها انفرد عن مرداويج الدّيلمي أحد قواده، الأمير علي بن بويه، والتقى هو ومحمد بن ياقوت أمير فارس، فهزم محمدا واستوى على مملكة فارس، وهذا أول ظهور بني بويه، وكان بويه من أوساط الناس، يصيد السمك بين الدّيلم، فملك أولاده الدّنيا، وكنية بويه أبو شجاع، ونسبه متصل إلى أزدشير بن بابك [1] من الأكاسرة، وكان له ثلاثة أولاد شجعان في خدمة ابن كالي الدّيلمي، وأسماؤهم: عماد الدولة أبو الحسن علي، وركن الدولة الحسن، ومعزّ الدولة الحسين.
وفيها قتل القاهر الأمير أبا السّرايا نصر بن حمدان، والرئيس إسحاق بن إسماعيل النّوبختي- بالضم، نسبة إلى نوبخت جد- وقيل: قتلهما ابن أخيه أبو أحمد بن المكتفي بلا ذنب، وتفرعن وطغى، وأخذ أبو علي بن مقلة وهو مختف يراسل الخواصّ من المماليك ويجسّرهم [2] على القاهر، ويوحشهم منه، فما برح على أن اجتمعوا على الفتك به، فركبوا إلى الدار والقاهر سكران نائم، وقد طلعت الشمس، فهرب الوزير في إزار، وسلامة
__________
[1] كذا في الأصل والمطبوع: «أزدشير بن بابك» وفي «تاريخ الطبري» و «الكامل في التاريخ» لابن الأثير، و «وفيات الأعيان» (2/ 457) و «أردشير» بالراء، وكلاهما صواب، انظر «تاج العروس» (أرد) (7/ 382) طبع الكويت.
[2] في الأصل والمطبوع: «ويحشدهم» وأثبت لفظ «العبر» مصدر المؤلف، والجسارة: الجرأة.
انظر «لسان العرب» (جسر) .(4/111)
الحاجب، فوثبوا على القاهر، فقام مرعوبا وهرب، فتبعوه إلى السّطح، وبيده سيف، فقالوا: انزل، فأبى، فقالوا: نحن عبيدك، فلم تستوحش منّا، فلم ينزل، ففوّق واحد منهم سهما وقال: انزل وإلا قتلتك، فنزل، فقبضوا عليه في جمادى الآخرة، وأخرجوا محمد بن المقتدر ولقّبوه الراضي بالله ووزر ابن مقلة.
قال الصولي: كان القاهر أهوج سفّاكا للدماء، قبيح السيرة، كثير الاستحالة، مدمن الخمر، كان له حربة يحملها، فلا يضعها حتّى يقتل إنسانا، ولولا جودة حاجبه سلامة لأهلك الحرث والنسل، وستأتي بقية ترجمته عند ذكر وفاته في سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة [1] إن شاء الله تعالى.
وفيها هلك مرداويج الدّيلمي بأصبهان، وكان قد عظم سلطانه، وتحدثوا أنه يريد قصد بغداد، وكان له ميل إلى المجوس، وأساء إلى أصحابه، فتواطؤا على قتله في الحمام، وبعث الراضي بالعهد إلى علي بن بويه على البلاد التي استولى عليها، والتزم بحمل ثمانية آلاف ألف درهم في العام.
وفيها اشتهر محمد بن علي الشّلمغاني ببغداد، وشاع أنه يدّعي الإلهية، وأنه يحيي الموتى، وكثر أتباعه، فأحضره ابن مقلة عند الراضي بالله، فسمع كلامه، وأنكر الإلهيّة، وقال: إن لم تنزل العقوبة بعد ثلاثة أيام وأكثره تسعة أيام، وإلّا فدمي حلال، وكان هذا الشقي قد أظهر الرفض، ثم قال بالتناسخ والحلول، ومخرق على الجهّال، وضلّ به طائفة، وأظهر شأنه الحسين بن روح زعيم الرافضة، فلما طلب هرب إلى الموصل، وغاب سنين ثم عاد وادعى الإلهيّة، فتبعه فيما قيل الذي وزر للمقتدر، الحسين بن الوزير القاسم ابن الوزير عبيد الله بن وهب، وابنا بسطام، وإبراهيم بن أبي عون، فلما قبض عليه ابن مقلة كبس بيته فوجد فيه رقاعا وكتبا مما قيل عنه يخاطبونه في
__________
[1] انظر ص (208- 209) من هذا المجلد.(4/112)
الرّقاع بما لا يخاطب به البشر، وأحضر فأصرّ على الإنكار فصفعه ابن عبدوس، وأما ابن أبي عون فقال: إلهي وسيدي ورازقي. فقال الراضي للشّلمغاني: أنت زعمت أنك لا تدّعي الربوبية، فما هذا؟ فقال: وما عليّ من قول ابن أبي عون، ثم أحضروا غير مرّة، وجرت لهم فصول، وأحضرت الفقهاء والقضاة، ثم أفتى الأئمة بإباحة دمه، فأحرق في ذي القعدة، وضربت عنق ابن أبي عون، ثم أحرق، وهو فاضل مشهور صاحب تصانيف أدبية، وكان أعني ابن أبي عون- من رؤساء الكتّاب.
وشلمغان: بالشين والغين المعجمتين من أعمال واسط.
وقتل الحسين بن القاسم الوزير [1] ، وكان في نفس الراضي منه.
ولم يحج أحد من بغداد إلى سنة سبع وعشرين خوفا من القرامطة.
وفيها توفي أبو عمر أحمد بن خالد بن الجبّاب [2] القرطبي [3] حافظ الأندلس، وكان أبوه يبيع الجباب [4] . روى عن بقي بن مخلد وطائفة. وعنه:
ولده محمد، ومحمد بن أبي دليم [5] .
قال القاضي عياض: كان إماما في فقه مالك، وكان في الحديث لا ينازع، وارتحل إلى اليمن فأخذ عن إسحاق الدّبري، وعاش بضعا وسبعين سنة، وصنّف التصانيف.
وفيها قاضي مصر، أبو جعفر أحمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة [6] .
__________
[1] «العبر» (2/ 198) وانظر «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (8/ 294) .
[2] في الأصل والمطبوع: «ابن الحبّاب» وهو تصحيف، والتصحيح من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» .
[3] «العبر» (2/ 198- 199) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 240) و «غربان الزمان» ص (282) .
[4] في الأصل والمطبوع: «الحباب» وهو تصحيف والتصحيح من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» .
[5] في الأصل والمطبوع: «محمد بن أبي وليم» وهو خطأ، والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» .
[6] «العبر» (2/ 199) وانظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 565- 566) .(4/113)
حدّث بكتب أبيه كلّها من حفظه بمصر، ولم يكن معه كتاب، وهي أحد وعشرون مصنّفا، وولي قضاء مصر شهرا ونصفا [1] .
وفيها العارف الزاهد القدوة خير النّسّاج [2] أبو الحسن البغدادي، وكانت له حلقة يتكلم فيها، وعمّر دهرا، فقيل: إنه لقي سريّا السقطي، وله أحوال وكرامات.
وفيها المهديّ عبيد الله [3] والد الخلفاء الباطنيّة العبيدية الفاطمية.
افترى أنه من ولد جعفر الصادق، وكان بسلميّة [4] فبعث دعاته إلى اليمن، والمغرب، وحاصل الأمر أنه استولى على مملكة المغرب، وامتدت دولته بضعا وعشرين سنة، ومات في ربيع الأول بالمهدية التي بناها، وكان يظهر الرّفض ويبطن الزندقة.
قال أبو الحسن القابسي صاحب «الملخّص» [5] : الذي قتله عبيد الله
__________
[1] في «العبر» و «حسن المحاضرة» (1/ 368) : «شهرين ونصف شهر» .
[2] «العبر» (2/ 199) وانظر «طبقات الصوفية» للسلمي ص (322- 325) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 269- 270) .
قلت: وقد ذكر السّلميّ أن اسمه الصحيح هو محمد بن إسماعيل السّامري، وأنه إنما سمّي خيرا النّسّاج لأنه خرج إلى الحج، فأخذه رجل على باب الكوفة، فقال: أنت عبدي، واسمك خير- وكان أسود- فلم يخالفه، فأخذه الرجل، واستعمله في نسج الخزّ سنين، وكان يقول له: يا خير! فيقول: لبّيك!. ثم قال له الرجل- بعد سنين-: أنا غلطت!. لا أنت عبدي، ولا اسمك خير، فلذلك سمّي خير النساج. وكان يقول: لا أغيّر اسما سمّاني به رجل مسلم، وعاش مائة وعشرين سنة.
[3] «العبر» (2/ 199- 200) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 141- 151) و «غربان الزمان» ص (282) .
[4] بلدة كبيرة بين حمص وحماة من جهة المشرق وتتبع محافظة حماة إداريا في أيامنا. أنجبت فيما مضى جمهرة من العلماء الأفاضل. انظر خبرها في «معجم البلدان» (3/ 240- 241) .
[5] قلت: جمع فيه ما اتصل به إسناده من حديث الإمام مالك في «الموطأ» . قال أبو عمرو الداني: وهو خمسمائة حديث وعشرون حديثا، وهو مخطوط لم ينشر بعد. انظر «كشف الظنون» (2/ 1818) .(4/114)
وبنوه بعده، في دار النّحر التي يعذب فيها في العذاب، ما بين عالم وعابد، ليردّهم عن الترضّي على [1] الصحابة، فاختار الموت أربعة آلاف رجل، وفي ذلك يقول بعضهم من قصيدة:
وأحلّ دار النّحر في أغلاله ... من كان ذا تقوى وذا صلوات
وقال ابن خلّكان [2] : أبو محمد عبيد الله، الملقب بالمهدي، وجدت في نسبه اختلافا كثيرا.
قال صاحب «تاريخ القيروان» : هو عبيد الله بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه.
وقال غيره: هو عبيد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر المذكور.
وقيل: هو عبيد الله بن التقي، وفيه اختلاف كثير، وأهل العلم بالأنساب المحقّقون ينكرون دعواه في النسب.
وقيل: إن المهدي لما وصل إلى سجلماسة [3] ونما خبره إلى اليسع، وهو مالكها، وهو آخر ملوك بني مدرار، وقيل له: إن هذا الفتى يدعو إلى بيعة أبي عبد الله الشيعي بإفريقية، أخذه اليسع واعتقله، فلما سمع أبو عبد الله الشيعي باعتقاله حشد جمعا كثيرا من كتامة [4] وغيرها، وقصد سجلماسة لاستنقاذه، فلما بلغ اليسع خبر وصولهم قتل المهديّ في السجن، فلما دنت العساكر من البلد، هرب اليسع، فدخل أبو عبد الله إلى السجن فوجد المهديّ مقتولا وعنده رجل من أصحابه كان يخدمه، فخاف أبو عبد الله أن
__________
[1] في الأصل: «عن» وأثبت ما في المطبوع.
[2] في «وفيات الأعيان» (3/ 117- 119) .
[3] قال ياقوت: سجلماسة: مدينة في جنوبي المغرب بينها وبين فاس عشرة أيام تلقاء الجنوب.
انظر «معجم البلدان» (3/ 192- 193) .
[4] في الأصل: «جمفا عفيرا من كتابه» وهو خطأ وأثبت لفظ المطبوع و «وفيات الأعيان» .(4/115)
ينتقض عليه ما دبّره من الأمر إن عرفت العساكر بقتل المهدي، فأخرج هذا الرجل وقال: [هذا] هو المهدي.
وهو أول من قام بهذا الأمر من بيتهم، وادّعى الخلافة بالمغرب، وكان داعية أبا عبد الله الشيعي. ولما استتبّ [1] له الأمر قتله وقتل أخاه، وبنى المهدية بإفريقية ولما فرغ من بنائها في شوال سنة ثمان وثلاثمائة بنى سور تونس وأحكم عمارتها وجدّد فيها مواضع، فنسبت إليه.
وملك بعده ولده القائم، ثم المنصور ولد القائم، ثم المعز بن المنصور، وهو الذي سيّر القائد جوهرا وملك الديار المصرية وبنى القاهرة، واستمرت دولتهم حتى انقرضت على يد السلطان صلاح الدّين رحمه الله تعالى.
وكانت ولادته في سنة تسع وخمسين، وقيل: ستين ومائتين [وقيل:
ست وستين ومائتين] [2] بمدينة سلميّة، وقيل: بالكوفة، ودعي له بالخلافة على منابر رقّادة [3] والقيروان يوم الجمعة لتسع بقين من شهر ربيع الآخر سنة سبع وتسعين ومائتين، بعد رجوعه من سجلماسة وكان ظهوره بسجلماسة يوم الأحد لسبع خلون من ذي الحجة سنة ست وتسعين ومائتين، وخرجت بلاد المغرب عن ولاية بني العبّاس. انتهى ما قاله ابن خلّكان ملخصا.
وفيها أبو جعفر محمد بن إبراهيم الدّيبلي [4] محدّث مكّة، نسبة إلى ديبل [5]- بفتح أوله وضم الباء مدينة قرب السّند- وتوفي في جمادى الأولى.
روى عن محمد بن زنبور وطائفة.
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «استثبت» وهو خطأ والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[2] ما بين حاصرتين سقط من الأصل والمطبوع واستدركته من «وفيات الأعيان» .
[3] في الأصل والمطبوع: «زقادة» وهو تصحيف، والتصحيح من «وفيات الأعيان» . وانظر «معجم البلدان» (3/ 55- 56) .
[4] «العبر» (2/ 200) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 9- 10) .
[5] قلت: وتعرف في أيامنا ب «كراتشي» وهي عاصمة باكستان الإسلامية. وكانت قد أنجبت(4/116)
وفيها أبو جعفر محمد بن عمرو [العقيلي] [1] الحافظ صاحب «الجرح والتعديل» عداده في أهل الحجاز. روى عن: إسحاق الدّبري، وأبي إسماعيل الترمذي [2] وخلق. وعنه: أبو الحسن محمد بن نافع الخزاعي، وأبو بكر بن المقرئ.
قال الحافظ أبو الحسن القطّان: أبو جعفر ثقة جليل القدر، عالم بالحديث، مقدّم بالحفظ، وتوفي بمكّة في شهر ربيع الأول.
وفيها الزاهد أبو بكر محمد بن علي بن جعفر الكتّانيّ [3] شيخ الصوفية المجاور بمكّة. أخذ عن أبي سعيد الخرّاز وغيره، وهو مشهور.
قال السخاوي في «طبقاته» [4] : قال المرتعش: الكتّانيّ سراج الحرم.
صحب الجنيد. والخرّاز، والنّوري، وأقام بمكّة مجاورا إلى أن مات بها.
ومن كلامه: روعة عند انتباه عن غفلة وانقطاع عن حظ من الحظوظ النفسانيّة، وارتعاد من خوف القطيعة [5] أفضل من عبادة الثقلين.
وقال: وجود العطاء من الحقّ شهود الحقّ بالحقّ، لأن الحقّ دليل على كل شيء، ولا يكون شي دونه دليل عليه.
__________
عددا من أفاضل العلماء فيما مضى ولا زالت تنجب هي وسواها من مدن هذه الدولة الإسلامية العريقة أعدادا كبيرة من العلماء في مختلف العلوم بارك الله فيهم. وانظر خبرها في «معجم البلدان» (2/ 495) و «أطلس التاريخ العربي» للأستاذ شوقي أبو خليل ص (50)
[1] «العبر» (2/ 200) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 236- 239) .
[2] هو أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل بن محمد بن يوسف السلمي الترمذي من أهل بغداد، ترمذي الأصل. فقيه عالم صدوق، مكثر من الحديث، مشهور بالطلب. مات في شهر رمضان من سنة (280) هـ. انظر ترجمته في «الأنساب» للسمعاني (3/ 47- 48) .
[3] «العبر» (2/ 200- 201) و «طبقات الصوفية» ص (373- 377) وانظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 533- 535) .
[4] انظر هذه النقول في «طبقات الصوفية» للسلمي.
[5] في «طبقات الصوفية» : «من خوف قطيعة» .(4/117)
وقال: إذا صحّ الافتقار إلى الله صحّ الغنى [1] به، لأنهما حالان لا يتم أحدهما إلا بصاحبه.
وقال: الشهوة زمام الشيطان فمن [2] أخذ بزمامه كان عبده.
وقال: العارف من يوافق معروفه في أوامره، ولا يخالفه في شيء من أحواله، ويتحبّب إليه بصحبة [3] أوليائه، ولا يفتر عن ذكره طرفة عين.
وقال: الصوفيّ من عزفت نفسه عن الدّنيا تطرّفا، وعلت همّته عن الآخرة، وسخت نفسه بالكلّ طلبا وشوقا لمن له الكلّ.
وقال: من طلب الراحة عدم الراحة [4] . انتهى ملخصا.
وفيها أبو علي محمد بن أحمد بن القاسم الرّوذباري البغدادي [5] الزاهد المشهور، الشافعي.
قال الإسنويّ: وهو براء مضمومة وواو ساكنة ثم ذال معجمة مفتوحة، ثم باء موحدة وبعد [6] الألف راء مهملة وياء النسب.
كان فقيها نحويا حافظا للأحاديث، عارفا بالطريقة، له تصانيف كثيرة، وأصله من بغداد، من أبناء الوزراء والكبار، يتصل نسبه بكسرى، فصحب الجنيد حتّى صار أحد أئمة الوقت وشيخ الصوفية، وكان يقول: أستاذي في التصوّف الجنيد، وفي الحديث إبراهيم الحربي، وفي الفقه ابن سريج، وفي النحو ثعلب. ومن شعره:
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «الغناء» وما أثبته من «طبقات الصوفية» .
[2] في الأصل والمطبوع: «من» وما أثبته من «طبقات الصوفية» .
[3] في «طبقات الصوفية» : «بمحبة» .
[4] هذا النقل الأخير لا يوجد في «طبقات الصوفية» .
[5] «العبر» (2/ 201) و «طبقات الصوفية» ، ص (354) وانظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 535- 536) .
[6] في الأصل والمطبوع: «بعد» وما أثبته هو الصواب.(4/118)
ولو مضى الكلّ منّي لم يكن عجبا ... وإنما عجبي للبعض كيف بقي
أدرك بقية روح فيك قد تلفت ... قبل الفراق فهذا آخر الرّمق
[1] سكن مصر وتوفي بها، وقد اختلف في اسمه فقال الخطيب وابن السمعاني [2] : إنه محمد، وقال ابن الصلاح في «الطبقات» : أحمد، وقيل:
الحسن. انتهى ملخصا.
__________
[1] البيتان في «الأنساب» (6/ 181) وهما في «البداية والنهاية» (11/ 181) مع بعض الخلاف.
[2] انظر «تاريخ بغداد» (1/ 329) و «الأنساب» (6/ 180) .(4/119)
سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة
فيها تمكّن الرّاضي بالله، بحيث أنه قلّد ولديه وهما صغيران [1] إمرة المشرق والمغرب.
وفيها محنة ابن شنبوذ القارئ، كان يقرأ في المحراب بالشواذ، فطلبه الوزير ابن مقلة، وأحضر القاضي والقرّاء، وفيهم ابن مجاهد، فناظروه [2] فأغلظ للحاضرين في الخطاب، ونسبهم إلى الجهل، فأمر الوزير بضربه لكي يرجع، فضرب سبع درر [3] ودعا على الوزير بقطع اليد، فقطعت، وسيأتي تمام القصة عند ذكر وفاته إن شاء الله تعالى [4] .
وفيها هاشت الجند وطلبوا أرزاقهم، وأغلظوا لمحمد بن ياقوت، وأخرجوا المحبوسين، ووقع القتال والجد، ونهبت الأسواق، وبقي البلاء أياما، ثم أرضاهم ابن ياقوت، وبعد أيام قبض الراضي بالله على ابن ياقوت وأخيه المظفر، وعظم شأن الوزير ابن مقلة، وتفرد بالأمر [5] ، ثم هاجت عليه الجند، فأرضاهم بالمال.
__________
[1] في «العبر» : «صبيان» .
[2] في الأصل والمطبوع و «غربال الزمان» ص (283) : «فناظره» وأثبت لفظ «العبر» .
[3] الدّرّة: بالكسر التي يضرب بها. «مختار الصحاح» (درر) .
[4] انظر ص (148- 150) من هذا المجلد.
[5] في «العبر» : «بالأمور» .(4/120)
وفيها استولت بنو عبيد الرافضة على مدينة جنوة بالسيف.
وفيها فتنة البربهاري [1] ، شيخ الحنابلة، فنودي أن لا يجتمع اثنان من أصحابه، وحبس جماعة منهم، وهرب هو.
وفيها وثب ناصر الدولة، الحسن بن عبد الله بن حمدان أمير الموصل على عمّه سعيد بن حمدان، فقتله لكونه أراد أن يأخذ منه الموصل، فسار لذلك ابن مقلة في الجيش، فلما قرب من الموصل، نزح عنها ناصر الدولة، ودخلها ابن مقلة، فجمع منها نحو أربعمائة ألف دينار، ثم أسرع إلى بغداد لتشويش الحال، ثم هزم ناصر الدولة جيش الخليفة ودخل الموصل.
وفيها أخذ أبو طاهر القرمطي- لعنه الله- الركب العراقي، وانهزم الأمير لؤلؤ، وبه ضربات، وقتل خلق من الوفد، وسبيت الحريم، وهلك محمد بن ياقوت في السجن، وسلّم إلى أهله، وأخذ الراضي بالله ماله وأملاكه ومعاملاته، وأطلق أخاه المظفّر بن ياقوت بشفاعة الوزير ابن مقلة، بعد أن حلف له أن يواليه بخير ولا ينحرف عنه، ولا يسعى له، ولا لولده بمكروه، ثم غدر به، وقبض عليه بعد أن جمع عليه الحجرية، فاجتمعوا مع المظفّر بن ياقوت، وقبضوا على ابن مقلة في سنة أربع وثلاثين، وسعوا في عزله من الوزارة وقطع يده كما يأتي إن شاء الله تعالى [2] .
وفيها جمع محمد بن رائق أمير واسط، وحشد وتمكن، وأضمر الخروج.
وفيها توفي الحافظ أبو بشر أحمد بن محمد بن عمرو بن مصعب الكندي المصعبي المروزي. روى عن محمود بن آدم وطائفة، وهو أحد
__________
[1] سترد ترجمته في ص (158- 164) من هذا المجلد.
[2] انظر ص (144) من هذا المجلد.(4/121)
الوضّاعين الكذّابين، مع كونه كان محدّثا إماما في السّنّة والرد على المبتدعة.
قاله في «العبر» [1] .
وقال ابن ناصر الدّين في «بديعته» :
كالواضع الموهن المكذّب ... ذاك الفقيه أحمد بن مصعب
وفيها الحافظ أبو طالب أحمد بن نصر البغدادي [2] . روى عن عبّاس الدّوري وطبقته، ورحل إلى أصحاب عبد الرزاق، وكان الدارقطني يقول: هو أستاذي.
قال ابن ناصر الدّين: هو ثقة مأمون.
وفيها نفطويه النحوي، أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة العتكيّ الواسطي [3] ، صاحب التصانيف. روى عن شعيب بن أيوب الصّريفيني وطبقته، وعاش ثمانين سنة. وكان كثير العلم، واسع الرواية، صاحب فنون.
ولد سنة أربع وأربعين أو سنة خمسين ومائتين بواسط، وسكن بغداد، ومات بها يوم الأربعاء لست خلون من صفر بعد طلوع الشمس بساعة، ودفن ثاني يوم بباب الكوفة.
قال ابن خالويه: ليس في العلماء من اسمه إبراهيم وكنيته أبو عبد الله سوى نفطويه.
ومن شعره ما ذكره أبو علي القالي في كتاب «الأمالي» وهو:
قلبي أرقّ عليك [4] من خدّيكا ... وقواي أوهى من قوى جفنيكا
__________
[1] (2/ 203- 204) وانظر «الأنساب» (11/ 346)
[2] «العبر» (2/ 204) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 68) .
[3] «وفيات الأعيان» (1/ 47- 49) و «العبر» (2/ 204) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 75 77) .
[4] في «الأمالي» (1/ 209) و «وفيات الأعيان» : «قلبي عليك أرق» .(4/122)
لم لا ترقّ لمن يعذّب [1] نفسه ... ظلما ويعطفه هواه عليكا
وفيه يقول أبو عبد الله محمد بن زيد بن علي بن الحسين الواسطي المتكلم المشهور، صاحب كتاب «الإمامة» وكتاب «إعجاز القرآن الكريم» وغيرهما:
من سرّه أن لا يرى فاسقا ... فليجتهد أن لا يرى نفطويه
أحرقه الله بنصف اسمه ... وصيّر الباقي صراخا عليه
وتوفي أبو عبد الله محمد المذكور سنة سبع، وقيل: ست وثلاثمائة.
ونفطويه: بكسر النون وفتحها، والكسر أفصح.
قال الثعالبي [2] : لقب نفطويه لدمامته وأدمته تشبيها [له] بالنّفط. وزيد ويه نسبة إلى سيبويه لأنه كان يجري على طريقته ويدرّس كتابه.
وفيها الحافظ أبو نعيم عبد الملك بن محمد بن عدي الجرجاني [3] الحافظ، الجوّال، الفقيه، الإستراباذي. سمع علي بن حرب، وعمر بن شبّة وطبقتهما.
قال الحاكم: كان من أئمة المسلمين، سمعت أبا الوليد الفقيه يقول:
لم يكن في عصرنا من الفقهاء أحفظ للفقهيات وأقوال الصحابة بخراسان من أبي نعيم الجرجاني، ولا بالعراق من أبي بكر بن زياد.
وقال أبو علي النيسابوري: ما رأيت بخراسان بعد ابن خزيمة مثل أبي نعيم، كان يحفظ الموقوفات والمراسيل كلها [4] كما نحفظ نحن المسانيد.
انتهى.
__________
[1] في «الأمالي» : «لمن تعذّب» .
[2] انظر كتابه «لطائف المعارف» ص (48) بتحقيق الأستاذين محمد أبو الفضل إبراهيم، وحسن كامل الصيرفي.
[3] «العبر» (2/ 204- 205) وانظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 541- 547) .
[4] لفظة «كلها» لم ترد في «العبر» .(4/123)
وله «كتاب الضعفاء» في عشرة أجزاء، وممّن أخذ عنه ابن صاعد مع تقدمه، وأبو علي الحافظ، وأبو سعيد الأزدي.
قال الخطيب [1] : كان أحد الأئمة من الحفّاظ لشرائع الدّين، مع صدق وتيقظ وورع [2] . انتهى.
وفيها قاضي الكوفة، أبو الحسن، علي بن محمد بن هارون الحميري [3] الكوفي الفقيه. روى عن أبي كريب، والأشج، وكان [ثقة] [4] يحفظ عامة حديثه.
وفيها علي بن الفضل بن طاهر بن نصر أبو الحسن البلخي [5] الحافظ، الثقة، الجوّال. روى عن أحمد بن سيّار المروزي، وأبي حاتم الرّازي، وهذه الطبقة، وعنه: الدارقطني وقال: ثقة حافظ، وابن شاهين.
قال الخطيب [6] : كان ثقة، حافظا، جوّالا في الحديث، صاحب غرائب.
وفيها أبو عبيد المحاملي، القاسم بن إسماعيل بن محمد الضبيّ [7] القاضي الإمام العلّامة الحافظ البحر. ولد سنة خمس وثلاثين ومائتين وأخذ عن الفلّاس، والدّورقي وغيرهما، وعنه: دعلج، والدارقطني، وابن جميع.
وأثنى عليه الخطيب [8] .
__________
[1] في «تاريخ بغداد» (10/ 428) .
[2] في «تاريخ بغداد» : «مع صدق وتورع، وضبط وتيقظ» .
[3] «العبر» (2/ 205) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 13- 14) و «غربال الزمان» ص (284) .
[4] زيادة من «العبر» مصدر المؤلف.
[5] «تذكرة الحفاظ» (3/ 871- 872) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 69- 70) .
[6] في «تاريخ بغداد» (12/ 47) وقد نقل المؤلف كلامه بتصرف.
[7] «العبر» (2/ 205) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 258- 263) .
[8] قلت: وذلك في قوله عنه في «تاريخ بغداد» (8/ 20) : وكان فاضلا، صادقا، ديّنا.(4/124)
وفيها موسى بن العبّاس، أبو عمران الجويني [1] . حدّث عن جماعة وعنه جماعة، صنّف على «صحيح مسلم» مصنفا صار له عديلا، وكان حافظا، مجوّدا، ثقة، نبيلا، وكان يقوم الليل يصلي ويبكي طويلا. قاله ابن ناصر الدّين.
وفيها أبو الحسن محمد بن أحمد بن عمارة الدمشقي العطار [2] وله ست وتسعون سنة. روى عن أبي هشام [3] الرفاعي وطبقته.
وفيها الحافظ محمد بن أحمد بن أسد الهروي الأصل السلامي البغدادي أبو بكر بن البستنبان [4]- نسبة إلى حفظ البستان- كان إماما، ثقة، ثبتا.
__________
[1] انظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 235- 236) .
[2] «العبر» (2/ 205) و «تهذيب الكمال» (3/ 1290) مصوّرة دار المأمون للتراث، ضمن ترجمة (أبو هشام محمد بن يزيد بن محمد بن كبير بن رفاعة العجلي الرفاعي) .
[3] في الأصل والمطبوع: «روى عن أبي هاشم الرفاعي» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» و «تهذيب الكمال» .
[4] انظر «البداية والنهاية» (11/ 183) .(4/125)
سنة أربع وعشرين وثلاثمائة
فيها كما قال في «الشذور» اشتد الجوع وكثر الموت، فمات بأصبهان نحو مائتي ألف.
وفيها ثارت الغلمان الحجرية، وتحالفوا واتّفقوا، ثم قبضوا على الوزير ابن مقلة وأحرقوا داره، ثم سلّم إلى الوزير عبد الرحمن [بن عيسى] [1] فضربه وأخذ خطه بألف ألف دينار، وجرى [2] له عجائب من الضرب والتعليق، ثم عزل عبد الرحمن ووزر أبو جعفر محمد بن القاسم الكرخي.
وكان ياقوت والد محمد والمظفر بعسكر مكرم يحارب عليّ بن بويه لعصيانه، فتمت له أمور طويلة، ثم قتل وقد شاخ، وتغلب ابن رائق وابن بويه على الممالك، وقلّت الأموال على الكرخي، فعزل بسليمان بن الحسن، فدعت الضرورة الراضي بالله إلى أن كاتب محمد بن رائق ليقدم، فقدم في جيشه إلى بغداد، وبطل حينئذ أمر الوزارة والدواوين، فاستولى ابن رائق على الأمور، وتحكم في الأموال، وضعف أمر الخلافة، وبقي الراضي معه صورة. قاله في «العبر» [3] .
__________
[1] زيادة من «العبر» .
[2] في «العبر» : «وجرت» .
[3] (2/ 206) .(4/126)
وفيها توفي أحمد بن بقيّ بن مخلد، أبو عمر الأندلسي [1] قاضي الجماعة [في أيام] [2] الناصر لدين الله. ولي عشرة أعوام، وروى الكتب عن أبيه.
وفيها أبو الحسن جحظة البرمكي النديم، وهو أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك [3] الأديب الأخباري، صاحب الغناء والألحان والنوادر.
قال ابن خلّكان [4] : كان فاضلا، صاحب فنون وأخبار، ونجوم ونوادر.
وكان من ظرفاء عصره، وهو من ذرية البرامكة، وله الأشعار الرائقة، فمن شعره:
أنا ابن أناس نوّل [5] الناس جودهم ... فأضحوا حديثا للنّوال المشهّر
فلم يخل من إحسانهم لفظ مخبر ... ولم يخل من تقريضهم [6] بطن دفتر
وله أيضا:
فقلت لها بخلت عليّ يقظى ... فجودي في المنام لمستهام
فقالت لي وصرت تنام أيضا ... وتطمع أن أزورك في المنام
وله أيضا:
أصبحت بين معاشر هجروا النّدى ... وتقبّلوا [7] الأخلاق من أسلافهم
قوم أحاول نيلهم فكأنّما ... حاولت نتف الشعر من آنافهم
__________
[1] «العبر» (2/ 206- 207) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 83- 84 و 241) .
[2] زيادة من «العبر» .
[3] «العبر» (2/ 207) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 221- 222) .
[4] في «وفيات الأعيان» (1/ 133) .
[5] في «ذيل الأمالي» للقالي ص (99) و «وفيات الأعيان» و «سير أعلام النبلاء» «موّل» .
[6] في الأصل والمطبوع: «تقريضهم» في المصادر الأخرى: «تقريظهم» وكلاهما صواب، وهو المدح.
[7] في «وفيات الأعيان» : «وتقيلوا» .(4/127)
هات اسقينيها بالكبير وغنّني ... ذهب الذين يعاش في أكنافهم
وله:
يا أيّها الركب الذي ... ن فراقهم إحدى البليّه
يوصيكم الصّبّ المقي ... م بقلبه خير الوصيّه
ومن أبياته السائرة قوله:
ورقّ الجو حتّى قيل هذا ... عتاب بين جحظة والزمان
ولابن الرّومي فيه، وكان مشوّه الخلق:
نبّئت جحظة يستعير جحوظه ... من فيل شطرنج ومن سرطان
وا رحمتا لمنادميه تحمّلوا ... ألم العيون للذّة الآذان
وتوفي بواسط، وقيل: حمل تابوته من واسط إلى بغداد.
وجحظة: بفتح الجيم، لقب عليه، لقبه به عبد الله بن المعتز. انتهى ملخصا.
وفيها ابن مجاهد مقرئ العراق، أبو بكر أحمد بن موسى بن العبّاس بن مجاهد [1] . روى عن سعدان بن نصر، والرّمادي [2] وخلق. وقرأ على قنبل، وأبي الزّعراء، وجماعة، وكان ثقة بصيرا بالقراءات وعللها، عديم النظير. توفي في شعبان عن ثمانين سنة.
وفيها ابن المغلّس الداودي [3] ، وهو العلّامة أبو الحسن عبد الله بن أحمد بن محمد بن المغلّس البغدادي الفقيه، أحد علماء الظاهر. له مصنفات كثيرة، وخرج له عدة أصحاب. تفقه على محمد بن داود الظاهري.
__________
[1] «العبر» (2/ 207) وانظر «معرفة القراء الكبار» للذهبي (1/ 269- 271) ، وانظر ص (16- 20) من مقدمة العالم الكبير الدكتور شوقي ضيف ل «كتاب السبعة في القراءات» للمترجم.
[2] تحرف في «العبر» إلى «الزيادي» فيصحّح فيه.
[3] «العبر» (2/ 207) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 77- 78) .(4/128)
وفيها ابن زياد النيسابوري، أبو بكر عبد الله بن محمد بن زياد بن واصل [1] الفقيه الشافعي الحافظ. صاحب التصانيف والرحلة الواسعة. سمع محمد بن يحيى الذّهلي، ويونس [بن عبد الأعلى] الصّدفي، وغيرهما.
ومنه: ابن عقدة، والدارقطني.
قال الدارقطني: ما رأيت أحفظ من ابن زياد، كان يعرف زيادات الألفاظ، وأثنى عليه الحاكم، وهو ثقة.
قال الإسنوي: ولد في أول سنة ثمان وثمانين ومائتين، ورحل في طلب العلم إلى العراق، والشام، ومصر. وقرأ على المزني، وبرع في العلم، وسكن بغداد، وصار إماما للشافعية بالعراق. وسمع من جماعة كثيرة، وروى عنه جماعة، منهم الدارقطني، وقال: إنه أفقه المشايخ، وإنه لم ير مثله.
أقام أربعين سنة لا ينام الليل ويصلي الصبح بوضوء العشاء. وصنّف كتبا، منها «كتاب الرّبا» . انتهى ملخصا.
وفيها قاضي حمص، أبو القاسم عبد الصمد بن سعيد الكندي [2] .
روى عن محمد بن عوف الحافظ، وعمران بن بكّار، وطائفة. وجمع «التاريخ» [3] .
وفيها الإمام العلّامة، البحر الفهّامة، أبو الحسن الأشعري [4] علي بن إسماعيل بن أبي بشر المتكلم البصري، صاحب المصنفات، وله بضع وستون سنة. أخذ [الحديث] عن زكريا السّاجي، وعلم الجدل والنظر عن أبي علي الجبّائي، ثم ردّ على المعتزلة.
__________
[1] «العبر» (2/ 207- 208) وما بين حاصرتين منه وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 65- 68) .
[2] «العبر» (2/ 208) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 266- 267) .
[3] وقد خصصه لذكر من نزل حمص من الصحابة. قاله الذهبي في «سير أعلام النبلاء» .
[4] «العبر» (2/ 208- 209) وما بين حاصرتين منه وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 85- 90) .(4/129)
ذكر ابن حزم، أن للأشعري خمسة وخمسين تصنيفا، وأنه توفي في هذا العام.
وقال غيره: توفي سنة ثلاثين، وقيل: بعد الثلاثين، وكان قانعا متعفّفا.
قاله في «العبر» .
قلت: ومما بيّض به وجوه أهل السّنّة النبوية، وسوّد به رايات أهل الاعتزال والجهمية، فأبان به وجه الحق الأبلج ولصدور أهل الإيمان والعرفان أثلج، مناظرته مع شيخه الجبّائي، التي بها قصم ظهر كل مبتدع ومرائي [1] ، وهي كما قال ابن خلّكان [2] : سأل أبو الحسن المذكور أستاذه أبا علي الجبائي عن ثلاثة إخوة، كان أحدهم مؤمنا برّا تقيا، والثاني كان كافرا فاسقا شقيا، والثالث كان صغيرا فماتوا، فكيف حالهم؟ فقال الجبّائي: أما الزاهد ففي الدرجات، وأما الكافر ففي الدركات، وأما الصغير فمن أهل السلامة. فقال الأشعري: إن أراد الصغير أن يذهب إلى درجات الزاهد هل يؤذن له؟ فقال:
الجبائي: لا، لأنه يقال له: أخوك إنما وصل إلى هذه الدرجات بسبب طاعاته [3] الكثيرة، وليس لك تلك الطاعات، فقال الأشعري: فإن قال: ذلك التقصير [4] ليس منّي، فإنك ما أبقيتني ولا أقدرتني على الطاعة، فقال الجبّائي: يقول الباري جلّ وعلا: كنت أعلم لو بقيت لعصيت وصرت مستحقا للعذاب الأليم، فراعيت مصلحتك. فقال الأشعري: فلو قال الأخ الأكبر: يا إله العالمين، كما علمت حاله فقد علمت حالي، فلم راعيت مصلحته دوني؟ فانقطع الجبائي. ولهذه المناظرة دلالة على أن الله تعالى خصّ من شاء برحمته، وخصّ آخر بعذابه. وإلى أبي الحسن انتهت رياسة
__________
[1] في المطبوع: «مرائي» .
[2] في «وفيات الأعيان» (4/ 267- 268) ضمن ترجمة شيخه الجبّائي
[3] في الأصل والمطبوع: «طاعته» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» .
[4] في الأصل: «الصغير» وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.(4/130)
الدّنيا في الكلام، وكان في ذلك المقدّم المقتدى الإمام.
قال في كتابه «الإبانة في أصول الديانة» [1]- وهو آخر كتاب صنّفه وعليه يعتمد أصحابه في الذّبّ عنه عند من يطعن عليه-: فصل في إبانة قول أهل الحق والسّنّة: فإن قال [لنا] قائل، قد أنكرتم قول المعتزلة، والقدرية، والجهمية، والحرورية، والرافضة، والمرجئة، فعرّفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون.
قيل له: قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها، التمسك بكلام ربنا [عزّ وجلّ] وسنّة نبينا [صلى الله عليه وسلم] ، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول [به] أبو عبد الله أحمد بن حنبل- نضّر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته- قائلون، ولما خالف قوله مخالفون، لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق ودفع به الضلال، وأوضح المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشكّ الشاكّين [2] ، فرحمة الله عليه من إمام مقدّم، وجليل معظّم، وكبير مفخّم [3] [وعلى جميع أئمة المسلمين] .
وجملة قولنا: أنا نقرّ بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبما جاء من عند الله، وبما رواه الثقات عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لا نرد من ذلك شيئا، وأن الله، عزّ وجل، إله واحد [4] لا إله إلا هو، فرد صمد، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق. وأن الجنّة حق، وأن النّار حق. وأن الساعة آتية لا ريب فيها. وأن الله يبعث من في القبور. وأن
__________
[1] ص (17- 26) قرأه وقدّم له وحكم على الأحاديث الواردة فيه والدي الأستاذ الشيخ عبد القادر الأرناؤوط حفظه الله تعالى، وقد نقل المؤلف عنه بتصرّف واختصار، وما بين حاصرتين في سياق النقل زيادة منه.
[2] في المطبوع: «المشاكين» وهو خطأ.
[3] في الأصل والمطبوع: «مفهم» وأثبت لفظ «الإبانة» .
[4] في الأصل والمطبوع: «وأنه إله واحد» وأثبت لفظ «الإبانة» .(4/131)
الله مستو على عرشه كما قال: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى 20: 5 [طه: 5] وأن له وجها [بلا كيف] [1] كما قال: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ 55: 27 [الرحمن: 27] وأن له يدين بلا كيف كما قال: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ 38: 75 [ص: 75] وكما قال: [2] بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ 5: 64 [المائدة: 64] وأن له عينين بلا كيف كما قال: تَجْرِي بِأَعْيُنِنا 54: 14 [القمر: 14] . وأن من زعم أن أسماء الله غيره كان ضالا.
وندين بأن الله يقلّب القلوب [وأن القلوب] بين أصبعين من أصابع الله، عزّ وجل، [وأنه سبحانه] ، يضع السماوات على إصبع والأرضين على إصبع، كما جاءت الرواية عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم [3] [من غير تكييف] .
وأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ونسلّم الروايات الصحيحة عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، التي رواها الثقات عدلا عن عدل.
ونصدّق بجميع الروايات التي رواها وأثبتها أهل النقل من النزول إلى السماء الدّنيا، وأن الرّبّ، عزّ وجل، يقول: هل من سائل، هل من مستغفر، وسائر ما نقلوه وأثبتوه، خلافا لأهل الزيغ والتضليل.
ونقول: إن الله [عزّ وجل] يجيء يوم القيامة كما قال: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا 89: 22 [الفجر: 22] وأن الله يقرب من عباده كيف شاء كما قال: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ من حَبْلِ الْوَرِيدِ 50: 16 [ق: 160] وكما قال: ثُمَّ دَنا 53: 8
__________
[1] زيادة من «الإبانة» .
[2] زيادة من «الإبانة» قلت: وذلك فيما رواه البخاري رقم (7414) في التوحيد: باب قول الله تعالى: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ 38: 75
[3] رواه مسلم رقم (2786) في صفات المنافقين: باب صفة القيامة والجنة والنار، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، ونصه عنده أن حبرا من أحبار اليهود جاء إلى النبيّ، صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! أو يا أبا القاسم! إن الله تعالى يمسك السماوات يوم القيامة على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، ثم يهزّهنّ، فيقول: أنا الملك، أنا الملك. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، تعجبا مما قال الحبر، تصديقا له، ثم قرأ وَما قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ 39: 67 [الزمر: 67] .(4/132)
فَتَدَلَّى [1] فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى 53: 8- 9 [النجم: 8- 9] . انتهى ملخصا.
وقد ذكر ابن عساكر في كتابه «الذبّ عن أبي الحسن الأشعري» [2] ما يقرب من ذلك إن لم يكن بلفظه، ولعمري إن هذا الاعتقاد هو ما ينبغي أن يعتقد ولا يخرج عن شيء منه إلّا من في قلبه غش ونكد، وأنا أشهد الله على أنني أعتقده جميعه وأسأل الله الثبات عليه، وأستودعه عند من لا تضيع عنده وديعة، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد معلّم الخيرات.
وفيها علي بن عبد الله بن مبشّر أبو الحسن الواسطي [3] المحدّث.
سمع عبد الحميد بن بيان، وأحمد بن سنان [القطّان] .
__________
[1] أقول: انظر التعليق على قوله تعالى: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى 53: 8 في «زاد المسير في علم التفسير» للحافظ ابن الجوزي (8/ 65) الذي حققته بالاشتراك مع زميلي الأستاذ الشيخ شعيب الأرناؤوط، وطبعه المكتب الإسلامي. (ع) .
[2] وهو المعروف ب «تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى أبي الحسن الأشعري» انظر ص (157- 163) منه، طبعة مكتبة القدسي بالقاهرة.
[3] «العبر» (2/ 209) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 25- 26) وما بين حاصرتين زيادة منهما.(4/133)
سنة خمس وعشرين وثلاثمائة
فيها كما قال في «الشذور» صارت فارس في يد علي بن بويه، والرّيّ، وأصبهان، والجبل، في يد الحسن بن بويه، وديار بكر، ومضر، والجزيرة في يد بني حمدان. ومصر، والشام في يد محمد بن طغج، والأندلس في يد عبد الرحمن بن محمد الأموي، وخراسان في يد نصر بن أحمد، واليمامة وهجر، وأعمال البحرين في يد أبي طاهر القرمطي، وطبرستان، وجرجان في يد الدّيلم، ولم يبق في يد الخليفة غير مدينة السلام، وبعض السّواد [1] .
وفيها أشار محمد بن رائق على الرّاضي بأن ينحدر معه إلى واسط ففعل، ولم تمكنه المخالفة، فدخلها يوم عاشوراء المحرم، وكانت الحجّاب أربعمائة وثمانين نفسا، فقرر ستين وأبطل عامّتهم، وقلّل أرزاق الحشم، فخرجوا عليه وعسكروا فالتقاهم ابن رائق فهزمهم، وضعفوا، وتمزقت الساجية والحجرية، فأشار حينئذ على الراضي بالتقدم إلى الأهواز وبها [أبو] عبد الله البريدي ناظرها، وكان شهما مهيبا حازما، فتسحب إليه خلف من المماليك والجند، فأكرمهم وأنفق فيهم الأموال ومنع الخراج، ولم يبق مع الراضي غير بغداد والسواد، مع كون ابن رائق يحكم عليه، ثم رجع إلى
__________
[1] انظر الخبر في «صلة تاريخ الطبري» للقرطبي ص (307) .(4/134)
بغداد ووقعت الوحشة بين ابن رائق وأبي عبد الله البريدي، وجاء القرمطي فدخل إلى الكوفة، فعاث ورجع، وأذن ابن رائق للراضي أن يستوزر أبا الفتح الفضل بن الفرات، فطلبه من الشام وولّاه، والتقى أصحاب ابن رائق وأصحاب البريدي غير مرة، وينهزم أصحاب ابن رائق، وجرت لهم أمور طويلة، ثم إن البريدي دخل إلى فارس فأجاره علي بن بويه، وجهز معه أخاه أحمد لفتح الأهواز، ودام أهل البصرة على عصيان ابن رائق لظلمه، فحلف إن ظفر بها ليجعلنها رمادا، فجدّوا في مخالفته، وقلّت الأموال على محمد بن رائق، فساق إلى دمشق، وزعم أن الخليفة ولّاه إياها، ولم يجسر أحد أن يحجّ خوفا من القرمطي.
وفيها توفي وكيل أبي صخرة أبو بكر أحمد بن عبد الله البغدادي النّحّاس [1] وقد قارب التسعين. روى عن الفلّاس وجماعة.
وفيها أبو حامد بن الشّرقي [2] الحافظ البارع، الثقة، المصنّف، أحمد بن محمد بن الحسن، تلميذ مسلم. روى عن الذّهلي، وأحمد بن الأزهر، وأبي حاتم وخلق. وعنه ابن عقدة، والعسّال، وأبو علي. وكان حجّة، وحيد عصره حفظا، وإتقانا، ومعرفة. وحجّ مرات، وقد نظر إليه ابن خزيمة فقال: حياة أبي حامد [3] تحجز بين الناس وبين الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفي في رمضان عن خمس وثمانين سنة.
وفيها إبراهيم بن عبد الصمد بن موسى بن محمد أبو علي الأمير أبو إسحاق الهاشمي [4] في المحرم، وهو آخر من روى «الموطأ» عن أبي مصعب.
__________
[1] «العبر» (2/ 210) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 70) .
[2] «العبر» (2/ 210- 211) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 37- 39) .
[3] في الأصل والمطبوع: «أبي محمد» وهو خطأ.
[4] «العبر» (2/ 211) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 71- 73) .(4/135)
وفيها أبو العبّاس الدّغولي محمد بن عبد الرحمن [1] الحافظ الثبت الفقيه. روى عن عبد الرحمن بن بشر بن الحكم [2] ، ومحمد بن إسماعيل الأحمسي، وطبقتهما. وعنه أبو علي الحافظ، والجوزقي، وكان من أئمة هذا الشأن ومن كبار الحفّاظ، أثنى عليه أبو أحمد بن عدي، وابن خزيمة، وغيرهما.
وفيها مكّي بن عبدان أبو حاتم التميمي النيسابوري [3] الثقة الحجة.
روى عن عبد الله بن هاشم، والذّهلي، وطائفة، ولم يرحل.
وفيها أبو مزاحم الخاقاني، موسى بن الوزير عبد الله بن يحيى بن خاقان البغدادي [4] المقرئ المحدّث السّنّي. وفد على أبي بكر المروزي، وعبّاس الدّوري، وطائفة.
وفيها الحافظ الثقة، أبو حفص عمر بن أحمد بن علي بن علّك المروزي والجوهري [5] . روى عن سعيد بن مسعود، والدّوري. وعنه ابن المظفر، والدارقطني وابنه [أحفظ منه.
وفيها الحافظ الثقة العدل، ممّوس، وهو إبراهيم بن محمد بن يعقوب الهمذاني [6]] [7] البزّاز، من كبار أئمة هذا الشأن.
__________
[1] «العبر» (2/ 211) وانظر «الأنساب» (5/ 322) و «طبقات الحفاظ» ص (343) .
[2] في الأصل والمطبوع: «روى عن عبد الرحمن بن بشر بن عبد الحكم» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» و «تذكرة الحفاظ» للذهبي (3/ 823) .
[3] «العبر» (2/ 211) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 70 71) .
[4] «العبر» (2/ 211) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 94- 95) .
[5] انظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 243- 245) .
[6] انظر «تذكرة الحفاظ» (3/ 838- 839) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 389- 390) ، وقد تصحفت «الهمذاني» إلى «الهمداني» و «البزاز» إلى «البزار» في المطبوع.
[7] ما بين حاصرتين سقط من الأصل وأثبته من المطبوع.(4/136)
سنة ست وعشرين وثلاثمائة
فيها أقبل البريدي في مدد من ابن بويه، فانهزم من بين يديه بجكم [1] لأن الأمطار عطّلت نشّاب جنده، وقسيّهم، وتقهقروا إلى واسط، وتمت فصول طويلة، وأما ابن رائق فإنه وقع بينه وبين ابن مقلة، فأخذ ابن مقلة يراوغ ويكاتب، فقبض عليه الراضي بالله وقطع يده، ثم بعد أيام قطع ابن رائق لسانه، لكونه كاتب بجكم [1] فأقبل بجكم [1] بجيوشه من واسط، وضعف عنه ابن رائق، فاختفى ببغداد ودخل بجكم [1] فأكرمه الراضي ولقبه أمير الأمراء، وولّاه الحضرة.
وفيها توفي أبو ذر، أحمد بن محمد [بن محمد] [2] بن سليمان الباغندي [3] . روى عن عمر بن شبّة، وعلي بن إشكاب، وطائفة.
وفيها عبد الرّحمن بن أحمد بن محمد بن الحجّاج أبو محمد الرشديني المهري [4] ، المصري الناسخ، عن سن عالية. روى عن أبي الطاهر بن السّرح، وسلمة بن شبيب.
__________
[1] تصحف في الأصل والمطبوع إلى «بحكم» والتصويب من «العبر» (2/ 212) وانظر «تكملة تاريخ الطبري» للهمذاني ص (316) .
[2] ما بين حاصرتين سقط من الأصل والمطبوع و «العبر» واستدركته من «تاريخ بغداد» (5/ 86) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 268) و «الوافي بالوفيات» (8/ 125) .
[3] «العبر» (2/ 212) .
[4] «العبر» (2/ 212- 213) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 239- 240) ، وقد تحرفت.(4/137)
وفيها محمد بن القاسم أبو عبد الله المحاربي الكوفي [1] . روى عن أبي كريب وجماعة، وفيه ضعف.
قال في «المغني» [2] : محمد بن القاسم بن زكريا المحاربي، مشهور ضعيف. يقال: كان يؤمن [3] بالرجعة. انتهى.
__________
«المهريّ» فيه إلى «المهدي» فتصحّح، وتحرّفت «الرشديني» في «العبر» إلى «الرشيدي» .
[1] «العبر» (2/ 213) وانظر «ميزان الاعتدال» (4/ 14) .
[2] انظر «المغني في الضعفاء» (2/ 625) .
[3] في «المغني في الضعفاء» : «كان يرمى» وجاءت في كتابنا، وفي «ميزان الاعتدال» : «يؤمن» .(4/138)
سنة سبع وعشرين وثلاثمائة
فيها كما قال في «الشذور» جاء مطر عظيم، وفيه برد، كل واحدة نحو الأوقيتين، فسقطت حيطان كثيرة ببغداد، وكان الحجّ قد بطل من سنة سبع عشرة وثلاثمائة إلى هذه السنة، فكتب أبو علي محمد بن يحيى [1] العلوي إلى القرامطة- وكانوا يحبّونه- أن يأذنوا [2] للحجاج ليسير بهم ويعطيهم من كل جمل خمسة دنانير، ومن المحمل سبعة، فأذنوا لهم، فحجّ الناس، وهي أول سنة مكس فيها الحاج. انتهى.
وفيها صاهر [3] بجكم [4] ناصر الدولة ابن حمدان.
وفيها استوزر الرّاضي أبا عبد الله البريدي.
وفيها توفي عبد الرّحمن بن أبي حاتم [5] ، واسم أبي حاتم محمد بن إدريس بن المنذر، الحافظ العلم الثقة، أبو محمد بن الحافظ الجامع التميمي الرازي، توفي بالرّيّ وقد قارب التسعين. رحل به أبوه في سنة
__________
[1] كذا في الأصل والمطبوع و «البداية والنهاية» (11/ 189) : «محمد بن يحيى» وفي «المنتظم» لابن الجوزي (6/ 296) و «النجوم الزاهرة» (3/ 264) : «عمر بن يحيى» .
[2] في الأصل والمطبوع: «أن يذموا» والتصحيح من «المنتظم» .
[3] تحرفت في «العبر» إلى «ظاهر» فتصحح فيه. وانظر «دول الإسلام» للذهبي (1/ 200) .
[4] في الأصل والمطبوع: «بحكم» بالحاء وهو تصحيف، والتصحيح من المصادر والمراجع التي بين يدي.
[5] «العبر» (2/ 214) وانظر «سير أعلام النبلاء» (13/ 263- 269) .(4/139)
خمس وخمسين ومائتين، فسمع من أبي سعيد الأشج، والحسن بن عرفة، وطبقتهما. وروى عنه حسينك التميمي [1] وأبو أحمد الحاكم، وغيرهما.
قال أبو يعلى الخليلي [2] : أخذ علم أبيه، وأبي زرعة، وكان بحرا في العلوم ومعرفة الرجال، صنّف في الفقه واختلاف الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار، ثم قال: وكان زاهدا يعدّ من الأبدال.
وقال ابن الأهدل: هو صاحب «الجرح والتعديل» و «العلل» و «المبوب» على أبواب الفقه، وغيرها.
وقال يوما: من يبني ما تهدم من سور طوس وأضمن له عن الله الجنّة، فصرف فيه رجل ألفا، فكتب له رقعة بالضمان، فلما مات دفنت معه، فرجعت إلى ابن أبي حاتم وقد كتب عليها: قد وفينا عنك ولا تعد. انتهى.
وفيها أبو الفتح الفضل بن جعفر بن محمد بن موسى بن الفرات الوزير بن حنزابة الكاتب [3] وزر للمقتدر في آخر أيامه، ثم وزر للراضي بالله، ثم رأى لنفسه التروّح خوفا من فتنة ابن رائق، فأطمعه في تحصيل الأموال من الشام ليمدّ بها، وشخص إليها فتوفي بالرملة كهلا.
وفيها محدّث حلب، الحافظ أبو بكر محمد بن بركة القنّسريني برداعس [4] . روى عن أحمد بن شيبان الرّملي، وأبي أمية الطّرسوسي،
__________
[1] هو الإمام الحافظ أبو أحمد الحسين بن علي بن محمد بن يحيى التميمي، المتوفى سنة (375) وسوف ترد ترجمته في ص (400) من هذا المجلد.
[2] انظر هذا الخبر في «سير أعلام النبلاء» (13/ 264) .
[3] «العبر» (2/ 214) وانظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 479- 480) وقد تصحفت «حنزابة» في الأصل والمطبوع إلى «خنزابة» وصوبتها من «العبر» و «السير» .
[4] «العبر» (2/ 214- 215) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 81- 83) وفي «العبر» وبعض المراجع الأخرى «برداغس» فتنبه.(4/140)
وطبقتهما. وعنه: شيخه عثمان بن خرّزاذ [1] الحافظ، وأبو بكر الربعي، وعدد كثير. وكان من علماء هذا الشأن. وصفه بالحفظ ابن ماكولا [2] والحاكم أبو أحمد [3] ، وضعفه الدارقطني [4] .
وفيها أبو بكر محمد بن جعفر الخرائطي السامري [5] مصنّف «مكارم الأخلاق» [6] و «مساوئ الأخلاق» وغيرها. سمع الحسن بن عرفة، وعمر بن شبّة [7] وطبقتهما، وتوفي بفلسطين في ربيع الأول وقد قارب التسعين.
وفيها محدّث الأندلس محمد بن قاسم بن محمد بن قاسم بن محمد الأموي أبو عبد الله البيّانيّ [8] القرطبي [9] . أكثر عن أبيه، وبقيّ بن مخلد، ومحمد بن وضّاح، ومطيّن، والنسائي. وعنه: ولده أحمد بن محمد، وخالد بن سعيد، وسليمان بن أيوب، وكان عالما ثقة، ورحل بآخرة، فسمع من مطيّن، والنسائي وأكثر، وتوفي في آخر العام.
وفيها أبو نعيم الرّملي [10] ، وهو محمد بن جعفر بن نوح، الحافظ.
كان علّامة ثبتا. قاله ابن ناصر الدّين.
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «خوراد» وهو خطأ والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» و «طبقات الحافظ» ص (265) .
[2] انظر «الإكمال» (1/ 234) .
[3] انظر «تذكرة الحفاظ» (3/ 827) .
[4] انظر «تذكرة الحفاظ» (3/ 827) .
[5] «العبر» (2/ 215) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 267- 268) .
[6] طبع «المنتقى» منه للسّلفي في دار الفكر بدمشق في العام الماضي بتحقيق صديقي الفاضل الأستاذ محمد مطيع الحافظ والسيدة غزوة بدير.
[7] تحرّف في المخطوط إلى «عمر بن شيبة» وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[8] تحرّفت في الأصل إلى «البناني» وفي المطبوع إلى «التياني» والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» وكتب الرجال.
[9] «العبر» (2/ 215) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 254- 255) .
[10] مترجم في «التبيان شرح بديعة البيان» (118/ آ) مصورة نسخة المتحف البريطاني.(4/141)
وفيها إسحاق بن إبراهيم بن محمد الجرجاني البحري [1] الحافظ الثقة، محدّث جرجان أبو يعقوب. روى عن محمد بن بسّام، وإسحاق الدّبري [2] ، والحارث بن أبي أسامة. وعنه: ابن عدي، والإسماعيلي.
قال الخليلي: حافظ ثقة مذكور. قاله ابن بردس [3] .
وفيها مبرمان النّحوي [4] ، مصنف «شرح سيبويه» وما أتمّه. وهو أبو بكر محمد بن علي العسكري، أخذ عن المبرّد، وتصدّر بالأهواز، وكان مهيبا، يأخذ من الطلبة ويلح، ويطلب طبليّة حمّال [5] ، فيحمل إلى داره من غير عجز، وربما انبسط وبال على الحمال، ويتنقّل بالتمر، ويخذف بنواه الناس. قاله في «العبر» [6] .
__________
[1] مترجم في «سير أعلام النبلاء» (15/ 471- 472) .
[2] في الأصل والمطبوع: «الديري» وهو تصحيف والتصحيح من «الأنساب» (5/ 271) وهو إسحاق بن إبراهيم بن عبّاد الدّبري.
[3] في الأصل والمطبوع: «ابن برداس» وهو خطأ، والصواب ما أثبته، وقد تقدم الكلام عنه في ص (102) فراجعه.
[4] انظر «معجم الأدباء» لياقوت (18/ 254- 257) ، و «الوافي بالوفيات» (4/ 108- 109) .
[5] في الأصل والمطبوع: «ويطلب حمال طبلية» والتصحيح من «الوافي بالوفيات» .
[6] (2/ 215- 216) .(4/142)
سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة
فيها كما قال في «الشذور» انبثق بثق بنواحي الأنبار، فاجتاح القرى، وغرق النّاس، والبهائم، والسباع، وانصبّ في الصراة، ودخل الشوارع في الجانب الغربي، وتساقطت الدّور والأبنية. انتهى.
وفيها التقى سيف الدولة بن حمدان الدّمستق- لعنه الله- وهزمه [1] وفيها عزل البريدي [2] من الوزارة بسليمان بن مخلد، بإشارة بجكم [3] .
وفيها استولى الأمير محمد بن رائق على الشام، فالتقاه الإخشيذ محمد بن طغج، [فانكسر ابن رائق، ووصل إلى دمشق في سبعين فارسا، ثم التقى أبا نصر بن طغج] [4] فانهزم أبو نصر، وأسر كبار أمرائه، ثم قتل أبو نصر في المصاف.
وفيها توفي الوزير أحمد بن عبيد الله بن أحمد بن الخصيب، أبو
__________
[1] انظر الخبر بتوسع في «غربال الزمان» ص (285) .
[2] في الأصل والمطبوع: «اليريدي» وهو تصحيف، والتصحيح من «العبر» (2/ 216) وانظر «تكملة تاريخ الطبري» للهمذاني ص (321) الملحق ب «تاريخ الطبري» .
[3] تصحف في الأصل والمطبوع إلى «بحكم» والتصويب من «العبر» (2/ 216) .
[4] ما بين حاصرتين سقط من الأصل والمطبوع واستدركته من «العبر» للذهبي (2/ 216) مصدر المؤلف.(4/143)
العبّاس الخصيبي [1] ، وزر غير مرّة بالعراق.
وفيها أبو علي محمد بن علي بن حسن بن مقلة [2] الكاتب، صاحب الخط المنسوب، وقد وزر للخلفاء غير مرّة، ثم قطع يده ولسانه وسجن حتى هلك، وله ستون سنة. قاله في «العبر» [3] .
وقال غيره: كان سبب موت ابن مقلة أنه أشار على الراضي بمسك ابن رائق، فبلغ ابن رائق، فحبس ابن مقلة، ثم أخرج وقطعت يده، فكان يشدّ القلم عليها ويكتب، ويتطلب الوزارة أيضا. ويقول: إن قطع يده لم يكن في حدّ ولم يعقه عن عمله، ثم بلغ ابن رائق دعاؤه عليه وعلى الراضي، فقطع لسانه وحبس إلى أن مات في أسوأ حال، ودفن مكانه، ثم نبشه أهله فدفنوه في مكان آخر، ثم نبش ودفن في موضع آخر، فمن الاتفاقات الغريبة أنه ولي الوزارة ثلاث مرّات لثلاث خلفاء، المقتدر، والقاهر، والراضي، وسافر ثلاث مرات، ودفن ثلاث مرات.
وقال ابن خلّكان [4] : وأقام ابن مقلة في الحبس مدة طويلة، ثم لحقه ذرب [5] ولم يكن له من يخدمه، فكان يستقي الماء لنفسه من البئر، فيجذب بيده اليسرى جذبة وبفمه جذبة، وله أشعار في شرح حاله وما انتهى أمره إليه [6] ورثى يده [7] فمن ذلك قوله:
__________
[1] مترجم في «سير أعلام النبلاء» (15/ 292- 293) .
[2] مترجم في «سير أعلام النبلاء» (15/ 224- 230) و «غربال الزمان» ص (286) .
[3] (2/ 217) .
[4] في «وفيات الأعيان» (5/ 116- 117) وقد نقل المؤلف عنه بتصرف والأبيات الآتية فيه.
[5] قال ابن منظور: الذّرب: المرض الذي لا يبرأ. انظر «لسان العرب» (ذرب) .
[6] في الأصل: «إليه أمره» وأثبت ما في المطبوع وهو موافق لما جاء في «وفيات الأعيان» .
[7] في «وفيات الأعيان» : «ورثاء يده» .(4/144)
ما سئمت الحياة لكن توثّق ... ت بأيمانهم فبانت يميني
بعت ديني لهم بدنياي حتّى ... حرموني دنياهم بعد ديني
ولقد حطت ما استطعت بجهدي ... حفظ أرواحهم فما حفظوني
ليس بعد اليمين لذّة عيش ... يا حياتي بانت يميني فبيني
ومن شعره أيضا:
وإذا رأيت فتى بأعلى رتبة ... في شامخ من عزّة المترفّع
قالت لي النفس العروف بقدرها ... ما كان أولاني بهذا الموضع
وله:
إذا ما مات بعضك فابك بعضا ... فإنّ البعض من بعض قريب [1]
وهو أول من نقل هذه الطريقة من خط الكوفيين إلى هذه الصورة.
[ومن كلامه: إني إذا أحببت تهالكت، وإذا بغضت أهلكت، وإذا رضيت آثرت، وإذا غضبت أثّرت] [2] .
ومن كلامه: يعجبني من يقول الشعر تأدّبا لا تكسّبا، ويتعاطى الغناء تطرّبا لا تطلّبا.
وله كل معنى مليح في النظم والنثر. وكان ما أصابه نتيجة دعاء أبي الحسن بن شنبوذ عليه بقطع اليد. وقد تقدم ذكر سبب ذلك، ويأتي قريبا في هذه السنة.
وكانت ولادة ابن مقلة يوم الخميس بعد العصر، حادي عشري شوال سنة اثنتين وسبعين ومائتين، رحمه الله تعالى.
__________
[1] البيت في «المنتظم» لابن الجوزي (6/ 311) و «غربال الزمان» للعامري ص (286) .
[2] ما بين حاصرتين سقط من الأصل وأثبته من المطبوع.(4/145)
وفيها أبو عبد الله أحمد بن علي بن العلاء الجوزجاني [1] ببغداد، وله ثلاث وتسعون سنة. وكان ثقة صالحا بكّاء. روى عن أحمد [ابن] المقدام [العجلي] [2] وجماعة.
وفيها محدّث دمشق، أبو الدحداح، أحمد بن محمد بن إسماعيل التميمي [3] . سمع موسى بن عامر، ومحمد بن هاشم البعلبكي وطائفة.
وقال الخطيب: كان مليّا بحديث الوليد بن مسلم.
وفيها أحمد بن محمد بن عبد ربّه القرطبي [4] وقرطبة مدينة كبيرة دار مملكة الأندلس، وكان ابن عبد ربّه أحد الفضلاء، وهو أموي بالولاء، وحوى كتابه «العقد» كل شيء، وله ديوان وشعر جيد. قاله ابن الأهدل.
وقال في «العبر» [5] : مات وله اثنتان وثمانون سنة، وشعره في الذّروة العليا. سمع من بقيّ بن مخلد، ومحمد بن وضاح. انتهى.
وفيها العلّامة أبو سعيد الإصطخري [6] الحسن بن أحمد بن يزيد، شيخ الشافعية بالعراق. روى عن سعدان بن نصر وطبقته، وصنّف التصانيف، وعاش نيّفا وثمانين سنة، وكان موصوفا بالزهد والقناعة، وله وجه في المذهب.
قال الإسنوي: كان هو وابن سريج شيخي الشافعية ببغداد. صنّف كتبا
__________
[1] مترجم في «العبر» (2/ 217) وانظر «تهذيب الكمال» (1/ 488) طبع مؤسسة الرسالة، ضمن (ترجمة أحمد بن المقدام العجلي) .
[2] زيادة من «العبر» وكتب الرجال التي بين يدي.
[3] مترجم في «العبر» (2/ 217) و «مختصر تاريخ دمشق» لابن منظور (3/ 231) بتحقيق صديقي الفاضل الأستاذ رياض عبد الحميد مراد، طبع دار الفكر بدمشق.
[4] مترجم في «سير أعلام النبلاء» (15/ 283) و «مرآة الجنان» (2/ 295- 296) و «غربال الزمان» ص (287) .
[5] (2/ 218) .
[6] مترجم في «العبر» (2/ 218) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 250- 252) .(4/146)
كثيرة، منها: «آداب القضاء» [1] استحسنه الأئمة، وكان زاهدا متقلّلا من الدّنيا، وكان في أخلاقه حدّة. ولّاه المقتدر بالله سجستان ثم حسبة بغداد.
ولد سنة أربع وأربعين ومائتين، وتوفي ببغداد سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة.
زاد ابن خلّكان [2] أنه توفي يوم الجمعة ثاني عشر جمادى الآخرة، وقيل: رابع عشر، ودفن بباب حرب.
وإصطخر: بكسر الهمزة وفتح الطاء، وجوّز بعضهم فتح الهمزة، حكاه النووي في الحيض من «شرح المهذب» [3] .
وفيها الحسين بن محمد أبو عبد الله بن المطبقي [4] البغدادي، ثقة.
روى عن محمد بن منصور الطّوسي وطائفة.
وفيها أبو محمد بن الشّرقي [5] عبد الله بن محمد بن الحسن، أخو الحافظ أبي حامد، وله اثنتان وتسعون سنة. سمع عبد الرحمن بن بشر، وعبد الله بن هاشم، وخلقا.
قال الحاكم: رأيته وكان أوحد وقته في معرفة الطب، لم يدع الشراب إلى أن مات، فضعّف بذلك.
وقال في «المغني» [6] : تكلموا فيه لإدمانه المسكر. انتهى.
وفيها قاضي القضاة ببغداد، أبو الحسين عمر بن قاضي القضاة أبي عمر محمد بن يوسف بن يعقوب الأزدي [7] كان بارعا في مذهب مالك، عارفا
__________
[1] في «سير أعلام النبلاء» : «أدب القضاء» وفي «كشف الظنون» (1/ 47) : «أدب القاضي» .
[2] في «وفيات الأعيان» (2/ 75) .
[3] انظره (2/ 400) ويعرف الكتاب ب «المجموع شرح المهذب» وهو مطبوع في مصر.
[4] في الأصل والمطبوع: «المطيقي» وما أثبته من «العبر» (2/ 218) مصدر المؤلف في نقله، و «تاريخ بغداد» (8/ 97) .
[5] مترجم في «العبر» (2/ 218) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 40- 41) .
[6] انظر «المغني في الضعفاء» (1/ 356) .
[7] مترجم في «المنتظم» (6/ 307) و «العبر» (2/ 219) وقد نقل المؤلف الترجمة عنه.(4/147)
بالحديث، صنّف مسندا متقنا، وسمع من جدّه ولم يتكهّل، وكان من أذكياء الفقهاء.
وفيها أبو الحسن محمد بن أحمد بن أيوب بن الصلت بن شنبوذ المقرئ [1] أحد أئمة الأداء. قرأ على محمد بن يحيى الكسائي الصغير، وإسماعيل بن عبد الله النحاس، وطائفة كثيرة. وعني بالقراءات أتم عناية، وروى الحديث عن عبد الرحمن بن محمد بن منصور الحارثي، ومحمد بن الحسين الحنيني، وتصدّر للإقراء [2] ببغداد، وقد امتحن في سنة ثلاث وعشرين كما مرّ [3] ، وكان مجتهدا فيما فعل رحمه الله. قاله في «العبر» .
وقال ابن خلّكان [4] : كان من مشاهير القرّاء وأعيانهم، وكان ديّنا، وفيه سلامة صدر، وفيه حمق، وقيل: إنه [5] كان كثير اللحن قليل العلم، وتفرد بقراءات شواذ، وكان [6] يقرأ بها في المحراب. فأنكرت عليه، وبلغ ذلك الوزير ابن مقلة الكاتب المشهور، وقيل له: إنه يغيّر حروفا من القرآن ويقرأ بخلاف ما أنزل، فاستحضره [7] في أول شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، واعتقله في داره أياما، فلما كان يوم الأحد سابع الشهر المذكور استحضر الوزير المذكور [القاضي] أبا الحسين [8] عمر بن محمد، وأبا بكر أحمد بن موسى بن العبّاس بن مجاهد المقرئ، وجماعة من أهل القرآن،
__________
[1] مترجم في «العبر» (2/ 219) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 264- 266) .
[2] لفظة «للإقراء» سقطت من «العبر» فتستدرك فيه.
[3] انظر ص (120) من هذا المجلد.
[4] في «وفيات الأعيان» (4/ 299) .
[5] لفظة «إنه» سقطت من الأصل وأثبتها من المطبوع و «وفيات الأعيان» .
[6] في «وفيات الأعيان» : «كان» .
[7] في الأصل والمطبوع: «فاستحضر» وما أثبته من «وفيات الأعيان» .
[8] في الأصل والمطبوع: «أبا الحسن» والتصحيح من «وفيات الأعيان» ولفظة «القاضي» زيادة منه.(4/148)
وأحضر ابن شنبوذ المذكور ونوظر بحضرة الوزير، فأغلظ في الجواب للوزير والقاضي، وأبي بكر بن مجاهد، ونسبهم إلى قلة المعرفة، وعيّرهم بأنهم ما سافروا في طلب العلم كما سافر، واستصبى [القاضي] أبا الحسين [1] المذكور، فأمر الوزير أبو علي بضربه، فأقيم فضرب سبع درر، فدعا وهو يضرب على الوزير [ابن مقلة] [2] بأن يقطع الله يده، ويشتت شمله، فكان الأمر كذلك، ثم أوقفوه على الحروف التي كان يقرأ بها، فأنكر ما كان شنيعا، وقال فيما سواه: إنه قرأه قوم [3] فاستتابوه فتاب، وقال: إنه قد رجع عمّا كان يقرؤه، وإنه لا يقرأ إلا بمصحف عثمان بن عفان، رضي الله عنه، وبالقراءة المتعارفة التي يقرأ بها الناس.
فكتب الوزير عليه محضرا بما قاله، وأمره أن يكتب خطّه في آخره، فكتب ما يدل على توبته، ونسخة المحضر: «سئل محمد بن أحمد المعروف بابن شنبوذ عمّا حكي عنه أنه يقرؤه، وهو إذا نُودِيَ للصّلَاهِ من يَوْم الجُمعَةِ فَامْضوا إلى ذِكْرِ الله فاعترف به، وعن وَتَجْعَلُوْنَ شُكْرَكم أَنَكم تَكْذِبُونَ فاعترف به، وعن فاليَوْمَ نُنَجّيْكَ بَبَدنِكَ [4] فاعترف به، وعن تبّت يدا أبي لهب وقد تب فاعترف به، وعن إلّا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض فاعترف به، وعن ولتكن منكم فئة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون بالله [5] على ما أصابهم وأولئك هم المفلحون فاعترف به، وعن إلا تفعلوه تكن فتنة في
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «أبا الحسن» والتصحيح من «وفيات الأعيان» ولفظة «القاضي» زيادة منه.
[2] زيادة من «وفيات الأعيان» .
[3] في «وفيات الأعيان» : «إنه قرأ به قوم» .
[4] في الأصل والمطبوع: «بندائك» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[5] في «وفيات الأعيان» : «ويستعينون الله» .(4/149)
الأرض وفساد عريض [1] فاعترف به وتاب [2] عن ذلك. وكتب الشهود الحاضرون شهادتهم في المحضر حسبما سمعوه من لفظه.
وكتب ابن شنبوذ بخطه ما صورته: يقول محمد بن أحمد بن أيوب المعروف بابن شنبوذ: ما في هذه الرقعة صحيح، وهو قولي واعتقادي، وأشهد الله عزّ وجلّ وسائر من حضر على نفسي بذلك، ومتى خالفت ذلك أو بان مني غيره، فأمير المؤمنين في حلّ من دمي وسعة، وذلك يوم الأحد سابع ربيع الآخر، سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة.
وشنبوذ: بفتح الشين المعجمة والنون، وضم الباء الموحدة، وسكون الواو، وبعدها ذال معجمة. انتهى ملخصا.
وفيها محدّث الشام أبو العبّاس محمد بن جعفر بن محمد بن هشام بن ملّاس النّميريّ مولاهم الدمشقي [3] في جمادى الأولى. روى عن موسى بن عامر، وأبي إسحاق الجوزجاني، وخلق. وهو من بيت حديث.
وفيها أبو علي الثّقفي محمد بن عبد الوهاب النيسابوري [4] الفقيه الواعظ [5] ، أحد الأئمة، وله أربع وثمانون سنة. سمع في كبره من موسى بن نصر الرّازي، وأحمد بن ملاعب، وطبقتهما. وكان له جنازة لم يعهد مثلها، وهو من ذرّيّة الحجّاج.
قال أبو الوليد الفقيه: دخلت على ابن سريج، فسألني على من درست الفقه؟ قلت: على أبي علي الثّقفي. قال: لعلك تعني الحجّاجي الأزرق؟
__________
[1] وقد كررها المؤلف هنا أثناء نقله بتصرف عن «وفيات الأعيان» أما في «الوفيات» فقد ذكرها مرة واحدة.
[2] في الأصل: «وتاب إلى الله» وأبقيت لفظ المطبوع وهو موافق لما في «وفيات الأعيان» .
[3] مترجم في «العبر» (2/ 219) وانظر «تهذيب الكمال» (3/ 1388) (ترجمة موسى بن عامر) .
[4] مترجم في «العبر» (2/ 220) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 280- 283) .
[5] في الأصل والمطبوع: «الفقيه الواحد» وهو خطأ والتصحيح من «العبر» .(4/150)
قلت: نعم. قال: ما جاءنا من خراسان أفقه منه.
وقال أبو بكر الضّبعي: ما عرفنا الجدل والنظر، حتّى ورد أبو علي الثقفي من العراق.
وذكره السلمي في «طبقات الصوفية» [1] . قاله في «العبر» .
وقال السخاوي في «طبقات الأولياء» [2] : لقي أبا حفص، وحمدون القصّار.
وكان إماما في علوم الشرع.
قال لبعض أصحابه: لا تفارق هذه الخلال الأربع: صدق القول، وصدق العمل، وصدق المودّة، وصدق الأمانة.
وقال: من صحب الأكابر على غير طريق الحرمة حرم فوائدهم وبركات نظرهم، ولا يظهر عليه من أنوارهم شيء.
وقال: من غلبه هواه توارى عنه عقله.
وقال: لا تلتمس تقويم ما لا يستقيم، ولا تأديب من لا يتأدّب.
وقال: يا من باع كلّ شيء بلا شيء، واشترى لا شيء بكل شيء.
وتوفي ليلة الجمعة الثالث والعشرين من جمادى الأولى ودفن في مقبرة قر بنيسابور، وهو ابن تسع وثمانين سنة، ووعظ مرّة فذمّ الدّنيا والركون إليها، ثم تمثّل بقول بعضهم:
من نال من دنياه أمنية ... أسقطت الأيّام منها الألف
انتهى.
__________
[1] انظر ترجمته في ص (361- 365) .
[2] انظر هذه النقول في ترجمته في «طبقات الصوفية» وقد ورد بعضها في ترجمته عند ابن الملقن في «طبقات الأولياء» ص (298) .(4/151)
وفيها الإمام العلّامة ابن الأنباري [1] أبو بكر محمد بن القاسم بن بشّار النحويّ اللّغويّ، صاحب المصنفات، وله سبع وخمسون سنة. سمع في صغره من الكديمي، وإسماعيل القاضي، وأخذ عن أبيه، وثعلب، وطائفة.
وعنه الدار قطنّي وغيره [2] .
قال أبو علي القالي: كان شيخنا أبو بكر يحفظ فيما قيل ثلاثمائة ألف بيت شاهد في القرآن.
وقال محمد بن جعفر التميمي: ما رأينا أحفظ من ابن الأنباري، ولا أغزر بحرا، حدّثوني عنه أنه قال: أحفظ ثلاثة عشر صندوقا.
قال: وحدّثت عنه أنه كان يحفظ مائة وعشرين تفسيرا بأسانيدها [3] .
وقيل عنه: إنه أملى غريب الحديث في خمسة وأربعين ألف ورقة [4] .
قاله في «العبر» [5] .
وقال ابن ناصر الدّين: كان في كل فن إمامه، وكان إملاؤه من حفظه.
ومن أماليه المدققة «غريب الحديث» في خمسة وأربعين ألف ورقة [6] .
انتهى.
وكان سائر ما يصنفه ويمليه من حفظه لا من [7] دفتر ولا كتاب.
__________
[1] مترجم في «العبر» (2/ 220- 221) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 274- 279) .
[2] قوله: «وعنه: الدارقطني وغيره» لم يرد في «العبر» .
[3] لفظة «بأسانيدها» لم ترد في «العبر» المطبوع في الكويت واستدركت في «العبر» المطبوع في بيروت.
[4] قوله: «وقيل عنه، إنه أملى غريب الحديث في خمسة وأربعين ألف ورقة» سقط من «العبر» المطبوع في الكويت وورد في المطبوع منه في بيروت.
[5] (2/ 220- 221) .
[6] عقب الذهبي على هذا الخبر في «سير أعلام النبلاء» (15/ 277) بقوله: فهذا الكتاب يكون أزيد من مائة مجلد.
[7] لفظة «من» سقطت من الأصل وأثبتها من المطبوع.(4/152)
وفيها أبو الحسن المزيّن علي بن محمد البغدادي [1] شيخ الصوفية، صحب الجنيد، وسهل بن عبد الله، وجاور بمكة.
قال السّلميّ في «طبقاته» [2] : أقام بمكّة مجاورا بها، ومات بها، وكان من أورع المشايخ وأحسنهم حالا.
قال: الذنب بعد الذنب عقوبة الذنب. والحسنة بعد الحسنة ثواب الحسنة.
وقال: ملاك القلب في التبرّي من الحول والقوة.
ورؤي يوما متفكّرا وأغر ورقت عيناه، فقيل له: ما لك، أيها الشيخ! فقال: ذكرت أيام تقطّعي في إرادتي، وقطعي [3] المنازل يوما فيوما، وخدمتي لأولئك السادة من أصحابي، وتذكرت ما أنا فيه من الفترة عن شريف الأحوال، وأنشد:
منازل كنت تهواها وتألفها ... أيّام كنت على الأيّام منصورا [4]
وقال: المعجب بعمله مستدرج، والمستحسن لشيء من أحواله ممكور به. والذي يظن أنه موصول فهو مغرور.
ورؤي وهو يبكي بالتنعيم يريد أن يحرم بعمرة وينشد لنفسه:
أنافعي دمعي فأبكيكا [5] ... هيهات مالي طمع فيكا
فلم يزل كذلك إلى أن مات بمكّة، شرّفها الله تعالى.
__________
[1] مترجم في «العبر» (2/ 221) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 232) و «غربال الزمان» ص (287) .
[2] ص (382- 385) والمؤلف ينقل عنه بتصرف واختصار.
[3] في الأصل والمطبوع: «وقطع» وما أثبته من «طبقات الصوفية» .
[4] رواية البيت في «طبقات الصوفية» :
منازل كنت تهواها وتألفها ... أيام أنت على الأيام منصور
[5] رواية البيت في «طبقات الصوفية» :
أنافعي دمعي فأبكيك ... هيهات ما لي طمع فيك(4/153)
وأسند الخطيب عنه [1] أنه قال: الكلام من غير ضرورة مقت من الله للعبد.
وفيها أبو محمد المرتعش عبد الله بن محمد النيسابوري [2] الزاهد، أحد مشايخ العراق. صحب الجنيد [3] وغيره، وكان يقال: إشارات الشبلي، ونكت المرتعش، وحكايات الخلدي. قاله في «العبر» .
وقال السخاوي في «طبقاته» : عبد الله بن محمد النيسابوري من محلة بالحيرة، صحب أبا حفص، وأبا عثمان، والجنيد، وأقام ببغداد حتّى صار أحد مشايخ العراق. كانوا يقولون: عجائب بغداد في التصوف ثلاث:
إشارات الشبلي، ونكت المرتعش [4] ، وحكايات الخلدي، وكان مقيما في مسجد الشّونيزيّة. مات ببغداد.
ومن كلامه: سكون القلب إلى غير المولى تعجيل عقوبة من الله في الدّنيا.
وقال: ذهبت حقائق الأشياء وبقيت أسماؤها، فالأسماء موجودة، والحقائق مفقودة، والدعاوى في السرائر مكنونة، والألسنة بها فصيحة، والأمور عن حقوقها مصروفة. وعن قريب تفقد هذه الألسنة وهذه الدّعاوى، فلا يوجد لسان صادق ولا مدّع صادق [5] .
وقال: الوسوسة تؤدّي إلى الحيرة، والإلهام يؤدّي إلى زيادة فهم وبيان.
__________
[1] في «تاريخ بغداد» (12/ 73) .
[2] مترجم في «العبر» (2/ 221) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 230- 231) و «غربال الزمان» ص (287) .
[3] في «العبر» : «صحبه الجنيد» .
[4] قوله: «ونكت المرتعش» سقط من الأصل وأثبته من المطبوع.
[5] في «طبقات الصوفية» للسلمي: «فلا يوجد لسان ناطق، ولا مدّع مطنب» .(4/154)
وقال: أصول التوحيد ثلاثة أشياء: معرفة الله تعالى بالرّبوبية، والإقرار له بالوحدانيّة، ونفي الأنداد عنه جملة.
وسئل: بماذا ينال العبد حبّ الله تعالى؟ قال: ببغض ما أبغض الله، وهو [1] الدّنيا والنفس.
وسئل: أيّ الأعمال أفضل؟ فقال: رؤية فضل الله عزّ وجل، وأنشد:
إنّ المقادير إذا ساعدت ... ألحقت العاجز بالحازم [2]
وقيل له: إن فلانا يمشي على الماء! فقال: عندي إنّ [من] [3] مكّنه الله من مخالفة هواه، فهو أعظم من المشي على الماء [4] .
قال أبو عبد الله الرّازي: حضرت وفاته في مسجد الشّونيزيّة، فقال:
انظروا ديوني، فنظروا فقالوا: بضعة عشر درهما، فقال: انظروا خريقاتي، فلما قرّبت منه قال: اجعلوها في ديوني وأرجو أن الله عزّ وجل يعطيني الكفن، ثم قال: سألت الله ثلاثا عند موتي فأعطانيها، سألته أن يميتني على الفقر رأسا برأس، وسألته أن يجعل موتي بهذا [5] المسجد، فقد صحبت فيه أقواما. وسألته أن يكون حولي من آنس به وأحبه. وغمض عينيه ومات بعد ساعة، رحمه الله تعالى، ورضي عنه وعنّا وعن جميع المسلمين. انتهى ملخصا.
وفيها محمد بن قاسم بن محمد بن سيّار الحافظ الإمام، أبو عبد الله البيّانيّ [6] القرطبي. عن أبيه، وبقيّ بن مخلد، ومحمد بن وضّاح، ومطيّن،
__________
[1] في «طبقات الصوفية» : «وهي» .
[2] البيت في «طبقات الصوفية» ص (352) و «تاريخ بغداد» (7/ 221) .
[3] سقطت من الأصل والمطبوع واستدركتها من «طبقات الصوفية» ص (352) .
[4] في «طبقات الصوفية» : «فهو أعظم من المشي على الماء وفي الهواء» .
[5] في المطبوع: «في هذا» .
[6] مترجم في «تذكرة الحفاظ» (3/ 844- 845) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 254) و «توضيح(4/155)
والنسائي. وعنه: ولده أحمد بن محمد، وخالد بن سعيد، وسليمان بن أيوب، وكان عالما ثقة. قاله ابن بردس [1] .
وفيها على ما قاله ابن ناصر الدّين في «بديعته» :
وحامد بن أحمد الزّيديّ ... كلامه حلاوة شهديّ
قال في شرحها: هو حامد بن أحمد بن محمد بن أحمد أبو أحمد المروزيّ [2] نزيل طرسوس. قيل له: الزيديّ لجمعه حديث زيد بن أبي أنيسة دون غيره من المحدّثين. انتهى.
__________
«المشتبه» لابن ناصر الدين (1/ 609)
[1] في الأصل والمطبوع: «ابن برداس» وهو خطأ والصواب ما أثبته. انظر «الأعلام» (1/ 324) .
[2] مترجم في «سير أعلام النبلاء» (15/ 369- 370) و «طبقات الحفاظ» ص (373- 374) .(4/156)
سنة تسع وعشرين وثلاثمائة
في ربيع الأول استخلف المتقي لله، فاستوزر أبا الحسن [1] أحمد بن محمد بن ميمون، فقدم أبو عبد الله البريدي من البصرة وطلب الوزارة، فأجابه المتقي وولّاه، ومشى إلى بابه ابن ميمون، وكانت وزارة ابن ميمون شهرا، فقامت الجند على أبي عبد الله يطلبون أرزاقهم، فخافهم وهرب بعد أيام، ووزر بعده أبو إسحاق محمد بن أحمد القراريطي، ثم عزل بعد ثلاثة وأربعين يوما ووزر الكرخيّ، فعزل بعد ثلاثة وخمسين يوما، فلم ير أقرب من مدة هؤلاء، وهزلت الوزارة وضؤلت لضعف الدولة وصغر الدائرة.
وأما بجكم [2] التركي، فنزل واسط واستوطنها، وقرر مع الراضي أنه يحمل إلى خزانته في كل سنة ثمانمائة ألف دينار بعد أن يريح الغلة من مؤنة خمسة آلاف فارس يقيمون بها، وعدل وتصدق، وكان ذا عقل وافر وأموال عظيمة، ونفس غضبّة [3] ، خرج يتصيّد، فأساء إلى أكراد هناك [4] ، فاستفرد
__________
[1] كذا في الأصل والمطبوع و «مروج الذهب» (4/ 340) وفي «العبر» وبعض المصادر: «أبو الحسين» انظر «النجوم الزاهرة» (3/ 271) والتعليق عليه.
[2] تصحف في الأصل والمطبوع إلى: «بحكم» والتصحيح من «العبر» والمصادر التي بين يدي.
[3] في «العبر» : «عصبية» . قال ابن منظور: ورجل غضب، وغضوب، وغضبّ بغير هاء، وغضبّة وغضبّة، بفتح الغين وضمها وتشديد الباء، وغضبان: يغضب سريعا، وقيل شديد الغضب.
«لسان العرب» (غضب) .
[4] كذا في الأصل و «العبر» وفي المطبوع: «إلى كراد هناد» .(4/157)
به عبد أسود، فطعنه برمح فقتله في رجب. وكان قد أظهر العدل، وبنى دار ضيافة بواسط، وابتدأ بعمل المارستان، وهو الذي جدده عضد الدولة بالجانب الغربي، وكانت أمواله كثيرة، فكان يدفنها في داره، وفي الصحارى، وكان يأخذ رجالا في صناديق فيها مال إلى الصحراء، ثم يفتح عليهم فيعاونونه على دفن المال ثم يعيدهم في الصناديق ولا يدرون إلى أي موضع حملهم، فضاعت أمواله بموته والدفائن، ونقل من داره وأخرج بالحفر منها ما يزيد على ألفي ألف عينا وورقا، وقيل: للرورحارية: خذوا التراب بأجرتكم فأبوا [1] فأعطوا ألف درهم وغسل التراب فخرج منه ستة وثلاثون ألف درهم.
وفيها توفي البربهاري أبو محمد الحسن بن علي [2] الفقيه القدوة، شيخ الحنابلة بالعراق، قالا وحالا. وكان له صيت عظيم، وحرمة تامة، أخذ عن المرّوذي [3] ، وصحب سهل بن عبد الله التّستري، وصنّف التصانيف، وكان المخالفون يغلّظون قلب الدولة [4] عليه، فقبض على جماعة من أصحابه واستتر هو في سنة إحدى وعشرين، ثم تغيّرت الدولة، وزادت حرمة البربهاري، ثم سعت المبتدعة به، فنودي بأمر الراضي في بغداد: لا يجتمع اثنان من أصحاب البربهاري، فاختفى إلى أن مات في رجب، رحمه الله تعالى. قاله في «العبر» .
وقال القاضي أبو الحسين بن أبي يعلى في «طبقاته» [5] : الحسن بن علي بن خلف، أبو محمد البربهاري، شيخ الطائفة في وقته، ومتقدمها في
__________
[1] في «تكملة تاريخ الطبري» للهمذاني ص (327) : «ودفع التراب إلى الحفارين فلم يقنعوا» وانظر تتمة الكلام عنده.
[2] مترجم في «العبر» (2/ 222- 223) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 90- 93) و «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (8/ 378) و «المنهج الأحمد» (2/ 26- 39) .
[3] في «العبر» : «المروزي» وهو تحريف. انظر ترجمته في «طبقات الحنابلة» (1/ 56- 63) .
[4] في «طبقات ابن أبي يعلى» (2/ 44) و «سير أعلام النبلاء» : «قلب السلطان» .
[5] (2/ 18- 45) وقد نقل المؤلف عنه باختصار وتصرف.(4/158)
الإنكار على أهل البدع، والمباينة لهم باليد واللسان، وكان له صيت عند السلطان، وقدم عند الأصحاب، وكان أحد الأئمة العارفين، والحفاظ للأصول المتقنين، والثقات المأمونين.
صحب جماعة من أصحاب إمامنا أحمد، رضي الله عنه، منهم المرّوذي. وصحب سهل التّستري.
وصنّف البربهاري كتبا، منها «شرح كتاب السّنّة» ذكر فيه: احذر صغار المحدثات من الأمور، فإن صغار البدع تعود حتّى تصير كبارا. وكذلك كل بدعة أحدثت في هذه الأمة، كان أولها صغيرا يشبه الحق، فاغتر بذلك من دخل فيها، ثم لم يستطع المخرج منها، فعظمت، وصارت دينا يدان به يخالف [1] الصراط المستقيم، وخرج [2] من الإسلام، فانظر رحمك الله، كل من سمعت كلامه من أهل زمانك خاصة، فلا تعجلنّ ولا تدخلن في شيء منه حتّى تسأل وتنظر، هل تكلّم فيه أحد من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم، أو أحد العلماء، فإن أصبت فيه أثرا عنهم فتمسك به، ولا تجاوزه بشيء، ولا تختر عليه شيئا فتسقط في النار.
واعلم- رحمك الله- أنه لا يتم إسلام عبد حتّى يكون متّبعا مصدّقا مسلما، فمن زعم أنه قد بقي شيء من أمر الإسلام لم يكفوناه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كذّبهم، وكفى بهذا فرقة وطعنا [3] عليهم، فهو مبتدع، ضال مضل، محدث في الإسلام ما ليس فيه.
واعلم أن الكلام في الربّ تعالى محدث وهو بدعة وضلالة ولا يتكلّم في الربّ سبحانه وتعالى إلا بما وصف به نفسه [عزّ وجلّ] في القرآن، وما بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وهو، جلّ ثناؤه، واحد لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ 42: 11
__________
[1] في «طبقات ابن أبي يعلى» : «فخالف» .
[2] في «طبقات ابن أبي يعلى» : «فخرج» .
[3] تحرفت في «طبقات ابن أبي يعلى» : «فطعن» .(4/159)
[الشورى: 11] ربنا، عزّ وجل، أول بلا متى، وآخر بلا منتهى، يعلم السّرّ وأخفى. على عرشه استوى، وعلمه بكل مكان، لا يخلو من علمه مكان، ولا يقول في صفات الربّ لم؟ وكيف؟ إلا شاكّ في الله تبارك وتعالى. والقرآن كلام الله وتنزيله ونوره، وليس بمخلوق [1] ، لأن القرآن من الله، وما كان من الله فليس بمخلوق، وهكذا قال مالك بن أنس، والفقهاء قبله وبعده، والمراء فيه كفر. والإيمان بالرؤية يوم القيامة، يرون الله تعالى بأعين رؤوسهم، وهو يحاسبهم بلا حاجب ولا ترجمان.
والإيمان بالميزان يوم القيامة، يوزن فيه الخير والشّرّ، له كفّتان ولسان، والإيمان بعذاب القبر، ومنكر ونكير، والإيمان بحوض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكل نبيّ حوض، إلا صالح النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فإن حوضه ضرع ناقته، والإيمان بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، للمذنبين الخاطئين يوم القيامة، وعلى الصراط، ويخرجهم [من جوف جهنم] [2] . وما من نبيّ إلا وله شفاعة، وكذلك الصّدّيقون، والشهداء، والصالحون، والله عزّ وجل بعد ذلك يتفضّل [3] كثيرا على من يشاء، والخروج من النار بعد ما احترقوا وصاروا فحما.
والإيمان بالصراط على جهنم، يأخذ الصراط من شاء الله، ويجوز [4] من شاء الله، ويسقط في جهنم من شاء الله [5] ولهم أنوار على قدر إيمانهم.
والإيمان بالله، والأنبياء، والملائكة، والإيمان بالجنة والنار، أنهما مخلوقتان، الجنة في السماء السابعة، وسقفها العرش، والنّار تحت الأرض
__________
[1] في «طبقات ابن أبي يعلى» : «وليس مخلوقا»
[2] ما بين حاصرتين سقط من الأصل والمطبوع واستدركته من «طبقات ابن أبي يعلى» (2/ 20) .
[3] في «طبقات ابن أبي يعلى» : «تفضل» .
[4] أي يسلك الصراط من شاء الله من عباده، جعلنا الله تعالى منهم بفضله ورحمته، إنه خير مسؤول.
[5] قوله «من شاء الله» سقط من المطبوع.(4/160)
السابعة السفلى، وهما مخلوقتان، قد علم الله عدد أهل الجنة ومن يدخلها، وعدد أهل النار ومن يدخلها، لا يفنيان أبدا، بقاؤهما مع بقاء الله أبد الآبدين، ودهر الداهرين.
وآدم، صلى الله عليه وسلم، كان في الجنة الباقية المخلوقة، فأخرج منها بعد ما عصى الله عزّ وجل.
والإيمان بالمسيح [الدجال] [1] .
والإيمان بنزول عيسى، صلى الله عليه وسلم، ينزل فيقتل الدجال، ويتزوج، ويصلي خلف القائم [2] من آل محمد، صلى الله عليه وسلم، ويموت ويدفنه المؤمنون.
والإيمان بأن الإيمان قول، وعمل، ونية، وإصابة [3] يزيد وينقص، يزيد ما شاء الله، وينقص حتّى لا يبقى منه شيء. وأفضل هذه الأمة والأمم كلها بعد الأنبياء، صلوات الله عليهم: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم عليّ، ثم أفضل الناس بعد هؤلاء: طلحة، والزّبير، وسعد، وسعيد، وعبد الرّحمن بن عوف، [وأبو عبيدة عامر بن الجرّاح] وكلهم يصلح للخلافة.
ثم أفضل الناس بعد هؤلاء أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، القرن الذي بعث فيهم المهاجرون الأولون والأنصار، وهم من صلّى للقبلتين.
ثم أفضل الناس بعد هؤلاء من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوما، أو شهرا، أو سنة، أو أقل من ذلك أو أكثر، نترحّم عليهم، ونذكر فضلهم، ونكفّ عن زللهم، ولا نذكر أحدا منهم إلا بخير [4] لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا
__________
[1] سقطت لفظة «الدجال» من الأصل والمطبوع واستدركتها من «طبقات ابن أبي يعلى» .
[2] قلت: وهو المعروف بالمهدي.
[3] لفظة «وإصابة» لم ترد في «طبقات ابن أبي يعلى» .
[4] في الأصل والمطبوع: «يترحم عليهم، ويذكر فضلهم، ويكفّ عن زللهم، ولا يذكر أحد منهم إلا بخير» وأثبت لفظ «طبقات ابن أبي يعلى» .(4/161)
ذكر أصحابي فأمسكوا» [1] .
واعلم [2] أن أصول البدع أربعة أبواب، يتشعّب من هذه الأربعة اثنان وسبعون هوى، ويصير كل واحد من البدع يتشعب، حتّى تصير كلها إلى ألفين وثمانمائة مقالة [3] كلها ضلالة، وكلها في النار، إلا واحدة، وهي [4] من آمن بما في هذا الكتاب، واعتقده من غير ريبة في قلبه ولا شكوك، فهو صاحب سنّة، وهو ناج إن شاء الله تعالى.
واعلم أن الرجل إذا أحبّ مالك بن أنس وتولّاه فهو صاحب سنّة، وإذا رأيت الرجل يحبّ أبا هريرة، وأسيدا، وأيوب بن عون، ويونس بن عبيد الله، وعبد الله بن إدريس الأنصاري، والشعبي، ومالك بن مغول، ويزيد بن زريع، ومعاذ بن معاذ، ووهب بن جرير، وحمّاد بن زيد، وحمّاد بن سلمة، ومالك بن أنس [5] ، والأوزاعي، وزائدة بن قدامة، وأحمد بن حنبل، والحجاج بن منهال، وأحمد بن نصر، وذكرهم بخير، وقال بقولهم، فاعلم أنه صاحب سنّة.
واعلم أن من تبع جنازة مبتدع لم يزل في سخط الله، عزّ وجل، حتّى يرجع.
وقال الفضيل بن عياض: آكل مع اليهودي والنصراني، ولا آكل مع
__________
[1] ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (7/ 202) من حديث ثوبان رضي الله عنه وتمامه فيه: «إذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكر النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر القدر فأمسكوا» وقال: رواه الطبراني، وفيه يزيد بن ربيعة وهو ضعيف.
وذكره الهيثمي أيضا في «مجمع الزوائد» (7/ 202) باللفظ المتقدم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وقال: وفيه مسهر بن عبد الملك، وثقه ابن حبان وغيره وفيه خلاف، وبقية رجاله رجال الصحيح. ورواه ابن عدي في «الكامل» (6/ 2172) وإسناده ضعيف، وله شاهد مرسل رواه عبد الرزاق في «الأمالي» من حديث معمر عن ابن طاوس عن أبيه مرفوعا فهو حديث حسن بطرقه وشواهده.
[2] في «طبقات ابن أبي يعلى» : «واعلموا» .
[3] لفظة «مقالة» لم ترد في «طبقات ابن أبي يعلى» .
[4] في «طبقات ابن أبي يعلى» : «وهو» .
[5] كرر المؤلف ذكر «مالك بن أنس» تبعا لصاحب «طبقات الحنابلة» (2/ 37) .(4/162)
مبتدع، وأحب أن يكون بيني وبين صاحب بدعة حصن من حديد.
وذكر أبو الحسن [1] بن بشار قال: تنزّه البربهاري من ميراث أبيه عن تسعين [2] ألف درهم.
وكانت له مجاهدات ومقامات في الدّين كثيرة. وكان المخالفون يغلّظون [3] قلب السلطان عليه. ففي سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة تقدّم ابن مقلة بالقبض على البربهاري، فاستتر، وقبض جماعة من كبار أصحابه، وحملوا إلى البصرة، فعاقب الله تعالى ابن مقلة على فعله ذلك بأن أسخط [4] عليه القاهر، ووقع له ما وقع، ثم تفضل الله، عزّ وجل، وأعاد البربهاري إلى حشمته وزادت، حتّى إنه لما توفي أبو عبد الله بن عرفة، المعروف بنفطويه، وحضر جنازته أماثل أبناء الدّين والدّنيا، كان المقدّم على جماعتهم في الإمامة البربهاري، وذلك في صفر سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، في خلافة الراضي.
وفي هذه السنة زادت حشمة البربهاري، وعلت كلمته، وظهر أصحابه وانتشروا في الإنكار على المبتدعة، فبلغنا أن البربهاري اجتاز بالجانب الغربي، فعطس، فشمّته أصحابه، فارتفعت ضجّتهم حتّى سمعها الخليفة.
ولم تزل المبتدعة يوغرون [5] قلب الراضي على البربهاري، حتى نودي في بغداد أن لا يجتمع من أصحاب البربهاري نفسان، فاستتر، وتوفي في الاستتار، رحمه الله تعالى.
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «أبو الحسين» وهو خطأ، والتصحيح من «طبقات ابن أبي يعلى» (2/ 43) و «المنهج الأحمد» (2/ 10) بعناية الأستاذ عادل نويهض.
[2] في «طبقات ابن أبي يعلى» : «سبعين» .
[3] في «طبقات ابن أبي يعلى» : «يغيظون» .
[4] في الأصل والمطبوع: «سخط» وأثبت لفظ «طبقات ابن أبي يعلى» ، وأسخط أي أغضب.
انظر «لسان العرب» (سخط) .
[5] في «طبقات ابن أبي يعلى» (2/ 44) : «ينقلون» .(4/163)
وحدثني محمد بن الحسن المقرئ قال: حكى لي جدي وجدتي قالا: كان أبو محمد البربهاري قد اختفى [1] عند أخت توزون بالجانب الشرقي في درب الحمّام، في شارع درب السلسلة، فبقي نحوا من شهر، فلحقه قيام الدم، فقالت أخت توزون لخادمها لما مات البربهاريّ عندها مستترا: انظر من يغسله، فجاء بالغاسل فغسله، وغلّق الأبواب [2] حتّى لا يعلم أحد، ووقف يصلي عليه وحده. فاطّلعت صاحبة المنزل، فرأت الدار ملأى رجالا بثياب بيض وخضر، فلما سلّم لم تر أحدا، فاستدعت الخادم وقالت: أهلكتني مع أخي، فقال: يا ستي، رأيت ما رأيت؟ فقالت: نعم، فقال: هذه مفاتيح الباب، وهو مغلق، فقالت: ادفنوه في بيتي، وإذا متّ فادفنوني عنده في بيت القبة، فدفنوه في دارها، وماتت بعده بزمان فدفنت في ذلك المكان، ومضى الزمان عليه وصار تربة. انتهى ما أورده ابن أبي يعلى ملخصا جدا.
وفيها القاضي أبو محمد عبد الله بن أحمد بن زبر الرّبعي البغدادي [3] وله بضع وسبعون سنة. سمع عبّاسا الدّوري وطبقته، وولي قضاء مصر ثلاث مرات، آخرها في ربيع الأول من هذا العام، فتوفي بعد شهر. ضعّفه غير واحد في الحديث، وله عدّة تصانيف.
قال في «المغني» [4] : عبد الله بن أحمد بن ربيعة بن زبر القاضي، ضعّف. روى عن عبّاس الدّوري، وأبي داود [5] السّجزي.
قال الخطيب: كان غير ثقة. انتهى.
__________
[1] في «طبقات ابن أبي يعلى» (2/ 45) : «اختبأ» .
[2] في «طبقات ابن أبي يعلى» : «وغلق الباب» .
[3] مترجم في «العبر» (2/ 223) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 315- 316) .
[4] انظر «المغني في الضعفاء» (1/ 331) .
[5] في الأصل والمطبوع «وابن داود» والتصحيح من «المغني في الضعفاء» و «سير أعلام النبلاء» .(4/164)
وفيها الحامض المحدّث، وهو أبو القاسم عبد الله بن محمد بن إسحاق المروزي ثم البغدادي [1] روى عن سعدان بن نصر، وطائفة.
وفيها أبو نصر محمد بن حمدويه بن سهل بن يزداد المروزي ثم الغازي [2] الحافظ الثقة. روى عن أبي داود السّنجي، ومحمود بن آدم، وطائفة. وعنه ابن القوّاس، والدارقطني، وقال: هو ثقة حافظ.
وفيها أبو الفضل البلعميّ الوزير محمد بن عبيد الله [3] ، أحد رجال الدهر عقلا، ورأيا، وبلاغة. روى عن محمد بن نصر المروزي وغيره، وصنّف «كتاب تلقيح البلاغة» ، و «كتاب المقالات» .
وفيها الرّاضي بالله الخليفة، أبو إسحاق [4] محمد، وقيل: أحمد بن أبي أحمد بن المتوكل العبّاسي [5] . ولد سنة سبع وتسعين ومائتين من جارية رومية اسمها ظلوم، وكان قصيرا، أسمر، نحيفا، في وجهه طول، استخلف سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، وهو آخر خليفة له شعر مدوّن، وآخر خليفة انفرد بتدبير الجيوش إلى خلافة المتقي [6] وآخر خليفة خطب يوم الجمعة، إلى خلافة الحاكم العباسي، فإنه خطب أيضا مرتين، وآخر خليفة جالس النّدماء. ولكنه كان مقهورا مع أمرائه، مرض في ربيع الأول بمرض دمويّ، ومات، وكان سمحا كريما، محبّا للعلماء والأدباء. سمع الحديث من البغوي. توفي في نصف ربيع الأول، وله إحدى وثلاثون سنة ونصف.
__________
[1] مترجم في «العبر» (2/ 223) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 287- 288) .
[2] مترجم في «العبر» (2/ 224) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 80- 81) . وقال الذهبي فيه:
«الفازي» بالفاء، من أهل قرية فاز، وبعضهم يقول: الغازي.
[3] مترجم في «العبر» (2/ 224) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 292) .
[4] كذا في الأصل والمطبوع و «العبر» و «سير أعلام النبلاء» : «أبو إسحاق» وفي معظم المصادر:
«أبو العبّاس» وهو الأرجح.
[5] مترجم في «العبر» (2/ 224) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 103- 104) .
[6] قوله: «إلى خلافة المتقي» لم يرد في «العبر» .(4/165)
وفيها أبو بكر يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن بهلول أبو بكر التّنوخيّ الأنباري الأزرق الكاتب، في آخر السنة ببغداد، وله نيّف وتسعون سنة. روى عن جدّه، والحسن بن عرفة وطائفة.(4/166)
سنة ثلاثين وثلاثمائة
فيها كان الغلاء المفرط، والوباء ببغداد، وبلغ الكرّ [1] مائتين وعشرة دنانير، وأكلوا الجيف.
وفيها وصلت الرّوم، فأغارت على أعمال حلب، وبدّعوا، وسبوا عشرة آلاف نسمة.
وفيها أقبل أبو الحسين [2] علي بن محمد البريدي في الجيوش، فالتقاه المتّقي، وابن رائق فكسرهما، ودخلت طائفة من الدّيلم دار الخلافة، فقتلوا جماعة، وهرب المتقي وابنه وابن رائق إلى الموصل، واختفى وزيره أبو إسحاق القراريطي، ووجدوا في الحبس كورتكين، وكان قد عثر عليه ابن رائق فسجنه، فأهلكه البريدي، ووقع النهب في بغداد، واشتد القحط، حتّى بلغ الكرّ ثلاثمائة وستة عشر دينارا، وهذا شيء لم يعهد في العراق، ثم عمّ البلاء بزيادة دجلة، فبلغت عشرين ذراعا، وغرق الخلق، ثم خامر توزون، وذهب إلى الموصل.
وأما ناصر الدولة بن حمدان، فإنه جاءه محمد بن رائق إلى خيمته، فوضع رجله في الرّكاب، فشبّ به الفرس، فوقع، فصاح ابن حمدان:
__________
[1] مكيال لأهل العراق، سبق التعريف به. انظر «لسان العرب» (كرر) .
[2] في الأصل: «وفيها أقبل الحسين» وهو خطأ وأثبت لفظ المطبوع.(4/167)
لا يفوتنّكم، فقتلوه، ثم دفن وعفا [1] قبره، وجاء ابن حمدان إلى المتّقي، فقلّده مكان ابن رائق، ولقّبه ناصر الدولة، ولقّب أخاه عليّا سيف الدولة، وعاد وهما معه، فهرب البريدي من بغداد، وكانت مدة استيلائه عليها ثلاثة أشهر وعشرين يوما، ثم تأهّب [2] البريدي، فالتقاه سيف الدولة بقرب المدائن، ودام القتال يومين، فكانت الهزيمة أولا على بني حمدان والأتراك، ثم كانت على البريدي، وقتل جماعة من أمراء الدّيلم، وأسر آخرون، وردّ إلى واسط بأسوأ حال، وساق وراءه سيف الدّولة، ففرّ إلى البصرة.
وفيها توفي في رجب بمصر أبو بكر محمد بن عبد الله الصّيرفي الشافعي [3] ، له مصنّفات في المذهب، وهو صاحب وجه. روى عن أحمد ابن منصور الرّمادي.
قال الإسنوي: كان إماما في الفقه والأصول. تفقه على ابن سريج، وله تصانيف موجودة، منها «شرح الرسالة» ، وكتاب في الشروط أحسن فيه كل الإحسان.
قال القفّال الشاشي: كان الصيرفيّ أعلم الناس بالأصول بعد الشافعي. انتهى.
وفيها أبو حامد أحمد بن محمد بن يحيى بن بلال النيسابوري [4] .
روى عن الذّهلي، والحسن الزعفراني، وطبقتهما، بخراسان، والعراق، ومصر.
وفيها أبو يعقوب النّهرجوري [5] ، شيخ الصوفية، إسحاق بن محمد.
__________
[1] في «العبر» : «عفّي» وكلاهما بمعنى.
[2] في «العبر» : «تهيأ» .
[3] مترجم في «العبر» (2/ 227) و «وفيات الأعيان» (4/ 199) .
[4] مترجم في «العبر» (2/ 227) .
[5] مترجم في «العبر» (2/ 227) و «طبقات الصوفية» ص (378- 381) .(4/168)
صحب الجنيد وغيره، وجاور مدة، وكان من كبار العارفين.
قال السخاوي في «طبقاته» : صحب الجنيد، وعمرو [بن عثمان] المكّي [1] ، وأبا يعقوب السّوسي، وغيرهم من المشايخ.
أقام بالحرم سنين كثيرة مجاورا. ومات بها [2] . كان أبو عثمان المغربي يقول: ما رأيت في مشايخنا أنور من النّهرجوري.
قال: الفناء هو فناء رؤية قيام العبد لله، والبقاء رؤية قيام الله في الأحكام.
وقال: الصدق موافقة الحقّ في السّرّ والعلانية، وحقيقة الصدق القول بالحق في مواطن الهلكة [3] .
وقال: العابد يعبد الله تحذيرا، والعارف يعبد الله تشويقا.
وقال في قوله، صلى الله عليه وسلم، «احترسوا من النّاس بسوء الظّنّ» [4] أو كما قال، صلى الله عليه وسلم، فقال: بسوء الظن في أنفسكم [5] بأنفسكم، لا بالناس.
وقال: مفاوز الدّنيا تقطع بالأقدام، ومفاوز الآخرة تقطع بالقلوب.
وقال: من كان شبعه بالطعام لم يزل جائعا، ومن كان غناه بالمال، لم يزل فقيرا، ومن قصد بحاجته الخلق، لم يزل محروما، ومن استعان في أمره بغير الله، لم يزل مخذولا.
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «وعمر المكي» وهو خطأ، والتصحيح من «طبقات الصوفية» للسلمي، و «سير أعلام النبلاء» (15/ 233) وما بين حاصرتين زيادة منهما.
[2] يعني بمكة المكرمة، وفي «طبقات الصوفية» : «وبه مات»
[3] في «طبقات الصوفية: «التهلكة» .
[4] ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (8/ 89) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وقال:
رواه الطبراني في «الأوسط» وفيه بقية بن الوليد وهو مدلس، وبقية رجاله ثقات. وقد ذكره الحافظ ابن حجر في «الفتح» من رواية الطبراني في «الأوسط» عن أنس وقال: وهو من رواية بقية بالعنعنة عن معاوية بن يحيى، فله علتان. أقول: فالحديث بهذا ضعيف.
[5] قوله: «في أنفسكم» لم يرد في «طبقات الصوفية» للسلمي.(4/169)
وقال: الدّنيا بحر، والآخرة ساحل، والمركب التقوى، والناس سفر.
وقال: لا زوال لنعمة إذا شكرت، ولا بقاء لها إذا كفرت.
وقال: اليقين مشاهدة الإيمان بالغيب.
وقال: من عرف الله لم يغتر بالله.
انتهى ملخصا.
وفيها تبوك بن أحمد بن تبوك السّلمي [1] بدمشق. روى عن هشام بن عمّار.
وفيها المحاملي، القاضي أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل الضّبّي البغدادي [2] ، في ربيع الآخر، وله خمس وتسعون سنة. وهو ثقة مأمون، وأول سماعه في سنة أربع وأربعين من أبي هشام الرفاعي، وأقدم شيخ له أحمد بن إسماعيل السّهمي صاحب مالك.
قال أبو بكر الدّاودي: كان يحضر مجلس المحاملي عشرة آلاف رجل يكتبون عنه.
وقال ابن بردس: روى عن الفلّاس، والدّورقي، وغيرهما. وعنه:
دعلج، والدارقطني، وابن جميع.
أثنى عليه الخطيب [3] . انتهى.
وفيها قاضي دمشق، أبو يحيى، زكريا بن أحمد بن يحيى بن موسى ختّ البلخي [4] الشافعي، وهو صاحب وجه. روى عن أبي حاتم الرّازي
__________
[1] مترجم في «العبر» (2/ 227) و «مختصر تاريخ دمشق» لابن منظور (5/ 300) طبع دار الفكر بدمشق.
[2] مترجم في «العبر» (2/ 228) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 258- 263) .
[3] حيث قال عنه في «تاريخ بغداد» (8/ 20) : وكان فاضلا، صادقا، ديّنا.
[4] مترجم في «العبر» (2/ 228) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 293- 294) ، و «مختصر تاريخ دمشق» لابن منظور (9/ 52) طبع دار الفكر بدمشق.(4/170)
وطائفة، ومن غرائب وجوهه: إذا شرط في القراض، أن يعمل ربّ المال مع العامل جاز. قاله في «العبر» .
وقال الإسنوي: فارق وطنه لأجل الدّين، ومسح عرض الأرض، وسافر إلى أقاصي الدّنيا في طلب الفقه، وكان حسن البيان في النظر، عذب اللسان في الجدل.
وذكره ابن عساكر في «تاريخ الشام» فقال: كان أبوه وجدّه عالمين، وولّاه المقتدر بالله قضاء الشام، وتوفي بدمشق في ربيع الأول، وقيل في ربيع الآخر.
ونقل عنه الرافعي: أنه كان يرى أن القاضي يزوج نفسه بامرأة هو وليّها.
قال: وحكي عنه أنه فعله لما كان قاضيا بدمشق.
قال العبّادي في «الطبقات» [1] : قال أبو سهل الصعلوكي: رأيت ابنه من هذه المرأة يكدي [2] بالشام. انتهى ملخصا.
وفيها عبد الغافر بن سلامة أبو هاشم الحمصي [3] بالبصرة، وله بضع وتسعون سنة. روى عن كثير بن عبيد وطائفة.
وفيها عبد الله بن يونس القبري [4] الأندلسي [5] صاحب بقي بن مخلد، وكان كثير الحديث مقبولا.
__________
[1] واسمه الكامل «طبقات الشافعيين» وهو مطبوع كما ذكر العلّامة الزركلي في ترجمته في «الأعلام» (5/ 314) ولكنه غير متوفر بين يدي، وصاحبه الإمام القاضي أبو عاصم محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن عبد الله بن عباد الهروي، المتوفى سنة (458) وسوف ترد ترجمته في المجلد الخامس إن شاء الله تعالى.
[2] أي قلّ خيره. (ع)
[3] مترجم في «العبر» (2/ 228) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 294) .
[4] في الأصل والمطبوع: «القيري» وهو تصحيف، والتصحيح من «تاريخ علماء الأندلس» و «معجم البلدان» .
[5] مترجم في «تاريخ علماء الأندلس» (1/ 226) طبع الدار المصرية للتأليف والترجمة و «معجم البلدان» (4/ 305- 306) . «العبر» (2/ 228) و «تاج العروس» (قبر) (13/ 358) .(4/171)
وفيها عبد الملك بن أحمد بن أبي حمزة [1] البغدادي الزّيّات [2] روى عن الحسن بن عرفة وجماعة، وهو من كبار شيوخ ابن جميع.
وفيها الحافظ أبو الحسن علي بن محمد بن عبيد البغدادي البزّار [3] .
روى عن عبّاس الدّوري، ويحيى بن أبي طالب. وعنه: الدارقطني، وابن جميع. وثّقه الخطيب [4] وغيره، ووصفوه بالحفظ.
وفيها محمد بن عبد الملك بن أيمن القرطبيّ [5] أبو عبد الله الحافظ، وله ثمان وسبعون سنة. رحل إلى العراق سنة أربع وتسعين، وصنّف كتابا على «سنن أبي داود» وسمع من محمد بن إسماعيل الصائغ، ومحمد بن الجهم السّمّري [6] وطبقتهما. وعنه: ابنه أحمد.
قال ابن بردس: هو مسند الأندلس، وهو ثقة ثقة.
وفيها عمر بن سهل بن إسماعيل الحافظ المجوّد أبو حفص الدّينوري [7] . رحّال. روى عن إبراهيم بن أبي العنبس، وأبي قلابة الرّقاشي.
وعنه: أبو القاسم بن ثابت الحافظ، وصالح بن أحمد الهمداني. ذكره أبو يعلى في «الإرشاد» فقال: ثقة، إمام، عالم.
وفيها محمد بن عمر بن حفص الجورجيري [8] بأصبهان. سمع إسحاق بن الفيض [9] ، ومسعود بن يزيد القطّان، وطبقتهما.
__________
[1] تصحفت في الأصل والمطبوع إلى «حمرة» .
[2] مترجم في «العبر» (2/ 229) .
[3] مترجم في «العبر» (2/ 229) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 286- 287) .
[4] حيث قال عنه في «تاريخ بغداد (12/ 74) : وكان ثقة، أمينا، حافظا، عارفا.
[5] مترجم في «العبر» (2/ 229) ، و «سير أعلام النبلاء» (15/ 241- 243) .
[6] نسبة إلى «سمّر» من أعمال «كسكر» بين واسط والبصرة. انظر «الأنساب» (7/ 137) .
[7] مترجم في «تذكرة الحفاظ» (3/ 879- 880) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 337- 339) .
[8] مترجم في «العبر» (2/ 229) و «الأنساب» (3/ 256) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 271- 272) .
[9] الذي في «سير أعلام النبلاء» (15/ 271) «إسحاق بن إبراهيم الفارسي» .(4/172)
وفيها محمد بن يوسف بن بشر، أبو عبد الله الهروي الحافظ [1] ، غندر [2] من أعيان الشافعية، والرحّالين في الحديث. سمع الرّبيع بن سليمان، والعبّاس بن الوليد البيروتي، وطبقتهما. ومنه: الطبراني، والزّبير بن عبد الواحد، وهو ثقة ثبت.
وفيها الزاهد العابد، أبو صالح [3] صاحب المسجد المشهور بظاهر باب شرقي [4] ، يقال: اسمه مفلح [5] ، وكان من الصوفية العارفين.
__________
[1] مترجم في «العبر» (2/ 229- 230) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 252- 254) .
[2] أقول: المعروف بلقب غندر، محمد بن جعفر الهذلي أبو عبد الله البصري ولم أجد من قال عن الهروي بأنه غندر. (ع) .
[3] مترجم في «العبر» (2/ 230) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 84- 85) و «دول الإسلام» (1/ 203) و «النجوم الزاهرة» (3/ 275) .
[4] يعني الباب الشرقي لسور مدينة دمشق القديمة.
[5] قلت: وذكر في «النجوم الزاهرة» أن اسمه «مفلح بن عبد الله الدمشقي» .(4/173)
سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة
فيها كما قال في «الشذور» وافى جراد زائد عن الحد، حتّى بيع كل خمسين رطلا بدرهم، واستعان به الفقراء على الغلاء.
وفي التي قبلها ظهر كوكب عظيم ذو ذنب منتشر، فبقي ثلاثة عشر يوما، ثم اضمحل، واشتد الغلاء والمرض. انتهى.
وفيها قلّل ناصر الدولة بن حمدان رواتب المتّقي، وأخذ ضياعه، وصادر العمال، وكرهه الناس، وزوّج بنته بابن المتقي، على مائتي ألف دينار، وهاجت الأمراء بواسط على سيف الدولة، فهرب. وسار أخوه ناصر الدولة إلى الموصل، فنهبت داره، وأقبل توزون، فدخل بغداد، فولّاه المتقي إمرة الأمراء، فلم يلبث أن وقعت بينهما الوحشة، فرجع توزون إلى واسط، ونزح خلق من بغداد، من تتابع الفتن والخوف، إلى الشام ومصر، وبعث المتقي خلعا إلى أحمد بن بويه، فسرّ بها.
وفيها أبو روق الهزّاني، أحمد بن محمد بن بكر [1] ، بالبصرة، وقيل:
بعدها، وله بضع وتسعون سنة. روى عن أبي حفص الفلّاس وطائفة.
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «بكير» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» (2/ 231) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 285- 286) .(4/174)
وبكر بن أحمد بن حفص التّنّيسي الشعراني [1] روى عن يونس بن عبد الأعلى وطبقته، بمصر والشام.
وحبشون بن موسى، أبو نصر الخلّال [2] ببغداد في شعبان، وله ست وتسعون سنة. روى عن الحسن بن عرفة، وعلي بن إشكاب [3] .
وفيها أبو علي حسن بن سعد بن إدريس الحافظ الكتامي القرطبي [4] .
قال ابن ناصر الدّين: كان من الحفاظ الصالحين، لكنه لم يكن بالضابط المتين.
وقال في «العبر» : سمع من بقي بن مخلد مسنده، وبمصر من أبي يزيد القراطيسي، وباليمن من إسحاق الدّبري، وبمكة، وبغداد. وكان فقيها، مفتيا، صالحا، عاش ثمانيا وثمانين سنة.
قال ابن الفرضي [5] : لم يكن بالضابط جدا. انتهى.
وفيها أبو بكر محمد بن أحمد بن يعقوب بن شيبة السّدوسي [6] ببغداد، في ربيع الآخر. سمع من جدّه «مسند العشرة» و «مسند العبّاس» وهو ابن سبع سنين، وسمع من الرّمادي وأناس، ووثقه الخطيب.
وفيها أبو بكر محمد بن إسماعيل الفرغاني الصّوفي [7] ، أستاذ أبي بكر الرّقّي، وكان من العابدين، وله بزّة حسنة، ومعه مفتاح منقوش، يصلي
__________
[1] مترجم في «العبر» (2/ 231) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 308- 309) .
[2] مترجم في «العبر» (2/ 231) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 316- 317) .
[3] تصحفت في الأصل إلى «إسكاب» وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[4] مترجم في «العبر» (2/ 231) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 435- 436) .
[5] في «تاريخ علماء الأندلس» (1/ 110) طبع الدار المصرية للتأليف والترجمة.
[6] مترجم في «العبر» (2/ 231- 232) و «النجوم الزاهرة» (3/ 280) .
[7] مترجم في «العبر» (2/ 232) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 290- 291) .(4/175)
ويضعه بين يديه، كأنه تاجر، وليس له بيت، بل ينطرح في المسجد، ويطوي أياما.
وفيها الزاهد أبو محمود [1] عبد الله بن محمد بن منازل النّيسابوري [2] المجرد على الصحة والحقيقة. صحب حمدون القصّار، وحدّث بالمسند الصحيح عن أحمد بن سلمة النيسابوري، وكان له كلام رفيع في الإخلاص والمعرفة. قاله في «العبر» .
وقال السخاوي: من أجلّ مشايخ نيسابور، له طريقة ينفرد [3] بها، وكان عالما بعلوم الظاهر، كتب الحديث الكثير، ورواه، ومات بنيسابور.
ومن كلامه: لا خير فيمن لم يذق ذلّ المكاسب، وذلّ السؤال، وذلّ الردّ.
وقال: [عبّر] [4] بلسانك عن حالك، ولا تكن بكلامك حاكيا عن أحوال غيرك.
وقال: إذا لم تنتفع أنت بكلامك كيف ينتفع به غيرك.
وقال: لم يضيّع أحد فريضة من الفرائض إلا ابتلاه الله بتضييع السنن، ولم يبتل أحد بتضييع السّنن إلا أوشك أن يبتلى [5] بالبدع.
وقال: التفويض مع الكسب خير من خلوّه عنه.
__________
[1] كذا كني في الأصل والمطبوع بأبي محمود تبعا «للعبر» مصدر المؤلف، وكني في «طبقات الصوفية» و «طبقات الأولياء» بأبي محمد.
[2] مترجم في «العبر» (2/ 232) و «طبقات الصوفية» ص (366- 369) و «طبقات الأولياء» ص (345- 346) .
[3] في «طبقات الصوفية» للسلمي ص (366) : «يتفرّد» .
[4] سقطت لفظة «عبر» من الأصل والمطبوع واستدركتها من «طبقات الصوفية» للسلمي ص (367) .
[5] في الأصل والمطبوع: «يبلى» والتصحيح من «طبقات الصوفية» للسلمي ص (369) .(4/176)
وقال: من عظم قدره عند الناس يجب أن يحتقر نفسه عنده.
وقال: أحكام الغيب لا تشاهد في الدّنيا، ولكن تشاهد فضائح الدعاوى [1] .
وقال: لو صحّ لعبد في عمره نفس من غير رياء ولا شرك، لأثّر بركات ذلك عليه آخر الدهر.
وقال: لا تكن خصما لنفسك على الخلق، وكن خصما للخلق على نفسك. انتهى ملخصا.
وفيها أبو الحسن علي بن محمد بن سهل الدّينوري [2] الصّائغ الزاهد، أحد المشايخ الكبار، بمصر في رجب. كان صاحب أحوال ومواعظ. سئل عن الاستدلال بالشاهد عن الغائب، فقال: كيف يستدل بصفات من يشاهد ويعاين، ويمثل على من لا يشاهد في الدّنيا، ولا يعاين، ولا مثل له، ولا نظير.
وقال: من فساد الطّبع التمنّي والأمل.
وقال: كان بعض مشايخنا يقول: من تعرض لمحبته جاءته المحن والبلايا.
وقال أهل المحبّة في لهيب شوقهم إلى محبوبهم يتنعّمون في ذلك اللهيب، أحسن مما يتنعم أهل الجنة فيما أهّلوا له من النعيم.
وقال: محبتك لنفسك هي التي تهلكها.
وسئل ما المعرفة؟ فقال: رؤية المنّة في كلّ الأحوال، والعجز عن أداء شكر المنعم من كلّ الوجوه، والتّبرّي من الحول والقوّة في كل شيء.
__________
[1] في «طبقات الصوفية» للسلمي: «فضائح الدعوى» .
[2] مترجم في «العبر» (2/ 233) و «طبقات الصوفية» ص (312- 315) .(4/177)
وقال: من توالت عليه الهموم في الدّنيا، فليذكر همّا لا يزول، يستريح منها.
وقال: الأحوال كالبروق، فإذا أثبتت فهو حديث النفس وملازمة الطبع.
ومن حلو كلامه: من أيقن أنه لغيره، فما له أن يبخل بنفسه.
وفيها محمد بن مخلد العطّار الدّوري [1] أبو عبد الله الحافظ، ببغداد. سمع يعقوب الدّورقي، وأحمد بن إسماعيل السّهمي، وخلائق.
ومنه [2] الدارقطني وآخرون. وكان معروفا بالثقة، والصلاح، والاجتهاد في الطلب، وله تصانيف، توفي في جمادى الآخرة، وله سبع وتسعون سنة.
وفيها صاحب ما وراء النهر، أبو الحسن نصر بن الملك أحمد بن إسماعيل السّاماني [3] بقي في المملكة بعد أبيه ثلاثين سنة وثلاثين يوما، وولي بعده ابنه نوح.
وفيها هنّاد بن السّري بن يحيى الكوفي الصغير [4] . روى عن أبي سعيد الأشج وجماعة.
وفيها الجصّاص، أبو يوسف، يعقوب بن عبد الرّحمن بن أحمد البغدادي [5] الدّعّاء. روى عن أحمد بن إسماعيل السّهمي، وعلي بن إشكاب، وجماعة، وله أوهام وغلطات.
قال في «المغني» [6] : قال الخطيب: في حديثه وهم كثير. انتهى.
__________
[1] مترجم في «العبر» (2/ 233) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 256- 257) .
[2] في المطبوع: «وعنه» .
[3] مترجم في «العبر» (2/ 233) وانظر «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (8/ 401) .
[4] مترجم في «العبر» (2/ 233) و «طبقات الحفاظ» للسيوطي ص (220- 221) .
[5] مترجم في «العبر» (2/ 233) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 296- 297) .
[6] انظر «المغني في الضعفاء» (2/ 759) .(4/178)
سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة
قال في «الشذور» : فيها اشتد الغلاء، وكثرت اللصوص، حتّى تحارس الناس بالليل بالبوقات. انتهى.
وفيها قتل أبو عبد الله البريدي أخاه أبا يوسف لكونه عامل عليه ابن بويه ونسبه إلى الظلم.
ولم يحج الركب لموت القرمطي الطاغية، أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الجنّابي، في رمضان بهجر، من الجدري. أهلكه الله [1] به، فلا رحم الله فيه مغرز إبرة. وقام بعده أبو القاسم الجنّابي. قاله في «العبر» .
وفيها توفي الحافظ ابن عقدة أبو العبّاس، أحمد بن محمد بن سعيد الكوفي الشيعي [2] ، أحد أركان الحديث. سمع من [3] الحسن بن علي بن عفّان، ويحيى بن أبي طالب، وخلق لا يحصون. ومنه الطبراني، وابن عدي، والدارقطني، وغيرهم. ولم يرحل إلى غير الحجاز وبغداد، لكنه كان آية من الآيات في الحفظ، حتّى قال الدارقطني: أجمع أهل بغداد أنه لم ير بالكوفة من زمن ابن مسعود، رضي الله عنه، إلى زمن ابن عقدة أحفظ منه.
وسمعته يقول: أنا أجيب في ثلاثمائة ألف حديث من حديث أهل البيت وبني هاشم.
__________
[1] سقط لفظ الجلالة من «العبر» (2/ 235) .
[2] مترجم في «العبر» (2/ 236) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 340- 355) .
[3] لفظة «من» لم ترد في الأصل وأثبتها من المطبوع.(4/179)
وروي عن ابن عقدة قال: أحفظ مائة ألف حديث بإسنادها، وأذاكر بثلاثمائة ألف حديث.
وقال أبو سعيد الماليني: تحول ابن عقدة مرّة، فكانت كتبه ستمائة حمل.
قال في «العبر» : قلت: ضعّفوه، واتهمه بعضهم بالكذب.
وقال أبو عمر بن حيّويه [1] : كان يملي مثالب الصحابة، فتركته. انتهى.
وعقدة: لقب أبيه.
وفيها محمد بن بشر، أبو بكر الزّبيري العكري [2] روى عن بحر بن نصر الخولاني وجماعة، وعاش أربعا وثمانين سنة.
وفيها محمد [بن الحسين] بن الحسن أبو بكر القطّان النيسابوري [3] في شوال. روى عن عبد الرّحمن بن بشر، وأحمد بن يوسف، والسّلمي، والكبار.
وفيها محمد بن محمد بن أبي حذيفة، أبو علي الدمشقي [4] المحدّث. روى عن أبي أميّة الطّرسوسي وطبقته.
وفيها الإمام ابن ولّاد النحوي، وهو أبو العبّاس أحمد بن محمد بن الوليد التميمي المصري [5] ، مصنّف كتاب «الانتصار لسيبويه على المبرد» وكان شيخ الديار المصرية في العربية مع أبي جعفر النّحّاس [6] .
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «أبو عمران حبوية» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» وانظر «سير أعلام النبلاء» (16/ 409) .
[2] مترجم في «العبر» (2/ 237) وقد تحرفت «العكري» فيه إلى «العكبري» فتصحّح، و «سير أعلام النبلاء» (15/ 314) .
[3] مترجم في «العبر» (2/ 237) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 318- 319) وما بين حاصرتين منه.
[4] مترجم في «العبر» (2/ 237) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 331- 332) .
[5] مترجم في «العبر» (2/ 237) و «إنباه الرواة» (1/ 99) .
[6] في الأصل والمطبوع: «النخاس» وهو تصحيف.(4/180)
سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة
فيها حلف توزون أيمانا صعبة للمتقي لله [1] فسار المتقي من الرّقّة واثقا بأيمانه، في المحرم، فلما قرب من الأنبار، جاء توزون، وتلقاه وقبّل الأرض، وأنزله في مخيّم ضربه له، ثم قبض على الوزير أبي الحسين بن أبي [2] علي بن مقلة، وكحل المتقي لله، فسمل عينيه، وأدخل بغداد مسمولا مخلوعا. وتوفي في شعبان سنة [خمسين، وقيل سنة سبع] [3] وخمسين وثلاثمائة وله ستون سنة، وبويع عبد الله بن المكتفي ولقب المستكفي بالله فلم يحل الحول [4] على توزون، واستولى أحمد بن بويه على واسط، والبصرة، والأهواز، فسار توزون لحربه، فدام القتال والمنازلة بينهما أشهرا، وابن بويه في استظهار، ومرض توزون بعلّة الصّرع، واشتد الغلاء على ابن بويه، فردّ إلى الأهواز، ورد توزون إلى بغداد، وقد زاد به الصّرع.
وفيها تملك سيف الدولة بن حمدان حلب وأعمالها، وهرب متولّيها يانس المؤنسي إلى مصر، فجهز الإخشيذ جيشا، فالتقاهم سيف الدولة على
__________
[1] في «العبر» : «للمتقي بالله» .
[2] لفظة «أبي» لم ترد في الأصل وأثبتها من المطبوع.
[3] ما بين حاصرتين سقط من الأصل وأثبته من المطبوع.
[4] في الأصل: «فأحيل الحول» وأثبت لفظ المطبوع وهو موافق لما في «العبر» مصدر المؤلف.(4/181)
الرّستن [1] فهزمهم، وأسر منهم ألف نفس، وافتتح الرّستن، ثم سار إلى دمشق فملكها، فسار الإخشيذ ونزل على طبريّة، فخامر خلق من عسكر سيف الدولة إلى الإخشيذ، فردّ سيف الدولة، وجمع وحشد، فقصده الإخشيذ، فالتقاه بقنسرين وهزمه، ودخل حلب، وهرب سيف الدولة.
وأما بغداد، فكان فيها قحط لم ير مثله، وهرب الخلق، وكان النساء يخرجن عشرين وعشرا، يمسك بعضهنّ ببعض يصحن: الجوع الجوع، ثم تسقط الواحدة بعد الواحدة ميتة، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. 2: 156 قاله في «العبر» [2] .
وفي شوال مات أبو عبد الله البريدي، وقام أخوه أبو الحسين مقامه، وكان البريدي هذا على ما قال ابن الفرات ظلوما عسوفا، وكان أعظم أسباب الغلاء ببغداد، لأنه صادر النّاس في أموالها، وجعل على كل كرّ [3] من الحنطة، والشعير خمسة دنانير، فبلغ ثمن كرّ الحنطة ثلاثمائة دينار وستة عشر دينارا، ثم افتتح الخراج في آذار، وحصد أصحابه الحنطة والشعير وحملوه بسنبله إلى منازلهم، ووظف الوظائف على أهل الذّمة، وعلى سائر المكيلات، وأخذ أموال التجار غصبا، وظلمهم ظلما، لم يسمع بمثله، واستتر أكثر العمال لعظم ما طالبهم به، فسبحان الفعّال لما يريد.
وفيها توفي الحافظ، حافظ فلسطين، أبو بكر أحمد بن عمرو بن جابر الطحّان [4] بالرّملة. رحل إلى الشام، والجزيرة، والعراق. وروى عن العبّاس بن الوليد البيروتي وطبقته. وعنه ابن جميع وطبقته.
__________
[1] الرستن: بلدة بين حمص وحماة على الضفة الشرقية لنهر الميماس المعروف الآن بالعاصي.
وقد نسب إليها من العلماء أبو عيسى حمزة بن سليم العنبسي الرستني. انظر خبرها في «معجم البلدان» (3/ 43) .
[2] (2/ 237- 239) وذكر الخبر مختصرا العامري في «غربال الزمان» ص (292) .
[3] سبق أن ذكرت بأن الكرّ مكيال من مكاييل أهل العراق انظر ص (167) .
[4] مترجم في «العبر» (2/ 239) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 461- 463) .(4/182)
وفيها- على ما قال ابن بردس [1]- الحافظ محدّث الشام، خيثمة بن سليمان بن حيدرة الأطرابلسي [2] أبو الحسن أحد الثقات. روى عن أحمد بن الفرج وطبقته، وعنه: ابن جميع، وابن مندة، وغيرهما.
قال الخطيب: ثقة ثقة.
وفيها قال ابن ناصر الدّين:
مثل الإمام المغربي حزّ الأدب ... ذاك الفتى محمّد أبو العرب
كان ثقة، حافظا، نبيلا. كتب بيده ثلاثة آلاف كتاب وخمسمائة كتاب [3] .
وفيها أبو علي اللّؤلؤي محمد بن أحمد بن عمرو البصري [4] راوية «السنن» عن أبي داود. لزم أبا داود مدة طويلة يقرأ «السنن» للناس.
__________
[1] قلت: في الأصل والمطبوع: «ابن درباس» والصواب «ابن بردس» وهو إسماعيل بن محمد بن بردس، صاحب «نظم وفيات تذكرة الحفاظ» الذي ينقل عنه المؤلف.
[2] مترجم في «تذكرة الحفاظ» (3/ 858- 860) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 412- 416) .
[3] مترجم في «سير أعلام النبلاء» (15/ 394- 395) وهو صاحب كتاب «طبقات علماء إفريقية وتونس» المطبوع بتحقيق الأستاذين علي الشابي ونعيم حسن اليافي.
[4] مترجم في «العبر» (2/ 240) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 307- 308) .(4/183)
سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة
فيها كما قال في «الشذور» دخل معز الدولة، وأبو الحسين بن بويه على المستكفي، فظنهما يريدان تقبيل يده، فناولهما يده فنكساه عن السرير، ووضعا عمامته في عنقه وجرّاه، ونهض أبو الحسين وحمل المستكفي راجلا إلى دار أبي الحسن، فاعتقل وخلع من الخلافة. انتهى [1] .
أي وسملت عيناه أيضا، وحبس في دار الخلافة إلى أن توفي في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة، وسنه ستة وأربعون سنة.
وقال في «الشذور» : وفي هذه السنة اشتد الغلاء حتّى ذبح الصبيان وأكلوا، وأكل الناس الجيف، وصارت العقار والدّور تباع برغفان خبز، واشتري لمعز الدولة كرّ دقيق بعشرين ألف درهم. انتهى [2] .
وفيها اصطلح سيف الدولة [3] والإخشيذ، وصاهره، وتقرر لسيف الدولة حلب، وحمص، وأنطاكية.
وفيها تداعت بغداد للخراب من شدة القحط والفتن والجور.
وهلك توزون بعلة الصّرع في المحرم ب «هيت» .
وفيها توفي كما قال ابن ناصر الدّين:
__________
[1] انظر الخبر برواية أخرى في «المنتظم» (6/ 342- 343) و «النجوم الزاهرة» (3/ 285) .
[2] انظر الخبر برواية أخرى عند اليافعي في «غربال الزمان» ص (293) .
[3] تحرفت في المطبوع إلى «سيف الدلة» .(4/184)
بعد فتى يس المضعّف ... الهرويّ أحمد المصنّف
وهو أحمد بن محمد بن ياسين الهروي [1] الحافظ الحداد أبو إسحاق مصنف «تاريخ هراة» وهو ليس بالقوي.
وفيها أبو الفضل أحمد بن عبد الله بن نصر بن هلال السّلمي الدمشقي [2] في جمادى الأولى، وله بضع وتسعون سنة. تفرد بالرواية عن جماعة، وحدّث عن موسى بن عامل المري ومحمد بن إسماعيل بن علية وطبقتهما.
وفيها الصّنوبري الشاعر، أبو بكر أحمد بن محمد بن الحسين الضبّي الحلبي [3] وشعره في الذّروة العليا.
وفيها الحسين بن يحيى أبو عبد الله المتّوثي القطّان [4] في جمادى الآخرة، ببغداد، وله خمس وتسعون سنة. روى عن أحمد بن المقدام العجلي وجماعة، وآخر من حدّث عنه هلال الحفّار.
وفيها عثمان بن محمد أبو الحسين الذهبي البغدادي [5] بحلب. روى عن أبي بكر بن أبي الدّنيا وطبقته.
وفيها علي بن إسحاق [6] المادرائي أبو الحسن [7] محدّث البصرة. روى عن علي بن حرب وطائفة.
__________
[1] مترجم في «سير أعلام النبلاء» (15/ 339- 340) وقد تحرفت سنة وفاته في «ميزان الاعتدال» (1/ 149) إلى سنة (234) فتصحح فيه.
[2] مترجم في «العبر» (2/ 243) و «مختصر تاريخ دمشق» لابن منظور (3/ 147- 148) طبع دار الفكر بدمشق.
[3] مترجم في «العبر» (2/ 243) و «مختصر تاريخ دمشق» لابن منظور (3/ 237- 238) .
[4] مترجم في «العبر» (2/ 243) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 319- 320) .
[5] مترجم في «العبر» (2/ 244) .
[6] في المطبوع: «وفيها ابن إسحاق» .
[7] مترجم في «العبر» (2/ 244) و «الأنساب» (11/ 64) .(4/185)
وفيها قاضي القضاة أبو الحسن أحمد بن عبد الله الخرقي، ولي قضاء واسط، ثم قضاء مصر، ثم قضاء بغداد، في سنة ثلاثين، وكان قليل العلم إلى الغاية، إنما كان هو وأبوه وأهله من كبار العدول، فتعجب الناس من ولايته، لكنه ظهرت منه صرامة وعفّة، وكفاءة. قاله في «العبر» [1] .
وفيها الوزير العادل أبو الحسن علي بن عيسى بن داود بن الجرّاح البغدادي الكاتب، وزر مرّات للمقتدر، ثم للقاهر، وكان محدّثا، عالما، ديّنا، خيّرا، كبير الشأن، عليّ [2] الإسناد. روى عن أحمد بن بديل، والحسن الزّعفراني، وطائفة، وعاش تسعين سنة. وكان في الوزراء كعمر بن عبد العزيز في الخلفاء.
قال أحمد بن كامل القاضي: سمعت الوزير علي بن عيسى يقول:
كسبت سبعمائة ألف دينار، أخرجت منها في وجوه البرّ ستمائة ألف دينار.
آخر من روى عنه ابنه عيسى في «أماليه» . قاله في «العبر» [3] .
وفيها الإمام العلّامة الثقة أبو القاسم الخرقي عمر بن الحسين البغدادي الحنبلي صاحب «المختصر» [4] في الفقه، بدمشق، ودفن بباب الصغير. قاله في «العبر» [5] .
__________
[1] (2/ 242- 243) .
[2] في «العبر» : «عالي» .
[3] (2/ 244) .
[4] طبع هذا المختصر أول مرة في دمشق عام (1377) هـ وقام بتحقيقه والدي الأستاذ الشيخ عبد القادر الأرناؤوط حفظه الله بالاشتراك مع الأستاذ الشيخ عبد الرحمن الباني، ثم أعيد طبعه بطريقة التصوير في المكتب الإسلامي بدمشق عام (1383) هـ، ولما انتقل المكتب الإسلامي إلى بيروت وظن صاحبه السيد زهير الشاويش بأن لا رقيب عليه ولا حسيب، قام بإعادة تصويره من جديد وأثبت اسمه كمحقّق للكتاب على غلافه الخارجي وكذلك فعل في معظم الكتب التي قام بتحقيقها للمكتب الإسلامي، والدي حفظه الله بالاشتراك مع زميله الأستاذ الشيخ شعيب الأرناؤوط!!.
[5] (2/ 244- 245) .(4/186)
وقال ابن أبي يعلى في «طبقاته» [1] : قرأ [العلم] على من قرأ على أبي بكر المرّوذي، وحرب الكرماني، وصالح وعبد الله ابني إمامنا. له المصنفات الكثيرة في المذهب، لم ينتشر منها إلّا «المختصر» في الفقه، لأنه خرج من مدينة السلام لما ظهر فيها سبّ الصحابة رضوان الله عليهم، وأودع كتبه في درب سليمان، فاحترقت الدار التي كانت فيها، ولم تكن انتشرت لبعده عن البلد.
قرأ عليه جماعة من شيوخ المذهب، منهم: أبو عبد الله بن بطة، وأبو الحسن التميمي، وأبو الحسين [2] بن سمعون [3] وغيرهم.
قرأت بخط أبي إسحاق البرمكي، أن عدد مسائل «المختصر» ألفان وثلاثمائة مسألة. انتهى ملخصا.
وقال ابن خلّكان [4] : وكان والده أيضا من الأعيان. روى عن جماعة، رحمهم الله تعالى أجمعين.
والخرقي: بكسر الخاء المعجمة، وفتح الراء وبعدها قاف، هذه النسبة إلى بيع الخرق والثياب. انتهى.
وفيها الحافظ أبو علي محمد بن سعيد [5] القشيري الحرّاني، نزيل الرّقّة ومؤرّخها. روى عن سليمان بن سيف الحرّاني وطبقته، وعنه:
__________
[1] (2/ 75) .
[2] في الأصل والمطبوع: «أبو الحسن» وهو خطأ والتصحيح من «طبقات الحنابلة» لابن أبي يعلى، وانظر «المنهج الأحمد» (2/ 107 و 164) طبعة نويهض.
[3] تحرّف في «طبقات الحنابلة» لابن أبي يعلى إلى «ابن شمعون» فيصحّح فيه.
[4] في «وفيات الأعيان» (3/ 441) .
[5] في الأصل: «محمد بن سعد» وهو خطأ وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب. انظر «طبقات الحفاظ» ص (350) .(4/187)
محمد [بن عبد الله] [1] بن جامع [2] الدهان، وغندر البغدادي، وابن جميع، وهو ثقة ثبت.
وفيها الإخشيذ [3] أبو بكر محمد بن طغج [4] بن جف التركي الفرغاني، صاحب مصر، والشام، ودمشق، والحجاز، وغيرها. وصاحب سرير الذهب، والإخشيذ لقب لكل من ملك فرغانة، وكان الإخشيذ ملكها، وولّاه خلفاء العباسيين الأمصار حتّى عظم شأنه.
قال في «العبر» [5] : والإخشيذ بالتركي: ملك الملوك، وطغج [4] : عبد الرحمن. وهو من أولاد ملوك فرغانة، وكان جدّه جف من التّرك الذين حملوا إلى المعتصم، فأكرمه، وقرّبه، ومات في العام الذي قتل فيه المتوكل، فاتصل طغج بابن طولون، وكان من كبار أمرائه، وكان الإخشيذ شجاعا، حازما، يقظا، شديد البطش، لا يكاد أحد يجرّ قوسه. توفي بدمشق في ذي الحجة، وله ست وستون سنة، ودفنوه ببيت المقدس، وكان له ثمانية آلاف مملوك [6] . انتهى ما قاله في «العبر» .
وقال ابن خلّكان [7] : وذكر محمد بن عبد الملك الهمذاني في تاريخه
__________
[1] زيادة من «تذكرة الحفاظ» (3/ 846) .
[2] تحرّفت في الأصل إلى «جائع» وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[3] تصحفت في الأصل والمطبوع في هذا المكان وما قبله وما بعده من الكتاب وفي «وفيات الأعيان» (5/ 56) وما بعدها إلى «الإخشيد» والتصويب من «العبر» (2/ 245) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 365) و «النجوم الزاهرة» (3/ 256) وفيه قال ابن تغري بردي: الإخشيذ:
بكسر الهمزة وسكون الخاء المعجمة، وكسر الشين المعجمة وبعدها ياء ياء ساكنة مثناة من تحتها، ثم ذال معجمة، وتفسيره بالعربي ملك الملوك.
[4] تحرف في الأصل إلى «طنج» وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
قال ابن تغري بردي في «النجوم الزاهرة» (3/ 256) : طغج: بضم الطاء المهملة، وسكون الغين المعجمة، وبعدها جيم.
[5] (2/ 245) .
[6] قوله: «وكان له ثمانية آلاف مملوك» لم يرد في «العبر» الذي بين يدي وإنما ورد في «وفيات الأعيان» نقلا عن «عيون السير» للهمذاني.
[7] في «وفيات الأعيان» (5/ 59) .(4/188)
الصغير الذي سمّاه «عيون السّير» أن جيشه كان يحتوي على أربعمائة ألف رجل، وأنه كان جبانا، وله ثمانية آلاف مملوك يحرسه في كل ليلة ألفان منهم، ويوكّل بجانب خيمته الخدم إذا سافر، ثم لا يثق حتّى يمضي إلى خيم الفرّاشين فينام فيها.
ولم يزل على مملكته وسعادته إلى أن توفي في الساعة الرابعة من يوم الجمعة ثاني عشري [ذي] الحجة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة بدمشق، وحمل تابوته إلى بيت المقدس فدفن به.
ثم قال ابن خلّكان: وهو أستاذ كافور الإخشيذي، وفاتك المجنون.
ثم قام كافور المذكور بتربية ابني مخدومه أحسن قيام، وهما أبو القاسم أنوجور، وأبو الحسن علي. انتهى ملخصا.
وفيها القائم بأمر الله أبو القاسم [نزار بن المهدي] [1] عبيد الله، الدّعيّ الباطنيّ، صاحب المغرب، وقد سار مرتين إلى مصر ليملكها، فما قدّر له، وكان مولده بسلميّة [2] في حدود الثمانين ومائتين، وقام بعده ابنه المنصور إسماعيل.
وفيها الشّبلي، أبو بكر، دلف بن جحدر، وقيل: جعفر بن يونس- وهذا هو المكتوب على قبره- الزاهد المشهور، صاحب الأحوال والتصوف.
قرأ في أول أمره الفقه، وبرع في مذهب مالك، ثم سلك، وصحب الجنيد، وكان أبوه من حجّاب الدولة.
قال السخاوي في «تاريخه» [3] : أصله من أسروشنة، من قرية من قراها
__________
[1] ما بين حاصرتين سقط من الأصل وأثبته من المطبوع و «العبر» (2/ 246) .
[2] سلمية: بلدة قريبة من حماة في أرض سورية، والبعض يضبطها ب «سلمية» . انظر خبرها في «معجم البلدان» (3/ 240- 241) .
[3] قلت: وقد ساق ترجمته السلمي في «طبقات الصوفية» ص (337- 348) . طبقا لما أورده المؤلف في كتابه.(4/189)
يقال لها شبليّة [1] ومولده بسرّ من رأى. كان خاله أمير الأمراء بالإسكندرية، وكان الشّبلي حاجب الموفّق، وكان أبوه حاجب الحجّاب، وكان الموفق جعل لطعمته دماوند [2] ثم حضر الشّبلي يوما مجلس خير النسّاج، فتاب فيه ورجع إلى دماوند [2] ، وقال: أنا كنت حاجب الموفق، وكان ولايتي بلدتكم هذه، فاجعلوني في حلّ، فجعلوه في حلّ، وجهدوا أن يقبل منهم شيئا فأبى، وصار بعد ذلك واحد زمانه حالا ويقينا.
وقال شيخه الجنيد: لا تنظروا إلى الشّبليّ بالعين التي ينظر بعضكم إلى بعض، فإنه عين من عيون الله [3] .
وكان الشّبليّ فقيها عالما، كتب الحديث الكثير.
وقال محمد بن الحسن البغدادي: سمعت الشّبلي يقول: أعرف من لم يدخل في هذا الشأن حتّى أنفق جميع ملكه، وغرّق في هذه الدّجلة التي ترون سبعين قمطرا مكتوبا بخطه، وحفظ «الموطأ» وقرأ بكذا وكذا قراءة، عنى به نفسه [4] .
وقال: كتبت الحديث عشرين سنة، وجالست الفقهاء عشرين سنة.
وصحب الجنيد ومن في عصره، وصار أوحد العصر حالا وعلما، وتوفي في ذي الحجة، ودفن بالخيزرانية ببغداد بقرب الإمام الأعظم، وله سبع وثمانون سنة، وورد أنه سئل إذا اشتبه على المرأة دم الحيض بدم الاستحاضة كيف تصنع؟ فأجاب بثمانية عشر جوابا للعلماء. انتهى ملخصا.
__________
[1] انظر «آثار البلاد وأخبار العباد» للقزويني ص (540- 541) .
[2] كذا في الأصل والمطبوع: «دماوند» ولم أقف على ذكر لها بهذا الاسم في المصادر والمراجع التي بين يدي، ولعلها محرفة من «دنباوند» التي تعرف ب «دمندان» والله أعلم.
انظر «آثار البلاد وأخبار العباد» للقزويني ص (192) و «معجم البلدان» (2/ 471) و «الأعلام» (2/ 341) .
[3] أقول: هذه العبارة من شطحات الصوفية. (ع) .
[4] أقول: وهذه العبارات أيضا من الشطحات، ومن الأمور التي لا يجوز فعلها. (ع) .(4/190)
سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة
فيها تملّك سيف الدولة بن حمدان دمشق بعد موت الإخشيذ، فجاءته جيوش مصر فدفعته إلى الرّقّة، بعد حروب وأمور، واصطلح معز الدولة بن بويه، وناصر الدولة بن حمدان.
وفيها كما قال في «الشذور» ملكت الدّيالم الجانب الشرقي- أي من بغداد- ونهبت سوق يحيى وغيره، فخرج الناس حفاة مشاة من بغداد إلى ناحية عكبرا [1] هاربين، النساء والصبيان، فتلفوا من الحرّ والعطش، حتّى إن امرأة كانت تنادي في الصحراء: أنا ابنة فلان، ومعي جوهر وحليّ بألف دينار، رحم الله من أخذه وسقاني شربة ماء، فما التفت إليها أحد فوقعت ميتة [2] .
وفيها توفي أبو العبّاس بن القاص، أحمد بن أبي أحمد الطبري الشافعي، وله مصنفات مشهورة. تفقه على ابن سريج. وتفقه عليه أهل طبرستان، وتوفي بطرسوس.
قال ابن السمعاني [3] : والقاصّ هو الذي يعظ ويذكر القصص.
عرف أبوه بالقاصّ لأنه دخل بلاد الديلم وقصّ على الناس الأخبار
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «عكبرى» وانظر «معجم البلدان» (4/ 142) .
[2] انظر الخبر بتوسع في «المنتظم» لابن الجوزي (6/ 349- 350) .
[3] انظر «الأنساب» (10/ 20) و (10/ 24- 25) .(4/191)
المرغّبة في الجهاد، ثم دخل بلاد الرّوم غازيا، فبينما هو يقصّ لحقه وجد وخشية فمات، رحمه الله تعالى. قاله النووي في «تهذيبه» [1] .
وقال ابن خلّكان [2] : إن صاحب الترجمة- وهو أبو العباس، هو الذي مات في حالة من الوجد والخشية [3]- وله تصانيف صغيرة الحجم كبيرة الفائدة [4] ، منها: «التلخيص» و «المفتاح» و «أدب القضاء» [5] وكتاب «دلائل القبلة» [6] وأكثره تاريخ وحكايات عن أحوال الأرض وعجائبها وتصنيف في إحرام المرأة، وتصنيف في الكلام على قوله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا عمير ما فعل النّغير» [7] . وفيها المطيري [8] المحدّث، أبو بكر، محمد بن جعفر الصيرفي ببغداد، وكان ثقة مأمونا. روى عن الحسن بن عرفة وطائفة.
وفيها الصّولي، أبو بكر محمد بن يحيى البغدادي، الأديب الأخباري العلّامة، صاحب التصانيف. أخذ الأدب عن المبرّد، وثعلب.
__________
[1] انظر «تهذيب الأسماء واللغات» (2/ 252- 253) طبعة إدارة الطباعة المنيرية، وقد نقل المؤلف عنه بتصرف.
[2] في «وفيات الأعيان» (1/ 68) .
[3] في المطبوع: «الغشية» .
[4] في «وفيات الأعيان» : «كثيرة الفائدة» .
[5] في «وفيات الأعيان» : «أدب القاضي» .
[6] لم يرد ذكر لهذا الكتاب في «وفيات الأعيان» الذي بين يدي.
[7] قطعة من حديث رواه البخاري رقم (6203) في الأدب: باب الانبساط إلى الناس، و (6203) باب الكنية للصبي وقبل أن يولد للرجل، ومسلم رقم (2150) في الأدب: باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته وحمله إلى صالح يحنكه، وجواز تسميته يوم ولادته، واستحباب التسمية بعبد الله وإبراهيم وسائر أسماء الأنبياء عليهم السلام، وأبو داود رقم (4969) في الأدب: باب ما جاء في الرجل يتكنى وليس له ولد، والترمذي رقم (333) في الصلاة: باب ما جاء في الصلاة على البسط.
[8] في الأصل والمطبوع: «الطبري» وهو خطأ والتصحيح من «العبر» (2/ 247) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 301) .(4/192)
وروى عن أبي داود السّجستاني وطائفة. وروى عنه الدارقطني وغيره، ونادم غير واحد من الخلفاء، وجدّه الأعلى هو صول، ملك جرجان.
وكان الصولي حسن الاعتقاد، جميل الطريقة، يضرب به المثل في لعب الشطرنج، ويعتقد كثيرون أنه الذي وضعه، وإنما وضعه صصّه بن داهر [1] وقيل: ابن يلهب، وقيل: ابن قاسم، وضعه لملك الهند شهرام [2] ، واسمه بلهيث، وقيل: ماهيت، وكان أزدشير بن بابك [3] أول ملوك الفرس الأخيرة قد وضع النرد، ولذلك قيل له: نردشير، لأنهم نسبوه إلى واضعه المذكور، وجعله مثالا للدّنيا وأهلها، فرتب الرقعة اثني عشر بيتا، بعدد شهور السنة، ومن الجهة الأخرى اثني عشر بيتا، بعدد البروج [4] ، وجعل القطع ثلاثين، بعدد أيام الشهر، وجعل الفصوص فيما يرمى به من كل جهتين [5] سبعة بعدد أيام الأسبوع، وجعل ما يأتي به اللاعب مثالا للقضاء والقدر، فتارة له وتارة عليه، فافتخرت ملوك الفرس بذلك، فلما وضع صصه الشطرنج قضت حكماء ذلك العصر بترجيحه على النرد لأمور يطول شرحها، ويقال: إن صصّه لما وضعه وعرضه على ملك الهند المذكور، أعجبه وفرح به كثيرا، وأمر أن يكون في بيوت [6] الديانة، ورآه أفضل ما علم، لأنه آلة للحرب وعزّ للدّين والدّنيا، وأساس لكل عدل، فأظهر الشكر [والسرور] [7] على ما أنعم عليه به في ملكه، وقال له: اقترح عليّ ما تشتهي، فقال له: اقترحت أن
__________
[1] في «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (4/ 590) و (5/ 135) : «صصه بن ذاهر» بالذال، وما جاء في كتابنا موافق لما في «وفيات الأعيان» (4/ 357 و 358) و «مرآة الجنان» (2/ 320) .
[2] في الأصل: «شيرامر» وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب، وانظر «وفيات الأعيان» (4/ 357) .
[3] في «وفيات الأعيان» : «أردشير بن بابك» وانظر ص (111) .
[4] قوله: «ومن الجهة الأخرى اثني عشر بيتا، بعدد البروج» لم يرد في «وفيات الأعيان»
[5] في الأصل: «من كل جهة» وأثبت ما في المطبوع.
[6] في الأصل والمطبوع: «في بيت» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» .
[7] سقطت من الأصل والمطبوع واستدركتها من «وفيات الأعيان» .(4/193)
تضع حبة قمح في البيت الأول، ولا تزال تضعفها [1] حتّى تنتهي إلى آخرها، فمهما بلغ تعطيني، فاستصغر الملك ذلك، وأنكر عليه كونه قابله بالنزر [اليسير] ، وقد كان أضمر له شيئا كثيرا، فقال: ما أريد إلا هذا، فأجابه إلى مطلوبه، وتقدم له به، فلما حسبه أرباب الديوان قالوا: ما عندنا ولا في ملكنا ما يفي به ولا ما يقاربه، فكانت أمنيته أعجب من وضعه، وكيفية تضعيفه، وما انتهى إليه التضعيف مما شاع وذاع فلا نطيل به، ولكن ما انتهى إليه التضعيف على ما قاله ابن الأهدل [2] وهو آخر بيت من أبيات الرقعة الأربعة والستين، إلى ستة عشر ألف مدينة وثلاثمائة وأربع وثمانين مدينة.
وقال ابن الأهدل أيضا: ومن المعلوم قطعا أن الدّنيا ليس فيها مدن أكثر من هذا العدد، فإن دور كرة الأرض معلوم بطريق الهندسة، وهو ثمانية آلاف فرسخ، بحيث لو وضعنا طرف حبل على أيّ موضع من الأرض وأدير الحبل على كرة الأرض ومسح الحبل، كان أربعة وعشرين ألف ميل، وهي ثمانية آلاف فرسخ، وذلك قطعي لا شك فيه.
وقد أراد المأمون أن يقف على حقيقة ذلك، فسأل بني موسى بن شاكر [3] وكانوا قد انفردوا بعلم الهندسة، فقالوا: نعم هذا قطعي، فسألهم تحقيقه معاينة، فسألوا عن صحراء مستوية، فقيل صحراء سنجار، ووطأة الكوفة، فخرجوا إليها، ووقفوا في موضع واحد، ثم أخذوا ارتفاع القطب الشمالي وضربوا في ذلك الموضع وتدا، وربطوا حبلا طويلا ثم مشوا إلى الجهة الشمالية على الاستواء من غير انحراف إلى يمين أو شمال بحسب الإمكان، فلما فرغ الحبل نصبوا وتدا آخر في الأرض وربطوا فيه حبلا آخر،
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «تضعها» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» (4/ 357) و «مرآة الجنان» (2/ 320) .
[2] انظر في هذا الخبر أيضا «مرآة الجنان» لليافعي (2/ 321- 322) .
[3] انظر «إخبار العلماء بأخبار الحكماء» للقفطي ص (208) مصوّرة مكتبة المتنبي في القاهرة، ففيه ترجمة موسعة له.(4/194)
ومضوا إلى جهة الشمال [1] حتّى انتهوا إلى موضع أخذوا فيه ارتفاع القطب المذكور، فوجدوه قد زاد على الارتفاع الأول درجة، فمسحوا ذلك القدر الذي قدّروه من الأرض بالحبال، فبلغ ستة وستين ميلا وثلثي ميل، وجميع الفلك ثلاثمائة وستون درجة، لأن الفلك مقسوم باثني عشر برجا، وكل برج ثلاثون درجة، فضربوا عدد درج الفلك الثلاثمائة والستين في ستة وستين ميلا وثلثين التي هي حصة كل درجة، فكانت الجملة أربعة وعشرين ألف ميل، وهي ثمانية آلاف فرسخ.
قال: فعلى هذا يكون دور كرة الأرض مسيرة ألف مرحلة، وذلك مسيرة ثلاث سنين إلّا ثمانين يوما، بسير النهار دون الليل، لأن المرحلة ثمانية فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، وهذا ينافي ما اشتهر أن الأرض مسيرة خمسمائة سنة، ويعلم من ذلك أيضا أن في كل ثلاث مراحل إلا خمسة أميال، وثلث في السير إلى جهة الشمال، يرتفع القطب درجة ويكون عرض تلك البلد أزيد من التي ابتدئ السير منها بدرجة، ومما يدل على هذا أن عرض المدينة المشرّفة يزيد على عرض مكّة المعظّمة ثلاث درج، والله أعلم. انتهى ما أورده ابن الأهدل ملخصا.
وقال المسعودي: ذكر لي أن [2] الصوليّ في بدء دخوله على الإمام المكتفي، وقد كان ذكر له تخريجه في اللعب بالشطرنج، وكان الماورديّ اللاعب متقيدا عنده، متمكنا من قلبه، معجبا به للعبه، فلما لعبا جميعا بحضرة المكتفي حسن رأيه في الماورديّ، وتقدم على نصرته، وتشجيعه، وتنبيهه، حتّى أدهش ذلك الصوليّ في أول وهلة، فلما اتصل اللعب بينهما، وجمع له الصولي متانته، وقصد قصده، غلبه غلبا لا يكاد يرد عليه شيء،
__________
[1] لفظة «الشمال» لم ترد في الأصل وأثبتها من المطبوع.
[2] لفظة «أن» لم ترد في الأصل وأثبتها من المطبوع.(4/195)
وتبين حسن لعب الصوليّ للمكتفي، فعدل عن موالاة الماوردي، وقال: عاد ماء وردك بولا.
وصنّف الصولي المصنفات الحسان، منها: كتاب «الوزراء» وكتاب «الورقة» وكتاب «أخبار القرامطة» وكتاب «الغرر» وكتاب «أخبار أبي عمرو بن العلاء» وجمع أخبار جماعة من الشعراء، ورتبه على حروف المعجم، وكلهم من المحدثين.
وكان ينادم الخلفاء، وكان أغلب فنونه أخبار الناس، وله رواية واسعة، ومحفوظات كثيرة، وتوفي بالبصرة مستترا، لأنه روى خبرا في حق عليّ، كرّم الله وجهه، فطلبه الخاصة والعامة، فلم يقدروا عليه، وكان قد خرج من بغداد لضائقة لحقته.
وفيها الهيثم بن كليب، الحافظ أبو سعيد الشاشي، صاحب «المسند» ومحدّث ما وراء النهر. روى عن عيسى بن أحمد البلخي، وأبي عيسى الترمذي، والدّوري، وآخرين. وعنه علي بن أحمد الخزاعي، ومنصور بن نصر الكاغدي، وآخرون، وهو ثقة.(4/196)
سنة ست وثلاثين وثلاثمائة
فيها كما قال في «الشذور» ظهر كوكب عظيم ذو ذنب منتشر، طوله نحو ذراعين، فبقي ثلاثة عشر يوما، ثم اضمحل. انتهى.
وفيها ظفر المنصور العبيدي بمخلد بن كيداد، وقتل قوّاده، ومزّق جيشه.
وفيها توفي الحافظ العلم الثقة، أبو الحسين، أحمد بن المنادي، واسم المنادي جعفر بن محمد بن جعفر بن أبي داود عبيد الله البغدادي، وله ثمانون سنة، صنّف، وجمع، وسمع من [جدّه] [1] ، وغيره. ومنه: أحمد بن نصر الشّذائي، وغيره.
قال الخطيب [2] : كان صلب الدّين [خشنا] ، شرس الأخلاق، مع كونه ثقة.
وفيها حاجب بن أحمد بن يرحم، أبو محمد، الطّوسي، وهو معمّر، ضعيف الحديث. زعم أنه ابن مائة وثمان سنين، وحدّث عن محمد بن رافع، والذهلي، والكبار.
__________
[1] لفظة «جدّه» سقطت من الأصل والمطبوع واستدركتها من «العبر» (2/ 248) .
[2] في «تاريخ بغداد» (4/ 69) وقد نقل المؤلف عنه بتصرف، وما بين حاصرتين زيادة منه.(4/197)
قاله في «العبر» [1] .
وقال في «المغني» [2] : حاجب بن أحمد الطّوسي، شيخ مشهور، لقيه ابن مندة، ضعفه الحاكم وغيره في اللّقي [3] . انتهى.
وفيها أبو العبّاس الأثرم، محمد بن أحمد بن حمّاد المقرئ البغدادي، وله ست وتسعون سنة. روى عن الحسن بن عرفة، وعمر بن شبّة [4] والكبار، وتوفي بالبصرة.
وفيها الحكيمي- مكبّرا نسبة إلى حكيم جد- محمد بن أحمد بن إبراهيم الكاتب ببغداد في ذي الحجة. روى عن زكريا بن يحيى المروزي وطبقته.
وفيها الميداني، أبو علي [محمد بن أحمد] [5] بن محمد بن معقل النيسابوري، في رجب فجأة، وكان عنده جزء عن الذّهلي، وهو الذي تفرّد به سبط السّلفي.
وفيها أبو طاهر المحمّد أباذي- نسبة إلى محمّد أباذ محلة خارج نيسابور [6]- محمد بن الحسن بن محمد النيسابوري، أحد [أئمة] [7] اللسان.
روى عن أحمد بن يوسف السّلمي وطائفة، وببغداد عن عبّاس الدّوري وذويه، وكان إمام الأئمة ابن خزيمة إذا شكّ في لغة سأله [8] .
__________
[1] (2/ 249) .
[2] «المغني في الضعفاء» (1/ 140) .
[3] أي في لقاء الشيوخ.
[4] في الأصل: «ابن شيبة» وهو خطأ وأثبت ما في المطبوع.
[5] ما بين حاصرتين سقط من الأصل وأثبته من المطبوع.
[6] قال ياقوت في «معجم البلدان» (5/ 64) : قرية على باب نيسابور، بينهما فرسخ.
[7] سقطت من الأصل والمطبوع واستدركتها من «العبر» (2/ 250) .
[8] في الأصل: «يسأله» وأثبت ما في المطبوع وهو موافق لما عند الذهبي في «العبر» .(4/198)
سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة
فيها كان الغرق ببغداد، وبلغت دجلة أحدا وعشرين ذراعا، وهلك خلق تحت الهدم.
وفيها قوي معزّ الدولة على صاحب الموصل ابن حمدان، وقصده، ففرّ ابن حمدان إلى نصيبين، ثم صالحه على حمل ثمانية آلاف ألف في السنة.
وفيها خرجت الرّوم- لعنهم الله- وهزمهم سيف الدولة على مرعش [1] ، وملك مرعش.
وفيها توفي أبو إسحاق القرميسيني- نسبة إلى قرميسين مدينة بالعراق [2]- إبراهيم بن شيبان، شيخ الصوفية ببلاد الجبل. صحب إبراهيم الخوّاص، وساح بالشام.
ومن كلامه: علم الفناء والبقاء، يدور على إخلاص الوحدانية، وصحة العبوديّة، وما كان غير هذا، فهو من المغاليط والزندقة.
قال السخاوي [3] : له مقامات في الورع والتقوى، يعجز عنها الخلق،
__________
[1] مدينة تقع الآن في الجنوب الأوسط من تركية المعاصرة. على مقربة من الحدود السورية، وتعرف الآن هناك ب «مركاسي» . انظر «معجم البلدان» (5/ 107) ، و «أطلس التاريخ العربي» للأستاذ شوقي أبو خليل ص (17) طبع دار الفكر بدمشق.
[2] انظر «معجم البلدان» (4/ 330- 331) .
[3] وله ترجمة مفصلة في «طبقات الصوفية» للسلمي ص (402- 405) فراجعها.(4/199)
وكان متمسكا بالكتاب والسّنّة، لازما لطريقة المشايخ والأئمة المتقدمين.
قال عبد الله بن منازل [1]- وقد سئل عنه-: هو حجّة الله على الفقراء، وأهل الآداب والمعاملات.
ومن كلامه: من أراد أن يتعطّل ويتبطّل، فليلزم الرّخص.
والذي ذكره اليافعي في «نشر المحاسن» عنه: من أراد أن يتعطل، أو يتبطل، أو يتنطل، فليلزم الرّخص.
ومعنى يتنطل من قول العرب: فلان ناطل، يعنون ليس بجيد، بل ساقط، ويقولون: نطل الخبز من التنور: إذا سقط منه ووقع في الرماد.
ومن كلامه: إذا سكن الخوف القلب أحرق محلّ الشهوات فيه، وطرد عنه رغبة الدّنيا، وحال بينه وبين النوم، وبعّده [2] [عنها] فإن الذي قطعهم وأهلكهم، محبة الراكنين إلى الدّنيا.
وقال: يا بني! تعلّم العلم لأدب الظاهر، واستعمل الورع لأدب الباطن، وإياك أن يشغلك عن الله شاغل، فقلّ من أعرض عنه، فأقبل عليه.
وقال: الخلق محل الآفات، وأكثر منهم آفة من يأنس بهم أو يسكن إليهم.
وقال: صحبت أبا عبد الله المغربي ثلاثين سنة، فدخلت عليه يوما وهو يأكل، فقال لي: أدن وكل معي، فقلت له: إني قد صحبتك منذ ثلاثين سنة لم تدعني إلى طعامك إلّا اليوم، فما بالك دعوتني اليوم؟ فقال: لأن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: «لا يأكل طعامك إلّا تقيّ» [3] ولم يظهر لي تقاك إلّا اليوم.
__________
[1] في الأصل: «أبو عبد الله بن منازل» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب. وانظر «طبقات الصوفية» للسلمي ص (366- 369) وص (402) .
[2] في الأصل والمطبوع: «وبعد» والتصحيح من «طبقات الصوفية» وفي بعض الخبر فيه سقط، والله أعلم، ولفظة «عنها» زيادة منه.
[3] قطعة من حديث رواه أبو داود رقم (4832) في الأدب: باب من يؤمر أن يجالس، والترمذي.(4/200)
وفيها محمد بن علي بن عمر، أبو علي النيسابوري، المذكّر، أحد الضعفاء. سمع من أحمد بن الأزهر وأقرانه، ولو اقتصر عليهم لكان مسند خراسان [1] ولكنه حدّث عن محمد بن رافع والكبار، [فترك] . قاله في «العبر» [2] .
وقال في «المغني» [3] : محمد بن علي بن عمر المذكّر النيسابوري، شيخ الحاكم، لا ثقة، ولا مأمون. انتهى.
وفيها إسحاق بن إبراهيم بن محمد الجرجاني البحري، أبو يعقوب، حافظ ثقة.
قال ابن ناصر الدّين:
إسحاق البحريّ ذا الجرجاني ... شيخ زكا لحفظه المعاني
__________
رقم (2395) في الزهد: باب ما جاء في صحبة المؤمن، وأحمد في «المسند» (3/ 38) وابن حبان في «صحيحه» رقم (554) و (555) من «الإحسان» طبع مؤسسة الرسالة، والحاكم في «المستدرك» (4/ 128) ، وهو حديث صحيح، لفظه بتمامه: «لا تصاحب إلا مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلا تقي» .
[1] في «العبر» : «لكان منه خير» ولفظة «فترك» زيادة منه.
[2] (2/ 251) .
[3] (2/ 616) .(4/201)
سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة
فيها كما قال في «الشذور» وقعت فتنة بين أهل [1] السّنّة والشيعة، ونهبت الكرخ.
وفيها ولي قضاء القضاة، أبو السائب عتبة بن عبد الله، ولم يحجّ ركب العراق.
وفيها توفي المستكفي بالله، أبو القاسم عبد الله بن المكتفي بالله علي بن المعتضد أحمد العبّاسي، الذي استخلف وسمل في سنة أربع وثلاثين كما ذكرنا، وحبس حتّى مات، وله ست وأربعون سنة. وكان أبيض، جميلا، ربعة، أكحل، أقنى، خفيف العارضين، وأمه أمة، وكانت مدة خلافته سنة واحدة وأربعة أشهر، وما زال مغلوبا على أمره مدة خلافته، والله أعلم.
وفيها أحمد بن سليمان بن زبّان [2] ، أبو بكر الكندي الدمشقي الضرير. ذكر أنه ولد سنة خمس وعشرين ومائتين، وأنه قرأ على أحمد بن يزيد الحلواني، وأنه سمع من هشام بن عمّار، وابن أبي الحواري. وروى
__________
[1] لفظة «أهل» لم ترد في المطبوع.
[2] في الأصل والمطبوع: «ابن ريّان» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» (2/ 252) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 378) .(4/202)
عنه تمّام الرّازي، وعبد الرحمن بن أبي نصر، ثم تركا الرواية عنه، لما تبيّن أمره.
قال الحافظ عبد الغني الأزدي: كان غير ثقة.
وقال عبد العزيز الكتاني: كان يعرف بابن زبّان [1] العابد، لزهده وورعه.
وفيها أبو جعفر النّحاس، أحمد بن محمد بن إسماعيل المرادي المصري النحوي، كان ينظّر بابن الأنباري، ونفطويه، وله تصانيف كثيرة، وكان مقتّرا على نفسه، في لباسه وطعامه. توفي في ذي الحجة.
قال السيوطي في «حسن المحاضرة» [2] : وقد أخذ عن الأخفش الصغير وغيره، وروى الحديث عن النسائي، ومن مصنفاته «تفسير القرآن» و «الناسخ والمنسوخ» و «شرح أبيات سيبويه» و «شرح المعلقات» . غرق تحت المقياس [3] ، ولم يدر أين ذهب. انتهى.
وفيها إبراهيم بن عبد الرزاق الأنطاكي المقرئ، مقرئ أهل الشام في زمانه. قرأ على قنبل، وهارون الأخفش، وعثمان بن خرّزاذ، وصنّف كتابا في القراءات الثمان، وروى الحديث عن أبي أميّة الطّرسوسي، وقيل: توفي في السنة الآتية.
وفيها أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أبي ثابت السّامرّي القاضي، نزيل دمشق، ونائب الحكم بها، وصاحب الجزء المشهور. روى عن الحسن بن عرفة، وسعدان بن نصر، وطائفة من العراقيين، والشاميين، والمصريين، وثّقه الخطيب، وتوفي في ربيع الآخر.
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «بابن ريان» وهو خطأ، وانظر التعليق السابق.
[2] (1/ 531) .
[3] عمود رخام كان في وسط بركة على شاطئ النيل بمصر. انظر «معجم البلدان» (5/ 178) .(4/203)
والسّامرّي: بفتح الميم وتشديد الراء، نسبة إلى سرّ من رأى، مدينة فوق بغداد.
وفيها أبو علي الحصائري [1] الحسن بن حبيب الدمشقي الفقيه الشافعي. روى عن الربيع بن سليمان، وابن عبد الحكم، وحدّث بكتاب «الأم» للشافعي، رضي الله عنه.
قال الكتّاني: هو ثقة، نبيل، حافظ لمذهب الشافعي، مات في ذي القعدة.
وفيها عماد الدولة، أبو الحسن، علي بن بويه بن فناخسرو الديلمي، صاحب بلاد فارس، وهو أول من ملك من إخوته، وكان الملك معز الدولة أحمد أخوه، يتأدّب معه، ويقدّمه على نفسه، عاش بضعا وخمسين سنة، وكانت أيامه ست عشرة سنة، وملك فارس بعده ابن أخيه عضد الدولة بن ركن الدولة.
وذكر أبو محمد هارون بن العبّاس المأموني [2] في «تاريخه» أن عماد الدولة المذكور اتفقت له أسباب عجيبة، كانت سببا لثبات ملكه، منها: أنه لما ملك شيراز في أول ملكه، اجتمع أصحابه وطالبوه بالأموال، ولم يكن معه ما يرضيهم، به وأشرف أمره على الانحلال، فاغتمّ لذلك، فبينا هو مفكر، وقد استلقى على ظهره في مجلس قد خلا فيه للتفكّر والتدبير، إذ رأى حيّة خرجت من موضع من سقف ذلك المجلس ودخلت موضعا آخر منه،
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «الخضايري» وفي «العبر» : «الحضائري» والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» (15/ 383) و «تبصير المنتبه» (2/ 506) .
[2] هو هارون بن العباس بن محمد العباسي المأموني البغدادي، جمع «تاريخا» على السنين في أخبار الأوائل والحوادث والدول، في مجلدين- وهو الذي نقل المؤلف عنه- وصنّف شرحا ل «مقامات الحريري» مختصرا. مات سنة (573) هـ وسوف ترد ترجمته في المجلد السادس إن شاء الله تعالى، وانظر «الأعلام» للزركلي (8/ 61) .(4/204)
فخاف أن تسقط عليه، فدعا بالفرّاشين وأمرهم بإحضار سلّم، وأن تخرج الحيّة، فلما صعدوا وبحثوا عن الحيّة، وجدوا ذلك السقف يفضي إلى غرفة بين سقفين، فعرّفوه ذلك، فأمرهم بفتحها، ففتحت فوجد فيها عدّة صناديق من المال والمصاغات، قدر خمسمائة ألف دينار، فحمل المال إلى بين يديه وسرّ به، وأنفقه في رجاله، وثبت أمره بعد أن كان أشفى على الانخرام، ثم إنه قطع ثيابا وسأل عن خيّاط حاذق، فوصف له خياط كان لصاحب البلد قبله، فأمر بإحضاره، وكان أطروشا، فوقع له أنه قد سعي به إليه في وديعة كانت عنده لصاحبه، وأنه طالبه بهذا السبب، فلما خاطبه حلف أنه ليس عنده إلا اثنا عشر صندوقا لا يدري ما فيها، فعجب عماد الدولة من جوابه، ووجّه معه من حملها، فوجد فيها أموالا وثيابا بجملة عظيمة، فكانت هذه الأسباب من أقوى دلائل سعادته، ثم تمكنت حاله واستقرت قواعده، وكانت وفاته يوم الأحد سادس جمادى الأولى بشيراز، ودفن بدار المملكة، وأقام في الملك ستة وعشرين سنة، وقيل: إنه ملك في جمادى الآخرة سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة ولم يعقب، وأتاه في مرضه أخوه ركن الدولة، واتفقا على تسليم بلاد فارس إلى عضد الدولة فتسلمها.
وفيها علي بن محمد أبو الحسن الواعظ المصري، وهو بغدادي، أقام بمصر مدة. روى عن أحمد بن عبيد بن ناصح، وأبي يزيد القراطيسي، وطبقتهما، وكان صاحب حديث، له مصنفات كثيرة في الحديث والزهد، وكان مقدّم زمانه في الوعظ.
قال السيوطي في «حسن المحاضرة» [1] : قال ابن كثير: ارتحل إلى مصر، فأقام بها حتّى عرف بالمصري. روى عنه الدارقطني، وغيره، وكان له مجلس وعظ عظيم. مات في ذي القعدة، وله سبع وثمانون سنة. انتهى ملخصا.
__________
[1] (1/ 551) .(4/205)
وفيها علي بن محمد بن سختونة بن حمشاذ [1] ، أبو الحسن، النيسابوري الحافظ العدل الثقة، أحد الأئمة. سمع الفضل بن محمد الشّعراني، وإبراهيم [بن] ديزيل، وطبقتهما، ورحل، وطوّف، وصنّف، وله مسند كبير في أربعمائة جزء، وأحكام في مائتين وستين جزءا. توفي فجأة في الحمام وله ثمانون سنة.
قال أحمد بن إسحاق الضّبعي: صحبت علي بن حمشاذ [1] في الحضر والسفر، فما أعلم أن الملائكة كتبت عليه خطيئة.
وفيها محمد بن عبد الله بن دينار، أبو عبد الله، النيسابوري الفقيه، الرجل الصالح. سمع السّريّ بن خزيمة، وأقرانه.
قال الحاكم: كان يصوم النهار، ويقوم الليل، ويصبر على الفقر، ما رأيت في مشايخنا أصحاب الرأي أعبد منه.
__________
[1] تصحف في الأصل والمطبوع إلى «خمشاذ» والتصحيح من «العبر» (2/ 254) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 398) وما بين حاصرتين مستدرك منهما.(4/206)
سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة
فيها دخل سيف الدولة بن حمدان بلاد الرّوم، في ثلاثين ألفا، فافتتح حصونا، وسبى وغنم، فأخذت الرّوم عليه الدروب، فاستولوا على عسكره قتلا وأسرا، ونجا هو في عدد قليل، ووصل من سلم في أسوأ حال.
وفيها أعادت القرامطة الحجر الأسود إلى مكانه، وكان بجكم [1] [قد] بذل لهم في ردّه خمسين ألف دينار فلم يردّوه، وقالوا: أخذناه بأمر وإذا ورد أمر رددناه، فردّوه، وقالوا: رددناه بأمر من أخذناه بأمره، لتتمّ مناسك الناس.
قاله في «الشذور» .
وفيها توفي الحافظ أبو محمد، أحمد بن محمد بن إبراهيم الطّوسي البلاذريّ الصغير، روى عن ابن الضّريس وطبقته.
قال الحاكم: كان واحد عصره في الحفظ والوعظ، خرّج «صحيحا» على وضع مسلم، وهو ثقة.
وفيها حفص بن عمر الأردبيلي، أبو القاسم الحافظ، محدّث أذربيجان، وصاحب التصانيف. روى عن أبي حاتم الرّازي، ويحيى بن أبي طالب وطبقتهما. وعنه ابن لال وغيره، وكان رحّالا مصنفا.
والأردبيلي: بالفتح وسكون الراء وضم الدال المهملة، وكسر الموحدة،
__________
[1] تصحف في الأصل والمطبوع إلى «بحكم» والتصحيح من «العبر» وما بين حاصرتين زيادة منه.(4/207)
وسكون التحتية، نسبة إلى أردبيل من بلاد أذربيجان.
وفيها قاضي الإسكندرية، علي بن عبد الله بن أبي مطر المعافري نسبة إلى المعافر بطن من قحطان- الإسكندراني، الفقيه، أبو الحسن، المالكي وله مائة سنة. روى عن محمد بن عبد الله بن ميمون، صاحب الوليد بن مسلم، وغيره.
وفيها القاضي ابن الأشناني، أبو الحسين، عمر بن الحسن ببغداد.
روى عن محمد بن عيسى بن حيّان المدائني، وابن أبي الدّنيا، وعدّة، وضعفه الدارقطني.
وفيها أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني الصفّار.
روى عن أسيد بن أبي عاصم [وابن أبي الدّنيا] [1] وطبقتهما [2] ، وصنّف في الزهد وغيره، وصحب العبّاد، وكان من أكثر الحفّاظ حديثا.
قال الحاكم: هو محدّث عصره، مجاب الدعوة، لم يرفع رأسه إلى السماء- كما بلغنا-[3] نيفا وأربعين سنة، توفي في ذي القعدة، وله ثمان وتسعون سنة.
وفيها القاهر بالله، أبو منصور، محمد بن المعتضد بالله أحمد بن طلحة بن جعفر العبّاسي، سملت عيناه، وخلع في سنة اثنتين وعشرين، وكانت خلافته سنة وسبعة أشهر، وكان ربعة، أسمر، أصهب الشعر، طويل الأنف، فاتكا ظالما، سيء السيرة، كان بعد الكحل والعمى، يحبس تارة ويترك أخرى، فوقف يوما بجامع المنصور بين الصفوف، وعليه مبطنة بيضاء، وقال: تصدقوا عليّ فأنا من عرفتم، فقام أبو عبد الله بن أبي موسى الهاشمي، فأعطاه خمسمائة درهم، ثم منع لذلك من الخروج، فقيل: إنه
__________
[1] ما بين حاصرتين سقط من الأصل والمطبوع واستدركته من «العبر» (2/ 256) .
[2] في المطبوع: «وطبقته» .
[3] زيادة من «العبر» .(4/208)
أراد أن يشنّع بذلك على المستكفي، ولعله فعل ذلك في أيام القحط. توفي في جمادى الأولى، وله ثلاث وخمسون سنة.
وفيها محدّث بغداد، أبو جعفر، محمد بن عمرو بن البختري الرّزّاز، وله ثمان وثمانون سنة. روى عن سعدان بن نصر، ومحمد بن عبد الملك الدقيقي، وطائفة.
وفيها أبو نصر الفارابي، صاحب الفلسفة، محمد بن محمد بن طرخان التركي، ذو المصنفات المشهورة في الحكمة، والمنطق، والموسيقا، التي من ابتغى الهدى فيها أضلّه الله، وكان مفرط الذكاء. قدم دمشق ورتّب له سيف الدولة كل يوم أربعة دراهم إلى أن مات، وله نحو من ثمانين سنة. قاله في «العبر» [1] .
وقال ابن الأهدل: قيل هو أكبر فلاسفة المسلمين، لم يكن فيهم من بلغ رتبته، وبه- أي بتآليفه- تخرّج أبو علي بن سينا، وكان يحقّق كتاب أرسطاطاليس، وكتب عنه في شرحه سبعون سفرا، ولم يكن في وقته مثله، ولم يكن في هذا الفن أبصر من الفارابي، وسئل من أعلم أنت أو أرسطاطاليس؟ فقال: لو أدركته لكنت أكبر تلامذته.
ويقال: أن آلة الصابون من وضعه.
قال الفقيه حسين: هؤلاء الثلاثة متّهمون في دينهم، يعني الفارابي، والكندي، وابن سينا، فلا تغتر بالسكوت عنهم. انتهى ما أورده ابن الأهدل ملخصا.
وقال ابن خلّكان [2] : هو أكبر فلاسفة المسلمين، لم يكن فيهم من بلغ رتبته في فنونه، والرئيس أبو علي بن سينا بكتبه تخرّج، وبه انتفع في
__________
[1] (2/ 257) .
[2] في «وفيات الأعيان» (5/ 153- 157) .(4/209)
تصانيفه، وكان الفارابيّ رجلا تركيا، ولد في بلده ونشأ بها، ثم خرج من بلده وتنقلت به الأسفار إلى أن وصل إلى بغداد، وهو يعرف اللسان التركي وعدة لغات غير العربي، فشرع في اللسان العربي، فتعلمه وأتقنه غاية الإتقان، ثم اشتغل بعلوم الحكمة.
ولما دخل بغداد كان بها أبو بشر، متّى بن يونس الحكيم المشهور، وهو شيخ كبير، وكان يعلّم الناس فن المنطق، وله إذ ذاك صيت عظيم وشهرة وافية، ويجتمع في حلقته خلق كثير من المشتغلين، وهو يقرأ كتاب أرسطاطاليس في المنطق، ويملي على تلامذته شرحه، فكتب عنه في شرحه سبعون سفرا، ولم يكن في ذلك الوقت مثله أحد في فنه، وكان حسن العبارة في تأليفه، وكان يستعمل في تصانيفه البسط والتذييل، حتّى قال بعض علماء هذا الفن: ما أرى أبا نصر الفارابي أخذ طريق [1] تفهيم المعاني الجزلة بالألفاظ السهلة إلّا من بشر، يعني المذكور، وكان أبو نصر يحضر حلقته في غمار تلامذته.
فأقام أبو نصر برهة، ثم ارتحل إلى مدينة حرّان، وفيها يوحنا بن جيلان، الحكيم النصراني، فأخذ عنه طرفا من المنطق أيضا، ثم إنه قفل إلى بغداد راجعا، وقرأ بها علوم الفلسفة، وتناول جميع كتب أرسطاطاليس، وتمهر في استخراج معانيها، والوقوف على أغراضه فيها، ويقال: إنه وجد «كتاب النفس» لأرسطاطاليس وعليه مكتوب بخط أبي نصر الفارابي: قرأت «السماع الطبيعي» لأرسطاطاليس أربعين مرة، وأرى أني محتاج إلى معاودة قراءته.
ورأيت في بعض المجاميع، أن أبا نصر لما ورد على سيف الدولة، وكان مجلسه مجمع الفضلاء في جميع المعارف، وكان سلطان الشام يومئذ،
__________
[1] لفظة «طريق» سقطت من الأصل وأثبتها من المطبوع و «وفيات الأعيان» (5/ 154) .(4/210)
فدخل عليه [1] وهو بزيّ الأتراك، وكان ذلك زيّه دائما، فقال له سيف الدولة:
اقعد [2] ، فقال: حيث أنا، أم حيث أنت؟ ثم تخطى رقاب الناس حتّى انتهى إلى مسند سيف الدولة وزاحمه فيه، حتّى أخرجه عنه، وكان على رأس سيف الدولة مماليك، وله معهم لسان خاص يسارهم به، قلّ أن يعرفه أحد، فقال لهم بذلك اللسان: إن هذا الشيخ قد أساء الأدب، وإني مسائله عن أشياء إن لم يعرفها فاخرقوا به، فقال له أبو نصر بذلك اللسان: أيها الأمير، اصبر فإن الأمور بعواقبها، فعجب سيف الدولة منه، وقال له: أتحسن هذا اللسان؟
قال: نعم، أحسن أكثر من سبعين لسانا، فعظم عنده، ثم أخذ يتكلم مع العلماء الحاضرين في المجلس في كل فن، فلم يزل كلامه يعلو وكلامهم يسفل، حتّى صمت الكلّ، وبقي يتكلم وحده، ثم أخذوا يكتبون ما يقوله، فصرفهم سيف الدولة وخلا به، فقال له: هل لك [في] أن تأكل شيئا؟ قال:
لا، قال: فهل تشرب؟ قال: لا، قال: فهل تسمع؟ فقال: نعم، فأمر سيف الدولة بإحضار القيان، فحضر كل ماهر في هذا الفن بأنواع الملاهي، فلم يحرّك أحد منهم آلة إلا وعابه أبو نصر، وقال: أخطأت، فقال سيف الدولة:
وهل تحسن في هذه [3] الصناعة شيئا؟ قال: نعم، ثم أخرج من وسطه خريطة، ففتحها وأخرج منها عيدانا فركبها، ثم لعب بها فضحك [منها] كل من في المجلس، ثم فكها وغيّر تركيبها وركبها تركيبا آخر وضرب بها، فبكى كلّ من في المجلس، ثم فكّها وغيّر تركيبها وحرّكها، فنام كلّ من في المجلس، حتّى البوّاب، فتركهم نياما وخرج.
ويحكى أن الآلة المسمّاة بالقانون من وضعه، وهو أول من ركّبها هذا التركيب.
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «فأدخل عليه» .
[2] لفظة «اقعد» لم ترد في الأصل وأثبتها من المطبوع.
[3] لفظة «هذه» سقطت من المطبوع.(4/211)
وكان منفردا بنفسه، لا يجالس الناس، وكان مدة مقامه بدمشق لا يكون غالبا إلا في مجتمع المياه ومشتبك الرياض [1] ويؤلف هناك كتبه، ويأتيه المشتغلون عليه. وكان أكثر تصانيفه فصولا وتعاليق، ويوجد بعضها ناقصا مبتورا، وكان أزهد الناس في الدّنيا، لا يحتفل بأمر مكسب ولا مسكن، وأجرى عليه سيف الدولة من بيت المال كل يوم أربعة دراهم، وهو الذي اقتصر على القناعة [2] . ولم يزل على ذلك إلى أن توفي بدمشق، وصلى عليه سيف الدولة في أربعة من خواصه، وقد ناهز ثمانين سنة، ودفن بظاهر دمشق، خارج باب الصغير.
وتوفي متّى بن يونس ببغداد في خلافة الراضي، هكذا حكاه ابن صاعد القرطبي في «طبقات الأطباء» .
والفارابيّ: بفتح الفاء والراء، وبينهما ألف، وبعد الألف الثانية [3] باء موحدة، نسبة إلى فاراب، وتسمى في هذا الزمان أترار [4] ، وهي مدينة فوق الشّاش، قريبة من مدينة بلاساغون، وجميع أهلها على مذهب الشافعي، رضي الله عنه، وهي قاعدة من قواعد مدن التّرك، ويقال لها: فاراب الداخلة، ولهم فاراب الخارجة، وهي في أطراف بلاد فارس. انتهى ما أورده ابن خلّكان ملخصا.
وبالجملة فأخباره وعلومه وتصانيفه كثيرة شهيرة، ولكن أكثر العلماء على كفره وزندقته، حتّى قال الإمام الغزالي في كتابه «المنقذ من الضلال والمفصح عن الأحوال» [5] : لا نشك في كفرهما، أي الفارابي وابن سينا.
__________
[1] في «وفيات الأعيان» (5/ 156) : «إلا عند مجتمع ماء أو مشتبك رياض» .
[2] في «وفيات الأعيان» : «وهو الذي اقتصر عليها لقناعته» .
[3] لفظة «الثانية» لم ترد في الأصل وأثبتها من المطبوع.
[4] في «وفيات الأعيان» : «أطرار» وكلاهما صواب. انظر «معجم البلدان» (1/ 218) .
[5] انظر صفحة (47) من طبعة الدار التونسية للنشر، والمؤسسة الوطنية للكتاب في الجزائر، بتحقيق الأستاذ عبد الكريم المراق، وقد نقل المؤلف عنه باختصار وتصرف.(4/212)
وقال فيه أيضا [1] : وأما الإلهيات ففيها أكثر أغاليطهم، وما قدروا على الوفاء بالبرهان على ما شرطوا [2] في المنطق، ولذلك كثر الاختلاف بينهم فيه.
ولقد قرب [3] مذهب أرسطاطاليس فيها من مذهب الإسلاميين [على ما نقله] [4] الفارابي وابن سينا، ولكن مجموع ما غلطوا فيه يرجع إلى عشرين أصلا، يجب تكفيرهم في ثلاثة منها، وتبديعهم في سبعة عشر.
ولإبطال مذهبهم في هذه المسائل العشرين، صنفنا كتاب «التهافت» .
أما المسائل الثلاث فقد خالفوا فيها كافة الإسلاميين [5] ، وذلك قولهم:
إن الأجسام [6] لا تحشر، وإن [7] المثاب والمعاقب هي الروح [8] [المجردة، والعقوبات] [9] روحانية لا جسمانية، ولقد صدقوا في إثبات الروحانية، فإنها كائنة أيضا، ولكن كذبوا في إنكار الجسمانية، وكفروا بالشريعة فيما نطقوا به.
ومن ذلك قولهم: إن الله يعلم الكليّات دون الجزئيات. وهذا أيضا كفر صريح، بل الحق أنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض [10] .
__________
[1] انظر صفحة (55- 60) من المصدر السابق.
[2] في «المنقذ من الضلال» : «على ما شرطوه» .
[3] في «المنقذ من الضلال» : «يقرب» .
[4] ما بين حاصرتين سقط من الأصل والمطبوع واستدركته من «المنقذ من الضلال» .
[5] في «المنقذ من الضلال» الذي بين يدي: «كافة المسلمين» وذكر محققه بأنها جاءت في طبعة الدكتورين جميل صليبا، وكامل عياد كما في كتابنا.
[6] في «المنقذ من الضلال» : «الأجساد» .
[7] في «المنقذ من الضلال» : «وإنما» .
[8] في «المنقذ من الضلال» : «الأرواح» .
[9] ما بين حاصرتين سقط من المطبوع.
[10] اقتباس من الآية (61) من سورة يونس، التي يقول فيها الحق سبحانه وتعالى:(4/213)
ومن ذلك قولهم بقدم العالم وأزليته، ولم يذهب أحد من المسلمين إلى شيء من هذه المسائل.
وأما ما وراء ذلك من نفيهم الصفات، وقولهم إنه عالم الذات، لا بعلم زائد [على الذات] [1] وما يجري مجراه، فمذهبهم فيه قريب من مذهب المعتزلة، ولا يجب تكفير المعتزلة [بمثل ذلك] [1] .
وقال فيه [2] أيضا: القسم الثالث الإلهيون، وهم المتأخرون، مثل سقراط، وهو أستاذ أفلاطون [3] وأفلاطون [3] أستاذ أرسطاطاليس، وهو الذي رتب لهم المنطق، وهذّب [لهم] العلوم وحرر لهم ما لم يكن محررا [4] من قبل، وأوضح لهم ما كان انمحى من علومهم [5] .
وهم بجملتهم ردّوا على الصنفين الأولين من الدهرية والطبيعية، وأوردوا في الكشف عن فضائحهم ما أغنوا به غيرهم، وكفى الله المؤمن القتال بتقابلهم.
ثم ردّ أرسطاطاليس على أفلاطون، وسقراط، ومن كان قبله من الإلهيين ردّا لم يقصر فيه، حتّى تبرأ عن جميعهم، إلا أنه استبقى أيضا من رذائل كفرهم وبدعتهم بقايا، لم يوفّق للنزوع عنها، فوجب تكفيرهم وتكفير شيعهم من الإسلاميين، كابن سينا، والفارابي، وأمثالهما.
__________
وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ من مِثْقالِ ذَرَّةٍ في الْأَرْضِ وَلا في السَّماءِ 10: 61 ولقد ظن محقق «المنقذ من الضلال» الذي بين يدي كلام الإمام الغزالي الآية التي سبقت الإشارة إليها من سورة يونس، فقام بترقيمها في الحاشية، وذلك من الخطأ الفاحش.
[1] ما بين حاصرتين زيادة من «المنقذ من الضلال» ص (60) .
[2] يعني في «المنقذ من الضلال» ص (46- 48) .
[3] تحرف في الأصل والمطبوع إلى «أفلاطن» والتصحيح من «المنقذ من الضلال» وقد نقل المؤلف عنه بتصرف.
[4] في الأصل والمطبوع: «وخمر لهم ما لم يكن مخمرا من قبل» وهو خطأ، والتصحيح من «المنقذ من الضلال» .
[5] في «المنقذ من الضلال» : «وأنضج لهم ما كان فجّا من علومه» .(4/214)
على أنه لم يقم بعلم أرسطاطاليس أحد من المتفلسفة الإسلاميين كقيام هذين الرجلين، وما نقله غيرهم ليس يخلو عن تخبيط وتخليط، يتشوش فيه قلب المطالع، حتّى لا يفهم، وما لا يفهم كيف يرد أو يقبل، ومجموع ما صحّ عندنا من فلسفة أرسطاطاليس، بحسب نقل هذين الرجلين ينحصر في ثلاثة أقسام: قسم يجب التكفير به، وقسم يجب التبديع به، وقسم لا يجب إنكاره أصلا. انتهى ما قاله حجة الإسلام الغزالي، فرحمه الله تعالى رحمة واسعة.
فانظر ما يجرّ إليه علم المنطق وما يترتب عليه للمتوغل فيه، ولهذا حرّمه أعيان الأجلّاء، كابن الصلاح، والنواوي، والسيوطي، وابن نجيم في «أشباهه» وابن تيمية، وتلميذه ابن القيّم، وغيرهم، وإن كان أكثر الحنابلة على كراهته.
قال الشيخ مرعي في «غاية المنتهى» : ما لم يخف فساد عقيدة. أي فيحرم، والله تعالى أعلم بالصواب.(4/215)
سنة أربعين وثلاثمائة
فيها سار الوزير أبو محمد، الحسن بن محمد المهلّبي بالجيوش، وقد استوزر عام أول، فالتقى القرامطة، فهزمهم واستباح عسكرهم، وعاد بالأسارى.
وفيها جمع سيف الدولة جيشا عظيما، ووغل في بلاد الرّوم، فغنم وسبى شيئا كثيرا، وعاد سالما، وأمن الوقت، وذلّت القرامطة، وحجّ الركب.
وفيها توفي ابن الأعرابي، المحدّث الصوفي القدوة، أبو سعيد، أحمد بن محمد بن زياد بن بشر بن درهم البصري، نزيل مكة، في ذي القعدة، وله أربع وتسعون سنة. روى عن الحسن الزعفراني، وسعدان بن نصر [1] وخلق كثير. وعنه ابن المقرئ، وابن مندة، وابن جميع، وخلق [2] .
وكان ثقة، نبيلا، عارفا، عابدا، ربانيا، كبير القدر، بعيد الصيت، وجمع، وصنّف ورحلوا إليه.
قال السخاوي: وصنّف للقوم كتبا كثيرة، وصحب الجنيد، وعمرو بن عثمان المكّي، والنوري، وغيرهم.
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «وسعد بن نصر» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» (2/ 258) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 408) .
[2] في المطبوع: «وخلائق» وكلاهما بمعنى.(4/216)
قال السّلمي [1] : سمعت أبا بكر الرّازي يقول: سمعت أبا سعيد بن الأعرابي يقول بمكة: ثبت الوعد والوعيد عن الله تعالى. فإذا كان الوعد قبل الوعيد، فالوعيد تهديد، وإذا كان الوعيد قبل الوعد، فالوعيد منسوخ، وإذا اجتمعا معا، فالغلبة والثبات للوعد، فالوعد حقّ العبد، والوعيد حق الله تعالى، والكريم يتغافل عن حقه ولا يهمل ولا يترك ما عليه.
وقال: إن الله تعالى طيّب الدّنيا للعارفين بالخروج منها، وطيب الجنة لأهلها بالخلود فيها، فلو قيل للعارف: إنك تبقى في الدّنيا لمات كمدا، ولو قيل لأهل الجنة: إنكم تخرجون منها لماتوا كمدا، فطابت الدّنيا بذكر الخروج، وطابت الآخرة بذكر الخلود [فيها] .
وقال: اشتغالك بنفسك يقطعك عن عبادة ربّك، واشتغالك بهموم الدّنيا يقطعك عن هموم الآخرة، واشتغالك بمداراة الخلق يقطعك عن الخالق، ولا عبد أعجز من عبد نسي فضل ربه، وعدّ عليه تسبيحه وتكبيره، الذي هو [2] إلى الحياء منه أقرب من طلب ثواب عليه، أو افتخار به.
وقال الذهبي: وكان شيخ الحرم في وقته، سندا، وعلما، وزهدا، وعبادة، وتسليكا، وجمع كتاب «طبقات النّسّاك» وكتاب «تاريخ البصرة» وصنّف في شرف الفقر، وفي التصوف.
ومن كلامه: أخسر الخاسرين، من أبدى للناس صالح أعماله، وبارز بالقبيح من هو أقرب إليه من حبل الوريد. انتهى ما أورده السخاوي ملخصا.
وفيها أبو إسحاق المروزي، إبراهيم بن أحمد، شيخ الشافعية، وصاحب ابن سريج، وذو التصانيف. انتهت إليه رئاسة مذهب الشافعي ببغداد، وانتقل في آخر عمره إلى مصر، فمات في رجب، ودفن عند ضريح الشافعي رضي الله عنهما.
__________
[1] انظر «طبقات الصوفية» للسلمي (428- 429) .
[2] في الأصل والمطبوع: «التي هي» والتصحيح من «طبقات الصوفية» .(4/217)
قال الإسنوي: كان إماما جليلا، غوّاصا على المعاني، ورعا زاهدا.
أخذ عن ابن سريج، وانتهت إليه رياسة العلم ببغداد، وانتشر الفقه عن أصحابه في البلاد.
قال العبّادي [1] : وخرج من مجلسه إلى البلاد سبعون إماما، وحكي عنه حكاية غريبة متعلقة بالقافة [2] ، فقال: حكى الصيدلاني وغيره، عن القفّال، عن الشيخ أبي زيد، عن أبي إسحاق قال: كان لي جار ببغداد وله مال ويسار، وكان له ابن يضرب إلى سواد، ولون الرجل لا يشبهه، وكان يعرّض بأنه ليس منه، قال: فأتاني وقال: عزمت على الحجّ، وأكثر قصدي أن أستصحب ابني وأريه بعض القافة، فنهيته، وقلت: لعل القائف يقول ما تكره، وليس لك ابن غيره، فلم ينته، وخرج، فلما رجع، قال: إني استحضرت مجلسا وأمرت بعرضه عليه في عدة رجال، كان فيهم الذي يرمى بأنه منه، وكان معنا في الرفقة، وغيبت عن المجلس، فنظر القائف فيهم فلم يلحقه بأحد منهم، فأخبرت بذلك، وقيل لي: احضر فلعله يلحقه بك، فأقبلت على ناقة يقودها عبد لنا أسود كبير، فلما رفع بصره علينا، قال: الله أكبر، ذاك الراكب أبو هذا الغلام، والقائد الأسود أبو الراكب، فغشي عليّ من صعوبة ما سمعت، فلما رجعت، ألححت على والدتي، فأخبرتني أن أبي طلقها ثلاثا ثم ندم، فأمر هذا الغلام بنكاحها للتحليل، ففعل، فعلقت منه، وكان ذا مال كثير، وقد بلغ الكبر وليس له ولد، فاستلحقتك، ونكحني مرة ثانية. انتهى كلام الإسنوي.
قال ابن خلّكان [3] : وتوفي لتسع خلون من رجب.
والمروزيّ: بفتح الميم وسكون الراء، وفتح الواو، وبعدها زاي، هذه
__________
[1] في «طبقات الشافعيين» وهو مطبوع كما ذكر الزركلي رحمه الله في «الأعلام» (5/ 314) ولكن الكتاب غير متوفر لدينا.
[2] القافة: جمع قائف، وهو الذي يعرف الآثار. انظر «لسان العرب» (قوف) .
[3] في «وفيات الأعيان» (1/ 27) .(4/218)
النسبة إلى مرو الشّاهجان، [وهي إحدى كراسي خراسان، وهم أربع مدن، هذه، ونيسابور، وهراة، وبلخ، وإنما قيل لها مرو الشاهجان] [1] لتتميز عن مرو الرّوذ، والشاهجان: لفظ عجمي، تفسيره روح الملك. انتهى ملخصا.
وفيها أبو عبد الله، الحسين بن الحسن بن أيوب الطّوسي الأديب.
ثقة رحّال مكثر، أقام على أبي حاتم مدة، وجاور لأجل [أبي] يحيى بن أبي ميسرة [2] .
وفيها أبو علي، الحسين بن صفوان البردعي- بالمهملة، نسبة إلى بردعة، بلد بأذربيجان- صاحب أبي بكر بن أبي الدّنيا. توفي ببغداد في شعبان.
وفيها العلّامة، أبو محمد، عبد الله بن محمد بن يعقوب بن الحارث البخاري الفقيه، شيخ الحنفية بما وراء النهر، ويعرف بعبد الله الأستاذ، وكان محدّثا، جوّالا، رأسا في الفقه، وصنّف التصانيف، وعمّر اثنتين وثمانين سنة. وروى عن عبد الصمد بن الفضل، وعبيد الله بن واصل وطبقتهما.
قال أبو زرعة: أحمد بن الحسين الحافظ، ضعيف هو [3] .
وقال الحاكم: هو صاحب عجائب [وأفراد] ، عن الثقات. قاله في «العبر» [4] .
وفيها أبو القاسم الزجّاجي- نسبة إلى الزجّاج [5]- النحوي عبد الرحمن بن إسحاق النّهاوندي، صاحب التصانيف. أخذ عن أبي إسحاق
__________
[1] ما بين حاصرتين سقط من الأصل وأثبته من المطبوع.
[2] في الأصل والمطبوع: «لأجل يحيى بن أبي مسرة» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» (2/ 259) وانظر «العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين» للفاسي (8/ 112) .
[3] في المطبوع و «العبر» : «هو ضعيف» .
[4] (2/ 259) وما بين حاصرتين زيادة منه.
[5] وهو شيخه أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجّاج، لأنه كان يخرط الزجاج، ثم تعلم الأدب وترك ذلك. انظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 475) .(4/219)
الزجّاج، وابن دريد، وعلي بن سليمان الأخفش، وقد انتفع بكتابه «الجمل» خلق لا يحصون، فقيل: إنه جاور مدة بمكّة وصنّفه فيها، وكان إذا فرغ من الباب طاف أسبوعا، ودعا الله بالمغفرة، وأن ينفع الله بكتابه وقراءته.
قال بعض المغاربة: لكتابه عندنا مائة وعشرون شرحا، اشتغل ببغداد ثم بحلب، ثم بدمشق، ومات بطبرية في رمضان.
وفيها قاسم بن أصبغ، الحافظ الإمام، محدّث الأندلس، أبو محمد القرطبي، مولى بني أميّة، ويقال له البيّاني- وبيّانة محلّة بقرطبة- وهو ثقة.
انتهى إليه التقدم في الحديث معرفة، وحفظا، وعلو إسناد. سمع بقي بن مخلد، وأقرانه، ومنه حفيده قاسم بن محمد، وعبد الله بن محمد الباجي، والقاسم بن محمد بن غسلون وغيرهم، ورحل سنة أربع وسبعين ومائتين، فسمع محمد بن إسماعيل بمكة، وأبا بكر بن أبي الدّنيا، وأبا محمد بن قتيبة، ومحمد بن الجهم، وطبقتهم ببغداد، وإبراهيم القصّار بالكوفة. وصنّف كتابا على وضع «سنن أبي داود» لكونه فاته لقيه، وكان إماما في العربية، مشاورا في الأحكام، عاش ثلاثا وستين سنة، وتغير ذهنه يسيرا قبل موته بثلاثة أعوام، ومات في جمادى الأولى.
وفيها أبو جعفر محمد بن يحيى بن عمر بن علي بن حرب الطائي الموصلي. قدم بغداد، وحدّث بها عن جدّه، وعن جدّ أبيه. وثّقه أبو حازم العبدوي، ومات في رمضان.
وفيها أبو الحسن الكرخي، شيخ الحنفية بالعراق، واسمه عبيد الله [1] بن حسين بن دلّال. روى عن إسماعيل القاضي، وغيره، وعاش ثمانين سنة. انتهت إليه رئاسة المذهب، وخرج له أصحاب أئمة، وكان قانعا، متعفّفا، عابدا، صوّاما، قوّاما، كبير القدر.
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «عبد الله» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» (2/ 261) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 426) .(4/220)
سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة
فيها على ما قال في «الشذور» ولي قضاء القضاة ببغداد عبد الله أبو العبّاس بن الحسين بن أبي الشوارب، والتزم كل سنة بمائتي ألف درهم، وهو أول من ضمن القضاء، ثم الحسبة والشرطة.
وفيها اطّلع الوزير المهلّبي، على جماعة من التناسخية، فيهم رجل يزعم أن روح علي، رضي الله عنه، انتقلت إليه، وفيهم امرأة تزعم أن روح فاطمة، رضي الله عنها، انتقلت إليها، وآخر يدّعي أنه جبريل، فضربهم فتستروا [1] بالانتماء إلى أهل البيت، وكان ابن بويه شيعيّا، فأمر بإطلاقهم.
وفيها أخذت الرّوم مدينة سروج، فاستباحوها.
وفيها توفي أبو الطاهر المدائني، أحمد بن محمد بن عمرو الخامي [2] محدّث مصر، في ذي الحجة. روى عن يونس بن عبد الأعلى وجماعة.
وفيها أبو علي الصّفّار إسماعيل بن محمد البغدادي، النحوي الأديب، صاحب المبرّد. سمع الحسن بن عرفة، وسعدان بن نصر، وطائفة.
وتوفي في المحرم، وله أربع وتسعون سنة.
__________
[1] في «العبر» (2/ 262) و «نجوم الزاهرة» (3/ 307) : «قتعزوا» .
[2] في الأصل: «الحاسي» وفي المطبوع و «العبر» : «الحامي» ، والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» (15/ 430) .(4/221)
وفيها أحمد بن عبيد بن إسماعيل البصري الصّفّار، أبو الحسن.
حدّث عنه الدارقطني وغيره، وهو ثقة إمام. قاله ابن ناصر الدّين.
وفيها المنصور، أبو الطاهر، إسماعيل بن القائم بن المهدي عبيد الله العبيدي الباطني، صاحب المغرب، حارب مخلد بن كيداد الإباضي، الذي كان قد قمع بني عبيد، واستولى على ممالكهم، فأسره المنصور، فسلخه بعد موته، وحشا جلده، وكان فصيحا مفوّها، بطلا شجاعا، يرتجل الخطب، مات في شوال، وله تسع وثلاثون سنة. وكانت دولته سبعة أعوام. قاله في «العبر» [1] .
وقال ابن خلّكان [2] : ذكر أبو جعفر المرّوذي، قال: خرجت مع المنصور يوم هزم أبا يزيد، فسايرته وبيده رمحان، فسقط أحدهما مرارا، فمسحته وناولته إياه، وتفاءلت له فأنشدته:
فألقت عصاها واستقر بها النّوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر
فقال: ألا قلت، ما هو خير من هذا وأصدق: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ 7: 117- 119 [الأعراف: 117- 119] فقلت: يا مولانا، أنت ابن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قلت ما عندك من العلم، أي لأن المنصور من الفاطمية.
بويع المنصور هذا يوم وفاة أبيه القائم.
وكان أبوه قد ولّاه محاربة أبي يزيد الخارجي عليه، وكان هذا أبو يزيد مخلد بن كيداد رجلا من الإباضية، يظهر التزهد، وأنه إنما قام غضبا لله تعالى، ولا يركب غير حمار، ولا يلبس إلا الصوف، وله مع القائم والد
__________
[1] (2/ 263) .
[2] في «وفيات الأعيان» (1/ 234- 236) وقد نقل المؤلف عنه بتصرف.(4/222)
المنصور وقائع كثيرة، وملك جميع مدن القيروان، ولم يبق للقائم إلا المهدية، فأناخ عليها أبو يزيد، وحاصرها، فهلك القائم في الحصار، ثم تولى [1] المنصور، فاستمر على محاربته، وأخفى موت أبيه، وصابر الحصار حتّى رجع أبو يزيد عن المهدية، ونزل على سوسة وحاصرها، فخرج المنصور من المهدية ولقيه على سوسة فهزمه، ووالى عليه الهزائم إلى أن أسره يوم الأحد خامس عشري محرم سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، فمات بعد أسره بأربعة أيام من جراحة كانت به، فأمر بسلخ جسده، وحشا جلده قطنا، وصلبه، وبنى مدينة في موضع الوقعة، وسمّاها المنصورية واستوطنها. وخرج في شهر رمضان سنة إحدى وأربعين من المنصورية إلى مدينة جلولاء ليتنزه بها، ومعه حظيّته قضيب، وكان مغرما بها، فأمطر الله عليهم بردا كثيرا، وسلط عليهم ريحا عظيمة [2] ، فخرج منها إلى المنصورية، فاعتلّ بها، فمات يوم الجمعة آخر شوال، وكان سبب علته أنه لما وصل المنصورية، أراد دخول الحمام، ففنيت الحرارة الغريزية منه، ولازمه السهر، فأقبل إسحاق [3] يعالجه، والسهر باق على حاله، فاشتد ذلك على المنصور، فقال لبعض الخدام: أما بالقيروان طبيب يخلصني من هذا [الداء] ؟ فقالوا:
هاهنا شاب قد نشأ يقال له إبراهيم، فأمر بإحضاره، فحضر فعرّفه حاله، وشكا ما به إليه [4] ، فجمع له شيئا ينوّمه، وجعله في قنّينة على النار، وكلّفه شمّها، فلما أدمن شمّها نام، وخرج إبراهيم مسرورا بما فعل، وجاء إسحاق إليه، فقالوا: إنه نائم، فقال: إن كان صنع له شيئا ينام منه فقد مات، فدخلوا عليه فوجدوه ميتا، فأرادوا قتل إبراهيم، فقال إسحاق: ما له ذنب، إنما داواه
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «توفي» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[2] في الأصل والمطبوع: «عظيما» وما أثبته من «وفيات الأعيان» .
[3] في الأصل والمطبوع: «فأقبل أبو إسحاق» وهو خطأ، وهو طبيبه إسحاق بن سليمان الإسرائيلي، أبو يعقوب. والتصحيح من «وفيات الأعيان» وحاشيته.
[4] في المطبوع: «وشكا إليه ما به» .(4/223)
بما ذكره الأطباء، غير أنه جهل أصل المرض، وما عرّفتموه ذلك، وذلك أني كنت أعالجه وأنظر في تقوية الحرارة الغريزية، وبها يكون النوم، فلما عولج بما يطفئها علمت أنه قد مات.
ودفن بالمهدية، ومولده بالقيروان في سنة اثنتين، وقيل: إحدى وثلاثمائة، وكانت مدة خلافته سبع سنين وستة أيام. انتهى ملخصا.
وفيها- أو في التي قبلها كما جزم به ابن ناصر الدّين- البتلهيّ بفتحتين وسكون اللام نسبة إلى بيت لهيا من أعمال دمشق [1] واسمه محمد بن عيسى بن أحمد بن عبيد الله أبو عمرو القزويني، نزيل بيت لهيا.
كان من الرحّالين، الحفّاظ، الثقات.
قال ابن ناصر الدّين في «بديعته» :
ومات بعد مغرب شموسا ... البتلهي محمّد بن عيسى
فسكّن التاء وحرك اللّام ضرورة.
وفيها محمد بن أيوب بن الصّموت الرّقّيّ، نزيل مصر. روى عن هلال بن العلاء وطائفة، وهو من الضعفاء.
قال في «المغني» [2] : ضعفه أبو حاتم.
وفيها محمد بن حميد أبو الطيب الحوراني. روى عن عبّاد بن الوليد، وأحمد بن منصور الرمادي، ومات في عشر المائة.
وفيها محمد بن النّضر، أبو الحسن بن الأخرم الربعي، قارئ أهل دمشق. قرأ على هارون الأخفش وغيره، وكانت له حلقة عظيمة بجامع دمشق لإتقانه ومعرفته.
__________
[1] انظر خبرها في «معجم البلدان» لياقوت (1/ 522) .
وقال العلّامة الأستاذ محمد كرد علي رحمه الله في كتابه النفيس «غوطة دمشق» ص (164) :
وتسمى بيت ألاهية. وانظر تتمة كلامه عنها هناك.
[2] (2/ 558) .(4/224)
سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة
فيها كما قال في «الشذور» حدثت علّة مركبة من الدم والصفراء، فشملت الناس، وعمّت الأهواز، وبغداد، وواسط، والبصرة، وكان يموت أهل الدار كلهم. انتهى.
وفيها رجع سيف الدولة من الرّوم مظفّرا منصورا، قد أسر قسطنطين بن الدّمستق، وكان بديع الحسن، فبقي عنده مكرّما حتّى مات.
وفيها توفي العلّامة أبو بكر، أحمد بن إسحاق بن أيوب الضّبعي [1] ، بالضم والفتح ومهملة نسبة- قال السيوطي- إلى ضبيعة بن قيس، بطن من بكر بن وائل، وضبيعة بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان. انتهى.
وكان الضّبعي [1] هذا شيخ الشافعية بنيسابور، سمع بخراسان، والعراق، والجبال، فأكثر وبرع في الحديث، وحدّث عن الحارث بن أبي أسامة وطبقته، وأفتى نيفا وخمسين سنة، وصنّف الكتب الكبار في الفقه والحديث.
وقال محمد بن حمدون: صحبته عدة سنين، فما رأيته ترك قيام الليل.
قال الحاكم: وكان الضبعي [1] يضرب بعقله المثل، وبرأيه، وما رأيت
__________
[1] قلت: الذي ذكره المؤلف ونسبه إلى السيوطي خطأ بيّن، فإن الصواب في نسبته «الصّبغي» نسبة إلى الصّبغ والصباغ المشهور، ويمكن لعمل الألوان التي ينقش بها أو يستعملها.(4/225)
في مشايخنا أحسن صلاة منه، وكان لا يدع أحدا يغتاب في مجلسه.
وفيها أحمد بن عبيد الله أبو جعفر الأسداباذي- نسبة إلى أسدآباذ، بليدة قرب همذان- الهمذاني الحافظ. روى عن ابن ديزيل، وإبراهيم الحربي.
قال ابن ناصر الدين: وفي نسبه قول ثان، وهو أحمد بن عبيد بن إبراهيم بن محمد بن عبيد، أبو جعفر، الهمذاني. كان أحد الحفاظ المعدودين. انتهى.
وفيها إبراهيم بن المولّد، وهو إبراهيم بن أحمد بن محمد بن المولد الرّقّي، أبو الحسن، الزاهد الصوفي الواعظ، شيخ الصوفية. أخذ عن الجنيد وجماعة، وحدّث عن عبد الله بن جابر المصّيصي.
ومن كلامه: من تولاه الله برعاية الحق أجلّ ممّن يؤدّبه بسياسة العلم.
وقال: القيام بأدب العلم وشرائعه يبلغ بصاحبه إلى مقام الزيادة والقبول.
وقال: عجبت لمن عرف أن له طريقا إلى ربه، كيف يعيش مع غيره، والله تعالى يقول: وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ 39: 54 [الزّمر: 54] .
وقال: من قام إلى الأوامر لله كان بين قبول ورد، ومن قام إليها بالله، كان مقبولا لا شكّ.
وفيها الحسن بن يعقوب، أبو الفضل، البخاري العدل، بنيسابور.
روى عن أبي حاتم الرّازي وطبقته، ورحل وأكثر.
وفيها أبو محمد عبد الله بن شوذب الواسطي المقرئ. محدّث
__________
الخراط. انظر «الأنساب» (8/ 33) و «الوافي بالوفيات» (6/ 239) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 483) و «تبصير المنتبه» (3/ 860) وقد تحرفت نسبته في «العبر» (2/ 81) و «طبقات الشافعية» للسبكي (2/ 81) كذلك إلى «الضبعي» فتصحح فيهما.(4/226)
واسط، وله ثلاث وتسعون سنة. وروى عن شعيب الصّريفيني، ومحمد بن عبد الملك الدّقيقي، وكان من أعيان القرّاء.
وفيها عبد الرحمن بن حمدان، أبو محمد الهمذاني الجلّاب. أحد أئمة السّنّة بهمذان. رحل وطوّف، وعني بالأثر، وروى عن أبي حاتم الرّازي، وهلال بن العلاء، وخلق كثير.
وفيها أبو القاسم علي بن محمد القاضي [1] . ولد بأنطاكية سنة ثمان وسبعين ومائتين، وقدم بغداد، فتفقه لأبي حنيفة، وسمع في حدود الثلاثمائة، وولي قضاء الأهواز، وكان من أذكياء العالم، راوية للأشعار، عارفا بالكلام والنحو [2] . له ديوان شعر، ويقال: إنه حفظ ستمائة بيت في يوم وليلة. قاله في «العبر» [3] .
وقال ابن خلّكان [4] : أبو القاسم [5] علي بن محمد بن أبي الفهم [6] داود بن إبراهيم بن تميم بن جابر بن هانئ بن زيد بن عبيد [7] [بن مالك] [8] بن مريط بن سرح بن نزار بن عمرو بن الحارث [بن صبح بن عمرو بن الحارث] [8] ، وهو أحد ملوك تنوخ الأقدمين. التنوخيّ الأنطاكي [9] كان عالما بأصول المعتزلة والنجوم.
__________
[1] انظر «العبر» (2/ 366) وفيه: «علي بن محمد بن أبي الفهم التّنوخي القاضي» .
[2] كذا في الأصل والمطبوع: «عارفا بالكلام والنحو» ، وفي «العبر» مصدر المؤلف: «عارفا بالكلام والنجوم» ، وفي «وفيات الأعيان» : «كان عالما بأصول المعتزلة والنجوم» وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 499- 500) .
[3] (2/ 266) .
[4] في «وفيات الأعيان» (3/ 366- 369) .
[5] في الأصل والمطبوع: «أبو الحسن» وهو خطأ.
[6] في الأصل: «ابن أبي القاسم» وهو خطأ وأثبت ما في المطبوع.
[7] في الأصل والمطبوع: «بن عمر» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[8] زيادة من «وفيات الأعيان» وانظر تتمة نسبه فيه.
[9] في الأصل والمطبوع: «أنطاكي» وأثبت ما جاء في «وفيات الأعيان» .(4/227)
قال الثعالبي في حقه: هو من أعيان أهل العلم والأدب، وأفراد الكرم وحسن الشيم، وكان يتقلد [1] قضاء البصرة والأهواز بضع سنين، وحين صرف عنه ورد حضرة سيف الدولة بن حمدان زائرا ومادحا، فأكرم مثواه وأحسن قراه، وكتب في معناه إلى الحضرة ببغداد، حتّى أعيد إلى عمله، وزيد في رزقه ورتبته. وكان الوزير المهلبيّ وغيره من وزراء العراق يميلون إليه ويتعصبون له ويعدّونه ريحانة الندماء، وتاريخ الظرفاء. وكان في جملة الفقهاء والقضاة الذين ينادمون الوزير المهلبي، ويجتمعون عنده في الأسبوع ليلتين على اطّراح الحشمة والتبسّط في القصف والخلاعة، وهم: القاضي أبو بكر بن قريعة، وابن معروف، والتنوخي المذكور، وغيرهم، وما منهم إلا أبيض اللحية طويلها، وكذلك كان المهلبي، فإذا تكامل الأنس، وطاب المجلس، ولذّ السماع، وأخذ الطرب منهم مأخذه، وهبوا ثوب الوقار للعقار [2] ، وتقلبوا في أعطاف العيش من الخفة والطيش، ووضع في يد كل واحد منهم طاس ذهب فيه ألف مثقال، مملوء [3] شرابا قربليا [أو عكبريا] [4] فيغمس لحيته فيه بل ينقعها حتّى تشرب أكثره ويرش [5] بعضهم بعضا، ويرقصون بأجمعهم وعليهم المصبغات، ومخانق [6] المنثور والبرم، فإذا صحوا [7] عادوا كعادتهم في التوقّر والتحفّظ بأبهة القضاء وحشمة المشايخ الكبراء، وأورد من شعره:
وراح من الشمس مخلوقة ... بدت لك في قدح من نهار
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «وكان تقلد» .
[2] العقار: الخمر لمعاقرتها: أي لملازمتها. انظر «المختار من القاموس المحيط» للزاوي (عقر) .
[3] في الأصل: «مملوءا» .
[4] سقطت من الأصل والمطبوع واستدركتها من «وفيات الأعيان» .
[5] في الأصل: «ويدش» وأثبت ما في المطبوع و «وفيات الأعيان» .
[6] في المطبوع: «ومخارق» وهو خطأ.
[7] في «وفيات الأعيان» : «فإذا أصبحو» .(4/228)
هواء ولكنه جامد ... وماء ولكنه غير جار
كأن المدير لها باليمين ... إذا مال للسقي أو باليسار
تدرّع ثوبا من الياسمين ... له فرد كمّ من الجلنار [1]
وأورد له أيضا:
رضاك شباب لا يليه مشيب ... وسخطك داء ليس منه طبيب
كأنك من كلّ النفوس مركّب ... فأنت إلى كل النفوس حبيب [2]
وحكى أبو محمد الحسن بن عسكر الصوفي الواسطي قال: كنت ببغداد في سنة إحدى وعشرين وخمسمائة جالسا على دكة بباب أبرز للفرجة، إذ جاء ثلاث نسوة فأنشدنني الأبيات، وزادت إحداهنّ بعد البيت الأول:
إذا ما تأملتها وهي فيه ... تأملت نورا محيطا بنار
فهذا [3] النهاية في الابيضاض ... وهذا [4] النهاية في الاحمرار
فحفظت الأبيات منها، فقالت لي: أين الموعد [5] ؟ تعني التقبيل، أرادت مداعبته بذلك.
وقال الخطيب [6] : إنه ولد بأنطاكية يوم الأحد لأربع بقين من ذي الحجة، سنة ثمان وسبعين ومائتين، وقدم بغداد وتفقه بها على مذهب أبي حنيفة. وسمع الحديث وتوفي بالبصرة، يوم الثلاثاء سابع شهر ربيع الأول سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة. انتهى ما أورده ابن خلّكان ملخصا.
وفيها الإمام أبو العباس السّيّاري القاسم بن القاسم بن مهدي ابن ابنة
__________
[1] والأبيات في «يتيمة الدهر» للثعالبي (2/ 397) طبعة دار الكتب العلمية ببيروت.
[2] البيتان في «يتيمة الدهر» (3/ 404) .
[3] في الأصل: «فهذه» وأثبت لفظ المطبوع وهو موافق لما في «وفيات الأعيان» .
[4] في الأصل: «وهذه» وأثبت لفظ المطبوع وهو موافق لما في «وفيات الأعيان» .
[5] في «وفيات الأعيان» : «هذا الوعد» .
[6] انظر «تاريخ بغداد» (12/ 77) .(4/229)
أحمد بن سيّار المروزي الشيرازي، الزاهد المحدّث، شيخ أهل مرو.
من كلامه الخطرة للأنبياء، والوسوسة [1] للأولياء، والفكرة للعوام، والعزم للفتيان.
وقيل له: بماذا يروّض المريد نفسه؟ وكيف يروّضها؟ قال: بالصبر على الأوامر، واجتناب النواهي [2] ، وصحبة الصالحين، وخدمة الرّفقاء، ومجالسة الفقراء، والمرء حيث وضع نفسه. ثم تمثل وأنشأ يقول:
صبرت على اللّذات لمّا تولّت ... وألزمت نفسي صبرها فاستمرّت
وكانت على الأيام نفسي عزيزة ... فلما رأت عزمي على الذّل ذلّت
فقلت لها يا نفس موتي كريمة ... فقد كانت الدّنيا لنا ثم ولّت
خليليّ لا والله ما من مصيبة ... تمرّ على الأيام إلا تجلّت
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى ... فإن أطعمت تاقت وإلا تسلّت [3]
وقال: حقيقة المعرفة أن لا يخطر بقلبك ما دونه.
وقال: المعرفة حياة القلب بالله، وحياة القلب مع الله.
وقال: لو جاز أن يصلى ببيت شعر لجاز أن يصلى بهذا البيت:
أتمنّى على الزمان محالا ... أن ترى مقلتاي طلعة حرّ [4]
وفيها أبو الحسين الأسواري، محمد بن أحمد بن محمد الأصبهاني
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «والسوسة» وهو خطأ، والتصحيح من «طبقات الصوفية» للسلمي ص (445) و «العبر» (2/ 266) .
[2] في الأصل والمطبوع: «واجتناب المناهي» وما أثبته من «طبقات الصوفية» ص (444) مصدر المؤلف في نقله.
[3] الأبيات الأول والثاني والخامس في «طبقات الصوفية» مع بعض الخلاف، وقد تقدم البيت الأخير الذي في كتابنا عنده إلى البيت الثاني.
[4] البيت في «طبقات الصوفية» ص (446) .(4/230)
وأسوارية [1] من قرى أصبهان- سمع إبراهيم بن عبد الله القصّار، وأبا حاتم، ورحل وجمع.
وفيها محمد بن داود بن سليمان أبو بكر النيسابوري، شيخ الصوفية والمحدّثين ببلده، الحافظ، الثقة، طوّف، وكتب بهراة، ومرو، والرّيّ، وجرجان، والعراق، والحجاز، ومصر، والشام، والجزيرة، وصنّف الشيوخ، والأبواب، والزّهديات. توفي في شهر ربيع الأول، وسمع محمد بن أيوب بن الضّريس وطبقته، ومنه الحاكم، وابن مندة، وابن جميع.
__________
[1] في الأصل: «وأسواري» وأثبت ما في المطبوع، وانظر «معجم البلدان» (1/ 190- 191) .(4/231)
سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة
فيها وقعة الحدث، وهو مصاف عظيم، جرى بين سيف الدولة والدّمستق، وكان الدّمستق- لعنه الله- قد جمع خلائق لا يحصون من التّرك، والروس، والبلغار، والخزر، فهزمه الله بحوله وقوته، وقتل معظم بطارقته، وأسر صهره وعدة بطارقة، وقتل منهم خلق لا يحصون، واستباح المسلمون ذلك الجمع، واستغنى خلق. قاله في «العبر» [1] .
وفيها توفي خيثمة بن سليمان بن حيدرة الأطرابلسي، الحافظ الثقة، محدّث الشام. روى عن العبّاس بن الوليد البيروتي، ومحمد بن عيسى المدائني وطبقتهما بالشام وثغورها، والعراق، واليمن، وتوفي في ذي القعدة، وله ثلاث وتسعون سنة، وغير واحد يقول: إنه جاوز المائة، وثقه الخطيب.
وفيها السّتوري [2] ، أبو الحسن، علي بن الفضل بن إدريس السامري. روى جزءا عن الحسن بن عرفة، يرويه محمد بن الروزبهان [3] شيخ أبي القاسم بن أبي العلاء المصّيصي عنه، وثقه العتيقي.
__________
[1] (2/ 267- 268) .
[2] قال السمعاني في «الأنساب» (7/ 40) : السّتوري: هذه النسبة إلى السّتر، وجمعه السّتور، وهذه النسبة إما إلى حفظ السّتور والبوابية على ما جرت به عادة الملوك، أو حمل أستار الكعبة.
[3] في الأصل والمطبوع: «الرونهان» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» (2/ 268) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 443) .(4/232)
وفيها شيخ الكوفة، أبو الحسن، علي بن محمد بن محمد [1] بن عقبة الشيباني عن نيّف وتسعين سنة. روى عن إبراهيم بن أبي العنبس القاضي وجماعة.
قال ابن حماد الحافظ: كان شيخ المصر [2] ، والمنظور إليه، ومختار السلطان والقضاة، صاحب جماعة وفقه وتلاوة، توفي في رمضان.
__________
[1] «ابن محمد» الثانية سقطت من «العبر» طبع الكويت فتستدرك فيه.
[2] يعني شيخ الكوفة.(4/233)
سنة أربع وأربعين وثلاثمائة
فيها أقبل أبو علي بن محتاج، صاحب خراسان، وحاصر الرّيّ، فوقع بها وباء عظيم، فمات عليها ابن محتاج.
وفيها مات أبو الحسين أحمد بن عثمان بن بويان البغدادي، المقرئ بحرف قالون، وله أربع وثمانون سنة.
وفيها أحمد بن عيسى بن جمهور الخشاب، أبو عيسى، ببغداد.
روى أحاديث عن عمر بن شبّة، وبعضها غرائب، رواها عنه ابن رزقويه، وعمّر مائة سنة.
قال الذهبي في كتابه «المغني في الضعفاء» [1] : أحمد بن عيسى التّنيسي الخشاب [عن عمرو بن أبي سلمة] التنّيسي [2] .
قال الدارقطني: ليس بالقويّ. وأسرف ابن طاهر فقال: كذاب يضع الحديث.
قلت [3] : نعم رأيت للخشاب في «موضوعات» ابن الجوزي: «الأمناء
__________
[1] (1/ 51) .
[2] ما بين حاصرتين سقط من الأصل والمطبوع واستدركته من «المغني في الضعفاء» ولفظة «التنيسي» تحرفت في الأصل والمطبوع إلى «السبيبي» .
[3] القائل الحافظ الذهبي في «المغني في الضعفاء» .(4/234)
ثلاثة: أنا، وجبريل، ومعاوية» [1] فصدق ابن طاهر. انتهى.
وفيها أبو يعقوب الأذرعيّ [2] إسحاق بن إبراهيم، الثقة الزاهد [3] العابد، صاحب الحديث والمعرفة. سمع أبا زرعة الدّمشقي، ومقدام بن داود الرّعيني وطبقتهما، وكان مجاب الدعوة، كبير القدر، ببلد دمشق.
وفيها بكر بن محمد بن العلاء. العلّامة أبو الفضل، القشيري البصري المالكي، صاحب التصانيف، في الأصول والفروع. روى عن أبي مسلم الكجّي، ونزل مصر، وبها توفي في ربيع الأول.
وفيها أبو عمرو بن السّمّاك، عثمان بن أحمد البغدادي الدقاق، مسند بغداد، في ربيع الأول، وشيّعه خلائق نحو الخمسين ألفا. روى عن محمد بن عبيد الله [4] بن المنادي، ويحيى بن أبي طالب، وطبقتهما، وكان صاحب حديث. كتب المصنفات الكبار بخطه.
وفيها العلّامة أبو بكر بن الحداد المصري، شيخ الشافعية، محمد بن أحمد بن جعفر، صاحب التصانيف، ولد يوم وفاة المزني، وسمع من النّسائي [ولزمه، ومن ابن أبي الدّنيا، ومن القراطيسي وغيرهم، ومنه:
يوسف بن قاسم القاضي، وغيره، وكان غيره مطعون فيه ولا عليه] [5] وهو صاحب وجه في المذهب، متبحّر في الفقه، متفنّن [6] في العلوم، معظّم في
__________
[1] قلت: وذكره ابن عراق أيضا في «تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة» (2/ 4) وتكلم عليه مطولا، فيحسن بالقارئ الرجوع إليه.
[2] تحرفت في «العبر» (2/ 269) إلى «الأوزاعي» فتصحح فيه.
[3] لفظة «الزاهد» لم ترد في المطبوع و «العبر» .
[4] في الأصل والمطبوع: «عبد الله» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» (2/ 270) وانظر «الأنساب» (7/ 127) .
[5] ما بين حاصرتين لم يرد في «العبر» .
[6] في المطبوع: «مفنن» .(4/235)
النفوس، ولي قضاء الأقاليم [1] وعاش ثمانين سنة، وكان يصوم صوم داود، عليه السلام، ويختم في اليوم والليلة، وكان جدا كله.
قال ابن ناصر الدّين: صنّف في الفقه الفروع المبتكرة الغريبة، وكتاب «أدب القاضي والفرائض» في نحو مائة جزء عجيبة.
وقال ابن خلّكان [2] : كان ابن الحداد فقيها محقّقا، غوّاصا على المعاني، تولى القضاء بمصر والتدريس، وكانت الملوك والرعايا تكرمه وتعظّمه وتقصده في الفتاوى والحوادث، وكان يقال في زمنه: عجائب الدّنيا ثلاث: غضب الجلّاد، ونظافة السّماد، والردّ على ابن الحداد. وكان أحد أجداده يعمل في الحديد ويبيعه فنسب إليه. انتهى ملخصا.
وقال الإسنوي: به افتخرت مصر على سائر الأمصار، وكاثرت بعلمه بحرها بل جميع البحار، إليه غاية التحقيق ونهاية التدقيق، كانت له الإمامة في علوم كثيرة، خصوصا الفقه، ومولّداته تدلّ عليه، وكان كثير العبادة. وأخذ عن محمد بن جرير لما دخل بغداد رسولا في إعفاء ابن حربويه [3] عن قضاء مصر، وصنّف كتاب «الباهر» في الفقه، في مائة جزء، وكتاب «جامع الفقه» وكتاب «أدب القضاء» في أربعين جزءا وكتابه «الفروع المولّدات» معروف، وهو الذي اعتنى الأئمة بشرحه، وكان حسن الثياب رفيعها، حسن المركوب، وكان يوقّع للقاضي ابن حربويه [3] ، وباشر قضاء مصر مدة لطيفة بأمر أميرها، عند شغوره، فسعى غيره من بغداد، فورد تفويضه لذلك الغير. وحجّ، فمرض في الرجوع، ومات يوم دخل الحجاج إلى مصر، وهو يوم الثلاثاء لأربع بقين من المحرم سنة أربع وأربعين وثلاثمائة، وعمره تسع وسبعون سنة
__________
[1] في «العبر» : «ولي قضاء الإقليم» .
[2] في «وفيات الأعيان» (4/ 197- 198) .
[3] في الأصل والمطبوع: «ابن جربويه» والتصحيح من «طبقات الشافعية» للإسنوي (1/ 399) .(4/236)
وأشهر، هذا هو الصحيح، وقيل: توفي سنة خمس وأربعين واقتصر عليه النووي في «تهذيبه» [1] وابن خلّكان في «تاريخه» [2] ، ثم دفن يوم الأربعاء بسفح المقطّم عند أبويه. انتهى ملخصا أيضا.
وفيها محمد بن عيسى بن الحسن التميمي العلّاف. روى عن الكديمي وطائفة، وحدّث بمصر وحلب.
وفيها الإمام محمد بن محمد أبو النّضر- بنون وضاد معجمة- الطّوسي الشافعي، مفتي خراسان، كان أحد من عني أيضا بالحديث، ورحل فيه. روى عن عثمان بن سعيد الدارمي، وعلي بن عبد العزيز وطبقتهما، وصنّف كتابا على وضع مسلم، وكان قد جزّأ الليل: ثلثا للتصنيف، وثلثا للتلاوة، وثلثا للنوم.
قال الحاكم: كان إماما بارع الأدب، ما رأيت أحسن صلاة منه، كان يصوم النهار، ويقوم الليل، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويتصدّق بما فضل عن قوته. وسمعت منه كتابه «المخرج على صحيح مسلم» .
قال [3] : وقلت له: متى تتفرغ للتصنيف مع ما أنت عليه من هذه الفتاوى؟ فقال: قد جزأت الليل ثلاثة أجزاء: جزءا للتصنيف، وجزءا للصلاة والقراءة، وجزءا للنوم، وله نحو ستين سنة يفتي، لم يؤخذ عليه في شيء.
قال [3] : وسمعت أبا حامد الإسماعيلي يقول: ما يحسن بواحد منا أن يحدّث في مدينة هو فيها.
قال: وتوفي ليلة السبت، الثالث عشر من شعبان.
وفيها أبو عبد الله، محمد بن يعقوب بن يوسف بن الأخرم الشيباني
__________
[1] انظر «تهذيب الأسماء واللغات» (2/ 193) مصوّرة دار الكتب العلمية ببيروت.
[2] انظر «وفيات الأعيان» (4/ 198) .
[3] القائل الحاكم.(4/237)
الحافظ، محدّث نيسابور. صنّف «المسند الكبير» وصنّف [مستخرجا على] الصحيحين [1] ، وروى عن علي بن الحسن الهلالي، ويحيى بن محمد الذهلي، وعنه: أبو بكر الصّبغي [2] ، ومحمد بن إسحاق بن مندة، وأبو عبد الله الحاكم، وغيرهم، ومع براعته في الحديث، والعلل، والرجال، لم يرحل من نيسابور، وعاش أربعا وتسعين سنة.
وفيها الإمام العلّامة المحرّر المصنّف، محمد بن زكريا بن الحسين النّسفي [3] ، أبو بكر، كان حافظا، مجوّدا، عارفا. قاله ابن ناصر الدّين.
وفيها أبو زكريا، يحيى بن محمد العنبري- نسبة إلى العنبر بن عمرو بن تميم جد- النيسابوري، العدل الحافظ، الأديب المفسر. روى عن محمد بن إبراهيم البوشنجي وطبقته، ولم يرحل، وعاش ستا وسبعين سنة.
قال الحافظ أبو علي النيسابوري: أبو زكريا يحفظ ما يعجز عنه، وما أعلم أني رأيت مثله.
__________
[1] ما بين حاصرتين سقط من الأصل والمطبوع واستدركته من «العبر» (2/ 271) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 467) .
[2] في الأصل والمطبوع: «السبيعي» وهو خطأ، والصواب ما أثبته، وانظر التعليق على ترجمته في الصفحة (225- 226) من هذا المجلد.
[3] قلت: ويعرف بالصعلوكي أيضا. انظر ترجمته في «تذكرة الحفاظ» للذهبي (3/ 930) .(4/238)
سنة خمس وأربعين وثلاثمائة
فيها غلبت الرّوم على طرسوس، فقتلوا من أهلها ألفا وثمانمائة رجل، وسبوا وحرقوا [1] قراها.
وفيها قصد روزبهان [2] الدّيلميّ العراق، فالتقاه معزّ الدولة، ومعه الخليفة، فهزم جيشه وأسر روزبهان [2] وقوّاده.
وفيها توفي العبّاداني، أبو بكر أحمد بن سليمان بن أيوب. روى ببغداد عن الزّعفراني، وعلي بن حرب وعدة، وعاش سبعا وتسعين سنة، وهو صدوق.
والعبّاداني: بفتح العين وتشديد الباء الموحدة، ودال مهملة، نسبة إلى عبّادان بنواحي البصرة.
وفيها الإمام أبو بكر، غلام السّبّاك، وهو أحمد بن عثمان البغدادي، شيخ الإقراء بدمشق. قرأ على الحسن بن الحباب، صاحب البزّي [3] والحسن بن الصّواف صاحب الدّوري.
__________
[1] في «العبر» : «وأحرقوا» .
[2] تحرّف في الأصل والمطبوع إلى «رونهان» والتصحيح من «العبر» (2/ 272) وانظر «تكملة تاريخ الطبري» للهمذاني الملحق ب «تاريخ الطبري» (11/ 381) و «الكامل في التاريخ» (8/ 514) .
[3] وهو أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم بن أبي بزّة المكي. انظر «توضيح(4/239)
وفيها أبو القاسم بن الجراب، إسماعيل بن يعقوب البغدادي التاجر، وله ثلاث وثمانون سنة. روى عن موسى بن سهل الوشّاء وطبقته، وسكن مصر.
وفيها أبو أحمد بكر بن محمد المروزيّ [الصّيرفيّ] [1] الدّخمسيني، بالضم، والباقي بلفظ العدد، لقّب به هذا [2] لأنه أمر لرجل بخمسين، فاستزاده خمسين، فسمي الدّخمسيني [3] ، ثم حذفوا الواو للخفة.
وكان بكر هذا محدّث مرو. رحل، وسمع أبا قلابة الرّقاشي، وكان فصيحا، أديبا، أخباريا، نديما، وقيل: بل توفي سنة ثمان وأربعين [4] .
وفيها أبو علي بن أبي هريرة، شيخ الشافعية، واسمه حسن بن حسين البغدادي، أحد أئمة الشافعية. تفقه بابن سريج، ثم بأبي إسحاق المروزي وصحبه إلى مصر ثم عاد إلى بغداد، ومات في رجب، وكان معظّما عند السلاطين فمن دونها.
قال ابن خلّكان [5] : وله مسائل في الفروع، ودرّس ببغداد، وتخرّج به خلق كثير، وانتهت إليه إمامة العراقيين. انتهى ملخصا.
وفيها عثمان بن محمد بن أحمد، أبو عمرو، السمرقنديّ، وله خمس وتسعون سنة. روى بمصر عن أحمد بن شيبان [6] الرّملي [7] وأبي أميّة
__________
«المشتبه» لابن ناصر الدّين (1/ 442) بتحقيق الأستاذ الفاضل محمد نعيم العرقسوسي، طبع مؤسسة الرسالة.
[1] زيادة من «العبر» (2/ 273) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 555) ، وجزم السمعاني في «الأنساب» (5/ 291) بأنه مات سنة (348) .
[2] يعني لقّب به المترجم وحده.
[3] تحرفت في المطبوع إلى «الدوخمسيني» .
[4] قلت: وهو ما جزم به السمعاني في «الأنساب» (5/ 291) .
[5] في «وفيات الأعيان» (2/ 75) .
[6] تحرف في «العبر» (2/ 273) إلى «شبيب» فيصحح فيه.
[7] في الأصل والمطبوع: «الدملي» وهو خطأ، والتصحيح من «حسن المحاضرة» وانظر «الأنساب» (6/ 165) و «العبر» (2/ 273) .(4/240)
الطرسوسي، وطائفة. قاله في «حسن المحاضرة» [1] .
وفيها علي بن إبراهيم بن سلمة، الحافظ، العلّامة، الثقة، الجامع، أبو الحسن، القزويني القطّان، الذي روى عن ابن ماجة «سننه» . رحل إلى العراق، واليمن، وروى عن أبي حاتم الرّازي وطبقته كابن ماجة. وعنه الزّبير بن عبد الواحد، وابن لال وغيرهما.
قال الخليلي: أبو الحسن [القطّان] [2] ، شيخ عالم بجميع العلوم، التفسير والفقه، والنحو واللغة، وفضائله أكثر من أن تعدّ، سرد الصوم ثلاثين سنة، وكان يفطر على الخبز والملح، وسمعت جماعة من شيوخ قزوين يقولون: لم ير أبو الحسن مثل نفسه في الفضل والزهد.
وفيها أبو بكر، محمد بن العبّاس بن نجيح البغدادي البزّار، وله اثنتان وثمانون سنة، وكان يحفظ ويذاكر. روى عن أبي قلابة الرّقاشي وعدة.
وفيها أبو عمر الزاهد، صاحب ثعلب، واسمه محمد بن عبد الواحد المطرّز، البغدادي اللغوي [3] .
قيل: إنه أملى ثلاثين ألف ورقة في اللغة من حفظه، وكان ثقة إماما، آية في الحفظ والذكاء، وقد روى عن موسى [بن سهل] الوشّاء [4] وطبقته.
قال ابن الأهدل [5] : استدرك على «فصيح» شيخه ثعلب في جزء لطيف [6] . ومصنفاته تزيد على العشرين، وكان لسعة [روايته،
__________
[1] (1/ 369) .
[2] زيادة من «سير أعلام النبلاء» (15/ 464) .
[3] انظر ترجمته في «وفيات الأعيان» (4/ 329- 333) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 508- 513) .
[4] تحرفت في الأصل والمطبوع إلى «الوشي» والتصحيح من «العبر» (2/ 274) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 508) وما بين حاصرتين زيادة منه.
[5] انظر هذا النقل في «مرآة الجنان» (2/ 337) .
[6] ذكر اليافعي في «مرآة الجنان» بأن اسمه «فايت الفصيح» .(4/241)
وغزارة] [1] حفظه يكذّبه [2] أدباء وقته، ووثّقه المحدّثون في الرواية.
قيل: لم يتكلم في اللغة أحد أحسن من كلام أبي عمر الزاهد، وتصانيفه أكثر ما يمليها من حفظه من غير مراجعة الكتب، انتهى.
وفيها الوزير الماذرائي، أبو بكر محمد بن علي البغدادي الكاتب، وزر لخمارويه، صاحب مصر، وعاش نحو التسعين سنة، واحترقت سماعاته، وسلم له جزآن، سمعهما من العطاردي، وكان من صلحاء الكبراء، وأما معروفه، فإليه المنتهى، حتّى قيل: إنه أعتق في عمره مائة ألف رقبة، قاله المسبحي. ذكره في «العبر» [3] .
والماذرائي: بفتح الذال المعجمة نسبة إلى ماذرا، جدّ [4] .
وفيها مكرم بن أحمد القاضي أبو بكر البغدادي البزّاز. سمع محمد بن عيسى المدائني، والدير عاقولي، وجماعة، ووثقه الخطيب [5] .
وفيها المسعودي المؤرّخ، صاحب «مروج الذهب» [6] وهو أبو الحسن، علي بن أبي الحسن. رحل وطوّف في البلاد، وحقق من التاريخ ما لم يحققه غيره، وصنّف في أصول الدّين وغيرها من الفنون، وقد ذكرها في صدر «مروج الذهب» وهو غير المسعودي الفقيه الشافعي، وغير شارح مقامات الحريري. قاله ابن الأهدل، وتوفي في جمادى الآخرة.
__________
[1] ما بين حاصرتين زيادة من «مرآة الجنان» (2/ 338) .
[2] في الأصل والمطبوع: «تكذبه» وأثبت ما في «مرآة الجنان» .
[3] (2/ 274- 275) .
[4] انظر «الأنساب» (11/ 65) .
[5] انظر «تاريخ بغداد» (13/ 221) .
[6] وهو من أبرز مصادر المؤلف رحمه الله تعالى، انظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 569) .(4/242)
سنة ست وأربعين وثلاثمائة
فيها قلّ المطر جدّا، ونقص البحر نحوا من ثمانين ذراعا، وظهر فيه جبال وجزائر وأشياء لم تعهد، وكان بالرّيّ فيما نقل ابن الجوزي في «منتظمه» [1] زلازل عظيمة، وخسف ببلد الطّالقان في ذي الحجة، ولم يفلت من أهلها إلا نحو من ثلاثين رجلا، وخسف بخمسين ومائة قرية من قرى الرّيّ.
قال: وعلقت قرية بين السماء والأرض بمن فيها نصف يوم، ثم خسف بها [2] .
وفيها توفي أحمد بن مهران، أبو الحسن، السّيرافي المحدّث، بمصر، في شعبان. روى عن الربيع المرادي، والقاضي بكّار، وطائفة.
وفيها أحمد بن جعفر بن أحمد بن معبد، أبو جعفر، الأصبهاني السمسار، شيخ أبي نعيم، في رمضان. روى عن أحمد بن عصام وجماعة.
__________
[1] انظر «المنتظم في تاريخ الملوك والأمم» (6/ 384) قلت: ولكن هذا الخبر الطويل نقله المؤلف رحمه الله عن «العبر» للذهبي (2/ 276) ولم ينقله عن «المنتظم» لابن الجوزي فإنه لا وجود له فيه، خلا الإشارة إلى الزلزلة التي حصلت في الرّيّ، ولعل الذهبي قد نقلها عن نسخة أخرى من «المنتظم» تختلف عن التي بين أيدينا، أو أنه نقلها عن كتاب «شذور العقود في تاريخ العهود» فإنه مما أورد فيه ابن الجوزي بعض الغرائب، والله أعلم.
[2] قلت: علّق الذهبي على كلام ابن الجوزي المتقدم في «العبر» (2/ 276) بقوله: قلت: إنما نقلت هذا ونحوه، للفرجة لا للتصديق والحجّة، فإن مثل هذا الحادث الجلل، لا يكفي فيه خبر الواحد الصادق، فكيف وإسناد ذلك معدوم منقطع؟.(4/243)
قال الذهبي في «المغني» [1] : قال ابن الفرات: ليس بثقة. وحكى ابن طاهر أنه مشهور بالوضع.
وفيها أبو الحسن [2] أحمد بن عبدوس، العنزيّ الطرائفي- نسبة إلى بيع الطرائف وهي الأشياء الحسنة المتخذة من الخشب- توفي بنيسابور في رمضان. روى عن عثمان بن سعيد الدارمي وجماعة.
وفيها إبراهيم بن عثمان أبو القاسم بن الوزّان القيرواني، شيخ المغرب في النحو واللغة، مات يوم عاشوراء، حفظ «كتاب سيبويه» و «المصنف الغريب» و «كتاب العين» و «إصلاح المنطق» وأشياء كثيرة.
وفيها محدّث إسفرايين، أبو محمد الحسن بن محمد بن إسحاق الإسفراييني. رحل مع خاله الحافظ أبي عوانة، فسمع أبا مسلم الكجي وطبقته. توفي في شعبان.
وفيها محدّث الأندلس، أبو عثمان، سعيد بن مخلوق [3] في رجب، وله أربع وتسعون سنة. روى عن بقي بن مخلد، ومحمد بن وضّاح، ولقي في الرحلة أبا عبد الرّحمن النّسائي، وهو آخر من روى عن يوسف المغامي.
حمل عنه «الواضحة» لابن حبيب.
وفيها محدّث أصبهان، عبد الله بن جعفر بن أحمد بن فارس، الرجل الصالح، أبو محمد، في شوال، وله ثمان وتسعون سنة. تفرد بالرّواية عن جماعة، منهم: محمد بن عاصم الثقفي، وسمويه، وأحمد بن يونس الضّبّي.
وفيها أبو الحسين عبد الصمد بن علي الطّستي الوكيل ببغداد، في
__________
[1] (1/ 35) .
[2] في الأصل والمطبوع: «أبو محمد» وهو خطأ، والتصحيح من «الأنساب» (8/ 226) ، و «سير أعلام النبلاء» (15/ 519) و «العبر» (2/ 276) .
[3] تحرفت في المطبوع إلى «مخلوف» وانظر «تاريخ علماء الأندلس» لابن الفرضي ص (168- 169) و «جذوة المقتبس» للحميدي ص (232- 233) و «العبر» (2/ 277) .(4/244)
شعبان، وله ثمانون سنة. روى عن أبي بكر بن أبي الدّنيا وأقرانه، وله جزء معروف.
وفيها الحافظ الكبير أبو يعلى، عبد المؤمن بن خلف التميمي النّسفي [1] الثقة، وله سبع وثمانون سنة. رحل وطوّف، وسمع أبا حاتم الرّازي وطبقته، وعنه: عبد الملك الميداني، وأحمد بن عمّار بن عصمة، وأبو نصر الكلاباذي، وكان عظيم القدر، عالما، زاهدا، كبيرا، وصل في رحلته إلى اليمن، وكان مفتيا ظاهريا أثريا، أخذ عن أبي بكر بن داود الظاهري.
وفيها أبو العبّاس المحبوبي، محمد بن أحمد بن محبوب المروزي، محدّث مرو وشيخها ورئيسها، توفي في رمضان، وله سبع وتسعون سنة.
روى «جامع الترمذي» عن مؤلفه، وروى عن سعيد بن مسعود، صاحب النّضر بن شميل، وأمثاله.
وفيها أبو بكر بن داسة، البصري التّمّار، محمد بن بكر بن محمد بن عبد الرزاق، راوي «السنن» عن أبي داود.
وفيها محدّث ما وراء النهر، أبو جعفر محمد بن محمد بن عبد الله بن حمزة البغدادي، نزيل سمرقند، في ذي الحجة، انتقى عليه أبو علي النيسابوري أربعين جزءا. روى عن أبي بكر بن أبي الدّنيا، وأحمد بن عبيد الله النّرسي والكبار، وكان كثير الأسفار للتجارة، ثبتا رضيا.
وفيها محدّث خراسان ومسند العصر، أبو العبّاس الأصم، محمد بن يعقوب بن يوسف بن معقل بن سنان الأموي، مولاهم النيسابوري، المعقلي، المؤذن، الورّاق، بنيسابور، في ربيع الآخر، وله مائة إلا سنة. حدث له الصمم بعد الرحلة ثم استحكم به، وكان يحدّث من لفظه. حدث في الإسلام نيّفا وسبعين سنة، وأذّن سبعين سنة، وكان حسن الأخلاق، كريما،
__________
[1] انظر ترجمته ومصادرها في «سير أعلام النبلاء» (15/ 480- 483) .(4/245)
ينسخ بالأجرة، وعمّر دهرا، ورحل إليه خلق كثير.
قال الحاكم: ما رأيت الرحّالة في بلد، أكثر منهم إليه، رأيت جماعة من الأندلس، ومن أهل فارس على بابه.
وقال الذهبي في «العبر» [1] : قلت: سمع من جماعة من أصحاب سفيان بن عيينة، وابن وهب، وكانت رحلته مع والده في سنة خمس وستين ومائتين، وسمع بأصبهان، والعراق، ومصر، والشام، والحجاز، والجزيرة. انتهى.
وقال ابن بردس [2] : حدّث عن أحمد بن شيبان [3] الرّملي، وأحمد بن يوسف، وأحمد بن الأزهر. وعنه: أبو عبد الله بن الأخرم، وأبو عمرو الحيري، ومؤمّل بن الحسن.
قال الحاكم: حدّث في الإسلام ستا وسبعين سنة، ولم يختلف في صدقه وصحة سماعه. انتهى.
وفيها مسند الأندلس أبو الحزم وهب بن مسرّة [4] التميمي الفقيه. كان إماما في مذهب مالك، محقّقا له [5] ، بصيرا بالحديث وعلله، مع زهد وورع. روى الكثير عن محمد بن وضّاح وجماعة، ومات في شعبان في عشر التسعين.
__________
[1] (2/ 280) .
[2] في الأصل والمطبوع: «ابن برداس» وهو خطأ، والصواب ما أثبته. انظر «الأعلام» للزركلي (1/ 324) واسم كتابه الذي نقل عنه المؤلف «نظم وفيات تذكرة الحفاظ للذهبي» وهو مخطوط لم ينشر بعد.
[3] في الأصل والمطبوع: «أحمد بن سنان» وهو خطأ، والتصحيح من «الأنساب» (6/ 165) و «تذكرة الحفاظ» (3/ 860) .
[4] في الأصل والمطبوع: «أبو الحرم وهب بن ميسرة» وهو خطأ، والتصحيح من «تاريخ علماء الأندلس» (2/ 165) و «جذوة المقتبس» ص (360) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 556) و «العبر» (2/ 280) .
[5] لفظة «له» لم ترد في «العبر» الذي بين يدي.(4/246)
سنة سبع وأربعين وثلاثمائة
فيها كما قال في «الشذور» كانت زلازل، فقتلت خلقا كثيرا وخرّبت.
وفيها أقبلت الرّوم لبلاد المسلمين، وعظمت المصيبة، وقتلوا خلائق، وأخذوا عدة حصون بنواحي آمد، وميّافارقين، ثم وصلوا إلى قنّسرين [1] ، فالتقاهم سيف الدولة بن حمدان، فعجز عنهم، وقتلوا معظم رجاله، وأسروا أهله، ونجا هو في عدد [2] يسير.
وفيها توفي القاضي أبو الحسن بن حذلم [3] ، وهو أحمد بن سليمان بن أيوب الأسدي الدمشقي. روى عن بكّار بن قتيبة القاضي وطائفة،
__________
[1] قنّسرين: بين حلب وإدلب في شمال سورية، تعرف الآن ب «كالسيس» وكان فتحها على يد أبي عبيدة بن الجراح سنة (17) هـ. قال ياقوت: قال أبو المنذر: سميت قنسرين لأن ميسرة بن مسروق العبسي مرّ عليها، فلما نظر إليها قال: ما هذه؟ فسميت له بالرومية، فقال: والله لكأنها قنّ نسر، فسميت «قنسرين» وأورد أخبارا أخرى في تسميتها يحسن بالقارئ الوقوف عليها في كتابه، وينسب إلى قنسرين جماعة من أهل العلم أثبتهم في الحديث الحافظ أبو بكر محمد بن بركة بن الحكم بن إبراهيم بن الفرداج الحميري اليحصبي القنسريني المعروف ببرداعس. انظر «معجم البلدان» (4/ 403- 404) و «أطلس التاريخ العربي» للأستاذ شوقي أبو خليل ص (25) طبع دار الفكر بدمشق.
[2] لفظة «عدد» لم ترد في «العبر» للذهبي (2/ 280) فتستدرك فيه.
[3] في الأصل والمطبوع: «خرام» وفي «العبر» : «حزلم» وهو خطأ، والتصحيح من «تاج العروس» (حذلم) (8/ 239) طبعة بولاق، وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 514) .(4/247)
وناب في قضاء بلده، وهو آخر من كانت له حلقة بجامع دمشق يدرّس فيها مذهب الأوزاعي.
وفيها المحدّث أبو علي أحمد بن الفضل بن خزيمة ببغداد، في صفر، عن بضع وثمانين سنة. سمع أبا قلابة الرقاشي وطائفة.
وفيها أبو الحسن الشّعراني، إسماعيل بن محمد بن الفضل بن محمد بن المسيّب النيسابوري، العابد الثقة. روى عن جدّه، ورحل، وجمع، وخرّج لنفسه.
وفيها حمزة بن محمد بن العبّاس، أبو أحمد الدّهقان العقبي [1] بفتحتين نسبة إلى عقبة وراء نهر عيسى ببغداد [2]- توفي ببغداد. وروى عن العطاردي، ومحمد بن عيسى المدائني، والكبار، وهو أكبر شيخ لعبد الملك بن بشران.
وفيها أبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه الفارسي النحوي، ببغداد في صفر، وله تسع وثمانون سنة. روى عن يعقوب الفسوي «تاريخه» و «مشيخته» ، وقدم بغداد في صباه، فسمع من عبّاس الدّوري وطبقته، بعناية أبيه، ثم أقبل على العربية حتّى برع فيها، وصنّف التصانيف، ولم يضعّفه أحد بحجّة. قاله في «العبر» [3] .
وفيها أبو عبد الله الزّبير بن عبد الواحد بن محمد بن زكريا بن صالح الهمذانيّ ثم الأسداباذيّ الثقة. روى عن الحسن بن سفيان وغيره، وعنه:
أبو عبد الله الحاكم، وابن مندة، وغيرهما.
قال الخطيب [4] : كان حافظا متقنا.
__________
[1] انظر «الأنساب» (9/ 14) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 516) .
[2] انظر «معجم البلدان» (4/ 134) .
[3] (2/ 282) وانظر «وفيات الأعيان» (3/ 44- 45) .
[4] انظر «تاريخ بغداد» (8/ 473) وفيه: وكان حافظا متقنا مكثرا.(4/248)
وفيها أبو الميمون، عبد الرحمن بن عبد الله بن الراشد البجلي الدمشقي، الأديب المحدّث. سمع بكّار بن قتيبة، وأبا زرعة، وخلقا كثيرا، وبلغ خمسا وتسعين سنة.
وفيها الحافظ البارع أبو سعيد بن يونس، وهو عبد الرحمن بن أحمد بن يونس بن عبد الأعلى الصّدفي- بفتحتين وفاء، نسبة إلى الصدف بكسر الدال المهملة قبيلة من حمير- المصري صاحب «تاريخ مصر» . توفي في جمادى الآخرة، وله ست وستون سنة، وأقدم شيوخه، أحمد بن حمّاد زغبة وأقرانه.
وقال ابن ناصر الدّين: كان من الأئمة الحفاظ والأثبات الأيقاظ.
انتهى.
وفيها علي بن عبد الرحمن بن عيسى بن زيد بن ماتي [1] الكوفي الكاتب، أبو الحسين، ببغداد، وله ثمان وتسعون سنة. روى عن إبراهيم بن عبد الله القصّار، وإبراهيم بن أبي العنبس القاضي.
وفيها محمد بن أحمد بن الحسن أبو عبد الله الكسائيّ المقرئ، بأصبهان، روى عن عبد الله بن محمد بن النّعمان وطبقته.
وفيها أبو الحسين محمد بن عبد الله بن جعفر بن عبد الله بن الجنيد الرّازي ثم الدمشقي، الحافظ والد الحافظ تمّام. سمع بخراسان، والعراق، والشام، وسكن دمشق، وصنّف وجمع، وأقدم شيخ له محمد بن أيوب بن الضّريس. وروى عنه ولده تمّام الرّازي، ووثقه عبد العزيز الكتاني. قاله ابن بردس [2] .
__________
[1] وكذا في «الإكمال» لابن ماكولا (7/ 199) و «تبصير المنتبه» لابن حجر (4/ 1243) ، وفي «سير أعلام النبلاء» للذهبي (15/ 566) : «مأتى» ولكنه أشار في آخر ترجمته إلى الوجه الذي ضبطت عليه نسبته في كتابنا والمصدرين المشار إليهما في صدر التعليق، فراجعه.
[2] في الأصل والمطبوع: «ابن درباس» والصواب ما أثبته، وانظر التعليق على(4/249)
فيها أبو علي محمد بن القاسم بن معروف التميمي الدمشقي الأخباري.
قال الكتاني: حدّث عن أبي بكر أحمد بن علي المروزي بأكثر كتبه، واتّهم في ذلك، وقيل: إن أكثرها إجازة، وكان صاحب دنيا [1] ، يحب المحدّثين ويكرمهم، وعاش أربعا وستين سنة. قاله في «العبر» [2] .
وقال في «المغني» [3] : له جزء سمعناه اتّهم في أخباره [4] عن أبي بكر أحمد بن علي. انتهى.
__________
الصفحة (101 102) من هذا المجلد.
[1] يعني كان غنيا صاحب مال.
[2] (2/ 283) .
[3] (2/ 625) .
[4] في «المغني في الضعفاء» : «في إكثاره» .(4/250)
سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة
فيها كما قال في «الشذور» اتصلت الفتن بين الشيعة والسّنّة، وقتل بينهم خلق كثير.
وفيها استنصرت الكلاب الرّوم على المسلمين، فظفروا بسريّة فأسروها، وأسروا أميرها محمد بن ناصر الدولة بن حمدان، ثم أغاروا على الرّها، وحرّان، فقتلوا وسبوا، وأخذوا حصن الهارونية، وأحرقوه، وكرّوا على ديار بكر.
وفي هذه المدة، عمل الخطيب عبد الرحيم بن نباتة خطبه الجهاديات، يحرّض الإسلام على الغزاة.
وفيها توفي النّجّاد أبو بكر أحمد بن سلمان [1] بن الحسن بن إسرائيل بن يونس البغدادي الفقيه الحافظ، شيخ الحنابلة بالعراق، وصاحب التصانيف و «السنن» . سمع أبا داود السجستاني، وإبراهيم الحربي، وعبد الله بن الإمام أحمد، وهذه الطبقة. ومنه ابن مالك، وعمر بن شاهين، وابن بطة، وصاحبه أبو جعفر العكبري، وابن حامد، وأبو الفضل التميمي، وغيرهم، وكانت له حلقتان في جامع المنصور حلقة قبل الصلاة للفتوى على
__________
[1] في الأصل والمطبوع و «العبر» (2/ 284) : «ابن سليمان» وهو خطأ، والتصحيح من كتب الرجال التي بين يدي.(4/251)
مذهب الإمام أحمد، وبعد الصلاة لإملاء الحديث، واتسعت رواياته وانتشرت أحاديثه ومصنفاته، وكان رأسا في الفقه، رأسا في الحديث.
قال أبو إسحاق الطبري: كان النّجّاد يصوم الدهر، ويفطر [كل ليلة] [1] على رغيف، ويترك منه لقمة، فإذا كان ليلة الجمعة، أكل تلك اللّقم التي استفضلها، وتصدق بالرغيف.
وقال أبو علي بن الصوّاف: وكان أحمد بن سلمان النّجّاد يجيء معنا إلى المحدّثين ونعله في يده، فقيل له: لم لا تلبس نعلك؟ قال: أحب أن أمشي في طلب حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم وأنا حاف، فلعله ذهب إلى قوله صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأخفّ النّاس- يعني حسابا يوم القيامة بين يدي الملك الجبّار- المسارع إلى الخيرات، ماشيا على قدميه حافيا» [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم] : أخبرني جبريل أنّ الله تعالى ناظر إلى عبد يمشي حافيا في طلب الخير [2] . وقال أبو بكر النّجّاد: تضايقت وقتا من الزمان، فمضيت إلى إبراهيم الحربي فذكرت له قصتي، فقال: اعلم أني تضايقت يوما حتّى لم يبق معي إلا قيراط، فقالت الزوجة: فتش كتبك وانظر ما لا تحتاج إليه فبعه، فلما صليت عشاء الآخرة وجلست في الدهليز أكتب، إذ طرق عليّ الباب طارق، فقلت: من هذا؟ فقال: كلّمني، ففتحت الباب، فقال: أطفئ السراج، فطفيتها، فدخل الدهليز، فوضع فيه كارة [3] ، وقال: اعلم أنّا أصلحنا للصبيان طعاما، فأحببنا أن يكون لك وللصبيان فيه نصيب، وهذا أيضا شيء آخر، فوضعه إلى جانب الكارة، وقال: تصرفه في حاجتك- وأنا لا أعرف الرجل- وتركني وانصرف، فدعوت الزوجة وقلت لها: أسرجي، فأسرجت وجاءت،
__________
[1] زيادة من «سير أعلام النبلاء» (15/ 503) . أقول: وصيام الدهر خلاف السّنّة. (ع) .
[2] ذكره الخطيب البغدادي ضمن ترجمة المترجم في «تاريخ بغداد» (4/ 191) ، وإسناده ضعيف جدا.
[3] الكارة: ما يجمع ويشدّ ويحمل على الظهر من طعام أو ثياب. انظر «المعجم الوسيط» (كور) .(4/252)
وإذا الكارة منديل له قيمة، وفيه خمسون وسطا، في كل وسط لون من الطعام، وإذا إلى جانب الكارة كيس فيه ألف دينار.
قال النّجّاد: فقمت من عنده، فمضيت إلى قبر أحمد فزرته، ثم انصرفت، فبينا أنا أمشي إلى جانب الخندق، إذ لقيتني عجوز من جيراننا، فقالت لي: أحمد، فأجبتها، فقالت: ما لك مغموم؟ فأخبرتها فقالت: اعلم أن أمك أعطتني قبل موتها ثلاثمائة درهم، وقالت لي: أخبئي هذه عندك، فإذا رأيت ابني مضيقا مغموما فأعطيه إيّاها، فتعال معي حتّى أعطيك إيّاها، فمضيت معها، فدفعتها إليّ.
وقال النّجّاد: حدّثنا معاذ بن المثنى، ثنا خلّاد بن أسلم [1] ثنا محمد بن فضيل، عن ليث، عن مجاهد، كلهم قال في قول الله عزّ وجل: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً 17: 79 [الإسراء: 79] . قال: يجلسه معه على العرش [2] وتوفي النّجّاد وقد كفّ بصره ليلة الثلاثاء، لعشر بقين من ذي الحجة، ودفن صبيحة تلك الليلة عند قبر بشر بن الحارث، وعاش خمسا وتسعين سنة.
وفيها الخلدي، أبو محمد جعفر بن محمد بن نصير البغدادي الخوّاص الزاهد، شيخ الصوفية، ومحدّثهم.
والخلدي: بالضم والسكون ومهملة، نسبة إلى الخلد محلة ببغداد.
سمع الحارث بن أبي أسامة، وعلي بن عبد العزيز البغوي وطبقتهما.
قال السخاوي: هو جعفر بن محمد بن نصير أبو محمد الخوّاص، البغدادي المنشأ والمولد. صحب الجنيد، وعرف بصحبته، وصحب النّوري، ورويما [3] والجريري وغيرهم من مشايخ الوقت، وكان المرجع إليه
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «جلّاد بن أسلم» وهو خطأ، والتصحيح من «تقريب التهذيب» ص (196) .
[2] أقول: وإسناده ضعيف، وانظر «تفسير الطبري» (15/ 98) (ع) .
[3] في الأصل والمطبوع: «ورميم» والتصحيح من «طبقات الصوفية» للسلمي ص (434) .(4/253)
في علوم القوم وكتبهم، وحكاياتهم وسيرهم.
قال: عندي مائة ونيّف وثلاثون ديوانا من دواوين الصوفية.
وحجّ قريبا من ستين حجّة، وتوفي ببغداد، وقبره بالشّونيزيّة، عند قبر السّري السّقطي والجنيد.
ومن كلامه: لا يجد العبد لذّة المعاملة مع لذة النفس، لأنّ أهل الحقائق قطعوا العلائق.
وقال: الفرق بين الرياء والإخلاص أنّ المرائي يعمل ليرى، والمخلص يعمل ليصل.
وقال: الفتوّة احتقار النفس وتعظيم حرمة المسلمين.
وقال لرجل: كن شريف الهمّة، فإن الهمم تبلغ بالرجل لا المجاهدات.
وقال جعفر: ودعت في بعض حجّاتي المزين الكبير الصوفي، فقلت:
زودني شيئا، فقال: إن ضاع منك شيء وأردت أن يجمع الله بينك وبين إنسان، فقل: يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد، اجمع بيني وبين كذا وكذا، فإن الله يجمع بينك وبين ذلك الشيء، أو ذلك الإنسان. قال: فما دعوت الله بتلك الدعوة في شيء إلا استجبت.
توفي ليلة الأحد لتسع خلون من شهر رمضان. انتهى ملخصا.
وقال في «العبر» [1] : حجّ ستّا وخمسين حجّة، وعاش خمسا وتسعين سنة. انتهى.
وفيها علي بن محمد بن الزّبير القرشي الكوفي المحدّث، أبو الحسن، حدّث عن ابني عفّان، وإبراهيم بن عبد الله القصّار وجماعة. وثقه الخطيب ومات في ذي القعدة، وله أربع وتسعون سنة.
__________
[1] (2/ 285) .(4/254)
وفيها محمد بن أحمد بن علي بن أسد البردعي [1] الأسدي بن حرارة، وحرارة لقب أبيه. وكان محمد هذا حافظا كبيرا، نقّادا، مكثرا.
والبردعي: بفتح الباء والدال المهملة، وسكون الراء، نسبة إلى بردعة بلد بأذربيجان.
وفيها أبو بكر محمد بن جعفر الأدمي القارئ بالألحان. حدّث عن أحمد بن عبيد بن ناصح وجماعة، وقيل: إنه خلّط قبل موته.
__________
[1] كذا في الأصل والمطبوع: «البردعي» وفي «تذكرة الحفاظ» (3/ 971) و «طبقات الحفاظ» ص (387) : «البرذعي» بالذال.(4/255)
سنة تسع وأربعين وثلاثمائة
قال في «الشذور» : وفي هذه السنة أسلم من التّرك مائتا ألف حزكاه [1] . انتهى.
وفيها أوقع نجا، غلام سيف الدولة بالرّوم، فقتل وأسر، وفرح المسلمون.
وفيها تمت وقعة هائلة ببغداد، بين السّنّة والرافضة، وقويت الرافضة ببني هاشم، وبمعز الدّولة، وعطّلت الصلوات في الجوامع، ثم رأى معز الدولة المصلحة في القبض على جماعة من الهاشميين، فسكنت الفتنة.
وفيها حشد سيف الدولة، ودخل الرّوم، فأغار، وقتل، وسبى، فرجعت إليه [2] جيوش الرّوم، فعجز عن لقائهم، وكرّ في ثلاثمائة، ونهبت خزانته، وقتل جماعة من أمرائه، والله المستعان.
وفيها توفي أبو الحسين أحمد بن عثمان الأدمي العطشي- بفتحتين ومعجمة، نسبة إلى سوق العطش ببغداد- توفي في ربيع الآخر، وله أربع وتسعون سنة. روى عن العطاردي، وعبّاس الدّوري، والكبار.
وفيها أبو الفوارس الصّابوني.
__________
[1] يعني مشدودين بالحبال. انظر: «لسان العرب» (حزك) وفي «النجوم الزاهرة» : «خركاه» .
[2] في «العبر» : «فزحفت إليه» .(4/256)
قال في «حسن المحاضرة» [1] : أبو الفوارس الصابوني أحمد بن محمد بن حسين بن السّندي، الثقة المعمّر، مسند ديار مصر. عن يونس بن عبد الأعلى، والمزني، والكبار، وآخر من روى عنه ابن نظيف. مات في شوال. وله مائة وخمس سنين.
وفيها العلّامة أبو الوليد حسّان بن محمد القرشي الأموي النيسابوري الفقيه، شيخ الشافعية بخراسان، وصاحب ابن سريج. صنّف التصانيف، وكان بصيرا بالحديث وعلله. خرّج كتابا على «صحيح مسلم» . روى عن محمد بن إبراهيم البوشنجي وطبقته. وعنه: الحاكم وغيره، وهو ثقة. أثنى عليه غير واحد، وهو صاحب وجه في المذهب.
وقال فيه الحاكم: هو إمام أهل الحديث بخراسان، وأزهد من رأيت من العلماء وأعبدهم. توفي في ربيع الأول عن اثنتين وتسعين [2] سنة.
وفيها أبو علي الحافظ، الحسين بن علي بن يزيد بن داود النيسابوري الثقة، أحد الأعلام. توفي في جمادى الأولى بنيسابور، وله اثنتان وسبعون سنة.
قال الحاكم: هو واحد عصره، في الحفظ، والإتقان، والورع، والمذاكرة، والتصنيف. سمع إبراهيم بن أبي طالب وطبقته، وفي الرحلة من النّسائي، وأبي خليفة، وطبقتهما، وكان باقعة [3] في الحفظ، كان ابن عقدة يخضع لحفظه.
وفيها عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم الخراساني، أبو محمد
__________
[1] (1/ 369) .
[2] كذا في الأصل والمطبوع، وفي «العبر» (2/ 287) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 495) : «عن اثنتين وسبعين» وانظر التعليق على «العبر» .
[3] في الأصل والمطبوع: «باعقة» وهو خطأ، والتصحيح من «طبقات الحفاظ» للسيوطي ص (368) . قال الفيروزآبادي في «القاموس المحيط» (بقع) : الباقعة: الرجل الداهية والذّكيّ العارف لا يفوته شيء ولا يدهى.(4/257)
المعدّل [1] وكان ابن عم أبي القاسم البغوي. سمع أحمد بن ملاعب، ويحيى بن أبي طالب وطبقتهما.
قال الدارقطني: ليّن.
وفيها أبو طاهر بن أبي هاشم [شيخ] [2] القرّاء بالعراق، وهو عبد الواحد بن عمر بن محمد البغدادي، صاحب التصانيف، وتلميذ ابن مجاهد.
روى عن محمد بن جعفر القتّات وطائفة، ومات في شوال، عن سبعين سنة.
وفيها أبو أحمد العسّال القاضي، واسمه محمد بن أحمد بن إبراهيم، قاضي أصبهان. سمع محمد بن أسد المديني، وأبا بكر بن أبي عاصم وطبقتهما، ورحل وجمع وصنّف، وكان من أئمة هذا الشأن.
قال أبو نعيم الحافظ: كان من كبار الحفاظ.
وقال ابن مندة: كتبت عن ألف شيخ، لم أر فيهم أتقن من أبي أحمد العسّال.
وقال ابن ناصر الدّين: كان حافظا كبيرا متقنا.
وقال في «العبر» [3] : قلت: توفي في رمضان، وله نحو من ثمانين سنة أو أكثر.
وقال ابن بردس [4] : وروى عنه أولاده أبو عامر، وأبو جعفر أحمد، وإبراهيم، والعبّاس، وأبو بكر عبد الله، وابن مندة، وأبو نعيم الحافظ. وهو أحد الأئمة في الحديث فهما، وإتقانا، وأمانة.
__________
[1] في «العبر» : «العدل» وانظر «ميزان الاعتدال» (2/ 392) .
[2] لفظة «شيخ» سقطت من الأصل والمطبوع واستدركتها من «العبر» (2/ 288) .
[3] (2/ 289) .
[4] في الأصل والمطبوع: «ابن درباس» وهو خطأ والصواب ما أثبته، وانظر التعليق على الصفحة (101- 102) من هذا المجلد.(4/258)
وقال أبو بكر بن علي: هو ثقة مأمون.
قال أبو يعلى في «الإرشاد» له: أبو أحمد العسّال، حافظ متقن، عالم بهذا الشأن. انتهى ما قاله ابن بردس [1] .
وفيها الحافظ ابن سعد البزّاز الحاجي، واسمه عبد الله بن أحمد بن سعد بن منصور، أبو محمد، النيسابوري الحاجي البزّاز، الحافظ الثبت.
روى عن محمد البوشنجي، وإبراهيم بن أبي طالب، والسرّاج وطبقتهم، وعنه أبو عبد الله الحاكم وغيره.
قال الحاكم: كتب الكثير، وجمع الشيوخ، والأبواب [2] ، والملح، ووثقه ابن شيرويه.
وفيها ابن علم الصفّار، أبو بكر محمد بن عبد الله بن عمرويه البغدادي، صاحب الجزء المعروف المشهور.
قال الخطيب [3] : جميع ما عنده [عنهما] [4] جزء، ولم أسمع أحدا [من أصحابنا] [5] يقول فيه إلّا خيرا.
قال في «العبر» [6] : سمع محمد بن إسحاق الصاغاني وغيره، ومات في شعبان، ويقال: إنه جاوز المائة. انتهى.
__________
[1] انظر «تذكرة الحفاظ» للذهبي (3/ 886- 889) .
[2] في الأصل والمطبوع: «والأموات» وهو خطأ، والتصحيح من «تذكرة الحفاظ» (3/ 907) .
[3] في «تاريخ بغداد» (5/ 454) .
[4] يعني عن شيخيه محمد بن إسحاق الصاغاني، وأحمد بن أبي خيثمة.
[5] زيادة من «تاريخ بغداد» .
[6] (2/ 289) .(4/259)
سنة خمسين وثلاثمائة
فيها كما قال في «الشذور» وقع برد كل بردة أوقيتان وأكثر، فقتل البهائم والطيور. انتهى.
وفيها بنى معزّ الدولة ببغداد دار السلطنة في غاية الحسن والكبر، غرم عليها ثلاثة عشر ألف ألف درهم [1] وقد درست آثارها في حدود الستمائة، وبقي مكانها دحلة [2] يأوي إليها الوحش، وبعض أساسها موجود، فإنه حفر لها في الأساسات نيّفا وثلاثين ذراعا.
وفيها توفي أبو حامد، أحمد بن علي بن الحسن بن حسنويه النيسابوري التاجر. سمع أبا عيسى الترمذي، وأبا حاتم الرّازي وطبقتهما.
قال الحاكم: كان من المجتهدين في العبادة، ولو اقتصر على سماعه الصحيح لكان أولى به، لكنه حدّث عن جماعة أشهد بالله أنه لم يسمع منهم.
وفيها أحمد بن كامل بن خلف بن شجرة، القاضي، أبو بكر، البغدادي، تلميذ محمد بن جرير، وصاحب التصانيف في الفنون، ولي قضاء
__________
[1] كذا في كتابنا وفي «دول الإسلام» للذهبي (1/ 216) و «النجوم الزاهرة» (3/ 327) : «ثلاثة عشر ألف ألف درهم» ، وفي «العبر» (2/ 290) : «ثلاثة عشر ألف ألف دينار» .
[2] حفرة ضيقة الفم واسعة الجوف. انظر «لسان العرب» و «المعجم الوسيط» (دحل) .(4/260)
الكوفة، وحدّث عن محمد بن سعد العوفي وطائفة، وعاش تسعين سنة.
توفي في المحرم.
قال الدارقطني: ربما حدّث من حفظه بما ليس في كتابه، أهلكه العجب، وكان يختار لنفسه، ولم يقلّد أحدا [1] .
وقال ابن رزقويه: لم تر عيناي مثله.
وقال في «المغني» [2] : أحمد بن كامل القاضي، بغدادي حافظ. قال الدارقطني: كان متساهلا. انتهى.
وفيها أبو سهل القطّان، أحمد بن محمد بن عبد الله بن زياد البغدادي، المحدّث الأخباري الأديب، مسند وقته. روى عن العطاردي، ومحمد بن عبيد الله المنادي، وخلق، وفيه تشيّع قليل. وكان يديم التهجّد والتلاوة والتعبّد، وكان كثير الدّعابة.
قال البرقاني: كرهوه لمزاح فيه، وهو صدوق. توفي في شعبان، وله إحدى وتسعون سنة.
وفيها أبو محمد الخطبيّ، إسماعيل بن علي بن إسماعيل البغدادي، الأديب الأخباري، صاحب التصانيف. روى عن الحارث بن أبي أسامة وطائفة، وكان يرتجل الخطب ولا يتقدّمه فيها [3] أحد، فلذا نسب إليها.
وفيها أبو علي الطبري، الحسن بن القاسم، شيخ الشافعية ببغداد، درّس الفقه بعد شيخه أبي علي بن أبي هريرة، وصنّف التصانيف، ك «المحرّر» و «الإفصاح» و «العدة» وهو صاحب وجه.
__________
[1] في «العبر» : «ولا يقلد أحدا» .
[2] (1/ 52) .
[3] لفظة «فيها» لم ترد في «العبر» للذهبي وكذلك ما جاء بعد لفظة «أحد» .(4/261)
قال الإسنوي [1] : وصنّف في الأصول، والجدل والخلاف، وهو أول من صنّف في الخلاف المجرّد، وكتابه فيه يسمى «المحرّر» . سكن بغداد ومات بها.
والطبريّ: نسبة إلى طبرستان، بفتح الباء الموحدة، وهو إقليم متّسع، مجاور لخراسان، ومدينته آمل، بهمزة ممدودة وميم مضمومة، بعدها لام.
وأما الطبرانيّ: فنسبة إلى طبرية الشام. انتهى ملخصا.
وفيها أبو جعفر بن بريه الهاشمي، خطيب جامع المنصور، عبد الله بن إسماعيل بن إبراهيم بن عيسى بن المنصور، أبي جعفر، في صفر، وله سبع وثمانون سنة، وهو في طبقة الواثق في النسب. روى عن العطاردي، وابن أبي الدّنيا.
وفيها توفي خليفة الأندلس، وأول من تلقب بأمير المؤمنين من أمراء الأندلس، الناصر لدين الله، أبو المطرّف عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله [الأموي] [2] المرواني، وكانت دولته خمسين سنة، وقام بعده ولده المستنصر بالله [3] ، وكان كبير القدر كثير المحاسن، أنشأ مدينته الزهراء، وهي عديمة النظير في الحسن، غرم عليها من الأموال ما لا يحصى. قاله في «العبر» [4] .
وقال الشيخ أحمد المقّري [5] المتأخّر في كتابه «أزهار الرياض في أخبار عياض» [6] : وكانت سبتة مطمح همم ملوك العدوتين، وقد كان للناصر
__________
[1] في «طبقات الشافعية» (2/ 154) .
[2] زيادة من «العبر» (2/ 293) .
[3] في الأصل والمطبوع: «المنتصر» وهو خطأ والتصحيح من «العبر» .
[4] (2/ 293) .
[5] قال العلّامة الزركلي في ترجمته في «الأعلام» (1/ 237) : المقّري: نسبة إلى مقّرة، بفتح الميم وتشديد القاف المفتوحة، من قرى تلمسان.
[6] في الأصل والمطبوع: «زهر الرياض في أخبار عياض» وهو خطأ، والتصحيح من «كشف الظنون» (1/ 72) و «الأعلام» .(4/262)
المرواني صاحب الأندلس عناية واهتمام بدخولها في إيالته، حتّى حصل له ذلك.
ومنها ملك المغرب، وكان تملكه إيّاها سنة تسع عشرة وثلاثمائة، وبها اشتد سلطانه وملك البحر بعدوية، وصار المجاز في يده، ومن غريب ما يحكى أنه أراد الفصد، فقعد في المجلس الكبير المشرف بأعلى مدينته بالزهراء، واستدعى الطبيب لذلك، وأخذ الطبيب المبضع وجسّ يد الناصر، فبينما هو كذلك، إذ طل زر زور، فصعد على إناء من ذهب بالمجلس، وأنشد:
أيّها الفاصد مهلا ... بأمير المؤمنينا
إنما تفصد عرقا ... فيه محيا العالمينا
وجعل يكرر ذلك المرة بعد المرة، فاستظرف أمير المؤمنين الناصر ذلك غاية الاستظراف، وسرّ به غاية السرور، وسأل من أين اهتدى إلى ذلك؟
ومن علّم الزر زور، فذكر له، أن السيدة الكبيرة مرجانة، أمّ ولي عهده الحاكم المستنصر بالله صنعت ذلك، وأعدّته لذلك الأمر، فوهب لها ما ينوف على ثلاثين ألف دينار.
والناصر المذكور هو الباني لمدينة الزهراء العظيمة المقدار، ولما بنى قصر الزهراء المتناهي في الجلالة، أطبق الناس على أنه لم يبن مثله في الإسلام البتّة، وكل من رآه قطع أنه لم ير مثله ولم يبصر له شبها، بل لم يسمع بمثله، بل لم يتوهم كون مثله.
وذكر المؤرخ أبو مروان بن حيّان، صاحب الشرطة، أن مباني قصر الزهراء اشتملت على أربعة آلاف سارية، ما بين كبيرة وصغيرة، حاملة ومحمولة، ونيّف على ثلاثمائة سارية زائدة، وأن مصارع أبوابها صغارها وكبارها كانت تنيف على خمسة عشر ألف باب، وكان عدد الفتيان بالزهراء ثلاثة عشر ألف فتى وسبعمائة وخمسون فتى، وعدة النساء بقصر الزهراء(4/263)
الصغار والكبار وخدم الخدمة ثلاثة آلاف وثلاثمائة امرأة وأربع عشرة.
وذكر بعض أهل الخدمة في الزهراء أنه قدر النفقة فيها في كل يوم بثلاثمائة ألف دينار، مدة خمسة وعشرين عاما.
قال القاضي أبو الحسن: ومن أخبار منذر بن سعيد البلوطي المحفوظة له مع الخليفة الناصر في إنكاره عليه الإسراف في البناء، أن الناصر كان اتخذ لسطح القبة التي كانت على الصرح الممرد المشهور شأنه بقصر الزهراء قراميد مغشاة ذهبا وفضة، أنفق عليها مالا جسيما، وقد مدّ سقفها به، تستلب الأبصار بأشعة أنوارها، وجلس فيها أثر تمامها يوما لأهل مملكته، فقال لقرابته من الوزراء وأهل الخدمة، مفتخرا بما صنعه من ذلك: هل رأيتم أو سمعتم ملكا كان قبلي فعل مثل فعلي هذا وقدر عليه؟ فقالوا: لا يا أمير المؤمنين، وإنك لأوحد في شأنك كله، وما سبقك إلى مبتدعاتك هذه ملك رأيناه، ولا انتهى إلينا خبره، فأبهجه قولهم وسرّه، وبينما هو كذلك إذ دخل عليه القاضي منذر بن سعيد واجما ناكس الرأس، فلما أخذ مجلسه، قال له كالذي قال لوزرائه من ذكر السقف المذهب، واقتداره عليه، وعلى إبداعه، فأقبلت دموع القاضي تنحدر على لحيته، وقال له: والله يا أمير المؤمنين ما ظننت أن الشيطان- لعنه الله تعالى- يبلغ منك هذا المبلغ، ولا أن تمكنه من قلبك هذا التمكين، مع ما آتاك الله من فضله ونعمته، وفضّلك به على العالمين، حتّى ينزلك منازل الكافرين. قال: فانفعل عبد الرحمن لقوله وقال له: انظر ما تقول، وكيف أنزلتني منزلتهم؟ فقال له: نعم، أليس الله تعالى يقول: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً من فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ 43: 33 [الزّخرف: 33] . فوجم الخليفة، واطّردت عيناه، وأطرق مليا ودموعه تتساقط خشية وخشوعا لله تعالى، ثم أقبل على منذر، فقال له: جزاك الله يا قاضي عنّا وعن نفسك خيرا، وعن الدّين والمسلمين أجمل جزائه، وكثّر في الناس أمثالك، فالذي قلت هو الحق، وقام من(4/264)
مجلسه ذلك، وأمر بنقض سقف القبة، وأعاد قرمدها ترابا على صفة غيرها.
وحكى غير واحد أنه وجد بخط الناصر رحمه الله تعالى أيام السرور التي صفت له دون تكدير، يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا، ويوم كذا من كذا، وعدّت تلك الأيام، فكان فيها أربعة عشر يوما، فاعجب أيّها العاقل لهذه الدّنيا وعدم صفائها، وبخلها بكمال الأحوال لأوليائها، هذا الخليفة الناصر حلف السعود، المضروب به المثل في الارتقاء في الدّنيا، ملكها خمسين سنة وستة أو سبعة أشهر، وثلاثة أيام، ولم يصف له إلا أربعة عشر يوما، فسبحان ذي العزّة العالية القائمة، والمملكة الباقية الدائمة، تبارك اسمه وتعالى جدّه، لا إله إلّا هو. انتهى ما أورده المقّري مختصرا.
وفيها القاضي أبو السائب، عتبة بن عبيد الله الهمذانيّ الشافعيّ الصوفيّ تزهد أولا، وصحب الكبار، ولقي الجنيد، ثم كتب الفقه، والحديث، والتفسير، وولي قضاء أذربيجان، ثم قضاء همذان، ثم سكن بغداد ونوّه باسمه، إلى أن ولي قضاء القضاة، وكان أول من ولي قضاء القضاة من الشافعية.
وفيها فاتك المجنون، أبو شجاع الرّومي الإخشيذي.
قال ابن خلّكان [1] : كان روميا، أخذ صغيرا، هو وأخوه، وأخت لهما من بلد الرّوم، من موضع قرب حصن يعرف بذي الكلاع، فتعلّم الخطّ بفلسطين، وهو ممّن أخذه الإخشيذ من سيده كرها بالرّملة بلا ثمن، فأعتقه صاحبه، وكان معهم حرّا في عدة المماليك، وكان كريم النفس بعيد الهمّة شجاعا كثير الإقدام، ولذلك قيل له «المجنون» وكان رفيق الأستاذ كافور في خدمة الإخشيذ، فلما مات مخدومهما، وتقرر كافور في خدمة ابن الإخشيذ أنف فاتك من الإقامة بمصر كيلا يكون كافور أعلى رتبة منه، ويحتاج أن
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (4/ 21) .(4/265)
يركب في خدمته، وكانت الفيوم وأعمالها إقطاعا له، فانتقل إليها واتخذها سكنا له، وهي بلاد وبيئة كثيرة الوخم، فلم يصح له بها جسم، وكان كافور يخافه ويكرمه [فزعا منه] [1] وفي نفسه منه ما فيها، فاستحكمت العلة في جسم فاتك، وأحوجته إلى دخول مصر للمعالجة، فدخلها وبها أبو الطيب المتنبي ضيفا للأستاذ كافور، وكان يسمع بكرم فاتك وكثرة سخائه، غير أنه لا يقدر على قصد خدمته خوفا من كافور، وفاتك يسأل عنه ويراسله بالسلام، ثم التقيا بالصحراء مصادفة من غير ميعاد، وجرى بينهما مفاوضات، فلما رجع فاتك إلى داره حمل لأبي الطيب في ساعته هدية قيمتها ألف دينار، ثم أتبعها بهدايا بعدها، فاستأذن المتنبي الأستاذ كافور في مدحه، فأذن له، فمدحه بقصيدته المشهورة وهي من غرر القصائد التي أولها:
لا خيل عندك تهديها ولا مال ... فليسعد النّطق إن لم تسعد [2] الحال
وما أحسن قوله فيها:
كفاتك ودخول الكاف منقصة ... كالشمس [3] ولّت وما للشّمس أمثال
ثم توفي فاتك المذكور عشية الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال سنة خمسين وثلاثمائة بمصر، فرثاه المتنبي، وكان قد خرج من مصر بقصيدته التي أولها:
الحزن يقلق والتجمّل يردع ... والدّمع بينهما عصيّ طيّع [4]
وما أرق قوله فيها:
إني لأجبن من فراق أحبّتي ... وتحسّ نفسي بالحمام فأشجع
__________
[1] ما بين حاصرتين زيادة من «وفيات الأعيان» .
[2] في «وفيات الأعيان» : «يسعد» والبيت في «ديوانه» (3/ 276) بشرح العكبري، وتحقيق السقا، والأبياري، والشلبي.
[3] في «وفيات الأعيان» : «كالشمس قلّت» .
[4] البيت في «ديوانه» بشرح العكبري (2/ 268) .(4/266)
ويزيدني غضب الأعادي قسوة ... ويلمّ بي عتب الصّديق فأجزع
تصفو الحياة لجاهل أو غافل ... عمّا مضى منها وما يتوقّع
ولمن يغالط في الحقيقة نفسه ... ويسومها طلب المحال فتطمع
أين الذي الهرمان من بنيانه ... ما قومه ما يومه ما المصرع
تتخلّف الآثار عن أصحابها ... حينا ويدركها [1] الفناء فتتبع
وهي من المراثي الفائقة، وله فيه غيرها. انتهى ملخصا.
وفيها مسند بخارى، أبو بكر، محمد بن أحمد بن خنب [2] البغدادي الدّهقان الفقيه المحدّث، في رجب، وله أربع وثمانون سنة. روى عن يحيى بن أبي طالب، وابن أبي الدّنيا، والكبار، واستوطن بخارى، وصار شيخ تلك الناحية.
__________
[1] في «وفيات الأعيان» «فيدركها» ، والأبيات في «ديوانه» بشرح العكبري (2/ 269- 270) .
[2] في الأصل والمطبوع: «ابن حبيب» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» (2/ 294) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 523) و «تاج العروس» (خنب) (2/ 384) المطبوع في الكويت.(4/267)
سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة
فيها كما قال ابن الجوزي في «الشذور» وقع برد في الحامدة [1] كل بردة رطل ونصف، ورطلان.
وفيها ورد الخبر بورود الرّوم عين زربة [2] في مائة وستين ألفا، فقتل ملكهم الدّمستق خلقا كثيرا، وأوقع أربعين ألف نخلة، وهدم سور البلد والجامع، وكسر المنبر، وورد إلى حلب بغتة ومعه مائتا ألف، فانهزم منه سيف الدولة، فظفر بداره، فوجد فيها ثلاثمائة وسبعين بدرة دراهم، فأخذها، وأخذ ما لا يحصى من السلاح، وأحرق الدار، وأخذ خلقا كثيرا كانوا أسرى عند المسلمين، بضعة عشر ألف صبي وصبية، وأخذ من النساء ما أراد، وعمد إلى جباب الزيت، فصبّ فيها الماء، حتّى فاض الزيت. انتهى.
وفيها كما قال في «العبر» [3] رفعت المنافقون رؤوسها ببغداد، وقامت الدولة الرافضية، وكتبوا على أبواب المساجد لعنة معاوية، ولعنة من غصب
__________
[1] لعلها الجامدة، وهي قرية كبيرة جامعة من أعمال واسط بينها وبين البصرة. انظر «معجم البلدان» (1/ 95) .
[2] في الأصل والمطبوع: «عين روية» وهو خطأ، والتصحيح من «تاريخ الطبري» (8/ 320) و «العبر» (2/ 294- 295) و «غربال الزمان» ص (304) ، وفي «معجم البلدان» (4/ 177) :
«عين زربي» بفتح الزاي، وسكون الراء، وباء موحدة، وألف مقصورة. وانظر «النجوم الزاهرة» (3/ 331) .
[3] (2/ 295- 296) .(4/268)
فاطمة حقّها [1] ، ولعنة من نفى أباذرّ، فمحته أهل [2] السّنّة في الليل، فأمر معز الدولة بإعادته، فأشار عليه الوزير المهلّبيّ، أن يكتب: ألا لعنة الله على الظالمين [لآل محمّد] [3] ولعنة معاوية فقط. انتهى.
وفيها توفي أبو العبّاس أحمد بن إبراهيم بن جامع السكّري، بمصر.
روى عن علي بن عبد العزيز البغوي وطائفة [4] .
وفيها أبو بكر أحمد بن محمد بن أبي الموت المكّي. روى عن عليّ البغوي، وأبي يزيد القراطيسي وطائفة، وعاش تسعين سنة.
وفيها أحمد بن محمد أبو الحسين النيسابوري، قاضي الحرمين، وشيخ الحنفية في عصره. ولي قضاء الحجاز مدّة، ثم قدم نيسابور، وولي قضاءها. تفقّه على أبي الحسن الكرخي، وبرع في الفقه، وعاش سبعين سنة.
قال في «العبر» [5] : وروى عن أبي خليفة الجمحي، وكان القاضي أبو بكر الأبهري، شيخ المالكية يقول: ما قدم علينا من الخراسانيين أفقه من أبي الحسين.
وفيها أبو إسحاق الهجيمي مصغرا- نسبة إلى بني الهجيم، بطن من
__________
[1] في «النجوم الزاهرة» (3/ 332) : «حقها من فدك» وجاء في حاشيته: فدك بالتحريك. قرية بالحجاز، بينها وبين المدينة يومان، وقيل: ثلاثة، أفاءها الله عزّ وجل على رسوله، صلى الله عليه وسلم، في سنة سبع صلحا، وهي التي قالت فاطمة رضي الله عنها: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نحلنيها. فقال أبو بكر، رضي الله عنه: أريد لذلك شهودا، وقد ردّها عمر، رضي الله عنه، إلى ورثة رسول الله، صلى الله عليه وسلم ... وانظر «معجم البلدان» (4/ 238- 240) .
[2] لفظة «أهل» سقطت من الأصل وأثبتها من المطبوع.
[3] ما بين حاصرتين سقط من الأصل والمطبوع واستدركته من «العبر» (2/ 296) وانظر «النجوم الزاهرة» (3/ 333) .
[4] حصل في الأصل هنا بعض الخطأ، فتكررت بعض العبارات من الترجمة التالية، وأبقيت النص كما جاء في المطبوع و «العبر» للذهبي مصدر المؤلف.
[5] (2/ 297) .(4/269)
تميم، وإلى محلة لهم بالبصرة- إبراهيم بن علي البصري في آخر السنة، وقد قارب المائة. روى عن جعفر بن محمد بن شاكر، والكديمي، وطائفة.
وفيها دعلج بن أحمد [بن دعلج] [1] أبو محمد السّجزي [2] المعدّل، وله نيّف وتسعون سنة. رحل وطوّف، وأكثر، وسمع من هشام السّيرافي، وعلي البغوي وطبقتهما.
قال الحاكم: أخذ عن ابن خزيمة مصنفاته، وكان يفتي [3] بمذهبه.
وقال الدارقطني: لم أر في مشايخنا أثبت من دعلج.
وقال الحاكم: لم يكن في الدّنيا أيسر منه، اشترى بمكة دار العباس [4] بثلاثين ألف دينار، وكان الذهب في داره بالقفاف، وكان كثير المعروف والصّلات، توفي في جمادى الآخرة. قاله في «العبر» [5] .
وقال ابن ناصر الدّين: دعلج بن أحمد بن دعلج، أبو محمد السجستاني ثم البغدادي، أحد المشهورين بالبرّ، والصدقات، والأفضال.
قال الحاكم- وهو ممّن روى عنه-: لم يكن في الدّنيا أيسر منه، كان الذهب بالقفاف في داره. انتهى.
وفيها أبو محمد عبد الله بن جعفر بن محمد الورد البغدادي، بمصر، راوي «السّيرة» عن ابن البرقي في رمضان.
وفيها أبو الحسين عبد الباقي بن قانع بن مرزوق الحافظ، ببغداد،
__________
[1] زيادة من «العبر» مصدر المؤلف و «مختصر تاريخ دمشق» لابن منظور (8/ 195- 198) بتحقيق صديقي الفاضل الأستاذ مأمون الصاغرجي، طبع دار الفكر بدمشق، و «طبقات الحفاظ» ص (360) .
[2] تحرّفت في الأصل والمطبوع إلى «الشجري» والتصحيح من «العبر» .
[3] لفظة «يفتي» سقطت من الأصل وأثبتها من المطبوع و «العبر» .
[4] في «العبر» : «دار العباسية» .
[5] (2/ 297) .(4/270)
في شوال، وله ست وثمانون سنة. سمع الحارث بن أبي أسامة، وإبراهيم بن الهيثم البلدي، وطبقتهما وصنّف التصانيف.
قال الدارقطني: كان يخطئ ويصرّ على الخطأ.
وقال ابن ناصر الدّين: وثقه جماعة، واختلط قبل موته بنحو سنتين.
انتهى.
وفيها أبو أحمد الحبّيني [1] ، علي بن محمد المروزي. سمع سعيد بن مسعود المروزي وطبقته، وكان صاحب حديث.
قال الحاكم: كان يكذب [2] .
والحبّيني: بالضم وكسر الموحدة المشددة وتحتية ونون، نسبة إلى سكة حبّين بمرو.
وفيها أبو بكر النقّاش، محمد بن الحسن بن محمد بن زياد الموصلي ثم البغدادي، المقرئ المفسّر، صاحب التصانيف، في التفسير والقراءات. روى عن أبي مسلم الكجّي وطائفة، وقرأ على أصحاب ابن ذكوان، والبزّي، ورحل ما بين مصر إلى ما وراء النهر، وعاش خمسا وثمانين سنة، ومع جلالته في العلم ونبله فهو ضعيف متروك الحديث.
قال الذهبي في «المغني» [3] : مشهور، اتّهم بالكذب، وقد أتى في تفسيره بطامّات وفضائح، وهو في القراءات أمثل. انتهى.
__________
[1] تنبيه: كذا وقع في الأصل والمطبوع و «العبر» (2/ 298) «الحبّيني» وهو خطأ، صوابه «الحبيبي» انظر «الأنساب» (4/ 53) و «ميزان الاعتدال» (3/ 155) و «المغني في الضعفاء» (2/ 455) .
قلت: وقد أبعد محقّق الجزء الثاني من «العبر» الأستاذ فؤاد سيد، فأكد التحريف الذي حصل لناسخ «العبر» بل زاد على ذلك بإحالته على ضبط ابن العماد في «الشذرات» وذلك من الخطأ المركب!!
[2] في «العبر» : «كان يكتب مثل السكر» .
[3] (2/ 570) .(4/271)
وفيها أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم الشّيباني الكوفي، مسند الكوفة في زمانه. روى عن إبراهيم بن عبد الله القصّار، وأحمد بن أبي غرزة [1] وجماعة.
وفيها يحيى بن منصور القاضي، أبو محمد النيسابوري، ولي قضاء نيسابور بضع عشرة سنة. روى عن علي بن عبد العزيز البغوي، وأحمد بن سلمة، وطبقتهما.
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «أحمد بن عرعرة» وهو خطأ والتصحيح من «العبر» (2/ 299) و «تذكرة الحفاظ» (2/ 594) .(4/272)
سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة
فيها يوم عاشوراء، ألزم معز الدولة أهل بغداد بالنّوح والمآتم، على الحسين، رضي الله عنه، وأمر بغلق الأسواق، وعلّقت عليها المسوح، ومنع الطباخين من عمل الأطعمة، وخرجت نساء الرافضة منشّرات الشعور، مضمّخات [1] الوجوه، يلطمن، ويفتنّ الناس، وهذا أول ما نيح عليه، اللهمّ ثبت علينا عقولنا. قاله في «العبر» [2] .
وفيها في ثامن عشر ذي الحجة، عملت الرافضة عيد الغدير، [غدير] خمّ [3] ، ودقّت الكوسات، وصلّوا بالصحراء صلاة العيد. قاله في «العبر» أيضا [4] .
وفيها بعث صاحب إرمينية إلى ناصر الدولة رجلين ملتصقين خلفة من جانب واحد، فويق الحقو [5] إلى دوين الإبط، ولدا كذلك ولهما بطنان، وسرّتان، ومعدتان، ولم يمكن فصلهما، وكان ربما يقع بينهما تشاجر،
__________
[1] تحرّفت في «العبر» إلى «مضخمات» فتصحح فيه. ومعنى مضمّخات: ملطخات. انظر «لسان العرب» (ضمخ) ، وراجع الخبر في «غربال الزمان» ص (305) .
[2] (2/ 300) .
[3] غدير خم: بين مكة والمدينة. انظر «معجم ما استعجم» (2/ 510) و «معجم البلدان» (4/ 188) .
[4] (2/ 300) .
[5] الحقو: الخصر. انظر «مختار الصحاح» (حقا) .(4/273)
فيختصمان، ويحلف أحدهما لا يكلّم الآخر أياما، ثم يصطلحان، فمات أحدهما قبل الآخر، فلحق الحيّ الغمّ من نتن الرائحة، فمات. قاله في «الشذور» [1] .
وفيها توفي الوزير المهلّبي، أبو محمد الحسن بن محمد الأزدي، من ذرية المهلّب بن أبي صفرة، وزير معز الدولة بن بويه. كان من رجال الدّهر حزما، وعزما، وسؤددا، وعقلا، وشهامة، ورأيا. توفي في شعبان، وقد نيّف على الستين، وكان فاضلا، شاعرا، فصيحا، حليما، جوادا، صادر معز الدولة أولاده من بعده، ثم استوزر أبا الفضل بن الحسين [2] الشيرازي واسمه العباس.
قال ابن خلّكان [3] : وكان الوزير المهلّبي قبل اتصاله بمعز الدولة في شدة عظيمة من الضرورة والضائقة، وكان قد سافر مرّة، ولقي في سفره مشقة صعبة، واشتهى اللّحم فلم يقدر عليه، فقال ارتجالا:
ألا موت يباع فأشتريه ... فهذا العيش ما لا خير فيه
ألا موت لذيذ الطّعم يأتي ... يخلّصني من العيش الكريه
إذا أبصرت قبرا من بعيد ... وددت بأنّني مما يليه
ألا رحم المهيمن نفس حرّ ... تصدّق بالوفاة على أخيه
وكان معه رفيق يقال له: أبو عبد الله الصوفي، وقيل: أبو الحسن العسقلاني، فلما سمع الأبيات اشترى له بدرهم لحما وطبخه وأطعمه، وتفارقا. وتنقلت بالمهلّبي الأحوال، وتولى الوزارة ببغداد لمعز الدولة، وضاقت الأحوال برفيقه في السفر الذي اشترى له اللحم، وبلغه وزارة
__________
[1] وانظر الخبر برواية أخرى أكثر تفصيلا في «المنتظم» (7/ 16- 17) و «النجوم الزاهرة» (3/ 334- 335) .
[2] تحرّفت في «العبر» إلى «الحسن» فتصحح فيه. وانظر «الكامل في التاريخ» (8/ 547) .
[3] في «وفيات الأعيان» (2/ 124- 126) .(4/274)
المهلّبي، فقصده وكتب إليه:
ألا قل للوزير فدته نفسي ... مقالة مذكّر ما قد نسيه
أتذكر إذ تقول لضنك عيش ... ألا موت يباع فأشتريه
فلما وقف عليها تذكر [1] وهزّته أريحيّة الكرم، فأمر له في الحال بسبعمائة درهم، ووقّع في رقعته: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ في سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ في كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَالله يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ 2: 261 [البقرة: 261] ، ثم دعا به، فخلع عليه، وقلّده عملا يرتفق به.
ولما ولي المهلّبي الوزارة بعد تلك الإضافة عمل:
رقّ الزمان لفاقتي ... ورثى لطول تحرّقي
فأنالني ما أرتجي ... هـ وحاد عمّا أتّقي
فلأصفحن عمّا أتا ... هـ من الذنوب السّبّق
حتّى جنايته بما ... فعل [2] المشيب بمفرقي
وكان لمعز الدولة مملوك تركي في غاية الجمال، يدعى تكين الجامدار، وكان شديد المحبة له، فبعث سريّة لمحاربة بعض بني حمدان، وجعل المملوك المذكور مقدّم الجيش، وكان الوزير المهلّبي يستحسنه ويرى أنه من أهل الهوى لا من أهل مدد الوغى [3] ، فعمل فيه:
طفل يرقّ الماء في ... وجناته [4] ويرفّ عوده
ويكاد من شبه العذا ... رى فيه أن تبدو نهوده
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «تذكره» .
[2] في «وفيات الأعيان» : «صنع» .
[3] في «وفيات الأعيان» : «لا مدد الوغى» فتصحح العبارة فيه.
[4] في الأصل والمطبوع: «جنباته» وما أثبتناه من «وفيات الأعيان» ولفظ البيت في «يتيمة الدهر» للثعالبي (2/ 267) طبع دار الكتب العلمية ببيروت:
ظبي يرقّ الماء في ... وجناته ويرقّ عوده(4/275)
ناطوا بمعقد خصره ... سيفا ومنطقة تؤوده
جعلوه قائد عسكر ... ضاع الرعيل ومن يقوده
وكان كذلك، فإنه ما أنجح [في تلك الحركة] [1] وكانت الكرة عليهم.
ومن شعره النادر في الرّقة قوله:
تصارمت الأجفان لمّا صرمتني ... فما تلتقي [2] إلّا على عبرة تجري
انتهى ما أورده ابن خلّكان ملخصا.
وفيها أبو القاسم خالد بن سعد الأندلسي القرطبي الحافظ، كان ينظّر بيحيى بن معين، وكان أحد أركان الحديث بالأندلس. سمع بعد سنة ثلاثمائة من جماعة، منهم: محمد بن فطيس، وسعيد بن عثمان الأعناقي. ومنه:
قاسم بن محمد وغيره، وكان إماما حجّة مقدّما على حفّاظ زمانه، عجبا في معرفة الرجال والعلل، وقيل: كان يحفظ الشيء من مرّة، ورد أن المنتصر بالله الحكم قال: إذا فاخرنا أهل المشرق بيحيى بن معين، فاخرناهم بخالد بن سعد.
وفيها أبو بكر الإسكافي، محمد بن محمد بن أحمد بن مالك، ببغداد، في ذي القعدة. روى عن موسى بن سهل الوشّاء وجماعة، وله جزء مشهور [3] .
وفيها أحمد بن محمد بن السّري بن يحيى بن السّري التميمي الكوفي، أبو بكر بن أبي دارم.
قال ابن ناصر الدّين في «بديعته» :
__________
[1] ما بين حاصرتين سقط من الأصل والمطبوع واستدركته من «وفيات الأعيان» .
[2] في «وفيات الأعيان» : «فما نلتقي» وما جاء في كتابنا موافق لما في «يتيمة الدهر» (2/ 282) .
[3] قلت: وثّقه السمعاني، وضعّفه الذهبي. انظر «الأنساب» (1/ 245) و «العبر» (2/ 301) .(4/276)
ابن أبي دارم الضعيف ... شيعهم برفضه نحيف
أي كان رافضا، فضعّف بسبب رفضه.
روى عن إبراهيم بن عبد الله القصّار، وأحمد بن موسى الحمار، ومطين، وعنه الحاكم، وابن مردويه وآخرون، وكان محدّث الكوفة وحافظها، وجمع في الحطّ على الصحابة، وقد اتّهم في الحديث.
وفيها أحمد بن عبيد بن إسماعيل الحافظ الثقة أبو الحسن البصري الصّفّار. روى عن الكديمي، ومحمد بن غالب تمتام. وروى عنه الدارقطني، وابن جميع.
قال الدارقطني: ثقة ثبت ذكره ابن بردس [1] .
وفيها علي بن أحمد بن أبي قيس الرفاعي البغدادي، أبو الحسن [2] روى عن زوج أمّه أبي بكر بن أبي الدّنيا، وهو ضعيف جدا [3] .
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «ابن درباس» والصواب ما أثبته، وقد سبق لهذا الاسم أن تحرّف في أكثر من موطن من قبل وقمت بالتنبيه على ذلك أكثر من مرة.
[2] قوله: «وفيها علي بن أحمد بن أبي قيس الرفاعي البغدادي، أبو الحسن» سقط من «العبر» فيستدرك فيه.
[3] انظر «ميزان الاعتدال» للذهبي (3/ 112) و «لسان الميزان» لابن حجر (4/ 9194.(4/277)
سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة
فيها كما قال في «الشذور» بعث الهجريون [1] إلى سيف الدولة، فاستهدوا حديدا، فقلع أبواب الرّقة، وأخذ كل ما يقدر عليه من الحديد، حتّى صنجات البالوعة، فبعثها إليهم.
وفيها نازل الدّمستق المصّيصة وحاصرها، وغلت الأسعار بها، ثم ترحّل عنها للغلاء الذي أصاب جيشه، ثم جاء لطرسوس.
وفيها توفي أبو سعيد بن أبي عثمان الحيري، واسمه أحمد بن محمد بن الزاهد أبي عثمان سعيد الحيريّ النيسابوري، شهيدا بطرسوس، وله خمس وستون سنة. روى عن الحسن بن سفيان وطبقته، وصنّف «التفسير الكبير» و «الصحيح» على رسم مسلم، وغير ذلك.
قال ابن ناصر الدّين: كان حافظا، شجاعا، له «التفسير الكبير» و «الصحيح» على [رسم] مسلم. خرج يعسكر للجهاد مريدا، فقتل بطرسوس شهيدا. انتهى.
وفيها أبو إسحاق إبراهيم بن حمزة الحافظ، وهو إبراهيم بن
__________
[1] في «النجوم الزاهرة» (3/ 336) : «وفيها بعث القرامطة» وانظر الخبر فيه برواية أخرى أطول من التي ساقها المؤلف.(4/278)
محمد بن حمزة بن عمارة، بأصبهان، في رمضان، وهو في عشر الثمانين.
قال أبو نعيم: لم ير بعد عبد الله بن مظاهر في الحفظ مثله، جمع الشيوخ والسند.
وقال أبو عبد الله بن مندة الحافظ: لم أر أحفظ منه.
وقال ابن عقدة: قلّ من رأيت مثله.
روى عن مطين، وأبي شعيب الحرّاني.
وفيها أبو عيسى بكّار بن أحمد البغدادي، شيخ المقرئين في زمانه.
قرأ على جماعة من أصحاب الدّوري، وسمع من عبد الله بن أحمد بن حنبل، وتوفي في ربيع الأول وقد قارب الثمانين.
وفيها جعفر بن محمد بن الحكم الواسطي المؤدّب. روى عن الكديمي وطبقته، وكان من العارفين البارعين الخيّرين.
وفيها أبو علي بن السّكن، الحافظ الكبير، سعيد بن عثمان بن سعيد بن السّكن المصري، صاحب التصانيف، وأحد الأئمة. سمع بالعراق، والشام، والجزيرة، وخراسان، وما وراء النهر، من أبي القاسم البغوي وطبقته، كالفربري، وابن جوصا. وممّن روى عنه ابن مندة، وعبد الغني بن سعيد، وكان ثقة حجّة، توفي في المحرم، وله تسع وخمسون سنة.
وفيها أبو الفوارس شجاع بن جعفر الورّاق الواعظ ببغداد، وقد قارب المائة. روى عن العطاردي، وأبي جعفر بن المنادي وطائفة، وكان أسند من بقي.
وفيها أبو محمد عبد الله بن الحسن بن بندار المديني [1] الأصبهاني.
سمع أسيد بن عاصم، ومحمد بن إسماعيل الصائغ وجماعة.
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «المدائني» وهو خطأ، والتصحيح من «أخبار أصفهان» لأبي نعيم(4/279)
وفيها أبو محمد الفاكهي، عبد الله بن محمد بن العبّاس المكّي، صاحب أبي يحيى بن أبي ميسرة، وكان أسند من بقي بمكّة.
وفيها أبو القاسم علي بن يعقوب بن أبي العقب الدمشقي المحدّث المقرئ. روى عن أبي زرعة الدمشقي وطائفة. توفي في ذي الحجّة عن ثلاث وتسعين سنة.
وفيها أبو علي محمد بن هارون بن شعيب الأنصاري الدمشقي الحافظ، أحد الرحّالة. سمع بالشام، ومصر، والعراق، وأصبهان، وروى عن بكر بن سهل الدمياطي، وأحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة، وطبقتهما.
قال عبد العزيز الكتّاني [1] : كان يتهم [2] . وعاش سبعا وثمانين سنة.
__________
(2/ 86) و «سير أعلام النبلاء» (16/ 44) و «العبر» (2/ 304) . فهو منسوب إلى المدينة المنورة، وأما «المدائني» فنسبة إلى «المدائن» .
فائدة: قال ياقوت في «معجم البلدان» (5/ 82) : ذكر ابن طاهر بإسناده إلى محمد بن إسماعيل البخاري قال: المديني: هو الذي أقام بالمدينة ولم يفارقها، والمدني الذي تحوّل عنها وكان منها، والمشهور عندنا يعني عند المحدّثين أن النسبة إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، مدنيّ مطلقا وإلى غيرها من المدن مديني للفرق لا لعلة أخرى، وربما ردّه بعضهم إلى الأصل، فنسب إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم أيضا مدينيّ.
[1] تصحفت نسبته في المطبوع إلى «الكناني» وهو عبد العزيز بن أحمد التميمي الدمشقي، أبو محمد الكتّاني المتوفي سنة (466) وسوف ترد ترجمته في المجلد الخامس إن شاء الله تعالى.
[2] انظر «ميزان الاعتدال» للحافظ الذهبي (4/ 57) و «لسان الميزان» للحافظ ابن حجر (5/ 411) .(4/280)
سنة أربع وخمسين وثلاثمائة
فيها بنى الدّمستق نقفور مدينة بالرّوم، وسمّاها قيساريّة، وقيل:
قيصريّة [1] ، وسكنها [ليغير كل وقت] [2] ، وجعل أباه بالقسطنطينيّة، فبعث إليه أهل طرسوس، والمصّيصة يخضعون له، ويسألونه أن يقبل منهم القطيعة كل سنة، وينفذ إليهم نائبا له عليهم، فأجابهم، ثم علم ضعفهم وشدّة القحط عليهم، وأن أحدا لا ينجدهم، وأن كلّ يوم يخرج من طرسوس ثلاثمائة جنازة، فرجع عن الإجابة، وخاف إن تركهم حتّى تستقيم أحوالهم أن يمتنعوا عليه، فأحرق الكتاب على رأس الرسول، فاحترقت لحيته، وقال: امض، ما عندي إلّا السيف، ثم نازل المصّيصة، فأخذها بالسيف واستباحها، ثم فتح طرسوس بالأمان، وجعل جامعها اصطبلا لخيله، وحصّن البلدين وشحنهما [3] بالرجال.
وفيها توفي أبو بكر بن الحدّاد، وهو أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن عطية البغدادي المصري [4] . مات بديار مصر. روى عن أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة، وبكر بن سهل الدمياطي وطبقتهما.
__________
[1] قلت: وذلك ما جزم به الذهبي في «دول الإسلام» (1/ 220) .
[2] ما بين حاصرتين سقط من الأصل والمطبوع واستدركته من «العبر» و «دول الإسلام» .
[3] في «العبر» (2/ 305) : «وحصن البلد وشحنها» ، وانظر «دول الإسلام» فقد جاءت العبارة فيه كما في كتابنا.
[4] في الأصل والمطبوع: «البغدادي المصري البغدادي» وهو خطأ من النّساخ والصواب(4/281)
وفيها المتنّبيّ، شاعر العصر، أبو الطيب، أحمد بن الحسين بن الحسن الجعفيّ الكوفيّ، في رمضان، بين شيراز والعراق، وله إحدى وخمسون سنة.
قال في «العبر» [1] : وليس في العالم [أحد] أشعر منه أبدا، وأمّا مثله فقليل.
وقال ابن الأهدل: قدم الشام في صباه، واشتغل بفنون الأدب [2] ، ومهر فيها، وتضلع من علم اللغة. قال له أبو علي الفارسي، صاحب «الإيضاح» و «التكملة» : كم لنا من الجموع على وزن فعلى؟ فقال له: المتنّبيّ سريعا:
حجلى وظربى، قال الفارسي: ففتشت كتب اللغة ثلاث ليال، فلم أجد لهما ثالثا. حجلى جمع حجل، وهو الطائر المسمى بالقبج، وظربى جمع ظربان، كقطران، وهي دابة منتنة الرائحة.
ومن الناس كثير يرجحون المتنبي على أبي تمام. ومن بعده. ورزق سعادة في شعره، واعتنى العلماء بديوانه فشرحوه أكثر من أربعين شرحا.
مدح جماعة من الملوك، ووصله ابن العميد بثلاثين ألفا، وأتاه من عضد الدولة صاحب شيراز مثلها.
وسمي المتنّبيّ لأنه ادّعى النبوّة في بادية السماوة، وتبعه خلق كثير من كلب وأخرج [إليه] [3] لؤلؤ أمير حمص نائب الإخشيذية فأسره واستتابه، وتفرّق أصحابه، وكان كافور الإخشيذي يقول لما هجاه: من ادّعى النبوّة، أما يدعي الملك.
__________
ما أثبته، وإنما نسب إلى مصر لسكنه «تنّيس» . انظر «سير أعلام النبلاء» (16/ 80) و «العبر (2/ 305 306) .
[1] (2/ 306) .
[2] في المطبوع: «في فنون الأدب» .
[3] لم ترد في الأصل وأثبتها من المطبوع.(4/282)
وكان العلماء يحضرون مجلس سيف الدولة، ويتناظرون كل ليلة، فوقع بين المتنبي وابن خالويه ليلة كلام، فوثب ابن خالويه على المتنبي، فضرب وجهه بمفتاح فشجّه، فخرج ودمه يسيل على وجهه، فغضب وخرج إلى كافور، فلما صدر منه قصد بلاد فارس بالمشرق، ومدح عضد الدولة الديلمي، فأجزل جائزته، فلما رجع من عنده عرض له فاتك بن أبي جهل، فقتل المتنبيّ، وابنه محسّد، وغلامه مفلح بالقرب من النّعمانية على ميلين من دير العاقول.
ثم رأى المتنبيّ [1] الغلبة ففرّ، فقال له الغلام: لا يتحدث عنك بفرار وأنت القائل:
الخيل واللّيل والبيداء تعرفني ... والطّعن والضّرب والقرطاس والقلم
فكرّ راجعا فقتل.
ويحكى أن المعتضد صاحب قرطبة أنشد يوما بيت المتنبي:
إذا ظفرت منك العيون بنظرة ... أثاب بها معيي المطيّ ورازمه [2]
وجعل يردده فأنشده ابن وهبون الأندلسي بديها:
لئن جاد شعر ابن الحسين فإنما ... تجيد العطايا واللها تفتح اللها
تنبّأ عجبا بالقريض ولو درى ... بأنك تروى شعره لتألّها
أي لادّعى الألوهية. انتهى ما أورده ابن الأهدل.
__________
[1] تنبيه: كذا الأصل والمطبوع وهو نص مقطوع مضطرب لا ينسجم مع ما جاء قبله، ولقد ساق هذه الرواية ابن خلّكان في «وفيات الأعيان» (1/ 123) نقلا عن كتاب «العمدة» لابن رشيق (1/ 45) وهي عنده على النحو التالي:
وذكر ابن رشيق في كتاب «العمدة» في باب منافع الشعر ومضاره، أن أبا الطيب لما فرّ، حين رأى الغلبة، قال له غلامه ... إلخ.
[2] لفظ البيت في الأصل والمطبوع:
إذا ظفرت منك العيون بنظرة ... أبان لها معنى المطي ورازمه
وما أثبته من «نفح الطيب» للتلمساني (3/ 194) و «وفيات الأعيان» (1/ 124) .(4/283)
وروى له الشيخ تاج الدّين الكندي [1] بالسند الصحيح بيتين لا يوجدان في «ديوانه» وهما:
أبعين مفتقر إليك نظرتني ... فأهنتني وقذفتني من حالق
لست الملوم أنا الملوم لأنني ... أنزلت آمالي بغير الخالق
ولما كان بمصر مرض، وكان له صديق يغشاه في علّته، فلما شفي، انقطع عنه، فكتب إليه: وصلتني وصلك الله معتّلا وقطعتني مبلّا فإن رأيت أن لا تحبّب العلة إليّ، ولا تكدر الصحة عليّ فعلت، إن شاء الله تعالى.
وقال الناميّ الشاعر: كان قد بقي من الشعر زاوية دخلها المتنبي، وكنت أشتهي أن أكون قد سبقته إلى معنيين قالهما، ما سبق إليهما، أحدهما قوله:
رماني الدّهر بالأرزاء حتّى ... فؤادي في غشاء من نبال
فصرت إذا أصابتني سهام ... تكسّرت النّصال على النّصال
والآخر قوله:
في جحفل ستر العيون غباره ... فكأنما يبصرن بالآذان
وقال أبو الفتح بن جني النحوي: قرأت ديوان أبي الطيب عليه، فلما بلغت قوله في كافور القصيدة التي أولها:
أغالب فيك الشوق والشوق أغلب ... وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجب
حتّى بلغت إلى قوله:
ألا ليت شعري هل أقول قصيدة ... ولا أشتكي فيها ولا أتعتّب
وبي ما يذود الشعر عني أقلّه ... ولكنّ قلبي يا ابنة القوم قلّب
__________
[1] قلت: والمؤلف ينقل هذا النقل عن «وفيات الأعيان» (1/ 121) .(4/284)
فقلت: يعزّ عليّ، أن يكون [1] هذا الشعر في مدح [2] غير سيف الدولة؟
فقال: حذرناه وأندرناه، فما نفع. ألست القائل فيه؟:
أخا الجود أعط النّاس ما أنت مالك ... ولا تعطينّ الناس ما أنا قائل
فهو الذي أعطاني كافورا بسوء تدبيره وقلة تمييزه.
مولد المتنبي بالكوفة في سنة ثلاث وثلاثمائة في محلة تسمى كندة، فنسب إليها، وليس هو من كندة التي هي قبيلة، بل هو جعفي القبيلة من مذحج، وقتل يوم الأربعاء لست بقين، أو ليلتين بقيتا، وقيل يوم الاثنين، لثمان بقين من شهر رمضان.
وفيها العالم الحبر والعلّامة البحر، أبو حاتم محمد بن حبّان بن أحمد بن حبّان بن معاذ التّميمي البستي الشافعي، صاحب «الصحيح» كان حافظا ثبتا إماما حجة، أحد أوعية العلم، صاحب التصانيف. سمع أبا خليفة الجمحي، والنسائي وطبقتهما، ومنه الحاكم وطبقته، واشتغل بخراسان، والشام، والعراق، ومصر، والجزيرة. وكان من أوعية العلم في الحديث، والفقه، واللغة، والوعظ، وغير ذلك. حتّى الطب، والنجوم، والكلام. ولي قضاء سمرقند، ثم قضاء نساء، وغاب دهرا عن وطنه، ثم ردّ إلى بست، وتوفي بها في شوال، وهو في عشر الثمانين.
قال الخطيب [3] : كان ثقة نبيلا.
وقال ابن ناصر الدّين: له أوهام أنكرت، فطعن عليه بهفوة منه بدرت ولها محمل لو قبلت.
وقال الإسنوي [4] : أبو حاتم محمد بن حبّان- بكسر الحاء المهملة،
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «كيف يكون» .
[2] في «وفيات الأعيان» : «في ممدوح» .
[3] انظر «سير أعلام النبلاء» (16/ 94) وفيه: كان ثقة، نبيلا، فهما.
[4] انظر «طبقات الشافعية» له (1/ 418- 419) المطبوع ببغداد بتحقيق الأستاذ عبد الله الجبوري.(4/285)
بعدها باء موحدة، البستي، بباء موحدة مضمومة وسين مهملة ساكنة، وبالتاء بنقطتين من فوق- الإمام الحافظ، مصنّف «الصحيح» وغيره.
رحل إلى الآفاق. كان من أوعية العلم، لغة، وحديثا، وفقها، ووعظا، ومن عقلاء الرجال. قاله الحاكم.
وقال ابن السمعاني: كان إمام عصره، تولى قضاء سمرقند مدة، وتفقه به الناس، ثم عاد إلى نيسابور، وبنى بها خانقاه، ثم رجع إلى وطنه، وانتصب بها لسماع مصنفاته، إلى أن توفي ليلة الجمعة لثمان بقين من شوال. انتهى ما أورده الإسنويّ.
قلت: وأكثر نقّاد الحديث على أن «صحيحه» أصحّ من «سنن ابن ماجة» والله أعلم.
وفيها أبو بكر بن مقسم المقرئ، محمد بن الحسن بن يعقوب بن مقسم البغدادي العطّار، وله تسع وثمانون سنة. قرأ على إدريس الحداد، وسمع من أبي مسلم الكجّي وطائفة، وتصدّر للإقراء دهرا. وكان علّامة في نحو الكوفيين. سمع من ثعلب «أماليه» وصنّف عدة تصانيف، وله قراءة معروفة منكرة، خالف فيها الإجماع، وقد وثّقه الخطيب [1] .
وفيها أبو بكر الشافعي، محمد بن عبد الله بن إبراهيم البغدادي البزّاز، صاحب «الغيلانيات» في ذي الحجة، وله خمس وتسعون سنة، وهو صاحب «الغيلانيات» . وابن غيلان آخر من روى عنه تلك الأجزاء، التي هي في السماء علوّا. روى عن موسى بن سهل الوشاء، ومحمد بن شدّاد المسمعي، وابن أبي الدّنيا، وأكثر. وعنه: الدارقطني، وعمر بن شاهين، وأبو طالب بن غيلان، وخلق.
قال الخطيب: كان ثقة ثبتا [كثير الحديث] حسن التصنيف.
__________
[1] انظر «تاريخ بغداد» (2/ 206) .(4/286)
وقال الدارقطني [1] : هو الثّقة المأمون، الذي لم يغمز بحال.
وقال الخطيب أيضا [2] : لما منعت الدّيلم الناس من ذكر فضائل الصحابة، وكتبوا السبّ على أبواب المساجد، كان يتعمد إملاء أحاديث الفضائل في الجامع، والله أعلم.
__________
[1] انظر «سير أعلام النبلاء» (16/ 42) .
[2] انظر «تاريخ بغداد» (5/ 456- 457) وقد نقل المؤلف كلامه بتصرّف تبعا للذهبي في «العبر» (2/ 307) .(4/287)
سنة خمس وخمسين وثلاثمائة
فيها أخذت بنو سليم ركب مصر والشام، وتمزقوا في البراري.
وفيها توفي الحافظ أبو بكر الجعابي، محمد بن عمر بن أحمد بن سلم التميمي البغدادي. سمع يوسف بن يعقوب القاضي، ومحمد بن الحسن بن سماعة وطبقتهما، ومنه الدارقطني، وابن شاهين، وأبو عبد الله الحاكم، وكان حافظا مكثرا، وصنّف الكتب، وتوفي في رجب، وله اثنتان وسبعون سنة. وكان عديم المثل في حفظه.
قال القاضي أبو عمر الهاشمي: سمعت الجعابي يقول: أحفظ أربعمائة ألف حديث، وأذاكر ستمائة ألف حديث.
قال الدارقطني: ثم خلّط، ثم ذكر أنه كان شيعيا [1] . قيل: كان يترك الصلاة، نسأل الله العفو.
وقال ابن ناصر الدّين: كان شيعيا، رمي بالشرب وغيره.
وقال ابن بردس [2] : كان حافظا مكثرا، غير أنه اتهم بقلة الدّين من ترك الصلاة، وليس هذا موضع ذكره، لأن فيه كلاما كثيرا يضيق هذا الموضع عنه. انتهى.
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «ثم ذكر وهو شيعي» وما أثبته من «العبر» .
[2] تحرّف في الأصل إلى: «ابن برداس» وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.(4/288)
وقال في «المغني» [1] : مشهور، محقق، لكنه رقيق الدّين، تالف.
وفيها أبو الحكم، منذر بن سعيد البلّوطي، قاضي الجماعة بقرطبة.
سمع من عبيد الله بن يحيى اللّيثي، وكان ظاهريّ المذهب، فطنا، مناظرا، ذكيا، بليغا، مفوّها، شاعرا كثير التصانيف. قوّالا بالحق، ناصحا للخلق، عزيز المثل، له الخطب المفحمة الخالصة، الخارجة من قلب مخلص سليم، عاش اثنتين وثمانين سنة.
وفيها ابن علّان، أبو الحسن، علي بن الحسن بن علّان الحرّاني [2] ، الحافظ العالم، محدّث حرّان. روى عن أبي يعلى الموصلي وطبقته، وعنه أبو عبد الله بن مندة، وتمام الرّازي وآخرون، وكان ثقة نبيلا.
وفيها محمد بن الحسن بن الحسين بن منصور، الحافظ الإمام، أبو الحسن، النيسابوري التاجر. روى عن محمد بن إبراهيم البوشنجي وخلق، وحدّث عنه أبوه وعمه، وأثنى عليه خلق، وهو من الثقات.
وفيها محمد بن معمر بن ناصح، أبو مسلم الذّهلي الأديب، بأصبهان. روى عن أبي بكر بن أبي عاصم، وأبي شعيب الحرّاني وطائفة.
__________
[1] (2/ 620) .
[2] انظر «سير أعلام النبلاء» (16/ 20- 21) .(4/289)
سنة ست وخمسين وثلاثمائة
فيها أقامت الرافضة المأتم على الحسين، على العادة المارّة في هذه السنوات.
وفيها مات السلطان معز الدولة، أحمد بن بويه الدّيلمي، وكان في صباه يحتطب، وأبوه يصيد السمك، فما زال إلى أن ملك بغداد، نيّفا وعشرين سنة، ومات بالإسهال [1] عن ثلاث وخمسين سنة، وكان من ملوك الجور والرّفض، ولكنه كان حازما سايسا مهيبا، قيل: إنه رجع في مرضه عن الرفض، وندم على الظلم، وقيل: إن سابور ذا الأكتاف، أحد ملوك الفرس من أجداده، وكان أقطع، طارت يده اليسرى [2] في بعض الحروب، وتملّك بعده ابنه عزّ الدولة بختيار.
وفيها أبو محمد المغفّلي [3] أحمد بن عبد الله بن محمد المزني الهروي، أحد الأئمة.
قال الحاكم: كان إمام أهل خراسان بلا مدافعة. سمع أحمد بن نجدة، وإبراهيم بن أبي طالب، ومطيّنا وطبقتهم، وكان فوق الوزراء، وكانوا يصدرون عن رأيه.
وفيها القالي أبو علي، إسماعيل بن القاسم البغدادي اللغوي النحوي
__________
[1] في المطبوع: «بالإسمال» وهو خطأ، وانظر «العبر» (2/ 309) .
[2] لفظة «اليسرى» لم ترد في «العبر» .
[3] تحرّفت نسبته في «العبر» إلى «المعقلي» فتصحح فيه.(4/290)
الأخباري، صاحب التصانيف، ونزيل الأندلس بقرطبة، في ربيع الآخر، وله ست وسبعون سنة. أخذ الآداب عن ابن دريد، وابن الأنباري، وسمع من أبي يعلى الموصلي، والبغوي، وطبقتهما، وألّف كتاب «البارع» في اللغة، في خمسة آلاف ورقة، لكن لم يتمّه. قاله في «العبر» [1] .
وقال ابن خلّكان [2] : طاف البلاد، وسافر إلى بغداد، وأقام بالموصل لسماع الحديث من أبي يعلى الموصلي، ودخل بغداد في سنة خمس وثلاثمائة، وأقام بها إلى سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، وكتب بها الحديث، ثم خرج من بغداد قاصدا الأندلس.
ودخل قرطبة سابع عشري شعبان، سنة ثلاثين وثلاثمائة، واستوطنها وأملى كتابه «الأمالي» بها وأكثر كتبه بها وضعها، ولم يزل بها إلى أن مات في شهر ربيع الآخر، وقيل: جمادى الأولى، ليلة السبت، لست خلون من الشهر، ومولده بمنازجرد من ديار بكر.
والقالي: نسبة إلى قالي قلا [3] ، من ديار بكر. انتهى. ملخصا.
وفيها الرّفاء، أبو حامد بن محمد الهروي، الواعظ المحدّث، بهراة في رمضان. روى عن عثمان الدارمي، والكديمي، وطبقتهما، وكان ثقة صاحب حديث.
وفيها الرّافقي [4] أبو الفضل العبّاس بن محمد بن نصر بن السّريّ.
روى عن هلال بن العلاء وجماعة، وتوفي بمصر.
قال يحيى بن علي الطّحان: تكلموا فيه.
__________
[1] (2/ 310) .
[2] في «وفيات الأعيان» (1/ 226- 227) وقد نقل المؤلف عنه بتصرّف.
[3] كذا ذكرها المؤلف نقلا عن «وفيات الأعيان» (1/ 227) وانظر «معجم البلدان» (4/ 299- 300) ففي كلام ياقوت عنها فائدة عزيزة.
[4] في الأصل والمطبوع: «الرافعي» وهو خطأ، والتصحيح من «التصحيح من «العبر» (2/ 310) و «سير أعلام النبلاء» (16/ 45) .(4/291)
وفيها عبد الخالق بن الحسن بن أبي روبا، أبو محمد السقطي، نسبة إلى بيع السّقط [1] ، المعدّل البغدادي، ببغداد. روى عن محمد بن غالب تمتام وجماعة.
وسنقة [2] ، أبو عمرو عثمان بن محمد البغدادي السقطي. سمع الكديمي، وإسماعيل القاضي، ومات في آخر السنة، وله سبع وثمانون سنة.
وفيها صاحب الأغاني، أبو الفرج علي بن الحسين الأموي الأصبهاني، الكاتب الأخباري. يروى عن مطيّن فمن بعده، وكان أديبا، نسابة، علّامة، شاعرا، كثير التصانيف. ومن العجائب أنه مرواني يتشيع.
توفي في ذي الحجة عن ثلاث وسبعين سنة. قاله في «العبر» [3] .
وقال ابن خلّكان [4] : جده مروان بن محمد آخر خلفاء بني أميّة، وهو أصفهاني الأصل بغدادي المنشأ، كان من أعيان أدبائها وأفراد مصنفيها، وروى عن عالم كثير من العلماء يطول تعدادهم، وكان عالما بأيام الناس، والأنساب، والسّير.
قال التنوخي: ومن المتشيعين الذين شاهدناهم، أبو الفرج الأصبهاني، كان يحفظ [من] الشعر، والأغاني، والأخبار، والآثار، والأحاديث المسندة، والأدب، والنسب [ما] لم أر قطّ من يحفظ مثله، ويحفظ دون ذلك من علوم أخر [5] ، منها اللغة، والنحو، والخرافات [6] ، والسير، والمغازي، ومن
__________
[1] قال السمعاني في «الأنساب» (7/ 91) في شرح السّقط: وهي الأشياء الخسيسة كالخرز، والملاعق، وخواتيم الشّبة والحديد، وغيرها.
[2] تحرّفت في الأصل والمطبوع إلى «سبعة» والتصحيح من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» (16/ 81) .
[3] (2/ 311) .
[4] في «وفيات الأعيان» (3/ 307- 309) .
[5] في المطبوع: «أخرى» وما جاء في الأصل موافق لما في «وفيات الأعيان» .
[6] في الأصل والمطبوع: «والحرف» وما أثبتناه من «وفيات الأعيان» ، و «تاريخ بغداد»(4/292)
آلة المنادمة شيئا كثيرا، مثل علم الجوارح والبيطرة، وشيء من الطب والنجوم والأشربة، وغير ذلك وله شعر [1] يجمع إتقان العلماء وإحسان ظرفاء الشعر، وله المصنفات المستملحة، منها: كتاب «الأغاني» الذي وقع الاتفاق على أنه لم يعمل في بابه مثله، يقال: إنه جمعه في خمسين سنة، وحمله إلى سيف الدولة بن حمدان، فأعطاه ألف دينار واعتذر إليه.
وحكي عن الصاحب بن عبّاد أنه كان في أسفاره يستصحب حمل ثلاثين جملا من كتب الأدب ليطالعها، فلما وصل إليه كتاب «الأغاني» لم يكن بعد ذلك يستصحب سواه، استغناء به عنها.
وكان منقطعا إلى الوزير المهلّبي، وله فيه مدائح، منها قوله فيه:
ولما انتجعنا لائذين بظله ... أعان وما عنّى ومن وما منا
وردنا عليه مقترين فراشنا ... وردنا نداه مجدبين فأخصبنا
وكان قد خلّط قبل أن يموت، رحمه الله تعالى. انتهى ما أورده ابن خلّكان مختصرا.
وفيها سيف الدولة، علي بن عبد الله بن حمدان بن حمدون التّغلبيّ الجزريّ، صاحب الشام، بحلب، في صفر، وله بضع وخمسون سنة. وكان بطلا شجاعا، كثير الجهاد، جيد الرأي، عارفا بالأدب والشعر، جوّادا، ممدّحا. مات بالفالج، وقيل: بعسر البول، وكان قد جمع من الغبار الذي أصابه في الغزوات ما جاء منه لبنة بقدر الكف، وأوصى أن يوضع خدّه إذا دفن عليها، وتملّك بعده ابنه سعد الدولة خمسا وعشرين سنة.
وبعده ولده أبو الفضل، وبموته انقرض ملك بني سيف الدولة.
__________
(11/ 399) .
[1] لفظة «شعر» سقطت من الأصل وأثبتها من المطبوع.(4/293)
قال الثعالبي في «يتيمته» [1] : كان بنو حمدان ملوكا [وأمراء] ، أوجههم للصباحة، وألسنتهم للفصاحة، وأيديهم للسماحة، وعقولهم للرجاحة، وسيف الدولة شهم سادتهم [2] وواسطة قلادتهم، [ويقال: إنه] [3] لم يجتمع بباب أحد من الملوك- بعد الخلفاء- ما اجتمع ببابه من شيوخ الشعراء [4] وغيرهم، وكان شاعرا يرتاح للشعر وجرت بينه وبين أخيه ناصر الدولة وحشة، فكتب إليه من شعره:
لست أجفو وإن جفيت [5] ولا أت ... رك حقا عليّ في كلّ حال
إنما أنت والد والأب الجا ... في يجازى بالصبر والاحتمال
وكتب إليه مرة أخرى:
رضيت لك [6] العليا وإن كنت أهلها ... وقلت وهل بيني وبين أخي فرق
ولم يك لي [7] عنها نكول وإنما ... تجافيت عن حقي ليبقى لك الحق
ولا بدّ لي من أن أكون مصليّا ... إذا كنت أرضى أن يكون لك السبق
وأخباره كثيرة مع شعراء وقته، كالمتنبي، والسّريّ الرّفّاء، والنّامي، والوأواء، وتلك الطبقة.
ويحكى أن ابن عمه أبا فراس كان يوما بين يديه في نفر من ندمائه،
__________
[1] انظر «يتيمة الدهر» (1/ 37) طبع دار الكتب العلمية ببيروت ولفظة «وأمراء» زيادة منه وقد نقل المؤلف عن «وفيات الأعيان» (3/ 401- 405) و (2/ 115- 116) .
[2] في «يتيمة الدهر» و «وفيات الأعيان» (3/ 401) : «مشهور بسيادتهم» .
[3] زيادة من «يتيمة الدهر» و «وفيات الأعيان» .
[4] في «يتيمة الدهر» و «وفيات الأعيان» : «من شيوخ الشعر» .
[5] في الأصل والمطبوع: «وإن جفوت» وأثبت ما جاء في «وفيات الأعيان» .
[6] كذا في الأصل والمطبوع و «وفيات الأعيان» : «رضيت لك» وفي «يتيمة الدهر» (1/ 56) :
«رضيت إليك» .
[7] في «يتيمة الدهر» و «وفيات الأعيان» : «ولم يك بي» .(4/294)
فقال لهم سيف الدولة: أيّكم يجيز قولي؟ وليس له إلا سيدي، يعني أبا فراس:
لك جسمي تعلّه ... فدمي لم تحلّه
فارتجل أبو فراس وقال:
قال إن كنت مالكا ... فلي الأمر كلّه
فاستحسنه وأعطاه ضيعة بأعمال منبج، تغلّ ألفي دينار في كل سنة.
ومن محاسن شعر سيف الدولة قوله في وصف قوس قزح وقد أبدع فيه كل الإبداع:
وساق صبيح للصّبوح دعوته ... فقام وفي أجفانه سنة الغمض
يطوف بكاسات العقار كأنجم ... فمن بين منقضّ عليها [1] ومنفض
وقد نشرت أيدي الجنوب مطارفا ... على الجوّد كنا والحواشي على الأرض
يطرّزها [2] قوس السحاب بأصفر ... على أحمر في أخضر إثر مبيض
كأذيال خود أقبلت في غلائل ... مصبّغة والبعض أقصر من بعض
وهذا من التشبيهات الملوكية التي لا يكاد يخطر مثلها لغيرهم.
ومن حسن شعره أيضا قوله:
تجنّى عليّ الذنب والذنب ذنبه ... عاتبني ظلما وفي شقّه العتب
إذا برم المولى بخدمة عبده ... تجنّى له ذنبا وإن لم يكن ذنب
وأعرض لما صار قلبي بكفه ... فهلّا جفاني حين كان لي القلب
ومحاسنه وأخباره كثيرة فلنكتف بهذا القدر.
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «منقض علينا» .
[2] في الأصل والمطبوع: «وطرزها» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» .(4/295)
وفيها أبو المسك كافور الحبشي الأسود، الخادم الإخشيذي، صاحب الديار المصرية. اشتراه الإخشيذ، وتقدم عنده حتّى صار من أكبر قوّاده، لعقله، ورأيه، وشجاعته، ثم صار أتابك ولده من بعده، وكان صبيّا، فبقي الاسم لأبي القاسم أنوجور، والدّست لكافور، فأحسن سياسة الأمور إلى أن مات أنوجور- ومعناه بالعربي محمود- في سنة تسع وأربعين، عن ثلاثين سنة، وأقام كافور في الملك بعده أخاه عليا، إلى أن مات في أول سنة خمس وخمسين، وله إحدى وثلاثون سنة، فتسلطن كافور، واستوزر أبا الفضل جعفر بن حنزابة، ابن الفرات [1] ، وعاش بضعا وستين سنة. قاله في «العبر» [2] .
وأخباره كثيرة شهيرة، منها أنه كان ليلة كل عيد يرسل وقر بغل دراهم في صرر مكتوب على كل صرة اسم من جعلت له، من بين عالم، وزاهد، وفقير، ومحتاج، وتوفي يوم الثلاثاء عشري جمادى الأولى، فعلى هذا لم تطل مدته في الاستقلال، بل كانت سنة واحدة وشيئا يسيرا، رحمه الله تعالى، وكانت بلاد الشام في مملكته أيضا مع مصر، وكان يدعى له على المنابر بمكّة، والحجاز جميعه، والديار المصرية، وبلاد الشام، من دمشق، وحلب، وأنطاكية، وطرسوس، والمصّيصة، وغير ذلك، وكان تقدير عمره خمسا وستين سنة، على ما حكاه الفرغاني [3] في «تاريخه» .
وفيها أبو الفتح عمر بن جعفر بن محمد بن سلم الجيلي الرجل الصالح ببغداد وله خمس وثمانون سنة روى عن الكديمي وطبقته.
__________
[1] انظر ترجمته ومصادرها في «الأعلام» للزركلي (2/ 126) .
[2] (2/ 312) .
[3] هو أحمد بن عبد الله بن أحمد الفرغاني، أبو منصور، مؤرخ من سكان مصر، وبها وفاته، له «تاريخ» أشار إليه المؤلف، مات سنة (398) هـ. انظر ترجمته في «مختصر تاريخ دمشق» لابن منظور (3/ 132) طبع دار الفكر بدمشق، و «الأعلام» للزركلي (1/ 156) .(4/296)
سنة سبع وخمسين وثلاثمائة
لم يحجّ فيها الركب لفساد الوقت، وموت السلاطين في الشهور الماضية.
وفيها توفي أبو العبّاس أحمد بن الحسين بن إسحاق بن عتبة الرّازي، ثم المصري المحدّث، في جمادى الآخرة، وله تسع وثمانون سنة. سمع مقدام بن داود الرّعيني وطبقته.
وفيها أحمد بن محمد بن رميح أبو سعيد النّخعي النّسوي- نسبة إلى نسا مدينة بخراسان- الحافظ صاحب التصانيف. طوّف الكثير، وروى عن أبي خليفة الجمحي وطبقته. وعنه الدارقطني، والحاكم، والصحيح أنه ثقة.
سكن اليمن مدة.
وفيها المتّقي لله أبو إسحاق [إبراهيم بن] المقتدر بالله [1] جعفر بن المعتضد بالله أحمد بن الموفق العباسي المخلوع، الذي ذكرنا في سنة ثلاث وثلاثين [2] أنهم خلعوه وسملوا عينيه، وبقي في السجن إلى هذا العام كالميّت، ومات في شعبان، وله ستّون سنة، وكانت خلافته أربع سنين، وكان
__________
[1] ما بين حاصرتين سقط من الأصل، وعبارة «المقتدر بالله» تحرّفت فيه إلى «المتقي لله» وأثبت لفظ المطبوع، وانظر «العبر» (2/ 313) و «دول الإسلام» (1/ 221) .
[2] انظر ص (181) من هذا المجلد.(4/297)
أبيض مليحا مشربا حمرة، أشهل أشقر، كثّ اللحية، وكان فيه صلاح وكثرة صيام وصلاة، ولم يكن يشرب، وفي خلافته انهدمت القبة الخضراء المنصورية، التي كانت فخر بني العبّاس. قاله في «العبر» [1] .
وقال السيوطي في «تاريخ الخلفاء» [2] : بويع له بالخلافة بعد موت أخيه الراضي، وهو ابن أربع وثلاثين سنة، وأمه أمة اسمها خلوب، وقيل: زهرة، ولم يغير شيئا قطّ، ولا تسرّى على جاريته التي كانت له، وكان كثير الصوم والتعبد، لم يشرب نبيذا قطّ، وكان يقول: لا أريد نديما غير المصحف، ولم يكن له إلّا الاسم، والتّدبير لأبي عبد الله أحمد بن علي الكوفي كاتب بجكم.
وفي هذه السنة من ولايته سقطت القبة الخضراء بمدينة المنصور، وكانت تاج بغداد، ومأثرة بني العبّاس، وهي من بناء المنصور، ارتفاعها ثمانون ذراعا، وتحتها إيوان طوله عشرون ذراعا في عشرين ذراعا، وعليها تمثال فارس بيده رمح، فإذا استقبل بوجهه [جهة] [3] علم أن خارجيا يظهر من تلك الجهة، فسقط رأس هذه القبة في ليلة ذات مطر ورعد.
ولما كحل المتقي لله وعمي قال القاهر:
صرت وإبراهيم شيخي عمى ... لا بدّ للشيخين من مصدر
ما دام توزون له إمرة ... مطاعة فالميل في المجمر
ولم يحل الحول على توزون حتّى مات، وأما المتقي فإنه أخرج إلى جزيرة مقابلة للسندية فحبس بها، فأقام في السجن خمسا وعشرين سنة، إلى أن مات.
__________
[1] (2/ 313- 314) .
[2] ص (394- 397) بتحقيق الشيخ محمد محيي الدّين عبد الحميد رحمه الله تعالى.
[3] سقطت من الأصل والمطبوع واستدركتها من «تاريخ الخلفاء» .(4/298)
وفي أيام المتقي كان [ابن] حمدي [1] اللص ضمنه [ابن] شيرزاد لما تغلّب على بغداد اللصوصية بخمسة وعشرين ألف دينار في الشهر، فكان يكبس بيوت الناس بالمشعل والشمع ويأخذ الأموال، وكان اسكورج [2] الديلمي قد ولي شرطة بغداد، فأخذه ووسّطه وذلك سنة اثنتين وثلاثين.
ولما بلغ القاهر أن المتقي سمل قال: صرنا اثنين، ونحتاج إلى ثالث، فكان كذلك، فإنه سمل المستكفي بالله. انتهى ما أورده السيوطي ملخصا.
وفيها حمزة بن محمد بن علي بن العبّاس أبو القاسم الكناني المصري الحافظ، أحد أئمة هذا الشأن. روى عن النسائي وطبقته، وعنه ابن مندة، والدارقطني وغيرهما، وهو ثقة ثبت. أكثر التطواف بعد الثلاثمائة، وجمع، وصنّف، وكان صالحا ديّنا، بصيرا بالحديث وعلله، مقدّما فيه، وهو صاحب مجلس البطاقة. توفي في ذي الحجة ولم يكن للمصريين في زمانه أحفظ منه.
قال الحاكم: متفق على تقدمه في معرفة الحديث.
وفيها القاضي أبو العبّاس عبد الله بن الحسين بن الحسن بن أحمد بن النّضر [3] النّضري [4] المروزي، محدّث مرو، في شعبان، وله سبع وتسعون سنة. رحّله أبوه، وسمع من الحارث بن أبي أسامة، وأبي إسماعيل [محمد بن إسماعيل] الترمذي [5] وطائفة. وانتهى إليه علو الإسناد بخراسان.
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «كان حمدي» وما أثبته من «تاريخ الخلفاء» وانظر «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (8/ 416) .
[2] في الأصل والمطبوع: «اسكورح» وما أثبته من «تاريخ الخلفاء» .
[3] لفظة «النّضر» سقطت من الأصل وأثبتها من المطبوع.
[4] تحرّفت في «العبر» إلى «البصري» فتصحح فيه، وانظر «سير أعلام النبلاء» (16/ 60) .
[5] ما بين حاصرتين زيادة من «الأنساب» (3/ 47) .(4/299)
وفيها أبو فراس الحارث بن أبي العلاء سعيد بن حمدان بن حمدون الحمداني، ابن عم ناصر الدولة، وسيف الدولة ابني حمدان.
قال الثعالبي في وصفه [1] : كان فرد دهره، وشمس عصره، أدبا وفضلا، وكرما ومجدا، وبلاغة وبراعة، وفروسية وشجاعة، وشعره مشهور سائر بين الحسن والجودة والسهولة والجزالة، والعذوبة والفخامة والحلاوة [والمتانة] ومعه رواء الطبع، وسمة الظرف، وعزّة الملك. ولم تجتمع هذه الخلال قبله إلّا في شعر عبد الله بن المعتز. وأبو فراس يعدّ أشعر منه عند أهل الصنعة ونقدة الكلام، وكان الصاحب بن عبّاد يقول: بدئ الشعر بملك، وختم بملك، يعني امرأ القيس وأبا فراس، وكان المتنبي يشهد له بالتقدم والتبريز، ويتحامى جانبه فلا ينبري لمباراته، ولا يجترئ على مجاراته، وإنما لم يمدحه ومدح من هو دونه من آل حمدان تهيبا له وإجلالا، لا إغفالا وإخلالا. وكان سيف الدولة يعجب جدا بمحاسن أبي فراس، ويميّزه بالإكرام على سائر قومه، [ويصطنعه لنفسه] ويستصحبه في غزواته، ويستخلفه في أعماله.
وكانت الرّوم قد أسرته في بعض وقائعها وهو جريح قد أصابه سهم بقي نصله في فخذه ونقلته إلى خرشنة ثم منها إلى القسطنطينية، وذلك في سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة [2] ، وفداه سيف الدولة، ومن شعره:
قد كنت عدّتي التي أسطو بها ... ويدي إذا اشتدّ الزمان وساعدي
فرميت منك بضدّ ما أمّلته ... والمرء [3] يشرق بالزّلال البارد
__________
[1] انظر «يتيمة الدهر» (1/ 57) وما بعدها، طبع دار الكتب العلمية ببيروت وانظر «وفيات الأعيان» (2/ 58- 64) .
[2] لفظة «وثلاثمائة» لم ترد في المطبوع.
[3] في الأصل: «والماء» وأثبت لفظ المطبوع وهو موافق لما في «يتيمة الدهر» .(4/300)
وله أيضا:
أساء فزادته الإساءة حظوة ... حبيب على ما كان منه حبيب
يعدّ عليّ الواشيان ذنوبه ... ومن أين للوجه الجميل ذنوب؟
وله أيضا:
سكرت من لحظه لا من مدامته ... ومال بالنّوم عن عيني تمايله
فما السّلاف دهتني بل سوالفه ... ولا الشّمول ازدهتني بل شمائله
ألوى بعزمي اصداغ لوين له ... وغال قلبي بما تحوى غلائله
وكان ينشد ابنته لما حضرته الوفاة:
نوحي عليّ بحسرة ... من خلف سترك والحجاب
قولي إذا كلمتني ... فعييت عن ردّ الجواب
زين الشباب أبو فرا ... س لم يمتّع بالشباب
وهذا يدل على أنه لم يقتل، أو يكون جرح وتأخر موته، ثم مات من الجراحة.
وذكر ثابت بن سنان الصابئ في «تاريخه» قال: في يوم السبت لليلتين خلتا من جمادى الأولى جرت حرب بين أبي فراس، وكان مقيما بحمص، وبين أبي المعالي بن سيف الدولة، واستظهر عليه أبو المعالي وقتله في الحرب، وأخذ رأسه وبقيت جثته مطروحة في البرية، إلى أن جاء بعض الأعراب فكفّنه ودفنه. انتهى.
أي لأنه كما قال ابن خالويه: لما مات سيف الدولة عزم أبو فراس على التغلب على حمص، فاتصل خبره بأبي المعالي بن سيف الدولة، وغلام أبيه فرغويه فقاتلاه، وكان أبو فراس خال أبي المعالي، وقلعت أمه عينها لما بلغها وفاته، وقيل: إنها لطمت وجهها فقلعت عينها، وقيل: لما قتله فرغويه ولم(4/301)
يعلم به أبو المعالي، فلما بلغه الخبر شقّ عليه. ويقال: إن مولده كان في سنة عشرين وثلاثمائة، والله أعلم.
وفيها عبد الرحمن بن العبّاس، أبو القاسم البغدادي، والد أبي طاهر المخلّص. سمع الكديمي، وإبراهيم الحربي، وجماعة، ووثقه ابن أبي الفوارس، وكان أطروشا.
وفيها الحافظ عمر بن جعفر البصري المحدّث، أبو حفص. خرّج لخلق كثير، ولم يكن بالمتقن، وقد روى عن أبي خليفة الجمحي، وعبدان، وطبقتهما. وعنه أبو الحسن رزقويه، وعلي بن أحمد الرّزاز. وكان الدارقطنيّ يتتبع خطأ عمر البصري فيما انتقاه عن أبي بكر الشافعي، وعاش عمر هذا سبعا وسبعين سنة.
وقال عنه ابن ناصر الدّين: متهم.
وقال في «المغني» [1] : صدوق، وقال أبو محمد السبيعي: كذاب، وقال غيره: يخطئ كثيرا. انتهى كلام «المغني» .
وفيها أبو إسحاق القراريطي الوزير، وهو محمد بن أحمد بن إبراهيم الإسكافي الكاتب. وزر لمحمد بن رائق [2] ثم وزر للمتقي لله مرتين، فصودر، فصار إلى الشام، وكتب لسيف الدولة، وكان ظلوما غشوما. عاش ستا وسبعين سنة. قاله في «العبر» [3] .
وفيها ابن مخرم، وهو الرئيس أبو عبد الله محمد بن أحمد بن علي بن مخلد البغدادي الجوهري، الفقيه المحتسب، تلميذ محمد بن جرير الطبري. روى عن الحارث بن أبي أسامة وطبقته، وعاش ثلاثا وتسعين سنة.
__________
[1] (2/ 463) .
[2] تحرّف في المطبوع إلى «محمد بن وائق» .
[3] (2/ 315) .(4/302)
قال البرقاني: لا بأس به، وتوفي في ربيع الآخر.
وفيها أبو سليمان الحرّاني محمد بن الحسين [1] البغدادي، في رمضان. روى عن أبي خليفة، وعبدان، وأبي يعلى، وكان ثقة، صاحب حديث ومعرفة وإتقان.
وفيها أبو علي بن آدم الفزاري، محمد بن محمد بن عبد الحميد، القاضي العدل بدمشق، في جمادى الآخرة. روى عن أحمد بن علي القاضي المروزي وطبقته.
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «ابن الحبب» وهو خطأ، والتصحيح من «تاريخ بغداد» (2/ 242) و «العبر» (2/ 316) .(4/303)
سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة
فيها كان خروج الرّوم من الثغور [1] ، فأغاروا، وقتلوا، وسبوا، ووصلوا إلى حمص. وعظم المصاب، وجاءت المغاربة مع القائد جوهر المغربي، فأخذوا ديار مصر، وأقاموا الدعوة لبني عبيد الرافضة، مع أن [دولة معز] الدولة [2] بالعراق هذه المدة رافضية، والشعار الجاهلي يقام يوم عاشوراء ويوم الغدير.
وفيها توفي ناصر الدولة الحسن [3] بن أبي الهيجاء، عبد الله بن حمدان التّغلبي، صاحب الموصل، وكان أخوه سيف الدولة يتأدّب معه، لسنّه ولمنزلته عند الخلفاء، وكان هو كثير المحبة لسيف الدولة، فلما توفي حزن عليه ناصر الدولة، وتغيّرت أحواله، وتسودن وضعف عقله، فبادر ولده أبو تغلب الغضنفر، ومنعه من التصرف، وقام بالمملكة، ولم يزل معتقلا حتّى توفي في ربيع الأول، عن نحو ستين سنة. قاله في «العبر» [4] .
وفيها الحسن بن محمد بن كيسان، أبو محمد الحربي، أخو علي، ثقة. روى عن إسماعيل القاضي والكبار، ومات في شوال.
__________
[1] في المطبوع إلى «الكفور» أي القرى.
[2] ما بين حاصرتين سقط من الأصل والمطبوع واستدركته من «العبر» .
[3] تحرّف في «العبر» إلى «الحسين» فيصحح فيه، وانظر «سير أعلام النبلاء» (16/ 186) .
[4] (2/ 317) .(4/304)
وفيها أبو القاسم زيد بن علي بن أبي بلال العجلي الكوفي، شيخ الإقراء ببغداد. قرأ على أحمد بن فرح، وابن مجاهد، وجماعة، وحدّث عن مطين، وطائفة. توفي في جمادى الأولى.
وفيها محدّث دمشق محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الملك بن مروان، أبو عبد الله القرشي الدمشقي. روى عن أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة، وزكريا خيّاط السّنّة، وطبقتهما. وكان ثقة مأمونا جوّادا مفضلا، خرّج له ابن مندة الحافظ ثلاثين جزءا، وأملى مدة.
وفيها محدّث الأندلس محمد بن معاوية بن عبد الرحمن، أبو بكر الأموي المرواني القرطبي، المعروف بابن الأحمر. روى عن عبيد الله بن يحيى وخلق، وفي الرحلة عن النسائي والفريابي، وأبي خليفة الجمحي، ودخل الهند للتجارة، فغرق له ما قيمته ثلاثون ألف دينار ورجع فقيرا، وكان ثقة. توفي في رجب، وكان عنده «السنن الكبير» للنسائي.(4/305)
سنة تسع وخمسين وثلاثمائة
في أولها أخذ نقفور [1] أنطاكية بنوع أمان، فأسر الشباب وأطلق الشيوخ والعجائز، وكان قد طغى وتجبّر وقهر البلاد، وتمرّد على الله، وتزوج بزوجة الملك الذي قبله كرها، وهمّ بإخصاء ولديها، لئلا يملكا، فعملت عليه المرأة، وأرسلت إلى الدّمستق، فجاء إليها في زيّ النساء، هو وطائفة، فباتوا عندها ليلة الميلاد، فبيّتوا نقفور، وأجلسوا في المملكة ولدها الأكبر.
وفيها توفي أبو عبد الله، أحمد بن بندار الشعّار بن إسحاق الفقيه، مسند أصبهان. روى عن إبراهيم بن سعدان، وابن أبي عاصم، وطائفة، وكان ثقة ظاهري المذهب.
وفيها أحمد بن السّندي، أبو بكر البغدادي الحدّاد. روى عن الحسن بن علويه وغيره.
قال أبو نعيم: كان يعدّ من الأبدال.
وفيها أبو الحسن أحمد بن محمد بن أحمد البغدادي، المعروف بابن القطّان [2] . آخر أصحاب ابن سريج وفاة. أخذ عنه علماء بغداد ومات بها في جمادى الأولى، وله مصنفات في أصول الفقه وفروعه.
__________
[1] تحرّف في «دول الإسلام» للذهبي (1/ 222) إلى «تكفور» فيصحح فيه، وانظر «العبر» (2/ 318) و «الكامل في التاريخ» (8/ 603) .
[2] مترجم في «سير أعلام النبلاء» (16/ 159) .(4/306)
وفيها أحمد بن يوسف بن خلّاد النّصيبيني [1] العطّار ببغداد، في صفر، وكان عريا من العلم وسماعه صحيح. روى عن الحارث بن أبي أسامة، وتمتام، وطائفة.
وفيها حبيب بن الحسن القزاز، أبو القاسم، الرجل الصالح. وثّقه جماعة، وليّنه بعضهم. روى عن أبي مسلم الكجّي وجماعة.
وفيها أبو علي الصوّاف، محمد بن أحمد بن الحسن البغدادي، المحدّث الحجّة. روى عن محمد بن إسماعيل الترمذي وإسحاق الحربي، وطبقتهما.
قال الدارقطني: ما رأت عيناي مثله، ومثل آخر بمصر. انتهى.
ومات في شعبان وله تسع وثمانون سنة.
وفيها أبو الحسين [2] محمد بن علي بن حبيش البغدادي الناقد. روى عن أبي شعيب الحرّاني، ومطيّن.
__________
[1] نسبة إلى «نصيبين» والنسبة إليها «نصيبي» و «نصيبيني» انظر «الأنساب» (12/ 97) و «معجم البلدان» (5/ 288) .
[2] في «العبر» : «أبو الحسن» .(4/307)
سنة ستين وثلاثمائة
فيها لحق المطيع لله فالج، بطل نصفه، وثقل لسانه، وأقامت الشيعة عاشوراء باللّطم والعويل، وعيد الغدير بالفرح والكوسات.
وفيها أخذت الرّوم من أنطاكية أكثر من عشرين ألف أسير.
وفيها توفي جعفر بن فلاح، الذي ولي إمرة دمشق للباطنية، وهو أول نائب وليها لبني عبيد، وكان قد سار إلى الشام، فأخذ الرّملة، ثم دمشق، بعد أن حاصر أهلها أياما، ثم قدم لحربه الحسن بن أحمد القرمطي، الذي تغلّب قبله على دمشق، وكان جعفر مريضا على نهر يزيد [1] فأسره القرمطي وقتله.
قال ابن خلّكان [2] : أبو علي جعفر بن فلاح الكتاميّ. كان أحد قوّاد المعز أبي تميم معد بن منصور العبيدي، صاحب إفريقية، وجهزه مع القائد جوهر لما توجه لفتح الدّيار المصرية، فلما أخذ مصر بعثه جوهر إلى الشام، فغلب على الرّملة في ذي الحجة سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، ثم تغلب على دمشق فملكها في المحرّم سنة تسع وخمسين بعد أن قاتل أهلها، ثم أقام بها إلى سنة ستين، ونزل إلى الدكة فوق نهر يزيد بظاهر دمشق، فقصده
__________
[1] نهر يزيد إلى الشمال من دمشق القديمة، منسوب إلى يزيد بن أبي سفيان. انظر «معجم البلدان» (5/ 324) .
[2] في «وفيات الأعيان» (1/ 361- 362) .(4/308)
الحسن بن أحمد القرمطي، المعروف بالأعصم، فخرج إليه جعفر المذكور وهو عليل، فظفر به القرمطي فقتله، وقتل من أصحابه خلقا كثيرا، وذلك في يوم الخميس سادس ذي القعدة سنة ستين وثلاثمائة.
قال بعضهم: قرأت على باب قصر القائد جعفر بن فلاح المذكور بعد قتله مكتوبا:
يا منزلا لعب الزمان [1] بأهله ... فأبادهم بتفرّق لا يجمع
أين الذين عهدتهم بك مرّة ... كان الزمان بهم يضرّ وينفع
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقي الذين حياتهم لا تنفع [2]
وكان جعفر المذكور رئيسا جليل القدر ممدحا، وفيه يقول أبو القاسم محمد بن هانئ الأندلسي الشاعر المشهور:
كانت مساءلة الرّكبان تخبرني ... عن جعفر بن فلاح أطيب الخبر
حتّى التقينا فلا والله ما سمعت ... أذني بأحسن مما قد رأى بصري
والناس يروون هذين البيتين لأبي تمام في القاضي أحمد بن [أبي] دواد [3] وهو غلط. انتهى.
وفيها الأمير زيري بن مناد الحميري الصّنهاجي، جدّ المعزّ بن باديس، وزيريّ أول من ملك من طائفته، وهو الذي بنى مدينة أشير [4] في إفريقية وحصّنها في أيام خروج مخلد الخارجي، وكان زيريّ حسن السيرة شجاعا صارما، وكانت بينه وبين جعفر الأندلسي ضغائن وأحقاد أفضت إلى
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «عبث الزمان» .
[2] هذا البيت لم يرد في «وفيات الأعيان» الذي بين يدي.
[3] في الأصل والمطبوع: «أحمد بن داود» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[4] قال ياقوت: أشير: مدينة في جبال البربر بالمغرب في طرف إفريقية الغربي مقابل بجاية في البر. كان أول من عمّرها زيري بن مناد الصنهاجي، سيد هذه القبيلة في أيامه ... وانظر تتمة كلامه في «معجم البلدان» (1/ 202- 203) .(4/309)
الحرب، فلما تصافا انجلى المصاف عن قتل زيري المذكور، وذلك في شهر رمضان. ذكروا أنه كبا به فرسه، فسقط إلى الأرض فقتل، وكانت مدة ملكه ستا وعشرين سنة، وهو صاحب مدينة تاهرت.
وفيها الحافظ العلم، مسند العصر الطبراني، أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللّخمي، في ذي القعدة بأصبهان [1] ، وله مائة سنة وعشرة أشهر، وكان ثقة صدوقا، واسع الحفظ، بصيرا بالعلل والرّجال والأبواب، كثير التصانيف، وأوّل سماعه في سنة ثلاث وسبعين ومائتين بطبرّية المنسوب إليها. ورحل أولا إلى القدس، سنة أربع وسبعين، ثم رحل إلى قيسارية سنة خمس وسبعين، فسمع من أصحاب محمد بن يوسف الفريابي، ثم رحل إلى حمص، وجبلة، ومدائن الشام، وحجّ، ودخل اليمن، ورد إلى مصر، ثم رحل إلى العراق، وأصبهان، وفارس. روى عن أبي زرعة الدمشقي، وإسحاق الدّبري [2] وطبقتهما، كالنسائي. وعنه: من شيوخه، أبو خليفة الجمحي، وابن عقدة، وأبو نعيم الحافظ، وأبو الحسين بن فاذشاه وغيرهم.
قال ابن خلّكان [3] : وعدد شيوخه ألف شيخ، وله المصنفات الممتعة النافعة الغريبة، منها: المعاجم الثلاثة «الكبير» و «الأوسط» و «الصغير» وهي [4] أشهر كتبه. وروى عنه الحافظ أبو نعيم والخلق الكثير.
ومولده سنة ستين ومائتين بطبريّة الشام، وسكن أصبهان إلى أن توفي بها نهار السبت ثامن عشري [ذي] القعدة سنة ستين وثلاثمائة. انتهى.
__________
[1] في المطبوع: «في أصبهان» .
[2] تحرّفت في الأصل والمطبوع إلى «الديري» والتصحيح من «العبر» (2/ 322) وانظر «سير أعلام النبلاء» (16/ 120) .
[3] في «وفيات الأعيان» (2/ 107) .
[4] في الأصل والمطبوع: «وهو» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .(4/310)
وقال ابن ناصر الدّين: هو مسند الآفاق، ثقة. له «المعاجم» الثلاثة المنسوبة إليه، وكان يقول عن «الأوسط» : هو روحي، لأنه تعب عليه.
انتهى.
وفيها أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلّاد الفارسي الرّامهرمزي، الحافظ الكبير البارع. روى عن أبيه، ومحمد بن عبد الله الحضرمي، وأبي خليفة الجمحي. وعنه: ابن جميع، وابن مردويه، وغيرهما، وهو من الثقات.
وفيها الطّوماري- نسبة إلى طومار، جدّ- وهو أبو علي عيسى بن محمد البغدادي في صفر، وله ثمان وتسعون سنة، وهو ليس بالقوي، يروي عن الحارث بن أبي أسامة، وابن أبي الدّنيا، والكديمي، وطبقتهم.
وفيها أبو بكر محمد بن جعفر بن محمد الهيثم الأنباري البندار. روى عن أحمد بن الخليل البرجلاني، ومحمد بن أحمد بن أبي العوّام، وتفرّد بالرّواية عن جماعة، وتوفي يوم عاشوراء، وله ثلاث وتسعون سنة، وأصوله حسنة، بخط أبيه.
وفيها أبو عمرو بن مطر النيسابوري الزاهد، شيخ السّنّة، محمد بن جعفر بن محمد بن مطر المعدّل. روى عن أبي عمر أحمد بن المبارك المستملي، ومحمد بن أيوب الرّازي، وطبقتهما، وكان متعففا قانعا باليسير، يحيي الليل، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويجتهد في متابعة السّنّة.
توفي في جمادى الآخرة، وله خمس وتسعون سنة.
وفيها محمد بن جعفر بن محمد بن كنانة، أبو بكر البغدادي المؤدب. روى عن الكديمي، وأبي مسلم الكجّي.
قال ابن أبي الفوارس: فيه تساهل، وتوفي عن أربع وتسعين سنة.(4/311)
ومن غرائب الاتفاق موت هؤلاء الثلاثة في سنة واحدة، وهم في عشر المائة، وأسماؤهم، وآباؤهم واحدة، وهم شيء واحد. قاله في «العبر» [1] .
وفيها ابن العميد الوزير العلّامة، أبو الفضل محمد بن الحسين بن محمد الكاتب، وزير ركن الدولة الحسن بن بويه، صاحب الرّيّ، كان آية في التّرسّل والإنشاء، فيلسوفا، متهما برأي الحكماء، حتّى كان ينظّر بالجاحظ، وكان يقال: بدئت الكتابة بعبد الحميد، وختمت بابن العميد. وكان الصاحب إسماعيل بن عبّاد تلميذه وخصيصه وصاحبه، ولذلك قالوا: الصاحب، ثم صار لقبا عليه، وكان الصاحب ابن عبّاد قد سافر إلى بغداد، فلما رجع إليه قال: كيف وجدتها؟ قال: بغداد في البلاد كالأستاذ في العباد، وكان ابن العميد سايسا مدبرا للملك، قائما بضبطه، وقصده جماعة من مشاهير الشعراء من البلاد الشاسعة ومدحوه بأحسن المدائح، فمنهم: أبو الطيب، وردّ عليه وهو بأرّجان ومدحه بقصائد، أحدها التي أولها:
باد هواك صبرت أم لم تصبرا ... وبكاك إن لم يجر دمعك أو جرى
أرجان أيتها الجياد فإنه ... عزمي الذي يذر الوشيج مكسّرا
لو كنت أفعل ما اشتهيت فعاله ... ما شقّ كوكبك [2] العجاج الأكدرا
أمّي [3] أبا الفضل المبرّ أليّتي ... لأيمّمنّ أجلّ بحر جوهرا
أفتى [4] برؤيته الأنام وحاش لي ... من أن أكون مقصّرا أو مقصرا
__________
[1] (2/ 322- 323) .
[2] في الأصل والمطبوع: «كوكبه» وما أثبتناه من «ديوانه» بشرح العكبري، و «وفيات الأعيان» .
[3] في الأصل والمطبوع: «إني» والتصحيح من «ديوانه» بشرح العكبري، و «وفيات الأعيان» .
[4] في الأصل والمطبوع: «أفدى» وما أثبته من «ديوانه» بشرح العكبري، و «وفيات الأعيان» .(4/312)
من مبلغ الأعراب أني بعدها ... شاهدت رسطاليس والإسكندرا
ومللت نحر عشارها فأضافني [1] ... من ينحر البدر النّضار لمن قرى
وسمعت بطليموس دارس كتبه ... متملّكا متبدّيا متحضرا
ولقيت كل الفاضلين كأنما ... ردّ الإله نفوسهم والأعصرا
نسقوا لنا نسق الحساب مقدّما ... وأتى بذلك [2] إذ أتيت مؤخّرا [3]
وهي من القصائد المختارة.
قال ابن الهمذاني في كتاب «عيون السير» : فأعطاه ثلاثة آلاف دينار.
وكان المتنبي نظمها بمصر في أبي الفضل جعفر بن الفرات، فلما لم يرضه، لم ينشده إيّاها، فلما توجه إلى بلاد فارس صرفها إلى ابن العميد.
وكان أبو نصر عبد العزيز بن نباتة السعدي قد ورد عليه وهو بالرّيّ وامتدحه بقصيدته التي أولها:
برح اشتياق وادّكار ... ولهيب أنفاس حرار
ومدامع عبراتها ... ترفضّ عن نوم مطار
لله قلبي ما يجنّ [4] ... من الهموم وما يواري
لقد انقضى سكر الشبا ... ب وما انقضى وصب الخمار
وكبرت عن وصل الصغا ... ر وما سلوت عن الصغار
سقيا لتغليسي إلى ... باب الرّصافة وابتكاري
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «فأصابني» والتصحيح من «ديوانه» بشرح العكبري، و «وفيات الأعيان» .
[2] في «ديوانه» و «وفيات الأعيان» : «وأتى فذلك» .
[3] الأبيات من مواضع متفرقة في «ديوانه» بشرح العكبري (2/ 160- 172) من قصيدة مؤلفة من سبعة وأربعين بيتا. وقد ساقها على النحو الذي في كتابنا ابن خلكان في «وفيات الأعيان» (5/ 104- 105) مع الخبر.
[4] في المطبوع: «ما يحن» .(4/313)
أيام أخطر في الصبا ... نشوان مسحوب الإزار
حجي إلى حجر الصّرا ... ة وفي حدائقها اعتماري
ومواطن اللّذات أو ... طاني ودار اللهو داري
لم يبق لي عيش يلذ ... سوى معاقرة العقار
حتّى بألحان قمر ... ت بهن ألحان القماري
وإذا استهل ابن العميد ... تضاءلت ديم القطار
خلق [1] صفت أخلاقه ... صفو السبيك من النضار
فكأنما رفدت موا ... هبه بأمواج البحار
وكأن نشر حديثه ... نشر الخزامى والعرار
وكأننا [2] مما تفر ... ق راحتاه في نثار [3]
إن الكبار من الأمو ... ر تنال بالهمم الكبار
فتأخرت صلته [عنه] [4] فشفع هذه القصيدة بأخرى، وأتبعها برقعة، فلم يزده ابن العميد على الإهمال مع رقة حاله التي ورد عليها إلى بابه، فتوسّل [5] إلى أن دخل عليه يوم المجلس وهو حفل بأعيان الدولة، ومقدمي أرباب الديوان، فوقف بين يديه، وأشار بيده إليه، وقال: أيها الرئيس، إني لزمتك لزوم الظل، وذللت لك ذل النعل، وأكلت النوى المحرق انتظارا لصلتك، والله ما بي من الحرمان، ولكن شماتة الأعداء، قوم نصحوني
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «خرق» .
[2] في الأصل: «وكأنما» .
[3] في الأصل: «في انتشار» وفي المطبوع: «في انثار» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» .
[4] لفظة «عنه» لم ترد في الأصل والمطبوع وأثبتها من «وفيات الأعيان» .
[5] في الأصل والمطبوع: «فتوصل» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .(4/314)
فاغتششتهم، وصدقوني فاتهمتهم، فبأي وجه ألقاهم؟ وبأي حجة أقاومهم؟
ولم أحصل من مديح بعد مديح، ومن نثر بعد نظم إلا على ندم مؤلم ويأس مسقم، فإن كان للنجاح علامة فأين هي وما هي؟ إن الذين نحسدهم على ما مدحوا [به] كانوا من طينتك، وإن الذين هجوا كانوا مثلك، فزاحم بمنكبك أعظمهم سناما وأنورهم شعاعا، وأشرفهم بقاعا [1] . ثم رفع رأسه ابن العميد وقال: هذا وقت يضيق عن الإطالة منك في الاستزادة، وعن الإطالة مني في المعذرة، وإذا تواهبنا ما دفعنا [إليه] استأنفنا ما نتحامل [2] عليه. فقال ابن نباتة: أيها الرئيس، هذه نفثة صدر قد ذوى [3] منذ زمان، وفضلة لسان قد خرس منذ دهر، والغني إذا مطل لئيم، فاستشاط ابن العميد، وقال: والله ما استوجبت هذا العتب من أحد من خلق الله تعالى، ولقد نافرت العميد من دون ذا حتّى دفعنا إلى فريّ [4] عاتم ولجاج قائم، ولست وليّ نعمتي فأحتملك، ولا صنيعتي فأغضي عنك [5] ، وإن بعض ما أقررته في مسامعي ينغص [6] مرّة الحليم [7] ويبدد شمل الصريم [8] هذا وما استقدمتك بكتاب، ولا استدعيتك برسول، ولا سألتك مدحي، ولا كلفتك تقريضي. فقال ابن نباتة: صدقت أيها الرئيس ما استقدمتني بكتاب، ولا استدعيتني برسول، ولا سألتني مدحك، ولا كلفتني تقريضك، ولكن جلست في صدر إيوانك [9]
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «وأشفرهم يفاعا» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[2] في «وفيات الأعيان» : «ما نتحامد» .
[3] في «وفيات الأعيان» : «قد روي» .
[4] في «وفيات الأعيان» : «قريّ» .
[5] في «وفيات الأعيان» : «فأغضى عليك» .
[6] في «وفيات الأعيان» : «ينقص» .
[7] في الأصل: «الحكيم» وأثبت ما في المطبوع وهو موافق لما في «وفيات الأعيان» .
[8] في «وفيات الأعيان» : «ويبدّد شمل الصبر» وهو تحريف، والصريم: الصارم، وانظر «لسان العرب» (صرم) .
[9] في «وفيات الأعيان» : «في صدر ديوانك» والإيوان: الصّفّة العظيمة، والصّفّة من البنيان هي(4/315)
بأبّهتك، وقلت: لا يخاطبني أحد إلا بالرئاسة، ولا ينازعني خلق في أحكام السياسة، فإني كاتب ركن الدولة، وزعيم الأولياء والحضرة، والقيّم بمصالح المملكة، فكأنك دعوتني بلسان الحال ولم تدعني بلسان القال، فثار ابن العميد مغضبا، وأسرع في صحن داره إلى أن دخل حجرته، وتقوض المجلس، وماج الناس، وسمع ابن نباتة وهو في صحن الدار مارّا يقول:
والله إن سفّ التراب والمشي على الجمر، أهون من هذا، فلعن الله الأدب إذا كان بائعه مهينا، ومشتريه مماكسا فيه. فلما سكن غيظ ابن العميد، وثاب إليه حلمه التمسه من الغد ليعتذر إليه ويزيل آثار ما كان منه، فكأنما غاص في سمع الأرض وبصرها، فكانت حسرة في قلب ابن العميد إلى أن مات.
وللصاحب ابن عبّاد فيه مدائح كثيرة، وكان ابن العميد قد قدم مرّة إلى أصبهان، والصاحب بها، فكتب إليه يقول:
قالوا ربيعك قد قدم ... قلت البشارة إن سلم
أهو الرّبيع أخو الشتا ... ء أم الرّبيع أخو الكرم
قالوا الذي بنواله ... أمن المقلّ من العدم
قلت الرئيس ابن العمي ... د إذا، فقالوا لي نعم
ولابن العميد شعر متوسط منه قوله:
رأيت في الوجه طاقة بقيت ... سوداء عيني تحبّ رؤيتها
فقلت للبيض إذ تروعها ... بالله إلا رحمت وحدتها
فقلن [1] ليس السواد في بلد ... تكون فيه البيضاء ضرّتها
وفيها الآجرّي الإمام، أبو بكر محمد بن الحسين البغدادي المحدّث
__________
شبه البهو الواسع الطويل السّمك. انظر «لسان العرب» (أون) و (صفف) .
[1] في «وفيات الأعيان» : «فقلّ» .(4/316)
الثقة الضابط، صاحب التصانيف والسّنّة. كان حنبليا وقيل: شافعيا- وبه جزم الإسنوي [1] وابن الأهدل- سمع أبا مسلم الكجّي، وأبا شعيب الحرّاني، وطائفة. ومنه أبو الحسن الحمامي [2] وأبو الحسين بن بشران، وأبو نعيم الحافظ، وصنّف كثيرا. جاور بمكة وتوفي بها. قيل: إنه لما دخلها فأعجبته قال: اللهمّ ارزقني الإقامة بها سنة، فهتف به هاتف بل ثلاثين سنة، فعاش بها ثلاثين سنة، ثم مات بها في أول المحرم.
والآجري: بضم الجيم، نسبة إلى قرية من قرى بغداد.
وفيها أبو طاهر بن ذكوان البعلبكّيّ المؤدّب محمد بن سليمان، نزيل صيدا ومحدّثها. قرأ القرآن على هارون الأخفش، وسمع أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة، وزكريا خيّاط السّنّة، وطبقتهما، وعاش بضعا وتسعين سنة.
روى عن السّكن بن جميع، وصالح بن أحمد المسامحي [3] ، وقرأ عليه عبد الباقي بن الحسين، شيخ أبي الفتح [بن] فارس.
وفيها أبو القاسم محمد بن أبي يعلى الهاشمي الشريف. لما أخذت العبيديون دمشق، قام هذا الشريف بدمشق، وقام معه أهل الغوطة والشباب، واستفحل أمره في ذي الحجة سنة تسع وخمسين، وطرد عن دمشق متولّيها، ولبس السواد، وأعاد الخطبة لبني العبّاس، فلم يلبث إلّا أيّاما، حتّى جاء عسكر المغاربة، وحاربوا أهل دمشق، وقتل بين الفريقين جماعة، ثم هرب الشريف في الليل، وصالح أهل البلد العسكر، ثم أسر الشريف عند تدمر، فشهره جعفر بن فلاح على جمل، في المحرم، سنة ستين، وبعث به إلى مصر.
__________
[1] انظر كتاب «طبقات الشافعية» (1/ 79- 80) وقد نقل الإسنوي ذلك عن ابن خلكان في «وفيات الأعيان» (4/ 292) .
[2] في المطبوع: «الحماني» ، وانظر «سير أعلام النبلاء» (16/ 135) .
[3] في «العبر» : «الميانجي» .(4/317)
وقد توفي في عشر الستين وثلاثمائة، خلق، منهم:
أحمد بن القاسم بن الريّان، أبو الحسن المصري اللّكّيّ [1] ، نزيل البصرة. روى عن الكديمي، وإسحاق الدّبري وطبقتهما.
قال ابن ماكولا [2] : فيه ضعف.
وقال الحافظ أبو محمد الحسن بن علي البصري: سمعت منه، وليس بالمرضي.
وأحمد بن طاهر النجم الحافظ أبو عبد الله محدث أذربيجان الميانجي بالفتح والتحتية وفتح النون وجيم، نسبة إلى ميانة، بلد بأذربيجان [3]-.
قال أبو الحسين أحمد بن فارس اللغوي: ما رأيت مثله، ولا رأى مثل نفسه.
وقال الخليل: توفي بعد الخمسين.
سمع أبا مسلم الكجّي، وعبد الله بن أحمد.
وأبو الحسن بن سالم الزاهد، أحمد بن محمد بن سالم الزاهد البصري، شيخ السالميّة، كان له أحوال ومجاهدات، وعنه أخذ الأستاذ أبو طالب صاحب القوت، وهو آخر أصحاب سهل التّستري وفاة، وقد خالف أصول السّنّة في مواضع، وبالغ في الإثبات في مواضع، وعمّر دهرا، وبقي إلى سنة بضع وخمسين. قاله في «العبر» [4] .
__________
[1] انظر «ميزان الاعتدال» (1/ 128) .
[2] انظر «الإكمال» (4/ 112) .
[3] أقول: منها القاضي أبو الحسن علي بن الحسن بن علي الميانجي أحد الفضلاء المشهورين.
وهذه النسبة أيضا «ميانجي» إلى ميانج، وهو موضع بالشام، وانظر «اللباب في تهذيب الأنساب» (3/ 278) و «معجم البلدان» (5/ 240) . (ع)
[4] (2/ 326) .(4/318)
وأبو حامد أحمد بن محمد بن شارك [1] ، الفقيه الشافعي، مفتي هراة ومحدّثها ومفسرها وأديبها. رحل الكثير، وعني بالحديث، وروى عن محمد بن عبد الرّحمن السّامي [2] ، والحسن بن سفيان، وطبقتهما، وتوفي سنة خمس وخمسين، وقيل: سنة ثمان وخمسين.
وإبراهيم بن عبد الله بن محمد بن أبي العزائم، أبو إسحاق الكوفي، صاحب أبي عمرو أحمد بن أبي غرزة [3] الغفاري.
وأبو علي النّجّاد الصغير، وهو الحسين بن عبد الله البغدادي الحنبلي، المسند، صنّف في الأصول والفروع.
قال ابن أبي يعلى في «طبقاته» [4] : كان فقيها [5] معظما إماما في أصول الدّين وفروعه.
صحب من شيوخ المذهب: لأبي الحسن بن بشار، وأبي محمد البربهاري، ومن في طبقتهما.
وصحبه جماعة، منهم: أبو حفص البرمكي، وأبو جعفر العكبري [6] وأبو الحسن الجزري [7] .
قال النّجّاد: جاءني رجل- وقد كنت [8] حذّرت منه أنه رافضي- فأخذ
__________
[1] تحرّفت في المطبوع إلى «ابن شادك» وانظر «سير أعلام النبلاء» (16/ 273- 274) .
[2] تحرّفت في الأصل والمطبوع إلى «الشامي» بالشين المعجمة وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» .
[3] في الأصل والمطبوع: «صاحب أبي عمر، وأحمد بن أبي عزيزة» والتصحيح من «العبر» .
[4] (2/ 140- 142) بعناية الشيخ محمد حامد الفقي رحمه الله تعالى.
[5] في المطبوع: «أنه كان فقيها» .
[6] تحرّفت في الأصل إلى «الطبري» وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[7] تحرّفت في المطبوع إلى «الخرزي» والصواب ما جاء في الأصل. انظر «طبقات ابن أبي يعلى» (2/ 167) .
[8] لفظة «كنت» سقطت من الأصل وأثبتها من المطبوع.(4/319)
يتقرب إليّ، ثم قال: لا نسب أبا بكر وعمر، بل معاوية وعمرو بن العاص، فقلت له: وما لمعاوية؟ قال: لأنه قاتل عليا. قلت له: إن قوما يقولون: إنه لم يقاتل عليا، وإنما قاتل قتلة عثمان. قال: فقول النّبيّ، صلى الله عليه وسلم، لعمار: «تقتلك الفئة الباغية» ؟ [1] [قلت: إن أنا قلت: [إن هذا] لم يصح، وقعت منازعة، ولكن قوله عليه [الصلاة] السلام: «تقتلك الفئة الباغية» ] [2] يعني به الطالبة، لا الظالمة، لأن أهل اللغة تسمي الطالب: باغيا، ومنه: بغيت الشيء، أي طلبته، ومنه قوله تعالى: قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي 12: 65 [يوسف: 65] وقوله عزّ وجل: وَابْتَغُوا من فَضْلِ الله 62: 10 [الجمعة: 10] ومثل ذلك كثير، فإنما يعني به [3] : الطالبة لقتلة عثمان رضوان الله عليه.
وقال أبو حفص العكبري: سمعت أبا علي النجّاد يقول: سمعت أبا الحسن بن بشار يقول: ما أعتب [4] على رجل يحفظ لأحمد بن حنبل خمس مسائل أن يستند إلى بعض سواري المسجد ويفتي الناس بها.
وجزم ابن بردس [5] ، أن النّجّاد هذا توفي سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة.
وفيها الرّامهرمزي، الحسن بن عبد الرحمن بن خلّاد، الحافظ القاضي. روى عن أبيه، ومطيّن، ومحمد بن [حيّان] [6] المازني وغيرهم.
وعنه ابن جميع وابن مردويه وغيرهما، وهو ثقة.
قال أبو القاسم بن مندة: عاش إلى قريب الستين وثلاثمائة.
__________
[1] تقدم تخريج الحديث في المجلد الأول صفحة (212) فراجعه هناك.
[2] ما بين حاصرتين سقط من الأصل وأثبته من المطبوع.
[3] في المطبوع: «يعني بذلك» وما جاء في الأصل موافق لما في «طبقات ابن أبي يعلى» .
[4] في «طبقات ابن أبي يعلى» : «ما أعيب» .
[5] في الأصل والمطبوع: «ابن برداس» وهو خطأ والصواب ما أثبته كما سبق التنبيه على ذلك من قبل.
[6] لفظة «حيّان» سقطت من الأصل والمطبوع واستدركتها من «العبر» .(4/320)
وجزم ابن بردس أنه توفي في سنة ستين.
والجابري عبد الله [بن جعفر] [1] بن إسحاق الموصلي، صاحب الجزء المشهور به، وشيخ أبي نعيم الحافظ. روى عن محمد بن أحمد بن أبي المثنّى [2] وغيره.
وأبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن أحمد بن علّك، المروزي الجوهري المحدّث، محدّث مرو ومسندها. روى عن الفضل الشّعراني، ومحمد بن أيوب [بن] الضّريس.
قال ابن ناصر الدّين: هو ثبت مشهور، وجزم أنه توفي بعد الستين [3] .
وكشاجم، أحد فحول الشعراء، واسمه محمود بن حسين. كان من الشعراء المجيدين والفضلاء المبرزين، حتّى قيل: إن لقبه هذا منحوت من عدّة علوم كان يتقنها، فالكاف للكتابة، والشين من الشعر، والألف من الإنشاء، والجيم من الجدل، والميم من المنطق، وكان يضرب بملحه المثل، فيقال: ملح كشاجم.
ومن شعره قوله في أسود له تعد:
يا مشبها في لونه فعله ... لم تعد ما أوجبت القسمة
فعلك من لونك مستنبط ... والظّلم مشتق من الظّلمه
وقال بعضهم في ترجمته: هو أبو الحسين، وأبو الفتح، بن السندي الكاتب، المعروف بكشاجم، هو من أهل الرّملة من نواحي فلسطين، وكان
__________
[1] ما بين حاصرتين سقط من الأصل والمطبوع واستدركته من «العبر» وانظر «سير أعلام النبلاء» (16/ 133) .
[2] صاحب جعفر بن عون.
[3] قلت: وكذلك جزم الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (16/ 168) نقلا عن الخليلي في «الإرشاد في علماء البلاد» .(4/321)
رئيسا في الكتابة، ومقدما في الفصاحة والخطابة، له تحقيق يتميز به عن نظرائه، وتدقيق يربي به على أكفائه، وتحديق في علوم التعليم أضرم في شعلة ذكائه، فهو الشاعر المفلق، والنجم المتألق. لقب نفسه بكشاجم، فسئل عن ذلك، فقال: الكاف من كاتب، والشين من شاعر، والألف من أديب، والجيم من جواد، والميم من منجم، وكان من شعراء أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان، والد سيف الدولة، قيل: إنه كان طباخ سيف الدولة، شعره أنيق، وأرج مدوناته فتيق، منها كتاب «المصائد والمطارد» .
قال في «تثقيف اللسان» [1] : كشاجم لقب له، جمعت أحرفه من صناعته، ثم طلب علم الطب، حتّى مهر فيه وصار أكبر علمه، فزيد في اسمه طاء من طبيب، وقدمت، فقيل: طكشاجم، ولكنه لم يشتهر [2] .
وأبو حفص العتكي الأنطاكي، عمر بن علي. روى عن ابن جوصا [3] ، والحسن بن أحمد بن فيل، وطبقتهما.
وأبو العبّاس محمد بن أحمد بن حمدان الزاهد، أخو أبي عمرو [4] بن حمدان. نزل خوارزم، وحدّث بها عن محمد بن أيوب بن الضّريس، ومحمد بن عمرو قشمرد، وطبقتهما، وأكثر عنه البرقاني.
ومحمد بن أحمد بن محمد بن يعقوب الأصبهاني القمّاط. روى عن أبي بكر بن أبي عاصم، وغيره.
__________
[1] هو لابن القطّاع، واسمه علي بن جعفر بن علي السعدي أبو القاسم المعروف بابن القطاع، توفي سنة (515) هـ وانظر «كشف الظنون» (1/ 344) (ع) .
[2] يقصد لم يشتهر بلقبه «طكشاجم» وإنما اشتهر بلقبه «كشاجم» .
[3] في الأصل والمطبوع: «ابن حوصا» وهو تصحيف والتصحيح من «العبر» .
[4] في «سير أعلام النبلاء» : «أخو أبي عمر» .(4/322)
وأبو جعفر الرّوذراوري، نسبة إلى روذراور، بلد بهمذان [1] ، واسمه محمد بن عبد الله بن برزة. حدّث بهمذان، سنة سبع وخمسين، عن تمتام، وإسماعيل القاضي، وطبقتهما، وقال صالح بن أحمد الحافظ: هو شيخ.
__________
[1] انظر «معجم البلدان» (3/ 78) .(4/323)
سنة إحدى وستين وثلاثمائة
قال في «الشذور» : فيها انقض في صفر كوكب عظيم له دوي كدوي الرعد.
وفيها مات الأسيوطي، أبو علي، الحسن بن الخضر في ربيع الأول.
روى عن النّسائي، والمنجنيقي.
والأسيوطي: بضم أوله والتحتية، نسبة إلى أسيوط، ويقال: سيوط، بلد بصعيد مصر.
قال الجلال السيوطي في «لباب الأنساب» [1] : قلت: فيها خمسة أوجه، ضم الهمزة، وكسرها، وإسقاطها، وتثليث السين المهملة. انتهى.
وفيها الخيّام، خلف بن محمد بن إسماعيل، أبو صالح، البخاري، محدّث ما وراء النهر. روى عن صالح جزرة وطبقته، ولم يرحل، وليّنه أبو سعد الإدريسي، وعاش ستا وثمانين سنة.
وفيها الدرّاج، أبو عمرو، عثمان بن عمر بن خفيف البغدادي المقرئ. روى عن ابن المجدّر وطائفة.
قال البرقاني: كان بدلا من الأبدال.
__________
[1] ص (15) واسم كتابه الذي نقل عنه المؤلف «لب اللباب في تحرير الأنساب» طبع في أوربة أول الأمر، ثم أعيد طبعه بطريقة الأوفست في مكتبة المثنى ببغداد، وهي التي رجعت إليها.(4/324)
وفيها محمد بن أسد الخشني [1]- بالضم والفتح، نسبة إلى خشن قرية بإفريقية- القيرواني، أبو عبد الله، الحافظ، نزيل قرطبة. صنّف كتاب «الاختلاف والافتراق في مذهب مالك» وكتاب «الفتيا» وكتاب «تاريخ الأندلس» وكتاب «تاريخ إفريقية» وكتاب «النسب» .
__________
[1] في «العبر» : «المحاسبي» وانظر «مرآة الجنان» (2/ 375) .(4/325)
سنة اثنتين وستين وثلاثمائة
فيها كما قال في «الشذور» قتل رجل من أصحاب المعونة في الكرخ، فبعث أبو الفضل الشيرازي، صاحب معز الدولة، من طرح النار في النحّاسين إلى السمّاكين، فاحترقت سبعة عشر ألف وثلاثمائة وعشرين دارا، أجرة ذلك في الشهر ثلاثة وأربعون ألف دينار، ودخل في الجملة ثلاثة وثلاثون مسجدا، وهلك خلق كثير من الناس في الدّور والحمامات. انتهى.
وفيها كما قال في «العبر» [1] أخذت الرّوم نصيبين، واستباحوها، وتوصل من نجا إلى بغداد، وقام معهم المطوّعة، واستنفروا الناس، ومنعوا من الخطبة، وحاولوا الهجوم على المطيع، وصاحوا عليه بأنه عاجز مضيّع [2] لأمر الإسلام، فسار العسكر من جهة الملك عز الدّولة بختيار، فالتقوا الرّوم، فنصروا عليهم، وأسروا جماعة من البطارقة، ففرح المسلمون.
وفي رمضان، قدم المعزّ أبو تميم العبيدي [3] مصر، ومعه توابيت آبائه، ونزل بالقصر بداخل القاهرة المعزّية، التي بناها مولاه جوهر، لما افتتح الإقليم، وقويت شوكة الرّفض شرقا وغربا، وخفيت السّنن، وظهرت البدع، نسأل الله تعالى العافية.
__________
[1] (2/ 331) .
[2] تحرّفت في الأصل إلى «مطيع» وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[3] تحرّفت في الأصل والمطبوع إلى «العبدي» والتصحيح من «العبر» .(4/326)
وفيها عالم البصرة، أبو حامد المرورّوذي- بفتح الميم والواو الأولى، وضم الراء الثانية المشددة، آخره معجمة، نسبة إلى مرو الرّوذ، أشهر مدن خراسان- أحمد بن عامر بن بشر [1] الشافعي، صاحب التصانيف، وصاحب أبي إسحاق المروزي، وكان إماما لا يشق غباره، تفقه به أهل البصرة.
قال الإسنوي [2] : أحمد بن بشر بن عامر العامري، المروروذي [أخذ عن أبي إسحاق المروزي] [3] ونزل البصرة، وأخذ عنه فقهاؤها، وكان إماما لا يشق غباره، وشرح «مختصر المزني» وصنّف «الجامع» في المذهب، وهو كتاب جليل، وصنّف في أصول الفقه، ومات سنة ثنتين وستين وثلاثمائة.
ذكره الشيخ [4] في «طبقاته» [5] والنووي في «تهذيبه» [6] وكذلك ابن الصلاح، إلا أنه لم يؤرّخ وفاته، ونبّه على أن الشيخ أبا إسحاق جعل عامرا أباه، وبشرا جدّه، قال: والصواب العكس، أي أحمد بن بشر بن عامر. وكان له ولد يقال له: أبو محمد، ذكره الشيخ في «طبقاته» [7] فقال: جمع بين الفقه والأدب، وله كتب كثيرة، وكان واحد [8] عصره في صناعة القضاء، قال:
وأظنه أخذ الفقه عن أبيه. انتهى.
وفيها أحمد بن محمد بن عمارة أبو الحارث اللّيثي الدمشقي. روى عن زكريا خيّاط السّنّة، وطائفة، وعمّر دهرا.
__________
[1] في «سير أعلام النبلاء» (16/ 166) و «طبقات الشافعية» للإسنوي: «أحمد بن بشر بن عامر» وهو الصواب كما سيرد في ترجمته بعد قليل، وفي «معجم البلدان» (5/ 112) : «أحمد بن عامر بن يسر» وهو خطأ فيصحح فيه.
[2] في «طبقات الشافعية» (2/ 377- 378) .
[3] ما بين حاصرتين سقط من الأصل وأثبته من المطبوع و «طبقات الشافعية» للإسنوي.
[4] يعني أبا إسحاق الشيرازي.
[5] انظر «طبقات الفقهاء» للشيرازي ص (114) بتحقيق الدكتور إحسان عباس.
[6] انظر «تهذيب الأسماء واللغات» (2/ 211) مصوّرة دار الكتب العلمية ببيروت.
[7] انظر «طبقات الفقهاء» للشيرازي ص (126) .
[8] في «طبقات الشافعية» للإسنوي: «أوحد» .(4/327)
وفيها أبو إسحاق المزكّي، إبراهيم بن محمد بن يحيى النيسابوري.
قال الحاكم: هو شيخ نيسابور في عصره، وكان من العبّاد المجتهدين الحجّاجين المنفقين على الفقراء والعلماء. سمع ابن خزيمة، وأبا العبّاس السرّاج، وخلقا كثيرا، وأملى عدة سنين.
وكان يحضر مجلسه أبو العبّاس الأصم، ومن دونه. وكان مثريا متموّلا، عاش سبعا وستين سنة، توفي بعد خروجه من بغداد، ونقل إلى نيسابور فدفن بها.
وفيها إسماعيل بن عبد الله بن محمد بن ميكال [1] الأمير، أبو العبّاس، الأديب الممدوح ب «مقصورة ابن دريد» ، وتلميذ ابن دريد، وكان أبوه إذ ذاك متولى الأهواز للمقتدر، فأسمعه من عبدان الجواليقي.
وفيها أبو بحر البربهاري- نسبة إلى بيع البربهار، وهو ما يجلب من الهند- محمد بن الحسن بن كوثر في جمادى الأولى، وله ست وتسعون سنة، وهو ضعيف. روى عن الكديمي، ومحمد بن الفرج الأزرق، وطبقتهما.
قال الدارقطني: اقتصروا من حديثه على ما انتخبته فحسب [2] .
وفيها سعيد بن القاسم بن العلاء أبو عمر البردعي [3]- بفتح الباء وسكون الراء وفتح الدال المهملة، نسبة إلى بردعة، بلد بأذربيجان- وهو نزيل طراز [4] من بلاد الأتراك، وهو من الحفاظ المعتبرين.
وفيها محمد بن عبد الله بن محمد أبو جعفر البلخيّ الهندوانيّ، الذي
__________
[1] في «العبر» : «ابن ميكاييل» . وانظر «شرح مقصورة ابن دريد» ص (13) . بتحقيق د. فخر الدّين قباوة.
[2] في الأصل والمطبوع: «ما انتخبته حسب» وأثبت لفظ «العبر» مصدر المؤلف.
[3] ويقال له: البرذعي وكلاهما صواب. انظر «توضيح المشتبه» لابن ناصر الدّين (1/ 452) وتعليق الأستاذ محمد نعيم العرقسوسي عليه، وانظر «معجم البلدان» (1/ 379) .
[4] انظر «معجم البلدان» (4/ 27) .(4/328)
كان من براعته في الفقه، يقال له: أبو حنيفة الصغير، توفي ببخارى، وكان شيخ تلك الديار في زمانه، وقد روى الحديث، عن محمد بن عقيل البلخي وغيره.
والهندواني: بكسر الهاء وضم الدال المهملة، نسبة إلى باب هندوان، محلة ببلخ.
وفيها أبو عمر محمد بن موسى بن فضالة، المحدّث الأموي، مولاهم الدمشقي، في ربيع الآخر. روى عن الحسن بن الفرج الغزّي، وأبي قصي العذري.
قال عبد العزيز الكتاني: تكلموا فيه.
وفيها أبو الحسن، وأبو القاسم، محمد بن هانئ، حامل لواء الشعراء بالأندلس، قيل: إنه ولد يزيد بن حاتم، وكان أبوه هانئ من قرية من قرى المهدية بإفريقية، وكان شاعرا أديبا، وانتقل إلى الأندلس، فولد له محمد المذكور بها، بمدينة إشبيلية ونشأ بها، واشتغل، وحصل له حظ وافر من الأدب، وعمل الشعر فبهر فيه، وكان حافظا لأشعار العرب وأخبارهم، واتصل بصاحب إشبيلية، وحظي عنده، وكان كثير الانهماك في الملاذ، متهما بمذهب الفلاسفة، ولما اشتهر عنه ذلك نقم عليه أهل إشبيلية، وساءت المقالة في حق الملك بسببه، واتهم بمذهبه أيضا، فأشار الملك عليه بالغيبة عن البلد مدة ينسى فيها خبره، فانفصل عنها وعمره يومئذ سبع وعشرون سنة، فخرج إلى عدوة المغرب ولقي جوهر القائد، ثم رحل إلى جعفر ويحيى ابني علي وكانا بالمسيلة [1] وهي مدينة الزاب، وكانا والييها، فبالغا في إكرامه والإحسان إليه، ونمى خبره إلى معز أبي تميم معدّ بن المنصور العبيدي وطلبه منهما، فلما انتهى إليه بالغ في الإنعام عليه.
__________
[1] تحرّفت في الأصل إلى «النسيلة» وأثبت ما في المطبوع وانظر «معجم البلدان» (5/ 130) .(4/329)
ثم توجه المعزّ إلى الديار المصرية، فشيعه ابن هانئ، ورجع إلى المغرب لأخذ عياله والالتحاق به، فتجهز وتبعه، فلما وصل إلى برقة أضافه شخص من أهلها، فأقام عنده أياما في مجلس الأنس، فيقال: إنهم عربدوا عليه، فقتلوه، وقيل: خرج من تلك الدار وهو سكران، فنام على الطريق، فأصبح ميتا، ولم يعلم سبب موته، وقيل: وجد في سانية [1] من سواني برقة، مخنوقا بتكة سراويله، وكان ذلك في بكرة نهار الأربعاء ثالث عشري رجب من هذه السنة، وعمره ست وثلاثون سنة، وقيل: اثنتان وأربعون.
ولما بلغ المعز وفاته، تأسف عليه كثيرا، وقال: كنّا نرجو أن نفاخر به شعراء المشرق، فلم يقدّر لنا ذلك.
وقال ابن خلكان [2] : وديوانه كبير [3] ، ولولا ما فيه من الغلو [في المدح] والإفراط المفضي إلى الكفر لكان من أحسن الدواوين، وليس في المغاربة من هو في طبقته، لا من متقدميهم، ولا متأخريهم، بل هو أشعرهم على الإطلاق، وهو عندهم كالمتنبي عند المشارقة، وكانا متعاصرين، وإن كان في المتنبي وأبي تمام من الاختلاف ما فيه. انتهى.
وقال ابن الأهدل: وكنية ابن هانئ أبو نواس بكنية الحسن بن هانئ الحكمي العراقي، وكان معاصرا للمتنبي، ويقال: إنهما اجتمعا حين أراد المتنبي دخول المغرب فردّه أبو الحسن بن هانئ بنوع حيلة. انتهى.
والحيلة التي ذكرها، قال بعضهم: هي أن المتنبي أراد مدح فاتح قابس، فضجر لذلك، وقال: شاعر لم يرضه عطاء كافور، كيف يرضه عطائي؟
__________
[1] قال ابن منظور: السّانية، وجمعها السّواني، ما يسقى عليه الزرع والحيوان من بعير وغيره.
انظر «لسان العرب» (سنا) .
[2] انظر «وفيات الأعيان» (4/ 421- 424) وما بين حاصرتين في الخبر مستدرك منه.
[3] في الأصل والمطبوع: «كثير» وهو تحريف والتصحيح من «وفيات الأعيان» .(4/330)
فتكفل له ابن هانئ بردّه، فيقال: إنه خرج في زيّ أعرابي فقير على راحلة هزيلة، وأمامه شاة هزيلة، فمرّ بهذا الزيّ على المتنبي، وكان على مرحلة من قابس، فلما رآه المتنبي أراد العبث به، فقال له: من أين أتيت؟ قال: من عند الملك، قال: فيما كنت عنده؟ قال: امتدحته بأبيات فأجازني هذه الشاة، فأضمر في نفسه أن الملك من لطفه كونه أجازه بها يظن شعره على قدرها، فقال له: ما قلت فيه؟ قال: قلت [1] :
ضحك الزمان وكان قدما عابسا ... لمّا فتحت بعزم سيفك قابسا
أنكحتها بكرا وما أمهرتها ... إلّا قنا وصوارما وفوارسا
من كان بالسمر العوالي خاطبا ... فتحت له البيض الحصون عرائسا
فتحير المتنبيّ وأمر بتقويض خيامه، وآلى أن لا يمتدحه، إذ جائزته على مثل هذا بمثل هذه.
ومن غرر المدائح ونخب الشعر قوله في مدح المعز العبيدي المذكور:
هل من أعقّة [2] عالج يبرين ... أم منهما بقر الحدوج [3] العين
ولمن ليال ما ذممنا عهدها ... مذ كنّ إلّا ما لهن شجون
المشرقات كأنهنّ كواكب ... والناعمات كأنهنّ غصون
بيض وما ضحك الصباح وإنها [4] ... بالمسك من طرر [5] الحسان لجون
أدمى لها المرجان صفحة خدّه ... وبكى عليه اللؤلؤ المكنون
أعدى الحمام تأوّهى من بعدها ... فكأنّه فيما سجعن رنين [6]
__________
[1] الأبيات من قصيدة طويلة جدا في «ديوانه» ص (350- 357) طبع دار صادر ببيروت وأوردها ابن خلكان في «وفيات الأعيان» (4/ 422- 423) .
[2] في الأصل والمطبوع: «من بمعهد» وأثبت لفظ «ديوانه» و «وفيات الأعيان» .
[3] في الأصل: «نفر الجدوح» وأثبت لفظ «ديوانه» و «وفيات الأعيان» .
[4] في الأصل والمطبوع: «وإنما» وأثبت لفظ «ديوانه» و «وفيات الأعيان» .
[5] في الأصل والمطبوع: «من طور» وأثبت لفظ «ديوانه» و «وفيات الأعيان» .
[6] في الأصل والمطبوع: «فكأنها مما شخصن رنين» وأثبت لفظ «ديوانه» و «وفيات الأعيان» .(4/331)
بانوا سراعا للهوادج زفرة [1] ... مما رأين وللمطيّ حنين
فكأنما صبغوا الضّحى بقبابهم [2] ... أو عصفرت فيه الخدود عيون
ماذا على حلل الشقيق لو أنها ... عن لابسيها في الخدود تبين
ولأعطشنّ الروض بعدهم فلا ... يرويه لي دمع عليه هتون
أأعير لحظ العين بهجة منظر ... وأخونهم؟ إني إذا لخؤون
لا الجوّ جوّ مشرق ولو اكتسى ... زهرا ولا الماء المعين معين
لا يبعدنّ إذ العبير له ثرى [3] ... والتاج دوح [4] والشموس قطين
أيام فيه العبقريّ مفوّف [5] ... والسّابريّ [6] مضاعف موضون
والزاغبيّة شرّع والمشرف ... ة لمّع [7] والمقربات صفون
والعهد من لمياء [8] إذ لا قومها [9] ... خزر ولا الحرب الهؤون زبون
حزنى لذاك الجوّ وهو أسنة ... وكذا لذاك الخشف وهو عرين
هل يدنينّي منه أجرد سابح ... مرح وجائلة السريح [10] أمون
ومهنّد فيه الفرند كأنه ... دله له خلف الغرار أنين
عضب المضارب مقفر من أعين ... لكنّه من أنفس مسكون
قد كان رشح حديده أجلا وما ... صاغت مضاربه الرقاق قيون
وكأنما يلقى الضريبة دونه ... بابن المعزّ واسمه المخزون
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «وفرة» وأثبت لفظ «ديوانه» و «وفيات الأعيان» .
[2] في الأصل والمطبوع: «وكأنما صبغوا الدجى بثيابهم» وأثبت لفظ «ديوانه» و «وفيات الأعيان» .
[3] في الأصل والمطبوع: «لا يبعدن إذا العشير له يرى» وأثبت لفظ «ديوانه» و «وفيات الأعيان» .
[4] في الأصل والمطبوع: «والتاج روح» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» وفي «ديوانه» : و «البانأيك» .
[5] في الأصل والمطبوع: «مغوف» وأثبت ما في «ديوانه» و «وفيات الأعيان» .
[6] في الأصل والمطبوع: «والباقري» وأثبت لفظ «ديوانه» و «وفيات الأعيان» .
[7] في الأصل والمطبوع: «أبلغ» وأثبت لفظ «ديوانه» و «وفيات الأعيان» .
[8] في «وفيات الأعيان» : «من ظمياء» .
[9] في الأصل والمطبوع: «إذ لا فوقها» وأثبت لفظ «ديوانه» و «وفيات الأعيان» .
[10] في «ديوانه» و «وفيات الأعيان» : «النّسوع» .(4/332)
وهي طويلة.
قال في «العبر» [1] : كان منغمسا في اللذات والمحرمات، متهما بدين الفلاسفة، شرب ليلة عند ناس، فأصبح مخنوقا، وهو في عشر الخمسين.
انتهى.
__________
[1] (2/ 334- 335) .(4/333)
سنة ثلاث وستين وثلاثمائة
فيها ظهر ما كان المطيع يستره من الفالج، وثقل لسانه، فدعاه الحاجب سبكتكين- وهو صاحب السلطان عز الدولة- إلى خلع نفسه، وتسليم الخلافة إلى ولده الطائع لله، ففعل ذلك في ذي القعدة، وأثبت خلعه على قاضي القضاة أبي الحسن بن أم شيبان.
وفيها أقيمت الدعوة بالحرمين للمعزّ العبيدي، وقطعت خطبة بني العبّاس، ولم يحجّ ركب العراق، لأنهم وصلوا إلى سميراء، فرأوا هلال ذي الحجة، وعلموا أن لا ماء في الطريق، فعدلوا إلى مدينة النّبيّ، صلى الله عليه وسلم، ثم قدموا الكوفة في أول المحرم.
وفيها مات ثابت بن سنان بن ثابت بن قرّة الصابئ الحرّاني، الطبيب المؤرخ، صاحب التصانيف. كان صابئي النحلة، وكان ببغداد في أيام معز الدولة بن بويه، وكان طبيبا عالما [1] نبيلا تقرأ عليه كتب بقراط، وجالينوس، وكان فكّاكا للمعاني، وكان قد سلك مسلك جدّه ثابت في نظره في الطب، والفلسفة، والهندسة، وجميع الصناعات الرياضية للقدماء، وله تصنيف في التاريخ أحسن فيه.
__________
[1] في الأصل: «عاملا» وأثبت ما في المطبوع. وانظر «معجم الأدباء» لياقوت الحموي (7/ 142- 143) .(4/334)
وفيها جمح بن القاسم [1] ، أبو العبّاس، المؤذن بدمشق. روى عن عبد الرحمن بن الرّواس، وطائفة.
وفيها أبو بكر عبد العزيز بن جعفر بن أحمد الحنبلي، صاحب الخلّال، وشيخ الحنابلة وعالمهم المشهور، وصاحب التصانيف. روى عن موسى بن هارون، وأبي خليفة الجمحي، وجماعة. توفي في شوّال وله ثمان وسبعون سنة، وكان صاحب زهد وعبادة وقنوع. قاله في «العبر» [2] .
وقال ابن أبي يعلى في «طبقاته» [3] : عبد العزيز بن جعفر بن أحمد بن يزداد بن معروف، أبو بكر، المعروف بغلام الخلّال. حدّث عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة، وموسى بن هارون، ومحمد بن الفضل، وأبي خليفة الفضل بن الحباب [4] البصري، وخلائق. وروى عنه أبو إسحاق بن شاقلا، وأبو عبد الله بن بطة، وأبو الحسن التميمي، وأبو عبد الله بن حامد، وغيرهم، وكان أحد أهل الفهم، موثوقا به في العلم، متسع الرواية، مشهورا بالديانة، موصوفا بالأمانة، مذكورا بالعبادة، وله المصنفات في العلوم المختلفات:
«الشافي» «المقنع» «تفسير القرآن» «الخلاف مع الشافعي» «كتاب القولين» «زاد المسافر» «التنبيه» وغير ذلك.
حدّثنا جعفر بن محمد بن سليمان الخلّال، حدّثنا محمد بن عوف الحمصي قال: سمعت أحمد بن حنبل- وسئل عن التفضيل؟ - فقال: من قدّم عليا على أبي بكر، فقد طعن على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومن قدّمه على عمر، فقد طعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر، ومن قدّمه على عثمان،
__________
[1] ويعرف ب «ابن أبي الحواجب» انظر «سير أعلام النبلاء» (16/ 77) .
[2] (2/ 336) .
[3] انظر «طبقات الحنابلة» (2/ 119- 125) .
[4] في الأصل والمطبوع: «ومحمد بن الفضل، وموسى بن هارون بن الحباب» والتصحيح من «طبقات ابن أبي يعلى» .(4/335)
فقد طعن على أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلى أهل الشورى، والمهاجرين [1] والأنصار.
وبه حدّثنا محمد بن الحسن بن هارون بن بدينا، قال: سألت أبا عبد الله عن الاستثناء في الإيمان؟ فقال: نعم، الاستثناء على غير معنى الشك [2] ، مخافة واحتياطا للعمل، وقد استثنى ابن مسعود وغيره، وهو مذهب الثوري.
ولما مات أبو بكر عبد العزيز اختلف أهل باب الأزج في دفنه، فقال بعضهم: يدفن في قبر أحمد، وقال بعضهم: يدفن عندنا، وجردوا السيوف والسكاكين، فقال المشايخ: لا تختلفوا [3] ، نحن في حريم السلطان- يعنون المطيع لله- فما يأمر نفعل، قال: فلفوه في نطع مشدود بالشراريف [4] ، خوفا أن يمزق الناس أكفانه، وكتبوا رقعة إلى الخليفة، فخرج الجواب: مثل هذا الرجل، لا نعدم بركاته، أن يكون في جوارنا، وهناك موضع يعرف بدار الفيلة [5] ، وهو ملك لنا، ولم يكن فيه دفن، فدفن فيه رحمه الله تعالى.
وحكى أبو العبّاس بن أبي عمرو الشرابي قال: كان لنا ذات ليلة خدمة، أمسيت لأجلها، ثم إني خرجت منها نومة الناس، وتوجهت إلى داري بباب الأزج، فرأيت عمود نور من جوف السماء [6] إلى جوف المقبرة، فجعلت أنظر إليه ولا ألتفت، خوفا أن يغيب عنّي، إلى أن وصلت إلى قبر
__________
[1] حصل بعض التحريف هنا في الأصل وأثبتنا لفظ المطبوع وهو موافق للفظ «طبقات ابن أبي يعلى» .
[2] في الأصل والمطبوع: «شك» وأثبت لفظ «طبقات ابن أبي يعلى» .
[3] في «طبقات ابن أبي يعلى» : «لا تقتتلوا» .
[4] في «طبقات ابن أبي يعلى» : «بالشوارف» .
[5] في الأصل والمطبوع: «بدار الأفيلة» وأثبت لفظ «طبقات ابن أبي يعلى» ، وانظر «تاريخ الطبري» (3/ 589) .
[6] في «طبقات ابن أبي يعلى» : «من جو السماء» .(4/336)
أبي بكر عبد العزيز، فإذا أنا بالعمود من جوف السماء إلى القبر، فبقيت متحيرا، ومضيت وهو على حاله. انتهى ملخصا.
وفيها أبو بكر بن النابلسي، محمد بن أحمد بن سهل الرّملي الشهيد، سلخه صاحب مصر، المعزّ [لدين الله] ، وكان قد قال: لو كان معي عشرة أسهم، لرميت الرّوم سهما ورميت بني عبيد تسعة، فبلغ القائد جوهر، فلما قرّره [1] اعترف، وأغلظ لهم، فقتلوه، وكان عابدا صالحا زاهدا، قوّالا بالحق.
وفيها أبو الحسن الآبري محمد بن الحسين السجستاني [2] مؤلف كتاب «مناقب الشافعي» .
وآبر: بمد الهمزة، وضم الموحدة، ثم راء خفيفة، قرية بسجستان.
رحل إلى الشام، وخراسان، والجزيرة، وروى عن ابن خزيمة وطبقته.
قال ابن ناصر الدّين: الآبري: محمد بن الحسين بن إبراهيم بن عاصم السجستاني، أبو الحسن، كان حافظا مجودا، ثبتا مصنفا. انتهى.
وفيها محدّث الشام، الحافظ أبو العبّاس، محمد بن موسى بن الحسين بن السمسار، الدمشقي. روى عن محمد بن خريم، وابن جوصا، وطبقتهما، وعنه تمّام الرّازي وغيره، وكان ثقة نبيلا حافظا جليلا، كتب القناطير، وحدّث باليسير. قاله الكتاني.
وارتحل إلى مصر وإلى بغداد.
وفيها الغزّال الزعفراني، الحافظ الإمام المقرئ، أبو عبيد الله، محمد بن عبد الرحمن بن سهل الأصبهاني. [روى] عن محمد بن علي
__________
[1] أي فلما استجوبه.
[2] انظر «توضيح المشتبه» لابن ناصر الدّين (1/ 118) .(4/337)
الفرقدي، وعبدان الأهوازي. وعنه المالينيّ، وأبو نعيم الحافظ، وقال: هو أحد من يرجع إلى حفظه ومعرفته [1] ، وله مصنفات. قاله ابن بردس [2] .
وفيها المظفّر بن حاجب بن أركين الفرغاني، أبو القاسم، توفي بدمشق في هذا العام أو بعده. رحل به أبوه، وسمع من جعفر الفريابي، والنسائي، وطبقتهما.
وفيها النّعمان بن محمد بن منصور القيرواني القاضي، أبو حنيفة، الشّيعي ظاهرا، الزنديق باطنا، قاضي قضاة الدولة العبيدية، صنّف كتاب «ابتداء الدعوة» وكتابا في فقه الشيعة، وكتبا كثيرة، تدل على انسلاخه من الدّين، يبدّل فيها معاني القرآن ويحرّفها، مات بمصر في رجب، وولي بعده ابنه.
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «هو أحد من رجع إلى حفظ ومعرفة» وما أثبته من «تذكرة الحفاظ» للذهبي (3/ 964) .
[2] في الأصل والمطبوع: «ابن برداس» وهو خطأ والصواب ما أثبته.(4/338)
سنة أربع وستين وثلاثمائة
قال في «الشذور» : فيها تزوج الطائع شاهزنان بنت عز الدولة، على صداق مبلغه مائة ألف دينار، وخطب خطبة النكاح أبو بكر بن قريعة القاضي.
انتهى.
وفيها توفي أبو بكر بن السنّي الحافظ، أحمد بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم الدّينوري، صاحب كتاب «عمل اليوم والليلة» ، ورحل وكتب الكثير، وروى عن النسائي، وأبي خليفة [1] وطبقتهما.
قال ابن ناصر الدّين: اختصر سنن النسائي وسمّاه «المجتبى» .
قال ابنه أبو علي الحسن: كان أبي، رحمه الله، يكتب الأحاديث فوضع القلم في أنبوبة المحبرة، ورفع يديه يدعو الله عزّ وجل، فمات.
انتهى.
وفيها ابن الخشّاب أحمد بن القاسم بن عبد الله [2] بن مهدي، أبو الفرج البغدادي. كان أحد الحفّاظ المتقدمين. قاله ابن ناصر الدّين.
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «وابن خليفة» وهو خطأ والتصحيح من «العبر» مصدر المؤلف، وانظر «سير أعلام النبلاء» (16/ 48) .
[2] كذا في الأصل والمطبوع و «التبيان شرح بديعة البيان» لابن ناصر الدّين (130/ آ) «مخطوط» و «تاريخ بغداد» (4/ 353) وعند ابن عساكر في ترجمته في «تاريخ دمشق» .(4/339)
وفيها أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمد بن رجاء النيسابوري الورّاق الأبزاري- بالباء الموحدة والزاي والراء، نسبة إلى أبزار قرية بنيسابور- توفي في رجب، وله ست وتسعون سنة. رحل وطوّف الكثير، وعني بالحديث، وروى عن مسدّد بن قطن، والحسن بن سفيان، وإنما رحل عن كبر.
وفيها سبكتكين حاجب معز الدولة، كان الطائع قد خلع عليه خلعة الملوك، وطوّقه وسوّره، ولقبه نصر الدولة، فلم تطل أيامه، توفي في المحرم، وخلّف ألف ألف دينار، وعشرة آلاف ألف درهم، وصندوقين فيهما جوهر، وستين صندوقا فيها أواني ذهب وفضة وبلور، ومائة وثلاثين مركبا ذهبا، منها خمسون، وزن كل واحد ألف مثقال، وستمائة مركب فضة، وأربعة آلاف ثوب ديباجا، وعشرة آلاف ثوب ديبقي وعتابي، وداره، هي دار السلطان اليوم. قاله في «الشذور» [1] .
وفيها أبو هاشم، عبد الجبار بن عبد الصمد بن إسماعيل السّلمي الدمشقي المؤدّب. قرأ القرآن على أبي عبيدة ولد ابن ذكوان، وروى عن محمد بن المعافى الصيداوي، وأبي شيبة داود بن إبراهيم وطبقتهما، ورحل وتعب وجمع، وكان ثقة.
قال ابن ناصر الدّين: كان من الأعيان، وكتب القناطير. انتهى.
وفيها علي بن أحمد بن علي المصّيصي. روى عن أحمد بن خليد [2] الحلبي وغيره.
__________
(7/ 145 146) ، وورد عند ابن عساكر في صدر الترجمة، وعند الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (16/ 151) وعند الصفدي في «الوافي بالوفيات» (7/ 292) : «ابن عبيد الله» .
[1] وانظر «العبر» (2/ 339) فقد أورد الذهبي خبره فيه باختصار.
[2] تحرّفت في الأصل والمطبوع إلى «ابن خليل» والتصويب من «العبر» (2/ 340) وانظر «سير أعلام النبلاء» (16/ 219) .(4/340)
وفيها المطيع [لله] [1] ، الخليفة أبو القاسم، الفضل بن المقتدر [بالله] جعفر بن المعتضد [بالله] العبّاسي. ولد في أول سنة إحدى وثلاثمائة، وبويع بالخلافة في سنة أربع وثلاثين بعد المستكفي.
قال ابن شاهين: وخلع نفسه غير مكره، فيما صحّ عندي، في ذي القعدة، سنة ثلاث وستين، ونزل عن الأمر لولده الطائع لله عبد الكريم.
قال السيوطي في «تاريخ الخلفاء» [2] : وأثبت خلعه على [3] القاضي ابن أمّ [4] شيبان، وصار بعد خلعه يسمى الشيخ الفاضل.
قال الذهبي: وكان المطيع وابنه مستضعفين، مع بني بويه، ولم يزل أمر الخلفاء في ضعف إلى أن استخلف المقتفي لله، فانصلح أمر الخلافة قليلا، وكان دست الخلافة لبني عبيد الرافضة بمصر أميز، وكلمتهم أنفذ، ومملكتهم تناطح مملكة العباسيين في وقتهم، وخرج المطيع إلى واسط مع ولده [5] فمات في محرم، سنة أربع وستين.
قال الخطيب: حدّثني محمد بن يوسف القطّان، سمعت أبا الفضل التميمي، سمعت المطيع لله، سمعت شيخي ابن منيع، سمعت أحمد بن حنبل يقول: إذا مات أصدقاء الرجل ذلّ. انتهى كلام السيوطي.
وفيها محمد بن بدر الأمير أبو بكر الحمامي الطولوني، أمير بعض بلاد فارس.
قال أبو نعيم: ثقة.
__________
[1] زيادة من «العبر» و «تاريخ الخلفاء» للسيوطي. وانظر «الأعلام» (5/ 147) .
[2] ص (404) بتحقيق الشيخ محمد محيي الدّين عبد الحميد رحمه الله.
[3] لفظة «على» لم ترد في «تاريخ الخلفاء» الذي بين يدي.
[4] لفظة «أم» لم ترد في الأصل وأثبتها من المطبوع و «تاريخ الخلفاء» .
[5] تحرّفت في «تاريخ الخلفاء» إلى «والده» فتصحح فيه فإن والده المقتدر بالله مات سنة (320) هـ.(4/341)
وقال ابن الفرات: كان له مذهب في الرفض.
وروى عن بكر بن سهل الدمياطي، والنسائي، وطبقتهما.
قال الذهبي في «المغني» [1] : محمد بن بدر الحمامي، سمع بكر بن سهل، صدوق ولكنه يترفض. انتهى.
وفيها أبو الحسن محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن عبدة التميمي النيسابوري السّليطي- بفتح السين المهملة وكسر اللام، نسبة إلى سليط جدّ- روى عن محمد بن إبراهيم البوشنجي، وإبراهيم بن علي الذهلي وجماعة، وعاش اثنتين وتسعين سنة.
__________
[1] انظر «المغني في الضعفاء» (2/ 559) .(4/342)
سنة خمس وستين وثلاثمائة
فيها كما قال في «الشذور» جلس قاضي القضاة، أبو محمد بن معروف [1] في دار عز الدولة، ونظر في الأحكام، لأن عز الدولة أحبّ أن يشاهد مجلس حكمه. انتهى.
وفيها توفي أحمد بن جعفر بن سلم، أبو بكر الختّلي- بضم أوله والفوقية المشددة، نسبة إلى الختّل قرية بطريق خراسان- المحدّث المقرئ المفسّر، وله سبع وثمانون سنة، كان ثبتا ثقة صالحا. روى عن أبي مسلم الكجّي وطبقته.
وفيها الذّارع، أبو بكر أحمد بن نصر البغدادي، أحد الضعفاء والمتروكين. روى عن الحارث بن أبي أسامة.
قال في «المغني» [2] : أحمد بن نصر الذّارع، شيخ بغدادي، له جزء مشهور.
قال الدارقطني: دجال. انتهى.
وفيها أو بعدها، إسماعيل بن نجيد الإمام، أبو عمرو السّلمي النيسابوري، شيخ الصوفية بخراسان، في ربيع الأول، وله ثلاث وتسعون
__________
[1] واسمه «عبيد الله بن أحمد» انظر «تاريخ بغداد» (10/ 365) و «الأعلام» (4/ 191) .
[2] انظر «المغني في الضعفاء» (1/ 61) .(4/343)
سنة. أنفق أمواله على الزهّاد والعلماء، وصحب الجنيد، وأبا عثمان الحيري، وسمع محمد بن إبراهيم البوشنجي، وأبا مسلم الكجّي، وطبقتهما، وكان صاحب أحوال ومناقب.
قال سبطه أبو عبد الرحمن السّلمي: سمعت جدّي يقول: كل حال لا يكون عن نتيجة علم- وإن جلّ- فإن ضرره على صاحبه أكبر من نفعه. قاله في «العبر» [1] .
وفيها أبو علي الماسرجسي الحافظ، أحد أركان الحديث بنيسابور، الحسين بن محمد بن أحمد بن محمد بن الحسين بن عيسى بن ماسرجس، النيسابوري، الثقة، المأمون. توفي في رجب، وله ثمان وستون سنة. روى عن جدّه، وابن خزيمة وطبقتهما، ورحل إلى العراق، ومصر، والشام.
قال الحاكم: هو سفينة عصره في كثرة الكتابة، صنّف «المسند الكبير» مهذبا معلّلا في ألف وثلاثمائة جزء، وجمع حديث الزهري جمعا لم يسبقه إليه أحد، وكان يحفظه مثل الماء، وصنّف كتابا على البخاري، وآخر على مسلم، ودفن علم كثير بموته.
وفيها عبد الله بن أحمد بن إسحاق أبو محمد [2] الأصبهاني، والد أبي نعيم الحافظ، وله أربع وثمانون سنة. رحل، وعني بالحديث، وروى عن أبي خليفة الجمحي وطبقته، وكانت رحلته في سنة ثلاثمائة. قاله في «العبر» [3] .
وفيها ابن عديّ، الحافظ الكبير، أبو أحمد عبد الله بن عدي بن عبد الله بن محمد، ويعرف بابن القطّان الجرجاني، مصنّف «الكامل» .
__________
[1] (2/ 342) .
[2] في الأصل والمطبوع: «ابن محمد» والتصحيح من «العبر» وانظر «سير أعلام النبلاء» (16/ 281) .
[3] (2/ 343) .(4/344)
قال ابن قاضي شهبة [1] : هو أحد الأئمة الأعلام وأركان الإسلام. طاف البلاد في طلب العلم، وسمع الكبار. له كتاب «الانتصار على مختصر المزني» وكتاب «الكامل في معرفة الضعفاء والمتروكين» وهو كامل في بابه كما سمّي.
وقال ابن عساكر: كان ثقة على لحن فيه.
وقال الذهبي: كان لا يعرف العربية مع [2] عجمة فيه، وأما [في] العلل والرجال فحافظ لا يجارى. ولد سنة سبع وسبعين ومائتين، ومات في جمادى الآخرة سنة خمس وستين وثلاثمائة. انتهى كلام ابن قاضي شبهة في «طبقاته» .
وقال ابن ناصر الدّين: سمع خلقا يزيدون على ألف. انتهى.
وفيها أبو أحمد بن النّاصح، وهو عبد الله بن محمد بن عبد الله بن الناصح بن شجاع بن المفسر الدمشقي، الفقيه الشافعي، في رجب بمصر.
روى عن عبد الرحمن الروّاس، وأبي بكر بن علي المروزي، وطائفة.
وفيها الشّاشي القفّال الكبير، أبو بكر، محمد [بن علي] [3] بن إسماعيل الفقيه الشافعي، صاحب المصنفات. رحل إلى العراق، والشام، وخراسان.
قال الحاكم: كان عالم [4] أهل ما وراء النهر بالأصول، وأكثرهم رحلة في الحديث. سمع ابن جرير الطبري، وابن خزيمة، وطبقتهما، وهو صاحب وجه في المذهب.
قال الحليمي: كان شيخنا القفّال أعلم من لقيته من فقهاء عصره.
__________
[1] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 118) طبع حيدر أباد.
[2] في المطبوع: «سمع» وهو خطأ.
[3] ما بين حاصرتين سقط من الأصل والمطبوع، واستدركته من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» (16/ 283) .
[4] في «العبر» و «سير أعلام النبلاء» : «كان أعلم» .(4/345)
وقال ابن قاضي شهبة: كان إماما، وله مصنفات كثيرة ليس لأحد مثلها، وهو أول من صنّف الجدل الحسن من الفقهاء، وله كتاب حسن في أصول الفقه، وله «شرح الرسالة» وعنه انتشر فقه الشافعي فيما وراء النهر.
وقال النووي في «تهذيبه» [1] : إذا ذكر القفّال الشاشي، فالمراد هذا، وإذا ورد القفّال المروزي فهو الصغير، ثم إن الشاشي يتكرر ذكره في [كتب] التفسير، والأصول والحديث والكلام، والمروزي يتكرر ذكره في الفقهيات.
ومن تصانيف الشاشي «دلائل النبوة» و «محاسن الشريعة» و «آداب القضاء» جزء كبير، و «تفسير» كبير [2] . مات في ذي الحجة. انتهى ملخصا.
وقال ابن الأهدل: هو شيخ الشافعية في عصره، كان فقيها محدّثا أصوليا متقنا [3] ذا طريقة حميدة وتصانيف نافعة، وله شعر جيد، ولم يكن للشافعية بما وراء النهر مثله. أخذ عن ابن سريج وطبقته، وابن جرير الطبري، وإمام الأئمة ابن خزيمة، وغيرهم. وأخذ عنه الحاكم أبو عبد الله، وابن مندة، والحليمي، وأبو عبد الرحمن السّلمي، وغيرهم، وهو والد القاسم صاحب «التقريب» [4] وهو منسوب إلى شاش، مدينة وراء نهر جيحون.
واعلم أن لنا قفّالا غير شاشي، وشاشيا غير قفّال، وثلاثتهم يكنّون
__________
[1] انظر «تهذيب الأسماء واللغات» (2/ 282) وقد نقل المؤلف عنه بتصرّف، وانظر النقل في «سير أعلام النبلاء» (16/ 284- 285) .
[2] ومنها كتابه القيّم «جوامع الكلم» الذي جمع فيه طائفة كبيرة من الأحاديث النبوية التي سارت مسار الأمثال بين جماهير المسلمين، وقد من الله عزّ وجل عليّ بتحقيقه والتقديم له والتعليق عليه، وقد شاركني العمل في تحقيقه صديقي الفاضل الأستاذ صلاح الشعّال، وهو قيد الطبع الآن في مكتبة دار العروبة في الكويت.
[3] في المطبوع: «متفننا» .
[4] قال اليافعي في «مرآة الجنان» (2/ 382) : وقيل: إنه- يعني الشاشي القفّال- صاحب «كتاب التقريب» لا ولده، وللشك في ذلك يقال: قال صاحب «التقريب» .(4/346)
بأبي بكر، ويشترك اثنان في اسمهما، واثنان في اسم أبيهما، دون اسمهما، فالقفّال غير الشاشي هو المروزي، شيخ القاضي حسين، وأبي محمد الجويني، وسيأتي في سنة سبع وخمسمائة. انتهى كلام ابن الأهدل.
وفيها المعز لدين الله، أبو تميم، معدّ بن المنصور [1] إسماعيل بن القائم بن المهدي العبيدي، صاحب المغرب، الذي ملك الديار المصرية.
ولي الأمر بعد أبيه سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة، ولما افتتح له مولاه جوهر سجلماسة، وفاس، وسبتة، وإلى البحر المحيط، جهّزه بالجيوش والأموال، فأخذ الديار المصرية، وبنى مدينة القاهرة المعزّية، وكان مظهرا للتّشيّع، معظما لحرمات الإسلام، حليما، كريما، وقورا، حازما، سريّا، يرجع إلى عدل وإنصاف في الجملة، توفي في ربيع الآخر، وله ست وأربعون سنة.
قاله في «العبر» [2] .
وقال ابن خلّكان [3] : بويع بولاية العهد في حياة أبيه المنصور بن إسماعيل، ثم جددت له البيعة بعد وفاته، فدبر الأمور وساسها، وأجراها على أحسن أحكامها إلى يوم الأحد، سابع ذي الحجة، سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة، فجلس يومئذ على سرير ملكه، ودخل عليه الخاصة وكثير من العامة، وسلموا عليه بالخلافة، وتسمى بالمعز، ولم يظهر على أبيه حزنا.
ثم خرج إلى بلاد إفريقية يطوف بها، ليمهد قواعدها، ويقرر أسبابها، فانقاد له العصاة من أهل تلك البلاد ودخلوا في طاعته، وعقد لغلمانه وأتباعه على الأعمال، واستندب لكل ناحية من يعلم كفايته وشهامته.
ثم جهز أبا الحسن جوهر القائد، ومعه جيش كثيف ليفتح
__________
[1] في «العبر» «سعد بن المنصور» وهو خطأ فيصحح فيه.
[2] (2/ 345) .
[3] انظر «وفيات الأعيان» (5/ 224- 228) .(4/347)
ما استعصى [1] من بلاد المغرب، فسار إلى فاس، ثم منها إلى سجلماسة ففتحها، ثم توجه إلى البحر المحيط وصاد من سمكه وجعله في قلال الماء، وأرسله إلى المعز. ثم رجع إلى المعز ومعه صاحب سجلماسة، وصاحب فاس أسيرين في قفصي حديد، وقد وطن له البلاد من باب إفريقية إلى البحر المحيط في جهة الغرب، وفي جهة الشرق من باب إفريقية إلى أعمال مصر، ولم يبق بلد من هذه البلاد إلا أقيمت فيه دعوته، وخطب له في جميعه جمعته وجماعته، إلا مدينة سبتة، فإنها بقيت لبني أمية أصحاب الأندلس.
ولما وصل الخبر إلى المعز- المذكور- بموت كافور الإخشيذي صاحب مصر، تقدم إلى القائد جوهر ليتجهز للخروج إلى مصر، فخرج أولا لإصلاح أموره، وكان معه جيش عظيم وجميع [2] قبائل العرب الذين يتوجه بهم إلى مصر.
وخرج المعز بنفسه في الشتاء إلى المهدية، فأخرج من قصور آبائه خمسمائة حمل دنانير وعاد إلى قصره.
ولما عاد جوهر بالرجال والأموال، وكان قدومه على المعز يوم الأحد سابع عشري محرم، سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، أمره المعز بالخروج إلى مصر، فخرج ومعه أنواع القبائل، وأنفق المعز في العسكر المسيّر صحبته أموالا كثيرة، حتّى أعطى من ألف دينار إلى عشرين دينارا، وغمر [3] الناس بالعطاء. وتفرقوا [4] في القيروان وصبرة [5] في شراء حوائجهم، ورحل معه
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «ما استعصى له» وما أثبته من «وفيات الأعيان» .
[2] في «وفيات الأعيان» : «وجمع» .
[3] في الأصل والمطبوع: «وأغمر» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» .
[4] في «وفيات الأعيان» : «وتصرفوا» .
[5] في الأصل والمطبوع: «وصيره» وهو تصحيف والتصحيح من «وفيات الأعيان» وانظر «معجم البلدان» (3/ 391- 392) و «الروض المعطار» (354) .(4/348)