[المجلد الاول]
تقديم الكتاب
بقلم الأستاذ الدّكتور خالد عبد الكريم جمعة مدير معهد المخطوطات العربيّة الحمد لله وحده لا شريك له، والصّلاة والسّلام على رسوله النّبيّ العربي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فحين طلب إليّ الأستاذ محمود الأرناؤوط أن أقدم لهذا الكتاب- الذي يقوم بتحقيقه، وتتولى طبعه دار ابن كثير بدمشق- وجدت نفسي في حيرة شديدة، فماذا يمكنني أن أقول في كتاب بذل محققه ما استطاع من جهد في ضبط نصه والتعليق عليه، وقدم له بمقدمة وافية تحدث فيها عن المؤلّف والكتاب باسطا القول فيهما، فلم يترك زيادة لمستزيد.
إنّ خير ما يمكن قوله: إنّ هذا العمل يزكّي نفسه، فهو عمل سار فيه محققه وفق منهج واضح في التحقيق والتعليق، فبدأ بنسخ الكتاب ومقابلة المخطوطة بالنسخة المطبوعة، ثم أخذ في قراءته على والده مرة أخرى، فضبط الأعلام وخاصة ما يحتاج منها إلى ضبط، وخرّج الآيات القرآنية والأشعار. ثم أضاف في مواطن عديدة- وفي هوامش الكتاب- بعض ما يحتاج إليه القارئ من مهمات الحوادث التي فات المؤلّف ذكرها، مع تتبع للنصوص المنقولة للتأكد من صحتها، وفعل ذلك كله في أناة وصبر ودقة.
وما أحوجنا في هذه الأيام إلى نشر نصوص تراثنا بهذه الطريقة، بعد أن كثر نشر النصوص بصورة سيئة على أيدي بعض المحققين من حملة الشهادات. وقد رأيت من بعض هؤلاء عجبا، حيث يشوهون النصّ تشويها،(1/5)
ولو أنهم تركوه في خزائن المكتبات مخطوطا لكان خيرا لنا ولهم.
وما أحوجنا أيضا إلى نشر كتب التاريخ الإسلامي التي ما زالت مخطوطة وإعادة نشر ما نشر منها غير محقّق، لما لهذه الكتب من أثر في فهم تاريخنا وتحليل أحداثه تحليلا سليما، بعيدا عن روح العصبية والتحامل.
إن قيام الأستاذ محمود الأرناؤوط بنشر هذا الكتاب يعدّ خدمة جليلة للمهتمين بالتراث العربي الإسلامي، وإسهاما منه في تقديم نصّ ذي قيمة علمية كبيرة إلى قرّاء العربية.
أما والد المحقق الأستاذ المحدّث الشيخ عبد القادر الأرناؤوط- المشرف على تحقيق الكتاب- فقد خرّج أحاديث الكتاب وفق الأسس العلمية الصحيحة في تخريج الحديث، ولا غرو فهو أحد المحدّثين المتمكنين القلائل في أيامنا، وقد يعجز مثلي عن أن يفيه ما يستحقّ من الثناء، فكفاه فخرا أن يكون محقق «جامع الأصول في أحاديث الرسول» لابن الأثير، وأحد محقّقي «زاد المعاد في هدي خير العباد» لابن قيم الجوزية، فجزاه الله كل خير على ما قدم إلى الإسلام وأهله.
وإني لآمل أن يستمر محقق هذا الكتاب الأستاذ محمود الأرناؤوط في بذل الجهد لنشر نصوص أخرى، خدمة لتراثنا العربي الإسلامي.
والحمد لله رب العالمين الكويت: 27/ ربيع الأول/ 1406 هـ الموافق 9/ ديسمبر/ 1985 م الدّكتور خالد عبد الكريم جمعة(1/6)
بسم الله الرّحمن الرّحيم مقدّمة المحقّق
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ 3: 102 (آل عمران: 102) .
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ من نَفْسٍ واحِدَةٍ، وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً، وَاتَّقُوا الله الَّذِي تَسائَلُونَ به وَالْأَرْحامَ، إِنَّ الله كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً 4: 1 (النساء: 1) .
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً 33: 70- 71 (الأحزاب:
70، 71) .
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله عزّ وجلّ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أحمدك اللهمّ، يا من حبّبت إلى نفسي طلب العلم، ويسّرت لي أسباب المعرفة بفضلك وكرمك.(1/7)
وأصلّي وأسلّم على رسولنا محمد، معلّم النّاس الخير، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.
وبعد: فإن من عظيم فضل الله عزّ وجلّ عليّ، أن ولدت في بيت من البيوت التي يذكر فيها اسم الله تعالى صباح مساء، ويتداول العلم في جنباته دراسة وتدريسا آناء الليل وأطراف النهار، وعلى الخصوص من ذلك كتاب الله عزّ وجلّ، وسنّة نبيّه المطهرة، مما كان له أكبر الأثر في منهجي وتوجهي في الحياة.
وعميد هذا البيت رجل جنّد نفسه للعمل في خدمة مصنفات علماء الأمة الأقدمين ذات الصلة بكتاب الله عزّ وجلّ، وسنّة نبيّه المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، والتصدّي لنصح الناس في المساجد والمجالس في الحلّ والترحال منذ أكثر من ثلاثين عاما، فكنت أينما دخلت في حجرات دارنا- وأنا طفل صغير- ألتقي بكتب والدي، وأوراقه، وأقلامه.
وما من مرة اصطحبني معه فيها إلا وكانت وجهتنا إلى إحدى المكتبات، العامة منها أو الخاصة، وكذلك الحال في زيارة أصدقائه وزملائه، فقد كان معظمهم من أهل العلم والفضل.
ولقد فرض واقع وفاة أمي- ولمّا أبلغ الرابعة من عمري- على أبي أن يجعل منّي رفيقا صغيرا له، وذلك لعدم وجود إخوة لي في تلك الحقبة من الزمن ألهو معهم وأمرح، فلم تخلف أمي سواي، رحمها الله تعالى وأسكنها فسيح جنانه، ولم يكن في الدار غير جدتي لأبي، وكانت متقدمة في السن، فكان حرص أبي على عدم إرهاقها بخدمتي يحمله على اصطحابي معه إلى مكتبه الذي كنت ألتقي فيه مع أعداد أخرى كبيرة من الكتب تآلفت هنا وهناك في المكتبات الجدارية المنتشرة في كل غرفة من غرفه.
وفي ذلك المكتب أيضا التقيت بعدد كبير من العلماء والباحثين والطلبة من زملاء والدي وأصدقائه ومساعديه، وفي مقدمتهم صاحبه وزميله ورفيق دربه(1/8)
الأستاذ الشيخ شعيب الأرناؤوط، الذي كان في طليعة من أسهم في تعليمي وتثقيفي وإرشادي وتوجيهي في مراحل مختلفة من الحياة، جزاه الله تعالى خير الجزاء وأحسن مثوبته يوم الدّين.
وكل هذه الأسباب جعلتني أقترب من الكتاب أكثر فأكثر، حتى أصبحت أسيرا طيّعا له، فكنت لا أبرح كتابا، حتى أتناول غيره، ولا أغادر مجلة، حتى أتناول غيرها، وكنت أشغل وقتي في أثناء ركوبي في السيارات والحافلات بقراءة الصحف في أكثر الأحيان.
وكانت أسعد الأوقات في حياتي، هي تلك الساعات التي كنت أقضيها في مساعدة والدي حفظه الله بتصحيح تجارب الطبع لبعض الكتب التي عني بتحقيقها منذ سنوات طويلة.
ثم شدّتني الصحافة إليها، فنشرت عددا من المقالات المنوعة في عدد من المجلات في سورية وغيرها من الأقطار، ثم صنّفت من مجموع ما تخيّرته من تلك المقالات ثلاثة كتب، هي: «الكشكول الصغير» ، و «عناقيد ثقافية» ، و «زهرات الياسمين» .
وكنت في أثناء هذه الفترة التي قضيتها في الاهتمام بالصحافة وما يتصل بها، أعدّ العدّة للعمل بين يدي أبي في خدمة كتب التراث العزيز.
ولما تأكد لأبي حسن نيّتي في الإقدام على ولوج عالم التراث، وجّهني نحو خدمة كتاب «النصيحة في الأدعية الصحيحة» للإمام الحافظ عبد الغني المقدسي، ولا تسأل عن السعادة التي غمرتني وأنا أعمل به، فقد شعرت بأن أحلامي قد تحققت مرة واحدة، وقد صدر الكتاب فيما بعد عن مؤسسة الرسالة في بيروت، وبذلك انتقلت إلى مرحلة جديدة في الحياة، مرحلة الانقطاع الكامل إلى العمل في خدمة كتب التراث. ولقد كانت سعادة أبي في انصرافي إلى العمل في خدمة كتب التراث أعظم من سعادتي، وكيف لا يكون سعيدا من يرى ولده الأكبر يسير على الطريق ذاتها التي سار عليها من قبل؟ الأمر الذي يجعله على يقين بأن الراية التي حملها لن تسقط- بإذن الله- من بعده.(1/9)
ثم تابعت رحلتي في عالم التراث، فأخرجت كتاب «إعلام السائلين عن كتب سيد المرسلين» لابن طولون محققا للمرة الأولى، وتبعه «عمدة الأحكام» للحافظ عبد الغني المقدسي، و «الأمصار ذوات الآثار» للذهبي، و «شرح الأربعين النووية» ، فكان عملي في هذه الكتب على صغرها قد متّن صلتي بفن التحقيق، وجعلني أنطلق إلى آفاق بعيدة من التفكير في خدمة مصنفات أكبر منها حجما، وأبعد منها أثرا، فكان أن وقع اختياري على هذا الكتاب- «شذرات الذهب» - لجملة أسباب:
أولها: لأنه من كتب التاريخ، وهو الفن الذي أحببته منذ الصغر، وازداد حبّي له أثناء خدمتي لكتاب «إعلام السائلين» ، ومن ثم «الأمصار ذوات الآثار» .
وثانيها: لاحتوائه على تراجم مشاهير المحدّثين وغيرهم من أعيان الزمان، وأنا من المغرمين بدراسة سير الرجال، لما فيها من العبر والفوائد.
وثالثها: لكونه يؤرّخ بإيجاز لفترة زمنية طويلة تمتد لعشرة قرون، الأمر الذي يجعله من أفضل التواريخ المختصرة في نظري.
فعرضت رغبتي في خدمة الكتاب على والدي حفظه الله، وشرحت له رأيي بالكيفية التي يمكن أن يخرج الكتاب على أساسها، فأعجب بالفكرة، وشجعني على المضيّ في تنفيذها، فقلت له: إن انتقال فكرة تحقيق الكتاب إلى حيّز التنفيذ يتوقف على موافقتك على الإشراف على تحقيقه، ومراجعته، وتخريج ما يرد فيه من الأحاديث، فوافق حفظه الله على القيام بذلك، ومن ثم تفضل بالنظر في المنهج الذي وضعته لتحقيق الكتاب فأقرّه بعد مناقشة تناولت عددا من الفقرات فيه.
وكان من توفيق الله تعالى ورعايته، أن قيّض لهذا الكتاب ناشرا فاضلا، عمل في طبع كتاب الله عزّ وجلّ ونشره لفترة طويلة، وأسهم في انتشار عدد كبير من كتب التراث، هو الأستاذ علي مستو صاحب «دار ابن كثير» ، الذي قدّم لنا كلّ ما يمكن أن يسهم في ظهور الكتاب على أفضل وجه، جزاه الله تعالى خير الجزاء، وجعل تجارته رابحة في الدّنيا والآخرة.(1/10)
وحين تم تحقيق هذا المجلد من الكتاب، طلبت من والدي أن يتولى كتابة مقدمة التحقيق، فاعتذر وقال: إن الكلام عن تحقيق الكتاب من مهام محقّقه، وهو أعلم الناس بما تم من العمل فيه، ولا يليق بالمشرف أن يضع يده على أيّ من حقوق المحقّق، ولو كان ابنه، أو أحد تلامذته المقرّبين.
وأمام واقع الحال هذا توجهت إلى الله تعالى بالسؤال، أن يعينني على كتابة مقدمة تليق بهذا الكتاب العظيم وصاحبه.
وقد رأيت من المفيد أن تتضمن هذه المقدمة نبذة عن أهم المؤرّخين الذين نقل عنهم المؤلف مباشرة، أو بالواسطة، والتعريج على دراسة حياة المؤلف، ثم الكلام عن القيمة الفنية لهذا الكتاب، والمنهج الذي اتبع في تحقيقه، وذلك بالتشاور مع والدي حفظه الله.
ومن ثم قسّمت المقدمة إلى أربعة فصول هي:
1- مشاهير المؤرخين السابقين لابن العماد.
2- ابن العماد.
3- القيمة الفنية لكتاب شذرات الذهب.
4- عملنا في تحقيق الكتاب.
وقد استعنت في إعداد هذه المقدمة بكتب جمهرة من العلماء من متقدمين ومحدثين.
فأسأل الله عزّ وجلّ أن يجعل عملنا هذا متقبلا، وأن يكتب فيه النفع للناس جميعا، وأن يعيننا على إتمام تحقيق بقية الكتاب، إنه خير مسؤول
.(1/11)
الفصل الأول مشاهير المؤرخين السّابقين لابن العماد
لعلّ أهم ما ينبغي عليّ التأكيد عليه في مستهل هذا الفصل، أن الكلام محصور فيه على المشاهير من علماء التاريخ عند المسلمين ممّن تقدموا ابن العماد واستفاد منهم.
وليس المطلوب أن نستقصي جميع المؤرخين من أصحاب المصنفات التي نقل عنها المؤلف، وإلّا لطال الكلام، وتشعب الموضوع، وخرج بنا عن البرنامج المعدّ لهذه المقدمة بعد دراسة مطولة.
وليس المطلوب من هذا الفصل أيضا أن يحدّث القارئ عن علم التاريخ كفنّ من الوجهة التاريخية، ففي بعض ما كتب في هذين الجانبين من الدراسات والمصنفات كفاية لمن يريد التوسّع في دراسة هذا الموضوع [1] .
وقبل المضي في الكلام عن مشاهير المؤرخين موضوع حديثنا، لا بدّ لنا من الوقوف قليلا عند بعض ما قاله عدد من العلماء المتخصصين في فن التأريخ، وذلك لتقديم إلمامة سريعة بهذا الفن للقارئ الكريم.
__________
[1] انظر على سبيل المثال: «مصطلح التاريخ» للدكتور أسد رستم، و «التاريخ العربي والمؤرخون» للدكتور شاكر مصطفى، و «علم التاريخ عند المسلمين» للدكتور فرانز روزنثال، و «إلمامة بالتاريخ عند العرب» الفصل الذي ألحقه الأستاذ عبد الحميد عبادي بكتاب «علم التاريخ» للأستاذ. ج. هرنشو، و «موارد الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد» للدكتور أكرم ضياء العمري.(1/13)
قال ابن منظور: التأريخ: تعريف الوقت، والتوريخ مثله، أرّخ الكتاب ليوم كذا: وقّته، والواو فيه لغة، وزعم يعقوب [1] أن الواو بدل من الهمزة، وقيل: إن التأريخ الذي يؤرخه الناس ليس بعربي محض، وإن المسلمين أخذوه عن أهل الكتاب، وتأريخ المسلمين أرّخ من زمن هجرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كتب في خلافة عمر رضي الله عنه، فصار تاريخا إلى اليوم [2] .
وقال ابن خلدون: اعلم أن فن التأريخ فن عزيز المذهب، جمّ الفوائد، شريف الغاية، إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم، حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه [3] في أحوال الدّين والدّنيا، فهو محتاج إلى مآخذ متعددة، ومعارف متنوعة، وحسن نظر وتثّبت يفضيان بصاحبهما إلى الحق، وينكبان به [4] عن المزلّات والمغالط، لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد، والحاضر بالذاهب، فربما لم يؤمن فيها من المغالط في الحكايات والوقائع، لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثّا أو سمينا، ولم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار، فضلّوا عن الحق، وتاهوا في بيداء الوهم والغلط، ولا سيما في إحصاء الأعداد من الأموال والعساكر إذا عرضت في الحكايات، إذ هي مظنّة الكذب، ومطيّة الهذر، ولا بدّ
__________
[1] هو يعقوب بن إسحاق بن السّكّيت، أبو يوسف، أحد أئمة اللغة والأدب، أصله من خوزستان، تعلم في بغداد، واتصل بالمتوكل العباسي فجعله في عداد ندمائه من أهم مصنفاته كتابه «إصلاح المنطق» قال المبرد: ما رأيت للبغداديين كتابا أحسن منه. مات سنة (244) هـ. انظر «الأعلام» للزركلي (8/ 195) .
[2] «لسان العرب» «أرخ» (1/ 58) ، وانظر «تاج العروس» للزبيدي «أرخ» ، و «الإعلان بالتوبيخ لمن ذمّ أهل التأريخ» للسخاوي ص (6) ، و «فتح الباري» لابن حجر (7/ 267- 268) .
[3] أي يطلبه.
[4] أي يعدلان به. انظر «لسان العرب» لابن منظور «نكب» (6/ 4534) .(1/14)
من ردّها إلى الأصول، وعرضها على القواعد [1] .
وقال السخاوي: [التاريخ] في الاصطلاح: التعريف بالوقت الذي تضبط به الأحوال، من مولد للرواة والأئمة، ووفاة، وصحة، وعقل، وبدن، ورحلة، وحج، وحفظ، وضبط، وتوثيق، وتجريح، وما أشبه هذا، مما مرجعه الفحص عن أحوالهم في ابتدائهم ... ويلتحق به ما يتفق من الحوادث والوقائع الجليلة، من ظهور ملمّة، وتجديد فرض، وخليفة، ووزير، وغزوة، وملحمة، وحرب، وفتح بلد وانتزاعه من متغلّب عليه، وانتقال دولة، وربما يتوسع فيه لبدء الخلق، وقصص الأنبياء، وغير ذلك من أمور الأمم الماضية، وأحوال القيامة ومقدّماتها مما سيأتي، أو دونها كبناء جامع، أو مدرسة، أو قنطرة، أو رصيف، أو نحوها مما يعمّ الانتفاع به مما هو شائع مشاهد، أو خفي سماوي، كجراد، وكسوف، وخسوف، أو أرضي، كزلزلة، وحريق، وسيل، وطوفان، وقحط، وطاعون، وموتان، وغيرها من الآيات العظام، والعجائب الجسام.
والحاصل: أنه فنّ يبحث عن وقائع الزمان، من حيثية التعيين والتوقيت، بل عمّا كان في العالم.
وأما موضوعه، فالإنسان والزمان، ومسائلة أحوالهما المفصّلة للجزئيات تحت دائرة الأحوال العارضة الموجودة للإنسان، وفي الزمان.
وأما فائدته، فمعرفة الأمور على وجهها. ومن أجلّ فوائده أنه أحد الطرق التي يعلم بها النسخ في أحد الخبرين المتعارضين، المتعذّر الجمع بينهما [2] .
وقال الدكتور شاكر مصطفى: تلك العوامل والحاجات التي أوجدت علم التاريخ في الإسلام لم تأت كلها مجتمعة في وقت واحد، ولكن سبق بعضها بعضا، وتعاون بعضها مع بعض على مدى يزيد على قرنين، ما بين أواسط القرن الأول الهجري، حتى أواسط القرن الثالث، كما أنها لم تكن متساوية في
__________
[1] «مقدمة ابن خلدون» ص (9- 10) .
[2] «الإعلان بالتوبيخ» ص (7) .(1/15)
التأثير، فبعضها لعب دوره في ناحية من نواحي التاريخ، وبعضها لعب الدور في نواح أخرى، وبعضها كان واضح الأثر في عصر بذاته، أو تحت ضغط حادث معين، أو بنتيجة عمل أحد الرواة أو الرجال، أو مجموعة منهم، وبعضها كان دائم التأثير متكرّر الحاجة خلال القرون الأولى للهجرة كلها وفيما بعدها من القرون أيضا. ولم تكن تلك المؤثرات والعوامل من نوع واحد، فإنها كانت تصدر عن جذور سياسية ودينية، صدورها عن أسباب اقتصادية، وقومية، واجتماعية، وبعض هذه العوامل كان ينشئ فروعا من التاريخ من منابع جديدة، وبعضها كان يزيد في خصبه، أو يضيف إليه روافد أخرى مستحدثة، أو من ألوان شتى، وعلى هذا، فإن ظهور التاريخ نشأ عن ميول موجودة في المجتمع الإسلامي، أضيفت إليها مع تطور الزمن دوافع جديدة بعد دوافع، وقد أخذ شكله وتطوره نتيجة عدد كبير متغيّر من العوامل والمؤثرات المتفاوتة في طول الأعمال والتأثير المختلفة في الأنواع أيضا اختلافا واسعا، وقد نجم عن ذلك كله، أن الحصاد التاريخي لفترة نشوء التاريخ قد تميز بعدد من الملامح، ولعلّنا قبل أن نعرض لها مضطرون لأن نقف عند نقطة إشكالية أحاطت بداية التدوين التاريخي والعلمي عامّة عند العرب بالكثير من الغموض، وأوجدت الوهم العلمي الشائع بأن التاريخ والحديث والعلوم الأخرى إنما كانت تروى في البدء الرواية الشفهية، وأنها لم تكتب وتدوّن حتى أواسط القرن الثاني الهجري، والسبب في هذا الوهم المغلوط هو الخلط ما بين ثلاث عمليات متتالية كانت تمرّ بها المعلومات والمعارف التي يتداولها الناس، وتشكّل بالتدريج تراثهم الثقافي، والتحليل هو الذي يكشف عنها.
العملية الأولى: عملية استماع الشهادة من الشهود المباشرين للحدث التاريخي، وهي عملية شفهية خالصة كانت تتم بشكل مباشر بين الشاهد الذي هو المصدر الأوّلي والأساسي للمعلومات، وبين جامع تلك المعلومات من الأفواه، ومعظم معلومات التاريخ الإسلامي الأوليّة إنما جاءت عن هذا الطريق الشفوي.(1/16)
العملية التالية: عملية حفظ المعلومات، ولم تكن تتم عن طريق الذاكرة، ولا بها وحدها أبدا، ولكن [كانت] تتم في الكثرة الساحقة من الأحوال بالتسجيل والتدوين الكتابي الشخصي، وهذه العملية كانت تجري باستمرار منذ عهد الرسالة نفسه، إذ يدوّن المستمع ما يهمّه من المعلومات لنفسه [1] ، ومهمة التدوين هنا هي معونة الذاكرة على دقة النقل وصحته، وحفظ السمعة بذلك خوف التضعيف، أو خيانة الذاكرة.
العملية الأخيرة: عملية نقل المعلومات في التوثيق ومنع الدسّ والتحريف والزيف كانت تدفعهم إلى أن لا يعتبروا المعلومات جديرة بالثقة ما لم تأت بالنقل المباشر والسماع الشخصي عن أصحابها العارفين بها والحافظين لها، وهذا ما كان يؤخر الصحف المكتوبة إلى مستوى الاهتمام الثانوي ويدفع من
__________
[1] قلت: لقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة رضوان الله عليهم عن كتابة حديثه صلى الله عليه وسلم في أول الأمر، وأذن لهم بكتابة القرآن، فقال فيما رواه مسلم في «صحيحه» رقم (3004) : «لا تكتبوا عنّي، ومن كتب عنّي غير القرآن فليمحه، وحدّثوا عنّي ولا حرج، ومن كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» . قال ابن الأثير في «جامع الأصول» (8/ 33) بتحقيق والدي وأستاذي الشيخ عبد القادر الأرناؤوط: [قوله صلى الله عليه وسلم] : «لا تكتبوا عنّي غير القرآن» ، الجمع بين قوله: «لا تكتبوا عنّي غير القرآن» وبين إذنه في الكتابة: أن الإذن في الكتابة ناسخ للمنع منه بإجماع الأمة على جوازه، ولا يجمعون إلا على أمر صحيح، وقيل: إنما نهى عن الكتابة: أن يكتب الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة، فيختلط به، فيشتبه على القارئ.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه فيما رواه الترمذي في «جامعه» رقم (2665) بإسناد حسن قال: استأذنّا النبيّ صلى الله عليه وسلم في الكتابة فلم يأذن لنا.
قلت: وهذا كان في أول الأمر، ثم صحّ عنه صلى الله عليه وسلم قوله وقت فتح مكة: «اكتبوا لأبي شاه» ، وذلك فيما رواه أحمد في «المسند» ، والبخاري ومسلم في «صحيحيهما» ، والترمذي في «جامعه» ، وانظر نصّ الحديث وتخريجه في «عمدة الأحكام» للمقدسي رقم (348) بتحقيقي، ومراجعة والدي الشيخ عبد القادر الأرناؤوط، طبع دار المأمون للتراث بدمشق. وروى الترمذي في «جامعه» رقم (2666) بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رجل من الأنصار يجلس إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيستمع من النبيّ صلى الله عليه وسلم الحديث فيعجبه ولا يحفظه، فشكا ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أسمع منك الحديث فيعجبني ولا أحفظه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استعن بيمينك» وأومأ بيده للخط.(1/17)
جديد بالرواية الشفهية إلى مستوى الاهتمام الأول [1] .
وقال الأساتذة مصطفى السقا، وإبراهيم الأبياري، وعبد الحفيظ الشلبي:
لم يكن للعرب قبل مبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم من مادة التاريخ إلا ما توارثوه بالرواية، مما كان شائعا بينهم من أخبار الجاهلية الأولى، كحديثهم عن آبائهم وأجدادهم، وأنسابهم، وما في حياة الآباء من قصص، فيها البطولة، وفيها الكرم، وفيها الوفاء، ثم حديثهم عن البيت، وزمزم، وجرهم [2] وما كان من أمرها، ثم ما كان من خبر البيوتات التي تناوبت الإمرة على قريش، وما جرى لسدّ مأرب، وما تبعه من تفرّق الناس في البلاد، إلى أمثال هذا مما قامت فيه الذاكرة مقام الكتاب، واللسان مقام القلم، يعي الناس عنه، ويحفظون، ثم يؤدّون [3] .
ونعود فيما يلي إلى الحديث عن مشاهير المؤرخين الذين نقل عنهم ابن العماد، مع الحديث بإيجاز عن مصنفاتهم التي اشتهروا من خلالها، وذلك مع مراعاة الترتيب الزمني لوفياتهم.
1- ابن إسحاق
هو محمد بن إسحاق بن يسار أبو بكر، وقيل: أبو عبد الله، القرشي المطلبي، مولى قيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف، من أقدم مؤرخي العرب، وكان بحرا من بحور العلم، ذكيّا، حافظا طلّابة للعلم، أخباريا، نسّابة علّامة، صاحب «السيرة النبوية» ، وكلّ من تكلم في «السيرة» من بعده فعليه اعتماده.
ولد في المدينة المنورة سنة ثمانين، ورأى أنس بن مالك رضي الله عنه بالمدينة، وسعيد بن المسيّب رحمه الله، وحدّث عن: أبيه، وعمه موسى بن
__________
[1] «التاريخ العربي والمؤرخون» (1/ 74- 76) .
[2] قال ابن منظور: جرهم: حيّ من اليمن نزلوا مكة، وتزوج فيهم إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وهم أصهاره، ثم ألحدوا في الحرم فأبادهم الله تعالى. «لسان العرب» «جرهم» (1/ 609) .
[3] مقدمة «السيرة النبوية» لابن هشام ص (4) .(1/18)
يسار، وعن أبان بن عثمان- فيما قيل- وعن بشير بن يسار، وسعيد بن أبي هند، وسعيد المقبري، وطائفة من أهل العلم.
وحدّث عنه: يزيد بن أبي حبيب شيخه، ويحيى بن سعد الأنصاري وهما من التابعين وفاقا، وشعبة، والثوري، والحمّادان، وأبو عوانة، وهشيم، وطائفة من أهل العلم.
وقد ترك ابن إسحاق المدينة ورحل إلى غيرها متنقلا في أكثر من بلد، فقصد الاسكندرية، وحدّث عن جماعة من أهل مصر، منهم: عبيد الله بن المغيرة، ويزيد بن أبي حبيب، وثمامة بن شفي، وغيرهم، ثم رحل إلى الكوفة، والجزيرة، والرّيّ، والحيرة، وبغداد، وفي بغداد ألقى عصا الترحال، والتقى بالمنصور، وصنّف لابنه المهدي كتاب «السيرة» ، وعاش ببغداد حتى وافته المنيّة بها ودفن في مقبرة الخيزران، وقد اختلف في سنة وفاته، فقيل:
سنة مائة وخمسين، وقيل: سنة مائة وإحدى وخمسين، وقيل: سنة مائة واثنتين وخمسين، وقيل: سنة مائة وثلاث وخمسين، والله أعلم بالصواب.
قال الذهبي: روى له مسلم في المتابعات، واستشهد به البخاري، وأخرج أصحاب «السنن» له.
قلت: ومعلوم بأن شهرة ابن إسحاق قامت على تصنيفه ل «السيرة النبوية» التي استوعبت التأريخ لأهم مراحل التاريخ الإسلامي، ألا وهي الفترة النبوية التي شهدت أهم الأحداث العظيمة في تاريخ الأمة الإسلامية، وقد طبعت هذه «السيرة» في تركيا بتحقيق الأستاذ الدكتور محمد حميد الله صاحب «مجموعة الوثائق السياسية» - أمدّ الله في عمره- ولكنها بحاجة إلى المزيد من التحقيق والتخريج ولعله يفعل ذلك مستقبلا إن شاء الله.
2- الواقدي
هو محمد بن عمر بن واقد الأسلمي بالولاء، المدني، أبو عبد الله، من أقدم المؤرخين في الإسلام، ومن أشهرهم، ومن حفّاظ الحديث، وأحد أوعية(1/19)
العلم على الرغم من ضعفه المتفق عليه، صاحب «المغازي» . ولد بالمدينة المنورة سنة مائة وثلاثين، وطلب العلم عام بضعة وأربعين، وسمع من صغار التابعين فمن بعدهم بالحجاز، والشام، وغير ذلك.
حدّث عن: محمد بن عجلان، وابن جريج، وثور بن يزيد، ومعمر بن راشد، وأسامة بن عثمان الزّيادي، وغيرهم.
استقضاه المأمون سنة أربع ومائتين على الجانب الشرقي من بغداد، وأكرمه، وأمره أن يصلّي الجمعة بالناس في مسجد الرصافة.
قال وكيع: حدّثني أبو سهل الرازي، عن محمد بن سعد قال: رآني الواقديّ مهموما فقال لي: لا تغتمّ فإن الرزق يأتي من حيث لا تحتسب.
وقال الخطيب البغدادي: كان الواقدي كلما ذكرت له وقعة ذهب إلى مكانها فعاينها.
وقال الذهبي: جمع فأوعى، وخلط الغثّ بالسّمين، والخرز بالدّرّ الثمين، فاطّرحوه [1] لذلك، ومع هذا فلا يستغنى عنه في المغازي، وأيام الصحابة وأخبارهم.
وقال ابن حجر: متروك مع سعة علمه.
مات في ذي الحجة سنة سبع ومائتين، ودفن في مقابر الخيزران وهو ابن ثمان وسبعين سنة، وصلّى عليه محمد بن سماعة.
قلت: وكتابه «المغازي» الذي قامت عليه شهرته، مطبوع في مصر بتحقيق المستشرق الدكتور مارسدن جونس في ثلاث مجلدات تشتمل على فهارس تفصيلية، وله كتب كثيرة أخرى في علوم متنوعة.
3- ابن هشام
هو عبد الملك بن هشام البصري النحوي الأخباري، أبو محمد، مهذّب «السيرة النبوية» لابن إسحاق.
__________
[1] أي أبعدوه: انظر «لسان العرب» «طرح» (2651) .(1/20)
كان عالما بالأنساب، واللغة، وأخبار العرب، ولد ونشأ في البصرة.
هذّب «السيرة النبوية» ، وسمعها من زياد البكّائي صاحب ابن إسحاق، وخفّف من أشعارها، وروى فيها مواضع عن عبد الوارث بن سعيد، وأبي عبيدة.
وله كتاب في «المغازي» ، وآخر اسمه «التيجان لمعرفة ملوك الزمان» .
وكان رحمه الله إماما في النحو، والأنساب، وأخبار العرب، ويذكر لنا الذهبي، وابن كثير، أنه حين جاء إلى مصر اجتمع به الشافعي، وتناشدا من أشعار العرب أشياء كثيرة. وكان علّامة أهل مصر بالعربية، والشعر.
مات سنة ثمان عشرة ومائتين.
قلت: وقد قامت شهرته على تهذيبه ل «السيرة النبوية» التي صنّفها ابن إسحاق، حتى دعيت هذه «السيرة» ب «سيرة ابن هشام» الأمر الذي جعل العامة من الناس في هذا العصر يظنون أنها من تصنيفه، ناسين ما كان لابن إسحاق من الفضل فيها، وهو الرائد الأول في هذا الفن تماما كما أن تهذيب الحافظ المزّي لكتاب «الكمال في أسماء الرجال» الذي صنّفه الحافظ عبد الغني المقدسي قد قضى على فضل المقدسي في الكتاب في نظر البعض، علما بأن المقدسي هو السابق في الفضل لكثير من العلماء في عصره وبعد عصره أيضا في علم الرّجال.
وقد طبع تهذيب «السيرة النبوية» المشار إليه عدة مرات، أفضلها التي نشرت بتحقيق الأساتذة الأفاضل مصطفى السقا، وإبراهيم الأبياري، وعبد الحفيظ شلبي، وصدرت في مصر.
4- ابن سعد
هو محمد بن سعد بن منيع البغدادي، أبو عبد الله، كاتب الواقدي، مؤرّخ من حفّاظ الحديث، صاحب «الطبقات الكبرى» .
ولد سنة (168 هـ) بالبصرة، وطلب العلم في صباه، ولحق الكبار، وكان من أوعية العلم.(1/21)
سمع من: هشيم بن بشير، وابن عيينة، وأبي معاوية، وابن أبي فديك، ووكيع، وأنس بن عياض، وغيرهم.
وحدّث عنه: أبو بكر بن أبي الدّنيا، والحارث بن أبي أسامة، والحسين بن محمد بن عبد الرحمن بن فهم، وغيرهم.
رحل إلى بغداد وأقام فيها ملازما لأستاذه الواقدي يكتب له، حتى عرف ب «كاتب الواقدي» ، وكانت له رحلة إلى المدينة، والكوفة، ولا ريب في أن رحلته إلى المدينة تمّت قبل سنة (200) هـ، فهو يذكر أنه لقي فيها بعض الشيوخ عام (189) هـ كما أن أكثر الذين روى عنهم من أهلها أدركتهم المنيّة قبل مطلع القرن الثالث، وفي أثناء حلّه وترحاله كان شغله الشاغل هو لقاء الشيوخ، وكتابة الحديث، وجمع الكتب، ولذلك اتصل بأعلام عصره من المحدّثين، فروى عنهم، وقيد مرويّاته، وأفاد منها في تصنيف كتبه.
قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن ابن سعد فقال: صدوق، رأيته جاء إلى القواريري وسأله عن أحاديث فحدّثه.
وقال الخطيب البغدادي في «تاريخ بغداد» : محمد بن سعد عندنا من أهل العدالة، وحديثه يدلّ على صدقه، فإنه يتحرّى في كثير من مرويّاته.
مات ببغداد يوم الأحد لأربع خلون من جمادى الآخرة سنة (230) هـ، وهو ابن اثنتين وستين سنة.
قلت: وقد قامت شهرته على كتابه «الطبقات الكبرى» المعروف أيضا ب «طبقات ابن سعد» ، وقد نشر هذا الكتاب على أيدي مجموعة من المستشرقين الألمان، ولكن هذه النشرة تفتقر إلى التحقيق ودراسة الأسانيد الواردة فيها.
5- خليفة بن خيّاط
هو خليفة بن خياط العصفري البصري، أبو عمرو، المقلب ب «شباب»(1/22)
الإمام المؤرخ العلّامة، صاحب «التاريخ» و «الطبقات» .
نشأ في البصرة في بيت علم، فقد كان جده أبو هبيرة خليفة بن خياط من أهل الحديث، سمع الحديث من عمرو بن شعيب، وحميد الطويل، وروى عنه محدّثون كبار، مثل: عمرو بن منصور، ووكيع بن الجراح، وأبي الوليد الطيالسي، وذكر البخاري أن مسلما حدّث عنه، ولعلّه مسلم بن إبراهيم الفراهيدي البصري، أحد شيوخ البخاري المتوفى سنة (222) هـ.
وذكر خليفة في «الطبقات» أن جدّه خليفة مات سنة (160) [1] .
وقد سمع خليفة المترجم من أبيه، ويزيد بن زريع، وزياد بن عبد الله البكّائي، وسفيان بن عيينة، وغيرهم.
وحدّث عنه: البخاريّ بسبعة أحاديث أو أزيد في «صحيحه» ، وبقيّ بن مخلد، وحرب الكرماني، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، وأبو بكر بن أبي عاصم، وغيرهم.
وكان صدوقا، نسّابة، عالما بالسّير، والأيام، والرجال كما قال الذهبي.
وقال ابن عدي: هو صدوق من متيقظي الرواة.
وقال ابن حبّان: كان متقنا عالما بأيام الناس وأنسابهم.
وقال ابن خلّكان: كان حافظا عارفا بالتواريخ وأيام الناس، غزير الفضل.
ووصفه ابن كثير بأنه أحد أئمة التاريخ.
مات سنة (240) هـ.
قلت: وقد قامت شهرته على كتابيه «التاريخ» و «الطبقات» ، وكلاهما قام بتحقيقه الأستاذ الدكتور سهيل زكّار، ثمّ الأستاذ الدكتور أكرم ضياء العمري، وهما من الكتب الرائدة في التاريخ والرجال، ولقد عرفت لهذا المؤرّخ الكبير فضله لدى رجوعي إلى كتابة «التاريخ» أثناء تحقيقي لهذا المجلد من الكتاب،
__________
[1] انظر «مشاهير علماء الأمصار» لابن حبّان ص (157) .(1/23)
فقد تأكد لي بأن اختصاره للتدوين يعود إلى أمانته وحذره رحمه الله.
6- البخاريّ
هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي البخاري، أبو عبد الله، الإمام الكبير، صاحب «الصحيح» و «التاريخ الكبير» وغيرهما.
ولد يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال سنة (194) هـ، ورحل في طلب العلم إلى جميع محدّثي الأمصار، وكتب بخراسان، والجبال، والعراق، والحجاز، والشام، ومصر، وأخذ الحديث عن مشاهير الحفّاظ، منهم: مكّي بن إبراهيم البلخي، وعبدان بن عثمان المروزي، وعبيد الله بن موسى العبسي، وأبو عاصم الشيباني، وورد على المشايخ وله إحدى عشرة سنة، وطلب العلم وله عشر سنين. وأخذ عنه الحديث خلق كثير في كل بلدة حدّث بها.
ولما قدم بغداد، وسمع أصحاب الحديث بقدومه، اجتمعوا، وعمدوا إلى مائة حديث، فقلبوا متونها وأسانيدها، وجعلوا متن هذا الإسناد لإسناد آخر، وإسناد هذا المتن لمتن آخر، ودفعوها إلى عشرة أنفس، لكل رجل عشرة أحاديث، فلما اطمأن المجلس بأهله، انتدب إليه رجل من العشرة، فسأله عن حديث من تلك الأحاديث، فقال: لا أعرفه، فسأله عن آخر، فقال لا أعرفه، حتى فرغ من العشرة، والبخاري يقول: لا أعرفه، فأما العلماء فعرفوا بإنكاره أنه عارف، وأمّا غيرهم فلم يدركوا ذلك منه. ثم انتدب رجل آخر من العشرة، فكان حاله معه كذلك، ثم انتدب آخر بعد آخر إلى تمام العشرة، والبخاري لا يزيدهم على قوله: لا أعرفه. فلما فرغوا، التفت إلى الأول منهم فقال: أما حديثك، فهو كذا، والثاني كذا، على النسق إلى آخر العشرة، فردّ كلّ متن إلى إسناده، وكل إسناد إلى متنه، ثم فعل بالباقين مثل ذلك، فأقرّ الناس له بالحفظ، وأذعنوا له بالفضل. وقال: خرّجت كتاب «الصحيح» من زهاء ستمائة ألف حديث، وما وضعت(1/24)
فيه حديثا إلا صلّيت ركعتين، وهو أول من وضع في الإسلام كتابا على هذا النحو.
مات ليلة الفطر سنة (256) هـ. وعمره اثنتان وستون سنة إلا ثلاثة عشر يوما.
قلت: وقد قامت شهرته على كتابه «الصحيح» كما هو معلوم، ويأتي بالمنزلة الثانية بعد «الصحيح» من كتبه كتابه «التاريخ الكبير» وقد تكلم فيه عن رواة الحديث والآثار فأجاد وأفاد، جزاه الله تعالى عن المسلمين خير الجزاء، وقد طبع بعناية العلّامة المحقّق الشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني رحمه الله، وطبع في تركيا بدار مكتبة أزدمير بمدينة ديار بكر، وقد صدرت هذه الطبعة في تسع مجلدات بعناية الدكتور محمد عبد المعيد خان.
7- ابن قتيبة
هو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدّينوري، وقيل المروزي، أبو عبد الله، الإمام العلّامة الكبير، ذو الفنون، صاحب «المعارف» ، و «عيون الأخبار» ، و «أدب الكاتب» ، وغير ذلك من المصنفات العديدة المفيدة.
ولد ببغداد سنة (213) هـ، وأخذ العلم بها عن: إسحاق بن راهويه، ومحمد بن زياد بن عبيد الله الزيادي، وزياد بن يحيى الحساني، وأبي حاتم السجستاني، وطائفة.
وأخذ العلم عنه: ابنه القاضي أحمد بن عبد الله، بديار مصر، وعبيد الله السّكّري، وعبيد الله بن أحمد بن بكر، وعبد الله بن جعفر بن رستويه النّحوي، وغيرهم.
قال الذهبي: ليس ابن قتيبة بصاحب حديث، وإنما هو من كبار العلماء المشهورين، عنده فنون جمّة، وعلوم مهمة.
وقال قاسم بن أصبغ: كنا عند ابن قتيبة، فأتوه وبأيديهم المحابر، فقال:(1/25)
اللهمّ سلّمنا منهم. فقعدوا، ثم قالوا: حدّثنا- رحمك الله- قال: ليس أنا ممّن يحدّث، إنما هذه الأوضاع، فمن أحبّ؟ قالوا له: ما يحلّ لك هذا، فحدّثنا بما عندك عن إسحاق بن راهويه، فإنه لا نجد فيه إلا طبقتك، وأنت عندنا أوثق.
قال: لست أحدّث. ثم قال لهم: تسألوني أن أحدّث وببغداد ثمان مائة محدّث، كلهم مثل مشايخي!، لست أفعل. فلم يحدّثهم بشيء.
وكان موته فجاءة، وذلك سنة ست وسبعين ومائتين، وقيل: إنه أكل هريسة، فأصابته حرارة، فصاح صيحة شديدة ثم أغمي عليه، ثم أفاق، فما زال يتشهد حتى مات.
قلت: وقد قامت شهرة ابن قتيبة على مجموعة من كتبه، ومن أهمها الكتب المنوّه عنها في صدر الترجمة. وقد طبع الأول منها مرتين، الأولى بعناية الأستاذ محمد إسماعيل عبد الله الصاوي، وهي طبعة تجارية تفتقر إلى التحقيق والضبط والتصحيح. والثانية بتحقيق وتقديم الأستاذ الدكتور ثروة عكاشة، وهي طبعة جيدة. وطبع الثاني في دار الكتب المصرية، وهي طبع جيدة، ولكنها تفتقر إلى المزيد من الخدمة والتحقيق. وطبع الثالث منها عدة مرات، أفضلها التي صدرت عن مؤسسة الرسالة في بيروت بتحقيق الأستاذ محمد أحمد الدالي.
8- الفسوي
هو يعقوب بن سفيان بن جوان الفسوي، أبو يوسف، أحد الأئمة الكبار، محدّث بلاد فارس في عصره. صاحب «المعرفة والتاريخ» ، و «المشيخة» .
ولد في حدود سنة تسعين ومائة في دولة الرشيد ببلدة فسا [1] ، وهي
__________
[1] قال ياقوت: فسا: بالفتح والقصر، كلمة أعجمية، وعندهم «بسا» بالباء، وهكذا يتلفظون بها، وأصلها في كلامهم: الشمال من الرياح [وهي] مدينة بفارس أنزه مدينة بها فيما قيل، بينها وبين شيراز أربع مراحل. «معجم البلدان» (4/ 260- 261) . ومن هنا نعت صاحب الترجمة عند بعض العلماء ب «البسوي» .(1/26)
حاضرة مقاطعة دارابجرد في إقليم فارس، ولم تكن مدينة فسا من المراكز العلمية في دراسة الحديث النبوي وعلومه في عصره، الأمر الذي جعله يرحل إلى مراكز العلم في سنّ مبكرة رغبة في سماع الحديث من أعلام المحدّثين في أمصار مختلفة، فسمع من أبي عاصم النبيل، وعبيد الله بن موسى، ومكّي بن إبراهيم، وأبي عبد الرحمن المقرئ، وغيرهم.
وحدّث عنه: أبو عيسى الترمذي، وأبو عبد الرحمن النسائي، وإبراهيم بن أبي طالب، والحسن بن سفيان الفسوي، وغيرهم.
وحدّث عنه: أبو عيسى الترمذي، وأبو عبد الرحمن النسائي، وإبراهيم بن أبي طالب، والحسن بن سفيان الفسوي، وغيرهم.
وقد حظي بتقدير العلماء، وكبار النقاد من أعصر مختلفة وبيئات عديدة، فقال أبو زرعة الدمشقي: كان نبيلا جليل القدر. ووصفه ابن حبّان البستي بالورع والنسك والصلابة في السّنّة. وقال عنه أبو عبد الله الحاكم النيسابوري صاحب «المستدرك» : هو إمام أهل الحديث بفارس. ووثّقه ابن حجر في «التقريب» . وقال ابن العماد: كان ثقة بارعا عارفا ماهرا.
مات سنة سبع وسبعين ومائتين.
قلت: وقد طبع كتابه «المعرفة والتاريخ» طبعة متقنة بتحقيق الأستاذ الدكتور أكرم ضياء العمري في ثلاثة مجلدات في العراق أول الأمر، ثم صدرت طبعته الثانية عن دار مؤسسة الرسالة في بيروت منذ سنوات قليلة.
9- أبو زرعة الدّمشقي
هو عبد الرحمن بن عمرو بن عبد الله بن صفوان بن عمرو النّصري الدمشقي، أبو زرعة، الإمام الصادق، محدّث الشام في عصره، صاحب «التاريخ» ، وغير ذلك من التصانيف.
ولد قبل سنة مائتين، وروى عن أبي نعيم الفضل بن دكين، وهوذة بن خليفة، وعفان بن مسلم، وأبي مسهر الغسّاني، وغيرهم.
وحدّث عنه: أبو داود في «سننه» ، ويعقوب الفسوي، وأحمد بن المعلّى(1/27)
القاضي، وأبو بكر بن أبي داود، وغيرهم.
وقد جمع، وصنّف، وذاكر الحفّاظ، وتميّز، وتقدّم على أقرانه لمعرفته وعلوّ سنده.
قال الذهبي: لمّا قدم أهل الرّيّ إلى دمشق أعجبهم علم أبي زرعة، فكنّوا صاحبهم الحافظ عبيد الله بن عبد الكريم بكنيته.
وقال ابن ناصر الدين: علم، حافظ، ثبت.
مات سنة إحدى وثمانين ومائتين [1] .
قلت: و «تاريخه» منشور في «مجمع اللغة العربية» بدمشق في مجلدين بتحقيق الأستاذ شكر الله بن نعمة الله القوجاني، وهي نشرة جيدة متقنة.
10- أبو حنيفة الدّينوري
هو أحمد بن داود بن ونند الدينوري، أبو حنيفة، الإمام المؤرّخ، المهندس، النباتي، أحد نوابغ الدهر، صاحب «الأخبار الطوال» ، وغير ذلك من المصنفات.
ولد في مدينة الدينور من أعمال الجبال بأرض فارس [2] ، ونشأ في أسرة من أصل فارسي، وقد عاش معظم حياته في تلك المدينة، وأمضى شبابه في الرحلات، وقادته هذه الرحلات إلى بلاد ما بين النهرين، ثم امتدت به أسفاره إلى المدينة المنورة، وإلى بيت المقدس، وإلى شواطئ الجزيرة العربية من جهة الخليج، فعاش في هذه البلدان فترات مختلفة، ثم انتقل إلى أصفهان سنة (235) هـ وعاش بها مدة، اشتغل فيها برصد الكواكب.
قال أبو حيّان: الذي أقوله وأعتقده، وآخذ به، وأستهام عليه، أني لم أجد
__________
[1] وهو ما ذكره الذهبي في «سير أعلام النبلاء» ، وابن العماد في «شذرات الذهب» ، وقيل غير ذلك.
[2] انظر «معجم البلدان» لياقوت (2/ 545) .(1/28)
في جميع من تقدم وتأخر إلا ثلاثة، لو اجتمع الثّقلان على تقريظهم ومدحهم ونشر فضائلهم في أخلاقهم، وعلمهم، ومصنفاتهم، ووسائلهم مدى الدّنيا إلى أن يأذن الله بزوالها، لما بلغوا آخر ما يستحقه كل واحد منهم، أحدهم عمرو بن بحر، والثاني أبو حنيفة بن داود الدينوري، فإنه من نوادر الرجال، جمع بين حكمة الفلاسفة، وبيان العرب، له في كل فنّ ساق وقدم، ورواء وحكم.
وأما الثالث فهو أبو زيد البلخي.
نعم لقد كان أبو حنيفة عالما في شتى العلوم والمعارف، حباه الله بعقلية علمية واسعة، واستوعبت معارف كثيرة انفرد بها عن علماء فترته وما تلاها ممّن كان لهم شأن في تاريخ الأدب العربي، وعلوم اللغة، فلقد كان أبو حنيفة عالما في كثير من فروع العلم، وكان دائما مجدّدا، وظل مع كل هذا مبدعا دون تكرار عن أسلافه ومعاصريه.
مات سنة اثنتين وثمانين ومائتين.
وكتابه «الأخبار الطوال» من أهم المصادر التاريخية الأولى، وغاية في سرد حوادث الحياة المعاشية، والسياسية، والحربية عند الفرس، وفي الإبانة عن الأحداث الدقيقة في الدولة الإسلامية حتى عهد الخليفة العباسي المعتصم بالله، وقد طبع في مصر بتحقيق الأستاذ عبد المنعم عامر، ومراجعة الدكتور جمال الدين الشيّال، وهي طبعة جيدة متقنة منتشرة.
11- الطّبري
هو محمد بن جرير بن يزيد بن كثير الطبري، أبو جعفر، الإمام المؤرّخ المفسّر الكبير صاحب «التفسير» ، و «التاريخ» .
ولد في آمل [1] طبرستان سنة أربع وعشرين ومائتين، وطلب العلم بعد
__________
[1] انظر «معجم البلدان» لياقوت (1/ 57) .(1/29)
الأربعين ومائتين، وأكثر الترحال، ولقي نبلاء الرّجال، وكان من أفراد الدّهر علما، وذكاء، وكثرة تصانيف، قلّ أن ترى العيون مثله.
وسمع من محمد بن عبد الملك بن أبي الشّوارب، وإسماعيل بن موسى السّدّي، وإسحاق بن أبي إسرائيل، ومحمد بن أبي معشر، وغيرهم.
وحدّث عنه: أبو شعيب عبد الله بن الحسن الحرّاني- وهو أكبر منه-، وأبو القاسم الطّبراني، وأحمد بن كامل القاضي، وأبو بكر الشّافعي، وأبو أحمد بن عدي، وغيرهم كثير.
واستقرّ في أواخر أمره ببغداد، وكان من كبار أئمة الاجتهاد.
قال الخطيب البغدادي: كان محمد بن جرير أحد أئمة العلماء، يحكم بقوله، ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، فكان حافظا لكتاب الله تعالى، عارفا بالقراءات، بصيرا بالمعاني، فقيها في أحكام القرآن، عالما بالسّنن وطرقها، صحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفا بأقوال الصحابة والتابعين، عارفا بأيام الناس وأخبارهم [1] .
وقال الذهبي: كان ثقة، صادقا، حافظا، رأسا في التفسير، إماما في الفقه والإجماع والاختلاف، علّامة في التاريخ وأيام الناس، عارفا بالقراءات وباللغة، وغير ذلك.
قال ابن خزيمة: ما أعلم على الأرض أعلم من محمد بن جرير.
ووصفه ابن العماد بالحبر، البحر، الإمام.
مات سنة عشر وثلاثمائة، وقد رثاه ابن دريد بقصيدة مطوّلة، منها قوله:
لو تعلم الأرض من وارت لقد خشعت ... أقطارها لك إجلالا وترحيبا
__________
[1] وقد اقتبس السمعاني كلام الخطيب هذا في «الأنساب» (8/ 205) وزاد عليه، فراجعه.(1/30)
إن يندبوك فقد ثلّت عروشهم ... وأصبح العلم مرثيّا ومندوبا
ومن أعاجيب ما جاء الزّمان به ... وقد يبين لنا الدّهر الأعاجيبا
أن قد طوتك غموض الأرض في لحف ... وكنت تملأ منها السّهل واللّوبا
قلت: وقد قامت شهرته على كتابيه «التاريخ» ، و «التفسير» ، وقد طبع الأول منهما في مصر طبعة متقنة في دار المعارف بتحقيق المحقق المعروف الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم.
وطبع من الثاني ستة عشر مجلدا في دار المعارف أيضا، وقد تولى تحقيقها العالم المحقّق الأستاذ محمود محمد شاكر، بإشراف شقيقه العلّامة المحقّق الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله في أجزائه الأولى، ثم انفرد بتحقيقه في بقيتها. ونسأل الله عزّ وجلّ أن يلهم محقّقه متابعة تحقيق ما بقي من أجزائه، إنه تعالى خير مسؤول.
12- ابن أبي حاتم
هو عبد الرحمن بن محمد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران الرّازي الحنظلي الغطفاني، أبو محمد، المعروف بابن أبي حاتم، لأن كنية أبيه أبو حاتم. صاحب كتاب «الجرح والتعديل» ، وغير ذلك من المصنفات المشهورة.
ولد سنة أربعين أو إحدى وأربعين ومائتين بالرّيّ، ولم يدعه أبوه الإمام العالم الكبير أبو حاتم الرازي يطلب الحديث حتى قرأ القرآن على الفضل بن شاذان، وهو من العلماء المقرئين، ثم شرع في الطلب على أبيه، وعلى الإمام أبي زرعة الرازي، وغيرهما من محدّثي بلده الرّي.
قال أبو الحسن علي بن إبراهيم الرازي في ترجمة عملها لابن أبي حاتم:(1/31)
كان رحمه الله قد كساه الله نورا وبهاء، يسرّ من ينظر إليه. سمعته يقول: رحل بي أبي سنة خمس وخمسين ومائتين، وما احتلمت بعد، فلما بلغنا ذا الحليفة احتلمت، فسرّ أبي، حيث أدركت حجة الإسلام، فسمعت في هذه السنة من محمد بن أبي عبد الرحمن المقرئ.
قال الذهبي: وسمع من أبي سعيد الأشج، والحسن بن عرفة، والزعفراني، ويونس بن عبد الأعلى ... وخلائق من طبقتهم وممّن بعدهم بالحجاز، والعراق، والعجم، ومصر، والشام، والجزيرة، والجبال.
وروى عنه: ابن عدي، وحسين بن علي التميمي، والقاضي يوسف الميانجي، وأبو الشيخ بن حيّان، وأبو أحمد الحاكم، وعلي بن عبد العزيز بن مردك ... وخلق سواهم.
وقال أبو يعلى الخليلي: أخذ أبو محمد علم أبيه، وأبي زرعة، وكان بحرا في العلوم ومعرفة الرّجال. وقال أيضا: يقال: إن السّنّة بالرّي ختمت بابن أبي حاتم.
قال الذهبي: ومن كلامه قال: وجدت ألفاظ التعديل والجرح مراتب، فإذا قيل: ثقة، أو متقن، احتجّ به، وإن قيل: صدوق، أو محلّه الصدق، أو لا بأس به، فهو ممّن يكتب حديثه، وينظر فيه، وهي المنزلة الثانية، وإذا قيل: شيخ، فيكتب حديثه، وهو دون ما قبله، وإذا قيل: صالح الحديث، فيكتب حديثه وهو دون ذلك يكتب حديثه للاعتبار، وإذا قيل: ليّن، فدون ذلك، وإذا قالوا:
ضعيف الحديث، فلا يطرح حديثه، بل يعتبر به، فإذا قالوا: متروك الحديث، أو ذاهب الحديث، أو كذّاب، فلا يكتب حديثه.
مات سنة سبع وعشرين وثلاث مائة بالرّي، وله بضع وثمانون سنة.
قلت: وقد قامت شهرته على كتابه «الجرح والتعديل» وهو مطبوع في حيدر أباد بالهند في تسع مجلدات بعناية العلّامة المحقّق الشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني طيّب الله ثراه
.(1/32)
13- المسعودي
هو علي بن الحسين بن علي المسعودي، أبو الحسن، من ذريّة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، صاحب «أخبار الزمان ومن أباده الحدثان» و «مروج الذهب» وغير ذلك من المصنفات التاريخية المتنوعة.
ولد في بغداد [1] وأخذ العلم فيها وفي غيرها من الأمصار. ورحل في الآفاق إلى أن حطّت رحاله في مصر، فأقام فيها إلى أن مات.
قال الذهبي: وكان أخباريّا، صاحب ملح وغرائب وعجائب وفنون، وكان معتزليا، أخذ العلم عن أبي خليفة الجمحي، ونفطويه، وعدّة.
وقال ابن حجر: ذكره ابن دحية في «كتاب صفين» فقال: مجهول لا يعرف، ونكرة لا يتعرف، كذا قال ولم يصب.
قال الذهبي: مات في جمادى الآخرة سنة خمس وأربعين وثلاث مائة.
وذكر غيره بأنه مات سنة ست وأربعين وثلاث مائة.
قلت: وقد قامت شهرة المسعودي على كتابيه المشار إليهما في صدر الترجمة، وقد ذكر الزركلي رحمه الله بأن كتابه «أخبار الزمان» يقع في ثلاثين مجلدا بقي منه الجزء الأول مخطوطا، ولم يذكر مكان وجوده. وأما كتابه «مروج الذهب» فقد طبع أول مرة في باريس بفرنسا في تسع مجلدات من الحجم الصغير، ولكن آفة هذه الطبعة أنها قدمت إلى القرّاء وكتبت هوامشها باللغة الفرنسية الأمر الذي قلل من إمكانية الفائدة منها. وطبع للمرة الثانية في بيروت بتحقيق المستشرق شارل بلا، وقد صدرت هذه الطبعة في أربعة مجلدات. ثم طبع في المكتبة التجارية الكبرى في مصر بتحقيق العلّامة المحقق الشيخ محمد محيي الدّين عبد الحميد رحمه الله تعالى، وقد صدرت هذه الطبعة في أربعة مجلدات أيضا، وهي أفضل طبعة صدرت من الكتاب، وهذا الكتاب هو أحد مصادر ابن العماد في كتابه.
__________
[1] ونسبه النديم في «الفهرست» ص (171) من طبعة الأستاذ رضا تجدد إلى المغرب.(1/33)
14- ابن حبّان
هو محمد بن حبّان بن أحمد بن حبّان التميمي البستي، أبو حاتم، الإمام العلّامة، شيخ خراسان في عصره، صاحب «الصحيح» ، و «مشاهير علماء الأمصار» ، وغيرهما من المصنفات المشهورة. ولد سنة بضع وسبعين ومائتين في بست من إقليم سجستان، وتنقل في الأقطار، فرحل إلى خراسان، والشام، ومصر، والعراق، والجزيرة، ونيسابور، والبصرة، وغير ذلك من الأمصار.
وأكبر شيخ لقيه أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي، سمع منه بالبصرة، ومن زكريا السّاجي، وسمع بمصر من أبي عبد الرحمن النسائي، وإسحاق بن يونس المنجنيقي، وعدّة، وبالموصل من أبي يعلى أحمد بن علي، وبنسإ من الحسن بن سفيان، وبجرجان من عمران بن موسى بن مجاشع السّختياني، وببغداد من أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصّوفي وطبقته، وبدمشق من جعفر بن أحمد، ومحمد بن خريم، وخلق، وفي غير ذلك من الأمصار.
وحدّث عنه: أبو عبد الله بن مندة، وأبو عبد الله الحاكم، ومنصور بن عبد الله الخالدي، وأبو معاذ عبد الرحمن بن محمد بن رزق الله السجستاني، وغيرهم.
قال أبو سعد الإدريسي: كان على قضاء سمرقند زمانا، وكان من فقهاء الدّين، وحفّاظ الآثار، عالما بالطب، والنجوم، وفنون العلم، صنّف «المسند الصحيح» [1] ، وكتاب «التاريخ» ، وكتاب «الضعفاء» ، وفقّه الناس بسمرقند.
وقال الحاكم: كان ابن حبّان من أوعية العلم في الفقه، واللغة، والحديث، والوعظ، ومن عقلاء الرجال.
وقال الخطيب البغدادي: كان ابن حبّان ثقة نبيلا فهما.
وقال ابن العماد: كان حافظا، ثبتا، إماما، حجّة، أحد أوعية العلم.
__________
[1] وهو المعروف أيضا بكتاب «الأنواع والتقاسيم» .(1/34)
قال السمعاني: مات في شوّال سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، ودفن ببست في الصّفّة التي ابتناها بقرب داره التي هي اليوم مدرسة لأصحابه، ولهم جرايات يستنفقونها.
قلت: وقد قامت شهرته عند أهل العلم على كتابه «المسند الصحيح» الذي رتبه الأمير علاء الدين علي بن بلبان الفارسي المتوفى سنة (739) هـ، وهو الذي يطبع في مؤسسة الرسالة في بيروت، وقد صدر المجلد الأول منه بتحقيق الأستاذ حسين سليم الأسد، والشيخ شعيب الأرناؤوط.
وعلى كتابه الآخر «مشاهير علماء الأمصار» المطبوع بعناية المستشرق الألماني الدكتور مانفريد فلايشهمر، وهي طبعة سقيمة تفتقر إلى الضبط، والتحقيق، وجمال الإخراج، وقد صدرت في مصر.
15- أبو نعيم الأصبهاني
هو أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران المهراني الأصبهاني، أبو نعيم، الإمام الحافظ المؤرّخ الكبير، صاحب «حلية الأولياء وطبقات الأصفياء» ، و «دلائل النبوة» ، و «معرفة الصحابة» ، وغير ذلك من المصنفات المفيدة النافعة.
ولد في أصبهان سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، وأخذ العلم عن جمهرة كبيرة من العلماء الأعلام، وأخذ العلم عنه طائفة كبيرة من أهل العلم.
وقد تضاربت الآراء فيما يتصل بتوثيقه وضعفه عند أصحاب السّير والتراجم، وإليك البعض مما قالوه:
قال ابن ناصر الدّين: لا يلتفت إلى قول من تكلم فيه لأنه صدوق عمدة.
وقال الخطيب البغدادي: لم أر أحدا أطلق عليه اسم الحفظ غير أبي نعيم، وأبي حازم.
وقال مردويه: لم يكن في أفق من الآفاق أحفظ ولا أسند منه.(1/35)
وقال ابن العماد: تفرّد في الدّنيا بعلو الإسناد، مع الحفظ والاستبحار في الحديث وفنونه.
وقال ابن كثير: قال الخطيب البغدادي: كان أبو نعيم يخلط المسموع له بالمجاز، ولا يوضّح أحدهما من الآخر.
وقال أيضا: قال عبد العزيز النّخشبي: لم يسمع أبو نعيم «مسند الحارث بن أبي أسامة» من أبي بكر بن خلّاد بتمامه، فحدّث به كله.
وقال ابن الجوزي: سمع الكثير، وصنّف الكثير، وكان يميل إلى مذهب الأشعري في الاعتقاد ميلا كثيرا.
توفي في الثامن والعشرين من المحرم سنة ثلاثين وأربعمائة.
قلت: وقد قامت شهرة الرجل على كتابه الكبير الشهير «حلية الأولياء» الذي قال فيه ابن ناصر الدّين: لما صنّف [أبو نعيم] كتاب «الحلية» حملوه إلى نيسابور، فبيع بأربعمائة دينار.
وقال ابن كثير: دلّت «حلية الأولياء» على اتساع روايته، وكثرة مشايخه، وقوة اطّلاعه على مخارج الحديث، وشعب طرقه.
وقد طبعت «الحلية» منذ عهد بعيد طبعة تجارية تفتقر إلى التحقيق والتخريج والإخراج اللائق بها، وقد صوّرت تلك الطبعة مرات كثيرة فيما بعد.
وأما كتابه «دلائل النبوّة» فقد طبع مرتين، الأولى طبعة تجارية في مجلد واحد، والثانية علمية جيدة، تولى تحقيقها الدكتور محمد رواس قلعجي، وخرّج أحاديثها الأستاذ عبد البرّ عباس، وقد صدرت مصوّرة جديدة عن هذه الطبعة عن دار ابن كثير بدمشق، والمكتبة العربية بحلب.
وأما كتابه «معرفة الصحابة» فهو مخطوط، قال الزركلي: بقيت منه مخطوطة في مجلدين، عليها قراءة سنة (551 هـ) في مكتبة أحمد الثالث بطوبقبو سراي باستانبول رقم (497) كما في مذكرات الميمني.(1/36)
16- ابن حزم
هو علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري، أبو محمد، عالم الأندلس في عصره، وأحد الأئمة الإسلام، صاحب «المحلّى» ، و «جمهرة أنساب العرب» ، وغيرهما من المصنفات الكثيرة النافعة.
ولد بقرطبة من بلاد الأندلس في شهر رمضان سنة (384) هـ، ونشأ في نعمة سابغة، وجاه عريض، وكانت له ولأبيه من قبله رياسة الوزارة وتدبير المملكة، فزهد بها وانصرف إلى العلم والتأليف، فكان من صدور الباحثين، فقيها، حافظا، يستنبط الأحكام من الكتاب والسّنّة، بعيدا عن المصانعة.
وكان إليه المنتهى في الذكاء، والعربية، والآداب، والمنطق، والشعر، مع الصدق، والديانة، والحشمة، والسؤدد، والرياسة، والثروة، وكثرة الكتب.
قرأ ابن حزم على أبي عمر أحمد بن الحسين، ويحيى بن مسعود، وأبي الخيار مسعود بن سليمان الظاهري، ويونس بن عبد الله القاضي، ومحمد بن سعيد بن ساني، عبد الله بن الربيع التميمي، وعبد الله بن يوسف بن نامي، وغيرهم.
وروى عنه أبو عبد الله الحميدي صاحب «جذوة المقتبس» فأكثر الرواية عنه، كما روى عنه بالإجازة سريج بن محمد بن سريج المقبري، فكان خاتمة من روى عنه.
ونشر علمه بالمشرق ولده أبو رافع، كما روى عنه ابناه: أبو أسامة يعقوب، وأبو سليمان المصعب، وممّن تتلمذ له الوزير الإمام أبو محمد بن المغربي، صحبه سبعة أعوام سمع فيها جلّ مصنفاته، واستمرت قراءته عليه إلى سنة وفاته.
قال الغزالي: وجدت في أسماء الله تعالى كتابا لأبي محمد بن حزم يدلّ على عظم حفظه، وسيلان ذهنه.
وقال ابن صاعد في «تاريخه» : كان ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة(1/37)
لعلوم الإسلام، وأوسعهم مع توسّعه في علم اللسان، والبلاغة، والشعر، والسّير، والأخبار.
وقال ابن خلّكان: كان حافظا، عالما بعلوم الحديث، مستنبطا للأحكام من الكتاب، والسّنّة ... وكان متفننا في علوم جمّة، عاملا بعلمه، زاهدا في الدّنيا بعد الرياسة التي كانت له ولأبيه من قبله في الوزارة وتدبير الملك، متواضعا ذا فضائل وتآليف كثيرة.
ولكنه كان كثير الوقوع في العلماء المتقدمين، لا يكاد أحد يسلم من لسانه، فنفرت عنه القلوب، واستملل من فقهاء وقته، فمالوا على بغضه، وردّوا قوله، وأجمعوا على تضليله، وشنّعوا عليه، وحذّروا سلاطينهم من فتنته، ونهوا عوامّهم عن الدنوّ إليه، والأخذ عنه، فأقصته الملوك، وشرّدته عن بلاده.
وقال ابن العريف: كان لسان ابن حزم، وسيف الحجّاج شقيقين.
مات مشردا عن بلده من قبل الدولة ببادية لبلة [1] بقرية له، ليومين بقيا من شعبان سنة ست وخمسين وأربعمائة.
قلت: وقد أشتهر ابن حزم بكتابيه «المحلى» وهو في الفقه، وقد نشر في مصر، وقام بتحقيقه العلّامة الشيخ أحمد محمد شاكر، والشيخ عبد الرحمن الجزيري، وأتمه الشيخ محمد منير الدمشقي، وقد صدر في أحد عشر مجلدا.
و «جمهرة أنساب العرب» وهو من خيرة كتب الأنساب، وقد نشر في دار المعارف بمصر عام 1382 هـ بتحقيق الأستاذ المحقّق عبد السلام محمد هارون، وهي طبعة جيدة متقنة مفهرسة.
17- الخطيب البغدادي
هو أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي البغدادي، أبو بكر،
__________
[1] انظر «معجم البلدان» لياقوت (5/ 10) ، و «الروض المعطار» للحميري ص (507- 508) .(1/38)
المعروف، بالخطيب [1] ، أحد الأئمة الأعلام، وصاحب التآليف المنتشرة في الإسلام، وأشهرها «تاريخ بغداد» و «الكفاية في علم الرواية» ، و «شرف أصحاب الحديث» ، و «اقتضاء العلم العمل» ، وغير ذلك من المصنفات.
ولد في شهر جمادى الآخرة سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة في غزية بمنتصف الطريق بين الكوفة ومكة، ونشأ في بغداد، ورحل إلى البصرة، وأصبهان، وخراسان، والحجاز، والشام، والكوفة، والدينور، وغير ذلك من الأمصار، وشيوخه أكثر من أن يذكروا، منهم القاضي أبو الطيب الطبري، وأبو الحسن المحاملي، وأبو عمر بن مهدي، وابن الصلت الأهوازي.
قال السّمعاني: كان إمام عصره بلا مدافعة، وحافظ وقته بلا منازعة، صنّف قريبا من مائة مصنّف صارت عمدة لأصحاب الحديث.
وقال الأمير ابن ماكولا: كان أحد الأعيان ممّن شاهدناه: معرفة، وحفظا، وإثباتا، وضبطا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفننا في علله وأسانيده، وعلما بصحيحه وغريبه، وفرده ومنكره، قال: ولم يكن للبغداديين بعد الدارقطني مثله.
وقال ابن الأهدل: تصانيفه قريب من مائة مصنف في اللغة، وبرع فيها، ثم غلب عليه الحديث والتأريخ.
وقال أبو علي البرداني: لعلّ الخطيب لم ير مثل نفسه.
قال ابن عساكر: سمعت الحسين بن محمد يحدّث عن أبي الفضل بن خيرون أو غيره، أن الخطيب ذكر أنه لما حجّ شرب من ماء زمزم ثلاث شربات، وسأل الله ثلاث حاجات، أخذا بالحديث: «ماء زمزم لما شرب له» [2] .
الحاجة الأولى: أن يحدّث بتاريخ بغداد بها [3] .
__________
[1] وهذه النسبة إلى الخطابة على المنابر.
[2] وهو حديث صحيح (ع) .
[3] لفظة «بها» سقطت من «طبقات الحفّاظ» للسيوطي صفحة (325) بتحقيق الأستاذ علي محمد عمر، وانظر «تذكرة الحفّاظ» للذهبي (3/ 1159) .(1/39)
الثانية: أن يملي الحديث بجامع المنصور.
الثالثة: أن يدفن عند بشر الحافي.
فقضى الله له ذلك.
وقال أبو الحسن الهمذاني: مات هذا العلم [1] بوفاة الخطيب، وقد كان رئيس الرؤساء [2] تقدم إلى الوعاظ والخطباء ألّا يرووا حديثا حتى يعرضوه على أبي بكر، وأظهر بعض اليهود كتابا بإسقاط النبيّ صلى الله عليه وسلم الجزية عن الخيابرة، وفيه شهادة الصحابة، فعرضه الوزير على أبي بكر فقال: هذا مزوّر، قيل: من أين قلت هذا؟ قال: فيه شهادة معاوية، وهو أسلم عام الفتح بعد خيبر، وفيه شهادة سعد بن معاذ، ومات قبل خيبر بسنين.
ومات الخطيب في السابع من شهر ذي الحجة سنة ثلاث وستين وأربع مائة.
قلت: وقد قامت شهرته على كتابه «تاريخ بغداد» وهو كتاب عظيم جليل القدر يضمّ سبعة آلاف وثمانمائة وثلاثة وستين ترجمة كما ذكر الأستاذ الدكتور أكرم ضياء العمري في مؤلفه النافع «موارد الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد» ص (87) ، وقد طبع «تاريخ بغداد» في مطبعة السعادة في مصر سنة (1349) هـ، وصدر في أربعة عشرة مجلدا [3] .
__________
[1] أي فن الحديث النبوي.
[2] في «طبقات الحفّاظ» للسيوطي: «رئيس الخطباء» .
[3] قال الأستاذ الدكتور أكرم ضياء العمري في كتابه «موارد الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد» حاشية الصفحة (87) ما ملخصه: في طبعة «تاريخ بغداد» المشار إليها سقط كثير، وأخطاء متعددة، منها ما يتعلق بتصحيف الأسماء وقلبها، واختلاط إسناد رواية بإسناد رواية أخرى، مع سقط الرواية الأولى، أو سقوط اسم وسط السند، وغير ذلك.
قلت: وأنا أسأل الله تعالى أن يلهم الأستاذ الدكتور أكرم العمري أن يتصدى لمهمة تحقيق هذا الكتاب العظيم سيّما وقد درسه وسبر غوره ووقف على ما فيه من الأغلاط لدى إعداده لكتابه المشار إليه، إنه تعالى خير مسؤول.(1/40)
18- السّمعاني
هو عبد الكريم بن محمد بن منصور بن محمد بن عبد الجبار بن الفضل بن الربيع بن مسلم بن عبد الله السّمعاني، أبو سعد، تاج الإسلام، الإمام المؤرّخ الكبير، صاحب كتاب «الأنساب» وصاحب التصانيف الكثيرة، والفوائد الغزيرة، والرحلة الواسعة.
ولد بمرو يوم الإثنين الحادي والعشرين من شعبان سنة ست وخمسمئة.
رحل في طلب العلم إلى عدد كبير من الأمصار، منها بلاد خراسان، وأصبهان، وما وراء النهر، والعراق، والحجاز، والشام، وطبرستان، وزار بيت المقدس وهو بأيدي النصارى، وحجّ مرتين.
وعمل معجم شيوخه في عشر مجلدات كبار.
قال ابن النجار: سمعت من يذكر أن عدد شيوخه سبعة آلاف شيخ، وهذا شيء لم يبلغه أحد ... وسرد تصانيفه [1] .
وذكر المعلمي بعض شيوخه، منهم:
أبو بكر عبد الغفار بن محمد بن الحسين الشيروي النيسابوري المتوفى سنة (510) هـ.
وأبو العلاء عبيد بن محمد بن عبيد القشيري التاجر النيسابوري المتوفى سنة (512) هـ.
وأبو القاسم سهل بن إبراهيم السبعي المسجدي النيسابوري المتوفى سنة (522) هـ.
وأبو عبد الله محمد بن الفضل الفراوي المتوفى سنة (530) هـ.
__________
[1] وانظر أسماء مصنفاته في مقدمة العلّامة المحقّق الشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني لكتاب «الأنساب» (1/ 23- 27) .(1/41)
وأبو القاسم تميم بن أبي سعيد الجرجاني مسند هراة المتوفى سنة (531) هـ.
وأبو الفرج بن أبي الرجاء الأصبهاني المتوفى سن (532) هـ.
وأبو المظفر عبد المنعم بن عبد الكريم القشيري النيسابوري المتوفى سنة (532) هـ.
وأبو نصر أحمد بن محمد بن عمر الغازي الأصبهاني المتوفى سنة (532) هـ.
وأبو الحسن محمد بن عبد الملك بن محمد بن عمر الكرجي الفقيه المتوفى سنة (532) هـ.
ثم عاد إلى مرو وألقى عصا الترحال بعد ما شقّ الأرض شقّا، وأقبل على التصنيف، والإملاء، والوعظ، والتدريس، ونشر العلم.
توفي في شهر ربيع الأول من سنة اثنتين وستين وخمسمئة.
وقد أثنى عليه عدد كبير من أهل العلم والفضل.
قال صديقه وزميله الحافظ ابن عساكر الدمشقي: كان متصونا، عفيفا، حسن الأخلاق ... وهو الآن شيخ خراسان غير مدافع عن صدق ومعرفة وكثرة سماع لأجزاء وكتب مصنفة.
وقال ابن النجار: كان مليح التصانيف، كثير النشوار والأناشيد، لطيف المزاح، ظريفا، حافظا، واسع الرحلة، ثقة، صدوقا، ديّنا، سمع منه مشايخه وأقرانه.
وقال الذهبي: كان ذكيا، فهما، سريع الكتابة، مليحها، درّس وأفتى، ووعظ وأملى، وكتب عمّن دبّ ودرج. وكان ثقة، حافظا، حجة، واسع الرحلة، عدلا، ديّنا، جميل السيرة، حسن الصحبة، كثير المحفوظ.
قلت: وقد قامت شهرة السمعاني على كتابه «الأنساب» الذي هو بحق(1/42)
الكتاب الوحيد الجامع في هذا الفن، وقد نشر هذا الكتاب في العصر الحاضر على أيدي عدد من العلماء والأساتذة، فقد قام الشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني بتحقيق الأجزاء الستة الأولى منه، ونشرت في الهند، ثم قام الأستاذ محمد عوامة بتحقيق الجزء السابع، وقد أشرف على القسم الأول منه- وهو الذي يضم تراجم حرف السين بكاملها- والدي الشيخ عبد القادر الأرناؤوط، ثم صدر الجزء الثامن بتحقيق الأستاذ محمد عوامة أيضا، والجزء التاسع بتحقيق الأستاذين محمد عوامة، ورياض عبد الحميد مراد، والجزء العاشر بتحقيق الدكتور عبد الفتاح الحلو، والجزء الحادي عشر بتحقيق الأستاذين رياض عبد الحميد مراد، ومحمد مطيع الحافظ، والجزء الثاني عشر- وهو الأخير- بتحقيق صديقنا الفاضل الأستاذ أكرم البوشي، وقد صدرت الأجزاء الستة الأخيرة منه عن منشورات أمين دمج في بيروت خلال السنوات العشر الأخيرة [1] .
19- ابن عساكر الدمشقي
هو علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله، الملقب بثقة الدين، والمعروف بابن عساكر، الإمام الحافظ المؤرّخ الكبير، صاحب «تاريخ مدينة دمشق» وغير ذلك من المصنفات الكثيرة.
ولد في دمشق سنة (499) هـ، ومن هنا عرف بالدمشقي نسبة إلى هذه المدينة العظيمة التي يجمع المؤرخون على أنها من أقدم مدن العالم، إن لم تكن أقدمها على الإطلاق.
وبيت ابن عساكر من البيوت الدمشقية المشهورة بالعلم والفضل، وقد اشتهر أبناؤه بالتقوى والتصدّي لنفع الناس في دينهم.
وقد أخذ ابن عساكر شيئا من العلم عن أهله، وانتفع بصحبة جده أبي
__________
[1] وقد توسعت في الكلام عن هذا الكتاب العظيم في كتابي «عناقيد ثقافية» ص (85- 91) طبع دار المأمون للتراث بدمشق فليرجع إليه من شاء.(1/43)
الفضل في النحو، كما تفقّه في حداثة سنّه على الفقيه العالم أبي الحسن السّلمي.
ثم رحل، وطوّف، وجاب البلاد، ولقي المشايخ، وكان رفيق الحافظ أبي سعد عبد الكريم السّمعاني في الرحلة.
سمع في بغداد سنة عشرين وخمسمئة من أصحاب البرمكي، والتنوخي، والجوهري. ثم رجع إلى دمشق.
ثم رحل إلى خراسان، ودخل نيسابور، وهراة، وأصبهان، والجبال.
وأخذ عن شيوخ مكّة، والمدينة، ومنى، والكوفة، وسرخس، والجزيرة، وغير ذلك من البلاد.
وذكر بعض المؤرخين بأن عدّة الشيوخ الذين سمع منهم ألف وثلاثمائة شيخ، وثمانون امرأة.
ولم يخرج ابن عساكر عن إطار الحديث، والفقه، والتاريخ، والأخبار، والأدب، وهي الموضوعات التي خاض عبابها، وما كان اعتماده على النقل فقط، بل كان يستعمل العقل أيضا، يدلّ على ذلك مذهبه في المصنفات التي خلّفها، فهو معنيّ بحل المشاكل، يناقش ويجادل بعيدا عن التعصب لمذهبه الشافعي، وكان إلى الاجتهاد أقرب منه إلى التقليد والجمود والوقوف عند أقوال من كان قبله، ولا غرو فالتاريخ يوسّع العقل، ويورث صاحبه نورا لا يستضيء بمثله عقل من لم يرزق حظا من النظر فيه.
توفي في الحادي عشر من شهر رجب سنة إحدى وسبعين وخمسمئة، وله من العمر ثنتان وسبعون سنة، وحضر السلطان صلاح الدين جنازته، وصلى عليه الشيخ قطب الدين النيسابوري، ودفن في مقابر الباب الصغير.
قال السّمعاني: كان كثير العلم غزير الفضل، حافظا، متقنا، ديّنا، خيّرا، حسن السمت، جمع بين المتون والأسانيد، متثبتا، محتاطا.
وقال ابن خلكان: كان محدّث الشام في وقته، ومن أعيان فقهاء(1/44)
الشافعية، غلب عليه الحديث فاشتهر به، وبالغ في طلبه إلى أن جمع منه ما لم يتفق لغيره.
وقال ابن كثير: أحد أكابر حفّاظ الحديث، وممّن عني به سماعا، وجمعا، وتصنيفا، واطّلاعا، وحفظا لأسانيده ومتونه، وإتقانا لأساليبه وفنونه، صنّف «تاريخ الشام» في ثمانين مجلدة، فهي باقية بعده مخلّدة، وقد ندر من تقدمه من المؤرخين، وأتعب من يأتي بعده من المتأخرين، فحاز فيه قصب السبق، ومن نظر فيه وتأمله رأى ما وصفه فيه وأصله، وحكم بأنه فريد دهره في التواريخ، وأنه الذروة العليا من الشماريخ.
وقال ابن النجار: هو إمام المحدّثين في وقته، انتهت إليه الرياسة في الحفظ والإتقان، والثقة، والمعرفة التامة، وبه ختم هذا الشأن.
قلت: وقد قامت شهرة ابن عساكر على كتابه العظيم «تاريخ مدينة دمشق» الذي قال فيه العلّامة الأستاذ محمد كرد علي الرئيس الأول لمجمع اللغة العربية بدمشق: يقع في ثمانين مجلدة، لم يترك شيئا عن دمشق إلا وذكره فيه، ولا نعرف مدينة من مدن الدنيا حظيت بمثله، ففي المجلدتين الأولى والثانية تكلّم عن تخطيط دمشق وسورها وأبوابها وخططها، وأنهارها، وتخطيطها، وقد ترجم ابن عساكر في بقية المجلدات لكل من يصحّ أن يترجم له من أهل دمشق، وخلفائها، وأمرائها، وحكامها، وقضاتها، وعلمائها، وأدبائها، منذ الفتح الإسلامي وإلى زمانه.
قلت: يقوم مجمع اللغة العربية العامر بدمشق منذ أكثر من ثلاثين عاما بطبع هذا الكتاب العظيم، وقد صدرت منه عشر مجلدات بتحقيق عدد كبير من العلماء والباحثين منذ ذلك الوقت وحتى الآن.
وقد اختصر الإمام ابن منظور هذا الكتاب العظيم، و «مختصره» يطبع الآن بتحقيق عدد من الأساتذة الأفاضل، وقد صدرت منه حتى الآن ثمانية أجزاء، ويتوالى صدور الأجزاء الأخرى تباعا خلال هذا العام والذي يليه، وهو من منشورات دار الفكر بدمشق.(1/45)
وقام بتهذيبه العلّامة المحدّث المؤرخ الشيخ عبد القادر بدران الدوماني الدمشقي المتوفى سنة (1346) هـ، وقد نشرت المكتبة العربية بدمشق سبعة أجزاء منه، خمسة منها نشرت في حياته، واثنان نشرا بعد وفاته بعناية الأستاذ أحمد عبيد.
20- السّهيلي
هو عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد الخثعمي الأندلسي المالقي السّهيلي، أبو القاسم، وأبو زيد، الإمام الحافظ النحوي المؤرّخ، صاحب «الروض الأنف» ، و «التعريف والإعلام بما أبهم في القرآن من الأسماء والأعلام» ، وغير ذلك من المصنفات المفيدة.
ولد بوادي سهيل من إقليم مالقه بالأندلس سنة (508) هـ، وسمع من ابن العربي، وطائفة، وأخذ النحو والأدب عن ابن الطّراوة، والقراءات عن أبي داود الصغير سليمان بن يحيى.
وعمي وعمره سبعة عشرة سنة.
ولما نبغ، اتصل خبره بصاحب مراكش فطلبه إليها وأكرمه، فأقام يصنف كتبه إلى أن توفي بها سنة إحدى وثمانين وخمسمائة.
وكان إماما في لسان العرب، واسع المعرفة، غزير العلم، نحويا متقدما لغويا، عالما بالتفسير، وصناعة الحديث، عارفا بالرّجال وبالتاريخ، ذكيا نبيها، صاحب استنباطات.
وهو صاحب الأبيات:
يا من يرى ما في الضّمير ويسمع ... أنت المعدّ لكلّ ما يتوقّع
يا من يرجّى للشّدائد كلّها ... يا من إليه المشتكى والمفزع
يا من خزائن رزقه في قول كن ... أمنن فإنّ الخير عندك أجمع(1/46)
ما لي سوى فقري إليك وسيلة ... وبالافتقار إليك فقري أدفع
ما لي سوى قرعي لبابك حيلة ... فلئن رددت فأيّ باب أقرع
من ذا الّذي أدعو وأهتف باسمه ... إن كان فضلك عن فقيرك يمنع
حاشا لجودك أن تقنّط عاصيا ... الفضل أجزل والمواهب أوسع
ثمّ الصّلاة على النّبيّ وآله ... خير الأنام ومن به يتشفّع
قلت: وقد قامت شهرة السّهيلي على كتابه الفذ «الروض الأنف» الذي شرح فيه «السيرة النبوية» التي صنفها ابن إسحاق، وهذبها ابن هشام، وقد طبع كتابه المذكور عدة مرات، أفضلها الطبعة التي حقّقها الأستاذ عبد الرحمن الوكيل، المنشورة في مصر.
وأما كتابه الآخر «التنبيه والإعلام» فإني أقوم بتحقيقه بالاشتراك مع والدي وأستاذي الشيخ عبد القادر الأرناؤوط، وسيصدر عن دار ابن كثير قريبا إن شاء الله تعالى.
21- ابن الجوزي
هو عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، أبو الفرج الإمام الحافظ المؤرخ الواعظ الكبير، صاحب «المنتظم في تاريخ الأمم» ، و «زاد المسير في علم التفسير» ، و «أخبار الأذكياء» ، وغير ذلك من المصنفات المختلفة ذات النفع العظيم.
ولد في بغداد سنة (511) هـ، وشرع في طلب العلم وهو صغير، فأخذ العلم عن جمهرة من أفاضل العلماء في عصره، منهم: أبو بكر الدّينوري، والقاضي أبو يعلى، والقاضي أبو بكر الأنصاري، وأبو القاسم الحريري، وأبو السعادات المتوكلي، وأبو عبد الله البارع، وأبو الحسن علي بن أحمد الموحد،(1/47)
وأبو غالب الماوردي، وأبو القاسم السّمرقندي، وأبو القاسم علي الهروي، وأبو منصور القزّاز، وعلي بن عبد الله الزّاغوني، ومحمد بن ناصر السّلامي، وابن الباقلّاني، وسواهم.
وحلّق في مختلف فروع العلم، وبلغ في صناعة الوعظ شهرة عمّت الآفاق، والقصص التي تروى عن براعته في هذا الفن تدخل تحت باب الإعجاز، فمجلسه في الوعظ كان يحضره الخلفاء، والوزراء، والأعيان، والعلماء، وأقل ما كان يحضر مجلسه عشرة آلاف، وربما حضره مائة ألف، وقد شهد مجلسه الرحالة الشهير ابن جبير، وأطنب في الكلام عنه في «رحلته» .
وكان رحمه الله من أحسن الناس كلاما وأتمّهم نظاما، وأعذبهم لسانا، وأجودهم بيانا، وكان مكثرا من التصنيف في شتى فروع العلم، فقد تجاوزت مؤلفاته أربعمائة مؤلف، بعضها يقع في عدة مجلدات، والآخر في مجلد أو رسالة.
توفي سنة سبع وتسعين وخمسمائة، فاجتمعت جموع غفيرة جدا من أهل بغداد في تشييعه، وغلقت الأسواق، وحملت جنازته على رؤوس الناس إلى مقبرة باب حرب، فدفن فيها إلى جوار قبر الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله.
قلت: وقد قامت شهرة ابن الجوزي على جملة من مؤلفاته، ومن أهمها كتبه الثلاثة المنوّه عنها في صدر الترجمة، وقد طبع القسم الموجود منه في الهند، وهو من الكتب التي تحتاج إلى الطبع طبعات محققة متقنة نظرا لما فيه من الفوائد النفيسة.
والثاني منها وهو «زاد المسير في علم التفسير» قام بتحقيقه والدي الأستاذ الشيخ عبد القادر الأرناؤوط بالاشتراك مع زميله الأستاذ الشيخ شعيب الأرناؤوط، وصدر عن المكتب الإسلامي بدمشق في تسع مجلدات، وهي الطبعة الوحيدة منه، وقد صدرت بين عامي (1384- 1388) هـ[1] .
__________
[1] وقد تكلمت عن هذا الكتاب النفيس في كتابي «عناقيد ثقافية» ص (101- 105) طبع دار المأمون للتراث بدمشق، فليرجع إليه من شاء.(1/48)
وأما الثالث منها فقد طبع طبعات كثيرة متعددة في مصر والشام ولبنان، وخير طبعة صدرت منه هي التي قام بتحقيقها الدكتور محمد مرسي الخولي رحمه الله، وقد صدرت في مصر عام 1390 هـ.
22- المقدسي
هو عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور بن رافع بن حسن بن جعفر الجمّاعيلي [1] المقدسي ثم الدمشقي، أبو محمد، الإمام المحدّث، المحقّق، المؤرّخ، حافظ عصره، صاحب «الكمال في أسماء الرجال» ، و «عمدة الأحكام» [2] ، و «النصيحة في الأدعية الصحيحة» [3] ، وغير ذلك من المصنفات النافعة.
ولد بجمّاعيل سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وقدم مع أسرته من بيت المقدس إلى الشام، فسكنوا في مسجد أبي صالح خارج الباب الشرقي لمدينة دمشق أول الأمر، ثم انتقلوا إلى سفح جبل قاسيون، فبنوا دارا كبيرة احتوت على عدد كبير من الحجرات دعيت فيما بعد بدار الحنابلة، ثم شرعوا في بناء أول مدرسة في جبل قاسيون، وهي المعروفة ب «المدرسة العمرية» [4] ، وقد عرفت تلك الضاحية التي سكنوها بالصالحيّة فيما بعد نسبة إليهم، لأنهم كانوا من أهل العلم والصلاح.
وقد تتلمذ الحافظ عبد الغني في صغره على عميد أسرته العلّامة الفاضل
__________
[1] نسبة إلى جمّاعيل، وهي قرية في جبل نابلس من أرض فلسطين. انظر «معجم البلدان» لياقوت (1/ 159) .
[2] الذي أكرمني الله عزّ وجلّ بدراسته وتحقيقه، وقام والدي حفظه الله بمراجعته وتقديمه، وقد صدر عن دار المأمون للتراث بدمشق.
[3] الذي أكرمني الله عزّ وجلّ بتحقيقه وتخريج أحاديثه والتعليق عليه بإشراف والدي حفظه الله، وقد صدر في طبعتين عن دار مؤسسة الرسالة في بيروت.
[4] هذه المدرسة كانت من خيرة مدارس المسلمين، خرّجت عددا كبيرا من مشاهير العلماء، وكانت فيها مكتبة عظيمة عزّ نظيرها. انظر «القلائد الجوهرية في تاريخ الصالحية» لابن طولون (1/ 248) بتحقيق الشيخ محمد أحمد دهمان، طبع مجمع اللغة العربية بدمشق.(1/49)
الشيخ أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، ثم تتلمذ على شيوخ دمشق وعلمائها، فأخذ عنهم الفقه وغيره من العلوم، ثم قصد بغداد سنة (560) هـ ونزل عند الإمام الشيخ عبد القادر الجيلاني، فقرأ عليه شيئا من الفقه والحديث، وأقام عنده نحو أربعين يوما، بعدها مات الشيخ الجيلاني، فأخذ عن الشيخ أبي الفتح بن المني الفقه والخلاف، ثم رحل إلى أصبهان فمكث فيها وقتا طويلا يدرس ويدرّس إلى أن عاد إلى بغداد مرة ثانية سنة (578) هـ، فحدّث بها، وانتقل من ثمّ إلى دمشق، فأخذ يقرأ الحديث في رواق الحنابلة من مسجد دمشق الأموي، فاجتمع الناس عليه، وكان رقيق القلب سريع الدمعة، فحصل له قبول من الناس عظيم. ثم ضيّق عليه البعض، فرحل إلى بعلبك، ومنها إلى مصر، فنزل عند الطحانين، وصار يقرأ الحديث، فنفق بها سوقه، وصار له حشد وأصحاب، فثار عليه الفقهاء بمصر أيضا، وكتبوا إلى الوزير صفي الدين بن شكر فأقرّ نفيه إلى المغرب، غير أن الحافظ عبد الغني مات قبل وصول كتاب النفي إليه، وذلك سنة ست مائة من هجرة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد وصفه جمع من مشاهير العلماء بأوصاف كثيرة تنبئ عن تمكنه من علم الحديث، وتحليقه في إطار علم الرّجال، وصفاء سريرته، وقوة اعتقاده، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وغضبه لانتهاك حدود الله عزّ وجلّ.
قال ضياء الدين المقدسي: كان لا يسأل عن حديث إلا ذكره وبيّنه، وذكر صحته أو سقمه، وكان يقال: هو أمير المؤمنين في الحديث، جاء إليه رجل فقال: رجل حلف بالطلاق أنك تحفظ مائة ألف حديث، فقال: لو قال أكثر من هذا العدد لصدق.
وقال تاج الدّين الكندي: لم ير الحافظ عبد الغني مثل نفسه، ولم يكن بعد الدارقطني مثله.
وقال ابن النجار: حدّث بالكثير، وصنّف في الحديث تصانيف حسنة، وكان غزير الحفظ من أهل الإتقان والتجويد، قيّما بجميع فنون الحديث.(1/50)
وقال موفق الدين بن قدامة المقدسي: كان رفيقي، وما كنا نستبق إلى خير إلا سبقني إليه إلا القليل، وكمل الله فضيلته بابتلائه بأذى أهل البدع وقيامهم عليه، وقد رزق العلم وتحصيل الكتب الكثيرة، إلّا أنه لم يعمّر حتى يبلغ غرضه في روايتها ونشرها.
قلت: وقد قامت شهرة الحافظ عبد الغني المقدسي على عدد من كتبه وأهمها «الكمال في أسماء الرجال» الذي ترجم فيه لرجال الكتب الستة المشهورة في علم الحديث، التي عليها المعوّل عند المحدّثين المتقدمين والمحدثين، وهو من الكتب الرائدة في هذا الباب، وقد استفاد العلماء المسلمون من هذا الكتاب العظيم لسنوات طويلة امتدت لقرابة قرن ونصف، إلى أن قام الإمام الحافظ جمال الدين أبو الحجاج يوسف المزّي المتوفى سنة (742) هـ بتهذيب هذا الكتاب، وسمّى كتابه «تهذيب الكمال في أسماء الرّجال» الأمر الذي جعل العلماء فيما بعد يميلون إلى اعتماد «تهذيب» المزي لما تضمنه من الزيادة والترتيب والضبط عن «الكمال» نتيجة لتقدم العلم وأساليب البحث والتصنيف عند علماء المسلمين في الفترة الفاصلة بين وفاة الحافظ عبد الغني، وعصر الإمام المزي.
ولكن تجدر الإشارة إلى أن عمل المزي في «تهذيب الكمال» لا يلغي بالضرورة ما للحافظ عبد الغني من فضل في جمع مادة الكتاب أصلا، لأن من المسلّم به أنّ الأفضلية من جهة الدراية في العلوم هي للسابق لا للاحق، وهو الأمر الذي بدت مقدمة محقّق «تهذيب الكمال» الأستاذ الدكتور بشار عواد معروف وكأنها تصرّ على تجاوزه!.
ولا أقول هذا لأقلّل من قيمة «تهذيب بالكمال» الذي صنّفه المزّي، فإني من أسعد الناس بظهوره بهذا الإتقان الذي اتّسمت به المجلدات الخمس الأولى الصادرة منه حتى الآن، ولكن الإنصاف هو الذي دعاني إلى التشديد على فضل الحافظ عبد الغني المقدسي في وجود أصل الكتاب [1] .
__________
[1] وللتوسّع في دراسة حياة الحافظ عبد الغني المقدسي رحمه الله تعالى راجع كتابي «عناقيد(1/51)
23- ابن الأثير
هو علي بن محمد بن محمد [1] بن عبد الكريم بن الواحد الشّيباني الجزري، أبو الحسن، المعروف بابن الأثير، الإمام المؤرّخ الأديب، صاحب «الكامل» ، و «أسد الغابة» ، و «اللباب في تهذيب الأنساب» ، وغير ذلك من المصنفات النافعة.
ولد بجزيرة ابن عمر سنة خمس وخمسين وخمسمائة، ونشأ بها، ثم سار إلى الموصل مع والده وأخويه مجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد بن الأثير صاحب «جامع الأصول» [2] المتوفى سنة (606) هـ، وضياء الدين أبي الفتح نصر الله بن محمد بن الأثير صاحب «المثل السائر» ، المتوفى سنة (637) هـ، وسمع بها من أبي الفضل عبد الله بن أحمد الخطيب الطوسي، ومن طبقته، وقدم بغداد مرارا، وسمع بها من الشيخين أبي القاسم يعيش بن صدقة الفقيه الشافعي، وأبي أحمد عبد الوهاب بن علي الصوفي، وغيرهما، ثم رحل إلى الشام، والقدس، وسمع هناك من جماعة، ثم عاد إلى الموصل ولزم بيته منقطعا إلى العلم والتصنيف، وكان بيته مجمع الفضل لأهل الموصل والواردين عليها.
وكان إماما في حفظ الحديث ومعرفته، وحافظا للتاريخ، وخبيرا بأنساب العرب، وأخبارهم، وأيامهم، ووقائعهم. وقد روى عنه ابن الدبيثي، وخلق.
توفي في الخامس والعشرين من شعبان من سنة ثلاثين وستمائة.
قال ابن خلّكان: كان بيته بالموصل مجمع الفضلاء. اجتمعت به في حلب فوجدته مكمّل الفضائل، والتواضع، وكرم الأخلاق، فترددت إليه.
__________
ثقافية» ص (137- 145) ، ومقدمتي لكتاب «عمدة الأحكام» ص (17- 24) وكلاهما من منشورات دار المأمون للتراث بدمشق.
[1] «ابن محمد» الثانية سقطت من «الأعلام» للزركلي.
[2] الذي قام بتحقيقه والدي حفظه الله وصدر بدمشق في أحد عشر مجلدا.(1/52)
وقال الذهبي: كان صدرا معظّما كثير الفضائل، وبيته مجمع الفضلاء.
وقال ابن العماد: كان إماما، نسّابة، مؤرّخا، أخباريا، أديبا، نبيلا، محتشما.
قلت: وقد قامت شهرته على كتبه الثلاثة المشار إليها في صدر الترجمة، وجميعها، تندرج في إطار علم التأريخ، فكتابه «الكامل» صنّفه مرتبا على السنين، وهو من خيرة التواريخ، ابتدأ فيه من أول الزمان، وانتهى به إلى سنة تسع وعشرين وستمائة، وهو مطبوع ومنتشر، ولكنه يفتقر إلى التحقيق والضبط، والتخريج. وكتابه «أسد الغابة» قال عنه ابن العماد: جمع فيه بين كتاب ابن مندة، وكتاب أبي نعيم، وكتاب ابن عبد البر، وكتاب أبي موسى، وزاد وأفاد، وهو مطبوع في مصر طبعة متقنة في سبعة مجلدات بدار الشعب.
وكتابه «اللباب في تهذيب الأنساب» قال عنه ابن العماد: اختصر [فيه] «الأنساب» لأبي سعد السّمعاني، وهذّبه، وأضاف فيه أشياء وهو في مقدار نصف أصله. وهو مطبوع في ثلاثة مجلدات، ولكنه يحتاج إلى تحقيق متقن.
24- المنذري
هو عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله بن سلامة بن سعد المنذري، أبو محمد، الإمام الحافظ المؤرّخ الكبير، صاحب «التكملة لوفيات النقلة» و «الترغيب والترهيب» ، و «مختصر صحيح مسلم» وغير ذلك من المصنفات النافعة.
ولد في شهر رمضان سنة إحدى وثمانين وخمسمائة في مصر.
سمع من الأرياحي، وأبي الجود، وابن طبرزد، وخلق، وتخرّج بأبي الحسن علي بن الفضل ولزمه مدة. وتفقّه على الإمام أبي القاسم عبد الرحمن بن محمد القرشي الوراق، وسمع من عبد المجيب بن زهير، ومحمد بن سعيد المأموني، والمطهر بن أبي بكر البيهقي، والحافظ الكبير علي بن الفضل المقدسي، وبه تخرّج.(1/53)
ورحل في طلب العلم إلى مكة، وسمع الحديث من أبي عبد الله بن البنّا وطبقته، ثم قصد دمشق وسمع فيها من عمر بن طبرزد، ومحمد بن وهب بن الشريف، والخضر بن كامل، وأبي اليمن الكندي، وخلق، ثم سمع بحرّان، والرّها، والإسكندرية، وغيرها.
مات سنة ست وخمسين وستمائة في الرابع من شهر ذي القعدة.
قال ابن ناصر الدّين: كان حافظا كبيرا، حجة، ثقة، عمدة.
وقال: ابن قاضي شهبة: برع في العربية، والفقه، وسمع الحديث بمكة، ودمشق، وحرّان، والرّها، والإسكندرية، وروى عنه الدمياطي، وابن دقيق العيد، والشريف عز الدين، وأبو الحسين اليونيني، وخلق، وتخرّج به العلماء في فنون من العلم، وبه تخرّج الدمياطي، وابن دقيق العيد، والشريف عزّ الدين وطائفة في علوم الحديث.
وقال الشريف عزّ الدين: كان عديم النظير في معرفة علم الحديث على اختلاف فنونه، عالما بصحيحه، وسقيمه، ومعلوله، وطرقه، متبحرا في معرفة أحكامه ومعانيه ومشكله، قيّما بمعرفة غريبة وإعرابه، واختلاف ألفاظه، ماهرا في معرفة رواته وجرحهم، وتعديلهم، ووفياتهم، ومواليدهم، وأخبارهم، إماما، حجّة، ثبتا، ورعا، متحريا فيما يقوله، متثبتا فيما يرويه.
قلت: وقد قامت شهرة المنذري على كتبه الثلاثة المنوّه عنها في صدر الترجمة. وقد طبع الأول منها في أربع مجلدات كبيرة بتحقيق الأستاذ الدكتور بشّار عوّاد معروف، وصدر في طبعته الثانية المتقنة عن مؤسسة الرسالة، ولهذا الكتاب «صلة» من تصنيف العلّامة أحمد بن محمد الحسيني تلميذ المنذري المتوفى سنة (695) هـ. وطبع الثاني منها في أربع مجلدات في مصر بتحقيق الأستاذ مصطفى محمد عمارة، وهي طبعة جيدة، وقد صدرت عن شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، ويقوم الأستاذ الشيخ محمد ناصر الدين الألباني بفصل الصحيح من أحاديث هذا الكتاب عن الضعيف، وقد صدر جزء من الصحيح من طبعته، وجزء من الضعيف أيضا.(1/54)
وكان العلّامة الشيخ يوسف النبهاني رحمه الله قد أفرد من هذا الكتاب الأحاديث التي وردت في «الصحيحين» فقط في جزء صغير، وقد طبع منذ سنوات طويلة في مصر [1] .
وطبع الثالث منها في مجلد كبير في الكويت بتحقيق الأستاذ الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، وهي طبعة جيدة نافعة، وقد صدرت فيما بعد عن المكتب الإسلامي ببيروت.
25- النّووي
هو يحيى بن شرف بن مري بن حسن بن حسين بن محمد بن جمعة بن حزام النووي الدمشقي، أبو زكريا، الإمام الحافظ المؤرّخ الفقيه، صاحب «روضة الطالبين» ، و «تهذيب الأسماء واللغات» ، و «الأذكار» ، و «الأربعين» ، وغير ذلك من المصنفات المفيدة النافعة.
ولد في نوى من أرض حوران في الجنوب الغربي من سورية، وذلك في العشر الأوسط من شهر الله المحرم سنة إحدى وثلاثين وستمائة، ونشأ نشأة صالحة، وشرع بحفظ القرآن الكريم وهو صغير، ولما بلغ التاسعة عشرة من عمره قدم به والده إلى دمشق لطلب العلم، فسكن المدرسة الرواحية، وأخذ العلم عن جمهرة غفيرة من العلماء الكبار في الشام آنذاك، منهم الرضي بن البرهان، وشيخ الشيوخ عبد العزيز بن محمد الأنصاري، وزين الدين عبد الدائم، وعماد الدين بن عبد الكريم الحرستاني، وزين الدين أبي البقاء خالد بن يوسف المقدسي النابلسي، والشيخ المحقّق إبراهيم بن عيسى المرادي الأندلسي، والقاضي التفليسي، وقرأ على ابن مالك كتابا من تصنيفه، ولازم الاشتغال والتصنيف ونشر العلم والعبادة والذكر، والصبر على العيش الخشن في المأكل، والملبس بما لا مزيد عليه. وتخرّج به جماعة من العلماء، منهم
__________
[1] ويقوم بتحقيقه الآن صديقنا الفاضل الأستاذ مأمون الصاغرجي، وسوف يصدر عن دار ابن كثير بدمشق وبيروت قريبا.(1/55)
الخطيب صدر الدين سليمان الجعفري، وشهاب الدين الأربدي، وشهاب الدين بن جعوان، وغيرهم.
وتولى مشيخة دار الحديث الأشرفية بدمشق حسبة لوجه الله.
وقد أسعف النووي رحمه الله بالتأييد، وساعدته المقادير فقرّبت منه كل بعيد، فكان يجد مع الأهلية ثلاثة أشياء:
أولها: فراغ البال، واتساع الزمان.
وثانيها: جمع الكتب التي يستعان بها على النظر والاطّلاع على كلام العلماء.
وثالثها: حسن النيّة وكثرة الورع والزهد والأعمال الصالحة التي أشرقت أنوارها.
وكان رحمه الله قد اكتال من ذلك بالمكيال الأوفى، فكان ذلك الإنتاج العظيم في عمره القصير الذي لم يتجاوز (45) عاما، ولكنه كان مليئا بالخير والبركة.
وسافر آخر عمره إلى بلدته نوى، وزار بيت المقدس، والخليل، ثم رجع إلى نوى، فمرض عند أبويه، وتوفي ليلة الأربعاء لست بقين من شهر رجب سنة ست وسبعين وستمائة، ودفن ببلده وقبره مشهور بها.
قلت: وقد قامت شهرة النووي على جملة من كتبه القيّمة، منها كتبه الأربعة التي أشرت إليها في صدر الترجمة، وقد طبع الأول منها في المكتب الإسلامي بدمشق بتحقيق والدي الأستاذ الشيخ عبد القادر الأرناؤوط، بالاشتراك مع زميله الأستاذ الشيخ شعيب الأرناؤوط، وصدر في (12) جزءا.
وطبع الثاني في إدارة الطباعة المنيرية في مصر، وصوّرت طبعته من قبل عدد من دور النشر في لبنان، وهو أحد الكتب التي نقل عنها ابن العماد، وهو بأمسّ الحاجة إلى طبعة محققة متقنة وأما الثالث منها فقد طبع عدة مرات من غير تحقيق، ثم طبع في دار(1/56)
الملاح بدمشق بتحقيق والدي الأستاذ الشيخ عبد القادر الأرناؤوط، وهي أفضل وأشهر طبعة ظهرت منه.
وأما الرابع منها وهو «الأربعين» فقد أكرمني الله عزّ وجلّ بشرحه وتخريج أحاديثه، وقام والدي حفظه الله بمراجعته والحكم على أحاديثه، وقد طبع حديثا في دار ابن كثير بدمشق وبيروت.
26- ابن خلّكان
هو أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلّكان البرمكي الإربلي، أبو العباس، الإمام المؤرّخ الأديب الحجّة، صاحب «وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان» وهو من أشهر كتب التراجم ومن أحسنها ضبطا وإحكاما كما يقول الزركلي صاحب «الأعلام» .
ولد في إربل بالقرب من الموصل، وذلك في سنة ثمان وستمائة.
وسمع من ابن مكرم، وأجاز له المؤيد الطوسي وجماعة، وتفقّه بالموصل على كمال الدين بن يونس، وبالشام على ابن شداد، ولقي كبار العلماء، وبرع في الفضائل، والآداب.
ودخل الديار المصرية وسكنها، وناب في القضاء عن القاضي بدر الدين السخاوي مدة طويلة، وأدّى عنده شهادة شيخ المالكية أبو عمر ابن الحاجب، وسأله عن مسألة دخول الشرط على الشرط، ثم قدم الشام على القضاء في ذي الحجة سنة تسع وخمسين منفردا بالأمر، فأضيف إليه مع القضاء نظر الأوقاف، والجامع الأموي، والمارستان، وتدريس سبع مدارس: العادلية، والناصرية، والعذراوية، والفلكية، والركنية، والإقبالية، والبهنسية، وقرئ تقليده يوم عرفة، ويوم جمعة بعد الصلاة بالشباك الكمالي من جامع دمشق، ثم عزل بعز الدين الصائغ في أول سنة تسع وستين، فسافر إلى مصر، فأقام سنين معزولا بمصر، ثم أعيد، وصرف ابن الصائغ في أول سنة سبع وسبعين، ثم عزل في آخر(1/57)
المحرم سنة وثمانين، وأعيد عز الدين الصائغ، وبقي ابن خلّكان معزولا وبيده الأمينية والنجيبية.
مات يوم السبت في السادس عشر من شهر رجب سنة إحدى وثمانين وستمائة ودفن بصالحية دمشق.
وقال تاج الدين الفزاري في «تاريخه» : كان [ابن خلّكان] قد جمع حسن الصورة، وفصاحة النطق، وغزارة الفضل، وثبات الجأش، ونزاهة النفس.
وقال الذهبي: كان إماما فاضلا، بارعا، متقنا، عارفا بالمذهب، حسن الفتاوى، جيد القريحة، بصيرا بالعربية، علّامة في الأدب والشعر وأيام الناس، كريما جوادا، ممدوحا، من سروات الناس ... ومن محاسنه أنه كان لا يجسر أحد أن يذكر أحدا عنده بغيبة.
قلت: وقد قامت شهرة ابن خلّكان على كتابه «وفيات الأعيان» المنوّه عنه في صدر الترجمة، وقد طبع منذ سنوات قليلة في ثمانية مجلدات في بيروت بتحقيق الأستاذ الدكتور إحسان عباس، وهي طبعة جيدة مفهرسة غير أن الضبط فيها قليل لا يتناسب مع قيمة الكتاب العلمية.
27- محبّ الدّين الطّبري
هو أحمد بن عبد الله بن محمد الطبري، أبو العباس، الإمام الحافظ الفقيه، صاحب «الرياض النضرة في مناقب العشرة» ، و «الثمط الثمين في مناقب أمهات المؤمنين» وغير ذلك من المصنفات النافعة.
ولد بمكة في جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وستمائة، وسمع من جماعة، وأفتى، ودرّس وتفقّه، وصنف كتابا كبيرا إلى الغاية في «الأحكام» في ست مجلدات، وتعب عليه مدة، ورحل إلى اليمن وأسمعه للسلطان صاحب اليمن.
وروى عنه الدمياطي، وابن العطار، وابن الخباز، والبرزالي، وجماعة.
وكان شيخ الحرم بمكة.
توفي في جمادى الآخرة من سنة أربع وتسعين وستمائة بمكة المكرمة.(1/58)
قلت: وقد قامت شهرة المترجم على كتابيه المشار إليهما في صدر الترجمة، وقد طبع الأول منهما طبعتين غير متقنتين في مصر، وهو بأمسّ الحاجة إلى طبعه طبعة علمية متقنة، وهو من بين الكتب التي نقل عنها ابن العماد مباشرة في كثير من المواطن في كتابه.
وطبع الثاني منهما أكثر من مرة، منها الطبعة الصادرة عن مكتبة الكليات الأزهرية بمصر، وهو الآخر غير محقّق إلى الآن، وينتظر من يمدّ إليه يد الرعاية العلمية.
28- أبو الفداء
هو إسماعيل بن علي بن محمود بن محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب، الملك المؤيد، صاحب حماة، أحد فضلاء زمانه، وعالم كبير من علمائه في التاريخ والأدب، والجغرافية، وعلم الأصول، صنّف مصنفات مختلفة أشهرها «المختصر في تاريخ البشر» ويعرف ب «تاريخ أبي الفداء» ، و «تقويم البلدان» ، وغير ذلك من المصنفات المفيدة النافعة.
ولد في شهر جمادى الأولى سنة سبعين وستمائة، وكان أميرا بدمشق، وخدم الملك الناصر لمّا كان بالكرك، وبالغ في ذلك، فوعده بحماة ووفى له بذلك، فأعطاه حماة وجعله سلطانا يفعل فيها ما يشاء من إقطاع وغيره، ليس لأحد من الدولة بمصر من نائب ووزير معه حكم، وأركبه في القاهرة بشعار الملك وأبّهة السلطنة.
قال ابن قاضي شهبة: اشتغل أبو الفداء في العلوم وتفنن فيها، وصنّف التصانيف المشهورة ... وكان جوادا ممدحا امتدحه غير واحد.
وقال ابن كثير: كان يحبّ العلماء ويشاركهم في فنون كثيرة، وكان من فضلاء بني أيوب.
وقال ابن شاكر: كان الملك المؤيد فيه مكارم وفضيلة تامة من فقه، وطبّ، وحكمة، وغير ذلك، وأجود ما كان يعرفه علم الهيئة لأنه أتقنه، وإن(1/59)
كان قد شارك في سائر العلوم مشاركة جيدة، وكان محبّا لأهل العلم مقرّبا لهم.
وقال الإسنوي: كان جامعا لأشتات العلوم، أعجوبة من أعاجيب الدّنيا، ماهرا في الفقه، والتفسير، والأصلين، والنحو، وعلم الميقات، والفلسفة، والمنطق، والطب، والعروض، والتاريخ، وغير ذلك من العلوم، شاعرا، ماهرا، كريما إلى الغاية، صنّف في كل علم تصنيفا أو تصانيف.
توفي في المحرم من سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة عن ستين سنة إلا ثلاثة أشهر وأياما.
قلت: وقد قامت شهرة أبي الفداء على كتابيه المتقدم ذكرهما، وقد طبع الأول منهما طبعة تجارية ويقع في مجلدين، وهو بأمسّ الحاجة إلى طبعة علمية متقنة، وذكر الزركلي في «الأعلام» بأنه ترجم إلى الفرنسية، واللاتينية، وقسم منه إلى الإنكليزية، وهو من جملة الكتب التي نقل عنها ابن العماد مباشرة. والثاني منهما مطبوع طبعة تجارية أيضا، ويقع في مجلدين، وترجمه إلى الفرنسية المستشرق رينو كما ذكر الزركلي في «الأعلام» .
29- التّبريزي
هو محمد بن عبد الله الخطيب العمري التبريزي [1] أبو عبد الله، الإمام الحافظ المؤرّخ، صاحب «مشكاة المصابيح» ، و «الإكمال في أسماء الرّجال» ، وغير ذلك من المصنفات النافعة.
لم أقف على ترجمة وافية له فيما بين يدي من المصادر والمراجع، وذكر الزركلي في «الأعلام» أنه مات سنة إحدى وأربعين وسبعمائة.
قلت: وقد قامت شهرة التبريزي على كتابيه المشار إليهما، والأول منهما
__________
[1] قال السمعاني في «الأنساب» (3/ 21) : التبريزي: بكسر التاء المنقوطة باثنتين من فوقها، وسكون الباء الموحدة، وكسر الراء، وبعدها ياء منقوطة باثنتين من تحتها وفي آخرها الزاي، هذه النسبة إلى تبريز، وهي من بلاد أذربيجان، أشهر بلدة بها، والمنتسب إليها جماعة كثيرة.(1/60)
وهو «مشكاة المصابيح» كمل فيه «مصابيح السّنة» للبغوي، وذيّل أبوابه، فذكر الصحابي الذي روى الحديث عنه، وذكر الكتاب الذي أخرجه منه، وزاد على كل باب من صحاحه وحسانه- إلا نادرا- فصلا ثالثا، فصار كتابا كاملا فرغ من جمعه آخر يوم الجمعة من رمضان سنة سبع وثلاثين وسبعمائة، وقد طبع هذا الكتاب في الهند وفي روسيا، ثم طبع في المكتب الإسلامي بدمشق في ثلاثة مجلدات، وقد تولى الكلام على أحاديثه الأستاذ الشيخ محمد ناصر الدّين الألباني، وله عدة شروح أحسنها «مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح» لملا علي القاري رحمه الله.
وطبع الكتاب الثاني على هامش الطبعة الهندية من «المشكاة» ، ثم أفرد في آخر الطبعة المطبوعة من «مشكاة المصابيح» في المكتب الإسلامي بدمشق.
30- الذّهبي
هو محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز التركماني الذهبي، أبو عبد الله، الإمام المؤرّخ، المحدّث، المحقّق، المتقن الكبير، صاحب «تاريخ الإسلام» ، و «سير أعلام النبلاء» ، و «الأمصار ذوات الآثار» [1] ، وغير ذلك من المصنفات النافعة المفيدة.
ولد بدمشق سنة ثلاث وسبعين وستمائة.
وحينما بلغ الثامنة عشرة من عمره توجهت عنايته إلى طلب العلم بصورة جدية نحو حقلين رئيسين هما: القراءات، والحديث النبوي الشريف، فتميز في دراسة القراءات وبرع فيها، وعني بالحديث عناية فائقة، وانطلق فيه حتى طغى على كل تفكيره واستغرق كل حياته بعد ذلك، فسمع ما لا يحصى كثرة من الكتب والأجزاء، ولقي العديد من الشيوخ والشيخات، وأصيب بالشّره في سماعه وقراءته.
__________
[1] الذي أكرمني الله عزّ وجلّ بتحقيقه والتعليق عليه بإشراف والدي حفظه الله، وقد صدر حديثا عن دار ابن كثير.(1/61)
ورحل في طلب العلم داخل البلاد الشامية منذ سنة ثلاث وتسعين وستمائة، فسمع ببعلبك، وحلب، وحمص، وحماة، وطرابلس، والكرك، والمعرّة، وبصرى، ونابلس، والرملة، والقدس، وتبوك.
ورحل إلى البلاد المصرية سنة خمس وتسعين وستمائة فوصلها في رجب، وعاد منها في ذي القعدة.
وتوجه إلى البيت الحرام لأداء فريضة الحج، وذلك سنة ثمان وتسعين وستمائة، وسمع هنالك من مجموعة من الشيوخ.
توفي يوم الإثنين الثالث من ذي القعدة سنة ثمان وأربعين وسبعمائة بدمشق، وأضرّ قبل موته بيسير.
قال تاج الدين السبكي: اشتمل عصرنا على أربعة من الحفّاظ وبينهم عموم وخصوص، المزّي، والبرزالي، والذهبي، والشيخ الوالد [1] لا خامس لهم في عصرهم، فأما أستاذنا أبو عبد الله [2] ، فبصر لا نظير له، وكنز هو الملجأ إذا نزلت المعضلة، إمام الوجود حفظا، وذهب العصر معنى ولفظا، وشيخ الجرح والتعديل، ورجل الرجال في كل سبيل، كأنما جمعت الأمة في صعيد واحد، فنظرها ثم أخذ يخبر عنها إخبار من حضرها، وكان محطّ رحال المعنت، ومنتهى رغبات من تعنّت، تعمل المطي إلى جواره، وتضرب البزل المهارى أكبادها فلا تبرح أو تبيد نحو داره، وهو الذي خرّجنا في هذه الصناعة، وأدخلنا في عداد الجماعة، جزاه الله عنّا أفضل الجزاء، وجعل حظّه من عرصات الجنان موفر الأجزاء، وسعده بدرا طالعا في سماء العلوم، يذعن له الكبير والصغير من الكتب، والعالي والنازل من الأجزاء.
قلت: وقد قامت شهرة الذهبي على كتابيه «تاريخ الإسلام» و «العبر في خبر
__________
[1] يعني تقي الدين السّبكي، شيخ الإسلام في عصره، المتوفى سنة (756) هـ انظر «الأعلام» للزركلي (4/ 302) .
[2] يعني الإمام الذهبي.(1/62)
من عبر» ، والأول منهما عقده لتدوين حوادث الزمان وذكر الأعيان من الرجال، منذ العصر النبوي، وإلى أيامه، وقد نشرت بعض الأجزاء من هذا الكتاب العظيم في مصر، وأفضلها هو الجزء الذي قام بتحقيقه الأستاذ الدكتور بشّار عوّاد معروف [1] .
ويقوم الآن الدكتور عمر عبد السلام التدمري في لبنان بتحقيق عدد من الأجزاء من هذا الكتاب القيّم، ولا أدري عن أيّ من دور النشر ستصدر [2] .
وأما الثاني- وهو العبر- فقد خصصه للكلام عن حوادث الدّهر وتراجم الأعيان ولكن باختصار.
ومن كتب الذهبي المهمة أيضا «سير أعلام النبلاء» ، و «تذكرة الحفاظ» .
31- ابن شاكر الكتبي
هو محمد بن شاكر بن أحمد بن عبد الرحمن بن شاكر بن هارون بن شاكر الكتبي الداراني ثم الدمشقي، العالم المؤرّخ الكبير، صاحب «عيون التواريخ» ، و «فوات الوفيات» .
ولد في داريّا، وسمع من المزّي، وابن الشحنة، وغيرهما من علماء الشام، وتوسعت مداركه وبعد نظره لما اشتغل في صنعة الوراقة والمتاجرة بالكتب، وهي الصنعة التي كانت مزدهرة في عصره.
توفي في رمضان من سنة أربع وستين وسبعمائة.
قال ابن كثير: كان يحفظ ويذاكر ويفيد رحمه الله وسامحه.
قلت: وقد قامت: شهرة ابن شاكر على كتابيه المشار إليهما، والأول منهما مخطوط في عشرة أجزاء طبع منها ثلاثة، قال صاحب «كشف الظنون»
__________
[1] وقد أفدت من مقدمته لهذا الجزء في إعداد هذه الترجمة للإمام الذهبي رحمه الله تعالى.
[2] انظر العدد الثامن عشر من «نشرة أخبار التراث العربي» ص (25) التي يصدرها معهد المخطوطات العربية في الكويت.(1/63)
ما معناه: إن ابن شاكر تتبع في كتابه «عيون التواريخ» كتاب «البداية والنهاية» لابن كثير، لا سيما في الحوادث، وكثيرا ما ينقل عنه صفحة فأكثر بحروفها.
وطبع الثاني منهما وهو «فوات الوفيات» طبعة متقنة في دار صادر ببيروت بتحقيق الأستاذ الدكتور إحسان عبّاس، ويقع في خمسة مجلدات.
32- الصّفدي
هو خليل بن أيبك بن عبد الله الصفدي، أبو الصفا، الإمام المؤرّخ الكبير، صاحب «الوافي بالوفيات» وغير ذلك من المصنفات النافعة.
ولد في صفد بفلسطين سنة ست أو سبع وتسعين وستمائة.
أخذ العلم عن جمهرة من العلماء الأعلام في عصره، كالقاضي بدر الدين بن جماعة، وأبي الفتح بن سيد الناس، وتقي الدين السبكي، والحافظين أبي الحجاج المزّي، وأبي عبد الله الذهبي. وأخذ طرفا من الفقه، وأخذ النحو عن أبي حيّان، والأدب عن ابن نباتة، والشهاب محمود، ولازمه، ومهر في فن الأدب، وكتب الخط المليح، وقال النظم الرائق، وألّف المؤلفات الفائقة، وباشر كتابة الإنشاء بمصر ودمشق، ثم ولي كتابة السر بحلب، ثم وكالة بيت المال بالشام، وتصدى للإفادة بالجامع الأموي، وحدّث بدمشق وحلب وغيرهما.
توفي في شهر شوّال من سنة أربع وستين وسبعمائة.
وقد ذكره شيخه الإمام الذهبي في «المعجم المختصّ» فقال: الإمام العالم الأديب البليغ الأكمل، طلب العلم وشارك في الفضائل، وساد في علم الرسائل، وقرأ الحديث، وكتب المنسوب، وجمع وصنّف، والله يمدّه بتوفيقه، سمع منّي، وسمعت منه، وله تآليف، وكتب، وبلاغة.
قلت: وقد اشتهر الصفدي بكتابه العظيم «الوافي بالوفيات» المنوّه عنه في صدر الترجمة، وقد جمع فيه تراجم الأعيان ونجباء الزمان ممّن وقع عليه(1/64)
اختياره، فلا يغادر أحدا من أعيان الصحابة والتابعين، والملوك والأمراء، والقضاة والعمال، والقرّاء والمحدّثين، والفقهاء والمشايخ، والصلحاء والأولياء والنحاة، والأدباء والشعراء، والأطباء والحكماء، وأصحاب النّحل والبدع والآراء، وأعيان كل فن ممّن اشتهر أو أتقن إلا وذكره.
وقد قامت جمعية المستشرقين الألمان في بيروت بتكليف عدد من الباحثين المختصّين من عرب ومستشرقين بتحقيقه، وقد صدرت منه مجموعة كبيرة من الأجزاء، ولا تزال أجزاء أخرى منه قيد التحقيق، أو تحت الطبع.
33- اليافعي
هو عبد الله بن أسعد بن علي بن سليمان بن فلاح اليافعي اليمني ثم المكّي، أبو محمد، العالم المؤرخ المتصوف، صاحب «مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان» وغير ذلك من المصنفات المختلفة.
ولد في اليمن سنة (698) ، وكان من صغره تاركا لما يشتغل به الأطفال من اللعب، فلما رأى والده آثار الفلاح عليه ظاهرة، بعث به إلى عدن فاشتغل بالعلم، وأخذ عن العلّامة أبي عبد الله البصّال وغيره، وعاد إلى بلاده، وصحب الشيخ علي الطواشي، وهو الذي سلّكه الطريق، ثم لازم العلم وحفظ «الحاوي الصغير» ، و «الجمل» للزجاجي، ثم جاور بمكّة وتزوج بها.
وكان ينظم الشعر الحسن، ومن شعره:
وقائلة ما لي أراك مجانبا ... أمورا وفيها للتّجارة مربح
فقلت لها ما لي بربحك حاجة ... فنحن أناس بالسلّامة نفرح
مات في مكة في جمادى الآخرة من سنة ثمان وستين وسبعمائة، ودفن بمقبرة باب المعلى بجوار الفضيل بن عياض.(1/65)
قال الإسنوي: كان إماما يسترشد بعلومه ويقتدى، وعلما يستضاء بأنواره ويهتدى، صنّف تصانيف كثيرة في أنواع العلوم، إلّا أن معظمها صغير الحجم معقود لمسائل مفردة.
قلت: وقد قامت شهرة اليافعي على كتابه المشار إليه في صدر الترجمة، وهو من الكتب التي نقل عنها ابن العماد مباشرة، وقد طبع في الهند طبعة تجارية صدرت في أربعة مجلدات، ويطبع الآن في مؤسسة الرسالة في بيروت بتحقيق الدكتور عبد الله الجبوري، وقد اطّلعت على المجلد الأول من هذه الطبعة أثناء تصحيح تجارب الطبع الثانية من المجلد الأول من هذا الكتاب فاستفدت منه في بعض المواطن، ولكن لفت نظري التسرّع الذي اتصف به عمل المحقّق الأمر الذي أوقعه في أخطاء كثيرة، ناهيك عن افتقاره إلى الضبط، وتفصيل النصوص وفق مناهج التحقيق الحديثة، وخلوه من تخريج الأحاديث الواردة في الكتاب تخريجا علميا، ولا سيما في القسم الذي تحدّث فيه المؤلف عن سيرة النبيّ صلى الله عليه وسلم.
34- تاج الدّين السّبكي
هو عبد الوهّاب بن علي بن عبد الكافي بن علي بن تمّام بن يوسف بن موسى بن تمام السّبكي الشافعي، أبو نصر، الإمام الباحث المؤرّخ، صاحب «طبقات الشافعية الكبرى» .
ولد في القاهرة سنة سبع وعشرين وسبعمائة، وسمع بمصر من جماعة، ثم قدم مع والده إلى دمشق في جمادى الآخرة سنة تسع وثلاثين وسبعمائة، وسمع بها من جماعة، وقرأ على الحافظ المزّي، ولازم الذهبي وتخرّج به، وطلب بنفسه، ودأب، وأجازه شمس الدين بن النقيب بالإفتاء والتدريس، ولما مات ابن النقيب كان عمره ثماني عشرة سنة، وأفتى ودرس، وصنّف، واشتغل بالقضاء، وولي الخطابة بعد وفاة ابن جملة، ثم عزل، وحصل له فتنة شديدة، وسجن بالقلعة نحو ثمانين يوما، ثم عاد إلى القضاء.(1/66)
وقد درّس بمصر والشام بمدارس العزيزة، والعادلية الكبرى، والغزالية، والعذراوية، والشاميتين، والناصرية، والأمينية، ومشيخة دار الحديث الأشرفية، وغير ذلك من المدارس.
مات شهيدا بالطاعون في شهر ذي الحجة سنة إحدى وسبعين وسبعمائة، ودفن بتربتهم في سفح جبل قاسيون قرب دمشق في ذلك العصر.
وقد ذكره الحافظ الذهبي في «المعجم المختصّ» وأثنى عليه.
وقال ابن كثير: جرى عليه من المحن والشدائد ما لم يجر على قاض قبله، وحصل له من المناصب ما لم يحصل لأحد قبله.
وقال شهاب الدين بن حجّي: حصّل فنونا من العلم، والأصول- وكان ماهرا فيه- والحديث، والأدب، وبرع وشارك في العربية، وكان له يد في النظم والنثر، جيد البديهة، ذا بلاغة وطلاقة لسان، وجراءة جنان، وذكاء مفرط، وذهن وقّاد، صنّف تصانيف عدّة في فنون مختلفة على صغر سنّه وكثرة اشتغاله، قرئت عليه، وانتشرت في حياته وبعد موته.
قلت: وقد اشتهر تاج الدين السبكي بكتابه «طبقات الشافعية الكبرى» المنوّه عنه في صدر الترجمة، وقد استوعب فيه تراجم عدد كبير جدا من علماء المذهب، وقد طبع في مصر بتحقيق الدكتور محمود محمد الطناحي، والدكتور عبد الفتاح الحلو، وهي طبعة متقنة.
35- ابن كثير
هو إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضوّ بن كثير القرشي البصروي الدمشقي، الإمام الحافظ المفسّر المؤرّخ الكبير، صاحب «البداية والنهاية» ، و «التفسير» ، وغير ذلك من المصنفات النافعة الماتعة.
ولد في قرية صغيرة من قرى مدينة بصرى من أرض حوران في بلاد الشام، اسمها «مجدل» وذلك سنة سبعمائة من الهجرة، لما كان أبوه خطيبا بها.(1/67)
ولما بلغ السابعة من عمره توفي والده، فتحولت أسرته إلى دمشق، ونزلت في الدار المجاورة للمدرسة النورية.
وفي دمشق شرع ابن كثير بطلب العلم على عدد من العلماء الأعلام من أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية، والحافظ المزّي، والبرهان الفزاري الشهير بابن الفركاح، وابن قاضي شهبة.
وكان كثير الاستحضار قليل النسيان جيد الفهم، حفظ «التنبيه» وعرضه سنة ثمان عشرة، وحفظ «مختصر ابن الحاجب» .
ثم أقبل على الحديث، فاشتغل بمطالعة متونه ورجاله، فسمع «الموطأ» للإمام مالك، و «الجامع الصحيح» للإمام البخاري، و «الجامع الصحيح» للإمام مسلم، و «سنن الدارقطني» ، وشيئا من «السنن الكبرى» للبيهقي، وسمع «مسند الشافعي» ، وغير ذلك من المصنفات الحديثية وهو لا يزال في مقتبل العمر.
توفي في شهر شعبان من سنة أربع وسبعين وسبعمائة، ودفن عند شيخه ابن تيمية في مقبرة الصوفية خارج باب النصر من دمشق.
قلت: وقد قامت شهرة ابن كثير على كتابيه «البداية والنهاية» و «التفسير» المشار إليهما في صدر الترجمة، وقد طبع الأول منهما في مصر أول الأمر طبعة غير محققة وكثيرة التحريف والتصحيف والسّقط، ثم صوّرت هذه الطبعة في بيروت عدة مرات، أو صفّت حروفها من جديد من غير تحقيق يليق بهذا الكتاب العظيم، وقد تصدّت لنشره نشرة علمية متقنة دار ابن كثير بدمشق وبيروت، وقامت بتكليف مجموعة كبيرة من المحققين المتمرّسين بتحقيقه بالاعتماد على ثلاث من نسخه الخطية، وكلفت والدي الأستاذ الشيخ عبد القادر الأرناؤوط بمراجعة الكتاب والحكم على الأحاديث التي أوردها المؤلف من خارج «الصحيحين» من جهة الصحة والحسن والضعف، وسوف تصدر هذه الطبعة في عشرين مجلدا من الحجم الكبير تضم فهارس تفصيلية إن شاء الله.
وطبع الثاني منهما- وهو «التفسير» - في مصر أيضا في أربع مجلدات من غير تحقيق ولا تدقيق، وقد صوّرت هذه الطبعة عدة مرات في بيروت كما هي
.(1/68)
36- لسان الدّين ابن الخطيب
هو محمد بن عبد الله بن سعيد السلماني اللوشي الأصل، الغرناطي الأندلسي، أبو عبد الله، الشهير بلسان الدين ابن الخطيب، الوزير العلّامة المؤرّخ النبيل، صاحب «الإحاطة في تاريخ غرناطة» وغير ذلك من المصنفات المفيدة النافعة.
ولد بمدينة لوشة في الخامس والعشرين من رجب سنة (713) هـ، وتربى في أحضان أسرته التي عرفت بالأصالة علما وجاها، ونشأ في العاصمة «غرناطة» حيث تلقى بها دراسته على أيدي جهابذة العلماء والأدباء في عصره، فقد كانت غرناطة في ذلك العصر أعظم مركز للدراسات العلمية والأدبية في مغرب العالم الإسلامي.
وكان من الطبيعي أن يتأثر لسان الدين بالجو المحيط بوالده الذي كان يشغل وقتئذ منصب الوزارة في بلاط ملوك بني نصر، حيث وزر للسلطان يوسف بن إسماعيل بن الأحمر، فلما توفي والده دعي لسان الدين ليشغل منصب أبيه وهو في ريعان الشباب كأمين سر أولا لأستاذه رئيس ديوان الإنشاء أبي الحسن علي بن الجباب، ثم تقلّد ديوان الإنشاء بعد وفاة شاغله، وأظهر من البراعة والكفاءة في هذه المناصب ما جعله أهلا لثقة السلطان المذكور، فقلّده السلطان منصب أمانة السر في ديوانه ولمّا يستكمل مرحلة الشباب، وأرسله سفيرا إلى عدد من الملوك، ثم استنابه بدار الملك، وسلّمه خاتمه، وائتمنه على بيت المال، وسجوف حرمه، ومعقل امتناعه، فكانت هذه الفترة هي الفترة الذهبية في حياة هذا العالم الكبير.
ولما توفي السلطان يوسف خلفه ابنه السلطان الغني بالله، فأبقى هذا ابن الخطيب وزيرا له، وهكذا احتل ابن الخطيب مكانة مرموقة في بلاط الغني بالله، حيث جمع في عهده فيما بعد بين وزارة القلم، ووزارة السيف، فلقّب ب «ذي الوزارتين» ، ثم ما لبث السلطان الغني بالله أن انقلب على ابن(1/69)
الخطيب إثر بعض التقلبات السياسية التي حصلت في فترة لا حقة، الأمر الذي جعل ابن الخطيب يفرّ من وجهه، ثم ما لبث إلا قليلا حتى وقع في أيدي الغني بالله فاتهمه بالزندقة والإلحاد، فأفتى الفقهاء للسلطان بإعدامه، فخنق ثم أحرق، وذلك في أواخر سنة ست وسبعين وسبعمائة من الهجرة.
قال المقري في كتابه «تعريف ابن الخطيب» : كان رحمه الله مبتلى بداء الأرق، لا ينام من الليل إلّا اليسير جدا، وقد قال في كتابه «الوصول لحفظ الصحة في الفصول» : العجب منّي مع تأليفي لهذا الكتاب الذي لم يؤلّف مثله في الطب، ومع ذلك لا أقدر على داء الأرق الذي بي، ولذا يقال له: ذو العمرين، لأن الناس ينامون وهو ساهر، ومؤلفاته ما كان يؤلفها غالبا إلا بالليل، وقد سمعت بعض الرؤساء بالمغرب يقول: لسان الدين، ذو الوزارتين، وذو العمرين، وذو الميتتين، وذو القبرين. ثم قال المقري: واعلم أن لسان الدّين لما كانت الأيام له مسالمة لم يقدر أحد أن يواجهه بما يدنّس معاليه، أو يطمس معالمه، فلما قلبت الأيام له ظهر مجنّها وعاملته بمنعها بعد منحها، ومنها أكثر أعداؤه في شأنه الكلام، ونسبوه إلى الزندقة والانحلال من ربقة الإسلام، بتنقص النبيّ عليه أفضل الصلاة والسلام، والقول بالحلول والاتحاد، والانخراط في سلك أهل الإلحاد، وسلوك مذاهب الفلاسفة في الاعتقاد، وغير ذلك مما أثاره الحقد والعداوة والانتقاد من مقالات نسبوها إليه خارجة عن السنن السويّ، وكلمات كدروا بها منهل علمه الرويّ، لا يدين بها ويفوه إلا الضالّ والغويّ، والظن أن مقامه رحمه الله تعالى من لبسها بريّ، وجنابه سامحه الله عن لبسها عريّ، وكان الذي تولى كبر محنته وقتله تلميذه ابن زمرك.
قلت: وقد اشتهر ابن الخطيب عقب موته بكتابه العظيم «الإحاطة في أخبار غرناطة» وقد بقي هذا الكتاب مخطوطا إلى أن امتدّت إليه يد العالم المؤرّخ الأستاذ محمد عبد الله عنان، فأزاحت الغبار عنه، وأخرجته إلى عالم المطبوعات محقّقا تحقيقا جيدا، وقد صدر في مصر عام 1376 هـ، فقدّم بذلك خدمة عظيمة للمكتبة العربية في العصر الحديث
.(1/70)
37- ابن خلدون
هو عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن خلدون الحضرمي الإشبيلي، أبو زيد، فيلسوف التاريخ الإسلامي، والعالم المحقّق الكبير، وأحد نوادر الدهر علما وثقافة وتحصيلا وذكاء، صاحب «التاريخ» الذي اشتهرت منه «المقدمة» شهرة لم تكتب إلا للقلّة من المصنفات الإسلامية في جميع العصور، حتى دعي بصاحب «المقدمة» أو دعيت هي ب «مقدمة ابن خلدون» وكأنه لم يصنّف غيرها.
ولد في تونس وذلك يوم الأربعاء أول شهر رمضان سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة.
وفي تونس نشأ ابن خلدون، وأخذ العلم عن جمهرة من علمائها، فقد سمع من العالم الفاضل شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن جابر، المعروف ب الوادي آشي صاحب «البرنامج» المتوفى سنة (746) هـ.
وقرأ القرآن على عبد الله بن سعد بن نزال إفرادا وجمعا، وأخذ العربية عن أبيه، وأبي عبد الله السايري، وغيرهما، وأخذ الفقه عن قاضي الجماعة ابن عبد السلام، وغيره، وأخذ عن عبد المهيمن الحضرمي، ومحمد بن إبراهيم الإربلي شيخ المعقول بالمغرب، وبرع في العلوم، وتقدم في الفنون، ومهر في الأدب والكتابة، وولي كتابة السر بمدينة فاس لأبي عنان، ولأخيه أبي سالم، ثم تنقل في البلاد متقلدا مناصب مختلفة، ثم رجع إلى تونس فأكرمه سلطانها، ثم حاول نفر من الناس الإساءة إليه عن طريق تأليب السلطان عليه، فعلم بالأمر، فما كان منه إلا أن رحل إلى المشرق، فحطّت به رحاله في القاهرة، فأكرمه سلطان مصر في ذلك العصر السلطان برقوق، وولي قضاء المالكية فيها، ثم عزل، وولي مشيخة المدرسة البيبرسية، ثم عزل عنها أيضا، ثم ولي القضاء مرارا، آخرها في رمضان من سنة ثمان وثمانمائة، فباشره ثمانية أيام، فأدركه أجله، ولم يتزيّ بزيّ القضاة في مصر، محتفظا بزيّ بلاده.
وكان فصيحا، جميل الصورة، عاقلا، صادق اللهجة، عزوفا عن الضيم،(1/71)
طامحا للمراتب العليا، ولما رحل إلى الأندلس اهتزّ له سلطانها، وأركب خاصّته لتلقّيه، وأجلسه في مجلسه.
قال لسان الدين ابن الخطيب عنه في «الإحاطة» : رجل فاضل، جمّ الفضائل، رفيع القدر، أسيل المجد، وقور المجلس، عالي الهمّة، قويّ الجأش، متقدّم في فنون عقلية ونقلية، كثير الحفظ، صحيح التصوّر، بارع الخط، حسن العشرة، فخر من مفاخر العرب.
قلت: وقد قامت شهرة ابن خلدون على تاريخه المعروف ب «العبر وديوان المبتدإ والخبر» ، وهو مطبوع في مصر في سبعة مجلدات بما في ذلك «المقدمة» التي تعدّ- كما يقول الزركلي- من أصول علم الاجتماع، وقد نقلت هي وأجزاء من الكتاب إلى اللغة الفرنسية، وغيرها، واشتهرت شهرة كبيرة بين المتعلمين من المسلمين منذ عصر ابن خلدون وحتى أيامنا، حتى إنه تكاد لا تخلو منها مكتبة أيّ باحث أو مثقف في ربوع أقطار أمتنا العظيمة، وفي مواطن الاستشراق أيضا.
38- ابن ناصر الدّين
هو محمد بن عبد الله بن محمد بن أحمد بن مجاهد بن يوسف بن محمد بن أحمد بن علي القيسي الدمشقي، الشهير بابن ناصر الدين، الإمام الحافظ المؤرّخ الأديب، صاحب «توضيح المشتبه» و «الردّ الوافر» ، و «بواعث الفكرة في حوادث الهجرة» ، وغير ذلك من المصنفات النافعة المفيدة.
ولد بدمشق في أواسط المحرم من سنة سبع وسبعين وسبعمائة، وبها نشأ وحفظ القرآن العزيز، وعدة متون، وسمع الحديث في صغره من الحافظ أبي بكر بن المحب، وسمع من خلق منهم بدر الدّين بن قوّام، ومحمد بن عوض، والعزّ الأبناسي، وابن غشم المرداوي، وغيرهم.
ومهر في الحديث، وكتب وخرّج، وعرف العالي والنازل، وخرّج لنفسه ولغيره، وصار حافظ الشام في عصره بلا منازع.(1/72)
واشتهر اسمه، وبعد صيته، وألّف التآليف الجليلة.
وولي مشيخة دار الحديث الأشرفية سنة (837) هـ.
مات في ليلة الجمعة سادس عشر ربيع الآخر من سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة، ودفن بمقبرة باب الفراديس بدمشق.
قلت: وقد قامت شهرة ابن ناصر الدين على كتابه «توضيح المشتبه» يعني «مشتبه النسبة» للإمام الذهبي، وجرد منه كتابه «الإعلام بما وقع في مشتبه الذهبي من الأوهام» ، ويقوم الأستاذ الفاضل محمد نعيم العرقسوسي الدمشقي بتحقيق «التوضيح» وقد أنجز منه الجزء الأول كما ذكر لي حفظه الله، وسوف يصدر قريبا عن دار مؤسسة الرسالة في بيروت.
وأما كتابه «الردّ الوافر» فقد طبع طبعة تجارية في «مطبعة كردستان العلمية» في مصر، ثم طبع طبعة أخرى أفضل منها في «المكتب الإسلامي» في بيروت، وهو بحاجة إلى التحقيق العلمي المتقن، ولعلّي أقوم بذلك مستقبلا إن شاء الله تعالى.
وأما قصيدته «بواعث الفكرة في حوادث الهجرة» فهي مخطوطة لم تنشر بعد، وتحتفظ مكتبة الحرم المكي بنسخة منها.
39- ابن قاضي شهبة
هو أبو بكر بن أحمد بن محمد بن عمر الأسدي الشهبي الدمشقي، فقيه الشام، ومؤرخها، وعالمها في عصره، صاحب المصنفات الكثيرة الشهيرة، التي أهمّها كتابه «الإعلام بتاريخ الإسلام» ، وقد اشتهر ابن قاضي شهبة بهذا الاسم، لأن أبا جدّه عمر أقام قاضيا بشهبة إحدى قرى حوران أربعين سنة.
ولد سنة (779) هـ، وتفقّه بوالده وغيره، وسمع من أكابر أهل عصره وأفتى ودرس، وجمع وصنّف.
توفي في دمشق فجأة، وهو جالس يصنّف ويكلّم ولده، وذلك يوم الخميس حادي عشر ذي القعدة سنة إحدى وخمسين وثمانمائة.(1/73)
قلت: وقد قامت شهرته في المقام الأول على كتابه المنوّه عنه في صدر الترجمة، و «تاريخ» يشتمل على ذكر الحوادث والوفيات من سنة (741) هـ وما بعدها، وقد نشر مجلد واحد منه في المعهد الفرنسي للدراسات العربية بدمشق معنونا ب «تاريخ ابن قاضي شهبة» وقام بتحقيقه الأستاذ الدكتور عدنان درويش، وقد علمت من محققه الكريم بأنه أنهى تحقيق تتمة الكتاب، وسوف يطبع قريبا.
40- ابن حجر العسقلاني
هو أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي بن أحمد الكناني العسقلاني، أبو الفضل، الإمام الحافظ المؤرّخ الحافظ المؤرّخ الكبير، صاحب «فتح الباري بشرح صحيح البخاري» ، و «الإصابة في تمييز الصحابة» ، و «الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة» ، وغير ذلك من المصنفات النافعة المفيدة القيّمة.
ولد في الثاني عشر من شعبان سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة في مصر، ومات والده وهو حدث السن، فكفله زكي الدين الخروبي، وهو من كبار التجار، وما إن بلغ التاسعة حتى كان قد حفظ القرآن، وسرعان ما أجاد بسائط الفقه والنحو، ودرس مدة طويلة من الزمن على أعظم علماء عصره، من أمثال البلقيني، وابن الملقن، والعراقي، وعزّ الدين بن جماعة، والتنوخي، ومحبّ الدين بن هشام، والفيروزآبادي، والبرهان الأبناسي، ونور الدين الهيثمي والأبشيطي، والخليلي، والأيكي، وابن سالم، والقلقشندي، وبدر الدين ابن مكي، وغيرهم.
وقد رحل إلى عدد من البلاد في سبيل تحصيل العلم والسماع من العلماء المذكورين وسواهم من مشايخه.
وأقبل على الاشتغال والإشغال والتصنيف، وبرع في الفقه والعربية، وصار حافظ الإسلام في عصره، وانتهت إليه معرفة الرجال واستحضارهم، ومعرفة العالي والنازل، وعلل الحديث، وغير ذلك، وصار هو المعوّل عليه في(1/74)
هذا الشأن في سائر الأقطار، وقدوة الأمة، وعلّامة العلماء، وحجّة الأعلام، ومحيي السّنّة، وانتفع به الطلبة، وحضر دروسه وقرأ عليه غالب علماء مصر، ورحل الناس إليه من الأقطار، وولي القضاء، ودرّس في عدد من المدارس الشهيرة في مصر، وصنّف تصانيف كثيرة نافعة في بابها.
مات في أواخر ذي الحجة من سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة [1] .
قلت: وقد قامت شهرة ابن حجر على عدد كبير من كتبه، وأهمها كتبه الثلاثة «فتح الباري بشرح صحيح البخاري» ، و «الإصابة في تمييز الصحابة» ، و «الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة» ، وقد طبع الأول منها طبعة مرقمة جيدة في المكتبة السلفية بمصر بإشراف العلّامة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله، وصدر في أربعة عشر مجلدا بما فيها «المقدمة» ، وهي أفضل طبعة من هذا الكتاب.
وطبع الثاني منها طبعة مضبوطة متقنة مرقمة في مكتبة الكليات الأزهرية بمصر بتحقيق الأستاذ الدكتور طه محمد الزيني، وصدر في ثلاثة عشرة جزءا، وهي أفضل طبعة من هذا الكتاب.
والثالث منها مطبوع في مصر أيضا، وطبعته منتشرة غير أنها تفتقر إلى التحقيق والتصحيح والتدقيق.
41- ابن تغري بردي
هو يوسف بن الأمير سيف الدين تغري بردي [2] بن عبد الله الظاهري الحنفي، أبو المحاسن، الإمام الفقيه المؤرّخ البحّاثة، صاحب «المنهل الصافي
__________
[1] للتوسّع في دراسة حياة الحافظ ابن حجر يمكن الرجوع إلى كتاب «الضوء اللامع» لتلميذه الحافظ السخاوي، و «دائرة المعارف الإسلامية» الطبعة العربية المنشورة في مصر، و «الأعلام» للزركلي، وللحافظ السخاوي كتاب في ترجمته سمّاه «الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر» في مجلد.
[2] قال الزركلي في حاشية كتابه «الأعلام» (8/ 222) : تغري بردي: تترية بمعنى «عطاء الله» أو «الله أعطى» كان يكتبها الأتراك «تكري ويردي» ويلفظون الكاف نونا، والواو أقرب إلى أل V بحركة بين الفتح والكسر.(1/75)
والمستوفي بعد الوافي» ، و «النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة» ، وغير ذلك من المصنفات المفيدة النافعة.
ولد في القاهرة سنة اثنتي عشرة وثمانمائة، ونشأ يتيما في حجر قاضي القضاة جلال الدين البلقيني المتوفى سنة (824) هـ، وتأدب وتفقّه وقرأ الحديث على جمهرة من علماء عصره، وأولع بالتاريخ، فلازم مؤرخي عصره مثل العيني، والمقريزي، واجتهد إلى الغاية، وساعدته جودة ذهنه وحسن تصوّره، وصحة فهمه، ومهر وكتب، وحصّل، وصنّف، وانتهت إليه رئاسة فن التاريخ في عصره.
سمع شيئا كثيرا من كتب الحديث، وأجازه جماعات لا تحصى مثل الحافظ ابن حجر، والمقريزي، والعيني.
وتوفي في ذي الحجة من سنة أربع وسبعين وثمانمائة في القاهرة.
قلت: وقد قامت شهرة ابن تغري بردي على كتابيه المشار إليهما في صدر الترجمة، وقد طبع من الأول المجلد الأول فقط كما ذكر الزركلي في «الأعلام» ، وهو من الكتب الجديرة بالنشر والتحقيق العلمي نظرا لما فيه من الفوائد الكثيرة العديدة.
والثاني منهما مطبوع طبعة جيدة بدار الكتب المصرية بالقاهرة.
42- السّخاوي
هو محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر بن عثمان بن محمد السّخاوي، أبو الخير، الإمام الحافظ المؤرّخ الكبير، صاحب «الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع» ، و «الإعلان بالتوبيخ لمن ذمّ أهل التأريخ» ، و «المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة» ، وغير ذلك من المصنفات المفيدة النافعة.
ولد في القاهرة في شهر ربيع الأول من سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة،(1/76)
وحفظ القرآن الكريم وهو صغير، وجوّده، ثم حفظ «المنهاج» و «ألفية ابن مالك» ، و «ألفية العراقي» ، وغالب «الشاطبية» و «النخبة» لابن حجر، ومقدمة «الشاوي» في العروض، وبرع في العربية، والفقه، والقراءات، والحديث، والتاريخ، وشارك في الفرائض، والحساب، والتفسير، وأصول الفقه، والميقات، وغيرها.
وأما مقروءاته ومسموعاته، فكثيرة جدا لا تكاد تنحصر، وأخذ عن جماعة لا يحصون، يزيدون على أربعمائة شيخ، وأذن له غير واحد بالإفتاء، والتدريس، والإملاء، وسمع الكثير على شيخه الحافظ ابن حجر، وأقبل عليه بكليته إقبالا يزيد على الوصف، حتى حمل عنه علما جمّا، واختصّ به كثيرا بحيث كان أكثر الآخذين عنه، وأعانه على ذلك قرب منزله من منزله، وكان لا يفوته مما يقرأ عليه إلّا النادر، وقرأ عليه «الإصلاح» بتمامه، وسمع عليه جلّ كتبه، كالألفية وشرحها مرارا، وعلوم الحديث إلا اليسير، وأكثر تصانيفه في الرجال وغيرها، وغير ذلك من المصنفات الأخرى.
وقد رحل إلى عدد كبير من الأمصار في سبيل طلب العلم، منها دمشق، وحلب، وبيت المقدس، والخليل، ونابلس، والرملة، وحماة، وبعلبك، وحمص.
مات في المدينة المنورة يوم الأحد الثامن والعشرين من شعبان سنة اثنتين وتسعمائة، وصلي عليه بعد صلاة صبح يوم الإثنين، ودفن بالبقيع بقرب الإمام مالك رحمه الله تعالى.
قلت: وقد قامت شهرة السّخاوي على عدد من الكتب التي صنّفها، وأهمها كتبه الثلاثة المنوّه عنها في صدر الترجمة.
والأول منها مطبوع طبعة تجارية غير محققة.
والثاني مطبوع مرتين الأولى على يد الأستاذ حسام الدين القدسي رحمه الله في مصر، وهي طبعة غير محققة وفيها الكثير من التحريف والتصحيف، والثانية ضمن كتاب المستشرق الدكتور فرانز روزنثال «علم التأريخ عند(1/77)
المسلمين» الذي ترجمه الأستاذ الدكتور صالح العلي ونشر في العراق، وهي نشرة جيدة، غير أن المؤلف روزنثال كان قد أخرج من الكتاب رسالة الذهبي «الأمصار ذوات الآثار» التي ساقها السخاوي في الكتاب، فقام المترجم بإعادة هذه الرسالة من «الإعلان» المنشور على يد القدسي بكل ما فيها من السقط، والتحريف، والتصحيف، والخطأ، وهذا ما تأكد لنا لدى تحقيقنا لكتاب «الأمصار ذوات الآثار» للذهبي الصادر عن دار ابن كثير حديثا.
والكتاب الثالث وهو «المقاصد الحسنة» مطبوع في دار الكتب العلمية ببيروت بعناية الشيخ عبد الله الصّدّيق، وتقديم الشيخ عبد الوهّاب عبد اللطيف، ولكنها طبعة تفتقر إلى التحقيق والضبط والتخريج.
43- ابن طولون
هو محمد بن علي بن أحمد بن حمّارويه بن طولون الدمشقي الصالحي، الإمام المؤرّخ، المحدّث، الفقيه، صاحب «مفاكهة الخلّان في حوادث الزمان» ، و «القلائد الجوهرية في تاريخ الصالحية» ، و «إعلام السائلين عن كتب سيد المرسلين» ، وغير ذلك من الكتب النافعة المفيدة.
ولد في شهر ربيع الأول من سنة ثمانين وثمانمائة في صالحية دمشق، ونشأ فاقد الأم، فقد ماتت والدته شهيدة بالطاعون وهو رضيع.
وقد تعلم ابن طولون الخط بمكتب المدرسة الحاجبية بالقرب من منزله، ثم حفظ القرآن بمكتب مسجد الكوافي المشهور في عصره بمسجد العساكرة.
وسمع وقرأ على جماعة من العلماء منهم: القاضي ناصر الدين أبو البقاء بن رزين، والخطيب سراج الدين الصيرفي، والجمال يوسف بن الهادي المعروف بابن المبرّد، والشيخ أبو الفتح السكندري المزّي، وابن النعيمي في آخرين، وتفقّه بعمّه الجمال بن طولون وغيره، وأخذ عن السيوطي إجازة مكاتبة في جماعة من المصريين وآخرين من أهل الحجاز، وقرأ عددا كبيرا من كتب الفقه، والحديث، وغير ذلك من العلوم.(1/78)
وكانت أوقاته معمورة بالتدريس والإفادة، والتأليف والعبادة، وقد اشتغل في أثناء حياته بعدد كبير من العلوم وصنّف فيها، وكانت له وظائف عديدة أيضا، وكان متفرغا للعلم والعبادة، فلم تكن له زوجة ولا ولد.
مات يوم الأحد الحادي عشر من جمادى الأولى من سنة ثلاث وخمسين وتسعمائة، ودفن بتربة أسرته في صالحية دمشق.
قلت: وقد قامت شهرة ابن طولون على عدد من كتبه أهمها كتبه الثلاثة المشار إليها في صدر هذه الترجمة، وقد طبع الأول منها في مصر بتحقيق الأستاذ محمد مصطفى، وهي طبعة غير متقنة.
والثاني منها طبع في دمشق مرتين بتحقيق الأستاذ المحقّق الشيخ محمد أحمد دهمان، الأولى نشرها بنفسه، والثانية صدرت عن مجمع اللغة العربية منذ ثلاث سنوات.
وأما الثالث وهو «إعلام السائلين» فقد أكرمني الله عزّ وجلّ بتحقيقه، والتقديم له، والتعليق عليه، وقام والدي حفظه الله بقراءته والنظر في تحقيقه قبل دفعه للطبع، وقد صدر عن دار مؤسسة الرسالة في بيروت قبل سنوات [1] .
44- العيدروس
هو عبد القادر بن شيخ بن عبد الله بن شيخ بن عبد الله العيدروس، العلّامة المؤرّخ، صاحب «النور السافر عن أخبار القرن العاشر» الذي ينقل عنه ابن العماد كثيرا في تأريخه لحوادث القرن العاشر في كتابه.
والمترجم من أهل اليمن، سكن حضرموت، وانتقل إلى مدينة أحمد أباد بالهند فسكن فيها إلى أن توفي سنة (1037) هـ كما جاء في حاشية الصفحة (334) من «النور السافر» .
__________
[1] وسوف تصدر طبعته الثانية عن مؤسسة الرسالة قريبا متضمنة زيادات كثيرة أضفتها للكتاب، ومزودة بفهارس علمية.(1/79)
وقال الزركلي في «الأعلام» : وفي «المشرع الروي» (2/ 147) وفاته سنة (1048) هـ، ومثله في «تاريخ شعراء الحضرميين» (1/ 123) ، ومراجع «تاريخ اليمن» ص (172) .
قلت: وقد اشتهر المترجم بكتابه المنوّه عنه في صدر الترجمة، وهو مطبوع طبعة تجارية سقيمة في مصر دون ذكر اسم الدار الناشرة له، وهو بأمسّ الحاجة إلى التحقيق العلمي المتقن. وله مؤلفات أخرى كثيرة متنوعة ذكرها الزركلي في «الأعلام» (4/ 39) .
45- الحلبي
هو علي بن إبراهيم بن أحمد الحلبي القاهري، أبو الفرج، العلّامة المؤرخ الفقيه، صاحب «إنسان العيون في سيرة الأمين والمأمون» المعروف ب «السيرة الحلبية» و «غاية الإحسان فيمن لقيته من أبناء الزمان» وغير ذلك من المصنفات النافعة.
ولد في مصر سنة (975) هـ، وأخذ العلم عن عدد من العلماء فيها، ثم انصرف إلى التدريس والتصنيف.
توفي في آخر يوم من شهر شعبان سنة (1044) هـ بالقاهرة ودفن فيها.
قلت: وقد قامت شهرة المترجم على كتابه «السيرة» وهو من بين الكتب التي نقل ابن العماد عنها مباشرة، وقد طبع قديما في مصر طبعة تجارية تفتقر إلى التحقيق والفهرسة، ثم صورت عدة مرات في بيروت دون أن تضاف إليها أية خدمة تذكر.
قلت: وهؤلاء المؤرخون المتقدّم ذكرهم هم من أبرز العلماء الذين تقدموا ابن العماد في فروع التأريخ الإسلامي الأربعة «السيرة النبوية» و «علم الأنساب» و «تدوين حوادث الدهر» و «سير الرجال» .(1/80)
فإن التأريخ الإسلامي ليس محصورا بما جرى تدوينه من الأحداث في كتب بعض المؤرخين من متقدمين ومحدثين كما يتوهم بعضهم، وإنما يتكون من هذه الفروع الأربعة التي لا يمكن لأحدها أن يغفل إذا أريد للفظة التاريخ أن تكون صحيحة، فليس هناك حدث إلا ووراءه سبب ما، وأحداث التاريخ سببها الرّجال، وأعظم الرّجال في تاريخنا كله بلا شك هو نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي غيّر ببعثته مجرى التاريخ كله، فكانت رسالته الحدّ الفاصل بين عهدين في حياة بني الإنسان على وجه الأرض، عهد سادت فيه القوة الغاشمة، واستعبد فيه القويّ الضعيف، واستغلّ فيه الغنيّ الفقير أبشع استغلال، وعهد عادت فيه الحقوق إلى أهلها، وألغيت فيه عبودية الإنسان للإنسان إلى يوم القيامة، وأصبح فيه الغنيّ والفقير، والقويّ والضعيف، والأبيض والأسود في ميزان الفضل سواء بسواء.
وكذلك الحال، فإن علم الأنساب حفظ لنا الأسماء والألقاب والكنى من الخلط والتحريف والتصحيف والضياع.
وتدوين الحوادث التي مرّت في تاريخنا الإسلامي في بعض الكتب التي اختصّت بذلك- ومنها «شذرات الذهب» - حفظ لنا الصورة الصحيحة التي كان عليها واقع الحال للمسلمين بما فيه من صور مشرقة وأخرى مؤلمة دون أن يضيع منها شيء.
وأما كتب الرّجال فإنها لم تترك لنا صغيرة ولا كبيرة في سير الأعلام المتقدمين إلا وذكرتها، والأهم من ذلك، فقد جعلت هذه الكتب في مقدورنا معرفة الصفات التي كان عليها الرواة للأحداث، والأخبار، والأحاديث، والأمثال، والأشعار، فأصبح بمقدورنا لدى الرجوع إليها معرفة الصادق من الكاذب، والمتقن من المتهاون، والضابط من الواهم، والسليم النيّة من المغرض، فيما يعرض لنا من أسماء أولئك الرواة في كتب التاريخ، والحديث، والأدب.
ولله درّ أولئك الأئمة الأعلام الذين خلّفوا لنا كتب فروع هذا الفن الذي هو من أهم الفنون التي ترتكز عليها حضارتنا العربية الإسلامية.
ومما تجدر الإشارة إليه أن معظم هؤلاء الأعلام الذين تكلمت عليهم فيما(1/81)
سبق هم أهم أصحاب المصادر التي نقل عنها «ابن العماد» مباشرة، أو بالواسطة، ومعظمهم اشتغلوا بالحديث النبوي، وصنّفوا فيه مصنفات مشهورة منتشرة، الأمر الذي يجعلني أجزم بأن خير المؤرخين المسلمين من العرب والعجم هم المؤرخون الذين كانت لهم عناية ودراية بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجاله، فإن هؤلاء تأثروا بمنهج المحدّثين من المسلمين، الذين اشترطوا لقبول رواية الراوي أن يتمتع بصفات محددة، أهمها أن يكون مسلما، مؤمنا، صادقا، عادلا، ضابطا، متقنا، محتاطا، وإلا فإن روايته تكون موضع الشك والريبة، الأمر الذي يفقدها أهم مقوّمات القبول، فتصبح ضعيفة، بل ومردودة أيضا إذا كان صاحبها ممّن اتّهم بالوضع أو الكذب.
وهذا ما يجعلني أجزم أيضا بأن فنيّ التأريخ والحديث عند علماء المسلمين الثقات يتمتعان بمصطلح أقرب ما يكون إلى التطابق والانصهار في بوتقة واحدة، فقد أثبتت التجربة لي أثناء عملي في خدمة هذا الكتاب، وكتاب «الأمصار ذوات الآثار» للذهبي من قبل بإشراف والدي حفظه الله، بأن أهل الدراية بالحديث هم الجديرون حقا بتحقيق كتب التاريخ والرّجال، أو الإشراف على تحقيقها والكلام على ما يرد من النصوص الحديثية فيها على أقل تقدير، لأنهم من أعلم الناس بالأسماء، والأنساب، والكنى، والألقاب، وهي من أهم ما يقع فيه التصحيف، والتحريف، والخطأ، والسّقط في كتب التراث.
لذا يجدر بكل من يودّ تحقيق أو طبع أيّ كتاب من كتب التأريخ أو الرجال أن يرجع إلى أحد علماء الحديث المتقنين الثقات- وما أقلّهم في هذا العصر- ليتزوّد منه بالتوجيهات القيّمة التي تجعل كتابه يصدر على أحسن وجه، وأن يوكل إليه الحكم على الأحاديث التي قد ترد في كتابه من جهة الصحة والضعف إن استطاع، لكي يستكمل الكتاب شروط النشرة العلمية المتقنة، وإلا كان الكتاب عرضة لظهور الكثير من الأخطاء والتحريفات فيه، كتلك التي تظهر في معظم الكتب التي تغلب على طبعاتها الصفة التجارية، الأمر الذي يجعلها بحاجة إلى التحقيق والنشر من جديد
.(1/82)
مصادر ومراجع مختارة [1]
1- أخبار القضاة: لوكيع محمد بن خلف بن حيّان، عالم الكتب، بيروت بدون تاريخ.
2- الأخبار الطوال () : لأبي حنيفة الدينوري، تحقيق الأستاذ عبد المنعم عامر، ومراجعة الدكتور جمال الدين الشيال، مصوّرة مكتبة المثنى، بغداد بدون تاريخ.
3- الأذكار () : للنووي، تحقيق الشيخ عبد القادر الأرناؤوط، دار الملاح، دمشق 1391 هـ.
4- أسد الغابة في معرفة الصحابة () : لابن الأثير، تحقيق الأساتذة: محمد إبراهيم البنّا، ومحمد أحمد عاشور، ومحمود عبد الوهاب فايد، كتاب الشعب، القاهرة 1390 هـ.
5- الأعلام: للعلّامة الأستاذ خير الدين الزركلي- الطبعة الرابعة- دار العلم للملايين، بيروت 1399 هـ.
6- إعلام السائلين عن كتب سيد المرسلين () : لابن طولون الدمشقي، حقّقه وقدّم له وعلّق عليه محمود الأرناؤوط، قرأه ونظر في تحقيقه الشيخ عبد القادر الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت 1403 هـ.
7- الإعلان بالتوبيخ لمن ذمّ أهل التأريخ: للسخاوي، بعناية الأستاذ حسام الدين القدسي، مصوّرة دار الكتاب العربي، بيروت 1399 هـ.
8- الأنساب: للسمعاني، الجزء الأول، تحقيق الشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني. طبع محمد أمين دمج. بيروت 1396 هـ.
__________
[1] الكتب التي عقب أسمائها نجمة بين هلالين هي التي استفدت من مقدماتها فقط.(1/83)
9- تاريخ أبو زرعة () : تحقيق الأستاذ شكر الله بن نعمة الله القوجاني، مجمع اللغة العربية، دمشق 1400 هـ.
10- تاريخ الأمم والملوك () : للطبري، الجزء الأول، تحقيق الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم، مصوّرة دار سويدان، بيروت بدون تاريخ.
11- تاريخ خليفة بن خياط () : تحقيق الدكتور أكرم ضياء العمري، مؤسسة الرسالة ببيروت، ودار القلم بدمشق، 1397 هـ.
12- التاريخ العربي والمؤرخون: للدكتور شاكر مصطفى، دار العلم للملايين، بيروت 1399 هـ.
13- الترغيب والترهيب () : للمنذري، تحقيق الأستاذ مصطفى محمد عمارة، شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، 1388 هـ.
14- التكملة لوفيّات النقلة () : للمنذري، تحقيق الدكتور بشّار عوّاد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت 1401 هـ.
15- جامع الأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم: لابن الأثير، تحقيق والدي الشيخ عبد القادر الأرناؤوط. مكتبة الحلواني، مطبعة الملّاح، مكتبة دار البيان، دمشق 1389 هـ.
16- الجرح والتعديل () : لابن أبي حاتم، بعناية وتقديم الشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني، دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد الدكن في الهند، 1371 هـ.
17- جمهرة أنساب العرب () : لابن حزم، تحقيق الأستاذ عبد السلام محمد هارون، دار المعارف بمصر، 1382 هـ.
18- دائرة المعارف الإسلامية، لجماعة من المستشرقين، الطبعة العربية، الجزء الأول، إعداد وتحرير الأساتذة: إبراهيم زكي خورشيد، وأحمد الشنتناوي، وعبد الحميد يونس، كتاب الشعب، القاهرة 1353 هـ.
19- دول الإسلام: للذهبي، تحقيق الأستاذين فهيم محمد شلتوت، ومحمد مصطفى إبراهيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1394 هـ.
20- سنن ابن ماجة: تحقيق الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت 1373 هـ.
21- سير أعلام النبلاء: للذهبي، تحقيق جماعة من الأفاضل، بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت 1401- 1403.(1/84)
22- السيرة النبوية () : لابن إسحاق، تهذيب ابن هشام، تحقيق الأساتذة: مصطفى السقّا، وإبراهيم الأبياري، وعبد الحفيظ شلبي، مصوّرة مؤسسة علوم القرآن بدمشق وبيروت بدون تاريخ.
23- شذرات الذهب: لابن العماد، بعناية الأستاذ حسام الدين القدسي، مصوّرة دار المسيرة، بيروت 1399 هـ.
24- طبقات الحفّاظ: للسيوطي، تحقيق الأستاذ علي محمد عمر، مكتبة وهبة، القاهرة 1393 هـ.
25- الطبقات الكبرى () : لابن سعد، تقديم الدكتور إحسان عباس، دار صادر ودار بيروت، بيروت 1380 هـ.
26- عناقيد ثقافية: تأليف محمود الأرناؤوط، دار المأمون للتراث بدمشق وبيروت 1405 هـ.
27- لسان العرب: لابن منظور، تحقيق الأساتذة: عبد الله علي الكبير، ومحمد أحمد حسب الله، وهاشم محمد الشاذلي، وسيد رمضان أحمد، دار المعارف بمصر، بدون تاريخ.
28- المسند: للإمام أحمد بن حنبل، المكتب الإسلامي، ودار صادر، بيروت 1389 هـ.
29- المعرفة والتاريخ () : للفسوي، تحقيق الدكتور أكرم ضياء العمري، مؤسسة الرسالة، بيروت 1401 هـ.
30- المغازي () : للواقدي، تحقيق المستشرق الدكتور مارسدن جونس، مصوّرة عالم الكتب ببيروت بدون تاريخ.
31- موارد الخطيب البغدادي: للدكتور أكرم ضياء العمري، دار القلم، دمشق 1395 هـ.
32- النور السافر: للعيدروس، بدون تاريخ ومكان الطبع
.(1/85)
الفصل الثاني لابن العماد
هو الإمام الفقيه الأديب المؤرّخ الأخباري أبو الفلاح عبد الحيّ بن أحمد بن محمد العكري [1] الدمشقي الصالحي الحنبلي، المعروف ب ابن العماد.
ولد في صالحية دمشق، وذلك يوم الأربعاء الثامن من شهر رجب سنة اثنتين وثلاثين وألف، وكان ذلك في أيام العثمانيين حكام الدولة الإسلامية الكبيرة التي عرفها التاريخ آنذاك، التي كانت فرائص أقوى الممالك في أوروبة ترتعد فرقا من سلاطينها لفترة طويلة من الزمن، تلك الدولة التي امتدت رقعتها من المحيط الأطلسي إلى بلاد فارس إلى أواسط أوروبة، والتي انتزعت القسطنطينية من أيدي الروم، وذلك قبل أن تتفق على تحطيمها الدول الاستعمارية الكبرى التي كانت تطمع في ممتلكاتها كما هو معلوم.
نشأ ابن العماد في دمشق، وقرأ القرآن الكريم، وطلب العلم مشمّرا عن ساعد الجدّ والاجتهاد، فأخذ من أعلام الأشياخ، وأجلّهم الشيخ أيوب الخلوتي [2] .
__________
[1] قال العلّامة الشيخ محمد كمال الدين بن محمد الغزّي العامري في «النعت الأكمل» ص (240) : العكري بضم العين.
قلت: وقال العلّامة الأستاذ خير الدين الزركلي في «الأعلام» (3/ 290) ما معناه:
العكري في «تاج العروس» للزبيدي، بفتح الكاف مخفة أو مع التشديد، إلّا أن «بيت العكر» معروفون في دمشق إلى اليوم بفتح العين وسكون الكاف.
وانظر «تاج العروس» «عكر» (13/ 121) طبعة حكومة الكويت.
[2] هو أيوب بن أحمد بن أيوب القرشي الماتريدي الحنفي الخلوتي، شيخ من كبار المتصوفين،(1/86)
وتلقى الفقه قراءة وأخذا عن ابن فقيه فصّة [1] مفتي الحنابلة في الشام في عصره، وعن الشيخ شمس الدين بن بلبان [2] .
ثم رحل إلى القاهرة وأقام بها مدة طويلة للأخذ عن علمائها، فأخذ بها عن الشيخ سلطان المزّاحي [3] والنّور الشّبراملّسي [4] ، وشمس الدّين البابلي [5] ،
__________
أصله من البقاع العزيزي في الشام، ومولده ومنشؤه ووفاته في دمشق، وكان شيخ وقته في الشام، له عدة رسائل، منها «ذخيرة الفتح» و «وصية» أوصى بها ولده محمدا المكنّى بأبي الصفاء، مات سنة (1071 هـ) . انظر «الأعلام» للزركلي (2/ 37) .
[1] هو عبد الباقي بن عبد الباقي بن عبد القادر البعلي الأزهري الدمشقي، ولد في بعلبك ونسبته إلى قرية «فصّة» ، ورحل إلى القاهرة فتعلم في الأزهر، وعاد إلى دمشق فتوفي بها، من تصانيفه «العين والأثر في عقائد أهل الأثر» و «فيض الرزّاق في تهذيب الأخلاق» ، و «رياض أهل الجنة في آثار أهل السنّة» و «شرح صحيح البخاري» لم يكمّله. مات سنة (1071 هـ.
انظر «الأعلام» للزركلي (3/ 272) .
[2] هو محمد بن بدر الدين بن عبد الحق بن بلبان، فقيه حنبلي، أصله من بعلبك، اشتهر وتوفي بدمشق كان يقرئ في المذاهب الأربعة، وأخذ الحديث عنه جماعة من كبراء عصره، منهم المحبي صاحب «خلاصة الأثر» ، له تآليف، منها «الرسالة في أجوبة أسئلة الزيدية» و «كافي المبتدي من الطلاب» ، و «أخصر المختصرات» ، و «عقيدة في التوحيد» ، و «بغية المستفيد في التجويد» ، وغيرها، مات سنة (1083) هـ. انظر «الأعلام» للزركلي (6/ 51) .
[3] هو سلطان بن أحمد بن سلامة بن إسماعيل المزاحي الشافعي، كان شيخ الإقراء بالقاهرة، من مصنفاته «حاشية على شرح المنهج للقاضي زكريا» ، و «القراءات الأربع الزائدة عن العشر» و «أجوبة عن أسئلة وردت إليه في القراآت» . مات سنة (1075) هـ. انظر «الأعلام» للزركلي (3/ 108) .
[4] هو علي بن علي الشبراملسي، أبو الضياء، فقيه شافعي مصري، كفّ بصره في طفولته.
تعلم وعلّم بالأزهر، وصنّف كتبا منها «حاشية على المواهب اللدنية للقسطلاني» و «حاشية على الشمائل» باسم «حواش على متن الشمائل» ، و «حاشية على نهاية المحتاج» ، مات سنة (1087) هـ. انظر «الأعلام» للزركلي (4/ 314) .
[5] هو محمد بن علاء الدين البابلي، أبو عبد الله، فقيه شافعي من علماء مصر، ولد ببابل من قرى مصر، ونشأ وتوفي في القاهرة، وكان كثير الإفادة للطلاب قليل العناية بالتأليف، وكان ينهى عن التأليف إلا في أحد أقسام سبعة: إما في شيء لم يسبق إليه المؤلف يخترعه، أو شيء ناقص يتمّمه، أو شيء مستغلق يشرحه، أو طويل يختصره- على أن لا يخلّ بشيء من معانيه- أو شيء مختلط يرتبه، أو شيء أخطأ فيه مصنفه يبيّنه، أو شيء مغرق يجمعه. له(1/87)
وشهاب الدّين القليوبي [1] الشافعيين، وغيرهم.
ثم رجع إلى دمشق ولزم الإفادة والتدريس، وانتفع به كثير من أبناء عصره، منهم المحبّي [2] صاحب «خلاصة الأثر» ، والشيخ عثمان بن أحمد بن عثمان النجدي الحنبلي، والشيخ مصطفى الحموي [3] ، والشيخ عبد القادر البصري.
قال المحبّى في «خلاصة الأثر» (2/ 340- 341) : وكان مع كثرة امتزاجه بالأدب وأربابه، مائلا بالطبع [4] إلى نظم الشعر، إلّا أنه لم يتفق له نظم شيء فيما علمته منه، ثم أخبرني بعض الإخوان أنه رأى في المنام كأنه ينشد هذين البيتين، قال: وأظن أنهما له، وهما:
كنت في لجّة المعاصي غريقا ... لم تصلني يد تروم خلاصي
أنقذتني يد العناية منها ... بعد ظنّي أن لات حين مناص
وقال: وكنت فى عنفوان عمري تلمذت له وأخذت عنه، وكنت أرى
__________
كتاب «الجهاد وفضائله» ألجئ إلى تأليفه، مات سنة (1077) هـ. انظر «الأعلام» للزركلي (6/ 270) .
[1] هو أحمد بن سلامة القليوبي، أبو العباس، فقيه متأدب من أهل قليوب في مصر، له حواش ورسائل، وكتاب في تراجم جماعة من أهل البيت سمّاه «تحفة الراغب» و «فضائل مكة والمدينة وبيت المقدس وشيء من تاريخها» ، مات سنة (1069) هـ. انظر «الأعلام» للزركلي (6/ 270) .
[2] هو محمد أمين بن فضل الله بن محبّ الله بن محمد المحبي الحموي الأصل الدمشقي، مؤرّخ، باحث، أديب، عني كثيرا بتراجم أهل عصره، فصنّف «خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر» وغير ذلك من المصنفات المختلفة، مات سنة (1111) هـ. انظر «الأعلام» للزركلي (2/ 41) .
[3] هو مصطفى بن فتح الله الشافعي الحموي ثم المكّي، مؤرّخ من أدباء عصره، أصله من حماة، رحل منها إلى دمشق، فقرأ على بعض علمائها، وسافر إلى اليمن فتوسّع في الأخذ عن أهلها، واستقر بمكة، وتوفي بذمار من أرض اليمن، له «فوائد الارتحال ونتائج السفر في أخبار أهل القرن الحادي عشر» ، مات سنة (1123) هـ. انظر «الأعلام» للزركلي (7/ 238) .
[4] في «خلاصة الأثر» المطبوع: «مائل بالطبع» .(1/88)
لقيته فائدة أكتسبها، وجملة فخر لا أتعدّاها، فلزمته حتى قرأت عليه الصرف والحساب، وكان يتحفني بفوائد جليلة ويلقيها عليّ، وحباني الدهر مدة بمجالسته، فلم يزل يتردد إليّ تردّد الآسي إلى المريض، حتى قدّر الله تعالى الرحلة عن وطني إلى ديار الروم، وطالت مدة غيبتي وأنا أشوق إليه من كل شيق، حتى ورد عليّ خبر موته وأنا بها، فتجددت لوعتي أسفا على ماضي عهوده، وحزنا على فقد فضائله وآدابه.
مات في السادس عشر من ذي الحجة سنة تسع وثمانين وألف في مكة المكرمة عقب أدائه لفريضة الحج، رحمه الله تعالى برحمته الواسعة وأسكنه فسيح جنانه، وحشرنا وإياه يوم القيامة تحت لواء سيد المرسلين.
وقد خلّف ابن العماد رحمه الله عددا من المصنفات في علوم مختلفة منها:
1- بغية أولي النهى في شرح المنتهى.
شرح فيه كتاب «منتهى الإرادات في جمع المقنع مع التنقيح وزيادات» للعلّامة تقي الدين أبي البقاء محمد بن أحمد بن عبد العزيز الفتوحي [1] ، الشهير بابن النّجّار، المتوفى سنة (972) هـ[2] .
2- شذرات الذهب في أخبار من ذهب.
وهو كتابنا هذا الذي قامت شهرة ابن العماد عليه، والذي نقوم بتحقيقه للمرة الأولى.
3- شرح بديعية ابن حجّة الحموي الشهيرة التي مطلعها:
__________
[1] قلت: وقد تحرّفت «الفتوحي» في «هدية العارفين» للبغدادي (1/ 508) إلى «التنوخي» وهو خطأ، وتبعه على ذلك الأستاذ عمر رضا كحالة في «معجم المؤلفين» (5/ 107) فيستدرك فيهما.
[2] انظر «البديعيات» لصديقنا الفاضل الأستاذ المحقّق علي أبو زيد ص (94) و (196) .(1/89)
لي في ابتداء مدحكم يا عرب ذي سلم ... براعة تستهلّ الدّمع في العلم
4- معطية الأمان من حنث الأيمان. وهو في الفقه.
5- نزهة ذات العماد على تفسير العلّامة البيضاوي لسورة يس.
وهو مخطوط في دار الكتب الظاهرية بدمشق تحت رقم (5543) [1] .
6- وله بعض الشعر [2] .
__________
[1] انظر «فهرس مخطوطات الظاهرية» (علوم القرآن الكريم) (3/ 450) .
[2] انظر «النعت الأكمل» ص (242- 248) .(1/90)
مصادر ومراجع مختارة
1- الأعلام: للعلّامة الأستاذ خير الدين الزركلي، الطبعة الرابعة، دار العلم للملايين، بيروت 1399 هـ.
2- البديعيات: للأستاذ علي أبو زيد، عالم الكتب، بيروت 1403 هـ.
3- خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، للمحبي، مصوّرة دار صادر، بيروت بدون تاريخ.
4- فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهرية (علوم القرآن الكريم) : للأستاذ صلاح محمد الخيمي، طبع مجمع اللغة العربية بدمشق 1405 هـ.
5- معجم المؤلفين: للأستاذ عمر رضا كحالة، مطبعة الترقي، دمشق 1376 هـ.
6- النعت الأكمل لأصحاب الإمام أحمد بن حنبل: للشيخ محمد كمال الدين بن محمد الغزّي العامري، تحقيق وجمع الأستاذين محمد مطيع الحافظ، ونزار أباظة، دار الفكر، دمشق 1402 هـ.
7- هدية العارفين: للبغدادي، مصوّرة مكتبة المثنى، بغداد بدون تاريخ
.(1/91)
الفصل الثالث القيمة الفنيّة لكتاب شذرات الذّهب
يعتبر هذا الكتاب من الوجهة الفنية من أهم مصنفات التاريخ العربي الإسلامي المختصرة، وقد استطاع مصنفه أن يؤرّخ فيه أحداث القرون الهجرية العشرة الأولى، كالحروب، والغزوات، والمعارك، والولادات، والوفيات، وسير الأعلام، وغير ذلك من الأحداث التي شهدها تاريخنا العربي الإسلامي خلال هذه الفترة الطويلة من عمر الزمن، باختصار من غير إخلال ولا إطناب إلا فيما ندر.
أضف إلى ذلك أنه يمتاز من غيره من كتب التاريخ بأمرين اثنين:
أولهما: كونه يؤرّخ من السنة الأولى إلى سنة ألف للهجرة، الأمر الذي يجعله من أوسع كتب التاريخ الإسلامي المختصرة من جهة استيعابه لما يقرب من ثلاثة قرون زيادة على كتب التاريخ الأخرى ك «تاريخ الإسلام» للذهبي، و «البداية والنهاية» لابن كثير، وغيرهما من مصنفات التاريخ.
وثانيهما: صفة الحياد التي حاول المؤلف أن يتمسك بها في معظم المواطن التي ألمح فيها إلى الأحداث الأليمة التي شهدها التاريخ الإسلامي، ولا سيما في القرن الأول الذي شهد العدد الكبير جدا من تلك الأحداث، ولا يخفى على الدارسين بأن صفة الحياد إن وجدت لدى المؤرّخ فهي تعزّز الثقة بكلامه، وتجعل كتابه مصدر ثقة لكل باحث أو ناقل، والعكس بالعكس.
ولا بدّ من الإشارة أيضا إلى تمكّن المؤلف- رحمه الله- من فهم(1/92)
النصوص القرآنية، والحديثية، والفقهية، وذلك ما يظهر واضحا في أكثر من موطن من مواطن الكتاب، كما في قصص الظّهار، وابن صيّاد، والتحكيم من هذا المجلد من الكتاب.
وإنك لتجد فوائد في الكتاب فيما يتصل بتراجم الأعيان من المحدّثين، والمؤرخين، والأدباء، والشعراء، والفرسان، والقادة، والأمراء، لا تجدها في غيره من المراجع إلّا بعد تتبّع واستقراء كبيرين، لذلك إن اعتبر ابن العماد أحد المؤرخين المتأخرين الذين اعتمدوا على النقل واختصار الأحداث من مصنفات المؤرخين من العلماء السابقين لهم، إلا أن منهجيته في الاختصار والنقل والتدوين تكاد تكون هي المنهجية المثلى لمن يريد التصنيف المختصر في أيّ من الموضوعات العلمية أو الأدبية في نظري.
ولقد عني المؤلّف في المقام الأول بذكر وفيات أعيان المحدّثين من رجال القرون العشرة التي استوعبها كتابه، وإنك لو تصفّحت الكتاب كله لوجدت منهم العدد الكبير جدا، الأمر الذي يجعل الباحثين في كتب الحديث النبوي الشريف يستفيدون فوائد قيّمة من هذا الكتاب، لدى رجوعهم إلى طبعته المحقّقة هذه إن شاء الله.
ولا بدّ لي من التنويه إلى أن المؤلف قد اقتصر على ذكر بعض الأحداث التي شهدها القرن الأول، وأغفل غيرها من الحوادث المهمة، الأمر الذي جعلني أذيّل عليه في بعض المواطن، وأسجل بتعليقات مسبوقة بالنجوم أهم ما شهده هذا القرن من الحوادث التي ارتأيت أن تدوينها في الكتاب أمر ضروري لاستكمال ما فيه من النقص.
وتجدر الإشارة أيضا إلى أن المؤلف- رحمه الله- اعتمد على عدد كبير من الكتب والمصنفات التي لم يشر إليها في مقدمته لكتابه، ولا في معرض نقله عنها في المواطن التي أثبت النقول منها، وقد ظهرت لي أثناء العمل، ويمكن للقارئ الكريم أن يلحظ أسماء معظمها في الحواشي التي أثبتها في هوامش الصفحات.(1/93)
وهناك أمر مهم تجدر الإشارة إليه، وهو أن المؤلّف لم يكن ممّن يعوّل على النقل من غير تدقيق ولا تمحيص، بل على العكس من ذلك نراه يناقش أصحاب الكتب التي نقل عنها مناقشة تثبت تعمّقه في فهم التأريخ، ونرى ذلك جليّا في الردود التي أثبتها في كتابه على عدد من أصحاب الكتب التي نقل عنها، الأمر الذي يجعلنا نجزم بأن المؤلف كان أهلا لتدوين حوادث هذه الفترة الزمنية الطويلة من التاريخ، لأنه كان صاحب مشاركة في العديد من العلوم العقلية منها والنقلية.
وخلاصة القول: إن «شذرات الذهب» هو أحد كتب التاريخ الإسلامي التي استوعبت التأريخ لهذا العدد الكبير من السنوات الهجرية من غير إخلال ولا إطناب إلا فيما ندر، وهو الكتاب الوحيد من كتب المؤلّف، الذي يمكن للمرء أن يقف من خلاله على المستوي الرفيع الذي كان عليه ابن العماد بين علماء عصره، وهو الكتاب الوحيد أيضا الذي يمكنه أن يغني معظم القرّاء عن اقتناء الكثير من المصنفات فيما يتصل بالوفيات بشكل خاص والتراجم، والأحداث بشكل عام بعد اكتمال تحقيقه وطبعه إن شاء الله تعالى
.(1/94)
الفصل الرّابع عملنا في تحقيق الكتاب
إن أهم ما يراد من تحقيق أيّ كتاب من كتب تراثنا العربي الإسلامي العظيم، هو الوصول به إلى جادة الصواب:
قال ابن منظور: حقّ الأمر يحقّه حقا وأحقّه: كان منه على يقين، تقول:
حققت الأمر وأحققته: إذا كنت على يقين منه [1] .
وقال أيضا: وأحققت الشّيء أي أوجبته. وتحقّق عنده الخبر، أي صحّ.
وحقّق قوله وظنّه تحقيقا، أي صدّق. وكلام محقّق، أي رصين، قال الرّاجز:
«دع ذا وحبّر منطقا محقّقا» [2] وفن التحقيق كما تعلمته على يدي والدي- حفظه الله- يتفق تمام الاتفاق مع ما قاله ابن منظور، فإن والدي علّمني بأن التحقيق يعني محاكمة النص الذي يراد تحقيقه، بحيث لا يدع من يتصدى لتحقيق كتاب من الكتب كلمة أوردها المؤلّف دون أن يكون منها على يقين، وخاصة منها ما يحتمل التحريف والتصحيف والخطأ، كالآيات، والأحاديث، والأسماء، والكنى، والألقاب، وأسماء الأمصار، والأبيات الشعرية، والأمثال، والأقوال، وغير ذلك مما قد يرد في نص المؤلف، وذلك لتقويم ما قد يقع فيه من الخطأ، واستدراك السّقط، لأن العلماء المتقدمين الذين خلفوا لنا هذا التراث العظيم هم مثلنا من بني
__________
[1] «لسان العرب» «حقق» (2/ 940) . طبعة دار المعارف بمصر.
[2] المصدر السابق، ص (942) .(1/95)
البشر، وبنو البشر عرضة للخطأ والنسيان، مهما كان موقع أحدهم من أهل عصره.
ومن ثم تخريج كل ما يحتاج إلى التخريج من الآيات، والأحاديث، وأبيات الشعر، والأمثال، والتعليق على المواطن التي لا بدّ من التعليق عليها، وتجنّب الإطناب في التعليق على المواطن التي لا فائدة من التعليق عليها، وخاصة في المصنفات التي يقتنيها الباحثون بشكل عام، ثم فهرست الكتاب [1] .
ولقد اجتهدت في أثناء خدمتي لهذا الكتاب في تحقيق هذا المنهج على أفضل وجه، وإن كنت لا أدّعي بأني قد اقتربت من صفة الكمال، لأن الله عزّ وجلّ يأبى إلّا أن يكون الكمال لكتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ولا بدّ من الإشارة إلى أن الذي حملني على العمل في تحقيق هذا الكتاب العظيم، هو ما وقع في طبعته السابقة المنتشرة من الخطأ، والسّقط، والتحريف، والتصحيف، وسوء الإخراج، إضافة إلى أنها خلت من الضبط، والترقيم، والتخريج، الأمر الذي قلّل من إمكانية الاعتماد عليها من قبل الباحثين إلى حدّ بعيد، فكان لا بدّ من العمل على إخراجه إخراجا جديدا يليق به من
__________
[1] قلت: ويخطئ من يعتقد بأن التحقيق هو أن يقوم المرء بإخراج النص كما ورد في الأصل الخطّي أو أحد المصوّرات للكتاب الذي يتصدى لتحقيقه، مقتفيا في ذلك آثار المستشرقين الذين لا يحسن معظمهم فهم النصوص ناهيك عن تحقيقها.
ولقد ظن البعض ممّن لا علم لديهم ولا ثقافة ممّن اقتحموا عالم تحقيق التراث عن غير أهلية، بأن المستشرقين هم الذين سبقوا المسلمين إلى العمل في فن التحقيق.
والصواب أن الذي يقوم به معظم المستشرقين من العمل في كتب التراث العربي الإسلامي إنما هو نشر لتلك الكتب، وليس تحقيقا لها، وبين النشر والتحقيق فرق كبير.
ولعلّ من أهمّ ما ينبغي أن يتّصف به المحقّق هو فهم اللغة، أو الرجوع إلى المصادر التي تعينه على فهمها في أسوأ الحالات، ومن أين للمستشرق أن يفهم لغة شرع بتعلّمها في العشرين من عمره؟.
وما ينبغي التأكيد عليه أخيرا هو أن فن التحقيق فنّ نشأ وترعرع في بلادنا، ووضعت أصوله وفروعه على أيدي علمائنا القدامى رحمهم الله، ولو نظر الباحث في كتب الرجال لوجد الكثير من العلماء موصوفين ب المحققين.(1/96)
جهة الشكل والمضمون، إنصافا له، ولمؤلفه العالم الكبير.
وقد جرى العمل في تحقيق الكتاب- وهذا المجلد منه على وجه الخصوص- وفق ما يلي:
1- قمت بقراءة المطبوع على والدي- المشرف على تحقيق الكتاب- وذلك لمقابلة المطبوع على الأصل، فصحّحنا الخطأ، والتحريف، والتصحيف الذي لحق بالنصوص، واستدركنا السّقط، وكنت في أثناء ذلك، أدوّن ملاحظات والدي القيّمة التي انحصرت بشكل أساسي فيما يتصل بضبط الأسماء، والأبيات الشعرية، والنصوص القرآنية منها والحديثية.
2- وبعد ذلك قمت بتفصيل النصوص، وترقيمها، وضبط الألفاظ التي رأيت أن ضبطها أمر ضروري، ولا سيما الآيات، والأحاديث، وأسماء الأعلام، والبلدان، والأبيات الشعرية، وغير ذلك مما يراه القارئ الكريم في أثناء مطالعته للكتاب، وقد استعنت في ذلك بكتب اللغة والرّجال ودواوين الشعر.
3- وقمت بالتذييل على هذا الجزء من الكتاب بشكل خاص، وذلك في المواطن التي تبين لي بأن المؤلف اختصر فيها من إيراد الحوادث التي جرت إلى حدّ بعيد، فأثبتّ ما صحّ من الأخبار في عدد من المصادر بعد التحقيق فيها، أو ما رأيت أن هناك شبه إجماع من المؤرخين المتقدمين عليه، وهذا ما تطلّب منّي جهدا إضافيا، ووقتا طويلا لإخراج هذا المجلد.
4- وقمت بترقيم الآيات، وتخريج أبيات الشعر من مصادرها بالقدر الممكن، وشرحت ما ورد في النصوص من الألفاظ الغريبة، وعلّقت على عدد من المواطن من الكتاب، وعرّفت بعدد من الأعلام ممّن دعت الحاجة إلى التعريف بهم، ولا سيما الذين لم ترد لهم تراجم مستقلة في الكتاب، وتتبعت النقول التي وردت في الكتاب في مصادرها، فصحّحت ما وقع فيها من الخطأ، واستدركت ما حصل فيها من السّقط.(1/97)
5- ثم قمت بكتابة هذه المقدمة التي اجتهدت في جعلها مقدّمة تليق بهذا الكتاب العظيم وصاحبه بعد دراسة وإعداد طويلين.
ومن ثم شرعت بتقديم مواد الكتاب إلى والدي حفظه الله على مراحل لكي يقوم بمراجعته وتخريج النصوص الحديثية الواردة فيه تمشيا مع المنهج الذي وضعته لتحقيق الكتاب، وقد أضاف- حفظه الله- إلى تعليقاتي على الكتاب عددا من التعليقات جعلها مختومة بحرف (ع) .
بقي أن أشير إلى أننا اعتمدنا في تحقيق الكتاب على مخطوطة المكتبة الظاهرية بدمشق، وهي تحت رقم (3465) عام، وعدد أوراقها (546) ورقة بقياس (30 42) سم، وكل ورقة تتألف من صفحتين، وفي كل صفحة ثمانية وثلاثون سطرا، وفي كل سطر ما يقرب من ثماني عشرة كلمة، وقد جاء في آخر هذه النسخة الخطية ما يلي:
وكان الفراغ من كتابة هذه النسخة الشريفة صبيحة يوم الجمعة رابع عشر شهر شوّال، من شهور سنة خمس وثمانين وألف، على يد أحقر العباد، الفقير إلى الله تعالى شعبان بن عبد الله بن يوسف بن علي الشافعي الخزرجي، غفر الله له ولوالديه، ولمن دعا له بالمغفرة آمين.
ونقلت هذه النسخة المباركة من خط مؤلفها بلّغه الله مناه، وجعل الجنة جزاه، وهي ثالث نسخة تمّت، فلله الحمد والمنّة، وصلى الله على من لا نبي بعده، وعلى آله وأصحابه وتابعيه وأحزابه وسلّم تسليما كثيرا.
وقيمة هذه النسخة تعود إلى نسخها عن نسخة المؤلف في حياته، ولعلها قوبلت عليه.
وأرى من الواجب عليّ أن أتقدم بجزيل الشكر والعرفان بالجميل إلى العالم الكبير الأستاذ الدكتور شاكر الفحّام نائب رئيس مجمع اللغة العربية العامر بدمشق الذي أذن لي بالحصول على مصوّرة النسخة الخطبة من الظاهرية، وشجّعني على المضيّ في تحقيق الكتاب حين أطلعته على مقدمتي للكتاب،(1/98)
وعلى نماذج مما تمّ طبعه من هذا المجلد، حفظه الله ذخرا للعلم وطلبته في هذا البلد.
ولقد كتبت إلى كل من أعلم أن في مقدوره مساعدتي في الحصول على مصوّرات لنسخ خطية أخرى من الكتاب، فجاءتني رسالة الأستاد الدكتور خالد عبد الكريم جمعة مدير معهد المخطوطات العربية في الكويت تعلمني عن وجود نسختين خطيتين من الكتاب في دار الكتب المصرية في القاهرة جزاه الله تعالى خيرا، وقد تعذّر عليّ الحصول على أيّ من النسختين، ولكن عزائي كان في أن الأستاذ حسام الدين القدسي رحمه الله تعالى وأحسن إليه قد اعتمد في طبعته على النسختين المذكورتين، الأمر الذي حملني على اعتماد طبعته كأصل ثان في العمل أثناء تحقيق الكتاب.
وجاءتني أيضا رسالة الأستاذ أحمد مشاري العدواني الأمين العام للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت تعلمني عن وجود نسخة من مخطوطات الكتاب في الهند، وعدد من الأوراق منه في ألمانيا، جزاه الله تعالى كل خير، وأقوم الآن بالسعي للحصول على النسختين المذكورتين.
وبعد: فهذه هي أهم الأسس التي ارتكز عليها عملنا في تحقيق هذا المجلد من الكتاب، وحسبنا أننا بلغنا فيه ما استطعناه من الجودة والإتقان، فإن أحسنّا فذلك من توفيق الله عزّ وجلّ، وإن قصّرنا وأخطأنا، فلسنا ممّن يدّعي العصمة، وإنّا لنرجو جميع العاملين بإخلاص على إحياء التراث العربي الإسلامي على اختلاف اختصاصاتهم أن لا يبخلوا علينا بملاحظاتهم واستدراكاتهم، لأننا سوف نرحب بما يردنا منها، وسوف نذكر بالجميل أصحابها، فإن هذا الكتاب هو في نهاية الأمر إرث لأفراد الأمة جميعهم، والنصح للقائمين على تحقيقه وإخراجه هو نصح للناطقين بالعربية في مشارق الأرض ومغاربها.
وختاما أتوجه بالشكر الجزيل إلى والدي وأستاذي المحدّث الشيخ عبد القادر الأرناؤوط، الذي كان لخبرته الواسعة في مضمار التحقيق أكبر الأثر في ظهور(1/99)
الكتاب على هذا الوجه الذي يسعد له فؤاد كل محبّ في الله، جزاه الله تعالى عنّي كل خير، وجعلني ممّن يترسمون خطاه ويسيرون على منواله.
وأسأله تعالى أن يمدّ في عمره، وأن يجعله من الرّجال الذين يجري النفع على أيديهم للمسلمين أجمعين.
وأتوجه بخالص الشكر والتقدير إلى الأستاذ الدكتور خالد عبد الكريم جمعة المدير الفذ لمعهد المخطوطات العربية في الكويت، والمحبّب إلى نفوس العاملين بصدق على تحقيق ونشر ما ينفع الناس من تراث أمتنا، لتفضله بتقديم الكتاب، على الرغم من ازدحام أوقاته بأعمال هي في مردودها أنفع لأهل العلم دون شك، جزاه الله تعالى كل خير ونفع به وأعلى مقامه في الدّنيا والآخرة.
وإلى الأستاذ الدكتور عدنان درويش مدير إدارة إحياء التراث العربي بوزارة الثقافة الذي أفدت من ملاحظاته التي تناولت مقدمتي للكتاب لدى اطلاعه على تجربة طبعها الأولى، حفظه الله تعالى ونفع به.
وإلى الأخ الصديق الأستاذ علي أبو زيد الذي أفدت من ملاحظاته أثناء عملي في تحقيق هذا المجلد، حفظه الله تعالى وزاده توفيقا.
وأرى من الواجب عليّ أيضا أن أذكر بالجميل الأخ الصديق الأستاذ علي مستو صاحب «دار ابن كثير» الذي بذل كل ما في وسعه لظهور هذا الكتاب على أحسن وجه من جهة الشكل والمضمون، وإني أسأل الله عزّ وجلّ أن يعوّضه أضعاف ما أنفق من المال في طبعه هذا الكتاب وكل كتاب مما نشره في الماضي أو سينشره في المستقبل، لأنه والحقّ يقال، من أفاضل الناشرين في أيامنا هذه، سدّد الله خطاه، وأنجح مسعاه، وأحسن مثوبته يوم القيامة.
والأستاذ الفاضل محيي الدين مستو الذي شجعني على الاستمرار في تحقيق الكتاب، وكان من أسعد الناس بظهور هذا المجلد منه بهذا الإتقان لدى اطّلاعه على تجارب طبعه الأولى، بارك الله فيه.(1/100)
بقي أن أشير أخيرا إلى الحثّ والتشجيع اللذين لمستهما خلال عملي في هذا المجلد من أستاذي الجليل سليم الزركلي كبير شعراء الشام في هذا العصر، فقد كانت سعادته عظيمة في إقدامي على خدمة هذا الكتاب، الذي هو أحد السجلّات الذهبية التي تفخر بها هذه الأمة في نظره، حفظه الله تعالى ذخرا لدنيا الأدب العربي الرفيع.
وأضرع إلى الله عزّ وجلّ وأنا على مشارف هذه المقدمة أن يجعل خير أعمالي خواتيمها، وخير أيامي يوم ألقاه، إنه خير مسؤول.
دمشق: في 24/ ربيع الآخر/ 1406 هـ الموافق ل 5/ كانون الثاني/ 1986 م أبو عبد القادر محمود الأرناؤوط(1/101)
بسم الله الرّحمن الرّحيم وبه أستعين [1]
مقدمة المؤلف
الحمد لله الذي خلق ما في الأرض جميعا للإنسان، وركّبه في أي صورة شاء على أكمل وضع بأبهر إتقان، وجعله بأصغريه القلب واللسان، فهذا ملك أعضائه، وهذا له ترجمان، فإذا صلح قلبه، صلح منه سائر الأركان، وكان ذلك على فوزه بخيري الدّارين أعظم عنوان، وإذا فسد فسد جسده واستدلّ على خسرانه بأوضح برهان، قضى سبحانه بأن يبلي ديباجة شبابه الجديدان [2] ، ويصير حديثا لمن بعده من أولي البصائر والعرفان، وأعدّ تعالى له بعد النشأة الآخرة إحدى [3] داري العزّ والهوان، حكمة بالغة تحيّر فيها عقول ذوي الأذهان.
أحمده حمد معترف بالتقصير، مقرّ بأن إليه المصير، وأشكره شكر من توالت عليه آلاؤه، وتتابع عليه من فضله عطاؤه.
وأشهد أنّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله أمات وأحيا، وخلق الزّوجين الذّكر والأنثى، وألهم نفس كلّ متنفّس الفجور والتّقوى، فإما أن يزكّيها فيسعد، أو يدسّيها [4] فيشقى، قدم إلى عباده بالوعيد، وقسمهم كما
__________
[1] قوله: «وبه أستعين» لم يرد في المطبوع.
[2] الجديدان: الليل والنهار.
[3] في الأصل: «أحد» وما أثبتناه من المطبوع.
[4] أي ينقصها، ويخفيها، ويخملها بالفجور، ويضع منها بخذلانه إياها عن الهدى حتى ركب(1/109)
أخبر إلى شقيّ وسعيد، وأحصى لكل عامل ما فعل من طارف وتليد [1] ، حتى ما يَلْفِظُ من قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ 50: 18 [ق: 18] .
وأشهد أن سيّدنا محمّدا عبده ورسوله خير نبي أرسله، ففتح [به] [2] آذانا صمّا، وأعينا عميا، وقلوبا مقفلة.
أرسله على حين فترة من الرّسل، وطموس لمعالم الهدى والسّبل، فكانت بعثته أنفع للخليقة من الماء الزّلال، بل من الأنفس، والأهل، والصّحب، والمال، إذ بمبعثه تمت للنّاس مصالح الدّارين، واتّصح [بها] [3] لهم أقوم الطريقين، فطوبى لمن أمسى باتّباع شريعته قرير العين، وويل لمن نبذ ما جاء به ظهريّا وأخرج هديه من البين.
اللهم فصلّ وسلّم عليه أفضل صلاة وأكمل سلام، وآته الوسيلة والفضيلة، وابعثه المقام المحمود، أشرف مقام، وعلى آله وأصحابه خير صحب وآل، من بذلوا في طاعته رضا لمرسله المهج والمال، ففازوا بجزيل الثناء وجميل الخلال، وسعدوا بما نالوا من شريف المآل، وعلى تابعيهم، وأتباعهم بإحسان ما تعاقب الجديدان، وأشرق النّيّران [4] آمين.
وبعد: فهذه نبذة جمعتها، تذكرة لي ولمن تذكّر، وعبرة لمن تأمّل فيها وتبصّر، من أخبار من تقدّم من الأماثل وغبر، وصار لمن بعده مثلا سائرا وحديثا يذكر.
جمعتها من أعيان الكتب، وكتب الأعيان، ممّن كان له القدم الرّاسخ في هذا الشّأن [5] ، إذ جمع كتبهم في ذلك إمّا عسر أو محال، لا سيّما من كان
__________
المعاصي، وترك طاعة الله عز وجل، وفي المطبوع: ويدسسها، وهو صواب أيضا وبنفس المعنى.
[1] الطارف: المال المستحدث، والتليد: ما ولد عندك من مالك أو نتج.
[2] لفظة «به» سقطت من الأصل، وأثبتناها من المطبوع.
[3] لفظة «بها» سقطت من الأصل، وأثبتناها من المطبوع.
[4] النيران: الشمس والقمر.
[5] أي علم التأريخ.(1/110)
مثلي فاقد الجدة بائس الحال، فتسلّيت عن ذلك بهذه الأوراق، وتعلّلت بعلل [1] علّه يبرد أوام [2] الاحتراق [3] ، إذ هذا شأو [4] لا يدرك دقّه وجلّه، فليكن كما قيل: ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه.
أردت أن أجعله دفترا جامعا لوفيات أعيان الرجال، وبعض ما اشتملوا عليه من المآثر، والسجايا، والخلال، فإنّ حفظ التأريخ أمر مهمّ، ونفعه من الدّين بالضرورة علم، لا سيما وفيات المحدّثين والمتحمّلين لأحاديث سيد المرسلين، فإن معرفة السّند لا تتم إلا بمعرفة الرّواة، وأجلّ ما فيها تحفظ السّيرة والوفاة.
فممّن جمعت من كتبهم، وكرعت من نهلهم [5] وعلمهم مؤرّخ الإسلام الذّهبيّ [6] ، وفي الأكثر على كتبه أعتمد، ومن مشكاة ما جمع في مؤلفاته أستمدّ، وبعده من اشتهر في هذا الشأن كصاحب «الكمال» [7] و «الحلية» [8]
__________
[1] العلل: الشرب الثاني، والنهل: الشرب الأول، يقال: علل بعد نهل.
[2] الأوام: حر العطش.
[3] المعنى: وتلهيت بالشرب الثاني لعله يبرد حرّ عطش الاحتراق.
[4] الشأو: الغاية والأمد.
[5] يقال: كرع في الماء، تناوله بفيه من موضعه من غير أن يشرب بكفه ولا بإناء، والنهل:
الشرب الأول.
[6] هو شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي، المؤرخ، المحدّث، النقاد، صاحب «تاريخ الإسلام» و «سير أعلام النبلاء» و «الأمصار ذوات الآثار» وغير ذلك من المصنفات، المتوفى سنة (748) هـ. انظر «طبقات الحفاظ» للسيوطي ص (517) و «الأعلام» للزركلي (5/ 326) .
[7] هو تقي الدين أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي، الحافظ، المحدّث، المؤرخ، صاحب كتاب «الكمال في أسماء الرجال» - الذي أشار إليه المؤلف- و «عمدة الأحكام» و «النصيحة في الأدعية الصحيحة» وغير ذلك من المصنفات، المتوفى سنة (600) هـ. انظر ترجمته ومصادرها في صدر كتاب «عمدة الأحكام» بتحقيقي ص (17) وما بعدها، طبع دار المأمون للتراث بدمشق.
[8] هي «حلية الأولياء وطبقات الأصفياء» لصاحبها أبي نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني، الحافظ، المحدّث، المتوفى سنة (430) هـ. انظر «طبقات الحفاظ» للسيوطي ص (423) و «الأعلام» للزركلي (1/ 157) .(1/111)
و «المنهل» [1] و «ابن خلّكان» [2] وغير ذلك من الكتب المفيدة، والأسفار الجميلة الحميدة، وسمّيته:
«شذرات الذّهب في أخبار من ذهب» .
ورتّبته على السنين، من هجرة سيّد الأوّلين والآخرين.
وأسأل الله تعالى أن يثقل به ميزان الحسنات، وأن يجعله مقرّبا إليه، وإنما الأعمال بالنّيّات، فأقول، ومنه أطلب العون والقبول.
__________
[1] هو «المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي» لصاحبه جمال الدين يوسف بن تغري بردي، المؤرخ، المتقن المتفنن، المتوفى سنة (874) هـ. انظر «الأعلام» للزركلي (8/ 22) .
[2] هو أبو العباس أحمد بن محمد بن خلّكان، الأديب، المؤرخ، الحجة، المتوفى سنة (681) هـ. انظر «الأعلام» للزركلي (1/ 220) وكتابه الذي ينقل عنه المؤلف «ابن العماد» هو «وفيات الأعيان» .(1/112)
السنة الأولى من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل صلاة وتحية
قدم النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة ضحى يوم الإثنين لثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأوّل.
وفيها توفي النقيبان أسعد بن زرارة النّجاريّ، والبراء بن معرور السّلميّ [1] .
__________
[1] قلت: وفي السنة الأولى من الهجرة النبوية أيضا، أسس رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد قباء، الذي نزل فيه قول الله تعالى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى من أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ، فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا، وَالله يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ 9: 108 (التوبة/ 108) . انظر «تاريخ الطبري» (2/ 397) و «تفسير ابن كثير» (2/ 387) و «البداية والنهاية» (3/ 209، 210) .
وفيها رأى عبد الله بن زيد رضي الله عنه الأذان، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا رضي الله عنه أن ينادي بالأذان. انظر «تاريخ خليفة بن خياط» ص (56) ، و «سير أعلام النبلاء» للذهبي (2/ 375) .
وفيها ولد عبد الله بن الزّبير رضي الله عنه، وكان أوّل مولود من المهاجرين في دار الهجرة، فكبّر أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم حين ولد، وذلك أن المسلمين كانوا قد تحدثوا أن اليهود يذكرون أنهم قد سحروهم، فلا يولد لهم، فكان تكبيرهم ذلك سرورا منهم بتكذيب الله- عز وجل- اليهود فيما قالوا من ذلك. انظر «تاريخ الطبري» (2/ 401) ، و «الإصابة» لابن حجر (6/ 83- 88) .
وفيها شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء مسجده في المدينة المنورة، وكان يشارك الصحابة رضوان الله عليهم في بنائه، وينقل اللّبن والحجارة بيده الكريمتين. انظر «زاد المعاد» لابن قيم الجوزية (3/ 62) بتحقيق والدي الشيخ عبد القادر الأرناؤوط، وزميله الشيخ شعيب الأرناؤوط، طبع مؤسسة الرسالة ببيروت، ومكتبة المنار الإسلامية في الكويت.(1/113)
وفي الثانية
حوّلت القبلة، وذلك في ظهر يوم الثلاثاء نصف شعبان [1] .
وفيه فرض الصوم [2] .
وفي سابع عشر شهر رمضان منها يوم الجمعة كانت وقعة بدر، واستشهد من المسلمين أربعة عشر، ستة من قريش وهم: عبيدة بن الحارث
__________
[1] وذلك حين نزل قوله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ في السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ 2: 144 (البقرة: 144) . وكان ذلك بعد وصوله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة بستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، كما ثبت ذلك في «الصحيحين» وغيرهما من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه. انظر «جامع الأصول» لابن الأثير (2/ 10- 12) بتحقيق والدي الشيخ عبد القادر الأرناؤوط، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 66- 69) .
[2] أي في شعبان، وذلك حين نزل قوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، وَمن كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ 2: 185 (البقرة: 185) .
قال الحافظ ابن كثير: قال الإمام أحمد بن حنبل: وأما أحوال الصيام، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، وصام عاشوراء، ثم إن الله فرض عليه الصيام، وأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ من قَبْلِكُمْ 2: 183 (البقرة: 183) ، إلى قوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ 2: 184 (البقرة: 184) ، فكان من شاء صام، ومن شاء أطعم مسكينا فأجزأ ذلك عنه، ثم إن الله عز وجل أنزل الآية الأخرى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ 2: 185 إلى قوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ 2: 185 فأثبت الله صيامه على المقيم، والصحيح، ورخص فيه للمريض، والمسافر، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام ... قال: وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا فإذا ناموا امتنعوا، ثم إن رجلا من الأنصار يقال له: صرمة(1/114)
ابن عبد المطّلب بن عبد مناف المطّلبيّ، وعمير [1] بن أبي وقّاص الزّهري، وذو الشّمالين [2] ، وعاقل بن البكير، ومهجع مولى عمر، وهو يمانيّ من عكّ بن عدثان [3] ، وهو أول قتيل قتل يومئذ، وصفوان بن بيضاء.
ومن الأنصار ثمانية، خمسة من الأوس وهم: سعد بن خيثمة، ومبشّر ابن عبد المنذر، ويزيد [4] بن الحارث، وعمير بن الحمام [5] ، ورافع بن المعلّى، وثلاثة من الخزرج [وهم] [6] حارثة بن سراقة، وعوف ومعوّذ ابنا عفراء، رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
__________
ابن مالك كان يعمل صائما حتى أمسى فجاء إلى أهله فصلى العشاء ثم نام فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح، فأصبح صائما، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جهد جهدا شديدا، فقال: «ما لي أراك قد جهدت جهدا شديدا؟» قال يا رسول الله: إني عملت أمس فجئت حين جئت فألقيت نفسي فنمت، فأصبحت حين أصبحت صائما. قال: وكان عمر- رضي الله عنه- قد أصاب من النساء بعد ما نام، فأتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فأنزل الله عز وجل [قوله] :
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ 2: 187 إلى قوله: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ 2: 187 (البقرة: 187) . انظر «تفسير ابن كثير» (1/ 214) . وللتوسع راجع «زاد المسير في علم التفسير» لابن الجوزي (1/ 184- 188) بتحقيق والدي الشيخ عبد القادر الأرناؤوط، وزميله الشيخ شعيب الأرناؤوط، طبع المكتب الإسلامي بدمشق.
[1] في الأصل، والمطبوع: «عمرو» وهو خطأ، والتصحيح من «الإصابة» و «أسد الغابة» وكتب «السير» .
[2] ذو الشمالين: هو عمير بن عبد عمرو بن نضلة الخزاعي، حليف بني زهرة، ذكر فيمن شهد بدرا، واستشهد بها، ولقب بذي الشمالين لأنه كان يعمل بيديه جميعا. انظر «الإصابة» لابن حجر (3/ 217) و (6/ 335) ، و «الاستيعاب» لابن عبد البر على هامش «الإصابة» (3/ 228) ، و «السيرية النبوية» لابن هشام (2/ 681) ، و «تاريخ خليفة بن خياط» ص (59) .
[3] هو مهجع بن صالح، مولى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، من عكّ بن عدثان، وفي الأصل والمطبوع: عك بن عدنان، قال الفيروزآبادي في «القاموس المحيط» (3/ 324) :
وعكّ بن عدثان بالثاء المثلثة بن عبد الله بن الأزد، وليس ابن عدنان، أخا معدّ.
[4] في الأصل، والمطبوع: «زيد بن الحارث» وهو خطأ، والتصحيح من «الإصابة» لابن حجر (10/ 343) .
[5] في الأصل، والمطبوع: «عمير بن الجملة» وهو خطأ، والتصحيح من «أسد الغابة» لابن الأثير (4/ 290) ، و «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 697) ، و «تهذيب الأسماء واللغات» للنووي (2/ 39) .
[6] لفظة «وهم» سقطت من الأصل، وأثبتناها من المطبوع.(1/115)
وقتل من الكفار سبعون.
وفيها توفيت رقيّة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي شوال منها دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها [1] .
وفيها بنى عليّ بفاطمة رضي الله عنهما.
وفيها توفي عثمان بن مظعون القرشيّ الجمحيّ، وهو أول من مات من المهاجرين بالمدينة بعد رجوعه من بدر، وقبّله النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو ميت، وكان يزوره، ودفن إلى جنبه ولده إبراهيم، وكان ممن حرّم الخمر على نفسه قبل تحريمها، وكان عابدا مجتهدا، وسمع لبيد بن ربيعة [2] ينشد:
ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل
فقال: صدقت، فلما قال:
وكلّ نعيم لا محالة زائل
قال: كذبت، نعيم الجنة لا يزول، فقال لبيد: يا معشر قريش أكذّب في مجلسكم، فلطم بعض الحاضرين وجهه لطمة اخضرت منها عينه، وذلك في أول الإسلام، فقال له عتبة بن ربيعة: لو بقيت في منزلي [3] ما أصابك
__________
[1] وقيل في السنة الأولى، انظر «تاريخ الطبري» (2/ 398) .
[2] هو لبيد بن ربيعة بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة الكلابي الجعفري، أبو عقيل، الشاعر الفحل، قال المرزباني في «معجمه» : كان فارسا شجاعا، شاعرا سخيا، قال الشعر في الجاهلية دهرا، ثم أسلم، ولما كتب عمر رضي الله عنه إلى عامله بالكوفة: سل لبيدا، والأغلب العجلي: ما أحدثا من الشعر في الإسلام؟ فقال لبيد: أبدلني الله عز وجل سورة البقرة، وآل عمران: فزاد عمر في عطائه، قال: ويقال: إنه ما قال في الإسلام إلا بيتا واحدا:
ما عاتب المرء اللّبيب كنفسه ... والمرء يصلحه الجليس الصالح
ويقال: بل قوله:
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي ... حتى لبست من الإسلام سربالا
مات سنة (41) هـ. انظر «الإصابة» لابن حجر (9/ 6- 10) ، و «تهذيب الأسماء واللغات» للنووي (2/ 70، 71) ، و «الأعلام» للزركلي (5/ 240) .
[3] في المطبوع: «لو بقيت في نزلي» .(1/116)
شيء، وكان قد ردّ عليه جواره، فقال له عثمان: إن عيني الأخرى لفقيرة إلى ما أصاب أختها في سبيل الله [1] .
وفيها ولد عبد الله بن الزّبير، وقيل: في الأولى [2] .
__________
[1] انظر خبر هذه القصة في «السيرة النبوية» لابن هشام (1/ 370، 371) و «الإصابة» لابن حجر (9/ 7- 8) في ترجمة لبيد.
[2] انظر التعليق على حوادث السنة الأولى.(1/117)
السنة الثالثة
في نصف رمضان منها ولد الحسن بن عليّ [1] رضي الله عنهما، وأما الحسين فمقتضى ما ذكروه في مدّة عمرهما، وتاريخ ولادتهما، أن يكون ولد في الخامسة، ولم يظهر كما سيأتي من تاريخ وفاتهما ما يقتضي ما ذكروه فليتأمل.
وقال القرطبي: ولد الحسن في شعبان من الرابعة، وعلى هذا ولد الحسين قبل تمام السنة من ولادة الحسن، ويؤيده ما ذكره الواقدي، أن فاطمة علقت بالحسين بعد مولد الحسن بخمسين ليلة، وجزم النواويّ في «التهذيب» [2] أن الحسن ولد لخمس خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة.
وقيل: لم يكن بين ولادتهما إلا طهر واحد [3] .
__________
[1] قال الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (3/ 246) : مولده في شعبان سنة ثلاث من الهجرة.
وقيل: في نصف رمضانها.
وجزم ابن حجر في «الإصابة» (2/ 242) والنووي في «تهذيب الأسماء واللغات» (1/ 158) ، والطبري في «تاريخه» (2/ 537) ، وابن الأثير في «الكامل» (2/ 166) ، بأن ولادته رضي الله عنه كانت في نصف رمضان من سنة ثلاث من الهجرة كما ذكر المؤلف.
[2] «تهذيب الأسماء واللغات» (1/ 163) . قال الذهبي: وهو قول الزّبير: انظر «سير أعلام النبلاء» (3/ 280) .
[3] وهو قول الإمام جعفر الصادق رحمه الله. انظر «سير أعلام النبلاء» (3/ 280) ، و «الإصابة» (2/ 248) ، و «تهذيب الأسماء واللغات» (1/ 163) .(1/118)
وفي رمضان منها دخل صلى الله عليه وسلم بحفصة، ودخل بزينب بنت جحش، وبزينب بنت خزيمة العامريّة أمّ المساكين، وعاشت عنده نحو ثلاثة أشهر ثم توفيت.
وفيها تزوج عثمان أمّ كلثوم بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وفيها تحريم الخمر [1] .
__________
[1] وذلك حين نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ من عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ 5: 90 (المائدة: 90) . انظر «تفسير ابن كثير» (2/ 91- 97) .
والأحاديث في تحريم الخمر كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم: «كلّ مسكر خمر وكلّ مسكر حرام» الذي رواه مسلم في «صحيحه» رقم (2003) ، وأبو داود في «سننه» رقم (3639) ، والترمذي في «سننه» رقم (1862) ، والنسائي في «المجتبى» (8/ 297) ، وابن ماجة في «سننه» رقم (3390) ، وأحمد في «المسند» (2/ 16 و 29 و 31 و 105 و 134 و 137) من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما. وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» الذي رواه أبو داود رقم (3681) ، والترمذي رقم (1866) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. ولتمام الفائدة انظر «جامع الأصول» لابن الأثير (5/ 89- 118) .
وقال الإمام ابن القيم: فأما تحريم بيع الخمر، فيدخل فيه تحريم بيع كل مسكر، مائعا، كان، أو جامدا، عصيرا، أو مطبوخا، فيدخل فيه عصير العنب، وخمر الزبيب، والتمر، والذّرة، والشعير، والعسل، والحنطة، واللقمة الملعونة، لقمة الفسق والقلب، التي تحرك القلب الساكن إلى أخبث الأماكن، فإن هذا كلّه خمر بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيح الصريح الذي لا مطعن في سنده، ولا إجمال في متنه، إذ صح عنه قوله: «كل مسكر خمر» ، وصح عن أصحابه رضي الله عنهم الذين هم أعلم الأمة بخطابه ومراده: أن الخمر ما خامر العقل، فدخول هذه الأنواع تحت اسم الخمر، كدخول جميع أنواع الذهب والفضة، والبرّ، والشعير، والتمر والزبيب، تحت قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبرّ بالبرّ، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح إلا مثلا بمثل» ، فكما لا يجوز إخراج صنف من هذه الأصناف عن تناول اسمه له، فهكذا لا يجوز إخراج صنف من أصناف المسكر عن اسم الخمر، فإنه يتضمن محذورين.
أحدهما: أن يخرج من كلامه ما قصد دخوله فيه.
والثاني: أن يسرع لذلك النوع الذي أخرج حكم غير حكمه، فيكون تغييرا لألفاظ الشارع ومعانيه، فإنه إذا سمّى ذلك النوع بغير الاسم الذي سمّاه به الشارع، أزال عنه حكم ذلك المسمّى، وأعطاه حكما آخر.(1/119)
ووقعة أحد يوم السبت السابع من شوال، وصحح بعضهم أنها في الحادي عشر منه، وقتل فيها حمزة رضي الله عنه عمّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد أن قتل جماعة، وكان إسلامه في السنة الثانية، وقيل: في السادسة من المبعث، ولم يسلم من إخوته سوى العباس رضي الله عنه، وكانوا تسعة، وقيل: عشرة، وقيل: اثني عشر، ولما وقف صلى الله عليه وسلم يوم أحد ورأى ما به من المثلة حلف ليمثّلنّ بسبعين منهم، فنزل قوله تعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ به 16: 126 [النحل: 126] الآية، فقال: «بل نصبر» وكفّر عن يمينه [1] .
وفي ذي القعدة منها [2] . كانت غزوة بدر الصغرى [3] ، وغزوة بني النّضير، والصواب أنها في الرابعة [4] .
__________
ولما علم النبيّ صلى الله عليه وسلم أن من أمته من يبتلى بهذا، كما قال: «ليشربنّ ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها» . قضى قضية كلية عامة لا يتطرق إليها إجمال، ولا احتمال، بل هي شافية كافية، فقال: «كل مسكر خمر» . «زاد المعاد» (5/ 747، 748) . وانظر التعليق عليه.
[1] انظر «جامع الأصول» لابن الأثير (2/ 209، 210) ، و «تفسير ابن كثير» (2/ 592) .
[2] أي من السنة الثالثة للهجرة.
[3] وتسمى: بدر الثالثة، وبدر الموعد.
[4] انظر خبر بني النضير في «سيرة ابن هشام» (2/ 190- 194) ، وابن سعد في «الطبقات» (2/ 57- 59) ، و «تاريخ الطبري» (3/ 36) ، و «سيرة ابن كثير» (3/ 145) ، وابن سيد الناس (2/ 48) ، و «شرح المواهب اللدنية» للزرقاني (2/ 79- 86) ، و «المصنف» لعبد الرزاق رقم (9732) .(1/120)
السنة الرابعة
في صفر منها غزوة بئر معونة [1] وكانوا سبعين، وقيل: أربعين [2] .
وفي ربيع الأول منها غزوة بني النّضير [3] نزلوا صلحا، وارتحلوا إلى خيبر.
وفي محرّمها غزوة ذات الرّقاع [4] ، وغزوة الخندق عند بعضهم [5] ، وكان مقام الأحزاب فيها خمسة عشر يوما، وقيل: أكثر من عشرين يوما.
وفيها نزل التميم، وقصة الإفك وبراءة عائشة رضي الله عنها.
__________
[1] انظر ملخص هذه الوقعة في «زاد المعاد» لابن قيم الجوزية (3/ 246) .
[2] في الأصل: وقيل: أربعون، وفي المطبوع: أربعين، وهو أصوب.
[3] انظر التعليق رقم (4) في الصفحة السابقة.
[4] وهي غزوة نجد. وسميت ذات الرقاع، لأنهم رقعوا فيها راياتهم، أو لما كانوا يربطون على أرجلهم من الخرق من شدة الحر. قال النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» (1/ 20) والأصح أن غزوة ذات الرقاع في سنة خمس من الهجرة.
[5] وهو الصحيح، ففي «الصحيحين» عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة، فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني.(1/121)
السنة الخامسة
فيها صلاة الخوف عند بعضهم، وغزوة دومة الجندل [1] ، وغزوة ذات الرّقاع عند بعضهم [2] ، وقيل: وغزوة الخندق [3] ، ثم غزوة بني قريظة، وصحح في «الروضة» أن الخندق في الرابعة، وبني قريظة في الخامسة، وجزم ابن ناصر الدّين [4] ، أنهما في الخامسة كما سيأتي، وهذا هو الصحيح، لأنه توجّه صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة في اليوم الذي انصرف فيه من الأحزاب.
وفيها توفي سعد بن معاذ سيّد الأوس، واهتزّ لموته عرش الرّحمن [5] .
__________
[1] وهي على سبع مراحل من دمشق بينها وبين مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسميت (دومة الجندل) لأن حصنها مبني بالجندل، وهي الحجارة. انظر «معجم البلدان» لياقوت (2/ 487، 489) ، و «الروض المعطار» ص (245) .
[2] وهو الأصح.
[3] والصحيح أنها كانت في الرابعة، كما قال النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» (1/ 20) .
[4] هو محمد بن عبد الله بن محمد بن أحمد بن مجاهد القيسي الدمشقي الشافعي، شمس الدين، الشهير بابن ناصر الدّين، الإمام الحافظ المؤرخ، صاحب التصانيف المتنوعة، المتوفى سنة (842) هـ. انظر «الأعلام» للزركلي (6/ 237) .
[5] روى البخاري في «صحيحه» (7/ 93) في فضائل سعد بن معاذ، ومسلم رقم (2467) في فضائل سعد، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اهتز العرش لموت سعد بن معاذ» . وسعد بن معاذ الأنصاري الأوسي، من الأبطال من أهل المدينة، رمي بسهم يوم الخندق فمات من أثر جرحه ودفن بالبقيع سنة (4) هـ. وانظر «سير أعلام النبلاء» للذهبي (1/ 279- 297) .(1/122)
السنة السادسة
فيها بيعة الرضوان [1] ، وموت سعد بن خولة، الذي رثى له النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة [2] .
قيل: وفيها غزوة بني المصطلق.
وفيها فرض الحج [3] ، وقيل: سنة خمس.
وكسفت الشّمس.
ونزل حكم الظّهار [4] [5] .
__________
[1] وذلك في صلح الحديبية، وقد بايع المسلمون تحت الشجرة بيعة الرضوان، حيث قال الله:
لَقَدْ رَضِيَ الله عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ 48: 18 [الفتح: 18] .
[2] والصحيح أنه مات في حجة الوداع. انظر «الإصابة» (4/ 139) ، و «أسد الغابة» لابن الأثير (2/ 343، 344) . وهو سعد بن خولة القرشي العامري.
[3] والصحيح في السنة التاسعة أو العاشرة. وأما الآية الكريمة: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ 2: 196 فإنها وإن كانت قد نزلت سنة ست عام الحديبية، فليس فيها فرضية الحج، وإنما فيها الأمر بإتمامه، وإتمام العمرة بعد الشروع فيها، وذلك لا يقتضي وجوب الابتداء، وانظر «زاد المعاد لابن قيم الجوزية (2/ 101) .
[4] في الأصل والمطبوع: منزل حكم الطهارة، وهو خطأ. وانظر «تهذيب الأسماء واللغات» للنووي (1/ 21) .
والظّهار: أن يقول الرجل لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي. وكانت العرب تطلق نساءها في الجاهلية بهذه الكلمة، وكان الظهار في الجاهلية طلاقا، فلما جاء الإسلام نهوا عنه وأوجبت الكفارة على من ظاهر من امرأته، وذلك حين نزل قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ من 58: 3(1/123)
السنة السابعة
فيها غزوة خيبر [1] ، وفتحها في صفر، وأكرم بالشهادة بضعة عشر.
__________
نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ من قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ به وَالله بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ من قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ الله وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ 58: 3- 4 (المجادلة: 2- 4) . وانظر «لسان العرب» لابن منظور «ظهر» (4/ 2770) ، و «تفسير ابن كثير» (4/ 318- 322) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (5/ 322) فقد توسعوا في الكلام حول هذا الموضوع.
وانظر كلام المؤلف في ص (138- 142) من هذا المجلد.
[5] قلت: وفي سنة ست من الهجرة أيضا أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رسائله إلى ملوك الأمم، وزعماء القبائل. انظر كتاب «إعلام السائلين عن كتب سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم» لابن طولون بتحقيقي ص (18- 21) ، طبع مؤسسة الرسالة.
[1] قال الإمام ابن القيم: قال موسى بن عقبة: ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من الحديبية، مكث بها عشرين ليلة أو قريبا منها، ثم خرج غازيا إلى خيبر، وكان الله عز وجل وعده إياها وهو بالحديبية. وقال مالك: كان فتح خيبر في السنة السادسة. والجمهور: على أنها في السابعة. وقطع أبو محمد بن حزم: بأنها كانت في السادسة بلا شك، ولعل الخلاف مبنيّ على أوّل التاريخ، هل هو شهر ربيع الأول شهر مقدمه المدينة، أو من المحرم في أول السنة؟ وللناس في هذا طريقان. فالجمهور على أن التاريخ وقع من المحرم، وأبو محمد بن حزم يرى أنه من شهر ربيع الأول حين قدم. «زاد المعاد» (3/ 316) . وانظر خبر هذه الغزوة فيه.
وخيبر على ثمانية برد من المدينة المنورة لمن يريد الشام، وتشتمل على سبعة حصون، ومزارع، ونخل كثير. انظر «معجم البلدان» لياقوت (2/ 409- 411) ، و «الروض المعطار» للحميري ص (228) .(1/124)
وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم صفيّة [1] ، وميمونة [2] ، وأمّ حبيبة [3] ، وجاءته مارية القبطية [4] .
وقدم جعفر ومهاجرة الحبشة رضي الله عنهم.
وأسلم أبو هريرة [5] رضي الله عنه.
وفيها عمرة القضاء.
__________
[1] هي أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب، سبيت في فتح خيبر سنة سبع من الهجرة، فوقعت في سهم دحية الكلبي رضي الله عنه، فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبعة أرؤس، ثم إن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما طهرت تزوجها، وجعل عتقها صداقها، وكانت شريفة عاقلة ذات حسب، وجمال، ودين، لها عشرة أحاديث في كتب السنة، منها واحد متفق عليه، توفيت سنة (50) هـ رضي الله تعالى عنها وأرضاها. انظر «تاريخ خليفة بن خياط» ص (82، 83) ، و «سير أعلام النبلاء» للذهبي (2/ 231- 238) ، و «الأعلام» للزركلي (3/ 206) .
[2] هي أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلالية، زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأخت أم الفضل زوج العباس، وخالة خالد بن الوليد، وخالة ابن عباس. تزوجها النبيّ صلى الله عليه وسلم في وقت فراغه من عمرة القضاء سنة سبع في ذي القعدة، وكانت من سادات النساء، روي لها سبعة أحاديث في «الصحيحين» وانفرد لها البخاري بحديث، ومسلم بخمسة، وجميع ما روت ثلاثة عشر حديثا، وتوفيت في «سرف» وهو الموضع الذي كان فيه زواجها بالنبيّ صلى الله عليه وسلم قرب مكة، ودفنت به، وذلك سنة (51) هـ. انظر «سير أعلام النبلاء» للذهبي (2/ 238- 245) ، و «الأعلام» للزركلي (7/ 342) .
[3] هي أم المؤمنين رملة بنت أبي سفيان صخر بن حرب القرشية الأموية، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ببلاد الحبشة مهاجرة، وأصدقها عنه النجاشي أربعمائة دينار، وسيقت إليه من هناك، مسندها خمسة وستون حديثا اتفق البخاري ومسلم على حديثين، وتفرد مسلم بحديثين.
توفيت في أيام أخيها معاوية سنة (44) هـ، وقيل سنة (42) رضي الله عنها وأرضاها. انظر «سير أعلام النبلاء» للذهبي (2/ 218- 223) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (1/ 109) .
[4] وقد أرسلها إليه المقوقس ملك مصر والإسكندرية مع حاطب بن أبي بلتعة حين قدم إليه برسالة النبيّ صلى الله عليه وسلم. انظر «إعلام السائلين» لابن طولون ص (77- 81) بتحقيقي.
[5] واسمه عبد الرحمن بن صخر الدّوسيّ، وهو سيد الحفاظ الأثبات. انظر ترجمته ومصادرها في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (2/ 578- 632) .(1/125)
السنة الثامنة
فيها غزوة مؤتة [1] ، واستشهد بها الأمراء الثلاثة: زيد بن حارثة، الذي نوّه القرآن بقدره، وذكره، وجعله النبيّ صلى الله عليه وسلم [هو] [2] وابنه [3] كفؤا للعربيات والقرشيات.
ثانيهم جعفر بن أبي طالب الطيّار، واستشهد وله إحدى وأربعون سنة، ومناقبه عديدة، قال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «أشبهت خلقي وخلقي» [4] ، وناهيك بها فضيلة.
ثالثهم عبد الله بن رواحة الخزرجيّ، أحد النقباء، الصادق في طلب الشهادة، رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
__________
[1] وذلك في شهر جمادى الأولى منها. انظر خبرها في «زاد المعاد» (3/ 381- 386) ، و «تاريخ خليفة بن خياط» ص (86، 87) ، و «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (2/ 234- 238) وغير ذلك من المصادر.
[2] لفظة «هو» سقطت من الأصل، وأثبتناها من «المطبوع» .
[3] هو أسامة بن زيد حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبّه. انظر ترجمته ومصادرها في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (2/ 496- 507) .
[4] وهو قطعة من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما رواه البخاري رقم (2699) في الصلح: باب كيف يكتب هذا ما صالح فلان بن فلان، فلان بن فلان، وإن لم ينسبه إلى قبيلة أو نسبة، و (4251) في المغازي: باب عمرة القضاء، وليس الحديث عند مسلم، وقد وهم من نسبه إليه.(1/126)
وفتح الله فيها على يد خالد بن الوليد، وهي أول مشاهده في الإسلام.
وفي رمضان منها فتح مكة.
وغزوة حنين في شوال.
ثم حصار الطائف، ونصب النبيّ صلى الله عليه وسلم عليهم المنجنيق، ثم رحل عنها عن غير فتح، وأسلم أهلها في العام القابل.
وفيها غزوة ذات السّلاسل.
وفيها غلا السّعر فقالوا: يا رسول الله سعّر لنا، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله هو المسعّر، والقابض الباسط» [1] . وفيها ولد إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووهب [2] النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي رافع [3] لمّا بشّره بولادته عبدا، وتنازعت الأنصار في رضاعه، فدفعه صلى الله عليه وسلم إلى أبي سيف [4] ، وزوجته أمّ سيف [5] .
وتوفيت ابنته زينب، وهي أكبر أولاده صلى الله عليه وسلم.
__________
[1] هو قطعة من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه رواه الترمذي رقم (1314) في البيوع:
باب ما جاء في التسعير، وأبو داود رقم (3451) في الإجازة: باب التسعير، وابن ماجة رقم (2200) في التجارات: باب من كره أن يسعر، وإسناده صحيح. وانظر «جامع الأصول» لابن الأثير (1/ 595) بتحقيقي.
[2] حرف الواو الأول سقط من الأصل، وأثبتناه من المطبوع.
[3] اختلف في اسمه، فقيل: أسلم، وقيل إبراهيم، وقيل: هرمز، وقيل: ثابت. وقيل: غير ذلك، وقال ابن عبد البر: أشهر ما قيل في اسمه أسلم. انظر ترجمته ومصادرها في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (2/ 16) . وانظر خبر هبة النبيّ صلى الله عليه وسلم له عبدا في «الاستيعاب» لابن عبد البر على هامش «الإصابة» (1/ 106) في ترجمة إبراهيم بن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
[4] هو أبو سيف القين، وهو الحداد، كان من الأنصار انظر «الإصابة» لابن حجر (11/ 185، 186) ، و «أسد الغابة» لابن الأثير (6/ 161) .
[5] انظر خبرها في «الإصابة» (13/ 232) ، و «أسد الغابة» (7/ 349) .(1/127)
السنة [1] التاسعة
فيها غزوة تبوك في رجب [2] .
وحجّ أبو بكر رضي الله عنه بالنّاس.
ومات النّجاشيّ [3] في رجب.
وتوفيت أمّ كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعبد الله بن أبي بن سلول [4] رأس المنافقين، وكان موته في ذي القعدة، وهو القائل: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذلّ، فلما رجعوا من غزوة تبوك منعه ابنه عبد الله، المفلح، الصالح من دخول المدينة حتى يأذن له النبيّ صلى الله عليه وسلم.
__________
[1] لفظة «السنة» سقطت من الأصل، وأثبتناها من المطبوع.
[2] انظر خبر هذه الغزوة والتعليق عليها في «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 526- 528) .
[3] النجاشي: هو لقب من ملك الحبشة في ذلك العهد، واسم المعني هنا أصحمة بن أبجر، وأصحمة يعني بالعربية «عطية» وهو الذي كتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام مع عمرو بن أمية الضمري، فأسلم وصدق. وكتب بإسلامه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم موته نعاه، وخرج بالصحابة إلى المصلى فصف بهم، وكبر أربعا. وقد وهم من قال بأن النجاشي الذي كتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم غير النجاشي الذي صلى عليه، لأن كتب التاريخ والسّنّة لم تذكر لنا سوى نجاشي واحد، وإلا لكانت ألمحت إلى الآخر دون شك. انظر «عمدة الأحكام» للمقدسي ص (117) بتحقيقي.
[4] وهو الذي نزل فيه قول الله تعالى: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ، إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ 9: 84 (التوبة: 84) . وانظر «تفسير ابن كثير» (2/ 378- 380) ، و «الأعلام» للزركلي (4/ 65) .(1/128)
وفيها قتل عروة الثقفيّ، قتله قومه أن دعاهم إلى الإسلام، وكان من دهاة العرب.
وتوفي سهيل بن بيضاء الفهريّ، وصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة.
وقتل ملك الفرس، وملّكوا بوران [1]- بضم الباء الموحدة وبالراء- وإليها الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: «لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة» [2] .
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «بورب» وهو خطأ، والتصحيح من «فتح الباري» لابن حجر (8/ 128) وهي بوران بنت شيرويه بن كسرى بن برويز.
[2] هو قطعة من حديث رواه البخاري رقم (4425) في المغازي: باب كتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر، و (7099) في الفتن: باب رقم (18) ، والترمذي رقم (2262) في الفتن:
باب رقم (75) ، والنسائي (8/ 227) في القضاة: باب النهي عن استعمال النساء في الحكم، وأحمد في «المسند» (5/ 38 و 43 و 47 و 51) .(1/129)
السنة [1] العاشرة
فيها حجة الوداع [2] ، ولم يحج صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة سواها [3] ، ولم ينضبط عدد حجّاته قبلها، لكن كان نفلا، إذ فرض الحج كان في السنة السادسة كما تقدم [4] .
وفيها توفي إبراهيم بن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو ابن سنة ونصف، وكسفت الشمس يوم مات [5] .
ذكر بعض الشافعية أن كسوفها يوم مات إبراهيم يردّ على أهل الفلك، لأنه مات في غير يوم الثامن والعشرين، والتاسع والعشرين، وهم يقولون لا تنكسف إلا فيهما.
قال اليافعي [6] : وهذا يحتاج إلى نقل صحيح، فإن العادة المستقرة المستمرة كسوفها في اليومين المذكورين.
__________
[1] لفظة «السنة» سقطت من الأصل، وأثبتناها من المطبوع.
[2] سميت حجة الوداع لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فيها خطبا كثيرة ودع المسلمين بها، ومات بعدها بقليل، ولم يحج بعد ما فرض الحج سواها.
[3] وهو الصواب.
[4] انظر التعليق على حوادث السنة السادسة ص (124) .
[5] قلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبّروا وصلوا وتصدقوا» . انظر نص الحديث وتخريجه في «عمدة الأحكام» للمقدسي بتحقيقي ص (111) .
[6] هو عبد الله بن أسعد بن علي اليافعي، عفيف الدين، مؤرخ باحث، متصوف، من شافعية(1/130)
وفيها أسلم جرير [1] ، وظهر الأسود العنسيّ [2] ، وكان له شيطان يخبره بالمغيّبات فضلّ به كثير من النّاس، وكان بين ظهوره وقتله نحو من أربعة أشهر، ولكن استطارت فتنته استطارة النار، وتطابقت عليه اليمن والسواحل، كجاد عثر [3] ، والشّرجة [4] ، والحردة [5] ، وغلافقة [6] ، وعدن، وامتد إلى الطائف، وبلغ جيشه سبعمائة فارس، وكان عكّ [7] بتهامة اليمن معترضين عليه، وقد كانوا أول مرتدّ [8] بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجمّعوا على غير [9] رئيس بالأعلاب [10] وأوقع [11] بهم الطاهر بن أبي هالة [12] ، ومعه
__________
اليمن، نسبته إلى يافع من حمير، من كتبه «مرآة الجنان وعبرة اليقظان في حوادث الزمان» وقد نقل المؤلف عنه (1/ 51- 52) بتصرف. انظر «الأعلام» للزركلي (4/ 72) .
[1] هو جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه. انظر ترجمته ومصادرها في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (2/ 530- 537) .
[2] انظر «إعلام السائلين» لابن طولون ص (110- 111) بتحقيقي.
[3] كذا الأصل، والمطبوع، وفي «تاريخ الطبري» (3/ 230) : «حاز عثر» ولعل الصواب «حازّة عثر» والله أعلم. انظر «معجم البلدان» (2/ 205) و (4/ 85) لأن «حازّة» أقرب بلدة إلى «عثر» ولعلها من أعمالها.
[4] في الأصل والمطبوع: «الشريحة» وهو خطأ، والتصحيح من «تاريخ الطبري» (3/ 230) .
وانظر «معجم البلدان» لياقوت (3/ 334) ، و «القاموس المحيط» للفيروزآبادي (1/ 203) .
[5] قال ياقوت: حردة: بالفتح: بلد باليمن له ذكر في حديث العنسي، وكان أهله ممن سارع إلى تصديق العنسي. «معجم البلدان» (2/ 240) .
[6] غلافقة: بلد على ساحل بحر اليمن مقابل زبيد. انظر «معجم البلدان» (4/ 208) .
[7] عك: اسم قبيلة تنسب إلى عك بن عدثان بالثاء المثلثة ابن عبد الله بن الأزد، وليس ابن عدنان أخا معد. انظر «القاموس المحيط» للفيروزآبادي (3/ 324) .
[8] في المطبوع: «وقد كانوا أول مرشد» وهو تحريف، وفي المصادر التي بين أيدينا أن ذلك وقع في السنة الحادية عشرة من الهجرة. انظر على سبيل المثال: «تاريخ الطبري» (3/ 227- 230) و (3/ 320- 322) ، و «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (2/ 374، 375) .
[9] في الأصل، والمطبوع: «غمير» وهو خطأ، والتصحيح من «تاريخ الطبري» (3/ 320) .
[10] في الأصل، والمطبوع: «الأغلاب» وهو خطأ، والأعلاب: أرض لعك بين مكة والساحل، لها ذكر في حديث الردة. انظر «معجم البلدان» لياقوت (1/ 222) .
[11] في الأصل: «ووقع» وما أثبتناه من المطبوع.
[12] قال الطبري: وقال في ذلك الطاهر بن أبي هالة رضي الله عنه:
«وو الله لولا الله لا شيء غيره ... لما فضّ بالأجراع جمع العثاعث(1/131)
مسروق العكّي وبدّدهم، وسمّاهم أبو بكر رضي الله عنه الأخابث [1] .
وكثرت الوفود فيها، وقيل: في التاسعة، وكانت غزواته صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين، وقيل: سبعا وعشرين، وسراياه ستا وخمسين، وقيل: غير ذلك، والله أعلم.
__________
فلم تر عيني مثل يوم رأيته ... بجنب صحار في جموع الأخابث
قتلناهم ما بين قنّة خامر ... إلى القيعة الحمراء ذات النبائث
وفئنا بأموال الأخابث عنوة ... جهارا ولم نحفل بتلك الهثاهث»
«تاريخ الطبري» (3/ 321) ، وانظر «الإصابة» لابن حجر (5/ 218) ، و «أسد الغابة» لابن الأثير (3/ 73) .
[1] في المطبوع: «الأخابت» وهو تصحيف.(1/132)
الحادية عشرة
فيها توفي النّبيّ صلى الله عليه وسلم في وسط نهار الإثنين، في ربيع الأول، وما قيل:
إنه توفي في الثاني عشر فيه إشكال، لأنه صلى الله عليه وسلم كانت وقفته في الجمعة في السنة العاشرة إجماعا، ولا يتصور مع ذلك وقوع الإثنين ثاني عشر شهر ربيع الأول من السنة التي بعدها، فتأمل.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس أربعين، فأقام بمكة ثلاث عشرة [1] ، وقيل: عشرا، وقيل: خمس عشرة، وأقام بالمدينة عشرا بالإجماع، وتوفي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين سنة على الصحيح، وولد صلى الله عليه وسلم عام الفيل في شعب بني هاشم، وتوفي جده عبد المطّلب وهو ابن ثمان على قول وشهد بناء قريش الكعبة، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة على قول.
وفي «الصحيح» أنه كان ينقل معهم الحجارة وهو صغير، وكانوا يجعلون أزرهم على عواتقهم تقيهم الحجارة ففعل مثلهم، فسقط مغشيا عليه [2] .
__________
[1] في المطبوع: «ثلاثة عشر» .
[2] رواه البخاري رقم (364) في الصلاة: باب كراهية التعري في الصلاة وغيرها، و (1582) في الحج: باب فضل مكة وبنيانها، و (3829) في مناقب الأنصار: باب بنيان الكعبة، ومسلم رقم (340) (76) و (77) في الحيض: باب الاعتناء بحفظ العورة، وأحمد في «المسند» (3/ 310 و 333) . ولفظ الحديث في البخاري: حدّثنا مطر بن الفضل قال: حدّثنا روح قال: حدّثنا زكريّاء بن إسحاق، حدّثنا عمرو بن دينار قال: سمعت جابر بن عبد الله يحدّث أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينقل معهم الحجارة للكعبة وعليه إزاره، فقال له العباس عمّه:(1/133)
فإن حمل على أنّ قريشا بنت الكعبة مرتين، أو في أمر غير بناء الكعبة فلا إشكال، وإلا فأحد النقلين ساقط.
وتزوج خديجة وهو ابن خمس وعشرين سنة، وهي بنت أربعين على الصحيح فيهما، ورجّح كثيرون أنها ابنة ثمان وعشرين وفرضت الصلاة بمكة ليلة الإسراء بعد النّبوة بعشر سنين وثلاثة أشهر [1] .
وفرض الصوم بعد الهجرة.
وفرضت الزكاة قبل الصوم، وقيل: بعده.
وهو صلى الله عليه وسلم محمّد بن عبد الله، بن عبد المطّلب، بن هاشم، بن عبد مناف، بن قصيّ، بن كلاب، بن مرّة، بن كعب، بن لؤي، بن غالب، بن فهر، بن مالك، بن النّضر، بن كنانة، بن خزيمة، بن مدركة، بن إلياس، ابن مضر، بن نزار، بن معدّ، بن عدنان.
هذا المتفق عليه.
وجدّه هاشم هو الذي سنّ لقريش الرّحلتين للتجارة، ومات بغزّة [2] من أرض الشام، البلدة التي ولد فيها الشافعيّ رحمه الله.
وفي السنة الحادية عشرة [3] أيضا من الهجرة، توفّيت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أبيها [صلى الله عليه وسلم] بستة أشهر، تزوجها عليّ رضي الله عنه وهي بنت خمس عشرة سنة، وخمسة أشهر ونصف، وعمره إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر، ولم يتزوّج عليها حتى ماتت، كأمّها لم يتزوج عليها النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى ماتت، وغسل فاطمة أسماء بنت عميس، وعليّ، ودفنها ليلا.
__________
يا ابن أخي لو حللت إزارك فجعلته على منكبيك دون الحجارة. قال: فحله، فجعله على منكبيه فسقط مغشيا عليه، فما رئي بعد ذلك عريانا صلى الله عليه وسلم.
[1] انظر تفصيل ذلك في «جامع الأصول» لابن الأثير (5/ 183، 184) .
[2] انظر «معجم البلدان» لياقوت (4/ 202) ، و «الروض المعطار» ص (428) .
[3] في الأصل: «الحادية عشر» وأثبتنا ما في المطبوع.(1/134)
وفيها ماتت أمّ أيمن [1] حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمّه بعد أمّه، ومنزلتها من النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومنزلة زوجها وبنتها لا توصف ولا تكيّف [2] ، وخرجت مهاجرة وليس معها زاد ولا ماء، فكادت تموت من العطش، فلما كان وقت الفطر وكانت صائمة، سمعت حسّا على رأسها، فرفعته، فإذا دلو برشاء [3] أبيض معلّق فشربت منه حتى رويت، وما عطشت بقية عمرها.
وفيها مات عكّاشة الأسديّ [4] أحد السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب.
وفيها قتل خالد بن الوليد مالك بن نويرة في رهط من قومه بني حنظلة ممن منع الزكاة، وكان مالك من دهاة العرب، وكان عرض على خالد الصلاة دون الزكاة، فقال خالد: لا نقبل [5] واحدة دون الأخرى، فقال مالك: كذلك كان يقول صاحبك [6] ، قال خالد: وما نراه لك صاحبا، والله لقد هممت أن أضرب عنقك، ثم تجادلا في الكلام، فقال خالد: إني قاتلك، قال: أو كذلك أمر صاحبك، قال خالد: وهذه ثانية بعد تلك، والله لأقتلنك، فكلمه عبد الله بن عمر، وأبو قتادة [7] في استبقائه فأبى، فقال له مالك: فابعثني إلى
__________
[1] واسمها بركة بنت ثعلبة بن عمرو بن حصن بن مالك بن سلمة بن عمرو بن النعمان. انظر «الإصابة» لابن حجر (13/ 177) ، و «سير أعلام النبلاء» للذهبي (2/ 223) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (1/ 83) .
[2] في الأصل: «لا يوصف ولا يكيف» وما أثبتناه من المطبوع.
[3] الرشاء: الحبل. انظر «القاموس المحيط» للفيروزآبادي (4/ 336) .
[4] هو عكاشة بن محصن الأسدي، أبو محصن، السعيد الشهيد، حليف قريش، من السابقين الأولين البدريين، وقع ذكره في «الصحيحين» في السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب كما ذكر المؤلف. انظر «سير أعلام النبلاء» للذهبي (1/ 307) ، و «جامع الأصول» لابن الأثير (9/ 190، 191) .
[5] في المطبوع: «لا تقبل» وهو تصحيف.
[6] يقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[7] هو الحارث بن ربعي رضي الله عنه، فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: اسمه «النعمان» وقيل:
«عمرو» .(1/135)
أبي بكر فيكون هو الذي يحكم في، فقال خالد: يا ضرار [1] قم فاضرب عنقه، فقام فضرب عنقه واشترى زوجه [2] من الفيء، وتزوّجها، فأنكر عليه عمر، والصحابة، وسأل عمر أبا بكر قتل خالد بمالك أو حدّه في زواج زوجته، فقال أبو بكر: إنه تأوّل فأخطأ، فسأله عزله، فقال: ما كنت لأشيم [3] سيفا سلّه الله عليهم [4] أبدا.
ولمتمّم بن نويرة [5] في أخيه مراث كثيرة مشهورة من أعجبها قوله:
لقد لامني عند القبور على البكا ... صحابي لتذرف الدّموع السّوافك
فقالوا: أتبكي كلّ قبر رأيته؟ ... لغير ثوى بين اللّوى والدكادك [6]
فقلت لهم: إنّ الشّجا يبعث الشّجا ... دعوني فهذا كلّه قبر مالك [7]
ولحافظ دمشق ابن ناصر الدّين [8] قصيدة سمّاها «بواعث الفكرة في
__________
[1] هو ضرار بن الأزور الأسدي، أبو الأزور، ويقال: أبو بلال، أحد الأبطال في الجاهلية والإسلام، وكان شاعرا مطبوعا، له صحبة، مات سنة (11) هـ. انظر «الإصابة» لابن حجر (5/ 188- 190) و «الأعلام» للزركلي (3/ 215) .
وقال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» : إن ضرار بن الأزور قتل مالك بن نويرة بأمر خالد ابن الوليد، وقال: فوافق أنه قتل، ولم يكن قتله من أجل المرأة، كما ظن.
[2] في الأصل: «زوجته» . وأثبتنا ما في المطبوع.
[3] قال الفيروزآبادي: شام سيفه يشيمه: أغمده. «القاموس المحيط» (4/ 139) .
[4] أي على المشركين.
[5] انظر «شرح أبيات مغني اللبيب» للبغدادي (1/ 201) بتحقيق الأستاذين عبد العزيز رباح، وأحمد يوسف الدقاق، طبع دار المأمون للتراث بدمشق، و «الأعلام» للزركلي (5/ 74) .
[6] البيت في «الكامل» للمبرد (1/ 152) :
وقالوا أتبكي كل قبر رأيته ... لميت ثوى بين اللوى فالدكادك
[7] البيت في «الكامل» للمبرد:
فقلت لهم إن الأسى يبعث البكا ... ذروني فهذا كله قبر مالك
[8] تقدم التعريف به في الصفحة (72- 73) .(1/136)
حوادث الهجرة» أحببت أن أثبتها هنا لما فيها من الفوائد وهي:
سنوا هجرة المختار فيها حوادث ... فخذ نثرها من كلّ عام واحكم
مصلّى قبا في أول ثمّ مسجدا ... بني وبيوتا والصّلاة فأتمم
وخلف أذان جمعة مات أسعد ... براء وعبد الله أسلم فاسلم
وثان صيام فطرة أمّ كعبة ... وغزوة ودّان بواط المغنّم
عشير وبدر عرس عائش [1] مثله ال ... بتول وموت لابن مظعون أكرم
سويق سليم قينقاع ومسور ... ومروان والنّعمان سرّوا بمقدم
كذا ابن زبير مثل موت رقيّة ... أبو بنت هند أنمار كانت بمعلم
غزا أحدا في ثالث قتل حمزة ... وذا أمر والخمر ردّت فحرّم
وحمراء مع بدر أخيرا بناؤه ... بزينب ذات البرّ كسبا لمعدم
كذا حفصة مع أمّ كلثوم زوّجت ... أتى حسن قبل الحسين المقدّم
وفي رابع تزويج هند معونة ... نضير وقصر والتيمّم فافهم
مريسيع إفك والرّقاع وموعد ... ورجم وموت امّ المساكين عظّم
وصلّى لخوف ثم في الخمس خندق ... قريظة سعد مات دومة قدّم
ضمام أتى إسلام عمرو وخالد ... وعثمان الداري التزلزل فاعلم
وفي سادس لحيان ذو قرد به ... حديبية استسقى ابن خولة أعظم
مقوقس أهدى والظّهار وخاتم ... لشيرويه الطّاعون حجّ لمسلم
وخيبر في سبع صفيّة رملة ... زواجهما ذو الحبس آبوا بأنعم
قدوم أبي هرّ هدانا عطية ... قضا عمرة تزويج ميمونة أتمم
وثامن عام مؤتة الفتح أسلموا ... ومولد إبراهيم نجل المعظّم
__________
[1] في الأصل: «عائشة» .(1/137)
حنين غلاء طائف نصب منبر ... وبنت رسول الله زينب سلّم
بتسع تبوك والوفود وجزية ... وحج أبي [1] بكر وموت أمّ كلثم
ومات ابن بيضا والنجاشي وعروة ... قتيل ثقيف والسّلوليّ فافهم
لعان وإيلاء وبوران ملّكت ... لقتل فتى شيرويه بتظلّم
وفي العاشر ابراهيم مات ومولد ... لنجل أبي بكر محمد أعظم
جرير اهتدى ضلّت بأسود عنسة ... كسوف بخلف حجة التّمّ أعجم
وسبع وعشرون المغازي ومثلها ... سراياه مع عشرين أرّخ لمقدم
أصبنا لإحدى عشرة بنبيّنا ... فيا عظمه رزءا لدى كلّ مسلم
بها بايعوا الصّدّيق ردّة وابكين ... لفاطمة مع أمّ أيمن واختم
انتهى ما أورده ابن ناصر الدّين، وما ذكره في منظومته تقدّم غالبه، وبقيته مفهوم سوى قصّة الظّهار أحببت إيرادها لما فيها من الفوائد فأقول:
قال العلّامة الشّيخ علي الحلبي في «سيرته» : وقبل خيبر، وقيل: بعد خيبر، نزلت آية الظّهار قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ في زَوْجِها 58: 1 [المجادلة: 1] ، وسبب ذلك أنّ أوس بن الصّامت، لا عبادة بن الصّامت، كما قيل، أي وكان شيخا كبيرا قد ساء خلقه، وفي لفظ: كان به لمم [2] ، أي نوع من الجنون، وكان فاقد البصر، قال لزوجته خولة بنت ثعلبة [3] ، وفي لفظ بنت خويلد، وكانت بنت عمه [4] ، وقد راجعته في شيء فغضب فقال لها: أنت
__________
[1] في المطبوع: «أبو» .
[2] في الأصل: «يلم» وما أثبتناه من المطبوع.
[3] وهو الصواب. وقال الحافظ ابن حجر في «الإصابة» (12/ 231) : خولة بنت مالك بن ثعلبة.
[4] في المطبوع: «بنت عمره» وهو خطأ.(1/138)
عليّ كظهر أمّي، وكان ذلك في زمن الجاهلية طلاقا، أي كالطلاق في تحريم النساء، ثم راودها عن نفسها، فقالت: كلا لا تصل إليّ وقد قلت ما قلت، حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي لفظ: إنه لما قال لها: أنت عليّ كظهر أمّي أسقط في يده، وقال:
ما أراك إلا قد حرمت عليّ، انطلقي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسأليه، فدخلت عليه وهو يمشط رأسه، أي عنده ماشطة، وهي عائشة تمشط رأسه.
وفي لفظ: كان الظّهار أشدّ الطّلاق، وأحرم الحرام، إذا ظاهر الرجل من امرأته لم يرجع أبدا، فأخبرته، فقال لها: «ما أمرنا بشيء من أمرك ما أراك إلا قد حرمت عليه» ، فقالت: يا رسول الله والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر الطلاق، وإنه أبو ولدي، وأحبّ النّاس إليّ، فقال: «حرمت عليه» ، فقالت:
أشكو إلى الله فاقتي وتركي بغير أحد، وقد كبر سنّي، ودقّ عظميّ.
وفي لفظ أنها قالت: اللهم إني أشكو إليك شدّة وحدتي، وما شقّ عليّ من فراقه، وما نزل بي وبصبيتي.
قالت عائشة رضي الله عنها: فلقد بكيت وبكى من كان في البيت رحمة لها ورقّة عليها.
وفي لفظ قالت: يا رسول إن زوجي أوس بن الصامت تزوّجني وأنا ذات مال وأهل، فلما أكل مالي، وذهب شبابي، ونفضت بطني، وتفرّق أهلي، ظاهر مني، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أراك إلا قد حرمت عليه» ، فبكت وصاحت، وقالت: أشكو إلى الله فقري، ووحدتي، وصبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليّ جاعوا، وصارت(1/139)
ترفع رأسها إلى السماء، فبينما فرغ صلى الله عليه وسلم من شق رأسه، وأخذ في الآخر، أنزل الله عليه الآية، فسرّي عنه، وهو يبتسم، فقال لها:
«مريه فليحرّر رقبة» ، فقالت: والله ما له خادم غيري، قال: «فمريه فليصم شهرين متتابعين» ، فقالت: والله إنه لشيخ كبير، إنه إن لم يأكل في اليوم مرتين يندر بصره، أي لو كان مبصرا، فلا ينافي ما تقدّم أنه كان فاقد البصر، قال: «فليطعم ستين مسكينا» ، فقالت: والله ما لنا اليوم وقية، قال: «مريه فلينطلق إلى فلان- يعني شخصا من الأنصار- أخبرني أن عنده شطر وسق من تمر، يريد أن يتصدّق به، فليأخذه منه» . وفي رواية: «مريه فليأت أمّ المنذر بنت قيس فليأخذ منها شطر وسق من تمر فليتصّدق به على ستين مسكينا وليراجعك» ، ثم أتته فقصّت عليه القصّة فانطلق ففعل.
أي وفي لفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأنا سأعينه بعرق [1] من تمر» فبكت، وقالت: وأنا يا رسول الله سأعينه بعرق [1] آخر، قال: «قد أصبت وأحسنت فاذهبي فتصدّقي به عنه، ثم استوصي بابن عمك خيرا» . وفي رواية لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أعلم إلا قد حرمت عليه» ، قالت لها عائشة: وراءك، فتنحّت، فلما نزل عليه الوحي وسرّي عنه قال: «يا عائشة أين المرأة؟» ، قالت: ها هي هذه، قال: «ادعيها» [2] ،
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «بفرق» بالفاء. والعرق: زبيل منسوج من نسائج الخوص، وكل شيء مضفور فهو عرق بفتح الراء فيهما. «النهاية» لابن الأثير (3/ 219) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «ادعها» وهو خطأ.(1/140)
فدعتها، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «اذهبي فجيئي بزوجك» فذهبت فجاءت به وأدخلته على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإذا هو ضرير البصر، فقير، سيّء الخلق، فقال له: «أتجد رقبة؟» ، قال: لا، وفي لفظ قال:
ما لي بهذا من قدرة، قال: «أتستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟» ، قال: والذي بعثك بالحق إني إذا لم آكل المرة والمرتين والثلاثة يغشى [1] عليّ، وفي لفظ إني إذا لم آكل في اليوم مرتين كلّ بصري، أي لو كان موجودا قال:
«فتستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟» ، قال: لا، إلا أن تعينني بها، فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكفّر عنه. وفي رواية: أنه أعطاه مكتلا يأخذ خمسة عشر صاعا فقال: «أطعمه ستين مسكينا» . قال بعضهم: وكانوا يرون أن عند أوس مثلها حتى يكون لكلّ مسكين نصف صاع، وفيه أنه خلاف الروايات من أنه لا يملك شيئا، فقال: على أفقر مني، فو الله الذي بعثك بالحق ما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه مني، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «اذهب به إلى أهلك» . وهذا أول ظهار وقع في الإسلام [2] .
__________
[1] في المطبوع: «يغثى» وهو تحريف.
[2] وقد أورد قصة خولة بنت ثعلبة مع زوجها الحافظ ابن حجر في «الإصابة» (12/ 231، 232) و «فتح الباري» (9/ 433، 434) وناقشها فيه، فارجع إلى كلامه في المصدرين المشار إليهما. وانظر أيضا «سنن أبي داود» الحديث (2214) في الطلاق: باب في الظهار، و «سنن النسائي» (6/ 167، 168) ، و «سنن ابن ماجة» الحديث رقم (2063) ، و «أسد الغابة» لابن الأثير (7/ 91، 92) في ترجمة خولة، و «تفسير ابن كثير» (4/ 319- 321) ، و «زاد المسير» لابن الجوزي (8/ 180- 186) ، و «التنبيه والإعلام» للسهيلي «مخطوط» الورقة (60) .(1/141)
ومرّ عمر رضي الله عنه بخولة هذه في أيام خلافته، فقالت: قف يا عمر، فوقف لها، ودنا منها، وأصغى إليها، وأطالت الوقوف، وأغلظت القول، أي قالت له: هيها يا عمر، عهدتك وأنت تسمّى عميرا، وأنت في سوق عكاظ ترعى القيان [1] بعصاك، فلم تذهب الأيام حتى سمّيت عمر، ثمّ لم تذهب الأيام حتى سمّيت أمير المؤمنين، فاتق الله في الرعية، واعلم أنه من خاف الوعيد قرب عليه البعيد، ومن خاف الموت خشي الفوت، فقال لها الجارود [2] : قد أكثرت أيّتها المرأة على أمير المؤمنين، فقال عمر: دعها.
وفي رواية فقال له قائل: حبست النّاس لأجل هذه العجوز، قال:
ويحك وتدري من هذه؟ قال: لا، قال: هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات، هذه خولة بنت ثعلبة، والله لو لم تنصرف عني إلى الليل ما انصرفت حتى تقضي حاجتها. انتهى.
قلت: ومما يناسب المقام ذكر ابن صيّاد، فإن أخباره وقعت ولا بد بعد الهجرة، ولكني لم أقف على تاريخها، وسأثبته إن عثرت عليه، فلنورد ما ورد
__________
[1] أي الإماء والعبيد. قال ابن منظور: قال أبو بكر: قولهم: فلانة قينة معناه في كلام العرب الصانعة، والقين: الصانع. قال خباب بن الأرت: كنت قينا في الجاهلية، أي صانعا، والقينة هي الأمة، صانعة كانت أو غير صانعة، قال أبو عمرو: كل عبد عند العرب قين، والأمة قينة، قال: وبعض الناس يظن القينة المغنية خاصة، قال: وليس هو كذلك. «لسان العرب» «قين» (5/ 3799) .
[2] هو الجارود بن المعلّى، ويقال: ابن عمرو بن المعلى، وقيل: الجارود بن العلاء، وقيل: غير ذلك، ولقب الجارود لأنه غزا بكر بن وائل فاستأصلهم، قال الشاعر:
فدسناهم بالخيل من كل جانب ... كما جرد الجارود بكر بن وائل
وكان سيد عبد القيس، وقدم سنة عشر في وفد عبد القيس الأخير وسر النبيّ صلى الله عليه وسلم بإسلامه وقربه وأدناه. انظر «الإصابة» لابن حجر (2/ 50، 52) ، و «أسد الغابة» لابن الأثير (1/ 311، 312) .(1/142)
فيه مختصرا وليكن لفظ «مشكاة المصابيح» فإنه من أجمع ما رأيت فيه، قال فيه: باب ابن الصياد.
الفصل الأول
عن عبد الله بن عمر، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انطلق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من أصحابه قبل ابن صياد حتى وجدوه يلعب مع الصبيان في أطم [1] بني مغالة [2] ، وقد قارب ابن صيّاد يومئذ الحلم، فلم يشعر حتى ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهره بيده، ثم قال: «أتشهد أني رسول الله؟» فنظر إليه فقال: أشهد أنك رسول الأميّين، ثم قال ابن صياد: أتشهد أني رسول الله؟ فرصّه [3] النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم قال: «آمنت بالله وبرسله» ثم قال لابن صيّاد: «ما ترى؟» [4] ، قال: يأتيني صادق وكاذب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلّط عليك الأمر» [ثم] [5] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني خبّأت لك خبيئا» وخبّأ له: يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ 44: 10 [الدخان: 10] ، فقال هو
__________
[1] الأطم: حصن مبني بحجارة، وقيل: هو كل بيت مربع مسطح، وهو البناء المرتفع أيضا.
انظر «لسان العرب» لابن منظور «أطم» (1/ 93) .
[2] بنو مغالة: اسم قبيلة تنسب لمالك بن النجار. انظر «جمهرة أنساب العرب» لابن حزم ص (347) .
[3] أي ضغطه حتى ضم بعضه إلى بعض، وفي بعض نسخ البخاري ومسلم: فرفضه، وبالصاد أصوب. (ع) .
[4] في المطبوع: «ماذا ترى» ، والذي في الأصل الذي بين أيدينا موافق لما في «مشكاة المصابيح» بتحقيق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني. (3/ 41) .
[5] لفظة: «ثم» ليست في الأصل، و «المشكاة» وقد أثبتناها من المطبوع.(1/143)
الدّخّ [1] ، فقال [صلى الله عليه وسلم] : «اخسأ فلن تعدو قدرك» [2] قال عمر:
يا رسول الله أتأذن لي فيه أضرب عنقه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إن يكن هو لا تسلّط عليه، وإن لم يكن هو فلا خير لك في قتله» . قال ابن عمر: انطلق بعد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبيّ بن كعب الأنصاريّ يؤمّان النخل التي فيها ابن صيّاد، وطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يتّقي بجذوع النخل وهو يختل [3] أن يسمع [4] من ابن صيّاد شيئا قبل أن يراه، وابن صيّاد مضطجع على فراشه في قطيفة [5] ، له فيها زمزمة [6] ، فرأت أمّ ابن صيّاد النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يتّقي بجذوع النخل، فقالت: أي صاف- وهو اسمه- هذا محمد، فتناهى [7] ابن صيّاد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو تركته بيّن» . قال عبد الله بن عمر: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في النّاس فأثنى على الله بما هو أهله، ثمّ ذكر الدّجال فقال: «إني أنذركموه وما من نبي إلّا وقد أنذر قومه، لقد أنذر نوح قومه، ولكني سأقول لكم فيه قولا لم يقله نبيّ لقومه: تعلمون أنّه أعور وإن الله ليس بأعور» متفق عليه [8] .
__________
[1] الدّخّ: الدّخان. انظر «لسان العرب» لابن منظور «دخخ» (2/ 1339) .
[2] انظر «التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة» للقرطبي (2/ 809) .
[3] من الختل، وهو طلب الشيء بجيلة، أي يخدع ابن صيّاد.
[4] أي ليسمع.
[5] قال ابن منظور: القطيفة: دثار مخمل، وقيل: كساء له خمل، والجمع القطائف وقطف، مثل صحيفة وصحف، كأنها جمع قطيف وصحيف. «لسان العرب» (5/ 3681) ، وانظر «القاموس المحيط» للفيروزآبادي (3/ 192) .
[6] الزمزمة: صوت خفي لا يكاد يفهم.
[7] أي انتهى عما كان فيه من الزمزمة وسكت.
[8] رواه البخاري رقم (3337) في الأنبياء، باب قول الله عز وجل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ 11: 25 [هود: 25](1/144)
وعن أبي سعيد الخدريّ [1] قال: لقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر- يعني ابن صيّاد- في بعض طرق المدينة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتشهد أنّي رسول الله؟» ، فقال هو: أتشهد أنّي رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله ماذا ترى؟» قال: أرى عرشا على الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ترى عرش إبليس على البحر، وما ترى؟» ، قال: أرى صادقين وكاذبا، أو كاذبين وصادقا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لبس [2] عليه فدعوه» رواه مسلم [3] . وعنه [4] أن ابن صيّاد سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن تربة الجنة فقال: «درمكة بيضاء مسك خالص» رواه مسلم [5] . وعن نافع [6] قال: لقي ابن عمر ابن صيّاد في بعض طرق المدينة، فقال له قولا أغضبه، فانتفخ حتّى ملأ السّكّة [7] ، فدخل ابن عمر على
__________
و (7127) في الفتن: باب ذكر الدجال، ومسلم رقم (2930) في الفتن:
باب ذكر ابن صيّاد، و (2933) باب ذكر الدجال وصفته وما معه، وأبو داود رقم (4316) في الملاحم: باب خروج الدجال، والترمذي رقم (2235) في الفتن: باب ما جاء في علامة الدجال، وأحمد في «المسند» (2/ 135 و 149) و (3/ 103 و 173 و 276 و 290) .
[1] هو سعد بن مالك بن سنان الخدري الأنصاري رضي الله عنه.
[2] في المطبوع: «ليس عليه» وهو تصحيف.
[3] رواه مسلم رقم (2925) في الفتن: باب ذكر ابن صيّاد.
[4] أي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[5] رواه مسلم رقم (2928) (93) في الفتن: باب ذكر ابن صيّاد.
[6] هو نافع مولى ابن عمر، الإمام المفتي الثّبت، عالم المدينة. انظر ترجمته ومصادرها في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (5/ 95- 101) ، و «الأعلام» للزركلي (8/ 5، 6) .
[7] السكة: الطريق.(1/145)
حفصة وقد بلغها، فقالت له: رحمك! الله ما أردت من ابن صيّاد؟ أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما يخرج من غضبة يغضبها؟» ، رواه مسلم [1] . وعن أبي سعيد الخدري قال: صحبت ابن صيّاد إلى مكّة، فقال لي:
أما قد لقيت [2] من النّاس يزعمون أنّي الدّجّال، ألست سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّه لا يولد له» ، وقد ولد لي، أليس قد قال:
«هو كافر» وأنا مسلم، أو ليس قد قال: «لا يدخل المدينة ولا مكة؟» وقد أقبلت من المدينة وأنا أريد مكة، ثم قال لي في آخر قوله: أما والله إني لأعلم مولده ومكانه وأين هو [الآن] [3] ، وأعرف أباه وأمّه، قال: فلبسني، قال [4] : قلت [له] [5] : تبا لك سائر اليوم، قال: وقيل له: أيسرّك أنّك ذاك الرّجل؟ [6] ، قال: فقال: لو عرض عليّ ما كرهت. رواه مسلم [7] .
وعن ابن عمر قال: لقيته وقد نفرت [8] عينه فقلت: متى فعلت عينك
__________
[1] رواه مسلم رقم (2932) في الفتن: باب ذكر ابن صيّاد.
[2] في الأصل، والمطبوع، و «مشكاة المصابيح» للتبريزي (3/ 43) : «ما لقيت» ، وما أثبتناه من «صحيح مسلم» .
[3] لفظة «الآن» التي بين حاصرتين سقطت من الأصل، والمطبوع، و «مشكاة المصابيح» ، وأثبتناها من «صحيح مسلم» .
[4] القائل: أبو سعيد الخدري رضي الله عنه.
[5] لفظة «له» سقطت من الأصل، والمطبوع، وأثبتناها من «مشكاة المصابيح» الذي نقل عنه المؤلف، ومن «صحيح مسلم» أيضا.
[6] أي الدجال.
[7] زواه مسلم رقم (2927) (89) و (90) و (91) في الفتن: باب ذكر ابن صياد، والترمذي رقم (2246) في الفتن: باب ما جاء في ذكر ابن صيّاد.
[8] في المطبوع: «نقرت» وهو تصحيف.(1/146)
ما أرى؟ قال: لا أدري، قلت: لا تدري وهي في رأسك؟ قال: إن شاء الله خلقها في عصاك [هذه] [1] ، قال: فنخر [2] كأشدّ نخير حمار سمعت. رواه مسلم [3] .
وعن محمّد بن المنكدر [4] قال: رأيت جابر بن عبد الله يحلف بالله أنّ ابن الصيّاد الدّجال، قلت: تحلف بالله؟ قال: إني سمعت عمر يحلف على ذلك عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم ينكره النبيّ صلى الله عليه وسلم، متفق عليه [5] .
الفصل الثاني
عن نافع قال: كان ابن عمر يقول: والله ما أشكّ أنّ المسيح الدّجال [6] ابن صيّاد. رواه أبو داود، والبيهقي في كتاب «البعث والنشور» [7] .
وعن جابر قال: فقدنا ابن صيّاد يوم الحرّة [8] رواه أبو داود [9] .
__________
[1] لفظة «هذه» سقطت من الأصل، والمطبوع، و «مشكاة المصابيح» ، وأثبتناها من «صحيح مسلم» .
[2] النخير: صوت الأنف.
[3] رواه مسلم رقم (2932) (99) في الفتن: باب ذكر ابن صياد.
[4] في المطبوع: «محمد بن المكندر» وهو تحريف.
[5] رواه البخاري رقم (7355) في الاعتصام: باب من رأى ترك النكير من النبيّ صلى الله عليه وسلم حجة، ومسلم رقم (2929) في الفتن: باب ذكر ابن صيّاد، ورواه أيضا أبو داود رقم (4331) في الملاحم: باب في خبر ابن صائد.
[6] سمي الدجال مسيحا لأن عينه ممسوحة كأنها عنبة طافية.
[7] رواه أبو داود رقم (4330) في الملاحم، باب في خبر ابن صائد.
[8] انظر كلام المؤلف عن هذه الوقعة الأليمة في حوادث سنة (63) من كتابنا هذا.
[9] رواه أبو داود رقم (4332) في الملاحم: باب في خبر ابن صائد، وإسناده صحيح.(1/147)
وعن أبي بكرة [1] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يمكث أبوا الدّجال ثلاثين عاما لا يولد لهما ولد، ثم يولد [لهما] [2] غلام أعور أضرس [3] وأقلّه منفعة، تنام عيناه ولا ينام قلبه، ثم نعت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه فقال: «أبوه طوّال، ضرب اللحم، كان أنفه منقار، وأمّه امرأة فرضاخيّة [4] طويلة اليدين» ، فقال أبو بكرة: فسمعنا بمولد في اليهود بالمدينة [5] ، فذهبت أنا والزّبير بن العوام، حتى دخلنا على أبويه فإذا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما، فقلنا: هل لكما ولد؟ فقالا: مكثنا ثلاثين عاما، لا يولد لنا ولد، ثمّ ولد لنا غلام أعور أضرس، وأقلّه منفعة، تنام عيناه ولا ينام قلبه، قال: فخرجنا من عندهما، فإذا هو منجدل [6] في الشّمس في قطيفة وله همهمة، فكشف عن رأسه، فقال: ما قلتما؟ قلنا:
وهل سمعت ما قلنا؟ قال: نعم، تنام عيناي ولا ينام قلبي. رواه الترمذي [7] .
وعن جابر، أن امرأة من اليهود بالمدينة ولدت غلاما ممسوحة عينه،
__________
[1] هو نفيع بن الحارث بن كلدة، وقيل: إن اسمه نفيع بن مسروح، تدلى في حصار الطائف ببكرة، وفر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأسلم على يده، وأعلمه أنه عبد، فأعتقه، رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
[2] لفظة: «لهما» سقطت من الأصل، والمطبوع، وقد أثبتناها من «مشكاة المصابيح» (3/ 44) .
[3] أي عظيم الضرس.
[4] أي ضخمة عظيمة.
[5] لفظة: «المدينة» سقطت من «مشكاة المصابيح» للتبريزي، فتستدرك فيه.
[6] أي ملقى على وجه الأرض.
[7] رواه الترمذي رقم (2248) في الفتن: باب ما جاء في ذكر ابن صائد، وفي سنده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف كما قال الحافظ في «التقريب» .(1/148)
طالعة نابه، فأشفق رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون الدّجّال، فوجده تحت قطيفة يهمهم [1] ، فآذنته أمّه فقالت: يا عبد الله هذا أبو القاسم، فخرج من القطيفة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما لها قاتلها الله؟ لو تركته لبيّن» . فذكر مثل معنى حديث ابن عمر، فقال عمر ابن الخطاب: ائذن لي يا رسول الله فأقتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن يكن هو فلست صاحبه، إنما صاحبه عيسى بن مريم، وإلّا يكن هو فليس لك أن تقتل رجلا من أهل العهد» ، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مشفقا أنه [2] هو الدّجال، رواه في «شرح السنة» [3] . انتهى ما ذكره في «مشكاة المصابيح» بلفظه.
وقال أبو عبد الله الذهبي في كتابه «تجريد الصحابة» ما لفظه: عبد الله ابن صيّاد، أورده ابن شاهين وقال: هو ابن صائد، وكان أبوه يهوديا فولد له عبد الله أعور مختونا، وهو الذي قيل إنه الدّجّال، ثمّ أسلم، فهو تابعيّ له رؤية [4] .
قال أبو سعيد الخدري: صحبني ابن صيّاد إلى مكّة فقال: لقد هممت
__________
[1] في المطبوع: «يهمم» وهو خطأ.
[2] في المطبوع: «أن يكون» ، وما في الأصل الذي بين أيدينا موافق لما في «مشكاة المصابيح» .
[3] «مشكاة المصابيح» للتبريزي (3/ 45) ، وكتاب «شرح السنة» الذي أحال عليه صاحب «المشكاة» هو للإمام البغوي، وقد حققه زميلي الأستاذ الشيخ شعيب الأرناؤوط، وطبعه المكتب الإسلامي بدمشق، ولكن الجزء الذي فيه الحديث ليس بين أيدينا.
وقد روى الحديث أيضا البخاري ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وانظر: «جامع الأصول» لابن الأثير (10/ 364- 368) بتحقيقي.
[4] في المطبوع: «له رواية» ، وفي الأصل: «له رؤيا» بالألف، وكلاهما محرف، وما أثبتناه من «تجريد أسماء الصحابة» للذهبي (1/ 319) .(1/149)
أن آخذ حبلا فأوثقه [1] إلى شجرة ثم أختنق مما يقول النّاس في، وذكر الحديث، وهو في مسلم [2] .
انتهى ما قاله الذهبي [3] [4] .
__________
[1] في «صحيح مسلم» : «فأعلّقه» .
[2] رواه مسلم رقم (2927) (91) في الفتن: باب ذكر ابن صيّاد. وانظر لفظ الحديث فيه.
[3] «تجريد الصحابة» للذهبي (1/ 319) .
[4] قال ابن الأثير في «جامع الأصول» (10/ 362- 364) بتحقيق والدي الشيخ عبد القادر الأرناؤوط: قال الخطابي: قد اختلف الناس في أمر ابن صيّاد اختلافا شديدا، وأشكل أمره، حتى قيل فيه كل قول، فيقال: كيف بقّى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يدّعي النبوة كاذبا، وتركه بالمدينة في داره يجاوره؟ وما معنى ذلك؟ وما وجه امتحانه إياه بما خبأ له من آية الدخان؟ وقوله بعد ذلك: «اخسأ، فلن تعدو قدرك؟» قال: والذي عندي، أن هذه القصة إنما جرت معه أيام مهادنته صلى الله عليه وسلم اليهود وحلفاءهم، وذلك: أنه بعد مقدمه المدينة كتب بينه وبين اليهود كتابا صالحهم فيه على أن لا يهاجروا، وأن يتركوا على أمرهم، وكان ابن صياد منهم- أو دخيلا في جملتهم- وكان يبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره، وما يدّعيه من الكهانة ويتعاطاه من الغيب، فامتحنه النبيّ صلى الله عليه وسلم ليبرز أمره ويختبر شأنه، فلما كلمه علم أنه مبطل، وأنه من جملة السحرة أو الكهنة، أو ممن يأتيه رئي الجن، أو يتعاهده الشيطان، فيلقي على لسانه بعض ما يتكلم به، فلما سمع قوله: «الدخ» زجره، فقال: «اخسأ فلن تعدو قدرك» يريد أن ذلك شيء اطلع عليه الشيطان، فألقاه إليه وأجراه على لسانه، وليس ذلك من قبيل الوحي السماوي إذا لم يكن له قدر الأنبياء الذين يوحى إليهم على الغيب، ولا درجة الأولياء الذين يلهمون الغيب فيصيبون بنور قلوبهم، وإنما كانت له تارات يصيب في بعضها، ويخطئ في البعض، وذلك معنى قوله: يأتيني صادق وكاذب، فقال له صلى الله عليه وسلم عند ذلك: «قد خلط عليك» والجملة من أمره: أنه كان فتنة امتحن الله به عباده المؤمنين: لِيَهْلِكَ من هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَيَحْيى من حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ 8: 42 [الأنفال: 42] كما امتحن الله قوم موسى بالعجل، فافتتن به قوم وهلكوا، ونجا من هداه الله وعصمه، وقد اختلفت الروايات في كفره، وفيما كان من شأنه بعد كبره، فروي أنه تاب عن ذلك القول، ثم إنه مات بالمدينة، وأنهم لما أرادوا الصلاة عليه، كشفوا عن وجهه حتى رآه الناس، وقيل لهم: اشهدوا، وروي غير ذلك، وأنه فقد يوم الحرة فلم يجدوه، والله أعلم.
وانظر «فتح الباري» لابن حجر (13/ 325- 329) .(1/150)
السنة الثانية عشرة [1]
فيها غزوة اليمامة، وقتل مسيلمة الكذّاب، وفتحت اليمامة صلحا على يد خالد بن الوليد بعد أن استشهد من الصحابة رضي الله عنهم نحو أربعمائة وخمسين، وقيل: ستمائة، وجملة القتلى من المسلمين ألف رجل ومائتا رجل، وكان رأي أهل الردة على منع الزكاة دون غيرها، فأجمع رأي أبي بكر على قتالهم، وأبى سائر الصحابة، واحتجّوا عليه بقوله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل النّاس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوا: لا إله إلا الله عصّموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقّها وحسابهم على الله تعالى» ، فقال أبو بكر: الزّكاة حقّ المال، وقال: والله لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزّكاة [2] .
__________
[1] في الأصل: «السنة الثانية عشر» .
[2] رواه البخاري رقم (7284) و (7285) في الاعتصام: باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، و (6924) في استتابة المرتدين: باب قتل من أبى قبول الفرائض وما نسبوا إلى الردة، و (1400) في الزكاة: باب وجوب الزكاة، ومسلم رقم (20) في الإيمان: باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، ويؤمنوا بجميع ما جاء به النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأن من فعل ذلك عصم نفسه وماله إلا بحقها، ووكلت سريرته إلى الله تعالى، وقتال من منع الزكاة أو غيرها من حقوق الإسلام، واهتمام الإمام بشعائر الإسلام، وأبو داود رقم (1556) في الزكاة: في فاتحته، والترمذي رقم (2606) في الإيمان: باب ما جاء أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، والنسائي (5/ 14، 15) في الزكاة: باب مانع الزكاة.(1/151)
قال الشيخ أبو إسحاق الشّيرازي [1] : فانظر كيف منع من التعلّق بعموم الخبر من وجهين:
أحدهما: أنه بيّن أن الزكاة حقّ المال فلم يدخل مانعها في الخبر.
والثاني: أنه خصّ الخبر في الزكاة، كما خصّ في الصّلاة، فخصّ مرة بالخبر، وأخرى بالنّظر، وهذا غاية ما ينتهي إليه المجتهد المحقّق، والعالم المدقّق.
وفي ذي الحجة منها توفي صهر النبيّ صلى الله عليه وسلم- زوج ابنته زينب- أبو العاص بن الربيع العبشمي [2] ابن أخت خديجة، هالة بنت خويلد، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يثني عليه، ولما أسلم لم يجدّد له النبيّ صلى الله عليه وسلم النكاح على بنته، بل أبقاهما على نكاحهما.
__________
[1] هو إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزآبادي الشيرازي، أبو إسحاق، الإمام المحقق المدقق ذو الفنون من العلوم المتكاثرات، والتصانيف النافعة المستجدات، الزاهد، العابد، الورع المعرض عن الدنيا، المقبل بقلبه على الآخرة، صاحب «المهذب» في الفقه، المتوفى سنة (472) هـ. انظر «تهذيب الأسماء واللغات» للنووي (2/ 172- 174) .
[2] هو لقيط بن الربيع، وقيل اسم أبيه ربيعة، أسلم قبل الحديبية بخمسة أشهر، قال المسور ابن مخرمة: أثنى النبيّ صلى الله عليه وسلم على أبي العاص في مصاهرته خيرا وقال:
«حدثني فصدتني، ووعدني، فوفى لي» وكان قد وعد النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يرجع إلى مكة بعد وقعة بدر، فيبعث إليه بزينب ابنته، فوفى بوعده، وفارقها مع شدة حبه لها، وكان من تجار قريش وأبنائهم. «سير أعلام النبلاء» للذهبي (1/ 330- 334) .(1/152)
السنة الثالثة عشرة
فيها وقعة أجنادين [1] بقرب الرّملة، واستشهد فيها جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ثم كان النصر والحمد لله.
وفيها بعث أبو بكر رضي الله عنه أمراءه إلى الشام، منهم أبو عبيدة، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وبعث خالدا إلى العراق، فافتتح الأبلّة [2] ، وأغار على السواد [3] ، وحاصر عين التمر [4] ،
__________
[1] انظر خبر هذه الوقعة في «تاريخ خليفة بن خياط» ص (119، 120) ، والمصادر التي أحال عليها محققه الدكتور أكرم ضياء العمري.
[2] الأبلّة: بلدة على شاطئ دجلة البصرة العظمى في زاوية الخليج الذي يدخل إلى مدينة البصرة، وهي أقدم من البصرة، لأن البصرة مصّرت في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد نسب إلى الأبّلة جماعة من رواة العلم، منهم شيبان بن فرّوخ الأبلّي. انظر «معجم البلدان» لياقوت (1/ 77، 78) ، و «الروض المعطار» للحميري ص (8 و 9) .
[3] السّواد: يراد به رستاق العراق وضياعها التي افتتحها المسلمون على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، سمي بذلك لسواده بالزروع والنخيل والأشجار، لأنه حيث تاخم جزيرة العرب التي لا زرع فيها ولا شجر. انظر «معجم البلدان» لياقوت (3/ 272- 275) .
[4] عين التمر: بلدة قريبة من الأنبار غربي الكوفة بقربها موضع يقال له: شفاثا، منها يجلب القسب (التمر اليابس) والتمر إلى سائر البلاد، وهو بها كثير جدا، وهي على طرف البرية، وهي قديمة افتتحها المسلمون في أيام أبي بكر رضي الله عنه على يد خالد بن الوليد رضي الله عنه. انظر «معجم البلدان» لياقوت (4/ 176 و 177) ، و «الروض المعطار» للحميري ص (423) .(1/153)
وأرى الفرس ذلّا وهوانا، ثم سار من العراق إلى الشّام في بريّة ورمال لا يهتدى طريقها، ولحق بأمراء الشام، فكان له الأثر العظيم.
وفي جمادى الآخرة منها توفي الخليفة أبو بكر الصّدّيق عبد الله بن عثمان رضي الله عنه عن ثلاث وستين سنة، ومناقبه كثيرة لا تنكر [1] مشهورة، وفيه يقول أبو محجن الثقفيّ [2] :
وسمّيت صدّيقا وكلّ مهاجر ... سواك يسمّى باسمه غير منكر
وبالغار إذ سمّيت بالغار صاحبا ... وكنت رفيقا للنبيّ المطهّر
سبقت إلى الإسلام والله شاهد ... وكنت جليسا بالعريش المشهّر
ومناقبه وسوابقه في الإسلام لا تنحصر، وكان رئيسا في الجاهلية، وكان إليه الدّيات، ومعرفة الأنساب، وتأويل الرؤيا، وأسلم على يده جماعة، وأعتق أعبدا افتداهم من أيدي المشركين يعذّبونهم، منهم بلال، وعامر بن فهيرة، ونص صلى الله عليه وسلم أن سبقه لغيره بواقر وقر في صدره [3] ، وجاء أنه كان إذا تنفّس يشم منه رائحة كبد مشوية، وبينه وبين مرة بن كعب
__________
[1] لفظة: «لا تنكر» سقطت من المطبوع.
[2] اختلف في اسمه، فقيل عبد الله بن حبيب، وقيل: عمرو بن حبيب، وقيل: مالك بن حبيب، وقيل: اسمه كنيته، وهو من الشعراء المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام، وهو شاعر فارس شجاع معدود في أولي البأس والنجدة مات سنة (30) هـ. انظر «أسد الغابة» لابن الأثير (6/ 276- 278) ، و «الأغاني» لأبي فرج الأصفهاني (19/ 1- 41) ، و «الإصابة» لابن حجر (12/ 7- 12) ، و «الشعر والشعراء» لابن قتيبة ص (251- 253) ، و «شرح أبيات مغني اللبيب» للبغدادي (1/ 143، 144) ، و «الأعلام» للزركلي (5/ 76) .
[3] في الأصل: «بواقد وقد في صدره» ، وهو تحريف. وقوله: نص صلى الله عليه وسلم أن سبقه لغيره بواقر وقر في صدره، قال فيه الحافظ العراقي: لم أجده مرفوعا، وهو من كلام بكر بن عبد الله المزني.(1/154)
ستة آباء كالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وأمه سلمى أم الخير [1] بنت صخر بن عامر، تيمية أيضا، ولد بعد عام الفيل بسنتين وأربعة أشهر إلا أياما، وعاش بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم بعدد ما سبقه النبيّ صلى الله عليه وسلم بالولادة، واستخلف عمر فلم يختلف عليه اثنان، والإجماع منعقد على صحة خلافته، ودلائلها أشهر من أن تذكر، لعن الله باغضيه.
قال محب الدين أبو جعفر محمد الطبري في كتابه «الرياض النضرة في فضائل العشرة رضي الله عنهم» [2] : وعن أبي ذر [3] رضي الله عنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزل عائشة فقال: «يا عائشة ألا أبشّرك؟» قالت: بلى يا رسول الله، قال: «أبوك في الجنّة، ورفيقه إبراهيم الخليل عليه السّلام، وعمر في الجنّة ورفيقه نوح عليه السّلام، وعثمان في الجنّة ورفيقه أنا، وعليّ في الجنّة ورفيقه يحيى بن زكريّا [عليه السّلام] ، وطلحة في الجنّة ورفيقه داود عليه السّلام، والزّبير في الجنّة ورفيقه إسماعيل عليه السّلام، وسعد بن أبي وقّاص في الجنّة ورفيقه سليمان بن داود عليه السّلام، وسعيد في الجنّة ورفيقه موسى بن عمران عليه السّلام، وعبد الرّحمن بن عوف في الجنّة ورفيقه عيسى عليه السّلام، وأبو عبيدة بن الجرّاح في الجنّة ورفيقه إدريس عليه السّلام» .
ثم قال: «يا عائشة أنا سيّد المرسلين وأبوك أفضل الصّدّيقين، وأنت أمّ المؤمنين» . أخرجه الملاء في «سيرته» [4] ، انتهى.
__________
[1] في المطبوع: «أم الخيرا» وهو تحريف.
[2] «الرياض النضرة في مناقب العشرة» (1/ 41) .
[3] هو جندب بن جنادة الغفاري رضي الله عنه.
[4] «الرياض النضرة» (1/ 41) .(1/155)
وقال اللّقاني [1] في «شرح الجوهرة» : أفضل الصّحابة أهل الحديبية، وأفضل أهل الحديبية أهل أحد، وأفضل أهل أحد أهل بدر، وأفضل أهل بدر العشرة، وأفضل العشرة الخلفاء الأربعة، وأفضل الأربعة أبو بكر الصّدّيق رضي الله عنهم أجمعين. انتهى.
وقال المحب الطبري في «الرياض» أيضا عن أنس رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحسن القول في أصحابي فقد برئ من النّفاق، ومن أساء القول في أصحابي كان مخالفا لسّنتي ومأواه النار وبئس المصير» أخرجه أبو سعد في «شرف النبّوة» [2] . وعن عبد الرحيم بن زيد العمّي قال: أخبرني أبي قال: أدركت أربعين شيخا من التابعين كلهم حدّثونا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحبّ جميع أصحابي وتولّاهم واستغفر لهم جعله الله تعالى يوم القيامة معهم في الجنّة» ، خرجه ابن عرفة العبدي [3] . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحبّ أصحابي وأزواجي وأهل بيتيّ ولم يطعن في أحد منهم، وخرج من الدّنيا على محبّتهم كان معي في درجتي يوم القيامة» ، أخرجه الملاء في «سيرته» [4] .
__________
[1] هو عبد السلام بن إبراهيم بن إبراهيم اللقاني المصري، شيخ المالكية في وقته بالقاهرة المتوفى سنة (1078) هـ. وكتابه الذي نقل عنه المؤلف ابن العماد هو «شرح جوهرة التوحيد» . انظر «الأعلام» للزركلي (3/ 355) .
[2] «الرياض النضرة» (1/ 26، 27) .
[3] «الرياض النضرة» (1/ 27) .
[4] «الرياض النضرة» (1/ 27) .(1/156)
وعن الأعمش قال: خرجت في ليلة مقمرة أريد المسجد فإذا أنا بشيء عارضني، فاقشعرّ منه جسدي، فقلت [1] : أمن الجن أم من الإنس؟ فقال:
من الجن، فقلت: مؤمن أم كافر؟ فقال: بل مؤمن، فقلت: هل فيكم من هذه الأهواء والبدع شيء؟ قال: نعم، ثم قال: وقع بيني وبين عفريت من الجنّ اختلاف في أبي بكر وعمر، فقال العفريت: إنهما ظلما عليا واعتديا عليه، فقلت: بمن ترتضي حكما؟ فقال: بإبليس، فأتيناه فقصصنا عليه القصة، فضحك ثم قال: هؤلاء من شيعتي وأنصاري وأهل مودّتي، ثم قال:
ألا أحدّثكم بحديث؟ قلنا: بلى، قال: أعلمكم أني عبدت الله تعالى في السماء [2] الدّنيا ألف عام فسمّيت فيها العابد، وعبدت الله في الثانية ألف عام فسميت فيها الزّاهد، وعبدت الله في الثالثة ألف عام فسميت فيها الرّاغب، ثم رفعت إلى الرابعة فرأيت فيها سبعين ألف صف من الملائكة يستغفرون لمحبي أبي بكر وعمر، ثم رفعت إلى الخامسة فرأيت فيها سبعين ألف ملك يلعنون مبغضي أبي بكر وعمر. انتهى.
وفي «الصحيحين» أنه ذهب بثلاثة أضياف معه إلى بيته، وجعل لا يأكل لقمة إلّا ربا من أسفلها أكثر منها فشبعوا، وصارت أكثر ما هي قبل ذلك، فنظر إليها أبو بكر وامرأته فإذا هي أكثر مما كانت، فرفعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء إليه أقوام كثيرون فأكلوا منها [3] .
__________
[1] في المطبوع: «وقلت» .
[2] في الأصل: «في سماء الدنيا» ، وأثبتنا ما في المطبوع.
[3] رواه البخاري رقم (602) في مواقيت الصلاة: باب السمر مع الضيق والأهل، و (3581) في المناقب: باب علامات النبوة في الإسلام، و (6140) في الأدب: باب ما يكره من الغضب والجزع عند الضيق، و (6141) باب قول الضيف لصاحبه والله لا آكل حتى تأكل، ومسلم رقم (2057) في الأشربة: باب إكرام الضيف وفضل إيثاره، وقد أورده المؤلف مختصرا.(1/157)
ومات يوم وفاة أبي بكر أميره على مكّة عتّاب بن أسيد الأموي، وكان من مسلمة الفتح، وأمّره النبيّ صلى الله عليه وسلّم على مكّة حين خرج إلى حنين والطّائف، ولم يزل عليها حتّى توفّي النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولما أن جاء الخبر بموت النبيّ صلى الله عليه وسلم اختفى وخاف على نفسه، فقام سهيل بن عمرو وخطب خطبة بليغة ثبّت الله بها قلوب النّاس، فصحّ في سهيل قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «عسى أن يقوم مقاما يحمد فيه» [1] .
__________
[1] قلت: وفي «أسد الغابة» لابن الأثير (2/ 480) : «فعسى أن يقوم مقاما تحمده عليه» .(1/158)
سنة أربعة عشرة
فيها فتحت دمشق صلحا من أبي عبيدة، وعنوة من خالد، ثم أمضيت صلحا بعد مراجعة عمر، وعزل عمر خالدا بأبي عبيدة، فقال خالد: والله لو ولّي عمر على امرأة لسمعت وأطاعت [1] ، وكان قد رأى تلك الأيام أن قلنسوته سقطت، ففسرت بعزله.
وكان عمر قد أنفذه [2] إلى العراق لشجاعته وإقدامه، ثم عزله لتعزيره بالمسلمين، مع أن عمر أشار على أبي بكر أن ينفذه لقتال أهل الردّة، وكان في صلح أبي عبيدة لأهل دمشق أنّ لهم ما حملت إبلهم، وأن لا يتبعوا إلى انقضاء ثلاثة أيام، فتبعهم خالد بعد الثلاث، فأدركهم بمرج الديباج [3] ، فوضع فيهم السيف، وقتل أميرهم، وسبى بنت ملكهم [4] ، فروجع عمر
__________
[1] في المطبوع: «وأطعت» وهو خطأ.
[2] في المطبوع: «أنفده» وهو تصحيف.
[3] قال ياقوت: مرج الديباج، واد عجيب المنظر نزه بين الجبال، بينه وبين المصّيصة عشرة أميال. «معجم البلدان» (5/ 101) .
قلت: والمصيصة، مدينة على شاطئ جيحان من ثغور الشام بين أنطاكية وبلاد الروم تقارب طرسوس. وانظر: «معجم البلدان» (5/ 145) .
[4] في المطبوع: «مليكهم» .(1/159)
فيها، وقد أرسل أبوها بمال عظيم في فدائها، فأمر عمر بإطلاقها بغير مال ليريهم أنه لا رغبة ولا رهبة له فيهم.
وفيها وقعة جسر أبي عبيد [1] على مرحلتين من الكوفة، واستشهد من المسلمين بها نحو ثمانمائة، منهم أبو عبيدة بن مسعود [2] ، والد المختار الكذاب، وكان من أجلة الصحابة [3] رضي الله عنهم.
وفيها مصّر عتبة بن غزوان البصرة، وأمر ببناء مسجدها الأعظم.
وفتحت بعلبكّ، وحمص صلحا، وهرب هرقل عظيم الروم من أنطاكية إلى القسطنطينية.
وفيها توفّي أبو قحافة والد أبي بكر الصّدّيق، واسمه عثمان، وكان أسلم يوم الفتح، ومات عن أربع وتسعين سنة رضي الله عنه وعن ولده وذرّيّته.
__________
[1] في المطبوع: «جسر أبي عبيدة» وهو خطأ. وإنما نسب الجسر إلى أبي عبيد بن مسعود الثقفي رضي الله عنه لأنه أمر بنصب الجسر على الفرات ليعبر جيش المسلمين لقتال الفرس، فقطعوا الجسر خلفه، وقتل، وقتل أصحابه. «الإصابة» لابن حجر (11/ 249) ، و «تاريخ خليفة بن خياط» ص (124، 125) ، و «أسد الغابة» (6/ 205) ، و «تاريخ الطبري» (3/ 441، 442) ، و «معجم البلدان» (2/ 140) ، و «الروض المعطار» ص (178- 180) .
قال ابن الأثير في «أسد الغابة» : وتعرف وقعة أبي عبيد أيضا، بيوم قسّ الناطف، ويوم المروحة.
[2] وهو الذي تكلمنا عنه في التعليق السابق.
[3] في المطبوع: «من جلة الصحابة» .(1/160)
سنة خمس عشرة
فيها وقعة اليرموك، وكان المسلمون ثلاثين ألفا، والروم أزيد من مائة ألف، الخمسة والستة في سلسلة لئلا يفروا، فداستهم الخيل، وقيل: كان المسلمون خمسين ألفا، والروم ألف ألف، والرماة فيهم مائة ألف، ومعهم جبلة بن الأيهم الغسّاني في ستين ألفا من متنصّرة العرب، فقدمهم الروم، فانتقى لهم خالد ستين رجلا من أشراف العرب فقاتلوهم يوما كاملا، ثم نصر الله المسلمين وهرب جبلة، ولم ينج منهم إلا القليل، ثم التقى المسلمون مع الروم مرة بعد أخرى حتى أبادوهم بالقتل وهربت بقيتهم تحت الليل.
واستشهد في اليرموك جماعة من فضلاء المسلمين منهم عكرمة بن أبي جهل، وكان قد حسن إسلامه بحيث إنه لا يقدر يثبت بصره في المصحف من كثرة الدمع، وعيّاش بن أبي ربيعة المخزومي، وعبد الرّحمن ابن العوام، أخو الزّبير، وعامر بن أبي وقّاص أخو سعد، وأما عتبة بن أبي وقّاص فلم يكن مسلما، وهو الذي كسر رباعية النبيّ صلى الله عليه وسلّم، وظهرت بها نجدة جماعة منهم الزّبير، والفضل بن العباس، وخالد بن الوليد، وعبد الرّحمن بن أبي بكر في آخرين رضي الله عنهم.
وفي شوال منها وقعة القادسية، وقيل: كانت في ستة عشرة، وكان أمير(1/161)
المسلمين سعد بن أبي وقّاص، ورأس المجوس رستم ومعه الجالينوس، وذو الحاجب، وكان المسلمون سبعة آلاف، والمجوس ستون ألفا، ومعهم سبعون فيلا، فحصرهم المسلمون في المدائن [1] ، وقتلوا رؤساءهم الثلاثة وخلقا.
واستشهد بها عمرو [2] بن أم مكتوم الأعمى المذكور في قوله تعالى:
أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى 80: 2 [عبس: 2] ، وأبو زيد الأنصاري.
وافتتحت الأردنّ عنوة، إلا طبريّة صلحا.
وتوفي سعد بن عبادة سيد الخزرج بحوران، جعل [3] يبول في جحر فخرّ ميّتا، وسمع يومئذ صائح من الجن في داره بالمدينة يقول:
نحن [4] قتلنا سيّد الخز ... رج سعد بن عبادة
رميناه بسهمين [5] ... فلم نخط فؤاده [6]
__________
[1] المدائن: مدينة على سبعة فراسخ من بغداد على حافتي دجلة. كانت دار مملكة الأكاسرة، افتتحها سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. عن «الروض المعطار» للحميري ص (556، 559) ، وانظر: «معجم البلدان» لياقوت (5/ 74، 75) .
[2] قال الحافظ الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (1/ 360) : مختلف في اسمه، فأهل المدينة يقولون: عبد الله بن قيس بن زائدة بن الأصم بن رواحة القرشيّ العامري، وأما أهل العراق، فسموه عمرا.
[3] في المطبوع: «قعد» .
[4] لفظة: «نحن» ليست في «الاستيعاب» لابن عبد البر، و «أسد الغابة» لابن الأثير، و «سير أعلام النبلاء» للذهبي.
[5] في الأصل، والمطبوع: «بسهم» والتصحيح من «أسد الغابة» ، و «طبقات ابن سعد» ، و «سير أعلام النبلاء» .
[6] البيت الأول في «الاستيعاب» لابن عبد البر على هامش «الإصابة» (4/ 158) ، و «أسد الغابة» لابن الأثير (2/ 358) ، و «سير أعلام النبلاء» للذهبي (1/ 277) .
والبيت الثاني موافق لما في «الاستيعاب» ، وفي «أسد الغابة» ، و «طبقات ابن سعد» ، و «سير أعلام النبلاء» : «رميناه بسهمين» وهو ما أثبتناه.(1/162)
سنة ست عشرة
افتتحت حلب، وأنطاكية صلحا.
واختطّ مصر [1] سعد بن أبي وقّاص، أي علم موضع البناء.
وحاصر المسلمون بيت المقدس مدّة، فقالوا للمسلمين: لا تتبعوا أنفسكم فلن يفتحها إلا رجل له علامة عندنا، فإن كان إمامكم [2] بتلك العلامة سلّمناها من غير قتال، فلما وصل الخبر إلى عمر بذلك، ركب راحلته ومعه غلام له يعاقبه الركوب، وتزوّد شعيرا وتمرا وزيتا، ولبس مرقّعة، فلما قرب تلقّاه المسلمون وسألوه تغيير تلك الهيئة، ففعل قليلا، ثم قال:
أقيلوني، فرجع إلى هيئته الأولى، فلما رآه الكفّار كبّروا وفتحوها وقالوا: هو هذا.
وفيها ماتت مارية القبطيّة أمّ إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
[1] قلت: المصر المقصود بكلام المؤلف مدينة الكوفة. انظر «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 105) ، و «معجم البلدان» لياقوت (4/ 491) ، و «الروض المعطار» للحميري ص (501، 502) .
[2] في المطبوع: «أمامكم» وهو تحريف.(1/163)
سنة سبع عشرة
فيها استسقى عمر بالعباس رضي الله عنهما فسقوا، ثم خرج عمر إلى الشام فرجع [1] لما سمع بالطاعون بعد اختلاف بين الصحابة في الرجوع والقدوم على ما هو مقرر [2] .
__________
[1] في المطبوع: «ورجع» .
[2] وذلك «أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام، حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد- أبو عبيدة وأصحابه- فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام، قال ابن عباس: فقال عمر:
ادع لي المهاجرين الأولين، فدعوتهم، فاستشارهم، وأخبر أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا، فقال بعضهم: خرجت لأمر، ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقيّة الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي الأنصار، فدعوتهم، فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي من كان ها هنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم، فلم يختلف عليه منهم رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس، ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر، فأصبحوا عليه، فقال أبو عبيدة ابن الجراح: أفرارا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة؟ - وكان عمر يكره خلافه- نعم نفرّ من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كانت لك إبل، فهبطت واديا له عدوتان: إحداهما خصبة، والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف- وكان متغيّبا في بعض حاجاته- فقال: إن عندي في هذا علما، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم به بأرض: فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها: فلا تخرجوا فرارا منه» قال: فحمد الله عمر بن الخطاب، ثم انصرف، وانظر: «جامع الأصول» لابن الأثير (7/ 577، 578) ، و «الموطأ» للإمام مالك (2/ 894- 896) .(1/164)
وفي سقياهم بالعباس يقول العباس بن عتبة بن أبي لهب:
بعميّ سقى الله الحجاز وأهله ... عشيّة يستسقي بشيبته عمر
توجّه بالعبّاس في الجدب راغبا ... إليه فما إن رام [1] حتى أتى المطر
ومنّا رسول الله فينا تراثه ... فهل فوق هذا للمفاخر مفتخر [2]
وفيها زاد عمر في المسجد النّبويّ.
وافتتح أبو موسى الأشعري [3] الأهواز [4] .
وفيها كانت وقعة جلولاء [5] ، وقتل من المشركين مقتلة عظيمة، وبلغت الغنائم ثمانية عشر ألف ألف، وقيل: ثمانين ألف ألف.
وتزوج عمر أمّ كلثوم بنت فاطمة الزهراء رضي الله عنهم.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «فما إن زال» وما أثبتناه من «تاريخ مدينة دمشق» لابن عساكر (عبادة ابن أوفى- عبادة بن ثوب) ص (187) ، و «الكامل» لابن الأثير (2/ 558) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «فهل أحد هذي المفاخر مفتخر» وما أثبتناه من «تاريخ دمينة دمشق» لابن عساكر، و «الكامل» لابن الأثير.
والأبيات في «تاريخ مدينة دمشق» منسوبة للعباس بن عتبة بن أبي لهب كما في كتابنا، وأما في «الكامل فقد نسبها ابن الأثير للفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب.
[3] هو عبد الله بن قيس بن سليم بن حضّار بن حرب الأشعري رضي الله عنه.
[4] الأهواز إقليم يعرف أيضا بخوزستان، وهو إقليم واسع كبير، ولعل أبا موسى رضي الله عنه لم يفتح الإقليم بكامله، وإنما فتح قاعدة الإقليم سوق الأهواز. وانظر «معجم البلدان» لياقوت (1/ 384- 287) ، و «الروض المعطار» للحميري ص (61، 62) .
[5] في «تاريخ الطبري» (4/ 24) ، و «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (2/ 519) ، و «البداية والنهاية» لابن كثير (7/ 69) ، و «معجم البلدان» لياقوت (2/ 156) أنها جرت في سنة (16) .
وفي «تاريخ خليفة بن خياط» ص (136) أنها جرت في سنة (17) .(1/165)
سنة ثماني عشرة
فيها طاعون عمواس [1] بناحية الأردنّ، سمّي بها لأنه منها ابتدأ، لم يسمع بطاعون مثله في الإسلام.
واستشهد بها أبو عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة، وأمير [2] الأمراء بالشام، وهو ابن ثمان وخمسين سنة.
واستشهد فيه [3] الفضل [4] ، وكان من أشجع الناس قلبا، وأحسنهم
__________
[1] قال الزبيدي في «تاج العروس» «عموس» (16/ 286) : عمواس: هكذا قيده غير واحد، وهو بسكون الميم، وأورده الجوهري في «عمس» وقال: طاعون عمواس أول طاعون كان في الإسلام بالشام، ولم يزد على ذلك، وفي «العباب» عمواس: كورة من فلسطين، وأصحاب الحديث يحركون الميم، وإليه ينسب الطاعون، ويضاف فيقال: طاعون عمواس، وكان هذا الطاعون في خلافة عمر رضي الله عنه، سنة ثماني عشرة، ومات فيه جماعة من الصحابة، ذكرتهم في كتابي «در السحابة في وفيات الصحابة» قال: وقرأت في «الروض» للسهيلي عن أبي إسحاق أن معاذ بن جبل رضي الله عنه مات في طاعون عمواس، قال: هكذا مقيد في النسخة بسكون الميم، وقال البكري في كتاب «المعجم» : من أسماء البقاع «عمواس» محركة، وهي قرية بالشام، عرف الطاعون بها، لأنه منها بدأ، وقيل: إنما سمي طاعون عمواس لأنه عمّ وآس، أي جعل بعض الناس أسوة بعض. وانظر «معجم البلدان» لياقوت (4/ 157) ، و «الروض المعطار» للحميري ص (415) ، و «لسان العرب» «عمس» (4/ 3106) .
[2] في الأصل: و «أمين الأمراء بالشام» ، وما أثبتناه من المطبوع.
[3] أي في الطاعون، وفي المطبوع: «واستشهد فيها» .
[4] هو الفضل بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي، ابن عم النبيّ صلى الله عليه(1/166)
وجها، وأسخاهم يدا، وله في الجود مآثر يضيق عنها هذا المختصر.
وفيه أيضا [1] استشهد سلطان العلماء، وأعلم الأمة بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ورد أن العلماء تأتي تحت رايته يوم القيامة [2] ، وقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إني أحبّك يا معاذ» [3] ، وكان من فضلاء الصّحابة وفقهائهم، وهو الذي بنى مسجد الجند باليمن، وقيل: بني بعده، ومات عن ست، أو ثمان وثلاثين سنة [4] .
وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم قسم اليمن على خمسة رجال، خالد ابن سعيد بن العاص على صنعاء، والمهاجر بن أميّة على كندة [5] ، وزياد بن
__________
وسلم، كان أكبر الإخوة، وبه كان يكنى أبوه، وكان يكنى أبا العباس، وأبا عبد الله، ويقال:
كنيته أبو محمد، غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم مكة، وحنينا، وثبت معه يومئذ، وشهد حجّة الوداع، وحضر غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، اختلف المؤرخون حول سنة وفاته ووقتها، ورجح الحافظ ابن حجر خبر وفاته في طاعون عمواس كما ذكر المؤلف رحمه الله. انظر «الإصابة» (8/ 102) .
[1] أي في طاعون عمواس.
[2] عند الطبراني في «المعجم الكبير» وأبي نعيم في «حلية الأولياء» عن محمد بن كعب مرسلا، وغيرهما، أن معاذ بن جبل يكون أمام العلماء يوم القيامة برتوة، وأخرجه محمد بن عثمان بن أبي شيبة في «تاريخه» ، وأورده ابن عساكر من طرق، عن محمد بن الخطاب، وهو حديث صحيح بطرقه.
والرتوة: رمية سهم، وقيل: درجة، وقيل: خطوة.
[3] رواه أبو داود رقم (1522) في الصلاة: باب في الاستغفار، والنسائي (3/ 53) في السهو:
باب الدعاء بعد الذكر، وإسناده صحيح، والحديث بتمامه، «يا معاذ، والله إني لأحبك» ، فقال: «أوصيك يا معاذ، لا تدعنّ في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك» .
[4] وهذا ما عليه معظم الجمهور من العلماء.
[5] قال ياقوت: كندة: بالكسر، مخلاف كندة باليمن اسم قبيلة: «معجم البلدان» (4/ 482) ، وقال الفيروزآبادي: وكندة بالكسر ويقال: كنديّ لقب ثور بن عفير أبو حي من اليمن، لأنه كند أباه النعمة ولحق بأخواله. «القاموس المحيط» (1/ 346) .(1/167)
لبيد على حضرموت، ومعاذ بن جبل على الجند [1] ، وأبو موسى على زبيد [2] وعدن والساحل وغيرها [3] .
وفيها، وقيل: في التي بعدها، مات يزيد بن أبي سفيان بن حرب أفضل إخوته، أسلم عام الفتح، وشهد حنينا، وأعطاه النبيّ صلى الله عليه وسلم مائة ناقة وأربعين أوقية فضة، واستعمله أبو بكر على الشام، وعمر بعده، ثم استخلف بعده عمر أخاه معاوية، وأقره عثمان إلى أن استقرت له الخلافة ومات [4] خليفة حقا رضي الله عنه.
وأبو جندل بن سهيل بن عمرو العامري، وقصّته في صلح الحديبية مشهورة في «الصحيح» [5] .
وسهيل بن عمرو والد أبي جندل، وكان من سادات قريش وخطبائهم، ومن حلمه وصحة إسلامه أنه قدم المدينة في شيوخ من قريش فيهم أبو سفيان، فاستأذنوا على عمر فأبطأ عليهم، واستأذن بعدهم فقراء من المسلمين فأذن لهم، فقال أبو سفيان: عجبا، يؤذن للمساكين والموالي، وكبار
__________
[1] قال الحميري: جند: مدينة باليمن كبيرة حصينة كثيرة الخيرات، بها قوم من خولان، وبها مسجد جامع بناه معاذ بن جبل رضي الله عنه حين نزلها. «الروض المعطار» ص (175، 176) .
[2] قال ياقوت: زبيد: بفتح أوله، وكسر ثانيه، ثم ياء مثناة من تحت: اسم واد به مدينة يقال لها الحصيب، ثم غلب عليها اسم الوادي فلا تعرف إلا به، وهي مدينة مشهورة باليمن أحدثت في أيام المأمون. «معجم البلدان» (3/ 131) .
[3] انظر «معجم ما استعجم» للبكري (2/ 702) .
[4] في المطبوع: «حتى مات خليفة» .
[5] رواها البخاري رقم (2700) في الصلح: باب الصلح مع المشركين، وانظر «جامع الأصول» لابن الأثير (8/ 286- 301) ، و «إعلام السائلين» لابن طولون ص (141، 142) .(1/168)
قريش واقفين، فقال سهيل: اغضبوا على أنفسكم، فإن الله دعا هؤلاء فأسرعوا، ودعاكم فأبطأتم، والله إن الذي سبقوكم إليه من الخير خير من هذا الذي تنافسون فيه من هذا الباب، ولا أرى أحدا منكم يلحق بهم إلا أن يخرج إلى الجهاد، لعل الله يرزقه الشهادة، فخرج سريعا إلى الشام، وكان يتردد في مكة إلى بعض الموالي يقرئه القرآن، فعيّره بعض قريش، فقال سهيل: هذا والله الكبر الذي حال بيننا وبين الخير، ولما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا يوم الحديبية، قال: «قد سهل لكم من أمركم» [1] أي تفاؤلا باسمه.
وفيها شرحبيل بن حسنة الكندي نسب إلى أمه، وأبوه عبد الله بن مطاع هاجر إلى الحبشة، واستعمله عمر على بعض الشام، مات في طاعون عمواس.
والحارث بن هشام بن المغيرة أخو أبي جهل بن هشام مات أيضا في الطاعون المذكور.
وفيها افتتحت حرّان [2] ، والموصل، والسّوس [3] ، وتستر [4] .
__________
[1] هو قطعة من حديث طويل رواه البخاري رقم (731) و (2732) في الشروط: باب الشروط في الجهاد، والمصالحة مع أهل الحرب، وكتابة الشروط، وأحمد في «المسند» (4/ 330) واللفظ للبخاري.
[2] هي حرّان جزيرة أقور. انظر «الأمصار ذوات الآثار» للذهبي ص (58) الذي حققته بإشراف والدي الشيخ عبد القادر الأرناؤوط، وهو من منشورات دار ابن كثير.
[3] السوس من كور الأهواز، وهي معربة، واسمها بالفارسية «شوش» . انظر «معجم البلدان» لياقوت (3/ 280، 281) .
[4] تستر مدينة بالأهواز، وهي معربة، واسمها بالفارسية «شوشتر» . انظر «الأمصار ذوات الآثار» للذهبي ص (104 و 105) ، وراجع بشأن فتحها «البداية والنهاية» لابن كثير (7/ 83- 86) .(1/169)
سنة تسع عشرة
افتتحت تكريت [1] ، وقيساريّة [2] .
وتوفي أبو المنذر أبي بن كعب الخزرجي سيد القراء، كان من علماء الصحابة، ومناقبه أكثر من أن تحصر، وقيل: توفي سنة اثنتين وعشرين [3] .
__________
[1] تكريت بلدة بين بغداد والموصل. انظر «معجم البلدان» لياقوت (2/ 38) .
[2] قيسارية بلد على ساحل بحر الشام تعدّ في أعمال فلسطين، بينها وبين طبرية ثلاثة أيام.
وقيسارية أيضا مدينة كبيرة في بلاد الروم. انظر «معجم البلدان» لياقوت (4/ 421) ، و «الروض المعطار» للحميري ص (486) ، وانظر خبر فتحها في «تاريخ خليفة بن خياط» ص (141) ، و «تاريخ الإسلام» للذهبي (2/ 26) ، و «تاريخ الطبري» (4/ 102) .
[3] قلت: وفيها أسرت الروم عبد الله بن حذافة السهمي. انظر «تاريخ خليفة بن خياط» ص (142) ، و «تاريخ الإسلام» للذهبي (2/ 27) .
وفيها حج عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالناس. انظر «تاريخ الطبري» (4/ 103) ، و «الكامل» لابن الأثير (2/ 563) ، و «البداية» لابن كثير (7/ 96) .
وفيها مات خبّاب مولى عتبة بن غزوان، وصلى عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه. انظر «تاريخ الإسلام» (2/ 29) ، و «سير أعلام النبلاء» (2/ 324) للذهبي، و «أسد الغابة» لابن الأثير (2/ 117) ، و «البداية والنهاية» لابن كثير (7/ 96) .(1/170)
سنة عشرين
فيها فتح عمرو بن العاص بعض ديار مصر [1] .
وتوفي بلال بن رباح الحبشي، وأمه حمامة [2] ، مولى أبي بكر، ومؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان صادق الإسلام، وعذّب في ذات الله أشدّ العذاب، وكانت امرأته عند موته تقول: واحرباه، فيقول: بل وا طرباه، غدا نلقى الأحبّة محمدا وصحبه، وكان موته بداريّا من أرض الشام، وقيل: بدمشق، ودفن عند الباب الصغير، وعمره ثلاث وستون سنة [3] .
وفيها توفيت أمّ المؤمنين زينب بنت جحش الأسدية، التي زوجها الله رسوله [4] ، أسرع أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم لحوقا به، وأطولهنّ يدا بالصدقة، وهي التي
__________
[1] انظر «تاريخ الإسلام» للذهبي (2/ 29) ، و «الكامل» لابن الأثير (2/ 564) ، و «البداية» لابن كثير (7/ 97) .
[2] في المطبوع: «وأمه وحمامه» وهو خطأ.
[3] انظر «تاريخ الإسلام» للذهبي (2/ 31، 32) ، و «سير أعلام النبلاء» (1/ 347- 360) ، و «تهذيب الكمال» للمزي (4/ 288- 291) بتحقيق الدكتور بشار عواد معروف، طبع مؤسسة الرسالة.
[4] وذلك لما نزل قول الله تعالى: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ الله. وَتُخْفِي في نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَالله أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ. فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها 33: 37 (الأحزاب: 37) ، وانظر «زاد المسير» لابن الجوزي (6/ 384/ 391) ، و «تفسير ابن كثير» (3/ 490- 492) .(1/171)
كانت تسامي عائشة في الحظوة والمنزلة عند النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وفيها مات أبو الهيثم [1] بن التّيّهان الأنصاري الذي استضافه النبيّ صلى الله عليه وسلم وأكرمه بذلك، فقال: «ما أحد اليوم أكرم أضيافا مني» [2] . وأسيد بن حضير الأنصاري الأشهلي، أحد النّقباء الذي شاهد السكينة عيانا، وكان إذا مشى سبقه نور عظيم.
روى البخاريّ، أن عبّاد بن بشر [3] ، وأسيد بن حضير خرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة فأضاء لهما طرف السّوط، فلما افترقا افترق الضوء معهما [4] .
وعياض بن غنم الفهري نائب أبي عبيدة على الشام.
وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي ابن عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، اسمه المغيرة، وهو الذي كان أخذ يوم حنين بلجام بغلة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وثبت يومئذ معه، وهو أخو نوفل بن الحارث، وربيعة بن الحارث.
__________
[1] واسمه مالك. انظر «تاريخ الإسلام» للذهبي (2/ 38) ، و «الإصابة» لابن حجر (12/ 83) ، و «أسد الغابة» لابن الأثير (6/ 323) .
قلت: وفي سنة وفاته خلاف بين المؤرخين.
[2] هو قطعة من حديث طويل رواه مسلم رقم (2038) في الأشربة: باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه.
[3] في الأصل، والمطبوع: «عباد بن بشير» وهو خطأ، والتصحيح من «صحيح البخاري» و «مسند أحمد» و «كتب الرجال» .
[4] رواه البخاري رقم (3805) في مناقب الأنصار: باب منقبة أسيد بن حضير، وعباد بن بشر، وأحمد في «المسند» (3/ 138 و 190 و 273) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
وانظر «فتح الباري» لابن حجر (7/ 125) .(1/172)
وسعيد بن عامر الجمحي [1] .
وهرقل ملك الروم، وقيل: إنه أسلم في الباطن [2] .
__________
[1] في المطبوع: «سعد بن عامر الجمحي» وهو خطأ.
[2] وذلك أنه لما وصلته رسالة النبيّ صلى الله عليه وسلم مع دحية بن خليفة الكلبي رضي الله عنه، دعا أبا سفيان، وجماعة من قريش كانوا معه، فحاوره حوارا طويلا، سأله فيه عن جوانب مختلفة من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقواله، وأفعاله، وأذن بعدها لعظماء الروم في دسكرة له بحمص، ثم أمر بأبوابها فغلقت، ثم اطلع فقال: يا معشر الروم، هل لكم في الفلاح والرشد، وأن يثبت ملككم، فتبايعوا هذا النبيّ؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب، فوجدوها قد غلقت، فلما رأى هرقل نفرتهم، وأيس من الإيمان قال: ردوهم عليّ. وقال: إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت، فسجدوا له، ورضوا عنه، فكان ذلك آخر شأن هرقل، وانظر نص رسالة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وخبر حوار هرقل مع أبي سفيان في «إعلام السائلين» لابن طولون ص (64- 76) بتحقيقي، طبع مؤسسة الرسالة.(1/173)
سنة إحدى وعشرين
افتتحت مصر.
وتوفّي سيف الله خالد بن الوليد المخزوميّ عن ستين سنة على فراشه بعد ارتكابه عظيم الأخطار في طلب الشهادة، وفتحه الفتوحات العظيمة، ونكايته في أعداء الله تعالى، وفيه عبرة لكل جبان، وحاصر [حصنا] [1] فقالوا: لا نسلم حتى تشرب السّمّ، فشربه ولم يضرّه [2] .
وفيها وقعة نهاوند [3] دامت المصافّ ثلاثة أيام، ثم نزل النّصر.
__________
[1] لفظة «حصنا» سقطت من الأصل، وأثبتناها من المطبوع.
[2] ذكر هذا الخبر الحافظ الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (1/ 376) من حديث أبي السفر قال:
نزل خالد بن الوليد الحيرة على أم بني المرازبة فقالوا: احذر السم لا تسق الأعاجم، فقال:
أتوني به، فأتي فاقتحمه وقال: بسم الله، فلم يضره، وذكره الحافظ ابن حجر في «المطالب العالية» رقم (4043) ونسبه إلى أبي يعلى، وذكره الحافظ الهيثمي في «مجمع الزوائد» (9/ 53) وقال: رواه أبو يعلى، والطبراني بنحوه، وأحد إسنادي الطبراني رجاله رجال الصحيح، وهو مرسل، ورجالهما ثقات، إلا أن أبا السفر لم يسمع من خالد.
وذكره الحافظ ابن حجر في «الإصابة» (3/ 73) في ترجمة خالد رضي الله عنه فقال: روى ابن أبي الدنيا بإسناد صحيح عن خثيمة قال: أتى خالد بن الوليد رجل معه زق خمر فقال:
اللهم اجعله عسلا فصار عسلا. (ع) .
[3] قال ياقوت: نهاوند بفتح النون الأولى، وتكسر، والواو مفتوحة، ونون ساكنة، ودال مهملة، هي مدينة عظيمة في قبلة همذان، بينهما ثلاثة أيام، وسميت نهاوند لأنهم وجدوها كما هي.
«معجم البلدان» (5/ 313) وانظر خبر فتحها فيه.(1/174)
واستشهد أمير المؤمنين النّعمان بن مقرّن المزنيّ [1] ، وكان من سادة الصحابة، فنعاه عمر للناس يوم أصيب على المنبر، وأخذ حذيفة بن اليمان الراية من بعده، ففتح الله عليه.
واستشهد بها طليحة بن خويلد الأسديّ، وكان قد ارتدّ وادّعى النّبوة، وكانت دعوته النبوة بجبل سمرقند من نجد، ثم حسن إسلامه، وكان يعدّ بألف فارس.
وفيها ولّى عمر عمّار بن ياسر إمامة الصلاة بالكوفة، لما اشتكى أهلها سعد بن أبي وقّاص، وولّى عبد الله بن مسعود بيت المال.
وتوفّي العلاء بن الحضرميّ، كان عامل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان يقول في دعائه: يا عليم، يا حليم، يا عليّ، يا عظيم، فيستجاب له، دعا الله بأنهم يسقون ويتوضّؤون لما عدموا الماء، ولا يبقى الماء [2] بعدهم فأجيب، ودعا الله لما اعترضهم البحر ولم يقدروا على المرور عليه، فمرّ هو والعسكر بخيولهم، ودعا الله أن لا يروا جسده إذا مات، فلم يجدوه في اللّحد.
__________
[1] يعني أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
[2] لفظة «الماء» سقطت من المطبوع.(1/175)
سنة اثنتين وعشرين
فيها افتتحت أذربيجان [1] على يد المغيرة بن شعبة، ومدينة نهاوند صلحا، والدّينور مع همذان عنوة على يد حذيفة، وطرابلس المغرب [2] على يد عمرو بن العاص.
وافتتحت جرجان.
وتوفي أبيّ بن كعب على خلاف تقدّم، وهو أحد الأربعة الذين جمعوا القرآن، وأمر الله نبيّه أن يقرأ عليه سورة لَمْ يَكُنِ 98: 1 [البينة: 1] ، وسماه له، وناهيك بها، وقال له: «ليهنك العلم [3] يا أبا المنذر» [4] .
__________
[1] هي بلدة شهيرة تقع في إيران الآن. وانظر «الأمصار ذوات الآثار» للذهبي ص (114) .
[2] وهي اليوم عاصمة ليبيا وتعرف بطرابلس الغرب.
[3] أي ليكن العلم هنيئا لك.
[4] هو قطعة من حديث رواه مسلم رقم (810) في صلاة المسافرين: باب فضل سورة الكهف، وآية الكرسي، وأبو داود رقم (1460) في الصلاة: باب ما جاء في آية الكرسي، وأحمد في «المسند» (5/ 142) .(1/176)
سنة ثلاث وعشرين
فيها توفي أبو حفص أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب القرشي العدوي شهيدا، طعنه أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة في ليال بقين من ذي الحجة بعد مرجعه من الحج، وكان آدم شديد الأدمة طوالا صلبا [1] في دين الله، لا تأخذه في الله لومة لائم، ومناقبه أشهر من أن تذكر، وأكثر من أن تحصر، وفي الأحاديث الصحاح من موافقة التنزيل له، وتزكية النبيّ صلى الله عليه وسلم له في وجهه، وعزّ الإسلام بإسلامه، واتسعت دائرة الإسلام في خلافته، وبركاته، ومناقبه، وكراماته عديدة، ولما طعنه أبو لؤلؤة في صلاة الصبح جعل الأمر شورى بين من بقي من العشرة، وأخرج نفسه وبنيه من ذلك، فأفضى الأمر بعد التشاور إلى عثمان، وقد ثبت في «الصحيحين» عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قد كان في الأمم قبلكم محدّثون [2] ، فإن يكن في أمتي أحد فعمر» [3] .
__________
[1] في المطبوع: «صليبا» .
[2] قال ابن الأثير: أراد بقوله [صلى الله عليه وسلم] «محدّثون» أقواما يصيبون إذا ظنوا وحدسوا فكأنهم قد حدّثوه بما قالوا، وقد جاء في الحديث تفسيره: «أنهم ملهمون» والملهم: الذي يلقى في نفسه الشيء، فيخبر به حدسا وظنا وفراسة، وهو نوع يختصّ الله به من يشاء من عباده الذين اصطفى، مثل عمر رضي الله عنه. «جامع الأصول» (8/ 610) .
[3] رواه البخاري رقم (3689) في فضائل الصحابة: باب مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي العدوي رضي الله عنه، ومسلم رقم (2398) في فضائل الصحابة: باب من فضائل عمر رضي الله تعالى عنه. وانظر «جامع الأصول» لابن الأثير (8/ 609، 610) بتحقيقي.(1/177)
وفي الترمذي وغيره عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر» [1] . وفي الترمذي أيضا: «لو كان بعدي نبيّ لكان عمر» [2] . وفي حديث آخر: «إن الله ضرب [3] الحقّ على لسان عمر وقلبه» [4] . وكان عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: ما كنا [5] نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر. ثبت هذا عنه من رواية الشعبي [6] .
__________
[1] ذكره المحب الطبري في «الرياض النضرة» (2/ 24) في مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال: خرجه القلعي، وذكره ابن الجوزي في «الموضوعات» (1/ 320) ، والشوكاني في «الفوائد المجموعة» ص (336) .
[2] رواه الترمذي رقم (3686) في المناقب: باب مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وهو كما قال.
ورواه أيضا أحمد في «المسند» ، وابن حبان في «صحيحه» ، والطبراني في «الأوسط» ، والحاكم في «المستدرك» (3/ 85) وصححه، ووافقه الذهبي.
[3] وفي بعض الروايات: «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه» .
[4] رواه الترمذي رقم (3682) في المناقب: باب في مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ورواه أيضا أحمد في «المسند» (2/ 53 و 95) من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
ورواه أيضا أحمد في «المسند» (2/ 401) ، وابن حبان في «صحيحه» رقم (2184) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ورواه أيضا أحمد في «المسند» (5/ 165 و 177) ، وأبو داود رقم (2962) في الخراج والإمارة: باب في تدوين العطاء، وابن ماجة رقم (108) في المقدمة، من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.
ورواه أحمد في «المسند» (5/ 145) من حديث غضيف بن الحارث رضي الله عنه، وهو حديث صحيح.
[5] لفظة «كنا» ليست في المطبوع، ولا في «مسند أحمد» الذي بين أيدينا، وهي في «مشكاة المصابيح» .
[6] رواه أحمد في «المسند» (1/ 106) ، والبيهقي في «دلائل النبوة» ، وهو حديث حسن.(1/178)
وقال ابن عمر: وما كان عمر يقول لشيء إني لأراه كذا إلا كان كما يقول.
وعن قيس بن طلق: كنّا نتحدّث أن عمر ينطق على لسان ملك، وكان عمر يقول: اقتربوا من أفواه المطيعين واسمعوا منهم ما يقولون، فإنه تنجلي لهم أمور صادقة.
وهذه الأمور التي أخبر أنها تنجلي للمطيعين هي الأمور التي يكشفها الله لهم.
فقد ثبت أن لأولياء الله مخاطبات، ومكاشفات [1] ولا شك أن أفضل هؤلاء في هذه الأمة بعد أبي بكر عمر رضي الله عنه، واستشهد وله ثلاث وستون سنة [2] ، وقيل: خمس وستون، ومدة خلافته عشر سنين، وسبعة أشهر، وخمس ليال، وقيل: غير ذلك، ودفن مع صاحبيه بإذن عائشة رضي الله عنها.
وفي آخر خلافته توفيت أمّ المؤمنين سودة بنت زمعة القرشيّة العامريّة [3] ، تزوجها صلى الله عليه وسلم بعد موت خديجة، وقبل الهجرة بنحو ثلاث سنين، وكانت قبله تحت السّكران [4] ابن عمها أخي سهيل بن عمرو، وكانت طويلة جسيمة، ووهبت نوبتها من القسم لعائشة رجاء أن تموت في عصمة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فتم لها ذلك.
__________
[1] الأولى أن يقال: ثبت أن للأولياء فراسات وإلهامات من الله عز وجل كعمر رضي الله عنه وغيره.
[2] وهو الصواب.
[3] كذا في «تاريخ الإسلام» للذهبي (2/ 66) ، و «سير أعلام النبلاء» للذهبي (2/ 267) ، و «الإصابة» لابن حجر (12/ 324) ، و «أسد الغابة» لابن الأثير (7/ 158) .
[4] في الأصل: «السكراب» وهو تصحيف، والسكران، هو السكران بن عمرو بن عبد شمس.(1/179)
والصحيح أنها توفيت سنة خمس وخمسين في خلافة معاوية، والله أعلم [1] .
وفيها مات قتادة بن النعمان الأنصاري الأوسي، الذي رد النبيّ صلى الله عليه وسلم عينه يوم أحد حين سقطت، وكانت أحسن عينيه.
وسببه أن رماة المشركين كانوا يقصدونه صلى الله عليه وسلم بالرمي، وكان أصحابه يقف الواحد منهم بعد الواحد في وجهه صلى الله عليه وسلم يتلقى عنه الرمي يفدّيه بنفسه، حتى قتل عشرة، وكان قتادة الحادي عشر، فلما استتم أمر الوقعة وقد سالت عينه، قال له: إن لي زوجة وأنا ضنين بها، محبّ لها، وإنها تقذرني إذا رأتني على هذه الحال، وأنا ما فعلت ما فعلت إلا لأنال الشهادة، أو كلاما هذا معناه، فردها صلى الله عليه وسلم، فكانت أضوأ عينيه وأحسنهما، وفي ذلك يقول ابنه: وقد وفد على بعض خلفاء الأمويين فقال له: من أنت؟ فقال:
أنا ابن الذي سالت على الخدّ عينه ... فردّت بكفّ المصطفى أحسن الرّدّ
__________
[1] قلت: قال الذهبي في «تاريخ الإسلام» (2/ 67) ، و «سير أعلام النبلاء» (2/ 267) : وماتت بالمدينة في شوال سنة أربع وخمسين، وقال الواقدي: وهذا الثبت عندنا، وقال ابن حجر في «الإصابة» (12/ 324) ، ويقال: ماتت سنة أربع وخمسين، ورجحه الواقدي.(1/180)
سنة أربع وعشرين
في أولها بويع ذو النّورين عثمان بن عفّان الأموي بالخلافة بإجماع من المسلمين، وكيفيتها مقرّرة في «صحيح البخاري» [1] وغيره، وهو من أهل السوابق والقدم في الإسلام، هاجر الهجرتين، وصلى إلى القبلتين، وتزوج الابنتين، وجهز جيش العسرة بثلاثمائة بعير بأقتابها، وأحلاسها، وألف دينار، وغير ذلك، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم» [2] . وتلاوته للقرآن في الصلاة، [وصدقاته] [3] ، وعبادته، وحياؤه، وحب النبيّ صلى الله عليه وسلم له أمر معلوم.
وفيها توفي سراقة بن مالك بن جعشم [4] المدني، المذكور في حديث الهجرة [5] ،
__________
[1] انظر «فتح الباري بشرح صحيح البخاري» للحافظ ابن حجر (7/ 59- 69) .
[2] هو قطعة من حديث رواه الترمذي رقم (3701) في المناقب: باب مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه، وأحمد في «المسند» (5/ 63) وإسناده حسن.
[3] لفظة «وصدقاته» سقطت من الأصل، وأثبتها من المطبوع.
[4] في المطبوع: «جعثم» وهو خطأ.
[5] قال ابن هشام في «السيرة» (1/ 489، 490) : قال ابن إسحاق: وحدثني الزهري أن عبد الرحمن بن مالك بن جعشم حدثه عن أبيه، عن عمه سراقة بن مالك بن جعشم قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة مهاجرا إلى المدينة، جعلت قريش فيه مائة ناقة لمن رده عليهم.
قال: فبينا أنا جالس في نادي قومي إذ أقبل رجل منا، حتى وقف علينا، فقال: والله لقد رأيت ركبة ثلاثة مرّوا عليّ آنفا، إني لأراهم محمدا وأصحابه، قال: فأومأت إليه- يعني: أن اسكت-، ثم قلت: إنما هم بنو فلان، يبتغون ضالة لهم، قال: لعله، ثم سكت.
قال: ثم مكثت قليلا، ثم قمت فدخلت بيتي، ثم أمرت بفرسي، فقيد لي إلى بطن الوادي، وأمرت بسلاحي، فأخرج لي من دبر حجرتي، ثم أخذت قداحي التي أستقسم بها، ثم(1/181)
وكان نازلا بقديد [1] ، وهو منزل أمّ معبد، المذكورة أيضا في حديث الهجرة، ولكليهما جرى معجزات من معجزات النّبوّة، منها ما ذكره في «ربيع الأبرار» [2] عن هند بنت الجون: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيمة خالتها أمّ معبد، فقام من رقدته فدعا بماء فغسل يديه ثم تمضمض ومجّ في
__________
انطلقت، فلبست لأمتي، ثم أخرجت قداحي، فاستقسمت بها، فخرج السهم الذي أكره «لا يضره» قال: وكنت أرجو أن أرده على قريش، فآخذ المئة ناقة. قال: فركبت على أثره، فبينما فرسي يشتد بي، عثر بي، فسقطت عنه. قال: فقلت: ما هذا؟ قال: ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها، فخرج السهم الذي أكره «لا يضره» قال: فأبيت إلا أن أتبعه. قال:
فركبت في أثره، فبينا فرسي يشتد بي، عثر بي، فسقطت عنه. قال: فقلت: ما هذا؟. قال:
ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها، فخرج السهم الذي أكره «لا يضره» ، قال: فأبيت إلا أن أتبعه، فركبت في أثره، فلما بدا لي القوم ورأيتهم، عثر بي فرسي، فذهبت يداه في الأرض، وسقطت عنه، ثم انتزع يديه من الأرض، وتبعهما دخان كالإعصار. قال: فعرفت حين رأيت ذلك أنه قد منع مني، وأنه ظاهر. قال: فناديت القوم: فقلت: أنا سراقة بن جعشم:
انظروني أكلمكم، فو الله لا أريبكم، ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه: «قل له: وما تبتغي منا؟» قال: فقال ذلك أبو بكر، قال: قلت:
تكتب لي كتابا يكون آية بيني وبينك. قال: «أكتب له يا أبا بكر» . فكتب لي كتابا في عظم، أو في رقعة، أو في خزفة، ثم ألقاه إليّ، فأخذته فجعلته في كنانتي، ثم رجعت.
وقال السهيلي في «الروض الأنف» (2/ 233) : وذكر غير ابن إسحاق، أن أبا جهل لامه حين رجع بلا شيء، فقال- وكان شاعرا-:
أبا حكم والله لو كنت شاهدا ... لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه
علمت ولم تشكك بأنّ محمّدا ... رسول ببرهان فمن ذا يقاومه
عليك بكفّ القوم عنه فإنني ... أرى أمره يوما ستبدو معالمه
بأمر يودّ الناس فيه بأسرهم ... بأنّ جميع الناس طرّا يسالمه
قلت: وقد أورد البيتين الأولين من هذه الأبيات الحافظ ابن حجر في ترجمته لسراقة رضي الله عنه في «الإصابة» (4/ 127) . وانظر خبر سراقة في «فتح الباري» (7/ 240- 248) .
[1] قديد: موضع قرب مكة. انظر «معجم البلدان» لياقوت (4/ 313) ، و «الروض المعطار» للحميري ص (454) .
[2] قلت: واسمه الكامل «ربيع الأبرار ونصوص الأخبار» وهو لأبي القاسم محمود بن عمر بن محمد الزمخشري، أحد أئمة العلم، واللغة، والآداب، المتوفى عام (538 هـ) ، وكتابه المشار إليه لم يطبع منه سوى الجزء الأول كما ذكر العلامة الزركلي. انظر «كشف الظنون» لحاجي خليفة (1/ 832) ، و «الأعلام» للزركلي (7/ 178) .(1/182)
عوسجة [1] إلى جانب الخيمة، فأصبحنا وهي كأعظم دوحة [2] ، وجاءت بثمر كأعظم ما يكون في لون الورس [3] ورائحة العنبر، وطعم الشّهد، ما أكل منها جائع إلا شبع، ولا ظمآن إلا روي، ولا سقيم إلا برئ، ولا أكل من ورقها بعير ولا شاة إلا ودرّ لبنها، فكنّا نسمّيها المباركة، وكان من البوادي [4] من يستشفي بها ويتزود منها، حتى أصبحنا ذات يوم وقد تساقط ثمرها، واصفرّ ورقها ففزعنا، فما راعنا إلا نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إنها بعد ثلاثين سنة أصبحت ذات شوك من أسفلها إلى أعلاها، وتساقط ثمرها، وذهبت نضارتها، فما شعرنا إلا بمقتل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فما أثمرت بعد ذلك اليوم، فكنّا ننتفع بورقها، ثم أصبحنا وإذا بها قد نبع من ساقها دم عبيط، وقد ذبل ورقها، فبينا نحن فزعين مهمومين إذ أتانا خبر مقتل الحسين، ويبست الشجرة على أثر ذلك وذهبت.
والعجب كيف لم يشتهر أمر هذه الشجرة كما اشتهر أمر الشاة في قصة هي من أعلام القصص انتهى [5] .
__________
[1] العوسجة: الشوك.
[2] الدوحة: الشجرة العظيمة.
[3] الورس: نبت أصفر يكون باليمن تتخذ منه الغمرة للوجه. «لسان العرب» ، «ورس» (6/ 4812) .
[4] في الأصل: «وكان من البواد» بدون الياء، وما أثبتناه من المطبوع.
[5] قال الحافظ ابن حجر في «الإصابة» (13/ 292) : وذكر عمر بن شبة في «كتاب مكة» من طريق عبد العزيز بن عمران أنها أتت أم معبد بنت الأشعر، وذكر لها قصة مع سراقة بن جعشم.
أقول: وعبد العزيز بن عمران بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني، الأعرج، يعرف بابن أبي ثابت، متروك احترقت كتبه، فحدّث من حفظه فاشتد غلطه، وكان عارفا بالأنساب، ولم يكن من أصحاب الحديث، وليس حديثه بشيء، وقال ابن حبان: يروي المناكير عن المشاهير. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، منكر الحديث جدا، وقال عمر بن شبة في أخبار المدينة: كان كثير الغلط في حديثه لأنه احترقت كتبه، فكان يحدث من حفظه. انظر «تقريب التهذيب» (1/ 511) ، و «تهذيب التهذيب» (6/ 351) (ع) .(1/183)
سنة خمس وعشرين
فيها انتقض أهل الرّيّ، فغزاهم أبو موسى الأشعريّ، وانتقض أهل الإسكندرية، فغزاهم عمرو بن العاص، فقتل، وسبى.
واستعمل فيها عثمان على الكوفة أخاه لأمه الوليد بن عقبة بن أبي معيط.
وجهز سليمان بن ربيعة الباهلي في اثني عشر ألفا إلى برذعة [1] فقتل، وسبى [2] .
__________
[1] برذعة: بلد في أقصى أذربيجان، قال حمزة: برذعة، معرب برده دار، ومعناه بالفارسية موضع السبي، وذلك أن بعض ملوك الفرس سبى سبيا من وراء أرمينية، وأنزلهم هناك، وقال هلال بن المحسن: برذعة قصبة أذربيجان، وذكر ابن الفقيه أن برذعة هي مدينة أرّان، وهي آخر حدود أذربيجان. «معجم البلدان» (1/ 379) .
[2] قلت: وفيها انتقض أهل الإسكندرية، فغزاهم عمرو بن العاص، وهو أمير على مصر، فقتل وسبى، فرد عثمان رضي الله عنه السبي إلى ذمتهم. انظر «تاريخ خليفة بن خياط» ص (158) ، و «تاريخ الإسلام» للذهبي (2/ 77) ، و «الكامل» لابن الأثير (3/ 81) .
وفيها حج بالناس عثمان بن عفان رضي الله عنه. انظر «تاريخ الإسلام» للذهبي (2/ 78) ، و «تاريخ الطبري» (4/ 250) .
وفيها سيّر عمرو بن العاص عبد الله بن سعد بن أبي سرح إلى أطراف إفريقية غازيا بأمر عثمان، وكان عبد الله من جند مصر، فلما سار إليها أمده عمرو بالجنود، فغنم هو وجنده، فلما عاد عبد الله كتب إلى عثمان يستأذنه في غزو إفريقية، فأذن له في ذلك. انظر «الكامل» لابن الأثير (3/ 86) ، و «تاريخ الإسلام» للذهبي (2/ 78) .(1/184)
سنة ست وعشرين
فيها فتحت سابور [1] على يد عثمان بن أبي العاص، فصالحهم على ثلاثة آلاف درهم.
قيل: وفيها زاد عثمان رضي الله عنه في المسجد [2] [3] .
__________
[1] سابور: بلدة بين خوزستان، وأصبهان. «معجم البلدان» لياقوت (3/ 167) ، وانظر «الروض المعطار» للحميري ص (299) .
[2] قال الطبري في «تاريخه» (4/ 251) : قال الواقدي: فيها زاد عثمان في المسجد الحرام، ووسعه، وابتاع من قوم، وأبى آخرون، فهدم عليهم، ووضع الأثمان في بيت المال، فصيحوا بعثمان، فأمر بهم بالحبس، وقال: أتدرون ما جرأكم عليّ! ما جرأكم عليّ إلا حلمي، قد فعل هذا بكم عمر فلم تصيّحوا، ثم كلمه فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد، فأخرجوا. وانظر «تاريخ الإسلام» للذهبي (2/ 78) ، و «تاريخ خليفة بن خياط» ص (159) ، و «الكامل» لابن الأثير (3/ 87) .
[3] قلت: وفيها عزل عثمان رضي الله عنه سعدا عن الكوفة، لأنه كان تحت دين فتقاضاه واختصما، فغضب عثمان من سعد وعزله، واستعمل الوليد بن عقبة، وقد كان الوليد عاملا لعمر على بعض الجزيرة، وكان فيه رفق برعيته. «تاريخ الإسلام» للذهبي (2/ 78) ، وانظر «تاريخ الطبري» (4/ 251) .
وفيها حج بالناس أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه. «تاريخ الطبري» (4/ 251) .(1/185)
سنة سبع وعشرين
فيها ركب معاوية البحر [1] ، لغزو قبرس [2] .
وعزل عمرو بن العاص بعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وسبب العزل أنه غزا الإسكندرية ظانا نقض العهد، فقتل، وسبى، ولم يصح عند عثمان نقضهم للعهد، فأمر برد السبي، وعزله، فاعتزل عمرو في ناحية فلسطين، وكان ذلك بدء المخالفة.
وغزا عبد الله بن سعد إقليم إفريقية [3] ، وافتتحها، وأصاب الراجل ألف دينار، والفارس ثلاثة آلاف، وقتل ملكهم جرجير [4] .
وتوفيت أمّ حرام بنت ملحان بقبرس في هذه الغزاة، وكانت مع زوجها عبادة بن الصامت.
__________
[1] في المطبوع: «فيها ركب معاوية في البحر» .
[2] قلت: وهي الجزيرة المعروفة الآن باسم «قبرص» .
[3] قال ياقوت: حدّ إفريقية من طرابلس الغرب من جهة برقة والإسكندرية إلى بجاية، وقيل:
إلى مليانة. «معجم البلدان» (1/ 228) ، وانظر «الروض المعطار» للحميري ص (47) .
قلت: ومعظمها الآن في أراضي ليبيا.
[4] في الأصل، والمطبوع: «جرير» وهو خطأ، والتصحيح من «تاريخ خليفة بن خياط» ص (159) ، و «تاريخ الإسلام» للذهبي (2/ 79) ، و «دول الإسلام» للذهبي (1/ 21) .(1/186)
سنة ثمان وعشرين
فيها انتقض أهل أذربيجان [1] ، فغزاهم الوليد بن عقبة ثم صالحوه [2] .
وقيل: فيها غزوة قبرس [3] [4] .
__________
[1] قال الحميري: أذربيجان: هي كورة تلي الجبل من بلاد العراق، وهي مفتوحة الألف ...
ينسب إلى أذربيجان أبو عبد الله الحسن بن جابر الأزدي صاحب كتاب «اللامع في أصول الفقه» وأهل أذربيجان مشهورون بالانكباب على العلم، والاشتغال به، وفيهم يقول الحافظ السّلفي:
ديار أذربيجان في الشرق عندنا ... كأندلس في الغرب في النحو والأدب
فلست ترى في الدهر شخصا مقصّرا ... من أهلها إلا وقد جدّ في الطلب
[2] انظر «تاريخ خليفة بن خياط» ص (160) ، و «تاريخ الإسلام» للذهبي (2/ 81) .
[3] قال ابن كثير في «البداية» (7/ 153) : وكان فتحها على يدي معاوية بن أبي سفيان، ركب إليها في جيش كثيف من المسلمين، ومعه عبادة بن الصامت، وزوجته أمّ حرام بنت ملحان ... وذلك بأمر عثمان بن عفان رضي الله عنه له في ذلك، بعد سؤاله إياه، وقد كان سأل في ذلك عمر بن الخطاب فأبى أن يمكنه من حمل المسلمين على هذا الخلق العظيم الذي لو اضطرب لهلكوا عن آخرهم، فلما كان عثمان لحّ معاوية عليه في ذلك فأذن له، فركب في المراكب، فانتهى إليها، ووافاه عبد الله بن سعد بن أبي سرح إليها من الجانب الآخر، فالتقيا على أهلها، فقتلوا خلقا كثيرا، وسبوا سبايا كثيرة، وغنموا مالا جزيلا جيدا، ولما جيء بالأسارى جعل أبو الدرداء يبكي، فقال له جبير بن نفير: أتبكي وهذا يوم أعزّ الله فيه الإسلام وأهله؟ فقال: ويحك! إن هذه كانت أمة قاهرة لهم ملك، فلما ضيعوا أمر الله صيرهم إلى ما ترى، سلط عليهم السبي، وإذا سلط على قوم السبي فليس لله فيه حاجة، وقال: ما أهون العباد على الله تعالى إذا تركوا أمره.
[4] قلت: وفي هذه السنة تزوج عثمان بن عفان رضي الله عنه بنت الفرامصة الكلبية، وكانت(1/187)
سنة تسع وعشرين
فيها افتتح عبد الله بن عامر بن كريز مدينة إصطخر [1] عنوة بعد قتال عظيم.
وعزل عثمان أبا موسى الأشعري عن البصرة، وعثمان بن أبي العاص عن فارس، وجمعهما [2] لعبد الله بن عامر، وهو ابن خال عثمان، وأمّره، وهو ابن أربع وعشرين سنة، فافتتح فارس، وخراسان [3] جميعا في سنة ثلاثين، وروي أنه لما ولد أتي به النبيّ صلى الله عليه وسلم فتفل في فيه فبلعه، فقال له النبيّ
__________
نصرانية فأسلمت قبل أن يدخل بها. انظر «البداية» لابن كثير (7/ 153) ، و «تاريخ الإسلام» للذهبي (2/ 81) ، و «تاريخ الطبري» (4/ 263) .
وفيها بنى عثمان بن عفان رضي الله عنه داره بالمدينة، وحج بالناس. انظر «تاريخ الطبري» (4/ 263) ، و «البداية» لابن كثير (7/ 153) .
[1] إصطخر: بلدة تقع الآن في الجنوب الغربي لإيران. انظر خبرها في «معجم البلدان» لياقوت (1/ 211) ، و «الروض المعطار» للحميري ص (43 و 44) .
[2] في الأصل: «وجمعها» وما أثبتناه من المطبوع.
[3] خراسان: بلاد واسعة، أول حدودها مما يلي العراق أزاذوار قصبة جوين وبيهق، وآخر حدودها مما يلي الهند طخارستان، وغزنة، وسجستان، وكرمان، وليس ذلك منها إنما هو أطراف حدودها، وتشتمل على أمهات البلاد، منها نيسابور، وهراة، ومرو. وانظر تتمة خبرها في «معجم البلدان» لياقوت (2/ 350) .(1/188)
صلى الله عليه وسلم: «إنّك لمسقى» [1] فكان لا يعالج أرضا إلّا ظهر له ماؤها، وهو الذي عمل الساقيات [2] بعرفة، وشق نهر البصرة، وكان من الأجواد، وهو مجهول الوفاة.
__________
[1] وفي «أسد الغابة» لابن الأثير (3/ 288) : «إنه لمسقى» .
[2] في المطبوع: «السقايات» .(1/189)
سنة ثلاثين
فيها توفّي حاطب بن أبي بلتعة صاحب القصّة في غزوة الفتح، نزل فيه قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ 60: 1 [الممتحنة: 1] الآية، وهو الرسول إلى المقوقس، ولما قال له المقوقس: إن كان رسولا فما له لم يدع على قومه حين كذّبوه وأخرجوه، قال له حاطب:
فعيسى بن مريم أخذه قومه ليقتلوه ويصلبوه، فما له لم يدع عليهم، فقال له:
أحسنت، أنت حكيم [جاء] [1] من عند حكيم، فأهدى للنبيّ صلى الله عليه وسلم مارية [2] ، وبعث معها طرفا وهدايا جميلة [3] .
وفيها افتتح عبد الله بن عامر [4] سجستان [5] ، مع فارس، وخراسان،
__________
[1] زيادة من المطبوع.
[2] هي مارية القبطية أم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم، وهي التي أهداها المقوقس القبطي صاحب الإسكندرية ومصر سنة (7 هـ) إلى النبي صلى الله عليه وسلم، هي وأخت لها تدعى (سيرين) وأهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم أختها (سيرين) إلى حسان بن ثابت الشاعر، توفيت مارية في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة (16 هـ) .
[3] أرسل له الجاريتين، مارية وسيرين، وكسوة، وبغلة ليركبها تسمى دلدل، وغير ذلك، فقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من عادته عليه الصلاة والسلام أنه لا يرد الهدية.
[4] هو عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة القرشي العبشمي، أبو عبد الرحمن، أمير فاتح، ولد بمكة، وولي البصرة في أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه، فوجه جيشا إلى سجستان فافتتحها صلحا، وافتتح عامة فارس وخراسان وكابل، ثم أقام بعد ذلك بالمدينة إلى أن مات، وكان شجاعا سخيا وصولا لقومه، رحيما، محبا للعمران، وهو أول من اتخذ الحياض بعرفة، وأجرى إليها الماء، توفي رحمه الله سنة (58 هـ) .
[5] سجستان، بكسر أوله وثانيه، وسين أخرى مهملة، وتاء مثناة من فوق وآخر نون: ناحية كبيرة(1/190)
وهرب كسرى.
واعتمر عبد الله بن عامر.
واستخلف الأحنف بن قيس على خراسان، فاجتمعوا جمعا لم يسمع بمثلهم، فهزمهم الأحنف، وكثرت الفتوحات [1] في هذا العام، والخراج، فاتخذ عثمان الخزائن، وكان يأمر للرجل بمائة ألف.
__________
وولاية واسعة في أطراف خراسان، بينها وبين هراة ثمانون فرسخا، وهي جنوبي هراة، بها نخيل، وهي أرض سهلة لا يرى فيها جبل، فيها رمال، خرج منها علماء أجلاء، وهي الآن في بلاد إيران. ينسب إليها جماعة من العلماء، منهم الإمام أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني صاحب «السنن» ، والنسبة إليها أيضا السّجزي، وفي البصرة قرية يقال لها: سجستان، أو سجستانة، وليست من سجستان خراسان. انظر معجم البلدان:
(3/ 189- 192) ، و «الأنساب» للسمعاني (7/ 43- 48) بإشراف والدي الشيخ عبد القادر الأرناؤوط.
[1] في المطبوع: «الفتوح» .(1/191)
سنة إحدى وثلاثين
فيها توفّي أبو سفيان بن حرب، والد معاوية رضي الله عنهما، وهو أموي، وقيل: توفي سنة ثلاث وثلاثين [1] .
وفي «صحيح مسلم» أنه قال: يا رسول الله ثلاث أعطنيهنّ [2] قال: «نعم» فسأله تزويج أم حبيبة ابنته، وأن يجعل معاوية كاتبه، وأن يؤمّره [3] فيقاتل الكفّار كما قاتل المسلمين، قال ابن عباس [4] : لولا أنه طلب ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعطه، لأنه لم يكن يسأل شيئا إلا قال: نعم [5] .
__________
[1] وقيل: سنة أربع وثلاثين، والله أعلم.
[2] في المطبوع: «أعطينهن» وهو خطأ.
[3] في المطبوع: «وأن يأمره» وهو خطأ.
[4] في «صحيح مسلم» قال أبو زميل، بدلا من قال ابن عباس.
[5] رواه مسلم في «صحيحه» رقم (2501) في فضائل أبي سفيان بن حرب رضي الله عنه، ولفظ بتمامه: قال ابن عباس: كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا نبي الله، ثلاث أعطنيهنّ قال: «نعم» قال: عندي أحسن العرب وأجمله، أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوّجكها، قال: «نعم» قال: ومعاوية تجعله كاتبا بين يديك، قال:
«نعم» قال: وتؤمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين، قال: «نعم» قال أبو زميل (وهو الراوي عن ابن عباس) : ولولا أنه طلب ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم ما أعطاه ذلك، لأنه لم يكن يسأل شيئا إلا قال: «نعم» .(1/192)
وتزوّج النبيّ صلى الله عليه وسلم لأم حبيبة قد كان تقرّر قبل ذلك وهو [1] مشرك، وكان الوليّ غيره، وإنما قال له: نعم تطييبا لقلبه، أو أنّ مرادك قد حصل، وإن لم يكن حقيقة عقد، وذهبت عينا أبي سفيان في الجهاد، إحداهما يوم الطائف، والثانية يوم اليرموك، وكان يومئذ تحت راية ولده يزيد، ومات وهو ابن ثمان وثمانين سنة، أو تسعين سنة، وصلى عليه معاوية، وقيل: عثمان، ودفن بالبقيع.
وفيها مات الحكم بن أبي العاص [2] عمّ عثمان رضي الله عنه، ووالد مروان، كان النبيّ صلى الله عليه وسلم قد طرده إلى الطائف، وبقي طريدا إلى زمن عثمان، فردّه إلى المدينة، واعتذر بأنّه قد كان شفع فيه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فوعده بردّه، وهو مؤتمن على ما قال، وهو أحد الأسباب التي نقموا بها على عثمان رضي الله عنه.
__________
قال النووي: وهذا الحديث من الأحاديث المشهورة بالإشكال، ووجه الإشكال أن أبا سفيان، إنما أسلم يوم فتح مكة سنة ثمان من الهجرة، وهذا مشهور لا خلاف فيه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد تزوج أم حبيبة قبل ذلك بزمان طويل، تزوجها سنة ست، وقيل: سنة سبع، واختلفوا أين تزوجها، فقيل بالمدينة بعد قدومها من الحبشة، وقال الجمهور بأرض الحبشة.
[1] أي أبو سفيان.
[2] هو الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس القرشي الأموي عم عثمان بن عفان، ووالد مروان بن الحكم، أسلم يوم الفتح، وسكن المدينة، ثم نفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، ثم أعيد إلى المدينة في خلافة عثمان، ومات بها، سنة اثنتين وثلاثين كما قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في «الإصابة» (2/ 271) ، قال الحافظ: ويقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليه، ولم يثبت ذلك.(1/193)
سنة اثنتين وثلاثين
فيها توفي العبّاس بن عبد المطلب عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو الخلفاء العباسيين، حسن بلاؤه يوم حنين [1] ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرمه ويبجّله [2] ، وكذلك الخلفاء الراشدون [3] من بعده، وكان صيّتا ينادي غلمانه من سلع [4] وهم بالغابة فيسمعونه، وذلك على ثمانية أميال، وكان موته أول رمضان عن ست وثمانين سنة، وصلّى عليه عثمان رضي الله عنه.
وفيها عبد الرحمن بن عوف الزهريّ أحد العشرة من السابقين الأوّلين، تصدّق مرة بأربعين ألفا، وبقافلة جاءت من الشام كما هي، وفضائله كثيرة، وهو من المقطوع لهم بالجنة، وما يذكر أنه يدخل الجنة حبوا لغناه فلا أصل
__________
[1] العباس بن عبد المطلب أبو الفضل عم النبي صلى الله عليه وسلم، حضر بقية العقبة مع الأنصار قبل أن يسلم، وشهد بدرا مع المشركين مكرها، فأسر، فافتدى نفسه، وافتدى ابن أخيه عقيل بن أبي طالب، ورجع إلى مكة، فيقال: إنه أسلم وكتم قومه ذلك، وصار يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم الأخبار، ثم هاجر قبل الفتح بقليل، وشهد فتح مكة، وثبت يوم حنين، وكان العباس من أعظم الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الصحابة يعترفون للعباس بفضله ويشاورونه، ويأخذون برأيه، مات بالمدينة المنورة سنة (32 هـ) رضي الله عنه كما ذكر المؤلف رحمه الله. (ع) .
[2] في المطبوع: «ويجله» .
[3] في الأصل: «وكذلك الخلفاء الراشدين» وهو خطأ.
[4] قال البكري: سلع جبل متصل بالمدينة. «معجم ما استعجم» (3/ 747) .(1/194)
له، ويا ليت شعري إذا كان هذا يدخلها حبوا ويتأخّر دخوله لأجل غناه، فمن يدخلها سابقا مستقيما.
وفي خلافة عثمان رضي الله عنه قتل عبيد [1] الله بن معمر التيمي عن أربعين سنة برستاق [2] من رساتيق إصطخر [2] ، وكان أحد الأجواد، اشترى جارية تسمى الكاملة بعشرين ألف دينار، وكانت لفتى قد أدّبها أحسن الأدب، فأملق، فباعها وهو مغرم بها، فأنشدت أبياتا فيها:
عليك سلام لا زيارة بيننا ... ولا وصل إلا أن يشاء ابن معمر
فرقّ لها عبيد الله وردّها عليه وثمنها.
وفيها توفي عبد الله بن مسعود الهذليّ، وهو أحد القرّاء الأربعة، ومن أهل السوابق في الإسلام، ومن علماء الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، هاجر الهجرتين، وصلّى إلى القبلتين، وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة [3] ، وسبب إسلامه أنه مرّ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يرعى غنما بمكة لعقبة بن أبي معيط، فأخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم [منها] [4] شاة حائلا وحلبها، فشرب، وسقى أبا بكر، فقال له ابن مسعود: علّمني من هذا القول، فمسح رأسه وقال: «إنك غليّم [5] معلّم» [6] .
__________
[1] في الأصل: «عبد الله بن معمر التيمي» وهو خطأ، وما أثبتناه من المطبوع، وهو مذكور في «تاريخ خليفة» ص (162) ، و «دول الإسلام» للذهبي (1/ 21) ، و «تاريخ الطبري» (4/ 265) ، و «الأعلام» للزركلي (4/ 198) فيمن قتل سنة (29 هـ) ، وكان من القادة الشجعان الأشداء، ومن أجواد قريش.
[2] الرّستاق، فارسي معرب، وهو السواد، والجمع رساتيق. وإصطخر: بلدة بفارس. انظر «معجم البلدان» (1/ 211) .
[3] وقد أشار إلى شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم له- رضي الله عنه- بالجنة، ابن الأثير في «أسد الغابة» (3/ 386) ، والنووي في «تهذيب الأسماء واللغات» (1/ 288) .
[4] لفظة «منها» سقطت من الأصل، وأثبتناها من المطبوع.
[5] في الأصل والمطبوع: «عليم معلم» والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» (1/ 465) .
[6] رواه أحمد في «المسند» (1/ 379 و 462) وإسناده حسن.(1/195)
ومن كلامه رضي الله عنه: لا يسأل أحدكم عن نفسه إلا القرآن، فإن كان يحبّ القرآن فهو يحبّ الله، وإن كان يبغض القرآن فهو يبغض الله.
وقال رضي الله عنه: الذّكر ينبت الإيمان في القلب كما ينبت الماء البقل، والغناء [1] ينبت النّفاق في القلب كما ينبت الماء البقل.
مات عن نيف وستين سنة، ودفن بالبقيع.
وفيها أبو الدرداء [2] الخزرجيّ الزاهد الحكيم، أسلم بعد بدر، وولي قضاء دمشق لمعاوية في خلافة عثمان، وقالت له زوجته: ما عندنا نفقة، فقال لها: إن بين أيدينا عقبة لا يجوزها إلا المخفّون.
وفيها أبو ذرّ جندب بن جنادة الغفاريّ، صادق الإسلام واللسان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر» [3] .
__________
[1] في المطبوع: «والغنى» وهو خطأ.
[2] قال الحافظ ابن حجر في «الإصابة» (7/ 182، 183) : أبو الدرداء مشهور بكنيته، وباسمه جميعا، واختلف في اسمه، فقيل: هو، وعويمر لقب، حكاه عمرو بن علي الفلاس عن بعض ولده، وبه جزم الأصمعي في رواية الكديمي عنه، واختلف في اسم أبيه، فقيل: عامر، أو مالك، أو ثعلبة، أو عبد الله، أو زيد، وأبوه ابن قيس بن أمية بن عامر بن عدي بن كعب بن الخزرج الأنصاري الخزرجي.
وجزم ابن حبان في «مشاهير علماء الأمصار» ص (50) بأن اسمه عويمر بن عامر بن زيد الأنصاري، وقال: مات سنة اثنتين وثلاثين، وقبره بباب الصغير بدمشق مشهور يزار قد زرته غير مرة.
وانظر «تهذيب الأسماء واللغات» للنووي (2/ 228) .
[3] رواه الترمذي رقم (3801) في المناقب: باب مناقب أبي ذر رضي الله عنه، وابن ماجة رقم (156) في المقدمة: باب فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحمد في «المسند» (2/ 163 و 175 و 223) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن وهو كما قال.
ورواه أحمد في «المسند» (5/ 197) و (6/ 442) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه.(1/196)
وقصة إسلامه في «الصحيح» مشهورة [1] .
وفيها عبد الله بن زيد [2] بن عبد ربه الأنصاري، الذي أري الأذان [3] ، وكان بدريا.
__________
[1] رواها البخاري رقم (3522) في المناقب: باب قصة إسلام أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، و (3861) في مناقب الأنصار: باب إسلام أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، ومسلم رقم (2474) في فضائل الصحابة: باب من فضائل أبي ذر رضي الله عنه.
[2] في الأصل، والمطبوع: «زيد بن عبد الله» وهو خطأ، والتصحيح من كتب الرجال التي بين يديّ.
[3] وقد روى قصة رؤيته- رضي الله عنه- للأذان أحمد في «المسند» (4/ 43) ، وأبو داود في «سننه» رقم (499) في الصلاة: باب كيف الأذان، وابن ماجة رقم (708) في الأذان: باب الترجيح في الأذان، وابن حبان في «صحيحه» رقم (287) «موارد» ، وإليك ما جاء في «المسند» للإمام أحمد حول هذه القصة، قال رضي الله عنه: لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضرب بالناقوس يجمع للصلاة الناس وهو له كاره لموافقته النصارى، طاف بي من الليل طائف وأنا نائم رجل عليه ثوبان أخضران، وفي يده ناقوس يحمله، قال: فقلت له: يا عبد الله: أتبيع الناقوس، قال: وما تصنع به؟ قلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على خير من ذلك؟ قال: فقلت: بلى، قال: تقول: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، قال: ثم استأخرت غير بعيد، قال: ثم تقول إذا أقمت الصلاة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، قال: فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذه لرؤيا حق إن شاء الله» ثم أمر بالتأذين، فكان بلال مولى أبي بكر يؤذن بذلك ويدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة، قال: فجاء فدعاه ذات غداة إلى الفجر فقيل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نائم، قال: فصرخ بلال بأعلى صوته: الصلاة خير من النوم، قال سعيد بن المسيّب فأدخلت هذه الكلمة في التأذين إلى صلاة الفجر.(1/197)
سنة ثلاث وثلاثين
فيها توفي المقداد بن الأسود في أرضه بالجرف [1] ، وحمل إلى المدينة، وشهد بدرا، وقوله يومئذ مشهور مذكور، وشجاعته معلومة، وبالاتفاق أنه كان يوم بدر فارسا، واختلف في الزّبير، ومرثد الغنوي [2] .
وفيها غزا عبد الله بن سعد [3] بن أبي سرح الحبشة [4] [5] .
__________
[1] الجرف: موضع على ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام. «معجم البلدان» لياقوت (2/ 128) .
[2] في المطبوع: «مرتد الغنوي» وهو تصحيف.
[3] في المطبوع: «عبد الله بن سعيد» وهو خطأ.
[4] قال خليفة بن خياط في «تاريخه» ص (168) : فأصيبت عين معاوية بن حديج. يعني في غزوة الحبشة. وانظر «تاريخ الإسلام» للذهبي (2/ 116) .
[5] قلت: وفيها جمع قارن جمعا كثيرا بباذغيس، وهراة، فأقبل في أربعين ألفا، فخلى قيس بن الهيثم البلاد، فقام بأمر الناس عبد الله بن خازم السلمي، فلقي قارن في أربعة آلاف، فقتل قارن وهزم أصحابه وأصابوا سبايا كثيرة. «تاريخ خليفة بن خياط» ص (167) ، وانظر «تاريخ الإسلام» (2/ 115، 116) .
وفيها مات العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه. انظر «تاريخ خليفة بن خياط» ص (168) .
وفيها مات المقداد بن الأسود ومات عامر بن ربيعة حين نشم الناس في أمر عثمان رضي الله عنه. أي طعنوا فيه ونالوا منه. انظر «تاريخ خليفة بن خياط» ص (168) .(1/198)
سنة أربع وثلاثين
فيها أخرج أهل الكوفة سعيد بن العاص، ورضوا بأبي موسى الأشعري، وكتبوا فيه إلى عثمان، فأقرّه عليهم، ثم ردّ عليهم سعيدا، فخرجوا إليه ومنعوه من الدخول، وهو اليوم المذكور في «صحيح مسلم» المسمّى بيوم الجرعة [1] [2] .
__________
[1] انظر الحديث رقم (2893) في الفتن: باب في الفتنة التي تموج كموج البحر. وقال ياقوت: الجرعة: بالتحريك، وقيده الصدفي بسكون الراء، وهو موضع قرب الكوفة المكان الذي فيه سهولة ورمل ... وإليه يضاف يوم الجرعة المذكور في كتاب «مسلم» وهو يوم خرج فيه أهل الكوفة إلى سعيد بن العاص وقت قدم عليهم واليا من قبل عثمان رضي الله عنه، فردوه وولوا أبا موسى ثم سألوا عثمان حتى أقره عليهم. «معجم البلدان» (2/ 128) ، وانظر «مجمع الزوائد» للهيثمي (7/ 233) .
[2] قلت: وفيها مات إياس بن البكير. ويقال ابن أبي البكير، الليثي، حليف بني عدي، كان من المهاجرين، شهد بدرا هو وإخوته خالد، وعاقل، وعامر، ولم يشهد بدرا إخوة أربعة سواهم، وقد شهد إياس فتح مصر رضي الله تعالى عنه. انظر «تاريخ الإسلام» للذهبي (2/ 117) ، و «أسد الغابة» لابن الأثير (1/ 181) ، و «الإصابة» لابن حجر (1/ 143) .
وفيها مات أبو عبس عبد الرحمن بن جبر، ممن شهد بدرا، وكان اسمه معبد، فسماه النبيّ صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن، وكان ممن شهد بدرا رضي الله عنه وأرضاه. انظر «مشاهير علماء الأمصار» لابن حبان ص (25) ، و «أسد الغابة» لابن الأثير (6/ 202) ، و «تاريخ الطبري» (4/ 339) .
وفيها مات مسطح بن أثاثة، أبو عبادة، وكان ممن شهد بدرا، توفي بالمدينة. انظر «مشاهير علماء الأمصار» لابن حبان ص (12) ، و «تاريخ الطبري» (4/ 339) .(1/199)
سنة خمس وثلاثين
فيها مات أبو طلحة [1] الأنصاري النقيب عن سبعين سنة، وصلى عليه عثمان، شهد بدرا وما بعدها، وهو من أهل السوابق في الإسلام، وهو المتصدق بأحب أمواله إليه بيرحى.
قال في «القاموس» : وبيرحى كفيعلى موضع بالمدينة [2] .
وفيها مات النقيب الآخر عبادة بن الصامت، شهد بدرا وما بعدها، ووجهه عمر إلى الشام قاضيا ومعلّما، فأقام بحمص، ثم انتقل إلى فلسطين ومات بها، وقيل: بالرملة، ودفن ببيت المقدس [3] .
__________
[1] هو زيد بن سهل بن الأسود بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عمرو بن مالك بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار الأنصاري الخزرجي أبو طلحة، مشهور بكنيته، من فضلاء الصحابة، زوج أم سليم، أم أنس بن مالك، وفي «الصحيحين» عن أنس رضي الله عنه لما نزلت لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ 3: 92 قال أبو طلحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أحب أموالي إليّ بيرحاء، وإنها صدقة أرجو برّها وذخرها، فقأ النبيّ صلى الله عليه وسلم: «بخ بخ ذاك مال رابح» . واختلف في وفاته، فقال الواقدي، وتبعه ابن نمير، ويحيى بن بكير، وغير واحد فقالوا:
مات سنة (34 هـ) ، وقال غيرهم غير ذلك، والله أعلم. (ع) .
[2] قال الفيروزآبادي في «القاموس» (1/ 223) : وبيرحى كفيعلى: أرض بالمدينة، ويصحّفها المحدّثون: بئرحاء.
[3] قال الحافظ في «الإصابة» (5/ 324) : روى ابن سعد أنه مات بالرملة سنة (34 هـ) ، قال:(1/200)
وفيها توفي عالم الكتاب، به وبالآثار، كعب الأحبار [1] ، أسلم في زمن أبي بكر، وروى عن عمر رضي الله عنه.
وفيها توفي عامر بن أبي ربيعة.
وعبد الله بن أبي ربيعة المخزومي [2] ولّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم الجند ومخاليفها من بلاد اليمن.
وفي آخرها حاصر المصريون أمير المؤمنين عثمان نحو شهرين وعشرين يوما، ثم اقتحم عليه أراذل من أوباش القبائل فقتلوه، والصحيح أنه لم يتعين قاتله، وكانوا أربعة آلاف، واشتهر عنه أنه قال لأرقائه: من أغمد سيفه فهو حرّ، فأغمدوها إلا واحدا قاتل حتى قتل، وكانوا مائة عبد، وقيل: أربعمائة، وإن عليّا رضي الله عنه أرسل إليه ابنه الحسن، وقال له: إن شئت أتيتك للنصر، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: «إن قاتلتهم نصرت عليهم، وإن لم تقاتلهم، أفطرت عندنا الليلة» [3] وأنا أحب أن أفطر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءه عبد الله بن سلام لينصره، فقال له: اخرج إليهم، فإنك خارج [4] خير
__________
ومنهم من قال: مات ببيت المقدس، وأورد ابن عساكر في ترجمته أخبارا له مع معاوية تدل على أنه عاش بعد ولاية معاوية الخلافة، وبذلك جزم الهيثم بن عدي.
[1] هو كعب بن ماتع الحميري أبو إسحاق المعروف بكعب الأجلد، ويقال له: كعب الحبر، كان من أهل اليمن، أسلم في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان على دين اليهود فأسلم، وقدم المدينة، ثم خرج إلى الشام فسكن حمص، وكان يحدث عن قصص بني إسرائيل، ولذلك كان موضع النقد عند بعض العلماء، توفي بحمص سنة (32 هـ) ، وقيل:
(34 هـ) في خلافة عثمان رضي الله عنه وقد جاوز المائة.
[2] عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي أبو عبد الرحمن المكي، له حجته، كان اسمه بحيرا، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله، وولاه الجند ومخالفيها من بلاد اليمن، فلم يزل عليها حتى قتل عمر، وأقرّه عثمان، فجاء لينصره، فوقع عن راحلته فمات قرب مكة رضي الله عنه. (ع) .
[3] ذكره المحب الطبري في «الرياض النضرة» (3/ 86) ونسبه لأبي الخير الحاكمي القزويني، ولفظه عنده: «إن شئت نصرت عليهم، وإن شئت أفطرت عندنا» .
[4] في الأصل: «خارجا» وأثبتنا ما في المطبوع.(1/201)
لي من داخل، فخرج فقال لهم: أيّها النّاس، إن لله سيفا مغمودا عليكم، وإن الملائكة قد جاورتكم في بلدكم هذا الذي نزل فيه نبيّكم، فالله الله في هذا الرجل أن تقتلوه، فتطردوا جيرانكم، ويسلّ سيف الله المغمد، فلا يغمد إلى يوم القيامة، فقالوا: اقتلوا اليهوديّ [1] .
ولا شك أن الدّماء المهراقة عقب قتله، والملاحم بين عليّ ومعاوية عقوبة من الله بقتل عثمان، وانفتح باب الشر من يومئذ.
وقد صحّت الأحاديث بأنّ له الجنة على بلوى تصيبه [2] ، وأنه [3] شهيد سعيد [4] ، وأنه قتلوه يوم الجمعة ثاني عشر ذي الحجة، والمصحف بين يديه، فتنضّح الدم على قوله تعالى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ 2: 137 [البقرة: 137] وعمره يومئذ بضع وثمانون أو تسعون سنة، ومدة خلافته اثنتا عشرة سنة وأيام، ودفن بالبقيع بموضع يعرف ب حشّ كوكب [5] ، وكان قد اشتراه ووقفه، زاده في
__________
[1] قطعة من حديث رواه الترمذي رقم (3256) ، و (3803) وهو حديث ضعيف.
[2] منها ما رواه البخاري رقم (3695) في فضائل الصحابة: باب مناقب عثمان بن عفان أبي عمرو القرشيّ رضي الله عنه، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل حائطا وأمرني بحفظ باب الحائط، فجاء رجل يستأذن فقال: «ائذن له وبشره بالجنة» فإذا أبو بكر، ثم جاء آخر يستأذن، فقال: «ائذن له وبشره بالجنة» فإذا عمر، ثم جاء آخر يستأذن، فسكت هنيهة ثم قال: «ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه» فإذا عثمان بن عفان. وما رواه البخاري رقم (7097) في الفتن: باب الفتنة التي تموج كموج البحر، وأحمد في «المسند (4/ 407) من حديث أبي موسى الأشعري أيضا.
[3] لفظة «أنه» هذه ليست في المطبوع.
[4] منها ما رواه البخاري رقم (3699) في فضائل الصحابة: باب مناقب عثمان بن عفان أبي عمرو القرشي رضي الله عنه، وأبو داود رقم (4651) في السنة: باب في الخلفاء، والترمذي رقم (3697) في المناقب: باب في مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه، وأحمد في «المسند» (3/ 112) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: صعد النبيّ صلى الله عليه وسلم أحدا ومعه أبو بكر، وعمر، وعثمان، فرجف، فقال: «اسكن أحد- أظنه ضربه برجله- فليس عليك إلا نبيّ، وصديق، وشهيدان» .
[5] قال ياقوت: حش كوكب: بفتح أوله، وتشديد ثانيه، وبضم أوله أيضا، والحشّ في اللغة(1/202)
البقيع، وكان إذا مرّ به، يقول: يدفن فيك رجل صالح.
وقوله: قال لي النبيّ صلى الله عليه وسلم: «تفطر عندنا» معناه: أول شيء تستعمله على الرّيق يكون عندنا، لا أنه فطر صائم، إذ لم يكن يومئذ صائما، فإنّ يوم قتله كان ثاني أيام التشريق، ولا يجوز صومه.
وفيه إشارة إلى قوله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ الله أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ 3: 169 [آل عمران: 169] وبشارة له بصدق الشهادة.
وفيه يقول حسّان [1] :
ضحّوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطّع اللّيل تسبيحا وقرآنا
إلى قوله:
لتسمعنّ وشيكا في ديارهم ... الله أكبر يا ثارات عثمانا [2]
__________
البستان، وبه سمي المخرج حشا لأنهم كانوا إذا أرادوا الحاجة خرجوا إلى البساتين، وكوكب الذي أضيف إليه اسم رجل من الأنصار، وهو عند بقيع الغرقد، اشتراه عثمان بن عفان رضي الله عنه، وزاده في البقيع، ولما قتل ... دفن في جنبه. «معجم البلدان» (2/ 262) . وانظر «الروض المعطار» للحميري ص (501) .
[1] هو حسان بن ثابت الأنصاري الخزرجي البخاري المدني، شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصاحبه، عاش ستين سنة في الجاهلية، وستين في الإسلام، قال أبو عبيدة: فضل حسان الشعراء بثلاثة: كان شاعر الأنصار في الجاهلية، وشاعر النبيّ صلى الله عليه وسلم في النبوة، وشاعر اليمانيين في الإسلام، مات سنة (54 هـ) ، وقيل غير ذلك عن «سير أعلام النبلاء» للذهبي (2/ 512- 523) ، و «الأعلام» للزركلي (2/ 175، 176) .
[2] البيتان في ديوانه (1/ 96) طبع دار صادر في بيروت، بتحقيق الدكتور وليد عرفات، والثاني منهما لفظه فيه.
«لتسمعنّ وشيكا في دياركم ... الله أكبر يا ثارات عثمانا»(1/203)
وله أيضا:
قتلتم وليّ الله في جوف بيته ... وجئتم بأمر جائر غير مهتدي
فلا طهرت أيمان قوم تعاونوا ... على قتل عثمان الرّشيد المسدّد [1]
__________
[1] البيتان في ديوانه (1/ 320) ولفظهما فيه:
«قتلتم وليّ الله في جوف داره ... وجئتم بأمر جائر غير مهتد»
«فلا ظفرت أيمان قوم تظاهرت ... على قتل عثمان الرشيد المسدّد»(1/204)
سنة ست وثلاثين
فيها وقعة الجمل، وتلخيصها، أنه لما قتل عثمان صبرا توجّع المسلمون وأسقط [1] في أيدي جماعة، وعنوا بكيفية المخرج من تقصيرهم فيه، فسار طلحة، والزّبير، وعائشة نحو البصرة، وكانت عائشة قد لقيها الخبر، وهي مقبلة من عمرتها، فرجعت إلى مكة، وطلبوا من عبد الله بن عمر أن يسير معهم فأبى، وقال مروان لطلحة، والزّبير: على أيّكما أسلّم بالإمارة، وأنادي بالصلاة؟ فقال عبد الله بن الزّبير: على أبي، وقال محمد بن طلحة:
على أبي، فكرهت عائشة قوله، وأمرت ابن أختها عبد الله بن الزّبير فصلّى بالناس، ولما علم عليّ كرّم الله وجهه بمخرجهم، اعترضهم من المدينة ليردّهم إلى الطاعة، وينهاهم عن شقّ عصا المسلمين، ففاتوه، فمضى لوجهه، وأرسل ابنه الحسن وعمارا يستنفران أهل المدينة، وأهل الكوفة فخطب عمّار وقال في خطبته: إني لأعلم أنها زوجة نبيّكم في الدّنيا والآخرة، ولكنّ الله ابتلاكم ليعلم أتطيعونه، أم تطيعونها، ولما قدمت عائشة، وطلحة، والزّبير، البصرة، استعانوا بأهلها وبيت مالها، ووصل عليّ خلفهم، واجتمع عليه أهل البصرة والكوفة، فحاول صلحهم واجتماع الكلمة، وسعى
__________
[1] في المطبوع: «وسقط» وهو خطأ.(1/205)
السّاعون بذلك، فثار الأشرار بالتحريش، ورموا بينهم بالنار حتى اشتعلت الحرب، وكان ما كان، وبلغت القتلى يومئذ ثلاثة وثلاثين ألفا، وقيل: سبعة عشر، وقتل عشرة من أصحاب الجمل، ومن عسكر عليّ رضي الله عنه نحو ألف، وقطع على خطام [1] جمل عائشة سبعون يدا من بني ضبّة [2] ، وهي في هودجها، ثم أمر عليّ بعقره، وكان رايتهم، فحمي الشرّ، وظهر عليّ، وانتصر، وكان قتالهم من ارتفاع النهار يوم الخميس، إلى صلاة العصر، لعشر ليال خلون من جمادى الآخرة، ولما ظهر عليّ جاء إلى عائشة، فقال:
غفر الله لك، قالت: ولك، ما أردت إلّا الإصلاح، ثم أنزلها في دار البصرة، وأكرمها واحترمها، وجهّزها إلى المدينة في عشرين أو أربعين امرأة من ذوات الشرف، وجهّز معها أخاها محمدا، وشيّعها هو وأولاده، وودّعها رضي الله عنهم.
وقتل يومئذ طلحة بن عبيد الله القرشي التيمي، قيل: رماه مروان بن الحكم لحقد كان في قلبه عليه، وكان هو وهو في جيش واحد.
وولده محمد بن طلحة السّجاد، وكان له ألف نخلة يسجد تحتها في كل يوم، ومرّ به عليّ صريعا، فنزل، ونفض التراب عن وجهه، وقال: هذا قتله برّه بأبيه، وتمنى الموت قبل ذلك.
__________
[1] الخطام: كل حبل يعلّق في حلق البعير، ثم يعقد على أنفه، كان من جلد، أو صوف، أو ليف، أو قنب، وما جعلت لشفار بعيرك من حبل فهو خطام، وجمعه خطم. «لسان العرب» «خطم» (2/ 1203) .
[2] بنو ضبة: ثلاث قبائل، الأولى في مضر، وتنسب إلى ضبة بن أدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر.
والثانية في قريش، وتنسب إلى ضبة بن الحارث بن فهر بن مالك بن النّضر.
والثالثة في هذيل، وتنسب إلى ضبة بن عمرو بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل.
انظر «مختلف القبائل ومؤتلفها» لابن حبيب ص (31) ، و «جمهرة أنساب العرب» لابن حزم ص (176- 177) و (203- 206) .(1/206)
وقتل يومئذ الزّبير بن العوّام القرشيّ الأسديّ، أحد العشرة، قتله ابن جرموز [1] غدرا بوادي السّباع [2] ، وقد فارق الحرب، وودّعها حين ذكّره عليّ قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لتقاتلنّه وأنت ظالم له» [3] . ولما جاء ابن جرموز إلى عليّ ليبشره بذلك بشّره بالنار.
وروى ابن عبد البرّ عن عليّ كرّم الله وجهه أنه قال: إني لأرجو أن أكون أنا، وعثمان، وطلحة، والزّبير، من أهل هذه الآية وَنَزَعْنا ما في صُدُورِهِمْ من غِلٍّ 7: 43 [الأعراف: 43] ، ولا ينكر ذلك إلا جاهل بفضلهم، وسابقتهم عند الله، وقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يكون لأصحابي من بعدي هنات يغفرها الله بسابقتهم معي، يعمل بها قوم من بعدهم يكبّهم الله في النار على وجوههم» [4] . وكان الزّبير بن العوام رضي الله عنه شجاعا، مقداما، مقطوعا له
__________
[1] هو عمرو بن جرموز. رجل من بني تميم ويقال له: عمير أيضا، ويقال غير ذلك. انظر «تاريخ الطبري» (4/ 510) ، و «الكامل» لابن الأثير (3/ 244) ، و «الإصابة» لابن حجر (4/ 9) .
[2] قال ياقوت: وادي السباع الذي قتل فيه الزّبير بن العوام رضي الله عنه: بين البصرة ومكة، بينه وبين البصرة خمسة أميال، كذا ذكره أبو عبيدة. «معجم البلدان» (5/ 343) .
وقال الحميري: وادي السباع بالبصرة على طريق المدينة. وانظر تتمة كلامه ص (603 و 604) .
[3] ذكره أبو عمر بن عبد البر في «الاستيعاب» (3/ 316) على هامش «الإصابة» . وانظر «الرياض النضرة» في مناقب العشرة للمحب الطبري (4/ 60 و 61) .
[4] لم أره بهذا اللفظ فيما بين يديّ من المصادر، والذي عند مسلم رقم (1852) ، وأبو داود رقم (4762) ، وأحمد في «المسند» (4/ 341) من حديث عرفجة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة، وهي جميع، فاضربوه بالسيف، كائنا من كان» ، وانظر «مختصر شعب الإيمان» للقزويني ص (103- 104) بتحقيقي، طبع دار ابن كثير.(1/207)
بالجنة، من أيسر الصحابة رضي الله عنه وعنهم، ولو قيل: إنه أيسرهم لما بعد، يؤيد ذلك ما رواه البخاري في «صحيحه» في باب بركة الغازي في ماله حيا وميتا، من كتاب الجهاد، أن عبد الله بن الزّبير رضي الله عنهما حسب دين أبيه فكان ألفي ألف ومائتي ألف، وأنه أوصى بالثلث بعد الدّين، وأنه قضى دينه وأخرج ثلث الباقي بعد الدين، وقسم ميراثه، فأصاب كل زوجة من زوجاته الأربع ألف ألف ومائتا ألف، ثم قال البخاري بعد ذلك: فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائتا ألف انتهى [1] .
وقال ابن الهائم [2] رحمه الله: بل الصواب أن جميع ماله بحسب ما [3] فرض تسعة وخمسون ألف ألف وثمانمائة ألف انتهى.
وصرح ابن بطّال [4] والقاضي عياض [5] وغيرهما، بأن ما قاله البخاري غلط في الحساب، وأن الصواب كما قال ابن الهائم، وأجاب الحافظ شرف الدين الدّمياطي [6] رحمه الله، بأن قول البخاري رحمه الله محمول على أن
__________
[1] هو جزء من حديث طويل رواه البخاري في «صحيحه» رقم (3129) (6/ 227 و 228) في الجهاد، باب بركة الغازي في ماله حيا وميتا، وجملة: «فجمع ماله خمسون ألف ألف ومائتا ألف» سقطت من نسخة «فتح الباري» طبع المكتبة السلفية بمصر، وهي موجودة في بقية نسخ البخاري. وانظر ما قاله الحافظ ابن حجز في «الفتح» (6/ 232- 235) حول هذا العدد.
[2] هو محمد بن أحمد بن محمد بن عماد ابن الهائم، أبو الفتح، محب الدين، مصري الأصل، مقدسي الإقامة والوفاة، اشتغل بالفقه والحديث، وخرّج لنفسه ولغيره، مات سنة (792 هـ) . انظر «الأعلام» للزركلي (5/ 329) .
[3] في المطبوع: «حسبما» .
[4] هو علي بن خلف بن عبد الملك بن بطال، أبو الحسن، عالم بالحديث من أهل قرطبة، له «شرح البخاري» مات سنة (449 هـ) . انظر «الأعلام» للزركلي (4/ 285) .
[5] هو عياض بن موسى بن عياض بن عمرو اليحصبي السبتي، أبو الفضل، عالم المغرب وإمام أهل الحديث في وقته، كان من أعلم الناس بكلام العرب، وأنسابهم، وأيامهم، خلف مصنفات عديدة منها «مشارق الأنوار» و «الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع» مات سنة (544 هـ) . انظر «الأعلام» للزركلي (5/ 99) .
[6] هو عبد المؤمن بن خلف الدمياطي، أبو محمد، شرف الدين، حافظ للحديث، من أكابر(1/208)
جملة المال حين الموت كانت ذلك دون الزائد في أربع سنين إلى حين القسمة. انتهى.
ومناقب الزّبير ومآثره يضيق عنها هذا المختصر ولو [1] لم يكن له إلا مصاهرته للصّدّيق- فإنه كان زوج ابنته أسماء ذات النطاقين [2] ، ورزق منها عبد الله، وهو أول مولود ولد بالمدينة للمهاجرين، وبه كنى النبيّ صلى الله عليه وسلم عائشة على الصحيح- لكفى.
وقتل يومئذ زيد بن صوحان من خواص عليّ من الصلحاء الأتقياء.
وتوفي في تلك السنة حذيفة بن اليمان العبسي صاحب السر المكنون في تمييز المنافقين، ولذلك كان عمر لا يصلي على ميت حتى يصلي عليه حذيفة، يخشى أن يكون من المنافقين، وسمّي ابن اليمان لأن جده حالف بني عبد الأشهل وهم من اليمن.
وفيها سلمان الفارسي المشهور بالفضل والصحبة، الذي قال في حقه المصطفى صلى الله عليه وسلم: «سلمان منّا أهل البيت» [3] . وقصته مشهورة في طلب الدّين، وقوله تداولني بضعة عشر ربا حتى اتصلت بالنبيّ صلى الله عليه وسلم.
وروي من وجوه أنه اشترى نفسه من مواليه يهود بكذا وكذا وقية، وعلى
__________
الشافعية، قال الذهبي: كان مليح الهيأة، حسن الخلق، بساما، فصيحا، لغويا، مقرئا، جيد العبارة، كبير النفس، صحيح الكتب، مفيدا جدا في المذاكرة، وقال المزي: ما رأيت أحفظ منه، من كتبه «معجم» ضمنه أسماء شيوخه وهم نحو ألف وثلاثمائة، في أربع مجلدات. مات سنة (705 هـ) . انظر «الأعلام» للزركلي (4/ 169) .
[1] سقط حرف الواو الأول من الأصل في لفظة «ولو» وأثبته من المطبوع.
[2] في المطبوع: «الناطقين» وهو تحريف.
[3] رواه الطبراني في «الكبير» ، والحاكم في «المستدرك» (3/ 598) من حديث عمرو بن عوف بن زيد بن ملحة المزني رضي الله عنه، وإسناده ضعيف.(1/209)
أن يغرس لهم كذا وكذا وديّة [1] من النّخل، ويعمل عليها حتى تدرك، فغرسها صلى الله عليه وسلم كلها بيده المباركة إلا واحدة غرسها عمر، فأطعم كلّ النّخل من عامه إلا تلك الواحدة فقلعها [2] صلى الله عليه وسلم ثم غرسها فأطعمت، وكان سلمان الفارسي، وأبو الدرداء يأكلان من صحفة [3] ، فسبّحت الصّحفة، أو سبّح ما فيها.
وفيها أمير مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وهو من السابقين الأولين.
__________
[1] قال ابن منظور: الوديّ على فعيل: فسيل النّخل وصغاره، واحدتها وديّة، وقيل: تجمع الوديّة. ودايا. «لسان العرب» «ودي» (6/ 4804) .
[2] في الأصل: «فقلها» ، وفي المطبوع: «فقطعها» وكلاهما تحريف، والصواب ما أثبتناه.
[3] الصحفة كالقصعة، والجمع صحاف. «مختار الصحاح» ص (357) .(1/210)
سنة سبع وثلاثين
فيها وقعة صفين [وهي] [1] صحراء ذات كدى وأكمات، وتلخيص خبرها، أن معاوية رضي الله عنه لما بلغه فراغ عليّ كرم الله وجهه من قصة العراق والجمل ومسيره [2] إلى الشام، خرج من دمشق حتى ورد صفين في نصف المحرم، فسبق إلى سهولة المنزل، وقرب من الفرات، فلما ورد عليهم علي رجعهم [3] إلى الطاعة والدخول تحت البيعة، فلم يفعلوا، ثم حرّج عليهم لمنعهم إياه من الماء، فلم يقبلوا، فقاتلهم حتى نحاهم عنها ونزلها، وبنى مسجدا هناك على تلّ ليصلي فيه جماعة، وأقاما بصفين سبعة أشهر، وقيل: تسعة، وقيل: ثلاثة، وكان بينهم قبل القتال نحو من سبعين زحفا في ثلاثة أيام من أيام البيض [4] ، وقتل من الفريقين ثلاثة وسبعون ألفا، وآخر أمرهم ليلة الهرير [5] ، وهو الصوت شبه النياح، فنيت نبالهم، واندقت
__________
[1] لفظة «وهي» التي بين حاصرتين سقطت من الأصل، وأثبتناها من المطبوع.
[2] في المطبوع: «وسيره» .
[3] في المطبوع: «يرجعهم» .
[4] الأيام البيض هي الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر من كل شهر وفق التقويم الهجري، وسميت بالأيام البيض لأن القمر يكتمل فيها ويكون بدرا.
[5] ليلة الهرير، كأمير، من ليالي صفّين، قتل فيها ما يقرب من سبعين ألف قتيل، كما قال الزبيدي في «تاج العروس» «هرر» ، والله أعلم. (ع) .(1/211)
رماحهم، وانقصفت سيوفهم، ومشى بعضهم إلى بعض وتضاربوا [1] بما بقي من السيوف وعمد الحديد، فلا تسمع إلا غمغمة، وهمهمة القوم، والحديد في الهام، فلما صارت السيوف كالمناجل تراموا بالحجارة، ثم جثوا على الركب فتحاثوا بالتراب، ثم تكادموا بالأفواه، وكسفت الشمس من الغبار، وسقطت الألوية والرايات، واقتتلوا من بعد صلاة الصبح إلى نصف الليل، وذلك في شهر ربيع الأول، قاله الإمام أحمد في «تاريخه» ، وقال غيره: في ربيع الآخر، وقيل: في صفر، وكان عدد أصحاب عليّ مائة وعشرين، أو ثلاثين ألفا، وأهل الشام مائة ألف وخمسة وثلاثين ألفا، وكان في جانب عليّ جماعة من البدريّين وأهل بيعة الرّضوان، ورايات رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإجماع منعقد على إمامته وبغي [2] الطائفة الأخرى، ولا يجوز تكفيرهم كسائر البغاة، واستدل أهل السّنّة والجماعة على ترجيح جانب عليّ بدلائل، أظهرها وأثبتها قوله صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر: «تقتلك الفئة الباغية» وهو حديث ثابت [3] . ولما بلغ معاوية ذلك قال: إنما قتله من أخرجه، فقال عليّ: إذا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة لأنه أخرجه، وهو إلزام لا جواب عنه، وحجة لا اعتراض عليها، وكان شبهة [4] معاوية ومن معه، الطلب بدم عثمان، وكان الواجب عليهم شرعا
__________
[1] في المطبوع: «وتقاربوا» وهو خطأ.
[2] في الأصل: «ونفي» وما أثبتناه من المطبوع.
[3] ذكره بهذا اللفظ من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه الهيثمي في «مجمع الزوائد» (9/ 295) وقال: رواه أبو يعلى، والطبراني بنحوه، ورواه البزار باختصار وسنده حسن. ورواه أحمد في «المسند» (3/ 91) ، والبخاري رقم (447) في الصلاة، باب التعاون في بناء المسجد ورقم (2812) في الجهاد، باب مسح الغبار عن الأمن في سبيل الله من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بلفظ: «ويح عمار تقتله الفئة الباغية» يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار» . ورواه مسلم رقم (2916) (73) من حديث أم سلمة رضي الله عنها بلفظ: «تقتل عمارا الفئة الباغية» .
[4] في الأصل: «شبه» وأثبتنا ما في المطبوع.(1/212)
الدخول في البيعة، ثم الطلب من وجوهه الشرعية وولي الدم في الحقيقة أولاد عثمان، مع أن قتلة عثمان لم يتعيّنوا، وكان ممن توقّف عن القتال سعد ابن أبي وقّاص، وعبد الله بن عمر، وأسامة بن زيد، ومحمد بن مسلمة، وآخرون.
وممن قتل مع علي عمار بن ياسر ميزان العدل في تلك الحروب، وهو الذي ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه، وقتل وقد نيف على [1] السبعين.
وقتل معه أيضا ذو الشهادتين، خزيمة بن ثابت [2] ، وكان متوقّفا، فلما قتل عمار تبين له الحق، وجرّد سيفه، وقاتل حتى قتل.
وأبو ليلى [3] والد عبد الرحمن الفقيه.
ومن غير الصحابة عبيد الله بن عمر بن الخطاب، قاتل الهرمزان صاحب تستر [4] ، حين طعن أبوه عمر اتّهمه، لأن أبا لؤلؤة كان له به تعلّق، وكان على خيل معاوية.
__________
[1] في الأصل: «عن» وهو تحريف، وأثبتنا ما المطبوع وهو الصواب.
[2] هو خزيمة بن ثابت بن الفاكه بن ثعلبة بن ساعدة بن عامر بن مالك بن الأوس الأنصاري الأوسي ثم الخطمي أبو عمارة من السابقين الأولين شهد بدرا وما بعدها، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين، ولم يقاتل حتى قتل عمار بن ياسر. (ع) .
[3] مختلف في اسمه عند أصحاب كتب الرجال، ولكن جزم ابن حبان صاحب «مشاهير علماء الأمصار» ص (48) بأن اسمه يسار، من الأنصار من بني عمرو بن عوف، وقال ابن حجر في «الإصابة» (11/ 324، 325) : روى عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وروى عنه ولده عبد الرحمن وحده، ووقع عند الدولابي أنه روى عنه أيضا عامر بن لدين قاضي دمشق، وليس كما قال، فإن شيخ عامر هو أبو ليلى الأشعري، وحديثه في «السنن» . وانظر «أسد الغابة» لابن الأثير (6/ 269) .
[4] تستر: مدينة بالأهواز، فتحها أبو موسى الأشعري رضي الله عنه. انظر «معجم البلدان» لياقوت (2/ 29) ، و «الروض المعطار» للحميري ص (140) ، و «الأمصار ذوات الآثار» للذهبي ص (101- 105) طبع دار ابن كثير.(1/213)
وقتل أيضا حامل راية عليّ هاشم بن عتبة بن أبي وقّاص المعروف بالمرقال، ويقال: إنه من الصحابة.
وصاحب رجّالة عليّ عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي.
وأبو حسان قيس بن المكشوح [1] المرادي، أحد الأبطال، وأحد من أعان على قتل الأسود العنسي.
قيل: ووجد في قتلى أصحاب عليّ سيد التابعين أويس بن عامر [المرادي] [2] القرني ذو المناقب الشهيرة، من أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم عمر وعليا إذا لقياه أن يطلبا منه الدعاء، وهو سيد زهاد زمنه، كان يلتقط ما على المزابل، فإذا نبحه كلب قال له: كل مما يليك، وآكل مما يليني، إن تجاوزت الصراط فأنا خير منك، وإلا فأنت خير مني.
وقتل أيضا صاحب رجّالة معاوية قاضي حمص حابس الطّائي [3] .
وقتل أيضا أحد أمرائه ذو الكلاع الحميري، وهو الذي خطب النّاس وحرّضهم على القتال.
وقتل معه أيضا أحد الأبطال كريب بن الصّباح الحميري [4] قتل جماعة مبارزة ثم برز له عليّ فقتله.
وذكر أن عليا واجه معاوية في بعض [تلك] [5] الزحوف فقال له: ابرز إليّ، فإذا قتل أحدنا صاحبه استراح الناس، فقال له عمرو بن العاص: أنصفك
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «قيس بن المكسوح» وهو خطأ، والتصحيح من كتب الرجال.
[2] لفظة «المرادي» سقطت من الأصل، وأثبتناها من المطبوع.
[3] في الأصل: «حابس الطامي» وهو تحريف.
[4] في الأصل، والمطبوع: «الذيب بن الصباح الحميري» وهو خطأ، والتصحيح من «تاريخ الإسلام» للذهبي (2/ 172) ، و «الإصابة» لابن حجر (8/ 330) .
[5] لفظة «تلك» التي بين حاصرتين سقطت من الأصل، وأثبتناها من المطبوع.(1/214)
الرجل، فقال له معاوية: أظنك طمعت فيها- يعني الخلافة- لأنك تعلم أنه قاتل من بارزه، ولما أيقن أهل الشام بالهزيمة أشار عليهم عمرو بن العاص برفع المصاحف على الرماح والدعاء إلى حكم الله، فأجاب عليّ إلى التحكيم، فأنكر عليه بعض جيشه واختلفوا، وخرجت عليه [1] الخوارج وقالوا:
لا حكم إلا لله، وكفّروا عليا ومعاوية، وكان أمر الحكمين في رمضان، وذلك أنه اجتمع من جانب عليّ أبو موسى ومن معه من الوجوه، ومن جانب معاوية عمرو بن العاص ومن معه بدومة الجندل [2] ، فخلا عمرو بأبي موسى بعد الاتفاق عليهما، وقال له: نخلع عليا ومعاوية، ثم يختار المسلمون من يقع الاتفاق عليه، وكانت الإشارة إلى عبد الله بن عمر، فلما خرجا إلى النّاس قال عمرو لأبي موسى: قم فتكلم أولا، لأنك أفضل وأكثر سابقة، فتكلم أبو موسى بخلعهما، ثم قام عمرو فقال: إن أبا موسى قد خلع عليا كما سمعتم، وقد وافقته على خلعه، ووليت معاوية، وقيل: اتفقا على أن يخلع كل منهما صاحبه فخلع أبو موسى وأثبت الآخر، ثم سار أهل الشام وقد بنوا على هذا الظاهر، ورجع أهل العراق عارفين أن الذي فعله عمرو خديعة لا يعبأ بها [3] .
__________
[1] في المطبوع: «وخرجت عليهم» .
[2] دومة الجندل: على سبع مراحل من دمشق، بينها وبين مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسميت دومة الجندل لأن حصنها مبنيّ بالجندل. انظر «معجم البلدان» لياقوت (2/ 487) ، و «الروض المعطار» للحميري ص (245) .
قلت: قال ياقوت: وقد ذهب بعض الرواة إلى أن التحكيم بين عليّ ومعاوية كان بدومة الجندل، وأكثر الرواة على أنه بأذرح، وقد أكثر الشعراء في ذكر أذرح وأن التحكيم كان بها.
وقال ياقوت أيضا: وبأذرح إلى الجرباء كان أمر الحكمين بين عمرو بن العاص، وأبي موسى الأشعري، وقيل: بدومة الجندل، والصحيح أذرح والجرباء. «معجم البلدان» (1/ 130) . وانظر «تاريخ الطبري» (5/ 57- 63) ، و «تاريخ خليفة بن خياط» ص (191، 192) ، و «الكامل» لابن الأثير (3/ 329- 334) ، و «الروض المعطار» للحميري ص (245- 247) .
[3] في الأصل: «لا يعبأ به» وأثبتنا ما في المطبوع.(1/215)
وصح عن أبي وائل، عن أبي ميسرة أنه قال: رأيت قبابا في رياض، فقيل: هذه لعمار بن ياسر وأصحابه، فقلت: كيف؟ وقد قتل بعضهم بعضا، فقال: إنهم وجدوا الله واسع المغفرة.
وفي هذه السنة توفي خبّاب بن الأرتّ التميمي، أحد السّابقين البدريّين، وصلّى عليه عليّ بالكوفة، سأله عمر يوما عما لقي من المشركين فقال: لقد أوقدت نار وسحبت عليها، فما أطفأها إلا ودك [1] ظهري، ثم أراه ظهره فقال عمر: ما رأيت كاليوم.
__________
[1] الودك: دسم اللّحم. «مختار الصحاح» ص (715) .(1/216)
سنة ثمان وثلاثين
في شعبان منها قتلت الخوارج عبد الله بن خبّاب، فأرسل إليهم عليّ ابن عباس، فناظرهم بالتحكيم في إتلاف المحرم الصيد، والتحكيم بين الزوجين، وبغير ذلك كما يأتي قريبا مفصلا، فرجع بعضهم وأصر الأكثر، فسار إليهم عليّ، فكانت وقعة النهروان، وقيل: إنها في العام القابل.
وفي شوال منها توفي صهيب بن سنان الروميّ، أحد السّبّاق الأربعة، وكان فيه دعابة، يقال: إنه كان بأحد عينيه رمد، وكان يأكل مع النبيّ صلى الله عليه وسلم رطبا، فأمعن، فقال له [صلى الله عليه وسلم] ما معناه: «إنه يضر الرّمد» فقال: آكل بالعين السليمة، وفضائله عديدة، وتوفي بالمدينة رضي الله عنه، وفيه يقول عمر:
نعم الرّجل صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه.
معناه لو لم يكن فيه خوف الله لمنعته قوة دينه من معصية الله فكيف وهو خائف.
وفيها توفي سهل بن حنيف الأوسي في الكوفة، شهد بدرا وما بعدها، واستخلفه عليّ على المدينة حين خرج إلى العراق، وولاه فارس، وشهد معه صفّين، وتكلم بكلام عجيب مروي في «البخاري» [1] .
__________
[1] انظر الحديث رقم (6934) في استتابة المرتدين: باب من ترك قتال الخوارج للتألف، ولئلا ينفر الناس عنه.(1/217)
وفيها قتل محمد بن أبي بكر الصّدّيق، وكان عليّ ولّاه على مصر، وكان عليّ قد تزوّج بأمه أسماء بنت عميس، ولما استقرّ في مصر، جهّز معاوية جيشا وأمّر عليهم معاوية بن حديج [1] الكندي، والتقيا [2] فانهزم عسكر محمد، واختفى هو في بيت امرأة، فدلّت عليه، فقتل وأحرق، وقيل: قتله عمرو بن العاص، أو عمرو بن عثمان.
وفيها مات الأشتر النّخعي، وكان من الشجعان، بعثه عليّ إلى مصر فسمّ في شربة عسل.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «معاوية بن خديج» وهو تصحيف.
[2] في المطبوع: «فالتقيا» .(1/218)
سنة تسع وثلاثين
فيها، وقيل: في سنة إحدى وخمسين [1] توفيت أمّ المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلالية بسرف [2] بين مكة ومرّ، وهو الموضع الذي بنى [بها] [3] النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه، وذلك سنة تسع، وكان الذي خطبها للنبيّ صلى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب، وجعلت أمرها إلى العباس، وكان زوج أختها.
وفيها تنازع أصحاب عليّ وأصحاب معاوية في إقامة الحج، فأصلح بينهم أبو سعيد الخدري، على أن يقيم الموسم شيبة [4] بن عثمان الحجبيّ [5] .
__________
[1] وهو ما رجحه الذهبي في «تاريخ الإسلام» (2/ 325) ، وخليفة بن خياط في «تاريخه» ص (218) ، والنووي في «تهذيب الأسماء واللغات» (2/ 355، 356) ، وابن حجر في «الإصابة» (13/ 140) .
[2] قال البكري: سرف: بفتح أوله، وكسر ثانيه، بعده فاء: على ستة أميال من مكة من طريق مرّ، وقيل: سبعة، وقيل: تسعة، واثنا عشر، وليس بجامع اليوم، وهناك أعرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بميمونة مرجعه من مكة، حين قضى نسكه، وهناك ماتت ميمونة لأنها اعتلّت بمكة، فقالت:
أخرجوني من مكة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني أني لا أموت بها، فحملوها حتى أتوا بها سرفا إلى الشجرة التي بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتها، في موضع القبة، فماتت هناك سنة ثمان وثلاثين، وهناك عند قبرها سقاية. «معجم ما استعجم» (3/ 735، 736) . وانظر «معجم البلدان» لياقوت (3/ 212) و (5/ 104) ، و «الروض المعطار» للحميري ص (312) .
[3] لفظة «بها» سقطت من الأصل، واستدركناها من المطبوع، والمصادر التي بين أيدينا.
[4] في «تاريخ الإسلام» للذهبي (2/ 187) «شيبان بن عثمان» وهو تحريف فيستدرك فيه.
[5] قلت: وفيها كانت وقعة الخوارج بحروراء بالنخيلة، قاتلهم علي رضي الله عنه فكسرهم،(1/219)
سنة أربعين
فيها توفي خوّات بن جبير الأنصاري البدري، أحد الشّجعان [1] .
وأبو مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري، نزل بدرا ساكنا ولم يشهدها على الصحيح [2] ، وشهد العقبة.
وأبو أسيد الساعدي [3] بدريّ مشهور، وقيل: إنه بقي إلى سنة ستين.
__________
وقتل رؤوسهم وسجد شاكرا لله تعالى لما أتي بالمخدج إليه مقتولا، وكان رؤوس الخوارج زيد بن حصن الطائي، وشريح بن أوفى العبسي، وكانا على المجنبتين، وكان رأسهم عبد الله بن وهب السبائي، وكان على رجّالتهم حرقوص بن زهير. انظر «تاريخ الإسلام» للذهبي (2/ 186) .
[1] قال ابن الأثير في «أسد الغابة» (2/ 148) : وكان أحد فرسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، شهد بدرا هو وأخوه عبد الله بن جبير في قول بعضهم، وقال موسى بن عقبة: خرج خوّات بن جبير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر، فلما بلغ الصّفراء أصاب ساقه حجر فرجع، فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه. وانظر «الإصابة» لابن حجر (3/ 158) .
[2] وهو الصواب. (ع) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «أبو سهل الساعدي» ، وهو خطأ من النساخ، والله أعلم، والصواب «أبو أسيد الساعدي» كما ذكره المؤلف فيمن مات سنة ستين، وذلك أن أبا سهل الساعدي مجهول كما قال الذهبي في «التجريد» (2/ 148) ، وأما أبو أسيد مالك بن ربيعة فهو الوحيد الذي شهد بدرا من بني ساعدة كما ذكر الواقدي في «المغازي» (1/ 168) ، وهو المشهور بالبدري من بني ساعدة، وقد اختلف المؤرخون وأصحاب كتب التراجم في سنة(1/220)
ومعيقيب بن أبي فاطمة الدّوسي من مهاجرة الحبشة، قيل: وشهد بدرا.
والأشعث بن قيس الكندي بالكوفة في ذي القعدة، وكان شريفا مطاعا جوادا شجاعا، وله صحبة، ارتدّ زمن الرّدّة، ثم أسلم وتزوج أخت أبي بكر بالمدينة، فأمر غلمانه أن يذبحوا ما وجدوه من البهائم في شوارع المدينة ففعلوا، فصاح النّاس عليهم، فقال: أيها النّاس، قد تزوّجت عندكم، ولو كنت في بلادي لأولمت وليمة مثلي، فاقبلوا ما حضر من هذه البهائم، وكل من تلف له شيء فليأتني [1] لثمنه، وكان هاجر في أول الإسلام من اليمن في ثمانين رجلا، منهم عمرو بن معدي كرب الزبيدي، ثم ارتدّا زمن الرّدّة، وأسلما، وحسن إسلامهما، وحمدت مواقفهما.
وفيها استشهد أمير المؤمنين سامي المناقب أبو الحسنين عليّ بن أبي طالب الهاشمي رضي الله عنه، ضربه عبد الرّحمن بن ملجم الخارجي في يافوخه [2] ، فبقي يوما، ثم مات [3]- وقتل ابن ملجم وأحرق- وكان ذلك
__________
وفاته، فقال خليفة بن خياط في «تاريخه» ص (166) : مات سنة ثلاثين، وأيده الواقدي كما ذكر ابن الأثير في «أسد الغابة» (5/ 24) ، ورجح الذهبي في «تاريخ الإسلام» (2/ 266) ، وابن حجر في «الإصابة» (9/ 49) وفاته سنة ستين، قال الحافظ ابن حجر: وقيل: مات سنة أربعين. وهو آخر من مات من البدريين. وانظر «المعارف» لابن قتيبة ص (272) و «الاستيعاب» لابن عبد البر على هامش «الإصابة» (11/ 121- 124) ، و «الأعلام» للزركلي (5/ 261) .
[1] في الأصل: «فليأتي» وأثبتنا ما في المطبوع.
[2] اليافوخ: ملتقى عظم مقدّم الرّأس ومؤخّره. «لسان العرب» «يفخ» (6/ 4963) .
[3] قلت: قال الطبري في «تاريخه» (5/ 147- 148) ، وابن كثير في «البداية» (7/ 328- 239) : فلما حضرته الوفاة أوصى، فكانت وصيّته:
«بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به علي بن أبي طالب، أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على(1/221)
صبيحة يوم الجمعة وهو خارج إلى الصلاة سابع عشر رمضان، وله ثلاث وستون سنة، وقيل: ثمان وخمسون، وصلى عليه ابنه الحسن، ودفن بالكوفة في قصر الإمارة عند المسجد الجامع، وغيّب قبره.
وخلافته أربع سنين، وأشهر، وأيام.
قيل: والسبب في قتل عليّ كرّم الله وجهه، أن ابن ملجم خطب امرأة من الخوارج على قتل عليّ ومعاوية وعمرو بن العاص [1] ، فانتدب لذلك ابن
__________
الدين كله ولو كره المشركون. ثم إن صلاتي، ونسكي، ومحياي، ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت، وأنا من المسلمين، ثم أوصيك يا حسن وجميع ولدي وأهلي بتقوى الله ربّكم ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا، فإني سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: «إن صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام» انظروا إلى ذوي أرحامكم فصلوهم يهوّن الله عليكم الحسان، الله الله في الأيتام، فلا تعنوا أفواههم، ولا يضيعن بحضرتكم، والله الله في جيرانكم، فإنهم وصية نبيّكم صلى الله عليه وسلم، ما زال يوصي به حتى ظننا أنه سيورّثه. الله الله في القرآن، فلا يسبقنّكم إلى العمل به غيركم، والله الله في الصلاة، فإنها عمود دينكم. والله الله في بيت ربّكم فلا تخلّوه ما بقيتم، فإنه إن ترك لم يناظر، والله الله في الجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم، والله الله في الزكاة، فإنها تطفئ غضب الرب، والله الله في ذمّة نبيّكم، فلا يظلمن بين أظهركم، والله الله في أصحاب نبيكم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بهم، والله الله في الفقراء والمساكين فأشركوهم في معايشكم، والله الله فيما ملكت أيمانكم. الصلاة الصلاة لا تخافّن في الله لومة لائم، يكفيكم من أرادكم وبغى عليكم. وقولوا للناس حسنا كما أمركم الله، ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيولى الأمر شراركم، ثم تدعون فلا يستجاب لكم، وعليكم بالتوصل والتباذل، وإياكم والتدابر والتقاطع والتفرق، وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واتقوا الله إن الله شديد العقاب، حفظكم الله من أهل بيت، وحفظ فيكم نبيكم. أستودعكم الله، وأقرأ عليكم السلام ورحمة الله» . ثم لم ينطق إلا «بلا إله إلا الله» حتى قبض رضي الله عنه، وغسله ابناه الحسن والحسين، وعبد الله بن جعفر، وكفن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص، وكبر عليه الحسن تسع تكبيرات.
[1] انظر «تاريخ الطبري» (5/ 143- 145) ، و «الكامل» للمبرد» (2/ 146) .(1/222)
ملجم، والحجّاج بن عبد الله الصّريميّ [1] ، وزاذويه [2] العنبري [3] ، فكان من أمر ابن ملجم ما كان، وضرب الحجّاج معاوية في الصلاة بدمشق فجرح أليته [4] قيل: إنه قطع منه عرق النّسل، فلم يحبل معاوية بعدها، وأما صاحب عمرو فقدم مصر لذلك فوجد عمرا قد أصابه وجع في تلك الغداة المعينة، واستخلف على الصلاة خارجة بن حذافة الذي كان يعدل [5] ألف فارس، فقتله يظنه عمرا ثم قبض فأدخل على عمرو فقال [له] [6] : أردت عمرا وأراد الله خارجة، فصارت مثلا.
وإلى فداء عمرو بخارجة أشار عبد المجيد بن عبدون [7] الأندلسي في «بسامته» بقوله:
وليتها إذ فدت عمرا بخارجة ... فدت عليّا بمن شاءت من البشر
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «والحجاج بن عبد الله الضمري» وهو خطأ، والتصحيح من «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (3/ 388) ، و «الكامل» للمبرد (2/ 146) .
قلت: ويعرف الحجاج بن عبد الله الصريمي بالبرك أيضا، وهو أول من عارض في التحكيم لما سمع بذكر الحكمين بين عليّ ومعاوية، فقال: لا حكم إلا الله، وخرج على الفريقين. وانظر «الأعلام» للزركلي (2/ 168) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «دادويه» وهو تحريف، والتصحيح من «الكامل» للمبرد (2/ 146) ، وزاذويه هو مولى لبني عمرو بن تميم.
[3] في الأصل: «العنزي» وهو تصحيف، والصواب ما أثبتناه، وهو موافق لما في المطبوع.
وانظر «جمهرة أنساب العرب» لابن حزم ص (207) .
[4] في الأصل: «ألييه» وهو تحريف.
[5] كذا في الأصل، والمطبوع، وفي «الإصابة» لابن حجر (3/ 47) ، و «الأعلام» للزركلي (2/ 293) «يعدّ بألف فارس» .
[6] لفظة «له» سقطت من الأصل، وأثبتناها من المطبوع.
[7] في الأصل، والمطبوع: «عبد الحميد بن عبدويه» وهو خطأ، والتصحيح من «الأعلام» للزركلي (4/ 149) ، ومن الجدير بالذكر أن قصيدته «البسامة» طبعت في أوروبة ثم أعيد طبعها في مصر، وقد نظمها ابن عبدون المتوفى سنة (529 هـ) في رثاء بني الأفطس، وشرحها ابن بدرون وغيره، وترجمت إلى الفرنسية والإسبانية. ويعود الفضل في وقوفي على هذا التحريف الذي لحق باسم ابن عبدون في الكتاب إلى الأستاذ الدكتور رضوان الداية، جزاه الله تعالى خيرا.(1/223)
وكان علي رضي الله عنه ربعة إلى القصر، أدعج العينين، حسن الوجه، آدم، ضخم البطن، عريض المنكبين، لهما مشاش [1] كالسبع، أصلع ليس له شعر إلا من خلفه، عظيم اللحية، وهو أول من أسلم عند كثيرين بعد خديجة، وعلى كل حال لم يشرك بالله بالغا، شهد المشاهدة كلّها، وحمدت مواقفه، وكان اللواء معه في أكثرها، وفضّل على خالد بن الوليد في الشّجاعة، لأن شجاعة خالد فارسا، وعليّ فارسا وراجلا، ومناقبه لا تعدّ، من أكبرها تزويج البتول، ومؤاخاة الرسول [صلى الله عليه وسلم] ، ودخوله في المباهلة والكساء، وحمله في أكثر الحروب اللواء، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى» [2] ، وغير ذلك مما يطول ذكره ويعزّ حصره، وقد نقل اليافعي [3] الخلاف بين أهل السّنّة في المفاضلة بينه وبين عثمان، واختار هو تفضيله على عثمان، وأشار إلى ذلك في قصيدة جملتها خمسة وثلاثون بيتا منها:
والظّاهر الآن عندي ما أقول به ... والله أعلم ما في باطن الحال
من بعد تفضيلنا الشيخين معتقدي ... تفضيله قبل ذي النّورين من تال
انتهى.
والصحيح تفضيل عثمان كما هو معلوم، ولما استقر الخوارج في حروراء [4]
__________
[1] في الأصل: «مساس» وهو خطأ، وأثبتنا ما في المطبوع، والمشاش رؤوس العظام مثل الركبتين، والمرفقين، والمنكبين. «لسان العرب» «مشش» (6/ 4208) وانظر تتمة كلامه فيه.
[2] رواه البخاري رقم (3706) في فضائل علي رضي الله عنه، ورقم (4416) في المغازي، باب غزوة تبوك ومسلم رقم (2404) (31) و (32) في فضائل علي رضي الله عنه، من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
[3] انظر «مرآة الجنان» (1/ 144) وقد حصل فيه بعض التحريف في البيت الثاني الذي اختاره ابن العماد.
[4] قال ياقوت: حروراء: بفتحتين، وسكون الواو، وراء أخرى، وألف ممدودة ... هي قرية بظاهر الكوفة، وقيل: موضع على ميلين منها نزل به الخوارج الذين خالفوا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فنسبوا إليها. وانظر تتمة كلامه في «معجم البلدان» (2/ 245) .(1/224)
بعد النّهروان [1] وكانوا ستة آلاف مقاتل، وقيل: ثمانية آلاف، أتاهم عليّ وخطبهم، ووعظهم، فرجعوا معه إلى الكوفة، وأشاعوا أن عليا تاب من التحكيم، فأتاه الأشعث بن قيس فقال له: إن النّاس قائلون: إنك رأيت الحكومة ضلالا، وتبت منها، فقام في النّاس فخطبهم [2] وقال: من زعم أن الحكومة ضلال فقد كذب، فثارت الخوارج وخرجوا من المسجد، فقيل له: إنهم خارجون عليك، فقال: ما أقاتلهم حتى يقاتلوني، وسيفعلون، فبعث إليهم ابن عبّاس رضي الله عنهما يناظرهم، فاحتج عليهم ابن عباس بالتحكيم في إتلاف المحرم الصيد، والتحكيم بين الزوجين، وبأن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمسك عن قتال الهدنة يوم الحديبية، فصدّقوه في ذلك كلّه، وقالوا له: إن عليا محا نفسه من الخلافة بالتحكيم، فقال لهم ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم محا اسم الرسالة يوم الحديبية فلم يزلها ذلك عنه، فرجع منهم ألفان، وبقي أربعة أو ستة آلاف أصرّوا، وبايعوا عبد الله بن وهب الراسبي، فخرج بهم إلى النّهروان [3] فسار إليهم عليّ، وأوقع بهم، وقتل منهم ألفين وثمانمائة. منهم ذو الثّديّة [4] علامة الفرقة المارقة، ثم كلمهم أيضا، فأصرّوا وقالوا: إن عدت إلى جهاد العدوّ سرنا بين يديك، وإن بقيت على التحكيم قاتلناك، ثم قال لهم: أيّكم قاتل عبد الله بن خبّاب، فقالوا: كلّنا قتله، وكانوا
__________
[1] النهروان: كورة واسعة بين بغداد وواسط من الجانب الشرقي حدّها الأعلى متصل ببغداد، وفيها عدة بلاد متوسطة، منها: إسكاف، وجرجرايا، والصافية، ودير قنى، وغير ذلك، وكان بها وقعة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع الخوارج، وقد خرج منها جماعة من أهل العلم والأدب. انظر «معجم البلدان» لياقوت (5/ 324- 327) .
[2] لفظة «فخطبهم» سقطت من المطبوع.
[3] تقدم التعريف بها قبل قليل.
[4] لا يعرف اسمه، والظاهر أنه لقب بهذا اللقب لأن إحدى ثدييه كانت مثل ثدي المرأة، عليها شعيرات مثل الذي على ذنب اليربوع. انظر خبره في «الإصابة» لابن حجر (3/ 212- 213) .(1/225)
قبل لقوا مسلما ونصرانيا، فأعفوا النصراني وقالوا: احفظوا وصية نبيكم فيه، وقتلوا المسلم، ثم لقوا عبد الله بن خبّاب الصحابي وفي عنقه المصحف، فقالوا: إن المصحف يأمرنا بقتلك، فوعظهم، وذكّرهم، وحدّثهم، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يقبلوا، وقالوا له: ما تقول في أبي بكر وعمر، فأثنى عليهما، فقالوا: ما تقول في عليّ قبل التحكيم، وعثمان قبل الحدث، فأثنى عليهما خيرا، قالوا: فما تقول في التحكيم والحكومة، قال: أقول: إن عليا أعلم منكم، وأشدّ توقّيا على دينه، فقالوا: إنك لست تتبع الهدى، فربطوه إلى جانب النهر وذبحوه، فاندفق دمه على الماء يجري مستقيما.
وروي أن رجلا قال لعليّ: ما بال خلافة أبي بكر وعمر كانت صافية، وخلافتك أنت وعثمان متكدّرة؟ فقال: إن أبا بكر وعمر، كنت أنا وعثمان من أعوانهما، وكنت أنت وأمثالك من أعواني وأعوان عثمان. وقال له رجل من اليهود: ما أتى عليكم بعد نبيكم إلا نيّف وعشرون سنة حتى ضرب بعضكم بعضا بالسيف، فقال رضي الله عنه: فأنتم ما جفّت أقدامكم من البحر حتى قلتم: يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ 7: 138 [الأعراف: 138] . ومما رثي به عليّ كرم الله وجهه:
ألا قل للخوارج أجمعينا ... فلا قرّت عيون الشّامتينا
أفي [1] شهر الصّيام فجعتمونا ... بخير النّاس طرّا أجمعينا [2]
قتلتم خير من ركب المطايا ... وذلّلها ومن ركب السّفينا
ومن لبس النّعال ومن حذاها ... ومن قرأ المثاني والمئينا
__________
[1] سقطت الألف من لفظة «أفي» من الأصل، وأثبتناها من المطبوع.
[2] في الأصل والمطبوع: «ابتعينا» وهو تحريف، والتصويب من «تاريخ الطبري» (5/ 150) وقد نسب الأبيات إلى أبي الأسود الدؤلي.(1/226)
وكلّ مناقب الخيرات فيه ... وحبّ رسول ربّ العالمينا
وبعد وفاة عليّ بويع لابنه الحسن رضي الله عنهما، فتممت بأيامه «خلافة النبوة ثلاثون سنة» وظهر تصديق الخبر النبوي [1] .
__________
[1] رواه أحمد في «المسند» (5/ 220) ، وأبو داود في «سننه» رقم (4646) في السنة، باب في الخلفاء، والترمذي رقم (2226) في الفتن، باب في الخلافة، من حديث سفينة رضي الله عنه، وهو حديث حسن.
ولفظه عند أبي داود بتمامه عن سفينة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله الملك، أو ملكه من يشاء» .(1/227)
سنة إحدى وأربعين
في ربيع الأول منها سار أمير المؤمنين الحسن بن عليّ بجيوشه نحو الشّام، وعلى مقدمته قيس بن سعد بن عبادة، وسار معاوية بجيوشه فالتقوا بناحية [1] الأنبار [2] ، فوفّق الله الحسن، فحقن [3] دماء المسلمين، وترك الأمر لمعاوية كما هو مقرّر في «صحيح البخاري» [4] .
وظهر حينئذ صدق الحديث النبوي فيه حيث قال صلى الله عليه وسلم: «إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» [5] . ولما تم الصلح بشروطه برز الحسن بين الصّفّين وقال: إني قد اخترت
__________
[1] في المطبوع: «في ناحية» .
[2] الأنبار: في العراق، بينها وبين بغداد ثلاثة عشر فرسخا، وهي مدينة صغيرة متحضرة لها سوق، وفيها قلعة وفواكه كثيرة، وهي على رأس نهر عيسى. «الروض المعطار» للحميري ص (36) .
[3] في المطبوع: «في حقن» .
[4] رواه البخاري رقم (2704) في الصلح، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي: «إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين» وقوله جلّ ذكره: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما 49: 9.
[5] رواه البخاري رقم (3746) في مناقب الحسن والحسين رضي الله عنهما، وفي الصلح، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي: «إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين» وفي الأنبياء باب علامات النبوة في الإسلام، وفي العتق، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي: «إن ابني هذا لسيد» من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.(1/228)
ما عند الله وتركت هذا الأمر لمعاوية، فإن كان لي فقد تركته لله، وإن كان له فما ينبغي لي أن أنازعه، ثم قرأ: وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ 21: 111 [الأنبياء: 111] ، وكبّر النّاس فرحا، واختلطوا من ساعتهم، وسمّيت سنة الجماعة، وتمت الخلافة لمعاوية رضي الله عنه، ولله الحمد.
وفيها توفيت أمّ المؤمنين حفصة بنت عمر رضي الله عنها، وقيل: في سنة خمس وأربعين، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم طلقها مرّة، فبكى عمر، واشتد عليه، فنزل جبريل وقال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إن الله يأمرك أن تراجع حفصة بنت عمر رحمة لعمر [1] .
وفي رواية: فإنها صوّامة قوّامة، وإنها زوجتك في الجنة [2] .
وفيها مات صفوان بن أميّة بن خلف القرشي الجمحي، وكان من أشراف قريش، ومسلمة الفتح، وكان هرب يومئذ إلى جدّة [3] ، فاستؤمن له فرجع وطلب من النبيّ صلى الله عليه وسلم خيار شهرين فقال له: «لك أربعة» وشهد حنينا فأكثر له صلى الله عليه وسلم من غنائمها، فقال: أشهد بالله ما طابت بهذا إلا نفس نبي، وحسن إسلامه، وقدم المدينة فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا هجرة بعد الفتح» [4]
__________
[1] ذكره الحافظ ابن حجر في «الإصابة» (12/ 198) من طريق موسى بن عليّ بن رباح عن أبيه عن عقبة بن عامر، فنزل عليه جبريل، فقال: «إن الله يأمرك أن تراجع حفصة رحمة لعمر» والذي في «سنن أبي داود» رقم (2283) ، و «النسائي» (6/ 213) ، و «ابن ماجة» رقم (2016) في الطلاق، عن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها، وهو صحيح بهذا اللفظ.
[2] رواه ابن سعد في «الطبقات» (8/ 84) من حديث قيس بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلقها ثم ارتجعها وذلك أن جبريل قال له: «ارجع حفصة فإنها طوقة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة» وهو حديث مرسل. وانظر «مجمع الزوائد» للهيثمي (9/ 244) .
[3] هي مدينة كبيرة على ساحل البحر الأحمر، تبعد عن مكة قرابة (30) ميلا. انظر خبرها في «معجم البلدان» لياقوت (2/ 114 و 115) ، و «الروض المعطار» للحميري ص (157) .
[4] رواه البخاري في الجهاد، باب لا هجرة بعد الفتح، وفي فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وفي(1/229)
فرجع إلى مكة، وكان من الأغنياء، قيل: ملك قنطارا من الذهب، [و] شهد اليرموك أميرا.
وفيها لبيد بن ربيعة الشّاعر العامري، الذي صدّقه النبيّ صلى الله عليه وسلم [1] ، وحسن إسلامه، وقيل: مات في خلافة عثمان بالكوفة عن مائة وخمسين سنة.
__________
المغازي ومسلم رقم (1353) و (1864) من حديث عبد الله بن عباس، وعائشة رضي الله عنهما.
[1] قال الحافظ ابن حجر في «الإصابة» في ترجمة لبيد (9/ 7) : وقد ثبت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أصدق كلمة قالها الشاعر، كلمة لبيد» وهو قوله:
«ألا كل شيء ما خلا الله باطل»
وانظر ص (116) من هذا المجلد.(1/230)
سنة اثنتين وأربعين
فيها افتتح عبد الرّحمن بن سمرة سجستان [1] ، أو بعضها، وافتتحت السّند [2] .
وفيها توفي عثمان الحجبي.
وفيها سار راشد بن عمرو [3] ، فشنّ [4] الغارات، وأوغل في بلاد السند [5] .
__________
[1] قال ياقوت: سجستان: ولاية واسعة، بينها وبين هراة عشرة أيام، وهي جنوبي هراة. «معجم البلدان» (3/ 190- 192) ، وانظر «الأمصار ذوات الآثار» للذهبي ص (103) طبع دار ابن كثير. قال الذهبي في «تاريخ الإسلام» (2/ 209) : وكان معه في تلك الغزوة من الشباب، الحسن البصري، والمهلب بن أبي صفرة، وقطري بن الفجاءة.
[2] قال ياقوت: السند: بلاد بين بلاد الهند، وكرمان، وسجستان، قالوا: السند، والهند كانا أخوين من ولد بوقير ابن يقطن بن حام بن نوح، يقال للواحد من أهلها سندي. «معجم البلدان» (3/ 267) . وانظر تعليقنا على «الأمصار ذوات الآثار» للذهبي ص (110- 111) .
[3] في «تاريخ خليفة بن خياط» ص (205) «راشد بن عمرو الجديدي» ، وعنده ص (211) أنه قتل في الهند سنة خمسين.
[4] في المطبوع: «وشن» ، وما في الأصل الذي بين أيدينا موافق لما عند الذهبي في «تاريخ الإسلام» (2/ 209) .
[5] قلت: وفيها غزا المسلمون اللّان، وهي بلاد واسعة في طرف أرمينية، قرب باب الأبواب مجاورون للخرز. انظر «تاريخ الطبري» (5/ 172) ، و «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (3/ 420) ، و «معجم البلدان» لياقوت (5/ 8) .(1/231)
سنة ثلاث وأربعين
فيها افتتح عقبة بن نافع كورا [1] من بلاد السّودان.
وسبى بسر بن أرطاة [2] بأرض الروم.
وفي ليلة عيد الفطر توفي أبو عبد الله عمرو بن العاص القرشي السّهمي بمصر أميرا لمعاوية، كان من الدهاة المجرّبين، أسلم في هدنة الحديبية، وهاجر وولي إمرة جيش ذات السلاسل، وكان من أجلاء قريش، وذوي الحزم
__________
وفيها غزا المسلمون الروم أيضا، فهزموهم هزيمة منكرة، وقتلوا جماعة من بطارقتهم. انظر «تاريخ الطبري» (5/ 172) ، و «الكامل» لابن الأثير (3/ 420) ، و «البداية» لابن كثير (8/ 24) .
وفيها مات الأسود بن سريع التّميميّ السّعديّ المنقريّ، أبو عبد الله رضي الله عنه. انظر «تهذيب الكمال» للمزي، والتعليق عليه لمحققه الأستاذ الدكتور بشار عواد معروف (3/ 222) ، و «تاريخ الإسلام» للذهبي (2/ 209) .
[1] جمع «كورة» وهي القرية. انظر «اللسان العرب» «كور» (5/ 3954) . وانظر الخبر في «تاريخ الإسلام» للذهبي (2/ 210) ، و «تاريخ خليفة بن خياط» ص (207) ، وهو فاتح إفريقية.
انظر ترجمته ومصادرها في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (3/ 532- 534) .
[2] في الأصل: «بشر بن أرطاة» ، وفي المطبوع: «بشر بن أرطاة» وكلاهما محرف، والصحيح ما أثبتناه.
وقال الحافظ ابن حجر: هو بسر بن أرطاة، أو ابن أبي أرطاة. وقال ابن حبّان: من قال ابن أبي أرطاة فقد وهم. وانظر «الإصابة» (1/ 243) .(1/232)
والرأي، وحديث وفاته وتثبّته عند النزع، مذكور في «صحيح مسلم» [1] ، وفيه عبرة، وقال آخر أمره: اللهم إنك أمرتنا فعصينا، ونهيت فارتكبنا، فلا أنا بريء فأعتذر، ولا قويّ فأنتصر، ولكن لا إله إلا أنت، ثم فاضت روحه رحمه الله تعالى ورضي عنه.
وفيها توفي عبد الله [بن] [2] سلام الإسرائيلي حليف الأنصار، من سبط يوسف بن يعقوب عليهما الصلاة والسلام، وقصة إسلامه مشهورة في «الصحاح» [3] ، وشهد له النبيّ صلى الله عليه وسلم بالجنة، وهو المراد عند بعض المفسرين
__________
[1] رواه مسلم في «صحيحه» رقم (121) في الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله، وكذا الهجرة والحج من حديث ابن شحاتة المهري، قال: قال: حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياق الموت، فبكى طويلا وحول وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: يا أبتاه، أما بشّرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ قال: فأقبل بوجهه فقال: إن أفضل ما نعدّ شهادة أن لا إله إلّا الله وأن محمدا رسول الله، إني قد كنت على أطباق (أي أحوال) من ثلاث لقد رأيتني وما أحد أشد بغضا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني، ولا أحب إليّ أن أكون قد استمكنت منه فقتلته، فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار، فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه قال: فقبضت يدي، قال: ما لك يا عمرو؟ قال: قلت: أريد أن أشترط؟ قال: «تشترط بماذا؟» قلت: أن يغفر لي، قال: «أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟» وما كان أحد أحب إليّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجلّ في عيني، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت، لأني لم أكن أملأ عيني منه، ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة، ثم ولّينا أشياء ما أدري ما حالي فيها، فإذا أنامت فلا تصحبني فائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فشنّوا عليّ التراب شنّا، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي.
وفي هذا الحديث عبرة كما ذكر المؤلف رحمه الله.
[2] لفظة: «ابن» سقطت من الأصل، واستدركناها من المطبوع، ومن كتب الرجال.
[3] رواها البخاري رقم (3329) في الأنبياء، باب خلق آدم وذريته وهي بتمام سياقتها.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بلغ عبد الله بن سلام مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فأتاه فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة، وما أول طعام(1/233)
بقوله تعالى: وَمن عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ 13: 43 [الرعد: 43] ، وقوله تعالى:
وَشَهِدَ شاهِدٌ من بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ 46: 10 [الأحقاف: 10] .
وفي صفر منها محمد بن مسلمة الأنصاري البدري، وكان ممن اعتزل الفتنة، واتخذ سيفا من خشب، ولزم المدينة حتى مات.
__________
يأكله أهل الجنة، ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه، ومن أي شيء ينزع إلى أخواله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خبّرني بهنّ جبريل آنفا» قال: فقال عبد الله: ذاك عدو اليهود من الملائكة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أول أشراط الساعة، فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة، فزيادة كبد حوت، وأما الشبه في الولد، فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له، وإذا سبق ماؤها كان الشبه لها» قال: أشهد أنك رسول الله، ثم قال: يا رسول الله إن اليهود قوم بهت، إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك، فجاءت اليهود ودخل عبد الله البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟» قالوا: أعلمنا وابن أعلمنا، وأخيرنا وابن أخيرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفرأيتم إن أسلم عبد الله؟» قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عبد الله إليهم فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فقالوا: شرنا وابن شرنا ووقعوا فيه.
ورواه أيضا أحمد في «المسند» (3/ 108) .(1/234)
سنة أربع وأربعين
في ذي الحجة منها، توفي أبو موسى الأشعري، اليمني، المقرئ، الأمير، نسب إلى الأشعر أخي حمير بن سبأ، وكان من أهل السابقة والسبق في الإسلام، هاجر من بلده زبيد [1] في نحو اثنين وخمسين رجلا، ورجع، فركب البحر، فألقتهم الريح إلى النّجاشي [2] بالحبشة، فوقف مع جعفر وأصحابه حتى قدم معهم في سفينته، وجعفر وأصحابه في سفينة أخرى، وأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفينتهم ولمن جاء معهم، ولم يسهم لمن غاب غيرهم، واستعمله النبيّ صلى الله عليه وسلم على عدن، واستعمله عمر على الكوفة، والبصرة، وفتحت على يده عدة أمصار، وقال علي فيه: صبغ بالعلم صبغة.
وفيها افتتح عبد الرّحمن بن سمرة كابل [3] .
وغزا المهلّب بن أبي صفرة أرض الهند، وهزم العدو.
__________
[1] قال ياقوت: زبيد: اسم واد به مدينة يقال لها: الحصيب، ثم غلب عليها اسم الوادي فلا تعرف إلا به، وهي مدينة مشهورة باليمن أحدثت في أيام المأمون. «معجم البلدان» (3/ 131) . وانظر «الروض المعطار» للحميري ص (284، 285) .
[2] تقدم التعريف به ص (128) . من هذا المجلد.
[3] هي عاصمة أفغانستان المعاصرة سلّمها الله تعالى. انظر خبرها في «معجم البلدان» لياقوت (4/ 426) .(1/235)
وفيها توفيت أمّ المؤمنين أمّ حبيبة رملة بنت أبي سفيان الأموية، هاجرت [إلى] [1] الحبشة مع زوجها عبيد الله [2] بن جحش، فتنصّر هناك ومات، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أميّة الضّمري وكيلا في زواجها [3] ، فلما بشّرت بذلك نثرت سوارين كانا في يدها، وأصدقها النجاشيّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أربعمائة دينار، أو أربعة آلاف درهم [4] ، وحضر عقدها جعفر وأصحابه.
__________
[1] لفظة «إلى» سقطت من الأصل، وأثبتناها من المطبوع.
[2] في الأصل والمطبوع: «عبد الله بن جحش» ، وهو خطأ، لأن زوج أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان الذي تنصّر، هو عبيد الله بن جحش، تنصر بالحبشة ومات بها نصرانيا، وأما عبد الله بن جحش، فإنه هاجر إلى المدينة، وشهد بدرا وقتل يوم أحد رضي الله عنه، ودفن هو وخاله حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم في قبر واحد.
[3] قلت: وهو الذي حمل إلى النجاشي أيضا رسالة النبيّ صلى الله عليه وسلم. انظر «إعلام السائلين عن كتب سيد المرسلين» لابن طولون، بتحقيقي ص (47- 54) ، وفي الأصل: «عمرو بن أمية الضميري» وهو تحريف.
[4] في الأصل: «وأربعة آلاف درهم» ، والصواب ما في المطبوع.(1/236)
سنة خمس وأربعين
فيها غزا معاوية بن حديج [1] إفريقية.
وتوفي فيها، وقيل: سنة إحدى وخمسين أبو خارجة زيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاري المقرئ الفرضيّ [2] الكاتب، عن ست وخمسين سنة، قتل أبوه يوم بعاث [3] ، وهو ابن ست، وهاجر النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو ابن إحدى عشرة، واجتمع له شرف العلم والصحبة، وأول مشاهده الخندق، وكان عمر
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «معاوية بن خديج» وهو تصحيف.
[2] في الأصل: «القرشي» وهو خطأ، والصواب ما في المطبوع. قال السمعاني في «الأنساب» (9/ 272) : الفرضي: هذه النسبة إلى الفريضة، والفرض، والفرائض، وهو علم المقدرات، ويقال في النسبة إليه: فرضي، وفارض، وفرائضي.
[3] في الأصل، والمطبوع: «بغاث» بالغين. وهو تصحيف.
قال البكري: بعاث: بضم أوله، وبالثاء المثلثة: موضع على ليلتين من المدينة، وفيه كانت الوقيعة، واليوم المنسوب إليه بين الأوس والخزرج. «معجم ما استعجم» (1/ 259، 260) ، وانظر «معجم البلدان» لياقوت (1/ 451، 452) ، و «الروض المعطار» للحميري ص (109) ، و «جامع الأصول» لابن الأثير (9/ 170) .
وروى البخاري (3777) في مناقب الأنصار: باب مناقب الأنصار، و (3846) باب القسامة في الجاهلية، و (3930) باب مقدم النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم المدينة من حديث عائشة رضي الله عنها قال: كان يوم بعاث يوما قدّمه الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد افترق ملأهم، وقتلت سرواتهم وجرحوا، فقدمه الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في دخولهم الإسلام.(1/237)
وعثمان يستخلفانه على المدينة، وكان ابن عبّاس يأتيه إلى بيته للعلم ويقول:
العلم يؤتى ولا يأتي، وكان إذا ركب أخذ بركابه، ويقول ابن عبّاس: هكذا أمرنا أن نفعل بالعلماء، فيأخذ زيد كفّه ويقبّلها، ويقول: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا صلى الله عليه وسلم.
وفيها عاصم بن عديّ سيد بني العجلان، وكان قد ردّه النبيّ صلى الله عليه وسلم من بدر في شغل، وضرب له بسهمه.
وقتل أخوه معن يوم اليمامة.(1/238)
سنة ست وأربعين
فيها ولي الرّبيع بن زياد الحارثيّ سجستان، فزحف كابل شاه في جمع من الترك وغيرهم، فالتقوا على بست [1] ، فهزمهم [2] .
وفيها توفّي عبد الرّحمن بن خالد بن الوليد مسموما على ما قيل، وكان أحد الأجواد، وكان بيده لواء معاوية يوم صفّين، وكان أخوه مهاجر مع عليّ رضي الله عنه، وقيل: إن معاوية خطب النّاس حين كبر وأسنّ، واستشارهم فيمن يستخلف، وكان مراده أن يشيروا بيزيد، فأشاروا بعبد الرّحمن بن خالد، وغزا عبد الرّحمن الرّوم غير مرّة [3] .
__________
[1] قال ياقوت: بست: بالضم مدينة بين سجستان، وغزنين، وهراة، وأظنّها من أعمال كابل.
وقال السمعاني: بلدة من بلاد كابل بين هراة وغزنة، وهي بلدة حسنة كثيرة الخضر، والأنهار، والبساتين.
قلت: وهي الآن في إيران. وقد أنجبت هذه البلدة عددا كبيرا من العلماء في القرون الهجرية الأولى. انظر «معجم البلدان» (1/ 414- 419) ، و «الأنساب» (2/ 208- 210) ، و «الروض المعطار» للحميري ص (113) .
[2] انظر هذا الخبر في «تاريخ خليفة بن خياط» ص (208) ، و «تاريخ الإسلام» للذهبي (2/ 211) .
[3] قلت: وفي هذه السنة حج بالناس عتبة بن أبي سفيان. انظر «تاريخ خليفة بن خياط» ص (208) ، و «تاريخ الطبري» (5/ 228) ، و «الكامل» لابن الأثير (3/ 454) .(1/239)
سنة سبع وأربعين
فيها غزا رويفع بن ثابت الأنصاريّ أمير طرابلس إفريقية، فدخلها ثم انصرف.
وفيها حجّ بالنّاس عنبسة بن أبي سفيان.
وفيها جمعت التّرك فالتقاهم [1] عبد الله بن سوّار العبديّ ببلاد القيقان [2] ، فاستشهد عبد الله، وعامّة جنده، وغلبت التّرك على القيقان [3] .
__________
[1] في المطبوع: «فالتقى بهم» .
[2] في الأصل، والمطبوع: «بلاد القيفان» وهو تصحيف.
قال ياقوت: وقيقان: بلاد قرب طبرستان. انظر «معجم البلدان» (4/ 423) . وانظر «تاريخ خليفة بن خياط» ص (208) ، و «تاريخ الإسلام» للذهبي (2/ 211) ، و «دول الإسلام» للذهبي (1/ 35) .
قلت: والقيقان الآن في بلاد إيران.
[3] قلت: وفيها شتّى مالك بن هبيرة في أرض الروم، وشتّى أبو عبد الرّحمن القيني في أنطاكية. انظر «تاريخ خليفة بن خياط» ص (208) ، و «تاريخ الطبري» (5/ 229) ، و «تاريخ الإسلام» للذهبي (2/ 211) .
وفيها ولي على العراق زياد بن أبيه، فوجه على أرض الهند سنان بن سلمة الهذلي عوض ابن سوار الذي استشهد. عن «دول الإسلام» للذهبي (1/ 35) .(1/240)
سنة ثمان وأربعين
فيها توجّه سنان بن سلمة بن المحبّق الهذلي [1] واليا على الهند عوض عبد الله بن سوّار.
وقتل بسجستان عبد الله بن عيّاش بن أبي ربيعة المخزوميّ، وكان مولده بالحبشة [2] .
والحارث بن قيس الجعفيّ [3] ، صاحب ابن مسعود [4] .
__________
[1] في الأصل: «ابن الحنف المندلي» وهو خطأ، والتصحيح من المطبوع، والمصادر التي بين أيدينا.
[2] انظر «الإصابة» لابن حجر (6/ 188) ، و «أسد الغابة» لابن الأثير (3/ 360) ، ففيهما ترجمة موسعة ومفيدة له رضي الله عنه.
[3] قلت: وذكره الذهبي في «تاريخ الإسلام» (2/ 215) فيمن مات سنة خمسين. وانظر «سير أعلام النبلاء» للذهبي (4/ 74، 76) .
[4] قلت: وفيها حج بالناس مروان بن الحكم. انظر «تاريخ الطبري» (5/ 231) ، و «الكامل» لابن الأثير (3/ 457) .
وفيها كان مشتى أبي عبد الرحمن القيني أنطاكية، وصائفة عبد الله بن قيس الغزاري، وغزوة مالك بن هبيرة السّكوني البحر، وغزوة عقبة بن عامر الجهني بأهل مصر البحر، وبأهل المدينة، وعلى أهل المدينة المنذر بن الزهير، وعلى جميعهم خالد بن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد. انظر «تاريخ الطبري» (5/ 231) ، و «الكامل» لابن الأثير (3/ 456) .
وفيها وجّه زياد بن أبيه غالب بن فضالة الليثي على خراسان، وكانت له صحبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. انظر «تاريخ الطبري» (5/ 231) ، و «الكامل» لابن الأثير (3/ 457) .(1/241)
سنة تسع وأربعين
في ربيع الأول منها توفّي سيّد شباب أهل الجنة، سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم [وريحانته، أبو محمد] [1] الحسن بن عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه، والأكثر [2] على أنه توفي سنة خمسين بالمدينة عن سبع وأربعين سنة، ومناقبه كثيرة.
روي أنه حج خمسا وعشرين حجة ماشيا، والنجائب [3] بين يديه، وخرج عن ماله ثلاث مرات، وشاطره مرّتين، وأعطى إنسانا يسأله خمسين ألف درهم، وخمسمائة دينار، وأعطى حمّال ذلك طّيلسانه [4] ، وقال: يكون كراؤه من عندي، ومرّ بصبيان معهم كسر خبز فاستضافوه، فنزل عن فرسه،
__________
وفيها مات خزيمة الأسدي، كما ذكر الذهبي في «تاريخ الإسلام» (2/ 215) ولم أقف على اسمه عند غيره فيما بين يديّ من كتب التاريخ والتراجم.
[1] قوله: «وريحانته أبو محمد» سقط من الأصل، وأثبتناه من المطبوع.
[2] تحرفت هذه اللفظة في الأصل إلى «وأكثر» .
[3] في الأصل والمطبوع: «والجنائب بين يديه» وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه. والنجائب، جمع نجيبة. وهي الناقة، يقال: ناقة نجيب ونجيبة، والمعنى حج ماشيا والنوق بين يديه.
[4] قال ابن منظور: الطّيلسان: ضرب من الأكسية ... وحكي عن الأصمعي أنه قال: الطيلسان ليس بعربي، قال: وأصله فارسيّ، إنما هو تالسان فأعرب. «لسان العرب» «طلس» (4/ 2689) .(1/242)
وأكل معهم، ثم حملهم إلى منزله، فأطعمهم، وكساهم، وقال: البدء لهم، لأنهم لم يجدوا إلا ما أطعموني، ونحن نجد أكثر منه، وبلغه أن أبا ذرّ قال:
الفقر أحبّ إليّ من الغنى، والسّقم أحبّ إليّ من الصّحة، فقال: يرحم الله أبا ذر أنا أقول: من اتكل على حسن اختيار الله، لم يحبّ غير ما اختاره [1] .
__________
[1] قلت: وفيها قتل زياد بن أبيه بالبصرة الخطيم الباهلي الخارجي أحد بني وائل واسمه زياد بن مالك. انظر «تاريخ خليفة بن خياط» ص (209) ، و «تاريخ الإسلام» للذهبي (2/ 211) .
وفيها حج بالناس سعيد بن العاص. انظر «تاريخ خليفة» ص (209) ، و «تاريخ الإسلام» للذهبي (2/ 212) ، و «تاريخ الطبري» (5/ 233) .(1/243)
سنة خمسين
فيها توفي عبد الرّحمن بن سمرة العبشميّ من مسلمة الفتح، قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا تسأل الإمارة» [1] الحديث، افتتح سجستان، وكابل أميرا لعبد الله بن عامر.
وفيها توفي كعب بن مالك الأنصاريّ السّلمي مؤاخي طلحة بن عبيد الله، وهو أحد الثلاثة الذين خلّفوا وتاب الله عليهم، وأحد شعراء النبيّ صلى الله عليه وسلم المجيبين عنه عدّوه، وشهد المشاهد غير تبوك، ذهب بصره في آخر عمره وهو القائل:
__________
[1] قطعة من حديث رواه البخاري رقم (6622) في الإيمان والنذور: باب قول الله تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ الله بِاللَّغْوِ في أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ من أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ، كَذلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 5: 89 [المائدة: 89] ، و (6722) في كفارات الأيمان: باب الكفارة قبل الحنث وبعده، و (7146) في الأحكام: باب من لم يسأل الإمارة أعانه الله عليها، (7147) باب من سأل الإمارة وكل إليها، ومسلم رقم (1652) في الأيمان: باب ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها، أن يأتي الذي هو خير، ويكفر عن يمينه، وأبو داود رقم (2929) في الخراج والإمارة: باب ما جاء في طلب الإمارة، والترمذي رقم (1529) في النذور والأيمان: باب ما جاء فيمن حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، وأحمد في «المسند» (5/ 63) .(1/244)
جاءت سخينة [كي] [1] تغالب ربّها ... فليغلبنّ مغالب الغلّاب [2]
فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لقد شكرك الله يا كعب على قولك هذا» [3] . وفيها مات المغيرة بن شعبة الثقفيّ، أسلم عام الخندق، وولي العراق لعمر، وغيره، وكان من رجال الدّهر حزما، وعزما، ورأيا، ودهاء، يقال: إنه أحصن ثلاثمائة امرأة، وقيل ألف امرأة، ولّاه عمر البصرة ثم الكوفة.
وفيها توفّيت أمّ المؤمنين صفيّة بنت حيي بن أخطب الإسرائيليّة، الهارونيّة، وكانت جميلة فاضلة، كفاها فضلا ونبلا زواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأوتيت أجرها مرّتين، جاءت جاريتها عمر فقالت: إن صفيّة تحبّ السّبت، وتصل اليهود، فبعث إليها عمر يسألها عن ذلك، فقالت: أمّا السّبت فلم أحبّه، وقد أبدلني الله يوم الجمعة، وأمّا اليهود، فإنّ لي فيهم رحما، وقالت للجارية:
ما حملك على هذا؟ قالت: الشيطان، قالت: اذهبي فأنت حرّة لوجه الله تعالى [4] .
وفيها غزا يزيد بن معاوية القسطنطينية، وقيل: في سنة إحدى وخمسين [5] .
__________
[1] لفظة «كي» سقطت من الأصل، وأثبتناها من المطبوع.
[2] البيت في «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 261) ، وجاء في حاشيتها، سخنية: لقب قريش في الجاهلية، وذكروا أن قصيا كان إذا ذبح ذبيحة أو نحر نحيرة بمكة أتى بعجزها فصنع منه خزيرة- وهو لحم يطبخ ببر- فيطعمه الناس، فسميت قريش بها سخينة. وقيل: إن العرب كانوا إذا أسنتوا أكلوا العلهز، وهو الوبر والدم، وتأكل قريش الخريزة، فنفست عليهم ذلك، فلقبوهم سخينة.
[3] انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 261) .
[4] جملة: «لوجه الله تعالى» سقط من المطبوع.
[5] لفظة «وخمسين» سقطت من المطبوع.(1/245)
سنة إحدى وخمسين
وفيها توفّي سعيد بن زيد القرشيّ العدويّ، أحد العشرة، المجاب الدّعوة، دعا على أروى [1] لما كذّبت عليه فقال: اللهمّ إن كانت كاذبة فأعم بصرها، واقتلها في أرضها [2] ، فعميت ووقعت في حفرة من أرضها فماتت، لم يشهد بدرا هو ولا عثمان ابن عفّان، ولا طلحة بن عبيد الله، فأمّا عثمان فاحتبس على مرض زوجته رقيّة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمّا سعيد وطلحة، فبعثهما النبيّ صلى الله عليه وسلم يتجسّسان الأخبار في طريق الشام، وضرب لهما النبيّ صلى الله عليه وسلم سهمهما من الغنيمة.
وفيها، وقيل: في التي تليها توفّي أبو أيوب الأنصاريّ خالد بن زيد بالقسطنطينية [3] وهم محاصرون لها، وقبره تحت سورها يستسقى به،
__________
[1] هي أروى بنت أنيس.
[2] في «الإصابة» لابن حجر (4/ 189) ، فقال: اللهم إنها قد زعمت أنها ظلمت، فإن كانت كاذبة فأعم بصرها، وألقها في بئرها، وأظهر حقي نورا بين المسلمين إني لم أظلمها، قال (القائل: أبو نعيم) : فبينما هم على ذلك إذ سال العقيق سيلا لم يسل مثله قط، فكشف عن الحدّ الذي كانا يختلفان فيه، فإذا سعيد بن زيد في ذلك قد كان صادقا، ثم لم تلبث إلا يسيرا حتى عميت، فبينما هي تطوف في أرضها تلك سقطت في بئرها.
[3] وهي المعروفة في أيامنا باستانبول.(1/246)
ويتبرّك [1] وكان عقبيّا [2] كثير المناقب، وموضع بيته الذي نزل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مدرسة تعرف بالشهابيّة [3] .
وفيه موضع يقال له: المبرك، يعنون مبرك ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم [4] .
وفيها قتل حجر بن عديّ وأصحابه بمرج عذراء [5] من أرض الشام، قيل: قتلوا بأمر معاوية، ولذا قال عليّ كرّم الله وجهه: حجر بن عديّ وأصحابه كأصحاب الأخدود وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ 85: 8 [البروج: 8] ، فإن صحّ هذا عن عليّ فيكون من باب الإخبار بالغيب، لأنه توفي قبل كما تقدّم [6] ، وكان لحجر صحبة ووفادة [7] وجهاد وعبادة.
وفيها على الأصح توفّي جرير بن عبد الله البجليّ بقرقيسا [8] .
__________
[1] لا ينبغي أن يستسقى بالقبر ولا أن يتبرك به، وقد استسق عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالعباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم، أي بدعائه وهو على قيد الحياة. (ع) .
[2] في الأصل: «عتيا» وهو خطأ، والصواب ما في المطبوع. والمعنى أنه كان من أهل بيعة العقبة.
[3] ولا أثر لهذه المدرسة الآن، وقد بني في مكانها في هذا العصر المتأخر دائرة لوزارة الأوقاف.
[4] ولا يوجد أثر لموضع مبرك الناقة اليوم فيه.
[5] قال ياقوت: عذراء قرية بغوطة دمشق من إقليم خولان معروفة، وإليها ينسب مرج، وإذا انحدرت من ثنية العقاب وأشرفت على الغوطة فتأملت على يسارك رأيتها أول قرية تلي الجبل، وبها منارة، وبها قتل حجر بن عدي الكندي، وبها قبره، وقيل: إنه هو الذي فتحها. انظر «معجم البلدان» (4/ 91) و (5/ 101) .
[6] بل لا يصح ذلك، لأن عليا رضي الله عنه لا يعلم الغيب، بل ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعلم الغيب، إلا بإخبار الوحي من السماء، ولا وحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. (ع) .
[7] في الأصل: «ووقارة» وما أثبتناه من المطبوع. يقال: وفد فلان على الأمير، أي ورد رسولا، فهو وافد، والاسم الوفادة.
[8] يقال لها: قرقيساء بياء واحدة، وقرقيسياء، بياءين، معرب من كركيسياء، وهو مأخوذ من كركيس، وهو اسم لإرسال الخيل، المسمى بالعربية الحلبة، وهي كورة من كور ديار ربيعة، بين الجزيرة والشام. انظر «معجم البلدان» (4/ 228، و 229) .(1/247)
وفيها توفّيت أمّ المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلاليّة، وقد تقدّمت ترجمتها في سنة تسع وثلاثين.
__________
وجرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، أسلم أواخر السنة التاسعة من الهجرة، وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وكان رضي الله جميلا، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول عنه: يوسف هذه الأمة، وقدّمه عمر رضي الله عنه في حروب العراق على جميع بجيلة، وكان لهم أمر عظيم في فتح القادسية، ثم سكن جرير الكوفة، واعتزل الفتنة، وسكن قرقيسيا حتى مات سنة (51 هـ) رضي الله عنه. (ع) .(1/248)
سنة اثنتين وخمسين
فيها توفّي عمران بن حصين الخزاعيّ، كثير المناقب، ومن أهل السّوابق، بعثه عمر يفقّه أهل البصرة، وتولّى قضاءها، وكان الحسن البصريّ يحلف بالله، ما قدمها خير لهم من عمران بن حصين، وهو الرّاوي لحديث وصف المتوكّلين الذين لا يرقون [1] ، ولا يسترقون، ولا يتطيّرون، وكان يسمع تسليم الملائكة عليه حتى اكتوى بالنّار، فلم يسمعهم عاما، ثمّ أكرمه الله بردّ ذلك، أسلم هو وأبو هريرة عام خيبر، واستقضاه عبد الله بن عامر على البصرة، ثم استعفاه، فأعفاه.
وفيها توفي كعب بن عجرة الأنصاريّ الحديبيّ [2] ، وكان من فضلاء الصحابة.
__________
[1] أقول: جاءت هذه الرواية في «صحيح مسلم» رقم (220) بلفظ: «لا يرقون» كما ذكر المؤلف، وقد أنكرها شيخ الإسلام ابن تيمية، وذكر أنها غلط من راويها، واعتل بأن الراقي يحسن إلى الذي يرقيه، فكيف يكون ذلك مطلوب الترك، وانظر «فتح الباري» للحافظ ابن حجر (11/ 408) . (ع) .
[2] الحديبي، نسبة إلى عمرة الحديبية، فإنه شهدها، ونزلت في قصته الفدية كما في «الصحيحين» من طرق، منها أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ به وهو محرم والقمل يتناثر على وجهه، فقال له: «احلق رأسك، وأطعم فرقا بين ستة مساكين» . ويقال له كما هو المشهور «كعب بن عجرة البلوي» نسبة إلى بلي بن عمرو بن قضاعة. (ع) .(1/249)
ومعاوية بن حديج [1] الكنديّ التّجيبيّ الأمير، له صحبة ورواية.
وأبو بكرة نفيع بن الحارث، وقيل: ابن مسروح، تدلّى من حصن الطّائف ببكرة للإسلام، فلذا كنّي بأبي بكرة.
وفيها، وقيل: في سنة إحدى أو أربع وخمسين، توفي سيّد بجيلة جرير ابن عبد الله البجليّ الأمير، قال: ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسّم في وجهي، أسلم سنة عشر، وسكن الكوفة، وبجيلة أمّ القبيلة، وقيل: هو أنمار أحد أجدادهم، وفيهم يقول الشّاعر:
لولا جرير هلكت بجيله ... نعم الفتى وبئست القبيلة [2]
قال عمر رضي الله عنه: ما مدح من سبّ قومه، ووجد عمر مرة من بعض جلسائه رائحة، فقال: عزمت على صاحب هذه الرّيح إلا قام فتوضأ، فقال جرير: اعزم علينا كلّنا فلنقم، فعزم عليهم، ثم قال: يا جرير ما زلت شريفا في الجاهلية والإسلام، وسأله عمر عن النّاس، فقال: هم كسهام الجعبة، منها القائم الرائش، والنّصل الطّائش.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «معاوية بن خديج» بالخاء، وهو تصحيف.
[2] البيت في «الاستيعاب» لابن عبد البر على هامش «الإصابة» (2/ 142) .(1/250)
سنة ثلاث وخمسين
فيها توفّي عبد الرّحمن بن أبي بكر الصّدّيق، وكان من الزّهّاد، والشّجعان [1] ، قتل يوم اليمامة سبعة، شهد مع قريش بدرا وأحدا مشركا، وأسلم في هدنة الحديبية، وله المشاهد الجميلة في نصر الإسلام، ولما دعاه معاوية إلى البيعة ليزيد امتنع، فبعث إليه بمائة ألف درهم فردّها وقال:
لا أبيع ديني بدنياي، وقصّته معهم مشهورة في «البخاريّ» ، وذلك أنّه قام حين دعي للبيعة، فقال مروان [2] : هذا الّذي نزل فيه وَالَّذِي قال لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي 46: 17 [الأحقاف: 17] الآية، وذلك من كيد [3] مروان، وإنما أورده البخاريّ مرسلا لبيان أثر عائشة الذي ردّت به على مروان، ولما بلغ عائشة خبر موته بمكّة ارتحلت حتى وقفت على قبره وقالت:
وكنّا كندماني جذيمة حقبة ... من الدّهر حتى قيل لن يتصدّعا [4]
__________
[1] في المطبوع: «وكان من الزهاد الشجعان» .
[2] يعني مروان بن الحكم.
[3] في الأصل: «من كيس» وهو تحريف، وما أثبتناه من المطبوع.
[4] في الأصل، والمطبوع: «لن نتصدعا» والتصحيح من «الإصابة» لابن حجر، و «الكامل» للمبرد، و «مختار الأغاني» لابن منظور.(1/251)
فلمّا تفرّقنا كأني ومالكا ... لطول [1] اجتماع لم نبت ليلة معا [2]
وفيها توفّي زياد بن أبيه [3] المستلحق، وكان يضرب بدهائه المثل، ولّاه معاوية العراقين.
وفيها، أو في التي قبلها، توفي عمرو بن حزم الأنصاريّ الخزرجيّ، ولي نجران [4] وله سبع عشرة سنة.
وفيها فيروز الديلميّ قاتل الأسود العنسيّ، له صحبة ورواية.
وفضالة [5] بن عبيد الأنصاريّ قاضي دمشق لمعاوية، وخليفته عليها.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع «بطول» ، والتصحيح من «مختار الأغاني» ، و «الكامل» ، و «الإصابة» .
[2] البيتان في «مختار الأغاني» لابن منظور (10/ 250) ، و «الكامل» للمبرد (2/ 354) ، و «الإصابة» لابن حجر (9/ 83) ، وهما لمتمم بن نويرة من قصيدة طويلة في رثاء أخيه مالك بن نويرة. ورواية البيت الثاني منهما عند الحافظ ابن حجر في «الإصابة» :
«فلما تفرقنا كأني ومالكا ... لطول افتراق لم نبت ليلة معا»
[3] في المطبوع: «زياد بن أمه» .
[4] قال البكري: نجران: بفتح أوله، وإسكان ثانيه: مدينة بالحجاز من شقّ اليمن معروفة، سميت بنجران بن زيدان بن يشجب بن يعرب، وهو أول من نزلها، وأطيب البلاد: نجران من الحجاز، وصنعاء من اليمن، ودمشق من الشام، والرّيّ من خراسان. «معجم ما استعجم» (4/ 1298، 1299) .
قلت: وفي «معجم ما استعجم» للبكري، و «الروض المعطار» للحميري أيضا ص (573) : «نجران بن زيد» وهو خطأ، وفي «معجم البلدان» لياقوت (5/ 266) : «نجران بن زيدان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان» وهو الصواب، وهو موافق لما في «جمهرة أنساب العرب» لابن حزم ص (329، 330) ، و «القاموس المحيط» للفيروزآبادي (2/ 144) .
[5] سقطت «الواو» من لفظة «وفضالة» في الأصل، وأثبتناها من المطبوع.(1/252)
سنة أربع وخمسين
توفي فيها أسامة بن زيد الهاشميّ الكلبي حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبّه قدّمه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأمّره على فضلاء الصّحابة، وجلّة المهاجرين والأنصار، على حداثة سنّه.
وثوبان [1] بن بجدد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجبير [2] بن مطعم النّوفلي، وكان من سادات قريش وحلمائها، وقيل: توفي سنة ثمان وخمسين.
وحسّان بن ثابت الأنصاريّ الشّاعر عن مائة وعشرين سنة مناصفة في الجاهليّة والإسلام قيل: وكذلك أبوه وجدّه، وكان لسانه يصل إلى جبهته، ومن قوله مخاطبا لأبي سفيان بن الحارث [3] :
__________
[1] سقطت «الواو» الأولى من الأصل، واستدركناها من المطبوع.
[2] سقطت «الواو» من الأصل، واستدركناها من المطبوع.
[3] هو المغيرة بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي القرشي، أبو سفيان، أحد الأبطال الشعراء في الجاهلية والإسلام، وهو أخو رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، كان يألفه في صباهما، ولما أظهر النبيّ صلى الله عليه وسلم الدعوة إلى الإسلام عاداه أبو سفيان، وهجاه، وهجا أصحابه، واستمر على ذلك إلى أن قوي المسلمون وتداول الناس خبر تحرك النبيّ صلى الله عليه وسلم لفتح مكة، فخرج من مكة ونزل بالأبواء- وكانت خيل المسلمين قد بلغتها قاصدة مكة- ثم تنكّر وقصد رسول الله(1/253)
أتهجوه ولست له بكفؤ ... فشرّكما لخيركما الفداء [1]
قيل: وهذا أنصف [2] بيت قالته العرب.
وفيها على خلاف حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد القرشيّ الأسديّ ابن أخي [3] خديجة [4] ، الشّريف الجواد، أعتق في الجاهليّة مائة رقبة، وحمل على مائة بعير، وفعل مثل ذلك في الإسلام، وأهدى مائة بدنة وألف شاة، وأعتق بعرفة مائة وصيف في أعناقهم أطواق الفضّة منقوش فيها «عتقاء الله عن حكيم بن حزام» وباع دار النّدوة بمائة ألف وتصدّق بها، فقيل له:
__________
صلى الله عليه وسلم، فلما رآه أعرض عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فتحول أبو سفيان إلى الجهة التي حول إليها بصره، فأعرض، فأسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم معرض عنه، وشهد معه فتح مكة ثم وقعة حنين وأبلى بلاء حسنا، فرضي عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم كان من أخصائه، فكان يقال له بعد ذلك: «أسد الله» و «أسد الرسول» له شعر كثير في الجاهلية هجاء بالإسلام، وفي الإسلام هجاء بالمشركين، مات بالمدينة المنورة سنة (20 هـ) ، وصلى عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه. انظر «سير أعلام النبلاء» للذهبي (1/ 202- 205) ، و «أسد الغابة» لابن الأثير (6/ 144- 147) ، و «مشاهير علماء الأمصار» لابن حبان ص (22) ، و «الأعلام» للزركلي (7/ 276) .
[1] كذا في الأصل، والمطبوع: و «ديوان حسان بن ثابت» الذي بين أيدينا، وفي «شرح أبيات المغني» للبغدادي (2/ 19) :
«أتهجوه ولست له بكفء ... فشرّكما لخيركما الفداء»
والبيت في ديوانه ص (18) من قصيدة طويلة ألقاها يوم فتح مكة.
[2] في الأصل: «وهذا نصف بيت قالته العرب» وهو خطأ، والتصحيح من المطبوع.
[3] في الأصل: «ابن أبي خديجة» وهو خطأ، وما أثبتناه من المطبوع، وهو الصواب.
[4] هي أمّ المؤمنين خديجة بنت خويلد القرشية الأسدية- زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم- تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل النبوة، ولها أربعون سنة، وكانت أسن منه بخمس عشرة سنة، ولدت بمكة، ونشأت في بيت شرف ويسار، ولم يتزوج عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ماتت، ولما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاها إلى الإسلام، فكانت أول من أسلم من الرجال والنساء، وأولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم منها، إلا إبراهيم، وهي التي آزرته على النبوة، وجاهدت معه، وواسته بنفسها ومالها، وأرسل الله عزّ وجل إليها السلام مع جبريل عليه السلام، وهذه خاصة لا تعرف لامرأة سواها، وماتت قبل الهجرة بثلاث سنين رضي الله عنها وأرضاها. انظر «زاد المعاد» لابن القيم (1/ 105) ، و «الأعلام» للزركلي (2/ 302) .(1/254)
بعت مكرمة قريش، فقال: ذهبت المكارم.
ولدته أمّه بالكعبة [1] وعاش ستّين سنة في الجاهليّة، وستّين سنة في الإسلام، ودفن في داره بالمدينة، وهو من مسلمة الفتح.
وفيها أبو قتادة [2] الأنصاريّ السّلمي فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد أحدا وما بعدها.
ومخرمة بن نوفل الزّهريّ والد المسور، وكان من المؤلّفة قلوبهم.
وفيها غزا عبيد الله بن زياد فقطع نهر جيحون إلى بخارى، وافتتح بعض البلاد، وكان أوّل عربي عدا النّهر.
وفيها على ما رجّحه الواقديّ [3] أمّ المؤمنين سودة بنت زمعة، وتقدّم أنها ماتت في خلافة عمر، وهو الأصحّ.
وفيها توفي سعيد بن يربوع المخزوميّ من مسلمة الفتح، عاش مائة وعشرين سنة.
وفيها عبد الله بن أنيس الجهنيّ حليف الأنصار، وكان أحد من شهد العقبة.
__________
[1] في المطبوع: «في الكعبة» .
[2] واسمه الحارث بن ربعي. انظر «سير أعلام النبلاء» للذهبي (2/ 449) ، و «مشاهير علماء الأمصار» لابن حبان ص (14) ، و «أسد الغابة» لابن الأثير (6/ 250) ، و «الإصابة» لابن حجر (11/ 302) ، و «الأنساب» للسمعاني (7/ 114) بإشراف والدي الشيخ عبد القادر الأرناؤوط.
[3] هو محمد بن عمر بن واقد الأسلمي مولاهم الواقديّ، المدينيّ القاضي، أبو عبد الله، صاحب التصانيف، و «المغازي» . قال فيه الذهبي: أحد أوعية العلم على ضعفه المتفق عليه، وقال الحافظ ابن حجر: متروك مع سعة علمه، وقال السمعاني: تكلموا فيه. انظر «سير أعلام النبلاء» للذهبي (9/ 454) ، و «تقريب التهذيب» لابن حجر (2/ 194) و «اللباب في تهذيب الأنساب» لابن الأثير (3/ 350) .(1/255)
سنة خمس وخمسين
فيها توفي أبو إسحاق سعد [1] بن أبي وقّاص القرشيّ الزّهريّ، أحد العشرة، ومقدّم جيوش الإسلام في فتح العراق، وأوّل من رمى بسهم في سبيل الله، مجاب الدّعوة، وفداه النبيّ صلى الله عليه وسلم بأبويه، وما دعا قطّ إلا استجيب له، ومناقبه جمّة.
وأبو اليسر كعب بن عمرو الأنصاريّ السّلميّ، [وهو الذي] [2] أسر العبّاس يوم بدر [3] .
والأرقم بن [أبي] الأرقم المخزوميّ، أحد السّابقين [4] ، وقيل:
توفي سنة ثلاث وخمسين [5] .
__________
[1] في الأصل: «سعيد» وهو خطأ.
[2] ما بين حاصرتين زيادة من «دول الإسلام» للذهبي (1/ 41) .
[3] في «تاريخ الإسلام» للذهبي (2/ 264) : «وأبو اليسر، وكعب بن عمرو السلمي» وهو خطأ، فإن كعب بن عمرو مكنى بأبيّ اليسر، فيستدرك فيه.
[4] وهو الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يختفي في داره بمكة. (ع) .
[5] قلت: وفيها عزل معاوية عبد الله بن عمرو بن غيلان عن البصرة، وولاها عبيد الله بن زياد، فلم يزل واليا حتى مات، فأقره يزيد. انظر «تاريخ خليفة بن خياط» ص (223) ، و «تاريخ الطبري» (5/ 300) ، و «الكامل» لابن الأثير (3/ 501) ، وفيه سبب عزل عبد الله بن عمرو.
وفيها أقام الحج مروان بن الحكم. انظر «تاريخ خليفة بن خياط» ص (223) ، و «تاريخ الطبري» (5/ 300) ، و «الكامل» لابن الأثير (3/ 502) .(1/256)
سنة ست وخمسين
فيها استعمل معاوية سعيد بن عثمان بن عفّان على خراسان [1] ، فغزا سمرقند، فالتقى هو والصّغد [2] فكسرهم، ثمّ صالحوه، وكان معه من الأمراء المهلّب، واستشهد معه يومئذ قثم بن العبّاس بن عبد المطّلب وكان يشبّه بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو آخر من طلع من لحد النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وفيها أمّ المؤمنين جويرية [3] بنت الحارث المصطلقيّة [4] ، وصلى عليها مروان [5] [6] .
__________
[1] قوله: «على خراسان» سقط من المطبوع.
[2] في المطبوع: «الصفد» وهو تحريف. والصّغد: هم سكان «صغد» وهو موضع بسمرقند، متنزه ذو أنهار وبساتين، وهو أحد متنزهات الدّنيا، قيل: جنان الدنيا أربع: غوطة دمشق، وصغد سمرقند، ونهر الأبلّة، وشعب بوان. انظر «تاج العروس» للزبيدي «سغد» (8/ 206) ، و «صغد» (8/ 287) ، و «معجم البلدان» لياقوت (3/ 409) . وراجع «تاريخ الطبري» (5/ 304- 307) .
[3] وكان اسمها «برّة» فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمها فسماها جويرية، وكان يكره أن يقال: خرج من عند برة. انظر «الأسماء واللغات» للنووي (2/ 336) .
[4] وقيل: توفيت سنة خمسين.
[5] يعني مروان بن الحكم، وكان يومئذ والي المدينة. انظر «تهذيب الأسماء واللغات» للنووي (2/ 336) .
[6] قلت: وفيها استشهد بأرض الروم عبد الله بن قرط الأزدي الثّمالي، وكان اسمه في الجاهلية(1/257)
سنة سبع وخمسين
فيها عزل سعيد بن عثمان عن خراسان، وأضيفت إلى العراقين لعبيد الله بن زياد.
وتوفّي عبد الله بن السّعديّ العامريّ، له صحبة.
وفيها، وقيل في سنة ثمان وخمسين في رمضان: توفّيت أمّ المؤمنين عائشة بنت أبي بكر [الصّدّيقة بنت] [1] الصّدّيق من أخصّ مناقبها ما علم من حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لها، وشاع من تخصيصها عنده، ونزول القرآن في عذرها وبراءتها والتّنويه بقدرها، ووفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحرها ونحرها [2] ، وفي
__________
شيطانا فسماه النبيّ صلى الله عليه وسلم «عبد الله» . انظر «أسد الغابة» لابن الأثير (3/ 364، 365) ، و «تاريخ الإسلام» للذهبي (2/ 264) ، و «الإصابة» لابن حجر (6/ 192، 193) .
وفيها ولد عمرو بن دينار الجمحي. انظر «تهذيب الأسماء واللغات» للنووي (2/ 27) ، و «الأعلام» للزركلي (5/ 77) .
[1] ما بين حاصرتين سقط من الأصل، وأثبتناه من المطبوع.
[2] وفي رواية للبخاري، وأحمد، والنسائي: مات بين حاقنتي وذاقنتي. انظر «عمدة الأحكام» للمقدسي ص (40) بتحقيقي.
قال ابن الأثير: السّحر: الرّئة، أي أنه مات وهو مستند إلى صدرها وما يحاذى سحرها منه، وقيل: السحر: ما لصق بالحلقوم من أعلى البطن. «النهاية» (2/ 346) .
والنحر: موضع القلادة من الصّدر. قاله في «مختار الصحاح» ص (649) .(1/258)
نوبتها [1] ، وريقها في فمه الشّريف، لأنّه كان يؤثرها [2] أن تندّي له السّواك بريقها، ونزول الوحي في بيتها، وهو [3] في لحافها، ولم يتزوّج بكرا سواها، وما حمل عنها من الفقه لم يحمل عن أحد سواها، تزوجها النبيّ صلى الله عليه وسلم بمكة وهي ابنة ست، وبنى بها بالمدينة وهي بنت تسع، وتوفي صلى الله عليه وسلم وهي بنت ثمان عشرة، وتوفّيت عن خمس وستين سنة، ونقل عنها علم كثير حتى ورد «خذوا نصف دينكم عن الحميراء» [4] .
وفي رواية: «ثلثي دينكم» [4] .
وكانت من أكثر الصّحابة حفظا وفتيا، قال في «إعلام الموقعين» [5] :
والذين حفظت عنهم الفتوى من الصّحابة مائة ونيّف وثلاثون نفسا ما بين رجل وامرأة، وكان المكثرون منهم سبعة: عمر بن الخطّاب، وعليّ بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعائشة أمّ المؤمنين، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر.
قال أبو محمد بن حزم [6] : ويمكن أن يجمع من فتوى كلّ واحد منهم
__________
[1] في المطبوع: «وفي نوبته» .
[2] في المطبوع: «يأمرها» وهو صواب أيضا.
[3] أي النبيّ صلى الله عليه وسلم.
[4] قال الحافظ السخاوي في «المقاصد الحسنة» ص (198) : حديث: «حذوا شطر دينكم عن الحميراء» قال شيخنا- يعني الحافظ ابن حجر- في تخريج «ابن الحاجب» من إملائه: لا أعرف له إسنادا، ولا رأيته في شيء من كتب الحديث، إلا في «النهاية» لابن الأثير، ذكره في مادة (ح م ر) [1/ 438] ولم يذكر من خرجه، قال: ورأيته أيضا في «كتاب الفردوس» لكن بغير لفظه، وذكره من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه بغير إسناد أيضا، ولفظه: «خذوا ثلث دينكم من بيت الحميراء» ، وبيض له صاحب «مسند الفردوس» فلم يخرج له إسنادا، وذكر الحافظ عماد الدين ابن كثير أنه سأل الحافظين المزي والذهبي عنه فلم يعرفاه.
[5] في الأصل، والمطبوع: «معالم الموقعين» وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه.
[6] هو علي بن أحمد بن حزم الظاهري الأندلسي، أبو محمد، عالم الأندلس في عصره، وأحد(1/259)
سفر ضخم [1] .
قال: وقد جمع أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب بن أمير المؤمنين المأمون [2] فتيا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في عشرين كتابا.
وأبو بكر المذكور أحد أئمة الإسلام في العلم والحديث.
قال أبو محمد [3] : والمتوسّطون منهم فيما روي عنهم من الفتيا: أبو بكر الصّدّيق، وأمّ سلمة، وأنس بن مالك، وأبو سعيد الخدريّ، وأبو هريرة، وعثمان بن عفّان، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن الزّبير، وأبو موسى الأشعريّ، وسعد بن أبي وقّاص، وسلمان الفارسيّ، وجابر بن عبد الله، ومعاذ بن جبل، فهؤلاء ثلاثة عشر يمكن أن يجمع من فتيا كل امرئ منهم جزء صغير جدا.
ويضاف إليهم: طلحة، والزّبير، وعبد الرحمن بن عوف، وعمران بن حصين، وأبو بكرة، وعبادة بن الصّامت، ومعاوية بن أبي سفيان.
والباقون منهم مقلّون في الفتيا، لا يروى عن الواحد منهم إلا المسألة والمسألتان، والزيادة اليسيرة [على ذلك] [4] يمكن أن يجمع من فتيا جميعهم
__________
أئمة الإسلام، كان في الأندلس خلق كثير ينتسبون إلى مذهبه، يقال لهم: «بحزمية» وكانت له، ولأبيه من قبله رياسة الوزارة وتدبير المملكة، فزهد بها، وانصرف إلى العلم والتأليف، فكان من صدور الباحثين، فقيها، حافظا، يستنبط الأحكام من الكتاب والسنة، بعيدا عن المصانعة، صنف مصنفات كثيرة منها «المحلى» ، و «جمهرة أنساب العرب» ، و «المفاضلة بين الصحابة» مات سنة (456 هـ) . انظر «الأمصار ذوات الآثار» للذهبي ص (52) بتحقيقي، و «الأعلام» للزركلي (5/ 95) .
[1] أي كتاب ضخم.
[2] أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب بن الخليفة المأمون بن هارون الرشيد العباسي، أمير من علماء بني العباس بالحديث، كان ثقة مأمونا، ولد بمكة، وانتقل إلى مصر، فحدّث فيها، وتوفي بها رحمه الله سنة (342 هـ) . انظر «الأعلام» للزركلي (7/ 117) .
[3] يعني ابن حزم الأندلسي.
[4] ما بين حاصرتين سقط من الأصل، والمطبوع، واستدركناه من «إعلام الموقعين» لابن القيم.(1/260)
جزء صغير فقط، بعد التقصّي والبحث [1] . انتهى ملخصا ما ذكره ابن القيم [2] .
وكان من الآخذين عن عائشة الذين لا يكادون يتجاوزون قولها المتفقّهين بها: القاسم بن محمد بن أبي بكر ابن أخيها، وعروة بن الزّبير ابن أختها أسماء، قال مسروق: لقد رأيت مشيخة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونها عن الفرائض.
وقال عروة بن الزّبير: ما جالست أحدا قطّ أعلم بقضاء ولا بحديث بالجاهلية، ولا أروى للشعر، ولا أعلم بفريضة ولا طبّ من عائشة رضي الله عنها.
وفيها توفّي أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدّوسيّ، قاله هشام المديني، وقيل: سنة ثمان وخمسين، قاله أبو معشر، ويحيى بن بكير، وجماعة، وقيل: سنة تسع وخمسين، كان كثير العبادة والذّكر، حسن الأخلاق، ولي إمرة المدينة، وكان حافظ الصحابة، وأكثرهم رواية.
قال الحافظ الذهبيّ: المكثرون من رواية الحديث من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
أبو هريرة [3] مروياته خمسة آلاف، وثلاثمائة وأربعة وسبعون.
__________
[1] يحسن بالباحث الرجوع إلى تتمة كلام ابن القيم في «إعلام الموقعين» للاطلاع على بقية أسماء الصحابة المقلين من الفتوى ص (1/ 12- 14) .
[2] هو شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية، صاحب الذهن الوقاد، والمؤلفات الكثيرة المتنوعة، المتوفى سنة (751 هـ) . انظر ترجمته ومصادرها في صدر كتابه «زاد المعاد» الذي حققته بالاشتراك مع زميلي الأستاذ الشيخ شعيب الأرناؤوط، ونشرته مؤسسة الرسالة في بيروت، ومكتبة المنار الإسلامية في الكويت (ع) .
[3] اشتهر بكنيته، واختلف في اسمه على أقوال، أشهرها عبد الرحمن بن صخر الدّوسي كما ذكر المؤلف.(1/261)
ابن عمر: ألفان وستمائة وثلاثون.
أنس: ألفان ومائتان وستة وسبعون.
عائشة: ألفان ومائتان وعشرة [1] .
ابن عباس: ألف وستّمائة وسبعون.
جابر: ألف وخمسمائة وأربعون.
أبو سعيد [2] : ألف ومائة وسبعون.
عليّ: خمسمائة وستة وثمانون.
عمر: خمسمائة وسبعة وثلاثون.
عبد الله بن مسعود: ثمانمائة وثمانية وأربعون.
عبد الله بن عمرو [3] : سبعمائة.
أمّ سلمة: ثلاثمائة وثمانية وسبعون.
أبو موسى [4] : ثلاثمائة وستون.
البراء بن عازب: ثلاثمائة وخمسة.
أبو ذرّ [5] : مائتان وأحد وثمانون.
سعد [6] : مائتان وأحد وسبعون.
__________
[1] في المطبوع: «ومائتان وعشر» .
[2] هو أبو سعيد الخدري، واسمه سعد بن مالك بن سنان الخدري الأنصاري الخزرجي، توفي بالمدينة سنة (74 هـ) . (ع) .
[3] في المطبوع: «عبد الله بن عمر» وهو خطأ.
[4] هو أبو موسى الأشعري، واسمه عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار بن حرب، من بني الأشعر. (ع) .
[5] هو أبو ذر الغفاري، واسمه جندب بن جنادة، من الزهاد، رضي الله عنه، توفي بالربذة من قرى المدينة المنورة سنة (32 هـ) ، انظر ص (196) من هذا المجلد. (ع) .
[6] هو سعد بن أبي وقاص، وأبو وقاص، مالك، بن أهيب بن عبد مناف القرشي الزهدي، أحد العشرة المبشرين بالجنة، أبو إسحاق، فاتح العراق، أول من رمى بسهم في سبيل الله، توفي(1/262)
أبو أمامة [1] : مائتان وخمسون.
سهل بن سعد [2] : مائة وثمانية وثمانون.
عبادة [3] : مائة وأحد وثمانون.
عمران [4] : مائة وثمانون.
معاذ [5] : مائة وسبعة وخمسون.
أبو أيوب [6] : مائة وخمسة وخمسون.
عثمان [7] : مائة وأربعة وستون [8] .
__________
رضي الله عنه بقصره في العقيق على عشرة أميال من المدينة، وحمل إليها سنة (55 هـ) .
انظر ص (257) (ع) .
[1] هو أبو أمامة صدي بن عجلان الباهلي، سكن الشام، فتوفي في حمص سنة (86 هـ) رضي الله عنه، انظر ص (351) . (ع) .
[2] هو سهل بن سعد الساعدي الأنصاري، من مشاهير الصحابة من أهل المدينة، عاش نحو مائة سنة وهو آخر من توفي بالمدينة المنورة سنة (91 هـ) .
[3] هو عبادة بن الصامت بن قيس الأنصاري الخزرجي أبو الوليد، شهد العقبة وبدرا والمشاهر، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وحضر فتح مصر، وهو أول من ولي القضاء بفلسطين، توفي بالرملة أو ببيت المقدس سنة (35 هـ) . (ع) .
[4] هو عمران بن حصين أبو نجيد الخزاعي، من علماء الصحابة أسلم عام خيبر سنة (7 هـ) ، وأرسله عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى البصرة ليفقههم وتوفي بها رضي الله عنه سنة (52 هـ) . (ع) .
[5] هو معاذ بن جبل الأنصاري أبو عبد الرحمن، كان من أعلم الناس بالحلال والحرام، شهد العقبة وبدرا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد غزوة تبوك إلى اليمن، وعاد بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ثم كان مع أبي عبيدة بن الجراح في غزو الشام، توفي بالطاعون في أرض فلسطين، ودفن في أرض الغور سنة (18 هـ) . (ع) .
[6] هو خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة أبو أيوب الأنصاري من بني النجار، شهد العقبة وبدرا وأحدا والمشاهد كلها، وكان شجاعا صابرا تقيا محبا للتفرد الجهاد، توفي غازيا في القسطنطينية سنة (52 هـ) رضي الله عنه. (ع) .
[7] هو عثمان بن عفان ذو النورين أمير المؤمنين، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنتيه رقية وأم كلثوم، قتل رضي الله عنه سنة (35 هـ) . (ع) .
[8] والذي في «تهذيب الأسماء واللغات» للنووي، أن له (146) حديثا.(1/263)
جابر بن سلمة: مثله.
أبو بكر الصّدّيق: مائة واثنان وثلاثون.
أسامة [1] : مائة واثنان وثمانون.
ثوبان [2] : مائة واثنان وسبعون.
سمرة بن جندب: مائة واثنان وثلاثون.
النعمان بن بشير: مائة واثنان وأربعون.
أبو مسعود [3] : مائة واثنان.
جرير [4] : مائة.
ابن أبي أوفى [5] : خمسة وتسعون. انتهى.
ولبعضهم في المكثرين من رواية الحديث:
سبع من الصّحب فوق الألف قد نقلوا ... من الحديث عن المختار خير مضر
__________
[1] هو أسامة بن زيد بن حارثة، حب رسول الله وإن حبه، أمّره رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو شاب، ولما توفي رسول الله رحل إلى وادي القرى فسكنه، ثم انتقل إلى دمشق فسكن المزة، ثم عاد إلى المدينة فأقام إلى أن مات بالجرف سنة (54 هـ) رضي الله عنه. (ع) .
[2] هو ثوبان بن بجدد، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أهل السراة، موضع بين مكة واليمن، أصابه سباء فاشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه، ولم يزل معه صلى الله عليه وسلم في الحضر والسفر إلى أن مات، ثم تحول إلى الرملة، ثم حمص، ومات بها سنة (54 هـ) رضي الله عنه. (ع) .
[3] هو أبو مسعود البدري، واسمه (عقبة بن عمرو) مشهور بكنيته، وسكن بدرا، وشهد العقبة وأحدا ونزل الكوفة، وتوفي بها رضي الله عنه سنة (40 هـ) . (ع) .
[4] هو جرير بن عبد الله البجلي الأحمسي الكوفي، قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر من الهجرة في شهر رمضان فبايعه وأسلم، وكان جميل الصورة، كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول فيه: يوسف هذه الأمة، نزل الكوفة ثم تحول إلى قرقيسيا، وتوفي بها رضي الله عنه سنة (51 هـ) . (ع) .
[5] هو عبد الله بن أبي أوفى، واسم أبي أوفى علقمة بن خالد الأسلمي، شهد بيعة الرضوان، وخيبر وما بعدهما من المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يزل بالمدينة حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تحول إلى الكوفة، وهو آخر من بقي من الصحابة بالكوفة، توفي رضي الله عنه بالكوفة سنة (86 هـ) . (ع) .(1/264)
أبو هريرة سعد جابر أنس ... صدّيقة وابن عبّاس كذا ابن عمر
وكان في أبي هريرة دعابة، وكان يخطب ويقول: طرّقوا لأميركم قيل:
وكان يصلي خلف عليّ، ويأكل على سماط معاوية ويعتزل القتال، ويقول:
الصلاة خلف عليّ أتمّ، وسماط معاوية أدسم، وترك القتال أسلم، واستعمله عمر على البحرين، وروى عنه أكثر من ثمانمائة رجل، أسلم عام خيبر سنة سبع، وصدّقه الشيطان ونصحه، فقد ثبت في «الصحيح» عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة لمّا وكّله النبيّ بحفظ زكاة الفطر، فسرق منه الشيطان ليلة بعد ليلة، وهو يمسكه فيتوب فيطلقه، فيقول له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما فعل أسيرك البارحة؟» فيقول: زعم أنه لا يعود، فيقول: «إنه سيعود» فلما كان في المرة الثالثة، قال له: دعني حتى [1] أعلّمك ما ينفعك، إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: الله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ 2: 255 [البقرة: 255] إلى آخرها، فإنه لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فلما أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «صدقك وهو كذوب» . وأخبره أنه شيطان [2] .
وفيه دليل على أن الإنسيّ أقوى وأشدّ بأسا من الجنيّ كما اختاره الفخر الرازيّ.
__________
[1] لفظة «حتى» سقطت من المطبوع.
[2] رواه البخاري تعليقا (4/ 487) في الوكالة، باب إذا وكل رجلا فترك الوكيل شيئا فأجازه الموكل فهو جائز، قال الحافظ في الفتح: وقد وصله النسائي والإسماعيلي وأبو نعيم. وانظر «جامع الأصول» لابن الأثير (8/ 477) والتعليق عليه بتحقيقي، وانظر فوائد الحديث في «فتح الباري» لابن حجر (4/ 489) .(1/265)
سنة ثمان وخمسين
فيها توفي جبير بن مطعم على خلاف في ذلك.
وشدّاد بن أوس الأنصاريّ نزيل بيت المقدس.
وعقبة بن عامر الجهنيّ الصحابيّ أمير معاوية على مصر، وكان فقيها فصيحا مفوّها.
وعبيد الله بن العباس [1] بن عبد المطلب، له صحبة ورواية، ولي اليمن لعليّ فسار إليه بسر [2] بن أرطاة فذبح ولديه [3] ، وكان أحد الأجواد [4] أشاع بعض الناس أنه يدعو الناس للغداء، ولا علم له، فامتلأت
__________
[1] هو عبيد الله بن العباس، أخو عبد الله بن العباس، كان أصغر سنا من أخيه عبد الله بسنة، وكان سخيا جوادا، وكان تاجرا، مات بالمدينة رضي الله عنه سنة (87 هـ) كما قال الحافظ في «التقريب» وقال في «التهذيب» قال أبو خليفة مات سنة (58 هـ) . (ع) .
[2] في المطبوع: «بشر» وهو تصحيف. وهو بسر بن أرطاة، ويقال: ابن أبي أرطاة، واسم أبي أرطاة، عمير بن عويمر بن عمران القرشي العامري، نزيل الشام مختلف في صحبه.
[3] أي ذبح بسر بن أرطاة ولدي عبيد الله بن العباس، وهما: عبد الرحمن وقثم، وحكى المسعودي في «مروج الذهب» : أن عليا دعا على بسر أن يذهب عقله لما بلغه قتله ابني عبيد الله بن العباس وأنه خرف ومات في أيام الوليد بن عبد الملك سنة (86 هـ) .
[4] أي عبيد الله بن العباس رضي الله عنه.(1/266)
رحبة بيته، فقال: ما شأنهم؟ قالوا: إنك دعوتهم، فقال: لا يخرجنّ منهم أحد وغدّاهم جميعا، ثم نادى مناديه: أن يحضروا كلّ يوم [1] .
__________
[1] قلت: وفيها مات يزيد بن شجرة بن أبي شجرة الرّهاوي، من أصحاب معاوية، مختلف في صحبته. انظر «الإصابة» لابن حجر (10/ 352، 353) ، و «الأعلام» للزركلي (8/ 184) .
وفيها حج بالناس الوليد بن عتبة بن أبي سفيان. انظر «تاريخ خليفة بن حياط» ص (225) ، و «تاريخ الإسلام» للذهبي (2/ 265) .(1/267)
سنة تسع وخمسين
فيها توفي أبو محذورة الجمحيّ [1] المؤذّن، له صحبة ورواية، وكان من أندى النّاس صوتا وأحسنهم نغمة.
وفيها، وقيل: في التي تليها، شيبة بن عثمان الحجبيّ [2] العبدريّ [3] سادن الكعبة.
وسعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أميّة والد عمرو الأشدق، والذي أقيمت عربية القرآن على لسانه، لأنه كان أشبههم لهجة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وليّ الكوفة لعثمان، وافتتح طبرستان [4] ، وكان ممدّحا، كريما، عاقلا،
__________
[1] هو أوس بن معير الجمحي، ويقال: سمرة بن معير، قال ابن حزم: ويظن أهل الحديث أن اسم أبي محذورة سمرة، وليس كذلك، وإنما سمرة أخ لأبي محذورة. انظر «الإصابة» لابن حجر (12/ 12) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (1/ 124) ، و «سير أعلام النبلاء» للذهبي (3/ 117) ، و «جمهرة أنساب العرب» لابن حزم ص (162، 163) .
قلت: وقد تحرف اسم «أوس بن معير» في «زاد المعاد» إلى «أوس بن مغيرة» ، واسم «سمرة» في «سير أعلام النبلاء» إلى «سمير» .
[2] قال السمعاني: الحجبي: بفتح الحاء المهملة، والجيم وكسر الباء المنقوطة، هذه النسبة إلى حجابة البيت المعظم. «الأنساب» (4/ 64) .
[3] في الأصل: «العبدي» وهو خطأ، وأثبتنا ما في المطبوع، وهو الصواب، لأن شيبة رضي الله عنه من بني عبد الدار.
[4] طبرستان: إقليم واسع كبير في بلاد إيران، خرج من من لا يحصى كثرة من أهل العلم،(1/268)
حليما، اعتزل الجمل، وصفّين، ومولده قبل بدر.
وأبو عبد الرّحمن عبد الله بن عامر بن كريز العبشميّ [1] ، أمير عثمان على العراق، له رواية، وهو الذي افتتح خراسان، وأصبهان، وحلوان [2] ، وكرمان [3] ، وأطراف فارس [4] كلها.
__________
والأدب، والفقه، وهذا الإقليم يضم بلدانا واسعة، والنسبة إلى هذا الإقليم «الطّبري» . انظر «معجم البلدان» لياقوت (4/ 13- 16) ، و «الأنساب» للسمعاني (8/ 204) .
[1] في الأصل، والمطبوع: «العبسي» وهو خطأ، والتصحيح من «أسد الغابة» لابن الأثير (3/ 288) ، و «سير أعلام النبلاء» للذهبي (3/ 18) ، و «الإصابة» لابن حجر (7/ 204) .
وانظر «جمهرة أنساب العرب» لابن حزم ص (74) .
[2] قال ياقوت: حلوان: بليدة بقوهستان نيسابور، وهي آخر حدود خراسان مما يلي أصبهان.
«معجم البلدان» (2/ 294) .
[3] بلدة تقع في إيران الآن، انظر «الأمصار ذوات الآثار» للذهبي ص (101- 103) .
[4] فارس: ولاية واسعة، وإقليم فسيح، أول حدودها من جهة العراق أرجان، ومن جهة كرمان السيرجان، ومن جهة ساحل بحر الهند سيراف، ومن جهة السند مكران. وهي جزء من إيران الآن. انظر «معجم البلدان» (4/ 226- 228) .(1/269)
سنة ستين
فيها توفي معاوية بن أبي سفيان بدمشق في رجب وله ثمان وسبعون سنة، ولي الشّام لعمر، وعثمان عشرين سنة، وتملكها بعد عليّ عشرين [أخرى] إلّا شهرا، وسار بالرعية سيرة جميلة، وكان من دهاة العرب وحلمائها، يضرب به المثل، وهو أحد كتبة الوحي، وهو الميزان في حب الصحابة، ومفتاح الصحابة، سئل الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه أيهما [1] أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز، فقال: لغبار لحق بأنف جواد معاوية بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من عمر بن عبد العزيز [2] رضي الله تعالى عنه، وأماتنا على محبته.
وفيها توفي سمرة بن جندب الفزاري، في أولها، نزيل البصرة.
وبلال بن الحارث المزنيّ.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «أيما» ، وما أثبتناه يقتضيه السياق.
[2] قلت: إن صح هذا من كلام الإمام أحمد رحمه الله، فإن فيه انتقاصا من قدر الخليفة الصالح عمر بن عبد العزيز الذي عدّ عند الكثيرين من أئمة المسلمين في مقام الخلفاء الراشدين، والذي له من المكارم ما لا يعد ولا يحصى، ومن أهم تلك المكارم أنه منع الكثير من البدع التي كانت سائدة في عصور من سبقه من خلفاء بني أمية في الشام، ولو لم يكن له من المكارم سوى الأمر بتدوين الحديث النبوي الشريف لكفاه فخرا، فكيف وقد كان عهده عهد أمان واطمئنان ورخاء للمسلمين قاطبة، رحمه الله برحمته الواسعة، وجمعنا به يوم القيامة في الجنة تحت لواء سيد المرسلين.(1/270)
وعبد الله بن مغفّل المزنيّ، نزيل البصرة، من أهل بيعة الرضوان.
وفيها، أو في التي قبلها، أبو حميد السّاعديّ، رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
وفيها عزل الوليد بن عتبة عن المدينة، واستعمل عليها عمرو بن سعيد الأشدق، فقدمها في رمضان، فدخل عليه أهل المدينة، وكان عظيم الكبر، واستعمل على شرطته عمرو [1] بن الزّبير لما كان بينه وبين أخيه عبد الله [من البغضاء، فأرسل إلى نفر من أهل المدينة، فضربهم ضربا شديدا لهواهم في أخيه عبد الله] [2] منهم أخوه المنذر بن الزّبير، ثم جهز عمرو بن سعيد عمرو [3] بن الزّبير في جيش نحو ألفي رجل إلى أخيه عبد الله بن الزّبير، فنزل بالأبطح [4] ، وأرسل إلى أخيه برّ يمين يزيد [5] وكان حلف ألّا يقبل بيعته إلا أن يؤتى به في جامعة، ويقال: حتى أجعل في عنقك جامعة من فضة لا ترى، ولا تضرب الناس بعضهم ببعض، فإنك في بلد حرام، فأرسل إليه [6] أخوه عبد الله من فرّق جماعته وأصحابه، فدخل دار ابن علقمة [7] ، فأتاه أخوه
__________
[1] في المطبوع: «عمر» وهو خطأ. وانظر خبر «عمرو بن الزبير» في «الكامل» لابن الأثير (4/ 18) .
[2] زيادة من المطبوع، و «تاريخ الطبري» (5/ 344) .
[3] في المطبوع: «عمر» وهو خطأ.
[4] الأبطح: كل مسيل فيه دقاق الحصى فهو أبطح، وقال ابن دريد: الأبطح، والبطحاء: الرمل المنبسط على وجه الأرض، وقال أبو زيد: الأبطح أثر المسيل ضيقا كان أو واسعا، والأبطح يضاف إلى مكة، وإلى منى، لأن المسافة بينه وبينها واحدة، وربما كان إلى منى أقرب، وهو المحصّب. «معجم البلدان» لياقوت (1/ 74) .
[5] وهكذا أيضا عبارة «الكامل» لابن الأثير (4/ 19) ، وفي «تاريخ الطبري» (5/ 344) : «برّ يمين الخليفة، واجعل في عنقك جامعة من فضة لا ترى، لا يضرب الناس بعضهم بعضا، واتق الله فإنك في بلد حرام» .
[6] في الأصل: «إلى» وهو خطأ، وأثبتنا ما في المطبوع.
[7] في «تاريخ الطبري» : «دار علقمة» .(1/271)
عبيدة فأجاره، ثم أتى عبد الله فقال له: قد أجرت عمرا، فقال: أتجير [1] من حقوق الناس! هذا ما لا يصح، أو ما أمرتك أن لا تجير هذا الفاجر الفاسق المستحلّ لحرمات الله، ثم أقاد عمرا بكل من ضربه إلّا المنذر، وابنه، فإنهما أبيا أن يستقيدا، ومات تحت السّياط.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «تجير» ، وما أثبتناه من «تاريخ الطبري» ، و «الكامل» لابن الأثير.(1/272)
سنة إحدى وستين
استشهد فيها في يوم عاشوراء أبو عبد الله الحسين بن عليّ بن أبي طالب، سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته بكربلاء [1] عن ست وخمسين سنة، ومن أسباب ذلك أنه كان قد أبى من البيعة ليزيد حين بايع له أبوه النّاس [2] ، رابع أربعة عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزّبير، وعبد الرّحمن بن أبي بكر، فلما مات معاوية جاءت كتب أهل العراق إلى الحسين يسألونه القدوم عليهم، فسار بجميع أهله حتى بلغ كربلاء موضعا بقرب الكوفة، فعرض له عبيد الله [3] بن زياد، فقتلوه، وقتلوا معه ولديه عليّا الأكبر، وعبد الله، وإخوته جعفرا، ومحمّدا، وعتيقا، والعبّاس الأكبر، وابن أخيه قاسم بن الحسن، وأولاد عمه محمّدا، وعونا ابنا عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، ومسلم بن عقيل بن أبي طالب، وابنيه عبد الله، وعبد الرّحمن. ومختصر ذلك أن يزيد لما بويع له بعد موت أبيه، وكان أبوه بايع له الناس، فأرسل يزيد إلى عامله بالمدينة الوليد بن عتبة يأخذ له البيعة، فأرسل إلى الحسين، وعبد الله بن الزّبير، فأتياه ليلا وقالا له: مثلنا لا يبايع سرا بل على رؤوس الأشهاد، ثم
__________
[1] كربلاء: موضع قرب الكوفة. انظر «معجم البلدان» لياقوت (4/ 445) .
[2] أي حين أخذ له أبوه معاوية بن أبي سفيان البيعة من الناس قهرا.
[3] في الأصل: «عبد الله» وهو خطأ.(1/273)
رجعا، وخرجا من ليلتهما في بقية من رجب، فقدم الحسين مكّة، وأقام بها، وخرج منها يوم التروية إلى الكوفة فبعث عبيد الله [1] بن زياد لحربه عمر بن سعد بن أبي وقّاص، وقيل: أرسل عبد الله [2] ابن الحارث التميميّ، أن جعجع بالحسين، أي احبسه [3] .
والجعجاع المكان الضيق [3] .
ثم أمر معمر بن سعيد في أربعة آلاف، ثم صار عبيد الله بن زياد يزيد في العسكر إلى أن بلغوا اثنين وعشرين ألفا، وأميرهم عمر بن سعد ابن أبي وقّاص، واتفقوا على قتله يوم عاشوراء، قيل: يوم الجمعة، وقيل: السبت، وقيل: الأحد، بموضع يقال له: الطّفّ [4] ، وقتل معه اثنان وثمانون رجلا فيهم الحارث بن يزيد التّميميّ، لأنه تاب آخرا، حين رأى منعهم له من الماء، وتضييقهم عليه، قيل: ووجد بالحسين رضي الله عنه ثلاث وثلاثون طعنة، وأربع وثلاثون ضربة، وقتل معه من الفاطميين سبعة عشر رجلا.
وقال الحسن البصريّ: أصيب مع الحسين ستة عشر رجلا من أهل بيته، ما على وجه الأرض يومئذ لهم شبيه، وجاء بعض الفجرة برأسه إلى ابن زياد وهو يقول:
أوقر ركابي فضّة وذهبا ... إني [5] قتلت الملك المحجّبا
قتلت خير النّاس أمّا وأبا ... [وخيرهم إذ ينسبون نسبا] [6]
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «عبد الله» وهو خطأ.
[2] في المطبوع: «عبيد الله» .
[3] في المطبوع: «أحبه» وهو خطأ، وانظر «لسان العرب» «جعع» (1/ 636) .
[4] الطف: أرض من ضاحية الكوفة في طريق البرية ... وهي أرض بادية قريبة من الريف، فيها عدة عيون ماء جارية. انظر «معجم البلدان» لياقوت (4/ 36) .
[5] في «تاريخ الطبري» : «أنا» .
[6] البيتان في «تاريخ الطبري» (5/ 454) منسوبان إلى سنان بن أنس، وما بين حاصرتين زيادة منه.(1/274)
فغضب لذلك، وقال: إذا علمت أنه كذلك فلم قتلته؟ والله لألحقنك به، وضرب عنقه، وقيل: إن يزيد هو الذي قتل القائل.
ولما تم قتله [1] حمل رأسه، وحرم بيته، وزين العابدين معهم إلى دمشق كالسبايا، قاتل الله فاعل ذلك وأخزاه، ومن أمر به، أو رضيه.
قيل: قال لهم عند ذلك بعض الحاضرين: ويلكم إن لم تكونوا أتقياء في دينكم، فكونوا أحرارا في دنياكم [2] .
والصحيح أن الرأس المكرّم دفن بالبقيع إلى جنب أمه فاطمة، وذلك أن يزيد بعث به إلى عامله بالمدينة عمرو بن سعيد الأشدق، فكفّنه ودفنه [3] .
والعلماء مجمعون على تصويب قتال عليّ لمخالفيه لأنه الإمام الحق،
__________
[1] أي قتل الحسين بن علي رضي الله عنه وأرضاه.
[2] أقول: لا شك أن قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما وأهل بيته في كربلاء كان كارثة عظيمة يتفطر لها قلب كل مسلم ويحزنه قتله رضي الله عنه، فإنه من سادات المسلمين وعلماء الصحابة، وابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي أفضل بناته، وقد كان عابدا وشجاعا وسخيا، ولكن لا يجوز ما يفعله بعض الناس في يوم عاشوراء من ضرب لأنفسهم، وبكاء وصراخ، واتخاذ ذلك اليوم مأتما، لأنه قتل فيه الحسين رضي الله عنه، وقد كان أبوه أفضل منه وقد قتل يوم الجمعة (17) رمضان وهو خارج إلى صلاة الفجر، ولم يتخذوا يوم قتله مأتما.
وعثمان بن عفان رضي الله عنه قتل وهو محصور في داره في أيام التشريق من ذي الحجة ولم يتخذوا يوم قتله مأتما، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل وهو قائم يصلي في المحراب صلاة الفجر، ولم يتخذوا ذلك اليوم مأتما، ولم يتخذوا يوم وفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه مأتما، كما لم يتخذوا يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم في الدنيا والآخرة مأتما، كما لا يجوز ما يفعله بعض الناس في يوم عاشوراء، من الاختضاب والاغتسال والاكتحال والتطيب، وزيادة المأكولات، فإن ذلك من البدع التي ابتدعها قتلة الحسين رضي الله عنه، وإن كان بعض الناس يستشهدون بحديث «من وسّع على عياله يوم عاشوراء وسّع الله عليه سائر سنته» فإن أسانيده كلها ضعيفة، ولم يثبت في يوم عاشوراء إلا فضيلة صيامه، وذلك لأن الله تعالى نجى فيه موسى وقومه، وأهلك فرعون وجنده وقد صامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر الناس بصيامه (ع) .
[3] قال ابن كثير في «البداية والنهاية» (8/ 204) : وأما رأس الحسين رضي الله عنه،(1/275)
ونقل الاتفاق أيضا على تحسين خروج الحسين على يزيد، وخروج ابن الزّبير، وأهل الحرمين على بني أمية، وخروج ابن الأشعث [1] ومن معه من كبار التابعين وخيار المسلمين على الحجّاج.
ثم [إن] الجمهور رأوا جواز الخروج على من كان مثل يزيد، والحجّاج، ومنهم من جوّز الخروج على كل ظالم، وعدّ ابن حزم خروم الإسلام أربعة:
قتل عثمان، وقتل الحسين، ويوم الحرّة، وقتل ابن الزّبير، ولعلماء السلف في يزيد وقتلة الحسين خلاف في اللعن والتوقّف.
قال ابن الصّلاح [2] : والنّاس في يزيد ثلاث فرق، فرقة تحبّه وتتولّاه، وفرقة تسبّه وتلعنه، وفرقة متوسطة في ذلك لا تتولّاه ولا تلعنه، قال: وهذه الفرقة هي المصيبة، ومذهبها هو اللائق لمن يعرف سير الماضين، ويعلم قواعد الشريعة الظاهرة. انتهى كلامه.
ولا أظن الفرقة الأولى توجد اليوم، وعلى الجملة، فما نقل عن قتلة الحسين والمتحاملين عليه يدل على الزندقة وانحلال الإيمان من قلوبهم،
__________
فالمشهور عند أهل التاريخ وأهل السير أنه بعث به ابن زياد إلى يزيد بن معاوية، ومن الناس من أنكر ذلك، وعندي أن الأول أشهر، والله أعلم. ثم اختلفوا في المكان الذي دفن فيه الرأس، فروى محمد بن سعد أن يزيد بعث برأس الحسين إلى عمرو بن سعيد نائب المدينة، فدفنه عند أمه بالبقيع (ع) .
[1] هو عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي، مات سنة (84 هـ) . انظر الصفحة (347) من هذا المجلد، و «الأعلام» للزركلي (3/ 323- 324) .
[2] هو عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن موسى الكردي الشّهرزوري، أبو عمرو، المعروف بابن الصّلاح، لأن أباه عرف بلقبه «صلاح الدين» ، كان إماما، حافظا، قدم دمشق وولي دار الحديث الأشرفية فيها، وتخرج به عدد كبير من طلبة العلم، وكان من علماء الدين الأعلام، وأحد فضلاء عصره في التفسير، والحديث، والفقه، مشاركا في عدة فنون، متبحرا في الأصول، والفروع، يضرب به المثل، سلفيا زاهدا حسن الاعتقاد، وافر الجلالة، صنف عددا من الكتب منها «علوم الحديث» ومات سنة (643 هـ) . انظر «طبقات الحفاظ» للسيوطي ص (500) ، و «الأعلام» للزركلي (4/ 207، 208) . وسوف يترجمه المؤلف.(1/276)
وتهاونهم بمنصب النّبوّة، وما أعظم ذلك، فسبحان من حفظ الشريعة حينئذ وشيّد أركانها حتى انقضت دولتهم، وعلى فعل الأمويين وأمرائهم بأهل البيت حمل قوله صلى الله عليه وسلم: «هلاك أمتي على يدي أغيلمة من قريش» [1] . قال أبو هريرة: لو شئت أن أقول بني فلان وبني فلان لفعلت، ومثل فعل يزيد فعل بسر بن أرطاة [2] العامري أمير معاوية في أهل البيت من القتل والتشريد، حتى خدّ لهم الأخاديد، وكانت له أخبار شنيعة في عليّ وقتل ولدي عبيد الله [3] بن عبّاس وهما صغيران على يدي أمّهما، ففقدت عقلها، وهامت على وجهها، فدعا عليه عليّ أن يطيل الله عمره، ويذهب عقله، فكان كذلك، خرف في آخر عمره، ولم تصح له صحبة، وقال الدّارقطني [4] :
كانت [له] [5] صحبة ولم تكن له استقامة بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال التّفتازاني [6] في «شرح العقائد النسفية» : اتفقوا على جواز اللعن على من قتل الحسين، أو أمر به، أو أجازه، أو رضي به، قال: والحق إن رضى [7] يزيد بقتل
__________
[1] رواه أحمد في «المسند» (2/ 520) ولفظه فيه: «هلاك هذه الأمة على يدي أغيلمة من قريش» ، ورواه بنحوه البخاري رقم (3605) في المناقب و (7058) في الفتن، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] في الأصل، والمطبوع: «بشر بن أرطاة» ، وهو خطأ، والتصحيح من كتب التراجم التي بين أيدينا.
[3] في الأصل: «عبد الله» وهو خطأ.
[4] هو علي بن عمر بن أحمد بن مهدي الدارقطني، أبو الحسن، إمام عصره في الحديث، وأول من صنف القراءات وعقد لها أبوابا، وصنف مصنفات مختلفة منها: «السنن» وعليه تدور شهرته، مات سنة (385 هـ) . انظر «طبقات الحفاظ» للسيوطي ص (393، 394) ، و «الأعلام» للزركلي (4/ 314) .
[5] لفظة «له» التي بين حاصرتين سقطت من الأصل، وأثبتناها من المطبوع.
[6] هو مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني، سعد الدين، من أئمة العربية، والبيان، والمنطق، من كتبه «تهذيب المنطق» ، و «المطول» ، و «المختصر» اختصر به شرح تلخيص المفتاح، و «مقاصد الطالبين» مات سنة (793 هـ) . انظر «الأعلام» للزركلي (7/ 219) .
[7] في المطبوع: «رضا» وهو خطأ.(1/277)
الحسين، واستبشاره بذلك، وإهانته أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مما تواتر معناه، وإن كان تفصيله آحادا، قال: فنحن [لا] [1] نتوقف في شأنه، بل في كفره وإيمانه، لعنة الله عليه وعلى أنصاره وأعوانه [2] .
وقال الحافظ ابن عساكر نسب إلى يزيد قصيدة منها:
ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل
لعبت هاشم بالملك بلا ... ملك جاء ولا وحي نزل [3]
فإن صحت عنه، فهو كافر بلا ريب. انتهى بمعناه.
وقال الذّهبيّ فيه: كان ناصبيا، فظّا، غليظا، يتناول المسكر ويفعل المنكر، افتتح دولته بقتل الحسين، وختمها بوقعة الحرّة، فمقته النّاس، ولم يبارك في عمره، وخرج عليه غير واحد بعد الحسين، وذكر من خرج عليه، وقال فيه في «الميزان» [4] إنه مقدوح في عدالته ليس بأهل أن يروى عنه.
وقال رجل في حضرة عمر بن عبد العزيز: أمير المؤمنين يزيد، فضربه عمر عشرين سوطا.
واستفتي الكيا الهرّاسي [5] فيه فذكر فصلا واسعا من مخازيه حتى نفدت الورقة، ثم قال: ولو مددت ببياض لمددت العنان في مخازي مخازي هذا الرجل.
__________
[1] لفظة «لا» سقطت من الأصل، وأثبتناها من المطبوع.
[2] قلت: لا يجوز لعن المسلم وتكفيره وإن كان فاسقا وعاصيا.
[3] البيت الأول من قصيدة لعبد الله بن الزّبعري ذكرها ابن هشام في «السيرة» (2/ 137) ، وأورد البيت مفردا ابن عبد ربه في «العقد الفريد» (5/ 344) ، وانظر «المؤتلف والمختلف» للآمدي ص (132) طبعة الدكتور ف. كرنكو، و «الأعلام» للزركلي (4/ 87) .
[4] انظر «ميزان الاعتدال» للحافظ الذهبي (4/ 440) .
[5] هو علي بن محمد بن علي الطبري، أبو الحسن، الملقب بعماد الدّين، والمعروف(1/278)
وأشار الغزالي [1] إلى التوقّف في شأنه، والتنزّه عن لعنه، مع تقبيح فعله.
وذكر ابن عبد البرّ [2] ، والذّهبيّ وغيرهما مخازي مروان بأنه أول من شق عصا المسلمين بلا شبهة، وقتل النّعمان بن بشير أول مولود من الأنصار في الإسلام، وخرج على ابن الزّبير بعد أن بايعه على الطاعة، وقتل طلحة بن عبيد الله يوم الجمل، وإلى هؤلاء المذكورين، والوليد بن عقبة، والحكم بن أبي العاص، ونحوهم، الإشارة بما ورد في حديث المحشر وفيه: «فأقول:
يا ربّ أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» [3] ولا يرد على ذلك ما ذكره العلماء من الإجماع على عدالة الصحابة، وأن المراد به الغالب وعدم الاعتداد بالنادر، والذين ساءت أحوالهم ولابسوا الفتن بغير تأويل ولا شبهة، وقال اليافعي [4] : وأما حكم من قتل الحسين أو أمر بقتله ممن استحلّ
__________
ب الكيا الهراسي، فقيه شافعي، ومفسر، مات سنة (504 هـ) . والكيا بالعجمية: الكبير القدر المقدم بين الناس. انظر «إعجام الأعلام» ص (174) ، و «الأعلام» (4/ 329) .
[1] هو محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي، أبو حامد، حجة الإسلام، الإمام المشهور.
[2] هو يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري القرطبي المالكي، أبو عمرو، من كبار حفاظ الحديث، يقال له: حافظ المغرب، له مصنفات كثيرة متنوعة، منها «الاستيعاب في معرفة الأصحاب» وغيره من الكتب النافعة، مات سنة (463 هـ) . انظر «سير أعلام النبلاء» للذهبي (15/ 498) ، و «الأعلام» للزركلي (9/ 316) وسوف ترد ترجمته في المجلد الخامس.
[3] رواه البخاري في صحيحه رقم (6526) في الرقاق، باب الحشر، وفي فرض الخمس، باب قوله تعالى: وَاتَّخَذَ الله إِبْراهِيمَ خَلِيلًا 4: 125 من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا رب أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: (وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم) .. إلى قوله (الحكيم) » قال: «فيقال لي: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم» .
[4] تقدم التعريف به في الصفحة (65- 66) .(1/279)
ذلك، فهو كافر، وإن لم يستحلّ فهو فاسق [1] فاجر [2] ، والله أعلم.
وفيها توفي حمزة بن عمرو الأسلميّ، وله صحبة ورواية.
وأمّ المؤمنين هند المعروفة بأمّ سلمة، وقيل: توفيت سنة تسع وخمسين، وهي آخر أمهات المؤمنين موتا، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد سنتين من الهجرة، وحين خطبها اعتذرت بكبر السّنّ والأولاد وكونها غيورا [3] فذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كبير أيضا وذو أولاد، وأما الغيرة، فأدعو الله عز وجل أن يذهبها عنك، فكان أزوّاج النبيّ صلى الله عليه وسلم يتحاكمن إليها، لعلمهنّ ببراءتها من الغيرة، وهي صاحبة المشورة المباركة يوم الحديبية، ورأت جبريل عليه السلام في صورة دحيّة الكلبيّ.
__________
[1] في المطبوع: «وإن لم يستحل ففاسق» .
[2] «مرآة الجنان» (1/ 168) ، والمؤلف ينقل عنه بتصرف.
[3] في الأصل: «غيرور» وهو خطأ، وأثبتنا ما في المطبوع.(1/280)
سنة اثنتين وستين
فيها توفي بريدة بن الحصيب الصحابيّ الأسلميّ، وقبره بمرو [1] ، وقد أسلم قبل بدر.
وعلقمة بن قيس النّخعيّ الكوفي الفقيه، صاحب ابن مسعود، وكان يشبّه به، واستفتاه غير واحد من الصحابة.
وأبو مسلم الخولانيّ [2] اليمني من سادات التابعين صاحب كرامات، أجّج له الأسود العنسيّ [3] ، نارا عظيمة وألقاه فيها فلم تضره، فنفاه لئلا
__________
[1] هي مرو الشاهجان، وهي مرو العظمى أشهر مدن خراسان وقصبتها، نص عليه الحاكم أبو عبد الله في «تاريخ نيسابور» مع كونه ألف كتابه في فضائل نيسابور إلا أنه لم يقدر على دفع فضل هده المدينة، والنسبة إليها مروزي على غير قياس. انظر «معجم البلدان» لياقوت (5/ 112- 116) ، و «الأمصار ذوات الآثار» للذهبي ص (83) بتحقيقي، طبع دار ابن كثير.
[2] هو عبد الله بن ثوب الخولاني، تابعي، فقيه عابد زاهد، نعته الذهبي بريحانة الشام، أصله من اليمن، أدرك الجاهلية، وأسلم قبل وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يره، فقدم المدينة في خلافة أبي بكر، وهاجر إلى الشام، مات بدمشق سنة (62 هـ) ، وقبره بداريّا، وكان يقال: أبو مسلم حكيم هذه الأمة. انظر «تاريخ داريا» للخولاني ص (59- 62) بتحقيق العالم الفاضل الأستاذ سعيد الأفغاني، وفيه وفاته سنة (44 هـ) ، و «الأعلام» للزركلي (4/ 75، 76) .
[3] هو عيهلة بن كعب بن عوف العنسي، متنبئ مشعوذ من أهل اليمن، كان بطاشا جبارا، أسلم لما أسلمت اليمن، وارتد في أيام النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكان أول مرتد في الإسلام. قتل سنة (11 هـ) . انظر «إعلام السائلين» لابن طولون صفحة (110- 111) بتحقيقي، و «الأعلام» للزركلي (5/ 111) .(1/281)
يرتاب النّاس فيه، فوفد على أبي بكر مسلما، فقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به ما فعل بإبراهيم خليل الله، واستبطئت سريّة، فبينما هو يصلي ورمحه مركوز، جاء طائر ووقع عليه وخاطبه مشيرا له أن السرية سالمة غانمة، تقدم يوم كذا وكذا، وكان كذلك.
وفيها توفي عبد المطّلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلّب الهاشميّ نزيل دمشق، له صحبة ورواية.
وأمير مصر مسلمة بن مخلّد الأنصاري، له صحبة ورواية أيضا.
وفيها غزا سلم بن زياد [1] خوارزم، فصالحوه ثم عبر إلى سمرقند، فصالحوه أيضا.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «أسلم من أحور» وفي «تاريخ الإسلام» للذهبي (2/ 353) : «سلم ابن أحور» وكلاهما خطأ، والتصحيح من «تاريخ خليفة بن خياط» ص (235) ، و «تاريخ الطبري» (5/ 471) وفيه أن غزو خوارزم، وسمرقند كان سنة (61 هـ) ، و «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (4/ 95) ، و «سلم بن أحور» الذي ذكره الذهبي صوابه «سلم بن أحوز» ولكنه مذكور عند الطبري في حوادث سنة (128) . وانظر ترجمة سلم بن زياد في «الأعلام» للزركلي (3/ 110) .(1/282)
سنة ثلاث وستين
كانت وقعة الحرّة، وذلك أن أهل المدينة خرجوا على يزيد لقلّة دينه، فجهّز لهم مسلم [1] بن عقبة، فخرجوا له بظاهر المدينة بحرّة واقم [2] فقتل من أولاد المهاجرين والأنصار ثلاثمائة وستة أنفس. ومن الصحابة معقل بن سنان الأشجعيّ، وعبد الله بن حنظلة الغسيل [3] الأنصاري، وعبد الله بن زيد بن
__________
[1] في المطبوع: «مسلمة» وهو خطأ. وهو مسلم بن عقبة بن رباح المري، أبو عقبة.
[2] حرة واقم: إحدى حرّتي المدينة، وهي الشرقية، سميت برجل من العماليق اسمه واقم، وكان قد نزلها في الدهر الأول، وقيل: واقم اسم أطم من آطام المدينة إليه تضاف الحرة، وهو من قولهم: وقمت الرجل عن حاجته إذا رددته، فأنا واقم. وانظر «معجم البلدان» لياقوت (2/ 249) .
[3] هو عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الراهب، أبو عبد الرحمن، قتل يوم الحرة، وكان أمير الأنصار يومئذ، وأبوه حنظلة المعروف بغسيل الملائكة، قتل حنظلة يوم أحد شهيدا، وسمي غسيل الملائكة لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن صاحبكم لتغسله الملائكة» يعني حنظلة، فسألوا أهله: ما شأنه؟ فسئلت صاحبته فقالت: خرج وهو جنب حين سمع الهائعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«لذلك غسلته الملائكة» وكفى بهذا شرفا ومنزلة عند الله تعالى.
ولما كان حنظلة يقاتل يوم أحد التقى هو وأبو سفيان بن حرب، فاستعلى عليه حنظلة وكاد يقتله، فأتاه شداد بن الأسود المعروف بابن شعوب الليثي، فأعانه على حنظلة، فخلص أبا سفيان، وقتل حنظلة، وقال أبو سفيان:
ولو شئت نجتني كميت طمّرة ... ولم أحمل النعماء لابن شعوب
وقيل: بل قتله أبو سفيان بن حرب، وقال: حنظلة بحنظلة، يعني بحنظلة الأول هذا غسيل الملائكة، وبحنظلة الثاني ابنه حنظلة، قتل يوم بدر كافرا. عن «أسد الغابة» لابن الأثير (2/ 66) ، وانظر «الإصابة» لابن حجر (2/ 299) .(1/283)
عاصم المازني الذي حكى وضوء النبيّ صلى الله عليه وسلم [1] ، ومحمّد بن ثابت بن قيس بن شمّاس، ومحمّد بن عمرو بن حزم، ومحمّد بن أبي جهم [2] بن حذيفة، ومحمد بن أبيّ بن كعب، ومعاذ بن الحارث أبو حليمة الأنصاري، الذي أقامه عمر يصلي التراويح بالنّاس، وواسع بن حبّان الأنصاري، ويعقوب ولد طلحة بن عبيد الله التميمي، وكثير بن أفلح أحد كتّاب المصاحف التي أرسلها عثمان، وأبوه أفلح [بن كثير] [3] مولى أبي أيوب، وذلك لثلاث بقين من ذي الحجة، وهجر المسجد النبوي فلم يصلّ فيه جماعة أياما، ولم
__________
[1] روى حديث الوضوء البخاري رقم (185) في الوضوء: باب مسح الرأس كله، لقوله تعالى:
وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ 5: 6 [المائدة: 6] ، و (186) بأن غسل الرجلين إلى الكعبين، و (191) باب من مضمض واستنشق من غرفة واحدة، و (192) باب مسح الرأس مرّة، و (197) باب الغسل والوضوء في المحصب والقدح والخشب والحجارة، و (199) باب الوضوء من الثّور، ومسلم رقم (235) في الطهارة: باب وضوء النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومالك في «الموطأ» (1/ 18) في الطهارة: باب العمل في الوضوء، وأبو داود رقم (118) و (119) و (120) في الطهارة: باب صفة وضوء النبيّ صلى الله عليه وسلم، والترمذي رقم (35) في الطهارة: باب ما جاء أنه يأخذ لرأسه ماء جديدا، و (47) باب فيمن توضأ بعض وضوئه مرتين وبعضه ثلاثا، والنسائي (1/ 71 و 72) في الطهارة: باب حد الغسل، وباب صفة مسح الرأس، وباب عدد مسح الرأس، وأحمد في «المسند» (4/ 38) . ولفظه عند البخاري حدثنا وهيب عن عمرو عن أبيه قال: شهدت عمرو بن أبي حسن سأل عبد الله بن زيد عن وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا بتور من ماء، فتوضأ لهم وضوء النبيّ صلى الله عليه وسلم: فأكفأ على يده من التور فغسل يديه ثلاثا، ثم أدخل يده في التور فتمضمض، واستنشق واستنثر ثلاث غرفات، ثم أدخل يده فغسل وجهه ثلاثا، ثم غسل يديه مرتين إلى المرفقين، ثم أدخل يده فمسح رأسه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة، ثم غسل رجليه إلى الكعبين.
[2] في الأصل، والمطبوع: «محمد بن أبي جهيم» وهو خطأ، والتصحيح من «أسد الغابة» لابن الأثير (5/ 84) ، و «الإصابة» لابن حجر (9/ 310) ، و «تاريخ الإسلام» للذهبي 2/ 357) ، و «تاريخ خليفة بن خياط» ص (243) .
[3] ما بين حاصرتين لم يرد في الأصل، والمطبوع، وأثبتناه من «مشاهير علماء الأمصار» لابن حبان ص (74) . وقال الحافظ ابن حجر في «تهذيب التهذيب» (1/ 368) : وكنيته أبو عبد الرحمن. وقيل: أبو بكر، وقيل: غير ذلك.(1/284)
تمتد حياة يزيد بعد ذلك، ولا أميره مسلم بن عقبة، وفي ذلك يقول شاعر الأنصار:
فإن يقتلونا [1] يوم حرّة واقم ... فنحن على الإسلام أوّل من قتل
ونحن تركناكم ببدر أذلّة ... وأبنا بأسياف لنا منكم نفل [2]
وفيها توفي مسروق الأجدع [3] الهمداني، الفقيه العابد، صاحب ابن مسعود، وكان يصلي حتى تورم قدماه، وحج فما نام إلا ساجدا، وعن الشّعبي قال: ما رأيت أطلب للعلم منه، كان أعلم بالفتوى من شريح.
__________
[1] في «معجم البلدان» : «تقتلونا» .
[2] البيتان في «معجم البلدان» لياقوت (2/ 249) ، ونسبهما إلى محمد بن بحرة الساعدي. وأورد عقبهما بيتا آخر هو:
فإن ينجو منكم عائذ البيت سالما ... فما نالنا منكم وإن شفنا جلل
وعائذ البيت: عبد الله بن الزّبير رضي الله عنه.
[3] في الأصل، والمطبوع: «أبو مسروق الأجذع» وهو خطأ، فإن مسروقا كان يكنى بأبي عائشة. انظر «أسد الغابة» لابن الأثير (5/ 156) ، و «الإصابة» لابن حجر (10/ 25) ، و «تقريب التهذيب» لابن حجر (2/ 242) ، و «تاريخ خليفة بن خياط» ص (251) .
قلت: وفي «اللباب» لابن الأثير (3/ 391) : «أبو عامر مسروق بن الأجدع» وهو خطأ، فإن كنيته «أبو عائشة» كما أجمع أصحاب كتب التاريخ والسير، فيستدرك فيه.
وإنما سمي مسروقا لأنه سرق وهو صغير ثم وجد. كما ذكر ابن الأثير في «اللباب» .(1/285)
سنة أربع وستين
في أولها هلك مسلم بن عقبة بهرشى بين مكة والمدينة جبل قريب من الجحفة [1] متجهزا لحرب ابن الزّبير، بعد ما استباح المدينة، وفعل القبائح ابتلاه الله بالماء الأصفر في بطنه، ومن العجب أنه شهد الحرّة وهو مريض في محفة كأنه مجاهد.
ومات يزيد بعده بنيّف وسبعين يوما، توفي بالذبحة وذات الجنب، في نصف ربيع الأول بحمص وله ثمان وثلاثون سنة، وصلى عليه ابنه معاوية، وقيل: ابنه خالد، وكان شديد الأدمة، كثير الشعر، ضخما، عظيم الهامة، في وجهه أثر الجدريّ، وكنيته أبو خالد، قيل: قال له أبوه معاوية رضي الله عنه: بايعت لك النّاس، ومهّدت لك الأمر، ولم يتخلّف عن بيعتك إلا أربعة: الحسين، وعبد الله بن عمر، وابن الزّبير، وعبد الرّحمن ابن أبي بكر، فاستوص بالحسين خيرا لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنه لحمه ودمه، وأما عبد الله بن عمر فقد وقّرته العبادة، فليس له في الملك حاجة، وأما عبد الرّحمن فمغرم بالنساء، فأذعنه بالمال، وأما الذي يثب عليك وثب الأسد، فكذا وكذا، وذكر كلاما معناه التحريض على قتاله، وكانت ولايته ثلاث سنين وثمانية
__________
[1] انظر «معجم البلدان» لياقوت (5/ 397) .(1/286)
أشهر واثني عشر يوما، وعهد بالأمر إلى ابنه معاوية، فبقي في الأمر شهرين أو أقل ومات، وكان يذكر فيه الخير، ومات وله إحدى وعشرون سنة، وأبى أن يستخلف، وقال: لم أصب حلاوتها فلا أتحمّل مرارتها، ولما كان من أمر الحسين ما كان، بقي ابن الزّبير بمكّة عائذا بالبيت، فجهّز لحربه يزيد الحصين بن نمير السّكوني، فرمى الحصين الكعبة بالمنجنيق، حتى تضعضع بناؤها ووهى، وقتل بحجر المنجنيق المسور بن مخرمة النّوفلي، له صحبة ورواية، واحترق قرنا الكبش الذي فدي به إسماعيل، وجاء نعي يزيد، فترجّل الحصين، وبايع أهل الحرمين ابن الزّبير، ثم أهل العراق واليمن، حتى كادت تجتمع الأمة عليه، وغلب على دمشق الضّحّاك الفهري، مختلف في صحبته، وكان دعا إلى ابن الزّبير ثم تركه، ودعا إلى نفسه، فانحاز عنه مروان في بني أميّة إلى أرض حوران [1] ووافاهم عبيد الله بن زياد من الكوفة مطرودا من أهلها، وتضعضع أمر بني أمية حتى كاد يندرس، فنهض مروان لطلب الملك، فالتقى هو والضّحّاك بعد قصص تطول، فقتل الضّحّاك في نحو ثلاثة آلاف من أصحابه.
ثم سار أمير حمص يومئذ النّعمان بن بشير [2] الأنصاري الصحابي لينصر الضّحّاك، فقتله أصحاب مروان.
وفيها: توفي بالطاعون الوليد بن عتبة بن أبي سفيان بن حرب، وكان جوادا حليما، عين للخلافة بعد يزيد، ولي إمرة المدينة غير مرة.
وفيها توفي ربيعة الجرشي فقيه النّاس زمن معاوية [3] .
__________
[1] قال ياقوت: حوران كورة واسعة من أعمال دمشق من جهة القبلة، ذات قرى كثيرة ومزارع وحرار، وما زالت منازل العرب، وذكرها في أشعارهم كثير، وقصبتها بصرى. «معجم البلدان» (2/ 317) .
[2] في المطبوع: «النعمان بن بشيرا» وهو تحريف.
[3] انظر ترجمته في «الإصابة» لابن حجر (3/ 268، 260) .(1/287)
وفيها نقض أمير المؤمنين عبد الله بن الزّبير الكعبة، وبناها على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم على ما حدّثته خالته عائشة رضي الله عنها، وأدخل الحجر في البيت، وكان قد تشقّق أيضا من المنجنيق واحترق سقفه
.(1/288)
سنة خمس وستين
فيها توجّه مروان إلى مصر فملكها، واستعمل عليها ابنه عبد العزيز، ومهّد قواعدها، ثم عاد إلى دمشق، ومات في رمضان، وعهد بالأمر إلى ابنه عبد الملك، وكان مروان فقيها، وكان كاتب السرّ لابن عمّه عثمان رضي الله عنه، وكان قصيرا [1] كبير الرأس واللحية، دقيق الرّقبة، أوقص [2] أحمر الوجه واللحية، يلقّب خيط باطل [3] عاش ثلاثا وستين سنة.
وفيها ولي خراسان المهلّب بن أبي صفرة لابن الزّبير، وحارب الأزارقة [4] وأباد منهم ألوفا.
__________
[1] هذا يخالف ما جاء في المراجع التي بين أيدينا، فإنهم ذكروا أنه كان طويلا. قال الزبيدي في «تاج العروس» «خيط» : و «خيط باطل» لقب مروان بن الحكم، لقّب به لطوله، قال:
وقال الجوهري: لأنه كان طويلا مضطربا.
[2] أي مائل العنق، قصيرها.
[3] قال الثعالبي في «ثمار القلوب في المضاف والمنسوب» ص (76) :: وكان مروان بن الحكم يقال له: «خيط باطل» لأنه كان طويلا.
ولما بويع مروان بالخلافة بالشام قال أخوه عبد الرحمن بن الحكم- وكان ماجنا حسن الشعر، لا يرى رأي مروان-:
فو الله ما أدري وإنّي لسائل ... حليلة مضروب القفا: كيف تصنع؟
لحا الله قوما أمّروا خيط باطل ... على النّاس يعطي ما يشاء ويمنع
وقيل: إنما قال عبد الرحمن هذا حين استعمل معاوية مروان على المدينة. عن «أسد الغابة» لابن الأثير (5/ 145) وحاشية المحققين له.
[4] الأزارقة: من الخوارج، نسبوا إلى نافع بن الأزرق. (ع) .(1/289)
وفيها خرج سليمان بن صرد الخزاعي الصحابي، والمسيّب بن نجبة الفزاري صاحب علي في أربعة آلاف يطلبون بدم الحسين، ويسمى جيش التوّابين، وجيش السراة، وكان مروان قد جهز ستين ألفا مع عبيد الله بن زياد ليأخذوا العراق، والتقوا بالجزيرة فانكسر سليمان وأصحابه، وقتل هو والمسيّب وطائفة، وكان لسليمان صحبة ورواية.
وفيها مات على الصحيح عبد الله بن عمرو بن العاص السهمي ولم يكن بينه وبين أبيه في الولادة إلّا إحدى عشرة سنة [1] وكان من فضلاء الصحابة وعبّادهم المكثرين في الرواية، وأسلم قبل أبيه، وكان يلوم أباه على القيام في الفتن، وحلف بالله أنه لم يرم في حرب صفّين برمح ولا سهم، وإنما حضرها لعزم أبيه عليه، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «أطع أباك» [2] . وفيها توفي الحارث بن عبد الله الهمداني الكوفي الأعور صاحب عليّ وابن مسعود، وكان متّهما بالكذب، وحديثه في «السنن» الأربعة [3] .
__________
[1] وفي بعض المصادر «ثنتي عشرة سنة» انظر على سبيل المثال «أسد الغابة» لابن الأثير (3/ 349) ، و «الإصابة» لابن حجر (6/ 178) .
[2] رواه أحمد في «المسند» (2/ 164 و 207) من حديث حنظلة بن خويلد العنبري قال: بينما أنا عند معاوية، إذ جاءه رجلان يختصمان في رأس عمار بن ياسر رضي الله عنه، يقول كل واحد منهما أنا قتلته، فقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: ليطب به أحدكما نفسا لصاحبه، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تقتله الفئة الباغية» قال معاوية: مالك معنا؟
قال: إن أبي شكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أطع أباك ما دام حيا ولا تعصه» فأنا معكم ولست أقاتل. وإسناده حسن.
[3] انظر خبره في «تقريب التهذيب» لابن حجر (1/ 841) ، و «المجروحين» لابن حبان (1/ 222، 223) .(1/290)
سنة ست وستين
فيها توفي جابر بن سمرة السّوائي الصحابي، وقيل: توفي سنة أربع وستين، وكان أبوه [1] صحابيا أيضا.
وزيد بن أرقم الأنصاري، وقيل: في سنة ثمان، وكان غزا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم سبع عشرة غزوة.
وفيها قويت شوكة الخوارج، واستولى نجدة الحروريّ الخارجي على اليمامة، والبحرين.
__________
[1] هو سمرة بن جنادة السوائي، أبو جابر. انظر «أسد الغابة» لابن الأثير (2/ 453) .(1/291)
سنة سبع وستين
فيها قتل عمر [1] بن سعد بن أبي وقاص، وعبيد الله بن زياد، وحصين بن نمير السّكوني، الذي حاصر ابن الزّبير وانصرف عنه، وشرحبيل بن ذي الكلاع، وكثيرون من دعاة الشر، واصطلم عسكرهم، وكانوا أربعين ألفا، وذلك أنه جهز المختار بن أبي عبيد الكذّاب جيشا قدر ثمانية آلاف مع إبراهيم بن الأشتر النخعيّ، فكانت وقعة الخازر [2] بأرض الموصل، وقيل: كانت في السنة التي بعدها، وكانت ملحمة عظيمة انتقم الله فيها من أهل الجرم، ونصبت رؤوسهم حيث نصب رأس الحسين.
وروي أن حيّة كانت تدخل في منخري [3] عبيد الله بن زياد وتدور على رأسه، وفعلت ذلك والناس ينظرون، ثم بعث به المختار إلى المدينة في نحو سبعين ألف رأس وشاهدهم نساء أهل البيت الكرام، وبقي الوقوف بين يدي الملك العلام.
وفيها، وقيل: في التي قبلها توفي عديّ بن حاتم الطائي وله مائة
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «عمرو» وهو خطأ. والتصحيح من «تاريخ خليفة» ص 263 و «تقريب التهذيب» (2/ 56) و «الأعلام» (5/ 47) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «وقعة الحارث» وهو خطأ، والتصحيح من «تاريخ الإسلام» للذهبي (2/ 375) و «تاريخ خليفة بن خياط» ص (263) و «البداية والنهاية» لابن كثير (8/ 283) و «معجم البلدان» (2/ 337) .
قلت: وعند خليفة بن خياط، وياقوت إن هذه الوقعة كانت سنة (66 هـ) .
[3] في المطبوع: «منخر» .(1/292)
وعشرون سنة، أسلم سنة سبع وأكرمه النبيّ صلى الله عليه وسلم وألقى له وسادة وقال: «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه» [1] . وفيها ثارت الفتنة بين ابن الزّبير، والمختار بن أبي عبيد الثقفي كان متلوّنا كذّابا يدعو مرة إلى محمّد بن الحنفيّة، ومرّة لابن الزّبير، حتى ادعى آخرا أن جبريل يأتيه بالوحي من السماء، فلما تحقّق ابن الزّبير سوء حاله، بعث أخاه المصعب لحربه، فقدم المصعب البصرة وتأهّب منها، واجتمع إليه جيش الكوفة، فسار بهم جميعا وعلى مقدّمته عبّاد بن الحصين، وعلى ميمنته المهلّب بن أبي صفرة، وعلى ميسرته عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، فجهز المختار لحربهم أحمر بن شميط، وكيسان [2] فهزمهم مصعب، وقتل أحمر، وكيسان، وقتل من جيش مصعب محمّد بن الأشعث الكندي ابن أخت أبي بكر الصّدّيق، وعبيد الله بن عليّ بن أبي طالب، وقتل من جند المختار عمر الأكبر بن عليّ بن أبي طالب، ثم سار جيش مصعب فدخلوا الكوفة، وحصروا المختار بقصر الإمارة أياما إلى أن قتله الله في رمضان وصفت العراق لمصعب.
__________
[1] ذكره السخاوي في «المقاصد الحسنة» من رواية العسكري عن مجالد بن سعيد عن الشعبي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه لما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ألقى إليه وسادة فجلس على الأرض وقال: أشهد أنك لا تبغي علوا في الأرض ولا فسادا، وأسلم، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه» وسنده ضعيف، ورواه ابن ماجة في «سننه» مقتصرا على حديث «إذا أتاكم كريم فأكرموه» رقم (3712) من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وإسناده ضعيف. وله شاهد عند الطبراني في الأوسط من حديث جرير بن عبد الله البجلي بمعناه، وسنده ضعيف أيضا، وله عدة روايات ضعيفة، ولأبي داود في «المراسيل» وسنده صحيح من حديث طارق عن الشعبي رفعه مرسلا «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه» وروي متصلا وليس بشيء قال السخاوي: وفي الباب عن جابر وابن عباس ومعاذ وأبي قتادة وأبي هريرة وآخرين، قال: وبهذه الطرق يقوى الحديث وإن كانت مفرداتها كما أشرنا إليها ضعيفة. وانظر «المقاصد الحسنة» ص (33 و 34) .
[2] ويعرف أيضا بأبي عمرة، وكان مولى لعرينة. انظر «تاريخ الطبري» (6/ 96) .(1/293)
سنة ثمان وستين
فيها توفي عبد الله بن عبّاس الهاشمي حبر الأمة بالطّائف عن إحدى وسبعين سنة، كان يقال له: البحر، والحبر، وترجمان القرآن، وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في دعائه له: «اللهمّ فقهه في الدّين وعلمه التأويل» [1] وذهب بصره آخرا فقال:
إن يذهب الله من عينيّ نورهما ... ففي لساني وقلبي منهما نور
قلبي ذكيّ وذهني غير ذي وكل ... وفي فمي صارم كالسّيف مشهور [2]
ولد قبل الهجرة بثلاث سنين وكان جميلا نبيلا مجلسه مشحونا بالطلبة
__________
[1] رواه أحمد في «المسند» (1/ 266 و 314 و 328 و 355) وابن سعد في «الطبقات» (2/ 365) والطبراني في «الكبير» رقم (10587) والحاكم (3/ 534) وصححه ووافقه الذهبي. وهو كما قالا. قال الحافظ ابن حجر، اشتهرت هذه اللفظة حتى نسبها بعضهم للصحيحين، ولم يصب. ا. هـ. أقول: نعم أصل الحديث في البخاري والترمذي عن ابن عباس قال: ضمني النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى صدره وقال: «اللهمّ علمه الحكمة» وفي رواية عند البخاري عن ابن عباس «اللهمّ علمه الكتاب» وفي مسلم «اللهمّ فقهه» عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وفي رواية للبخاري عن ابن عباس «اللهمّ فقهه في الدين» رقم (143) في الوضوء، باب وضع الماء عند الخلاء.
[2] البيتان في «أسد الغابة» لابن الأثير (3/ 294) و «الاستيعاب» لابن عبد البر على هامش «الإصابة» (6/ 269) ولفظهما فيهما:
إن يأخذ الله من عيني نورهما ... ففي لساني وقلبي منهما نور
قلبي ذكي وعقلي غير ذي دخل ... وفي فمي صارم كالسيف مأثور(1/294)
في أنواع العلوم، قال بعضهم: حج معاوية وابن عبّاس وكان [1] لمعاوية موكب بالولاية، ولابن عباس موكب بالرواية والدراية.
قال ابن عبّاس: ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «اللهمّ علمه الحكمة» [2] . وقال أيضا: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح ناصيتي وقال: «اللهمّ علمه الحكمة وتأويل الكتاب» [3] . وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: ما رأيت أحدا أعلم بالسنة ولا أجلد رأيا ولا أثقب نظرا حين ينظر من ابن عبّاس، وإن كان عمر بن الخطّاب ليقول [4] له: قد طرأت علينا عضل أقضية أنت لها ولأمثالها.
وقال عطاء بن أبي رباح: ما رأيت مجلسا قط أكرم من مجلس ابن عبّاس، أكثر فقها وأعظم، إن أصحاب الفقه عنده، وأصحاب القرآن عنده، وأصحاب الشعر عنده، يصدرهم كلهم في واد واسع.
وقال مغيرة: قيل لابن عباس: أنى أصبت هذا العلم؟ قال: بلسان سؤول، وقلب عقول [5] .
وقال مجاهد: كان ابن عبّاس يسمى البحر من كثرة علمه [6] .
__________
[1] في المطبوع: «فكان» .
[2] رواه البخاري رقم (75) في العلم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم علمه الكتاب» والمراد به القرآن وفي رواية «اللهمّ علمه الحكمة» ، والمراد بالحكمة السنة، قال الحافظ في «الفتح» : وفي رواية للنسائي والترمذي من طريق عطاء عن ابن عباس قال: دعا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أوتى الحكمة مرتين.
[3] رواه ابن سعد في «الطبقات» (2/ 365) وإسناده ضعيف، ولكن تشهد له الأحاديث التي قبله.
[4] في المطبوع: «وكان عمر بن الخطاب يقول له» .
[5] قلت: جاء في «الإصابة» لابن حجر (6/ 134) قوله: قال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن الزهري قال: قال المهاجرون لعمر: ألا تدعو أبناءنا كما تدعو ابن عباس؟ قال: ذاكم فتى الكهول، له لسان سؤول، وقلب عقول. وساق الذهبي هذه الرواية بلفظ قريب في «سير أعلام النبلاء» (3/ 345) موقوفة على معمر.
[6] انظر «أنساب الأشراف» للبلاذري (3/ 33) ، و «المستدرك على الصحيحين» للحاكم(1/295)
وقال طاووس [1] : أدركت نحوا من خمسين [2] من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر ابن عبّاس شيئا فخالفوه لم يزل بهم حتى يقرّرهم.
وقال ابن أبي نجيح: كان أصحاب ابن عبّاس يقولون: ابن عبّاس أعلم من عمر، ومن عليّ، ومن عبد الله [3] ويعدّون ناسا، فيثب عليهم الناس فيقولون: لا تعجلوا علينا، إنه لم يكن أحد من هؤلاء إلّا وعنده من العلم ما ليس عند صاحبه، وكان ابن عبّاس قد جمعه كلّه.
وقال الأعمش: كان ابن عبّاس إذا رأيته قلت: أجمل الناس، فإذا تكلم قلت: أفصح الناس، فإذا حدّث قلت: أعلم النّاس [4] .
وفيها عزل ابن الزّبير أخاه مصعبا عن العراق وولاها ابنه حمزة.
وتوفي أبو شريح [5] الخزاعي الكعبي، ويقال له أيضا: العدوي، وكان قد أسلم قبل فتح مكة.
وأبو واقد الليثيّ [6] ، وكان ممن شهد الفتح وعاش بضعا وسبعين سنة.
__________
(3/ 535) ، و «حلية الأولياء» لأبي نعيم (1/ 316) ، و «سير أعلام النبلاء» للذهبي (3/ 350) .
[1] في المطبوع: «طاوس» .
[2] قلت: في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (3/ 351) عن طاووس أيضا قوله: أدركت خمس مائة من الصحابة ... ، وفي «الإصابة» لابن حجر (6/ 137) عن طاووس قوله: أدركت خمسين، أو سبعين من الصحابة ... نقلا عن البغوي.
[3] يعني عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[4] الخبر في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (3/ 351) منسوب إلى مسروق، وفي حاشيته نسب إلى البلاذري في «أنساب الأشراف» (3/ 30) من كلام مسروق أيضا.
[5] واسمه خويلد بن عمرو، وقيل غير ذلك. انظر «أسد الغابة» لابن الأثير (6/ 164) ، و «تهذيب الأسماء واللغات» للنووي (2/ 243) ، و «الإصابة» لابن حجر (11/ 192) .
[6] قيل اسمه الحارث بن مالك، وقيل غير ذلك. انظر «مشاهير علماء الأمصار» لابن حبان ص (25) ، و «أسد الغابة» لابن الأثير (6/ 325) ، و «الإصابة» لابن حجر (12/ 88) .(1/296)
سنة تسع وستين
فيها كان طاعون الجارف [1] بالبصرة، قال المدائني [2] : حدثني من أدرك الجارف قال: كان ثلاثة أيام فمات في كل يوم نحو من سبعين ألفا، ومات لأنس بن مالك نحو سبعين ابنا، ومات فيه عشرون ألف عروس، وأصبح النّاس في اليوم الرابع ولم يبق إلّا اليسير من الناس، وصعد ابن عامر [3] المنبر يوم الجمعة فلم يجتمع معه إلّا سبعة رجال وامرأة، فقال: ما ما فعلت الوجوه؟ فقالت المرأة: تحت التراب أيها الأمير.
وفيه مات قاضي البصرة أبو الأسود الدّؤلي [4] الذي أسس النحو
__________
[1] قال ابن منظور: «والطاعون الجارف الذي نزل بالبصرة كان ذريعا فسمي جارفا، جرف الناس كجرف السّيل. «لسان العرب» «جرف» (1/ 602) .
[2] هو علي بن محمد بن عبد الله المدائني، العلّامة الحافظ الصادق الأخباري، المصدق فيما ينقله، قال ابن تغري بردي: تاريخه أحسن التواريخ وعنه أخذ الناس تواريخهم. مات سنة (225 هـ) . انظر «سير أعلام النبلاء» للذهبي (10/ 400- 402) و «الأعلام» للزركلي (4/ 323) ، وسوف ترد ترجمته في الجزء الثالث من كتابنا هذا.
[3] كذا في الأصل، والمطبوع، و «تاريخ الإسلام» للذهبي (2/ 383) ، وفي «دول الإسلام» للذهبي (1/ 52) : «فلما كان يوم الجمعة بقي الجامع يصفر لم يحضر للصلاة سوى سبعة رجال وامرأة، فقال الخطيب ما فعلت تلك الوجوه؟ فقالت المرأة: تحت التراب» وهو الصواب، وأما ذكر «ابن عامر» في الخبر في كتابنا هنا، وفي «تاريخ الإسلام» فأظن أنه مقحم على النص، والله تعالى أعلم.
[4] هو ظالم بن عمرو على الأشهر، ولد في أيام النبوة، وحدّث عن عمر، وعلي، وأبيّ بن(1/297)
بإشارة عليّ إليه.
وفيها قتل نجدة الخارجي الحروري، قتله أصحابه واختلفوا عليه، وقيل: ظفر به أصحاب ابن الزّبير.
وفيها مات قبيصة بن جابر الأسدي [1] ، وكان فصيحا [2] مفوّها، روى عبد الملك بن عمير عنه قال: قال لي عمر: إني أراك شابا فصيح اللسان فسيح الصدر.
وفيها أعاد ابن الزّبير أخاه مصعبا وعزل ابنه حمزة، وقصد هو وعبد
__________
كعب، وأبي ذر، وعبد الله بن مسعود، والزّبير بن العوام، وطائفة، وحدث عنه ابنه، ويحيى بن يعمر، وابن بريدة، وعمر مولى غفرة، وآخرون، وقرأ القرآن على عثمان، وعلي، قال محمد بن سلّام الجمحي: أبو الأسود هو أول من وضع باب الفاعل والمفعول والمضاف. وحرف الرفع والنصب والجر والجزم، فأخذ ذلك عنه يحيى بن يعمر، وقال أبو عبيدة: أخذ أبو الأسود عن عليّ العربية، وقال المبرد: حدثنا المازنيّ قال: السبب الذي وضعت له أبواب النحو أن بنت أبي الأسود قالت له: ما أشد الحرّ! فقال: الحصباء بالرمضاء، قالت: إنما تعجب من شدته، فقال: أوقد لحن الناس؟ فأخبر ذلك عليا رضي الله عنه، فأعطاه أصولا بنى منها، وعمل بعده عليها، وهو أول من نقط المصاحف، وأخذ عنه النحو عنبسة الفيل، وأخذ عن عنبسة ميمون الأقرن، ثم أخذه عن ميمون عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي، وأخذه عنه عيسى بن عمر، وأخذه عنه الخليل بن أحمد، وأخذه عنه سيبويه، وأخذه عنه سعيد الأخفش. وقال الجاحظ: أبو الأسود مقدّم في طبقات الناس، كان معدودا في الفقهاء، والشعراء، والمحدّثين، والأشراف، والفرسان، والأمراء، والدّهاة، والنحاة، والحاضري الجواب، والشيعة، والبخلاء، والصّلع الأشراف.
له شعر جيد أشهره أبيات يقول فيها:
«لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم»
انظر ترجمته ومصادرها في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (4/ 1- 86) و «شرح أبيات المغني» للبغدادي (4/ 229، 230) ، و «الأعلام» للزركلي (3/ 236) و (6/ 112، 113) .
[1] في الأصل، والمطبوع: «قبيصة بن خالد الأسدي» وهو تحريف، والتصحيح من المصادر التي بين يدي، وهو تابعي كبير.
[2] في المطبوع: «نصيحا» وهو خطأ.(1/298)
الملك بن مروان كل منهما الآخر، ثم فصل بينهما الشتاء، فوثب على دمشق في غيبة عبد الملك عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق، وأراد الخلافة، فجاء عبد الملك وجرى بينهما قتال وحصار، ثم نزل إليه بالأمان.
وفيها كان بين الأزارقة، وبين المهلّب [1] حرب شديد، ودام القتال أشهرا [2] بسولاف [3] .
__________
[1] هو المهلب بن أبي صفرة. انظر ترجمته في الصفحة (334) من هذا المجلد.
[2] في الأصل: «أشهر» ، وفي المطبوع: «شهرا» .
[3] قال ياقوت: سولاف قرية في غربي دجيل من أرض خوزستان قرب مناذر الكبرى. انظر «معجم البلدان» (3/ 285) .(1/299)
سنة سبعين
فيها غدر عبد الملك بعمرو بن سعيد الأشدق، بعد أن أمّنه، وحلف له، وجعله وليّ عهده من بعده، فذبحه صبرا [1] .
وفيها توفي عاصم بن عمر بن الخطّاب العدويّ، وولد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو جدّ عمر بن عبد العزيز من قبل أمه، وقيل: كانت وفاته لستين سنة.
وفيها مات مالك بن يخامر [2] السّكسكي صاحب معاذ، وكان قد أدرك الجاهلية.
وفيها كان الوباء بمصر.
وفيها قال ابن جرير: ثارت الروم وقووا على المسلمين لاختلاف كلمتهم، فصالح عبد الملك ملك الروم على أن يؤدّي [إليه في] [3] كلّ جمعة ألف مثقال [4] ، وهو أول وهن دخل على المسلمين والإسلام.
__________
[1] انظر «الكامل» لابن الأثير (4/ 297- 301) ، و «سير أعلام النبلاء» للذهبي (3/ 449، 450) ، و «دول الإسلام» للذهبي (1/ 52، 53) .
[2] قال ابن الأثير: ويقال: مالك بن أخامر. «أسد الغابة» (5/ 56) وانظر «الأنساب» للسمعاني (7/ 98) . قال الحافظ في «تهذيب التهذيب» يقال: له صحبة. وقال العجلي: شامي تابعي ثقة. وقال أبو نعيم: ذكره بعضهم في الصحابة، ولا يثبت.
[3] ما بين حاصرتين زيادة من «تاريخ الطبري» .
[4] قلت: الذي في «تاريخ الطبري» (6/ 150) : «ففي هذه السنة ثارت الروم، واستجاشوا على(1/300)
سنة إحدى وسبعين
فيها توفي عبد الله بن أبي حدرد الأسلميّ ممن بايع تحت الشجرة، وله روايات في غير الكتب الستة [1] . [2] .
__________
من بالشام من ذلك من المسلمين، فصالح عبد الملك ملك الروم، على أن يؤدي إليه في كل جمعة ألف دينار خوفا على المسلمين.
[1] قلت: وله أحاديث في «مسند أحمد» . انظر (3/ 423) و (6/ 11) وفي غيره، له ولأبيه صحبة، وأول مشاهده الحديبية، ثم خيبر، وشهد الجابية مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وليس له أحاديث في الكتب الستة.
وقد أخرج أحمد (3/ 423) عن إبراهيم بن إسحاق عن حاتم بن إسماعيل عن عبد الله بن محمد بن أبي يحيى عن أبيه عن ابن أبي حدرد الأسلمي أنه كان اليهودي عليه أربعة دراهم فاستعدى عليه، فقال: يا محمد إن لي على هذا أربعة دراهم وقد غلبني عليها، فقال:
«أعطه حقه» قال: والذي بعثك بالحق ما أقدر عليها. قال: «أعطه حقه» قال: والذي نفسي بيده ما أقدر عليها، قد أخبرته أنك تبعتنا إلى خيبر، فأرجو أن تغنما شيئا، فأرجع فأقضه، قال: «أعطه حقه» قال: وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قال ثلاثا لم يراجع، فخرج به ابن أبي حدرد إلى السوق وعلى رأسه عصابة وهو متزر ببردة فنزع العمامة عن رأسه، فاتزر بها، ونزع البردة فقال: اشتر مني هذه البردة، فباعها منه بأربعة الدراهم، فمرت عجوز، فقالت: مالك يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرها: فقالت: ها دونك هذا يبرد عليها طرحته عليه.
وقد ساق هذا الحديث ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن أبي حدرد في «تاريخ دمشق» (عبد الله بن جابر عبد الله بن زيد) ص (117 و 118) ، وابن الأثير في «أسد الغابة» (3/ 211) ، وابن حجر في «الإصابة» (6/ 54) وقد فات الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ذكره في فهرسه ل «مسند أحمد» (3/ 423) في أحاديث عبد الله بن أبي حدود، فيستدرك فيه، حيث لم يذكر عبد الله بن أبي حدرد إلّا في (6/ 11) .
[2] قلت: وفيها قتل بخراسان أميرها عبد الله بن خازم رضي الله عنه. انظر «أسد الغابة» لابن(1/301)
سنة اثنتين وسبعين
فيها توفي أبو عمارة البراء بن عازب الأنصاريّ الحارثيّ نزيل الكوفة، كان من أقران ابن عمر، استصغر يوم بدر [1] .
ومعبد بن خالد الجهنيّ صاحب لواء جهينة يوم الفتح، له حديث واحد عن أبي بكر [2] رضي الله عنهما.
وفيها على الصحيح توفي أبو بحر المعروف بالأحنف [3] بن قيس
__________
الأثير (3/ 220، 221) ، و «تاريخ الإسلام» للذهبي (3/ 107) .
وفيها قتل مصعب بن الزّبير رحمه الله. انظر «تاريخ الطبري» (6/ 159- 167) ، و «مشاهير علماء الأمصار» لابن حبان ص (67) ، و «الكامل» لابن الأثير (4/ 323- 328) ، و «الأعلام» للزركلي (7/ 248، 249) ، ولما انتهى إلى عبد الله بن الزّبير قتل مصعب، قام في الناس فخطبهم خطبة مؤثرة ساقها بتمامها الطبري في «تاريخه» (6/ 166) ويحسن بالقارئ الرجوع إليه للاطّلاع عليها.
[1] له رواية عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة وخمسة أحاديث، اتفق البخاري ومسلم على اثنين وعشرين منها، وانفرد البخاري بخمسة عشر، ومسلم بستة. (ع) .
[2] وذكر ابن الأثير في «أسد الغابة» (5/ 217) ، وابن حجر في «الإصابة» (9/ 242) أن له رواية أيضا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وقد أسلم قديما، وهو أحد الأربعة الذين حملوا ألوية جهينة يوم الفتح، يكنى أبا زرعة. وهو غير معبد الذي تكلم في القدر.
[3] قال الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (4/ 87) : اسمه الضحاك، وقيل: صخر، وشهر بالأحنف لحنف رجليه، وهو العوج والميل. وانظر «مشاهير علماء الأمصار» لابن حبان ص (87) .(1/302)
التّميمي السّعدي، كان من سادات التّابعين، يضرب بحلمه المثل، فعن الحسن [1] قال: ما رأيت شريف قوم أفضل من الأحنف أدرك عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأسلم قومه بإشارته، ولم يفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ووفد على عمر، وله رواية عن عمر وعثمان وعليّ رضي الله عنهم، قال له معاوية: ما أذكر صفّين إلّا وكانت في قلبي حرارة، فقال الأحنف: إنّ القلوب التي أبغضناكم بها لفي صدورنا، وإنّ السيوف التي قاتلناكم بها لفي أغمادها، ثم خرج، فقالت أخت معاوية: [من] [2] هذا؟ قال: [هذا] الذي غضب له ألف فارس من تميم لا يدرون فيما غضب، ولما بايع [3] معاوية لولده يزيد حسّن له بعض الحاضرين ذلك فقال له معاوية: فما تقول أنت يا أبا بحر؟
فقال: أخاف الله إن كذبت، وأخافكم إن صدقت، فقال معاوية: جزاك الله من الطاعة خيرا، وأمر له بألوف، فلما خرجا قال له ذلك الرجل: إني لأعلم ذمّ يزيد، ولكنّهم قد استوثقوا من هذه الأموال بالأبواب والأقفال نستخرجها بما سمعت، فقال الأحنف: إنّ ذا الوجهين خليق أن لا يكون له وجه عند الله [4] .
ونقل الإمام الطّرطوشي [5] أن بعض الخلفاء سأل رجلا عن الأحنف ابن قيس، وعن صفاته، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين إن شئت أخبرتك عنه بواحدة، وإن شئت أخبرتك عنه بثنتين، وإن شئت أخبرتك عنه بثلاث،
__________
[1] أي الحسن البصري رحمه الله.
[2] لفظة «من» التي بين حاصرتين سقطت من الأصل، وأثبتناها من المطبوع.
[3] في المطبوع: «ولما بلغ» وهو خطأ.
[4] الخبر في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (4/ 92) بنحوه مختصرا، وليس فيه ذكر بيعة يزيد.
[5] هو محمد بن الوليد الفهري الطّرطوشي، أبو بكر، أحد الأئمة الكبار المتوفى سنة (520 هـ) .
انظر ترجمته في حوادث سنة (520) من كتابنا هذا، و «معجم البلدان» لياقوت (4/ 30، 31) .(1/303)
فقال: أخبرني عنه باثنتين، فقال: كان الأحنف يفعل الخير ويحبّه، ويتوقّى الشرّ ويبغضه، قال: فأخبرني عنه بثلاث، قال: كان لا يحسد أحدا، ولا يبغي على أحد، ولا يمنع أحدا حقّه، قال: فأخبرني عنه بواحدة، قال: كان من أعظم النّاس سلطانا في قيامه على نفسه.
وفيها على الصحيح عبيدة [1] السّلماني المرادي الكوفي الفقيه المفتي، أسلم في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتفقّه بعليّ وابن مسعود، قال الشعبيّ: كان يوازي شريحا في القضاء.
وفيها وقعة دير الجاثليق [2] بالعراق، وكانت وقعة هائلة بين مصعب وعبد الملك، وذلك أن عبد الملك أفسد جيش مصعب بالأطماع، ولما استظهر عبد الملك، أرسل إلى مصعب بالأمان فأبى، وقال: [إن] [3] مثلي لا ينصرف [عن مثل هذا الموقف] [4] إلّا غالبا أو مغلوبا، فأثخنوه بالرّمي، ثم شدّ عليه زائدة بن قدامة الثقفي [5] فطعنه وقال: يا لثارات المختار [6] وانصرف إلى عبد الملك.
__________
[1] هو عبيدة بن عمرو، ويقال: عبيدة بن قيس. انظر «مشاهير علماء الأمصار» لابن حبان ص (99) وفيه وفاته سنة (64) ، و «سير أعلام النبلاء» للذهبي (4/ 40- 44) ، و «الأعلام» للزركلي (4/ 199) .
[2] قال ياقوت: دير الجاثليق: دير قديم البناء، رحب الفناء، من طسوج، مسكن قرب بغداد في غربي دجلة في عرض حربى، وهو في رأس الحدّ بين السواد وأرض تكريت ... وقال الشابستي: دير الجاثليق عند باب الحديد قرب دير الثعالب في وسط العمارة بغربي بغداد.
«معجم البلدان» (2/ 503) .
[3] زيادة من «تاريخ الإسلام» (3/ 109) ، و «تاريخ الطبري» (6/ 159) .
[4] زيادة من «تاريخ الإسلام» للذهبي (3/ 109) ، و «تاريخ الطبري» (6/ 159) .
[5] في الأصل، والمطبوع: «زياد بن عمرو بن حيسة» وهو خطأ، والتصحيح من «تاريخ الإسلام» للذهبي (3/ 109) ، و «تاريخ الطبري» (6/ 159) و «الكامل» لابن الأثير (4/ 328) ، و «الأعلام» (3/ 40) .
[6] أي المختار بن أبي عبيد الثقفي ابن عم «زائدة» الذي قتل على يد مصعب بن الزّبير سنة(1/304)
وقتل مع مصعب ولداه عيسى، وعروة، وإبراهيم بن الأشتر النّخعيّ سيّد النّخع وفارسها، ومسلم بن عمرو الباهليّ.
واستولى عبد الملك على العراق وولّاها أخاه بشرا، وفيه يقول الشاعر:
قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق
وبعث الأمراء إلى الأمصار، وبعث الحجّاج إلى مكة لحرب ابن الزّبير فقتله، واستوى الأمر لعبد الملك من غير معارض [1] .
__________
(67 هـ) . انظر «دول الإسلام» للذهبي (1/ 51) ، و «الأعلام» للزركلي (7/ 192) .
[1] قلت: الأصح أن يقال: من غير منازع، لأن المعارضين لحكم الأمويين كانوا كثرة في معظم الأمصار الإسلامية في تلك الفترة، إلّا أنه لم يكن أمامهم سوى الرضوخ أمام منطق القوة الذي ساد في أيام خلافة عبد الملك ومن سبقه من خلفاء الدولة الأموية.(1/305)
سنة ثلاث وسبعين
فيها توفي عوف بن مالك الأشجعيّ الحبيب الأمين، وكان ممن شهد فتح مكة [1] .
وأبو سعيد بن المعلّى [2] الأنصاريّ له صحبة ورواية.
وربيعة بن عبد الله بن الهدير التيمي عمّ محمّد بن المنكدر، له رواية عن عمر.
وفيها نازل الحجّاج ابن الزّبير فحاصره، ونصب المنجنيق على أبي قبيس [3] ، ودام القتال أشهرا، وتفرّق عن عبد الله أصحابه، فأخبر أمّه بذلك
__________
[1] للتوسع في دراسة سيرته رضي الله عنه راجع «أسد الغابة» لابن الأثير (4/ 312، 313) ، و «تهذيب الأسماء واللغات» للنووي (2/ 40، 41) و «الإصابة» لابن حجر (7/ 179) .
[2] هو الحارث بن نفيع بن المعلى وهو أصح ما قيل فيه. انظر «أسد الغابة» لابن الأثير (6/ 142) ، و «الإصابة» لابن حجر (11/ 165) . توفي سنة (73 هـ) وقيل: (74 هـ) . وليس له في البخاري سوى حديث واحد في فضل سورة الفاتحة، وظن بعضهم أنه أبو سعيد الخدري، منهم الإمام الغزالي أبو حامد، والفخر الرازي والبيضاوي، وهو وهم منهم لأن الحديث لأبي سعيد بن المعلّى، وهو الحارث بن نفيع بن المعلى.
[3] قال ياقوت: أبو قبيس: بلفظ التصغير كأنه تصغير قبس النار: وهو اسم الجبل المشرف على مكة، وجهه إلى قعيقعان ومكة وبينهما، أبو قبيس من شرقيها، وقعيقعان من غربيها، قيل:
سمي باسم رجل من مذحج كان يكنى أبا قبيس، لأنه أول من بنى فيه قبة. وانظر تتمة كلامه في «معجم البلدان» (1/ 80، 81) .(1/306)
واستشارها، فقالت: يا بنيّ إن كنت قاتلت لغير الله فقد هلكت وأهلكت، وإن كان لله فلا تسلّم نفسك، فقاتلهم، ولم يزل يهزمهم عند كلّ باب حتى أصابته رمية في رأسه، فنكس رأسه وهو يقول:
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدّما
فلما سقط، قالت جارية له: وا أمير المؤمنين، فعرفوه، ولم يكونوا عرفوه من لباس الحديد، فشدّوا عليه من كلّ جانب، وقتلوه قريبا من باب المسجد من ناحية الصّفا، وذلك في جمادى الأولى [1] وطافوا برأسه في مصر [2] وغيرها.
قال النواوي في «شرح مسلم» [3] مذهب أهل الحقّ أنّ ابن الزّبير كان مظلوما و [أن] الحجّاج ورفقته خارجون عليه. ودخل الحجّاج على أمّه بعد قتله فقال: كيف رأيتني صنعت بابنك؟ فقالت: أفسدت عليه دنياه، وأفسد عليك آخرتك، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم، أنّ في ثقيف مبيرا وكذّابا، فأمّا الكذّاب فرأيناه- يعني المختار- وأما المبير فلا إخالك [4] إلا إيّاه [5] .
والمبير المهلك.
قتل وله [6] اثنتان وسبعون سنة، وكانت ولايته تنيف على ثمان سنين،
__________
[1] وذلك يوم الثلاثاء في السابع عشر منه، كما ذكر النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» (1/ 367) .
[2] في «الكامل» لابن الأثير، و «تاريخ الإسلام» للذهبي، أن رأس عبد الله بن الزّبير رضي الله عنه أرسل إلى الشام.
[3] «صحيح مسلم بشرح النووي» (16/ 99) .
[4] في المطبوع: «أخالك» ، وهو تحريف.
[5] الحديث في «صحيح مسلم» رقم (2545) في فضائل الصحابة: باب ذكر كذاب ثقيف ومبيرها.
[6] أي لعبد الله بن الزّبير رضي الله عنه.(1/307)
وكان ابن الزّبير صوّاما، قوّاما مستغرق الساعات في الطّاعات، بطلا شجاعا، ومناقبه شهيرة كثيرة، رضي الله تعالى عنه.
وقتل معه عبد الله بن صفوان بن أميّة بن خلف الجمحيّ رئيس مكة، وابن رئيسها، ولد في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولما حجّ معاوية قدّم له ابن صفوان ألفي شاة.
وقتل معه أيضا عبد الله بن مطيع بن الأسود العدويّ، الذي ولي الكوفة لابن الزّبير قبل غلبة المختار.
وقتل معه عبد الرّحمن بن عثمان بن عبد الله التيميّ، ممن أسلم يوم الحديبية.
وتوفّيت أمّ عبد الله بن الزّبير بعد مصاب ابنها بيسير، وهي أسماء بنت أبي بكر الصّدّيق، وهي في عشر المائة، وهي من المهاجرات الأول، ومن أهل السّوابق في الإسلام، وهي ذات النّطاقين [1] ، رضي الله عنها.
وفيها استوثق الأمر لعبد الملك بن مروان بمقتل ابن الزّبير، وولي الحجّاج أمر الحجاز، ونقض بناء ابن الزّبير الكعبة [2] وأعادها إلى بنائها في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم بمشاورة عبد الملك بن مروان.
وسبب هدم ابن الزّبير الكعبة، أنها كانت قد تهدّمت وتشعّثت من حجر المنجنيق الذي كان يرمي به الحصين بن نمير وأصحابه، وحدّثته خالته عائشة أنّ قريشا قصّرت بهم النفقة- يعني الحلال التي كانوا جمعوها لبنائها-
__________
[1] سميت ذات النطاقين، لأنها هيأت للرسول صلى الله عليه وسلم لما أراد الهجرة سفرة، فاحتاجت إلى ما تشدها به، فشقت خمارها نصفين، فشدت بنصفه السفرة، واتخذت النصف الآخر منطقا لها.
[2] في المطبوع: «للكعبة» .(1/308)
فاقتصروا عن قواعد إبراهيم ستة أذرع أو سبعة، وهي الحجر، ولما عزم ابن الزّبير على ذلك فرقت الناس، وخرج بعضهم هاربا إلى الطائف، وإلى عرفات، ومنى وطلع ابن الزّبير بنفسه واتّخذ معه عبدا حبشيا دقيق السّاقين رجاء أن يكون ذا السّويقتين الحبشي الذي يهدم الكعبة [1] ، وأما الحجّاج فلم يهدمها إلّا أنفة أن يبقى هذا الشّرف والمكرمة لابن الزّبير، واختلفوا كم بنيت مرّات، فقيل: سبعا، وقيل: خمسا، ومنشأ الخلاف أنّها هل بنيت قبل بناء إبراهيم، أو هو أول من بناها؟.
__________
[1] قلت: وذلك أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: «يخرّب الكعبة ذو السّويقتين من الحبشة» رواه البخاري رقم (1596) في الحج: باب هدم الكعبة، ومسلم رقم (2909) في الفتن: باب لا تقوم الساعة حتى يمرّ الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء، ورواه النسائي (5/ 216) في الحج: باب بناء الكعبة. وقال ابن الأثير في «جامع الأصول» (9/ 302) : ذو السويقتين: الساق: ساق الإنسان، وهي مؤنثة، وتصغيرها: سويقة بالتاء، على قياس تصغير أمثالها، وتثنيتها: سويقتان، بإثبات التاء في التثنية، لأن تثنيتها مصغرة، وإنما صغرها لأنه أراد ضعفها ودقتها، لأن عامة الحبشة في أسواقهم دقّة وحموشة.(1/309)
سنة أربع وسبعين
فيها توفي السّيّد الجليل الفقيه العابد الزّاهد أبو عبد الرّحمن عبد الله بن عمر بن الخطّاب العدويّ، وكان قد عيّن للخلافة يوم التّحكيم، مع وجود عليّ والكبار رضي الله عنهم.
وقال فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ عبد الله رجل صالح» [1] . وقال: «نعمّ الرّجل عبد الله لو كان يصلّي من الليل» فكان بعدها لا يرقد من الليل إلّا قليلا [2] ، وكان من زهّاد الصحابة وأكثرهم اتّباعا للسّنن،
__________
[1] رواه البخاري في التعبير: باب الإستبرق ودخول الجنة في المنام، ومسلم رقم (2478) في فضائل الصحابة، من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، قال: رأيت في المنام كأن في يدي قطعة إستبرق، وليس مكان أريد من الجنة، إلّا طارت إليه، قال:
فقصصته على حفصة، فقصته حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أخاك رجل صالح» أو «إن عبد الله رجل صالح» .
[2] رواه البخاري في التهجد: باب فضل قيام الليل، ومسلم رقم (2479) في فضائل الصحابة، باب من فضائل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. قال: كان الرجل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأي رؤيا قصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتمنيت أن أرى رؤيا أقصها على النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
وكنت غلاما شابا عزبا، وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا لها قرنان كقرني البئر، وأذاقها أناس قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار، قال: فلقيهما ملك فقال لي: لم ترع (أي لا روع عليك) فقصصتها على حفصة فقصتها حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل» فكان بعد لا ينام من الليل إلّا قليلا.(1/310)
وأعزفهم [1] عن الفتن، وتمّ له ذلك إلى أن مات.
قيل: اعتمر قريبا من ألف عمرة.
قال مالك: بلغ ابن عمر ستا وثمانين سنة، أفتى في ستين منها، ولما مات أمرهم أن يدفنوه ليلا ولا يعلموا الحجّاج لئلا يصلّي عليه، ودفن في ذات أذاخر [2] يعني فوق القرية التي يقال: لها العابدة، وبعضهم يزعم أنها في الجبل الذي فوق البستان على يمين الخارج من مكّة إلى المحصّب [3] .
وتوفي بعده في تلك السنة أبو سعيد الخدريّ سعد بن مالك الأنصاريّ، وكان من أعيان الصحابة وفقهائهم، شهد الخندق، وبيعة الرّضوان، وغيرهما.
وفيها توفي بالمدينة سلمة الأكوع الأسلميّ، وكان ممن بايع النبيّ صلى الله عليه وسلم على الموت يوم الحديبية، وكان بطلا شجاعا راميا، يسبق الفرس عدوا [4] ، وله سوابق ومشاهد محمودة.
وفيها توفّي بالكوفة أبو جحيفة [5] السّوائيّ، ويقال له: وهب الخير، له
__________
[1] في المطبوع: «أعرفهم» وهو خطأ.
[2] قال الزبيدي: ثنيّة أذاخر بالفتح: قرب مكة بينها وبين المدينة، وكأنها مسماة بجمع الإذخر.
«تاج العروس» «ذخر» (11/ 364) . وانظر «معجم ما استعجم» للبكري (1/ 128) ، و «القاموس المحيط» للفيروزآبادي (2/ 35) .
[3] قال الزبيدي: المحصّب اسم الشّعب الذي مخرجه إلى الأبطح بين مكّة ومنى، يقام فيه ساعة من الليل، ثم يخرج إلى مكّة، سمي به للحصباء الذي فيه، وكان موضعا نزل به رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير أن سنّه للناس، فمن شاء حصّب، ومن شاء لم يحصّب. وانظر تتمة كلامه في «تاج العروس» «حصب» (2/ 284، 285) .
[4] في الأصل، والمطبوع: «شدا» وهو خطأ، والتصحيح من «دول الإسلام» للذهبي (1/ 54) .
[5] واسمه وهب بن عبد الله السّوائي. انظر «أسد الغابة» (6/ 48) ، و «تهذيب الأسماء واللغات» (2/ 202) ، و «سير أعلام النبلاء» (3/ 202) ، وقال النووي: ويقال: وهب بن وهب.(1/311)
صحبة ورواية، وكان صاحب شرطة عليّ رضي الله عنه، وكان يقوم تحت منبره يوم الجمعة، وقيل: تأخر إلى بعد الثمانين [1] .
وفيها توفّي محمّد بن حاطب بن الحارث الجمحيّ، له صحبة ورواية، وهو أوّل من سمّي في الإسلام محمّدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورافع بن خديج الأنصاريّ الصحابيّ، أصابه سهم يوم أحد فبقي النّصل إلى أن مات في جسمه.
وأوس بن ضمعج الكوفيّ العابد.
وخرشة بن الحرّ [2] ، وقد ربّي يتيما في حجر عمر، ونزل الكوفة.
وعاصم بن ضمرة [3] السّلولي.
ومالك بن أبي عامر الأصبحيّ، جدّ الإمام مالك، له رواية عن عمر وعثمان.
وعبد الله بن عتبة بن مسعود الهذليّ بالمدينة له رواية ورؤية [4] ، وكان كثير الحديث والفتوى.
وعبد الله بن عمير الليثيّ.
__________
[1] وفي «أسد الغابة» و «تهذيب الأسماء واللغات» توفي سنة (72 هـ) . قال الذهبي: والأصح موته في سنة أربع وسبعين. وهو ما جزم به ابن حبان في «مشاهير علماء الأمصار» ص (46) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «خرسة بن الحرة» وهو خطأ. والتصحيح من «مشاهير علماء الأمصار» لابن حبان ص (106) ، و «أسد الغابة» لابن الأثير (2/ 127) ، و «الإصابة» لابن حجر (3/ 88) ، و «الاستيعاب» لابن عبد البر على هامش «الإصابة» (3/ 192) .
[3] في المطبوع: «عاصم بن حمزة» وهو خطأ.
[4] في المطبوع: «له رؤية ورواية» .(1/312)
سنة خمس وسبعين
فيها حجّ عبد الملك بن مروان، وخطب على منبر رسول الله [1] صلى الله عليه وسلم، وعزل الحجّاج عن الحجاز وأمّره على العراقين.
وفيها توفّي العرباض بن سارية السّلمي أحد أصحاب الصّفّة بالشّام [2] .
وأبو ثعلبة الخشنيّ [3] بالشام، وقد شهد فتح خيبر.
وعمرو بن ميمون الأوديّ، قدم مع معاذ من اليمن، فنزل الكوفة، وكان صالحا قانتا، قيل: حجّ مائة حجّة وعمرة [4] ، وكان إذا رؤي ذكر الله.
والأسود بن يزيد النّخعيّ [5] الكوفيّ الفقيه العابد، كان يصلّي في اليوم والليلة سبعمائة ركعة، واستسقى به معاوية فسقوا.
__________
[1] في المطبوع: «منبر النبيّ» .
[2] وكنيته أبو نجيح، وكان شيخا كبيرا من الصحابة رضي الله عنهم، ثم نزل حمص، وحديثه في السنن الأربعة (ع) .
[3] وهو صحابي مشهور معروف بكنيته، واختلف في اسمه اختلافا كثيرا، سكن الشام، وقيل:
حمص، قبض وهو ساجد في صلاة الليل، رضي الله عنه.
[4] وقيل غير ذلك. انظر «أسد الغابة» لابن الأثير (4/ 275) ، و «سير أعلام النبلاء» للذهبي (4/ 160) .
[5] قلت: وفي «تاريخ خليفة بن خياط» ص (275) أنه مات سنة ست وسبعين، وقيل: أربع وسبعين.(1/313)
وبشر بن مروان الأمويّ أمير العراقين بعد مصعب.
وسليم بن عتر [1] التجيبيّ قاضي مصر وناسكها، وقد حضر خطبة عمر بالجابية [2] .
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «سليم بن عنزة» وهو خطأ، والتصحيح من «تاريخ الإسلام» للذهبي (3/ 131) . و «الإصابة» لابن حجر العسقلاني (5/ 13) . وكنيته أبو سلمة، وهو من خيرة التابعين رحمه الله.
[2] قال ياقوت: قرية من أعمال دمشق ثم من عمل الجيدور من ناحية الجولان قرب مرج الصفر في شمالي حوران، إذا وقف الإنسان في الصنمين واستقبل الشمال ظهرت له، وتظهر من نوى أيضا، وبالقرب منها تل يسمى تل الجابية، وباب الجابية بدمشق منسوب إلى هذا الموضع، ويقال لها: جابية الجولان أيضا. «معجم البلدان» (2/ 91) . وانظر «الروض المعطار» للحميري ص (153) .(1/314)
سنة ست وسبعين
فيها وجّه الحجّاج زائدة بن قدامة الثقفيّ ابن عمّ المختار لحرب شبيب بن قيس الخارجيّ الشيبانّي، فاستظهر شبيب وقتل زائدة، وهزم العساكر مرات واستفحل أمر شبيب. [1] .
__________
[1] قلت: وفيها أمر الخليفة عبد الملك بن مروان بنقش الدنانير والدراهم. انظر «تاريخ الطبري» (6/ 256) ، و «البيان المغرب» لابن عذارى (1/ 34) ، و «الكامل» لابن الأثير (4/ 416) .
وفيها ولّى عبد الملك المدينة أبان بن عثمان بن عفان. انظر «تاريخ الطبري» (6/ 256) ، و «الكامل» لابن الأثير (4/ 418) .
وفيها أقام الحج أبان بن عثمان بن عفان. انظر «تاريخ الطبري» (6/ 256) ، و «الكامل» لابن الأثير (4/ 218) .
وفيها مات حبة بن جوين العرنيّ. انظر «الكامل» لابن الأثير (4/ 418) ، و «تاريخ الإسلام» للذهبي (3/ 121) .(1/315)
سنة سبع وسبعين
فيها بعث الحجّاج لحرب شبيب عتّاب بن ورقاء الرياحي [1] بالباء الموحدة فلقي شبيبا [2] بسواد الكوفة، فقتل شبيب أيضا عتّابا، وهزم جيشه، ثم جهّز الحجّاج له الحارث بن معاوية الثقفيّ فقتل الحارث أيضا، فوجّه الحجّاج له أبا الورد البصريّ فقتله أيضا، فوجّه له طهمان عثمان، فقتله أيضا، ففرق الحجّاج وسار بنفسه، فاقتتلوا شديدا أشد القتال، وتكاثروا على شبيب فانهزم.
وقتلت غزالة امرأة شبيب، وكانت قد قاتلت في تلك الحروب قتالا عجز عنه كمّل الرّجال، وكانت بحيث يضرب بشجاعتها المثل، وكانت نذرت أني تأتي مسجد كوفة فتصلّي فيه ركعتين بسورة البقرة، وآل عمران، فخرجت إليه في سبعين رجلا ووفت نذرها، فقال الناس:
وفت الغزالة نذرها ... يا ربّ لا تغفر لها
وقال الشاعر في الحجّاج بن يوسف:
أسد عليّ وفي الحروب نعامة ... فتخاء تنفر من صفير الصافر
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «عتاب بن ورقاء الرباحي» وهو تصحيف. والتصحيح من «جمهرة أنساب العرب» لابن حزم الأندلسي ص (227) ونسبه للرياحي، و «الأعلام» (4/ 200) .
[2] في المطبوع: «فلقي شبيب» .(1/316)
هلّا كررت على غزالة في الوغى ... بل كان قلبك في جناحي طائر
ونجا شبيب بنفسه في فوارس من أصحابه إلى الأهواز.
وبها محمّد بن موسى بن طلحة التيميّ، فخرج لقتاله، فبارزه، فقتله شبيب، وسار إلى كرمان [1] فتقوّى، ثم رجع إلى الأهواز، فبعث إليه الحجّاج سفيان بن الأبرد الكلبيّ، وحبيب بن عبد الرّحمن، فاقتتلوا حتى حجز بينهم الليل، ثم ذهب شبيب وعبر على جسر نهر دجيل [2] فقطع به فغرق، وقيل:
بل نفر به فرسه وعليه الحديد الثقيل فألقاه في الماء، فقال بعض أصحابه:
أغرقا يا أمير المؤمنين؟ فقال: ذلك تقدير العزيز العليم، فألقاه دجيل ميتا على ساحله، فحمل على البريد إلى الحجّاج، فأمر بشقّ بطنه، واستخرج قلبه، فإذا هو كالحجر، إذا ضرب به الأرض نبا عنها، فشقّ، فإذا قلب صغير كالكرة الصغيرة، فشقّ أيضا، فوجد في داخله علقة دم، وكانت شجاعته خارجة أكثر ما يكون في مائة نفس فيهزمون الألوف.
وفيها غزا عبد الملك الرّوم بنفسه، وافتتح مدينة هرقلة [3] وافتتحت أيضا في خلافة العباسيّين [4] ولعلّها عادت إليهم.
__________
[1] إقليم في إيران. قال ياقوت: قال محمد بن أحمد البنا البشاري: كرمان: إقليم يشاكل فارس في أوصاف ويشابه البصرة في أسباب، ويقارب خراسان في أنواع: لأنه قد تخم البحر، واجتمع فيه البرد والحر، والجوز والنخل، وكثرت فيه التمور والأرطاب، والأشجار والثمار، ومن مدنه المشهورة: جيرفت، وموقان، وخبيص، وبم، والسيرجان، ومزماسير، وبردسير.
وانظر «معجم البلدان» لياقوت (4/ 454- 456) ، و «الروض المعطار» للحميري ص (491، 492) و «الأمصار ذوات الآثار» للذهبي ص (101) بتحقيقنا، طبع دار ابن كثير.
[2] قال ابن منظور: دجيل: نهر صغير متشعّب من دجلة. «لسان العرب» «دجل» (2/ 1330) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «مدينة هرقل» والتصحيح من «تاريخ الإسلام» للذهبي (3/ 125) ، و «دول الإسلام» للذهبي (1/ 56) .
[4] وذلك على يدي الخليفة هارون الرشيد. انظر «معجم البلدان» لياقوت (5/ 398) .(1/317)
وفيها توفّي أبو تميم الجيشانيّ [1] وكان قرأ القرآن على معاذ، وكان من عبّاد أهل مصر وعلمائهم.
__________
[1] هو عبد الله بن مالك بن أبي الأسحم، من أئمة التابعين، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وقدم المدينة زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. حدّث عن عمر، وعلي، وأبي ذر، ومعاذ بن جبل، انظر «سير أعلام النبلاء» للذهبي (4/ 73، 74) .(1/318)
سنة ثمان وسبعين
فيها وثب الرّوم على ملكهم، فنزعوه من الملك، وقطعوا أنفه، ونفوه إلى بعض الجزائر.
وفيها جرت حروب وملاحم بإفريقيّة، وولي فيها موسى بن نصير إمرة المغرب كلّه، وولي خراسان المهلّب بن أبي صفرة.
وفيها توفي جابر بن عبد الله بن عمرو [1] بن حرام الأنصاريّ السّلميّ، وهو آخر من مات من أهل العقبة [2] عن أربع وتسعين سنة، وهو من أهل بيعة الرّضوان وأهل السّوابق والسّبق في الإسلام، وكان كثير العلم، وأبوه عبد الله بن عمرو بن حرام مناقبه عديدة.
وفيها على الأصح زيد بن خالد [الجهنيّ] [3] من مشاهير الصحابة، مات بالكوفة وله خمس وثمانون سنة.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «جابر بن عبد الله بن عمر بن حرام» وهو خطأ، والتصحيح من «الأنساب» للسمعاني (7/ 114) بإشراف والدي الشيخ عبد القادر الأرناؤوط، و «أسد الغابة» لابن الأثير (1/ 307) ، و «سير أعلام النبلاء» للذهبي (3/ 189) .
[2] أي بيعة العقبة الثانية. انظر «السيرة» لابن هشام (1/ 438- 444) ، و «سير أعلام النبلاء» للذهبي (3/ 189) .
[3] زيادة من «تاريخ الإسلام» للذهبي (3/ 126) ، و «دول الإسلام» للذهبي أيضا (1/ 56) .(1/319)
وعبد الرّحمن بن غنم الأشعريّ بالشام [1] وكان من رووس التابعين، بعثه عمر يفقّه الناس. قال أبو مسهر [2] هو رأس التابعين.
وفيها، وقيل: في سنة ثمانين أبو أميّة شريح بن الحارث الكنديّ، ولي قضاء الكوفة لعمر فمن بعده خمسا وسبعين سنة، ولم يتعطّل فيها إلّا ثلاث سنين، امتنع فيها من القضاء، وعاش على ما قال ابن قتيبة [3] مائة وعشرين سنة، واستعفى عن القضاء قبل موته بعام فأعفاه الحجّاج، وكان فقيها نبيها شاعرا، صاحب مزاح، وكان له دربة في القضاء بالغة، وهو أحد السّادات الطّلس، وهم أربعة: عبد الله بن الزّبير، وقيس بن سعد بن عبادة، والأحنف بن قيس، وشريح.
والأطلس الذي لا شعر بوجهه [4] .
وحكي أن عليا دخل على شريح مع خصم له ذمّيّ، فقام له شريح، فقال له عليّ كرم الله وجهه: هذا أوّل جورك، فقال: لو كان خصمك مسلما لما قمت، ويقال: إنه قضى على عليّ، وذلك أنه ادّعى على الذّمّيّ درعا سقطت منه، فقال للذّمّيّ: ما تقول؟ فقال: مالي وبيدي، فقال لعليّ كرم الله وجهه، ألك بيّنة أنّها سقطت منك؟ قال: نعم. فأحضر كلّا من الحسن وعبده قنبر [5] فقال: قبلت شهادة قنبر، ورددت شهادة الحسن، فقال عليّ ثكلتك
__________
[1] في «دول الإسلام» للذهبي: «بفلسطين» .
[2] هو عبد الأعلى بن مسهر بن عبد الأعلى، أبو مسهر الغساني، من حفاظ الحديث، وكنية جده أبو قدامة. كان شيخ الشام، وعالمها بالحديث والمغازي، وأيام الناس، وأنساب الشاميين، توفي سنة (218 هـ) . وسترد ترجمته في المجلد الثالث من كتابنا هذا فراجعها فيه.
[3] انظر «المعارف» ص (433) .
[4] ويقال له: الكوسج والأثط. (ع) .
[5] انظر تاج العروس» للزبيدي «قنبر» (13/ 477) .(1/320)
أمّك [1] أما بلغك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة» [2] فقال: اللهمّ نعم، غير أني لا أجيز شهادة الولد لوالده، فقال لليهوديّ خذها فليس عندي غيرها [3] فقال اليهوديّ: لكنّي أشهد أنّها لك، وأنّ دينكم هو الحقّ، قاضي المسلمين يحكم على أمير المؤمنين ويرضى، أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أنّ محمدا رسول الله، فدفع عليّ الدّرع له فرحا بإسلامه. وضرب شريح امرأة له تميمية ثم ندم فقال:
رأيت رجالا يضربون نساءهم ... فشلّت يميني يوم [4] أضرب زينبا
فزينب بدر والنساء كواكب ... إذا طلعت لم تبق [منهنّ] [5] كوكبا
وذكر أن زيادا كتب إلى معاوية: ضبطت لك العراق بشمالي، ويميني فارغة لطاعتك فولّني الحجاز، فبلغ ذلك عبد الله بن عمر، وكان مقيما بمكة، فقال: اللهمّ اشغل يمين زياد، فأصابه الطّاعون، أو الأكلة [6] في يمينه، فجمع الأطبّاء، فأشاروا بقطعها، فاستشار شريحا فقال: أكره لك، إن كانت لك مدة تعيش بلا يمين، وإن كان قد دنا أجلك أن تلقى ربّك مقطوع
__________
[1] قال ابن الأثير: ثكلتك أمك: أي قعدتك، والثكل فقد الولد، وامرأة ثاكل وثكلى. ورجل ثاكل وثكلان، كأنه دعا عليه بالموت لسوء فعله ... أو أراد إذا كنت هكذا فالموت خير لك لئلا تزداد سوءا، ويجوز أن يكون من الألفاظ التي تجري على ألسنة العرب ولا يراد بها الدعاء، كقولهم تربت يداك، وقاتلك الله. «النهاية» «ثكل» (1/ 217) .
[2] رواه أحمد في المسند (3/ 3) والترمذي رقم (3778) في المناقب، باب مناقب الحسن والحسن رضي الله عنهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وهو كمال.
[3] في المطبوع: «غيرهما» .
[4] في المطبوع: «حين» . وما في الأصل موافق لما في كتاب «أخبار القضاة» لوكيع (2/ 205) .
[5] لفظة «منهن» ليست في الأصل، وقد أثبتناها من المطبوع.
[6] قال ابن منظور: الأكلة: داء يقع في العضو فيأتكل منه. «لسان العرب» «أكل» (1/ 102) .(1/321)
اليد، فإذا قال لك: لم قطعتها؟ قلت: بغضا للقائك، وفرارا من قضائك، ومات زياد من يومه، فلام النّاس شريحا حيث نصح له لبغضهم لزياد، فقال:
استشارني، والمستشار مؤتمن، وإلّا لوددت أنه قطع يده يوما، ورجله يوما، وسائر جسده يوما يوما.
وتقدّم إلى شريح رجلان في شيء، فأقرّ أحدهما بما ادّعى عليه، ولم يعلم، فقضى عليه شريح، فقال: أتقضي عليّ بغير بينة؟ فقال: قد شهد عليك ثقة، قال: ومن ذلك؟ قال: ابن أخت خالتك، وقال له آخر: أين أنت أصلحك الله، قال بينك وبين الحائط، قال: إني رجل من أهل الشام، قال:
مكان سحيق، قال: وتزوجت امرأة، قال: بالرّفاء والبنين [1] قال: وولدت غلاما، قال: ليهنك الفارس قال: وشرطت لها دارا، قال: الشّرط أملك، قال:
اقض بيننا، قال: قد فعلت، قال: بم؟ قال: حدّث امرأة حديثين، فإن أبت فأربع.
وقال في «الإشراف على مناقب الأشراف [2] : في ذكر المخضرمين، وذكر شريحا منهم.
__________
[1] قال الزبيدي: إذا قال له: بالرّفاء والبنين، أي بالالتئام والاتفاق، والبركة والنّماء وجمع الشّمل وحسن الاجتماع، قال ابن السكيت: وإن شئت كان معناه السّكون والهدوء والطّمأنينة، فيكون أصله غير الهمز. «تاج العروس» «رفأ» (1/ 248) .
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقال: بالرّفاء والبنين، لأنها تهنئة الجاهلية. روى الإمام أحمد في «المسند» (2/ 381) ، وأبو داود في «سننه» رقم (2130) ، والترمذي رقم (1091) في «سننه» وابن ماجة في «سننه» رقم (1905) والدارمي (2/ 134) والحاكم في «المستدرك» (2/ 183) عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رفّأ الإنسان، أي: إذا تزوج، قال:
«بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير» ، وهو حديث صحيح.
[2] قلت: لعله «الإشراف على مذاهب الأشراف» وهو لشيخ الإسلام الإمام الحافظ أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري الفقيه، نزيل مكة المتوفى سنة (319 هـ) . انظر(1/322)
قال الفضل بن دكين: بلغ شريحا مائة وثمان سنين، وتوفي سنة ست وسبعين، وقال غيره من أهل العلم: سنة ثمان وسبعين، وكان ثقة، ولي قضاء المصرين الكوفة، والبصرة، ومات بالكوفة رحمه الله انتهى [1] .
وفيها قتل بسجستان أبو المقدام شريح بن هانئ المذحجيّ، صاحب عليّ وله مائة وعشرون سنة.
__________
«كشف الظنون» لحاجي خليفة (1/ 103) ، و «سير أعلام النبلاء» للذهبي (14/ 490) ، و «الأعلام» للزركلي (5/ 294) .
[1] انظر ترجمته وأخباره المطولة في «أخبار القضاة» لوكيع (2/ 198- 402) .(1/323)
سنة تسع وسبعين
فيها، وقيل: في التي قبلها، قتل رأس الخوارج قطريّ بن فجاءة [1] التميميّ، عثر به فرسه فقتل، وأتي الحجّاج برأسه، وكان الحجّاج قد جهّز إليه جيشا بعد جيش وهو يهزمهم، وممن قاتله سوادة، أو سورة بن أبجر [2] الدّارميّ، وكان مجرّبا في الحروب ومن قوله [3] يخاطب نفسه:
أقول لها وقد طارت شعاعا ... من الأبطال ويحك لا تراعي [4]
فإنّك لو سألت بقاء يوم ... على الأجل الذي لك لم تطاعي
فصبرا في مجال الموت صبرا ... فما نيل الخلود بمستاع
سبيل الموت غاية كلّ حيّ ... وداعيه لأهل الأرض داعي
وقال ابن قتيبة: هو من كنانة، من بني حرقوص بن مازن بن مالك بن
__________
[1] قال ابن حزم: والفجاءة لقب لأبيه، لأنه غاب إلى اليمن، ثم أتى قومه فجأة، واسمه جعونة بن يزيد بن زياد بن خنثر بن كابية بن حرقوص بن مازن بن مالك. «جمهرة أنساب العرب» ص (212) .
[2] في الأصل، والمطبوع، و «وفيات الأعيان» «سودة بن أبجر» وهو خطأ، والتصحيح من «المعارف» لابن قتيبة ص (411) ، و «جمهرة الأنساب» ص (229) ، و «تاريخ خليفة» ص (276) .
[3] أي من قول قطري بن الفجاءة.
[4] في «شرح أبيات مغني اللبيب» للبغدادي (4/ 251) : «لن تراعي» . والأبيات في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (4/ 151- 152) وانظر تخريجها فيه.(1/324)
عمرو بن تميم، وكان يكنى أبا نعامة، وخرج زمن مصعب بن الزّبير، فبقي عشرين سنة يقاتل ويسلّم عليه بالخلافة، فوجّه إليه الحجّاج جيشا بعد جيش، وكان آخرهم سفيان بن الأبرد الكلبي فقتله، وكان المتولّي لذلك سودة [بن أبجر] [1] بن الحارث الدارمي، ولا عقب لقطريّ. انتهى [2] .
وفيها توفيّ عبيد الله بن أبي بكرة [3] ، وكان قد بعثه الحجّاج أميرا على سجستان في العام الماضي، وكان جوادا ممدّحا يعتق في كلّ يوم عيد مائة عبد.
وفيها مات عبد الرّحمن بن عبد الله بن مسعود الهذلي.
وفيها أصاب أهل الشام طاعون كادوا يفنون من شدّته، قاله ابن جرير [4] .
__________
[1] زيادة من المطبوع. وفيه: «سودة بن أبجز» ، وهو خطأ.
[2] انظر «المعارف» ص (411) ، وقول المؤلف «هو من كنانة» ليس عند ابن قتيبة في الطبعة التي بين يدي، وإنما هي «كابيه» في إحدى نسخ الكتاب كما ذكر محققه.
[3] في الأصل والمطبوع: عبد الله بن أبي بكر، وهو خطأ، والتصحيح من «البداية والنهاية» لابن كثير (9/ 31) و «الأعلام» للزركلي (4/ 191) وهو ابن الصحابي أبي بكرة نفيع بن الحارث، وكان ينفق المال الكثير، ويزوج من أراد الزواج بماله.
[4] انظر «تاريخ الطبري» (6/ 322) .(1/325)
سنة ثمانين
فيها بعث الحجّاج على سجستان عبد الرّحمن بن محمّد بن الأشعث الكنديّ، فلما استقرّ بها خلع الحجّاج، وخرج، وكان [1] بينهما حروب يطول شرحها.
وفيها مات عبد الله بن جعفر بن أبي طالب الهاشميّ، وهو آخر من رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم من بني هاشم، وكان مولده بالحبشة، ويقال: لم يكن في المسلمين أجود منه، وله فيه [2] أخبار طويلة، وفي «الصحيح» أنّ ابن الزّبير قال له: أتذكر إذ تلقّينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا، وأنت، وابن عبّاس؟ قال: نعم، فحملنا وتركك، وهذا من الأجوبة المسكتة، لكن الذي في «صحيح مسلم» عن عبد الله بن أبي مليكة قال: قال عبد الله بن جعفر لابن الزّبير: أتذكر إذ تلقّينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا، وأنت، وابن عبّاس، فحملنا وتركك [3] ، فلينظر ذلك.
وقال الإمام النووي في «شرح مسلم» : وقد توهم القاضي أن القائل:
فحملنا وتركك، هو ابن الزّبير وجعله غلطا في رواية مسلم، وليس كما قال،
__________
[1] في المطبوع: «وكانت» .
[2] أي في الجود.
[3] رواه مسلم رقم (2427) في فضائل الصحابة: باب فضائل عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما.(1/326)
بل صوابه ما ذكرناه أن القائل: فحملنا وتركك هو ابن جعفر: انتهى [1] .
وقيل: إن أجواد المسلمين عشرة، منهم: عبد الله بن جعفر، وعبيد الله بن عبّاس، وطلحة الطّلحات الخزاعيّ [2] .
وفيها مات أبو إدريس الخولانيّ عائذ الله بن عبد الله، فقيه أهل الشّام وقاضيهم، سمع من أبي الدّرداء وطبقته، وقال ابن عبد البرّ [3] : سماع أبي إدريس عندنا عن معاذ صحيح [4] .
وفيها مات أسلم مولى عمر رضي الله عنه، اشتراه عمر في حياة أبي بكر رضي الله عنه، وهو من سبي عين التّمر [5] وكان فقيها نبيلا.
وفيها صلب عبد الملك معبد الجهنيّ في القدّر، وقيل: بل عذّبه الحجّاج بأنواع العذاب، وقتله.
وتوفّي ملك عرب الشّام حسّان بن النّعمان بن المنذر الغسّانيّ غازيا بالروم [6] .
__________
[1] انظر «شرح صحيح مسلم» للنووي (15/ 196- 197) . وقوله: وقد توهم القاضي. يعني القاضي عياض.
[2] هو طلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي، أحد الأجواد المقدّمين، كان أجود أهل البصرة في زمانه. (ع) .
[3] انظر «الاستيعاب» على هامش «الإصابة» (11/ 114) .
[4] وانظر ترجمته في «تاريخ داريا» للخولاني ص (63- 69) بتحقيق العالم المحقق الأستاذ سعيد الأفغاني، و «سير أعلام النبلاء» للذهبي (4/ 272) ، و «الأعلام» للزركلي (3/ 237) .
[5] قال ياقوت: عين التمر بلدة قريبة من الأنبار غربي الكوفة بقربها موضع يقال له شفاثا، منها يجلب القسب والتمر إلى سائر البلاد ... وهي قديمة افتتحها المسلمون في أيام أبي بكر على يد خالد بن الوليد سنة (12) للهجرة. «معجم البلدان» (4/ 176) . وفي المطبوع: «عين النمر» وهو تصحيف.
[6] قلت: في «الأعلام» للزركلي (2/ 177) أنه مات بعد سنة (86) . والذي في «تاريخ(1/327)
وفيها، وقيل: في التي [1] قبلها جنادة بن أبي أميّة الأزديّ بالشّام، له ولأبيه صحبة، وحديثه في «الصحيحين» عن الصحابة، وقد ولي غزو البحر لمعاوية [2] .
وفيها على الأصح أبو عبد الرّحمن جبير بن نفير الحضرميّ، نزيل حمص، وكان من جلّة التّابعين، روى عن أبي بكر، وعمر.
وفيها توفي عبد الرّحمن بن عبد القاري، أتى به أبوه النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو صغير، وروى عن جماعة منهم عمر، وهو مدنيّ.
__________
الإسلام» للذهبي (3/ 128) ، و «سير أعلام النبلاء» للذهبي أيضا (4/ 140 و 294) توفّي سنة ثمانين كما في كتابنا.
[1] قوله: «في التي» سقط من المطبوع.
[2] قلت: عدّه الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (4/ 62) من كبراء التابعين وقال: حدّث عن معاذ بن جبل، وعمر، وأبي الدّرداء، وعبادة بن الصامت، وبسر بن أبي أرطأة ... وقال:
ولأبيه أبي أميّة صحبة ما، واسمه كبير بموحدة، ولي جنادة غزو البحر لمعاوية، وشهد فتح مصر، وقد أدرك الجاهلية والإسلام، وقد قال إبراهيم بن الجنيد: سمعت يحيى بن معين وسئل أجنادة بن أبي أمية الذي روى عنه مجاهد، له صحبة؟ قال: نعم. قلت: أهو الذي يروي عن عبادة بن الصامت؟ قال: هو هو. وأما ابن سعد، والعجلي، وطائفة، فقالوا: تابعيّ شامي، وهو الصواب. و [إن] صح له حديث، فيكون مرسلا. قال ابن يونس: توفي سنة ثمانين. وقال المدائني: توفي سنة خمس وسبعين. وكذا قال ابن معين، وقال الهيثم بن عدي: توفي سنة سبع وسبعين، وقيل غير ذلك، والله أعلم.
وقال ابن عبد البر: كان من صغار الصحابة، وقد سمع من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وروى عنه، وروى أيضا عن أصحابه عنه صلى الله عليه وسلم «الاستيعاب» على هامش «الإصابة» (2/ 164) .
وقال ابن حجر في «تقريب التهذيب» (1/ 134) : جنادة بن أبي أمية الأزدي، أبو عبد الله الشامي، يقال: اسم أبيه كثير، مختلف في صحبته، فقال العجلي: تابعي ثقة. والحق أنهما اثنان، صحابي، وتابعي، متفقان في الاسم وكنية الأب ... ورواية جنادة الأزدي عن النبي صلى الله عليه وسلم في «سنن الترمذي» ورواية جنادة بن أبي أمية، عن عبادة بن الصامت، في الكتب الستة.(1/328)
وفيها مات أليون عظيم الروم.
وفيها حاصر المهلّب بن أبي صفرة كشّ [1] ونسف [2] .
__________
[1] قال ياقوت: كشّ: بالفتح ثم التشديد: قرية على ثلاثة فراسخ من جرجان. «معجم البلدان» (4/ 462) .
[2] قال ياقوت: نسف مدينة كبيرة بين جيحون وسمرقند. «معجم البلدان» (5/ 285) .(1/329)
سنة إحدى وثمانين
فيها قام مع ابن الأشعث عامّة أهل البصرة من العلماء والعبّاد، فاجتمع له جيش عظيم ولقوا الحجّاج يوم الأضحى، فانكشف عسكر الحجّاج، وانهزم هو، وتمت بينهما عدّة وقعات، حتى قيل: كان بينهما أربع وثمانون وقعة في مائة يوم، ثلاث وثمانون على الحجّاج، والآخرة له.
وفيها، وقيل: في التي بعدها توفي أبو القاسم محمّد بن علي بن أبي طالب الهاشميّ بن الحنفيّة [1] عن سبعين سنة إلّا سنة، وكان جمع له بين الاسم والكنية ترخيصا من النّبيّ صلى الله عليه وسلم له، قال لعلي: «سيولد لك غلام بعدي، وقد نحلته اسمي وكنيتي، ولا يحلّ لأحد من أمتي بعده» [2] وللعلماء في هذا تنازع.
وكان ابن الحنفيّة نهاية في العلم، غاية في العبادة، وتوقّف عن حمل
__________
[1] نسب إلى أمه خولة بنت جعفر الحنفيّة، وهي من سبي اليمامة زمن أبي بكر الصّدّيق. انظر «سير أعلام النبلاء» (4/ 110) ، و «تهذيب الأسماء واللغات» للنووي (1/ 88) .
[2] لم أره بهذا اللفظ. وإنما رواه أحمد في المسند (1/ 95) والبخاري في «الأدب المفرد» رقم (843) باب اسم النبي وكنيته، وأبو داود رقم (4967) في الأدب، باب الرخصة في الجمع بين الاسم والكنية، والترمذي رقم (2846) في الأدب، باب ما جاء في كراهية الجمع بين اسم النبي وكنيته، والحاكم في «المستدرك» (4/ 278) ولفظه: عن محمد بن الحنفية قال:
قال علي رضي الله عنه: يا رسول الله أرأيت أن ولد لي بعدك ولد أسميه باسمك وأكنيه بكنيتك؟ قال: نعم. قال: «نعم» قال علي رضي فكانت هذه رخصة لي، وقال الترمذي: هذا حديث صحيح، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا.(1/330)
راية أبيه يوم الجمل، وقال: هذه مصيبة عمياء، فقال له أبوه: ثكلتك أمّك، أتكون عمياء وأبوك قائدها، وروي نحو هذا في يوم صفّين عنه.
وقيل له: كيف كان أبوك يقحمك المهالك دون أخويك، فقال: كانا عينيه، وكنت يده، فكان يتّقي عن عينيه بيده، وكان شديد القوّة، قيل:
استطال أبوه درعا فقطعه من الموضع الذي علّم له.
قيل: إن ملك الرّوم وجّه إلى معاوية رجلين أحدهما جسيم طويل، والآخر قوي، فقال عمرو بن العاص لمعاوية: أمّا الطويل فعندنا كفؤه، وهو قيس بن سعد بن عبادة، ورأيك في الآخر، فقال معاوية: هاهنا رجلان، محمّد بن الحنفيّة، وعبد الله بن الزّبير، ومحمد هو أقرب إلينا على كلّ حال، فلما حضروا نزع قيس سراويله ورماها إلى العلج [1] فبلغت ثّندوته [2] فأطرق العلج مغلوبا، وقيل: لاموا قيسا على خلع سراويله في المجلس، فقال:
أردت لكي ما يعلم القوم أنّها ... سراويل قيس والوفود شهود
وأن لا يقولوا غاب قيس وهذه ... سراويل عاديّ نمته ثمود [3]
وقال محمّد بن الحنفيّة: قولوا للعلج: إن شاء جلس وأقمته كرها بيد، أو يقعدني، وإن شاء، فليكن هو القائم، وأنا القاعد، فاختار الرّوميّ الجلوس، فأقامه محمّد، وعجز هو عن إقعاده، ثم اختار أن يقعد، فعجز
__________
[1] قال الزبيدي: العلج: الرجل من كفار العجم، والقوي الضخم. «تاج العروس» «علج» (6/ 108) ، وانظر «لسان العرب» لابن منظور «علج (4/ 306) .
[2] قال ابن منظور: الثندوة: لحم الثّدي، وقيل: قال ابن السّكّيت: هي الثندوة للحم الّذي حول الثدي غير مهموز، ومن همزها ضم أولها، فقال: ثندوة، ومن لم يهمز فتحه، وقال غيره: الثّندوة للرجل، والثدي للمرأة. «لسان العرب» «ثند» (1/ 510) .
[3] البيتان في «المعارف» لابن قتيبة ص (593) مع بعض الاختلاف في ألفاظهما.(1/331)
الرّوميّ عن إقامته، فانصرفا [1] مغلوبين، وعند الكيسانيّة [2] أن ابن الحنفيّة لم يمت، وأنه المهديّ الذي يخرج في آخر الزمان [3] ، وفي ذلك يقول كثّير عزّة:
ألا إنّ الأئمة من قريش ... ولاة الحق أربعة سواء
عليّ والثلاثة من بنيه ... هم الأسباط ليس بهم خفاء
فسبط سبط إيمان وبرّ ... وسبط غيّبته كربلاء
وسبط لا يذوق الموت حتى ... تعود [4] الخيل يقدمها [5] اللّواء
نراه مخيّما بجبال رضوى ... مقيما [6] عنده عسل وماء [7]
ولما اتّسق الأمر لابن الزّبير دعا محمّدا وابن عبّاس إلى بيعته فقالا:
حتى يجتمع النّاس على بيعتك، ثم أراد ابن عبّاس بعد تمهّل أن يبايعه، فأبى ابن الزّبير، فردّ عليه ابن عبّاس قولا شديدا، يتضمّن التنويه بعبد الملك، والغضّ منه، وذلك مذكور في «صحيح البخاري» [8] .
وفيها سويد بن غفلة الجعفيّ بالكوفة، وقدم المدينة وقد دفنوا
__________
[1] أي الروميان.
[2] الكيسانيّة: طائفة مشهورة من الرافضة، منسوبة للمختار بن أبي عبيد الثقفي. انظر «تاج العروس» للزبيدي «كيس» (16/ 464) ، و «لسان العرب» «كيس» (5/ 3967) .
[3] وذلك فيما ذهب إليه طائفة من الشيعة أنه حي يرزق وأنه ينتظر خروجه في آخر الزمان، كما تنتظر طائفة أخرى منهم الحسن بن محمد العسكري الذي يخرج في زعمهم من سرداب سامرا، وليس على ذلك دليل صحيح (ع) .
[4] في المطبوع: «تقول» وهو خطأ.
[5] في الأصل: «يقوم» وهو خطأ.
[6] في المطبوع: «مقيم» .
[7] الأبيات في ديوانه ص (521) بتحقيق الدكتور إحسان عباس، طبع دار الثقافة ببيروت.
[8] الذي في «البداية والنهاية» لابن كثير (8/ 239) : وبعث عبد الله بن الزبير إلى عبد الله بن عمر، ومحمد بن الحنفية وعبد الله بن عباس ليبايعوا، فأبوا عليه.(1/332)
النبيّ صلى الله عليه وسلم ومولده عام الفيل كما قيل، وكان فقيها إماما عالما [1] قانعا كبير القدر.
وفيها حجّت أمّ الدّرداء الصغرى [2] الوصابية [3] الحميريّة، وكان لها نصيب وافر من العلم والعمل، ولها حرمة زائدة بالشّام، وقد خطبها معاوية بعد أبي الدّرداء، فامتنعت [4] .
وقتل مع ابن الأشعث ليلة دجيل [5] أبو عبيدة [6] بن عبد الله بن مسعود الهذلي، روى عن طائفة، ولم يدرك السماع من والده.
وقتل معه ليلتئذ عبد الله بن شدّاد بن الهاد الليثيّ ابن خالة خالد بن الوليد رضي الله عنه، وكان فقيها كثير الحديث، لقي كبار الصحابة، وأدرك معاذ بن جبل رضي الله عنه.
__________
[1] في المطبوع: «عابدا» .
[2] في الأصل، والمطبوع: «أم الدرداء الكبرى» وهو خطأ، والتصحيح من «تاريخ مدينة دمشق» لابن عساكر (تراجم النساء) ص (418) بتحقيق الأستاذة سكينة الشهابي، و «أسد الغابة» لابن الأثير (7/ 327) ، و «سير أعلام النبلاء» للذهبي (4/ 277) ، و «الإصابة» لابن حجر (12/ 241) ، واسمها هجيمة، وقيل: جهيمة. وأما أم الدّدراء الكبرى فاسمها خيرة بنت أبي حدرد الأسلمي.
[3] في المطبوع «صابية» وهو خطأ. وفي بعض المراجع التي بين يدي «الأوصابية» ووصّاب بطن من حمير. انظر «تاج العروس» للزبيدي «وصب» (4/ 345) .
[4] جاء في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (4/ 278) عن أم الدرداء، أنها قالت لأبي الدرداء عند الموت: إنك خطبتني إلى أبويّ في الدّنيا فأنكحوك، وأنا أخطبك إلى نفسك في الآخرة، قال: فلا تنكحين بعدي. فخطبها معاوية فأخبرته بالذي كان، فقال: عليك بالصيام.
[5] نهر صغير يتفرع من دجلة.
[6] ويقال: إن اسمه «عامر» انظر «سير أعلام النبلاء» للذهبي (4/ 313) ، و «تقريب التهذيب» لابن حجر (2/ 448) .(1/333)
سنة اثنتين وثمانين
فيها استعرت الحرب بين الحجّاج وابن الأشعث، وبلغ جيش ابن الأشعث ثلاثة وثلاثين ألف فارس، ومائة وعشرين ألف راجل، قاموا معه على الحجّاج لله تعالى.
وفيها توفي أبو عمر زاذان مولى كندة، وقد شهد خطبة عمر بالجابية، وكان من علماء الكوفة.
وفيها توفي المهلّب بن أبي صفرة الأزدي أمير خراسان، صاحب الحروب والفتوح، أمير عبد الملك بن مروان على خراسان.
قال أبو إسحاق السّبيعي [1] : لم أر أميرا أيمن نقيبة، ولا أشجع لقاء، ولا أبعد مما يكره، ولا أقرب مما يحبّ من المهلّب، ومولده عام الفتح، ولأبيه صحبة.
وأبو صفرة هو ظالم بن سراق من أزد العتيك، أزد دبا، ودبا بين
__________
[1] هو عمرو بن عبد الله بن ذي يحمد، وقيل: عمرو بن عبد الله بن علي الهمداني السّبيعي.
انظر «سير أعلام النبلاء» للذهبي (5/ 392) ، و «تهذيب الأسماء واللغات» للنووي (2/ 171) . وسترد ترجمته في المجلد الثاني من كتابنا هذا.(1/334)
عمان، والبصرة [1] ، وقال عبد الله بن الزّبير: هو سيّد العراق، وخلّف أولادا نجباء [2] كراما، قيل: بلغ عددهم ثلاثمائة ولد.
وحمى البصرة من الشّراة [3] بعد جلاء أهلها عنها، إلّا من كانت به قوة، فهي تسمى بصرة المهلّب.
قال ابن قتيبة: ولم يكن يعاب إلّا بالكذب، وقيل: فيه راج بالكذب [4] وكان ولي خراسان، فعمل عليها خمس سنين، ومات بمرو الرّوذ [5] من نواحي هراة، بينها وبين بلخ، واستخلف ابنه يزيد بن المهلّب، ويزيد ابن ثلاثين سنة، فعزله عبد الملك بن مروان برأي الحجّاج ومشورته، وولّى قتيبة بن مسلم. انتهى [6] .
وفيها توفي أبو مريم زرّ بن حبيش الأسديّ القارئ بالكوفة، وله مائة وعشرون سنة، وكان عبد الله بن مسعود يسأله عن العربية [7] .
وفيها قتل الحجّاج كميل بن زياد النخعي صاحب عليّ رضي الله عنه،
__________
[1] قال ياقوت: دبا، بفتح أوله والقصر، والدّبا: الجراد قبل أن يطير، قال الأصمعي: سوق من أسواق العرب بعمان. قال الواقدي: قدم وفد الأزد من دبا مقرين بالإسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم انظر «معجم البلدان» (2/ 435) .
[2] في المطبوع: «نجبا» . وكلاهما صواب.
[3] في المطبوع: «الشراه» وهو خطأ. والشّراة: الخوارج، سموا بذلك لأنهم غصبوا ولجّوا.
وانظر «لسان العرب» لابن منظور «شري» (4/ 2253) و «المعارف» ص (399) .
[4] في المطبوع: «راج الكذب» ، وفي «المعارف» ص (399) : «راح يكذب» وهو خطأ، فيستدرك.
[5] في المطبوع: «بمرو الروز» وهو تحريف. ومرو الروذ مدينة قريبة من مرو الشاهجان، بينهما خمسة أيام، وهي على نهر عظيم، فلهذا سميت بذلك، وهي صغيرة بالنسبة إلى مرو الأخرى، والنسبة إليها «المرو الرّوذي» ويقال: «المرّوذي» أيضا. انظر «معجم البلدان» لياقوت (5/ 112) ، و «اللباب» لابن الأثير (3/ 198) .
[6] انظر «المعارف» ص (399- 400) والمؤلف ينقل عنه بتصرف.
[7] انظر ترجمته ومصادرها في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (4/ 166- 170) .(1/335)
وكان شريفا، مطاعا شيعيّا، متعبّدا [1] .
وفيها قتل أبو الشعثاء سليم بن أسود المحاربيّ الكوفي بظاهر البصرة.
وقتل محمّد بن سعد بن أبي وقّاص لقيامه مع ابن الأشعث.
وفيها توفي جميل بن عبد الله بن معمر الشاعر العذريّ المتيّم صاحب بثينة [2] وكان هويها في الصّغر، فلما كبر خطبها، فصدّ عنها، فتيّم بها، وكان منزلها وادي القرى، وهي عذريّة أيضا، وتكنّى أمّ عبد الملك، ولما أكثر الشّعر فيها قيل له: لو قرأت القرآن كان خيرا لك، فقال حدّثني أنس قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ من الشعر لحكمة» [3] . وكان كثّير عزّة [4] راوية جميل، وجميل راوية هدبة [5] وهدبة راوية
__________
[1] انظر «الأعلام» للزركلي (5/ 234) .
[2] هي بثينة بنت حبا بن ثعلبة العذرية، ولم تعش بعد جميل طويلا، وماتت في سنة (82) أيضا. انظر «تاريخ مدينة دمشق» لابن عساكر «تراجم النساء» ص (63- 69) ، و «الأعلام» للزركلي (2/ 43) .
[3] رواه البخاري (10/ 445 و 446) في الأدب، باب ما يجوز من الشعر والرجز، وأبو داود رقم (5010) في الأدب، باب ما جاء في الشعر، من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه، ورواه الترمذي رقم (2847) في الأدب، باب ما جاء إن الشعر حكمة من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وهو حديث صحيح، ورواه أيضا الترمذي رقم (2848) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، والحكمة معناها: إن من الشعر كلاما يمنع عن الجهل والسفه وينهى عنهما.
[4] هو كثيّر بن عبد الرحمن بن الأسود بن عامر الخزاعي، أبو صخر، شاعر متيم مشهور من أهل المدينة، أكثر إقامته بمصر، كان شاعر أهل الحجاز أخباره مع عزة بنت جميل العمرية كثيرة، وكان عفيفا في حبه، توفي بالمدينة سنة (105 هـ) . انظر «الأعلام» للزركلي (5/ 219) .
[5] هو هدبة بن خشرم، ينتهي نسبه إلى قضاعة، وهدبة شاعر فصيح متقدم من بادية الحجاز، وكان شاعرا راوية لشعر الحطيئة، وكان جميل راوية شعره- كما ذكر ابن العماد- وهو أول من قتل قصاصا بالمدينة المنورة في زمن واليها سعيد بن العاص، وذلك لقتله زيادة بن زيد(1/336)
الحطيئة [1] والحطيئة راوية زهير بن أبي سلمى المزني [2] ، وابنه كعب [3] وكان آخر أمر جميل أن وفد على عبد العزيز بن مروان بمصر، فأحسن جائزته، ووعده في أمر بثينة، وسأله المقام عنده، فأقام قليلا، ومات هناك.
قال عبّاس بن سهل: دخلت عليه وهو يجود بنفسه، فقال يا عبّاس: ما تقول في رجل لم يشرب الخمر قطّ، ولم يزن، ولم يقتل النّفس، ولم يسرق، يشهد أن لا إله إلّا الله، قلت: أظنه قد نجا من النار، وأرجو له الجنة، فمن هو؟ قال: أنا، قلت: تشبّبت ببثينة منذ عشرين سنة، وأنت سالم منها؟ قال:
__________
العذري. انظر «الأغاني» للأصفهاني (21/ 254- 274) ، و «الشعر والشعراء» لابن قتيبة ص (434- 438) ، و «معجم الشعراء» للمرزباني ص (460، 461) ، و «شرح أبيات مغني اللبيب» للبغدادي (2/ 233- 234) ، وفيه أن الذي قتله هدبة هو زيادة بن بدر، و «الأعلام» للزركلي (8/ 78) .
[1] هو جرول بن أوس بن مالك العبسي، أبو مليكة، يلقب بالحطيئة شاعر مخضرم، أدرك الجاهلية والإسلام، كان هجاء عنيفا، لم يكد يسلم من لسانه أحد، وهجا أمه وأباه ونفسه، وأكثر من هجاء الزبرقان بن بدر، فشكاه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فسجنه عمر بالمدينة، فاستعطفه بأبيات، فأخرجه ونهاه عن هجاء الناس، فقال: إذا تموت عيالي جوعا!. انظر ترجمته ومصادرها في «الأعلام» للزركلي (2/ 118) .
[2] هو زهير بن أبي سلمى ربيعة بن رياح المزني من مضر. قال الزركلي: حكيم الشعراء في الجاهلية، وفي أئمة الأدب من يفضله على شعراء العرب كافة، قال ابن الأعرابي: كان لزهير في الشعر ما لم يكن لغيره، كان أبوه شاعرا، وخاله شاعرا، وأخته سلمى شاعرة، وأخته الخنساء شاعرة، وابناه كعب وبجير شاعرين، قيل: كان ينظم القصيدة في شهر وينقحها ويهذبها في سنة، فكانت قصائده تسمى «الحوليات» مات سنة (13 ق. هـ.) «الأعلام» (3/ 52) وانظر مصادر ترجمته فيه.
[3] هو كعب بن زهير بن أبي سلمى المازني، أبو المضرّب، شاعر عالي الطبقة، كان ممن اشتهر في الجاهلية، ولما ظهر الإسلام هجا النبيّ صلى الله عليه وسلم وأقام يشبب بنساء المسلمين، فهدر النبيّ صلى الله عليه وسلم دمه، فجاءه «كعب» مستأمنا، وقد أسلم، وأنشده لاميته المشهورة التي مطلعها:
بانت سعاد فقلبي اليومّ متبولّ
فعفا عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم وخلع عليه بردته، وهو من أعرق الناس في الشعر: أبوه زهير بن أبي سلمى، وأخوه بجير، وابنه عقبة، وحفيده العوام، كلهم شعراء. مات سنة (26 هـ) . انظر ترجمته ومصادرها في «الأعلام» للزركلي (5/ 226) .(1/337)
لا تنالني شفاعة محمّد [صلى الله عليه وسلم] وإني في آخر يوم من الدّنيا، وأول يوم من الآخرة، إن كنت وضعت يدي عليها لريبة، ثم مات.
وكان أوصى رجلا أن يأتي حيّ بثينة فيعلو شرفا [1] ويصيح بهذين البيتين:
صرخ النّعيّ وما كنى بجميل ... وثوى بمصر ثوى بغير قفول
قومي بثينة فاندبي بعويل ... وابكي خليلا دون كلّ خليل [2]
قال: فخرجت كأنها بدر في دّجنّة [3] تتثنّى في مرطها [4] فقالت: يا هذا إن كنت صادقا فلقد قتلتني، وإن كنت كاذبا فلقد فضحتني، فقلت: والله إني صادق، وأخرجت حلّته فلما رأتها صاحت وصكّت وجهها [5] وغشي عليها ساعة [6] ، واجتمع نساء الحيّ يبكين معها ومن قوله فيها:
وخبّرتماني أنّ تيماء منزل ... لليلى إذا ما الصّيف ألقى المراسيّا
فهذي شهور الصّيف عنّا قد انقضت ... فما للنّوى يرمي بليلى المراميا [7]
__________
[1] الشّرف: العلو، والمكان العالي «مختار الصحاح» للرازي ص (335) .
[2] البيتان في «الأغاني» لأبي فرج الأصفهاني (8/ 153) :
«صدع النّعيّ وما كنى بجميل ... وثوى بمصر ثواء غير قفول
قومي بثينة فاندبي بعويل ... وابكي خليلك دون كلّ خليل»
وبين البيتين بيت آخر هو:
«ولقد أجرّ الذّيل في وادي القرى ... نشوان بين مزارع ونخيل»
[3] الدّجنّة: من الغيم المطبق تطبيقا: الرّيّان المظلم الذي ليس فيه مطر. «مختار الصحاح» للرازي ص (199) .
[4] المرط: واحد المرط، وهي أكسية من صوف أو خزّ كان يؤتزر بها. «مختار الصحاح» للرازي ص (622) .
[5] أي ضربته.
[6] قال أبو الفرج الأصفهاني في «الأغاني» (8/ 154) : ثم قامت وهي تقول:
«وإنّ سلوي عن جميل لساعة ... من الدّهر ما حانت ولا حان حينها
سواء علينا يا جميل بن معمر ... إذا متّ بأساء الحياة ولينها»
[7] البيتان في «وفيات الأعيان» (1/ 367) بهذا اللفظ، وهما في «ديوانه» ص (224) جمع(1/338)
في قصيدة، وغلط بعضهم، فجعلها لمجنون بني عامر [1] ، وليس كذلك، فإن تيماء [2] ، من منازل بني عذرة، والله أعلم.
__________
وتحقيق الدكتور حسين نصّار، وفي روايتهما فيه خلاف يحسن بالقارئ الوقوف عليه. وكانت لفظة «الصيف» في البيت الثاني قد تحرفت إلى «الرّوم» في الأصل والمطبوع، وصححت من «الوفيات» .
[1] هو قيس بن الملوح بن مزاحم العامري: شاعر غزل من المتيمين، من أهل نجد، لم يكن مجنونا، وإنما لقب بذلك لهيامه في حب ليلى بنت سعد، مات سنة (68 هـ) . انظر ترجمته ومصادرها في «الأعلام» للزركلي (5/ 208) .
[2] قال الحميري: تيماء: من أمهات القرى، على سبع ليال من المدينة، ويخرج من تيماء إلى الشام على حوران، والبثينة، وحسمى، وبين تيماء وأول الشام ثلاثة أيام، وبتيماء مياه ونخل، ومنه تمتار البادية، وبه تجارات قلائل. «الروض المعطار» ص (146، 147) وانظر «معجم ما استعجم» للبكري (1/ 329) .(1/339)
سنة ثلاث وثمانين
فيها في قول: الفلّاس [1]- وهو الصحيح- وقعة دير الجماجم بين الحجّاج وابن الأشعث [وكان شعارهم] [2] : يا ثارات الصلاة، لأن الحجّاج كان يميت الصلاة حتى يخرج وقتها.
فقتل مع ابن الأشعث أبو البختري الطائي مولاهم، واسمه سعيد بن فيروز [3] ، وكان من كبار فقهاء الكوفة، روى عن ابن عبّاس وطبقته.
وغرق مع ابن الأشعث بدجيل عبد الرّحمن بن أبي ليلى الأنصاري، الفقيه الكوفيّ المقرئ، قال ابن سيرين: رأيت أصحابه يعظّمونه كالأمير، أخذ عن عثمان، وعليّ، ورأى عمر يمسح على الخفّين.
__________
[1] هو عمرو بن علي بن بحر الفلاس، أبو حفص، باحث من أهل البصرة، سكن بغداد، ومات بسر من رأى، كان من حفاظ الحديث الثقات، وفي أصحاب الحديث من يفضله على ابن المديني، له «المسند» و «العلل» و «التاريخ» وهو الذي نقل عنه المؤلف- ابن العماد- توفّي سنة (249 هـ) . «الأعلام» للزركلي (5/ 82) ، و «معجم المؤلفين» (8/ 11) و «تهذيب التهذيب» (8/ 80) وانظر «سير أعلام النبلاء» للذهبي (11/ 470) ، وسترد ترجمته في المجلد الثالث من كتابنا هذا.
[2] قوله: «وكان شعارهم» سقط من الأصل، وأثبتناه من المطبوع.
[3] سعيد بن فيروز وهو ابن أبي عمران أبو البختري الطائي الكوفي، من الفقهاء والعلماء ومن أفاضل أهل الكوفة، توفي سنة (83 هـ) كما ذكر المؤلف. (ع) .(1/340)
وفيها توفي أبو الجوزاء الرّبعي البصري، واسمه أوس بن عبد الله، روى عن عائشة، وجماعة.
وفيها توفي قاضي مصر عبد الرّحمن بن حجيرة الخولاني، روى عن أبي ذر وغيره، وكان عبد العزيز بن مروان يرزقه [1] في السنة ألف دينار فلا يدّخرها.
__________
[1] أي يوصل إليه رزقا، وإلّا فالرازق هو الله تعالى، والأولى أن يقال: كان يعطيه في السنة ألف دينار فلا يدخرها.(1/341)
سنة أربع وثمانين
فيها افتح موسى بن نصير أوربّة من المغرب، وبلغ عدد السبي خمسين ألفا.
وفيها قتل الحجاج أيوب بن القريّة، وهي جدّته، لكن قال في «القاموس» : القرّيّة: كجرّيّة الحوصلّة، ولقب جماعة بنت جشم أمّ أيوب بن يزيد الفصيح، المعروف الهلالي. انتهى [1] .
وكان أمّيّا فصيحا، وارتفع شأنه بالفصاحة والخطابة، قدم على الحجّاج فأعجبه، وأوفده على عبد الملك، ولما قام ابن الأشعث، بعثه الحجّاج إليه، فقال له ابن الأشعث: لتقومنّ خطيبا بخلع عبد الملك، وتسبّ الحجّاج، أو لأضربنّ عنقك، فقال: [أيها الأمير] [2] ، إنما أنا رسول، قال: هو ما أقول لك، ففعل ذلك [3] ، وأقام عنده، فلما هزم ابن الأشعث، كتب الحجّاج، إلى عمّاله أن لا يجدوا أحدا من أصحاب ابن الأشعث إلّا أرسلوه إليه أسيرا.
__________
[1] «القاموس المحيط» «قر» (2/ 120) ولفظة «الهلالي» لم ترد فيه، وانظر «تاج العروس» (13/ 403) .
[2] ما بين حاصرتين زيادة من «وفيات الأعيان» لابن خلّكان (1/ 252) الذي نقل عنه المؤلف رحمه الله.
[3] أي فخلع أيوب بن القرية عبد الملك، وسب الحجاج، كما أمره ابن الأشعث، وهو ما ذكره ابن خلّكان في «وفيات الأعيان» .(1/342)
فكان فيمن أرسلوا ابن القرّيّة، فسأله الحجّاج عن البلدان والقبائل، فقال:
أهل العراق أعلم النّاس بحق وباطل.
وأهل الحجاز أسرع النّاس إلى فتنة، وأعجزهم فيها.
وأهل الشّام أطوع النّاس لخلفائهم.
وأهل مصر عبيد من غلب [1] .
وأهل البحرين نبط استعربوا.
وأهل عمان عرب استنبطوا.
وأهل الموصل أشجع الفرسان [وأقتل للأقران] [2] .
وأهل اليمن أهل سمع وطاعة، ولزوم للجماعة [3] .
وأهل اليمامة أهل جفاء واختلاف [أهواء، وأصبر عند اللقاء.
وأهل فارس، أهل بأس شديد، وشر عتيد] [4] وزيف [5] كثير، وقرى يسير.
وأما القبائل فقال: قريش أعظمها [6] أحلاما وأكرمها مقاما.
وبنو عامر بن صعصعة أطولها رماحا، وأكرمها صباحا.
[وبنو سليم أعظمها مجالس، وأكرمها محابس] [7] .
وثقيف أكرمها جدودا، وأكثرها وفودا.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «عبيد من خلب» ، وفي «تاريخ الإسلام» للذهبي «عبيد من طلب» وكلاهما خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» لابن خلكان.
[2] ما بين حاصرتين زيادة من «وفيات الأعيان» .
[3] في الأصل، والمطبوع: «أهل أهواء، وصبر عند اللقاء» . والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[4] ما بين حاصرتين زيادة من «وفيات الأعيان» .
[5] في الأصل، والمطبوع: «وريف» وهو تصحيف.
[6] في المطبوع: «أعظم» .
[7] ما بين حاصرتين زيادة من «وفيات الأعيان» .(1/343)
وبنو زبيد [1] ألزمها للرايات، وأدركها للثارات.
وقضاعة أعظمها أخطارا، وأكرمها نجارا [2] وأبدعها آثارا [3] .
والأنصار أثبتها مقاما، وأحسنها إسلاما، وأكرمها أياما.
وتميم أظهرها جلدا وأكثرها [4] عددا.
وبكر بن وائل أثبتها صفوفا، وأحدّها سيوفا.
وعبد القيس أسبقها إلى الغايات، وأصبرها تحت الرايات.
وبنو أسد أهل تجلّد [5] وجلد، وعسر ونكد.
ولخم ملوك، وفيهم نوك، أي حمق.
[وجذام يوقدون الحرب ويسعرونها، ويلقحونها ثم يمرونها.
وبنو الحارث رعاة للقديم وحماة عن الحريم] [6] .
وعك ليوث جاهدة، في قلوب فاسدة.
[وتغلب يصدقون إذا لقوا ضربا، ويسعرون للأعداء حربا] [7] .
وغسّان أكرم العرب أحسابا، وأثبتها أنسابا. [قال:] [8] وأمنع العرب في الجاهلية أن تضام قريش [كانوا أهل رهوة لا يستطاع ارتقاؤها، وهضبة لا يرام انتزاؤها] [9] في بلدة حمى الله ذمارها [10] ، ومنع جارها.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «وبنو زيد» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[2] قال ابن منظور: النّجر والنّجار والنّجار: الأصل والحسب. «لسان العرب» «نجر» (6/ 4350) .
[3] في المطبوع: «وأبعدها أثارا» وهو خطأ.
[4] في «وفيات الأعيان» : «وأثراها» ، وهما بمعنى.
[5] في «وفيات الأعيان» «أهل عدد وجلد» .
[6] ما بين حاصرتين زيادة من «وفيات الأعيان» .
[7] ما بين حاصرتين زيادة من «وفيات الأعيان» .
[8] زيادة من «وفيات الأعيان» .
[9] ما بين حاصرتين زيادة من «وفيات الأعيان» .
[10] في الأصل، والمطبوع: «دارها» وما أثبتناه من «وفيات الأعيان» ، والذّمار: الأنساب. انظر «لسان العرب» «ذمر» (3/ 91515) .(1/344)
وسأله عن مآثر العرب [في الجاهلية] [1] فقال: كانت العرب تقول:
حمير أرباب الملك، وكندة لباب [2] الملوك، ومذحج أهل الطّعان، وهمدان أحلاس الخيل [3] ، والأزد آساد [4] النّاس.
وسأله عن الأراضي فقال: الهند بحرها [5] در، وجبلها ياقوت، وشجرها عود، وورقها عطر، وأهلها طغام [كقطع الحمام] [6] .
وخراسان ماؤها جامد وعدوها [7] جاحد.
وعمان بلد سديد، وصيدها عتيد [8] .
والبحرين كناسة بين المصرين [9] .
واليمن أصل العرب، وأهل البيوتات [10] والحسب.
ومكّة رجالها علماء جفاة، ونساؤها كساة عراة.
والمدينة رسخ العلم فيها وظهر منها.
والبصرة شتاؤها جليد، وحرها شديد، وماؤها ملح، وحربها صلح.
والكوفة ارتفعت عن حر البحر، وسفلت عن برد الشام، وطاب ليلها، وكثر خيرها.
__________
[1] قوله: «في الجاهلية» زيادة من «وفيات الأعيان» .
[2] في الأصل، والمطبوع: «ألباب» ، وما أثبتناه من «وفيات الأعيان» . واللّب: القلب، والألباب العقول.
[3] أي لا يبرحون ظهورها، ولا يملون ركوبها. انظر «لسان العرب» «حلس» (2/ 961) .
[4] في المطبوع: «أساس» . والمثبت من «وفيات الأعيان» .
[5] في المطبوع: «الهند بحردر» .
[6] ما بين حاصرتين زيادة من «وفيات الأعيان» . والطّغام: أوغاد الناس.
[7] في المطبوع: «وغذاؤها جاحد» .
[8] في المطبوع: «وصيدها عبد» .
[9] في الأصل، والمطبوع: «كناسة بين المصراعين» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[10] في الأصل، والمطبوع: «وأهل البيوت» وما أثبتناه من «وفيات الأعيان» .(1/345)
وواسط جنة بين حماة وكنّة.
قال: وما حماتها [1] وكنّتها؟ قال: البصرة والكوفة تحسدانها [وما ضرّها] [2] ، ودجلة والفرات يتجاذبان بإفاضة الخير عليها.
والشام عروس بين نسوة جلوس.
وسأله عن الآفات فقال: آفة الحلم الغضب.
وآفة العقل العجب.
وآفة العلم النّسيان.
وآفة السّخاء المنّ [عند البلاء] [3] .
وآفة الكرام مجاورة اللئام.
وآفة الشجاعة البغي.
وآفة العبادة الفترة.
وآفة الذهن [4] حديث النفس.
وآفة الحديث الكذب.
وآفة المال سوء التدبير.
وآفة الكامل من الرّجال العدم.
قال فما آفة الحجّاج بن يوسف؟ قال: لا آفة لمن كرم حسبه، وطاب نسبه، وزكا فرعه، فقال: أظهرت نفاقا، ثم قال: اضربوا عنقه، فلما رآه قتيلا ندم [5] .
__________
[1] في المطبوع: «وما حملتها» وهو خطأ.
[2] لفظة «وما ضرّها» زيادة من «وفيات الأعيان» .
[3] ما بين حاصرتين زيادة من «وفيات الأعيان» .
[4] في الأصل، والمطبوع: «وآفة الزهد» وما أثبتناه من «وفيات الأعيان» .
[5] انظر ترجمة أيوب بن القرية، وحواره مع الحجاج في «وفيات الأعيان» (1/ 250- 254) وهو الذي نقل عنه المؤلف كما أسلفت، و «سير أعلام النبلاء» للذهبي (4/ 197 و 346) ، والمصادر التي ذكرت في حاشيته، و «مختصر تاريخ دمشق» لابن منظور (5/ 131- 136) ،(1/346)
وفيها ظفر أصحاب الحجّاج بابن الأشعث فقتلوه بسجستان، وطيف برأسه في البلدان، واسم ابن الأشعث عبد الرّحمن بن محمّد.
وفيها توفي عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب الهاشميّ، وكان حنّكه النبيّ صلى الله عليه وسلم بريقه عند ولادته، ومات بعمان هاربا من الحجّاج، وهو ابن أخت معاوية.
وعتبة بن النّدّر [1] السّلمي بالشام، له صحبة وحديثان [2] .
وعمران بن حطّان السّدوسيّ البصري، أحد رؤوس الخوارج وشاعرهم البليغ.
وروح الجذامي [3] ، وهو روح بن زنباع، سيد جذام [4] وأمير فلسطين، كان ذا عقل، ورأي، وكان معظّما عند عبد الملك، لا يكاد يفارقه، وهو عنده بمنزلة وزير، وكان صاحب علم ودين.
__________
«الأعلام» للزركلي (2/ 37) .
[1] في الأصل، والمطبوع: «عتبة بن المنذر» وهو خطأ، والتصحيح من «تاريخ الإسلام» للذهبي (3/ 234) ، و «سير أعلام النبلاء» للذهبي أيضا (3/ 417) ، و «تقريب التهذيب» لابن حجر (2/ 5) و «الإصابة» لابن حجر. (6/ 381) .
[2] قال ابن حجر في «الإصابة» : له حديث عند ابن ماجة وغيره. قلت: وحديثه عند ابن ماجة رقمه (2444) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «الحرامي» وهو خطأ، والتصحيح من «جمهرة أنساب العرب» لابن حزم ص (420) ، و «اللباب» لابن الأثير (1/ 265) ، و «تاريخ الإسلام» للذهبي (3/ 248) ، وغير ذلك من المصادر والمراجع التي بين أيدينا.
[4] في الأصل، والمطبوع: «سيد حرام» وهو خطأ.(1/347)
سنة خمس وثمانين
فيها غزا محمّد بن مروان بن الحكم إرمينية، فأقام سنة، وأمر ببناء أردبيل، وبرذعة.
وفيها كانت وقعة بين المسلمين والروم بطوانة [1] أصيب فيها المسلمون، واستشهد نحو الألف.
وفيها توفي عبد العزيز بن مروان أبو عمر [2] ، ولي مصر عشرين سنة، وكان ولي العهد بعد عبد الملك، عقد لهما أبوهما كذلك، فلما مات عقد عبد الملك من بعده لولده، وبعث إلى عامله على المدينة هشام بن إسماعيل المخزومي ليبايع له النّاس، فامتنع سعيد بن المسيّب، وصمّم، فضربه هشام ستين سوطا [3] وطيف به، وروى عبد العزيز، عن أبي هريرة، وغيره.
__________
[1] قال الحميري: الطوانة: مدينة ببلاد الروم على فم الدرب مما يلي طرسوس. «الروض المعطار» ص (400) ، وانظر «معجم ما استعجم» للبكري (3/ 897) ، و «معجم البلدان» لياقوت (4/ 45) .
[2] يعني: أبو عمر بن عبد العزيز الخليفة العادل رحمه الله، وكنيته: أبو الأصبغ، أمير مصر، وأخو الخليفة عبد الملك بن مروان. انظر «تهذيب التهذيب» لابن حجر (6/ 356) «والتقريب» (1/ 512) .
[3] في الأصل: «صوطا» وهو خطأ، والمثبت من المطبوع.(1/348)
وتوفي واثلة بن الأسقع الليثي، أحد فقراء الصّفّة [1] ، وله ثمان وتسعون سنة، وكان شجاعا، ممدحا، فاضلا، شهد غزوة تبوك.
وعمرو بن حريث المخزومي، له صحبة ورواية، ومولده قبل الهجرة [2] .
وعمرو بن سلمة الجرميّ البصري، الذي صلّى بقومه في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم في صغره [3] ويقال: له صحبة.
وأسير [4] بن جابر بالعراق، وله أربع وثمانون سنة.
وعمرو بن سلمة الهمداني، سمع عليا وابن مسعود، ولم يخرّجوا له في الكتب الستة شيئا، وهو مقلّ.
وعبد الله بن عامر بن ربيعة العنزيّ، حليف آل عمر بن الخطّاب، روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حديثا ليس بمتصل خرجه أبو داود [5] ، وله رواية عن الصحابة رضي الله عنهم.
وفيها مات خالد بن يزيد بن معاوية الأمويّ، كان له معرفة بالطّب،
__________
[1] قال ابن منظور: أهل الصّفّة هم فقراء المهاجرين، ومن لم يكن له منزل يسكنه، فكانوا يأوون إلى موضع مظلل في مسجد المدينة يسكنونه. «لسان العرب» «صفف» (4/ 2463) .
[2] انظر «سير أعلام النبلاء» ، للذهبي (3/ 417- 419) .
[3] في المطبوع: «في صفره» وهو تحريف.
[4] ويقال: يسير. انظر «تقريب التهذيب» لابن حجر (2/ 374) .
[5] رقم (4991) في الأدب، باب في التشديد في الكذب، وفي سنده جهالة، عن عبد الله بن عامر أنه قال: دعتني أمى يوما ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا، فقالت: ها تعال أعطيك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما أردت أن تعطيه؟» قالت: أعطيه تمرا، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إنك لو لم تعطيه شيئا كتبت عليك كذبة» . وله حديث آخر في «موطأ مالك» في ترك الوضوء مما مسته النار (1/ 27) .(1/349)
والكيمياء، وفنون من العلم، وله رسائل حسنة أخذ الصّنعة عن راهب روميّ [1] ، ومن قوله في زوجته رملة بنت الزّبير:
تجول خلاخيل النّساء ولا أرى ... لرملة خلخالا يجول ولا قلبا [2]
أحبّ بني العوّام من أجل حبّها ... ومن أجلها أحببت أخوالها كلبا
جرى بينه وبين عبد الملك شيء، فقال له عبد الملك: ما أنت في العير ولا في النّفير، فقال خالد: ويحك من العير والنّفير غيري، وجدّي أبو سفيان صاحب العير، وجدّي عتبة صاحب النّفير، ولكن لو قلت: غنيمات الطائف يرحم الله عثمان لصدقت، وأشار بذلك إلى جدّه الحكم، نفاه النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، فردّه عثمان رضي الله عنه.
__________
[1] قال الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (4/ 383) : وهذا لم يصح.
[2] القلب: السوار من الفضة. انظر «تاج العروس» «قلب» (4/ 71) .(1/350)
سنة ست وثمانين
فيها ولي قتيبة بن مسلم الباهليّ خراسان، وافتتح بلاد صاغان [1] من التّرك صلحا.
وافتتح مسلمة بن عبد الملك حصنين من بلاد الرّوم.
وفيها توفي أبو أمامة الباهليّ الصحابيّ رضي الله عنه، واسمه صديّ بن عجلان نزيل حمص، وقد قال: كنت يوم حجّة الوداع ابن ثلاثين سنة، فيكون عمره مائة وست سنين.
وفيها، وقيل: سنة ثمان توفي عبد الله بن أبي أوفى الأسلميّ، وهو آخر الصحابة موتا بالكوفة، وآخر من مات من أهل بيعة الرّضوان رضي الله عنهم بنصّ القرآن [2] ولا يدخل أحد منهم النّار بنصّ السّنّة [3] .
__________
[1] قال ياقوت: صاغان: قرية بمرو، وقد تسمى جاغان كوه. «معجم البلدان» (3/ 389) .
[2] قلت: وذلك لقوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ الله عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ 48: 18 [الفتح: 18] .
[3] لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل النار- إن شاء- من أصحاب الشجرة أحد، الذين بايعوا تحتها» قالت حفصة: بلى يا رسول الله، فانتهرها، فقالت حفصة وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها 19: 71 [مريم: 19] .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قد قال الله عزّ وجلّ: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا 19: 72» .
رواه مسلم رقم (2496) في فضائل الصحابة، باب من فضائل أصحاب الشجرة أه بيعة الرضوان رضي الله عنهم (ع) .(1/351)
وفيها على الصحيح توفي عبد الله بن الحارث بن جزء الزّبيديّ، آخر الصحابة موتا بمصر.
وقبيصة بن ذؤيب الخزاعيّ المدني الفقيه بدمشق، روى عن أبي بكر، وعمر، قال مكحول: ما رأيت أعلم منه، وقال الزّهريّ: كان من علماء الأمّة.
وفي شوال توفي عبد الملك بن مروان الخليفة، أبو الوليد، وله ستون سنة، ولايته المجمع عليها بعد ابن الزّبير ثلاث عشرة سنة وأشهرا [1] وكان أبيض، طويلا كبير العينين، مشرف الأنف، رقيق الوجه، ليس بالبادن، عدّه أبو الزّناد [2] في الفقه في طبقة ابن المسيّب، وقال نافع [3] : لقد رأيت أهل المدينة وما بها شاب أشدّ تشميرا، ولا أفقه، ولا أنسك، ولا أقرأ لكتاب الله من عبد الملك، وولي بعده ابنه الوليد، ومن المشهور أنّ عبد الملك رأى كأنّه بال في زوايا المسجد الأربع، أو في المحراب أربع مرات، فوجّه إلى سعيد بن المسيّب من يسأله فقال: من ولده لصلبه أربعة تلي، فكان كما قال: ولي الوليد، وسليمان، وهشام، ويزيد.
__________
[1] في المطبوع: «وأشهر» .
[2] في الأصل، والمطبوع: «أبو زياد» وهو خطأ. والتصحيح من «فوات الوفيات» لابن شاكر (2/ 402) ، و «سير أعلام النبلاء» للذهبي (4/ 248) . وأبو الزناد هو عبد الله بن ذكوان، إمام حافظ، فقيه، مات سنة (131 هـ) . انظر «سير أعلام النبلاء» للذهبي (5/ 445- 451) ، وسوف ترد ترجمته مفصلة في المجلد الثاني من كتابنا هذا فراجعها هناك.
[3] هو نافع مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب، الإمام المفتي الثّبت، عالم المدينة المنورة في عصره، المتوفى سنة (117 هـ) . انظر «سير أعلام النبلاء» للذهبي (5/ 95- 101) ، وسوف ترد ترجمته في المجلد الثاني من كتابنا هذا.(1/352)
سنة سبع وثمانين
فيها استعمل الوليد على المدينة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، إلى أن عزله سنة ثلاث وتسعين بأبي بكر بن حزم [1] .
وفيها ابتدئ ببناء جامع دمشق، ودام العمل في بنائه وزخرفته بالجدّ والاجتهاد أكثر من عشرين سنة، وكان فيه اثنا عشر ألف صانع، وهو أحد عجائب الدّنيا لتركيبه على الفلك.
وفيها كانت ملحمة هائلة بناحية بخارى بين قتيبة [2] والكفّار، ونصر الله الإسلام.
وفيها فتحت سردانية [3] من المغرب.
__________
[1] هو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني القاضي من سادات التابعين، قال ابن حبان: اسمه كنيته، مات سنة (120 هـ) . انظر «مشاهير علماء الأمصار» ص (76) ، و «سير أعلام النبلاء» للذهبي (5/ 313- 315) ، وسوف ترد ترجمته في المجلد الثاني من كتابنا هذا.
[2] أي قتيبة بن مسلم.
[3] قال ياقوت: سردانية جزيرة في بحر المغرب كبيرة، ليس هناك بعد الأندلس، وصقلية، وإقريطش أكبر منها.
وقال الحميري: وفي سنة سبع وثمانين أغزى موسى بن نصير عبد الله ابنه إلى سردانية، فافتح، وأصاب سبيا وغنائم.
انظر «معجم البلدان» لياقوت (3/ 209) ، و «الروض المعطار» للحميري ص (314، 315) .(1/353)
وفيها توفي بحمص صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم عتبة بن عبيد السّلمي، وله أربع وتسعون سنة.
والمقدام بن معد يكرب الزّبيدي الكنديّ الصحابيّ، وهو ابن إحدى وتسعين [1] سنة، ومات بحمص أيضا.
__________
[1] في الأصل: «وتسعون» وهو خطأ، وأثبتنا ما في المطبوع.(1/354)
سنة ثمان وثمانين
فيها زحفت التّرك، وأهل فرغانة [1] والصّغد [2] وعليهم ابن أخت ملك الصين في مائتي ألف فارس [3] فالتقاهم مسلمة، وقيل: قتيبة بن مسلم [4] فكسرهم وهزمهم، ولله الحمد.
وافتتح مسلمة جرثومة وطوانة [5] .
وفيها توفي عبد الله بن بسر المازنيّ بحمص، وهو آخر من مات من
__________
[1] قال ياقوت: فرغانة مدينة وكورة واسعة بما وراء النهر متاخمة لبلاد تركستان ... بينها وبين سمرقند خمسون فرسخا. «معجم البلدان» (4/ 253) ، وانظر «الروض المعطار» للحميري ص (440) .
قلت: وتقع الآن في جنوب غرب الاتحاد السوفييتي.
[2] قال ياقوت: الصغد: كورة عجيبة قصبتها سمرقند، وقيل: هما صغدان، صغد سمرقند، وصغد بخارى، وقيل: جنان الدّنيا أربع: غوطة دمشق، وصغد سمرقند، ونهر الأبلة، وشعب بوّان. «معجم البلدان» (3/ 409، 410) . وانظر «الروض المعطار» للحميري ص (362) .
[3] لفظة «فارس» سقطت من المطبوع.
[4] وهو الصواب. انظر «تاريخ خليفة بن خياط» ص (301) ، و «تاريخ الطبري» (6/ 436) ، و «تاريخ الإسلام» للذهبي (3/ 237) . و «البداية والنهاية» لابن كثير (9/ 75) ، وفيه قال ابن كثير أن ابن أخت ملك الصين كان ملكا على الترك، وأن اسمه كوربغانون.
[5] جرثومة: ماء لبني أسد بن القنان وترمس، وطوانة: بلد بثغور المصيصة. انظر «معجم البلدان» لياقوت (2/ 199 و 4/ 45) .(1/355)
الصحابة بحمص، بل في الشام، وأطلق الذهبيّ أنه آخر الصحابة موتا [1] ، وكلامه ينتقض بسهل بن سعد في سنة إحدى وتسعين، وأنس بن مالك في سنة ثلاث وتسعين على الأصح، وأبي الطّفيل [2] فإنّ المشهور أنه آخر الصحابة موتا، وموته في سنة مائة، لكن قيل: إن ابن بسر مات سنة تسع وتسعين [3] فعلى هذا يتجه أن يقال: هو آخرهم موتا.
__________
[1] بل الذي قاله في «تاريخ الإسلام» (3/ 262) ، و «سير أعلام النبلاء» (3/ 432) ، أنه آخر من مات من الصحابة بالشام ينقل ذلك عن الواقدي.
[2] واسمه عامر بن واثلة بن الأسقع الكناني الليثي، المتوفى سنة (100 هـ) . انظر ترجمته في ص (403) من هذا المجلد.
[3] قال الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (3/ 433) : قال عبد الصمد بن سعيد الحافظ: توفي سنة ست وتسعين، وكذلك قال الحافظ ابن حجر في «الإصابة» (1/ 282) : ولكن الصواب أنه مات سنة (88) وهو ابن أربع وتسعين سنة، وهو آخر من مات بالشام من الصحابة.(1/356)
سنة تسع وثمانين
فيها جهّز موسى بن نصير ولده عبد الله، فافتتح جزيرتي ميورقة [1] ومنورقة [2] وجهّز ولده الآخر مروان فغزا السّوس [3] الأقصى، وبلغ السبيّ أربعين ألفا.
وغزا مسلمة عموريّة [4] فالتقى الرّوم وهزمهم.
وفيها توفي على الصحيح عبد الله بن ثعلبة بن صعير العذري المدني، مسح النبيّ صلى الله عليه وسلم رأسه ودعا له، فوعى ذلك، سمع من ابن عمر [5] .
__________
[1] قال ياقوت: ميورقة جزيرة في شرقي الأندلس، كانت قاعدة ملك مجاهد العامري، وينسب إلى ميورقة جماعة من أهل العلم. انظر «معجم البلدان» (5/ 246) . وانظر «الروض المعطار» للحميري ص (567) .
[2] قال ياقوت: منورقة جزيرة عامرة في شرقي الأندلس قرب ميورقة. «معجم البلدان» (5/ 216) .
[3] قال ياقوت: السّوس بلدة بخوزستان، وهي معربة من الشوش، انظر «معجم البلدان» (3/ 280) .
[4] قال ياقوت: عمورية بلد في بلاد الروم. «معجم البلدان» (4/ 158) .
[5] قلت: وفيها ولي خالد بن عبد الله القسري مكة. انظر «تاريخ خليفة بن خياط» ص (302) ، و «تاريخ الطبري» (6/ 440) ، و «الكامل» لابن الأثير (4/ 536) ، و «تاريخ الإسلام» للذهبي (3/ 239) ، و «البداية والنهاية» لابن كثير (9/ 76) ، و «الأعلام» للزركلي (2/ 297) .(1/357)
سنة تسعين
فيها غزا قتيبة وردان خذاه [1] الغزوة الثانية، فاستصرخ عليه بالتّرك، فالتقاهم قتيبة وكسرهم.
وفيها غزا مسلمة سورية [2] ، وافتتح الحصون الخمسة.
وفيها غدر ملك الطالقان [3] ، واستعان بترك طرحان [4] على قتيبة، ثم ظفر قتيبة بن مسلم بأهل الطالقان، فقتل منهم صبرا [5] مقتلة لم يسمع بمثلها، وصلب منهم سماطين [6] كل سماط [مسيرة] [7] أربعة فراسخ في نظام واحد [8] .
__________
[1] وهو ملك بخارى. انظر «الكامل» لابن الأثير (4/ 542) ، و «النجوم الزاهرة» لابن تغري بردي (1/ 216) .
[2] قال ياقوت: سورية موضع بالشام بين خناصرة، وسلمية، وفي كتاب «الفتوح» : لما نصر الله المسلمين ... صعد قيصر على نشز، وأشرف على أرض الروم وقال: سلام عليك يا سورية، سلام مودع لا يرجو أن يرجع إليك أبدا. «معجم البلدان» (3/ 280) .
[3] قال ياقوت: الطالقان بلدتان إحداهما بخراسان بين مرو والروذ وبلخ، بينها وبين مرو الروذ ثلاث مراحل، وقال الإصطخري: أكبر مدينة بطخارستان طالقان، وهي مدينة في مستوى من الأرض، وبينها وبين الجبل غلوة سهم. انظر «معجم البلدان» (4/ 6، 7) .
[4] قال ياقوت: طرحان موضع بينه وبين الضميرة التي بأرض الجبل قنطرة عجيبة ضعف قنطرة حلوان. «معجم البلدان» (4/ 27) .
[5] قال ابن منظور: كلّ من حبسته لقتل أو يمين، فهو قتل صبر. وانظر «لسان العرب» «صبر» (4/ 2391) .
[6] أي صفّين، وكل صفّ من الرجال سماط.
[7] لفظة «مسيرة» التي بين حاصرتين زيادة من «دول الإسلام» للذهبي (1/ 63) .
[8] قال الذهبي في «دول الإسلام» : وسبب ذلك أن ملكها غدر، ونكث، وأعان الترك.(1/358)
وفيها وليّ إمرة مصر قرّة بن شريك، وكان جباران ظالما [1] .
وتوفي أبو ظبيان حصيب، أو حصين [2] بن جندب الجنبيّ [3] الكوفيّ، والد قابوس [4] .
وفيها على الأصح خالد بن يزيد بن معاوية، وتقدّم ذكره [5] .
وعبد الرّحمن بن المسور بن مخرمة الزّهريّ المدنيّ الفقيه.
ومفتي مصر أبو الخير يزيد بن عبد الله اليزني، تفقّه بعقبة بن عامر.
__________
[1] وكان يشبه بالحجّاج.
[2] وهو الصواب.
[3] في الأصل، والمطبوع: «الجهني» وهو خطأ، والتصحيح من «الأنساب» للسمعاني (3/ 313) ، قال: الجنبي: بفتح الجيم وسكون النون، وفي آخرها الباء المنقوطة بواحدة، هذه النسبة إلى جنب، قبيلة من اليمن، ينتسب إليها جماعة من حملة العلم.
[4] وفي «مشاهير علماء الأمصار» لابن حبان ص (106) : «مات سنة تسع وتسعين» وفي «الأنساب» للسمعاني: «مات سنة ست وتسعين» .
[5] انظر ص (349- 350) من هذا المجلد.(1/359)
سنة إحدى وتسعين
فيها عزل الوليد عمّه محمّدا عن الجزيرة، وأذربيجان، وإرمينية، وولّى عليها أخاه مسلمة، فغزا مسلمة في هذا العام إلى أن بلغ الباب الحديد [1] وافتتح حصونا ومدائن.
وافتتح فيها قتيبة عدّة مدائن بما وراء النهر، وأوطأ الكفّار ذلّا وخوفا، وحمل إليه طرخون القطيعة [2] .
وفيها، وقيل: في سنة ثمان وثمانين توفي السّائب بن يزيد الكندي ابن أخت نمر [3] ، قال: حجّ بي أبي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم حجّة الوداع، وأنا ابن سبع
__________
[1] كذا في الأصل، والمطبوع: «الباب الحديد» ، وفي «دول الإسلام» للذهبي (1/ 63) :
فغزا مسلمة، وافتتح مدائن وحصونا عند دربند، ودان له من وراء باب الأبواب، ودربند هو باب الأبواب كما في «معجم البلدان» لياقوت (1/ 303) ، ولعله هو الباب الحديد.
[2] الخبر في «تاريخ الإسلام» للذهبي (3/ 323 و 344) : «وفيها فتح قتيبة أمير خراسان شومان، وكس، ونسف، وامتنع عليه أهل فرياب، فأحرقها، وجهز أخاه عبد الرحمن بن مسلم إلى السّغد، إلى طرخان ملك تلك الديار، فجرت له حروب ومواقف، وصالحه عبد الرحمن، وأعطاه طرخون أموالا، وتقهقر إلى أخيه إلى بخارى، فانصرفوا حتى قدموا مرو، فقالت السّغد لطرخون: إنك قد رضيت بالذل، وأديت الجزية، وأنت شيخ كبير، فلا حاجة لنا فيك، ثم عزلوه وولّوا عليهم غوزك، فقتل طرخون نفسه، ثم إنهم عصوا ونقضوا العهد.
[3] في المطبوع: «ابن أخت النمر» .(1/360)
سنين [1] ، ورأيت خاتم النّبوة بين كتفيه [2] .
وفيها مات أبو العبّاس سهل بن سعد الساعدي الأنصاري، وقد قارب المائة، وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة [3] .
__________
[1] رواه الترمذي رقم (925) في الحج: باب ما جاء في حج الصّبي، وأحمد في «المسند» (3/ 449) ، وأخرجه البخاري مختصرا رقم (1858) في جزاء الصيد: باب حج الصبيان، ولفظه عنده «حجّ بي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن سبع سنين» . وانظر «الإصابة» لابن حجر (4/ 117) .
[2] انظر «أسد الغابة» (2/ 321) و «الإصابة» (4/ 117) .
[3] انظر ترجمته ومصادرها في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (3/ 422- 424) .(1/361)
سنة اثنتين وتسعين
فيها افتتح إقليم الأندلس على يد طارق [1] مولى موسى بن نصير، وتمم موسى فتحه في سنة ثلاث.
وفيها توفي مالك [2] بن أوس بن الحدثان النّصري [3] المدني، وكان أدرك الجاهلية [4] ورأى أبا [5] بكر.
وفيها قتل الحجّاج إبراهيم بن يزيد التيميّ الكوفيّ، العابد المشهور، ولم يبلغ أربعين سنة، روى عن عمرو بن ميمون الأوديّ، وجماعة.
وطويس [6] المغنّي [7] مولى أروى بنت كريز أمّ عثمان بن عفّان، وكان
__________
[1] أي طارق بن زياد الفاتح المشهور.
[2] في المطبوع: «ملك» .
[3] في الأصل، والمطبوع: «النضري» وهو خطأ، والتصحيح من «اللباب» لابن الأثير (3/ 311) ، ومن كتب الرجال.
[4] انظر «الإصابة» لابن حجر (9/ 35 و 36) .
[5] في الأصل: «أبي» وهو خطأ، والمثبت من المطبوع.
[6] قال أبو الفرج الأصفهاني: طويس لقب غلب عليه، واسمه عيسى بن عبد الله، وكنيته أبو عبد المنعم، وغيرها المخنثون فجعلوها أبا عبد النعيم. «الأغاني» (3/ 27) ، وانظر «الأعلام» للزركلي (5/ 105) .
[7] قال الذهبي: كان ممن يضرب به المثل في الحذق بالغناء. «تاريخ الإسلام» (4/ 16) ، وانظر «سير أعلام النبلاء» (4/ 364) .(1/362)
اسمه طاووسا فلما تخنّث سمّي طويسا [1] وكان مجوّدا في المغني، وإياه عنى الشاعر في مدح معبد [2]
تغنّى طويس والسّريجيّ [3] بعده ... وما قصبات السبق إلّا لمعبد [4]
وضرب المثل بشؤمه [5] ، وقيل: لأنه ولد يوم مات النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفطم يوم مات الصّدّيق، وختن [6] يوم قتل عمر، وقيل: بلغ الحلم في ذلك اليوم [7] وتزوج يوم قتل عثمان، وقيل: ولد له ولد يوم قتل عليّ، وقيل يوم مات الحسن بن عليّ رضي الله عنهم، وهذا من عجائب الاتفاقات.
وكان مفرطا في طوله، مضطربا في خلقه، أحول العين، انتقل [8] عن المدينة إلى السّويداء على مرحلتين منها في طريق الشام، وتوفي هناك.
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» لابن خلّكان (3/ 506) والتعليق عليه.
[2] هو معبد بن وهب المغنّي، أبو عبّاد المدني، نابغة الغناء في العصر الأموي، نشأ في المدينة يرعى الغنم، وربما اشتغل في التجارة، ولما ظهر نبوغه في الغناء أقبل عليه كبراء المدينة، ثم رحل إلى الشام فاتصل بأمرائها، وارتفع شأنه، وكان أديبا فصيحا، مات سنة (126 هـ) .
«الأعلام» للزركلي (7/ 264) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «الشريحي» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» لابن خلّكان (3/ 506) ، و «تاريخ الإسلام» للذهبي (4/ 16) . والسّريجي هذا هو عبيد الله بن سريج، مولى بني نوفل ابن عبد مناف، أبو يحيى، من أشهر المغنين وأصحاب هذه الصناعة في صدر الإسلام، كان يغني مرتجلا فيأتي باللحن المبتكر، وهو من أهل مكة، وأول من ضرب على العود بالغناء العربي، مات سنة (98 هـ) . «الأعلام» للزركلي (4/ 194) .
[4] البيت في «وفيات الأعيان» (3/ 506) ، و «تاريخ الإسلام» للذهبي (4/ 16) .
[5] قال العسكري في «الأوائل» (2/ 161) : وطويس أول مشؤوم في الإسلام.
وقال ابن خلّكان في «الوفيات» (3/ 506) : وهو الذي يضرب به المثل في الشؤم، فيقال:
أشأم من طويس. وانظر «سير أعلام النبلاء» للذهبي (4/ 364) ، و «تاريخ الإسلام» للذهبي (4/ 16) .
[6] وهو ما ذكره صاحب «الأغاني» ، وابن خلّكان في «وفيات الأعيان» ، والزركلي في «الأعلام» .
[7] وهو ما ذكره العسكري في «الأوائل» ، وابن خلّكان في «وفيات الأعيان» ولم يجزم به، والذهبي في «تاريخ الإسلام» و «سير أعلام النبلاء» .
[8] تحرفت لفظة «انتقل» في الأصل إلى لفظة «إلى» وأثبتنا ما جاء في المطبوع، وهو الصواب.(1/363)
سنة ثلاث وتسعين
فيها افتتح قتيبة بن مسلم عدّة فتوح، وهزم التّرك، ونازل سمرقند في جيش عظيم، ونصب المجانيق [1] عليها، فجاءت نجدة التّرك، فأكمن لهم كمينا، فالتقوا في نصف الليل، فاقتتلوا قتالا عظيما، ولم يفلت من الترك إلّا اليسير، وافتتحها صلحا، وبنى بها الجامع والمنبر، وقيل: صالحهم على مائة ألف رأس [2] وعلى بيوت النار وعلى حلية [3] الأصنام، فسلبت [4] ثم وضعت الأصنام بين يديه، فكانت كالقصر العظيم، فأحرقها، ثم جمعوا ما بقي منها من مسامير الذّهب والفضة، فكانت خمسين ألف مثقال، واستعمل على البلد ابنه عبد الله [5] ، ورد إلى مرو [6] .
__________
[1] جمع منجنيق.
[2] في الأصل، والمطبوع: «مائة ألف فارس» وهو خطأ، والتصحيح من «تاريخ الإسلام» للذهبي (3/ 327) ، وهو موافق لما في «تاريخ الطبري» (6/ 473) ، و «الكامل» لابن الأثير (4/ 571) .
[3] قال ابن منظور: الحلية: الصّفة والصّورة. «لسان العرب» «حلا» (2/ 985) .
[4] أي قشرت. قال ابن منظور: سلب القصبة والشجرة: قشرها. وعليه فإن قتيبة اشترط أن تقشر صور الأصنام الخشبية، وأن تحرق تلك الأصنام فيما بعد، وهو ما ذكره المؤلف في تتمة الخبر. انظر «لسان العرب» «سلب» (3/ 2058) .
[5] وقال له: لا تدعنّ مشركا يدخل من باب المدينة إلّا ويده مختومة، ومن وجدت معه حديدة أو سكينا فاقتله، ولا تدعن أحدا منهم يبيت فيها. «تاريخ الإسلام» للذهبي (3/ 327) .
[6] في «تاريخ الإسلام» للذهبي: «وانصرف قتيبة إلى مرو» .(1/364)
وفيها كانت الفتوح بأرض المغرب، والأندلس، وبأرض الروم، وبأرض الهند، ولم يفتح المسلمون منذ خلافة عثمان مثل هذه [1] الفتوح التي جرت بعد التسعين شرقا وغربا، فلله الحمد والمنّة.
وفيها توفي من سادات الصحابة خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو حمزة أنس بن مالك الأنصاريّ النّجاريّ، وقيل: توفي سنة تسعين، أو إحدى أو اثنتين وتسعين، قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة وله عشر سنين، فخدمه، ودعا له بكثرة المال والولد والبركة فيهما، وفيما أوتي، فدفن لصلبه إلى مقدم الحجّاج البصرة مائة وعشرين، وكان نخله يثمر في العام مرتين [2] .
وبلال بن أبي الدّرداء، روى عن أبيه، ووليّ إمرة دمشق [3] .
وأبو الشّعثاء جابر بن زيد، الذي قال فيه ابن عبّاس: لو أنّ أهل البصرة نزلوا على [4] قول أبي الشّعثاء لأوسعهم علما عمّا في كتاب الله عزّ وجلّ.
وأبو الخطّاب عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة القرشيّ المخزوميّ، الشاعر المشهور، قيل: لم يكن في قريش أشعر منه، وهو كثير المجون والتغزّل بالثّريّا ابنة علي بن عبد الله بن الحارث بن أميّة بن عبد شمس الأموية، التي جدّتها قتيلة بالتصغير ابنة النّضر بن الحارث المنشدة في قتل [5]
__________
[1] في الأصل: «هذا» وهو خطأ، والمثبت من المطبوع.
[2] انظر «سير أعلام النبلاء» للذهبي (3/ 395- 406) ، و «تاريخ الإسلام» للذهبي (3/ 339- 344) . و «مختصر تاريخ دمشق» لابن منظور (5/ 64- 76) ، و «الأعلام» للزركلي (2/ 24- 25) .
[3] انظر «تاريخ الإسلام» للذهبي (3/ 345، 346) ، و «سير أعلام النبلاء» للذهبي (4/ 285) .
[4] في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (4/ 482) : «نزلوا عند» وهو أصوب.
[5] في المطبوع: «في قتيل» .(1/365)
أبيها يوم بدر الأبيات [1] وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لو سمعت شعرها قبل أن أقتله لما قتلته» [2] . واستدلّ بهذا القول الصحيح أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان له أن يجتهد في الأحكام.
وكانت الثّريّا موصوفة بارعة الجمال، وتزوّجها سهيل بن عبد الرّحمن بن عوف، ونقلها إلى مصر، وفيهما يقول عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة:
أيّها المنكح الثّريّا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان
__________
[1] وهي:
يا راكبا إنّ الأثيل مظنّة ... من صبح خامسة وأنت موفّق
أبلغ بها ميتا بأنّ تحيّة ... ما إن تزال بها النّجائب تخفق
مني إليه وعبرة مسفوحة ... جادت بواكفها وأخرى تحنق
هل يسمعنّ النّضر إن ناديته ... أم كيف يسمع ميّت لا ينطق
أمحمّد ولأنت ضنء كريمة ... في قومها والفحل مخل معرق
ما كان ضرّك لو مننت وربما ... من الفتى وهو المغيظ المحنق
أو كنت قابل فدية فلينفقن ... بأعزّ ما يغلو به ما ينفق
فالنّضر أقرب من أسرت قرابة ... وأحقّهم إن كان عتق يعتق
ظلّت سيوف بني أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تشفّق
صبرا يقاد إلى المنيّة متعبا ... رسف المقيّد وهو عان موثق
قلت: قال ابن إسحاق في «السيرة» طبعة السقا، والأبياري، والشلبي: قتيلة بنت الحارث أخت النضر، وفي «الإصابة» لابن حجر (13/ 95) ، و «شرح أبيات المغني» للبغدادي (5/ 54) قتيلة بنت النّضر.
[2] قال الحافظ ابن حجر في «الإصابة» بعد أن سرد الأبيات: فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك بكى حتى اخضلّت لحيته، وقال: «لو بلغني شعرها قبل أن أقتله ما قتلته» - وهو ما ذكره المؤلف ابن العماد-، وأضاف: قال أبو عمر: هذا لفظ عبد الله بن إدريس، وفي رواية الزّبير بن بكار: فرق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى دمعت عيناه، وقال لأبي بكر: يا أبا بكر، لو سمعت شعرها لم أقتل أباها، وقال الزّبير: سمعت بعض أهل العلم يغمز هذه الأبيات، ويقول: إنها مصنوعة. قلت (القائل ابن حجر) : ولم أر التصريح بإسلامها، لكن إن كانت عاشت إلى الفتح فهي من جملة الصحابيات، ورأيت في آخر كتاب «البيان» للجاحظ أن اسمها ليلى، وذكر أنها جذبت رداء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وهو يطوف.(1/366)
هي شاميّة إذا ما استقلّت ... وسهيل إذا استقلّ يماني [1]
وهو القائل:
إنّ من أكبر الكبائر عندي ... قتل بيضاء خودة عطبول
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جرّ الذّيول [2]
ولد عمر هذا في ليلة قتل عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، وذلك ليلة الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجّة سنة ثلاث وعشرين، وكان الحسن البصري يقول فيها: أيّ حق رفع؟ وأيّ باطل وضع؟ يعني مقتل عمر [3] ووضع عمر [4] وكان جدّه أبو ربيعة يلقّب بذي الرمحين، وأبوه عبد الله [أخو أبي جهل بن هشام لأمه، توفي في سفينة غرقا، وعمره سبعون سنة أو ثمانون.
وفيها على الصحيح] [5] وقيل: سنة تسعين توفي أبو العالية رفيع بن مهران الرّياحي [6] مولاهم البصري المقرئ المفسّر، دخل على أبي بكر، وقرأ القرآن على أبيّ، وكان ابن عبّاس يرفعه على السرير وقريش أسفل.
وقال أبو بكر بن أبي داود [7] : ليس بعد الصحابة أحد أعلم، بالقرآن من أبي العالية، وبعده سعيد بن جبير.
__________
[1] البيتان في «الأغاني» للأصفهاني (1/ 122 و 234) ، و «شرح أبيات المغني» للبغدادي (1/ 43) و (5/ 54) . [2) ]
[3] يعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
[4] يعني عمر بن أبي ربيعة.
[5] ما بين حاصرتين سقط من الأصل، وأثبتناه من المطبوع.
[6] في الأصل، والمطبوع: «الرباحي» وهو تصحيف، والتصحيح من «دول الإسلام» (1/ 64) ، و «سير أعلام النبلاء» للذهبي (4/ 207) .
[7] هو عبد الله بن داود سليمان بن الأشعث (صاحب السنن) ، أبو بكر، حافظ، محدّث، مات سنة (316 هـ) . انظر ترجمته في المجلد الرابع من كتابنا هذا.(1/367)
قال ابن قتيبة: حجّ أبو العالية ستين حجّة [1] .
وقال الأصمعي [2] : كان أبو العالية، ومكحول جميلين،- يعني مكحول الأزدي- وكان مزّاحا.
قال مسلم بن إبراهيم: سألت أبا العالية عن قتل الذّرّ [3] فجمع منهن شيئا كثيرا وقال: مساكين ما أكيسهن، ثم قتلهن وضحك [4] .
__________
[1] «المعارف» ص (454) وبقية خبره فيه فراجعه.
[2] هو عبد الملك بن قرب الباهلي البصري الأصمعي، أبو سعيد، اللغوي، الأخباري، المتوفى سنة (216 هـ) . وسوف ترد ترجمته في المجلد الثالث من كتابنا هذا، فراجعها.
[3] قال ابن منظور: الذّرّ: صغار النمل، واحدته ذرّة، قال ثعلب: إن مائة منها وزن حبّة من شعير، فكأنها جزء من مائة. «لسان العرب» «ذرر» (3/ 1494) .
[4] قلت: إن صح أن أبا العالية قتل مجموعة كبيرة من النمل من غير سبب، فقد ارتكب إثما، فإن الله عزّ وجلّ حرم قتل النمل من غير سبب كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدد من الأحاديث الصحيحة، فقد روى البخاري رقم (3019) في الجهاد: باب رقم (153) ، ومسلم رقم (2241) في السلام: باب النهي عن قتل النمل، وأبو داود رقم (2526) في الأدب: باب في قتل الذر، وأحمد في «المسند» (2/ 402، 403) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن نملة قرصت نبيا من الأنبياء، فأمر بقرية النمل فأحرقت، فأوحى الله إليه: أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح؟» . وروى البخاري رقم (3319) في بدء الخلق: باب ... خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم، ومسلم رقم (2241) و (149) و (150) في السلام: باب النهي عن قتل النمل، وأبو داود رقم (5265) في الأدب: باب في قتل الذر، وأحمد في «المسند» (2/ 313 و 449) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نزل نبيّ من الأنبياء تحت شجرة، فلدغته نملة، فأمر بجهازه فأخرج من تحتها، ثم أمر ببيتها فأحرق بالنار، فأوحى الله إليه: فهلا نملة واحدة» . قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» (6/ 358) : قوله [تعالى] : فهلا نملة واحدة:
يجوز فيه النصب على تقدير عامل محذوف تقديره: فهلا أحرقت نملة واحدة، وهي التي آذتك بخلاف غيرها فلم يصدر منها جناية؟.
وروى الإمام أحمد في «المسند» (1/ 332 و 347) ، وأبو داود رقم (2567) في الأدب: باب في قتل الذر، والدارمي (2/ 89) في الأضاحي: باب النهي عن قتل الضفدع، والنحلة، وابن ماجة رقم (3224) في الصيد: باب ما ينهي عن قتله من حديث عبد الله بن عبّاس رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب: النملة، والنحل،(1/368)
وفيها توفي السيد الجليل زرارة بن أوفى العامريّ أبو حاجب، قاضي البصرة، قرئ في صلاة الصبح فَإِذا نُقِرَ في النَّاقُورِ فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ 74: 8- 9 [المدثر: 8- 9] فخرّ ميتا [1] .
وفيها عبد الرّحمن بن يزيد بن جارية الأنصاري المدني، ولد في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وروى عن الصحابة، وولى قضاء المدينة، وعن الأعرج [2] قال:
ما رأيت بعد الصحابة أفضل منه.
__________
والهدهد، والصرد. وهو حديث صحيح.
قلت: وإن أبا العالية رحمه الله كان من أعلم أهل زمانه بالقرآن والسّنة، الأمر الذي يجعلني أشك بعدم صحة هذا الخبر عنه رحمه الله.
[1] انظر «أخبار القضاة» لوكيع (1/ 294) .
[2] هو عبد الرحمن بن هرمز المدني، أبو داود، صاحب أبي هريرة، المتوفى سنة (117 هـ) .
وسوف ترد ترجمته في المجلد الثاني من كتابنا هذا فراجعها هناك.(1/369)
سنة أربع وتسعين
فيها غزا قتيبة بن مسلم فرغانة [1] فافتتحها بعد قتال عظيم، وبعث جيشا فافتتحوا الشّاش [2] .
وفيها افتتح مسلمة سدرة [3] من أرض الروم.
وتوفي الإمام السّيّد الجليل أبو محمّد سعيد بن المسيّب المخزوميّ المدنيّ، أحد أعلام الدّنيا، [و] سيّد التابعين.
قال ابن عمر: لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا لسرّه.
وقال مكحول، وقتادة، والزّهري، وغيرهم: ما رأينا أعلم من ابن المسيّب.
__________
[1] فرغانة: مدينة وكورة واسعة بما وراء النهر، متاخمة لبلاد تركستان: انظر «معجم البلدان» لياقوت (4/ 253) .
قلت: وهي الآن في جنوب غرب الاتحاد السوفييتي.
[2] الشاش: بلدة بما وراء النهر. انظر «معجم البلدان» لياقوت (3/ 308) ، و «الأمصار ذوات الآثار» للذهبي ص (94) بتحقيقي، طبع دار ابن كثير.
قلت: وهي الآن في الاتحاد السوفييتي، وتعرف بطشقند.
[3] كذا في الأصل، والمطبوع: «سدرة» ، وفي «تاريخ خليفة بن خياط» ص (306) ، و «تاريخ الإسلام» للذهبي (3/ 327) : «سندرة» ، ولم أقف على اسم «سدرة» و «سندرة» في المراجع التي تتحدث عن البلدان، وجاء في «الكامل» لابن الأثير (5/ 228) : أن سندرة فتحت سنة (120) على يد سليمان بن هشام بن عبد الملك.
قلت: ولعلها فتحت مرتين، الأولى على يد قتيبة بن مسلم، والثانية على يد سليمان بن هشام بن عبد الملك، والله تعالى أعلم.(1/370)
قال عليّ بن المديني: لا أعلم في التّابعين أوسع علما منه، وهو عندي أجلّ التابعين.
وقال أحمد العجليّ: كان لا يأخذ العطاء، وله أربعمائة دينار يتّجر بها في الزّيت.
وقال مسعر [1] : عن سعد ابن إبراهيم قال: سمعت سعيد بن المسيّب يقول: ما أحد أعلم بقضاء قضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أبو بكر، ولا عمر مني، سمع من الصحابة، وجلّ روايته عن أبي هريرة، وكان تزوّج ابنته.
قال قتادة: ما جمعت علم الحسن [2] إلى علم أحد إلّا وجدت له عليه فضلا، غير أنّه كان إذا أشكل عليه شيء، كتب إلى ابن المسيّب، يسأله.
وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم: لما مات العبادلة: عبد الله بن عبّاس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزّبير، وعبد الله بن عمرو بن العاص، صار الفقه في جميع البلدان إلى الموالي، فقيه مكّة عطاء، وفقيه اليمن طاووس، وفقيه اليمامة يحيى بن أبي كثير، وفقيه البصرة الحسن البصريّ، وفقيه الكوفة إبراهيم النّخعيّ، وفقيه الشّام مكحول، وفقيه خراسان عطاء الخراسانيّ، إلّا المدينة، فإن الله تعالى حرسها بقرشيّ فقيه غير مدافع سعيد بن المسيّب، وهو من فقهاء المدينة، جمع بين الحديث، والتفسير، والفقه، والورع، والعبادة.
وعنه [3] قال: حججت أربعين حجّة، وما فاتني التكبيرة الأولى [4] منذ
__________
[1] هو مسعر بن كدام الهلالي، الكوفي، أبو سلمة. وسوف ترد ترجمته في المجلد الثاني من كتابنا هذا، فراجعها فيه.
[2] يعني الحسن البصري رحمه الله.
[3] أي عن ابن المسيب رحمه الله.
[4] يعني خلف الإمام في الصلاة.(1/371)
خمسين سنة، وما نظرت إلى قفا رجل في الصلاة.
وعطّل المسجد النّبويّ أيام الحرّة [1] ولم يبق فيه غيره، وكان لا يعرف أوقات الصلاة إلّا بهمهمة يسمعها داخل الحجرة المقدّسة، وخطب ابنته بعض ملوك بني أمية، فزوّجها فقيرا من الطّلبة، وسيّرها إلى بيته، ثم زارها بعد ذلك ووصلها بشيء من عنده، وكانت ابنة أبي هريرة تحته، وكان جابر بن الأسود على المدينة دعاه إلى بيعة ابن الزّبير فأبى، فضربه ستين سوطا، وضرب أيضا هشام بن إسماعيل ستين سوطا، وطاف به [2] في المدينة في تبّان [3] من شعر، وذلك أنه دعاه إلى البيعة لسليمان، والوليد بالعهد فلم يفعل.
وكان مولده لسنتين مضتا من خلافة عمر، ووفاته بالمدينة.
وولد لسعيد محمّد، وكان نسّابة، فنفى قوما من المخزومين، فرفع ذلك إلى الوالي، فجلده الحدّ.
وكان لسعيد غيره من الولد، وبرد مولاه، قال له: يا برد، إياك أن تكذب عليّ كما يكذب عكرمة على ابن عبّاس.
وقال: كل حديث حدثكموه برد ليس مع غيره مما تنكرونه فهو كذب.
وبالجملة فمناقبه ومآثره تفوت الحصر، وقد صنّف فيها.
وفيها أيضا توفي أحد فقهاء المدينة السبعة [4] أبو محمّد عروة ابن
__________
[1] تقدم كلام المؤلف عن هذه الوقعة الأليمة في ص () من هذا المجلد فراجعها.
[2] لفظة «به» سقطت من المطبوع.
[3] قال ابن منظور: التّبان، بالضم، والتشديد: سراويل صغير مقدار شبر يستر العورة المغلظة فقط، يكون للملاحين. «لسان العرب» «تبن» (1/ 420) .
[4] قال الإمام النووي: فقهاء المدينة السبعة: سعيد بن المسيّب، وعروة بن الزّبير، والقاسم بن محمد، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وخارجة بن زيد، وسليمان بن يسار، وفي السابع ثلاثة أقوال، فقيل: سالم بن عبد الله بن عمر، وقيل: أبو سلمة بن عبد الرحمن، وقيل: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. «تهذيب الأسماء واللغات» (1/ 172) .(1/372)
الزّبير بن العوّام الأسديّ المدنيّ، الفقيه، الحافظ، جمع العلم، والسيادة، والعبادة.
ولد في سنة تسع وعشرين، وحفظ عن والده، وكان يصوم الدّهر [1] ومات صائما، واشتهر أنه قطعت رجله وهو في الصلاة لأكلة [2] وقعت فيها، ولم يتحرّك حتى لم يشعر الوليد بن عبد الملك بذلك وهو عنده، حتى كويت، فوجد رائحة الكيّ.
قال الزّهريّ: رأيته بحرا لا تكدّره الدّلاء.
ودخل على عبد الملك بعد قتل أخيه [3] وسأله سيف الزّبير، فأخرجوا له السيوف، فأخذ منها سيفا مفلّلا فعرفه، وبئره أعذب بئر في المدينة اليوم [4] .
توفي في قرية له دون الفرع بضم الفاء وتسكين الراء من ناحية الرّبذة على أربع ليال من المدينة، ذات نخل ومياه.
وهو شقيق عبد الله، أمهما أسماء بنت أبي بكر، بخلاف مصعب، فإنّ أمّه أخرى، وكان عبد الملك بن مروان يقول: من سرّه أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، فلينظر إلى عروة بن الزّبير، وسبب ذلك أنهم اجتمعوا في المسجد الحرام وتمنّوا، وكان أمنية [5] عروة الزّهد في الدّنيا، والفوز بالجنة، فلما نال كلّ امرئ منهم أمنيته، كان في ذلك دليل على نيل أمنية عروة.
__________
[1] انظر «عمدة الأحكام» للمقدسي ص (139- 140) بتحقيقي، فإن صيام الدهر نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحبّ الصيام إلى الله تعالى صيام داود عليه السلام، كان يصوم يوما ويفطر يوما، وليس وراء ذلك صيام.
[2] قال ابن منظور: الأكلة، مقصورة: داء يقع في العضو فيأتكل منه. «لسان العرب» «أكل» (1/ 102) .
[3] يعني عبد الله بن الزّبير رضي الله عنه.
[4] ويسمى بئر عروة، وهي بطرف حرة الوبرة الغربي بالنسبة للمدينة، عن يمين الطريق لمن يسافر إلى مكة.
[5] في المطبوع: «منية» وهو خطأ.(1/373)
وقد نظم بعض الفضلاء فقهاء المدينة السبع فقال:
ألا كلّ من لا يقتدي بأئمّة ... فقسمته ضيزى عن الحقّ خارجة
فخذهم عبيد الله عروة قاسم ... سعيد أبو بكر سليمان خارجة [1]
وفيها مات أيضا أحد الفقهاء السبعة، أبو بكر بن عبد الرّحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة المخزوميّ، الملقّب براهب قريش لعبادته وفضله، استصغر يوم الجمل فردّ هو وعروة، وكان مكفوفا وأبوه الحارث من الصحابة، وهو أخو أبي جهل لأمه.
وهذه السّنة تسمّى سنة الفقهاء، لأنها مات فيها جماعة منهم، وإنما قيل: الفقهاء السبعة، لأنهم كانوا بالمدينة في عصر واحد ينشر عنهم العلم والفتوى [2] وكان في عصرهم جماعة من فقهاء التابعين مثل: سالم بن عبد الله بن عمر، وغيره، فلم يكن لهم مثل مالهم.
وفيها زين العابدين عليّ بن الحسين الهاشميّ، وولد سنة ثمان وثلاثين بالكوفة، أو سنة سبع، سمّي زين العابدين لفرط عبادته، وكان ورده في اليوم والليلة ألف ركعة إلى أن مات.
وكان يوم استشهد والده مريضا فلم يتعرّضوا له.
وكان عبد الملك يحترمه ويجلّه، وأمّه سلّامة [3] ، وقيل: غزالة بنت يزدجرد ملك فارس [4] سبيت [5] ثالثة ثلاث من بناته في خلافة عمر، أمر عمر
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: « ... سعيد سليمان أبو بكر خارجة» .
[2] في المطبوع: «الفتيا» .
[3] في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (4/ 386) : «سلّامة سلافة بنت ملك الفرس يزدجرد، وقيل: غزالة» .
[4] مات سنة (31 هـ) . الموافقة لسنة (651) ميلادية. انظر «التوفيقات الإلهامية» للواء محمد مختار باشا المصري ص (16) ، و «المنجد في الأعلام» ص (749) .
[5] في المطبوع: «سميت» . وهو خطأ.(1/374)
ببيعهنّ، فأشار عليّ، بتقويمهن، ويأخذهنّ من اختارهنّ، فأخذهنّ عليّ فدفع واحدة لعبد الله بن عمر، وأخرى لولده الحسين، وأخرى لمحمّد بن أبي بكر الصّدّيق فولدن [1] سالما، وزين العابدين، والقاسم بن محمّد، فهم بنو خالة، وكان أهل المدينة يكرهون السراري حتى نشأ فيهم هؤلاء الثلاثة، وفاقوا فقهاء المدينة ورعا، فرغبت النّاس في السّراري.
ومن برّ زين العابدين لأمه، أنّه كان لا يأكل معها في صحفة [2] ويقول:
أخشى أن تسبق يدي إلى ما سبقت عينها إليه. ومن قوله: إن لله عبّادا عبدوه رهبة، فتلك عبادة العبيد، وآخرين عبدوه رغبة، فتلك عبادة التّجار، وآخرين عبدوه شكرا، فتلك عبادة الأحرار، وتكلم فيه رجل وافترى عليه، فقال له: إن كنت كما قلت فأستغفر الله، وإن لم أكن كما قلت، فالله يغفر لك، فقبّل رأسه وقال: جعلت فداك، لست كما قلت، فاغفر، قال: غفر الله لك، فقال له الرجل: الله أعلم حيث يجعل رسالته [3] .
وقصّته مع هشام والفرزدق، ومدح الفرزدق له مشهورة نذكر شيئا منها عند ذكر الفرزدق إن شاء الله تعالى [4] .
قال الزّهري: ما رأيت أحدا أفقه من زين العابدين، لكنّه قليل الحديث.
وقال أبو حازم الأعرج: ما رأيت هاشميّا أفضل منه.
وعن سعيد بن المسيّب قال: ما رأيت أورع منه.
__________
[1] في المطبوع: «فولدت» .
[2] الصحفة: القصعة. انظر «مختار الصحاح» للرازي ص (357) .
[3] في المطبوع: «رسالاته» ، يعني أنه من أحفاد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[4] سترد القصة التي أشار إليها المؤلف رحمه الله في المجلد الثاني.(1/375)
وقال مالك: بلغني أن عليّ بن الحسين كان يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة إلى أن مات.
وكان يسمّى زين العابدين لعبادته.
وفيها، وقيل: سنة أربع ومائة، أبو سلمة [1] بن عبد الرّحمن بن عوف الزّهريّ المدنيّ، أحد الأئمة الكبار، قال الزّهري: أربعة وجدتهم بحورا:
عروة، وابن المسيّب، وأبو سلمة، وعبيد الله.
وفيها تميم بن طرفة الطّائي الكوفي، ثقة له عدة أحاديث [2] .
__________
[1] قيل: اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل، وقيل: اسمه كنيته. انظر «مشاهير علماء الأمصار» لابن حبان ص (64) ، و «سير أعلام النبلاء» للذهبي (4/ 287) ، و «تهذيب التهذيب» (12/ 115) .
[2] انظر «تهذيب الكمال» للمزّي (4/ 331) بتحقيق الدكتور بشار عواد معروف، طبع مؤسسة الرسالة.
وقال الذهبي في «الكاشف» (1/ 114) طبع دار الكتب العلمية في بيروت: مات سنة (94) .
وكتب المعلق عليه: «أي ومائة. (194) !!! وهو خطأ، وما في متن «الكاشف» هو الصواب.(1/376)
سنة خمس وتسعين
فيها أراح الله العباد والبلاد بموت الحجّاج بن يوسف بن أبي عقيل الثقفيّ الطائفيّ، في ليلة مباركة على الأمّة، ليلة سبع وعشرين من رمضان، وله ثلاث، وقيل: أربع أو خمس وخمسون سنة، أو دونها، وكان شجاعا مقداما [مهيبا] [1] مفوّها، فصيحا، سفّاكا، ولي الحجاز سنين [2] ثم العراق، وخراسان عشرين سنة، وأقره الوليد على عمله بعد أبيه، وقيل لابن سيرين [3] : رأيت حمامة بيضاء حسنة على سرادقات المسجد، فجاء صقر فاختطفها، فقال ابن سيرين إن صدقت رؤياك تزوّج الحجّاج ابنة جعفر الطّيّار، فلما تزوّجها قيل لابن سيرين: من أين أخذت ذلك، فقال: الحمامة امرأة، وبياضها حسنها، والسّرادقات شرفها، فلم أر بالمدينة أنقى حسنا ولا أشرف من ابنة جعفر، والصّقر سلطان غشوم، فلم أر أغشم من الحجّاج.
وقال ابن قتيبة في «المعارف» : يكنى الحجّاج أبا محمّد، وكان
__________
[1] لفظة: «مهيبا» سقطت من الأصل، وأثبتناها من المطبوع.
[2] في الأصل: «سنتين» وأثبتنا ما في المطبوع وهو الصواب، لأن الحجاج ولي الحجاز ثلاث سنين.
[3] هو محمد بن سيرين، أبو بكر، إمام المعبرين، المتوفى سنة (110 هـ) . وسوف ترد ترجمته مفصلة في المجلد الثاني.(1/377)
أخفش [1] دقيق الصوت، وأول ولاية وليها تبالة [2] فلما رآها احتقرها وانصرف، فقيل في المثل: «أحقر من تبالة على الحجّاج» [3] وولي شرطة أبان بن مروان في بعض ولايات أبان، فلما خرج ابن الزّبير، وقوتل زمانا، قال الحجّاج لعبد الملك: إني رأيت في المنام [4] كأني أسلخ عبد الله بن الزّبير، فوجّهني إليه، فوجّهه في ألف رجل، وأمره أن ينزل الطائف حتى يأتيه أمره [5] ففعل، ثم كتب إليه بقتاله، وأمدّه، فحاصره حتى قتله، ثم أخرجه فصلبه، وذلك في سنة ثلاث وسبعين، فولاه عبد الملك الحجاز ثلاث سنين، فكان يصلّي بالموسم كلّ سنة، ثم ولّاه العراق وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، فوليها عشرين سنة، وأصلحها، وذلّل أهلها، وحدثني أبو اليمان [6] عن حريز [7] بن عثمان، عن عبد الرّحمن بن ميسرة، عن أبي عذبة الحضرمي قال:
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «أخفض» وهو تحريف، والتصحيح من «المعارف» لابن قتيبة ص (396) بتحقيق الدكتور ثروت عكاشة، الطبعة الثانية، دار المعارف بمصر.
قال ابن منظور في «لسان العرب» «خفش» (2/ 1210) : الخفش: ضعف في البصر وضيق في العين، وقيل: صغر في العين خلقة، هو فساد في جفن العين واحمرار تضيق له العيون من غير وجع ولا قرح، خفش خفشا، فهو خفش وأخفش.
[2] قال البكري: تبالة: بفتح أوله وباللام، على وزن فعالة: بقرب الطائف، على طريق اليمن من مكة، وهي لبني مازن ... وهي التي يضرب بها المثل، فيقال: أهون من تبالة على الحجاج» . وانظر تتمة كلامه في «معجم ما استعجم» (1/ 301) .
[3] كذا في الأصل، والمطبوع: «أحقر من تبالة على الحجّاج» ، والذي في «المعارف» لابن قتيبة- الذي ينقل عنه المؤلف- و «معجم ما استعجم» للبكري، و «لسان العرب» لابن منظور «تبل» : «أهون من تبالة على الحجّاج» .
[4] في «المعارف» لابن قتيبة: «رأيت في منامي» .
[5] في «المعارف» لابن قتيبة: «حتى يأتيه رأيه» .
[6] هو الحكم بن نافع البهراني الحمصي، محدّث راوية من شيوخ البخاري، وابن حنبل، توفي سنة (122 هـ) . وسوف ترد ترجمته في المجلد الثالث من كتابنا هذا.
[7] في الأصل، والمطبوع: «جرير بن عثمان» ، وهو خطأ، والتصحيح من «المعارف» لابن قتيبة، و «تذكرة الحفاظ» للذهبي (1/ 412) ، و «تهذيب التهذيب» لابن حجر (2/ 441) .(1/378)
قدمت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه رابع أربعة من أهل الشام، ونحن حجّاج، فبينا [1] نحن عنده إذ أتاه خبر من العراق بأنهم قد حصبوا إمامهم فخرج إلى الصلاة، ثم قال: من ها هنا من أهل الشام؟ فقمت أنا وأصحابي. فقال: يا أهل الشام تجهّزوا لأهل العراق فإن الشيطان قد باض فيهم وفرّخ، ثم قال: اللهم قد لبّسوا عليّ، فلبّس عليهم، اللهمّ عجّل لهم بالغلام الثّقفيّ، الذي يحكم فيهم بحكم الجاهلية، لا يقبل من محسنهم، ولا يتجاوز عن مسيئهم انتهى [2] .
وأمّ الحجّاج الفارعة بنت همام [3] بن عروة بن مسعود الثقفي، ولدت الحجّاج مشوّها لا دبر له، فنقب عن دبره، وأبى أن يقبل ثديّ أمه أو غيرها [4] [فأعياهم أمره] [5] فيقال: إن الشيطان تصور لهم في صورة الحارث بن كلدة، وكان تزوج الفارعة قبل أبي الحجّاج، وكان حكيم العرب فقال لهم:
ألعقوه دم جدي [6] يومين، واليوم الثالث ألعقوه دم تيس أسود ثم دم ثعبان [7] سالخ أسود، واطلوا به وجهه، وأخبرهم أنه يقبل الثدي في اليوم الرابع، فلذلك كان لا يصبر عن سفك الدماء، ويخبر أنه أكبر لذّاته.
وله مقحمات عظائم وأخبار مهولة وكان معلّما.
__________
[1] في الأصل: «فبينما» وما أثبتناه موافق لما في «المعارف» لابن قتيبة الذي نقل عنه المؤلف.
[2] «المعارف» لابن قتيبة ص (396- 397) .
[3] في «العقد الفريد» لابن عبد ربه (5/ 276) بعناية الدكتور عبد المجيد الترحيني، طبع دار الكتب العلمية: «الفارعة بنت هبّار» .
[4] في الأصل، والمطبوع: «وغيرها» ، وما أثبتناه من «وفيات الأعيان» لابن خلكان الذي نقل عنه المؤلف.
[5] الزيادة من «وفيات الأعيان» لابن خلّكان.
[6] في «وفيات الأعيان» لابن خلكان: «اذبحوا جديا أسود وأولغوه دمه، فإذا كان في اليوم الثاني فافعلوا به كذلك، فإذا كان اليوم الثالث فاذبحوا له تيسا أسود وأولغوه دمه» .
[7] لفظة «ثعبان» سقطت من «وفيات الأعيان» فتستدرك فيه. وانظر «لسان العرب» «سلخ» (2062) .(1/379)
قال ابن قتيبة: كان يعلّم [الصبيان] [1] بالطائف واسمه كليب، وأبوه أيضا يوسف كان معلّما [2] .
وقال مالك [3] بن الرّيب [4] في الحجّاج:
فماذا عسى الحجّاج يبلغ جهده ... إذا نحن جاوزنا حفير [5] زياد
فلولا بنو مروان كان ابن يوسف ... كما كان عبدا من عبيد إياد
زمان هو العبد المقرّ بذلّه ... يراوح غلمان القرى ويغادي
وقال آخر:
أينسى كليب زمان الهزال ... وتعليمه سورة الكوثر
رغيف له فلكه ما يرى ... وآخر كالقمر الأزهر
يريد أن خبز المعلّمين مختلف.
ولما حضرته الوفاة قال للمنجّم: هل ترى ملكا يموت؟ قال: بلى، ولست به، أرى ملكا يموت يسمى كليبا، قال: أنا والله كليب كانت أمي سمّتني. انتهى.
وتمثّل حينئذ بقول عبيد بن سفيان العكليّ:
يا ربّ قد حلف الأعداء واجتهدوا ... أيمانهم أنّني من ساكني النّار
__________
[1] لفظة: «الصبيان» ليست في الأصل، والمطبوع، وإنما أثبتناها من «العقد الفريد» لابن عبد ربه.
[2] لم أر هذا النقل عند ابن قتيبة في «المعارف» في النسخة التي بين يدي، وإنما هو في «العقد الفريد» لابن عبد ربه (5/ 275) ، وقد نسبه لابن قتيبة.
[3] في المطبوع: «ملك» .
[4] في الأصل: «مالك بن أبي يزيد» ، وفي المطبوع: «ملك بن أبي يزيد» ، وكلاهما خطأ، والتصحيح من «العقد الفريد» لابن عبد ربه (5/ 275) ، و «الشعر والشعراء» لابن قتيبة ص (221) بتحقيق الدكتور مفيد قميحة، ومراجعة الأستاذ نعيم زرزور، طبع دار الكتب العلمية، و «شرح أبيات المغني» للبغدادي (5/ 14) ، و «الأعلام» للزركلي (5/ 261) .
[5] كذا في الأصل، والمطبوع: و «العقد الفريد» ، وفي «الشعر والشعراء» لابن قتيبة: «قناة» .(1/380)
أيحلفون على عمياء ويحهم ... ما علمهم بعظيم العفو غفّار [1]
وكان موته بالأكلة [2] في بطنه، سوّغه الطبيب لحما في خيط فخرج مملوءا دودا وسلط عليه أيضا [3] البرد، فكان يوقد النّار تحته وتأجّج حتى تحرق ثيابه [4] وهو لا يحسّ بها، فشكا [ما يجده] [5] إلى الحسن البصريّ فقال [له] [6] ألم أكن نهيتك أن تتعرّض للصالحين [فلججت، فقال له:
يا حسن، لا أسألك أن تسأل الله أن يفرج عني، ولكني أسألك أن تسأله أن يعجل قبض روحي ولا يطيل عذابي، فبكى الحسن بكاء شديدا، وأقام الحجّاج على هذه الحال بهذه العلة خمسة عشر يوما] [7] فلما أخبر الحسن بموته سجد شكرا، وقال: اللهمّ كما أمته أمت [8] سنّته [9] .
وكان [10] قد رأى أن عينيه قلعتا: وكان تحته هند بنت المهلّب، وهند بنت أسماء بن خارجة فطلّقهما [11] ليتأوّل رؤياه بهما، فمات ابنه محمّد، وجاءه نعي أخيه محمّد من اليمن، فقال: هذا والله تأويل رؤياي محمّد
__________
[1] البيتان في «وفيات الأعيان» ، و «مختصر تاريخ دمشق» لابن منظور (6/ 231) مع بعض الاختلاف في ألفاظهما.
[2] سبق أن أشرنا إلى أن الأكلة داء يقع في العضو فيأتكل منه. انظر ص (373) .
[3] في المطبوع: «وسلط أيضا عليه» .
[4] في «وفيات الأعيان» : «حتى تحرق جلده» .
[5] لفظة «ما يجده» التي بين حاصرتين زيادة من «وفيات الأعيان» لابن خلكان، الذي ينقل عنه المؤلف.
[6] زيادة من «وفيات الأعيان» لابن خلكان.
[7] ما بين حاصرتين زيادة من «وفيات الأعيان» لابن خلّكان.
[8] في المطبوع: «فأمت» .
[9] في «وفيات الأعيان» لابن خلكان: «اللهمّ إنك قد أمته فأمت سنته» .
[10] يعني الحجّاج.
[11] في الأصل: «فطلقها» وما أثبتناه من المطبوع.(1/381)
ومحمّد في يوم واحد، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، 2: 156 ثم قال من: يقول شعرا فيسلّيني [به؟] [1] فقال: الفرزدق:
إن الرّزيّة لا رزيّة بعدها ... فقد [ان] [2] مثل محمّد ومحمّد
ملكان قد خلت المنابر منهما ... أخذ الحمام عليهما بالمرصد [3]
قيل: قتل مائة ألف وعشرين ألفا، ووجد في سجونه بعد موته ثلاثة وثلاثون ألفا لم يجب على أحد منهم قطع ولا صلب، ويقال: إن زياد ابن أبيه أراد [أن] يتشبّه بعمر في ضبطه وسياسته، فتجاوز الحدّ ولم يصب، وأراد الحجّاج أن يتشبّه بزياد فدمّر وأهلك [4] .
وفي شعبان من السنة المذكورة قتل الحجّاج- قاتله الله- سعيد بن جبير الوالبيّ مولاهم الكوفيّ المقرئ، المفسّر، الفقيه، المحدّث، أحد الأعلام، وله نحو من خمسين سنة، أكثر روايته عن ابن عبّاس، وحدّث في حياته بإذنه، وكان لا يكتب الفتاوى مع ابن عبّاس، فلما عمي ابن عبّاس كتب، وروي أنه قرأ القرآن في ركعة في البيت الحرام، وكان يؤمّ النّاس في شهر رمضان، فيقرأ ليلة بقراءة ابن مسعود، وليلة بقراءة زيد بن ثابت، وأخرى بقراءة غيرهما، وهكذا أبدا، وقيل: كان أعلم التّابعين بالطّلاق سعيد بن جبير، وبالحجّ عطاء [5] ، وبالحلال والحرام طاووس [6] وبالتفسير
__________
[1] زيادة من «وفيات الأعيان» لابن خلكان.
[2] زيادة من المطبوع، و «وفيات الأعيان» لابن خلكان.
[3] البيتان في
[4] قال الذهبي في آخر ترجمته للحجّاج في «تاريخ الإسلام» (3/ 355) : وعندي مجلد في أخبار الحجاج فيه عجائب، لكن لا أعرف صحتها.
[5] يعني عطاء بن أبي رباح، الإمام، الفقيه، الواعظ، الحجة، المتوفى سنة (114) ، وسترد ترجمته في المجلد الثاني من كتابنا هذا.
[6] يعني طاووس بن كيسان اليماني الجندي الخولاني، أحد الأئمة الأعلام في عصره،(1/382)
مجاهد [1] ، وأجمعهم لذلك سعيد بن جبير، وقتله الحجّاج وما على وجه الأرض أحد إلّا وهو مفتقر إلى علمه.
وقال الحسن [2] يوم قتله: اللهمّ أعن على فاسق ثقيف، والله لو أنّ أهل الأرض اشتركوا في قتله لأكبّهم [3] الله في النار. وقال أبو اليقظان [4] :
هو- أي سعيد- مولى لبني والبة من بني أسد، ويكنى أبا [5] عبد الله، وكان أسود، وكتب لعبد الله بن عتبة بن مسعود، ثم كتب لأبي بردة وهو على القضاء وبيت المال، وكان سعيد مع عبد الرّحمن بن محمّد بن الأشعث بن قيس، لما خرج على عبد الملك بن مروان، فلما قتل عبد الرّحمن وانهزم أصحابه من دير الجماجم [6] هرب فلحق بمكّة، وكان واليها يومئذ خالد بن
__________
المتوفى سنة (106) ، وسوف ترد ترجمته في المجلد الثاني من كتابنا هذا. وانظر «الأمصار ذوات الآثار» للذهبي ص (48) بتحقيقنا، طبع دار ابن كثير.
[1] يعني مجاهد بن جبر، شيخ القرّاء، والمفسرين في عصره، المتوفى سنة (103 هـ) . انظر «الأمصار ذوات الآثار» للذهبي ص (17) ، وسوف ترد ترجمته في المجلد الثاني من كتابنا هذا.
[2] يعني الحسن البصري، إمام أهل البصرة، وخير أهل زمانه، المتوفى سنة (110 هـ) . وسترد ترجمته مفصلة في المجلد الثاني من كتابنا هذا.
[3] في المطبوع: «لكبهم» .
[4] هو عامر بن حفص، عالم بالأنساب، يلقب بسحيم، توفي سنة (190 هـ) . انظر «الأعلام» للزركلي (3/ 250) .
[5] في الأصل: «أبو» وأثبتنا ما في المطبوع وهو الصواب.
[6] قال ياقوت: دير الجماجم بظاهر الكوفة على سبعة فراسخ منها على طرف البر للسالك إلى البصرة، قال أبو عبيدة: الجمجمة القدح من الخشب، وبذلك سمي دير الجماجم، لأنه كان يعمل فيه الأقداح من الخشب. والجمجمة أيضا: البئر تحفر في سبخة، فيجوز أن يكون الموضع سمي بذلك، قال ابن الكلبي: إنما سمي دير الجماجم لأن بني تميم وذبيان لما واقعت بني عامر وانتصرت بنو عامر وكثر القتلى في بني تميم بنوا بجماجمهم هذا الدير شكرا على ظفرهم، وهذا عندي بعيد من الصواب، وهو مقول على ابن الكلبي وليس يصح عنه، فإنه كان أهدى إلى الصواب من غيره في هذا الباب، لأن وقعة بني عامر وبني تميم وذبيان كانت بشعب جبلة وهو بأرض نجد وليس بالكوفة، ولعل الصواب ما حكاه البلاذري عن ابن(1/383)
عبد الله القسري، فأخذه وبعث به إلى الحجّاج مع إسماعيل بن أوسط البجلّي، فقال له الحجّاج: يا شقيّ بن كسير أما قدمت الكوفة وليس يؤمّ بها إلّا عربي فجعلتك إماما؟ فقال: بلى، قال: أما ولّيتك القضاء، فضجّ أهل الكوفة وقالوا: لا يصلح للقضاء إلّا عربيّ، فاستقضيت أبا بردة بن أبي موسى الأشعري، وأمرته أن لا يقطع أمرا دونك؟ قال: بلى، قال أما جعلتك من سمّاري وكلهم رؤوس [1] العرب؟ قال: بلى، قال: أما أعطيتك مائة ألف درهم تفرّقها على أهل الحاجة في أول ما رأيتك ثم لم أسألك عن شيء منها؟ قال:
بلى، قال: فما أخرجك عليّ؟ قال: بيعة كانت في عنقي لابن الأشعث، فغضب الحجّاج ثم قال: أما كانت بيعة أمير المؤمنين عبد الملك في عنقك من قبل؟ والله لأقتلنّك؟. وقال أبو بكر الهذليّ [2] : لما دخل سعيد بن جبير على الحجّاج قام بين يديه، فقال له: أعوذ منك بما استعاذت به مريم بنت عمران حيث قالت: [إِنِّي] أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا 19: 18 [مريم: 18] ، فقال له الحجّاج: ما اسمك قال: سعيد بن جبير، قال:
شقيّ بن كسير، قال: أمّي أعلم باسمي، قال: شقيت وشقيت أمّك، قال:
الغيب يعلمه غيرك، قال: لأوردنّك حياض الموت، قال: أصابت إذا أمّي، قال: فما تقول في محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: نبيّ ختم الله تعالى به الرّسل وصدّق به الوحي، وأنقذ به من الهلكة إمام هدي ونبيّ رحمة، قال: فما تقول في الخلفاء؟ قال: لست عليهم بوكيل، إنما استحفظت أمر ديني، قال: فأيّهم
__________
الكلبي أن بلادا الرماح، وبعضهم يقول بلال الرماح، وهو أثبت، ابن محرز الإيادي قتل قوما من الفرس ونصب رؤوسهم عند الدير فسمي دير الجماجم. «معجم البلدان» (2/ 504) ، وانظر «معجم ما استعجم» (2/ 573، 574) م.
[1] في المطبوع: «رؤس» .
[2] هو سلميّ بن عبد الله بن سلمي. انظر «جمهرة الأنساب» لابن حزم ص (198) .(1/384)
أحبّ إليك؟ قال: أحسنهم خلقا وأرضاهم لخالقه، وأشدّهم فرقا [1] قال: فما تقول في عليّ وعثمان، أفي الجنة هما أو في النار؟ قال: لو دخلتهما فرأيت أهلهما إذا لأخبرتك، فما سؤالك عن أمر غيّب عنك؟ قال: فما تقول في عبد الملك بن مروان؟ قال: مالك تسألني عن امرئ أنت واحدة من ذنوبه؟ قال:
فمالك لم تضحك قطّ؟ قال: لم أر ما يضحكني [2] ، كيف يضحك من خلق من تراب وإلى التراب يعود؟ قال: فإني أضحك من اللهو [3] قال ليست القلوب سواء، قال: فهل رأيت من اللهو [4] شيئا، ودعا بالنّاي والعود، فلما نفخ بالنّاي بكى، قال: ما يبكيك؟ قال: ذكّرني يوم ينفخ في الصّور، فأمّا هذا العود فمن نبات الأرض، وعسى أن يكون قد قطع من غير حقّه، وأمّا هذه المغاش والأوتار [5] فإنها سيبعثها الله معك يوم القيامة، قال: إني قاتلك، قال: إن الله عزّ وجلّ قد وقّت لي وقتا أنا بالغه، فإن يكن أجلي قد حضر فهو أمر قد فرغ منه، ولا محيص ساعة، وإن تكن العافية، فالله تعالى أولى بها، قال: اذهبوا به فاقتلوه، قال: أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له [وأن محمدا عبده ورسوله] [6] استحفظكها يا حجّاج حتى ألقاك يوم القيامة، فلما تولّوا به ليقتلوه ضحك، قال له الحجّاج: ما أضحكك؟ قال: عجبت من جرأتك على الله، وحلم الله جلّ وعلا عليك [7] ثم استقبل القبلة فقال:
__________
[1] قال ابن منظور: الفرق بالتحريك: الخوف، وفرق منه بالكسر فرقا جزع. «لسان العرب» «فرق» (5/ 3400) .
[2] في المطبوع: «لم أر ما يضحك» .
[3] في الأصل: «الهوا» وأثبتنا ما في المطبوع لأنه يتفق مع ما جاء في سياق النص.
[4] في الأصل: «الهوا» وما أثبتناه من المطبوع لأنه يتفق مع ما جاء في سياق النص.
[5] في «سير أعلام النبلاء» (4/ 331) : «وأما الأوتار فأمعاء شاة يبعث بها معك يوم القيامة» ، وفي حاشية «وفيات الأعيان» لابن خلكان (2/ 373) : «وأما الأوتار فمن الشاء تبعث معك يوم القيامة» . وأما العبارة التي في كتابنا فلا أرى لها وجها، ولعلها محرفة فيه، والله أعلم.
[6] ما بين حاصرتين زيادة من «سير أعلام النبلاء» للذهبي، وحاشية «وفيات الأعيان» .
[7] في الأصل، والمطبوع: «وحلم الله جل وعلا عنك» ، وما أثبته من حاشية «وفيات الأعيان» ،(1/385)
وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا من الْمُشْرِكِينَ 6: 79 [الأنعام: 79] قال:
اقتلوه عن القبلة، قال: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله إِنَّ الله واسِعٌ عَلِيمٌ 2: 115 [البقرة: 115] قال: اضربوا به الأرض، قال: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى 20: 55 [طه: 55] قال: اضربوا عنقه، قال:
اللهمّ لا تحل له دمي ولا تمهله من بعدي [1] فلما قتله لم يزل دمه يجري حتى علا وفاض حتى دخل تحت سرير الحجّاج، فلما رأى ذلك هاله وأفزعه، فبعث إلى صادق [2] المتطبّب فسأله عن ذلك، قال: لأنك قتلته ولم يهله، ففاض دمه ولم يجمد في جسده، ولم يخلق الله عزّ وجلّ شيئا أكثر دما من الإنسان، فلم يزل به ذلك الفزع حتى منع النّوم، وجعل يقول: مالي ولك يا سعيد بن جبير، وكان في جملة مرضه كلما نام رآه آخذا بمجامع ثوبه يقول:
يا عدوّ الله فيم قتلتني، فيستيقظ مذعورا ويقول: مالي ولابن جبير، وقتل ابن جبير، وله تسع وأربعون سنة، وقبره بواسط يتبرك به [3] .
وفيها توفي مطرّف بن عبد الله بن الشّخّير العامريّ البصريّ، الفقيه العابد المجاب الدّعوة، روى عن عليّ، وعمّار [4] .
وحميد بن عبد الرّحمن بن عوف الزّهريّ، سمع من خاله عثمان [5]
__________
وما جاء في هذه الحاشية ما هو إلّا نص لابن خلكان في «وفيات الأعيان» سقط من النسخة الخطية التي اعتمدها الدكتور إحسان عباس في تحقيقه للكتاب، وهو موجود في نسخ أخرى من الكتاب، والدليل على ذلك أن ابن العماد ينقل عنه في كتابنا هنا.
[1] في حاشية «وفيات الأعيان» ، و «سير أعلام النبلاء» : «اللهمّ لا تسلطه على أحد يقتله بعدي» .
[2] في المطبوع: «صادوق» .
[3] قلت: التبرك بالقبور من الأمور التي نهى عنها شرعنا الحنيف، ولكن صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة» .
[4] يعني عمار بن ياسر رضي الله عنه.
[5] يعني أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه.(1/386)
وهو صغير، وكان عالما فاضلا مشهورا.
والإمام الجليل، فقيه العراق بالاتفاق أبو عمران إبراهيم بن يزيد النّخعيّ، أخذ عن مسروق، والأسود، وعلقمة، ورأى عائشة وهو صغير، والنّخع من مذحج، وقد عدّه ابن قتيبة في «المعارف» من الشيعة [1] ، وقال عنه: وكان مزّاحا، قيل له: إن سعيد بن جبير يقول: كذا، قال: قل له يسلك وادي النّوكى [2] ، وقيل لسعيد: إنه يقول كذا، قال قل له: يقعد في ماء بارد، ومات وهو ابن ستّ وأربعين سنة، وقال ابن عون: كنت في جنازة إبراهيم، فما كان فيها إلّا سبعة أنفس، وصلّى عليه عبد الرّحمن بن الأسود بن يزيد، وهو ابن خاله. انتهى ملخصا [3] .
وفيها أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرّحمن بن عوف الزّهريّ.
__________
[1] انظر «المعارف» لابن قتيبة ص (624) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «وادي الترك» وهو خطأ، والتصحيح من «المعارف» لابن قتيبة ص (463) . والنوكى جمع أنوك، وهو الأحمق. انظر «لسان العرب» لابن منظور «نوك» (6/ 4582) .
[3] «المعارف» ص (463، 464) .(1/387)
سنة ست وتسعين
فيها توفي عبد الله بن بسر المازنيّ بحمص، كذا ورّخه عبد الصّمد بن سعيد، وقد مرّ.
وفيها قلع الله تعالى قرّة بن شريك القيسي أمير مصر، وكان عسوفا ظالما، قيل: كان إذا انصرف الصّنّاع من بناء جامع مصر دخله فدعا بالخمر والملاهي، ويقول: لنا الليل ولهم النّهار.
قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: الوليد بالشّام، وقرّة بمصر، والحجّاج بالعراق، وعثمان بن حيّان بالحجاز، امتلأت الأرض والله جورا.
وفيها في جمادى الآخرة توفي الخليفة أبو العبّاس الوليد بن عبد الملك بن مروان الخليفة، وكان ذميما سائل الأنف يتبختر في مشيه وأدبه ناقص حتى قيل: [إنه] [1] قرأ في الخطبة يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ 69: 27 [الحاقة: 27] بضم تاء ليت، ودخل عليه أعرابي فقال: من ختنك؟ قال:
المزين فقالوا [2] : إنما يريد أمير المؤمنين من ختنك؟ قال: نعم، فلان.
لكنه كان مع جوره كثير التّلاوة للقرآن، يختم في ثلاث، وفي رمضان سبع
__________
[1] لفظة: «إنه» سقطت من الأصل، واستدركناها من المطبوع.
[2] في المطبوع: «فقال» .(1/388)
عشرة ختمة، وطاب حاله في دنياه، ورزق سعادة عظيمة مع جانب من الدّين، فبنى جامع دمشق، وافتتح الهند، والتّرك، والأندلس، وتصدّق كثيرا، وروي أنه قال: لولا ذكر الله آل لوط في القرآن ما ظننت أحدا يفعله.
وفي أواخرها قتل قتيبة بن مسلم بخراسان، وقد وليها عشرين سنة، قال خليفة: خلع سليمان بن عبد الملك فقتلوه [1] .
وكان بطلا شجاعا هزم الكفّار غير مرّة وافتتح عدّة مدائن.
__________
[1] انظر «تاريخ خليفة بن خياط» ص (318) ، والمؤلف ينقل عنه بتصرف.(1/389)
سنة سبع وتسعين
فيها توفي سعيد بن مرجانة صاحب أبي هريرة رضي الله عنه.
وقاضي المدينة طلحة بن عبد الله بن عوف الزّهريّ أحد الطّلحات الموصوفين بالجود، روى عن عثمان، وغيره.
وفيها، أو في سنة ثمان توفي قيس بن أبي حازم الأحمسيّ البجليّ الكوفيّ وقد جاوز المائة، سمع أبا بكر، وطائفة من البدريّين، وكان أحد علماء المدينة [1] .
وفيها، أو في سنة ست محمود بن لبيد الأنصاريّ الأشهليّ.
قال البخاريّ: له صحبة [2] .
وذكره مسلم وغيره في التّابعين، وله عدّة أحاديث، قال بعض المحدّثين حكمها الإرسال [3] .
وفيها حجّ بالناس خليفتهم سليمان بن عبد الملك بن مروان، فتوفي معه بوادي القرى [4] أبو عبد الرّحمن موسى بن نصير الأعرج، الأمير الذي
__________
[1] على هامش الأصل: «الكوفة» .
[2] قلت: ذكر البخاري حديثا له في «تاريخه» (7/ 402) ولم يصرح بصحبته فراجعه.
[3] انظر «سير أعلام النبلاء» للذهبي (3/ 485) ، و «الإصابة» لابن حجر (9/ 139) .
[4] قال ياقوت: وادي القرى: واد بين الشام والمدينة، وهو بين تيماء وخيبر فيه قرى كثيرة وبها سمي وادي القرى. قال أبو المنذر: سمي وادي القرى لأن الوادي من أوله إلى آخره قرى منظومة، وكانت من أعمال البلاد، وآثار القرى إلى الآن بها ظاهرة إلّا أنها في وقتنا هذا كلها(1/390)
افتتح الأندلس وأكثر المغرب، ولم يهزم له جيش قطّ، وكان من رجال العالم حزما، ورأيا، وهمّة، ونبلا وشجاعة، وإقداما، وكان والده نصير على جيوش معاوية، وكان الوليد بن عبد الملك أرسل إلى عمّه وعامله على مصر عبد الله بن مروان: أن أرسل موسى بن نصير إلى إفريقية ففعل، فقدمها معه جماعة من الجند وخرج عليه [1] خارجة من البربر، فوجّه إليهم ولده عبد الله [2] ، فسبى منهم ما لم يسمع بمثله، بلغ الخمس ستين ألف رأس، وفي بعضها مائة وستين ألفا، ووقع قحط شديد، فخرج بالناس مستسقيا بشروط الاستسقاء، وخطب النّاس فقال له قائل: ألا تدعو لأمير المؤمنين الوليد؟ فقال: هذا مقام لا يذكر فيه غير الله، فسقوا، وانتهت، فتوجّه إلى السّوس [3] الأدنى ونزل بقية البربر بالطّاعة، وولّى عليهم واليا، وولّى على طنجة وأعمالها مولاه طارق ابن زياد البربريّ، ومهّد البلاد، ولم يبق منازع من البربر ولا من الرّوم، وترك خلقا كثيرا من العرب يعلّمون النّاس القرآن وفرائض الإسلام، ولما تقرّرت القواعد كتب إلى طارق بطنجة يأمره بغزو بلاد الأندلس، فركب البحر من سبتة إلى الجزيرة الخضراء، وصعد على جبل يعرف اليوم بجبل طارق، ورأى النبيّ صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الأربعة رضي الله عنهم يبشّرونه بالفتح وهم يمشون على الماء، وأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم بالوفاء بالعهد والرّفق
__________
خراب ومياهها جارية تتدفق ضائعة لا ينتفع بها أحد. وانظر تتمة كلامه في «معجم البلدان» (4/ 338) ، و (5/ 345) .
[1] في المطبوع: «عليها» ، وهو تحريف.
[2] في «الروض المعطار» للحميري ص (330) : أن الذي افتتحها هو عقبة بن نافع.
[3] قال الحميري: السوس في أقصى بلاد المغرب، وهي مدينة جليلة حاضرة جامعة لكل خير وفضل، وأهلها أخلاط، وهي بلاد السكر، ويصنع بها منه كل شيء كثير، ويتجهز منه إلى الآفاق، ويصل فاضله إلى أقصى خراسان، ويصنع بها من الخز العتيق كل جليلة، وبها فواكه كثيرة. «الروض المعطار» ص (329) ، وانظر «معجم البلدان» لياقوت (3/ 280، 281) .(1/391)
بالمسلمين [1] فجاءه ملك طليطلة في سبعين ألفا ومعه العجل تحمل الأموال والمتاع، فأمر طارق جيش المسلمين بالثبات، والصّبر، والصّدق، والعدوّ أمامهم، وكان النّصر للمسلمين، وافتتحوا إلى ساحل البحر المحيط ولله الحمد.
__________
[1] قلت: إن صح هذا النقل الذي لم يذكر المؤلف قائله فيكون طارق بن زياد رحمه الله رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة في المنام، وإلّا فإن هذا لم يكن لمن هو أفضل من طارق بن زياد تدينا وأثرا من القادة المسلمين الذين تقدموا عليه أو لحقوا به!!.(1/392)
سنة ثمان وتسعين
فيها غزا المسلمون قسطنطينية [1] وعليهم مسلمة بن عبد الملك [2] .
وافتتح يزيد بن المهلّب بن أبي صفرة جرجان [3] .
وفيها توفي أبو عمرو الشيبانيّ الكوفيّ، واسمه سعد بن إياس عن مائة وعشرين سنة، وكان يقرئ النّاس بمسجد الكوفة، وروى عن عليّ، وابن مسعود.
وفيها أبو هاشم عبد الله بن محمّد بن الحنفيّة [4] الهاشميّ المدنيّ، وهو الذي أوصى إلى محمّد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس، وصرف الشيعة إليه، ودفع إليه كتبا، وأسرّ إليه [5] أشياء.
وفيها، أو في التي بعدها توفي أبو عبد عبد الرّحمن الأسود بن يزيد النخعيّ الكوفيّ، الفقيه العابد، أدرك عمر، وسمع من عائشة.
__________
[1] وهي المعروفة في أيامنا ب «إستانبول» ، والتي كانت عاصمة للدولة العثمانية، آخر الدول الإسلامية الكبرى.
[2] انظر «تاريخ الإسلام» للذهبي (3/ 330، 331) ، فقد أورد الخبر بتوسع.
[3] جرجان: مدينة في إقليم خراسان من بلاد فارس. وهي الآن في إيران. انظر «الأمصار ذوات الآثار» للذهبي ص (69) بتحقيقي، طبع دار ابن كثير.
[4] في المطبوع: «عبد الله بن محمد بن الحنيفة» وهو خطأ.
[5] في الأصل، والمطبوع: «وأسر إليها» وهو خطأ. وما أثبتناه يقتضيه سياق النص، وهو موافق لما عند الزركلي في «الأعلام» (4/ 116) .(1/393)
وفيها على الصحيح توفي عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذليّ الضرير، أحد الفقهاء السبعة، ومؤدّب عمر بن عبد العزيز، قال ابن الجوزيّ في كتاب «ذمّ الهوى» [1] قدمت امرأة من هذيل المدينة فخطبها الناس وكادت تذهب بعقول أكثرهم لفرط جمالها، فقال فيها عبيد الله بن عبد الله بن عتبة:
أحبّك حبّا لو علمت ببعضه ... لجدت ولم يصعب عليك شديد
أحبّك حبّا لا يحبّك مثله ... قريب ولا في العاشقين بعيد
وحبّك [2] يا أمّ الصبيّ مدلّهي ... شهيدي أبو بكر فذاك شهيد
ويعلم وجدي قاسم بن محمّد ... وعروة ما ألقى بكم وسعيد
ويعلم ما عندي سليمان علمه ... وخارجة يبدي بنا ويعيد
متى تسألي عمّا أقول فتخبري ... فلله عندي طارف وتليد
فقال سعيد بن المسيّب: فقد أمنت أن تسألنا، ولو سألتنا ما طمعت أن نشهد لك [3] بزور.
وهؤلاء الذين استشهد بهم، وهو معهم فقهاء المدينة السبعة: أبو بكر بن عبد الرّحمن بن الحارث بن هشام، والقاسم بن محمّد بن أبي بكر الصّدّيق، وعروة بن الزّبير، وسعيد بن المسيّب، وسليمان بن يسار، وخارجة بن زيد بن ثابت، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود صاحب الترجمة.
وفيها كريب مولى ابن عبّاس، وكان كثير العلم كنزا له، كبير السنّ والقدر.
__________
[1] ص (166- 167) . تحقيق الأستاذ مصطفى عبد الواحد، ومراجعة الشيخ محمد الغزالي، طبع دار الكتب الحديثة بمصر.
[2] في الأصل، والمطبوع: «وحبيك» وهو خطأ، والتصحيح من «ذم الهوى» لابن الجوزي.
[3] لفظة «لك» لم ترد عند ابن الجوزي في «ذم الهوى» .(1/394)
قال موسى بن عقبة: وضع كريب عندنا عدل بعير من كتب ابن عبّاس.
وفيها الفقيهة الفاضلة عمرة بنت عبد الرّحمن الأنصاريّة، نشأت في حجر عائشة، فأكثرت الرواية عنها، وهي العدل الضابطة لما يؤخذ عنها
.(1/395)
سنة تسع وتسعين
فيها على خلاف توفي أبو الأسود ظالم بن عمرو الدؤليّ.
قال ابن قتيبة [1] : هو ظالم بن عمرو بن جندل بن سفيان بن كنانة، وأمّه من بني عبد الدّار بن قصيّ، وكان عاقلا، حازما بخيلا، وهو أول من وضع العربيّة، وكان شاعرا مجيدا، وشهد صفّين مع عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وولي البصرة لابن عبّاس، وفلج بالبصرة ومات بها، وقد أسنّ، فولد عطاء، وأبا حرب، وكان عطاء ويحيى [بن] [2] يعمر العدواني بعجا [3] العربية بعد أبي الأسود، ولا عقب لعطاء، وأمّا [أبو] [4] حرب بن أبي الأسود فكان عاقلا شاعرا، وولّاه الحجّاج جوخى [5] فلم يزل عليها حتى مات الحجّاج.
__________
[1] «المعارف» ص (434، 435) .
[2] لفظة «ابن» التي بين حاصرتين سقطت من الأصل، وأثبتناها من المطبوع، و «المعارف» لابن قتيبة.
[3] في الأصل، والمطبوع: «بعجبا» وهو خطأ، والتصحيح من «المعارف» لابن قتيبة.
ومعنى بعجا: أي شقا العربية، وأذلاها بعد أبي الأسود الدؤلي. (ع) .
[4] لفظة: «أبو» التي بين حاصرتين سقطت من الأصل، والمطبوع، واستدركناها من «المعارف» لابن قتيبة.
[5] قال البكري: جوخى بفتح أوله، وإسكان ثانيه، وبالخاء المعجمة، على وزن فعلى: بلد بالعراق، وهو ما سقي من نهر جوخى. قال محمد بن سهل: ولم يكن بالعراق عند الفرس كورة تعدل كورة جوخى، كان خراجها ثمانين ألف ألف. «معجم ما استعجم» ، للبكري (1/ 403) ، وانظر «معجم البلدان» لياقوت (2/ 179) .(1/396)
وقد روي الحديث عن أبي حرب [وله عقب بالبصرة، وعدد] [1] وهو القائل لولده: لا تجاودوا الله فإنه أجود وأمجد منكم، ولو شاء أن يوسّع على النّاس كلّهم، حتى لا يكون محتاج، لفعل، [ولا تجهدوا أنفسكم في التوسعة فتهلكوا هزالا] [2] .
وسمع رجلا يقول: من يعشّي الجائع؟ فعشّاه، ثم ذهب السائل ليخرج، فقال: هيهات! على أن لا تؤذي المسلمين الليلة، ووضع رجله في الأدهم [3] انتهى.
وقال ابن الأهدل [4] : هو ظالم بن عمرو الدّيلي، ويقال: الدؤلي نسبة إلى الدّيل من كنانة، وفتح بعضهم في النسبة لئلا تتوالى الكسرات، كما قالوا في النسبة إلى النّمر: نمري، وهي قاعدة مطوقة، وكان من خواصّ عليّ، وشهد معه صفّين، وكان من كمل الرّجال، وهو أول من وضع النحو، حكى ولده أبو حرب قال: أول ما وضع والدي باب التعجّب، وقيل له: من أين لك النحو، قال: تلقّنت حدوده من عليّ رضي الله عنه. انتهى.
وباع له دارا [5] بالبصرة، فقيل له: بعت دارك، فقال: بل بعت جاري، وكان جار سوء.
ودخل على بعض الولاة وعليه جبّة رثّة، فقال: يا أبا الأسود أما تملّ هذه الجبّة؟. فقال: رب مملوك لا يستطاع فراقه، فأمر له بمائة ثوب فقال:
__________
[1] ما بين حاصرتين زيادة من «المعارف» لابن قتيبة.
[2] ما بين حاصرتين زيادة من «المعارف» لابن قتيبة.
[3] قال ابن منظور: الدّهمة السواد. والأدهم الأسود، يكون في الخيل والإبل وغيرهما، فرش أدهم وبعير أدهم. «لسان العرب» «دهم» (2/ 1443) .
[4] هو حسين بن عبد الرحمن بن محمد الحسيني العلوي الهاشمي، بدر الدين، أبو محمد، مفتي الديار اليمنية، وأحد علمائها المتفننين، صاحب كتاب «تحفة الزمن في تاريخ سادات اليمن» ، المتوفى سنة (855 هـ) . «الأعلام» (2/ 240) .
[5] في المطبوع: «وباع دارا له» .(1/397)
كساني ولم أستكسه فحمدته ... أخ لك يعطيك الجزيل وناصر
وإنّ أحقّ النّاس إن كنت شاكرا ... بشكرك من يعطيك والعرض وافر
ومن شعره أيضا:
وما طلب المعيشة بالتّمنّي ... ولكن ألق دلوك في الدّلاء
تجيء بمثلها طورا وطورا ... تجيء بحمأة وقليل ماء
وكان موسرا مبخّلا [1] ، وعوتب في البخل فقال: لو أطعنا الفقراء في مالنا أصبحنا مثلهم.
وروي أنه عشّى سائلا لجوجا [2] وقيده، فقيل له في ذلك، فقال: لئلا يؤذي المسلمين الليلة.
وقيل له: عند الموت: أبشر بالمغفرة، فقال: وأين الحياء مما كانت منه المغفرة، وتوفي عن خمس وثمانين سنة.
وفيها توفي محمود بن الرّبيع الأنصاريّ الخزرجيّ المدنيّ، الذي عقل مجّة مجهّا رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه من بئر في دارهم وله أربع سنين.
وفيها نافع بن جبير بن مطعم النّوفليّ المدنيّ، وكان هو وأخوه محمد من علماء قريش وأشرافهم، توفي قريبا من أخيه محمّد بن جبير.
وفيها توفي عبد الله بن محيريز الجمحيّ المكيّ نزيل بيت المقدس، وكان عابد الشام في زمانه.
قال رجاء بن حيوة: إن تفخر علينا أهل المدينة بعابدهم ابن عمر، فإنّا نفخر عليهم بعابدنا ابن محيريز، وإن كنت لأعدّ بقاءه أمانا لأهل الأرض.
وفي عاشر صفر مات الخليفة أبو أيّوب سليمان بن عبد الملك الأمويّ
__________
[1] في المطبوع: «مبجّلا» وهو تصحيف.
[2] في المطبوع: «لحوحا» .(1/398)
وله خمس وأربعون سنة، وكانت خلافته أقلّ من ثلاث سنين، وكان فصيحا فهما محبّا للعدل والغزو، ذا همّة عالية، جهّز الجيوش لحصار القسطنطينية، وقرّب ابن عمّه عمر بن عبد العزيز، وجعله وزيره ومشيره، وعهد إليه بالخلافة، وكان أبيض مليح الوجه، يضرب شعره منكبيه، وله محاسن.
قيل: قال له حكيم: عندي لك أن تأكل ولا تشبع، وتنكح ولا تفتر، ويسودّ شعرك ولا يبيضّ، فقال: كلّهنّ يرغب عنهن العاقل، فمع الأكل كثرة دخول المراحيض، وشمّ الروائح المنتنة، وفي كثرة النّكاح الشّغل بالنّساء، وتسويد الشعر تسويد نور الله تعالى. [1] وقال في «مروج الذهب» [2] : لما أفضى الأمر إلى سليمان صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على رسوله [صلى الله عليه وسلم] ثم قال: الحمد لله الذي ما شاء صنع، وما شاء أعطى، وما شاء منع، ومن شاء رفع، ومن شاء وضع، أيّها الناس الدّنيا دار غرور وباطل، وزينة وتقلّب بأهلها، تضحك [3] باكيها، وتبكي ضاحكها، وتخيف آمنها، وتؤمّن خائفها، وتثري فقيرها، وتفقر مثريها، عباد الله: اتّخذوا كتاب الله إماما، وارضوا به حكما، واجعلوه لكم هاديا دليلا، فإنه ناسخ ما قبله، ولا ينسخه ما بعده، واعلموا عباد الله أنه ينفي عنكم كيد الشيطان ومطامعه، كما يجلو ضوء الصّبح إذا أسفر إدبار الليل إذا عسعس، ثم نزل، وأذن للناس عليه، وأقرّ عمّال من كان قبله على أعمالهم، وأقرّ خالد بن عبد الله [القسريّ] [4] على مكّة.
وكان سليمان صاحب أكل كثير يجوز المقدار، كان شبعه في كلّ يوم
__________
[1] (5/ 398- 414) من الطبعة الأوروبية المنشورة في تسع مجلدات في باريس بفرنسا.
[2] في «مروج الذهب» للمسعودي: «وما شاء رفع، وما شاء وضع» .
[3] في الأصل، والمطبوع: «فتضحك» ، وما أثبتناه من «مروج الذهب» للمسعودي.
[4] لفظة «القسري» زيادة من «مروج الذهب» للمسعودي.(1/399)
من الطّعام مائة رطل عراقيّ [1] وكان ربما أتاه الطّبّاخون بالسّفافيد [2] التي فيها الدّجاج المشوية وعليه جبّة [3] الوشي المثقلة [4] فلنهمه وحرصه على الطّعام يدخل يده في كمّه حتى يقبض على الدجاجة وهي حارّة فيفصلها.
وحدّث المنقري [5] عن العتبي [6] عن إسحاق بن إبراهيم [7] بن الصّبّاح بن مروان، وكان مولى لبني أميّة من أرض البلقاء من أعمال دمشق، وكان حافظا لأخبار بني أميّة قال: لبس سليمان يوما في جمعة من ولايته لباسا تشهّر به وتعطّر، ودعا بتخت فيه عمائم، وبيده مرآة، فلم يزل يعتمّ [8] بواحدة بعد أخرى، حتى رضي منها واحدة، فأرخى من سدولها، وأخذ بيده مخصرة [9] وعلا منبره ناظرا في عطفيه [10] ، وجمع حشمه. و [خطب] [11]
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «بالعراقي» ، وما أثبتناه من «مروج الذهب» للمسعودي.
[2] السفافيد، مفردها سفود على وزن تنّور، وهي حديدة يشوى بها اللحم، وتسفيد اللحم:
نظمه فيها للاشتواء. (ع) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «الجبة» وما أثبتناه من «مروج الذهب» للمسعودي.
[4] في الأصل: «المشغلة» وهو خطأ، وما أثبتناه من المطبوع، وهو موافق لما في «مروج الذهب» للمسعودي.
[5] هو موسى بن إسماعيل المنقري التبوذكي، أبو سلمة، حافظ للحديث، ثقة، من أهل البصرة، المتوفى سنة (223 هـ) . انظر «الأعلام» للزركلي (7/ 320) م، وسوف ترد ترجمته في المجلد الثالث من كتابنا هذا.
[6] هو محمد بن عبيد الله بن عمرو العتبي، أبو عبد الرحمن، أديب كثير الأخبار، حسن الشعر، من أهل البصرة، قال ابن قتيبة: الأغلب عليه الأخبار، وأكثر أخباره عن بني أمية، توفي سنة (228 هـ) . وهو غير العتبي المؤرّخ المتوفى سنة (427 هـ) . انظر «الأعلام» للزركلي (6/ 258، 259) ، وسوف ترد ترجمته مفصلة في المجلد الثالث من كتابنا هذا.
[7] في المطبوع: «عن إسحاق بن إبراهيم» وهو تحريف.
[8] في الأصل: «يقيم» وهو خطأ، وما أثبتناه من المطبوع، وهو موافق لما في «مروج الذهب» للمسعودي.
[9] مخصرة، كمكنسة: ما يتوكأ عليه كالعصا ونحوه. وما يأخذه الملك إذا خاطب، والخطيب إذا خطب. (ع) .
[10] أي ناظرا في رداءيه كبرا، لأن العطاف ككتاب والمعطف، كمنبر: الرداء، والسيف. (ع) .
[11] لفظة «خطب» زيادة من «مروج الذهب» للمسعودي.(1/400)
خطبته التي أرادها، التي يريد يخطب بها الناس، فأعجبته نفسه، فقال: أنا الملك الشابّ السّيّد [1] الحجاب [2] الكريم الوهّاب، فتمثّلت له جارية [من جواريه] [3] وكان يتحظّاها، فقال لها: كيف ترين أمير المؤمنين، قالت: أراه منى النفس، وقرّة العين، لولا ما قال الشاعر، قال: وما قال [الشاعر؟] [4] قالت قال:
أنت نعم المتاع لو كنت تبقى ... غير أن لا بقاء للإنسان
ليس أنّا يريبنا منك شيء ... علم الله غير أنّك فان
فدمعت عيناه، وخرج على النّاس باكيا، فلما فرغ من خطبته وصلاته دعا بالجارية فقال لها: ما دعاك إلى ما قلت لأمير المؤمنين؟ فقالت: والله ما رأيت أمير المؤمنين اليوم ولا دخلت عليه، فأكبر ذلك ودعا بقيّمة [5] جواريه فصدّقتها [6] في قولها، فراع ذلك سليمان، ولم ينتفع بنفسه، ولم يمكث بعد ذلك إلّا مدّة حتى توفي.
وكان يقول: قد أكلنا الطّيّب، ولبسنا اللّيّن، وركبنا الفاره، ولم يبق [7] لي لذّة إلّا صديق أطرح معه فيما بيني وبينه مؤونة [8] التّحفّظ.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «أنا الملك الكريم الحجاب الكريم» وما أثبتناه من «مروج الذهب» للمسعودي.
[2] الحجاب: ما حال بين شيئين، وما طال وأشرف من الجبل، وما احتجب به.
[3] ما بين حاصرتين زيادة من «مروج الذهب» للمسعودي.
[4] لفظة «الشاعر» زيادة من «مروج الذهب» للمسعودي.
[5] في الأصل: «بقية» وهو تحريف، وما أثبتناه من المطبوع، وهو موافق لما في «مروج الذهب» للمسعودي.
[6] في الأصل: «فصدقنها» وهو تصحيف، وما أثبتناه من المطبوع، وهو موافق لما في «مروج الذهب» للمسعودي.
[7] في المطبوع: «ولم تبق» وما جاء في الأصل موافق لما في «مروج الذهب» للمسعودي.
[8] في «مروج الذهب» للمسعودي: «مؤنة» .(1/401)
ووقف سليمان على قبر ولده أيّوب، وبه كان يكنى، فقال: اللهمّ إني أرجوك له، وأخافك عليه، فحقّق رجائي، وآمن خوفي [1] .
وبالجملة فإنّه كان من أحسن بني أميّة حالا، ولو لم يكن له إلّا [2] ما عمر في مسجد دمشق، وعهده بالخلافة لعمر بن عبد العزيز لكفى، فرحمه الله تعالى وتجاوز عنه.
__________
[1] انتهى نقل المؤلف عن «مروج الذهب» للمسعودي.
[2] في المطبوع: «ولو لم يكن له لا ما عمر» .(1/402)
سنة مائة
فيها توفي أبو أمامة أسعد بن سهل بن حنيف الأنصاريّ الدّوسيّ المدنيّ، ولد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عن عمر، وجماعة، وكان من علماء المدينة.
وفيها، وقيل: في سنة عشر ومائة توفي أبو الطّفيل عامر بن واثلة بن الأسقع الكنانيّ الليثيّ بمكة، وهو آخر من مات ممن رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم في الدّنيا، روي أنّه ولد عام أحد، وأدرك من النبيّ صلى الله عليه وسلم ثمان سنين، وكان عاقلا، حاضر الجواب، يفضّل عليّا، ويثني على الشّيخين، ويترحّم على عثمان، والعجب أنّ ابن قتيبة عدّه من غالية الشيعة [1] ، وممن يؤمن بالرّجعة. وكان يقول الشعر، ومن قوله:
أتدعونني [2] شيخا وقد عشت حقبة ... وهنّ من الأزواج نحوي فوارع [3]
وما شاب رأسي عن سنيّ [4] تتابعت ... عليّ ولكن شيّبتني الوقائع [5]
__________
[1] «المعارف» لابن قتيبة ص (341) .
[2] في «المعارف» : «أيدعونني» ، وهي كذلك في «أسد الغابة» لابن الأثير.
[3] في «المعارف» لابن قتيبة: «نزائع» ، وقال محققه: وفي نسخ أخرى: «نوازع» ، وهي كذلك في «أسد الغابة» .
[4] في «المعارف» لابن قتيبة: «عن سنين» ، وهي كذلك في «أسد الغابة» .
[5] البيتان في «المعارف» لابن قتيبة ص (342) ، و «أسد الغابة» لابن الأثير (6/ 180) .(1/403)
وقوله:
وبقيت سهما في الكنانة واحدا ... سيرمى به أو يكسر السّهم كاسره [1]
وفيها بسر بن سعيد المدنيّ الزّاهد العابد المجاب الدّعوة، روى عن عثمان، وزيد بن ثابت وله ولاء لبني الحضرميّ.
وفيها، وقيل: قبلها أو بعدها بعام سالم بن أبي الجعد الكوفيّ، من مشاهير المحدّثين [2] .
وخارجة بن زيد بن ثابت الأنصاريّ المدنيّ المفتيّ، أحد الفقهاء السّبعة، تفقّه على والده.
وفيها أبو عثمان النّهديّ عبد الرّحمن بن ملّ [3] بالبصرة، وهو أحد المخضرمين، أسلم في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأدّى الزّكاة إلى عمّاله صلى الله عليه وسلم ولم يره، وحجّ في الجاهلية، وعاش مائة وثلاثين سنة، وصحب سلمان اثنتي عشرة سنة.
وشهر بن حوشب الأشعري الشامي، كان كثير الرواية، حسن الحديث، وقرأ القرآن على ابن عبّاس، وكان عالما كبيرا.
وفيا حنش بن عبد الله الصّنعاني- صنعاء دمشق [4]- كان مع عليّ بالكوفة [5] ، ثم ولي عشور إفريقية، وروى عن جماعة.
__________
[1] البيت في «المعارف» لابن قتيبة ص (341) .
[2] انظر «المعارف» لابن قتيبة، و «تقريب التهذيب» لابن حجر (1/ 279) .
[3] قال الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (4/ 175) : وقيل: ابن قلي.
[4] قال ياقوت: صنعاء قرية على باب دمشق دون المزّة مقابل مسجد خاتون، خربت، وهي اليوم مزرعة وبساتين ... وقد نسب إليها جماعة من المحدّثين. «معجم البلدان» (3/ 429) .
[5] قال الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (4/ 493) : وهم ابن يونس، وابن عساكر في أنه صاحب علي، لأن ذاك خنش بن ربيعة، أو ابن المعتمر الكناني الكوفي، يروي عنه الحكم، وإسماعيل بن أبي خالد، وأهل الكوفة، وفيه لين، مات قبل التسعين.(1/404)
ومسلم بن يسار البصريّ، روى عن أبي عمر وغيره، وكان من عبّاد البصرة وفقهائها.
قال ابن عون [1] كان لا يفضل عليه أحد في زمانه.
وقال ابن سعد: كان ثقة فاضلا عابدا ورعا [2] .
وعيسى بن طلحة بن عبيد الله القرشيّ التيميّ، أحد أشراف قريش وعقلائها وعلمائها، روى عن أبيه وجماعة.
__________
[1] في المطبوع: «ابن عوف» وهو تحريف.
[2] «الطبقات الكبرى» (7/ 188) .(1/405)
تم بعون الله تعالى وتوفيقه المجلد الأول من كتاب «شذرات الذهب في أخبار من ذهب» للإمام ابن العماد الحنبلي، وكان الفراغ من تحقيقه في السادس والعشرين من شهر رجب لعام (1405 هـ) والحمد لله على ما أنعم ووفق.
ونسأله تعالى أن يعيننا على تحقيق المجلدات المتبقية من الكتاب، وأن ينفع بعملنا المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، إنه خير مسؤول.
محمود الأرناؤوط(1/406)
[المجلد الثاني]
سنة إحدى ومائة
في رجب منها توفي الخليفة العادل، أمير المؤمنين وخامس الخلفاء الرّاشدين أبو حفص عمر بن عبد العزيز [1] بن مروان الأمويّ بدير سمعان من أرض المعرّة [2]
__________
[1] في المطبوع: «عمر بن العزيز» وهو خطأ.
[2] قال الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (5/ 144) : روى خليفة بن خيّاط وغيره، أن عمر بن عبد العزيز مات يوم الجمعة لخمس بقين من رجب سنة إحدى ومائة بدير سمعان من أرض حمص. قال: وإنما هو من أرض المعرّة، ولكن المعرّة كانت من أعمال حمص هي وحماة.
قلت: وذكر ابن قتيبة في «المعارف» ص (363) ، والسّيوطي في «تاريخ الخلفاء» ص (246) بأنه توفي في دير سمعان من أرض حمص. وفي ذلك تأييد لما ذكره الذهبي في «سير أعلام النبلاء» ، وتقوية لما ذهب إليه المؤلف ابن العماد رحمه الله.
واضطرب الفيروزآبادي في «القاموس المحيط» والزبيدي في «تاج العروس» (دير) في تحديد مكان وفاته، فجزما بأنه مات بدير سمعان من أرض دمشق وبه دفن، ثم ذكرا في مادة (سمع) بأنه دفن في دير سمعان من أرض حمص.
وجزم ياقوت في «معجم البلدان» (2/ 517) ، والحميري في «الروض المعطار» ص (251) بأنه دفن في دير سمعان بنواحي دمشق. قال ياقوت: وروي أن صاحب الدير دخل على عمر بن عبد العزيز في مرضه الذي مات فيه بفاكهة أهداها له، فأعطاه ثمنها، فأبى الدّيراني أخذه، فلم يزل به حتى قبض ثمنها، ثم قال: يا ديراني إني بلغني أن هذا الموضع ملككم، فقال: نعم، فقال: إني أحب أن تبيعني منه موضع قبر سنة، فإذا حال الحول فانتفع به.
فبكى الدّيرانيّ، وباعه، فدفن فيه. وقال كثيّر:
سقى ربّنا من دير سمعان حفرة ... بها عمر الخيرات رهنا دفينها(2/5)
وله أربعون سنة [1] وخلافته سنتان وستة أشهر وأيام كخلافة الصّدّيق، وكان أبيض جميلا نحيف الجسم، حسن اللحية، بجبهته أثر حافر فرس شجّه وهو صغير، فلذا كان يقال: أشجّ بني أميّة، يذكر أن في «التوراة» أشجّ بني أميّة تقتله خشية الله، حفظ القرآن في صغره، وبعثه أبوه من مصر إلى المدينة فتفقه بها حتى بلغ رتبة [2] الاجتهاد. جده لأمه عاصم بن عمر بن الخطّاب، وذلك أن عمر خرج طائفا ذات ليلة فسمع امرأة تقول لبنيّة لها:
اخلطي الماء في اللبن، فقالت البنية: أما سمعت منادي عمر بالأمس ينهى عنه؟ فقالت: إنّ عمر لا يدري عنك، فقالت البنية: والله ما كنت لأطيعه علانية وأعصيه سرّا، فأعجب عمر عقلها، فزوجها ابنه عاصما، فهي جدة عمر بن عبد العزيز.
قال السيد الجليل رجاء بن حيوة [3] : استشارني سليمان بن عبد الملك فيمن يعهد إليه بالخلافة، فأشرت بعمر، فقال: فكيف ببني عبد الملك؟! فقلت: اكتب العهد واختمه وبايع لمن فيه، ففعل، فلما مات كتمنا موته، ثم قلت: بايعوا لأمير المؤمنين ثانيا على السمع والطاعة لمن في الكتاب، ففعلوا، فقلت: أعظم الله أجركم في أمير المؤمنين، ثم أخرجت الكتاب
__________
صوابح من مزن ثقالا غواديا ... دوالح دهما ماخضات دجونها
وقال الشريف الرضي:
يا بن عبد العزيز لو بكت العي ... ن فتى من أميّة لبكيتك
أنت أنقذتنا من السّبّ والشت ... م فلو أمكن الجزا لجزيتك
دير سمعان لا عدتك العوادي ... خير ميت من آل مروان ميتك
وانظر «آثار البلاد وأخبار العباد» للقزويني ص (196) .
[1] قلت: وفي «المعارف» أنه كان ابن تسع وثلاثين سنة. وفي «سير أعلام النبلاء» ، و «تاريخ الخلفاء» أنه كان ابن تسع وثلاثين سنة ونصف السنة.
[2] في المطبوع: «مرتبة» .
[3] في الأصل: «رجاء بن حياة» وهو تحريف، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب، وانظر ترجمته في ص (64) من هذا المجلد.(2/6)
فوجموا [1] ولم يقولوا شيئا، ثم خرجوا في جنازته ركبانا، وخرج عمر يمشي، فلما رجعوا [2] أرسل عمر إلى نسائه من أرادت منكن الدّنيا فلتلحق بأهلها، فإن عمر قد جاءه شغل شاغل، فسمعت النوائح في بيته يومئذ.
وقال أيضا: قوّمت ثياب عمر وهو يخطب باثني عشر درهما، وكانت حلته قبل ذلك بألف درهم لا يرضاها، وقال: إن لي نفسا ذوّاقة توّاقة، كلما ذاقت شيئا تاقت [إلى] [3] ما فوقه، فلما ذاقت الخلافة- ولم يكن شيء في الدّنيا فوقها- تاقت إلى ما عند الله في الآخرة، وذلك لا ينال إلّا بترك الدّنيا.
ومن كلامه- رضي الله عنه-: ينبغي في القاضي خمس خصال:
العلم بما يتعلق به، والحلم عند الخصومة، والزّهد عند الطمع، والاحتمال للأئمة، والمشاورة لذوي العلم.
وعاتب مسلمة بن عبد الملك أخته فاطمة زوجة عمر في ترك غسل ثيابه في مرضه [4] فقالت: إنه لا ثوب له غيره.
وكان مع عدله وفضله حليما رقيق الطبع.
ومن ألطف ما حكي عنه ما ذكره في «مروج الذهب» [5] قال: كان رجل من [أهل] العراق أتى المدينة [6] في طلب جارية وصفت له قارئة [7] قوّالة،
__________
[1] أي: سكتوا على غيظ. انظر «لسان العرب» (وجم) .
[2] تحرفت في الأصل إلى «رجوا» ، وأثبت ما في المطبوع.
[3] لفظه «إلى» سقطت من الأصل، وأثبتها من المطبوع. وتاقت أي: اشتاقت.
[4] في المطبوع: «في مرض» وهو تحريف.
[5] «مروج الذهب» (3/ 197- 199) بتحقيق الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد، والمؤلف ينقل عنه بتصرف.
[6] في الأصل، والمطبوع: «كان رجل من المدينة أتى العراق» وهو خطأ، والتصحيح من «مروج الذهب» ولفظة «أهل» التي بين حاصرتين زيادة منه.
[7] تحرفت في «مروج الذهب» إلى «قارثة» فتصحح فيه.(2/7)
فسأل عنها، فوجدها عند قاضي البلد، فأتاه، ثم سأله أن يعرضها عليه، فقال:
يا عبد الله لقد أبعدت الشّقّة [1] في طلب هذه الجارية، فما رغبتك فيها؟ لما رأى من شدة إعجابه [بها] [2] قال: إنها تغنّي فتجيد، فقال القاضي:
ما علمت بهذا، فألح عليه في عرضها، فعرضت [3] بحضرة مولاها القاضي، فقال لها الفتى: هات، فتغنّت [4] :
إلى خالد حتّى أنخن [5] بخالد ... فنعم الفتى يرجى ونعم المؤمّل
ففرح القاضي بجاريته وسرّ بها [6] ، وغشيه من الطرب أمر عظيم حتّى أقعدها على فخذه وقال: هات بأبي أنت وأمي شيئا، فتغنّت [7] :
أروح إلى القصّاص كلّ عشيّة ... أرجّي ثواب الله في عدد الخطا
فزاد الطرب على القاضي، ولم يدر ما يصنع، فأخذ نعله فعلّقها في أذنه وجثا على ركبتيه، وجعل يأخذ بإحدى أذنيه [8] والنعل معلّق فيها ويقول: أهدوني [إلى البيت الحرام] [9] فإني بدنة، فلما أمسكت قال للفتى: يا حبيبي، انصرف، فقد كنا فيها راغبين قبل أن نعلم أنها تقول، ونحن الآن فيها أرغب، فانصرف الفتى، وبلغ ذلك عمر بن عبد العزيز فقال:
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «أجدت الشقة» وهو خطأ، والتصحيح من «مروج الذهب» . والشّقّة:
بعد مسير إلى الأرض البعيدة، والشّقّة أيضا السفر الطويل. انظر «لسان العرب» (شقق) .
[2] لفظة «بها» سقطت من الأصل والمطبوع، واستدركتها من «مروج الذهب» .
[3] في الأصل، والمطبوع: «فعرضها» وأثبت ما في «مروج الذهب» .
[4] في «مروج الذهب» : «فغنت» .
[5] في الأصل، والمطبوع: «حتى أنخنا» والتصويب من «مروج الذهب» .
[6] في «مروج الذهب» : «وسرّ بغنائها» .
[7] في «مروج الذهب» : «فغنت» .
[8] في «مروج الذهب» : «وجعل يأخذ بطرف أذنه» .
[9] ما بين حاصرتين زيادة من «مروج الذهب» .(2/8)
قاتله الله، لقد استرقّه الطّرب، وأمر بصرفه عن عمله [1] ، فلما صرف قال:
نساؤه طوالق، لو سمعها عمر لقال: اركبوني فإني مطية، فبلغ ذلك عمر، فأشخصه، وأشخص الجارية، فلما دخلا على عمر، قال له: أعد ما قلت، قال: نعم، فأعاده، ثم قال للجارية: قولي، فتغنّت [2] :
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصّفا ... أنيس ولم يسمر بمكّة سامر
بلى نحن كنّا أهلها فأبادنا ... صروف اللّيالي والجدود العواثر [3]
فما فرغت [من هذا الشعر] [4] حتّى طرب عمر طربا بيّنا [5] ، وأقبل يستعيدها ثلاثا، وقد بلّت دموعه لحيته، ثم أقبل على القاضي فقال:
لقد قاربت في يمينك، ارجع إلى عملك راشدا. انتهى.
وبالجملة فمناقبه عديدة قد أفردت بالتصنيف.
ومما رثاه به جرير:
لو كنت أملك والأقدار غالبة ... تأتي رواحا وتبيانا [6] وتبتكر
رددت عن عمر الخيرات مصرعه ... بدير سمعان لكن يغلب القدر [7]
وفيها، أو في سنة مائة، توفي ربعيّ بن حراش أحد علماء الكوفة وعبّادها،
__________
[1] في «مروج الذهب» : «وأمر بصرفه من عمله» .
[2] في «مروج الذهب» : «فغنت» .
[3] في «مروج الذهب» : «والجدود العوائر» .
[4] ما بين حاصرتين زيادة من «مروج الذهب» .
[5] في الأصل، والمطبوع: «حتى اضطرب عمر اضطرابا مبينا» وأثبت ما في «مروج الذهب» .
[6] في الأصل، والمطبوع: «وتبييتا» وهو خطأ، والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» ، و «البداية والنهاية» .
[7] لم أجدهما في «ديوانه» المطبوع في دار المعارف بمصر بتحقيق الدكتور نعمان محمد أمين طه، وقد أوردهما الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (5/ 147) ، والعامري في «غربال الزمان» ص (94) ونسباهما لجرير. وأوردهما الحافظ ابن كثير في «البداية والنهاية» (9/ 212) مع أربعة أبيات، أخرى ونسبهما لمحارب بن دثار.(2/9)
قيل: إنه لم يكذب قطّ، وشهد خطبة [عمر] [1] بالجابية [2] وحلف لا يضحك حتّى يعلم أفي الجنّة هو أم في النّار.
وفيها مقسم [3] مولى ابن عبّاس، ولم يكن مولاه، بل مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل، وأضيف إلى ابن عبّاس لملازمته إياه.
ومحمّد بن مروان بن الحكم، الأمير، ولد الخليفة مروان، وكان بطلا شجاعا شديد البأس، له عدة مصافّات [4] مع الرّوم، وكان متولي الجزيرة [5] وغيرها.
وفيها، وقيل: في سنة خمس وتسعين، الحسن بن محمّد بن الحنفيّة الهاشميّ العلويّ [6] .
روي أنه صنف كتابا في الإرجاء ثم ندم عليه، وكان من عقلاء قومه وعلمائهم.
وفيها استعمل يزيد بن عبد الملك أخاه مسلمة على إمرة العراقين، وأمره بمحاربة يزيد بن المهلّب- وكان قد خرج عليهم- فحاربه حتّى قتل في السنة الآتية.
__________
[1] لفظة «عمر» التي بين حاصرتين سقطت من الأصل، وأثبتها من المطبوع.
[2] الجابية: قرية من أعمال دمشق، ثم من عمل الجيدور من ناحية الجولان قرب مرج الصفّر في شمالي حوران، إذا وقف الإنسان في [بلدة] الصنمين واستقبل الشمال ظهرت له، وتظهر من نوى أيضا، وهي جابية الملوك، وباب الجابية بدمشق منسوب إليها. انظر «معجم ما استعجم» للبكري (1/ 355) ، و «معجم البلدان» لياقوت (2/ 91) .
[3] قال الحافظ ابن حجر: هو مقسم بن بجرة، بضم الموحدة وسكون الجيم، ويقال نجدة بفتح النون وبدال، أبو القاسم. «تقريب التهذيب» (2/ 273) بتصرف.
[4] أي: عدة مقابلات. انظر «لسان العرب» «صفف» .
[5] يعني جزيرة أقور التي بين دجلة والفرات والمقسمة الآن بين أراضي سورية والعراق وتركيا. انظر «الأمصار ذوات الآثار» للذهبي ص (57) بتحقيقي، طبع دار ابن كثير.
[6] نسبة إلى جده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه.(2/10)
قال الذهبيّ في «العبر» [1] : وممن توفي بعد المائة:
إبراهيم بن عبد الله بن حنين المدنيّ، له عن أبي هريرة.
وإبراهيم بن عبد الله [بن معبد] [2] بن عبّاس الهاشميّ المدنيّ. له عن ابن عبّاس، وميمونة [3] .
وعبد الله بن شقيق العقيليّ البصريّ، سمع من عمر، والكبار.
والقطاميّ الشاعر المشهور [4] .
ومعاذة العدويّة [5] الفقيهة العابدة بالبصرة.
وعراك بن مالك المدنيّ.
ومورّق، العجليّ.
وبشير بن يسار، المدنيّ الفقيه.
__________
[1] «العبر في خبر من عبر» (1/ 122) بتحقيق الدكتور صلاح الدين المنجد، طبع وزارة الإعلام في الكويت.
[2] ما بين حاصرتين سقط من الأصل، وأثبته من المطبوع، و «العبر» .
[3] هي أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلالية المتوفاة سنة (51) هـ: انظر خبرها في المجلد الأول من كتابنا هذا ص (219) و (248) .
[4] اختلف في اسمه فقيل: عمرو بن شييم، وقيل: عمير بن شييم، القطامي، واختلف في سنة وفاته أيضا. انظر «طبقات فحول الشعراء» (2/ 534) ، و «الأعلام» (5/ 88- 89) .
[5] هي معاذة بنت عبد الله العدوية البصرية، أمّ الصّهباء. روت عن علي بن أبي طالب، وعائشة، وهشام بن عامر.
وحدّث عنها أبو قلابة الجرمي، ويزيد الرّشك، وعاصم الأحول، وعمر بن ذر، وإسحاق بن سويد، وأيوب السّختياني، وآخرون.
وحديثها محتج به في الصّحاح، وقد ساق الحافظ عبد الغني المقدسي أحد الأحاديث التي روتها عن السيدة عائشة مما أخرجه الشيخان وغيرهما في كتابه «عمدة الأحكام» ص (53- 54) بتحقيقي.
وقد ذكرت بعض المصادر والمراجع التي بين يديّ أنها ماتت سنة (83) هـ خلافا لما ذكره المؤلف ابن العماد رحمه الله، منها «سير أعلام النبلاء» (4/ 508- 509) ، و «الأعلام» (7/ 259) .(2/11)
وأبو السّوّار العدويّ [1] البصريّ، صاحب عمران بن حصين.
وعبد الرّحمن بن كعب بن مالك الأنصاري.
وابن أخيه عبد الرّحمن بن عبد الله.
وحفصة بنت سيرين، الفقيهة العابدة.
وعائشة بنت طلحة التيميّة، التي أصدقها مصعب بن الزّبير مائة ألف دينار.
وعبد الرحمن بن أبي بكرة، أوّل من ولد بالبصرة.
ومعبد بن كعب بن مالك.
وذو الرّمّة الشاعر المشهور. انتهى.
قلت: وذو الرّمّة أحد فحول الشعراء، واسمه غيلان، [2] وأحد العشّاق
__________
[1] قلت: جزم ابن معين في «معرفة الرجال» (2/ 98) طبع مجمع اللغة العربية بدمشق، والبخاري في «التاريخ الصغير» (1/ 194) ، وابن حبّان في «مشاهير علماء الأمصار» ص (96) بأن اسمه حسّان بن حريث، وفي «العبر» : «صاحب عمران بن حنين» وهو خطأ.
وقال ابن حجر في «تقريب التهذيب» (2/ 432) : قيل اسمه حسان بن حريث، وقيل:
حريث بن حسان، وقيل: حريف، آخره فاء، وقيل: منقذ، وقيل: حجير بن الربيع.
وذكر الذهبي في «الكاشف» (3/ 303) بأنه روى عن علي بن أبي طالب، وعمران بن حصين رضي الله عنهما. وذكره بكنيته ولم يذكر اسمه.
[2] قال الزركلي: هو غيلان بن عقبة بن نهيس بن مسعود العدوي، من مضر، أبو الحارث، ذو الرّمّة، شاعر من فحول الطبقة الثانية في عصره. قال أبو عمرو بن العلاء، فتح الشعر بامرئ القيس، وختم بذي الرّمّة. وكان شديد القصر، دميما، يضرب لونه إلى السواد، أكثر شعره تشبيب وبكاء أطلال، يذهب في ذلك مذهب الجاهليين. وكان مقيما بالبادية، يحضر إلى اليمامة والبصرة كثيرا. وامتاز بإجادة التشبيه. قال جرير: لو خرس ذو الرّمّة بعد قصيدته: «ما بال عينك منها الماء ينسكب» لكان أشعر الناس. مات سنة (117) هـ. «الأعلام» (5/ 124) ، وانظر «شرح أبيات المغني» للبغدادي (1/ 233) .
قلت: وقد طبع ديوانه أربع مرات أفضلها وأجودها التي صدرت بتحقيق الدكتور عبد القدوس أبو صالح.(2/12)
المشهورين من العرب، وصاحبته ميّة ابنة مقاتل بن طلبة [1] بن قيس بن عاصم المنقري التميميّ، [وقيس بن عاصم هو] [2] الذي قال فيه رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- حين وفد عليه: «هذا سيّد أهل الوبر» [3] وهو أول من وأد البنات غيرة وأنفة.
وسبب فتنته بها، أنه لحظها وهي خارجة من خبائها [4] ، فخرّق إداوته [5] ثم دنا يستطعم حديثها، فقال إني مسافر [6] وقد تخرّقت إداوتي [7] فأصلحيها لي، فقالت: والله إني لخرقاء [8]- والخرقاء التي لا تحسن العمل لكرامتها على أهلها [9]- فشبّب بالخرقاء أيضا، وهي ميّة [10] .
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «مقاتل بن طليب» وهو تحريف، والتصحيح من «وفيات الأعيان» لابن خلكان (4/ 11) مصدر المؤلف.
[2] ما بين حاصرتين سقط من الأصل، والمطبوع، واستدركته من «وفيات الأعيان» لابن خلكان.
[3] قلت: قال الحافظ ابن حجر في «الإصابة» (8/ 197) : قال ابن سعد: كان- قيس بن عاصم- قد حرّم الخمر في الجاهلية، ثم وفد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وفد بني تميم، فأسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «هذا سيّد أهل الوبر» ، وكان سيدا جوادا، ثم ساق بسند حسن إلى الحسن، عن قيس بن عاصم قال: أتيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فلما دنوت منه قال: «هذا سيّد أهل الوبر» فذكر الحديث.
وذكر الحديث أيضا ابن عبد البر في «الاستيعاب» على هامش «الإصابة» (9/ 180) ، وابن الأثير في «أسد الغابة» (4/ 432) كلاهما في ترجمة قيس بن عاصم رضي الله عنه.
[4] أي من بنائها.
وفي «ديوان ذي الرّمّة» و «وفيات الأعيان» : وهي خارجة من خباء» .
[5] في الأصل، والمطبوع: «فخرق ثيابه أو دلوه» وهو خطأ، والتصحيح من «ديوان ذي الرّمّة» (1/ 370) ، و «وفيات الأعيان» . قال الزبيدي في «تاج العروس» : الإداوة- بالكسر- المطهرة، وهي إناء صغير من جلد يتخذ للماء.
[6] في «ديوان ذي الرّمّة» ، و «وفيات الأعيان» : «إني رجل على ظهر سفر» .
[7] في الأصل والمطبوع: «أرداني» .
[8] في الأصل، والمطبوع: «إني خرقاء» وأثبت ما في «ديوان ذي الرّمة» ، و «وفيات الأعيان» .
[9] في «وفيات الأعيان» : «والخرقاء التي لا تعمل شغلا لكرامتها على أهلها» ، وعبارة كتابنا موافقة لعبارة «ديوان ذي الرّمة» .
[10] قال الدكتور عبد القدوس أبو صالح في تعليقه على «ديوان ذي الرّمّة» (1/ 369) : اختلف في(2/13)
ويروى [1] أن ذا الرّمّة لم ير ميّة قطّ إلّا في برقع، فأحبّ أن ينظر إلى وجهها فقال:
جزى الله البراقع من ثياب ... عن الفتيان شرّا ما بقينا
بوارين الملاح فلا نراها ... ويخفين القباح فيزدهينا [2]
فنزعت البرقع عن وجهها فقال:
على وجه ميّ مسحة من ملاحة ... وتحت الثّياب العرّ [3] لو كان باديا [4]
__________
خرقاء أهو لقب لميّة، أم هو اسم لغيرها؟ .. وقد نقل في «الخزانة» (1/ 52) عن ثعلب قوله: وكان ذو الرّمّة يسمي ميّة خرقاء لقولها: إني خرقاء. وذهب ابن قتيبة في «الشعر والشعراء» ص (509) إلى قوله: وكان يشبب أيضا بخرقاء. وهي من بني البكاء بن عامر بن صعصعة. وقد ورد هذا النسب في «جمهرة الأنساب» ص (64) ، و «صفة جزيرة العرب» للهمداني ص (334) ، و «معاهد التنصيص» (2/ 262) ، و «شواهد المغني» للسيوطي (150) ، و «الخزانة» (4/ 495) ، و «الصحاح» ، و «اللسان» ، و «القاموس» (خرق) ، أما صاحب الأغاني (16/ 116- 120) فهو يذكر حينا أن خرقاء لقب لمية، ويذكر حينا آخر أنه لقب أو اسم لامرأة من بني عامر، وينقل أن ميّة أغضبت ذا الرّمّة فتغزل بخرقاء، يريد أن يغيظها بذلك، فقال فيها قصيدتين أو ثلاثا، ثم لم يلبث أن مات. وقد عمدت إلى استعراض «الديوان» كله، فرأيت ذا الرّمّة ذكر خرقاء وحدها في قصيدتين فقط، وذكرها مع ميّة في سبع قصائد، ويكاد الناظر في هذه القصائد المشتركة بينهما يجزم بأن خرقاء غير ميّة، ولا سيما أن الشاعر ما يلبث بعد ذكره ميّة في مطلع القصيدة (5) أن يتغزل بحسان ربيعة عامر وهم قوم خرقاء كما تقدم. بل إن أبا الفرج يعدد الأسباب التي قيلت في سبب عدوله إلى خرقاء «الأغاني» (16/ 119) . وهكذا لا نجد بدا من ترجيح ما ذهب إليه الأصمعي هنا، ولا سيما أن أبا نصر يذكر بعد قليل نسب خرقاء، وينقل خبرا عن لقاء محمد بن الحجّاج الأسدي بها، كما ينقل ابن قتيبة لقاء المفضل الضبي بها. ثم إن أبا الفرج يذكر أخبارا كثيرة عن خرقاء ويورد شعرا للقحيف العقيلي يتغزل فيه بها، وانظر «الأغاني» (20/ 140) .
[1] في الأصل، والمطبوع: «يروى» وقد أثبت الواو من «وفيات الأعيان» .
[2] البيان في ملحق «ديوانه» (3/ 1917) .
[3] في المطبوع، و «وفيات الأعيان» : «العار» ، وفي ملحق «الديوان» : «الخزي» ، والعرّ:
الجرب. انظر «لسان العرب» (عرر) .
[4] البيت في ملحق «ديوانه» (3/ 1921) .(2/14)
فنزعت ثيابها وقامت عريانة فقال:
ألم تر أنّ الماء يخبث طعمه ... وإن كان لون الماء أبيض صافيا [1]
فيا ضيعة [2] الشّعر الذي لجّ فانقضى ... بميّ ولم أملك ضلال فؤاديا
فقالت [له] [3] : أتحب أن تذوق طعمه؟ فقال: إي والله، فقالت:
تذوّق الموت قبل أن تذوقه.
ومن شعره السائر [فيها] [4] قوله:
إذا هبّت الأرواح من نحو جانب ... به أهل ميّ هاج شوقي هبوبها [5]
هوى تذرف العينان منه وإنّما ... هوى كلّ نفس حيث [6] حلّ حبيبها [7]
وكان ذو الرّمّة يشبّب بخرقاء أيضا، ومن قوله فيها:
تمام الحجّ أن تقف المطايا ... على خرقاء واضعة اللّثام [8]
قيل: كانت وفاته سنة سبع عشرة ومائة.
ولما حضرته الوفاة قال: أنا ابن نصف الهرم، أنا ابن أربعين سنة، وأنشد:
يا قابض الرّوح من نفس إذا احتضرت ... وغافر الذّنب زحزحني عن النّار [9]
__________
[1] البيت في ملحق «الديوان» (3/ 1921) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «فوا ضيعة» وأثبت لفظ ملحق «الديوان» (3/ 1923) .
[3] لفظة «له» التي بين حاصرتين سقطت من الأصل، والمطبوع، واستدركتها من «وفيات الأعيان» .
[4] لفظة «فيها» التي بين حاصرتين لم ترد في الأصل، والمطبوع، وأثبتها من «وفيات الأعيان» .
[5] في الأصل، والمطبوع: «هاج قلبي هبوبها» والتصحيح من «ديوانه» .
[6] في الأصل، والمطبوع: «أين» وأثبت ما جاء في «ديوانه» .
[7] البيتان في «ديوانه» (2/ 694- 695) .
[8] البيت في ملحق «ديوانه» (3/ 1913) .
[9] لم أجد البيت في «ديوانه» وهو في «الشعر والشعراء» (1/ 525) و «وفيات الأعيان» (4/ 16) مع بعض الخلاف اليسير.(2/15)
وإنما قيل له: ذو الرّمّة بقوله في الوتد:
أشعث باقي رمّة التقليد [1]
والرّمّة: بضم الراء: الحبل البالي، وبكسرها: الحبل البالي.
وممن توفي بعد المائة على ما قاله في «العبر» [2] .
أبو الأشعث الصنعانيّ الشّاميّ.
وزياد الأعجم الشاعر [المشهور] [3] .
وسعيد بن أبي هند، والد عبد الله [4] .
وأبو سلّام ممطور الحبشيّ الأسود.
وأبو بكر [5] بن أبي موسى الأشعريّ القاضي. انتهى.
__________
[1] في الأصل: «التقليل» وهو تحريف، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب. وهذا صدر بيت في «ديوانه» (1/ 358) عجزه:
نعم فأنت اليوم كالعمود
[2] (1/ 123) .
[3] زيادة من «العبر» .
[4] هو عبد الله بن سعيد بن أبي هند الفزاري مولاهم المدني، أبو بكر. قال ابن حبّان: كان يهم في الشيء بعد الشيء. مات سنة (147) . انظر «مشاهير علماء الأمصار» ص (137) ، و «سير أعلام النبلاء» للذهبي (5/ 10) ، و «تهذيب التهذيب» لابن حجر (5/ 239) .
[5] قال الحافظ ابن حجر: يقال: اسمه عمرو، ويقال: عامر. روى عن أبيه، والبراء بن عازب، وجابر بن سمرة، وابن عبّاس، والأسود بن هلال. وروى عنه أبو جمرة نصر بن عمران الضبعي، وأبو عمران الجوني، وبدر بن عثمان، وعبد الله بن أبي السفر، والأجلح بن عبد الله الكندي، وأبو إسحاق السبيعي، ويونس بن أبي إسحاق، وغيرهم. قال الآجري: قلت لأبي داود: سمع أبو بكر من أبيه؟ قال: أراه قد سمع، وأبو بكر أرضى عندهم من أبي بردة، وكان يذهب مذهب أهل الشام. جاءه أبو غادية الجهني قاتل عمار، فأجلسه إلى جانبه، وقال:
مرحبا بأخي، وقال محمد بن عبد الله بن نمير: كان أكبر من أبي بردة، وقال: مات في ولاية خالد بن عبد الله، وذكر ابن حبّان في «الثقات» قلت: اسمه كنيته، وقال: مات في ولاية(2/16)
سنة اثنتين ومائة
كان أمير البصرة يزيد بن المهلّب، المتقدم آنفا، فلما تولّى عمر بن عبد العزيز عزل يزيد بن المهلّب وسجنه، فلما توفي عمر أخرجه خواصّه من السّجن، فوثب على البصرة وهرب منه عاملها عديّ بن أرطاة الفزاريّ، ونصب يزيد رايات سود، وتسمى بالقحطانيّ، وقال: أدعو إلى سيرة عمر بن الخطّاب، فوجه إليه يزيد بن عبد الملك أخاه مسلمة، فحاربه، وقتله في صفر في المعركة، وقيل: بل حبسه الحجّاج وعذّبه، وهو الذي جزم به الإسنويّ [1] في «طبقاته» .
وكان يزيد بن المهلّب كريما ممدّحا، وكان المهالبة في دولة الأمويين
__________
خالد، ومن زعم أن اسمه عامر فقد وهم، عامر اسم أبي بردة. وقال عبد الله بن أحمد في «العلل» : قلت لأبي: فأبو بكر بن أبي موسى سمع من أبيه؟ قال: لا، وقال أبو بكر بن عيّاش: سمعت أبا إسحاق يقول: أبو بكر بن أبي موسى أفضل من أخيه أبي بردة. وقال العجلي: كوفي ثقة. وقال أبو سعيد: اسمه كنيته، وكان قليل الحديث يستضعف، ومات في ولاية خالد، وكان أكبر من أخيه أبي بردة، وقال خليفة: مات سنة ست ومائة. «تهذيب التهذيب» (12/ 40- 41) .
[1] هو جمال الدين أبو محمد عبد الرحيم بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن إبراهيم القرشي الأموي الإسنوي المصري الشافعي. الإمام العلّامة، وكتابه هو «طبقات الشافعية» توفي سنة (772) هـ. وسوف ترد ترجمته مفصلة في المجلد الثامن من كتابنا هذا إن شاء الله، فراجعها هناك.(2/17)
كالبرامكة في دولة العباسيين، في الكرم، وكان كثير الغزو والفتوح.
وفيها يزيد بن أبي مسلم الثقفيّ مولاهم، مولى الحجّاج، وكاتبه، وخليفته على العراق بعد موته، وأقره الوليد.
قال الوليد في حقه: مثلي ومثل الحجّاج ويزيد، كرجل ضاع له درهم فلقي دينارا.
فضّل يزيد لعقله وبلاغته.
واستحضره سليمان بعد موت الوليد فرآه دميما، كبير البطن، فقال:
لعن الله من أشركك في أمانته. فقال: يا أمير المؤمنين! رأيتني والأمور مدبرة عني، ولو رأيتني وهي مقبلة إليّ لعظّمتني، فقال: قاتله الله ما أسدّ قوله وأغضب لسانه، ثم قال له سليمان: أترى صاحبك- يعني الحجّاج- يهوي في النّار أم قد استقرّ في قعرها، فقال: عن يمين الوليد، ويسار عبد الملك، فاجعله حيث أحببت. وروي: يحشر بين أبيك وأخيك، فقال سليمان: قاتله الله ما أوفاه لصاحبه، إذا اصطنعت الرّجال فليصنع مثل هذا.
وهمّ سليمان باستكتابه، فقال له عمر بن عبد العزيز: لا تحيي ذكر الحجّاج. فقال: إني كشفت عنه فلم أجد له خيانة في دينار ولا في درهم.
فقال عمر: إبليس لم يخن فيهما، وهذا قد أهلك الخلق، فتركه سليمان.
وفيها توفي الضّحّاك بن مزاحم الهلاليّ بخراسان. وثقه الإمام أحمد وغيره.
ذكر أنه كان فقيه مكتب عظيم فيه ثلاثة آلاف صبي، وكان يركب حمارا يدور عليهم إذا عيي.(2/18)
سنة ثلاث ومائة
فيها توفي عطاء بن يسار المدنيّ الفقيه، مولى ميمونة أمّ المؤمنين، ثقة إمام، كان يقصّ [1] بالمدينة. روى عن كبار الصحابة. قاله الذهبيّ [2] .
وقال ابن قتيبة [3] : كان عطاء قاصّا [4] ويرى القدر، ويكنى أبا محمد، ومات سنة ثلاث ومائة، وهو ابن أربع وثمانين سنة. انتهى.
وفيها الإمام أبو الحجّاج مجاهد بن جبر، الإمام الحبر المكّيّ، عن نيّف وثمانين سنة.
قال خصيف [5] : كان أعلمهم بالتفسير.
وقال مجاهد: عرضت القرآن على ابن عبّاس ثلاثين مرّة [6] .
__________
[1] في المطبوع: «كان يقضي» وهو خطأ.
[2] «العبر في أخبار من عبر» (1/ 125) .
[3] «المعارف» ص (459) .
[4] في الأصل، والمطبوع: «قاضيا» وهو تحريف، والتصحيح من «المعارف» لابن قتيبة.
[5] هو خصيف بن عبد الرحمن الجزري الحرّاني. انظر ترجمته والتعليق عليها في ص (183- 184) من هذا المجلد.
[6] قلت: وقد ساق هذا الخبر الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (4/ 450) وقال أيضا: وروى ابن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن مجاهد، قال: عرضت القرآن ثلاث عرضات على ابن عبّاس، أقفه عند كلّ آية، أسأله فيم نزلت، وكيف كانت.(2/19)
وقال [له] [1] ابن عمر: وددت أنّ نافعا يحفظ حفظك.
وقال سلمة بن كهيل: ما رأيت أحدا أراد بهذا العلم وجه الله تعالى إلّا عطاء وطاووسا ومجاهدا [2] .
وقال الأعمش: كنت إذا رأيت مجاهدا تراه مغموما، فقيل له في ذلك، فقال: أخذ عبد الله- يعني ابن عمر [3]- بيدي، ثم قال: أخذ رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- بيدي وقال لي: «يا عبد الله! كن في الدّنيا كأنّك غريب أو عابر سبيل» [4] . ومات مجاهد بمكّة وهو ساجد.
وفسر ابن قتيبة [5] النّيّف بثلاث [6] ، فقال: مات [وهو] [7] ابن ثلاث وثمانين سنة.
وفيها مصعب بن سعد بن أبي وقّاص الزّهريّ المدنيّ، كان فاضلا كثير الحديث.
__________
[1] لفظة «له» سقطت من الأصل، واستدركتها من المطبوع.
[2] لفظة «ومجاهدا» ليست عند الذهبي في «العبر» الذي ينقل عنه المؤلف رحمه الله.
[3] في الأصل والمطبوع: «ابن عباس» وهو خطأ، صوابه: «ابن عمر» (ع) .
[4] رواه البخاري رقم (6416) في الرقاق: باب قول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» .
والترمذي رقم (2333) في الزهد: باب ما جاء في قصر الأمل، وابن ماجة رقم (4114) في الزهد: باب مثل الدّنيا، وأحمد في «المسند» (2/ 24 و 41) وعندهم في آخره «وعدّ نفسك من أهل القبور» .
وعند البخاري والترمذي في آخر الحديث: وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء. وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.
[5] في «المعارف» الذي ينقل عنه المؤلف.
[6] قال في «مختار الصحاح» : النّيّف، بوزن الهيّن: الزيادة، يخفف ويشدّد، يقال: عشرة ونيف، ومائة ونيف، وكل ما زاد على العقد فهو نيّف حتى يبلغ العقد الثاني. انظر ص (687) .
[7] لفظة «وهو» التي بين حاصرتين سقطت من الأصل، واستدركتها من المطبوع، و «المعارف» .(2/20)
روى عن عليّ والكبّار.
وفيها موسى بن طلحة بن عبيد الله التيميّ بالكوفة.
روى عن عثمان ووالده.
وقال أبو حاتم [1] : هو أفضل إخوته بعد محمد، وكان يسمّى المهدي.
وفيها مقرئ الكوفة يحيى بن وثّاب الكوفيّ، مولى لبني كاهل من بني أسد بن خزيمة، توفي بالكوفة. أخذ [عن] [2] ابن عبّاس، وطائفة.
ويزيد بن الأصمّ العامريّ، ابن خالة ابن عبّاس، نزل الرّقّة [3] . وروى عن خالته ميمونة، وطائفة.
__________
[1] في «الجرح والتعديل» (8/ 148) .
[2] لفظة «عن» التي بين حاصرتين سقطت من الأصل، واستدركتها من المطبوع.
[3] الرقة: مدينة مشهورة على الطرف الغربي لنهر الفرات في أرض سورية، أنجبت فيما مضى عددا كبيرا من العلماء. انظر «الأمصار ذوات الآثار» للذهبي ص (58- 59) بتحقيقي، طبع دار ابن كثير.(2/21)
سنة أربع ومائة
فيها وقعة بهرزان [1] دون الباب بفرسخين، التقى المسلمون وعليهم الجرّاح الحكميّ [2] ، هم وابن خاقان [3] فهزموه [4] بعد قتال عظيم، وقتل خلق من الكفار.
وفيها توفي خالد بن معدان الكلاعيّ الحمصيّ، الفقيه العابد.
قيل: كان يسبّح كل يوم أربعين ألف تسبيحة [5] .
__________
[1] في الأصل، و «العبر» للذهبي (1/ 126) : «بهرازان» ، وأثبت ما في المطبوع، وهو موافق لما عند ياقوت في «معجم البلدان» (1/ 514) وفيه قال: بهرزان: بليدة بينها وبين شهرستان فرسخان من جهة نيسابور، رأيتها في صفر سنة (617) وهي عامرة ذات خير واسع، وعليها سور حصين، وبها سوق حافل.
قلت: وبهرزان تقع الآن في أراضي إيران.
[2] هو الجراح بن عبد الله الحكمي، أبو عقبة. استشهد غازيا بمرج أردبيل، قتله الخزر، ورثاه كثير من الشعراء. قال الزرقي: كان الجراح يد الله على خراسان كلها، وقال الواقدي: كان البلاء بمقتل الجراح على المسلمين عظيما، فبكوا عليه في كل جند. انظر «تاريخ خليفة» ص (329) ، و «الأعلام» للزركلي (2/ 115) .
[3] في «العبر» للذهبي: «هم والخاقان» وما جاء في «تاريخ خليفة» ص (329) موافق لما في كتابنا.
[4] في الأصل، والمطبوع: «فهزموهم» والتصحيح من «العبر» للذهبي، وانظر «تاريخ خليفة» .
[5] انظر «سير أعلام النبلاء» للذهبي (4/ 540) .(2/22)
سمعه صفوان [1] يقول: لقيت سبعين من الصّحابة.
وقال يحيى بن سعيد: ما رأيت ألزم للعلم منه.
وقال الثّوريّ: ما أقدّم عليه أحدا.
وفيها، وقيل: قبل [2] المائة، عامر بن سعد [3] بن أبي وقّاص الزّهريّ، أحد الإخوة التسعة، كان ثقة كثير الحديث.
وفيها، وقيل: في سنة سبع أبو قلابة الجرميّ، عبد الله بن زيد، البصري الإمام.
طلب للقضاء فهرب ونزل الشّام، فنزل بداريّا، وكان رأسا في العلم والعمل.
سمع من سمرة [4] وجماعة.
ومناظرته مع علماء عصره في القسامة [5] بحضرة عمر بن عبد العزيز مشهورة في «الصحيح» [6] .
__________
[1] هو صفوان بن عمرو السّكسكي محدّث حمص، المتوفى سنة (155) هـ. انظر ترجمته في ص (252) من هذا المجلد.
[2] في المطبوع: «وقيل في المائة» وهو خطأ، وما جاء في الأصل الذي بين يدي موافق لما عند الذهبي في «العبر» (1/ 127) .
[3] في الأصل: «عامر بن سعيد» وهو تحريف وأثبت ما في المطبوع.
[4] هو سمرة بن جندب الفزاري، المتوفى في أول سنة ستين، رضي الله عنه وأرضاه. وقد تقدم خبره باختصار في المجلد الأول من كتابنا هذا ص (270) فراجعه.
[5] قال ابن الأثير: القسامة بالفتح: اليمين، كالقسم، وحقيقتها أن يقسم من أولياء الدّم خمسون نفرا على استحقاقهم دم صاحبهم، إذا وجدوه قتيلا بين قوم ولم يعرف قاتله، فإن لم يكونوا خمسين أقسم الموجودون خمسين يمينا، ولا يكون فيهم صبي، ولا امرأة، ولا مجنون، ولا عبد، أو يقسم بها المتّهمون على نفي القتل عنهم، فإن حلف المدّعون استحقّوا الدية، وإن حلف المتّهمون لم تلزمهم الدية. «النهاية» (4/ 62) .
[6] قلت: وذلك في حديث طويل فيه الكثير من الفوائد والآداب، رواه البخاري رقم (6899) في الدّيات: باب القسامة، ومسلم رقم (1669) في القسامة، ويحسن بالقارئ الرجوع إليه.(2/23)
وفيها، وقيل: في التي قبلها، وقيل: في سنة ست أو سبع، توفي أبو بردة عامر بن أبي موسى الأشعريّ.
قضى في الكوفة بعد شريح [1] ، وله مكارم ومآثر مشهورة.
وولي القضاء في البصرة بعده ابنه بلال، وكان ممدّحا.
وفيه يقول ذو الرّمّة:
رأيت [2] النّاس ينتجعون غيثا [3] ... فقلت لصيدح انتجعي بلالا [4]
يعني بصيدح ناقته.
وأبو موسى وبنوه كلهم ولي القضاء.
وفيها، وقيل: قبلها، وقيل: بعدها، توفي فجأة [5] الإمام الحبر العلّامة، أبو عمرو عامر بن شراحيل بن معبد الشّعبيّ، وهو من حمير، وعداده في همدان، ونسب إلى جبل باليمن، نزله حسّان بن عمرو الحميريّ هو وولده ودفن فيه، [وهو ذو شعبين] [6] فمن كان منهم بالكوفة قيل لهم: شعبيون.
ومن كان منهم بمصر والمغرب قيل لهم: الأشعبون، والأشعوب [7] ، ومن كان منهم بالشّام قيل لهم: شعبانيّون. ومن كان منهم باليمن قيل لهم: آل ذي شعبين. وكان نحيفا ضئيلا. وقيل له: مالنا نراك ضئيلا؟ قال: إني
__________
[1] هو أبو أميّة شريح بن الحارث الكنديّ القاضي. انظر ترجمته في المجلد الأول من هذا الكتاب ص (320- 323) .
[2] في «ديوان ذي الرّمّة» : «سمعت» ، ولكن لفظة «رأيت» وردت في إحدى النسخ كما ذكر محقق «الديوان» .
[3] في الأصل: «عيشا» وهو تحريف وأثبت ما في المطبوع.
[4] البيت في «ديوانه» (3/ 1535) .
[5] في المطبوع: «فجاءة» .
[6] ما بين حاصرتين زيادة من «وفيات الأعيان» لابن خلكان (3/ 15) .
[7] انظر «المعارف» لابن قتيبة ص (450) .(2/24)
زوحمت في الرّحم، وكان ولد هو وأخ له في بطن واحد.
وقيل لأبي إسحاق: أنت أكبر أم الشّعبي؟ فقال: هو أكبر مني بسنتين.
وحدثنا [1] الرّياشي [2] عن الأصمعي: أن أمّ الشّعبي كانت من سبي جلولاء، قال: وهي قرية بناحية فارس [3] .
وكان مولده لست سنين مضت من خلافة عثمان، وكان كاتب عبد الله بن مطيع العدوي، وكاتب عبد الله بن يزيد الخطمي عامل [4] ابن الزّبير على الكوفة، وكان مزّاحا.
حدّثني [5] أبو مرزوق، عن زاجر بن الصّلت الطّاحيّ [6] عن سعيد بن عثمان، قال: قال الشعبي لخياط مرّ به: عندنا حب مكسور تخيطه؟ فقال له:
نعم، إن كان عندك خيط من ريح.
وحدثني [7] بهذا الإسناد، أن رجلا دخل عليه ومعه في البيت امرأة، فقال: أيكما الشّعبيّ، فقال: هذه. قاله ابن قتيبة [8] .
__________
[1] القائل ابن قتيبة.
[2] هو أبو الفضل العبّاس بن الفرج الرّياشي النحوي اللغوي، كان من أهل السّنة، قتل في المسجد الجامع بالبصرة في أيام صاحب الزنج، انظر «الأنساب» للسمعاني (6/ 200- 201) .
[3] قلت: جلولاء بلدة تقع اليوم في شرق الأراضي العراقية. وانظر «معجم البلدان» لياقوت (2/ 156) .
[4] في المطبوع: «عامر بن الزبير» وهو خطأ.
[5] القائل ابن قتيبة في كتابه «المعارف» .
[6] في الأصل، والمطبوع: «جابر بن الصلت الطائي» وهو خطأ، وفي «المعارف» لابن قتيبة ص (450) ط د. ثروة عكاشة: «زاجر بن الصلت الطلحي» وهو تحريف، وقد جاءت العبارة على الصواب في «المعارف» ط الصاوي وانظر «الأنساب» للسمعاني (8/ 170) بتحقيق الأستاذ محمد عوّامة.
[7] القائل ابن قتيبة.
[8] في «المعارف» ص (450) .(2/25)
ومات وله بضع وثمانون سنة.
وشعب، بطن من همدان.
مرّ به ابن عمر وهو يحدّث بالمغازي، فقال: شهدتها، وهو أعلم بها مني.
وعنه [1] قال: بعثني عبد الملك إلى ملك الرّوم، فأقمت عنده أياما، فلما أردت الانصراف قال لي: من [أهل] [2] بيت الملك أنت؟ قلت: بل رجل من العرب، فدفع إليّ رقعة وقال: أدّها إلى صاحبك، فلما قرأها عبد الملك قال لي: تدري ما فيها؟ قلت، لا، قال:
فإن فيها: عجبت من قوم فيهم مثل هذا كيف ملّكوا غيره؟ فقلت: والله لو علمت ما حملتها، وإنما قال هذا لأنه لم يرك، فقال عبد الملك: بل حسدني عليك، فأغراني بقتلك، فبلغ ذلك ملك الرّوم، فقال: ما أردت إلّا ذلك [3] .
وقال له أبو بكر الهذلي: تحب الشعر؟ فقال: إنما يحبه فحول الرّجال ويكرهه مؤنّثوهم.
وقال: ما أودعت قلبي شيئا فخانني قطّ.
وقال: إنما الفقيه من تورّع عن محارم الله، والعالم من خاف الله تعالى.
وقال: اتقوا القاصر من العلماء والجاهل من المتعبّدين.
وقال: أدركت خمسمائة من الصّحابة أو أكثر.
ودخل الشّعبيّ مع زياد على هند بنت النّعمان في ديرها، فإذا هي وأختها جالستان عليهما ثياب سود، قال الشّعبيّ: فما أنسى جمالها، وقد كان
__________
[1] أي عن الشعبي.
[2] زيادة من «وفيات الأعيان» (3/ 13) .
[3] في المطبوع: «ما أردت إلّا ذاك» ، وفي «وفيات الأعيان» : «ما أردت إلّا ما قال» .(2/26)
كلّمها للمغيرة بن شعبة في الزّواج، فقالت: أردت أن يقال: تزوج هند بنت النّعمان بن المنذر، إن ذلك غير كائن، فقال لها زياد: حدثيني عن ملككم وما كنتم فيه؟ قالت: أجمل، أم أفنّن؟ [1] . قال: أجملي، قالت: أصبحنا وكل من رأيت عبدا لنا، وأمسينا وعدونا ممن يرحمنا.
قال ابن المديني [2] : ابن عبّاس في زمانه، والشّعبيّ في زمانه، وسفيان الثّوري في زمانه [3] .
وقال الشعبيّ: ما كتبت سوداء في بيضاء إلّا حفظتها.
__________
[1] قال ابن منظور: الرجل يفنّن الكلام أي يشتقّ في فنّ بعد فن والتّفنّن فعلك. «لسان العرب» (فنن) .
[2] في الأصل: «ابن المدني» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع، وهو الصواب. وهو علي بن عبد الله بن جعفر المديني، توفي سنة (234) هـ، وسوف ترد ترجمته في المجلد الثالث من كتابنا هذا فراجعها هناك.
[3] انظر: «العبر» (1/ 127) .(2/27)
سنة خمس ومائة
فيها التقى في رمضان منها الجرّاح الحكميّ، وخاقان ملك التّرك، ودام الحرب أياما، ثم نصر الله دينه، وهزم الترك شرّ هزيمة. وكان المصّافّ بناحية إرمينية.
وفيها غزا الرّوم عثمان بن حيّان المرّي [1] الذي ولي المدينة للوليد بن عبد الملك. وكان ظالما يقول الشعر على المنبر في خطبته، وقد روى له مسلم.
وفيها توفي في شعبان منها الخليفة يزيد بن عبد الملك بن مروان، وجدّه لأمّه يزيد بن معاوية، عاش أربعا وثلاثين سنة. وولي أربع سنين وشهرا، وكان أبيض جسيما متلفا للمال، أعطى حلّاقا حلق له رأسه أربعة آلاف درهم.
ووقع مثل ذلك ليزيد بن المهلّب، أو لعله اشتبه على بعض المؤرخين اسمهما.
قال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم: لما استخلف قال: سيروا سيرة عمر بن عبد العزيز، فأتوه بأربعين شيخا شهدوا له أنّ الخلفاء لا حساب
__________
[1] في الأصل، والمطبوع، و «الكاشف» للذهبي (2/ 217) ، و «تقريب التهذيب» لابن حجر (2/ 8) : «المزني» بضم الميم بعدها زاي. وهو خطأ. وفي «العبر» للذهبي (1/ 128) ، و «الخلاصة» للخزرجي ومعظم المراجع التي بين يدي: «المري» وهو الصواب.(2/28)
عليهم ولا عذاب. فأقبل على الظلم وإتلاف المال والشراب، والانهماك على سماع الغناء، والخلوة بالقينات [1] .
وكان ممن استولى على عقله جارية يقال لها حبابة [2] ، وكانت تغنّيه، فلما كثر ذلك منه عزله أخوه مسلمة، وقال له: إنما مات عمر أمس، وكان من عدله ما قد علمت، فينبغي أن تظهر للنّاس العدل [3] ، وترفض هذا اللهو، فقد اقتدى بك عمّالك [4] في سائر أفعالك وسيرتك، فارتدع عما كان عليه، وأظهر الإقلاع والندم، وأقام على ذلك [مدّة] [5] مديدة، فغلظ ذلك على حبابة، فبعث إلى الأحوص الشّاعر [6] ومعبد المغنّي [7] وقالت: انظرا ما أنتما
__________
[1] في المطبوع: «بالقيات» وهو خطأ. والقينات: جمع قينة، وهي الأمة المغنية، وقيل: القينة: الأمة، مغنّية كانت أو غير مغنية. والقين: العبد، والجمع قيان. انظر «لسان العرب» (قين) .
[2] انظر ترجمتها ومصادرها في «أعلام النساء» لكحالة (1/ 232- 235) .
[3] في الأصل: «فينبغي أن تظهر للناس من العدل» وعبارة المطبوع التي أثبتها تتفق مع عبارة «مروج الذهب» للمسعودي (3/ 207) الذي ينقل عنه المؤلف.
[4] في الأصل، والمطبوع: «فقد اقتدي بأعمالك» وما أثبته من «مروج الذهب» .
[5] لفظة «مدة» التي بين حاصرتين سقطت من الأصل، واستدركتها من المطبوع، و «مروج الذهب» .
[6] هو عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عاصم الأنصاري، من بني ضبيعة: شاعر هجاء، صافي الديباجة، من طبقة جميل بن معمر، ونصيب، كان معاصرا لجرير، والفرزدق، وهو من سكان المدينة وفد على الوليد بن عبد الملك في الشام، فأكرمه ثم بلغه عنه ما ساءه من سيرته، فردّه إلى المدينة، وأمر بجلده، فجلد، ونفي إلى «دهلك» - وهي جزيرة بين اليمن والحبشة، كان بنو أمية ينفون إليها من يسخطون عليه- فبقي فيها إلى ما بعد وفاة عمر بن عبد العزيز.
وأطلقه يزيد بن عبد الملك. فقدم الشام، فمات فيها. وكان حمّاد الرّاوية يقدمه في النسيب على شعراء زمنه. ولقب بالأحوص لضيق في مؤخر عينيه. مات سنة (105) هـ. عن «الأعلام» للزركلي (4/ 116) . وللتوسع انظر ترجمته في «شرح أبيات مغني اللبيب» للبغدادي (5/ 19- 20) طبع دار المأمون للتراث بدمشق، وفيه «الأحوص بن محمد بن عبد الله» ، وانظر «الأغاني» (4/ 224) ط دار الكتب.
[7] هو معبد بن وهب، أبو عبّاد، المدني، نابغة الغناء العربي في العصر الأموي. كان مولى لبني مخزوم، نشأ في المدينة يرعى الغنم لمواليه، وربما اشتغل في التجارة. ولما ظهر(2/29)
صانعان، فقال الأحوص في أبيات له:
ألا لا تلمه اليوم أن يتبلّدا ... فقد غلب المحزون أن يتجلّدا
إذا كنت ممنوعا [1] عن اللهو والصّبا ... فكن حجرا من يابس الصّخر جلمدا [2]
فما العيش [3] إلّا ما تلذّ وتشتهي ... وإن لام فيه ذو الشّنان وفنّدا [4]
وغنّاه معبد، فأخذته حبابة عنه، فلما دخل عليها يزيد قالت: يا أمير المؤمنين [اسمع منّي] [5] صوتا واحدا ثم افعل ما بدا لك [6] وغنّته، فلما فرغت منه، جعل يردّد قولها:
فما العيش إلّا ما تلذّ وتشتهي ... وإن لام فيه ذو الشّنان وفنّدا
وعاد بعد ذلك إلى لهوه وقصفه [7] ورفض ما كان عزم عليه.
وعن إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: حدثني ابن سلام قال: ذكر يزيد قول الشّاعر:
صفحنا عن بني ذهل ... وقلنا القوم إخوان
عسى الأيام أن يرجع ... ن قوما كالّذي كانوا
__________
نبوغه في الغناء، أقبل عليه كبراء المدينة. ثم رحل إلى الشام، فاتصل بأمرائها، وارتفع شأنه. وكان أديبا فصيحا. وعاش طويلا إلى أن انقطع صوته. ومات في سنة (126) هـ.
انظر «الأعلام» (7/ 264) .
[1] في «الشعر والشعراء» ، و «طبقات فحول الشعراء» : «إذا كنت عزهاة عن اللهو والصّبا» .
قال ابن منظور في «لسان العرب» (عزه) : ورجل عزهاة وعزهاءة ... عازف عن اللهو والنساء، لا يطرب للهو ويبعد عنه.
[2] قال ابن منظور: الجلمد والجلمود: الصّخر، وفي «المحكم» الصخرة، وقيل: الجلمد والجلمود أصغر من الجندل. قدر ما يرمى بالقذّاف. «لسان العرب» (جلمد) .
[3] في «الشعر والشعراء» : «وما العيش» ، وما في كتابنا موافق لما عند ابن سلّام في «الطبقات» .
[4] الأبيات في «الشعر والشعراء» لابن قتيبة ص (331) ط ليدن، و «طبقات فحول الشعراء» (2/ 664) بتحقيق المحقق الكبير الأستاذ محمود محمد شاكر حفظه الله.
[5] ما بين حاصرتين سقط من الأصل، والمطبوع، فاضطرب النص، وقد استدركت السقط من «مروج الذهب» للمسعودي (3/ 207) الذي ينقل عنه المؤلف رحمه الله.
[6] في الأصل، والمطبوع: «وافعل ما بدا لك» ، وما أثبته من «مروج الذهب» .
[7] القصف: اللهو واللّعب. انظر «مختار الصحاح» ص (538) .(2/30)
فلما صرّح الشّرّ ... فأضحى [1] وهو عريان
مشينا مشية اللّيث ... غدا واللّيث غضبان
بضرب فيه توهين ... وتخضيع وإقران
وطعن كفم الزّقّ ... وهي والزّقّ ملآن
وفي الشّرّ نجاة حي ... ن لا ينجيك إحسان
وهو شعر قديم يقال: إنه للفند الزّمّاني [2] في حرب البسوس [3] فقال لحبابة: غنّيني به بحياتي، فقالت: يا أمير المؤمنين، هذا شعر لا أعرف أحدا يغنّي به إلّا الأحول المكّي [4] فقال: نعم قد كنت سمعت ابن عائشة [5] يعمل فيه ويترك، قالت: إنما أخذه عن فلان ابن أبي لهب، وكان حسن الأداء، فوجه يزيد إلى صاحب مكّة: إذا أتاك كتابي هذا، فادفع إليّ فلان ابن أبي لهب ألف دينار لنفقة طريقه على ما شاء من دواب البريد، ففعل، فلما قدم عليه،
__________
[1] في «مروج الذهب» : «فأمسى» والأبيات فيه (3/ 208) .
[2] هو شهل بن شيبان بن ربيعة بن زمان الحنفي، وشهل بالشين، وليس في العرب شهل بالمعجمة إلّا هو. انظر «شرح أبيات مغني اللبيب» للبغدادي (8/ 19- 20) .
[3] البسوس: امرأة من العرب هاجت بسببها الحرب أربعين سنة بين العرب، فضرب بها المثل في الشّؤم، فقالوا: أشأم من البسوس، وبها سميت حرب البسوس. «مختار الصحاح» ص (52) . وانظر «الأعلام» للزركلي (3/ 51) .
[4] لعله يعلى بن مسلم بن أبي قيس اليشكري الأزدي. الأحول، شاعر أموي، اشتهر بقصيدة قالها في مكة أولها:
ألا ليت حاجاتي اللواتي حبسنني ... لدى نافع قضين منذ زمان
واختلف الرّواة في خبره. انظر «الأعلام» للزركلي- طيب الله ثراه- (8/ 204- 205) .
[5] هو محمد بن عائشة، أبو جعفر، موسيقار من المقدمين في صناعة الغناء، ووضع الألحان في العصر الأموي، يرتجل ذلك ارتجالا. وهو من أهل المدينة، ينسب إلى أمه. وكانت مولاة لأحد بني كندة، ويضرب المثل في ابتدائه بالغناء، حتى قيل للابتداء الحسن كائنا ما كان، من قراءة قرآن، أو إنشاء شعر، أو غناء: كأنه ابتداء ابن عائشة. مات سنة (100) هـ. انظر «الأعلام» للزركلي (6/ 179) .(2/31)
قال: غنّني بشعر الفند الزّمّاني، فغنّاه، فأجاد، وأحسن، وأطرب، فقال:
أعده، فأعاده، فأجاد، وأطرب يزيد، فقال له: عمّن أخذت هذا الغناء؟ قال:
أخذته عن أبي، وأخذه أبي عن أبيه، قال: لو لم ترث إلّا هذا الصّوت لكان أبو لهب- رضي الله عنه! - ورّثكم خيرا كثيرا [1] ، فقال: يا أمير المؤمنين، إن أبا لهب مات كافرا مؤذيا لرسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- قال: قد أعلم ما تقول، ولكني داخلني عليه رقة إذ كان يجيد الغناء، ووصله، وكساه، ورده إلى بلده مكرّما.
وبالجملة فأخباره من هذا القبيل كثيرة [2] فلنحبس عنان القلم عن ذلك سامحه الله تعالى.
وفيها، أو في التي قبلها أو بعدها، مات عكرمة مولى ابن عبّاس، أحد فقهاء مكّة، من التابعين الأعلام، أصله من البربر. وهب لابن عبّاس، فاجتهد في تعليمه، ورحل إلى مصر وخراسان، واليمن، وأصبهان، والمغرب، وغيرها، وكانت الأمراء تكرمه، وأذن له مولاه بالفتوى.
وقيل لسعيد بن جبير: هل تعلم أحدا أعلم منك؟ فقال [3] : عكرمة.
ولما مات مولاه باعه ابنه عليّ من خالد بن يزيد بن معاوية بأربعة آلاف دينار، فقال له عكرمة: بعت علم أبيك بأربعة آلاف [دينار!] [4] ، فاستقاله فأقاله ثم أعتقه.
قيل: مات هو وكثيّر عزّة في يوم واحد وصلّي عليهما جميعا، فقيل:
مات أفقه النّاس وأشعر النّاس.
قال ابن قتيبة [5] : كان عكرمة يكنى أبا عبد الله.
__________
[1] أقول: بل ورّثهم شرا كثيرا. (ع) .
[2] في الأصل «كثير» ، وأثبت ما في المطبوع.
[3] في الأصل: «قال» وأثبت ما في المطبوع.
[4] زيادة من «وفيات الأعيان» الذي ينقل المؤلف عنه.
[5] في «المعارف» ص (455- 457) .(2/32)
وروى جرير، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث قال:
دخلت على عليّ بن عبد الله بن عبّاس، وعكرمة موثوق على باب كنيف [1] ، فقلت: أتفعلون هذا بمولاكم؟ فقال: إن هذا يكذب على أبي.
وقال ابن الخلّال: سمعت يزيد بن هارون يقول: قدم عكرمة البصرة، فأتاه أيّوب، وسليمان التيمي، ويونس، فبينما هو يحدثهم، إذ سمع صوت غناء، فقال عكرمة: اسكتوا، فسمع [2] ثم قال:- قاتله الله- لقد أجاد، أو قال:
ما أجود ما غنى، فأما سليمان، ويونس فلم يعودا إليه، وعاد [إليه] [3] أيوب.
قال يزيد: وقد أحسن أيوب.
ثم قال ابن قتيبة: وكان عكرمة يرى رأي الخوارج.
وطلبه بعض الولاة فتغيب عند داود بن الحصين حتى مات عنده. ومات سنة خمس ومائة، وقد بلغ ثمانين سنة. انتهى.
وقال ابن ناصر الدّين: احتج أحمد، ويحيى، والبخاريّ، والجمهور بما روى، وأعرض عنه مالك لمذهبه، وما كان يرى.
قال طاووس: لو ترك من حديثه واتّقى الله لشدّت إليه الرّحال. انتهى.
وفيها على الأصح أبو رجاء العطارديّ بالبصرة عن مائة وعشرين سنة، وكان أسلم في حياة النّبيّ- صلّى الله عليه وسلّم- وأخذ عن عمر، وطائفة.
__________
[1] قال ابن منظور: كنف الدار يكنفها كنفا: اتخذ لها كنيفا. والكنيف: الخلاء، وكله راجع إلى السّتر، وأهل العراق يسمون ما أشرعوا من أعالي دورهم كنيفا، واشتقاق اسم الكنيف كأنه كنف في أستر النواحي. «لسان العرب» (كنف) .
[2] في «المعارف» : «فنسمع» .
[3] لفظة «إليه» سقطت من الأصل، والمطبوع، وأثبتها من «المعارف» لابن قتيبة.(2/33)
قال ابن قتيبة [1] : اسمه عمران بن تيم [2] ، ويقال: عطارد بن برد [3] .
ولد قبل الهجرة بإحدى عشرة سنة، وهو من ولد عطارد بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم. ويقال: إنه مولى لهم.
وقال أبو رجاء: لما بلغني أنّ النّبيّ- صلّى الله عليه وسلّم- أخذ في القتل هربنا فأصبنا شلو أرنب دفينا، فاستثرناه وقعدنا [4] عليه، وألقينا من بقول الأرض، فلا أنسى تلك الأكلة.
حدّثني [5] أبو حاتم، عن الأصمعيّ قال: حدّثنا رزين [6] العطارديّ قال: أتت أبا رجاء امرأة في جوف الليل، فقالت: يا أبا رجاء، إن لطارق الليل حقا، وإن [7] بني فلان خرجوا إلى سفوان [8] وتركوا شيئا من متاعهم، فانتعل [9] وأخذ الكتب فأداها [10] وصلّى بنا الفجر، وهي مسيرة ليلة للإبل. انتهى.
__________
[1] في «المعارف» ص (427) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «عمران بن تميم» وهو خطأ، والتصحيح من «المعارف» لابن قتيبة، و «اللباب» لابن الأثير (2/ 346) ، واسمه في معظم المراجع الأخرى التي بين يدي:
«عمران بن ملحان» .
[3] في «المعارف» ط د. عكاشة: «عطارد بن برذا» ، وفي ط. الصاوي ص (189) : «عطارد بن برز» .
[4] في «المعارف» ط د. عكاشة: «وفصدنا» ، وفي ط. الصاوي: «وقصرنا» .
[5] القائل ابن قتيبة في «المعارف» ص (428) .
[6] كذا في الأصل: «رزين» ، وفي «المعارف» ط الصاوي ص (189) : «ذريك» ، وفي «المعارف» ط د. ثروة عكاشة: «أبو الأشهب» وقال محققه: في الحاشية: وفي نسخ أخرى:
«زريك» .
[7] سقطت ألف «إن» في الأصل، والمطبوع، واستدركتها مع الواو من «المعارف» لابن قتيبة.
[8] سفوان: واد من ناحية بدر. انظر «معجم ما استعجم» للبكري (2/ 740) ، و «معجم البلدان» لياقوت (3/ 225) .
[9] في الأصل، والمطبوع: «فانتقل» والتصحيح من «المعارف» .
[10] في الأصل، والمطبوع: «فأواها» والتصحيح من «المعارف» بطبعتيه.(2/34)
وعدّه ابن ناصر الدّين وغيره من المخضرمين، وقال: عاش مائة وعشرين سنة.
وفيها الأخوان عبيد الله، وعبد الله، ابنا عبد الله بن عمر بن الخطّاب، وكان عبد الله وصيّ أبيه، وروايتهما قليلة.
والمسيّب بن رافع الكوفي، سمع البراء، وجماعة.
وعمارة بن خزيمة بن ثابت. روى عن أبيه ذي الشّهادتين [1] وجماعة يسيرة، وهو مدنيّ.
وسليمان بن بريدة بن الحصيب الأسلمي، روى عن أبيه، وعائشة، وغيرهما.
وأبان بن عثمان بن عفّان الأمويّ الفقيه، روى عن أبيه.
قال ابن سعد [2] : كان به صمم [شديد] [3] ووضح كثير، وأصابه الفالج قبل موته بسنة.
قال ابن قتيبة [4] : أبان بن عثمان شهد الجمل مع عائشة، وكان الثاني من المنهزمين، وكانت أمه بنت جندب [5] بن عمرو بن حممة الدّوسي، وكانت حمقاء. تجعل الخنفساء في فمها وتقول: حاجيتك ما في فمي؟ وهي أمّ عمرو بن عثمان أيضا.
__________
[1] هو خزيمة بن ثابت الأنصاري، مات في زمن عثمان. انظر «الإصابة» لابن حجر (5/ 95) .
[2] في «الطبقات» (5/ 152- 153) .
[3] زيادة من «طبقات ابن سعد» ، وانظر «تهذيب الكمال» للمزي (2/ 18) ط مؤسسة الرسالة.
[4] في «المعارف» ص (201) .
[5] في الأصل، والمطبوع: «حنيدب» وهو خطأ، والتصحيح من «المعارف» لابن قتيبة، و «أسد الغابة» لابن الأثير (1/ 361) ، و «تهذيب الكمال» للمزي (2/ 16) ط مؤسسة الرسالة، و «تهذيب التهذيب» (1/ 97) .(2/35)
وكان أبان أبرص، أحول، يلقب: بقيعا [1] . وكانت عنده أمّ كلثوم بنت عبد الله بن جعفر، خلف عليها بعد الحجّاج.
وعقبه كثير، منهم: عبد الرّحمن بن أبان [و] كان [عابدا] مجتهدا [2] يحمل عنه الحديث. انتهى.
وفيها توفي أبو صخر كثيّر بن عبد الرّحمن صاحب عزّة، وإنما صغّر لشدة قصره، وكان يحمق، وهو من غلاة الشيعة الموقنين بالرّجعة [3] وكان بمصر، وعزّة بالمدينة، فسافر ليجتمع بها، فلقيها في الطريق متوجهة إلى مصر، وجرى بينهما كلام طويل، ثم تمت في سفرها إلى مصر، وتأخر كثيّر بعدها مدّة ثم عاد إلى مصر، فجاء والنّاس منصرفون من جنازتها.
وروي أن عزّة دخلت على أمّ البنين ابنة عبد العزيز أخت عمر بن عبد العزيز، وزوجة الوليد بن عبد الملك، فقالت لها: رأيت قول كثيّر:
قضى كلّ ذي دين فوفّى غريمه [4] ... وعزّة ممطول معنّى غريمها [5]
[فقالت] : ما هذا الدّين؟ قالت [6] : وعدته قبلة فتحرّجت [7] منها، فقالت
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «بقنعة» ، وهو تحريف، والتصحيح من «المعارف» لابن قتيبة ص (201) ط د. ثروة عكاشة، وهو كذلك في «المعارف» ص (86) ط الصّاوي.
[2] ما بين حاصرتين زيادة من «المعارف» ط د. ثروة عكاشة، وط الصاوي، ولفظة «مجتهدا» سقطت من «المعارف» ط د. ثروة عكاشة، فتستدرك فيه.
[3] أي رجعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى الدّنيا، وذلك باطل لا حجة له في الشريعة الإسلامية. وانظر «سير أعلام النبلاء» للذهبي (5/ 152- 153) والتعليق عليه للأستاذ الشيخ شعيب الأرناؤوط حفظه الله تعالى.
[4] رواية البيت في «تاريخ دمشق» لابن عسكر (تراجم النساء) ص (481) : «قضى كل ذي دين علمت غريمه» .
[5] البيت في «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني (9/ 25) ط دار الكتب، و «وفيات الأعيان» (4/ 109) .
[6] في الأصل، والمطبوع: «فقالت» ، وأثبت ما في «وفيات الأعيان» لابن خلكان (4/ 108) الذي ينقل المؤلف رحمه الله عنه.
[7] في «وفيات الأعيان» : «فحرجت» وما في كتابنا موافق لما في «تاريخ دمشق» لابن عساكر.(2/36)
أمّ البنين: أنجزيها وعليّ إثمها، فقيل: إنّ أمّ البنين أعتقت عن ذلك رقابا [1] .
ويقال: إنه لما سمحت له بالقبلة، قبّلها في فمها، وقذف من فمه إلى فمها بلؤلؤة ثمينة [2] ، وكان لكثيّر غلام عطار بالمدينة، فباع من عزّة ونسوة معها نسيئة، ثم علم أنها عزّة فأبرأها، فعلم كثيّر، فأعتقه ووهبه العطر الذي عنده.
وحكي أن عبد الملك حين أراد الخروج لقتال مصعب بن الزّبير، عرضت له زوجته عاتكة بنت يزيد بن معاوية، فلم يقبل منها، فبكت وبكى حشمها، فقال عبد الملك: قاتل الله كثيّرا كأنه رأى موقفنا هذا بقوله:
إذا ما أراد الغزو لم يثن عزمه ... حصان عليها نظم درّ يزينها [3]
نهته فلمّا لم تر النّهي [4] عاقه ... بكت فبكى مما شجاها قطينها [5]
والقطين: الخدم [6] .
وذكر أن كثيّرا كان يهوى كل حسن، إما لشبهة بعزّة، أو استقلالا، ولهذا يقال: فلان كثيّريّ المحبّة، أي يحب كلّ من يعرض له لا يتقيد بمحبوب معين، بخلاف العامري.
__________
[1] في «تاريخ دمشق» : «سبعين رقبة» ، وفي «وفيات الأعيان» : «أربعين رقبة» .
[2] قوله: «ويقال: إنه لما سمحت له بالقبلة، قبلها في فمها، وقذف من فمه إلى فمها بلؤلؤة ثمينة» لم يرد في «وفيات الأعيان» بتحقيق الأستاذ الدكتور إحسان عبّاس، ولعلّ ابن العماد نقل هذا الكلام من نسخة أخرى من «وفيات الأعيان» لم يقف عليها الدكتور عبّاس، أو أنه نقله من مصدر آخر.
[3] رواية البيت في «الأغاني» :
إذا ما أراد الغرو لم تثن همّه ... حصان عليها عقد درّ يزينها
[4] في الأصل، والمطبوع: «لم ير النهي» وهو تحريف والتصحيح من «الأغاني» و «وفيات الأعيان» .
[5] البيتان في «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني (9/ 21) ، و «وفيات الأعيان» (4/ 108) .
[6] قال ابن منظور: القطين: الخدم والأتباع والحشم، وفي «التهذيب» : الحشم الأحرار.
والقطين المماليك. والقطين: الإماء. «لسان العرب» (قطن) .(2/37)
ذكر أن عزّة تبدّلت في غير زيّها وتعرّضت لكثيّر، فراودها غير عالم بها، فقالت: اذهب إلى محبوبتك عزّة، فقال: ومن عزّة حتى تقاس بك؟ فسفرت عن وجهها وشتمته، فأطرق حياء ولم يذكرها إلى سنة، ثم بعد السنة أنشد تائيته الطنّانة التي سارت بها الرّكبان، التي مطلعها:
هنيئا مريئا غير داء مخامر ... لعزّة من أعراضنا ما استحلّت [1] .
__________
[1] البيت في «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني (9/ 30) .(2/38)
سنة ست ومائة
فيها استعمل هشام بن عبد الملك على العراق، خالد بن عبد الله القسريّ، فدخلها، وقبض على واليها عمر بن هبيرة [1] الفزاريّ، فنقب له غلمانه السّجن، وهرب إلى الشّام، فاستجار بمسلمة بن عبد الملك، ثم مات على القرب [2] .
وفيها غزا المسلمون فرغانة [3] والتقوا التّرك، فقتل في الوقعة ابن خاقان، وانهزموا ولله الحمد.
وفيها غزا الجرّاح الحكميّ وأوغل [4] في بلاد الخزر، فصالحوه وأعطوه الجزية.
وحج بالنّاس خليفتهم هشام.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «عمرو بن هبيرة» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 130) الذي ينقل عنه المؤلف رحمه الله.
[2] في «العبر» للذهبي: «ثم مات قريبا من ذلك» . وجزم الزركلي في «الأعلام» (5/ 68) بأنه مات سنة (110) هـ.
[3] فرغانة: بلدة تقع اليوم في الجنوب الغربي للاتحاد السوفييتي. وانظر «معجم البلدان» لياقوت (4/ 253- 254) .
[4] في «العبر» : «ووغل» .(2/39)
وفيها توفي سالم بن عبد الله [بن عمر] [1] العدويّ المدنيّ الفقيه الزّاهد العابد القدوة، وكان شديد الأزمة، خشن [2] العيش، يلبس الصوف ويخدم نفسه.
وقال مالك: لم يكن أحد [3] في زمانه أشبه بمن مضى من الصّالحين منه.
قال أحمد: أصحّ الأسانيد: الزّهري، عن سالم، عن أبيه.
وقيل: مالك عن نافع، عن ابن عمر [والشّافعيّ عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر] [4] وهي سلسلة الذّهب.
دخل سليمان بن عبد الملك الكعبة فرأى سالما واقفا، فقال له: سلني حوائجك؟ فقال: لا والله لا سألت في بيت الله غير الله.
وكان أبوه يقبّله ويقول: ألا تعجبون من شيخ يقبّل شيخا.
وقال:
يلومونني في سالم وألومهم ... وجلدة بين العين والأنف سالم [5]
وفيها الإمام طاووس بن كيسان اليمانيّ الجنديّ الخولانيّ، أحد الأعلام علما وعملا.
__________
[1] ما بين حاصرتين زيادة من «العبر» للذهبي.
[2] في الأصل: «حسن» وهو تحريف.
[3] لفظة «أحد» لم ترد في «العبر» للذهبي.
[4] ما بين حاصرتين سقط من الأصل، وأثبته من المطبوع.
[5] البيت في «طبقات ابن سعد» (5/ 196) ، و «العقد الفريد» (2/ 273) ط دار الكتب العلمية في بيروت، و «سير أعلام النبلاء» للذهبي (4/ 460) ، و «مختصر تاريخ دمشق» لابن منظور (9/ 191) ط دار الفكر بدمشق.(2/40)
أخذ عن عائشة وطائفة.
قال عمرو بن دينار: ما رأيت أحدا قط مثل طاووس.
ولما ولي عمر بن عبد العزيز، كتب إليه طاووس: إن أردت أن يكون عملك كله خيرا فاستعمل أهل الخير، فقال عمر: كفى بها موعظة.
توفي حاجا بمكّة قبل يوم التّروية [1] بيوم، وصلّى عليه هشام بن عبد الملك، وأراد الخروج عليه فلم يقدر لكثرة النّاس، ووضع عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب السرير على كاهله وسقطت قلنسوته، ومزّق رداؤه من خلفه للزحام.
قيل: إنه ولي صنعاء، والجند [2] ووليه بعده ابنه عبد الله.
قيل: سئل طاووس عن مسألة، فقال: أخاف إن تكلمت، وأخاف إن سكت، وأخاف أن آخذ بين الكلام والسكوت.
وكان أعلم التابعين بالحلال والحرام.
وفيها أبو مجلز لاحق بن حميد البصريّ، أحد علماء البصرة، لقي [3] كبار الصّحابة كأبي موسى، وابن عبّاس، وكان ينزل خراسان وعقبه بها، وكان عمر بن عبد العزيز بعث إليه فأشخصه ليسأله عنها.
وقال قرّة بن خالد: كان أبو مجلز عاملا على بيت المال وعلى ضرب السّكّة [4] .
__________
[1] قال الحافظ ابن حجر: يوم التروية: أي يوم الثامن من ذي الحجة، وسمي التروية، لأنهم كانوا يروون إبلهم ويتروون من الماء، لأن تلك الأماكن لم تكن إذ ذاك فيها آبار ولا عيون.
«فتح الباري» (3/ 507) .
[2] بلدة في اليمن بينها وبين صنعاء ثمانية وخمسون فرسخا، وقد نسب إليها كثير من أهل العلم. انظر «معجم البلدان» لياقوت (2/ 169- 170) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «لحق» وأثبت ما في «العبر» للذهبي (1/ 131) .
[4] قال ابن منظور: السّكّة: الدّينار والدرهم المضروبين، سمي كل واحد منهما سكّة لأنه طبع(2/41)
قال هشام بن حسّان: كان قليل الكلام، فإذا تكلم كان من الرّجال.
وفيها مات عبد الملك [1] قاضي الكوفة بعد الشّعبيّ. رأى عليا، وروى عن جابر.
وعنه قال: كنت عند عبد الملك بقصر الكوفة فجيء برأس مصعب بن الزّبير، فارتعت لذلك، فقال: مالك؟ فقلت: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين، كنت بهذا القصر مع عبيد الله بن زياد، فرأيت رأس الحسين بن علي بن أبي طالب بين يديه، ثم رأيت رأس عبيد الله بين يدي المختار [2] في هذا المكان، ثم رأيت رأس المختار بين يدي مصعب في هذا المكان، ثم هذا رأس مصعب، فأمر عبد الملك بهدم ذلك الطّاق [3] .
__________
بالحديدة المعلمة له. «لسان العرب» (سكك) .
[1] هو عبد الملك بن جابر بن عتيك الأنصاري المدني. انظر ترجمته في «تهذيب الكمال» للمزّي (2/ 851) مصوّرة دار المأمون للتراث بدمشق.
[2] يعني المختار بن أبي عبيد الثّقفي. انظر المجلد الأول من كتابنا هذا ص (293) .
[3] الطاق: عقد البناء حيث كان. انظر «لسان العرب» (طوق) .(2/42)
سنة سبع ومائة
فيها عزل هشام الجرّاح بن عبد الله الحكمي عن أذربيجان، وإرمينية، وولّى أخاه مسلمة، فغزا، وافتتح في رمضان قيساريّة عنوة.
وفيها توفي سليمان بن يسار [المدنيّ] [1] أخو عطاء. وهم عدة إخوة، وكان يكنى أبا أيّوب. مات عن ثلاثة وسبعين سنة. وكان أحد فقهاء المدينة [2] السبعة.
أخذ عن عائشة، وطائفة.
قال الحسن بن محمّد بن الحنفيّة: سليمان بن يسار عندنا أفهم من سعيد بن المسيّب، وكان ابن المسيّب يقول: اذهبوا إليه فإنه أعلم من بقي اليوم.
وفيها عطاء بن يزيد اللّيثيّ [المدنيّ] [3] يكنى أبا محمّد، وهو من كنانة أنفسهم، وهو صاحب تميم الدّاريّ.
روى عنه الزّهريّ، وتوفي وهو ابن اثنتين وثمانين سنة [4] .
__________
[1] زيادة من «العبر» للذهبي (1/ 131) .
[2] لفظة «المدينة» لم ترد في «العبر» للذهبي.
[3] زيادة من «العبر» للذهبي.
[4] المؤلف ينقل خبر عطاء عن «المعارف» لابن قتيبة ص (443) ، و «العبر» للذهبي (1/ 132) بتصرف.(2/43)
وفيها، وقيل: في سنة ثمان، أو إحدى، أو اثنتين ومائة مات أيضا أحد الفقهاء السبعة القاسم بن محمّد بن أبي بكر الصّدّيق التيميّ المدنيّ الإمام، نشأ في حجر عمته عائشة، فأكثر عنها.
قال يحيى بن سعيد: ما أدركنا أحدا نفضّله بالمدينة على القاسم بن محمد.
وعن أبي الزّناد قال: ما رأيت فقيها أعلم منه.
وقال ابن عيينة: كان القاسم أفضل أهل زمانه.
وعن عمر بن عبد العزيز قال: لو كان أمر الخلافة إليّ لما عدلت عن القاسم، أي وذلك لأن سليمان بن عبد الملك عهد إلى عمر بالخلافة وليزيد [1] من بعده.
وجاءه رجل فقال: أنت أعلم أم سالم [2] ؟ فقال: ذاك مبارك سالم.
قال ابن إسحاق: كره أن يقول: هو أعلم فيكذب، وأن يقول: أنا أعلم فيزكّي نفسه.
__________
[1] يعني يزيد بن عبد الملك.
[2] يعني سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب.(2/44)
سنة ثمان ومائة
فيها غزا أسد بن عبد الله القسريّ أمير خراسان، فالتقاه الغور [1] في جمع عظيم فهزمهم.
وفيها زحف ابن خاقان إلى أذربيجان وحاصر مدينة ورثان [2] ونصب عليها المجانيق. فساق إليه المسلمون فهزموه، وقتلوا من جيشه خلقا. ولكن استشهد أميرهم الحارث بن عمرو.
وفيها توفي أبو عبد الله بكر بن عبد الله المزنيّ البصريّ الفقيه.
روى عن المغيرة بن شعبة، وجماعة. وقيل: توفي سنة ست.
__________
[1] الغور: نسبة إلى غور، وهي ولاية واسعة باردة موحشة بين هراة وغزنة، وتقع اليوم في أراضي أفغانستان. انظر «معجم البلدان» (4/ 218) ، و «تاريخ خليفة» ص (338) . قلت:
وقد تصحفت «الغور» إلى «الغوز» في «العبر» للذهبي (1/ 133) . وقال محققه الأستاذ الدكتور صلاح الدّين المنجد في حاشية الصفحة: في ب «الغور» خطأ.
قلت: والصواب ما جاء في النسخة ب لا ما أثبته في المتن!.
[2] في الأصل، والمطبوع: «وريان» ، وفي «العبر» للذهبي: «ديان» وكلاهما خطأ. والتصحيح من «تاريخ خليفة» ص (338) ، و «معجم البلدان» (5/ 370) وفيه قال ياقوت: ورثان: بلد هو آخر أذربيجان، بينه وبين وادي الرّس فرسخان، وبين ورثان وبيلقان سبعة فراسخ ...
وقال ابن الكلبي: ورثان هي أذربيجان.
قلت: وأذربيجان هي اليوم في الشمال الغربي لإيران قرب بحر قزوين. وانظر «الأمصار ذوات الآثار» للذهبي ص (114) بتحقيقي، طبع دار ابن كثير.(2/45)
وفيها، وقيل: سنة تسع، أبو نضرة العبدي، واسمه المنذر بن مالك، أحد شيوخ البصرة أدرك عليّا، وطلحة، والكبار.
وفيها، يزيد بن عبد الله بن الشّخّير البصري، أخو مطرّف، جليل القدر، ثقة مشهور، لقي عمران بن حصين، وجماعة. وعاش نحوا من تسعين سنة.
وقيل: بقي إلى سنة إحدى عشرة، وكان موصوفا بالعلم والصّلاح والورع.
وفيها، وقيل: في سنة عشرة، محمد بن كعب القرظيّ الكوفيّ المولد والمنشأ، ثم المدنيّ.
روى عن كبار الصّحابة. وبعضهم يقول: ولد في حياة النّبيّ- صلّى الله عليه وسلّم- وكان كبير القدر ثقة [1] . موصوفا بالعلم والصّلاح والوّرع. قاله الذّهبيّ [2] .
__________
[1] لفظة «ثقة» لم ترد في «العبر» للذهبي، ولعل المؤلف رحمه الله أضافها من مصدر آخر. انظر على سبيل المثال: «تاريخ الإسلام» للذهبي (4/ 199) ، و «تقريب التهذيب» لابن حجر (2/ 203) .
[2] في «العبر» (1/ 134) .(2/46)
سنة تسع ومائة
فيها غزا معاوية ابن الخليفة هشام، فافتتح حصن القطاسين [1] .
وفيها توفي أبو نجيح يسار المكيّ، مولى ثقيف، ووالد عبد الله بن أبي نجيح. روى عن أبي سعيد، وجماعة.
قال أحمد بن حنبل: كان من خيار عباد الله.
وأبو حرب بن أبي الأسود الدّؤليّ [2] البصريّ. روى عن عبد الله بن عمرو [3] ، وجماعة.
__________
[1] كذا في الأصل، والمطبوع: «القطاسين» ، وفي «تاريخ خليفة بن خياط» ص (339) :
«الغطاسين» ، وفي «تاريخ الطبري» (7/ 46) ، و «الكامل» لابن الأثير (5/ 145) أن هذا الحصن يقال له: «طيبة» .
[2] ويقال: «الدّيلي» . انظر: «تهذيب الكمال» للمزي (3/ 1576) ، مصورة دار المأمون للتراث، و «تقريب التهذيب» لابن حجر ص (632) بتحقيق الأستاذ محمد عوّامة.
[3] في الأصل، والمطبوع، و «العبر» للذهبي: «روى عن عبد الله بن عمر» وهو خطأ، والتصحيح من «تهذيب الكمال» (3/ 1597) مصورة دار المأمون للتراث.(2/47)
سنة عشر ومائة
فيها افتتح معاوية ولد هشام قلعتين من أرض الرّوم.
وفيها كانت وقعة الطّين، التقى مسلمة وطاغية الخزر بقرب باب الأبواب، فاقتتلوا أياما كثيرة، ثم كان النصر ولله الحمد والمنة، وذلك في جمادى الآخرة.
وفيها كانت وقعة بالمغرب أسر فيها بطريق المشركين.
وفيها توفي إبراهيم بن محمّد بن طلحة بن عبيد الله التيميّ، وكان يسمّى أسد قريش.
روى عن عائشة، وجماعة، وولي خراج الكوفة لابن الزّبير.
والحسن بن أبي الحسن [1] البصريّ، أبو سعيد، إمام أهل البصرة وخير أهل زمانه.
ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر، وسمع خطبة عثمان، وشهد يوم الدّار [2] أبوه مولى زيد بن ثابت، وأمّه مولاة أمّ سلمة، وكان ربما أعطته أمّ
__________
[1] في المطبوع: «الحسن بن أبي حسن» .
[2] وهو اليوم الذي قتل فيه أمير المؤمنين عثمان بن عفّان رضي الله عنه وأرضاه وجمعنا به يوم الدين تحت لواء سيد المرسلين بفضله وكرمه إنه خير مسؤول. وانظر الروايات التي ذكرها الطبري حول حادثة قتله رضي الله عنه في «تاريخه» 4/ 365- 396) .(2/48)
سلمة ثديها في صغره تعلّله به [1] حتّى تجيء أمه، فيدرّ عليه. فيروون أن علمه، وفصاحته، وورعه من بركة ذلك. وكان جميلا فصيحا.
قال أبو عمرو بن العلاء: ما رأيت أفصح من الحسن، والحجّاج. قيل:
ولا أشعر من رؤبة، والعجّاج.
وقال ابن سعد في «طبقاته» [2] : كان جامعا، عالما، رفيعا، فقيها، حجة [3] مأمونا، عابدا، ناسكا كثير العلم [4] فصيحا، جميلا، وسيما. انتهى.
ولما ولي ابن هبيرة [5] العراق وخراسان نيابة عن يزيد بن عبد الملك، استدعى الحسن، وابن سيرين، والشّعبيّ، وذلك في سنة ثلاث ومائة، فقال لهم: إنّ الخليفة كتب إليّ بأمر فأقلده ما تقلد من ذلك الأمر. فقال ابن سيرين والشّعبيّ قولا فيه بعض تقيّة. فقال: ما تقول يا حسن؟ قال: يا ابن هبيرة، خف الله في يزيد، ولا تخف يزيدا في الله، فإن الله يمنعك من يزيد، ولا يمنعك يزيد من الله، ويوشك أن يبعث إليك ملكا فيزيلك عن سريرك، ويخرجك من سعة قصرك [6] إلى ضيق قبرك، ثم لا ينجيك إلّا عملك.
يا ابن هبيرة إياك أن تعصي الله [7] فإنما جعل الله هذا السلطان ناصرا لدين الله تعالى وعباده، فلا تتركن [8] دين الله وعباده لهذا السلطان، فإنه «لا طاعة لمخلوق في معصيّة الخالق» [9] فأضعف جائزة الحسن عليهما. فقالا له:
__________
[1] علّله بالشيء تعليلا: أي لهّاه به. انظر «مختار الصحاح» ص (451) .
[2] (7/ 157) .
[3] في «طبقات ابن سعد» : «فقيها ثقة» .
[4] في «طبقات ابن سعد» : «كبير العلم» .
[5] هو يزيد بن عمرو بن هبيرة الفزاري. انظر خبره في ص (148) من هذا المجلد.
[6] في «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 258) : «من سعة قصر» .
[7] سقط لفظ الجلالة من «مرآة الجنان» فيستدرك فيه.
[8] في «مرآة الجنان» : «فلا تركبن» .
[9] ذكره العجلوني في «كشف الخفاء» (2/ 365- 366) وقال: رواه أحمد والحاكم عن(2/49)
قشقشنا [له] فقشقش لنا، والقشقشة: الرّديء من العطية [1] .
وكتب إليه عمر بن عبد العزيز يقول له: إني قد ابتليت بهذا الأمر، فانظروا لي أعوانا يعينونني [2] عليه. فكتب إليه الحسن: أما أبناء الدّنيا فلا تريدهم، وأما أبناء الآخرة فلا يريدونك [3] فاستعن بالله والسلام.
وله مع الحجّاج وقعات هائلة، وسلمه الله من شره، وربما حضر مجلسه فلم [4] يقم، بل يوسع له ويجلس إلى جنبه، ولا يغير كلامه الذي هو فيه.
وقال أبو بكر الهذليّ: قال لي السّفّاح: بأي شيء بلغ حسنكم ما بلغ؟
فقلت: جمع القرآن وهو ابن اثنتي عشرة سنة، ثم لم يخرج من سورة إلى غيرها حتّى يعرف تأويلها، وفيما أنزلت، ولم، يقلب درهما في تجارة، ولا ولي سلطانا، ولا أمر بشيء حتّى فعله، ولا نهى عن شيء حتّى ودعه، فقال بهذا بلغ الشيخ ما بلغ.
وكان جلّ كلامه حكم ومواعظ، بقوة عبارة وفصاحة.
__________
عمران بن حصين رضي الله عنه. ورواه أبو داود، والنسائي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه بلفظ: «لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف» ورواه أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه بلفظ «لا طاعة لمن لم يطع الله» وهو حديث صحيح. وانظر «صحيح مسلم» رقم (1840) (39) و (40) .
[1] كذا في الأصل، والمطبوع: «قشقشنا فقشقش لنا، والقشقشة الرديء من العطية» ، ولم أر لهذا الكلام معنى في كتب اللغة. وفي «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 258) - وهو مصدر كلام المؤلف-: «سفسفنا له، فسفسف لنا. والسفساف: الرديء من العطية.
قال ابن منظور في «لسان العرب» (سفف) : السفساف: الرّديء من كل شيء، والأمر الحقير، وكل عمل دون الإحكام سفساف.
[2] في الأصل، والمطبوع: «يعينوني» وما أثبته من «مرآة الجنان» .
[3] في المطبوع: «فلا يريدونه» وهو خطأ.
[4] في الأصل: «فلا» وأثبت ما في المطبوع.(2/50)
وقال ابن قتيبة في «المعارف» [1] : كان الحسن من أجمل أهل البصرة، حتّى سقط عن دابته، فحدث بأنفه ما حدث.
وحدّثني عبد الرّحمن، عن الأصمعي، عن أبيه قال: ما رأيت أحدا أعرض زندا من الحسن، وكان عرضه شبرا، وكان تكلم في شيء [2] من القدر ثم رجع عنه.
وكان عطاء بن يسار قاصّا [3] ويرى القدر وكان لسانه يلحن [4] ، وكان يأتي الحسن هو ومعبد الجهني، فيسألانه، ويقولان: يا أبا سعيد، إن هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسلمين، ويأخذون أموالهم، ويقولون: إنما تجري أعمالنا على قدر الله تعالى. فقال: كذب أعداء الله. فتعلق عليه بمثل هذا وأشباهه.
وكان يشبّه برؤبة بن العجّاج في فصاحة لهجته، وعربيته.
ولم يشهد ابن سيرين جنازته لشيء كان بينهما.
وكان الحسن كاتب الرّبيع بن زياد الحارثي بخراسان.
وقيل ليونس بن عبيد: أتعرف أحدا يعمل بعمل الحسن؟ فقال: والله ما أعرف [5] أحدا يقول بقوله، فكيف يعمل بعمله.
ثم وصفه فقال: كان إذا أقبل فكأنه أقبل من دفن حميمه، وإذا جلس
__________
[1] ص (441) .
[2] في الأصل: «بشيء» وأثبت ما في المطبوع، وهو موافق لما في «المعارف» .
[3] في الأصل، والمطبوع: «قاضيا» وهو تحريف، والتصحيح من «المعارف» .
[4] في الأصل، والمطبوع: «وكأن لسانه سحر» وهو تحريف، والتصحيح من «المعارف» لابن قتيبة ص (441) .
[5] في «المعارف» : «لا أعرف» .(2/51)
فكأنه أسير [1] أمر بضرب عنقه، وإذا ذكرت النّار فكأنها لم تخلق إلّا له.
انتهى ملخصا.
وقال رجل قبل موته لابن سيرين: رأيت طائرا أخذ حصاة من المسجد، فقال: إن صدقت رؤياك مات الحسن، فمات بعد [2] ذلك.
ولما شيّع النّاس جنازته لم تقم صلاة العصر في الجامع، ولم يكن ذلك منذ قام الإسلام، رحمه الله تعالى ورضي عنه.
وفي شوال يوم الجمعة منها توفي شيخ البصرة، إمام المعبّرين محمد بن سيرين، أبو بكر، بعد موت الحسن بمائة يوم.
قالوا: كان سيرين أبو محمّد عبدا لأنس بن مالك، فكاتبه على عشرين ألفا، وأدى المكاتبة، وكان من سبي ميسان [3] وكان المغيرة افتتحها.
ويقال: من سبي عين التّمر، وكانت أمه صفيّة مولاة لأبي بكر الصّدّيق [- رضي الله عنه-] [4] طيّبها ثلاث من أزواج النّبيّ- صلّى الله عليه وسلّم- ودعون لها، وحضر إملاكها [5] ثمانية عشر بدريّا، فيهم أبيّ بن كعب، يدعو، وهم يؤمّنون.
__________
[1] لفظة «أسير» سقطت من «المعارف» في طبعتي د. ثروة عكاشة، والصّاوي، فتستدرك فيهما.
[2] في المطبوع: «بعيد» .
[3] في الأصل، والمطبوع: «بيسان» وهو خطأ، والتصحيح «المعارف» لابن قتيبة ص (442) - وهو المصدر الذي ينقل عنه المؤلف- ومن «وفيات الأعيان» لابن خلكان (4/ 181) .
قال ياقوت: ميسان: اسم كورة واسعة كثيرة القرى والنخل بين البصرة وواسط، قصبتها ميسان «معجم البلدان» (5/ 242) .
قلت: وتقع ميسان الآن في الجنوب الشرقي للعراق.
[4] زيادة من «المعارف» لابن قتيبة، و «وفيات الأعيان» .
[5] في الأصل، والمطبوع: «ملاكها» ، والتصحيح من «المعارف» لابن قتيبة، و «وفيات الأعيان» لابن خلكان.(2/52)
وكان سيرين يكنى: أبا عمرة. وولد له ثلاث وعشرون ولدا، من أمهات أولاد شتى.
وكان محمّد بزّازا [1] وحبس بدين [كان] [2] عليه، وكان أصمّ، وولد له ثلاثون ولدا من امرأة واحدة، كان تزوجها عربية، ولم يبق منهم غير عبد الله بن محمّد، وولد محمد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان، قال ذلك أنس بن سيرين، قال: وولدت أنا لسنة بقيت من خلافته.
ومات محمد عن سبع وسبعين سنة، وقضى عنه ابنه عبد الله ثلاثين ألف درهم.
وكان محمد بن سيرين كاتب أنس بن مالك بفارس.
قال الأصمعيّ: كان [3] الحسن سيدا سمحا، وإذا حدثك الأصمّ- يعني ابن سيرين- فاشدد يديك به. وقتادة حاطب ليل.
وكان ابن سيرين إذا دخل منزلا لم يره أحد إلّا ذكر اسم الله لصلاحه، وكان يقول: ما أهون الورع، فقيل: وكيف هو هيّن؟ فقال: إذا رابك شيء فدعه.
وقال: رأيت يوسف النّبيّ- على نبينا وعليه الصلاة والسلام- في النوم، فقلت له: علّمني تعبير الرّؤيا. قال: افتح فاك، ففتحته، فتفل فيه، فأصبحت، فإذا أنا أعبر الرّؤيا.
__________
قال في «مختار الصحاح» ص (633) : الإملاك: التّزويج، وقد أملكنا فلانا فلانة أي زوجناه إيّاها.
[1] قال ابن منظور: البّزّاز: بائع البزّ- وهي الثياب- وحرفته البزازة. «لسان العرب» (بزز) .
[2] لفظة «كان» التي بين حاصرتين سقطت من الأصل، والمطبوع، واستدركتها من «المعارف لابن قتيبة، و «وفيات الأعيان» (4/ 182) .
[3] لفظة «كان» لم ترد في «المعارف» لابن قتيبة في طبعتي د. ثروة عكاشة، والصّاوي.(2/53)
قال ابن قتيبة: وكان ابن سيرين غاية في العلم، نهاية في العبادة، روى عن كثير من الصحابة، وروى عنه الجمّ الغفير من التابعين، وأريد على القضاء فهرب إلى الشّام، ثم أتى المدينة [1] .
قال ابن عون: لم أر مثله.
وقال هشام بن حسّان [2] : حدثني أصدق من رأيت من البشر محمد بن سيرين.
وقال ابن عون: لم أر مثل ابن سيرين.
وله في التعبير عجائب.
قال له رجل: رأيت على ساق رجل شعرا كثيرا، فقال: يركبه دين ويموت في السّجن، فقال الرجل: أنت هو، فاسترجع، ومات في السجن وعليه أربعون ألف درهم، قضاها عنه ولده أو بعض إخوانه، وقوّم ماله بستمائة ألف درهم.
وقالت له امرأة: رأيت كأن القمر دخل في الثّريا، فنادى مناد من خلفي قضي على ابن سيرين، فاصفرّ لونه، وقام وهو آخذ ببطنه، فقالت له عمته:
مالك؟ قال: زعمت هذه المرأة أني أموت إلى سبعة أيام، فدفن في اليوم السابع.
وقال له رجل: رأيت طائرا سمينا ما أعرفه، تدلّى من السماء فوقع على شجرة، وجعل يلتقط الزّهر، ثم طار، فتغيّر وجه ابن سيرين، وقال: هذا موت العلماء.
__________
[1] في «العبر» (1/ 135) : «ففرّ إلى الشام، وإلى اليمامة» .
[2] في «العبر» : «هشام بن حبان» وهو خطأ، فيصحّ فيه.(2/54)
وفيها توفيت فاطمة بنت الحسين الشهيد- رضي الله عنه- التي أصدقها الدّيباج عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفّان ألف ألف درهم [1] ، وتزوج أختها سكينة مصعب بن الزّبير، هي وعائشة بنت طلحة.
وفيها مات مسلم البطين [2] صاحب سعيد بن جبير بالكوفة.
[وسليم بن عامر الكلاعي الحمصي.
قال الذّهبي في «العبر» : وقد أدرك النبيّ- صلّى الله عليه وسلّم- وروى عن أبي الدرداء ونحوه] [3] . انتهى.
وفيها عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أخو الفقيه عبيد الله، إمام، زاهد، قانت، واعظ، كثير العلم، لقي ابن عبّاس، والكبار.
وفيها توفي الشاعران المشهوران، شاعرا العصر، جرير [4] والفرزدق.
قال ابن خلّكان [5] : أجمعوا على أنه ليس في شعراء الإسلام مثلهما والأخطل.
__________
[1] في «مرآة الجنان» لليافعي: «مائة ألف درهم» .
[2] هو مسلم بن عمران، ويقال: ابن أبي عمران الكوفي، أبو عبد الله، الملقب بالبطين، ثقة.
انظر «تهذيب التهذيب» (10/ 134) ، و «تقريب التهذيب» (2/ 246) .
[3] ما بين حاصرتين لم يرد في «العبر» المطبوع بتحقيق الدكتور صلاح الدّين المنجد.
[4] هو جرير بن عطية بن حذيفة الخطفي التميميّ البصريّ، أشعر أهل عصره، ولد ومات في اليمامة. وعاش عمره كله يناضل شعراء زمنه ويساجلهم- وكان هجاء مرا- فلم يثبت أمامه غير الفرزدق، والأخطل، وكان عنيفا، وهو من أغزل الناس شعرا، وقد جمعت «نقائضه مع الفرزدق» وطبعت في ثلاثة أجزاء، وأخباره مع الشعراء وغيرهم كثيرة جدا، وكان يكنى بأبي حزرة. انظر «سير أعلام النبلاء» (4/ 590- 591) ، و «الأعلام» للزركلي (2/ 119) .
[5] «وفيات الأعيان» (1/ 321) ونص العبارة فيه: «وأجمعت العلماء على أنّه ليس في شعراء الإسلام مثل ثلاثة: جرير، والفرزدق، والأخطل» ، وقد ساق الذهبي هذا الخبر في «سير أعلام النبلاء» (4/ 591) ونسبه لبشار الأعمى.(2/55)
وكان بينهما مهاجاة وتفاخر، وفضّل جرير ببيوته الأربعة: الفخر، والمدح، والهجاء، والتشبيب، فالفخر قوله في قومه [1] :
إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت النّاس كلّهم غضابا [2]
والمدح قوله:
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح [3]
والهجاء قوله:
فغضّ الطّرف إنّك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا [4]
والتشبيب قوله:
يصرعنّ ذا اللّبّ حتّى لا حراك به [5] ... وهنّ أضعف خلق الله أركانا [6]
وقال اليافعيّ [7] : وقد رجّح كثير من المتأخرين أو أكثرهم [8] ثلاثة متأخرين: أبا تمّام، والبحتري، والمتنبّي، واختلفوا في ترجيح أيهم، ورجّح [9] الفقيه حسين المؤرخ [10] قول شمس الدّين بن خلّكان [11] ، وذلك
__________
[1] في «وفيات الأعيان» لابن خلكان (1/ 321) : «قوله في قوله» .
[2] البيت في شرح «ديوانه» للصاوي ص (78) ط دار الأندلس ببيروت.
[3] البيت في شرح «ديوانه» للصاوي ص (98) .
[4] البيت في شرح «ديوانه» للصاوي ص (75) .
[5] في شرح «ديوانه» للصاوي: «حتى لا صراع به» .
[6] البيت في شرح «ديوانه» للصاوي ص (595) .
[7] في «مرآة الجنان» (1/ 262) ، والمؤلف ينقل كلامه باختصار وتصرف.
[8] في «مرآة الجنان» : «بل أكثرهم» .
[9] في الأصل: «ومرجح» وأثبت ما في المطبوع.
[10] لم أقف على ذكر له فيما بين يدي من المراجع.
[11] في الأصل، والمطبوع: «شرف الدين بن خلكان» ، والتصحيح من كتب الرجال التي بين يدي، وانظر كلام ابن خلكان في «وفيات الأعيان (1/ 121) .(2/56)
لأن الأولين سبقوا إلى ابتكار المعاني الجزيلة بالألفاظ البليغة، وأحسن حالات المتأخرين أن يفهموا أغراضهم وينسجوا على منوالهم، وتبقى لهم فضيلة السبق.
ويقال لجرير: ابن الخطفاء، ولعلها أمه، وأما أبوه فعطيّة، وهو تميميّ، ومن أحسن قوله قصيدته في عبد الملك التي أولها:
أتصحو أم فؤادك غير صاح ... عشيّة همّ صحبك بالرّواح [1]
يقال: إنه لما أنشد عبد الملك هذا المطلع، قال له: بل فؤادك يا ابن الفاعلة، وعده بعضهم من الورطات في حسن الابتداء.
ومن القصيدة المذكورة:
سأشكر إن رددت عليّ ريشي ... وأنبتّ القوادم من جناحي
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح [2]
وقال عبد الملك: من مدحنا فليمدحنا بمثل هذا أو فليسكت، ووهبه مائة ناقة، فسأله الرعاء، فوهبه ثمانية أعبد، ورأى صحاف ذهب بين يديه، فقال: يا أمير المؤمنين والمحلب [3] وأشار إليها، فنحاها إليه بالقضيب، وقال: خذها لا نفعتك.
وكان عمر بن عبد العزيز لا يأذن لأحد من الشعراء غيره.
ولما مات الفرزدق بكى جرير وقال: إني لأعلم أني قليل البقاء بعده،
__________
[1] البيت في شرح «ديوانه» للصاوي ص (96) . وروايته فيه: «أتصحو بل فؤادك غير صاح ... » .
[2] البيتان في شرح «ديوانه» للصاوي ص (78) .
[3] المحلب: الإناء. انظر «مختار الصحاح» ص (149) .(2/57)
ولقد كان نجمنا واحدا، وكلّ منا مشغول، بصاحبه، وقلما مات ضد أو صديق إلّا ويتبعه صاحبه، وبقي حزينا.
وقال: أطفأ موت الفرزدق جمرتي، وأسال عبرتي، وقرب منيّتي، فعاش بعده أربعين يوما، وقيل: ثمانين، وقد قارب المائة.
وأما الفرزدق فهو أبو فراس [1] همّام بن غالب التميميّ المجاشعيّ من سراة قومه، وأمه ليلى بنت حابس أخت الأقرع بن حابس، تبارى أبوه غالب هو وسحيم بن وثيل الرّياحي، نحر مائة ناقة ثنتين ثنتين، ثم ثلاثا ثلاثا، وفي اليوم الرابع نحر غالب مائة، ولم يكن عند سحيم هذا القدر، فعجز، ولما انتهت، وانقضت المجاعة، وزال الضّر، قال بنو رياح لسحيم: جررت علينا عار الدّهر! لو نحرت مثله أعطيناك مكان كل ناقة ناقتين، فنحر ثلاثمائة، وقال للناس: شأنكم والأكل، فنهى عليّ- كرم الله وجهه- عن أكلها، فألقيت على كناسة [2] الكوفة، وفي ذلك يقول جرير في هجو الفرزدق:
تعدّون عقر النّيب أفضل مجدكم ... بني ضوطرى هلّا الكميّ المقنّعا [3]
يقول: هلا افتخرتم بالشجاعة.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع، و «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 265) : «أبو الأخطل» وهو خطأ، وفي باقي المصادر التي بين يدي: «أبو فراس» وهو ما أثبته. انظر «وفيات الأعيان» (6/ 86) ، و «سير أعلام النبلاء» (4/ 590) ، و «الفرزدق» دراسة للأستاذ الدكتور شاكر الفحام- حفظه الله- ص (116) ط دار الفكر بدمشق، وكلام المؤلف رحمه الله عن الحوار بين الشامي والفرزدق في الصفحة التالية.
[2] في الأصل: «نحاسة» وهو تحريف، وأثبت ما في المطبوع، وهو موافق لما في «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 265) الذي ينقل عنه المؤلف.
والكناسة: القمامة. انظر «مختار الصحاح» ص (581) .
[3] حصل بعض التحريف في البيت في الأصل، والمطبوع، وقد أثبت ما جاء في «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 266) ، وهو موافق للفظ البيت في «شرح ديوان جرير» ص (338) .(2/58)
وهدم الوليد بن عبد الملك بيعة النصارى، فكتب إليه الأخرم ملك الرّوم: إن من قبلك أقرّها، فإن أصابوا فقد أخطأت، وإن أصبت فقد أخطئوا، فقال له الفرزدق: اكتب إليه وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ في الْحَرْثِ 21: 78 إلى قوله تعالى: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً 21: 79 [الأنبياء: 79- 78] .
واجتمع الحسن البصريّ والفرزدق في جنازة نوّار [1] امرأة الفرزدق، فقال له الفرزدق: أتدري ما يقول الناس يا أبا سعيد، يقولون: اجتمع خير النّاس وشر الناس، فقال الحسن: لست بخيرهم، ولست بشرهم، ولكن ما أعددت لهذا اليوم؟ قال: شهادة أن لا إله إلّا الله منذ ستين سنة، فقال الحسن: نعم والله العدّة.
وعن أبي عمرو بن العلاء قال: شهدت الفرزدق وهو يجود بنفسه، فما رأيت أحسن ثقة بالله منه، وترجى له الزلفى والفائدة وعظيم العائدة بحميته في أهل بيت رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- ومدحه لزين العابدين علي بن الحسين، وإعرابه عن الرّغبة والرّهبة، وذلك أن زين العابدين لما أراد استلام الحجر في زحمة النّاس انفرجوا عنه هيبة ومحبة، ولم تنفرج لهشام بن عبد الملك، فقال شاميّ: من هذا؟ فقال هشام: لا أعرفه، خاف أن ترغب عنه أهل الشّام، فقال الفرزدق: أنا أعرفه، فقال الشّاميّ: من هو يا أبا فراس؟ فقال:
هذا سليل حسين وابن فاطمة ... بنت الرّسول [من] انجابت به الظلم [2]
هذا الّذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحلّ والحرم
__________
[1] هي النّوار بنت أعين، وقيل: بنت عبد الله المجاشعيّة. انظر «أعلام النساء» لكحالة (5/ 193- 195) طبع مؤسسة الرسالة.
[2] لم يرد لهذا البيت ذكر في «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 266) مصدر المؤلف، ولا في «ديوان الفرزدق» المطبوع بعناية الصّاوي.(2/59)
إذا رأته قريش قال قائلها [1] ... إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
هذا ابن خير عباد الله كلّهم ... هذا التّقيّ النّقيّ الطّاهر العلم
يسمو إلى ذروة العزّ التي عجزت ... عن نيلها عرب الإسلام والعجم
يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم [2]
بكفّه خيزران ريحه عبق ... من كفّ أروع في عرنينه شمم
يغضي حياء ويغضى من مهابته ... فما يكلّم إلّا حين يبتسم
يبين نور الضّحى من بدر غرّته ... كالشّمس ينجاب من إشراقها القتم [3]
مشتقّة من رسول الله نبعته ... طابت عناصره والخيم والشّيم
الله شرّفه قدرا وعظّمه ... جرى بذاك له في لوحه القلم
هو ابن فاطمة إن كنت جاهله ... بجدّه أنبياء الله قد ختموا
وليس قولك من هذا بضائره ... العرب تعرف من أنكرت والعجم
كلتا يديه غياث عمّ نفعهما ... تستوكفان ولا يعروهما عدم
سهل الخليقة لا تخشى بوادره ... يزينه اثنان حسن الخلق والشّيم
حمّال أثقال أقوام إذا فدحوا ... حلو الشّمائل تحلو عنده النعم
لا يخلف الوعد ميمون نقيبته ... رحب الفناء أريب حين يعتزم
عمّ البريّة بالإحسان فانقشعت ... عنه الغياية [4] والإملاق والعدم
من معشر حبّهم دين وبغضهم ... كفر وقربهم منجى ومعتصم
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «قائلهم» ، والتصحيح من «ديوان الفرزدق» ، و «مرآة الجنان» .
[2] رواية البيت في «ديوان الفرزدق» (2/ 848) :
يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم عليه حين يستلم
ورواية البيت في كتابنا موافقة لروايته عند اليافعي في «مرآة الجنان» .
[3] رواية البيت في المطبوع:
يبين نور الضّحى من فوق غرّته ... كالشّمس ينجاب من إشراقها القتم
ورواية البيت في الأصل موافقة لروايته عند اليافعي في «مرآة الجنان» .
[4] قال ابن منظور: الغياية: كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه. «لسان العرب» (غيا) .(2/60)
إن عدّ أهل التّقى كانوا أئمّتهم ... أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم
لا يستطيع جواد بعد غايتهم ... ولا يدانيهم قوم وإن كرموا
هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت ... والأسد أسد الشّرى والبأس محتدم
لا يقبض العدم بسطا من أكفّهم ... سيّان ذلك إن أثروا وإن عدموا [1]
مقدّم بعد ذكر الله ذكرهم ... في كلّ برّ ومختوم به الكلم
يأبى لهم أن يحلّ الذّمّ ساحتهم ... خيم كرام وأيد بالندى ديم
من يعرف الله يعرف أوّليّة ذا ... والدّين من بيت هذا ناله الأمم
ما قال لا قطّ إلّا في تشهّده ... لولا التّشهّد كانت لاءه نعم [2]
فلما سمع هشام ذلك أنف، وحبس عطاء الفرزدق أو حبسه هو، فأنفذ له زين العابدين اثني عشر ألف درهم، فردها، وقال: مدحته لله لا للعطاء، فقال زين العابدين: إنّا أهل بيت [3] إذا وهبنا شيئا لا نستعيده، فقبلها الفرزدق. وهذه القصيدة الموعود بها في ترجمة زين العابدين- رضي الله عنه-[4] .
قال في «العبر» [5] : وفي حدود [سنة] عشر ومائة، مات محمد بن عمرو ابن عطاء العامريّ المدنيّ أحد الأشراف، وكانوا يتحدثون أنه يصلح للخلافة لهمته وسؤدده. انتهى.
__________
[1] هذا البيت لم يرد عند اليافعي في «مرآة الجنان» وفي بعض المصادر: «لا ينقص العسر» .
[2] الأبيات في «غربان الزمان» للعامري ص (106- 107) ، و «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 266- 267) ، والأبيات الثاني، والثالث، والسادس في «ديوان الفرزدق» (2/ 848- 849) بشرح الصّاوي. والقصيدة كاملة في «شرح ديوان الفرزدق» للمستشرق جيمس د. سايمز ص (205- 207) .
[3] المطبوع، و «مرآة الجنان» : «إنا أهل البيت» .
[4] انظر المجلد الأول ص (374- 376) .
[5] لم يرد هذا النقل في «العبر» المطبوع بتحقيق الدكتور صلاح الدّين المنجد في الكويت.(2/61)
سنة إحدى عشرة ومائة
فيها عزل مسلمة عن أذربيجان، وأعيد الجرّاح الحكميّ، فافتتح مدينة البيضاء [1] التي للخزر، فجمع ابن خاقان جمعا عظيما، وساق، فنازل أردبيل.
وفيها توفي عطيّة بن سعد العوفي الكوفيّ. روى عن أبي هريرة، وطائفة. ضربه الحجّاج أربعمائة سوط على أن يشتم عليا [رضي الله عنه] ، فلم يفعل، وهو ضعيف الحديث، قاله الذّهبيّ [2] .
وفيها القاسم بن مخيمرة الهمدانيّ الكوفيّ، نزيل الشّام. روى عن أبي سعيد، وعلقمة، وكان عالما، نبيلا، زاهدا، رفيعا.
__________
[1] البيضاء مدينة مشهورة بفارس ... وكان اسمها في أيام الفرس درإسفيد، فعرّبت بالمعنى، وقيل: كان اسمها نسايك. وسميت البيضاء لأن قلعتها بيضاء يرى بياضها من بعيد، وهي بالكبر تضاهي إصطخر، وكانت معسكرا للمسلمين يقصدونها في فتح إصطخر، وبناؤهم من طين، وينسب إليها جماعة من أهل العلم والفضل. انظر «معجم البلدان» (1/ 529) ، و «الروض المعطار» للحميري ص (120- 121) .
[2] في «العبر» (1/ 137) . وانظر «المغني في الضعفاء» للذهبي أيضا (2/ 436) بتحقيق الدكتور نور الدين عتر، ط دار المعارف بحلب.(2/62)
سنة اثنتي عشرة ومائة
فيها سار مسلمة في شدّة البرد والثّلج حتّى جاوز الباب من بلاد التّرك، وافتتح مدائن وحصونا.
وافتتح معاوية بن هشام خرشنة من ناحية ملطية [1] .
وفيها زحف الجرّاح الحكميّ من برذعة [2] إلى ابن خاقان [3] وهو محاصر أردبيل [4] ، فالتقى الجمعان، فاشتد وكسر المسلمون، وقتل الجرّاح الحكميّ- رحمه الله- وغلبت الخزر- لعنهم الله- على أذربيجان، وبلغت خيولهم إلى الموصل، وكان بأسا شديدا على الإسلام.
قال الواقديّ: وكان بأسا شديد البلاء عظيما [5] على المسلمين بمقتل
__________
[1] خرشنة وملطية كانتا من بلاد الرّوم، وهما الآن في الجنوب الشرقي لتركيا. انظر «معجم البلدان» لياقوت (2/ 359) و (5/ 192) ، و «الروض المعطار» للحميري ص (218) و (545) .
[2] برذعة: تقع الآن في الشمال الغربي من إيران على مقربة من بحر قزوين. انظر «معجم البلدان» (1/ 379) ، و «المختار من أحسن التقاسيم» للمقدسي ص (255) إعداد الأستاذ غازي طليمات.
[3] هو مارتيك بن خاقان. انظر «تاريخ خليفة بن خياط» ص (338) .
[4] أردبيل: تقع الآن في الشمال الغربي لإيران. انظر «معجم البلدان» لياقوت (1/ 145) ، و «المختار من أحسن التقاسيم» ص (256) .
[5] قوله: «بأسا شديد» لم يرد في المطبوع.(2/63)
الجرّاح، وبكوا عليه.
روى أبو مسهر [1] عن رجل، أن الجرّاح قال: تركت الذنوب أربعين سنة، ثم أدركني الورع، وكان من قراء أهل الشام.
وقال غيره: ولي خراج خراسان لعمر بن عبد العزيز، وكان إذا مرّ بجامع دمشق يميل رأسه عن القناديل لطوله.
وفيها غزا الأشرس السّلميّ فرغانة، فأحاطت به التّرك.
وفيها أخذت الخزر أردبيل بالسيف، فبعث هشام إلى أذربيجان سعيد بن عمرو الجرشي، فالتقى الخزر، فهزمهم واستنقذ سبيا كثيرا وغنائم، ولطف الله تعالى.
وفيها [توفي] [2] أبو المقدام رجاء بن حيوة [3] الكنديّ الشاميّ الفقيه، روى عن معاوية وطبقته، وكان شريفا نبيلا كامل السؤدد.
قال مطر الورّاق: ما رأيت شاميا أفقه منه.
وقال مكحول: هو سيّد أهل الشّام في أنفسهم.
وقال مسلمة الأمير في كندة: رجاء بن حيوة، وعبادة بن نسيّ، وعديّ بن عديّ، إن الله لينزل بهم الغيث، وينصر بهم على الأعداء.
بلغ يوما عبد الملك قول من بعض النّاس، فهمّ أن يعاقب صاحبه، فقال له رجاء: يا أمير المؤمنين، قد فعل الله بك ما تحب حيث أمكنك منه، فافعل ما يحبه الله من العفو، فعفا عنه وأحسن إليه.
__________
[1] هو عبد الأعلى بن مسهر، عالم الشام في عصره، مات سنة (218) هـ، وسوف ترد ترجمته في المجلد الثالث من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى.
[2] زيادة من «العبر» للذهبي (1/ 138) .
[3] في الأصل: «حياة» وهو خطأ.(2/64)
وفيها القاسم بن عبد الرّحمن الدمشقيّ الفقيه الفاضل، أدرك أربعين من المهاجرين والأنصار.
وطلحة بن مصرّف الياميّ [1] الهمدانيّ الكوفيّ، كان يسمى سيّد القراء.
قال أبو معشر: ما ترك بعده مثله، ولما علم إجماع أهل الكوفة على أنه أقرأ من بها، ذهب ليقرأ على الأعمش رفيقه، لينزل رتبته في أعينهم، ويأبى الله إلّا رفعته.
سمع عبد الله بن أبي أوفى، وصغار الصّحابة، ومات كهلا، ورحمه الله تعالى.
__________
[1] نسبة إلى يام بن أصبى بن رافع بن مالك بن جشم بن حاشد بن جشم بن خيران بن نوف بن همدان، بطن من همدان، ينسب إليه كثير من أهل العلم. انظر «اللباب» لابن الأثير (3/ 406) .(2/65)
سنة ثلاث عشرة ومائة
فيها التقى المسلمون والتّرك بظاهر سمرقند، فاستشهد الأمير الخطير سورة بن أبحر [1] الدّارميّ عامل سمرقند وعامة أصحابه. ثم التقاهم الجنيد المريّ فهزمهم.
وفيها أعيد مسلمة إلى ولاية أذربيجان وإرمينية، فالتقى خاقان، فاقتتلوا قتالا عظيما وتحاجروا، ثم التقوا بعدها فانهزم خاقان.
وفيها غزا المسلمون وهم ثمانية آلاف، وعليهم مالك بن شبيب الباهليّ، فوغل بهم في أرض الرّوم، فحشدوا لهم والتقوا، فانكسر المسلمون وقتل أميرهم مالك بن شبيب، وقتل معه جماعة كثيرة، منهم عبد الوهّاب بن بخت مولى بني مروان، وكان موصوفا بالشجاعة والإقدام. روى عن ابن عمر، وأنس، ووثقه أبو زرعة، وكان معه في القتلى أبو يحيى عبد الله الأنطاكي أحد الشجعان الذين يضرب بهم المثل، وله مواقف مشهودة، وكان طليعة جيش مسلمة، وله أخبار في الجملة، لكن كذبوا عليه، وحمّلوه من الخرافات والكذب ما لا يحدّ ولا يوصف.
وفيها توفي فقيه الشّام أبو عبد الله مكحول مولى بني هذيل، أرسل عن
__________
[1] ويقال له: سورة بن الحر أيضا.(2/66)
طائفة من الصّحابة، وسمع من واثلة بن الأسقع، وأنس، وأبي أمامة الباهلي وخلق.
قال ابن إسحاق: سمعته يقول: طفت الأرض في طلب العلم.
وقال أبو حاتم [1] : ما أعلم [بالشّام] [2] أفقه من مكحول.
ولم يكن في زمنه أبصر بالفتيا منه، ولا يفتي حتّى يقول: لا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم، ويقول: هذا رأيي والرّأي يخطئ ويصيب.
وقال سعيد بن عبد العزيز: أعطوا مكحولا مرّة عشرة آلاف دينار، فكان يعطي الرّجل خمسين دينارا.
وقال الزّهريّ: العلماء ثلاثة، فذكر منهم مكحولا.
وقال ابن قتيبة [3] : قال الواقديّ: هو من كابل [4] ، مولى لامرأة من هذيل.
وقال ابن عائشة: كان مكحول مولى لامرأة من قيس، وكان سنديّا لا يفصح.
قال نوح بن سفيان: سأله بعض الأمراء عن القدر فقال: أساهر أنا؟
[- يريد: ساحرا-] [5] ؟ وكان يقول بالقدر. انتهى كلام ابن قتيبة.
وقال ابن ناصر الدّين في «شرح بديعية البيان» [6] : هو ابن أبي مسلم
__________
[1] في «الجرح التعديل» (8/ 407) .
[2] زيادة من «الجرح والتعديل» .
[3] في «المعارف» ص (453) .
[4] وهي عاصمة أفغانستان المعاصرة سلمها الله.
[5] زيادة من «المعارف» لابن قتيبة.
[6] لعل الصواب «بديعة البيان عن موت الأقران» كما في «لحظ الألحان بذيل طبقات الحفاظ» لابن فهد ص (284) و (321) وكما ستذكر في مواطن أخرى من الكتاب.(2/67)
ابن شاذل بن سفد بن شروان الكابليّ الهذليّ مولاهم، الدّمشقي، أبو عبد الله. وقيل: كنيته أبو أيوب، كان فقيه أهل دمشق، وأحد أوعية العلم والآثار.
روى عن أبي أمامة، وواثلة، وأنس، وخلق من الأخيار. وروى تدليسا عن أبيّ، وعبادة بن الصّامت، وعائشة، والكبار.
قال سعيد بن عبد العزيز: كان مكحول أفقه من الزّهريّ، وكان بريئا من القدر. انتهى كلام ابن ناصر الدّين.
وقال الذّهبيّ في «المغني» [1] : وثقه جماعة.
وقال ابن سعد: ضعفه جماعة [2] . انتهى.
وفيها توفي معاوية بن قرّة المزنيّ [3] البصريّ عن ثمانين سنة، وكان يقول: لقيت ثلاثين صحابيا [4] .
ويوسف بن ماهك المكيّ. روى عن عائشة وجماعة، وقد لقيه ابن جريج وغيره.
__________
[1] «المغني في الضعفاء» (2/ 675) .
[2] انظر «طبقات ابن سعد» (7/ 454) وقد ساق الذهبي رحمه الله كلام ابن سعد فيه بالمعنى، ولم ينقل المؤلف ابن العماد كلام ابن سعد من «الطبقات» وإنما عول في النقل على «المغني» للذهبي.
[3] تحرفت في «العبر» للذهبي (1/ 141) إلى «المدني» فتصحح فيه.
[4] قال الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (5/ 154) : روى أبو طلحة شدّاد بن سعيد الراسبي، عن معاوية- يعني ابن قرّة- قال: أدركت ثلاثين من الصحابة، ليس فيهم إلّا من طعن أو طعن، أو ضرب أو ضرب مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.(2/68)
سنة أربع عشرة ومائة
فيها عزل مسلمة عن أذربيجان، والجزيرة [1] ووليها مروان الحمار [2] فسار مروان حتّى جاوز نهر الزمّ [3] فأغار وقتل وسبى خلقا من الصقالبة.
وفي رمضان على الأصح، وقيل: في سنة خمس عشرة [4] توفي فقيه الحجاز أبو محمّد عطاء بن أبي رباح أسلم، من مولدي الجند [5] وأمه سوداء تسمى بركة، وكان صبيا نشأ بمكّة وتعلم الكتاب بها، وهو مولى لبني فهر، وكان على ما قال ابن قتيبة [6] أسود [أعور] [7] أفطس، أشل، أعرج، ثم عمي بعد ذلك، ومات وله ثمان وثمانون سنة.
__________
[1] يعني جزيرة أقور التي بين دجلة والفرات.
[2] هو مروان بن محمد بن مروان بن الحكم، المعروف ب الجعدي وبالحمار، آخر ملوك بني أمية في الشام. انظر خبره في ص (79) من هذا المجلد و «الأعلام» للزركلي (7/ 208) .
[3] في «تاريخ خليفة بن خياط» ص (345) : «نهر الرمّ» وهو تصحيف، وفي «العبر» للذهبي (1/ 141) : «نهر الرّوم» وهو تحريف، والزمّ: بليدة على طريق جيحون من ترمذ وآمل، نسب إليها نفر من أهل العلم. انظر «معجم البلدان» لياقوت (3/ 151) .
[4] وهو قول ابن قتيبة في «المعارف» ص (444) .
[5] بلدة تقع الآن في الجنوب الغربي للاتحاد السوفيتي، وأهلها مسلمون يتبعون مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان رحمه الله، خرج منها فيما مضى عدد كبير من العلماء انظر «معجم البلدان» الياقوت (2/ 168) ، و «الأنساب» (3/ 319- 320) .
[6] في «المعارف» ص (444) .
[7] لفظة «أعور» سقطت من الأصل، والمطبوع، واستدركتها من «المعارف» لابن قتيبة.(2/69)
وقال في «العبر» [1] : كان من مولّدي الجند، أسود مفلفل الشعر. سمع عائشة، وأبا هريرة، وابن عبّاس.
قال أبو حنيفة: ما رأيت أفضل منه.
وقال ابن جريج: كان المسجد فراش عطاء عشرين سنة. وكان من أحسن النّاس صلاة.
وقال الأوزاعي: مات عطاء يوم مات وهو [2] أرضى أهل الأرض عند النّاس.
وقال إسماعيل بن أميّة: كان عطاء يطيل الصمت، فإذا تكلّم يخيل إلينا أنه يؤيّد.
وقال غيره: كان لا يفتر عن [3] الذكر. انتهى كلامه في «العبر» .
انفرد بالفتوى بمكّة هو ومجاهد، وكان بنو أميّة يصيحون بالموسم [4] لا يفتي أحد غيره، وما روي عنه أنه كان يرى إباحة وطء الإماء بإذن أهلهن، وكان يبعث بهن إلى أضيافه، فقد قال القاضي شرف الدّين بن خلّكان [5] :
اعتقادي أن هذا لا يصح عنه، فإنه لو رأى الحلّ، فإن الغيرة والمروءة تمنعه عن ذلك.
قال اليافعيّ [6] : ينبغي أن يحمل [7] بعثهن لسماع القول منهن نحو ما نقل عن بعض المشايخ الصوفية أنه كان يأمر جواريه يسمعن أصحابه، وفيه
__________
[1] (1/ 141- 142) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «وكان» وأثبت ما جاء في «العبر» للذهبي (1/ 142) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «من» وأثبت ما جاء في «العبر» للذهبي.
[4] في المطبوع: «في الموسم» .
[5] في «وفيات الأعيان» (3/ 262) والمؤلف ينقل كلامه بالمعنى.
[6] في «مرآة الجنان» (1/ 271) ، ط مؤسسة الرسالة، والمؤلف ينقل كلامه بالمعنى.
[7] تحرفت في «مرآة الجنان» إلى «أن يحل» فتصحح فيه.(2/70)
أيضا ما فيه، فإن صحّ فيحمل على ما إذا لم تحصل فتنة بحضورهن وسماعهن، إذا قلنا: إن صوت المرأة ليس بعورة، والله أعلم.
وفيها، وقيل: سنة ثمان أو تسع عشرة، توفي أبو محمّد علي بن عبد الله بن عبّاس جدّ السّفّاح، والمنصور، وكان سيدا شريفا، أصغر أولاد أبيه، وأجمل قرشيّ على وجه الأرض وأوسمه، وأكثره صلاة، ولذلك دعي بالسّجّاد، وكان له خمسمائة أصل زيتون يصلي تحت كلّ ركعتين فالمجموع ألف ركعة.
روي أن عليّا جاء ابن عبّاس يهنّئه به يوم ولد وقال له: شكرت الواهب وبورك لك في الموهوب، ما سميته؟ قال: أو يجوز أن أسميه حتّى تسميه، ثم حنّكه ودعا له وقال: خدّامك الخلائق والأملاك، سمّيته عليا، وكنيته أبا الحسن.
وقيل: إنه ولد يوم قتل عليّ، وهذا يناقض ما تقدم.
ولما كان زمن معاوية [1] قال: ليس لك اسمه وكنيته، قد كنيته أبا محمّد فجرت عليه، وضربه الوليد بن عبد الملك مرتين، مرّة في تزوجه لمطلقة عبد الملك لبابة بنت عبد الله بن جعفر، وسبب طلاق عبد الملك لها، أنه عضّ على تفاحة، وكان الخديم رمى بها إليها فاستقذرتها.
والثانية في قوله: إن الأمر سيكون في ولدي، فطافوا به على بعير في أسوأ حال، وهو يقول: والله ليكونن فيهم.
ودخل على هشام بن عبد الملك ومعه ابنا ابنه الخليفتان السّفّاح، والمنصور، فأوسع له على سريره وبرّه بثلاثين ألف دينار، وأوصاه عليّ بابني ابنه حين انفصل.
وكان إذا قدم مكّة اشتغلت به قريش وأهل مكّة إجلالا له، وكان طوالا
__________
[1] في «تاريخ الإسلام» (4/ 283) و «سير أعلام النبلاء» (5/ 284) : «في زمن عبد الملك بن مروان» .(2/71)
جميلا، قيل: كان طوله إلى منكب أبيه عبد الله، وعبد الله إلى منكب أبيه العبّاس، والعبّاس إلى منكب أبيه عبد المطّلب.
ونفاه الوليد إلى الحميمة بليدة بالبلقاء [1] فولد له بها نيّف وعشرون ولدا ذكرا، ولم يزل ولده بها إلى أن زالت دولة بني أميّة، وتوفي عن ثمانين سنة بأرض البلقاء، رحمه الله تعالى.
وفيها توفي السيد أبو جعفر محمّد الباقر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
ولد سنة ست وخمسين من الهجرة، وروى عن أبي سعيد الخدري، وجابر، وعدّة. وكان من فقهاء المدينة. وقيل له الباقر لأنه بقر العلم، أي شقّه، وعرف أصله وخفيّه وتوسّع فيه.
وهو أحد الأئمة الاثني عشر على اعتقاد الإمامية [2] .
قال عبد الله بن عطاء: ما رأيت العلماء عند أحد أصغر منهم علما عنده.
وله كلام نافع في الحكم والمواعظ، [منه] [3] : أهل التقوى أيسر أهل الدّنيا مؤونة وأكثرهم معونة، إن نسيت ذكّروك، وإن ذكرت أعانوك، قوّالين بحق الله، قوّامين بأمر الله. ومنه: انزل الدّنيا كمنزل نزلته وارتحلت عنه، أو كمال أصبته في منامك
__________
[1] قلت: قال ياقوت: الحميمة بلفظ التصغير الحمّة ... بلد من أرض الشراة من أعمال عمّان في أطراف الشام. «معجم البلدان» (2/ 307) ، وانظر «معجم ما استعجم» للبكري (1/ 469) .
[2] انظر الكلام عن هذه الفرقة في «الفرق بين الفرق» ص (53) ، و «مقالات الإسلاميين» (1/ 98) ، و «الملل والنحل» (1/ 162) .
[3] لفظة «منه» سقطت من الأصل، وأثبتها من المطبوع.(2/72)
فاستيقظت وليس معك منه شيء. مات- رضي الله عنه- عن ست وخمسين سنة، ودفن بالبقيع مع أبيه وعمّ أبيه الحسن، والعبّاس، رضي الله عنهم.
وفيها، وقيل: في سنة سبع عشرة، علي بن رباح اللّخميّ المصريّ وهو في عشر المائة، حمل عن عدة من الصحابة، وولي غزو إفريقية لعبد العزيز بن مروان، فكان من علماء زمانه.
وفيها توفي أبو عبد الله وهب بن منبّه الصنعانيّ، من أبناء الفرس الذين بعث بهم كسرى إلى اليمن.
قال: قرأت من كتب الله اثنين وتسعين كتابا.
مات بصنعاء.
روى عن ابن عبّاس. قيل: وأبي هريرة، وغيره من الصّحابة، وولي القضاء لعمر بن عبد العزيز، وكان شديد الاعتناء بكتب الأولين وأخبار الأمم وقصصهم، بحيث كان يشبّه بكعب الأحبار في زمانه.
وله مصنف في ذكر ملوك حمير مفيد [1] ، وله إخوة أجلّهم همّام.
روى عن الصّحابة، وهو أكبر من وهب، وهم من أبناء الفرس الذين سيّرهم كسرى أنو شروان كما تقدم آنفا، وكان سيّرهم مع أبي مرّة سيف بن ذي يزن الحميري، وكانوا ثمانمائة، مقدمهم وهرز، غرق منهم في البحر مائتان وسلم ستمائة، قاله ابن إسحاق [2] .
وقال ابن قتيبة [3] : كانوا سبعة آلاف وخمسمائة. ورجحه أبو القاسم
__________
[1] في المطبوع: «صغير» .
[2] انظر «السيرة النبوية» بتهذيب ابن هشام (1/ 63- 64) .
[3] في «المعارف» ص (638) .(2/73)
السّهيليّ [1] ، إذ يبعد مقاومة الحبشة لستمائة، وفي القصة أن سيفا والفرس استظهروا على الحبشة فقتلوهم وملكوا سيفا، فأقام أربع سنين، وقتله خدمه من الحبشة، ولم يملك أهل اليمن بعده ملك، غير أن أهل كل ناحية ملّكوا رجلا من حمير حتّى جاء الإسلام.
ويقال: إنها بقيت في أيدي الفرس إلى أن بعث النّبيّ- صلّى الله عليه وسلّم- وباليمن عاملان منهم، أحدهما فيروز الأسود الدّيلميّ، والآخر زاذويه، فأسلما وهما اللذان دخلا على الأسود العنسي مع قيس بن المكشوح [2] لما ادّعى الأسود النّبوّة، فقتلوه، وأولاد الفرس باليمن يدعون الأبناء، منهم طاووس، وعمرو بن دينار، وغيرهما [3] .
وورد أن كسرى أبرويز لما مزّق كتاب النّبيّ- صلّى الله عليه وسلّم-[أرسل إلى عامله على صنعاء باذان، وهو الرابع بعد وهرز يأمره أن يسير إلى النّبيّ، صلّى الله عليه وسلّم] [4] فكتب إليه النّبيّ- صلّى الله عليه وسلّم- يخبره أن الله وعدني أن يقتل كسرى في يوم كذا وكذا، فانتظر ذلك، فكان كما قال [- صلّى الله عليه وسلّم-] فأسلم باذان وأهل اليمن [5] .
هذا وقد قال الذّهبيّ في «المغني» [6] : وهب بن منبه ثقة، مشهور قصاص، خيّر [7] ، ضعفه أبو حفص الفلّاس وحده. انتهى.
__________
[1] في «الروض الأنف» (1/ 83) بتحقيق الأستاذ طه عبد الرؤوف سعد.
[2] في الأصل، والمطبوع: «قيس بن المكسوح» وهو تصحيف، وهو قيس بن هبيرة بن هلال البجلي الملقب ب المكشوح. انظر المجلد الأول من كتابنا هذا ص (214) . و «الأعلام» للزركلي (5/ 209) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «وغيرهم» وما أثبته يقتضيه السياق.
[4] ما بين حاصرتين سقط من الأصل، وأثبته من المطبوع.
[5] انظر «إعلام السائلين عن كتب سيد المرسلين» لابن طولون ص (64- 66) بتحقيقي (الطبعة الثانية) طبع مؤسسة الرسالة.
[6] «المغني في الضعفاء (2/ 727) بتحقيق الدكتور نور الدين عتر.
[7] في «المغني في الضعفاء» : «حبر» .(2/74)
سنة خمس عشرة ومائة
فيها، وقيل: في التي قبلها، مات الحكم بن عتيبة مصغرا، أبو محمّد الكنديّ الكوفيّ، ثقة ثبت فقيه، إلّا أنه ربما دلّس.
والحكم بن عتيبة [1] بن النّهاس، آخره مهملة، العجليّ الكوفيّ قاضي الكوفة، لا أعرف له رواية، وهو عصريّ الذي قبله، وقيل: إنه هو، قاله ابن حجر العسقلاني [2] . الكوفي مولى كندة الفقيه النبيه.
لكن قال الذهبيّ في «المغني» [3] : هو مجهول.
وقال في «العبر» [4] : هو أبو محمّد، أخذ عن أبي جحيفة السّوائي [5] وغيره، وتفقه على إبراهيم النّخعي.
قال المغيرة: كان الحكم إذا قدم المدينة أخلوا له سارية النّبيّ- صلّى الله عليه وسلّم- يصلي إليها.
__________
[1] في «أخبار القضاة» لوكيع (2/ 265) وما قبلها، وما بعدها: «الحكم بن عيينة» وهو خطأ، فيصحح فيه.
[2] في «تقريب التهذيب» (1/ 192) . وانظر «تهذيب التهذيب» (2/ 434- 435) .
[3] «المغني في الضعفاء (1/ 184) .
[4] (1/ 143) ، ولكن الذهبي يقصد بكلامه في «العبر» الأول وليس هذا، لأنه ذكر بأنه أخذ عن أبي جحيفة، فتنبه.
[5] في الأصل: «السوي» وهو خطأ، وأثبت ما جاء في المطبوع.(2/75)
وقال الأوزاعيّ: قال لي عبدة بن أبي لبابة: هل لقيت الحكم؟ قلت:
لا، قال: فالقه فما بين لابتيها أفقه منه. انتهى.
والضّحّاك بن فيروز الدّيلميّ الأبناويّ [1] ، صحب ابن الزّبير، وعمل له على بعض اليمن.
وقاضي مرو أبو سهل عبد الله بن بريدة الأسلميّ عن مائة سنة. روى عن أبي موسى، وعائشة، وطائفة.
وأبو يحيى عمير [2] بن سعيد النخعي، وقد قارب المائة أو جاوزها، وحديثه عن عليّ في «الصحيحين» [3] وهو أكبر شيخ لمسعر.
وفيها توفي الجنيد بن عبد الرّحمن المرّيّ الدّمشقي الأمير، ولي خراسان، والسّند [4] وكان أجود الأجواد، قاله في «العبر» [5] .
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «الأنباري» وهو خطأ، والتصحيح من «تهذيب الكمال» (2/ 616) مصورة دار المأمون للتراث، و «تهذيب التهذيب» (4/ 448) .
[2] في الأصل: «عمرو» ، وفي المطبوع: «عمر» وكلاهما خطأ، والتصحيح من «جامع الأصول» لابن الأثير (3/ 592) ، و «العبر» للذهبي (1/ 143) .
[3] رواه البخاري رقم (6778) في الحدود: باب الضرب بالجريد والنعال، ومسلم رقم (1707) في الحدود: باب حد الخمر. ورواه أيضا أبو داود رقم (4486) في الحدود: باب إذا تتابع في شرب الخمر، وابن ماجة رقم (2569) في الحدود: باب حد السكران، ولفظه عند البخاري: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ما كنت لأقيم حدّا على أحد فيموت، فأجد في نفسي، إلّا صاحب الخمر، فإنه لو مات وديته، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يسنّه.
[4] انظر «الأمصار ذوات الآثار» للذهبي ص (110- 111) بتحقيقي، طبع دار ابن كثير.
[5] (1/ 144) .(2/76)
سنة ست عشرة ومائة
فيها توفي عديّ بن ثابت الأنصاري.
قال في «المغني» [1] : هو [تابعي] [2] كوفي، شيعيّ، جلد، ثقة مع ذلك، وكان قاصّ [3] الشيعة وإمام مسجدهم.
قال المسعوديّ: ما أدركنا أحدا أقول بقول الشيعة من عديّ بن ثابت.
وقال ابن معين: شيعيّ مفرط.
وقال الدّارقطنيّ: رافضيّ غال. انتهى [4] .
وفيها توفي عمرو بن مرّة المراديّ الكوفيّ الضرير، سمع ابن أبي أوفى وجماعة، وكان حجّة، حافظا.
قال مسعر: ما أدركت أحدا أفضل منه.
ومحارب بن دثار السّدوسيّ [5] قاضي الكوفة.
قال الحسن بن زياد اللؤلؤي: حدثنا أبو حنيفة قال: كنا عند محارب بن دثار، فتقدم إليه رجلان، فادعى أحدهما على الآخر مالا فجحده
__________
[1] (2/ 431) .
[2] ما بين حاصرتين زيادة من «المغني في الضعفاء» للذهبي.
[3] في الأصل، والمطبوع: «قاضي» وهو خطأ والتصحيح من «المغني في الضعفاء» .
[4] انتهى نقل المؤلف عن «المغني في الضعفاء» .
[5] في الأصل: «الدسوسي» وهو خطأ، وأثبت ما جاء في المطبوع، وهو الصواب.(2/77)
المدّعى عليه، فسأله البينة، فجاء رجل فشهد عليه، فقال المشهود عليه:
لا والله الذي لا إله إلّا هو ما شهد عليّ بحق، وما علمته إلّا رجلا صالحا غير هذه الزّلّة، فإنه فعل هذا لحقد كان في قلبه عليّ، وكان محارب متكئا فاستوى جالسا ثم قال: يا ذا الرّجل سمعت ابن عمر يقول: سمعت رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- يقول: «ليأتين على النّاس يوم تشيب فيه الولدان، وتضع الحوامل ما في بطونها، وتضرب الطير بأذنابها، وتضع ما في بطونها من شدة ذلك اليوم، ولا ذنب عليها، وإن شاهد الزّور لا تقار [1] قدماه على الأرض حتّى يقذف به في النّار» [2] فإن كنت شهدت بحق فاتق الله وأقم على شهادتك، وإن شهدت بباطل فاتق الله وغطّ رأسك واخرج من ذلك الباب، فغطى الرّجل رأسه وخرج من ذلك الباب.
وقال في «المغني» [3] : ثقة، ثبت، مشهور.
قال ابن سعد [4] : لا يحتجون به. انتهى.
سمع ابن عمر وجابرا وطائفة [5] وهو من بني سدوس بن شيبان، ويكنى أبا مطرّف.
ولي قضاء الكوفة لخالد بن عبد الله القسريّ، وتوفي في ولاية خالد بالكوفة.
__________
[1] في «مجمع الزوائد» : «لا يفارق» . (ع) .
[2] ذكره بنحوه الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/ 200) وقال: قلت: روى ابن ماجة بعضه، ورواه الطبراني في «الأوسط» وفيه من لا أعرفه.
وهو عند ابن ماجة مختصرا رقم (2373) في الأحكام: باب شهادة الزور، وإسناده ضعيف.
[3] «المغني في الضعفاء» (2/ 542) .
[4] «الطبقات» (6/ 307) .
[5] في الأصل: «سمع ابن عمر، وجابرا، وعطاء، وطائفة» وهو خطأ، فإن عطاء بن السائب رحمه الله هو ممن أخذ عن محارب، ولم يأخذ محارب عنه. انظر «تهذيب التهذيب» لابن حجر (10/ 50) .(2/78)
سنة سبع عشرة ومائة
فيها جاشت [1] التّرك بخراسان، وانضم إليهم الحارث بن أبي شريح [2] الخارجي، فاقتتلوا، وجاوزوا نهر جيحون، وأغاروا على مرو الرّوذ [3] فسار إليهم أسد بن عبد الله القسري، فالتقوا، ونصر الله حزبه، وقتلهم المسلمون قتلا ذريعا.
وفيها افتتح مروان الحمار ثلاثة حصون، وأسر الملك تومان شاه، وبعث به إلى هشام، فمنّ عليه وأعاده إلى ملكه.
وفيها توفي أبو الحباب سعيد بن يسار المدنيّ مولى ميمونة. روى عن أبي هريرة وجماعة.
__________
[1] في الأصل: «جاست» ، وفي المطبوع: «حلت» وكلاهما خطأ. والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 144) .
قال ابن منظور: جاشت القدر: إذا بدأت تغلي ولم تغل بعد ... ويشهد بصحة هذا قول النابغة الجعدي:
تجيش علينا قدرهم فنديمها ... ونفثؤها عنّا إذا حميها غلى
أي نسكّن قدرهم- وهي كناية عن الحرب إذا بدأت تغلي- «لسان العرب» (جيش) .
[2] في المطبوع: «الحارث بن أبي سريج» وهو خطأ.
[3] بلدة تقع في شرق إيران الآن، خرج منها عدد كبير من العلماء. انظر «معجم البلدان» لياقوت (5/ 112) ، و «اللباب» لابن الأثير (3/ 198) .(2/79)
وفيها توفي بالاسكندرية عبد الرّحمن بن هرمز الأعرج المدنيّ صاحب أبي هريرة.
وعبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة القرشيّ التيميّ المدنيّ عن سنّ عالية، وقد ولي القضاء لابن الزّبير، ويكنى أبا بكر، وأبا محمّد. روى عن جده، وابن عبّاس، وابن عمر في آخرين.
كان إمام الحرم، وشيخه، ومؤذنه الأمين، وقاضي مكّة والطائف زمن ابن الزّبير.
وفيها فقيه دمشق عبد الله بن أبي زكريا الخزاعيّ. كان عمر بن عبد العزيز يجلسه معه على السرير.
قال أبو مسهر: كان سيّد أهل المسجد. قيل: بم سادهم؟ قال:
بحسن الخلق.
قال في «العبر» [1] : أرسل عن أبي الدّرداء، وعبادة، وهو ثقة قليل الحديث. انتهى.
وفيها، وقيل: في سنة ثمان عشرة، الحافظ أبو الخطّاب قتادة بن دعامة السّدوسيّ، عالم أهل البصرة. روى معمر عنه.
قال [2] : أقمت عند سعيد بن المسيّب ثمانية أيام، فقال لي في اليوم التاسع [3] : ارتحل يا أعمى عني [4] فقد أنزقتني [5] .
__________
[1] (1/ 145) .
[2] القائل قتادة.
[3] في المطبوع، و «العبر» : «في اليوم الثالث» وهو خطأ.
[4] لفظة «عني» لم ترد في «العبر» المطبوع.
[5] في «العبر» : «أترفتني» وهو تحريف، فتصحيح فيه. وانظر «الأنساب» (7/ 58) .(2/80)
وقال قتادة: ما قلت لمحدّث قطّ أعد عليّ.
قال ابن ناصر الدّين: مات بواسط في الطاعون، وهو أبو الخطّاب الضرير الأكمه، مفسر الكتاب، [كان] آية في الحفظ، إماما في النسب، رأسا في العربية واللغة وأيام العرب. انتهى.
قال في «العبر» [1] : قال قتادة: ما قلت لمحدّث قطّ أعده عليّ، وما سمعت شيئا إلّا وعاه قلبي.
وقال فيه شيخه ابن سيرين: قتادة أحفظ النّاس.
وقال معمر: سمعت قتادة يقول: ما في القرآن آية إلّا و [قد] [2] سمعت فيها شيئا. انتهى.
وفيها موسى بن وردان المصريّ القاضي. روى عن أبي هريرة وسعد، وطائفة. وعاش نيفا وثمانين سنة.
قال أبو حاتم [3] : ليس به بأس، وكان آخر أصحابه ضمام [4] بن إسماعيل.
وفيها مات قاضي الجزيرة [5] ميمون بن مهران الرّقّيّ [6] أبو أيوب الفقيه. كان من العلماء العاملين. روى عن عائشة، وأبي هريرة، وطائفة.
وفيها مات فقيه المدينة أبو عبد الله نافع الدّيلمي مولى عبد الله بن عمر.
__________
[1] (1/ 146) .
[2] سقطت من الأصل، والمطبوع، واستدركتها من «العبر» للذهبي (1/ 146) .
[3] في «الجرح والتعديل» (8/ 166) .
[4] في الأصل: «صمام» وأثبت ما في المطبوع. وهو الصواب.
[5] يعني جزيرة أقور التي بين دجلة والفرات، وتقع الآن بين سورية والعراق وتركيا.
[6] نسبة إلى الرّقة. انظر «الأمصار ذوات الآثار» ص (58) .(2/81)
كان من جلّة التابعين. بعثه عمر بن عبد العزيز إلى مصر يعلمهم السنن.
قال في «العبر» [1] : وقد روى نافع أيضا عن عائشة، وأبي هريرة.
وفيها توفيت عائشة بنت سعد بن أبي وقّاص بالمدينة، وقد رأت شيئا من أمهات المؤمنين، وعاشت أربعا وثمانين سنة، قاله في «العبر» [2] .
وسكينة بنت الشهيد الحسين بن عليّ بالمدينة، واسمها أميمة، وقيل:
أمينة، وسكينة لقب [3] وأمها الرّباب ابنة امرئ القيس بن عدي، تزوجها مصعب بن الزّبير، ثم عبد الله بن عثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام، ثم زيد بن عمرو بن عثمان بن عفّان، فأمره سليمان بن عبد الملك بطلاقها، وجمالها وحسن خلقها مشهور. لها نوادر، منها أنها لما سمعت مرثية عروة بن أذينة [4]- وكان من أعيان العلماء الصلحاء- في أخيه بكر وقوله فيها:
على بكر أخي ولّى حميدا ... وأيّ العيش يصفو بعد بكر [5]
قالت سكينة: ومن بكر! أهو ذاك الأسود الذي كان يمر بنا؟ قيل:
نعم، قالت: لقد طاب بعده كل عيش حتّى الخبز والزيت.
توفيت سكينة بالمدينة، والعامة تزعم أنها بمكّة في طريق العمرة.
__________
[1] (1/ 147) .
[2] (1/ 147) .
[3] انظر «تاريخ دمشق» لابن عساكر (تراجم النساء) ص (155- 171) .
[4] انظر ترجمته في «الأغاني» (18/ 322- 335) ، و «الشعر والشعراء» ص (367- 368) طبعة ليدن.
[5] لفظ البيت في الأصل والمطبوع:
على بكر أخي فارقت بكرا ... وأي العيش يصلح بعد بكر
وأثبت اللفظ الذي في «الأغاني» (18/ 334) .(2/82)
سنة ثماني عشرة ومائة
فيها مات عمرو بن شعيب بن محمّد بن عبد الله بن عمرو بن العاص السّهميّ، أبو إبراهيم.
روى عن زينب ربيبة النّبيّ- صلّى الله عليه وسلّم- فهو تابعيّ، وثقه يحيى بن معين، وابن راهويه، وهو حسن الحديث. قاله في «العبر» [1] .
وقال في «المغني» [2] : هو مختلف فيه، وحديثه حسن، وفوق الحسن.
قال يحيى القطّان: إذا روى عنه ثقة فهو حجّة.
وقال أحمد: ربما احتججنا بحديثه.
وقال البخاريّ: رأيت أحمد، وإسحاق، وأبا عبيد [3] وعامة أصحابنا يحتجون به، فمن النّاس بعدهم؟
قلت [4] : ومع هذا القول لم يحتجّ به البخاريّ في «صحيحه» .
__________
[1] (1/ 148) .
[2] (2/ 484) .
[3] في الأصل: «وأبا عبيد الله» وهو خطأ وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[4] القائل الحافظ الذهبي في «المغني في الضعفاء» .(2/83)
وقال أيوب السّختيانيّ: كنت إذا أتيت عمرو بن شعيب غطيت رأسي حياء من النّاس.
وقال ابن معين: ليس بذاك، وهو ثقة في نفسه، إنما بلي بكتاب أبيه عن جده.
وقال أبو زرعة: إنما أنكروا عليه أنه روى صحيفة كانت عنده.
وقال أحمد: ربما وحش القلب منه، وله مناكير، وثقه إسحاق، وصالح جزرة [1] .
وقال الأوزاعيّ: ما رأيت قرشيا أكمل منه.
قال إسحاق: عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، كأيّوب عن نافع عن ابن عمر.
وقال أحمد أيضا: إنما تليت حديثه ليعتبر، أما ليكون حجّة فلا.
وعن أبي داود، وقيل له: عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده حجّة؟
فقال: لا، ولا نصف حجّة.
وقال ابن المديني، عن القطّان: حديثه واه.
وقال ابن عدي: ثقة في نفسه. انتهى ما قاله الذّهبيّ في «المغني» [2] .
وقال شمس الدّين بن القيم في كتابه «إعلام الموقعين» : وقد احتج الأئمة الأربعة، والفقهاء قاطبة بصحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده،
__________
[1] هو صالح بن محمد بن عمرو بن حبيب بن حسّان بن المنذر بن أبي الأشرس، واسم أبي الأشرس: عمار، مولى لبني خزيمة الأسدي البغدادي، أبو علي، الملقب جزرة. مات سنة (293) هـ. انظر «الأمصار ذوات الآثار» للذهبي ص (91) بتحقيقي، طبع دار ابن كثير.
[2] «المغني في الضعفاء» (2/ 484- 485) .(2/84)
ولا نعرف في أئمة الفتوى إلّا من احتاج إليها واحتج بها، وإنما طعن فيها من لم يتحمل أعباء الفقه والفتوى، كأبي حاتم البستي، وابن حزم، وغيرهما.
انتهى ما قاله ابن القيم.
وفيها عبادة بن نسيّ الكنديّ قاضي طبريّة، كان شريفا جليل القدر، موصوفا بالصّلاة. روى عن شدّاد بن أوس، وجماعة.
وفيها، في المحرم، قاضي الشّام أبو عمران عبد الله بن عامر اليحصبيّ الدّمشقيّ، وله سبع وتسعون سنة.
قرأ القرآن العظيم على المغيرة بن أبي شهاب، عن قراءته على عثمان نفسه نصف القرآن. وورد أيضا أنه قرأ على أبي الدّرداء.
وحدّث عن فضالة بن عبيد [1] ، والنعمان بن بشير. وولي قضاء دمشق، رحمه الله تعالى.
وفيها عبد الرّحمن بن جبير بن نفير الحضرميّ الحمصيّ. وهو مكثر عن أبيه وغيره.
قال في «العبر» [2] : ولا أعلمه روى عن الصحابة. وقد رأى جماعة منهم. انتهى.
وعبد الرّحمن بن سابط [3] الجمحيّ المكيّ الفقيه. روى عن عائشة وجماعة.
__________
[1] في المطبوع: «فضالة بن عبيدة» وهو خطأ. وانظر «أسد الغابة» لابن الأثير (4/ 363) .
[2] (1/ 149) .
[3] قال الحافظ ابن حجر في «تقريب التهذيب» (1/ 48) : ويقال: ابن عبد الله بن سابط، وهو الصحيح، ويقال: ابن عبد الله بن عبد الرحمن الجمحي المكي.(2/85)
وفيها معبد بن خالد الجدليّ الكوفيّ القّاض. روى عن جابر بن سمرة، وجماعة.
وأبو عشّانة المعافريّ [1] [حيّ] [2] بن يومن بمصر. روى عن عقبة بن عامر، وجماعة.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «المغافري» وهو تصحيف. والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 149) . وانظر «تهذيب الكمال» للمزي (3/ 1627) مصورة دار المأمون للتراث.
[2] لفظة «حي» سقطت من الأصل، والمطبوع، واستدركتها من «العبر» للذهبي.(2/86)
سنة تسع عشرة ومائة
فيها غزا مروان غزوة السانحة [1] فدخل من باب اللّان، فلم يزل يسير حتّى طلع من باب الخزر، ومرّ ببلنجر [2] وسمرقند، وانتهى إلى مدينة خاقان التّرك، فانهزم خاقان.
وفيها توفي إياس بن سلمة بن الأكوع المدني. روى عن أبيه.
وفيها، وقيل: في سنة اثنتين وعشرين، حبيب بن أبي ثابت الكوفيّ، فقيه الكوفة ومفتيها مع حمّاد بن أبي سليمان.
وقال في «العبر» [3] : بل هو أجلّ من حمّاد وأكبر، فإنه روى عن ابن عبّاس، وابن عمر، وخلق من التابعين.
وفيها سليمان بن أبي موسى الأشدق. فقيه دمشق ومفتيها. مولى بني أميّة.
روى عن أبي أمامة، وسلمة، وطائفة.
قال سعيد بن عبد العزيز: كان أعلم أهل الشّام بعد مكحول.
__________
[1] في الأصل: «السامحة» وهو تحريف، وأثبت ما جاء في المطبوع، وهو موافق لما في «العبر» للذهبي (1/ 150) مصدر المؤلف في نقله. وفي «تاريخ خليفة» ص (349) ، و «دول الإسلام» للذهبي ص (71) طبع مؤسسة الأعلمي ببيروت: «السائحة» .
[2] انظر «معجم البلدان» لياقوت (1/ 489- 490) .
[3] (1/ 150) .(2/87)
وقال ابن لهيعة: ما لقيت مثله.
و [فيها] [1] قيس بن سعد المكي، صاحب عطاء، وكان مفتي أهل مكّة في وقته.
وفيها الأمير أبو شاكر معاوية ابن الخليفة هشام بن عبد الملك، وكان أنبل أولاد أبيه، جوادا ممدّحا. ولي الغزو مرّات. وهو أحد أمراء الأندلس.
وإسماعيل بن حمّاد بن أبي سلمة.
__________
[1] زيادة من «العبر» للذهبي (1/ 151) .(2/88)
سنة عشرين ومائة
فيها، وقيل: سنة ثمان عشرة، توفي أنس بن سيرين أخو محمّد بن سيرين، وله خمس وثمانون سنة.
روى عن ابن عبّاس وجماعة.
وفيها فقيه الكوفة أبو إسماعيل حمّاد بن أبي سليمان الأشعري مولاهم صاحب إبراهيم النّخعي.
روى عن أنس بن مالك، وسعيد بن المسيّب، وطائفة. وكان جوادا، سريّا، محتشما، يفطّر كل ليلة من رمضان خمسمائة إنسان.
وقال شعبة: كان صدوق اللسان.
وعاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان الأنصاري شيخ محمّد بن إسحاق، وكان أخباريا، علّامة بالمغازي، يروي عن جابر، وغيره.
وفيها توفي قارئ مكّة أبو معبد عبد الله بن كثير الكنانيّ، مولاهم، الفارسيّ الأصل، الدّاريّ، العطّار.
قرأ على عبد الله بن السائب المخزومي، وعلى مجاهد.
وحدّث عن ابن الزّبير، وغيره. وفضله وعلمه وشهرته تغني عن(2/89)
الإطناب في أوصافه [1] .
وفيها توفي سيّد أهل الجزيرة عديّ بن عدي بن عميرة الكنديّ الأمير.
كان فقيها ناسكا كبير الشأن، ولأبيه صحبة.
وفيها توفي علقمة بن مرثد الحضرميّ الكوفيّ.
قال في «العبر» [2] : كان ثبتا [3] في الحديث. روى عن طارق بن شهاب، ولطارق صحبة ما.
وقيس بن مسلم الجدليّ الكوفيّ صاحب طارق. ويقال: إنه ما رفع رأسه إلى السماء منذ زمان تعظيما لله تعالى.
ومحمّد بن إبراهيم بن الحارث التيميّ المدنيّ الفقيه الثبت. روى عن أسامة، وأبي سعيد، وطائفة، وجده من المهاجرين.
وواصل الأحدب. يروى عن أبي وائل، وطبقته.
وأبو بكر بن محمّد بن عمرو بن حزم الأنصاريّ. قاضي المدينة، وأميرها عن نيّف وثمانين سنة. ويقال: إنه كان أعلم أهل المدينة بالقضاء، وله خبرة بالسّير [4] . قاله في «العبر» [5] .
__________
[1] انظر «معرفة القراء الكبار» للذهبي (1/ 86- 88) طبع مؤسسة الرسالة.
[2] (1/ 152) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «تقيا» ، والتصحيح من «العبر» للذهبي.
[4] في الأصل، والمطبوع: «بالسيرة» ، والتصحيح من «العبر» للذهبي.
[5] «العبر» (1/ 152) .(2/90)
سنة إحدى وعشرين ومائة
فيها غزا مروان، فأتى قلعة بيت [1] السّرير [2] . فقتل وسبى، ثم دخل حصن غومشك [3] وفيها سرير ملكهم، فهرب منه الملك، ثم إن مروان صالحهم في العام على ألف رأس، ومائة ألف مدي [4] . ثم إنه سار حتّى دخل مدينة أرز [5] فصالحوه وصالحه تومان شاه على بلاده، ثم سار حتّى نازل حمرين [6] وحاصرها شهرين، ثم صالحهم وافتتح مسدار [7] صلحا. وتهيأ
__________
[1] في الأصل: «بنت» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع، وهو الصواب. انظر «العبر» للذهبي (1/ 153) .
[2] قال الأستاذ الدكتور صلاح الدّين المنجد في تعليقه على «العبر» للذهبي (1/ 153) : وتسمى سرير الذهب أيضا، مملكة واسعة بين اللّان وباب الأبواب، ومكانها اليوم في جنوب الاتحاد السوقييتي.
[3] في الأصل والمطبوع: «عومشك» ، وفي «العبر» ، و «دول الإسلام» : «غومشك» - وهو ما أثبته- وفي «تاريخ خليفة» ص (351) : «غومسك» ، وفي «الكامل» لابن الأثير (5/ 240) : «غوميك» .
[4] في المطبوع: «ومائة ألف هدي» وهو تحريف. والمدي مكيال لأهل الشام ومصر. انظر «لسان العرب» (مدي) .
[5] في الأصل، والمطبوع: «أزر» وهو تصحيف، والتصويب من «العبر» للذهبي.
قال ياقوت: أرز: بليدة من أول جبال طبرستان من ناحية الديلم. انظر «معجم البلدان» (1/ 149) . قلت: وهي الآن في أراضي إيران على مقربة من بحر قزوين.
[6] كذا في الأصل، والمطبوع، و «العبر» للذهبي: «حمرين» ، وفي «تاريخ خليفة» ص (352) :
«خمرين» ، وفي «دول الإسلام» للذهبي ص (72) : «جمرين» ولم أقف على ذكر لها في كتب البلدان التي بين يدي.
[7] كذا في الأصل، و «تاريخ خليفة» ، و «دول الإسلام» للذهبي: «مسدار» ، وفي المطبوع،(2/91)
لمروان في هذه السنة من الفتوحات أمر عظيم، ووقع في قلوب التّرك والخزر منه رعب شديد.
وفيها، قتل الإمام الشهيد زيد بن عليّ بن الحسين، رضي الله عنهم، بالكوفة، وكان قد بايعه خلق كثير، وحارب متولي العراق يومئذ لهشام بن عبد الملك، يوسف بن عمر الثقفي، فقتله يوسف وصلبه، ويوسف هذا هو ابن عمر، أبوه عمّ الحجّاج بن يوسف. ولما خرج زيد يدعو إلى طاعته جاءته طائفة وقالوا: تبرّأ من أبي بكر وعمر حتّى نبايعك، فقال: بل أتبرأ ممن تبرأ منهما. فقالوا: إذا نرفضك، فسموا رافضة من يومئذ. وسميت شيعته زيدية.
وكان من أمر زيد- رضي الله عنه- أن هشاما لما عرف كماله واستجماعه لخلال الفضل، كتب إلى عامله على الكوفة يوسف بن عمر بن أبي عقيل الثقفي يأمره أن يوجه زيدا إلى الحجاز، ففعل، فلما بلغ زيد العذيب [1] لحقته الشيعة وأخبروه أنّ النّاس مجمعة عليه، ولم يزالوا به حتّى رجع، فأقام بالكوفة سنة يبايع النّاس مختفيا، وبالبصرة نحو شهر، وكان ممن بايعه منصور بن المعتمر، ومحمّد بن عبد الرّحمن بن أبي ليلى، وهلال بن خبّاب بن الأرتّ، قاضي المدائن، وابن شبرمة، ومسعر بن كدام، وغيرهم، وأرسل إليه أبو حنيفة بثلاثين ألف درهم، وحثّ النّاس على نصره، وكان مريضا، وكان قد أخذ عنه كثيرا، وحضر معه من أهله محمّد بن عبد الله النفس الزّكية، وعبد الله بن علي بن الحسين، وكان ظهوره ليلة الأربعاء من دار معاوية بن إسحاق الأنصاري لسبع بقين من المحرم، سنة إحدى، أو اثنتين وعشرين ومائة، وقتل يوم الجمعة لثلاثة أيام من ظهوره، وهو ابن ثلاث وأربعين سنة، واستخرج بعد دفنه وصلب بالكناسة- تربة بالكوفة- أربع
__________
و «العبر» للذهبي: «مسدارة» ولم أقف على ذكر لها في كتب البلدان التي بين يدي.
[1] قال البكري: العذيب: واد بظاهر الكوفة. «معجم ما استعجم» (2/ 927) .(2/92)
سنين، ونسجت العنكبوت على عورته، ثم أنزل وأحرق، وذرّ رماده، رضي الله عنه. روى عن أبيه وجماعة. وروى عنه شعبة، ويأتي طرف من خبره في ترجمة هشام قريبا [1] .
وفيها قتل أحد الشجعان والأبطال أبو محمّد [2] البطّال، وله حروب ومواقف، ولكن كذبوا عليه، فأفرطوا، ووضعوه له سيرة كبيرة، تقرأ كل وقت، يزيد فيها من لا يستحيي من الكذب.
وفيها توفي قاضي دمشق نمير بن أوس الأشعريّ، أحد شيوخ الأوزاعي.
وأبو عبد الله محمّد بن يحيى بن حبّان الأنصاريّ المدنيّ، وقد لقي ابن عمر، ورافع بن خديج، وطائفة، وكانت له حلقة للفتوى.
وفيها، أو في التي بعدها، سلمة بن كهيل الكوفي. روى عن جندب البجلي وطائفة، وكان من أثبات الشّيعة وعلمائهم. حمل عنه شعبة والثوريّ.
ومسلمة بن عبد الملك بن مروان الأمويّ الأمير، ويلقب بالجرادة الصّفراء، وكان موصوفا بالشجاعة، والإقدام، والرأي، والدّهاء. ولي إرمينية، وأذربيجان غير مرّة، وإمرة العراقين، وسار في مائة وعشرين ألفا، فغزا القسطنطينيّة في خلافة سليمان أخيه. وروى عن عمر بن عبد العزيز.
__________
[1] انظر ص (102- 106) .
[2] واسمه عبد الله. انظر ترجمته ومصادرها في «سير أعلام النبلاء» (5/ 268- 269) .(2/93)
سنة اثنتين وعشرين ومائة
فيها كانت بالمغرب حروب مزعجة وملاحم، وخرجت طائفة كثيرة، وبايعوا عبد الواحد الهواريّ، والتفت [1] عليه أمم من البربر [2] ثم نصر عليهم المسلمون، وقتلوا خلقا كثيرا.
وفيها توفي قاضي البصرة أبو واثلة إياس بن معاوية بن قرّة المزنيّ الليثيّ، [أحد من] [3] يضرب بذكائه وفطنته المثل. روى عن أنس وجماعة [4] ووثقه ابن معين، ولا رواية له في الكتب الستة.
كان صاحب فراسة.
قال الحريريّ: فإذا ألمعيتي ألمعيّة ابن عبّاس، وفراستي فراسة إياس.
وقال أبو تمّام:
إقدام عمرو في شجاعة حاتم [5] ... في حلم أحنف في ذكاء إياس [6]
__________
[1] في «العبر» للذهبي (1/ 155) : «والتف» وهو أصوب.
[2] في الأصل، والمطبوع: «السرير» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي.
[3] زيادة من «العبر» للذهبي.
[4] انظر «تهذيب الكمال» للمزي (3/ 407- 408) ، طبع مؤسسة الرسالة.
[5] في الأصل، والمطبوع: «في شجاعة عنتر» وهو خطأ، والتصحيح من «ديوانه» بشرح الخطيب التبريزي.
[6] البيت في «ديوانه» بشرح الخطيب التبريزي (2/ 249) طبع دار المعارف بمصر.(2/94)
قيل لأبيه معاوية: كيف ابنك لك؟ قال: كفاني أمر دنياي، وفرّغني لآخرتي.
وعنه قال: رأيت في المنام كأني وأبي على فرسين معا، فلم أسبقه ولم يسبقني، وعاش أبي ستا وتسعين سنة، وها أنا فيها، فلما كان آخر لياليه قال:
الليلة استكملت عمري، ونام فأصبح ميتا، رحمه الله تعالى.
وفيها بكير بن عبد الله بن الأشجّ، المدنيّ الفقيه نزيل مصر، وأحد شيوخ اللّيث بن سعد، وهو من صغار التابعين.
وزبيد بن الحارث الياميّ [1] . روى عن إبراهيم النخعيّ وخلق من كبار التابعين.
وسيّار أبو الحكم [2] صاحب الشّعبيّ، وهو واسطيّ حجّة مشهور.
ويزيد بن عبد الله بن قسيط الليثيّ المدنيّ، عن سنّ عالية، لقي أبا هريرة.
وفيها أبو هاشم الرّمّانيّ [3] الواسطيّ، واسمه يحيى [4] كان يسكن قصر الرّمّان [5] بواسط. روى عن أبي العالية وجماعة.
__________
[1] ويقال: «الأيامي» كما في «تهذيب التهذيب» (3/ 310) . وفي «العبر» للذهبي (1/ 155) :
«زيد بن الحارث اليامي» ، وهو خطأ. وانظر «سير أعلام النبلاء» (5/ 296) .
[2] هو سيّار بن وردان الواسطي العنزي. انظر «سير أعلام النبلاء» (5/ 391- 392) .
[3] في الأصل: «الزماني» وهو تصحيف، وأثبت ما في المطبوع، وهو الصواب.
[4] هو يحيى بن دينار الرماني. انظر «الأنساب» للسمعاني (6/ 160) .
[5] في الأصل: «الزمان» وهو تصحيف، وأثبت ما في المطبوع، وهو الصواب.(2/95)
سنة ثلاث وعشرين ومائة
فيها قتل بالمغرب كلثوم بن عياض القشيريّ في عدّة من أمرائه، واستبيح عسكره وتمزّقوا [1] هزمهم أبو يوسف الأزدي [2] رأس الصفريّة، وكان كلثوم قد ولي دمشق لهشام، ثم ولاه غزو الخوارج بالمغرب، واتبعت الصفريّة من انكسر من المسلمين، فثبت لهم بلج القشيريّ [3] ابن عمّ كلثوم، فكان النصر ولله الحمد.
وقتل في المعركة أبو يوسف الأزديّ [4] .
وفيها حجّ بالنّاس يزيد ابن الخليفة هشام، ومعه الزّهريّ، فأخذ عنه إذ ذاك مالك، وابن عيينة، وأهل الحجاز.
وفيها توفي ثابت البنانيّ، وهو ثابت بن أسلم، وبنانة من قريش، وهم رهط بني سعد بن [لؤي] [5] وكانت بنانة أمهم، فنسبوا إليها، وكان من أنفسهم، ويكنى أبا محمّد، وكان من سادة التابعين علما، وفضلا، وعبادة،
__________
[1] في «العبر» للذهبي (1/ 156) : «ومزّقوا» .
[2] في «العبر» للذهبي: «الأزري» وهو تحريف.
[3] في الأصل، والمطبوع: «بلخ» وهو تصحيف، والتصحيح من المصادر التي بين يدي.
[4] في «العبر» للذهبي: «الأزري» وانظر «تاريخ الإسلام» للذهبي (5/ 28) .
[5] لفظة «لؤي» سقطت من الأصل، وأثبتها من المطبوع.(2/96)
ونبلا، وكان من خواص أنس، وروى عن غيره من الصحابة.
وربيعة بن يزيد الدّمشقيّ القصير، شيخ دمشق بعد مكحول، استشهد بإفريقية، وقد لقي جبير بن نفير وطائفة.
قال فرج بن فضالة [1] : كان مفضّلا على مكحول.
وقال سعيد بن عبد العزيز: لم يكن عندنا أحسن سمتا في العبادة منه ومن مكحول.
وسماك بن حرب الذّهليّ الكوفيّ، أحد الكبار.
قال: أدركت ثمانين من الصحابة، وذهب بصري، فدعوت الله تعالى، فرده عليّ.
قال أحمد العجلي: كان عالما بالشّعر وأيام النّاس، فصيحا.
وفيها أبو يونس مولى أبي هريرة، وقد شاخ، واسمه سليم [2] بن جبير، نزل مصر، وأدركه اللّيث. روى عن مولاه عن أبي هريرة، ووثقه النسائيّ.
وفيها سيّد القراء، وعالم البصرة وعابدها، محمد بن واسع الأزدي، أخذ عن أنس، ومطرّف بن الشّخّير، وطائفة وهو مقلّ. روى خمسة عشر حديثا، ومناقبه مشهورة.
قال بعضهم [3] : كنت إذا وجدت فترة أو قسوة، نظرت في وجهه فيذهب ذلك جميعه عني. أو قال: شهرا.
وقال له مالك بن دينار- وقد نبهه على بعض دقائق الورع-:
ما أحوجني إلى معلّم مثلك.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع، و «العبر» للذهبي (1/ 157) : «نوح بن فضالة» وهو خطأ.
والتصحيح من كتب الرجال التي بين يدي.
[2] في «العبر» للذهبي (1/ 157) : «سليمان» ، وهو تحريف، فيصحح فيه.
[3] في «سير أعلام النبلاء» (6/ 120) : «وقال: جعفر بن سليمان» .(2/97)
وفيها قارئ مكّة بعد ابن كثير، محمّد بن عبد الرّحمن بن محيصن.
ومنهم من يسميه عمر.
قال في «العبر» [1] : وأظنهما أخوين. وله رواية شاذة في كتاب «المبهج» [2] وغيره. وقد روى عن صفيّة بنت شيبة وغيرها. انتهى.
__________
[1] (1/ 157) .
[2] واسمه الكامل: «المبهج في القراآت الثمان، وقراءة الأعمش، وابن محيصن، واختيار خلف واليزيدي» ، وهو للشيخ أبي محمد عبد الله بن علي بن أحمد المعروف بسبط الخياط البغدادي، المتوفى سنة (541) هـ. انظر «كشف الظنون» (2/ 1582) .(2/98)
سنة أربع وعشرين ومائة
فيها تمت وقعة عظيمة [1] كبيرة بالمغرب مع الصفريّة، ورأسهم ميسرة الحقير. وذاق المسلمون منهم مشاقّا وبلاء شديدا.
وفيها مات محمّد بن عبد الرّحمن بن أسعد [2] بن زرارة الأنصاري، أحد الثقات، وقد ولي إمرة المدينة لعمر بن عبد العزيز، وأدركه ابن عيينة.
والقاسم بن أبي بزّة المكي. روى عن أبي الطّفيل وجماعة يسيرة.
وفي رمضان منها توفي الإمام أبو بكر محمّد بن [مسلم ابن] عبيد الله بن عبد الله بن شهاب [3] الزّهري المدني، أحد الفقهاء السبعة [4] وأحد الأعلام المشهورين، عن أربع وسبعين سنة. سمع من سهل بن سعد، وأنس بن مالك، وخلق.
__________
[1] لفظة «عظيمة» لم ترد في المطبوع، و «العبر» للذهبي (1/ 158) ، ولعلها زيادة من ناسخ المخطوطة التي اعتمدتها في تحقيق الكتاب.
[2] في «العبر» للذهبي: «سعد» وهو خطأ فيصحّح فيه.
[3] في الأصل، والمطبوع: «أبو بكر محمد بن عبد الله بن عبيد الله بن شهاب» ، وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 158) . وانظر «مشاهير علماء الأمصار» لابن حبان ص (66) ، و «سير أعلام النبلاء» للذهبي (5/ 326) ، و «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 286) .
[4] قلت: قوله: «أحد الفقهاء السبعة» غير صحيح، فهو لم يكن من الفقهاء السبعة المشهورين في المدينة، ولكنه مدني أيضا، وأحد الأئمة الأعلام وعالم الحجاز والشام، ولعله اشتبه عليه ب (عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود) فهو أحد الفقهاء السبعة في المدينة.
قال اليافعي: وكان- يعني الزهري- قد حفظ علم الفقهاء والسبعة.(2/99)
قال ابن المديني: له نحو ألفي حديث.
وقال عمر بن عبد العزيز: لم يبق أعلم بسّنة ماضية من الزّهري.
وكذا قال مكحول.
وقال اللّيث: قال ابن شهاب: ما استودعت قلبي علما فنسيته. قال اللّيث: فكان يكثر شرب العسل، ولا يأكل شيئا من التفاح الحامض.
وقال: من أحب حفظ الحديث فليأكل الزّبيب.
وقال أيوب: ما رأيت أعلم من الزّهريّ.
قال في «العبر» [1] : قلت: وكان معظّما، وافر الحرمة عند هشام بن عبد الملك، أعطاه مرّة سبعة آلاف دينار.
وقال عمرو بن دينار: ما رأيت الدّينار والدّرهم عند أحد أهون منهما عند الزّهريّ، كأنها بمنزلة البعر. انتهى.
ورأى عشرة من الصحابة- رضي الله عنهم- وكان إذا أقبل على كتبه لم يلتفت إلى شيء. فقالت له امرأته [2] [يوما] : والله إن هذه الكتب أشد عليّ من ثلاث ضرائر.
وقال ابن تيميّة: حفظ الزّهريّ الإسلام نحوا من سبعين سنة.
وقال ابن قتيبة [3] : وكان أبو جده عبد الله بن شهاب شهد مع المشركين بدرا، وكان أحد النّفر الذين تعاقدوا يوم أحد، لئن رأوا رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-
__________
[1] (1/ 159) .
[2] في الأصل: «زوجته» ، وأثبت ما جاء في المطبوع لأنه يوافق لفظ «مرآة الجنان» لليافعي أحد مصادر المؤلف.
[3] «المعارف» ص (472) .(2/100)
ليقتلنه، أو ليقتلنّ دونه، وهم عبد الله بن شهاب، وأبي بن خلف، وابن قمئة [1] ، وعتبة بن أبي وقّاص.
وكان يزيد بن عبد الملك استقضى الزّهري، ولما مات دفن بماله [2] على قارعة الطريق ليمرّ مارّ فيدعو له، والموضع الذي دفن فيه آخر أعمال [3] الحجّاز، وأول عمل فلسطين، وبه ضيعته [4] .
وأخوه الزّهريّ عبد الله بن مسلم، كان أسنّ [5] من الزّهري، ويكنى أبا محمّد، وقد لقي ابن عمر وروى عنه وعن غيره، ومات قبل الزّهريّ.
انتهى ملخصا.
__________
[1] ويقال: «ابن قميئة» أيضا. وهو عبد الله بن قمئة الليثي. انظر «السيرة النبوية» (2/ 718) تحقيق السقا، والأبياري، والشلبي.
[2] في الأصل، والمطبوع: «بمالة» وهو تصحيف، والتصحيح من «المعارف» لابن قتيبة ص (472) .
[3] في «المعارف» : «آخر عمل» .
[4] في الأصل، والمطبوع: «وبه ضيعة» وهو خطأ، والتصحيح من «المعارف» .
[5] في الأصل: «أسبق» ، وأثبت ما في المطبوع، وهو موافق لما في «المعارف» .(2/101)
سنة خمس وعشرين ومائة
فيها توفي أبو سعد [1] سعيد بن أبي سعيد المقبريّ [2] المحدّث المكثر عن أبي هريرة. وروى عن سعد بن أبي وقّاص.
قال ابن سعد: ثقة لكنه اختلط قبل موته بأربع سنين.
قال الذهبيّ في «العبر» [3] : قلت: ما سمع منه ثقة في اختلاطه. انتهى.
وفيها مات- في ربيع الآخر- الخليفة أبو الوليد هشام بن عبد الملك الأموي، وكانت خلافته عشرين سنة، إلّا أشهرا [4] وكانت داره عند الخوّاصين بدمشق، فعمل منها السلطان نور الدّين مدرسة، وكان ذا رأي وحزم وحلم، وجمع للمال [5] عاش أربعا وخمسين سنة، وكان أبيض سمينا، أحول سديدا، حسن الكلام، شكس الأخلاق، شديد الجمع للمال، قليل البذل.
وكان حازما متيقظا لا يغيب عنه شيء من أمر ملكه.
قال المسعودي [6] : كان هشام أحول فظا غليظا يجمع الأموال، ويعمر
__________
[1] في الأصل، والمطبوع، و «العبر» للذهبي (1/ 159) : «أبو سعيد» وهو خطأ، والتصحيح من كتب الرجال.
[2] في الأصل: «القبري» وهو تحريف من الناسخ. وأثبت ما في المطبوع.
[3] (1/ 160) ، وقد نقل المؤلف رحمه الله الترجمة كلها عنه.
[4] في الأصل، والمطبوع: «إلّا شهرا» وأثبت ما في «العبر» للذهبي مصدر المؤلف.
[5] في «العبر» : «وجمع المال» وهو تحريف، فيصحح فيه.
[6] في «مروج الذهب» (3/ 217) .(2/102)
الأرض، ويستجيد الخيل، وأقام الحلبة، فاجتمع له فيها من خيله وخيل غيره أربعة آلاف فرس، ولم يعرف ذلك في جاهلية ولا إسلام لأحد من الناس، وقد ذكرت الشعراء ما اجتمع له من الخيل، واستجاد الكساء والفرش وعدد الحرب ولأمتها، واصطنع الرّجال وقوّى الثّغور [1] واتخذ القنيّ والبرك بمكّة، وغير ذلك من الآثار [2] التي أتى عليها داود بن علي في صدر الدّولة العبّاسية.
وفي أيامه عمل الخزّ [3] فسلك الناس جميعا في أيامه مذهبه، ومنعوا ما في أيديهم فقلّ الإفضال، وانقطع الرّفد، ولم ير زمان أصعب من زمانه.
وكان زيد بن عليّ يدخل على هشام، فدخل عليه يوما بالرّصافة [4] فلما مثل بين يديه، لم ير موضعا يجلس فيه، فجلس حيث انتهى به مجلسه.
فقال له: يا أمير المؤمنين، ليس أحد يكبر عن تقوى الله. فقال له هشام:
أسكت لا أم لك، أنت الذي تنازعك نفسك في الخلافة، وأنت ابن أمة، فقال: يا أمير المؤمنين إن لك جوابا، إن أحببت أجبتك به، وإن أحببت أمسكت عنك، قال: لا بل أجب. قال: إن الأمهات لا يقعدن بالرّجال عن الغايات، وقد كانت أمّ إسماعيل أمة لأمّ إسحاق- صلى الله عليهما وسلم- فلم يمنعه ذلك أن ابتعثه الله نبيا [5] ، وجعله للعرب أبا، وأخرج من صلبه خير البشر محمدا- صلّى الله عليه وسلّم- أفتقول لي كذا وأنا ابن فاطمة، وابن عليّ؟ وقام وهو يقول:
__________
[1] جمع ثغر، وهو موضع المخافة من فروج البلدان. انظر «مختار الصحاح» ص (84) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «والآبار» وهو تصحيف، والتصحيح من «مروج الذهب» (3/ 217) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «الحزر» ، والتصحيح من «مروج الذهب» .
والخزّ: من الثياب. انظر «مختار الصحاح» ص (174) .
[4] قال ياقوت: الرصافة: غربي الرّقة، بينهما أربعة فراسخ على طرف البرية، بناها هشام لما وقع الطاعون بالشام، وكان يسكنها في الصيف. «معجم البلدان» (3/ 47) .
[5] في الأصل، والمطبوع: «فلم يمنعه ذلك إلى أن ابتعثه الله نبيا» بزيادة «إلى» وليس لوجودها مبرر، ولعلها من زيادات النساخ، وقد أبقيت العبارة كما جاءت في «مروج الذهب» .(2/103)
شرّده الخوف وأزرى به ... كذاك من يكره حرّ الجلاد
منخرق الخفّين يشكو الجوى [1] ... تنكثه [2] أطراف مرو حداد
قد كان في الموت له راحة ... والموت حتم في رقاب العباد
إن يحدث الله له دولة ... يترك آثار العدا كالرّماد
وعرض هشام يوم الجند بحمص، فمرّ به رجل من أهل حمص وهو على فرس نفور، فقال له هشام: ما حملك على أن تربط [3] فرسا نفورا؟
فقال الحمصيّ لا والرّحمن الرّحيم يا أمير المؤمنين، ما هو بنفور، وإنما أبصر حولك فظن أنه عين غزوان [4] البيطار فنفر، فقال له هشام: تنحّ، فعليك وعلى فرسك لعنة الله، وكان غزوان [4] نصرانيا ببلاد حمص، كأنه هشام في حوله وكشفته.
وبينما هشام ذات يوم جالسا [خاليا] [5] وعنده الأبرش الكلبيّ، إذ طلعت وصيفة لهشام عليها حلّة، فقال للأبرش: مازحها، فقال لها الأبرش: هبي لي حلّتك، فقالت: لأنت أطمع من أشعب، فقال [لها] هشام: ومن أشعب؟
فقالت: كان مضحكا بالمدينة، وحدثته [6] ببعض أحاديثه، فضحك هشام وقال: اكتبوا إلى إبراهيم بن هشام- وكان عامله على المدينة- في حمله إلينا، فلما ختم الكتاب، أطرق هشام طويلا. ثم قال: يا أبرش، هشام يكتب إلى بلد رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- ليحمل إليه [منه] مضحك؟ لاها الله، ثم تمثل:
__________
[1] في الأصل: «الوحي» وهو تحريف، وفي المطبوع: «الوجا» وهو خطأ، والتصحيح من «مروج الذهب» .
[2] في الأصل، والمطبوع: «ينكبه» والتصحيح من «مروج الذهب» .
[3] في الأصل، والمطبوع: «ترتبط» وما أثبته من «مروج الذهب» .
[4] في الأصل والمطبوع: «عرون» وهو تحريف، والتصحيح من «مروج الذهب» .
[5] زيادة من «مروج الذهب» .
[6] في الأصل، والمطبوع: «قال: مضحكة بالمدينة، وحدثه» وهو تحريف غير المعنى في سياق الكلام، والتصحيح من «مروج الذهب» للمسعودي (3/ 221) .(2/104)
إذا أنت طاوعت الهوى قادك الهوى ... إلى بعض ما فيه عليك مقال
وأوقف الكتاب.
ودخل هشام بستانا له ومعه ندماؤه، فطافوا به وفيه من كل الثمار، فجعلوا يأكلون ويقولون: بارك الله لأمير المؤمنين، فقال: وكيف يبارك لي فيه وأنتم تأكلون؟!، ثم قال: ادع قيّمه، فدعا به، فقال له: اقلع شجره واغرس فيه زيتونا حتّى لا يأكل أحد منه شيئا.
وكان أخوه مسلمة مازحه قبل أن يلي الأمر، فقال له: يا هشام أتؤمّل الخلافة وأنت جبان بخيل! قال: أي والله العليم الحليم [1] .
وذكر الهيثم بن عديّ، والمدائني وغيرهما، أن السّوّاس من بني أميّة ثلاثة: معاوية، وعبد الملك، وبهشام ختمت أبواب السياسة وحسن السّير [2] وأن المنصور كان في أكثر أموره، وتدبيره، وسياسته، متبعا لهشام في أفعاله، لكثرة ما يستحسنه من أخبار هشام وسيره. انتهى ملخصا.
ومن نوادره ما روي أنه تمادى في الصيد فوقع على غلام، فأمره ببعض الأمر، فأبى الغلام، وأغلظ له في القول، وقال له: لا قرّب الله دارك، ولا حيّا مزارك، في قصة طويلة، فيها أنه أمر بقتله وقرّب له نطع الدّم، فأنشأ الغلام يقول:
نبّئت أنّ الباز علّق مرّة ... عصفور برّ ساقه المقدور
فتكلّم العصفور في أظفاره ... والباز منهمك عليه يطير
ما في ما يغني لبطنك شبعة ... ولئن أكلت فإنّني لحقير
__________
[1] في «مروج الذهب» (1/ 223) : «فقال: والله إني عليم حليم» .
[2] في «مروج الذهب» : «وحسن السيرة» .(2/105)
فتعجّب الباز المدلّ بنفسه ... عجبا وأفلت ذلك العصفور [1]
فضحك هشام، وقال: يا غلام احش فاه درّا وجوهرا.
وفيها توفي أشعث بن أبي الشّعثاء [2] المحاربيّ [3] الكوفي.
وآدم بن عليّ الشيبانيّ الكوفي الذي روى عن ابن عمر.
وأبو [بشر] جعفر بن أبي وحشيّة، وإياس [4] ، صاحب سعيد بن جبير.
وقد روى عن عبّاد بن شرحبيل الصحابي.
وأبو عبد الله محمّد بن علي بن عبد الله بن عبّاس الهاشمي، والد المنصور، والسّفّاح، وله ستون سنة، وكان جميلا، وسيما، مهيبا، نبيلا، وكان دعاة العباسيين يكاتبونه ويلقّبونه بالإمام.
وسبب انتقال الأمر إلى العباسيين [5] ، أن الشيعة كانت تقصد إمامة محمّد بن الحنفيّة بعد أخيه الحسين، ونقلوها بعده إلى ولده أبي هاشم، فلما حضرت أبا هاشم الوفاة ولا عقب له، أوصى إلى محمّد بن علي المذكور،
__________
[1] الأبيات في «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 288) ط: مؤسسة الرسالة، وقد نقل المؤلف الخبر الأخير عنه بتصرف.
[2] في الأصل، والمطبوع: «أشعث بن أبي الشّعث» وهو تحريف، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 160) ، وانظر «مشاهير علماء الأمصار» لابن حبان ص (164) .
[3] في «العبر» : «الحارثي» وهو تحريف.
[4] يعني يعرف ب ابن أبي وحشية، وابن إياس أيضا. انظر «تهذيب الكمال» للمزي (1/ 192 و 204) مصوّرة دار المأمون للتراث بدمشق.
قلت: وقد فصل الأستاذ حسام الدّين القدسي ناشر الطبعة السابقة بين ذكر «ابن أبي وحشية» و «إياس» فبدى سياق النص في المطبوع وكأن المؤلف يتكلم عن رجلين!!، ولفظة «بشر» التي بين حاصرتين سقطت من الأصل، والمطبوع، واستدركتها من «العبر» للذهبي (1/ 160) . ومن «تهذيب الكمال» .
[5] في المطبوع: «للعباسيين» .(2/106)
ودفع إليه كتبه، وصرف الشيعة إليه، ولما حضرته الوفاة، أوصى إلى ولده إبراهيم المعروف بالإمام، فلما حبسه مروان بن محمّد آخر ملوك الأمويين، وعرف أنه مقتول، أوصى إلى السّفّاح- وهو أول خلفاء العباسيين- وشرح القصة يطول، وسنورد تمامه في ترجمة السّفّاح [1] إن شاء الله تعالى.
وفيها، وقيل: في سنة أربع، زيد بن أبي أنيسة الجزريّ الرّهاويّ الحافظ، أحد علماء الجزيرة [2] ، وله أربعون سنة. روى عن جماعة من التابعين.
قال الذّهبيّ في «المغني» [3] : هو ثقة، نبيل.
قال أحمد: في حديثه بعض النكارة [4] .
وفيها، أو بعدها، زياد بن علاقة الثّعلبيّ الكوفي. روى عن طائفة. وكان معمّرا، أدرك ابن مسعود، وسمع من جرير بن عبد الله.
وفيها صالح مولى التوءمة المدنيّ، وقد هرم، وخرّف. لقي أبا هريرة وجماعة.
__________
[1] انظر ص (161- 182) من هذا المجلد.
[2] يعني جزيرة أقور التي تقع الآن بين سورية والعراق وتركيا.
[3] (1/ 245) .
[4] في الأصل، والمطبوع: «النكرة» ، والتصحيح من «المغني في الضعفاء» للذهبي.(2/107)
سنة ست وعشرين ومائة
فيها في جمادى الآخرة مقتل الخليفة الوليد بن يزيد بن عبد الملك بحصن البحراء [1] بقرب تدمر. وكانت خلافته سنة وثلاثة أشهر. وكان من أجمل النّاس، وأقواهم وأجودهم نظما، ولكنه كان فاسقا متهتكا، زعم أخوه سليمان أنه راوده عن نفسه. فقاموا عليه لذلك مع ابن عمه يزيد بن الوليد الملقّب بالنّاقص، لكونه نقص الجند أعطياتهم.
وبويع يزيد النّاقص، فمات في العشر من ذي الحجّة من السنة عن ست وثلاثين سنة.
وبويع بعده أخوه إبراهيم بن الوليد، وكان في يزيد زهد وعدل، وخير، لكنه قدريّ.
قال الشّافعيّ: ولي يزيد بن الوليد، فدعا النّاس إلى القدر وحملهم عليه، وسيأتي الكلام عليه بقية قريبا إن شاء تعالى. قاله في «العبر» [2] .
وقال المسعوديّ في «مروج الذهب» [3] : ظهر في أيام الوليد بن يزيد،
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «البخراء» وهو تصحيف، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 161) .
[2] (1/ 162) .
[3] (3/ 225) والمؤلف ينقل عنه بتصرف.(2/108)
يحيى بن زيد بن علي [بن الحسين بن علي] [1] بن أبي طالب بالجوزجان من بلاد خراسان، منكرا للظلم وما عمّ النّاس من الجور، فسيّر إليه نصر بن سيّار، سلم [2] بن أحوز المازني، فقتل يحيى في المعركة بسهم أصابه في صدغه بقرية يقال لها: أرعونة، ودفن هنالك، وقبره مشهور [مزور] [3] إلى هذه الغاية، وليحيى وقائع كثيرة، ولما قتل، ولىّ أصحابه يومئذ، واحتزّوا رأسه، فحمل إلى الوليد، وصلب جسده بالجوزجان، فلم يزل مصلوبا إلى أن خرج أبو مسلم صاحب الدّولة [العبّاسية] [4] فقتل سلم [5] بن أحوز، وأنزل جثة يحيى، فصلى عليها ودفنت هنالك، وأظهر أهل خراسان النّياحة على يحيى بن زيد سبعة أيام في سائر عمائرها [6] في حال أمنهم على أنفسهم من سلطان بني أميّة، ولم يولد في تلك السنة مولود بخراسان إلّا وسمّي يحيى أو زيد، لما داخل [7] أهل خراسان من الجزع والحزن عليه [8] .
وكان ظهور يحيى في آخر سنة خمس وعشرين، وقيل: في [أول] [9] سنة ست وعشرين ومائة، وكان يحيى يوم قتل يكثر من التمثل بقول الخنساء:
نهين النّفوس وهون النّفو ... س يوم الكريهة أوفى لها [10]
__________
[1] زيادة من «مروج الذهب» (3/ 225) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «سالم» ، وهو تحريف، والتصحيح من «مروج الذهب» والمصادر التي بين يدي.
[3] زيادة من «مروج الذهب» .
[4] زيادة من «مروج الذهب» .
[5] في الأصل، والمطبوع: «سالم» ، والتصحيح من «مروج الذهب» والمصادر التي بين يدي.
[6] في «مروج الذهب» : «في سائر أعمالها» .
[7] في الأصل: «دخل» وأثبت ما في المطبوع.
[8] في الأصل، والمطبوع: «عليهما» ، والتصحيح من «مروج الذهب» .
[9] لفظة «أول» سقطت من الأصل، والمطبوع، واستدركتها من «مروج الذهب» .
[10] البيت في «ديوانها» ص (126) طبع مكتبة الأندلس ببيروت وروايته فيه:(2/109)
وكان الوليد بن يزيد صاحب شراب ولهو وطرب وسماع للغناء، وهو أول من حمل المغنّين إليه من البلدان، وجالس الملهين، وأظهر الشّرب والملاهي والعزف.
وفي أيامه كان ابن سريج المغنّي، ومعبد، والغريض [1] وابن عائشة، وابن محرز، وطويس، ودحمان، المغنّين، وغلبت شهوة الغناء في أيامه على الخاص والعام، واتخذ القيان، وكان متهتكا، ماجنا، خليعا، وطرب الوليد لليلتين خلتا من ملكه وأرق فأنشأ يقول:
طال ليلي وبتّ أسقى السّلافه ... وأتاني نعيّ من بالرّصافه
فأتاني [2] ببردة وقضيب ... وأتاني بخاتم الخلافة [3]
ومن مجونه قوله عند وفاة هشام، وقد أتاه البشير بذلك، وسلّم عليه بالخلافة.
إني سمعت خليلي ... نحو الرّصافة رنّه
أقبلت أسحب ذيلي ... أقول ما حالهنّه
إذا بنات هشام ... يندبن والدهنّه
يدعون ويلا وعولا ... والويل حلّ بهنّه
أنا المخنّث حقّا ... إن لم أنيكهنّه [4]
__________
نهين النفوس وهون النفوس ... يوم الكريهة أبقى لها
[1] في المطبوع: «والقريض» وهو تحريف. وهو عبد الملك، مولى العبلات، من مولدي البربر، من أشهر المغنين في صدر الإسلام، ومن أحذقهم في صناعة الغناء. سكن مكة، وغنى سكينة بنت الحسين، وكان يضرب بالعود، وينقر بالدف، ويوقع بالقضيب، كنيته أبو يزيد أو أبو مروان، ولقب ب «الغريض» لجماله ونضارة وجهه، مات سنة (95) هـ. انظر «الأعلام» للزركلي (4/ 156) .
[2] في «مروج الذهب» : «وأتاني» .
[3] في المطبوع، و «مروج الذهب» : «وأتاني بخاتم للخلافة» .
[4] في المطبوع، و «مروج الذهب» : «أنيكنّهنّه» .(2/110)
ومن مليح قوله في الشّراب:
وصفراء في الكأس كالزّعفران ... سباها لنا التّجر من عسقلان
تريك القذاة وعرض الإناء ... وستر لها دون مسّ البنان
لها حبب كلّما صفّقت ... تراها كلمعة برق يماني
ومن مجونه أيضا على شرابه قوله لساقيه:
اسقني يا يزيد بالقرقارة [1] ... قد طربنا وحنّت الزّمّارة [2]
اسقني اسقني فإنّ ذنوبي ... قد أحاطت فما لها كفّاره
والوليد يدعى خليع بني مروان، وقرأ ذات يوم وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ [3] عَنِيدٍ من وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى من ماءٍ صَدِيدٍ 14: 15- 16 [إبراهيم: 15- 16] ، فدعا بالمصحف فنصبه غرضا [4] [للنشّاب] [5] وأقبل يرميه وهو يقول:
أتوعد كلّ جبّار عنيد ... فها أنا ذاك جبّار عنيد
إذا ما جئت ربّك يوم حشر ... فقل يا ربّ خرّقني الوليد [6]
وذكر محمّد بن يزيد المبرد أن الوليد ألحد في شعر له ذكر فيه النبيّ- صلّى الله عليه وسلّم- ومن ذلك الشعر:
تلعّب بالخلافة هاشميّ ... بلا وحي أتاه ولا كتاب
فقل لله يمنعني طعامي ... وقل لله يمنعني شرابي
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «بالطرجهارة» وهو تحريف، والتصحيح من «مروج الذهب» .
[2] في الأصل، والمطبوع: «المزمارة» وأثبت ما في «مروج الذهب» .
[3] في الأصل، والمطبوع: «وخاب كل خيار» وهو تحريف شنيع.
[4] الغرض: الهدف الذي يرمى فيه. «مختار الصحاح» ص (472) .
[5] زيادة من «مروج الذهب» (3/ 226) .
[6] أعوذ بالله من هذا الكلام صحت نسبته إليه أو لم تصح، فإنه مما لا يتلفظ به إلّا من حبط عمله، وأيقن بأن جهنم لا محال مستودعه ومقره. والبيتان في «مروج الذهب» .(2/111)
فلم يمهل بعد قوله هذا إلّا أياما حتّى قتل. انتهى ما ذكره في «المروج» ملخصا.
وأمّ الوليد بنت أخي الحجّاج بن يوسف الثّقفيّة، ويكنى أبا العبّاس.
وقصمه الله وهو ابن سبع وثلاثين سنة. وقيل: اثنتان وأربعون سنة، ودفن بدمشق بين باب الجابية وباب الصغير.
وفيها توفي جبلة بن سحيم الكوفي. روى عن ابن عمر، ومعاوية.
وفي المحرم هلك خالد بن عبد الله القسريّ الدّمشقيّ الأمير تحت العذاب، وله ستون سنة، وكان جوادا ممدّحا، خطيبا، مفوّها، خطب بواسط يوم أضحى، وكان ممن حضره الجعد بن درهم، فقال خالد في خطبته:
الحمد لله الذي اتخذ إبراهيم خليلا، وموسى كليما، فقال الجعد- وهو بجانب المنبر- لم يتخذ الله إبراهيم خليلا، ولا موسى كليما، ولكن من وراء وراء، فلما أكمل خالد خطبته قال: يا أيها النّاس ضحّوا قبل الله ضحاياكم، فإني مضحّ بالجعد بن درهم، فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولا موسى كليما. في كلام طويل. ثم نزل فذبحه في أسفل المنبر. فلله ما أعظمها وأقبلها من أضحية.
والجعد هذا من أوّل من نفى الصّفات، وعنه انتشرت مقالة الجهميّة، إذ ممن حذا حذوه في ذلك الجهم بن صفوان، عاملهما الله تعالى بعدله.
قال الذّهبيّ في «المغني» [1] : الجعد بن درهم ضالّ مضلّ، زعم أن الله تعالى لم يتخذ إبراهيم خليلا، تعالى الله عمّا يقول الجعد علوا كبيرا.
انتهى.
__________
[1] (1/ 131) .(2/112)
وقال فيه [1] أيضا: خالد بن عبد الله القسري، عن أبيه، عن جده، صدوق، لكنه ناصبيّ جلد. انتهى.
وقال ابن معين عن خالد هذا: كان رجل سوء يقع في علي- رضي الله عنه- ولي العراق لهشام. انتهى.
وقال ابن الأهدل في «تاريخه» عن خالد: كان أمير العراق لهشام، وكان أحد الأجواد، كتب إليه هشام: بلغني أن رجلا قال لك: إن الله كريم، وأنت كريم جواد، وأنت جواد، حتّى عدّ عشر خصال، والله لئن لم تخرج من هذا لأستحلنّ دمك، فكتب إليه خالد: إنما قال لي: إن الله كريم يحب الكريم، فأنا أحبك لحب الله إياك.
ولكن أشد من هذا مقام ابن شقيّ [2] البجلي بحضرة أمير المؤمنين قائلا: خليفتك أحبّ إليك أم رسولك، فقال: بل خليفتي، فقال: أنت خليفة الله ومحمد ورسوله، والله لقتل رجل من بجيلة أهون من كفر أمير المؤمنين.
فكتب هشام إلى عامله على اليمن يوسف ابن عم الحجّاج يقول:
اشفني من ابن النصرانية، فسار يوسف من حينه، واستعمل ولده الصّلت مكانه، ووصل العراق في سبعة عشر يوما، فوقع على خالد بالحيرة منزل النّعمان بن المنذر على فرسخ من الكوفة، فعذّبه أشد تعذيب، وجعل عليه كل يوم مالا معلوما، إن لم يؤدّه ضاعف عذابه، ومدحه أبو الشغب [3] العبسي في السجن بقوله:
لعمري لقد عمّرتم السّجن خالدا ... وأوطأتموه وطأة المتثاقل
__________
[1] يعني في «المغني في الضعفاء» (1/ 203) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «ابن سعي» وهو تحريف، والتصحيح من «مرآة الجنان لليافعي (1/ 290) . وانظر «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (5/ 278) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «أبو الشعث» ، والتصحيح من «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 291) .(2/113)
ألا إنّ خير النّاس حيّا وميّتا ... أسير ثقيف عندهم في السّلاسل
لقد كان نهّاضا لكلّ ملمّة ... ويعطي اللهى غمرا [1] كثير النّوافل
وقد كان يبني [2] المكرمات لقومه ... ويعطي العطا في كلّ حقّ وباطل [3]
فأنفذ إليه عطاء ذلك اليوم، فاعتذر عن قبولها، فأقسم عليه ليأخذنها.
وكان خالد فيما قيل، من ذرّيّة شقّ الكاهن، وشقّ ابن خالة سطيح، وكانا من أعاجيب الزّمان، كان سطيح جسدا ملقى بلا جوارح، ووجهه في صدره، ولم يكن له رأس ولا عنق، وكان لا يقدر يجلس إلّا إذا غضب، فإنه ينتفخ فيجلس، قيل: وكان يطوى مثل الأديم، وينقل من مكان إلى مكان.
وكان شقّ نصف إنسان له يد ورجل، وولدا في يوم واحد، وهو اليوم الذي ماتت فيه طريفة الكاهنة [4] الحميرية زوجة عمرو بن مزيقياء بن عامر بن ماء السماء، وحين ولدا تفلت في أفواههما، وماتت من ساعتها ودفنت بالجحفة.
انتهى ما أورده ابن الأهدل.
وفيها توفي درّاج بن سمعان أبو السّمح المصري القّاص، مولى عبد الله بن عمرو بن العاص.
قال السّيّوطيّ في «حسن المحاضرة» [5] : يقال: اسمه عبد الرّحمن، ودرّاج لقب.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «فضلا» والتصحيح من «مرآة الجنان» .
[2] في الأصل، والمطبوع: «يقني» وهو خطأ، والتصحيح من «مرآة الجنان» .
[3] الأبيات في «وفيات الأعيان» لابن خلكان (2/ 230) ، و «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 291) .
[4] هي طريفة بنت الخير الحميرية. كاهنة يمانية، من الفصيحات البليغات. كانت زوجة للملك عمرو بن مزيقياء بن ماء السماء الأزدي الكهلاني، قيل: إنها تنبأت له بانهيار «السد» فاستعد هو وقومه للهجرة. انظر «الأعلام» (3/ 226) .
[5] (1/ 266) طبع دار إحياء الكتب العربية في القاهرة بتحقيق الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم رحمه الله تعالى.(2/114)
روى عن عبد الله بن الحارث بن جزء. وعنه اللّيث [1] . انتهى.
وفيها، وقيل: سنة ثمان، سعيد بن مسروق والد سفيان، الثّوريّ.
وعمرو بن دينار، أبو محمّد، الجحميّ مولاهم اليمنيّ الصنعانيّ الأبناويّ [2] بمكّة، عن ثمانين سنة.
قال عبد الله بن أبي نجيح: ما رأيت أحدا قطّ أفقه منه.
وقال شعبة: ما رأيت في الحديث أثبت منه.
قال في «العبر» [3] : سمع ابن عبّاس، وجابرا، وطائفة. انتهى.
وقال طاووس لابنه: إذا قدمت مكّة فجالس عمرو بن دينار، فإن أذنيه قمع العلم.
والقمع بكسر القاف وفتح الميم: إناء واسع الأعلى ضيق الأسفل، يصب فيه الدّهن إلى قارورة أو نحوها.
وقال ابن قتيبة [4] : هو مولى ابن باذان من فرس اليمن. انتهى.
وفيها توفي عبد الرّحمن بن القاسم بن محمّد بن أبي بكر الصّدّيق التيميّ المدنيّ الفقيه، كان إماما، ورعا، كثير العلم.
وفيها على الصحيح سليمان بن حبيب المحاربي، قاضي دمشق. روى عن معاوية وجماعة.
قال أبو داود: ولي قضاء دمشق أربعين سنة.
__________
[1] في المطبوع: «الليثي» وهو خطأ.
[2] في الأصل، والمطبوع: «الإيناوي» وهو خطأ، والصواب ما أثبته، فقد كان من «الأبناء» لذا نسبه المؤلف إليهم.
[3] (1/ 163) .
[4] انظر «المعارف» ص (468) .(2/115)
وعبد الله بن هبيرة السّبئيّ [1] المصريّ وله ست وثمانون سنة.
وعبيد الله بن أبي يزيد المكي، صاحب ابن عبّاس.
ويحيى بن جابر الطائيّ، قاضي حمص.
قال ابن الأهدل: وفي ذي الحجّة منها مات يزيد بن الوليد بن عبد الملك وقد بلغ من السن أربعين سنة، وولايته خمسة أشهر، وله عقب كثير، وفي جدّاته من أمه كسراويتين وقيصرية، وفي ذلك يقول مفتخرا:
أنا ابن كسرى وأنا ابن خاقان ... وقيصر جدّي وجدّي مروان
ومن خطبته يوم قتل الوليد: أيّها النّاس والله ما خرجت أشرا ولا بطرا، ولا حرصا على الدّنيا، ولا رغبة في الملك، وما بي إطراء نفسي، إني لظلوم لها، ولكني خرجت غضبا [2] لله ولدينه، لمّا ظهر الجبار العنيد، المستحل لكل حرمة، الراكب لكل بدعة، الكافر بيوم الحساب، وإنه لابن عمي في النسب وكفؤي في الحسب، فلما رأيت ذلك استخرت الله في أمره، وسألته أن لا يكلني إلى نفسي، ودعوت إلى ذلك من أجابني، حتّى أراح الله منه العباد، وطهّر منه البلاد، بحوله وقوته، لا بحولي ولا قوتي. انتهى.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «السباري» وهو تحريف، والتصحيح من «الأنساب» للسمعاني (7/ 23) .
[2] في الأصل: «غصبا» وهو تصحيف وأثبت ما في المطبوع.(2/116)
سنة سبع وعشرين ومائة
لما بلغ مروان بن محمّد بن مروان وفاة يزيد النّاقص، سار من إرمينية في جيوشه [1] يطلب الأمر لنفسه، فجهز إبراهيم الخليفة أخويه بشرا، ومسرورا في جيش كبير، فهزم جيشهما، وأسرهما، ثم حاربه سليمان بن هشام بن عبد الملك، فانهزم أيضا، فخرج إبراهيم للقائه، وكان مروان نزل بمرج دمشق، وبذل إبراهيم الأموال والخزائن، فخذله أصحابه، فخلع نفسه، وبايع هو والنّاس مروان.
وفي هذه الفتنة قتل يوسف بن عمر الثقفيّ في السّجن بدمشق، وكان سجنه يزيد بن الوليد مع الحكم وعثمان ابني الوليد بن يزيد اللّذين يقال لهما: الجملان، فلما ولي إبراهيم بن الوليد، وغلبه مروان، خافت جماعة إبراهيم أن يدخل مروان دمشق فيخرجهما مع يوسف، فندبوا لقتلهم يزيد بن خالد بن عبد الله القسريّ، فقتلهم، وأدرك الثأر بأبيه، فجعل في رجلي يوسف حبلا وجرّره الولدان في الشوارع، ففعل يزيد بن خالد مثل ذلك في ذلك الموضع، نعوذ بالله من سخطه.
وقتل أيضا عبد العزيز بن الحجّاج بن عبد الملك.
__________
[1] في الأصل: «في جيوش» وأثبت ما في المطبوع، وهو موافق لما في «العبر» للذهبي (1/ 164) .(2/117)
وفيها توفي عبد الله بن دينار، مولى ابن عمر بالمدينة.
قال ابن ناصر الدّين: كان ثبتا، ثقة، متقنا.
والسيد الكبير الولي الشهير أبو يحيى مالك بن دينار البصريّ الزّاهد المشهور، كان مولى لبني أسامة بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك، وكان يكتب المصاحف بالأجرة، أقام أربعين سنة لا يأكل من ثمار البصرة، ولا يأكل إلّا من عمل يده، ووقع حريق بها فخرج متّزرا بباريّة [1] ، وبيده مصحف، وقال: فاز المخفّون. وقيل له: ألا تستسقي لنا؟ فقال: أنتم تنتظرون الغيث، وأنا أنتظر الحجارة.
وقال له رجل: إن امرأتي حبلى منذ أربع سنين، وأصبحت اليوم في كرب عظيم، فادع الله لها، فقال: اللهم إن كان في بطنها جارية فأبدلها غلاما، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أمّ الكتاب، فجاء الرّجل على رقبته غلام، وقد استوت أسنانه وما قطع سراره.
وفيها توفي عمير بن هانئ العنسيّ- بالنون- الدّارانيّ [2] . روى عن معاوية في «الصحيحين» وعن أبي هريرة في «السنن» .
قال له عبد الرّحمن بن يزيد بن جابر: أراك لا تفتر عن الذّكر، فكم تسبّح كل يوم؟ قال: مائة ألف تسبيحة، إلّا أن تخطئ الأصابع.
قلت: هذا صريح منه بأنه كان يعدّ التسبيح بأصابعه، ولكن أورد أبو بكر بن داود في «التحفة» أنّ أبا الدّرداء كان يسبّح كل يوم مائة ألف تسبيحة أيضا، ثم قال ما معناه: وهذا دليل أنه كان يستعمل السّبحة، إذ يبعد ويتعذّر أن يضبط مثل هذا العدد بغيرها، وجعله من جملة الأدلة على السّبحة، بعد
__________
[1] أي بحصيرة منسوجة. (ع) .
[2] نسبة إلى داريا، وهي من القرى الكبيرة في غرب دمشق. انظر «معجم البلدان» (2/ 431- 432) .(2/118)
أن ذكر أيضا أن أبا هريرة كان يسبّح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة. وسلسل إليه حديثا بالسبحة [1] ، والله أعلم.
وفيها قاضي المدينة سعد بن إبراهيم بن عبد الرّحمن بن عوف الزّهريّ المدني.
قال شعبة: كان يصوم الدّهر، ويختم كل يوم [2] .
وعبد الكريم بن مالك الجزريّ الحرّانيّ [3] الحافظ كهلا.
قال في «المغني» [4] : ثقة مشهور توقّف فيه ابن حبّان.
وفيها وهب بن كيسان المدنيّ المؤدّب عن سنّ عالية.
وفيها، أو في سنة تسع، إسماعيل السّديّ الكوفيّ المفسر المشهور [5] .
وفيها، وقيل: سنة ثمان، توفي أبو إسحاق عمرو [6] بن عبد الله السّبيعي الكوفي شيخ الكوفة وعالمها، له نحو المائة. رأى عليا، وغزا الرّوم زمن معاوية.
__________
[1] أقول: ليس ذلك دليلا على صحة الحديث المسلسل بالسبحة، كما أنه ليس دليلا على السبحة نفسها، والأولى التسبيح بالأصابع، لأنهن مستنطقات. (ع) .
[2] أقول: ليس معنى ذلك أن هذا هو السنة، بل الأفضل أن يصوم يوما ويفطر يوما، وأن لا يقرأ القرآن في أقل من ثلاث. (ع) .
[3] نسبة إلى حرّان الجزيرة. انظر «الأمصار ذوات الآثار» للذهبي ص (58) بتحقيقي، طبع دار ابن كثير.
[4] (2/ 402) .
[5] انظر «الأنساب» للسمعاني (7/ 62) بإشراف والدي الشيخ عبد القادر الأرناؤوط حفظه الله تعالى.
[6] في الأصل: «عمر» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع، وهو الصواب. انظر «الأنساب» للسمعاني (7/ 36) .(2/119)
قال في «المعارف» [1] : وهو من بطن من همدان يقال لهم: السّبيع قال شريك: ولد أبو إسحاق السّبيعي في سلطان عثمان لثلاث سنين بقين منه، ومات سنة سبع وعشرين ومائة وله خمس وتسعون سنة.
حدثنا [2] عبد الرّحمن، عن عمه، عن إسرائيل عن أبي إسحاق قال:
رفعني أبي حتّى رأيت علي بن أبي طالب يخطب [على المنبر] [3] أبيض الرأس واللحية. انتهى.
وقال عنه ابن ناصر الدّين: كان أحد أئمة الإسلام والحفاظ المكثرين.
وروى عن زيد بن أرقم. انتهى.
__________
[1] ص (451- 452) .
[2] في «المعارف» لابن قتيبة: «حدثني» .
[3] ما بين حاصرتين سقط من الأصل، والمطبوع، واستدركته من «المعارف» .(2/120)
سنة ثمان وعشرين ومائة
فيها ظهر الضّحّاك بن قيس الخارجيّ، وقتل متولي البصرة، والموصل، واستولى عليها، وكثرت جموعه، وأغار على البلاد، وخافه مروان، فسار إليه بنفسه، فالتقى الجيشان بنصيبين [1] وكان أشار على الضّحّاك أمراؤه أن يتقهقر، فقال: مالي في دنياكم من حاجة، وقد جعلت لله عليّ إن رأيت هذا [2] الطاغية أن أحمل عليه حتّى يحكم الله بيننا، وعليّ دين سبعة دراهم، معي منها ثلاثة دراهم، فثارت الحرب إلى آخر النهار، وانهزم مروان وملك مخيّمه، وثبت أمير الميمنة في نحو ثلاث آلاف، فأحاطوا بذلك الخارجي، فقتلوه في نحو ستة آلاف من الفريقين، وقام بأمر الخوارج شيبان، فتحيّز بهم، وخندق [3] ، وخندقوا على أنفسهم، وجاء مروان فنازلهم، وقاتلهم عشرة أشهر، كل يوم يكسرونه، وكانت فتنة هائلة تشبه فتنة ابن الأشعث مع الحجّاج، ثم رحل شيبان نحو شهرزور [4] ثم إلى كرمان، ثم كرّ إلى البحرين، فقتل هناك.
__________
[1] بلدة تقع الآن في أقصى الجنوب الشرقي من أرض تركيا على مقربة من القامشلي. قال ياقوت: وهي مدينة عامرة من بلاد الجزيرة، على جادة القوافل من الموصل إلى الشام، وفيها وفي قراها على ما يذكر أهلها أربعون ألف بستان ... وينسب إلى نصيبين جماعة من العلماء، والأعيان. انظر «معجم البلدان» (5/ 288- 289) .
[2] في الأصل: «هذه» وهو تحريف، وأثبت ما في المطبوع، وهو الصواب.
[3] لفظة: «وخندق» لم ترد في «العبر» للذهبي (1/ 166) .
[4] مدينة تقع الآن في إيران. قال ياقوت: وهي كورة واسعة في الجبال بين إربل وهمذان،(2/121)
وفيها خروج بسطام بن اللّيث بأذربيجان، ثم قدم نصيبين في نيّف وأربعين رجلا، فنهض لحربه عسكر الموصل، فبيّتهم، وأصاب منهم ثم عاث [1] بنصيبين، ثم قتل.
وفيها ولي العراقين يزيد بن عمر [2] بن هبيرة.
وعزل عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، وقبض عليه ابن هبيرة من واسط، وبعث به إلى مروان مع ابن له، فلم يزالا في حبسه حتّى ماتا.
وفيها توفي بكر بن سوادة الجذاميّ [3] المصريّ، مفتي مصر، وقد روى عن عبد الله بن عمر، وسهل بن سعد.
وجابر بن يزيد الجعفي، من كبار المحدّثين بالكوفة.
روى عن أبي الطّفيل، ومجاهد. وثقه وكيع وغيره، وضعفه آخرون.
وأبو قبيل المعافريّ [4] المصريّ حييّ [5] بن هانئ سمع عقبة، وعبيد الله بن عمرو.
وعاصم بن أبي النّجود الكوفيّ الأسديّ مولاهم، أحد القراء السبعة [6]
__________
أحدثها زور بن الضحاك، ومعنى شهر بالفارسية المدينة. انظر «معجم البلدان» (3/ 375- 376) .
[1] في الأصل: «ثم غاث» وهو تصحيف.
[2] في الأصل، والمطبوع، و «العبر» للذهبي (1/ 167) : «يزيد بن عمرو» وهو خطأ، والتصحيح من كتب الرجال التي بين يدي.
[3] في الأصل: «الحزامي» وهو تحريف، وأثبت ما جاء في المطبوع، وهو الصواب.
[4] في الأصل: «المغافري» وهو تصحيف، وأثبت ما جاء في المطبوع، وهو الصواب.
[5] في الأصل، والمطبوع: «حسن» وهو خطأ، والتصحيح «العبر» للذهبي (1/ 167) .
[6] قلت: وبقية القراء السبعة هم:
الإمام علي بن حمزة الكسائي الأسدي، المتوفى سنة (189) هـ، وسوف ترد ترجمته في ص (407- 408) من هذا المجلد.(2/122)
كان حجّة في القرآن [1] صدوقا في الحديث، قرأ على أبي عبد الرّحمن السّلمي وغيره.
وأبو عمران الجوني البصري، عبد الملك بن حبيب عن سنّ عالية.
سمع جندب بن عبد الله وجماعة.
وفيها على الأصح أبو حصين الأسديّ، عثمان بن عاصم سيّد بني أسد بالكوفة، كان ثبتا، خيّرا، فاضلا، عثمانيّا، لقي جابر بن سمرة وطائفة.
وأبو الزّبير المكيّ، محمّد بن مسلم، أحد العقلاء والعلماء، لقي عائشة والكبار.
قال ابن ناصر الدّين: نقم عليه التدليس، ومع ذلك فهو إمام حافظ، واسع العلم، رئيس. انتهى.
وأبو جمرة [2] الضّبعيّ، نصر بن عمران، صاحب ابن عبّاس.
__________
والإمام نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم الليثي، المتوفى سنة (169) هـ، وسوف ترد ترجمته في ص (312- 313) من هذا المجلد.
والإمام عبد الله بن كثير الكناني الداري المكّي، المتوفى سنة (120) هـ. وقد تقدمت ترجمته في ص (89- 90) من هذا المجلد.
والإمام عبد الله بن عامر اليحصبي الدمشقي، المتوفى سنة (118) هـ. وقد تقدمت ترجمته في ص (85) من هذا المجلد.
والإمام حمزة بن حبيب الزيات، المتوفى سنة (156) هـ، وسوف ترد ترجمته في ص (255) من هذا المجلد.
والإمام زبّان بن العلاء بن عمار التيمي المازني أبو عمرو، المتوفى سنة (154) هـ، وسوف ترد ترجمته في ص (248- 251) من هذا المجلد.
[1] في المطبوع: «كان حجّة في القراءات» .
[2] في «العبر» : «أبو حمزة» وهو تصحيف، وقد فات محققه الدكتور صلاح الدّين المنجد تصحيحه علما بأنه رجع إلى كتاب «اللباب في تهذيب الأنساب» (2/ 260) لضبط نسبته ومع ذلك فاته صواب الاسم عند ابن الأثير!.(2/123)
وفيها فقيه مصر وشيخها ومفتيها، أبو رجاء، يزيد بن أبي حبيب الأزدي مولاهم، لقي عبد الله بن الحارث بن جزء وطائفة.
قال اللّيث: هو عالمنا وسيدنا.
وفيها أبو التيّاح البصريّ، صاحب أنس، واسمه يزيد بن حميد.
قال أبو إياس: ما بالبصرة أحد أحبّ إليّ أن ألقى الله بمثل عمله من أبي التيّاح.
وقال أحمد: هو ثبت ثقة.
وفيها يحيى بن يعمر النحويّ البصريّ، لقي ابن عمر، وابن عبّاس، وغيرهما، وأخذ النحو عن أبي الأسود [الدّؤلي] وكان يفضّل أهل البيت من غير تنقّص لغيرهم [1] .
قال له: الحجّاج: تزعم أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-! لتخرجن من ذلك أو لألقينّ الأكثر منك شعرا، فقال: قال الله تعالى: وَمن ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ 6: 84 الآية وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى 6: 85 الآية [الأنعام: 84] . وما بين عيسى وإبراهيم أكثر مما بين الحسن والحسين ومحمد- صلّى الله عليه وسلّم- فقال له الحجّاج: ما أراك إلّا قد خرجت والله لقد قرأتها وما علمت بها قطّ.
ثم قال له الحجّاج: أين ولدت؟ قال بالبصرة. قال: وأين نشأت؟
قال: بخراسان. قال فمن أين هذه العربية؟ قال: رزق.
ثم كتب الحجّاج إلى قتيبة بن مسلم: أن اجعل يحيى بن يعمر على قضائك [2] .
__________
[1] في الأصل: «بغيرهم» وأثبت ما في المطبوع.
[2] المؤلف ينقل عن «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 297) بتصرف، وما بين حاصرتين استدركته منه.(2/124)
سنة تسع وعشرين ومائة
في رمضان منها كان ظهور أبي مسلم الخراساني صاحب الدّعوة بمرو.
وفيها توفي عالم المغرب وعابدها خالد بن أبي عمران التّجيبيّ التونسيّ، قاضي إفريقية. روى عن عروة وطبقته.
وسالم المدني أبو النضر، وحديثه عن عبد الله بن أبي أوفى إجازة [1] في «الصحيحين» .
وفيها، وقيل: في سنة إحدى وثلاثين، عليّ بن زيد بن جدعان القرشيّ التيميّ البصريّ الضرير، كان أحد أوعية العلم.
قال في «العبر» [2] : كان أحد علماء الشيعة، وكان كثير الرّواية، ليس بالقويّ. انتهى.
وفيها على الصحيح يحيى بن أبي كثير صالح بن المتوكل، وقيل: اسم أبيه يسار، وقيل: نشيط، وقيل: دينار، الطّائي مولاهم، كان أحد العلماء الأعلام الأثبات.
__________
[1] أقول: أي كتابة، وهو حديث: «لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية» وهو عند البخاري في الجهاد رقم (2965) ، ومسلم رقم (1742) من حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه. (ع) .
[2] (1/ 169) .(2/125)
قال: أيوب السختياني: ما بقي على وجه الأرض مثل يحيى بن أبي كثير.
وقال في «العبر» [1] : هو أحد الأعلام في الحديث، له حديث في «صحيح مسلم» عن أبي أمامة، وآخر في «سنن النسائي» عن أنس، فيقال:
لم يلقهما، والله أعلم [2] . انتهى.
وفيها قارئ المدينة الزّاهد العابد أبو جعفر يزيد بن القعقاع، عن بضع وثمانين سنة.
أخذ عن أبي هريرة، وابن عبّاس، وقرأ عليه نافع، وإلياس [3] وله ذكر في «سنن أبي داود» ، وكان من أفضل أهل زمانه، رؤي بعد موته على ظهر الكعبة وهو يخبر أنه من الشهداء الكرام.
__________
[1] (1/ 169) .
[2] انظر «تحرفة الأشراف» (1/ 122 و 290- 291) بتحقيق الشيخ عبد الصمد شرف الدين، فقد ذكر المزي فيه أحاديث أخرى من روايته.
[3] لم أقف على ذكر له فيمن قرأ على أبي جعفر في المصادر التي بين يدي.(2/126)
سنة ثلاثين ومائة
فيها كانت فتنة الإباضية، وهم المنسوبون إلى عبد الله بن إباض [1] قالوا:
مخالفونا من أهل القبلة كفار، ومرتكب الكبيرة موحّد غير مؤمن، بناء على أن الأعمال داخلة في الإيمان، وكفّروا عليا وأكثر الصحابة، وكان داعيتهم في هذه الفتنة عبد الله بن يحيى الجنديّ الكنديّ الحضرميّ، طالب الحق، وكانت لهم وقعة بقديد [2] مع عبد العزيز بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، فقتل عبد العزيز، ومن معه من أهل المدينة، فكانوا سبعمائة، أكثرهم من قريش، منهم مخرمة بن سليمان الوالبي، روى عن عبد الله بن جعفر وجماعة، وبعدها سارت الخوارج إلى وادي القرى، ولقيهم عبد الملك السّعدي، فقتلهم، ولحق رئيسهم إلى مكّة فقتله أيضا، ثم سار إلى تبالة وراء مكّة بست مراحل، فقتل داعيتهم الكندي.
وفيها توفي بالبصرة شعيب بن الحبحاب صاحب أنس.
وأبو الحويرث [3] عبد الرّحمن بن معاوية الأنصاريّ المدنيّ.
__________
[1] في المطبوع: «عبد الله بن أباض» وانظر «الأعلام» للزركلي (4/ 61- 62) فقد استوفى رحمه الله ترجمته فيه وهي نافعة.
[2] قرية قرب مكة. انظر «معجم ما استعجم» للكبري (2/ 1054- 1055) ، و «معجم البلدان» (4/ 313- 314) .
[3] في الأصل: «أبو الحريرث» وهو تحريف، وأثبت ما في المطبوع، وهو الصواب.(2/127)
وعبد العزيز بن رفيع المكيّ ثم الكوفي عن نيّف وتسعين سنة. روى عن ابن عبّاس وجماعة.
وشيبة بن نصاح بن سرجس [1] بن يعقوب، مولى أمّ سلمة، ولا يعلم أحد روى عن نصاح إلّا ابنه شيبة، وكان شيبة إمام أهل المدينة في القراءات في دهره، قرأ على أبي هريرة، وابن عبّاس.
وقال: قالون [2] : كان نافع أكثر اتّباعا لشيبة من أبي جعفر [3] .
وعبد العزيز بن صهيب البصريّ الأعمى.
وكعب بن علقمة التنوخيّ المصريّ. روى عن أبي تميم الجيشاني وطائفة.
وفيها، وقيل: سنة إحدى وثلاثين، السيد الجليل، كبير الذّكر، محمد بن المنكدر التيميّ المدني.
قال ابن ناصر الدّين: هو محمّد بن عبد الله بن الهدير بن عبد العزّى [4] بن عامر بن الحارث بن حارثة بن سعد بن تيم بن مرّة أبو عبد الله، ويقال: أبو بكر القرشيّ التيميّ أخو أبي بكر، وعمر [5] . سمع أبا هريرة، وابن عبّاس، وجابرا، وأنسا، وابن المسيّب، وعدة أخر، وهو من أضراب
__________
[1] في الأصل: «ابن سرخش» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع، وهو الصواب.
[2] هو عيسى بن ميناء بن وردان بن عيسى الزّرقيّ، مات سنة (220) هـ. انظر «معرفة القراء الكبار» للذهبي (1/ 155- 156) طبع مؤسسة الرسالة، وسوف ترد ترجمته في المجلد الثالث من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى.
[3] في الأصل، والمطبوع: «كان نافع أكثر اتباعا لشيبة بن جعفر» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 170) . وانظر «معرفة القراء الكبار» للذهبي (1/ 80) .
[4] في الأصل: «ابن معبد» ، وفي المطبوع: «ابن معبد القرشي» وكلاهما خطأ، والتصحيح من «تهذيب الكمال» للمزي (3/ 1276) مصورة دار المأمون للتراث و «تهذيب التهذيب» (9/ 473) .
[5] يعني أخو أبي بكر بن المنكدر، وعمر بن المنكدر.(2/128)
عطاء بن أبي رباح، لكن تأخرت وفاته عن تلك الطبقة. انتهى.
قيل له: أيّ الأعمال أفضل؟ قال: إدخال السرور على المؤمنين.
وقيل له: أيّ الدّنيا أحبّ إليك؟ قال: الإفضال على الإخوان.
وكان يحج وعليه دين. فقيل له: أتحج وعليك دين؟ فقال: هو أقضى للدّين.
وكان إذا حجّ خرج بنسائه وصبيانه كلّهم، فقيل له في ذلك، فقال:
أعرضهم على الله.
قال مالك: كنت إذا وجدت من قلبي قسوة آتي ابن المنكدر فأنظر إليه نظرة فأبغض نفسي أياما، وكان من أزهد النّاس وأعبدهم، وكان له أخوان فقيهان عابدان، أبو بكر ابن المنكدر، وعمر بن المنكدر.
وسمع محمد عائشة، وأبا هريرة، وكان بيته مأوى الصالحين ومجتمع العابدين.
وفيها توفي أبو وجزة [1] السعديّ المدنيّ يزيد بن عبيد، الذي روى عن عمير بن أبي سلمة.
ويزيد الرّشك [2] بالبصرة. روى عن مطرّف بن الشّخّير، وجماعة.
وفيها توفي يزيد بن رومان المدني. روى عن عروة، وجماعة، وقيل:
إنه قرأ على ابن عبّاس، وهو من شيوخ نافع في القراءة.
__________
[1] في الأصل: «وجرة» وهو تصحيف، وأثبت ما جاء في المطبوع، وهو الصواب.
[2] قال ابن منظور: الرّشك: اسم رجل كان عالما بالحساب، وفي «التهذيب» : اسم رجل كان يقال له: يزيد الرّشك، وكان أحسب أهل زمانه، وكان الحسن البصريّ إذا سئل عن حساب فريضة قال: علينا بيان السّهام، وعلى يزيد الرّشك الحساب، قال الأزهريّ: ما أدري الرّشك عربيا، وأراه لقبا، قال: ولا أصل له في العربية علمته. «لسان العرب» (رشك) .(2/129)
وقاضي دمشق يزيد بن عبد الرّحمن بن أبي مليك الهمدانيّ الفقيه.
أخذ عن واثلة بن الأسقع، وجماعة [1]
__________
[1] قلت: وفيها قتل شيبان بن سلمة الحروري. انظر «تاريخ الطبري» (7/ 385- 386) و «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (5/ 382- 383) ، وانظر ص (121) من هذا المجلد.(2/130)
سنة إحدى وثلاثين ومائة
فيها استولى أبو مسلم صاحب الدعوة على ممالك خراسان، وهزم الجيوش، وأقبلت سعادة [1] بني العبّاس، وولّت الدّنيا عن بني أميّة، وكان ابتداء دعوته بمرو، وذلك أن أبا مسلم واسمه عبد الرّحمن بن مسلم قام بالدعوة الهاشمية، وابتداء أمره أن أباه مسلما رأى أنه خرج من إحليله [2] نار وارتفعت في السماء، ووقعت في ناحية المشرق، فقصها على مولاه عيسى بن معقل العجلي، فقال له: يولد لك غلام يكون له شأن، فمات أبوه، ووضعته أمه، ونشأ عند عيسى بن معقل، ثم حبس عيسى وأخوه إدريس جدّ أبي دلف العجلي [3] الذي يمدح في بقايا عليهم من الخراج، فكان أبو مسلم يختلف إليهما، فوافق عندهم يوما جماعة من نقباء الإمام محمّد بن علي بن عبد الله بن عبّاس يدعون إلى بيعته سرا، فمال إليهم أبو مسلم، وسار معهم حتّى قدموا على الإمام محمّد بن عليّ بمكّة، فشكر فعلهم، وأشار إلى
__________
[1] في الأصل: «سجادة» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع، وهو الصواب.
[2] قال ابن منظور: الإحليل: مخرج البول من الإنسان ... والإحليل يقع على ذكر الرجل، وفرج المرأة. «لسان العرب» (حلل) .
[3] أبو دلف: هو القاسم بن عيسى بن إدريس بن معقل بن سيّار بن شيخ بن سيّار بن عبد العزّى بن دلف بن جشم بن قيس بن سعد بن عجل بن لجم. قاله ابن حزم في «جمهرة أنساب العرب» ص (313) وسوف ترد ترجمته في أول المجلد الثالث إن شاء الله تعالى.(2/131)
أبي مسلم [1] وقال له: أنت ممن يتحرك في دولتنا، ومات الإمام عقب [2] ذلك، وقد أوصى إلى ابنه إبراهيم، فقدمت الدّعاة على إبراهيم ومعهم أبو مسلم وهو غلام حزوّر [3] فسلّموا أبا مسلم إليه، فكان يخدمه حضرا وسفرا، ثم أرسله إلى خراسان فشهر الدّعوة وهو ابن ثماني عشرة سنة، وقيل: ابن ثلاث وثلاثين سنة، وكان يدعو إلى رجل من بني هاشم غير معين، ثم أظهر الدّعوة إلى إبراهيم [4] بن محمّد، وكان إبراهيم بحرّان فقبض عليه مروان وجعل رأسه بجراب نورة [5] وشدّ عليه، فمات غما، وهرب أخوه عبد الله السّفّاح، فتوارى بالكوفة حتّى أتته جيوش أبي مسلم من خراسان بعد وقعاته العظيمة بأمراء الأمويين، فبايعوه وسموه المهدي الوارث للإمامة.
وكان أبو مسلم معظّما يلقاه أبو ليلى القاضي فيقبّل يده، فنهي أبو ليلى، فقال: قبّل أبو عبيدة يد عمر، فقيل: شبّهته بعمر، قال: تشبّهوني بأبي عبيدة.
ومن جوده أنّه حجّ في ركبه، فأقسم أن لا يوقد غير ناره، وقام بمؤونتهم حتّى قدم مكّة، ووقف بمكّة خمسمائة وصيف يسقون النّاس في المسعى.
وآخر أمره أنه لما ولي أبو جعفر المنصور بعد أخيه السّفّاح، صدرت من أبي مسلم قضايا غيّرت قلبه عليه، ومن ذلك أنه كتب إليه كتابا فبدأ بنفسه، وخطب إليه عمته آسية، وقد كان في ابتداء دولة المنصور قام عليه
__________
[1] في المطبوع: «وأشار لأبي مسلم» .
[2] في الأصل: «عقيب» وأثبت ما في المطبوع.
[3] قال ابن منظور: الحزوّر: الغلام الذي قد شبّ وقوي ... والجمع حزاور وحزاورة. «لسان العرب» (حزر) .
[4] في المطبوع: «ثم أظهر الدعوة لإبراهيم» .
[5] الجراب: الوعاء، والنّورة الحجر الذي يحرق ويسوى منه الكلس. انظر «لسان العرب» (جرب) و (نور) .(2/132)
ابن أخيه ابن السّفّاح عبد الله، فجهّز إليه أبو جعفر أبا مسلم فهزمه وقبض خزانته وما معه، فكتب إليه أبو جعفر المنصور: احتفظ بما في يديك ولا تضيّعه، فشق ذلك على أبي مسلم وعزم على خلع المنصور، ثم إن المنصور استعطفه ومناه وحفظها له، وقال: لمسلم بن قتيبة الباهليّ: ما ترى في أبي مسلم؟ فقال: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا الله لَفَسَدَتا 21: 22 [الأنبياء: 22] . فقال:
حسبك لأذن واعية.
قيل: وقد كان قيل لأبي مسلم، أو رؤي له في الملاحم أنه يميت دولة ويحيي دولة، ويقتل بأرض الرّوم، وكان المنصور برومية، التي بناها الإسكندر ذو القرنين بمدائن كسرى [1] لما طاف الأرض، ولم يجد المنصور برومية منزلا سوى المدائن، فنزلها وبنى فيها رومية، وقدم أبو مسلم من حجّه على المنصور برومية، ولم يخطر بباله أنها مقتله، بل ذهب ذهنه إلى بلاد الرّوم، فدسّ المنصور جماعة خلف سريره وقال لهم: إذا دخل وعاتبته وضربت يدا على يد فأظهروا له واضربوا عنقه، ففعلوا، وأنشد حين رآه طريحا:
زعمت أنّ الكيل لا ينقضي [2] ... فاستوف بالكيل أبا مجرم
اشرب بكأس كنت تسقي بها ... أمرّ في الحلق من العلقم
واختلف في نسب أبي مسلم، فقيل: من العرب، وقيل: من العجم، وقيل: من الأكراد، وفي ذلك يقول أبو دلامة [3] :
أبا مجرم ما غيّر الله نعمة ... على عبده حتّى يغيّرها العبد
__________
[1] قلت: وهي اليوم في العراق. انظر «الروض المعطار» للحميري ص (276- 277) .
[2] في «وفيات الأعيان» لابن خلّكان (3/ 154) : «زعمت أنّ الدّين لا يقتضى» .
[3] هو زند بن الجون الأسدي، المتوفى سنة (161) هـ. انظر ترجمته في ص (273- 274) من هذا المجلد.(2/133)
أفي دولة المنصور حاولت غدرة ... ألا إنّ أهل الغدر آباؤك الكرد
أبا مسلم خوّفتني القتل فانتحى ... عليك بما خوّفتني الأسد الورد
وكان يدعي هو أنه ابن سليط بن علي بن عبد الله بن عبّاس.
وقال الكتبيّ في «غرر الخصائص» : قتل أبو مسلم ستمائة ألف.
انتهى.
وكان قتل المنصور له في سنة سبع وثلاثين ومائة.
وفي سنة إحدى وثلاثين مات الزّاهد المشهور فرقد السّبخيّ البصريّ.
حدّث عن أنس وجماعة، وفيه ضعف.
قال الذهبيّ في «المغني» [1] : فرقد السّبخي أبو يعقوب. [قال البخاريّ:
في حديثه مناكير. وقال يحيى القطّان: ما تعجبني الرّواية عنه عن سعيد بن جبير] [2] . وثقه يحيى بن معين، وقال أحمد: ليس بالقوي. انتهى.
ومنصور بن زاذان البصري، زاهد البصرة وشيخها. روى عن أنس، وجماعة، وكان يصلي من بكرة إلى العصر، ثم يسبّح إلى المغرب.
وفيها قتل أبو مسلم الخراسانيّ إبراهيم بن ميمون الصائغ ظلما. روى عن عطاء ونافع.
وفيها توفي بالبصرة إسحاق بن سويد التميمي. روى عن ابن عمر، وجماعة.
وإسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر الدّمشقيّ، مؤدّب أولاد عبد الملك بن مروان، وكان زاهدا، عابدا، روى عن أنس، وطائفة.
__________
[1] انظر «المغني في الضعفاء» (2/ 509- 510) .
[2] ما بين حاصرتين سقط من «المغني» المطبوع بتحقيق الدكتور نور الدّين عتر، فيستدرك فيه.(2/134)
وفيها فقيه أهل البصرة أيوب السّختياني، أحد الأعلام، كان من صغار التابعين.
قال شعبة: كان سيّد الفقهاء.
وقال ابن عيينة: لم ألق مثله.
وقال حمّاد بن زيد: كان أفضل من جالسته وأشدّه اتباعا للسّنّة.
وقال ابن المديني: له نحو ثمانمائة حديث.
وقال ابن ناصر الدّين: هو أيوب بن أبي تميمة كيسان أبو بكر السّختيانيّ البصريّ، كان سيّد العلماء وعلم الحفّاظ، ثبتا في الأيقاظ [1] . انتهى.
وفيها الزّبير بن عديّ، قاضي الرّيّ. يروي عن أنس وجماعة.
وسميّ مولى أبي بكر بن عبد الرّحمن بن الحارث المخزوميّ المدنيّ، لقي كبار التابعين.
وفيها أبو الزّناد عبد الله بن ذكوان، مولى رملة بنت شيبة بن ربيعة، وكانت رملة تحت عثمان بن عفّان، وكان أبو الزّناد يكنى أبا عبد الرّحمن، فغلب عليه أبو الزّناد.
وعن الأصمعيّ عن أبي الزّناد أنه قال: أصلنا من همدان، وكان عمر ابن عبد العزيز ولّاه خراج العراق مع عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطّاب، ومات أبو الزّناد فجأة في مغتسله في شهر رمضان وهو ابن ست وستين سنة.
وكان فقيها أحد علماء المدينة، لقي عبد الله بن جعفر، وأنسا.
__________
[1] في الأصل: «في الإيقاظ» وأثبت ما في المطبوع.(2/135)
قال اللّيث: رأيت أبا الزّناد وخلفه ثلاثمائة تابع، من طالب علم، وفقه، وشعر، وصنوف، ثم لم يلبث أن بقي وحده، وأقبلوا على ربيعة [1] .
قال أبو حنيفة: كان أبو الزّناد أفقه من ربيعة.
وفيها عبد الله بن أبي نجيح المكّيّ المفسّر صاحب مجاهد. كان مولى لبني مخزوم، ويكنى أبا يسار. وكان يقول بالقدر.
قال الذّهبيّ في «المغني» [2] : عبد الله بن أبي نجيح المكّيّ المفسّر ثقة. قال القطّان: لم يسمع التفسير كله من مجاهد، بل كله عن القاسم بن أبي بزّة، وقد كره الجوزجانيّ فيمن رمي بالقدر، هو، وزكريّا بن إسحاق، وعبد الحميد بن جعفر، وإبراهيم بن نافع، وابن إسحاق، وعمر بن أبي زائدة، وشبل بن عبّاد، وابن أبي ذئب، وسيف بن سليمان. انتهى.
وفيها محمّد بن جحادة الكوفيّ. يروي عن أنس، وطائفة. توفي في رمضان.
وهمّام بن منبّه اليماني صاحب أبي هريرة. وكان من أبناء المائة.
قال أحمد: كان يغزو، فجالس أبا هريرة. وكان يشتري الكتب لأخيه وهب.
وفيها واصل بن عطاء المعتزليّ المتكلّم، كان ألثغ يبدل الراء غينا، وكان يخلص كلامه بحيث لا تسمع منه الرّاء، حتّى يظن خواص جلسائه أنه غير ألثغ، حتّى يقال: إنه دفعت إليه رقعة مضمونها: أمر أمير الأمراء الكرام أن
__________
[1] يعني ربيعة بن فروخ التيمي المدني، أبو عثمان، المعروف بربيعة الرأي. انظر ص (159) من هذا المجلد.
[2] (1/ 360) .(2/136)
يحفر بئر على قارعة الطريق فيشرب منه الصّادر والوارد، فقرأ على الفور:
حكم حاكم الحكام الفخام أن ينبش جب على جادة الممشى، فيسقى منه الصّادي والغادي، فغيّر كل لفظ برديفه، وهذا من عجيب الاقتدار. وقد أشارت الشعراء إلى عدم [1] تكلمه بالرّاء، من ذلك قول بعضهم:
نعم تجنّب، لا، يوم العطاء كما ... تجنّب ابن عطاء لفظة الرّاء
ولما قالت الخوارج بتكفير أهل الكبائر، وقالت أهل السّنّة بفسقهم، قال واصل بن عطاء: لا مؤمنون ولا كفار، فطرده الحسن عن مجلسه، وصار له شيعة.
قال السيد الشريف في «التعريفات» : الواصليّة: أصحاب أبي حذيفة واصل بن عطاء، قالوا بنفي القدرة عن الله تعالى وتقدس، وبإسناد القدرة إلى العباد. انتهى.
__________
[1] تحرفت في الأصل إلى «بعدم» وأثبت ما في المطبوع.(2/137)
سنة اثنتين وثلاثين ومائة
فيها ابتداء دولة العباسيين، وبويع أبو العبّاس السّفّاح عبد الله بن محمّد بن علي بن عبد الله بن عبّاس بالكوفة، وجهّز عمه عبد الله بن علي لمحاربة مروان ابن محمّد الجعدي، فزحف مروان إليه في مائة ألف، إلى أن نزل بالزّاب [1] دون الموصل، فالتقوا في جمادى الآخرة، فانكسر مروان، واستولى عبد الله بن علي على الجزيرة، وطلب الشام، وهرب مروان إلى مصر، فأتبعهم [2] أيضا، فأدركهم بفلسطين، فأوقع بهم بضعا وثمانين رجلا، ثم عبر مروان النيل طالبا الحبشة، فلحقه صالح بن علي عمّ السّفّاح، فأدركه بقرية من قرى الفيّوم من أرض مصر يقال لها بوصير [3] فوافاه صائما وقد قدّم له الفطور، فسمع الصائح، فخرج وسيفه مصلت، فجعل يضرب بسيفه ويتمثل بقول الحجّاج بن حكيم:
متقلّدين صفائحا هنديّة ... يتركن من ضربوا كأن لم يولد
__________
[1] نهر يسمى الزّاب الأعلى، وهو بين الموصل وإربل. انظر «معجم البلدان» لياقوت (3/ 123- 124) .
[2] في المطبوع: «فأنبعهم» وهو تصحيف.
[3] في الأصل: «بوصيري» وهو خطأ، وأثبت ما جاء في المطبوع، وهو الصواب، انظر خبرها في «معجم البلدان» لياقوت (1/ 509) .(2/138)
وإذا دعوتهم [1] ليوم كريهة ... وافوك بين مكبّر وموحّد
فقصدته الخيول من كل جانب، وقتلوه، وكان أهله وبناته في كنيسة هناك، فأقبل خادمه بالسيف مصلتا يريد الدخول عليهم، فأخذ وسئل عن مراده، فقال: إن مروان أمرني إذا تيقّنت موته أن أضرب رقاب نسائه وبناته، فأرادوا قتله، فقال: إن قتلتموني لتفقدن ميراث رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- قالوا: فدلنا على ذلك إن كنت صادقا، فخرج بهم إلى رمل هناك، فكشفوه فإذا فيه القضيب، والبرد، والقعب [2] والمصحف [3] فأخذوه، وكان الذي تولى قتله عامر بن إسماعيل الخراساني، وهو صاحب مقدمة صالح، ولما قتله دخل بيته، وركب سريره، ودعا بعشائه، وجعل رأس مروان في حجر ابنته، وأقبل يوبّخها، فقالت له: يا عامر، إن دهرا أنزل مروان عن فراشه وأقعدك عليه حتّى تعشيت عشاءه، لقد أبلغ في موعظتك، وعمل في إيقاظك وتنبيهك إن عقلت وفكرت، ثم قالت: وا أبتاه، وا أمير المؤمنيناه، فأخذ عامرا الرّعب من كلامها، وبلغ ذلك أبا العبّاس السّفّاح، فكتب إلى عامر يوبّخه ويقول: أما في أدب الله ما يخرجك عن عشاء مروان والجلوس على مهاده.
وقتل مروان وله تسع وخمسون سنة، وقيل: سبع وستون، وإمارته خمس سنين وتسعة أشهر وأيام.
وقتل معه أخ لعمر بن عبد العزيز، كان أحد الفرسان، وكان مروان بطلا، شجاعا، ظالما، أبيض، ضخم الهامة، ربعة، أشهل العين، كثّ اللحية، أسرع إليه الشيب، ذكره المنصور مرّة فقال: لله درّه ما كان أحزمه، وأسوسه، وأعفّه عن الفيء. قاله في «العبر» [4] .
__________
[1] في الأصل: «وإذ دعوتهم» .
[2] القعب: القدح الضخم. انظر «لسان العرب» (قعب) .
[3] في «مروج الذهب» (3/ 262) : «فإذا البرد، والقضيب، ومحصر» .
[4] لم أجد هذا النقل في «العبر» المطبوع.(2/139)
وسار أولاد مروان وشيعتهم على شاطئ النيل إلى أن دخلوا أرض النّوبة، فأخرجهم ملكها، ثم ساروا حتّى توسطوا أرض البجاء [1] ميممين [2] ناصع [3] من ساحل بحر القلزم [4] ولهم حروب مع من مرّوا به.
وهلك عبيد الله بن مروان في غده قتلا وعطشا، وخرج أخوه عبد الله فيمن بقي إلى ساحل المندب [5] بناصع وأرض البجاء [6] وقطعوا البحر إلى جدّة، فظفر به وأودع السّجن إلى أيام الرّشيد وهلك.
وروي أن عبد الله هذا حدّث أبا جعفر المنصور بما جرى له مع ملك النّوبة، وملخص القصة على ما ذكره صاحب «العقد الفريد» [7] : ذكر سليمان بن جعفر قال: كنت واقفا على رأس المنصور ليلة وعنده جماعة فتذاكروا [8] زوال ملك بني أميّة، فقال بعضهم: يا أمير المؤمنين في حبسك عبد الله بن مروان بن محمّد، وقد كانت له قصة عجيبة مع ملك النّوبة، فابعث إليه فاسأله عنها، فقال المنصور: يا مسيّب عليّ به، فأخرج وهو مقيّد بقيد ثقيل، وغلّ ثقيل، فمثل بين يديه وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال له المنصور: يا عبد الله، إن ردّ السّلام أمن ولم تسمح لك نفسي بذلك بعد، ولكن اقعد، فجاؤوه بوسادة فقعد عليها، فقال
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «أرض البجة» وهو خطأ، والتصحيح من «معجم البلدان» لياقوت (4/ 388) وفيه قال: والبجّاء قوم سود أشد سوادا من الحبشة.
[2] في الأصل: «متيممين» وأثبت ما في المطبوع.
[3] قال ياقوت: ناصع من بلاد الحبشة. «معجم البلدان» (5/ 251) .
[4] قلت: ويعرف الآن بالبحر الأحمر.
[5] في الأصل، والمطبوع: «ساحل المعدن» وهو خطأ، والتصحيح من «العقد الفريد» لابن عبد ربه (5/ 215) طبع دار الكتب العلمية. وانظر «معجم البلدان» لياقوت (5/ 209) .
[6] في الأصل، والمطبوع: «أرض البجة» والتصحيح من «معجم البلدان» لياقوت (4/ 388) .
[7] «العقد الفريد» (5/ 217- 218) طبع دار الكتب العلمية.
[8] في الأصل: «فتذكروا» وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.(2/140)
له: بلغني أنه كانت لك قصة عجيبة مع ملك النّوبة فما هي؟ قال: يا أمير المؤمنين والذي أكرمك بالخلافة ما أقدر على النّفس من ثقل الحديد، ولقد صدئ قيدي من رشاش البول، وأصب عليه الماء في أوقات الصلوات، فقال المنصور: يا مسيّب أطلق عنه حديده، فلما أطلقه قال: يا أمير المؤمنين لما قصد عبد الله بن علي عمّ أمير المؤمنين إلينا، كنت أنا المطلوب أكثر من الجماعة كلّهم، لأني كنت ولي عهد أبي من بعده، فدخلت إلى خزانة لنا فاستخرجت منها عشرة آلاف دينار، ثم دعوت عشرة من الغلمان، وحمّلت كل واحد على دابة ودفعت إليه ألف دينار، وأوقرت خمسة أبغل ما نحتاجه، وشددت على وسطي جوهرا له قيمة مع شيء من الذّهب، وخرجت هاربا إلى بلد النّوبة، فسرت فيها ثلاثا، فوقعت على مدينة خراب، فأمرت الغلمان فكسحوا [1] منها ما كان قذرا، ثم فرشوا بعض تلك الفرش، ودعوت غلاما لي كنت أثق به وبعقله، فقلت: انطلق إلى الملك وأقرئه عني السّلام، وخذ لي الأمان، وابتع لي ميرة [2] قال: فمضى وأبطأ عني حتّى سؤت ظنا، ثم أقبل ومعه رجل آخر، فلما دخل قعد بين يديّ وقال لي: الملك يقرأ عليك السّلام ويقول لك: من أنت؟ وما جاء بك إلى بلادي؟ أمحارب لي؟ أم راغب إليّ؟ أم مستجير بي؟ فقلت: ترد على الملك السّلام وتقول له: أمّا محارب لك فمعاذ الله، وأما راغب في دينك فما كنت لأبغي بديني بدلا، وأما مستجير بك فلعمري. قال: فذهب ثم رجع إليّ وقال: الملك يقرأ عليك السّلام ويقول لك: أنا صائر إليك غدا، فلا تحدثن في نفسك حدثا، ولا تتخذ شيئا من ميرة فإنها تأتيك وما تحتاج إليه، فأقبلت الميرة، فأمرت غلماني يفرشون تلك الفرش، وأمرت بفرش نصب له ولي مثله، وأقبلت من
__________
[1] قال ابن منظور: الكسح: الكنس، كسح البيت والبئر يكسحه كسحا: كنسه، والمكسحة:
المكنسة. «لسان العرب» (كسح) .
[2] الميرة: الطعام. انظر «مختار الصحاح» ص (640) .(2/141)
غد أرقب مجيئه، فبينا أنا كذلك إذ أقبل غلماني وقالوا: إن الملك قد أقبل، فقمت بين شرفتين من شرف القصر أنظر إليه، فإذا رجل قد لبس بردتين، اتّزر بواحدة [1] وارتدى بالأخرى، حاف راجل، وإذا عشرة معهم الحراب، ثلاثة يقدمونه، وسبعة خلفه، وإذا الرّجل لا يعبأ به، فاستصغرت أمره، وهان عليّ لما رأيته في تلك الحال، فلما قرب من الدّار إذا أنا بسواد عظيم، فقلت:
ما هذا؟ قيل: الخيل، وإذا بها تزيد على عشرة آلاف عنان، فكانت موافاة الخيل إلى الدّار وقت دخوله، فدخل إليّ وقال لترجمانه: أين الرّجل؟ فلما نظر إليّ وثبت إليه، فأعظم ذلك، وأخذ بيدي فقبّلها ووضعها على صدره، وجعل يدفع البساط برجله، فظننت أن ذلك شيئا يجهلونه أن يطأوا على مثله، حتّى انتهى الفرش، فقلت لترجمانه: سبحان الله لم لا يقعد على الموضع الذي وطئ له؟ فقال: قل له: إني ملك وحقّ على كل ملك أن يكون متواضعا لعظمة الله سبحانه إذ رفعه، ثم أقبل ينكت [2] بإصبعه في الأرض طويلا، ثم رفع رأسه فقال لي: كيف سلبت نعمتكم وزال عنكم هذا الملك وأخذ منكم وأنتم أقرب إلى نبيكم من النّاس جميعا؟ فقلت: جاء من هو أقرب قرابة إلى نبينا- صلّى الله عليه وسلّم- فسلبنا، وطردنا، وقاتلنا، فخرجت إليك مستجيرا بالله ثم بك.
قال: فلم كنتم تشربون الخمر وهو محرّم عليكم في كتابكم؟ فقلت:
فعل ذلك عبيد وأتباع وأعاجم دخلوا في ملكنا بغير رأينا.
قال: فلم كنتم تركبون على دوابكم بمراكب الذّهب، والفضة، والدّيباج، وقد حرّم عليكم ذلك؟ قلت: عبيد وأتباع وأعاجم دخلوا مملكتنا ففعلوا.
__________
[1] في المطبوع: «اتزر بإحداهما» .
[2] في المطبوع: «ينكث» وهو تصحيف. قال ابن منظور: النكت: أن تنكت بقضيب في الأرض فتؤثر بطرفه فيها. «لسان العرب» (نكت) .(2/142)
قال: فلم كنتم أنتم إذا خرجتم إلى صيدكم تقحّمتم على القرى وكلّفتم أهلها ما لا طاقة لهم به بالضرب الموجع، ثم لا يقنعكم ذلك حتّى تمشوا في زروعهم فتفسدوها في طلب درّاج [1] قيمته نصف درهم، أو عصفور قيمته لا شيء، والفساد محرّم عليكم في دينكم؟ فقلت: عبيد وأتباع. قال: لا، ولكنكم استحللتم ما حرّم الله وفعلتم ما نهاكم عنه، وأحببتم الظلم وكرهتم العدل، فسلبكم الله- عزّ وجل- العزّ وألبسكم الذّلّ، ولله فيكم نقمة لم تبلغ غايتها بعد، وإني أتخوّف عليكم أن تنزل النقمة بك إذ كنت من الظلمة فتشملني معك، فإنّ النقمة إذا نزلت عمّت، والبلية إذا حلّت شملت، فاخرج عني بعد ثلاثة أيام من أرضي، فإني إن وجدتك بعدها أخذت جميع ما معك وقتلتك وقتلت جميع من معك، ثم وثب وخرج، فأقمت ثلاثا وخرجت إلى مصر، فأخذني وإليك وبعث بي إليك، وها أنا الآن بين يديك والموت أحبّ إليّ من الحياة. فهمّ المنصور بإطلاقه، فقال له إسماعيل بن عليّ: في عنقي بيعة له، قال: فماذا ترى؟ قال: يترك في دار من دورنا ونجري عليه ما يليق به، ففعل ذلك به. انتهى.
قال ابن الأهدل: وهرب عبد الرّحمن بن معاوية بن هاشم بن عبد الملك وكثيرون من بني أميّة إلى المغرب، واستولى على بلاد الأندلس ومخاليفها [2] وورثها بنوه بطنا بعد بطن، واستأمن سليمان بن هشام وابناه في نحو ثمانين رجلا من بني أميّة، فأمّنهم السّفّاح حتّى قدم عليه السديف بن
__________
[1] الدّرّاج، والدّرّاجة: ضرب من الطير ذكرا كان أو أنثى. انظر «مختار الصحاح» ص (202) .
[2] في الأصل: «ومخالفيها» وهو خطأ، وأثبت ما جاء في المطبوع، وهو الصواب. قال ابن منظور: المخلاف: الكورة يقدم عليها الإنسان، وهو عند أهل اليمن واحد المخاليف، وهي كورها، ولكل مخلاف منها اسم يعرف به، وهي كالرّستاق، قال ابن بري: المخاليف لأهل اليمن كالأجناد لأهل الشام، والكور لأهل العراق، والرّساتيق لأهل الجبال، والطّساسيج لأهل الأهواز. «لسان العرب» (خلف) .(2/143)
ميمون [1] مولى زين العابدين، فأنشده:
ظهر الحقّ واستبان مضيّا ... إذ رأينا الخليفة المهديّا
إلى قوله:
قد أتتك الوفود من عبد شمس ... مستكينين قد أجادوا المطيّا
فاردد العذر وامض بالسّيف حتّى ... لا تدع فوق ظهرها أمويّا
وأنشده أيضا:
علام وفيم تترك عبد شمس ... لها في كلّ راعية ثغاء [2]
أمير المؤمنين أبح دماهم ... فإن تفعل فعادتك المضاء
وأنشده أيضا:
أصبح الملك ثابت الأساس ... بالبهاليل [3] من بني العبّاس
إلى قوله:
فلهم أظهر المودّة منهم ... وبهم منكم كحدّ المواسي
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «الشديف بن ميمون» وهو تصحيف، والتصحيح من «الأغاني» (6/ 135) ، و «الشعر والشعراء» ص (479) ط ليدن. قال أبو الفرج: هو سديف بن ميمون مولى خزاعة، وكان سبب ادعائه ولاء بني هاشم أنه تزوج مولاة أبي لهب، فادعى ولاءهم، ودخل في جملة مواليهم على الأيام. وقيل: بل أبوه هو كان المتزوج مولاة اللهبيّين، فولدت منه سديفا، فلما يفع، وقال الشعر، وعرف بالبيان وحسن العارضة، ادعى الولاء في موالي أبيه، فغلبوا عليه. وسديف شاعر، مقل من شعراء الحجاز، ومن مخضرمي الدولتين، وكان شديد التعصب لبني هاشم، مظهرا ذلك في أيام بني أميّة. وانظر تتمة كلامه فيه.
[2] الثغاء: صوت الشاة والمعز وما شاكلهما. انظر «مختار الصحاح» ص (84) .
[3] في الأصل: «بالتهاليل» وهو تصحيف، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.(2/144)
فلما سمع السّفّاح ذلك أمر بقتل جميعهم، وأجاز السديف [1] بألف دينار، ثم قال المنصور: كأني بك يا سديف [1] قد قدمت المدينة فقلت لعبد الله بن الحسن: يا ابن رسول الله، إنما نداهن بني العبّاس لأجل عطاياهم، نقوّم بها أودنا، وأقسم بالله لئن فعلت لأقتلنك، ففعل السديف [1] ذلك، وانتهى خبره إليه، فلما تمكن منه ضربه حتّى مات. انتهى ما قاله ابن الأهدل.
وقال في «العبر» [2] : لما استولى عبد الله بن عليّ على الجزيرة وطلب الشام، فهرب مروان إلى مصر وخذل وانقضت أيّامه. نزل عبد الله على دمشق فحاصرها وبها ابن عمّ مروان الوليد بن معاوية بن مروان، فأخذت بالسيف.
وقتل بها من الأمويين عدّة آلاف. منهم أميرها الوليد، وسليمان بن هشام بن عبد الملك، وسليمان بن يزيد بن عبد الملك، وزرعة بن إبراهيم.
قال في «المغني» [3] : زرعة بن إبراهيم، عن عطاء. قال أبو حاتم الرّازي: ليس بالقوي. انتهى.
وفيها- أي سنة اثنتين وثلاثين ومائة- توفي عبد الله بن طاووس بن كيسان اليمانيّ النحويّ. روى عن أبيه وغيره.
قال معمر: كان من أعلم النّاس بالعربيّة وأحسنهم خلقا، وما رأيت ابن فقيه مثله.
ودخل مع مالك على المنصور فقال: حدّثني عن أبيك. قال: حدّثني
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «الشديف» وهو تصحيف، والتصحيح من «الأغاني» (16/ 135) و «الشعر والشعراء» ص (479) .
[2] (1/ 174- 175) والمؤلف ينقل عنه بتصرف.
[3] (1/ 238) .(2/145)
أبي أن أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة رجل أشركه الله في سلطانه فأدخل عليه الجور في حكمه، فأمسك المنصور. قال مالك: فضممت ثيابي خوفا أن يصيبني دمه. ثم قال له: ناولني الدواة، فلم يفعل، فقال: لم لا تناولني؟
فقال: أخاف أن تكتب بها معصية. قال: قوما عني. قال: ذلك ما كنا نبغي.
قال مالك: فما زلت أعرف فضله.
وفيها بالمدينة [1] إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاريّ الفقيه.
كان مالك لا يقدّم عليه أحدا لنبله عنده.
وإبراهيم بن ميسرة الطائفيّ صاحب أنس.
قال ابن عيينة: أخبرنا إبراهيم بن ميسرة، من لم تر عيناك والله مثله.
وفيها قتل خالد بن سلمة بن العاص المخزوميّ الكوفيّ. وكان قد هرب إلى واسط مع يزيد بن عمر بن هبيرة، فقتله بنو العبّاس.
وفيها توفي سالم الأفطس الحرّانيّ الفقيه مولى بني أميّة. روى عن سعيد بن جبير، وجماعة. قتله عبد الله بن عليّ.
قال في «المغني» [2] سالم الأفطس، هو ابن عجلان، تابعيّ مشهور، وثّقه بعضهم، وخرّج له البخاريّ.
قال الفسويّ: مرجئ معاند.
وقال ابن حبّان: يتفرد بالمعضلات. انتهى.
وممن قتل في هذه السنة عمر بن أبي سلمة بن عبد الرّحمن بن عوف الزّهري.
__________
[1] لفظة «بالمدينة» سقطت من المطبوع.
[2] يعني «المغني في الضعفاء» (1/ 251) .(2/146)
وفيها توفي أبو عبد الله صفوان بن سليم المدنيّ الفقيه القدوة. روى عن ابن عمر، وجابر، وعدّة.
قال أحمد بن حنبل: ثقة من خيار عباد الله، يستنزل بذكره القطر.
وفيها عبد الله بن عثمان بن خثيم [1] المكيّ. روى عن أبي الطّفيل وعدّة.
قال في «المغني» [2] : وثقه ابن معين مرّة، ومرّة قال: ليس بالقويّ [3] .
انتهى.
وفيها أبو عتّاب منصور بن المعتمر السّلميّ الكوفيّ الحافظ، أحد الأعلام، أخذ عن أبي وائل وكبار التابعين. وقال: ما كتبت حديثا قطّ.
وكان أحفظ أهل الكوفة، صام أربعين سنة وقامها، وعمي من البكاء، وأكره على القضاء- أي قضاء الكوفة- وقضى شهرين، وتوفي بالمدينة.
قال في «العبر» [4] : يقال فيه يسير تشيّع. انتهى.
وفيها قتل بجامع دمشق، في أخذها، يونس بن ميسرة [5] بن حلبس المقرئ الأعمى وله مائة وعشرون سنة. روى عن معاوية والكبار، وكان موصوفا بالفضل والزّهد، كبير القدر.
__________
[1] في المطبوع، و «العبر» للذهبي (1/ 176) : «عبد الله بن عثمان خيثم» وهو خطأ.
[2] (1/ 346- 347) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «ومرة قال: لا أعرفه» وهو خطأ، فإنه قال ذلك في «عبد الله ابن عثمان بن سعد» والتصحيح من «المغني» (1/ 347) .
[4] (1/ 177) .
[5] في الأصل، والمطبوع: «يوسف بن ميسرة» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 177) .(2/147)
وقتل بنهر أبي فطرس [1] من الأردن، الأمير محمّد بن عبد الملك بن مروان الأموي، وله رواية عن أبيه.
وفي ذي القعدة قتل الأمير أبو خالد يزيد بن عمر [2] بن هبيرة الفزاريّ، أمير العراقين لمروان، وله خمس وأربعون سنة، وهو آخر من جمع له العراقان، وكان شهما، طويلا، شجاعا، خطيبا، مفوّها، جوادا، مفرط الأكل، ولما تواقع هو وبنو العبّاس هرب إلى واسط، فحاصروه بها وثبت معه معن بن زائدة الشّيباني، وكان أبو جعفر المنصور أخو السّفّاح يعيّره فيقول:
ابن هبيرة يخندق على نفسه كالنساء، فأرسل إليه ابن هبيرة أن ابرز إليّ، فقال المنصور: خنزير قال لأسد: ابرز إليّ، فقال الأسد: ما أنت بكفء لي.
قال الخنزير: لأعرّفنّ السباع أنك جبنت. فقال الأسد: احتمال ذلك أيسر من تلطّخ براثني بدمك. ثم أمّنه المنصور وغدر به. وقال: لا يعزّ ملك وأنت فيه.
وكان رزق ابن هبيرة في كل سنة ستمائة ألف. وكان يأكل في يومه خمس أكلات عظام، وقتل وهو ساجد.
وفيها كانت وقعة المسناة، فقتل الأمير قحطبة بن شبيب الطائي المروزيّ، أحد دعاة بني العبّاس، وتأمّر على الجيش في الحال ولده.
وفيها قتل سليمان بن كثير الخزاعيّ المروزيّ الأمير، أحد نقباء بني العبّاس، قتله أبو مسلم الخراسانيّ.
وفي ذي الحجّة قتل بمصر عبيد الله بن أبي جعفر الليثيّ مولاهم
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «بنهر أبي قطرس» وهو تصحيف، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 177) .
وقال الفيروزآبادي في «القاموس المحيط» (2/ 246) : فطرس بالضم رجل، ومنه نهر فطرس، ويقال: أبي فطرس، قرب الرّملة، مخرجه من جبل قرب نابلس.
[2] في الأصل: «يزيد بن عمرو» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.(2/148)
المصريّ الفقيه، أحد العلماء والزّهّاد. ولد سنة ستين.
قال محمد بن سعد: كان ثقة بقيّة في زمانه [1] .
قال ابن ناصر الدّين: من حكم كلامه: إذا حدّث المرء فأعجبه الحديث فليمسك وإذا كان ساكتا [2] فأعجبه السكوت فليتحدث. انتهى.
__________
[1] في الأصل: «فقيه في زمانه» وأثبت ما في المطبوع وهو موافق لما في «العبر» للذهبي (1/ 178) مصدر المؤلف في نقله، و «الطبقات الكبرى» لابن سعد (7/ 514) مصدر الحافظ الذهبي في «العبر» ، و «تهذيب الكمال» للمزي (2/ 875) مصورة دار المأمون للتراث بدمشق.
[2] في المطبوع: «وإن كان ساكتا» .(2/149)
سنة ثلاث وثلاثين ومائة
فيها نازل طاغية الرّوم أليون بن قسطنطين ملطية [1] وألح [2] عليهم بالقتال حتّى سلّموها بالأمان، فهدم المدينة والجامع، ووجّه مع المسلمين عسكرا حتّى يبلّغوهم مأمنهم [3] .
وفيها بعث أبو مسلم الخراساني مرارا الضبّي [4] ، فقتل الوزير أبا سلمة [5] الخلّال حفص بن سليمان السّبيعيّ مولاهم الكوفي وزير آل محمّد، وفيه قيل: هذا البيت.
إنّ الوزير وزير آل محمّد ... أودى فمن يشناك [6] كان وزيرا
__________
[1] ملطية: مدينة تقع الآن في الجنوب الأوسط لتركيا المعاصرة، خرج منها عدد من الرّواة، منهم: محمد بن علي بن أحمد بن أبي فروة الملطي أبو الحسين المقرئ المتوفى سنة (404 هـ) ، وسليمان بن أحمد بن يحيى بن سليمان بن أبي صلابة الملطي أبو أيوب الحافظ. انظر «معجم البلدان» لياقوت (5/ 192- 193) .
[2] في الأصل: «وألج» وهو تصحيف، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[3] تحرفت في الأصل إلى «بأبنهم» وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[4] هو مرار بن أنس الضبي، كما في «البداية والنهاية» لابن كثير (10/ 54) .
[5] في الأصل والمطبوع: «أبا مسلم» وهو خطأ، والتصويب من «البداية» (10/ 54) و «الأعلام» (2/ 263) (ع) .
[6] في الأصل والمطبوع: «سناك» وأثبت ما في «العبر» (1/ 179) .(2/150)
وفيها توفي أيّوب بن موسى بن الأشدق عمرو بن سعيد [1] الأمويّ المكيّ الفقيه.
روى عن عطاء ومكحول.
قال في «المغني» [2] : عن بعض التابعين مجهول [3] . انتهى.
وقد خرّج له أبو داود.
ومات بمكّة الأمير داود بن علي بن عبد الله بن عبّاس. وكان فصيحا مفوّها، ولي إمرة المدينة. وروى [عن] [4] جماعة أحاديث، قاله في «العبر» [5] .
وفيها، وقيل: في سنة خمس سعيد بن أبي هلال اللّيثيّ مولاهم المصريّ. يروي عن التابعين.
وعمّار الدّهنيّ-[نسبة إلى] دهن بن معاوية من بجيلة- أبو معاوية الكوفيّ. روى عن أبي الطّفيل، وعدّة.
وعيّاش بن عبّاس [6] القتبانيّ المصريّ. روى عن التابعين.
ومغيرة بن مقسم الضبّيّ، مولاهم الكوفيّ الفقيه الأعمى أحد الأئمة.
روى عن أبي وائل وطبقته.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «عمر بن سعيد» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 179) .
[2] (1/ 98) .
[3] أقول: بل هو ثقة، وروى له أصحاب الكتب الستة. انظر «تقريب التهذيب» للحافظ ابن حجر (1/ 91) (ع) .
[4] لفظة «عن» سقطت من الأصل، والمطبوع، واستدركتها من «العبر» للذهبي.
[5] (1/ 179) .
[6] في الأصل: «عيّاش بن عيّاش» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.(2/151)
قال شعبة: كان أحفظ من حمّاد بن أبي سليمان.
وقال مغيرة: ما وقع في مسامعي شيء فنسيته.
وقال أحمد بن حنبل: كان ذكيا، حافظا، صاحب سنّة.
وفيها، أو في التي قبلها، توفي سيّد أهل دمشق يحيى بن يحيى بن قيس الغسّانيّ، ولي قضاء الموصل لعمر بن عبد العزيز، وأخذ عن أبي إدريس الخولاني وغيره، وكان ثقة، إماما، ولا رواية له في الكتب الستة [1] .
__________
[1] قلت: كذا في الأصل، والمطبوع: و «العبر» للذهبي (1/ 180) . ولكن ذكر الحافظ الذهبي في «الكاشف» (3/ 238) أنه في عداد من أخرج له أبو داود، وكذلك الحافظ ابن حجر في «تهذيب التهذيب» (11/ 299) .(2/152)
سنة أربع وثلاثين ومائة
فيها تحول الخليفة السّفّاح عن الكوفة فنزل [1] الأنبار.
وفيها توفي بالبصرة أبو هارون العبديّ [2] صاحب أبي سعيد الخدريّ، أحد الضعفاء.
قال حمّاد بن زيد: هو كذّاب [3] .
والفقيه يزيد بن يزيد بن جابر الأزديّ الدّمشقيّ. روى عن مكحول وطائفة.
قال أبو داود: أجازه الوليد مرّة بخمسين ألف دينار. وذكر للقضاء فإذا هو أكبر من القضاء. قاله في «العبر» [4] .
وعن ابن عيينة قال: لا أعلم مكحولا خلّف بالشام مثل يزيد بن يزيد الإمام.
وقال في «المغني» [5] : يزيد بن يزيد بن جابر، صدوق مشهور، لينه ابن قانع. انتهى.
__________
[1] في المطبوع: «ونزل» .
[2] هو عمارة بن جوين العبدي، تابعي ضعيف. قاله الذهبي في «المغني» (2/ 460) .
[3] وهو كلام الذهبي في «المغني» .
[4] (1/ 181) .
[5] (2/ 754) .(2/153)
وفيها توجه من العراق موسى بن كعب إلى حرب [1] منصور بن جمهور الكلبيّ الدّمشقيّ حتّى أتى السّند [2] فالتقى منصورا في اثنى عشر ألفا، فهزم منصور ومات في البريّة عطشا، وكان قدريّا.
__________
[1] في الأصل: «حروب» ، وما أثبته من المطبوع وهو الصواب.
[2] السند: مدينة تقع الآن في باكستان المعاصرة، وقد نسب إليها فيما مضى عدد كبير من العلماء. انظر خبرها في «معجم البلدان» لياقوت (3/ 267) ، و «الأمصار ذوات الآثار» للذهبي ص (110- 111) .(2/154)
سنة خمس وثلاثين ومائة
فيها توفي أبو العلاء [برد] [1] بن سنان الدّمشقيّ نزيل [2] البصرة.
روى عن واثلة فمن بعده.
قال في «المغني» [3] : هو شامي لا يعرف. انتهى.
وداود بن الحصين المدنيّ مولى بني أميّة. روى عن عكرمة، وجماعة.
قال في «المغني» [4] : داود بن الحصين أبو سليمان المدنيّ، عن عكرمة، صدوق يغرب، ووثقه غير واحد، كابن معين.
وقال ابن المديني: ما روى عن عكرمة فمنكر.
وقال أبو حاتم الرّازيّ: لولا أنّ مالكا روى عنه لنزل حديثه.
وقال سفيان بن عيينة: كنا نتّقي حديثه.
وقال أبو زرعة: ليّن [5] .
__________
[1] لفظة «برد» سقطت من الأصل، وأثبتها من المطبوع.
[2] في المطبوع «نزل» .
[3] قلت: بل إن الذي قاله الحافظ الذهبي في «المغني» (1/ 101) : تابعي، وثقه ابن معين وغيره، وضعفه ابن المديني، وقال أبو داود السجستاني: كان يرى القدر.
[4] (1/ 217) .
[5] في المطبوع: «لئن» وهو تحريف.(2/155)
قلت [1] : ورمي أيضا بالقدر [2] . انتهى.
وفيها على الأصح أبو عقيل زهرة بن معبد التيميّ بالاسكندريّة عن سنّ عالية.
قال الدّارميّ: زعموا أنه كان من الأبدال [3] .
روى عن ابن عمر، وابن الزّبير [4] .
وفيها على الأصح عبد الله بن أبي بكر بن محمّد بن عمرو بن حزم الأنصاريّ المدنيّ، شيخ مالك والسّفيانين. روى عن أنس، وجماعة. وكان كثير العلم.
وفيها عطاء الخراسانيّ نزيل بيت المقدس، وهو كثير الإرسال عن الصّحابة. وإنما سمع من [5] ابن بريدة، والتابعين.
وولد سنة خمسين، وكان يقول: أوثق عمل [6] في نفسي نشر العلم.
وقال ابن جابر: كنا نغزو معه، فكان [7] يحيي الليل صلاة إلّا نومة السّحر، وكان يعظنا، ويحثّنا على التهجّد.
وفيها رابعة بنت إسماعيل البصريّة العدويّة، شهيرة الفضل، وقيل:
__________
[1] القائل الحافظ الذهبي في «المغني» .
[2] في الأصل، والمطبوع: «رمي بالقدر» وأثبت ما في «المغني» .
[3] قال ابن الأثير الأبدال: هم الأولياء، والعبّاد، الواحد بدل، كحمل وأحمال، وبدل كجمل، سمّوا بذلك لأنهم كلما مات واحد منهم أبدل بآخر. «النهاية» (1/ 107) .
[4] انظر «معرفة الرجال» لابن معين (1/ 292) و (2/ 101 و 173 و 222) و «العبر» للذهبي (1/ 182) ، و «تهذيب التهذيب» لابن حجر (3/ 341- 342) .
[5] في المطبوع: «وإنما سمع عن» انظر «العبر» للذهبي (1/ 182) .
[6] في الأصل، والمطبوع: «أوثق علمي» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي» (1/ 182) .
[7] في «العبر» : «وكان» .(2/156)
توفيت سنة خمس وثمانين ومائة ولا يصح اجتماع السّريّ [1] بها، فإنه عاش حتّى نيّف على [2] الخمسين ومائتين.
وروي أن سفيان الثّوري قال بحضرتها: وا حزناه. قالت: لا تكذب، وقل: وا قلّة حزناه.
وسمعته يقول: اللهم إني أسألك رضاك، فقالت: تسأل رضا من لست عنه براض.
ورآها بعض إخوانها في المنام، فقالت: هداياك تأتينا على أطباق من نور مخمّرة [3] بمناديل من نور.
وقبرها على رأس جبل يسمى الطّور بظاهر بيت المقدس.
وقيل: ذلك قبر رابعة أخرى غير العدويّة.
وقيل لها في منام: ما فعلت عبيدة بنت أبي كلاب [4] ؟ قالت: سبقتنا إلى الدرجات العلا. قيل: ولم ذلك؟ قالت: لم تكن تبالي على أي حال أصبحت من الدّنيا وأمست [5] .
__________
[1] هو السري بن المغلس السّقطي. المتوفى سنة (253) ، وسوف ترد ترجمته في المجلد الثالث من كتابنا هذا إن شاء الله.
[2] في الأصل: «حتى نيف عن» وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[3] في «مرآة الجنان» : «الخمر» .
[4] انظر ترجمتها في «صفة الصفوة» لابن الجوزي (4/ 34- 35) .
[5] قلت: والمؤلف نقل خبر رابعة عن «وفيات الأعيان» لابن خلكان (2/ 285- 288) ، و «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 305- 306) بتصرف.(2/157)
سنة ست وثلاثين ومائة
فيها توفي أشعث بن سوّار الكنديّ الأفرق النّجار بالكوفة، لقي الشّعبيّ وغيره [1] .
قال في «المغني» [2] : أشعث بن سوّار الكوفيّ الأفرق التوابيتيّ النجّار، مولى ثقيف. روى عن الشّعبيّ وغيره، وهو من الضعفاء الذين روى لهم مسلم متابعة، ضعفه أحمد، وابن معين، والدّارقطنيّ. وقد وثقه بعضهم.
وقال الثّوريّ: هو أثبت من مجالد. انتهى.
وجعفر بن ربيعة الكنديّ المصريّ، له عن أبي سلمة، والأعرج، وطائفة.
وحصين بن عبد الرّحمن السّلميّ الكوفيّ الحافظ، عن ثلاث وتسعين سنة، لقي جابر بن سمرة، والكبار.
قال في «المغني» [3] : حصين بن عبد الرّحمن الحارثي الكوفي، مقلّ، ما علمت أن [4] أحدا وهاه. انتهى.
__________
[1] في الأصل: «ونحوه» وأثبت ما في المطبوع.
[2] (1/ 91) .
[3] (1/ 177) .
[4] لفظة «أن» لم ترد في «المغني» .(2/158)
وربيعة بن أبي عبد الرّحمن فرّوخ الفقيه، أبو عثمان المدنيّ، عالم المدينة، ويقال له: ربيعة الرّأي. قيل له ذلك، لأنه كان يتقوى بالرأي.
سمع أنسا وابن المسيّب.
وكانت له حلقة للفتوى، وأخذ عنه مالك، وغيره، وأدرك جماعة من الصحابة.
مات بالهاشميّة [1] مدينة بناها السّفّاح بالأنبار، ويوم مات قال مالك:
ذهبت حلاوة الفقه.
وكان أقدمه السّفّاح للقضاء، وكان يكثر الكلام، ويقول: الساكت بين النائم والأخرس. وتكلم يوما وعنده أعرابيّ فقال: ما العيّ [2] فقال: الذي.
أنت فيه منذ اليوم.
وهو من الثقات كما قال ابن ناصر الدّين.
وفيها زيد بن أسلم العدويّ مولاهم الفقيه العابد، لقي ابن عمر، وجماعة، وكانت له حلقة للفتوى والعلم بالمدينة.
قال أبو حازم الأعرج: لقد رأيتنا في حلقة زيد بن أسلم أربعين فقيها أدنى خصلة فينا التواسي بما في أيدينا.
ونقل البخاريّ: أنّ زين العابدين بن عليّ بن الحسين كان يجلس إلى زيد بن أسلم.
وقال ابن ناصر الدّين: زيد بن أسلم القرشيّ العدويّ العمريّ مولاهم المدنيّ أبو عبد الله، وقيل: أبو أسامة الإمام الفقيه العلّامة. روى عن ابن
__________
[1] انظر «معجم البلدان» لياقوت (5/ 389) .
[2] في الأصل: «ما العلى» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.(2/159)
عمر، وسلمة بن الأكوع، وأنس، وأضرابهم، وله تفسير للقرآن [1] يرويه عنه ابنه عبد الرّحمن. انتهى.
وفيها العلاء بن الحارث الحضرميّ الفقيه الشاميّ صاحب مكحول.
روى عن عبد الله بن بسر، وطائفة. وكان مفتيا جليلا. قاله في «العبر» [2] .
وقال في «المغني» [3] : العلاء بن الحارث الدّمشقيّ الفقيه صاحب مكحول.
قال أبو داود: ثقة تغيّر عقله.
وقال البخاريّ: منكر الحديث.
وقيل: كان يرى القدر. انتهى.
وفيها عطاء بن السائب بن مالك الثقفيّ الكوفيّ الصالح. روى عن عبد الله بن أبي أوفى، وطائفة.
قال أحمد بن حنبل: هو ثقة رجل صالح، كان يختم كلّ ليلة، من سمع منه قديما كان صحيحا. قاله في «العبر» [4] .
قال في «المغني» [5] : عطاء بن السائب، تابعي مشهور، حسن الحديث.
ساء حفظه بآخرة.
__________
[1] في المطبوع: «وله تفسير القرآن» .
[2] (1/ 184) .
[3] (2/ 439) .
[4] (1/ 184) .
[5] (2/ 434) .(2/160)
قال أبو حاتم: سمع منه حمّاد بن زيد قبل أن يتغير.
وقال أحمد: ثقة رجل صالح.
وقال أيضا: من سمع منه قديما فهو صحيح.
وقال غيره: ليس بالقويّ.
وقال ابن معين: لا يحتج بحديثه. انتهى.
وفيها يحيى بن إسحاق الحضرميّ، سمع أنسا وجماعة.
قال ابن سعد: له أحاديث. وكان صاحب قرآن وعربيّة. انتهى [1] .
وفي ذي الحجّة مات السّفّاح أبو العبّاس عبد الله بن محمّد بن علي بن عبد الله بن عبّاس الهاشميّ بالأنبار، عن اثنتين وثلاثين سنة. وهو أول خلفاء بني العبّاس، وكان طويلا أبيض [2] جميلا حسن اللّحية، مات بالجدريّ.
وكانت دولته دون الخمس سنين.
وفي أيامه تفرّقت الكلمة، وخرج عن طاعته الناحية الغربيّة [3] إلى بلاد السّودان وإقليم الأندلس، وتغلب على هذه الممالك خوارج [وجماعة] [4] .
وأمه ريطة من بني الحارث بن كعب من كهلان [5] ، وكان بنو أميّة قد منعوهم من زواج الحارثيات لأنهم قيل لهم: يزول ملكهم على يد ابن الحارثية، فلما كان زمن عمر بن عبد العزيز، استأذنه والد السّفّاح، فقال له:
__________
[1] «العبر» (1/ 184) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «أسن» وما أثبته من «العبر» للذهبي (1/ 185) مصدر المؤلف.
[3] يقصد الجهة الغربية من بغداد عاصمة دولة العباسيين آنذاك.
[4] لفظة «وجماعة» زيادة من «العبر» للذهبي (1/ 185) .
[5] في المطبوع: «بني الحارث بن كعب بن كهلان» .(2/161)
تزوج من شئت، وبويع له وهو ابن أربع وعشرين، أو ثمان وعشرين، وكان بينه وبين أبيه في السن أربع عشرة سنة، وسمّي السّفّاح لأنه سفح دماء بني أميّة، وكان يحتمل من عبد الله بن الحسين المثنى مواجهته له بما يكره، ويعطيه العطاء الجزيل، وقال له أخوه المنصور يوما في عبد الله بن الحسين وابنه محمّد: إن هؤلاء شنئونا [1] فآنسهم بالإحسان، فإن استوحشوا، فالشر يصلح ما عجز عنه الخير، ولا تدع محمدا يسرح [2] في أعنّة العقوق، فقال له السّفّاح: من شدّد نفّر، ومن لان تألّف، والتغافل من سجايا الكرام.
ودخل على السّفّاح أبو نخيلة [3] فسلم عليه، وانتسب له، وقال: عبدك يا أمير المؤمنين وشاعرك، أفتأذن لي في إنشادك؟ فقال له: ألست القائل في مسلمة بن عبد الملك بن مروان؟:
__________
[1] قال ابن منظور: الشّناءة مثل الشّناعة: البغض. انظر «لسان العرب» (شنأ) .
[2] في المطبوع: «يمرح» .
[3] في الأصل، والمطبوع: «أبو نحيلة» وهو تصحيف. قال أبو الفرج الأصفهاني: أبو نخيلة اسمه لا كنيته، ويكنى أبو الجنيد، ذكر الأصمعي ذلك، وأبو عمرو الشيباني، وابن حبيب، لا يعرف له اسم غيره، وله كنيتان: أبو الجنيد، وأبو العرماس، وهو ابن حزن بن زائدة بن لقيط ابن هرم بن يثربي، وقيل: ابن أثربي بن ظالم بن مجاشر بن حمان بن عبد العزى بن كعب بن لؤي بن سعد بن زيد مناة بن تميم. وكان عاقا بأبيه، فنفاه أبوه عن نفسه، فخرج إلى الشام وأقام هناك إلى أن مات أبوه، ثم عاد وبقي مشكوكا في نسبه، مطعونا عليه، وكان الأغلب عليه الرجز، وله قصيد ليس بالكبير. ولما خرج إلى الشام اتصل بمسلمة بن عبد الملك، فاصطنعه، وأحسن إليه، وأوصله إلى الخلفاء واحدا بعد واحد، واستماحهم له، فأغنوه، وكان بعد ذلك قليل الوفاء لهم. انقطع إلى بني هاشم، ولقب نفسه شاعر بني هاشم، فمدح الخلفاء من بني العبّاس، وهجا بني أمية فأكثر. وكان طامعا، فحمله ذلك على أن قال في المنصور أرجوزة يغريه فيها بخلع عيسى بن موسى، وبعقد العهد لابنه محمد المهدي، فوصله المنصور بألفي درهم، وأمره أن ينشدها بحضرة عيسى بن موسى، ففعل، فطلبه عيسى فهرب منه، وبعث في طلبه مولى له، فأدركه في طريق خراسان، فذبحه وسلخ جلده.
«الأغاني» (20/ 390) ، وانظر «الأعلام» للزركلي (8/ 15) .(2/162)
أمسلم إني يا بن كلّ خليفة ... ويا فارس الهيجا ويا جبل الأرض
شكرتك إنّ الشّكر حبل من التّقى [1] ... وما كلّ من أوليته نعمة يقضي [2]
وأحييت لي ذكري وما كان خاملا ... ولكنّ بعض الذّكر أنبه من بعض [3]
قال: فأنا يا أمير المؤمنين الذي أقول:
لما رأينا [4] استمسكت يداكا ... كنّا أناسا نرهب الأملاكا
ونركب الأعجاز والأوراكا ... من كلّ شيء ما خلا الإشراكا
فكلّ ما قد قلت في سواكا ... زور وقد كفّر هذا ذاكا
إنا انتظرنا قبلها أباكا ... ثمّ انتظرنا بعدها أخاكا [5]
ثمّ انتظرنا لها إياكا [6] ... فكنت أنت للرّجاء ذاكا [7]
فرضي عنه ووصله وأجازه.
__________
[1] في الأصل: «حبل من الفيء» ، وأثبت ما في المطبوع وهو موافق لما في «مروج الذهب» مصدر المؤلف، و «الأغاني» ، و «طبقات الشعراء» لابن المعتز.
[2] في الأصل: «وما كل من أوليته نعمة يغضي» وأثبت ما في المطبوع وهو مواقف لما في «مروج الذهب» و «الأغاني» ، و «طبقات الشعراء» لابن المعتز.
[3] الأبيات في «مروج الذهب» (3/ 287) ، و «الأغاني» (20/ 392) . و «طبقات الشعراء» لابن المعتز ص (64) ورواية الأبيات عنده:
أمسلم إني يا بن خير خليفة ... ويا فارس الدّنيا ويا جبل الأرض
شكرتك إن الشكر حبل من التقى ... وما كل من أوليته نعمة يقضي
وأنبهت لي ذكري وما كان خاملا ... ولكن بعض الذكر أنبه من بعض
وما بين البيتين الثاني والثالث عنده بيت آخر هو:
وألقيت لما جئت بابك زائرا ... رواقا مديدا سامق الطول والعرض
[4] في الأصل: «لما رأيت» وأثبت ما في المطبوع، وهو موافق لما في «مروج الذهب» .
[5] في الأصل، والمطبوع: «ثم انتظرنا بعدها لقاكا» وأثبت ما في «مروج الذهب» .
[6] كذا في الأصل، والمطبوع، و «مروج الذهب» : «ثم انتظرناك لها إياكا» ولعل الصواب: «ثم انتظرنا لها إياكا» .
[7] الأبيات في «مروج الذهب» للمسعودي (3/ 278) .(2/163)
وكان أبو العبّاس إذا حضر طعامه أبسط النّاس وجها [1] ، فكان إبراهيم بن مخرمة الكنديّ إذا أراد أن يسأله حاجة أخّرها إلى أن يحضر طعامه، ثم يسأله، فقال له يوما: يا إبراهيم، ما دعاك إلى أن تشغلني عن طعامي بحوائجك؟ قال: يدعوني إلى ذلك التماس النّجح لمن [2] أسال له، فقال له أبو العبّاس: إنك لحقيق بالسؤدد لحسن هذه الفطنة.
وكان إذا تعادى رجلان من أصحاب السّفّاح وبطانته لم يسمع من أحدهما في الآخر شيئا ولم يقبله وإن كان القائل عنده عدلا في شهادته، وإذا اصطلح الرّجلان لم يقبل شهادة واحد منهما لصاحبه ولا عليه، ويقول: إن الضغينة القديمة تولّد العداوة المحضة، وتحمل على إظهار المسالمة وتحتها الأفعى التي إذا استمكنت [3] لم تبق.
وكان في أول أيامه يظهر لندمائه، ثم احتجب عنهم، وذلك لسنة خلت من ملكه، وكان قعوده من وراء الستارة، وإذا غنّاه أحد صوتا يطرب من وراء الستارة ويصيح بالمطرب له من المغنّين: أحسنت والله، أعد هذا الصوت [4] .
وكان لا ينصرف عنه أحد من ندمائه ولا مطربيه إلّا بصلة من مال أو كسوة، ويقول: لا يكون سرورنا معجّلا، ومكافأة من سرّنا وأطربنا مؤجّلا، وقد سبقه إلى هذا الفعل بهرام جور من ملوك الفرس.
وقد حضر أبو بكر الهذلي ذات يوم والسّفّاح مقبل عليه يحدّثه بحديث
__________
[1] في «مروج الذهب» : «أبسط ما يكون وجها» .
[2] في «مروج الذهب» : «لما» .
[3] في «مروج الذهب» : «إذا تمكنت» .
[4] في الأصل والمطبوع: «وأعد هذا الصوت» وأثبت ما في «مروج الذهب» (3/ 279) .(2/164)
لأنوشروان [1] في بعض حروبه بالمشرق مع بعض الملوك، فعصفت ريح شديدة، فأذرت ترابا وقطعا من الآجرّ من أعلى السطح إلى المجلس، فجزع من حضر المجلس لوقوعها [2] وارتاع لها، والهذليّ شاخص نحو أبي العبّاس لم يتغير كما تغير غيره، فقال له السّفّاح: لله أنت يا أبا بكر، لم أر كاليوم، أما راعك ما راعنا، ولا أحسست بما ورد علينا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، وإنما للمرء قلب واحد، فلما غمره السرور بفائدة [3] أمير المؤمنين لم يكن فيه لحادث مجال. وإن الله- عزّ وجلّ- إذا أفرد [4] بكرامة أحد وأحب أن يبقي [5] له ذكرها جعل تلك الكرامة على لسان نبيه أو خليفته، وهذه كرامة خصصت بها فمال إليها ذهني، وشغل بها قلبي [6] فلو انقلبت [7] الخضراء على الغبراء ما أحسست بها ولا وجمت [8] لها إلّا بما يلزمني في نفسي [9] لأمير المؤمنين أعزّه الله. فقال السّفّاح: لئن بقيت لك لأرفعنّ منك ضبعا [10] لا تطيف به السّباع ولا تنحطّ عليه العقبان [11] .
__________
[1] في «مروج الذهب» : «لأنوشروين» .
[2] في المطبوع: «لوقعها» ، وفي «مروج الذهب» (3/ 279) : «لوقوع ذلك» .
[3] في الأصل، والمطبوع: «بالسرور لفائدة» وأثبت ما في «مروج الذهب» .
[4] في الأصل، والمطبوع: «إذا انفرد» وأثبت ما في «مروج الذهب» .
[5] في الأصل، والمطبوع: «وأحب أن يفضي» وأثبت ما في «مروج الذهب» .
[6] في «مروج الذهب» : «وشغل بها فكري» .
[7] في الأصل: «فلو تقلبت» وأثبت ما في المطبوع وهو موافق لما في «مروج الذهب» .
[8] في الأصل، «ولا ححت» وفي المطبوع: «ولا جمعت» وكلاهما خطأ، والتصحيح من «مروج الذهب» (3/ 280) .
[9] في «مروج الذهب» : «من نفسي» .
[10] في «مروج الذهب» : «لأرفعن منك وضيعا» . والضبع: العضد. انظر «مختار الصحاح» ص (376) .
[11] في «مروج الذهب» : «وتنحطّ عليه العقاب» .(2/165)
ومما ذكر من أخباره واستفاض من أسماره [1] ما ذكره البهلول بن العبّاس، عن الهيثم بن عدي الطّهماني، عن يزيد الرّقاشي، قال: كان السّفّاح تعجبه [2] مسامرة الرّجال، وإني سمرت عنده ذات ليلة، فقال:
يا يزيد، أخبرني بأظرف حديث سمعته، قلت: يا أمير المؤمنين، وإن كان في بني هاشم؟ قال: ذلك أعجب إليّ، قلت: يا أمير المؤمنين، نزل رجل من تنوخ بحيّ من بني عامر بن صعصعة، فجعل لا يحطّ شيئا من متاعه إلّا تمثل بهذا البيت:
لعمرك ما تبلى سرابيل عامر [3] ... من اللّؤم ما دامت عليها جلودها [4]
فخرجت إليه جارية [من الحي] [5] فحادثته وآنسته، وساءلته حتّى أنس بها، ثم قالت: ممن أنت متّعت بك.
فقال: رجل من [بني] تميم [6] .
قالت: أتعرف الذي يقول:
تميم بطرق اللّؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت سبل المكارم ضلّت
ولو أنّ برغوثا على ظهر قملة ... يكرّ على جمعي [7] تميم لولّت
[ذبحنا فسمّينا فتمّ ذبيحنا ... وما ذبحت يوما تميم فسمّت]
__________
[1] في المطبوع: «واستفاض من آثاره» .
[2] في «مروج الذهب» (3/ 285) : «يعجبه» .
[3] في «مروج الذهب» : «سرائر عامر» . والسرابيل: جمع سربال، وهو القميص. انظر «مختار الصحاح» ص (293) .
[4] البيت في «مروج الذهب» للمسعودي (3/ 285) .
[5] ما بين حاصرتين زيادة من «مروج الذهب» .
[6] لفظة «بني» زيادة من «مروج الذهب» .
[7] في الأصل، والمطبوع: «صيفي» ، وأثبت ما في «مروج الذهب» (3/ 286) .(2/166)
أرى اللّيل يجلوه النّهار ولا أرى ... عظام المخازي عن تميم تجلّت [1]
فقال: لا والله ما أنا من تميم.
قالت: فممن أنت؟
قال: رجل من عجل [2] .
قالت: أتعرف الذي يقول:
أرى النّاس يعطون الجزيل وإنّما ... عطاء بني عجل ثلاث وأربع
إذا مات عجليّ بأرض فإنّما ... يشقّ له منها ذراع وإصبع
فقال: لا والله ما أنا من عجل [3] .
قالت: فممن [4] أنت؟
قال: رجل من بني يشكر.
قالت: أتعرف الذي يقول:
إذا يشكريّ مسّ ثوبك ثوبه ... فلا تذكرنّ الله حتّى تطهّرا
قال: لا والله ما أنا من يشكر.
قالت: فممن [5] أنت؟
قال: رجل من عبد القيس.
__________
[1] في الأبيات تقديم وتأخير في الأصل، والمطبوع، وقد أعدت ترتيبها على النحو الذي في «مروج الذهب» والبيت الذي بين حاصرتين استدركته منه..
[2] في الأصل: «عجيل» وأثبت ما في المطبوع، وهو موافق لما في «مروج الذهب» .
[3] في الأصل: «عجيل» وأثبت ما في المطبوع، وهو موافق لما في «مروج الذهب» .
[4] في الأصل: «قالت فمن» ، وأثبت ما في المطبوع.
[5] في الأصل: «قالت فمن» وأثبت ما في المطبوع.(2/167)
قالت: أتعرف الذي يقول:
رأيت عبد القيس لاقت ذلّا ... إذا أصابوا بصلا وخلّا
ومالحا معتّقا قد صلّا ... باتوا يسلّون الفساء [1] سلّا
سلّ النّبيط القصب المبتلّا
قال: لا والله ما أنا من عبد القيس.
قالت: فممن أنت؟
قال: رجل من باهلة.
قالت: أتعرف الذي يقول:
إذا ازدحم الكرام على المعالي ... تنحّى الباهليّ عن الزّحام
ولو كان الخليفة باهليّا ... لقصّر عن مناوأة الكرام
وعرض الباهليّ ولو توقّى ... عليه مثل منديل الطعام
قال: لا والله وما أنا من باهلة.
قالت: فممن أنت؟
قال: رجل من بني فزارة.
قالت: أتعرف الذي يقول:
لا تأمننّ فزاريّا خلوت به ... على قلوصك واكتبها بأسيار
لا تأمننّ فزاريّا على حمر ... بعد الذي ابتلّ [2] أير العير في النّار
قال: لا والله ما أنا من فزارة.
قالت: فممن أنت؟
قال: رجل من ثقيف.
__________
[1] في «مروج الذهب» : «يسلون النساء» .
[2] في «مروج الذهب» : «امتلّ» .(2/168)
قالت: أتعرف الذي يقول:
أضلّ الناسبون أبا ثقيف ... فما لهم أب إلّا الضّلال
فإن نسبت أو انتسبت ثقيف ... إلى أحد فذاك هو المحال
خنازير الحشوش فقتّلوها ... فإنّ دماءها لكم حلال
قال: لا والله ما أنا من ثقيف.
قالت: فممن أنت؟
قال: رجل من بني عبس.
قالت: أتعرف الذي يقول:
إذا عبسيّة ولدت غلاما ... فبشّرها بلؤم مستفاد
قال: لا والله ما أنا من عبس.
قالت: فممن أنت؟
قال: رجل من ثعلبة.
قالت: أتعرف الذي يقول:
فثعلبة بن قيس شرّ قوم ... والأمهم وأغدرهم بجار
قال: لا والله ما أنا من ثعلبة.
قالت: ممن أنت؟.
قال: أنا رجل من غنيّ.
قالت: أتعرف الذي يقول:
إذا غنويّة ولدت غلاما ... فبشّرها بخيّاط مجيد
قال: لا والله ما أنا من غنيّ.(2/169)
قالت: فممن أنت؟
قال: رجل من بني مرّة.
قالت: أتعرف الذي يقول:
إذا مرّيّة خضبت يداها ... فزوّجها ولا تأمن زناها
قال: لا والله ما أنا من بني مرّة.
قالت: فممن أنت؟
قال: رجل من بني ضبّة.
قالت: أتعرف الذي يقول:
لقد زرقت عيناك يا بن مكعبر ... كما كلّ ضبّيّ من اللّؤم أزرق
قال: لا والله ما أنا من بني ضبّة.
قالت: فممن أنت؟
قال: رجل من بجيلة.
قالت: أتعرف الذي يقول:
سألنا عن بجيلة أين حلّت ... لنخبر أين قرّ بها القرار؟
فما تدري بجيلة حين تدعى ... أقحطان أبوها أم نزار؟
فقد وقعت بجيلة بين بين ... وقد خلعت كما خلع العذار
قال: لا والله ما أنا من بجيلة.
قالت: فممن أنت ويحك؟! قال: أنا رجل من الأزد.(2/170)
قالت: أتعرف الذي يقول:
إذا أزديّة ولدت غلاما ... فبشّرها بملّاح مجيد [1]
قال: لا والله ما أنا من الأزد.
قالت: فممن أنت ويلك؟! أما تستحي؟! قل الحقّ.
قال: رجل من خزاعة.
قالت: أتعرف الذي يقول:
إذا افتخرت خزاعة في قديم ... وجدنا فخرها شرب الخمور
وباعت كعبة الرّحمن جهرا ... بزق بئس مفتخر الفجور
قال: لا والله ما أنا من خزاعة.
قالت: فممن أنت؟
قال: رجل من سليم.
قالت: أتعرف الذي يقول:
فما لسليم شتّت الله أمرها ... تنيك [2] بأيديها وتعيا أيورها
قال: لا والله ما أنا من سليم.
قالت: فممن أنت؟
قال: رجل من لقيط.
قال: أتعرف الذي يقول:
__________
[1] في الأصل: «فبشر بحباط محيد» ، وفي المطبوع: «فبشرها بحباط محيد» وكلاهما خطأ.
والتصحيح من «مروج الذهب» (3/ 287) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «تنيل» ، والتصحيح من «مروج الذهب» (3/ 288) .(2/171)
لعمرك ما البحار ولا الفيافي ... بأوسع من فقاح [1] بني لقيط
لقيط شرّ من ركب المطايا ... وأنذل من يدبّ على البسيط
ألا لعن الإله بني لقيط ... بقايا نسبة [2] من قوم لوط
قال: لا والله ما أنا من لقيط.
قالت: فممن أنت؟
قال: رجل من كندة.
قالت: أتعرف [3] الذي يقول:
إذا ما افتخر الكنديّ ... ذو البهجة والطّرّة
فبالنّسج وبالخفّ ... وبالسّدل [4] وبالحفرة
فدع كندة للنّسج ... فأعلى فخرها عرّة
قال: لا والله ما أنا من كندة.
قالت: فممن أنت؟
قال: رجل من خثعم.
قالت: أتعرف [5] الذي يقول:
وخثعم لو صفرت لها صفيرا ... لطارت في البلاد مع الجراد
قال: لا والله ما أنا من خثعم.
__________
[1] فقاح، جمع فقحة، وهي حلقة الدبر. (ع) .
[2] في المطبوع «مروج الذهب» (3/ 288) : «بقايا سبية» .
[3] في الأصل، والمطبوع: «فتعرف» وأثبت ما في «مروج الذهب» .
[4] في الأصل، والمطبوع: «وبالتيرك» وأثبت ما في «مروج الذهب» .
[5] في الأصل، والمطبوع: «فتعرف» وأثبت ما في «مروج الذهب» .(2/172)
قالت: فممن أنت؟
قال: رجل من طيّء.
قالت أتعرف [1] الذي يقول:
وما طيّء إلّا نبيط تجمّعت ... فقالت طيانا [2] كلمة فاستمرّت
ولو أنّ حرقوصا يمدّ جناحه ... على جبلي طيّ إذا لاستظلّت
قال: لا والله ما أنا من طيّء.
قالت: فممن أنت؟
قال: رجل من مزينة.
قالت: أتعرف الذي يقول:
وهل مزينة إلّا من قبيلة ... لا يرتجى كرم منها ولا دين
قال: لا والله ما أنا من مزينة.
قالت: فممن أنت؟
قال: رجل من النّخع.
قالت: أتعرف الذي يقول:
إذا النّخع اللّئام غدوا جميعا ... تأذّى النّاس من وفر الزّحام [3]
وما تسمو [4] إلى مجد كريم ... وما هم في الصميم من الكرام
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «فتعرف» وأثبت ما في «مروج الذهب» .
[2] في الأصل، والمطبوع: «فقالت طيايا» وأثبت ما في «مروج الذهب» .
[3] في الأصل، والمطبوع: «من ذخر اللئام» وأثبت ما في «مروج الذهب» .
[4] في الأصل، والمطبوع: «وما يسموا» وأثبت ما في «مروج الذهب» .(2/173)
قال: لا والله ما أنا من النّخع.
قالت: فممن أنت؟
قال: رجل من أود.
قالت: أتعرف الذي يقول:
إذا نزلت بأود في ديارهم ... فاعلم بأنّك منهم ليس بالنّاجي
لا تركننّ إلى كهل ولا حدث ... فليس في القوم إلّا كلّ عفّاج
قال: لا والله ما أنا من أود.
قالت: فممن أنت؟
قال: رجل من لخم.
قالت: أتعرف الذي يقول:
إذا ما انتمى قوم لفخر قديمهم ... تباعد فخر الجود عن لخم اجمعا [1]
قال: لا والله ما أنا من لخم.
قالت: فممن أنت ويلك؟!! أما تستحي من كثرة الكذب؟.
قال: أنا رجل من تنوخ، وهو الحقّ.
قالت: أتعرف الذي يقول:
إذا تنوخ قطعت منهلا ... في طلب الغارات والثّار
آبت بخزي من إله السّما ... وشهرة في الأهل والجار
قال: لا والله ما أنا من تنوخ.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «جمعا» وأثبت ما في «مروج الذهب» وهو الصواب.(2/174)
قالت: فممن أنت ثكلتك أمّك؟! [1] .
قال: أنا رجل من حمير.
قالت: أتعرف الذي يقول:
نبّئت حمير تهجوني فقلت لهم ... ما كنت أحسبهم كانوا ولا خلقوا
لأنّ حمير قوم لا نصاب لهم ... كالعود بالقاع لا ماء [2] ولا ورق
لا يكثرون وإن طالت حياتهم ... ولو يبول عليهم ثعلب غرقوا
قال: لا والله ما أنا من حمير.
قالت: فممن أنت؟
قال: رجل من يحابر [3] .
قالت: أتعرف الذي يقول:
ولو صرّ صرّار بأرض يحابر ... لماتوا وأضحوا في التّراب رميما
قال: لا والله ما أنا من يحابر.
قالت: فممن أنت؟
__________
[1] قال ابن الأثير إنه- صلّى الله عليه وسلّم- قال لبعض أصحابه: «ثكلتك أمك» أي فقدتك. والثّكل: فقد الولد. وامرأة ثاكل وثكلى. ورجل ثاكل وثكلان، كأنه دعا عليه بالموت لسوء فعله أو قوله.
والموت يعمّ كلّ أحد، فإذن الدعاء عليه كلا دعاء، أو أراد إذا كنت هكذا فالموت خير لك لئلا تزداد سوءا، ويجوز أن يكون من الألفاظ التي تجري على ألسنة العرب ولا يراد بها الدعاء، كقولهم: تربت يداك، وقاتلك الله. «النهاية» (1/ 217) .
[2] تحرفت لفظة «لا ماء» في الأصل إلى «لا يمر» وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[3] في الأصل: «بجاير» وفي المطبوع: «بحائر» وكلاهما خطأ، والتصحيح من «مروج الذهب» للمسعودي (3/ 290) .
قلت: وهذه القبيلة تنسب إلى يحابر بن مالك بن أدد بن زيد. انظر «جمهرة أنساب العرب» لابن حزم ص (406) .(2/175)
قال: رجل من قشير.
قالت: أتعرف الذي يقول:
بني قشير قتلت [1] سيّدكم ... فاليوم لا فدية ولا قود
قال: لا والله ما أنا من قشير.
قالت: فممن أنت؟
قال: رجل من بني أميّة.
قالت: أتعرف [2] الذي يقول:
وهى بأميّة بنيانها ... وهان على الله فقدانها
وكانت أميّة فيما مضى ... جريء على الله سلطانها
فلا آل حرب أطاعوا الرّسول ... ولم يتّق الله مروانها
قال: لا والله ما أنا من بني أميّة.
قالت: فممن أنت؟
قال: رجل من بني هاشم.
قالت: أتعرف الذي يقول:
بني هاشم عودوا إلى نخلاتكم ... فقد صار هذا التّمر صاعا بدرهم
فإن قلتم رهط النّبيّ محمّد ... فإنّ النّصارى رهط عيسى بن مريم
قال: لا والله ما أنا من بني هاشم.
قالت: فممن أنت؟
__________
[1] في الأصل: «قتلتم» وأثبت ما في المطبوع وهو موافق لما في «مروج الذهب» .
[2] في الأصل، والمطبوع: «أفتعرف» وأثبت ما في «مروج الذهب» .(2/176)
قال: رجل من همدان.
قالت: أتعرف الذي يقول:
إذا [1] همدان دارت يوم حرب ... رحاها فوق هامات الرّجال
رأيتهم يحثّون المطايا ... سراعا هاربين من القتال
قال: لا والله ما أنا من همدان.
قالت: فممن أنت؟
قال: رجل من قضاعة.
قالت: أتعرف الذي يقول:
لا يفخرنّ قضاعيّ بأسرته ... فليس من يمن محضا [2] ولا مضر
مذبذبين فلا قحطان والدهم ... ولا نزار فخلّوهم إلى سقر
قال: لا والله ما أنا من قضاعة [3] .
قالت: فممن أنت؟
قال: رجل من شيبان.
قالت: أتعرف الذي يقول:
شيبان قوم لهم عديد ... وكلّهم [4] مقرف لئيم
ما فيهم ماجد [5] حسيب ... ولا نجيب ولا كريم
__________
[1] في الأصل: «إذ» وأثبت ما في المطبوع وهو موافق لما في «مروج الذهب» (3/ 291) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «محضن» وأثبت ما في «مروج الذهب» .
[3] في الأصل، والمطبوع: «ما أنا قضاعيا» وأثبت ما في «مروج الذهب» .
[4] في «مروج الذهب» : «فكلهم» .
[5] في الأصل والمطبوع: «من ماجد» والتصحيح من «مروج الذهب» .(2/177)
قال: لا والله ما أنا من شيبان.
قالت: فممن أنت؟
قال: رجل من بني نمير.
قالت: أتعرف الذي يقول:
فغضّ الطّرف إنّك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا
ولو وضعت فقاح بني نمير ... على خبث الحديد إذا لذابا
قال: لا والله ما أنا من نمير.
قالت: فممن أنت؟
قال: أنا رجل من تغلب.
قالت: أتعرف الذي يقول:
لا تطلبنّ خؤولة في تغلب ... فالزّنج أكرم منهم أخوالا
والتّغلبيّ إذا تنحنح للقرى ... حكّ [1] استه وتمثّل الأمثالا
قال: لا والله ما أنا من تغلب.
قالت: فممن أنت؟
قال: رجل من مجاشع.
قالت: أتعرف الذي يقول:
تبكي المغيبة [2] من بنات مجاشع ... ولها إذا سمعت نهيق حمار
قال: لا والله ما أنا من مجاشع.
__________
[1] في الأصل: «حطّ» وأثبت ما في المطبوع، وهو موافق لما في «مروج الذهب» .
[2] في الأصل والمطبوع: «المعنة» ، وهو خطأ، والتصحيح من «مروج الذهب» والمغيبة: التي غاب عنها زوجها.(2/178)
قالت: فممن أنت؟
قال: أنا رجل من كلب.
قالت: أتعرف الذي يقول:
فلا تقربن كلبا ولا باب دارها ... فما يطمع السّاري يرى ضوء نارها
قال: لا والله ما أنا من كلب.
قالت: فممن أنت؟
قال: رجل من تيم.
قالت: أتعرف الذي يقول:
تيميّة مثل أنف الفيل مقبلها [1] ... تهدي الرّدى ببنان غير مخدوم
قال: لا والله ما أنا من تيم.
قالت: فممن أنت؟
قال: رجل من تيم.
قالت: أتعرف الذي يقول:
تمنّيني [2] سويق الكرم جرم ... وما جرم وما ذاك السّويق
فما شربوه لمّا كان حلا ... ولا غالي بها إذ قام سوق [3]
فلمّا أنزل التّحريم فيها ... إذا الجرميّ منها لا يفيق
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «غبلها» وأثبت ما في «مروج الذهب» (3/ 292) .
[2] في الأصل: «تمنتي» وهو تصحيف وأثبت ما في المطبوع وهو موافق لما في «مروج الذهب» .
[3] في «مروج الذهب» : «ولا غالوا به في يوم سوق» .(2/179)
قال: لا والله ما أنا من جرم.
قالت: فممن أنت؟
قال رجل من سليم.
قالت: أتعرف الذي يقول:
إذا ما سليم جئتها لغدائها ... رجعت كما قد جئت عريان [1] جائعا
قال: لا والله ما أنا من سليم.
قالت: فممن أنت؟
قال: رجل من الموالي.
قالت: أتعرف الذي يقول:
ألا من أراد اللّؤم والفحش والخنا ... فعند الموالي الجيد والطّرفان
[قال: لا والله ما أنا من الموالي.
قالت: فممن أنت؟] [2] قال: أخطأت نسبي وربّ الكعبة، أنا رجل من الخوز.
قالت: أتعرف الذي يقول:
لا بارك الله ربّي فيكم أبدا ... يا معشر الخوز إنّ الخوز في النّار
قال: لا والله ما أنا من الخوز.
__________
[1] في «مروج الذهب» : «غرثان» ، والغرثان: العطشان. انظر «مختار الصحاح» ص (471) .
[2] ما بين حاصرتين لم يرد في المطبوع، و «مروج الذهب» للمسعودي (3/ 293) .(2/180)
قالت: ممن [1] أنت؟
قال: من أولاد حام.
قالت: أتعرف الذي يقول:
ولا تنكحن أولاد حام فإنّهم ... مشاويه خلق الله حاشا ابن أكوع
قال: لا والله ما أنا من ولد حام، ولكني من ولد الشيطان الرّجيم.
قالت: فلعنك الله [2] ولعن أباك معك، أتعرف الذي يقول:
ألا يا عباد الله هذا عدوّكم ... عدوّ نبيّ الله إبليس ينهق
فقال لها: هذا مقام العائذ بك.
قالت: قم فارحل خاسئا مذموما، وإذا نزلت بقوم فلا تنشد فيهم شعرا حتّى تعرف من هم، ولا تتعرّض للمباحثة عن مساوئ النّاس، فلكل قوم إساءة وإحسان إلّا رسل ربّ العالمين [3] ومن اختاره الله من عباده وعصمه من عدوه، وأنت كما قال جرير للفرزدق:
وكنت إذا حللت بدار قوم ... رحلت بخزية وتركت عارا [4]
فقال لها: والله لا أنشدت بيت شعر أبدا.
فقال السّفّاح: لئن كنت عملت هذا الخبر، ونظمت فيمن ذكرت هذه الأشعار، فلقد أحسنت، وأنت سيّد الكذّابين، وإن كان الخبر صدقا وكنت فيما ذكرت محقّا، فإنّ هذه الجارية لمن أحضر النّاس جوابا، وأبصرهم بمثالب النّاس.
__________
[1] في «مروج الذهب» : «فمن» .
[2] لفظ الجلالة سقط من المطبوع.
[3] في «مروج الذهب» : «إلّا رسول رب العالمين» .
[4] لم أجد البيت في «ديوانه» المطبوع في دار بيروت.(2/181)
قال المسعوديّ [1] : وللسّفّاح أخبار غير هذه، وأسمار حسان، أتينا على مبسوطها في كتابينا «أخبار الزّمان» و «الأوسط» . انتهى.
__________
[1] في «مروج الذهب» (3/ 293) .(2/182)
سنة سبع وثلاثين ومائة
في أوّلها بلغ عبد الله بن عليّ موت ابن أخيه السّفّاح، فدعا بالشّام إلى نفسه، وعسكر بدابق، وزعم أنّ السّفّاح جعله ولي عهده من بعده، وأقام شهودا بذلك، فجهّز المنصور لحربه أبا مسلم الخراساني، فالتقى الجمعان في نصيبين في جمادى الآخرة، فاشتد القتال، ثم انهزم جيش عبد الله وهرب هو إلى البصرة وبها أخوه، وحاز أبو مسلم خزانته [1] وكانت شيئا عظيما، لأنه استولى على جميع نعمة بني أميّة، فبعث المنصور إلى أبي مسلم أن احتفظ بما في يدك [2] فصعب ذلك على أبي مسلم، وأزمع [3] على خلع المنصور، ثم سار نحو خراسان، فأرسل إليه المنصور يستعطفه ويمنّيه، وما زال به حتّى وقع في براثنه، فأقدم على قتله، فقتله في شعبان كما تقدم [4] .
وفيها، وقيل: في غيرها، توفي خصيف بن عبد الرّحمن الجزريّ الحرّانيّ [5] روى عن مجاهد، وسعيد بن جبير.
__________
[1] في «العبر» للذهبي (1/ 185) : «خزائنه» .
[2] في المطبوع: «احتفظ بما في يده» .
[3] أزمع على الأمر: ثبّت عليه عزمه. انظر «مختار الصحاح» ص (274) .
[4] انظر ص (131- 134) من هذا المجلد.
[5] انظر «تهذيب الكمال» للمزي (1/ 372- 373) مصورة دار المأمون للتراث.(2/183)
قال في «المغني» [1] : خصيف بن عبد الرّحمن الجزري مكثر [2] عن التابعين، ضعفه أحمد وغيره. انتهى.
وفيها، أو في التي تليها، توفي منصور بن عبد الرّحمن العبدريّ [3] الحجبيّ المكيّ، ولد صفيّة بنت شيبة.
قال ابن عيينة: كان يبكي عند كل صلاة، فكانوا يرون أنه يذكر الموت.
ويزيد بن أبي زياد الكوفيّ عن نحو تسعين سنة.
روى عن مولاه عبد الله بن الحارث بن نوفل الهاشميّ وطائفة، وهو حسن الحديث [4] . روى له مسلم مقرونا بآخر. قاله في «العبر» [5] .
وقال في «المغني» [6] : يزيد بن أبي زياد الكوفي، مشهور، سيء الحفظ.
قال ابن حبّان: صدوق إلّا أنه كبر وساء حفظه، فكان يتلقن.
وقال يحيى [7] : ليس بالقويّ.
__________
[1] (1/ 209) .
[2] في المطبوع: «يكثر» وما في الأصل موافق لما عند الذهبي في «المغني» .
[3] في الأصل: «العبد» وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[4] كذا قال المؤلف: وهو حسن الحديث.
وقال الحافظ الذهبي في «العبر» (1/ 187) : لين الحديث.
وقال الحافظ ابن حجر في «تقريب التهذيب» (2/ 365) : ضعيف، كبر فتغير، صار يتلقن، وكان شيعيا.
وللتوسع راجع «تهذيب الكمال» للمزي (3/ 1533- 1534) مصورة دار المأمون للتراث بدمشق.
[5] (1/ 187) .
[6] (2/ 749) .
[7] يعني ابن معين.(2/184)
وقال أيضا: لا يحتج بحديثه.
وقال ابن المبارك: ارم به. انتهى.
وفيها قتل أحد الأشراف بدمشق، وهو عثمان بن سراقة الأزدي. وكان قد توثّب عند موت السّفّاح وسبّ بني العبّاس على منبر دمشق، وبايع لهشام بن يزيد بن خالد بن معاوية الأموي، فبغتهم مجيء صالح عمّ السّفّاح، فلم يقووا لحربه، واختفى هشام، وضرب عنق ابن سراقة.(2/185)
سنة ثمان وثلاثين ومائة
فيها جاء طاغية الرّوم قسطنطين بن أليون في مائة ألف، ونزل بدابق، بكسر الباء- وهو المذكور في «صحيح مسلم» - فلقيه صالح بن علي عمّ المنصور، والسّفّاح فهزمهم ولله الحمد.
وفيها توفي زيد بن واقد الدّمشقيّ. روى عن جبير بن نفير، وكثير بن مرّة، وخلق.
قال في «المغني» [1] [2] : زيد بن واقد، عن حميد، وثقه أبو حاتم، وسمع منه بالرّيّ.
وقال أبو زرعة: ليس بشيء. انتهى.
وفيها أبو شبل العلاء بن عبد الرّحمن بن يعقوب المدنيّ، مولى الحرقة [3] روى عن أبيه، وأنس، وطائفة.
قال أبو حاتم: ما أنكر من حديثه شيئا.
__________
[1] في «العبر» : «فلم يقو» .
[2] (1/ 248) .
[3] قال السمعاني: وهي قبيلة من همدان، هكذا قال أبو حاتم بن حبان، وكنت سمعت بعض الحفاظ يقول: الحرقات بطن من جهينة، وهو الصحيح. «الأنساب» (4/ 113- 114) .(2/186)
وسليمان بن فيروز [1] أبو إسحاق الشّيبانيّ مولاهم الكوفيّ.
قال ابن ناصر الدّين: كان من الحفاظ الثقات والأئمة الأثبات. انتهى.
وليث بن أبي سليم الكوفيّ [2] .
قال في «المغني» [3] : قال أحمد: مضطرب الحديث، ولكن حدّث عنه النّاس.
وقال ابن معين [والنسائيّ] : ضعيف.
وقال ابن حبّان: اختلط في آخر عمره.
وقال [ابن معين] أيضا: لا بأس به. انتهى.
__________
[1] ويقال له: سليمان بن أبي سليمان، أبو إسحاق الشيباني. (ع) .
[2] في «المغني» : «الليثي» .
[3] (2/ 536) وما بين حاصرتين مستدرك منه.(2/187)
سنة تسع وثلاثين ومائة
فيها سار [1] عسكر المسلمين فنزلوا ملطية وهي خراب، فزرعوا أرضها، وطبخوا كلسا لبنائها، ورجعوا، فبعث طاغية الرّوم من حرق الزرع.
وفيها توفي خالد بن يزيد المصريّ [2] الفقيه كهلا.
يروي عن عطاء، والزّهري، وطبقتهما. وعنه اللّيث، ويكنى أبا عبد الرّحيم [3] .
وفيها يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد اللّيثيّ المدنيّ الفقيه. يروي عن شرحبيل بن سعد وطبقته من التابعين.
ويونس بن عبيد شيخ البصرة. رأى أنسا، وأخذ عن الحسن وطبقته.
قال سعيد بن عامر الضّبعيّ: ما رأيت رجلا قطّ أفضل منه. وأهل البصرة على ذاك.
وقال أبو حاتم: هو أكبر من سليمان التيميّ ولا يبلغ سليمان منزلته.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «نزل» وأثبت ما في «العبر» للذهبي (1/ 188) وهو مصدر المؤلف في كلامه.
[2] قلت: وقال الحافظ ابن حجر: هو خالد بن يزيد الجمحي، ويقال: السكسكي. انظر «تقريب التهذيب» (1/ 220) .
[3] في الأصل: «ويكنى أبا عبد الرحمن» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.(2/188)
وقال يونس: ما كتبت شيئا قطّ- يعني لذكائه وحفظه-.
وقال ابن ناصر الدّين: رأى أنسا، وسمع الحسن، وابن سيرين وغيرهما، وكان إماما علما، وحافظا مقدّما، ومتقنا محرّرا. انتهى.
وصالح بن كيسان المؤدّب، ذكره ابن ناصر الدّين في «بديعة البيان» [1] فقال:
ثمّ أبو حازم المديني ... كصالح المؤدب الأمين
وقال في «شرحها» [2] : هو صالح بن كيسان المدنيّ العالم مؤدّب بني عمر بن عبد العزيز، جاوز المائة سنة. انتهى.
وقد رأيت كيف وصفه بالأمين، وكفى بها منقبة.
__________
[1] واسمها الكامل «بديعة البيان عن موت الأعيان» ، وهي مخطوطة لم تنشر بعد، وقد تكلم عنها الأستاذ الفاضل محمد نعيم العرقسوسي في مقدمته لكتاب «توضيح المشتبه» لابن ناصر الدين، طبع مؤسسة الرسالة.
[2] واسم هذا «الشرح» «التبيان لبديعة البيان» وهو مخطوط أيضا، وقد تكلم عنه الأستاذ العرقسوسي أيضا في مقدمته ل «توضيح المشتبه» .(2/189)
سنة أربعين ومائة
فيها نزل جبريل بن يحيى الأمير من جهة صالح بن علي مرابطا بالمصّيصة، فأقام بها سنة حتّى بناها وحصّنها.
وفيها توفي فقيه واسط أبو العلاء أيوب بن أبي مسكين القصّاب كهلا، أخذ عن قتادة وجماعة.
خرّج له أبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ.
قال في «المغني» [1] : أيوب بن مسكين [2] أبو العلاء الواسطي القصّاب [صدوق] . قال أبو حاتم: لا يحتج به. انتهى.
وداود بن أبي هند البصريّ الفقيه، وكان حافظا، مبينا، نبيلا.
روى عن سعيد بن المسيّب، وأبي العالية، واسم أبيه أبو هند دينار بن عذافر، وقيل: طهمان القشيريّ مولاهم.
قال ابن ناصر الدّين: كان داود مفتي أهل البصرة وأحد القانتين، رأسا في العمل والعلم، قدوة في الدّين. انتهى.
__________
[1] (1/ 98) ولفظة «صدوق» مستدركة منه.
[2] ويقال له: «ابن أبي مسكين» كما في «التقريب» و «التهذيب» و «ميزان الاعتدال» (ع) .(2/190)
وفيها أبو حازم سلمة بن دينار المدنيّ الأعرج، عالم المدينة وزاهدها [1] وواعظها. سمع سهل بن سعد وطائفة. وكان أشقر فارسيا، وأمّه روميّة، وولاؤه لبني مخزوم.
قال ابن خزيمة: ثقة لم يكن في زمانه مثله، له حكم ومواعظ.
وأبو يزيد سهيل بن أبي صالح السمّان المدنيّ. روى عن أبيه وطبقته، وكان كثير الحديث، ثقة، مشهورا، أخذ عنه مالك والكبار.
وعمارة بن غزيّة المازنيّ المدنيّ. يروي عن الشّعبي وطبقته.
قال ابن سعد: ثقة كثير الحديث.
وعمرو بن قيس السّكونيّ الكنديّ الحمصيّ. ولهمائة سنة تامة.
روى عن عبد الله بن عمر والكبار، وذكر إسماعيل بن عيّاش أنه أدرك سبعين صحابيا.
وقال غيره: كان عمرو بن قيس أميرا من دولة عبد الملك بن مروان، وكان سيّد أهل حمص وشريفهم، ولي غزو الرّوم لعمر بن عبد العزيز.
__________
[1] في المطبوع: «وزاهداها» وهو خطأ.(2/191)
سنة إحدى وأربعين مائة
قال المدائنيّ: فيها ظهرت الرّيونديّة [1] ، وهم قوم خراسانيون على رأي أبي مسلم صاحب الدّعوة، يقولون بتناسخ الأرواح، وأنّ ربهم الذي يطعمهم ويسقيهم المنصور، وأن الهيثم بن معاوية جبريل، فأتوا قصر المنصور وطافوا فيه، فقبض على مائتين من كبارهم، فغضب الباقون وحفّوا بنعش وحملوا هيئة جنازة، ثم مروا بالسّجن فشدّوا على النّاس، وفتحوا السّجن وأخرجوا أصحابهم، وقصدوا المنصور في ستمائة مقاتل، فأغلق البلد، وحاربهم العسكر مع معن بن زائدة، ثم وضعوا فيهم السيف، وأصيب يومئذ الأمير عثمان بن نهيك، فاستعمل المنصور مكانه على الحرس [2] أخاه عيسى، وكان ذلك بالهاشميّة.
حدّث أبو بكر الهذليّ قال: اطلع المنصور، فقال رجل إلى جانبي:
هذا ربّ العزّة الذي يطعمنا ويرزقنا!.
وفيها افتتح المسلمون طبرستان بعد حروب طويلة.
وأقام الحجّ صالح بن علي أمير الشّام.
وفيها توفي موسى بن عقبة المدنيّ صاحب المغازي. روى عن أمّ خالد
__________
[1] نسبة إلى ريوند، كورة من نواحي نيسابور. انظر «الأنساب» (6/ 212) .
[2] في «العبر» للذهبي (1/ 191) : «على الحراس» .(2/192)
بنت خالد [1] المخزومية ولها صحبة، وعن عروة وطبقته.
قال الواقديّ: كان موسى فقيها يفتي.
قال ابن ناصر الدّين في «بديعة البيان» :
موسى فتى عقبة الأديب ... إسناده محرّر قريب
أي إلى النّبيّ- صلّى الله عليه وسلّم- بمعنى عالي السند.
وقال في «شرحها» : موسى بن عقبة بن ربيعة بن أبي عيّاش الأسديّ مولاهم المدنيّ أبو محمّد مولى آل الزّبير بن العوّام. روى عن صحابيّة، وعدة من التابعين، وكان متقنا فقيها، حافظا، نبيها، صنف المغازي فأجاد، ووصلت إلينا ولله الحمد بالإسناد. انتهى.
وفيها موسى بن كعب التيميّ المروزيّ أحد النقباء الاثني عشر، نقباء بني العبّاس، ولي إمرة مصر سبعة أشهر ومات.
وأبان بن تغلب.
قال في «العبر» [2] : الكوفيّ القارئ المشهور، وكان من ثقات الشّيعة.
يروي عن الحكم وطائفة. انتهى.
وقال في «المغني» [3] : أبان بن تغلب ثقة معروف.
قال ابن عدي وغيره: غال في التشيّع.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «أم خلد بنت خلد» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي.
وهي أم خالد أمة بنت خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس القرشية الأموية، وهي مشهورة بكنيتها. وليست أم خالد بنت خالد المخزومية، كما ذكر المؤلف. انظر «تهذيب الكمال» للمزي (3/ 1678) مصوّرة دار المأمون وا «الإصابة» لابن حجر (12/ 130) .
[2] (1/ 192) .
[3] (1/ 6) .(2/193)
[وقال الجوزجانيّ: زائغ مذموم المذهب، وثقه [1] أحمد، وابن معين، وأبو حاتم] [2] . انتهى.
وقد خرّج له مسلم والأربعة.
__________
[1] في المطبوع: «ووثقه» .
[2] ما بين حاصرتين لم يرد في «المغني» المطبوع بتحقيق الدكتور نور الدّين عتر.
والجوزجاني: هو إبراهيم بن يعقوب، وسوف ترد ترجمته في المجلد الثالث.(2/194)
سنة اثنتين وأربعين ومائة
فيها عزل عن مصر محمّد بن الأشعث، ووليها حميد بن قحطبة.
وولي الجزيرة، والثغور عبّاس أخو المنصور.
وفيها توفي خالد الحذّاء بن مهران البصريّ الحافظ. يروي عن كبار التابعين، وقد رأى أنسا، وكان يجلس في الحذّائين فنسب إليهم، ولقّب الحذّاء لجلوسه بينهم.
قال في «المغني» [1] : هو ثقة جبل، والعجب من أبي حاتم يقول:
لا يحتج به. انتهى [2] .
وقال ابن ناصر الدّين: كان أحد الثقات الأثبات.
والأمير سليمان ابن عمّ المنصور، وكان جوادا، ممدّحا، وبلغت عطاياه في الموسم [3] خمسة آلاف درهم، وولي إمرة البصرة، وعاش ستين سنة.
وفيها عاصم بن سليمان الأحول، أحد حفّاظ البصرة. روى عن عبد الله بن سرجس، وأنس، وطائفة.
__________
[1] «المغني في الضعفاء» (1/ 206) .
[2] وانظر «تقريب التهذيب» (1/ 219) .
[3] في «العبر» : «في المواسم» .(2/195)
قال في «المغني» [1] : تابعيّ، ثقة.
قال القطّان: ليس بالحافظ.
وقال الحاكم: ليس بالحافظ عندهم. انتهى.
وفيها، أو في التي بعدها، عمرو بن عبيد البصريّ العابد، الزّاهد، المعتزليّ، القدريّ، صاحب الحسن ثم خالفه واعتزل حلقته، فلذا قيل:
المعتزلي [2] .
قال في «العبر» : [قال الحسن: رأيته في النوم يسجد للشمس] [3] .
وقال ابن الأهدل: لما اعتزل واصل بن عطاء مجلس الحسن وطرده، تحول إليه عمرو فسمّوا معتزلة.
توفي بمرّان- بتشديد الراء- على طريق مكّة وهو راجع منها ورثاه الخليفة المنصور، ومدحه أيضا في حياته، والناس مختلفون فيه. انتهى.
وقال في «المغني» [4] : عمرو بن عبيد شيخ المعتزلة، سمع الحسن.
كذّبه أيوب، ويونس، وتركه ابن أبي شيبة [5] . انتهى.
وكانت له جرأة، فإنه قال عن ابن عمر: هو حشوي، فانظر هذه الجرأة والافتراء، عامله الله بعدله.
وفيها محمّد بن أبي إسماعيل الكوفيّ. روى عن أنس وجماعة.
وقال شريك: رأيت أولاد أبي إسماعيل أربعة ولدوا في بطن واحد وعاشوا.
__________
[1] (1/ 321) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «المعتزلة» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 193) .
[3] ما بين حاصرتين لم يرد في «العبر» المطبوع بتحقيق الدكتور صلاح الدّين المنجد (1/ 193) .
[4] (2/ 486) .
[5] في «المغني» : «وتركه النسائيّ» .(2/196)
وأبو هانئ حميد بن هانئ الخولانيّ المصريّ. روى عن علي بن رباح [وعدة] [1] وأدركه ابن وهب. قاله في «العبر» [2] .
__________
[1] لفظة «وعدة» سقطت من الأصل، والمطبوع، واستدركتها من «العبر» للذهبي.
[2] (1/ 193) .(2/197)
سنة ثلاث وأربعين ومائة
فيها ثارت الدّيلم [وبدّعوا] [1] وقتلوا خلائق من المسلمين، فانتدب النّاس لغزوهم.
وفيها سار الأمير محمّد بن الأشعث إلى المغرب، فالتقى الإباضيّة [2] وقتل زعيمهم أبو الخطّاب في المصافّ [3] .
وفيها توفي حجّاج بن أبي عثمان الصّوّاف، أحد حفّاظ البصرة. روى عن الحسن وغيره.
وحميد الطّويل، واسم أبي حميد تيرويه [4] أحد الثقات التابعين البصريين، كان قائما يصلي فسقط ميتا. سمع أنسا وطائفة، وكنيته أبو
__________
[1] لفظة «وبدّعوا» سقطت من الأصل، والمطبوع، واستدركتها من «العبر» للذهبي مصدر المؤلف.
[2] في الأصل، والمطبوع، و «العبر» للذهبي (1/ 194) : «الأباضية» بفتح الهمزة وهو خطأ.
قال ابن منظور: الإباضية: قوم من الحرورية لهم هوى ينسبون إلى إباض: وقيل: الإباضية فرقة من الخوارج أصحاب عبد الله بن إباض التميمي. «لسان العرب» (أبض) .
[3] قال ابن الأثير: المصاف جمع مصف، وهو موضع الحرب الذي يكون فيه الصّفوف.
«النهاية» (3/ 38) .
[4] قال الإمام المزي في «تهذيب الكمال» (7/ 355) طبع مؤسسة الرسالة: واسم أبي حميد:
تير، ويقال: تيرويه، ويقال: زاذويه، ويقال: داور، ويقال: طرخان، ويقال: مهران، ويقال: عبد الرّحمن، ويقال: مخلد، ويقال: غير ذلك، وهو خال حمّاد بن سلمة.(2/198)
عبيدة [1] ومات وله سبع وتسعون سنة، ومكث أربعين سنة يصوم يوما، ويفطر يوما، ويصلي الفجر بوضوء العشاء. قاله ابن الأهدل.
قال ابن ناصر الدّين: هو حميد بن أبي حميد الطّويل، البصريّ، أبو عبيدة، واسم أبيه تيرويه على الأشهر، وهو خال حمّاد بن سلمة.
كان إماما، حافظا، متقنا عمدة، وكان من ثقات الرّواة، ولم يدع لثابت البنانيّ علما إلّا حفظه منه ووعاه. انتهى.
وفي ذي القعدة سليمان بن طرخان التّيميّ القيسيّ مولاهم، أبو المعتمر، الحافظ الإمام، أحد مشايخ الإسلام.
روى عن أنس، والحسن، وغيرهما، وكان عابدا، صوّاما، قانتا لله، قواما.
قال في «العبر» [2] : قال شعبة: كان إذا حدّث عن رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- تغيّر لونه، وما رأيت أصدق [3] منه.
وقال معتمر: مكث أبي أربعين سنة يصوم يوما، ويفطر يوما، ويصلي الفجر بوضوء العشاء، وعاش سبعا وتسعين سنة. انتهى لفظ «العبر» [4] .
وفيها على الأصح ليث بن أبي سليم. يروي عن مجاهد وطبقته، وكان أحد الفقهاء.
قال الفضيل بن عياض: كان أعلم أهل زمانه بالمناسك.
__________
[1] في الأصل: «أبو حبيدة» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[2] (1/ 194) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «أحذق» ، والتصحيح من «العبر» للذهبي، وانظر «سير أعلام النبلاء» (6/ 196) .
[4] (1/ 194) .(2/199)
وقال الدّارقطنيّ: كان صاحب سنّة، إنما أنكروا عليه جمعه بين عطاء وطاووس، ومجاهد، وقد تقدم ذكره في سنة ثمان وثلاثين [ومائة] [1] .
وفيها مطرّف بن طريف الكوفيّ الزّاهد. روى عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى وجماعة.
وفيها يحيى بن سعيد الأنصاريّ المدنيّ الفقيه، أبو سعيد، أحد الأعلام، ولي قضاء المنصور، ومات بالهاشميّة قبل أن تبنى بغداد [2] روى عن أنس، وخلق.
قال أيوب السّختيانيّ: ما تركت بالمدينة أفقه منه، وكان يحيى القطّان يفضّله ويقدّمه على الزّهري.
وقال الثّوري: كان من الحفّاظ.
وقال ابن المديني: له نحو ثلاثمائة حديث.
__________
[1] زيادة مني، وانظر ص (187) من هذا المجلد.
[2] في «العبر» للذهبي (1/ 195) : «قبل أن يبنى بغداد» .(2/200)
سنة أربع وأربعين ومائة
فيها سار جيش العراق، والجزيرة لغزو الدّيلم، وعلى النّاس محمّد بن السّفّاح.
وحج بالنّاس المنصور، وأهمّه شأن محمّد بن عبد الله بن حسن، وأخيه إبراهيم لتخلّفهما عن الحضور عنده، فوضع عليهما العيون [1] وبذل الأموال، وبالغ في تطلّبهما لأنه عرف مرامهما، وقبض على أبيهما فسجنه في بضعة عشر من أهل البيت وماتوا في سجنه.
قيل: طرحهم في بيت وطيّن عليهم حتّى ماتوا.
ولما بلغ محمّدا وفاة أبيه ثار بالمدينة، وسجن متولّيها، وتتبّع أصحابه، وخطب النّاس، وبايعوه طوعا وكرها، واستعمل على مكّة، واليمن، والشّام عمّالا لم يتمكّنوا، وأحبّه النّاس حبّا عظيما، وكان فيه من الكمال وخصال الفضل، ويشبه النّبيّ- صلّى الله عليه وسلّم- في الخلق والخلق، واسمه واسم أبيه، حتّى قيل: إن خاتمه بين كتفيه، وكان أهل المدينة يعدون فيه من الكمال ما لو جاز أن يبعث الله نبيا بعد محمّد- صلّى الله عليه وسلّم- لكان هو.
وتكاتب هو والمنصور مكاتبات عظيمة، ولكليهما قول فصل جزل، والحق والتحقيق في جانب محمّد.
__________
[1] أي الجواسيس. قال ابن منظور: قال ابن سيدة: العين الذي يبعث ليتجسس الخبر، ويسمى ذا العينين، ويقال تسمية العرب ذا العينين وذا العوينتين، كله بمعنى واحد «لسان العرب» (عين) .(2/201)
وقد كان المنصور، والسّفّاح في خلافة الأمويين من الدّعاة إلى محمّد بن عبد الله هذا، ولما أعيا المنصور أمره، جهز إليه ابن عمه عيسى بن موسى بن محمّد بن علي بن عبد الله بن عبّاس، وقال: لا أبالي أيّهما قتل صاحبه، لأن عيسى ولي العهد بعد المنصور، على ما رتّبه لهم السّفّاح، فسار عيسى في أربعة آلاف، وكتب إلى الأشراف يستميلهم، فمال كثير منهم، وتحصّن محمّد بالمدينة، وأعمق خنادقها، وزحف عليه عيسى، وناداه بالأمان، وناشده الله، ومحمّد لا يرعوي لذلك، ولما ظهر له وتخاذل أصحابه، واغتسل وتحنّط، وقاتلهم بنفسه قتالا شديدا ومعه ثمانون رجلا، وقتل بيده اثني عشر رجلا ثم قتل، واستشهد لثنتي عشرة ليلة من رمضان سنة خمس وأربعين، وله اثنتان وخمسون سنة، وقبره بالبقيع مشهور مزور، وبعث برأسه إلى المنصور، وكانت مدة قيامه شهرين واثني عشر يوما.
وخرج أخوه إبراهيم بالبصرة في هذه السنة أيضا. وقد كان سار إليها من الحجاز، فدخلها سرّا في عشرة أنفس، فدعا إلى نفسه سرا، وجرت له أمور، وتهاون متولّي البصرة في أمر إبراهيم حتّى اتّسع الخرق، وخرج أول ليلة من رمضان، ونزل إليه متولّي الكوفة بالأمان، ووجد إبراهيم في بيت المال ستمائة ألف، ففرقها في أصحابه، ولما بلغ المنصور خروجه، تحوّل إلى الكوفة ليأمن غائلة أهلها، وألزم النّاس لبس السواد، وجعل يقتل ويحبس من اتّهمه، وبعث إبراهيم عاملا إلى الأهواز، وآخر إلى فارس وسائر البلدان، فأتاه مقتل أخيه بالمدينة قبل عيد الفطر بثلاث، فعيّد منكسرا، وجهز المنصور لحربه خمسة آلاف، فكان بينهما وقعات قتل فيها خلق عظيم، ولم يبرح المنصور حتّى قدم عيسى من المدينة فوجّهه إلى إبراهيم، وجعل المنصور لا يقرّ له قرار، ولا يأوي إلى فراش خمسين ليلة، كل ليلة يأتيه فتق من ناحية، وعنده مائة ألف بالكوفة، ولو هجم عليه إبراهيم بالكوفة لأوقع به، ولكنه قال:(2/202)
أخاف أن يستباح الصغير والكبير. فقيل له: إذا كان هذا فلم خرجت عليه؟
فالتقى الجمعان على يومين من الكوفة، فظهر جيش إبراهيم، وتهيّأ له الفتح، لولا حملة من عيسى بن موسى، وظاهره ابنا سليمان بن علي، فكسروا جيش إبراهيم، وجاءه سهم فوقع في حلقة [1] فأنزلوه وهو يقول: وَكانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَقْدُوراً 33: 38 [الأحزاب: 38] . وبعثوا برأسه إلى المنصور، وقتل وسنّه ثمان وأربعون سنة [2] وهرب أهل البصرة بحرا وبرّا.
وكان خرج مع إبراهيم كثير من القرّاء، والعلماء، منهم: هشيم، وأبو خالد الأحمر [3] وعيسى بن يونس، وعبّاد بن العوّام، ويزيد بن هارون، وأبو حنيفة، وكان يجاهر في أمره، ويحثّ النّاس على الخروج معه، كما كان مالك يحثّ النّاس على الخروج مع أخيه محمّد.
وقال أبو إسحاق الفزاريّ لأبي حنيفة: ما اتّقيت الله حيث حثثت أخي على الخروج مع إبراهيم فقتل، فقال: إنه كما لو قتل يوم بدر.
__________
[1] قال ابن الأثير: الحلقة السلاح عاما، وقيل: هي الدّروع. «النهاية» (1/ 427) .
[2] لفظة «سنة» سقطت من المطبوع.
[3] في الأصل، والمطبوع: «أبو خلد الأحمر» .
وهو سليمان بن حيّان الأزديّ الكوفيّ. حدّث عن: حميد الطويل، وسليمان التيمي، وهشام بن عروة، وليث بن أبي سليم، وأبي مالك الأشجعي، وإسماعيل بن أبي خالد، وعدة.
وحدّث عنه: أحمد بن حنبل، ومحمد بن عبد الله بن نمير، وأبو بكر بن أبي شيبة، وإسحاق بن راهويه، وأبو كريب، وأبو سعيد الأشجّ، ويوسف بن موسى، وهنّاد، والحسن بن حمّاد سجّادة، والحسن بن حمّاد الضبي، والحسن بن حمّاد المرادي، وخلق. قال العجليّ:
ثقة، يؤاجر نفسه من التجار. وقال أبو حاتم: صدوق، ووثقه جماعة. وقال ابن معين:
صدوق وليس بحجة، وتابعه على هذا ابن عدي. وقال معاوية بن صالح عن ابن معين: هو ثقة، وليس بثبت. قلت (القائل الحافظ الذهبي) : كان موصوفا بالخير، والدّين، وله هفوة، وهي خروجه مع إبراهيم بن عبد الله بن حسن، وحديثه محتجّ به في سائر الأصول. توفي سنة تسع وثمانين ومائة. عن «سير أعلام النبلاء» (9/ 19- 21) طبع مؤسسة الرسالة.(2/203)
وقال شعبة: والله لهي عندي بدر الصغرى.
وقال ابن قتيبة في «المعارف» [1] : فأما الحسن بن الحسن بن علي فولد عبد الله، والحسن، وإبراهيم، وجعفرا، وداود، ومحمّدا.
وكان عبد الله بن الحسن بن الحسن [2] يكنى أبا محمّد، وكان خيّرا، فاضلا، ورؤي يوما يمسح على خفّيه، فقيل له: تمسح؟ فقال: نعم، قد مسح عمر بن الخطّاب، ومن جعل عمر بينه وبين الله فقد استوثق.
وكان مع أبي العبّاس- أي السفاح- وكان له مكرما، وبه آنسا.
وأخرج يوما سفطا [3] فيه جوهر، فقاسمه إياه، وأراه بناء قد بناه، وقال له: كيف ترى هذا؟ فقال متمثّلا:
ألم تر حوشبا أمسى يبنّي ... قصورا نفعها لبني بقيله
يؤمّل أن يعمّر عمر نوح ... وأمر الله يحدث كلّ ليله
فقال له: أتتمثل [4] بهذا وقد رأيت صنيعي بك؟ فقال: والله ما أردت بها سوءا، ولكنها أبيات حضرت، فإن رأى أمير المؤمنين أن يحتمل ما كان مني! فقال: قد فعلت. ثم ردّه إلى المدينة.
فلمّا ولي أبو جعفر ألحّ في طلب ابنيه محمّد وإبراهيم ابني عبد الله فتغيّبا [5] بالبادية، فأمر أبو جعفر أن يؤخذ أبو هما عبد الله وإخوته حسن، وداود، وإبراهيم، وأن يشدّوا وثاقا ويبعث بهم إليه، فوافوه في طريق مكّة
__________
[1] ص (212- 213) والمؤلف ينقل عنه مع بعض التصرف.
[2] في الأصل، والمطبوع: «عبد الله بن حسن بن حسن» وأثبت ما في «المعارف» لابن قتيبة.
[3] قال الفيروزآبادي: السفط كالجوالق، أو كالقفة. «القاموس المحيط» (2/ 378) .
[4] في «المعارف» : «أتمثل» .
[5] في الأصل، والمطبوع: «وتغيبا» وأثبت ما في «المعارف» لابن قتيبة.(2/204)
بالرّبذة، مكتّفين، فسأله عبد الله أن يأذن له عليه، فأبى أبو جعفر، فلم يره [1] حتّى فارق الدّنيا، ومات في الحبس وماتوا، وخرج ابناه محمّد وإبراهيم على أبي جعفر، وغلبا على المدينة، ومكّة، والبصرة، فبعث إليهما موسى بن عيسى، فقتل محمّدا بالمدينة، وقتل إبراهيم ب باخمرا على ستة عشر فرسخا من الكوفة.
وإدريس بن عبد الله بن حسن، أخوهما هو الذي سار إلى الأندلس، والبربر، وغلب عليهما. انتهى.
وفيها- أي في سنة أربع وأربعين- توفي أبو مسعود سعيد بن إياس الجريريّ البصريّ محدّث البصرة. روى عن أبي الطّفيل وعدّة، وكان إماما، حافظا، ثبتا، إلّا أنه ساء حفظه وتغير قبل موته.
وفقيه الكوفة أبو شبرمة عبد الله بن شبرمة الضّبيّ القاضي. روى عن أنس والتابعين.
قال أحمد العجليّ: كان عفيفا، صارما، عاقلا، يشبه النّساك، شاعرا، جوادا.
وعقيل بن خالد [2] الأيليّ مولى بني أميّة، وصاحب الزّهري، لقي عكرمة [3] وطائفة، وكان حافظا، ثبتا، حجّة.
__________
[1] في الأصل: «فلم يرده» ، وفي المطبوع: «فلم يروه» وأثبت ما في «المعارف» .
[2] في الأصل، والمطبوع: «عقيل بن خالد» ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 197) .
[3] يعني عكرمة البربري مولى عبد الله بن عبّاس رضي الله عنه.(2/205)
وفي ذي الحجّة مجالد بن سعيد الهمدانيّ [1] الكوفيّ، صاحب الشّعبي، ليّنوا حديثه [2] وقد خرّج له مسلم مقرونا بآخر.
__________
[1] في المطبوع: «الهمذاني» وهو تصحيف.
[2] في «العبر» (1/ 197) : «كتبوا حديثه» ولعله تحريف من الناسخ. انظر «المغني في الضعفاء» (2/ 542) ، و «تقريب التهذيب» (2/ 229) .(2/206)
سنة خمس وأربعين ومائة
فيها خرجت التّرك، والخزر بباب الأبواب، وقتلوا واستباحوا بعض إرمينية.
وفيها أمر المنصور، فأسّست بغداد، وابتدئ بإنشائها، ورسم هيئتها وكيفيّتها أوّلا بالرّماد، وفرغت في أربعة أعوام بالجانب الغربي، وتحول إليها المنصور في سنة ست وأربعين قبل تمامها، وبغداد الآن أكثرها من الجانب الشرقي.
وفيها توفي الأجلح الكنديّ من مشاهير محدّثي الكوفة. روى عن الشّعبيّ وطبقته.
قال في «المغني» [1] : أجلح بن عبد الله أبو جحيفة الكنديّ، عن الشّعبيّ، شيعيّ لا بأس بحديثه، وليّنه بعضهم.
قال ابن أبي شيبة: ضعيف [2] . انتهى.
وفيها، وقيل: في سنة ست، إسماعيل بن أبي خالد البجليّ، مولاهم
__________
[1] (1/ 32) .
[2] في «المغني» : «وقال الجوزجانيّ: الأجلح مفتر» .(2/207)
الكوفيّ. الحافظ، أحد الأعلام. سمع أبا جحيفة، وابن أبي أوفى، وخلقا، وكان صالحا، ثبتا حجّة.
وعمرو بن ميمون بن مهران الجزريّ الفقيه، أخذ عن أبيه ومكحول، وكان يقول: لو علمت أنه بقي عليّ حرف [1] من السّنّة باليمن لأتيتها.
وحبيب بن الشهيد البصري. روى عن الحسن وأقرانه، وأرسل [2] عن أنس وجماعة، وكان ثبتا، كثير الحديث.
وعبد الملك بن أبي سليمان العرزميّ الكوفيّ الحافظ، أحد المحدّثين الكبار، وكان شعبة مع جلالته يتعجّب من حفظ عبد الملك. روى عن أنس فمن بعده.
وكان يقال له: ميزان الكوفة، كما ذكره ابن القيم، وهو ثقة ثبت.
وعمر [3] بن عبد الله مولى غفرة عن سنّ عالية. روى عن أنس والكبار.
قال أحمد: أكثر أحاديثه مراسيل، وليس به بأس.
وقال ابن معين: ضعيف.
ومحمد بن عمرو بن علقمة بن وقّاص اللّيثيّ المدنيّ. روى عن أبي سلمة وطائفة، وكان حسن الحديث، كثير العلم، مشهورا، أخرج له البخاريّ مقرونا بآخر.
__________
[1] في الأصل: «حزب» وهو تصحيف، وأثبت ما في المطبوع وهو موافق لما في «العبر» للذهبي وهو الصواب.
[2] قال ابن الأثير: المرسل من الحديث: هو أن يروي الرجل حديثا عمن لم يعاصره، وله بين المحدّثين أنواع واصطلاح في تسمية أنواعه. وانظر تتمة كلامه في «جامع الأصول» (1/ 115- 119) فهو مفيد إن شاء الله.
[3] في الأصل، والمطبوع: «وعمرو» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» (1/ 204) وكتب الرجال.(2/208)
ويحيى بن الحارث الذّماريّ مقرئ دمشق وإمام جامعها. قرأ على ابن عامر، وروى عن واثلة بن الأسقع وخلق، وورد أنه قرأ القرآن [أيضا] [1] على واثلة بن الأسقع، وعليه دارت قراءة الشّاميين.
ويحيى بن سعيد التّيميّ [2]- تيم الرّباب- الكوفيّ، وكان ثقة، إماما، صاحب سنّة. روى عن الشّعبيّ ونحوه.
__________
[1] لفظة «أيضا» زيادة من «العبر» للذهبي (1/ 205) .
[2] في الأصل: «التميمي» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب، وهو يحيى بن سعيد ابن حيّان أبو حيّان التيمي الكوفي العابد، من تيم الرباب كما في «تهذيب التهذيب» (11/ 214) .(2/209)
سنة ست وأربعين ومائة
في صفر تحوّل المنصور، فنزل بغداد قبل استتمام بنائها، وكان لا يدخلها أحد أبدا راكبا، حتّى أنّ عمه عيسى بن علي شكا إليه المشي، فلم يأذن له.
وفيها توفي أشعث بن عبد الملك الحمرانيّ، منسوب إلى حمران [1] ، مولى عثمان. روى عن ابن سيرين وغيره، وكان ثبتا، ثقة، حافظا.
أما أشعث بن سوّار، فكوفيّ فيه ضعف.
وكذا أشعث الحدّانيّ الرّاوي عن أنس ليس بالقوي.
وفيها عوف الأعرابيّ البصريّ، وكان صدوقا، شيعيا، كثير الحديث.
روى عن أبي العالية وطائفة.
قال في «المغني» [2] : ثقة، مشهور.
قال بندار [3] : قدريّ، رافضيّ، يعني يتشيع. انتهى.
__________
[1] في الأصل والمطبوع: الحمراني مولى حمران، وما أثبته من «تهذيب الكمال» (3/ 277) طبع مؤسسة الرسالة.
[2] (2/ 495) .
[3] هو محمد بن بشار بن عثمان العبدي البصري أبو بكر، وبندار، لقب له.(2/210)
وفيها محمد بن السّائب أبو النّضر الكلبيّ الكوفيّ، صاحب التفسير، والأخبار، والأنساب، أجمعوا على تركه، وقد اتّهم بالكذب والرّفض.
وقال ابن عدي: ليس لأحد أطول من تفسيره.
عنه [1] قال: سميت العرب شعوبا لأنهم تفرّقوا من ولد إسماعيل- عليه السلام- ومن ولد قحطان تشعّبوا، والعرب كلهم بنو إسماعيل إلا أربع قبائل، السلف، والأوزاع، وحضرموت، وثقيف، وأول من تكلم بالعربية يعرب بن الهميسع بن نبت بن إسماعيل، وكل نبي ذكر في القرآن فهو من ولد إبراهيم غير إدريس، ونوح، ولوط، وهود، وصالح- وكأنه لم يستثن آدم لأنه أبو الكلّ- قال: ولم يكن في العرب نبي إلا هود، وصالح، وإسماعيل، ومحمّد صلّى الله عليه وسلّم.
وروى ابن عبّاس أن أصحاب سفينة نوح كانوا ثمانين رجلا، فلما كثروا ملكهم نمرود بن كنعان بن حام بن نوح، فلما كفروا بلبل الله ألسنتهم وتفرقوا اثنتين وسبعين لسانا، وفهّم الله العربية عمليق، وأمم [2] وطسم ابني لاوذ بن سام [3] وعادا وعبيلا بني عوص بن سام بن نوح. انتهى كلام ابن الكلبي.
وانظر ما في كلامه، فإنه ذكر [أنّ] أول من تكلم بالعربية يعرب من ذريّة إسماعيل، ثم ذكر أنّ الله فهّمها عمليقا ومن ذكر بعده من ذريّة نوح، وكلاهما مخالف لما جاء، أنّ إسماعيل تعلم العربية من جرهم لما نشأ بينهم، حتّى قيل: إنّ إبراهيم لما كان يبني البيت يقول لإسماعيل: هات
__________
[1] يعني عن ابن الكلبي، وهو غير ابن الكلبي صاحب «جمهرة النسب» المنشور بدمشق بعناية الأستاذ محمود فردوس العظم.
[2] في الأصل: «اسم» وأثبت ما في المطبوع.
[3] في الأصل، والمطبوع: «لوذ بن سام» وهو خطأ، والتصحيح من «القاموس المحيط» (1/ 372) .(2/211)
هيك، والهيك بالسريانية الحجر، فيقول له إسماعيل: خذ الحجر، فهذا يتكلم بالسريانية، وهذا بالعربية.
وقيل: لما نزل أصحاب نوح من السفينة، خلق الله في قلوبهم لغات مختلفة، فتكلم كل منهم بلغة.
وفيها توفي هشام بن عروة بن الزّبير الفقيه، أحد حفّاظ الحديث.
قال مسح ابن عمر برأسي ودعا لي.
وقال وهيب: قدم علينا هشام بن عروة، فكان مثل الحسن وابن سيرين.
وحدّث عن أبيه، وعمّه، وكان ثبتا، متقنا، توفي ببغداد، وصلى عليه المنصور، ودفن بمقبرة الخيزران.
قيل: إنه ولد هو وعمر بن عبد العزيز، والزّهريّ، وقتادة، والأعمش ليالي قتل الحسين بن علي في المحرم سنة إحدى وستين.
وفيها، أو في التي تليها، يزيد بن أبي عبيد صاحب سلمة بن الأكوع ومولاه بالمدينة.(2/212)
سنة سبع وأربعين ومائة
فيها بدهت [1] الكفرة التّرك بناحية إرمينية، وقتلوا أمما، ودخلوا تفليس [2] فالتقاهم المسلمون، فلم ينصروا، وهزم أميرهم جبريل بن يحيى، وقتل مقدمهم الآخر حرب الرّيوندي، الذي تنسب إليه الحربيّة ببغداد.
وفيها ألحّ المنصور وتحيّل بكل ممكن على ابن عمه وليّ العهد عيسى بن موسى، بالرغبة، حتّى خلع نفسه كرها، وقيل: بل عوّضه عشرة آلاف ألف درهم، وعلى أن يكون أيضا وليّ عهده بعد المهديّ بن المنصور.
وفيها توفي عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز بن مروان الأموي. حدّث عن مجاهد وجماعة. وكان عالما، فقيها، نبيلا.
قال في «المغني» [3] : وثّقه جماعة، وضعّفه أبو مسهر. انتهى.
__________
[1] في الأصل: «بدعت» وأثبت ما في المطبوع، وهو الصواب.
ومعنى: بدهت، فجأت، وبادت: فاجأت. (ع) .
[2] في الأصل: «بقليس» وهو تصحيف، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
قال ياقوت: تفليس: بلد بإرمينية الأولى، وبعض يقول: بأرّان، وهي قصبة ناحية جرزان قرب باب الأبواب، وهي مدينة قديمة أزلية ... وهي مدينة لا إسلام وراءها، يجري في وسطها نهر يقال له: الكرّ، يصبّ في البحر ... وافتتحها المسلمون في أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه. انظر «معجم البلدان» (2/ 35- 37) .
[3] (2/ 398) .(2/213)
وخرّج له ابن عدي.
وفيها انهدم الحبس على الأمير عبد الله بن علي، الذي هزم مروان وافتتح دمشق، وكان من رجال الدّهر حزما، ورأيا، ودهاء، وشجاعة، وهو عمّ المنصور، سجنه المنصور سرّا، وقيل: إنه قتله سرّا، وهدم الحبس قصدا.
وفيها الإمام أبو عثمان عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطّاب العدويّ العمريّ المدنيّ، وكان أوثق إخوته وأفضلهم، وأكثرهم علما، وصلاحا، وعبادة. روى عن القاسم، وسالم، ونافع.
وفيها هشام بن حسّان الأزديّ القردوسيّ [1] الحافظ، محدّث البصرة، وصاحب الحسن، وابن سيرين.
قال ابن عيينة: كان أعلم النّاس بحديث الحسن.
وقيل: كان عنده ألف حديث.
وقال في «المغني» [2] : هشام بن حسّان، ثقة مشهور.
روى شعيب بن حرب عن شعبة قال: كان خشبيّا [3] ولم يكن يحفظ.
قلت [4] : وذكره العقيليّ في كتابه، فروى بإسناده عن ابن المديني،
__________
[1] في الأصل: «الفردوسي» وهو تصحيف، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
قلت: قال السمعاني في «الأنساب» (10/ 92- 93) : كان ينزل درب القراديس بالبصرة، فنسب إليه.
[2] (2/ 709- 710) .
[3] قال ابن الأثير: الخشبية: هم أصحاب المختار بن أبي عبيد. ويقال لضرب من الشيعة:
الخشبية، قيل: لأنهم حفظوا خشبة زيد بن علي حين صلب، والوجه الأول، لأن صلب زيد كان بعد ابن عمر بكثير. «النهاية» (2/ 33) .
[4] القائل هو الحافظ الذهبي في «العبر» .(2/214)
قال: كان أصحابنا يثبّتون هشام بن حسّان، وكان يحيى يضعّف حديثه [عن عطاء] [1] وكان النّاس يرون أنه أرسل حديث الحسن عن حوشب.
وقال عرعرة بن البرند [2] ذكرت [3] لجرير بن حازم هشام بن حسّان، فقال: ما رأيته عند الحسن قطّ.
قلت [4] : وأنكر عليه حديثه عن محمد بن عبيدة: ينقض الوضوء أذى المسلم [5] . انتهى.
__________
[1] ما بين حاصرتين سقط من الأصل، والمطبوع، واستدركته من «العبر» للذهبي.
[2] في الأصل: «اليزيد» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع، وهو موافق لما في «العبر» للذهبي، و «تقريب التهذيب» لابن حجر (2/ 18) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «ذكر» وأثبت ما في «العبر» للذهبي.
[4] القائل الحافظ الذهبي في «العبر» .
[5] انظر «سير أعلام النبلاء» للذهبي (6/ 359) .(2/215)
سنة ثمان وأربعين ومائة
فيها توجّه حميد بن قحطبة في جيش كثيف إلى ثغر إرمينية.
وفيها توفي الإمام، سلالة النبوّة، أبو عبد الله جعفر الصّادق بن محمد الباقر بن زين العابدين بن علي بن الحسين الهاشميّ العلويّ، وأمّه فروة بنت القاسم بن محمّد بن أبي بكر، فهو علويّ الأب، بكريّ الأمّ. روى عن أبيه وجدّه القاسم وطبقتهما، وكان سيّد بني هاشم في زمنه. عاش ثمانيا وستين سنة وأشهرا.
وولد سنة ثمانين بالمدينة، ودفن بالبقيع في قبة أبيه، وجدّه، وعمّ جدّه الحسن، وقد ألّف تلميذه جابر بن حيّان [1] الصوفيّ كتابا في ألف ورقة يتضمن رسائله، وهي خمسمائة، وهو عند الإمامية من الاثني عشر بزعمهم.
قيل: إنه سأل أبا حنيفة عن محرم كسر رباعية ظبي، فقال: لا أعرف جوابها، فقال: أما تعلم أن الظّبي لا يكون له رباعية.
وقال في «المغني» [2] : جعفر بن محمّد بن علي ثقة، لم يخرّج له
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «جابر بن جباب» وهو خطأ، والتصحيح من «غربال الزمان» للعامري ص (137) . والشيعة تقول: إن جابر بن حيان، صاحب جعفر الصادق، والأرجح أنه كان صاحب جعفر بن يحيى البرمكي. انظر «الأعلام» (2/ 103 و 104) .
[2] (1/ 134) .(2/216)
البخاريّ، وقد وثّقه ابن معين، وابن عديّ، وأما القطّان فقال: مجالد أحبّ إليّ منه. انتهى.
وفي ربيع الأول توفي الإمام أبو محمّد سليمان بن مهران الأسديّ الكاهليّ مولاهم الأعمش. روى عن ابن أبي أوفى، وأبي وائل والكبار.
وكان محدّث الكوفة وعالمها.
قال ابن المديني: للأعمش نحو ألف وثلاثمائة حديث.
وقال ابن عيينة: كان أقرأهم لكتاب الله، وأعلمهم بالفرائض، وأحفظهم للحديث.
وقال يحيى القطّان: هو علّامة الإسلام.
وقال [1] وكيع: بقي الأعمش قريبا من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى.
وقال الخريبيّ [2] : ما خلّف أعبد منه. وما يرويه عنه مالك فهو إرسال، لأنه لم يسمع منه، وكان فيه مزاح، خرج إلى الطلبة يوما وقال: لولا أن في منزلي من هو أبغض إليّ منكم ما خرجت.
وطلبه رجل ليصلح بينه وبين زوجته، فقال الرجل لزوجته: لا تنظري إلى عموشة عينيه، وخموشة ساقيه، فإنه إمام. قالت: ما لديوان الرسائل أريده. فقال: ما أردت إلّا أن تعرّفها عيوبي.
وقال له حائك: ما تقول في شهادة الحائك؟ فقال: تقبل مع عدلين.
وذكر عنده حديث «من نام عن قيام اللّيل بال الشيطان في أذنه» [3] .
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «قال» وأثبت ما في «العبر» للذهبي (1/ 209) .
[2] في الأصل: «الحرّيتي» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[3] رواه البخاري رقم (1144) في التهجّد: باب إذا نام ولم يصلّ بال الشيطان في أذنه، ومسلم رقم (774) في صلاة المسافرين، باب ما روي فيمن نام الليل حتى أصبح، والنسائي في قيام الليل (3/ 204) ، وابن ماجة، رقم (1330) في الإقامة، وأحمد في «المسند»(2/217)
فقال: ما عمشت عيني إلا من بول الشّيطان.
وكتب إليه هشام بن عبد الملك، أن اكتب لي فضائل عثمان، ومساوئ عليّ، فأخذ كتابه ولقّمه شاة عنده، وقال لرسوله: هذا جوابك، فألحّ عليه الرّسول في جواب، وتحمّل عليه بإخوانه، وقال: إن لم آت بالجواب قتلني، فكتب:
بسم الله الرّحمن الرّحيم أما بعد: فلو كان لعثمان مناقب أهل الأرض ما نفعتك، ولو كانت لعليّ مساوئ أهل الأرض ما ضرّتك، فعليك بخويصة نفسك، والسلام.
وقال في «المغني» [1] : الأعمش ثقة، جبل، ولكنه يدلّس.
قال وهب بن زمعة: سمعت ابن المبارك يقول: إنما أفسد حديث أهل الكوفة الأعمش، وأبو إسحاق. انتهى.
قلت: والتّدليس ليس كله قادحا، ولنذكر تعريفه وما يقدح منه وما لا يقدح، لأن ذلك لا يخلو من [2] فائدة. فأقول: التدليس له معنيان، لغويّ، واصطلاحيّ، فاللغويّ كتمان العيب في مبيع أو غيره، ويقال: دالسه:
خادعه، كأنه من الدلس وهو الظلمة، لأنه إذا غطى عليه الأمر أظلمه عليه، وأما في الاصطلاح، أي اصطلاح المحدّثين والأصوليين، فهو قسمان، قسم مضرّ يمنع القبول، وهو تدليس المتن عمدا، وهو محرّم، وفاعله مجروح، ويسمى المدرج أيضا، مثاله أن يدخل الرّاوي للحديث شيئا من كلامه فيه،
__________
(1/ 375 و 427) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. ورواه أيضا أحمد في «المسند» (2/ 260 و 427) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[1] (1/ 283) .
[2] في المطبوع: «عن» .(2/218)
أولا، أو آخرا، أو وسطا، على وجه يوهم أنه من جملة الحديث الذي رواه، ويسمى تدليس المتون، وفاعله عمدا مرتكب محرّما، مجروح عند العلماء لما فيه من الغش.
أما لو اتفق ذلك من غير قصد من صحابي أو غيره، فلا يكون ذلك محرّما، ومن ذلك كثير أفرده الخطيب البغدادي بالتصنيف.
ومن أمثلته حديث ابن مسعود في التشهّد، قال في آخره: وإذا قلت:
هذا فإن شئت أن تقوم. فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد [1] ، [وهو] [2] من كلامه لا من الحديث المرفوع، لما قاله البيهقيّ، والخطيب، والنوويّ، وغيرهم.
والقسم الثاني غير مضرّ لكنه مكروه مطلقا عند الحنابلة، وله صور. إحداها: أن يسمّي شيخه في روايته باسم له غير مشهور، من كنية، أو لقب، أو اسم، أو نحوه، كقول أبي بكر بن مجاهد المقرئ الإمام: حدّثنا عبد الله بن أبي أوفى، يريد به عبد الله بن أبي داود السّجستاني، وهو كثير جدا، ويسمى هذا تدليس الشيوخ.
وأما تدليس الإسناد، وهو أن يروي عمّن لقيه أو عاصره ما لم يسمعه منه، موهما سماعه منه، قائلا: قال فلان ونحوه، وربما لم يسقط شيخه ويسقط غيره، ومثّله بعضهم بما في «الترمذي» عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن عائشة- رضي الله عنها- مرفوعا «لا نذر في معصية، وكفّارته كفّارة يمين» [3] ثم قال: هذا حديث لا يصحّ، لأن الزّهري لم يسمعه من أبي
__________
[1] انظر «جلاء الأفهام» لابن القيم ص (336- 337) طبع مكتبة دار العروبة في الكويت.
[2] لفظة «وهو» سقطت من الأصل، وأثبتها من المطبوع. وانظر «فتح المغيث» للسخاوي (1/ 244) في بحث المدرج.
[3] رواه أحمد في «المسند» (6/ 247) وأبو داود رقم (3290) و (3292) في الأيمان والنذور، باب رقم (23) ، والترمذي رقم (1524) و (1525) في النذور: باب لا نذر في معصية،(2/219)
سلمة، ثم ذكر أن بينهما سليمان بن أرقم، عن يحيى بن أبي كثير، وأن هذا وجه الحديث.
قال ابن الصلاح: هذا القسم مكروه جدا، ذمّه أكثر العلماء، وكان شعبة من أشدّهم ذمّا له.
وقال مرّة: التّدليس أخو الكذب. ومرّة: لأن أزني أحبّ إليّ من أن أدلّس، وهذا إفراط منه، محمول على المبالغة في الزجر عنه.
الصورة الثانية: أن يسمي شيخه باسم شيخ آخر لا يمكن أن يكون رواه عنه، كما يقول تلامذة الحافظ أبي عبد الله الذّهبي: حدّثنا أبو عبد الله الحافظ تشبيها بقول البيهقيّ فيما يرويه عن شيخه أبي عبد الله الحاكم: حدّثنا أبو عبد الله الحافظ، وهذا لا يقدح لظهور المقصود.
والصورة الثالثة: أن يأتي في التحديث بلفظ يوهم أمرا لا قدح في إيهامه ذلك، كقوله: حدّثنا وراء النّهر، موهما نهر جيحون، وهو نهر عيسى ببغداد، والحيرة ونحوها، كمصر، فلا حرج في ذلك، قاله الآمدي، لأن ذلك من باب الإغراب، وإن كان فيه إيهام الرّحلة إلا أنه صدق في نفسه.
ومن فعله بصورة الثلاثة متأوّلا قبل عند أحمد وأصحابه والأكثر من الفقهاء والمحدّثين، ولم يفسق، لأنه صدر من الأعيان المقتدى بهم، حتّى قيل: لم يسلم منه إلا شعبة، والقطّان، ولكن من عرف به عن الضعفاء لم تقبل روايته حتّى يبيّن سماعه عند المحدّثين وغيرهم.
والإسناد المعنعن بلا تدليس بأيّ لفظ كان [1] متصل عند أحمد،
__________
والنسائي (7/ 26 و 27) ، وابن ماجة رقم (2125) من حديث عائشة رضي الله عنها. ورواه أحمد (4/ 443) والنسائي (7/ 27 و 28) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه، وهو حديث صحيح لطرقه وشواهده.
[1] جاء في هامش المطبوع: أي «بعن» أو «قال» أو نحوهما، كما هو فوق الكلمة بخط دقيق في الأصل، يعني في الأصل الذي اعتمد عليه القدسي- رحمه الله- في طبعته.(2/220)
والأكثر من المحدّثين وغيرهم، عملا بالظاهر، والأصل عدم التّدليس. حكاه ابن عبد البرّ في «التمهيد» إجماعا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفيها، أو في التي قبلها- وهو الصحيح- رؤبة بن العجّاج البصريّ التميميّ [1] السّعديّ، كان هو وأخوه من المدوّنين في الرجز ليس فيه شعر، مع أن الرجز شعر على الصحيح.
وكان عارفا باللغة وحشيّها وغريبها.
والرّوبة خميرة [2] اللّبن، وهي أيضا قطعة من الليل، والحاجة.
والرؤبة بالهمز: القطعة من الخشب يشعّب بها الإناء، والجميع بضم الراء وسكون الواو، إلا اسم هذا الرجل، والقطعة من الخشب، فإنهما بالهمز.
وفيها شبل بن عبّاد قارئ أهل مكّة، وتلميذ ابن كثير، حدّث عن أبي الطّفيل وطائفة.
وعمرو بن الحارث المصريّ الفقيه. حدّث عن ابن أبي مليكة وطبقته.
قال أبو حاتم الرّازي: كان أحفظ الناس في زمانه.
وقال ابن وهب: ما رأيت أحفظ منه، ولم يكن له نظير في الحفظ.
ومحمّد بن الوليد الزّبيديّ الحمصيّ القاضي، عالم أهل حمص. أخذ عن مكحول، وعمرو بن شعيب، وخلق.
وقال: أقمت مع الزّهري عشر سنين بالرّصافة [3] .
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «المصريّ التيمي» وهو خطأ، والتصحيح من «تهذيب التهذيب» (3/ 290) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «جريرة» وهو خطأ، والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» (6/ 162) .
[3] يعني رصافة الشام، التي تعرف برصافة هشام بن عبد الملك. انظر «معجم البلدان» لياقوت (3/ 47- 48) .
قلت: وهي الآن في سورية على مقربة من تدمر من جهة الشمال.(2/221)
وقال الزّهري عنه: قد احتوى هذا على ما بين جنبيّ من العلم.
وقال محمّد بن سعد: كان أعلم الشاميين بالفتوى والحديث [1] .
والعوّام بن حوشب شيخ واسط. روى عن إبراهيم النخعي وجماعة.
قال يزيد بن هارون: كان صاحب أمر بالمعروف ونهي عن المنكر.
وفيها [2] في رمضان قاضي الكوفة ومفتيها، أبو عبد الرّحمن محمّد بن عبد الرّحمن بن أبي ليلى الأنصاريّ الفقيه، لم يدرك أباه، وسمع الشّعبيّ وطبقته.
قال أحمد بن يونس: كان أفقه أهل الدّنيا، وكان صاحب قرآن وسنّة.
قرأ عليه حمزة الزّيّات، وكان صدوقا جائز الحديث. قاله في «العبر» [3] ومات وهو على القضاء.
وفيها محمّد بن عجلان المدنيّ. روى عن أبيه، وأنس، وطائفة، وكان عابدا، ناسكا، صادقا، له حلقة بمسجد النّبيّ- صلّى الله عليه وسلّم- للفتوى. روى له مسلم مقرونا بآخر، وكان مولى لقريش.
__________
[1] انظر «العبر» للذهبي (1/ 210) .
[2] لفظة «فيها» لم ترد في المطبوع.
[3] (1/ 211) .(2/222)
سنة تسع وأربعين ومائة
فيها غزا النّاس بلاد الرّوم وعليهم العبّاس بن محمّد، فمات في الغزاة أكثر أمرائه [1] .
وفيها توفي بالكوفة زكريّا بن أبي زائدة الهمدانيّ [2] القاضي، والد يحيى. روى عن الشّعبي وغيره.
قال في «المغني» [3] : صدوق، مشهور.
قال أبو زرعة: صويلح.
وقال أبو حاتم: ليّن الحديث يدلّس.
وثّقه أبو داود، وقال: يدلّس. انتهى.
وفيها عيسى بن عمر النّحويّ.
قال ابن قتيبة [4] : كان صاحب تقعير في كلامه، واستعمال للغريب فيه وفي قراءته.
__________
[1] في «العبر» للذهبي: «فمات أكبر أمرائه محمد بن الأشعث الذي كان ولي إمرة مصر» .
[2] في المطبوع: «الهمذاني» وهو تصحيف.
[3] (1/ 239) .
[4] في «المعارف» ص (540) .(2/223)
وضربه يوسف بن عمر بن هبيرة في سبب وهو يقول: والله إن كانت إلّا أثيابا في أسفاط [1] قبضها عشّاروك. انتهى.
وقال ابن الأهدل: عيسى بن عمر النّحويّ الثّقفيّ البصريّ مولى خالد بن الوليد، نزل في ثقيف، فنسب إليهم، وكان صاحب غريب في لفظه ونحوه، وحكي أنه سقط عن حمار فاجتمع عليه النّاس، فقال: ما لكم تكأكأتم عليّ كتكأكئكم على ذي جنّة [2] افرنقعوا عني.
معناه: ما لكم تجمّعتم عليّ كتجمّعكم على مجنون، افترقوا عنّي، فقالوا: إن شيطانه هنديّ، وهو شيخ سيبويه [وله «كتاب الجامع» في النحو، وهو المنسوب إلى سيبويه، وله أيضا «الإكمال» وصنّف نيفا وسبعين كتابا في النحو، ولم يبق منها سوى «الجامع» ، و «الإكمال» لأنها كانت احترقت إلّا هذين، وكان سيبويه] [3] رحل إليه، وعاد ومعه «الجامع» فسأله الخليل عن عيسى، فأخبره بأخباره، وأراه «الجامع» فقال الخليل:
ذهب النّحو جميعا كلّه [4] ... غير ما أحدث عيسى بن عمر
ذاك إكمال وهذا جامع ... وهما للنّاس شمس وقمر
وهو شيخ سيبويه، والخليل، وأبي عمرو ابن العلاء.
__________
[1] في «المعارف» ، و «وفيات الأعيان» (3/ 488) : «في أسيفاط» .
[2] قال ابن منظور: الجنّة الجنون ... وفي التنزيل العزيز: أَمْ به جِنَّةٌ 34: 8 [سبأ: 8] والاسم المصدر على صورة واحدة، ويقال: به جنّة وجنون ومجنّة. «لسان العرب» (جنن) .
[3] ما بين الحاصرتين سقط من الأصل، وأثبته من المطبوع.
[4] في الأصل: «ذهب النحو كله جميعا» وأثبت ما في المطبوع وهو موافق لما في «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 328) أصل «مختصر» ابن الأهدل الذي نقل عنه المؤلف رحمه الله. قال العلّامة الأستاذ خير الدّين الزركلي- رحمه الله- في ترجمة ابن الأهدل في «الأعلام» (2/ 240) : و [كتابه] «مختصر تاريخ اليافعي» رأيته في خزانة الشيخ محمد سرور الصبان بجدّة غير كامل.(2/224)
وعيسى هذا هو الذي هذّب النّحو ورتّبه. انتهى ملخصا مزيدا فيه.
وفيها توفي كهمس بن الحسن البصريّ، روى عن أبي الطّفيل وجماعة.
والمثنّى بن الصّبّاح اليمانيّ [1] بمكّة. روى عن مجاهد، وعمرو بن شعيب، وجماعة، وكان من أعبد النّاس، وفي حديثه ضعف.
__________
[1] في الأصل: «اليافعي» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو موافق لما في «العبر» للذهبي (1/ 212) وهو الصواب.(2/225)
سنة خمسين ومائة
فيها خرجت أهل خراسان على المنصور مع الأمير أستاذسيس [1] حتّى اجتمع له فيما قيل: ثلاثمائة ألف مقاتل، ما بين فارس وراجل، وسائرهم من أهل هراة، وسجستان، واستولى على أكثر خراسان، وعظم الخطب، فنهض لحربه الأخثم [2] المروروذي، فقتل الأخثم واستبيح عسكره، فسار حازم بن خزيمة في جيش عظيم بالمرّة، فالتقى الجمعان، وصبر الفريقان، وقتل خلق [كثير] [3] حتّى قيل: إنه قتل في هذه الوقعة سبعون ألفا، وانهزم أستاذسيس في طائفة إلى جبل، وكانت هذه الوقعة في السنة الآتية، سقناها استطرادا، ثم أمر حازم بالأسرى فضرب أعناقهم كلهم وكانوا أربعة عشر ألفا ثم حاصر أستاذسيس مدة، ثم نزل على حكمهم، فقيد هو وأولاده، وأطلق أصحابه، وكانوا ثلاثين ألفا.
وفيها توفي إمام الحجاز أبو الوليد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح الرّوميّ ثم المكيّ، مولى بني أميّة عن أكثر من سبعين سنة. أخذ عن عطاء وطبقته، وهو أول من صنّف الكتب بالحجاز، كما أن سعيد بن أبي عروبة أول من صنّف بالعراق.
__________
[1] في الأصل: «إسناديس» ، وفي المطبوع هنا وفي سياق الخبر: «إسناذسيس» وما أثبتناه من «العبر» للذهبي (1/ 213) مصدر المؤلف، وفي «دول الإسلام» للذهبي: «إسنادسيس» .
[2] في «دول الإسلام» للذهبي: «الأجثم» .
[3] زيادة من «العبر» للذهبي (1/ 212) .(2/226)
قال أحمد: كان من أوعية العلم.
قال في «العبر» [1] : ولم يطلب العلم إلّا في الكهولة، ولو سمع في عنفوان شبابه لحمل عن غير واحد من الصحابة، فإنه قال: كنت أتتبّع [2] الأشعار العربيّة والأنساب، حتّى قيل لي: لو لزمت عطاء، فلزمته ثمانية عشر عاما.
قال ابن المديني: لم يكن في الأرض أعلم بعطاء بن أبي رباح من ابن جريج.
وقال عبد الرّزّاق: ما رأيت أحدا أحسن صلاة من ابن جريج.
وقال خالد بن نزار الأيلي: رحلت بكتب ابن جريج سنة خمسين ومائة لألقاه [3] فوجدته قد مات رحمه الله تعالى. انتهى كلامه في «العبر» .
وقال ابن الأهدل: هو أول من صنّف الكتب في الإسلام، كان باليمن مع معن بن زائدة، قال: فحضر وقت الحجّ وخطر بباله قول عمر بن أبي ربيعة:
بالله قولي له من غير معتبة ... ماذا أردت بطول المكث في اليمن
إن كنت حاولت دنيا أو نعمت بها ... فما أخذت بترك [4] الحجّ من ثمن [5]
قال: فدخلت على معن، فأخبرته أني عزمت على الحجّ، قال: لم تذكره من قبل، فأخبرته بما بعثني، فجهّزني وانطلقت. انتهى.
__________
[1] (1/ 213) وكلام المؤلف المتقدم عنه من «العبر» أيضا.
[2] في «العبر» للذهبي: «اتبع» .
[3] لفظة «لألقاه» سقطت من «العبر» للذهبي (1/ 214) فتستدرك فيه.
[4] في الأصل، والمطبوع: «فما أجدت لترك الحج» وما أثبته من «ديوان عمر بن أبي ربيعة» .
[5] البيتان في «ديوان عمر بن أبي ربيعة» ص (217) طبع الهيئة المصرية العامة للكتاب.(2/227)
وقال في «المعارف» [1] : ابن جريج، هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، وجريج كان عبدا لأمّ حبيب بنت جبير، وكانت تحت عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسد، فنسب إلى ولائه، وولد سنة ثمانين عام الجحاف. والجحاف: سيل كان بمكّة.
حدّثني [2] أبو حاتم، عن الأصمعيّ، عن أبي هلال قال: كان ابن جريج أحمر الخضاب.
روى الواقديّ قال: حدّثنا عبد الرّحمن بن أبي الزّناد [3] قال: شهدت ابن جريج جاء إلى هشام بن عروة، فقال يا أبا المنذر الصحيفة التي أعطيتها إلى فلان [4] هي حديثك؟ قال: نعم.
قال الواقديّ: فسمعت ابن جريج بعد ذلك يقول: حدّثنا هشام بن عروة ما لا أحصي.
قال [5] : وسألته عن قراءة الحديث عن المحدّث. قال: ومثلك يسأل عن هذا؟ إنما اختلف النّاس في الصحيفة يأخذها ويقول: أحدّث بما فيها، ولم يقرأها، وأما إذا قرأها فهو والسماع سواء. انتهى كلام «المعارف» .
قلت: وهذا مذهب مالك وجماعة، وأما عند الحنابلة فالسماع أعلى رتبة، ويشهد لمذهبهم العقل والذّوق، والله أعلم.
وفيها مات أبو الحسن مقاتل بن سليمان الأزديّ مولاهم الخراسانيّ
__________
[1] ص (488) .
[2] القائل ابن قتيبة في «المعارف» .
[3] في الأصل، والمطبوع: «عبد الرحمن بن أبي زياد» ، وهو خطأ، والتصحيح من «المعارف» لابن قتيبة ص (488) وكتب الرجال.
[4] في «المعارف» : «التي أعطيتها فلانا» .
[5] القائل الواقدي.(2/228)
المفسّر. [عدّوه من المشبّهة كما ذكره الشيخ عبد القادر في «الغنية» ] [1] .
وقال في «المغني» [2] : مقاتل بن سليمان البلخي [المفسّر] [3] ، هالك، كذّبه وكيع والنسائي. انتهى.
وقال ابن الأهدل: كان نبيلا، واتهم في الرّواية. قال مرّة: سلوني عمّا دون العرش، فقيل له: من حلق رأس آدم لمّا حجّ. وقال له آخر: الذّرّة [4] أو النملة معاؤها في مقدمها أو مؤخرها، فلم يدر ما يقول، وقال: ليس هذا من علمكم، لكن بليت به لعجبي بنفسي.
وسأله المنصور: لم خلق الله الذّباب، فقال: ليذلّ به الجبابرة.
وقال الشّافعيّ: النّاس عيال على مقاتل بن سليمان في التفسير، وعلى زهير بن أبي سلمى في الشعر، وعلى أبي حنيفة في الفقه، وعلى الكسائي في النحو، وعلى ابن إسحاق في المغازي.
وفيها توفي الإمام أبو حنيفة النّعمان بن ثابت الكوفيّ، مولى بني تيم الله بن ثعلبة، ومولده سنة ثمانين، رأى أنسا وغيره، ونظم بعضهم من لقي من الصحابة فقال:
لقي الإمام أبو حنيفة ستّة ... من صحب طه المصطفى المختار
أنسا وعبد الله نجل أنيسهم ... وسميّه ابن الحارث الكرّار
وزد ابن أوفى وابن واثلة الرّضي ... واضمم إليهم معقل بن يسار
__________
[1] ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع. و «الغنية» و «الغنية لطالب طريق الحق» وهو مطبوع متداول.
[2] (2/ 675) .
[3] لفظة «المفسر» سقطت من الأصل، والمطبوع، واستدركتها من «المغني» للذهبي.
[4] قال ابن منظور: الذّر: صغار النمل، واحدته ذرّة، قال ثعلب: إن مائة منها وزن حبة من شعير، فكأنها جزء من مائة، وقيل: الذّرّة ليس لها وزن. «لسان العرب» (ذرر) .(2/229)
ولكن لم تثبت له رواية عن أحد منهم، وإنما روى عن عطاء بن أبي رباح وطبقته، وتفقّه على حمّاد بن سليمان، وكان من أذكياء بني آدم، جمع الفقه، والعبادة، والورع، والسّخاء، وكان لا يقبل جوائز الدولة، بل ينفق ويؤثر من كسبه، له دار كبيرة لعمل الخزّ [1] وعنده صنّاع وأجراء رحمه الله تعالى.
قال الشّافعيّ: النّاس في الفقه عيال على أبي حنيفة.
وقال يزيد بن هارون: ما رأيت أورع ولا أعقل من أبي حنيفة.
وروى بشر بن الوليد، عن أبي يوسف قال: بينما أنا أمشي مع أبي حنيفة، إذ سمعت رجلا يقول لآخر: هذا أبو حنيفة لا ينام الليل، فقال: والله لا يتحدّث عنّي بما لم أفعل، فكان يحيي الليل صلاة، ودعاء، وتضرّعا.
وقد روي أن المنصور سقاه السّمّ فمات شهيدا- رحمه الله- سمّه لقيامه مع إبراهيم [2] . قاله في «العبر» [3] .
وذكر الحافظ العامري في تأليفه «الرياض المستطابة» [4] وكذلك ملخّصه صالح بن صلاح العلائي، ومن خطّه نقلت، أن الإمام أبا حنيفة رأى عبد الله بن الحارث بن جزء الصحابي، وسمع منه قوله- صلّى الله عليه وسلّم-: «من تفقّه في دين الله كفاه الله همّه ورزقه من حيث لا يحتسب» [5] . انتهى.
__________
[1] قال في «مختار الصحاح» ص (174) : الخزّ واحد الخزوز من الثياب.
[2] هو إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب، أحد الأمراء الشجعان، خرج بالبصرة على المنصور، وتحول إلى الكوفة، وممن آزره أبو حنيفة، قتله حميد بن قحطبة سنة (145) هـ. انظر «الأعلام» للزركلي (1/ 48) . (ع) .
[3] (1/ 214- 215) .
[4] ص (149) من منسوختنا، وقد قمت بتحقيقه بالاشتراك مع الأستاذ الفاضل رياض عبد الحميد مراد. وسوف نقدمه للطبع قريبا إن شاء الله تعالى.
[5] ذكره الخطيب البغدادي في «تاريخ بغداد» (3/ 32) وكذلك هو في «تاريخ نيسابور» للحاكم وقد ذكره الذهبي في «الميزان» (1/ 141) وفي سنده أحمد بن محمد بن الصلت الحمّاني، وهو كذاب وضاع. قال الذهبي: قلت: هذا كذب، وعبد الله بن الحارث بن جزر الصحابي(2/230)
وقال ابن الأهدل: نقله المنصور عن الكوفة إلى بغداد ليولّيه القضاء فأبى، فحلف عليه ليفعلنّ، فحلف أن لا يفعل، وقال أمير المؤمنين أقدر مني على الكفّارة، فأمر به إلى الحبس.
وقيل: إنه ضربه.
وقيل: سقاه سمّا لقيامه مع إبراهيم بن عبد الله بن حسن [1] فمات شهيدا.
وقيل: إنه أقام في القضاء يومين ثم اشتكى ستة أيام ومات.
وكان ابن هبيرة قد أراده على القضاء في الكوفة أيام مروان الجعديّ فأبى، وضربه مائة سوط وعشرة أسواط، كل يوم عشرة، وأصرّ على الامتناع، فخلّى سبيله.
وكان الإمام أحمد، إذا ذكر ذلك ترحّم عليه. انتهى.
وقد قال في «الأشباه والنظائر» [2] : لما جلس أبو يوسف- رحمه الله- للتدريس من غير إعلام أبي حنيفة، أرسل إليه أبو حنيفة رجلا فسأله عن خمس مسائل:
الأولى: قصّار جحد الثوب وجاء به مقصورا، هل [3] يستحق الأجر أم لا؟ فأجاب أبو يوسف: يستحق الأجر. فقال له الرّجل: أخطأت، فقال: لا يستحق، فقال: أخطأت، ثم قال له الرّجل: إن كانت القصارة قبل الجحود استحقّ، وإلا فلا.
الثانية: هل الدخول في الصّلاة بالفرض أم بالسّنّة؟ فقال: بالفرض،
__________
توفي بمصر ولأبي حنيفة ست سنين، وكذلك قال الحافظ ابن حجر في «اللسان» (1/ 270) .
[1] تقدم التعريف به في الصفحة السابقة التعليق رقم (2) .
[2] «الأشباه والنظائر» لابن نجيم ص (512- 513) بتحقيق الأستاذ الفاضل محمد مطيع الحافظ، طبع دار الفكر بدمشق. وما بين حاصرتين في القصة استدركته منه.
[3] في الأصل، والمطبوع: «أهل» وأثبت لفظ «الأشباه والنظائر» .(2/231)
فقال: أخطأت، فقال بالسّنّة، فقال: أخطأت، فتحيّر أبو يوسف، فقال الرّجل: بهما، لأن التكبير فرض، ورفع اليدين سنّة.
الثالثة: طير سقط في قدر على النّار، فيه لحم ومرق، هل يؤكلان، أم لا؟
فقال أبو يوسف: يؤكلان، فخطّأه، فقال: لا يؤكلان، فخطّأه، ثم قال: إن كان اللحم مطبوخا قبل سقوط الطير يغسل ثلاثا ويؤكل، وترمى المرقة، وإلا يرمى الكلّ.
الرابعة: مسلم له زوجة ذميّة ماتت وهي حامل منه، تدفن في أيّ المقابر؟ فقال: في مقابر المسلمين، فخطّأه، فقال أبو يوسف: في مقابر أهل الذّمّة، فخطّأه، فتحيّر [أبو يوسف] فقال [الرّجل: تدفن] في مقابر اليهود- أي لأنهم يوجهون قبورهم إلى القبلة- ولكن يحوّل وجهها عن القبلة حتّى يكون وجه الولد إلى القبلة، لأن الولد في البطن يكون وجهه إلى ظهر أمه.
الخامسة: أمّ ولد لرجل، تزوجت بغير إذن مولاها، [فمات المولى] ، هل تجب العدّة من المولى؟ فقال: تجب، فخطّأه، [ثم قال: لا تجب، فخطّأه] ، ثم قال الرّجل: إن كان الزّوج دخل بها لا تجب، وإلا وجبت.
فعلم أبو يوسف تقصيره، فعاد إلى أبي حنيفة، فقال تزبّبت [1] قبل أن تحصرم، كذا في إجارات الفيض. انتهى كلام «الأشباه» والله أعلم، وبه التوفيق.
وفيها، أو في التي قبلها- وهو الصحيح- الحجّاج بن أرطاة.
قال ابن ناصر الدّين في «بديعة البيان» :
ثمّ أبو أرطأة الحجّاج ... مدلّس قد طمس الحجاج
__________
[1] في المطبوع: «تزبيت» وهو تصحيف.(2/232)
أي العظم المستدير حول العين، ويقال: بل هو الأعلى الذي تحت الحاجب [1] .
قال في «المغني» [2] : حجّاج بن أرطاة النخعيّ الكوفيّ، من كبار الفقهاء، تركه ابن مهدي، والقطّان، وقال أحمد، لا يحتجّ به. وقال ابن عديّ: ربما أخطأ ولم يتعمّد، وقد وثّق. وقال ابن معين. أيضا: صدوق يدلس. خرّج له مسلم مقرونا بغيره انتهى.
وقد خرج له الأربعة [3] ، وابن حبّان.
وفيها عمر بن محمّد بن يزيد بن عبد الله بن عمر العمريّ بعسقلان.
روى عن سالم بن عبد الله وطائفة، ولم يعقّب، وكان من السادة العبّاد.
قال الثوريّ: لم يكن في آل عمر أفضل منه.
وقال أبو عاصم النّبيل: كان من أفضل أهل زمانه.
وعثمان بن الأسود المكيّ: روى عن سعيد بن جبير، ومجاهد، وطاووس.
__________
[1] انظر «لسان العرب» (حجج) .
[2] (1/ 149) .
[3] يعني أصحاب «السنن» أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة.(2/233)
سنة إحدى وخمسين ومائة
فيها قدم المهديّ من الرّيّ إلى بغداد ليراها، فأمر أبوه ببناء الرّصافة [1] للمهدي في الجانب الشرقي مقابلة [بغداد] [2] وجعل له حاشية وحشم [3] وآلة في زيّ الخلافة [4] . وجدّد البيعة بالخلافة للمهديّ من بعده، ومن بعد المهديّ لعيسى بن موسى [5] .
وفي رجب توفي الإمام عبد الله بن عون شيخ أهل البصرة وعالمهم.
روى عن أبي وائل والكبار.
قال هشام بن حسّان: لم تر عيناي مثل ابن عون.
وقال قرّة: كنّا نعجب من ورع ابن سيرين فأنساناه [6] ابن عون.
وقال عبد الرّحمن بن مهدي: ما كان بالعراق أعلم بالسّنّة من ابن عون.
وقال أبو إسحاق: هو ثقة في كل شيء.
__________
[1] قلت: وتعرف برصافة بغداد. انظر خبرها في «معجم البلدان» لياقوت (3/ 46) .
[2] زيادة من «العبر» للذهبي (1/ 215) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «وحشمة» وهو تحريف، والتصحيح من «العبر» للذهبي.
[4] في «دول الإسلام» للذهبي (1/ 104) : «وخيلا في زي الخلفاء» .
[5] في المطبوع: «لعلي بن موسى» وهو خطأ.
[6] في الأصل، والمطبوع: «فأنساه» وأثبت ما في «العبر» للذهبي (1/ 216) .(2/234)
وفيها محمّد بن إسحاق بن يسار المطلبيّ مولاهم المدنيّ صاحب «السيرة» رأى أنسا وسمع الكثير من المقبريّ [1] ، والأعرج، وهذه الطبقة، وكان بحرا من بحور العلم، ذكيّا، حافظا، طلّابة للعلم، أخباريا، نسّابة، علّامة.
قال شعبة: هو أمير المؤمنين في الحديث.
وقال [2] ابن معين: هو ثقة وليس بحجّة.
وقال أحمد بن حنبل: هو حسن الحديث. قاله في «العبر» [3] .
وقال ابن الأهدل: لا تجهل أمانته، ووثّقه الأكثرون في الحديث، ولم يخرّج له البخاريّ شيئا، وخرّج له مسلم حديثا واحدا، من أجل طعن مالك فيه، وإنما طعن فيه مالك لأنه بلغه أنه قال: هاتوا حديث مالك فأنا طبيب بعلله.
ومن كتب ابن إسحاق أخذ عبد الملك بن هشام، وكلّ من تكلم في السّير فعليه اعتماده، توفي ببغداد ودفن في مقبرة الخيزران أمّ الرّشيد، نسبت المقبرة إليها لأنها أقدم من دفن فيها، وهي بالجانب الشرقي. انتهى.
وقال بعض المحدّثين: ابن إسحاق ثقة ما لم يعنعن فيخشى منه التّدليس. انتهى.
وقال ابن ناصر الدّين: كان بحرا من بحور العلم، صدوقا، مختلفا فيه جرحا وتوثيقا. انتهى.
__________
[1] في الأصل: «من المقر» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو موافق لما في «العبر» للذهبي مصدر المؤلف وهو الصواب.
[2] في المطبوع: «قال» .
[3] (1/ 216) .(2/235)
وفيها حنظلة بن أبي سفيان بن عبد الرّحمن بن صفوان بن أميّة الجمحيّ المكيّ، روى عن مجاهد وطبقته.
والوليد بن كثير المدنيّ بالكوفة. روى عن بشير بن يسار وطائفة، وكان عارفا بالمغازي والسّير، ولكنه إباضيّ. قاله في «العبر» [1] .
والإباضية: هم المنسوبون إلى عبد الله بن إباض. قالوا: مخالفونا من أهل القبلة كفّار، ومرتكب الكبيرة موحّد غير مؤمن، بناء على أن الأعمال داخلة في الإيمان، وكفّروا عليّا وأكثر الصحابة.
قال الذّهبيّ في «المغني» [2] : الوليد بن كثير المخزوميّ ثقة، وحديثه [3] في الكتب الستة. سمع سعيد بن أبي هند، والكبار.
قال أبو داود: ثقة إلّا أنه إباضي.
وقال ابن سعد: ليس بذاك. انتهى.
وفيها سيف بن سليمان المكيّ. روى عن مجاهد وغيره.
قال في «المغني» [4] : ثقة إلا أنه رمي بالقدر. انتهى.
وفيها، أو في التي تليها، صالح [5] بن عليّ الأمير، عمّ المنصور، وأمير الشّام، وهو الذي أمر ببناء أذنة [6] التي في يد صاحب سيس، وقد هزم الرّوم
__________
[1] (1/ 217) .
[2] (2/ 724) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «حديثه» وأثبت ما في «المغني» .
[4] (1/ 291) .
[5] في الأصل: «صبح» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع، وهو موافق لما في «العبر» للذهبي (1/ 217) .
[6] في الأصل: «أدنه» وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
قلت: وتعرف في أيامنا ب «أضنه» ، وهي الجنوب الأوسط من تركيا المعاصرة. انظر خبرها في «معجم البلدان» لياقوت (1/ 132- 133) .(2/236)
يوم [مرج] [1] دابق، وكانوا مائة ألف.
وفيها قتلت الخوارج غيلة معن بن زائدة الشّيبانيّ الأمير بسجستان، وكان قد وليها عام أوّل، وكان أحد الأبطال والأجواد. وكان مع بني أميّة متنقّلا في ولاياتهم، مواليا لابن هبيرة، وقاتل معه المنصور، فلما قتل ابن هبيرة خاف معن فاختفى، فلما كان يوم الهاشميّة- وهو يوم مشهود- ثار فيه جماعة من أهل خراسان على المنصور، وكانت وقعتهم بالهاشميّة التي بناها السّفّاح بقرب الكوفة، وكان معن متواريا بالقرب منهم، فخرج متنكّرا وقاتل قتالا شديدا أبان فيه عن نجدته وفرّقهم، فلما أفرج عن المنصور قال له: من أنت؟ فكشف اللثام وقال: أنا طلبتك [2] يا أمير المؤمنين، فأمّنه وأكرمه، وصار من خواصه، وقال له: أنت الذي أعطيت مروان بن أبي حفص مائة ألف درهم على قوله:
معن بن زائدة الذي زيدت به ... شرفا على شرف بنو شيبان [3]
فقال: إنما أعطيته على قوله:
ما زلت [4] يوم الهاشميّة معلنا [5] ... بالسّيف دون خليفة الرّحمن
فمنعت حوزته وكنت وقاية [6] ... من وقع كلّ مهنّد وسنان
__________
[1] زيادة من «دول الإسلام» للذهبي ص (93) طبع مؤسسة الأعلمي ببيروت.
[2] في الأصل، والمطبوع: «أنا طليبك» وأثبت ما في «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 335) مصدر المؤلف، وهو موافق لما في «مروج الذهب» للمسعودي (3/ 299) .
[3] البيت في «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني (10/ 86) نشرة مؤسسة جمال في بيروت.
[4] في المطبوع: «ما زالت» وهو خطأ.
[5] في الأصل، والمطبوع: «معلما» وهو خطأ، والتصحيح من «مروج الذهب» للمسعودي (3/ 299) و «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 335) .
[6] كذا في الأصل، والمطبوع، و «مرآة الجنان» ، وفي «مروج الذهب» و «الأغاني» (10/ 86) ، و «وفيات الأعيان» (5/ 247) : «وقاءه» .(2/237)
فقال: أحسنت [يا معن] [1] .
ودخل عليه أعرابيّ وهو جالس على سريره فأنشده:
أتذكر [2] إذ قميصك جلد كبش [3] ... وإذ نعلاك من جلد البعير
وفي يمناك عكّاز طويل ... تهش به [4] الكلاب عن الهرير [5]
قال: نعم أعرف ذلك ولا أنساه.
فقال:
فسبحان الّذي أعطاك ملكا ... وعلّمك الجلوس على السّرير
قال: [ذلك] [6] بحمد الله لا بحمدك.
قال:
فأقسم لا أحيّيك ابن معن ... مدى عمري بتسليم الأمير
قال: إذا والله لا أبالي.
فقال:
فمر لي [7] يا ابن زائدة بمال ... فإنّي قد عزمت على المسير [8]
قال لغلامه: أعطه ألف درهم.
__________
[1] زيادة «مروج الذهب» ، و «مرآة الجنان» .
[2] في «مرآة الجنان» : «أتعرف» .
[3] وفي بعض الروايات: «أتذكر إذ لحافك جلد شاة» . (ع) .
[4] في الأصل: «تهشّ بها» وأثبت ما في المطبوع.
[5] لم يرد هذا البيت في «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 336) .
[6] زيادة من «مرآة الجنان» .
[7] في الأصل: «قم لي» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو موافق لما في «مرآة الجنان» .
[8] رواية البيت في «مرآة الجنان» :
فمر لي يا بن زائدة بمال ... وزاد إذ عزمت على المسير(2/238)
فقال:
قليل ما أمرت به وإنّي ... لأطمع منك بالشّيء الكثير
قال: يا غلام زده ألف درهم.
فقال:
ملكت الجود والإنصاف [1] جمعا ... فبذل يديك كالبحر الغزير
فقال يا غلام، ضاعف له الحساب [2] فأضعف له.
ورأى راكبا محثّا ناقته، فقال لحاجبه: لا تحجب هذا، فلما مثل بين يديه أنشد:
أصلحك الله قلّ ما بيدي ... فما أطيق العيال إذ كثروا
ألحّ دهر ألقى بكلكله [3] ... فأرسلوني إليك وانتظروا [4]
فأخذته أريحيّة، وقال: والله لأعجلنّ أوبتك إليهم، فأعطاه مائة ناقة، وألف دينار وهو لا يعرفه.
ولما طلب المنصور سفيان الثّوريّ، فرّ سفيان إلى اليمن، فكان يقرأ على النّاس أحاديث الضّيافة ليضيفوه، ويكتفي عن سؤالهم، فاتّهم بسرقة، ورفع إلى معن بن زائدة، فتعرفه حتّى عرفه، فقال: اذهب حيث شئت، فلو كنت تحت قدمي ما أخرجتك.
ولما عظم صيته اندسّ له جماعة من الخوارج في ضيعة له بسجستان، فقتلوه وهو يحتجم، فتبعهم ابن أخيه فقتلهم جميعهم، ورثاه الشعراء
__________
[1] في «مرآة الجنان» : «والإفضال» .
[2] في «مرآة الجنان» «ضاعف له الحسنات» .
[3] في الأصل، والمطبوع: «ألحم دهر عليّ كلكله» . والتصحيح من «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 337) .
[4] البيتان في «تاريخ بغداد» (13/ 236) .(2/239)
ومن أحسن ذلك قول مروان بن أبي حفصة في قصيدته التي أولها:
مضى لسبيله معن وأبقى ... مكارم لن تبيد ولن تنالا [1]
واستنشده إيّاها جعفر البرمكي، فأنشده فبكى، وأجازه بستمائة دينار.
وروي أنه دخل على المهدي بن المنصور، فمدحه، فقال له: ألست القائل؟:
وقلنا أين [2] ترحل بعد معن ... فقد ذهب النّوال ولا نوالا
وأمر بإخراجه، ثم وفد عليه في العام المقبل. وكانت الشعراء إنما تدخل على الخلفاء في كل عام مرّة، ثم مدحه بقصيدته التي يقول فيها:
طرقتك [3] زائرة [4] فأعجب بها، وهي مائة بيت، أعطاه مائة ألف درهم، وهي أول إجازة بمائة ألف أعطيها شاعر في خلافة العباسيين.
__________
[1] القصيدة في «تاريخ بغداد» (13/ 241- 244) في (54) بيتا، وهي في (42) بيتا في «وفيات الأعيان» (5/ 249- 251) .
[2] زيادة من «العبر» (1/ 218) .
[3] في الأصل: «طوقتك» وهو تحريف، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[4] قلت: ومطلعها في «الأغاني» (10/ 87) :
طرقتك زائرة فحيّ خيالها ... بيضاء تخلط بالجمال دلالها
قادت فؤادك فاستقاد ومثلها ... قاد القلوب إلى الصّبا فأمالها(2/240)
سنة اثنتين وخمسين ومائة
فيها توفي إبراهيم بن أبي عبلة، أحد الأشراف والعلماء بدمشق، عن سنّ عالية. روى عن أبي أمامة، وواثلة بن الأسقع، وخلق كثير.
وفيها عبّاد بن منصور النّاجي. روى عن عكرمة وجماعة. وولي قضاء البصرة تلك الأيام لإبراهيم بن عبد الله بن حسن الحسني، وليس بالقوي في الحديث.
وأبو حرّة واصل بن عبد الرّحمن البصريّ. روى عن الحسن وطبقته.
قال شعبة: هو أصدق النّاس.
وقال أبو داود الطّيالسي: كان يختم [في] كلّ ليلتين.
وفيها، وقيل: بعدها، يونس بن يزيد الأيليّ صاحب الزّهريّ وأوثق أصحابه، وقد روى عن القاسم، وسالم، وجماعة. وتوفي بالصعيد.
قال ابن ناصر الدّين:
بعدهما فتى يزيد يونس ... ذاك الإمام المكثر المدرّس
وقال في «شرحها» [1] : يونس بن يزيد بن أبي النّجاد، حجّة، ثقة.
انتهى ملخصا.
__________
[1] يعني «شرح بديعة البيان» .(2/241)
سنة ثلاث وخمسين ومائة
فيها غلبت الخوارج الإباضيّة [1] على إفريقية، وهزموا عسكرها، وقتلوا متولّيها عمر بن حفص الأزدي، وكان رأسهم ثلاثة: أبو حاتم الإباضي، وأبو عاد [2] ، وأبو قرّة الصّفري. وكان أبو قرّة في أربعين ألفا من الصّفرية قد بايعوه بالخلافة، وكان أبو حاتم وصاحبه في ثمانين ألف فارس وأمم لا يحصون من الرّجالة.
وفيها ألزم المنصور النّاس بلبس القلانس المفرطة الطول، وتسمّى بالدّنّيّة لشبهها بالدّنّ، وكانت تعمل من كاغد ونحوه على قصب، ويعمل عليها السواد، [وفيها] [3] شبه من الشربوش.
وفيها توفي أبو زيد أسامة بن زيد اللّيثيّ مولاهم المدنيّ. روى عن سعيد بن المسيّب فمن بعده، وخرّج له مسلم، والأربعة، وابن حبّان.
قال في «المغني» [4] : صدوق [يهم] [5] ، اختلف قول يحيى القطّان فيه.
__________
[1] في المطبوع: «الأباضية» .
[2] في «العبر» للذهبي (1/ 218) : «وأبو محمد» وهو خطأ.
[3] لفظة «وفيها» التي بين الحاصرتين سقطت من الأصل، والمطبوع، واستدركتها من «العبر» .
[4] (1/ 66) .
[5] زيادة من «المغني» .(2/242)
وقال أحمد: ليس بشيء.
وقال ابن أبي شيبة: ليس بالقوي.
وقال ابن عدي: ليس به بأس. انتهى.
وأبو خالد ثور بن يزيد الكلاعيّ الحافظ محدّث حمص. روى عن خالد بن معدان وطبقته.
قال يحيى القطّان: ما رأيت شابا أوثق منه. وكفى بها شهادة.
وقال أحمد: كان يرى القدر، ولذلك نفاه أهل حمص.
وخرّج له البخاريّ، والأربعة.
قال في «المغني» [1] : ثقة من مشاهير القدرية. انتهى.
والفقيه أبو محمّد الحسن بن عمارة الكوفيّ، قاضي بغداد. روى عن ابن أبي مليكة، والحكم، وطبقتهما، وهو واه باتفاقهم.
والضّحّاك بن عثمان الحزاميّ المدنيّ. روى عن نافع وجماعة، وخرّج له مسلم، والأربعة.
قال في «المغني» [2] : قال يعقوب بن شيبة: صدوق، في حديثه ضعف، ليّنه القطّان. انتهى.
وعبد الحميد بن جعفر الأنصاريّ المدنيّ. روى عن المقبري وجماعة.
وخرّج له مسلم، والأربعة.
قال في «المغني» [3] : صدوق، ضعفه القطّان، وفيه قدرية. انتهى.
__________
[1] (1/ 124) .
[2] (1/ 312) .
[3] (1/ 368) .(2/243)
وفيها فطر بن خليفة أبو بكر الكوفيّ الحنّاط [1] . روى عن أبي الطّفيل، وأبي وائل، وخلق، وهو مكثر، حسن الحديث. روى البخاريّ له مقرونا.
ومحلّ بن محرز الضّبّيّ الكوفيّ.
قال في «المغني» [2] : عن أبي وائل، صدوق، لم يخرّجوا له في الكتب الستة شيئا.
قال يحيى القطّان: وسط لم يكن بذاك. ووثّقه غير واحد.
وقال أبو حاتم: لا يحتجّ به. وممّن وثّقه أحمد [بن حنبل] [3] ، وله في «الأدب» للبخاري. انتهى.
وفي رمضان معمر بن راشد الأزديّ مولاهم البصريّ الحافظ أبو عروة، صاحب الزّهري، كهلا، رأى جنازة الحسن [4] وأقدم شيوخه موتا قتادة.
قال أحمد: ليس نضمّ [5] معمرا إلى أحد إلا وجدته فوقه.
وقال غيره: كان معمر خيّرا. وهو أوّل من ارتحل في طلب الحديث إلى اليمن، فلقي بها همّام بن منبّه صاحب أبي هريرة. وله «الجامع» المشهور في السّير، أقدم من «الموطأ» .
وقال في «المغني» [6] : ثقة، إمام، له أوهام احتملت له.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع، و «المغني» (2/ 515) : «الخياط» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 220) مصدر المؤلف، وانظر «الأنساب» للسمعاني (4/ 240) .
[2] (2/ 544) .
[3] زيادة من «المغني» للذهبي.
[4] قوله: «رأى جنازة الحسن» تحرّف في «العبر» للذهبي إلى «روى عن أبي جبارة الحسن» فيصحّح فيه.
[5] في «العبر» : «ليس يضم» ، وفي «تهذيب التهذيب» لابن حجر (10/ 244) : «ما نضم أحدا إلى معمر إلا وجدت معمرا يتقدمه في الطلب» .
[6] (2/ 671) .(2/244)
قال أبو حاتم: صالح الحديث، وما حدّث به بالبصرة ففيه أغاليط.
وقد قال أحمد بن حنبل: ليس نضمّ [1] معمرا إلى أحد إلّا وجدته فوقه. انتهى.
وقال ابن ناصر الدّين: معمر بن راشد بن أبي راشد، أبي عمرو الأزدي، مولاهم البصري عالم اليمن، ثقة، حجّة، ورع. انتهى.
وفيها موسى بن عبيدة الرّبذيّ بالمدينة. روى عن نافع وطبقته، وكان صالحا ضعيفا باتفاق. قاله في «العبر» [2] .
وفيها على الأصح، وقيل: في التي بعدها، هشام بن أبي عبد الله الحافظ البصريّ الدستوائيّ، ويقال: صاحب الدّستوائي، لأنه كان يتّجر [3] في الثياب المجلوبة من دستوا، وهي من الأهواز، سماه أبو داود أمير المؤمنين.
وقال شعبة: ما من النّاس أحد يقول [4] : إنه طلب الحديث لله إلّا هشام الدّستوائي، وهو أعلم بحديث قتادة منّي.
وقال شاذّ بن فيّاض: بكى هشام حتّى فسدت عينه [5] . قاله في «العبر» [6] .
وقال ابن قتيبة [7] : هو هشام بن أبي عبد الله، سنبر، مولى لبني
__________
[1] في «المغني في الضعفاء» : «ليس تضم» .
[2] (1/ 221) .
[3] في الأصل: «لا يتجر» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[4] في «العبر» : «أقول» .
[5] في «العبر» : «عيناه» .
[6] (1/ 221) .
[7] في «المعارف» ص (512) .(2/245)
سدوس، يرمى بالقدر. انتهى.
وهشام بن الغاز الجرشيّ الدّمشقيّ متولي بيت المال للمنصور. روى عن مكحول وطبقته. وكان من ثقات الشّاميّين وعلمائهم.
وفيها وهيب بن الورد الوليّ الشهير صاحب المواعظ والحقائق [1] روى عن حميد بن قيس الأعرج وجماعة. كان لا يأكل ممّا في الحجاز تورعا عمّا اصطفاه الولاة لأنفسهم ومواشيهم.
__________
[1] في «العبر» للذهبي (1/ 222) : «والرقائق» وهو أصوب.(2/246)
سنة أربع وخمسين ومائة
فيها أهمّ المنصور أمر الخوارج واستيلاؤهم على المغرب، فسار إلى الشّام، وزار بيت المقدس، وجهّز يزيد بن حاتم في خمسين ألف فارس، وعقد له على المغرب، فبلغنا أنه أنفق على ذلك الجيش ثلاثة وستين ألف ألف، فافتتح يزيد إفريقية، وهزم الخوارج، وقتل كبارهم. واستعمل المنصور على قضاء دمشق يحيى بن حمزة، فبقي قاضيا ثلاثين سنة.
وفيها توفي فقيه الجزيرة وعالمها جعفر بن برقان الجزريّ، صاحب ميمون بن مهران. روى له البخاريّ في «التاريخ» ومسلم، والأربعة.
قال في «المغني» [1] : جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران.
قال أحمد: يخطئ في حديث الزّهري.
وقال ابن خزيمة: لا يحتجّ به.
وقد وثّقه أحمد في رواية، وابن معين، والفسويّ، وابن سعد. انتهى.
وفيها وزير المنصور أبو أيوب سليمان بن مخلد، وقيل: ابن داود الموريانيّ نسبة إلى موريان من قرى الأهواز، همّ المنصور أن يوقع به لتهم لحقته، وكان كلما دخل همّ بذلك، ثم يترك إذا رآه، فقيل: كان معه دهن فيه
__________
[1] (1/ 131) .(2/247)
سحر، فشاع في العامّة دهن أبي أيوب، ثم أوقع به بعد وعذبه حتّى مات.
وفيها توفي أشعب الطّامع، ويعرف بابن أمّ حميدة [1] . روى عن عكرمة، وسالم، وله نوادر وملح في الطّمع والتّطفّل [2] أشهر من أن تذكر.
وفيها عبد الرّحمن بن يزيد بن جابر الدّمشقيّ محدّث دمشق. روى عن أبي الأشعث الصّنعاني.
قال في «المغني» [3] : من ثقات الدّماشقة، أثنى عليه جماعة، والعجب [4] من البخاريّ كيف أورده في الضعفاء، وما ذكر ما يدل على لينه؟
بل قال: قال الوليد: كان عنده كتاب سمعه وكتاب لم يسمعه. انتهى.
وقد روى عن خلق من التابعين.
وفيها قرّة بن خالد السّدوسيّ البصريّ صاحب الحسن، وابن سيرين.
قال يحيى القطّان: كان من أثبت شيوخنا.
والحكم بن أبان العدنيّ. روى عن طاووس وجماعة. وكان شيخ أهل اليمن وعالمهم بعد معمر [5] .
قال أحمد العجلي: ثقة صاحب سنّة، كان إذا هدأت العيون وقف في البحر إلى ركبتيه، يذكر الله حتّى يصبح.
وفيها مقرئ البصرة الإمام أبو عمرو بن العلاء بن عمّار التميميّ المازنيّ البصريّ، أحد السبعة، وله أربع وثمانون سنة. قرأ على أبي العالية
__________
[1] في الأصل، والمطبوع، و «العبر» (1/ 222) : «ويعرف بابن أم حميد» وهو خطأ، والتّصحيح من «ميزان الاعتدال» (1/ 258) ، و «لسان الميزان» (1/ 450) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «والتطفيل» والتصحيح من «العبر» للذهبي.
[3] (2/ 389) .
[4] في الأصل: «وتعجبوا» ، وأثبت ما في المطبوع وهو موافق لما في «المغني» .
[5] في المطبوع: «بعد يعقوب» وهو خطأ.(2/248)
الرّياحي وجماعة. وروى عن أنس، وإياس.
قال أبو عمرو: كنت رأسا والحسن حيّ. ونظرت في العلم قبل أن أختن.
وقال أبو عبيدة: كان أبو عمرو أعلم النّاس بالقرآن، والعربية، والشعر، وأيام العرب.
قال: وكانت دفاتره ملء بيت إلى السقف، ثمّ تنسّك فأحرقها. قاله في «العبر» [1] .
وقال ابن الأهدل: فاحترقت كتبه، فلما رجع إلى علمه الأول، لم يكن عنده إلّا ما حفظه، وهو في النحو في الطبقة الرّابعة من علي.
قال الأصمعيّ: سألته عن ألف مسألة، فأجابني فيها بألف حجّة.
وفيه يقول الفرزدق مفتخرا:
ما زلت أفتح أبوابا وأغلقها ... حتّى أتيت أبا عمرو بن عمّار [2]
وكنيته اسمه على الصحيح [3] وكان إذا دخل رمضان لم ينشد بيتا حتّى ينقضي. ودخل يوما على سليمان بن علي عمّ السّفّاح، فسأله عن شيء فصدّقه، فلم يعجبه فخرج أبو عمرو وهو يقول:
أنفت من الذّلّ عند الملوك ... وإن أكرموني وإن قرّبوا
إذا ما صدقتهم خفتهم ... ويرضون منّي بأن أكذب
__________
[1] (1/ 223) .
[2] البيت في «ديوانه» (1/ 382) وروايته فيه:
ما زلت أفتح أبوابا وأغلقها ... حتى لقيت أبا عمرو بن عمار
[3] قال الذهبي: اسمه زبّان على الأصح، وقيل: العريان، وقيل: يحيى، وقيل: محبوب، وقيل: جنيد، وقيل: عيينة، وقيل: عثمان، وقيل: عيّاد. انظر «معرفة القرّاء الكبار» (1/ 100) طبع مؤسسة الرسالة.(2/249)
قال اليافعيّ [1] رحمه الله: ورفعه للباء من أكذب لموافقة القافية، مع دخول أن الناصبة للفعل المضارع، دليل لجواز الإقواء [2] المعروف. انتهى.
وقال أبو عمرو- رحمه الله-: أول العلم الصمت، ثم حسن السؤال، ثم حسن اللفظ، ثم نشره عند أهله.
وقال: احتمال الحاجة [3] خير من طلبها من غير أهلها.
وقال: ما تسابّ اثنان إلّا غلب ألأمهما [4] .
وقال: إذا تمكن الإخاء قبح الثّناء.
و [قال] [5] : ما ضاق مجلس بمتحابّين، وما اتّسعت الدّنيا لمتباغضين.
وسمع أعرابيا كان مختفيا من الحجّاج يقول:
ربما تجزع النّفوس لأمر ... وله فرجة كحّل العقال [6]
فقال له أبو عمرو: وما الأمر؟ قال مات الحجّاج، قال: فلم أدر بأيّهما كنت أفرح [7] بموت الحجّاج، أم بقوله: فرجة، يعني بفتح الفاء.
قال الأصمعيّ: هي بالفتح من الفرج، وبالضم من فرجة الحائط ونحوه.
__________
[1] «مرآة الجنان» (1/ 345) بتصرّف.
[2] في الأصل: «الإقراء» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع، وهو الصواب، والإقواء: اختلاف إعراب القوافي. انظر «تاج العروس» (10/ 307) .
[3] في «مرآة الجنان» (1/ 346) : «فوت الحاجة» .
[4] في «مرآة الجنان» : «إلا غلب ألا فهما» وهو خطأ فتصحح فيه.
[5] زيادة من «مرآة الجنان» .
[6] لفظ البيت في «مرآة الجنان» :
ربما تجزع النفوس من الأمر ... ما له فرجة كحل العقال
[7] في «مرآة الجنان» : «لم أدر بأيّهما أنا أفرح» .(2/250)
وولد أبو عمرو بمكّة، ومات بالكوفة، رحمه الله تعالى. انتهى.
وفيها خندق المنصور على الكوفة، والبصرة، وضرب عليها سورا. قاله ابن الجوزي في «الشذور» [1] .
__________
[1] يعني «شذور العقود في تاريخ العهود» للإمام الحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي المتوفى سنة (597) هـ، وهو مخطوط لم يطبع بعد.(2/251)
سنة خمس وخمسين ومائة
فيها افتتح يزيد بن حاتم إفريقية واستعادها من الخوارج، وقتل كبارهم، أبا حاتم، وأبا عاد، وطائفة، ومهّد قواعدها.
وفيها، أو في سنة ثمان، توفي محدّث حمص صفوان بن عمرو السّكسكيّ. أدرك أبا أمامة، وروى عن عبد الله بن بسر، وجبير بن نفير، والكبار.
وفيها مسعر بن كدام الحافظ أبو سلمة الهلاليّ الكوفيّ الأحول، أحد الأعيان يسمى المصحف من إتقانه، ويدعى الميزان لنقده وتحرير لسانه. قاله ابن ناصر الدّين.
وقال في «العبر» [1] : أخذ عن الحكم، وقتادة، وخلق، وكان عنده نحو ألف حديث.
قال يحيى القطّان: ما رأيت أثبت منه.
وقال شعبة: كنّا نسمّي مسعرا المصحف [2] .
وقال أبو نعيم: مسعر أثبت من سفيان وشعبة. انتهى.
__________
[1] (1/ 224) .
[2] تحرّفت في «العبر» (1/ 224) إلى «المصنّف» .(2/252)
وفيها عثمان بن أبي العاتكة الدّمشقيّ القاصّ [1] . روى عن عمير بن هانئ العنسيّ وجماعة.
وفيها- وقال ابن ناصر الدّين: سنة أربع- جعفر بن برقان الرّقّيّ أبو عبد الله الكلابيّ مولاهم. ذكر النسائيّ وغيره أنه ليس به بأس، وهو معدود في حفّاظ الرّجال، وكان أميّا لا يدري الكتابة فيما يقال. انتهى.
وقد تقدّم الكلام عليه قريبا في سنة أربع [2] .
وفيها حمّاد الرّاوية ابن أبي ليلى [3] الدّيلميّ الكوفيّ مولى لابن زيد الخيل [4] الطائيّ الصحابيّ. كان حمّاد من أعلم النّاس بمآثر العرب وأشعارها، وهو الذي جمع السّبع الطّوال.
قال له الوليد بن يزيد الأموي: لم سمّيت الرّواية؟. قال: لأني أروي لكلّ شاعر سمعت به أو لم أسمع، وأميّز بين قديمها وحديثها. قال له: كم تحفظ من الشعر؟ قال: كثير، لكني أنشد على كل حرف مائة قصيدة كبيرة سوى المقطّعات من شعر الجاهلية دون الإسلام، فامتحنه في ذلك، فوجده كما قال، فأمر له بمائة ألف [درهم] [5] ووهبه هشام [6] مائة ألف درهم.
__________
[1] في «العبر» : «القاضي» .
[2] انظر ص (247) .
[3] كذا في «لسان الميزان» (2/ 352) حماد بن أبي ليلى، وفي «الأعلام» للزركلي (2/ 271) حماد بن سابور، أول من لقب بالرّواية.
[4] سماه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: زيد الخير، وفي مرآة الجنان لليافعي (1/ 347) «زيد الخليل» وهو خطأ.
[5] زيادة من «مرآة الجنان» لليافعي.
[6] يعني هشام بن عبد الملك، ولكن الذي ذكره اليافعي في «مرآة الجنان» أن هشام بن عبد الملك أعطاه خمسمئة دينار وجملا مهريا. وانظر تتمة قصته فيه (1/ 348- 349) .(2/253)
سنة ست وخمسين ومائة
فيها توفي سعيد بن أبي عروبة الإمام أبو النّضر العدويّ شيخ البصرة وعالمها، وأول من دوّن العلم بها، وكان قد تغيّر حفظه قبل موته بعشر سنين.
روى عن أبي رجاء العطارديّ، وابن سيرين، والكبار، وخرّج له ابن عديّ.
قال في «المغني» [1] : وثّقه ابن معين، وأحمد، وهو ثقة إمام، تغيّر حفظه.
قال أبو حاتم: هو قبل أن يختلط [2] ثقة. انتهى.
وقال ابن ناصر الدّين: قيل: إنه كان يقول بالقدر سرّا. انتهى.
وعدّه ابن قتيبة في القدرية.
وعبد الله بن شوذب البلخيّ ثم البصريّ نزيل بيت المقدس. روى عن الحسن وطبقته، وكان كثير العلم، جليل القدر.
قال كثير بن الوليد: كنت إذا رأيت ابن شوذب ذكرت الملائكة، وعاش سبعين سنة.
وفيها شيخ إفريقية وقاضيها [3] وأول من ولد بها من المسلمين
__________
[1] (1/ 264) .
[2] في الأصل: «يخلط» وأثبت ما في المطبوع وهو موافق لما في «المغني» للذهبي.
[3] في المطبوع: «وقاصيها» وهو تصحيف.(2/254)
عبد الرّحمن بن زياد بن أنعم الشعبانيّ الإفريقيّ الزّاهد الواعظ. روى عن أبي عبد الرّحمن الحبلي وطبقته، وقد وفد على المنصور فوعظه بكلام حسن، وليس بقوي في الحديث.
وعمر بن ذرّ الهمدانيّ [1] الكوفيّ الواعظ البليغ. روى عن أبيه. ثقة لكنه رأس في الإرجاء. انتهى.
وفيها علي بن أبي حملة الدّمشقيّ المعمّر. أدرك معاوية، وروى عن أبي إدريس الخولاني، والكبار، وقد وثّقه أحمد وغيره.
وفيها، وقيل: سنة ثمان، قارئ الكوفة أبو عمارة حمزة بن حبيب التيميّ، مولى تيم الله بن ربيعة، الكوفي الزّيّات الزّاهد، أحد السّبعة، قرأ على التابعين وتصدّر للإقراء، فقرأ عليه جلّ أهل الكوفة. وحدّث عن الحكم بن عتيبة [2] وطبقته، وكان رأسا في القرآن والفرائض. قدوة في الورع.
قال حمزة: القرآن ثلاثمائة ألف حرف وثلاثة وسبعون ألف حرف ومائتان وخمسون، ورأى الحق سبحانه في المنام وضمّخه بالغالية، وسمع منه، وهو منام مشهور.
__________
[1] في المطبوع: «الهمذاني» وهو تصحيف.
[2] في الأصل، والمطبوع، و «العبر» للذهبي (1/ 226) : «الحكم بن عيينة» وهو خطأ، والتصحيح من «تقريب التهذيب» ص (175) بتحقيق الأستاذ محمد عوّامة.(2/255)
سنة سبع وخمسين ومائة
فيها على ما في «الشذور» [1] بنى المنصور قصره الذي على شاطئ دجلة، ويدعى الخلد، وحوّل الأسواق من المدينة إلى باب الكرخ وباب الشعير، [والمحوّل، ووسّع طرق المدينة وأرباضها، وعقد الجسر بباب الشعير] [2] . انتهى.
وفيها توفي الحسين بن واقد المروزي، قاضي مرو. روى عن عبد الله بن بريدة وطبقته. وروى له العقيليّ، وابن حبّان.
قال الذّهبيّ في «المغني» [3] : [الحسين بن] [4] واقد المروزيّ عن أبي بريدة، صدوق، استنكر أحمد بعض حديثه. انتهى.
وفي صفر إمام الشّاميين أبو عمرو عبد الرّحمن بن عمرو الأوزاعيّ الفقيه. روى عن القاسم بن مخيمرة، وعطاء، وخلق كثير من التابعين، وكان رأسا في العلم والعمل، جمّ المناقب، ومع علمه كان بارعا في الكتابة والترسّل.
__________
[1] يعني «شذور العقود في تاريخ العهود» .
[2] ما بين الحاصرتين سقط من الأصل، وأثبته من المطبوع.
[3] (1/ 176) .
[4] ما بين الحاصرتين سقط من الأصل، والمطبوع، واستدركته من «المغني» للذهبي.(2/256)
قال الهقل بن زياد: أجاب الأوزاعيّ عن سبعين ألف مسألة.
وقال إسماعيل بن عيّاش [1] : سمعت النّاس سنة أربعين ومائة يقولون:
الأوزاعيّ اليوم عالم الأمة.
وقال عبد الله الخريبيّ [2] : كان الأوزاعيّ أفضل أهل زمانه.
وقال الوليد بن مسلم: ما رأيت أكثر اجتهادا في العبادة من الأوزاعيّ.
وقال أبو مسهر: كان الأوزاعيّ يحيي الليل صلاة، وقرآنا، وبكاء، ومات في الحمام، أغلقت عليه زوجته باب الحمّام ونسيته فمات [3] .
ورثاه بعضهم فقال:
جاد الحيا بالشّام كلّ عشيّة ... قبرا تضمّن لحده الأوزاعي
قبرا تضمنّ طود كلّ [4] شريعة ... سقيا له من عالم نفّاع
عرضت له الدّنيا فأقلع معرضا [5] ... عنها بزهد أيّما إقلاع [6]
وجاء رجل إلى بعض المعبرين فقال: رأيت البارحة كأن ريحانة رفعت إلى السماء من ناحية المغرب حتّى توارت في السماء، فقال: إن صدقت رؤياك فقد مات الأوزاعيّ، فوجدوه قد مات تلك الليلة.
ولما حجّ لقيه سفيان الثوري بذي طوى [7] فأخذ بخطام بعيره ومشى وهو يقول: طرّقوا للشيخ.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «إسماعيل بن عباس» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 227) .
[2] في الأصل: «الخرّيتي» وهو تصحيف وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[3] في «تهذيب التهذيب» لابن حجر (6/ 240) وقال ابن حبّان: وكان السبب في موته أنه كان مرابطا ببيروت، فدخل الحمام، فزلق فسقط وغشي عليه ولم يعلم به حتى مات.
[4] لفظة «كلّ» لم ترد في «وفيات الأعيان» .
[5] في «وفيات الأعيان» و «مرآة الجنان» : «فأعرض مقلعا» .
[6] الأبيات في «وفيات الأعيان» لابن خلّكان (3/ 127) . و «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 351) .
[7] ذو طوى: واد في مكة المكرمة، وهو اليوم يعرف ب بئر طوى بجرول بين القبة وريع أبي(2/257)
قال ابن ناصر الدّين: الأوزاعيّ هو عبد الرّحمن بن عمرو بن يحمد الأوزاعيّ الدّمشقيّ، الثقة، المأمون، ولد ببعلبك سنة ثمان وثمانين، وكان عالم الأمة، منفردا بالسيادة مع اجتهاد في إحياء الليل، أجاب في سبعين ألف مسألة للقصّاد. دخل حمّاما في بيته نهارا، وأدخلت معه زوجته في كانون فحما ونارا، ثمّ أغلقت عليه غير متعمّدة، فهاج الفحم بالنّار فمات من ذلك.
والأوزاع قرية بدمشق، اتصل بها العمران، وهي المحلّة التي تسمى الآن بالعقيبة. انتهى.
وقال في «المعارف» [1] : حدّثنا البجليّ أنّ اسمه عبد الرّحمن بن عمرو من الأوزاع، وهم بطن من همدان.
وقال الواقديّ: كان يسكن بيروت، ومكتبة باليمامة، فلذلك سمع من يحيى بن أبي كثير، ومات ببيروت سنة سبع وخمسين ومائة، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة. انتهى كلام «المعارف» [2] .
وقال النووي في «شرح المهذب» [3] في باب الحيض: وأما الأوزاعيّ فهو أبو عمرو عبد الرّحمن بن عمرو من كبار تابعي التابعين وأئمتهم البارعين.
كان إمام أهل الشّام في زمنه. أفتى في سبعين ألف مسألة، وقيل: ثمانين
__________
لهب، وهو المكان الذي بات فيه رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- ليلة فتح مكة. انظر «معجم ما استعجم» للبكري (2/ 896) ، و «معالم مكة التاريخية والأثرية» للأستاذ عاتق بن غيث البلادي ص (168- 169) .
[1] ص (496- 497) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «انتهى كلام العبر» وهو سبق قلم من المؤلف لأنه ينقل عن «المعارف» كما أشار إلى ذلك قبل قليل، وليس لهذا النقل ذكر في «العبر» لذا اقتضى التصحيح.
[3] (2/ 391) ويعرف ب «المجموع» أيضا، والمؤلف ينقل عن كتاب الحيض منه.(2/258)
ألفا. توفي في خلوة [1] في حمام بيروت مستقبل القبلة، متوسّدا يمينه، سنة سبع وخمسين ومائة.
قيل: هو منسوب إلى الأوزاع قرية كانت خارج [2] باب الفراديس من دمشق، وقيل: قبيلة من اليمن، وقيل: غير ذلك. انتهى.
وفي «تهذيب» [3] النووي: وعن [4] عبد الرّحمن بن مهدي قال: الأئمة في الحديث أربعة: الأوزاعيّ، ومالك، وسفيان الثوريّ، وحمّاد بن زيد.
انتهى.
وقال أبو حاتم [5] : الأوزاعيّ إمام متّبع لما سمع.
وذكر أبو إسحاق الشيرازي في «الطبقات» [6] : أن الأوزاعيّ سئل عن الفقه- يعني استفتي- وله ثلاث عشرة سنة. انتهى.
وفيها محمّد بن عبد الله ابن أخي الزّهريّ المدنيّ. روى عن عمّه وأبيه.
وفيها مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزّبير بن العوّام بالمدينة. روى عن أبيه وطائفة، وضعّفه ابن معين.
وفيها يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق السّبيعيّ. روى عن جدّه، وعن الشّعبيّ.
قال ابن عيينة: لم يكن في ولد إسحاق أحفظ منه
__________
[1] في «شرح المهذب» : «في خلوته» .
[2] في «شرح المهذب» : «بخارج» .
[3] «تهذيب الأسماء واللغات» (1/ 300) .
[4] في المطبوع: «عن» .
[5] «الجرح والتعديل» (1/ 186) وفيه: «الأوزاعيّ فقيه متّبع لما سمع» .
[6] ص (76) بتحقيق الدكتور إحسان عبّاس، طبع دار الرائد العربي ببيروت.(2/259)
سنة ثمان وخمسين ومائة
فيها صادر المنصور خالد بن برمك، وأخذ منه ثلاثة آلاف درهم، ثم رضي عنه وأمّره على الموصل.
وفيها توفي أفلح بن حميد الأنصاريّ المدنيّ. روى عن القاسم، وأبي بكر بن حزم.
وفيها حيوة بن شريح أبو زرعة.
قال السّيوطي في «حسن المحاضرة» [1] : ابن شريح بن صفوان التّجيبيّ أبو زرعة المصريّ، الفقيه، الزّاهد، العابد، أحد العبّاد والعلماء السادة. عن يزيد بن أبي حبيب. وعنه اللّيث. سئل عنه أبو حاتم فقال: هو أحبّ إليّ من اللّيث بن سعد، ومن المفضّل [2] بن فضالة.
وقال ابن المبارك: ما وصف لي أحد ورأيته إلّا كانت رؤيته دون صفته، إلّا حيوة بن شريح، فإن رؤيته كانت أكبر من صفته. عرض عليه قضاء مصر فأبى. انتهى.
وقال ابن ناصر الدّين: الإمام القدوة. كان كبير الشّأن، مجاب الدّعوة.
انتهى.
__________
[1] (1/ 300) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «الفضل» والتصحيح من «حسن المحاضرة» .(2/260)
وقال في «العبر» [1] : صحب يزيد بن أبي حبيب. وروى عن يونس مولى أبي هريرة وطبقته، وكان مجاب الدّعوة. انتهى.
وفيها زفر.
قال في «المعارف» [2] : زفر بن الهذيل بن قيس من بني العنبر، ويكنّى أبا الهذيل، وكان قد سمع الحديث وغلب عليه الرّأي، ومات بالبصرة، وكان أبوه الهذيل على أصبهان. انتهى.
وقال في «العبر» [3] : زفر بن الهذيل العنبريّ الفقيه صاحب أبي حنيفة، وله ثمان وأربعون سنة [4] وكان ثقة في الحديث، موصوفا بالعبادة، نزل البصرة وتفقّهوا عليه.
وفيها عبيد الله بن أبي زياد الرّصافيّ الشاميّ صاحب الزّهريّ، وثّقه الدّارقطنيّ لصحة كتابه. وما روى عنه إلّا حفيده حجّاج بن أبي منيع.
وفيها عبد الله بن عيّاش الهمدانيّ [5] الكوفيّ صاحب الشّعبيّ، ويعرف بالمنتوف [6] .
وعوانة بن الحكم البصريّ الأخباريّ.
وفيها كما قال ابن الجوزي في «الشذور» : نزل المنصور قصره المسمى بالخلد على دجلة، ثم حجّ وتوفي ببئر ميمون، وكانت مدّة خلافته إحدى
__________
[1] (1/ 229) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «قال في «العبر» » وهو سبق قلم من المؤلف- رحمه الله- فإنه نقل عن «المعارف» لابن قتيبة ص (496) .
[3] (1/ 229) .
[4] يعني وقت وفاته رحمه الله.
[5] في المطبوع: «الهمذاني» وهو تصحيف.
[6] في الأصل: «المنشوف» وهو تحريف، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.(2/261)
وعشرين سنة، وأحد عشر شهرا، وأربعة عشر يوما، وهو محرم وأخذت البيعة للمهديّ. انتهى.
قال في «العبر» [1] : توجّه المنصور للحجّ، فأدركه أجله يوم سادس ذي الحجّة عند بئر ميمون بظاهر مكّة محرما، فأقام الموسم الأمير إبراهيم بن يحيى بن محمّد صبيّ أمرد، وهو ابن أخي المنصور، واستخلف المهديّ، وتوفي وله ثلاث وستون سنة، وكانت أميه بربريّة، وكان طويلا، مهيبا أسمر، خفيف اللحية، رحب الجبهة، كأنّ عينيه لسانان ناطقان، تقبله النّفوس، وكان يخالطه [2] أبّهة الملك بزيّ أولي النسك، ذا حزم، وعزم، ودهاء، ورأي، وشجاعة، وعقل، وفيه جبروت وظلم. انتهى.
وقال ابن الأهدل: كان لا يبالي أن يحرس ملكه بهلاك من كان.
وكان قد روى العلم، وعرف الحلال والحرام، وساس هو وبنوه ملكهم سياسة الملوك، ووليّ بعده المهديّ، وكان المنصور استأذن أخاه السّفّاح في الحجّ، فجاءه نعي السّفّاح في بعض الطريق، فسار مسرعا حتّى دخل دار الخلافة، وظفر بالأموال، وتقررت قواعده، ولما أراد إنشاء مدينة السّلام- بعد أن مكث سنة يتردد- فقال له راهب: كأن هناك ما تريد؟ قال: أريد أن أبني ها هنا [3] مدينة.
قال الرّاهب: إن صاحبها يقال له: مقلاص. فقال المنصور: أنا والله كنت أدعى بذلك في الكتّاب. ثم قال له منجّمه: أحكم الآن بالبناء فإنه يتم بناؤها ولا يكون لها في الدّنيا نظير. قال: ثم ماذا قال: ثم تخرب بعد موتك خرابا ليس بالصحراء ولكن دون العمران، فوضع المنصور أول لبنة بيده وقال:
بسم الله الرحمن الرحيم: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها من يَشاءُ من عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ 7: 128 [الأعراف: 128] .
__________
[1] (1/ 230) والمؤلف ينقل عنه بتصرّف.
[2] في «العبر» : «يخالط» .
[3] في الأصل: «هنا» وأثبت ما في المطبوع.(2/262)
ولما تمّ بناؤها وانتقل إلى قصره، وقف يتأمل باب القصر، فإذا عليه مكتوب:
ادخل القصر لا تخاف زوالا ... بعد ستّين من سنيّك ترحل [1]
فوقف مليّا، وتغرغرت عيناه، ثم قال: لعبة لغافل، وفسحة لجاهل، وكان وقوفه أنه حسب ما بقي من عمره من المولد إلى تمام ستين. انتهى.
قال المدائنيّ [2] : خرجت مع المنصور في حجّته التي مات فيها، فسألني عن سنّي، فقلت: ثلاث وستون، فقال، وأنا فيها، وهي دقّاقة الأعناق، فنزلنا منزلا، فوجد مكتوبا على الحائط:
أبا جعفر حانت وفاتك وانقضت ... سنوك وأمر الله لا شكّ نازل
أبا جعفر هل كاهن أو منجّم ... يردّ قضاء الله أم أنت جاهل
فجعل يراه وينظر إليه ولا نرى نحن شيئا.
وذكر النووي في «تهذيبه» [3] واقعة جرت له مع سفيان الثّوريّ، وذلك أنه أرسل لقتل سفيان قبل دخوله مكّة، فجاء سفيان إلى الفضيل، وسفيان بن عيينة، فضرع لهما، وجلس بينهما، فقالا: اتق الله ولا تشمت بنا الأعداء [4] ،
__________
[1] البيت في «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 356) وروايته فيه:
ادخل القصر لا تخاف زوالا ... بعد ستّين من سنيك رحيل
[2] قال الزركليّ: هو علي بن محمد بن عبد الله المدائني، أبو الحسن، راوية مؤرّخ، كثير التصانيف، من أهل البصرة. سكن المدائن، ثم انتقل إلى بغداد، فلم يزل بها إلى أن توفي سنة (225) هـ. أورد ابن النديم أسماء نيّف ومائتي كتاب من مصنفاته في المغازي، والسيرة النبوية، وأخبار النساء، وتاريخ الخلفاء، وتاريخ الوقائع، والفتوح، والجاهليين، والشعراء، والبلدان. قال ابن تغري بردي: وتاريخه أحسن التواريخ وعنه أخذ الناس تواريخهم. بقي من كتبه «المردفات من قريش» مطبوع، و «التعازي» خطّي.
انظر «الأعلام» (4/ 323) وسوف ترد ترجمته في المجلد الثالث إن شاء الله.
[3] (1/ 223) وقد نقل المؤلف القصة عنه بتصرّف واختصار فراجعها فيه فهي مفيدة.
[4] في الأصل، والمطبوع: «الأعبد» وما أثبته من «تهذيب الأسماء واللغات» .(2/263)
فقام سفيان إلى البيت وأخذ برتاجه [1] وقال: برئت منه إن دخلها أبو جعفر، فلم يدخلها إلّا ميتا. انتهى.
وفيها أيضا مات طاغية الرّوم قسطنطين بن أليون إلى اللعنة.
__________
[1] قال ابن منظور: الرّتاج والرّتاج: الباب العظيم، وقيل: هو الباب المغلق ... وقيل: الرّتاج الباب المغلق وعليه باب صغير، «لسان العرب» (رتج) .(2/264)
سنة تسع وخمسين ومائة
فيها ألحّ المهديّ على وليّ العهد عيسى بن موسى بكل ممكن، وبالرّغبة والرّهبة في خلع نفسه ليولّي العهد لولده موسى الهادي، فأجاب خوفا على نفسه، فأعطاه المهديّ عشرة آلاف درهم وإقطاعات.
وفيها بنى المهديّ مسجد الرّصافة، وأعتق الخيزران وتزوّجها.
وفيها توفي الإمام أبو الحارث محمّد بن عبد الرّحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب هشام بن شعبة القرشيّ العامريّ المدنيّ الفقيه، ومولده سنة ثمان. روى عن عكرمة، ونافع، وخلق.
قال أحمد بن حنبل: كان يشبّه بسعيد بن المسيّب، وما خلّف مثله.
كان أفضل من مالك، إلّا أنّ مالكا أشدّ تنقية للرّجال.
وقال الواقديّ: كان ابن أبي ذئب يصلّي الليل أجمع، ويجتهد في العبادة، فلو قيل له: إن القيامة تقوم غدا ما كان فيه مزيد من الاجتهاد.
وقال أخوه: إنه كان يصوم يوما ويفطر يوما، ثم سرده، وكان شديد الحال، يتعشّى بالخبز والزّيت، وكان من رجال العالم صرامة وقولا بالحقّ.
وكان يحفظ حديثه، لم يكن له كتاب.
وقال أحمد: دخل ابن أبي ذئب على أبي جعفر- يعني المنصور- فلم(2/265)
يهله [1] أن قال له: الظلم ببابك فاش، وأبو جعفر أبو جعفر.
حيّاه يوما المنصور فلم يقم له، فقيل له: لا تقوم لأمير المؤمنين؟
فقال: إنما يقوم النّاس لربّ العالمين.
وفيها عبد العزيز بن أبي روّاد [بمكّة] [2] روى عن عكرمة، وسالم وطائفة، وخرّج له الأربعة.
قال في «المغني» [3] : عبد العزيز بن أبي روّاد [ميمون] [4] ، صالح الحديث، ضعّفه ابن الجنيد.
وقال ابن حبّان: روى عن نافع، عن ابن عمر نسخة موضوعة. انتهى.
وقال في «العبر» [5] : توفي بمكّة. روى عن عكرمة، وسالم، وطائفة.
قال ابن المبارك: كان من أعبد النّاس.
وقال غيره: كان مرجئا. انتهى.
وقال ابن الأهدل: رأت امرأة بمكّة الحور العين حول الكعبة كهيئة العرس، فقالت: ما هذا؟ فقيل: زواج عبد العزيز، فانتبهت فإذا هو مات.
وفيها عكرمة بن عمّار اليماميّ [6] روى عن طاووس وجماعة، وخرّج له الأربعة، ومسلم.
__________
[1] في «العبر» للذهبي (1/ 231) : «فلم يؤهله» وهو خطأ، وفي «تهذيب التهذيب» لابن حجر (9/ 306) : «فلم يهبه» : أي فلم يخف منه.
[2] لفظة «مكة» سقطت من الأصل، وأثبتها من المطبوع.
[3] (2/ 397) .
[4] زيادة من «المغني» .
[5] (1/ 232) .
[6] في الأصل: «اليماني» وهو تحريف، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
قال ابن الأثير: اليمامي: هذه النسبة إلى اليمامة، وهي مدينة بالبادية من بلاد العوالي(2/266)
قال عاصم بن علي: كان مستجاب الدّعوة، وآخر من روى عنه يزيد بن عبد الله اليمامي شيخ ابن ماجة.
قال في «المغني» [1] : صدوق مشهور.
قال القطّان: أحاديثه عن يحيى بن أبي كثير ضعيفة.
وقال أحمد: ضعيف الحديث.
ووثّقه ابن معين وغيره.
وقال الحاكم: أكثر مسلم الاستشهاد به.
وقال البخاريّ: لم يكن له كتاب فاضطرب حديثه. انتهى كلام «المغني» .
وعمّار بن رزيق الضّبيّ الكوفيّ. روى عن منصور، والأعمش، وكان كبير القدر، عالما خيّرا.
قال أبو أحمد الزّبيريّ [2] : لبعضهم: لو كنت اختلفت إلى عمّار لكفاك أهل الدّنيا.
وفيها عيسى بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطّاب المدنيّ، ولقبه رباح. روى عن أبيه، وعن سعيد بن المسيّب، وهو أكبر شيخ للقعنبيّ.
وفي أولها مالك بن مغول البجليّ الكوفيّ. روى عن الشّعبيّ وطبقته، وكان كثير الحديث ثقة حجّة.
__________
أكثر أهلها بنو حنيفة، وبها تنبأ مسيلمة الكذاب. انظر «اللباب في تهذيب الأنساب» (3/ 417) .
[1] (2/ 438) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «الزيتوني» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» (1/ 232) وقد ذكر المؤلف نسبته على الصواب في ترجمته التي سترد في أول المجلد الثالث إن شاء الله تعالى.(2/267)
قال ابن عيينة: قال له رجل: اتق الله، فوضع خدّه بالأرض.
وفيها يونس بن أبي إسحاق السّبيعيّ عن سنّ عالية. روى عن أنس وكبار التابعين، وكان صدوقا كثير الحديث.
قال عبد الرّحمن بن مهدي، وغيره: لم يكن به بأس.
وفيها أمير خراسان حميد بن قحطبة بن شبيب الطّائيّ، وقد ولي أيضا الجزيرة ومصر.(2/268)
سنة ستين ومائة
حجّ المهديّ بالنّاس، ونزع كسوة الكعبة كلّها حتّى جرّدها، ثم طلا البيت بالخلوق [1] وقسم في سفره ثلاثين ألف ألف درهم حملت معه، ووصل إليه من مصر ثلاثمائة ألف دينار، ومن اليمن مائة ألف، فقسم ذلك كله، وفرّق من الثياب مائة ألف ثوب وخمسين ألف ثوب. ووسّع في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قاله ابن الجوزي في «شذور العقود» .
وفيها افتتح المسلمون وعليهم عبد الملك المسمعيّ مدينة كبيرة بالهند، وحمل محمّد بن سليمان الأمير الثلج حتّى وافى به مكّة للمهديّ وهذا شيء لم يتهيأ لأحد.
وتوفي في غزوة الهند- في الرّجعة بالبحر- الرّبيع بن صبيح البصري صاحب الحسن، وقد قال فيه شعبة: هو عندي من سادات المسلمين.
وقال أحمد لا بأس به.
وفيها لثلاث بقين من جمادى الآخرة، توفي أبو بسطام شعبة بن الحجّاج بن الوّرد العتكيّ الأزديّ، مولاهم الواسطيّ، شيخ البصرة، وأمير
__________
[1] في المطبوع: «بالخلوف» وهو تصحيف. قال ابن الأثير: الخلوق.. طيب معروف مركب يتخذ من الزّعفران وغيره من أنواع الطيب، وتغلب عليه الحمرة والصّفرة. «انظر النهاية» (2/ 71) .(2/269)
المؤمنين في الحديث. روى عن معاوية بن قرّة، وعمرو بن مرّة، وخلق من التابعين.
قال الشّافعيّ: لولا شعبة ما عرف الحديث بالعراق.
وقال أبو زيد الهرويّ: رأيت شعبة يصلّي حتّى ترم قدماه.
وكان موصوفا بالعلم والزّهد، والقناعة، والرّحمة، والخير، وكان رأسا في العربية والشعر.
وقال أبو عبد الرّحمن النسائيّ: أمناء الله على علم رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- ثلاثة: شعبة بن الحجّاج، ويحيى بن سعيد القطّان، ومالك بن أنس.
وفيها توفي المسعوديّ عبد الرّحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود الكوفيّ. روى عن الحكم بن عتيبة [1] ، وعمرو بن مرّة، وخلق. وخرّج له الأربعة.
قال أبو حاتم: كان أعلم أهل زمانه بحديث ابن مسعود. وتغيّر قبل موته بسنة أو سنتين.
وقال ابن حبّان: كان صدوقا إلّا أنه اختلط في آخر عمره.
وقال آخر: كان حسن الحديث.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «ابن عتبة» ، وفي «العبر» للذهبي (1/ 235) : «ابن عيينة» وكلاهما خطأ، والتصحيح من «تهذيب الكمال» للمزي (2/ 798) مصورة دار المأمون للتراث بدمشق.(2/270)
سنة إحدى وستين ومائة
فيها أمر المهديّ ببناء القصور بطريق مكّة، واتخاذ المصانع، وتجديد الأميال، وحفر الرّكايا [1] ، وزاد في جامع البصرة، وأمر بنزع المقاصير، وتقصير المنابر، وتصييرها إلى المقدار الذي [كان] عليه منبر رسول الله- صلّى الله عليه وآله سلّم- اليوم ففعل ذلك. قاله في «الشذور» .
وفيها كان ظهور عطاء المقنّع السّاحر الملعون، الذي ادّعى الرّبوبية بناحية مرو، واستغوى خلائق لا يحصون.
قال ابن خلّكان في «تاريخه» [2] : عطاء المقنّع الخراسانيّ لا أعرف اسم أبيه. وكان مبدأ أمره قصّارا من أهل مرو [3] وكان يعرف شيئا من السّحر والنّيْرجات، فادّعى الرّبوبية من طريق المناسخة، وقال لأشياعه والذين اتبعوه: إن الله تعالى تحوّل إلى صورة آدم- عليه السلام- فلذلك قال للملائكة: اسجدوا له، فسجدوا له إلا إبليس، فاستحقّ بذلك السخط، ثم تحوّل من صورة آدم إلى صورة نوح، ثم إلى صورة واحد فواحد من الأنبياء- عليهم السّلام- والحكماء حتّى حصل في صورة أبي مسلم الخراساني، ثم زعم أنه انتقل منه إليه، فقبل قوم دعواه، وعبدوه، وقاتلوا دونه، مع ما عاينوا
__________
[1] يعني الآبار. انظر «لسان العرب» (ركا) .
[2] يعني «وفيات الأعيان» (3/ 263- 265) .
[3] قوله: «وكان مبدأ أمره قصارا من أهل مرو» لم يرد في «وفيات الأعيان» .(2/271)
من عظيم ادّعائه وقبح صورته، لأنه كان مشوّه الخلق، أعور [ألكن، قصيرا، وكان لا يسفر عن وجهه بل اتخذ وجها من ذهب فتقنّع به، فلذلك قيل له:
المقنّع] [1] وإنما غلب على عقولهم بالتمويهات التي أظهرها لهم بالسّحر والنيرجات، وكان في جملة ما أظهر لهم صورة قمر يطلع فيراه النّاس من مسيرة [2] شهرين من موضعه، ثم يغيب، فعظم اعتقادهم فيه، وقد ذكر أبو العلاء المعري هذا القمر في قوله:
أفق إنّما البدر المقنّع رأسه ... ضلال وغيّ مثل بدر المقنّع [3]
وإليه أشار ابن سناء الملك [4] بقوله:
إليك فلا بدر [5] المقنّع طالعا ... بأسحر من ألحاظ بدري المعمّم
ولما اشتهر أمر ابن المقفع وانتشر ذكره، ثار عليه النّاس، وقصدوه في قلعته التي كان قد اعتصم بها، وحصروه، فلما أيقن بالهلاك جمع نساءه وسقاهنّ سمّا فمتن [منه] [6] ثم تناول شربة من ذلك السّم فمات، ودخل المسلمون قلعته فقتلوا من فيها من أشياعه وأتباعه، وذلك في سنة ثلاث وستين ومائة، لعنه الله تعالى، ونعوذ بالله من الخذلان. انتهى ملخصا.
وقال ابن الأهدل بعد كلام طويل: كان لا يسفر عن وجهه لقبح صورته، ولذلك قيل له: المقنّع، ثم اتخذ وجها من ذهب فتقنّع به، وعبده خلق كثير وقاتلوا دونه، وانتدب لحربه سعيد الحرشي [7] ولما أحسّ بالغلبة
__________
[1] ما بين الحاصرتين زيادة من «وفيات الأعيان» .
[2] في «وفيات الأعيان» : «من مسافة» .
[3] البيت في «سقط الزند» لأبي العلاء المعرّي ص (165) .
[4] هو أبو القاسم هبة الله بن جعفر بن سناء الملك السعدي، المتوفى سنة (608) هـ، وسوف ترد ترجمته في المجلد السابع من طبعتنا هذه إن شاء الله.
[5] في «وفيات الأعيان» : «فما بدر» .
[6] لفظه «منه» زيادة من «وفيات الأعيان» .
[7] في الأصل، والمطبوع: «الجرشي» وهو تصحيف، والتصحيح من «تاريخ الطبري»(2/272)
استعمل سمّا وسقى نساءه، ثم شربه فماتوا كلهم. انتهى ملخصا أيضا.
وفيها توفي أبو دلامة زند- بالنون- بن الجون صاحب النوادر، أنشد المهديّ لما ورد عليه بغداد:
إني حلفت [1] لئن رأيتك سالما ... بقرى العراق وأنت ذا وفر [2]
لتصلّينّ على النّبيّ محمّد ... ولتملأنّ دراهما حجري [3]
فقال المهديّ: أما الأولى فنعم، فقال: جعلت فداك لا تفرّق بينهما، فملأ له حجره دراهم.
واستدعى طبيبا لعلاج وجع فداواه على شيء معلوم، فلما برأ قال له أبو دلامة: والله ما عندنا شيء ولكن ادع المقدار على يهودي وأشهد لك أنّا وولدي، فمضى الطبيب إلى القاضي محمّد بن عبد الرّحمن بن أبي ليلى، وقيل: عبد الله بن شبرمة، فادّعى الطبيب وأنكر اليهودي، فجاء بأبي دلامة وابنه، وخاف أبو دلامة أن يطالبه القاضي بالتزكية، فأنشد في الدهليز بحيث يسمعه القاضي:
إن النّاس غطّوني تغطّيت عنهم ... وإن بحثوا عنّي ففيهم مباحث
وإن نبشوا بئري نبشت بئارهم ... ليعلم قوم كيف تلك البثابث [4]
__________
(7/ 135) . قال ابن الأثير في «اللباب» (1/ 357) : الحرشي: هذه النسبة إلى بني الحريش بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، ونزلوا البصرة ومنها تفرقوا.
[1] كذا في الأصل، والمطبوع، و «مرآة الجنان» (1/ 358) : «إني حلفت» وفي «الأغاني» : «إني نذرت» .
[2] في «مرآة الجنان» و «الأغاني» : «وأنت ذو فر» .
[3] البيتان في «الأغاني» (10/ 253) و «مرآة الجنان» (1/ 158) .
[4] البيتان في «مرآة الجنان» (1/ 359) وفيه: «البثائث» .
وروايتهما في «لسان العرب» (نبث) :
إن الناس غطوني تغطيت عنهم ... وإن بحثوني كان فيهم مباحث(2/273)
فقال له القاضي: كلامك مسموع وشهادتك مقبولة، ثم غرم القاضي المبلغ من عنده.
ونوادره كثيرة جدا، وهو مطعون فيه، وليست له رواية.
وفي شعبان منها، توفي الإمام أبو عبد الله سفيان بن سعيد الثّوري الفقيه، سيّد أهل زمانه علما وعملا، وله ستّ وستون سنة. روى عن عمرو بن مرّة، وسماك بن حرب، وخلق كثير.
قال ابن المبارك: كتبت عن ألف شيخ ومائة شيخ [1] ما فيهم أفضل من سفيان.
وقال شعبة، ويحيى بن معين، وغيرهما: سفيان أمير المؤمنين في الحديث.
وقال أحمد بن حنبل: لا يتقدم على سفيان في قلبي أحد.
وقال يحيى القطّان: ما رأيت أحفظ من الثّوريّ، وهو فوق مالك في كل شيء.
وقال سفيان: ما استودعت قلبي شيئا قطّ فخانني.
وقال ورقاء [2] : لم ير الثّوريّ مثل نفسه.
__________
وإن نبثوا بئري نبثت بئارهم ... فسوف ترى ماذا ترد النبائث
[1] في «العبر» للذهبي (1/ 236) : «كتبت عن ألف ومائة» .
[2] هو ورقاء بن عمر اليشكري، أبو بشر، أصله من خوارزم، كان يسكن المدائن مدّة، وبغداد زمنا، ومات بالمدائن على تيقظ فيه وإتقان. وكان صدوقا صالحا. انظر ترجمته في «مشاهير علماء الأمصار» لابن حبّان ص (175) ، و «تهذيب الكمال» (3/ 1460- 1461) مصوّرة دار المأمون للتراث، و «الكاشف» للذهبي (3/ 206) ، و «تهذيب التهذيب» لابن حجر (11/ 113- 115) ، وسوف ترد ترجمته في صفحة (276) .(2/274)
وكان سفيان كثير الحطّ على المنصور لظلمه، فهمّ به وأراد قتله، فما أمهله الله، وأثنى عليه أئمة عصره بما يطول ذكره، وكان أقسم بربّ البيت أنّ المنصور لا يدخلها- أي الكعبة- وفي رواية قال: برئت منها- يعني الكعبة- إن دخلها منصور، ودخل على المهديّ فسلّم عليه تسليم العامة، فأقبل عليه المهديّ بوجه طلق، وقال: تفر هاهنا وهاهنا، أتظن أن لو أردناك بسوء لم نقدر عليك؟ فما عسى أن نحكم الآن فيك؟ فقال سفيان: إن تحكم الآن في يحكم فيك ملك، قادر، عادل، يفرّق بين الحق والباطل، فقال له الرّبيع مولاه: ألهذا الجاهل أن يستقبلك بهذا؟ ائذن لي في ضرب عنقه، فقال المهديّ: ويلك اسكت، وهل يريد هذا وأمثاله إلّا أن نقتلهم فنشقى بسعادتهم؟ اكتبوا عهده على قضاء الكوفة، على أن لا يعترض عليه فيها حكم، فخرج فرمى بالكتاب في دجلة وهرب، فطلب فلم يقدر عليه، وتولى قضاءها عنه شريك بن عبد الله النّخعيّ، فقال فيه الشّاعر:
تحرّز سفيان ففرّ [1] بدينه ... وأمسى شريك مرصدا للدّراهم
ومات سفيان بالبصرة متواريا، وكان صاحب مذهب.
قال ابن رجب: وجد في آخر القرن الرابع سفيانيون.
ومناقبه تحتمل مجلدات، ورآه بعضهم بعد موته فسأله عن حاله فقال:
نظرت إلى ربّي عيانا فقال لي ... هنيئا رضائي عنك يا بن سعيد
لقد كنت قوّاما إذا أظلم الدّجى ... بعبرة مشتاق وقلب عميد
فدونك فاختر أيّ قصد أردته ... وزرني فإني منك [2] غير بعيد [3]
__________
[1] في «مرآة الجنان» (1/ 363) : «وفرّ» .
[2] في «مرآة الجنان» : «عنك» .
[3] الأبيات في «مرآة الجنان» (1/ 363) .(2/275)
وفيها، في أولها، توفي أبو الصّلت زائدة بن قدامة الثّقفيّ الكوفيّ الحافظ. روى عن زياد بن علاقة وطبقته. وقال أبو حاتم: ثقة صاحب سنّة.
وقال الطّيالسي: كان لا يحضر صاحب بدعة.
وحرب بن شدّاد اليشكريّ البصريّ. روى عن شهر بن حوشب، والحسن، ويحيى بن أبي كثير.
قال في «المغني» [1] : حرب بن شدّاد، عن ابن أبي كثير، ثقة، كان يحيى القطّان لا يحدّث عنه.
وقال يحيى بن معين، صالح. انتهى.
وقد خرّج له الشيخان، وأبو داود، والترمذي، وغيرهم.
وفيها سعيد بن أبي أيوب المصريّ، وقد نيف على الستين. روى عن زهرة بن معبد [2] وجماعة.
وفيها ورقاء بن عمر اليشكريّ الكوفيّ بالمدائن. روى عن عبيد الله [3] بن أبي يزيد، ومنصور وطبقتهما.
قال في «المغني» [4] : ثقة ثبت.
قال القطّان: لا يساوي شيئا. انتهى.
قال أبو داود الطّيالسي: قال لي شعبة: عليك بورقاء فإنك لن تلقى مثله حتّى ترجع.
وقال أحمد: كان ثقة صاحب سنّة.
وفيها هشام بن سعد.
__________
[1] (1/ 153) .
[2] في «العبر» (1/ 237) : «عن أبي زهرة» وهو خطأ فيصحّح فيه.
[3] في الأصل: «عن عبد الله» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[4] (2/ 719) .(2/276)
قال في «المغني» [1] : هشام بن سعد مولى بني مخزوم. صدوق مشهور، ضعّفه النّسائيّ وغيره، وكان يحيى القطّان لا يحدّث عنه.
وقال أحمد: ليس هو محكم للحديث.
وقال ابن عدي: مع ضعفه يكتب حديثه.
وقال ابن معين: ليس بذاك القوي.
قال الحاكم: روى له مسلم في الشواهد. انتهى.
وفيها داود بن قيس المدنيّ الفرّاء الدّبّاغ. روى عن المقبريّ، وطبقته.
وأبو جعفر الرّازيّ عيسى بن ماهان. روى عن عطاء بن أبي رباح، والرّبيع بن أنس الخراساني، وكان زميل المهديّ إلى مكّة.
وفيها- قال ابن الأهدل: أو في سنة أربع وتسعين- إمام النّحو عمرو بن عثمان المعروف ب سيبويه الحارثي مولاهم، أخذ النحو عن عيسى بن عمر، واللغة عن أبي الخطّاب الأخفش الأكبر وغيره. قيل: ولم يقرأ عليه كتابه قطّ، وإنما قرئ بعد موته على الأخفش.
قال ابن سلّام: سألت سيبويه عن قوله تعالى: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ 10: 98 [يونس: 98] بأيّ شيء نصب قوم؟
قال: إذا كانت إلّا بمعنى لكن نصب.
قيل: وكان أعلم المتقدمين والمتأخرين بالنحو، ولم يصنّف فيه مثل كتابه.
وكان الخليل إذا جاءه سيبويه يقول: مرحبا بزائر لا يملّ.
وتناظر هو والكسائيّ في مجلس الأمين، فظهر سيبويه بالصواب، وظهر الكسائيّ بتركيب الحجّة والتعصّب. انتهى كلام ابن الأهدل.
__________
[1] (2/ 710) .(2/277)
وقال الشّمنّيّ في «حاشيته» على «المغني» : أما سيبويه، فعمرو بن عثمان بن قنبر أبو بشر [1] طلب الآثار والفقه، ثم صحب الخليل، وبرع في النحو، وهو مولى لبني الحارث بن كعب، ويكنى أيضا أبا الحسن، وتفسير سيبويه بالفارسية: رائحة التفاح.
قال إبراهيم الحربي: سمي بذلك لأن وجنتيه كانتا كأنهما تفاحتان.
قال المبرّد: كان سيبويه، وحمّاد بن سلمة: أعلم بالنحو من النّضر بن شميل، والأخفش.
وقال ابن عائشة: كنّا نجلس مع سيبويه في المسجد، وكان شابا جميلا نظيفا قد تعلّق من كل علم بسبب مع حداثة سنّه.
وقال أبو بكر العبديّ النحويّ: لما ناظر سيبويه الكسائيّ ولم يظهر، سأل من يرغب من الملوك في النحو؟ فقيل له: طلحة بن طاهر، فشخص إليه إلى خراسان فمات في الطريق.
ذكر بعضهم أنه مات سنة ثمانين ومائة وهو الصحيح، كذا قال الذّهبيّ، ويقال: سنة أربع وتسعين ومائة. انتهى كلام الشّمنّي.
وما قاله هو الصواب. وانظر تناقض ابن الأهدل، كيف ذكر موته سنة إحدى وستين، وذكر أن ما جريته مع الكسائيّ في مجلس الأمين، وما أبعد هذا التناقض، فلعله لم يتأمل.
وأما صاحب «مغني اللبيب عن كتب الأعاريب» فقد ذكر ذلك وذكر أن المناظرة كانت عند يحيى بن خالد البرمكي، فلنورد عبارته بحروفها وإن كان فيها طول، لما فيها من الفوائد، فنقول: قال ابن هشام في «المغني» [2] : مسألة:
__________
[1] في الأصل: «ابن بشر» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[2] ص (122- 123) ، طبع دار الفكر ببيروت، بتحقيق العالم الفاضل الدكتور مازن المبارك والأستاذ الفاضل علي حمد الله.(2/278)
قالت العرب: قد كنت أظنّ أن العقرب أشدّ لسعة من الزّنبور، فإذا هو هي، وقالوا أيضا: فإذا هو إياها، وهذا هو الوجه الذي أنكره سيبويه لمّا سأله الكسائيّ، وكان من خبرهما أنّ سيبويه قدم على البرامكة، فعزم يحيى بن خالد على الجمع بينهما، فجعل لذلك يوما، فلما حضر سيبويه تقدّم إليه الفرّاء، والأحمر [1] فسأله الأحمر [1] عن مسألة فأجاب فيها، فقال له:
أخطأت، ثم سأله ثانية وثالثة، وهو يجيبه، ويقول له: أخطأت، فقال [له سيبويه] [2] : هذا سوء أدب، فأقبل عليه الفرّاء، فقال [له] [3] : إن في هذا الرجل حدّة وعجلة، ولكن ما تقول فيمن قال: هؤلاء أبون ومررت بأبين؟
كيف تقول على مثال ذلك من وأيت أو أويت، فأجابه، فقال: أعد النظر، فقال: لست أكلّمكما حتّى يحضر صاحبكما، فحضر الكسائيّ، فقال له [الكسائيّ] [4] : تسألني أو أسألك؟ فقال له سيبويه: سل أنت؟ فسأله عن هذا المثال، فقال سيبويه: فإذا هو هي، ولا يجوز النصب، وسأله عن أمثال ذلك نحو: خرجت فإذا عبد الله القائم، أو القائم، فقال [له] [5] : كلّ ذلك بالرفع، فقال له الكسائيّ: العرب ترفع كلّ ذلك وتنصبه [6] فقال يحيى: قد اختلفتما، وأنتما رئيسا بلديكما، فمن يحكم بينكما؟ فقال له الكسائيّ: هذه العرب
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «وخلف» وهو خطأ تبع فيه المؤلف ابن هشام والتصحيح من حاشية التحقيق في «مغني اللبيب» ، وقد جاء في «الحاشية» أيضا «الأحمر» هو علي بن المبارك الكوفي تلميذ الكسائي المتوفى سنة (194) هـ، وإنما تضمنت القصة ذكر لقبه فقط، فظن ابن هشام، وصاحب «الإنصاف» ص (703) قبله أنه «خلف الأحمر» البصري المتوفى سنة (180) هـ، والقصة في «مجالس العلماء» ص (8) .
[2] ما بين الحاصرتين زيادة من «مغني اللبيب» .
[3] زيادة من «مغني اللبيب» .
[4] زيادة من «مغني اللبيب» .
[5] زيادة من «مغني اللبيب» .
[6] في «مغني اللبيب» : «وتنصب» .(2/279)
ببابك، قد سمع منهم أهل البلدين، فيحضرون ويسألون، فقال يحيى، وجعفر [1] : أنصفت، فأحضروا، فوافقوا الكسائيّ، فاستكان سيبويه، فأمر له يحيى بعشرة آلاف درهم، فخرج إلى فارس، فأقام بها حتّى مات، ولم يعد إلى البصرة، فيقال: إن العرب [قد] [2] أرشوا [3] على ذلك، أو إنهم علموا منزلة الكسائيّ عند الرّشيد، ويقال: [إنهم] [4] إنما قالوا القول قول الكسائيّ، ولم ينطقوا بالنصب، وإنّ سيبويه قال ليحيى: مرهم أن ينطقوا بذلك، فإنّ ألسنتهم لا تطوع به، ولقد أحسن الإمام الأديب أبو الحسن [حازم] [5] بن محمّد الأنصاري [القرطاجنيّ] [6] إذ قال في منظومته في النحو حاكيا هذه الواقعة والمسألة:
والعرب قد تحذف الأخبار بعد إذا ... إذا عنت فجأة الأمر الذي دهما
وربّما نصبوا بالحال بعد إذا ... وربّما [7] رفعوا من بعدها ربما
فإنّ توالى ضميران اكتسى بهما ... وجه الحقيقة من إشكاله غمما
لذاك أعيت على الأفهام مسألة ... أهدت إلى سيبويه الحتف والغمما
قد كانت العقرب العوجاء أحسبها ... قدما أشدّ من الزّنبور وقع حما
وفي الجواب عليها هل إذا هو هي ... أو هل إذا هو إيّاها قد اختصما
وخطّأ ابن زياد وابن حمزة في ... ما قال فيها أبا بشر وقد ظلما
__________
[1] في المطبوع: «جعفر، ويحيى» وما جاء في الأصل موافق لما في «مغني اللبيب» .
[2] زيادة من «مغني اللبيب» .
[3] في مغني «اللبيب» : (رشوا) .
[4] زيادة من «مغني اللبيب» .
[5] لفظة «حازم» زيادة من «مغني اللبيب» .
[6] لفظة «القرطاجني» زيادة من «مغني اللبيب» .
[7] في الأصل، والمطبوع: «وبعد ما» وقد أثبت ما في «مغني اللبيب» .(2/280)
وغاظ عمرا عليّ في حكومته ... يا ليته لم يكن في أمره [1] حكما
كغيظ عمرو عليّا في حكومته ... يا ليته لم يكن في أمره حكما
وفجّع ابن زياد كلّ منتحب [2] ... من أهله إذ غدا منه يفيض دما
كفجعة ابن زياد كلّ منتحب [2] ... من أهله إذ غدا منه يفيض دما
فظلّ بالكرب مكظوما وقد كربت ... بالكرب أنفاسه أن يبلغ الكظما
قضت عليه بغير الحقّ طائفة ... حتّى قضى هدرا ما بينهم هدما
من كلّ أجور حكما من سدوم قضى ... عمرو بن عثمان مما قد قضى سدما
حسّاده في الورى عمّت فكلّهم ... تلفيه منتقدا للقول منتقما
فما النّهى ذمما فيهم معارفها ... ولا المعارف في أهل النّهى ذمما
فأصبحت بعده الأنفاس كامنة ... في كلّ صدر كأن قد كظّ أو كظما [3]
وأصبحت بعده الأنفاس باكية ... في كلّ طرس [4] كدمع سحّ وانسجما
وليّس يخلو امرؤ من حاسد أضم ... لولا التّنافس في الدّنيا لما أضما
والغبن في العلم أشجى محنة علمت ... وأبرح النّاس شجوا عالم هضما
انتهى كلام ابن هشام.
وقال شارحه الشّمنّي: ويقال: إن هذه الواقعة كانت سبب علّة سيبويه التي مات بها. انتهى.
حتّى إن النّاس لا تعرف غيره، وربما تشير إليه أبيات حازم المتقدّمة، والله أعلم.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «أمرها» ، وأثبت ما في «مغني اللبيب» .
[2] في «مغني اللبيب» : «منتخب» .
[3] هذا البيت والأبيات الخمسة التي سبقته لم ترد في «مغني اللبيب» الذي بين يدي.
[4] الطرس: الصحيفة، ويقال: هي التي محيت ثم كتبت. قاله في «مختار الصحاح» ص (390) .(2/281)
سنة اثنتين وستين ومائة
فيها أمر المهديّ أن يجرى على المجذومين وأهل السجون في سائر الآفاق.
وفيها احتفل لغزو الرّوم، وسار لحربهم الحسن بن قحطبة في ثمانين ألفا سوى المطوّعة [1] فأغار، وحرق، وسبى، ولم يلق بأسا.
وفيها ظهرت المحمّرة [2] ، ورأسهم عبد القهّار، واستولوا على جرجان وقتلوا خلائق، فقصده عمر بن العلاء من طبرستان، فقتل عبد القهّار وخلق من أصحابه.
وفيها توفي السيّد الجليل، والزّاهد النّبيل، أبو إسحاق إبراهيم بن أدهم البلخيّ الزّاهد بالشّام. روى عن منصور، ومالك بن دينار، وطائفة.
قال في «العبر» [3] : وثّقه النّسائيّ، وغيره. وكان أحد السّادات. انتهى.
__________
[1] المطوّعة: هم الذين كانوا يتطوّعون بالجهاد. انظر «مختار الصحاح» ص (400) .
[2] قال الزبيدي في «تاج العروس» (حمر) : والمحمّرة، على صيغة اسم الفاعل مشدّدة: فرقة من الخرّمية، وهم يخالفون المبيّضة والمسوّدة، واحدهم محمّر. وفي «التهذيب» ويقال للذين يحمّرون راياتهم خلاف زيّ المسوّدة من بني هاشم: المحمّرة، كما للحروريّة المبيّضة، لأن راياتهم في الحروب كانت بيضاء.
[3] (1/ 238) .(2/282)
قلت: في كلام «العبر» ما يشعر بأن هناك من لم يوثّقه، ولهذا تعجب اليافعيّ [1] من نقل الذّهبي لتوثيقه عن واحد وغيره، مع ظهور فضله، وكراماته، واجتهاده عند الخاص والعام، حتّى يقال: إنه بلغ رتبة الاجتهاد، فقيل: له [لم] [2] لم تتكلّم في العلوم وتنفع النّاس، فقال: «كلّما هممت بشيء من ذلك يمنعني أمور، منها: إذا قال الله تعالى يوم القيامة: وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ 36: 59 [يس: 59] مع من أكون- في كلام يطول- وكان أول انقطاعه إلى الله تعالى بعد أن كان أحد الملوك، أنه سمع هاتفا من قربوس سرجه [3] .
وروي أنه قعد تحت رمانة ومعه محمّد بن المبارك الصّوري، فصليا تحتها، فخاطبته الرّمّانة بأن يأكل منها شيئا، فأخذ رمّانتين، فأكل واحدة، وناول صاحبه الأخرى، وكانت قصيرة حامضة، فعادت حلوة عالية، تثمر في كل عام مرتين، وسميت رمّانة العابدين.
ومناقبه وكراماته لا تحصى، ومن شعره رحمه الله تعالى:
تركت الخلق طرّا في رضاكا ... وأيتمت العيال لكي أراكا
فلو قطّعتني في الحبّ إربا ... لما حنّ الفؤاد إلى سواكا [4]
والله أعلم [5] .
__________
[1] انظر كلامه في «مرآة الجنان» (1/ 364- 365) فهو مفيد.
[2] لفظة «لم» سقطت من الأصل، وأثبتها من المطبوع.
[3] قال ابن منظور: القربوس: حنو السّرج. وحنو السّرج: كل عود معوج من عيدانه. انظر «لسان العرب» (قربس) و (حنا) .
[4] البيتان في «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 365) .
[5] للتوسع في دراسة سيرة هذا الإمام الكبير راجع ترجمته ومصادرها في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (7/ 387- 396) تحقيق صديقي الفاضل الأستاذ علي أبو زيد، بإشراف الأستاذ الشيخ شعيب الأرناؤوط، طبع مؤسسة الرسالة.(2/283)
وفيها، وقيل: سنة ستين، داود بن نصير الطّائيّ، الكوفيّ الزّاهد، وكان أحد من برع في الفقه، ثم اعتزل. روى عن عبد الملك بن عمير وجماعة، وكان عديم النظير، زهدا وصلاحا. قاله في «العبر» [1] .
ومن كلامه- رحمه الله تعالى-: صم عن الدّنيا واجعل فطرك الموت، وفرّ من النّاس فرارك من الأسد.
وفيها قاضي العراق أبو بكر [2] بن عبد الله بن محمّد بن أبي سبرة القرشيّ العامريّ المدنيّ، أخذ عن زيد بن أسلم وجماعة، وهو متروك الحديث. ولي القضاء بعده القاضي أبو يوسف.
وفيها أبو المنذر زهير بن محمّد التميميّ المروزيّ الخراسانيّ، نزل الشّام ثم الحجاز، وحدّث عن عمرو بن شعيب وطائفة. وخرّج له العقيلي.
قال في «المغني» [3] : زهير بن محمّد التميميّ المروزيّ. عن ابن المنكدر، ثقة له غرائب، ضعّفه ابن معين.
وقال البخاريّ: روى أهل الشّام عنه مناكير. انتهى.
وفيها، أو قبلها، يزيد بن إبراهيم التّستريّ ثم البصريّ. روى عن الحسن، وعطاء، والكبار، وكان عفّان يثني عليه ويرفع أمره.
قال في «المغني» [4] : يزيد بن إبراهيم التّستريّ، عن ابن سيرين، ثقة.
قال ابن معين: في قتادة ليس بذاك. انتهى.
__________
[1] (1/ 238) .
[2] قال الحافظ ابن حجر في «تهذيب التهذيب» (12/ 27) : قيل: اسمه عبد الله. قال أبو أحمد- يعني ابن البريدي-، وأبو حاتم: اسمه محمد، وقيل: إن محمدا أخ له، وقد ينسب إلى جده.
[3] (1/ 241- 242) .
[4] (2/ 747) .(2/284)
وفيها شبيب بن شيبة المنقري البصري، كان فصيحا، بليغا، أخباريّا.
روى عن الحسن، وابن سيرين، وخرّج له الترمذيّ.
قال في «المغني» [1] : ضعّفوه في الحديث. انتهى.
وأبو سفيان حرب بن سريج [2] المنقريّ البصريّ البزّار. روى عن ابن أبي مليكة، وجماعة.
قال ابن عديّ: أرجو أنه لا بأس به [3] .
وأبو مودود عبد العزيز بن أبي سليمان المدنيّ القاصّ، عن سنّ عالية.
رأى أبا سعيد الخدري. وروى عن السائب بن يزيد وجماعة.
قال ابن سعد: كان من أهل الفضل والنّسك، يعظ ويذكّر.
قال في «العبر» [4] : وآخر من روى عنه كامل بن طلحة.
وفيها حريز بن عثمان بن جبر بن أسعد الرّحبيّ المشرقيّ الحمصيّ.
قال ابن ناصر الدّين: هو أحد الحفّاظ المشهورين، وهو معدود في صغار التابعين، وهو من الأثبات، لكنه لسبيل النصب سالك.
وذكر أبو اليمان أنه كان ينال من رجل ثم ترك ذلك: انتهى.
وقال الذهبيّ في «المغني» [5] : هو تابعيّ صغير ثبت، لكنه ناصبيّ.
انتهى [6] .
__________
[1] (1/ 295) .
[2] في «العبر» للذهبي (1/ 239) : «حرب بن شريح» وهو تصحيف فيصحّح فيه.
[3] انظر ترجمته ومصادرها في «تهذيب الكمال» للمزّي (5/ 522- 524) بتحقيق الأستاذ الدكتور بشّار عوّاد معروف، طبع مؤسسة الرسالة.
[4] (1/ 239) .
[5] (1/ 154) .
[6] انظر ترجمته ومصادرها في «تهذيب الكمال» للمزّي (5/ 568- 581) ، وفيه قال المزيّ:(2/285)
سنة ثلاث وستين ومائة
فيها قتل المهديّ جماعة من الزّنادقة، وصرف همّته إلى تتبّعهم، وأتى بكتب من كتبهم، فقطعت بحضرته بحلب.
وفيها توفي إبراهيم بن طهمان الخراسانيّ بنيسابور. روى عن عمرو بن دينار وطبقته.
قال إسحاق بن راهويه: كان صحيح الحديث، [حسن الرّواية، كثير السّماع] [1] ما كان بخراسان أكثر حديثا منه.
قال في «المغني» [2] : ثقة، مشهور، ضعّفه محمّد بن عبد الله بن عمّار.
قال أحمد: كان مرجئا [3] . انتهى.
وأرطاة بن المنذر الألهانيّ الحمصيّ. سمع سعيد بن المسيّب والكبار، وكان ثقة، حافظا، زاهدا، معمّرا.
__________
مات سنة ثلاث وستين ومائة، وكذا أرّخه الذهبيّ في «العبر» (1/ 241) .
[1] ما بين حاصرتين زيادة من «تهذيب الكمال» للمزّي (1/ 111) طبع مؤسسة الرسالة.
[2] (1/ 17) .
[3] الذي في «المغني في الضعفاء» للذهبي: «وقال الجوزجاني: فاضل يرمى بالإرجاء» .
وانظر «أحوال الرجال» للجوزجاني ص (209) طبع مؤسسة الرسالة.(2/286)
قال أبو اليمان: كنت أشبّه أحمد بن حنبل بأرطاة بن المنذر.
وبكير بن معروف الدّامغانيّ المفسّر قاضي نيسابور بدمشق. روى عن أبي الزّبير المكّي وجماعة.
قال النّسائيّ: ليس به بأس.
وفيها عيسى بن علي، عمّ المنصور. روى عن أبيه.
وقال ابن معين: ليس به بأس.
وشعيب بن أبي حمزة بن دينار الحمصيّ، مولى بني أميّة، وصاحب الزّهري.
قال أحمد بن حنبل: رأيت كتبه، وقد ضبطها وقيّدها. قال: وهو عندنا فوق يونس، وعقيل.
وقال عليّ بن عيّاش [1] : كان عندنا من كبار النّاس، وكان من صنف آخر في العبادة.
وفيها موسى بن علي بن رباح اللّخميّ المصريّ. [روى] [2] عن أبيه وطائفة، ووليّ إمرة ديار مصر للمنصور ستة أعوام.
وهمّام بن يحيى العوذيّ مولاهم البصريّ. روى عن الحسن، وعطاء، وطائفة، وكان أحد أركان الحديث ببلده.
قال أحمد: هو ثبت في كلّ مشايخه.
وفيها يحيى بن أيّوب الغافقيّ المصريّ. روى عن بكير بن الأشج، وجماعة، وكان لا يحتجّ به.
__________
[1] في الأصل: «علي بن عبّاس» وهو تصحيف، وأثبت ما في المطبوع، وهو الصواب.
[2] لفظة «روى» لم ترد في الأصل، والمطبوع، واستدركتها من «العبر» للذهبي (1/ 242) .(2/287)
وقال النّسائيّ: ليس بالقوي.
وقال الدّارقطنيّ: في بعض حديثه اضطراب، وقد ذكره ابن عديّ في «كامله» [1] وقال: هو عندي صدوق. ومن غرائبه: حدّثنا ابن جريج عن أبي الزّبير، عن جابر. قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: «لا تعلّموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السّفهاء، ولا لتخيّروا [2] به المجالس، فمن فعل ذلك فالنّار النّار» [3] . وهو معروف بيحيى بن أيّوب. انتهى كلام «المغني» [4] .
وفيها، أو في حدودها، أبو غسّان محمّد بن مطرّف المدنيّ. روى عن محمّد بن المنكدر وطبقته.
__________
[1] (7/ 2673) .
[2] في المطبوع: «لتجبروا» ، وفي «الكامل» لابن عدي: «لتحيروا» وكلاهما خطأ.
[3] هو في «الكامل» (7/ 2672) ورواه أيضا ابن ماجة رقم (254) في المقدمة، وابن حبّان في «صحيحه» رقم (90) «موارد» والحاكم في «المستدرك» (1/ 86) وصححه ووافقه الذهبي عن جابر رضي الله عنه، وهو حديث صحيح بشواهده.
[4] (2/ 731) .(2/288)
سنة أربع وستين ومائة
فيها أقبل ميخائيل البطريق، وطازاد [1] الأرمني- لعنهما الله- في تسعين ألف، ففشل [2] عبد الكريم، ومنع المسلمين من الملتقى، وردفهم المهديّ بضرب عنقه وسجنه. قاله في «العبر» [3] .
وفيها توفي أبو [محمّد] إسحاق [4] بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله التّيميّ المدنيّ شيخ آل طلحة، عن سنّ عالية. روى عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وعن عمّيه: موسى، وعيسى. وآخر من روى عنه بشر بن الوليد الكنديّ، وهو متروك الحديث. قاله في «العبر» [5] .
وأبو معاوية شيبان النّحويّ [الكوفيّ] [6] . نزل بغداد، وروى عن الحسن، وطائفة بعده، وكان كثير الحديث، عارفا بالنحو، صاحب حروف وقراءات، ثقة، حجّة. قاله في «العبر» [7] .
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «وطاراد» وهو تصحيف، والتصحيح من «العبر» للذهبي.
[2] في الأصل: «ففسل» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[3] (1/ 243) .
[4] في الأصل، والمطبوع: «أبو إسحاق» وهو خطأ، والتصحيح من «تهذيب الكمال» للمزّي (2/ 489) طبع مؤسسة الرسالة.
[5] (1/ 243) .
[6] لفظة «الكوفي» زيادة من «العبر» للذهبي.
[7] (1/ 243) .(2/289)
وعبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون المدنيّ الفقيه. روى عن الزّهريّ وطبقته. وكان إماما، مفتيا، صاحب حلقة.
قال ابن ناصر الدّين: كان من العلماء الربّانيّين والفقهاء المنصفين.
انتهى.
قال ابن خلّكان [1] : قال ابن الماجشون: عرج بروح أبي، فوضعناه على سريره للغسل، [وقلنا للنّاس: نروح به] [2] فدخل غاسل، يغسله، فرأى عرقا يتحرك في أسفل قدمه، فأقبل إلينا وقال: أرى عرقا يتحرك ولا أرى أن أعجل عليه، فما غسلناه، واعتللنا على النّاس بالأمر الذي رأيناه، وفي الغد جاءنا النّاس وغدا الغاسل عليه، فرأى العرق على حاله، فاعتذرنا إلى النّاس، فمكث ثلاثا على حاله، ثم إنه استوى جالسا، فقال: ائتوني بسويق، فأتي به فشربه، فقلنا [له] [3] : خبّرنا بما رأيت، قال: [نعم] [4] عرج بروحي، فصعد بي الملك حتّى أتى سماء الدّنيا، فاستفتح، ففتح له، ثم هكذا في السماوات حتّى انتهى [بي] [5] إلى السماء السابعة، فقيل له: من معك؟
قال: الماجشون، فقيل له: لم يؤذن له بعد، بقي من عمره كذا وكذا سنة، وكذا وكذا شهرا، وكذا وكذا يوما، وكذا وكذا ساعة. ثم هبط، فرأيت النّبيّ- صلى الله عليه وسلّم- وأبا بكر عن يمينه، وعمر عن يساره، وعمر بن عبد العزيز بين يديه، فقلت للملك [الذي معي] [6] : من هذا؟ فقال: عمر بن عبد العزيز،
__________
[1] في «وفيات الأعيان» (6/ 376- 377) وقد نقل المؤلف عنه بتصرّف.
[2] ما بين حاصرتين زيادة من «وفيات الأعيان» .
[3] زيادة من «وفيات الأعيان» .
[4] زيادة من «وفيات الأعيان» .
[5] زيادة من «وفيات الأعيان» .
[6] زيادة من «وفيات الأعيان» .(2/290)
قلت: إنه لقريب [1] المقعد من رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- قال: إنه عمل بالحق في زمن الجور، وإنهما- أي أبا بكر، وعمر- عملا بالحق في زمن الحق. انتهى.
وعدّ الذّهبيّ في كتابه «العلو» الماجشون عبد العزيز هذا ممّن قال بالجهة، وأقام الدليل والتعليل على ذلك فراجعه.
وفيها مبارك بن فضالة البصريّ، مولى قريش.
قال ابن ناصر الدّين: المبارك بن فضالة بن أبي أميّة، كان كثير التدليس، فتكلّم فيه.
وذكر أبو زرعة، وغيره أن المبارك إذا قال: حدّثنا فهو ثقة مقبول.
انتهى.
وقال في «العبر» [2] : روى عن الحسن، وبكر المزنيّ وطائفة. وكان من كبار المحدّثين والنّسّاك. وكان يحيى القطّان يحسن الثناء عليه.
وقال أبو داود: مدلّس. فإذا قال: حدثنا [3] فهو ثبت.
وقال مبارك: جالست الحسن ثلاث عشرة سنة.
وقال أحمد: ما رواه عن الحسن يحتجّ به. انتهى.
وخرّج له الترمذيّ، وأبو داود، والعقيليّ.
وفيها، أو في التي تليها، عبد الله بن العلاء بن زبر [4] الرّبعي الدّمشقي. يروي عن القاسم، ومكحول، وكان من أشراف البلد. عمّر تسعين سنة.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «إنه قريب» وأثبت ما في «وفيات الأعيان» .
[2] (1/ 244) .
[3] في «العبر» : «حديثا» وهو تحريف فيصحّح فيه.
[4] في الأصل، والمطبوع: «ابن زيد» وهو تحريف، والتصحيح في «العبر» للذهبي (1/ 244) .(2/291)
سنة خمس وستين ومائة
فيها غزا المسلمون غزوة مشهورة وعليهم هارون الرّشيد وهو صبيّ أمرد، وفي خدمته الرّبيع الحاجب، فافتتحوا ماجدة [1] من الرّوم، والتقوا الرّوم، وهزموهم، ثم ساروا حتّى وصلوا خليج قسطنطينيّة، وقتلوا وسبوا، وصالحتهم ملكة الرّوم على مال جليل، فقيل: إنه قتل من الرّوم في هذه الغزوة المباركة خمسون ألفا، وغنم المسلمون ما لا يحصى، حتّى بيع الفرس بدرهم، والبغل الجيّد بعشرة دراهم.
وفيها توفي سليمان بن المغيرة البصريّ. عالم أهل البصرة في وقته.
روى عن ابن سيرين، وثابت.
قال شعبة: هو سيّد أهل البصرة.
وقال الخريبيّ: ما رأيت بصريّا أفضل منه.
وقال أحمد: ثبت ثبت.
وعبد الرّحمن بن ثوبان الدّمشقيّ الزّاهد عن تسعين سنة. روى عن خالد بن معدان وطبقته.
__________
[1] كذا في الأصل، والمطبوع، و «العبر» للذهبي (1/ 245) مصدر المؤلف، و «تاريخ الطبري» (8/ 152) ، ولم أقف على ذكر لها في كتب البلدان التي بين يدي.(2/292)
قال أحمد بن حنبل: كان عابد أهل الشّام، وذكر من فضله.
وقال أبو داود: كان مجاب الدّعوة، وكانت فيه سلامة، وما به بأس.
وقال أبو حاتم: ثقة.
ومعروف بن مشكان، قارئ أهل مكّة، وأحد أصحاب ابن كثير. وقد سمع من عطاء وغيره.
وفيها وهيب بن خالد أبو بكر البصريّ الحافظ. روى عن منصور وطائفة كثيرة.
قال عبد الرّحمن بن مهدي: كان من أبصر أصحابه بالحديث والرّجال.
وقال أبو حاتم: يقال: لم يكن بعد شعبة [1] أعلم بالرّجال منه.
وفيها خالد بن برمك، وزير السّفّاح، وجدّ جعفر البرمكيّ، عن خمس وسبعين سنة، وكان يتّهم بالمجوسيّة. قاله في «العبر» [2] .
وفي آخر يوم منها أبو الأشهب العطارديّ جعفر بن حيّان بالبصرة. روى عن أبي رجاء [3] العطارديّ، والكبار، وعاش خمسا وتسعين سنة.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «شيبة» والتصحيح من «العبر» للذهبي.
[2] (1/ 246) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «عن أبي رجب» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 46) .
قال ابن الأثير في «اللباب» (2/ 346) واسم أبي رجاء عمران بن ملحان.(2/293)
سنة ست وستين ومائة
وفيها قبض المهديّ على وزيره يعقوب بن داود لكونه أعطاه هاشميا من ولد فاطمة [- رضي الله عنها-] [1] ليقتله، فاصطنعه، وهرّبه، فظفر به الأعوان، وكان يعقوب شيعيّا يميل إلى الزّيديّة ويقرّبهم.
وفيها استقضى المهديّ أبا يوسف، وأخذ البيعة لهارون بعد موسى، وسمّاه الرّشيد. قاله ابن الجوزي في «الشذور» .
وفيها توفي أبو معاوية صدقة بن عبد الله السّمين من كبار محدّثي دمشق. روى عن القاسم أبي عبد الرّحمن [2] وطائفة.
وخرّج له الترمذيّ، والنّسائيّ، والعقيليّ.
قال في «المغني» [3] : ضعّفه أحمد، والبخاريّ وغيرهما. انتهى.
وفيها معقل بن عبيد الله الجزريّ، من كبار علماء الجزيرة [4] . روى
__________
[1] زيادة من «العبر» للذهبي (1/ 247) وقد تحرّفت لفظة «عنها» فيه إلى «عنه» فتصحّح.
[2] هو القاسم بن عبد الرحمن الشامي، أبو عبد الرحمن الدمشقي صاحب أبي أمامة رضي الله عنه. (ع) .
[3] (1/ 307) .
[4] يعني جزيرة أقور التي بين دجلة والفرات.(2/294)
عن عطاء بن أبي رباح، وميمون بن مهران، والكبار.
قال في «المغني» [1] : صدوق مشهور ضعّفه ابن معين وحده. انتهى.
وفيها أبو بكر النّهشليّ الكوفيّ، وفي اسمه أقوال [2] .
قال في «المغني» [3] : أبو بكر النّهشليّ الكوفيّ، صدوق، تكلم فيه ابن حبّان. اسمه عبد الله على الصحيح، وقد وثّقه أحمد، وابن معين، والعجليّ. انتهى.
قال في «العبر» [4] : روى عن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري وجماعة، وآخر أصحابه موتا جبارة بن المغلّس. انتهى.
__________
[1] «المغني في الضعفاء» (2/ 669) .
[2] انظرها في «تهذيب الكمال» للمزّي (3/ 1589) مصوّرة دار المأمون للتراث بدمشق.
[3] (2/ 773) .
[4] (1/ 247) .(2/295)
سنة سبع وستين ومائة
فيها جدّ المهديّ في طلب الزّنادقة في الآفاق، وأكثر الفحص عنهم، وقتل طائفة.
وفيها أمر بالزيادة في المسجد الحرام، وغرّم عليها [1] أموالا عظيمة، وأدخلت فيه دور كثيرة [2] .
وفيها كان الوباء العظيم بالعراق.
وفيها توفي حمّاد بن سلمة بن دينار البصريّ الحافظ في آخر السّنة.
سمع قتادة، وأبا جمرة [3] الضّبعي، وطبقتهما، وكان سيّد أهل وقته.
قال وهيب بن خالد: حمّاد بن سلمة سيّدنا وأعلمنا.
وقال ابن المديني: كان عند يحيى بن ضريس [4] عن حمّاد بن سلمة عشرة آلاف حديث.
وقال عبد الرّحمن بن مهدي: لو قيل لحمّاد بن سلمة: إنك تموت غدا ما قدر أن يزيد في العمل شيئا.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «وغرم عليه» وأثبت ما في «العبر» للذهبي (1/ 248) .
[2] في «العبر» : «دور كبيرة» .
[3] في الأصل: «وأبا حمزة» وهو تصحيف، وأثبت ما في المطبوع، وهو الصواب.
[4] في الأصل: «حريش» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع، وهو الصواب.(2/296)
وقال شهاب البلخيّ: كان حمّاد بن سلمة يعدّ من الأبدال [1] .
وقال غيره: كان فصيحا، مفوّها، إماما في العربية، صاحب سنّة.
له تصانيف في الحديث، وكان بطاينيا، فروى سوّار بن عبد الله، عن أبيه قال: كنت آتي حمّاد بن سلمة في سوقه، فإذا ربح في ثوب [2] حبّة، أو حبّتين، شدّ جونته [3] وقام.
وقال موسى بن إسماعيل: لو قلت: إني ما رأيت حمّاد بن سلمة ضاحكا لصدقت. كان يحدّث، أو يسبّح، أو يقرأ، أو يصلّي، قد قسم النهار على ذلك [4] .
قلت: وهو أحد الحمّادين وأجلّهما، صاحبي المذهبين، أحدهما هذا، والثاني حمّاد بن زيد بن درهم، وتأخر موته عن هذا، وسنتكلم عليه- إن شاء الله تعالى-.
قال صاحب «الجواهر المضيّة في طبقات الحنفية» في آخرها [5] :
فائدة، الحمّادان: حمّاد بن زيد بن درهم، وحمّاد بن سلمة بن دينار، ولقد ألطف عبد الله بن معاوية [الجهميّ] حيث قال: حدّثنا حمّاد بن سلمة بن دينار، وحمّاد بن زيد بن درهم، وفضل ابن سلمة على ابن زيد كفضل الدّينار على الدّرهم. انتهى والله أعلم.
__________
[1] قال ابن الأثير: الأبدال: هم الأولياء، والعبّاد، الواحد بدل كحمل وأحمال، وبدل كجمل، سمّوا بذلك لأنهم كلما مات واحد منهم أبدل بآخر. انظر «النهاية في غريب الحديث والأثر» (1/ 107) .
[2] قوله: «في ثوب» سقط من «العبر» للذهبي (1/ 248) فيستدرك فيه.
[3] في الأصل، والمطبوع: «شد جيوبه» وهو خطأ، وفي «العبر» للذهبي: «جونته» . وفي «سير أعلام النبلاء» (7/ 448) أيضا «جونته» وهو ما أثبته، والجونة: سليلة مستديرة مغشاة بالجلد، يحفظ العطار فيها الطيب. يعني: اكتفى بذلك. وانظر «لسان العرب» (جون) .
[4] في «العبر» : «على ذاك» .
[5] هي للإمام محيي الدين عبد القادر بن أبي الوفاء محمد القرشي المصري الحنفي المتوفى سنة (775) هـ. والمؤلف ينقل عن الجزء الثاني منها ص (425) طبع حيد أباد الدكن.(2/297)
وفيها الحسن بن صالح بن حيّ الهمدانيّ، فقيه الكوفة وعابدها. روى عن سماك بن حرب وطبقته.
وقال أبو نعيم: ما رأيت أفضل منه.
وقال أبو حاتم: ثقة، حافظ، متقن.
وقال ابن معين: يكتب رأي الحسن بن صالح. يكتب رأي الأوزاعي، هؤلاء ثقات.
وقال وكيع: الحسن بن صالح يشبّه بسعيد [1] بن جبير، كان هو وأخوه علي وأمهما قد جزّءوا [2] الليل ثلاثة أجزاء. فماتت، فقسّما الليل سهمين [3] فمات عليّ، فقام الحسن الليل كلّه.
قال في «العبر» [4] : قلت: مات عليّ [5] سنة أربع وخمسين وهما توأم [6] أخرج لهما مسلم. انتهى.
وقال في «المعارف» [7] : يكنّى الحسن أبا عبد الله، وكان يتشيع، وزوّج عيسى بن زيد بن علي ابنته، واستخفى معه في مكان واحد حتّى مات عيسى بن زيد، وكان طلبهما المهديّ فلم يقدر عليهما. ومات الحسن بعد عيسى بستة أشهر. انتهى.
__________
[1] في «العبر» للذهبي: «يشبه سعيد» .
[2] في «العبر» : «جزءا» .
[3] في «العبر» : «فقسما الليل بينهما» .
[4] (1/ 249) .
[5] لفظة «علي» لم ترد في «العبر» .
[6] كذا في الأصل، والمطبوع، و «العبر» . والصواب أن يقال: «توأمان» . وانظر «مختار الصحاح» ص (74) .
[7] ص (509) .(2/298)
وفيها الرّبيع بن مسلم الجمحيّ مولاهم البصريّ، وكان من بقايا أصحاب الحسن.
ومفضّل بن مهلهل السعديّ الكوفيّ صاحب منصور.
قال أحمد العجليّ: كان ثقة صاحب سنّة وفضل وفقه. لما مات الثّوريّ، جاء أصحابه إلى مفضّل فقالوا: تجلس لنا مكانه. قال: ما رأيت صاحبكم يحمد مجلسه.
وفيها فقيه الشّام بعد الأوزاعيّ أبو محمّد سعيد بن عبد العزيز التّنوخيّ، عن نحو ثمانين سنة. أخذ عن مكحول، وربيعة القصير، ونافع مولى ابن عمر، وخلق، وكان صالحا، قانتا، خاشعا.
قال: ما قمت إلى صلاة إلّا مثلت لي جهنم.
وقال الحاكم: هو لأهل الشّام كمالك لأهل المدينة.
وفيها أبو روح سلّام بن مسكين البصريّ. روى عن الحسن والكبار.
وقال أبو سلمة التّبوذكيّ: كان من أعبد أهل زمانه.
وأبو شريح عبد الرّحمن بن شريح المعافريّ بالاسكندرية. روى عن أبي قبيل وطبقته، وكان ذا عبادة وفضل وجلالة.
قال السيوطيّ في «حسن المحاضرة» [1] : ذكره ابن حبّان في الثقات.
انتهى.
وأبو عقيل يحيى بن المتوكل المدنيّ ببغداد. روى عن بهيّة [2] وابن
__________
[1] قلت: ذكر السيوطي أبا شريح عبد الرحمن بن شريح في «حسن المحاضرة» (1/ 281 و 300) ولم يرد في المطبوع منه قوله: «ذكره ابن حبّان في «الثقات» الذي ذكره المؤلف رحمه الله.
[2] في «العبر» : «عن بقية» وهو خطأ فيصحّح فيه. وانظر «تهذيب الكمال» للمزّي (3/ 1156) مصوّرة دار المأمون للتراث.(2/299)
المنكدر، وليس بالقوي عندهم. قاله في «العبر» [1] .
وعبد العزيز بن مسلم بالبصرة. روى عن مطر الورّاق، وطائفة، وكان عابدا قدوة. روى عن يحيى السّيلحيني، وقال: كان من الأبدال.
والقاسم بن الفضل الحدّانيّ بالبصرة. روى عن ابن سيرين والكبار، وكان كثير الحديث.
قال ابن مهدي: هو من مشايخنا الثقات. وقد خرّج له مسلم والأربعة.
قال في «المغني» [2] : القاسم بن الفضل الحدّاني. عن أبي نضرة وغيره. صدوق. وثّقه ابن معين [3] وأورده العقيليّ في «الضعفاء» فما تكلم فيه بما يضعفه قطّ. انتهى.
وأبو هلال محمّد بن سليم الرّاسبيّ بالبصرة. روى عن الحسن والكبار.
وثّقه أبو داود وغيره، وهو حسن الحديث. قاله في «العبر» [4] .
ومحمّد بن طلحة بن مصرّف الياميّ الكوفيّ أحد المكثرين الثقات.
يروى عن أبيه وطبقته.
وفيها أبو حمزة محمّد بن ميمون المروزيّ السّكّريّ. ارتحل وأخذ عن زياد بن علاقة ونحوه، وكان شيخ بلده في الحديث، والفضل، والعبادة.
قال ابن ناصر الدّين: هو شيخ خراسان. كان ثقة ثبتا، كريما يقري الضيف ويبالغ في إكرامه، ولقّب بالسّكّريّ لحلاوة كلامه. انتهى.
وفيها أبو بكر الهذليّ البصريّ الأخباريّ أحد الضعفاء، واسمه سلمى.
__________
[1] (1/ 251) .
[2] (2/ 520) .
[3] في «المغني» : «وثّقه ابن مهدي» .
[4] (1/ 251) .(2/300)
روى عن الشّعبيّ، ومعاذة العدويّة، والقدماء.
وفيها قتل في الزّندقة بشّار بن برد البصريّ الأعمى، شاعر العصر.
قال ابن الأهدل: بشّار بن برد العقيليّ مولاهم الشّاعر المشهور، كان أكمه، جاحظ العينين، فصيحا، مفوّها، وكان يمدح المهديّ فرمي عنده بالزّندقة، فضربه حتّى مات، وقد نيّف على السبعين.
قيل: كان يفضّل النار على الطين، ويصوّب رأي إبليس في امتناعه من السجود لآدم، وينسب إليه هذا البيت.
الأرض مظلمة والنّار مشرقة ... والنّار معبودة مذ كانت النّار [1]
قيل: وفتّشت كتبه فلم يوجد فيها شيء مما رمي به.
وقيل: إنه هجا صالح بن داود أخا يعقوب الوزير فقال:
هم حملوا فوق المنابر صالحا ... أخاك فضجّت [2] من أخيك المنابر [3]
فقال يعقوب للمهديّ: إن بشّارا هجاك بقوله:
خليفة يزني بعمّاته ... يلعب بالدّبّوق [4] والصّولجان [5]
أبدلنا الله به غيره ... ودسّ موسى في حر الخيزران [6]
__________
[1] البيت في «الأغاني» (3/ 145) ، و «وفيات الأعيان» (1/ 273) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «فصمت» وهو خطأ، والتصحيح من «الأغاني» و «تاريخ الطبري» و «وفيات الأعيان» .
[3] البيت في «الأغاني» (3/ 244) و «تاريخ الطبري» (8/ 181) و «وفيات الأعيان» (1/ 273) .
[4] في الأصل، والمطبوع: «بالدفّ» وهو خطأ، والتصحيح من «الأغاني» و «تاريخ الطبري» و «وفيات الأعيان» .
[5] في الأصل، والمطبوع: «وبالصولجان» وأثبت لفظ «الأغاني» و «تاريخ الطبري» و «وفيات الأعيان» .
[6] البيتان في «الأغاني» (3/ 243) و «تاريخ الطبري» (8/ 181) و «وفيات الأعيان» (1/ 273) .(2/301)
والخيزران امرأة المهديّ، وإليها تنسب دار الخيزران بمكّة، فقتله المهديّ. انتهى.
وقال ابن قاضي شهبة: زنادقة الدّنيا أربع: بشّار بن برد، وابن الرّاوندي [1] ، وأبو حيّان التّوحيدي، وأبو العلاء المعرّي. انتهى.
__________
[1] سترد ترجمته في أول المجلد الرابع من طبعتنا هذه إن شاء الله.(2/302)
سنة ثمان وستين ومائة
فيها غزا المسلمون الرّوم لنقضهم الهدنة.
وفيها سار سعيد الجرشيّ في سبعين ألفا إلى طبرستان.
وفيها مات السيّد الأمير أبو محمد الحسن بن زيد بن السيّد الحسن بن علي بن أبي طالب، شيخ بني هاشم في زمانه، وأمير المدينة للمنصور، ووالد السيّدة نفيسة.
وخافه المنصور فحبسه، ثمّ أخرجه المهديّ وقرّبه، ولم يزل معه حتّى مات معه بطريق مكّة عن خمس وثمانين سنة. روى عن أبيه. وخرّج له النّسائيّ.
قال في «المغني» [1] : ضعّفه ابن معين، وقوّاه غيره. انتهى.
وفيها أبو الحجّاج خارجة بن مصعب السّرخسيّ من كبار المحدّثين بخراسان. رحل، وأخذ عن زيد بن أسلم وطبقته، وهو صدوق كثير الغلط، لا يحتجّ به. قاله في «العبر» [2] .
وسعيد بن بشير البصريّ ثم الدّمشقيّ المحدّث المشهور، أكثر عن قتادة وطبقته.
قال أبو مسهر: لم يكن في بلدنا أحفظ منه.
__________
[1] (1/ 159) .
[2] (1/ 252- 253) .(2/303)
وقال أبو حاتم: محلّه الصّدق.
وضعفه غيره.
قال البخاريّ: يتكلمون في حفظه.
وقيس بن الرّبيع أبو محمّد الأسديّ الكوفيّ، أحد علماء الحديث مع ضعفه، على أنّ ابن عديّ قال فيه: عامّة رواياته مستقيمة، والقول فيه ما قال شعبة، وأنه لا بأس به.
وقال عفّان: ثقة.
وقال أبو الوليد: حضر شريك القاضي جنازة قيس بن الرّبيع فقال:
ما ترك بعده مثله.
روى عن محارب بن دثار [1] وطبقته.
وفيها الأمير عيسى بن موسى بن محمّد بن علي بن عبد الله بن عبّاس العبّاسيّ وليّ عهد السّفّاح بعد أخيه المنصور، وقد ذكرنا أن المهديّ خلعه، وقد توفي أبوه شابا سنة ثمان ومائة.
وفليح بن سليمان المدنيّ مولى الخطّاب. روى عن نافع وطبقته، واحتجّ به الشيخان، وكان ثقة مشهورا [2] كثير العلم، ليّنه ابن معين.
وفيها مندل بن عليّ العنزيّ الكوفيّ. روى عن عبد الملك بن عمير وطبقته وكان صدوقا مكثرا، في حديثه لين.
ونافع بن يزيد المصريّ. عن جعفر بن ربيعة وطبقته، وكان أحد الثقات.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «محارب بن زياد» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 253) وهو مصدر المؤلف في الترجمة.
[2] في «العبر» (1/ 254) «مشهودا» .(2/304)
سنة تسع وستين ومائة
فيها عزم المهديّ على أن يقدّم هارون في العهد، ويؤخّر موسى الهادي، فطلبه وهو بجرجان ففهمها ولم يقدم. فهمّ بالمسير [1] إلى جرجان لذلك.
وفيها لثمان بقين من المحرّم ساق المهديّ- واسمه محمّد أبو عبد الله بن أبي جعفر عبد الله بن محمّد بن علي بن عبد الله بن عبّاس العبّاسي- خلف صيد، فدخل الوحش خربة، فدخل الكلاب خلفه، وتبعهم المهديّ، فدق ظهره في باب الخربة لشدّة سوقه، فتلف لساعته. وقيل: بل أكل طعاما سمّته جارية لضرّتها، فلما وضع يده فيه ما جسرت أن تقول: هيّأته لضرّتي. فيقال: كان إنجاصا، فأكل واحدة، وصاح من جوفه، ومات من الغد عن ثلاث وأربعين سنة.
كانت خلافته عشر سنين وشهرا.
وكان جوادا، ممدّحا، محبّبا إلى النّاس، وصولا لأقاربه، حسن الأخلاق، حليما، قصّاما [2] للزنادقة، وكان طويلا أبيض مليحا.
__________
[1] لفظة «المسير» تحرّفت في «العبر» إلى «المصير» فتصحّح فيه.
[2] في الأصل، والمطبوع: «قضابا» ، وفي «العبر» للذهبي (1/ 255) : «قصابا» وكلاهما خطأ،(2/305)
يقال: إن المنصور خلّف في الخزائن مائة ألف ألف وستين ألف ألف درهم، ففرّقها المهديّ ولم يل الخلافة أحد أكرم منه، ولا أبخل من أبيه.
ويقال: إنه أعطى شاعرا مرّة خمسين ألف دينار.
ويقال: إنه استضاف أعرابيا وقد انفرد عن جيشه في طلب صيد حتّى جهد وعطش، فسقاه لبنا مشوبا، فكتب له بخمسمائة ألف، فأيسر ذلك الأعرابيّ وكثرت مواشيه، وبقي مرصدا للحاج، وسمي مضيف أمير المؤمنين.
وقال في «مروج الذهب» [1] : حدّث الفضل بن الرّبيع قال: خرج المهديّ يوما متنزّها ومعه [2] عمرو بن ربيع مولاه، وكان شاعرا، فانقطع عن المعسكر، والنّاس في الصيد، وأصاب المهديّ جوع شديد، فقال لعمرو:
ويحك ارتد إنسانا نجد عنده ما نأكل، قال: فما زال عمرو يطوف إلى أن وجد صاحب مبقلة وإلى جانبها كوخ له، فصعد إليه، فقال له عمرو: أما عندك شيء يؤكل؟ قال: نعم، رقاق من [خبز] [3] شعير ورثيئة [4] وهذا البقل، والكراث [5] فقال له المهديّ: إن كان عندك زيت فقد أكملت، قال: نعم، عندي فضلة منه، فقدّم إليهما ذلك، فأكلا أكلا كثيرا، وجعل المهدي يستطيب أكله ويمعن فيه، حتّى لم يكن فيه فضل، فقال لعمرو: قل شيئا
__________
والتصحيح من «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 371) .
[1] (3/ 320- 321) وقد نقل المؤلف عنه بتصرّف.
[2] في الأصل: «وعنده» ، وأثبت ما في المطبوع.
[3] زيادة من «مروج الذهب» .
[4] في الأصل، والمطبوع: «ورثيت» ، وفي «مروج الذهب» : «ورثيثة» ، والتصحيح من «لسان العرب» (رثأ) . قال ابن منظور: الرّثيئة: اللبن الحامض يحلب عليه فيخثر. ويعود الفضل في وقوفي على وجه الصواب في هذه اللفظة إلى العالم الفاضل الدكتور مازن المبارك حفظه الله ذخرا لطلبة العلم في هذه الديار.
[5] في الأصل: «والكراس» بالسين وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع، وهو الصواب.(2/306)
تصف فيه ما نحن فيه، فقال عمرو:
إنّ من يطعم الرّثيئة [1] بالزّي ... ت وخبز الشّعير بالكرّاث
لحقيق بصفعة أو بثنتي ... ن لسوء الصّنيع أو بثلاث [2]
فقال له المهديّ: بئس والله ما قلت، ولكن أحسن من ذلك أن تقول:
لحقيق ببدرة [3] أو بثنتي ... ن لحسن الصّنيع أو بثلاث
ووافى المعسكر، ولحقته الخزائن، والخدم، والمواكب، فأمر لصاحب المبقلة [4] بثلاث بدر دراهم.
وعار [5] فرس المهديّ مرّة أخرى، وقد خرج للصيد فدفع [6] إلى خباء [7] أعرابي وهو جائع، فقال: يا أعرابيّ هل عندك من قرى فإني ضيفك، وأنا جائع، فقال: أراك طريرا سمينا [8] ، جسيما، عميما، فإن احتملت الموجود قرّبنا لك ما يحضر [9] قال: هات ما عندك، فأخرج له خبز ملّة [10] فأكلها، وقال: طيبة، هات ما عندك، فأخرج له [11] لبنا فسقاه، فقال طيب،
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «الرثيث» ، والتصحيح من «لسان العرب» (رثأ) .
[2] البيتان في «مروج الذهب» (2/ 320) .
[3] قال في «مختار الصحاح» ص (43) : البدرة: عشرة آلاف درهم.
[4] في الأصل: «البقلة» وهو تحريف، وأثبت ما في المطبوع، وهو الصواب.
[5] في الأصل، والمطبوع: «وغار» وهو تصحيف، والتصحيح من «مروج الذهب» .
قال في «مختار الصحاح» ص (464) : عار الفرس انفلت وذهب هاهنا وهاهنا من مرحه.
[6] في الأصل، والمطبوع: «فوقع» وما أثبته من «مروج الذهب» (2/ 321) .
قال ابن منظور: دفع إلى المكان ودفع، كلاهما: انتهى، ويقال: هذا طريق يدفع إلى مكان كذا، أي ينتهي إليه «لسان العرب» (دفع) .
[7] قال ابن منظور: الخباء من الأبنية. انظر «لسان العرب» (خبأ) .
[8] لفظة «سمينا» لم ترد في «مروج الذهب» الذي بين يدي.
[9] في «مروج الذهب» : «ما يحضرنا» .
[10] قال ابن منظور: الملّة: الرماد الحار والجمر. يقال: أكلنا خبز ملّة، ولا يقال: أكلنا ملّة.
«لسان العرب» (ملل) . المعنى: فأخرج له خبزا مشويا في الملّة.
[11] في «مروج الذهب» : «فأخرج إليه» .(2/307)
هات ما عندك، فأخرج له فضلة نبيذ في زكرة [1] فشرب الأعرابيّ وسقاه، فلما شرب قال له المهديّ: أتدري [2] من أنا؟ قال: لا والله. قال: أنا من خدم الخاصّة، قال: بارك الله لك [3] في موضعك وحيّاك [4] من كنت، ثم شرب الأعرابيّ قدحا وسقاه، فلما شرب قال [له] [5] : يا أعرابيّ أتدري من أنا؟ قال:
نعم ذكرت لي [6] أنك من خدم الخاصة. قال: لست كذلك. قال فمن [7] أنت؟ قال: أنا أحد قوّاد المهديّ. قال: رحبت دارك وطاب مزارك، ثم شرب الأعرابيّ قدحا وسقاه، فلما شرب الثالث قال: يا أعرابيّ، أتدري من أنا؟
قال: نعم زعمت أنك أحد قوّاد المهديّ. قال: فلست كذلك، أنا أمير المؤمنين بنفسه، فأخذ الأعرابيّ زكرته [8] فوكأها [9] فقال له المهديّ:
اسقنا. قال: لا والله لا تشرب [10] منها جرعة فما فوقها، قال: ولم؟ قال:
سقيتك واحدا، فزعمت أنك من خدم الخاصة، فاحتملناها لك، ثم سقيناك آخر [11] فزعمت أنك من قوّاد المهديّ، فاحتملناها لك، ثم سقيناك الثالث [12] فزعمت أنك أمير المؤمنين، ولا والله ما آمن أن أسقيك الرابع [13] فتقول
__________
[1] الزكرة: زقيق للشراب، وفي «مروج الذهب» «ركوة» . (ع) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «تدري» وأثبت ما في «مروج الذهب» .
[3] لفظة «لك» لم ترد في «مروج الذهب» .
[4] في «مروج الذهب» : «حباك» وهو تصحيف.
[5] زيادة من «مروج الذهب» .
[6] لفظة «لي» لم ترد في «مروج الذهب» .
[7] في الأصل، والمطبوع: «فممّن» وأثبت ما في «مروج الذهب» .
[8] في «مروج الذهب» : «ركوته» .
[9] قال في «مختار الصحاح» ص (735) : الوكاء ما يشدّ به رأس القربة.
[10] في الأصل، والمطبوع: «لا شربت» وما أثبته من «مروج الذهب» .
[11] في الأصل، والمطبوع: «أخرى» وأثبت ما في «مروج الذهب» .
[12] في الأصل، والمطبوع: «ثم سقيناك أخرى» وأثبت ما في «مروج الذهب» .
[13] في الأصل، والمطبوع: «الرابعة» وأثبت ما في «مروج الذهب» .(2/308)
إنك [1] رسول الله، فضحك المهديّ، وأحاطت به الخيل، ونزل إليه [2] أبناء الملوك والأشراف، فطار قلب الأعرابيّ، ولم يكن همّه إلا النجاة [بنفسه] [3] فجعل يشتد في عدوه، فردّ إليه [4] فقال له المهديّ [5] : لا بأس عليك، وأمر له بصلة جزيلة من مال، وكسوة، فقال له: أشهد أنك الآن صادق ولو ادّعيت الرابعة والخامسة، وضمّه في خواصّه، وأجرى له رزقا.
انتهى كلام المسعودي.
وأول من هنّأه، وعزّاه، وأجازه، أبو دلامة حيث يقول:
عيناي واحدة ترى مسرورة ... بأميرها جذلى [6] وأخرى تذرف
تبكي وتضحك تارة ويسوؤها ... ما أنكرت ويسرّها ما تعرف
فيسوؤها موت الخليفة محرما ... ويسرّها أن قام هذا الأرأف
هلك الخليفة يال أمّة أحمد ... وأتاكم من بعده من يخلف [7]
وقال عليّ بن يقطين: كنّا مع المهديّ بما سبذان [8] فقال لي يوما:
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «أنا» وأثبت ما في «مروج الذهب» .
[2] في الأصل، والمطبوع: «ونزل به» وأثبت ما في «مروج الذهب» .
[3] زيادة من «مروج الذهب» .
[4] قوله «فرد إليه» لم يرد في «مروج الذهب» .
[5] زيادة من «مروج الذهب» .
[6] في الأصل، والمطبوع: «بأمانها جذلا» وأثبت ما في «تاريخ بغداد» .
[7] الأبيات في «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي (5/ 392) من قطعة شعرية من ستة أبيات.
[8] في الأصل: «بما سندان» وهو تصحيف، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
قال القزويني في «آثار البلاد وأخبار العباد» ص (260) : ما سبذان مدينة مشهورة بقرب السيروان، كثيرة الشجرة، كثيرة الحمامات والكباريت والزاجات والبوارق والأملاح. بها عين عجيبة، من شرب منها قذف أخلاطا كثيرة، لكنه يضرّ بأعصاب الرأس، وإن احتقن بمائها أسهل إسهالا عظيما. وانظر «معجم البلدان» لياقوت (5/ 41) .(2/309)
أصبحت جائعا فأتني [1] بأرغفة ولحم بارد [مطبوخ بالخلّ] [2] ففعلت، ثم دخل البهو فنام، ثم نمنا نحن [في الدّار] [3] في الرّواق، فانتبهنا لبكائه، فبادرنا إليه مسرعين، فقال: أما رأيتم [4] ما رأيت؟ قلنا: ما رأينا شيئا. قال:
وقف على [الباب] [5] رجل لو أنه في ألف رجل ما خفي عليّ صوته ولا صورته فقال:
كأنّي بهذا القصر قد باد آهله ... وأوحش منه ربعه ومنازله
وصار عميد القوم من بعد بهجة ... وملك إلى قبر عليه جنادله
فلم يبق إلّا ذكره وحديثه ... تنادي عليه معولات حلائله
قال عليّ: فما أتت على المهديّ بعد رؤياه هذه إلّا عشرة أيام حتّى توفي رحمه الله [6] .
وفيها لما مات المهديّ، أرسلوا بالخاتم، والقضيب، إلى الهاديّ، فأسرع إلى البريد ودخل بغداد وبالغ [7] في طلب الزنادقة، وقتل منهم عدّة.
وفيها خرج الحسين بن علي بن حسن بن حسن بن الحسن بن علي [8] بن أبي طالب الحسنيّ [9] بالمدينة وبايعه [10] عدد كثير، وحارب العسكر
__________
[1] في «تاريخ الطبري» : «فأتي» .
[2] زيادة من «تاريخ الطبري» .
[3] زيادة من «تاريخ الطبري» .
[4] في الأصل، والمطبوع: «ما رأيتم» وأثبت ما في «تاريخ الطبري» .
[5] زيادة من «تاريخ الطبري» .
[6] القصة في «تاريخ الطبري» (8/ 171) بسياق مقارب.
[7] في «العبر» (1/ 55) : «وبلغ» وهو تحريف فيصحّح فيه.
[8] في المطبوع: «الحسين بن علي بن حسن بن حسن بن علي» . وانظر «تاريخ خليفة بن خياط» ص (445) .
[9] في «العبر» (1/ 256) : «الحسيني» .
[10] في «العبر» : «وتابعه» .(2/310)
الذي [1] بالمدينة، وقتل مقدّمهم خالد البربري [2] ثم تأهّب وخرج في جمع إلى مكّة، فالتفّ عليه خلق كثير، فأقبل ركب العراق معهم جماعة من أمراء بني العبّاس في عدّة وخيل، فالتقوا بفخّ [3] فقتل الحسين في مائة من أصحابه.
وقتل الحسن بن محمّد بن عبد الله بن حسن الذي خرج أبوه زمان المنصور.
وهرب إدريس بن عبد الله بن حسن إلى المغرب، فقام معه أهل طنجة، وهو جدّ الشرفاء الإدريسيّين. ثم تحيّل الرّشيد وبعث من سمّ إدريس، فقام بعده ابنه إدريس بن إدريس، وتملّك مدّة.
وفيها توفي أبو السّليل عبيد الله بن إياد بن لقيط الكوفيّ، وله عن أبيه نسخة، وكان عريف قومه بني سدوس.
قال في «المغني» [4] : عبيد الله بن إياد بن لقيط، ثقة.
قيل: إن بعض روايته صحيحة [5] . قاله ابن قانع.
وفيها- كما قال ابن ناصر الدّين- نافع بن عمر الجمحيّ القرشيّ المكيّ.
كان محدّث مكّة، حافظا، ثبتا.
قال عبد الرّحمن بن مهدي: كان من أثبت النّاس.
قال في «المغني» [6] : نافع بن عمر الجمحيّ، حجّة.
__________
[1] في «العبر» : «العساكر التي» .
[2] في الأصل، والمطبوع: «البربذي» وهو تحريف، والتصحيح من «العبر» للذهبي مصدر المؤلف، وانظر «تاريخ الطبري» (8/ 192- 204) .
[3] قال ياقوت: فخ واد بمكة. وانظر تتمة كلامه في «معجم البلدان» (4/ 237- 238) .
[4] «المغني في الضعفاء» (2/ 414) .
[5] تحرّفت لفظة «صحيحة» في «المغني» إلى «صحيفة» فتصحّح فيه.
[6] (2/ 693) .(2/311)
قال أحمد: ثقة ثبت.
وقال ابن سعد: ثقة فيه شيء. انتهى [1] .
ومحمد بن مطرّف المدنيّ، ثقة عمدة.
ومعاوية بن سلّام بن أبي سلّام- ممطور الحبشيّ الشّاميّ الدّمشقيّ- كان ثقة متقنا.
وجرير بن حازم الأزديّ البصريّ، أحد فصحاء البصرة ومحدّثيها، عمّر دهرا، واختلط بآخرة، فحجبه ابنه وهب، فلم يرو شيئا في اختلاطه. روى عن الحسن والكبار، وحضر جنازة أبي الطّفيل بمكّة.
وقيل: توفي جرير هذا سنة سبعين. جزم به في «العبر» [2] .
وفيها أبو سعيد المؤدّب ببغداد، واسمه محمّد [بن مسلم] [3] وهو جزريّ. روى عن عبد الكريم الجزريّ، وحمّاد بن أبي سليمان، [وجماعة] [3] وهو مؤدّب موسى الهادي.
وفيها نافع بن أبي نعيم [4] أبو عبد الرّحمن، وقيل: أبو رويم اللّيثيّ، مولاهم، قارئ أهل المدينة، وأحد السّبعة.
قال موسى بن طارق: سمعته يقول: قرأت على سبعين من التابعين.
وقال اللّيث: حججت سنة ثلاث عشرة ومائة، وإمام النّاس في القراءة
__________
[1] قلت: وقال الذهبيّ في «العبر» (1/ 257) : وقال عبد الرحمن بن مهدي: كان من أثبت الناس.
[2] (1/ 258) .
[3] زيادة من «العبر» للذهبي (1/ 256) وهو مصدر المؤلف في كلامه.
[4] في «معرفة القرّاء الكبار» للذهبي (1/ 107) طبع مؤسسة الرسالة: «نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم ... وقيل: يكني أبا الحسن، وقيل: أبا عبد الرحمن، وقيل: أبو عبد الله، وقيل أبو نعيم، وأشهرها أبو رويم.(2/312)
نافع بن أبي نعيم.
وقال مالك: نافع إمام النّاس في القراءة.
قال في «المغني» [1] : وثّقه ابن معين [2] وقال أحمد: كانت تؤخذ عنه القراءة [3] وليس بشيء في الحديث. انتهى.
وكان إذا قرأ يشمّ من فيه ريح المسك، ولذا قال في «الشاطبية» :
فأما الكريم السرّ في الطيب نافع وفيها ثابت بن يزيد الأحول البصريّ، له عن هلال بن خبّاب [4] وجماعة، وكان من ثقات الشيوخ.
__________
[1] (2/ 693) .
[2] في «المغني» المطبوع: «وثّقه أحمد» .
[3] في «المغني» : «كان يؤخذ عنه القرآن» .
[4] في «العبر» للذهبي (1/ 257) : «ابن حباب» وهو تصحيف فيصحح فيه.(2/313)
سنة سبعين ومائة
في أحد ربيعيها [1] توفي الخليفة أبو محمّد موسى الهادي بن المهديّ، وكان طويلا، أبيض، جسيما، مات من قرحة أصابته، وقيل: قتلته أمّه الخيزران لمّا همّ بقتل أخيه الرّشيد، فعمدت لما وعك إلى أن غمّته [2] وعاش بضعا وعشرين سنة، فالله يسامحه، فلقد كان جبّارا ظالم النفس. قاله في «العبر» [3] .
وقال في «مروج الذّهب» [4] : كان موسى قاسي القلب، شرس الأخلاق، صعب المرام، كثير الأدب، محبّا له، وكان شديدا، شجاعا بطلان، جوادا، سمحا [5] .
حدّث يوسف بن إبراهيم، الكاتب صاحب إبراهيم بن المهدي، عن إبراهيم، أنه كان واقفا بين يديه وهو على حمار له ببستانه المعروف [6] ببغداد، إذ قيل له: قد ظفر برجل من الخوارج، فأمر بإدخاله
__________
[1] في الأصل: «في أحد ربيعها» ، وأثبت ما في المطبوع، وهو الصواب.
[2] أي غطّته. انظر «مختار الصحاح» ص (482) .
[3] (1/ 258) .
[4] (3/ 335- 346) والمؤلف ينقل عنه بتصرف.
[5] في «مروج الذهب» : «سخيا» .
[6] في الأصل، والمطبوع: «المعروفة» وأثبت ما في «مروج الذهب» .(2/314)
إليه، فلما قرّب الخارجيّ إليه، أخذ الخارجيّ السيف من بعض الحرس، وأقبل يريد موسى، فتنحّت وكلّ من كان معي، وإنه [1] لواقف على حماره ما يتحلحل، فلما أن قرب منه [الخارجيّ] [2] صاح موسى: اضربا عنقه، وليس وراءه أحد منّا، فأوهمه، فالتفت الخارجيّ [لينظر] [3] وجمع موسى نفسه ثم طفر عليه [4] فصرعه، وأخذ السيف من يده فضرب به عنقه.
قال [5] . فكان خوفنا منه أكثر من الخارجي، فو الله ما أنكر علينا تنحّينا، ولا عذلنا [على ذلك] [6] ولم يركب حمارا بعد ذلك اليوم، ولا فارقه سيف [7] . انتهى.
وحدّث عبد الله بن الضّحّاك عن الهيثم بن عدي، قال: وهب المهديّ لموسى الهادي سيف عمرو بن معدي كرب الصّمصامة، فدعا به موسى بعد ما ولي الخلافة، فوضعه بين يديه، ودعا بمكتل [8] دنانير، وقال لحاجبه: ائذن للشعراء، فلما دخلوا، أمرهم أن يقولوا في السيف، فبدأهم ابن يامين البصري فقال:
__________
[1] يعني موسى الهادي.
[2] زيادة من «مروج الذهب» .
[3] زيادة من «مروج الذهب» .
[4] في «مروج الذهب» : «ظهر عليه» .
قال ابن منظور: الطّفر: وثبه في ارتفاع، كما يطفر الإنسان حائطا، أي يثبه ... وقد طفر يطفر طفرا: وثب في ارتفاع. «لسان العرب» (طفر) .
[5] القائل إبراهيم بن المهدي.
[6] زيادة من «مروج الذهب» .
[7] في «مروج الذهب» : «ولا فارقه سيفه» .
[8] قال ابن منظور: المكتل والمكتلة: الزّبيل الذي يحمل فيه التمر أو العنب إلى الجرين، وقيل: المكتل شبه الزّبيل يسع خمسة عشر صاعا. «لسان العرب» (كتل) .(2/315)
حاز صمصامة الزّبيديّ عمرو ... من جميع الأنام موسى الأمين
سيف عمرو وكان فيما سمعنا ... خير ما أغمدت عليه الجفون
أوقدت فوقه الصّواعق نارا ... ثمّ شابت به الذّعاف المنون
وإذا ما شهرته تبهر الشّم ... - س ضياء فلم تكد تستبين
وكأنّ الفرند [1] والجوهر الجا ... ري في صفحتيه ماء معين
ما يبالي إذا الضّريبة حانت ... أشمال سطت به أم يمين [2]
فقال [له] الهادي: لك السيف والمكتل، فخذهما، ففرّق المكتل على الشعراء، وقال: دخلتم معي وحرمتم من أجلي، وفي السيف عوض، ثم بعث إليه الهادي، فاشترى منه السيف بخمسين ألفا. انتهى.
وكان عيسى بن دأب من أهل الحجاز، وكان أكثر أهل عصره أدبا، وعلما، ومعرفة بأخبار النّاس وأيامهم، وكان الهادي كلفا به، يقول له:
يا عيسى ما استطلت [3] بك يوما ولا ليلة ولا غبت عنّي إلّا ظننت أني لا أرى غيرك [4] .
وذكر [5] عيسى هذا أنه رفع إلى الهادي، أن رجلا من أرض المنصورة [6]
__________
[1] الفرند: السيف. انظر «مختار الصحاح» ص (501) .
[2] الأبيات في «مروج الذهب» للمسعودي (3/ 345- 346) ، و «زهر الآداب» للقيروني (2/ 781) ، و «وفيات الأعيان» لابن خلكان (6/ 109) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «ما استطاعت» ، والتصحيح من «مروج الذهب» .
[4] في الأصل، والمطبوع: «غيرى» والتصحيح من «مروج الذهب» .
[5] في الأصل، والمطبوع: «فذكر» وما أثبته من «مروج الذهب» .
[6] في الأصل: «المنصور» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
قال ياقوت في «معجم البلدان» (5/ 211) : المنصورة: مفعولة من النصر في عدة مواضع، فيها المنصورة بأرض السند وهي قصبتها، مدينة كبيرة كثيرة الخيرات ذات جامع كبير. وانظر تتمة كلامه هناك.(2/316)
من بلاد السّند من أشرافهم وأهل الرياسة منهم من آل المهلّب بن أبي صفرة ربى غلاما سنديا، أو هنديا، أن الغلام هوي مولاته، فراودها عن نفسها، فأجابته، فدخل السيد فأصابه معها، فجبّ ذكر الغلام وخصاه، ثم عالجه إلى أن برأ فأقام مدّة، وكان لمولاه ابنان أحدهما طفل والآخر يافع، فغاب الرجل عن منزله، وعاود وقد أخذ السّنديّ الصبيين وصعد بهما إلى أعالي سور الدّار، إذ دخل مولاه، فرفع رأسه فإذا هو بابنيه مع الغلام على اسور، فقال:
يا فلان عرّضت ابنيّ للهلاك، فقال: دع ذا عنك، والله إن لم تجبّ نفسك بحضرتي لأرمينّ بهما، فقال له: الله الله في وفي ابنيّ، قال: دع ذا عنك، فو الله ما هي إلا نفسي، وإني لأسمح بها من شربة ماء، وأهوى ليرمي بهما، فأسرع مولاه فأخذ مدية وجبّ نفسه، فلما رأى الغلام أنه قد فعل، رمى بالصبيين فتقطّعا، وقال: ذلك الذي فعلت، فعلت بفعلك بي، وقتلي هذين زيادة، فأمر الهادي بالكتاب إلى صاحب السّند بقتل الغلام، وتعذيبه بأفظع ما يكون من العذاب، وأمر بإخراج كل سنديّ في مملكته، فرخص السّنديّ في أيامه حتّى كانوا يتداولون بالثمن اليسير.
وقال ابن دأب: قال لي الهادي: هلمّ بنا إلى ذكر فضائل البصرة، والكوفة وما زادت به كل واحدة منهما على الأخرى. قال: قلت: ذكر عن عبد الملك بن عمير أنه قال: قدم علينا الأحنف بن قيس الكوفة مع مصعب بن الزّبير، فما رأيت شيخا [قبيحا] [1] إلّا وقد رأيت في وجه الأحنف منه شبها [2] كان صعل الرأس، أعصف [3] الأذن، باخق
__________
[1] لفظة «قبيحا» سقطت من الأصل، وأثبتها من المطبوع.
[2] في الأصل، والمطبوع: «شيئا» وأثبت ما في «مروج الذهب» للمسعودي (3/ 340) .
[3] في المطبوع: «أغصف» وهو تصحيف.(2/317)
العين، ناتئ الوجه، مائل الشّدّق، متراكب الأسنان، [ضعيف العارضين أحنف الرّجل] [1] ولكنه كان إذا تكلم جلّى عن نفسه، فجعل يفاخرنا ذات يوم بالبصرة، ونفاخره بالكوفة، فقلنا: الكوفة أغذى، وأمرأ، وأفسح، وأثيب، فقال له رجل: والله ما أشبه الكوفة إلا بشبابة صبيحة [2] الوجه، كريمة الحسب، لا مال لها، فإذا ذكرت حاجتها كفّ النّاس عنها، وما أشبّه البصرة إلّا بعجوز ذات عوارض موسرة، فإذا ذكرت ذكر يسارها وذكرت عوارضها فكفّ عنها طالبها، فقال الأحنف: أما البصرة فإنّ أسفلها قصب، وأوسطها خشب، وأعلاها رطب، نحن أكثر ساجا، وعاجا، وديباجا، ونحن أكثر قيدا [3] ونقدا، والله ما آتي البصرة إلّا طائعا ولا أخرج منها إلّا كارها. قال: فقام إليه شابّ من بكر بن وائل فقال: يا أبا بحر، بم [4] بلغت في النّاس ما بلغت؟ فو الله ما أنت بأجملهم، ولا بأشرفهم، ولا بأشجعهم، قال: يا ابن أخي، بخلاف ما أنت فيه، قال: وما ذاك؟ قال بتركي ما لا يعنيني كما عناك من أمري ما لا [ينبغي أن] [5] يعنيك. انتهى.
وحدّث عدة [من الأخباريين] [6] من ذوي المعرفة بأخبار الدولة، أن موسى قال لهارون أخيه: كأني بك تحدّث نفسك بتمام الرّؤيا، وتؤمّل ما أنت منه [7] بعيد، ومن دون ذلك خرط القتاد [8] فقال هارون: يا أمير المؤمنين
__________
[1] زيادة من «مروج الذهب» .
[2] في الأصل: «بإنسانة صبيحة» ، وفي المطبوع: «بإنسانية قبيحة» ، وأثبت ما في «مروج الذهب» .
[3] في «مروج الذهب» : «قندا» .
[4] في الأصل، والمطبوع: «بما» وأثبت ما في «مروج الذهب» .
[5] ما بين حاصرتين زيادة من «مروج الذهب» .
[6] زيادة من «مروج الذهب» .
[7] في «مروج الذهب» : «ما أنت عنه» .
[8] في «مروج الذهب» : «خرط القناد» وهو تصحيف. وانظر «لسان العرب» (قتد) .(2/318)
من تكبّر وضع، ومن تواضع رفع، ومن ظلم خذل، وإن وصل الأمر إليّ وصلت من قطعت، وبررت من حرمت، وصيّرت أولادك أعلى من أولادي، وزوّجتهم بناتي، وقضيت بذلك حقّ الإمام المهديّ، فانجلى عن موسى الغضب، وبان السّرور في وجهه، وقال: ذلك الظن بك يا أبا جعفر، أدن منّي، فقام هارون فقبّل يده، ثم ذهب ليعود إلى مجلسه، فقال له موسى:
والشيخ الجليل، والملك النبيل، لا جلست إلّا معي في صدر المجلس، ثم قال يا خزائني! احمل إليه [1] الساعة ألف ألف دينار، فإذا فتح الخراج فاحمل إليه نصفه [2] فلما أراد هارون الرّشيد الانصراف، قدّمت دابته إلى البساط.
قال عمرو الرّوميّ: فسألت الرّشيد عن الرؤيا، فقال: قال المهديّ:
رأيت في منامي كأني دفعت إلى موسى قضيبا، وإلى هارون قضيبا، فأما قضيب موسى فأورق أعلاه قليلا، وأما قضيب هارون فأورق من أوله إلى آخره، فقصّ الرؤيا على الحكيم [3] ابن إسحاق الصّيمريّ [4] فكان يعبرها، فقال له: يملكان جميعا، فأما موسى فتقلّ أيامه، وأما هارون فيبلغ آخر ما عاش خليفة، وتكون أيامه أحسن الأيام، ودهره أحسن الدهور.
وقال عمرو الرّوميّ: فلما أفضت الخلافة إلى هارون زوّج ابنته حمدونة من جعفر بن موسى، وفاطمة من إسماعيل بن موسى، ووفى له بكل ما وعده.
وفيها بويع الرّشيد، ومن الاتفاق العجيب أنّ الرّشيد سلّم عليه بالخلافة
__________
[1] في «مروج الذهب» : «يا خزّاني! احمل إلى أخي» .
[2] في الأصل والمطبوع: «نصفها» وأثبت ما في «مروج الذهب» .
[3] في الأصل، والمطبوع: «الحكم» والتصحيح من «مروج الذهب» .
[4] لم أقف على ذكر له فيما بين يدي من كتب الرجال.(2/319)
عمّه سليمان بن المنصور، وعمّ أبيه المهدي- وهو العبّاس بن محمد- وعمّ جدّه المنصور- وهو عبد الصمد بن علي- ذكره ابن الجوزي في «الشذور» .
وفيها توفي الرّبيع بن يونس أبو الفضل حاجب المنصور، والمهدي، وله مع المنصور أمور، منها أن المنصور قال له يوما: سلني حاجتك، قال: أن تحبّ ابني. قال: [ويحك!] [1] إن المحبة تقع بأسباب، وقال: قد أمكنك الله من إيقاع [2] سببها، قال: كيف؟ قال: تفضل عليه فيحبك. قال: والله قد أحببته [وقد حبّبته إليّ] [3] قبل إيقاع السبب، ولكن كيف اخترت له المحبّة دون كل شيء؟ قال: لتكون ذنوبه عندك كذنوب الصبيان، وشفاعته كشفاعة العريان، وأشار إلى قول الفرزدق [4] :
ليس الشّفيع الّذي يأتيك متّزرا ... مثل الشّفيع الّذي يأتيك عريانا [5]
وقال له [المنصور] يوما: [ويحك] [6] يا ربيع! ما أطيب الحياة [7] لولا الموت، فقال ما طيّبها إلّا الموت [8] ، يعني بموت من قبلك وصلت إليك الخلافة.
__________
[1] زيادة من «وفيات الأعيان» لابن خلكان (2/ 294) ، و «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 374) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «من أنواع» والتصحيح من «وفيات الأعيان» ، و «مرآة الجنان» .
[3] زيادة من «مرآة الجنان» .
[4] في الأصل، والمطبوع: «وأشار إلى قول الورد» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» ، و «مرآة الجنان» .
[5] البيت في «ديوانه» (2/ 873) بعناية الصاوي، و «وفيات الأعيان» لابن خلكان (2/ 294) و «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 374) وقد ساق كلاهما قصة البيت فليرجع إليهما من شاء وفي «ديوانه» : «مؤتزرا» بدل «متزرا» .
[6] زيادة من «وفيات الأعيان» (2/ 295) ، و «مرآة الجنان» (1/ 375) .
[7] في «وفيات الأعيان» و «مرآة الجنان» : «ما أطيب الدّنيا» .
[8] في «وفيات الأعيان» ، و «مرآة الجنان» : «ما طابت إلا بالموت» .(2/320)
وفيها يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلّب بن أبي صفرة الأزديّ، وكان أرسله المنصور لحرب الخوارج، واستمر واليا على إفريقية خمس عشرة سنة، وكان من الممدّحين الأجواد.
وكذلك أخوه روح بن حاتم، وكان روح متواليا على السّند، وتولى لخمسة من الخلفاء: السّفّاح، والمنصور، والمهدي، والهادي، والرّشيد، ولم يتفق مثل هذا إلّا لأبي موسى الأشعري، عمل للنّبيّ- صلى الله عليه وسلّم- والخلفاء الأربعة بعده.
وكان يتعجب النّاس من بعد ما بين ابني حاتم يزيد، وروح، فاتفق أنّ الرّشيد عزل روحا عن السّند، فلحق بأخيه بإفريقية فدفنا في قبر واحد بإفريقية.
وفي يزيد بن حاتم يقول الشاعر:
وإذا تباع كريمة أو تشترى ... فسواك بائعها وأنت المشتري
وإذا تخيّل من سحابك لامع ... صدقت مخيلته لدى المستمطر
وإذا الفوارس عدّدت أبطالها ... عدوّك في أبطالهم بالخنصر
ووفد عليه أشعب صاحب النوادر في الطمع، فمدحه ببيتين، فأجزل عطيته.
وفيها مات إمام اللغة، والعروض، والنحو، الخليل بن أحمد الفراهيديّ الأزديّ [1] وقيل: سنة خمس وسبعين ومائة، وهو الذي استنبط علم العروض، وحصر أقسامه في خمس دوائر، واستخرج منها خمسة عشر بحرا، وزاد فيها الأخفش بحرا سمّاه الخبب.
قيل: إن الخليل دعا بمكّة أن يرزقه الله علما لم يسبق إليه، وهو في
__________
[1] انظر الخبر بطوله في «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 377- 381) .(2/321)
اختراعه بديهة كاختراع أرسطاطاليس [1] علم المنطق، ومن تأسيس بناء «كتاب العين» الذي يحصر لغة أمة من الأمم، وهو أول من جمع حروف المعجم في بيت واحد فقال:
صف خلق خود كمثل الشّمس إذ بزغت ... يحظى الضّجيع بها نجلاء معطار
وقال تلميذه النّضر بن شميل: جاءه رجل من أصحاب يونس يسأله عن مسألة، فأطرق الخليل يفكّر، وأطال حتّى انصرف الرّجل فعاتبناه، فقال:
ما كنتم قائلين فيها؟ قلنا: كذا وكذا. قال: فإن قال: كذا وكذا. قلنا: نقول:
كذا وكذا. فلم يزل يغوص حتّى انقطعنا وجلسنا نفكّر، فقال: إن المجيب يفكّر قبل الجواب، وقبيح أن يفكّر بعده. وقال: ما أجيب بجواب حتّى أعرف ما عليّ فيه من الاعتراضات والمؤاخذات. وكان مع ذلك صالحا قانعا.
قال النضر: أقام في خصّ [2] بالبصرة لا يقدر على فلس، وعلمه قد انتشر، وكسب به أصحابه الأموال.
قال: وسمعته يقول: إني لأغلق عليّ بابي مما يجاوزه همّي.
وقيل للخليل- وقد اجتمع مع ابن المقفّع-: كيف رأيته؟ فقال: علمه أكثر من عقله.
وقيل لابن المقفّع: كيف رأيت الخليل؟ قال: عقله أكثر من علمه.
__________
[1] كذا في الأصل، والمطبوع، و «مرآة الجنان» : «أرسطاطاليس» ، وفي «الفهرست» لابن النديم ص (307) طبعة طهران: «أرسطاليس» ، وفي «إخبار العلماء بأخبار الحكماء» ص (21) :
«أرسطوطاليس» ، وفي «المنجد في الأعلام» ص (34) : «أرسطو، أو أرسطاطاليس» ، وفيه أنه مات سنة (322) ق. م. ومن أراد المزيد من المعلومات عنه فليرجع إلى المراجع التي ذكرتها.
[2] في الأصل: «حصن» وهو تحريف، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب. والخص: البيت من القصب. انظر «مختار الصحاح» ص (177) .(2/322)
وقرأ عليه رجل في العروض فلم يفهم، فقال له الخليل: قطّع هذا البيت:
إذا لم تستطع شيئا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
قال الخليل: فشرع الرجل في تقطيعه على مبلغ علمه، ثم قام فلم يرجع إليّ، فعجبت من فطنته لما قصدته في [هذا] [1] البيت مع بعد فهمه.
ويقال: إن أباه أول من سمّي أحمد بعد النّبيّ- صلّى الله عليه وسلّم- وكان شاعرا مفلقا مطبوعا، ومن شعره:
وما هي إلّا ليلة ثمّ يومها [2] ... وحول إلى حول وشهر إلى شهر
مطايا يقرّبن الجديد إلى البلى ... ويدنين أشلاء الكرام إلى القبر
ويتركن أزواج الغيور لغيره ... ويقسمن ما يحوي الشّحيح من الوفر
وكان من الزّهد في طبقة لا تدرك، حتّى قيل: إن بعض الملوك طلبه ليؤدّب له أولاده، فأتاه الرّسول وبين يديه كسر يابسة يأكلها، فقال له: قل لمرسلك ما دام يلقى مثل هذه لا حاجة به إليك، ولم يأت الملك.
وسأله الأخفش: لم سمّيت بحر الطويل طويلا؟ قال: لأنه تمّت أجزاؤه.
والبسيط؟ لأنه انبسط على حدّ الطويل. والمديد؟ لتمدّد سباعيه حول خماسيه.
والكامل؟ لكمال أجزائه السباعية ليس فيه غيرها. والوافر؟ لوفور أجزائه، لأن فيه ثلاثين حركة لا تجتمع في غيره. والرجز؟ لاضطرابه كاضطراب قوائم الناقة الرجزاء. والرمل؟ لأنه يشبه رمل الحصير يضمّ بعضه إلى بعض. والهزج؟ لأنه يتصرف شبه هزج الصوت. والسريع؟ لسرعته على اللسان. والمنسرح؟
لانسراحه وسهولته. والخفيف؟ لأنه أخفّ السباعيات. والمقتضب؟ لأنه القتضب
__________
[1] زيادة من «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 380) .
[2] في «مرآة الجنان» : «بعد نومها» .(2/323)
من الشعر لقلّته. والمضارع؟ لأنه ضارع المقتضب. والمجتثّ؟ لأنه اجتثّ- أي قطع- من طول دائرته. والمتقارب؟ لتقارب أجزائه، وأنها خماسية كلها يشبه بعضها بعضا. انتهى.
قيل: لما دخل الخليل البصرة لمناظرة أبي عمرو بن العلاء، جلس إليه ولم يتكلم بشيء، فسئل عن ذلك، فقال: هو رئيس منذ خمسين سنة، فخفت أن ينقطع فيفتضح في البلد.
وقال الواحديّ في «تفسيره» : الإجماع منعقد على أنه لم يكن أحد أعلم بالنحو من الخليل. قاله ابن الأهدل.
وقال في «العبر» [1] : الخليل بن أحمد الأزديّ البصريّ أبو عبد الرّحمن صاحب العربية والعروض، روى عن أيوب السّختيانيّ وطائفة، وكان إماما كبير القدر، خيّرا متواضعا، فيه زهد وتعفّف [2] ، صنّف «كتاب العين» في اللغة. انتهى.
وفيها مجنون ليلى قيس بن الملوّح بن مزاحم، اشتهر بعشق ليلي في الدّنيا، وهو أحد بني كعب بن عامر بن صعصعة، وقد أنكر قوم وجوده قائلين: هو كالعنقاء، وهذا غلط، فإنّ اشتهار عشقه لليلى أشهر من أن يخفى، وأثبته علماء السّير، وأما ليلى فإنها بنت مهدي، وقيل: بنت ورد من بني ربيعة، كانت من أجمل النساء شكلا وأدبا.
وابتداء أمرهما أنهما كانا صغيرين يرعيان أغنما لقومهما، فعلق كل منهما بصاحبه، ولم يزالا على ذلك حتّى كبرا واشتهر أمرهما، فحجبت ليلى عنه، فزال عقله، وقال:
تعلّقت ليلى وهي ذات ذؤابة ... ولم يبد للأتراب من ثديها حجم
__________
[1] «العبر في خبر من عبر» (1/ 268) .
[2] في المطبوع: «وتعطف» وهو خطأ.(2/324)
صغيرين نرعى البهم يا ليت أنّنا ... إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم [1]
ثم كان يأتي الحيّ على غفلة من أهله، فلما كثر ذلك، خرج أبو ليلى ومعه نفر من قومه إلى مروان بن الحكم فشكوا إليه ما أصابهم من قيس بن الملوّح، وسألوه الكتاب إلى عامله يمنعه من كلام ليلى، وإن وجده أهلى ليلى عندها يكون دمه هدرا، فلما بلغ قيسا ذلك قال:
ألا حجبت ليلى وآلى أميرها ... عليّ يمينا جاهدا لا أزورها
وواعدني [2] فيها رجال أبوهم ... أبي وأبوها خشّنت [3] لي صدورها
على غير شيء [4] غير أنّي أحبّها ... وأنّ فؤادي عند ليلى أسيرها [5]
فلما يئس منها، ذهب عقله بالكلية، ولعب بالتراب والحصى، وضنيت ليلى أيضا من فراقه، ثم تزوجت ليلى، فصار المجنون يدور في الفلوات عريانا ينشد الأشعار ويأنس بالوحوش، ثم وجد بعد حين ملقى بين الأحجار ميتا، فاحتملوه إلى الحيّ، وغسلوه، ودفنوه، وبكوا عليه، وكان أبو ليلى أشدّ القوم جزعا وبكاء، وقال: ما علمت أن الأمر يبلغ إلى هذا، ولكني كنت امرأة عربيا أخاف العار، ولو علمت أن الأمر يفضي إلى هذا ما أخرجتها عن يده، ويقال: إنها أيضا ضنيت عليه وماتت أسفا، ودفنت قريبا منه، وأمرهما أشهر من أن يذكر، والله أعلم.
وفيها توفي عبد الله بن جعفر المخرميّ [6] المدنيّ. روى عن عمّة أبيه أمّ بكر بنت المسور بن مخرمة، وجماعة من التابعين، وخرّج له مسلم،
__________
[1] البيتان في «الأغاني» (2/ 11) .
[2] في «الأغاني» : «وأوعدني» .
[3] في الأصل، والمطبوع: «وأبوهم حشيت» وأثبت ما في «الأغاني» .
[4] في «الأغاني» : «على غير جرم» .
[5] في «الأغاني» : «وأن فؤادي رهنها وأسيرها» ، والأبيات فيه (2/ 68) .
[6] في «العبر» للذهبي (1/ 258) : «المخزومي» وهو خطأ فيصحّح فيه.(2/325)
والأربعة، وكان قصيرا ذميما.
قال الواقديّ: كان عالما بالمغازي، والفتوى.
وقال الذّهبيّ في «المغني» [1] : عبد الله بن جعفر المخروميّ المدنيّ، ثقة، وهاه ابن حبّان فقط. انتهى.
وفيها محمّد بن مهاجر الحمصيّ. روى عن نافع وطبقته، وآخر من حدّث عنه أبو توبة [2] الحلبيّ.
وأبو معشر السّنديّ- واسمه نجيح بن عبد الرّحمن المدنيّ- صاحب المغازي، والأخبار. مشهور عن أصحاب أبي هريرة، ليس بالعمدة.
قال ابن معين: كان أميّا يتّقى من حديثه المسند.
وقال صاحب «العبر» [3] : روى عن محمد بن كعب القرظيّ والكبار، واستصحبه المهديّ معه لما حجّ إلى بغداد. وقال: يكون بحضرتنا ويفقّه من حولنا، ووصله [4] بألف دينار، وكان أبيض، أزرق، سمينا. وقيل له: السّنديّ من قبيل اللقب بالضد. انتهى.
وفيها الوزير أبو عبد الله معاوية بن عبيد الله بن يسار الأشعريّ، مولاهم، كاتب المهدي ووزيره. وكان من خيار الوزراء، صاحب علم، وفضل، ورواية [5] وعبادة [6] وصدقات. روى عن منصور بن المعتمر.
__________
[1] (1/ 334) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «أبو ثوبة» وهو تصحيف، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 258) .
قلت: وأبو توبة هو الربيع بن نافع الحلبي. انظر «تهذيب التهذيب» (3/ 251) ، و «تقريب التهذيب» (1/ 246) .
[3] (1/ 258) .
[4] في المطبوع، و «العبر» : «وصله» .
[5] قوله: «وفضل ورواية» لم يرد في «العبر» للذهبي.
[6] لفظة «وعبادة» تحرّفت في «العبر» إلى «وعبارة» فتصحّح فيه.(2/326)
وفيها، أو في حدودها، محمّد بن جعفر بن أبي كثير المدنيّ مولى الأنصار [1] . أخذ عن زيد بن أسلم وطبقته. وكان ثقة كثير العلم.
وأسباط بن نصر الهمدانيّ [2] الكوفيّ المفسّر، صاحب إسماعيل السّدّيّ، والله أعلم.
قال في «المغني» [3] : وثّقه ابن معين، وضعفه أبو نعيم.
[و] قال النّسائيّ: ليس بالقويّ، توقف فيه أحمد. انتهى.
وقد خرّج له البخاريّ في «التاريخ» ومسلم، والأربعة.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «مولى الأنصاري» وأثبت ما في «العبر» للذهبي.
[2] في الأصل، والمطبوع: «الهمذاني» وهو تصحيف، والتصحيح من «العبر» للذهبي.
[3] (1/ 66) .(2/327)
سنة إحدى وسبعين ومائة
فيها أمر الرّشيد بإخراج الطالبيّين إلى مدينة الرّسول- صلى الله عليه وسلّم- وخرجت الخيزران إلى مكّة في رمضان فأقامت بها إلى وقت الحج، وحجّت. قاله ابن الجوزي في «الشذور» .
وفيها، على الأصحّ، توفي حبّان بن علي العنزي، أخو مندل، وكان من فقهاء الكوفة وهو ضعيف. روى عن عبد الملك بن عمير وطبقته.
وأبو المنذر سلّام بن سلّام بن سليمان [1] المزنيّ البصريّ ثم الكوفيّ النحويّ المقرئ، أخذ عن عاصم بن أبي النّجود، وأبي عمرو، وحدّث عن ثابت البنانيّ وغيره، وهو شيخ يعقوب الحضرمي.
وفيها أبو عبد الرّحمن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم العمريّ المدنيّ أخو عبيد الله بن عمر. روى عن نافع وجماعة، وكان محدّثا صالحا.
قال أحمد: لا بأس به.
قال ابن الأهدل: كان آية في العلم، غاية في العبادة، واجه الرّشيد بالإنكار والموعظة الغليظة في المسعى، فقال: يا هارون، قال: لبّيك يا عمّ.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع، و «العبر» : «سلام بن سليم» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» (6/ 390) ، و «تقريب التهذيب» ص (261) .(2/328)
قال: انظر، هل تحصيهم؟ يعني الحجيج- قال: ومن يحصيهم؟ قال: اعلم أن كلّا منهم يسأل عن نفسه، وأنت تسأل عن كلّهم. ثم قال: والله إن الرّجل ليسرف في ماله فيستحق الحجر، فكيف من يسرف في أموال المسلمين. انتهى.
وفيها أبو شهاب [1] الحنّاط عبد ربّه بن نافع الكوفيّ. روى عن عاصم الأحول وطبقته، وتوفي كهلا، وقيل: توفي في التي بعدها.
قال في «المغني» [2] : صدوق، وليس بذاك الحافظ. انتهى.
وخرّج له الشيخان.
وفيها، أو نحوها، مات الأمير يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلّب بن أبي صفرة المهلّبيّ البصريّ، أحد الشجعان المذكورين، ولي إمرة المغرب [3] مدة طويلة، وولي إمرة مصر قبل ذلك سبع سنين.
وعبد الرّحمن بن سليمان بن عبد الله بن حنظلة بن الغسيل المدنيّ. رأى سهل بن سعد، وروى عن عكرمة، والكبار، وكان كثير الحديث، ثقة جليلا.
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «أبو الشهاب» وما أثبته من «العبر» و «المغني» للذهبي، و «تقريب التهذيب» ص (648) .
[2] (1/ 370) .
[3] في المطبوع: «الغرب» وهو خطأ.(2/329)
سنة اثنتين وسبعين ومائة
فيها توفّيت الخيزران [1] زوجة المهديّ، وأمّ الهادي، والرّشيد، ولم تلد امرأة خليفتين غير ثلاثة:
ولّادة بنت العبّاس العبسيّة، تزوجها عبد الملك بن مروان، فولدت له الوليد، وسليمان، فوليا الخلافة.
والثانية: شافهر بنت فيروز بن يزدجرد، تزوجها الوليد بن عبد الملك فولدت له يزيد، وإبراهيم، فوليا الخلافة.
والثالثة: الخيزران، اشتراها المهدي ثم أعتقها فولدت له الهادي، والرّشيد، ووليا الخلافة.
ويلحق بهؤلاء خاتون جارية ملكشاه، فإنها ولدت محمدا، وسنجرا، وكلاهما ولي السلطنة، وكان كبير القدر، قاله في «الشذور» .
ولما ماتت الخيزران خرج خلف جنازتها ولدها الرشيد وعليه جبة وطيلسان أزرق، قد شدّ به وسطه، وهو آخذ بقائمة السرير حافيا يمشي في الطين، حتّى أتى مقابر قريش، فغسل رجليه، وصلى عليها، ونزل قبرها.
__________
[1] انظر ترجمتها ومصادرها في «الأعلام» للزركلي (2/ 328) ، و «أعلام النساء» لكحالة (1/ 395- 401) .(2/330)
وفيها توفي الإمام أبو محمّد سليمان بن بلال المدنيّ مولى [آل] [1] أبي بكر الصّدّيق. روى عن عبد الله بن دينار وطبقته.
قال ابن سعد: كان بربريّا، حسن الهيئة، عاقلا، [و] كان يفتي بالمدينة [2] ، وولي خراج المدينة. وكان من الثقات الأثبات.
وفيها أمير دمشق الفضل بن صالح بن عليّ العبّاسي ابن عمّ المنصور، وهو الذي أنشأ القبّة الغربية التي بجامع دمشق وتعرف بقبة المال.
وفي جمادى الأولى مات صاحب الأندلس الأمير أبو المطرّف عبد الرّحمن بن معاوية بن الخليفة هشام بن عبد الملك الأمويّ الدمشقيّ المعروف بالداخل، فرّ إلى المغرب عند زوال دولتهم، فقامت معه اليمانية، وحارب يوسف الفهري متولّي الأندلس وهزمه، وملك قرطبة في يوم الأضحى سنة ثمان وثلاثين ومائة، وامتدت أيامه، وكان عالما حسن السيرة، عاش اثنتين وستين سنة.
وولي بعده ابنه هشام، وبقيت الأندلس لعقبه إلى حدود الأربعمائة.
وفيها، أوفي في سنة ست وسبعين، صالح المرّي الزّاهد، واعظ البصرة. روى عن الحسن وجماعة، وحديثه ضعيف.
قال عفّان: كان شديد الخوف من الله، إذا قصّ كأنّه ثكلى.
وخرّج له الترمذي.
قال في «المغني» [3] : صالح بن بشير [3] المرّي الزّاهد، عن الحسن، تركه أبو داود، والنّسائي، وضعفه غيرهما. انتهى.
__________
[1] لفظة «آل» زيادة من «العبر» للذهبي (1/ 261) مصدر المؤلف. وانظر «طبقات ابن سعد» (5/ 420) ، و «سير أعلام النبلاء» (7/ 425- 427) .
[2] في «طبقات ابن سعد» : «كان يفتي بالبلد» ، والواو التي بين حاصرتين زيادة منه.
[3] (1/ 302) ، وفي الأصل، والمطبوع: «صالح بن بشر» وهو خطأ، وما أثبته من «المغني» .(2/331)
ومهدي بن ميمون المعولي مولاهم البصريّ، الناقد، الثقة. روى عن أبي رجاء العطاردي، وابن سيرين، والكبار.
والوليد بن أبي ثور- وهو ابن عبد الله- الهمدانيّ الكوفيّ. [روى] [1] عن زياد بن علاقة وجماعة، وهو ضعيف.
وفي حدودها معاوية بن سلّام بن بأي سلّام [2] ، ممطور الأسود الحبشيّ، ثم الشّاميّ. روى عن أبيه، والزّهري، وجماعة.
قال يحيى بن معين: أعدّه محدّث أهل الشّام، والله أعلم.
__________
[1] زيادة من «العبر» للذهبي (1/ 262) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «معاوية بن سلام بن الأسود بن سلام» وهو خطأ، والتصحيح من «الجرح والتعديل» (8/ 383) ، و «تهذيب الكمال» (3/ 1344) مصورة دار المأمون للتراث.
وعلى هذا فيكون معطور الأسود الحبشي أبو سلام، جد معاوية.(2/332)
سنة ثلاث وسبعين ومائة
فيها، وقيل: سنة أربع، توفي إسماعيل بن زكريا الخلقانيّ الكوفيّ ببغداد. روى عن العلاء بن عبد الرّحمن وطبقته، وعاش خمسا وستين سنة.
قال في «المغني» [1] : صدوق، شيعيّ.
قال الميمونيّ: قلت لأحمد بن حنبل: كيف هو؟ قال: أما الأحاديث المشهورة التي يرويها فهو فيها مقارب الحديث، ولكنه ليس ينشرح الصدر له.
قال الميمونيّ: وسمعت ابن معين يضعفه.
وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: حديثه مقارب.
وعن ابن معين أيضا: هو ثقة.
قال العقيليّ: حدّثنا [محمّد بن أحمد، حدّثنا] إبراهيم بن الجنيد، حدّثنا أحمد بن الوليد بن أبان، حدّثني جدّي حسين بن حسن، حدّثني خالي إبراهيم، سمعت إسماعيل الخلقاني يقول: الذي نادى من جانب الطور عبده [2] عليّ بن أبي طالب.
__________
[1] (1/ 81) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «عنده» وهو تصحيف، والتصحيح من «المغني في الضعفاء» مصدر المؤلف، وما بين حاصرتين استدركته منه.(2/333)
قال: وسمعته يقول: هو الأول والآخر، [والظاهر والباطن] [1] : علي بن أبي طالب [2] .
قلت: هذا لم يثبت عن الخلقانيّ، وإن صحّ عنه فهو زنديق عدوّ الله.
انتهى ما قاله الذهبيّ في «المغني» .
وفيها أمير البصرة وفارس [3] ، محمّد بن سليمان بن علي ابن عمّ المنصور، وله إحدى وخمسون سنة، وكان الرّشيد يبالغ في تعظيمه وإكرامه، ولما مات احتوى الرّشيد على خزائنه وكانت خمسين ألف ألف درهم [4] .
وفي رجب، الإمام الكبير أبو خيثمة زهير بن معاوية الجعفيّ الكوفيّ، نزيل الجزيرة ومحدّثها وحافظها. روى عن سماك بن حرب وطبقته، وكان أحد الحفّاظ الأعلام، حتّى بالغ فيه شعيب بن حرب وقال: كان أحفظ من عشرين [مثل] [5] شعبة.
وفيها أبو سعيد سلّام بن أبي مطيع البصريّ. روى عن أبي عمران الجوني، وطائفة.
قال أحمد بن حنبل: ثقة صاحب سنّة.
وقال ابن حبّان: لا يجوز أن يحتجّ بما انفرد به.
وقال ابن عديّ: لا بأس به، وليس بمستقيم الحديث في قتادة خاصة،
__________
[1] زيادة من «ميزان الاعتدال» للذهبي (1/ 229) .
[2] قال الذهبي في «ميزان الاعتدال» : هذا السند مظلم، ولم يصح عن الخلقاني هذا الكلام، فإن هذا من كلام زنديق.
[3] أي: هو أمير البصرة وأمير فارس. انظر «الأعلام» (6/ 148) .
[4] في «تاريخ الطبري» (8/ 237) : «وأصابوا له ستين ألف ألف» وفي «البداية والنهاية» آلاف ألف دينار، ومن الدراهم ستة آلاف ألف» .
[5] زيادة من «العبر» للذهبي (1/ 263) .(2/334)
وله غرائب، ويعدّ من خطباء أهل البصرة [وعقلائهم] [1] .
وقال الحاكم: منسوب إلى الغفلة، وإلى سوء الحفظ. انتهى.
وقد خرّج له الشيخان وغيرهما.
وفيها نوح الجامع، وهو أبو عصمة نوح بن أبي مريم، الفقيه، قاضي مرو، ولقّب بالجامع لأنه أخذ الفقه عن أبي حنيفة، وابن أبي ليلى، والحديث عن حجّاج بن أرطاة، والمغازي عن ابن إسحاق، والتفسير عن مقاتل، وهو متروك الحديث. قاله في «العبر» [2] .
وعبد الرّحمن بن أبي الموالي المدنيّ مولى آل عليّ رضي الله عنه.
روى عن أبي جعفر الباقر وطائفة، وضربه المنصور أربعمائة سوط على أن يدلّه على محمد بن عبد الله بن حسن، فلم يدلّه، وكان من شيعته. قاله في «العبر» [3] .
قال في «المغني» [4] : عبد الرّحمن بن أبي الموالي. ثقة مشهور [5] خرج مع ابن حسن.
قال أحمد: حديثه في الاستخارة منكر.
قلت: خرّجه البخاريّ، وقد قال ابن عدي: رواه غير واحد [من الصحابة] [6] كما رواه ابن أبيّ الموالي. انتهى.
وجويرية بن أسماء بن عبيد الضّبعيّ، البصريّ، روى عن نافع، والزّهري، وكان ثقة كثير الحديث.
__________
[1] زيادة من «العبر» للذهبي (1/ 264) .
[2] (1/ 264) .
[3] (1/ 264) .
[4] (2/ 387- 388) .
[5] في المطبوع: «مشهور ثقة» وما في الأصل موافق لما في «المغني في الضعفاء» .
[6] ما بين حاصرتين زيادة من «المغني في الضعفاء» .(2/335)
سنة أربع وسبعين ومائة
فيها حجّ الرّشيد، فبدأ بالمدينة فقسم فيها مالا عظيما، ووقع الوباء بمكة فأبطأ في دخولها، ثم دخلها فقضى طوافه وسعيه، ولم ينزل مكّة. قال في «الشذور» .
وفيها توفي في جمادى الآخرة الإمام أبو عبد الرّحمن عبد الله بن لهيعة الحضرميّ قاضي مصر الحافظ. روى عن الأعرج وعطاء بن أبي رباح، وخلق كثير.
قال أحمد بن صالح المصري: كان ابن لهيعة صحيح الكتاب، طلابة للعلم.
وقال زيد بن الحباب: سمعت سفيان الثوري يقول: عند ابن لهيعة الأصول وعندنا الفروع.
وقال أحمد بن حنبل: من كان بمصر مثل ابن لهيعة في كثرة حديثه، وضبطه، وإتقانه.
وقال ابن معين: ليس بذاك القويّ. انتهى.
وخرّج له الترمذيّ، وأبو داود، وغيرهما.
قال في «المغني» [1] : قال بعض النّاس: ما روى عنه مثل ابن وهب،
__________
[1] «المغني في الضعفاء» (1/ 352) .(2/336)
وابن المبارك، فهو أجود وأقوى. انتهى.
وقال السّيوطيّ في «الحسن المحاضرة» [1] : ابن لهيعة، عبد الله بن عقبة بن لهيعة الحضرميّ المصريّ أبو عبد الرّحمن الفقيه، قاضي مصر ومسندها.
عن عطاء، وعمرو بن دينار، والأعرج، وخلق.
وعنه الثّوريّ، والأوزاعيّ، وشعبة، وماتوا قبله، وابن المبارك، وخلق.
وثّقه أحمد وغيره، وضعّفه يحيى القطّان وغيره. انتهى.
وفيها بكر بن مضر المصريّ عن نيّف وسبعين سنة.
قال ابن ناصر الدّين: كان إماما حجّة من أفضل أهل زمانه، طويل الحزن، خازنا للسانه. انتهى.
روى عن أبي قبيل المعافري وطائفة، وأكثر عنه قتيبة. وكنيته أبو عبد الملك.
وفيها عبد الرّحمن بن أبي الزّناد المدنيّ ببغداد، وكان فقيها، مفتيا.
قال ابن معين: هو أثبت النّاس في هشام بن عروة.
قال في «العبر» [2] : قلت: وروى الكثير عن أبيه وطبقته، وفيه ضعف يسير. انتهى.
وفيها يعقوب بن عبد الله الأشعريّ القمّيّ. رحل وحمل عن زيد بن أسلم، وأكثر عن جعفر بن أبي المغيرة القمّي.
قال في «المغني» [3] : صالح الحديث، محدّث أهل قمّ، يروي عن
__________
[1] (1/ 301) .
[2] (1/ 265) .
[3] «المغني في الضعفاء» (2/ 758) .(2/337)
جعفر بن أبي المغيرة، وليث.
قال النّسائيّ: ليس به بأس.
وقال الدّارقطنيّ: ليس بالقويّ. انتهى.
وفيها الأمير روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلّب المهلّبيّ، أخو يزيد، أحد القوّاد الكبار، ولي إمرة الكوفة وغيرها.(2/338)
سنة خمس وسبعين ومائة
فيها عقد الرّشيد للأمين، وهو ابن خمس سنين.
وفيها هاجت العصبيّة [والأهواء] [1] بين القيسيّة واليمنية بالشّام، ورأس القيسية [يومئذ] [2] أبو الهيذام المرّي، وقتل بينهما بشر كثير، واتصلت فتنتهما إلى زمننا هذا.
وفيها توفي شيخ الدّيار المصرية وعالمها أبو الحارث اللّيث بن سعد الفهميّ، مولاهم، الفقيه، وأصله فارسيّ أصبهاني.
قال في «حسن المحاضرة» [3] : اللّيث بن سعد بن عبد الرّحمن الفهميّ أبو الحارث المصريّ، أحد الأعلام ولد بقرقشندة [4] ؟ سنة أربع وستين.
وروى عن الزّهري، وعطاء، ونافع، وخلق. وعنه ابن شعيب، وابن المبارك، وآخرون.
قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، صحيحه. وكان قد اشتغل
__________
[1] زيادة من «العبر» للذهبي (1/ 266) .
[2] زيادة من «العبر» للذهبي.
[3] (1/ 301) .
[4] كذا في الأصل، والمطبوع، و «معجم البلدان» (4/ 327) ، و «سير أعلام النبلاء» (8/ 123) ، و «البداية والنهاية» (10/ 166) : «قرقشندة» ، وفي «حسن المحاضرة» (1/ 301) ، و «وفيات الأعيان» (4/ 129) : «قلقشندة» .(2/339)
بالفتوى في زمانه بمصر، وكان سريّا [1] من الرّجال، نبيلا سخيّا، له ضيافته.
وقال يحيى بن بكير: ما رأيت أحدا أكمل من اللّيث، كان فقيه النفس، عربيّ اللسان، يحسن القراءة [2] والنحو، ويحفظ الحديث والشعر، حسن المذاكرة.
وقال الشّافعيّ: كان اللّيث أفقه من مالك، إلّا أنه ضيّعه أصحابه.
قال ابن كثير [3] : وقد حكى بعضهم أنه ولي القضاء بمصر وهو غريب.
وقال الذهبيّ في «العبر» [4] : كان نائب مصر وقاضيها من تحت أوامر اللّيث، وإذا رابه من أحد [5] شيء كاتب فيه فيعزل، وقد أراد المنصور أن يلي إمرة مصر فامتنع. مات يوم الجمعة رابع عشر شعبان سنة خمس وسبعين ومائة. انتهى ما قاله السيوطي في «حسن المحاضرة» .
وقال ابن الأهدل: أراده المنصور لولاية مصر فأبى، وتولى قضاءها.
وروي أن الإمام مالكا أهدى له صينية رطبا، فأعادها مملوءة ذهبا. وكان يتخذ لأصحابه الفالوذج، وكان يدخله في سنته ثمانون ألف دينار وما وجبت عليه زكاة، وكان لا يتغدّى كل يوم حتّى يطعم ثلاثمائة وستين مسكينا. انتهى.
ولعله أراد «يصبح على كلّ سلامي من أحدكم صدقة» الحديث [6] .
__________
[1] يعني شريفا. انظر «النهاية» لابن الأثير (2/ 363) .
[2] كذا في الأصل: «يحسن القراءة» ، وفي المطبوع، و «حسن المحاضرة» : «يحسن القرآن» .
[3] «البداية والنهاية» (10/ 166) .
[4] «العبر في خبر من عبر» (1/ 267) .
[5] كذا في الأصل، والمطبوع، و «حسن المحاضرة» : «وإذا رابه من أحد» ، وفي «العبر» للذهبي: «وإذا رابه من أحدهم» .
[6] رواه البخاري رقم (2707) في الصلح: باب فضل الإصلاح بين الناس والعدل بينهم، و (2891) في الجهاد: باب فضل من حمل متاع صاحبه في السفر، و (2989) باب من أخذ(2/340)
وقال في «العبر» [1] : كان أتبع للأثر من مالك.
وقال يحيى بن بكير: اللّيث أفقه من مالك، لكن الحظوة لمالك.
انتهى.
وفيها أبو عبد الله حزم بن أبي حزم القطعيّ أخو سهيل. روى عن الحسن وجماعة.
قال أبو حاتم: هو من ثقات من تبقّى [2] من أصحاب الحسن.
وفيها داود بن عبد الرّحمن العطّار المكيّ. روى عن عمرو بن دينار وجماعة.
قال الشافعيّ: ما رأيت أورع منه.
__________
بالرّكاب ونحوه. ومسلم رقم (1009) في الزكاة: باب أن بيان اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، وأحمد في «المسند» (2/ 316) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ولفظه عند مسلم «كل سلامي من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس. تعدل بين الإثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة» . وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي في «جامع العلوم والحكم» ص (226- 227) : هذا الحديث خرّجاه- يعني البخاري ومسلم- من رواية همّام بن منبّه عن أبي هريرة- رضي الله عنه- وخرّجه البزّار من رواية أبي صالح عن أبي هريرة عن النبيّ- صلى الله عليه وسلم- قال: للإنسان ثلاثمائة وستون عظما، أو ستة وثلاثون سلامي، عليه في كل يوم صدقة» قالوا: فمن لم يجد؟
قال: «يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر» قالوا: فمن لم يستطع؟ قال: «يرفع عظما عن الطريق» قالوا: فمن لم يستطع؟ قال: «فليعن ضعيفا» قالوا: فمن لم يستطع؟ قال: «فليدع الناس من شرّه» . قال: وخرج الطبراني من وجه آخر عن ابن عباس يرفع الحديث إلى النبيّ- صلّى الله عليه وسلّم- قال: «على كل سلامي أو على كل عضو من بني آدم في كل يوم صدقة، ويجزئ عن ذلك ركعتا الضحى» .
[1] «العبر في خبر من عبر» (1/ 267) .
[2] في «العبر» : «من بقي» .(2/341)
وفيها قاضي الكوفة أبو عبد الله القاسم بن معن بن عبد الرّحمن بن عبد الله بن مسعود الهذليّ المسعوديّ. روى عن عبد الملك بن عمير وطبقته.
قال أحمد: كان ثقة صاحب نحو، وشعر.
وقال أبو حاتم: كان أروى النّاس للحديث والشعر، وأعلمهم بالعربية والفقه.
وقال ابن ناصر الدّين في شرحه ل «بديعة البيان» له: كان إماما، علّامة، ثقة، قاضي الكوفة، لم يأخذ على القضاء رزقا مدة ولايته، وكان من أروى النّاس للآثار، (وأعلمهم بالفقه والعربية والأشعار. انتهى.(2/342)
سنة ست وسبعين ومائة
فيها افتتح المسلمون مدينة دبسة من أرض الرّوم بعد حرب طويل [1] .
وفيها اشتد البلاء والقتل بين القيسية والميمنية بالشّام، واستمرت بينهم إحن وأحقاد، ودماء، يهيجون لأجلها في كل وقت وإلى اليوم.
وفيها توفي قاضي بغداد للرشيد أبو عبد الله سعيد بن عبد الرّحمن الجمحيّ [2] المدنيّ. روى عن عبد الرّحمن بن القاسم وطبقته. وكان من أولي العلم والصلاح، وخرّج له مسلم، وأبو داود، والنّسائي، وغيرهم.
قال في «المغني» [3] : ثقة ليّنه الفسويّ. انتهى.
وفيها، وقيل: في التي تليها، عبد الواحد بن زياد العبديّ مولاهم البصريّ. روى عن كليب بن وائل وطائفة كبيرة [4] .
قال في «المغني» [5] : عبد الواحد بن زياد عن الأعمش وغيره، صدوق يغرب.
__________
[1] انظر «تاريخ الطبري» (8/ 320) .
[2] في المطبوع: «الججمي» وهو خطأ.
[3] «المغني في الضعفاء» (1/ 263) .
[4] في الأصل، والمطبوع: «وطائفة كثيرة» وأثبت ما في «العبر» للذهبي مصدر المؤلف.
[5] (2/ 411) .(2/343)
قال ابن معين: ليس بشيء.
وقال أبو داود الطيالسي: عمد إلى أحاديث كان يرسلها الأعمش فوصلها كلها.
وليّنه القطّان. انتهى.
وفيها أبو عوانة الوضّاح مولى يزيد بن عطاء اليشكريّ [الواسطيّ] [1] البزّاز الحافظ، أحد الأعلام.
قال ابن ناصر الدّين: أبو عوانة الواسطي البزّار، كان أحد الحفّاظ الثقات الأعيان.
قال يحيى القطّان: أبو عوانة من كتابه أحب إليّ من شعبة من حفظه.
انتهى.
رأى الحسن، وروى عن قتادة وخلق.
وقال يحيى القطّان: ما أشبه حديثه بحديث سفيان، وشعبة.
وقال عفّان: هو عندنا أصحّ حديثا من شعبة.
وقال غيره: هو من سبي جرجان. قاله في «العبر» [2] .
وفيها حمّاد بن أبي حنيفة الإمام، وكان من أهل الخير، والصلاح، والفقه، في مذهب أبيه.
قال في «المغني» [3] : عن أبيه، ضعّفه ابن عدي. انتهى.
وكان ابنه إسماعيل بن حمّاد قاضي البصرة فعزل [عنها بالقاضي] [4]
__________
[1] زيادة من «العبر» للذهبي (1/ 269) .
[2] (1/ 269) .
[3] «المغني في الضعفاء» (1/ 188) .
[4] ما بين حاصرتين سقط من الأصل، والمطبوع، واستدركته من «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 384) .(2/344)
يحيى بن أكثم، ولما خرج منها إسماعيل مسافرا شيّعه يحيى.
قال إسماعيل: كان لنا جار طحّان رافضي له بغلان، فسمّى أحدهما أبا بكر، والآخر عمر، فرمحه [1] أحدهما فقتله، فقال جدّي أبو حنيفة: انظروا الذي رمحه فلا تجدونه إلّا الذي سمّاه عمر، فوجدوه كذلك.
__________
[1] قال ابن منظور: رمح الفرس والبغل والحمار وكل ذي حافر يرمح رمحا: ضرب برجله، وقيل: ضرب برجليه جميعا. انظر «لسان العرب» (رمح) .(2/345)
سنة سبع وسبعين ومائة
فيها توفي عبد الواحد بن زيد البصريّ الزّاهد، الذي قيل: إنه صلّى الغداة بوضوء العشاء أربعين سنة.
ومن مواعظه قوله: ألا تستحيون من طول ما لا تستحيون.
روى عن الحسن وجماعة، وهو متروك الحديث. قاله في «العبر» [1] .
وفيها شريك بن عبد الله النّخعيّ الكوفيّ القاضي، أبو عبد الله، أحد الأعلام، عن نيّف وثمانين سنة.
روى عن سلمة بن كهيل، والكبار. سمع منه إسحاق الأزرق تسعة آلاف حديث.
قال ابن المبارك: هو أعلم بحديث بلده من سفيان الثّوري.
وقال النّسائيّ: ليس به بأس.
وقال غيره: فقيه إمام، لكنه يغلط.
قال ابن ناصر الدّين: استشهد له البخاريّ، ووثّقه ابن معين، وأخرج له سملم متابعة. انتهى.
__________
[1] (1/ 270) .(2/346)
وفيها محمد بن مسلم الطائفيّ المكيّ. روى عن عمرو بن دينار وجماعة.
قال ابن مهدي: كتبه صحاح.
وموسى بن أعين [الجزري، أبو سعيد] [1] الحرّاني، رحل إلي العراق، وأخذ عن عبد الله بن محمّد بن عقيل وطبقته، فأكثر.
وأبو خالد [2] يزيد بن عطاء اليشكريّ الواسطيّ. روى عن علقمة بن مرثد وطبقته، وليس بالقويّ. قاله في «العبر» [3] .
وقد مرّ مولاه أبو عوانة [4] .
وفيها، أو في حدودها، عبد العزيز بن المختار البصريّ الدبّاغ. حدّث عن ثابت البنانيّ وجماعة.
__________
[1] زيادة من «تهذيب التهذيب» .
[2] في الأصل، والمطبوع: «أبو خلد» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي.
[3] (1/ 271) .
[4] انظر صفحة (344) من هذا المجلد.(2/347)
سنة ثمان وسبعين ومائة
فيها فوّض الرّشيد أموره كلها إلى يحيى بن خالد بن برمك. قاله [1] في «الشذور» .
وفيها توفي جعفر بن سليمان الضّبعيّ بالبصرة. روى عن أبي عمران الجوني وطائفة. وكان أحد علماء البصرة. وفيه تشيّع. أخذ ذلك عنه عبد الرّزّاق باليمن. قاله في «العبر» [2] .
وقال ابن ناصر الدّين: هو أبو سليمان، كان من ثقات الشيعة والزهّاد، ولم يكن قويا، ومع كثرة علومه قيل: كان أميّا. انتهى.
وفيها عبثر بن القاسم أبو زبيد الكوفي. روى عن حصين بن عبد الرّحمن وجماعة. ذكره أبو داود فقال: ثقة، ثقة.
وعبد الله بن جعفر بن نجيح السعديّ، مولاهم، المدينيّ، نزيل البصرة، ووالد علي بن [3] المديني. روى عن عبد الله بن دينار وطبقته، وهو ضعيف الحديث.
__________
[1] يعني ابن الجوزي. وسبق أن ذكرت بأن كتابه الذي أشار إليه لا يزال في عداد المخطوطات التي لا نعرف مكان وجودها.
[2] (1/ 271) .
[3] لفظة «ابن» سقطت من «العبر» للذهبي (1/ 272) فتستدرك فيه.(2/348)
سنة تسع وسبعين ومائة
فيها كانت فتنة الوليد بن طريف الشّاريّ الخارجيّ، وأحد الشّراة وهم الخوارج، سمّوا بذلك لقولهم: شرينا أنفسنا في طاعة الله، أي بعناها بالجنّة حين فارقنا الأئمة الجبابرة، وكان الوليد، أحد الشجعان، وندب الرّشيد لحربه يزيد بن زائدة، ابن أخي معن بن زائدة الشيباني، ومكث يزيد مدة يماكره ويخادعه، وكانت البرامكة منحرفة عن يزيد، فقالوا للرشيد: إنه مداهن، فأرسل إليه يتوعّده، فناجزه يزيد فظفر به، وكان الوليد ينشد في المصاف:
أنا الوليد بن طريف الشّاري ... قسورة [1] لا يصطلى بناري [2]
ولما انهزم تبعه يزيد بنفسه حتّى أدركه على مسافة بعيدة فقتله واحتزّ رأسه، ولما قتل لبست أخته الفارعة عدّة حربها وحملت [على جيش يزيد] [3] فضرب يزيد بالرمح فرسها [4] وقال: اغربي، غرّب الله عينك [5] فقد فضحت
__________
[1] القسورة: الأسد. قاله في «مختار الصحاح» ص (534) .
[2] في الأصل والمطبوع: «بنار» والبيت في «مرآة الجنان» (1/ 385) .
[3] زيادة من «مرآة الجنان» (1/ 385) .
[4] في الأصل، والمطبوع: «قرنيها» وأثبت ما في «مرآة الجنان» .
[5] في المطبوع: «غرب الله عنك» ، وفي «مرآة الجنان» : «غرب الله عليك» .(2/349)
العشيرة، فانصرفت ولها في أخيها مراث كثيرة شهيرة [1] .
وفيها اعتمر الرّشيد في رمضان ثم رجع إلى المدينة فأقام بها إلى وقت الحج، ثم حجّ بالنّاس، فمشى من مكّة إلى منى، ثم إلى عرفات، وشهد المشاهد والمشاعر ماشيا.
وفيها توفي إمام دار الهجرة أبو عبد الله مالك بن أنس الحميريّ الأصبحيّ شهير الفضل، كان طوالا، جسيما، عظيم [2] الهامة، أبيض الرأس واللحية، أشقر، أزرق العين، يلبس الثياب العربية البيض، وإذا اعتمّ جعلها [تحت] [3] ذقنه، ويسدل طرفها بين كتفيه.
روي أنه قال: ما أفتيت حتّى شهد لي سبعون أنّي أهل لذلك. وقلّ رجل كنت أتعلّم منه ومات حتّى يستفتين.
قال اليافعيّ [4] : أخبر بنعمة الله [تعالى عليه] [5] .
وكان مالك عظيم المحبة لرسول الله- صلى الله عليه وسلّم- مبالغا في تعظيم حديثه، حتّى كان لا يركب في المدينة مع ضعفه وكبر سنّه، ويقول: لا أركب في بلد فيها جسد رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- مدفون.
قال الشّافعيّ: قال لي محمد بن الحسن: أيّما [6] أعلم صاحبنا أو صاحبكم؟ يعني أبا حنيفة ومالكا- رحمهما الله تعالى- قلت: على الإنصاف؟
__________
[1] قلت: وقد ساق اليافعي إحدى مراثيها في أخيها ومطلعها:
أيا شجر الخابور ما لك مورقا ... كأنّك لم تحزن على ابن طريف
[2] في المطبوع: «عظيما» وهو خطأ.
[3] لفظة «تحت» سقطت من الأصل، واستدركتها من المطبوع، و «العبر» للذهبي (1/ 273) .
[4] في «مرآة الجنان» (1/ 387) .
[5] زيادة من «مرآة الجنان» .
[6] في الأصل، والمطبوع: «أي» وأثبت ما في «مرآة الجنان» .(2/350)
قال: نعم. قلت: أنشدك الله من أعلم بالقرآن؟ قال: صاحبكم. قلت: فمن أعلم بالسّنّة؟ قال: صاحبكم. قلت: فمن أعلم بأقاويل الصحابة؟ قال:
صاحبكم. قلت: فما بقي إلّا القياس، وهو لا يكون إلّا على هذه الأشياء، وكان مالك [يأتي المسجد، و] [1] يشهد الصلوات الخمس والجمعة، ويصلي على الجنائز، ويعود المرضى، ويقضي الحقوق، وأكثر جلوسه في المسجد، ثم ترك ذلك فكان يصلي وينصرف، وترك حضور الجنائز، ثم ترك الكلّ، وسعي به إلى جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عبّاس، وقيل له: إنه لا يرى خلافتكم، فضربه سبعين سوطا، ومدّت [2] يده حتّى انخلعت [كتفه] [3] فلم يزل بعد ذلك في [علوّ، و] [4] رفعة، كأنما كانت [5] السياط حليّا حلّي به.
ولما ورد المنصور المدينة، أراد أن يقيده منه، فقال: والله ما ارتفع سوط منها عن بدني إلّا وقد جعلته في حلّ لقرابته من رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وقيل:
ضرب لفتوى لم توافق أغراضهم. وقيل: إنه حمل إلى بغداد وقال له واليها:
ما تقول في نكاح المتعة؟ فقال: هو حرام، فقيل له: ما تقول في قول عبد الله بن عبّاس فيها؟ فقال: كلام غيره فيها أوفق لكتاب الله تعالى، وأصرّ على القول بتحريمها، فطيف به على ثور مشوّها، فكان يرفع القذر عن وجهه ويقول: يا أهل بغداد من لم يعرفني فليعرفني، أنا مالك بن أنس، فعل بي ما ترون لأقول بجواز نكاح المتعة ولا أقول به، ثم بعد ذلك لم يزده الله تعالى إلّا رفعة، وكان ذلك كالتميمة له، فجزاه الله تعالى عن نفسه والأمة خيرا.
__________
[1] زيادة من «مرآة الجنان» (1/ 389) وهو المصدر الذي نقل عنه المؤلف بتصرّف.
[2] أي جذبت. انظر «لسان العرب» (مدد) .
[3] زيادة من «مرآة الجنان» .
[4] زيادة من «مرآة الجنان» .
[5] في الأصل، والمطبوع: «كان» ، وأثبت ما في «مرآة الجنان» .(2/351)
وحدّث عتيق بن يعقوب الزّبيديّ قال: قدم هارون الرّشيد المدينة، وكان قد بلغه أن مالك بن أنس عنده «الموطأ» يقرؤه على النّاس، فوجّه إليه البرمكيّ فقال: أقرئه السلام وقل له: يحمل إليّ الكتاب ويقرؤه عليّ، فأتاه البرمكيّ فقال: أقرئه السلام، وقل له: إن العلم يؤتى ولا يأتي، فأتاه البرمكيّ فأخبره، وكان عنده أبو يوسف القاضي، فقال: يا أمير المؤمنين، يبلغ أهل العراق أنك وجّهت إلى مالك في أمر فخالفك، اعزم عليه، فبينما هو كذلك، إذ دخل مالك، فسلّم وجلس، فقال له الرّشيد: يا ابن أبي عامر أبعث إليك وتخالفني؟ فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني الزّهري، عن خارجة بن زيد، عن أبيه قال: كنت أكتب الوحي بين يدي رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ من الْمُؤْمِنِينَ 4: 95 [النساء: 95] وابن أمّ مكتوم عند النّبيّ- صلّى الله عليه وسلّم- فقال: يا رسول الله انى رجل ضرير، وقد انزل الله عليك فى فضل الجهاد ما قد علمت، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لا ادرى» وقلمي رطب ما جف، ثم وقع فخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم على فخذي، ثم أغمي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم جلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا زيد اكتب غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ 4: 95 [النساء:
95] .
ويا أمير المؤمنين حرف واحد بعث فيه جبريل والملائكة- عليهم السلام- من مسيرة خمسين ألف عام، ألا ينبغي لي أن أعزّه وأجلّه، وإن الله تعالى رفعك وجعلك في هذا الموضع بعملك، فلا تكن أنت أول من يضيع عزّ العلم فيضيع الله عزّك، فقام الرّشيد يمشي مع مالك إلى منزله ليسمع منه «الموطأ» فأجلسه معه على المنصّة، فلما أراد أن يقرأه على مالك، قال [1] :
تقرؤه عليّ. قال: ما قرأته على أحد منذ زمان. قال: فيخرج النّاس عنّي حتّى أقرأه أنا عليك، فقال: إن العلم إذا منع من العامّة لأجل الخاصّة لم
__________
[1] في المطبوع: «قال لي» .(2/352)
ينفع الله تعالى به الخاصّة. فأمر معن بن عيسى القزّاز ليقرأه عليه، فلما بدأ ليقرأه قال مالك لهارون: يا أمير المؤمنين! أدركت أهل العلم ببلدنا وإنهم ليحبّون التواضع للعلم، فنزل هارون عن المنصّة، وجلس بين يديه وسمعه، رحمهما الله تعالى.
وقال أبو عبد الله الحميديّ الأندلسيّ: أنشدني والدي أبو طاهر إبراهيم:
إذا قيل من نجم الحديث وأهله ... أشار أولو الألباب يعنون مالكا
إليه تناهى علم دين محمّد ... فوطّأ فيه للرّواة المسالكا
ونظّم بالتصنيف أشتات نشره ... وأوضح ما قد كان لولاه حالكا
وأحيا دروس العلم شرقا ومغربا ... تقدّم في تلك المسالك سالكا
وقد جاء في الآثار من ذاك شاهد ... على أنّه في العلم خصّ بذالكا
فمن كان ذا طعن على علم مالك ... ولم يقتبس من نوره كان هالكا
يشير بقوله، وقد جاء في الآثار إلخ إلى حديث «تضرب الإبل أكبادها إلى عالم المدينة لا ترى أعلم منه» [1] .
وقال الشّافعيّ- رضي الله تعالى عنه-: إذا ذكر العلماء فمالك النجم.
وقال معن القزّاز وجماعة: حملت بمالك أمّه ثلاث سنين.
وقيل: إنه بكى في مرض موته وقال: والله لوددت أني ضربت في كل مسألة أفتيت بها، وليتني لم أفت بالرّأي.
وتوفي بالمدينة، ودفن بالبقيع عن أربع وثمانين سنة، وقيل: تسعين،
__________
[1] رواه أحمد في «المسند» (2/ 299) ، والترمذي في «سننه» رقم (2682) في العلم، باب ما جاء في عالم المدينة، والحاكم في «المستدرك» (1/ 91) ، وحسنة الترمذي، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وهو من رواية ابن جريج عن أبي الزبير عن أبي صالح عن أبي هريرة. وابن جريج، وأبو الزبير مدلّسان، وقد روياه بالعنعنة.(2/353)
ولما مات قال ابن عيينة: ما ترك على وجه الأرض مثله.
وفيها توفي خالد بن عبد الله الواسطيّ الطّحّان الحافظ، وله سبعون سنة. روى عن سهيل بن أبي صالح وطبقته.
قال إسحاق الأزرق: ما أدركت أفضل منه.
وقال أحمد: كان ثقة صالحا، بلغني أنه اشترى نفسه من الله تعالى ثلاث مرات.
وأبو الأحوص سلّام بن سليم الكوفي. روى عن زياد بن علاقة وطبقته، وكان أحد الحفّاظ الأثبات.
قال أحمد العجلي: ثقة صاحب سنّة واتّباع، وآخر من روى عنه هنّاد.
وفي رمضان إمام أهل البصرة حمّاد بن زيد بن درهم الأزديّ مولاهم البصريّ الضرير، أبو إسماعيل. كان من أهل الورع والدّين.
قال ابن مهدي: لم أر قطّ أعلم بالسّنّة منه، وهو أحد الحمّادين صاحبي المذهبين المشهورين.
وقال عبد الرّحمن بن مهدي: أئمة النّاس أربعة: الثّوريّ بالكوفة، ومالك بالحجاز، وحمّاد بن زيد بالبصرة، والأوزاعيّ بالشّام.
وقال يحيى بن يحيى التميميّ: ما رأيت شيخا أفضل من حمّاد بن زيد.
وقال أحمد العجلي: حمّاد بن زيد ثقة، كان حديثه أربعة آلاف حديث يحفظها، ولم يكن له كتاب.
وقال ابن معين: ليس أحد أثبت من حمّاد بن زيد.
وفيها الهقل بن زياد الدّمشقيّ كاتب الأوزاعيّ.
قال ابن معين: ما كان بالشّام أوثق منه.(2/354)
وقال مروان الطّاطري: كان أعلم النّاس بالأوزاعيّ وبمجلسه وفتياه.
وقال ابن ناصر الدّين: هو الهقل بن زياد بن عبيد [1] السّكسكيّ مولاهم الدّمشقيّ اسمه محمد فلقب [2] بهقل، كان إماما مفتيا من الثقات. انتهى [3] .
__________
[1] ويقال: زياد بن عبيد الله. (ع) .
[2] في الأصل: «فقلب» وهو سبق قلم من الناسخ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[3] انظر «الأنساب» للسمعاني (7/ 98) .(2/355)
سنة ثمانين ومائة
فيها هاج الهوى والعصبيّة بالشّام بين اليمانية والنّزاريّة، وتفاقم [1] الأمر، واشتدّ الخطب.
وفيها كانت الزّلزلة العظمى بمصر [2] التي سقط منها رأس منارة الاسكندرية.
وفيها نزل الرّشيد الرّقّة واتخذها وطنا.
وفيها توفي إسماعيل بن جعفر مولاهم [الأنصاريّ] [3] المدنيّ، قارئ المدينة بعد نافع، ومحدّثها بعد مالك. روى عن عبد الله بن دينار، والعلاء بن عبد الرّحمن، وطائفة.
قال ابن ناصر الدّين: كان إماما، مقرئا، أمينا، عالما، ثقة، مأمونا.
انتهى.
وفيها عبد الوارث بن سعيد أبو عبيدة [4] العنبريّ مولاهم التّنّوريّ
__________
[1] في الأصل: «وتعاظم» وأثبت ما في المطبوع، وهو موافق لما في «العبر» للذهبي (1/ 275) مصدر المؤلف.
[2] لفظة «مصر» لم ترد في «العبر» للذهبي.
[3] زيادة من «العبر» للذهبي.
[4] في المطبوع: «أبو عبدة» وهو خطأ.(2/356)
البصريّ، كان على بدعة فيه. أجمع على الاحتجاج به الشيخان وباقي أئمة الأثر، قاله ابن ناصر الدّين.
وفيها بشر بن منصور السّليميّ الأزديّ البصريّ الزّاهد. روى عن أيوب وطبقته.
قال ابن المديني: ما رأيت أحدا أخوف لله منه. وكان يصلّي كل يوم خمسمائة ركعة.
وقال عبد الرّحمن بن مهدي: ما رأيت أحدا أقدّمه عليه في الورع والرّقّة.
وفيها حفص بن سليمان الغاصريّ الكوفيّ قاضي الكوفة وتلميذ عاصم. وقد حدّث عن علقمة [1] بن مرثد وجماعة، وعاش تسعين سنة، وهو متروك الحديث، حجّة في القراءة. قاله في «العبر» [2] .
وفيها صدقة بن خالد الدّمشقيّ، قرأ على يحيى الذّماري. وروى عن التابعين، وكان من ثقات الشاميين.
وفيها أبو وهب عبيد الله بن عمرو [3] الرّقّي الفقيه، محدّث الجزيرة ومفتيها. روى عن عبد الملك بن عمير وطبقته.
قال محمد بن سعد: كان ثقة، لم يكن أحد ينازعه في الفتوى في دهره [4] .
وفضيل بن سليمان النّميري بالبصرة. روى عن أبي حازم الأعرج وصغار التابعين.
__________
[1] تحرّف في «العبر» إلى «علقة» فيصحّح فيه.
[2] (1/ 276) .
[3] في الأصل والمطبوع: «عبيد الله بن عمر» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» وغيره.
[4] قاله الذهبي في «العبر» (1/ 276- 277) .(2/357)
قال في «المغني» [1] : عن منصور بن صفيّة، فيه لين.
قال أبو حاتم وغيره: ليس بالقويّ.
وقال أبو زرعة: ليّن.
وقال عبّاس [2] ، عن ابن معين: ليس بثقة. انتهى.
وفيها مبارك بن سعيد، أخو سفيان الثّوري أبو عبد الرّحمن الكوفيّ الضرير ببغداد. روى عن عاصم بن أبي النّجو وطائفة، وهو ثقة.
وفيها فقيه مكّة أبو خالد مسلم بن خالد الزّنجيّ، وله ثمانون سنة.
روى عن ابن أبي مليكة، والزّهري، وطائفة.
وقال أحمد بن محمد الأوزرقي: كان فقيها عابدا، يصوم الدّهر، وضعّفه أبو داود وغيره، ولقّب بالزّنجيّ في صغره، وكان أشقر، وعليه تفقّه الشّافعيّ.
وفيها أبو المحيّاة [3] يحيى بن يعلى التيميّ الثقة الكوفيّ. روى عن سلمة بن كهيل وطائفة، وعمّر وأسنّ.
وفيها أمير الأندلس أبو الوليد هشام بن الدّاخل عبد الرّحمن بن معاوية الأمويّ المروانيّ، وله سبع وثلاثون سنة. وولي الأمر ثمانية أعوام، وكان متواضعا، حسن السّيرة، كثير الصدقات، وقام بعده ابنه الحكم.
__________
[1] «المغني في الضعفاء» (2/ 515) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «عيّاش» وهو خطأ، والتصحيح من «المغني في الضعفاء» (2/ 515) ، وهو عبّاس الدوري. انظر «تهذيب التهذيب» لابن حجر (8/ 292) .
[3] في الأصل: «أبو الحياة» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع.(2/358)
سنة إحدى وثمانين ومائة
فيها أحدث الرّشيد في صدور كتبه الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلّم.
وفيها غزا الرّشيد، وافتتح حصن الصّفصاف من أرض الرّوم بالسيف..
وسار عبد الملك بن صالح بن علي العبّاسي حتّى بلغ أنقرة [1] وافتتح حصنا.
وفيها توفي الإمام محدّث الشّام ومفتي أهل حمص، أبو عتبة، إسماعيل بن عيّاش العنسيّ، عن بضع وسبعين سنة. روى عن شرحبيل بن مسلم، ومحمّد بن زياد الألهاني، وخلق من التابعين بالشّام والحرمين.
قال ابن معين: هو ثقة في الشّاميين.
وقال يزيد بن هارون: ما لقيت شاميّا ولا عراقيّا أحفظ منه، وما أدري ما الثوري.
وقال ابن عدي: يحتجّ به في حديث الشّاميين خاصة.
وقال أبو اليمان: كان إسماعيل جارنا، فكان يحيي الليل.
قال داود بن عمرو: ما حدّثنا إسماعيل إلّا من حفظه، [و] كان يحفظ نحوا من عشرين ألف حديث.
__________
[1] وهي عاصمة دولة تركيا المعاصرة.(2/359)
وقيل: توفي سنة اثنتين وثمانين، ومناقبه كثيرة.
وفيها أبو المليح الرّقّيّ عن نيّف وتسعين سنة. واسمه الحسن بن عمر.
روى عن ميمون بن مهران، والزّهريّ، والكبار، ووثّقه أحمد، وغيره.
وفيها حفص بن ميسرة الصّنعانيّ بعسقلان. روى عن زيد بن أسلم، وطبقته، وكان ثقة صاحب حديث.
و [فيها] المعمّر أبو أحمد خلف بن خليفة الكوفيّ ببغداد، وقد جاوز المائة بعام. رأى عمرو بن حريث الصّحابي [1] وروى عن محارب بن دثار، وجماعة.
قال أبو حاتم: صدوق.
قلت: هو أقدم شيخ للحسن بن عرفة. قاله في «العبر» [2] .
وفيها الأمير حسن بن قحطبة بن شبيب الطائيّ، وله أربع وثمانون سنة، وكان من كبار قوّاد المنصور.
وفيها، وقيل: سنة ثمانين، أبو معاوية عبّاد بن عبّاد بن المهلّب البصريّ، أحد المحدّثين والأشراف. روى عن أبي جمرة [3] الضّبعي صاحب ابن عبّاس [4] وغيره.
قال في «المغني» [5] : عبّاد المهلّبيّ، ثقة، مشهور، وقد قال أبو حاتم:
لا يحتجّ به.
__________
[1] تحرّفت لفظة «الصحابي» في «العبر» إلى «الصابي» فتصحّح فيه.
[2] (1/ 280) .
[3] واسمه نصر بن عمران.
[4] في المطبوع: «صاحب ابن عيّاش» وهو خطأ.
[5] «المغني في الضعفاء» (1/ 326) .(2/360)
وذكره ابن سعد في «الطبقات» [1] فقال: لم يكن بالقويّ. انتهى.
وفي رمضان، توفي الإمام العلم أبو عبد الرّحمن عبد الله بن المبارك الحنظليّ، مولاهم المروزيّ، الفقيه، الحافظ، الزّاهد، ذو المناقب، وله ثلاث وستون سنة. سمع هشام بن عروة، وحميد الطّويل، وهذه الطبقة، وصنّف التصانيف الكثيرة، وحديثه نحو من عشرين ألف حديث.
قال أحمد بن حنبل: لم يكن في زمان ابن المبارك أطلب للعلم منه.
وقال شعبة: ما قدم علينا مثله.
وقال أبو إسحاق الفزاري: ابن المبارك إمام المسلمين.
وعن شعيب بن حرب قال: ما لقي ابن المبارك مثل نفسه.
وكانت له تجارة واسعة، [و] كان ينفق على الفقراء في السنة مائة ألف درهم.
قال ابن ناصر الدّين: الإمام العلّامة الحافظ شيخ الإسلام وأحد أئمة الأعلام [2] ، ذو التصانيف النافعة والرحلة الواسعة.
حدّث عنه ابن معين، وابن منيع، وأحمد بن حنبل، وغيرهم.
جمع العلم، والفقه، والأدب، والنحو، واللغة، والشعر، وفصاحة العرب، مع قيام الليل والعبادة.
قال الفضيل بن عياض: وربّ هذا البيت ما رأت عيناي مثل ابن المبارك. انتهى.
وقال ابن الأهدل: تفقّه بسفيان الثّوري، ومالك بن أنس، وروى عنه
__________
[1] (7/ 290) .
[2] في المطبوع: «وأحد أئمة الأنام» .(2/361)
«الموطأ» وكان كثير الانقطاع في الخلوات، شديد الورع، وكذلك أبوه مبارك. روي أنه نظر بستانا لمولاه، فطلب منه رمّانة حامضة، فجاءه بالرّمّانة حلوة، فقال له: أنت ما تعرف الحلو من الحامض؟ قال: لا. قال: ولم؟
قال: لأنك لم تأذن لي فيه، فوجده كذلك، وعظم قدره عند مولاه، حتّى كان له بنت خطبت كثيرا، فقال له: يا مبارك من ترى نزوّج هذه البنت؟ فقال:
الجاهلية كانوا يزوّجون للحسب، واليهود للمال، والنصارى للجمال، وهذه الأمّة للدّين، فأعجبه عقله، وقال لأمها: ما لها زوج غيره، فتزوجها، فجاءت بعبد الله، وكان واحد وقته، وفيه يقول القائل:
إذا سار عبد الله من مرو ليلة ... فقد سار منها نورها وجمالها
إذا ذكر الأحبار في كلّ بلدة ... فهم أنجم فيها وأنت هلالها
وقد صنّف في مناقبه. وعدّ بعضهم ما جمع من خصال الخير فوجدها خمسا وعشرين فضيلة، وكان يحجّ عاما، ويغزو عاما، فإذا حجّ قبض نفقة إخوانه، وكتب على كل نفقة اسم صاحبها، وينفق عليهم ذهابا وإيابا من أنفس النفقة، ويشتري لهم الهدايا من مكّة والمدينة، فإذا رجعوا اتخذ سماطا عليه من جفان الفالوذج نحو خمس وعشرين فضلا عن غيره، فيطعم إخوانه، ومن شاء الله، ثم يكسوهم جديدا، ويردّ إلى كلّ منهم نفقته، وذلك أنه كانت له تجارة واسعة.
قال سفيان الثّوري: وددت عمري كله بثلاثة أيام من أيام ابن المبارك.
قيل: مات بهيت- بالكسر- بلد بالعراق [1] منصرفا من غزوة، وقيل:
__________
[1] في الجنوب الأوسط منه الآن، وهي بلدة على الفرات من نواحي بغداد فوق الأنبار، ذات نخل كثير وخيرات واسعة، وقد نسب إليها قوم من أهل العلم. وانظر «معجم البلدان» لياقوت (5/ 420- 421) .(2/362)
مات في برية سائحا مختارا للعزلة، وكان كثيرا ما يتمثّل بهذين البيتين:
وإذا صاحبت فاصحب صاحبا ... ذا حياء وعفاف وكرم
قائلا للشيء لا إن قلت لا ... وإذا قلت نعم قال نعم
انتهى.
وقال في «العبر» [1] : كان أستاذه تاجرا، فتعلّم منه، وكان أبوه تركيّا، وأمّه خوارزميّة.
وقال عبد الرّحمن بن مهدي: كان ابن المبارك أعلم من سفيان الثّوري.
قلت [2] : كان رأسا في العلم، رأسا في الذكاء، رأسا في الشجاعة والجهاد، رأسا في الكرم. وقبره بهيت ظاهر يزار، رحمه الله تعالى.
انتهى.
وفيها أبو الحسن عليّ بن هاشم بن البريد الكوفيّ الخزّاز. يروي عن الأعمش وأقرانه.
وخرّج له مسلم والأربعة. وكان شيعيّا جلدا.
قال في «المغني» [3] : قال ابن حبّان: روى المناكير عن المشاهير. انتهى.
وفيها قاضي مصر أبو معاوية المفضّل بن فضالة القتبانيّ الفقيه. روى عن يزيد بن أبي حبيب، وطائفة كثيرة. وكان زاهدا، ورعا، قانتا، مجاب الدّعوة، عاش أربعا وسبعين سنة.
__________
[1] (1/ 281) .
[2] القائل الذهبي في «العبر» .
[3] (2/ 456) .(2/363)
قال في «المغني» [1] : ثقة حجة.
قال ابن سعد: منكر الحديث. انتهى.
وفيها بالاسكندرية، يعقوب بن عبد الرّحمن القارئ المدنيّ. روى عن زيد بن أسلم وطبقته فأكثر.
__________
[1] (2/ 674) .(2/364)
سنة اثنتين وثمانين ومائة
فيها سملت [1] الرّوم عيني طاغيتهم قسطنطين، وملّكوا عليهم أمّه.
وفيها توفي عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم العدويّ العمريّ مولاهم المدنيّ. روى عن أبيه وجماعة، وهو ضعيف كثير الحديث.
وفيها عبيد الله بن عبد الرّحمن الأشجعيّ الكوفيّ الحافظ. سمع من هشام بن عروة وجماعة، وقال: سمعت من سفيان الثّوري ثلاثين ألف حديث.
وقال ابن معين: ما بالكوفة أعلم بالثّوريّ من عبيد الله الأشجعيّ.
وفيها عمّار بن محمّد الثّوريّ الكوفيّ، ابن أخت سفيان الثّوريّ. روى عن منصور، والأعمش، وعدّة.
قال ابن عرفة: كان لا يضحك، وكنّا لا نشكّ أنه من الأبدال. انتهى.
وخرّج له مسلم والنسائي وغيرهما.
__________
[1] قال في «مختار الصحاح» ص (314) : سمل العين: فقؤها بحديدة محماة.(2/365)
قال في «المغني» [1] قال ابن حبّان: استحق الترك. انتهى.
وفيها أبو سفيان المعمريّ محمّد بن حميد البصريّ، نزيل بغداد، وكان محدّثا مشهورا، رحل إلى معمر فلقّب بالمعمريّ.
وفيها الوليد بن [محمّد] الموقّريّ البلقاويّ، والموقّر حصن [2] بالبلقاء. وهو من ضعفاء أصحاب الزّهريّ.
وفيها على الأصح، عالم أهل الكوفة يحيى بن زكريا بن أبي زائدة [3] الكوفيّ الحافظ. روى عن أبيه وعاصم الأحول وطبقتهما، وعاش ثلاثا وستين سنة.
قال ابن المدنيي: انتهى العلم في زمانه إليه. ما كان بالكوفة بعد الثّوريّ أثبت منه.
وقال غيره: ولي قضاء المدائن [4] ، وكان من أصحاب أبي حنيفة، وكان ثبتا متقنا.
وفيها الحافظ الثّبت [5] المتقن، أبو معاوية يزيد بن زريع العيشيّ، وقيل: التّيميّ البصريّ محدّث أهل البصرة. ثقة ماهر. روى عن أيوب السّختياني وطبقته.
وقال أحمد بن حنبل: كان ريحانة البصرة، ما أتقنه وما أحفظه.
وقال يحيى القطّان: ما كان هنا أحد أثبت منه.
__________
[1] «المغني في الضعفاء» (2/ 459) .
[2] في «العبر» للذهبي (1/ 283) : «حصين» . وفي «معجم البلدان» (5/ 226) : موضع بنواحي البلقاء من نواحي دمشق.
[3] في «العبر» للذهبي (1/ 283) : «أبو زكريا يحيى بن أبي زائدة» وهو خطأ فيصحّح فيه.
وانظر «دول الإسلام» للذهبي ص (105) ، و «الأعلام» للزركلي (8/ 145) .
[4] في «العبر» : «ولي قضاء المدينة» وهو خطأ فيصحّح فيه.
[5] في الأصل: «الثابت» وهو تحريف، وأثبت ما في المطبوع، وهو الصواب.(2/366)
وقال نصر بن علي الجهضميّ: رأيت يزيد بن زريع في النوم، فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: دخلت الجنة. قلت: بماذا؟ قال: بكثرة الصّلاة.
وفي شهر ربيع الآخر القاضي أبو يوسف، واسمه يعقوب بن إبراهيم الكوفي قاضي القضاة، وهو أوّل من دعي بذلك. تفقّه على الإمام أبي حنيفة، وسمع من عطاء بن السّائب وطبقته.
قال يحيى بن معين: كان القاضي أبو يوسف يحبّ أصحاب الحديث ويميل إليهم.
وقال محمد بن سماعة: كان أبو يوسف يصلّي بعد ما ولي القضاء كل يوم مائتي ركعة.
وقال يحيى بن يحيى النّيسابوري: سمعت أبا يوسف يقول عند وفاته:
كلّ ما أفتيت به فقد رجعت عنه، إلّا ما وافق السّنّة. وكان مع سعة علمه، أحد الأجواد الأسخياء.
قال أبو حاتم: يكتب حديثه.
وقال أحمد بن حنبل: صدوق.
قال جميع ذلك في «العبر» [1] .
وقال ابن الأهدل: تفقّه على أبي حنيفة، وخالفه في مواضع، وروى عنه محمّد بن الحسن الشيباني، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وأكثر العلماء على تفضيله وتعظيمه. ولي القضاء للمهديّ وابنيه، وذكر المؤرّخون أنّ له استحسانات يخالف فيها. وروي أنه قال عند وفاته: كلّ ما أفتيت به فقد رجعت عنه، إلّا ما وافق الكتاب والسّنّة. وقال: اللهمّ إنك تعلم أنّي لم أجر
__________
[1] (1/ 284- 285) .(2/367)
في حكم حكمت [فيه] [1] بين اثنين من عبادك متعمّدا، ولقد اجتهدت في الحكم فيما يوافق سنّة نبيّك- صلى الله عليه وسلّم- وكلّ ما أشكل عليّ فقد جعلت أبا حنيفة بيني وبينك، وكان عندي والله ممّن يعرف أمرك ولا يخرج عن الحق وهو يعلمه.
وروي أن زبيدة ابنة جعفر [2] امرأة الرّشيد أرسلت إليه بمال وعنده جلساؤه، فقال بعضهم: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من أهديت له هديّة فجلساؤه شركاؤه فيها» [3] فقال أبو يوسف: ذلك حين كانت الهدايا من الأقط والتمر.
وقال بعضهم: كان أبو يوسف يحفظ التفسير، والمغازي، وأيام العرب. وكان أقل علومه الفقه، ولم يكن في أصحاب أبي حنيفة مثله. وهو أوّل من نشر علم أبي حنيفة.
وسأله الأعمش عن مسألة فأجابه. فقال: من أين؟ قال من حديثك الذي حدّثتنيه أنت. فقال: يا يعقوب إني لأعرف الحديث قبل أن يجتمع أبواك، وما عرفت تأويله إلّا الآن.
وتناظر هو وزفر بن الهذيل عند أبي حنيفة، فأطالا، فقال أبو حنيفة
__________
[1] لفظة «فيه» سقطت من الأصل، وأثبتها من المطبوع.
[2] انظر ترجمتها ومصادرها في «الأعلام» للزركلي (3/ 42) .
[3] ذكره الحافظ الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/ 148) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، بلفظ «من أهدي له هدية، وعنده قوم فهم شركاؤه فيها» وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه مندل بن علي وهو ضعيف، وقد وثق. قال الحافظ ابن حجر في «التقريب» : مندل بن علي العنزي أبو علي الكوفي، ويقال: اسمه عمرو، ومندل لقب.
ضعيف. وذكره أيضا الحافظ الهيثمي في «المجمع» (4/ 148) من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما بلفظ «من أتته هدية وعنده قوم جلوس، فهم شركاؤه فيها» وقال: رواه الطبراني في الكبير وفيه يحيى بن سعيد العطار، وهو ضعيف. وذكره السيوطي في «الجامع الكبير» وزاد نسبته للعقيلي في «الضعفاء» وأبي نعيم في «الحلية» ، والبيهقي في «السنن» .(2/368)
لزفر: لا تطمع في رياسة بلد فيها مثل هذا.
وكان يقول: العلم لا يعطيك بعضه حتّى تعطيه كلّك.
وعاش قريبا من سبعين سنة. انتهى ما قاله ابن الأهدل.
وقال ابن ناصر الدّين: قال أحمد بن حنبل: أول ما كتبت الحديث اختلفت إلى أبي يوسف القاضي، فكتبت عنه، وكان أبو يوسف أميل إلينا من أبي حنيفة، ومحمد.
وقال الفلّاس: أبو يوسف صدوق كثير الغلط. انتهى.
وقال ابن قتيبة في «المعارف» [1] : هو يعقوب بن إبراهيم [بن حبيب] [2] بن سعد بن حبتة من بجيلة، وكان سعد بن حبتة استصغر يوم أحد.
ونزل الكوفة، ومات بها، وصلّى عليه زيد بن أرقم، وكبّر عليه خمسا.
وكان أبو يوسف يروي عن الأعمش، وهشام بن عروة، وغيرهما.
وكان صاحب حديث، حافظا، ثم لزم أبا حنيفة، فغلب عليه الرأي.
وولي قضاء بغداد، فلم يزل بها إلى أن مات، وابنه يوسف ولي القضاء أيضا بالجانب الغربي في حياة أبيه، وتوفي سنة اثنتين وتسعين ومائة. انتهى كلام ابن قتيبة.
وقال ابن خلّكان [3] : هو أول من غيّر لباس العلماء إلى هذه الهيئة التي هم عليها في هذا الزمان، وكان ملبوس النّاس قبل ذلك شيئا واحدا لا يتميز أحد على أحد بلباسه. انتهى.
وقال غير واحد: كان يحفظ في المجلس الواحد خمسين حديثا بأسانيدها.
__________
[1] ص (499) .
[2] ما بين حاصرتين زيادة من «المعارف» .
[3] في «وفيات الأعيان» (6/ 379) وقد نقل المؤلف عنه بتصرف.(2/369)
قال ابن الفرات في «تاريخه» [1] : روى علي بن حرملة عن أبي يوسف- رحمه الله- قال: كنت أطلب الحديث والفقه وأنا مقلّ رثّ المنزل، فجاء أبي يوما وأنا عند أبي حنيفة، فانصرفت معه، فقال: يا بني أنت محتاج إلي المعاش، وأبو حنيفة مستغن، فقصرت عن طلب العلم وآثرت طاعة أبي، فتفقّدني أبو حنيفة وسأل عنّي، فلما أتيته بعد تأخيري عنه قال: ما خلّفك؟
قلت: الشغل بالمعاش، وطاعة والدي، فلما أردت الانصراف أومأ إليّ فجلست، فلما قام النّاس دفع إليّ صرّة وقال: استعن بهذه والزم الحلقة، وإذا فقدت هذه فأعلمني، فإذا فيها مائة درهم، فلزمت الحلقة، فكان يتعاهدني بشيء بعد شيء، وما أعلمته بنفاد شيء حتّى استغنيت، وتموّلت، فلزمت مجلسه حتّى بلغت حاجتي، وفتح الله لي ببركته وحسن نيّته، فأنتج من العلم المال، فأحسن الله مكافأته وغفر له.
وقال ابن عبد البرّ: كان أبو يوسف القاضي فقيها، عالما، حافظا، ذكر أنه كان يعرف بالحديث، وأنه كان يحضر التحديث فيحفظ خمسين حديثا وستين حديثا ثم يقوم فيمليها على النّاس.
وكان كثير الحديث، وكان جالس محمد بن عبد الرّحمن بن أبي ليلى، ثم جالس أبا حنيفة- رضي الله عنهما- وكان الغالب عليه مذهبه، وربما كان يخالفه أحيانا في المسألة بعد المسألة. وكان يقول في دبر كلّ صلاة:
اللهمّ اغفر لي ولأبي حنيفة.
ثم قال ابن عبد البرّ: ولا أعلم قاضيا كان إليه تولية القضاء في الآفاق من المشرق إلى المغرب إلّا أبا يوسف في زمانه، وهو أول من لقّب بقاضي القضاة.
__________
[1] واسمه «الطريق الواضح المسلوك إلى معرفة تراجم الخلفاء والملوك» وصاحبه هو محمد بن عبد الرحيم بن علي بن محمّد الحنفي، والمعروف بابن الفرات. مات سنة (807) هـ. وكتابه ليس بين أيدينا. انظر «الأعلام» للزركلي (6/ 200) ، وسوف ترد ترجمته في المجلد التاسع من طبعتنا هذه إن شاء الله تعالى.(2/370)
وقال محمد بن جعفر: أبو يوسف مشهور الأمر، ظاهر الفضل، وهو أفقه أهل عصره، ولم يتقدم عليه أحد في زمانه. وكان بالنهاية في العلم، والحلم، والرياسة، والقدر، والجلالة. وهو أول من وضع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة، وأملى المسائل ونشرها، وبثّ علم أبي حنيفة في أقطار الأرض.
وقال الصّيمريّ: بلغني أن الرّشيد- رحمه الله- مشى أمام جنازة أبي يوسف- رحمه الله- وصلّى عليه بنفسه، ودفنه في مقبرة أهله في مقابر قريش بكرخ بغداد بقرب أمّ جعفر زبيدة.
وقال الرّشيد حين دفن أبو يوسف: ينبغي لأهل الإسلام أن يعزّي بعضهم بعضا بأبي يوسف.
قيل: رأى معروف الكرخيّ ليلة وفاة أبي يوسف كأنه دخل الجنة فرأى قصرا قد فرشت مجالسه وأرخيت ستوره، وقام ولدانه. قال معروف: فقلت:
لمن هذا القصر؟ فقيل: لأبي يوسف القاضي. فقلت: سبحان الله، وبم استحقّ هذا من الله تعالى؟ قالوا: بتعليمه الناس العلم وصبره على أذاهم.
قيل: مرض أبو يوسف- رحمه الله- في حياة أبي حنيفة- رضي الله عنه- مرضا شديدا فقيل له: توفي، فقال: لا، فقيل: من أين علمت هذا؟
قال: لأنه خدم العلم ولم يجن ثمرته، لا يموت حتّى يجني ثمرته. فاجتنى ثمرته بأن ولي القضاء، وتوفي وله سبعمائة ركاب ذهب، فصدق أبو حنيفة- رضي الله عنه- في الفراسة. انتهى ما ذكره ابن الفرات.
وفيها، وقيل: قبلها أو بعدها، توفي يونس بن حبيب النحويّ، أحد الموالي المنجبين، أخذ الأدب عن أبي عمرو بن العلاء وغيره. وهو في الطبقة الخامسة من الأدب بعد علي- كرّم الله وجهه- اختلف إليه أبو عبيد(2/371)
أربعين سنة، وأبو زيد عشر سنين، وخلف الأحمر عشرين سنة. وله عدّة تصانيف. وكان يقول: فرقه الأحباب سقم الألباب، وينشد:
شيئا [1] لو بكت الدّماء عليهما ... عيناي حتّى تؤذنا [2] بذهاب
لم يبلغا المعشار من حقّيهما ... شرخ الشباب وفرقة الأحباب
ومات يونس وله مائة سنة وسنتان.
وفيها، وقيل: في التي قبلها، مروان بن أبي حفصة [3] الشاعر اليماميّ.
روي أنه لما مدح الرّشيد بقصيدته السبعين التي يقول فيها:
إليك قصرنا [4] النّصف من صلواتنا ... مسيرة شهر بعد شهر نواصله
ولا نحن نخشى أن يخيب رجاؤنا ... لديك ولكن أهنأ البرّ عاجله [5]
أعطاه سبعين ألف درهم. قبل أن يتمّها.
ومن أجود شعره قوله في معن بن زائدة قصيدته اللّاميّة، وفضّل بها على شعراء أرضه [6] وأعطاه ثلاثمائة ألف درهم. ومدح ولد [7] مروان شراحيل ابن معن بقوله:
يا أكرم النّاس من عجم ومن عرب ... ويا ذوي الفضل والإحسان والحسب [8]
أعطى أبوك أبي مالا فعاش به ... فأعطني مثل ما أعطى أبوك أبي
__________
[1] في «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 400) : «اثنتان» .
[2] في الأصل والمطبوع: «حتى يؤذنا» وما أثبته من «مرآة الجنان» .
[3] انظر ترجمته ومصادرها في «الأغاني» (10/ 71- 95) ، «وفيات الأعيان» (5/ 189- 193) و «الأعلام» للزركلي (7/ 208) .
[4] في «وفيات الأعيان» : «قسمنا» .
[5] البيتان في «وفيات الأعيان» (5/ 189- 190) .
[6] في «وفيات الأعيان» : «وفضل بها على شعراء زمانه» .
[7] في الأصل، والمطبوع: «ولده» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[8] رواية البيت في «وفيات الأعيان» :
أيا شراحيل بن معن بن زائدة ... يا أكرم الناس من عجم ومن عرب(2/372)
ما حلّ قطّ أبي أرضا أبوك بها [1] ... إلّا وأعطاه قنطارا من الذّهب [2]
فأعطاه قنطارا [من الذهب] [3] والقنطار ألف أوقيّة ومائتا أوقيّة، وقيل: غير ذلك.
ومثل هذه الحكاية ما روي أنه لما حبس عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه- الحطيئة في هجوه للناس كتب إليه:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ ... حمر الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فارحم عليك سلام الله يا عمر
أنت الّذي قام فيهم بعد صاحبه ... ألقت إليك مقاليد النّهى البشر
ما آثروك بها إذ قدّموك لها ... لكن لأنفسهم قد كانت الأثر [4]
فأطلقه وشرط عليه أن يكفّ لسانه. فقال له: إذ منعتني التكسّب بلساني فاكتب لي إلى علقمة بن علاثة [5] العامري. فامتنع عمر. فقيل له:
يا أمير المؤمنين، ما عليكم في ذلك؟ فاكتب له، فإنه ليس من عمّالك، وقد تشفّع بك إليه. فكتب [له بما أراد] [6] ، ورحل إليه، فصادف النّاس منصرفين من جنازته وولده واقف على قبره، فأنشد الحطيئة:
لعمري لنعم المرء من آل جعفر ... بحوران أمسى علّقته الحبائل
فإن تحي لا أملل [7] حياتي وإن تمت ... فما في حياتي بعد موتك طائل
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «ما حلّ أرضا أبي ثاو وأبوك بها» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» .
[2] الأبيات في «وفيات الأعيان» (5/ 191) .
[3] ما بين حاصرتين زيادة من «وفيات الأعيان» .
[4] الأبيات في «ديوانه» بشرح ابن السكيت، والسكري، والسجستاني، تحقيق الأستاذ نعمان أمين طه، طبع مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر مع شيء من الخلاف في البيتين الأخيرين.
[5] في الأصل والمطبوع: «علقمة بن وقاص بن علاقة» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» (5/ 192) وكتب الرجال التي بين يدي.
[6] زيادة من «وفيات الأعيان» .
[7] في الأصل، والمطبوع: «لا أملك» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .(2/373)
وما كان بيني لو لقيتك سالما ... وبين الغنى إلّا ليال قلائل [1]
فقال له ابنه: كم ظننت أنه كان يعطيك؟ قال: مائة ناقة يتبعها مائة [من أولادها] [2] فأعطاه إياها.
__________
[1] الأبيات في «وفيات الأعيان» (5/ 192) .
[2] زيادة من «وفيات الأعيان» .(2/374)
سنة ثلاث وثمانين ومائة
فيها كان خروج الخزر- لعنهم الله- ومن قصصهم [1] أن ستيت ابنة ملك التّرك خاقان خطبها الأمير الفضل بن يحيى البرمكي. وحملت إليه في عام أوّل. فماتت في الطريق ببرذعة. فردّ من كان معها في خدمتها من العساكر، وأخبروا خاقان أنها قتلت غيلة. فاشتدّ غضبه، وتجهز للشرّ. وخرج بجيوشه من الباب الحديد، وأوقع بأهل الإسلام، وبالذّمة. وقتل وسبى، وبدع، وبلغ السبي مائة ألف، وعظمت المصيبة على المسلمين، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، فانزعج هارون الرّشيد، واهتزّ [2] لذلك، وجهّز البعوث، فاجتمع المسلمون وطردوا العدو عن إرمينية، ثم سدّوا الباب الذي خرجوا منه. قاله في «العبر» [3] .
وفيها توفي الإمام أبو معاوية هشيم بن بشير السّلميّ الواسطيّ محدّث بغداد. روى عن الزّهريّ وطبقته.
قال يعقوب الدّورقيّ: كان عند هشيم عشرون ألف حديث.
وقال عبد الرّحمن بن مهدي: هو أحفظ للحديث من الثّوريّ.
__________
[1] في «العبر» للذهبي: «ومن قصتهم» .
[2] في «العبر» للذهبي: «واهتم» .
[3] (1/ 285- 286) .(2/375)
وقال يحيى القطّان: هو أحفظ من رأيت بعد سفيان، وشعبة.
وقال ابن أبي الدّنيا: حدّثني من سمع عمرو بن عون يقول: مكث هشيم يصلّي الفجر بوضوء العشاء عشر سنين قبل موته.
وقال أحمد: كان كثير التسبيح.
وقال ابن ناصر الدّين في شرح «بديعة البيان» له: هشيم بن بشير بن أبي خازم [1] قاسم بن دينار السّلميّ أبو معاوية الواسطيّ نزيل بغداد. كان من الحفّاظ الثقات المتقنين، لكنه معدود في المدلّسين، ومع ذلك فقد أجمعوا على صدقه، وأمانته، وثقته، وعدالته، وإمامته [2] .
قال وهب بن جرير: قلنا لشعبة: نكتب عن هشيم؟ قال: نعم. ولو حدّثكم عن ابن عمر فصدّقوه. انتهى.
وفيها الواعظ ابن السّمّاك أبو العبّاس محمد بن صبيح الكوفيّ الزّاهد.
مولى بني عجل. روى عن الأعمش وجماعة. وكان كبير القدر. دخل على الرّشيد فوعظه وخوّفه.
ومن كلامه: من جرّعته الدّنيا حلاوتها لميله إليها، جرّعته الآخرة مرارتها لتجافيه عنها.
روي أن الرّشيد استفتاه في يمين حلفها أنه من أهل الجنّة، فقال له:
هل قدرت على معصية فتركتها من مخافة الله- عزّ وجلّ-؟ قال: نعم. قال:
قال الله- عزّ وجلّ-: وَأَمَّا من خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى 79: 40- 41 [النازعات: 40- 41] فيمينك بارّة.
__________
[1] في الأصل: «ابن أبي حازم» وهو تصحيف، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[2] في المطبوع: «وأمانته» .(2/376)
قال اليافعيّ [1] : وإنما المراد بالآية استمرار الخوف إلى الموت.
وقال الفقيه حسين: استدلال ابن السّمّاك صحيح، لأن الظّاهر أن كل مسلم يدخلها، وإنما الإشكال لو قال: يدخلها دون مجازاة، وغاية ما فيه الشك والحنث لا يقع به، والله أعلم. انتهى.
قلت: وما قاله الفقيه حسين جار على القواعد الفقهية لعدم تحقّق أنه من غير أهلها، والله أعلم.
وقال في «المغني» [2] : محمّد بن صبيح بن السّمّاك الواعظ. سمع الأعمش.
قال ابن نمير: صدوق ليس حديثه بشيء. انتهى [3] .
وفيها السيد الجليل أبو الحسن موسى الكاظم بن جعفر الصّادق ووالد عليّ بن موسى الرضا. ولد سنة ثمان وعشرين ومائة. روى عن أبيه.
قال أبو حاتم: ثقة إمام من أئمة المسلمين.
وقال غيره: كان صالحا، عابدا، جوادا، حليما، كبير القدر. بلغه عن رجل الأذى له، فبعث [إليه] بألف دينار. وهو أحد الأئمة الاثني عشر المعصومين على اعتقاد الإمامية. سكن المدينة، فأقدمه المهديّ بغداد وحبسه. فرأى المهديّ في نومه عليّا- كرّم الله وجهه- وهو يقول له:
يا محمد فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا في الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ 47: 22 [محمد: 22] فأطلقه على أن لا يخرج عليه ولا على أحد من بنيه. وأعطاه ثلاثة آلاف وردّه إلى المدينة. ثم حبسه هارون الرّشيد في دولته، ومات في حبسه. وقيل: إن هارون قال: رأيت حسينا في النوم قد أتى بالحربة وقال:
__________
[1] في «مرآة الجنان» (1/ 404) والمؤلف ينقل عنه بتصرّف واختصار.
[2] «المغني في الضعفاء» (2/ 593) .
[3] قلت: لفظة «انتهى» لم ترد في المطبوع.(2/377)
إن خلّيت عن موسى هذه الليلة، وإلا نحرتك بها، فخلاه وأعطاه ثلاثين ألف درهم.
وقال موسى [1] : رأيت النّبيّ- صلى الله عليه وسلم- وقال لي: «يا موسى حبست ظلما فقل هذه الكلمات، لا تبيت هذه الليلة في الحبس: يا سامع كلّ صوت، يا سائق الفوت، يا كاسي العظام لحما ومنشزها [2] بعد الموت، أسألك بأسمائك الحسنى، وباسمك الأعظم الأكبر المخزون المكنون الذي لم يطّلع عليه أحد من المخلوقين، يا حليما ذا أناة، يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبدا [ولا يحصى عددا] [3] فرّج عنّي» [4] . وأخباره كثيرة شهيرة رضي الله عنه.
وفيها شيخ أصبهان وعالمها، أبو المنذر النّعمان بن عبد السّلام التيميّ- تيم الله بن ثعلبة- وكان فقيها، إماما، زاهدا، عابدا، صاحب تصانيف.
أخذ عن الثّوريّ، وأبي حنيفة، وطائفة.
وفيها الفقيه أبو عبد الرّحمن يحيى بن حمزة الحضرميّ البتلهيّ [5] قاضي دمشق ومحدّثها. وله ثمانون سنة.
__________
[1] أي موسى الكاظم.
[2] أي ومركب بعضها على بعض (ع) .
[3] ما بين حاصرتين زيادة من «مرآة الجنان» (1/ 406) .
[4] أقول: المنامات لا يؤخذ منها حكم شرعي، والله أعلم بحقيقة هذه الرؤيا، وسندها وصحتها، ولكن هذا الدعاء ليس فيه مخالفة شرعية، وإنما لا يسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (ع) .
[5] في الأصل: «البتلي» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب. والبتلهي، نسبة إلى «بيت لهيا» وهي قرية في شرق غوطة دمشق وقد أصبحت الآن ضمن حدود دمشق يقوم في موقعها مستشفى الزهراوي.
انظر «غوطة دمشق» للأستاذ محمد كرد علي ص (118) و (164) طبع دار الفكر بدمشق.(2/378)
قال دحيم: هو ثقة عالم. روى عن عروة بن رويم وأقرانه من التابعين، وولّي القضاء نحو ثلاثين سنة.
قال في «المغني» [1] : يحيى بن حمزة قاضي دمشق صدوق.
وقال عبّاس [2] ، عن ابن معين: كان يرمى بالقدر.
وقال ابن معين: صدقة أحبّ إليّ منه.
وقال أبو حاتم: صدوق.
وقال ابن سعد: صالح الحديث. انتهى.
__________
[1] (2/ 733) .
[2] هو الإمام الحافظ الثقة أبو الفضل، عبّاس بن محمد بن حاتم بن واقد الدّوريّ البغداديّ، المتوفى سنة (271) هـ، وسوف ترد ترجمته في المجلد الثالث إن شاء الله تعالى.(2/379)
سنة أربع وثمانين ومائة
وفيها توفي الفقيه أبو إسحاق إبراهيم بن سعد الزّهريّ العوفيّ المدنيّ قاضي المدينة ومحدّثها وله خمس وسبعون سنة. وقيل: توفي في العام الماضي. سمع أباه، والزّهريّ، وجماعة.
قال الحافظ عبد الغني [1] في كتابه «الكمال في أسماء الرّجال» : روى عنه شعبة، وابن مهدي، وأبو داود الطّيالسي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم.
قال أحمد، ويحيى، وأبو حاتم: ثقة.
وقال أبو زرعة: لا بأس به.
وقال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل قال: كان وكيع كفّ عن حديث إبراهيم بن سعد ثم حدّث عنه بعد. قلت: لم؟ قال: لا أدري، إبراهيم ثقة.
وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وربما أخطأ في الحديث. وقدم بغداد فنزلها هو وعياله وولده، وولي بها بيت المال لهارون.
وقال ابن عديّ: هو من ثقات المسلمين. حدّث عنه حمّاد من الأئمة ولم يتخلّف أحد من الكبار عنه بالكوفة، والبصرة، وبغداد.
__________
[1] يعني الإمام الحافظ الكبير عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي المتوفى عام (600) هـ. انظر ترجمته ومصادرها في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (21/ 443- 471) ، وسوف ترد ترجمته في آخر المجلد السادس من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى.(2/380)
وقال أبو بكر الخطيب: حدّث عنه يزيد بن عبد الله بن الهادي، والحسين بن سيّار الحرّانيّ وبين وفاتيهما مائة واثنتا عشرة سنة. روى له الجماعة. انتهى كلام «الكمال» ملخصا.
وفيها الفقيه إبراهيم بن [محمد بن أبي] [1] يحيى الأسلميّ مولاهم المدنيّ. روى عن الزّهريّ، وابن المنكدر، وطبقتهما. يروي عنه الشّافعيّ فيقول: أخبرني من لا أتّهم، وقال: كان قدريا.
وقال أحمد بن حنبل: كان معتزليا، قدريا، جهميا، كل بلاء فيه، لا يكتب حديثه.
وقال البخاريّ: جهمي تركه النّاس.
وقال ابن عديّ: لم أر له حديثا منكرا، إلّا عن شيوخ يحتملون، وله كتاب «الموطأ» أضعاف «موطأ مالك» . قاله في «العبر» [2] .
وفيها الزاهد العمريّ بالمدينة، واسمه عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله [3] بن عمر بن الخطّاب. روى عن أبيه، وكان إماما، فاضلا، رأسا في الزهد، والورع، ووثّقه النّسائيّ.
وفيها فقيه أهل المدينة أبو تمّام عبد العزيز بن أبي حازم سلمة بن دينار. أخذ عن أبيه، وزيد بن أسلم، وطائفة.
قال أحمد بن حنبل: لم يكن بالمدينة بعد مالك أفقه منه.
وقال ابن سعد: ولد سنة سبع ومائة. ومات ساجدا رحمه الله.
انتهى [4] .
__________
[1] ما بين حاصرتين زيادة من «العبر» للذهبي.
[2] (1/ 288- 289) .
[3] «ابن عبد الله» الثانية سقطت من «العبر» للذهبي المطبوع (1/ 289) فتستدرك فيه.
[4] يعني انتهى نقل المؤلف عن «العبر» للذهبي.(2/381)
وقد احتجّ به أصحاب الصحاح.
وفيها عليّ بن غراب الكوفيّ القاضي. روى عن هشام بن عروة، وطبقته. وخرّج له العقيليّ، والنّسائيّ.
قال في «المغني» [1] : وثّقه الدارقطنيّ، وقبله ابن معين.
وقال أبو داود: تركوا حديثه.
وقال السعديّ: ساقط.
وقال ابن حبّان: حدّث بالموضوعات، وكان غاليا في التشيّع. انتهى.
وفيها مروان بن شجاع الجزريّ ببغداد. روى عن خصيف، وعبد الكريم بن مالك.
قال في «المغني» [2] : وثق.
وقال أحمد: لا بأس به.
وقال ابن حبّان: يروي المقلوبات عن الثقات. انتهى.
وفيها، أو في التي مضت، نوح بن قيس الحدّانيّ، الطّاحيّ، البصريّ. روى عن محمّد بن واسع، وطبقته.
__________
[1] (2/ 453) .
[2] (2/ 651) .(2/382)
سنة خمس وثمانين ومائة
فيها، وقيل: في التي تليها، توفي الإمام الغازي القدوة أبو إسحاق الفزاريّ إبراهيم بن محمّد بن الحارث الكوفيّ نزيل ثغر المصّيصة. روى عن عبد الملك بن عمير وطبقته. ومن جلالته روى عنه الأوزاعيّ حديثا. فقيل:
من حدّثك بهذا؟ قال: حدّثني الصّادق المصدوق أبو إسحاق الفزاريّ.
وقال الفضيل بن عياض: ربما اشتقت إلى المصّيصة ما بي فضل الرّباط، بل لأرى أبا إسحاق الفزاري.
وقال غيره: كان إماما، قانتا، مجاهدا، مرابطا، آمرا بالمعروف، إذا رأى بالثغر مبتدعا أخرجه.
قال ابن ناصر الدّين: إبراهيم بن محمّد بن الحارث بن أسماء الكوفيّ الفزاريّ أبو إسحاق الحجّة الإمام شيخ الإسلام، ثقة متقن.
وقال أبو داود الطّيالسيّ: مات أبو إسحاق الفزاريّ وما على وجه الأرض أفضل منه. انتهى.
وفيها الأمير عبد الصّمد شيخ آل عبّاس [1] وبقية عمومة المنصور. روى عن أبيه، عن جدّه ابن عبّاس. وليّ إمرة البصرة، ودمشق. وكان فيه عجائب:
__________
[1] هو عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس. (ع) .(2/383)
منها أنه ولد سنة أربع ومائة، وولد أخوه محمد أبو السّفّاح المنصور سنة ستين ومائة، فبينهما ست وخمسون سنة.
ومنها أن يزيد حجّ بالنّاس سنة خمس ومائة، وحجّ عبد الصّمد بالنّاس سنة خمسين ومائة، وهما في النسب إلى عبد مناف سواء.
ومنها أنه أدرك السّفّاح، والمنصور وهما ابنا أخيه، ثم أدرك المهديّ، وهو عمّ أبيه، ثم أدرك الهادي، وهو عمّ جدّه، ثم أدرك الرّشيد، ومات في أيامه.
وقال يوما للرّشيد: هذا مجلس فيه أمير المؤمنين، وعمّه، وعمّ عمّه، وعمّ عمّ عمّه، وذلك أن سليمان بن جعفر عمّ الرّشيد، والعبّاس عمّ سليمان، وعبد الصّمد عمّ العبّاس.
ومنها أنه ولد وقد نبتت أسنانه، ومات بها ولم تتغير، وكانت أسنانه قطعة واحدة من أسفل.
ومنها أنه طارت ريشتان فلصقت بعينيه، فذهب بصره.
وفيها يزيد بن مرثد الغنويّ، ابن أخي معن بن زائدة والي إرمينية، وأذربيجان، وأحد الفتيان الشجعان.
وقد سبق [1] أن الرّشيد لما أهمّه شأن الوليد بن طريف الشيبانيّ الخارجيّ. جهّزه فقتله. وروي أنه سلّحه يومئذ سيف النّبيّ- صلى الله عليه وسلم- ذا الفقار.
وقال: خذه فإنّك ستنصر به. وقال فيه مسلم بن الوليد الأنصاريّ:
أذكرت سيف رسول الله سنّته ... وسيف أوّل من صلّى ومن صاما
يعني عليّا- رضي الله عنه- إذ كان هو الضرّاب به. وكان سبب وصول
__________
[1] انظر ص (349) من هذا المجلد.(2/384)
ذي الفقار إلى العبّاسيين، أن محمّد بن عبد الله النفس الزّكيّة [1] دفعه إلى تاجر كان عليه أربعمائة دينار، واشتراه منه جعفر بن سليمان.
قال الأصمعيّ: رأيته وفيه ثمان عشرة فقارة، وهي الثقوب والدّحل.
انتهى.
وقد قيل: إنه كان ينفرق أحيانا مع علي- رضي الله عنه- حتّى يقال:
إنه قتل به عمرا وحيّيا في ضربة، ويشير إلى ذلك قول شرف الدّين عمر بن الفارض رحمه الله تعالى.
ذو الفقار اللّحظ منها أبدا ... والحشا منّي عمرو وحييّ
وفيها ضمام بن إسماعيل المصريّ بالاسكندرية. روى عن أبي قبيل المعافريّ.
قال أبو حاتم: كان صدوقا متعبّدا ولم يخرّجوا له شيئا في الكتب الستة، وهو من مشاهير المحدّثين.
وقال في «المغني» [2] : ليّنه بعض الحفّاظ. انتهى.
وفيها عمر [3] بن عبيد الطّنافسيّ الكوفيّ. روى عن زياد بن علاقة، والكبار. ووثّقه أحمد، وابن معين.
وفيها على الأصح المعافى بن عمران أبو مسعود الأزديّ، عالم أهل الموصل وزاهدهم. رحل، وطاف، وسمع من ابن جريج وطبقته. ذكره سفيان الثّوري فقال: هو ياقوتة العلماء.
__________
[1] هو محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب الهاشمي المدني يلقب (النفس الزكية) . (ع) .
[2] (1/ 313) .
[3] في الأصل: «عمرو» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع.(2/385)
وقال محمّد بن عبد الله بن عمّار الحافظ: لم ألق أفضل منه.
وقال ابن سعد: كان ثقة، فاضلا، صاحب سنّة.
وكان ابن المبارك- وهو أسنّ منه- يقول: حدّثني ذلك الرّجل الصالح.
وفيها يوسف بن يعقوب بن أبي سلمة الماجشون المدنيّ [1] ابن عم عبد العزيز بن الماجشون. روى عن الزّهريّ، وابن المنكدر، وكان كثير العلم.
وفيها أمير دمشق للرّشيد محمد بن إبراهيم الإمام [ابن محمّد] [2] بن علي بن عبد الله [3] بن عبّاس العبّاسيّ.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «المزني» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 292) وكتب الرجال.
[2] ما بين حاصرتين زيادة من «العبر» للذهبي (1/ 292) و «البداية والنهاية» لابن كثير (10/ 186) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «ابن علي بن علي» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» و «البداية والنهاية» .(2/386)
سنة ست وثمانين ومائة
فيها حجّ الرّشيد ومعه ابناه، فأعطى أهل مكّة والمدينة ما مبلغه ألف ألف دينار وخمسون ألف دينار، وكتب كتاب لولديه، وأشهد عليهما بما فيه من وفاء كل أحد منهما لصاحبه. قاله في «الشذور» [1] .
وفيها سار عليّ بن عيسى بن ماهان في الجيوش من مرو، فالتقى هو وأبو الخصيب [2] بنسإ [3] فظفر بأبي الخصيب، واستقامت خراسان للرّشيد.
وفيها توفي حاتم بن إسماعيل المدنيّ. روى عن هشام بن عروة وطبقته. وكان ثقة كثير الحديث. وقيل: مات في التي تليها.
وحسّان بن إبراهيم الكرمانيّ قاضي كرمان. روى عن عاصم الأحول وجماعة.
قال في «المغني» [4] : حسّان بن إبراهيم الكرمانيّ، ثقة.
قال النّسائيّ: ليس بالقويّ.
وقال أبو زرعة: لا بأس به. انتهى.
__________
[1] يعني «شذور العقود في تاريخ العهود» لابن الجوزي.
[2] أبو الخصيب: هو وهيب بن عبد الله النسائي. (ع) .
[3] مدينة من مدن خراسان من أرض إيران. انظر خبرها في «معجم البلدان» (5/ 281- 282) .
[4] (1/ 156) .(2/387)
وقد خرّج له الشيخان، وأبو داود.
وفيها خالد بن الحارث أبو عثمان البصريّ الحافظ. روى عن أيّوب وخلق.
قال الإمام أحمد: إليه المنتهى في التثبّت بالبصرة.
قال ابن ناصر الدّين: خالد بن الحارث بن سليمان بن عبيد بن سفيان الهجيميّ البصريّ- وبنو الهجيم من بني العنبر من تميم- كان من الحفّاظ الثقات المأمونين. انتهى.
وفيها سفيان بن حبيب البصريّ البزّاز. روى عن عاصم الأحول، وطائفة.
قال أبو حاتم: ثقة، أعلم النّاس بحديث سعيد بن أبي عروبة.
وفيها، أو في التي تليها، عبّاد بن العوّام الواسطيّ ببغداد. روى عن أبي مالك الأشجعيّ وطبقته. وكان صاحب حديث وإتقان.
وعيسى غنجار [1] أبو أحمد البخاريّ، محدّث ما وراء النهر. رحل، وحمل عن سفيان الثّوريّ. وطبقته.
قال الحاكم: هو إمام عصره، طلب العلم على كبر السن، وطوّف.
يروي عن أكثر من مائة شيخ من المجهولين، وحديثه عن الثقات مستقيم.
وفيها فقيه المدينة أبو هاشم المغيرة بن عبد الرّحمن المخزوميّ وله اثنتان وستون سنة. روى عن هشام بن عروة وطبقته.
قال الزّبير بن بكّار: عرض عليه الرّشيد قضاء المدينة فامتنع، فأعفاه.
__________
[1] قال الزبيديّ في «تاج العروس» (غنجر) : وإنما لقب ب غنجار لحمرة وجنتيه. قلت (القائل الزبيدي) : كأنّه معرب: عنجه آر. وانظر «تهذيب التهذيب» لابن حجر (8/ 232) .(2/388)
ووصله بألفي دينار، وكان فقيه المدينة بعد مالك.
قال في «المغني» [1] : وثّقه غير واحد، وضعّفه أبو داود. انتهى.
وفيها عبد الواحد بن زياد العبديّ، مولاهم، البصريّ، أبو بشر، ويقال: أبو عبيدة. وثّقه أحمد وغيره، واحتجّ به الشيخان في «الصحيح» لكنهما لم يخرّجا عنه شيئا مما أنكر عليه، كالأحاديث التي وصلها عن الأعمش وكانت مرسلة لديه.
وبشر بن المفضّل بن لاحق الرّقاشيّ مولاهم البصريّ، أبو إسماعيل.
حدّث عنه إسحاق بن راهويه، وأحمد بن حنبل، وابن المديني، وأشباههم.
إليه المنتهى في التثبّت في البصرة. كان ثقة مشهورا. وكان يصلّي كل يوم أربعمائة ركعة، ويصوم يوما، ويفطر يوما.
__________
[1] (2/ 673) .(2/389)
سنة سبع وثمانين ومائة
فيها- على ما قاله في «العبر» [1]- خلعت الرّوم من الملك الست ريني [2] وهلكت بعد أشهر، وأقاموا عليهم نقفور [3] والرّوم تزعم أن نقفور من ولد جفنة الغساني الذي تنصر، وكان نقفور قبل الملك يلي الديوان، فكتب نقفور هذا الكتاب:
من نقفور ملك الرّوم، إلى هارون ملك العرب.
أما بعد: فإن الملكة كانت قبلي أقامتك مقام الرّخّ [4] وأقامت نفسها مقام البيذق [5] فحملت إليك من أموالها وذلك لضعف النساء وحمقهنّ، فإذا قرأت كتابي هذا فاردد ما حصل قبلك وافتد نفسك، وإلّا فالسيف بيننا.
فلما قرأ الرّشيد الكتاب اشتد غضبه وتفرّق جلساؤه خوفا من بادرة تقع منه. ثم كتب بيده على ظهر الكتاب:
من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الرّوم. قرأت كتابك يا ابن
__________
[1] (1/ 294) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «ريتي» وهو تصحيف، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 294) .
قال الطبري في تاريخه (8/ 269) : وهي أم قسطنطين بن أليون ملك الرّوم وتلقب أغسطه.
[3] تصحف في الأصل في هذا الموضع وفي سياق القصة كلها إلى «تقفور» وأثبت ما في المطبوع، وهو موافق لما في «العبر» للذهبي، والمصادر التي بين يدي.
[4] قال ابن منظور: الرّخّ من أدوات الشطرنج والجمع رخاخ. [وقال] اللّيث: الرّخّ معرب من كلام العجم من أدوات لعبة لهم. «لسان العرب» (رخخ) .
[5] الأصل: «البيدق» وانظر «مرآة الجنان» (1/ 412) .(2/390)
الكافرة، والجواب ما تراه دون ما تسمعه.
ثم ركب من يومه وأسرع حتّى نزل مدينة هرقلة، وأوطأ الرّوم ذلّا وبلاء، فقتل، وسبى، وذلّ نقفور وطلب الموادعة على خراج يحمله، فأجابه. فلما ردّ الرّشيد إلى الرّقّة. نقض نقفور، فلم يجسر أحد أن يبلّغ الرّشيد حتّى عملت الشعراء أبياتا يلوّحون بذلك. فقال: أوقد فعلها؟ فكرّ راجعا في مشقّة الشتاء حتّى أناخ بفنائه ونال مراده. وفي ذلك يقول أبو العتاهية:
ألا نادت هرقلة بالخراب [1] ... من الملك الموفّق للصّواب
غدا هارون يرعد بالمنايا ... ويبرق بالمذكّرة الصّعاب [2]
ورايات يحلّ النّصر فيها ... تمرّ كأنّها قطع السّحاب
وفيها غضب الرّشيد على البرامكة وضرب عنق جعفر بن يحيى البرمكيّ الوزير أحد الأجواد الفصحاء البلغاء، وكان قد تفقّه على القاضي أبي يوسف، فلأجل ذلك كانت توقيعاته على منهج الفقه.
وكتب إلى بعض العمال.
أما بعد: فقد كثر شاكوك وقلّ شاكوك، فإما اعتدلت، وإما عزلت.
وقال يهودي للرّشيد: إنك تموت هذه السنة. فاغتمّ وشكا إلى جعفر.
فقال جعفر لليهوديّ: كم عمرك أنت؟ قال: كذا وكذا مدة طويلة. فقال للرّشيد: اقتله حتّى تعلم أنه كذب. فقتله وذهب ما عنده.
وكان جعفر يتحكّم في مملكة الرّشيد بما أراد من غير مشاورة فينفّذها الرّشيد.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «بالحراب» وهو تصحيف.
[2] كذا في الأصل، والمطبوع، و «العبر» للذهبي (1/ 296) : «الصعاب» ، وفي «مرآة الجنان» (1/ 413) : «العضاب» ، وفي كتاب «أبو العتاهية أشعاره وأخباره» للأستاذ الدكتور شكري فيصل رحمه الله تعالى، ص (492) ، و «تاريخ الطبري» (8/ 310) : «القضاب» .(2/391)
وأوّل من ولي الوزارة منهم خالد بن برمك للسّفّاح. وسبب قتله أمور انضمّ بعضها إلى بعض، منها: أنه زوج الرّشيد جعفرا العبّاسة لغرض الاجتماع والمحرمية، وشرط عليه ألّا يجتمع بها، فقدر الاجتماع لحصول رغبة من العبّاسة.
حكى الشيخ شهاب الدّين بن أبي حجلة [1] في «ديوان الصبابة» أن العبّاسة كتبت إلى جعفر قبل مواقعته إيّاها:
عزمت على قلبي بأن يكتم الهوى ... فصاح ونادى إنني غير فاعل
فإن لم تصلني بحت بالسّرّ عنوة ... وإن عنّفتني في هواك عواذلي
وإن كان موت لا أموت بغصّتي ... وأقررت قبل الموت أنّك قاتلي [2]
فواقعها، وحملت منه، وولدت سرّا. فأرسلت الولد إلى مكّة. ثم اتصل خبره بالرّشيد.
ومنها أنّ الرّشيد سلّم لجعفر يحيى بن عبد الله بن الحسن المثنّى، وكان قد خرج عليه، وأمره بحبسه عنده، فرقّ له جعفر لقرابته من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- واتّصاله به، فأطلقه، فلما بلغ الرّشيد إطلاقه أضمرها له. وقال:
قتلني الله على البدعة إن لم أقتله.
ومنها أنه رفعت إليه رقعة لم يعرف صاحبها مكتوب فيها:
قل لأمين الله في أرضه ... ومن إليه الحلّ والعقد
هذا ابن يحيى قد غدا مالكا ... مثلك ما بينكما حدّ
__________
[1] هو أحمد بن يحيى بن أبي بكر التلمساني، أبو العباس شهاب الدين، ابن أبي حجلة، عالم بالأدب، شاعر من أهل تلمسان، سكن دمشق، مات سنة (776) هـ. انظر «الأعلام» للزركلي (1/ 268- 269) وقد طبع «ديوانه» في مصر على هامش كتاب «تزيين الأسواق» لداود الأنطاكي المعروف بالأكمه، وسوف ترد ترجمته مفصلة في المجلد الثامن من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى.
[2] الأبيات في «ديوان الصبابة» على هامش كتاب «تزيين الأسواق» ص (84) .(2/392)
أمرك مردود إلى أمره ... وأمره ليس له ردّ
[وقد بنى الدّار التي ما بنى ال ... - فرس لها مثلا ولا الهند
الدّرّ والياقوت حصباؤها ... وتربها العنبر والنّدّ] [1]
ونحن نخشى أنّه وارث ... ملكك إن غيّبك اللّحد
ولن يباهي العبد أربابه ... إلّا إذا ما بطر العبد
ومع ذلك فقد كان الرّشيد رأى إقبال النّاس على البرامكة وكثرة أتباعهم وأشياعهم، مع الإدلال العظيم منهم، ومع الإغراء من أعدائهم، كالفضل بن الرّبيع وغيره، ومع ذلك فكان الرّشيد إذا ذكرت مساوئهم عنده يقول:
أقلّوا ملاما لا أبا لأبيكم ... عن القوم أو سدّوا المكان الّذي سدّوا
ولما أذن الله سبحانه ببلائهم، ظهرت منامات وعلامات لهم ولغيرهم، وإشارات تطول.
منها أن يحيى بن خالد حجّ فتعلّق بأستار الكعبة، وقال:
اللهمّ إن كان رضاك في أن تسلبني نعمك [2] فاسلبني، وإن كان رضاك في أن تسلبني أهلي وولدي فاسلبني، إلّا الفضل. ثم رجع وقال: اللهمّ إنه قبيح بمثلي أن يستثني عليك. اللهمّ والفضل.
ومنها ما حكى سهل بن هارون قال: كنت أكتب بين يدي يحيى بن خالد البرمكيّ، فأخذته سنة، فقال: طرقني النوم. فقلت: ضيف كريم إن قرّبته روّحك وإن منعته عذّبك. قال: فنام فواق ناقة، وانتبه مذعورا. فقال:
ذهب والله ملكنا، رأيت منشدا أنشدني:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصّفا ... أنيس ولم يسمر بمكّة سامر
__________
[1] ما بين حاصرتين زيادة من «وفيات الأعيان» لابن خلكان (1/ 335) ، و «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 419) .
[2] في «تاريخ الطبري» (8/ 292) : «نعمتك» والمؤلف ينقل القصة عنه بتصرّف.(2/393)
فأجبته:
بلى نحن كنّا أهلها فأبادنا ... صروف اللّيالي والجدود العواثر [1]
فقتل جعفر بن يحيى بن خالد بعد أيام.
ومنها أن جعفر وقف على كنيسة بالحيرة فيها حجر مكتوب لا تفهم كتابته. فقال: هاتوا من يترجمه، وقد جعلت ما فيه فألا لما أخافه من الرّشيد، فإذا فيه:
إنّ بني المنذر عام انقضوا ... بحيث شاد البيعة الرّاهب
أضحوا ولا يرجوهم راغب ... يوما ولا يرهبهم راهب
تنفح بالمسك ذفاريهم ... والعنبر الورد له قاطب
فأصبحوا أكلا لدود الثّرى ... وانقطع المطلوب والطّالب [2]
فحزن جعفر.
ومنها أنّ الرّشيد لما نزل بالأنبار وفي صحبته جعفر، وكانت ليلة السبت لانسلاخ المحرّم، وقيل: أول ليلة من صفر من هذه السنة مضى جعفر إلى منزله فأتاه أبو زكّار [3] الأعمى الكلوذاني فاستحضره وجواريه خلف الستارة يضربن، وأبو زكّار [3] يغنّيه:
فلا تبعد فكلّ فتى سيأتي ... عليه الموت يطرق أو يغادي
وكلّ ذخيرة لا بدّ يوما ... وإن بقيت تصير إلى نفاد
__________
[1] البيتان في «وفيات الأعيان» (1/ 337) ، و «مرآة الجنان» (1/ 420) ، ولفظة «فأجبته» التي بينهما لم ترد فيهما.
[2] الأبيات في «وفيات الأعيان» (1/ 339) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «أبو ركاب الأعمى الطنبوري» وأثبت ما في «تاريخ الطبري» (8/ 295) . وكذا هو في المصادر والمراجع الأخرى التي بين يدي «أبو زكار» ولكن لم يرد ذكر للفظتي «الكلوذاني» أو «الطنبوري» في أيّ منها.(2/394)
ولو فوديت من حدث اللّيالي ... فديتك بالطّريف وبالتّلاد [1]
فتطيّر جعفر ودخل عليه الرّسول الذي يريد قتله في تلك الحال، وعلى تلك الهيئة.
وذكر الطبريّ في «تاريخه الكبير» [2] في حوادث سنة سبع وثمانين وماية أن الرّشيد دعا ياسرا [3] غلامه وقال: امض فأتني برأس جعفر، فأتى ياسر منزل جعفر ودخل عليه هجما بلا إذن وأبو زكّار [4] يغنّيه، فقال له جعفر:
يا ياسر سررتني بإقبالك وسؤتني بدخولك بلا إذن، فقال ياسر: الأمر أكبر من ذلك، أمير المؤمنين أمرني بكذا، فقال: دعني لأدخل فأوصي. قال: لا سبيل إلى ذلك. قال: فأسير معك لمنزل أمير المؤمنين بحيث يسمع كلامي. قال:
لك ذلك، ومضيا إلى منزل أمير المؤمنين، ودخل ياسر عليه وعرّفه الخبر. فقال:
يا ماصّ بظر أمّه، والله لئن راجعتني فيه لأقتلنّك قبله. فرجع ياسر، فأخذ رأس جعفر ودخل به إلى الرّشيد فوضعه بين يديه، فنظر إليه وبكى، ثم قال:
يا ياسر جئني بفلان وفلان، فلما أتاه بهما، قال لهما: اضربا عنق ياسر، فإني لا أقدر أن أرى قاتل جعفر، ففعلا. انتهى.
وقيل غير ذلك في كيفية قتله ومن قتله.
ثم أمر الرّشيد في تلك الليلة بتوجيه من أحاط بيحيى بن خالد وولده
__________
[1] الأبيات في «وفيات الأعيان» (1/ 338) ، و «مرآة الجنان» (1/ 421) . والبيت الأول في «تاريخ الطبري» (8/ 295) ، والبيتان الأول والثاني في «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (6/ 177- 178) .
[2] (8/ 295) والمؤلف ينقل منه بتصرّف واختصار، وكأني به قد خلط في نقله بين عبارة الطبري في «تاريخه» وعبارة اليافعي في «مرآة الجنان» (1/ 421) .
[3] كذا في الأصل، والمطبوع، و «وفيات الأعيان» (1/ 338) ، و «مرآة الجنان» : «دعايا سرّا» ، وفي «تاريخ الطبري» : «أرسل مسرورا الخادم» .
[4] في الأصل، والمطبوع: «أبو ركاب» انظر الصفحة السابقة.(2/395)
الفضل وبقية أولاده، ومن كان منه بسبيل، فحبسوا، واستمر يحيى والفضل في السجن إلى أن ماتا، ولهما قصائد طنّانة تستعطف الرّشيد عليهم لم ينتج منها شيء.
ثم فرّق الرّشيد الكتب من ليلته في جميع البلدان والأعمال في قبض أموالهم وأخذ وكلائهم، ولما أصبح بعث بجثّة جعفر بن يحيى مع جماعة منهم مسرور الخادم وأمرهم بقطعها وصلبها، فقطعت قطعتين، فصلبت قطعة على الجسر الأعلى، وقطعة على الجسر الأسفل، ونصب رأس جعفر على الجسر الأوسط، وأمر الرّشيد بالنداء في جميع البرامكة أن لا أمان لمن آوى أحدا منهم، ومنع النّاس من التقرّب إلى جعفر. فرأى أبا قابوس الرّقاشيّ قائما تحت جذعة يزمزم بشعر يرثيه، فقال له: ما كنت قائلا تحت جذع جعفر؟
قال: أو ينجيني منك الصدق؟ قال: نعم، قال: ترحّمت عليه وقلت:
أمين الله هب فضل بن يحيى ... لنفسك أيّها الملك الهمام
وما طلبي إليك العفو عنه ... وقد قعد الوشاة به وقاموا
أرى سبب الرّضا فيه قويّا ... على الله الزّيادة والتّمام
نذرت عليّ فيه صيام عام ... فإن وجب الرّضا وجب الصّيام
وهذا جعفر بالجسر تمحو ... محاسن وجهه ريح قتام
أقول له وقمت لديه نصبا ... إلى أن كاد يفضحني القيام
أما والله لولا قول واش ... وعين للخليفة لا تنام
لطفنا حول جذعك واستلمنا ... كما للنّاس بالرّكن استلام
فما أبصرت مثلك يا بن يحيى ... حسام فلّه السيف الحسام
على اللّذّات في الدّنيا جميعا ... لدولة آل برمك السّلام
فلما سمع هارون الرّشيد ذلك أطرق مليّا واستعبر، ثم قال رجل: أولى جميلا، فقال: جميلا، يا غلام ناد بأمان أبي قابوس، ولا يعارض، ولا(2/396)
يحجب عنّا بعد في مهمّ من مهمّاته. ثم استصفى الرّشيد أموال البرامكة وأخذ ضياعهم، وأموالهم، ومتاعهم، فوجد لهم مما حباهم به اثني عشر ألف ألف. ووجد من سائر أموالهم ثلاثين ألف ألف وستمائة ألف وستة وسبعين ألفا، وأما غير الأموال من الضّياع، والغلّات، والأواني فشيء لا يوصف [1] أقلّه، ولا يعرف أيسره، فضلا عن جميعه، إلّا من أحصى الأعمال وعرف منتهى الآجال.
وما ذكرنا قطرة من بحر من أخبارهم، والله أعلم.
ولما بلغ سفيان بن عيينة قتل جعفر، حوّل وجهه إلى القبلة وقال:
اللهمّ إنه كان قد كفاني مؤونة الدّنيا فاكفه مؤونة الآخرة.
وفيها توفي محمّد بن عبد الرّحمن الطّفاويّ البصريّ. سمع أيوب السّختياني وجماعة.
قال في «المغني» [2] : محمّد بن عبد الرّحمن الطّفاويّ، من شيوخ أحمد، وثقوه.
وقال أبو زرعة: منكر الحديث. انتهى.
ورباح بن زيد الصنعانيّ صاحب معمر.
قال أحمد، كان خيارا. ما أرى في زمانه [من] [3] كان خيرا منه. انقطع في بيته.
وعبد الرّحيم بن سليمان الرّازيّ نزيل الكوفة. كان ثقة صاحب حديث. له تصانيف. روى عن عاصم الأحول وخلق.
وعبد السّلام بن حرب الملائيّ الكوفيّ الحافظ. وله ست وتسعون
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «لا يصف» .
[2] (2/ 604) .
[3] لفظة «من» سقطت من الأصل، والمطبوع، واستدركتها من «العبر» للذهبي (1/ 296) .(2/397)
سنة. روى عن أيوب السّختياني وطبقته.
قال في «المغني» [1] : صدوق، قال ابن سعد: فيه ضعف. انتهى.
وخرّج له العقيليّ.
وقال ابن ناصر الدّين: عبد السّلام بن حرب البصريّ ثم الكوفيّ أبو بكر الملائيّ كان مسندا، ثقة، معمّرا، في حديثه لين. انتهى.
وعبد العزيز بن عبد الصّمد البصريّ الحافظ. روى عن أبي عمران الجوني والكبار. وكان يكنّى أبا عبد الصّمد.
قال ابن ناصر الدّين: كان حافظا من الثقات والمشايخ الأثبات.
انتهى.
وفيها أبو محمّد عبد العزيز بن محمّد الدّراورديّ المدنيّ. روى عن صفوان بن سليم وخلق. وكان فقيها صاحب حديث.
قال يحيى بن معين: هو أثبت من فليح [2] .
وفيها عليّ بن نصر بن علي الجهضميّ والد نصر بن علي. روى عن هشام الدّستوائي وأقرانه.
وأبو الخطّاب محمّد بن سواء السدوسيّ البصريّ المكفوف الحافظ.
سمع من حسين المعلّم، وأكثر عن أبي عروبة.
وفيها الإمام أبو محمّد معتمر بن سليمان بن طرخان التيميّ الحافظ، أحد شيوخ البصرة وله إحدى وثمانون سنة. روى عن أبيه، ومنصور، وخلق لا يحصون.
قال قرّة بن خالد: ما معتمر عندنا بدون أبيه.
__________
[1] (2/ 393) .
[2] هو فليح بن سليمان المدني. تقدمت ترجمته في ص (304) من هذا المجلد.(2/398)
وقال غيره: كان عابدا، صالحا، حجّة، ثقة.
وفيها معاذ بن مسلم الكوفيّ النحويّ شيخ الكسائي، عن نحو مائة سنة، وهو الذي سارت فيه هذه الكلمة:
إنّ معاذ بن مسلم رجل ... ليس لميقات علمه [1] أمد [2]
الأبيات [3] .
قال في «المغني» [4] : معاذ بن مسلم عن شرحبيل بن السّمط، مجهول.
انتهى.
وفي محرّم هذه السنة توفي شيخ الحجاز الإمام أبو علي الفضيل بن عياض التميميّ المروزيّ الزّاهد المشهور أحد العلماء الأعلام.
قال فيه ابن المبارك: ما بقي على ظهر الأرض أفضل من الفضيل بن عياض.
وكان قد قدم الكوفة شابّا فحمل عن منصور وطبقته.
قال شريك القاضي: فضيل حجّة لأهل زمانه.
وقال ابن ناصر الدّين: الفضيل بن عياض بن مسعود بن بشر أبو علي التميميّ اليربوعيّ المروزيّ إمام الحرم، شيخ الإسلام، قدوة الأعلام. حدّث عنه الشّافعيّ، ويحيى القطّان، وغيرهما. وكان إماما: ربّانيا، كبير الشأن، ثقة، نبيلا، عابدا، زاهدا، جليلا. انتهى.
__________
[1] في «وفيات الأعيان» و «العبر» : «عمره» .
[2] البيت في «وفيات الأعيان» (5/ 218) ، و «العبر» للذهبي» (1/ 298) .
[3] قلت: أما تتمة الأبيات وصدرها فلها روايات مختلفة، والله أعلم. قارن على سبيل المثال بين لفظ الأبيات في كلّ من «إنباه الرواة» للقفطي (3/ 290- 291) ، و «وفيات الأعيان» .
[4] (2/ 664) .(2/399)
قال الذهبيّ في «القسطاس في الذّبّ عن الثّقات» : فضيل بن عياض ثقة بلا نزاع، سيّد.
قال أحمد بن أبي خيثمة: سمعت قطبة بن العلاء يقول: تركت حديث فضيل بن عياض لأنه روى أحاديث أزرى على عثمان بن عفّان رضي الله عنه.
وحدّثنا عبد الصّمد بن يزيد الصّانع قال: ذكر عند الفضيل- وأنا أسمع- أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: اتّبعوا فقد كفيتم، أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم.
قلت: لا يقبل قول قطبة، ومن هو قطبة حتّى يسمع قوله واجتهاده، فالفضيل روى ما سمع، ولم يقصد غضّا ولا إزراء على أمير المؤمنين عثمان- رضي الله عنه- ففعل ما يسوغ، أفبمثل هذا يقول: تركت حديثه فهو كما قيل: «رمتني بدائها وانسلّت» [1] .
وقطبة، فقد قال البخاريّ: فيه نظر، وضعّفه النّسائيّ وغيره.
وأما فضيل فإتقانه وثقته لا حاجة بنا لذكر أقوال من أثنى عليه، فإنه رأس في العلم والعلم رحمه الله تعالى. انتهى كلام «القسطاس» .
وقال ابن الأهدل: أبو علي الفضيل بن عياض، قال ابن المبارك:
ما على ظهر الأرض أفضل منه.
وقال شريك: هو حجة لأهل زمانه.
وقال له الرّشيد: ما أزهدك! قال: أنت أزهد منّي، لأني زهدت في الدّنيا الفانية، وأنت زهدت في الآخرة الباقية.
__________
[1] مثل ساقه البكري في «فصل المقال» ص (92) بتحقيق الدكتور إحسان عبّاس، والدكتور عبد المجيد عابدين، طبع مؤسسة الرسالة، ودار الأمانة، وتكلم فيه عن قصته فراجعه فهو مفيد.(2/400)
وقال له: يا حسن الوجه، أنت الذي أمر هذه الأمّة والعباد في يدك [1] وفي عنقك، لقد تقلّدت أمرا عظيما، فبكى الرّشيد وأعطى كل واحد من الحاضرين من العلماء والعباد بدرة- وهي عشرة آلاف درهم- فكلّ قبلها إلّا الفضيل، فقال له سفيان بن عيينة: أخطأت، ألا صرفتها في أبواب البرّ.
فقال: يا أبا محمد، أنت فقيه البلد [والمنظور إليه] [2] وتغلط [مثل] [2] هذا الغلط، لو طابت لأولئك طابت لي.
وقال: إذا أحبّ الله عبدا أكثر غمّه، وإذا أبغض وسّع عليه دنياه.
وقال: لو عرضت عليّ الدّنيا بحذافيرها لا أحاسب عليها، لكنت أتقذّرها كالجيفة.
وقال: لو كانت لي دعوة مستجابة لم أجعلها إلّا للإمام، لأنه إذا صلح [الإمام] [3] أمن العباد والبلاد. وكان ولده من كبار الصالحين.
ولد الفضيل- رضي الله عنه- بسمرقند، وقدم الكوفة شابّا، وسمع من منصور وطبقته، ثم جاور بمكّة إلى أن مات، وقبره بالأبطح مشهور مزور. انتهى كلام ابن الأهدل.
وفيها على ما قاله ابن الأهدل أيضا، توفي يعقوب بن داود السّلميّ. كان كاتب إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن المثنّى لما خرج على المنصور، وكان عنده صنوف من العلم، فظفر به المنصور، فحبسه في المطبق [4] وأطلقه المهديّ، وكان من خواصّه، إلى أن ظهر له منه تعلّق ببعض
__________
[1] كذا في الأصل، و «مرآة الجنان» : «في يدك» ، وفي المطبوع: «بيدك» .
[2] زيادة من «مرآة الجنان» (1/ 424) .
[3] زيادة من «مرآة الجنان» (1/ 423) .
[4] المطبق: سجن من سجون بني العباس. انظر «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (6/ 72) .(2/401)
العلويين، فردّه إلى المطبق، وبقي فيه إلى جانب من دولة الرّشيد، فرأى قائلا يقول:
حنا على يوسف ربّ فأخرجه ... من قعر جبّ [1] وبيت حوله غمم
قال: فمكثت بعده حولا آخر، ثم رأيت قائلا يقول:
عسى فرج يأتي به الله إنّه ... له كلّ يوم في خليقته أمر
قال: فمكثت بعده حولا آخر، ثم رأيت قائلا يقول:
عسى الهمّ [2] الّذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب
فيأمن خائف ويفكّ عان ... ويأتي أهله النّائي الغريب
فأخرجت صبيحة ذلك اليوم. فلما رأيت الضوء ذهب بصري، فجيء بي إلى الرّشيد، فأحسن إليّ، وردّ عليّ مالي.
ثم إن الرّشيد خيّره بين المقام عنده وبين الذّهاب، فاختار الذهاب إلى مكّة، فجاور بها حتّى مات رحمه الله تعالى.
وفيها إبراهيم بن ماهان الموصليّ التميميّ، مولاهم، المعروف بالنّديم، صاحب الغناء، ومخترع الألحان فيه، وأول خليفة سمعه المهديّ.
حكي أن الرّشيد هوي جارية فغاضبته مرّة، فأنف [3] منها، فهجرها، فقال في ذلك العبّاس بن الأحنف بسؤال جعفر البرمكي:
راجع أحبّتك الّذين هجرتهم ... إنّ المتيّم قلّما يتجنّب
إنّ التّجنّب إن تطاول منكما ... دبّ السّلوّ له فعزّ المطلب [4]
__________
[1] في «مرآة الجنان» (1/ 426) : «من قعر بئر» .
[2] في «مرآة الجنان» : «عسى الكرب» .
[3] في الأصل، والمطبوع: «وأنف» وما أثبته من «غربال الزمان» ص (175) .
[4] البيتان في «الأغاني» (5/ 241) مصوّرة مؤسسة جمال للطباعة والنشر ببيروت، و «مرآة(2/402)
وأمر جعفر إبراهيم الموصلي أن يغنّي الرّشيد، ففعل، فبادر وترضّاها، فسألت الجارية عن السبب، فأخبرت، فحملت لكلّ منهما مالا جزيلا.
وكانت وفاة إبراهيم بالقولنج [1] ، وله مصنفات كثيرة في الفقه، وغريب الحديث، والنّوادر، والشعر، وغير ذلك، والله تعالى أعلم.
__________
الجنان» (1/ 427) وقد ذكر محققه الدكتور عبد الله الجبوري في حاشيته بأنهما في «ديوانه» ص (28) .
[1] في الأصل، والمطبوع: «بالقلولنج» وهو خطأ، والتصحيح من «غربال الزمان» .(2/403)
سنة ثمان وثمانين ومائة
فيها غزا المسلمون الرّوم وعليهم إبراهيم بن جبريل، من درب الصّفصاف [1] ، والتقوا، فجرح الملك نقفور ثلاث جراحات، وانهزم، وقتل من جيشه أربعون [2] ألفا، وأخذ منهم أربعة آلاف دابة [3] .
وحجّ الرّشيد بالنّاس في هذه السنة.
وفيها عرّس المأمون بأمّ عيسى بنت عمّه موسى الهادي.
وفيها توفي محدّث الرّيّ الحافظ أبو عبد الله جرير بن عبد الحميد الضّبّيّ، وله ثمان وسبعون سنة. روى عن منصور وطبقته من الكوفيين، ورحل إليه النّاس لثقته وسعة علمه [4] .
ورشدين بن سعد المهريّ. محدّث مصر، لكنه ضعيف. وفيه دين وصلاح. روى عن زبّان [5] بن فائد، وحميد بن هانئ، وخلق كثير.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «درب الصفاف» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 299) ، وانظر «تاريخ الطبري» (8/ 313) .
[2] في الأصل: «أربعين» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع.
[3] نقل المؤلف هذا الخبر عن «تاريخ الطبري» بتصرف.
[4] انظر «الأمصار ذوات الآثار» للذهبي ص (64- 65) بتحقيقي طبع دار ابن كثير.
[5] في الأصل، والمطبوع: «زياد» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 229) وكتب الرّجال التي بين يدي.(2/404)
قال السيوطيّ في «حسن المحاضرة» [1] : هو أبو الحجّاج المصريّ.
عن [2] عقيل، ويونس بن يزيد. وعنه قتيبة، وأبو كريب. وهاه ابن معين وغيره. وقال ابن يونس: كان رجلا صالحا لا يشك [3] في صلاحه وفضله، فأدركته غفلة الصالحين، فخلّط [4] في الحديث. انتهى.
وعبدة بن سليمان الكلابيّ الكوفيّ. روى عن عاصم الأحول وطبقته.
قال أحمد: ثقة وزيادة، مع صلاح وشدّة فقر، وكنيته أبو محمد.
وفيها، وقيل: سنة تسعين، عتّاب بن بشير الحرّانيّ. صاحب خصيف، وكان صاحب حديث.
قال في «المغني» [5] عتّاب بن بشير الجزري. عن خصيف.
قال بعضهم: أحاديثه عن خصيف منكرة.
وقال ابن معين: ثقة. انتهى.
وقد خرّج له البخاريّ، وأبو داود، والنّسائي.
وفيها عقبة بن خالد السّكوني [6] . روى عن هشام بن عروة وطبقته.
وفيها- أو سنة تسعين- محمّد بن يزيد الواسطيّ. روى عن إسماعيل ابن خالد وجماعة.
وعمر بن أيّوب الموصليّ المحدّث الزّاهد. رحل وسمع من جعفر بن برقان.
قال ابن معين: ثقة مأمون.
__________
[1] (1/ 283) .
[2] في الأصل. والمطبوع: «من» وأثبت ما في «حسن المحاضرة» .
[3] في «حسن المحاضرة» : «لا شك» .
[4] في «حسن المحاضرة» : «مخلط» .
[5] (2/ 422) .
[6] كنيته أبو مسعود. انظر «الأنساب» للسمعاني (7/ 102) .(2/405)
وقال ابن عمّار: ما رأيته يذكر الدّنيا.
وفيها مقرئ الكوفة سليم بن عيسى الحنفيّ، مولاهم، صاحب حمزة.
تصدّر لإقراء النّاس مدّة. وعليه دارت [1] قراءة حمزة. وروى عن الثّوريّ.
قال العقيليّ: مجهول.
وفيها، على الصحيح، الإمام أبو عمرو عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السّبيعيّ. رأى جدّه وسمع من إسماعيل بن أبي خالد وخلق من طبقته.
وروى عنه من الكبار حمّاد بن سلمة، وهو أكبر منه.
ذكر لابن المديني فقال: بخ بخ، ثقة مأمون.
وقال أحمد بن داود الحدّاني: سمعت عيسى بن يونس يقول: لم يكن في أسناني [2] أبصر بالنحو مني، فدخلتني منه نخوة فتركته.
وقال أحمد بن حنبل: الذي كنّا نخبر أن عيسى كان يغزو سنة ويحجّ سنة، فقدم بغداد في شيء من أمر الحصون فأمر له بمال فلم يقبله [3] .
وفيها يحيى بن عبد الملك بن أبي عنيّة الكوفيّ. روى عن العلاء بن المسيّب وجماعة، وكان من عبّاد المحدّثين.
قال أحمد العجلي: قالوا له: دواء عينيك ترك البكاء، قال: فما جبرهما إذا.
__________
[1] في الأصل: «دارة» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع.
[2] قال ابن منظور: فلان سنّ فلان، إذا كان مثله في السّنّ. «لسان العرب» (سنن) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «فلم يقبل» وأثبت ما في «العبر» للذهبي (1/ 301) وهو مصدر المؤلف في نقله.(2/406)
سنة تسع وثمانين ومائة
فيها كان الفداء الذي لم يسمع بمثله حتّى لم يبق بأيدي الرّوم مسلم إلّا فودي به.
وفيها توهّم الرّشيد في علي بن عيسى بن ماهان أمير خراسان الخروج، فسار حتّى نزل بالرّيّ، فبادر إليه علي بأموال، وجواهر، وتحف، تتجاوز الوصف، فأعجب الرّشيد وردّه على عمله.
وفيها توفي في صحبة الرّشيد شيخ القراءات والنحو الإمام أبو الحسن عليّ بن حمزة الأسديّ الكوفيّ الكسائيّ، أحد السبعة، قرأ على حمزة، وأدّب الرّشيد وولده الأمين، وهو من تلامذة الخليل.
قال الشّافعيّ: من أراد أن يتبحّر في النحو فهو عيال على الكسائيّ.
وعنه قال: من تبحّر في النحو اهتدى إلى جميع العلوم.
وقال: لا أسأل عن مسألة في الفقه إلّا أجبت عنها من قواعد النحو، فقال له محمد بن الحسن: ما تقول فيمن سها في سجود السهو، يسجد؟
قال: لا، لأن المصغّر لا يصغّر.
وله مع اليزيدي وسيبويه مناظرات كثيرة. توفي بالرّيّ صحبة هارون.
وفي ذلك اليوم مات محمد بن الحسن الحنفيّ، فقال الرّشيد: دفنت(2/407)
العربية والفقه بالرّيّ اليوم.
ومع تبحّر الكسائيّ في النحو والعربية لم يكن له معرفة بالشعر.
وقيل له: الكسائيّ لأنه أحرم في كساء، وقيل: لأنه جاء إلى حمزة ضائفا بكساء، فقال حمزة: من يقرأ؟ فقيل: صاحب الكساء، فبقي عليه اللقب.
وأما محمّد بن الحسن المذكور، فكان فصيحا بليغا.
قال الشّافعيّ: لو قلت: إن القرآن نزل بلغة محمّد بن الحسن لفصاحته لقلت.
وصنّف «الجامع الكبير» ، و «الجامع الصغير» ، وكان منشؤه بالكوفة، وتفقّه بأبي حنيفة، ثم بأبي يوسف.
قال الشّافعيّ: ما رأيت سمينا ذكيا إلّا محمّد بن الحسن.
قال في «العبر» [1] : قاضي القضاة وفقيه العصر أبو عبد الله محمّد بن الحسن الشّيبانيّ مولاهم، الكوفيّ المنشأ، ولد بواسط، وعاش سبعا وخمسين سنة. وسمع أبا حنيفة، ومالك بن مغول وطائفة، وكان من أذكياء العالم.
قال أبو عبيد: ما رأيت أعلم بكتاب الله منه.
وقال الشّافعيّ: لو أشاء أن أقول نزل [2] القرآن بلغة محمّد بن الحسن لقلت، لفصاحته. وقد حملت عنه وقر بختيّ.
وقال محمد: خلّف أبي ثلاثين ألف درهم، فأنفقت نصفها على النحو والشعر، وأنفقت الباقي على الفقه [3] .
__________
[1] (1/ 302- 303) .
[2] في «العبر» : «تنزل» .
[3] في «العبر» (1/ 303) : «فأنفقت نصفها على النحو بالري» .(2/408)
قال الخطيب: وولي القضاء بعد محمّد بن الحسن عليّ بن حرملة التيميّ صاحب أبي حنيفة. انتهى كلام «العبر» .
وقال ابن الفرات: محمد بن الحسن بن فرقد الشّيبانيّ الإمام الربّانيّ صاحب أبي حنيفة- رضي الله عنه- أصله دمشقي من أهل قرية حرستا. قدم أبوه العراق، فولد محمّد براسك [1] سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وقيل: سنة إحدى، وقيل: سنة خمس وثلاثين، ونشأ بالكوفة، وطلب الحديث، وسمع سماعا كثيرا، وجالس أبا حنيفة. وسمع منه، ونظر في الرأي، وغلب عليه، وعرف به، وكان من أجمل النّاس وأحسنهم.
قال أبو حنيفة لوالده حين حمله إليه: احلق شعر ولدك وألبسه الخلقان [2] من الثياب لا يفتتن به من رآه. قال محمد: فحلق والدي شعري، وألبسني الخلقان، فزدت عند الخلق جمالا.
وقال الشّافعيّ- رحمه الله-: أول ما رأيت محمدا وقد اجتمع النّاس عليه، فنظرت إليه فكان من أحسن النّاس وجها، ثم نظرت إلى جبينه فكأنه عاج، ثم نظرت إلى لباسه فكان من أحسن النّاس لباسا، ثم سألته عن مسألة فيها خلاف فقوّى مذهبه ومرّ فيها كالسهم.
وكان الشّافعيّ- رضي الله عنه- يثني على محمد بن الحسن ويفضّله، وقد تواتر عنه بألفاظ مختلفة قال: ما رأيت أحدا سأل عن مسألة فيها نظر إلّا رأيت الكراهية في وجهه، إلّا محمد بن الحسن.
__________
[1] قال ياقوت: رأسك: مدينة من أشهر مدن مكران، ولها رستاق يقال له: الخروج، وهي حروم حارة. «معجم البلدان» (3/ 15) .
قلت: ومكران تقع الآن في الجنوب الأوسط من إيران على مقربة من ساحل خليج عمان.
[2] قال في «مختار الصحاح» ص (187) : ثوب خلق، أي بال.(2/409)
وقال: ما رأيت أعلم بكتاب الله من محمّد بن الحسن، ولا أفصح منه.
وقال: ما رأيت رجلا أعلم بالحلال والحرام، والعلل، والناسخ والمنسوخ من محمد بن الحسن.
وقال: لو أنصف الناس لعلموا أنهم لم يروا مثل محمد بن الحسن.
ما جالست فقيها قطّ أفقه ولا أفتق لسانه بالفقه منه، إنه كان يحسن من الفقه وأسبابه أشياء تعجز عنها الأكابر.
وقيل للشافعيّ: قد رأيت مالكا وسمعت منه، ورافقت محمّد بن الحسن، فأيّهما كان أفقه؟ فقال: محمد بن الحسن أفقه نفسا منه.
وقال أبو عبيد: قدمت على محمد بن الحسن فرأيت الشّافعيّ عنده، فسأله عن شيء فأجابه، فاستحسن الجواب، فكتبه، فرآه محمّد، فوهب له دراهم وقال له: الزم إن كنت تشتهي العلم، فسمعت الشّافعيّ- رضي الله عنه [1]- يقول: لقد كتبت عن محمّد وقر بعير ذكر، لأنه يحمل الكثير، ولولاه ما انفتق لي من العلم ما انفتق.
وكان محمد قاضيا للرّشيد بالرّقّة، وكان كثير البرّ بالإمام الشّافعي- رضي الله عنه- في قضاء ديونه والإنفاق عليه من ماله، وإعارة الكتب، حتّى يقال: إنه دفع له حمل بعير كتبا.
وقد ذكر بعض الشافعية أن محمد بن الحسن وشى بالإمام الشّافعيّ- رضي الله عنه- في قضاء ديونه والإنفاق عليه من ماله، وإعارة الكتب، حتّى يقال: إنه دفع له حمل بعير كتبا.
وقد ذكر بعض الشافعية أن محمد بن الحسن وشى بالإمام الشّافعيّ- رضي الله عنه- إلى الخليفة بأنه يدّعي أنه يصلح للخلافة، وكذا أبو يوسف- رحمهما الله- وهذا بهتان وافتراء عليهما، والعجب منهم كيف نسبوا هذا إليهما مع علمهم بأن هذا لا يليق بالعلماء ولا يقبله عقل عاقل؟. انتهى
__________
[1] في المطبوع: «رحمه الله تعالى» .(2/410)
ما ذكره ابن الفرات ملخصا.
قلت: ويصدّق مقال ابن الفرات ما ذكره حافظ المغرب الثقة الحجّة الثبت ابن عبد البرّ المالكيّ في ترجمة الشافعي- رضي الله عنه- قال:
حمل الشّافعيّ من الحجاز مع قوم من العلوية تسعة وهو العاشر إلى بغداد، وكان الرّشيد بالرّقّة، فحملوا من بغداد إلى الرّقّة، وأدخلوا عليه ومعه قاضيه محمّد بن الحسن الشيباني، وكان صديقا للشافعيّ، وأحد الذين جالسوه في العلم وأخذوا عنه، فلما بلغه أن الشّافعيّ في القوم الذين أخذوا من قريش واتهموا بالطعن على هارون الرّشيد اغتمّ لذلك غمّا شديدا، وراعى وقت دخولهم على الرّشيد، فلما دخلوا عليه سألهم وأمر بضرب أعناقهم، فضربت أعناقهم، إلى أن بقي حدث علوي من أهل المدينة- قال الشّافعيّ: وأنا- فقال للعلويّ: أنت الخارج علينا والزاعم أنّي لا أصلح للخلافة؟ فقال: أعوذ بالله أن أدعي ذلك وأقوله، فأمر بضرب عنقه، فقال له العلويّ: إن كان لا بدّ من قتلي فأنظرني إلى أن أكتب إلى أمّي فهي عجوز لم تعلم خبري، فأمر بقتله فقتل.
ثم قدمت ومحمد بن الحسن جالس معه، فقال لي مثل ما قال للفتى، فقلت: يا أمير المؤمنين لست بطالبيّ ولا علويّ، وإنما أدخلت في القوم بغيا، وإنما أنا رجل من بني عبد المطلب بن عبد مناف بن قصي، ولي مع ذلك حظ من العلم، والفقه، والقاضي يعرف ذلك، أنا محمد بن إدريس بن العبّاس بن عثمان بن شافع بن السائب بن يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف، فقال لي: أنت محمّد بن إدريس؟ فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، فقال لي: ما ذكرك لي محمّد بن الحسن، ثم عطف على محمد بن الحسن فقال: يا محمد ما يقول هذا؟ هو كما يقوله؟ قال: بلى، وله محل من العلم كبير، وليس الذي رفع عنه من شأنه. قال: فخذه إليك حتّى أنظر في أمره، فأخذني محمّد- رحمه الله- وكان سبب خلاصي لما أراد الله عزّ وجلّ،(2/411)
هذا لفظ ابن عبد البرّ بعينه.
فيجب على كل شافعي إلى يوم القيامة أن يعرف هذا لمحمّد بن الحسن ويدعو له بالمغفرة.
وقال ابن خلّكان [1] : قال الرّبيع بن سليمان: كتب الشّافعيّ- رحمه الله- إلى محمّد بن الحسن- رحمه الله- وقد طلب منه كتبا له ليستنسخها [2] فتأخّرت عنه:
قل لمن لم تر ع ... ين من رآه مثله
ومن كأنّ من رآ ... هـ قد رأى من قبله
العلم ينهى أهله ... أن يمنعوه أهله
لعلّه يبذله ... لأهله لعلّه
ويسمى محمد ابن أبي حنيفة، وهو ابن خالة الفرّاء صاحب النحو واللغة. انتهى ملخصا.
وفيها توفي أبو محمّد عبد الأعلى بن عبد الأعلى السّاميّ [3] البصريّ القرشيّ. أحد علماء الحديث. سمع من حميد الطّويل وطبقته.
قال ابن ناصر الدّين: صدوق من الأثبات، لكنه رمي بالقدر. وتكلم فيه بندار، وليّنه ابن سعد في «الطبقات» . انتهى.
وقال في «المغني» [4] : صدوق. قال ابن سعد: لم يكن بالقوي.
قلت [5] : ورمي بالقدر. انتهى.
__________
[1] في «وفيات الأعيان» (4/ 184- 185) والأبيات فيه.
[2] في «وفيات الأعيان» : «لينسخها» .
[3] في الأصل، والمطبوع، و «العبر» للذهبي (1/ 303) : «الشامي» بالشين وهو خطأ.
والتصحيح من «المغني في الضعفاء» (1/ 364) ، و «تقريب التهذيب» (1/ 465) وغير ذلك من كتب الرجال.
[4] (1/ 364) .
[5] القائل الحافظ الذهبي في «المغني» .(2/412)
وفيها أبو خالد الأحمر سليمان بن حيّان الكوفيّ، أحد الكبار. روى عن أبي مالك الأشجعي وخلق من طبقته.
قال ابن ناصر الدّين: هو سليمان بن حيّان أبو خالد الأزديّ الجعفريّ الكوفيّ.
قال ابن معين، وابن عدي عنه: صدوق ليس بحجة، ووثّقه غيرهما.
انتهى.
وفيها قاضي الموصل عليّ بن مسهر أبو الحسن الكوفيّ الفقيه. روى عن أبي مالك الأشجعي وأقرانه.
قال أحمد: هو أثبت من أبي معاوية في الحديث.
وقال أحمد العجلي: ثقة جامع للفقه والحديث.
وحكّام بن سلم [1] الرّازيّ. يروى عن حميد الطّويل، وطبقته.
وفيها، وقيل: قبلها بعام، يحيى بن اليمان العجليّ الكوفيّ الحافظ.
روى عن هشام بن عروة، وإسماعيل بن أبي خالد، وطائفة.
ذكره أبو بكر بن عيّاش فقال: ذاك [2] راهب.
وعن وكيع قال: ما كان أحد من أصحابنا أحفظ منه. كان يحفظ في المجلس خمسمائة حديث، ثم نسي.
وقال ابن المديني: صدوق تغيّر من الفالج.
وقال ابن ناصر الدّين: يحيى بن اليمان العجليّ الكوفيّ أبو زكريّا، قرأ القرآن على حمزة الزّيّات. وحدّث عن جماعة. كان صدوقا من حفّاظ هذا
__________
[1] في الأصل: «حكام بن أسلم» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع. وانظر «تهذيب الكمال» للمزّي (7/ 83) طبع مؤسسة الرسالة.
[2] في الأصل: «ذلك» وأثبت ما في المطبوع وهو موافق لما في «العبر» للذهبي (1/ 304) .(2/413)
الشأن [1] ، فلج فتغيّر حفظه فغلط فيما يرويه، ومن ثم تكلّم من تكلّم فيه.
انتهى.
وفيها، أو في حدودها، محمّد بن مروان السّدّيّ الصغير [2] الكوفيّ المفسّر، صاحب الكلبيّ، وهو متروك الحديث.
__________
[1] يعني علم الحديث النبوي الشريف.
[2] في «العبر» للذهبي (1/ 304) : «السدوسي» وهو خطأ فيصحح فيه. وانظر «الأنساب» للسمعاني (7/ 63) .(2/414)
سنة تسعين ومائة
فيها استعدّ الرّشيد وأمعن في بلاد الرّوم، فدخلها في مائة ألف وبضعة وثلاثين ألفا، سوى المجاهدين تطوّعا. وبثّ جيوشه في نواحيها، وفتح هرقلة. ولما افتتحها خرّبها، وسبى أهلها، وكان مقامه عليها شهرا. وسارت فرقة فافتتحت حصن الصقالبة، وفرقة افتتحت حصن الصّفصاف وملقونية [1] .
وركب حميد بن معيوف في البحر، فغزا قبرس [2] وسبى وأحرق، وبلغ السبي من قبرس ستة عشر ألفا، وكان فيهم أسقفّ قبرس، فنودي عليه، فبلغ ألفي دينار، وبعث نقفور الجزية على رأسه، وامرأته، وخواصّه. فكان ذلك خمسين ألف دينار. وبعث إلى الرّشيد يخضع له ويلتمس منه أن لا يخرب حصونا سمّاها، فاشترط عليه الرّشيد أن لا يعمر [3] هرقلة، وأن يحمل في العام ثلاثمائة ألف دينار.
وكتب إليه نقفور: أما بعد، فلي إليك حاجة أن تهب لي [4] لابني
__________
[1] في الأصل: «فلفونيه» ، وفي المطبوع، و «العبر» للذهبي (1/ 304) : «مقدونية» وكلاهما خطأ، والتصحيح من جدول الخطأ والصواب الذي أعدّه القدسي- رحمه الله- للجزء الأول من طبعته من هذا الكتاب.
قال ياقوت: ملقونية: بلد من بلاد الروم قريب من قونية، تفسيره مقطع الرحى، لأن من جبلها يقطع رحى تلك البلاد. «معجم البلدان» (5/ 194) .
قلت: وقونية تقع الآن في الجنوب الأوسط من تركية.
[2] في المطبوع: «قبرص» وهو ما تعرف به الجزيرة الآن.
[3] في المطبوع: «ألا يعمر» .
[4] في الأصل: «أن هب لي» وأثبت ما في المطبوع، وهو موافق لما في «العبر» للذهبي.(2/415)
جارية من سبي هرقلة كنت خطبتها له، فأسعفني بها، فأحضر الرّشيد الجارية، فزيّنت، وأرسل معها سرادقا وتحفا، فأعطى نقفور الرّسول خمسين ألفا وثلاثمائة ثوب وبراذين [وبزاة] [1] . ذكره في «العبر» [2] .
وفيها- كما قال ابن الجوزي في «الشذور» [3]- أسلم الفضل بن سهل على يد المأمون، وكان مجوسيا.
وفيها توفي الفقيه أسد بن عمرو البجليّ الكوفيّ صاحب أبي حنيفة وقاضي بغداد.
قال في «المغني» [4] : أسد بن عمرو أبو المنذر، عن ربيعة الرّأي، ليّنه [5] البخاريّ.
وقال يحيى: كذوب.
وقال أحمد: صدوق.
وقال ابن عدي: لم أر له شيئا منكرا. انتهى.
وفيها قارئ مكّة في زمنه، إسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين المخزوميّ، مولاهم المعروف بالقسط، وله تسعون سنة. وهو آخر أصحاب ابن كثير وفاة. قرأ عليه الشّافعيّ وجماعة.
وفيها أبو عبيدة الحدّاد البصريّ نزيل بغداد، واسمه عبد الواحد بن واصل. روى عن عوف الأعرابي وعدّة، وكان حافظا متقنا.
__________
[1] زيادة من «العبر» .
[2] (1/ 305) .
[3] يعني «شذور العقود في تاريخ العهود» .
[4] (1/ 76) .
[5] في «المغني» : «ضعّفه» .(2/416)
وعبيدة بن حميد الكوفيّ الحذّاء الحافظ وله بضع وثمانون سنة. روى عن الأسود بن قيس، ومنصور، والكبار، وكان صاحب قرآن، وحديث، ونحو. أدّب الأمين بعد الكسائيّ. وكان من الأثبات.
وعمر بن علي المقدّميّ أبو جعفر البصريّ. وكان حافظا مدلّسا. كان يقول: حدّثنا، أو يقول: سمعت، ثم يسكت، ثم يقول: هشام بن عروة، وينوي القطع.
قال ابن ناصر الدّين: عمر بن علي بن عطاء المقدّميّ من الثقات، لكنه شديد التدليس. انتهى.
وفيها عطاء بن مسلم الخفّاف. كوفيّ صاحب حديث، ليس بالقوي.
نزل حلب. وروى عن محمّد بن سوقة وطبقته.
وفيها حميد بن عبد الرّحمن الرّؤاسيّ الكوفيّ. روى عن الأعمش وطبقته.
قال أبو بكر بن أبي شيبة: قلّ من رأيت مثله.
قال في «المغني» [1] : عن الضّحّاك لا يعرف. انتهى.
وفيها يحيى بن خالد بن برمك البرمكيّ، توفي في سجن الرّشيد وله سبعون سنة.
قال ابن الأهدل: وبرمك من مجوس بلخ، ولا يعلم إسلامه، وكان خالد قد ولي وزارة السّفّاح.
قال المسعوديّ [2] : ولم يبلغه أحد من بنيه، لا يحيى في شرفه وبعد همّته، ولا موسى في شجاعته ونجدته.
__________
[1] (1/ 195) .
[2] في «مروج الذهب» (3/ 277) والمؤلف ينقل عنه باختصار وتصرّف.(2/417)
وكان المهديّ قد جعل الرّشيد في حجر يحيى، فعلّمه الأدب. وكان يدعوه أبا، فلما ولي دفع إليه خاتمه، وقلّده أمره، وفي ذلك يقول الموصليّ [1] :
ألم تر أنّ الشّمس كانت سقيمة ... فلمّا ولي هارون أشرق نورها
أمين أمين الله هارون ذو النّدى ... فهارون وإليها وهذا وزيرها
ومن كلام يحيى: ثلاثة أشياء تدل على عقول أربابها: الهديّة، والكتاب، والرّسول.
وكان يقول لبنيه: اكتبوا أحسن [2] ما تسمعون، واحفظوا أحسن ما تكتبون، وتحدّثوا بأحسن ما تحفظون.
وفي بنيه يقول الشاعر:
أولاد يحيى أربع ... كأربع الطّبائع
فهم إذا اختبرتهم ... طبائع الصّنائع [3]
وفيه يقول العتّابيّ:
سألت النّدى والجود حرّان أنتما ... فقالا كلانا عبد يحيى بن خالد
فقلت شراء ذلك الملك قال لا ... ولكن إرثا والدا بعد والد [4]
وكان يقول: إذا أقبلت فأنفق فإنها لا تفنى، وإذا أدبرت فأنفق فإنها لا تبقى.
وقال: يدل على حلم الرّجل سوء أدب غلمانه.
__________
[1] قال ابن خلكان في «وفيات الأعيان» (6/ 221) : أظنه إبراهيم النديم، أو ابنه إسحاق، وفي «الكامل» لابن الأثير (6/ 108) : «إبراهيم الموصلي» والأبيات فيه برواية أصوب.
[2] لفظة «أحسن» سقطت من «مرآة الجنان» فتستدرك فيه.
[3] البيتان في «وفيات الأعيان» (6/ 221) ، و «مرآة الجنان» (1/ 433) وهما برواية أخرى في «مروج الذهب» (3/ 277) .
[4] البيتان في «مرآة الجنان» (1/ 435) مع بعض الخلاف، ولم ينسبهما لأحد.(2/418)