العصر ثم انهزم أصحاب السلطان وهلك منهم عدد كثير قتلا وغرقا ولحق الباقون بأبى نصر فاعتصموا بدار الإمارة التي هو نازل فيها وتبعهم ابنا حمدان والعامة، فغلقت الأبواب دونهم واستوعب القتال بقية النهار. ثم حجز الليل بينهم وعاد ابنا حمدان إلى مخيّمهما.
ذكر رأى سديد رآه ابنا حمدان [259] فأحسنا فيه الظنّ علما للعاقبة
لمّا جرى ما جرى [و] علما أنّ العامة لا تقنع إلّا بقتل الديلم وأنّ السلطان لا يغمض على مثل هذه الجناية خافا عواقب الأمر وراسلا أبا نصر فى ليلتهما وقالا له:
- «نحن خدم السلطان وقد جرت الأقدار بغير الاختيار ولا قدرة لنا الآن على ضبط العامة لما فى نفوسهم من الديلم وهم فى غد يحرقون الدار ويسفكون الدماء فإمّا أن تصير إلينا وإمّا أن تعلم أنّك مهلك نفسك.» فعرف أبو نصر خواشاذه أنّهما قد نصحاه وخرج إليهما ليلا فأكرماه ثم عدلا إلى تدبير أمر العامة فأحضرا شيوخهم ووجوههم وقالا لهم:
- «إنّ كنتم تؤثرون مقامنا بين ظهرانيّكم فولّونا أموركم ولا تشفوا بقتل أصحاب السلطان صدوركم، فإنّه شفاء يعقب داء عضالا، ولا تجدون من السلطان فى ذلك إغضاء وإجمالا. والذي نراه أن تكفّوا أحداثكم عن القتل وانصراف هؤلاء القوم عنكم صرفا جميلا ويتلطف السلطان أقدامنا عندكم.» فأجابوه بالسمع والطاعة وبذل المكنة والاستطاعة وبكر العوام إلى الدار فلم يزل ابنا حمدان والمشيخة بهم رفقا ولطفا حتى استقر الأمر بعد هناة على أن يهبوا الدم وينهبوا الأموال وأن يصعد الجند إلى [260] السطوح ويقف على الدرج من الشيوخ من يمنع العامة من الصعود.(7/210)
ودخلوا الدار وخرجوا بنهب الموجود. ثم غلقت الأبواب وصار جند السلطان محبوسين أيّاما إلى أن انحدروا بأسوأ حال فى الزواريق إلى بغداد وأفرج عن أبى نصر وأحسن إليه وعاد إلى الحضرة.
وتشاغل ابنا حمدان بالنظر فى أمورهما وانثال عليهما من بنى عقيل العدد ولم يكن لهما من الجند إلّا العامة والثلاثون ألف من الحمدانية.
ثم دخلت سنة ثمانين وثلاثمائة
فيها كانت الوقعة بين باد وبين أبى طاهر [1] وأبى عبد الله ابني ناصر الدولة بن حمدان وبين بنى عقيل بظاهر الموصل.
ذكر ما جرى عليه الحال فى هذه الوقعة من قتل باد وهزيمة أصحابه
لمّا حصل أبو طاهر وأبو عبد الله ابنا ناصر الدولة بظاهر الموصل استضعفهما باد وطمع فى قصدهما وأخذ البلد منهما. وعلم أن لا جند لهما سوى العامّة فكاتب أهل الموصل واستمالهم. فأجابه بعضهم وسار فى ستة آلاف رجل من أصناف الأكراد ونزل فى الجانب الشرقي.
فخافه [161] ابنا حمدان وعلما أن لا طاقة لهما به فلجأ إلى بنى عقيل وراسلا أبا الدواد محمد بن المسيب وسألاه النصرة وبذلا له النزول على حكمه فالتمس منهما الجزيرة ونصيبين وبلد وعدّة مواضع فأجاباه إلى ملتمسه.
فلمّا استقرت بينهم هذه القاعدة سار إليه أبو عبد الله ابن حمدان ووافى به
__________
[1] . وفى الأصل: أبى نصر.(7/211)
فى ألفى فارس إلى بلد وهي فى أعلى الموصل فى الجانب الغربي [1] وعبرا دجلة وحصلا مع باد على أرض واحدة وباد عنهما غافل وبحرب أبى طاهر وأهل الموصل متشاغل.
فجاءته طليعة من طلائعه تخبر بعبورهما فخاف أن يعبر إليه من بازائه ويكبسه أبو عبد الله وبنو عقيل من ورائه. فتقدّم إلى أصحابه بالانتقال واللوذ بأكناف الجبال، واضطربوا واخلطوا ما بين سابق مستعجل ولاحق مرتحل وثابت فى المعركة مستقبل.
ذكر اتفاق عجيب آل إلى هلاك باد بعد انقضاء مدّته
بينما الحال على ما ذكر من اختلاط أصحاب باد إذ قتل عبد الله حاجبه المعروف بعروس الخيل، ففجع به وانزعج لفقده وأراد الانتقال من فرس [262] إلى فرس، فحوّل رجله من ركاب إلى ركاب ووثب فسقط إلى الأرض بثقل بدنه، فاندقّت ترقوته والحرب قائمة بين الفريقين حتى عرف أبو [2] على الحسن بن مروان ابن أخته خبره. فصاروا إليه فقالوا له:
- «احمل نفسك كي تلحق الخيل.» فقال لهم:
- «لا حراك بى فخذوا لنفوسكم.» فانصرفوا فى خمسمائة فارس طالبين الجبل عرضا حتى خلصوا إليه من السهل. وجدّل بنو عقيل منهم فرسانا وسلم بنو مروان وأكثر من معهم وساروا فى لحف الجبل إلى ديار بكر.
وحصل باد فى جملة القتلى وبه رمق فعرفه أحد بنى عقيل، فأخذ رأسه
__________
[1] . بلد: اسم لمواضع كثيرة. انظر مراصد الإطلاع.
[2] . وفى الأصل: أبا.(7/212)
فحمله إلى ابني حمدان وأخذ عليه منهما جائزة سنيّة ودل على جثّته فحمل إلى الموصل وقطعت يده ورجله وحملت إلى بغداد وصلب شلوه على باب دار الإمارة بالموصل.
فثار العامّة وقالوا:
- «هذا رجل غاز فلا تحلّ المثلة به.» فحطّ وكفّن وصلّى عليه ودفن. وظهر من محبة العامّة له بعد هلاكه ما كان طريفا. بل لا يستطرف من الغوغاء تناقض الأهواء ولا يستنكر للرعاع اختلاف الطباع، وهم أجرأ الخلق إذا طمعوا وأخبثهم إذا قمعوا.
ومضى أبو على ابن مروان من فوره إلى قلعة كيفا، وهي قلعة على دجلة حصينة جدّا وبها زوجة باد الديلمية. [263]
ذكر حيلة لابن مروان ملك بها القلعة
لمّا وصل إلى باب القلعة قال لزوجة باد:
- «قد أنفذنى خالي إليك فى مهمّات.» فظنّته حقا. فلمّا صعد وحصل عندها أعلمها بهلاكه، ثم تزوّج بها ورتّب أصحابه فيها ونزل فقصد حصنا حصنا حتى رتّب أمر جميع الحصون، وأقام ثقاته فيها وصار إلى ميافارقين. [1] ونهض أبو طاهر وأبو عبد الله ابنا حمدان إلى ديار بكر طمعا فى فتح القلاع وحملا معهما رأس باد، فوجدا الأمر ممتنعا وقد أحكم ابن مروان بناه وحمى حماه. فعدلا إلى قتاله ووقعت بينهما وقعة كان الظفر فيها لابن مروان، وحصل أبو عبد الله ابن حمدان أسيرا فى يده.
__________
[1] . ميّافارقين: أشهر مدينة بديار بكر. قيل: ما بنى منها بالحجارة فهو بناء أنو شروان، وما بنى منها بالآجرّ فهو بناء أبرويز (مراصد الإطلاع) .(7/213)
ذكر جميل لابن مروان إلى أبى عبد الله عند أسره لم يشكر عليه فساءت عاقبة أمره
لمّا أسر ابن مروان أبا عبد الله أحسن إليه وأكرمه وأفرج عنه. فصار إلى أخيه أبى طاهر وقد نزل على آمد. فأشار عليه بمصالحة ابن مروان [264] وموادعته والانكفاء عن ديار بكر فأبى أبو طاهر إلّا معاودة حربه مع جمع كثير من بنى عقيل ونمير، واضطرّ أبو عبد الله إلى مساعدته كما ينصر الأخ أخاه ظالما ومظلوما.
وسارا إلى ابن مروان فواقعاه وكان النصر له قهرهما وأسر أبو عبد الله أسرا ثانيا، فأساء إليه وضيّق عليه واعتقله زمانا طويلا إلى أن كاتبه صاحب مصر فى بابه فأطلقه بشفاعته وخطابه ومضى إلى مصر وتقلّد منها ولاية حلب [1] وأقام بتلك الديار حتى توفّى وله بها عقب.
وأمّا أبو طاهر فإنّه انهزم ودخل نصيبين وقصده أبو الدؤاد محمد بن المسيّب، فأسره وعليّا ابنه والرغفير أمير بنى نمير فقتلهم صبرا.
وملك محمد بن المسيّب الموصل وأعمالها وكاتب السلطان وسأل إنفاذ من يقيم عنده من الحضرة. فأخرج المظفّر أبو الحسن عبيد الله بن محمد بن حمدويه وذلك عند غيبة بهاء الدولة عن بغداد ومقام أبى نصر خواشاذه بها فى النيابة عنه.
فلم تدخل يد المظفّر إلّا فى أبواب المال وفيما كان له ولأبى نصر خواشاذه من الأموال والإقطاع فى النواحي، فاستولى بنو عقيل على سوى ذلك.
__________
[1] . وفى تاريخ ابن القلانسي ص 51 أنّه فى سنة 387 ولى صور من قبل الحاكم صاحب مصر (مد) .(7/214)
القبض على صاحب المعونة ببغداد وقتله
وفى هذه السنة قبض على أبى الفرج محمد بن أحمد بن الزطّى صاحب المعونة ببغداد. [265]
ذكر ما جرى عليه أمره فى القبض عليه إلى أن قتل
كان هذا الرجل قد تجاوز حد الناظرين فى المعونة وأسرف فى الإساءة إلى الناس حتى وترهم، وبالغ فى أيام صمصام الدولة بعد فتنة أسفار فى منع أسباب أبى القاسم عبد العزيز بن يوسف وتطلّب حرمه واستيصال أمواله ونعمه، وأغرق فى الفعل القبيح معهم ومع غيرهم.
وكثرت الطوائل لديه واجتمعت الكلمة عليه وأطمع بهاء الدولة وأبو الحسن الكوكبي المعلّم فى ماله وكثر عندهما مبلغ حاله فقبض عليه واعتقل فى الخزانة وكرّر الضرب عليه أيّاما.
ووقع الشروع فى تقرير أمره فاجتمع أبو القاسم عبد العزيز وأبو محمد ابن مكرم على نصب الحبائل لهلاكه، ووضعا أبا القاسم الشيرازي على أن يضمّنه بمال كثير.
ذكر مكيدة تمّت لعبد العزيز بن يوسف فى أمر الزطّى حتى هلك [266]
قال أبو نصر الحسين بن الحسن المعروف بالأستاذ الفاضل: إنّ أبا القاسم عبد العزيز هو الذي سعى واجتهد فى أمر ابن الزطي وذكره عند المعلّم بكل(7/215)
ما خوّفه منه وقال:
- «نحن بصدد حرب والمسير للقاء عدو، والحوادث لا تؤمن ومتى استبقيت هذا الرجل لم نأمنه جميعا على من نخلّفه وراءنا من حرمنا وأولادنا وفى الراحة منه قربة إلى الله تعالى وأمن فى العاقبة.» قال المعلّم:
- «إنّ الملك قد أطمع فى مال كثير من جهته.» فقال عبد العزيز:
- «لعمري إنّه ذو مال ولكنّه لا يذعن به طوعا ولا يعطيه عفوا. وهذا أبو القاسم الشيرازي يبذل فيه ألف ألف وخمسمائة ألف درهم ويقول: إنّ المال لا يصحّ وهو حىّ تخافه أصحاب الودائع.» وحضر الشيرازي وبذل مثل ذلك بلسانه.
قال الأستاذ الفاضل: فقلت له:
- «هل أنت على ثقة مما بذلته؟» فقال لى سرّا:
- «علىّ الاجتهاد، فإن بلغت المراد وإلّا حملت إلى زوجة هذا- وأشار إلى المعلّم- عشرة آلاف درهم وقد خلّصتنى من يده.» وضحك وضحكت.
ولم يزل عبد العزيز بالمعلم حتى تقرّر الأمر على قتله. واستؤذن بهاء الدولة وتحقق عنده المال المبذول عنه. فأذن فى ذلك وعبر بالرجل إلى الجانب الغربي وحمل رأسه إلى المعلّم، فأنفذه إلى محمد بن مكرم فوضعه فى غد فى دهليزه ليشاهده الناس.
وهذه حكاية عجيبة [267] وليس العجب من قتل ابن الزطي. فإنّه كان من الأشرار وما آل إليه الأشرار من البوار، وإنّما العجب من استيلاء المعلّم(7/216)
على بهاء الدولة واستيلاء المرأة على المعلّم حتى يلعبا بالرجال ويتحكّما بالدماء والأموال. وإنّ أمثال هذه الأحوال لتكسو الدول من العار برودا وتنظم لها من المساوى عقودا. فإذا أحبّ الله صلاح دولة طهّرها من مثل هذه الأدناس وقيّض لتدبيرها أخيار الناس، فتكون ما بقيت منصورة مؤيّدة، ثم تبقى محاسنها فى الصحف محفوظة مؤبّدة.
وعوّل بعد قتل ابن الزطّى على أبى محمد الحسن بن مكرم الحاجب وخلع عليه، فأبان فيها أثرا جميلا وأخذ العيّارين والدّعّار أخذا شديدا بعد أن كان قد استشرى أهل الفساد.
فقامت الهيبة واستقامت الأمور على السداد، وأمن البلد وهرب كل ذى ريبة. ثم استعفى منها وخرج فى الصحبة إلى واسط.
ذكر السبب فى ذلك
كان رأى أبى الحسن المعلّم فاسدا فى الوزير أبى منصور، وإنّما أقرّه على الوزارة تأنيسا لأبى القاسم العلاء بن الحسن وتقريرا لحيلة تتمّ عليه.
فلمّا فعل بفارس ما فعله ووقع اليأس من خداعه بعد كشف قناعه، قدّم على [1] القبض [268] على الوزير أبى منصور ما كان أخّر، وعوّل على أبى نصر [2] سابور بن أردشير فى النظر وخلعت عليه خلع الوزارة ونقل الوزير أبو منصور إلى الخزانة ونزل أبو نصر سابور داره.
وعلى ذا مضى الناس! منصور ومخذول ومولّى ومعزول ومختار ومردود ومشتهى ومملول، وأعمال السلطان عوارى لا بدّ من استرجاعها، وملابس لا بد من انتزاعها. والسعيد من حسنت من تلك العواري حاله، وكرمت فى
__________
[1] . قال فى مد: «لعله: من.» ولا داعي لذلك.
[2] . فى الأصل: منصور.(7/217)
خلال تلك الملابس خلاله. فإذا ارتجعت منه بقي له من المجد حظّ موفور، وإذا انتزعت منه صفا عليه من الحمد برد محبّر، فختمت بالصالحات أعماله وذكرت بعده بالخيرات أفعاله.
مسير بهاء الدولة إلى شيراز
وفيها سار بهاء الدولة متوجّها إلى شيراز بعد استتباب أبى نصر خواشاذه فى خلافته ببغداد وخلع عليه وطرح له دستا كاملا فى دار المملكة الأولى وثلاث مخادّ فى الدار الداخلة وما رئي [1] أحد من الوزراء والأكابر جلس فى هذه الدار على مثل ذلك، وكتب له عهد ذكر فيه ب «شيخنا» ، وهو أوّل من خوطب بهذا الاسم من الحواشي.
وعوّل على أبى عبد الله ابن طاهر فى النيابة عن الوزير أبى نصر سابور ببغداد فلم يستقم ما بينه وبين أبى نصر [269] خواشاذه واستمرّ الفساد بينهما إلى أن عاد بهاء الدولة، فقبض عليهما على ما يأتى ذكره فى موضعه.
ذكر ما جرى عليه أمر بهاء الدولة فى هذه السفرة
انحدر ومعه أبو الحسن المعلّم والوزير أبو نصر سابور، والأمر لأبى الحسن فى الكبير والصغير وهو الغالب على الرأى فى التدبير.
وأقام بواسط أيّاما وسار ونزل بمعسكر أبى جعفر ابن الحجاج ودخل البصرة فشاهدها وعاد إلى مخيّمه.
وورد عليه خبر وفاة أبى طاهر أخيه، فجلس لعزائه. ثم توجّه إلى الأهواز وسيّر أبا العلاء عبيد الله بن الفضل على مقدّمته ومعه جمهور عسكره
__________
[1] . فى الأصل: رؤي.(7/218)
فصار إلى أرجان ودخلها، وفتح القلعة بالجند وملكها، وكان فيها من أصناف الأموال شيء كثير.
فلمّا وصل الخبر إلى بهاء الدولة سار إلى أرجان ونزلها وأمر بحطّ جميع ما كان فى القلعة من المال وغيره وتسليمه إلى الخزّان وكان من العين ألف [1] ألف دينار ومن الورق ثمانية آلاف ألف ألف درهم [2] ومن الجوهر والثياب والآلات والأسلحة ما يذّخر الملوك مثله. [270]
ذكر ما جرى فى أمر هذا المال حتى تفرّق أكثره
لمّا حصل المال فى الخزائن أحبّ بهاء الدولة تنضيده بأجناسه فى مجلس الشرب. فنضّد جميعه على أحسن تنضيد ووكّل الحفظة والخزان به فى موضعه أيّاما. فكان منظرا أنيقا إلّا أنّه شاع من ذلك ما صار إلى التفرقة طريقا.
فعند ذلك شغب الأتراك والديلم شغبا متتابعا. فأطلقت تلك الأموال حتى لم يبق منها بعد مديدة غير أربعمائة ألف دينار وأربعمائة ألف [3] ألف درهم حملت إلى الأهواز.
وتوجّه أبو العلاء ابن الفضل من أرجان إلى النوبندجان، وهزم من كان بها من عساكر صمصام الدولة وأثبت أصحابه فى نواحي فارس. وبرز أبو منصور فولاذ بن ماناذر من شيراز، وسار على مقدمة صمصام الدولة وواقع أبا العلاء بخواباذان [4] فهزمه.
__________
[1] . لعله زائد.
[2] . كذا: ثمانية آلاف ألف ألف درهم.
[3] . لعله زائد (مد) .
[4] . كذا فى الأصل: خواباذان. وما فى المراصد: خوبذان: وهو موضع بين أرّجان والنوبندجان من أرض فارس وهناك قنطرة عجيبة الصفة عظيمة القدر (مراصد الإطلاع) .(7/219)
ذكر هذه الوقعة والمكيدة التي كانت سببا لهزيمة عسكر بهاء الدولة
لمّا حصل أبو العلاء والأتراك بإزاء فولاذ والديلم فى وادي خواباذان وقنطرة [271] حجاز بين الفريقين تطرّق قوم من الغلمان إلى جمال الديلم فساقوها وعادوا بها إلى معسكرهم ورآهم بقية الغلمان الأتراك فطمعوا فى مثل ذلك، وركب من الغد منهم سبعون غلاما من الوجوه وعبروا القنطرة.
وكان الديلم قد أرسلوا جمالا مهملة لا حماة معها على سبيل المكر والخديعة فاستاقهم الغلمان وكرّوا راجعين.
ووقعت الصيحة فركب فى أثرهم فرسان من الديلم والأكراد كانوا معدّين ووصل الغلمان إلى القنطرة فوجدوا من دونها خمسمائة رجل من الديلم كان فولاذ قد رتّبهم وراء جبل بالقرب. فلمّا عبر الغلمان بأموالهم رأوهم على القنطرة بالرصد فلم يكن للغلمان سبيل إلى العبور ولحقهم الفرسان فأوقعوا بهم وقتلوهم عن بكرة أبيهم، وأخذوا رؤوس أكابرهم فأنفذوها إلى شيراز.
وكان ذلك وهنا عظيما وثلما كبيرا فى عسكر بهاء الدولة.
وراسل فولاذ أبا العلاء فأطمعه وخدعه ثم سار إليه وكبسه، فانهزم من بين يديه وعاد إلى أرجان مفلولا. ولمّا وصل الخبر بذلك إلى صمصام الدولة سار من شيراز.
وغلت الأسعار بأرّجان ونواحيها وضاقت المير والعلوفة. ثم وقع الشروع فى الصلح وتردّدت فيه كتب ورسل فتمّ على أن يكون لصمصام [272] الدولة فارس وأرّجان، ولبهاء الدولة خوزستان والعراق، وأن يكون لكل واحد منهما إقطاع فى بلاد صاحبه.
وعقدت العقود وأحكمت العهود وحلف كل واحد منهما للآخر على(7/220)
التخالص والتصافي بيمين بالغة، وشرطت وحرّرت على النسختين وعاد بهاء الدولة إلى الأهواز.
وورد أبو عبد الله الحسين بن على بن عبدان نائبا عن صمصام الدولة بالحضرة وناظرا فيما أفرد له من الإقطاع بالعراق، وعوّل على أبى سعد بندار ابن الفيروزان فى النيابة عن بهاء الدولة بفارس.
وفاة صاحب مصر الملقب بالعزيز
وفى هذه السنة ورد الخبر بوفاة أبى الفرج يعقوب بن يوسف وزير صاحب مصر الملقّب بالعزيز [1] .
ذكر حاله وما جرى عليه أمر الوزارة بمصر من بعده
كان أبو الفرج كبير الهمّة عظيم الهيبة فاستولى على الأمر ونصح صاحبه فيه فقرب من قلبه وتمكّن من قربه، ففوّضت الأمور إليه واستقامت على يديه.
فلمّا اعتلّ علّة الوفاة ركب إليه صاحب مصر عائدا ووجده على شرف اليأس فحزن له وقال:
- «يا يعقوب، وددت أن تباع فأبتاعك بملكي أو تفدى فافتديتك. فهل من حاجة توصى بها؟» فبكى [273] يعقوب وقبّل يده ووضعها على عينه وقال:
- «أمّا فيما يخصّنى فلا، فإنّك أرعى لحقّى من أن أسترعيك، وأرأف
__________
[1] . والوزير هو أبن كلس. وردت هذه القصة فى تاريخ أبى يعلى ابن القلانسي ص 32 وهي مأخوذة من تاريخ هلال الصابي. وفى إرشاد الأريب 2: 411 وردت قصة ابن كلس هذا مع ولد للوزير أبى الفضل ابن حنزابة (مد) .(7/221)
بمخلّفى من أن أوصيك، ولكنّى أقول لك فيما يتعلق بدولتك: سالم الروم ما سالموك واقنع من الحمدانية بالدعوة والسكّة، ولا تبق على المفرّج بن دغفل ابن الجراح متى أمكنت فيه الفرصة.» ولم يشغله ما كان فيه من فراق دنياه عن نصح صاحبه ومحبّته وهواه، وكذلك حال كل ناصح صدوق.
ثم توفّى فأمر صاحب مصر بأن يدفن فى قصره فى قبّة كان بناها لنفسه وحضر جنازته فصلّى عليه وألحده بيده فى قبره، وانصرف من مدفنه حزينا لفقده وأغلق الدواوين أيّاما من بعده.
واستخدم أبا عبد الله الموصلي مدّة ثم صرفه وقلّد عيسى بن نسطورس وكان نصرانيا. فضبط الأمور وجمع الأموال ومال إلى النصارى وولّاهم الأعمال وعدل عن الكتّاب والمتصرّفين من المسلمين، واستناب بالشام يهوديا يعرف بمنشا بن ابراهيم بن الفرار، فسلك منشا مع اليهود سبيل عيسى مع النصارى، واستولى أهل هاتين الملّتين على جميع الأعمال.
ذكر حيلة لطيفة عادت بكشف هذه الغمّة [274]
كتب رجل من المسلمين قصّة وسلّمها إلى امرأة وبذل لها بذلا على اعتراض صاحب مصر بالظلامة وتسليمها إلى يده وكان مضمونها:
«يا مولانا، بالذي أعزّ النصارى بعيسى بن نسطورس واليهود بمنشا بن الفرار وأذلّ المسلمين بك إلّا نظرت فى أمرى.» وكانت لصاحب مصر بغلة معروفة إذا ركبها مرّت فى سيرها كالريح ولم تلحق. فوقفت له المرأة فى مضيق، فلمّا قاربها رمت بالقصة إليه ودخلت فى الناس. فلمّا وقف عليها أمر بطلبها فلم توجد وعاد إلى قصره متقسم الفكر فى أمره واستدعى قاضيه أبا عبد الله محمد بن النعمان وكان من خاصّته(7/222)
وأهل أنسه فشاوره فى ذلك فقال ابن النعمان:
- «أنت أعرف بوجه الرأى.» فقال: «لقد صدقت المرأة فى القصّة ونبّهت من الغفلة.» وتقدّم فى الحال بالقبض على عيسى بن نسطورس وسائر الكتّاب من النصارى وكتب إلى [1] الشام بالقبض على منشا بن الفرار وجماعة المتصرفين من اليهود، وأمر بردّ الدواوين والأعمال إلى الكتّاب المسلمين والتعويل فى الإشراف عليهم فى البلاد [2] .
ذكر تدبير توصّل به عيسى بن نسطورس إلى الخلاص والعود إلى النظر [275]
كانت بنت المتقلّب بالعزيز المعروفة بستّ الملك كريمة عليه حبيبة إليه لا يردّ لها قولا. فاستشفع عيسى بها فى الصفح عنه وحمل إلى الخزانة ثلاثمائة ألف دينار. وكتب إليه يذكره بخدمته وحرمته فرضي عنه وأعاده إلى ما كان ناظرا فيه وشرط عليه استخدام المسلمين فى دواوينه وأعماله.
فتنة العيّارين
وفى هذه السنة كثرت فتن العيّارين بعد انحدار بهاء الدولة ورفعت الحشمة وجرى من الحرب بين أهل الدروب والمحالّ نوبة بعد نوبة ما أعيا فيه الخطب وتكرّر الحريق والنهب تارة على أيدى العيّارين وتارة على أيدى الولاة. وولى المعونة عدّة فما أغنوا شيئا واستمرّ الفساد إلى حين عود بهاء الدولة.
__________
[1] . وفى الأصل: من.
[2] . وفى تاريخ ابن القلانسي ص 33: على القضاة فى البلاد (مد) .(7/223)
ودخلت سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة
ذكر القبض على سابور الوزير
فيها قبض على أبى [نصر] سابور الوزير بالأهواز ونظر أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف فى الأمور.
ذكر السبب فى ذلك
لمّا عاد بهاء الدولة بعد الصلح إلى الأهواز شغب الديلم والأتراك وطالبوا [276] بإطلاق المال وذكروا أبا الحسن المعلّم وأبا نصر سابور وأبا الفضل محمد بن أحمد عارض الديلم وعلى بن أحمد عارض الأتراك وجاهروا بالشكوى منهم وظاهروا بالكراهية لهم.
وتردّدت بينهم وبين بهاء الدولة مراسلات انتهت إلى أن استوهب منهم أبا الحسن المعلم وأبا القاسم على بن أحمد وأرضاهم بالقبض على أبى نصر سابور وأبى الفضل محمد بن أحمد، وقلّد أبا القاسم عبد العزيز الوزارة وخلع عليه.
ومن حسن سياسة الملوك أن يجعلوا خاصّتهم كلّ مهذّب الأفعال محمود الخصال موصوفا بالخير والعقل معروفا بالصلاح والعدل فإنّ الملك لا تخالطه العامّة ولا أكثر الجند، وإنّما يرون خواصّه. فإن كانت طرائقهم سديدة وأفعالهم رشيدة عظمت هيبة الملك فى نفس من يبعد عنه لاستقامة طريقة من يقرب منه.
فقد ورد عن الإسكندر أنّه قال:
- «انّا إذا فتحنا مدينة عرفنا خيارها من شرارها قبل تجربتهم.» قيل له:(7/224)
- «كيف؟» قال: «لانّا نرى خيارهم يتصافون إلى خيارنا وشرارهم إلى شرارنا.» وروى عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه أنّه قال:
- «ما شيء أدلّ على شيء ولا الدخان على الدخان [1] من الصاحب على الصاحب.» قال عدىّ بن زيد: [277]
عن المرء لا تسأل وأبصر [2] قرينه ... فإنّ القرين بالمقارن يقتدى
وإذا كان خواصّ الملك ممن يقدح فيهم وتذكر مساويهم، قلّت الهيبة فى النفوس فأظهر الجند استقلالا لأمره، ثم صار الإضمار نجوى بينهم، ثم زادت الحيرة فصارت النجوى إعلانا. فعند ذلك تقع المجاهرة وترتفع المراتبة ويتحكمون عليه تحكّم الآمر لا المأمور، والقاهر لا المقهور.
وفى هذه السنة أنفذ خلف بن أحمد عمرا ابنه إلى كرمان ودفع تمرتاش عنها.
شرح [ما] [3] عليه أمر خلف بن أحمد صاحب سجستان فى إنفاذ عمرو ابنه إلى كرمان ويتّصل هذا الحديث بما جرى بعد هذه السنة من أحوال تلك البلاد
كان أبو أحمد خلف بن أحمد المعروف بابن بنت عمرو [4] بن الليث
__________
[1] . لعله: النار.
[2] . ويروى: وسل عن» بدل «وأبصر» .
[3] . سقط: «ما» فى الأصل.
[4] . وفى الأصل: عمر. والصواب فيما بعد.(7/225)
الصفّار قد ورد العراق فى أيام معزّ الدولة، وخلع عليه بالحضرة الخلع السلطانية لولاية سجستان.
وكان ردىء الدخيلة فى الباطن جيّد الناموس فى الظاهر، شديد الطمع فى الأموال، متوصلا إلى أخذها باللطف والاحتيال، ويقول: [278]- «ليس يجب أن يكون للرجال من الرعيّة أكثر من عشرة آلاف درهم.
لأنّها ذخيرة لذي الحاجة وبضاعة لذي التجارة» .
ذكر الحيلة التي استمرّ عليها خلف بن أحمد فى أخذ أموال رعيته
كان يتبع أمور أهل البلاد فى مكاسبهم ومتاجرهم وبضائعهم وذخائرهم.
فإذا عرف استظهار قوم منهم عمل ثبتا بأسمائهم.
وخرج على وجه التنزّه والتصيّد ونصب رجلا من أصحابه فى النيابة عنه ووافقه على أخذهم ومطالبتهم بالفضل الذي يقدّر أنّه فى أيديهم. فإذا علم أنّ المال معظمه قد صحّ من جهتهم، رجع فيشكون إليه ما عوملوا به. فيظهر لهم التوجّع ويتقدّم بالإفراج عن من بقي منهم فى الاعتقال ومسامحتهم بما تأخّر عليهم من المال، ويحضر صاحبه الذي استنابه فيجلله بالإنكار، وربّما ضربه بمشهدهم ليزول ما خامر قلوبهم من الاستشعار.
وكان يمشى إلى المسجد الجامع فى كل جمعة بالطيلسان. وربّما خطب وصلّى بالناس وأملى الحديث وله إسناد عال ورواية عن شيوخ العراقيّين ومحدّثى الحرمين.
وكان عضد الدولة عند حصوله بكرمان [1] قرّر معه هدنة على أن لا
__________
[1] . وذلك فى سنة 357.(7/226)
يتعرّض [279] كلّ واحد منهما ببلاد صاحبه، وكتبا بينهما كتابا بذلك شاع ذكره عند أمراء سامان [1] وكبراء أهل خراسان وجرى الأمر على المسالمة مدّة أيام عضد الدولة.
فلمّا توفّى وملك شرف الدولة وانصرف أبو على الحسين بن محمد الحاجب عن كرمان وتقلّدها تمرتاش وسار شرف الدولة إلى العراق، تحدّثت نفس خلف بالغدر، ثم أحجم عن الأمر.
فلمّا توفّى شرف الدولة وملك صمصام الدولة فارس ووقع الخلف بينه وبين بهاء الدولة قوى طمعه وجهّز جيشا مع عمرو ابنه، فلم يشعر تمرتاش بهم حتى نزلوا بعيص أردشير ليلا، وكان هو وعسكره فى موضع يعرف بتركياباد من أبنية أبى عبد الله بن إلياس [2] ومعهم أموالهم وعلاهم. فكان قصاراهم أن تركوا الدور وما فيها من الأموال ودخلوا بردشير [3] بما أمكنهم حمله وحصلوا فى الحصار وملك عمرو بن خلف جميع أعمال كرمان سوى بردشير وجبى الأموال وصار تمرتاش [4] إلى فارس.
وكانت بينه وبين العلاء بن الحسن عداوة من أيّام شرف الدولة فوجد العلاء فى هذا الوقت الفرصة التي كان يتوقّعها فى أمره.
ذكر الحيلة التي رتّبها العلاء بن الحسن فى القبض على تمرتاش وقتله من بعد [280]
قال العلاء ابن الحسن لصمصام الدولة:
__________
[1] . فى الأصل: ساسان.
[2] . أظنّه اليسع ابن محمد بن الياس (مد) .
[3] . وفى المراصد بالسين المهملة: أعظم مدينة بكرمان وبينها وبين السيرجان مرحلتان.
[4] . وفى الأصل: وصادر الناس.(7/227)
- «إنّ تمرتاش فى جنبه بهاء الدولة ولا يؤمن أن يميل إليه ويقيم الخطبة له.» وقرّر معه تجهيز عسكر كثير من الديلم لمعونته وموافقة وجوههم على القبض عليه عند الحصول ببردشير، فأخرج أبا جعفر نقيب نقباء الديلم وتقدّم إليه بذلك.
وسار أبو جعفر إلى كرمان وعرف عمرو بن خلف حصوله بالشيرجان [1] فعاد إلى بمّ ونرماشير. وتمّم أبو جعفر إلى بردشير. فاستقبله تمرتاش مبعدا فى استقباله وسارا جميعا إلى الخيم التي ضربت لأبى جعفر. فلمّا وصلا إليها قال أبو جعفر لتمرتاش:
- «بيني وبينكم ما يجب أن نتواقف عليه فى هذا العدوّ والصواب أن نقدّمه.» فعاد إلى مضاربه. وكان أبو جعفر قد رتّب فيها قومان من الديلم لما يريده فحين نزلا قبض عليه وقيّده فأنفذ إلى داره من احتاط على خزائنه وإصطبلاته وكان مموّلا، فوجد له ما عظم قدره. وحمل تمرتاش إلى شيراز فحبسه العلاء، ثم قتله.
ولمّا فرغ أبو جعفر من أمر تمرتاش سار بالعسكر الذي صحبه وبمن كان مقيما ببردشير يطلب مواقعة عمرو بن خلف.
ذكر ما جرى عليه أمر [281] أبى جعفر فى هزيمته
لمّا التقى الفريقان بدارزين وهي فى سهل من الأرض يتّسع فيها اطّراد الفرسان استظهر ابن خلف عليه بكثرة من الفرسان وضاقت المير على أبى
__________
[1] . قال فى المراصد ذيل «شيرجان» : وما أظنّها إلّا سيرجان قصبة كرمان.(7/228)
جعفر ومن معه. فهرب ليلا وعاد على طريق جيرفت.
وبلغ الخبر صمصام الدولة ومدبّرى أمره فانزعجوا منه، ثم أجمعوا أمرهم وأخرجوا العباس بن أحمد الحاجب إلى هذا الوجه فى عدد كثير من طوائف العسكر وسار متوجّها للحرب.
ذكر ما جرى عليه أمر عمرو بن خلف فى هذه الوقعة وهزيمته وما آل حاله إليه من القتل
لمّا حصل العبّاس بن أحمد الحاجب بقرب الشيرجان، برز إليه عمرو بن خلف ووقعت الوقعة على باب البلد. فكانت الدائرة على عمرو وأسر ألفتكين وكان وجيها فى عسكره والمعروف بابن أمير الخيل صهر خلف وعدد كثير من السجزيّة وذلك فى محرّم سنة اثنتين وثمانين.
وعاد عمرو إلى سجستان مفلولا مع نفر من أصحابه. ولمّا دخل إلى أبيه قيّده وأزرى به وعجزه [282] فى هزيمته. وحبسه أيّاما ثم قتله بين يديه، وتولّى غسله والصلاة عليه ودفنه فى القلعة.
فليت شعري ما كان مراده من قتل ولده! ما [1] كان عذره فى قطع يده بيده؟ أتراه ظنّ أنّه يشفى غلّته أو يجبر وهنه بفتّ عضده؟ كلا بل خاب ظنّه وزاد وهنه وطال حزنه لقد فعل فى الدنيا نكرا وحمل للآخرة وزرا.
فويل للقاسية قلوبهم ما أبعدهم من الصواب وأقربهم من العذاب! ووصل أبو على ابن أستاذ هرمز إلى فارس وقرب من خدمة صمصام الدولة فشرع فى إنفاذ أستاذ هرمز أبيه [2] إلى كرمان وقرّر الأمر معه واستعيد العباس وتوجّه أستاذ هرمز.
__________
[1] . والمثبت فى مد: أما.
[2] . وفى الأصل: ابنه.(7/229)
فقال أبو بكر ابن عمرو بن يعقوب كاتبه: لمّا انتهى الخبر إلى خلف بن أحمد وجم لذلك الجند، ورأى أنّه قد رمى [1] بحجره حين لا قدرة له على الذبّ عن حريمه لتمزّق رجاله واضطراب حاله، وعلم أنّه متى قصده فى عقر داره وهو على هذه الصورة انتهز فيه الفرصة. فعمد إلى إعمال الحيلة.
ذكر حيلة عملها خلف بن أحمد فى تعليل أستاذ هرمز عن قصده [283]
كتب كتابا غير معنون أقام فيه العذر لنفسه وجعل حجّته فى نقض الهدنة العضدية اختلاف صمصام الدولة وبهاء الدولة. إذ كان من شروط الهدنة أنّها ماضية بينهما مدة حياتهما ومنتقلة إلى أولادهما بعدهما ما لم يختلفوا وأنّ نقضه لها كان لهذا العذر، وأنّه متى استونف معه الصلح أجاب إليه.
وأنفذ الكتاب على يد أحد الصوفية. قال أبو بكر: فلمّا وصل الكتاب قرأته على أستاذ هرمز وعرّفته ما فى الصلح من الصلاح. فتقدّم إلىّ بكتب جوابه على نحو ما وقع الإبتداء، ففعلت.
واستمرّ خلف على هذه الطريقة فى مواصلة المكاتبة وتقرير أمر الهدنة حتى استقرّت. وكتب بها كتابا أخذ فيه خطوط الشهود وتوثّق بالأيمان والعهود. واتصلت المهاداة والملاطفة بين الجهتين وخلف فى أثناء هذه الأحوال يجمع المال ويثبت الرجال ويتجدد العهد، حتى إذا قويت شوكته نقض عهده.
وأظهر كتابا من المعتضد بالله رحمة الله عليه، ببلاد كرمان إقطاعا لجدّه عمرو [ابن] الليث الصفّار وجعل ذلك عذرا عند ملوك الأطراف العارفين بما
__________
[1] . وفى الأصل: وفى.(7/230)
استقرّ من تلك المعاهدة.
ذكر مكيدة لخلف أراد بها [284] إساءة سمعة أستاذ هرمز
كان بسجستان قاض يعرف بأبى يوسف البزّاز مقبول القول بين الرعيّة يعظمونه غاية الإعظام ويجرونه عندهم مجرى الإمام. فاستدعاه خلف وأخرجه رسولا إلى أستاذ هرمز وضمّ إليه رجلا من الصوفية يعرف بالحلبي كالمؤانس له، وسلّم إلى المتصوّف سمّا وواقفه على أن يقتله فى طعام يحمل إليه من دار أستاذ هرمز وفى عقب حضوره على طبقه، لينسب الناس قتله إليه. ورتّب للصوفي جمّازات بين سجستان وبمّ وقال له:
- «إذا قضيت الأرب فأهرب.» فتوجّه أبو يوسف غافلا عمّا يراد به، ووصل إلى أستاذ هرمز وهو ببمّ، فأكرمه وسمع منه ما أورده عليه ووعده بالجواب عنه.
ودخل الصوفي بينهما فى السفارة وحصلت له بها قدم عند أستاذ هرمز فآنس به. فأشار عليه باستدعاء أبى يوسف إلى طعامه ليشاهد فضل مروءته فيتحدّث به فى بلده.
فقبل منه واستدعى أبا يوسف لذلك، فاستعفاه وامتنع. فصار الصوفي إلى أبى يوسف وقال له:
- «إنّ فى امتناعك عليه إيحاشا له.» ولم يزل به حتى لبّى دعوته وحضر عنده فى بعض ليالي شهر رمضان.
واتّخذ الصوفي شيئا كثيرا من القطائف. فمنه ما عمله بالفانيد السجزى على عادة تلك البلاد ومنه ما عمله بالسكّر [285] الطبرزد واللوز على رسم أهل بغداد، وجعل السمّ فى البغدادي.(7/231)
فلمّا انصرف أبو يوسف من دار أستاذ هرمز بعد إفطاره معه، سأله الصوفي عن حاله وما شاهده من مروءته. فما زال أبو يوسف يذكر شيئا شيئا حتى أفضى الحديث إلى ذكر القطائف. فوصف أبو يوسف جودة ما أحضر منه على الطبق. فقال الصوفي:
- «ما أظنّ القاضي أكل ممّا يصلح عندنا فى العراق، وقد عملت منه شيئا ليأكله ويعلم أنّ لبغداد الزيادة على كلّ بلد.» وقام وأحضر ما أودعه السمّ. فاستدعى أبو يوسف جماعة من أصحابه ليأكلوا معه. فقال له الصوفي:
- «هذا شيء نحبّ أن يتوفّر عليك، وقد عملت لاصحابنا ما يصلح لهم.» وأحضر ما كان عمله على رسم تلك البلاد، ودعا القوم إليه، وأكل أبو يوسف من المسموم [1] وأمعن فيه.
وخرج الصوفي من الدار وقصد باب البلد وركب جمّازة معدّة ودخل المفازة متوجّها إلى سجستان ونام أبو يوسف. فما مضت ساعة حتى عمل السمّ فيه وطلب الصوفي، فلم يلحق ولا عرف له خبر، فأحسّ بالحيلة.
قال أبو بكر الكاتب:
- «فجاءني رسوله فى جنح الليل يستدعينى. فجئته وهو كما به يتقلّب على فراشه ويحتسب الله على خلف. فوصّانى بحفظ ما يخلفه ومعاونة أصحابه على حمله إلى بلده وتسليمه إلى ورثته. وبقي ساعة وقضى [نحبه] [286] وعرف أستاذ هرمز الخبر فقلق لأجله. ثم رأى كتمان الأمر وأحسن إلى أصحاب أبى يوسف وأعادهم موفورين.» ووصل الصوفىّ إلى خلف وحدّثه الحديث، فقرر معه أن يقول فى المحفل
__________
[1] . وفى الأصل: المصوم.(7/232)
الذي يجتمع الناس فيه: أنّ أستاذ هرمز غدر بأبى يوسف وسمّه وقتله، وأراد أن يفعل بى مثل ذلك فخرجت على وجهى هاربا منه، وأنّه قد نقض العهد وعزم على المسير إلى هذه البلاد.
ثم عقد مجلسا فيه القضاة والشهود ووجوه الخاصّة والعامّة وأحضر الصوفي حتى أورد ما توافقا عليه. فما استتمّ الصوفي كلامه حتى أجهش بالبكاء والنحيب وقال:
- «وا أسفاه على القاضي الشهيد.» ونادى: «النفير لغزو كرمان.» فكتب محاضر بذلك، وأنفذها إلى أصحاب الأطراف، وشنّع على أستاذ هرمز بالغدر والنكث. وندب ولده طاهرا المعروف بشير بابك [1] مع أربعة آلاف غلام وخمسة آلاف رجل من السجزيّة إلى كرمان.
فسبحان من خلق أطوارا وجعل منهم أخيارا وأشرارا! ما كان أجرأ [2] هذا الرجل على فعل المحظور وقول الزور! أتراه ما سمع قول الله تعالى:
«وَمن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً» 4: 93 [3] . وقوله سبحانه: وَمن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ به بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ [287] بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً» 4: 112 [4] ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» 14: 34 [5] ولقد أقدم على ظلم عظيم.
__________
[1] . وفى تاريخ هلال الصابي هو «شير باريك» (مد) .
[2] . والمثبت فى مد: أجرى.
[3] . س 4 النساء: 93.
[4] . س 4 النساء: 112.
[5] . س 14 إبراهيم: 34.(7/233)
ذكر ما جرى عليه أمر طاهر بن خلف بكرمان
سار طالع مع عسكره إلى نرماسير وبها شهفيروز ابن بنت ملكا بن وندا خرشيد فى عدّة من وجوه الديلم والجيل [1] وفيهم سراهنك بن سياهجيك الجيلي قريب زيار بن شهراكويه، وكان فارسا شجاعا، فوصلوا إلى باب البلد سحرا. فما شعر الناس إلّا بنعرة الأتراك.
وبادر الديلم عند ذلك إلى ميدان فى البلد، فاجتمعوا فيه وتشاوروا فيما بينهم فيما يدبّرون به أمرهم مع قصورهم عن مقاومة من نزل بساحتهم.
فبينما هم فى تراجع القول إذ أحرق السجزية أحد أبواب البلد وصعدوا السور. واستقرّ رأى الديلم على الخروج من باب يفضى إلى البساتين والحيطان وسلوك طريق بينهما تضيق عن مجال الفرسان وتوجّهوا على هذه النيّة.
فلمّا وصلوا إلى الباب صادفوا السجزيّة داخلين منه. فتلاقوا وكان يقدم الديلم سراهنك بن سياهجيك. فرمى مليلين [2] الدواتى أحد قوّاد خلف بزوبين سقط منه صريعا ورمى آخر فقتله وثلّث. فانهزم السجزية ناكصين على أعقابهم [288] إلى الصحراء.
وخرج الديلم بأهلهم وأموالهم ولزموا حيطان البساتين وقصدوا جبلا كان قريبا منهم وصعدوا فيه حتى خلصوا ومضوا إلى جيرفت.
ولم يقدم فرسان ابن خلف على اتّباعهم فى تلك الطريق ودخل طاهر بن خلف نرماسير [3] بعد انصرافهم منه.
__________
[1] . وفى الأصل: والخيل.
[2] . كذا فى الأصل.
[3] . ورد هذا الإسم فى هذا الكتاب بضبطين: بالسين المهملة والشين المعجمة.(7/234)
وبلغ أستاذ هرمز الخبر وهو ببمّ، وكان فى القلعة التي هو بها سلاح كثير له خطر كبير.
ذكر ما دبّر به أستاذ هرمز أمره عند وصول الخبر إليه
جمع إليه من كان معه من الديلم وشاورهم فى الأمر فقالوا:
- «لا طاقة لنا اليوم بهذا الرجل مع قوة شوكته، لا سيّما وقد انقطع عنّا العسكر الذين كانوا بنرماسير، والصواب أن نحمل من هذه الأسلحة ما نقدر على حمله ونحرق الباقي، لئلا يستظهر العدوّ به علينا ونمضي إلى جيرفت ونقرّر رأينا هناك» .
فاستصوب رأيهم وعمل به وبادر إلى جيرفت وأقام بها يستكثر من الرجال ويستعدّ للقتال.
وسار ابن خلف إلى بردسير [1] لأنّها قطب كرمان ومن ملكها وقلعتها تمكّنت قدمه واستقام ملكه. [289]
ذكر ما جرى عليه أمر ابن خلف فى قصد بردسير وما آل أمره إليه من الهزيمة
كان الحامى ببردسير فى ذلك الوقت أبو بكر محمد بن الحسن قريب أبى الوفاء طاهر بن محمد، فجاهد فى الذبّ عن البلد ثلاثة أشهر ثم ضاقت الميرة، فكتب إلى أستاذ هرمز يعلمه اشتداد الحصار به وأنّه متى لم يدركه سلّم البلد.
__________
[1] . ورد هذا الاسم فى هذا الكتاب حينا بالسين المهملة وحينا بالشين المعجمة.(7/235)
فبلغ ذلك من أستاذ هرمز كلّ مبلغ وخاف أن تتمّ الحيلة فيه. فسار من جيرفت فى سنة أربع وثمانين والزمان شات، ولاقى عسفا فى طرق سلكها وأخطار ركبها. فلمّا قرب من بردسير أخذ فى لحف الجبل حتى صار بينه وبين القلعة ثلاثة فراسخ ثم رتّب مصافّه وسار.
وعرف من فى القلعة وروده، فضربوا البوقات والطبول وبرزوا. وتلاقى السجزية عسكر أستاذ هرمز واقتتلوا عامّة النهار وأستاذ هرمز زحف بعسكره إلى باب البلد حتى إذا شارفه قلع السجزية مضاربهم من موضعها وتأخّروا واختلطوا محاصرين [1] لعسكر أستاذ هرمز.
وقوى بعضهم ببعض وهابهم السجزية وأحجموا عن الإقدام عليهم وأقاموا يوما واحدا. [290] ثم أوقدوا النيران ليلا يوهمون بها أنّهم مقيمون، ورحلوا.
وعرف أستاذ هرمز خبر انصرافهم سحرا فأنفذ أبا غالب ابنه فى جماعة من الفرسان لاقتصاص آثارهم فسار مجدّا فى طلبهم وقتل جماعة ظفر بهم منهم.
ورحل أستاذ هرمز يطوى المنازل إلى نرماسير، فوصلها وقد دخل طاهر بن خلف المفازة عائدا إلى سجستان.
ونعود إلى سياقة التاريخ.
عود بهاء الدولة من الأهواز إلى مدينة السلام
وفى هذه السنة عاد بهاء الدولة من الأهواز إلى مدينة السلام وقبض على أبى نصر خواشاذه وأبى عبد الله ابن طاهر.
__________
[1] . يريد: واختلط عسكر المحاصرين بعسكر أستاذ هرمز (مد) .(7/236)
ذكر السبب فى ذلك
كان أبو الحسن المعلّم يتوقّع فى كل ناظر خدمة وهديّة وكان أبو نصر فيه شحّ يمنعه عن ذلك، فإذا أشير عليه قال:
- «إنّما يفعل هذا الفعل من يرتزق أو يرتفق.» ففسد رأى أبى الحسن فيه فسادا عرفه كلّ أحد، وبلغ أبا نصر فخافه وهمّ بالهرب عن قرب بهاء الدولة، واستدعى من العرب من يخرج معه.
ثم توقّف وأشار عليه أهل أنسه بتلافى أبى الحسن بما يحمله إليه، فنازلهم إلى ألف دينار. فقالوا له:
- «تكون وزنا يلقى بها بواسط.» فلم يفعل وأخذ خطّ بعض الباعة به وأنفذه إليه فلم يقع موقعه، إلّا أنّه قبله تأنيسا له. وورد مدينة [291] السلام فقبض عليه وأخذ له عند القبض عليه من عدّة مواضع ما بلغ قيمته ألفى ألف دينار وأفرج عنه بعد ذلك بمدّة.
فانظر إلى هذا الشحّ المطاع كيف ألقى صاحبه فى المهالك، وأخرجه إلى ضيق المسالك. فإنّه ضيّع الكثير من حيث حفظ القليل.
والجوّاد أملك لماله من الشحيح. لأنّ ذلك يبدّله: إمّا لنفع عاجل وإمّا لذخر آجل. وهذا يخزنه: إمّا لحادث وإمّا لوارث. فذاك محظوظ وهذا محروم. وذاك مشكور وهذا مذموم.
وقد قيل: أنفق فى حالتي الإقبال والإدبار والإنفاق فى زمن الإقبال لا ينقص حالا والإمساك فى زمن الادبار لا يحفظ مالا. قال الله تعالى: «وَمن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» 59: 9 [1] .
__________
[1] . س 59 الحشر: 9، س 64 التغابن: 16.(7/237)
القبض على ابن طاهر
فأمّا أبو عبد الله ابن طاهر فإنّه كان نائبا عن أبى نصر سابور، إلّا أنّه أقرّ على أمره عند القبض على سابور بالأهواز، لأنّه أعطى أبا الحسن المعلّم ما أرضاه، ثم [لم] [1] يدفع عنه كراهة منه لإيحاش أبى القاسم عبد العزيز، فقبض عليه وقرّر أمره على مال صحّحه وخلّى عنه.
سكون فتنة العيّارين
وفيها سكنت الفتنة وتتبع العيارون وأخذوا وقتلوا واطمأن الناس وقامت الهيبة. وكان فى جملة العيّارين المأخوذين إنسان يعرف بابن جوامرد [2] من وجوههم، وكان قد أبقى فى أيام [صمصام الدولة] [292] وحرس الأسواق.
فسئل بهاء الدولة فى أمره فآمنه، [3] ومن أبقى أبقى عليه، ومن أساء أساء [4] إليه، ومن أحسن أحسن إليه.
وفيها هرب أبو منصور فولاذ بن ماناذر من شيراز.
ذكر السبب فى هرب فولاذ
لمّا استفحل أمره بفارس وزاد على حدّ أصحاب الجيوش حصل صمصام الدولة تحت حكمه وجعل اسمه مقترنا باسمه فى المناشير وكتب فيها:
«هذا كتاب من صمصام الدولة وشمس الملّة أبى كاليجار بن عضد الدولة
__________
[1] . وفى الأصل: يدفع، بدون «لم» .
[2] . أصله الفارسي: جوانمرد: ذو الفتوة: العيّار.
[3] . الضبط فى مد: فأمنه.
[4] . لعله: أسىء. هذا إذا اعتبرنا الكلام تعقيبا من صاحب الكتاب.(7/238)
يمين أمير المؤمنين، ومن عبده وصاحب جيشه نجم الدولة أبى منصور مولى أمير المؤمنين.» كانت بينه وبين العلاء بن الحسن المودّة التي تقدّم ذكرها. ثم استحالت عداوة ثبتت على الأيام أصولها وبسقت فروعها. فعمل فولاذ على القبض عليه وخاطب صمصام الدولة على ذلك، فأجابه إلى مراده منه.
ذكر الحيلة التي رتّبها فولاذ على العلاء بن الحسن وانعكاسها حتى صارت الدائرة على فولاذ [293]
صار فولاذ إلى دار الإمارة وفيها أبو القاسم العلاء بن الحسن على عادته.
فقدم إليه واستقبله وقضى حقّه وأخذ بيده وما شاه وحادثه. ثم وقف على باب بيت ودفع فى صدره حتى حصل بالبيت وأغلق بابه عليه ووكّل به قوما.
فاشتغل فولاذ بلقاء الديلم وسلامهم وخطابهم على أمورهم. وكان البيت الذي حصل فيه له باب آخر قد سمّر فعالجه حتى فتحه وخرج منه ودخل على صمصام الدولة فى حجرة خلوته. فقال له:
- «قد قبض هذا الرجل علىّ، وغرضه فى ذلك أن لا يترك بين يديك من يخدمك، وفى نفسه أن يعلو على الملك.» قال: «فما الرأى.» قال: «أن تقبض عليه إذا دخل إليك الساعة وعلىّ أن لا يجرى من العسكر قول فى معناه.» ففعل وتقدّم إلى بعض الحواشي بالقبض عليه إذا أقبل إلى حضرة صمصام الدولة والعدول به إلى بعض البيوت.(7/239)
وسمع علىّ الأرزنانى [1] النديم الحديث، وكان يتجسّس على صمصام الدولة لفولاذ. فلمّا وافى فولاذ أومى علىّ [2] إليه بيده أن:
- «ارجع فإنّك مأخوذ.» فرجع فولاذ نافرا وانصرف إلى داره.
وخرج العلاء بن الحسن إلى وسط العسكر على أثره وأظهر لهم عصيانه ونادى للركوب إليه والقبض عليه. فعرف فولاذ ما عوّل عليه العلاء، فأخذ ما خفّ من ماله على الجمّازات وسار.
وتبعه العلاء مغذّا فى طلبه [3] قانعا بما تمّ عليه [294] من هربه. ومضى فولاذ إلى الأكراد الخسروية فنزل عليهم. وعاد العلاء وأقطع الديلم إقطاعات فولاذ واستقام الأمر له.
وكاتب الأكراد وطالبهم بفولاذ وسبق إليهم بالوعيد إن لم يسلموه وكانوا قد طمعوا فى مال فولاذ. وانضاف إلى الطمع فيه الخوف من العلاء، فنهبوه وأفلت بنفسه منهم وحصل بالرىّ وأقام عند فخر الدولة، إلى أن توفّى. فأمّا علىّ الارزنانى، فإنّ صمصام الدولة أمر بقتله فقتل.
ذكر القبض على عبد العزيز بن يوسف وأصحابه
وفيها قبض على أبى القاسم عبد العزيز بن يوسف وعلى أصحابه وأسبابه.
وكانت مدة نظره ببغداد شهرين ونصفا. وقلّد أبو القاسم على بن أحمد الأبرقوهى الوزارة وخلع عليه.
__________
[1] . وفى الأصل: الأرزبانى.
[2] . والضبط فى مد: علىّ.
[3] . لعله سقط: ثم انصرف (مد) .(7/240)
وفى هذا الوقت قبض على الطائع لله وقد جلس لبهاء الدولة.
ذكر السبب فى القبض على الطائع لله رضوان الله عليه
كان أبو الحسن المعلم- وبئس القرين هو- قد كثّر عند بهاء الدولة مال الطائع لله وذخائره وأطمعه فيها وهوّن عليه أمرا عظيما وجرّأه على خطّة شنعاء، فقبل منه وقبض عليه. ثم لم يحظ من ذلك إلّا بسوء الذكر إلى آخر الدهر. ولولا أنّ حسنات أيام القادر بالله رضوان الله عليه، أسبلت [295] على مساوئ هذا الفعل سترا، لما وجد عند الله تعالى ولا عند المخلوقين عذرا.
لكن محاسن ذلك الإمام التقىّ الرضىّ أعادت وجه الدين مشرقا وعود الإسلام مورقا.
فأمّا شرح ما جرت عليه الحال يوم القبض فلم نذكره إذ لا سياسة فيه فتحكى، ولا فضيلة فتروي. إلّا أبياتا للرضىّ أبى الحسن الموسوي رحمه الله. فإنّه كان فى جملة من حضر. فلمّا أحسّ بالفتنة أخذ بالحزم وبادر الخروج من الدار، وتلوّم من تلوّم من الأماثل، فامتهنوا وسلبت ثيابهم وسلم هو فقال:
أعجب لمسكة نفسي بعد ما رميت ... من النوائب بالأبكار والعون
ومن نجاتي يوم الدار حين هوى ... غيرى ولم أخل من حزم ينجّينى
مرقت منها مروق النجم منكدرا ... وقد تلاقت مصاريع الرّدى دوني
وكنت أول طلّاع ثنّيتها ... ومن ورائي شرّ غير مأمون
من بعد ما كان ربّ الملك مبتسما ... إلىّ أدنيه فى النّجوى ويدنيني
أمسيت أرحم من أصبحت أغبطه ... لقد تقارب بين العزّ والهون
ومنظر كان بالسّرّاء يضحكني ... يا قرب ما عاد بالضّرّاء يبكيني(7/241)
هيهات أغترّ بالسلطان ثانية ... قد ضلّ ولاج أبواب السلاطين [1]
[296]
وبالله تعالى نستعين من شرّ الفتن وانقلاب الزمن، وإيّاه نسأل سلامة شاملة وعاقبة حميدة بمنّه.
__________
[1] . من قصيدة طويلة له، أولها:
لواعج الشّوق تخطيهم وتصمينى ... واللّوم فى الحبّ ينهاهم ويغرينى
أنظر: ديوان الشريف الرضىّ، طبعة وزارة الإرشاد بالأفست، طهران 1406 هـ. ق. ج 2، صص 444- 448.(7/242)
خلافة القادر بالله
ولمّا انصرف بهاء الدولة إلى داره- وقد حمل الطائع لله قبله إليها واعتقل فيها- أظهر أمر الخليفة القادر بالله أبى العبّاس أحمد بن اسحق بن المقتدر بالله رضوان الله عليهم، ونادى بشعاره فى البلد.
وكتب على الطائع كتابا بالخلع وتسليم الأمر إلى القادر بالله رضى الله عنه، وشهد الشهود فيه عليه، وكانت مدة خلافته سبع عشرة سنة وثمانية أشهر وخمسة أيام.
وانحدر إلى حضرة القادر بالله من خواصّ بهاء الدولة من يهنّيه بالخلافة ويصعد فى خدمته إلى مدينة السلام.
وشغب الديلم والأتراك مطالبين برسم البيعة ومنعوا من الخطبة باسم الخليفة فى يوم الجمعة، فقيل:
- «اللهم أصلح عبدك وخليفتك القادر بالله. [1] » فقيل: «اللهم أصلح عبدك وخليفتك» [2] ولم يسمّ.
وتردّدت الرسل بين بهاء الدولة وبين العسكر، فأرضى الوجوه والأكابر ثمّ
__________
[1] . وزاد فى مد: «الخليفة فى يوم الجمعة» اعتبرناه زائدا وخلطا.
[2] . وزاد فى مد: القادر بالله. حذفناه بدليل قوله: «ولم يسمّ» .(7/243)
قرّر لكلّ واحد ثمانمائة درهم وأخذت البيعة على الجماعة واتفقت الكلمة على الرضا [1] والطاعة.
وأقيمت الخطبة باسم أمير المؤمنين القادر بالله أبى العبّاس أحمد رضوان الله عليه، فى يوم الجمعة الثالث من شهر رمضان. وقيل: إنّ القادر بالله [297] رضوان الله عليه، رأى رؤيا قبل ورود الخبر إليه بمصير الأمر إليه.
ذكر الرؤيا التي رآها القادر بالله رضوان الله عليه
قال هبة [الله] بن عيسى كاتب مهذّب الدولة:
كنت أغشى مجلس القادر بالله فى مقامه بالبطيحة فى كل أسبوع يومين.
فإذا حضرت رفعنى وإذا رمت تقبيل يده منعني. فدخلت إليه يوما فوجدته قد تأهّب، لم تجر عادته بمثله ولم أر منه ما عوّدنيه من الإكرام، وجلست دون موضعي فما أنكر ذلك منّى، ورمت تقبيل يده فمدها إلىّ. فاختلفت بى الظنون لزلّة منّى، فإن تكن فأسأل إعلامى بها، فإمّا أن أطلب مخرجا منها بالعذر، أو ألوذ فيها بالعفو. فأجابنى بوقار أن اسمع:
- «رأيت البارحة فى منامي كأنّ نهركم هذا- وأومى إلى نهر الصليق- قد اتسع حتى صار عرض دجلة دفعات، وكأنّى متعجب من ذلك وسرت على حافته [مستعظما] لأمره ومستطرفا لعظمه. فرأيت دستاهيج قنطرة عظيمة [2] فقلت: ترى من قد حدّث نفسه بعمل قنطرة فى هذا الموضع على مثل هذا البحر الكبير؟ وصعدته فكان [298] بثقا محكما ومددت عيني وإذا بازائه مثله، وزال الشكّ عنّى فى انهماد دستاهيج قنطرة وأقبلت أصعد وأصوّب فى التعجب. فبينما أنا واقف عليه إذ رأيت شخصا قد تأمّلنى من ذلك الجانب
__________
[1] . كذا فى مد: الرضاء.
[2] . وفى مرآة الزمان: وإذا بقواعد قنطرة عظيمة. وكلمة دستاهيج، لعلّ معناها درابزين (مد) .(7/244)
وناداني: يا أحمد أتريد أن تعبر؟ قلت: نعم. فمدّ يده حتى وصلت إلىّ وأخذنى وعبر بى. فهالني فعله فقلت له وقد تعاظمنى أمره: من أنت؟ قال:
علىّ بن أبى طالب. هذا الأمر صائر إليك ويطول عمرك فيه، فأحسن إلى ولدي وشيعتي.» فما أنهى الخليفة هذا المقال من قوله حتى سمعنا صياح ملّاحين وضجيج ناس. فسألنا عن ذلك فقيل:
- «ورد أبو علىّ ابن محمد بن نصر وجماعة معه.» فإذا هم الواردون للإصعاد به فقد تقرّرت الخلافة له. فعاودت تقبيل يده ورجله وخاطبته بإمرة المؤمنين وبايعته.
ثم قام مهذّب الدولة بخدمة الخليفة فى إصعاده وانحداره أحسن قيام، وحمل إليه من المال والثياب والآلات ما يحمل مثله إلى الخلفاء، وأعطاه الطيّار الذي كان صنعه لنفسه، وشيّعه إلى بعض الطريق وأنفذ هبة [الله] بن عيسى فى خدمته.
فلمّا وصل إلى واسط اجتمع الخدم بها وطالبوا برسم البيعة وجرت لهم خطوب انتهت إلى أن وعدوا بإجرائهم مجرى البغداديّين.
فلمّا تقررت أمورهم عليه ورضوا. سار. فلمّا بلغ الجبل انحدر بهاء الدولة ووجوه الأولياء وأماثل الناس لتلقّيه [299] وخدمته ودخل دار الخلافة ليلة الأحد ثانى عشر رمضان.
ذكر جلوس القادر بالله أمير المؤمنين رضوان الله عليه على سرير الخلافة
جلس ثانى يوم حصوله فى الدار جلوسا عامّا وهنّئ بالأمر وأنشد المديح(7/245)
بالشعر. وكان من ذلك قصيدة للرضىّ أبى الحسن الموسوي [1] أولها:
شرف الخلافة يا بنى العبّاس ... اليوم جدّده أبو العبّاس
هذا الذي رفعت يداه بناءها ال ... عالى وذاك موطّد الآساس [2]
ذا الطّود بقّاه الزمان ذخيرة ... من ذلك الجبل الأشمّ الرّاسى
وتمامها مثبت فى ديوان شعره [3] ولقد صدق الموسوي فى قوله. [4] إنّ القادر بالله جدّد معاهد الخلافة وأنار أعلامها، وكشف غمم الفتنة وجلّى ظلامها، ويقولون: لئن كان لكلّ من الائمة رضوان الله عليهم مناقب مروية وطرائق مرضية، فإنّ لأربعة منهم فضائل أفردوا بمزاياها وحظوا بمرباعها وصفاياها: قام أمير المؤمنين السفّاح سفح دماء الأعداء وتأخّى كشف الغمّاء [5] وتفرّد وتفضّل بفضيلة الإبتداء، والمنصور بالله، أيّد بالنصر فى توطيد [300] قواعد الأمر، فذلل كلّ صعب وأزال كلّ شعب وثقّف كلّ مناد [6] ومهّد لمن بعده أحسن مهاد، ثم المعتضد بالله عضد الدولة بحسن تدبيره وسياسته وتلافاها بشرف نفسه وعلوّ همّته وأعادها بعد الضعف إلى
__________
[1] . وفى كتاب عمدة الطالب (طبع بمبئي 1318 ص 184) أنّه كان الرضى يرشح إلى الخلافة وكان أبو اسحق الصابي يطمعه فيها ويزعم أنّ طالعه يدلّ على ذلك.
[2] . والمثبت فى مد: الأساس.
[3] . انظر: ديوان الشريف الرضىّ، طبعة وزارة الإرشاد بالأفست، طهران 1406 هـ. ق. ج 1، صص 546- 549.
[4] . قوله: شعره. والكلام الآتي لصاحب الكتاب.
[5] . فى الأصل: كسف ناجى الغماء (مد) .
[6] . كذا فى مد.(7/246)
القوّة وبعد اللين إلى الشدّة وبعد الأود إلى الاستقامة وبعد الفتنة إلى السلامة، ثم القادر بالله قدر من صلاحها على ما لم يقدر عليه سواه وسلك من طريق الزهد والورع ما تقدّمت فيه خطاه، فكان راهب بنى العباس حقّا وزاهدهم صدقا. ساس الدنيا والدين وأغاث الإسلام والمسلمين واستأنف فى سياسة الأمر طرائق قويمة ومسالك مأمونة سليمة هي إلى الآن مستمرة والقاعدة عليها مستقرّة لم تعرف منه زلّة ولا ذمّت له خلّة. فطالت أيّامه وطابت أخباره وأقفيت آثاره وبقيت على ذرّيّته الشريفة أنواره رضى الله عنه رضاه عن الائمة المتقين، وجعلها كلمة باقية فى عقبه إلى يوم الدين.»
حمل ما كان أخذ من دار الخلافة
وحمل إلى القادر بالله بعض ما كان أخذ من دار الخلافة من الأثاث والأوانى والآلات وجعل كتّابه وحجّابه وحواشيه جميعهم من أصحاب بهاء الدولة، ثم أعاد القادر بالله بعد ذلك حاشية الدار القدماء إلى مواضعهم. وكان مدة مقامه [301] بالبطيحة من يوم وصلها إلى يوم خرج منها سنتين وأحد عشر شهرا.
توقير أخت بهاء الدولة
فأمّا أخت بهاء الدولة التي كانت فى حبال الطائع لله فإنّ دارها حرست يوم القبض من النهب. ثم نقلت إلى دار بمشرعة الصحراء أقامت فيها موقّرة إلى أن توفّيت.
وفى هذه السنة ورد الخبر بوفاة سعد الدولة أبى المعالي ابن سيف الدولة(7/247)
بعد قتله بكجور غلامه [1] .
شرح الحال فى عصيان بكجور وما آل إليه أمره من القتل ونبذ من أخبار المصريين تتصل بها فى هذه السنة وما بعدها
كان لسعد الدولة غلام يعرف ببكجور فاصطنعه وقلّده الرقّة والرحبة واستكتب له أبا الحسن على بن الحسين المغربي.
فلمّا طالت مدّته فى ولايته جحد الإحسان وحدّث نفسه بالعصيان واستغوى طائفة من رفقائه فصاروا إليه وخرج إلى أبى الحسن المغربي بسرّه، فأشار إليه بمكاتبة صاحب مصر الملقّب بالعزيز والتحيّز إليه فقبل منه وكاتبه واستأذنه فى قصد بابه فأذن له. وسار عن الرقّة بعد أن خلّف عليها سلامة الرشيقى غلامه وأخذ رهائن أهلها على الطاعة. فلقيته كتب صاحب مصر وخلعه [302] وعهده على دمشق، فنزل بها وتسلّمها ممن كان واليا عليها.
ووجد أحداثها وشبّانها مستولين، ففتك بهم وقتل منهم، وقامت هيبته بذلك. [2] وترددت بينه وبين عيسى بن نسطورس الوزير مكاتبات خاطبه فيها بكجور بخطاب توقّع عيسى أوفى منه. ففسد ما بينهما وأسرّ عيسى العداوة له وأساء غيبه وقطع بكجور مكاتبة عيسى وشكاه إلى صاحب مصر، فأمر عيسى باستئناف الجميل معه فقبل ظاهرا وخالف باطنا.
وخاف بكجور عيسى ومكيدته فاستمال طوائف من العرب وصاهرهم فمالوا إليه رغبة وعاد إلى الرقّة وكتب إليه صاحب مصر يعاتبه على فعله فأجابه جواب المعتذر الملاطف.
__________
[1] . وأما ابتداء أمر بكجور هذا فليراجع تاريخ ابن القلانسي ص 27 (مد) .
[2] . وهذا فى سنة 377: ابن القلانسي ص 30 (مد) .(7/248)
ذكر السبب فى مسير بكجور إلى حلب لقتال مولاه [1]
كان لبكجور رفقاء بحلب يوادّونه. فكاتبوه وأطمعوه فى الأمر وأعلموه تشاغل سعد الدولة باللذة، فاغترّ بأقوالهم وكتب إلى صاحب مصر يبذل له فتح حلب ويطلب منه الإنجاد والمعونة فأجابه إلى كل ملتمس. وكتب إلى نزّال الغورى وإلى طرابلس بالمسير إليه متى [2] استدعاه من غير معاودة.
وكان نزّال هذا [203] من قوّاد المغاربة وصناديدهم ومن صنائع عيسى وخواصّه.
ذكر الحيلة التي رتّبها عيسى مع نزّال فى التقاعد ببكجور حتى ورّطه
كتب عيسى إلى نزّال سرّا بأن يظهر لبكجور المسارعة ويبطن له المدافعة.
فإذا تورّط مع مولاه وصادمه تأخّر عنه وأسلمه.
فرحل بكجور عن الرقّة وكتب إلى نزّال بأن يسير من طرابلس ليكون وصولهما إلى حلب فى وقت واحد وسار إليها.
ورحل نزّال وأبطأ فى سيره وواصل مكاتبة بكجور بنزوله فى منزل بعد منزل وقرب عليه الأمر فى وصوله. وقد كان سعد الدولة كتب إلى بسيل عظيم الروم وأعلمه عصيان بكجور عليه وسأله مكاتبة البرجى صاحبه بأنطاكية بالمسير إليه متى استنجده بالمسير إليه فسار.
وبرز سعد الدولة فى غلمانه وطوائف عسكره- ولؤلؤ الجراحي الكبير
__________
[1] . ليراجع ابن القلانسي ص 34 (مد) .
[2] . وفى الأصل: من.(7/249)
يحجبه- ولم يكن معه من العرب إلّا عمرو بن كلاب وعدّتهم خمسمائة فارس إلّا أنّهم أولو بأس ومن سواهم من [1] عدّته وعدّته. فنزل إلى الأرض وصلّى وعفّر خدّيه وسأل الله تعالى النصر.
ثم استدعى كاتبه وأمره بأن يكتب إلى [304] بكجور عنه ويستعطفه ويذكّره الله ويبذل له أن يقطعه من الرقّة إلى باب حمص ويدعوه إلى الموادعة ورعاية حقّ الرقّ والعبودية.
ومضى بالكتاب رسول فأوصله إليه. فلمّا وقف عليه قال: الجواب ما يراه عيانا. فعاد الرسول وأعاد على سعد الدولة قوله وأخبره أنّه سائر على أثره.
فتقدّم سعد الدولة وتقارب العسكران ورتّب المصافّ ووقع الطراد.
ذكر وجود عاد على سعد الدولة بحفظ دولته وشحّ آل ببكجور إلى ذهاب مهجته
كان الفارس من أصحاب سعد الدولة إذا عاد إليه وقد طعن أو جرح خلع عليه وأحسن إليه. وكان بكجور شحيحا فإذا عاد إليه رجل من رجاله على هذه الحال أمر بأن يكتب اسمه لينظر مستأنفا فى أمره.
وقد كان سعد الدولة كاتب العرب الذين مع بكجور وآمنهم ووعدهم ورغّبهم. فلمّا حصلت كتبه بالأمان معهم عطفوا على [2] سواده ونهبوه واستأمنوا إلى سعد الدولة.
ورأى بكجور ما تمّ عليه من تقاعد نزّال به وانصراف العرب عنه وتأخّر رفقائه الذين كانوا كاتبوه ووعدوه بالانحياز إليه إذا شاهدوه. فاستدعى أبا
__________
[1] . زاد هاهنا ابن القلانسي ص 34: ومن سواهم من بطون العرب بنى كلاب مع بكجور ... وأعجبه- يعنى سعد الدولة- ما رأى من عدته وعدته إلخ (مد) .
[2] . وفى الأصل: عن.(7/250)
الحسن المغربي كاتبه وقال له:
- «لقد غررتنى فما الرأى الآن؟» قال له:
- «أيّها الأمير لم أكذّبك فى شيء قلته ولا أردت [305] إلّا نصحك.
والصواب مع هذه الأسباب أن ترجع إلى الرقّة وتكاتب صاحب مصر بما اعتمده نزّال معك وتعاود استنجاده.» وكان فى العسكر قائد من القوّاد يجرى مجراه فى التقدّم فسمع ما جرى بينهما فقال لبكجور:
- «هذا كاتبك إذا جلس فى دسته قال: الأقلام تنكّس الأعلام. فإذا تحققت الحقائق أشار علينا بالهرب والله لاهربنا.» وحلف بالطلاق على ذلك وسمع أبو الحسن المغربي قوله فخاف وكان قد واقف بدويّا من بنى كلاب على أن يحمله إلى الرقّة متى كانت هزيمة وبذل له ألف دينار على ذلك.
فلمّا استشعر ما استشعر قدّم ما كان أخّره وسأل البدوي تسييره إلى الرقّة فسيّره.
ذكر ما دبّره بكجور بفضل شجاعته فحالت المقادير دون إرادته
لمّا رأى الأمر معضلا عمل على أن يعمد إلى الموضع الذي فيه سعد الدولة من المصاف ويحمل عليه بنفسه ومن ينتخبه من صناديد عسكره موقعا به فاختار وجوه غلمانه وقال لهم:
- «قد حصلنا من هذه الحرب على شرف أمرين صعبين من هزيمة وهلاك وقد عوّلت على كيت وكيت فإن ساعدتمونى رجوت لكم الفتح.»(7/251)
فقالوا: «نحن طوعك وما نرغب بنفوسنا عن نفسك.» فغدر واحد من الغلمان واستأمن إلى لؤلؤ [306] الجراحي وأعلمه بما عوّل عليه.
ذكر ما فعله لؤلؤ من افتداء مولاه بنفسه فنجّاهما الله بحسن النيّة
أسرع لؤلؤ إلى سعد الدولة وأخبره الحال وقال:
- «قد أيس بكجور من نفسه وهو لا شكّ فاعل ما قد عزم عليه، فانتقل من مكانك إلى مكاني لأقف أنا فى موضعك وأكون وقاية لك ولدولتك.» فقبل سعد الدولة رأيه ووقف لؤلؤ تحت الراية وجال بكجور فى أربعمائة غلام شاكّين فى السلاح ثم حمل فى عقيب جولته حملة أفرجت له العساكر ولم يزل يخبط من تلقّاه بالسيف إلى أن وصل إلى لؤلؤ وهو يظنّه سعد الدولة فضربه على الخوذة ضربة قدّها ووصلت إلى رأسه ووقع لؤلؤ إلى الأرض.
وحمل العسكر على بكجور وبادر سعد الدولة عائدا إلى مكانه مظهرا نفسه لغلمانه. فلمّا رأوه قويت شوكتهم وثبتت أقدامهم واشتدّوا فى القتال حتى استفرغ بكجور وسعه، ثم انهزم فى سبعة نفر.
ذكر ما جرى عليه أمر بكجور بعد الهزيمة إلى أن قتل
كان تحته فرس ثمنه ألف دينار فانتهى إلى ساقية تحمل الماء إلى رحا الطريق سعتها [307] قدر ذراعين فجهد الفرس على أن يعبرها خوضا أو وثبا(7/252)
فلم يكن [1] فيه ووقف ولحقته عشرة فوارس من العرب فرجلته وأصحابه وجرّدوهم من ثيابهم وآبوا عنهم بأسلابهم.
ونجا بكجور ومن معه إلى الرحا فاستكنوا فيه.
بكجور ورجل من بنى قطن
ثم خرجوا من بعد إلى قراح فيه زرع فمرّ بهم قوم من العرب وكان فيهم رجل من بنى قطن كان بكجور يستخدمه كثيرا فى مهمّاته فناداه: أن ارجع، فرجع وهو لا يعرفه فأخذ ذمامه، ثم عرّفه نفسه وبذل له على إيصاله الرقّة حمل بعيره ذهبا، فأردفه وحمله إلى بيته وكساه.
وكان سعد الدولة قد بثّ الخيل فى طلبه وجعل لمن أحضره حكمه.
فساء ظنّ البدوي وطمع فيما كان سعد الدولة بذله واستشار ابن عمه فى أمره فقال:
- «هو رجل بخيل وربما غدر فى وعده وإذا قصدت سعد الدولة به حظيت برفده.» فأسرع البدوي إلى معسكر سعد الدولة وأشعره بحال بكجور واحتكم عليه مائتي فدان زراعة ومائة ألف درهم ومائة راحلة محمّلة برّا وخمسين قطعة ثيابا فبذل له سعد الدولة ذلك جميعه.
وعرف لؤلؤ الجراحي الخبر وتقرّر أن يمضى البدوي ويحضره. فتحامل وهو مثخن بالضربة التي أصابته ومشى يتهادى على أيدى غلمانه حتى حضر عند سعد الدولة.
__________
[1] . كذا فى مد. ولعلّه «لم يتمكّن» .(7/253)
ذكر حزم أخذ به لؤلؤ دلّ منه [308] على أصالة رأى
لمّا حضر سأل عمّا يقوله البدوي فأخبر به فقبض لؤلؤ على يده وقال له:
- «أين أهلك.» فقال:
- «فى المرج على فرسخ.» فاستدعى جماعة من غلمانه وأمرهم أن يسرعوا إلى الحلّة ويقبضوا على بكجور ويحملوه فتوجّهوا وهو قابض على يد البدوي، والبدوي يستغيث.
فقدم لؤلؤ إلى سعد الدولة وقال:
- «يا مولانا لا تنكر علىّ فعلى، فإنّه منى عن استظهار فى خدمتك فلو عاد هذا البدوي إلى بيته لم نأمن أن يبذل له بكجور مالا جمّا فيقبل منه وتطلب منه بعد ذلك أثرا بعد عين والذي طلبه البدوي مبذول وما ضرّ الاحتياط.» فقال له سعد الدولة:
- «أحسنت يا أبا محمد، لله درك.» ولم يمض ساعات حتى أحضر بكجور فشاور سعد الدولة لؤلؤا فى أمره، فأشار عليه بقتله خوفا من أن تسأل أخت سعد الدولة فيه فيفرج عنه، فأمر عند ذلك بضرب عنقه.
فسار سعد الدولة إلى الرقّة فنزل عليها وفيها سلامة الرشيقى وأبو الحسن المغربي وأولاد بكجور وحرمه وأمواله ونعمه. فأرسل إلى سلامة يلتمس منه تسليم البلد فأجابه:
- «بأنّى عبدك وعبد عبدك إلّا أنّ لبكجور علىّ عهودا ومواثيق لا مخلص(7/254)
لى عند الله منها إلّا بأحد أمرين: إمّا أنّك تذم لأولاده على نفوسهم وحرمهم [309] وتقتصر فيما تأخذه منهم على آلات الحرب- وعددها- وتحلف لهم على الوفاء به، وإمّا بأن أبلى [1] عذرا عند الله تعالى فيما أخذ علىّ من عهد وعقد معى من عقد.» فأجابه سعد الدولة إلى ما اشترطه من الذمام وحلف له بيمين مستوفاة الأقسام ودخل فيها الأمان لأبى الحسن المغربي بعد أن كان قد هدر دمه. إلّا أنّه أمّنه على أن يقيم فى بلاده. فهرب إلى الكوفة وأقام بمشهد أمير المؤمنين على بن أبى طالب عليه السلام.
ذكر ما جرى عليه أمر سلامة الرشيقى وأولاد بكجور فى خروجهم من الرقّة وغدر سعد الدولة
لمّا توثّق سلامة لنفسه ولأولاد بكجور سلّم حصن الرافقة وخرجوا منها ومعهم من الأموال والزينة ما كثر فى عين سعد الدولة. فإنّه كان يشاهدهم من وراء سرادقه وبين يديه ابن أبى الحصين القاضي وقال له:
- «ما ظننت أنّ حال بكجور انتهت إلى ما أراه من هذه الأثقال والأموال.» فقال له ابن أبى الحصين:
- «إنّ بكجور وأولاده مماليكك وكلّما ملكه وملكوه هو لك لا حرج عليك فيما تأخذه منهم ولا حنث فى الأيمان التي حلفت بها، ومهما كان فيها من وزر وإثم فعلىّ دونك.» [310]
__________
[1] . فى الأصل أبى: والصواب عند ابن القلانسي (مد) .(7/255)
فلمّا سمع هذا القول أصغى إليه وغدر بهم وقبض على جميع ما كان معهم.
فما كان أسوأ محضر هذا القاضي الذي حسّن لسعد الدولة تسويل الشيطان وأفتاه بنقض الأيمان، ثم لم يقنع بما زيّن له من غدره ولبّس عليه من أمره حتى تكفّل له بحمل وزره. وهل أحد حامل وزر غيره؟ أما سمع قول الله تعالى فى أهل الضلالة: «وَقال الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ من خَطاياهُمْ من شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» 29: 12 [1] .
وكان أولاد بكجور كتبوا إلى العزيز بما جرى على والدهم وسألوه مكاتبة سعد الدولة بالإبقاء عليهم.
ذكر ما جرى بين صاحب مصر وسعد الدولة من المراسلات وما اتّفق من وفاة سعد الدولة بعقب ذلك
كتب صاحب مصر إليه كتابا يتوعّده فيه ويأمره بالابقاء عليهم وتسييرهم إلى مصر موفورين ويقول فى آخره:
- «فإن خالفت كنت خصمك ووجّهت العساكر نحوك.» وأنفذ الكتاب مع فائق الصقلبى [2] أحد خواصه وسيّره على نجيب إسراعا به. فوصل فائق إلى سعد الدولة وقد وصل من الرقّة إلى ظاهر حلب وأوصل إليه الكتاب. فلمّا وقف عليه جمع وجوه عسكره وقرأه عليهم ثم قال لهم:
- «ما [311] الرأى عندكم.» قالوا له:
- «نحن عبيد طاعتك ومهما أمرتنا به كنّا عند طاعتك منه.»
__________
[1] . س 29 العنكبوت: 12.
[2] . وفى الأصل: الصقلى. والصواب عند ابن الفلانسى ص 38 (مد) .(7/256)
فأمر بإحضار فائق فأهانه وقال له [1] :
- «عد إلى صاحبك وقل له: لست ممن يستفزّه وعيدك وما بك حاجة إلى تجهيز عسكر إلىّ، فإننى سائر إليك وخبري يأتيك من الرملة.» وقدّم قطعة من عسكره إلى حمص أمامه وعاد فائق إلى صاحبه فعرّفه ما سمعه ورآه فأزعجه وأقلقه. وأقام سعد الدولة بظاهر حلب أيّاما ليرتّب أموره ويتبع العسكر الذي تقدّمه، فعرض له القولنج أشفى منه وعاد إلى البلد متداويا وأبلّ وهنّئ بالسلامة.
وعوّل على العود إلى المعسكر، فحضرت فراشه فى الليلة التي عزم على الركوب فى صبيحتها إحدى حظاياه، وتبعتها النفس الشهوانية المهلكة فواقعها وسقط عنها وقد جفّ نصفه. وعرفت أخته الصورة فدخلت إليه وهو يجود بنفسه واستدعى الطبيب فأشار بسجر الندّ [2] والعنبر حوله فأفاق قليلا فقال له الطبيب:
- «أعطنى يدك أيها الأمير لآخذ مجسّك.» فأعطاه اليسرى فقال:
- «يا مولانا اليمين.» فقال: «أيّها الطبيب ما تركت لى اليمين يمينا.» فكأنّه تذكّر ما فرط من خيانته وندم على نقض العهد ونكثه.
ومضت عليه ثلاث ليال وقضى نحبه بعد أن قلّد عهده لولده أبى الفضائل ووصّى إلى لؤلؤ الجراحي به [312] وببقيّة ولده.
__________
[1] . وزاد ابن القلانسي أنّه أمر بإعطائه الكتاب ولطمه حتى يأكله (مد) .
[2] . وفى الأصل: النار. والصواب ما قاله ابن القلانسي (مد) .(7/257)
ذكر قيام أبى الفضائل ابن سعد الدولة بعد أبيه وما جرى له مع العساكر المصرية
جدّ لؤلؤ فى نصب أبى الفضائل فى الأمر وأخذ له البيعة على الجند، وتراجعت العساكر إلى حلب واستأمن منها إلى صاحب [مصر] وفاء الصقلى [1] وبشارة الإخشيدي ورباح وقوم آخرون فقبلهم وأحسن إليهم وولّى كلّا [2] منهم بلدا.
وقد كان أبو الحسن المغربي بعد حصوله فى المشهد بالكوفة كاتب صاحب مصر وصار بعد المكاتبة إلى بابه. فلمّا توفّى سعد الدولة عظّم أمر حلب عنده وكثّر له أموالها وهوّن عليه حصولها وأشار باصطناع أحد الغلمان وإنفاذه إليها.
فقبل منه إشارته وقدّم غلاما يسمّى منجوتكين فخوّله وموّله ورفع قدره ونوّه بذكره وأمر القوّاد والأكابر بالترجّل له وولّاه الشام واستكتب له أحمد بن محمد القشوري وسيّره إلى حلب وضمّ إليه أبا الحسن المغربي ليقوم بالأمر والتدبير.
ذكر مسير منجوتكين من مصر إلى حلب ونزوله عليها [313]
لمّا وصل إلى دمشق تلقّاه قوّادها وأهلها وعساكر الشام كلّها فأقام بها مدّة. ثم رحل إلى حلب وقد استعدّ واحتشد ونزلها فى ثلاثين ألف رجل وتحصّن أبو الفضائل ابن سعد الدولة ولؤلؤ بالبلد.
__________
[1] . وفى تاريخ ابن الفلانسى ص 39: رقى الصقلبى.
[2] . والمثبت فى مد: كل.(7/258)
وقد كان لؤلؤ عند معرفته بورود العساكر المصرية كتب إلى بسيل عظيم الروم وذكّره ما كان بينه وبين سعد الدولة من المعاهدة والمعاقدة، وبذل له عن أبى الفضائل ولده الجري على تلك العادة، وحمل إليه ألطافا كثيرة واستنجده وأنفذ إليه ملكوثا [1] السرياني رسولا.
فوصل إليه ملكوثا وهو بإزاء عساكر ملك البلغر مقاتلا. فقبل ما ورد فيه وكتب إلى البرجى صاحبه بأنطاكية بجمع عساكر الروم وقصد حلب ودفع المغاربة عنها.
فسار البرجى فى خمسة آلاف رجل ونزل بجسر الحديد بين أنطاكية وحلب وعرف منجوتكين وأبو الحسن ذلك فجمعا وجوه العسكر وشاوراهم فى تدبير الأمر.
ذكر مشورة أنتجت رأيا سديدا كان فى أثنائه الظفر بالروم
أشار ذو الرأى والحصافة منهم بالانصراف عن حلب وقصد الروم [314] والإبتداء بهم ومناجزتهم لئلّا يحصلوا بين عدوّين. فأجمعوا على ذلك وساروا حتى صار بينهم وبين الروم النهر المعروف بالمقلوب.
فلمّا تراءى الجمعان تراموا بالنشّاب وبينهم النهر، وليس للفريقين طريق إلى العبور. فبرز من الديلم الذين فى جملة منجوتكين شيخ فى يديه ترس وثلاث زوبينات ورمى بنفسه إلى الماء والمسلمون ينظرون إليه والروم يرمونه بالنبل والحجارة وهو يسبح قدما والترس فى يده والماء إلى صدره.
وشاهد المسلمون ذلك وطرحوا نفوسهم فى أثره، وطرحت العرب خيولهم
__________
[1] . فى الأصل: ملكونا. والصواب عند ابن الفلانسى ص 41 ص 14 (مد) .(7/259)
فى النهر وهجم العسكر عن المخاض، وحصلوا مع الروم على أرض واحدة ومنجوتكين يمنعهم فلا يمتنعون. وأنزل الله تعالى النصر عليهم وولّى الروم أدبارهم [1] بين مقتول ومأسور ومفلول.
وأفلت البرجى فى عدد قليل وغنمت منهم الغنيمة الكثيرة وجمع من رؤس قتلاهم نحو عشرة آلاف رأس وحملت إلى مصر. وتمّم منجوتكين إلى أنطاكية ونهب رساتيقها وأحرقها وكان وقت إدراك الغلّة. فأنفذ لؤلؤ وأحرق ما يقارب حلب منها، إضرارا بالعسكر المصري وقاطعا الميرة عليهم. وكرّ منجوتكين راجعا إلى حلب.
ذكر تدبير لطيف دبّره لؤلؤ فى صرف العساكر المصريّة عن حلب [315]
لمّا رأى لؤلؤ هزيمة الروم وقوّة العساكر المصرية وضعفه عن مقاومتهم كاتب أبا الحسن المغربي والقشوري ورغّبهما فى المال وبذل لهما منه ما استمالهما به، وسألهما المشورة على منجوتكين بالانصراف عن حلب فى هذا العام والمعاودة فى القابل [2] لعلّة تعذّر الأقوات والعلوفات.
فأجاباه إلى ذلك وخاطبا منجوتكين به فصادف قولهما منه شوقا إلى دمشق وخفض العيش وضجر من الأسفار والحروب وكتبت الجماعة إلى صاحب مصر بهذه الصورة واستأذناه فى الانكفاء. فقبل أن يصل الكتاب ويعود الجواب رحلوا عائدين وعرف صاحب مصر ذلك. فاستشاط غضبا ووجد أعداء أبى الحسن المغربي طريقا إلى الطعن عليه فصرفه بصالح بن
__________
[1] . وفى ابن القلانسي ص 42: وولت الروم وأعطوا ظهورهم وركبهم المسلمون ونكوا فيهم النكاية الوافية قتلا وأسرا وقهرا وأفلت البرجى إلخ.
[2] . أى العام القابل.(7/260)
على الروذبارى.
ذكر ما دبّره المتلقب بالعزيز فى إمداد العسكر بالميرة وإعادتهم إلى حلب
آلى على نفسه أن يمدّ العسكر بالميرة من غلّات مصر. فحمل مائة ألف تلّيس- والتلّيس قفيزان بالمعدّل- فى البحر إلى طرابلس ومنها على الظهور إلى حصن أفامية [1] .
ورجع منجوتكين فى السنة الثانية إلى حلب ونزل عليها وصالح بن على الروذبارى المدبّر. فكان يوقّع للغلمان بجراياتهم وقضيم دوابّهم إلى أفامية على [316] خمسة وعشرين فرسخا فيمضون ويقبضونها ويعودون بها. وأقاموا ثلاثة عشر شهرا وبنوا الحمّامات والخانات والأسواق وأبو الفضائل ولؤلؤ ومن معهما متحصّنون بالبلد. وتعذّرت الأقوات عندهم فكان لؤلؤ يبتاع القفيز من الحنطة بثلاثة دنانير ويبيعها على الناس بدينار رفقا بهم ويفتح الأبواب فى الأيّام ويخرج من البلد من تمنعه المضرتان عن المقام [2] وأشير على منجوتكين بتتبّع من يخرج وقتله، ليمتنع الناس من الخروج ليضيق الأقوات عندهم فلم يفعل.
وأنفذ لؤلؤ فى أثناء هذه الأحوال ملكوثا إلى بسيل عظيم الروم معاودا لاستنجاده. وكان بسيل قد توسّط بلاد البلغر فقصده ملكوثا إلى موضعه وأوصل إليه الكتاب وقال له:
- «متى أخذت حلب فتحت أنطاكية بعدها وأتعبك التلافي وإذا سرت
__________
[1] . أفامية (فامية) : مدينة حصينة من سواحل الشام وكورة من كور حمص (مراصد الإطلاع) .
[2] . كذا فى الأصل وعند ابن الفلانسى ص 43: ويخرج من الناس من أراد من الفقراء من الجوع وطول المقام وقد كان أشير إلخ. والمضرتان هما الجوع والوبا (مد) .(7/261)
بنفسك حفظت البلدين جميعا وسائر الأعمال.»
ذكر مسير بسيل إلى الشام لقتال العساكر المصرية وما جرى عليه أمره فى ذلك
لمّا سمع بسيل قول ملكوثا سار نحو حلب وبينه وبينها ثلاثمائة فرسخ.
فقطعها فى سنة وعشرين يوما، وقاد الجنائب بأيدي الفرسان، وحمل الرجالة [317] على البغال.
وكان الزمان ربيعا وقد أنفذ منجوتكين وعسكره كراعهم إلى المروج لترعى فيها وقرب هجوم بسيل عليهم من حيث لا يشعرون.
ذكر ما دبّره واعتمده لؤلؤ من رعاية حرمة الإسلام وإنذار منجوتكين بخبر هجوم الروم
أرسل إلى منجوتكين يقول له:
«إنّ عصمة الإسلام الجامعة لنا تدعوني إلى إنذاركم والنصح لكم وقد أظلّكم بسيل فى جيوش الروم، فخذوا الحذر لأنفسكم.» وجاءت طلائع منجوتكين بمثل الخبر فأحرق الخزائن والأسواق والأبنية التي كان استحدثها ورحل فى الحال منهزما.
ووافى بسيل فنزل على باب حلب وخرج إليه أبو الفضائل ولؤلؤ ولقياه، ثم عاد ورحل فى اليوم الثالث إلى الشام. وفتح حمص ونهب وسبى ونزل على طرابلس فمنعت جانبها منه فأقام نيّفا وأربعين يوما، فلمّا أيس منها عاد إلى بلاد الروم.
وانتهى الخبر إلى صاحب مصر فعظم ذلك عليه وأمر فنودي بالنفير فنفر الناس.(7/262)
ذكر مسير المتلقّب بالعزيز من [318] مصر لغزو الروم وما اتفق من موته وجلوس ولده المتلقّب بالحاكم فى موضعه
خرج من داره مستصحبا جميع عساكره وعدده وأمواله وسار منها مسافة عشرة فراسخ حتى نزل بلبيس [1] وأقام بظاهرها.
وعارضته علل كثيرة أيس منها من نفسه فأوصى إلى أرجوان [2] الخادم الذي كان خصيصا به ومتولّيا لأمر داره، بولده المتلقّب بالحاكم من بعده، ثم قضى نحبه.
وقام أرجوان بأمر الحاكم ودعا الناس إلى البيعة وحالفهم على الطاعة وأطلق لهم العطاء وذلك فى شهر رمضان سنة ستّ وثمانين وثلاثمائة، وانكفأ الحاكم إلى قصر أبيه وهو يومئذ ابن خمس عشرة سنة.
وتقدّم أبو محمد الحسن بن عمّار وكان شيخ كتامة وسيّدها، ويلقّب بأمين الدولة، وهو أول من لقّب فى دولة المغاربة ونفذّ أوامره فى الخزائن والأموال إطلاقا وعطاء حتى على جواري القصر هبة وعتقا. واستولى أصحابه وقلّت مبالاتهم وأشاروا عليه بقتل الحاكم فلم يعبأ به استصغارا لسنّه واستهانة بأمره. وأرجوان فى أثناء ذلك يحرس الحاكم ويلازمه ويمنعه الركوب والظهور من قصره.
واتّفق شكر العضدي معه فتعاضدا وصارت كلمتهما واحدة [319] حتى تمّ لهما ما أراداه.
__________
[1] . وفى الأصل: بتليس. والصواب عند ابن القلانسي ص 44 (مد) .
[2] . أو: برجوان (مد) .(7/263)
ذكر ما دبّره أرجوان فى أمر ابن عمّار ومكاتبة منجوتكين والإستنصار به عليه
لمّا زاد أمر ابن عمار فى تمكّنه كتب أرجوان إلى منجوتكين وشكا إليه ما هم فيه، ودعاه إلى قصد مصر ومقابلة نعمة العزيز عنده وكشف هذه الغمّة عن ولده.
فتقبّل منجوتكين كتابه وركب إلى المسجد الجامع بثياب المصيبة وجمع الناس وذكرهم جميل العزيز إليهم. ثم خرج إلى ذكر ما له عليه خاصّة من الإصطناع وما يلزمه من خدمة ولده بعده. ثم ذكر تغلّب ابن عمّار على الملك وسوء سيرته وما يلقاه أئمّتنا المقيمون بمصر من الذّلة والهوان، وبكى بكاء شديدا رقّت له القلوب وخرّق ثيابه واقتدى الناس به فى البكاء وتخريق الثياب وأجابوه إلى الطاعة وبذل المهج من غير التماس عطاء ولا مؤونة. فشكرهم وعاد إلى داره وأجمع أمره للمسير فسار إلى الرملة.
ذكر ما دبّره ابن عمّار فى تجهيز [320] الجيش وما آل إليه أمر منجوتكين من الهزيمة
لمّا وصل الخبر إلى ابن عمّار بما فعله منجوتكين عظم عليه وجمع وجوه كتامة [1] وأخبرهم بما تجدّد، وأظهر أنّ منجوتكين قد عصى على الحاكم فبذلوا الطاعة والانتهاء إلى ما يأمرهم به.
وأحضر أرجوان وشكر العضدي واستمالهما واستحلفهما على المساعدة والمعاضدة، فحلفا له اضطرارا.
__________
[1] . وفى الأصل: كتابه.(7/264)
وندب العساكر لقتال منجوتكين وقدّم أبا تميم سالم [1] بن جعفر عليها وأمدّه من الأموال والعدد ما أسرف فيه. وكان عيسى بن نسطورس على حاله فى الوزارة، فبلغه عنه ما أنكره فضرب عنقه.
التقاء أبى تميم ومنجوتكين
وسار أبو تميم من مصر ورحل منجوتكين من الرملة بعد أن ملكها والتقيا بعسقلان وتواقعا. فأجلت الوقعة عن هزيمة منجوتكين وأصحابه وتتبّعوا.
وجعل أبو تميم لمن يأتيه بمنجوتكين عشرة آلاف دينار ومائة ثوب.
فانبثّت العرب فى طلبه وأدركه على بن الجرّاح فأسرّه وجاء به إلى أبى تميم فسلّمه إليه وقبض المال منه. فحمل إلى مصر وأبقى ابن عمّار عليه واصطنعه وأحسن إليه استمالة للمشارقة بذلك.
وسار أبو تميم فنزل طبرية وأنفذ أخاه عليّا إلى دمشق فاعتصم أهلها عليه ومنعوه الدخول، وكاتب أخاه بعصيانهم واستأذنه [321] فى قتالهم. فكتب أبو تميم إلى متقدّميهم من الأشراف والشيوخ وحذّرهم عواقب فعل سفهائهم.
فلمّا وصل الكتاب إليهم خافوا وخرجوا إلى علىّ مذعنين بالطاعة ومنكرين لما فعله أهل الجهالة فلم يعبأ بقولهم وزحف إلى باب البلد، فملكه وأحرق وقتل وعاد إلى معسكره.
ووافى أبو تميم فى غد، فأنكر على أخيه ما فعله، وتلقّاه وجوه الناس فشكوا إليه ما أظلّهم. فأحسن لقاءهم وأمّن [2] جناتهم، فسكنوا وعادوا إلى معايشهم.
__________
[1] . وعند ابن الفلانسى ص 46 سليمان. وهو ابن فلاح.
[2] . والمثبت فى مد: وأمن، دون تشديد.(7/265)
ذكر ما اعتمده أبو تميم الكتامى [1] من حسن سيرة ملك بها قلوب الرعيّة
ركب إلى المسجد الجامع فى يوم الجمعة بزىّ أهل الوقار، واجتاز فى البلد بسكينة وبين يديه القرّاء وقوم يفرّقون الدراهم على أهل المسكنة، وصلّى الجمعة وعاد إلى القصر الذي نزله بظاهر دمشق، وقد استمال قلوب العامة بما فعله. ثمّ نظر فى الظلامات وأطلق من الحبوس جماعة من أهل الجنايات، فازدادوا له حبّا واستقرّت قدمه واستقام أمره.
وعدل من بعد إلى النظر فى أمور السواحل فهذّبها، وولّى أخاه طرابلس وصرف عنها جيش [2] بن الصمصامة. وكان جيش هذا من شيوخ [322] كتامة أيضا إلّا أنّه كانت بينه وبين أبى تميم عداوة.
فلمّا عزله عن طرابلس مضى إلى مصر وجها واحدا واجتمع مع أرجوان سرّا ورمى نفسه عليه فقبّله وبذل له المعاونة.
ورأى أرجوان الفرصة قد أمكنت ببعد كتامة عن مصر، إلّا العدد القليل منهم. فقرّر مع الأتراك المشارقة الفتك بهم وأحكم الأمر فى الاستيثاق.
وأحسّ ابن عمّار بذلك فعمل على الفتك بأرجوان وسبقه إلى ما يحاوله منه.
ذكر ما همّ به ابن عمّار من الفتك بأرجوان وشكر وما دبّراه فى التحرّز منه حتى سلما منه وتورّط هو
رتّب ابن عمّار جماعة فى دهليزه وواقفهم على الإيقاع بأرجوان وشكر
__________
[1] . وفى الأصل: الكناني.
[2] . وفى الأصل: حبش.(7/266)
إذا دخلا داره. وكان لأرجوان عيون على ابن عمّار فصاروا إليه وأخبروه بما قد رتّبه. فاجتمع أرجوان وشكر وتفاوضا الرأى فى التحرّز مما بلغهما وقرّرا بينهما أن يركبا عند ركوبهما جماعة من الغلمان يتبعوهما. فإن أحسّا على باب ابن عمّار بما يريبهما رجعا القهقرى وفى ظهورهما من يمنع عنهما.
فرتّبا ذلك وتوجّها إلى دار ابن عمّار. فلمّا [323] قربا من الباب بانت لهما شواهد الشرّ وما كانا أخبرا به. فكرّ راكضا ومنع عنهما الغلمان الذين كانوا وراءهما ودخلا قصر الحاكم باكيين صارخين وثارت الفتنة.
واجتمع المشارقة وعبيد الشرى على باب القصر، وركب الحسن بن عمّار فى كتامة ومن انضاف إليهم من القبائل إلى الصحراء، وفتح أرجوان الخزائن ففرّق الأموال وحثّ الرجال.
وبرز ثلاثة من وجوه الأتراك فى خمسمائة فارس لقتالهم فواقعوهم وكسروهم وهرب ابن عمّار واستتر عند بعض العامة.
ذكر ما دبّر به أرجوان أمر الملك
لمّا تمّ له الظفر فتح باب القصر وأخرج الحاكم وأجلسه وأخذ له بيعة مجدّدة على الجند وأمن وجوه كتامة وقوّادها فحضروا وأعطوا أيديهم بالطاعة ومهّد الأمور فى يومه وليلته.
وكتب الملطّفات إلى الأشراف وإلى وجوه العامّة بدمشق بالإيقاع بأبى تميم ونهبه والى المشارقة بمعاونتهم عليه.
ذكر ما تمّ على أبى تميم من أهل دمشق [324] بقلّة حزمه وضعف رأيه
كان أبو تميم مع سياسته مستهتزا باللذات ووصلت الملطّفات وأبو تميم(7/267)
مشغول بلهوه. فلم يشعر إلّا بهجوم المشارقة والعامّة على قصره. فخرج هاربا على ظهر فرسه، ونهبوا خزائنه وأوقعوا بمن كان فيه من كتامة وعادت الفتنة بدمشق واستولى الأحداث.
وكان فهد بن ابراهيم النصراني المكنّى بأبى العلاء يكتب لأرجوان من قبل. فلمّا صار الأمر إليه استوزره. ولم يزل أرجوان [1] يتلطّف للحسن بن عمّار حتى أخرجه من استتاره وأعاده إلى داره وأجرأه على رسمه فى إقطاعاته واشترط عليه إغلاق بابه واستحلفه على لزوم الطريقة المستقيمة.
وكان أهل صور قد عصوا وأمّروا عليهم رجلا ملّاحا يعرف بالعلّاقة، وكان المفرّج [2] بن دغفل بن الجرّاح قد نزل على الرملة وعاث فى البلاد وانضاف إلى هذين الحادثين نزول الدوقس صاحب الروم فى عسكر كثير على حصن أفامية.
فاصطنع أرجوان جيش بن محمد بن الصمصامة وقدّمه وجهّز معه عسكرا وسيّره إلى دمشق وبسط يده فى الأموال ونفذ أمره فى الأعمال.
ذكر ما جرى عليه أمر جيش [325] بن الصمصامة فى هذا الوجه إلى أن توفّى
سار جيش ونزل على الرملة وعليها وحيد الهلالي واليا فتلقّاه طائعا، وصادف أبا تميم بها فقبض عليه قبضا جميلا.
وندب أبا عبد الله الحسين بن ناصر الدولة بن حمدان فى عسكر إلى صور، بعد أن كان أنفذ إليها مراكب فى البحر مشحونة بالرجال. فأحاطت العساكر بها برّا وبحرا، وضعف أهل صور عن القتال وأخذ العلاقة فحمل إلى
__________
[1] . الأصل محرّف والصواب عند ابن القلانسي ص 5 (مد) .
[2] . وفى الأصل: الفرج.(7/268)
مصر فسلخ وصلب بها وأقام ابن حمدان بصور واليا عليها.
وسار جيش لقصد المفرّج بن دغفل بن الجرّاح، فهرب من بين يديه واتبعه حتى كاد يدركه. فضاقت الأرض على ابن الجرّاح وعاذ بالصفح وأنفذ إليه عجائز نسائه يطلب الأمان. فكفّ جيش عنه وأمّنه واستحلفه على ما قرّره معه وعاد سائرا إلى عسكر الروم النازل على حصن أفامية.
فلمّا وصل إلى دمشق تلقّاه أهلها فى أشرافها ووجوه أحداثها مذعنين له بالانقياد راغبين إليه فى استصحابهم للجهاد فجزاهم خيرا.
ذكر مكيدة بدأ جيش بها فى هذه النوبة مع أحداث دمشق إلى أن أمكنته [326] الفرصة منهم فى الكرّة الثانية
أقبل على رؤساء الأحداث وبذل لهم الجميل ونادى فى البلد برفع المؤن وإباحة دم كل مغربىّ يتعرض لفساد. فاجتمعت الرعيّة وشكروه وسألوه دخول البلد والنزول بينهم، فلم يفعل وأقام ثلاثة أيام وسار بعد أن خلع على رؤساء الأحداث ووصلهم، ونزل بحمص واجتمعت عساكر الشام وتوجّه إلى حصن أفامية. فوجد أهلها وقد اشتدّ بهم الحصار فنزل بإزاء عسكر الروم وبينه وبينهم النهر المعروف بالمقلوب، ويعرف بالعاصى.
التقاء المسلمين والروم عند نهر العاصي
ثم التقى الفريقان من بعد وتنازعا الحرب وكان المسلمون يومئذ فى عشرة آلاف من الطوائف وألف فارس من بنى كلاب. فحملت الروم على المسلمين فزحزحوهم عن مصافّهم وانهزمت الميمنة والميسرة واستولى الروم على كراعهم وعطفت بنو كلاب على أكثر ذلك فنهبوه، وثبت بشارة(7/269)
الإخشيدي فى خمسمائة فارس.
ورأى من فى حصن أفامية من المسلمين ما أصاب إخوانهم، فأيسوا من نفوسهم وابتهلوا إلى الله تعالى يسألونه الرحمة، فاستجاب لهم.
ذكر ما أنزل الله تعالى على المسلمين [327] من النصر فقتل زعيم الروم على يد أحدهم
كان الدوقس [1] قد وقف على رابية وبين يديه ولد له وعشرة غلمة وهو يشاهد ظفر أصحابه وأخذهم للغنائم. فقصده كردى يعرف بأحمد بن الضحّاك السليل على فرس جواد وبيده اليمنى خشت [2] فظنّه الدوقس مستأمنا إليه أو مستجيرا فلم يحفل به. فلمّا دنا منه حمل عليه فرفع الدوقس يده متّقيا وضربه الكردي بالخشت فأصاب خللا فى الدرع فخرقه ونفذ فى أضلاعه وسقط إلى الأرض ميتا.
وصاح المسلمون:
- «إنّ عدوّ الله قد قتل!» ونزل النصر فانهزمت الروم وتراجع المسلمون، ونزل من كان فى الحصن وقتل من الروم مقتلة عظيمة. وباتوا غانمين مستبشرين بِنِعْمَةٍ من الله وَفَضْلٍ 3: 171 و «إِنَّ الله لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» 9: 120 [3] .
ثم سار جيش بن الصمصامة إلى باب أنطاكية فسبى وأحرق، وانصرف عائدا إلى دمشق وقد عظمت هيبته فى النفوس.
__________
[1] . هو داميانوس ويعرف بالدلاسينوس: كذا فى تاريخ يحيى بن سعيد الأنطاكى (مد) .
[2] . ولعلّه تصحيف «خشب» ، أو هو «خشت» : الآجرّ غير المطبوخ (فارسي) .
[3] . س 9 التوبة: 22.(7/270)
ذكر تمام هيبته فى المكيدة التي كان بدأ بها جيش فى تسكين أحداث دمشق [328] حتى ظفر بهم
لمّا عاد إلى دمشق استقبله أهلها مهنّئين داعين. فتلقّاهم بالبشاشة والبشر وزادهم من الكرامة والبرّ وخلع على وجوه الأحداث وحملهم على الخيل والبغال ووهب لهم الجواري والغلمان. وعسكر بظاهر البلد وسألوه الدخول والجواز فى الأسواق وقد كانوا زيّنوها إظهارا للسرور فلم يفعل وقال: هذه عساكر وإذا دخلت لم آمن أن تثقل وطأتهم.
والتمس منهم أن يخلوا قرية على باب دمشق [1] ليكون مقامه فيها، فأجابوه إلى ذلك وتوفّر على استعمال العدل وتخفيف الثقل، فاستخصّ رؤساء الأحداث واستحجب جماعة منهم. وكان يعمل لهم سماطا يحضرونه فى كل يوم للأكل عنده ويبالغ فى تأنيسهم.
فلمّا اطمأنّوا ومضت مدّة على ذلك أحضر قوّاده وتقدّم بأن يكونوا على أهبة لما يريد استخدامهم فيه وتوقّع ما يأمرهم به فى رقاع مختومة والعمل بما فيها.
ثم كتب رقاعا بقسمة البلد وعيّن لكل من قوّاده الموضع الذي يدخل منه ويفتك فيها وختمها وأعدّها. ثم رتّب فى حمام داره قوما من المغاربة وتقدّم إلى أحد خواصّه بأن يراعى حضور رؤساء الأحداث طعامه. فإذا أكلوا [329] وقاموا إلى المجلس الذي جرت عادتهم بغسل أيديهم فيه، أغلق بابه عليهم وأمر المتكمنين فى الحمام بالخروج على أصحابهم والإيقاع بهم.
__________
[1] . وعند ابن القلانسي ص 52: يعرف ببيت لهيا (مد) .(7/271)
وحضر القوم على رسمهم وبادر جيش بإنفاذ الرقاع إلى قوّاده وجلس معهم للأكل. فلمّا فرغ وفرغوا نهض إلى حجرته ونهضوا إلى المجلس فأغلق الفرّاش عليهم بابه وخرج من فى الحمام فأوقعوا بأصحابهم وقتلوهم بأسرهم.
وركب القوّاد ودخلوا البلد فقتلوا قتلا ذريعا وثلموا السور من كل جانب ونزلت المغاربة دور دمشق وركب جيش، فدخل دمشق وطافها واستغاث الناس به ولاذوا بعفوه، فكفّ عنهم واستدعى الأشراف استدعاء حسن ظنّهم فيه. فلمّا حضروا أخرج رؤساء الأحداث وأمر بضرب رقابهم بين أيديهم، ثم صلب كل واحد منهم فى محلّته، حتى إذا فرغ من ذلك قبض على الأشراف وحملهم إلى مصر واستأصل أموالهم ونعمهم ووظّف على البلد خمسمائة ألف [1] دينار.
ثم جاءه أمر الله الذي لا يغلب وقضاؤه الذي لا يوارب ولاقته المنية التي تجعل العزيز ذليلا والكثير قليلا [2] فما أغنت عنه عندها قدرة ولا حيلة ولا نفعته معها فدية ولا وسيلة.
وكان سبب منيّته علّة باطنة حدثت به [330] :
ومن لم يمت بالسّيف مات بغيره ... تنوّعت الأسباب والدّاء واحد
وورد الخبر إلى مصر بموته فقلّد محمد ولده مكانه.
واستقامت الأمور على يد أرجوان وجرت بينه وبين بسيل عظيم الروم
__________
[1] . زدنا كلمة «ألف» من ابن القلانسي (مد) .
[2] . وأما موت جيش وقصّته مع أبى بكر الحرمي الزاهد فليراجع فيه ابن القلانسي ص 54: وأبو بكر هو محمد بن عبد الله بن حسن بن هارون الوضّاحى توفى سنة 436 كذا فى تاريخ الإسلام (مد) .(7/272)
مراسلات وملاطفات انتهت إلى تقرير الهدنة مدّة عشر سنين وصلحت الحال مع العرب.
وكان يواصل النظر فى قصر الحاكم نهاره أجمع، إلّا ساعة فى وقت الظهر، ثم يعود إلى منتصف الليل ويوفى السياسة حقّها وفهد بن ابراهيم بين يديه ينفّذ الأمور أحسن تنفيذ. فلم يزل على هذه الوتيرة إلى أن قتل.
ذكر السبب فى قتل أرجوان وشرح الحال فى ذلك
كان أرجوان يأخذ الحاكم بتهذيب الأخلاق وينصحه- والنصح مرّ المذاق- ويمنعه كثرة الركوب لفرط الإشفاق ويصدّه عن التبذير فى غير موضع الاستحقاق. فصارت له هذه الأحوال ذنوبا، ثم لأنّ لكل امرئ أجلا مكتوبا.
وكان مع الحاكم خادم يعرف بريدان [1] الصقلبى قد خصّ به. فأنس فى شكوى أرجوان إليه فزاده ريدان إغراء به وقال: إنّه يريد [331] أن يجعل نفسه فى موضع كافور الإخشيدي ويجريك مجرى ابن الإخشيد فى الحجر عليك.
ولم يزل بالحاكم حتى حمله على قتل أرجوان واستقرّ بينهما أن يستدعى أرجوان فى وقت الظهر بعد انصرافه إلى داره وأن يؤمر الناس بالركوب إلى الصيد ليتفرّقوا، فإذا حضر أمر بقتله. ففعل ذلك وقال الحاكم لريدان:
- «إذا حضر أرجوان وتبعني إلى البستان فاتّبعه. فإذا التفتّ إليك فاغتله بالسكّين.» فبينما هما فى الحديث إذ دخل أرجوان فقال:
__________
[1] . وفى الأصل: زيدان. وهذا غلط. وليراجع ابن القلانسي ص 55 (مد) .(7/273)
- «يا مولاي الحرّ شديد، والبزاة لا تصيد فى مثله.» فقال: «صدقت، ولكنّا ندخل البستان ونطوف ساعة ونخرج.» فقام ومشى أرجوان خلفه ريدان بعده فأهوى ريدان عند التفات الحاكم إليه بالسكين إلى ظهر أرجوان فأطلعها من صدره. فقال أرجوان:
- «يا مولاي غدرت.» وصاح الحاكم بالخدم وتكاثروا وأجهزوا عليه، وخرج الخدم الكبار، فردّوا الجنائب وبغال الموكب والجوارح. فسألهم شكر العضدي عن الحال فلم يجيبوه، فجاء الناس أمر لم يفهموه. وعاد شكر والموكب وشهر الجند سيوفهم وظنّوا حيلة تمّت لابن عمّار على الحاكم وأحاطوا بالقصر وعظم الأمر واجتمع القوّاد والوجوه.
فلمّا رأى الحاكم زيادة الاحتياط ظهر من منظرة على أعلى الباب وسلّم على الناس، فترجّلوا له [332] وخدموه، وأمر بفتح الباب وأنفذ على أيدى أصحاب الرسائل رقاعا بخطّ يده إلى شكر وأكابر الأتراك والقوّاد مضمونها:
- «إنّى أنكرت من أرجوان أمورا أوجبت قتله وقتلته. فالزموا الطاعة وحافظوا على ما فى أعناقكم من الأيمان.» فلمّا وقفوا عليها أذعنوا وسلّموا، واستدعى الحسين بن جوهر، وكان من شيوخ القوّاد، فأمره بصرف الناس. فصرفهم وعادوا إلى دورهم والنفوس خائفة وجلة من فتنة تثور بين المشارقة والمغاربة.
ثم جلس الحاكم بعد عشاء الآخرة واستدعى الحسين بن جوهر وفهد بن ابراهيم، وتقدّم بإحضار الكتّاب فحضروا وأوصلهم إليه وقال لهم:
- «إنّ فهدا كان كاتب أرجوان وهذا اليوم وزيرى، فاسمعوا له وأطيعوا.» وقال لفهد:
- «هؤلاء الكتّاب خدمي، فاعرف حقوقهم وأحسن إليهم.»(7/274)
وأمر بأن يكتب إلى سائر ولاة البلاد بقتل أرجوان وتسكينهم فى أعمالهم ونفّذت الكتب وسكن الناس وأمن ما خيف من الفتنة. وكان ذلك فى سنة تسع وثمانين وثلاثمائة.
ومضى أرجوان كأنّه لم يكن ولو علم أنّ هلاكه على يد الحاكم لأقصر عن ذلك الاجتهاد فى حفظه.
وربّ حافظ دواء داؤه فيه، وحامل سلاح حتفه به، وضنين بذخر وباله منه. ومع الأحوال كلّها فالإفراط [333] فى منع الملوك عن شهواتهم جناية، والإقصار عمّا يلزم من نصحهم خيانة، لكن بشرط الإقتصاد. وقد قيل: كثرة المراقبة نفاق، وكثرة المخالفة شقاق. وكم من شفيق على الملوك قد هلك بفرط شفقته وحبيب صار بغيضا بكثرة نصحه.
ولم يبعد العهد بما شوهد من فعل الملك أبى كاليجار بخادمه المتلقّب بالمؤيد وقصته مناسبة لقصة أرجوان.
وما أحسن الرواية التي تروى عن المأمون رضوان الله عليه، حين سأل جلساءه عن أرفه الناس. فقال كل واحد منهم قولا لم يعجبه فقال المأمون:
- «أرفه الناس عيشا رجل أتاه الله كفاية لا يعرفنا ولا نعرفه.» وقال بعض العقلاء:
- «مثل السلطان كمثل النار. فلا تقرب منها قربا تباشر فيه لهبا، ولا تعبد عنها بعدا تفقد معه ضوءها.» وجملة القول، أنّ القرب من الملوك عزّ مع تعب، والبعد منهم ذلّ مع راحة، والعيش فى الخمول، وتختلف الطباع فى هذا الاختيار، وكلّ امرئ ميسّر لما خلق له.(7/275)
ذكر ما جرت عليه الأمور بعد قتل أرجوان [334]
استوزر فهد بن ابراهيم وقدم الحسين بن جوهر ولقّبه بقائد القوّاد. ثم استمرّ الفتك منه بالناس، فقتل فى المدة اليسيرة العدد الكثير.
واستحضر بعد أربعة أشهر الحسن بن عمّار من داره. فلقيه بالإحسان وأعطاه يده بالأمان وانصرف مسرورا إلى داره وركب الناس إليه يهنّئونه بالعفو عنه، ثم قتله بعد أسبوع.
ثم قتل فهد بن ابراهيم بسعاية كاتبين من كتّاب الدواوين به، وولّاهما الأعمال ثم قتلهما. ثم قتل الحسين بن جوهر ولم يكن فى شرح أحوال قتلهما ما يستفاد منه تجربة، لأنّه اختباط واختلاط.
ثم قتل عليّا ومحمدا ابني المغربي وأمر بإحضار أبى القاسم الحسين بن على صاحب الشعر والرسائل الذي وزر ببغداد وأخويه. فظفر بأخويه فقتلا واستتر الوزير أبو القاسم وما زال يعمل الحيلة حتى هرب مع بعض [أهل] [1] البادية وحصل عند الحسّان بن المفرّج بن الجرّاح واستجار به وأجاره.
وقد كان فى نفس الحاكم ما جرى على عساكر مصر بباب حلب. فعوّل على يارختكين [2] العزيزي للخروج إلى الشام وقدمه وكثّر أمواله ونعمه وأمر وجوه القوّاد بتبجيله والترجّل فى موكبه.
وكان فى جملة من أمر بخدمته والترجّل له علىّ ومحمود ابنا المفرّج [وجاءا] إلى أبيهما وعرّفاه ما أمرا به من الترجل ليارختكين والمشي بين [335] يديه وما لقياه من ذلك من المشقّة وانّ نفوسهما تأبى الصبر على
__________
[1] . الكلمة زدناها.
[2] . وعند ابن القلانسي هو «ختكين» والصواب «ياروغتكين» فى تاريخ الإسلام (مد) .(7/276)
هذه المذلّة ثم حذّراه يارختكين وتوجهه وقالا:
- «إنّك لا تأمن أن ينتهز فيك فرصة ويستفحل أمره فينبو [1] بك وبنا المقام فى هذه الديار فدبّر أمرك فى فسحة من رأيك وعاجله فى الجفار قبل وصوله إلى الرملة واعتضاده بعساكرها.» وكان يارختكين سار فى عدّة قليلة على أن يجمع عساكر الشام ويسير بها إلى حلب، وصحبه أهله وماله وعدد كثير من التجّار. فلمّا توسط الجفار أشار أبو القاسم المغربي على حسّان بن المفرّج بلقائه وانتهاز الفرصة فيه.
فسار حسان إلى أبيه وسهّل عليهما الأمر، فاجتمع رأيهما على ذلك.
وجمعا العرب ورصدا وصول يارختكين إلى غزّة وعرف يارختكين الخبر فجمع ذوى الرأى من أصحابه وشاورهم.
ذكر رأيين كلّ منهما سديد لو ساعد القدر فيه
قال أحدهم له:
- «إنّك من الرملة على عشرة فراسخ وبها خمسة آلاف رجل، وعندك خيول مضمّرة ولو أسريت ليلا لصبحت الرملة وحصلت فى قصرك آمنا، وعرفت العرب خبرك فهابوك وراقبوك، وسرنا بعدك على طمأنينة.» [336] فاعترض آخر وقال:
- «هذا المرء اليوم فى ابتداء أمره فإذ [2] شاع بين الناس أنّه أشفق وهرب لم تبق له هيبة فى النفوس ولكن الرأى أن يستدعى قائدا من قوّاد الرملة فى ألف فارس ليلقانا بعسقلان.»
__________
[1] . فى الأصل ومد: ينبوا.
[2] . كذا فى مد: فإذ.(7/277)
فاستقرّ الأمر على ذلك وكتب يارختكين إلى قائد يعرف بابن سرحان يستدعيه وأنفذ الكتاب مع رسول قدّر لوصوله وخروج ابن سرحان ثلاثة أيام.
فاتّفق أنّ الرسول أخذ فى الطريق قبل وصوله إلى ابن سرحان.
ذكر عجلة ضاع الحزم بها
لمّا مضى يومان من الثلاثة التي قدّرها يارختكين سار على طريق الساحل وهو لا يشكّ فى تعجيل ابن سرحان إليه.
وكان حسّان بن المفرّج قد عرف خبره. فبثّ الخيل من كلّ جانب، فوقعت على يارختكين وجرت بين الفريقين حرب شديدة كانت الغلبة فيها للعرب وأسر يارختكين وأخذ ولده وحرمه وأموال التجّار وجعل أكثر ذلك فى يد حسان.
وعادت العرب إلى الرملة وشنّوا الغارة على رساتيقها وخرج العسكر الذي بها فقاتلوهم قتالا همّت العرب معه بالانصراف.
ذكر رأى أشار به ابن [337] المغربي فى تلك الحال
قال لهم الوزير أبو القاسم ابن المغربي:
- «إن رحلتم على هذه الصورة وقع الطمع فيكم، وإن صبرتم حتى تفتحوا البلد خافكم الحاكم وملكتم الشام. والرأى أن تبادروا وتنادوا فى السواد وتسمعوا الشراة فى الجبال بإباحة النهب والغنيمة.» فقبلوا منه وحشروا فنادوا، فوافى خلق كثير وزحفوا إلى البلد وملكوه وأساؤا الملكة بالفتك والهتك.(7/278)
وتأدى الخبر إلى الحاكم فانزعج وكتب إلى المفرج بن دغفل كتابا عاتبه فيه وحذّره سوء العاقبة وطالبه بانتزاع يارختكين من يد حسان وحمله إلى مصر ووعده على ذلك بخمسين ألف دينار.
ذكر رأى لابن المغربي قصد به تأكيد الوحشة بين حسان وصاحب مصر
قال لحسّان:
- «إنّ والدك سيركب إليك ولا يبرح من عندك إلّا بيارختكين ومتى أفرجتم عنه وعاد إلى الحاكم ردّه إليكم فى العساكر التي لا قبل لكم بها.» فلمّا سمع حسّان ذلك- وكان فى رأسه نشوة- أحضر يارختكين بقيوده، فضرب عنقه صبرا. وأنفذ رأسه إلى المفرج. فشقّ عليه ما جرى وعلم فوت الأمر فأمسك. [338] ثم اجتمع الوزير أبو القاسم مع المفرج وأولاده وقال لهم:
- «قد كشفتم القناع فى مباينة الحاكم ولم يبق من بعد للصلح موضع.» وأشار عليهم بمراسلة أبى الفتوح الحسن بن جعفر العلوي واستجذابه به إليهم ومبايعته على الإمامة، فإنّه لا مغمز فى نسبه، وسهل الخطب عليهم فى ذلك.
ذكر ما جرى عليه أمر أبى الفتوح العلوي المتلقّب بالراشد بالله
كان أبو الفتوح بمكّة أميرا. فمضى إليه ابن المغربي وأطمعه فى الأمر فطمع فيه. وجمع بنى حسن وشاورهم، فصبوا إلى العزّ وأعطوه أيديهم(7/279)
بالبيعة. ثم عاد [1] الناس إليه وتلقّب بالراشد بالله، وصعد المنبر وخطب لنفسه.
واتفق أنّ إنسانا موسرا توفّى تلك السنة بجدّة، ووصّى لأبى الفتوح من تركته بمال لكي يسلم الباقي لورثته. فمدّ يده إلى التركة فاستوعبها بمشورة ابن المغربي عليه بذلك وسار لاحقا بآل الجراح. فلمّا قرب من الرملة تلقّوه وقبّلوا الأرض بين يديه وسلّموا عليه بإمرة المؤمنين ونزل الرملة.
ونادى فى الناس بأمان الخائفين والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ونسى نفسه فى أخذ تركة التاجر بجدّة، إلّا أنّ الناس تراجعوا إلى معايشهم [339] وظهروا من استتارهم. وركب فى يوم الجمعة والمفرج وأولاده وسائر أمراء طىّ مشاة بين يديه حتى دخل المسجد ودعا ابن نباتة الخطيب [2] وأمره بصعود المنبر وأسرّ إليه بما لا يبدأ به [3] فصعد وقد طالت الأعناق. فحمد الله وأثنى عليه وقرأ:
- بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ نَتْلُوا عَلَيْكَ من نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا في الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ من الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا في الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ في الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ 28: 0- 6 [4] .
ولمّا فرغ أبو الفتوح من الصلاة عاد إلى دار الإمارة.
__________
[1] . لعله: دعا.
[2] . قد كان توفى سنة 272 الخطيب المشهور (مد) .
[3] . يريد بما يبدأ به.
[4] . س 28 القصص: 1- 6.(7/280)
ونرى أنّ أبا الفتوح اتّبع فى هذا الاستشهاد بهذه الآيات محمد بن عبد الله بن حسن فيما جرى بين المنصور بالله وبينه من المكاتبات فإنّه استشهد بها.
ويتضمن كتاب الكامل الذي صنفه أبو العباس المبرّد ذكرها [1] وقد نظر [2] المنصور فيها ولولا شرط الاختصار لذكرناها فإنّها عجيبة جدّا. وقد قارعا على الأحساب «والنبع يقرع بعضه بعضا» .
وما أحسن أدب القائل حين دخل إلى المنصور بالله بعد قتل إبراهيم بن عبد الله بن [340] حسن بن حسن أخى محمد، والناس ينالون من ابراهيم والمنصور يكره كثيرا من ذلك فقال:
- «أجرك الله يا أمير المؤمنين فى ابن عمّك وغفر له ما استحلّه من قطيعتك.» أو ما هذا معناه.
فتهلّل وجه المنصور سرورا بصوابه، وقرّبه إليه من دون أصحابه. والله تعالى يقول: «وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ في كِتابِ الله إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» 8: 75 [3] .
ذكر ما دبّره صاحب مصر عند وصول الخبر إليه
لمّا تأدّى إلى الحاكم شرح ما جرى، عظم عليه وكبر لديه. وكتب إلى حسان ملطّفات وبذل له بذولا كثيرة، وإلى المفرج بمثل ذلك، واستمال آل الجرّاح جميعهم، وحمل إلى على ومحمود ابني المفرّج أموالا جزيلة حتى فلّهما عن ذلك الجمع وجعلهما فى حيّزه مع جماعة من العرب.
__________
[1] . طبع مصر 1308، 2: 220.
[2] . لعله: ناظر (مد) .
[3] . س 8 الأنفال: 85.(7/281)
وبدأ أمر الحاكم يقوى وأمر أبى الفتوح يضعف، وبان له تغيّر آل الجرّاح عليه، وانضاف إلى ذلك ورود الخبر بنزول ابن عمّه على ملكه طالبا موضعه.
ذكر تحاسد بين الأهل عاد بوبال [341]
كان لأبى الفتوح ضدّ من بنى عمّه يعرف بابن أبى الطيب يخاطب بالإمرة وبينهما تحاسد وتنازع. فكتب إليه الحاكم فى هذا الوقت وقلّده الحرمين وأنفذ له ولشيوخ بنى حسن مالا وثيابا.
فسار مع من انضوى إليه من بنى عمّه إلى مكّة وبها صاحب أبى الفتوح، فنازله وأسرعت النجب إلى أبى الفتوح بالخبر، فازداد قلقا وخاف خروج الحرمين من يده.
وكان حسّان قد أنفذ والدته فى أثناء هذه الخطوب إلى مصر بتذكرة تتضمن أغراضه وسأل فى جملتها أن تهدى له جارية من إماء القصر. فأجابه الحاكم إلى جميع ما سأل من إقطاع وتقرير وأمضاه، وكتب له أمانا بخطّ يده وأهدى له جارية جهّزها بما بلغ قيمته مالا عظيما. فعادت والدة حسّان إليه بالرغائب له ولأبيه، فسرّ بذلك وأظهر طاعة الحاكم ولبس خلعه.
وعرف أبو الفتوح الحال فأيس معها من نفسه، فركب إلى المفرج مستجيرا به وقال:
- «إنّما فارقت نعمتي وأبديت للحاكم صفحتي سكونا إلى ذمامك، وأنا الآن خائف من غدر حسّان، فأبلغنى مأمنى وسيّرنى إلى وطنى.» فحفظ المفرج ذمامه وضمّ إليه من أجازه وأدّى القرى. فتلقّاه بنو حسن وأصحابه ومضوا إلى مكة واستقامت أموره بها وكاتب الحاكم واعتذر إليه فقبل عذره. وأمّا الوزير أبو [342] القاسم فإنّه استجار بالمفرج حتى سيّره إلى العراق.(7/282)
وصبر الحاكم مدة يسيرة ثم جرّد العساكر مع على بن جعفر بن فلاح أخى أبى تميم ولقّبه قطب الدولة وسار فى عشرين ألف وتلقّاه على ومحمود ابنا المفرج طائعين.
وكان الحاكم قد خدع كاتبا للمفرج يعرف بابن المدبّر، وبذل له بذولا على قتل المفرج بالسمّ. فتوصّل الكاتب إلى أن سقاه سمّا فمات وهرب ابن المدبّر إلى مصر ووفى له الحاكم بما وعده ثم قتله من بعد.
وكذلك عاقبة من خان مولاه وباع دينه بدنياه، فهو يخسرهما جميعا ويحتقب إثما عظيما.
واضمحلّ أمر حسّان وأخذت معاقله وصار طريدا شريدا مدّة حتى ضاقت عليه أرضه. فأنفذ والدته والجارية إلى مصر لائذا بالأمان واستشفع إلى الحاكم بأخته فشفعها فيه وأعطى والدته خاتمه وثياب صوف كانت على بدنه وعمامة على رأسه والحمار الذي يركبه. فعادت الجارية بجميع ذلك إليه وأقامت والدته.
فبادر حسّان إلى الورود ودخل البلد على ذلك الحمار بتلك الثياب فعفا عنه وأعطاه أرضه واصطنعه وأقطعه وأعاده إلى الشام ولم يتعرّض حسّان بعدها بفساد إلى أن قتل الحاكم.
ونعود إلى سياقة التاريخ.
مسير خمارتكين إلى الرحبة والرقّة
وفى هذه السنة المقدّم ذكرها [343] وردت كتب أهل الرحبة والرقّة إلى الحضرة باستدعاء من يسلمون إليه البلاد، فندب خمارتكين الحمصي للمسير.(7/283)
ذكر ما جرى عليه أمره فى ذلك
سار إلى الرحبة وملكها وأقام بها أيّاما ثم سار إلى الرقّة وبها سعد السعدىّ، فاعتصم بالرافقة وجرت بينه وبين خمارتكين وقعات ولم يتمّ فتحها وعاد إلى الرحبة.
وقد بلغه اضطراب الأمور ببغداد فرجع واعترضه قوم من العرب فى رجوعه فأخذوه أسيرا فى أيديهم حتى افتدى منهم بمال.
وفيها خرج أبو جعفر الحجاج بن هرمز إلى أعمال الموصل مع عدد كثير من العسكر وحصل بها.
واجتمعت بنو عقيل وزعيمهم يومئذ أبو الدواد محمد بن المسيّب على حربه فجرت بينهما وقائع ظهر من أبى جعفر فيها شجاعة سار ذكره بها حتى إنّه كان يضع كرسيّا فى وسط المصافّ ويجلس عليه والحرب قائمة بين يديه وتمكّنت له فى قلوب العرب هيبة بذلك.
واستنجد من الحضرة، فأنجد بالوزير أبى القاسم علىّ بن أحمد [1] واستقرّ الصلح مع العرب على المناصفة فيما قرب من أعمال الموصل وبقي أبو جعفر هناك إلى أن توفّى محمد بن المسيّب وعاد بنو [344] عقيل فأخذوا منه البلد.
وفيها وصل الأشراف والقضاة والشهود إلى حضرة القادر بالله رضوان عليه، وسمعوا يمينه لبهاء الدولة بالوفاء وخلوص النيّة وتقليده ما وراء بابه ممّا تقام فيه الدعوة، وذلك بعد أن حلف له بهاء الدولة على صدق الطاعة والقيام بشروط البيعة.
__________
[1] . هو أبو القاسم الأبرقوهى (مد) .(7/284)
ودخلت سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة
خروج الوزير أبى القاسم لقتال بنى عقيل
وفيها خلع على الوزير أبى القاسم علىّ بن أحمد وندب إلى الخروج إلى الموصل وقتال بنى عقيل.
ذكر السبب فى ذلك وما انتهى إليه الأمر فيه
كانت الحال بين أبى القاسم وبين أبى الحسن المعلّم قد بدأت فى الفساد ودخلت بينهما بلاغات حلّت عرى الوداد. وكان أبو القاسم يجرى نفسه معه مجرى الكاتب حتى إنّه نزل يوما معه فى زبزبه، فجلس على الكهوار بين يديه والناس يشاهدونه ويتعجّبون منه.
ووردت كتب أبى جعفر الحجاج باجتماع بنى عقيل عليه، فأشار أبو الحسن على بهاء الدولة بإخراج أبى القاسم [345] فتقدّم إليه بذلك وجرّد معه عددا كثيرا من طوائف العسكر وسار بعد أن ركب إليه بهاء الدولة وودّعه.
فوصل إلى الموصل وخيّم بظاهرها واجتمع مع أبى جعفر وانصرف بنو عقيل وبدأ بإحكام قواعد الأمور، فلم يمهله أبو الحسن المعلّم حتى كاتب أبا جعفر بالقبض عليه.
ذكر رأى سديد لأبى جعفر نظر فيه للعاقبة
علم أبو جعفر أنّه إن فعل ذلك اضطرب الأمور وطمعت العرب ولم يمكنه الثبات، فتوقف وراجع أبا الحسن وأعلمه وجه الغلط فيما رآه.(7/285)
واتصل الخبر بأبى القاسم بما يجرى من الخوض [1] فى بابه من عيون له على بهاء الدولة وأبى الحسن وخواصّهما [2] وعوّل على مهادنة بنى عقيل وأخذ رهائنهم وعمل على الانكفاء إلى بغداد. ولمّا رأى أبو الحسن أنّ أبا جعفر قد توقّف عمّا كاتبه فيه، فأخرج أبا الفتح محمد بن الحسن الحاجب إليه ليلزمه إمضاء العزيمة فيما أمره به.
فحكى أبو نصر محمد بن على بن سياجيك وكان كاتب أبى القاسم يومئذ، قال:
لمّا وصل الخبر إلينا بما تقرّر من خروج أبى الفتح محمد بن الحسن [346] على القاعدة المذكورة، ثم تلاه كتاب من تكريت بوصوله إليها، خاف أبو القاسم وأشار عليه من يثق به بالهرب. ففرقت نفسه عنه، وعزم على الانكفاء إلى بغداد ولم يأمن أن يظهر فيمنعه أبو جعفر.
ذكر ما رتّبه أبو القاسم من الحيلة حتى تمّ له الانحدار
راسل أبا جعفر وقال له:
- «قد توقف محمد بن المسيّب عن تفرقة العرب من حوله وتسليم ما وقف على تسليمه من النواحي وقال: لست فاعلا ذلك إلّا بعد أن تنحدر أنت ومن معك من العسكر وآمن انتقاض ما تقرر، وقد عزمت على أن أنتقل بمعسكرى من موضعه وأظهر الانحدار، فليكن أدعى إلى سكونه.» فاستصاب أبو جعفر رأيه وأمر أبا القاسم بالرحيل ليلا وأصبح على عشرة فراسخ من الموصل.
__________
[1] . فى الأصل: الخواص.
[2] . وفى الأصل: من خواصهما.(7/286)
فراسله أبو جعفر وعاتبه على فعله. فردّ عليه جوابا معللا بالاعتذار وقال:
- «إنّ الأولياء طالبوني بالانحدار ولم يمكن مخالفتهم.» ووصل إلى الحديثة وقد نزلها أبو الفتح الحاجب فخرج وتلقّى الوزير وخدمه وأعطاه كتابا من بهاء الدولة مضمونه:
- «إنّ الأمور قد [347] وقفت ببعدك وخيّل لنا أنّ أبا جعفر منعك من العود ولم يقف عند ما تدبّره به. فأنفذنا أبا الفتح ليواقف أبا جعفر على طاعتك والرضاء [1] بما تقرره ليتعجّل عودك.» فوقف أبو القاسم على الكتاب. فلمّا نزل مخيّمه استدعى أبا الفتح وراوضه على أن يصدقه عن باطن الأمر وبذل له ثلاثة آلاف دينار. فحلف له أبو الفتح على تقابل الظاهر والباطن فيما أوصله إليه. فقال أبو نصر:
فاستدعاني الوزير بعد خروج أبى الفتح من عنده وقال لى:
- «قد ورد هذا الكتاب بما قد علمته وقد كتب أصدقاؤنا ونصحاؤنا بما عرفته فما الرأى؟» قلت له:
- «ليس إلّا مراسلة أبى الدواد فإنّه نازل بازائنا، وأخذ الذمام منه والعبور إليه والمقام عنده ثم تدبير الأمر مع الأمن.» فقال:
- «لعمري إنّ هذا هو الرأى الذي توجبه الخبرة فى حراسة النفس ولكنّى أستقبح ذلك وسأدخل بغداد متوكّلا على الله تعالى.» ثم ورد الخبر فى أعقاب ذلك بالقبض على أبى الحسن المعلّم وقتله.
__________
[1] . كذا فى الأصل ومد، بالمدّ.(7/287)
فدخلت إلى الوزير فأقرأنى الكتاب الوارد بذكر ذلك وعنده من يحتشمه فأظهرت وجوما. فلمّا خلا عدت إليه وفى وجهى آثار الاستبشار، ووجدته مفكرا مطرقا فلما رآني قال:
- «أظنّك قد سررت بما ورد.» قلت: «نعم.» قال: «وما ذاك مما يسرّ، لأنّ ملكا قرب رجلا [348] كما قرب بهاء الدولة أبا الحسن وفوّض إليه التفويض الذي رأيته ثم أسلمه للقتل بمرأى عينه لحقيق بأن تخاف ملابسته.» وفيها ورد أبو العلاء عبيد الله بن الفضل قادما من الأهواز وكان أبو الحسن المعلّم قد مدّ عينه إلى حاله وماله واستدعاه للقبض عليه.
ذكر تدبير جيّد سلم به أبو العلاء عبيد الله بن الفضل
لمّا أحسّ أبو العلاء بما همّ به أبو الحسن ملأ عينه بالتحف والملاطفات وعمل الدعوات المترادفات وسلك معه سبيل التذلل والمخادعة حتى اندفعت عنه النكبة وتجدّد من قتل المعلّم ما كفى به أمره.
وفيها أفرج عن أبى الحسن محمد بن عمر العلوي.
وفيها قبض على أبى الحسن المعلّم وقتل.
شرح حال أبى الحسن المعلم فى القبض عليه وقتله
كان قد استولى على الأمور الاستيلاء الذي تقدّم ذكره ووتر القريب والبعيد وخنق أبا على ابن شرف الدولة بيده وأفسد نيّات وجوه العسكر(7/288)
والرعيّة [349] وفعل الأفاعيل المنكرة وأملى له حتى امتلأت صحيفته.
فشغب الجند فى هذا الوقت وبرزوا إلى ظاهر البلد وراسلوا بهاء الدولة بالشكوى منه وطالبوه بتسليمه إليهم فأخذهم باللطف ووعدهم بإزالة شكواهم وأن يتولّى بنفسه أمورهم ويقتصر أبو الحسن المعلّم على خدمته فيما يخصّه.
فلم يقنعوا، فبذل لهم أن يبعده عن مملكته إلى حيث يأمن على مهجته ويبلغ الجند مرادهم ببعده ولا يتقبّح هو بتسليمه وقتله. فكان جوابهم أخسّ من القول الأول.
فقال بكران لبهاء الدولة وكان السفير بينه وبين العسكر:
- «أيّها الملك إنّ الأمر على خلاف ما تقدّره وأنت مخيّر بين بقاء أبى الحسن وبين بقاء دولتك، فاختر أيّهما شئت.» فقبض عند ذلك على أبى الحسن وعلى جميع أصحابه وأسبابه وظنّ أنّهم يرضون ويعودون. فلم يفعلوا وأقاموا على المطالبة بتسليمه إليهم فتذمّم من ذلك وركب بنفسه ليسألهم العود والاقتصار على ما جرى من القبض على المعلّم فلم يقم أحد منهم إليه ولا خدمه وأبوا أن يرجعوا إلّا بعد تسليمه.
فسلّم حينئذ إلى أبى حرب شيرزيل [1] وسقى السمّ دفعتين فلم يعمل فيه، فخنق بحبال الستارة ودهمه أحد الغلمان بسكين فقضى نحبه وأخرج ودفن.
ثم عاد [350] الجند إلى منازلهم وسكنت الفتنة.
ولو أنّ بهاء الدولة اقتصد فى أمر هذا المعلّم لكان ذلك أحسن بداية وأجمل توسّطا وأحمد عاقبة وآمن مغبّة وأطيب أحدوثة. ولكنّه أخطأ باختيار من لا خير فيه، ثم أفرط فى تقريبه ثم أسرف فى تمكينه، لا جرم
__________
[1] . فى الأصل (سريريل) والصواب فى تاريخ هلال الصابي (مد) .(7/289)
أنّ السمعة ساءت والرقية رفعت والحشمة ذهبت والوصمة بقيت ولم يسلم المعلّم مع ذلك كلّه.
فيا قرب ما بين العزّ وهذا الهوان وذلك الإكرام وهذا الإسلام! «فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ» 44: 29 [1] .
تسليم الطائع إلى القادر وإنزاله فى حجرة
وفيها سلم الطائع إلى الخليفة القادر بالله رضوان الله عليه وأنزله فى حجرة من حجر خاصّته ووكّل به من يحفظه من ثقات خدمه.
وأحسن ضيافته ومراعاة أموره حتى إنّه كان يطالب من الخدمة بمثل ما كان يطالب به أيّام خلافته وكان القادر بالله رضوان الله عليه، يتفقّد ما يقام له ويقدّم بين يديه أكثر تفقّد مما يخصّ به نفسه. وأقام على ذلك إلى أن توفّى رضوان الله عليه.
وفيها ورد الوزير أبو القاسم على بن أحمد والعسكر فى صحبته. [351]
ذكر ما جرى عليه أمر الوزير أبى القاسم وما استقرّ فى أمر النظر بعد القبض عليه
ورد وعنده أنّه قد كفى ما يحاذره بهلاك المعلّم وكان بهاء الدولة قد نقم عليه لأسباب أكّدها المعلّم فى نفسه، أحدها ما كان منه بمقاربة بنى عقيل ثم صحّ فى نفسه أنّ الشغب الواقع من العسكر كان بكتبه ورسائله إليهم.
فقبض عليه وخلع على أبى عبد الله [2] الحسين بن أحمد وردّ إليه العرض
__________
[1] . س 44 الدخان: 29.
[2] . وفى الأصل «أبى عبد الله بن الحسين» وهو غلط (مد) .(7/290)
وأقرّ أبا الحسن على [1] بن سهل الدورقي على رسمه فى نيابة الوزارة.
وخوطب أبو منصور ابن صالحان على تقلّد الأمر، فاستعفى فاستقرّ الأمر على استدعاء أبى نصر سابور، وكان قد صار إلى البطيحة مستوحشا من المعلّم فكوتب بالحضور فحضر.
وأشير على بهاء الدولة بالجمع بينه وبين أبى منصور ابن صالحان فى الوزارة. فأمر بذلك بعد أن قرّره معهما وخلع عليهما جميعا وطرح لهما دستا كاملا وكانا يتناوبان فى تقديم اسم أحدهما على الآخر فى المكاتبات.
ذكر القبض على أبى القاسم بشيراز
وفيها قبض صمصام الدولة على أبى القاسم العلاء بن الحسن بشيراز. [352]
ذكر ما جرت عليه الحال فى ذلك
كان العلاء بن الحسن غالبا على أمر صمصام الدولة ووالدته كثير الإفضال على أصحابه وحاشيته. ولم يكن مع ذلك مغضيا لهم على أمر يحلّ عرى السياسة.
وكان قد اصطنع أبا القاسم الدلجى واستصحبه من الأهواز لما أعاده شرف الدولة إلى شيراز وقدّمه وقرّبه. ثم ولّاه ديوان الإنشاء حين حصل صمصام الدولة بشيراز وخلع عليه ورتّبه فى ذلك ترتيب الوزراء ومضى الأمر على هذا زمانا.
وتبسّط الرضيع وسعادة وكتّاب السيدة والدة صمصام الدولة واستولوا
__________
[1] . فى الأصل: بن على.(7/291)
وطالبوا العلاء بما تقصر المادّة عنه وتضطرب الأمور معه.
فضاق مجال قدرته عن اقتراحاتهم ففسدت الحال بينه وبينهم لأجل ذلك، وشرعوا فى فساد أمره، فوجدوا عند أبى القاسم الدلجى مساعدة لهم عليه عند صمصام الدولة طمعا فى حاله وحال [من] دونه فقبض عليه وعلى كتّابه وحواشيه وعلى ابنته وزوجة العلوي الرازي، وطولبوا أشدّ مطالبة وعوقبوا أشدّ معاقبة حتى تلفت ابنته وجماعة من أصحابه تحت الضرب.
وبقي العلاء معتقلا فى بعض المطامير [353] لا يعرف له خبر. إلى أن فسد أمر أبى القاسم الدلجى فتغيّر رأى السيدة والدة صمصام الدولة وقبض عليه فى سنة ثلاث وثمانين وأفرج عن العلاء بن الحسن وردّ إليه النظر.
ذكر ما جرى عليه أمر العلاء بن الحسن فى عوده إلى الوزارة
أخرج من محبسه وقد ضعف بصره وحصل فى دار السيدة وعولج حتى برئ وخلع عليه وردّ إلى الوزارة وصحب صمصام الدولة إلى الأهواز. ثم رجع إلى أرّجان فأقام بها على النظر فى أمور فارس.
فلمّا جرى ما جرى بتلّ طاؤوس وعاد الديلم منهزمين وانهزم صمصام الدولة إلى شيراز، فسار العلاء إلى الأهواز وقاتل عسكر بهاء الدولة ثم مات بعسكر مكرم.
ولم تخلص نيّته لصمصام الدولة بعد ما لحقه وابنته وأهله، بل أهلك دولته بإقطاع الإقطاعات وإيجاب الزيادات وتمزيق الأموال وتسليم الأعمال، وتأدّت أمور صمصام الدولة إلى الاضطراب وأحواله إلى الاحتلال. وهكذا(7/292)
يعيس [1] فى فساد الأمور كلّ حنق موتور.
ورود الخبر بنزول ملك الروم على خلاط وأرجيش
وفيها ورد الخبر بنزول ملك الروم على خلاط وأرجيش وأخذهما وانزعج الناس لذلك، ثم ذكر من بعد [354] استقرار الهدنة بين أبى على الحسن ابن مروان وبينه مدة عشر سنين وانصرف عن الأعمال. [2]
ودخلت سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة
استيلاء أولاد بختيار على القلعة
وفيها ورد الخبر باستيلاء أولاد بختيار على القلعة التي كانوا معتقلين فيها ومسير أبى [على] الحسن بن أستاذ هرمز من شيراز إليهم والقبض عليهم وقتل نفسين منهم.
ذكر الحال فى ذلك وما انتهى إليه أمرهم
قد تقدّم ذكر حال هؤلاء القوم واحسان شرف الدولة إليهم بالإفراج عنهم ولمّا همّ بقصد العراق أخرجهم إلى بعض دور شيراز وجعل معايشهم وإقطاعاتهم منها.
فلمّا توفى قبض عليهم وحبسوا فى قلعة خرشنة فكانوا فيها إلى أن مضى صدر كبير من أيّام صمصام الدولة.
__________
[1] . فى مد: عيسى (كذا) .
[2] . يبدو فى العبارة اضطراب.(7/293)
ذكر حيلة عملها أولاد بختيار ملكوا بها القلعة [355]
استمالوا حافظ القلعة ومن كان معه من الديلم فطاوعوهم فأفرجوا عنهم.
ثم أنفذوا إلى أهل تلك النواحي المطيفة بالقلعة وأكثرهم رجّالة أصحاب سلاح ونجدة، فاجتذبوا منهم عدّة كثيرة واجتمعوا تحت القلعة.
وعرف صمصام الدولة الخبر فأخرج إليهم أبا على ابن أستاذ هرمز فى عسكر وسار. فلمّا قرب من القلعة تفرّق من كان اجتمع تحتها من الرجال وتحصّن بنو بختيار والديلم فيها ونزل أبو على عليها محاصرا ومحاربا.
ذكر ما دبّره أبو على ابن أستاذ هرمز فى فتح القلعة
راسل أحد وجوه الديلم الذين فى القلعة وأطمعه فى الإحسان والزيادة فى المنزلة. فاستجاب له وواقفه على أن ينزل إليه حبلا من أعلى القلعة ليرتقى به الرجال إلى بابها وكان على سنّ من الجبل.
فلمّا دنا الحبل خاطب أبو على ابن أستاذ هرمز جماعة من الذين معه على الصعود، فتوقّفوا حتى ابتدر [1] أحد أصحابه فصعد. فلمّا دنا يقرب من الباب اضطربت يده على الحبل فخرّ متردّيا وأحجم الباقون. فصبّ بين أيديهم أموالا وبسط [356] منهم آمالا وابتدر [2] قوم من أصحابه فيهم لوثة وجرأة، فصعدوا إلى القلعة واحد بعد واحد حتى حصل عدد منهم على الباب. ففتح لهم ودخلوا القلعة وملكوها، فقبض على أولاد بختيار وكانوا
__________
[1] . لعله: انتدب.
[2] . لعله: وانتدب.(7/294)
ستّة.
وكتب كتابا بالفتح إلى صمصام الدولة فأنفذ فرّاشا تولّى قتل نفسين من أولاد بختيار وأنفذ الباقون إلى قلعة الجنيد فاعتقلوا فيها.
وفيها ندب أبو العلاء عبيد الله بن الفضل للخروج إلى الأهواز وخلع عليه.
ذكر السبب فى ذلك
كانت بين الشريف أبى الحسن محمد بن عمر وبين [أبى] العلاء عبيد الله عداوة ومباينة وتقدّم أبو العلاء عند بهاء الدولة وقرب منه بخدمته له.
فاجتمع أبو الحسن محمد بن عمر وأبو نصر سابور الوزير واتفقا على الشروع فى إبعاده. فأرسل الوزير أبو نصر سابور الأستاذ الفاضل أبا نصر الحسين بن الحسن إلى بهاء الدولة وقال له:
- «قل للملك: أنا أعلم ما فى نفسك من أمر فارس وقد انحلّ أمر صمصام الدولة ومضى أكثر أعوانه ولك عشرون ألف ألف درهم معدّة: منها ما آخذه من أبى محمد ابن مكرم والمتصرفين بالأهواز، ومنها ما وجوهه لائحة.
والتدبير فى هذا الأمر أن يخرج أبو العلاء إلى الأهواز كأنّه عائد [357] إليها للمقام بها ويجرّد معه قطعة من العسكر ثم تتبعه بعد مدة بطائفة أخرى. فإذا تكاملت العساكر هناك أظهرنا حينئذ ما نظهره.» وسار أبو العلاء من الأهواز فأعجل القوم عن أهبة واستعداد. فأعاد الأستاذ الفاضل أبو نصر على بهاء الدولة ما ذكره سابور، فتشوّفت نفسه إليه وتعلّق طمعه به، وأمر فى الجواب بما يجب ترتيبه، وكتب بالقبض على أبى محمد ابن مكرم وأصحابه، وتقدّم إلى أبى العلاء بالمسير بعد أن أعلم بباطن التدبير واستكتمه.(7/295)
ذكر تفريط من أبى العلاء فى إذاعة سرّ عجّل به
قال الأستاذ الفاضل:
فو الله لقد خلع علىّ وسرت فى موكبه إلى داره. فما استقرّ فى مجلسه حتى دخل أبو الحسين شهرستان بن اللشكرى لتهنئته. فقال:
- «يا با الحسن أىّ دار تريدها بشيراز.» فغمزته فتنبّه واستدرك وقال لشهرستان:
- «إنّما أردت بالأهواز.» ولم يخف الخبر وشاع. فإنّ القول كالسهم، إذا نفذ على كبد القوس فات.
وأقام أبو العلاء فى معسكره أيّاما كثيرة ولم يخرج معه أحد، وبطل ما كان سابور بذله فى أمر المال [358] وحصوله.
وخرج أبو العلاء بعد ذلك فى شر ذمة قليلين. فسار إلى الأهواز فما وصلها إلّا وقد عرف الخبر بفارس ووقع الشروع من هناك فى المسير إلى العراق.
وفيها جلس القادر بالله رضوان الله عليه، لأهل خراسان عند عودهم من الحجّ وخوطبوا على أمر الخطبة وإقامتها، وحملوا رسالة وكتبا إلى صاحب خراسان فى المعنى.
شغب الديلم
وفيها شغب الديلم لأجل النقد وفساد السعر وغلائه [1] وتأخّر العطاء، ونهبوا دار الوزير أبى نصر سابور وأفلت منهم ناجيا بنفسه، وراسلوا بهاء
__________
[1] . وفى الأصل: وغلاته.(7/296)
الدولة بتسليمه وتسليم أبى الفرج محمد بن علىّ الخازن [1]- وكان ناظرا فى خزانة المال ودار الضرب- وتردّد القول بينهم إلى أن وعدوا بالإطلاق وتجويد النقد، وسكنت الفتنة.
واستمرّ سابور على استتاره وروسل وهو مستتر بتسليم أبى القاسم على بن أحمد وكان سلّم إليه ليعتقله عنده فسلّمه، وحمل فى هذا الوقت إلى الخزانة فى دار المملكة.
ولمّا جرى على سابور ما جرى استعفى أبو منصور ابن صالحان من التفرّد بالنظر وأظهر العجز عنه.
وكانت الإقامات قد زادت على قدر المادّة وأحوجت النظّار إلى التسكع فيها. وصارت الهمّة جميعها مصروفة إلى ما يحصل لأبى العبّاس أحمد بن علىّ وهو الوكيل فى هذا الوقت.
فبدأ عند ذلك أبو القاسم علىّ بن أحمد [359] فى طلب العود إلى الوزارة وراسل بهاء الدولة وبذل له أن يكفيه الاهتمام بأمر الإقامة متى مكّنه وبسط يده. فاشرأبّت نفس بهاء الدولة لذلك فأحاله إليه واستوزره وخلع عليه.
ذكر ما جرى عليه أمر أبى القاسم علىّ ابن أحمد فى هذه الوزارة
قبض على جماعة من الكتّاب والمتصرّفين وأخذ منهم مالا مبلغه ستّة آلاف [2] درهم وأحضر أبا العبّاس الوكيل وقرّر عليه تقريرا صالحا عن نفسه وأعطاه وأقام له وجوها بالإقامة لمدّة أربعة أشهر وأخذ خطّه باستيفاء ذلك وأنفذه إلى بهاء الدولة فحسن موقعه عنده وملك به رأيه وقلبه. لكنه أفسد
__________
[1] . تقلد البصرة فى أواخر سنة 402: ارشاد الأريب 2: 120 (مد) .
[2] . لعله سقط: ألف.(7/297)
قلوب الحواشي وأبعد بعضهم ومضت على ذلك مدّة وحالة تزداد عند بهاء الدولة تمكّنا واستقرارا وتزداد قلوب الحواشي منه استيحاشا ونفارا.
وكان قد قلّد أبا محمد الحسن بن مكرم البصرة حربا وخراجا فى أعجاز نكبته بالأهواز وأمره بالقبض على أبى عبد الله ابن طاهر وكان ناظرا بالبصرة فقبض عليه وحبسه.
ذكر سبب وجد به الحواشي طريقا [360] إلى فساد حال الوزير أبى القاسم
ورد الخبر أنّ أبا عبد الله ابن طاهر قتل فى محبسه، وأنّه وضع عليه قوما دخلوا إليه وفتكوا به. فوجد الحواشي سبيلا إلى الوقيعة فى الوزير وعرّفوا بهاء الدولة من قتل [1] أبى عبد الله على الوجه القبيح ما غيّر رأيه فقال:
- «قد قتل فى تلك الكرّة المعلم وفى هذه الكرّة ابن طاهر أفتراه بمن يثلّث؟» وانتهى هذا القول إلى أبى القاسم من عيون كانت له فى الدار بحضرة بهاء الدولة. فخاف وهرب فى ليلة يومه.
ذكر ما جرت عليه الأمور بعد هرب الوزير أبى القاسم علىّ بن أحمد وعود أبى نصر سابور [2]
قصد أبو نصر سابور دار بكران واستعاذ به حتى أصلح له قلوب الديلم
__________
[1] . وفى الأصل: قبل.
[2] . قال صاحب تاريخ الإسلام: وفى هذه السنة ابتاع الوزير أبو نصر سابور دارا بالكرخ وعمرها وسمّاها دار العلم ووقفها على العلماء ونقل إليها كتبا كثيرة (مد) .(7/298)
وأمن جانبهم وظهر من داره.
وأفرج عن الجماعة الذين اعتقلهم الوزير أبو القاسم ورتّب فى كلّ من الدواوين كاتبا يتولّى أمره ونظر هو فى الخبر والبريد والحماية ظاهرا، وفى تدبير الأمور وتقريرها وتنفيذها باطنا. فكانت الجماعة يصدرون عنه ويوردون إليه وجرت الحال على هذا الترتيب [361] أشهرا ثمّ تظاهر بالعمل.
وفيها وردت كتب أبى العلاء عبيد الله بن الفضل ويذكر فيها مسير عساكر فارس مقبلة إلى الأهواز ويحثّ على إمداده بالعساكر.
ذكر ما دبّره بهاء الدولة فى ذلك
ندب أبا طاهر دريده شيرى. [1] للخروج إلى الأهواز فى جماعة من الديلم وجرّد أبا حرب شيرزيل إلى البصرة.
وورد الخبر بانفصال عسكر فارس من أرّجان فأمر بهاء الدولة بإخراج مضاربه ثمّ ورد الخبر بحصولها برامهرمز.
فندب طغان الحاجب فى عدد كثير من الغلمان وخلع عليه وأخرج معه عيسى بن ماسرجس [2] ناظرا فى خلافة الوزارة وأخرج ما فى الخزائن من الأوانى الذهب والفضة فكسرت وضربت دنانير ودراهم وفرّقت عليهم.
ثم ورد الخبر بدخول عساكر فارس وعليهم أبو الفرج محمد ابن علىّ بن زيار إلى الأهواز، وهزيمة أبى العلاء عبيد الله بن الفضل وحصوله أسيرا فى أيديهم.
__________
[1] . وفى الأصل دربرشيرى.
[2] . وفى الأصل: ماسرجيس. هو أبو العباس وله قصّة مع أحمد النهرجورى الشاعر ومع ابن حاجب النعمان: إرشاد الأريب 2: 120 و 5: 260 (مد) .(7/299)
ذكر ما جرى عليه أمر أبى العلاء بعد الأسر والاتّفاق الذي سكن به [362]
لمّا أسره أبو الفرج ابن زيار حمله إلى شيراز وصمصام الدولة بدولت آباد [1] للتوجّه على سمت العراق فأدخل المعسكر على جمل وقد ألبس ثيابا مصبّغة وطيف به وكلّ أحد لا يشكّ أنّه مقتول.
فاتفق أنّه أجيز على خيم السيدة والدة صمصام الدولة فأومئ بيده كالمستغيث المسترحم. فبدرته قهرمانة من الديلميات بالسبّ فسمعتها السيدة فأنكرت قولها عليها. وتقدّمت بحطه عن الجمل ونزع الثياب المصبوغة عنه وإلباسه غيرها وحمله إلى القلعة واعتقاله بها وإحسان مراعاته فيها. فكان فعل هذه المرأة سبب حياته والإبقاء عليه.
ولمّا ورد على بهاء الدولة خبر كسر عسكره بالأهواز وأسر أبى العلاء انزعج انزعاجا شديدا وتقدّم إلى طغان بالمسير. ورأى خلو خزائنه من المال وحاجته إليه. فأمر الوزير أبا نصر بالانحدار إلى واسط واجتذاب ما يلوح له وجه منه ومراسلة مهذّب الدولة والاستدانة منه على رهن يجعل له عنده وسلّم إليه من الجوهر والآلات كل خطير.
عقد القادر بالله على ابنة بهاء الدولة
وفيها عقد القادر بالله رضوان الله عليه على ابنة بهاء الدولة [2] بصداق
__________
[1] . قال ياقوت فى معجم البلدان: دولتاباذ موضع ظاهر شيراز تسير إليه العساكر إذا أرادوا الأهواز.
[2] . وفى تاريخ الإسلام أنّ اسمها «سكينة» وفيه أيضا أنّ هذه السنة بلغ كرّ القمح ستة آلاف وستمائة درهم غياثية والكارة الدقيق مائتين وستين درهما.(7/300)
مائة ألف دينار بحضرته والولىّ الشريف أبو أحمد ابن موسى الموسوي وتوفّيت قبله النقلة. [363]
ودخلت سنة أربع وثمانين وثلاثمائة
مصاهرة بين المهذّب والبهاء
وفيها وقع العقد لمهذّب الدولة أبى الحسن على ابنة بهاء الدولة وللأمير أبى منصور ابن بهاء الدولة على ابنة مهذّب الدولة. وكل عقد منهما كان على صداق مائة ألف دينار وحمل المهذّب بالمبلغ مالا وغلّة، وخطب له بواسط وأعمالها واحتسب له من مال ضماناته بأسفل واسط بألف ألف وثلاثمائة ألف درهم غياثية منسوبة إلى الإقطاع. وكان عيار الدرهم الغياثى ثمانية ونصف حرفا [1] فى كل عشرة.
مراسلة بين البهاء والفخر
وفيها أشار أبو نصر خواشاذه على بهاء الدولة بمراسلة فخر الدولة باستصلاحه واستكفافه عن مساعدة صمصام الدولة فاستصوب ذلك ورسم له السفارة فيه.
فاختار أبا الحسن الأقسيسى [2] العلوي للخروج فى الرسالة نيابة عن أبى نصر خواشاذه وخرج الأقسيسى فقبل أن يصل إلى مقصده قبض عليه.
ذكر السبب فى ذلك
كان بين أبى نصر خواشاذه وبين أبى نصر سابور صداقة ومخالطة. [364]
__________
[1] . كذا في مد.
[2] . قال ياقوت معجم البلدان: الاقساس قرية بالكوفة ينسب إليها جماعة من العلويين.(7/301)
فلمّا انحدر أبو نصر سابور إلى واسط هرب إلى البطيحة فوجد أعداء أبى نصر خواشاذه طريقا إلى السعى فحسّنوا لبهاء الدولة القبض عليه.
فتأمّل هذه الآراء الطريفة والأهواء العجيبة فى تقارب ما بين القبض والإطلاق والعزل والتولية حتى صار الأمر عجبا والجد لعبا. على أنّ الحياة الدنيا لعب ولهو ولكن فى اللعب مستقيم ومختلّ.
وهذا من المختل الذي تخالفت أعجازه وبواديه، وتناقضت أواخره ومباديه. فهل ترى فى جميع ما شرد من أخبار الدولة البهائية نظاما مستقيما تحمد سلوك مذاهبه وتدبيرا جيّدا ينتفع بمعرفة تجاربه؟
كلّا فجميعه واهي الأسباب وما يجرى فيه من صواب فإنّما هو بالاتّفاق.
ونعود إلى سياقة التاريخ.
وفيها سار طغان والغلمان من واسط إلى خوزستان.
شرح ما جرى عليه أمره فى هذا الوجه وظفرهم بعساكر صمصام الدولة وانهزامه من بين أيديهم
لمّا شارفوا السوس انهزم أصحاب صمصام الدولة عنها ودخلوها [365] وتقدّم ارسلان تكين الكركيرى فى سريّة من الغلمان إلى جندي سابور ودفعوا من كان بها وانتشرت الأتراك فى أعمال خوزستان وعلت كلمتهم وظهرت على الديلم بسطتهم.
ووصل صمصام الدولة إلى الأهواز وقد اجتمعت معه جيوش الديلم وبنو تميم وبنو أسد. فلمّا حصل بدستر [1] رحل ليلا على أن يسرى فيكبس معسكر الأتراك.
__________
[1] . كذا فى مد. لعله: بتستر.(7/302)
ذكر اتفاق سيىء عاد بضدّ التقدير
ضلّ الادلّاء الطريق وساروا طول ليلتهم على حيرة وأسفر الصبح عنهم وبينهم وبين معسكر الأتراك مدى بعيد.
وشاهد [1] بعض طلائع طغان بسواد العسكر فكرّ إليه راجعا وأخبره وقال:
- «تأهب لأمرك فإنّ الديلم قد صبّحوك موكبا.» فركب وتلاحق به الغلمان واستعاد كلّ من كان قد ذهب ممتارا فاجتمعوا حوله فكانوا نحو سبعمائة غلام والديلم ومن معهم فى ألوف كثيرة.
فصعد أرسلان تكين الكركيرى تلّ طاؤوس فوقف عليه وقسم طغان الغلمان كراديس وأنفذ كردوسا مع يارغ [2] وقال له:
- «سر عرضا وأخرج على الديلم من ورائهم وبلبلهم فى سوادهم لنشاغلهم نحن عن أمامهم. فإذا حملت [366] حملنا عليهم.» فسار على ذلك ووقف طغان والغلمان بين يديه يطاردون الفرسان، وزحف الديلم فملكوا التلّ ونزل أرسلان تكين الكركيرى عنه ووقف صمصام الدولة عليه ووقع يارغ وكردوسه على السواد وحمل على المصافّ وحمل طغان والغلمان وكانت الهزيمة.
ووقف سعادة وعنان صمصام الدولة فى يده متحيّرا ما يدرى ما يصنع.
فقال له يارغ بالفارسية:
- «ما وقوفك يا حجّام خذ صاحبك وانصرف.» فولّى عند ذلك صمصام الدولة ومضى ولم يتمكّن رجّالة [صمصام] الدولة
__________
[1] . لعله: وشعر.
[2] . وفى الأصل: يارخ (مد) .(7/303)
من الهرب مع إرهاق الأمر واشتداد الطلب وكدّ السير. فاستأمن منهم أكثر من ألفى رجل وتقطّع الباقون وغنم الأتراك غنما عظيما.
ذكر ما دبّره الغلمان فى قتل المستأمنة إليهم من الديلم
لمّا اجتمع الديلم المستأمنون إلى خيم ضربها طغان لهم تشاور الغلمان فيهم فقالوا:
- «هؤلاء قوم موتورون وعدّتهم أكثر من عدّتنا، وإن استبقيناهم معنا خفنا ثورتهم، وإن خلّينا عنهم لم نأمن عودتهم.» فاستقرّ رأيهم على القتل وطرحوا الخيم عليهم ودقّوهم بالأعمدة حتى أتوا عليهم.
فكانت هذه [367] الوقعة أخت وقعة الحلبة فى كثرة من قتل من الديلم [1] ووردت الأخبار فى أمثالها وسار طغان إلى الأهواز فدخلها واستولى على جميع أعمالها وعادت طائفة من الغلمان إلى مدينة السلام.
ذكر ما فعله بهاء الدولة عند حصوله بواسط
استقرض من مهذّب الدولة مالا بعد القرض الأول واستقرّ بينهما فى أمر البصرة أن يحدر بهاء الدولة عسكرا ويضمّ مهذّب الدولة إليهم عددا من رجاله. فجرّد أبا كاليجار المرزبان لذلك فى طائفة من الجند ورتّب مهذّب الدولة أصحابه معهم وانحدر الجماعة.
وكان أبو الطيب الفرّخان قد وصل من سيراف فى البحر وملك البصرة
__________
[1] . ووقعة الحلبة انهزم فيها قوم خرجوا من بغداد لقتال البساسيرى فى سنة 450 وقتل منهم جماعة.
ليراجع الكامل لابن الأثير 9: 441 (مد) .(7/304)
فواقعوه بنهر الدير وكان الظفر لهم ودخل المرزبان بن شهفيروز البصرة وخطب لمهذّب الدولة بها تاليا لبهاء الدولة.
ولمّا ورد الخبر على بهاء الدولة بهزيمة صمصام الدولة رحل سائرا إلى الأهواز وآثر أن يبتدئ بالبصرة فقصدها ونزل بها. [368]
ذكر ما جرى عليه أمر الوزارة فى البصرة فى هذه السنة
استوزر بهاء الدولة عند حصوله بها أبا الحسن عبيد الله بن محمد بن حمدويه ونظر فى السابع من شعبان واعتزال فى الثالث والعشرين منه.
وبان من ركاكة أفعاله فى هذه الأيام القريبة كلّ أمر سخيف منها: أنّه كان فى مجلس نظره يوما وهو حفل بالناس وأبو العبّاس الوكيل حاضر فقال:
- «ادعوا لى أبا العبّاس الوكيل.» فقال له أبو العبّاس:
- «ها أنا يا مولانا.» فقال: «نعم.» والحاضرون يتغامزون عليه. ومنها: أنّه ركب إلى دار الفضل يعوده فوقف على مزمّلة العامة فاستسقى منها ماء. ثمّ لمّا وصل إلى باب الفاضل حجب وانكفأ وعرف الفاضل حضوره فأنفذ أصحابه إليه حتى لحقوه فى بعض الطريق فأعادوه ودخل إليه فشكا فى أثناء الحديث حاله إليه وأراه قميصا رثّا تحت ثيابه يلتمس بذلك مراعاة من بهاء الدولة ومعونة.
ثم استعفى بعد أيام من النظر وشرع أبو العباس عيسى بن ماسرجس فى خطبة الوزارة وراسل الفاضل أبا نصر فى السفارة فيها بعد أن كان قد [369] بذل أبو على الحسن الأنماطى لبهاء الدولة عنه بذولا ووعده بملاطفات(7/305)
يحملها [1] وعشرة آلاف دينار يخدمه بها.
ذكر رأى سديد أشار به الفاضل على ماسرجس فلم يعمل به
أشار عليه فى جواب رسالته بأن يلاطف أبا على الحسن بن محمد بن نصر صاحب البريد وأبا عبد الله الحسين بن أحمد العارض ومكاتبتهما ويسألهما النيابة عنه ويخاطب أبا عبد الله العارض بسيّدنا، ليكون عونا له على تقرير أمره فلم يقبل.
قال الفاضل: فما راعني إلّا حضور من أخبر بوروده ونزوله فى بعض البساتين. ثم جاءني رسوله يستقرض منى مائة دينار فحملتها إليه فى الحال، وعجبت من التماسه هذا القدر النزر مع ما بذل عنه [أبو على] لبهاء الدولة.
ثم حضر عند بهاء الدولة وترك بين يديه دينارا ودرهما وخدمه وانكفأ.
فأنكر بهاء الدولة ذلك من فعله فقال للانماطى:
- «أين ما وعدتنا به؟» فعنوان خدمته يدل على ما وراءه. فقال الأنماطى:
- «يحمل ما أعده من بعد.» فمضى ذلك اليوم وغيره ولم يحمل شيئا، وكاتب أبا عبد الله العارض بمولاي ورئيسى. فاجتمع هو وأبو على الحسن بن محمد بن نصر على إفساد أمره. [370]
__________
[1] . فى الأصل: فحملها.(7/306)
ذكر ما رتّباه من الحيلة فى أمره حتى انحلّ
وضعا منصور بن سهل وكان هو العامل فى الوقت [1] على أن أشاع فى البلد أنّ ابن ماسرجس قد بذل بذولا كثيرة فى مصادرات التجّار وفتح المخازن وأخذ أمتعة المجهزين والبحرانين [2] فماج الناس وكادت الفتنة تثور ورفع أبو على ذلك الخبر إلى بهاء الدولة وعظم الأمر فى نفسه.
واتّفق أنّ الفاضل أبا نصر غاب أيّاما فى بعض الأشغال. فخلا أبو عبد الله وأبو علىّ ببهاء الدولة وقالا له:
- «قد ورد هذا الرجل بيد فارغة وما وفى بشيء مما بذله والبلد على ساق خوفا منه ولا يؤمن حدوث فتنة يبعد تلافيها وأبو الحسين ابن قاطر ميز يبذل أن يأخذ منه مالا يخفّف به عنك أثقالا.» وسهّلا عليه الأمر فى ذلك، فأحالهما على الفاضل أبى نصر فى الجواب وقال:
- «اجتمعا به إذا عاد وقرّرا الأمر.» فلمّا عاد الفاضل اجتمعا معه وقالا:
- «إنّ الملك قد أمرنا بالقبض على أبى العباس.» فقال: «لايّة حال.» قالا: «لما ظهر من نفور الرعيّة منه ولنكوله عمّا كان بذل عنه.» فقال لهما: «هذا مما لا يسوغ فعله وكيف يصرف اليوم رجل مستدعى بالأمس بغير سبب يقوم به الغدر وهل يجلب ذلك إلّا سوء المقالة من الناس فينا [371] ونسبتهم إيّانا إلى سخافة الرأى وضعف النحيزة وأنّ خدمة هذا
__________
[1] . هو عامل البصرة فى حدود سنة 400: ارشاد الأريب 2: 122 (مد) .
[2] . كأنّه يريد: البحريّين.(7/307)
الملك لا تستقيم على أيدينا؟ وأنا أحضر عند الملك وأعرّفه ما فى ذلك.» فقالا له: «تعرّفه ماذا؟ وقد أنفذنا أبا الحسن الكراعى كاتبك وأصحابك إلى الرجل ووكّلنا به.» فوجم أبو نصر وأطرق ونفذ السهم وسلم الرجل إلى الحسن بن قاطرميز فطالبه واستقصى عليه.
ذكر ما جرى عليه أمر صمصام الدولة بعد انصرافه من الوقعة
لمّا انصرف به سعادة من المعركة سار عائدا إلى الأهواز. فلمّا عبر به وادي دستر كاد يغرق. فاستنقذه أحد بنى تميم ووصل إلى الأهواز فى عدد قليل من الديلم وترحّل عنها طالبا أرّجان.
فتلقّاه أبو القاسم العلاء بن الحسن وحمل إليه من الثياب والرحل ما رمّ [1] به شعثه وسيّره إلى شيراز ومعه الصاحب أبو على ابن أستاذ هرمز وتلقّته والدته بما يجب تلقّيه به من المراكب والثياب والتجمل.
وكان بينها وبينه نفرة. فلمّا رأته بكت بكاء شديدا وكان صمصام الدولة فى عمارية وعليه ثياب سود حزنا وكآبة لا يطعم فى الأيّام إلّا اليسير من الطعام فسكنت [372] والدته منه وقالت له:
- «ما زالت الملوك تغلب وتغلب وإذا سلمت المهجة رجوت الأوبة.» فغيّرت ثيابه وأصلحت حاله وحصل بشيراز ثم تلاحق الناس به وتكامل الديلم عنده من بعد.
ولم نجد فى بقيّة شهور هذه السنة ما يستفاد منه تجربة.
__________
[1] . كذا فى مد: رمّ. ولعلّه: لمّ.(7/308)
ودخلت سنة خمس وثمانين وثلاثمائة وفاة الصاحب بن عبّاد وما جرى فى علّته وبعد موته
فيها توفّى الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عبّاد بالرىّ ونظر فى الأمور بعده أبو العباس أحمد بن ابراهيم الضبىّ ويلقّب بالكافي الأوحد.
شرح ما جرت عليه الحال فى ذلك
لما اعتلّ ابن عبّاد كان أمراء الديلم وكبراء الناس يروحون إلى بابه ويغدون ويخدمون بالدعاء وينصرفون.
وعاده فخر الدولة عدّة مرات. فيقال: إنّه قال لفخر الدولة أوّل مرّة وهو على يأس من نفسه:
- «قد خدمتك أيّها الأمير خدمة استفرغت قدر الوسع وسرت فى دولتك سيرة جلبت لك حسن الذكر بها. فإن أجريت الأمور بعدي على نظامها وقرّرت القواعد على أحكامها نسب [1] ذلك الجميل السابق إليك ونسيت أنا فى أثناء ما يثنى به عليك ودامت [373] الأحدوثة الطيّبة لك. وإن غيّرت ذلك وعدلت عنه كنت أنا المشكور على السيرة السالفة وكنت أنت المذكور بالطريقة الآنفة وقدح فى دولتك ما يشيع فى المستقبل عنك.» فأظهر فخر الدولة قبول رأيه.
وقضى ابن عبّاد نحبه فى يومه. وكان أبو محمد خازن الكتب ملازما داره على سبيل الخدمة له وهو عين لفخر الدولة عليه، فبادر بإعلامه الخبر.
فأنفذ فخر الدولة ثقاته وخواصّه حتى احتاطوا على الدار والخزائن. ووجدوا
__________
[1] . وفى الأصل: نسبت. والصواب فى إرشاد الأريب 7001 فى ترجمة أبى العبّاس الضبىّ رواية عن هلال الصابي (مد) .(7/309)
كيسا فيه رقاع أقوام بمائة وخمسين ألف دينار مودوعة له عندهم.
فاستدعاهم وطالبهم بالمال فأحضروه وكان فيه ما هو بختم مؤيّد الدولة.
فرجّمت الظنون فى ذلك: فمن مقبّح لآثاره ينسبه إلى الخيانة فيه، ومحسن لذكره يقول: إنّما أودعه مؤيد الدولة لأولاده. ونقل جميع ما كان فى الدار والخزائن إلى دار فخر الدولة.
وجهّز ابن عباد وأخرج تابوته وقد جلس أبو العباس الضبىّ للصلاة عليه والعزاء به. فلمّا بدا على أيدى الحمّالين قامت الجماعة إعظاما له وقبّلوا الأرض ثمّ صلّوا عليه وعلّق بالسلاسل فى بيت إلى أن نقل إلى تربة له بإصفهان.
وقال القاضي أبو الحسن عبد الجبّار بن أحمد:
- «إنّنى لا أرى الترحّم عليه. لأنّه مات [374] عن غير توبة ظهر عليه.» فنسب عبد الجبّار فى هذا القول إلى قلّة الرعاية.
ثم قبض فخر الدولة عليه وعلى المتعلّقين به وقرّر أمرهم على ثلاثة آلاف ألف درهم فباع فى جملة ما باع ألف طيلسان وألف ثوب من الصوف المصري.
فهلّا نظر هذا القاضي فى شأن نفسه ثم أفتى فى شأن غيره مثل ابن عبّاد الذي قدم قدمه وأثّل نعمته وراش جناحه ومهّد أحواله! صدق المثل «تبصر القذى فى عين غيرك وتدع الجزع المعترض فى حلقك» [1] فرحم الله من أبصر عيب نفسه فشغل بستره عن عيب غيره.
وبلغنا أنّ رجلا من الصالحين لقى أخا له فقال له:
- «إنّى أحبّك فى الله.»
__________
[1] . عبارة المؤلف أقرب إلى الموجود فى التلموذ منها إلى الموجود فى الإنجيل (مد) .(7/310)
فقال الآخر:
- «لو تظهر لك عيوبي لأبغضتنى فى الله.» فقال له: «عيبي يشغلني عن تأمّل عيب غيرى.» نسأل الله توفيقنا بما يعصم جوارحنا وقلوبنا وصنعا جميلا يستر مساوينا وعيوبنا.
بين فخر الدولة وأبى العبّاس الضبّى
وقلّد فخر الدولة أبا الحسن ابن عبد العزيز قضاء القضاة وطالب أبا العبّاس الضبّى بتحصيل ثلاثين ألف ألف درهم من الأعمال ومن المتصرّفين فيها وقال له:
- «إنّ الصاحب أضاع الأموال وأهمل الحقوق وقد ينبغي أن يستدرك ما فات منها.» فامتنع أبو العباس من ذلك مع تردّد القول فيه. وكتب أبو على ابن حمولة يخطب الوزارة وضمن عنها ثمانية آلاف ألف درهم وأجيب إلى [375] الحضور. فلمّا قرب قال فخر الدولة لأبى العبّاس:
- «قد ورد أبو على وقد عزمت على الخروج فى غد لتلقّيه وأمرت الجماعة بالترجّل له. فلا بدّ أن تخرج إليه وتعتمد مثل ذلك معه.» فثقل ذلك على أبى العبّاس وقال له خواصّه ونصحاؤه:
- «هذا ثمرة امتناعك عليه وقعودك عمّا دعاك إليه وسيكون لهذه الحال ما بعدها.» فراسل فخر الدولة وبذل ستّة آلاف ألف درهم عن إقراره على الوزارة وإعفائه من أن يلقى أبا على. وخرج فخر الدولة وتلقّاه ولم يخرج أبو العباس.(7/311)
ورأى فخر الدولة أنّ من الصلاح الإشراك بينهما فى النظر. فسامح أبا على ابن حمولة بألفي ألف درهم من جملة الثمانية التي بذلها وسامح أبا العباس بمثلها من الستّة، وقرّر عليهما جميعا عشرة آلاف ألف درهم وجمع بينهما فى النظر وخلع عليهما خلعتين متساويتين ورتّب أمرهما على أن يجلسا فى دست واحد ويوقّعا جميعا: فيوما يوقّع هذا ويعلم [1] ذاك ويوما يوقع ذلك ويعلم هذا. ووقع التراضي بذلك ونظرا فى الأعمال.
وقبضا على أصحاب ابن عباد وتتبّعا كلّ من جرت مسامحة باسمه فى أيّامه وقرّرا المصادرات فى البلاد، وأنفذا أبا بكر ابن رافع إلى استراباذ ونواحيها بمثل ذلك.
ما فعله ابن رافع فى إستراباذ
فقيل: إنّه جمع الوجوه وأرباب الأحوال وأخّر الإذن لهم [376] حتى تعالى النهار واشتدّ الحرّ ثم أطعمهم طعاما أكثر ملحه ومنعهم الماء عليه وبعده، وطالبهم بكتب خطوطهم بما يصحّحونه. فلم يزل يستام عليهم وهم يتلهّفون عطشا إلى أن التزموا عشرة آلاف ألف درهم.
واجتمع لفخر الدولة فى الخزائن والقلاع ما كثّره المقلّلون. ثم تمزّق بعد وفاته فى أقرب مدّة فلم يبق منه بقيّة.
وكذاك مال كلّ ثروة ذميمة المكاسب، ومصير كلّ زهرة خبيثة المنابت.
فلئن عمر خزائنه لقد خرب محاسنه. ولئن جمع المال الجزيل لقد ضيّع الذكر الجميل. ثم لم يحظ من ذلك إلّا بالأوزار التي احتقبها والآثام التي اكتسبها. وقبّح الأحدوثة التي علقت بأخباره سماتها، وبقيت على الأيّام
__________
[1] . وفى مد: يعلّم (بالضبط) .(7/312)
عظاتها، إذ لم يبق من عظامه رفاتها. «وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى» 92: 11 [1] فيا ندم النادم إذا ترك ما اكتسبه وراء ظهره، وانقلب بثقل الوزر وسوء الذكر إلى قبره. وأصعب من ذلك ما بعده «يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا من أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» 26: 88- 89 [2] .
صمصام الدولة يقتل أتراك فارس
وفيها أمر صمصام الدولة بقتل من بفارس من الأتراك. فقتل قوم منهم بشيراز وأجفلت طائفة منهم، فعاثوا فى بلاد فارس. فجرّد صمصام الدولة إليهم من دفعهم عنها وانصرفوا إلى كرمان وبها أبو جعفر أستاذ هرمز، فدفعهم أيضا فدعتهم الضرورة [377] إلى قصد بلاد السند واستأذنوا ملكها فى دخول بلده.
ذكر الحيلة التي عملها صاحب السند على الأتراك حتى قتلهم
أظهر لهم القبول وخرج لاستقبالهم ورتّب أصحابه صفّين وهم رجّالة، وواقفهم على الإيقاع بهم إذا دخلوا بينهم. ففعلوا ذلك ولم يفلت منهم إلّا نفر حصلوا بين القتلى وهربوا تحت الليل.
وفاة أبى نصر خواشاذه
وفيها توفّى أبو نصر خواشاذه بالبطيحة وسبب حصوله بها أنّه لمّا قبض عليه خرج فى الصحبة إلى واسط واعتقل بها فتوصّل إلى الهرب.
__________
[1] . س 92 الليل: 11.
[2] . س 26 الشعراء: 89.(7/313)
قال صاحب الخبر [1] :
فأذكر وقد انحدرت إلى مهذّب الدولة واجتمعت مع أبى نصر. فرأيت كتب فخر الدولة وصمصامها وبهائها وبدر بن حسنويه إليه يستدعيه كلّ واحد منهم، ويبذل له من المعيشة والإحسان ما يرغب فى مثله. لكن فخر الدولة قال له فى كتابه:
- «لعلّك تسيء الظنّ بمعتقدنا للقبيح الذي قدّمته فى خدمة عضد الدولة عندنا وما كنّا لنؤاخذك بطاعة من قدّمك واصطنعك ومناصحة من كان [378] يصنعك ويرفعك، وأن نعتدّ لك من وسائلك لم نجعله ذنوبك [2] وقد علمت ما عاملنا [3] به أبو القاسم إسماعيل ابن عبّاد وأنّنا طوينا جميع ما كان بيننا وبينه واستأنفنا معه من الإكرام والتفويض ما لم يقدّره ويظنّه. ولك علينا عهد الله وميثاقه فى أيماننا من كلّ ما تخافه وتحذره وإنّا لك بحيث تحبّه وتؤثره.
فإن أردت الخدمة قدّمناك إلى أعلى رتبها وأرفع درجها، وإن رأيت الاعتزال والدعة أوجبنا لك مائة ألف درهم معيشة من أصفهان ووفّرناك على المقام فى دارك بها.» فقلت له: «فإلى أىّ جهة ميلك.» فقال: «ما كنت أنفر إلّا من جهة فخر الدولة وقد وثقت به ولم يعلق قلبي إلّا به وأنا عازم على قصد الرىّ عند ورود من أستدعيه من أصحاب بدر بن حسنويه.» فعاجلته المنيّة المريحة من الحلّ والترحال القاطعة للحاجات والأشغال.
وفيها ورد الخبر بمسير العلاء بن الحسن والديلم من أرّجان ووفاة طغان
__________
[1] . وهو هلال الصابي (مد) .
[2] . الجملة محرّفة (مد) .
[3] . والمثبت فى مد «علمنا» وفقا للأصل. واقتراح التصحيح من تعاليق مد أيضا.(7/314)
بالأهواز، فسار بهاء الدولة على سمت الأهواز.
ذكر ما جرى عليه الأمر مع العلاء بن الحسن واستيلائه على الأهواز
لمّا توفّى طغان الحاجب كوتب بهاء الدولة بخبره وبما عوّل عليه الغلمان [379] وما حدّثوا به أنفسهم من العود إلى بغداد. فانزعج لذلك وعلم ما فى أثنائه من ذهاب الدولة مع استعداد العلاء للمقارعة، وقدّم تسيير أبى كاليجار المرزبان بن شهفيروز إلى الأهواز للنيابة عنه، ورمّ العسكر بها وكان بينهما تذمّما [1] فى جميع الأمور مستقلا للتوقيع والتدبير.
وأنفذ أبا محمد الحسن بن مكرم إلى ألفتكين الخادم للمقام بموضعه، وكان حصل برامهرمز منصرفا مرّتين إلى عساكر فارس. فلم يستقرّ بألفتكين قدم وانكفأ إلى الأهواز، وكوتب أبو محمد ابن مكرم بالنظر فى الأعمال والجدّ فى استخراج الأموال وإرضاء الجند.
وقرب العلاء بن الحسن فعرّج على عسكر مكرم ونزل بهاء الدولة بطلا [2] وترددت بينه وبين العلاء مراسلات ومكاتبات سلك فيها العلاء سبيل اللينة والإطماع والمكر والخداع. ثمّ سار على نهر المسرقان لازما له إلى أن حصل بخان طوق.
ووقع الحرب بينه وبين أبى محمد ابن مكرم وألفتكين ومن فى جملتهما من الغلمان، وصدق الفريقان وزحف الديلم بين البساتين والنخيل حتى دخلوا البلد ودفعوا أبا محمد وألفتكين منه.
__________
[1] . لعله: وكان بينهما قديما (مد) .
[2] . طلا: قلعة بآذربيجان، أصلها: تلا، حولها بحيرة كان فيها ذخائر التتر، وفيها قبر هولاكوخان الذي فتح البلاد (مراصد الاطّلاع) .(7/315)
وأرسل أبو محمد وألفتكين إلى بهاء الدولة وأشاروا عليه بالعبور والبدار فتوقّف عن ذلك ووعد وسوّف ثمّ أمدّهما بثمانين غلاما من غلمان داره مع خدم للخيل، فعبروا وحملوا على الديلم من ورائهم بغرّة الصّبوة [1] وقلة التجربة، فأفرج الديلم لهم حتى توسّطوهم، ثمّ انطبقوا عليهم [380] فقتلوهم.
وعرف بهاء الدولة ما جرى على غلمانه فضعفت نفسه وهمّ بالهزيمة وخاف أن يظهرها فيطمع فيه بنو أسد. فتقدّم بأن تسرج الخيل ويطرح عليها السلاح وتحمل الأثقال، وأظهر أنّه يقصد الأهواز.
فلمّا رتّب ذلك جميعه ركب وأخذ سمت الأهواز قليلا، ثم عطف فتوجّه تلقاء الجزيرة وأمن ما خافه من اختلاط العسكر عند الهزيمة، وتعسّف فى طريقه حتى عاد إلى عسكره بظاهر البصرة.
ذكر ما جرى عليه أمر أبى محمد ابن مكرم والغلمان
لمّا عرف أبو محمد والغلمان خبر بهاء الدولة فى انصرافه ساروا إلى عسكر مكرم وتبعهم العلاء بن الحسن والديلم ورفعوهم عنها فارتفعوا ونزلوا براملان بين عسكر مكرم ودستر.
وتكرّرت الوقائع بين الفريقين مدّة، لأن الأتراك كانوا يركبون إلى باب البلد ويخرج الديلم إليهم ويقاتلونهم قتال المحاجزة لا المناجزة، ومع الأتراك دستر وسوادها يمتارون منها.
ثم سار الأتراك إلى رامهرمز ومنها إلى أرجان واندفع من كان فيها من بين أيديهم واستولوا عليها واستخرج أبو محمد لهم الأموال منها وأقاموا بها
__________
[1] . والمضبوط فى مد: الصبوّة.(7/316)
ستّة [381] أشهر ثم كرّوا راجعين إلى الأهواز.
وبلغ العلاء خبرهم حين قربوا فأنفذ إلى قنطرة أربق من قطعها ووصل أبو محمد والغلمان إليها. فطرحوا الأجذاع وأعمدة الخيم عليها وعبروها وحصلوا مع الديلم على أرض واحدة ونزلوا بالمصلّى وخيّم العلاء نحو شهرين. ثمّ رحل الأتراك من معسكر مكرم وتبعهم العلاء فوجدهم قد امتدوا واسطا وكان العلاء بن الحسن قد رتّب مناجزة أبى جعفر بالسوس عند مصير الأتراك إلى أرّجان وفرّق مقطعى كلّ كورة فيها.
فلمّا عاد بهاء الدولة إلى واسط على ما يأتى ذكره ولم يبق بينه وبين الديلم من يحول دونه جرّد قلّج فى عدة من الغلمان وسيّره إلى السوس.
وكتب إلى أبى محمد ابن مكرم ومن فى جملته من الغلمان بالتوقّف عن الإتمام فلقيهم قلّج والكتب فى الطريق، فرجعوا وحصل المعسكر جميعه مع أبى محمد وأقاموا ببصنّى [1] .
وفيها عاد أبو القاسم على بن أحمد من البطيحة إلى حضرة بهاء الدولة للوزارة.
ذكر ما جرت عليه حاله فى هذه النوبة
قال الأستاذ الفاضل أبو نصر:
لمّا عاد بهاء الدولة إلى معسكره بظاهر [382] البصرة وقفت أموره فتردّدت بينه وبين أبى القاسم مراسلة فى العود إلى خدمته. فاستقرّ ذلك بوساطة مهذّب الدولة بعد أن اشترط على بهاء الدولة أنّه إن مشى الأمر على يديه وإلّا أعاده محروسا إلى البطيحة.
__________
[1] . وفى مراصد الإطلاع: بصنّا، من نواحي الأهواز، صغيرة.(7/317)
وكان السفير بينهما الشريف أبو أحمد الموسوي. ولم أعرف ذلك إلّا بعد استقراره وكنت فى بقايا علّة واستأذنت بهاء الدولة فى الإصعاد إلى بغداد للمداواة فلم يأذن. فلمّا ورد الرجل ومضى على وروده ثلاثة أيّام راسلني الملك وقال:
- «كنت استأذنتنا فى الإصعاد إلى بغداد للمداواة وقد أذنّا لك.» فعلمت أنّ هذا القول على أصل، وأنّ الغرض إبعادى فقبّلت الأرض وقلت:
- «السمع والطاعة.» وانصرف الرسول.
ذكر رأى سديد رآه الفاضل فى استمالة قلب بهاء الدولة
قال الفاضل:
أخذت دواة ودرجا [1] وأثبتّ ما كان لى بالبصرة من صامت وناطق حتى لم أترك إلّا ما كان على جسدي وحملت جميعه على التذكرة به إلى الخزانة وقلت:
- «هذا ما أملكه وأنا مع إصعادى مستغن عنه والخزانة مع كثرة الخرج محتاجة إليه.» واستأذنت فى الحضور للوداع، فوقع ذلك [383] موقعا جميلا وأذن لى فى الحضور. وجاءني فى أثناء ذلك الشريف أبو أحمد الموسوي وكان يتّهمنى بالميل إلى الشريف أبى الحسن محمد بن عمر ويستوحش منّى لأجله فقال:
- «قد بلغني أنّك تصعد الليلة إلى بغداد وما كنت أوثر البعد عن سلطانك
__________
[1] . الدّرج: ما يكتب فيه.(7/318)
ولو وقفت وتركتني أتوسّط ما بينك وبين هذا الوزير الوارد وأتوثّق لكلّ واحد من صاحبه لكان أولى.» فقلت: «قد كنت على العزم الذي بلغ الشريف وإذ قد رأى لى الصواب فى المقام أقمت يومين [أو] ثلاثة معوّلا على تفضّله فيما يقرّره- وأردت بهذا القول كتمان حقيقة أمرى عنه إشفاقا من أن يعرف الوزير خبري- فراسل بهاء الدولة فيما تعرّفنى به [1] وربما بلغ غرضه فى تعاجل الحال.» وانصرف الشريف أبو أحمد ولم تقلّنى الأرض حتى مضيت إلى المضرب وودّعت بهاء الدولة وقبّلت الأرض وبكيت، فبكى لبكائى وقال:
- «لا تشغل قلبك فإنّنى لك على أجمل نيّة، وما أنفذتك إلّا إلى مملكتي وأين كنت فإنّك على بال من مراعاتى وملاحظتى.» وخرجت فاتّبعنى بعض خواصّه وقال:
- «إنّ الملك يأمرك أن تتوقّف ليسلّم إليك رهونا تحملها إلى مهذّب الدولة وتستقرض عليها مهما أمكنك.» فأشفقت من أن أتربّث فتتجدّد من الوزير فى أمرى مراسلة بهاء الدولة بما أتّقيه فقلت للرسول:
- «تقول لمولانا: إننى قد أحسست [384] بأول دور الحمّى وأنا أصعد وأتوقّف بنهر الدير إلى أن يلحقني ما يرى إنفاذه.» فدخل وخرج وقال:
- «امض فإنّا نحمل على أثرك ما يصحبك.» فاغتنمت الفرصة وأسرعت ولم أتوقّف ووصلت إلى واسط. فما استقررت بها حتى ورد على الطائر كتاب من عبد العزيز بن يوسف يقول فيه:
__________
[1] . لعله: فيراسل بهاء الدولة فيما يقرفنى به (مد) .(7/319)
- إنّ الرجل- يعنى الوزير أبا القاسم على بن أحمد- وقف أمره وعاد إلى البطيحة فبادرت فى الحال إلى الإصعاد علما بأنّ الكتب سترد بالعود إلىّ.
فما بلغت فم الصلح [1] حتى صاح بنا ركابيّان وردا من البصرة ومعهما كتاب بهاء الدولة إلىّ بالانحدار. فاعتذرت فى الجواب بقربى من مدينة السلام وأننى أدخلها وأحصل من المال والثياب ما أعلم أنّ الحاجة داعية إلى تحصيله وأعود.
فأمّا سبب فساد أمره فإنّه عامل أبا العبّاس الوكيل بما أوحشه به واستشعر أبو عبد الله العارض وأبو الفرج الخازن منه واجتمعت كلمة الحاشية عليه، وتطابقوا على فساد أمره خوفا من بوادره.
وعوّل بهاء الدولة على القبض عليه فذكّره الشريف أبو أحمد العهد الذي استقرّ مع مهذّب الدولة بالقبيح وأخرج عن اليد، فعند ذلك فسح فى عوده مع الشريف أبى أحمد إلى بغداد.
ودخلت سنة ستّ وثمانين وثلاثمائة [385]
وفيها ملك لشكرستان بن ذكىّ البصرة وانصرف أصحاب بهاء الدولة عنها شرح الحال فى ذلك
كان لشكرستان ذا نفس أبية وهمّة علية ولم يزل يلوح من شمائله فى بدء أمره ما يدلّ على ارتفاع منزلته وقدره وهو من جملة من انحاز عن بهاء الدولة إلى صمصام الدولة وحصل مع العلاء بن الحسن بالأهواز.
فلمّا انصرف الأتراك إلى أرّجان على ما تقدّم ذكره، حدّثته نفسه بالخروج
__________
[1] . فم الصلح: نهر كبير فوق واسط، عليه عدة قرى، وعند فمه كانت دار الحسن بن سهل، وفيه بنى المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل وهو الآن خراب (مراصد الاطّلاع) .(7/320)
إلى البصرة ودفع بهاء الدولة عنها. والتمس من العلاء بن الحسن مساعدة على ذلك فأحجم العلاء عن إفراد بعض العسكر عن نفسه، لحاجته إلى الاستظهار بكثرة العدد.
فبينا تردّد الخطاب بينهما إذ ورد إليهما نحو أربعمائة رجل من الديلم مستأمنين من ديلم بهاء الدولة. فضمّهم لشكرستان إليه وفرّق فيهم خمسة آلاف دينار من ماله وسار بهم إلى حصن مهدى.
وجرّد بهاء الدولة أبا مقاتل خمارتكين البهائى لقتاله، فجرت بينهما مناوشات واعتصم الديلم بالبلد ولم يقدر خمارتكين على مواقعتهم فيه.
فلمّا كان فى بعض الأيّام عاد منهم وخرج لشكرستان على أثره وحمل نفسه على الصعب وسار على التعسّف [386] حتى حصل هو ومن معه بلشكرابان.
وتسلّل إليه من بقي مع بهاء الدولة من الديلم ولم تكن لأصحاب بهاء الدولة قدرة عليهم لإعتصامهم بالبساتين والمياه التي يضيق مجال الفرسان فيها. ثم ضاقت عليهم الميرة وانقطعت عنهم المادّة فقطعوا النخل وأكلوا جمّارها وأكلوا الزرع.
وكان أبو العبّاس ابن عبد السلام وطائفة من أهل البصرة مائلين إلى بهاء الدولة ونزلوا بإزاء الديلم يصدقونهم القتال. وكان أبو الحسن ابن أبى جعفر العلوي مائلا إلى لشكرستان بن ذكىّ مضادة لابن عبد السلام لما بين الفريقين من المباينة. فحمل العلوي إلى الديلم فى السماد دقيقا أمارهم به ونفّس عنهم كربهم، وعرف بهاء الدولة ذلك وظفر ببعض السفن التي حملت فيها الميرة فأنفذ من يقبض عليه فهرب وكبست داره ونهبت.
وطلبت هذه الطائفة فاستوحشوا وصار منهم عدد كثير مع أبى جعفر إلى لشكرستان وقويت بهم شوكته وجمعوا له سفنا وحملوا الديلم فيها على(7/321)
ركوب أخطار وشدائد حتى جعلوهم على أرض البصرة ووافوا بهم إلى محالّهم وواقعوا أصحاب بهاء الدولة فهزموهم ونهبوا دور بنى عبد السلام وطائفته وخرّبوها.
وجلا [1] ناس كثير من البصرة ونبا ببهاء الدولة مكانه [387] وخرج البلد عن يده وأصعد إلى واسط على الظهر فوصل إليها وقد تقطّع عسكره وتمزّق سواده.
ذكر ما جرى عليه أمر لشكرستان بالبصرة إلى أن استقرّ ما بينه وبين مهذّب الدولة من الصلح
لمّا حصل لشكرستان [2] بالبصرة بطش بأهلها فقتل وسفك، وخرج الناس على وجوههم لفرط الهيبة الواقعة فى نفوسهم ومدّ يده إلى أموال التجار فخرب البلد وتشرّد كل من فيه. وكتب بهاء الدولة إلى مهذّب الدولة يقول له:
- «إذا كان لشكرستان قد غلب على البصرة فأنت أحقّ بها منه.» فاستعد مهذّب الدولة للقتال وجرّد أبا عبد الله ابن مرزوق إليه فى عدّة كثيرة من الرجال وكاتب أبا العباس ابن واصل وكان بعبّادان وغيره من أصحاب الأنهار بالاحتشاد والاستظهار والاجتماع مع ابن مرزوق على حرب لشكرستان، وانحدر ابن مرزوق ودفعه عن البصرة.
فاختلفت الرواية فى دفعه عنها، فقيل: إنّ أهل البصرة قويت نفوسهم فوثبوا على الديلم وانصرف لشكرستان من غير حرب إلى أسافل دجلة.
وقيل: بل عقد جسرا [388] فى الموضع المعروف بالجلّ وقال:
__________
[1] . وفى الأصل: وخلا (مد) . ولضبط الأصل أيضا وجه من الصحّة. خلا، أى: مضى.
[2] . كذا فى مد: لشكرابان.(7/322)
- «الديلم يرمون كل من يرد من نهر عمر.» وجعل أمامه سلسلة حديد ممتدة من إحدى حافتي نهر ابن عمر إلى الأخرى ليدفع عن الجسر ما يرسل على الماء من شاشات القصب المضرمة بالنار تغوص بثقلها فتعبر الشاشات عليها فتغرقها.
فى عسكر البطيحة من نهر ابن عمر وجمعوا قصبا كثيرا بعرض النهر وأرسلوه مضرما بالنار وجعلوا سفنهم التي فيها مقاتلتهم من ورائه، فوقع على السلسلة وتقطّعت وعلى السفن الصغار فاحترقت ووصل إلى الجسر ودخل عسكر البطيحة البصرة يقدمهم ابن مرزوق وعسكره إلى الجزيرة.
وحصل لشكرستان بسوق الطعام وهي فسيحة واستمرّ القتال بين الفريقين وكان للديلم الاستظهار فى الحرب ولهؤلاء قطع الميرة.
فراسل لشكرستان مهذّب الدولة وسأله المصالحة والموادعة وبذل له الطاعة والمتابعة على أن يقيم له الخطبة ويسلّم ابنه إليه رهينة. فمال مهذّب الدولة إلى الصلح وسلّم لشكرستان ابنه أبا العز واتّصل الصفاء واستمرّ الوفاء زمانا طويلا.
وأظهر لشكرستان طاعة صمصام الدولة وبهائها وأمّر نفسه واعتضد بما عقده بينه وبين مهذّب الدولة من المودة، وعسف أهل البصرة مدة، ثمّ عدل فيهم وأحسن السيرة بهم وخفّف [389] الوطأة عنهم بعد أن قرّر نصف العشر عليهم. وكان يؤخذ من سائر ما يتبايع حتى من المأكولات، وعاد البصريون إلى دورهم ومنازلهم.
والذي تكثر به العشرة وتطول فيه الفكرة ويستفاد منه التبصّر وتنتفع بمثله التجربة خامل حالتي بهاء الدولة ومهذّبها. كيف اختلّ أمر ذلك وهو عريق فى الملك صاحب مملكة لسوء سيرته! وكيف استقام أمر هذا وهو دخيل فى الإمارة صاحب بطيحة لحسن طريقته!(7/323)
لقد ضلّ من ظنّ أنّ الملك يستقيم بالظلم والمال ويثمر بالجور، أو الارتفاع يكثر بالحيف، أو الضرع يدرّ بالعسف. لا ورافع السماء ومؤتى الملك من يشاء، ما يصلح الملك إلّا بإحسان السيرة وإحكام السياسة وترتيب الخاصة وتهذيب العامة والهيبة فى الجند والعدل فى الرعيّة.
وهيهات أن يصلح الملك تدبير مملكته إلّا بعد تدبير مدينته، أو تدبير مدينته إلّا بعد تدبير داره، أو تهذيب رعيته إلّا بعد تهذيب جنده، أو تهذيب جنده إلّا بعد تهذيب حاشيته، أو تهذيب حاشيته إلّا بعد تهذيب نفسه.
ولولا أننا لا نباهى أصحاب عصرنا أطال الله بقاءهم، من الملوك والوزراء الماضين إلّا كلّ من كان عالى الرتبة فى العلاء والمجد، طيب الأحدوثة بالثناء والحمد، لأوردنا فى هذا الفصل ما تتبيّن به مقادير [390] التفاوت والفضل ويقوى معه الدليل على ما قدّمناه فى صدر كتابنا هذا من تفضيل زماننا بهم.
لكنّا لا نقيس الفاضل بالناقص ولا المخدج بالكامل ولا العاجز بالقادر ولا النابى بالباتر. لأن الشيء يقاس بما يناسبه ويشبّه بما يقاربه.
ونعود إلى سياقة التاريخ.
عود سابور بن أردشير إلى الوزارة
وفيها عاد أبو نصر سابور بن أردشير إلى الوزارة ونظر نحوا من شهرين ثم هرب.
ذكر ما جرى عليه أمر أبى نصر سابور فى هذه النوبة
كان بهاء الدولة أنفذ أبا عبد الله العارض وأبا نصر الفاضل إلى مهذّب(7/324)
الدولة واستقرضا منه قرضا وتطيّبا إلى سابور وقرّرا معه العود إلى الوزارة.
فلمّا حصلا بالبطيحة وقرّرا الأمر مع سابور، حضرا عند مهذّب الدولة ليعلماه بحال ما استقرّ. فقال مهذّب الدولة:
- «أنتما فى طرف والملك فى آخر.» وأخرج كتابا بخطّ بهاء الدولة يسأله إنفاذ أبى القاسم علىّ بن أحمد. فلمّا شاهداه وجما وقالا:
- «قد يجوز أن يكون هذا قد بدا له بعدنا رأى آخر.» وانصرفا فقال أبو عبد الله العارض للفاضل:
- «ما فعل الملك ما فعله إلّا على أصل، والصواب القعود هاهنا والأخذ بالحزم.» فقال له الفاضل:
- «لا يضعف [391] قلبك، واصعد معى، ودعني ألقى الملك وأحلّ ما عقد بعدنا معه، فإنّى أعرف بأخلاقه منك، ومتى تأخّرنا بلغ أعداؤنا منّا مرادهم.» وما زال به حتى أصعد معه. فلمّا وصلا إلى بهاء الدولة قال لهما:
- «ما وراءكما.» قالوا [1] : «كنّا قررنا مع مهذّب الدولة أمر القرض ومع سابور أمر النظر.
فوافى كتابك باستدعاء أبى القاسم على بن أحمد، فانتقض جميع ذلك وانصرفنا بعد النجاح بالخيبة.» فلمّا سمع ذلك وجم- ولم يكن لأكثر ما قالاه من أمر القرض حقيقة لكنهما قصدا بذلك تقديمه- فقال لهما:
- «ما كتبت ما كتبته إلّا بما ألزمنيه أبو أحمد الموسوي، وإذا كنتما قد
__________
[1] . كذا فى مد: قالوا.(7/325)
قرّرتماه فالرأى العدول إليه.» وأمر بكتب الكتب إلى مهذّب الدولة بالشكر على ما أورداه عنه، وبإخراج سابور إلى الحضرة [1] وتطيّب نفسه وحثّه على البدار.
وانصرف الفاضل إلى داره ليغيّر ثياب السفر، وواقف أبا عبد الله على المقام بحضرة بهاء الدولة إلى أن تنفذ الكتب لئلا يدخل إليه من يثنيه.
ونفذت الكتب وورد أبو نصر سابور وقد استوحش الشريف أبو أحمد الموسوي منه لما أسلفه إليه. فقال لبهاء الدولة:
- «بيني وبين العلاء بن الحسن مودّة، وأنا أخرج إليه وإلى صمصام الدولة وأستأنف أمر الصلح.» فمال بهاء الدولة إلى قوله واستروحت [392] الجماعة إلى بعده وأذن له فى ذلك ونظر سابور إلى الأمور.
وبدأ أبو القاسم علىّ بن أحمد يكتب إلى بهاء الدولة ويشرع معه فى تقلّد الأمر وبلغ أبا [2] نصر من ذلك ما انزعج منه، وأراد الاختبار لما عند بهاء الدولة فيه.
ذكر الحيلة التي عملها سابور فى اختبار بهاء الدولة
خلا به وقال له:
- «أيّها الملك، قد علمت أنّنى قصير اللسان فى خطاب الجند، وقد استشعروا فىّ الطمع واستشعرت منهم الخوف. ولو استدعيت أبا القاسم علىّ بن أحمد وعوّلت عليه فى منابذتهم ومعاملتهم ووفّرتنى على جمع المال وإقامة وجوهه، لكان ذلك أدعى إلى الصواب.»
__________
[1] . وفى الأصل: إلى سابور.
[2] . فى الأصل: أبو.(7/326)
فقال له بهاء الدولة:
- «هذا هو الرأى وقد أردت أن أبدأك به. فإذ قد سبقت إلى القول فيه فهذا كتاب أبى القاسم يخطب الخدمة، وقد تقرّر الأمر معه على هذه القاعدة.» فسمع أبو نصر ذلك وانصرف من حضرته وأطلق يده للتوقيعات فى الجند ولم يبق وجها إلّا أحال عليه أكثر مما فيه. فلمّا علم أنّه لم يبق بواسط ما تمتدّ إليه يد، فارق مكانه وهرب إلى الصليق، وكتب بهاء الدولة إلى أبى القاسم يستدعيه. [393] وأنفذ إليه أبا الفضل الإسكافى رسولا بما بذله له من بسط اليد والتمكين، وانحدر أبو الفضل واجتمع معه وأصعدا.
فلمّا حصلا فى بعض الطريق عدل أبو القاسم على بن أحمد عن السمت.
فقال له أبو الفضل:
- «إلى أين أيّها الوزير.» قال: «إلى حيث أبعد به عنكم. أما علم بهاء الدولة أنّ أبا نصر فرّق أمواله وأفسد أمره وأبطل مملكته؟ وأنا رغبت فيما رغبت فيه أولا، لأنّه كان هناك ما يمكن تمشية الأمور به. فأمّا الآن فلم يبق إلّا شجى الحلوق وقذى العيون ولقاء المكروه. فلما أنشط لذلك.» وفارقه ومضى إلى الجبل وبقي مجلس النظر خاليا حتى ورد أبو العبّاس عيسى بن ماسرجس ونظر فى الأمور.
استكتاب القادر بالله أبا الحسن ابن حاجب النعمان
وفيها استكتب القادر بالله رضوان الله عليه، أبا الحسن علىّ بن عبد العزيز(7/327)
حاجب النعمان [1] .
ذكر السبب فى ذلك
كان رجلان من التجّار خرجا للحجّ. فتبايعا عقارا فى الكرخ وهما بمكّة، وأشهدا إنسانا من الذين حضروا الموسم، وردّ [2] المشترى إلى مدينة السلام فحاول ثبوت كتابه عند القضاة الأربعة وهم أبو عبد الله الضبّى وأبو محمد ابن الأكفانى وابو الحسين ابن معروف وأبو الحسين الجوزي [394] بشهادة من شهد من التجّار. وقد كان القادر بالله رضى الله عنه، أمرهم أن لا يقبلوا فى مثل ذلك إلّا شهادة الشهود المعدّلين.
فتنجّز المشترى كتبا من بهاء الدولة إلى القضاة باستماع قوله، وإلى الشريف أبى الحسن محمد بن عمر والوزير أبى منصور ابن صالحان- وكان نائبا عن بهاء الدولة ببغداد- بالزامهم ذلك. فخاطباهم فقالوا: السمع والطاعة، إلّا أبا عبد الله الضبّى. فإنّه امتنع واحتجّ بما رسم له من دار الخلافة.
وغاظ الشريف أبا الحسن فعله فأطلق لسانه بالوقيعة فيه. وفارق الضبّى داره بالكرخ وعبر إلى الحريم معتصما به. وسمع أبو محمد الأكفانى شهادة القوم، وعزم القاضيان الآخران على مثل ذلك. فاستدعوا إلى دار الخلافة وأغلظ القول عليهم واعتيقوا إلى آخر النهار، ثم اذن لهم فى الانصراف والعود من غد.
وكان قوم من الشهود زكّوا التجار الذين شهدوا فى الكتاب، منهم ابن
__________
[1] . ليراجع قصة صرف القادر بالله ابن حاجب النعمان عن كتابته بأبى الحسن أحمد بن على البتى الذي كان يكتب له عند مقامه بالبطيحة إرشاد الأريب 1: 238- 237 (مد) .
[2] . لعله: ثم ورد (مد) .(7/328)
النشاط وأبو اسحق بن أحمد الطبري. فطعن الضبّى عليهم عند الخليفة، فخرج التوقيع بإسقاطهم وأمر بقراءته على المنبر فى المسجد الجامع.
وعرف الشهود ذلك ومضى أبو اسحق الطبري إلى أبى الحسن محمد بن عمر مستصرخا وكان خصيصا. وبلغ أبا الحسن على بن عبد العزيز ما يجرى من الخوض فى الأمر.
ذكر تدبير لطيف توصّل [395] به ابن حاجب النعمان إلى خدمة دار الخلافة
استدعى القاضي أبا محمد ابن الأكفانى وأبا اسحق الطبري سرّا، وقال لهما:
- «قد علمت ما أنتم عليه وإن طويتموه عنّى ومتى روسل الخليفة بى، توصّلت إلى مرادكم.» فصار أبو اسحق إلى ابن عمر وأشار عليه بإنفاذ على بن عبد العزيز الى دار الخلافة فراسل أبا منصور ابن صالحان فى ذلك فكان جوابه:
- «إنّك عارف بما وردت به كتب بهاء الدولة من منع ابن حاجب النعمان عن دار الخلافة وإخراجه إلى حضرته، فكيف يجوز أن تنفذه فيما هذه سبيله؟» فعاد مراسلة ثانية وسهّل الأمر، فأذن أبو منصور فى ذلك من غير اختيار.
وانحدر أبو الحسن على بن عبد العزيز إلى دار الخلافة ووصل إلى حضرة القادر بالله رضى الله عنه، وأعاد ما حمله من الرسالة، وكانا قالا له:
- «تخدم الحضرة الشريفة عنا بالدعاء وتقول: إنّ الذي جرى فى هذه القصة مما يوحش بهاء الدولة ويشعره التغير له والعدول عنه فيما كان مستخدما فيه.»(7/329)
وأتبع ما يورده عنهما من نفسه بأن قال:
- «يا أمير المؤمنين ما الذي فعل [396] هؤلاء القضاة مما خرجوا به عن حكم الشريعة أو حدث من الشهود حتى أسقطوا الإسقاط الذي يقرأ على المنابر؟ أو ليس ابن النشاط أحد الشهود الذين شهدوا على المخلوع بخلع نفسه وتسليمه الأمر إلى أمير المؤمنين؟ ولو أردنا اليوم شهادة حاضرة بذلك لما وجدنا غيره فيها، فإنّ الشريف أبا أحمد الموسوي غائب بشيراز، وأبا القاسم ابن أبى تمام قد مضى لسبيله، وأبا محمد ابن المأمون من أهلك، وأبا الغنائم محمد بن عمر ممن لا تقوم به بينة. ونحن إلى الآن نزكّى هذا الشاهد ونعدّله أولى من أن نقدح فيه ونجرحه [1] وهذا أبو اسحق الطبري واحد القرّاء المتقدمين وأهل العلم المشهورين ولم يبق من يحضر الحرمين ويصلّى فيها [2] بالناس مثله وهو إلى هذه الدولة منسوب وفى شعبها محسوب والباقون منهم أقلّ من أن يعرّفهم أمير المؤمنين ويسمّيهم، فضلا عن أن يذكرهم على المنابر ويقع فيهم. وما الذي يؤمننا من أن ينفذ إلى الجامع من ينفذه، فيعترض بما يحول بينه وبين ما يحاوله ويلحقنا من ذلك ما لا خفاء به؟» فلمّا سمع القادر بالله رضى الله عنه، ما قاله تبيّن الصواب فيه. فأضرب عمّا عزم عليه وهمّ، وردّه بجواب جميل سكن إليه القضاة والشهود، وتوقيع فيه علامته بإجرائهم على رسومهم.
وعاد أبو الحسن إلى الشريف والوزير فأعلمهما بما فعل [397] وبزوال ما كان الخوض واقعا فيه، وأشار بأن يعود برسالة ثانية محدودة تتضمّن الشكر والدعاء والاستئذان فى حضور القضاة.
فتقدّما إليه بذلك ومضى وعاد بالإذن فى حضور القضاة ورجع ثالثا
__________
[1] . وفى الأصل: ونخرجه.
[2] . لعله: فيهما.(7/330)
والقضاة معه فجمع بينهم وبين القاضي أبى عبد الله الضبّى، واستطال أبو عبد الله فى القول عليهم، فمنهم من أجاب ومنهم من أمسك عنه.
وانصرف القوم وتأخّر أبو الحسن فأقام فى الدار وقرّر أمر نفسه واستعطف الشريف أبا الحسن ابن عمر واستكفّ كلّ من كان يقصده واستصلح فتمّ له الأمر واستتبّ.
وفيها عاد أبو جعفر الحجّاج من الموصل ذكر السبب فى ذلك وما جرى الأمر عليه
لمّا توفّى أبو الدواد محمد بن المسيّب طمع المقلّد أخوه فى الإمارة فلم تساعده العشيرة، لأنّ من عادتها تقديم الكبير من أهل البيت وكان علىّ [1] أسنّ منه فأجمعوا عليه وولّوه.
وأيس المقلّد من الإمارة فعدل إلى طلب الموضع وبدأ باستمالة الديلم الذين كانوا مع أبى جعفر، واستفسادهم عليه وثنى برسالته بهاء الدولة خاطبا لضمان الموصل بألفي ألف درهم [398] فى كلّ سنة، وبذل تقديم مال عنها واستصلح قلوب الحاشية.
ثم عدل إلى علىّ أخيه وأظهر له أنّ بهاء الدولة قد ولّاه الموصل وأنّ أبا جعفر يدافعه عنها، وسأله النزول معه بالحلل عليها، فإنّ أبا جعفر إذا علم اجتماع الكلمة خاف واندفع عنها.
فلبّى على دعوة أخيه وأجابه إلى سؤاله قاضيا حقّه فيه. فلمّا نزلت الحلل على باب الموصل استأمن عدد من الديلم الذين استفسدوا من قبل وعلم أبو جعفر أن لا طاقة له بالقوم، فاعتصم بقصر كان استحدثه ملاصقا إلى دار
__________
[1] . وفى الأصل: أبو على.(7/331)
الإمارة مع سبعين رجلا من خاصّته وسألهم أن يفرجوا له عن الطريق ليسلم الديلم إليهم، فأجابوه إلى ذلك.
ذكر مكيدة عملها أبو جعفر سلم بها فى انحداره
وواعدهم فى خروجه يوما معلوما واستظهرهم عليه، وكانوا أجمعوا أمرهم على أن يأخذوه يوم مسيره. فاستذمّ أبو جعفر من علىّ بن المسيب وأنفذ إليه كراعه ليسير من عنده. ثمّ جمع سفنا حطّ فيها رحله وصناديقه وسلاحه وأصحابه، فجاءة وانحدر قبل اليوم الموعود وما عرفوا خبره إلّا بعد انحداره، فتبعوه ودافعهم عن نفسه حتى خلص ووصل إلى [399] مدينة السلام.
ذكر ما جرى عليه الأمر بالموصل بعد انحدار أبى جعفر
لمّا خرج أبو جعفر من البلد تقدّم المقلّد إلى أصحابه بالدخول، وعمل علىّ ابن المسيّب فى الرحيل. فحسّن له أبو الفضل طاهر بن منصور وكان كاتبه ووزيره وجماعة من أصحابه أن يلتمس من المقلّد مشاركته فى البلد، فتذمّم علىّ من ذلك حياء من أخيه فقالوا له:
- «إذا كان البلد لأخيك كان هو الأمير وكنت أنت الصعلوك.» وما زالوا به حتى راسلوه واستقرّت الحال بينهما تذكرة من المقلّد على إقامة خطبة لهما جميعا وتقديم علىّ بحكم الإمارة وإقامة عامل من قبلهما لجباية الأموال وجرى الأمر على ذلك مديدة.(7/332)
زيادة التشاجر
ثم زاد التشاجر والتجاذب بين أصحابهما وانتهى إلى الإفراط واتصلت الشكاوى من الفريقين وسيأتي ذكر ما جرت عليه الحال من بعد إن شاء الله.
ذكر الحال فى ذلك
كان أبو علىّ [1] خدم بهاء الدولة فى أيام إمارته. فلما ولى الملك قدّمه وكاد [400] ينوّه به فنكبه أبو الحسن الكوكبي المعلم وبقي على العطلة ثم استخدم فى الخواص بمدينة السلام.
فلمّا عاد بهاء الدولة إلى واسط على الصورة التي ذكرت من اختلال الحال، كاتب أبا منصور ابن صالحان والشريف أبا الحسن ابن عمر وأبا على هذا يذكر بما هو عليه من الإضاقة واستدعى منهم ملتمسات من ثياب وغيرها.
فأجاب أبو منصور وأبو الحسن جميعا بالوعد والتعليل وحصل [2] أبو على أكثر الملتمس بعد أن طلب من أبى على ابن فضلان اليهودي قرضا يردّ عوضه عليه فلم يسعفه وانحدر إلى حضرة بهاء الدولة بما صحبه.
فوقع فعله موقعا جميلا ازداد به عنده قبولا، وقرّر معه فى أخذ اليهود ومصادرتهم تقريرا معلوما، وفى أمر أبى الحسن محمد بن عمر وأبى منصور ابن صالحان ما كان مستورا مكتوما، وأصعد على هذه القاعدة. فلمّا حصل ببغداد قبض على جماعة من اليهود وعسفهم فى المطالبة والمعاقبة.
وأمّا الشريف أبو الحسن ابن عمر وأبو منصور ابن صالحان فإنّه بدا لهما
__________
[1] . هو الموفق الوزير.
[2] . والمثبت فى مد: حصّل.(7/333)
خبر ما أبطن فى أمرهما فخرج ابن عمر إلى القصر وصار منها إلى البطيحة، واستقرّ أمر ابن صالحان وكاتب بهاء الدولة واستصلحه وانحدر إليه.
ودبّر أبو على الأمور ببغداد واستمال الجند وقرّر مع الأتراك [401] عن أثمان أقامتهم ورقا يطلق لهم مسابعة، ثم نقله إلى المشاهرة ونسبه إلى القسط، وسلك أيضا بالديلم هذه الطريقة. فصار ذلك سنّة مستمرّة من بعد فى الأقساط وسقطت كلف الإقامات وكانت قد انتهت إلى الإفراط. ومشت أموره على السداد إلى أن جرى من المقلّد بن المسيب ما صار سببا للقبض عليه.
ذكر ما جرى من المقلّد بن المسيّب فى هذه السنة
كان المقلّد يتولّى حماية القصر وغربىّ الفرات متصرّفا على أمر العبّاس بن المرزبان فاستناب المقلّد أبا الحسن ابن المعلم أحد أصاغر المتصرّفين ببغداد وكان فيه تهوّر وإقدام، فتبسّط وانتهى عنه إلى ابن المرزبان ما غاظه وعوّل على القبض عليه.
ولم يأت الحزم من أقطاره فى أخذه فاستوحش ابن المعلّم واستظهر وجرت مناوشات أدت إلى كشف القناع واستنجد ابن المعلم صاحبه. فوافى من الموصل فى عدّته وعديده وحصل مع ابن المرزبان على أرض واحدة وجرت بينهما حرب أجلت عن هزيمة ابن المرزبان وأخذه أسيرا وحبسه وأمر بقتله من بعد.
وملك المقلّد القصر وأعماله [402] وكتب إلى بهاء الدولة بأعذار مختلفة وأقوال متّفقة، وسأل إنفاذ من يعقد عليه البلاد بمبلغ من المال يؤدّيه عنها.
وكان بهاء الدولة مشغولا بما هو بصدده والضرورة تدعوه إلى المغالطة والمداراة فأنفذ إليه أبا الحسن على بن طاهر وجرت بينهما مناظرات(7/334)
ومواقفات كتب بها تذكرة عاد بها ابن طاهر استأمر فى أبوابها.
ولمّا انفصل ابن طاهر عنه زاد فى بسط يده فى الأعمال واستضاف ما فيها من الأموال، فضجّ المقطعون بالشكوى إلى أبى علىّ ابن إسماعيل، فاستعدّ للخروج إليه واستدعى محمد بن عبّاد وخاطب أبا موسى خواجه بن ساكيل على البروز، فبرز وخيّم بظاهر البلد.
ذكر الغيلة التي عملها المقلّد
لمّا انتهى الخبر إليه ببروز من برز من السندية أنفذ أصحابه ليلا فكبسوا معسكر ابن ساكيل وضربوا الخيم. فبادر ابن سياهجنك [1] إلى زبزبه وعبر إلى داره واستنفر الديلم. فإلى أن اجتمعوا قطع أصحاب المقلّد الجسر لئلا يتكاثر عليه الجند.
وركب أبو على ابن إسماعيل وابن عبّاد والأولياء. فإلى أن أعيد سد الجسر مضى أصحاب المقلّد وتبعهم أبو علىّ فلم يلحقهم. [403] وهمّ بالإتمام إلى السندية [2] لمواقعة المقلّد فأشاروا عليه بالعود. فعاد وقد تمّم لما ثبت له.
وكان الشريف أبو الحسن ابن عمر قد حصل بالبطيحة على ما تقدّم ذكره.
فلمّا ورد أبو جعفر الحجّاج توسّط حاله مع بهاء الدولة وأصلحها وجدّا جميعا فى السعى على أبى على وذلك قبل أن يحدث من أمر المقلّد ما حدث.
وشدّ منهما ابن ماسرجس وكان هو الوزير يومئذ، وبذل ابن عمر لبهاء الدولة عشرة آلاف دينار عن تسليمه إليه. وكان بهاء الدولة سريع القبول
__________
[1] . والمثبت فى ما سبق بالتكرار: سياهجيك.
[2] . السّنديّة: قرية ببغداد على نهر عيسى (مراصد الاطّلاع) .(7/335)
شديد الميل إلى هذه البذول وكلّ ما يعقد معه محلول وكلّ ما يبنى لديه مهدوم.
ومن شرط السياسة أن يفي الملك بقوله وعهده وأن يصدق فى وعيده ووعده وأنّه متى أخلف استولت على المحسن الخيبة وزالت عن المسيء الهيبة، ومن قارب بين التولية والعزل لا يعقل. فنعود إلى تمام الحديث.
فخاضوا فى تدبير أمر أبى علىّ ولم يكن ببغداد من يكاتب بالقبض عليه ويوثق به فى الخروج بالسرّ إليه. لأنّ ابن سياهجنك كان من خاصته والقهرمانة معه وفى كفّته، وكلّ من وجوه الجند مائلا إلى جنبته ويخافون أن يخرجوا إنسانا من [404] واسط فربّما شاع الخبر وظهر.
ذكر المكيدة التي رتّبت فى القبض على أبى على
أحضروا أبا الحسن محمد بن الحسن العروضي وكان بواسط، وواقفوه على أن يكاتب أبا على ويشكو إليه حاله ويسأله استدعاءه إليه وضمّه إلى جملته، ودبّروا الأمر أنّه إذا عاد الجواب إليه بالإصعاد أصعد، وقرّروا معه القبض عليه.
وكتب أبو الحسن كتابا بهذا الذكر فإلى أن عاد الجواب إليه حدث من أمر المقلّد وهجوم أصحابه على مدينة السلام ما حدث وورد الخبر بذلك على بهاء الدولة فانزعج واستدعى أبا جعفر الحجاج فى الوقت ورسم له المبادرة إليها وتلافى الحادث بها ومصالحة المقلّد والقبض على أبى على ابن إسماعيل.
ووجد أبو جعفر الفرصة فسار ووصل إلى مدينة السلام فى آخر ذى الحجّة وسيأتي ذكر ما جرى الأمر عليه بمشيئة الله تعالى.(7/336)
ذكر القبض على أبى نصر
وفيها قبض على الفاضل أبى نصر فاستقصى عليه فى المطالبة. وهرب أبو عبد الله العارض إلى البطيحة، وأقام إلى أن أصلح حاله.
ذكر السبب فى ذلك [405] أوّلا وما جرت عليه الحال ثانيا
كان جرى بين أبى عبد الله العارض وبين أبى طاهر سباشى المشطّب [1] المعروف بالسعيد كلام تنابزا فيه، وجنايات اللسان عظيمة وصراعاته أليمة.
فأمر بهاء الدولة بالقبض على أبى طاهر لأجل ذلك واعتقاله.
فاجتمع عدد كثير من الغلمان وصاروا إلى باب الخيمة الخاص وجبهوا بهاء الدولة بما فيه بعض الغلظ وقالوا:
- «إن لم تفرج عنه أخذناه.» فدعت الضرورة إلى إطلاقه فأطلق، ثمّ لم يرضوا بالإفراج عن المشطّب حتى اقترحوا إزالة أبى عبد الله عن ولاية العرض وإبعاد الفاضل أبى نصر، [2] وخاف بهاء الدولة مخالفتهم. فاعتقل العارض والفاضل اعتقالا جميلا، ثم أذن لهما فى الإصعاد إلى بغداد بعد أن قرّر أمر الفاضل على مبلغ من المال.
فأمّا الفاضل، فإنّه صحح المال المقرّر بعد إصعاده وأقام فى داره إلى أن وافى أبو جعفر. ونظر أبو الحسن العروضي فى نيابة الوزارة عن ابن ماسرجس فخافه الفاضل وكاتب بهاء الدولة يسأله حسن التعطف والحراسة.
__________
[1] . وفى الأصل «سياسى المتطبب» وسباشى يعنى صاحب الجيش، كذا فى مفاتيح العلوم (مد) . إذن هو معرّب «سپاهچى» .
[2] . وفى الأصل: إلى أبى نصر.(7/337)
فعاد جوابه بالجميل ورسم له الانحدار فانحدر. ولمّا وصل إلى المعسكر قبض عليه وسلّم إلى ابن ماسرجس فاستقصى [406] عليه فى المطالبة، لما أخذ عليه من نوبة البصرة ونسبها إليه، وكان بريئا منها.
وأمّا أبو عبد الله العارض، فإنّه خاف بعد إصعاده، فاستشار نصحاءه فى أمره وقال:
- «لست أحبّ الحرب فأجعل لنفسي حديثا ولا الاسترسال فأطرق غلبتها.»
ذكر رأى سديد أشير به على العارض فكان سببا لنجاته
قال له علىّ بن عيسى صاحب البريد:
- «إذا كان هذا اعتقادك، فكيف تسمح بذهاب ما فى دارك من الآلات ومن الغلمان؟» قال: «نعم.» قال: «فاعبر إلى الجانب الشرقي، كأنّك زائر والدتك ودع دارك وحاشيتك على ما هي وهم عليه، وأنا أحضر فى كلّ يوم وألقى الناس فيها عنك وأكتب كتب النوبة إلى بهاء الدولة وإذا حضر من يجوز الاعتذار إليه وأنا قاعد اعتذرت إليه بنومك أو صلاتك ومن وجب أن أقوم وأدخل الحجرة كأنّى أستأذنك وأخرج إليه بمثل العذر قمت وإذا رأى الناس ذلك ظنّوك حاضرا وأنت فى الباطن مستظهر.» فاستصوب ذلك وعمل به واندرج الأمر على هذا أيّاما ثم كبست الدار لطلبه والقبض عليه فلم يوجد.
ودبّر أمره فى [407] الخروج من البلد مستترا وحصل بالبطيحة وأقام بها(7/338)
مدة وأصلح حاله مع بهاء الدولة وأصعد إلى واسط ونظر فى دواوين الإنشاء والبريد والحماية.
وفيها حجّ بالناس أبو عبد الله ابن عبيد العلوي.
وحمل بدر بن حسنويه خمسة آلاف دينار مع وجوه القوافل الخراسانية لتنصرف فى خفارة الطريق عوضا عمّا كان يجيء من الحاجّ فى كلّ سنة، وجعل ذلك رسما زاد فيه من بعد حتى بلغ تسعة آلاف دينار.
وكان يحمل مع ذلك ما ينصرف فى عمارة الطريق ويقسم فى أولاد المهاجرين والأنصار بالحرمين، ويفرّق على جماعة من الأشراف والفقراء والقراء وأهل البيوتات فى مدينة السلام بما تكمّل به المبلغ عشرين ألف دينار فى كلّ سنة. فلمّا توفى انقطع ذلك حتى اثّر فى أحوال أهله ووقف أمر الحجّ.
ذكر ما يستدلّ به على حزم بدر
ونحن نذكر ههنا طرفا من أفعال بدر وآدابه يستدل به على حزم الرجل ودهائه، فنقول:
إنّ من شرط الولاية المستقيمة أن يكون صاحبها عالما بالسياسة قامعا للجند عادلا بين الرعية خبيرا بجمع المال من حقوقه بصيرا بصرفه فى وجوهه راغبا فى فعل الخير ملتذّا بطيب الذكر ثابت الرأى فى الخطوب رابط [1] الجأش فى الحروب. على أنّ انتقاع ذوى الولاية بالرأى [408] السديد أكثر من انتفاعهم بالبأس الشديد. فانّ ذا البأس يقاوم رجالا وعشيرة، وذو الرأى يقاوم أمّة كثيرة.
__________
[1] . فى الأصل: ثابت.(7/339)
الرأى قبل شجاعة الشّجعان ... هو أول وهي المحلّ الثّانى
فإذا هما اجتمعا لنفس مرّة ... بلغت من العلياء كلّ مكان [1]
وقد كان بدر جامعا لهذه الخلال الحميدة والأفعال الرشيدة. فإنّه ساس قومه وهم البرزيكان [2] شرّ طائفة فى ظلمهم وعداوتهم وبغيهم وطغيانهم سعيا فى الأرض بالفساد وقطعا للسبل واستباحة للأموال وسفكا للدماء [3] ، ولى عليهم وقد استولوا على تلك الأعمال يسومون أهلها سوء العذاب ويذيقونهم مرارات البلاء والعقاب، على طريقة من قال الله تعالى فيه: «وَإِذا تَوَلَّى سَعى في الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَالله لا يُحِبُّ الْفَسادَ 2: 205 [4] .
فداوى داءهم وكفّ بلاءهم واستدنى من الأكراد من كانوا ضدّا لقومه، فاستعان بهم عليهم فطهّر الأرض من ظلمهم غير مبق على آصرة ولا ملتفت إلى رحم متشاجرة، فبدّد شملهم وفرّق جمعهم.
ذكر مكيدة عملها بدر لقومه [409]
قيل: إنّه طالت أسباب الفساد وكاد الحرث يبطل فى تلك البلاد. عمل سماطا وأمر بأن يقدم عليه من جميع الألوان المطبوخة باللحمان- وكانوا أصحاب أغنام- وأن لا يترك على السماط خبز بتّة، ثم أحضرهم فجلسوا وأيديهم لا تصل إليه توقّعا للخبز. فلمّا طال الأمر بهم قال لهم:
__________
[1] . ورد البيتان فى ديوان المتنبي طبع برلن 1861 ص 594 (مد) . وشرح البرقوفى 4: 307.
[2] . وفى الأصل: البربرمكان.
[3] . والمثبت فى مد: واستباحة الأموال وسفك الدماء.
[4] . س 2 البقرة: 205.(7/340)
- «ما لكم لا تأكلون.» قالوا: «ننتظر الخبز.» قال: «فإذا كنتم تعلمون أنّه قوت لا بد منه، فما لكم قد أهلكتم الزرع؟
قبحا لوجوهكم وتبّا لأفعالكم! وأقسم لئن [1] تعرّض أحد منكم لصاحب زرع ليقابلنّه [2] بسفك دمه.» وأبرّ قسمه بقتل العدد الكثير منهم وأخذ الباقين بالهيبة وساسهم بالغلظة ولم يغض لهم عن الخيانة اليسيرة حتى تهذّبت الأمور.
ذكر سياسة بليغة من أفعاله
قيل إنّه اجتاز فى بعض مرتحلاته برجل متحطب قد حطّ حمله عن ظهره على طريق وإنّ بعض الفرسان أخذ منه رغيفين كانا معه فلمّا حصل بإزائه قال:
- «أيّها الأمير إنّى رجل متحطب وقد كانت معى رغيفان أعددتهما لأتغدى بهما فيقوياننى على حمل الحطب إلى البلد [410] فأبيعه فأعود بثمنه إلى العيال وقد اجتاز بى أحد الفرسان وغصبني إياهما.» فقال له:
- «هل تعرف الرجل؟» قال: «نعم بوجهه.» فجاء به إلى مضيق جبل وأقام عنده حتى اجتاز عليه العسكر جميعه وجاء صاحبه فعرفه فأمر بدر بحطّه عن فرسه وإلزامه حمل الحطب على ظهره إلى البلد والدخول به إلى السوق وبيعه وتسليم ثمنه إلى صاحبه جزاء
__________
[1] . والمثبت فى مد: لان.
[2] . كذا فى مد: ليقابلنّه.(7/341)
على فعله.
وكان الرجل موسرا فرام أن يفتدى نفسه بمال وزاد حتى بذل بوزن الحطب دراهم فلم يقبل منه وألزمه فعل ما عزم به عليه فقامت الهيبة فى النفوس فلم يقدم بعدها أحد من أصحابه على أذيّة.
وأمّا بصره بوجوه المال فإنّه عمّ وعدل فدرّت عليه ضروع الأعمال وجمع من الذخائر والأموال من بلاد محدودة محصورة مالا يكاد يجمع مثله من ممالك واسعة. ولو لم يكن إلّا ما أخذه فخر الملك أبو غالب ابن خلف من قلعته [1] لكان عظيما.
ذكر رأى سديد فى تدبير الأعمال
كان من حسن تدبيره أنّه يحفظ الارتفاع من كل ثلم ثم يفرد العشر منه ويجعله موقوفا على المصالح والصدقات.
وأخذ عمّاله بتوفية أمواله [411] أشد أخذ ويخلدهم الحبس على الخيانة فإن علم أنّ عجز المال كان عن آفة وأنّ العامل نقىّ الجيب من خيانة أعطاه من مال الصدقة ما تبرأ به ذمّته من الضمان ويستعين ببعضه على الزمان فلا يقدم أحد على تجاوز الطريقة المرضية فى أداء الامانة وتجنّب الخيانة.
وأما بصيرته بصرف الأموال فى وجوهها فقد تقدّم ذكر ما كان يحمله فى كل سنة بطريق مكة وكانت له صدقات كثيرة فى بلده وأنفق أموالا جمّة فى اتخاذ المصانع وعمل القناطر واستخراج الطريق فى الجبال لوارد وصادر فتذللت بعد أن كانت مانعة ودنت المسافات بعد أن كانت شاسعة مع حزم كامل فى الإنفاق.
__________
[1] . يعنى دزبز فى معجم البلدان 2: 572: دزبز اسم قلعة مدينة سابور خواست دزبز ومنها أخذ فخر الملك أبو غالب أموال بدر بن حسنويه المشهورة (مد) .(7/342)
ذكر ما دبّره فى أمر النفقات على القناطر والطرقات
كان إذا بدأ بعمل من هذه الأعمال أقام من قبله عنده سوقا جامعة لسائر ما يبتاع فى البلدان وجلب إليها جميع ما يحتاج إليه من الأصناف بأرخص الأثمان فإذا قبضت الرجال سلفا من الورق صرفوه فى تلك السوق على اختلاف أجناس ما يبتاعونه بالثمن الوافي فيجمع جميعه. [412] فكان ما يخرج فى أول الأسبوع من الخزانة يعود إليها فى آخر الوقت اليسير الذي يتصل مع بعض الرجال ممن يقدر على نفسه فى النفقة.
فبقيت له الآثار الحميدة والأحاديث الجميلة. قال الله تعالى: «وَما عِنْدَ الله خَيْرٌ وَأَبْقى» 28: 60 [1] وقال تعالى: «وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ من الْأُولى» 93: 4 [2] .
وأمّا حسن تدبير الخطوب فله فى ذلك أخبار مشهورة منها ما دبّره عند وصول رسول يمين الدولة أبى القاسم محمود بن سبكتكين رحمه الله إلى الرىّ.
ذكر رأى سديد فى إقامة هيبة
قيل: إنّ رسولا لمحمود وصل إلى الرىّ عند استيلاء السيدة على الأمر مهدّدا بالمسير إليها وكانت لا تحل ولا تعقد إلّا بمشاورة بدر فكتبت إليه بما تجدد فأشار عليها بإنفاذ الرسول إليه ليتولّى هو جوابه.
ثم رتّب طوائف الأكراد وأصناف العساكر وأمرهم أن ينزلوا بحللهم بطول الطريق من باب الري إلى سابور خواست [3] ويظهروا عند اجتياز الرسول بهم
__________
[1] . س 28 القصص: 60.
[2] . س 93 الضحى: 4.
[3] . فى الأصل: سابرحاست.(7/343)
عددهم وأسلحتهم ويأخذوا زينتهم ويسيروا به من حلة إلى حلة ومن عسكر إلى عسكر حتى يوصلونه إليه ففعلوا ذلك.
ورأى الرسول فى طريقه من [413] العساكر ما هاله فلمّا وصل إليه رأى من حزمه ودهائه وحسن تدبيره ورأيه ما ازدادت به هيبته فى صدره.
وأجاب عن الرسالة بما أشار به إلى الاستمرار على طريق المسالمة واجراء الأمر على ما كان عليه من قبل مع أصحاب خراسان فعاد الرسول إلى الرىّ وكتب الأجوبة حسب ذلك وانصرف إلى خراسان وأخبر بما شاهده فكان ذلك طريقا إلى الكفّ والموادعة.
وأمّا مكايده فى الحروب وبصيرته بأمورها، فقد تقدّم من ذكر الوقعة التي جرت بينه وبين قراتكين الجهشيارى على أخذ شرف الدولة ما يدل على صرامته وله بعد ذلك مقامات مشهورة.
فلمّا انقضت مدته وتناهت سعادته لم ينفعه ماله ولا رجاله ولم تدفع عنه حزامته ولا احتياله، قتله أقلّ الجند وأذلّهم ومضى رخيصا.
الحوّل القلّب الأريب ولا ... يدفع ريب المنيّة الحيل
وإذ قضينا من ذكر أخباره الشاذّة [1] وطرا مع التبرّأ من عهدة صحتها فقد عدنا إلى سياقة التاريخ.
ودخلت سنة سبع وثمانين وثلاثمائة
وفيها تغيّر أمر أبى على ابن إسماعيل ووكّل به فى دار المملكة ثم
__________
[1] . والمثبت فى مد: الشادّه.(7/344)
أفرج [414] عنه واستتر.
ذكر ما جرت عليه الحال فى ذلك
لمّا ورد أبو جعفر الحجاج ساء ظنّ أبى على ابن إسماعيل ثم اتصل به من واسط ما حقق ظنّه فأقام فى دار المملكة ملتجئا إلى القهرمانة وتلطّف أبو جعفر له طمعا فى أن يصير إليه فلم يفعل فأنفذ من وكّل به فى موضعه.
وتردد بينه وبين القهرمانة قول كثير انتهى آخره إلى أن كتبت خطا بتسليمه وإنّها تمتثل ما يرد إليها فى معناه فصرف التوكيل حينئذ عنه.
وأنفذ ابن إسماعيل إلى بارسطغان وبدرك ووضعهما على أن جمعا جمعا كثيرا من الغلمان وصاروا إلى تحت دار أبى جعفر وراسلوه وقالوا له:
- «قد كانت أحوالنا مختلّة وأموالنا متأخرة إلى أن جاء هذا الرجل فتلافى أمورنا بحسن التدبير وقد حاولت الآن بورودك القبض عليه وإزالة هذا الترتيب ونحن لا نمكّن منه ونكاتب الملك بشرح الأحوال وإن دعتنا حاجة إلى الانحدار إليه انحدرنا.» وتردد فى ذلك ما طال وأفضى آخره إلى خط القهرمانة إليها والاتفاق على خروجه ونظره ومكاتبة الملك بما عليه الأولياء من إيثاره.
فلمّا كان من غد خرج أبو [415] على من الدار وقصد أحد وجوه الأتراك واستتر عنده.
ونظر أبو الحسن العروضي فى النيابة عن أبى العباس ابن ماسرجس وتشاغل أبو جعفر بتقرير ما بينه وبين أبى حسان المقلّد بن المسيّب.
ذكر ما جرت عليه الحال فى ذلك
أنفذ المقلّد إلى أبى جعفر فى أمر الصلح وبذل له البذول على حكمه فيه.(7/345)
فاستقرّ بعد مراجعات ومنازعات على أن يصحّح المقلّد عشرة آلاف دينار وتحمل إلى الخزانة بواسط ويقود معها خيلا ويرفع يده عن الاقطاعات ويقنع بما يقرّر له من رسوم الحماية عنها ويمكن العمّال من المحلول ويشدّ منهم فى استيفاء الحقوق السلطانية ويفرج عن الديلم المأسورين ويخطب لأبى جعفر بالموصل بعد بهاء الدولة ويحمل فى كل سنة ألف ألف درهم غياثية عنها وعلى أن يخلع على المقلّد الخلع السلطانية من دار الخلافة ويكنّى ويلقّب بحسام الدولة، ويحمل له اللواء ويعقد له بهاء الدولة على الموصل والكوفة والقصر والجامعين ويقلّد زعيم العرب ويقطعه بألف ألف درهم غياثية من المحلول. فأجيب ما التمسه وجلس القادر [416] بالله رضوان الله عليه لذلك على العادة.
ولم يف المقلّد بجميع ما أشرطه على نفسه إلّا بحمل المال المعجّل واطلاق الديلم المأسورين ثم استولى على البلاد فقصده الكتّاب والمتصرفون والأماثل وخدموه ونبل قدره واستفحل أمره.
وفيها توفّى العلاء بن الحسن بعسكر مكرم وورد أبو الطيب الفرخان وبعده أبو على ابن أستاذ هرمز شيراز.
ذكر ما جرى عليه الأمر بعد وفاة العلاء بن الحسن
قد تقدم ذكر خروج العلاء إلى عسكر مكرم فى أثر الغلمان العائدين من أرجان مع أبى محمد ابن مكرم ومقامه بها مرتبا للأمور ثم جاءه أمر الله الذي لا يدفع [1] وورد المنهل الذي لا محيد للبشر عنه.
فلمّا انتهى الخبر إلى صمصام الدولة أنفذ أبا الطيب الفرخان بعد أن
__________
[1] . والمثبت فى مد: يدفعه.(7/346)
استوزره لسدّ مسدّه فورد ولم يكن منه ما ظنّ فيه. فبان منه العجز والقصور وتقاعد به الديلم وملك أصحاب بهاء الدولة السوس وجنديسابور.
وعرف صمصام الدولة ما جرى فأنفذ الصاحب أبا على ابن أستاذ هرمز وأصحبه مالا ففرّقه على الديلم وسار بهم إلى جنديسابور ودفع الأتراك عنها وجرت مع الأتراك وقائع كثيرة كانت اليد الطويلة لأبى علىّ فيها حتى أزاحهم عن بلاد [417] خوزستان وعادوا إلى واسط.
فخلت له البلاد ورتّب فيها العمّال وجمع منها الأموال [1] وتأمّل حال الاقطاعات بها. فجرى بين سيامرد بن بلجعفر وبين عامل لأبى علىّ تنازع فى حدّ وارتفع النزاع فيه إليه فأربى سيامرد فى القول بمجلسه فغاظه.
ذكر تدبير يدلّ على قوّة نفس وشهامة
أمر أبو علىّ أن يعمل عملا بما فى يد سيامرد وداود ولده وأبى [2] على ابن بلعباس فاشتمل العمل على مائة ألف دينار وزيادة فأحضر الثلاثة المذكورين وكتّابهم للموافقة ثم عدل بهم إلى حجرة وقبض عليهم وقيّدوا وأخرجوا بعد أيام على النفي إلى بلاد الديلم.
وجعل إقطاعهم لخمسمائة رجل من الديلم الأصاغر وثلاثمائة رجل من الأكراد بعد أن أفرد منه شيئا للخاص فتمكنت هيبته فى الصدور وتضاعفت قوّته فى الأمور وتألّف قلوب الديلم وراسل وجوه الأتراك الذين مع بهاء الدولة واستمالهم، فأجابه بعضهم وصار إليه من جملتهم قراتكين الريحى فملأ عينه وقلبه بالإحسان.
واستمرت أحواله على الانتظام والتمكن من أعمال خوزستان من غير
__________
[1] . وفى الأصل الأتراك.
[2] . وفى الأصل: أبا.(7/347)
منازعة إلى أن عاد أبو محمد ابن مكرم والأتراك من واسط.
فلمّا عرف أبو على ابن أستاذ هرمز رجوعه استعد للحرب وجرت بينهم [418] مناوشات ووقائع. ولم يكن للغلمان قدرة على إزالة الديلم من قصبات البلاد وأشرفوا على الانصراف ثانيا إلى واسط حتى خرج أبو على ابن إسماعيل من البطيحة وسيّر بهاء الدولة من القنطرة البيضاء وكان من الأمر ما يأتى ذكره فى موضعه.
وفيها كوتب أبو جعفر الحجّاج بالمسير من بغداد لقصد أبى الحسن على ابن مزيد وسار ابن ماسرجس من واسط لذلك.
ذكر ما جرى عليه الأمر مع أبى الحسن علىّ بن مزيد
كان علىّ بن مزيد قد استوحش من بهاء الدولة بسبب مال طولب به فكاشفه بالخطاب وانتسب إلى طاعة صمصام الدولة وأقام الخطبة له وأطلق لسانه بكل ما يوجب السياسة الإمساك عنه وانبسطت بنو أسد فى الغارة على نواحي واسط.
فغاظ بهاء الدولة فعله وعرض من أمر المقلّد ما استقلّ به عن غيره. فلمّا استقرّت الحال معه كتب بهاء الدولة إلى أبى جعفر بالمسير إلى ابن مزيد من بغداد وسيّر أبا العباس ابن ماسرجس من واسط فاجتمعا.
واندفع أبو الحسن علىّ بن مزيد من بين أيديهما معتصما بالآجام وتتبعاه فراسلهما واستعطفهما وسأل إصلاح أمره مع بهاء الدولة وبذل على ذلك بذلا.
وكان الأمر قد ضاق بهما [419] فى المقام وتعذّر عليهما وعلى العسكر نقل المير لبعدهم عن السواد فكاتبا بهاء الدولة فى أمره وسألاه الصفح عنه وإقراره على ما يتولى الخدمة فيه، فأجاب إلى ذلك وسار أبو جعفر وابن ماسرجس إلى الكوفة. فأمّا أبو جعفر فإنّه عاد إلى بغداد وأمّا ابن ماسرجس(7/348)
فإنّه أقام بالكوفة مستوحشا، ثم صار إلى المقلّد ومضى من عنده إلى البطيحة.
وفيها توفّى فخر الدولة أبو الحسن علىّ بن ركن الدولة بالرىّ.
ذكر ما جرى عليه الأمر بعد وفاة فخر الدولة
لمّا اشتدّت العلّة به أصعد إلى قلعة طبرك فبقى أيّاما يعلل ثم مضى لسبيله. وكانت الخزائن جميعها مقفلة ومفاتيحها قد حصلت عند أبى طالب رستم ولده الملقّب من بعده بمجد الدولة، فلم يوجد ليلة وفاته ما يكفّن به لقصور الأيدى عمّا فى الخزائن وتعذّر النزول إلى البلد لشدة الشغب حتى ابتيع له من قيّم الجامع الذي تحت القلعة ثوب لفّ به. وجاء من الشغل بالجند ومطالبتهم العنيفة ما لم يمكن معه حطّه سريعا. فأراح حتى لم يمكن القرب من تابوته فشدّ بالحبال وجرّ على درجة القلعة حتى تكسّر وتقطّع.
وذكر أنّه خلّف من العين والورق والجواهر سوى الثياب والسلاح والآلات ما يزيد على [420] عشرة آلاف ألف [1] درهم فكان نصيبه من أمواله الثوب الذي كفّن فيه وعاقبته من أيامه اليوم الذي حطّ فيه.
فما أقلّه من نصيب مبخوس وأشأمه من يوم منحوس ف «ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ» 111: 2 [2] ثم ربّه أعلم بما صار إليه من شقاوة أو حوقق [3] أو سعادة أو سومح.
ورتّب أبو طالب رستم ولده فى الأمر وسنّه إذ ذاك أربع سنين. فأخذت له البيعة على الجند وأطلقت له الأموال الكثيرة حتى قيل: إنّ الأمر أعجلهم
__________
[1] . والمثبت فى مد: ألف ألف.
[2] . س 111 المسد: 2.
[3] . حاقّه فى الأمر: خاصمه ورافعه.(7/349)
عن حطّ المال من القلعة على رؤوس الرجال فحطّوه بالزبل والبكر والحبال.
والوزيران يومئذ هما أبو العبّاس الضبّى المتلقّب بالكافي الأوحد، وأبو على ابن حمولة المتلقّب بأوحد الكفاة، وبينهما أشدّ عداوة.
فبسط أبو على ابن حمولة يده فى اطلاق الأموال واستمالة الرجال.
فمالت قلوب الجند إليه ووقعت أهواؤهم عليه وامتنع أبو العباس الضبّى عن مثل ذلك إلّا أنّه معظم لمنزلته المتأثّلة وقدمه المتقدمة.
فتجدّد من ورود قابوس بن وشمكير إلى جرجان واستيلائه عليها ما وقع الخوض فى تدبير خطبه [1] .
ذكر عود قابوس إلى جرجان وما جرى الأمر معه عليه
كان فخر الدولة عند استقراره فى الملك عزم على ردّ قابوس إلى أعماله قضاء [421] لحقّه ومقابلة على إحسانه، فصدّه ابن عبّاد عن رأيه وكثّر ارتفاعها فى عينه فوقر هذا القول فى سمعه لشحّ مطاع كان فى طبعه.
فلمّا مات كتب أهل جرجان إلى قابوس وهو بنيسابور يستدعونه، فصار إلى بلادهم وملكها وورد الخبر إلى الرىّ بذلك فجرت فى ذلك منازعات فى الرأى وكوتب بدر بن حسنويه بسببه.
ذكر جواب سديد لبدر خولف رأيه فيه
قال: إنّ الأمير الذي ورث هذا الملك حدث السن ولا ينبغي أن يضيع ماله وذخائره فيما لا تتحقق عواقبه ومصايره والصواب أن تترك الأمر على حاله فإن يك نجيبا على ما عهد من خلائق آبائه قدر على ارتجاع ما أخذ
__________
[1] . أمّا الوزيران فليراجع إرشاد الأريب 1: 73 وترجمة قابوس فيه أيضا 6: 143 (مد) .(7/350)
منه، وأن ضعف عن ذلك لم تكونوا جمعتم عليه [ذهاب] ماله وذهاب أعماله.» فخالفوا رأى بدر وجرّدوا العساكر وأشار أصحاب أبى على ابن حمولة ونصحاؤه عليه بالخروج فى هذا الوجه واستصحاب الخزائن والأموال وقالوا:
- «إنّك إذا حصلت بجرجان وملكتها كنت أميرا لا وزيرا وكانت الحاجة إليك داعية والآمال بك متعلقة وبعدت عن الحضرة التي أنت فيها مجاذب على المنزلة.» وغبي [422] أنّ قاعدة غيره التي يبنى عليها أمره هي بتلك الحضرة وإلى من يزاحمه فى الرتبة يترقب به الفرصة فى نقصها، لكن هيهات قيامه عليها وإذا بعد عنها لسرعت اليد الهادمة إليها.
فعمل فيه قول هؤلاء النصحاء المجتمعين عليه وسار بالخزائن والأموال لأمر تسوقه المقادير اليه وحصل بين عدوّين: أحدهما أمامه لا يعلم ما يكون منه معه، وآخر وراءه يقصد مقاتله.
ووافى قابوس وتصافّا فى الحرب. فما كانت إلّا حملة واحدة من أصحاب قابوس حتى انهزم أصحاب أبى علىّ ابن حمولة وغنم قابوس وأصحابه غنيمة كثيرة وعاد إلى جرجان. وثبتت قدمه بأحسن السيرة ورفع الرسوم الجارية والضرائب المأخوذة.
وعاد أبو على إلى الرىّ مفلولا ووقع الشروع فى تجريد العساكر ثانيا إلى جرجان فقال أبو على:
- «قد خرجت نوبة وهذه نوبة أبى العبّاس الضبّى.» وتردد فى ذلك قول كثير ثم أجمع رأى السيدة ورأى بدر بن حسنويه على صرف أبى على بن حمولة والقبض عليه.(7/351)
ذكر ما جرى الأمر عليه فى القبض على ابن حمولة
حضر أبو عيسى سافرى بن محمد كاتب بدر مظهرا تجديد العهد بالخدمة [423] واجتمعت الجماعة فى دار الإمارة وخلوا فى الحجرة الركنية لتقرير أمر من يخرج إلى جرجان. فاتفق أنّ ابن حمولة نهض لحاجة يقضيها فاتّبع بمن عدل به إلى موضع فى الدار وقيّد وانصرف أبو العباس الضبي إلى داره وأبو عيسى إلى دار على بن كامة وكانت برسمه وهي طرف البلد.
وشاع خبر القبض على ابن حمولة فثار الديلم وقصدوا دار أبى عيسى ليهجموا عليه فهدم حائطا منها يلي الصحراء وخرج منه وركب وتبعه أصحابه ووقف على قرب من البلد حتى أخرج إليه ابن حمولة فسار به إلى بلاد بدر وحبسه فى بعض القلاع [1] وأنفذ إليه من الرىّ بعد أيام من تولّى قتله.
وأقام الديلم على شغب ونهبوا دار أبى العباس وطالبوا بتسليمه واقتضت الحال عند تفاقم الأمر القبض عليه ففعل ذلك وحمل فى عمارية وهو مقيّد وقد أخرجت رجله منها ليشاهد القيد فيها بحضرة العسكر وأصعد إلى قلعة طبرك.
وكان الجند قد همّوا بالفتك به وكفّ الله سبحانه وتعالى أيديهم عنه وألقى فى قلوبهم هيبة منه. فلمّا حصل فى القلعة راسل أكابر الديلم واستمالهم وأصلحوا له قلوب أصاغرهم واجتمعوا بعد ثلاثة أيام وتشاوروا بينهم وقالوا:
قد مضى ذاك الوزير الذي قد فعلنا هذا الفعل لأجله ولا يجوز أن نتعوض
__________
[1] . وفى إرشاد الأريب 1: 73 هي قلعة استوناوند (مد) .(7/352)
عن أبى العبّاس [424] مع رياسته المأثورة وكفايته المشهورة بغيره.
فصاروا إلى دار الإمارة وخاطبوا السيدة على ذلك فاستقرّ الرأى على خروجه ونظره. فخرج فى اليوم الرابع من القلعة وتلقّاه الناس على طبقاتهم بتقبيل الأرض واظهار السرور. وسيأتي ذكر ما جرى عليه أمره من بعد فى موضعه.
وفيها قبض المقلّد بن المسيّب على أخيه بالموصل.
ذكر القبض على علىّ بن المسيّب والإفراج عنه وما جرى فى ذلك من الخطوب فى هذه السنة وما بعدها ليتّسق الحديث
قد تقدّم ذكر ما تقرر بين علىّ والمقلّد فى أمر الموصل والمشاركة فيها وما وقع من الخلف بين أصحابهما.
فلمّا عاد المقلّد من سقى الفرات إلى الموصل عزم على الفتك بأصحاب أخيه. ثم على أنّه متى فعل ذلك بهم فعل علىّ بأصحابه مثله، فقوى رأيه فى القبض على أخيه.
وكان مع المقلّد من الديلم والأكراد وغيرهم نحو ثلاثة آلاف رجل تطلق لهم الأرزاق فى كل شهر. فحين عزم على ما عزم عليه جمعهم إلى داره وأظهر بأنّه يريد المسير إلى دقوقا [425] وحلفهم على الطاعة واستوثق منهم.
ذكر الحيلة التي عملها المقلّد فى ذلك
كانت دار المقلد متصلة بدار علىّ ولم يكن مع علىّ إلّا نحو مائة رجل من خاصته فأمر بالنقب إلى الموضع الذي هو فيه فى ليلة علم فيها أنّه(7/353)
سكران ودخل إليه ومعه عدّة من خواصه فحمله على ظهر أحد الفراشين وحصّله فى خزانته ووكّل به جماعة من غلمانه الأتراك.
واستدعى فى الحال غلامين من البادية وسلّم إليهما فرسين جوادين وأرسلهما إلى صاحبته يقول لها:
- «إنّى قد قبضت على علىّ فخذي حذرك وأسرعى فى الحال بولديك قرواش وبدران إلى تكريت فإنّ أحمد بن حمّاد صديقي وهو يدفع عنكم ولا تخلفى ما تخلفينه وراءك فى الحلّة قبل أن يعرف أخى الحسن الخبر فيبادر إليك ويقبض على ولديك.» فكدّ الغلامان فرسيهما ركضا وتقريبا [1] ووصلا إلى تكريت فى يومهما عند غروب الشمس وجلسا من تكريت فى ركوة وانحدرا إلى موضع الحلّة وكانت على أربعة فراسخ منها فأنذرا المرأة وأدّيا إليها الرسالة.
فركبت فرسا وأركبت ولديها فرسين وهما يومئذ صغيران وساروا فى الليل إلى تكريت فدخلوها. [426] وعرف الحسن بن المسيب حال القبض على أخيه من غلام أسرع إليه من الموصل بالخبر فبادر الحسن إلى حلة المقلد ليقبض على ولديه وأهله وعنده أنّه يسبق إليهم ففاتوه وبطل عليه ما قدره من ذلك.
وقام المقلد بالموصل يستدعى وجوه بنى عقيل ويخلع عليهم ويقطعهم إلى أن اجتمع عنده زهاء ألفى فارس.
وقصد الحسن حلل العرب بأولاد علىّ وحرمه يستغيثون ويستنفرون ويقولون:
- «إنّ المقلد قطع الرحم وعادى العشيرة وقبض على أميرها وانحاز إلى
__________
[1] . التقريب: ضرب من العدو دون الإسراع.(7/354)
السلطان» فنفر منهم نحو عشرة آلاف رجل وراسل المقلد وقال:
- «إنّك قد احتجزت عنا بالموصل وأقمت فإن كان لك قدرة على الخروج فاخرج.» فأجابه بأنّه يخرج ولا يتأخر وسار على أثر الرسول وأخرج معه عليّا أخاه فى عمارية وهو محروس فى نفسه مراعى فى أحواله إلّا أنّه مستظهر عليه بالتوكيل.
وقرب من القوم حتى لم يبق بين الفريقين إلّا منزل واحد بإزاء العلث وجد فى أمر الحرب فحضره وجوه العرب واختلفت آراؤهم فقوم دعوه إلى الصلح وصلة الأرحام وقوم حضّوه على المضىّ والإقدام.
وكان فى القوم غريب ورافع ابنا محمد بن مقن فتنازعا القول عند المقلد وظهر من رافع حرص على الحرب وخالف غريب [1] .
ذكر كلام سديد لغريب [427]
قال لرافع:
- «ما قولك هذا بقول ناصح أمين ولا ناصر معين. فإن كنت فى هذا الرأى عليه فقد أخفرت الأمانة وأظهرت الخيانة وإن كنت معه فقد سعيت فى تفريق الكلمة وهلاك العشيرة وإطماع السلطان.» والمقلد ممسك لا يتنفس [2] فدخل عليه داخل وقال له:
- «أيّها الأمير هذه أختك رهيلة بنت المسيب- وكانت عند جعفر بن على بن مقن- قريبة منك تريد لقاءك.»
__________
[1] . وأما غريب ففي إرشاد الأريب 2: 103 أنّه كان بعد الأربعمائة صاحب البلاد العليا تكريت ودجيل وما لاصقها (مد) .
[2] . يريد لا ينبس (مد) .(7/355)
فامتدت الأعين إليها فإذا هي فى هودج على بعد. فركب المقلد وسار حتى لحق بها وتحادثا طويلا ولا يعلم أحد ما جرى بينهما إلّا أنّه حكى فيما بعد أنّها قالت له:
- «يا مقلد قد ركبت مركبا وضيعا وقطعت رحمك وعققت ابن أبيك.
فراجع الأولى بك وخلّ عن الرجل واكفف هذه الفتنة ولا تكن سببا لهلاك العشيرة، ومع هذا فإننى أختك ونصيحتي لا حقة بك ومتى لم تقبل قولي فضحتك وفضحت نفسي بين هذا الخلق من العرب.» فلان فى يدها ووعدها بإطلاق علىّ وعاد فى وقته. فأمر بفكّ قيده وردّ عليه جميع ما كان أخذه منه وأضاف إليه مثله ورتّب له مخيّما جميلا ونقله إليه واستكتب له أبا الحسن ابن أبى الوزير وجعله عينا عليه متصرفا على أمره بين يديه.
فأصبح الناس مسرورين بما تجدد من الصلح وزال من الخلف واجتمع المقلد مع على وتحالفا ومضى على [428] عائدا إلى حلّته والمقلد سائرا إلى الأنبار لقصد أبى الحسن على بن مزيد ومقاتلته. فقد كان تظاهر بمعصية على حين قبض عليه المقلد وطرق أعمال سقى الفرات واجتذب شيئا منها.
ولمّا انفصل على بن المسيب اجتمع إليه العرب وحملوه على مباينة المقلد فامتنع عليهم وقال:
- «إن كان قد أساء فإنّه قد أحسن من بعد.» فما زالوا حتى غلبوه على رأيه وأصعد إلى الموصل مباينا واعتصم من كان معه من أصحاب مقلد بها بالقلعة فنازلها وفتحها واستولى على ما كان فيها.
فطار الخبر إلى المقلد فكرّ راجعا واجتاز فى طريقه على حلّة الحسن وهو فيها فخرج إليه وشاهد من قوة عسكره ما خاف على أخيه منه فقال(7/356)
له:
- «دعني أصلح ما بينك وبين أخيك وأضمّن لك العهد فيما تريد منه.» ورفق به حتى استوقفه وسار فى الوقت إلى علىّ من غير أن يعود إلى حلته فوصل إليه آخر النهار وقد جهد نفسه وفرسه وقال لعلى:
- «إنّ الأعور قد أقبل بقضّه وقضيضه وأنت غافل.» ثم شاوره فأشار عليه أن يستميل كل من بالموصل من أهالى الجند الذين هم فى جملة المقلد ويضعهم على [توسط] [1] ما كان بينهم واستمالتهم فإن قبلوا وفارقوا المقلّد قاتله وإن امتنعوا وأقاموا معه صالحه ففعل ذلك.
وكان المقلد قد قرب من الموصل وبات وهو متيقظ قد رتّب الطلائع فظفر بقوم قد وردوا بالملطفات إلى أصحابه فحملوهم إليه [429] ووقف على ما معهم من الكتب فأصبح وقد عبّى [2] عسكره وزحف إلى الموصل وأيس على والحسن من فساد جند المقلد عليه فخرج إليه ولاطفه [3] ثم دخل البلد وعلى عن يمينه والحسن عن شماله.
وناوش العرب بعضهم بعضا طلبا للفتنة فخرج الحسن حلا وأرهب قوما وحسم الفتنة وحصل جميع الناس بالموصل على صلح.
ثم خوف علىّ من المقام فخرج هاربا فى الليل وتبعه الحسن وترددت الرسل بينهما وبين المقلد واستقرّ أن يكون دخول كل واحد منهما البلد عن غيبة الآخر وجرت الحال على ذلك إلى بقية سنة تسع وثمانين وثلاثمائة.
وسار المقلد إلى الأنبار ممضيا [4] لما كان عزم عليه من حرب على بن
__________
[1] . ما بين المعقوفتين زيادة من مد.
[2] . والمثبت فى مد: عبئ. والأصحّ: عبّأ.
[3] . يريد: فخرجا إليه ولاطفاه.
[4] . والمثبت فى مد: ممصيا، بالصاد المهملة.(7/357)
مزيد فدخل بلده واندفع على بن مزيد إلى الرصافة ولجأ إلى مهذّب الدولة فقام بأمره وتوسط ما بينه وبين المقلد حتى أصلحه وانصرف المقلد إلى دقوقا ففتحها.
وعدل إلى تدبير أمر الحسن أخيه فإنّ عليّا مات فى أول سنة 390 وقام الحسن فى الامارة مقامه.
فجمع المقلد بنى خفاجة بحللهم وبيوتهم وأصعد بهم إلى نواحي برقعيد يظهر طلب بنى نمير ويبطن الحيلة على أخيه.
وعرف الحسن خبره فخاف ومضى فى السرّ هاربا على طريق سنجار إلى العراق فأسرى خلفه طمعا فى اللحاق ففاته. وعاد المقلد إلى الموصل وأقام بها ثلاثة [430] أيام وانحدر يقص آثاره فمضى الحسن إلى زاذان واعتصم بالعرب النفاضة وتمم المقلد إلى الأنبار وعادت خفاجة معه. فاتفق فى أمره ما سيأتي ذكره فى موضعه إن شاء الله.
وفيها عاد الشريف أبو الحسن محمد بن عمر إلى بغداد نائبا عن بهاء الدولة.
وفيها استكتب ولد أبى الحسن ابن حاجب النعمان للأمير أبى الفضل ابن القادر بالله رضى الله عنهما وجلس الأمير أبو الفضل وسنّه يومئذ خمس سنين فدخل إليه الناس وخدموه.
ودخلت سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة
وفيها هرب عبد الله بن جعفر المعروف بابن الوثاب من الاعتقال فى دار الخلافة شرح حاله وما انتهى إليه أمره بعد هربه
هذا الرجل كان يقرب بالنسب إلى الطائع لله وكان مقيما فى داره. فلمّا(7/358)
قبض عليه وخلع من الأمر هرب هذا وتنقّل فى البلاد وصار بالبطيحة وأقام عند مهذّب الدولة فكاتبه القادر بالله رضوان الله عليه فى أمره [431] فأخرجه من بلده.
ثم صار إلى المدائن منتقلا فانتهى إلى القادر بالله خبره فأنفذ من اعترضه وأخذه مقبوضا عليه وحبس فى بعض المطامير.
فأمكنه فرصة فى الهرب من موضعه فهرب ومضى إلى كيلان [1] وادّعى أنّه هو الطائع لله وذكر لهم علامات عرفها بحكم أنسه بدار الخلافة فقبلوه وعظّموه وزوّجه محمد بن العبّاس أحد أمرائهم ابنته وشدّ منه وأقام له الدعوة فى بلده وأطاعه أهل نواح أخر وأدوا إليه العشر الذي جرت عادتهم بأدائه إلى من يتولى أمرهم فى دينهم.
وورد من هؤلاء الجيل إلى بغداد قوم وصلوا إلى حضرة القادر بالله رضى الله عنه، فأوضحت لهم حقيقة الحال وكتب على أيديهم بإزالة الشبه فلم يقدح ذلك فيه لاستقرار قدمه واعتضاده بحميه.
وكان أهل جيلان يرجعون إلى القاضي أبى القاسم بن كج [2] فى أمور دينهم وفتاويهم فى أحكامهم وله وجاهة عندهم فكوتب من دار الخلافة ورسم له مكاتبتهم بما يزيل الشبهة عن قلوبهم فى أمر عبد الله بن جعفر. فكتب إليهم وصادف قوله قبولا منهم وتقدّموا إلى عبد الله بالانصراف عنهم فانصرف.
وفيها أصعد أبو على ابن إسماعيل من البطيحة إلى حضرة بهاء الدولة فانصرف الشريف أبو الحسن محمد بن عمر من بغداد مستوحشا وعاد إلى البطيحة. [432]
__________
[1] . كيلان: جيلان (كما يأتى فى سياق الحديث) .
[2] . هو أبو يوسف بن أحمد بن كج الدينوري، كان يضرب به المثل فى حفظ مذهب الشافعي، كما جاء فى تاريخ الإسلام (مد) .(7/359)
ذكر الحال فى حصول أبى على ابن إسماعيل بواسط ناظرا وما جرى عليه أمر الشريف أبى الحسن ابن عمر معه
قد تقدّم ذكر ما جرى عليه أمره فى استتاره ثم تنقّل من موضع إلى موضع حتى حصل بالبطيحة وعرض له مرض حدث به منه استرخاء فى مفاصله وصار إلى قرية ابراهيم يطلب صحة الهواء بها.
وراسل وروسل وكان بهاء الدولة جميل النية فيه وانضاف إلى ذلك قصور المواد عنه وخروج البلاد عن يده واحتياجه إلى من يدبّر أمره واستقرّ النظر لأبى على وأصعد إلى واسط. فلمّا حصل بها استوحش الشريف أبو الحسن ابن عمر وانصرف من بغداد إلى حلّة مقلّد ورتّب أبا الحسن ابن اسحق كاتبه فى ضياعه بسقى الفرات وتمم إلى البطيحة.
وشرع أبو على ابن إسماعيل فى تتبع أسباب الشريف أبى الحسن وأخرج ثلاثة من المتصرفين لقبض أملاكه ومعاملاته وتحصيل أمواله وغلّاته. فنظروا فيما كان له ببغداد دون ما كان له بسقى الفرات. فإنّ المقلد دفعهم عنها ومكّن أبا الحسن ابن اسحق كاتب ابن عمر منها فكان يتناول ارتفاعها [433] وبحمله إليه وهو بالبطيحة فلمّا انصلح ما بين الشريف أبى الحسن وبين أبى على ضمن منه المتصرفين الثلاثة بمال بذله عنهم وأطلق يده فيهم وكان ذلك لؤما منه فما المؤتمر بالظلم بأظلم من الآمر.
ذكر السبب فى صلاح ما بين الشريف أبى الحسن محمد بن عمر وأبى على ابن إسماعيل
كان أبو الحسن ابن يحيى السابسى سعى فى الصلح بينهما وانحدر إلى(7/360)
البطيحة وخلا بالشريف أبى الحسن ابن عمر وقال له:
- «أيّها الرجل مالك والتطرح والتشبث كلّما تجدد ناظر ووزير مغرّرا بنعمتك ونعمنا فى معاداة من لا تصلح لموضعه ولا يصلح لموضعنا؟ وهذا أبو على مخايل سعادته لائحة فسالمه ودعني أتوثق لكل واحد منكما من صاحبه.» ولم يزل به حتى لانت عريكته للقبول.
واتفق أنّ مهذّب الدولة تنكّر على أبى على ابن إسماعيل بسبب تمور كانت لابن الحداد صاحبه فاستقصى أبو على فى استقضاء ضريبتها بواسط فأطلق مهذّب الدولة لسانه فيه، ومهذّب الدولة يومئذ بحيث يحتاج إليه الملك ومن دونه. فانحدر أبو على إليه لاستلال سخيمته واستصلاح نيّته، وتقدّمه أبو الحسن ابن يحيى السابسى وقال للشريف أبى الحسن ابن عمر:
- «قد ورد أبو [434] على وأمكنت الفرصة فى إصلاح الحال.» وأشار عليه بتلقّيه وقضاء حقّه. فتلكأ قليلا ثم فعل ونزل فى زبزبه وصار إلى أبى على. فلمّا صعد إليه أكرمه وقام له وأجلسه إلى المخدتين وحضر أبو نصر سابور فجلس إلى جانب أبى على عن يمينه وسلم كل واحد منهما على صاحبه وسأله عن خبره ثم قام الشريف.
وانحدر أبو على إلى مهذّب الدولة واجتمع معه واعتذر إليه وأخذ معه منه خمسة آلاف دينار على وجه القرض وخرج من عنده إلى داره التي كان نزلها قبل الإصعاد.
وجاء أبو الحسن ابن يحيى إلى الشريف وألزمه العود إليه وقال له:
- «تلك النوبة كانت للتلقّى وهذه للصلح وتقرير القاعدة.» فمضى إليه وتقرّر بينهما على أن التزم الشريف عشرين ألف دينار وحلف كل واحد منهما لصاحبه على الصفاء والوفاء.(7/361)
وكان الشريف أبو الحسن قد استوثق قبل ذلك من بهاء الدولة بيمين كتبها له بهاء الدولة بخطّه واستظهر بأخذ خط مهذّب الدولة فى آخرها يقول:
- «إنّ الوفاء للشريف مقرون بالوفاء لى والغدر به معقود بالغدر بى، ومتى عدل به عن العهود المأخوذة فلا عهد لبهاء الدولة فى عنقي ولا طاعة علىّ.» والتفت أبو على إلى تقرير أمر أبى نصر سابور فواقفه على الإصعاد وآمنه من بهاء الدولة ومن كل ما يتخوفه وقرر أمر أبى غالب محمد بن على ابن خلف [435] وغيره ممن كان قد بعد خوفا على خمسة آلاف دينار فحصل معه من هذه الوجوه ثلاثون ألف دينار.
وعاد إلى واسط وفى صحبته الشريف أبو الحسن وأبو نصر سابور وجماعة من كان بالبطيحة من المتصرفين وسكنت الجماعة إلى صدق وعد أبى على وصحة عهده ولقّب بالموفّق. وأشار على بهاء الدولة بالمسير إلى خوزستان ومباشرة الخطب بنفسه وجدّ فى تجريد العساكر فخالفه أبو عبد الله العارض فى هذا الرأى وقال:
- «إنّ الملوك لا تغرّر ولا تخاطر ولا تضمن لها العاقبة فى أمثال ذلك.»
ذكر ما دبّره أبو على فى نصرة رأيه
أرسل إلى الشريف أبى الحسن وقال: إنّى صائر إليك فى هذه العشية.
وكانت فى شهر رمضان ثم صار إليه ومعه أبو العلاء الإسكافى خاله وأبو نصر سابور فأفطروا عنده ثم خلوا وخامسهم السابسى. فقال أبو على لأبى الحسن ابن عمر:
- «قد علمت أيّها الشريف ما عليه أمر هذا الملك من الاختلال وقصور المادة به وخروج البلاد عن يده وإنّنا من هذه الحروب والمطاولة على خطر، ومتى لم يمدد أصحابنا- يعنى أبا محمد ابن مكرم والغلمان الذين معه(7/362)
-[436] بالمال لم يثبتوا، وإن عادوا فقد سلموا الدولة وإذا أمددناهم ضاق الأمر بهذا الملك ولم يكن له بدّ من مدّ اليد إلى مالك ومال ابن عمك هذا- وأشار إلى أبى الحسن السابسى- ومال كل ذى ثروة، ولم يدفع عنكم ولا عنّا دافع وإن ساعدتنى على ما أشير به من مسير بهاء الدولة بنفسه كنّا بين أن يأتى الله بنصر، فقد بلغنا المراد أو يقضى الله بغير ذلك فقد أبلينا العذر وبذلنا الاجتهاد. وفى غد تستدعى إلى الدار وتشاور فيما قلته. فإن ضربته فقد استرحت منا ببعدنا عنك وعسى الله أن يأذن بالفرج وإن ملت إلى من يشير بخلاف هذا الرأى، فالحال تفضى والله إلى ما حسبته لك.» فقال الشريف:
- «كل هذا صحيح إلّا أنّ المشورة القاطعة على الملوك بمثل ذلك لا تؤمن عواقبها ولكن سأتلطف فيما تريده.» فانقضى [1] المجلس.
واستدعى الشريف فى صبيحة تلك الليلة إلى حضرة بهاء الدولة وجمع وجوه الأولياء وشوورت الجماعة فى خروج بهاء الدولة بنفسه فقال الشريف:
- «إنّما جعل الله الملوك أعلى منّا يدا وأفضل تأييدا بما خصّهم [2] من الرأى الصائب والنظر الثاقب وإذا كان الملك قد عزم على التوجه بنفسه، فالله تعالى يقرن ذلك بالخير [3] والسعادة ويجعله سببا لنيل الإرادة.» فقال أبو على ابن إسماعيل:
- «أيّها الملك فقد وافق الشريف رأيى ولم يبق إلّا إمضاء العزيمة
__________
[1] . لعله: فانفضّ.
[2] . وما فى مد: خصهو.
[3] . وما فى مد: الخيرة.(7/363)
وتقديمها.» وتفرّق الناس [437] على ذلك.
ذكر مسير بهاء الدولة من واسط إلى القنطرة البيضاء
لمّا استقرّ الأمر على المسير بدأ أبو على بإخراج أبى الحسن محمد بن عمر وأبى نصر سابور وأبى نعيم الحسن بن الحسين إلى بغداد على أن يكون إلى أبى الحسين حفظ البلد وإلى أبى نصر ملاحظة الأمور وإلى أبى نعيم جمع المال وإقامة وجوه الأقساط.
ثم جدّ فى تسيير بهاء الدولة وتحصيل ما يزجى به الأمر من الآلات والظهور حتى استعان ببغال الطحانين وسار على اختلال فى أهبته وإقلال من عدّته، حتى نزل الموضع المعروف بالقنطرة البيضاء. وثبت أبو على ابن أستاذ هرمز بإزائه وجرت بين الفريقين وقائع كثيرة وضاق ببهاء الدولة وبعسكره الميرة فاستمد من بدر بن حسنويه فامدّه بدر بما قام ببعض الأود وأشرف الأمر على الخطر.
ووجد أعداء أبى على بن إسماعيل مجالا فى الطعن على رأيه بتعريض الملك وأوغر صدر بهاء الدولة عليه حتى كاد يبطش به. فتجدد من خروج ابني بختيار وقتل صمصام الدولة ما يأتى ذكره وجاء من الفرج ما لم يكن فى الحساب وانقلب الرأى الذي كان خطأ إلى الصواب [438]
ربّما تجزع النّفوس من الأم ... ر له فرجة كحلّ العقال
فاجتمعت الكلمة على بهاء الدولة ودخل أبو على ابن أستاذ هرمز ومن(7/364)
معه من الديلم فى طاعته، وسيأتي شرح ذلك من بعد بمشيئة الله تعالى.
وفيها جلس القادر باللَّه رضوان الله عليه للرسولين الواردين من أبى طالب رستم بن فخر الدولة وأبى النجم بدر بن حسنويه وكنّى أبا النجم بدرا، ولقّبه نصرة الدولة، وعهد لأبى طالب على الرىّ وأعمالها وعقد له لواء، وحمل إليه الخلع السلطانية الكاملة، وعهد لبدر على أعماله بالجبل وعقد له لواء، وحمل إليه الخلع الجميلة. وذلك بسؤال بهاء الدولة وكتّابه.
فأمّا مجد الدولة فإنّه لبس الخلع وتلقّب، وأمّا بدر فإنّه كان سأل أن يلقّب بناصر الدولة. فلمّا عدل به عنه إلى نصرة الدولة توقف عن اللقب. ثم أجيب فيما بعد سؤاله فلقب بناصر الدين والدولة، فقبله وكتب وكوتب به.
وفيها حدثت بفارس أمور كانت سببا لانتقاض ملك صمصام الدولة وقتله فى آخرها.
شرح الحال فى الأمور التي أدّت إلى قتل صمصام الدولة
قد تقدّم ذكر ما كان العلاء بن الحسن اعتمده بعد تلك النكبة التي صار بها [439] موترا من السعى فى هلاك الدولة بإطماع الجند وإيجاب الزيادات التي تضيق المادة عن القيام بها. ثم مضى لسبيله وقد اضطربت أمور صمصام الدولة وطال تبسط الديلم عليه وقصرت موادّه عمّا يرضيهم به.
فامتدت عيونهم إلى إقطاع السيدة والرضيع والحواشي. فبدأ الديلم الذين كانوا بفسا وطالبوا عاملها بما استحقّوه وألزموه مدّ اليد إلى الإقطاعات للمذكورين وإرضائهم بها. فأبى عليهم فثاروا وشغبوا وحملوه إلى باب شيراز على غضب وشغب. فلم يقدم أحد من أصحاب صمصام الدولة على الخروج إليهم وأقاموا ثلاثة أيام ثم قتلوا العامل وذكروا الحواشي بما أزعجهم، فبعدوا(7/365)
عن مواضعهم خوفا منهم.
وخرج صمصام الدولة بنفسه إليهم فلقوه بالغلظة ولقيهم بالرفق واشتدوا عليه ولان لهم وأجابهم إلى ملتمساتهم وسكنوا وعادوا إلى مواضعهم بفسا [1] فاستولوا على إقطاعات الحواشي جميعها.
ومضت على ذلك مدّة وزاد الأمر على صمصام الدولة فى انقطاع المواد عنه واجتماع الديلم عنده ومطالبتهم له، فضاق بهم ذرعا.
ذكر رأى خطأ لم تحمد عواقبه [440]
أشار على صمصام الدولة نصحاؤه بعرض الديلم فى جميع الأعمال وإمضاء كل من كان صحيح النسب أصيلا وإسقاط كل من كان متشبها بالقوم دخيلا والاتساع بما ينحلّ من الإقطاعات عنهم بهذا السبب فعمل هذا القول فيه وعزم على العمل به وتقدّم إلى مدبرى أمره بذلك فقيل له: إنّ ديلم فسا يتميزون بكثرة العدد وشدة البطش ولا يقدر على عرضهم إلّا أبو جعفر أستاذ هرمز بن الحسن فإنّ له معرفة بالأنساب والأصول وهيبة فى العيون والقلوب.
فاستقرّ الأمر على استدعائه من كرمان وإخراج أبى الفتح أحمد بن محمد بن المؤمل ليقوم مقامه بها ففعل ذلك وعاد أبو جعفر فأخرج إلى فسا. فلمّا حل بها وأظهر ما رسم له وبدأ بالعرض ومسير [2] الصفاء من الأوباش. فما استتم العرض حتى سقط بها ستمائة وخمسين رجلا وفعل أبو الفتح ابن المؤمل مثل ذلك فأسقط نحو أربعمائة رجل.
وحصل هؤلاء المسقوطون [3] وهم أرباب أحوال وأولو قوة وبأس
__________
[1] . وفى الأصل: نفسا.
[2] . لعله: وميز.
[3] . كذا فى مد: المسقوطون، بدل «المسقطين» .(7/366)
متشردين متلددين يطلبون موضعا يقصدونه ومنشرا [1] يصعدونه.
واتفق أنّ ابني بختيار وهما أبو القاسم اسبام وأبو نصر شهفيروز قد خدعا الموكلين بهما فى القلعة، فساعدوهما وأفرجوا عنهما فجمعا إلى نفوسهما من لفيف الأكراد [441] من قوى به جانبهما واتصل خبرهما بمن [2] أسقط من الديلم فصاروا إليهما فوجا بعد فوج.
فلمّا استحكم أمرهما سارا لأخذ البلاد وصار أبو القاسم اسبام إلى أرّجان فملكها ودفع أصحاب صمصام الدولة عنها وتردد أبو نصر شهفيروز فى الأعمال مستمدا للأموال ومستميلا للرجال.
وتحيّر صمصام الدولة فى أمره ولم يكن بحضرته من ينهض بالتدبير ليقضى الله أمرا سبق فى التقدير.
وكان أبو جعفر أستاذ هرمز مقيما بفسا على ما تقدّم ذكره. فلمّا تجدد من ابني بختيار ما تجدد اجتمع إليه نسوة من نساء أكابر الديلم المقيمين بخوزستان عند أبى على ولده وكنّ يجرين مجرى الرجال فى قوة الحزم وأصالة الرأى والمشاركة فى التدبير.
ذكر رأى سديد أشرن به على أبى جعفر فلم يقبله
قلن له:
- «أنت وولدك [3] اليوم صاحبا هذه الدولة ومقدماها، وقد لاحت لنا أمور نحن مشفقات منها ومعك مال وسلاح، وإنّما يراد مثل ذلك للمدافعة عن النفس
__________
[1] . لعله: ونشزا.
[2] . وفى الأصل: ثم.
[3] . وفى الأصل: ووالدك. والمراد به هو ابنه أبو على الحسن عميد الجيوش.(7/367)
والجاه. فالصواب أن تفرّق ما معك على هؤلاء الديلم [442] الذين هم عندك وتأخذهم وتمضى إلى شيراز وتسيّر صمصام الدولة إلى الأهواز وتخلصه من الخطر الذي قد أشرف عليه. فإنّك إذا فعلت ذلك أحييت الدولة وقضيت حق النعمة وتقربت الرجال إلى قلوب رجالنا المقيمين هناك. ومتى لم تقبل هذه المشورة وثب هؤلاء الديلم عليك ونهبوك وحملوك إلى ابني بختيار، فلا المال يبقى ولا النفس تسلم.» فشحّ أستاذ هرمز بما معه وغلب عليه حب المال فغطى على بصيرته حتى صار ما أخبر به حقا: فنهب داره واصطبله ونجا بنفسه واستتر فى البلد، فدلّ عليه وأخذ [1] وحمل إلى ابن بختيار ثم احتال لنفسه فخلص من يده.
ذكر ما جرى عليه أمر صمصام الدولة بعد خروج ابني بختيار إلى أن قتل
لمّا أظلّه من أبى نصر ابن بختيار ما لا قوام له به، أشار عليه خواصه ونصحاؤه بصعود القلعة التي على باب شيراز وقالوا له:
- «إنّك إذا حصلت فيها تحصّنت بها، وكان لك من الميرة والمادة ما يكفيك الشهر والشهرين ولم تخل من أن ينحاز إليك من الديلم من يقوى به أمرك.» فعزم على ذلك وحاول الصعود [443] إليها فلم يفتح له المقيم فيها، فازداد تحيرا فى أمره. فقال له الجند وكانوا ثلاثمائة رجل:
- «نحن عدّة وفينا قوة ومنعة وينبغي أن تقعد أنت ووالدتك فى عمارية
__________
[1] . وفى الأصل: واحد.(7/368)
لنسير بك إلى الأهواز ونلحقك بأبى على ابن أستاذ هرمز وعسكرك المقيمين معه ومن اعترضنا فى طريقنا دافعنا برؤسنا عنك وبذلنا مهجتنا دونك.» فقال الرضيع:
- «هذا أمر فيه غرر. والوجه أن نستدعى الأكراد ونتوثق منهم ونسير معهم.» فمال إلى هذا الرأى وراسل الأكراد واستدعاهم وتوثق منهم وخرج معهم بخزينته وجميع ذخائره فلمّا بعدوا عن البلد عطفوا عليه ونهبوا جميع ما صحبه وكادوا يأخذونه فهرب وصار إلى الدودمان على مرحلتين من شيراز.
وعرف أبو نصر ابن بختيار خبر انفصاله فبادر إلى شيراز ونزل بدولت آباذ وطمع طاهر الدودمانى رئيس القرية فى صمصام الدولة واستظهر عليه إلى أن وافى أصحاب ابن بختيار فأخذوه وقتلوه وذلك فى ذى الحجة سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، وكانت مدة عمره خمسا وثلاثين سنة وسبعة أشهر.
وما أقلّها من مدة وأسوأها من عاقبة أمر! فلقد كانت حلاوة دولته يسيرة ومرارة مصائبه فى ملكه ونفسه كثيرة، فما وفى شهده بصابه [444] ولا عوافيه بأوصابه، ولم يكن له فى أيامه يوم زاهر ولا من ملكه نصيب وافر:
وإنّ امرأ دنياه أكبر همّه ... لمستمسك منها بحبل غرور
وقبض على والدته وعلى الرضيع وقوم من الحواشي. وجاءت امرأة من الدودمان تسمى فاطمة فغسلت جثته وكفنتها ودفنتها وأحضر رأسه فى طست بين يدي أبى نصر ابن بختيار. فلمّا رآه قال مشيرا إليه:
- «هذه سنّة [سنّها] [1] أبوك.»
__________
[1] . زيادة من مد، يقتضيها السياق.(7/369)
وأمر برفعها.
وأما والدته، فإنّها سلمت إلى لشكرستان كور فطالبها وعذّبها فلم تعطه درهما واحدا، فقتلها وبنى عليها دكة. وأما الرضيع، فإنّه قتل بعد ذلك وبعد أن صودر واستصفى ماله.
ودخلت سنة تسع وثمانين وثلاثمائة
دخول ابن أستاذ هرمز والديلم فى طاعة بهاء الدولة
وفيها دخل أبو على ابن أستاذ هرمز والديلم فى طاعة بهاء الدولة واجتمعت الكلمة عليه وملك شيراز وكرمان فاستتبت أموره واستقامت أحواله واستقرت دولته واهتزت سعادته.
شرح ما جرى عليه الحال فى ذلك [445]
قد تقدّم ذكر نزول بهاء الدولة بالقنطرة البيضاء. وتكرر الوقائع بين الفريقين وأقام بهاء الدولة شهرين وأكثر يطلب مناجرة الديلم وهم يقصدون مدافعته ومحاجزته وطال الأمر بينهم.
وكان أبو على ابن إسماعيل الملقّب بالموفق، يباشر الحرب ويتولى التدبير وكان معه مناح صاحب محمد بن عباد مع مائة فارس من السادنجان.
فرتّبهم فى الطلائع وأمرهم أن يقتصوا أمر كل من يخرج من السوس أو يدخلها فيأخذوه.
وضاق الأمر بالديلم من هذا الحصار وببهاء الدولة من تعذّر الميرة وتطاول الأيّام، وأشرف على العود حتى إنّه لو تأخّر ما تقدّم من أمر ابني بختيار وقتل صمصام الدولة لانهزم بهاء الدولة.(7/370)
ذكر حيلة رتّبها أبو على ابن أستاذ هرمز برأيه فكشفها أبو على ابن إسماعيل بألمعيته ودهائه
وكان بهاء الدولة وكلّ رجاله الفرس لأخذ من يوجد فى الجواد فظفروا برجل معه زنبيل دستنبوا [1] فحملوه إلى المعسكر وسئل عن أمره فقال:
- «أنا عابر سبيل أتعيش بحمل هذا المشموم من موضع إلى موضع.» [446] فهدد وخوّف حتى أقرّ بأنّه رسول الفرخان إلى الصاحب أبى على ابن أستاذ هرمز بملطف معه:
- «إنّا سائرون من طريق عند قرب وصولنا فتصمد للقاء القوم.» [2] فلمّا وقف بهاء الدولة على ذلك قلق قلقا شديدا وقال:
- «كل من يطعن على رأى [أبى] على ابن إسماعيل ويعاديه.... [3] وإن قصدنا من هذا الجانب فقد حصلنا فى أيدى القوم أسارى وأعوزنا الهرب وضاق بنا المذهب.» فتابع بهاء الدولة الرسل إلى أبى على ابن إسماعيل وكان فى الحرب يستدعيه فحين حضر أعلمه الحال وأعطاه الملطف فلما قرأه قال:
- «هذا محال.» وخرج من بين يديه وأحضر الرجل المأخوذ وقال له:
- «اصدقنى.» وعاصه بالجميل فلم يزده على القول الأوّل. فأمر بشده وعمد إليه بدبّوس
__________
[1] . كذا فى مد: دستنبوا (بالألف) . أصله الفارسي: دستنبو (بدون الواو) .
[2] . العبارة مضطربة.
[3] . بياض فى مد.(7/371)
فضربه بيده ضربا مفرطا فلمّا برّح به الضرب قال:
- «خلونى أصدقكم: أنا رجل من أهل السوس استدعاني أبو على ابن أستاذ هرمز وسلم إلىّ هذا الملطف وقال لى: امض وتعرّض للوقوع فى أيدى أصحاب بهاء الدولة. فإذا وقعت وسئلت عن أمرك فقل: إنّى رسول الفرخان إلى الصاحب ومعى هذا الملطف. وأصرر على قولك وأصبر للمكروه إن أصابك، فإنّى أحسن إليك.» فعاد أبو على ابن إسماعيل إلى حضرة بهاء الدولة وأخبره بالصورة وأنّها منصوبة. [447] فسكن قليلا وقال للحواشي:
- «إنّ القول الأوّل هو الصحيح وإنّ الضرب والمكروه أحوجا الرجل إلى هذا القول الثاني.»
ذكر حزم اعتمده أبو علىّ ابن إسماعيل فى تلك الحال
رأى أنّ الأخذ بالحزم أصوب على كل حال، وأنفذ ابن مكرم وألفتكين الخادمى مع عدد من الأتراك إلى دستر وأمرهما بالنزول على الوادي للمنع حتى إن حضر من يحاول العبور دفعاه فسارا إلى حيث أمرهما وخيّما به وأقاما أيّاما ووافى خرشيد بن باكليجار [1] [و] الكوريكى فى عدة كثيرة من الديلم والرجّالة فتقدّم ابن مكرم وألفتكين إلى أصحابهما بقلع الخيم والتحمل.
لأنّ عدّتهم كانت قليلة وساروا حتى غابوا عن مطرح النظر. ثم كمن ألفتكين الخادمى والغلمان فى بعض المكامن إلى أن عبر الديلم والرجالة وحصلوا معهم على أرض واحدة فحمل ألفتكين وصاح الغلمان وارتفع الغبار وظنّ
__________
[1] . فى الأصل: باكحار.(7/372)
القوم [أنّهم] [1] فى عدد كثير فتواقعوا فى الوادي منهزمين وقتل خرشيد والكوريكى وجماعة من أصحابهما.
وكان ذلك فى اليوم الذي انصلح ما بين الديلم والسوس وبين بهاء الدولة ووقع التحالف ووصل من غد وقد اختلط الفريقان.
وأمّا [448] ما جرى عليه الأمر فى دخول الديلم فى طاعة بهاء الدولة، فإنّ أبا علىّ ابن إسماعيل كان قد اعتمد ما يعتمده من الرأى الأصيل وشرع فى استمالة قوم من العسكر إلى طاعة بهاء الدولة.
وترددت بينه وبين شهرستان مراسلات بوساطة بهستون بن ذرير وقرّر الأمر فى اجتذابه وإمالته. ثم اتفق أنّ المعروف بمناح الكردي المرتّب فى الطائع ظفر بركابىّ ورد من شيراز فأخذه وأحضره عند أبى على ابن إسماعيل، فسأله عن حاله فأخبره بالخطب الحادث بشيراز وأخرج كتابا كان معه من بنى زيار إلى شهرستان يشرح ما جرت عليه الحال فى قتل صمصام الدولة. فلمّا وقف أبو علىّ ابن إسماعيل على الكتاب طالع بهاء الدولة مضمونه ثم أعاده على الركابى ليتمم إلى حيث بعث ثم قال أبو على لبهستون:
- «إنّه لم يبق لشهرستان بعد اليوم عذر فإن كان على العهد فليقدم الدخول فى الطاعة.» فمضى بهستون إلى شهرستان وقرّر معه أن يتحيّز فى غد ذلك اليوم مع ثلاثمائة رجل من الجيل إلى بهاء الدولة وتفارقا على هذا الوعد.
فأحسّ فناخسره بن أبى جعفر بما عزم عليه شهرستان فقصده وخلا به.
__________
[1] . زيادة من مد.(7/373)
ذكر كلام سديد لفناخسره بن أبى جعفر [449]
قال لشهرستان:
- «قد بلغني ما أنت عازم عليه وحالي عند بهاء الدولة الحال التي لا تخفى ونيّته فى النّية التي تخالف وتحتمي، ومتى عجلت فى الانحياز إليه هلكت وهلك الديلم بأسرهم ويلزمك على كل حال صلاح أمرهم فأنظرنى ثلاثة أيّام لأسبر جرح هذه القصة بمراسلة بهاء الدولة، فإن رجوت لها برأ واندمالا اتفقت معك فى إمضاء العزيمة واجتماع الكلمة وإن تكن الأخرى أخذت لنفسي وتوجهت أنا وأهلى إلى بلدي ثم أفعل ما بدا لك.» فأجابه شهرستان إلى ذلك.
وبكر أبو على ابن إسماعيل على رسمه إلى الحرب متوقعا من شهرستان إنجاز الوعد. فراسله بالعذر المتجدد فضاق أبو على بذلك ذرعا واعتقد أنّه كان سخرية ودفعا. فقال له بهستون:
- «إنّ مصداق هذا القول يبين عند غسق الليل فإن جاء رسول فناخسره فقد صدق شهرستان ووفا، وإن تأخّر فقد كذّب وغدر والموعد قريب.» فلمّا جنّ الليل ورد رسول فناخسره برسالة يعتذر فيها من سابق الأفعال ويطلب الأمان على استئناف الخدمة فى مستقبل الحال فأجيب بما يسكن إليه ووثق به.
ووصل فى أثناء ذلك كتاب ابن بختيار إلى أبى على ابن أستاذ هرمز يذكران فيه سكونهما إليه وتعويلهما عليه ويبسطان أمله كما يفعله مبتدئ بملك يروم إحكام قواعده وأركانه [450] واستمالة اعضاده ويأمره أنّه يأخذ البيعة لهم على الديلم قبله والمقام على الحرب التي هو بصددها.
فأشفق أبو على بما سلف له من الدخول إليهما ولم يثق بوفائهما بعد قتل(7/374)
أخويهما وحقيق بمن قتل للملوك شقيقا أن يكون على نفسه شفيقا.
وبقي متلددا فى أمره مترددا فى فكره مجيلا للرأى فى صدره فرأى أنّ الدخول فى طاعة بهاء الدولة أصوب والتحيّز إليه أدنى من السلامة وأقرب.
ذكر ما دبّره أبو على ابن أستاذ هرمز فى صلاح حاله مع بهاء الدولة
جمع وجوه الديلم وشاورهم فيما ورد عليه من كتاب ابني بختيار فأجمعوا رأيهم على الاعتزاء إلى طاعتهما والثبات فى حرب بهاء الدولة على ما هم عليه فلم يوافقهم على رأيهم وقال:
- «إنّ وراثة هذا الملك قد انتهت إلى بهاء الدولة ولم يبق من يجوز له منازعة بهاء الدولة فيه وإن نحن عدلنا عنه إلى من داره منّا نائية ونيّته عنّا جافية أضعنا الحزم، والصواب الدخول فى طاعة بهاء الدولة بعد التوثق منه.» فامتنعوا وقالوا:
- «كيف نسلم نفوسنا للأتراك وبيننا وبينهم ما تعلم من الطوائل؟» فقال لهم:
- «إذا كان هذا رأيكم فإنّى أسلّم [451] ما معى من المال والعدّة إليكم وأنصرف بنفسي عنكم وأنتم لشأنكم أبصر.» وتقوض المجلس، ثم وضع أكابرهم على ما يقولونه ويفعلونه.
وكان قد أنفذ إلى أبى على ابن إسماعيل من يلتمس منه شرابا عتيقا للعلّة التي به. فقال أبو على ابن إسماعيل لبهاء الدولة:
- «إنّه ما طلب منّا شرابا ولكنّه أراد أن يفتح لنا فى مراسلته بابا.» فأنفذ بهاء الدولة رسولا يقول:(7/375)
- «إنّه قد كنت أنت والديلم معذورين قبل اليوم فى محاربتى حين كانت المنازعة فى الملك بيني وبين أخى. فأمّا الآن فقد حصل ثأرى وثأركم فى أخى عند من سفك دمه واستحلّ محرمه. فلا عذر لكم فى القعود عنى فى المطالبة بالثأر واستخلاص الملك وغسل العار.» فكان من جواب أبى على ابن أستاذ هرمز [بعد] [1] السمع والطاعة لقوله أنّ الديلم مستوحشون والاجتهاد فى رياضتهم واقع وسأل فى إنفاذ أبى أحمد الطبيب لمعرفة قديمة كانت بينهما فأنفذ إليه.
ذكر كلام سديد لأبى على ابن أستاذ هرمز
لمّا حضر الطبيب عنده قال له:
- «قد علمت اصطناع صمصام الدولة إيّاى [452] وإحسانه إلىّ وما وسعنى إلّا الوفاء فى خدمته وبذل النفس فى مقابلة نعمته. وقد مضى لسبيله وصارت طاعة هذا الملك واجبة علىّ ونصيحته لازمة لى وهؤلاء الديلم قد استمرت بهم الوحشة والنفور واستحكمت بينهم وبين الأتراك الترات والذحول، وبلغهم أنّ الاقطاعات عنهم مأخوذة وإلى الأتراك مسلّمة، ومتى لم يظهر ما يزول به استشعارهم وتسكن إليه قلوبهم وبادرهم لم يصحب جنبهم.» فمضى الطبيب إلى بهاء الدولة بالرسالة وعاد بالجواب الجميل الذي تسكن إلى مثله وتردد من الخطاب ما انتهى آخره إلى حضور جماعة من وجوه الديلم إلى بهاء الدولة لاستماع لفظ بيمين بالغة فى التجاوز عن كل إساءة سالفة وأخذ أمان وعهد بزوال كلّ غلّ وحقد. فلمّا طابت نفوس هؤلاء
__________
[1] . زيادة من مد.(7/376)
بالتوثق كاتبوا أصحابهم المقيمين بالسوس بشرح الحال.
وركب بهاء الدولة فى ثانى اليوم إلى باب السوس يتوقع دخول الكافّة فى السلم. فخرج الديلم فقاتلوا قتالا شديدا لم يعهد مثله معهم فيما تقدّم فضاق صدره وظنّ أنّ ذلك عن فساد عرض أو لأمر انتقض. فقال له الديلم:
- «طب نفسا فالآن ظهر تسليمهم الأمر إليك فمن عادتهم أن يقاتلوا عند التسليم أشدّ قتال، لئلّا يقدّر أنّهم سلموا عن عجز أو ضعف.» وكان الأمر على ذلك [453] لأنّهم استوثقوا فى اليوم الثالث بنسخة يمين نفذوها إلى بهاء الدولة، فحلف بها هو ووجوه الأتراك.
والتمس الديلم لأبى على ابن إسماعيل أن يحلف لهم فامتنع وقال:
- «هذه يمين يدخل فيه الملوك وجندهم، فأمّا الحواشي فهم بمعزل عنها.» فلم يقنعوا بذلك فألزمه بهاء الدولة الحلف فحلف.
وجلس بهاء الدولة للعزاء بأخيه ثم ركب بالسواد، فتلقّاه الناس وخدموه وصار إليه أبو على ابن أستاذ هرمز واختلط العسكران.
قتل الديلم نقيب نقبائهم
ومن قبل ذلك بيوم أو يومين قتل الديلم أبا الفتح ابن الفرج نقيب نقبائهم.
ذكر السبب فى ذلك وما كان من مكيدة أبى على ابن أستاذ هرمز فى أمره
كان هذا الرجل مقدما فى العسكر فاستدعى أبو على ابن إسماعيل أخاه سهلان من بغداد وجعله وسيطا معه ليستميله. فلمّا استقرّ معه الدخول فى طاعة بهاء الدولة قال لهم أبو على ابن أستاذ هرمز:(7/377)
- «هذا أبو الفتح رجل شرير وهو خبير بأموركم وأسبابكم وأصولكم وأنسابكم. فان اجتمع مع أبى على أظهر له من أسراركم ما لم يطلع عليه ودلّه من أموركم على ما لا يهتدى [454] إليه.» فقالوا: «سندبّر أمره.» ثم أجمعوا رأيهم على قتله فقتلوه.
ولمّا اختلط العسكران سار بهاء الدولة إلى السوس ومعه أبو على ابن إسماعيل وحوله الديلم والأتراك.
ذكر رأى طريف رآه أبو على ابن إسماعيل لا يعلم موجبه
لمّا قرب بهاء الدولة من مضربه عدل أبو على إلى خيمته المختصة به ولم يتمم معه حتى ينزل على ما جرى به رسمه.
ونزل بهاء الدولة وطلب الديلم أبا على فلم يجدوه وقالوا:
- «من يكلّمنا.» وانتهى الخبر إلى بهاء الدولة فأرسل إلى أبى على يستدعيه فاحتجّ بعارض عرض له ولم يحضر فخرج بهاء الدولة بنفسه إليهم وكلّمهم حتى انصرفوا.
وأظهر أبو على ابن إسماعيل الاستعفاء وأقام على أمر واحد فيه حتى وقعت الإجابة إليه وكتب له منشور بمعيشة التمسها، فأذن له فى العود إلى بغداد والمقام فى داره.
وشاع هذا الخبر بين العسكر فركب وجوه الأتراك إلى مضرب بهاء الدولة فأخرج إليهم الحجّاب ليسألوهم عن حاجتهم، فطلبوا لقاء الملك فأخرج إليهم أبا عبد الله العارض ليستعلم منهم مرادهم. فما زادوه على القول الأوّل(7/378)
فأوصلهم. [455]
ذكر ما جرى بين الأتراك وبين بهاء الدولة من الخطاب
لمّا دخلوا إلى حضرته وقفوا وقالوا:
- «يا أيّها الملك قد خدمناك حتى بلغت مناك ولم تبق لك علينا حجّة ولا بك إلى مقامنا حاجة، وما فينا إلّا من نفذت نفقته ونقصت عدّته، ونسأل الأذن لنا فى العود إلى منازلنا لنصلح حالنا ومتى احتيج إلينا من بعد رجعنا.» فأنكر هذا القول منهم وسألهم عن سببه فراجعوه وراجعهم حتى قالوا:
- «هذا وزيرك الموفّق الذي عادت الدولة إليك على يده واستقامت أحوالنا بيمن نقيبته قد صرفته وما لنا من يشهد بمقاماتنا المحمودة عندك سواه، ولا نجد فى الوساطة بيننا وبينك من يجرى مجراه، وليس من السياسة صرف مثله ولا قبول قول من يشير عليك ببعده.» قال بهاء الدولة:
- «ومن يريد ذلك؟» قالوا: «الذي كتب له المنشور عنك وهوّن خطبه عندك.» - اشارة الى أبى عبد الله العارض.
قال: «معاذ الله أن أقبل فيه قولا ولكنّه لجّ فوافقته وسأل فأجبته، والرأى ما رأيتموه من التمسك فكونوا الوسطاء معه فى تطبيب قلبه.» فانصرفوا عن حضرة [456] بهاء الدولة إلى مخيّم أبى على ابن إسماعيل وقد عرف خبرهم فحجّهم فراجعوه حتى أوصلهم. فلمّا دخلوا عليه عاتبهم على ما كان من خطابهم فى معناه وقال:(7/379)
- «ليس من حقّى عليكم أن تعترضوا علىّ بما لا أهواه.» فقالوا: «دع عنك هذا القول، فإنّ حراسة دولة صاحبنا التي بها ثباتنا وفيها حياتنا أولى من قضاء حقك فى موافقتك على غرضك.» وما زالوا به حتى ركب إلى مضرب بهاء الدولة فلقى منه ما أحبّه وعاد إلى عادته فى تدبير الأمور وتنفيذها.
وأذن لجماعة من الأتراك فى العود إلى مدينة السلام وتوجّه [مع] [1] بهاء الدولة إلى الأهواز.
ذكر ما دبّره أبو على ابن إسماعيل بالأهواز
أول ما بدا بالنظر فيه أمر الاقطاعات وتقريرها بين الديلم والأتراك وعول فى ذلك على أبى على الرخجي الملقّب من بعد بمؤيد الدولة، واستقرّت المناصفة. ثم امتنع ديلم دستر عن الدخول فى هذا الحكم وكادت القاعدة تنتقض والاستقامة تضطرب والشرّ بين الفريقين يعود جذعا.
فقام الرخجي فى التوسط بينهم مقاما محمودا على أن تكون أبواب المال فى قصبات البلاد مقرّة على من هي بيده وتكون المناصفة فيما عداها من الضياع [457] والسواد. فتراضوا بذلك.
وأفردت له خيمة كان يحضر فيها ومعه فناخسره بن أبى جعفر وألفتكين الخادمى ومن يتبعهما من وجوه الطائفتين، فتولى تقرير المناصفات وإخراج الاعتدادات وإشراك [2] طائفة مع أخرى وكتب الاتفاقات فلم تمض [3] أيّام قلائل حتى انتجز الأمر على المراد.
__________
[1] . زيادة من مد.
[2] . والمثبت فى مد: اشتراك.
[3] . والمثبت فى مد: فلم تمضى.(7/380)
وكان الفرخان قد فارق الأهواز ومضى إلى إيذج مستوحشا وأنفذ أبو محمد ابن مكرم إليه بما وثق به من الأمان فأمنه وعاد به. فلمّا ورد الفرّخان خلع عليه أبو على ابن إسماعيل واستخلفه مدة بين يديه ثم سيّره أمامه إلى بلاد سابور والسواحل.
وأخرج شهرستان بن اللشكرى فى عدة كثيرة من العسكر مقدمة إلى أرّجان فصار إليها ودفع ابن بختيار عنها، فلحق بأخيه المقيم بشيراز.
ذكر رأى أشار به أبو علىّ ابن إسماعيل على بهاء الدولة
أشار عليه بأن يستدعى الأمير أبا منصور ولده ويرتّبه بالأهواز ويضمّ إليه أبا جعفر الحجاج وأن يسير بنفسه إلى فارس وإذا فتحها استدعى الأمير أبا منصور وأقامه فيها وانكفأ إلى الأهواز فجعلها للأمير أبى شجاع [458] وقصد البصرة، فإذا ارتجعها جعلها للأمير أبى طاهر وعاد إلى بغداد فاستوطنها ودبّر أمر الموصل منها.
فلم يعجب بهاء الدولة هذا الرأى وكان أبو على قبل أن يفاوض بهاء الدولة فى ذلك فاوض أبا الخطّاب حمزة بن ابراهيم فيه- وأبو الخطّاب يومئذ ينوب عنه بحضرة بهاء الدولة- فقال له أبو الخطّاب:
- «أنا أعرف بأخلاق الملك وأغراضه. والصواب لك أن تدعه بالأهواز وتسير أنت والعسكر إلى فارس، فإذا فتحتها أقمت بها ورتّبت للنظر فى الأمور بحضرة بهاء الدولة من تأمنه وترتضيه. فإنّك إذا بعدت عنه حصلت من تلك البلاد فى مملكة واسعة وتصرّفت على اختيارك من غير معارضة مانعة. فإنّه متى سار معك كنت بين أن تستبدّ برأيك أو تخالفه فتوغر صدره عليك ولا تأمن ما يكون من بوادره إليك، وبين أن تصبر على معارضته لك(7/381)
فتجرع الغيظ منه بالاحتمال، أو تظهر من الاستعفاء ما يؤدى إلى فساد الحال.» فلم يقبل أبو على منه واستبد برأيه وعمل أبو الخطّاب بالأحوط لنفسه وانحرف عن أبى على ومال إلى مطابقة بهاء الدولة فيما ينفق عليه.
قد استمررنا على النهج فى ذكر ما وجدناه فى التاريخ ونحن نرى أنّ أبا على أصاب فى رأيه ولا نرى حزما فيما أشار به أبو الخطّاب عليه من البعد عن حضرة ملك سريع [459] التقلّب فى الأحوال، كثير القبول للأقوال إذا بنى معه أمر نقض، وإذا عقد معه عهد نكث. فإذا كان الباني مع حضوره يخاف انتقاض بنائه فكيف يثق ببنائه إذا غاب عن فنائه؟ وهل مجال الأعداء فى الطعن على الوزراء وهم مقيمون فى منصب عزّهم كمجالهم إذا خلت الحضرة منهم ببعدهم؟ كلّا إنّ لسان الغيبة يطول عند الغيبة مع البعد عن بساط المراقبة والهيبة، وكلّ مجر فى الخلاء يسر [1] .
فما أخطأ أبو على فيما رآه، وما عليه ان خانه مقدور، فالقدر حتم والمرء معذور:
غلام وغى تقحّمها فأبلى ... فخان بلاءه الزّمن الخؤون
وكان على الفتى الإقدام فيها ... وليس عليه ما جنت الظّنون
وأطرف من ذلك مشورة أبى الخطّاب عليه باستخلاف من يأمنه بالحضرة ليحفظ عنه وأين الأمين الذي يرعى العهد إذا لابس الحلّ والعقد؟ أليس أبو الخطّاب وكان نائبه وصنيعته جحد إحسانه وطلب مصلحة نفسه فتبرّأ منه وخانه؟
__________
[1] . تفسير المثل عند الميداني (طبع بيروت 1312) 6: 106.(7/382)
وكذلك كل ذى ثقة إذا استحلى الدنيا [صار] [1] ظنينا وكل ذى مقة إذا حسد [2] صار عدوا مبينا. وربّ أخ قد شاقّ فى الحسد أخاه، بل ربّما ولد عقّ فى طلب الرتبة أباه، ومثل ذلك موجود [460] نشهده ونراه. وإنّما كان خطأ أبى على فى إفراط إعجابه وكثرة إدلاله وشكاسة أخلاقه ومنافسته لولى نعمته. فالملوك لا يشاكسون وأولياء النعمة لا [3] ينافسون.
ومع ذلك فلكل أجل كتاب، والصواب مع الشقاوة خطأ، والخطأ مع السعادة صواب:
والنّاس من يلق خيرا قائلون له ... ما يشتهى ولأمّ المخطىء الهبل
ونعود إلى سياقة الحديث.
ولمّا استقرّ ما بين الديلم من المناصفات عوّل على أبى جعفر الحجّاج فى المقام بالأهواز، وسار بهاء الدولة وأبو على إلى الموفّق إلى رامهرمز، وتقدّم أبو على مع العسكر وصار إليه أبو جعفر أستاذ هرمز فى بعض الطريق هاربا من ابن بختيار.
ذكر خلاص أبى جعفر أستاذ هرمز
قد تقدّم ذكر حصوله فى قبضة ابن بختيار فقرّر أمره على ألف ألف درهم وأدّى أكثرها ثم حصل عند لشكرستان كور موكلا به مطالبا بالبقية فاحتال صاحب له طبرى فى الهرب به إلى دار أحد الجند ثم أحضر قوما من الأكراد
__________
[1] . زاده فى مد.
[2] . وفى الأصل: حسد الدنيا.
[3] . وفى الأصل: لأولياء النعمة ولا.(7/383)
وأخرجه إليهم فساروا به وألحقوه بأبى على ابن إسماعيل. [461] وطوى أبو على المنازل حتى نزل بباب شيراز.
ذكر فتح شيراز
لمّا نزل أبو على بظاهر البلد برز ابن بختيار فى جنده ورجالته وعسكر بإزائه ووقعت الحرب بينهما فتضعضع ابن بختيار فى اليوم الأول وصادف عساكر بهاء الدولة وغدر به كثير من الغلمان ودخلوا الباب ونهبوا بعضه ونادوا بشعار بهاء الدولة.
وكان أبو أحمد الموسوي بشيراز على ما تقدّم ذكره فى مسيره من واسط إليها وظنّ أبو احمد أنّ أمرا قد تمّ فاستعجل وركب إلى المسجد الجامع وكان يوم الجمعة فأقام الخطبة لبهاء الدولة.
ثم ثاب ابن بختيار وعسكره فخاف أبو أحمد واحتال لنفسه وقعد فى سلّة وحمل مغطّى حتى أخرج إلى معسكر أبى على ابن إسماعيل.
وعادت الحرب فى اليوم الثالث بين الفريقين فلم يمض من النهار بعضه حتى استأمن الديلم إلى أبى على وهرب ابن بختيار ناجيا بنفسه وتبعه أخوه فى الهرب. فأمّا أحدهما وهو أبو نصر فإنّه لحق ببلاد الديلم، وأمّا الآخر فإنّه مضى إلى بدر بن حسنويه، ثم تنقّل من عنده إلى البطيحة، وملك أبو على البلد وكتب إلى بهاء الدولة بالفتح وإتمام المسير فسار إلى شيراز واستقرّ فى الدار بها. [462]
ذكر ما جرى عليه الأمر بعد هذا الفتح
لمّا حصل بهاء الدولة بفارس أمر بنهب قرية الدودمان وحرقها وقتل كل من وجد بها من أهلها حتى استأصل شأفتهم.(7/384)
وكشف عن رمّة صمصام الدولة وجددت أكفانها وحملت [1] إلى التربة بشيراز فدفنت بها وأحسن إلى فاطمة الدودمانية خاصة وبرّها ووصلها.
وذلك ثمرة فعلها الجميل. فإنّ المعروف شجرة مباركة أصلها زكىّ وعودها رطيب وورقها نضير، وما خاب من غرسها وسقاها ولا ندم من حفظها ورعاها.
فاجتمع ديلم فارس جميعهم بشيراز وجرى الخوض فى أمر الإقطاعات وارتجاع ما يرتجع منها وإقرار ما يقرر، وترددت فى ذلك مناظرات.
ذكر تقرير للإقطاعات [2] وتوفير فى المصارفات
تقرر أن تجعل أصول التقريرات مصارفة ثلاثمائة درهم بدينار وأن ينظر [463] ما لكل رجل من الإيجاب الأصلي فيعطى به من الاقطاع الذي فى يده ما يكون ارتفاعه بقدره على هذا الصرف ويرتجع الباقي وان يبطل كل ما كان وقع به فى آخر أيّام صمصام الدولة.
وجرى الأمر على ذلك فى معاملة الأواسط [3] والأصاغر. فأمّا أكابر الديلم فإنّ أبا على ابن إسماعيل أعطاهم حتى ملأ عيونهم. وعرفوا مذهبه فى العجب والكبر فوضعوا له خدودهم وخدموه خدمة لا يستحقها الملوك فضلا عن الوزراء. فكانوا يقبّلون الأرض إذا بصروا به وإلى أن يصلوا إليه عدّة مرّات ويمشون بين يديه إذا ركب كما تمشى أصاغر الديلم.
وزاد الأمر به فيما أعطاهم من الأموال وأعطوه من الطاعة والانقياد وكل زيادة تجاوزت حدّ الاستحقاق فهي نقصان، وكل عطية سلبت نفع الارتفاق
__________
[1] . والمثبت فى مد: وجملت.
[2] . والمثبت فى مد: الإقطاعات.
[3] . فى مد: معاملته. وفى الأصل: إلّا بواسط (مد) .(7/385)
فهي حرمان.
وعوّل على أبى غالب محمد بن علىّ بن خلف فى الغيابة عنه وقدّمه واصطنعه، وفرّق العساكر فى النواحي، وأخرج أبا جعفر أستاذ هرمز إلى كرمان واليا عليها، وقبض على ألفتكين الخادمى.
ذكر السبب فى القبض على ألفتكين [464]
كان أبو على ابن إسماعيل يرعى لفلح ما أسداه إليه من جميل فى استتاره ببغداد. فقدّمه ونوّه بذكره وثقل ذلك على ألفتكين وأضمر به استيحاشا منه.
واتفق أنّ أبا علىّ فى بعض مواقفه بباب السوس قال لألفتكين:
- «يا حاجب الحجّاب قد عزمت على [1] أن أمضى فى قطعة من الجيش إلى وراء السوس وأدخل أطراف البلد. فإنّ الديلم إذا عرفوا خبرنا اضطربوا وانصرف قوم منهم إلينا فتشوّشت تعبيتهم. فإذا بدت ذلك الفرصة وأمكنتك الحملة فاصنع ما أنت صانع.» وقرّر ذلك معه وترك أبو علىّ علامته بحالها ودار من وراء الديلم ومعه نجب من الغلمان غيرهم ودخل شوارع السوس فانفصل من العسكر الصمصامى شهرستان فى خمسمائة رجل وتلقّاهم واقتتلوا قتالا شديدا واضطرب مصافّ الديلم ولاحت الفرصة لألفتكين فى الحملة، فتوقف عنها غيظا من أبى على الموفّق لأنّه كره أن يتمّ أمر على يده. فنقم أبو على هذا الفعل عليه وأسرّه فى نفسه.
وحصل على باب شيراز بإزاء ابن بختيار فظهر من ألفتكين من التقاعد قريب ممّا تقدّم. فلمّا تمّ أمر الفتح وورد بهاء الدولة واستقرت الأمور، عمل
__________
[1] . وفى الأصل: إلى (مد) .(7/386)
فى إبعاده. فندبه للخروج إلى بعض الكور وأمره بالتأهب وحمل إليه عشرين ألف درهم نفقة.
فأحضرها [465] النقيب وألفتكين شارب ثمل، فتكلّم بقبيح أعيد على الموفّق، فاغتاظ منه، وقال لبهاء الدولة:
- «هذا الغلام كالعاصى علينا والصواب القبض عليه وإقامة الهيبة فى نفوس الغلمان به.» فأذن له فى ذلك فقبض عليه وحمله إلى القلعة.
ذكر حيلة لطيفة كانت سببا لسلامة ألفتكين
اجتمع الغلمان ليخاطبوا فى أمره. فانتدب أحد وجوههم لأبى علىّ وقال له:
- «نحن عبيدك وأمرك نافذ فى صغيرنا وكبيرنا وما نطالبك بالإفراج عنه وقد أنكرت ما أنكرت منه. ولكنّا نسألك أن تهب لنا دمه وتعطينا يدك على حراسة نفسه.» فقال: «أمّا هذا فنعم.» وأخذوا يده على ذلك وتوثقوا منه. فلمّا عرض لأبى علىّ المسير فى طلب ابن بختيار حين عاد من بلاد الديلم إلى كرمان اجتمع إليه خواصه ونصحاؤه وقالوا:
- «ليس من الرأى أن تخرج فى مثل هذا الوجه وتترك وراءك مثل هذا العدوّ.» وأشاروا إلى ألفتكين فقال:
- «ما كنت لأبذل قولي فى أمر ثم أرجع عنه.»(7/387)
ذكر أغلاط لأبى علىّ ابن إسماعيل [466] كانت سببا لفساد حاله
أدلّ أبو على بعد فتح شيراز على بهاء الدولة إدلالا أفرط فيه وتجبّر تجبّرا لا توجبه السياسة ولا تقتضيه. واطرح ما يلزم فى خدمة الملوك من التقرب إليهم والتوفّر عليهم وسلك خلاف هذه الطريقة وخرج من حدّ المتابعة والموافقة إلى المنافقة والمضايقة. من غلطاته أنّ أحد النبهاء قال لبهاء الدولة فى مجلس أنسه على سبيل الدعابة:
- «زينك الله يا مولانا فى عين الموفّق.» وبلغه ذاك، فطالبه بتسليمه إليه ودوفع عنه فلم يندفع، وأقام على الاستعفاء حتى سلم إليه فبالغ فى عقوبته.
ومنها أنّه وقع بين غلمان داره وبين غلمان الخيول الخاصة ما يقع من أمثالهم بين أمثالهم عند اللعب بالصوالجة. فغلق بابه ومنع العسكر من لقائه ولم يقبل مشورة أحد من خواصه وراسل بهاء الدولة فقال للرسول:
- «يا هذا، إنّ المخاطبة لى على غلمان دارى قبيح وإنّ التعصّب علىّ لأجل منابذة جرت بينه وبين غلمانه، أقبح وتسليمهم إليه ليشفى صدره منهم أقبح وأقبح، فارجع إليه بالمعاتبة اللطيفة، وعرّفه ما عليه فى هذه المراسلة الطريفة.» فمضت معه خطوب حتى أمسك.
ومنها أنّ بهاء الدولة كان يجلس فى الجوسق [1] الذي فى دار الامارة بشيراز وهو مشرف على الميدان ويجتاز أبو على فيه [467] راكبا وبين يديه
__________
[1] . الجوسق: أصله الفارسىّ: كوشك، أى القصر، أو كلّ بناء عال.(7/388)
أكابر الديلم مشاة فلا يرى أن يترجّل وبهاء الدولة يراه وينفطر غيظا منه.
ومنها أنّه أنفذ إليه بعض خواصه فى ليلة نيروز يلتمس منه ثلاثة آلاف درهم فقال للرسول:
- «لأىّ حاجة يريدها، للخبز أو للحم أم للشعير؟» فقال له الرسول:
- «أيّها الوزير لا يحسن أن يكون جواب الرسالة غير حمل الدراهم.» فقال له:
- «ما ههنا مال.» وخاف الرسول أن تجرى منافرة يكون هو سببها فحمل الدراهم من ماله وعرف بهاء الدولة ذلك من بعد.
فانظر إلى عجب الزمان وتقلّب الأعيان: هذا أبو على هو الرجل الذي تكلّف واستدان وحمل إلى بهاء الدولة من بغداد ما امتنع من حمله ابن عمر وابن صالحان، فقربت من قلبه منزلته وعلت لديه درجته ورتبته، ثم ينتهى الأمر به إلى أن يطلب منه بهاء الدولة فى ليلة نيروز هذا القدر النزر مع اتساع حاله وتبذّخه على الديلم بعطائه ونواله فيمنعه. هل ذلك إلّا لحادث قد يغطّى على كل بصر وبصيرة؟ [1] فشتان بين ابتداء السعادة وانتهائها لقد أحسنت أيامه فى إقبالها وأساءت فى انفصالها والخبر المأثور مشهور: إذا أقبلت الدنيا على قوم كستهم محاسن غيرهم، وإذا ولّت عنهم سلبتهم محاسن أنفسهم.
وكان أبو غالب ابن خلف فى خلال هذه المضايقات يحول إلى بهاء الدولة الدنانير الكثيرة فى الأوقات [468] المتفرقة سرّا فتمهدت له بذلك حال
__________
[1] . والمثبت فى مد: على كلّ بصيرة وبصير.(7/389)
راعاها، وكانت أكبر وسائله عنده. وتأكدت الوحشة بين بهاء الدولة وأبى علىّ وجرى أمره على ما يأتى من بعد ذكره بمشيئة الله تعالى.
ذكر القبض على نقيب نقباء الديلم
وفى هذه السنة قبض بكران بن بلفوارس على الحسين بن محمد بن مما نقيب نقباء الديلم ببغداد ثم أفرج عنه.
ذكر الحال فى القبض عليه
كان بكران مستنابا من قبل بهاء الدولة ببغداد على أمور الديلم.
فاستوحش من ابن مما وسعى بينهما سعاة بالفساد. فقبض عليه بغير أمر من بهاء الدولة واعتقله فى داره ووكّل به كوشيار بن المرزبان مع جماعة من الديلم وضيّق عليه وقلّد أبا الحسين ابن راشد نقابة النقباء وأنزله فى دار ابن مما وقيل: إنّه همّ بالفتك به. فتوسط أبو الفتح منصور بن جعفر أمره وضمن عنه عشرين ألف دينار وأخذه إلى داره وأقام خطوطا وكفالات بالمبلغ.
وعرف الشريف أبو الحسن ابن عمر ما أقدم عليه بكران فأنكره وأطلق لسانه فى بكران وفى ابن راشد بكل عظيمة، وكتب إلى بهاء الدولة وإلى أبى علىّ ابن إسماعيل بذلك. [469]
ذكر سياسة قامت بها الهيبة فى الإفراج عنه
لمّا وصلت الكتب إلى أبى علىّ ابن إسماعيل امتعض الامتعاض الشديد وكتب إلى بكران بما أغلظ القول فيه، وإلى الشريف أبى الحسن بانتزاع ابن مما من يده وارتجاع الكفالات المأخوذة بالمال منه. وكتب إلى أحمد الفرّاش بملازمة بكران إلى أن يفرج عن الرجل.(7/390)
فامتثلت الجماعة مرسومه وأفرج عن ابن مما وردّت عليه الكفالات وانحدر إلى الأهواز وجدّد عهدا بالخدمة وعاد موفورا.
واستدعى بكران وأنفذ شيرزيل أخوه إلى بغداد ليقوم مقامه وقبض على كوشيار وحلّ إقطاعه ووفيت السياسة حقّها فى ذلك.
وفيها توجه الأمير أبو منصور ابن بهاء الدولة إلى الأهواز.
وفيها استولى الأمير أبو القاسم محمود بن سبكتكين على أعمال خراسان بعد أن واقع عبد الملك بن نوح بن منصور ومن فى جملته من توزون وفائق وابن سمجور بظاهر مرو، وهزمهم وأقام الدعوة لأمير المؤمنين القادر بالله رضى الله عنه، على منابر تلك البلاد وكان آل [سامان] مستمرين على إقامتها للطائع لله.
وورد كتاب أبى القاسم [470] محمود إلى القادر بالله رضى الله عنه، يذكر الفتح على ما جرت به العادة فى أمثاله.
انقضت سنة تسع وثمانين وثلاثمائة، وبانقضاء أخبارها ختمنا هذا الكتاب، ومن الله تعالى نرجو أحسن التوفيق والهداية للصواب، وبه سبحانه نعود من شر القصد وخيبة المنقلب وآفة الإعجاب وهو حسبنا ونعم الوكيل آخر ما صنفه الوزير أبو شجاع رضى الله عنه وأرضاه، والحمد لله كثيرا.(7/391)
الملحق بذيل الروذراورى وهو الجزء الثامن من تاريخ أبى الحسين هلال بن المحسّن بن إبراهيم الصابي الكاتب (حوادث سنة 389- 393 هجرية)(7/393)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح الحال فى قبض أبى شجاع بكران بن بلفوارس على أبى القاسم الحسين بن مما نقيب النقباء
استوحش أبو شجاع بكران من أبى القاسم ابن مما وسعى بينهما سعاة بالفساد. فقبض عليه بغير أمر بهاء الدولة والموفق واعتقله وقيّده ووكّل به أبا العباس كوشيار بن المرزبان وجماعة من الديلم وضيّق عليه ومنع كل أحد من الوصول اليه. وقلّد أبا الحسين محمد بن راشد نقابة النقباء وأنزله فى دار أبى القاسم بسوق السلاح وتتبّع أسبابه وأصحابه وهمّ على ما قيل بالفتك به وطالبه بما يصححه ويقرره على نفسه. وتوسط أمره أبو الفتح منصور بن جعفر [1] وضمن عنه عشرين ألف دينار وأخذه الى داره. وعرف أبو الحسن محمد بن عمر ما جرى فأمسك إمساك لا راض ولا منكر. فلما قيل له: إن أبا الحسين بن راشد يتقلد موضعه قامت القيامة عليه غيظا منه وتذكرا لما كان عامله به، وأطلق لسانه فى أبى شجاع بكران وابن راشد بكلّ قول وكتب إلى الموفق بمثله، وجاءه ابن راشد فحجبه واجتهد فى استعطاف رأيه فلم يجد إلى ذلك سبيلا.
ونفذت الكتب الى الموفق بالصورة فامتعض الامتعاض الشديد منها،(7/395)
وكاتب أبا شجاع بكران بما أغلظ له فيه، والشريف أبا الحسن بانتزاع أبى القاسم بن مما من يده وارتجاع الكفالات التي أخذهما منه بالمال الذي قرّره عليه. وكتب الى أبى العباس أحمد الفراش باعتناق هذا الأمر والمضىّ إلى أبى شجاع بكران وملازمته إلى أن يفرج عنه ويردّ عليه خطوط الكافلين به.
وفعلت الجماعة ما رسم لها وأفرج عن أبى القاسم فى يوم الاثنين الرابع عشر من شهر ربيع الأول، وردت عليه الكفالات بالمال المذكور. ثم انحدر من بعد إلى الأهواز وجدد عهدا بخدمة بهاء الدولة والموفق. وأنفذ الموفق أبا الحرب شيرزيل بن أبى الفوارس إلى بغداد للقيام مقام أبى شجاع وبكران أخيه. فكان وروده يوم الخميس لسبع بقين من شهر ربيع الآخر، وردّ أبا القاسم ابن مما فكان وروده يوم الجمعة لسبع بقين من جمادى الأولى وقبض على أبى العباس كوشيار وأقطع إقطاعه وكان من أكبر الأسباب فيما جرى على أبى القاسم.
وفى يوم الأحد لعشر بقين من شهر ربيع الأول برز الأمير أبو منصور بويه بن بهاء الدولة إلى المعسكر بالاتانين متوجها إلى الأهواز وسار فى يوم الجمعة بعده.
ووجدت [3] فى بعض التقاويم أنّه انقضّ فى يوم الأحد المذكور كوكب كبير ضحوة النهار.
ذكر إحراق دار الحمولى
وفى يوم الثلاثاء الرابع عشر من شهر ربيع الآخر أحرق العامة دار الحمولى، فمضت بأسرها ولم يبق فيها جدار قائم، واحترق ما كان فيها من حسبانات الدواوين.(7/396)
ذكر السبب فى ذلك
كان أبو نصر سابور قد حاول وضع العشر على ما يعمل من الثياب الأبريسميات والقطنيات بمدينة السلام. فثار أهل العتابيين وباب الشأم من ذلك وقصدوا المسجد الجامع بالمدينة يوم الجمعة العاشر من الشهر ومنعوا الخطبة والصلاة وضجّوا واستغاثوا وباكروا الأسواق على مثل هذه الصورة.
فلما كان فى يوم الثلاثاء صاروا إلى دار أبى نصر سابور بدرب الديزج، فمنعهم أحداث العلويين منها وخرجوا من درب الديزج الى دجلة وطلبوا من جرى رسمه بالكون فى دار الحمولى من الكتاب والمتصرفين.
فهربوا من بين أيديهم وطوحوا النار فى الدار وأهمل إطفاؤها فاتت على جميعها.
وورد أبو حرب شيرزيل ناظرا فى البلد على ما قدمنا ذكره فقبض على جماعة من القامة اتهموا بما جرى من الحريق وصلب أربعة أنفار على باب دار الحمولى، وذلك فى يوم الخميس الذي دخل فيه. واستقر الأمر على أخذ العشر من قيم الثياب الابريسميات خاصة، ونودى بذلك بالجانب الغربي فى يوم الأحد الرابع من جمادى الأولى وبالجانب الشرقي فى يوم الإثنين.
وثبت هذا الرسم ورتّب فى جبابته ناظرون ومتولّون وأفرد له ديوان فى دار بالبركة، ووضعت الختوم على جميع ما يقطع من المناسج ويباع ويختم.
واستمرت الحال على ذلك إلى آخر أيام عميد الجيوش أبى على ثم أسقطه وأزال رسمه على ما سنذكره [4] فى موضعه.
وفى يوم الجمعة لستّ بقين منه توفّى أبو القاسم ابن حبابة المحدث(7/397)
وصلّى عليه أبو حامد الإسفراينى بمسجد الشرقية [1] .
وفى يوم الخميس للنصف من جمادى الأولى خلع على الشريف أبى الحسين محمد بن على بن الحسن المربنى من دار الخلافة ولقّب: نقيب النقباء.
وفى يوم الإثنين الثاني من جمادى الآخرة توفّى أبو الحسين المتطبب تلميذ سنان [2] .
وفى رجب قلد أبو العلاء الحسين بن محمد الإسكافي الخزائن والاستعمال فيه.
وفيه انحدر أبو شجاع بكران الى واسط.
وفى يوم الخميس لاثنتي [3] عشرة ليلة بقيت من شعبان توفّى أبو عبد الله أحمد بن محمد بن عبد الله العلوي بالكوفة.
وفى يوم السبت الرابع من شهر رمضان توفّى أبو محمد حسان بن عمر الحريري الشاهد.
__________
[1] . وفى تاريخ الإسلام: ابن حبابة هو عبيد الله بن محمد بن اسحق بن سليمان المتوثى البزاز روى عنه أبو محمد عبد الله بن محمد بن هزامرد الصريفيني كتاب الجعديات وابو حامد هو الامام أحمد بن أبى طاهر محمد المتوفى سنة 406 وفى ترجمته فى تاريخ الإسلام: قال أبو حيان التوحيدي فى رسالة ما يتمثل به العلماء: سمعت الشيخ أبا حامد يقول: لا تعلق كثيرا مما تسمع منى فى مجالس الجدل فان الكلام يجرى فيها على ختل الخصم ومغالطته ودفعه ومغالبته فلسنا نتكلم فيها لوجه الله خالصا ولو أردنا ذلك لكان خطونا الى الصمت اسرع من تطاولنا فى الكلام وان كنا فى كثير من هذا نبوء بغضب الله تعالى فانا مع ذلك نطمع فى سعة رحمة الله (مد) .
[2] . هو ابن كشكرايا وقال فيه بن ابى اصيبعة 1: 238 انه كان فى خدمة سيف الدولة ولما بنى عضد الدولة البيمارستان ببغداد استخدمه وزاد حاله. وله قصة مع جبرئيل بن بختيشوع وردت فى تاريخ الحكماء لجمال الدين القفطي ص 149 (مد) .
[3] . فى مد: لاثنى.(7/398)
مقتل محمد بن علىّ الحاجب
وفى ليلة الجمعة مستهلّ شوال قتل أبو عبد الله محمد بن علىّ بن هدهد الحاجب الناظر فى المعونة.
شرح الحال فى ذلك
جرت بين ابن هدهد وبين أبى الحسن ابن رهزاذ الأحول نبوة لأمر سأله فيه وردّه عنه، وتزايد ما بينهما إلى أن بذل أبو الحسن فيه بذلا كثيرا. فقبض أبو نصر سابور عليه وسلّمه إليه واعتقل ابو الحسن فى داره. فلما كان فى ليلة يوم الجمعة كبسه العيارون وقتلوه واتهم ابن رهزاذ بأنه وضعهم على ذلك. فقبض عليهم وهم الشريف ابو الحسن محمد بن عمر بأن يقيده به.
فسأله أبو القاسم ابن مما فى بابه وأخذه إلى داره وكتب إلى الموفق بما جرى ووقف الأمر على ما يعود من جوابه ثم أفرج عنه.
وفى يوم الثلاثاء لخمس خلون منه قلّد أبو الحسن على ابن أبى علىّ المعونة بجانبي مدينة السلام وخلع عليه. وفى هذا الشهر [5] قصد ابو الحسن على بن مزيد أبا الفواس قلج بدير العاقول، فانهزم من بين يديه ونهب البلد.
وفى يوم الأحد لليلتين خلتا من ذى القعدة ضربت الدراهم التي سمّيت «الفتحية» .
وفى يوم الإثنين العاشر منه ورد قاضى القضاة أبو الحسن عبد الجبار ابن أحمد وأبو الحسين على بن ميكال حاجين وتلقّاهما القضاة والفقهاء والشهود ووجوه الناس وأبو القاسم ابن مما وأصحاب الشريف أبى الحسن محمد بن عمر وابى نصر سابور وروعيا بالأنزال والملاطفات.(7/399)
مقتل أصحاب محمد بن عناز
وفى ذى الحجّة قتل أصحاب أبى الفتح محمد بن عناز: زهمان بن هندي وأولاده دلف ومقداد وهندي.
شرح الحال فى ذلك
حدثني أبو المعمر ابراهيم بن الحسين البسامي قال: كان زهمان مستوليا على خانقين وما يجاورهما. فلما قتل المعلم عليا ابنه ضعف أمره ولان غمزه. وعاد أبو الفتح محمد بن عناز من حرب بنى عقيل بالموصل مع أبى جعفر الحجاج فقلّد حماية الدسكرة وجرت بينه وبينه مجاذبات ومنازعات والأيام تقوّى أبا الفتح وتضعف زهمان، وكان منه فى قصده ونهبه مع أبى على ابن إسماعيل على ما قدمنا ذكره.
وانتهت الحال بينهما الى الصلح والموادعة والاختلاط والألفة وأرخى أبو الفتح من عنانه وأعطاه من نفسه كل ما تأكد به أنسه. فصار إليه هو وأولاده وتمكن منهم فقبض عليهم ونقلهم إلى قلعة البردان فاعتقلهم فيها وتفرق أصحابه وملك عليهم نواحيهم.
ومضت على ذلك مدة فثار أولاد زهمان وكسروا قيودهم وحاولوا الفتك بالموكلين بهم والاستيلاء على القلعة. فصاح [6] الموكلون واجتمع إليهم من عاونهم فقتلوا الثلاثة المذكورين من أولاد زهمان بحضرته وأخذوه فجعلوه فى بيت وسدّوا بابه وكانوا [يدخلون] [1] من كوّة فيه قرصة من شعير وقليل ماء، فبقى أيّاما ومات.
__________
[1] . ما بين المعقوفتين من مد.(7/400)
وقد جرت عادة الشيعة فى الكرخ وباب الطاق بنصب القباب وتعليق الثياب وإظهار الزينة فى يوم الغدير وإشعال النار فى ليلته ونحر جمل فى صبيحته. فأرادت الطائفة الأخرى من السنّة أن تعمل لأنفسها وفى محالّها وأسواقها ما يكون بإزاء ذلك. فادّعت أنّ اليوم الثامن من يوم الغدير كان اليوم الذي حصل فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر رضى الله عنه، فى الغار وعملت مثل ما تعمله الشيعة فى يوم الغدير. [1] وجعلت بإزاء يوم عاشوراء يوما بعده بثمانية أيام نسبته إلى مقتل مصعب بن الزبير وزارت قبره بمسكن كما يزار قبر الحسين بن على رضى الله عنهما، بالحائر. وكان ابتداء ما عمل من يوم الغدير [2] فى يوم الجمعة لأربع بقين من ذى الحجة.
وحج بالناس فى هذه السنة أبو الحارث محمد بن محمد بن عمر. وحج فيها الوزير أبو منصور محمد بن الحسن بن صالحان والشريف المرتضى أبو القاسم على بن الحسين الموسوي [3] والرضى ابو الحسن أخوه، والوزير أبو على الحسن بن أبى الريّان حمد بن محمد.
وفى هذه السنة حصل عمدة الدولة ابو اسحق ابراهيم ابن معز الدولة بالموصل واردا من مصر وكثر الارجاف له وبه وأقام مديدة ثم سار إلى الرّى وقصد أبرقويه وتلك الأعمال، وعاد بعد ذاك إلى مصر فكانت وفاته بها.
وفيها وافى برد شديد مع غيم مطبق وريح مغرب متصلة، فهلك من [7] النخل فى سواد مدينة السلام ألوف كثيرة وسلم ما سلم ضعيفا. فلم يرجع إلى جلاله وجملته إلّا بعد سنين.
__________
[1] . قال صاحب تاريخ الإسلام فى ترجمة سنة 422: وفى ثامن عشر ذى الحجة عملت الشيعة يوم الغدير وعملت بعدهم اهل السنة الذي يسمونه يوم الغار (مد) .
[2] . الصواب هو: الغار (مد) .
[3] . وردت ترجمته فى إرشاد الأريب 5: 173 وأخوه الرضى هو محمد (مد) .(7/401)
وفيها استولى الأمير أبو القاسم محمود بن سبكتكين على أعمال خراسان بعد أن واقع عبد الملك بن نوح بن منصور وتوزون وفائق [1] وابن سيمجور [2] بظاهر مرو وهزمهم وأقام الدعوة لأمير المؤمنين القادر بالله أطال الله بقاءه وقد كان القائمون بالأمر من بنى سامان مستمرين على إقامتها للطائع لله، وورد من الأمير أبى القاسم محمود بهذا الذكر كتاب نسخته بعد التصدير الذي جرت العادة به فى مكاتبة الخلفاء:
«بسم الله الرحمن الرحيم» - «أما بعد، فالحمد لله العلى مكانه الرفيع سلطانه الواحد الأحد الفرد الصمد العزيز القهار القوىّ الجبار الذي يكفل بإعلاء الحق ورفعه وإخزاء الباطل وقمعه، الحائق بشيع البغي والعدوان مكره اللاحق بفرق الطغيان، قهره وقسره الحاكم لأوليائه بالعلو والاقتدار، الحاتم على أعدائه بالثبور والتبار، المتفرد بجلاله أن يمانع المتعالي بكبريائه أن يدافع يمهل المغتر بأناته استدراجا ولا يمهل، ويملى المخدوع بحلمه احتجاجا ولا يغفل، بيده الخلق والأمر ومن عنده الفتح والنصر، فتبارك الله رب العالمين رب السموات والأرضين. والحمد لله الذي اصطفى محمدا عليه السلام واختار له دين الإسلام، وفضّله على من تقدمه من
__________
[1] . هو عميد الدولة أبو الحسن الأمير فتى السلطان نوح بن نصر الساماني، توفّى ببخارا فى هذه السنة، وقد ولى امرة هراة مدة عقد بها مجلس الإملاء، وولى بمدن خراسان نيفا وأربعين سنة.
كذا فى تاريخ الإسلام (مد) .
[2] . وهو أبو القاسم على بن محمد بن ابراهيم وله أخ يسمى أبا على محمد المظفر توفى سنة 387 (مد) .(7/402)
الرسل، وأنار به مناهج الآيات والسبل، وأرسله إلى الخلق بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله باذنه وسراجا منيرا، فهدى إلى القرآن والتوحيد ودلّ على الأمر الرشيد، وأهاب بالبرية إلى مستقيم الدين وأناف بهم [8] على العلم اليقين. فصلوات الله عليهم أتمّ صلاة نماء، وأكملها بهاء صلاة، ترتقى إليه جل جلاله فى أعلى الدرجات، وتحيى روحه فى السموات، وعلى آله أجمعين.
- «والحمد لله الذي أنشأ سيدنا ومولانا أمير المؤمنين الإمام القادر بالله أطال الله بقاءه من ذلك السنخ الزكي والعرق النقي أحسن منشأ، وبوّأه من خلافته فى أرضه أكرم مبوأ، وجعل دولته عالية والأقدار لإرادته مؤاتية، فلا يخالف رايته عدوّ إلّا حان حينه وسخنت عينه، ولا يجيب [1] دعوته ولىّ إلّا كان قدحه فى القداح فائزا، وسعيه للنجاح حائزا، بذلك جرت عادة الله وسننه، ولن تجد لسنة الله تحويلا.
- «وقد علم مولانا أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، حال الماضين من السامانية فما كانوا فيه من نفاذ الأمر وجمال الذكر وانتظام الأحوال واتساق الأعمال، بما كانوا يظهرونه من طاعة أمير المؤمنين ومبايعتهم، وينحلونه من موالاتهم ومشايعتهم.
ولمّا مضى صالح سلفهم وبقي خلف خلفهم خلعوا ربقة الطاعة، وشقّوا مخالفة لمولانا [2] أمير المؤمنين أطال بقاءه عصا [3]
__________
[1] . وفى الأصل يخالف.
[2] . وفى الأصل: مولانا.
[3] . والمثبت فى مد: عصاه.(7/403)
الجماعة [1] ، وأخلوا منابر خراسان عن ذكره واسمه، وخالفوا فى إفاضة القول [2] وحسم عادية الجور والخبل عالى أمره ورسمه، وعمّ البلاد والعباد فسادهم وبلاؤهم، ونهك الرعايا ظلمهم واعتداؤهم.
- «ولم استجز مع ما جمع الله لى فى طاعة مولانا أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، من عدّة وعدّة، وشكّة وشوكة، وقوّة أقران وإمكان، وكثرة أنصار وأعوان، إلّا أدعوهم إلى حسن الطاعة، ولا أبذل فى إقامة الدعوة لمولانا أمير المؤمنين [9] أطال الله بقاءه تمام الوسع والاستطاعة. فدعوت منصور بن نوح إليها وبعثته بجدّى واجتهادي عليها ولم يصغ إلى إعذار وتذكير ولم يلتفت إلى إنذار وتبصير، ونهض من بخارا بخيله ورجله وحشده. حفله يجمع على أهل الضلالة من أشياعه، ويحشر من فى البلاد من أتباعه. فكان من شؤم رأيه وسوء انحائه أن اصطلمه جنده فكحلوه، وبايعوا أخاه عبد الملك وملكوه.
وجريت على عادتي مع هذا الأخير أوفد إليه مرّة بعد أخرى وثانية عقب أولى، من يدعوه إلى الرشاد ويبصره من التمسك بطاعة مولانا أمير المؤمنين أطال الله بقاءه سبل الرشاد. فلم يزده ذلك إلّا ما زاد أخاه استعصاء واستغواء، وتهوّرا فى الضلال واستشراء.
- «فلما أيست من فيئه إلى واضح الجدد، ورجوعه الى
__________
[1] . جاء فى حاشيته: عسا عظفة منك (كذا) .
[2] . لعله: العدل.(7/404)
الأحسن والأعود، ورأيته متتابعا فى عمايته ومتكسّعا [1] فى مهاوي غوايته، نهضت إليه بمن معى من أولياء مولانا أمير المؤمنين أدام الله علوّه وأنصار الدين فى جيوش يشرق بها الفضاء ويشفق من وقعها القضاء، تزحف فى الحديد زحفا وتخد الأرض جرفا ونسفا، إلى أن وردت مرو يوم الثلاثاء لثلاث بقين من جمادى الأولى وهو البلد الميمون الذي به ابتدأ إشاعة الدولة العباسية، وزالت البدعة الأموية على أحسن تعبية وأكمل عتاد، وأجمل هيئة، ووليت أمر الميمنة عبد مولانا أمير المؤمنين أخى نصر بن ناصر الدولة والدين فى عشرة آلاف رجل وثلاثين فيلا، وجعلت فى الميسرة من الموالي الناصرية اثنى عشر ألف فارس وأربعين فيلا، ووقفت فى القلب بقلب لا يتقلّب، وطاعة مولانا أمير المؤمنين [10] شعاره عن أضداده، وعزم لا ينتقض ودعوة أمير المؤمنين عتاده فى إصداره وإيراده، ومعى عشرون ألف فارس من سائف ورامح ودارع وتارس، وسبعون فيلا، وبرز عبد الملك بن نوح وعن يمينه ويساره بكتوزون أحد غواته وفائق رأس طغاته وعتاته، وابن سيمجور وغيرهم من مساعديه على ضلالته، مستعدين للكفاح مستلئمين فى شك السلاح، وتلاقت الصفوف [2] بالصفوف، واصطلت السيوف بالسيوف، وتوقّدت الحرب واحتدّت واضطرمت نيرانها واشتدت، واختلط الضرب بالطعن، وكبا القرن بالقرن، ولم ير [3]
__________
[1] . تكسّع فى ضلاله: ذهب. تكسّع: تسكّع.
[2] . والمثبت فى مد: الصعوف.
[3] . والمثبت فى مد: لم يرى.(7/405)
إلّا تهاوى الصوارم على حجب الجماجم وأوداق النبال، فى أحداق الكماة والابطال. وأهبّ الله ريح الظفر لأوليائه وكشفوا مقانب الأعداء وحملوا [1] فيهم الحتوف وأرووا من دمائهم السيوف، وانجلت المعركة عن ألفى قتيل من شجعانهم وأبطالهم، وألفى وخمسمائة أسير من مشهوري ذادة رجالهم وصناديدهم، واقتفى الأولياء أثار الفلّ من عباديدهم [2] يقتلون ويأسرون ويسلبون ويغنمون، إلى أن ألقت الشمس يمينها وأبرزت ظلمة الليل جنينها، وعاد الأولياء إلى معسكرهم فى وفور من السلامة وتمام من النعمة، وقد ملئوا أيديهم من الغنيمة والنفائس الجمّة، ثم ما نضب منهم أحد ولم ينتقص لهم عدد. و [أكتب] كتابي هذا وقد فتح الله تعالى لمولانا أمير المؤمنين بلاد خراسان قاطبة، وجعل منابرها تذكر اسمه متباهية، وكلمة الحق به عالية والأهواء فى موالاته متهادية.
- «وبعد فلم أجدّد رسما فى حلّ وعقد وإبرام ونقض، إلى أن يرد من عالى أمره ورسمه ما أبنى الأمر ببنائه، وأحتدى إلى حدائه بإرادة الله سبحانه وتعالى. فالحمد لله [11] العزيز المنّان العظيم السلطان، الذي لا يضيع لمحسن عملا ولا يغفل عن مسيء وان أرخى له أجلا. ولا يعجزه متغلب بقوّته وحوله ولا يمتنع ممتنع عن سطوته وصوله. ولا يردّ بأسه عن القوم المجرمين رادّ، ولا يصدّ نقمته عن الظالمين صادّ، حمدا يمترى المزيد من إحسانه، ويقتضى الصنع الجديد من امتنانه. وإيّاه
__________
[1] . وفى الأصل: حلموا.
[2] . العباديد والعبابيد (بلا واحد) : الفرق من الناس والخيل.(7/406)
أسأل أن يهنئ مولانا أمير المؤمنين الإمام القادر بالله خير هذا الفتح الجليل خطره الواضح على وجه الزمان غرره. وان يواصل له الفتوح قربا وبعدا وغورا ونجدا وبرّا وبحرا وسهلا ووعرا، وأن يوفّقنى للقيام بشرائط خدمته والمناضلة عن بيضته، إنّه على ما يشاء قدير وبه جدير. فإن رأى سيدنا ومولانا أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، ان ينعم بالوقوف عليه وتصريف عبده بين أمره ونهيه فعل، إن شاء الله تعالى.»
سنة تسعين وثلاثمائة
أولها يوم الأربعاء والثالث عشر من كانون الأول سنة احدى عشرة وثلاثمائة وألف للإسكندر، وروز آسمان [1] من ماه آذر [2] سنة ثمان وستّين وثلاثمائة ليزدجرد.
فى يوم الإثنين السادس من المحرم توفى أبو الحسين على بن المؤمّل بن ميمان كاتب ديوان السواد.
وفى يوم الجمعة لعشر خلون منه توفّى أبو بكر أحمد بن على السمسار المعروف بأبى شيخ البزاز.
وفى يوم الخميس لسبع بقين منه توفّى القاضي أبو بكر أحمد بن محمد بن أبى موسى الهاشمي.
احتراق أرسلان البستى
وفى هذا الشهر احترق ارسلان البستى وذاك أنّه كان نائما فى خركاه له
__________
[1] . روز آسمان: يوم السماء.
[2] . ماه آذر: شهر آذر، وهو الشهر التاسع من الشهور الإيرانية.(7/407)
وبه نقرس مزمن قد منعه الحركة والقدرة على النهضة وفرّاشوه وغلمانه بعيدون منه فسقطت شرارة من شمعة كانت فى الخركاه على فراشه فأحرقته وانتبه ولا فضل [12] فيه للقيام من موضعه والنجاة بنفسه فصاح صياحا حجز الليل ونوم الغلمان [1] عن سماعه، وعملت النار فى الفراش والخركاه. فما عرف الخبر إلّا بعد احتراقه وهلاكه.
وفيه خرج الموفّق أبو علىّ إلى جبل جيلويه فى طلب أبى نصر ابن بختيار وانتهى إلى أبرقويه وعاد فى صفر. وفى هذه الخرجة لقّب بعمدة الملك، مضافا إلى الموفّق، وأذن له فى ضرب الطبل اوقات الصلوات الخمس، ولقّب أبو المغمر ولده بربيب النعمة.
وفى صفر ورد الكتاب من شيراز بتقليب المشطب ابى طاهر سباشى بالسعيد، والإشراك بينه وبين المناصح أبى الهيجاء تختكين الجرجاني فى مراعاة أمور الأتراك فى مدينة السلام.
وفى يوم [الخميس] السابع منه توفّى أبو منصور محمد بن أحمد بن الحوارى بالأهواز.
وفى يوم الإثنين العاشر من شهر ربيع الأول توفّى أبو الحسن محمد بن عمر بن يحيى العلوي [2] ودفن فى حجرة من داره بدرب منصور مدة، ثمّ نقل إلى المشهد بالكوفة، وحضر جنازته أبو نصر سابور بن أردشير وأبو حرب شيرزيل بن أبى الفوارس، والمناصح أبو الهيجاء تختكين الجرجاني وسائر طبقات الناس.
__________
[1] . فى مد: الغمان.
[2] . هو الشريف الجليل بن أبى على عمر بن أبى الحسين يحيى بن الحسين النقيب بن أحمد المحدث ابن عمر بن يحيى بن الحسين ذى الدمعة وذى العبرة ابن زيد الشهيد بن على زين العابدين بن الحسين بن على بن أبى طالب، وله قصة مع الوزير المطهر بن عبد الله وردت فى عمدة الطالب، بمبئي 1318 ص 248 (مد) .(7/408)
ذكر ما جرى عليه الأمر فى تركته وضيعته
لما توفّى انفذ أبو نصر سابور فحظر على ما فى داره وخزانته ووكل باصطبلاته وطلب كتّابه وجهابذته، فلم يجد أحدا منهم. لأنّ أبا الحسن على بن الحسن بن إسحق هرب وهرب الجهبذ معه واستتر الباقون من أصحابه.
وأحضر أبا عبد الله البطحانى العلوي وطالبه بما عنده من وصيته وماله فامتنع من تسليم ذاك وأخلد فيه إلى الاعتلال والإنكار واعتقله اعتقالا جميلا. ونفذت الكتب إلى بهاء الدولة والموفق بما تجدّد وكتب أبو الحسن محمد بن الحسن ابن يحيى العلوي [1] وقد كان عاد من الأهواز الى واسط بعد الفتح فى أمر الورثة والتركة فعاد الجواب اليه بالإصعاد إلى بغداد والقيام بها مقام أبى الحسن محمد بن عمر. وتقرّر أمر التركة على خمسين ألف دينار تحمل إلى الخزانة.
فحدّثنى أبو القاسم ابن المطلب قال: تقرر الأمر بفارس على خمسين ألف دينار صلحا عن التركة وأن يكون النصف من الأملاك للخاص والنصف للورثة. ثمّ أفرد قسط السلطان فحصل له به الثلثان لأنّه أخذ عيون الضياع وجمع موجود التركة فلم يف بالتقرير حتى تمم بأثمان أملاك بيعت من جملة ما حصل للورثة من الضياع على أبى على عمر بن محمد بن عمر وأبى عبد الله الحسين بن الحسن بن يحيى وأبى محمد علىّ وابن محمد بن الحسن بن يحيى وأبى على عمر بن محمد بن الحسن بن يحيى.
__________
[1] . أظنّه محمدا كمال الشرف ابن أبى القاسم الحسن الأديب ابن أبى جعفر محمد بن على الزاهد ابن محمد الأصغر الأقساسى ابن أبى الحسن يحيى بن الحسين ذى الدمعة ابن زيد الشهيد، ولّاه الشريف المرتضى نقابة الكوفة وأمارة الحج، فحجّ بالناس مرارا. كذا فى عمدة الطالب ص 235 (مد) .(7/409)
وأصعد أبو الحسن بن يحيى إلى بغداد فكان دخوله إياها فى يوم الأربعاء الثاني من جمادى الأولى ومعه أبو على عمر بن محمد بن عمر وأبو الحسن ابن اسحق الكاتب وكان انحدر إلى واسط فلقيه فى الطريق وعاد فى صحبته وأطلق أبو عبد الله البطحانى وسلّم إليه وراعى أبو الحسن القسط السلطاني من المعمريات وتولّى (أبو) الحسن ابن إسحق النظر فيه.
وارتفع فى هذه السنة وهي سنة تسع وثمانين وثلاثمائة الخراجية على ما ذكره أبو القاسم بن المطلب مع حق الورثة وسوى حقوق بيت المال بألفي كرّ ونيّف حنطة وشعيرا وأصنافا وتسعة عشر ألف دينار وكسر.
وفى يوم الثلاثاء الثامن عشر من شهر ربيع الأول قبل القاضي أبو محمد ابن الأكفانى شهادة أبى القاسم [14] ابن المنذر وأبى الحسين بن الحرّانى وفى يوم الجمعة لليلتين بقيتا منه قبل شهادة أبى العلاء الواسطي.
وفى ليلة يوم الثلاثاء لسبع بقين من شهر ربيع الآخر ولد الأمير أبو الفوارس ابن بهاء الدولة بشيراز والطالع كوكب من العقرب.
وفى يوم الخميس لخمس بقين منه توفّى أبو عمر أحمد بن موسى العلاف الشاهد بالجانب الشرقي.
وفى يوم الجمعة الثامن عشر من جمادى الأولى خلع على الموفّق أبى على بفارس بالقباء والفرجية والسيف والمنطقة والدستى المذهّب، وحمل على دابّة بمركب ذهب وقيّد بين يديه دابّة بمركب مذهّب وبغلة بجناغ نمور ومركب بقبل مذهب وثلاثة أفراس بجلال ديباج، وأعطى دواة محلّاة بالذهب، وحمل معه ترس من ذهب وسائر السلاح وخلع على أبى نصر كاتبه وثلاثة من حجّابه ودوّاتيه وأستاذ داره، وخرج لقتال أبى نصر ابن بختيار ومعه العساكر بعد أن استناب أبا غالب محمد بن خلف بشيراز على مراعاة الأمور وأبا الفضل الإسكافى بحضرة بهاء الدولة.(7/410)
شرح الحال فى عود ابن بختيار وما جرى عليه أمر الموفق فى قصده إيّاه وظفره به وأمر عسكر ابن بختيار بعد قتله
لما انهزم أبو نصر بن بختيار من باب شيراز صار إلى الأكراد وانتقل إلى أطراف بلاد الديلم. وكاتب الديلم بفارس وكرمان لما استقرت به الدار هناك وكاتبوه واستدعوه واستجرّوه. فصار إلى أبرقويه واجتمعت معه طائفة كبيرة من ديلم وأتراك وزطّ وأكراد وتردّد [15] فى نواحي فارس وتنقل فى أطرافها وظهر أمره وشاع خبره وواصل مكاتبة الديلم ومراسلتهم واجتذابهم واستمالتهم. وخرج الموفق أبو علىّ فى طلبه إلى جبل جيلويه وانتهى فى اتّباعه إلى أبرقويه. وكان يهرب ويراوغ ويدافع ولا يواقف ومضى إلى السيرجان.
فحدّثنى أبو عبد الله الفسوي قال: لمّا قصد ابن بختيار السيرجان لم يقبله الديلم الذين بها وكرهوا حصوله عندهم ومقامه بينهم.
وكان أبو جعفر أستاذ هرمز بن الحسن بجيرفت فنبا بابن بختيار المقام بهذا المكان وسار إلى خانين والفرخان، وهما ناحيتان بين فارس وكرمان وفيهما خلق كثير من حملة السلاح وفى أكنافهما حلل الزطّ الذين هم أشد الرجالة الفارسيين شوكة وأكثرهم عدة، واستمال منهم طائفة كثيرة وأقبل الديلم وغيرهم إليه أرسالا من نواحي كورة درابجرد ومن سائر الأصقاع.
وعمل أستاذ هرمز على قصده قبل استفحال أمره، فجمع عساكر كرمان وتوجه لطلبه، وسبقه ابن بختيار الى دشتير، والتقيا فى موضع يعرف بزيرل، من ظاهرها واستأمن إلى ابن بختيار كثير من الديلم الذين كانوا مع أستاذ هرمز، فانهزم أستاذ هرمز فى خواصه وأقاربه من القوهية وصار الى(7/411)
السيرجان. ومضى ابن بختيار إلى جيرفت ورتب العمال وجبى الأموال وأنفذ الى شقّ بمّ من استغوى له الجند الذين فيها ودعاهم إلى طاعته وملك أكثر كرمان واستولى عليها وانتشر أصحابه فيها يطرقون أعمالها ويستخرجون ارتفاعها وأستاذ هرمز بالسيرجان ينفذ السرايا إلى النواحي ويكبس أصحاب ابن بختيار [16] ويسلك سبيل الغيلة والمكيدة فى طلبهم والإيقاع بهم.
ثم ورد عليه كتاب الموفق بأنّه سائر، ورسم له قصد بردشير وسبق ابن بختيار إليها. ففعل ذاك وحصل بباب بردشير وصعد من كان بها من ديلم ابن بختيار إلى قلعتها ومنعوا نفوسهم فيها وتوجه الموفّق إلى كرمان على طريق درابجرد. فلما وصل إلى فسا عسكر بظاهرها، وعرف ابو عبد الله الحسين بن محمد بن يوسف وهو عامل كورة درابجرد خروجه من شيراز فبادر لاستقباله وخدمته، فوافق وصوله إلى معسكره أن كان نائما، فما انتبه إلّا بصهيل الخيل وضجيج الأتباع والحشم فشاهد من كثرة حواشيه وضففه وسعة كراعه ورجله ما عظم فى نفسه وحمله حسده عليه على أن قبض عليه وعلى أصحابه وأخذه معه محمولا على جمل، بعد أن احتوى على جميع ماله.
فكان إذا نزل فى المنزل أحضره وطالبه وضربه وعذّبه حتى تقدم فى بعض الأيام بأن يعلق بإحدى يديه فى بعض أعمدة الخيم وأن يحمل على الجمل معلّقا، وهو مع هذه المعاملة لا يستجيب إلى التزام درهم ولا يذعن بقليل ولا كثير، وكان أكثر ما انتهى به الموفق إليه لغيظه من تقاعده وتماتنه.
فذكر أبو عبد الله أنّه عرف من بعض أصحابه- يعنى الموفق- انه قال:
- «ما رأيت أشد نفسا من هذا الرجل فقد عذّب اليوم بكل نوع من العذاب وحلّ الساعة عن الشدّ والتعليق وهو جالس يسرح لحيته بيده وما عنده فكر فى كل ما لحقه.»(7/412)
وعرف ابن بختيار مسير الموفّق، فاستخلف الحسين بن مستر قرابة ملك ديلمان بجيرفت فى جماعة من رجاله وسار طالبا لبردشير وعاملا [17] على التحصن بها، إلى أن تلحق به أصحابه ببمّ ونرماسير، وقد كان كاتبهم واستدعاهم وهم جمرة قوية. فلما توسط الطريق إليها بلغه حصول أستاذ هرمز بها وصعود أصحابه إلى القلعة فعدل الى طريق بمّ ونرماسير وكاتب من بهما من عسكره بالمصير الى دار زين، وتمم هو إليها. فنزلها منتظرا لوصولهم اليه ورحل الموفق من فسا وطوى المنازل حتى أطلّ على جيرفت واستأمن إليه من بها من الديلم لأنّهم لم يجدوا مهربا ولا منصرفا وكانوا نحو أربع مائة رجل.
فاستوقف عندهم أبا الفتح ابن المؤمّل وأبا الفضل محمد ابن القاسم بن سودمند العارض وقال لهم:
- «قد أقمتهما عندكم ليعرضاكم ويقررا أموركم» .
ووصاهما بأن يقتلاهم. فجمعاهم إلى بستان فى دار الإمارة على أن يعرضوا فيه من غد ذلك اليوم ثم جمعا الرجالة الكوج واستدعيا واحدا واحدا على سبيل العرض وقتلاه وكان هذا الفعل منهما ليلا. ثم خافا أن ينقضي الليل ويدرك الصباح قبل الفراغ فرموا بقيتهم فى بئر كرد كانت فى البستان وطرح التراب فوقهم.
وعرف الموفق من جيرفت خبر ابن بختيار وأخذه طريق بمّ ونرماسير، فخلف أثقاله وسواده واتبعه فيمن خفّ ركابه وثبتت دوابّه وخاطر بنفسه وبالمملكة فى هذا الفعل منه.
فحدثني أبو منصور مردوست بن بكران، وكان معه وإليه خزانة السلاح السلطانية التي فى صحبته وهو داخل فى ثقاته وخاصته قال: كلّت أجسامنا ودوابّنا من مواصلة السير وإغذاذه وترك الإراحة فى ليل أو نهار، ووصلنا(7/413)
إلى جيرفت وما نعرف لابن بختيار خبرا. وقعد الموفق وجمع [18] الوجوه من الديلم والأتراك واستشارهم. فكلّ أشار بالتوقف والتثبت وتجنب المخاطرة بالاقدام والتهجم فامتنع من قبول ذاك فأقام على أمره فى الإسراء وراء ابن بختيار واستدعى منجما كان صحبه من شيراز فقال له:
- «أليس حكمت بأننى آخذ ابن بختيار وأظفر به فى يوم الاثنين الآتي» .
قال: «نعم» .
قال: «أين ذاك ونحن على هذه الصورة والرجل مستعجم الخبر وانما بقي من الأيّام خمسة أيام؟» فقال: «أنا مقيم على قولي فى حكمى، ومتى لم تظفر فى اليوم الذي ذكرته فدمى لك حلال، وإن ظفرت فأىّ شيء تعطيني؟» قال [أبو منصور] [1] : فتضاحكنا به وهزئنا منه وسار فكان الظفر فى اليوم الذي نصّ عليه.
وحدثني أبو نصر السنّى كاتب الموفّق قال:
لمّا عظم أمر ابن بختيار وملك كرمان واجتمع عليه الديلم قلق بهاء الدولة بذلك وطالب الموفق بالخروج لقصده وحربه وكان مخاطبا له على الاستعفاء وقال له:
- «لو أجبتك [2] إلى الاستعفاء لما حسن بك ان تتقبّله فى مثل هذا الوقت وقد علمت أنّنى لم أخرج من واسط إلّا برأيك ولا وصلت الى ما وصلت إليه من هذه الممالك إلّا برأيك واجتهادك. وإذا قعدت بى فى هذه الضغطة فقد أسلمتنى وضيّعت ما قدّمته فى خدمتي. ولكن تمضى فى هذا الوجه وتدفع عنّى هذا العدوّ وتجعل للاستعفاء والخطاب عليه وقتا آخر فيما بعد.»
__________
[1] . ما بين المعقوفتين من مد.
[2] . والمثبت فى مد: أجتك.(7/414)
فلم يمكنه فى جواب هذا القول إلّا الطاعة والقبول، وخلع عليه وسار والديلم والأتراك يخرجون معه أرسالا بغير مطالبة ولا تجريد، حتى إنّه كان يردّ قوما منهم فيسألونه ويضرعون إليه فى استصحابهم.
ولمّا حصل بفسا وجد بها جوامرد أبا ذرعانى معتقلا عند [19] أبى موسى خواجه بن سياهجنك، وهو إذ ذاك والى فسا. وقد كان جوامرد عند إفراج الموفق عنه بشيراز حصل فى جملة خمارتكين البهائي وفارقه وهرب إلى ابن بختيار عند وروده وحصل معه واختص به. ثم أنفذه إلى الغلمان بفسا ليتخبرهم له وأنفذ وندرين بن بلفضل هركامج إلى الديلم ووندرين ممن كان بفسا وهو وجه متقدم وأصحبهما رقاعا وخواتيم.
فحدثني الحسين أبو عبد الله ابن الحسن قال:
أنفذ ابن بختيار وندرين ابن بلفضل إلى الديلم بفسا لاستمالتهم وإفسادهم وموافقتهم على الانحياز إليه والنداء بشعاره. فوصل واستتر فى دار حبنة بن الاسبهسلار ولامج. وكان يحضر عنده طوائف الديلم سرا ويستجيبون له إلى ما يدعوهم إليه ويتسلمون الرقاع والخواتيم منه.
وكان أبو الفضل أحمد بن محمد الفسوي فى الوقت متصرفا على باب دخول دار (كذا) خواجه بن سياهجنك (سباهجنك؟) لأنه كان والى الكورة.
فحدثني غير واحد أنّ أبا الفضل كان يعشق خادمة فى دار حبنة الذي قدمنا ذكره وتواصله وتزوره فى أكثر الأوقات، فتأخرت عنه. لأنّ حبنة وكّلها بخدمة المستتر عنده. فراسلها أبو الفضل يعاتبها ويستبطئ عادتها فى زيارته.
فحضرته فأخبرته بعذرها وكان عارفا بالديلم فاستوصفها الرجل فوصفته وعرفه وسألها أن تتلطف فى إدخاله الدار ليلا وخبئه ليشاهد من يجتمع به.
ففعلت ذلك وحضر الدار سرا وشاهد وندرين وخرج من فوره إلى(7/415)
وندرش بن خواجه بن سياهجنك فقال له:
- «عندي نصيحة تتعلق بالدولة وفيها لوالدك زيادة جاه ومنزلة. فان أحسن إلىّ وقرّبنى وجعلني من خواجائية الديلم وخلع علىّ وقدّمنى، أخبرته بها.» فحمله وندرش إلى خواجه [20] أبيه حتى توثق منه فيما اشترطه لنفسه ثم حدّثه حديث وندرين. وكان الوقت ليلا فأشفق أبو موسى خواجه بن سياهجنك من تزايد الأمر وظهور الفساد وأنفذ وندرش وسياهجنك ابنيه وجماعة من خواصه إلى دار حبنة حتى كبسوها وقبضوا على وندرين وحملوه إليه فقتله.
ووفى لأبي الفضل بما كان وعده وكان هذا ابتداء أمر أبى الفضل وتقدمه حتى انتهت به الحال الى ما سنورده فى موضعه.
وعرف أبو موسى خبر جوامرد أبى ذرعانى، فقبض عليه واستأذن الموفق فى أمره، فرسم له اعتقاله.
قال أبو نصر:
فلمّا حصل الموفق بفسا أحضر جوامرد ليلا وقال له:
- «قد سلمت اننى مننت عليك بنفسك أولا بشيراز وثانيا عند ما ظهر من إفسادك فى هذه الدفعة، والآن فإن كان فيك خير وعندك مقابلة لهذه الصنيعة [1] فعلت بك المنزلة العالية الرفيعة.
قال له:
- «فيما أمرتنى به وجدتني عند إيثارك ورضاك فيه.» قال: أفرج عنك سرّا وتمضى إلى ابن بختيار وتظهر له أنّك جئته هاربا
__________
[1] . الجملة تبدو ناقصة.(7/416)
وتتوصّل إلى أخذه أسيرا. فإذا أطلت عليك أو ألفتك به ان لم تتمكن من أخذه، تصير [1] إلىّ لألحقك منازل الأكابر من نظرائك.» قال: «أفعل» .
وواقفه وعاهده وشرط عليه أن يقلّده حجبة حجاب الأمير أبى منصور وخلّاه ليلا، واشيع من غد بأنه هرب من الاعتقال، وصار جوامرد إلى ابن بختيار وعاود خدمته.
وسار الموفق مجدّا مغذّا حتى أطلّ على جيرفت واستأمن إليه من بها من أصحاب ابن بختيار ودخلها ونزل بظاهرها واجتمع إليه أبو سعد فناخسره ابن باجعفر وأبو الخير شهرستان بن ذكى وأبو موسى خواجه بن سياهجنك وغيرهم من الوجوه وقالوا له:
- «قد أسرفت أيّها الموفق فى هذا السير الذي سرته وحملت نفسك [21] فيه على ما لا تؤمن عاقبته وأنت فى فعلك بين حالين: إمّا أن تهجم هجوما ينعكس علينا فقد أهلكت نفسك ونعوذ بالله بيدك وأهلكتنا، وإمّا أن تظفر بهذا الرجل فقد زال به ما كانت الحاجة داعية إليك وإلينا فيه. ومتى أمن هذا الملك كان أمنه سببا للتدبير علينا وامتداد عينه إلى نعمنا وأحوالنا، وتركك الأمر على جملته ووقوفك فيه عند ما بلغته أولى وأصلح.» فقال لهم:
- «قد صدقتم فى قولكم ونصحتم فى رأيكم، ولكنّى قد حملت هذا من قصد هذه البلاد على ما خالفت فيه كل أحد من نصحائه وأصحاب رأيه ولزمني بذلك وبحكم ما لبسته من نعمته أن أوفيه الحق فى مناصحته وأبذل له الوسع فى طلب عدوه. ولا بد أن تساعدونى وتحملوا على نفوسكم فى
__________
[1] . فى مد: وتصير، بزيادة الواو.(7/417)
انجاز هذا النجاز معى» .
فقالوا له:
- «لم نقل ما قلناه لنخالف عليك أو نقعد عنك، وإنما أوردنا ما وقع لنا أنه خدمة لك وإذا لم ترد ذلك فنحن طوعك» .
وقال أبو نصر: وبينما هو فى ذلك حضر من عرّفه أنّ ابن بختيار بدرفاذ وهي على ثمانية فراسخ من جيرفت. فاختار ثلاثمائة رجل من الوجوه وذوى القوة والعدة من الديلم والأتراك وأخذ معه الجمازات والبغال والدواب عليها الرجل الخفيف والسلاح الكثير ومن لا بد منه من الركابية والأتباع وترك السواد والأثقال والحواشي والحشم بجيرفت وسار.
فلما وصل إلى درفاذ لم يجد بها ابن بختيار. وقيل: إنّه كان بها ومضى إلى سروستان كرمان. فمضى على طيته ووافى سروستان وقد سار ابن بختيار إلى دارزين فاضطر إلى اتباعه وخبره على صحته كالمستعجم عليه.
وكان فى ذلك وقد تقدم بضبط الطرق وأخذ كل وارد وصادر إذ أحضر رجل رستاقى [1] معه كتابان [22] لابن بختيار بخط ابن جمهور وزيره: أحدهما إلى أهل سروستان بأن يعدّوا الأنزال والميرة، فإنه على الانكفاء إليهم عند وصول عسكره من بمّ للتوجه إلى بردشير، والآخر إلى جانويه بن حكمويه أحد الدعاة بجبال جيرفت يقول فيه:
- «بلغنا حصول ابن إسماعيل بالسيرجان وأنّه على المسير إلى جيرفت وينبغي أن تأخذ عليه المضيق الفلاني (لطريق بين جبلين لا بد من سلوكه إلى جيرفت ويمكن فيه الاعتراض على العساكر بالعدة القليلة ومنعها الاجتياز) .» قال أبو نصر:
__________
[1] . وفى الأصل: إذا حضر رجلا رستاقيا (مد) .(7/418)
وسأل الموفق الرسول عن ابن بختيار وأين هو [1] ؟ قال:
- «تركته بدارزين ينتظر وصول عسكره من بمّ ونرماسير.» فسرّ بما تحقق من خبره وسار من ليلته فيما بين العشاء والعتمة.
فلما قطعنا فرسخين رأينا نارا تلوح فظننّا أن ابن بختيار قد عرف خبرنا وسار لتلقّينا وحربنا، وانزعجنا واضطربنا وبادر أبو دلف لشكرستان بن ذكىّ ونفر معه لتعرف الحال. فعادوا بعد ابعاد وذكروا أنهار نار صيادين وتثاقل الموفق فى سيره إلى أن قدّر أن يكون وصوله إلى دارزين عند الصبح. فلمّا قربنا تسرّع عسكرنا وبادر ابن بختيار فركب وجمع أصحابه وحمل على أحد الديلم رماه بزوبين أثبته فى جبهته ورمى مرداويج بن باكاليجار فجرح فرسه وصاح واشتلم وتراجع أصحابنا عنه، وتلاحقوا وصفّوا مصافّهم واجتمع أصحاب ابن بختيار ووقفوا يقاتلون ووصل الموفق- قال أبو نصر- فوقف على ظهر دابّته ومعه الصاحب أبو محمد ابن مكرم وأبو منصور مردوست وأنا وغلمان داره.
فقال أبو محمد:
- «انزل أيها الموفق واركب الفرس الفلاني» - لفرس كان من عدده.
فقال: «إن نزلت لم آمن أن تضعف قلوب [23] أصحابنا ويظنوا أنّ فعلى ذاك عن استظهار للهرب.» [قال] [2] وتركنا وسار فى غلمان داره حتى خرج على ابن بختيار من ورائه وحمل وصاح غلمانه صياح الأتراك. فقدّر ابن بختيار أنّ الغلمان كثيرون، وارتفع الغبار وحمل أصحابنا من إزاء القوم فكانت الهزيمة. وركب ابن بختيار فرسا كان من عدده وسار طالبا للنجاة بنفسه ومعه جوامرد أبو
__________
[1] . وفى الأصل: وان هوة.
[2] . زيادة إيضاحية من مد.(7/419)
ذرعانى. فأراد أن يعبر نهرا بين يديه واعتقله جوامرد وضربه بلتّ كان فى يده فسقط عن فرسه ونزل ليرفعه على الفرس ويحمله إلى الموفق فتكاثر عليه طلاب النهب وأخذوا فرسه وفرس جوامرد وسلاحه. فترك جوامرد ابن بختيار ومضى طالبا للموفق فلما لحقه قال:
- «أنا فلان وقد قتلت ابن بختيار.» فاستهان بقوله ولم يصدقه وصار يقتص أثر ابن بختيار وعنده أنّه قدّامه وأنفذ مع جوامرد محمد بن أميرويه المجرى ليعرف حقيقة ما ذكره. وقد كان بعض الديلم عرف ابن بختيار فنزل إليه وشاله وأركبه دابة كانت تحته ليحمله إلى الموفق لأنه قال له: احملنى اليه. وبينما الديلمي فى ذلك اعترضه غلام تركي من غلمان قلج، فقال له:
- «تريد ان تبقى على من حاربنا ولو ملكونا لما أبقوا علينا.» - وعنده أنّ ابن بختيار أحد الديلم. فقال له:
- «يا بنىّ، هذا ابن بختيار وأريد أن أحمله إلى الموفّق» .
فقال له: «تحمله أنت ويكون الأثر والجعالة التي جعلت لمن يحضره لك» .
قال: «لا، ولكن نتشارك فى ذلك» .
وتراضيا. وعرف قوم من الساسة والأتباع ما هما فيه، فقالوا:
- «بل نحن أحق بحمله.» ووقعت المنازعة فيه وقوعا انتهى إلى قتله وحزّ رأسه وأن أخذه التركي وركب فرسه وحرك ولقيه محمد بن أميرويه وجوامرد أبو ذرعانى فعادا معه.
فذكر أبو نصر أنّ ابن أميرويه بادر [24] الى الموفق وقد حصل على فرسخ من دارزين وأعلمه الصورة. فانكفأ حينئذ عائدا وجلس على سطح(7/420)
دار وأحضر رأس ابن بختيار فطرح بين يديه. وصعد وجوه الديلم وهنّأوه [1] بالظفر ودعوا له وفى وجوههم الوجوم وفى قلوبهم الغم إلّا رزمان بن زريزاذ، فانه لمّا رأى الرأس رفسه برجله وقال للموفق:
- «الحمد لله الذي بلّغك غرضك وأجرى قتله وأخذ الثأر منه على يدك وحقق رؤياى التي كنت ذكرتها لك.» قال أبو نصر:
وقد كان رزمان قال للموفق فى بعض الأيّام بشيراز:
- «رأيت البارحة فى المنام صمصام الدولة وهو يقول لى: امض الى الموفق فقل له حتى يأخذ بثأرى من ابن بختيار.» ثم نزل الموفق من السطح إلى خيمة لطيفة ضربت له وكتب إلى بهاء الدولة بالفتح كتابا بخط يده نسخته:
«بسم الله الرحمن الرحيم» - «علقت هذه الأحرف غدوة يوم الإثنين لثلاث ليال بقين من جمادى الآخرة من الموضع المعروف بدارزين على خمسة فراسخ من بمّ وبين يدي رأس ابن بختيار وقد استولى القتل على أكثر من خمسمائة رجل من الديلم. وأما الرجّالة والزطّ فلم يقع عليهم إحصاء. بلّغ الله تعالى مولانا شاهانشاه فى جميع أموره وسائر أعداء دولته نهاية آماله وآمال خدمه وكتابي ينفذ بالشرح ليوقف عليه ويعظم الشكر للَّه عز اسمه على ما وفق له من هذا الفتح المبارك بمنّه. وقد استوهب البشارة جماعة من
__________
[1] . والمثبت فى مد: وهنوه.(7/421)
الأولياء المقيمين معى وذكرت ذلك لئلا يوهب شيء منها لغيرها إن شاء الله تعالى.» قال أبو نصر: وأمرنى بإحضار هميان من جملة همايين كانت على أوساط غلمانه الأتراك [25] وفتحه وصبّ دنانير كانت فيه وقال:
- «نادوا من جاء بديلمى فله كذا وبراجل كوجىّ أو زطّىّ فله نصف ذلك.» فكان يؤتى بالديلمى والراجل فيقتلان على بعد من موضعه ومرأى من عينه حتى قتل عدد كثير [1] . وحضره نيكور بن الداعي وولد للفاراضى وسألاه فى قريب لهما قد كان أخذ وحمل ليقتل. ولم يزالا يخضعان ويقبلان الأرض وهو يقول لهما:
- «قد عرفتم إحسانى إليكم وما جعل لكم من الذنوب عند الملك بالتوفر عليكم وهؤلاء القوم طلبوا الملك وساعدوا الأعداء ولا يجوز الإبقاء عليهم والصفح عنهم.» فبينما الخطاب يجرى بينهما وبينه، إذ دخل نقيب لهما فقال:
- «قد قتل الرجل،» فنهضا من مجلسه وقعدا للعزاء به وصار إليهما معزّيا.
ما دار بين الموفّق وبرنجشير المنجّم
وسألت أبا نصر عن المنجم الذي ذكر أبو منصور مردوست من حكمه ما ذكره فقال:
«نعم. هذا رجل يكنى بأبى عبد الله ويعرف ببرنجشير، وكان يخدم
__________
[1] . والمثبت فى مد: عدد كثيرا، وهو سهو.(7/422)
صمصام الدولة. فلما قتل صار فى جملة رزمان بن زريزاذ بالصمصامية.
وكان رزمان يحضر كثيرا بين يدي الموفق ويؤاكله ويشاربه وينادمه ويؤانسه. فجرى فى بعض الليالي عند حصولنا بفسا ذكر للنجوم والأحكام، فقال:
- «معى منجم يدّعى من علم ذلك طرفا. فان رسم إحضاره أحضرته.» فقال له الموفق:
- «هاته.» فاستدعاه. فلما رآه قبلته عينه وقلبه وسقاه، وقال له:
- «ما عندك فيما قصدناه.» قال: «الظفر [1] لك يا مولانا، وأنت تملك وتقتل ابن بختيار فى اليوم الفلاني.» قال له الموفق:
- «ان كنت تقول هذا زرقا لتجعله فألا محمودا قبلناه، وإن كان عن علم وعلى حكم من أين استدللت عليه؟» قال: «ما هو زرق، ولكنّه [26] قول على أصل ومعى مولد ابن بختيار وعليه قطع فى اليوم الذي ذكرته لبلوغ درجة قسمة طالعه فى تربيع المريخ.» فقال له الموفق:
- «إنّ صحّ حكمك خلعت عليك وأحسنت إليك واستخدمتك واختصصتك وإن بطل فبأى شيء تحكم على نفسك؟» قال: «بما حكمت.»
__________
[1] . وفى الأصل: المظفر.(7/423)
[قال] [1] : «ولما حصلنا بجيرفت عاودت هذا المنجم الخطاب وقلت له:
- «أنت مقيم على ذلك الحكم؟» قال: «نعم.» وكان قد جاءنا خبر ابن بختيار بأنّه بدرفاذ فقلت له:
- «الرجل على منزل منّا ونحن سائرون إليه الليلة وقد بقي إلى اليوم الذي نصصت عليه خمسة أيام.» فقال: «أمّا ما حكمت به فأنا مقيم عليه، ولست أعلم ما بقي بينكم وبين ابن بختيار.» وكانت الوقعة وقتل ابن بختيار فى اليوم الذي ذكره.
قال أبو عبد الله الفسوي:
ودفن جسد ابن بختيار فى قبة بدارزين دفن فيها أبو طاهر سليمان بن محمد بن إلياس لما قتله زريزاذ عند عوده من خراسان لقتال كوركير بن جستان [2] ومضى من كان مع ابن بختيار من الأتراك إلى خبيص وراسلوا الأتراك الذين مع الموفق حتى خاطبوه فى ايمانهم وقبولهم وأجابهم فوردوا واختلطوا بالعسكر.
قال أبو نصر: وسار الموفق طالبا لبردشير وأبو جعفر أستاذ هرمز مقيم فيها على حصار من فى القلعة من أصحاب ابن بختيار. فلما وردها وعرف القوم هلاك ابن بختيار راسلوا الديلم الذين مع الموفق وسألوهم أخذ الأمان لهم ليفتحوا القلعة ويدخلوا فى الطاعة فخاطبوه على ذلك فقال:
- «لا أمان لهم عندي إلّا على أن ينصرفوا بمرقعات ويخلوا عن أموالهم
__________
[1] . إيضاح من مد.
[2] . وهذا فى سنة 360 كما تقدم ذكره.(7/424)
وأحوالهم.» فاستجابوا له إلى هذا الشرط. فكان الرجل ينزل هو وولده بمرقعات وكراريز [27] ويركبون الطريق ووقع الاحتواء على ما فى القلعة من المال والثياب والرحل والدواب.
قال أبو نصر: وأحضر إلى المعسكر ببردشير من لحقه الطلب وأسر من أصحاب ابن بختيار وفيهم بلفضل بن بويه فتقدم الموفق بأن ضربت له خيمة مفردة، ثم استدعى أبا دلف لشكرستان بن ذكى وأبا الفضل ابن سودمند [1] العارض والوقت عتمة فقال لهما:
- «أمضيا إلى بلفضل ووبّخاه على مفارقته هذه الدولة وخدمته ابن بختيار وبالغا له فى القول والتعنيف.» وخرجا من بين يديه وبين أيديهما الفراشون بالشموع. وكانت الخيمة التي فيها أبو الفضل (كذا) ابن بويه قريبة من خيمته فنهض وقال لوندرش ابن خواجه بن سياهجنك وكان عنده:
- «قم بنا لنسمع ما تقوله رسلنا لأبي الفضل وما يجيبهم به.» وقال لى:
- «تعرف الطريق الذي يؤدى بنا إلى خيمته على الإصطبل؟» قلت: «نعم.» قال: «كن دليلنا.» ومنع الفراشين من اتباعه ومضى فى الظلمة وهو متكئ على يد وندرش وأنا بين يديه، حتى حصلنا من وراء الخيمة ووقفنا وهو قاعد بيني وبين وندرش فسمع أبادلف لشكرستان يعاتبه ويوبخه فقال له:
__________
[1] . والمثبت فى الأصل ومد: سودمنذ (بالذال المعجمة) .(7/425)
- «يا أبادلف، دع هذا القول عنك فواللَّه ما بقي أحد من أكابر عسكركم وأصاغرهم إلّا وقد كاتب ابن بختيار واستدعاه وأطاعه ووالاه، حتى لو قلت إنّه ما تأخر عنه إلّا كتاب الملك والموفّق خاصّة لكنت صادقا.» وعاد الموفق إلى خيمته وعاد أبو دلف لشكرستان وأبو الفضل ابن سودمند [1] بعده ودخلا اليه فقال لشكرستان:
- «يا مولانا قد اعتذر فيما كان منه وسأل اقالته العثرة فيه.» فقال له الموفق:
- «وما الذي قاله [28] لكما وحدّثكما به؟» فورّى لشكرستان ثم صدقه وقال:
- «ما فى عسكرك إلّا من هو متهم وما يمكنك أن تأخذ الجماعة بما فعلوه ولا أن تظاهرهم بما استعملوه وطىّ هذا الحديث أولى فى السياسة.» وحمل بلفضل بن بويه والديلم المأسورون إلى شيراز عند عود الموفق.
فأمّا بلفضل ونفر معه فإنّهم اعتقلوا إلى أن قبض على الموفق ثم أفرج عنهم.
وأمّا الباقون فإنّ وجوه الديلم سألوا الموفق فيهم فخلّى سبيلهم.
ونرجع إلى ذكر ما فعله الموفق بعد ذلك ببردشير.
قال أبو نصر:
ثم جمع الديلم الكرمانية من سائر النواحي وقال لهم:
- «من أراد المقام فى هذه الدولة على أن يستأنف تقرير ديوانه ويوجب له ما يجوز إيجابه لمثله، فليقم على هذا الشرط وعلى أنّه لا ضيعة ولا إقطاع وإنّما هو عطاء وتسبيب ومن أراد الانصراف فالطريق بين يديه.» فاستقرّ الأمر معهم على أن يعرضوا وتحلّ الإقطاعات التي فى أيديهم
__________
[1] . والمثبت فى مد: سودمنذ (بالذال المعجمة) كما فى المواطن السابقة.(7/426)
وتستقبل التقريرات [1] معهم كما تستقبل بالعجم الذين يردّون من بلاد الديلم.
وجلس لذلك ووجوه الديلم عن يمينه ووجوه الأتراك عن يساره والعرّاض والكتّاب والجرائد بين يديه. فكان يحضر الديلمي الذي له بكرمان السنون الكثيرة وفى يده الإقطاعات الكثيرة وأقلّ المقرّر له: خمسمائة ألف درهم، فيقبّل الأرض ويقف ويسأل عن اسمه واسم أبيه وعن بلده ثم يقرّر له التقرير القريب إلى أن حلّ الإقطاعات كلّها وردّ أصول التقريرات إلى بعضها وصرف الحشو وارتبط الصفو.
ولما فرغ من ذلك صرف أبا جعفر أستاذ هرمز عن كرمان وأخذ حاله الظاهرة لأنه ينقم عليه [29] قبضه على أبى محمد القاسم بن مهدر فروخ، لما كان مقيما معه بغير إذنه ولا أمره وقلّد أبا موسى خواجه بن سياهجنك الحرب وخلع عليه وحمله على فرس بمركب ذهب وعوّل على أبى محمد القاسم [2] فى أمر الخراج وخلع عليه وأخذ خطه بتصحيح ثلاثة آلاف ألف درهم من النواحي فى مدة قريبة قررها معه.
واتفق أن ورد عليه كتاب من أبى الفضل الإسكافى يخبره فيه ما غاظه من ذكر الحواشي له عند ورود كتابه بالفتح بالطعن عليه والقدح فيه. فما ملك نفسه عند وقوفه على ذلك، وتداخله من الامتعاض ما أقلقه وأزعجه.
واستدعى أبا منصور مردوست وأنفذه إلى شيراز وقاد معه خيلا وبغالا وحمله رسالة الى بهاء الدولة يقول فيها:
«قد خدمت الملك أولا وأخيرا ووفيته حقّ الصنيعة وحكم النصيحة ووجب أن ينجز لى ما وعدنيه من الإعفاء بعد الفتح، فإنّى لا أصلح لخدمة ولا عمل بعد اليوم.»
__________
[1] . فى الأصل: تفررات.
[2] . والمثبت فى مد: القسم.(7/427)
وأظهر الانكفاء بعد إنفاذه أبا منصور مردوست، فاجتمع اليه وجوه الديلم الذين يسكن إليهم ويعول عليهم وعرّفوه غلط الرأى فى عوده قبل أن يرتب الأمور ويمهدها ويسددها ويهذبها وأشاروا عليه بالتوقف والتوفر على إصلاح الأعمال من جمع الأموال وإذا تكامل له ما يريده بعد مدة حمل إلى بهاء الدولة ما يرضيه به. وكان بين أن يقيم بموضعه ان طاب له المقام، فيه أو يسير إلى أصبهان ويأخذها وينتقل منها الى الجبل أو الى العراق. وحذّروه من الاجتماع مع بهاء الدولة والكون عنده وأعلموه أنه غير مأمون عليه مع خلو ذرعه وأمنه الأعداء. فلم يقبل [30] منهم ما صدقوه فيه ونصحوه به وحمله فرط الإدلال على أن عاد إلى شيراز. وكان دخوله إياها فى يوم الأربعاء الثاني عشر من شعبان.
فحدّثنى غير واحد أنّ بهاء الدولة خرج لاستقباله. فلمّا لقيه وخدمه ورجعا داخلين إلى البار، فارقه الموفق فى وسط الطريق وعدل إلى داره والعسكر بأسره معه فى موكبه وبقي الملك فى غلمان خيله وخدمه وخاصته وانّ ذلك شق على بهاء الدولة وبلغ كل مبلغ منه وتحدّث به الناس وأكثروا الخوض فيه، وامتنع بهاء الدولة بعد هذا الاستقبال من استقبال أحد من وزرائه.
ونعود إلى ذكر الحوادث على سياقة الشهور
وفى يوم الاثنين الرابع من رجب توفى أبو الحسن أحمد بن على بن شجاع الشاهد.
وفى يوم الاثنين الحادي عشر منه توفّى أبو حفص عمر بن إبراهيم(7/428)
الكناني المقرئ [1] .
خروج لدفع القرّاد
وفى يوم الجمعة لثمان بقين منه توفى الأمير أبو سعد ابن بهاء الدولة ببغداد.
وفى يوم السبت لسبع بقين منه خرج أبو الحسن على بن الحسن البغدادي وأبو طاهر يغما الكبير إلى بادوريا دافعين لأصحاب قرّاد بن اللديد عنها.
ذكر السبب فى ذلك وما جرت عليه الحال فيه
كان لأبى طاهر يغما إقطاع جليل ببادوريا وانضاف إليه أن يقلّد ولايتها ونازع قراد بن اللديد فيها وأبو الحسن رشا الخلدى إذ ذاك كاتبه والمدبر لاموره وفيه استقصاء فى المعاملة وغلظة ولجاج ومنافرة. فاستعمل الاستقصاء مع أبى طاهر يغما والمنافرة والغلظة مع أبى نصر سابور بن أردشير [31] فى أمور اعترض فيها وأوامر امتنع فيها وثقل على المقطعين والأكرة، وردما كان يؤخذ من مال الخفارة والحماية ورقا قيمة الدينار به مائة وخمسون درهما الى العين مصارفة عشرين درهما بدينار عتيق.
فتضاعف التقرير وزاد التثقيل. وعملت لأبى نصر سابور الأعمال فى بادوريا وأطمع فى مال يحصل له منها: إمّا على الحرب أو على الصلح وأدت الحال إلى خروج يغما واليا للحرب وأبى الحسن البغدادي ناظرا فى استخراج الرسوم العربية، وأقاما مدة على ذلك. ووافى قراد ورشا فى
__________
[1] . هو عمر بن ابراهيم بن أحمد بن كثير. وفى تاريخ الإسلام أنه قرأ على ابن مجاهد وحمل عنه كتاب السبعة. وليراجع فيه الأنساب للسمعاني ص 475 س 4 (مد) .(7/429)
جمع جمعاه ونزلا بالسندية ويغما وأبو الحسن البغدادي بالفارسية وبينهما أربعة فراسخ. وتطرق أصحاب قراد فقتلوا ثلاثة غلمان من الأتراك يقال لأحدهما: بايتكين الياروخى، وللآخر: الهاروني، وللثالث: المجدر، وصلبوا الهاروني ببيذ على شاطئ نهر عيسى.
فخرج أبو نصر سابور وأيوب حرب شيرزيل بن بلفوارس بالعسكر الى الفارسية وقرب قراد وأصحابه منها وتسرع سياهجنك ابن خواجة بن سياهجنك فى نفر من الديلم لمناوشة قوم من العرب. فاستجروه حتى فارق العسكر وحصل عند القرية المعروفة بالكلوذانية على رمية سهم من الفارسية.
ثم خرج من ورائه جماعة منهم قد كانوا تكمنوا فى ذرة قائمة هناك فأخذوه أسيرا. واضطرب الناس بذاك وكاتب أبو نصر سابور قلج- وكان ببغداد- بالخروج، فخرج فى عدّة من الغلمان والأكراد الذين برسمه، وسارت الجماعة إلى السندية وخيموا فى الجانب الشرقي بازائها ومضى قراد إلى حديثة الأنبار وهي على أربعة فراسخ منها. فما مضت أيام يسيرة حتى غضب قلج من شيء سأله فتوقف أبو نصر سابور [32] عنه وخلع خيمه وخلع الغلمان خيمهم معه وعادوا واضطرّ أبو نصر سابور وأبو حرب شيرزيل والديلم إلى العود بعودهم وذلك فى شهر رمضان.
فأذكر وقد ورد علىّ كتاب أبى الحسن رشا يسألنى توسط أمره واستئذان أبى نصر سابور فى ورود صاحب له. فصرت اليه وأقرأته الكتاب فتباعد فى الجواب وقال:
- «اكتب اليه وقل له: والله لا قرّرت معك أمرا إلّا بعد أن أشفى منك صدرا» .» وخرجت من حضرته وتوقفت فى كتب الجواب ورد الرسول. فلم تمض ساعة حتى قلع قلج والغلمان ورحلوا فاستدعاني أبو نصر وقال:(7/430)
- «ما الذي أجبت به رشا؟» قلت: «ما قلته.» فقال: «وقد مضى رسوله.» قلت: «لا.» قال: «ارتجع الكتاب واكتب اليه: بأنّ وطأة الأولياء ثقلت على النواحي ولم أحب إخرابها بتطاول مقامي فيها وإذا كنت قد ندمت على ما مضى واستأنفت الطاعة والخدمة فأنفذ صاحبك» .» وركب عائدا إلى بغداد وكتبت الجواب قائما على رجلي لأنّ الأمر أعجل عن التلبث والتثبت، وخفنا أن يعرف العرب خبرنا فيكسبوا معسكرنا ويأخذوا من تأخر منّا أو يعارضونا فى طريقنا فيبلغوا أغراضهم منّا مع تفرقنا ودخولنا كما يدخل المنهزمون.
ووصل كتابي إلى أبى الحسن رشا فأنفذ أبا الفضل ابن الصابوني الموصلي واستقرّ الأمر مع المنصرف القبيح والطمع المتجدد على إطلاق سياهجنك فى الوقت وحده واندرجت القصّة على تزايد الفضيحة وتضاعف الأخلوقه. وقد كانت الكتب نفذت إلى الموفق بذكر ما فعل وعاد جوابه ينكره ويمنع من التعرض لبنى عقيل أو هياجهم [1] .
وفى يوم الأحد لستّ [33] بقين منه توفّى [2] أبو الحسن على بن محمد ابن عبيد الزجاج الشاهد، وكان مولده فى شهر رمضان من سنة خمس وتسعين ومائتين.
وفى يوم الخميس لليلتين بقيتا منه توفى أبو القاسم عبيد الله بن عثمان
__________
[1] . فى الأصل: هاجتهم.
[2] . والمثبت فى مد: توق.(7/431)
ابن حنيقا المحدّث [1] .
وفى يوم الثلاثاء الرابع من شعبان توفّى القاضي ابو الحسن محمد بن عبيد الله بن احمد بن معروف.
وفى يوم الخميس السادس منه توفى ابو عبد الله الحسين بن محمد بن الفراء الفقيه الشاهد بالجانب الشرقي [2] .
ذكر القبض على الموفّق بشيراز
وفى يوم الخميس لعشر بقين منه قبض على الموفّق أبى على ابن إسماعيل بشيراز.
شرح الحال فى ذلك وفيما تقرّر عليه أمر النظر بعده
لما عاد إلى شيراز على ما قدمنا ذكره أقام على الاستعفاء وأعاد القول فيه وكرّره. وكانت فى قلب بهاء الدولة منه أمور قد ملأته وأوغرته وأحالت رأيه فيه وغيرته، وزال عنه ما كان يراعيه ويراقبه ويحتمله لأجله وبسببه.
وخافه الحواشي ومن كان بحضرة الملك لأنه ذكرهم وأطلق لسانه فيهم فأغروه به.
فحدّثنى أبو نصر بشر بن ابراهيم السنى قال:
__________
[1] . قال أبو الفرج ابن الجوزي فى المنتظم: كذا ذكره الخطيب بالنون وهو يعنى (ابن حنيقا) جد القاضي أبى يعلى ابن الفراء لامه. وقال أبو على البردانى: قال لنا القاضي أبو يعلى: الناس يقولون «حنيقا» بالنون وهو غلط. إنما هو «حليقا» باللام (مد) .
[2] . وفى تاريخ الإسلام انه كان على مذهب أبى حنيفة وانه والد القاضي أبى يعلى شيخ الحنابلة:
وأبو يعلى هو محمد بن الحسين ولد سنة 380 وفيه قال الخطيب. له تصانيف على مذهب أحمد ودرس وأفتى سنين كثيرة وولى القضاء بحريم دار الخلافة (مد) .(7/432)
لما ورد الموفق قادما من كرمان أقام على الاستعفاء وواصل مراسلة بهاء الدولة فيه والإلحاح فى مسألته إياه. فحضر عنده أبو سعد فناخسره بن باجعفر وأبو دلف لشكرستان ابن ذكى وكانا يختصان به فى الليلة التي قبض عليه من غدها وقالا له وأبو العلاء الإسكافى حاضر:
- «أيها الموفق أىّ شيء آخر ما أنت عليه من ركوب الهوى ومخالفة الرأى فى هذا الاستعفاء، وما الذي تريده لنبلغه لك: إمّا بالملك أو بنفوسنا؟
فإن كان قد غاظك من أبى على ابن أستاذ هرمز [34] أو أبى عبد الله الحسين بن أحمد فعل أو تريد بهما أمرا فنحن نضع عليهما من يفتك بهما ونقود الملك إلى أخذهما وتسليمهما إليك، أو كان فى نفسك غير ذلك فاصدقنا عنه وأطلعنا عليه لنتبع هواك فيه.» فقال لهما:
- «أمّا أبو على ابن أستاذ هرمز، فبيني وبينه عهد منذ كوننا بالأهواز وما أرجع عنه، وأمّا أن يكون فى نفسي ما أطويه عنكما فمعاذ الله. ولكنني قد خدمت هذا الملك وبلغت له أغراضه وما أريد الجندية بعد ما مضى.» فقالا- وقال أبو العلاء الإسكافي- له:
- «لا تفعل ودع ما قد ركبته من هذه الطريق وأقمت عليه من هذا اللجاج. فانه يؤدى إلى ما تندم عليه حين يتعذر الاستدراك ومتى قدّرت أنك تعفى وتقيم فى منزلك وينظر بعدك ناظر، وقد بلغت من الدولة ما بلغته وتقدمت بك المنزلة إلى ما تقدمت اليه، فقد قدّرت محالا. والصواب أن تدعنا لنمضى إلى الملك ونعرّفه عدولك عن رأيك ومقامك على خدمته والنظر فى أموره.» فأبى ثم قالوا له:
- «فإذا كنت على ما أنت عليه فأخّر ركوبك فى غد وارجع فكرك ونحضر(7/433)
عندك ويستقرّ بيننا فى غير هذا المجلس ما يكون العمل به.» فلم يقبل وركب من غد إلى دار المملكة ومعه العسكر. فلما دخل وجلس فى البيت الصلى [1] نظر فيما جرت عادته بالنظر فيه وأوصل جماعة القواد اليه وخاطبهم وقضى حوائجهم.
ثم قال لأبى الفضل ابن سودمند [2] العارض والنقباء:
- «اخرجوا إلى الناس وانظروا فى أمورهم وتسلّموا رقاعهم بمطالبهم.» وترددت المراسلات بينه وبين بهاء الدولة فى حديث الإعفاء وبهاء الدولة يدفعه عن ذلك وهو مقيم عليه ومقيم على المطالبة به. ثم رأينا فى الدار أمورا متغيرة ووجوها متنكرة.
فقال [35] له الصاحب أبو محمد ابن مكرم:
- «قد أحسست بما أنا مشفق منه، والرأى أن تقوم وتخرج، فانّ أحدا لا يقدم على منعك، وإذا حصلت فى دارك دبّرت أمرك بما تراه صوابا لنفسك.» فقال له: قد خفت أيها الصاحب وخرت فقم وانصرف. فراجعه القول قليلا ثم انصرف وركب وتبين الموفق من بعد أمره.
[قال أبو نصر] [3] فقال لى:
- «امض وخذ لنفسك.» فقلت: «بل أقيم وأكون معك.» فزبرني وقال:
- «اخرج كما يقال لك.» فخرجت ولم يبق عنده إلّا أبو غالب بن خلف وأبو الفضل الإسكافى:
__________
[1] . كذا فى مد. ولعلّه: المصلّى.
[2] . والمثبت فى الأصل: سودمنذ، بالذال المعجمة.
[3] . إيضاح من مد.(7/434)
فحدثت أنّ الحسين الساباطي الفراش خرج وقال لأبي غالب:
- «يا أستاذ اخرج.» وقال لأبي الفضل مثل ذلك وأغلق باب البيت وزرفنه ووكّل الفراشين به وأخذ أبو غالب وأبو الفضل واعتقلا ووكل بهما. وشاع الخبر بين الديلم الحاضرين فى الدار فتسللوا واحدا واحدا وتفرقوا فريقا فريقا ولم يجر من أحدهم قول فى ذلك. وأنفذ إلى دار الموفق من نقل جميع ما كان فيها من المال والثياب والرحل والسلاح والخدم والغلمان، وإلى اصطبلاته فحوّل ما فيها من الكراع والحمال.
[قال أبو نصر] : وترشح الأمين أبو عبد الله للنظر وأمر ونهى فى ذلك اليوم.
فلما كان آخره استدعى الصاحب أبو على الحسن بن أستاذ هرمز- وقد كان بعد فتح الأهواز اعتزل الأمور وأقام فى منزله واقتصر على حضور الدار فى الأوقات التي يجلس فيها بهاء الدولة الجلوس العام- واستخلف له أبو الفضل بن ماوزند فوقفت الأمور ولم تكن له ولا لأبي الفضل دربة بالتمشية والتنفيذ وخلّى أبو العباس الوكيل وقد كان قبض عليه وقرر أمره وأعيد إلى ما كان ناظرا فيه.
[قال أبو نصر] [1] : وكان أبو الخطاب يكره أبا غالب ابن خلف ولا يريده [36] فقال له أبو منصور مردوست:
- «أراك تكاتب الوزير أبا العباس ابن ماسرجس وغيره فى الورود ليردّ إليهم النظر فى الأمور وقد عوّلت من الصاحب أبى علىّ على من ليس يحلى ولا يمرّ فيما يراد منه. وهذه أسباب تدعو إلى الوقوف والحاجة الى ردّ الموفق وما كان يمشى الأمر ويخفف فيه إلّا أبو غالب. فلو أطلقته
__________
[1] . إيضاح من مد.(7/435)
واستخدمته لترخّى على يده ما لا يترخى على يد غيره وكفينا دخول من لا يؤمن بيننا.» فقبل منه وأطلقه وجعله خليفة للصاحب أبى علىّ ونظر وكفى. وكان بهاء الدولة يرعى له ما كان يخدمه به فى أيام الموفق والحواشي يحتمونه لانبساطه فى عطائهم وقضاء حوائجهم. ومضت مديدة فأعجب أبا الخطاب تخفيفه عنه، واستمال الجند وتوفر عليهم وأعطته الكفاية والسعادة ما كان له فى ضمنهما وتمسك بأبى الخطّاب وتمسك أبو الخطاب به وتفرد بالأمور وتقلدها وزارة ورئاسة. وخرج الصاحب أبو على من الوسط.
حوادث عدّة
وفى ليلة الجمعة لليلتين بقيتا منه توفّى أبو الحسن محمد بن عبد الله بن أخى ميمى المحدث.
وفى يوم الثلاثاء لثلاث خلون من شهر رمضان ورد الكتاب إلى أبى نصر سابور بذكر القبض على الموفق وأن يقبض على ولده وأهله وأصحابه وأسبابه فاستعمل الجميل وأنذر ولده وأقاربه حتى انصرفوا عن دورهم وأخذوا لنفوسهم. ثمّ أنفذ إلى منازلهم فكانت خالية منهم وأجاب عن الكتاب بأنّ الخبر سبق الى القوم قبل ورود ما ورد عليه به واقتصر على ان أدخل يده فى ضياعه بطريق خراسان مديدة. ثم كتب من فارس بالإفراج لولده أبى المعمر وأقرّ أبو نصر [37] سابور وأبو القاسم الحسين بن محمد بن مما وأبو نعيم المحسن بن الحسن على ما كانوا يتولّونه.
وفى يوم السبت لليلتين بقيتا منه توفّى أبو الحسين ابن أبى الزيال الشاهد.
وفى روز أبان من ماه شهريور الواقع فى هذا الشهر أخرج الصاحب أبو(7/436)
محمد بن مكرّم إلى عمان متقلدا لها.
وفى روز مهر من ماه شهرير [1] الواقع فيه أخرج أبو جعفر أستاذ هرمز ابن الحسن الى كرمان.
وفى ليلة يوم الإثنين الثالث عشر من شوال احترق سوق الزرّادين بباب الشعير.
وفى يوم الخميس لسبع بقين منه قلد القاضي أبو عبد الله الحسين بن هرون الضبّى مدينة المنصور رحمة الله عليه مضافة إلى الكرخ والكوفة وسقى الفرات وقلد القاضي أبو محمد عبد الله بن محمد الأكفانى الرصافة وأعمالها عوضا عن المدينة التي كان يليها وقلد القاضي أبو الحسن الخرزي طريقي دجلة وخراسان مضافا إلى عمله بالحضرة وقرئت عهودهم على ذلك.
وفى هذا الشهر ورد الخبر بأنّ المقلد بن المسيب ملك دقوقا وخانيجار.
وأقرّ بها أبا محمد جبرائيل الملقب بدبوس الدولة نائبا عنه.
وفى يوم الخميس مستهل ذى القعدة ورد الكتاب من فارس بتقليد أبى على ابن سهل الدورقي ديوان السواد واستخلافه عليه أبا منصور عبد الله ابن الإصطخرى الكاتب فيه.
وفى يوم الأحد الرابع منه توفّى أبو محمد القاسم بن الحسين الموسوي العلوي.
وفى يوم الإثنين الخامس منه تكلّم الديلم فى أمر النقد وفساده وكانت المعاملات يومئذ بالورق وقصدوا دار ابى نصر سابور [38] بدرب الديزج على سبيل الشغب.
__________
[1] . شهرير (شهريور) الشهر السادس من السنة الشمسية الإيرانية.(7/437)
أقوى الأسباب في تملّك الخانيّة وانقراض السامانيّة
وفى هذا الشهر ورد الخبر بأنّ بغرا خاقان [1] قصد بخارا واستولى عليها ودفع ولد أبى القاسم نوح بن منصور عنها.
وحدثني أبو الحسين ابن زيرك قال: حدثني أبو الحسين ابن اليسع التميمي الفارسي وكان من أعيان التجار قال:
كنت ببخارا حين وردت عساكر الخانية فصعد خطباء السامانية إلى منابر الجوامع واستنفروا الناس وقالوا عن السامانية قد عرفتم حسن سيرتنا فيكم وجميل صحبتنا لكم وقد أطلنا هذا العدوّ وتعيّن عليكم نصرنا والمجاهدة دوننا، فاستخيروا الله تعالى فى مساعدتنا ومضافرتنا.
وأكثر أهل بخارا حملة سلاح وأهل ما وراء النهر كذلك. فلما سمع العوام ذلك قصدوا الفقهاء عندهم واستفتوهم فى القتال فمنعوهم منه وقالوا:
- «لو كان الخانية ينازعون فى الدين لوجب قتالهم فأمّا المنازعة [2] فى الدنيا فلا فسحة لمسلم فى التغرير بنفسه والتعرض لإراقة دمه. وسيرة القوم جميلة وأديانهم صحيحة واعتزال الفتنة أولى. فكان ذاك من أقوى الأسباب فى تملك الخانية وهرب السامانية وانقراض ملكهم ودخل الخانية بخارا فأحسنوا السيرة ورفقوا بالرعية.
وفيه ورد أبو الحسن محمد بن أحمد بن علان العارض من فارس لتجريد الغلمان إلى هناك واجتمع الشريف أبو الحسن ابن يحيى والمناصح أبو الهيجاء والسعيد أبو طاهر وأبو الحسن ابن علان فى دار أبى نصر سابور. فأحضروا
__________
[1] . كذا فى الأصل والراجح انه أخوه ايلك الخان. انظر تاريخ الإسلام سنة 383 (مد) .
[2] . والمثبت فى مد: والمنازعة (بزيادة الواو) .(7/438)
الغلمان وخاطبوهم على الخروج فطالبوا بما تأخر لهم من الأقساط والإقامات وبذل لهم سابور إطلاق القسط لمن يخرج دون من يقيم حتى إذا أعطى المجردين ننظر فى أمر المقيمين وترجح القول ووقف الاستقرار.
وفى يوم الاثنين الثامن عشر من ذى الحجة توفى أبو الفرج المعافى بن زكريا المعروف بابن طرارا بالنهروان وكان رجلا يعرف علوما كثيرة [1] وفى هذا يوم الجمعة لليلة بقيت منه توفى أبو عبد الله الحسين بن يحيى بن الحندقوقا الهاشمي عن ست وخمسين سنة وثلاثة أشهر.
وفى اليوم الثالث من الخمسة المسترقة خرج بهاء الدولة إلى كوار وسار منها إلى فسا.
وحج بالناس فى هذه السنة أبو الحارث محمد بن محمد بن عمر.
ورود طاهر بن خلف كرمان
وفى هذه السنة ورد طاهر بن خلف المعروف بشير يار بك كرمان منافرا لخلف أبيه. ثم تغلب عليها وملكها وانضوى إليه كثير من عساكرها وانتهى أمره إلى الهزيمة والعود إلى سجستان.
شرح ذلك على ما حدثني به أبو عبد الله الفسوي
وقد سقناه سياقة لم نذكر فيها أيام ما جرى وشهوره لاشكال ذلك علينا.
إلّا أنّ المدة على غالب ظني فيما بين سنة تسعين وثلاثمائة.
وصدر من سنة احدى وتسعين وثلاثمائة.
__________
[1] . قال صاحب تاريخ الإسلام: قال فيه أبو حيان التوحيدي: رأيت المعافا بن زكريا قد نام مستدبر الشمس فى جامع الرصافة فى يوم شات وبه من أثر الضر والفقر والبؤس أمر عظيم مع غزارة علمه (مد) .(7/439)
لما قلد الموفق أبو على أبا موسى خواجة بن سياهجنك أعمال كرمان وصرف من صرف من الديلم على السبيل التي قدمنا ذكرها، صار أبو موسى الى جيرفت فتتبع أموال الديلم المبعدين واستثار ودائعهم وطالب حرمهم وأسبابهم وصادرهم وقبض على جماعة الباقين وقتلهم وطردهم وصلب [40] نفسين من وجوه الكتّاب لإنكاره عليهما تصرفهما مع ابن بختيار وأظهر الاستقصاء والغلظة.
واتفق أن نافر طاهر بن خلف خلفا أباه ونازعه الأمر وجرت بينهما حروب أدّت طاهرا إلى الهرب وقصد كرمان ملتجئا إلى بهاء الدولة. فلما دخل المفازة التي بين سجستان وبينها ضلّ الطريق فيها ولحقه ولحق من معه جهد شديد. ثمّ خلص على أسوا حال. ولقيه الديلم الفلّ والمنفيون من أصحاب ابن بختيار فأطمعوه [1] فى أخذ كرمان والتغلب عليها وأعلموه أنّ من وراءهم من الديلم على نفور من بهاء الدولة وكراهية له لما عاملهم الموفّق به وأنّهم وإياهم يجتمعون على طاعته ويخلصون فى مظاهرته.
فصبا إلى ذلك وحدّث نفسه به وعقد عزمه عليه ولم يكن له قدرة على إظهاره مع الشدة التي لاقاها فى طريقه ونزل نرماسير وكتب إلى أبى الفتح عبد العزيز بن أحمد العامل بها وببمّ بأنه ورد منحازا إلى بهاء الدولة وداخلا فى جملته. فتلقاه أبو الفتح بالجميل وحمل إليه ما يحمل إلى مثله من الأنزال وواصله بذلك مدة من الأيام وكان يزيد له ولمن معه فى كلّ يوم اثنى عشر ألف درهم وكتب بخبره إلى أبى موسى خواجة بن سياهجنك وأبى محمد القاسم بن مهدر فروخ.
ثم بدت من طاهر بوادي الفساد ولاحت شواهد سوء الاعتقاد وبلغ ذلك
__________
[1] . وفى الأصل: فأطعموه.(7/440)
أبا محمد القاسم وهو ببردشير فانزعج منه وكان يقاربه أكراد قتال يعرفون بالمالكية فاستدعاهم وتوجه معهم الى دارزين وخرج إليهم بما يريده من قصد طاهر والإيقاع به فقالوا له:
- «هذا رجل قد اجتمع إليه الديلم [41] وكثرت عدته وقويت شوكته وما نستطيع لقاءه ومقاومته ولكننا نسلك سبيل الحيلة عليه ويمضى منا جماعة على وجه الاستئمان اليه فإذا حصلوا عنده طلبوا غرّته فى بعض متصيداته فإنّه كثير الصيد مشغوف بالركوب إليه فى كل وقت فتكون قد بلغت الغرض ولم تركب الخطر.» فكتب أبو محمد الى أبى موسى خواجة بن سياهجنك بما جرى بينه وبين هؤلاء الأكراد واستشاره فيه فأجابه ب:
- «انّى أعرف بهذه الأمور وأملك لها وأولى بها منك، وينبغي أن تخلى بيني وبينها وتدعني وما أدبره منها وتتشاغل بشأنك وتتوفر على ما يتعلق بك.» فاغتاظ من هذا الجواب وصرف الأكراد وأقام بموضعه من دارزين وصار أبو موسى خواجة من جيرفت اليه على أن يجتمعا ويقصدا طاهرا بنرماسير.
فلما حصل على مرحلة من دارزين جمع ابن خلف عساكره فاستشارهم فيما يفعله فقالوا له: أحوالنا ضعيفة وعددنا قليلة ولا فضل فينا للحرب إلّا بعد الاستظهار بالدواب والاسلحة. واستقر الرأى بينه وبينهم على أن يتوجهوا إلى الجروم ويعتصموا بأهلها وهم قوم عصاة متغلبون وفيهم بأس وقوة فصاروا إليها ورجع أبو موسى وأبو محمد إلى جيرفت واستعاد الأكراد المالكية فلم يعودوا. وجمعا من معهم من الجيل وأطلقا لهم المال ووافقاهم على النهوض لقصد الجروم وقصد ابن خلف وفى مضىّ ما مضى من الأيام ثبت ابن خلف وحصّل لنفسه وللديلم الذين معه عدة وسلاحا وكراعا.
وتوجه أبو موسى وأبو محمد للقائه فلقياه فى القرية المعروفة بنهر خره هرمز(7/441)
على مرحلة من جيرفت لأنه قد كان سار إليها، وصفّا مصافّهما. [42] وكان من عادة ابن خلف فى حروبه أن يتفرد فى سرية من غلمانه بعد أن يطعمهم ويسقيهم ويتردّد على مصافّه فيسوى أصحابه ويرتبهم ويتأمّل مصافّ من بإزائه فإن وجد فيه خللا حمل على موضعه. فرأى فى بعض تردده ضعفا فى جانب من مصاف أبى موسى فحمل عليه وكسر المصاف منه وقتل جماعة وأسر أبا موسى وقد أصابته ضربة فى رأسه وأبا محمد القاسم وثلاثين رجلا من القواد منهم وندرين بن الحسين بن مستر وشوزيل بن كوس (كذا) وشيرزيل بن على ومن يجرى مجراهم وكفّ عن القتل واستباح السواد وغنم هو وأصحابه منه ما تأثلت أحوالهم به وتمم الى جيرفت ودخلها واستولى على معظم أعمال كرمان وملكها وطالبه الديلم وقصدوه وتكاثروا عنده وأرادوه. وصار الفلّ من جيش بهاء الدولة الى السيرجان واجتمعوا فيها وكانوا عددا كثيرا وكاتبوا بهاء الدولة بالصورة فانزعج منها وقد كان قبض الموفق قبل هذا الحادث بمديدة.
وعمل ابن خلف على قصد السيرجان فخرج عنها من فيها طالبين شيراز.
فلما حصلوا بقطرة ورد عليهم كتاب بهاء الدولة بالتوقف فى موضعهم وأعلمهم تجريده أبا جعفر أستاذ هرمز بن الحسن إليهم لتدبير أمرهم وقصد عدوهم. فتوقفوا ولحق بهم أبو جعفر فأخذهم وعدل إلى هراة إصطخر.
فادخل يده فى إقطاعات الديلم بفارس وتناول ارتفاعها واستخرج أموالها وأطلق لمن معه ما أرضاهم به واستدعى من بهاء الدولة المدد فأنفذ اليه مردجاوك التركي مع طائفة كبيرة من الأتراك وثلاثمائة رجل من الديلم الخوزستانية ووعده [43] بأن يتبعه بعسكر آخر ورسم له قصد ابن خلف ومناجزته.
فسار فى نواحي كورة إصطخر ومدّ يده إلى كل موجود فى الاقطاعات(7/442)
المحلولة وصار الى السيرجان وأقام بها خمسة أيام على انتظار حانويه بن حلمويه (كذا) للزطّى وكان قد استدعاه. فوافاه فى عدة وافرة من أصحابه ورحل الى ناختة وهي على عشرين فرسخا من السيرجان ونزل بها. ورتب فى السيرجان ركابية وقوما من المجمزين ليبادروا إليه بخبر للعسكر الذي يتوقع خروجه من شيراز فورد إليهم أحدهم وأعلمه بانفصال القوم من شيراز وقربهم من السيرجان وأنهم على إغذاذ السير وطي المنازل.
وكان بنو خواجه بن سياهجنك وأقارب القواد المأسورين يهنجمون فى كل يوم على بهاء الدولة ويطالبونه بتجريد العساكر مع صاحب جيش كبير لاستنقاذهم واستخلاصهم ويقولون: إنّ أبا جعفر أستاذ هرمز شيخ كبير لم تبق فيه حركة ولا نهضة. فجرد المظفر أبا العلاء عبيد الله بن الفضل وضم اليه وجوه الديلم والأتراك من شهرستان بن اللشكرى وأمثاله وأرسلانتكين الكوركيرى وخيركين (كذا) الطيبي ومن جرى مجراهما.
قال ابو عبد الله:
فحدثني من كان حاضرا مجلس أستاذ هرمز يوم جاءه الخبر بانفصال أبى بالعسكر من شيراز وعنده جماعة من الديلم يأكلون على مائدته أنه لما عرف ذلك اضطرب وخفف الاكل ونهض وقد تقدم بضرب البوق للرحيل فاجتمع اليه مردجاوك ووجوه الأولياء وقالوا له:
- «تغرر بنا وبدولة سلطاننا وتحمل نفسك وتحملنا على هذا الخطر الذي يوجب الحزم وتجنّبه والتوقف على الاستظهار [44] الذي هو أولى ما أخذنا به.» [قال المحدث لأبي عبد الله] [1] وأبو جعفر يسمع أقوالهم ويقول: اضربوا
__________
[1] . إيضاح من مد.(7/443)
البوقات، وحملوا.
فلما تردد الخطاب منهم وقلّ إصغاء ابى جعفر إلى ذلك قال له مردجاوك:
- «إذا كنت قد أقمت على أمرك فامض لشأنك فإنّنى لا أتبعك.» فقال له أبو جعفر حينئذ:
- «إذا وصلنا اسبهسلار أبو العلاء غدا وفتح كان الاسبهسلار وكنت أنت مردجاوك وصرت انا أستاذ هرمز ورجعنا على أعقابنا إلى باب السلطان بالذلّ والخيبة وتصورنا بصورة من لم يكن عنده خير حتى جاء مجوسي فعمل وأغنى.» هذا لفظ أستاذ هرمز فكان هذا القول حرّك مردجاوك وهزّه وبعثه على متابعته فقال له:
- «الأمر لك.» وسارا حتى نزلا بخشار وقد كان طاهر بن خلف أحسن معاملة أبى موسى خواجة بن سياهجنك ودعا أبا محمد القاسم إلى وزارته والنظر فى أموره، فعلله ودافعه وواصل أبا جعفر أستاذ هرمز بالرسل والملطفات وعرّفه أخبار طاهر ومجاري أموره ومتصرفات تدبيره ومتقررات عزائمه.
فلما حصل أبو جعفر بخشار وبينها وبين جيرفت عشرون فرسخا وبين بمّ [1] مثل ذلك وابن خلف بجيرفت وافاده كتاب أبى محمد يذكر فيه ما عمل عليه ابن خلف بجيرفت من قصده بمّ ويشير عليه بسبقه الى دارزين واعتراضه فى طريقه- ودارزين هذه فى سهل يحيط به شعاب وجبال- فانفذ أبو جعفر قطعة من جيشه أمرهم بأن يكمنوا لابن خلف وأصحابه فى المواضع التي لا يحسون بهم فيها ثم يخرجوا عليهم منها عند تفرقهم فى
__________
[1] . وفى الأصل: ثم.(7/444)
السير فيوقعوا بهم فمضوا وفعلوا ذلك وبلغوا فيه المبلغ الذي أدركوا [45] بعض غرضهم به وأسروا جماعة من رجاله وقواده ثم عادوا إلى ابى جعفر وقد رحل من خشار إلى سروستان كرمان وهي على اثنى عشر فرسخا من بم.
وسار ابن خلف إلى بم وتوجه أبو جعفر للقائه وقد رتب المصاف وجعل سيره زحفا على تأهب واستعداد حتى إذا حصل بدارزين وافاه من عرّفه خروج ابن خلف لتلقيه وقتاله. فماج الناس وخافوا واضطرب الجند وحاروا واجتمعوا على أبى جعفر وقالوا له:
- «غررتنا وغررت بنا وأشرنا عليك بالصواب فخالفتنا ولم تقبل منا وحملك العجب بنفسك والخوف على اسبهسلاريتك على التوجه فى هذا الوجه قبل وصول المدد إلينا وتحصيلنا فى هذا الموضع على مثل هذه الصورة.» وبادر الفرسان من الأتراك والأكراد ليعرفوا الخبر فصادفوا ابن خلف قد خرج من بم كالطليعة فى عدة يسيرة ليشاهد عسكر أستاذ هرمز ويحزر عدته، فواقعوه وعاد الى بم وعادوا الى دارزين. وأصبح ابو جعفر والعسكر مشغّب عليه وهو متحير فى أيديهم. فبينما هو يلاطفهم ويداريهم أحضره الأكراد رجلا ذكروا أنّه جاسوس لابن خلف فقال له:
- «أنت جاسوس ابن خلف» .
قال: «لا ولكنى رسول ديررشت بن ماهويه لصاحب لأبي جعفر ببم وهذا كتابه إليك يخبرك فيه بانصراف ابن خلف الى سجستان.» فلما سمع قوله ووقف على الكتاب أظهره عند العسكر فسكنوا وزالوا عما كانوا عليه من الهنجمة وسار بعد ان قدم جماعة من المعروفية الى باب بم ليمنعوا الناس من دخولها ويعدلوا بهم إلى قرية تعرف بقرية [46] القاضي(7/445)
على فرسخين منها فى سمت نرماسير ونزل بقرية القاضي واستأمن اليه كثير من الديلم الكرمانية الذين انضووا إلى ابن خلف وكان الموفق قد طردهم فقبلهم ورد عليهم إقطاعهم.
ولما حصل بهذه الناحية اجتمع اليه وجوه العسكر وألحّوا عليه فى اقتفاء أثر ابن خلف وانتزاع الماسورين من يده. فعللهم ودفعهم من يوم الى يوم الى ان عقدوا هنجمة اقترحوا فيها النهوض بهم فى طلبه. فاستدعى الوجوه وقال لهم:
- «قد أيّدنا الله تعالى ونصرنا وبلغنا فى الظفر غاية ما أمّلنا وقدرنا، وليس يجب ان نقابل ذلك بالبغي وطلب الغاية التي ربما ادّت الى الندامة وقد مضى العدو هاربا من بين أيدينا وان اتبعناه الى رأس المفازة ولززناه فى القتال والمكافحة ورأى المفازة أمامه والعسكر وراءه لم نأمن أن يحمل نفسه على الأشد ويقاتل قتال المستقتل وربما نصر ورجعنا على أعقابنا مفلولين فنكون قد أضعنا الحزم وحصلنا على الندم بعد الفوت.» فكان هذا القول طريقا الى سكون القوم ورجوعهم عما كانوا عليه من المطالبة بالمسير. وعاد ابن خلف الى سجستان ومعه أبو موسى خواجه بن سياهجنك وأبو محمد القسم بن مهدر فروخ والقواد المأسورون وانتقل أستاذ هرمز إلى بمّ وأقام بها أياما والكتب واردة عليه بأنّ المظفر أبا العلاء مجدّ فى المسير الى مستقره.
وحصل أبو العلاء بقرية الجوز وأنفذ حاجبين من حجابه برسالة الى أبى جعفر والعسكر يعلمهم فيها قربه منهم وهم إذ ذاك بقرية القضى ويشير عليهم بالإتمام الى بمّ ليقع [47] الاجتماع بها. وكان غرضه فى هذه الرسالة يعرف ما عند القوم وأن يزور الأمر فيما كان وقف عليه من صرف أبى جعفر وردّه(7/446)
الى شيراز مع الأولياء الشيرازيين والمقام [1] بكرمان ناظرا فيها.
وكان قد صحب أبا العلاء عبد الله بن عبد العزيز برسم خلافة الوزارة. فلما وردت هذه الرسالة على أبى جعفر تبين المراد [2] فيها واستدعى وجوه الديلم سرا وقرر معهم ما يجيبون به عنها. وحضر الرسولان [3] فى الحفل وأعادا القول فقام الوجوه وقالوا:
- «هذه البلاد لنا ونحن فتحناها بعد تغلب السجزية عليها وهذا الرجل- وأومأوا الى أبى جعفر أستاذ هرمز- اسبهسلارنا ومن جاءنا فتكناه وفعلنا به وصنعنا ويجب أن تعيدا هذا الجواب وتنصحا لهذا المجوسي حتى ينصرف ولا يفسد أمرا قد صلح ويحلّ نظاما قد ترتّب.» وكادوا يثبون بالرسولين حتى خلّصهما أبو جعفر وصرفهما وعادا الى أبى العلاء وعرّفاه ما جرى فكتب الى بهاء الدولة به وعلم أنه لا فائدة فى مقامه فعاد مع العسكر الى شيراز. وصار أبو محمد عبد الله بن عبد العزيز الى ابى جعفر وأقام أبو جعفر واليا وأبو محمد موقعا عن مجلس الوزارة، ثم أنفذ أبو اسحق ابراهيم ابن أحمد بدلا من أبى محمد.
وكان الوزير أبو غالب محمد بن على لانحرافه عن أبى على ابن أستاذ هرمز وأبى جعفر والده قال لبهاء الدولة:
- «إنّ بكرمان إقطاعات محلولة وأموالا موجودة وقد استولى عليها أبو جعفر وأقاربه وتوزعوها وتقسموها.» وأشار بالاختيار من ينفذ للنظر فى ذلك ويقرر الأمر فى الاقطاعات وافراد ما يفرد للخاص واجتذاب ما يلوح من الأموال. فعوّل على أبى [48]
__________
[1] . والمثبت فى مد: والمقم. وهو خطأ.
[2] . والمثبت فى مد: المرد.
[3] . والمثبت فى مد: لرسولان.(7/447)
الفضل محمد بن القاسم [1] بن سودمند [2] العارض فى الخروج وتولّى هذه الحال وخرج على طريق الكورة.
فلما حصل فى جيرفت حمل أبو جعفر الديلم على الهنجمة فعقدوا هنجمة قتلوا فيها علىّ بن احمد بن يحيى وكان أحد الكتاب الكفاة الدهاة وإليه الإشراف على أبى إسحق إبراهيم بن أحمد ونهبوا دور الحواشي وبلغ أبا الفضل ذلك، فقبض على أبى القاسم الطويل الحاجب صاحب أستاذ هرمز وضربه ألف عصا وراسل أستاذ هرمز بالانكفاء الى شيراز وأنّه متى لم يفعل قبض عليه. فخرج وصار الى حضرة بهاء الدولة.
وتوسط أبو الفضل الأعمال وأقام بها ستة أشهر وأقام الهيبة ورتّب الأمور وأسقط جماعة من الديلم وطردهم وقرر للباقين أقساطا وسلم بها الى أكثرهم ضياعا وأفرد للخاص ما كان له ارتفاع وافر وقبض على الإصفهبذ بن ذكى وكنجر بن العلوي وكانا خرجا فى صحبته من شيراز.
قال أبو عبد الله:
فحدثني بعض الحواشي المختصين، أنّ أقوى الدواعي كان فى إخراج أبى الفضل ابن سودمند الى كرمان ما كان فى نفس بهاء الدولة على الاصفهبذ بن ذكى لأنه كان واجهه فى سنة الصلح مع الديلم بالأهواز بالقول القبيح وامتنع من البيعة له إلّا بعد المراوضة الطويلة والتعب الكثير وانه دبّر ما أراده من القبض عليه وشفاء صدره منه بإخراج أبى الفضل وإخراجه معه حتى تمّ له ببعده ما حاوله فيه. وعاد أبو الفضل الى شيراز على طريق الروذان ومعه خمسمائة ألف درهم وشيء كثير من السلاح والثياب.
__________
[1] . فى مد: القسم.
[2] . والمثبت فى مد: سودمنذ (بالذال المعجمة) .(7/448)
[49] ذكر ما جرى عليه أمر طاهر بن خلف بعد عوده
لمّا انصرف من بم دخل المفازة وصار إلى سجستان ومعه أبو موسى خواجة بن سياهجنك وأبو محمد القاسم بن مهدر فروخ والديلم المأسورون وحصل على باب البلد. فخرج اليه خلف أبوه وقاتله وجرت بينهما وقائع كثيرة فى أيام متتابعة ووقف الأمر فى المناجزة. وراسل الديلم المأسورون طاهر ابن خلف وكانوا من الأعيان المذكورين والشجعان المشهورين وبذلوا له فتح البلد وأخذه إذا اطلقهم وأعطاهم من السلاح ما يرضيهم وشرطوا عليه تخليتهم إذا بلغ مراده بهم ليرجعوا الى منازلهم. فتقبل البذل منهم والتزم الشرط لهم وأفرج عنهم وسلّم إليهم سلاحا اختاروه وقاتلوا قتالا شديدا وأبلوا بلاء كثيرا ونصرهم الله تعالى وأجرى الفتح على أيديهم وملك طاهر وصعد أبوه إلى قلعة له تعرف بقلعة الحبل، على خمسة فراسخ من البلد، وتحصن بها ووفى طاهر للديلم بما وافقهم عليه وأعطاهم وخلع عليهم وحملهم وزودهم وخلّى لهم عن سبيلهم. وبقي أبو موسى وأبو محمد فى يده. فأمّا أبو موسى، فإنّه قرّر عليه صلحا صح له بعضه وكان أولاده على حمل باقيه وتوفيته، فعاجلته المنية وترامى به جرح الضربة التي أصابته فى رأسه الى الوفاة، لأنّها وقعت فى موضع ضربة قديمة، واستقام أمر طاهر وأقام أبو محمد القاسم عنده. وشرع خلف فى أن يفسد على ابنه ويصرف الديلم عنه. فلم يتمّ له ذاك لأنّهم [50] كانوا مائلين اليه وحاول الفساد للرعية أيضا. فكانت رغبتهم فى ابنه أفضل منها فيه لسوء معاملة الشيخ لهم وقبح سيرته بهم وإن أظهر من التمليس ما كان يظهره حتى إذا اعتاد الفساد على هذه الوجه عدل الى اعمال الحيلة وراسل ابنه وقال له:(7/449)
- «قد أخذنا من المقاطعة بأكثر حظّ وانتهينا فيها الى أبعد حدّ، وتأملت امرى فلم أجد لى ولدا باقيا غيرك ولا خلفا مأمولا سواك، ووجدتني قد كبرت وتقضّى عمرى إلّا القليل وقد رأيت أن أسلم الأمر والبلد والقلعة وما لى فيها إليك وأزيل الوحشة العارضة بيني وبينك وأتوفّر على أمر الله تعالى فى المدة الباقية لى معك وأقتصر على البلغة من العيش فى كنفك ومن يدك.
فإنّى لست آمن أن يقضى الله تعالى علىّ قضاءه، فيستولى على هذه القلعة من فيها ويخرج مالي ونعمتي وما جمعته طول تدبرى إلى غير ولدي ومن بقاؤه بقاء ذكرى.» ولم يزل يراسله ويطمعه حتى استغرّه وخدعه وتقرر بينهما أن يركب ابنه إلى أسفل القلعة وينزل خلف ويجتمعا على قنطرة كانت لخندق من دونها ويشاهد كل واحد منهما صاحبه ويوصى خلف إليه ويعرّفه ماله ومواضعه.
وركب طاهر وحده وجاء إلى تحت القلعة ونزل خلف على مثل هذه الصورة والتقيا على القنطرة وقبّل طاهر يد أبيه وعانقه أبوه وضمّ رأسه إلى صدره وكان تحت القنطرة فى حافات الخندق دغل كثير من بردى وحشيش يستتر فيه المستتر به، وقد كمّن له خلف مائة رجل فى أيديهم سيوف. فلما ضمّه خلف إلى صدره بكى بكاء أجهش فيه حتى علا صوته، وخرج القوم [51] فأمسكوا طاهر وأصعدوا به الى القلعة وقتله خلف وغسله بيده ودفنه. وتأدى الخبر الى أصحاب طاهر فاستسلموا لخلف وسلّموا البلد إليه وعاد إلى موضعه منه.
وتوصّل أبو محمد القسم الى أن أحضر جمازات وأكرادا وجعلها على قرب منه ثم خرج وركبها وهرب وصار الى شيراز فقلد العرض ووزر بعد ذلك على ما نذكره فى موضعه.
وكان أعداء خلف يراقبونه لأجل طاهر ابنه وما ظهر من نجابته ورجلته(7/450)
وشجاعته ونجدته. فلما هلك طمع فيه وجرّد إليه يمين الدولة أبو القاسم محمود عسكرا واستولى على بلده وقلعته وأخذه الى خراسان فجعله بالجوزجان مخلى فيها كمعتقل ومطلقا كمحبوس، وأجرى عليه ما احتاج اليه لاقامته ونفقاته، ثمّ توفى بعد مدة وحصلت سجستان مع خراسان إلى هذه الغاية [1] .
سنة احدى وتسعين وثلاثمائة
أولها يوم الأحد وأول يوم من كانون الأول سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة وألف للإسكندر وروز رام من ماه آذر سنة تسع وستين وثلاثمائة ليزدجرد.
فى يوم الأربعاء الحادي عشر من المحرم حضر الأتراك دار أبى نصر سابور بن أردشير بدرب الديزج وتردد بينه وبينهم خطاب فى أمر التجريد أدّى الى توثيبهم به على ابى الحسن ابن علان العارض وهرب أبو نصر ووقع الفتنة بين الغلمان والعامة.
شرح الحالة فى ذلك
قد ذكرنا ورود أبى الحسن ابن علان لإخراج الغلمان إلى فارس وكان أبو نصر سابور قد حصل من المال ما سلّمه الى أبى الحسن وأعدّه عنده لينصرف [52] فى نفقاتهم وما يتقرر عليه أمورهم.
__________
[1] . قال صاحب تاريخ الإسلام: وتوفّى خلف شهيدا فى الحبس ببلاد الهند رحمه الله فى قبضة محمود بن سبكتكين وكان محمود فى سنة 93 قد حاصره ونازله واستنزله بالأمان من قلعته ووجهه الى الجوزجان فى هيئة ووفور هيبة. ثم بلغ السلطان عنه بعد أربع سنين من ذلك انه يكاتب ايلك خان الذي استولى على بخارا، فضيق عليه السلطان بعض الشيء إلى أن مات فى رجب سنة 399 وورثه ولده أبو حفص (مد) .(7/451)
فلما كان فى يوم الأربعاء المذكور حضر أبو الحسن دار ابى نصر وحضر الغلمان. فجدد الخطاب معهم فى الخروج وجد بهم فيه. فامتنعوا منه إلّا بعد أن توفّوا استحقاقاتهم وتردد فى ذلك ما انتهى الى بذل ابى نصر للخارجين اطلاق الثلث مما وجب لهم بالحضرة والثلث بالأهواز والثلث الباقي بشيراز، وأن يكون الإطلاق العاجل لمن يخرج خاصة. فأغضبهم ذلك ووثبوا بأبى الحسن وهجموا على أبى نصر وهرب من بين أيديهم. وبادر العلويون والعامة فدفعوهم عن الدار ورموهم بالآجرّ من السطوح وخرج الأتراك مغيظين محفظين وثارت الفتنة بينهم وبين أهل الكرخ واجتمعوا من غد وصاروا الى قتال العامة من القلايين وباب الشعير وعظم الأمر وانضوى الى الأتراك اهل السنة من سائر المواضع وصار أهل الكرخ إلى ابى الحسن ابن يحيى العلوي وشكوا اليه حالهم وما قد أطلّهم. فقال لهم:
- «لا قدرة لى على هؤلاء القوم ولا طاقة لى بهم.» وأنفذ ابو القاسم ابن مما جماعة من الديلم فأجلسهم على القنطرة لمنع القتال من تلك الجهة وعبر أبو الحسن ابن يحيى فى اليوم الثالث الى دار المملكة ومعه وجوه العلويين والفقهاء الذين بالقطيعة واجتمعوا مع وجوه الأتراك وأعلموهم أنّهم لا يعلمون لأبي نصر سابور خبرا ولا عندهم محاماة عنه وسألوهم كفّ الأصاغر عن الفتنة والإبقاء على المستورين من الرعية وأنفذوا بالمعروفية وصرفوهم. وطالب الأتراك أبا الحسن ابن علان بإطلاق ما حصل من المال فى يده فى الأقساط والتمس الديلم ما يجب لهم فيه فسلم وذاك فرق وبطل [53] التجريد.
وتصور أبو نصر سابور وهو فى الاستتار وقوع التوازر عليه واتفاق الجماعة من أبى الحسن ابن يحيى وأبى يعقوب أخيه وأبى القاسم ابن مما على التجعد منه والعداوة له. فخرج عن بغداد الى القصر ومنها الى سورا ثم(7/452)
الى البطيحة. وكتب الى بهاء الدولة بما أو غربه صدره عليهم ونسب فيه جميع ما جرى من الفساد وأخذ المال ووقف أمر التجريد واثارة الفتنة إليهم.
وفى يوم السبت لليلتين بقيتا منه توفى مرمارى بن طوبى الجاثليق [1] .
وفى روز خرداذ من ماه ذى [2] الواقع فى هذا الشهر عاد بهاء الدولة من فسا إلى شيراز.
ولما فارق أبو نصر سابور موضعه ونظره خاف أبو الحسن على ابن أبى على، لأنه كان صاحبه ومختصا به، فأخفى شخصه وبعد عن البلد. وزادت الفتنة وتسلط أهل الذعارة فقلّد أبو الفوارس بهستون ابن ذرير الشرطة ونزل دار أبى الحسن محمد بن عمر التي على دجلة وقبض على جماعة من العيارين وقتلهم وكبس دورهم ومنازلهم واستعمل السطوة وأقام الهيبة فاستقام الأمر به. وحدث من الأتراك معارضة له فى بعض ما فعله، فاستعفى وعاد إلى داره بالجانب الشرقي وأقام ابو القاسم ابن العاجز على النظر.
ذبح المقلّد على فراشه
وفى ليلة الأربعاء لسبع بقين من صفر قتل حسام الدولة أبو حسان المقلّد بن المسيب العقيلي بالأنبار غيلة.
__________
[1] . هو من أهل الموصل من أولاد الرؤساء والكتّاب وتربى فى الدواوين وكتب لبنت أحمد امرأة ناصر الدولة ولما اضطربت أمور بنى حمدان لقبض أولادها على أبيهم بغير إذنها وسائر الأخوة ووقع بينهم القتال اثر الترهب. كذا فى ترجمته فى كتاب المجدل لمارى بن سليمان طبع فى رومية الكبرى سنة 1899 المسيحية 1: 104 وفيه أنه مات سنة 390 وأن مدة جثلقته أربع عشرة سنة قمرية (مد) .
[2] . ذى (دى) : الشهر العاشر من السنة الشمسية الإيرانية.(7/453)
ذكر الحال فى ذلك
قد ذكرنا ما كان من غلمانه الأتراك فى خروجهم من داره وأخذهم دوابّه وهربهم منه وأنه تبعهم وظفر بهم وقتل وقطع أحد عشر غلاما منهم وأعاد الباقين إلى خدمته وهم على خوف منه وإشفاق من عظم هيبته وسوء [54] معاملته. فقيل: إنّ أحدهم راعى الفرصة منه وذبحه فى الليلة المذكورة وهو سكران وهرب. وقد قيل: إنّ أحد فراشيه فعل ذلك به، إلّا أنّ الغلام أثبت.
وقد كان المقلد راسل جماعة كثيرة من وجوه الأولياء ببغداد واستمالهم ووعدهم وأطمعهم وحدث نفسه بدخول الحضرة والاستيلاء على المملكة وأصّل فى ذلك أصولا كاد غرضه بها يتم. فاتفق من أمر الله تعالى جل وعزّ مالا يغالب فيه.
ذكر ما جرى عليه الأمر بعد قتله على ما حدثني به ابو الفتح عيسى بن إبراهيم
قال لما قتل المقلد لم يكن قرواش حاضرا بالأنبار وهو الأكبر من أولاده وكانت خزائنه بها وعساكره بسقى الفرات. وخاف أبو الحسين عبد الله بن ابراهيم بن شهرويه بادرة الجند ونهبهم. فراسل أبا منصور قراد بن اللديد وكان قريبا منه بالسندية واستدعاه اليه وقال له:
- «أنا اجعل قرواش ولدا لك وأزوّجه ببعض بناتك وأقرر معه مقاسمتك على ما خلفه أبوه فى خزائنه وتكون عونا له على الحسن عمّه. فانه ربما طمع فى الاستيلاء على الأمر بعد المقلد. فأنفذ الرسل إلى قرواش يحثّه على المبادرة واللحاق. وصار قراد إلى الأنبار ونزل فى دار الإمارة بها وحرس الخزائن وحسم الأطماع وحضر قرواش بعد أيام واجتمعا وتقاسما على المال(7/454)
وتحالفا وتعاقدا على التعاضد. وقد كان قراد قبل ورود [1] قراوش أطلق للجند شيئا من ماله وارتجع عوضه بعد ذلك. فلمّا عرف الحسن بن المسيب ما جرى واستبداد قراوش بقراد، علم أن الأمر والغرض قد فاته وامتنع عليه من الأمر [55] ما كان يقدّره. فشكا الى عسكر ابن أبى طاهر وأبى المعضاد كلاب بن الكلب وجماعة من المسيّبيين [2] الحال وقال:
- «يا قوم يرث قراد بن اللديد مال بنى المسيب وهم أحياء؟» فقال له عسكر:
- «هذا من عملك ولخوف ابن أخيك منك.» فقال: «ومن أى شيء خاف وما الذي يريده؟» قال: «لو سكن منك إلى خلوص النية وصلة الرحم وحفظه فيما خلفه أبوه له لما أدخل بينك وبينه غريبا ولكنت أولى به وكان أولى بالمحاماة عنك.» فقال له الحسن:
- «أنا على ذاك ومهما سمتمونيه من توثقه عليه بذلته لكم.» وكتب عسكر ابن أبى طاهر الى قراوش بما جرى وترددت الرسل بينه وبينه فيه حتى استقر الأمر على أن يسير الحسن الى الأنبار مظهرا فإذا وقعت العين على العين قبضا على قراد وارتجعا منه ما أخذه ولم يدخل أبو الحسين ابن شهرويه فى القصة ولا عرفها.
وانحدر الحسن وقرب من الأنبار وبرز قراوش وقراد للقائه. وبينما الفريقان متصافّان متواقفان إذ جاء بعض العرب فأسرّ الى قراد شيئا. فولّى هاربا يطلب طريق البرية وتبعه قرواش والحسن وأصحابهما وجدّوا فى
__________
[1] . وفى الأصل: قيل وزود.
[2] . والمثبت فى الأصل: المسيبين.(7/455)
طلبه. ففاتهم واجتاز بحلته فلم يدخلها ومضى على وجهه. وتلاقى الحسن وقراوش وتعانقا وبكى كل واحد منهما وقال الحسن لقرواش قولا جميلا استماله به وبذل له أن يكون بحيث يؤثره ويحبه، واتفقا على ارتجاع ما أخذه قراد من الخزائن. وأنفذا الى زوجته بنت محمد ابن مقن وأخت غريب ورافع وطالبها بما فى بيوتها من ذلك فامتنعت عليهما وخاطبتهما خطابا فيه بعض الغلظة وأجاباها بمثله وأدخلا الى البيوت من أخرج المال والأعدال اللذين حصلا بقسم قراد [56] من مال المقلد وأخذاها وانكفأ الى الأنبار وأقاما أياما.
وحمل قراوش الى الحسن عمه ثيابا وفرشا وسلاحا وغير ذلك وسار الى الكوفة وواقع بنى خفاجة بناحية زبارا [1] وظفر بهم ومضوا بعد هذه الوقعة الى الشام وكانوا هناك إلى أن استدعى أبو جعفر الحجاج أبا على الحسن بن ثمال فورد ووردوا على ما نذكره من بعد فى موضعه.
وفى ليلة يوم الأربعاء مستهل ربيع الاول توفّى أبو الحسن على بن محمد الإسكافى.
وفى يوم الخميس لليلتين خلتا منه توفّى أبو بكر ابن حمدان البزاز.
القادر بالله يجعل ابنه أبا الفضل ولىّ عهده ويلقّبه الغالب بالله
وفى يوم الأحد الخامس منه جلس الخليفة القادر بالله أطال الله بقاءه للحاج الخراسانية وأعلمهم أنّه قد جعل الأمير أبا الفضل ابنه ولىّ عهده ولقّبه:
الغالب بالله، وقرئت عليهم الكتب المنشأة بذلك.
__________
[1] . وفى الأصل: ربارا.(7/456)
شرح الحال فى ذلك
جلس على السدّة العالية بثياب سود متقلدا سيفا بحمائل فى البيت المعروف ببيت الرصاص، وبين يديه نهر يجرى الماء فيه الى دجلة، ودخل اليه الأشراف والقضاة والشهود والفقهاء وأهل خراسان العائدون من الحج وقرئ فى المجلس على رؤوس الملأ كتاب بتقليده أبا الفضل ولده العهد بعده وتلقيبه الغالب بالله تعالى ولا غالب إلّا الله وحده لا شريك له، وكان له من السن فى هذا الوقت ثماني سنين وأربعة أشهر وأيام. وكتب الى البلاد بأن يخطب له بعده على نسخة قررت بحضرته وكانت بعد إتمام الدعاء له:
«اللهم وبلّغه الأمل فى ولده أبى الفضل الغالب بالله تعالى ولى عهده فى المسلمين. [57] اللهمّ وال من والاه من العباد وعاد من عاداه فى الأقطار والبلاد، وانصر من نصره بالحق والسداد، واخذل من خذله بالغي والعتاد.
اللهمّ ثبّت دولته وشعاره وانبذ الى من نابذ الحق وأنصاره» .
ذكر السبب فى تقليده العهد على هذه السن
قد ذكرنا فيما قدمناه من أخبار خراسان حال الواثقى [1] ووقوعه الى هرون بن ايلك بغراخاقان واستيلاءه عليه وتقدم منزلته عنده. وكان أبو الفضل التميمي الفقيه قصد بلاد الخانية واجتمع مع هذا الواثقى فاتفقا على ان افتعلا كتابا عن الخليفة أطال الله بقاءه بتقليد الواثقى العهد بعده واظهرا ذلك عند بغراخاقان وأنّ أبا الفضل ورد فيه. وصادف هذا الأمر رأيا جميلا من بغراخاقان فى الواثقى ومنزلة لطيفة له عنده فقوّاه واكّده، وتقدم بأن يخطب
__________
[1] . قال الصفدي فى الوافي بالوفيات: هو عبد الله بن عثمان بن عبد الرحيم بن ابراهيم بن الواثق وكان يلقب بالصادع بالحق (مد) .(7/457)
له فى بلاده بعد الخليفة أطال الله بقاءه. وشاع الحديث فى أعمال خراسان ووردت به الكتب الى الخليفة أطال الله بقاءه فأنكره وأكبره وغاظه ما تمّ منه وأزعجه. وأوجب الرأى عنده أن رتّب الأمير أبا الفضل ولده فى ولاية عهده وكتب الى سائر الأعمال والأطراف بذلك والى أمراء خراسان والخانية بتكذيب الواثقى وتفسيقه وبعده عن استحقاق ما ادعاه لنفسه.
فحدثني القاضي ابو القاسم على بن المحسن التنوخي [1] قال:
كان هذا الرجل وهو عبد الله بن عثمان من ولد الواثق بالله يشهد بنصيبين عند الحكام فيها وعند صدقة بن على بن المؤمّل خليفة القاضي أبى على التنوخي والدي على القضاء [58] بها، وإليه مع الشهادة الخطابة فى المسجد الجامع. وكان يفسد على صدقة ويحاول أن يقوم مقامه فى خلافة والدي.
واجتمع صدقة وأهل نصيبين على أن كتبوا محضرا بتفسيقه وشهدوا بذلك عند صدقة شهادة سمعها وقبلها وأنفذ الحكم بها وكتب إلى والدي بالصورة وانفذ اليه المحضر والسجلّ عليه. فقبل ذلك والدي وأمضى الحكم به وأنفذه وأشخص الواثقى إلى بغداد.
فلما ورد خاطبه خطابا قبيحا وأوقع به مكروها واعتقله فى حبس الشرطة حتى خاطبه فى أمره أبو الفرج عبد الواحد بن محمد الببغاء [2] الشاعر للبلدية التي كانت بينه وبين الواثقى فأطلقه. ونزل غرفة فى الفرضة بإزاء دار المملكة وذلك فى أيام عضد الدولة.
قال القاضي ابو القاسم:
وكان يواصله ابو العباس احمد بن عيسى المالكي لصداقة بينهما وبلدية.
__________
[1] . وردت ترجمته فى إرشاد الأريب 5: 301 وترجمة والده ابى على الذي صنف كتاب الفرج بعد الشدة وكتاب نشوار المحاضرة، ووردت فيه ايضا 6: 351 (مد) .
[2] . توفى سنة 398 وهو المخزومي الحنطبى. كذا فى الأنساب للسمعاني ص 179 (مد) .(7/458)
فحدّث ابو العباس قال: حضرت عنده ليلة فى غرفته وقلت له:
- «الصواب أن تستعطف القاضي أبا على التنوخي وتوسط بينك وبينه أبا الفرج الببغاء وتصلح أمرك معه.» -[1] وأنا أخاطبه وأكرر هذا الرأى عليه وهو معرض عنى فقلت له:
- «أسمعت ما أشرت عليك به؟» فقال لى:
- «يا أبا العباس، أنت جاهل. أنا مفكر كيف أطفئ شمع هذا الملك الذي نحن بإزاء داره وأخذ ملكه وأنت تقول لى: استصلح التنوخي.» قال أبو العباس:
فلما سمعت قوله قلت: «سلاما» وقمت من فورى منصرفا عنه وخائفا من أذية تتطرق علىّ به وقطعته.
قال القاضي أبو القاسم:
فلما ظهر من حديثه فيما وراء النهر بخراسان ما ظهر، وقلد الخليفة أطال الله بقاءه أبا الفضل ولده ولاية عهده وطعن على الواثقى فأنكر أمره، بلغه [59] حال المحضر الذي كان أنفذ الى والدي من نصيبين بتفسيقه من جهة بعض ما أخبر به بحديثه [2] فاستدعيت الى الدار العزيزة استدعاء حثيثا لم تجر عادة به فمضيت ودخلت على أبى الحسن ابن حاجب النعمان فقال لى:
- «ما الذي جرى منك، فإنّ الطلب لك ما ينقطع» .
قلت: «ما أعلم انّه حدث ما يقتضى ذلك.» وكتب بخبري فخرج الجواب بأنّه: بلغنا حال محضر أنفذ إلى والده من نصيبين بتفسيق الواثقى وأنّه أسجل به. فتطالبه بإحضاره وإحضار السجلّ
__________
[1] . وزاد فى مد: «قال» للإيضاح ولا لزوم له.
[2] . لعله: من حديثه.(7/459)
عليه. فأقرأنى ذلك وقلت:
- «السمع والطاعة.» وانصرفت وأنا خائف من أن يكون هذا المطلوب قد ضاع فيما ضاع لنا وتشاغلت بالتفتيش عنه فوجدته وحملته من غد وسلّمته. فلما حمل إلى حضرة الخليفة أطال الله بقاءه، رده وقال للرئيس:
- «سله هل حفظ على والده إقراره بما أسجل به.» فسألنى عن ذلك فقلت:
- «نعم قد كان أقرّ عندي به.» ورسم إحضار القضاة والشهود والفقهاء، ففعل ذاك. وحضر القوم ومنهم القاضي أبو محمد ابن الأكفانى والقاضي أبو الحسن الخرزي وأبو حامد الإسفراينى والشهود بأسرهم وعمل كتاب على سجلّ والدي بإنفاذى ما سمعته من حكمه به وأشهدت الجماعة المذكورة على نفسي فيه. وكان ذلك فى جملة ما أنفذ الى خراسان وجرح الواثقى به.
وحكى القاضي أبو القاسم:
انّ هذا الواثقى دخل بغداد بعد ما جرى له بخراسان ونزل دارا وراء داره بباب البصرة. ثم انتقل عنها لما عرف خبره وشاع أمره وانه رآه فى بعض الأيام بالكرخ وهو لا يعرفه [قال] فرأيت رجلا عليه قباء [60] واذارى [1] وعمامة شاهجانية وهو يمشى منحنيا ويداه معقودتان من ورائه كفعل الخراسانية. وكان معى أبو العباس المالكي. فلما رآه سلم عليه وقبّل كتفه فنهره وزبره بلفظ الفارسية الخراسانية فقال له المالكي:
- «إنّما سلّمت عليك وعندي أنّك صديقنا الذي يعرفنا ونعرفه. فإذا
__________
[1] . قال المقدسي ص 324 س 18: ومن وذارا ثياب الوذارية وهي ثياب على لون المصمت وسمعت بعض السلاطين ببغداد يسميها ديباج خراسان (مد) .(7/460)
أنكرت ذلك فالله معك.» والتفت إلىّ وقال:
- «تعرف هذا الرجل؟» قلت: «لا.» قال: «هذا الواثقى الذي ادّعى ولاية العهد بخراسان.»
ذكر ما جرى عليه أمر الواثقى بعد ذلك على ما عرفته من القاضي أبى جعفر السمناني [1]
لم يسمع بغراخاقان فيه قول قائل ولا أحاله عن العناية به والعصبية له محيل. فلمّا توفّى وملك أحمد بن على قراخان كاتبه الخليفة أطال الله بقاءه، بإبعاده. فلم يكن عنده الموضع الذي كان له عند بغراخاقان. فأنفذه إلى موضع يعرف بأسفاكند وجعله كالمحبوس فيه بعد أن أقام له ما يحتاج اليه وأقام هناك مدة ثم صار الى بغداد كاتما نفسه ونزل بباب البصرة وانتهى الى الخليفة أطال الله بقاءه خبره فتقدم بطلبه، وانتقل الى التوثة ولقيه جماعة من الفقهاء فأعطاهم وبرّهم ووصلهم. ثم انحدر الى البصرة ومضى منها الى فارس وكرمان وعاود بلاد الترك فلم يتم له ما حاوله من قبل ونفذت كتب الخليفة أطال الله بقاءه بتتبعه وأخذه فهرب من هناك وصار إلى خوارزم وأقام بها. ثم فارقها وقصد الأمير يمين الدولة أبا القاسم محمودا وأخذه وأصعد به الى بعض القلاع فكان فيها محبوسا محروسا موسعا عليه الى أن مات.
وفى شهر ربيع الأول توفى أبو شجاع بكران بن بلفوارس [61] بواسط.
__________
[1] . فى تاريخ الإسلام هو محمد بن احمد بن محمد بن احمد قاضى الموصل شيخ الحنفية سكن بغداد. قال فيه الخطيب: يعتقد مذهب الأشعري وقد ذكره ابن حزم فقال: هو أكبر أصحاب الباقلاني ومقدم الأشعرية فى وقتنا. توفى سنة 444 (مد) .(7/461)
وفى يوم الأربعاء لليلة بقيت منه قبل القاضي أبو عبد الله الضبّى شهادة أبى الحسن على بن الحسن بن العلاف الواسطي.
وفى سحرة يوم الجمعة لليلة خلت من شهر ربيع الاول توفّى أبو القاسم عيسى بن على بن عيسى بن داود بن الجراح [1] وصلّى عليه القاضي أبو عبد الله الضبّى وقد كان أبو القاسم جلس وحدث وصار اليه أبو بكر محمد بن موسى الخوارزمي [2] وخلق كثير. فسمعوا منه وكتبوا عنه وكان رجلا فاضلا يعرف علوما كثيرة من علوم الدين والمنطق والفلسفة.
وفى هذا اليوم توفى أبو النضر كعب بن عمرو البلخي المحدث.
وفى يوم الخميس السابع منه قلد القاضي أبو حازم محمد بن الحسن الواسطي القضاء بواسط وأعمالها وقرئ عهده فى الموكب بدار الخلافة.
وفى يوم الخميس لسبع بقين منه توفى أبو حفص عمر بن وهب المقرئ وكان شيخا صالحا.
ذكر قتل علىّ بن طاهر الكاتب
وفى ليلة السبت لسبع بقين منه قتل أبو الحسن على بن طاهر الكاتب.
شرح الحال فى ذلك
قد كان مضى إلى مصر هاربا من أبى الحسن محمد بن عمر، فأقام بها
__________
[1] . قال صاحب تاريخ الإسلام انه كان يرمى بشيء من مذهب الفلاسفة وترجمته موجودة فى تاريخ الحكماء لجمال الدين القفطي ص 244 (مد) .
[2] . وقال فيه: هو شيخ أهل الرأى ومفتيهم انتهت اليه الرياسة فى مذهب أبى حنيفة بالعراق وانه كان يقول: ديننا دين العجائز ولسنا من الكلام فى شيء. وكان له امام حنبلي يصلى به وقد دعى الى ولاية الحكم مرارا فامتنع توفى سنة 403 (مد) .(7/462)
مدة وعاد فى هذا الوقت مع الحاج، وتحدث الناس بأنه ورد بموافقة من صاحب مصر وللشروع له فى الفساد على الدولة العباسية.
فلما كان فى الليلة المذكورة كبسه العيارون فى داره بدرب المقير من سوبقة [1] غالب وعلوه بالسيوف ليقتلوه فقامت جاريته من دونه للمدافعة عنه فضربوا يدها ضربة أبانتها، وضربوه عدة ضربات فاضت منها نفسه وأخذوا جميع ما وجدوه من ماله ورحله وانصرفوا. وحضر أبو الحسن محمد بن احمد بن علان من غد فتولّى تجهيزه ودفنه فى داره.
وفى يوم الأحد لست بقين منه خرج أبو القاسم الحسين بن محمد بن مما إلى شيراز بمرقعة.
[62] ذكر السبب فى ذلك وما جرى عليه أمره فى خروجه إلى حين رجوعه
لما انحدر أبو نصر سابور من بغداد مستترا على ما قدمنا ذكره، وأخذ المال المجموع للتجريد وأطلق فى الاقساط كتب أبو نصر إلى بهاء الدولة وأحال فى جميع ما جرى على أبى الحسن ابن يحيى وأبى يعقوب أخيه وأبى القاسم ابن مما.
وكان ينوب عن أبى القسم بفارس أبو الحسين ابن عبد الملك ابن على النقيب وبين أبى القاسم وبين أبى الخطاب والأمين أبى عبد الله مودة قديمة، وهما إذ ذاك المتقدمان والمدبران وعلى عناية بأبى القاسم ومحاماة عنه.
فخرجا الى أبى الحسين [ابن] [2] عبد الملك بما يكتب به أبو نصر سابور
__________
[1] . كذا فى مد. ولعله «سويقة» .
[2] . زيادة زادها.(7/463)
فيه وبما قد كوتب به أبو نصر من الاستدعاء إلى فارس ورسما له مكاتبة أبى القاسم بذلك وبأن يسبقه الى الورود والحضور.
فخرج متعجلا بمرقعة ووصل فى يوم الثلاثاء لخمس بقين من جمادى الاولى قبل أبى نصر سابور ونزل على الأمين أبى عبد الله، فتكفل بامره وخاطب بهاء الدولة فيه ونضح هو عن نفسه فيما كان قرف به، وعاونته الجماعة عداوة لأبى نصر سابور وعناية به، واستقامت حاله ورسم له المقام الى أن يحضر أبو نصر ويصلح ما بينه وبينه ويعود الى بغداد فى جملته.
فأقام ووصل أبو نصر وأبو جعفر الحجاج، فقرر لهما النظر فى أعمال العراق وأصلح أمر ابى القاسم معهما على دخل من رأى أبى نصر وباطنه فيه وأخرج امامهما لتوطئة ما يجب توطئته قبل موردهما.
تقليد الحسن بن أستاذ هرمز أعمال الأهواز
وفى هذا الوقت ورد الخبر بتقليد الصاحب أبى على الحسن بن أستاذ هرمز أعمال الأهواز وأنه أخرج إليها ولقّب بعميد الجيوش.
ذكر ما جرى فى ذلك
حدثني أبو الحسين فهد بن عبيد الله كاتب عميد الجيوش [63] قال: لما دخل الصاحب أبو على فى طاعة بهاء الدولة بالسوس وسلّم الأمر إليه اعتزل الأمور وسار فى صحبته إلى فارس وأقام على بابه.
فلما مضت له سنة وكسر استأذن فى المضىّ إلى خراسان، فمنع من ذلك وروسل بما سكن منه به ووعد الوعد الجميل فيه.
وقبض على الموفق أبى على ابن إسماعيل وكان نافرا منه فردّت إليه(7/464)
الأمور بعده ومشّاها بحسب طاقته ووسعه وأفرج عن أبى غالب ابن خلف وجعل خليفته فتولى العمل وكان متدربا به واستعفى الصاحب أبو على وأقام فى داره.
ثم راسل بهاء الدولة بعد مدة يخطب إليه تقليده أعمال خوزستان ويعلمه أنه خبير بها وبما فيه استقامة أمرها وقد كانت اختلّت بمقام ابى جعفر الحجاج فيها ونظر ابى القاسم ابن عروة فى عمالتها واستعماله المجازفة التي كانت عادته جارية بها. فأجيب إلى ذلك وقلد وخوطب على قبول الخلع واللقب واستعفى من الخلع وقبل اللقب بعميد الجيش وسار إلى الأهواز فى روز ديبمهر من ماه اسفندارمذ الواقع فى شهر ربيع الأول، وقد كان أبو جعفر فارقها وتوجّه الى واسط.
وأقام عميد الجيوش على أحسن سيرة وأقوم طريقة فأصلح الفاسد وضم المنتشر وتألف الرعية ورفع المصادرة وساس الجنود أفضل سياسة وجمع فى أقرب مدة مالا حمله إلى بهاء الدولة وأكّد موضعه عنده به.
حوادث عدّة
وفى يوم الثلاثاء الرابع من جمادى الأولى قبل القاضي أبو عبد الله الضبّى شهادة أبى القاسم عمر بن ابراهيم بن الحسن بن اسحق البزاز.
وفى يوم الأربعاء الخامس منه توفى أبو عبد الله محمد بن اسحق ابن المنجم المغني العواد بشيراز ولم يخلف [64] بعده من يقاربه فضلا عمن يشاكله.
وفى يوم السبت الثامن منه خرج أبو الحسن ابن علان العارض عائدا الى فارس وبطل ما ورد فيه من أمر التجريد.
وفى يوم الأحد التاسع منه استحجب ابو القاسم على بن أحمد الأمين(7/465)
أبا [1] عبد الله للخليفة أطال الله بقاءه.
ورود الحجاج بن هرمز واسطا ثمّ خروجه منها سائرا إلى شيراز
وفى يوم الخميس الثالث عشر منه ورد أبو جعفر الحجّاج بن هرمز فيه واسطا منصرفا عن الأهواز، ثمّ خرج منها سائرا إلى شيراز.
ذكر ما جرى عليه أمره فى ذلك
لما عرف ابو جعفر حال عميد الجيوش فى تقلده الأهواز سار إلى بصنّى [2] يوم الأحد الثاني من الشهر وأنفذ أبا الحسن رستم بن أحمد كاتبه برسالة إلى بهاء الدولة يتألم فيها من صرفه عن بلد بعد بلد وكسر جاهه فى أمر بعد أمر ويعدد ما عومل به بالموصل وبغداد ويسأل الإذن له فى اللحاق ببلد الديلم.
فلما أعاد أبو الحسن على بهاء الدولة من ذلك ما أعاده ثقل عليه نفوره واستيحاشه ورده وأنفذ معه أبو سعيد زاد انفروخ بن آزاد مرد بجواب يسكنه فيه ويعرّفه تأكد خاله عنده ولطف منزلته فى ... [3] ويرسم له التوجه إلى شيراز ليقرر معه أمر بغداد ويردّه إليها مع أبى نصر سابور فسار ليلة يوم الاثنين لأربع بقين من شعبان ووصل وقد حصل أبو نصر سابور هناك وورد أبو نصر إلى حضرة بهاء الدولة فخلا به وأورد عليه فى جماعة من بمدينة السلام من أبى الحسن ابن يحيى العلوي وأبى يعقوب أخيه وأبى القاسم ابن
__________
[1] . وفى الأصل: ابى.
[2] . بصنّا: مدينة من نواحي الأهواز صغيرة، رجالهم ونساؤهم يغزلون الصوف (مراصد الإطلاع) .
[3] . بياض.(7/466)
مما كل ما أوغر به صدره وضمنهم بمائتي ألف دينار. فأذن له فى القبض عليهم واستخراج المال منهم وقرر عليه ما يحمله إلى خزانته منه [65] وخلع عليه وعلى أبى جعفر الحجاج ولقبه القسيم ذا الرئاستين، وذلك فى روز آبان من ماه مهر الواقع فى آخر شوال وسارا. فكان وصولهما إلى واسط يوم الأربعاء سلخ ذى الحجة ونحن نذكر ما جرى عليه أمرهما بعد ذلك فى أخبار سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة.
حوادث عدّة
وفى يوم الجمعة الخامس من جمادى الآخرة توفى القاضي أبو الحسن عبد العزيز بن أحمد الخرزي [1] وأقر ابنه أبو القاسم على عمله وقرئ عهده بذلك فى يوم الاثنين لليلة بقيت منه. ثم تعقب الرأى فى بابه وصرف بعد مديدة قريبة.
وفى يوم السبت السادس منه قتل المعروف بأرسلان الذي كان يتصرف فى الوقوف. قتله العامة بالآجر وفدغوا رأسه.
مقتل بهستون بن ذرير
وفى يوم الخميس الثامن عشر منه قتل بنو سيّار أحد بطون بنى شيبان أبا الفوارس بهستون بن ذرير.
شرح الحال فى ذلك
كان بهستون صديقا لأبى الفتح محمد بن عناز وممائلا له ومسارعا إلى
__________
[1] . قال صاحب تاريخ الإسلام: هو شيخ أهل الظاهر قدم من شيراز فى صحبة السلطان عضد الدولة وأخذ عنه فقهاء بغداد (مد) .(7/467)
معونته فى كل أمر ينوبه: فاتفق أن سار اليه من الجبل من يقصده ويطلبه فاستصرخ بجند الحضرة وسألهم الإنجاد والمعاضدة وخرج بهستون فى جملة من خرج ومعه جماعة من أهله وأصحابه.
فلما عاد نزل بالخالدية وهي إقطاعه وأغارت الخيل من بنى سيّار على بقر بهذه الناحية وطردت بعضها وعبرت بها الى شرقى ديالى وسلكت طريق براز الروز.
فركب بهستون فى الوقت ومعه أخواه الفاراضى والأعرابى وثلاثة نفر من الديلم وطلبوا الخيل الغائرة فأدركها بهستون سابقا ولحق به أخواه وأصحابه وعرفه القوم فأخرجوا له الطرد ومضوا [66] فحمله من كان معه على اتباعهم والإيقاع بهم. فسار ولحقهم وجرت بينه وبينهم مطاردة فطعنه أحدهم طعنة فاضت منها نفسه فى موضعه وطعن الفاراضى أخوه طعنة أخرى فى إحدى عينيه فذهبتا جميعا عند علاجها.
وحمل أبو الفوارس إلى الخالدية على ترس وجعل على بغل وأدخل الى داره ببغداد فأقيمت عليه المناحات وعملت له المواتيم العظام وحضر جنازته والصلاة عليها سائر الوجوه والأكابر.
وفاة الحجّاج شاعر السخف
وفى يوم الثلاثاء لسبع بقين منه توفى أبو عبد الله الحسين بن أحمد الحجاج الشاعر فى طريق النيل وهو عائد منها. وورد تابوته الى بغداد فى يوم الخميس بعده.
ذكر حاله وطرف من أمره
هذا الرجل من أولاد العمال وكان أول أمره مرتسما بالكتابة وكتب بين(7/468)
يدي أبى اسحق ابراهيم بن هلال الصابىّ جدّى مدة فى أيام حداثته ثم تأتّى له من المعيشة بالشعر ما عدل إليه وعوّل عليه وكان أكسب له مما كان متشاغلا به.
وتفرّد بفن من السخف لم يسبقه إليه سابق وكان مع تعاطيه هذه الطريقة مطبوعا فى غيرها. وقد اختار الرضى أبو الحسن الموسوي من شعره السليم قطعة كبيرة فى غاية الحسن والجودة والصنعة والرقة. ولم يزل أمره يتزايد وحاله تتضاعف حتى حصل الأموال وعقد الأملاك وصار محذور الجانب متقى اللسان مخشى التسكر مقضي الحاجة مقبول الشفاعة.
وحمل اليه صاحب مصر عن مديح مدحه به ألف دينار مغربية على سبيل الصلة وشعره مدون مطلوب فى البلاد. ووجدت له رقعة الى أبى اسحق جدّى قد صدّرها بأبيات فاستحسنت مذهبه فيها [67] ونسختها لذاك وهي:
«فداك الله بى وبكلّ حىّ ... من الدّنيا دنىّ أو شريف
يحلّ لك التغافل عن أناس ... تولّوا ظلم خادمك الضعيف
ولست بكافر فيحلّ مالي ... ولا الحجاج جدّى من ثقيف
فمر بدراهمي ضربا وإلّا ... جعلت سبال قوفا فى الكنيف
قوفا هو أبو الحسن محمد بن الهمانى.
«هوذا يبلغ هؤلاء السّفّل منى مرادهم إضرارا بى أطال الله بقاء سيدنا ويدفعون عن إزاحة علّتى عنادا وقصدا. وو الله لو كان مكان هذه الدريهمات ارتفاع بادوريا [1] ما داهنتهم ولا داجيتهم ولا احتملتهم.
__________
[1] . وبادوريا من جلة العمالات ليراجع ما قال فيها أحمد بن محمد بن الفرات: وزراء ص 76 وفى معجم البلدان لياقوت الحموي 1: 460 (مد) .(7/469)
«وقد سار ما مضى من القول واتصل بهم وقوفا متعلق الحشاشة بالقدرة بين أوداجه وحلقومه وهو يوصى بأذاى ويعهد إلى ابن العلاف فى مكروهي.
فإن أخذ سيدنا بيدي وتولى مطالبتهم ببعض الغلمان وأرهقهم حتى لا يجدوا منه محيصا طمعت فيها وإلّا استشعرت الإياس وبعت الأشهب واشتريت بثمنه ورقا وحبرا وزيتا للسراج وأحييت ليلتي بهجاء القرود. فإنّ القائل يقول:
ما لي مرضت ولم يعدني عائد ... منكم ويمرض كلبكم فأعود
«سمّى شاعر الكلب، وسأسمّى أنا بسبب قوفا شاعر القرد. واليوم الثالث من ضمان ابن العلاف الدراهم لسيدنا وعرفني من رآه عند قوفا يستأمره فأظنه منعه من الإطلاق وأعوذ بالله من أن أكون أنا فى طمع هذين النذلين وأبو جوّال [1] بالسواء. حسبي بهذا تحريصا على صفع القوم وتحريكا فى مناجزتهم.
«وأنا منذ الغداة قرين الزبزب فى مشرعة دار صاعد حتى نزل محمد الدواتى وعرفت خبر انحداره راكبا فانصرفت والله تعالى يودعنى فيه السلامة. وقد أنفذت الأشهب [68] بهذه الرقعة وتقدمت اليه ان لم ير وجها لتحريك أمره فى تسببه ان يشد نفسه مع البغال ويعتلف الى ان يفرج الله تعالى ثم يعود الى اصطبله ثم لم يكن فيه نهوض للحضور فان تأخر هذا الباب طرحته على الماء حتى ينحدر الى المشرعة وربطته مع الزبزب ان شاء الله تعالى.» وله إلى أبى اسحق من جملة مدائح له فيه كثيرة أبيات وجدتها فى نهاية
__________
[1] . جاء فى الحاشية: أبو جوال ملاح كان لأبى اسحق فى زبزبه.(7/470)
الرقة والطبع فذكرتها وهي:
يا من وقفت عليه ... هواى سرّا وجهرا
الله يعلم أنّى ... مذ غبت لم أعط صبرا
ولا عصيت لداعي ال ... أسى ولا الوجد أمرا
ولا لله اطّرحت بثأيى ... عليك نظما ونثرا
ولا رأيت بعيني ... فى الأرض بعدك بدرا
قدمت قبلك حتّى ... تكون أطول عمرا
هذا لغيبة عشر ... وكيف لو غبت شهرا
ومما يغنّى فيه وان كان كثيرا:
يا من مواعيد رضاه ظنون ... ما آن أن تخرج ممّا تخون
سألت عن حالي يا سيّدى ... كلّ عدوّ لك مثلي يكون
ومنه:
ومدلّل أمّا القضيب فقدّه ... شكلا وأمّا ردفه فكثيب
يمشى وقد فعل الصّبى بقوامه ... فعل الصّبا بالغصن وهو رطيب
متلوّن يبدى ويخفى شخصه ... كالبدر يطلع مرّة ويغيب
أرمى مقاتله فتخطى أسهمى ... غرضي ويرمى مقتلى فيصيب
نفسي فداؤك إنّ نفسي لم تزل ... يحلو فداؤك عندها ويطيب
ما لي وما لك لا أراك تزورنى ... إلّا ودونك حاسد ورقيب
ومنه:
أيا مولاي طاب لك اجتنابى ... وقلبي باجتنابك لا يطيب(7/471)
وصرت إذا دعوتك من قريب ... تصيخ إلى الدعاء ولا تجيب
وأصدق ما أبثّك أنّ قلبي ... بعهدك لا عدمتك مستريب
[69] ومنه:
قل لمن رفقته مس ... ك وندّ ومدام
والذي حلّل قتلى ... وهو محظور حرام
أيّها النائم غمزا ... [1] عينه ليس تنام
كلّ نار عند ناري ... فيك برد وسلام
ومنه:
باحت بسرّى فى الهوى أدمعى ... ودلّت الواشي على موضعي
يا معشر العشّاق إن كنتم ... مثلي وفى حالي فموتوا معى
ومنه سخفه قوله فى بعض قصائده:
رأيت أيرا مغلّسا سجدا ... يرفل فى حلّتى دم وخرا
فقلت من أين؟ قال: من شرح ... أفلتّ منه كما ترى وأرا
ومنه فى قصيدة:
جلس الأير سرمها فى خراها ... ذات يوم على سبيل اللّجاج
فقصدت النواة فى ذاك حتّى ... أخذت لى التوقيع غير [2] فراج
وهو كثير وفيما أوردناه من أنموذج كل فن كفاية.
حوادث عدّة
وفى يوم الخميس العشر من رجب توفى أبو الحسين أحمد بن الحسين ابن احمد بن الناصر العلوي.
__________
[1] . وفى الأصل: غمز.
[2] . والمثبت فى الأصل: بغير. وهو مخالف للوزن.(7/472)
وفى يوم الخميس لثمان بقين من شعبان قلد القاضي أبو محمد ابن الأكفانى ما كان الى أبى الحسن الخرزي من الجانب الشرقي فتكامل له جميعه.
وفى يوم السبت الثاني من شهر رمضان توفى أبو الحسن على بن نصر الشاهد بالجانب الشرقي.
وفى يوم الإثنين الحادي عشر منه قبل القاضي أبو عبد الله الضبّى شهادة أبى الحسن على بن أحمد بن صبح.
وفى يوم السبت السادس عشر منه توفى القاضي أبو الحسن محمد بن محمد بن جعفر الأنبارى صهر ابن سيار القاضي وكاتبه.
وفى يوم الاثنين العاشر من شوال قبل القاضي ابو عبد الله الضبّى شهادة [70] أبى القاسم ابن علان وأبى على ابن العلاف وأبى عبد الله ابن طالب.
وفى يوم الخميس الثالث عشر منه قبض أصحاب قراد بن اللديد على أبى الحسن ابن الحسن محمد بن يحيى النهرسابسى بباقطينا وحملوه الى حلّة قراد ثم أفرج عنه وعاد الى بغداد.
شرح الحال فى ذلك
كان الديلم قد طالبوا أبا الحسن ابن يحيى بإطلاق أقساطهم لأنّ المعاملات التي كانت المادة منها انتقلت الى نظره بعد هرب أبى نصر سابور فمنعهم واعتصم بالكرخ والعلويين والعيارين.... [1] وجرت بين الفريقين حروب لأجل ذلك.
واتفق أن دخل الديلم طاق الحراني فأحرق العامة ما وراءهم وأمامهم
__________
[1] . بياض فى الأصل.(7/473)
واحترق منهم جماعة وعظمت الفتنة واستحكمت الوحشة.
فخرج أبو الحسن إلى باقطينا وهي من العمريات التي يدبر أمرها وعرف أصحاب قراد خبره فطمعوا فيه وصاروا اليه وأخذوه وحملوه الى صاحبهم وعمل قراد على مطالبته بالمال والسوم عليه فيه.
فركب قراوش وغريب اليه ولم يفارقاه إلّا بعد استخلاصه وانتزاعه من يده وسيّراه إلى المحول فوصل إليها يوم الجمعة لليلتين بقيتا من شوال.
وقد كان أبو القاسم ابن مما عاد من شيراز فتوطأ [1] ما بينه وبين الديلم حتى صلح واستقام، وأعطاهم ما رضوا به ودخل داره يوم الاثنين لثامن من ذى القعدة.
وفى الساعة الثالثة من يوم الخميس الثامن عشر من ذى الحجة ولد الأمير أبو جعفر عبد الله ابن القادر بالله أطال الله بقاءه، والطالع العقرب على كدح والشمس فى الميزان على كالو.
وفى يوم الإثنين الرابع عشر منه قبض [71] معتمد الدولة أبو المنيع على أبى الحسن ابن العروضي.
وفى يوم الأحد لعشر بقين منه توفيت زبيدة بنت معز الدولة بأصبهان.
وفى يوم الأحد السادس منه تقلد يوانيس الجاثليق [2] .
وحج بالناس فى هذه السنة أبو الحارث محمد بن محمد بن عمر العلوي.
سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة
أولها يوم الخميس والعشرون من تشرين الثاني سنة ثلاث عشرة
__________
[1] . وفى الأصل: فتوّط.
[2] . هو من كرخ جدان مات سنة 402 للهجرة وكانت مدته مدة عشر سنين قمرية كذا فى ترجمته فى كتاب المجمل لمارى بن سليمان 1: 110 (مد) .(7/474)
وثلاثمائة وألف للإسكندر وروز إسفندار من ماه آذر سنة سبعين وثلاثمائة ليزدجرد.
قد ذكرنا ورود أبى جعفر الحجاج وأبى نصر سابور الى واسط عائدين من شيراز ووعدنا بذكر ما جرى عليه أمرهما بعد ذلك. ولما ورد الخبر بنزولهما واسطا انحدر أبو القاسم الحسين بن محمد بن مما إليهما متلقيا لهما ومعتدا بما فعله فى إصلاح الجند وتوطئة الأمر. واستمال أبا جعفر بما حمله اليه ولاطفه به وعقد بين أخيه أبى على وبين أبى شاكر أحمد بن عيسى كاتب أبى جعفر عقدا على بنت أبى شاكر استظهر لنفسه فيه وأعطى أبا عبد الله أستاذ هرمز داره وملك أمره بما حصله فى كفته به وعلم أنّ رأى أبى نصر سابور لا يخلص له فاعتضد بهذه الجهة وأظهر مداخلتها ومخالطتها.
وكان أبو الحسن ابن اسحق قد فارق أبا الحسن ابن يحيى على وحشة ومضى ليقصد شيراز فردّه أبو نصر سابور من طريقه وعوّل عليه عند حصوله بواسط فى خلافته وأنفذه الى بغداد أمامه وردّ معه أبا القاسم ابن مما وقرر معهما القبض على أبى يعقوب العلوي النقيب [72] وأصحاب أبى الحسن ابن يحيى عند نفوذ كتابه إليهما بذلك وأصعدا.
وانحدر أبو الحسن ابن يحيى لخدمة أبى جعفر وأبى نصر والاجتماع معهما وقد كانت نفسه نافرة منهما لتقريره سوء الاعتقاد فيه منهما ولمّا وصل نزل داره بالزيدية وكان أبو نصر سابور نازلا فى دار أبى عبد الله ابن يحيى أخيه المجاورة لها. وكتب على الطائر بالقبض على أبى يعقوب فى يوم عين لأبى القاسم ابن مما وأبى الحسن ابن اسحق عليه وأمرهما بالمبادرة اليه بذكر ذلك ليقبض هو على أبى الحسن وأصحابه بواسط.
فخرج أبو القاسم الى أبى يعقوب بالسرّ وراسله بالإنذار لمعاهدة كانت بينهما ولأنه لم يأمن أبا نصر متى استقامت حاله ومشى أمره واطرد له ما(7/475)
يريده.
واستظهر أبو يعقوب وكبست [داره] [1] فلم يوجد فيها وشاع الخبر وكتب أصحاب الشريف أبى الحسن اليه بالصورة على الطيور.
وأخر أبو نصر إمضاء ما يريد أن يمضيه فى أبى الحسن إلى أن يعرف حصول أبى يعقوب لأن أكثر غيظه كان عليه وأحسّ أبو الحسن فهرب ليلا ومضى على بغلة متعسفا إلى الزبيدية وأصبح أبو نصر وقد أفلت أبو الحسن.
وورد عليه الكتاب بإفلات أبى يعقوب. فقامت قيامته وتحير فى أمره وندم على تفريطه وراسل أبا جعفر واستشاره فيما يفعله فقال له:
- «لو عملت بالحزم لبدأت بمن عندك وكان بين يديك من غاب عنك ولكنك استبددت برأيك» .
وشرع أبو نصر فى تتبع أموال أبى الحسن وتحصيل غلاته والاحتياط على معامليه ومعاملاته وختم على الدور والحانات واعتقد تفتيشها وأخذ ما يجده لأبي الحسن واخوته ووكلائه وأسبابه فيها ثم عدل عن ذلك الى [73] تأنيسه ووافق أبا جعفر على مراسلته وتردد فى ذلك ما انتهى الى إجابة أبى الحسن الى العود على أن يوثق له أبو جعفر من نفسه ويحلف له على التكفل بحراسته ومنع كل أحد عنه.
فأذكر وقد ورد أبو احمد الحسين بن على ابن أخت أبى القاسم ابن حكار رسولا عن ابى الحسن من الزبيدية الى أبى جعفر ليحلفه له فقال لى أبو جعفر:
- «اجتمع معه على عمل نسخة لليمين.» فقال أبو أحمد:
__________
[1] . زيادة زادها فى مد.(7/476)
- «قد عملها الشريف وأصحبنيها وها هي ذه.» وأخرجها من كمّه وأخذها أبو جعفر من يده وأعطانيها ورسم لى قراءتها عليه فقرأتها وكان يفهم العربية ولكنّه يجحدها.
وخرج أبو أحمد من حضرته على أن يجتمع أبو جعفر مع أبى نصر ويقفه عليها ثم استدعاني أبو جعفر وأعطانى النسخة وقال لى:
- «امض إلى أبى نصر سابور فأعرضها عليه وقل له: ما الذي تراه فى هذا الأمر فإنّنى إن حلفت [1] لهذا الرجل وأعطيته عهدي لم أمكنك منه وحلت بينك وبينه.» فمضيت الى أبى نصر سابور ووقفته على النسخة وأوردت عليه الرسالة فقال:
- «أنا أروح العشية اليه ونتفاوض ما يجب أن يعمل عليه.» فعدت الى أبى جعفر بهذا الجواب وركب اليه أبو نصر آخر النهار واجتمعا وخلوا ثم استدعيا أبا احمد وحلف له أبو جعفر وعاد.
وأصعد ابو الحسن ابن يحيى وبات فى داره ليلة ثم خرج ورجع الى الزبيدية فيقال: إنه أخذ دفينا كان له فى الدار وانحدر به حتى استظهر فى أمره وعاد بعد يومين وانحل أمر أبى نصر سابور واستطال عليه أبو الحسن ابن يحيى. ثم أصعد [74] أبو جعفر وأبو نصر الى بغداد فكان وصولهما إليها آخر نهار يوم الخميس الثاني من جمادى الأولى.
وصدرت الكتب الى بهاء الدولة بما جرى عليه الأمر. فغاظه سوء تدبير أبى نصر وفساده وطعن عليه من كان بحضرته من خواصه وقد كان أبو الحسن بن يحيى كاتب بهاء الدولة من الزبيدية واستعطفه وأذكره بما قدّمه
__________
[1] . وفى الأصل: عفت.(7/477)
فى خدمته وأسلفه وبذل له فى أبى نصر سابور بذلا يقوم بتصحيحه من جهته وذكر ما عليه الجند والرعية من بغضه والنفور من معاملته. وكتب الى أبى جعفر بالقبض عليه وإلى أبى الحسن بن يحيى بتسلمه. واستقرّ الأمر بين أبى جعفر وأبى الحسن ابن يحيى وأبى القاسم ابن مما على ذاك.
فتراخى أبو الحسن وأبو القاسم فى القبض عليه لغرض اعتمداه فى بعده والخلاص منه وعرف أبو نصر الصورة فاستظهر لنفسه وعلما قوته [1] فكبسا عليه دار بنى المأمون بقصر عيسى ولم يوجد فيها وأراد ابو الحسن بما أغفله وأهمله من أخذه الاحتجاج على بهاء الدولة بهر به فيما كان بذله فيه وأبو القاسم ابن مما الاستراحة من حصوله [2] وما عسى أن يحمل عليه من ركوب الفشخ معه.
ومضى أبو نصر الى البطيحة ونظر فى الأمر ببغداد بعده ابو الحسن على بن الحسن البغدادي ثم أبو الفتح القنّائى ثم أبو الحسين عبيد الله بن محمد بن قطرميز وخوطب بالوزير فتقبل ذلك وصار أضحوكة عند أبى جعفر والناس به وكان العمل كله أخذ الأموال من المصادرات والتسلق على التجار بالتأويلات.
لا جرم أنّ البلد خرب وانتقل أكثر اهله [75] عنه فمنهم من مضى إلى البطيحة ومنهم من اعتصب بباب الأزج ومنهم من بعد إلى عكبرا والأنبار.
ولقد حدثني جماعة من الناس أنهم شاهدوا صينية الكرخ فيما بين طرف الحذائين والبزازين والفواخت والعصافر تمشى فى أرضها انتصاف النهار وفى الوقت الذي جرت العادة بازدحام الناس فيه بهذا المكان.
فلما ورد أبو نصر وأبو جعفر الى واسط كتبا وأعادا أبا الحسن على بن
__________
[1] . لعله: فوته.
[2] . لعله: حضوره (مد) . هذا وتبدو العبارة مضطربة.(7/478)
أبى على إلى النظر فى المعونة.
وفى يوم السبت العاشر من المحرّم توفّى ابو القاسم إسماعيل بن سعيد ابن سويد الشاهد.
وفى يوم الأربعاء الثامن عشر [1] منه انحدر أبو الحسن ابن يحيى إلى واسط لانحدار المقدم ذكره.
وفى هذا الوقت توفى أبو الطيب الفرّخان بن شيراز بجويم السيف وخرج الوزير أبو غالب محمد بن على بن خلف من شيراز لطلب أمواله وتحصيلها.
شرح حال أبى الطيب منذ ابتداء أمره وإلى حين وفاته وما جرى فى طلب أمواله وذخائره على ما عرّفنيه أبو عبد الله الحسين بن الحسن الفسوي
كان الفرّخان بن شيراز من أهل بعض القرى بكرّان وتصرف أوّل أمره فى الداريجية وما شاكلها من الأعمال القريبة وتدرج إلى أن ولى كتابة الديوان بسيراف وانتقل عنها إلى عمالتها وبقي على ذلك زمانا طويلا ثم قلد عمان فعبر إليها وحسنت حاله فيها وجمع الأموال التي لم يسمع لمثله بمثلها [76] وبنى بنائبنذ الدار المعروفة به وكانت من الدور التي تضرب الأمثال بها وحصل فيها من أصناف الفرش والأثاث والرحل الشيء الكثير الجليل ورتّب بها من الحفظة والحراس وحملة السلاح خلقا كثيرا لأن نائبنذ على ساحل البحر وليس بها من الناس كثير أحد.
وتحدث فى البلاد بما جمعه فى هذه الدار من الأموال فرمقتها العيون وتعلقت بها الأطماع وهمّ بقصدها وطلبها الخوارج وأصحاب الأطراف وكان
__________
[1] . لعله: الثامن والعشرين.(7/479)
فى يد أبى العباس ابن واصل [1] عبادان والبحر وفى يد لشكرستان بن ذكى البصرة وفى يد السيفية والزطّ السواحل وقصب البلاد التي تجاورها.
وكانت أكثر مادة صمصام الدولة بفارس من الفرّخان لأنه كان يمده بالأموال والحمل فى كل وقت فسعى قوم فى إفساد أمره عنده وقالوا له: إنه على العصيان. ومنع جانبه وقطع ما جرت عادته بحمله والإمداد به.
فكاتبه صمصام الدولة بالورود إلى بابه مختبرا بذاك ما عنده وقد كان الخبر انتهى الى الفرّخان بما تكلم به فيه. فصار اليه بهدايا واموال حسن موقعها منه فخلع عليه واستحجبه ورده الى موضعه وجرى على رسمه فى الخدمة والتزام شرائط الطاعة.
وتوفى العلاء بن الحسن بعسكر مكرم، فلم يكن فى مملكة صمصام الدولة أوجه من الفرّخان ولا أوسع حالا وأعظم هيبة فى نفوس الجند منه.
فاستقرت الوزارة له على أن يتوجه إلى الأهواز ويدبر أمورها وأمور الأولياء الذين بها ويستخلف له بشيراز أبو اسحق ابراهيم بن أحمد ومنصور بن بكر.
فأقام أبو اسحق بحضرة صمصام الدولة وصار منصور إلى فسا لتقرير أعمالها ولم [77] يطل مقامه بها حتى استعيد وأنفذ إلى شقّ الروذان ثم لم يثبت هناك وانصرف من غير إذن الى الباب فأنكر صمصام الدولة فعله وأمر بإحضاره وضربه. فضرب وانصرف عن شركة أبى اسحق وتفرد أبو اسحق
__________
[1] . قال فيه صاحب تاريخ الإسلام: أبو الغنائم ابن واصل كان يخدم فى الكرخ وكانوا يقولون انه يملك ويهزؤون به ويقول بعضهم: ان صرت ملكا فاستخدمنى ويقول الآخر اخلع علىّ. فآل أمره الى أن ملك سيراف ثم البصرة ثم قصد الأهواز وحارب السلطان بهاء الدولة وهزمه ثم تملك البطيحة وأخرج عنها مهذب الدولة على ابن نصر الى بغداد فنزح مهذب الدولة بخزائنه فأخذت فى الطريق واضطر الى ان ركب بقرة واستولى ابن واصل على داره وأمواله. ثم ان فخر الملك أبا غالب قصد ابن واصل فعجز عن حربه واستجار بحسان الخفاجي ثم قصد بدر بن حسنويه فقتل بواسط فى صفر سنة 397 (مد) .(7/480)
بالنظر.
وورد الفرّخان الأهواز فلم يمش الأمور بين يديه على ما كان يتقرر من ذاك وأنفذ أبو على الحسن بن أستاذ هرمز وجرى أمره على ما تقدم ذكره فى موضعه.
ووصل بهاء الدولة الى فارس والفرخان فى جملة من صحبه من الناس.
فتكلم عنده على حاله وعظمها وأمواله وكثرتها فقبض عليه وألزم صلحا وسلّم إلى أبى العلاء عبيد الله بن الفضل ثم إلى الصاحب أبى محمد ابن مكرم وأفرج عنه بعد أدائه إيّاه وخروجه منه.
وأنفذ إلى جويم السيف لقتال الزط والسيفية وصار الى فسا واستصحب أكثر الديلم الذين بها وجرد إليه مردجاوك فى طائفة كثيرة من الغلمان العراقية وأقام بجويم مدة واستخرج أموالا من النواحي الغربية وامتنع عليه من اعتصم بقلعة او أوى إلى الجبال الحصينة.
وقضى نحبه فى أثناء ذلك ووقع الاحتياط على ما صحبه من مال وتجمل وحمل بأسره إلى شيراز وكان بهاء الدولة يعتقد فى ثروته ويساره أمرا عظيما.
فلمّا توفّى كثر القول عليه فيما تركه من الحال وخلفه من الودائع وأودعه داره من الذخائر، فندب الوزير أبا غالب للتوجه إلى نائبنذ وسيراف واستقضاء ذلك أجمع وإثارته وتحصيله ورسم له قصد الدار بنفسه وهي من سيراف على خمسة عشر فرسخا وأن يبالغ فى الكشف والفحص عنه ولا تقنع إلّا بأن يتولى كل [78] أمر تولى المشاهدة والمباشرة. وكان للفرّخان ثقة [1] يعرف ببابان مجوسي ويحيط علمه بكل ما يملكه الفرّخان فوق الأرض
__________
[1] . فى مد: يقة.(7/481)
وتحتها. فقبض عليه الوزير أبو غالب واستدلّه على الأموال التي للفرخان فدلّه على أموال عظم الناس قدرها وجواهر تلك حالها وحصلها الوزير ثم عاقبه بعد ذلك عقوبة شديدة حتى ذبح نفسه فى الحمام.
وعاد الوزير أبو غالب الى شيراز فتحدث اعداؤه بما أخذه من مال الفرخان ودفائنه وودائعه وواصلوا الخوض فيه وادّعوا عليه أنه قتل بابان ليتستر بموته ما اخذه منه وعلى يده وأدّت هذه الأقاويل وما اتصل ببهاء الدولة منها إلى القبض على الوزير أبى غالب وسنذكر ذلك فى وقته وموضعه.
عدة حوادث منها وفاة ابن جنّى
وفى يوم الإثنين العاشر من صفر قبل القاضي ابو عبد الله الضبّى شهادة أبى القاسم على بن محمد بن الحسين الوراق.
وفى يوم الجمعة لليلتين بقيتا منه توفى أبو الفتح عثمان بن جنّى النحوي [1] وكان أحد النحويين المتقدمين وله تصنيفات وقد فسر شعر ابى الطيب المتنبي تفسيرا استقصاه واستوفاه وأورد فيه من النحو واللغة طرفا كبيرا ولقّب ذلك بالفسر وهو من أهل الموصل وخدم عضد الدولة وصمصام الدولة وشرفها وبهاءها [2] طرفا كبيرا فى دورهم برسم الأدباء النحويين.
وفى شهر ربيع الأول قتل أبو الحسين محمد بن الحسن العروضي بالأنبار.
__________
[1] . وردت ترجمته فى إرشاد الأريب 5: 15 وقال صاحب تاريخ الإسلام أن عدد أوراق ترجمته هذه هي ثلاث عشر ورقة. وقال أيضا ان لأبى الفتح كتابا سماه البشرى والظفر وشرح فيه بيتا واحدا من شعر الأمير عضد الدولة وقدمه له وهو:
أهلا وسهلا بذي البشرى ونوبتها ... وباشتمال سرايانا على الظّفر
وأوسع الكلام فى شرحه واشتقاق ألفاظه (مد) .
[2] . لعله سقط: فحصل (مد) .(7/482)
وفى يوم الإثنين السابع من شهر ربيع الآخر ثار العامة بالنصارى ونهبوا البيعة بقطيعة الرقيق وأحرقوها فسقطت على جماعة من المسلمين رجالا وصبيانا ونساء وكان الأمر عظيما.
[79] وفى ليلة يوم الخميس لست بقين منه كبس ابن مطاع وأصحابه حسون بن الخرما وأخاه العلويين بفم الأسناية وقتلوهما وكانت هذه الطائفة قد أسرفت فى التبسط والتسلط وركوب المنكرات وإتيان المحظورات.
وفى يوم الاثنين الخامس من جمادى الأولى وهو اليوم الثاني والعشرون من آذار وافى برد شديد جمد الماء منه.
وفى يوم الجمعة التاسع منه خطب لبهاء الدولة ببغداد بزيادة قوام الدث صفى أمير المؤمنين وقد كان الخليفة أطال الله بقاءه لقبه بذلك وكاتبه به الى شيراز.
وفى يوم الأربعاء لليلتين بقيتا منه استتر أبو نصر سابور الاستتار الذي ذكرناه فى سياقة خبره.
وفى هذا الشهر بلغت كارة الدقيق الخشكار ثلثة دنانير مطيعية، ثم زادت فى جمادى الآخرة فبلغت خمسة دنانير ولحق الناس من ذلك شدة ومجاعة.
وفى جمادى الآخرة خرج أبو طاهر يغما الكبير الى جسر النهروان هاربا من أبى جعفر الحجاج بن هرمز فيه.
ذكر السبب فى ذلك وما جرى عليه الأمر فيه
تأدى إلى أبى جعفر شروع يغما فى قلب الدولة وإفساد الغلمان، وتردّد مكاتبات ومراسلات بينه وبين مهذب الدولة فى ذاك ووعده إياه بحمل مال.(7/483)
فاستمال أبا الهيجاء الجماقى واجتذبه الى نفسه وهمّ مكاشفة يغما وأخذه وقد كان يغما وثب الغلمان عليه ووضعهم على مطالبته والخرق به.
وأحس يغما باعتقاد أبى جعفر فيه وتدبيره عليه فتجعد عن لقائه والاجتماع معه ثم خاف بادرته. وكان [80] أبو جعفر مهيبا متّقى فخرج إلى جسر النهروان ليفعل ما يفعله على الطمأنينة والامان وعبر ديالى لاشفاقه من أسراء أبى جعفر خلفه، وتبعه جماعة من وجوه الغلمان ثم فارقوه ورجعوا عنه.
وتأخر المال الذي وعده مهذب الدولة بإنفاذه اليه ووعد هو الغلمان به فبطل أمره بذاك ومضى وعبر من الصافية إلى الجانب الغربي ولحق بأبى الحسن على بن مزيد وأقام عنده وأقطع أبو جعفر إقطاعه وما كان فى يده ببادوريا لأبى الهيجاء الجماقى.
وفيه فاض ماء الفرات على سكر قبين وغرق سواد الأنبار وبادوريا وبلغ الى المحول وقلع حيطان البساتين واسود فى الصراة.
وفى يوم الأحد لست بقين منه صلب أبو حرب كاتب بكران على باب حمام بسوق يحيى وجد فيه مع مزيّة جارية بكران على حال ريبة.
وفى يوم السبت مستهل رجب أخرج أبو جعفر الحجاج أبا الحسن على ابن كوجرى فى جماعة من الديلم والأكراد إلى المدائن لدفع أصحاب بنى عقيل عنها.
شرح ما جرى عليه الأمر فى ذلك وما اتصل به من خروج أبى اسحق إبراهيم أخى أبى جعفر وهزيمته
سار أبو الحسن على بن كوجرى إلى المدائن فنزلها وانصرف دعيج(7/484)
صاحب قرواش وأصحابه عنها وقبض ببغداد على أصحاب بنى عقيل ومعامليهم وأخرج العمال إلى بادوريا ونهر الملك. ونفذت الكتب الى مرح بن المسيب وقرواش بن المقلد وقراد بن اللديد وهم بنواحي الموصل بما جرى، فإلى أن يجمعوا العرب وينفذوهم [1] جمع دعيج الى نفسه جمعا كثيرا وقصد [81] أبا الحسن بن كوجرى وحصره بالمدائن وكتب أبو الحسن إلى أبى جعفر يستمده ويستنجده فجرد المنجب أبا المظفر بارسطغان لأنه كان والى البلد وخرج فى عدة من الغلمان فاندفع دعيج من بين يديه وكتب الى أبى الحسن على بن مزيد يلتمس منه المعونة على أمره.
وقد كان أبو الحسن استوحش من أبى جعفر وخافه فأنجده بأبى الغنائم محمد أخيه واجتمع دعيج وجمعه وأبو الغنائم بن مزيد ومن معه ونزلوا ساباط.
وكتب المنجب أبو المظفر بارسطغان وأبو الحسن على بن كوجرى الى أبى جعفر بتكاثر القوم وقوة شوكتهم واستنهض الغلمان للخروج فتقاعدوا وتثاقلوا وتأخر المدد عن المنجب أبى المظفر وعلى بن كوجرى فانكفئا إلى باقطينا [2] وندب أبو جعفر أبا اسحق أخاه للخروج وأنهض معه الديلم وساروا جميعا مع المنجب أبى المظفر وعلى بن كوجرى وتوجهوا طالبين للعرب.
وكتب أبو الغنائم ابن مزيد ودعيج الى أبى الحسن على بن مزيد بذلك فصار إليهما واجتمع معهما ووقعت الوقعة بباكرمى يوم الأربعاء الثامن من شهر رمضان فانهزم أبو اسحق واستبيح العسكر وأسر كثير من الديلم والأتراك وقتل أبو منصور ابن حليس وشابا بن اوندا وجماعة، وعاد الفلّ إلى بغداد
__________
[1] . فى مد: ما جمع (بزيادة ما) .
[2] . لعله: باقطايا.(7/485)
على أسوإ حال وغاظ ذاك أبا جعفر وأزعجه.
ذكر ورود ابن ثمال
وورد أبو على الحسن بن ثمال الخفاجي بعقبه فى يوم الثلاثاء الرابع عشر من شهر رمضان فى عدة قريبة من أصحابه فلم يشعر به حتى نزل صرصر.
ذكر الحال فى وروده
كان أبو جعفر لاعتقاده ما يعتقده فى بنى عقيل وما عاملوه به قديما لا يحلم إلّا بهم ولا يفكر [82] إلّا فى قصدهم وحربهم وأخذ الاهبة لشفاء صدره منهم واجتذاب من يجعله خصما لهم.
وكاتب أبا على بن ثمال وحرص على أن يستدنيه وكان يبعد فى الظنّ أن ينزل الشام ويرد إلى العراق.
فأذكر وقد حضر عندي أبو القاسم ابن كبشة وهو رجل كثير الدهمسة حامل نفسه على الأخطار العظيمة وممن خدم عضد الدولة فى الترسل والتجسس المدة الطويلة وقال لى:
- «أراكم تكاتبون الحسن بن ثمال وتستدعونه وهو يعدكم ويعللكم، ولو أنفذنى صاحب الجيش ببعض كتبه إليه لما فارقته حتى آخذه وأجيئكم به.» فذكرت ذلك أيضا لصاحب الجيش فقال:
- «ابن كبشة كثير الكذب والفضول، ولكن اكتب على يده وأنفذه وأرحنا منه.» فكتبت له كتابا واستطلقت له نفقة من الناظر فى الأمور ومضى وليس عند صاحب الجيش أبى جعفر أنّه يفلح ولا يرجع. فلم تمض مديدة قريبة حتى ورد وقال:(7/486)
- «هذا أبو على بن ثمال قد نزل صرصر.» فسرّ أبا جعفر ذاك وكان عقيب ما لحق أبا اسحق أخاه من ابن مزيد وبنى عقيل وأنفذ إليه من تلقّاه وأنزله فى الدار التي كانت للمعروفى وحمل إليه الإقامات وأطلق لأصحابه النفقات.
وورد على أبى جعفر خبر عميد الجيوش أبى على فى تقلده العراق وما هو عليه من المسير إليه فزادت هذه الحال فى غيظه وشاعت بين الناس.
فتبسط عليه الأتراك وأساءوا معاملته واجتمعوا فى بعض الأيام على بابه ورموا روشنه بالآجر والنشاب فضجر وضاق صدرا بأمره وخرج إلى جسر النهروان فى يوم الأحد لأربع بقين من شهر رمضان ومعه أبو إسحق أخوه والظهير بن جستان وخسروشاه [83] وخسر فيروز [1] أخواه وأبو الحسن على ابن كوجرى وأبو على ابن ثمال وأبو الحسين ابن قطرميز ومن تبعه من الديلم الباراوحية وغيرهم.
وراسل النجيب أبا الفتح محمد بن عناز وسأله المسير معه إلى أبى الحسن على بن مزيد وبنى عقيل فدافعه وعلله ثم أجابه وساعده وسار إليه واجتمع معه وعبرت الجملة دجلة وكان انفصال أبى جعفر عن جسر النهروان يوم الأحد لعشر خلون من شوال، وعبوره فى يوم السبت مستهلّ ذى القعدة، وتوقّفه إلى أن لحق به أبو الفتح.
وورد إلى دعيج أبو بشر بن شهرويه مددا من الموصل فى عدة كثيرة من بنى عقيل واجتمع أبو الحسن بن مزيد معهم فى خيله ورجله ووقعت الوقعة بينهم فى يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من ذى القعدة فقتل أبو بشر بن شهرويه وأسر دعيج وانهزم أبو الحسن بن مزيد وتفرقت جموعهم ونهب
__________
[1] . أصلهما الفارسي: خسرو شاه، وخسرو فيروز.(7/487)
سوادهم وكراعهم وذلك فى الموضع المعروف ببزيقيا.
فحدثني الحاجب أبو طاهر الحسين بن على الظهيرى قال:
لما انهزم ابن مزيد وبنو عقيل من الوقعة ببزيقيا تمم صاحب الجيش أبو جعفر إلى القصر ونزل بباشمسا ورتّب فى البلد من منع من نهبه والتعرض لأهله وسار من غد طالبا للنيل ومقتصا أثر ابن مزيد. فكان قد مضى الى موضع يعرف بشق المعزى بحلله وأهله.
فنزل أبا الحسن على بن كوجرى بالنيل ومعه أثقاله ودعيج والرجالة الديلم وسار ومعه أبو الفتح بن عناز وأبو على ابن ثمال. فلما قاربوا ابن مزيد وشاهدوا حلله وقفوا لأخذ أهبة الحرب وضرب المضارب، وبرز ابن مزيد للقتال.
وقد كان راسل أبا الهوا اسود بن سوادة الشيبانى وهو فى عدة كثيرة من بنى شيبان مع أبى [84] الفتح ابن عنّاز ووعده وخدعه ووافقه على أن ينهزم إذا وقعت العين على العين ويفلّ أبا جعفر ففعل وانصرف وتبعه قوم من الأكراد وبقي أبو جعفر فى ثلاثين رجلا من أهله وأقاربه لأنّه كان تقدم بالنيل أن يحمل بعض الديلم الرجالة على البغال والجمال فأغفل ذاك وأبو الفتح ابن عنّاز فى مائتي فارس من الشاذنجانية ومائتي فارس من الجاوانية كانوا صحبوا أبا جعفر.
واتفق أن مضى حسان بن ثمال أخو أبى على مع أكثر بنى خفاجة فى طريق غير الطريق التي سلكها أصحابنا فبقى أبو على فى عدة قليلة. ولما تبين أبو جعفر ما هو فيه وشاهد قلة ما بقي معه وحمل أبو الحسن ابن مزيد عليه وكثره بخيله ورجله وعبيد الحلة وإمائها وملك عليه خيمه تحير فى أمره.
وأحس من أبى الفتح ابن عنّاز بعمل على الهرب والانصراف. فقال للظهير(7/488)
ابى القاسم وأهله:
- «احفظوا لى أبا الفتح ولازموه ولا تفارقوه لئلّا يخاتلنا ويتركنا لأنّنى [1] أعول على النصرة به، ولكنه متى رجع فلّنا وكسرنا وأطمع عدونا.» فلازمه الظهير وهجم أبو جعفر لما ضاق به الأمر على البيوت وعلا على تلّ كان فى وسطها وعرف أبو الحسن ابن مزيد ذلك وقد كان ملك مضارب أبى جعفر ونزل وصلّى فى أحدها شكرا للَّه تعالى على الظفر. فركب وقصده وحمل حملة نكس فيها نفرا من غلمان دار أبى جعفر وداسهم بحوافر خيله حتى سطح رؤوسهم ووجوههم وخلطها بأجسادهم واستظهر كل الاستظهار.
وثبت أبو جعفر وحمل حملات متتابعة وطرح النار فى بعض البيوت وحمل فى أثر ذاك فانهزم ابن مزيد وملكت حلله وبيوته وأمواله وذلك فى يوم السبت لثمان بقين من [85] ذى القعدة.
قال الحاجب أبو طاهر:
ونهب أصحابنا ذلك فأخذوا من العين والورق والحلي والصياغات والثياب الشيء الذي تجاوز الحصر وأرسل أبو جعفر إلى أبى على ابن ثمال: بأنك أحق بالنساء [2] والحرم فاحرسهن وامنع العجم منهن.
فتشاغل أبو على بجمعهن إلى بيوت أفردها لهن ولم يتعرض لشيء من النهب على وجه ولا سبب.
واستغنى الشاذنجان والجاوان ومن حضر من بنى خفاجة بما حصل من الغنائم وامتلأت أيدى الجميع وحقائبهم بالمال والجلال من الأثاث وانكفأ أبو جعفر إلى النيل.
وقد كان أبو الحسن على ابن كوجرى لما رأى بنى شيبان عائدين
__________
[1] . والمثبت فى مد: لا أنّنى.
[2] . وفى مد: النساء.(7/489)
ومظهرين للهزيمة وسمع عنهم أنهم قالوا: قد كسر صاحب الجيش، خاف وجمع الديلم الرجالة وحمل الأثقال وصار إلى الجبل وضرب رقبة دعيج وصلبه بالمدائن وعرف من بعد حقيقة الأمر واستحيا ودخل إلى بغداد كالمستوحش من أبى جعفر ثم كاتبه وعذره فرجع اليه. وصار أبو جعفر بعد ذاك إلى الكوفة ومعه أبو على ابن ثمال ورجع أبو الفتح ابن عنّاز إلى طريق خراسان.
قال الحاجب أبو طاهر:
- «ولما حصل صاحب الجيش أبو جعفر بالكوفة نزل فى دار ابى الحسن محمد بن عمر ثم لم يبعد أن وردت الأخبار بانحدار قرواش ورافع بن الحسين وقراد بن اللديد وغريب ورافع ابني محمد بن مقن فى جمرة بنى عقيل ومن استجاشوا به من طوائف الأكراد ونزولهم الأنبار عاملين على قصد الكوفة ولقاء أبى جعفر وأبى على بن ثمال. وعرف بنو خفاجة ذاك ففارقوا أبا على وتوجهوا منصرفين.
فقال أبو على لأبي جعفر:
- «يا صاحب الجيش، أنفذ معى من يردّهم [86] .» فأنفذ معه الظهير أبا القاسم وخرجا حتى انتهيا إلى قريب من القادسية والقوم متفرقون قد أخذ كل قوم منهم طريقا ومنهم من يريد البصرة ومنهم من يريد البرية. فقال أبو على للظهير لمّا شاهدهم:
- «تقدم بضرب البوقات.» ففعل ذاك. فلما سمعوا الصوت وكل إنسان منهم قد أخذ وجهته لووا رؤوس خيلهم واجتمعوا إلى أبى علىّ وقالوا له:
- «ما الذي تريده منا.» فقال لهم:(7/490)
- «يا قوم تخلونى وتخلون هذه البلاد وقد نزلناها وأخذناها بالسيف وصارت لنا طعما ومعايش.» فقالوا: «نريد المال والعوض عن إسلام النفوس للرماح والسيوف.» ولم يزل هو والظهير بهم حتى رجعوا على أن يفسح لهم فى نهب النواحي عوضا عن العطاء والإحسان واستعملوا من ذاك ما جرت عادتهم به وعظمت المعرّة منهم.
وبرز صاحب الجيش الى الموضع المعروف بالسبيع من ظاهر الكوفة وأراد أن يجعل انتظاره لبنى عقيل ولقاءه لهم فيه. فقال له ابو على بن ثمال:
- «يا صاحب الجيش قد أسأنا معاملة أهل البلد وثقّلنا الوطأة عليهم وهم كارهون لنا وشاكون منّا، ومتى كانوا فى ظهورنا عند وقوع الحرب لم نأمن ثورتهم من ورائنا ومعاونتهم لأعدائنا علينا. والصواب أن نجعل بيننا وبينهم بعدا.» فساروا ونزلوا فى القرية المعروفة بالصابونية على فرسخين من الكوفة ومع أبى على بن ثمال نحو سبعمائة فرس ومع صاحب الجيش أبى جعفر نحو العدة من الديلم.
ولما خرج صاحب الجيش الى هذا الموضع لم يتبعه من الديلم إلّا دون ثلاثمائة رجل وتأخر الباقون عنه وطالبوه بالمال وإطلاقه لهم، وقد كان عميد الجيوش وأبو القاسم ابن مما راسلاهم وأفسداهم [87] فردّ أبو جعفر الظهير أبا القاسم إليهم حتى أخرج اكثر المتأخرين لأنهم استحيوا منه وتذمّموا من الامتناع عليه.
وورد بنو عقيل فى سبعة آلاف رجل بالعدد والمنجانيقات والأسلحة والقزاغندات، وطلعت راياتهم وضربت بوقاتهم ودبادب مواكبهم وزحفوا كما تزحف السلطانية.(7/491)
وقد كان أبو على بن ثمال قصد المشهد بالغرىّ على ساكنه السلام، وزار وصلّى وتمرّغ على القبر وسأل الله تعالى العون والنصر وقال لأصحابه:
- «هذا مقام الموت والذل بالفشل والخور ومقام الحياة والعز بالثبات والظفر.» فوعدوه المساعدة وبذل نفوسهم فى المدافعة. ورتب صاحب الجيش مصافّه بين يدي بيوت الحلّة وجعل الظهير أبا القاسم فى ميمنته وخسروشاه فى ميسرته ووقف هو فى القلب وبرز النسوان فى الهوادج على الجمال وبين أيديهن الرجالة بالدرق والسيوف. وتقدم أبو على فى الفرسان وصار بيننا وبينه مدا بعيدا ووقع التطارد فلم يكن إلّا كلا ولا، حتى وافتنا الخيل المغنومة مجنونة والرجال المأسورون يقادون والعرب من بنى خفاجة وفى أيديهم الرماح المتدفقة [1] . وأرسل أبو على ابن ثمال الى صاحب الجيش بأن: سر وتقدم إلينا.
فقال له:
- «ما هذا مكان التقدم لمثلي ولا يجوز أن أفارق مصافى وأصحر للخيل فى هذا البرّ.» فراجعة دفعات وهو يجيبه بهذا الجواب حتى قال له أبو على فى آخر قوله:
- «فأنفذ الى جماعة من العجم ليشاهدهم القوم فتضعف نفوسهم ويعلموا أنك وراءنا.» فأنفذ إليه الظهير أبا القاسم فى عدة من فرسان الديلم وأتراك كانوا بالكوفة وخرجوا مع صاحب الجيش فما وصلوا إلى موضع المعركة حتى انهزم بنو
__________
[1] . لعله: المثقفة.(7/492)
عقيل وأسر منهم نحو ألف رجل وحملوا إلى البيوت بعد أن أخذت ثيابهم ودوابهم [88] وأسلحتهم.
وكف أبو على عن القتل ومنع منه. فلم يقتل إلّا أبو على ابن القلعي كاتب رافع بن محمد.
وقد كان نساء بنى خفاجة وعبيدهم وإماؤهم عند تلاقى الجمعين ركبوا الخيل والجمال وصاروا إلى معسكر بنى عقيل وبينه وبين موضع الحرب بعد، وكبسوه ونهبوه وولّى بنو عقيل لا يلوى أول منهم على آخر، وغنم بنو خفاجة أموالهم وسلاحهم وكراعهم وسوادهم.
فحدثني أبو على الحسن بن ثمال: انه اتبع بنى عقيل فى عرض البرية مع فوارس من أصحابه إلى المشهد بالحائر على ساكنه السلام، وهم منقطعون.
فلمّا تجاوزوه بات وزار وعاد إلى حلّته من غد.
فذكرت ذاك للحاجب أبى طاهر فقال: قد كان. ولما فقده أبو جعفر قلق قلقا شديدا به وظنّ أنّ حادثا حدث فى بابه. فقال له أصحابه:
- «لو لحقه لاحق لعادت بنو عقيل.» حتى إذا كانت صبيحة تلك الليلة وافى ومعه اثنا عشر فارسا.
وحكى انه اتبع المنهزمين حتى تجاوزوا المشهد بالحائر وباتوا هناك وانه لو كان فى عدة قوية لكشف نفسه وأخذ أموالهم ورؤساءهم.
وعاد أبو جعفر وابو على إلى الكوفة فأقاما بها وسنذكر ما جرى عليه أمرهما من بعد فى موضعه بإذن الله تعالى [1] .
وفى شعبان قبض على الموفق ابى على ابن إسماعيل وأعيد إلى القلعة.
__________
[1] . قال صاحب تاريخ الإسلام: توفى الحجاج بالأهواز فى ربيع الاول سنة 400 فذكر أبو الفرج ابن الجوزي انه توفى عن مائة سنة وخمس سنين وحاصل الأمر انه أسنّ معمر (مد) .(7/493)
شرح الحال فى هربه من القلعة عند اعتقاله أولا فيها وحصوله عند الديواني [1] وعوده الى شيراز بعد التوثقة التي أعطيها وما جرى عليه أمره الى أن قبض عليه ثانيا وردّ الى القلعة وكلّ ذلك على ما [89] حدّثنى به أبو نصر بشر بن إبراهيم السنى كاتب الموفق
قال أبو نصر: لما حصل الموفق فى القلعة أولا ردّ الأمر فى التوكل به وحفظه، إلى أبى العباس أحمد بن الحسين الفراش وكانت فيه غلظة وفظاظة وقد عرف من رأى بهاء الدولة ووسطائه فيه ما يدعو إلى التضييق عليه وإساءة المعاملة له. فاعتقله فى حجرة لطيفة وتركه فى وسط الشتاء وشدة البرد بقميص واحد وكساء طبرى حتى أشفى على التلف.
ولما فعل هذا الفعل به اختار الموت على ما يقاسيه وحمل نفسه على الأشدّ فى طلب الخلاص منه واستمال الموكلين المقيمين معه من قبل أبى العباس الفراش وخدعهم ووعدهم وأرغبهم وراسلني على أيديهم واستدعى منّى طعاما أمدّه به وثيابا ونفقة وكان يأتيه من جهتي ما يريده شيئا شيئا.
وكان يتقدم الموكلين فراش يختصّ بأحمد الفراش ويتميز بفضل الثقة عنده ونفسه ساكنة إلى موضعه فطاوع الموفق وساعده وتردّد فى رقاعه وأجوبتها بيني وبينه واستقرت الموافقة معى على أن أحضر جماعة من أصحاب الديواني وأقيمهم ليلا تحت القلعة ويتدلى الموفق والفراش فى نقب ينقبانه فى بيت ما يتصل بالحجرة التي هو فيها ففعلت ذلك وأحضرت الفرسان بعد ان حصلت عند الموفق على يدي الفراش مبردا يبرد به قيده
__________
[1] . وفى الأصل: ابن الديواني.(7/494)
وزبيلا وحبلا ينزل فيها وبرد القيد ونقب النقب ونزل الموفق والفراش بعده ليلة النوروز الواقع فى شهر ربيع الآخر يوم الإثنين لليلتين بقيتا منه وقد أعددت له ما يركبه. فركبه وسرنا فلم يصبح إلا ببلاد سابور وخرج الديواني [1] فاستقبله [90] وخدمه.
قال أبو نصر: فلما نزل وسكن جأشه قلت له:
- «قد خلصت وملكت أمرك، إلّا أنّ بهاء الدولة خصمك والبلاد له والناس فى طاعته، واعتقاده فيك الاعتقاد الذي تعرفه. والصواب أن تأخذ لنفسك وتسبق خبرك إلى حيث تأمن فيه من طلب يلحقك.» وقال له الديواني قريبا من هذه المقالة، ووعده أن يسير به حتى يوصله الى أعمال بدر بن حسنويه وأعمال البطيحة، فلم يقبل وقال:
- «بل أراسل الملك واستصلح رأيه.» وراجعناه وبيّنّا له وجه الرأى فيما أشرنا به. فأقام على المخالفة وألزمنى أن أعود الى شيراز واجتمع مع أبى الخطاب واستعلم رأيه له فيما يدبّر به أمره. وكتب كتابا الى بهاء الدولة ب:
- «انّنى لم أفارق اعتقالك خروجا عن طاعتك ولا عدولا عن استعطافك من تحت قبضتك ولكنّنى عوملت معاملة طلبت بها نفسي فحملني الإشفاق من تلفها [2] على ما طلبت به خلاصها وها أنا مقيم على ما يرد به أمرك وما أريد إلّا رعاية خدمتي فى استبقاء مهجتي» .
__________
[1] . قال الاصطخرى فى كتابه مسالك الممالك: إن من زموم بلاد فارس زمّ الحسين بن صالح ويعرف بزمّ الديوان: وان لكل زمّ مدنا وقرى مجتمعة قد ضمن خراج كل ناحية منها رئيس من الأكراد: وأما زم الديوان فنقله عمرو بن الليث إلى ساسان بن غزوان من الأكراد فهو فى أهل بيته إلى يومنا هذا. وصنف الاصطخرى كتابه فى حدود 340 (مد) .
[2] . وفى الأصل: تلقها.(7/495)
إلى غير ذلك من القول الجاري فى هذه الطريقة.
قال أبو نصر: وكلّفنى من هذا العود والرسالة ما حملني فيه على الغرر والمخاطرة ثم لم أجد بدا من القبول والطاعة ورجعت إلى شيراز وقصدت دار أبى الخطاب ليلا فقال لى:
- «ما الخبر؟ فإنّ القيامة قد قامت على الملك بهرب الموفق وتصور له أنه سيتمّ عليه به فساد عظيم.» فأعلمته ما جئت فيه فقال:
- «ليس يجوز أن أتولّى إيصال الكتاب وإيراد ما تحملته فى معناه على الملك وهو يعلم ما بيني وبينكم. ولكن امض إلى المظفر أبى العلاء عبيد الله بن الفضل واسأله أن يكتم خبرك فى ورودك وأن يوصل الكتاب كأنه وصل مع بعض الركابية ويستر الأمر [91] ويعرف ما عند الملك فيه.» فصرت إليه ووافقته على ما وافقنى عليه أبو الخطاب فلشدة حرص المظفر على اعلام بهاء الدولة الخبر وازالة قلقه به ما باكر الدار وعرض الكتاب ولم يكتم ورودي بل ذكره فسكنت نفس الملك إلى هذه الجملة فقال:
- «فما الذي يريد.» قال: «التوثقة على يدي الشريف الطاهر أبى أحمد الموسوي.» فأجاب إليها ووعد بها. وراسلني أبو الخطاب بأن أقتصر فيها ولا أستوفيها ووعدت بذاك ثم لم أفعله وعملت لليمين نسخة استقصيت القول فيها وحضرت الدار بها وحضر الشريف الطاهر أبو أحمد والمظفر أبو العلاء فخرج إلىّ الأمين أبو عبد الله وقال لى:
- «الملك يقول: ما الذي تقترحه من التوثقة؟» فأخرجت النسخة من كمّى وسلّمتها إليه وقلت:(7/496)
- «هذه نسخة أصحبنيها الموفق ورسم لى الرغبة إلى الكرم الفائض فى أن تحرر بخط مولانا الأمين وأن تشرف بتلفظ الحضرة العالية بها بمحضر من الشريف الطاهر.» فقال: «أقوم وأعرضها.» ودخل وعرضها. فلمّا رأى الملك طولها وتأكّد الإستيفاء فيها، قال لأبى الخطاب:
- «أليس رسمنا لك مراسلة أبى نصر بالاقتصار والتخفيف؟» قال: «قد فعلت.» ووعد ثم لم يفعل. فتقدم إلى الأمين بتحريرها فحررها حرفا حرفا وأحضرت المجلس وحضر الشريف الطاهر أبو أحمد والمظفر أبو العلاء وأبو الخطاب والأثير أبو المسك عنبر والأمين أبو عبد الله، وبدأ الملك بقراءتها.
فلما مضى شطرها قطعها بأن قال قولا استفهم به شيئا منها ثم عاد لاستتمامها [1] فقبّلت الأرض ورفع رأسه وقال:
- «مالك؟» قلت: «الخادم الغائب يسأل الإنعام بأن يكون قراءة هذا التشريف بغير عارض يقطعه.» فاغتاظ غيظا بان فى وجهه، ثم [92] أعاد قراءتها من أولها إلى آخرها.
فلمّا فرغ منها قبّلت الأرض. فقال:
- «أىّ شيء تريد أيضا؟» قلت: «التشريف بالتوقيع العالي فيها.» فاستدعى دواة وكتب: «حلفت بهذه اليمين والتزمت الوفاء بها على ما
__________
[1] . وفى الأصل: لاستنماها.(7/497)
اقترحه من ذلك» .
وأخذتها وخرج الشريف الطاهر أبو أحمد والمظفر أبو العلاء وخرجت الى الموفق ليرد معنا.
وقد كان بهاء الدولة جرّد مع أبى الفضل ابن سودمند [1] عسكرا إلى سابور لطلب الديواني ودخل الديواني الماهور وأقام ابو الفضل على حصاره.
فلما وصلنا أقام المظفر أبو العلاء عند العسكر ودخلت أنا والشريف أبو أحمد وصرنا إلى الموفق ومعى خيل وبغال وثياب ورحل أنفذ ذلك المؤيد أبو الفتح اذكوتكين والمظفر أبو العلاء اليه على سبيل الخدمة له به واجتمعنا معه وعرف من الشريف الطاهر جملة الأمر ومنّى شرحه. وسار وسرنا وسار المظفر أبو العلاء الى شيراز وكان وصولنا فى روز آبان من ماه أرديبهشت [2] الواقع فى جمادى الآخرة.
وأظهر الموفق لبس الصوف وخرج إلينا أبو الخطاب والأمين أبو عبد الله متلقّين. فلما أراد الانصراف قال لأبى الخطاب:
- «أريد الخلوة معك.» فقال له:
- «لا يمكنني ذلك مع كون الأمين معى، ولكن أنفذ إلىّ أبا نصر الكاتب الليلة.» ودخل الموفق البلد ونزل دارا أعدّت له فيه.
__________
[1] . والمثبت فى مد (وفقا للأصل) : سودمنذ (بالذال المعجمة) والذال إنما تأتى فى الفارسية بعد الحركة، أو حرف مدّ.
[2] . أرديبهشت: الشهر الثاني من السنة الشمسيّة الإيرانية.(7/498)
ذكر ما جرى عليه أمره بعد دخوله
قال ابو نصر: وصرت الى أبى الخطاب وقلت له:
- «يقول لك الموفق بأى شيء ترى إن أدبر أمرى؟» قال: قل له:
- «قد كنت أشرت عليك بآراء خالفتها فلم تحمد عقبى خلافها، وأنا أعرف بأخلاق بهاء الدولة منك. [93] والصواب الآن أن تنفذ جميع ما حصل عندك من الدواب والبغال التي قادهما الأولياء إليك وتراسل الملك وتقول له:
من كان مثلي على الحال التي أنا معتقدها من اعتزال الأموال والرغبة عن العمل، فلا حاجة به إلى دوابّ وبغال. وقد قدت ما قاده الأولياء إلىّ إلى الاصطبل. لأنه أولى به ومتى أردت مركبا أركبه استدعيت منه ما أريده فى وقت الحاجة إليه وإنّ من شروط ما اعتزمته أيضا ان أقلّ الاجتماع مع الناس وانفرد بنفسي والدعاء للملك وأسال أن يختار أحد ثقات الستريين ويرتّب على بابى لردّ من يقصدني ومنع من يحاول الدخول إلىّ. فإنّه إذا رأى مثل هذا الفعل وسمع عنك مثل هذا القول سكن وأنس وأمكنك وأمكننا ان نتلطف لك من بعد فى اخراجك الى منزلك ببغداد او الاستئذان لك فى قصد بعض المشاهد وتملك حينئذ نفسك فتصرفها على اختيارك.» قال أبو نصر: فلما سمعت من أبى الخطاب هذه المشورة علمت أنها صادرة عن النية الصحيحة وعدت إلى الموفق فأخبرته بما كان. فكان من جوابه: أبو الخطاب يريد أن يردني إلى الحبس ردا جميلا. ولم يقبل هذا الرأى ولا دخل له قلبا ولا خالط فكرا. وأقام الدواب بين يديه الى المراود والكرداخورات يسمنها ويضمرها وفتح بابه وقعد فى ثلثة مخادّ بين اثنتين منها سيف والى جانبه ترس وزوبينات وعليه قميص صوف وكان يدخل إليه(7/499)
أبو طالب زيد بن علىّ صاحب الصاحب أبى محمد ابن مكرم وأبو العباس أحمد بن على الوكيل فيحدثهما ويحدثانه ويباسطهما ويباسطانه ويعيدان عليه ما يتسوقان عنده به ويعيدان عنه ما يتسوقان به عليه.
وورد الوزير أبو غالب قادما [94] من سيراف وقد كان خرج إليها بعد وفاة الفرّخان بن شيراز لتحصيل أمواله وإثارة ودائعه وترددت المراسلات بينه وبين الموفق بالجميل الذي كنت أسدى وألحم فيه وأخذت لكل واحد منهما عهدا على صاحبه ومضى على ذلك زمان.
فأعاد أبو العباس الوكيل وأبو طالب زيد على الوزير أبى غالب على الموفق ما أوحشاه به وكان مخالفا لما أورده عليه عنه وشكّ فى قولهما وقولي وأراد امتحان صدقهما أو صدقى. فاستدعى أستاذ الأستاذين أبا الحسن علمكار، وكان الموفق شديد الثقة به والوزير أبو غالب على مثل هذا الرأى فيه. فقال:
- «أريد ان أخرج إليك بسرّ أشرط عليك أولا كتمانه ثم استعمال الفتوة والنصيحة فيه.» فقال: «ما هو؟» قال: انّ أبا نصر الكاتب يجيئني ويورد علىّ عن الموفق الجميل الذي يسكن إلى مثله يجيئني بعده أبو طالب وأبو العباس فيحدّثانى عنه ما يناقض ذلك ويقتضينى والنفور منه [1] وأريد أن تمتحن ما فى نفسه وتطاوله مطاولة يستخرج بها ما عنده وتصدقني عما تقف عليه لأعمل بحسبه.
فوعده أبو الحسن وصار الى الموفق وأقام عنده طويلا وجاراه من الحديث ضروبا. ثم أورد فى عرض ذلك ذكر الوزير أبى غالب فخرج اليه بالشكر له وسوء الرأى فيه وعاد أبو الحسن الى الوزير أبى غالب فقال له:
__________
[1] . كذا ما فى مد.(7/500)
- «قد صدقك أبو طالب وأبو العباس ونصحا لك.» فانقبض الوزير أبو غالب حينئذ منه وعلم أنه على خطر متى ثاب أمره.
قال أبو نصر: ومضت مديدة أخرى وأبو الفضل بن سودمند [1] مقيم مع العسكر على حرب الديواني ومضايقته لأنّه طولب بعد خروج الموفق من عنده بقصد الباب ووطء البساط فلم يفعل وعول على أنّ أمر الموفق يستقيم فيمنع منه ويردّ العسكر عنه.
فوضعت [95] موضوعات وكتبت ملطفات على أنها من الموفق إلى الأولياء الذين بإزاء الديواني وروسلوا بالشغب وإظهار العود الى شيراز وحملت الملطفات الى بهاء الدولة وقيل له: إن العسكر المقابل للديوانى قد هنجم وعمل على الانكفاء الى الباب وهذا أمر قد قرره الموفق ورتبه وفيه من الخطر عليك وعلى دولتك ما لا خفاء به، وإن ورد هؤلاء القوم أخرجوا الموفق وكاشفوا بالخلاف.
فاغتاظ بهاء الدولة وشكّ شكا شديدا فظن ما قيل وعمل حقا فتقدم عند ذاك بالقبض على الموفق وردّه الى القلعة.
فانفذ اليه أبو طالب الصغير فى وقت العشاء من روز أمرداذ من ماه تير [2] الواقع فى يوم الأحد السابع من شعبان حتى أخذه وحمله إلى القلعة.
ذكر ما جرى عليه أمره عند ردّه إلى القلعة
وكّل به أبو نصر منصور بن طاس الركابسلار، فأحسن معاملته ووسع عليه مقعده وملبسه ومأكله ومشربه وتحمل عنه جميع مؤنه وكلفه. وكان يدخل اليه ويقول له:
__________
[1] . والمثبت فى مد: سودمنذ (بالذال المعجمة) .
[2] . ماه تير: شهر تير، وهو الشهر الرابع من السنة الشمسية الإيرانية.(7/501)
- «أنا خادمك ونفسي ومالي مبذولان لك.» ومضت على ذلك أيّام ثم جاءه وخلا به وقال:
- «أيها الموفق قد عرفت مخالفتي للسلطان فى كل ما أعاملك به وأخدمك به ونفسي معرضة بك معه وإن وثقت إلى من نفسك بانه لا تسلّمنى وأن تكون الحافظ لها دوني كنت على جملتي فى خدمتك وتولّى أمرك. وان كنت تحاول أمرا آخر فاخرج إلى بسرك لأكون بين أن أساعدك عليه أو ان استعفى استعفاء لطيفا أتخلص به.» فقال الموفق له:
- «لك علىّ عهد الله أننى لا أفارق موضعي [96] ولا أخرج منه إلا بأمر سلطاني وما فارقته فى الدفعة الأولى إلا لسوء معاملة أحمد الفراش لى وطلبه نفسي.» فشكره أبو نصر ووثق بهذا الوعد منه وكان يتردّد بينه وبين أبى الخطاب فى رسائل يتحملها من كل واحد منهما إلى صاحبه ومضت مدة على هذه الحال. ورتّب فى القلعة اللشكرى بن حسان لمانكيمح (كذا) فراسل الموفق يقول له أنت على هذه الصورة ورأى السلطان فيك فاسد وأعداؤك بين يديه كثيرون والأمر الآن فى يدي وأنا آخذك وأخرجك معى إلى الرىّ فإذا حصلت بها ملكت أمرك وبلغت هناك معما شاع من ذكرك وتحصل فى نفوس الديلم لك أكثر مما بلغته هاهنا.
فقال له:
- «قد عاهدت أبا نصر الركابسلار على ألّا أغدر به ولا أفارق موضعي وأسلمه.» فعاود مراسلته وقال له:
- «دع هذا القول عنك واقبل رأيى. فإنّ النفس لا عوض عنها وترك(7/502)
الفرصة إذا عرضت عجز.» فلم يقبل.
قال أبو نصر: ثم إنّ أبا الخطاب أراد امتحان ما عند الموفق. فقال لأبى نصر المجرى:
- «أريد أن تذمّنى إذا خلوت أنت والموفق وتستكتمه ما خرجت به إليك فى أمرى وتنظر ما يقوله لك فتعرّفنيه.» فجاءه أبو نصر وقال له فى بعض ما يجاريه إياه:
- «لك أيها الموفق علىّ حقوق إحسان أوليتنيه ومن حكم ذلك أن أصدقك. أراك تعوّل من أبى الخطاب على من هو سبب فساد أمرك وتغير الملك عليك وسوء رأيه فيك. فلو عدلت عنه لكان أولى وأصلح لك ومتى أردت أن أوصل لك رقعة الى الملك سرّا فعلت.» فصادف هذا القول منه شكّا فى أبى الخطاب وتهمة له وحمله الاسترسال واطراح التحفظ على أن اطلق لسانه [97] فيه بكل ما كان مكنونا فى صدره وسأله أن يوصل له رقعة إلى الملك فبذل له ذاك.
وكتب بخطه إليه كل ما استوفى اليمين على نفسه به فى أنه الخادم المخلص الذي لم يتغير عن مناصحته ولا هم بخيانة وأنه وأنه ... وذكر ابن الخطاب بما طعن عليه فيه وقال:
- «اننى لم أهرب لمّا هربت إلّا برأيه وموافقته وعلمه ومعرفته.» قال أبو نصر السنى: وكان الأمر كذلك وأخذ أبو نصر الركابسلار الرقعة وجاء بها إلى أبى الخطاب. فلمّا وقف عليها كتمها ولم يعد قولا فى معناها أدت الحال الى ما سيرد ذكره فى موضعه من قتله [1] .
__________
[1] . قتله بهاء الدولة فى سنة 394 كذا فى تاريخ الإسلام عن أبى الفرج ابن الجوزي (مد) .(7/503)
وفى شعبان توفّى أبو عبد الله ابن أيوب الشيرازي الكاتب.
وفى شهر رمضان عظمت الفتنة ببغداد بعد خروج أبى جعفر الحجاج عنها وزاد أمر العلويين العيّارين وقتلوا النفوس وواصلوا العملات [1] وأخذوا الأموال واشراف الناس منهم على خطة صعبة.
وفيه ورد الأمين أبو عبد الله الحسين بن أحمد إلى واسط برسائل إلى أبى جعفر الحجاج فى معنى أمر عميد الجيوش أبى على وخروجه إلى العراق.
فلمّا عرف حصول أبى جعفر بسقى الفرات وتشاغله بحرب أبى الحسن ابن مزيد وبنى عقيل توقف.
وفى ليلة الأربعاء لثمان بقين منه طلع كوكب الذؤابة.
مسير بهاء الدولة من الأهواز
وفى هذا الشهر تواترت الأخبار بتعويل بهاء الدولة على عميد الجيوش فى أمور العراق. ثم سار من الأهواز فى يوم الجمعة الثاني من شوال.
شرح الحال فى ذلك
لما استقام بعميد الجيوش ما استقام من أمور الأهواز وأعادها إلى حال السكون [98] والعمارة وساس الجند والرعية فيها السياسة الشديدة واضطربت أمور بغداد وانحلّ نظامها وعظمت أسباب الفساد والفتن فيها كوتب بقصد العراق وإصلاح أحوالها وإزالة ما عرض من انتشارها واختلالها وأنفذ الأمين أبو عبد الله إلى أبى جعفر الحجاج لتطييب قلبه واستدعائه إلى فارس.
__________
[1] . وفى الأصل: العملات. ولعله: الحملات.(7/504)
وورد عميد الجيوش واسطا بعد أن أقام أبا جعفر أستاذ هرمز بالأهواز والده ناظرا فى الحرب ورتّب أبا عبد الله الحسين بن على بن عبدان فى مراعاة الأمور والأعمال.
فاستبشر الناس به لما بلغهم من حسن سياسته وزوال المجازفة والظلم عن معاملته، وكتب إلى الفقهاء وأماثل التجار بمدينة السلام كتبا يعدهم فيها بالجميل ومحو أثار ما تقدم من المصادرات وتضاعفت المحبة له وتزايدت المسرة به.
وكاتب أبا القاسم الحسين بن محمد ابن مما مما تألفه وأمره بحفظ البلد وضبطه إلى حين وصوله وأنفذ اليه تذكرة بأسماء جماعة ورسم له قتلهم وأخذهم وكان منهم مرتوما ابن ققى (كذا) النصراني التاجر لأنه ذكر عنده بالسعاية والغمز فاقتصر أبا القاسم على أخذ المعروف بابن دجيم وقتله فى وسط الكرخ. وكان أحد الملاعين السعاة وأنذر الباقين لأنهم خدموه من قبل.
وسار عميد الجيوش من واسط فتلقاه أبو الفوارس قلج سابقا الى خدمته ثم تلاه الأولياء على طبقاتهم والناس على ضروبهم فبسط لهم وجهه ووفى كلامهم حقه. ورأوا من لين جانبه وقرب حجابه وسهولة أخلاقه وعذوبة ألفاظه مع عظم هيبته ما لم يعهدوا مثله. وعرف الأشرار والدعار [1] قوته وما يأخذ به نفسه فذهبوا كل مذهب وهربوا [99] كل مهرب.
ونزل النجمى فزينت له الأسواق ونصبت القباب وأظهر من الثياب والفروش الفاخرة والأواني والصياغات الكثيرة ما كان مخبوءا للخوف، ودخل يوم الثلاثاء السابع عشر من ذى الحجة وقد أقيم له فى الأسواق الجواري
__________
[1] . الدعّار: الفسقة، الفسدة.(7/505)
والغلمان فى أيديهم المداخن بالبخور وخلقت وجوه الخيل ونثرت عليه الدراهم فى عدة مواضع ودعى له من ذات الصدور وعدل من طاق الحراني الى دجلة ونزل فى زبزبه وعبر إلى دار المملكة وخدم الأميرين أبا الشجاع وأبا طاهر وعاد فصعد الى الدار بباب الشعير وهي التي كانت لأبى الحسن محمد بن عمر.
وطلب العيارين من العلويين والعباسيين وكان إذا وقعوا تقدم بأن يقرن العلوي بالعباسى ويغرقان نهارا بمشهد من الناس. وأخذ جماعة من الحواشي الأتراك والمتعلقين بهم والمشتهرين بالتصرف والتشصص معهم فغرقهم أيضا.
وهدأت بذلك الفتن المستمرة وتجددت الاستقامة المنسية وأمن البلد والسبل وخاف الغائب والحاضر.
وكان ممن قتل المعروف بأبى على الكرامى العلوي وقد هتك الحريم وارتكب العظائم ونجا إلى أبى الحسن محمد بن الحسن بن يحيى وظنّ أنه يعصمه ويمنع منه فركب أبو الحسن علىّ بن أبى علىّ الحاجب الى داره حتى قبض عليه من بين يديه وهو يستغيث به فلا يجيبه وحمله إلى دار عميد الجيوش وقتله.
وقد كان المعروف بابن مسافر العيار حصل فى دار الأمين أبى عبد الله فآواه وستره ولم يزل ابو الحسن على بن أبى على يراصده حتى عرف أنه يجلس فى دهليزه ثم كبس الدهليز والأمين أبو عبد الله غائب. فأخذه [100] وضرب عنقه.
وامتعض الأمين أبو عبد الله من ذلك فلم ينفعه امتعاضه وشكا الى عميد الجيوش فلم يكن منه إلّا الاعتذار القريب منه. وتتبعت هذه الطوائف فى النواحي والبلاد فلم يبق لهم ملجأ ولا معقل ومضت إلى الأطراف البعيدة وكفى الله شرها وأزال عن الناس ضرّها.(7/506)
وحدثني أبو الحسن على بن عيسى صاحب البريد قال:
كان ابن ابى العباس العلوي ممن سلك الطريق الذميمة وارتكب المراكب القبيحة. فلمّا ورد عميد الجيوش هرب إلى ميافارقين وبلغه خبر حصوله فيها ومقامه فيها فبذل مائة دينار لمن يفتك به ويقتله ووسط ذاك بعض من أسر إليه وعوّل فيه عليه وأنهى الأمر الى تعديل الدنانير عند بعض التجار فى ذلك البلد، وتقدّم عميد الجيوش بأخذ سفتجة بها وإنفاذها. وبينما هو في ذلك عرض عليه كتاب بوفاة ابن أبى العباس هذا. فضحك وقال لى:
- «قد بلغنا أيّها الأستاذ المراد وربحنا الغرم ونحن نصرف الآن هذه الدنانير فى الإراحة من مفسد آخر.» وسلك مثل هذه الطريقة مع أهل الشر من الكتّاب والمتصرفين وغرق منهم جماعة فى أوقات متفرقة ومن جملتهم طاهر الناظر كان فى دار البطيخ وله صهر من الأتراك يعرف بالأعسر من وجوههم ومفسديهم، وأبو على ابن الموصلية عامل الكار.
فأذكر وقد جاءني ابن الموصلية هذا ليلا وكان هاربا مستترا وقال لى:
- «قد خدمتك الخدمة الطويلة وأوجبت عليك الحقوق الكثيرة وفى مثل هذه الحال أريد ثمرة ذلك ورعايته.» فقلت: «ما الذي تريده لأبذل جهدي فيه.» قال: «عرفت حالي فى وقوع الطلب لى ومتى ظفر بى قتلت أو بقيت على جملتي فى التوقّى والتخفّى لم يكن لى مادة أمشّى بها أمرى وأستر من ورائي وأريد أن تخاطب الصاحب أبا القاسم بن مما فى بابى وتذكره بخدمتى وحرمتي [101] وتسأله خطاب عميد الجيوش فى إظهارى وإيمانى.
قلت: «أفعل ولا اترك ممكنا فى ذلك.» فشكرنى وانصرف وباكرت أبا القسم فقلت:(7/507)
- «جاءني البارحة أبو على ابن الموصلية ورأيته على صورة يرحم فى مثلها الأعداء فضلا عن الخدم والأولياء وله عليك حقوق وإنما أعدّها لمثل هذا الوقت ومتى لم [1] تخلصه وتلطف فى أمره هلك فى وقوعه واستتاره.
فقال لى:
- «لو كنت غائبا عن هذه الأمور لعذرتك. فاما وأنت حاضرها فلا عذر لك.» فراجعته وقال لى:
- «أنت تلقى عميد الجيش دائما وهو يميل إليك ويتوفّر عليك فخاطبه وتحمل رسالة عنّى بما تورده عليه.» فسررت بذلك وظننت أننى سأبلغ الغرض به ودخلت إلى عميد الجيوش فى آخر نهار وهو خال. فخاطبته فى أمر ابن الموصلية ورققته وسألته كتب الأمان له. فقال: أفعل. وتبسّم. ثم قال لى:
- «لست عندي فى منزلة من أعده ثم أخلفه وأقرر معه ما يقتضيه وأنا أصدقك عما فى نفسي. ليس لهؤلاء الأشرار عندي أمان ولا أرى استبقاءهم على كلّ حال. فإن أردت أن تتنجز الأمان على هذا الشرط فما أمنعك بعد أن يكون [2] على بينة من رأيى واعتقادي.» فقبلت الأرض بين يديه وشكرته على صدقه فيما صدقنى عنه ورجعت الى أبى القاسم فعرّفته بما جرى فقال:
- «قد كنت أعلمه وإنما أحببت أن تشركني فيه وتسمعه بغير إسناد منّى وربما اتهمته.» وعاد إلى ابن الموصلية من بعد فى مثل الوقت الذي قصدني أوّلا فيه.
__________
[1] . وفى الأصل تحصله.
[2] . ولعلّه: تكون.(7/508)
فشرحت له الحال على حقيقتها وقلت له:
- «ما توجب الديانة ولا المروءة أن أغرّك.» وفارقنى وهو عاتب مستزيد على ما حدثت به من بعد ومضى الى أبى عمرو بن المسيحي وأبى اسحق صاحب أبى القاسم بن مما، فسألهما مثل ما كان سألنيه [102] وعاودا خطاب أبى القاسم وتنجّزا له الأمان. فما مضت مديدة حتى أخذه أبو الحسين بن راشد.
وكان لعمري من أهل الشر إلّا أنّ التأول عليه كان بمكاتبته أبا جعفر الحجاج عند حصوله بالنعمانية، ولأن أبا القاسم بن مما أغرى به للعداوة السابقة بينه وبينه.
وأخذ أيضا أبو الحسن محمد بن جابر وأبو القاسم علىّ بن عبد الرحمن ابن عروة ليفعل بهما مثل ما فعل بمن قدمنا ذكره.
فتلطف مؤيد الملك أبو على الحسين بن الحسن فى خلاصهما واستنقاذهما وكان ذلك فيما بعد سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة، إلّا أننا أوردناه فى هذا الموضع لاتصال بعض الحديث ببعض.
وتقدم عميد الجيوش عند مورده بسمل أبى القاسم بن العاجز وقد كان قبض عليه وأنفذ اليه الى واسط فسمل وضربت رقبته بعد السمل وطيف برأسه فى جانبي مدينة السلام وطرحت جثّته فى دجلة وذلك فى يوم الأحد لثمان بقين من ذى الحجة.
ذكر ما عمله عميد الجيوش وأجرى أمور الأعمال والدواوين عليه
فوّض إلى مؤيد الملك أبى على أمور الأعمال وتقليد العمال وتحصيل الأموال وكان ورد معه نائبا عنه وله فى الكتابة والكفاية القدم المتقدمة وفى(7/509)
العفة والامانة الطريقة المعروفة. فاستقام بنظره ما كان مضطربا وانحرس بحفظه ما كان متشذبا واستمرّ على الخلافة له فى مقامه وسفره.
وجعل أمر الديلم الى أبى القاسم الحسين بن محمد بن مما وأبو نصر سعيد بن عيسى على الديوان وأمر الأتراك إلى أبى محمد عبد الله بن عبد العزيز، وأبو غالب سنان ابن عبد الملك يتولى الديوان. وأقرّ أبا على الحسن بن سهل الدورقي على ديوان السواد، وأبو منصور [103] الاصطخرى خليفته عليه، وأبا الحسن محمد ابن الحسين بن سابلويه على ديوان الزمام وأبا الحسن سعيد بن نصر على ديوان الخاصة وأبا منصور يزدانفادار [1] بن المرزبان على الأشراف فى ديوان الجيشين. وقلّد أبا نعيم المحسن بن الحسن واسطا وضرب ضربا قرّر قيمة الدينار الصاحبى به على خمسة وعشرين درهما وباقى النقود على حسب ذلك واستعرض الجرائد وميز الناس وأسقط كثيرا من الحشوة وردّ جميع الاقساط لسائر الطوائف الى سبعة آلاف دينار فى كل خمسة وثلاثين يوما وامتنع من تسليم ما ينحل من الإقطاعات إلّا بالأقساط وأقطع جماعة على هذه القاعدة فلو تمادت به المدة على خلو الذرع والطمأنينة لسقطت الأقساط بالواحدة لكنّه منى من أبى جعفر الحجاج بمن أفسد نظام أمره وأبطل عليه جميع ترتيبه وتدبيره. وسيأتي ذكر ذلك فى أوقاته ومواضعه.
وما رأيت رجلا أعف ولا أظلف نفسا من عميد الجيوش ولقد رفع المصادرات وأزال المجازفات رفعا وإزالة اقتدى به جميع ولاة بهاء الدولة على بلاده فيها، وصار له الإسم الكبير والذكر الجميل بها [2] .
__________
[1] . كذا فى مد ولكن بالإهمال الكامل.
[2] . وفى تاريخ الإسلام انه توفى سنة 401 عن احدى وخمسين سنة وكان أبوه من حجاب الملك عضد الدولة فجعل أبا على برسم خدمة ابنه صمصام الدولة. وفى تدبيره أمور العراق قيل انه(7/510)
ونعود الى ذكر الحوادث فى الشهور الداخلة فى هذه السياقة
وفى يوم الأربعاء السابع من شوال توفّى أبو محمد عبد الله بن أبى أحمد يحيى الجهرمى القاضي.
وفى هذا الشهر توفى أبو بكر محمد بن محمد بن جعفر الدقاق الشافعي العارض المعروف بخياط.
وفيه توفّى أبو الفتح القنّائى الكاتب.
مقتل ابن شهرويه وأبى عبد الله المستخرج وابنه
وفى يوم الإثنين لأربع بقين منه قتل أبو عبد الله بن الحيرى أبا الحسين ابن شهرويه وأبا عبد الله المستخرج وابنه فى داره بالموصل.
[104] ذكر الحال فى ذلك
حدثني أبو الحسين بن الخشاب البيع الموصلي قال:
كان ابن الحيرى يبيع الخزف بالموصل ثم ضمن كوازكه وتنقل من حال الى حال حتى نظر فى جميع أبواب المال وتجاوز ذاك الى ان كتب لأبى عامر الحسن بن المسيب.
__________
[ () ] أعطى غلاما له دنانير وقال: خذها على يدك وسر من النجمى الى الحاصر الأعلى فان اعترض بك معترض فدعه يأخذها واعرف الموضع. فجاء نصف الليل فقال: قد مشيت البلد كله فلم يلقني أحد. ودخل مرة الرخجي وقال: مات نصراني مصرى ولا وارث له. فقال: يترك هذا المال فان حضر وارث والا أخذ. فقال الرخجي: فيحمل الى خزانة مولانا الى ان تتيقن الحال. فقال: لا يجوز ذلك. ثم جاء أخو الميت فأخذ التركة (مد) .(7/511)
وكان ارتفاع البلد مشتركا بين الحسن وبين معتمد الدولة ابى المنيع قراوش وكاتبه أبو الحسين بن شهرويه. وكان ابن الحيرى يستطيل على أبى الحسين بالإسلام وبأنّ صاحبه الأمير ويتبسط عليه فى المعاملة والمناظرة.
فأقام أبو الحسين أبا عبد الله المستخرج فيما يتعلق بمعتمد الدولة من البلد والارتفاع ورمى ابن الحيرى منه بمن هو أشد قحة وثقل عليه أمره فعمل على الفتك به وبابن شهرويه وشرع فى ترتيب أسباب ذلك.
وكان معه جماعة من الرجالة الذين يحملون السلاح ويسلكون سبيل العيارة فواقف قوما منهم على أن يلازموا داره- وكانت فى بنى هائدة- ليلا ونهارا ويترقبوا حضور ابن شهرويه وابى عبد الله المستخرج، فإذا حضرا أوقعوا بهما ووضعوا عليهما.
وتقدم إليهم بأن يظهروا فى منازلهم وعند رفقائهم أنهم مقيمون فى الحلّة، وكان الحسن بن المسيب فى حلّته بظاهر الموصل ومعتمد الدولة مخيم بالحصباء يريد الانحدار إلى سقى الفرات وهو عليل قد بلغت العلّة منه، وأظهر ابن الحيرى العلة وشكر له [1] وتأخر فى منزله.
فركب اليه أبو الحسين بن شهرويه وأبو عبد الله لعيادته على عادة كانت لأبى الحسين فى مغالطته ومنافقته. فلما صاروا قريبا من داره فارقهما أبو ياسر النصراني وكان معهما فقال [105] له أبو الحسين:
- «لم لا تساعد على عيادة هذا الصديق؟» فقال له مازحا:
- «يجوز أن يسلم منا من يعرف خبرنا.» وتمم أبو الحسين وأبو عبد الله ونزلا ودخلا الى الدار ومنها إلى حجرة
__________
[1] . لعله: وشد رجله.(7/512)
عليها باب حديد وثيق وتأخر عنهما ابن أبى عبد الله المستخرج فى الدار الاولى ونزل الرجالة من الغرفة التي كانوا فيها ووضعوا عليهما وقتلوا أبا الحسين وأبا عبد الله وأفلت ابن أبى عبد الله وصعد إلى السطح ورمى نفسه الى دار قوم حاكة فاتبعه أصحاب ابن الحيرى وأخذوه وقتلوه وأخرج الثلاثة من الدار وطرحوا على الطريق.
وحلّ ابن الحيرى رجله وخرج من سرداب قد عمله تحت الأرض فى داره إلى درب يعرف بفندق عروة على بعد من بنى هائدة واستتر وأخفى شخصه وقد كان استظهر بإخلاء داره وتحويل ما كان فيها من ماله وثيابه.
وبلغ الخبر معتمد الدولة فركب فى الحال على ما به وهاج الناس بين يديه وطلب ابن الحيرى فلم يجده. وأظهر الحسن بن المسيب الإنكار لما فعله صاحبه وراسل معتمد الدولة يعده بالتماسه والأخذ بالحقّ منه.
وكان كمال الدولة أبو سنان غريب قد نزل فى ليلة ذلك اليوم على ابن الحيرى كالضيف له. فلما جرى ما جرى بادر هاربا على وجهه إلى البرية وانحدر معتمد الدولة إلى العراق.
وظهر ابن الحيرى وخرج إلى حلّة الحسن وأقام عذره عنده فيما فعله وقبض على شيوخ أهل الموصل وصادرهم. واعتلّ الحسن علة قضى فيها وقام مرح أخوه فى إمارة بنى عقيل بعده وانتقل إليه النصف من معاملة الموصل وتوسط بينه وبين ابن الحيرى حتى أذم له [106] وعاهده واستكتبه وكانت بينه وبين أبى الحسن ابن ابى الوزير عداوة لأنه سعى به إلى مرح حتى قبض عليه ونكبه.
فاجتمع أبو الحسن وأبو القاسم سليمان بن فهد وأبو القاسم ابن مسرّة الشاعر على ابن الحيرى وأغروا مرحا به أوغروا صدره عليه وأفسدوا رأيه فيه فقبض عليه ووجدوا له تذكرة تشتمل على نيف وخمسين ألف دينار،(7/513)
فأثاروا ذلك وحصّلوه، ثم سملوه فمات ودفن، ونبشه أهل البلد من بعد وأحرقوه لسوء معاملته لهم وما قدّمه من القبيح إليهم.
حديث طريف
وحدّثنى أبو الحسن ابن الخشاب عن ابى الحيرى بحديث استطرفته فأوردته قال:
أراد أن يقتل الحسن بن المسيب بسمّ يطعمه إياه ويهرب الى الشام. فسأله أن يحضر فى دعوته فحضر فقدّم إليه بطّيخا مسموما. فقال له الحسن:
- «تقدم يا با عبد الله وكل.» فأظهر له الصوم وقال لأبى الفتح ابنه:
- «اجلس وكل مع الأمير.» فجلس وأكل ومات وتراخت مدّة الحسن فعاش قليلا ومات.
وتجدّدت بين أبى الحسن ابن أبى الوزير وأبى القسم بن مسرة وحشة فوقع فيه أبو الحسن عند مرح بن المسيب وكثر عنه حاله وماله وأغراه بنكبته ومصادرته فقبض عليه وقرر أمره على جملة أخذها منه وخاف عاقبة ما عامله به فقال لمرح:
- «هذا شاعر وقد أسأت إليه وإن أفلت من يدك هجاك ومزّق عرضك.» فقتله وشقّ بطنه وملاه حصى ورمى به فى دجلة. فاتفق أن وجدته امرأة كانت تغسل على الشاطئ فأخرج ودفن بالموصل.
انقضاض كوكب وتشقّقه
وفى ليلة يوم الاثنين الثالث من ذى القعدة انقضّ [107] كوكب فى برج الحمل والطالع آخر الثور أضاء كضوء القمر ليلة التمام ومضى الضياء وبقي(7/514)
جرمه يتموّج نحو ذراعين فى ذراع برأى العين وتشقق بعد ساعة.
وفى آخر يوم الأحد التاسع من ذى القعدة كبس العيارون دار ابى عبد الله المالكي للفتك به وكان ينظر فى المواريث وبعض معاملات أبواب المال وفيه جزف فى المعاملة. فلم يجدوه ووجدوا أبا طالب بن عبد الملك أخا أبى غالب سنان وكان صهر أبى عبد الله على ابنته فقتلوه. وقتل العيارون فى هذا اليوم أيضا حماد بن السكر الشهرونى وكان وجها من وجوه الرستاقية وأهل الرفق والعصبية.
دخول الحاجّ الخراسانية بغداد وعودهم إلى بلادهم
وفى يوم الثلاثاء الحادي عشر منه تكامل دخول الحاج الخراسانية بغداد وعبروا بأسرهم إلى الجانب الغربي، ثم وقفوا عن التوجه لخلّو البلد من ناظر وفساد الطرق ومقام أبى جعفر الحجاج بالكوفة وانتشار العرب من بنى خفاجة وبنى عقيل فى البلاد، وعادوا إلى بلادهم فى يوم الخميس لعشر بقين منه، وبطل الحج من المشرق فى هذه السنة.
ذكر ورود علىّ بن عبد الرحمن مطلقا من أسر بنى عقيل
وفى يوم الإثنين الثاني من ذى الحجة ورد أبو القاسم على بن عبد الرحمن بن عروة مطلقا من أسر بنى عقيل.
ذكر الحال فى أسره وإطلاقه
كان قد خرج مع أبى اسحق إبراهيم أخى أبى جعفر الحجاج ناظرا فى(7/515)
الأعمال وتمشية أمور العسكر. فلمّا وقعت الوقعة بينه وبين أبى الحسن بن مزيد ودعيج وبنى عقيل بباكرما وانهزم، أسره أحد العرب وبقي فى يده مدة.
وابتاعه [108] أبو الحسن رشا بن عبد الله الخالدي منه بمال قرّره عليه وضمن أبو بكر الخوارزمي المال لرشا وأطلق.
حوادث عدّة
وفى يوم الأحد الثامن منه قتل ابن بندار المستخرج والحسين بن بركسه غلام ابن كامل وقبض على أبى طالب الصياد الهاشمي وابن زيد العلوي وغرقا.
وفى يوم الاثنين التاسع منه ولد الأميران أبو على الحسن وأبو الحسين ابنا بهاء الدولة توأمين وعاش أبو الحسين ثلث سنين وشهورا ومضى لسبيله وبقي الأمير أبو على وملك الأمر بالحضرة ولقّب بشرف الدولة. وأخباره تأتى فى موضعها بإذن الله تعالى.
وفى يوم الأحد لثماني بقين منه ورد الأمين أبو عبد الله بغداد عائدا عن أبى جعفر الحجاج بن هرمز فيه ومعه أبو شاكر أحمد بن عيسى كاتبه وقد كان الأمين توقّف بواسط لما وردها على ما قدمنا ذكره. فلما وصل عميد الجيوش أبو على وأصعد، أصعد معه وعدل من النعمانية الى أبى جعفر فلقيه بالكوفة.
وفى يوم الإثنين لسبع بقين منه خرج الصاحب أبو القاسم بن مما إلى أبى الفتح محمد بن عنّاز، فدعاه إلى طاعة عميد الجيوش وخدمته وقاده إلى الدخول فى جملته، ووعده عنه بما طابت نفسه به، وعاد من عنده وقد أصلحه ونسج ما بين عميد الجيوش وبينه.
وفى يوم الثلاثاء لست بقين منه توفّى أبو يعقوب محمد بن الحسن ابن(7/516)
يحيى العلوي الحسيني النقيب.
وفى هذه السنة هرب أبو العباس الضبّى من الرىّ وصار إلى بروجرد لاجيا إلى بدر بن حسنويه.
شرح الحال فى ذلك وفيما جرى عليه أمر الوزارة بالرىّ بعده على ما أخبرني به القاضي [109] أبو العباس أحمد بن محمد البارودى
قد ذكرنا من قبل صلاح أمر أبى العباس مع الجند بالري ونزوله من القلعة فى اليوم الرابع من القبض عليه وحمله إليها وعوده إلى النظر والتدبير ولمّا كان ذلك أقام مدّة سنة والاستقامة جارية والأمور مترخية والحال بينه وبين بدر بن حسنويه عامرة والعصبية له منه واقفة. وكانت فى أبى العباس شدّة تغلب على طبعه وشحّ يفسد عليه كثيرا من أمره. فاتفق أن توفّى الإصفهبذ الأكبر ابن أخى السيدة والدة مجد الدولة وفاة أتهم أبو العباس بأنه دبّر عليه وسمّه.
وطلبت السيدة منه ما قدره مائتا دينار لإقامة رسم العزاية. فقال فى جوابها:
- «لو اشتغلت بما يعطاه الجند المطالبون لكان أولى من تشاغلها بعمل المواتيم للموتى الماضين.» فاغتاظت وقالت:
- «صدق، وكيف يقيم مأتمه من قتله. وبلغه قولها فأسرّ الاستيحاش منها وعلم ما وراءه من تغير رأيها. فراسل أبا القاسم بن الكج القاضي بالدينور واستدعى منه مطالعة بدر بن حسنويه بأمره واستئذانه فى خروجه إلى بلاده وتجديد التوثقة عليه له. فخاطب ابن كج بدرا على ذلك فقال:
- «الرأى له أن يقيم بموضعه ولا يفسد حاله بيده ويتلطّف فى إصلاح السيدة.»(7/517)
فلم يقبل أبو العباس هذا الرأى، لأنه خاف السيدة، وعاود بدر بن حسنويه فقال:
- «أمّا ما عندي من المشورة والنصيحة فقد قلتها، وأمّا ما يراه لنفسه من غير ذلك فله عندي فيه كل ما يحبّه ويؤثره.» وأقام أبو [110] العباس بعد السنة الاولى سنة أخرى حتى حرز أموره وأنجز علائقه وأحرز أمواله. وكان يعتقد الثقة بأبى على الحسين بن القاسم العارض الملقب بالخطير، ففاوضه أمره وما قرّر عليه عزمه.
وكان أبو على ذا حيلة ومكيدة وكراهية له وعداوة. فقال له:
- «الصواب فيما رأيته. فإنّ أحدا لا يقوم مقامك فيما تقوم فيه وإذا فارقت مقامك تلقّاك بدر بن حسنويه بساوة وقام بمعونتك ونصرتك وتشييد أمرك، وخاف السيدة والجند منه، فنزلوا على حكمك وعدت جديد الجاه قوىّ الأمر.» قال القاضي أبو العباس: فحدثني أبو الحسن البندارى وكان كاتب أبى العباس الضبّى على مكاتباته وسرّه. قال:
- «جارانى الكافي أبو العباس ما أشار به عليه الخطير أبو على.» فقلت: «قد غشّك وما نصح لك، ومتى زالت قدمك عن موضعك تغيرت الأمور وحالت عن تقديرك.» فقال: «ما كان أبو على ليشير بغير الصواب مع إحسانى إليه وتوفّرى عليه.» فلما كانت ليلة خروجه ترك داره بما فيها من فرشه وآلاته ورحله وأثقاله وغلمانه وكانوا سبعين غلاما وخرج ومعه أبو القاسم ابنه وأبو الحسن البندارى كاتبه وغلام تركي من غلمانه ونفر من حواشيه ممن احتاج إليهم لخدمته ونزل على فرسخ من البلد.(7/518)
وأصبح الناس وقد شاع الخبر. فماجوا واجتمع الجند وانتدب الجند الخطير أبا على لخطابهم وقال:
- «قد هرب هذا الرجل بعد أن فرغ الخزائن وأخذ الأموال ومزّق الأعمال وحلّ النظام. والمواد اليوم قاصرة والإضاقة ظاهرة والاستحقاقات كثيرة. فإن قنعتم بما كان فخر الدولة يطلقه لكم [111] قمت به وبذلت الاجتهاد فيه وفى تحصيله وتفرقته عليكم، وإن أردتم غير ذلك فانظروا لنفوسكم واختاروا من يتولّى أموركم.» فلمّا سمعوا من هذا القول ما سمعوا وعرفوا من صحته ما عرفوه قالوا له:
- «قد رضينا بتدبيرك وقنعنا بما بذلته لنا من نفسك ولك علينا السمع والطاعة والانقياد والمساعدة.» فتولّى الأمر وأخذ ما كان فى دار الكافي أبى العباس وكان كثيرا وتتبع أمواله وأموال أصحابه وأقطع أملاكه وإقطاعه وذكره فى الكتب بأحمد بن إبراهيم المخلّ، وعلى المنابر بالطعن والقدح والوقيعة والجرح، بالغ فى كلّ ما اعتمد مساءته به والغضّ منه فيه ومشت الأمور بين يديه.
ووصل أبو العباس الضبّى إلى بروجرد فلم يستقبله بدر بن حسنويه ولا احد من أصحابه لكنه أنفذ اليه بمن يقيم له اقامة فكان يأخذ من ذلك يسيرا وينفق من عنده كثيرا حتى أخذ نحوا من خمسة آلاف درهم سودا. ثم سأل إعفاءه مما يقام له من جهة بدر بن حسنويه فأعفى. ووافاه أصحابه من البلاد لاحقين وانكسر جاهه وانتشر أمره وندم [1] الندم الشديد على فعله.
قال القاضي أبو العباس: وكنت إذ ذاك ببروجرد. فاستشارني أبو الحسن البندارى عنه فى أمره فقلت:
__________
[1] . والمثبت فى مد: ندوم.(7/519)
- «يريد أن يطيب نفسا عمّا أقطع من أملاكه وإقطاعاته وينزل عنه لمن جعل له فيلاطف السيدة ومجد الدولة ووجوه القواد بما يستميلهم فيه ويقلّهم عن ابى على الخطير به. فإنّه إذا فعل ذلك أطاعه القوم وبلغوا له مراده.» فقال أبو الحسن:
- «يحتاج لهذا إلى نحو مائتي ألف دينار ونحن فارقنا [112] مكاننا وأفسدنا أمرنا من أجل مائتي دينار وامتناعنا من إطلاقها.» ومضت للخطير مدة سبعة عشر شهرا ثم قبض عليه فبادر أبو سعد محمد بن إسمعيل بن الفضل من همذان إلى الرىّ مدلّا بوصلة بينه وبين السيدة وبماله من الحال الكبيرة والضياع الكثيرة والمادة الواسعة والمكنة التامة.
وكره بدر بن حسنويه أن يتم له أمر لسوء رأيه فيه، وأنه كان ينقم عليه قبيحا عامله به. فأنفذ أبا عيسى شأذى بن محمد ومعه أبو العباس الضبي الى الرىّ فى ثلاثة آلاف رجل ليعيده الى نظره ويردّه فى الوزارة إلى أمره، وكتب فى ذلك بما أكّده وأشار بالعمل عليه وترك خلافه فيه. فلما نزلوا بظاهر البلد ووصلت الكتب من بدر بن حسنويه- وقد تردّد فى معناها ما تقدم من قبل- راسلت السيدة ومجد الدولة ووجوه القواد أبا العباس بأن:
- «أدخل فان الأمر ممهد لك والرضا واقع بك» .
وأنفذت إليه ثقات كانوا له فى القوم بأن:
- «الباطن فيك غير الظاهر لك وقد رتّب الأمر على الغدر بك والقبض عليك» .
فخاف ورجع.
ذكر تقلّد أبى الفضل الوزارة ثمّ عود الخطير إليها
وتقلّد أبو سعد بن الفضل الوزارة وتوسع فى نظره بماله واستغلال أملاكه(7/520)
وهادي مجد الدولة والسيدة بما ملأ عيونهما به وأعطاهما وأعطى الأكابر ما استخلص نيّاتهم فيه.
وكان شديد العجرفة عسوفا فى المعاملة متهجّما على الجند بالمخاطبة الوحشة فكرهوه واجتمعوا وقصدوه. فهرب الى بروجرد بعد أن استصلح بدر بن حسنويه، وعاد الخطير أبو على إلى الوزارة، وسام بدرا ان يخاطبه بالوزير، فامتنع من ذلك وامتنع أبو على من خطابه [113] بسيدنا، وانتهى ما بينهما إلى الشرّ والمباينة والمكاشفة بالقبيح والعداوة وكتب الخطير إلى أصحاب الأطراف يبعثهم على بدر بن حسنويه ويغريهم به ويهون عليهم أمره وواصل هلالا ابنه وأفسده عليه وحمله على مباينته ومقاطعته فكان ذلك من أقوى الأسباب فيما خرج اليه معه.
وسنذكر شرح هذه الجملة وما انتهت إليه الحال بين الخطير وبين بدر فيما نورده آنفا بمشيئة الله تعالى.
ذكر السبب فى فساد رأى بدر بن حسنويه على أبى سعد ابن الفضل وما عامله به عند هزيمته من الرىّ وقصده إياه
حدثني القاضي أبو العباس البارودى قال:
كان أبو سعد ابن الفضل ينظر فى أعمال همذان والماهين وسهرورد وأبهر من قبل مجد الدولة ويعطى شمس الدولة من ارتفاع ذلك مالا معينا ومبلغا مقننا.
فشرع بدر بن حسنويه فى أن يبتاع خانا بهمذان ويفرده باسمه ويقيم فيه بيعا يبيع ما يرد من الأمتعة المختارة فى أعماله وكانت الحمولات كلها واصلة منها ومحمولة فيها وبذل له فى ارتفاع هذا الخان إذا تقرّر أمره ألف(7/521)
ألف ومائتا ألف درهم.
وأنفذ أبا غالب بن مأمون الصيمري إلى همذان لترتيبه وعقده على الراغب فى ضمانه. وشقّ على أبى سعد ابن الفضل تمام ذلك وتصور أنه طريق إلى خروج ارتفاع البلد عن يده. فوضع قوما من الديلم على أن يقصدوا أبا غالب ويوقعوا به وكان نازلا فى دار أبى عبد الله محمد بن على بن خلف النيرمانى لأنه برسم النيابة عن بدر بهمذان. [114] فقصدوه وكبسوا الدار وهرب من بين أيديهم وعاد إلى بروجرد.
وادّعى أنّه قد نهب منه جملة كثيرة من المال الذي كان معه، وكتب إلى بدر بالصورة واستأذنه فى الاعتراض على ضياع أبى سعد ابن الفضل وأن يأخذ منها عوض ما أخذ منه. فأذن له فى ذلك واستخرج ما قدره خمسون ألف دينار.
فقال أبو سعد لما بلغه الخبر:
- «احسب ان يحيى بن عنبر [لرجل قاطع طريق] [1] أخذ مالي واعترض على ضياعي.» وبلغ بدرا ذلك فأحفظه.
وقبض على الخطير أبى على بالرىّ فبادر أبو سعد ابن الفضل طامعا فى الوزارة وكره بدر أن يتمّ له أمره فأنفذ أبا العباس الضبّى مع أبى عيسى شاذى فى ثلاثة آلاف رجل لتقرير الوزارة له وجرى فى ذلك ما قدّمنا ذكره.
وتولّى النظر أبو سعد ابن الفضل فأقام عليه سنتين ثم وقف أمره وشغب الجند عليه. فهرب وقيل إنّه دلّى فى هربه فى زبيل من سطح دار وقصد بدر بن حسنويه فما شعر به حتى حصل بالكرج [2] وتمّم إليه الى سابور خواست
__________
[1] . من مد.
[2] . وفى الأصل: بالكرخ (مد) .(7/522)
فأحسن تقبّله وأكرم منزله وحمل اليه ثلاثمائة رأس غنما وأصنافا كثيرة فيها حمل سكر أبيض ولم يكن حمل مثل ذلك إلى أبى العباس الضبّى، لأنّه علم أنّ أبا سعد واسع المروءة كثير التجمل، ووصل إليه من هذا المحمول ما وصل، فما انقضى يومه حتى فرّقه واستعمله. وأقام عنده أياما ثم صار إلى بروجرد.
قال القاضي أبو العباس:
فتأخر أبو العباس الضبّى عن استقباله واحتج بنقرس كان عرض له وأنفذ أبا القاسم سعيدا ابنه للنيابة عنه فى قضاء حقه وخرجت معه فسلم كل واحد من ابن أبى العباس وأبى سعد على صاحبه وسارا [115] داخلين إلى البلد فتقدم عليه ابن أبى العباس.
فلما كان فى آخر ذلك اليوم ركب إليه أبو العباس الضبّى فى محفّة، ودخل داره وهو يخرج من بيت الماء ويشدّ سراويله، وتلقاه وقبّل صدره فى المحفّة وخاطبه أبو العباس بالوزير وقد كان أبو سعد كاتب أبا العباس من الرىّ عند وزارته وخاطبه بالأستاذ الرئيس. فلما التقيا هذا الالتقاء اعتمد أبو العباس فى خطابه بالوزارة أن يعلمه ان الصرف لا يزيل اسمه من الوزارة.
ولم يجتمعا بعد هذه الدفعة.
وفى هذه السنة أنشأ مهذب الدولة داره بالصليق فوسّع صحنها وعظّم أبنيتا وكبّر مجالسها وسلك مسالك الملوك فيها ونقل إليها من الآلات والساج الشيء الكثير. فجاءت أحسن دار وأفخمها وأجلها وأعظمها.
وقد رأيتها فى أيامه وكانت من أبنية الملوك وذوى الهمم الكبيرة منهم، وما شاهدت صحنا كصحنها فى انفساحه واتساعه، وكانت راكبة لدجلة ولها روشن وشبابيك عليها.
ونقضت هذه الدار فى سنة سبع عشرة وأربع مائة حتى قلعت(7/523)
أساساتها وجعلت دكة فى تعفّى آثارها. وكان سبب ذاك أن باع العمال فى أيام الفترة بعضها على أرباب الاقساط وطمع الجند بهذا الابتداء فأتوا على جميعها.
استتار
وفيها خرج أبو الحسن ابن اسحق كاتب أبى الحسن محمد بن عمر كان الى فارس على استتار.
شرح الحال فى ذلك وفيما جرى عليه أمره الى أن قتل
لما أصعد أبو الحسن الى بغداد مع الصاحب أبى القاسم بن مما على القاعدة التي قدمنا ذكرها بدا [116] من أمره ما كان مستورا خافيا وقبض على جماعة من التجار وصادرهم وتأول عليهم وجازفهم واعتقل الجاثليق ووكل به وبالغ فى الغضّ منه واستعمال القبيح معه.
وحاول فى القبض على أبى يعقوب العلوي ما حاوله. فلما لم يتم له وعرف خبر أبى الحسن بن يحيى فى عوده الى واسط وانحلال أمر أبى نصر سابور وانتقاض قواعده استتر وخرج الى أوانا وأقام بها مديدة.
ثم توصّل الى الحصول بالبطيحة وتوجّه منها الى فارس بمرقعة تعويلا على حال كانت بينه وبين أبى الخطاب. ونزل على أبى العلاء عبيد الله بن الفضل فأكرمه وشرع فى مراسلة بهاء الدولة من داره فى أمور كثر الكلام فيها عليه. فتجعد أبو العلاء منه وخاف أن يتطرق عليه سوء به وانتقل أبو الحسن عنه متغضبا عليه.
وقبله بهاء الدولة واعتقد فيه تأدية الأمانة فيما يقوم له به. فأنفذه الى ناحية شق الروذان وكانت يومئذ مفردة للخاص فدبّرها وقرّر ارتفاعها وحمل(7/524)
إلى بهاء الدولة منه ما قامت سوقه عنده به وثقل ذلك على أبى غالب محمد بن على وهو إذ ذاك ناظر فى الوزارة وعلى أبى الفضل ابن سودمند [1] بعده.
وتوجه بهاء الدولة الى الأهواز لقتال أبى العباس بن واصل فقبض الوزير أبو غالب على أبى الحسن وحبسه فى دار المملكة مدة حتى بلغت منه الضغطة والشدة.
ثم بلغ الوزير ان بهاء الدولة سأل عنه وقال ما فعل ذلك البائس ابن اسحق. فاشفق ان يكاتبه بإنفاذه الى حضرته فاحتال عليه بان استدعاه من محبسه [117] وخلا به وقال له:
- «قد استولى أبو غالب الحسن بن منصور [2] على كرمان واستأكل أموالها ومنعني مما كنت أرجو حصوله منها وعملت على أن أخرجك إليها كالمقرّر لارتفاعها. فإذا ثبتت قدمك واستقرت الدار بك قلّدتك وسلّمت أبا غالب إليك لتستقصى أمره وترتجع منه ما أخذه واحتجنه. وأعلم أن المحنة قد بلغت منك وأنك محتاج إلى ما تعيد به تجملك وقد وقّعت لك الى أبى عبد الله بن يوسف الفسوي بعشرين ألف درهم تصرفها فى ذلك وينبغي أن تسبقني الى فسا وتستوفى هذا المال وتبتاع به رحلا وبهائم. فإننى سأتبعك إلى هناك وأقرر ما بيني وبينك وأنفذك.» وحمل اليه ثيابا من خزانته ونفقة. فاغترّ أبو الحسن وقدر هذا القول حقا وما وراءه من الاعتقاد سليما.
__________
[1] . والمثبت فى مد: سودمنذ (بالذال المعجمة) .
[2] . هو السيرافي ذو السعادتين الوزير. وفى تاريخ الإسلام انه تصرف بالأهواز وخرج الى شيراز وصحب فخر الملك فاستخلفه ببغداد ثم توجه الى فارس للنظر فى الممالك بحضرة سلطان الدولة فناخسرو وخلف الوزير جعفر بن محمد (بن فسانجس) فلما قبض السلطان على جعفر ولاه الوزارة. وفى آخر أمره وقع خلف بين الجيش فقتلوا أبا غالب فى صفر سنة 413 (مد) .(7/525)
وواقف قوما من الزطّ على اتباعه والفتك به. فمضوا واعترضوا القافلة التي كان فيها ومعهم من يعرف أبا الحسن. فلما بصر به دلّهم عليه فأرجلوه من دابته وقالوا له:
- «أنت قريب الوزير ولنا عنده رهائن ونحن نأخذك ونعتقلك الى أن يفرج عنهم.» وعدلوا به عن الطريق الى بعض الشعاب وذبحوه وخلوا عن القافلة ولم يعرضوا لها.
وكان أحمد حاجب ابن اسحق معه فأطلع على باطن القصة وتحدّث به وبلغ الوزير أبا غالب فحاول [1] فخاف أن يتصل ببهاء الدولة من جهته فأحضره ووعده الجميل ومعاملته به وأطلق له نفقة سابغة وكان يراعيه مدة كونه بفارس.
وهذا الخبر أرويه عن أبى عبد الله الفسوي وحدّثنى معه أنه بلغ من [118] مراعاة بهاء الدولة لأمر ابن اسحق وعنايته به أن أنفذ إليه بأحد خواصه من الفراشين وقد هنجم غلمان الخيول بشيراز وكانوا ألفا ومائتي غلام، وانضاف إليهم الخارجون عن الدار وقال له:
- «احرس نفسك من أبى غالب ابن خلف واحذر ان يتم له عليك حيلة.
وَكانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَقْدُوراً» 33: 38. [2]
سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة
أولها يوم الإثنين والتاسع من تشرين الثاني سنة أربع عشرة وثلاثمائة
__________
[1] . لعله زائد.
[2] . س 33 الأحزاب: 38.(7/526)
وألف للإسكندر وروز مار إسفند من ماه آبان [1] سنة احدى وسبعين وثلاثمائة ليزدجرد.
منع عميد الجيوش أهل الكرخ وباب الطاق فى عاشوراء من النوح فى المشاهد وتعليق المسوح فى الأسواق. فامتنعوا. ومنع أهل باب البصرة وباب الشعير من مثل ذلك فيما نسبوه إلى مقتل مصعب بن الزبير.
وفى رشن من ماه آذر الواقع يوم الخميس لخمس بقين من المحرم قبض على أبى غالب محمد بن على بن خلف وتقلد الوزارة أبو الفضل محمد بن القاسم بن سودمند فى روز خرداد من ماه ... [2] الواقع فى يوم الأربعاء الرابع عشر من شهر ربيع الاول.
ذكر حال أبى الفضل وما جرى عليه الأمر فى تقليده
أبو الفضل هذا أحد الكتاب الذين وردوا العراق من فارس مع أبى منصور بن صالحان فى أيام شرف الدولة وكان يكتب بين يديه فى جملة كتّاب الإنشاء. ثم قلّده عمالة عكبرا وانتقل منها إلى النظر فى بعض الأعمال بالأهواز [119] وتدرجت به الأحوال بعد ذلك الى أن تقلد عرض الديلم وتقدم فى أيام الموفق وخرج بعد وفاته الى كرمان على ما قدمنا ذكره.
ولما عاد الوزير أبو غالب بن خلف من سيراف وعرف عوده من كرمان بعد أن فعل فى تقرير أمورها ما فعله وحمل إلى الخزانة من مالها ما حمله ووقوع ذلك من بهاء الدولة موقعه وتأكد حاله عنده به وموضعه، شقّ عليه
__________
[1] . آبان: الشهر الثامن من شهور السنة الشمسية الإيرانية.
[2] . بياض.(7/527)
أمره وأغراه المفسدون به. فقبض عليه ونكبه واضطره إلى التبذل والتسلّم فى تصحيح ما قرره عليه وطالبه به.
وخرج من النكبة، فكتب الى بهاء الدولة رقعة جعل سفيره ووسيطه فيها الحسين المزين وامرأته وسعى بالوزير أبى غالب وبذل فيه بذلا كثيرا.
وقد كان تحصل فى نفس بهاء الدولة منه ما تكلم عليه به فى أمر تركة الفرّخان وما أخذه منها فأجابه إلى ما أراده ووافقه على القبض عليه، فسلّمه النظر فى الأمور بعده.
فلمّا كان فى يوم القبض دخل أبو الفضل دار الوزير أبى غالب بقميصين ورداء على زىّ المتعطلين والمنكوبين وحضر مجلسه وخدمه ثم خرج من بين يديه وقعد فى الدهليز.
وكان قد رتّب أمر القبض من الليل وواقف كل رجل من أصحابه على أخذ كل واحد من أصحاب الوزير أبى غالب فقبض عليه وعلى حواشيه وأصحابه وألزم الجماعة من المصادرة على قدر حاله وموجب تصرفه، وقرر على أبى غالب مائة ألف دينار قاسانية قيمتها أربعة آلاف ألف درهم من نقد الوقت وجدّ به فى الأداء والتصحيح جدّا. فخرج فيه إلى بعض العسف والإرهاق من غير أن يمكنه.... [1]
__________(7/528)