- «والله لأصدقنّك أنّ عبد الله بن مالك ويحيى بن معاذ ومن سمّينا من الرؤساء إن قاموا [29] لك بالأمر كانوا أنفع لك منّى برئاستهم المشهورة، ولما عندهم من القوّة على الحرب. فمن قام بالأمر كنت خادما له حتّى يصير إلى محبّتك وترى رأيك فىّ.» قال: «نعم.» فلقيتهم فى منازلهم، وذكّرتهم البيعة التي فى أعناقهم وما يجب عليهم من الوفاء، فتكرّهه الكلّ وقال بعضهم:
- «هذا لا يحلّ، أخرج.» وقال بعضهم:
- «من يدخل بين أمير المؤمنين وأخيه؟» فجئت فأخبرته فقال:
- «قم بالأمر.» قال: قلت:
- «قد قرأت القرآن وسمعت الأحاديث وتفقّهت فى الدين، فالرأى أن تبعث إلى من بالحضرة من الفقهاء فتدعوهم إلى الحقّ والعمل به وإحياء السنّة وتقعد على اللبود وتردّ المظالم.» ففعلنا وبعثنا إلى الفقهاء وأكرمنا القوّاد وأبناء الملوك. فكنّا نقول للتميمىّ:
نقيمك مقام موسى بن كعب، وللربعى: نقيمك مقام أبى داود خالد بن إبراهيم، ونقول لليماني: نقيمك مقام قحطبة ومالك بن الهيثم، حتّى استملنا قلوب الرؤساء والملوك وحططنا عن خراسان ربع الخراج، فحسن موقع ذاك وسرّوا به، وقالوا:
- «ابن أختنا وابن عمّ [30] النبي صلى الله عليه.» قال: فكان شغلنا بهذا وأشباهه.(4/30)
فأمّا الأمين فإنّه اشتغل باللعب وأمر ببناء حول قصر أبى جعفر فى المدينة للصوالجة واللعب، وأخذنا نحن فى الجدّ، ورأى المأمون أن يهادي أخاه، فبعث له بهدايا وتواترت كتب المأمون إلى محمد بالتعظيم وإهداء طرف خراسان.
ودخلت سنة أربع وتسعين ومائة
وفى هذه السنة عزل محمد الأمين أخاه القاسم عن جميع ما كان أبوه هارون ولّاه من عمل الشام وقنّسرين والعواصم والثغور، وولّى مكانه خزيمة بن خازم، وأمره بالمقام بمدينة السلام.
وفيها أمر محمد بالدعاء لابنه موسى على المنابر بالأمرة.
وفيها تنكّر كلّ واحد من محمد الأمين وعبد الله المأمون لصاحبه وظهر الفساد بينهما.
سبب ظهور الفساد بين الأمين والمأمون
وكان السبب فى ذلك أنّ الفضل بن الربيع فكّر بعد مقدمه إلى العراق ناكثا للعهود التي كان الرشيد أخذ بها عليه لابنه المأمون، فعلم أنّ الخلافة إن أفضت إلى المأمون يوما من الدهر [31] وهو حىّ لم يبق عليه، وكان فى ظفره به عطبه. فسعى فى حثّ محمد على خلعه وصرف ولاية العهد من بعده إلى ابنه موسى، ولم يكن ذلك من رأى محمد ولا عزمه. فأدخل معه فى الرأى علىّ بن عيسى بن ماهان والسندي وغيرهما، فصغّروا شأن عبد الله المأمون عند الأمين، وقال له الفضل:
- «يا أمير المؤمنين اخلع عبد الله والقاسم، فإنّ البيعة كانت لك متقدّمة وإنّما أدخلا فيها بعدك.»(4/31)
وعلم المأمون أنّ عزل الأمين للقاسم وأخيه وإقدامه مدينة السلام وأمره للدعاء لابنه موسى بالأمرة ومكاتبته الأمصار بذلك، تدبير عليه فى خلعه.
فقطع البريد عن محمد وأسقط اسمه من الطّرز ودور الضرب [1] .
وكان رافع بن الليث بن نصر بن سيّار لمّا انتهى إليه حسن سياسة المأمون وسيرته فى رعيّته، بعث فى طلب الأمان لنفسه، وكان هرثمة يجاريه. فلمّا طلب الأمان سارع هرثمة إليه وخرج رافع فلحق بالمأمون وهرثمة بعد مقيم بسمرقند فأكرم المأمون رافعا، وكان مع هرثمة فى حصار رافع طاهر بن الحسين. ثمّ استأذن [32] هرثمة المأمون فى القدوم عليه، فأذن له فتلقّاه الناس، وولّاه المأمون الحرس، فأنكر ذلك الأمين وكتب إلى العبّاس بن عبد الله بن مالك- وكان عامل المأمون على الرىّ وهو آخر حدّه من خراسان-، يأمره أن يبعث إليه بغرائب غروس [2] الرىّ، وأراد امتحانه. فبعث إليه بما أمره وكتم ذلك المأمون وذا الرئاستين، فبلغ ذلك المأمون فعزله.
ثمّ وجّه الأمين إلى المأمون ثلاثة أنفس رسلا: أحدهم العباس بن موسى بن عيسى، والآخر صالح صاحب المصلّى، والثالث محمد بن عيسى بن نهيك وكتب معهم كتابا فبلغ الخبر بذلك ذا الرئاستين فوجّه رسولا وكتب إلى صاحب الرىّ: أن استقبلهم بالعدّة والسلاح الظاهر. وكتب إلى والى قومس ونيسابور وسرخس بمثل ذلك، ففعلوا. ثمّ وردت الرسل مرو وقد أعدّ لهم من السلاح وضروب العدد والعتاد.
ثمّ صاروا إلى المأمون فأبلغوه رسالة محمد بمسألته تقديم موسى على نفسه ويذكر أنّه سمّاه الناطق بالحقّ، فردّ المأمون ذلك وأباه. فقال العبّاس بن موسى بن عيسى: [33]
__________
[1] . فى آ: من الطرز والضرب. فى الطبري (11: 777) : وأسقط اسمه من الطرز.
[2] . كذا فى الأصل والطبري (11: 777) فى آومط: عروس (بالإهمال) .(4/32)
- «ما عليك أيّها الأمير من ذلك فهذا جدّى عيسى بن موسى قد خلع نفسه فما ضرّه ذلك ولا طاب عيشه إلّا بعد الخلع.» قال: فصاح عليه ذو الرئاستين قال:
- «اسكت فإنّ جدّك كان فى أيديهم أسيرا، وهذا بين شيعته وأخواله وعشيرته.» قال ذو الرئاستين: فأعجبنى ما رأيت من ذكاء العبّاس بن موسى، فخلوت به وقلت:
- «يذهب عليك فى فهمك وذكائك أن تأخذ بحظّك من الإمام.» قال: وسمّى المأمون فى ذلك اليوم: الإمام ولم يسمّ بالخلافة، وإنّما سمّى بذلك لما جاءه من خلع محمد له. قال: فقال لى العبّاس:
- «وقد سمّيتموه: الإمام.» قال: قلت:
- «قد يكون إمام المسجد والقبيلة [1] فإن وفيتم لم يضرّكم اسمه، وإن غدرتم فهو ذاك.» ثمّ قلت للعباس:
- «لك عندي ولاية الموسم، فلا ولاية أشرف منها، ولك من مواضع الأموال بمصر ما شئت.» قال: فما برح حتّى أخذت عليه البيعة للمأمون بالخلافة. فكان بعد ذلك يكتب إلينا بالأخبار، ويشير علينا بالرأى.
ومضى القوم منصرفين إلى محمد فأخبروه بامتناعه. وألحّ الفضل بن الربيع وعلىّ بن [34] عيسى على محمد فى البيعة لابنه وخلع المأمون.
__________
[1] . فى الطبري (11: 779) : وأحصنه (بالصاد المهملة) .(4/33)
وبذل الفضل الأموال حتّى بايع لابنه موسى، وسمّاه: الناطق بالحقّ، وأحضنه علىّ بن عيسى وولّاه العراق وأسقط ذكر عبد الله المأمون والقاسم المؤتمن من المنابر، ووجّه رسولا إلى مكّة فأخذ من الحجبة الكتابين اللذين كان هارون اكتتبهما وجعلهما فى الكعبة، وتكلّم فى ذلك الحجبة فلم يحفل بهم وخافوا على أنفسهم، ومزّق الكتابين وأبطلهما.
وكان محمد الأمين كتب إلى المأمون قبل المكاشفة يسأله أن يتجاوز ويتجافى له عن كور من كور خراسان سمّاها له وأن يوجّه العمّال من قبل محمد وأن يحتمل رجلا من قبله يوليه البريد عليه ليكتب إليه بخبره. فلمّا ورد على المأمون الكتاب بذلك كبر عليه واشتدّ، فبعث إلى الفضل بن سهل وإلى أخيه الحسن فشاورهما فأحجما وقالا:
- «الأمر مخطر ولك شيعة وبطانة وأهل ولاء. وكان يقال: شاور فى طلب الرأى من تثق بنصيحته وتألّف العدوّ فيما لا اكتتام له بمشاورته.» [35]
ذكر آراء الناس فيما شاورهم فيه المأمون
ثمّ أحضر المأمون الخاصّة من الرؤساء والأعلام وقرأ عليهم الكتاب فقالوا جميعا:
- «أيّها الأمير، شاورت فى أمر خطير معضل، فاجعل لبديهتنا حظّا من الرويّة.» قال المأمون:
- «هو الحزم.» وأجّلهم ثلثا:
ثمّ اجتمعوا فقال أحدهم:(4/34)
- «إنّك أيّها الأمير قد حملت على كرهين، ولست أرى خطأ تعجّل مكروه أوّلهما مخافة مكروه آخرهما.» وقال آخر:
- «إذا كان الأمر مخطرا [1] فإعطاؤك من نازعك طرفا من بغيته أمثل من أن تصير بالمنع إلى مكاشفته.» وقال آخر:
- «كان يقال: إذا كان علم الأمور مغيّبا عنك، فخذ ما أمكنك من هدنة يومك، فإنّك لا تأمن أن يكون فساد يومك راجعا بفساد غدك.» وقال آخر:
- «لئن خيفت للبذل عاقبة، إنّ أشدّ منها ما يبعث الإباء [2] من الفرقة.» وقال آخر:
- «لا أرى مفارقة منزلة السلامة فلعلّى أعطى معها العافية.» فقال الحسن بن سهل:
- «قد وجب حقّكم باجتهادكم وإن كنتم معذورين، فإنّ رأيى مخالف لرأيكم.» فقال له المأمون:
- «فناظرهم.» قال: «لذلك ما كان الاجتماع.» وأقبل عليهم الحسن فقال:
- «هل تعلمون أنّ [36] محمدا تجاوز إلى طلب شيء ليس له بحق؟» فقالوا: «نعم ويحتمل ذاك لما يخاف من ضرر منعه.»
__________
[1] . ما فى الأصل يشبه أن يكون «محظرا» بإعجام الثالث. فى الطبري (11: 781) : مخطرا.
[2] . فى الطبري (11: 781) : ألّا نأمن الفرقة.(4/35)
قال: «فهل تثقون بأن يكفّ إذا أعطيناه ما سأل، فلا يتجاوز بالطلب إلى غيرها [1] ؟» قالوا: «لا، ولعلّ سلامة تقع من دون ما نخاف ونتوقّع.» قال: «فإن تجاوز بعدها بالمسألة، أفما ترونه قد توهّن بما بذل من نفسه فيها.» قالوا: «ندفع بمحذور الآجل محذور العاجل.» قال: «فإنّ الحكماء قبلنا قالوا: استصلح عاقبة أمرك باحتمال ما عرض فى مكروه يومك ولا تلتمس هدنة [2] يومك بإخطار أدخلته على نفسك فى غدك.» فأقبل المأمون على الفضل وقال:
- «ما تقول فيما اختلفوا فيه؟» قال: «هل يؤمن محمد أن يكون طالبك بفضل قوّتك، ليستظهر بها غدا على مخالفتك، وهل يصير الخازم إلى فضله من عاجل الدعة بخطر يتعرّض له فى العاقبة؟ بل إنّما أشار الحكماء بحمل ثقل عاجل، فيما يرجون به صلاح عواقب أمورهم.» فقال المأمون:
- «بإيثار دعة العاجل صار من صار إلى فساد العاقبة فى أمر دنيا وأمر آخرة.» قال القوم:
- «قد قلنا بمبلغ الرأى والله [37] للأمير بالتوفيق.» فقال: «اكتب يا فضل إليه:
__________
[1] . فى الأصل والطبري (11: 781) : غيرها وفى آ: غيره.
[2] . هدنة: كذا فى الأصل. ما فى آ: مهمل بكامله. فى الطبري (11: 781) : هدية.(4/36)
- «قد بلغني كتاب أمير المؤمنين يسأل التجافي عن مواضع سمّاها، ممّا أثبته الرشيد فى العقد لى، وجعل أمره إلىّ وما أمر رآه أمير المؤمنين مما يتجاوز، غير أنّ الذي جعل إلىّ الطرف الذي أنا به كان غير ظنين فى النظر لعامّته ولا جاهل بما أسند إلىّ من أمره. ولو لم يكن ذلك مثبتا بالعهود والمواثيق المأخوذة ثمّ، كنت على الحال التي أنا عليها من إشراف عدوّ مخوف الشوكة وعامّة لا تتألف عن هضمة، وأجناد لا تستتبع طاعتها إلّا بالأموال وطرف من الإفضال، لكان فى نظر أمير المؤمنين لعامّته وما يجب من لمّ أطرافه ما يوجب عليه أن يقسم له كثيرا من عنايته، وأن يستصلحه ببذل كثير من ماله، فكيف بمسألة ما أوجبه الحقّ. وإنّى لأعلم أنّ أمير المؤمنين لو علم من الحال ما علمت لم يطلع [1] بمسألة ما كتب بمسألته إلىّ، ثمّ أنا على ثقة من القبول بعد البيان، إن شاء الله.» واستشار أيضا محمد أصحابه فيما همّ به.
ذكر آراء أشير بها على محمد الأمين [38]
قال يحيى بن سلم وقد دعاه الأمين واستشاره:
- «يا أمير المؤمنين كيف بذاك مع تأكيد الرشيد بيعته وأخذه الأيمان والمواثيق فى الكتب؟» فقال محمد:
__________
[1] . كذا ضبط ما فى الأصل. والضبط فى الطبري (11: 782) : يطلع (بضمّ الياء فقط) .(4/37)
- «إنّ رأى الرشيد كانت فلتة من الخطأ شبّه عليه جعفر بن يحيى بسحره، فغرس لنا غرسا مكروها لا ينفعنا ما نحن فيه [معه [1]] إلّا بقطعه، ولا تستقيم لنا الأمور ولا تصلح إلّا باجتثاثه والراحة منه.» فقال: «أمّا إذا كان رأى أمير المؤمنين خلعه فلا تجاهره فيستكبرها [2] الناس وتستشنعها العامّة، ولكن تستدعى [3] الجند بعد الجند والقائد بعد القائد، وتؤنسه بالألطاف والهدايا، وتفرّق ثقاته ومن معه وترغّبهم بالأموال وتستميلهم بالأطماع. فإذا وهنت قوّته ولم تبق له منّة أمرته بالقدوم عليك، فإن قدم صار إلى الذي تريد منه وإن أبى كنت قد تناولته وقد كلّ حدّه وهيض جناحه.» قال محمد:
- «فأقطع [4] أمرا كصريمة. أنت مهذار خطيب، ولست بذي رأى مصيب، فزل عن هذا الرأى إلى رأى الشيخ الموفّق والوزير الناصح، قم فالحق بمدادك [39] وأقلامك.» فقال يحيى:
- «غضب يشوبه صدق وتجلبه نصيحة، أحبّ إلىّ من رضا يخلطه جهل ويحمله جهل.» وبعث الفضل إلى أحد من رضى عقله ورأيه فاستشاره، فعظّم الرجل عليه أمر البيعة للمأمون، وقبّح الغدر والنكث. فقال الفضل:
- «صدقت، ولكن عبد الله أحدث الحدث الذي وجب به نقض ما عقده
__________
[1] . تكملة من الطبري.
[2] . كذا فى الأصل وآ: يستكبرها. وما فى الطبري (11: 791) : يستنكرها.
[3] . فى الأصل: يستدعى. صححناه بالسياق.
[4] . فى الأصل: قطع. فى آ: فأقطع. وهو الصحيح، ويؤيّده ما فى الطبري (11: 791) : أقطع.(4/38)
الرشيد وأمير المؤمنين يرى اليوم لنفسه ولرعيّته ما لم يره الرشيد يومئذ.» فقال: «أفتثبت الحجّة عند عامّة الناس بهذا الحدث الذي أحدثه المأمون كما تثبت الحجّة له بمأخوذ عهده؟» قال: «لا.» قال: «أفحدث هذا الحدث عندكم ممّا يوجب نقض عهدكم ولم يكن حدث ولا كان معلوما.» قال: «نعم.» فقال الرجل ورفع صوته:
- «تالله ما رأيت كاليوم رأى رجل يشاور فى دفع ملك فى يده بالحجّة، ثمّ يصير إلى مطالبته بالعناد والمغالبة.» قال: فأطرق الفضل مليّا ثمّ قال:
- «صدقتني الرأى، ولكن أخبرنى إن نحن أغمضنا فى قالة العامّة، ووجدنا مساعدين من شيعتنا وأجنادنا، فما القول؟» قال: [40]- «أصلحك الله، وهل أجنادك إلّا من عامّتك فى أخذ بيعتهم وتمكّن برهان الحقّ فى قلوبهم، أفليسوا وإن أعطوا ظاهر طاعتهم مع ما تأكّد من وثائق العهد فى معارفهم وعليهم بباطن أمورهم.» قال: «فإن أعطونا الطاعة فما يضرّنا من ضمائرهم.» قال: «لا طاعة دون ما ثبت من البصائر.» قال: «ترغّبهم بتشريف حظوظهم؟» قال: «إذا يصيروا إلى التثقّل، ثمّ إلى خذلانك عند حاجتك إلى مناصحتهم.» قال: «فما ظنّك بأجناد عبد الله؟»(4/39)
قال: «قوم على بصيرة من أمورهم لتقدّم بيعتهم.» قال: «فما ظنّك بعامّته؟» قال: «قوم كانوا فى بلوى عظيمة من تحيّف ولاتهم فى أموالهم وأنفسهم صاروا به إلى الأمنة فى المال والرفاغة فى المعيشة، فهم يدافعون عن نعمة حادثة لهم، ويتذكّرون بليّة لا يأمنون العودة فى مثلها.» قال: «ما أراك أبقيت لنا موضع رأى فى اعتزالك أجنادنا، ثمّ أشدّ من ذلك ما قلت به من وهنة أجنادنا وقوّة أجناده وما تسخو [1] نفس أمير المؤمنين بترك ما يعرف من حقّه، ولا نفسي بالهدنة مع ما أقدمت [41] عليه فى أمره، وربّما أقبلت الأمور مشرقة بالمخافة، ثمّ تكشّفت عن الفلج والدرك فى العاقبة.» وتفرّقا.
ذكر الحزم والجدّ الذي أخذ فيه المأمون حتّى بلغ به ما أراد
أذكى العيون، وأقام الحرس على رأس الحدّ، فلا يجوز رسول من العراق حتّى يوجّهوه مع ثقات من الأمناء، ولا يدعه يستعلم خبرا ولا يستتبع بالرغبة ولا بالرهبة أحدا ولا يبلغ أحدا قولا ولا كتابا فحصّن أهل خراسان من أن يستمالوا برغبة أو أن تودع قلوبهم رهبة. ثمّ وضع على مراصد الطرقات ثقات من الأحراس لا يجوز عليهم إلّا من لا تدخله الظنّة فى أمره ممّن أتى بجواز فى مخرجه إلى دار مآبه، أو تاجر معروف مأمون فى نفسه ودينه ومنع الأشابات [2] من جواز السبل والقطع بالمتاجر، والوغول فى
__________
[1] . كذا فى الأصل والطبري (11: 793) : فى آ: سحوا.
[2] . الأشابة: أخلاط الناس. ما فى الطبري (11: 783) : الأشتاتات. وما فى آومط مهمل.(4/40)
البلدان فى هيأة الطارئة والسابلة، وفتّشت الكتب فكانت ترد من قبل محمد الرسل والجماعات، فإذا صاروا إلى حدّ الرىّ وجدوا تدبيرا مؤيّدا [42] وعقدا مستحصدا، وأخذتهم الأحراس من جوانبهم فحصّنوا فى حال ظعنهم وإقامتهم من أن يخبروا أو يستخبروا، وكتب بخبرهم من مكانهم، فيجيء الإذن فى حملهم، فيحملون محروسين لا خبر يصل إليهم، ولا غيرهم يتطلّع خبرا من عندهم حتّى يصيروا إلى باب المأمون.
وذكر سهل بن هارون، أنّ المأمون قال يوما لذي الرئاستين:
- «إنّ ولدي وأهلى ومالي الذي أفرده لى الرشيد بحضرة محمد وهو مائة ألف ألف وأنا إليها محتاج وهي قبله فما ترى فى ذلك؟» فقال له ذو الرئاستين:
- «إن أنت كتبت كتاب عزمة فمنعك، صار إلى خلع عهده. فإن فعل، حملك ولو بالكره على محاربته، وأنا أكره أن تكون المستفتح باب الفرقة ما أرتجه الله دونك، ولكن تكتب كتاب طالب بحقّك وتوجيه أهلك على ما لا يوجب عليه المنع نكثا لعهدك، فإن أطاع فنعمة وعافية، وإن أباها لم تكن بعثت على نفسك حربا ومشاقّة.» قال: «فاكتب إليه كما ترى.» فكتب عنه:
كتاب كتبه ذو الرياستين عن المأمون إلى الأمين
- «أمّا بعد فإنّ نظر أمير المؤمنين للعامّة نظر من لا يقتصر على إعطاء النصفة من نفسه حتّى يتجاوزها إليهم ببرّه وصلته [43](4/41)
وإذا كان ذلك رأيه فى عامّته فأحر بأن يكون على مجاوزة ذلك لصنوه وقسيم نسبه. وقد تعلم يا أمير المؤمنين حالا أنا عليها من ثغور حللت بين لهواتها وأجناد لا تزال موفية بتسرّعها وبنكث آرائها وبقلة الخراج قبلي، والأهل والولد والمال قبل أمير المؤمنين، وما للأهل- وإن كانوا فى كفاية- من برّ أمير المؤمنين وكان لهم والدا- بدّ من الإشراف والنزوع إلى كنفى، وما لى بالمال من القوّة والظهير على لمّ شعثي، وقد وجّهت لحمل العيال وحمل ذلك المال فرأى أمير المؤمنين فى إجازة فلان إلى الرّقّة فى حمل ذلك المال والأمر بمعونته عليه غير مخرج له فيه إلى ضيقة تقع بمخالفته، أو حامل له على رأى يكون على غير موافقته، إن شاء الله.» فكتب إليه محمد فى الجواب:
جواب الأمين
- «أمّا بعد، فقد بلغني كتابك بما ذكرت ممّا عليه رأى أمير المؤمنين فى عامّته، فضلا عمّا يوجب من حقّ ذى حرمته وخليط نفسه، ومحلّك من لهوات ثغور، وحاجتك لمحلّك بينها إلى فضلة من المال لتأييد أمرك. والمال الذي سمّى لك من مال الله عزّ وجل [44] وما ينكر أمير المؤمنين حقوق أقربيه وذوى نسبه، وما ذاك بداع أمير المؤمنين إلى ترك الاستظهار لدينه وعامّته، وبه إلى ذلك الذي ذكرت حاجة فى تحصين أمور(4/42)
المسلمين، وكان أولى به إجراؤه على فرائضه وردّه فى مواضع حقّه، وليس بخارج من نفعك ما عاد بنفع العامّة من رعيّتك.
- «وأمّا ما ذكرت من حمل أهلك فإنّ يدي المشرفة على أمرهم، وإن كنت بالمحلّ الذي أنت به من حقّ القرابة ولم أر من حملهم على سفرهم مثل الذي عرّضتهم له بالسفر من شهم [1] وإن أر ذلك من ذى قبل، أوجّههم إليك مع الثقة من رسلي، إن شاء الله.» ولمّا ورد الكتاب على المأمون قال:
- «لطّ دون حقّنا يريد أن يوهن بالمنع قوّتنا ثمّ يتمكّن من الفرصة فى مخالفتنا.»
كتاب المأمون إلى أعيان العسكر ببغداد
ورأى المأمون والفضل أن يختارا رجلا يكتب معه إلى أعيان العسكر ببغداد، فإن أحدث الأمين للمأمون خلعا صار إلى التلطّف، لعلم أحوال أهلها بالكتب التي معه وإن لم يفعل من ذلك كنس فى خفية وأمسك عن إيصالها وكان نسخة الكتاب:
«أمّا بعد [45] فإنّ أمر المؤمنين كأعضاء البدن تحدث العلّة فى بعضها فيكون كره ذلك مؤلما لجميعها، وكذلك الحدث فى المسلمين يكون فى بعضهم فيصل كره ذلك إلى سائرهم، للذي
__________
[1] . كذا فى الأصل ومط. ما فى آ: شتمهم. وليست الكلمة موجودة فى الطبري (11: 787، 788) .
ولعلّه من قولهم: شهم الرجل: أفزعه. شهم الفرس: زجره.(4/43)
يجمعهم من شريعة دينهم ويلزمهم من حرمة آخرتهم. ثمّ ذلك من الأئمة أعظم للمكان الذي به الأئمة من سائر أممهم. وقد كان من الخبر ما لا أحسبه إلّا سيعرب عن مغبّته ويسفر عمّا استتر من وجهه. وما اختلف مختلفان فكان أحدهما مع أمر الله، إلّا كان أولى بمعونة المسلمين وموالاتهم فى ذات الله وأنت- يرحمك الله- من الأمر بمرأى ومسمع، وبحيث إن قلت أذن لقولك وإن لم تجد للقول مساغا فأمسكت عن مخوف، اقتدى فيه بك، ولن يضيع على الله ثواب الإحسان مع ما يجب علينا من حقّك بالإحسان ولحظّ حاز لك النصيبين أو أحدهما أمثل من الإشراف لأحد الحظّين مع التعرّض لعدمهما. فاكتب إلىّ برأيك وأعلم ذلك رسولي ليؤدّيه عنك، إن شاء الله.» فوافق قدوم هذا الرسول بغداد ما أمر به من الكفّ عن الدعاء للمأمون [46] فى الخطبة، وكان الرسول بمحلّ الثقة من كلّ من كتب إليه. فلمّا أوصلها كان منهم من أمسك عن الجواب وأعرب للرسول عمّا فى نفسه، ومنهم من أجاب عن كتابه. فكان نسخة كتاب أحدهم:
«أمّا بعد فقد بلغني كتابك، وللحقّ برهان يدلّ على نفسه، تثبت به الحجّة على كلّ من صار إلى مفارقته، وكفى غبنا بإضاعة حظّ من حظّ العاقبة لمأمول [1] حظّ من عاجله، وأبين فى الغبن إضاعة عاقبة مع التعرّض للنكبة والوقائع. ولى من العلم
__________
[1] . كذا فى الأصل وآ. والعبارة فى الطبري (11: 790) : لما موّل من حظّ عاجله.(4/44)
بمواضع حظّى ما أرجو أن يحسن معه النظر لنفسي، ويضع عنّى مؤونة استزادتى.» وكتب الرسول الذي توجّه بهذه الكتب إلى بغداد إلى المأمون وذى الرئاستين:
«أمّا بعد، فإنّى وافيت البلدة وقد أعلن خليطك بتنكيره، وقدّم علما من اعتراضه ومفارقته، وأمسك عمّا يجب ذكره وتوفيته بحضرته، ودفعت كتبك فوجدت أكثر الناس ولاة السرائر وبغاة العلانية، ووجدت المسرفين بالرغبة لا يحوطون غيرها ولا يبالون ما احتملوا فيها والمنازع مختلج الرأى [47] لا يجد دافعا منه عن همّه، ولا داعيا إلى لزوم حجّة فى عامّه، والملحّون بأنفسهم يحبّون تمام الحدث ليسلموا من متهدم حدثهم، والقوم على جدّ، فلا تجعلوا للتوانى فى أمركم نصيبا والسلام.» فلمّا جاء الخبر إلى المأمون موافقا لسائر ما ورد عليه من الكتب، قد شهد بعضها لبعض، قال لذي الرئاستين:
- «أمور قد كان الرأى أخبر عن غيبها [1] . ثمّ هذه طوالع تخبر عن أواخرها، وكفانا أن نكون مع الحقّ ولعلّ كرها يسوق خيارا.» ثمّ أشخص طاهر بن الحسين، وضمّ إليه ثقات قوّاده وأجناده، فسار
__________
[1] . كذا فى الأصل وآ. ما فى الطبري (11: 793) : عينها.(4/45)
طاهر مغذّا لا يلوى على شيء حتّى ورد الرىّ، فنزلها ووكّل بأطرافه ووضع مسالحه وبثّ عيونه وطلائعه.
ودخلت سنة خمس وتسعين ومائة
مبادرات من الأمين والمأمون
وفيها عقد الأمين لابنه موسى على جميع ما استخلف عليه، وجعل صاحب أمره علىّ بن عيسى بن ماهان، وأسقط ما كان ضرب باسم أخيه المأمون بخراسان من الدنانير والدراهم فى سنة أربع وتسعين، لأنّ المأمون أمر ألّا يثبت فيها [48] اسم محمد، ونهى محمد عن الدعاء على المنابر كلّها فى عمله للمأمون والقاسم، وأمر بالدعاء له، ثمّ من بعده لابنه موسى، وابنه موسى يومئذ طفل صغير وسمّاه: الناطق بالحقّ. وجميع ما فعل من ذلك كان عن رأى الفضل بن الربيع وبكر بن المعتمر. وبلغ المأمون ذلك، فتسمّى بإمام المؤمنين، وكوتب بذلك.
وعقد محمد الأمين لعلىّ بن عيسى بن ماهان على كور الجبل كلّها:
نهاوند وهمذان وقم وإصبهان، حربها وخراجها، وضمّ إليه جماعة من القوّاد، وأمر لهم بمائتي ألف دينار، ولولده بخمسين ألف دينار، وأعطاه للجند مالا عظيما، وأمر له من السيوف المحلّاة، بألفي سيف وسبعة ألف ثوب للخلع، وأحضر محمد أهل بيته ومواليه وقوّاده المقصورة بالشمّاسيّة، وصلّى الجمعة ودخل وأجلس ابنه موسى فى المحراب ومعه الفضل بن الربيع وجميع من أحضر، فقرئ على جماعتهم كتاب من محمد يعلمهم رأيه فيه، وحقّه عليهم وما سبق له من البيعة مفردا، وما أحدث عبد الله من التسمّى بالإمامة، والدعاء إلى نفسه، وقطع البريد، وقطع ذكره من دور الضرب والطرز، [49] وأنّ ذلك ليس له، وحثّهم على الطاعة والتمسّك ببيعته.(4/46)
وتكلّم سعيد بن الفضل الخطيب قائما، فصدّق ما فى الكتاب وتكلّم بمثله. ثمّ تكلّم الفضل بن الربيع وهو جالس. فأبلغ فى القول وأكثر، وذكر أنّه لا حقّ لأحد فى الإمامة والخلافة إلّا لأمير المؤمنين محمد الأمين، وقال فى آخر كلامه:
- «إنّ الأمير موسى بن أمير المؤمنين قد أمر لكم، يا معشر أهل خراسان، من صلب ماله بثلاثة آلاف درهم يقسّم بينكم.» وانصرف الناس.
شخوص علىّ بن عيسى بن ماهان لحرب المأمون
وفى هذه السنة شخص على بن عيسى بن ماهان إلى الحرب وتوجّه إلى الرىّ. فذكر الفضل بن إسحاق أنّ علىّ بن عيسى توجّه لحرب المأمون يوم الجمعة عشيّا لست بقين من جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين إلى معسكره بنهر بين [1] وكان معه زهاء أربعين ألف رجل ومعه قيد فضّة ليقيّد به المأمون بزعمه، وشيّعه أمير المؤمنين محمد الأمين إلى النهروان، فعرض الجند وأقام يومه بالنهروان، ثمّ انصرف إلى مدينة السلام. وأقام علىّ بن عيسى بالنهروان ثلاثة أيام، ثمّ شخص واعد السير حتّى نزل همذان وكان كاتب من كان بها وبغيرها بالانضمام [50] إلى علىّ بن عيسى. ثمّ عقد لعبد الله بن جبلة الأبناوي [2] وهو الذي طعن رسول المأمون يوم أنفذه خلف الفضل بن الربيع إلى نيسابور، وتكلّم ما كتبناه على الدينور، وأمره بالمسير فى أصحابه ووجّه معه ألفى ألف درهم إلى علىّ بن عيسى سوى ثلاثة آلاف درهم حملت إليه قبل ذلك، فسار علىّ بن عيسى من همذان إلى الرىّ قبل
__________
[1] . نهر بين (ويقال: نهربيل) : طسّوج من سواد بغداد. (مراصد الإطلاع) .
[2] . كذا فى الأصل وما فى الطبري (11: 798) : الأنباوىّ.(4/47)
ورد عبد الرحمان بن جبلة عليه، فسار على تعبئة، ولقيه طاهر بن الحسين فى أقلّ من أربعة آلاف.
وكان استأمن إلى علىّ بن عيسى من عسكر طاهر ثلاثة أنفس يتقرّبون إليه. فسألهم، من هم ومن أىّ البلدان هم، فأخبره أحدهم أنّه كان من جند أبيه عيسى الذي قتله رافع.
قال: «فأنت من جندي؟» فأمر به فضرب مائتي سوط واستخفّ بالرجلين وانتهى الخبر إلى أصحاب طاهر فازدادوا جدّا فى محاربته ونفورا منه.
وأقبل علىّ بن عيسى فى جيشه فامتلأت الصحراء بياضا وصفرة من السلاح والذهب [1] ، وجعل على ميمنته الحسين بن علىّ، على ميسرته القاسم بن عيسى بن إدريس.
قال احمد بن هشام، وكان إذا ذاك [51] على شرطة طاهر: فما لبثا أن هزمونا حتّى دخلوا العسكر فخرج إليهم الأتباع والساسة، فهزموهم. فقال طاهر لمّا رأى عسكر علىّ بن عيسى:
- «هذا ما لا قبل لنا له، ولكن نجعلها خارجية.» فقصد قصد القلب فى سبعمائة رجل من الخوارزمية انتخبهم.
مقتل علىّ بن عيسى بيميني طاهر
قال أحمد بن هشام: فقلت لطاهر:
- «ألا تذكّر علىّ بن عيسى البيعة التي أخذها هو علينا للمأمون، خاصّة معاشر أهل خراسان؟»
__________
[1] . كذا فى الأصل ومط والطبري (11: 800) . وفى آ: من السلاح المذهّب.(4/48)
فقال: «بلى.» فعلّقنا ذلك على رمح، وقمت بين الصفّين وقلت:
- «الأمان، لا ترمونا ولا نرميكم.» فقال علىّ بن عيسى:
- «لك ذلك.» فقلت: «يا علىّ بن عيسى ألا تتّقى الله، أليس هذه نسخة البيعة التي أخذتها أنت خاصّة علينا؟ اتق الله فقد بلغت باب قبرك.» فصاح علىّ بن عيسى:
- «يا أهل خراسان من جاء به، فله ألف درهم.» قال: وكان معى قوم بخارية فزنّوه، فقالوا:
- «نقتلك ونأخذ مالك.» وبرز من عسكر علىّ بن عيسى العباس بن الليث مولى المهدى، فشدّ عليه طاهر وجمع يديه على مقبض السيف فضربه فصرعه. وشدّ داود سياه على علىّ بن عيسى، فصرعه وهو لا يعرفه. فقال داود:
- «تازى ايشان كشتم.» [1] فعرفه رجل يعرف بطاهر الصغير [52] بن الناجي فقال:
- «أنت علىّ بن عيسى؟» فقال: «نعم أنا علىّ بن عيسى.» وظنّ أنّه يهاب فلا يقدم عليه، فشدّ عليه فذبحه بسيفه وكانت ضربة طاهر هي الفتح فسمّى يومئذ: ذا اليمينين، لأنّه أخذ السيف بيديه جميعا.
__________
[1] . كذا فى الأصل وآ. ما فى الطبري (11: 801) : ناري ... كتبتم. وهو تصحيف.(4/49)
التسليم على المأمون بالخلافة
ولمّا بشّر طاهر بن الحسين بقتل علىّ بن عيسى أعتق من كان بحضرته من غلمانه شكرا ثمّ جاءوا بعلىّ بن عيسى وقد شدّ الأعوان يديه إلى رجليه وحمل على خشبة مدهق كما يحمل الحمار الميّت فأمر به فلفّ فى لبد وألقى فى بئر.
وكتب بالبشارة إلى ذى الرئاستين فسارت الخريطة، وبين مرو وذلك الموضع نحو من خمسين ومائتي فرسخ، ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد ووردت عليهم يوم الأحد. ولمّا ورد الكتاب بالفتح على ذى الرئاستين فضّه فإذا فيه:
- «أطال الله بقاءك وكبت أعداءك وجعل من يشنأك فداءك. كتابي إليك، ورأس علىّ بن عيسى بين يدىّ، وخاتمه فى اصبعى، والحمد لله ربّ العالمين.» فدخل به على المأمون حتّى قرأه، فأمر بإحضار أهل بيته وقوّاده ووجوه الناس فدخلوا، فسلّموا عليه بالخلافة، ثمّ ورد رأس علىّ يوم الثلاثاء وطيف به [53] فى خراسان.
فحكى عن واحد أنّه لمّا جاء نعىّ [1] علىّ بن عيسى إلى محمد بن زبيدة، كان فى وقته ذلك على الشطّ يصيد السمك مع خادمه كوثر، فقال للذي أخبره:
- «ويلك دعني فإنّ كوثرا قد اصطاد سمكتين وأنا بعد ما صدت شيئا.» ولمّا نهض من مجلسه ذلك، بعث إلى الفضل ومحمد فأنفذ إلى وكيل
__________
[1] . النّعىّ: النعي. الناعي.(4/50)
المأمون ببغداد وقيّمه فى أهله وولده فأخذا منه المائة ألف الدرهم التي كان الرشيد وصل بها المأمون، وقبض ضياعه وغلّاته، ووجّه عبد الرحمن بن جبله الأبناوى بالعدة والقوّة فنزل همذان.
ذكر الحيلة التي احتال بها ذو الرئاستين حتّى اختار محمد لحربه علىّ بن عيسى دون غيره
كانت كتب ذى الرئاستين ترد إلى دسيسة الذي كان الفضل بن الربيع يشاوره فى أمره: إن أبى القوم إلّا عزمة الخلاف، فالطف لأن يجعلوا أمره لعلىّ بن عيسى. وإنّما خصّ عليّا بذلك لسوء أثره فى أهل خراسان، واجتماع رأيهم على ما كرهه وأنّ العامّة ترى حربه.
فلمّا شاور الفضل ذلك الرجل الذي كان [54] يشاوره قال علىّ بن عيسى:
- «إن فعل فلم ترمهم بمثله فى بعد صوته [1] وسخائه ومكانه من بلاد خراسان فى طول ولايته عليهم وكثرة صنائعه فيهم. ثمّ هو شيخ الدعوة.» فاجتمعوا على توجيه علىّ، فكان من أمره ما كان.
وروى أنّ الأمين لمّا عزم على خلع المأمون أشار عليه نصحاؤه أن يكاتبه ويسأله القدوم عليه، فإنّ ذلك أبلغ وأحرى أن يبلغ فيما يوجب طاعته واجابته فكتب إليه:
__________
[1] . كذا فى الأصل وآ ومط. وما فى الطبري (11: 808) : صومه.(4/51)
كتاب الأمين إلى المأمون
- «من عبد الله الأمين محمد أمير المؤمنين إلى عبد الله بن هارون أمير المؤمنين أمّا بعد، فإنّ أمير المؤمنين ردّا فى أمرك والموضع الذي أنت فيه من ثغرك وما يؤمّل فى قربك من المعاونة والمكانفة على ما حمله الله وقلّده من أمور عباده وبلاده، فكّر فيما كان أمير المؤمنين الرشيد أوجب لك من الولاية، وأمر به من إفرادك بها وإقرارك على ما صيّر إليك منها.
فرجا أمير المؤمنين ألّا يدخل عليه وكف فى دينه ولا نكث فى يمينه، إذ كان إشخاصه إيّاك فيما يعود على المسلمين نفعه ويصل إلى عامّتهم صلاحه وفضله. وعلم أمير المؤمنين أنّ مكانك بالقرب منه أسدّ للثغور وأصلح [55] للجنود وأدّر للفيء وأردّ على العامّة من مقامك ببلاد خراسان منقطعا عن أهل بيتك مغيّبا عن أمير المؤمنين وما يحبّ الاستمتاع به من رأيك وتدبيرك. وقد رأى أمير المؤمنين أن يولى ابنه موسى فيما يقلّده من خلافتك ما يحدث إليه من أمرك ونهيك، فاقدم على أمير المؤمنين على بركة الله وعونه بأبسط أمل وأفسح رجاء وأحمد أثر وأنفذ بصيرة، فإنّك أولى من استعان به أمير المؤمنين على أموره، واحتمل عنه النصب فيما فيه صلاح لأهل ملّته وذمّته، والسلام.» ودفع الكتاب إلى العبّاس بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن(4/52)
علىّ- وإلى عيسى بن جعفر بن أبى جعفر، وإلى محمد بن عيسى بن نهيك [1] وإلى صالح صاحب المصلّى، وأمرهم أن يخرجوا إلى المأمون وألّا يدعوا وجها من الرفق، إلّا بلغوه وسهّلوا الأمر عليه، فيه وحمل معهم من الألطاف والهدايا والبرّ شيئا كثيرا وذلك فى سنة أربع وتسعين ومائة.
فتوجّهوا بكتابه، فلمّا وصلوا إلى عبد الله أذن لهم، فدفعوا إليه كتاب محمد وما كان بعث [56] معهم من الأموال والهدايا. ثمّ تكلّم العبّاس بن موسى بن عيسى فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال:
كلام العباس عند المأمون
- «أيّها الأمير، إنّ أخاك قد تحمّل من الخلافة ثقلا عظيما، ومن النظر فى أمور الناس عب ءا جليلا، وقد صدقت نيّته فى الخير فاعتوره [2] الوزراء والأعوان والكفاة على العدل، وقليل ما يأنس بأهل بيته، وأنت أخوه وشقيقه وقد فزع إليك فى أموره وأمّلك للمؤازرة والمكانفة، ولسنا نستبطئك فى برّه اتهاما لنظرك [3] له، ولا نحضّك على طاعته تخوّفا لخلافك عليه وفى قدومك عليه أنس عظيم له، وصلاح لدولته وسلطانه. فأجب أيّها الأمير دعوة أخيك وآثر طاعته وأعنه على ما استعان بك من أمره، فإنّ فى ذلك قضاء الحق وصلة الرحم وعزّ الخلافة، عزم الله على الرشد فى أموره وجعل له الخيرة فى عواقب رأيه.» وتكلّم عيسى بن جعفر بكلام قريب المعنى من هذا الكلام، وكذلك محمد بن عيسى بن نهيك وصالح صاحب المصلّى. [57] فلمّا قضوا كلامهم
__________
[1] . وزاد فى آ: واللين.
[2] . كذا فى الأصل وآ ومط: فاعتوره. وما فى الطبري (11: 812) : فأعوزه.
[3] . كذا فى الأصل وآ ومط: لنظرك. وما فى الطبري (11: 812) : لنصرك.(4/53)
وسكتوا، تكلّم المأمون فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال:
كلام المأمون
- «إنّكم عرّفتمونى من حقّ أمير المؤمنين- أبقاه الله- ما لا أنكره، ودعوتموني من البرّ والإحسان والمؤازرة والمعونة إلى ما أوثره ولا أدفعه، وأنا بالطاعة لأمير المؤمنين خليق وعلى المسارعة إلى ما سرّه ووافقه حريص، وفى الرؤية تبيان الرأى وفى إعمال الرأى يصحّ الاعتزام، والأمر الذي دعاني إليه أمير المؤمنين أمر لا أتأخّر عنه تثبّطا ومدافعة، ولا أتقدّم عليه اعتسافا وعجلة، وأنا فى ثغر من ثغور المسلمين كلب عدوّه، شديدة شوكته، فإن أهملت أمره لم آمن دخول المكروه والضرر على الجند والرعيّة، وإن أقمت عليه لم آمن فوت ما أحبّ من معونة أمير المؤمنين وإيثار طاعته، وانصرفوا حتّى أنظر فى أمرى ويصحّ الرأى فيما أعتزم عليه من مسيري إن شاء الله.»
ذكر مشاورة [1] المأمون أصحابه وما أشار به الفضل بن سهل
ولمّا انصرف القوم تعاظم المأمون ما ورد عليه وأكبره ودعا الفضل [58] بن سهل وقال:
- «ما عندك من الرأى؟» قال: «أرى أن تتمسّك بموضعك، وألّا تمكّن من نفسك، ولا تجعل عليك سبيلا وأنت تجد من ذلك بدّا.»
__________
[1] . فى الأصل: مشورة. فى آومط: مشاورة.(4/54)
قال: «وكيف يمكنني التمسّك بموضعي مع كثرة جنود محمد وعظم خزائنه وكثرة أمواله، مع ما فرّق فى أهل بغداد من صلاته، وإنّما الناس مائلون مع الذهب والفضّة، منقادون لهما، لا يرغبون فى وفاء بعهد ولا أمانة.» فقال الفضل:
- «إذا وقعت التهمة حقّ الاحتراس. وأنا متخوّف عليك من محمد ومن شرهه إلى ما فى يديك، ولأن يكون فى جندك وعزّك مقيما بين ظهرانىّ أهل ولايتك أحرى، فإن دهمك منه أمر حددت [1] له وناجزته وكايدته فإمّا أعطاك الله الظفر عليه وإمّا متّ محافظا متكرّما غير ملق يديك ولا ممكّن عدوّك من الاحتكام فى دينك.» قال المأمون:
- «لو كان أتانى ذلك وأنا فى قوّة من أمرى وصلاح من الأمور، لكان خطبه يسيرا والاحتيال فى دفعه ممكنا ولكنّه أتانى بعد انتشار خراسان واضطراب عامرها وغامرها ومفارقة جبغويه [2] الطاعة والتواء خاقان وتهيّؤ ملك كابل للغارة على ما [59] يليه من بلاد خراسان وامتناع ملك ابراز بنده [3] بالضريبة وما لى بواحدة من هذه يد وأنا أعلم أنّ محمدا لم يطلب قدومى إلّا لشرّ يريده بى وما أرى إلّا تخلية ما أنا فيه واللحاق بخاقان ملك الترك والاستجارة به فبالحرى أن آمن على نفسي وامتنع ممّن أراد قهري والغدر بى.»
__________
[1] . كذا فى الأصل وآ ومط: حدّدت. فى الطبري (11: 814) : جرّدت.
[2] . كذا فى الأصل: جبغويه. فى مط جنعويه. وما فى آمهمل تماما. فى الطبري (11: 814) :
جيغويه.
[3] . كذا فى الأصل. فى آ: ايزار بنده. فى الطبري (11: 816) : اترار بنده.(4/55)
فقال له الفضل:
- «أيّها الأمير إنّ عاقبة الغدر شديدة ومغبّة الظلم والبغي غير مأمون شرّها وربّ مستذلّ قد عاد عزيزا ومقهور عاد مستطيلا وليس النصر بالكثرة وجرح الموت أيسر من جرح الذلّ والضيم فأمّا جبغويه وخاقان فاكتب إليهما وولّهما بلادهما وعدهما التقوية لهما على محاربة الملوك، وأمّا ملك كابل فابعث إليه بعض طرف خراسان وهاده وسله الموادعة تجده حريصا على ذلك، وأمّا ملك ابراز بنده فسلّم له ضريبته فى هذه السنة وصيّرها صلة منك له وصلته بها. ثمّ اجمع إليك أطرافك واضمم إليك من شذّ من جندك، ثمّ اضرب الخيل بالخيل والرجال، بالرجال فإن ظفرت فذاك، وإلّا كنت على اللحاق بخاقان قادرا.» [60] فقال المأمون:
- «أنا أعمل فى هذا وغيره بما ترى.» وفرّق الكتب وأرسل إلى أولئك العصاة، فأذعنوا ورضوا وكتب إلى قوّاده وجنوده فى الأطراف فأقدمهم عليه، وكتب إلى طاهر بن الحسين وكان يومئذ بالرىّ عاملا من قبل المأمون أن يضبط ناحيته ويجمع إليه أطرافه ويكون على حذر من جيش إن طرقه أو عدوّ إن هجم عليه.
وكان الفضل نظر فى النجوم وكان جيد المعرفة بأحكامها، فرأى الغلبة لعبد الله، فوطّن نفسه على محاربة محمد الأمين ومناجزته.
كتاب من المأمون إلى الأمين
فلمّا فرغ المأمون ممّا ذكرناه كتب إلى محمد:
- «لعبد الله محمد الأمين أمير المؤمنين من عبد الله بن هارون.(4/56)
أمّا بعد، فقد وصل إلىّ كتاب أمير المؤمنين وإنّما [1] أنا عامل من عمّال أمير المؤمنين وعون من أعوانه أمرنى الرشيد صلوات الله عليه [2] بلزوم هذا الثغر ومكايدة من كاد أهله من عدوّ أمير المؤمنين، ولعمري أنّ مقامي به أردّ على أمير المؤمنين وأعظم غناء عن المسلمين من الشخوص إلى أمير المؤمنين وإن كنت مغتبطا بقربه مسرورا بمشاهدة نعم الله عليه. فإن رأى أمير المؤمنين أن يقرّنى على [61] عملي ويعفيني من الشخوص إليه فعل، إن شاء الله.» ثمّ دعا العبّاس بن موسى بن عيسى وعيسى بن جعفر وصالحا فدفع الكتاب إليهم وأحسن صلتهم وجوائزهم وحمل إلى محمد ما تهيّأ له من الألطاف الموجودة بخراسان وسألهم أن يحسّنوا أمره عنده ويقوموا بعذره.
كلام زبيدة لعلىّ بن عيسى فى المأمون
فلمّا يئس محمد الأمين من انقياد عبد الله له، ندب له علىّ بن عيسى فى خمسين ألف فارس وراجل، ومكّنه من بيوت الأموال والسلاح. فلمّا أراد علىّ الشخوص إلى خراسان، ركب إلى باب زبيدة أمّ جعفر، فودّعها، فقالت:
- «يا علىّ، إنّ أمير المؤمنين، وإن كان ولدي، إليه تناهت شفقتي وعليه تكامل حذري فإنّى على عبد الله متعطفة مشفقة لما يحدث عليه من مكروه
__________
[1] . وإنّما ... بلزوم: العبارة ساقطة من مط.
[2] . كذا فى الأصل وآ: صلوات الله عليه. والتصلية ساقطة من نسخة مط ضمن العبارة الساقطة منها.(4/57)
وأذى وإنّما ابنى ملك نافس أخاه فى سلطانه وعازّه [1] على ما فى يده، والكريم يأكل لحمه ويمنعه [2] غيره. فاعرف لعبد الله حقّ ولادته وأخوّته، ولا تجبهه بالكلام، فلست بنظير له، ولا تقتسره اقتسار العبيد ولا توهنه بقيد ولا غلّ، ولا تمنع منه جارية ولا غلاما ولا خادما ولا تعنف [62] عليه فى السير ولا تساوه فى المسير، ولا تركب قبله، ولا تستقلّ على دابّتك، حتّى تأخذ بركابه، وإن شتمك فاحتمل منه، وإن سفه [3] عليك فلا ترادّه.» ثمّ دفعت إليه قيدا من فضّة وقالت:
- «إذا صار فى يدك فقيّده بهذا القيد.» فقال لها:
- «سأقبل قولك وأعمل بطاعتك.» فلمّا ركب علىّ بن عيسى إلى معسكره بالنهروان وخرج معه محمد يشيّعه وحشدت الأسواق والصنّاع والفعلة بلغ عسكره فرسخا بفساطيطه وأبنيته وأثقاله. فذكر مشايخ أهل بغداد أنّهم لم يروا عسكرا قطّ كان أكثر رجالا وأفره كراعا وأظهر سلاحا وأتمّ عدّة وأكمل هيئة من عسكره.
فذكر أنّ منجّمه أتاه فقال:
- «أصلح الله الأمير لو انتظرت بمسيرك صلاح القمر فإنّ النحوس غالبة عليه.» فقال: «إنّا لا ندري فساد القمر من صلاحه، غير أنّه من نازلنا نازلناه ومن وادعنا وادعناه ومن قاتلنا لم يكن عندنا إلّا إرواء السيف من دمه. إنا لا نعتدّ بفساد القمر ما وطّنّا أنفسنا على صدق اللقاء.»
__________
[1] . كذا فى الأصل وآ ومط. فى الطبري (11: 818) : وغاره.
[2] . فى آ: ويمنع.
[3] . فى الطبري (11: 818) : سفك.(4/58)
ثمّ سار علىّ بن عيسى مستهينا [63] بمن يلقاه فإذا لقيته القوافل من خراسان سألها عن الأخبار فيقولون له: طاهر مقيم بالرىّ يعرض أصحابه ويرمّ آلته فيضحك ثمّ يقول لأصحابه:
- «وما طاهر والله ما بينكم وبين أن ينقصف انقصاف الشجر من الريح العاصف إلّا أن يبلغه عبورنا عقبة همذان وهل مثل طاهر يتولّى الجيوش ويلقى الحروب وهل تقوى السخال [1] على نطاح الكباش أو تصير الثعالب على لقاء الأسد.» ثمّ أمر أصحابه بطىّ المنازل والمسير، وقال لأصحابه:
- «إنّ نهاية القوم الرىّ، فلو قد صيّرناها وراء ظهورنا فتّ ذلك فى أعضادهم وانتشر نظامهم وتفرّقت جماعتهم.» ثمّ أنفذ الكتب إلى ملوك الديلم وأهدى إليها التيجان والأسورة والسيوف المحلّاة بالذهب ووعدها الصلات والجوائز وأمرهم أن يقطعوا طريق خراسان ويمنعوا من أراد الوصول إلى طاهر من المدد فأجابوه إلى ذلك وسار حتّى صار فى أوّل بلاد الرىّ وأتاه صاحب مقدّمته فقال:
- «لو كنت- أبقى الله الأمير-[64] أذكيت العيون وبعثت الطلائع وارتدت موضعا تعسكر فيه وتتّخذ خندقا كان أبلغ فى الرأى وآنس للجند.» فقال: «لا، ليس مثل طاهر ومن معه استعدّ له بالمكائد والتحفّظ إنّ حال طاهر تؤول إلى أحد أمرين: إمّا أن يتحصّن بالرىّ فيبيّته أهلها فيكفونا [2] مؤونته أو يخلّيها ويدبر راجعا أو قد قربت منه.» وأتاه يحيى بن علىّ فقال:
- «أيّها الأمير اجمع عسكرك فإنّه متفرّق، واحذر البيات فإنّ العساكر لا
__________
[1] . ما فى الأصل مهمل، فأثبتناه كما فى الطبري 11: 818. السخال جمع السخلة: ولد الشاة.
[2] . فى الأصل: فيكونا. فصحّناه بما فى آ: فيكفونا.(4/59)
تساس بالتواني والحروب لا تدبّر بالاغترار ولا تقل المحارب لى طاهر.
فالشرارة الخفيّة ربّما صارت ضراما والثلمة من السيل ربّما تهون بها فصارت بحرا عظيما وقد قربت عساكرنا من طاهر، فلو كان رأيه الهرب لما كان يتأخّر إلى يومه هذا.» قال: «اسكت فإنّ طاهرا ليس فى هذا الموضع الذي ترى وإنّما تتحفّظ الرجال إذا لقيت أقرانها وتستعدّ المناوئ لها أكفاؤها ونظراؤها.»
استشارة طاهر
واستشار طاهر أصحابه لمّا قرب منه علىّ، فأشاروا عليه أن يقيم بمدينة الرىّ ويدافع القتال [65] ما قدر عليه إلى أن يأتيه من خراسان المدد من الخيل ومن يتولّى الحرب دونه وقالوا:
- «مقامك بمدينة الرىّ أرفق بك وبأصحابك وأقدر لهم على الميرة وأكنّ من البرد وأقوى لك على المماطلة والمطاولة إلى أن يأتيك مدد.» فقال طاهر:
- «إنّ الرأى ليس ما رأيتم. إنّ أهل الرىّ لعلىّ هائبون ومن معرّته متّقون، ولست آمن إن حاصرنا أن يدعو أهلها خوفه إلى الوثوب بنا ومعاونته على قتالنا، مع أنّه لم يكن قوم قطّ زوحموا فى ديارهم وتورّد عليهم إلّا وهنوا وذلّوا واجترأ عليهم عدوّهم. وما الرأى إلّا أن نصيّر مدينة الرىّ وراء ظهورنا فإن أعطانا الله الظفر وإلّا عوّلنا عليها، فقاتلنا فى سككها وتحصّنّا بمنعتها إلى أن يأتينا مدد من خراسان.» فقالوا: «الرأى ما رأيت.» فنادى طاهر فى أصحابه فخرجوا فعسكروا على خمسة فراسخ من الرىّ، وأتاه محمد بن العلاء فقال له:(4/60)
- «أيّها الأمير، إنّ جندك قد هابوا هذا الجيش وامتلأت قلوبهم خوفا ورعبا منه. فلو أقمت حتّى تشامّهم أصحابك ودافعت بالقتال إلى أن يأنسوا بهم ويعرفوا وجه المأخذ فى قتالهم.» فقال: «إنّى لا أوتى من تجربة وحزم، وإنّ أصحابى قليل والقوم عظيم سوادهم كثير عددهم. فإن دافعت بالقتال وأخّرت المناجزة لم آمن أن يطّلعوا على قلّتنا وعورتنا وأن يستميلوا من معى برغبة أو رهبة فينفضّ عنّى أصحابى ويخذلني أهل الحفاظ والصبر ولكن ألفّ الرجال بالرجال وألحم الخيل بالخيل واعتمد على الطاعة والوفاء وأصبر، فإن يرزق الله الظفر والفلج فذلك الذي نريد ونرجو، وإن تكن الأخرى فلست بأوّل من قاتل فقتل وما عند الله أجزل وأفضل.» وقال علىّ بن عيسى لأصحابه:
- «بادروا القوم، فإن عددهم قليل ولو قد زحفتم إليهم لم يصبروا على حرارة السيوف ووقع السهام وطعن الرماح.» وعبّأ [1] جنده ميمنة وميسرة وقلبا وصيّرها كثيفة عظيمة، ثمّ نصب عشر رايات فى كلّ راية ألف رجل. [67] وقدّم الرايات راية راية وصيّر بين كلّ راية وراية غلوة [2] وأمر أمراءها إذا قاتلت الراية الأولى فصبرت وجمّت وطال بها القتال، أن تقدّم التي تليها وتتأخّر التي قاتلت، حتّى ترجع إليها أنفسها وتستريح وتنشط للمحاربة والمعاودة.
ثمّ صيّر أصحاب الدروع والجواشن والخبرة أمام الرايات. ووقف فى القلب فى غرر أصحابه أهل البأس والحفاظ والنجدة منهم، وكتّب طاهر بن الحسين كتائبه وجعلهم كراديس صفوفا، وجعل يمرّ بقائد قائد وجماعة
__________
[1] . الضبط فى الأصل: عبّى.
[2] . الغلوة: مسافة بقدر رمية سهم، أبعد ما تقدر عليه.(4/61)
جماعة ويقول:
- «يا أولياء الله ويا أهل الوفاء، إنّكم لستم كهؤلاء الذين ترون من أهل الغدر والنكث. إنّ هؤلاء ضيّعوا ما حفظتم ونكثوا الأيمان التي رعيتم. فلو قد غضضتم الأبصار وثبّتم الأقدام لأنجزتم لله وعده، وفتح عليكم أبواب عزّه ونصره. فجالدوا طواغيت الفتنة ويعاسيب النار، وادفعوا بحقّكم باطلهم. فإنّما هي ساعة حتّى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.» وقلق قلقا شديدا وحرص حرصا عظيما وجعل يقول:
- «يا أهل الوفاء والصدق والصبر، الصبر الصبر، الحفاظ الحفاظ.» [68] فهو على ذلك حتّى وثب أهل الرىّ فأغلقوا أبواب المدينة فنادى طاهر:
- «يا أولياء الله اشتغلوا بمن أمامكم عمّن خلفكم فإنّه لا ينجيكم إلّا الجدّ والصدق.» ثمّ كان من أمرهم ما حكيناه قبل.
ولمّا ورد الخبر بغداد بقتل علىّ بن عيسى كثرت الأراجيف ومشى القوّاد بعضهم إلى بعض فقالوا:
- «إنّ عليّا قد قتل ولسنا نشكّ أنّ محمدا سيحتاج إلى الرجال واصطناع الصنائع وإنّما ترفع الرجال رؤوسها فى وقت البأس. فليأمر كلّ رجل منكم جنده بالشغب وطلب الأرزاق والجوائز، فلعلّنا نصيب فى هذه الحرّة [1] منه ما يصلحنا ويصلح جندنا.» فاتّفق رأيهم على ذلك وأصبحوا بباب الجسر، فكبّروا وطلبوا الأرزاق وبلغ الخبر عبد الله بن خازم، فركب فى أصحابه وفى جماعة كثيرة من قوّاد العرب فتراموا بالنشّاب والحجارة واقتتلوا قتالا يسيرا، وسمع محمد الضجّة
__________
[1] . الحرّة: كذا فى الأصل وآ ومط: ما فى الطبري (11: 825) : الحالة. والحرّة: العذاب المرجع.
الظلمة الكثيرة. أو أرض ذات حجارة نخرة سود كأنّها أحرقت بالنار.(4/62)
والتكبير، فأرسل من يأتيه بالخبر فأعلمه أنّ الجند قد اجتمعوا وشغبوا لطلب أرزاقهم قال:
- «فهل يطلبون شيئا غير ذلك؟» قال: «لا.» قال: «فما أهون ما طلبوا. إرجع إلى عبد الله بن خازم فمره أن ينصرف ويواقف [69] الناس على أن يبذل لهم أرزاقهم.» فواقفهم على أرزاق أربعة أشهر ورفع من كان دون الثمانين إلى الثمانين [1] وأمر للقوّاد والخواصّ بالصلات والجوائز.
توجيه عبد الرحمان إلى همدان لحرب طاهر
وفى هذه السنة وجّه محمد المخلوع عبد الرحمن بن جبلة الأبناوى إلى همذان لحرب طاهر، وانتخب عشرين ألف رجل من الأبناء فضمّهم إليه وحمل معه الأموال وقوّاه بالسلاح والخيل وأجازه بجوائز وولّاه ما بين حلوان إلى ما غلب عليه من أرض خراسان، وأمره أن يسبق طاهر إلى همذان ويخندق عليه ويجمع إليه آلة الحرب، وبسط يده وتقدّم إليه فى التحفّظ والاحتراز وترك ما عمل به علىّ من الاغترار والتضجيع. [2] فتوجّه عبد الرحمن حتّى نزل همذان فضبط طرقها وحصّن سورها وأبوابها وسدّ ثلمها وحشر إليها الأسواق والصنّاع وجمع فيها الآلات والمير واستعدّ للقاء طاهر ومحاربته.
وقد كان يحيى بن علىّ بن عيسى لمّا قتل أبوه أقام بين الرىّ وهمذان وكان لا يمرّ به أحد من فلّ أبيه إلّا احتبسه. وكان يرى أنّ محمدا يولّيه
__________
[1] . انظر الطبري (11: 826) .
[2] . ضجّ فى الأمر: قصّر فيه وتقعّد ولم يقم به.(4/63)
مكان أبيه ويوجّه إليه الخيل والرجال. وكتب [70] إلى محمد يستمدّه ويستنجده فأجابه محمد يعلمه توجيهه عبد الرحمن بن جبلة الأبناوى ويأمره بالانضمام إليه فيمن تبعه. ولمّا بلغ طاهرا خبر عبد الرحمن توجّه إليه، فلمّا قرب من يحيى، قال يحيى لأصحابه:
- «هذا طاهر صاحبكم بالأمس، ولست آمن إن لقيته بمن معى أن يصدعنا صدعا يدخل وهنه على من خلفنا، ويعتلّ عبد الرحمن بذلك ويقلّدنى به العار والعجز عند أمير المؤمنين. فإن أنا استنجدته لم آمن أن يمسك عنا، ضنّا برجاله وإبقاء عليهم. والرأى أن نتزاحف إلى مدينة همذان فنعسكر قريبا من عبد الرحمن فإن نحن استعنّاه قرب منّا عونه وإن احتاج إلينا أعنّاه وقاتلنا معه.» قالوا: «الرأى ما رأيت.» فانصرف نحو همذان. فلمّا قرب منها خذله أصحابه وتفرّقوا عنه وأشرف طاهر على مدينة همذان ونادى عبد الرحمن فى أصحابه، فخرجوا على تعبئة، فصادف [1] طاهرا، فاقتتلوا قتالا شديدا، وصبر الفريقان وكثر القتلى والجرحى فيهم. ثمّ إنّ عبد الرحمن انهزم ودخل همذان وأقام بها أيّاما حتّى اندمل جراح أصحابه، وقووا ثمّ أمر [71] بالاستعداد وزحف إلى طاهر. فلمّا رأى طاهر أعلامه وأوائل خيله قال لأصحابه:
- «إنّ عبد الرحمن يتراءى لنا حتّى نقرب منه ثمّ يقاتلنا، فإن هزمناه بادر إلى المدينة فدخلها وقاتلكم على خندقها وامتنع بسورها، وإن هزمنا اتسع له المجال. فهلمّوا نقف له حتّى يقرب منّا ويبعد من خندقه.» فوقف طاهر مكانه وظنّ عبد الرحمن أنّ الهيبة بطّأت به عن لقائه والنفوذ
__________
[1] . كذا فى الأصل وآ ومط: فصادف. ما فى الطبري: فصافّ، ولكلّ من الضبطين وجه.(4/64)
إليه. فبادر قتاله فاقتتلوا قتالا شديدا وصبر أصحاب طاهر فجعل عبد الرحمان يقول:
- «يا معشر الأبناء يا أبناء الموت وألفاف السيوف، إنّهم العجم وليسوا بأصحاب مطاولة ولا صبر، فاصبروا لهم فداكم أبى وأمّى.» وقاتل ببدنه قتالا شديدا وحمل حملات منكرات، فلا يزول أحد من أصحاب طاهر. ثمّ إنّ صاحبا لطاهر حمل على أصحاب عبد الرحمان فقتل صاحب علمه وزحمهم أصحاب طاهر زحمة شديدة، فولّوا، ووضعوا فيهم السيوف حتّى دخلوا همدان يقتلونهم ويأسرونهم. وأقام طاهر على باب المدينة محاصرا. فكان يخرج عبد الرحمن ويقاتل على أبواب المدينة ويرمى أصحابه من فوق السور، حتّى اشتدّ بهم الحصار [72] وتأذّى بهم أهل المدينة وتبرّموا [1] بالحرب والقتال، وقطع طاهر عنهم المادّة من كلّ وجه.
فهلك أصحاب عبد الرحمن وتخوّفوا أن يثب بهم أهل همذان فأرسل عبد الرحمن إلى طاهر وسأله الأمان ولمن معه فآمنه [2] طاهر ووفى له.
واعتزل عبد الرحمن فى من كان معه من أصحابه وأصحاب يحيى، وطرد طاهر عمّال محمد عن قزوين وسائر كور الجبال.
وفى هذه السنة قتل عبد الرحمن بن جبلة الأبناوى بأسدآباذ. ذكر السبب فى مقتله
لمّا وجّه محمد عبد الرحمن الأبناوى إلى همذان أتبعه بعبد الله وأحمد ابني الحرشي فى خيل عظيمة وأمرهما أن ينزلا قصر اللصوص وأن يسمعا ويطيعا لعبد الرحمن ويكونا مددا له إن احتاج إليهما. فلمّا خرج عبد
__________
[1] . كذا فى الأصل وآ: وتبرّموا. ما فى مط: ويؤمنوا. وهو خطأ.
[2] . كذا فى الأصل وآ. فى مط: فوافى منه. بدل «فآمنه» .(4/65)
الرحمان إلى طاهر فى الأمان كان يرى طاهرا وأصحابه أنّه مسالم لهم راض بعهودهم.
ذكر غفلة من طاهر وإضاعة حزم
ثمّ اغترّهم وهم آمنون. فركب فى أصحابه ولم يشعر طاهر وأصحابه حتّى هجموا عليهم [1] [73] فوضعوا فيهم السيوف والنشّاب فثبت لهم رجّالة طاهر بالتراس والسيوف، وجثوا على الركب فقاتلوه كأشدّ ما يكون من القتال. ولم تزل الرجّالة تدافعهم إلى أن أخذت الفرسان عدّتها وصدقوهم القتال. فاقتتلوا قتالا منكرا حتّى تكسّرت السيوف وتقصّفت الرماح وهرب معظم أصحاب عبد الرحمن فترجّل هو فى ناس من أصحابه فقاتل حتّى قتل وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة، واستبيح عسكره، وانتهى من أفلت من أصحابه إلى عسكر عبد الله وأحمد ابني الحرشي. فدخلهم الوهن والفشل وامتلأت قلوبهم خوفا ورعبا. فولّوا منهزمين لا يلوون على شيء حتّى صاروا إلى بغداد.
وأقبل طاهر قد خلت له البلاد يحوز بلدة بلدة وكورة كورة، حتّى نزل بقرية من قرى حلوان يقال لها: شلاشان، فخندق بها وحصّن عسكره. [2]
__________
[1] . فى آ: عليه.
[2] . جاء هنا فى مط: تمّ النصف الأوّل تقريبا من تجارب الأمم ويتلوه النصف الثاني إن شاء الله تعالى. وكان الفراغ من ذلك فى [ال] عشر الآخر من شهر جمادى الآخرة من سنة أربع وتسعين ومائتين بعد ألف من الهجرة (سنة 1294) .(4/66)
ثمّ دخلت سنة ستّ وتسعين ومائة
ثمّ إنّ محمدا ندب أسد بن يزيد بن مزيد فاشتط [1] عليه فى طلب الأموال فحبسه، وندب عمّه أحمد بن مزيد وعبد الله بن حميد بن قحطبة إلى حلوان لحرب طاهر. [74]
ذكر الخبر عن حبس أسد وسببه
قال أسد بن يزيد بن مزيد: بعث إلىّ الفضل بن الربيع بعد مقتل عبد الرحمان بن جبلة، فأتيته، فلمّا دخلت إليه وجدته قاعدا فى صحن داره وفى يده رقعة قد قرأها وقد احمرّت عيناه واشتدّ غضبه وهو يقول:
- «ينام نوم الظربان [2] وينتبه انتباه الذئب، همّه بطنه وفرجه تخاتل الرعاء والكلاب ترصده، ولا يفكّر فى زوال نعمة ولا يروّى فى إمضاء رأى ولا مكيدة، قد ألهته كأسه وشغله قدحه، فهو يجرى فى لهوه والأيّام توضع [3] فى هلاكه.» ثمّ وصف عبد الله وتيقّظه، وتمثّل بشعر للبعيث، ثمّ التفت إلىّ فقال:
- «أبا الحارث أنا وإيّاك نجري إلى غاية إن قصّرنا عنها ذممنا وإن اجتهدنا فى بلوغها انقطعنا، وإنّما نحن شعب من أصل إن قوى قوينا وإن ضعف ضعفنا. إنّ هذا الرجل قد ألقى بيده إلقاء الأمة الوكعاء، يشاور النساء ويعوّل على الرؤيا، وقد أمكن مسامعه من أهل اللهو والخسارة فهم يعدونه الظفر ويمنّونه عقب الأيام. والهلاك أسرع إليه من السيل إلى قيعان الرمل،
__________
[1] . كذا فى الأصل وآ. فى مط: فاشتدّ.
[2] . الظربان: حيوان فى حجم القطّ، أغبر اللون مائل إلى السواد، رائحته كريهة منتنة.
[3] . كذا فى الأصل ومط وآ: إلّا أنّ ما فى آمهمل.(4/67)
وقد خشيت [75] أن نهلك بهلاكه وأنت فارس العرب وابن فارسها فزع إليك فى لقاء هذا الرجل وأطمعه فى ما قبلك أمران: أحدهما صدق طاعتك والآخر شدّة بأسك. وقد أمرنى بإزاحة علّتك وبسط يدك فى ما أحببت، غير أنّ الإقتصاد رأس النصيحة ومفتاح اليمن والبركة، فأنجز حوائجك وعجّل المبادرة إلى عدوّك، فإنّى أرجو أن يولّيك الله شرف هذا الفتح ويلمّ بك شعث هذه الخلافة والدولة.» فقلت: «أنا لطاعة أمير المؤمنين- أعزّه الله- وطاعتك مقدم، وعلى كلّ ما دخل به الوهن والذلّ على عدوّكما حريص، غير أنّ المحارب لا يعمل بالغرور ولا يفتتح أمره بالتقصير، وإنّما ملاك المحارب الجنود وملاك الجنود المال وقد ملأ أمير المؤمنين أيدى من شهده من العسكر، وتابع لهم الأرزاق والصلات، فإن سرت بأصحابى وقلوبهم متطلّعة إلى من خلفهم من إخوانهم، لم انتفع بهم فى لقاء من أمامى، وقد فضّل أهل السلام على أهل الحرب وجاز بأهل الدعة والحفض منازل أهل النصب والمشقّة، والذي أسأل، أن يؤمر لى بما يقيمنى ويقيم أصحابى [76] الذين تخرجونهم معى بما لا يتطلّعون معه إلى ما خلفهم.» قال: «وما هو؟» قلت: «رزق سنة يطلق لأصحابى ويحمل معهم رزق سنة ويخصّ من لا خاصّة له من أهل الغناء والبلاء، واحمل ألف رجل من أصحابى الذين معى على الخيل ولا أسأل عن محاسبة ما افتتحت من المدن والكور.» فقال: «قد اشتططت [1] ولا بدّ من مناظرة أمير المؤمنين.» ثمّ ركب وركبت معه ودخل قبلي، ثمّ أذن لى فدخلت فما دار بيني وبين
__________
[1] . كذا فى الأصل والطبري (11: 835) . وما فى آمهمل إلّا فى الأخير.(4/68)
محمد إلّا كلمتان حتّى غضب وأمر بحبسي.
فذكر بعض خاصّة محمد أنّ أسدا اقترح على محمد أن يسلّم إليه ولدي عبد الله المأمون حتّى يكونا أسيرين فى يدي، فإن أعطانى الطاعة وألقى بيده وإلّا عملت فيهما بحكمي فقال محمد:
- «أنت أعرابىّ مجنون تدعو إلى الخرق والتخليط وتقترح فوق قدرك.» وأمر به فحبس.
ثمّ قال محمد:
- «هل فى بيت هذا من يقوم مقامه؟ فإنّى أكره أن أستفسدهم مع سابقتهم وما تقدّم من طاعتهم ونصيحتهم.» قالوا: «نعم فيهم أحمد بن مزيد عمّه وهو أحسنهم طريقة وأصلحهم نيّة وله مع هذا بأس ونجدة وبصر بسياسة [77] الجنود ومباشرة الحروب.» فأنفذ إليه محمد يزيدا فأقدمه عليه. قال أحمد: فلمّا دخلت بغداد بدأت بالفضل بن الربيع، فقلت أسلّم عليه وأستعين بمنزلته ومحضره عند محمد.
فلمّا أذن لى دخلت وإذا عنده عبد الله بن حميد بن قحطبة وهو يريده على الشخوص إلى طاهر وعبد الله يشتطّ عليه فى طلب المال والسلاح والإكثار من الرجال. فلمّا رآني رحّب بى وأخذ بيدي فرفعني حتّى صيّرنى معه على صدر المجلس، ثمّ أقبل على عبد الله يمازحه ويداعبه، فتبسّم فى وجهه ثمّ قال:
إنّا وجدنا لكم إذ رثّ حبلكم ... من آل شيبان أمّا دونكم وأبا
الأكثرون إذا عدّ الحصى عددا ... والأقربون إلينا منكم نسبا
فقال عبد الله:(4/69)
- «إنّهم لكذاك وإنّ فيهم لسدّ الخلل ونكء العدوّ [1] .» ثمّ أقبل علىّ الفضل فقال:
- «إنّ أمير المؤمنين أجرى ذكرك، فوصفتك له بحسن الطاعة وفضل النصيحة والشدّة على أهل المعصية، فأحبّ اصطناعك والتنويه [78] بك وأن يرفعك إلى منزلة لم يبلغها أحد من أهل بيتك.» ثمّ التفت إلى خادمه وقال:
- «مر بإسراج دوابّى.» فلم ألبث أن أسرجت له ومضى ومضيت معه حتّى دخلنا على محمد وهو فى صحن داره على سرير ساج، فلم يزل يدنيني حتى كدت ألاصقه، فقال:
- «إنّه قد كثر علىّ تخليط ابن أخيك وطال خلافه علىّ حتى أوحشنى ذلك منه، وولّد فى قلبي التهمة له وصيّرنى بسوء مذهبه وحنث طاعته إلى أن تناولته من الأدب والحبس بما لم أكن أحبّ تناوله به، وقد ووصفت لى بخير ونسبت إلى جميل، وأحببت أن أرفع قدرك وأعلى منزلتك وأقدّمك على أهل بيتك وأولّيك جهاد هذه الفئة الباغية وأعرّضك الأجر والثواب فى قتالهم ولقائهم، فانظر كيف تكون، وصحّح نيّتك وأعن أمير المؤمنين على اصطناعك وتشريفك.» فقلت: «سأبذل فى طاعة أمير المؤمنين- أعزه الله- مهجتي وأبلغ فى جهاد عدوّه أفضل ما أمله عندي ورجاه من غنائى وكفايتي، إن شاء الله.» فقال: «يا فضل، ادفع [79] إليه دفاتر أصحاب أسد، واضمم إليه من شهد العسكر من رجال الجزيرة والأعراب.» وقال لى:
__________
[1] . نكأ العدوّ، وفى العدوّ: قتل فيهم وجرح وأثخن.(4/70)
- «اكمش على أمرك وعجّل المسير إلى عدوّك.» فخرجت، فانتخبت الرجال، فبلغت عدّة من صحّحت اسمه عشرين ألف رجل. ثمّ توجّهت بهم إلى حلوان.
وكان محمد وصّاه فقال:
- «إيّاك والبغي، فإنّه عقال النصر ولا تقدّم رجلا إلّا باستخارة، ولا تشهر سيفا إلّا بعد إعذار، وأحسن صحابة من معك وطالعنى بأخبارك فى كلّ يوم ولا تخاطر بنفسك طلب الزلفة عندي ولا تستبقها [1] فى ما تتخوّف رجوعها علىّ، وكن لعبد الله بن حميد أخا مصافيا، أحسن صحبته ومعاشرته ولا تخذله إن استنصرك، ولا تبطئ عليه إن استصرخك، ولتكن أيديكما واحدة وكلمتكما متفقة.» ثمّ قال:
- «سل حوائجك وعجّل السراح إلى عدوّك.» فدعا له أحمد وقال:
- «يا أمير المؤمنين تكثّر الدعاء لى ولا تقبل فىّ قول باغ ولا ترفضني قبل المعرفة بموضع قدمي، ولا تنقض علىّ ما استجمع من رأى، ومن علىّ بالصفح عن ابن أخى.» قال: «ذلك [80] لك.» ثمّ بعث إلى أسد فحلّ قيوده وخلّى سبيله.
فخرج أحمد بن مزيد فى عشرين ألف رجل [من العرب، وعبد الله بن حميد فى عشرين ألف رجل] [2] من الأبناء وقد وصّيا بالتوادّ والتحابّ، فتوجّها حتّى نزلا قريبا من حلوان بموضع يقال له: خانقين، وأقام طاهر
__________
[1] . كذا فى الأصل وسط وآ. وفى الطبري (11: 839) : ولا تستقها.
[2] . ما بين المعقوفتين ناقص فى الأصل ومط، زدناه من آ.(4/71)
بموضعه وخندق عليه.
ذكر ما احتال به طاهر عليهما حتى اختلفا
ثمّ إنّ طاهرا دسّ إليهما قوما، فكانوا يأتون العسكرين جميعا بالأخبار الباطلة والأراجيف الكاذبة بأنّ محمدا قد وضع العطاء لأصحابه وقد أمر لهم من الأرزاق بكذا وكذا، ولم يزل يحتال فى وقوع الاختلاف والشغب بينهم حتّى اختلفوا، وقاتل بعضهم بعضا، فأخلوا خانقين ورجعوا عنها من غير أن يلقوا طاهرا.
وتقدّم طاهر حتّى نزل حلوان، فلم يلبث طاهر بعد دخوله حلوان إلّا يسيرا حتّى أتاه هرثمة بن أعين بكتاب المأمون والفضل بن سهل يأمرانه بتسليم ما حوى من المدن والكور إليه والتوجّه إلى الأهواز وفتحها. فسلّم ذلك إليه وأقام هرثمة بحلوان فحصّنها ووضع مسالحه ومراصده فى طرقها وجبالها. [81] وتوجّه طاهر إلى الأهواز.
المأمون يتسمّى أمير المؤمنين
وفى هذه السنة لمّا انتهى إلى المأمون قتل علىّ بن عيسى، تسمّى بأمير المؤمنين وسلّم عليه الفضل بذلك، وصحّ عنده الخبر بقتل طاهر عبد الرحمان بن جبلة الأبناوى وغلبته على عسكره، فدعا الفضل بن سهل وعقد له على المشرق من جبل همذان إلى جبل سقنان [1] والتبّت طولا ومن بحر فارس إلى بحر الديلم [وجرجان] [2] عرضا وجعل له عمّاله ثلاثة آلاف
__________
[1] . كذا فى الأصل. وما فى الطبري (11: 841) : سقينان.
[2] . زيادة من آوالطبري (11: 841) .(4/72)
وعقد له لواء على سنان ذى شعبتين وسمّاه ذا الرئاستين.
الأمين يولّى عبد الملك الشام
وفى هذه السنة ولّى محمد الأمين عبد الملك بن صالح بن علىّ الشام.
والسبب فى ذلك
وكان السبب فى ذلك أنّ طاهرا لمّا قوى واستعلى أمره وهزم قوّاد محمد وجيوشه، دخل عبد الملك بن صالح على محمد وقد كان عبد الملك محبوسا فى حبس الرشيد، فأطلقه محمد، وكان عبد الملك يشكر ذلك لمحمد، ويوجب به على نفسه طاعته ومحبّته، فقال:
- «يا أمير المؤمنين.»
ذكر الرأى الذي أشار به عبد الملك
إنّى أرى الناس قد طمعوا فيك وأهل العسكر قد اغتمزوا بذلك، وقد بذلت سماحتك [82] فإن أتممت على عادتك أفسدتهم وأبطرتهم، وإن كففت يدك عن العطاء أسخطتهم وأغضبتهم، وليس تملك الجنود بالإمساك ولا تبقى بيوت المال على الإنفاق والسرف، ومع هذا فإنّ جندك قد أرعبتهم الهزائم وأضعفتهم الحروب وامتلأت قلوبهم هيبة لعدوّهم ونكولا عن لقائهم، فإن سيّرتهم إلى طاهر غلب بقليل من معه كثيرهم وهزم بقوّة نيّته ضعف نياتهم، وأهل الشام قوم قد ضرّستهم الحروب وأدّبتهم الشدائد، وجلّهم منقاد لى مسارع إلى طاعتي، فإن وجّهنى أمير المؤمنين اتخذت له منهم جندا تعظم نكايتهم فى عدوّه.» فقال محمد:(4/73)
- «فإنّى مولّيك ومقوّمك بما سألت من مال وعدّة، فعجّل الشخوص إلى ما هناك واعمل عملا يظهر أثره واحمد بركة نظرك فيه.» فولّاه الشام واستحثّه استحثاثا شديدا ووجّه معه كثيفا من الجند.
فلمّا قدم عبد الملك الرقّة أرسل كتبه ورسله إلى رؤساء أجناد الشام ووجوه الجزيرة، فلم يبق أحد ممّن يرجى ويذكر بأسه وغناؤه [1] إلّا وعده وبسط أمله. فقدموا عليه رئيس بعد رئيس وفوج بعد فوج فأجازهم [83] وخلع على كلّ من قصده ووصله، وأتاه زواقيل الشام والأعراب من كلّ فجّ، فاجتمعوا وكثروا.
ذكر اتفاق سىّء
واتّفق أنّ بعض جند خراسان نظر إلى دابّة كانت أخذت منه فى وقعة سليمان بن أبى جعفر تحت بعض الزواقيل، فتعلّق بها وتصايحا [2] ، واجتمعت جماعة من الزواقيل والجند، فأعان كلّ فريق منهم صاحبه وتضاربوا بالأيدى ومشى الأبناء بعضهم إلى بعض وقالوا:
- «إن صبرنا لهم ركبونا بمثل هذا كلّ يوم.» واستعدّوا، وأتوا الزواقيل وهم غارّون، فوضعوا فيهم السيوف وذبحوهم فى رحالهم، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وتنادى الزواقيل، فركبوا ونشبت الحرب، وبلغ عبد الملك فأنفذ رسولا يأمرهم بالكفّ ووضع السلاح، فرموه بالحجارة وأبلغ عبد الملك من قتل من الزواقيل وأنّهم خلق كثير مطرّحون وكان مريضا فضرب بيد على يد ثمّ قال:
- «وا ذلّاه، تستضام العرب فى دورها وبلادها وتقتل هذه المقتلة.»
__________
[1] . فى آ: عناؤه (بإهمال الأوّل) .
[2] . فى مط: وتصافحا.(4/74)
فغضب من كان أمسك عن الشرّ وتفاقم الأمر، فنادى الناس [84] وقالوا:
- «الهرب أهون من العطب والموت أهون من الذلّ، النفير النفير قبل أن ينقطع الشمل [1] ويفوت المطلب ويعسر المهرب.» وقام رجل من كلب فقال:
شؤبوب حرب خاب من يصلاها ... قد شرّعت فرسانها قناها
فأورد الله لظى قناها ... إن غمرت كلب بها لحاها
ثمّ نادى:
- «يا معشر كلب، إنّها الراية السوداء، والله ما ولّت ولا ذلّ ناصرها، وإنّكم لتعرفون مواقع سيوف خراسان فى رقابكم، فاعتزلوا الشرّ قبل أن يعظم، وتخطّوه قبل أن يضطرم.
أيّها الناس شامكم شامكم، داركم داركم، الموت الفلسطيني خير من العيش الجزري [2] ، ألا أنّى راجع، فمن أراد الانصراف فلينصرف معى.» وسار معه أهل الشام وأقبلت الزواقيل حتّى أضرموا ما كان جمعه التجار من الأعلاف بالنار وتفرّق ذلك العسكر.
ثمّ اتفق موت عبد الملك بن صالح فى تلك الأيّام فلم يبق لذلك الجند أثر.
خلع الأمين ومبايعة المأمون ببغداد
وفى هذه السنة خلع محمد بن هارون الأمين وأخذت البيعة لأخيه عبد
__________
[1] . فى الطبري (11: 844) : السبيل.
[2] . كذا فى الأصل: الحزرى، وما فى آمهمل تماما. فى مط: الحورى.(4/75)
الله المأمون ببغداد [85] وحبس محمد فى قصر أبى جعفر مع أمّ جعفر بنت جعفر بن أبى جعفر وهي زبيدة.
ذكر السبب فى ذلك
لمّا توفّى عبد الملك بن صالح بالرقّة نادى الحسين بن علىّ بن عيسى بن ماهان فى الجند، فصيّر الرجّالة فى السفن والفرسان فى الظهر، ووصلهم وقوّى ضعفاءهم، ثمّ حملهم حتّى أخرجهم من بلاد الجزيرة وذلك فى سنة ستّ وتسعين ومائة.
فلمّا وصلوا إلى بغداد تلقّاه الأبناء بالتكرمة والتعظيم، وضربوا له القباب واستقبله الرؤساء وأهل الشرف ودخل منزله فى أفضل كرامة وأحسن هيئة.
فلمّا كان فى جوف الليل بعث إليه محمد يأمره بالركوب إليه، فقال للرسول:
- «ما [1] أنا بمغنّ ولا مضحك ولا صاحب خسارة [2] ولا جرى له على يدي مال ولا وليت له ولاية، فلاىّ شيء يريدني فى هذه الساعة؟ أنصرف، فإذا أصبحت غدوت إليه إن شاء الله.» فانصرف الرسول وأصبح الحسين، فوافى باب الجسر واجتمع إليه الناس، فأمر بإغلاق الباب الذي يخرج منه إلى قصر عبيد الله بن علىّ وباب سوق يحيى. ثمّ قال:
- «يا معشر [86] الأبناء، اسمعوا منّى أنّ خلافة الله لا تجاوز بالبطر، ونعمه لا تستصحب بالتجبّر، وأنّ محمدا يريد أن يوقع أديانكم وينكث بيعتكم، وهو صاحب الزواقيل بالأمس، أراد أن ينقل عزّكم، إلى غيركم وبالله لئن طالت به مدّة ليرجعنّ وبال ذلك عليكم. فاقطعوا أثره قبل أن يقطع
__________
[1] . فى آ: والله ما أنا..
[2] . كذا فى الأصل: خسارة. فى آ: جسارة.(4/76)
آثاركم، وضعوا عزّه قبل أن يضع عزّكم، فو الله لا ينصره منكم ناصر إلّا ذلّ ولا يمنعه مانع إلّا قتل، وما لأحد عند الله هوادة ولا راقب على الاستخفاف بعهوده والختر بأيمانه.» ثمّ أمر الناس بعبور الجسر فعبروا واجتمعت الحربية وأهل الأرباض وتسرّعت إليه خيول محمد فاقتتلوا، وأمر الحسين من كان معه من خواصّ أصحابه بالنزول فنزلوا وصدقوا القتال حتّى كشفوهم.
فخلع الحسين محمدا يوم الأحد لإحدى عشرة خلت من رجب سنة ست وتسعين ومائة، وأخذ البيعة لعبد الله المأمون من غد يوم الإثنين إلى الليل وغدا إلى محمد يوم الثلاثاء.
إخراج محمد من قصر الخلد وما جرى على أمّ جعفر
وقد كان العباس بن موسى الهاشمي قد دخل على محمد، فأخرجه من قصر الخلد إلى قصر أبى جعفر وحبسه هناك، وكذلك [87] فعل بأمّ جعفر.
فأبت أن تخرج فقنّعها بالسوط وسبّها وأغلظ لها فى القول، حتّى [أ] جلست [1] فى محفّة [2] وأدخلت مع ابنها، المدينة فلمّا أصبح الناس طلبوا من الحسين الأرزاق وماج الناس بعضهم فى بعض فقام محمد بن أبى خالد بباب الشام فقال:
- «أيّها الناس والله ما أدرى بأىّ سبب تأمّر الحسين بن علىّ علينا وتولّى هذا الأمر دوننا. ما هو بأكبرنا سنّا ولا أكرمنا حسبا ولا أعظمنا غناء وفينا
__________
[1] . فى الأصل وآ ومط: جلست. والتصحيح منا بقرينة ما فى الطبري (11: 847) .
[2] . كذا فى الأصل وآ ومط: محفّة. والمحفّة: سرير يحمل عليه المريض أو المسافر، ويسمّى:
تخت روان.(4/77)
من لا يرضى بالدنيّة ولا ينقاد للمخادعة. وإنّى أوّل من نقض عهده وأنكر فعله فمن كان رأيه رأيى فليعتزل.» وقام كل رئيس قوم فتكلّم وأنكر خلع محمد وأسره.
وأقبل شيخ كبير على فرس فصاح بالناس:
- «اسكتوا.» فسكتوا. فقال:
- «أيّها الناس هل تعتدّون على محمد بقطع منه لأرزاقكم؟» قالوا: «لا.» قال: «فهل قصّر بأحد من رؤسائكم؟» قالوا: «لا.» قال: «فهل عزل أحدا من قوادكم عن قيادته؟» قالوا: «لا.» قال: «فما بالكم خذلتموه حتّى خلع وأسر؟ أما والله ما قتل قوم خليفتهم إلّا سلّط الله عليهم السيف القاتل والحتف الجارف. انهضوا إلى خليفتكم [88] فادفعوا عنه وقاتلوا من أراد خلعه والفتك به.»
الحربيّة يناهضون الحسين بن علىّ ويحرّرون محمدا من الأسر
ثمّ نهضت الحربية ونهض معهم عامّة أهل الأرباض فى العدّة الحسنة، فقاتلوا الحسين بن علىّ وأصحابه قتالا عظيما شديدا منذ ارتفاع النهار إلى انكسار الشمس، حتّى هزموهم وأسروا الحسين بن علىّ. ودخل أسد الحربي على محمد فكسر قيوده وأقعده فى مجلس الخلافة. فنظر محمد إلى قوم ليس عليهم لباس الجند ولا عليهم سلاح، فأمرهم حتّى أخذوا السلاح من(4/78)
الخزائن قدر حاجتهم وانتهب الغوغاء بذلك السبب سلاحا كثيرا ومتاعا آخر، وأتى بالحسين بن علىّ أسيرا، فلامه محمد ووبّخه وقال:
- «ألم أقدّم أباك على الناس وأولّه أعنّة الخيل؟ ألم أملأ يده من الأموال؟
ألم أشرّف أقداركم وأرفعكم على غيركم من القوّاد؟» قال: «بلى.» قال: «فما استحققت منك أن تخلع طاعتي وتؤلّب [1] الناس علىّ؟» قال: «خذلان الله يا أمير المؤمنين وأنت أكرم من عفا وصفح وتفضّل.» قال: «فإنّ أمير المؤمنين قد فعل ذلك بك، فعليك بثأر أبيك ومن قتل من أهل بيتك، فقد ولّيتك ذلك.» ثم دعا [89] بخلعة فخلعها عليه وحمله على مراكب وولّاه، وهنّأه الناس. ثمّ خرج مع نفر من خاصّته ومواليه حتّى عبر الجسر ووقف حتّى خفّ الناس، ثمّ قطع الجسر وهرب.
فنادى محمد فى الناس فركبوا فى طلبه فأدركوه بمسجد كوثر على فرسخ من بغداد فى طريق نهر بين [2] فلمّا بصر بالخيل نزل فتحرّم وصلّى ركعتين، ثمّ حمل عليهم حملات فى كلّها يهزمهم ويقتل منهم. ثمّ عثر به فرسه، فسقط وابتدره الناس طعنا وضربا حتّى قتلوه. فقال علىّ بن جبلة الحربي:
ألا قاتل الله الأولى كفروا به ... وفازوا برأس الهرثمىّ حسين
لقد أوّدوا [3] منه قناة صليبة ... بشطب يمانىّ ورمح ردين
__________
[1] . كذا فى الأصل وآ والطبري (11: 849) تؤلب. وفى مط: تقلّب.
[2] . نهر بين: من نواحي بغداد. (مراصد الإطلاع)
[3] . فى الطبري (11: 851) : أوردوا.(4/79)
رجا فى خلاف الحقّ عزّا وإمرة ... فألبسه التأميل خفّ حنين
قتل محمّد بن يزيد المهلّبى
وفى هذه السنة رحل طاهر بن الحسين، حين قدم عليه هرثمة، من حلوان إلى الأهواز، فقتل عامل محمد عليها، وكان عامله محمد بن يزيد بن حاتم المهلّبى. [90]
وكان السبب فى ذلك
أنّ محمد بن يزيد المهلّبى جمع جيوشا كبيرة حين توجّه إليه طاهر وأقبل حتّى نزل سوق عسكر مكرم وصيّر العمران والماء وراء ظهره. وخاف طاهر أن يعجل إلى أصحابه بجمعهم وسار بتعبئته، فجمع محمد بن يزيد أصحابه وقال:
- «ما ترون، أطاول القوم وأماطلهم اللقاء، أم أناجزهم كانت لى أم علىّ؟
فو الله ما أرجع إلى أمير المؤمنين أبدا ولا أنصرف عن الأهواز.» فقالوا: «الرأى أن ترجع إلى الأهواز فتحصّن بها وتغادى طاهرا اللقاء وتراوحه، وتبعث إلى البصرة فتفرض بها الفرض وتستجيش بمن قدرت عليه من قومك.» فقبل ما أشاروا به عليه وتابعه قومه. فرجع إلى سوق الأهواز. فحرص طاهر أن يسبقه إليها قبل أن يتحصّن بها فلم يقدر على ذلك. وسبق محمد بن يزيد إلى المدينة فدخلها وأسند إلى العمران وعبّأ أصحابه ودعا بالأموال فصبّت بين يديه، وقال لأصحابه:
- «من أراد منكم الجائزة والمنزلة فليعرّفنى أثره.» وقاتل الناس بين يديه حتّى ترادّوا ورآهم محمد بن يزيد [91] منهزمين(4/80)
فقال محمد بن يزيد لنفر كانوا معه من مواليه:
- «ما ترون؟» قالوا: «فى ماذا؟» قال: «أرى من معى قد انهزم، ولست آمل رجعتهم ولا آمن خذلان من بقي، وقد عزمت على النزول والقتال حتّى يقضى الله ما هو قاض. فمن أراد منكم الانصراف فلينصرف.» فقالوا: «والله ما أنصفناك إذا، أعتقتنا من الرقّ ورفعتنا من الضّعة وأغنيتنا بعد القلّة لننصرك وقت الشدّة ثمّ نخذلك على هذه الحال؟ بل نتقدّم أمامك ونموت تحت ركابك فلعن الله الدنيا بعدك.» ثمّ نزلوا فعرقبوا دوابّهم وحملوا على أصحاب طاهر، وكان المتولّى لقتاله قريش بن شبل، فأكثروا فيهم القتل، وانتهى بعض أصحاب قريش [1] إلى محمد بن يزيد فطعنه بالرمح فقتله.
فحكى الهيثم بن عدىّ قال: دخل ابن أبى عيينة المهلّبى على طاهر فأنشده قوله:
من آنسته البلاد لم يرم ... منها ومن أوحشته لم يقم
حتّى انتهى إلى قوله:
ما ساء ظنّى إلّا لواحدة ... فى الصّدر محصورة عن الكلم [92]
فتبسّم طاهر ثمّ قال:
- «أما والله لقد ساءني من ذلك ما ساءك وآلمني منه ما آلمك، ولقد كنت كارها لما كان، غير أنّ الحتف واقع والمنايا نازلة، ولا بدّ من قطع الأواصر والتنكّر للأقارب فى تأكيد الخلافة والقيام بحقّ الطاعة.»
__________
[1] . فى الطبري (11: 854) : أصحاب طاهر. آومط كالأصل.(4/81)
قال: فظننّا أنّه يريد محمد بن يزيد [بن] [1] حاتم.
وأقام طاهر بالأهواز حتّى أنفذ عمّاله إلى كورها، وولّى اليمامة والبحرين وعمان ممّا يلي الأهواز وممّا يلي البصرة، ثمّ توجّه على طريق البرّ إلى واسط، فجعلت المسالح تقوّض مسلحة مسلحة وعاملا عاملا، كلّما قرب منهم طاهر تركوا أعمالهم وهربوا حتّى دخل واسط، ووجّه قائدا من قوّاده يقال له: أحمد بن المهلّب، نحو الكوفة وعليها يومئذ العباس بن موسى الهادي. فلمّا بلغه توجّه خيل طاهر إليه، خلع محمدا وكتب بطاعته وبيعته إلى طاهر. ثمّ كتب منصور بن المهدى وكان عاملا لمحمد على البصرة إلى طاهر بطاعته. ثمّ كتب إليه المطّلب بن عبيد الله- وكان بالموصل- بيعته للمأمون وخلعه محمدا، فأقرّهم طاهر على ولاياتهم وأعمالهم وكان طاهر نازلا جرجرايا [2] ولمّا رآها قال:
- «نعم موضع [93] العسكر.» وعقد بها جسرا وخندق. فلمّا وردت عليه كتب أهل هذه المدائن بالتسليم سار منها إلى نهر صرصر، وعقد بها جسرا وأخذ أصحاب طاهر المدائن.
فحكى أنّ طاهرا لمّا توجّه إلى المدائن كان فيها خيل كثيرة لمحمد وعليهم البرمكي، قد تحصّن بها والمدد يأتيه فى كلّ يوم والصلات والخلع.
فلمّا قرب طاهر منها قدّم قريش بن شبل على مقدّمته. فلمّا سمع أصحاب البرمكي طبوله أسرجوا الدوابّ، وأخذ البرمكي فى تعبئة الرجال وجعل من فى أوائل الناس ينضمّ إلى آخرهم، فيردّهم البرمكي ويسوّى صفوفه، فكلّما
__________
[1] . ما بين المعقوفتين ناقص فى الأصل، أضفناه من آ، ومط والطبري (11: 855) .
[2] . بلد من أعمال النهروان الأسفل، بين واسط وبغداد من الجانب الشرقىّ كانت مدينة خربت مع ما خرب من النهروانات. (مراصد الاطّلاع)(4/82)
سوّى صفّا انتقض عليه. فقال:
- «اللهم إنّا نعوذ بك من الخذلان.» ثمّ التفت إلى صاحب ساقته وقال:
- «خلّ سبيل الناس فإنّى أرى جندا لا خير عندهم.» فركب بعضهم بعضا نحو بغداد [1] ونزل طاهر المدائن وقدّم قريش بن شبل والعباس بن بخار أخذاه إلى درزيجان وكان نصر بن منصور بن نصر بن مالك [2] ، وأحمد بن سعيد الحرشي معسكرين بنهر ديالى، فمنعا أصحاب البرمكي من الجواز إلى بغداذ وتقدّم طاهر حتّى صار إلى الدّرزيجان [94] حيال نصر وأحمد، ثمّ سيّر إليهما الرجال فى السفن للقتال، فلم يجر بينهم كبير قتال حتّى انهزموا، وأخذ طاهر نحو ذات اليسار إلى نهر صرصر فعقد بها جسرا ونزلها.
خلع محمد فى مكّة والمدينة
وفى هذه السنة خلع داود بن عيسى بن موسى عامل مكّة والمدينة محمدا وبايع المأمون، وأخذ البيعة بهما على الناس، وكتب بذلك إلى طاهر بن الحسين. ثمّ خرج بنفسه.
ذكر السبب فى ذلك
كان سبب ذلك أنّ محمدا كتب إلى داود بن عيسى بخلع عبد الله المأمون والبيعة لابنه موسى، وبعث بجند [3] إلى الكتابين اللذين كتبهما هارون
__________
[1] . الحرف الأخير من «بغداد» يأتي مهملا فى موضع، ومعجما فى موضع آخر، من هذا الكتاب.
[2] . فى الأصل: ملك. فى آوالطبري (11: 860) : مالك.
[3] . كذا فى الأصل وآ. فى الطبري (11: 861) : محمد. بدل «بجند» .(4/83)
وعلّقهما فى الكعبة، فأخذهما. فلمّا بلغه فى هذا الوقت غلبة طاهر على البلاد وقتله من قتل، جمع الحجبة حجبة الكعبة، وأهل الشرف والفقهاء، فذكّرهم عهد الرشيد إليهم والمواثيق التي أخذها عند بيت الله الحرام عليهم حين بايع لابنيه: لنكوننّ مع المظلوم منهما على الظالم. ثمّ قال:
- «قد رأيتم محمدا كيف بدأ بالظلم والبغي على أخويه وكيف بايع لابنه وهو طفل رضيع لم يفطم، [95] واستخرج الكتابين من الكعبة غاصبا ظالما فحرّقهما بالنار، وقد رأيت خلعه ومبايعة عبد الله المأمون بالخلافة، إذ كان مظلوما مبغيّا عليه.» فقال القوم بأجمعهم:
- «رأينا رأيك.» فوعدهم صلاة الظهر وأرسل إلى فجاج مكّة صائحا يصيح:
- «الصلاة جامعة.» فلمّا اجتمع الناس صلّى بهم الظهر، وكان وضع له المنبر بين الركن والمقام، فصعده، وكان داود فصيحا جهيرا فخطب خطبة حسنة ذكّرهم فيها بالشرف والقدمة، وأنّ المسلمين وفود الله إليكم وبكم تأتمّ الناس، ثمّ ذكّرهم عهد الرشيد وما جرى فى الكتابين، وعظّم عليهم الأمر ودعاهم إلى خلع محمد، والبيعة للمأمون، وقال:
- «إنّى قد خلعت محمدا كما خلعت قلنسوتي هذه.- ورمى بها عن رأسه إلى بعض الخدم تحته، وكانت من برد [1] حبرة [1] حمراء مسلسلة وأتى بقلنسوة سوداء هاشمية فلبسها- وقد بايعت لعبد الله المأمون أمير المؤمنين، ألا فقوموا إلى البيعة.»
__________
[1] . فى الطبري (11: 862) : من برود جرة. فى آ: من برد جرة حمراء. وفى مط: من برد حيرة حمراء.(4/84)
فصعد إليه من قرب من الوجوه والأشراف رجل رجل [1] إلى وقت العصر، ثمّ نزل وصلّى بالناس وجلس ناحية [96] وتتابع الناس عليه جماعة جماعة يقرأ كتاب البيعة ويصافحونه.
فعل ذلك أيّاما وكتب إلى ابنه سليمان بن داود وكان خليفته على المدينة يأمره أن يفعل بالمدينة كما فعل هو بمكّة، ثمّ رحل يريد المأمون بمرو، فمرّ على البصرة، ثمّ على فارس، ثمّ على كرمان حتّى صار إلى المأمون بمرو، فسرّ به المأمون وتيمّن ببركة مكّة والمدينة، وكتب إليهم كتابا لطيفا يعدهم فيه الخير، وأمر أن يكتب لداود عهدان على مكّة والمدينة وأعمالهما وزيّد ولاية عكّ، وعقد له على ذلك ثلاثة ألوية، وكتب له إلى الري بمعونة خمسمائة ألف درهم.
وورد داود ومن معه بغداد فنزل على طاهر بن الحسين، فأكرمه وقرّبه، ووجّه معه يزيد بن جرير بن يزيد بن خالد بن عبد الله القسري، وعقد له طاهر على ولاية اليمن، وبعث معه خيلا كثيفة، وكان ضمن له يزيد بن جرير أن يستميل قومه وعشيرته من ملوك اليمن حتّى يخلعوا محمدا ويبايعوا المأمون، وساروا جميعا. فأقام داود على عمله بمكّة ومضى يزيد بن جرير إلى اليمن، فدعا أهلها إلى البيعة للمأمون وخلع محمد وقرأ عليهم كتاب طاهر وأعلمهم عدل المأمون وإنصافه [97] ووعدهم ومنّاهم، فأجابه أهل اليمن واستبشروا فسار فيهم يزيد بأحسن سيرة وكتب بإجابتهم وبيعتهم.
وفى هذه السنة عقد محمد نحو أربعمائة لواء لقوّاد شتّى، وأمر على جميعهم علىّ بن محمد بن عيسى بن نهيك وأمرهم بالمسير إلى هرثمة بن أعين. فساروا فالتقوا بجللتا [2] فهزمهم هرثمة وأسر علىّ بن محمد بن نهيك
__________
[1] . كذا فى آبالتكرار والرفع. وفى الطبري (11: 862) : رجل فرجل.
[2] . من قرى النهروان، أو من نهر جلولاء بطريق خراسان انظر: مراصد الإطلاع.(4/85)
وبعث به هرثمة إلى المأمون وزحف هرثمة فنزل النهروان.
استئمان جماعة من أصحاب طاهر إلى محمد
واستأمن إلى محمد جماعة من أصحاب طاهر، ففرّق محمد فيهم مالا عظيما وقوّد منهم جماعة وغلّل لحاهم بالغالية فسمّوا قوّاد الغالية.
وكان سبب استئمان أصحاب طاهر ما كان يبلغهم من عطاء محمد وبذله الأموال والكسى. فخرج من عسكر طاهر نحو من خمسة آلاف رجل من أهل خراسان فسرّ بهم محمد، ووعدهم ومنّاهم وأثبت أسماءهم فى الثمانين، ودسّ محمد إلى أصحاب طاهر، وفرّق فيهم الجواسيس وأطمعهم، فشغبوا على طاهر، وراسل طاهر عيونه وجواسيسه ببغداد بأن يغرى أصاغرهم بأكابرهم، لأنّه فرّق فى الأكابر خاصّة مال، فشغبوا على محمد.
ثمّ أخرج محمد المستأمنة [98] مع خلق كثير- ومع كلّ عشرة أنفس منهم طبل- إلى طاهر، فأرعدوا وأجلبوا [1] حتّى أشرفوا على نهر صرصر فعبّى طاهر أصحابه كراديس وجعل يمرّ على كردوس كردوس فيقول:
- «لا يغرنّكم كثرة من ترون، فإنّ النصر مع الصدق والفلح مع الصبر.» ثمّ أمرهم بالتقدّم، فصبر الفريقان ثمّ انهزم أهل بغداد وانتهبهم أصحاب طاهر، ثمّ كثر الشغب على محمد ونقب أهل السجون سجونهم وخرجوا، وفتن الناس، ووثب على أهل الصلاح الدعّار والشطّار، فعزّ الفاجر وذلّ المؤمن واختلّ الصالح وساءت حال الناس، إلّا من كان فى عسكر طاهر، لتفقّده الأمور، وغادي القتال وراوحه حتّى خربت بغداد، وتواكل الفريقان وقاتل الأخ أخاه والابن أباه واحترب الناس [2] .
__________
[1] . والعبارة فى الطبري (11: 865) : فأرعدوا، وأبرقوا، وأجلبوا، ودبّوا.
[2] . احترب الناس: أوقدوا نار الحرب.(4/86)
ثمّ دخلت سنة سبع وتسعين ومائة
محاصرة طاهر وهرثمة وزهير بن المسيّب محمدا ببغداد
وفى هذه السنة حاصر طاهر وهرثمة وزهير بن المسيّب محمدا ببغداد.
أمّا زهير فنزل قصرا برقّة كلواذى ونصب المجانيق والعرّادات واحتفر الخنادق، وكان إذا اشتغل الجند بحرب طاهر يرمى بالعرّادات من أقبل ومن أدبر ويعشر أموال [99] التجار ويجتبى السفن. وآذى الناس وبلغ منهم كلّ مبلغ وبلغ أمره طاهرا وأتاه الناس فشكوا ما نزل بهم من زهير، ثمّ قصده الناس بالحرب وبلغ ذلك هرثمة فأمدّه بالجند وقد كاد يؤخذ، فأمسك عنه الناس.
وأمّا هرثمة فنزل نهربين وجعل عليه خندقا وحائطا، وأعدّ المجانيق والعرّادات، وأنزل طاهر عبيد الله بن الوضّاح الشماسية. وأمّا طاهر فنزل البستان الذي بباب الأنبار.
فذكر عن الحسين الخليع- وكان ينادم محمدا- أنّه قال: لمّا نزل طاهر البستان الذي بباب الأنبار دخل محمدا أمر عظيم وضاق به ذرعا، وكان فرّق ما فى يده من الأموال، فأمر ببيع كلّ ما فى الخزائن وضرب آنية الفضّة والذهب دنانير ودراهم يفرّق فى أصحابه وفى نفقاته.
واستأمن إلى طاهر سعيد بن مالك [1] بن قادم، فولّاه ناحية من الأسواق وشاطئ دجلة وما اتصل به أمامه إلى جسور دجلة وأمر بحفر الخنادق وبناء
__________
[1] . فى الأصل ملك. فأثبتنا كما فى آومط والطبري (11: 870) : مالك.(4/87)
الحيطان من كلّ ما غلب عليه من الدور والدروب، وأمدّه بالنفقات والفعلة والفرسان والسلاح فكثر الخراب والهدم [100] حتّى درست محاسن بغداد، وأرسل إلى أهل الأرباض من طريق الأنبار وباب الكوفة وما يليها، فكلّما أجابه أهل ناحية خندق عليهم ووضع مسالحه وأعلامه، ومن أبى إجابته والدخول فى طاعته ناصبه وقاتله وأحرق منزله، وفعل ذلك قوّاده وفرسانه ورجّالته حتّى أوحشت بغداد. وقال الشعراء فى ذلك شيئا كثيرا لم نجد فيه ما نختاره فتركناه.
وسمّى طاهر الأرباض التي خالفته سكانها ومدينة أبى جعفر والشرقية وأسواق الكرخ والخلد وما والاها: دار النكث، وقبض ضياع من لم ينجز إليه من بنى هاشم والقوّاد والموالي وغلّاتهم، حيث كانت من عمله فذلّوا وانكسروا، وتواكلت الأجناد عن القتال إلّا باعة الطريق والعراة وأهل السجون والأوباش والطرارين.
وكان الأمين قد تقدّم إلى خالد بن أبى الصقر والهرش بإباحتهم النهب والاستعانة بهم على قتال طاهر. وكان محمد بن عيسى بن نهيك صاحب شرطة محمد يقاتل مع الأفارقة وأهل السجون والأوباش، وكان محمد بن عيسى غير مداهن فى أمر محمد وكان مهيبا فى الحرب [101] وكان من يجرى مجراه من أصحاب محمد علىّ أفراهمرد، وكان موكّلا بقصر صالح وسليمان بن أبى جعفر وفى يده مجانيق وعرّادات يحفظ بها ما فى يده من تلك النواحي إلى حدّ الجسور، فأمر الباعة والغوعاء والعراة باتخاذ تراس من البواري وبالرمي بالمقاليع وما أشبهها، فكانوا يقاتلون ويؤثّرون فى أصحاب طاهر وهرثمة، ومحمد قد أقبل على اللهو والشرب ووكّل الأمر كلّها إلى محمد بن عيسى بن نهيك وإلى الهرش.
فأمّا الفضل بن الربيع فإنّه استتر وخفى أمره قبل أن ينتهى بهم الأمر إلى(4/88)
هذا بزمان كثير، فاستكلب العيّارون والعراة وسلبوا من قدروا عليه من الرجال والنساء والضعفاء من أهل الذمّة والملّة، فكان منهم فى ذلك ما لم يبلغنا أنّ مثله كان فى شيء من الأوقات المتقدّمه. فأمّا فى المستأنف [1] فقد جرت أمور عظام قبيحة مثل هذا وأقبح منه سنذكرها إذا بلغنا إليها إن شاء الله.
فلمّا طال ذلك على الناس وضاقت بغداد بأهلها استأمن محمد بن عيسى صاحب الشرطة وعلىّ افراهمرد إلى طاهر، فضعف أمر محمد جدّا وأيقن بالهلاك وخرج من بغداد كلّ من كانت [102] به قوّة، بعد الغرم الفادح وبعد المضايقة [2] العظيمة والخطر الفاحش، فكان الرجل أو المرأة إذا تخلّص من أصحاب الهرش وصار إلى أصحاب طاهر، ذهب عنه الروع وأمن، وأظهرت المرأة ما معها من حليّها وغير ذلك، وكذلك الرجل.
ولمّا صارت الحرب بين العيّارين وبين أصحاب طاهر، خرج قائد من قوّاد خراسان، ممّن كان مع طاهر بن الحسين من أهل البأس والنجدة، فنظر إلى قوم عراة لا سلاح معهم، فاستهان بهم واستحقرهم وقال لأصحابه:
- «ما يقاتلنا إلّا من أرى؟» قالوا: «نعم، هؤلاء [3] هم الآفة.» قال: «أفّ لكم حين تخيمون عن هؤلاء وتنكصون عنهم وأنتم فى السلاح الظاهر والعدّة، وأنتم أصحاب الشجاعة والبسالة وما عسى أن يبلغ كيد
__________
[1] . كذا فى آ: المستأنف. وما فى الأصل غير واضح: المستأنف؟ المسانف؟ ولم نجده فى مظانّه فى الطبري (11: 883) .
[2] . ما فى الأصل يحتمل أن يكون «مصاتعة» ، والمصاتعة: المصارعة.
[3] . فى الأصل: هؤلاء ستحقرهم الآفة. وما فى آكما أثبتناه. والعبارة فى الطبري (11: 885) : نعم، هؤلاء الذين ترى هم الآفة. وربما كانت ما فى الأصل: هؤلاء الذين استحقرتهم هم الآفة.(4/89)
هؤلاء بلا سلاح ولا جنّة؟» ثمّ أوتر قوسه وتقدّم ووضع عينه على بعضهم، فقصد نحوه وفى يده بارية [1] مقيّرة وتحت إبطه مخلاة فيها حجارة، فجعل الخراساني كلّما رمى بسهم استتر منه العيّار، فوقع فى باريته وقريبا منه فيأخذه فيجعله فى موضع من باريته [103] قد هيّأه لذلك شبيها بالجعبة، فكلّما وقع فى ترسه منهم أخذه وصاح.
- «دنق.» أى ثمن النشّابة دنق قد أحرزه.
فلم يزل حال الخراساني وحال العيّار تلك، حتّى أنفد الخراساني سهامه، ثمّ حمل على العيّار ليضربه بسيفه، فأخرج العيّار من مخلاته حجرا فجعله فى مقلاعه ورماه، فما أخطأ به عينه، ثمّ ثنّاه سريعا فكاد يصرعه عن فرسه لولا تحامله وكرّ راجعا وهو يقول:
- «ما هؤلاء بإنس.» فحدّث طاهر بحديثه فاستضحك وأعفى الخراساني من الخروج إليهم. وقال بعض شعراء أهل بغداد:
خرّجت هذه الحروب رجالا ... لا لقحطانها ولا لنزار
معشرا فى جواشن الصّوف يعدو ... ن إلى الحرب كالأسود الضّوارى
وعليهم مغافر الخوص تجزي ... هم عن البيض والتّراس البواري
ليس يدرون ما الفرار إذا الأب ... طال عاذوا من القنا بالفرار
واحد منهم يشدّ على أل ... فين عريان ما له من إزار
__________
[1] . والضبط فى الطبري (11: 855) وفى تد (413) : باريّة (بالتشديد) ولا شدّة على ما فى الأصل وآ.(4/90)
ويقول الفتى إذا طعن ال ... طّعنة خذها من الفتى العيّار [104]
فى أبيات كثيرة، ووصفهم الشعراء كثيرا.
وأخذ طاهر فى الهدم والحرق على من خالفه ومنع الملّاحين وغيرهم من إدخال شيء إلى بغداد ووضع الرّصد عليهم فكان يحوى فى كلّ يوم ناحية بعد ناحية ويخندق عليها ويقيم عليها المقاتلة. فكان أصحاب محمد ينقضون، حتّى لقد كان أصحاب طاهر يهدمون الدار وينصرفون، فيقلع أبوابها وسقوفها أصحاب محمد ويكونون أضرّ عليهم من أصحاب طاهر.
ولمّا منع طاهر الميرة من بغداد وكان يأخذ من كلّ سفينة تحمل دقيقا أو غيره مالا عظيما غلت الأسعار، وصار أمر الناس إلى القنوط واليأس من الفرج وحسد المقيم منهم من قد خرج عنها. وصار [1] أمر محمد إلى أن أمر غلامه زرنج بتتبّع الأموال وطلبها عند من وجد، وأمر الهرش بطاعته، فكان يهجم على الناس فى منازلهم ويبيّتهم ليلا ويأخذ بالظنّة، فجبى بذلك السبب أموالا كثيرة وأهلك خلقا.
ثمّ إنّ حاتم بن الصقر من قوّاد محمد وكان قد واعد أصحابه العراة أن يواقعوا عبيد الله بن الوضّاح ليلا، فمضوا إلى عبيد الله مفاجأة وهو لا يعلم، فأوقعوا به وقعة [105] أزالوه عن موضعه، وولّى منهزما، فأصابوا له خيلا وسلاحا.
الخبر عن هزيمة هرثمة
وبلغ الخبر هرثمة، فأقبل فى أصحابه لنصرته وليردّ العسكر إلى موضعه،
__________
[1] . فى مط: وآل، بدل «وصار» .(4/91)
فوافاه أصحاب محمد ونشّبت الحرب بينهم فأسر رجل من العراة هرثمة ولم يعرفه، فحمل بعض أصحاب هرثمة على العريان فقطع يده وخلّص هرثمة، فمرّ منهزما وبلغ خبره أهل عسكره فتقوّض بما فيه وخرج أهله هاربين على وجوههم نحو حلوان، وحجز الليل أصحاب محمد عن الطلب والنهب والأسر، فلم يتراجع أصحاب هرثمة إلّا بعد يومين وثلاثة، وقويت العراة بما صار فى أيديهم. وقيلت فى هذه الوقعة أشعار كثيرة.
وبلغ طاهرا هزيمة عبيد الله بن الوضّاح وهرثمة وما صار إلى العراة من سلاحهم وأموالهم، فاشتدّ عليه وقام منه وقعد، ووجّه إلى أصحابه وعبّأهم وأمر بعقد جسر فوق الشمّاسيّة وخرج معهم إلى الجسر، فعبروا النهر وقاتلوهم أشدّ قتال يكون، حتّى ردّوا أصحاب محمد وأزالوهم عن الشماسية [106] وردّ إليها جند عبيد الله وهرثمة. وكان محمد أعطى بنقض [1] قصوره ومجالسه بالخيزرانية بعد ظفر العراة ألفى ألف درهم فى مواضعها وقد كانت النفقة عليها عشرين ألف ألف درهم. فحرقها أصحاب طاهر وكانت السقوف مذهّبة.
وهرب عبيد الله بن خازم بن خزيمة، لأنّ محمدا اتهمه وتحامل عليه قوم من السفلة والعيّارين، فخافهم على نفسه فلحق بالمدائن ليلا فى السفن بعياله وولده، وأقام بها ولم يحضر شيئا من القتال وفعل ذلك بمواطأة طاهر.
وضاق على محمد أمره ونفذ ما كان عنده ولم يبق له حيلة، وطلب الناس الأرزاق فقال عند ضجره بذلك:
- «وددت أنّ الله قتل الفريقين جميعا وأراحنى منهم، فما منهما إلّا عدوّ، وأمّا هؤلاء فيريدون مالي ولم يبق، وأمّا هؤلاء فيريدون نفسي.»
__________
[1] . انظر الطبري (11: 897) .(4/92)
ثمّ دخلت سنة ثمان وتسعين ومائة
بين خزيمة وطاهر
وفيها كاتب طاهر خزيمة بن خازم يذكر له أنّ الأمر إن انقطع بينه وبين محمد ولم يكن له أثر فى نصرته لم يقصر فى مكروهه. فلمّا وصل كتابه إليه شاور ثقاته [107] فقال له أصحابه وأهل بيته:
- «نرى والله إنّ هذا الرجل آخذ بقفا صاحبنا عن قليل، فاحتل لنفسك ولنا.» فكتب إلى طاهر بطاعته وأخبره أنّه لو كان هو النازل فى الجانب الشرقي مكان هرثمة لكان يحمل نفسه على كلّ هول، وأعلمه قلّة ثقته بهرثمة ويناشده ألّا يحمله على مكروه عظيم إلّا أن يضمن له القيام دونه، ووعده بإدخال هرثمة وقطع الجسور وأنّه يتّبع هواه ويؤثر رضاه، وأنّه إن لم يضمن ذلك فليس يسعه تعريضه للسفلة والغوغاء والرعاع والتلف.
فكتب طاهرا إلى هرثمة يلومه ويعجّزه ويقول:
- «جمعت الأجناد وأتلفت الأموال دون أمير المؤمنين ودوني فى مثل حاجتي إلى النفقات وقد توقّفت عن قوم هيّنة شوكتهم يسير أمرهم توقّف المحجم الهائب لهم، استعدّ للدخول فقد أحكمت الأمر على دفع العسكر وقطع الجسور وأرجو ألّا يختلف عليك فى ذلك اثنان، إن شاء الله.» فأجابه هرثمة:
- «أنا عارف ببركة رأيك ويمن مشورتك فمر بما أحببت، فلن [108] أخالفك.» قال: فكتب بذلك طاهر إلى خزيمة.(4/93)
خزيمة ودعوته للمأمون
وكان كتب طاهر إلى محمد بن علىّ بن عيسى بمثل ذلك قبل، فلمّا كانت ليلة الأربعاء لثمان بقين من المحرّم سنة ثمان وتسعين ومائة، وثب خزيمة بن خازم ومحمد بن علىّ بن عيسى على جسر دجلة، فقطعاه وركّزا أعلامهما عليه وخلعا محمدا، ودعوا لعبد الله المأمون، وسكن أهل الجانب الشرقي ولزموا منازلهم وأسواقهم من يومهم ذلك، ولم يدخل هرثمة حتّى تقدّمه قوم وعادوا إليه فحلفوا أنّه لا يرى مكروه [1] فدخل حينئذ.
وباكر طاهر من غد ذلك اليوم وهو يوم الخميس المدينة وأرباضها، والكرخ وأسواقها، وهدم قنطرتى الصراة العتيقة والحديثة واشتدّ عندهما القتال، وباشر طاهر القتال بنفسه وقاتل بين يديه أصحابه حتّى هزم أصحاب محمد، وفرّوا على وجوههم لا يلوى أحد على أحد حتّى دخل قسرا بالسيف، وأمر مناديه بالأمان لمن لزم منزله، ووضع بقصر الوضّاح وسوق الكرخ والأطراف قوّادا وجندا فى كلّ موضع على قدر حاجته منهم، وقصد [109] إلى مدينة أبى جعفر فأحاط بها وبقصر زبيدة وقصر الخلد من لدن الجسر إلى باب خراسان وباب الشام وباب الكوفة وباب البصرة وشاطئ الصراة إلى مصبّها فى دجلة بالخيول والسلاح، وثبت على قتال طاهر حاتم بن الصقر والهرش، فنصب المجانيق خلف السور على المدينة وبإزاء قصر زبيدة وقصر الخلد ورماه.
وخرج محمد بأمّه وولده إلى مدينة أبى جعفر وتفرّق عنه عامّة جنده وخصيانه وجواريه فى السكك والطرق لا يلوى منهم أحد على أحد وتفرّق
__________
[1] . فى الأصل: مكروها.(4/94)
الغوغاء والسفلة. وتحصّن محمد بالمدينة هو ومن يقاتل معه، وحصره طاهر وأخذ عليه الأبواب ومنع منه ومن أهل المدينة الدقيق والماء وغيرهما.
فحكى طارق الخادم وكان من خاصّة محمد- وكان المأمون بعد ذلك أيضا يقدّمه- أن محمدا سأله يوما من الأيّام وهو محصور- أو قال فى آخر يوم من أيّامه- أنّ أطعمه شيئا. قال: فدخلت المطبخ فلم أجد شيئا فجئت إلى حمرة [1] العطّارة وكانت خازنة [2] الجوهر فقلت لها:
- «إنّ أمير المؤمنين جائع، فهل عندك شيء؟ فإنّى [110] لم أجد فى المطبخ شيئا؟» فقالت لجارية لها يقال لها بنان:
- «أىّ شيء عندك؟» فجاءت بدجاجة ورغيف، فأتيته بهما فأكل وطلب ماء يشربه فلم يجد فى خزانة الشراب ماء، فأمسى وكان عزم على لقاء هرثمة، فما شرب ماء حتّى أتى عليه.
ذكر اتفاقات عجيبة
حكى إبراهيم بن المهدى أنّه كان نازلا مع محمد المخلوع فى مدينة المنصور فى قصره بباب الذهب لمّا حصره طاهر. قال: فخرج ذات ليلة من القصر يريد أن يتفرّج من الضيق الذي هو فيه، فصار إلى قصر القرار فى قرن الصراة فى جوف الليل، ثمّ أرسل إلىّ فصرت إليه، فقال لى:
- «يا إبراهيم أما ترى طيب هذه الليلة وحسن هذا القمر وضوءه فى الماء- ونحن حينئذ فى شاطئ دجلة- فهل لك فى الشرب؟»
__________
[1] . فى الأصل: حمزة. وهو تصحيف. وفى الطبري (11: 908) : حمرة العطّارة.
[2] . فى الطبري: جارية الجوهر.(4/95)
قلت: «شأنك، جعلني الله فداءك.» قال: فدعا برطل فشربه، ثمّ أمر فسقيت مثله.
قال: فابتدأت أغنّيه من غير أن يسألنى لعلمي بسوء خلقه، فغنّيت ما كنت أعلم أنّه يحبّه فقال لى:
- «ما تقول فيمن يضرب عليك؟» فقلت: «ما أحوجنى إلى ذلك.» فدعا بجارية متقدّمة عنده يقال [111] لها: ضعف، فتطيّرت من اسمها ونحن فى تلك الحال التي هو عليها. فلمّا صارت بين يديه قال [1] لها:
- «تغنّى.» فغنّت بشعر النابغة الجعدي:
ليب لعمري كان أكثر ناصرا ... وأيسر جرما منك ضرّج بالدّم
قال: فاشتدّ عليه ما غنّت به وتطيّر منه فقال لها:
- «غنّى غير هذا.» فغنّت:
أبكى فراقهم عيني فأرّقها ... إنّ التّفرّق للأحباب بكّاء
ما زال بعدو عليهم ريب دهرهم ... حتّى تناءوا [2] وريب الدّهر عدّاء
فقال لها:
__________
[1] . فى الأصل: قالت، وهو سهو.
[2] . كذا فى الأصل وآ ومط: تناءوا. فى الطبري (11: 909) : تفانوا.(4/96)
- «لعنك الله، أما تعرفين من الغناء شيئا سوى هذا الفنّ؟» فقالت: «يا سيّدى ما تغنّيت إلّا بما ظننت أنّك تحبّه، وما أردت ما تكرهه، وما هو إلّا شيء جاءني.» ثمّ أخذت تغنّى:
أما وربّ الّسكون والحرك ... إنّ المنايا كثيرة الشّرك
ما اختلف الليل والنّهار ولا ... دارت نجوم السّماء فى الفلك
إلّا لنقل السّلطان من ملك ... عات بسلطانه إلى ملك
وملك ذى العرش دائم أبدا ... ليس بفان ولا بمشترك [112]
فقال لها:
- «قومي، غضب الله عليك ولعنك.» فقامت.
وكان له قدح من بلّور حسن الصنعة، وكان محمد يسمّيه: زبّ رباح، وكان موضوعا بين يديه فقامت الجارية منصرفة، فسحبت عليه رداؤها فكسرته وقالت:
- «تعس وانتكس الشيطان.» فقال إبراهيم: فقال لى:
- «ويحك يا إبراهيم أما ترى ما جاءت به هذه الجارية، ثمّ ما كان من كسر القدح؟ والله ما أظنّ أمرى إلّا وقد قرب.» فقلت: «يطيل الله بقاءك ويعزّ ملكك ويديم نعمتك ويكبت عدوّك.» فما استتم الكلام حتّى سمعنا صوتا عن دجلة:(4/97)
- «قضى الأمر الّذى فيه تستفتيان.» [1] فقال لى:
- «يا إبراهيم أما سمعت؟» قلت: «لا والله ما سمعت شيئا. وقد كنت سمعت.» قال: «تسمّع حسّنا.» قال: فدنوت من الشطّ فلم أر شيئا، ثمّ عاودنا الحديث فعاد الصوت:
- «قضى الأمر الذي فيه تستفتيان.» فوثب من مجلسه ذلك مغتمّا، ثمّ ركب ورجع إلى موضعه بالمدينة، فما كان بعد هذا إلّا ليلة أو ليلتان، حتّى حدث ما حدث من قتله. [113] وفى هذه السنة قتل محمد بن هارون الأمين.
مقتل محمد بن هارون الأمين ذكر ما أشير به على محمد فلم يقبله وما تأدّى إليه الأمر
لمّا صار محمد إلى المدينة وقرّ فيها وعلم قوّاده أنّه ليس لهم ولا له فيها عدّة للحصار. وخافوا أن يظفر بهم دخل على محمد حاتم بن الصقر ومحمد بن إبراهيم بن الأغلب الأفريقى وقوّاده فقالوا له:
- «قد آلت حالك وحالنا إلى ما ترى، وقد رأينا رأيا نعرضه عليك، فانظر فيه واعتزم عليه، فإنّا نرجو أن يكون صوابا، إن شاء الله.» قال: «وما هو؟» قالوا: «قد تفرّق جندك عنك وأحاط عدوّك بك من كلّ جانب وقد بقي
__________
[1] . س 12 يوسف: 41.(4/98)
من خيلك سبعة آلاف فرس من خيارها وجيادها سوى مراكبك، فنرى أن تختار ممّن عرفناه بمحبّتك من الأبناء سبعة آلاف رجل، فتحملهم على هذه الخيل وتخرج ليلا على باب من هذه الأبواب، فإنّ الليل لأهله، فنخرج ولن يثبت لنا أحد وتسير حتّى تلحق بالشام والجزيرة فنفرض الفروض ونجبى الخراج وتصير فى مملكة واسعة وملك جديد، فيسارع إليك الناس من كلّ أوب وينقطع الجنود فى طلبك وإلى ذاك ما قد أحدث الله فى مكّر [1] الليل والنهار أمورا.» فقال لهم:
- «نعمّا رأيتم.» [114] واعتزم على ذلك وخرج الخبر إلى طاهر، فكتب إلى سليمان بن أبى جعفر والى محمد بن عيسى بن نهيك والى السندي بن شاهك:
- «قد بلغني عزيمة محمد وو الله لئن لم تردّوه عن هذا الرأى لا تركت لكم ضيعة إلّا قبضتها، ثمّ لا تكون لى همّة إلّا نفوسكم. فإنّ هؤلاء الذين يسيرون معه صعاليك لا يخلّفون شيئا يشفقون عليه. فاعملوا على ما رسمته تسلموا، إن شاء الله.» فدخلوا على محمد وقالوا:
- «نذكّرك الله فى نفسك فإنّ هؤلاء صعاليك، وقد ضاق عليهم الحصار وهم يرون أن لا أمان لهم على أنفسهم وأموالهم عند أخيك وعند طاهر، لما قد انتشر عنهم من مباشرة الحرب والجدّ، فيها ولسنا نأمن إذا برزوا وحصلت فى أيديهم أن يأخذوك أسيرا أو يأخذوا رأس عدوّك فيتقرّبوا بك ويجعلوك سبب أمانهم.»
__________
[1] . الضبط موافق لما فى الأصل والطبري (11: 912) : مكرّ.(4/99)
وضربوا له فى ذلك الأمثال حتّى فزع وغيّر عزمه ورأيه.
وكان أصحابه الذين أشاروا بما أشاروا أولا جلوسا فى رواق البيت، فسمعوا جميع ما قاله سليمان وأصحابه، فهمّوا جميعا بقتل سليمان وأصحابه. ثمّ قالوا:
- «حرب من خارج وحرب من داخل.» [115] فأمسكوا.
ثمّ أشار عليه هؤلاء وقالوا:
- «قد بذل لك الأمان فاقبله، فإنّما غايتك اليوم السلامة واللهو، وليس يمنعك [1] أخوك من ذلك وسينزلك حيث تحبّ ويفردك مع من تحبّ وتهوى، وليس عليك منه بأس ولا مكروه.» فركن إلى ذلك وأجابهم إلى الخروج إلى هرثمة دون طاهر، وكان استشعر خوفا من طاهر. وكان جماعة من أصحابه يكرهون هرثمة، لأنّهم كانوا من أصحابه وقد عرفهم وعرفوه وخافوا أن يجفوهم ولا يجعل لهم مراتب.
فدخلوا على محمد فقالوا:
- «أمّا إذ أبيت ما أشرنا به وهو الصواب وقبلت رأى هؤلاء وهو الخطأ، فالخروج إلى طاهر خير لك من الخروج إلى هرثمة.» فقال لهم محمد:
- «ويحكم إنّى أكره طاهرا وذلك أنّى رأيت فى منامي كأنّى قائم على حائط من آجر شاهق فى السماء عريض الأساس وثيق لم أر حائطا يشبهه فى الطول والعرض والوثاقة وعلىّ سوادي ومنطقتي وسيفي وقلنسوتي وخفّى، وكان طاهر فى أصل ذلك الحائط، بيده بيل يضرب به أصل الحائط
__________
[1] . فى مط: يخلعك. وآ كالأصل: يمنعك.(4/100)
فما زال يضرب أصله حتّى سقط [116] الحائط وسقطت وندرت قلنسوتي عن رأسى وأنا أتطيّر منه وأكره الخروج إليه، وهرثمة مولانا وبمنزلة الوالد وأنا به أشدّ ثقة.» فلمّا همّ محمد بالخروج إلى هرثمة وسعى له بذلك وأجابه هرثمة إلى ما أراد، اشتدّ ذلك على طاهر وأبى أن يرفّه عنه ويدعه يخرج وقال:
- «هو فى حيّزى والجانب الذي أنا فيه وأنا أخرجته بالحرب والحصار حتّى طلب الأمان فلا أرضى أن يخرج إلى هرثمة دوني فيكون الفتح له.» فلمّا رأى هرثمة والقوّاد ذلك اجتمعوا فى منزل خزيمة بن خازم، فصار إليهم طاهر فى خاصّة قوّاده وحضر محمد بن عيسى بن نهيك والسندي بن شاهك وأداروا الرأى بينهم. فأخبروا طاهرا أنّه لا يخرج إليه أبدا وأنّه إن لم يجب إلى ما سأل لم يؤمن أن يجرى فى أمره ما جرى مثله أيّام الحسين بن علىّ بن عيسى بن ماهان وقالوا له:
- «يخرج ببدنه إلى هرثمة إذ كان يأنس به ويثق بناحيته ويدفع الخاتم والقضيب والبردة وذلك هو الخلافة إليك، فلا تفسد هذا الأمر واغتنمه.» فأجاب طاهر إلى ذلك ورضى.
ولمّا تهيّأ محمد للخروج خرج [117] إلى صحن القصر فقعد على كرسىّ وقام خدمه بين يديه بالأعمدة. وجاءه خادم فقال:
- «يا سيّدى، أبو حاتم يقرأ عليك السلام- يعنى هرثمة- ويقول لك: يا سيّدى وافيت للميعاد لحملك، ولكنّى رأيت ألّا تخرج الليلة فإنّى قد رأيت- وفى دجلة وعلى الشطّ- أمر قد رابنى وأخاف أن أغلب فتؤخذ من يدي أو تذهب نفسك ونفسي، ولكن أقم بمكانك حتّى أرجع فاستعدّ، ثمّ آتيك القابلة، فأخرجك، فإن حوربت دونك حاربت ومعى عدّتى.» قال: فقال له محمد:(4/101)
- «إرجع إليه فقال له: لا تبرح، فإنّى خارج إليك الساعة لا محالة.» قال: وقلق:
- «إنّه قد تفرّق عنّى الناس ومن على بابى من الموالي والحرس ولا آمن إن أصبحت وانتهى خبري إلى طاهر أن يدخل علىّ فيأخذنى.» ثمّ دعا بفرس له أدهم أغرّ محجّل كان يسمّيه: الزهيرى، ودعا بابنيه فضمّهما إليه وشمّهما وقال:
- «أستودعكما الله.» ودمعت عيناه، فجعل يمسح دموعه بكمّه، ثمّ قام فوثب على الفرس وخرجنا بين يديه إلى باب القصر حتّى ركبنا دوابّنا وبين يديه شمعة واحدة حتّى خرجنا إلى المشرعة، فإذا حرّاقة [118] هرثمة، فنزل فى الحرّاقة [1] .
ورجعنا إلى المدينة فدخلناها وأمرنا بالباب فأغلق وسمعنا الواعية فصعدنا القبّة التي على الباب نتسمّع الصوت.
فذكر أحمد بن سلام صاحب المظالم أنّه قال: كنت مع هرثمة مع قوّاده فى الحرّاقة. فلمّا دخل محمد الحرّاقة قمنا على أرجلنا إعظاما له وجثا هرثمة على ركبتيه وقال:
- «يا سيّدى لا أقدر على القيام لمكان النقرس الذي بى.» ثمّ احتضنه وصيّره فى حجره وجعل يقبّل يديه ورجليه وعينيه ويقول:
- «سيّدى ومولاي وابن سيّدى ومولاي.» وجعل محمد يتصفّح وجوهنا ونظر إلى عبيد الله بن الوضّاح فقال:
- «أيّهم أنت؟» قال: «أنا عبيد الله بن الوضّاح.»
__________
[1] . الحرّاقة: السفينة الحربيّة، فيها مرامي نيران يرمى بها العدوّ.(4/102)
قال: «نعم جزاك الله خيرا فما أشكرنى لما كان منك فى أمر الثلج ولو قد لقيت أخى- أبقاه الله- لم أدع شكرك عنده.» قال: فبينا نحن كذلك، وقد أمر هرثمة بالحرّاقة أن تدفع، إذ شدّ علينا أصحاب طاهر فى الزواريق وعطعطوا وتعلّقوا بالسكّان وبعض يقطع السكّان وبعض ينقب الحرّاقة وبعض يرمى بالنشّاب فنقبت الحرّاقة سريعا ودخلها [119] الماء وغرقت وسقط هرثمة إلى الماء وسقطنا كلّنا فتعلّق الملّاح بشعر هرثمة فأخرجه وخرج كلّ واحد منّا على حياله لقربنا من الشطّ ورأيت محمدا فى تلك الحال وقد شقّ عنه ثيابه ورمى بنفسه إلى الماء. فأمّا أنا فتعلّق بى رجل من أصحاب طاهر ومضى بى إلى رجل قاعد على كرسىّ على شطّ دجلة وبين يديه نار توقد. فقال له بالفارسية:
- «هذا رجل أخرج من الماء ممّن غرق من أهل الحرّاقة.» فقال لى:
- «ممّن أنت؟» قلت: «من أصحاب هرثمة أنا أحمد بن سلام صاحب المظالم مولى أمير المؤمنين.» قال: «كذبت فاصدقني.» قلت: «قد صدقتك.» قال: «فما فعل المخلوع؟» قلت: «رأيته حين شقّ عنه ثيابه وقذف بنفسه فى الماء.» قال: «قدّموا دابّتى.» فقدّموا دابّته فركب وأمر بى أن أجنب، فجعل فى عنقي حبل وجنبت وأخذ فى درب الزبيدية. ولمّا عدوت ساعة انبهرت فلم أقدر على العدو فقمت. فقال الذي خلفي:(4/103)
- «قد قام هذا الرجل وليس يعدو.» قال: «انزل فخذ رأسه.» قلت: «جعلت فداك، ولم تقتلني وأنا رجل لله علىّ نعمة ولا أقدر على العدو وأنا أفدى نفسي بعشرة آلاف درهم.» [120] فلمّا سمع ذكر العشرة آلاف قال للرجل الذي أمره بقتلى:
- «أمسك.» ثمّ قال:
- «وكيف لى بالعشرة آلاف؟» قلت: «تحبسني عندك حتّى نصبح، ثمّ تدفع إلىّ رسولا أرسله إلى وكيلي فى منزلي فى عسكر المهدى، فإن لم يأتك بالعشرة آلاف فاضرب عنقي.» قال: «قد أنصفت.» وأمر بحملي فحملت ردفا، فمضى بى إلى دار صاحبه دار أبى صالح الكاتب وأمر غلمانه أن يحتفظوا بى، وتفهّم منّى خبر محمد ووقوعه إلى الماء ومضى إلى طاهر ليخبره وإذا هو إبراهيم البلخي. قال: فصيرني غلمانه فى بيت من بيوت الدار فيه بواري ووسادتان وفى زاوية من زواياه حصر مدرّجة قال: فقعدت فى البيت وصيّروا فيه سراجا وتوثّقوا من الباب وقعدوا يتحدّثون. فلمّا ذهب من الليل ساعة إذا نحن بحركة الخيل، فدقّوا الباب ففتح لهم وهم يقولون:
- «بسّر زبيدة [1] .» قال: «فأدخل إلىّ رجل عريان عليه سراويل وعمامة متلثّم بها وعلى كتفيه خرقة خلقة. فصيّروه معى وتقدّموا إلى من فى الدار بحفظه وخلّفوا
__________
[1] . كذا فى الأصل: بسّر زبيدة. ما فى آتصحيف بالإهمال. وفى الطبري: (11: 921) : پسر زبيدة، أى ابن زبيدة. وما فى الأصل معرّب.(4/104)
معهم قوما آخرين منهم أيضا. قال: فلمّا استقرّ فى البيت حسر العمامة عن وجهه، فإذا هو محمد، فاستعبرت [121] واسترجعت فيما بيني وبين نفسي، وجعل ينظر إلىّ. ثمّ قال:
- «أيّهم أنت؟» قلت: «أنا مولاك يا سيّدى.» قال: «وأىّ الموالي؟» قلت: «أحمد بن سلام صاحب المظالم.» قال: «أعرفك بغير هذا، كنت تأتينى وتلطفنى كثيرا، لست مولاي، ولكنّك أخى.» ثمّ قال: «يا أحمد.» قلت: «لبّيك يا سيّدى.» قال: «أدن منّى وضمّنى إليك، فإنّى أجد وحشة شديدة.» قال: «فضممته إلىّ، فإذا قلبه يخفق حتّى يكاد يخرج من صدره، فلم أزل أضمّه إلىّ وأسكّنه.» قال: ثمّ قال لى:
«يا أحمد ما فعل أخى؟» قلت: «هو حىّ.» قال: «قبّح الله صاحب بريدهم ما أكذبه! كان يقول: قد مات، شبه المعتذر من محاربته.» قال: قلت: «يا سبحان الله! ففي أىّ شيء دفعنا إذا، بل قبّح الله وزراءك.» قال: «لا تقل لوزرائى إلّا خيرا، فما لهم ذنب ولست بأوّل من طلب أمرا فلم يقدر عليه.»(4/105)
ثمّ قال لى: «يا أحمد ما تراهم يصنعون بى، تراهم يقتلوني أو يفون لى بأمانهم؟» قال: قلت: «بل يفون لك يا سيّدى.» قال: وجعل يضمّ على نفسه الخرقة التي على كتفيه ويضمّها ويمسكها بعضديه يمنة ويسرة. قال: ونزعت مبطّنة كانت علىّ وقلت يا سيّدى:
- «ألق هذه عليك.» قال: [122]- «ويحك دعني، فهذا من الله لى فى هذا الموضع خير.» قال: وبينا نحن كذلك إذ دقّ باب الدار ففتح فدخل علينا رجل عليه سلاحه فتطلّع فى وجهه مستثبتا له، فلمّا أثبته معرفة انصرف وأغلق الباب وإذا هو محمد بن حميد الطاهري. قال: فعلمت أنّ الرجل مقتول. قال:
وكان بقي علىّ من صلاتي الوتر فخفت أن أقتل معه ولم أوتر. قال: فقمت أوتر. فقال لى:
- «يا أحمد لا تباعدني وصلّ إلى جانبي فإنّى أجد وحشة شديدة.» قال: فاقتربت منه. فلمّا انتصف الليل أو قارب سمعت حركة الخيل، ودقّ الباب ففتح فدخل الدار قوم من العجم بأيديهم السيوف مسلّلة، فلمّا رآهم قام قائما وجعل يقول:
- «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156، ذهبت والله نفسي فى سبيل الله، أما من حيلة أما من مغيث، أما من أحد من الأبناء؟» قال: وجاءوا حتّى قاموا على باب البيت الذي نحن فيه، فأحجموا عن الدخول وجعل بعضهم يقول لبعض «تقدّم» ويدفع بعضهم بعضا. قال: فقمت فصرت خلف الحصر المدرّجة فى زاوية البيت، وقام محمد فأخذ [123] بيده وسادة وجعل يقول:(4/106)
- «ويحكم إنّى ابن عمّ رسول الله- صلى الله عليه- أنا ابن هارون، أنا أخو المأمون الله الله فى دمى.» قال: فدخل عليه رجل منهم يقال له: حميرويه [1] غلام لقريش الدندانى مولى طاهر، فضربه على مقدم رأسه وضرب محمد وجهه بالوسادة التي كانت فى يده واتكأ عليه ليأخذ السيف من يده، فصاح بالفارسية:
- «قتلني، قتلني.» قال: فدخل منهم جماعة فنخسه واحد منهم بالسيف فى خاصرته، وركبوه فذبحوه ذبحا من قفاه، وأخذوا رأسه فمضوا به إلى طاهر، فتركوا جثّته. ولما كان فى وقت السحر جاءوا إلى جثّته فأدرجوها فى جلّ وحملوها. قال: فأصبحت فقيل:
- «هات العشرة آلاف درهم.» قال: فبعثت إلى وكيلي فأتانى فأمرته فأتانى بها فدفعتها إليه.
ولمّا أصبح طاهر نصب رأس محمد على البرج برج حائط البستان الذي يلي باب الأنبار، وفتح باب الأنبار وخرج من أهل بغداد للنظر إليه ما لا يحصى عددهم. وأقبل طاهر يقول:
- «هذا رأس المخلوع.» وذكر محمد بن عيسى أنّه قال: رأى المخلوع على ثوبه قمّلة، فقال:
- «ما هذا؟» قالوا: «شيء [124] يكون فى ثياب الناس.» فقال: «أعوذ بالله من زوال النعمة.» فقتل من يومه.
__________
[1] . كذا فى الأصل. فى آ: حمرويه. فى مط: جيرونه. فى الطبري (11: 923) : خمارويه. وفى تد (415) : خميرويه (بالخاء المعجمة) .(4/107)
وبعث طاهر برأس محمد إلى المأمون مع الرداء والقضيب والمصلّى وهو من سعف مبطّن مع محمد بن مصعب ابن عمّه فأمر له المأمون بألف ألف درهم. قال: فرأيت ذا الرئاستين وقد أدخل رأس محمد على ترس بيده إلى المأمون. قال: فلمّا رآه سجد.
وكتب طاهر إلى إبراهيم بن المهدى بعد قتل المخلوع:
- «أمّا بعد، فإنّه عزيز علىّ أن أكتب إلى رجل من أهل بيت الخلافة بغير التأمير [1] ولكنّه بلغني أنّك تميل بالرأى وتصغى بالهوى إلى الناكث المخلوع.
فإن كان كذلك فكثير ما كتبت به إليك، وإن كان غير ذلك فالسلام عليك ورحمة الله وبركاته.»
وثوب الجند بطاهر بعد مقتل الأمين
وفى هذه السنة وثب الجند بعد مقتل محمد بطاهر، فهرب منهم وتغيّب أيّاما حتّى أصلح أمرهم.
ذكر الخبر عن ذلك وسببه وما استعمله طاهر من الحزم قبله
إنّ أصحاب طاهر بعد مقتل محمد بخمسة أيّام طلبوا أرزاقهم ووثبوا به ولم يكن فى يده مال فضاق به أمره، وظنّ أنّ ذلك بمواطأة أهل الأرباض إيّاهم [125] وأنّهم معهم عليه ولم يكن تحرّك فى ذلك من أهل الأرباض أحد، فاشتدّت شوكتهم وخشي طاهر على نفسه فهرب من البستان وانتهبوا بعض متاعه، ومضى إلى عاقرقوف.
__________
[1] . فى مط: الأمير. آوالطبري (11: 933) : كالأصل.(4/108)
وكان ممّا قدّم الحزم فيه أن حفظ أبواب المدينة وباب القصر لمّا فرغ من قتل محمد وحوّل زبيدة وموسى وعبد الله ابني محمد إلى قصر الخلد ليلا ثمّ حملهم فى حرّاقة همينيا على الغربي من الزاب الأعلى، ثمّ أمر بحمل موسى وعبد الله إلى عمّهما بخراسان على طريق الأهواز وفارس.
فلمّا وثب الجند بطاهر وطلبوا الأرزاق أحرقوا باب الأنبار الذي على الخندق وباب البستان، وشهروا السلاح ونادوا:
- «موسى يا منصور.» وبقوا كذلك يومهم ومن الغد، فتبيّن صواب رأى طاهر فى إخراج موسى وعبد الله. وكان طاهر انحاز ومن معه من القوّاد وتعبّأ لقتالهم ومحاربتهم.
فلمّا بلغ ذلك الوجوه والقوّاد ممّن شغّب صاروا إليه واعتذروا وأحالوا على سفهاء الجند وأحداثهم وسألوه الصفح عنهم وقبول عذرهم والرضى وضمنوا له ألّا [126] يعودوا لمكروهه ما أقام معهم.
وأتاه مشايخ الأرباض فحلفوا له بالمغلّظة من الأيمان أنّه لم يتحرّك فى هذه الأيّام أحد من أبناء الأرباض، ولا كان ذلك عن رأيهم ولا أرادوه.
وضمنوا له أن يقوم له كلّ إنسان منهم فى ناحيته بما يجب عليه حتّى لا يأتيه من ناحيته أمر يكرهه.
وأتاه عميرة أبو شيخ بن عميرة الأسدى فى مشيخة من الأبناء، فلقوه بمثل ذلك وأعلموه حسن رأى من خلفهم من الأبناء فطابت نفسه إلّا أنّه قال:
- «والله ما اعتزلت عنهم إلّا لوضع السيف فيهم. وأقسم بالله لئن عدتم لمثلها لأعودنّ إلى رأيى فيكم ولأخرجنّ إلى مكروهكم.» فكسرهم بذلك وأمر لهم برزق أربعة أشهر وانصرف إلى معسكره بالبستان ودعا بوجوه أصحابه وفيهم سعيد بن مالك وقال:(4/109)
- «أنّه لا مال عندي وقد أطلقت للقوم أرزاقهم، فما الوجه؟» فقال سعيد:
- «أنا أحمل عشرين ألف دينار.» فطابت نفسه وحمل غيره حتّى أرضى أصحابه وقال لسعيد:
- «إنّى أقبلها على أن تكون دينا علىّ.» فقال: «بل هي هدية وقليله لغلامك وفيما أوجب الله من حقّك.» [127] وسكن الجند.
وكانت خلافة محمد المخلوع نحو خمس سنين ينقص شهرين، وكان عمره كلّه ثمانيا وعشرين سنة، وكان سبطا أنزع أبيض أقنى جميلا طويلا أبعد ما بين المنكبين صغير العينين.
وذكر الموصلي أنّ طاهرا لمّا بعث برأس محمد إلى المأمون بكى ذو الرئاستين وقال:
- «سلّ عليها سيوف الناس وألسنتهم أمرناه أن يبعث به أسيرا فبعث به عقيرا.» فقال له المأمون:
- «أنّه قد مضى ما مضى فاحتل فى الاعتذار منه.» وكتب الناس فأطالوا وجاء أحمد بن يوسف بشبر قرطاس فيه:
- «أمّا بعد فإنّ المخلوع وإن كان قسيم أمير المؤمنين فى النسب واللحمة، فقد فرّق الله بينه وبينه فى الولاية والحرمة بمفارقته عصم الدين وخروجه من الأمر الجامع للمسلمين. يقول الله عزّ وجلّ حين اقتصّ نبأ ابن نوح: إِنَّهُ لَيْسَ من أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ 11: 46 [1] ولا طاعة لأحد فى معصية
__________
[1] . س 11 هود: 46.(4/110)
الله ولا قطيعة إذا كانت القطيعة فى جنب الله وكتابي هذا إلى أمير المؤمنين وقد قتل الله المخلوع وردّاه رداء نكثه وأحصد لأمير المؤمنين أمره [128] وأنجز له وعده وما ينتظر من صادق أمره حين ردّ به الألفة بعد فرقتها وجمع الأمّة بعد شتاتها وأحيى به الأعلام من الإسلام بعد دروسها.» [1]
__________
[1] . انظر الطبري (11: 950) .(4/111)
خلافة المأمون
وفى هذه السنة ولّى المأمون كلّ ما كان طاهر بن الحسين افتتحه من كور الجبال وفارس والأهواز والبصرة والكوفة واليمن الحسن بن سهل أخا الفضل بن سهل، وذلك بعد مقتل محمد المخلوع ودخول الناس فى طاعة المأمون.
وفيها كتب المأمون إلى طاهر بن الحسين وهو مقيم ببغداد بتسليم جميع ما فى يده من الأعمال فى البلدان كلّها إلى خلفاء الحسن بن سهل وأن يشخص عن ذلك إلى الرقّة وجعل إليه حرب نصر بن شبث [1] وولّاه الموصل والجزيرة والشام والمغرب، وقدم علىّ بن أبى سعيد العراق خليفة الحسن بن سهل على خراجها. فدافع طاهر عليّا بتسليم الخراج إليه حتّى وفّى الجند أرزاقهم. فلمّا وفّاهم سلّم إليه العمل.
وكتب المأمون إلى هرثمة يأمره بالشخوص إلى خراسان.
ودخلت سنة تسع وتسعين ومائة [129]
وفيها قدم الحسن بن سهل العراق من عند المأمون واليه الحرب والخراج، وفرّق عمّاله فى الكور والبلدان.
__________
[1] . كذا فى الأصل والطبري (11: 975) : شبث. فى مط: شبيب (بإهمال الحرف الأخير) .(4/113)
خروج ابن طباطبا فى الكوفة دعوة إلى الرضا من آل محمد - صلى الله عليه وسلم - والعمل بالكتاب والسنّة
وفيها خرج بالكوفة محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علىّ بن أبى طالب عليهم السلام يدعو إلى الرضا من آل محمد والعمل بالكتاب والسنّة وهو الذي يقال له: ابن طباطبا، وكان القيّم بأمره فى الحرب وتدبيرها وقيادة جيوشه أبو السرايا واسمه السرى بن منصور.
ذكر السبب فى خروجه
كان سبب خروجه صرف المأمون طاهر بن الحسين عمّا كان إليه من أعمال البلدان التي افتتحها وتوجيهه إلى ذلك الحسن بن سهل أخا الفضل بن سهل. وذلك أنّ الناس بالعراق تحدّثوا بينهم أنّ الفضل بن سهل قد غلب على المأمون، وأنّه قد أنزله قصرا حجبه فيه عن أهل بيته ووجوه قوّاده ومن الخاصّة والعامّة، وأنّه يبرم الأمور على هواه ويستبدّ بالرأى دونه. فغضب لذلك من بالعراق من بنى هاشم ووجوه الناس وأنفوا من غلبة الفضل بن سهل على المأمون [130] واجترأوا على الحسن بن سهل بذلك، وهاجت الفتن فى الأمصار. فكان أوّل من خرج بالكوفة ابن طباطبا الذي ذكرت.
وكان سبب خروجه أنّ أبا السرايا كان من رجال هرثمة، فمطله بأرزاقه وأخّره بها. فغضب أبو السرايا ومضى إلى الكوفة فبايع ابن طباطبا واجتمع إلى ابن طباطبا الناس. فوجّه الحسن بن سهل زهير بن المسيّب فى أصحابه إلى الكوفة فى عشرة آلاف فارس وراجل، فتهيأوا للخروج إليه، فلم تكن(4/114)
بهم قوّة على الخروج. فأقاموا حتّى بلغ زهير قرية شاهي، [1] ثمّ واقعهم ابن طباطبا فهزمهم واستباح عسكرهم وأخذوا ما كان معه من مال وسلاح ودوابّ وغير ذلك.
فلمّا كان من غد ظفره بزهير واستباحته عسكره، مات فجأة، فتحدّث الناس أنّ أبا السرايا سمّه وأنّه إنّما فعل ذلك لأنّ ابن طباطبا لمّا أحرز ما فى عسكر زهير بن المسيّب من المال والسلاح والكراع، منعه أبا السرايا وحظره عليه، وكان الناس له مطيعين فعلم أبو السرايا أنّه لا أمر له فسمّه.
فلمّا مات ابن طباطبا أقام أبو السرايا [131] مكانه غلاما أمرد حدثا وهو محمد بن محمد بن زيد بن علىّ بن الحسين بن علىّ بن أبى طالب، عليهم السلام. فكان أبو السرايا هو الذي ينفّذ الأمور.
وكان الحسن بن سهل قد وجّه عبدوس بن محمد بن أبى خالد المروروذىّ إلى النّيل حين وجّه زهيرا إلى الكوفة. فلمّا هزم أبو السرايا زهيرا خرج عبدوس يريد الكوفة بأمر الحسن بن سهل حتّى بلغ الجامع وزهير مقيم بالقصر، [2] فتوجّه أبو السرايا إلى عبدوس فواقعه بالجامع فقتله وأسر هارون بن أبى خالد واستباح عسكره وكان فى أربعة آلاف، فلم يفلت منهم أحد كانوا بين قتيل وأسير.
وانتشر الطالبيّون وانحاز زهير إلى نهر الملك وأقبل أبو السرايا حتّى نزل قصر ابن هبيرة بأصحابه وكانت طلائعه تأتى كوثى. ثمّ وجّه أبو السرايا جيوشه إلى البصرة وواسط فدخلوها، وكان بواسط وأعمالها عبد الله بن سعيد الحرشي واليا عليها من قبل الحسن بن سهل، فواقعه جيش أبى السرايا قريبا من واسط فهزموه فانصرف راجعا إلى بغداد وقتل أصحابه وأسروا.
__________
[1] . شاهي: موضع قرب القادسيّة. (مراصد الإطلاع) .
[2] . بالقصر: كذا فى الأصل ومط وتد (421) والطبري (11: 978) . وفى آ: بالبصرة.(4/115)
فلمّا رأى الحسن بن سهل أنّ أبا السرايا يهزم عساكره [132] ولا يتوجّه إلى بلدة إلّا افتتحها ولم يجد فى قوّاده من يكفيه حربه، تذكّر هرثمة. وكان هرثمة لمّا قدم الحسن بن سهل العراق واليا من قبل المأمون سلّم إليه ما كان بيده من الأعمال وتوجّه نحو خراسان مغاضبا، فبلغ حلوان وبعث إليه الحسن السندي وصالحا صاحب المصلّى يسأله الانصراف إلى بغداد لحرب أبى السرايا فامتنع وأبى وقال:
- «تذكروننا عند البلاء.» فانصرف رسل الحسن إليه بإباءه وتمنّعه فأعاد إليه السندي بكتب لطيفة ورسائل تشبه الكتب، فأجاب وانصرف إلى بغداد فقدمها فى شعبان وتهيّأ للخروج.
وأمر الحسن علىّ بن أبى سعيد أن يخرج إلى ناحية المدائن وواسط والبصرة وتهيئوا لذلك وبلغ الخبر أبا السرايا وهو بقصر ابن هبيرة، فوجّه إلى المدائن فدخلها أصحابه فى شهر رمضان وتقدّم هو بنفسه حتّى نزل صرصر.
وكان هرثمة أنفذ منصور بن المهدى إلى الياسرية فخرج وعسكر بها. فلمّا قدم هرثمة خرج فعسكر بالسفينتين بين يدي منصور ثمّ شخص إلى نهر صرصر بإزاء أبى السرايا والنهر بينهما. [133] وتوجّه علىّ بن سعيد من طريق كلواذى إلى المدائن فقاتل أصحاب أبى السرايا وهزمهم وأخذ المدائن وبلغ أبا السرايا فرجع من نهر صرصر إلى قصر ابن هبيرة وأصبح هرثمة فجدّ فى طلبه فوجد جماعة كبيرة فقتلهم وبعث برؤوسهم إلى الحسن بن سهل ثمّ صار إلى قصر ابن هبيرة فكانت بينه وبين أبى السرايا وقعة قتل فيها من أصحاب أبى السرايا خلق كثير وانحاز أبو السرايا إلى الكوفة.
فوثب محمد بن محمد ومن معه من الطالبيّين على دور بنى العبّاس(4/116)
ومواليهم وأتباعهم فانتهبوها وهدموها وحرّقوها وخرّبوا ضياعهم وأخرجوهم من الكوفة وعملوا فى ذلك عملا قبيحا جدّا واستخرجوا الودائع التي كانت عند الناس.
وتوجّه علىّ بن أبى سعيد بعد أخذه المدائن إلى واسط فأخذها ثمّ توجّه إلى البصرة فلم يقدر على أخذها حتّى انقضت سنة تسع [1] .
ثمّ دخلت سنة مائتين
هروب أبى السرايا من الكوفة ومقتله
وفيها هرب أبو السرايا من الكوفة ودخلها هرثمة ومنصور بن المهدى فآمنوا [134] أهلها ولم يعرضوا لأحد. ثمّ إنّ أبا السرايا عبر دجلة أسفل واسط. فأتى عبدسيّ [2] فوجد بها مالا كان حمل من الأهواز فأخذه ثمّ مضى حتّى أتى السوس فنزلها وأقام بها أربعة أيّام وجعل يعطى الفارس ألفا والراجل خمسمائة.
فلمّا كان اليوم الرابع أتاهم الحسن بن علىّ الباذغيسى المعروف بالمأمونى فأرسل إليهم:
- «اذهبوا حيث شئتم فإنّه لا حاجة لى فى قتالكم، إذا أنتم خرجتم من عملي فلست أتبعكم.» فأبى أبو السرايا إلّا قتاله فقاتلهم فهزمهم الحسن واستباح عسكرهم وجرح أبو السرايا جراحة شديدة فهرب واجتمع هو ومحمد بن محمد وأبو الشوك، فأخذوا ناحية الجزيرة يريدون منزل أبى السرايا برأس العين، فلمّا انتهوا إلى جلولاء عثر بهم فأتاهم حمّاد فأخذهم فجاء بهم إلى الحسن بن
__________
[1] . كذا فى الأصل وآ ومط: سنة تسع. فى الطبري (11: 984) : سنة 199 وفى تد (422) : سنة.
[2] . عبدسيّ (تعريب أفداسهى) : اسم لما كان حول كسكر من العمارة (مرصد الإطلاع) .(4/117)
سهل وكان مقيما بالنهروان حين طردته الحربية فضرب عنق أبى السرايا، وكان الذي تولّى ضرب رقبته هارون بن محمد بن أبى خالد الذي كان أسيرا فى يده. فلم ير أحد عند القتل أشدّ جزعا من أبى السرايا كان يضرب بيديه ورجليه ويصيح أشدّ ما يكون من الصياح حتّى جعل فى رأسه حبل [135] وفى يديه حبل وفى رجليه حبل وهو فى ذلك يضطرب ويلتوي ويصيح حتّى ضربت عنقه. ثمّ بعث برأسه فطيف به وبعث بجسده إلى بغداد فصلب على الجسرين فى كلّ جسر نصف.
وكان بين خروجه وقتله عشرة أشهر.
وتوجّه علىّ بن أبى سعيد إلى البصرة فافتتحها، وكان الذي بها من الطالبيّين زيد بن موسى بن جعفر بن محمد بن علىّ بن الحسين بن علىّ بن أبى طالب عليهم السلام وهو الذي يقال له: زيد النار، وإنّما سمّى بذلك لكثرة ما حرّق من الدور بالبصرة. وكان إذا أتى برجل من المسوّدة كانت عقوبته أن يحرقه بالنار، فأسره علىّ بن أبى سعيد مع جماعة من قوّاده وبعث بهم إلى الحسن بن سهل.
خروج إبراهيم بن موسى بن جعفر (ع) باليمن
وفى هذه السنة خرج إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علىّ بن الحسين بن علىّ بن أبى طالب عليهم السلام باليمن.
ذكر السبب فى خروجه
كان سببه أنّ أبا السرايا لمّا تغلّب على الكوفة وتجاسر الناس على الحسن بن سهل، حدّث هذا أيضا نفسه باليمن وكان بها من قبل المأمون إسحاق بن موسى بن عيسى بن موسى. [136] فلمّا سمع بإقبال إبراهيم بن(4/118)
موسى العلوي وأهل بيته إليه كره قتالهم وخرج بجميع من فى عسكره من الخيل والرجل فخلّى لإبراهيم اليمن. فدخل إبراهيم بلاد اليمن وقتل خلقا كثيرا وسبى وأخذ أموالا عظيمة من الناس فسمّى إبراهيم الجزّار.
جلوس الأفطس
وفى هذه السنة جلس حسين بن حسن الأفطس وكان خرج من قبل أبى السرايا. فجلس على نمرقة مثنّية خلف المقام فأمر بثياب الكعبة التي عليها فجرّدت منها حتّى لم يبق عليها شيء وبقيت حجارة. ثمّ كساها ثوبين من قزّ رقيق وجّه بهما أبو السرايا مكتوب عليهما:
«ممّا أمر به الأصفر بن الأصفر ابن السرايا داعية آل محمد لكسوة بيت الله وأن يطرح عنه كسوة الظلمة من ولد العباس لتطهّر من كسوتهم وكتب فى سنة تسع وتسعين ومائة.» ثمّ أمر الحسين بالكسوة التي كانت على الكعبة فقسّمت بين أصحابه من العلويّين وأتباعهم، وعمد إلى ما فى خزانة [1] الكعبة من مال فأخذه ولم يسمع بأحد عنده وديعة لأحد من ولد العباس وأتباعهم إلّا هجم عليه فى داره فأخذه. وإن لم يجد عنده شيئا أخذه فحبسه وعاقبه حتّى يفتدى بقدر طوله [137] حتّى أفقر خلقا وهرب كثير من أهل النعم فتعقّبهم بهدم دورهم، حتّى صار أصحابه إلى أخذ الحرم وأخذ أبناء الناس وتهتّكوا وجعلوا يحكّون الذهب الرقيق الذي فى أسافل رؤوس أساطين المسجد الحرام، فيخرج من الأسطوانة بعد التعب الشديد قدر مثقال ذهبا، وقلعوا الحديد الذي على شبّاك كوى المسجد الحرام وقلعوا شبّاك زمزم وباعوها، فتغيّر لهم الناس ولعنوهم.
__________
[1] . ما فى الأصل: خزاية. فى آومط والطبري (11: 988) : خزانة.(4/119)
اجتماع الحسين وأصحابه إلى محمد بن جعفر لمبايعته بالخلافة
وبلغهم أنّ أبا السرايا قتل، وطرد من كور العراق كلّها الطالبيّون، وأنّ الولاية رجعت بها لولد العباس. فعلم حسين أنّه لا ثبات له ولا لأصحابه لسوء السيرة التي ظهرت منهم. فاجتمعوا إلى محمد بن جعفر بن محمد الصادق وكان شيخا ودعا [1] يروى العلم عن أبيه جعفر بن محمد عليه السلام، وينتابه الناس فيكتبون عنه، وكان له سمت وزهد، وفارق ما كان عليه أهل بيته، فكان محبّبا فى الناس. فلمّا اجتمع إليه حسين وأصحابه قالوا له:
- «قد تعلم حالك فى الناس، فأبرز شخصك نبايع لك بالخلافة، فليس يختلف عليك اثنان.» فأبى إباء شديدا. فلم يزل به ابنه علىّ وحسين بن حسن الأفطس حتّى غلبا الشيخ [138] على رأيه فأجابهم. فأقاموه يوم الجمعة فبايعوه بالخلافة، وحشروا إليه الناس من أهل مكّة والمجاورين، فبايعوه وسمّوه: أمير المؤمنين. فأقام شهورا ليس له من الأمر إلّا اسمه، وابنه علىّ وحسين وجماعة معهما أسوأ ما كانوا سيرة.
فوثب حسين بن حسن على امرأة من قريش ولها زوج، وكانت ذات جمال بارع. فانتزعها وأخاف زوجها حتّى توارى، واغتصبها نفسها بعد أن كسر عليها بابها وحملت حملا إلى حسين.
ووثب علىّ بن محمد وهو ابن أمير المؤمنين محمد بن جعفر على غلام
__________
[1] . فى آ: وداعا. وفى الطبري (11: 989) : ودّاعا.(4/120)
من قريش، ابن قاض بمكّة يقال له: إسحاق بن محمد، كان جميلا بارعا فى الجمال. فاقتحم عليه بنفسه نهارا جهارا فى داره على الصفا مشرفا على المسعى، حتّى حمله على فرسه فى السرج، وركب علىّ على عجز الفرس، وخرج به يشقّ السوق. فلمّا رآه أهل مكّة ومن بها من المجاورين خرجوا، فاجتمعوا فى المسجد الحرام وغلّقت الدكاكين ومال معهم أهل الطواف بالكعبة، حتّى أتوا أباه محمد بن جعفر فقالوا:
- «لنخلعنّك ولنقتلنّك أو تردّ إلينا هذا الغلام الذي أخذه [139] ابنك جهرة.» فأغلق بابه وكلّمهم من شبّاك الشارع فى المسجد وقال:
- «والله ما علمت، فأمهلونى.» ثمّ أرسل إلى حسين بن حسن الأفطس وسأله أن يركب إلى ابنه فيستنقذ الغلام من يده. فأبى ذلك حسين وقال:
- «والله إنّك لتعلم أنّى لا أقوى على ابنك، ولو جئته لقاتلنى فى أصحابه.» فلمّا رأى محمد بن جعفر ذلك، قال لأهل مكّة:
- «آمنونى حتّى أركب إليه وآخذ الغلام.» فآمنوه فركب بنفسه حتّى صار إلى ابنه، فأخذ الغلام منه وسلّمه إلى أهله.
فلم يلبثوا إلّا يسيرا حتّى أقبل إسحاق بن موسى العباسي إليهم، فاجتمع العلويّون إلى محمد بن جعفر وقالوا:
- «هذا إسحاق بن موسى مقبلا إلينا فى الخيل والرجال، وقد رأينا أن نخندق خندقا وتبرز شخصك ليراك الناس فيتحاربوا معك.» وبعثوا إلى من حولهم من الأعراب ففرضوا لهم وخندقوا بأعلى مكّة.
فورد إسحاق وقاتلهم أيّاما ثمّ كره إسحاق الحرب وخرج يريد العراق. فلقيه(4/121)
ورقاء بن جميل ومن كان معه من أصحاب الجلودي فقالوا لإسحاق:
- «إرجع معنا إلى مكّة ونحن نكفيك القتال.» فرجع معهم واجتمع إلى محمد [140] من كان معه، فتقاتلوا عند بئر ميمون يوما ثمّ عاودهم بعد ذلك بيوم، فكانت الهزيمة على أصحاب محمد بن جعفر. فبعث محمد بن جعفر رجالا من قريش فيهم قاضى مكّة يسألون لهم الأمان حتّى يخرجوا من مكّة ويذهبوا حيث شاءوا. فأجابهم إسحاق وورقاء إلى ذلك وأجّلوهم ثلاثة أيّام. ثمّ دخل إسحاق وورقاء مكّة وتفرّق الطالبيّون وأخذ كلّ قوم ناحيته.
وفى هذه السنة شخص هرثمة من معسكره إلى المأمون بمرو [1]
ذكر خروج هرثمة ومراغمته للحسن والفضل وما آل إليه أمره
لمّا فرغ هرثمة من أمر أبى السرايا ومحمد بن محمد العلوي ودخل الكوفة، أقام فى معسكره أيّاما. ثمّ أتى نهر صرصر والناس يظنّون أنّه يأتى الحسن بن سهل بالمدائن. فلمّا بلغ نهر صرصر خرج على عقرقوف [2] ، ثمّ أتى البردان ثمّ أتى النهروان. ثمّ سار حتّى أتى خراسان فاستقبلته كتب من المأمون فى غير منزل أن يرجع فيلي الشام والحجاز. فأبى وقال:
- «لا أرجع حتّى ألقى أمير المؤمنين.» إدلالا منه عليه لما كان يعرف من نصيحته له ولآباءه وأراد أن يعرّف المأمون ما يدبّر عليه الفضل بن سهل وما يكتم عنه من [141] الأخبار، وألّا يدعه حتّى يردّه إلى بغداد دار خلافة آباءه وملكهم، ليتوسّط سلطانه ويشرف على أطرافه. فعلم الفضل ما يريد
__________
[1] . انظر الطبري (11: 996) .
[2] . فى آ: عقرقوب.(4/122)
فقال للمأمون:
- «إنّ هرثمة قد أنغل عليك العباد والبلاد، وظاهر عليك عدوّك، وعادى وليّك، ولقد دسّ أبا السرايا وإنّما هو بعض خوله، حتّى عمل ما عمل. ولو شاء هرثمة ألّا يفعل ذلك أبو السرايا ما فعله.» وقد كتب إليه أمير المؤمنين عدّة كتب أن يرجع فيلي الشام والحجاز فأبى، وقد رجع إلى باب أمير المؤمنين عاصيا مشاقّا يظهر القول الغليظ ويتوعّد بالأمر الجليل وإن أطلق هذا كان مفسدة لغيره. فأشرب قلب المأمون عليه. وأبطأ هرثمة فى المسير. فلم يصل إلى خراسان إلّا فى شهور.
فلمّا بلغ مرو خشي أن يكتم المأمون قدومه، فضرب بالطبول لكي يسمعها المأمون. فسمعها فقال:
- «ما هذا؟» قالوا: «هرثمة قد أقبل يرعد ويبرق.» وظنّ هرثمة أنّ قوله هو المقبول فأمر بإدخاله فلمّا دخل كان قد أشرب قلب المأمون ما أشرب فقال له:
- «يا هرثمة مالأت أهل الكوفة والعلويين وداهنت [142] ودسست إلى أبى السرايا حتّى خلع وعمل ما عمل، وكان رجلا من أصحابك ولو أردت أن تأخذهم جميعا لفعلت، ولكنّك أرخيت خناقهم وأجررت لهم رسنهم.» فذهب هرثمة ليتكلّم ويعتذر ويدفع عن نفسه ما قرف به، فلم يقبل ذلك منه وأمر به فوجئ على أنفه وديس فى بطنه وسحب من بين يديه.
وكان تقدّم الفضل بن سهل إلى الأعوان فى الغلظة عليه والتشديد، حتّى حبس. ثمّ دسّ إليه، بعد أن أذلّه من قتله. وقالوا مات.(4/123)
هياج الشغب ببغداد بين الحربيّة والحسن بن سهل
وفى هذه السنة هاج [1] الشغب ببغداد بين الحربية والحسن بن سهل.
ذكر السبب فى ذلك
لمّا خرج هرثمة إلى خراسان وثبوا وقالوا:
- «لا نرضى حتّى نطرد الحسن بن سهل وعمّاله عن بغداد.» وكان من عمّاله بها محمد بن أبى خالد، وأسد بن أبى الأسد. فأخرجوهم وطردوا أسبابهم، وصيّروا إسحاق بن موسى بن المهدى خليفة للمأمون ببغداد، فاجتمع أهل الجانبين على ذلك ورضوا به.
وكان الحسن بن سهل مقيما بالمدائن [143] منذ شخص هرثمة إلى خراسان وإلى أن اتصل بأهل بغداد خبر هرثمة وما صنع به المأمون. فلمّا علم الحسن بن سهل أنّ أهل بغداد قد وقفوا على ذلك أرسل إلى علىّ بن هشام، وهو والى بغداد من قبله أن:
- «امطل جند الحربية والبغداديين أرزاقهم ومنّهم ولا تعطهم.» فلمّا وثب أهل بغداد بأصحابه دسّ إلى قوم من قوّادهم أن يشغّبوا على إسحاق بن موسى. فشغّبوا، فحوّل الحربية لإسحاق إليهم وأنزلوه على دجيل، وبعث الحسن بن سهل علىّ بن هشام من الجانب الآخر وجاء هو ومحمد بن أبى خالد وقوّادهم ليلا حتّى دخلوا بغداد، فقاتل الحربية ثلاثة أيّام على قنطرة الصراة العتيقة والجديدة والأرجاء.
ثمّ إنّه وعد الحربية أن يعطيهم رزق ستّة أشهر إذا أدركت الغلّة فسألوه أن
__________
[1] . فى آ: صاح، وهو تصحيف. ومط كالأصل.(4/124)
يعجّل لهم خمسين درهما لكلّ رجل لينفقوها فى شهر رمضان. فأجابهم إلى ذلك ثمّ دافعهم بها ولم يف لهم بإعطاء الخمسين، فشدّوا على علىّ بن هشام فطردوه.
وكان المتولّى ذلك والقيّم بأمر الحربية محمد بن أبى خالد وذلك أنّ علىّ بن هشام كان يستخفّ به ويضع من مقداره. ووقع بين محمد بن أبى خالد وأزهر بن زهير بن المسيّب [144] كلام فقنّعه أزهر بالسوط. فغضب محمد وتحوّل إلى الحربية واجتمع إليه الناس فلم يقربهم [1] علىّ بن هشام حتّى أخرجوه من بغداد.
وفى هذه السنة تقدّم المأمون بإحصاء ولد العباس فبلغوا ثلاثة وثلاثين ألفا ما بين ذكر وأنثى.
ودخلت سنة إحدى ومائتين
مراودة أهل بغداد منصور بن المهدى على الخلافة
وفيها راود أهل بغداد منصور بن المهدى على الخلافة فامتنع من ذلك عليهم فراوده على الإمرة عليهم على أن يدعو للمأمون بالخلافة فأجابهم إلى ذلك.
ذكر السبب فى ذلك
لمّا أخرج أهل بغداد علىّ بن هشام منها واتصل الخبر بالحسن بن سهل وكان بالمدائن انهزم حتّى صار إلى واسط، فتبعه محمد بن أبى خالد مخالفا له، وقد تولّى القيام بأمر الناس، وولّى سعيد بن الحسن بن قحطبة الجانب
__________
[1] . كذا فى الأصل: فلم يقربهم. ما فى آمهمل. فى تد (430) : فلم يقرّ بهم. وفى الطبري (11: 1000) : فلم يقو بهم.(4/125)
الغربي، ونصر بن حمزة بن مالك الجانب الشرقي. وكانفه ببغداد منصور بن المهدى وخزيمة بن خازم والفضل بن الربيع، وقد كان الفضل بن الربيع مختفيا قبل قتل المخلوع. فلمّا رأى محمد بن أبى خالد قد بلغ واسطا بعث إليه يطلب [145] منه الأمان فأعطاه إيّاه.
وظهر [1] وقدم على محمد بن أبى خالد ابنه عيسى من عند طاهر بن عيسى فاجتمع مع أبيه على قتال الحسن فتعبّأ محمد بن أبى خالد للقتال وتقدّم هو وابنه عيسى مع أصحابهما حتّى صاروا على ميلين من واسط.
فوجّه إليهم الحسن أصحابه وقوّاده فاقتتلوا قتالا شديدا عند أبيات واسط.
فلمّا كان بعد العصر هبّت ريح شديدة وغبرة حتّى اختلط القوم بعضهم ببعض فكانت الهزيمة على أصحاب محمد بن أبى خالد فثبت، فأصابته جراحات شديدة فى جسده، فانهزم هو وأصحابه هزيمة شديدة قبيحة، فقتل أصحاب الحسن منهم وسلبوا حتّى بلغوا فم الصلح [2] وقلعت الريح ما كان معهم من سفن فيها متاع وسلاح، حتّى أدخلها واسطا فأخذها أصحاب الحسن وتبعوه، ولم يزل يقاتلهم فى كلّ منزل بالنهار، ثمّ يرتحل بالليل حتّى بلغ جرجرايا فاشتدّت به الجراحات. فأمر قوّاده أن يقيموا فى عسكره، وحمله ابنه المعروف بأبى زنبيل حتّى أدخله بغداد ومات محمد من ليلته ودفن فى داره سرّا.
وكان زهير بن المسيّب محبوسا عند جعفر بن محمد بن أبى خالد [146] فلمّا قدم أبو زنبيل مضى إلى خزيمة بن خازم فأعلمه خبر أبيه وأوصل إليه
__________
[1] . بياض فى الأصل بقدر كلمة، ولكن لا يوجد مكان هذا البياض شيء فى كلّ من آومط وتد (431) . والعبارة لا توجد فى الطبري بهذه الصورة (11: 1003) .
[2] . فم الصلح: نهر كبير، وعند فمه كانت دار الحسن بن سهل وفيه بنى المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل. (مراصد الإطلاع)(4/126)
كتابا عن أخيه عيسى. فبعث خزيمة إلى بنى هاشم والقوّاد فأعلمهم الخبر وقرأ عليهم كتاب عيسى بن [1] محمد بن أبى خالد إليه وأنّه يكفيهم الحرب، فرضوا به.
وصار عيسى مكان أبيه وانصرف أبو زنبيل من عند خزيمة حتّى أتى زهير بن المسيّب، فأخرجه من محبسه وضرب عنقه ونصب رأسه على رمح وأخذوا جسده، فشدّوا فى رجله حبلا وطافوا به على دوره ودور أهل بيته، ثمّ أداروا [2] به فى الكرخ وردّوه إلى باب الشام، ولمّا جنّ عليهم الليل رموه فى دجلة.
ورجع أبو زنبيل إلى أخيه عيسى، فوجّهه عيسى إلى فم الصراة، وبلغ الحسن بن سهل موت محمد بن أبى خالد، فخرج من واسط ووجّه حميد بن عبد الحميد الطوسي وسعيد بن الساجور وغيره من القوّاد، فلقوا أبا زنبيل بفم الصراة فهزموه فانحاز إلى أخيه هارون بالنيل، ثمّ رجعوا إلى هارون فقاتلوه وهزموه مع أخيه أبى زنبيل، فخرجا هاربين إلى المدائن وبلغ الخبر بنى هاشم وقوّاد بغداد، فجدّوا فى الخلاف على الحسن بن سهل وقالوا:
- «لا نرضى [147] بالمجوسي بن المجوسي بن سهل حتّى نطرده ويرجع إلى خراسان ونخلع المأمون.» وتراضوا أيّاما.
ثمّ أرادوا منصور بن المهدى على أن يعقدوا له الخلافة فأبى عليهم. فما زالوا به حتّى صيّروه أميرا وخليفة للمأمون بالعراق. وقوى أمر عيسى بمن ذكرنا وكثر جنده فأمره باحصائهم فكانوا مائة ألف وخمسة وعشرين ألفا بين فارس وراجل. فأعطى الفارس أربعين درهما والراجل عشرين درهما.
__________
[1] . كذا فى الأصل: عيسى بن محمد. فى آ: عيسى ومحمد.
[2] . كذا: أداروا به. فى آ: داروا به.(4/127)
نكير المطوّعة على الفسّاق ببغداد
وفى هذه السنة تجرّدت المطوّعة للنكير على الفسّاق ببغداد ورئيسهم خالد الدريوش [1] وسهل بن سلامة الأنصارى من أهل خراسان.
ذكر السبب الذي فعلت المطوّعة له ذلك
كان فسّاق الحربية والشطّار الذين كانوا ببغداد والكرخ آذوا الناس أذى شديدا وأظهروا الفسق وقطع الطريق وأخذ الغلمان والنساء علانية من الطرق.
فكانوا يأتون الرجل فيأخذون ابنه فيذهبون به فلا يقدر أن يمتنع عليهم، وكانوا يسألون الرجل أن يقرضهم أو يصلهم، فلا يقدر أن يمتنع عليهم، وكانوا يجتمعون فيأتون القرى فيكابرون أهلها ويأخذون ما قدروا عليه من متاع ومال وغيره لا سلطان [148] يمنعهم، ولا يقدر على ذلك منهم، لأنّ السلطان كان يعتزّ بهم فكان لا يقدر أن يمنعهم من فسق يركبونه، وكانوا يجبون المارّة فى الطرق والسفن، ويخفرون البساتين، وكان الناس منهم فى بلاء عظيم. وخرجوا يوما إلى قطربّل [2] ، فانتهبوها علانية وأخذوا المتاع والذهب والفضّة والغنم والبقر والحمير وغير ذلك، فأدخلوها بغداد وجعلوا يبيعونها علانية.
فلمّا رأى الناس ذلك وظهور البغي والفسق والنهب، وأنّ السلطان لا يغيّره، مشى بعضهم إلى بعض وقام صلحاء كلّ ربض ودرب، فمشى بينهم أماثلهم وقالوا:
__________
[1] . انظر الطبري (11: 1008) .
[2] . قطربّل: قرية بين بغداد والمرزفة، وإليها ينسب الطسّوج الذي هي فيه، فيقال: طسّوج قطربّل.
(مراصد الإطلاع)(4/128)
- «يا قوم إنّما فى كلّ درب فاسق واثنان إلى عشرة، وعددكم بعد أكثر.
فلو اجتمعتم حتّى يكون أمركم واحدا لقمعتم هؤلاء الفسّاق واحتشموكم.» فقام رجل من طريق الأنبار يعرف بالدريوش، فدعا جيرانه وأهل محلّته على أن يعاونوه على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فأجابوه إلى ذلك.
فشدّ على من يليه من الفسّاق والشطّار، فمنعهم ممّا كانوا يصنعون، فامتنعوا عليه فقاتلهم وهزمهم وأخذ بعضهم فضربهم [149] وحبسهم.
قيام سهل بن سلامة
ثمّ قام بعده رجل آخر يقال له: سهل بن سلامة الأنصارى من أهل خراسان، وتكنّى أبا حاتم، فدعا الناس إلى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والعمل بكتاب الله وسنّة نبيّه محمد- صلّى الله عليه- وعلّق مصحفا فى عنقه، ثمّ بدأ بجيرانه وأهل محلّته فأمرهم ونهاهم فقبلوا منه، ثمّ دعا الناس جميعا إلى ذلك، الشريف منهم والوضيع، وجعل ديوانا يثبت فيه اسم من أتاه يبايعه على ذلك وقتال من خالفه كائنا من كان، فأتاه خلق كثير فبايعوه. ثمّ إنّه طاف ببغداد وأسواقها وأرباضها وطرقها ومنع كلّ من يخفر ويجبى المارّة وقال:
- «لا خفارة فى الإسلام.» والخفارة أنّ الرجل منهم كان يأتى إلى من له دار أو بستان أو تجارة فيقول:
- «أنت فى خفرتى لا يتعرّض أحد لمالك، أدفع من أرادك بسوء ولى فى عنقك كلّ شهر كذا وكذا درهما.» فيعطيه.
وقوى على ذلك فقمع أهل الشرّ وكان يخالفه الدريوش فى أنّه كان لا(4/129)
يغيّر على السلطان شيئا ولا يخالفه ولا يقاتله ويقول:
- «أنا لا أرى مخالفة أمر السلطان بشيء.» وقال سهل بن سلامة:
- «أنا أرى قتال كلّ من خالف الكتاب والسنّة [150] كائنا من كان.» فلمّا فشا ذلك وقوى [1] ، ضعف أمر منصور بن المهدى وعيسى بن محمد بن أبى خالد لأنّ معظم أصحابهم الشطّار ومن لا خير فيه، فكسرهم ذلك.
ودخل منصور بن المهدى بغداد فكاتب الحسن بن سهل وسأله الأمان له ولأهل بيته على أن يعطى الحسن جنده وسائر أهل بغداد من المرتزقة رزق ستّة أشهر إذا أدركت الغلّة. فأجابه الحسن إلى ذلك. وارتحل الحسن من معسكره فدخل بغداد وتقوّضت تلك العساكر وأشرك بين عيسى ويحيى بن عبد الله ابن عم الحسن بن سهل فى ولاية السواد وأعمال بغداد.
وكان أهل عسكر المهدى مخالفين لعيسى. فوثب المطّلب بن عبد الله بن مالك الخزاعي يدعو إلى المأمون وإلى الفضل والحسن ابني سهل. فامتنع عليه سهل بن سلامة وقال:
- «ليس على هذا بايعتني.» وتحوّل منصور بن المهدى وخزيمة بن خازم والفضل بن الربيع وكانوا بايعوا سهل بن سلامة على ما يدعو إليه من العمل بالكتاب والسنّة، فنزلوا بالحربية هربا من المطّلب، وجاء سهل بن سلامة إلى الحسن وبعث الى المطّلب، فأبى أن يجيبه فقاتله سهل أيّاما قتالا شديدا ثمّ اصطلح عيسى والمطلب، فدسّ [151] عيسى إلى سهل من اغتاله وضربه بالسيف ضربة لم يعمل كبير عمل.
فلمّا اغتيل سهل رجع إلى منزله وقام عيسى بأمر الناس فكفّوا عن القتال.
__________
[1] . فى مط: وقوى أمره.(4/130)
ثمّ بعث عيسى إلى سهل بن سلامة، فاعتذر إليه ممّا صنع وبايعه، وأمره أن يعود إلى ما كان عليه من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وأنّه عونه على ذلك، فعاد سهل إلى ما كان عليه.
المأمون يجعل علىّ بن موسى (ع) ولىّ عهد المسلمين
وفى هذه السنة جعل المأمون علىّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن علىّ بن الحسين بن علىّ بن أبى طالب [1] ولىّ عهد المسلمين، والخليفة من بعده، وسمّاه: الرضا من آل محمد، وأمر جنده بطرح السواد ولبس ثياب الخضرة، وكتب بذلك إلى الآفاق.
ذكر الخبر عن ذلك وسببه وما آل إليه الأمر
بينا عيسى بن محمد بن أبى خالد يعرض أصحابه منصرفه من معسكره إلى بغداد، إذ ورد عليه كتاب من الحسن بن سهل، يعلمه أنّ أمير المؤمنين المأمون قد جعل علىّ بن موسى ولىّ عهده من بعده، وأنّه نظر فى بنى العباس وبنى علىّ فلم يجد أفضل ولا أورع ولا أعلم منه، وأنّه سمّاه: الرضا من آل محمد، وأمره بطرح السواد، ولبس ثياب الخضرة، [152] وذلك فى شهر رمضان سنة إحدى ومائتين، ويأمره أن يأمر من قبله من أصحابه والجند وبنى هاشم بالبيعة له، وأن يأخذهم بلبس الخضرة فى أقبيتهم وقلانسهم وأعلامهم ويأخذ أهل بغداد بذلك.
فلمّا أتى عيسى ذلك دعا أهل بغداد إلى ذلك، على أن يعجّل لهم رزق
__________
[1] . وزاد فى مط: رضي الله عنهم، كما فى الطبري (11: 1012) .(4/131)
شهر، والباقي إذا أدركت الغلّة.
فقال بعضهم:
- «نبايع ونلبس الخضرة.» وقال بعضهم:
- «لا نبايع ولا نخرج هذا الأمر من ولد العبّاس، وإنّما هذا دسيس من قبل الفضل بن سهل.» وغضب بنو العبّاس، ومشى بعضهم إلى بعض وقالوا:
- «نولّى بعضنا ونخلع المأمون.» وكان المتكلّم فى هذا والساعي له منصور وإبراهيم ابنا المهدى.
أهل بغداد يبايعون ابراهيم بن المهدى بالخلافة
وفى هذه السنة بايع أهل بغداد إبراهيم بن المهدى بالخلافة وخلعوا المأمون [1] .
ذكر السبب فى ذلك
قد ذكرنا ما أنكره العباسيون ببغداد على المأمون حتّى أخرجوا الحسن بن سهل عن بغداد. فلمّا ورد أمره بالبيعة لعلىّ بن موسى ولبس الخضرة وأخذ الناس به، أرادوا [153] أن يبايعوا إبراهيم بن المهدى بالخلافة ويخلعوا المأمون، وبذلوا للجند عشرة دنانير لكلّ واحد منهم. فاضطرب الناس وقبل بعضهم ورضى وأبى قوم وامتنعوا، فاجتمعوا وأمروا رجلا يقول يوم الجمعة حين يؤذّن المؤذّن:
__________
[1] . انظر الطبري (11: 1013) .(4/132)
- «إنّا نريد أن ندعو للمأمون ومن بعده إبراهيم يكون [1] خليفته والنائب عنه.» ودسّوا قوما آخرين يقولون:
- «إذا قام هذا الرجل وقال ما عنده لا نرضى إلّا أن تبايعوا لإبراهيم بالخلافة وتخلعوا المأمون، أتريدون أن تأخذوا أموالنا كما صنع منصور، ثمّ تجلسوا فى بيوتكم؟» فقال يوم الجمعة هذا الرجل ما وصّوه به، وقام الآخرون فقالوا ما وصّوا به، وماج الناس، فلم يصلّ تلك الجمعة ولا خطب أحد وإنّما صلّى الناس بعد ما حسّوا الفوت أربع ركعات وانصرفوا.
تحرّك بابك الخرّمى فى الجاويذانيّة
وفى هذه السنة تحرّك بابك الخرّمى فى الجاويذانية أصحاب جاويذان بن سهل صاحب البذّ [2] ، وادّعى أنّ روح جاويذان دخل فيه، وأخذ فى العيث والفساد.
ودخلت سنة اثنتين ومائتين [154]
فلمّا كان يوم الجمعة لخمس خلون من المحرّم أظهروا أمر إبراهيم، وصعد إبراهيم المنبر، فكان أوّل من بايعه عبيد الله بن العباس بن محمد، ثمّ منصور بن المهدى، ثمّ سائر بنى هاشم وكان المتولّى لأخذ البيعة المطّلب بن عبد الله بن مالك وقام فى ذلك السندي وصالح صاحب المصلّى ومنجاب [3]
__________
[1] . فى آ: على أن يكون.
[2] . فى آ: صاحب البند. وفى مط: صاحب اليد: والطبري (11: 1015) كالأصل.
[3] . الثالث غير واضح فى الأصل، وما أثبتناه يوافق الطبري (11: 1016) وما فى آمهمل.(4/133)
ونصير الوصيف وسائر الموالي- إلّا أنّ هؤلاء كانوا الرؤساء- غضبا منهم على المأمون حين أراد الخروج، وإخراج ولد العباس من الخلافة، ولتركه لباس آباءه.
ولمّا فرغ من ذلك وعد الجند أن يعطيهم أرزاقهم لستّة أشهر فدافعهم بها.
فلمّا رأوا ذلك شغبوا عليه، فأعطى كلّ رجل منهم مائتي درهم وكتب لبعضهم إلى السواد بقيمة ما لهم حنطة وشعيرا، فخرجوا فى قبضها، فلم يمرّوا بشيء إلّا انتهبوه، وأخذوا النصيبين جميعا.
وخرج على إبراهيم بن المهدى، مهدى بن علوان الحرورىّ فحكّم وظهر ببزرج [1] سابور، وغلب على الراذانين ونهر بوق. فوجّه إبراهيم إليه أبا إسحاق ابن الرشيد فى جماعة من القوّاد كثيرين، وكان مع أبى إسحاق غلمان له أتراك، فلقوا [155] الشراة، فطعن رجل من الأعراب أبا إسحاق فحامى عنه غلام تركىّ، وقال له:
- «يا مولاي، مرا بشناس.» فسمّاه يومئذ: أشناس.
إنفاذ العباس بن موسى بن جعفر إلى الكوفة
وأنفذ الحسن بن سهل العباس بن موسى بن جعفر، وهو أخو علىّ بن موسى الرضا، إلى الكوفة وأمره بلباس الخضرة، وأن يدعو أوّلا للمأمون ومن بعده لأخيه علىّ بن موسى، وأعانه بمائة ألف درهم وقال له:
- «قاتل عن أخيك، فإنّ أهل الكوفة يجيبونك وأنا معك.» وكانت الكتب نفذت من جهة إبراهيم بن المهدى إلى الكوفة بتقلّده الأمر
__________
[1] . فى تد (438) : برزخ، وهو تصحيف. برزج سابور من طساسيج بغداد (مراصد الإطلاع) .(4/134)
وقيامه بإمرة المؤمنين وخلع المأمون، ونفذت الكتب من جهة الحسن بن سهل بما رآه المأمون وكثر الخلاف. وكانت لهم أخبار لا يليق ذكرها بهذا الكتاب إذ كانت فتنا لا تجربة فيها وحروبا يقتل فيها بعض الناس بعضا من غير تدبير لطيف ولا مكر بديع، وإنّما كانت مصالتات بالسيوف، فمرّة يكون لهؤلاء ومرّة لهؤلاء.
فلمّا بلغ خبر العباس بن موسى بن جعفر العلوي أهل الكوفة، أجابه قوم كثيرون وقال قوم آخرون:
- «إن كنت إنّما تدعو إلى المأمون ثمّ من بعده إلى أخيك، فلا حاجة لنا فى دعوتك. وإن كنت تدعو إلى أخيك أو إلى نفسك [156] أجبناك.» فقال: «إنّما أدعو إلى المأمون ثمّ من بعده لأخى.» فقعد عنه المستبصرون فى التشيّع. وكان يظهر أنّ حميدا يأتيه ويعينه ويقويّه، وأنّ الحسن بن سهل يوجّه [1] إليه قوما مددا له، فلم يأته منهم أحد، وتوجّه إليه أصحاب إبراهيم بن المهدى فهمزموه.
وكان كلّ فريق من أصحاب الخضرة والسواد ينهبون ويحرقون.
ثمّ أمر إبراهيم بن المهدى عيسى بن محمد بن أبى خالد أن يسير إلى ناحية واسط على طريق النيل، وأمر جماعة أن يسيروا ممّا يلي جوخى [2] حتّى عسكروا قرب واسط ممّا يلي الصيّادة وعليهم عيسى بن محمد بن أبى خالد، فتحصّن منهم الحسن بن سهل، فكان لا يخرج إليهم. ثمّ تهيّأ بعد أيّام الحسن للقتال فظنّ الناس أنّ ذلك لنظره فى النجوم. ثمّ اختار يوما فخرجوا إليهم فاقتتلوا قتالا شديدا إلى الظهر، ووقعت الهزيمة على عيسى وأصحابه فانهزموا، فأخذ أصحاب الحسن جميع ما كان فى عسكرهم من سلاح
__________
[1] . فى آ: توجّه.
[2] . جوخى: نهر عليه كورة واسعة فى سواد بغداد (مراصد الإطلاع) .(4/135)
ودوابّ ومتاع وغير ذلك.
ظفر إبراهيم بسهل المطوّعى
وفى هذه السنة ظفر إبراهيم بن المهدى بسهل بن سلامة المطوّعى فحبسه وعاقبه.
وكان السبب فى ذلك [157]
أنّ عيسى لمّا انهزم، أقبل هو وإخوته وأصحابه نحو سهل بن سلامة، لأنّه كان يذكرهم بأسوأ أعمالهم ويسمّيهم الفسّاق، ليس لهم عنده اسم غيره.
وكان أصحابه- الذين بايعوه على الكتاب والسنّة وألّا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق- وقد عمل كلّ رجل منهم على باب داره برجا بجصّ وآجر، وقد نصب عليه السلاح والمصاحف حتّى بلغوا من الحربية إلى باب الشام سوى من أجابه من الكرخ وسائر الناس. فلمّا قصده عيسى لم يمكنه الوصول إليه. فأعطى أصحاب الدروب التي تقرب منه، الألف درهم والألفى درهم، على أن يتنحّوا له عن الدروب. فأجابوه إلى ذلك وكان نصيب الرجل الدرهم والدرهمان ونحو ذلك.
فلمّا كان يوم السبت لخمس بقين من شعبان تهيّئوا له من كلّ وجه وخذله أهل الدروب حتّى وصلوا إلى مسجده ومنزله. فلمّا رآهم قد وصلوا إليه اختفى منهم وألقى سلاحه واختلط بالنظارة ودخل بين النساء. فدخلوا منزله فلم يظفروا به وأذكوا عليه العيون. فلمّا كان فى الليل أخذوه فى بعض الأزقّة فأتوا به إسحاق بن موسى الهادي وهو ولىّ [158] عهد عمّه إبراهيم وهو بمدينة السلام، فكلّمه وحاجّه وجمع بينه وبين أصحابه وقال له:
- «حرّضت علينا الناس وعبت أمرنا.»(4/136)
فقال له:
- «إنّما كانت دعوتي عباسية، وإنّما كنت أدعو إلى العمل بالكتاب والسنّة، وأنا على ما كنت عليه، أدعوكم إليه الساعة.» فقالوا: «لا نقبل ما تقول، اخرج إلى الناس وقل لهم إنّ ما كنت أدعوكم إليه باطل.» فقال: «نعم.» فأخرج إلى الناس فقال:
- «يا معشر الناس قد علمتم ما كنت أدعوكم إليه من العمل بالكتاب والسنّة وأنا أدعوكم إليه الساعة.» فلمّا قال لهم هذا وجئوا [1] فى عنقه وضربوا وجهه. فقال لهم:
- «يا معشر الحربية، المغرور من غررتموه؟» فأخذ وأدخل إلى إسحاق فقيّده، ثم أخرجوه إلى إبراهيم بن المهدى بالمدائن فحبسه مع قوم من أصحابه. وأشاعوا أنّ عيسى قتله تخوّفا من الناس أن يعلموا بمكانه فيخرجوه. وكان بين خروجه وبين أخذه إثنا عشر شهرا.
شخوص المأمون من مرو إلى العراق
وفى هذه السنة شخص المأمون من مرو يريد العراق [2] .
والسبب فى ذلك أنّ علىّ بن موسى بن جعفر الرضا أخبر [159] المأمون بما فيه الناس من
__________
[1] . فى الأصل: وجؤا.
[2] . انظر الطبري (11: 1025) .(4/137)
الفتنة والقتال منذ قتل أخوه محمد، وبما كان الفضل بن سهل يستره عنه من أخبار الناس، وأنّ أهل بيته قد نقموا عليه أشياء، وأنّهم يقولون إنّه مسحور مجنون، وأنّهم لمّا رأوا ذلك بايعوا إبراهيم بن المهدى بالخلافة [1] .
فقال له المأمون:
- «إنّهم ما بايعوه بالخلافة وإنّما صيّروه أميرا يقوم بأمرهم على ما كان أخبره به الفضل.» فأعلمه أنّ الفضل قد كذبه وغشّه، وأنّ الحرب قائمة بين إبراهيم والحسن، وأنّ الناس ينقمون عليك مكانه ومكان أخيه ومكاني ومكان بيعتي من بعدك.» فقال: «ومن يعلم هذا من أهل عسكري؟» فقال له:
- «يحيى بن معاذ وعبد العزيز بن عمران وعدّة من وجوه أهل العسكر.» فقال له:
- «أدخلهم علىّ حتّى أسائلهم عمّا ذكرت.» فأدخلهم علىّ وهم هؤلاء وجماعة آخرون فيهم علىّ بن أبى سعيد وهو ابن أخت الفضل، فسألهم المأمون عمّا أخبره به علىّ بن موسى الرضا، فأبوا أن يخبروه حتّى يجعل لهم [2] الأمان من الفضل بن سهل ألّا يعرض لهم، فضمن ذلك لهم وكتب لكلّ رجل منهم كتابا بخطّه ودفعه إليهم، فأخبروه بما فيه الناس من الفتن وبيّنوا ذلك له وأخبروه بغضب [160] أهل بيته ومواليهم وقوّاده فى أشياء كثيرة، وبما موّه عليه الفضل من أمر هرثمة، وأنّ هرثمة إنّما جاء لنصحه وليبيّن له ما يعمل عليه وأنّه إن لم يتدارك أمره خرجت
__________
[1] . فى آ: بايعوا عمّه ابراهيم بن المهدى (بزيادة «عمّه» ) .
[2] . لهم ما فى الأصل مطموس. فأثبتنا الكلمة على ما فى آوالطبري (11: 1025) .(4/138)
الخلافة من يده ومن أهل بيته، وأنّ الفضل دسّ إلى هرثمة من قتله حين أراد نصحه، وأنّ طاهر بن الحسين قد أبلى فى طاعته ما أبلى وافتتح له ما افتتح وقاد إليه الخلافة مزمومة، حتّى إذا وطّأ له الأمر أخرج من ذلك كلّه وصيّر فى زاوية من الأرض بالرقّة وقد حظرت عليه الأموال حتّى ضعف أمره وشغب عليه جنده، ولو أنّه كان على خلافتك ببغداد لضبط الملك ولم يجترأ عليه بمثل ما اجترئ عليه من الحسن بن سهل، وأنّ الدنيا قد تفتّقت من أقطارها، وأنّ طاهر بن الحسين قد تنوسى فى هذه السنين منذ قتل محمد، فهو بالرقّة لا يستعان به فى شيء من هذه الحروب، وسألوا المأمون الخروج إلى بغداد وقالوا:
- «إنّ بنى هاشم والموالي والقوّاد لو قد رأوا عزّتك سكنوا وبخعوا بالطاعة لك.» فلمّا تحقّق ذلك عنده أمر بالرحيل إلى بغداد. فلمّا أمر بذلك علم الفضل بن سهل ببعض أمرهم فتعنّتهم حتّى ضرب [161] بعضهم بالسياط وحبس بعضا ونتف لحى بعض.
فعاوده علىّ بن موسى فى أمرهم، وأعلمه ما كان من ضمانه لهم.
فقال له:
- «إنّى أدارى أمرى وسأبلغ ما فيه الصلاح بمشيئة الله.»
قتل الفضل بن سهل فى الحمّام بضرب السيوف
ثمّ ارتحل من مرو. فلمّا أتى سرخس شدّ قوم على الفضل بن سهل وهو فى الحمّام فضربوه بالسيوف حتّى مات، وذلك يوم الجمعة لليلتين خلتا من شعبان سنة اثنتين ومائتين.
وكان الذين قتلوه أربعة نفر من حشم المأمون: غالب بن الأسود(4/139)
الشّعوذى، [1] وقسطنطين الرومي، وفرج الديلمي، وموفّق الصقلبى- وقتل الفضل وله ستّون سنة- وهربوا.
فبعث المأمون فى طلبهم وجعل لمن جاء بهم عشرة آلاف دينار فجيء بهم، فساءلهم المأمون فقال بعضهم:
- «إنّ علىّ بن أبى سعيد بن أخت الفضل دسّهم.» ومنهم من أنكر.
وقد حكى أنّ منهم من قال:
- «أنت أمرتنا بقتله.» فأمر المأمون بهم، فضربت أعناقهم.
ثمّ بعث إلى عبد العزيز بن عمران وعلىّ ومونس [2] وغيرهم ممّن كانوا سعوا بالفضل إليه، فساءلهم فأنكروا أن يكونوا علموا بشيء من ذلك. فلم يقبل ذلك منهم وأمر بهم فقتلوا، وبعث برؤوسهم إلى الحسن بن سهل إلى واسط، وأعلمه ما دخل عليه من المصيبة بقتل [162] الفضل، وأنّه قد صيّره مكانه.
ورحل المأمون من سرخس نحو العراق وقد كان المطّلب بن عبد الله بن مالك يدعو فى السرّ إلى المأمون وإلى خلع إبراهيم على أنّ منصور بن المهدى خليفة المأمون. فأجابه منصور وخزيمة وجماعة من القوّاد، وكاتب المطّلب حميدا وعلىّ بن هشام أن يتقدّما فنزل حميد صرصر وعلىّ النهروان، وتحقّق عند إبراهيم الخبر، فخرج من المدائن إلى نحو بغداد وطلب المطّلب وأصحابه، فامتنع المطّلب فنادى:
__________
[1] . الشعوذى: كذا فى الأصل. فى آ: الشعورى. فى مط: السعودى. فى الطبري (11: 1027) :
المسعودي، كما فى تد (443) . فى حواشي تد: الشعودى.
[2] . كذا فى الأصل ومط وتد (443) : مونس. ما فى آمهمل. فى الطبري (11: 1027) : موسى.(4/140)
- «من أراد النهب فليأت دار المطّلب.» فانتهبوا داره ودور أهل بيته ولم يظفر به.
وندم إبراهيم حيث صنع بالمطّلب ما صنع ثمّ لم يظفر به. وبلغ الخبر حميدا وابن هشام. فأمّا حميد فبعث من جهته من أخذ المدائن وقطع الجسر ونزلها. وأمّا علىّ بن هشام فبعث من جهته من أتى نهر ديالى وقطع الجسر.
زواجات ثلاثة
وفى هذه السنة تزوّج المأمون بوران بنت الحسن بن سهل، وزوّج علىّ بن موسى الرضا ابنته أمّ حبيب، وزوّج محمد بن علىّ بن موسى ابنته أمّ الفضل.
ودخلت سنة ثلاث ومائتين [163]
وفى هذه السنة مات علىّ بن موسى الرضا [عليه السلام] [1] وذلك بطوس ذكر الخبر عن ذلك
لمّا صار إليها المأمون أقام عند قبر أبيه أيّاما، ثمّ إنّ علىّ بن موسى- على ما حكى- أكل عنبا فأكثر منه فمات فجأة، [2] فأمر به المأمون فدفن عند قبر الرشيد.
وكتب إلى الحسن بن سهل بذلك وإلى وجوه بنى العبّاس والموالي ويعرّفهم أنّهم إنّما نقموا بيعته له من بعده ويسألهم الدخول فى طاعته. ورحل المأمون إلى بغداد، فلمّا صار إلى الرىّ أسقط من وظيفتها ألفى ألف درهم.
__________
[1] . التسليم ليس فى الأصل ولا فى مط وتد.
[2] . نقل مسكويه الخبر عن الطبري دون أىّ تعليق! انظر الطبري (11: 1030) .(4/141)
غلبة السّوداء على الحسن بن سهل
وفى هذه السنة غلبت السوداء على الحسن بن سهل حتّى شدّ فى الحديد وحبس. وكتب بذلك قوّاد الحسن إلى المأمون فأتاهم الجواب: أن يكون على عسكره دينار بن عبد الله ويعلمهم أنّه قادم على إثر كتابه.
ضرب ابراهيم بن المهدى، عيسى بن محمد
وفى هذه السنة ضرب إبراهيم بن المهدى، عيسى بن محمد بن أبى خالد وحبسه.
ذكر السبب فى ذلك كان عيسى بن محمد يكاتب حميدا والحسن ويظهر لإبراهيم طاعة ونصيحة، وكلّما قال [164] له إبراهيم: تهيّأ لقتال حميد، تعلّل عليه بأرزاق الجند وأشباه ذلك، حتّى واقف الحسن وحميدا على أن يسلّم إبراهيم إليهم يوم الجمعة انسلاخ شوّال. وسعى بعيسى بعض أهله إلى إبراهيم وكان عيسى سأل إبراهيم أن يصلّى الجمعة بالمدينة فأجابه إلى ذلك، فلمّا تكلّم عيسى بما بلغه وسعى إليه حذر وبعث إلى عيسى يسأله أن يصير إليه ليناظره فى بعض أموره. فلمّا صار إليه عاتبه ساعة فأخذ عيسى ينكر بعض ما يقول.
فلمّا واقفه على أشياء وعلامات أمر به فضرب وحبسه، وأخذ أمّ ولد له وصبيانا صغارا فحبسهم، وطلب خليفة له يقال له العبّاس فاختفى.
فلمّا عرف أهل بيت عيسى وإخوته وأصحابه خبره مشى بعضهم إلى بعض وحرّضوا الناس على إبراهيم فاجتمعوا، وكان رأسهم العبّاس خليفته، فشدّوا على عامل إبراهيم على الجسر فطردوه وقطعوا الجسر وطردوا كلّ(4/142)
عامل لإبراهيم فى الكرخ وغيره فى الجانب الغربي.
وكتب العبّاس إلى حميد يسأله أن يقدم عليهم حتّى يسلّموا إليه بغداد.
فجاء حميد حتّى نزل نهر صرصر طريق الكوفة وخرج إليه قوّاد أهل بغداد، فوعدهم ومنّاهم فقبلوا ذلك منه، ووعدهم [165] أن يضع لهم العطاء فى الياسرية على أن يصلّوا يوم الجمعة فيدعوا للمأمون، ويخلعوا إبراهيم.
فأجابوه إلى ذلك.
فبلغ ذلك إبراهيم فأخرج عيسى من الحبس وسأله أن يكفيه أمر هذا الجانب وأخذ منه كفلاء، [1] فعبر إليهم عيسى واخوته مع قوّاد الجانب الشرقي وعرض عليهم العطاء، فشتموه وقالوا:
- «لا نرضى إبراهيم.»
احتيال من عيسى
ثمّ تكاثر الناس على عيسى، فانصرف بأصحابه نحو باب خراسان، ثمّ رجع عيسى كأنّه يريد قتالهم واحتال حتّى صار فى أيديهم شبه الأسير، فأخذه بعض قوّاده فأتى به منزله، ورجع الباقون إلى إبراهيم فأخبروه، فاغتمّ وقلق، وقد كان المطّلب مستترا فظهر ليلحق بحميد فغمز به فأخذ وحمل إلى إبراهيم فحبسه. ثمّ عرف إبراهيم انخراق [2] الأمر فأطلقه وأطلق سهل بن سلامة وكان عند الناس أنّه مقتول. فلمّا دخل حميد بغداد أخرجه إبراهيم.
وكان يدعو فى مسجد الرصافة كما كان يدعو. فإذا كان الليل ردّه إلى حبسه. فلمّا كان بعد أيّام خلّى سبيله فذهب واستتر.
وكثر العيث ببغداد وظهر الشطّار والعيّارون، واختفى الفضل بن الربيع،
__________
[1] . كذا فى الأصل وآ: كفلاء. فى مط: كفيلا.
[2] . فى مط: انحراف.(4/143)
وأخذ القوّاد وبنو هاشم يلحقون بحميد واحدا واحدا، فسقط فى يد إبراهيم وشقّ [1] [166] عليه مداواة أمره.
ذكر الخبر عن هرب إبراهيم بن المهدى واستتاره
وأخذ إبراهيم يدارى أصحابه يوم الثلاثاء لاثنتي عشر ليلة بقيت من ذى الحجّة سنة ثلاث ومائتين. فلمّا جنّ به الليل هرب واستتر، وبعث المطّلب إلى حميد:
- «إنّى قد أحدقت بدار إبراهيم.» وكتب إلى علىّ بن هشام بمثل ذلك. فأقبلوا إلى دار إبراهيم فطلبوه فيها فلم يجدوه. ولم يزل إبراهيم متواريا حتّى قدم المأمون، وكان من أمره ما كان.
وكانت أيّام إبراهيم كلّها سنة وأحد عشر شهرا واثنى عشر يوما.
وغلب علىّ بن هشام على شرقىّ بغداد وحميد بن عبد الحميد على غربيّها.
ودخلت سنة أربع ومائتين
قدوم المأمون العراق والرجوع إلى لبس السواد
وفيها قدم المأمون العراق وانقطعت مادّة الفتن ببغداد.
ذكر الخبر عن ذلك لمّا صار المأمون إلى النهروان أقام ثمانية أيّام، وخرج إليه أهل بيته
__________
[1] . فى مط: وشتى.(4/144)
وقوّاده ووجوه الناس، وكان كتب إلى طاهر وهو بالرقّة أن يوافيه إلى النهروان، فوافاه بها ثمّ. دخل مدينة السلام ولباسه ولباس أصحابه: أقبيتهم وقلانسهم وطرزهم [1] وأعلامهم كلّها، [167] الخضرة [2] وطاهر معه، فلم يكن يدخل إليه أحد من القوّاد والناس كافّة إلّا فى ثياب خضر مدّة، ثمّ تكلّم فى ذلك بنو العبّاس خاصّة وخاطبوا طاهر بن الحسين وكاتبه أيضا قوّاد خراسان. وكان المأمون أمر طاهر أن يسأله حوائجه. فكان أوّل حاجة سأله أن يرجع إلى لبس السواد وزىّ دولة الآباء.
فلمّا رأى المأمون طاعة الناس له فى لبس الخضرة مع كراهتهم لها جمع الناس. ثمّ دعا بسواد فلبسه، ودعا بخلعة سواد فألبسها طاهرا. ثمّ دعا لقوّاده بخلع السواد، وطرح الناس الخضرة.
ودخلت سنة خمس ومائتين
ولاية طاهر بن الحسين
وفيها ولّى المأمون طاهر بن الحسين من مدينة السلام إلى أقصى عمل المشرق.
ذكر السبب فى ذلك كان المأمون ولّاه الحربة والشّرط وجانبي بغداد ومعاون السواد. فاتفق أنّ محمد بن أبى العباس ناظر علىّ بن الهيثم بين يدي المأمون فى التشيّع ودار الكلام بينهما إلى أن قال محمد لعلىّ:
- «يا نبطىّ، ما أنت والكلام؟»
__________
[1] . طرزهم: كذا فى الأصل وآ ومط. وحواشي الطبري، وما فيه: طرّاداتهم (11: 1037) .
[2] . الخضرة: ساقطة من آ.(4/145)
وكان المأمون متّكئا، فجلس وقال: [168]- «الشتم عىّ والبذاء لؤم. [1] وقد أبحنا الكلام، فمن قال الحقّ حمدناه ومن جهل وقفناه. فاجعلا بينكما أصلا ترجعان إليه.» فعادا إلى المناظرة وعاد محمد لعلىّ بالسفه. فقال علىّ:
- «لولا جلالة مجلسه وما وهب الله من رأفته وما نهى عنه آنفا، لعرّقت جبينك. وكفاك من جهلك غسلك المنبر بالمدينة.» فجلس المأمون وكان متّكئا فقال:
- «وما غسلك المنبر، ألتقصير منّى فى أمرك أم لتقصير المنصور فى أمر أبيك؟ لولا أنّ الخليفة إذا وهب استحى أن يرجع فيه لكان أقرب شيء بيني وبينك إلى الأرض رأسك. قم، وإيّاك ما عدت.» فخرج محمد بن أبى العبّاس ومضى إلى طاهر وهو زوج أخته، فقال له:
- «كان من قصّتى كيت وكيت.» وكان يحجب المأمون على الشراب فتح الخادم وحسين يسقيه. فركب طاهر إلى الدار ودخل فتح يستأذن له، فقال المأمون:
- «إنّه ليس من أوقاته ولكن ائذن له.» فدخل طاهر فسلّم، فردّ عليه السلام وقال:
- «اسقوه رطلا.» فأخذه فى يده اليمنى وقال له:
- «اجلس.» فجلس وشربه، ثمّ شرب المأمون وقال:
- «اسقوه الثاني.»
__________
[1] . فى الأصل: والبذا لوم، من دون همز. انظر الطبري (11: 1040) .(4/146)
ففعل كفعله الأوّل، ثمّ نهض. فقال [169] له المأمون:
- «اجلس.» فقال: «يا أمير المؤمنين ليس لصاحب الشرط أن يجلس بين يدي سيّده.» قال المأمون:
- «ذاك فى مجلس العامة، فأمّا فى مجلس الخاصّة فطلق.» قال: وبكى المأمون وتغرغرت عيناه، فقال له طاهر:
- «يا أمير المؤمنين لا تبك عيناك. فو الله لقد دانت لك البلاد وأذعن لك العباد وصرت إلى المحبّة فى كلّ أمرك.» فقال: «أبكى لأمر ذكره ذلّ وستره حزن، ولن يخلو أحد من شجن.
فتكلّم بحاجتك التي جئت لها.» قال: «يا أمير المؤمنين، محمد بن أبى العبّاس أخطأ، فأقله عثرته وارض عنه.» قال: «قد رضيت عنه وأمرت بصلته، ورددت عليه منزلته. ولولا أنّه ليس من أهل الأنس لأحضرته.» قال: وانصرف طاهر ثمّ دعا طاهر بهارون بن جبعويه [1] فقال:
- «إنّ أهل خراسان يتعصّب بعضهم لبعض وإنّ لى إليك حاجة. خذ معك ثلاثمائة ألف درهم فأعط الحسين الخادم مائتي ألف درهم وأعط كاتبه محمد بن هارون مائة ألف، وسله أن يسأل المأمون: لم بكى؟» قال: ففعل ذلك. فلمّا تغدّى المأمون قال:
- «يا حسين اسقني.»
__________
[1] . جبعويه: كذا فى الأصل. فى آ: جغويه. وفى الطبري (11: 1041) : جيغويه.(4/147)
قال: «لا والله لا سقيتك، أو تقول لى لم بكيت حين دخل عليك طاهر.» قال: «يا حسين وكيف عنيت بهذا حتّى سألتنى عنه؟» قال: «لغمّى [170] بذلك.» قال: «يا حسين، أمر إن خرج من رأسك قتلتك.» قال: «يا سيّدى ومتى أخرجت لك سرّا؟» قال: «إنّى ذكرت محمدا أخى وما ناله من الذّلة، فخنقتني العبرة، فاسترحت إلى الإفاضة، ولن يفوت طاهرا منّى ما يكره.» فأخبر حسين طاهرا بذلك. فركب طاهر إلى أحمد بن أبى خالد فقال له:
- «إنّ الثناء منّى ليس برخيص، وإنّ المعروف عندي ليس بضائع، فغيّبنى عن عينه.» فقال له:
- «سأفعل، فبكّر علىّ غدا.» وركب ابن أبى خالد إلى المأمون، فلمّا دخل إليه قال له:
- «ما بتّ البارحة.» فقال له:
- «ولم ويحك؟» قال: «لأنّك ولّيت خراسان غسّان [1] وهو ومن معه أكلة رأس، وأخاف أن تخرج عليه خارجة من الترك فتصطلمه.» قال: «لقد فكّرت فى ذلك، فمن ترى؟» قال: «طاهر بن الحسين.» قال: «ويلك يا أحمد، هو والله خالع.»
__________
[1] . فى آ: حسان، بدل «غسّان» . مط والطبري (11: 1041) : كالأصل.(4/148)
قال: «أنا الضامن له.» قال: «فأنفذه.» قال: فدعا طاهرا من ساعته فعقد له وشخص من ساعته. فنزل فى بستان جليل [1] يحمل إليه فى كلّ يوم ما أقام فيه مائة ألف. فأقام شهرا ثمّ شخص إلى خراسان.
وكان طاهر استخلف ابنه بالرقّة على قتال نصر بن شبث. [2]
ذكر نادرة لكاتب صارت سببا لصلاح حاله وحال الكتّاب ببغداد [3] [171]
تحدّث محمد بن خالد بن رودى [4] المدائني الكاتب قال:
كان مخلد يلقّب بلبد لطول عمره فحدّثنى أنّ المأمون أوّل ما قدم العراق حظر أن يقلّد الأعمال إلّا الشيعة الذين قدموا معه من خراسان. فطالت عطلة كتّاب السواد وعمّاله وكانوا يحضرون داره فى كلّ يوم حتّى ساءت حال أكثرهم. فخرج يوما بعض مشايخ الشيعة وكان مغفّلا، فتأمّل وجوههم فلم ير فيهم أسنّ من مخلد، فجلس إليه ثمّ قال له:
- «إنّ أمير المؤمنين قد أمرنى أن أتخيّر ناحية من نواحي الخراج صالحة المرفق ليوقّع بتقليدى إيّاه، فاختر لى أنت ناحية.»
__________
[1] . فى الطبري (11: 1043) : خليل بن هاشم. فى آوحواشي الطبري وتد (450) جليل. وفى مط:
خليل.
[2] . وزاد فى تد (450) : وفيها ولّى المأمون عيسى بن محمد بن أبى خالد ارمينية وآذربيجان لمحاربة بابك.
[3] . العنوان غير موجود فى تد (450) .
[4] . فى آومط: دردى.(4/149)
فقال: «إنّى لا أعرف لك عملا أولى من مرتدات [1] البحر وصدقات الوحش وخراج وبار.» فقال: «اكتبه لى بخطّك.» فكتب ذلك له بخطّه، فذهب الشيعي حتّى عرض الرقعة على المأمون وسأله تقليده ذلك العمل. فقال له:
- «من كتب لك هذه الرقعة؟» قال: «شيخ من الكتّاب يحضر الدار كلّ يوم.» قال: «هلمّه.» فلمّا أدخل، قال له المأمون:
- «ما هذا يا جاهل، قد بلغ بك الفراغ إلى مثل هذا؟» فقال: «يا أمير المؤمنين أصحابنا هؤلاء ثقات يصلحون لحفظ ما تحصّل استخراجه وصار فى أيديهم. [172] فأمّا شروط الخراج، حكمه، وما يجب تعجيل استخراجه، وما يجب تأخيره، وما يجب إطلاقه، وما يجب منعه، وما يجب إنفاقه، وما يجب الاحتساب، به فلا يعرفونه، وتقليدهم يعود بذهاب الارتفاع، فإن كنت يا أمير المؤمنين لا تثق بنا فمر بأن يضمّ إلى كلّ رجل منهم رجل منّا، فيكون الشيعي يحفظ الأموال ونحن نجمعه.» فاستصاب المأمون كلامه، وأمر بتقليد عمّال السواد وكتّابهم، وأن يضمّ إلى كلّ واحد منهم واحد من الشيعة. وضمّ مخلد إلى ذلك الشيخ، فقلّده ناحية جليلة.
وفيها ولّى المأمون عيسى بن محمد بن أبى خالد أرمينية وأذربيجان
__________
[1] . مرتدات: الحرف الأوّل غامض فى الأصل. فى مط: يريدات. والعبارة فى آ: «بريذات البحر والأخرى بريدات [بالإهمال إلّا فى الحرف الأخير] البحر» . فى تد (451) : بريدات. والمرتدة:
المردّه: الفائدة. ولم نجد الرواية فى الطبري فى هذه السنة.(4/150)
لمحاربة بابك.
ودخلت سنة ست ومائتين
وفيها ولّى المأمون عبد الله بن طاهر الجزيرة إلى مصر ذكر السبب فى ذلك
كان يحيى بن معاذ بالجزيرة فمات فى هذه السنة، فدعا المأمون عبد الله بن طاهر فقال:
- «يا عبد الله، إنّى أستخير الله عزّ وجلّ منذ شهر وأرجو أن يخير الله لى.
إنّ الرجل يصف [173] ابنه ليطريه لرأيه فيه، وليرفعه، وقد رأيتك فوق ما وصفك أبوك. وقد مات يحيى بن معاذ واستخلف ابنه وليس بشيء. وقد رأيت توليتك مصر ومحاربة نصر بن شبث [1] .» فقال: «السمع والطاعة لأمير المؤمنين، وأرجو أن يجعل الله لأمير المؤمنين الخير وللمسلمين.» فعقد له وأمر أن يقطع حبال القصّارين عن طريقه، وتنحّى عن الطرقات المظالّ لئلّا يكون فى طريقه ما يردّ لواءه، ثمّ عقد له لواء مكتوب عليه بصفرة ما يكتب على الألوية. وزاد فيه: «المأمون يا منصور.» فركب إليه الناس وركب إليه الفضل بن الربيع فأكرمه عبد الله وقال له:
- «قد تقدّم أبى وأخوك إلىّ ألّا أقطع أمرا دونك. وأحتاج أن أستطلع رأيك واستضئ بمشورتك.» فأقام عنده إلى الليل وسأله المبيت فأبى واعتذر. فمشى معه عبد الله إلى صحن داره وودّعه.
__________
[1] . فى آ: شيث.(4/151)
وفى هذه السنة ولّى عبد الله بن طاهر إسحاق بن إبراهيم أمر الجسر وجعله خليفته على ما كان أبوه طاهر استخلفه فيه من الشرط وأعمال بغداد وشخص هو إلى الرقّة لحرب نصر بن شبث.
ودخلت سنة سبع ومائتين
وفاة ذى اليمينين
وفيها كانت وفاة ذى اليمينين طاهر من حمّى وحرارة أصابته. وذكر أنّه وجد فى فراشه [174] ميتا. فحكى خواصّه وعمّه علىّ بن مصعب أنّهم صاروا إليه يعودونه، فسألوا الخادم عن خبره وكان يغلّس بصلاة الصبح، فقال الخادم:
- «هو نائم لم ينتبه.» فانتظروه ساعة، فلمّا تأخّر قالوا للخادم:
- «أيقظه.» قال:
- «لا أجسر.» فقالوا له:
- «طرّق لنا لندخل إليه.» فدخلوا فوجدوه ملتفّا فى دوّاج قد أدخله تحته وشدّه عليه من عند رأسه ورجليه، فحرّكوه فلم يتحرّك، فكشفوا عن وجهه فوجدوه قد مات، ولم يعلم أحد الوقت الذي توفّى فيه.
وذكر أبو سعده [1] كلثوم بن ثابت قال: كنت على بريد خراسان ومجلسي
__________
[1] . انظر الطبري (11: 1064) .(4/152)
يوم الجمعة فى أصل المنبر، فلمّا كانت سنة سبع ومائتين بعد ولاية طاهر بن الحسين بسنتين حضرت الجمعة، فصعد طاهر المنبر فخطب، فلمّا بلغ إلى ذكر الخليفة أمسك عن الدعاء له وقال:
- «اللهم أصلح أمّة محمد بما أصلحت به أولياءك واكفها مؤونة من بغى لها السوء وأرادها بمكروه بلمّ الشعث وحقن الدماء وإصلاح ذات البين.» قال: فقلت فى نفسي: أنا أوّل مقتول لأنّى لا أكتم الخبر. فانصرفت واغتسلت ووصّيت وائتزرت بإزار ولبست قميصا وارتديت رداء وطرحت السواد [175] وكتبت إلى المأمون.
قال: فلمّا صلّى العصر دعاني، وحدث حادث فى جفن عينه وفى ماقه [1] فسقط ميتا. فخرج طلحة بن طاهر فقال:
- «ردّوه ردّوه» .
وقد خرجت فردّونى وقال:
- «هل كتبت بما كان؟» قلت: «نعم.» قال: «فاكتب بوفاته.» فأعطانى مالا وثيابا. فكتبت بوفاته وقد قام طلحة بالجيش.
قال: فوردت الخريطة على المأمون بخلعه. فدعا ابن أبى خالد فقال:
- «اشخص الآن فأت به كما زعمت وضمنت.» قال: «أبيت ليلتي؟» قال: «لا لعمري ولا تبيت إلّا على الظهر.» فلم يزل يناشده حتّى أذن له فى المبيت، ووافت الخريطة بموته ليلا،
__________
[1] . كذا فى الأصل وآ والطبري (11: 1064) .(4/153)
فأمر بمكاتبة طلحة وأقامه مقامه فبقى طلحة واليا على خراسان فى أيّام المأمون سبع سنين بعد موت طاهر ثمّ توفّى وولّى عبد الله خراسان.
وذكر بعض خواصّ المأمون قال: شهدت مجلسا للمأمون وقد أتاه نعى طاهر فقال:
- «لليدين وللفم. الحمد لله الذي قدّمه وأخّرنا.» ثمّ وجّه المأمون أحمد بن أبى خالد إلى خراسان للقيام بأمر طلحة، فشخص أحمد إلى ما وراء النهر فافتتح أسروشنة، وأسر كاووس وابنه وبعث بهما إلى المأمون، ووهب طلحة لأحمد ثلاثة آلاف ألف درهم وعروضا بألفي درهم [176] ووهب لإبراهيم بن العبّاس كاتب أحمد خمسمائة ألف درهم.
ودخلت سنة ثمان ومائتين
ولم يحدث فيها حدث ينسخ فى هذا الكتاب.
ودخلت سنة تسع ومائتين
وفيها حصر عبد الله بن طاهر نصر بن شبث وضيّق عليه حتّى طلب الأمان [1] .
ويقال: إنّ ثمامة حكى أنّ المأمون سأله أن يحمل إليه رجلا له عقل وبيان يحمّله رسالة إلى نصر بن شبث. قال: فحملت إليه رجلا من بنى عامر يقال له جعفر بن محمد فقال: أحضرنى المأمون بين يديه فكلّمنى بكلام
__________
[1] . انظر الطبري (11: 1067) .(4/154)
كثير، ثمّ أمرنى أن أبلغه نصرا. قال: فأتيت نصرا وهو بسروج بموضع يقال له كفرغزون [1] فأبلغته رسالته فأذعن وشرط شروطا منها أن لا يطأ له بساطا. قال: فأتيت المأمون فأخبرته فقال:
- «لا أجيبه إلى هذا أبدا ولو أفضيت إلى بيع ما علىّ حتّى يطأ بساطي وما باله ينفر منّى.» قال: قلت:
- «لجرمه وما تقدّم منه.» قال: «أتراه أعظم جرما عندي من الفضل بن الربيع ومن عيسى بن أبى خالد أتدرى ما صنع [177] بى الفضل؟ أخذ قوّادى وأموالى وجنودي وسلاحي وجميع مالي ممّا أوصى به لى أبى فذهب به إلى محمد وتركني بمرو وحيدا وأسلمنى وأفسد علىّ أخى حتّى كان من أمره ما كان. أتدرى ما صنع بى عيسى بن أبى خالد؟ طرد خليفتي من مدينتي ومدينة آبائي وذهب بخراجى وفيئى وأخرب علىّ دياري وأقعد إبراهيم خليفة بإزائى ودعاه باسمى.» قال: قلت:
- «يا أمير المؤمنين تأذن لى فى الكلام فأتكلّم؟» قال: «تكلّم.» قال: قلت:
- «الفضل بن الربيع رضيعكم ومولاكم وحال سلفه حالهم يرجع إليه بضروب كلّها تردّك إليه وعيسى بن أبى خالد رجل من أهل دولتك وسابقته وسابقة من مضى من سلفه سابقتهم، وهذا رجل لم تكن له يد قطّ فتحتمل
__________
[1] . فى الطبري (11: 1067) . كفرعزون (بإهمال الرابع) .(4/155)
عليها ولا لمن مضى من سلفه، إنّما كانوا جند بنى أميّة.» قال: «إنّ ذلك لكما تقول، فكيف بالحنق والغيظ. لست أقلع عنه حتّى يطأ بساطي.» قال: «فأتيت نصرا فأخبرته بذلك. قال: فصاح بالخيل صيحة فجالت عليه ثمّ قال:
- «ويلي عليه هو؟ لم يقو على أربعمائة ضفدع تحت جناحه- يعنى الزطّ- يقوى على حلبة العرب؟» فذكر أنّ عبد الله بن طاهر لمّا جادّه القتال بلغ منه حتّى طلب الأمان [178] فأعطاه وبعث به إلى المأمون.
ودخلت سنة عشرة ومائتين
وفيها أخذ إبراهيم بن المهدى ليلة الأحد لثلاث عشرة خلت من ربيع الآخر وهو متنقّب بين امرأتين فى زىّ امرأة أخذه حارس أسود ليلا فقال:
- «من أنتنّ وأين تردن فى هذا الوقت؟» فأعطاه إبراهيم خاتم ياقوت كان فى إصبعه له قدر عظيم، وقال:
- «خلّنا ولا عليك أن تعلم من نحن.» فلمّا نظر الحارس إلى الخاتم استراب وقال فى نفسه: هذا خاتم رجل له شأن فرفعن إلى صاحب المسلحة، فأمرهنّ أن يسفرن. فتمنّع إبراهيم فجبذه فبدت لحيته. فرفعه إلى صاحب الجسر، فرفعه فذهب به إلى باب المأمون فأعلم به فأمر بالاحتفاظ به فى الدار. فلمّا كان غداة الأحد أقعد فى دار المأمون لينظر إليه بنو هاشم والقوّاد والجند وصيّروا المقنعة التي كان متنقّبا بها فى عنقه والملحفة فى صدره ليراه الناس ويعلموا كيف أخذ، فلمّا كان يوم الخميس حوّل إلى منزل أحمد بن أبى خالد فحبس عنده.(4/156)
بناء المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل
وفى هذه السنة بنى المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل فى شهر رمضان. وكان الحسن بالصّلح، فشخص المأمون إلى الصّلح، [179] وأمر بحمل إبراهيم بن المهدى خلفه. وكان العبّاس بن المأمون قد تقدّم أباه على الظهر ووافى المأمون وقت العشاء فأفطر هو والحسن والعبّاس ودينار بن عبد الله قائم على رجله حتّى فرغوا من الإفطار، فدعا المأمون بشراب فأتى بجام ذهب فصبّ فيه وشرب ومدّ يده بجام فيه شراب إلى الحسن، فتباطأ عنه الحسن فغمزه دينار بن عبد الله، فقال الحسن:
- «يا أمير المؤمنين أشربه بإذنك.» فقال له:
- «لولا أمرى لم أمدّ يدي إليك بها.» فأخذ الجام فشربه فلمّا كان فى الليلة دخل على بوران. فلمّا جلس المأمون معها نثرت عليها جدّتها ألف درّة كانت فى صينيّة ذهب وكان تحتها حصير ذهب معمول على السامان. فقال المأمون:
- «قاتل الله أبا نواس كأنّه حاضر هذا المنظر فى قوله:
«حصباء درّ على أرض من الذهب.» ثمّ أمر المأمون أن يجمع وسألها عن عدد الدرّ كم كان فقالت:
- «ألف حبّة.» فأمر بعدّها فنقصت عشرا فقال:
- «من أخذها فليردّها.»(4/157)
فقال حسين رخلة [1] :
- «يا أمير المؤمنين إنّما نثر لنأخذه وإلّا فالعقد أولى به.» قال: «ردّها فإنّى أخلفها عليك.» فردّت. فجمعها [180] المأمون فى الآنية كما كانت، ووضع فى حجرها، وقال:
- «هذه نحلتك وسلى حوائجك.» فأمسكت، فقالت جدّتها:
- «كلّمى سيّدك وسليه حوائجك، فقد أمرك.» فسألته الرضا عن إبراهيم بن المهدى. فقال:
- «قد فعلت.» وسألته الإذن لأمّ جعفر فى الحجّ، فأذن لها. وألبستها أمّ جعفر البدنة الأموية. وابتنى بها من ليلته وأوقد فى تلك الليلة شمعة عنبر فيها أربعون منّا فى تور ذهب فأنكر المأمون ذلك عليهم وقال:
- «هذا سرف.» فلمّا كان من الغد دعا إبراهيم بن المهدى، فجاء يمشى من شاطئ دجلة.
فلمّا دخل على المأمون قال:
- «هيه يا إبراهيم.» فقال: «يا أمير المؤمنين، ولىّ الثأر محكّم فى القصاص والعفو أقرب للتقوى ومن تناوله الاغترار بما مدّ له من أسباب الشقاء أمكن عادية الدهر من نفسه، وقد جعلك الله فوق كلّ ذى ذنب كما جعل كلّ ذى ذنب. دونك فإن تعاقب فبحقّك وإن تعف فبفضلك.»
__________
[1] . كذا فى الأصل: حسين رخله. فى الطبري (11: 1082) : حسين زجلة.(4/158)
قال: «بل أعفو يا إبراهيم.» فكبّر وسجد وقال إبراهيم يمدح المأمون: [181]
يا خير من حملت يمانية به ... بعد الرّسول لآيس ولطامع
عسل الفوارع ما أطعت فإن تهج ... فالصّاب يمزج بالسّمام النّاقع
ملئت قلوب النّاس منك مخافة ... وتبيت تكلؤهم بقلب خاشع
بأبى وأمّى فدية وبنيهما ... من كلّ معضلة وذنب واقع
ما ألين الكنف الّذى بوّأتنى ... وطنا وأمرع ريعه للرّائع [1]
نفسي فداؤك إذ [2] تضلّ معاذرى ... وألوذ منك بفضل حلم واسع
أملا لفضلك والفواضل شيمة ... رفعت بناءك بالمحلّ اليافع
فعفوت عمّن لم يكن عن مثله ... عفو ولم يشفع إليك بشافع
إلّا العلوّ عن العقوبة بعد ما ... ظفرت يداك بمستكين خاضع
فرحمت أطفالا كأفراخ القطا ... وعويل عانسة كقوس النّازع
الله يعلم ما أقول فإنّها ... جهد الأليّة من حنيف راكع
ما إن عصيتك والغواة تمدّنى ... أسبابها إلّا بنيّة طائع
حتّى إذا علقت حبائل شقوتي ... بردى إلى حفر المهالك هائع
لم أدر أنّ لجرم مثلي غافرا ... فوقفت أنظر أىّ حتف صارعى
ردّ الحيوة علىّ بعد ذهابها ... ورع الإمام القادر المتواضع
أحياك من ولّاك أطول مدّة ... ورمى عدوّك فى الوتين بقاطع
إنّ الّذى قسم الخلافة حازها ... فى صلب آدم للإمام السّابع
__________
[1] . كذا فى الأصل: ريعه للرائع. فى آوالطبري (11: 1078) : رتعه للراتع. فى تد (458) : ربعه للرابع.
[2] . فى الأصل وآ: أن. وفى تد: إن. فى الطبري (11: 1078) إذ. وهو الأصحّ.(4/159)
جمع القلوب عليك جامع أمرها ... وحوى رداؤك كلّ خير جامع [182]
فقال المأمون حين أنشده إبراهيم هذه القصيدة:
- «أقول ما قال يوسف لإخوته: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ الله لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ 12: 92 [1] .» فأمّا الحسن بن سهل فإنّه أضاف المأمون وجميع من معه وخلع على القوّاد على مراتبهم وحملهم ووصلهم، وكان مبلغ ما لزمه عليهم خمسين ألف ألف درهم سوى ما نثره.
وكان كتب رقاعا فيها أسماء ضياعه ونثرها على القوّاد وبنى هاشم فمن وقعت فى يده رقعة منها فيها اسم ضيعة بعث [2] فتسلّمها.
افتتاح مصر
وفى هذه السنة افتتح عبد الله بن طاهر مصر واستأمن إليه عبيد الله بن السرى بن الحكم.
ذكر الخبر عن ذلك لمّا فرغ عبد الله بن طاهر من نصر بن شبث ذهب إلى مصر، فلمّا قرب منها وصار على مرحلة قدّم قائدا من قوّاده ليرتاد لمعسكره موضعا يعسكر فيه، وقد خندق ابن السرىّ على نفسه خندقا. فاتصل الخبر بابن السرىّ عن مسير القائد إلى ما قرب منها فخرج بمن استجاب له من أصحابه إلى القائد الذي كان يطلب موضع العسكر، فأبرد القائد [183] إلى عبد الله بريدا بخبره
__________
[1] . س 12 يوسف: 92.
[2] . فى تد (459) : بعث بها.(4/160)
وخبر خروج ابن السرىّ إليه، فحمل عبد الله رجاله على البغال على كلّ بغل رجلين بآلاتهما وجنبوا الخيل وأسرعوا السير حتّى لحقوا القائد وابن السرى وأصحابه، فلم يكن من أصحاب عبد الله إلّا حملة واحدة حتّى انهزم ابن السرىّ وأصحابه وتساقطت عامّة أصحاب ابن السرىّ فى الخندق. فمن هلك منهم بسقوط بعضهم على بعض فى الخندق أكثر ممّن قتله الجند. وانهزم ابن السرى فدخل الفسطاط وأغلق على نفسه وأصحابه ومن فيها الباب وحاصره عبد الله بن طاهر، فلم يعاوده ابن السرىّ الحرب حتّى خرج إليه فى الأمان.
فحكى ابن ذى القلمين قال: بعث ابن السرىّ إلى عبد الله بن طاهر لمّا ورد مصر، ومانعه من دخولها بألف وصيف ووصيفة، مع كلّ واحد منهم ألف دينار فى كيس حرير، وبعث بهم إليه ليلا. قال: فردّهم عليه عبد الله وكتب إليه:
- «لو قبلت هديّتك نهارا لقبلتها ليلا- بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ 27: 36- 37.» [1] قال: فحينئذ طلب الأمان وخرج إليه.
خلع أهل قم السلطان وما كان من عاقبته
وفى هذه السنة خلع أهل قم [2] السلطان ومنعوا الخراج. [184] ذكر سبب ذلك كان المأمون وقت اجتيازه بالرىّ حطّ عن أهلها من الخراج على ما
__________
[1] . س 27 النمل: 36.
[2] . لا شدّة على الميم فى هذا الاسم فى كل المواطن من الأصل.(4/161)
ذكرت، فطمع أهل قم فى مثل ذلك وكان خراجهم ألفى ألف درهم، فكانوا يستكثرونها. فرفعوا إلى المأمون يشكون ثقل الخراج ويسألونه الحطّ فلم يجبهم المأمون، فامتنعوا ولم يؤدّوا شيئا، فوجّه المأمون إليهم علىّ بن هشام ثمّ أمدّه بعجيف فحاربهم فظفر بهم وقتل يحيى بن عمران وهدم سور قم وجباها سبعة آلاف ألف، بعد ما كانوا يتظلّمون من ألفى ألف درهم.
ودخلت سنة إحدى عشرة ومائتين
المأمون يدسّ رجلا إلى عبد الله بن طاهر
وفيها قال بعض إخوة المأمون للمأمون:
- «يا أمير المؤمنين، إنّ عبد الله بن طاهر يميل إلى ولد أبى طالب وكذا كان أبوه قبله.» قال: فدفع المأمون ذلك وأنكره.
ثمّ عاد لمثل هذا القول، فدسّ إليه رجلا وقال له:
- «امض فى هيئة القرّاء [1] والنسّاك إلى مصر فادع جماعة من كبرائها إلى القاسم بن إبراهيم بن طباطبا واذكر مناقبه وعلمه وفضائله ثمّ صر بعد ذلك إلى بعض بطانة عبد الله بن طاهر ثمّ ائته فادعه ورغّبه فى استجابته [185] له، وابحث عن دفين نيّته بحثا شافيا، وأتنى بما تسمع منه.» قال: ففعل الرجل ما قال له وأمره به، حتّى إذا دعا جماعة من الرؤساء والأعلام قعد يوما بباب عبد الله بن طاهر وقد ركب إلى عبيد الله بن السرىّ بعد صلحه وأمانه. فلمّا انصرف قام إليه الرجل فأخرج من كمّه رقعة فدفعها إليه فأخذها بيده. قال: فما هو إلّا أن دخل خرج الحاجب، فأدخله عليه
__________
[1] . فى الأصل وآ وتد (461) : الغزاة. فى مط: العراة. فى الطبري (11: 1096) : القرّاء، وهو الصحيح.(4/162)
وهو قاعد على بساطه ما بينه وبين الأرض غيره وقد مدّد رجليه وخفّاه [1] فيهما. فقال له:
- «قد فهمت ما فى رقعتك من جملة كلامك، فهات ما عندك.» قال: «ولى أمانك ذمّة من الله معك؟» قال: «لك ذلك.» فأظهر له ما أراد، ودعاه إلى القاسم وأخبره بفضائله وعلمه وزهده.
فقال له عبد الله:
- «أتنصفني؟» قال: «نعم.» قال: «هل يجب شكر الله على العباد؟» قال: «نعم.» قال: «فهل يجب شكر بعضهم على بعض عند الإحسان والمنّة والتفضل؟» قال: «نعم.» قال: «فتجيء إلىّ وأنا على هذه الحال التي ترى، لى خاتم فى المشرق جائز وخاتم فى المغرب كذلك، وفيما بينهما أمير مطاع وقولي مقبول. ثمّ ما ألتفت يميني ولا شمالي ولا ورائي ولا قدّامى إلّا رأيت نعمة لرجل أنعمها علىّ [186] ومنّة ختم بها رقبتي ويدا لائحة بيضاء ابتدأنى بها كرما وتفضّلا فتدعوني إلى الكفر بهذه النعمة وهذا الإحسان وتقول: اغدر بمن كان أوّلا لهذا وآخرا واسع فى إزالة خيط رقبته وسفك دمه، تراك لو دعوتني إلى الجنّة عيانا من حيث أعلم، أكان الله عزّ وجلّ يحبّ أن أغدر به وأكفر
__________
[1] . فى مط: خفّان.(4/163)
إحسانه ومنّته وأنكث بيعته؟» فسكت الرجل. فقال له عبد الله:
- «أما إنّه قد بلغني أمرك وبالله ما أخاف عليك إلّا نفسك، فارحل عن هذا البلد، فإنّ السلطان الأعظم إن بلغه أمرك كنت الجاني على نفسك ونفس غيرك.» فعاد الرجل إلى المأمون فأخبره الخبر. فاستبشر فقال:
- «ذلك غرس يدي وإلف أدبى.» ولم يظهر من حديثه هذا شيء لأحد إلّا بعد موت المأمون.
وكتب المأمون إلى عبد الله بن طاهر وهو بمصر كتابا بخطّه. فكان فى أسفله هذه الأبيات:
أخى أنت ومولاي ... ومن أشكر نعماه
فما أحببت من أمر ... فإنّى الدّهر أهواه
وما تكره من شيء ... فإنّى لست أرضاه
لك الله على ذاك ... لك الله لك الله
المأمون واظهار القول بخلق القرآن وبفضل على بن أبى طالب (ع)
وفى هذه السنة قدم عبد الله بن طاهر مدينة السلام من المغرب وتلقّاه العبّاس بن [187] المأمون وأبو إسحاق المعتصم وسائر طبقات الناس وقدم معه بالمتغلّبين على الشام.
وفيها أمر المأمون مناديا فنادى:
- «برئت الذمّة ممّن ذكر معاوية بخير.»(4/164)
وأظهر القول بخلق القرآن وبفضل علىّ بن أبى طالب [1] .
ودخلت سنة ثلاث عشرة ومائتين
وفيها مات طلحة بن طاهر بن الحسين بخراسان.
وفيها ولّى المأمون أخاه أبا إسحاق الشام ومصر وولّى ابنه العبّاس بن المأمون الجزيرة وأمر لكلّ واحد منهما ومن عبد الله بن طاهر بخمسمائة ألف دينار. فقيل إنّه لم يفرّق فى ساعة من يوم من المال مثل ذلك.
ودخلت سنة أربع عشرة ومائتين
وفيها استفحل أمر بابك وقتل محمد بن حميد وفضّ عسكره وقتل أكثر من كان معه.
وفيها بعث المأمون إلى عبد الله بن طاهر إسحاق بن إبراهيم ويحيى بن أكثم يخيّرانه بين خراسان والجبال وإرمينية وأذربيجان ومحاربة بابك.
فاختار خراسان وشخص إليها [2] .
ودخلت سنة خمس عشرة ومائتين [188]
وفيها شخص المأمون من مدينة السلام لغزو الروم فى المحرّم. فافتتح بها حصونا وعاد إلى دمشق.
ودخلت سنة ستّ عشرة ومائتين
فكرّ المأمون إلى أرض الروم، وكان سبب ذلك ورود الخبر على المأمون
__________
[1] . فى آ: صلوات الله وسلامه عليه. فى مط: رضى الله عنه.
[2] . انظر الطبري (11: 1102) .(4/165)
بقتل ملك الروم قوما من أهل طرسوس والمصّيصة وكانوا نحو ألفى رجل، فشخص المأمون حتّى دخل بلاد الروم. فما نزل على حصن إلّا خرج إليه أهله على صلح حتّى افتتح ثلاثين حصنا، ثمّ أغار على طوانة وسبى وقتل وأحرق. ثمّ ارتحل إلى دمشق.
ودخلت سنة سبع عشرة ومائتين
وعاد المأمون إلى أرض الروم. وكان سبب ذلك كتاب ورد عليه من ملك الروم يسأله الموادعة، وبدأ فيه بنفسه. فغزا المأمون هذه الغزوة بحنق، وأنزل ابنه بطوانه من أرض الروم، ووجّه معه الفعلة وابتدأ بها فى بناء عظيم وجعل سورها على ثلاثة فراسخ وجعل لها أربعة أبواب وبنى على كلّ باب حصنا، وكتب إلى أخيه أبى إسحاق أن يفرض على جند دمشق وما والاها أربعة آلاف رجل وأنّه يجرى [189] على الفارس مائة درهم وعلى الراجل أربعين درهما وفرض على مصر وغيرها من البلدان.
وكتب إلى إسحاق بن إبراهيم وهو خليفته ببغداد، ففرض على أهل بغداد فرضا.
المأمون يختبر الآراء فى التشبيه وخلق القرآن
وفى هذه السنة كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم فى امتحان القضاة والمحدثين والفقهاء، فمن لم يقبل منهم بنفي التشبيه وبخلق القرآن يشخصهم إليه مقيّدين.
وكتب فى ذلك كتابا بليغا فيه آيات منتزعة من القرآن وتهديد كثير مع رفق فى مواقع، وطعن على أصحاب الحديث الذين لا يتفقّهون ولا يعقلون، فأشخص إليه جماعة فيهم محمد بن سعد كاتب الواقدي ومستملى يزيد بن(4/166)
هارون ويحيى بن معين وزهير بن حرب وعدّه يجرون مجراهم، فامتحنهم وسألهم عن القرآن فأجابوا جميعا:
- «إنّ القرآن مخلوق.» وامتحن إسحاق بن إبراهيم جماعة فيهم بشر بن الوليد وقال له:
- «ما تقول فى القرآن؟» قال: «أقول إنّه كلام الله.» قال: «لم أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟» قال: «الله خالق كلّ شيء.» قال: «فالقرآن شيء؟» [قال: نعم، هو شيء.] [1] قال: «فهو مخلوق.» قال: «ليس بخالق؟» قال: «فهو مخلوق.» قال: «ما أحسن [2] غير هذا.» ثمّ كلّم جماعة من وجوه الفقهاء والقضاة [190] فقالوا قريبا من قول بشر.
فكتب مقالات القوم رجل رجل إلى المأمون.
فكتب المأمون فى الجواب يستجهل واحدا واحدا ويحاجّه ويشتم كلّ واحد بما يعرفه فيه ويأمر فى آخر الكتاب بأنّ:
- «من لم يرجع عن شركه يسفك دمه. أمّا بشر بن الوليد فابعث إلىّ برأسه وكذلك إبراهيم بن الحسن، وأمّا الباقون فاحملهم فى قيود وأغلال
__________
[1] . ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أضفناه من آوتد (465) .
[2] . كذا فى الأصل وآ ومط وتد (465) : أحسن.(4/167)
لينفذ فيهم أمرى.» فأجاب القوم كلّهم:
- «إنّ القرآن مخلوق.» إلّا نفسان: أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح، فشدّا فى الحديد ووجّها إلى طرسوس.
ثمّ بلغ المأمون أنّ بشر بن الوليد والجماعة تأوّلوا قوله- عزّ وجلّ-: «إلّا من أكره وقلبه مطمئنّ بالإيمان» [1] فكتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم أن:
- «قد فهم أمير المؤمنين ما كتب به صاحب الخبر أنّ بشر تأول الآية التي ذكرت وقد أخطأ التأويل، إنّما عنى الله عزّ وجلّ بهذه الآية من كان معتقدا الإيمان مظهرا الشرك، فأمّا من كان معتقدا الشرك مظهرا الإيمان فليس هذه له.» [2] فأشخص القوم جميعا إلى طرسوس وأخذ عليهم الكفلاء، فأشخص نحوا من عشرين مع بشر بن الوليد [191] من وجوه الفقهاء والقضاة وأصحاب الحديث. فلمّا بلغوا الرقّة أتاهم وفاة المأمون فردّوا إلى مدينة السلام، فأمرهم إسحاق بلزوم منازلهم.
كتاب المأمون إلى عمّاله فى البلدان
وفى هذه السنة نفذت الكتب من المأمون إلى عمّاله فى البلدان:
- «من عبد الله، عبد الله [3] المأمون أمير المؤمنين وأخيه الخليفة من بعده
__________
[1] . س 16 النحل: 106.
[2] . انظر الطبري (11: 1132) .
[3] . تكرار «عبد الله» صحيح. انظر أيضا الطبري (11: 1132) .(4/168)
أبى إسحاق ابن أمير المؤمنين إلى الرشيد.» وقيل: إنّ ذلك لم يكتبه المأمون وإنّما مرض بالبذندون وهو نهر بأرض الروم، فلمّا أفاق أمر بأن يكتب إلى العبّاس ابنه وعبد الله بن طاهر وإلى إسحاق أنّه إن حدث به حدث الموت فى مرضه فالخليفة من بعده أبو إسحاق ابن الرشيد. فكتب بذلك محمد بن يزداذ وختم الكتب وأنفذها.
فكتب أبو إسحاق إلى عمّاله:
- «من أبى إسحاق أخى أمير المؤمنين والخليفة بعد أمير المؤمنين، أمرهم بحسن السيرة وتخفيف المؤونة. وكتب إلى جمع من فى أعماله من أجناد الشام جند حمص والأردن وفلسطين بمثل ذلك.
فلمّا كان يوم الجمعة لإحدى عشرة بقيت من رجب سنة ثماني عشرة ومائتين صلّى إسحاق بن يحيى بن معاذ فى مسجد دمشق، فقال فى خطبته بعد دعائه [192] لأمير المؤمنين:
- «اللهم وأصلح الأمير أخا أمير المؤمنين والخليفة من بعد أمير المؤمنين أبا إسحاق ابن الرشيد أمير المؤمنين.» وفى سنة ثماني عشرة ومائتين توفّى المأمون بالبذندون.
وفات المأمون ذكر سبب وفاته
حكى سعيد العلّاف القارئ قال: أرسل إلىّ المأمون وهو ببلاد الروم وكان دخلها من طرسوس، فحملت إليه وهو بالبذندون، وكان يستقرينى [1] فدعاني يوما فجئته فوجدته جالسا على شاطئ البذندون وأبو إسحاق المعتصم
__________
[1] . يستقرينى: كذا فى الأصل وآ ومط. فى تد (467) : يستقربنى.(4/169)
جالس عن يمينه. فأمرنى فجلست نجوة منه [1] فإذا هو وأبو إسحاق مدلّيان أرجلهما فى البذندون. فقال:
- «يا سعيد دلّ رجلك فى الماء وذقه، هل رأيت قطّ ماء أشدّ بردا ولا أعذب وأصفى صفاء منه؟» ففعلت وقلت:
- «يا أمير المؤمنين ما رأيت مثل هذا قطّ.» قال: «أىّ شيء يطيب أن يؤكل ويشرب هذا الماء عليه؟» فقلت: «أمير المؤمنين أعلم.» فقال: «رطب الآزاذ.» فبينا هو يقول هذا إذ سمع وقع لجم البريد، فالتفت فإذا بغال البريد على أعجازها حقائب فيها الألطاف، فقال لخادم له:
- «اذهب فانظر [193] هل فى هذه الألطاف رطب، فإن كان فيها الرطب فانظر فإن كان آزاذا فأت به.» فجاء يسعى بسلّتين فيهما [2] رطب آزاذ كأنّما جنى من النخل تلك الساعة، فأظهر شكر الله عزّ وجلّ، وكثر تعجبنا منه، فقال:
- «ادن فكل.» فأكل هو وأبو إسحاق وأكلت معهما وشربنا جميعا من ذلك الماء، فما قام منّا أحد إلّا وهو محموم فكانت منيّة المأمون من تلك العلّة ولم يزل المعتصم عليلا حتّى دخل العراق ولم أزل عليلا حتّى كان قريبا.
ولمّا اشتدّت بالمأمون علّته بعث إلى ابنه العبّاس وهو يظنّ أن لن يأتيه لشدّة مرضه، فأتاه وأقام عند أبيه وقد أوصى قبل ذلك إلى أخيه أبى إسحاق،
__________
[1] . كذا فى الأصل: «نجوة منه» بالجيم المعجمة، فى مط وآ، وتد (467) : نحوه منه.
[2] . فى الأصل وآ ومط وتد (467) : فيها. والتصحيح من الطبري (11: 1135) .(4/170)
ثمّ أعاد الوصيّة بحضرة العبّاس والقضاة والفقهاء والقوّاد.
ولمّا توفّى حمله ابنه العبّاس وأخوه أبو إسحاق إلى طرسوس، فدفناه فى دار خاقان خادم الرشيد وصلّى عليه أخوه أبو إسحاق.
فكانت خلافته عشرين سنة وستّة أشهر سوى سنتين، كان دعى له فيهما بمكّة وأخوه الأمين محمد ابن الرشيد محصور ببغداد.
وكان ولد للنصف من شهر ربيع الأوّل سنة سبعين ومائة. وكان ربعة، أبيض، جميلا.
وقيل: كان [194] أسمر تعلوه صفرة، أقنى، أعين، طويل اللحية رقيقها، أشيب بخدّه خال أسود.
من سيرة المأمون
فأمّا سيرته فمشهورة لا تخفى على أحد جوده وعطاؤه وسماحة أخلاقه وحلمه ولكنّا نحكى بعض ذلك:
حكى عن العيشى صاحب إسحاق بن إبراهيم أنّه قال:
كنت مع المأمون بدمشق، وكان قد قلّ المال عنده حتّى أضاق وشكا ذلك إلى أبى إسحاق المعتصم، فقال:
- «يا أمير المؤمنين كأنّك بالمال قد وافاك بعد جمعة.» قال: وكان حمل إليه ثلاثون ألف ألف من خراج ما كان يتولّاه أبو إسحاق. قال: فلمّا ورد عليه ذلك المال قال المأمون ليحيى بن أكثم:
- «اخرج بنا ننظر إلى هذا المال.» قال: فخرجا ووقفا ينظرانه وقد كان هيّئ بأحسن هيأة وحلّيت أباعره وألبست الأحلاس التي وشّيت والجلال المصبّغة وقلّدت العهن وعلّيت(4/171)
البدر [1] بالحرير الصيني الأحمر والأخضر والأصفر، وأبديت رؤوسها. قال:
فنظر المأمون إلى شيء حسن واستكثره وعظم فى عينه واستشرفه الناس ينظرون إليه ويعجبون منه فقال المأمون ليحيى:
- «يا أبا محمد، ينصرف أصحابنا هؤلاء الذين تراهم الساعة خائبين إلى منازلهم وننصرف [195] نحن بهذه الأموال قد ملكناها دونهم؟ إنّا إذا للئام.» ثمّ دعا محمد بن يزداذ. فقال:
- «وقّع لآل فلان بألف ألف ولآل فلان بمثلها ولآل فلان بمثلثها خمسمائة ألف.» قال: «فو الله إن زال كذلك، حتّى فرّق أربعة وعشرين ألف ألف، ورجله فى الركاب.» ثم قال:
- «ادفع الباقي إلى المعلّى بن أيّوب يعط جندنا.» قال العيشى: فجئت حتّى قمت نصب عينه وحدّقت نحوه فلم أردّ طرفي عن عينه لا يلحظنى إلّا رآني بتلك الحال فقال:
- «يا محمد، وقّع لهذا بخمسين ألف من الستّة الآلاف الألف لا يختلس ناظري.» فلم يأت علىّ ليلتان حتّى أخذت المال.
وللمأمون شعر كثير فمن مشهور شعره. [2]
بعثتك مرتادا ففزت بنظرة ... وأغفلتنى حتّى أسات بك الظّنّا
__________
[1] . كذا فى الأصل وآ ومط. والطبري (11: 1143) . فى تد (468) : البدن.
[2] . انظر الطبري (11: 1152) .(4/172)
فناجيت من أهوى وكنت مباعدا [1] ... فيا ليت شعري عن دنوّك ما أغنى
أرى أثرا منه بعينك بيّنا ... لقد سرقت عيناك من عينه حسنا
فيا ليتنى كنت الرّسول وكنتنى ... فكنت الّذى تقصى [2] وكنت الّذى أدنى
__________
[1] . والضبط فى تد (469) : مباعدا، بكسر العين. وما فى الأصل غير مشكول فضبطناه كما فى الطبري (11: 1152) .
[2] . فى تد (469) : وكنت الذي يفضى. والبيت غير موجود فى الطبري.(4/173)
خلافة أبى إسحاق المعتصم
وفى هذه السنة بويع لأبى إسحاق محمد بن هارون الرشيد بالخلافة لاثنتى عشرة ليلة [196] خلت أو بقيت من رجب سنة ثماني عشرة ومائتين. [1] وفيها شغب الناس على المعتصم، وطلبوا العبّاس، ونادوه باسم الخلافة فأرسل أبو إسحاق المعتصم إلى العبّاس فأحضره وبايعه ثمّ خرج إلى الجند وقال:
- «ما هذا الخبّ [2] البارد؟ قد بايعت عمّى وسلّمت الخلافة إليكم.» فسكن الجند.
وفيها أمر المعتصم بهدم ما كان المأمون أمر ببنائه بطوانة [3] وحمل ما كان بها من السلاح والآلة وغير ذلك ممّا قدر على حمله، وإحراق ما لم يقدر على حمله، وأمر بصرف من كان المأمون أسكن ذلك الموضع من الناس إلى بلادهم.
__________
[1] . انظر الطبري (11: 1164) .
[2] . الخبّ: الخدعة والفساد.
[3] . طوانة: بلد بثغور المصّيصة، وجاء ذكره فى بيت من شعر يزيد بن معاوية (مراصد الإطلاع) .(4/175)
وفيها انصرف المعتصم إلى بغداد ومعه العبّاس بن المأمون، فقدمها يوم السبت مستهلّ شهر رمضان.
توجيه المعتصم عساكر لقتال الخرّميّة
وفيها دخل جماعة من أهل الجبال كثيرة من همذان وإصبهان وماسبذان ومهرجانفذق وغيرها فى دين الخرّمية. ثمّ تراسلوا وتجمّعوا فى أعمال همذان. فوجّه المعتصم إليهم عساكر، فكان آخر عسكر وجّهه مع إسحاق بن إبراهيم بن مصعب وعقد له على الجبال. فشخص إليهم فقاتلوه وهزمهم وقتل هناك ستين ألفا منهم وهرب باقيهم إلى بلاد [197] الروم وكتب بالفتح إلى المعتصم. [1]
ودخلت سنة تسع عشرة ومائتين
ظهور محمد بن القاسم بالطالقان من خراسان
وفيها ظهر محمد بن القاسم بن عمر بن الحسين بن علىّ بن أبى طالب عليهم السلام بالطالقان من خراسان يدعو إلى الرضا من آل محمد - صلى الله عليه وسلم - فاجتمع إليه بها ناس كثير، وكانت بينه وبين قوّاد لعبد الله بن طاهر وقعات بناحية الطالقان وجبالها كان آخرها عليه، فانهزم هو وأصحابه ومضى هاربا يريد بعض كور خراسان كان أهلها كاتبوه، فلمّا صار بنسإ كان بها والد لبعض من معه فمضى الرجل الذي كان له والد هناك ليسلّم على والده، فلمّا تلاقوا سأله عن الخبر. فأخبره أنّهم يقصدون كورة كذا. فمضى أبو ذلك الرجل إلى عامل نسا فأخبره بأمر محمد بن القاسم. فبذل له العامل على
__________
[1] . انظر الطبري (11: 1165) .(4/176)
دلالته عليه مالا وجاء العامل إلى محمد بن القاسم، فأخذه واستوثق منه وبعث به إلى عبد الله بن طاهر، فبعث به عبد الله إلى المعتصم فحبس بسرّ من رأى ووكّل به قوم يحفظونه.
فلمّا كان ليلة الفطر واشتغل الناس بالعيد [1] والتهنئة له هرب من الحبس وافتقد، فجعل لمن يدلّ عليه مائة ألف درهم، ونادى المنادى، فما عرف له خبر إلى اليوم. [198]
توجيه عجيف لحرب الزّطّ
وفيها وجّه المعتصم عجيف بن عنبسة لحرب الزط الذين كانوا عاثوا فى طريق البصرة، وكانوا تغلّبوا على تلك الناحية. فقطعوا الطرق واحتملوا غلّات البيادر بكسكر وما يليها من البصرة وأكثروا الفساد.
فرتّب المعتصم الخيل فى سكك البصرة وبغداد من البرد تركض إليه بالأخبار فكان الخبر يخرج من عند عجيف فيصير إلى المعتصم من يومه، وولّى النفقة على عجيف من قبل إبراهيم البختري كاتبا.
فصار عجيف فى خمسة آلاف رجل إلى الصافية وهي قرية أسفل واسط فسدّ نهرا بها يحمل من دجلة ثمّ صار إلى بردودا فسدّ أنهارا أخر وحصرهم من كلّ وجه، ثمّ قصدهم فأسر منهم جماعة وقتل جماعة. فضرب أعناق الأسرى وبعث برؤوسهم ورؤوس القتلى إلى المعتصم.
ثم أقام عجيف بإزاء الزطّ خمسة عشر يوما وظفر بخلق كثير منهم فأنفذهم ثمّ جاهده الباقون فمكث يقاتلهم بعد ذلك تسعة أشهر.
__________
[1] . فى مط: بالصيد.(4/177)
ودخلت سنة عشرين ومائتين [199]
وفيها دخل عجيف بالزطّ بغداد بعد أن قهرهم حتّى طلبوا منه الأمان، فآمنهم على دماءهم وأموالهم، فكانت عدّتهم سبعة وعشرين ألفا بين رجل وامرأة وصبىّ فجعلهم فى السفن وأقبل بهم حتّى نزل الزعفرانية وأعطى أصحابه دينارين دينارين جائزة، ثمّ عبّأهم فى زواريقهم على هيأتهم فى الحرب معهم البوقات حتّى دخل بغداد بهم والمعتصم ببغداد فى سفينة يقال لها: الزوّ، حتّى مرّ به الزطّ على تعبئتهم ينفخون فى البوقات. فكان أوّلهم بالقفص [1] وآخرهم بحذاء الشماسية، وأقيموا فى سفنهم ثلاثة أيّام. ثمّ دفعوا إلى بشر بن السميدع فذهب بهم إلى خانقين، ثمّ نقلوا إلى الثغر إلى عين زربة، فأغارت عليهم الروم فاجتاحوهم فلم يفلت منهم أحد.
عقد المعتصم للأفشين حرب بابك
وفى هذه السنة عقد المعتصم للأفشين حيدر بن كاوس على الجبال وحرب بابك. وذلك يوم الخميس لليلتين خلتا من جمادى الآخرة. فعسكر بمصلّى بغداد، ثمّ صار إلى برزند [2]
ذكر بابك ومخرجه
كان ظهور بابك فى سنة إحدى ومائتين وكان من قرية يقال لها: البذّ [3] ،
__________
[1] . القفص: هنا قرية ببغداد مشهورة (مراصد الإطلاع) .
[2] . بلد من نواحي تفليس من أعمال جرزان من أرمينية الأولى، وقال الإصطخرى: هي من أذربيجان (مراصد الإطلاع) .
[3] . كورة بين أذربيجان وأتران (مراصد الإطلاع) .(4/178)
وهزم [200] جيوش السلطان وقتل من قوّاده جماعة.
فلمّا أفضى الأمر إلى المعتصم وجّه المعتصم أبا سعيد محمد بن يوسف إلى أردبيل وأمره أن يبنى الحصون التي خرّبها بابك فيما بين زنجان وأردبيل، ويقيم مسالح لحفظ الطريق لمن يجلب الميرة إلى أردبيل. فتوجّه أبو سعيد لذلك وبنى الحصون التي خرّبها بابك.
ثمّ وجّه بابك سريّة إلى بعض غاراته وعليها أمير من قبله يقال له:
معاوية، فعرض له أبو سعيد فاستنقذ ما كان حواه وقتل من أصحابه جماعة وأسر جماعة، فهذه أوّل هزيمة كانت على أصحاب بابك.
ووجّه أبو سعيد الرؤوس والأسرى إلى المعتصم بالله، ولمّا صار الأفشين إلى برزند عسكر بها ورمّ الحصون فيما بين برزند وأردبيل وأنزل محمد بن يوسف بموضع يقال له خشّ، فاحتفر فيه خندقا وأنزل الهيثم الغنوي القائد فى ربستاق يقال له: أرشق، فرمّ حصنه واحتفر حوله خندقا وأنزل علّويه الأعور من قوّاد الأبناء فى حصن ممّا يلي أردبيل يسمّى: حصن النهر، فكانت السابلة والقوافل تخرج فتسلّمها بذرقة [1] من واحد من هؤلاء إلى آخر [201] حتّى يتأدّوا [2] إلى مأمنهم وكان كلّما ظفر واحد من هؤلاء القوّاد بجاسوس وجّهوا به إلى الأفشين. فكان الأفشين لا يقتلهم ولا يضربهم ولكن يهب لهم، ويصلهم ويسألهم ما كان بابك يعطيهم فيضعفه لهم ويقول للجاسوس:
- «كن جاسوسا لنا.»
__________
[1] . بذرفة: فى الأصل بإهمال الثاني. فى آوتد (474) : بذرقة (بالذال المعجمة) .
[2] . فى الأصل: يتادون. والصحيح ما فى آ: يتأدّوا.(4/179)
بابك وأفشين وما كان من أمرهما بأرشق
وفيها كانت الوقعة بين بابك والأفشين بأرشق، قتل فيها من أصحاب بابك خلق كثير وهرب بابك إلى موقان ثمّ شخص منها إلى مدينته التي تدعى البذّ.
ذكر السبب فى ذلك كان المعتصم وجّه مع بغا الكبير بمال إلى الأفشين عطاء لجنده وللنفقات، فقدم بغا بذلك المال أردبيل، فلمّا نزلها بلغ بابك خبره فتهيّأ ليقطع عليه قبل وصوله إلى الأفشين. فقدم جاسوس على الأفشين فأخبره أنّ بغا الكبير قد قدم بمال وأنّ بابك وأصحابه قد تهيّئوا ليقطعوه قبل وصوله إليك.
وكان هذا الجاسوس ورد على أبى سعيد أوّلا فوجّه به أبو سعيد إلى الأفشين وهيّأ بابك كمينا فى مواضع للمال فكتب الأفشين إلى أبى سعيد يأمره أن يحتال لمعرفة صحّة خبر بابك. فمضى أبو سعيد [202] متنكرا مع جماعة حتّى نظروا إلى النيران فى المواضع التي وصفها الجاسوس.
فكتب الأفشين إلى بغا أن يقيم بأردبيل حتّى يأتيه رأيه، وكتب أبو سعيد إلى الأفشين بصحّة خبر الجاسوس. فكتب الأفشين إلى بغا يظهر أنّه يريد الرحيل ويشدّ المال على الإبل ويقطّرها ويسير متوجّها من أردبيل كأنّه يريد برزند [1] ، فإذا صار إلى مسلحة النهر أو سار شبيها بفرسخين احتبس القطار حتّى يجوز من صحب المال من قافلة وغيرها إلى برزند، فإذا جاوزت القافلة رجع بالمال إلى أردبيل.
__________
[1] . فى آ: متوجّها من أردبيل يريد زرند. والأصل يوافق الطبري (11: 1175) .(4/180)
ففعل ذلك بغا وسارت القافلة حتّى نزلت النهر وانصرف جواسيس بابك إليه يعلمونه أنّ المال قد حمل وعاينوه محمولا. ورجع بغا بالمال إلى أردبيل وركب الأفشين فى اليوم الذي وعد فيه بغا من برزند، فوافى خشّ مع غروب الشمس، فنزل معسكرا خارج خندق أبى سعيد. فلمّا أصبح ركب فى سرّ لم يضرب طبلا ولا نشر علما، وأمر أن تلفّ الأعلام وأمر الناس بالسكوت [1] . وجدّ فى السير ورحلت القافلة التي كانت توجّهت فى ذلك اليوم من النهر إلى ناحية الهيثم الغنوي.
ورحل الأفشين من خشّ [2] [203] يريد ناحية الهيثم ليصادفه فى الطريق، ولم يعلم الهيثم فرحل بمن كان معه من القافلة يريد بها النهر وتعبّأ بابك فى خيله ورجاله وعساكره، وصار على طريق النهر وهو يظنّ أنّ المال موافيه، وخرج صاحب النهر يبذرق من عنده وهو علّوية الذي قلنا إنّه كان هناك، فأخذ يسير نحو الهيثم على رسمه.
فخرجت عليه خيل بابك وهم لا يشكّون أنّ المال معه فقاتلهم صاحب النهر علّوية وأصحابه فقتلوه وقتلوا من كان معه من الجند والسابلة وأخذوا جميع ما كان معهم من المتاع وعلموا أنّ المال قد فاتهم، فأخذوا علمه ولباس أهل النهر ودراريعهم وخفاتينهم ولبسوها وتنكّروا ليأخذوا أيضا الهيثم ومن معه ولا يعلمون بخروج الأفشين، وجاءوا كأنّهم أصحاب النهر. فلمّا جاءوا ولم يعرفوا الموضع الذي كان يقف فيه علم صاحب النهر وقفوا فى غير موضعه، وجاء الهيثم فوقف فى موقفه فأنكر ما رأى فوجّه ابن عمّ له وقال:
- «اذهب إلى هذا البغيض، فقل له: أىّ شيء وقوفك؟»
__________
[1] . فى آ: بالسكون. ما فى تد (475) كالأصل: بالسكوت.
[2] . خش: فى الأصل تخفيف الأخير. وما فى تد (473) والطبري بالتشديد.(4/181)
فجاء ابن عمّ هيثم. فلمّا رأى القوم ودنا منهم أنكرهم، فرجع إلى الهيثم.
فقال له:
- «إنّ هؤلاء القوم لست أعرفهم.» [204] فقال له الهيثم:
- «أخزاك الله ما أجبنك.» ووجّه خمسة من الفرسان، فلمّا قربوا من القوم خرج من الخرّمية رجلان فتلقّوهم فأنكروهما وأعلموهما أنّهم قد عرفوهما، ورجعوا إلى الهيثم ركضا فقالوا:
- «إنّ الكافر قد قتل علّوية وأصحابه وأخذوا أعلامهم ولباسهم.» فانصرف الهيثم وأتى القافلة التي كانت معه، فأمرهم أن يركضوا ويرجعوا لئلّا يؤخذوا، ووقف هو فى أصحابه يسير بهم قليلا قليلا ويقف قليلا ليشتغل الخرّمية عن القافلة وصار شبيها بالحامية لهم، حتّى وصلت القافلة إلى حصنه الذي كان فيه يكون الهيثم وهو أرشق، وقال لأصحابه:
- «من يذهب منكم إلى الأمير وإلى أبى سعيد فيعلمهما وله عشرة آلاف درهم وفرس بدل فرسه إن نفق؟» فتوجّه رجلان من أصحابه على فرسين فارهين يركضان، ودخل الهيثم الحصن وخرج بابك فيمن معه ونزل بالحصن، ووضع له كرسىّ وجلس على شرف بحيال الحصن وأرسل إلى الهيثم من يحاربه. وكان مع الهيثم فى الحصن ستمائة راجل وأربعمائة فارس وله خندق حصين. فقاتله وقعد بابك فيمن معه ووضع بين يديه الخمر مع أصحاب له [205] يسربونها والحرب مشتبكة.
ولقى الفارسان الأفشين على أقلّ من فرسخ من أرشق، فساعة نظر إليهما من بعيد قال لصاحب مقدّمته:(4/182)
- «اضربوا بالطبل وانشروا الأعلام واركضوا نحو هذين الفارسين اللذين يركضان إلينا وصيحوا بهما: لبّيك، لبّيك.» فلم يزل الناس فى طلق واحد متراكضين يكسّر بعضهم بعضا حتّى لحقوا بابك وهو جالس. فلم يتدارك أن يتحرّك ويركب حتّى وافته الخيل والناس واشتبكت الحرب، فلم يفلت من رجّالة بابك أحد، وأفلت هو فى نفر يسير ودخل موقان وقد تقطّع عنه أصحابه. وأقام الأفشين فى ذلك الموضع وبات ليلته ثمّ رجع إلى معسكره ببرزند.
وأقام بابك بموقان [أيّاما] [1] ثمّ بعث إلى البذّ، فجاءه فى الليل عسكر فيهم رجّالة فرحل من موقان حتّى دخل البذّ، فلمّا كانت بعد أيّام مرّت قافلة من خشّ إلى برزند من قبل أبى سعيد ومعها صاحب لهم ومعهم ميرة ومتاع يحمل إلى معسكر الأفشين، فخرج عليهم إصبهبذ بابك فأخذ القافلة وقتل من كان فيها من أهل القافلة وانتهب جميع ما فيها فقحط عسكر الأفشين.
فكتب الأفشين إلى صاحب المراغة يأمره بحمل الميرة وتعجيلها عليه فإنّ الناس قد قحطوا وأضاقوا. [206] فوجّه إليه صاحب المراغة بقافلة فيها قريب من ألف ثور سوى الحمير والدوابّ تحمل الميرة ومعها جند يبذرقونها. فخرجت عليهم أيضا سريّة لبابك فاستباحوها عن آخرها بجميع ما فيها وأصاب الناس ضيق شديد فكتب الأفشين إلى صاحب الشيروار [2] أن يحمل إليه طعاما، فحمل إليه طعاما كثيرا وأغاث الناس فى تلك السنة وقدم بغا على الأفشين بمال ورجال.
__________
[1] . ما بين المعقوفتين من الطبري (11: 1178) .
[2] . كذا فى الأصل: شيروار. فى مط: الشيروان. فى آ: الشيروازان. فى الطبري (11: 1179) :
السيروان.(4/183)
خروج المعتصم إلى القاطول وابتداؤه ببناء سرّ من رأى
وفى هذه السنة خرج المعتصم إلى القاطول وابتدأ ببناء سرّ من رأى وذلك فى ذى القعدة منها.
ذكر السبب فى ذلك كان سبب خروجه إلى القاطول أنّ غلمانه الأتراك كانوا عجما قد اصطنعهم ورأى فيهم نجابة، وكان لا يزال يجد الواحد بعد الواحد قتيلا فى الأرباض. وذلك أنهم كانوا يركبون الدوابّ فيتراكضون فى طرق بغداد وشوارعها فيصدمون الرجل والمرأة ويطأون الصبىّ، فيأخذهم الأبناء فينكّسونهم عن دوابّهم ويجرحون بعضهم فربّما هلك. فتأذّى الأتراك بهم وتأذّت العامّة بالأتراك حتّى شكت [207] الأتراك إلى المعتصم.
فحكى أنّ المعتصم كان ركب يوم عيد إلى المصلّى، فلمّا انصرف وصار فى مربعة الحرشي، قام إليه شيخ فقال:
- «يا با إسحاق.» فابتدره الجند ليضربوه، فأشار إليهم المعتصم بالكفّ عنه فقال الشيخ [1] :
- «مالك لا جزاك الله عن الجوار خيرا، جاورتنا وجئت بهؤلاء العلوج فأسكنتهم بين أظهرنا فأيتمت بهم صبياننا وأرملت بهم نساءنا وقتلت بهم رجالنا.» والمعتصم يسمع ذلك كلّه، ثمّ دخل داره.
__________
[1] . كذا فى الأصل وآ ومط: الشيخ. فى الطبري (11: 1181) : للشيخ.(4/184)
فلم ير راكبا إلى السنة القابلة فى مثل ذلك اليوم.
فلمّا كان العام المقبل فى مثل ذلك اليوم خرج فصلّى بالناس العيد، ثمّ لم يرجع إلى داره ببغداد. ولكنّه صرف وجه دابّته إلى القاطول [1] .
وحكى أنّه قام أيضا إلى المعتصم يوما رجل من العامّة فقال:
- «يا با إسحاق، اخرج عن مدينتنا وإلّا حاربناك بما لا تقوم له.» فتقدّم بأخذ الرجل وحمله إليه. فلمّا صار بين يديه قال:
- «ويلك بمن تحاربنى وما هذا الذي لا أقوم له؟» قال: «نحاربك بأصابعنا إذا هدأت الأصوات بالليل» - يعنى الدعاء.
فسكت عن الرجل ولم يعرض له.
ثمّ خرج فبنى سرّ من رأى.
وفى هذه السنة غضب [208] المعتصم على الفضل بن مروان وحبسه.
ذكر الخبر عن غضبه عليه وحبسه له وسبب اتصاله به ونفاقه عليه
كان الفضل هذا رجلا من أهل البردان حسن الحظّ، فاتصل بكاتب للمعتصم يقال له يحيى الجرمقانى. فمات يحيى وصار الفضل فى موضعه وذلك قبل خلافة المعتصم، ثمّ خرج معه إلى عسكر المأمون وصار معه إلى مصر، فاحتوى على أموال مصر وكثرت ذخائره وكنوزه. ثمّ قدم الفضل قبل المأمون بغداد ينفذ أمور المعتصم ويكتب عنه وعلى لسانه ما أحبّ، حتّى قدم المعتصم خليفة، فصار الفضل صاحب الخلافة والدواوين كلّها تحت يديه فتضاعفت كنوزه.
__________
[1] . القاطول: نهر كان فى موضع سامرّا قبل أن يعمر (مراصد الإطلاع) .(4/185)
فكان المعتصم يأمر بإطلاق الشيء لندمائه ومغنّيه، فلا ينفذ الفضل، وربّما رادّه فى الشيء إدلالا عليه وأنسا به، وكان قد نزل منه وحلّ من قلبه المحلّ الذي لا يحدّث أحد نفسه بملاحظته فضلا عن منازعته ولا فى الاعتراض عليه إذا أراد شيئا أو حلم به، فكانت هذه المنزلة تحمله على الدالّة حتّى كان يخالفه ويمنعه بعض أمره وبعض المال الذي [209] يصرفه فى مهمّه.
فحكى عن أحمد بن أبى دؤاد أنّه قال: كنت أحضر مجلس المعتصم فكثيرا ما كنت أسمعه يقول للفضل بن مروان:
- «احمل إلىّ كذا من الدراهم.» فيقول: «ما عندي.» فيقول: «فاحتلها من وجه، فليس منها بدّ.» فيقول: «ومن أين أحتالها ومن أين وجهها ومن يعطيني هذا القدر؟» فكان ذلك يسوءه وأعرفه فى وجهه فلمّا كثر هذا من فعله ركبت يوما إليه فقلت له مستخليا به:
- «يا أبا العبّاس إنّى أعرف أخلاقك، وعلى ذاك ما أدع نصيحتك وأداء ما يجب علىّ من حقّك. وقد أراك كثيرا ما تردّ على أمير المؤمنين أجوبة غليظة ترمضه وتقدح فى قلبه والسلطان لا يحتمل هذا لابنه، لا سيّما إذا كثر ذلك وغلظ.» قال: «وما ذاك يا با عبد الله؟» قلت: «أسمعه كثيرا، كثيرا [1] ما يقول لك: نحتاج إلى كذا من المال لنصرفه فى وجه كذا، فتقول من يعطيني هذا وهذا ما لا تحتمله الملوك.» قال: «فما أصنع إذا طلب منّى ما ليس عندي؟»
__________
[1] . تكرّر فى الأصل ومط دون آ.(4/186)
قلت: «تصنع أن تقول: أحتال يا أمير المؤمنين فى ذلك فتدفع [1] عنك أيّاما ثمّ تحمل إليه بعض ما يطلب وتسوّفه الباقي.» قال: «نعم أفعل وأصير إلى ما أشرت به.» قال: فو الله لكأنّى كنت [210] أغريه بالمنع. فكان إذا عاود مثل ذلك القول عاد إلى مثل ما يكره من الجواب.
وكان مع المعتصم رجل مضحك يستخفّ روحه وكان قديم الصحبة له يقال له: إبراهيم الهفتىّ، فأمر له بمال وتقدّم إلى الفضل بن مروان فى إعطائه فلم يعطه الفضل شيئا. فبينا الهفتىّ يوما يتمشّى مع المعتصم فى بستان داره التي بنيت له ببغداد، وقد نقل إليه أنواع من الرياحين والغروس [2] ، وكان الهفتىّ يصحب المعتصم قبل أن تفضى إليه الخلافة، فيقول له فيما يداعبه:
- «والله لا أفلحت.» وكان الهفتى مربوعا ذا كدنة والمعتصم رجلا معرّقا خفيف اللحم فجعل المعتصم يسبق الهفتىّ فى المشي فإذا تقدّمه ولم ير الهفتىّ معه التفت إليه فقال له:
- «ما لك لا تمشى؟» يستعجله.
فلمّا كثر ذلك من أمر المعتصم على الهفتى قال له الهفتىّ مداعبا له:
- «أصلحك الله، كنت أرانى أماشى خليفة ولم أكن أرانى أماشى فيجا [3] والله لا أفلحت.» فضحك المعتصم وقال:
__________
[1] . كذا فى الأصل ومط. فى آ: فتدافع.
[2] . فى آ: الغروش (بالشين المعجمة) .
[3] . الفيج: رسول السلطان الذي يسعى على رجليه، والكلمة معرّبة عن «پيك» الفارسية، التي أصبحت فى الإنجليزية والفرنسية Page:وبنفس المعنى.(4/187)
- «ويلك وهل بقي من الفلاح شيء لم أدركه بعد الخلافة؟» فقال له الهفتى:
- «أتحسب أنّك قد أفلحت الآن؟ إنّما لك من الخلافة الإسم، والله ما يجاوز أمرك أذنيك. [211] وإنّما الخليفة الفضل بن مروان الذي يأمر فينفذ أمره من ساعته.» قال المعتصم:
- «وأىّ أمر لى لم ينفذ؟» فقال: «أمرت لى بكذا وكذا منذ شهرين فما أعطيت ممّا أمرت به منذ ذاك حبّة.» وكان هذا أوّل ما حرّك المعتصم فى القبض على الفضل بن مروان.
وكان محمد بن عبد الملك الزيّات يتولّى ما كان أبوه يتولّاه للمأمون من عمل الفساطيط وآلة الجمّازات [1] ويكتب عليها ممّا جرى على يدي محمد بن عبد الملك. وكان يلبس إذا حضر الدار الدرّاعة السوداء والسيف بالحمائل.
فدعاه الفضل يوما وقال له:
- «ما هذا الزىّ إنّما أنت تاجر فما لك والسواد والسيف؟» فترك ذلك محمد. وأخذه الفضل برفع حسابه إلى دليل بن يعقوب النصراني فأحسن دليل إليه ولم يزرأه شيئا. وعرض عليه محمد هدايا فأبى دليل أن يقبل منها شيئا. ثمّ غضب المعتصم على الفضل بن مروان وأهل بيته وأمرهم برفع ما جرى على أيديهم وصيّر محمد بن عبد الملك مكانه.
فلمّا صار محمد بن عبد الملك وزيرا استدعى الفضل يوما وقد دخل دار
__________
[1] . الجمازات: ما فى الأصل مهمل. فى آحمازات. وفى مط: خمارات. فضبطناها حسب تد (481) .(4/188)
السلطان بسواد وسيف وهو إذ ذاك مغضوب عليه يحاسب، فقال:
- «ما هذا الزىّ؟ الزم منزلك، فإن احتيج إليك [212] استدعيت.»
ودخلت سنة إحدى وعشرين ومائتين
وقعة كانت بين بغا وبابك
وفى هذه السنة كانت بين بغا الكبير وبابك وقعة بناحية هشتاذ سر فهزم بغا واستبيح عسكره. [1] ذكر الخبر عن ذلك كان بغا قدم بالمال الذي مضى ذكره ففرّقه الأفشين على أصحابه وتجهّز بعد النيروز عند زوال البرد ومكروه الثلج، ووجّه بغا فى عسكر ليدور حول هشتاذ سر وينزل فى خندق محمد بن حميد ويحكمه ويخفره، ووجّه أبا سعيد من وجه آخر ورحل الأفشين من برزند، فتجهّز بغا من غير مواقفة [2] الأفشين وسار حتّى نزل قرية البذّ فى وسطها وأقام بها يوما واحدا واحتاج إلى الميرة والأعلاف، فوجّه ألف رجل فى علّافة له، فخرج عسكر من عساكر بابك فاستباح العلّافة وقتل البعض وأسر البعض ورجع بغا إلى خندق محمد بن حميد شبيها بالمنهزم وكتب إلى الأفشين يعلمه ذلك ويسأله المدد فقال الأفشين:
- «ما عمل شيئا وأقدم بغير أمرنا.» ثمّ وجّه إليه أخاه الفضل بن كاوس وأحمد بن الخليل بن هشام وابن جوشن وصاحب شرطة الحسن وقرابة [213] للفضل بن سهل. ثمّ كتب
__________
[1] . انظر الطبري (11: 1186) .
[2] . كذا فى الأصل: مواقفة. فى آ: موافقة. وفى مط: مواقعة.(4/189)
الأفشين إلى بغا يعلمه أنّه يغزو بابك فى يوم سمّاه له ويأمره أن يغزوه فى ذلك اليوم بعينه ليحاربه من كلا الوجهين. فخرج الأفشين فى ذلك اليوم يريد بابك وخرج بغا، فعسكر على دعوة فهاجت ريح شديدة ومطر شديد فلم يكن للناس صبر على البرد وشدّة الريح فانصرف بغا إلى عسكره وواقعهم الأفشين من الغد وبغا غير حاضر، فهزمه الأفشين وأخذ عسكره وخيمته، ونزل الأفشين فى معسكر بابك.
ثمّ تجهّز بغا من الغد وصعد هشتاذ سر، فوجد العسكر الذي كان مقيما بإزائه قد انصرف إلى بابك فترك بغا فى موضعه وأصاب قماشا وخرثيّا [1] قد تركوه، ثمّ انحدر من هشتاذ سر يريد البذّ وكان على مقدّمته داود سياه فبعث إليه:
- «إنّا قد توسّطنا الموضع الذي تعرفه يعنى الذي كنا فيه فى المرّة الاولى وهذا وقت المساء وقد تعب [2] الرجّالة، فانظر جبلا حصينا يسع معسكرنا حتّى نعسكر فيه ليلتنا هذه.» فالتمس داود سياه ذلك، فصعد إلى قلّة جبل فأشرف فرأى أعلام الأفشين ومعسكره شبه الخيال [3] فقال:
- «هذا موضعنا.» فجاءهم فى تلك الليلة سحاب وبرد [214] ومطر وثلج كثير، فلم يقدر أحد حين أصبحوا أن ينزل من الجبل لأخذ ماء ولا سقى دابّة من شدّة البرد وكثرة الثلج وكأنهم كانوا فى نهارهم ذلك فى ليل من الضباب المتراكم وشدّة الظلمة. فلمّا كان اليوم الثالث قال الناس لبغا:
__________
[1] . الخرثي: أردأ المتاع وسقطه. فى آ: حريثا.
[2] . فى مط: بعث.
[3] . فى مط: شبيه الجبال.(4/190)
- «قد فنى ما معنا من الزاد وأضرّ بنا البرد فانزل على أية حال كانت، إمّا راجعين وإمّا نحو الكافر.»
تبييت بابك الأفشين
وقد كان فى يوم الضباب بيّت بابك الأفشين ونقض عسكره وانهزم الأفشين وانصرف إلى معسكره فضرب بغا بالطبل وانحدر يريد البذّ. فلمّا صار إلى بطن الوادي نظر إلى السماء منجلية والدنيا طيّبة غير رأس الجبل الذي كان عليه. فعبّأ بغا أصحابه ميمنة وميسرة ومقدّمة وتقدّم يريد البذّ وهو لا يشكّ أنّ الأفشين فى موضع معسكره فمضى حتّى صار لزق [1] جبل البذّ ولم يبق بينه وبين أن يشرف على أبيات البذّ إلّا صعود قدر نصف ميل، وكان على مقدّمته غلام لابن البعيث، وكان ابن البعيث هذا ذا نكاية فى بابك وأصحابه وكان للغلام قرابة بالبذّ، فلقيتهم طلائع لبابك، فعرف بعضهم الغلام فقال له:
- «فلان؟» قال: «نعم.» قال: «من هذا هاهنا؟» فسمّى له [215] من معه من أهل بيته فقال:
- «ادن منّى حتّى أكلّمك.» فدنا منه الغلام فقال له:
- «ارجع وقل لمن تعنى به يتنحّى فإنّا قد بيّتنا الأفشين وهزمناه، ونحن قد تهيّأنا لكم فى عسكرين، فعجّل الانصراف لعلّك أن تنفلت.»
__________
[1] . فى مط: فوق جبل.(4/191)
فرجع الغلام فأخبر صاحبه ابن البعيث، فأخبر ابن البعيث بغا بذلك، فوقف بغا يشاور أصحابه، فقال بعضهم:
- «هذا باطل وهذه خدعة، ليس من هذا شيء.» وقال بعض الكوهانيّين [1] :
- «إنّ هذا جبل أعرفه. من صعد إلى رأسه نظر إلى عسكر الأفشين.» فصعد بغا والفضل بن كاوس وجماعة منهم ممّن نشط، فأشرفوا على الموضع فلم يروا فيه أحدا، فيقن أنّه مضى وتقرّر رأيه على أن ينصرف فى صدر النهار قبل أن يجنّهم الليل، فأمر داود سياه بالانصراف، فجدّ فى السير ولم يعد فى الطريق الذي دخل منه مخافة المضايق والعقاب، وأخذ الطريق الذي دخل منه فى المرّة الأولى يدور حول هشتاذ سر وليس فيه مضيق إلّا فى موضع واحد. فسار بالناس وبعث الرجّالة فرموا بأسلحتهم وطرحوا الرماح فى الطريق ودخلتهم وحشة شديدة ورعب عظيم وصار بغا والفضل بن كاوس وجماعة [216] من القوّاد فى الساقة، وظهرت طلائع بابك ونزل بغا فتوضّأ وصلّى ووقف فى وجوههم وتخوّف بغا على عسكره أن يوافقه [2] الطلائع من ناحية ويدور عليهم فى بعض الجبال والمضايق قوم آخرون فشاور من حضره وقال:
- «لست آمن أن يكون هؤلاء الذين بإزائنا مشغلة يحبسوننا عن المسير ويسبقوننا إلى المضايق قوم آخرون.» فأشار الفضل بن كاوس أن يوجّه إلى داود سياه وهو على المقدّمة أن يسرع السير ولا ينزل حتّى يجاوز المضيق ولو فى نصف الليل. فأمّا نحن
__________
[1] . كذا فى الأصل وآ ومط: الكوهانيّين. ما فى الطبري (11: 1190) : الكوهبانيّين.
[2] . فى مط: أن تواقعه.(4/192)
فنقف هاهنا ونماطلهم حتّى تجيء الظلمة [1] ، فإنّ هؤلاء لا يعرفون حينئذ لنا موضعا، فإن أخذ علينا المضيق تخلّصنا بأفراسنا من طريق هشتاذ سر أو من طريق آخر.
وأشار غيره على بغا فقال:
- «إنّ العسكر قد تقطّع وليس يدرك أوّله آخره والناس قد رموا بسلاحهم وقد بقي المال والسلاح على البغال وليس معه أحد ولا نأمن أن يخرج علينا من يأخذ المال والسلاح والأسير الذي معنا» - وكان معهم ابن جويدان [2] أسيرا.
فلمّا ذكر ذلك لبغا أشفق منه ووجّه إلى داود سياه: «حيثما رأيت جبلا حصينا فعسكر عليه.» فعدل داود إلى جبل مؤرّب لم يكن للناس [217] فيه موضع للجلوس من شدّة نصوبه [3] ، فعسكر عليه وضرب لبغا مضرب على طرف الجبل فى موضع شبيه بالحائط ليس فيه مسلك، فنزل فيه وأنزل الناس وقد كلّوا وفنيت أزوادهم، فباتوا على تعبئة يتحارسون من ناحية المصعد وجاءهم العدوّ من الناحية الأخرى، فعلّقوا بالجبل حتّى صاروا إلى مضرب بغا، فكبسوه وبيّتوا العسكر وخرج بغا راجلا حتّى نجا وخرج الفضل بن كاوس ونجا وقتل ابن جوشن وقرابة الفضل بن سهل وجماعة غيرهم، ووجد بغا بعد خروجه من العسكر دابّة فركبها، ومرّ بابن البعيث فأصعده على هشتاذ سر حتّى انحدر به على عسكر محمد بن حميد وخندقه، فوافاه فى جوف الليل وأخذ الخرّمية المال والعسكر والسلاح والأسير ولم يتبعوا الناس
__________
[1] . فى مط: حتى يجيء الليل والظلمة.
[2] . جويدان جاويدان.
[3] . فى الطبري (11: 1192) : هبوطه.(4/193)
ومرّ الناس متقطعين حتّى وافوا بغا.
وأقام بغا خمسة عشر يوما فى خندق محمد بن حميد حتّى أتاه كتاب الأفشين يأمره بالرجوع إلى المراغة. وانصرف الفضل أخو الأفشين وجمع من كان فى عسكر الأفشين إلى الأفشين، وفرّق الأفشين الناس فى مشاتيهم تلك السنة [218] حتّى جاء الربيع من السنة المقبلة.
ثمّ دخلت سنة اثنتين وعشرين ومائتين
وفيها وجّه المعتصم بالله إلى الأفشين جعفر بن دينار الخيّاط مددا له، ثمّ أتبعه بإيتاخ ووجّه معه ثلاثين ألف ألف درهم للجند والنفقات. فلمّا جاء الربيع ووصل إلى الأفشين ما وجّه من المال والمدد فوافاه [1] ذلك كلّه وهو ببرزند سلّم إليه إيتاخ المال والرجال وانصرف وأقام جعفر الخيّاط إلى أن حضر الوقت الذي يمكن فيه الغزو وطاب الزمان.
فتح البذّ مدينة بابك واستباحتها
وفى هذه السنة فتحت البذّ مدينة بابك ودخلها المسلمون واستباحوها.
ذكر الخبر عن ذلك وسببه لمّا عزم الأفشين على الدنوّ من البذّ جعل يزحف قليلا قليلا على خلاف زحفه قبل ذلك إلى المنازل التي كان ينزلها وكان يتقدّم الأميال الأربعة فيعسكر فى موضع على طريق المضيق الذي ينحدر إليه ولا يحفر خندقا ولكنّه يقيم معسكرا [219] فى الحسك، وكتب إليه المعتصم يأمره أن يجعل
__________
[1] . فوافاه: كذا فى الأصل وآ ومط: فوافاه.(4/194)
الناس نوائب كراديس، تقف على ظهور الخيل كما يدور العسكر بالليل، فبعض القوم معسكر وبعض وقوف على ظهور دوابّهم على ميل كما يدور العسكر بالليل والنهار، مخافة البيات، كي إن دهمهم أمر كان الناس على تعبئة والرجّالة فى العسكر، فضجّ الناس من التعب وقالوا:
- «كم نقعد هاهنا فى المضيق ونحن قعود فى الصحراء وبيننا وبين العدوّ أربعة فراسخ ونحن نفعل فعال من يرى العدوّ بإزائه؟ قد استحيينا من الناس والجواسيس الذين يمرّون بنا، وبين العدوّ وبيننا أربعة فراسخ ونحن قد متنا من الفزع، اقدم بنا فإمّا لنا وإمّا علينا.» فقال: «أنا والله أعلم أنّ ما تقولون حقّ، ولكن أمير المؤمنين أمرنى بهذا ولا أجد بدّا منه.» فلم يلبث أن ورد عليه كتاب المعتصم يأمره أن يتحرّى بدرّاجة الليل، فانحدر فى خاصّته حتّى نزل روذ الروذ وتقدّم حتّى شارف الموضع الذي واقعه عليه بابك فى العام الماضي، فنظر إليه فإذا عليه كردوس من الخرّمية فلم يحاربوه ولم يحاربهم فقال بعض العلوج: [220]- «ما لكم تجيئون وتفرّون، أما تستحيون؟» فأمر الأفشين ألّا يجيبوهم ولا يبرز إليهم أحد، فلم يزل مواقفهم إلى قريب من الظهر ثمّ رجع إلى عسكره فلم يزل على ذلك أيّاما وكان يأمر أبا سعيد أن يذهب فيواقفهم ولا يحرّكهم ولا يهيجهم وأمر الفعلة وكانوا يسمّون الكلغريّة [1] أن يحملوا شكاء الماء والكعك.
فلمّا صاروا إلى روذ الروذ أمر أبا سعيد أن يذهب فيواقفهم على حسب ما كان يواقفهم، وأمر الفعلة أن ينقلوا الحجارة ويحصّنوا الطرق التي تسلك إلى
__________
[1] . والضبط من الطبري (11: 1199) حيث جاء فيه: الكلغريّة، وهم الفعلة. ويحتمل أن يكون أصلها الفارسي: گلگران، أى عمّال الطين.(4/195)
تلك الأجبال، وكانت ثلاثة أجبال حصينة كان اختارها ففعل ذلك فصارت شبه الحصون، ثمّ أمر فاحتفر على طريق وراء تلك الحجارة على المصعد خندقا، ولم يترك إليها إلّا مسلكا واحدا، ثمّ أمر أبا سعيد بالانصراف.
فلمّا كان الثامن من الشهر وعلم أنّ ضوء القمر قد أمتع. دفع إلى الرجّالة الكعك والسويق ودفع إلى الفرسان الزاد والشعير ووكّل بمعسكره من يحفظه، وانحدر وأمر الرجّالة بالصعود إلى رؤوس تلك الجبال، وأن يحملوا معهم ما يحتاجون إليه من الماء والزاد، ووجّه أبا سعيد [221] ليواقف القوم على عادته وأمر الناس بالدخول فى السلاح وألّا يأخذ الفرسان سروج دوابّهم. ثمّ خطّ الخندق وأمر الفعلة بالعمل فيه، ووكّل بهم من يستحثّهم، وكان يأمر بالعشىّ أن يتحارسوا ولا يناموا ويدعوا الفعلة فوق الجبال ينامون، ويأمر الفرسان أن يصيروا كراديس بين كلّ كردوس وكردوس مقدار رمية سهم، وتقدّم إلى جميع الكراديس:
- «ألّا يلتفتن واحد منكم إلى الآخر وليحفظ كلّ رجل منكم ما يليه. فإن سمعتم هدّة فلا يلتفتنّ أحد منكم إلى أحد فكلّ كردوس قائم بما إليه [1] ، ونحن لا نمدّه بأحد.»
ملاطفة بين بابك وأفشين فى تلك الحال
فلم تزل الكراديس وقوفا على ظهور دوابّهم إلى الصباح والرجّالة فوق رؤوس الجبال يتحارسون، فلبثوا كذلك عشرة أيّام حتّى فرغوا من حفر الخندق، ودخله اليوم العاشر وأمر القواد أن يبعثوا إلى أثقالهم وأثقال أصحابهم
__________
[1] . كذا فى الأصل وآ ومط: إليه. ما فى الطبري (11: 1200) : بما يليه.(4/196)
على الرفق فينقلوه. وأتاه رسول بابك معه قثّاء وبطّيخ وخيار يعلمه أنّه فى أيّامه هذه فى جفاء، إنّما يأكل الكعك والسويق [222] هو وأصحابه، وأنّه إن أحبّ أن يلطفه بذلك فعل.
فقال الأفشين للرسول:
- «قد عرفت أىّ شيء أراد أخى بهذا. إنّما أراد أن ينظر إلى العسكر، وأنا أقبل برّه وأعطى شهوته. فقد صدق، أنا فى جفاء.» وقال للرسول:
- «أمّا أنت فلا بدّ لك أن تصعد حتّى ترى معسكرنا وترى ما وراءنا.» فأمر بحمله على دابّة، وأن يصعد به، حتّى يرى الخندق، وينظر إلى خندق كلان روذ. وخندق برزند ويتأمّل الخنادق الثلاثة ولا يخفى عليه منها شيء ليخبر به صاحبه.
ففعل به ذلك. ثمّ أطلقه ووصله وقال:
- «اذهب واقرأه منّى السلام. [1] » ثمّ إنّ الأفشين كان فى كلّ أسبوع يضرب الطبول نصف الليل ويخرج بالشمع والنفّاطات إلى باب الخندق، وقد عرف كلّ إنسان كردوسه من كان فى الميمنة ومن كان فى الميسرة. فيخرج الناس فيقفون فى مواقفهم.
وكان الأفشين يحمل أعلاما سوداء كبارا على البغال وكان اثنى عشر علما وكانت أعلامه الصغار نحو خمسمائة علم وكانت طبوله الكبار اثنين وعشرين طبلا، فيقف أصحابه على مراتبهم حتّى إذا طلع الفجر ركب الأفشين من مضربه [223] فيؤذّن المؤذّن بين يديه ويصلّى الناس بغلس، ثمّ يأمر بضرب الطبول ويسير زحفا، وكانت علامة السير ضرب الطبول، فإن
__________
[1] . أى: اقرأ عليه منّى: السلام.(4/197)
أراد أن يقف أمسك عن ضربها فيقف الناس من كلّ ناحية فى جبل أو واد.
وكان يسير هذه الستة الأميال التي بين معسكره وهو روذ الروذ وبين البذّ ما بين طلوع الفجر إلى الضحى الأكبر، فإذا أراد أن يصعد إلى الموضع الذي كانت الحرب عليها فى العام الماضي خلّف بخارا خذاه [1] على رأس العقبة مع ألف وستمائة رجل يحفظون الطريق، لا يخرج أحد من الخرّمية، فيأخذ عليهم الطريق.
وكان بابك إذا أحسّ بعساكر الأفشين أنّها قد تحرّكت من الخندق تريده فرّق أصحابه كمنا، ولم يبق معه إلّا نفير يسير، ولم تكن تعرف المواضع التي يكمنون فيها. وكان الأفشين إذا صعد إلى ذلك الموضع أشرف على قصر بابك وجلس على كرسىّ، وفرّق الرجّالة فى طلب الكمناء ووقف الفرسان على ظهور دوابّهم إلى بعد الظهر، والخرّمية بين يدي بابك يشربون الشراب ويزمرون بالسّرنايات ويضربون بالطبول، حتّى [224] إذا صلّى الأفشين انحدر إلى خندقه بروذ الروذ.
ونفخ أصحاب بابك فى بوقاتهم وضربوا بصنوجهم استهزاء ولا يبرح بخاراخذاه حتّى يجوزه الناس جميعا، ثمّ ينصرف فى آثارهم حتّى إذا كان فى بعض الأيّام ضجرت الخرّمية من التفتيش وانصرف الأفشين كعادته وانصرفت الكراديس. فلمّا انتهى إلى جعفر الخيّاط نوبة العبور فتح الخرّمية خندقهم وخرج منهم عدّة فحملوا على من بقي من أصحاب جعفر الخيّاط، وارتفعت الضجّة فى العسكر ورجع جعفر مع كردوس من أصحابه بنفسه وحمل على أولئك الفرسان حتّى ردّهم إلى باب البذّ. ثمّ وقعت الضجّة فى العسكر فرجع الأفشين وجعفر من ذلك الجانب يقاتل فى أصحابه وقد جرح
__________
[1] . انظر الطبري (11: 1203) .(4/198)
من أصحابه عدّة ومن أصحاب بابك عدّة من الفرسان مع فرسان ليس بينهم رجّالة، فرجع الأفشين حتّى طرح الكرسىّ له على النطع فى موضعه الذي كان يجلس فيه وهو يتلظّى [1] على جعفر ويقول:
- «قد أفسد تعبئتي وما أريد.» وكان مع أبى دلف فى كردوسه قوم من المطوّعة من البصرة وغيرها. فلمّا ارتفعت الضجّة ونظروا إلى جعفر يحارب [225] انحدر أولئك المطوّعة بغير أمر الأفشين وعبروا إلى الجانب الآخر من الوادي حتّى صاروا إلى حائط البذّ فتعلّقوا به وأثّروا فيه آثارا، وكادوا يصعدونه فيدخلون البذّ.
ووجّه جعفر إلى الأفشين أن:
- «أمدّنى بخمسمائة راجل من الناشبة، فإنّى أدخل البذّ إن شاء الله، فقد عرفت القوم وعلمت مأتاهم.» فبعث إليه الأفشين:
- «قد أفسدت علىّ أمرى كلّه، فتخلّص قليلا وخلّص أصحابك وانصرف.» وارتفعت الضجّة من جهة المطوّعة حتّى تعلّقوا بالبذّ وظنّ الكمناء من أصحاب بابك أنّها الحرب قد اشتبكت، فنعروا ووثبوا من تحت عسكر بخاراخذاه، ووثب آخرون وراء الركوة التي كان الأفشين عليها يقعد، فتحرّكت الخرّمية والناس وقوف على رؤوسهم لم يزل منهم أحد. فقال الأفشين:
- «الحمد لله الذي بيّن لنا مواضع هؤلاء.» ثمّ انصرف جعفر وأصحابه والمطوّعة، فجاء جعفر فقال للأفشين:
__________
[1] . ما فى آبغير إعجام.(4/199)
- «إنّما وجّهنى أمير المؤمنين للحرب التي ترى لا للقعود هاهنا، وأراك تقعد بى فى أوقات حاجاتي. قد كان يكفيني خمسمائة رجل حتّى أدخل البذّ [1] أو جوف داره لأنّى قد رأيت من بين [226] يدىّ.» فقال الأفشين:
- «لا تنظر إلى من بين يديك ولكن انظر إلى من خلفك وما قد وثبوا ببخاراخذاه وأصحابه.» فذهب جعفر يتكلّم، فقال له الفضل بن كاوس:
- «لو كان الأمر إليك ما كنت تصعد إلى هذا الموضع الذي أنت عليه واقف حتّى تقول كنت [2] .» قال له جعفر:
- «هذه الحرب وها أنا [3] واقف لمن جاء.» فقال له الفضل:
- «لولا مجلس الأمير لعرّفتك نفسك الساعة.» فصاح بهما الأفشين فأمسكا وأمر أبا دلف أن يردّ المطوّعة عن السور.
فقال أبو دلف للمطوّعة:
- «انصرفوا.» فجاء رجل منهم ومعه صخرة فقال:
- «أتردّنا وهذا الحجر من السور أخذته؟ ولو أخذ معى كلّ واحد مثله لأزلنا السور عن موضعه.» فقال له:
__________
[1] . فى آ: «النداة جوف داره» بدل «البذّ» ، أو جوف داره.
[2] . كنت: كذا فى الأصل وآ ومط. فى الطبري (11: 1207) : كنت وكنت.
[3] . كذا فى آومط: أنا والضبط فى الأصل والطبري (11: 1207) هانا (بحذف الهمزة للتخفيف) .(4/200)
- «إذا انصرفت الساعة تدرى على من طريقك» - يعنى العسكر الذي وثب على بخاراخذاه من ورائه.
ثمّ قال الأفشين لأبى سعيد فى وجه جعفر:
- «أحسن الله جزاءك عن نفسك وعن أمير المؤمنين. ليس كلّ من خفّ رأسه فيقول، يفي بما يقول. [1] إنّ الوقوف فى الموضع الذي نحتاج إليه خير من المحاربة فى الموضع الذي لا نحتاج إليه. لو وثب هؤلاء الذين تحتك- وأشار إلى الكمين- كنت تدرى هؤلاء المطوّعة الذين هم فى القمص [227] أىّ شيء كان يكون حالهم، فالحمد لله الذي سلّمهم، قف ها هنا فلا تبرح حتّى لا يبقى هاهنا أحد.» وانصرف الأفشين وكان من سنّته أن ينصرف على تعبئة كردوس بعد كردوس ويكون آخرهم. وأقام الأفشين فى خندقه بروذ الروذ أيّاما. فشكا إليه المطوّعة الضيق فى العلوفة والزاد، فقال لهم:
- «من صبر فليصبر ومن لم يصبر فالطريق واسع فلينصرف بسلام، فإنّ معى من جند أمير المؤمنين ومن هو فى أرزاقه من يقيم معى فى الحرّ والبرد، ولست أبرح من هاهنا حتّى يسقط الثلج.» فانصرف المطوّعة وهم يقولون:
- «لو ترك الأفشين جعفرا وتركنا لأخذنا البذّ، ولكنّه يشتهى المماطلة.»
أفشين والرؤيا التي رءاها بعض المطوّعة
فبلغه ذلك وما أكثر فيه المطوّعة وتناولوه بألسنتهم حتّى قال بعضهم:
__________
[1] . فيقول، يفي بما يقول: كذا فى الأصل، وهو التصحيح. فى مط: فيقول: ولا يفي بما يقول. فى آ: يقول، بقي بما يقول. والعبارة فى الطبري (11: 1208) : «ليس كلّ من خفّ رأسه يقول: إن الوقوف ... »(4/201)
- «رأيت فى المنام رسول الله صلّى الله عليه فقال لى: قل للأفشين إن أنت حاربت هذا الرجل وجددت فى أمره، وإلّا أمرت الجبال أن ترجمك بالحجارة.» فتحدّث الناس بذلك فى العسكر حتّى صار جلّ حديثهم به علانية كأنّه مستور.
فبعث الأفشين إلى رؤساء المطوّعة فأحضرهم وقال لهم:
- «أحبّ أن تروني هذا الرجل.» فأتوه به، فانحشر [228] معه الناس فقرّبه وأدناه ثمّ قال:
- «قصّ علىّ رؤياك ولا تحتشم. فإنّك إنّما تؤدّى.» قال: «رأيت كذا وكذا.» فقال: «الله يعلم بنيّتى وما أريده للمسلمين وبهؤلاء الخلق، وإنّ الله عزّ وجلّ لو أراد أن يأمر الجبال برجم أحد لرجم الكافر وكفانا مؤونته، فكيف يرجمنى حتّى أكفيه مؤونته، كان يرجمه ولا يحتاج أن أقاتله، وأنا أعلم أنّ الله مطّلع على قلبي وما أريد بكم يا مساكين.» فقال رجل من المطوّعة من الوجوه:
- «أيّها الأمير، لا تحرمنا شهادة إن حضرت [1] ، فإنّما قصدنا ثواب الله ووجهه، ولو أردنا الحياة لقعدنا فى منازلنا، فدعنا وحدنا حتّى نتقدّم بعد أن يكون بأذنك، فلعلّ الله أن يفتح علينا.» فقال الأفشين:
- «أرى نيّاتكم حاضرة، وأحسب هذا الأمر يريده الله، وقد نشطتم ونشط أصحابى وقد حدث لى الساعة رأى فى ذلك وهو خير إن شاء الله، اعزموا
__________
[1] . كذا فى الأصل. ما فى الطبري (11: 1210) : إن كانت قد حضرت.(4/202)
على بركة الله أىّ يوم شئتم حتّى نناهضه، لا حول ولا قوّة إلّا بالله.» فخرج القوم مستبشرين، فمن كان أراد الانصراف أقام ومن كان خرج ثمّ سمع بذلك رجع.
ووعد الناس ليوم، وتقدّم إلى الناس بأخذ الأهبة ثمّ خرج [229] وأخرج المحامل على البغال لمن لعلّه يجرح، وأخرج المتطبّبين، وزحف الناس، حتّى صعد إلى المكان الذي كان يجلس فيه وطرح له النطع ووضع عليه الكرسىّ كما كان يفعل وقال لأبى دلف:
- «قل لأصحابك أىّ ناحية هي أسهل عليهم فليقتصروا عليها.» وقال لجعفر:
- «العسكر كلّه بين يديك والناشبة والنفّاطون أمامك، فخذ حاجتك واعزم على بركة الله، ادن من أىّ موضع شئت.» قال: «أريد أن أقصد الموضع الذي كنت عليه.» قال: «امض.» ثمّ دعا أبا سعيد فقال له:
- «قف بين يدىّ أنت وجميع أصحابك ولا يبرحنّ منكم أحد.» ودعا أحمد بن الخليل فقال له:
- «قف أنت أيضا وجميع أصحابك ها هنا ودعوا جعفرا يعبر ومن معه من الرجال، فإن أراد رجالا وفرسانا أمددناه.»
توجّه أبى دلف نحو حائط البذّ
فتوجّه أبو دلف مع المطوّعة نحو حائط البذّ وعلقوا بالحائط على حسب ما كانوا فعلوا ذلك اليوم وحمل جعفر حملة حتّى ضرب باب البذّ كما فعل تلك الدفعة ووقف على الباب وواقفه الخرّمية ساعة، فوجّه الأفشين برجل(4/203)
معه بدرة دنانير وقال:
- «قل لأصحاب جعفر: من تقدّم حثوت له ملء كفّى.» ودفع بدرة [230] أخرى دنانير إلى آخر، وقال:
- «اذهب إلى موضع المطوّعة وقل مثل ذلك.» وبعث بأطواق وأسورة مع البدرتين، واشتبكت الحرب، ثمّ فتح الخرّمية الباب وخرجوا على أصحاب جعفر فنحّوهم عن الباب وشدّوا على المطوّعة من الناحية الأخرى فرموهم عن السور، وأخذوا علمين لهم وشدخوهم بالصخر حتّى أثّروا فيهم ورقّوا عن الحرب. وصاح جعفر بأصحابه فبدر منهم نحو مائة رجل فبركوا [1] خلف تراسهم التي كانت معهم وواقفوهم متحاجزين لا هؤلاء يقدمون ولا هؤلاء، حتّى صلى الناس الظهر يختلف بينهم النشّاب والحجارة.
فلمّا نظر الأفشين إلى ذلك كره أن يطمع العدوّ فى الناس، فوجّه إلى جعفر بكردوس فقال جعفر:
- «لست أوتى من قلّة الرجال، معى رجال ولكن لست أرى للحرب موضعا وقد انقطعت الحرب.» فبعث إليه:
- «انصرف على بركة الله.» فانصرف جعفر وتقدّم الأفشين بحمل الجرحى ومن به وهن من الحجارة فى المحامل التي على البغال وأمر الناس بالانصراف فانصرفوا إلى خندقهم بروذ الروذ ويئس الناس من الفتح فى تلك السنة وانصرف [231] أكثر المطوّعة.
__________
[1] . فبركوا: كذا فى الأصل والطبري (11: 1213) . فى آ: مائة راجل فنزلوا.(4/204)
ثمّ إنّ الأفشين تجهّز بعد جمعتين فلمّا كان فى الليل بعث الرجّالة الناشبة وهم مقدار ألف رجل، فدفع إلى كلّ واحد منهم شكوة [1] وكعكا، ودفع إليهم أعلاما سودا وقال:
- «سيروا حتى تصيروا خلف التلّ الذي عليه آذين» - وهو صاحب جيش بابك.
وأرسل مهم الأدلّاء وأمرهم ألّا يعلم بهم أحد حتّى يروا أعلام الأفشين عند صلاة الغداة، فحينئذ فركّبوا الأعلام على الرماح واضربوا بالطبول وانحدروا من فوق الجبل وارموا بالنشّاب والصخر على الخرّمية وإن هم لم يروا الأعلام لم يتحرّكوا حتى يأتيهم خبره.
ففعلوا ذلك ووافوا رأس الجبل عند السحر وجعلوا فى تلك الشكاء الماء من الوادي.
فلمّا كان السحر وجّه الأفشين إلى القوّاد أن:
- «اركبوا فى السلاح.» فركبوا، وأخرج النفّاطين والشمع وضرب بالطبل حتّى وافى الموضع الذي كان يقف عليه وبسط النطع ووضع الكرسىّ لعادته، وكان بخاراخذه يقف على العقبة التي كان يقف عليها فى كلّ يوم فلمّا كان ذلك اليوم صيّر بخاراخذاه فى المقدّمة مع أبى سعيد وجعفر الخيّاط وأحمد بن الخليل، فأنكر الناس هذه التعبئة وأمرهم أن يدنوا [232] من التلّ الذي عليه آذين فيحدقوا به، وقد كان ينهاهم عن هذا قبل ذلك اليوم. فمضوا جميعا حتّى صاروا كالحلقة حول التلّ وارتفعت الضجّة وتحرّك الكمين واشتبكت الحرب.
فلمّا سمع الرجّالة الناشبة الذين تقدّموا صوت الطبول ورأوا الأعلام
__________
[1] . الشكوة: وعاء من جلد للماء أو اللبن.(4/205)
وركّبوا أعلامهم وانحدروا على أصحاب آذين وحمل جعفر الخيّاط وأصحابه حتّى صعدوا إليهم ثمّ حملوا حملة منكرة، قلبوه [1] وأصحابه فى الوادي.
وكان آذين قد هيّأ فوق الجبل عجلا عليها صخرة. فلمّا حمل الناس دفع العجل على الناس، فأفرج الناس عنها حتّى تدحرجت ثمّ حمل الناس من كلّ وجه.
بابك يريد الأمان
فلمّا نظر الناس إلى ذلك كبّروا ونظر بابك إلى أصحابه قد أحدق بهم، فخرج من طرف البذّ من باب يلي الأفشين يكون بين هذا الباب وبين التلّ الذي عليه الأفشين قدر ميل، فأقبل بابك يسأل عن الأفشين فقال لهم المطوّعة وأصحاب أبى دلف:
- «من هذا؟» فقالوا: «بابك، يريد الأفشين.» فأرسل أبو دلف إلى الأفشين يعلمه ذلك. فأرسل الأفشين رجلا يعرف بابك. فنظر إليه، ثمّ عاد إليه فقال:
- «نعم هو بابك.» فركب إليه الأفشين، فدنا منه حيث يسمع كلامه وكلام أصحابه، والحرب مشتبكة [233] فى ناحية آذين، فقال له:
- «أريد الأمان من أمير المؤمنين.» فقال له الأفشين:
- «قد عرضت عليك هذا وهو لك مبذول متى شئت.»
__________
[1] . قلبوه: كذا فى مط والطبري (11: 1216) . ما فى آمهمل.(4/206)
فقال: «قد شئت الآن على أن تؤجّلنى أجلا أحمل فيه عيالي وأتجهّز.» قال له الأفشين:
- «قد والله نصحتك غير مرّة وأنا أنصحك الساعة: خروجك اليوم فى الأمان خير من غد.» قال: «قد قبلت أيّها الأمير.» قال له الأفشين:
- «فابعث بالرهائن التي كنت سألتك.» قال: «نعم. أمّا فلان وفلان فهم على ذلك الجبل، فمر أصحابك بالتوقّف عنهم.» فجاء رسول الأفشين ليردّ الناس. فقيل له:
- «من يردّ الناس؟ إنّ أعلام الفراغنة [1] قد دخلت البذّ وصعدوا بها إلى القصور.» فصاح الأفشين بالناس ودخل ودخلوا وصعد الناس بالأعلام فوق القصور وقد كان بابك كمّن فى قصوره وهي أربعة، ستمائة راجل. فوافاهم الناس فصعدوا فوق القصور بالأعلام وامتلأ شارع البذّ وميدانها من الناس وفتح أولئك الكمناء أبواب القصور وخرجوا يقاتلون الناس، ومرّ بابك حتّى دخل الوادي الذي يلي هشتاذ سر واشتغل الأفشين وقوّاده بالحرب على أبواب القصور وأحضروا النفّاطين فصبّوا عليهم النفط والناس والنار يهدمون [234] القصور حتّى قتلوهم عن آخرهم.
وأخذ الأفشين أولاد بابك وعيالاتهم وأمر الناس بالانصراف فانصرفوا، وكان عامّة الخرّمية فى البيوت فرجع الأفشين إلى الخندق بروذ الروذ.
__________
[1] . فى آومط: الفراعنة (بالعين المهملة) . والأصل مثل الطبري (11: 1218) .(4/207)
فذكر الناس أنّ بابك وأصحابه حين علموا أنّ الأفشين قد رجع إلى خندقه رجعوا إلى البذّ، فحملوا من الزاد ما أمكنهم حمله وحملوا أموالهم، ثمّ دخلوا الوادي الذي يلي هشتاذ سر، فلمّا كان من الغد خرج الأفشين حتّى دخل البذّ فوقف فى القرية وأصعد الكلغريّة [1] فهدموا القصور وحرّقوها. فعل ذلك ثلاثة أيّام حتّى أحرق خزائنه وقصوره ولم يدع بيتا واحدا. ثمّ رجع وقد علم أنّ بابك قد أفلت فى بعض أصحابه. فكتب إلى ملوك أرمينية وأصحاب الأطراف يقول:
- «إنّ بابك قد هرب فى عدّة معه وهو مارّ بكم فلا يفوتنّكم.» وجاءت الجواسيس إلى الأفشين فأخبروه بموضعه فى الوادي وكان واديا معشبا كثير الشجر طرفه بأرمينية وطرفه الآخر بأذربيجان، ولم يمكن الخيل أن تنزل إليه ولا يرى من يستخفى فيه، إنّما هو غيضة ملتفّة الأشجار والأنهار فوجّه الأفشين إلى كلّ موضع يعلم أنّ منه طريقا ينحدر إلى تلك الغيضة، إذ يمكن بابك أن يخرج [235] منه عسكرا، وكان يوجّه إلى كلّ عسكر من هذه العساكر الميرة من عسكره وكانت عدّة هذه العساكر خمسة عشر عسكرا.
أمان مختوم بالذهب من المعتصم لبابك
وكانوا كذلك حتّى ورد كتاب أمير المؤمنين المعتصم بالله مختوما بالذهب فيه أمان لبابك. فدعا الأفشين ممّن كان استأمن إليه من أصحاب بابك وبالأسرى وفيهم ابن له كبير، أكبر ولده فقال لهم:
- «هذا ما لم أكن أطمع له فيه، أن يكتب له أمير المؤمنين وهو فى هذه
__________
[1] . فى مط: الكل مرته وهو خطأ. والكلمة شرحناها قبل.(4/208)
الحال بأمان، فمن يأخذه ويذهب به إليه؟» فلم يجسر على ذلك أحد منهم وقالوا:
- «أيّها الأمير ما فينا من يجترئ أن يلقاه بهذا.» فقال الأفشين:
- «ويحكم، إنّه يفرح بهذا.» قالوا: «أصلح الله الأمير، نحن أعرف بهذا منك.» قال: «فلا بدّ من أن تهبوا لى أنفسكم وتوصلوا هذا الكتاب إليه.» فقام رجلان منهم فقالا:
- «اضمن لنا أنّك تجرى على عيالاتنا.» فضمن لهما. وأخذا الكتاب وتوجّها، فلم يزالا يدوران فى الغيضة حتّى أصاباه، وكتب معهما ابن بابك يعلمه الخبر ويسأله أن يصير إلى الأمان. فدفعا إليه الكتاب عن ابنه فقرأ الكتاب ابنه وقال:
- «أىّ شيء صنعتم؟» قال: «أسر عيالاتنا [236] ولم نعرف موضعك فنأتيك.» فقال للذي كان معه الكتاب:
- «أمّا هذا فلا أعرفه، ولكن أنت يا ابن الفاعلة كيف اجترأت أن تجيئني من عند ابن الفاعلة؟» - يعنى ابنه.
فأخذه وشدّ الكتاب على صدره مختوما لم يفضّه وضرب عنقه.
ثمّ قال للآخر:
- «اذهب أنت فقل لابني [1] : يا بن الزانية قد تحقّقت الساعة أنّك لست لى بابن، وأنّ أمّك جاءت بك من عهر، لو عشت يوما واحدا وأنت رئيس
__________
[1] . ما فى الأصل: لابنه. فصحّحناه حسب السياق، والعبارة ساقطة فى كلّ من آومط. وهي فى الطبري (11: 21- 1220) . «وقل لذاك ابن الفاعلة- يعنى ابنه» .(4/209)
هذه الدعوة، كان خيرا لك من أن تعيش أربعين سنة وأنت عبد ذليل، ولكنّك من جنس لا خير فيه.» وردّ الرجل مع أدلّاء حتّى دلّوه ورجعوا إلى بابك.
فناء زاد بابك
ثمّ إنّ بابك فنى زاده وخرج ممّا يلي طريقا فيه جبل لا يقيم عليه عسكر لبعده من الماء، وكان الناس قد أقاموا هناك فارسين وكوهيّين [1] يحرسون الطريق بنوبة، فلمّا خرج بابك وأصحابه وكان معه أخواه عبد الله ومعاوية وامرأة له وساروا يريدون أرمينية، نظر إليهم الفارسان والكوهيّان، فتوجّهوا إلى العسكر وعليه أبو الساج، فأعلموه أنّهم رأوا فرسانا خرجوا من الغيضة ومرّوا لا ندري من هم. فركب [237] الناس وساروا فنظروا إليهم من بعد وقد نزلوا على عين ماء يتغدّون عليها. فلمّا نظروا إلى الناس بادر الكافر فركب وركب من كان معه. فأفلت وأخذ معاوية وأمّ بابك والمرأة التي كانت معه، ومع بابك غلام له. فوجّه أبو الساج بمعاوية والمرأتين إلى العسكر ومرّ بابك حتّى دخل جبال أرمينية يسير متكمّنا فى الجبال فاحتاج إلى طعام، وكان جميع بطارقة أرمينية قد تحفّظوا بنواحيهم وأطرافهم وأوصوا مسالحهم [2] : [أن] [3] لا يجتاز عليهم أحد إلّا أخذوه حتّى يعرفوه. وكان أصحاب المسالح كلّهم متحفّظين.
__________
[1] . الكوهىّ: المنسوب إلى ال «كوه» وهو بالفارسية: الجبل.
[2] . فى آ: مشالحهم. وهو تصحيف.
[3] . أن: أضفناها من مط.(4/210)
بابك والحرّاث وما فعل ابن سنباط
وأصاب بابك الجوع فأشرف فإذا هو بحرّاث يحرث على فدان له فى بعض الأودية. فقال لغلام له:
- «انزل إلى هذا الحرّاث وخذ معك دراهم ودنانير، فإن كان معه خبز فخذه وأعطه.» وكان للحرّاث شريك ذهب لحاجته. فنزل الغلام إلى الحرّاث يخاطبه، فنظر إليه شريكه من بعيد فوقف بالبعد يفرق أن يجيء إلى شريكه. فدفع الغلام إلى الحرّاث شيئا، فجاء الحرّاث فأخذ الخبز فدفعه إلى الغلام وشريكه قائم ينظر ويظنّ أنّه إنّما اغتصبه خبزه. فعدا إلى صاحب [238] المسلحة [1] فأعلمه أنّ رجلا عليه سيف وسلاح جاءهم وأخذ خبز شريكه من الوادي.
فركب صاحب المسلحة وكان فى جبال ابن سنباط، ووجّه إلى سهل بن سنباط بالخبر. فركب ابن سنباط وجماعة معه حتّى جاءه مسرعا، فوافى الحرّاث والغلام عنده فقال:
- «ما هذا؟» قال الحرّاث:
- «هذا رجل مرّ بى فطلب خبزا فأعطيته.» فقال للغلام:
- «أين مولاك؟» قال: «هاهنا.» فأومأ إليه، فاتّبعه فأدركه وهو نازل. فلمّا رأى وجهه عرفه، فترجّل له
__________
[1] . فى مط: المصلحة. وهو تصحيف.(4/211)
ابن سنباط عن دابّته ودنا منه فقبّل يده ثمّ قال:
- «يا سيّدى [1] إلى أين؟» قال: «أريد بلاد الروم- أو موضعا سمّاه.» فقال له:
- «لا تجد أحدا أعرف بحقّك ولا أحقّ أن تكون عنده منّى. أنت تعرف موضعي، ليس بيني وبين السلطان عمل ولا يدخل علىّ أحد من أصحاب السلطان، وأنت عارف بقصتي وبلدي وكلّ من ها هنا من البطارقة، إنّما هم أهل بيتك قد صار لك منهم أولاد.» وذلك أنّ بابك كان إذا علم أنّ عند أحد البطارقة بنتا أو أختا جميلة وجّه يطلبها، فإن بعث بها وإلّا بيّته وأخذها وأخذ جميع ما له من متاع وغيره.
ثمّ قال له ابن سنباط:
- «صر عندي فى حصني [239] فإنّما هو منزلك وأنا عبدك فكن فيه شتوتك هذه ثمّ ترى رأيك.» وكان بابك قد أصابه الضرّ والجهد فركن إلى كلام سهل بن سنباط وقال له:
- «ليس يستقيم أن أكون أنا وأخى فى موضع واحد، لعلّه أن يعثر بأحدنا فيبقى الآخر، ولكنّى أقيم عندك وتوجّه [2] عبد الله أخى إلى ناحية ابن اصطفانوس، لأنّه ليس لنا خلف يقوم بدعوتنا.» فقال له ابن سنباط:
- «ولدك كثير.» قال: «ليس فيهم خير.»
__________
[1] . فى الأصل: يا سيّده. فى آ: يا سيدي. وفى الطبري (11: 1223) : يا سيداه.
[2] . كذا فى الأصل: توجّه. فى الطبري (11: 1223) : يتوجّه.(4/212)
ابن سنباط يكتب الخبر إلى الأفشين وما كان بعد ذلك
وكان يثق بابن اصطفانوس. فلمّا أصبح عبد الله مضى إلى حصن اصطفانوس وأقام بابك عند ابن سنباط. فكتب ابن سنباط إلى الأفشين يعلمه أنّ بابك عنده فى حصنه. فكتب إليه:
- «إن كان هذا صحيحا فلك عندي وعند أمير المؤمنين- أعزّه الله- الذي تحبّ.» وكتب يجزّيه خيرا.
ووصف الأفشين صفة بابك لرجل من خاصّته ممّن يثق به ووجّه به إلى ابن سنباط، وكتب إليه يعلمه أنّه وجّه إليه برجل من خاصّته يحبّ أن يرى بابك ليحكى للأفشين ذلك. فكبره ابن سنباط ذلك إشفاقا من أن يوحش ذلك بابك. فقال للرجل:
- «ليس يمكنك أن تراه إلّا فى الوقت الذي يكون منكبّا على طعامه يتغدّى. فإذا رأيتنا قد [240] دعونا بالطعام فالبس ثياب الطبّاخين الذين معنا على هيئة علوجنا وتعال كأنّك تقدّم الطعام أو تتناول شيئا، فإنّه يكون متّكئا على الطعام فتفقّد منه ما تريد، فاذهب فاحكه لصاحبك.» ففعل به ذلك فى وقت الطعام فرفع بابك رأسه فنظر إليه فأنكره وقال:
- «من هذا الرجل؟» فقال له ابن سنباط:
- «هذا رجل من أهل خراسان منقطع إلينا منذ زمان، نصراني.» فقال له بابك:
- «منذ كم أنت هاهنا؟»(4/213)
قال: «منذ كذا وكذا سنة.» قال: «وكيف أقمت ها هنا؟» قال: «تزوّجت ها هنا.» فقال له:
- «صدقت، إذا قيل للرجل من أين أنت، قال: من حيث امرأتى.» ثمّ رجع إلى الأفشين فأخبره ووصف له بابك:
ووجّه الأفشين أبا سعيد وبو زبازه [1] إلى ابن سنباط وكتب إليه معهما وأمرهما إذا صار إلى بعض الطريق قدّما كتابه [2] إلى ابن سنباط مع علج من الأعلاج. وأمرهما إلّا يخالفا ابن سنباط فيما يشير به عليهما.
ففعلا ذلك فكتب إليهما ابن سنباط فى المقام بموضع قد سمّاه ووصفه لهما إلى أن يأتيهما رسوله. فلم يزالا مقيمين فى الموضع الذي وصفه لهما، ووجّه إليهما ابن سنباط بالميرة والزاد حتّى تحرّك بابك للخروج إلى الصيد [241] فقال له:
- «ها هنا واد طيّب وأنت مغموم فى جوف هذا الحصن، فلو خرجت، ومعنا باز [3] وباشق وما تحتاج إليه فنتفرّج إلى وقت الغداء بالصيد.» فقال له بابك:
- «إذا شئت فانفذ ليركبا بالغداء.» وكتب ابن سنباط إلى أبى سعيد وبو زبازه يعلمهما ما عزم عليه ويأمرهما أن يوافياه: واحد من هذا الجانب من الجبل والآخر من الجانب الآخر، وأن
__________
[1] . كذا فى الأصل وآ: بو زبازه. فى الطبري (11: 1225) : بو زباره. وفى حواشيه: بو زباه.
[2] . فى الأصل وآ: كتابهما. ما فى الطبري (11: 1225) : كتابه. وهو الصحيح.
[3] . كذا فى الأصل وآ ومط: باز وباشق. وهما فى الطبري (11: 1225) : بازى وباشق. وأصلهما الفارسي: باز وباشه.(4/214)
يسيرا متكمّنين مع صلاة الصبح، فإذا جاءهما رسوله أشرفا على الوادي فانحدرا عليه إذا رأوهم وأخذوهم.
فلمّا ركب ابن سنباط وبابك وجّه ابن سنباط رسولا إلى هذا ورسولا إلى هذا وأراد أن يشبّه على بابك ويقول:
- «هذه خيل قد جاءتنا فأخذتنا ولم يحبّ أن يدفعه إليهما من منزله.» فأشرفا على الوادي فإذا هما ببابك وابن سنباط وكان على بابك درّاعة بيضاء. فانحدرا وأصحابهما عليه هذا من ها هنا وهذا من ها هنا. فأخذاهما ومعهما البواشيق. فلمّا نظر بابك إلى العساكر قد أحدقت به وقف ينظر إليهم.
فقالا له:
- «انزل.» فقال: «ومن أنتما؟» قال أحدهما:
- «أنا أبو سعيد.» وقال الآخر:
- «أنا بو زبازه.» فقال: «نعم.» وثنّى رجله فنزل- وكان ابن سنباط ينظر إليه- فرفع رأسه [242] إلى ابن سنباط فشتمه وقال:
- «إنّما بعتني من اليهود بالشيء اليسير، لو أردت المال منّى وطلبته لأعطيتك أكثر ممّا يعطيك هؤلاء.»
بابك يحمل إلى الأفشين
ثمّ أركبوه وحملوه وجاءوا به إلى الأفشين. فجلس له الأفشين ببرزند فى(4/215)
خيمة بين يديها فازة، فاصطفّ الناس له صفّين، فأمر الأفشين ألّا يتركوا غريبا [1] من الصفّين فرقا أن يجرحه إنسان أو يقتله ممّن قتل أولياءه أو صنع به داهية.
وقد كان صار إلى الأفشين نساء كثير وصبيان ذكروا أنّ بابك كان أسرهم وأنّهم أحرار من العرب والدهاقين. فأمر الأفشين بإفرادهم فى حظيرة وأجرى عليهم أقواتهم وأمرهم أن يكتبوا إلى أوليائهم وكل من جاءه فعرف امرأة أو صبيّا أو صبيّة وأقام شاهدين يعرفان أنّها حرمة له أو قرابة دفعها إليه. فكان قد ذهب خلق كثير وبقي ناس كثير منهم ينتظرون أن تجيء أولياؤهم.
فلمّا كان ذلك اليوم وصار بين بابك وبين الأفشين قدر نصف ميل أنزل بابك، فمشى بين الصفّين فى درّاعته وعمامته وخفّيه حتّى وقف بين يدي الأفشين. فنظر إليه الأفشين ثمّ قال:
- «انزلوا به إلى العسكر.» فنزلوا به راكبا.
فلمّا نظر النساء والصبيان الذين كانوا [243] أفردهم الأفشين فى حظيرة لطموا وجوههم وصاحوا وبكوا حتّى ارتفعت أصواتهم.
فوجّه الأفشين إليهم:
- «أنتم بالأمس تقولون أسرنا وأنتم اليوم تبكون عليه، لعنكم الله.» قالوا: «إنّه كان محسنا إلينا.» فأمر به الأفشين فأدخل بيتا، ووكّل به جماعة من ثقاته. وكان عبد الله أخو بابك مقيما عند عيسى بن اصطفانوس، فأعلم الأفشين بمكانه فكتب
__________
[1] . كذا فى الأصل وآ: غريبا. وفى الطبري (11: 1227) : عربيّا.(4/216)
إليه يأمره أن يوجّه بعبد الله. فوجّه به عيسى بن اصطفانوس إلى الأفشين.
فلمّا صار فى يد الأفشين حبسه مع أخيه فى بيت واحد ووكّل بهما قوما يحفظونهما. وكتب إليه المعتصم يأمره بالقدوم بهما عليه.
فلمّا أراد أن يصير إلى العراق وجّه إلى بابك:
- «أنظر ما تشتهي من بلاد أذربيجان.» قال: «أشتهى أن أنظر إلى مدينتي.» فوجّهه مع قوم فى ليلة مقمرة إلى البذّ حتّى دار فيه ونظر إلى البيوت والقتلى فيه إلى وقت الصبح ثمّ ردّ. فيظنّ أنّه تأمّل مواضع كنوزه.
ودخلت سنة ثلاث وعشرين ومائتين
قدوم الأفشين ببابك على المعتصم وما فعل المعتصم به
فقدم فيها الأفشين على المعتصم ببابك وأخيه سرّ من رأى. وكان المعتصم يوجّه [244] إلى الأفشين كلّ يوم منذ فصل من برزند إلى أن وافى سرّ من رأى فرسا وخلعة، وكان المعتصم لعنايته بأمر بابك وفساد الطريق بالثلج وغيره رتّب بين سرّ من رأى وبين عقبة حلوان خيلا مضمّرة على رأس كلّ فرسخ فرسا معه مجر، وكان يركض بالخبر ركضا حتّى يؤدّيه واحد إلى واحد يدا بيد.
وأمّا ما وراء حلوان إلى أذربيجان فقد رتّب فيه دوابّ المرج فكانت تركض يوما أو يومين ثمّ تبدّل. وكان لهم ديادبة [1] على رؤوس الجبال بالليل والنهار ينعرون إذا جاءهم الخبر. فإذا سمع الذي يليه تعبّأ واستعدّ فلا
__________
[1] . فى الأصل: دبّابة. وهو تحريف. فى آ: دياذبة. وفى الطبري (11: 1229) : ديادبة وكلاهما صحيح. وهو جمع مفرده: الديدبان: الرقيب. المراقب. (فارسىّ معرّب) .(4/217)
يبلغ إليه صاحبه حتّى يقف له على الطريق فيأخذ منه الخريطة ويركض بها.
فكانت الخريطة تصل من عسكر الأفشين إلى سرّ من رأى فى أربعة أيّام وأقلّ.
فلمّا صار الأفشين ببابك إلى سرّ من رأى لم يصبر المعتصم أن يحمل إليه حتّى ذهب متنكّرا فرءاه وتأمّله وبابك لا يعرفه. ثمّ قعد له المعتصم من الغد واصطفّ له الناس بين باب العامّة إلى المطيرة وبها أنزل بابك.
وأراد المعتصم أن يشهّره فاستشار:
- «على أىّ شيء يحمل ويشهر؟» فقيل: «يا أمير المؤمنين [245] لا شيء أشهر من الفيل.» فأمر بتهيئة الفيل فخضب وحمل عليه بابك فى قباء ديباج وقلنسوة سمّور مدوّرة هو وحده. فقال محمد بن عبد الملك الزيّات:
قد خضب الفيل كعاداته ... لحمل شيطان خراسان
والفيل لا تخضب أعضاؤه ... إلّا لذي شأن من الشأن
فاستشرفه الناس من المطيرة [1] إلى باب العامّة، ثمّ أدخل به على المعتصم وأحضر جزّار لقطع أعضائه، ثمّ أمر أن يحضر سيّافه، وكان اسمه نوذ، فخرج الحاجب من باب العامّة فقال:
- «نوذ، نوذ.» وارتفعت الضجّة:
- «نوذ، نوذ.»
__________
[1] . المطيرة: قرية من نواحي سامرّاء كانت متنزّهاتها بنيت فى أواخر خلافة المأمون بناها مطير بن فزارة السبعانى فنسبت إليه (مراصد الإطلاع) .(4/218)
حتّى حضر، فأمره المعتصم أن يقطع يديه ورجليه فقطعهما فسقط، فأمر أن يشقّ بطنه، ثمّ حزّ رأسه. ووجّه به إلى خراسان وصلب بدنه بسرّ من رأى. فموضع خشبته مشهور إلى الآن.
أخو بابك يحمل إلى بغداد
وحمل أخوه إلى بغداد فعمل به ما عمل ببابك. ويقال إنّه لمّا صار إلى البردان أنزل على ابن شروين فى قصره، وابن شروين ملك طبرستان، فحمد الله أخو بابك وقال:
- «أنا أشكر الله حيث وفّق لى رجلا من الدهاقين يتولّى قتلى.» قال: «إنّما يتولّى قتلك هذا.» [246] وأشار إلى نوذ، وكان حاضرا وقد حمل معه.
فقال: «أنت صاحبي وإنّما هذا علج فأخبرني أمرت أن تطعمني شيئا أم لا؟» قال: «قل ما شئت.» قال: «اضرب لى فالوذجة.» فأمر فضربت له فالوذجة فى جوف الليل فأكل منها حتّى تملّأ ثمّ قال:
- «يا با فلان ستعلم غدا أنّى دهقان إن شاء الله.» ثمّ قال: «تقدر أن تسقيني نبيذا؟» قال: «نعم ولا تكثر.» قال: «فإنى لا أكثر.» قال: فأحضر أربعة أرطال خمرا، فشربها على مهل إلى قريب الصبح. ثمّ وافى به من الغد مدينة السلام وأحضر رأس الجسر. فأمر إسحاق بن إبراهيم بن مصعب بقطع يديه ورجليه، فلم ينطق ولم يتكلّم ولم يضطرب، ثمّ أمر(4/219)
بصلبه فصلب فى الجانب الشرقي.
واستخرج الأفشين لسهل بن سنباط من المعتصم ألف ألف درهم ومنطقة مغرقة بالذهب [1] والجوهر وتاج البطرقة وكان هذا سبب بطرقة سهل بن سنباط. وأخذ الأفشين لمعاوية أخى بابك مائة ألف درهم.
تتويج المعتصم الأفشين بعد قتل بابك
وتوّج المعتصم الأفشين وألبسه وشاحين بالجوهر ووصله بعشرين ألف ألف درهم: عشرة آلاف له وعشرة آلاف يفرّقها فى أهل عسكره، وعقد له على السند وأدخل إليه الشعراء يمدحونه وأمر لهم بصلات. فممّا مدح به [247] قول أبى تمام الطائي:
بذّ الجلاد البذّ فهو دفين ... ما إن به إلّا الوحوش قطين
قد كان عذرة سؤدد فافتضّها ... بالسّيف فحل المشرق الأفشين
هطلت عليها من جماجم أهلها ... ديم إمارتها طلى وشؤون
إيقاع ملك الروم بأهل زبطرة
وفى هذه السنة أوقع ملك الروم توفيل بن ميخائيل بأهل زبطرة [2] فأسرهم وخرّب بلدهم ومضى من فوره إلى ملطية [3] فأغار على أهلها وعلى حصون كثيرة فسبا من المسلمات خلقا كثيرا ومثّل بمن صار فى يده من
__________
[1] . الذهب: ليس لا فى آولا فى الطبري (11: 1232) .
[2] . زبطرة: مدينة بين ملطية وسميساط (شميشاط) . (مراصد الإطلاع) .
[3] . ملطية: والعامّة تكسر الطاء وتشدّد الياء: من بلاد الرّوم مشهورة تتاخم الشام (مراصد الإطلاع) .(4/220)
المسلمين فسمل أعينهم وقطع آنفهم وآذانهم.
ذكر السبب فى ذلك كان السبب فى ذلك أنّ بابك لمّا ضاق به الأمر وأشرف على الهلاك وأحسّ فيمن صحبه بالضعف، كتب إلى ملك الروم توفيل بن ميخائيل يعلمه:
أنّ ملك العرب قد وجّه عساكره ومقاتلته إلىّ وشغلهم بى، حتّى وجّه خيّاطه- يعنى جعفر بن دينار- ووجّه طبّاخه- يعنى ايتاخ- ولم يبق على بابه أحد، فإن أردت الخروج إليه [248] فاعلم أنّه ليس فى وجهه أحد يمنعك.
منه، طمعا منه فى أنّ ملك الروم إن تحرّك انكشف عنه بعض ما هو فيه بصرف المعتصم بعض من بازائه من جيوشه إلى ملك الروم.
فخرج ملك الروم فى مائة ألف وأكثر، فيهم من الجند نيّف وسبعون ألفا والباقون حشر وأتباع، وأخرج معه المحمّرة الذين كانوا أخرجوا بالجبال فلحقوا بالروم حين قاتلهم إسحاق بن إبراهيم بن مصعب وكان الملك صيّرهم مقاتلته. فلمّا دخل ملك الروم زبطرة وقتل أهلها وسبى الذرارىّ والنساء بلغ النفير سرّ من رأى، وخرج أهل ثغور الشام والجزيرة إلّا من لم يجد سلاحا ولا دابّة، واستعظم المعتصم ذلك، فلمّا انتهى إليه الخبر قال:
- «لبّيك لبّيك.» وذلك أنّه بلغه أنّ امرأة من السبي قالت:
- «وا معتصماه.» وصاح فى قصره النفير. ثمّ ركب دابّته وسمّط خلفه شكالا وسكّة حديد وحقيبة، ولم يستقم له أن يخرج إلّا بعد التعبئة فأحضر ثلاثمائة ونيّفا وعشرين من القضاة والعدول فأشهدهم على ما وقف من الضياع، فجعل ثلثا لولده وثلثا لله وثلثا لمواليه، ثم عسكر بغربىّ دجلة ووجّه عجيف بن عنبسة(4/221)
وعمر [249] الفرغاني وجماعة أمثالهما من القوّاد إلى زبطرة إغاثة لأهلها فلحقوا وقد انصرف ملك الروم وفعل ما فعل. فلمّا ظفر المعتصم ببابك قال:
- «أىّ بلاد الروم أمنع وأحصن؟» فقيل: «عموريّة، لم يعرض لها أحد من المسلمين وهي عين النصرانية وهي أشرف عندهم من قسطنطينية.»
شخوص المعتصم غازيا إلى بلاد الروم
فشخص المعتصم غازيا إلى بلاد الروم فتجهّز جهازا لم يتجهّز مثله قطّ خليفة من السلاح والعدد والآلات وحياض [1] الأدم والروايا والقرب والبغال وآلة الحديد وآلة النار والنفط، وجعل على مقدّمته أشناس، ويتلوه محمد بن إبراهيم، وعلى ميمنته ايتاخ وعلى ميسرته جعفر بن دينار وعلى القلب عجيب بن عنبسة، وبعث الأفشين حيدر بن كاووس إلى سروج وأمره بالتزوّد منها وسمّى له يوما أمره فيه بدخول درب الحدث وقدّر لعسكره وعسكر أشناس يوما يدخل فيه الأفشين بقدر ما بين المسافتين، ورأى أن تجتمع عساكره بأنقرة، فإذا فتحها الله صار إلى عمرويّة. فقدم أشناس من درب طرسوس وتبعه وصيفه وجمع مقدمات العسكر.
فلمّا صار أشناس بمرج الأسقف ورد عليه كتاب المعتصم يأمره بالمقام [250] ويعلمه أنّ الجواسيس أتته بأنّ الملك يريد أن يقف على المخاضة ويكبسهم، وأعلمه أيضا أنّه ينتظر ساقته لأنّ فيها الأثقال والمجانيق والزاد.
فأقام أشناس بمرج الأسقف ثلاثة أيّام حتّى ورد كتاب المعتصم يأمره أن يوجّه قائدا فى سريّة يلتمسون رجلا من الروم يسألونه عن خبر الملك ومن
__________
[1] . كذا فى الأصل وآ والطبري (11: 1236) : حياض. فى مط: حياظ.(4/222)
معه. فوجّه أشناس عمر الفرغاني فى مائتي رجل فرسانا، فساروا ليلتهم حتّى أتوا حصن قرّة وطافوا يلتمسون رجلا حول الحصن فنذر بهم صاحب قرّة، فخرج فى جميع من معه بأنقرة وكمّن فى الجبل الذي بين قرّة ودرّة، وعلم عمر الفرغاني بما صنع. فتقدّم إلى درّه فتكمّن بها ليلته.
فلمّا انفجر عمود الصبح صيّر عسكره ثلاثة كراديس وأمرهم أن يركضوا ركضا سريعا بقدر ما يأتونه بأسير عنده خبر الملك وواعدهم إلى موضع عرفه الأدلّاء ووجّه مع كلّ كردوس دليلين ومضوا فتفرّقوا فى ثلاثة وجوه فأخذوا عدّة من عسكر الملك ومن الضواحي، وأخذ عمر فارسا من فرسان أنقرة فسأله عن الخبر، فأخبره أنّ الملك وعسكره بالقرب منه وراء اللامس [1] بأربعة فراسخ وهو نهر قريب من طرسوس على نحو فرسخ منها عليه يقع الفداء [2] .
وذكروا أنّ الملك بلغه [251] دخول عسكر كثير بلاده فرحل إليه واستخلف على عسكره هناك ابن عمّ له ينتظر ورود الملك- يعنى المعتصم- ليواقعه فكان ذلك العسكر الذي توسّط بلاد الروم عسكر الأفشين. فوجّه أشناس بذلك الرجل إلى المعتصم فأخبره بجميع ذلك.
وبادر المعتصم من عسكره بقوم من الأدلّاء وضمن لكلّ رجل منهم عشرة آلاف درهم على أن يوافوا بكتابه الأفشين. وأعلمه أنّ أمير المؤمنين مقيم فليقم، وأشفق أن يواقعه ملك الروم. وكتب إلى أشناس يأمره أن يوجّه من قبله رسولا مع الأدلّاء العارفين بالطرق والجبال والمتشبّهة بالروم، وبذل لكلّ واحد منهم عشرة آلاف ويكتب إلى الأفشين: «أنّ ملك الروم قد أقبل نحوه فليقم مكانه حتّى يوافيه أمر أمير المؤمنين.»
__________
[1] . كذا فى الأصل ومط: اللامس. فى آ: اللامير. وفى الطبري (11: 1139) : اللّمس.
[2] . كذا فى الأصل وآ ومط: الفداء.(4/223)
فتوجّهت الرسل نحو الأفشين فلم يلحقه أحد منهم: لأنّه كان وغل فى بلاد الروم وتوافت آلات المعتصم وأثقاله مع صاحب الساقة. فكتب إلى أشناس يأمره بالتقدّم فتقدّم والمعتصم وراءه بينهما مرحلة ينزل هذا ويرحل هذا ولم يرد عليه خبر من الأفشين حتّى صاروا بأنقرة على ثلاث مراحل، وضاق عسكر المعتصم ضيقا شديدا من [252] الماء والعلف.
أشناس والشيخ
وكان أشناس قد أسر عدّة أسرا فى طريقه فأمر بهم فضربت أعناقهم حتّى بقي منهم شيخ كبير فقال الشيخ:
- «ما تنتفع بقتلى وأنت فى عسكرك فى هذا الضيق من الماء والزاد والعلف وأنا أدلّك على قوم بالقرب، قد هربوا من أنقرة خوفا من أن ينزل بهم ملك العرب ومعهم من الميرة والطعام شيء كثير.» فوعده أشناس أن يطلقه إن فعل ذلك. فسار بهم الشيخ إلى وقت العتمة فأوردهم على واد وحشيش كثير، فأمر الناس دوابّهم حتّى شبعت وتعشّى الناس وشربوا حتّى رووا.
ثمّ سار بهم حتّى أخرجهم من الغيضة [1] بقية ليلتهم يدور بهم فى جبل ولا يخرجهم منه. فقال الأدلّاء:
- «هذا الرجل يدور بنا.» فسأله عمّا قال الأدلّاء. فقال الشيخ:
- «صدقوا ولكنّ القوم الذين نريدهم خارج الجبل، وأخاف أن أخرج من الجبل بالليل فيسمعوا صوت حوافر الخيل على الصخر فيهربوا، فإذا خرجنا
__________
[1] . فى مط: الغبطة.(4/224)
من الجبل ولم تر أحدا قتلتني. فأنا أدوّر بك فى هذا الجبل إلى الصبح، فإذا أصبحنا خرجنا إليهم فأريتك إيّاهم.» فقال له:
- «ويحك فأنزلنا فى الجبل حتّى نستريح.» فقال: «رأيك.» فنزلنا على الصخر وأمسكنا لجم دوابّنا حتّى الفجر. فلمّا طلع الفجر قال:
- «وجّهوا رجلين [253] يصعدان هذا الجبل [1] فيبصران ما فوقه ويأخذان من أدركا فيه.» فصعد أربعة فأصابوا رجلا وامرأة فأنزلوهما وسائلهما العلج عن أهل أنقرة: «أين باتوا.» فسمّيا الموضع. فقال الشيخ:
- «خلّوا عن هذين فإنّا قد أعطيناهما الأمان حتّى دلّونا.» فخلّى عنهما وسار بهم العلج إلى الموضع. فأشرف بهم على عسكر أهل أنقرة. فلمّا رأوا العسكر صاحوا بالنساء والصبيان فدخلوا الملّاحة [2] ووقفوا على طرفها يقاتلون وأخذوا منهم عدّة أسرى وأصابوا فى الأسرى قوما بهم جراحات فسألوهم عنها فقالوا:
- «كنّا مع الملك فى وقعة الأفشين.» فقالوا لهم:
- «فحدّثونا بالقصّة.» فأخبروا أنّ الملك كان معسكرا بلامس حتّى جاءه رسول فأخبره أنّ عسكرا ضخما قد دخل من ناحية الارمنياق [3] فاستخلف على عسكره
__________
[1] . فى آ: هذا الرجل.
[2] . انظر الطبري (11: 1242) .
[3] . فى مط: الارمنيان.(4/225)
رجلا من أهل بيته وأمره بالقيام فى موضعه، فإن ورد عليه مقدّمة ملك الروم واقعه، إلى أن يذهب هو فيواقع هذا العسكر- يعنى عسكر الأفشين.
فقال أميرهم:
- «نعم وكنت ممّن سار مع الملك فواقعناهم صلاة الغداة فهزمناهم وقتلنا رجّالتهم كلّهم وتقطّعت عساكرنا فى طلبهم. فلمّا كان [254] الظهر رجع فرسانهم فقاتلونا قتالا شديدا حتّى اختلطوا بنا فلم ندر أين الملك ولم نزل كذلك إلى العصر، ثمّ رجعنا إلى موضع معسكر الملك باللّامس فلم نصادفه، ووجدنا العسكر قد انتقض وانصرف الناس عن قرابة الملك الذي كان الملك استخلفه على العسكر، فأقمنا ليلتنا.
فلمّا كان الغد فإذا الملك فى جماعة يسيرة فوجد عسكره قد اختلّ فطلب الذي كان استخلفه وضرب عنقه وكتب إلى المدن والحصون: لا يأخذوا رجلا [ممن انصرف] [1] من عسكر الملك إلّا ضربوه بالسياط حتّى يرجع إلى موضع سمّاه لهم الملك. حتّى إذا اجتمع الناس ناهض ملك العرب وأنفذ الملك خصيّا له إلى عمّوريّة إلى أن يلحقه بها.»
لحوق أشناس، ثمّ المعتصم، ثم الأفشين بأنقرة
فانصرف المسلمون بما أخذوا وتركوا السبىّ والمقاتلة يريدون عسكر أشناس وساقوا فى طريقهم غنما وبقرا كثيرا، وأطلقوا ذلك الشيخ الأسير، وسار أشناس بالأسرى حتّى لحق بأنقرة فمكث أشناس يوما واحدا ثمّ لحقه المعتصم من غد فأخبره بجميع ما ذكره الأسير فسرّ المعتصم. فلمّا كان اليوم
__________
[1] . ما بين المعقوفتين هو من آوالطبري (11: 1243) . وهو ليس لا فى الأصل ولا فى مط.(4/226)
الثالث جاءت البشرى من ناحية الأفشين يخبرون بالسلامة [255] وأنّه وارد على أمير المؤمنين بأنقرة.
ثمّ ورد الأفشين فأقاموا أيّاما ثمّ ساروا إلى عمّوريّة وقد صيّر المعتصم العسكر ثلاثة عساكر وبين عسكر وعسكر فرسخان، فساروا يخرّبون ويسبون ما بين أنقرة إلى عمّوريّة وبينهما سبع مراحل. ثمّ توافت العساكر بعمّوريّة فكان أوّل من وردها أشناس فدار حولها دورة، ثمّ نزل على ميلين منها بموضع فيه ماء وحشيش. ولمّا كان من الغد جاء المعتصم فدار حولها دورة، ثمّ جاء الأفشين فى اليوم الثالث فقسّمها أمير المؤمنين بين القوّاد كما يدور وصيّر إلى كلّ واحد منهم أبراجا منها على قدر كثرة أصحابه وقلّتهم.
وتحصّن أهل عمّوريّة وتحرّزوا، وكان بعموّريّة رجل من المسلمين أسره قديما أهل عمّوريّة فتنصّر وتزوّج فيهم فحبس نفسه عند دخولهم الحصن.
فلمّا رأى أمير المؤمنين ظهر وجاء إلى المعتصم فأعلمه أنّ موضعا من المدينة حمل عليه الوادي من سيل عظيم فوقع السور من ذلك الموضع، فكتب ملك الروم إلى عامل عمّوريّة أن يبنى ذلك الموضع فتوانى فى بنائه حتّى كان خروج الملك من قسطنطينية إلى بعض المواضع، فتخوّف الوالي أن يمرّ الملك على الناحية فيمرّ بالسور فلا يراه بنى فبنى وجه السور [256] بالحجارة حجرا حجرا وصيّر وراءه من جانب المدينة حشوا، ثمّ عقد فوقه الشرف كما كان.
فوقف ذلك الرجل المعتصم على هذه الناحية التي وصف فأمر المعتصم بضرب مضربه فى ذلك الموضع ونصب المجانيق على ذلك البناء، فانفرج السور من ذلك الموضع.
فلمّا رأى أهل عمّورية انفراج السور علّقوا عليه الخشب الكبار المضمومة بعضها إلى بعض فكان حجر المنجنيق إذا وقع على الخشب تكسّر، فعلّقوا(4/227)
فوق الخشب البراذع.
فلمّا ألحّت المجانيق على ذلك الموضع لم ينفع فيها شيء وتصدّع السور.
فكتب ياطس والخصىّ إلى ملك الروم كتابا يعلمانه أمر السور ووجّها الكتاب مع رجل فصيح بالعربية وغلام رومي فعبرا الخندق ووقعا إلى ناحية عمر الفرغاني، فوجّه بهما إلى أشناس. فحين سألوهما:
- «من أنتما؟» لم يعرفا أحدا من القوّاد بالعسكر يسمّيانه لهم. ففتّشا فوجد معهما الكتاب [1] . فقرئ وإذا فيه:
- «إنّ العسكر قد أحاط بالمدينة وأنّه قد عزم على أن يركب ويحمل خاصّة أصحابه على الدوابّ التي فى الحصن ويفتح الأبواب ليلا غفلة ويخرج عن [2] العسكر، كائنا فيه ما كان أفلت من أفلت وأصيب من أصيب، حتّى يصير [257] إلى الملك.» فلمّا قرأ المعتصم الكتاب أمر للرجل الذي يتكلّم بالعربية وللغلام الرومي بيده فأسلما وخلع عليهما وأمر بهما حين طلعت الشمس فأدارهما [3] حول عمّوريّة فقالا:
- «ياطس يكون فى هذا القصر.» - يعنون البرج.» فوقفا بحذاءه طويلا وعليهما الخلع وبين أيديهما رجلان يحملان لهما الدراهم ومعهما الكتاب حتّى عرف خبرهما جميع الروم وسمعا شتمهم إيّاهما ثمّ نحّوهما.
ثمّ أمر المعتصم بحراسة الأبواب نوائب يحصرها الفرسان يبيتون على
__________
[1] . فى مط: كتاب.
[2] . فى مط: على.
[3] . فى آ: فأداروهما.(4/228)
دوابّهم فى السلاح لئلّا يفتح الباب ليلا فيخرج إنسان. فلم يزالوا كذلك حتّى انهدم ما بين برجين فى الموضع الذي وصف للمعتصم ممّا لم يحكم عمله، فسمع أهل العسكر الوجبة، فارتاعوا وظنّوا العدوّ قد احتال بحيلة وخرج، حتّى أرسل المعتصم من طاف على العسكر يعلمهم أنّ ذلك صوت السور قد سقط فطيبوا نفسا.
تدبير حربىّ فاشل
وكان المعتصم اتّخذ مجانيق كبارا وجعلها على كراسىّ تحتها عجل وعملها كأوثق ما تكون، ثمّ فرّق غنما مما استاقه على أهل العسكر ليأكلوا لحمها ويحشوا جلدها ترابا ثمّ أتى بالجلود مملوءة ترابا فطرحت فى الخندق، وعمل [258] دبّابات كبارا تسع كلّ دبّابة عشرة رجال على أن يدحرجوها على تلك الجلود حتّى يمتلئ الخندق. فلمّا طرحت الجلود وقعت مختلفة فلم يمكن تسويتها [1] خوفا من حجارة المنجنيق، فأمر أن يطرح فوقها التراب حتّى استوت، ثمّ قدّمت دبّابة فدحرجوها. فلمّا صارت من الخندق فى نصفه تعلّقت بتلك الجلود وبقي القوم فيها فما تخلّصوا إلّا بعد جهد، ثمّ مكثت تلك العجلة مقيمة باقية هناك لا يمكن فيها حيلة حتّى فتحت عمّورية وبطلت الدبابات والمنجنيقات والسلاليم حتّى أحرقت. فلمّا كان من الغد قاتلهم على الثلمة وكان المعتصم واقفا على دابّته بإزاء الثلمة وأشناس والأفشين وقوف رجّالة.
__________
[1] . فى الأصل: تسريبها. فى آوتد (491) والطبري (11: 1248) : تسويتها.(4/229)
ذكر اتفاق سىّء [1] من كلام سبق
فقال المعتصم:
- «ما كان أحسن الحرب اليوم؟» فقال عمر الفرغاني:
- «الحرب اليوم أجود منها أمس.» فسمعها أشناس وأمسك. فلمّا انصرف المعتصم وانصرف أشناس وقرب من مضاربه ترجّل له القوّاد على عادتهم وفيهم عمر الفرغاني وأحمد بن الخليل بن هشام [259] فلمّا مشوا بين يديه قال لهم أشناس:
- «يا أولاد الزنا، أىّ شيء [2] تمشون بين يدىّ؟ كان ينبغي أن تقاتلوا أمس حيث كان يقاتل غيركم. انصرفوا إلى مضاربكم.» فلمّا انصرفا قال أحدهما لصاحبه:
- «أما ترى هذا العبد ابن الفاعلة- يعنى أشناس- ما صنع بنا اليوم، أليس الدخول إلى بلاد الروم أهون من هذا الذي سمعناه؟» فقال عمر الفرغاني لأحمد بن الخليل:
- «سيكفيك الله أمره عن قريب.» فأوهم أحمد أنّ عنده خبرا، فالحّ عليه أحمد يسأله فأخبره بما هم فيه، وقال العباس بن المأمون:
- «قد تمّ أمره وسيبايع له طاهر أو نقتل المعتصم وأشناس وغيرهما عن قريب.» ثمّ قال:
__________
[1] . فى تد (491) : شيء.
[2] . أى شيء. والضبط فى الطبري (11: 1249) : ايش (بالتخفيف اللهجوى) .(4/230)
- «وأنا أشير عليك أن يأتى العباس فتقدّم فتكون فى عداد من قد مال إليه.» فقال له أحمد:
- «هذا أمر لا أحسبه يتمّ.» فقال عمر:
- «قد تمّ وفرغ منه.» وأرشده إلى الحارث السمرقندي، وكان المتولّى لإيصال الرجال إلى العباس وأخذ البيعة عليهم، فقال له عمر:
- «أنا أجمع بينك وبين الحارث.» فقال أحمد:
- «إن كان هذا الأمر يتمّ فيما بيننا وبين عشرة أيّام فأنا معكم، وإن تجاوز ذلك فليس بيني وبينكم عمل.» فذهب الحارث فأعلم العباس أنّ عمر قد أدخل أحمد بن الخليل بيننا.
فقال:
- «ما كنت أحبّ أن يطّلع الخليلي على شيء ممّا نحن فيه، فأمسكوا عنه ودعوه [260] . بهما،» فتركوه.
فلمّا كان الثالث كانت الحرب على أصحاب أمير المؤمنين. ثمّ أحسّ ايتاخ والمغاربة والأتراك، والقيّم بذلك [1] ايتاخ، فاتسع لهم الموضع المنثلم وكثرت الجراحات فى الروم وكان القائد الموكّل بالموضع الذي انثلم يقال له: وندوا، وتفسيره بالعربية ثور. فقاتل قتالا شديدا هو وأصحابه وكثر القتلى فيهم. فاستمدّ ياطس فلم يمدّه هو ولا غيره وقال كلّ واحد:
__________
[1] . فى آ: بذلك اليوم فاتّسع. فى مط: بذلك أجمع ايتاخ فاتّسع.(4/231)
- «نحن نحفظ ما يلينا، فاحفظ أنت ما يليك.» فقال:
- «يا قوم إنّ الحرب إنّما هي اليوم علىّ وعلى أصحابى ولم يبق معى أحد إلّا وقد جرح، فصيّروا أصحابكم على الثلمة يرمون، وإلّا افتضحتم وذهبت المدينة.» فلم يلتفتوا إليه فاعتزم هو وأصحابه أن يخرجوا إلى أمير المؤمنين ويسألوه الأمان على الذريّة حتّى يسلّموا إليه الحصن بما فيه من السلاح والأثاث وغير ذلك. فلمّا أصبح أمر أصحابه ألّا يحاربوا حتّى يخرج ويعود إليهم فخرج بأمان حتّى صار إلى العسكر وحمل إلى المعتصم فصار بين يديه وقد أمسك الروم عن المحاربة أعنى أصحاب وندوا والناس يتقدّمون إلى الثلمة ووندوا جالس بين يدي المعتصم.
فدعا المعتصم بفرس فحمله عليه وقاتل حتّى صار [261] الناس معهم على حرب الثلمة وعبد الوهّاب بن على بين يدي المعتصم فأومأ إلى الناس بيده أن: ادخلوا.
فدخل الناس المدينة. فالتفت وندوا وضرب بيده إلى لحيته، فقال له المعتصم:
- «ما لك؟» قال: «جئت أريد أن أسمع كلامك وتسمع كلامي فغدرت بى.» فقال المعتصم:
- «كلّ شيء تريد أن تقوله فهو لك علىّ. قل ما شئت، فلست أخالفك.» قال: «كيف لا تخالفني وقد دخلوا المدينة؟» فقال المعتصم:
- «احتكم وقل ما شئت فانّى أعطيكه.»(4/232)
وصار خلق من الروم إلى كنيسة لهم عظيمة، فقاتلوا هناك قتالا شديدا.
فأحرق المسلمون الكنيسة فاحترقوا عن آخرهم وبقي ياطس فى برجه حوله بقية الروم وأصحابه وقد أخذتهم السيوف. فجاء المعتصم حتّى وقف حذاء ياطس [1] فكان ممّا يلي أشناس، فصاحوا:
- «يا ياطس هذا أمير المؤمنين واقف.» فصاح الرومىّ من فوق البرج:
- «ليس ياطس ها هنا.» قالوا: «بلى، فلينزل إلى أمير المؤمنين.» قالوا «لا، ما هو ها هنا.» فمرّ المعتصم مغضبا، فصاح الروم:
- «هذا ياطس، هذا ياطس.» فنصبت بعض تلك السلاليم المعمولة حتّى صعد عليه الحسن الرومىّ وهو غلام لأبى سعيد محمد بن يوسف فكلّمه ياطس وقال [262] له:
- «هذا أمير المؤمنين، فانزل على حكمه.» فنزل الحسن فأخبر المعتصم أنّه رءاه وكلّمه. فقال المعتصم:
- «فاصعد [2] إليه وقل له فلينزل.» فصعد الحسن ثانية فخرج ياطس من البرج متقلّدا سيفا حتّى وقف على البرج قائما والمعتصم ينظر إليه فخلع سيفه من عنقه فدفعه إلى الحسن ثمّ نزل فوقف بين يدىّ المعتصم فقنّعه سوطا وانصرف إلى مضربه فقال:
__________
[1] . فى الأصل: باطس بالباء الموحّدة إلى عدة مواضع، وكان حتّى هنا بالياء التحتانية، كما فى تد والطبري، فوحّدنا ضبطه.
[2] . فى الأصل والطبري (11: 1253) : فاصعدوا. آ، ومط وتد (494) : فاصعد.(4/233)
- «هاتوه [1] .» فمشى قليلا ثمّ جاءه رسول يقول:
- «احملوه.» فحمل إلى مضرب أمير المؤمنين. ثمّ أقبل الناس بالأسرى والسبي من كلّ وجه فأمر المعتصم أن يميّز الأسرى فيعزل منهم أهل الشرف فى ناحية، ثمّ أمر بالمقاسم أن ينادى عليها كلّ صاحب عسكر فى ناحيته ووكّل مع كلّ قائد من هؤلاء رجلا من قبل أحمد بن أبى دؤاد يحصى عليه فبعث المقاسم فى خمسة أيّام يبيع منها ما استباع وأمر بالباقي فضرب بالنار.
ولمّا همّ المعتصم بالرحيل وثب الناس على مغنم ايتاخ الذي كان يبيعه وهو اليوم الذي عجيف وعد فيه الناس أن يثب بالمعتصم، فركض المعتصم بنفسه ركضا وسلّ سيفه فتنحّى الناس من بين يديه وكفّوا عن انتهاب المغنم، فرجع إلى مضربه [263] وأمر من الغد أن لا ينادى على الشيء إلّا ثلاثة أصوات وإلّا بيع العلق. فكان ينادى على الرقيق خمسة خمسة وعشرة عشرة وعلى المتاع الكبير جملة واحدة.
وكان ملك الروم قد وجّه رسولا فى أوّل ما نزل المعتصم عمّوريّة، فأنزله المعتصم على ثلاثة أميال حتّى فتح عمّورية. فلمّا فتحها أذن له فى الانصراف ولم يصل إليه.
حبس العباس بن المأمون
وفى هذه السنة حبس المعتصم العباس بن المأمون وأمر بلعنه.
__________
[1] . فى الأصل وتد (494) : هاتموه. فى آومط وآ والطبري (11: 1253) : هاتوه.(4/234)
ذكر السبب فى ذلك كان السبب فى ذلك أنّ عجيف بن عنبسة حين وجّهه المعتصم إلى بلاد الروم مع عمر الفرغاني لم يطلق يده فى النفقات كما أطلقت يد الأفشين، واستقصر المعتصم أمر عجيف وأفعاله وحقد عجيف ذلك، فقال للعباس بن المأمون:
- «ما كان أضعف همّتك عند وفاة أبيك المأمون حين بايعت أبا إسحاق؟» ويذمّه على تفريطه، وشجّعه على أن يتلافى ما كان منه. فقبل العباس ذلك.
وكان الحارث السمرقندي أديبا له عقل ومداراة وكان العباس يأنس به فصيّره واسطة بينه وبين القوّاد، فلم يزل [264] يدور فى العسكر حتّى بايعه جماعة من القوّاد والخواصّ، وسمّى لكلّ واحد من قوّاد المعتصم رجلا من ثقات أصحابه ممّن بايعه وقال:
- «إذا أمرنا فليثب كلّ رجل منكم على من ضمنّاه [1] أن يقتله.» فوكّل من خاصّة الأفشين بالأفشين ومن خاصّة أشناس بأشناس وخاصّة المعتصم بالمعتصم، فضمنوا ذلك جميعا. فلمّا أرادوا أن يدخلوا الدرب وهم يريدون أنقرة وعمّورية ودخل الأفشين من ناحية ملطية، أشار عجيف على العباس أن يثب على المعتصم فى الدرب وهو فى قلّة من الناس وقد تقطّعت عنه العساكر، فيقتله ويأمر الناس بالقفول إلى بغداد فإنّ الناس يفرحون بانصرافهم، فأبى العباس عليه وقال:
__________
[1] . والضبط فى تد (495) والطبري (11: 1257) : ضمّنّاه.(4/235)
- «لا أفسد هذه الغزاة.» فلمّا فتحوا عمّورية قال عجيف للعباس:
- «يا نائم كم تنام؟ قد فتحت عمّورية والرجل ممكن، دسّ قوما ينتهبون هذا الخرثىّ، فإنّه إذا بلغه ذلك ركب من ساعته، فتأمر من يقتله هناك.» فأبى عليه العباس وقال:
- «أنتظر حتّى أصير إلى الدرب، فيخلو كما خلا فى البدأة، فهو أمكن منه هاهنا.» وكان عجيف قد أمر من ينتهب المتاع فانتهب الخرثىّ فى عسكر ايتاخ وركب المعتصم وجاء [265] ركضا فسكن الناس ولم يطلق العباس لأحد من أولئك الناس أن يتحرّكوا.
ذكر سوء تحفّظ فى القول عاد بهلكة
كان عمر الفرغاني قد بلغه الخبر ذلك اليوم، وكان له قرابة غلام أمرد فى خاصّة المعتصم. فجاء الغلام إلى أولاد عمر يشرب عندهم تلك الليلة، فأخبرهم أنّ أمير المؤمنين ركب مستعجلا وأنّه كان يعدو بين يديه وقال:
- «إنّ أمير المؤمنين غضب فأمرنى أن أسلّ سيفي.» وقال: «لا يستقبلك أحد إلّا ضربته.» فسمع عمر ذلك من الغلام فأشفق عليه أن يصاب فقال له:
- «يا بنىّ أنت أحمق أقلّ من الكينونة عند أمير المؤمنين والزم خيمتك، فإن سمعت صيحة مثل هذه الصيحة فلا تبرح من خيمتك، فإنّك غلام غرّ.» وارتحل المعتصم من عمّوريّة يريد الثغر ووجّه الأفشين صاحبا له فى خلاف طريق المعتصم، وأمره أن يغير على موضع سمّاه له وأن يوافيه فى بعض الطريق، وكان عسكر الأفشين على حدة من عسكر المعتصم بينهما(4/236)
قدر ميلين. فتوجّه صاحب الأفشين حتّى أغار وسبى وغنم وأتى عسكر الأفشين بما أصاب من الغنائم.
واعتلّ أشناس فركب المعتصم يعوده ولم يكن الأفشين لحقه بعد. فلمّا عاده وانصرف تلقّاه [266] الأفشين فى الطريق، فقال له المعتصم:
- «امض إلى أبى جعفر.» وكان عمر الفرغاني وأحمد بن الخليل عند منصرف المعتصم من عيادة أشناس توجّها إلى ناحية [1] الأفشين ولقيهما الأفشين يريد أشناس، فترجّلا له وسلّما عليه وراءهما حاجب أشناس من بعيد. فلمّا دخل الأفشين إلى أشناس وخرج توجّها إلى عسكر الأفشين لشراء السبي ولم يكن السبي أخرج بعد ووقفا ناحية ينتظران أن ينادى على السبي فيشتريا، ودخل حاجب أشناس على أشناس فقال له:
- «رأيت عمر الفرغاني وأحمد بن الخليل فلقيا الأفشين وهما يريدان عسكره فترجّلا له وسلّما عليه وتوجّها إلى عسكره. فدعا أشناس محمد بن سعيد وقال له:
- «اذهب فانظر هل ترى هناك عمر الفرغاني وأحمد بن الخليل، وانظر عند من نزلا وأىّ شيء قصّتهما.» فجاء محمد بن سعيد فأصابهما واقفين على ظهور دوابّهما فقال:
- «ما وقّفكما هاهنا؟» قالا: «وقفنا ننتظر سبى ابن الأقطع فنشتري بعضه.» فقال لهما محمد بن سعيد:
- «وكّلا وكيلا يشترى لكما.»
__________
[1] . فى آ: إلى ناحية عسكر الأفشين.(4/237)
فقالا: «لا نحبّ أن نشتري إلّا ما نراه.» فرجع محمد فأخبر أشناس بذلك فقال لحاجبه:
- «قل لهؤلاء: الزموا عسكركم خير لكم- يعنى عمر الفرغاني وأحمد بن الخليل- لا تدوروا ها هنا [267] وها هنا.» فذهب الحاجب إليهما فأعلمهما واغتمّا لذلك واتّفقا على أن يذهبا إلى صاحب خبر العسكر فيستعفيا [1] من أشناس فصار إلى صاحب الخبر فقالا:
- «نحن عبيد أمير المؤمنين يضمّنا إلى من شاء، فإنّ هذا الرجل يستخفّ بنا، قد شتمنا وتوعّدنا ونحن نخاف أن يقدم علينا.» فأنهى صاحب الخبر ذاك إلى المعتصم من يومه ذلك، واتفق الرحيل من الغد وكان إذا ارتحل الناس سارت العساكر على حيالها وسار أشناس والأفشين وجميع القوّاد فى عسكر أمير المؤمنين ووكّلوا حلفاءهم [2] بعساكرهم. فلمّا ذهب أشناس إلى المعتصم قال له:
- «أحسن أدب عمر الفرغاني وأحمد بن الخليل فإنّهما قد حمّقا أنفسهما.» فجاء أشناس ركضا إلى معسكره فسأل عن عمر وأحمد بن الخليل فأصاب [3] عمر وكان ابن الخليل قد مضى فأحضر عمر الفرغاني وقال:
- «هاتوا سياطا.» فمكث طويلا مجرّدا ليس يؤتى بالسياط فتقدّم عمّه إلى أشناس وكلّمه فيه وكان عمّه أعجميّا فقال:
__________
[1] . كذا فى الأصل: فيستعفيا. فى الطبري (11: 1260) : فيستعفياه. وفى تد (498) : فيستعينا.
[2] . ما فى الأصل وآ: حلفاءهم (بالحاء المهملة) ، فأثبتناه حسب مط وتد (498) والطبري (11: 1260) .
[3] . فى آ: فأجاب. آومط والطبري (11: 1261) كالأصل: فأصاب.(4/238)
- «احملوه وألبسوه قباطاق [1] واحملوه على بغل فى قبة.» وساروا به وجاء أحمد بن الخليل وهو يركض فقال:
- «احبسوا هذا معه.» فأنزل عن دابّته وصيّر عديله فبقيا كذلك يسار بهما على كرامة [268] وأثقالهما وغلمانهما فى العسكر لم يحرّك لهما شيء حتّى سمع الغلام الفرغاني قرابة عمر بحبس عمر، فذكر للمعتصم ما دار بينه وبين عمر من الكلام فى تلك الليلة وقوله: إذا سمعت صوتا مثل هذا فالزم خيمتك.
فقال المعتصم لبغا:
- «لا ترحل غدا حتّى يجيء أشناس فتأخذ منه عمر وتلحقني به.» وكان هذا بالصفصاف [2] . ففعل بغا ذلك ومضى بعمر إلى المعتصم. فلمّا أفرد أحمد بن الخليل قلق وأنفذ غلاما له ليتبع عمر وينظر ما يصنع به.
فرجع الغلام فأخبره أنّه دخل على أمير المؤمنين. فمكث ساعة ثمّ دفع إلى ايتاخ وكان سائله أمير المؤمنين عن الكلام الذي قاله الغلام قرابته فأنكر وقال:
- «هذا الغلام كان سكران ولم يفهم وما قلت شيئا ممّا ذكر.» وسار المعتصم حتّى صار إلى باب مضايق البذندون فأقام أشناس هناك ثلاثة أيّام ينتظر أن تتخلّص عساكر أمير المؤمنين، لأنّه كان على الساقة.
فكتب أحمد بن الخليل رقعة إلى أشناس يعلمه أنّ لأمير المؤمنين عنده نصيحة. فبعث إليه أشناس بأحمد بن الخصيب وأبى سعيد محمد بن يوسف يسألانه عن النصيحة فذكر أنّه لا يخبر بها إلّا أمير المؤمنين. فرجعا فأخبرا أشناس بذلك فقال:
__________
[1] . فى مط: قباطا.
[2] . فى مط: بالصفصفان.(4/239)
- «ارجعا فاحلفا [269] له أنّى حلفت بحياة أمير المؤمنين إن هو لم يخبرني بهذه النصيحة أن أضربه بالسياط حتّى يموت.» فرجعا فأخبراه بذلك فأخرج جميع من كان يحفظه وبقي [1] أحمد بن الخصيب وأبو سعيد فأخبرهما بما ألقى إليه عمر الفرغاني من أمر العباس وشرح لهما جميع ما كان عنده من خبر الحارث السمرقندي. فانصرفا إلى أشناس وأخبراه بذلك فبعث أشناس فى طلب الحدادين فجاءوا بهم فدفع إليهم حديدا وقال:
- «اعملوا لى قيدا مثل قيد أحمد بن الخليل وعجّلوه لى الساعة.» ففعلوا ذلك. فلمّا كان وقت العتمة ذهب حاجب أشناس إلى خيمة الحارث السمرقندي فأخرجه منها وجاء به إلى أشناس فقيّده وأمر الحاجب أن يحمله إلى أمير المؤمنين فحمله إليه. واتفق رحيل أشناس صلاة الغداة فجاء أشناس إلى موضع معسكره فتلقّاه الحارث ومعه رجل من قبل المعتصم وعليه خلع، فقال له أشناس:
- «مه؟» قال: «القيد الذي كان فى رجلي [صار] [2] فى رجل العباس.» وكان المعتصم سأل الحارث عن أمره فأخذ عهده إن صدقه ونصحه أطلقه، ثمّ أقرّ له بجميع أمره وجميع من بايع العباس من القوّاد، فأطلق المعتصم الحارث وخلع عليه ولم يصدّق على أولئك القوّاد لكثرتهم [270] وكثرة من سمّى منهم. وتحيّر المعتصم فدعا به حين خرج من الدرب فأطلقه ومنّاه وأوهمه أنّه قد صفح عنه وتغدّى معه وصرفه إلى مضربه،
__________
[1] . فى آ: ومضى.
[2] . ما بين المعقوفتين من الطبري (11: 1263) .(4/240)
ثمّ دعاه بالليل فنادمه [على] [1] الشراب وسقاه حتّى أسكره واستحلفه أن لا يكتمه من أمره شيئا. فشرح له قصّته وسمّى له جميع من كان دبّ فى أمره فكتبه المعتصم وحفظه، ثمّ دعا الحارث السمرقندي بعد ذلك فسأله عن الأسباب، فقصّ عليه مثل ما قصّ العباس.
ثمّ أمر بعد ذلك بتقييد العباس.
ثمّ قال للحارث:
- «قد رضتك على أن تكذب فأجد السبيل إلى سفك دمك فلم تفعل.» ثمّ دفع العباس إلى الأفشين وتتبّع المعتصم أولئك القوّاد فأخذوا جميعا.
فأمّا أحمد بن الخليل فأمر أن يحمل على بغل بأكاف [2] بلا وطاء ويطرح فى الشمس إذا نزل ويطعم فى كلّ يوم رغيفا واحدا.
وأمّا عجيف بن عنبسة فدفع مع جماعة من القوّاد إلى ايتاخ ودفع أحمد بن الخليل إلى أشناس وأخذ الشاه بن سهل فأحضره المعتصم والعباس بين يديه، فقال له:
- «يا ابن الزانية، أحسنت إليك فلم تشكر.» فقال الشاه:
- «ابن الزانية هذا الذي بين يديك- يعنى العباس- لو تركني هذا كنت أنت يا هذا لا تقدر [271] أن تقعد فى هذا المجلس وتقول ما تقول.» فأمر به المعتصم فضربت عنقه ودفع عجيف إلى ايتاخ فعلّق عليه حديدا كثيرا وحمله على بغل فى محمل بلا وطاء.
وأمّا العباس فكان فى يد الأفشين، فلمّا نزل المعتصم منبج [3] وكان
__________
[1] . ما بين المعقوفتين من الطبري (11: 1263) .
[2] . الأكاف: البرذعة.
[3] . فى آ: منج، وفى مط: منيح. وكلاهما تصحيف.(4/241)
العباس جائعا فسأل عن الطعام فقدّم إليه طعام كثير فأكل فلمّا طلب الماء منع وأدرج فى مسح فمات.
وأمّا عمر الفرغاني فإنّه لمّا نزل المعتصم بنصيبين فى بستان دعا صاحب البستان فقال له:
- «احفر بئرا فى موضع أومأ إليه.» ثمّ دعا بعمر وقد تناول أقداحا. فلمّا مثل بين يديه جرّد وضرب بالسياط. فلمّا انتهى حفّار البئر ممّا أمره به أمر المعتصم أن يضرب وجه عمر بالخشب. فلم يزل يضرب حتّى سقط أنفه وأسنانه ثمّ قال:
- «جرّوه إلى البئر فاطرحوه فيها.» فلم يتكلّم عمر ولم ينطق بحرف حتّى طرح فى البئر وطمّت عليه.
وأمّا عجيف فإنّه مات فى المحمل بباعيناثا [1] فطرح عند صاحب المسلحة فدفن هناك. وذكر أن عجيفا كان فى يد محمد بن إبراهيم بن مصعب فسأله المعتصم عنه فقال:
- «يا محمد لم يمت عجيف يا با صالح؟» قال: «يا سيدي اليوم يموت.» فمات ذلك اليوم. [272] وأمّا التركىّ الذي ضمن للعباس قتل أشناس فإنّه كان كريما على أشناس ينادمه ولا يحجب عنه، فأمر أشناس بحبسه قبله فى بيت مظلم وسدّ عليه الباب وكان يلقى إليه كلّ يوم رغيف وكوز ماء. فأتاه ابنه فى بعض أيّامه، فكلّمه من وراء الحائط فقال له:
- «يا بنىّ لو كنت تقدر على سكّين كنت أقدر أن أتخلّص من موضعي
__________
[1] . فى الأصل: باغيناثا (بالغين المعجمة) . فى الطبري (11: 1265) . باعيناثا. قرية كبيرة كالمدينة فوق جزيرة ابن عمر، لها نهر كبير يصبّ فى دجلة (مراصد الإطلاع) .(4/242)
هذا.» فلم يزل ابنه يتلطّف للموكّلين حتّى فتح له بمقدار دون الدرهم ضوء فطرح إليه من هناك سكّينا فقتل بها نفسه.
وأمّا أحمد بن الخليل فانّه دفعه أشناس إلى محمد بن سعيد فحفر له بئرا وأطبق عليه وفتح فيها كوّة ليرمى إليه منها الخبز والماء فقال له المعتصم:
- «ما حال أحمد بن الخليل؟» فأخبره بحاله. فقال المعتصم:
- «أحسبه قد سمن على هذه الحال.» فنقل إلى غيره فسمّه حتّى مات.
وقتل باقى القوّاد إلّا هرثمة بن النصر الختّلى فانّه كان يحمل فى الحديد من المراغة لأنّه كان هناك. فتكلّم فيه الأفشين واستوهبه من المعتصم فوهبه له وولّاه البلد الذي يصل إليه الكتاب فيه، فوصل إلى الدينور عند العشاء مقيّدا مغلولا فطرح فى خان فوافاه الكتاب فى بعض الليل وأصبح هو والى الدينور. [273] وقتل من الأتراك والفراغنة وغيرهم ممّن لم يحفظ اسمه خلق كثير وورد المعتصم سرّ من رأى سالما بأحسن حال.
ودخلت سنة أربع وعشرين ومائتين
وفيها أظهر مازيار بن قارن الخلاف على المعتصم بطبرستان ذكر السبب فى ذلك
كان مازيار [1] منافرا لآل طاهر لا يحمل الخراج إليهم وكان المعتصم
__________
[1] . انظر الطبري (11: 1268) .(4/243)
يكتب إليه يأمره بحمله إليهم فلا يحمل ويقول:
- «أحمله إلى أمير المؤمنين.» فكان المعتصم يأمر بالمال إذا بلغ همذان أن يستوفيه عامله، ثمّ يسلّمه إلى صاحب عبد الله بن طاهر ليردّه إلى خراسان. ولمّا ظفر الأفشين ببابك ونزل من المعتصم المنزلة التي لا يتقدّمه فيها أحد وبلغه منافرة مازيار آل طاهر طمع فى ولاية خراسان ورجا أن يكون ذلك سببا لعزل عبد الله بن طاهر.
فدسّ الكتب إلى مازيار يعلمه ميله إليه بالدهقنة ويظهر مودّته ويقول أنّه قد وعد بولاية خراسان.
فدعا ذلك مازيار إلى الاستمرار فى عداوة [274] آل طاهر وترك حمل الخراج إليه، وما شكّ الأفشين، إن كاشف وخالف، سيطاول عبد الله بن طاهر حتّى يحتاج المعتصم أن يوجّهه وغيره إليه ولم يزل يكاتب مازيار ويبعثه على محاربة عبد الله بن طاهر ويهوّن أمره عنده حتّى خالف وأخذ رهائن أكابر أهل ناحيته وأمر الأكرة بانتهاب أموال أرباب الضياع وغلّاتهم والأفشين فى كلّ ذلك يكاتبه ويعرض عليه النصرة.
وأخذ مازيار الناس بالخراج فجبى جميع الخراج فى شهرين وكان يجبى كلّ سنة الثلث فى أربعة أشهر. وهرب رجل ممّن أخذت رهينته.
فجمع أبو صالح سرخاستان خليفة المازيار الناس بسارية [1] وقال:
- «كيف يثق بكم الملك وهذا فلان ممّن حلف وأعطى الرهينة ثمّ نكث وخرج فأنتم لا تفون ولا تكرهون الحنث فكيف يرجع لكم الملك إلى ما تحبّون؟»
__________
[1] . سارية سارى.(4/244)
فقال بعضهم:
- «نقتل الرهينة حتّى لا يعود غيره إلى الهرب.» فقال: «أو تفعلون؟» قالوا: «نعم.» فكتب أبو صالح إلى صاحب الرهائن يأمره أن يوجّه بابن الهارب. فلمّا حمل إلى سارية ندم الناس على ما قالوا وجعلوا يرجعون على من أشار بذلك باللوم، فجمعهم أبو صالح وقال:
- «قد ضمنتم [275] لى قتل الرهينة وها هو قد حضر فاقتلوه.» فقال بعضهم:
- «أصلح الله الأمير، إنّك أجّلت من خرج عن البلد شهرين وهذا الرهينة قبلك فنسألك أن تؤجّله شهرين فإن رجع أبوه وإلّا أمضيت فيه رأيك.» فغضب ودعا بصاحب حرسه فأمر بصلب الغلام. فسأله الغلام أن يأذن له حتّى يصلّى ركعتين. فأذن له فطوّل فى صلاته وهو يرعد [1] وقد مدّ له جذع، فجذبوا الغلام من صلاته ومدّوه حتى اختنق ومات.
ثمّ أمر أهل سارية أن يخرجوا إلى آمل وتقدّم إلى أصحاب المسالح فى إحضار أهل الخنادق من الأبناء والعرب فأحضروا ومضى معهم إلى آمل وقال لهم:
- «إنّى أريد أن أشهدكم على أهل آمل وأشهد أهل آمل عليكم وأردّ ضياعكم وأموالكم، فإن لزمتم الطاعة والمناصحة زدناكم من عندنا ضعف ما أخذناه منكم.» فلمّا وافوا آمل ميّز أهل سارية ناحية ناحية ووكّل بهم وكتب أسماء
__________
[1] . يرعد: تأخذه الرعدة.(4/245)
جميع أهل آمل حتّى لم يخف عليه منهم أحد، ثمّ عرضهم على الأسماء حتّى اجتمعوا، وتقدّم إلى أصحاب السلاح حتّى أخدقوا بهم ووكّل بكلّ رجل رجلين وساقهم مكتّفين حتّى وافى بهم جبلا يعرف بهرمزديار [1] وكبّلهم [276] بالحديد وبلغت عدّتهم عشرين ألفا فحبسهم هناك، وفعل مثل ذلك بوجوه العرب والأبناء وكبّلهم وحبسهم ووكّل بهم.
فلمّا تمكّن مازيار واستوى أمره وحبس كلّ من يخشى غائلته وأمن جميع أصحابه وأمر سرخاستان بتخريب سور مدينة آمل فخرّبه بالطبول والمزامير ثمّ سار إلى ساريه ففعل بها مثل ذلك ثم فعل بطميش [2]- وهي على حدّ جرجان من عمل طبرستان- مثل ذلك وعمل سورا من طميش إلى البحر مقدار ثلاثة أميال. وكانت الأكاسرة بنته بينها وبين الترك لأنّ الترك كانت تغير على أهل طبرستان فى أيّامها.
ونزل سرخاستان معسكرا بطميش وصيّر حولها خندقا وثيقا وأبراجا للحرس وصيّر عليها بابا وثيقا ووكّل به الثقات. ففزع أهل جرجان فهرب منهم قوم إلى نيسابور. وانتهى الخبر إلى عبد الله بن طاهر عامل المعتصم على خراسان، فوجّه إليه عمّه الحسن بن الحسين بن مصعب مع جيش كثيف لحفظ جرجان وأمره أن يعسكر على الخندق. فنزل الحسن بن الحسين على الخندق معسكرا وصار بينه وبين سرخاستان عرض الخندق، ثمّ بعث إليه [277] عبد الله بن طاهر حيّان بن جبلة فى أربعة آلاف فارس إلى قومس فعسكر على حدّ جبال شروين.
ووجّه المعتصم من قبله محمد بن إبراهيم بن مصعب أخا إسحاق بن
__________
[1] . كذا فى الأصل وآ ومط وتد (504) هرمزديار. فى الطبري (11: 1274) هرمزآباد.
[2] . طميش: كذا فى الأصل وآ، ومط. فى الطبري (11: 1275) : طميش [طيمسة] (بالسين المهملة) .(4/246)
إبراهيم فى جمع كثيف وضمّ إليه الحسن بن قارن الطبري العابد [1] ومن كان بالباب من الطبرية، ووجّه منصور بن الحسن صاحب دنباوند إلى الرىّ ليدخل طبرستان من ناحية الرىّ ووجّه أبا الساج إلى اللّار [2] ودنباوند فأحدقت الخيل بمازيار من كلّ جانب فبعث مازيار إلى أهل المدن المحبّسين عنده:
- «إنّ الخيل قد زحفت إلىّ من كلّ جانب وإنّما حبستكم ليبعث أميركم فيسأل فيكم- يعنى المعتصم- فلم يكترث بكم وأنتم عشرون ألفا ولست أتقدّم إلى حربه وأنتم ورائي، فأدّوا إلىّ خراج سنتين وأخلّى سبيلكم، ومن كان منكم شابّا قويّا قدّمته للقتال. فمن وفى رددت عليه ماله ومن لم يف أكون قد أخذت ديته، ومن كان شيخا ضعيفا صيّرته من الحفظة والحرّاس والبوّابين.
ثمّ إنّ سرخاستان جمع من أبناء القوّاد وغيرهم من أهل آمل ممّن فيه قوّة وشجاعة مائتين وستين فتى ممّن يخاف ناحيته وأظهر أنّه يريد مناظرتهم وبعث إلى الأكرة [278] الدهاقين. قال لهم:
- «إنّ هؤلاء هواهم مع العرب ولست آمن غدرهم وهم أهل الظنّة قد جمعتم فاقتلوهم لتأمنوا ولا يكون فى عسكركم من يخالفكم.» ثمّ كتّفهم ودفعهم إلى الأكرة الدهاقين. فصاروا بهم إلى قناة هناك قد خربت فقتلوهم ورموا بهم فى آبار القناة. ثمّ عطف سرخاستان إلى المحبّسين من أهل المدن فطالبهم بمال المواقفة فقالوا:
- «إنّ صاحبك لم يبق لنا مالا ولا ذخيرة ولو علم أنّ وراءنا درهما
__________
[1] . كذا فى الأصل وآ، ومط وتد (505) : العابد. فى الطبري (11: 1276) : القائد.
[2] . فى الطبري: اللارز.(4/247)
واحدا [1] لاستخرجه ولكنّا نعطى ضياعنا وأملاكنا بقيمة ما تطلب.» فقال لهم:
- «الضياع للملك ولا حقّ لكم فيها فاحتالوا للملك.» فلم يجد عندهم شيئا. فقال لأولئك الأكرة الذين قتلوا من قتلوا:
- «إنّى قد أبحتكم منازل أرباب الضياع وحرمهم إلّا ما كان من جارية جميلة من بناتهم فإنّها تصير للملك.» وقال لهم:
- «صيروا إلى الحبس فاقتلوا أرباب الضياع أوّلا ثمّ حوزوا ما وهبت لكم من منازلهم وحرمهم.» فجبن القوم ولم يقدموا على عشرين ألفا، فلم يقبلوا منه.
وكان الموكّلون بالسور من أصحاب سرخاستان يتحدّثون ليلا مع حرس [279] الحسن بن الحسين بن مصعب حتّى استأنس بعضهم ببعض وتآمروا على تسليم السور فسلّموه، ورحل أصحاب الحسن بن الحسين من موضعهم إلى عسكر سرخاستان على غفلة من غير أن يعلم بذلك صاحبهم.
فنظر الناس بعضهم إلى بعض فثاروا يدخلون من الحائط. وبلغ الحسن بن الحسين ذلك فأشفق أن تكون حيلة فجعل يصيح ويمنع من الدخول وهم لا يقبلون حتّى نصبوا أعلامهم على السور فى معسكر سرخاستان.
وانتهى الخبر إلى سرخاستان وهو فى الحمّام وسمع الضجيج فلم تكن له همّة إلّا الهرب فخرج هاربا فى غلالة ودخل الناس من غير مانع حتّى استولوا على جميع ما فى العسكر ومضى قوم فى الطلب.
فتحدّث زرارة بن يوسف قال: بينا أنا فى الطريق إذ صرت فى موضع
__________
[1] . فى الأصل: درهم واحد.(4/248)
يسرة الطريق فوجلت منه ثمّ اقتحمته بالرمح ولم أر أحدا ولكنى صحت:
- «من أنت ويلك.» فإذا رجل يصيح:
- «زينهار.» يعنى: الأمان. فأخرجته وإذا هو شيخ جسيم فقلت:
- «من أنت؟» فقال: «أنا شهريار.» وإذا به أخو سرخاستان صاحب العسكر.
فحملته إلى الحسن بن الحسين فضرب عنقه.
وأمّا سرخاستان فإنّه مضى على وجهه وكان عليلا فلمّا جهده العطش نزل عند غيضة واستلقى وصاح بعض أصحابه ممّن تبعه:
- «يا فلان [280] اسقني ماء فقد جهدنى العطش.» فقال: «ليس معى ما أغرف به [1] من هذا الموضع.» فقال له سرخاستان:
- «خذ رأس جعبتى فاسقني به.» فنظر الرجل إلى أصحابه وقال لهم:
- «هذا الشيطان قد أهلكنا. فلم لا نتقرّب به إلى السلطان ونأخذ لأنفسنا أمانا؟» فأجابوه إلى ذلك ووثبوا عليه وشدّوه كتافا فقال لهم:
- «خذوا منى مائة ألف واتركوني فإنّ العرب لا تعطيكم شيئا.» قالوا: «أحضرها.»
__________
[1] . فى آ: ليس معى إناء أغرف به.(4/249)
قال: «هاتوا ميزانا.» فقالوا: «من أين لنا ها هنا ميزان؟» قال: «فمن أين لى هاهنا ما أعطيكم. ولكن صيروا معى إلى المنزل وأعطيكم العهود والمواثيق أنّى أفي لكم بذلك.» فصاروا به إلى الحسن بن الحسين واستقبلهم خيل الحسن بن الحسين.
فضربوا رؤوسهم وأخذوا سرخاستان منهم فهمّتهم أنفسهم، ومضى به أصحاب الحسن إلى الحسن فدعا بوجوه أصحابه وسألهم:
- «هل هذا سرخاستان؟» قالوا:
- «نعم هو هو.» فأمر به فضربت عنقه.
وكاتب [1] حيّان بن جبلة من ناحية طميش قارن بن شهريار ورغّبه فى الطاعة وضمن له أن يملّكه على جبال أبيه وجدّه وكان قارن هذا ابن أخى مازيار وقد قوّده مع أخيه [281] عبد الله بن قارن وضمّ إليه عدّة من ثقات قوّاده وقراباته، فلمّا استماله حيّان اطمأنّ إليه وضمن له قارن أن يسلّم إليه الجبال أو مدينة ساريه إلى حدّ جرجان على أن يملّكه على مملكة أبيه وجدّه إذا وفى له بالضمان، وكتب بذلك حيّان إلى عبد الله بن طاهر فسجّل له عبد الله بن طاهر بكلّ ما سأل، وكتب إلى حيّان يأمره بالتوقّف ولا يدخل الجبل ولا يوغل حتّى يكون من قارن ما يستدلّ به على الوفاء لئلّا يكون منه مكر، وكتب حيّان إلى قارن بذلك.
__________
[1] . فى مط: وكان.(4/250)
فدعا قارن بعمّه عبد الله بن قارن أخى مازيار ودعا جميع قوّاده إلى طعامه. فلمّا أكلوا ووضعوا سلاحهم واطمأنّوا أحدق بهم أصحابه فى السلاح، وكتفهم ووجّه بهم إلى حيّان بن جبلة. فلمّا صاروا إليه استوثق منهم وركب حيّان فى جمعه حتّى دخل جبال قارن وبلغ مازيار الخبر، فاغتمّ وقلق وقال له أخوه كوهيار [1] :
- «فى حبسك عشرون ألفا من المسلمين ما بين إسكاف وخيّاط وقد شغلت نفسك بهم، وإنّما أتيت من مأمنك وأهل بيتك وقراباتك. فما تصنع بهؤلاء المحبّسين عندك.» فأمر بأن يخلّى جميع من فى [282] محبسه. ثمّ دعا بكتّابه وخلفاءه وصاحب خراجه وصاحب شرطه وقال لهم:
- «إنّ حرمكم ومنازلكم وضياعكم بالسهل وقد دخلت العرب إليه، وأكره أن أسومكم [2] فاذهبوا إلى منازلكم وخذوا الأمان لأنفسكم.» وواصلهم وأذن لهم فى الانصراف.
ولمّا بلغ قوهيار أخا مازيار دخول حيّان ساريه، أطلق محمد بن موسى عامل طبرستان من حبسه وحمله على بغل ومركب ووجّهه إلى حيّان ليأخذ له الأمان ويجعل له جبال أبيه وجدّه، على أن يسلّم إليه مازيار ويوثق له بذلك. وضمّ إليه أحمد بن الصقير وهو من مشايخ الناحية ووجوهها. فلمّا سار محمد بن موسى إلى حيّان وأخبره وسأله قوهيار قال له حيّان:
- «من هذا؟» - يعنى أحمد.
قال: «هذا شيخ هذه البلاد يعرفه الخلفاء ويعرفه الأمير عبد الله بن طاهر.»
__________
[1] . فى الطبري (11: 1283) القوهيار.
[2] . فى الطبري (11: 1284) : أشومكم.(4/251)
ورأى حيّان تحت أحمد برذونا ضخما نبيلا، فبعث إليه يسأله أن يقوده إليه ليراه، فبعث به، فلمّا تأمّله وجده مشطّب اليدين فزهد فيه وقال لرسول أحمد:
- «هذا لمازيار ومال مازيار لأمير المؤمنين.» فرجع الرسول فأخبر أحمد، فغضب [283] من فعل حيّان به ذلك، وكتب إلى قوهيار:
- «ويحك لم تغلط فى أمرك وتترك مثل الحسن بن الحسين عمّ الأمير عبد الله بن طاهر وتدخل فى أمان هذا العبد الحائك وتدفع إليه أخاك وتضع من قدرك ويحقد عليك الحسن بن الحسين بتركك إيّاه وميلك إلى عبد من عبيده.» فكتب إليه قوهيار:
- «قد غلطت فى أوّل الأمر وواعدت الرجل أن أصير إليه بعد غد ولا آمن إن خالفته أن يناهضنى ويحاربني ويستبيح منازلي وأموالى وإن قاتلته وقتلت من أصحابه وجرت الدماء بيننا وقعت الشحناء ويبطل ما نحن فيه.» فكتب إليه أحمد:
- «إذا كان يوم الميعاد فابعث إليه رجلا من أهل بيتك، واكتب إليه أنّه عرضت لك علّة منعتك من الحركة وأنّك تتعالج ثلاثة أيّام فإن عوفيت وإلّا صرت فى محمل وسنحمله نحن على قبول ذلك منك.» ثمّ إنّ أحمد بن الصقير ومحمد بن موسى كتبا إلى الحسن بن الحسين وهو فى معسكره بطميش ينتظر أمر عبد الله بن طاهر وجواب كتابه بقتل سرخاستان وفتح طميش [1] فكتب إليه أن:
__________
[1] . فى تد (508) : طميس. بالسين المهملة، كالطبرى.(4/252)
- «اركب إلينا لندفع إليك قارن والجبل وإلّا فاتك فلا تقيم.» فلمّا وصل الكتاب إلى الحسن ركب من [284] ساعته وسار مسير ثلاث ليال فى ليلة حتّى انتهى إلى ساريه. ولمّا أصبح سار إلى خرّماباذ وهو يوم موعد قوهيار، وسمع حيّان وقع طبول الحسن فركب وتلقّاه على رأس فرسخ. فقال له الحسن:
- «ما تصنع ها هنا ولم توجّه إلى هذا الموضع وقد فتحت جبال شروين وتركتها وراءك فما يؤمنك أن يغدر بك القوم جميع ما عملت عليك، ارجع إلى الجبل وأشرف على القوم إشرافا لا يمكنهم الغدر إن همّوا به.» فقال له حيّان:
- «أنا على الرجوع وأريد أن أحمل أثقالى وأتقدّم إلى رجالي بالرحيل.» فقال له الحسن:
- «امض أنت فإنّى باعث بأثقالك ورجالك خلفك وبت الليلة بساريه حتّى يوافوك ثمّ بكّر من غد.» فخرج حيّان من فوره ولم يقدر على مخالفة الحسن. ثمّ ورد عليه كتاب عبد الله بن طاهر وهو بلبون [1] من جبال ونداهرمزد من أحصن جباله وكان أكثر مال مازيار بها، وأمره عبد الله ألّا يمنع قارن ممّا يريد من تلك الجبال والأموال. فاحتمل قارن ما كان لمازيار هناك من المال من ذخائر مازيار وسرخاستان وباستاندرة وبقدح السليان [2] واحتوى على ذلك كلّه فانتفض
__________
[1] . ما فى الأصل مهمل. فى آ: ملثون. فى مط: بلسون (مهملة) فى تد (510) : بليون. فى الطبري (11: 1287) : بلبورة.
[2] . ما فى الأصل مهمل والضبط فى الكلمات الأخيرة من تد (510) . والعبارة فى الطبري (11: 1288) : فاحتمل قارن ما كان لمازيار هنالك من المال، والذي كان «بأسباندرة» من ذخائر مازيار وما كان لسرخاستان «بقدح السلتان» واحتوى..(4/253)
على حيّان جميع ما [285] كان سنح له بسبب ذلك البرذون.
ثمّ أمر محمد بن موسى وأحمد بن الصقير الحسن وناظراه سرّا فجزاهما خيرا، وكتب إلى قوهيار فوافاه وبرّه وأكرمه وأجابه إلى كلّ ما سأل واتّعد إلى يوم ثمّ صرفه. وصار قوهيار إلى مازيار فأعلمه أنّه قد أخذله الأمان وتوثّق له ثمّ ورد عليه المازيار وقوهيار.
وتقدّم المازيار فسلّم عليه بالإمرة فلم يردد عليه الحسن وتقدّم إلى طاهر بن إبراهيم وأوس البلخي فقال:
- «خذاه إليكما.»
كتاب بتسليم مازيار وإخوته وأهل بيته إلى المعتصم
ثمّ ورد كتاب عبد الله بن طاهر بتسليم مازيار واخوته وأهل بيته إلى محمد بن إبراهيم ليحملهم إلى المعتصم، ولم يعرض عبد الله لأموالهم، وأمر أن يستقصى جميع ما للمازيار، فبعث الحسن إلى المازيار وأحضره وسأله عن أمواله. فسمّى قوما ذكر أنّ أمواله عندهم، فأحضر قوهيار وكتب عليه كتابا وضمّنه المال الذي ذكر مازيار أنّه عند ثقاته وخزّانه وأصحاب كنوزه وأشهد على نفسه. ثمّ إنّ الحسن أمر الشهود الذين أحضرهم أن يصيروا إلى المازيار ليشهدوا عليه، فذكر عن بعضهم أنّه قال: لمّا دخلنا على المازيار لنشهد عليه قال المازيار:
- «إنّ جميع ما حملت من أموالى وصحبني ستّة وتسعون ألف دينار، وسبع عشرة قطعة [286] زمرّد، وستّ عشرة قطعة ياقوتا أحمر، وثمانية أوقار سلالا مجلّدة فيها ألوان الثياب وتاج وسيف محلّى بذهب وجوهر، وحقّ كبير مملوء جوهرا.»(4/254)
وقد وضعه بين أيدينا وقد سلمت ذلك إلى محمد بن الصباح وهو جار عبد الله بن طاهر وصاحب خبره على العسكر وإلى قوهيار.» قال: فخرجنا إلى الحسن بن الحسين فقال:
- «أشهدتم على الرجل؟» قال: «نعم.» فقال: «هذا شيء أخبرت به فأحببت أن تعلموا قلّته.» [1] وذكر علىّ بن ربّن كاتب مازيار أنّ ذلك الحقّ كان شراء جوهره وحسبه على المازيار وشروين وشهريار ثمانية عشر ألف ألف درهم، وكان مازيار حمل جميع ذلك إلى الحسن بن الحسين على أن يظهر أنّه خرج إليه فى الأمان وأنّه قد آمنه على نفسه وماله وولده وجعل له جبال أبيه فامتنع الحسن بن الحسين من ذلك وعفّ عنه وكان أعفّ الناس عن أخذ درهم أو دينار. فلمّا أصبح أنفذ مازيار مع طاهر بن إبراهيم وعلىّ بن إبراهيم الحربي وورد كتاب عبد الله بن طاهر فى إنفاذه مع يعقوب بن منصور، وقد ساروا بمازيار مراحل فبعث الحسن فردّه وأنفذه مع يعقوب بن منصور. [287]
قتل قوهيار ذكر ترك حزم بالدالّة [2] عاد بهلاك
ثمّ أمر الحسن القوهيار أخا مازيار بحمل الأموال التي ضمنها ودفع إليه بغالا من العسكر وأمر بإنفاذ جيش معه وامتنع القوهيار وقال: إنه لا حاجة لى فيهم. وخرج وأخرج الأموال ليحملها، فوثب عليه مماليك المازيار من الديالمة وكانوا ألفا ومائتين فقالوا:
__________
[1] . العبارة تختلف عمّا فى الطبري (11: 1293) .
[2] . كذا فى الأصل وتد (512) . وفى آ: حزم بالدلالة عاد بهلاك (!)(4/255)
- «غدرت بصاحبنا وأسلمته إلى العرب وجئت لتحمل أمواله.» فأخذوه وكبّلوه بالحديد، فلمّا جنّه الليل قتلوه وانتهبوا تلك الأموال والبغال.
فانتهى الخبر إلى الحسن فوجّه جيشا إلى الذين قتلوا القوهيار، ووجّه قارن جيشا آخر من قبله فى أخذهم، فأخذ منهم صاحب قارن عدّة فيهم ابن عمّ للمازيار يقال له شهريار بن المصمغان وكان رأس العبيد ومحرّضهم، فوجّه به قارن إلى عبد الله بن طاهر فمات فى الطريق، وكان جماعة أولئك الديالمة أخذوا على السفح والغيضة يريدون الديلم فنذر بهم محمد بن إبراهيم بن مصعب، فوجّه من قبله الطبرية وغيرهم حتّى عارضوهم وأخذوا عليهم الطريق، فأخذوا على طريق الروذبار إلى الرويان.
سبب فساد أمر مازيار
وكان سبب فساد [288] أمر مازيار أنّ جبال طبرستان ثلاثة يتوارثها ثلاثة أولاد لكسرى جبل ونداذ هرمز وجبل أخيه ونداذ سخنان [1] بن الأنداد بن قارن وجبل شروين بن سرخاب بن باب.
فلمّا قوى أمر المازيار بعث إلى ابن عمّه فألزمه بابه وإلى أخيه قوهيار وأنفذ إلى هناك واليا من قبله، فلمّا احتاج مازيار إلى رجال لمحاربة عبد الله بن طاهر دعا ابن عمّه وأخاه وقال:
- «أنتما أعلم بجبلكما من غيركما.» وقال: «صيرا فى ناحية الجبل.»
__________
[1] . فيه غموض. فى الطبري (11: 1295) . ونداسنجان. ما فى تد يوافق الأصل ولكن بالإهمال الكامل.(4/256)
وكتب إلى الدرنىّ [1] وضمّ إليه العساكر وولّاه السهل ليحارب عبد الله بن طاهر وظنّ أنّه قد توثّق من الجبل بابن عمّه وأخيه القوهيار، وذلك أنّ الجبل لم يكن يظنّ أنّه يؤتى منه لأنّه ليس فيه للعساكر والمحاربة طريق لكثرة المضايق والشجر الذي فيه، وتوثّق من الموضع الذي يتخوّفه بالدّرنى.
فلمّا وجّه عبد الله بن طاهر عمّه الحسن بن الحسين بن مصعب فى عسكر عظيم من خراسان ووجّه المعتصم محمد بن إبراهيم بن مصعب ووجّه معه صاحب خبر يقال له: يعقوب بن إبراهيم مولى الهادي، ويعرف بقوصرة وزحفت العسكر وأحدقت بمازيار دعا ابن عمّ مازيار نار الحقد الذي كان فى قلبه [289] على مازيار وتنحيته له عن جبله، إلى أن كاتب الحسن وأعلمه جميع ما يتطلّعه من الأخبار وأخبر خبر الأفشين، وكذلك فعل قوهيار أخوه.
وكانت هذه الأخبار ترد على عبد الله بن طاهر وعبد الله يكاتب بها المعتصم.
فشرط عبد الله بن طاهر لابن عمّ مازيار إن هو وثب بالمازيار أن يردّ عليه جبله وما ورثه عن آباءه فلا يعرض له فيه ولا يحارب. فرضي بذلك وكتب له بذلك كتابا وتوثّق له فيه فلم يشعر المازيار حتّى سلّمت الجبال التي كان يأمنها وأتى من مأمنه وأنزل على حكم المعتصم والعسكر الذي مع الدرنىّ بالسهل غارّون فى حربهم فأتاهم الحرب من وراءهم وقد أسر مازيار وهلك، فأعطوا حينئذ بأيديهم حتّى هلكوا بأسرهم.
وكان عبد الله بن طاهر لمّا أسر مازيار وحصل فى يده منّاه ووعده إن هو أظهره على كتب الأفشين، أن يسأل أمير المؤمنين الصفح عنه، وأعلمه عبد
__________
[1] . كذا فى الأصل وتد: الدرنىّ. فى الطبري: الدرّى.(4/257)
الله أنّه قد علم أنّ الكتب عنده، فأمر المازيار بذلك فطلبت الكتب ووجّه بها مع المازيار إلى إسحاق بن إبراهيم بن مصعب وأمره أن لا يخرج الكتب من يده والمازيار إلّا الى [290] يد المعتصم لئلا يحتال المازيار فى الكتب، ففعل إسحاق ذلك فأوصلها من يده إلى يد المعتصم فسأل المعتصم مازيار عن الكتب فلم يقرّ بها فأمر بضربه حتّى مات فصلب إلى جانب بابك.
نهاية الدّرنىّ
فأمّا الدرنىّ [1] فإنّه كان فى نفسه شجاعا بطلا والتقى مع محمد بن إبراهيم بن مصعب، وكان جمع أموالا ورجالا يريد أن يدخل بها بلاد الديلم فلمّا عارضه محمد بن إبراهيم بين الجبل والغيضة والبحر- والغيضة متصلة بالجبل والديلم- حمل الدرنىّ على أصحاب محمد فكشفهم، ثمّ سار معارضة من غير هزيمة ليدخل الغيضة ولم يزل يحمل ويكشف الناس ويقرب من الغيضة حتّى حمل عليه رجل من أصحاب محمد يقال له فند بن حاجيل [2] فأخذه أسيرا واتبع الجند أصحابه وأخذ جميع ما صحبه من المال والأثاث والدوابّ والسلاح وأمر محمد بقتل أخيه برزجشنس [3] ودعا الدرنىّ فقطعت يده من مرفقه ومدّت رجله فقطعت من الركبة وكذلك اليد الأخرى والرجل الأخرى فقعد الدرنىّ على استه ولم يتكلّم ولا تغيّر، فأمر بضرب عنقه، فأمّا أصحابه فحملوا مكبّلين.
__________
[1] . فى الطبري (11: 1300) : الدرّى.
[2] . كذا فى الأصل وآ: فند بن حاجيل. فى تد (515) : فند بن حاحيل. فى الطبري (11: 1300) :
فند بن حاجته.
[3] . ما فى الأصل وتد مهمل فى الثلاثة الأولى.(4/258)
خلاف منكجور الأسروشنىّ بآذربيجان
وفى هذه السنة خالف منكجور الأسروشنى قرابة الأفشين بأذربيجان.
[291] ذكر السبب فى ذلك كان سبب ذلك أنّ الأفشين لمّا فرغ من بابك ولّى أذربيجان منكجور هذا، فأصاب فى قرية بابك فى بعض منازله مالا عظيما فاحتجنه [1] ولم يعلم به الأفشين ولا المعتصم، وكان على البريد بأذربيجان رجل من الشيعة يقال له عبد الله بن عبد الرحمان، فكتب إلى المعتصم بخبر، المال فكوتب منكجور فيه فأنكره وهمّ منكجور بقتل عبد الله بن عبد الرحمان، وذلك أنّه وقعت بينهما فيه مناظرة فهرب عبد الله وامتنع بأهل أردبيل فمنعوه وقاتلوا، وبلغ ذلك المعتصم فوجّه إليه عسكرا عظيما وبلغ منكجور فخلع وجمع إليه الصعاليك وخرج من أردبيل، وقصده القائد مع العسكر الذي خرج من جهة المعتصم وواقفه فانهزم منكجور وصار إلى حصن لبابك فى جبل منيع فبناه وأصلحه وتحصّن فيه ووثب به أصحابه بعد شهر وأسلموه إلى القائد الذي يحاربه، فقدم به سرّ من رأى.
ودخلت سنة خمس وعشرين ومائتين
وفيها أجلس المعتصم أشناس على كرسىّ وتوجّه ووشّحه.
وفيها أحرق غنّام المرتد.
__________
[1] . كذا فى الأصل والطبري (11: 1301) : فاحتجنه. فى تد (515) فاحتجبه. احتجن المال: ضمّه إلى نفسه واحتواه.(4/259)
وفيها قدم بمازيار سرّ من رأى وحمل على الفيل.
وكنا ذكرنا [292] أنّ محمد بن عبد الملك قال بيتين فى بابك لمّا حمل وهو بهذا أشبه أعنى بمازيار وهما:
قد خضب الفيل كعاداته ... لحمل شيطان خراسان
والفيل لا تخضب أعضاؤه ... إلّا لذي شأن من الشان
وقيل: إنّ مازيار امتنع من ركوب الفيل فحمل على بغل بأكاف، وأمر المعتصم فجمع بينه وبين الأفشين فأقرّ مازيار أنّ الأفشين حمله على العصيان وكاتبه وصوّب له ما فعل، فضرب مازيار أربعمائة سوط وطلب ماء فسقى ومات من ساعته فصلب.
وفيها حبس الأفشين.
حبس الأفشين ذكر السبب فى ذلك
كان الأفشين أيّام حرب بابك ومقامه بأرض الخرّمية لا تأتيه هديّة من أهل أرمينية ولا من غيرهم إلّا وجّه بها إلى أسروشنة فيجتاز ذلك بعبد الله بن طاهر فيكتب عبد الله بخبره إلى المعتصم فيكتب المعتصم بتعرف جميع ما يوجّه به الأفشين من الهدايا إلى أسروشنة، فيفعل عبد الله ذلك.
وكان الأفشين كلّما تهيّأ عنده مال حمله [293] فى أوساط أصحابه من الدنانير والهمايين [1] وبقدر طاقتهم كان الرجل يحمل ما بين الألف فما فوقه
__________
[1] . الهمايين: جمع مفرده: الهميان. فارسىّ معرّب. كيس تجعل فيه النفقة ويشدّ على الوسط.(4/260)
من الدنانير فى وسطه فأخبر عبد الله بذلك فبينا هو كذلك إذ نزل رسل الأفشين مع الهدايا بنيسابور ووجّه إليهم عبد الله بن طاهر فأخذهم وفتّشهم فوجد فى أوساطهم همايين فأخذها منهم وقال لهم:
- «من أين لكم هذا المال؟» فقالوا: «هذه هدايا الأفشين وهذه أمواله.» فقال: «كذبتم لو أراد أخى الأفشين أن يرسل بمثل هذه الأموال لكتب إلىّ يعلمني ذلك لآمر بحراسته وبدرقته لأنّ هذا مال عظيم وإنّما أنتم لصوص.» وأخذ عبد الله المال وأعطاه الجند قبله وكتب إلى الأفشين بما قال القوم وقال:
- «أنا أنكر أن تكون وجّهت بمثل هذا المال إلى أسروشنة ولم تكتب إلىّ لأبدرقه، فإن كان المال ليس لك فقد أعطيته الجند مكان المال الذي يوجّه به أمير المؤمنين فى كلّ سنة، وإن كان المال لك كما زعم القوم فإذا جاء المال من قبل أمير المؤمنين رددته إليك، وإن يكن غير ذلك فأمير المؤمنين أحقّ بهذا المال. وإنّما دفعته [294] إلى الجند لأنّى أريد أن أغزو الترك.» فكتب إليه الأفشين يعلمه أن ماله ومال أمير المؤمنين واحد ويسأله إطلاق القوم ليمضوا إلى أسروشنة، فأطلقهم عبد الله وكان ذلك سبب الوحشة بين عبد الله وبين الأفشين.
ولمّا تواترت أمثال هذه من الأفشين تغيّر له المعتصم وأحسّ الأفشين بتغير حاله عند المعتصم.
ذكر حيل همّ بها الأفشين
فعزم الأفشين على أن يهيّئ أطوافا فى قصره ويحتال لأن يشغل المعتصم(4/261)
وقوّاده ثمّ يأخذ طريق الموصل ويعبر الزاب على تلك الأطواف حتّى يصير إلى طريق أرمينية إلى بلاد الخزر مستأمنا، ثمّ يدور من بلاد الخزر إلى بلاد الترك، ويرجع من بلاد الترك إلى بلاد أسروشنة أو يستميل الخزر على أهل الإسلام.
فكان فى تهيئة ذلك فطال عليه الأمر وعسر، فهيّأ سمّا كثيرا وعزم على أن يدعو المعتصم وقوّاده فيسمّهم فإن لم يجبه المعتصم استأذنه [1] فى قوّاده فيسمّهم مثل أشناس وايتاخ وبغا وأمثالهم فى يوم تشاغل المعتصم، فإذا سمّهم وانصرفوا حمل فى أوّل الليل [295] تلك الأطواف والآلة على ظهور الجمال حتّى يجيء إلى الزاب فيعبر بأثقاله على الأطواف ويعبّر الدوابّ سباحة وكانت أرمينية ولايته.
وكان الأفشين تنوب قوّاده فى دار المعتصم كما تنوب أمثالهم. وكان واجن الأسروشنى قد جرى بينه وبين من يطّلع على سرّ الأفشين حديث، فقال له واجن:
- «ما أرى هذا الأمر يتمّ لبعده وكثرة ما ينبغي أن يعدّ له [2] .» فذهب الرجل فحكاه للأفشين. فهمّ الأفشين بقتل واجن وأحسّ واجن بذلك فركب من ساعته التي أحسّ بما أحسّ- وكان ليلا- وأتى دار المعتصم وقد كان نام فصار إلى إيتاخ وقال:
- «إنّ لأمير المؤمنين عندي نصيحة.» فقال له إيتاخ:
- «أليس كنت هاهنا؟ قد نام أمير المؤمنين.» فقال واجن:
__________
[1] . فى الأصل: استأذنهم. وهو سهو من الكاتب.
[2] . كذا فى تد (518) . ما فى الأصل. يعداه (بالضبط) .(4/262)
- «ليس يمكنني أن أصبر إلى غد.» فدقّ إيتاخ الباب على بعض من يخبر أمير المؤمنين بخبر واجن، فقال المعتصم:
- «ليبت عند إيتاخ ثمّ يباكرنى.» فبات عنده. ولمّا أصبح بكّر به إلى المعتصم فأخبره بجميع ما كان عنده، فدعا المعتصم الأفشين، فجاء الأفشين فى سواد، فأمر المعتصم بنزع سواده وحبسه. وكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر فى الاحتيال للحسن بن الأفشين حتّى لا يفوته. وكان الحسن [296] قد كثرت كتبه إلى عبد الله بن طاهر فى نوح بن أسد يعلمه تحامله عليه وظلمه له فى ضياعه.
فكتب عبد الله إلى نوح يعلمه ما كتب به المعتصم فى أمره ويأمره بجمع أصحابه والتأهّب له حتّى إذا ورد عليه الحسن بن الأفشين استوثق منه وحمله، وكتب عبد الله بن طاهر إلى الحسن بن الأفشين:
- «إنّى قد عزلت نوح بن أسد وولّيتك الناحية.» وكتب إليه بكتاب فيه عزل نوح وولايته، فخرج الحسن فى قلّة من أصحابه حتّى ورد على نوح وعنده أنّه وال، فأخذه نوح فشدّه وثاقا ووجّهه إلى عبد الله فوجّهه عبد الله إلى المعتصم.
وكان المعتصم بنى حبسا للأفشين شبيها بالمنارة وفى وسطها مقدار مجلسه والرجال ينوبون تحتها كما تدور.
فحكى هارون بن عيسى بن المنصور أنّه شهد المجلس الذي عقده المعتصم فى داره لمناظرة الأفشين. [1]
__________
[1] . انظر الطبري (11: 1308) .(4/263)
ذكر مناظرات وبّخ بها الأفشين واحتجاجاته فيها
أحبّ المعتصم أن يبكّت الأفشين ويناظره ولم يكن بعد فى الحبس الشديد. فأخليت الدار إلّا من ولد المنصور وأحضر قوم من الوجوه وحضر أحمد بن أبى دؤاد [297] وإسحاق بن إبراهيم بن مصعب ومحمد بن عبد الملك الزيّات، فأتى بالأفشين وأتى بمازيار والموبذ والمرزبان بن تركش وهو أحد ملوك السغد ورجلين من أهل السغد، وكان المناظر له محمد بن عبد الملك الزيّات.
بين محمد الزّيات والأفشين
فدعا محمد بن عبد الملك بالرجلين وعليهما ثياب رثّة. فقال لهما:
- «ما شأنكما؟» فكشفا عن ظهورهما، فإذا هي عارية من اللحم فقال محمد:
- «أتعرف هذين الرجلين؟» فقال: «نعم، هذا مؤذّن وهذا إمام، بنيا بأسروشنه مسجدا فضربت كلّ واحد منهما ألف سوط، وذلك أنّ بيني وبين ملوك السغد عهدا وشرطا أن أترك كلّ قوم على دينهم، فوثب هذان على بيت لهم كان فيه أصنامهم فأخرجا الأصنام واتخذاه مسجدا، فخفت أن ينتقض علىّ أمر تلك البلدان فضربتهما على ذلك لتعدّيهما.» فقال محمد:
- «ما كتاب عندك قد زيّنته بالحرير والجوهر والديباج فيه الكفر بالله عزّ وجلّ.»(4/264)
قال: «هذا كتاب ورثته عن أبى، فيه آداب العجم وفيه دين القوم الذي هو اليوم كفر، وكنت أستمتع منه بالأدب وأترك ما سوى ذلك، ووجدته محلّى فلم تضطرني الحاجة إلى أخذ الحلية [298] منه فتركته بحاله، ككتاب كليلة ودمنة وكتاب مزدك فى منزلك، وما ظننت هذا يخرج من الإسلام.»
بين الموبذ والأفشين
ثمّ تقدّم الموبذ فقال:
- «إنّ هذا كان يأكل المخنوقة ويحملني على أكلها ويزعم أنّها أرطب لحما من المذبوحة، وكان يأخذ كلّ يوم شاة سوداء يضرب وسطها بالسيف ثمّ يمشى بين نصفيها ويأكل لحمها. وقال لى [يوما] [1] :
إنّى قد دخلت لهؤلاء القوم فى كلّ شيء أكرهه حتّى أكلت الزيت وركبت الجمل ولبست النعل، غير أنّى إلى هذه الغاية لم تسقط منّى شعرة- يعنى أنّه لم يختتن [2] .» فقال الأفشين:
- «خبّرونى عن هذا المتكلّم أثقة هو عندكم فى دينه؟» - وكان الموبذ بعد مجوسيا ثمّ أسلم على يد المتوكّل.
قالوا: «لا.» قال: «فما معنى قبولكم شهادة من لا تثقون به ولا ترون عدالته؟» ثمّ أقبل على الموبذ فقال:
- «هل بين منزلي وبين منزلك باب أو كوّة تطلعني منها وتعرف أخبارى؟»
__________
[1] . مزيد من الطبري (11: 1309) .
[2] . كذا فى الأصل وآ، وتد (521) . وفى الطبري (11: 1310) : يعنى: لم يطّل ولم يختتن.(4/265)
قال: «لا.» قال: «أفليس كنت أدخلك إلىّ فأبثّك سرّى وأخبرك بالأعجمية وميلى إليها وإلى أهلها؟» قال: «نعم.» قال: «فلست بالثقة فى دينك ولا بالكريم فى عهدك، إذ أفشيت علىّ [299] سرّا أسررته إليك.» ثمّ تنحّى الموبذ.
بين المرزبان والأفشين
وتقدّم المرزبان. فقالوا للأفشين:
- «هل تعرف هذا؟» قال: «لا.» فقيل للمرزبان: «هل تعرف هذا؟» قال: «نعم هذا الأفشين.» فقالوا له: «هذا المرزبان.» ثمّ قال له المرزبان:
- «يا ممخرق [1] كم تمّوه وتدافع؟» فقال الأفشين:
- «يا طويل اللحية ما تقول؟» قال: «كيف يكتب إليك أهل مملكتك؟» قال: «كما كانوا يكتبون إلى أبى وجدّى.»
__________
[1] . مخرق فهو ممخرق: كذب وموّه واختلق. (وكأنّها مأخوذة من مخاريق الصبيان، أى الخرق المفتولة التي يلعبون بها.(4/266)
قال: «فقل.» قال: «لا أقول.» قال المرزبان:
- «أليس يكتبون إليك بالأسروشنيّة بكذا وكذا؟» قال: «بلى.» قال: «أفليس بالعربية: إلى إله الآلهة، من عبده فلان بن فلان؟» قال: «بلى.» قال محمد بن عبد الملك:
- «والمسلمون يحتملون أن يقال لهم هذا، فما بقّيت لفرعون حين قال لقومه: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى؟ 79: 24 [1] » قال: «كانت هذه عادة القوم لأبى وجدّى ولى قبل أن أدخل فى الإسلام، فكرهت أن أضع نفسي دونها فتفسد علىّ طاعتهم.» فقال له إسحاق بن إبراهيم بن مصعب:
- «كيف تحلف لنا بالله فنصدّقك ونصدّق يمينك ونجريك مجرى المسلمين وأنت تدّعى ما ادّعى فرعون؟» فقال: «يا با الحسن هذه سورة قرأها عجيف على علىّ بن هشام وأنت تقرأها [300] علىّ، فانظر غدا من يقرأها عليك؟»
بين مازيار وأفشين
قال: ثمّ قدّم مازيار صاحب طبرستان. فقالوا للأفشين:
- «تعرف هذا؟»
__________
[1] . س 79 النازعات: 24.(4/267)
قال: «لا.» قالوا: «هذا المازيار.» قال: «نعم قد عرفته الآن.» قالوا: «هل كاتبته؟» قال: «لا.» قالوا لمازيار:
- «هل كتب إليك؟» قال: «نعم كتب أخوه خاش إلى أخى قوهيار أنه لم يكن ينصر هذا الدين الأبيض غيرى وغير أخيك وأنه بحمقه قتيل نفسه، ولقد جهدت أن أصرف عنه الموت فأبى حمقه إلّا أن دلّاه فيما وقع فيه، فإن خالفت لم يكن للقوم من يرمونك به غيرى ومعى من الفرسان وأهل النجدة والبأس، فإن وجّهت إليك لم يبق أحد يحاربنا إلّا ثلثة: العرب والمغاربة والأتراك. والعربي بمنزلة الكلب [1] ، اطرح له كسرة ثمّ اضرب رأسه بالدبّوس، وهؤلاء الذباب يعنى المغاربة إنّما هم أكلة رأس، وأولاد الشياطين- يعنى الأتراك- فإنما هي ساعة حتى تنفد سهامهم ثمّ تجول الخيل عليهم جولة فتأتى على آخرهم، ويعود الدين إلى ما لم يزل عليه أيّام العجم.» فقال الأفشين:
- «هذا يدّعى على أخى وأخيه ودعوى لا تجب علىّ، ولو كتبت هذا الكتاب [301] لأستميله إلىّ وليثق بناحيتى لكان غير مستنكر، لأنى إذا نصرت الخليفة بيدي لكنت بالجملة أحرى أن أنصره لآخذ قفاه وآتى به الخليفة فأحظى به عنده كما حظى عبد الله بن طاهر بمجيء المازيار.»
__________
[1] . ما فى الأصل مهمل. والإعجام من تد (522) والطبري (11: 1311) .(4/268)
بين ابن أبى دؤاد والأفشين
ولمّا قال الأفشين لمازيار ما قال وقال لإسحاق بن إبراهيم بن مصعب ما قال زجر ابن أبى دؤاد الأفشين. فقال له الأفشين:
- «أنت يا با عبد الله لا ترفع طيلسانك بيدك ولا تضعه على عاتقك حتى تقتل به جماعة.» فقال له ابن أبى دؤاد:
- «أمطهّر أنت؟» قال: «لا.» قال: «فما منعك من ذلك، وبه تمام الإسلام والطهور من النجاسة؟» قال: «أو ليس فى دين الإسلام استعمال التقيّة؟» قال: «بلى.» قال: «فإنى خفت أن أقطع ذلك العضو من جسدي فأموت.» قال: «أنت تطعن بالرمح وتضرب بالسيف فلا يمنعك ذلك من أن تكون فى الحرب وتجزع من قطع غلفة [1] .» قال: «تلك ضرورة أدفع إليها فأصبر عليها إذا وقعت، وهذا شيء أستجلبه فلم آمن معه خروج نفسي ولم أعلم أنّ فى تركها خروجا [2] من الإسلام.» فقال ابن أبى دؤاد:
- «قد بان لكم.» [302] ثمّ التفت إلى بغا الكبير وكان الأفشين تابعا له. فقال:
- «يا با موسى عليك به.»
__________
[1] . الغلفة والقلفة: جليدة يقطعها الخاتن.
[2] . فى الأصل: خروج.(4/269)
فضرب بيده إلى منطقته فجذبها. فقال:
- «قد كنت أتوقّع هذا منكم قبل اليوم.» فقلب بغا القباء على رأسه، ثمّ أخذ بمجامع القباء عند عنقه وأخرجه إلى محبسه.
ثمّ دخلت سنة ستّ وعشرين ومائتين
وفيها مات الأفشين. ذكر الخبر عن موته
لمّا جاءت الفاكهة جمع المعتصم من الفواكه شيئا كثيرا فى طبق وقال لابنه هارون الواثق:
- «اذهب بهذه الفواكه إلى الأفشين.» فحملت مع هارون حتى صعد بها إليه فى البناء الذي بنى له وحبس فيه، فنظر إليه الأفشين، ثمّ قال للواثق:
- «لا إله إلّا الله، ما أحسنه لولا أنى فقدت منه ما أشتهيه.» وكان فقد منه الشاهلوج. فقال الواثق:
- «وما هو؟» فقال: «الشاهلوج.» فقال: «هو ذى، أنصرف فأوجّه به إليك.» ولم يمسّ من الفاكهة شيئا. فلمّا أراد الواثق الانصراف قال له الأفشين:
- «اقرأ على سيّدى السلام وقل له: أسألك أن توجّه إلىّ ثقة من قبلك يؤدّى عنّى ما أقول.» [303] فأمر المعتصم حمدون بن إسماعيل. وكان حمدون فى أيّام المتوكّل فى(4/270)
حبس سليمان بن وهب فحدّث بهذا الحديث.
بين هارون الواثق والأفشين
قال هارون: فبعث بى المعتصم إلى الأفشين وقال لى:
- «إنه سيطوّل [1] عليك فلا تحتبس.» قال: فدخلت عليه وطبق الفاكهة بين يديه ولم يمسّ واحدة فما فوقها.
فقال لى:
- «اجلس.» فجلست فاستمالنى بالدهقنة. فقلت:
- «لا تطوّل، فإنّ أمير المؤمنين قد تقدّم إلىّ ألّا أحتبس عندك، فأوجز.» فقال لى:
- «قل لأمير المؤمنين يا مولاي، أحسنت إلىّ وشرّفتنى وأوطأت الرجال عقبى ثمّ قبلت فىّ كلاما لم يتحقّق عندك ولم تدبّره بعقلك، كيف يكون هذا وكيف يجوز لى أن أفعل هذا الذي بلغك عنّى؟ تخبر بأنّى دسست منكجور أن يخرج وتقبله، وتخبر أنّى قلت للقائد الذي وجّهته إلى منكجور: لا تحاربه واعذر [2] به، وإن أحسست بأحد منّا فانهزم من بين يديه. أنت رجل قد عرفت الحرب وحاربت الرجال وسست العساكر، هذا يمكن، رأس عسكر يقول لأحد أن يفعله؟ ولو كان هذا يمكن ما كان ينبغي أن تقبله من عدوّ، وقد عرفت سببه. ولكن مثلي ومثلك يا أمير المؤمنين مثل رجل ربّى عجلا له حتى أسمنه وكبر وحسنت حاله [304] وكان له أصحاب اشتهوا أن
__________
[1] . كذا فى الأصل: سيطوّل. فى تد (524) والطبري (11: 1315) : سيطول (بالضبط، وكذلك فى الموضع الآتي) . أطول: أطال: طوّل.
[2] . كذا فى الأصل وآ وتد (525) والطبري (11: 1315) : اعذر.(4/271)
يأكلوا من لحمه، فعرّضوا له بذبح العجل فلم يجبهم إلى ذلك، فاتّفقوا جميعا على أن قالوا له ذات يوم:
- «ويحك لم تربّى هذا الأسد هذا سبع وقد كبر والسبع إذا كبر يرجع إلى جنسه.» فقال لهم:
- «ويحكم هذا عجل ما هو سبع.» فقالوا له:
- «هذا سبع، سل من شئت عنه.» وقد كانوا تقدّموا إلى جميع من يعرفونه فقالوا لهم:
إن سألكم عن العجل فقولوا: هذا سبع.
فكلّما سأل الرجل إنسانا قال له:
«هذا سبع.» فأمر بالعجل فذبح. ولكن أنا ذلك العجل، كيف أقدر أن أكون أسدا؟ الله الله فى أمرى اصطنعتنى وشرّفتنى وأنت سيدي ومولاي أسأل الله أن يعطف بقلبك علىّ.» قال حمدون: فقمت وانصرفت وتركت الطبق على حاله لم يمسّ منه شيئا. ثمّ ما لبثنا إلّا قليلا حتى قيل: إنّه مات.
فقال المعتصم:
- «أروه ابنه.» فأخرجوه فطرحوه بين يدي ابنه، فنتف لحيته وشعره، ثمّ حمل إلى منزل إيتاخ ثمّ صلب على باب العامة ليراه الناس ثمّ طرح مع خشبته وأحرق وحمل الرماد فطرح فى دجلة.
ووجد فى داره لمّا أحصى متاعه تمثال إنسان من خشب عليه حلية كثيرة(4/272)
وجوهر. فممّا أخرج من منزله أطواف الخشب [305] التي أعدّها، وأصنام وكتب فيها ديانته.
ثمّ دخلت سنة سبع وعشرين ومائتين
خروج المبرقع اليماني بفلسطين
وفيها خرج المبرقع اليماني بفلسطين على السلطان.
ذكر السبب فى ذلك كان سبب خروجه أنّ بعض الجند أراد النزول فى داره وهو غائب عنها وفيها إمّا زوجته وإمّا أخته، فمانعته ذلك، فضربها بسوط معه فاتّقته بذراعها فأثّر فيها. فلمّا رجع أبو حرب إلى منزله بكت وشكت إليه ما فعل بها وأرته الأثر الذي بذراعها من ضربه. فأخذ السيف ومشى إلى الجندي وهو غارّ [1] فضربه فقتله ثمّ هرب وألبس وجهه برقعا كي لا يعرف، فصار إلى جبل من جبال الأردن وطلبه السلطان فلم يعرف له خبرا.
وكان يظهر متبرقعا على الخيل فيراه الرائي فيأتيه ويذكّره ويحرّضه على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ويذكر السلطان ويعيبه، فما زال حتى استجاب له قوم من الحرّاثين وأهل القرى، وكان يزعم أنّه أموىّ وقال الذين استجابوا [306] له:
- «هذا هو السفياني.» فلمّا كثرت غاشيته وتبّاعه من هذه الطبقة دعا أهل البيوتات، فاستجاب له جماعة من رؤساء اليمانية وقوم من أهل دمشق، واتصل الخبر بالمعتصم
__________
[1] . لا تشديد على الرّاء لا فى الأصل ولا فى الطبري (11: 1319) وهو من تد (526) .(4/273)
وهو عليل علّته التي مات فيها، فوجّه إليه رجاء بن أيّوب الحضارى فى نحو ألف رجل من الجند، وكان أبو حرب فى نحو مائة ألف، وكره رجاء [1] مواقعته فعسكر بحذاءه وطاوله حتى إذا كان فى وقت عمارة الأرضين تفرّق عنه أكثرهم وبقي أبو حرب فى نحو ألفين فناجزه الحرب، وتأمّل رجاء عسكر المبرقع فلم يجد فيه من له فروسية غيره. فقال لأصحابه:
- «لا تعجلوا عليه فانّه سيظهر لأصحابه بعض ما عنده.» فما لبث أن حمل فقال لأصحابه:
- «أفرجوا عنه.» فأفرجوا، ثمّ حمل ثانية فقال رجاء:
- «أفرجوا له فإذا أراد الرجوع فحولوا بينه وبين ذلك وخذوه.» ففعل ذلك وأحاطوا به فأنزلوه عن دابته وأسروه وحمله رجاء إلى المعتصم.
وفاة المعتصم
وفيها كانت وفاة المعتصم.
ولمّا حضرته الوفاة جعل يقول:
- «ذهبت الحيل ليست حيلة.» حتّى مات.
وذكر عنه أنّه قال:
- «لو علمت أنّ عمرى قصير ما فعلت ما فعلت.» ودفن بسرّ من رأى. فكانت خلافته ثماني سنين [307] وثمانية أشهر وهو ثامن الخلفاء والثامن من ولد العباس، وولد سنة ثمانين ومائة ومات عن
__________
[1] . فى الأصل: رجا. وفى تد (527) : رجاء.(4/274)
ثمانية وأربعين سنة وله ثمانية بنين وبنات.
وكان أبيض أصهب اللحية طويلها مربوعا مشرب اللون حمرة حسن العينين. [1] وبويع يوم توفى ابنه هارون الواثق بن محمد المعتصم وكان يكنّى أبا جعفر.
__________
[1] . انظر الطبري (11: 1324) ، حيث تجد فصلا عن بعض أخلاق المعتصم وسيره.(4/275)
خلافة هارون الواثق
ودخلت سنة ثمان وعشرين ومائتين
ولم يجر فيها على ما بلغنا شيء يثبت فى مثل هذا الكتاب.
ودخلت سنة تسع وعشرين ومائتين
حبس الكتاب وإلزامهم أموالا
وفيها حبس الواثق الكتّاب وألزمهم أموالا، فأخذ من سليمان بن وهب وهو كاتب إيتاخ أربعمائة ألف دينار، ومن أحمد بن إسرائيل ثمانين ألف دينار بعد أن أمر بضربه كلّ يوم عشرة أسواط فضرب نحو ألف سوط، وأخذ [1] من أحمد بن الخصيب وكتّابه ألف ألف دينار، ومن إبراهيم بن رباح وكتّابه مائة ألف دينار، ومن نجاح ستين ألف دينار ومن الحسن بن وهب وأبى الوزير مائتي ألف دينار، وذلك سوى ما أخذ من العمّال بسبب عمالاتهم، ونصب محمد بن [308] عبد الملك لابن أبى دؤاد وسائر أصحاب المظالم فكشفوا وحبسوا وأقيموا للناس فلقوا كلّ جهد، وجلس إسحاق بن إبراهيم لهم ينظر فى أمرهم ويطالبهم.
__________
[1] . والعبارة فى مط: وأخذ ابن الخضيب [بالضاد المعجمة] وكتابه (بالحذف والتصحيف) .(4/277)
ذكر سبب ذلك كان سبب ذلك أنّ الواثق جلس ليلة مع ندمائه فقال:
- «إنّى لست أشتهى الليلة النبيذ، فهلمّوا نتحدّث.» فتحدّثوا عامة الليل فقال الواثق:
- «من منكم يعلم السبب الذي وثب من أجله جدّى الرشيد على البرامكة حتى أزال نعمتهم؟» فقال له بعضهم:
- «أنا والله أحدّثك يا أمير المؤمنين.» وحدّثه حديث الجارية وما جرى فى أمر ثمنها وإحضار البرامكة قيمة مائة ألف دينار دراهم [1] ليستكثرها فلا يشتريها. فلمّا رآها ضمّها إلى بعض خدمه وبحث عن الأموال ليجمع بيت مال خاصة [2] فوجد البرامكة قد أتلفوا كلّ ما فى بيوت أمواله وقد ذكرنا نحن هذا الحديث مشروحا فيما مضى.
فما مرّ على ذلك أسبوع حتّى أوقع بكتّابه واستخرج منهم ومن عمّاله أموالا عظيمة.
ودخلت سنة ثلاثين ومائتين [309]
وفيها مات عبد الله بن طاهر وكان إليه يوم ذاك الحربة والشرطة والسواد وخراسان وأعمالها والرىّ وطبرستان وما يتصل بها وكرمان، فولّى الواثق هذه الأعمال كلّها ابنه طاهر بن عبد الله بن طاهر.
__________
[1] . انظر الطبري (11: 1333) .
[2] . كذا فى تد أيضا (528) .(4/278)
ودخلت سنة إحدى وثلاثين ومائتين
تحرّك قوم وأخذهم البيعة على أحمد بن نصر الخزاعي
وفيها تحرّك قوم فى ربض عمرو بن عطاء وأخذوا البيعة على أحمد بن نصر الخزاعي.
ذكر السبب فى ذلك السبب فى ذلك أنّ أحمد بن نصر بن مالك [بن الهيثم] [1] الخزاعي- ومالك بن الهيثم أحد نقباء بنى العباس وقد تقدّم ذكره فيما مضى- يغشاه أصحاب الحديث. وكان أحمد بن نصر هذا يباين من قال بخلق القرآن وباينه مثل يحيى بن معين وابنا الدورقي وأبو خيثمة، وله مرتبة كبيرة فى أصحاب الحديث، وبسط لسانه فيمن يقول بخلق القرآن، مع غلظة الواثق كانت على كلّ من يقول ذلك وامتحانه إيّاهم فيه وغلبة ابن أبى دؤاد عليه.
فجعل أحمد بن نصر لا يذكر الواثق إلّا بالخنزير فيقول:
- «فعل هذا الخنزير ... وصنع هذا الكافر.» وفشا ذلك [310] حتى خوّف، وقيل له: قد اتصل أمرك به وحرّكه المطيفون به ممّن ينكر القول بخلق القرآن من أصحاب السلطان ومن عامّة بغداد، وحرّكوه لإنكار القول بخلق القرآن وقصده الناس لرتبته فى أصحاب الحديث ولما كان لأبيه وجدّه فى دولة بنى العباس من الأثر فكانت له أيضا رئاسة ببغداد فى سنة إحدى ومائتين.
__________
[1] . ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، فأضفناه من تد (528) والطبري (11: 1343) .(4/279)
وبويع على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لما كثر الدعّار وظهر الفساد والمأمون بخراسان ولم يزل على ذلك ثابتا إلى أن قدم المأمون بغداد فى سنة أربع، فرجوا إذا تحرّك استجابة الناس له للأسباب التي ذكرت.
وكان فيمن بايعه قوم من أصحاب إسحاق بن إبراهيم بن مصعب صاحب الشرطة يرون رأيه ففرّقوا فى قوم مالا وأعطوا كلّ رجل دينارا دينارا، وواعدهم أحمد بن نصر ليلة يضربون فيها بالطبل للاجتماع والوثوب بالسلطان، وكان قوم منهم بالجانب الشرقي وقوم بالجانب الغربي، فانتبذ بعض من أخذ الدينار واجتمع عدّة منهم على شربه. فلمّا ثملوا ضربوا بالطبل ليلة الأربعاء قبل الموعد بليلة وكان الموعد ليلة الخميس وهم يحسبونها ليلة الخميس [311] التي اتّعدوا لها، فأكثروا ضرب الطبل فلم يجبهم أحد.
وكان إسحاق بن إبراهيم بن مصعب غائبا عن بغداد وخليفته بها أخوه محمد بن إبراهيم، فوجّه إليهم محمد بن إبراهيم صاحبه فأتاهم فسألهم عن قصّتهم فلم يظهر له أحد فدلّه الجيران على رجل حمّامى فأخذه وتهدّده بالضرب فأمر على أحمد بن نصر وجماعة سمّاهم، فتتبّع القوم من ليلتهم فأخذ بعضهم من الجانب الشرقي وبعضهم من الجانب الغربي وقيّد وجوههم وأصيب فى منزل أحدهم علمان أخضران فيهما حمرة، ثمّ أخذ خصىّ لأحمد بن نصر، فتهدّد فأقرّ بما أقرّ به عيسى الحمّامى.
فأخذ أحمد بن نصر وحمل إلى محمد بن إبراهيم بن مصعب مع أولاده وجماعة من يغشاه، فحملهم إلى الواثق بسرّ من رأى على بغال بأكاف لا وطاء تحتهم وهم مقيّدون.
فجلس لهم الواثق مجلسا عامّا وأحضر أحمد بن أبى دؤاد ليمتحنوا مكشوفا. فأحضر القوم وحضر معهم أحمد بن نصر فلم يناظرهم الواثق فى(4/280)
الشغب ولا فيما روى عليه من إرادته الخروج عليه ولكنه قال [1] :
- «يا أحمد ما تقول فى القرآن؟» قال: «كلام الله.» قال: «أفمخلوق هو؟» قال: « [هو] [2] كلام الله.» قال: «فما تقول فى ربّك، أتراه يوم القيامة؟» قال: «يا أمير المؤمنين [312] جاءت الآثار عن رسول الله صلى الله عليه أنّه قال ترون ربّكم يوم القيامة لا تضامون فى رؤيته.» وحدّثنى سفيان بن عينيه بحديث يرفعه أن قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الله. فقال له إسحاق بن إبراهيم:
- «ويلك انظر ما تقول.» قال: «أنت أمرتنى بذلك.» فأشفق إسحاق من كلمته.
قال: «أنا أمرتك بذلك؟» قال: «نعم أمرتنى أن أنصح لك ولأمير المؤمنين ومن نصيحتي له ألّا يخالف حديث رسول الله صلى الله عليه.» فقال الواثق لمن حوله:
- «ما تقولون فيه؟» فأكثروا. فقال عبد الرحمن بن إسحاق وكان قاضيا على الجانب الغربي وهو صديق لأحمد بن نصر:
- «يا أمير المؤمنين هو حلال الدم.»
__________
[1] . انظر الطبري (11: 1347) .
[2] . ما بين المعقوفتين أضفناه من تد (531) .(4/281)
وقال آخر:
- «اسقني دمه يا أمير المؤمنين.» فقال له الواثق:
- «القتل يأتى على ما تريد.» وقال أحمد بن أبى دؤاد:
- «كافر يستتاب، لعلّ به عاهة أو تغيّر عقل، كأنّه كره أن يقتل بسببه.» فقال الواثق:
- «إذا رأيتمونى قد قمت إليه فلا يقومنّ معى أحد، فإنّى أحتسب خطإي إليه.» ودعا بالصمصامة سيف عمرو بن معديكرب وكان فى الخزانة، فأتى به فمشى إليه فى وسط الدار ودعا بنطع فصيّر فى وسطه وحبل فشدّ به رأسه ومدّ الحبل [313] فضربه الواثق فوقعت الضربة على حبل عاتقه، ثمّ ضربه أخرى على رأسه، ثمّ انتضى سيما الدمشقي سيفه فضربه فأبان رأسه.
ويقال: إنّ بغا ضربه ضربة أخرى وطعنه الواثق بطرف الصمصامة فى بطنه فحمل معترضا حتى أتى به الحظيرة التي فيها بابك، فصلب فيها وفى رجله قيود وحمل رأسه إلى بغداد فنصب فى الجانب الشرقي أيّاما ثمّ حوّل إلى الغربي وحظر على الرأس حظيرة وأقيم عليه الحرس وكتب فى أذنه رقعة:
- «هذا رأس الكافر المشرك الضالّ أحمد بن نصر، قتله الله على يدي عبد الله هارون الإمام الواثق بالله أمير المؤمنين، بعد أن أقام الحجّة عليه فى خلق القرآن ونفى التشبيه، وعرض عليه التوبة فأبى إلّا المعاندة، فعجّل الله به إلى ناره وأليم عقابه.» وتتبع من عرف بصحبة أحمد بن نصر ومن بايعه فوضعوا فى الحبوس ومنعوا من أخذ الصدقة التي يعطاها أهل السجون ومنعوا من الزوّار وثقّلوا بالحديد.(4/282)
الفداء بين المسلمين وصاحب الروم
وفى هذه السنة [1] تمّ الفداء بين المسلمين وصاحب الروم واجتمع [314] المسلمون والروم على نهر يقال له اللامس على مسيرة يوم من طرسوس.
وأمر الواثق بامتحان أهل الثغور فى القرآن، فقالوا جميعا بخلقه إلّا أربعة نفر فأمر الواثق بضرب أعناقهم. وأمر لأهل الثغور بجوائز على ما رآه خاقان، وكان خادم الرشيد نشأ بالثغر وكان ورد رسول ملك الروم فى طلب المفاداة وكان جرى بينهم اختلاف فى الفداء قالوا:
- «لا نأخذ فى الفداء عجوزا ولا شيخا ولا صبيّا. ثمّ رضوا عن كلّ نفس بنفس فوجّه الواثق فى شراء من يباع ولم يتمّ العدّة فأخرج الواثق من قصره عجائز روميات وغيرهم حتّى تمّت العدّة.» وأمر الواثق بامتحان الأسارى. فمن قال بخلق القرآن فودى به ومن أبى ترك فى أيدى الروم.
وأمر أن يعطى جميع من فودى وقال بخلق القرآن دينارا فبلغ عدّة من فودى به أربعة آلاف وستمائة إنسان فيهم من أهل الذمة نحو أربعمائة.
ولمّا جمعوا الفداء وقف المسلمون من جانب النهر الشرقي والروم من الجانب الغربي وعقد جسر على النهر للمسلمين وجسر آخر للروم.
قال: فكنّا نرسل الرومي على جسرنا ويرسل الروم المسلم على جسرهم [315] فيصير هذا إلينا وذاك إليهم.
وفى هذه السنة مات أبو عبد الله ابن الأعرابي الراوية وهو ابن ثمانين سنة.
__________
[1] . انظر الطبري (11: 1351) .(4/283)
ودخلت سنة اثنتين وثلاثين ومائتين
وفيها كان مسير بغا الكبير إلى بنى نمير [1] ذكر السبب فى ذلك
كان سبب ذلك أنّ عماره بن عقيل بن بلال بن جرير بن الخطفى امتدح الواثق بقصيدة، فدخل عليه وأنشده إيّاها، فأمر له بثلاثين ألف درهم وبنزل.
فكلّم عمارة الواثق فى بنى نمير وأخبره بعيثهم وفسادهم فى الأرض وإغارتهم على اليمامة وما قرب منها، فكتب الواثق إلى بغا يأمره بحربهم، وكان بغا بالمدينة لأن بنى سليم كانوا عاثوا بالحجاز وأكثروا الغارات والقتل، فتوجّه صاحب المدينة وجمع لهم الخيل والسودان ومن استجاب لهم من قريش والأنصار، فواقعتهم بنو سليم فقتلوهم وقتلوا أمير المدينة وأكثر من كان خرج معه من قريش والأنصار. فأخرج الواثق بالله بغا الكبير إلى المدينة [316] فأوقع ببني سليم وأسر منهم وقتل، فكان لذلك مقيما بعد بالمدينة.
فلمّا أراد بغا الشخوص إليهم من المدينة حمل معه دليلا ومضى نحو اليمامة فلقى منهم جماعة بموضع يقال له: الشريف، فحاربوه فقتل بغا منهم نحوا من ستين رجلا وأسر نحوا من أربعين. ثمّ سار وتابع إليهم الرسل فعرض عليهم الأمان ودعاهم إلى السمع والطاعة وهم فى ذلك يمتنعون عليه ويشتمون رسله ويتفلّتون إلى حربه.
فسار بغا حتّى ورد بطن نخل ثمّ دخل نخيلة، فاحتملت بنو ضبّة من بنى نمير فركبت جبالها، فأرسل إليهم فأبوا أن يأتوه، وأرسل إليهم سريّة وأتبعهم بجماعة من معه، فحشدوا لحربه وهم يومئذ نحو من ثلاثة آلاف رجل.
__________
[1] . انظر الطبري (11: 1358) .(4/284)
فلقوهم ببطن السر فهزموا مقدّمته وكشفوا ميسرته وقتلوا من أصحابه مائة وثلاثين رجلا وعقروا من إبل عسكره سبعمائة ومائة دابّة، وانتهبوا الأثقال وبعض ما كان مع بغا من الأموال فهجم عليهم وعليه ليل.
فجعل بغا يناشدهم ويدعوهم إلى الرجوع إلى طاعة الواثق فشتموه وتوعّدوه. فلمّا دنا الصبح أشير على بغا بأن يوقع بهم قبل أن يضيء الصبح فيروا قلّة عدد من معه ويجترئوا عليه، فأبى بغا. فلمّا أضاء الصبح [317] ونظروا إلى عدد من معه حملوا عليهم فهزموهم حتّى بلغت هزيمتهم معسكرهم وأيقنوا بالهلكة.
ذكر اتفاق حسن
وبلغ بغا أنّ خيلا لهم بمكان من بلادهم، فوجّه من أصحابه نحوا من مائتي رجل إليها. فبينا هم فيما هم من الإشراف على العطب وقد انهزم بغا إذ خرجت تلك الجماعة منصرفة من تلك الخيل وأقبلت متفرقة فى ظهور بنى نمير. فنفخوا فى صفّارتهم فالتفتوا ورأوا الخيل وراءهم، فولّوا منهزمين وأسلم فرسانهم رجّالتهم وطاروا على ظهور الخيل.
وكان منهم جماعة تشاغلوا بالنهب، فثاب إلى بغا أصحابه فكرّ عليهم وقتل منهم منذ زوال الشمس وإلى آخر وقت العصر زهاء ألف وخمسمائة رجل. وأقام بغا حتّى جمعت له رؤوس من قتل واستراح هو وأصحابه ببطن السرّ ثلاثة أيّام. ثمّ أرسل إليه من هرب من فرسان نمير من الوقعة يطلبون الأمان فأعطاهم الأمان فصاروا إليه فقيّدهم وأشخصهم معه، فشغبوا فى الطريق وحاولوا كسر قيودهم والهرب. فأمر بإحضارهم واحدا بعد واحد فيضربه ما بين الأربعمائة إلى الخمسمائة، فلم ينطق منهم ناطق بتوجّع ولا تأوّه. ثمّ جمعهم مع من لحق به [318] ممّن طلب الأمان وحملهم إلى(4/285)
البصرة.
موت الواثق
وفيها مات الواثق وكان موته بالاستسقاء فعولج بالإقعاد فى تنّور مسخن فوجد لذلك راحة، فأمر من غد ذلك اليوم بأن يزاد فى إسخان ذلك التنّور ففعل وقعد فيه أكثر من قعوده فى اليوم الذي قبله فحمى عليه، فأخرج منه وصيّر فى محفّة، وحضره جماعة من الهاشميين ثمّ حضر محمد بن عبد الملك الزيّات وأحمد بن أبى دؤاد. فلم يعلموا بموته حتّى ضرب بوجهه المحفّة، [فعلموا أنّه قد مات] [1] وكان أبيض مشربا حمرة جميلا ربعة حسن الجسم قائم العين اليسرى فيها نكتة بياض.
فكانت خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وسنّه ست وثلاثون سنة.
__________
[1] . ما بين المعقوفتين أضفناه من الطبري (11: 1363) . ما فى الأصل وتد (535) : ومات.(4/286)
خلافة جعفر المتوكّل
وفى هذه السنة بويع لجعفر المتوكّل بالخلافة وهو جعفر بن محمد بن هارون بن [1] محمد بن عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب.
لمّا توفّى الواثق حضر الدار أحمد بن أبى دؤاد وإيتاخ ووصيف ومحمد بن عبد الملك وأحمد بن خالد أبو الوزير. فعزموا على البيعة لمحمد بن الواثق فأحضروه وهو غلام أمرد قصير. فألبسوه درّاعة [2] سوداء وقلنسوة رصافيّة [3] فإذا هو قصير. فقال لهم وصيف:
- «أما تتّقون الله تولّون مثل هذا الخلافة وهو لا تجوز معه الصلاة.» فتناظروا [319] فى من يولّونها، فذكر أحمد بن أبى دؤاد جعفرا أخا الواثق فأحضره وألبسه الطويلة وعمّمه وقبّل بين عينيه وقال:
- «السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.» تم غسل الواثق وصلّى عليه ودفن ولقّنه أحمد بن أبى دؤاد: المتوكّل على الله، وأمر محمد بن عبد الملك بالكتاب به إلى الناس فوقّع بهذا:
__________
[1] . هارون بن: فى الأصل غموض. فأثبتناه حسب ما فى تد (535) والطبري (11: 1368) .
[2] . الدّرّاعة: جبّة مشقوقة المقدّم.
[3] . فى مط: وصافية، بدل: رصافيّة. والأصل كالطبرى (نفس الصفحة) .(4/287)
«بسم الله الرحمن الرحيم- أمر أبقاك الله- أمير المؤمنين أعزّه الله، أن يكون الرسم الذي يجرى به ذكره على أعواد منبره وكتبه إلى قضاته وكتّابه وعمّاله وأصحاب دواوينه وسائر من تجرى المكاتبة بينه وبينه: من عبد الله جعفر الإمام المتوكّل على الله أمير المؤمنين. فرأيك فى العمل بذلك وإعلامى وصول كتابي إليك موفّقا إن شاء الله.» وأمر للأتراك برزق أربعة أشهر وأمر بأن يوضع العطاء للجند لثمانية أشهر وأخذت البيعة عليهم وبويع له وله ستّ وعشرون سنة.
ودخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائتين
وفيها غضب المتوكّل على محمد بن عبد الملك الزيّات وحبسه.
ذكر سوء نظر محمد بن عبد الملك فى العاقبة وتجهّمه للمتوكّل حتّى أهلكه [320]
كان السبب فى غضبه عليه أنّ الواثق لمّا استوزر محمد بن عبد الملك فوّض إليه الأمور وكان الواثق قد غضب على أخيه جعفر لبعض الأمور، فوكّل به عمر بن فرج الرخّجى ومحمد بن العلاء، فكانا يحفظانه ويكتبان بأخباره. فصار جعفر إلى محمد بن عبد الملك يسأله أن يكلّم أخاه الواثق ليرضى عنه. فلمّا دخل عليه مكث واقفا بين يديه لا يكلّمه، ثمّ أشار إليه أن يقعد فلمّا فرغ من نظره فى الكتب التفت إليه كالمتهدّد له فقال له:
- «ما جاء بك؟» قال: «جئت لتسأل أمير المؤمنين الرضا عنى.» فقال لمن حوله:(4/288)
- «انظروا إلى هذا يغضب أخاه ويسألنى أن أسترضيه له اذهب، فانّك إذا صلحت رضى عنك.» فقام جعفر كئيبا حزينا لما لقيه به من قبح اللقاء والتقصير به، فخرج من عنده وأتى عمر بن فرج يسأله أن يختم له صكّه لبعض أرزاقه، فلقيه عمر بن فرج بالتجهّم وأخذ الصك ورمى به، فصار جعفر حين خرج من عند عمر إلى أحمد بن أبى دؤاد، فدخل عليه فقام له أحمد بن أبى دواد واستقبله وقبّله والتزمه وقال له:
- «ما جاء بك جعلني الله فداءك؟» قال: «جئت لتسترضى أمير المؤمنين.» قال: «أفعل ونعمة عين.» فكلّم أحمد بن أبى دؤاد الواثق بالله فيه، فوعده ولم يرض عنه.
فأعاد أحمد الكلام [321] بعد ذلك وسأله بحق المعتصم إلّا رضى عنه، فرضي عنه من ساعته وكساه واعتقد جعفر لأحمد بن أبى دؤاد بذلك يدا ميثاقا فأحظاه عنده لمّا ملك.
وإنّ محمد بن عبد الملك حين خرج جعفر من عنده كتب إلى الواثق يذكر: أنّ جعفرا أتانى فسألنى أن أسأل أمير المؤمنين الرضا عنه فى زىّ المخنّثين، له شعر قفا. فكتب إليه الواثق:
- «ابعث إليه فأحضره ومر من يجزّ شعر قفاه، ثمّ مر من يأخذ شعره ويضرب به وجهه، واصرفه إلى منزله.» فحكى عن المتوكّل أنّه قال: لمّا أتانى رسوله لبست سوادا جديدا وأتيته رجاء أن يكون قد أتاه الرضى، فلمّا حصلت بين يديه قال:
- «يا غلام ادع لى حجّاما.» فدعى به. فقال:(4/289)
- «خذ من شعره فاجمعه.» فأخذه على السواد الجديد ولم يأته بمنديل، فأخذ شعره وضرب وجهه به.
فقال المتوكّل:
ما دخلني من الجزع على شيء مثل ما دخلني حيث أخذ شعري على السواد الجديد وقد جئته فيه طامعا فى الرضا عنى فأخذ شعري عليه.
فلمّا بويع جعفر أمهل وهو يفكّر فى مكروه يناله به. ثمّ أمر إيتاخ بأن يأخذه ويعذّبه فيبعث إليه إيتاخ فظنّ أنّه يدعى للخليفة، فركب مبادرا. فلمّا حاذى منزل إيتاخ، قيل له:
- «اعدل إلى ها هنا.» فعدل وأوجس [322] فى نفسه خيفة. فلمّا جاء إلى الموضع الذي كان نزل فيه إيتاخ عدل به عنه فأيقن بالشرّ ثمّ أدخل حجرة وأخذ سيفه ودرّاعته وقلنسوته فدفع إلى غلمانه، وقيل لهم:
- «انصرفوا.» فانصرفوا وهم لا يشكّون أنّه مقيم عند إيتاخ ليشرب.
ووجّه المتوكّل إلى أصحابه ودوره، فقبض عليهم فأخرج جميع ما كان فى منزله من متاع وجوار وغلمان ودوابّ، فصار ذلك كلّه فى الهارونىّ، وأمر أبا الوزير بقبض ضياعه وضياع أهل بيته حيث كانت. فأمّا ما كان بسرّ من رأى فحمل إلى خزائنه واشترى للخليفة جميعه وقيل لمحمد بن عبد الملك:
- «وكّل ببيع متاعك.» وأتوه بمن وكّله بالبيع عليه ثمّ قيّد، وامتنع من الطعام فلا يذوق شيئا.
وكان شديد الجزع فى حبسه كثير البكاء قليل الكلام كثير التفكير. فمكث(4/290)
أيّاما ثمّ سوهر ومنع من النوم وينخس بمسلّة، ثمّ ترك يوما وليلة فنام وانتبه فاشتهى فاكهة وعنبا فأتى به فأكل، ثمّ أعيد الى المساهرة.
وكان محمد قاسى القلب يزعم أنّ الرحمة خور فى الطبيعة وكان قد اتّخذ تنّورا من خشب فيه مسامير حديد قيام يعذّب فيه من يطالبه. فكان هو أوّل من عمل ذلك، وعذّب فيه ابن سنباط المصري حتّى استخرج منه جميع ما كان عنده ثمّ [323] ابتلى به فعذّب فيه حتّى مات.
ودخلت سنة أربع وثلاثين ومائتين
هروب محمد بن البعيث
وفيها هرب محمد بن البعيث بن حليس، وكان جيء به أسيرا من أذربيجان وحبس، وكانت له قلعتان تدعى أحداهما شاها [1] والأخرى يكدر.
فأمّا شاها فهي وسط البحيرة وأمّا يكدر فهي خارج البحيرة وهذه البحيرة قدر عشرين فرسخا من حدّ أرمينية إلى بلاد محمد بن الروّاد، وشاها قلعة حصينة تحيط بها البحيرة ويركب فيها الناس من أطراف المراغة إلى أرمينية وغيرها. وكانت مدينة محمد بن البعيث مرند فهرب إلى مدينته فجمع بها الطعام وفيها عيون ماء فرمّ ما كان وهي [2] من سورها، وأتاه من أراد الفتنة من كلّ ناحية من ربيعة وغيرها فصار فى نحو ألفى رجل.
وكان الوالي بأذربيجان محمد بن حاتم بن هرثمة فقصّر فى طلبه. فولّى المتوكّل حمدويه بن علىّ أذربيجان ووجّهه من سرّ من رأى على البريد.
فلمّا صار إليها جمع الجند والشاكرية ومن استجاب له فصار فى عشرة آلاف. فزحف إلى ابن البعيث فألجأه إلى مدينة مرند وهي مدينة استدارتها
__________
[1] . شاها: كذا فى الأصل وتد (539) فى كلا الموضعين. فى الطبري (11: 1380) : شاهي.
[2] . كذا فى الأصل وتد (540) . فى الطبري (11: 1381) : مائتي ألف فارس.(4/291)
فرسخان فى داخلها بساتين كثيرة ومن خارجها كما تدور شجر إلّا فى مواضع أبوابها. وقد جمع فيها [324] ابن البعيث آلة الحصار، وفيها عيون ماء.
فلمّا طالت مدّته وجّه إليه المتوكّل زيرك التركي فى مائتي [1] فارس من الأتراك فلم يصنع شيئا فوجّه المتوكّل عمر بن سليل [2] بن كال فى جماعة من الشاكرية فلم يغن شيئا.
فوجّه إليه بغا الشرابي فى أربعة آلاف ما بين تركىّ وشاكرىّ ومغربىّ، وقد كان الجند قد زحفوا إلى مدينة مرند وقطعوا ما حولها من الشجر فقطعوا نحوا من مائة ألف شجرة من شجر الغياض وغيره ونصبوا عليها عشرين منجنيقا وبنوا بحذاء المدينة ما يستكنّون فيه ونصب عليهم محمد بن البعيث من المجانيق مثل ذلك. وكان من معه من علوج رساتيقه يرمون بالمقاليع، فكان الرجل لا يقدر على الدنوّ من السور فكانوا يغادونه القتال ويراوحونه، وكانت الجماعة من أصحاب ابن البعيث يتدلّون بالجبال معهم الرماح فيقاتلون، فإذا حمل عليهم أصحاب السلطان لجأوا إلى الحائط بالمقاليع وكانوا ربّما فتحوا بابا يقال له باب الماء فيخرج منه عدّة يقاتلون ثمّ يرجعون.
فلمّا قرب بغا الشرابي من مرند بعث عيسى بن الشيخ بن السليل الشيبانى ومعه أمانات لوجوه أصحاب ابن البعيث ولابن البعيث على أن ينزلوا وينزل على حكم المتوكّل، وإلّا قاتلهم [325] فإن ظفر بهم لم يستبق منهم أحدا، ومن نزل فله الأمان.
وكان عامّة من مع ابن البعيث من ربيعة من قوم عيسى بن الشيخ، فنزل
__________
[1] . كذا فى الأصل وتد (540) . فى الطبري (11: 1381) : مائتي ألف فارس.
[2] . فى تد (540) : سيسل بن كال.(4/292)
منهم قوم كثير بالجبال ونزل ختن ابن البعيث، ثمّ فتحوا باب المدينة فدخل أصحاب حمدويه وزيرك وخرج ابن البعيث من منزله هاربا يريد أن يخرج من وجه آخر فلحقه قوم من الجند فأخذوه أسيرا وانتهبوا منزله ومنازل أصحابه وأخذ له أختان وثلاث بنات وخالته والبواقي سرارىّ ونحو مائتي رجل وهرب الباقون ووافاهم بغا فمنع من النهب وكتب بغا بالفتح لنفسه. ثم قدم بغا بابن البعيث وأصحابه وهم نحو مائتي رجل. فلمّا قربوا من سرّ من رأى حملوا على الجمال ليستشرفهم الناس. فأتى المتوكّل محمد بن البعيث فأمر بضرب عنقه فطرح على نطع، وجاء السيّافون فلوّحوا فقال المتوكّل:
- «ما دعاك يا محمد إلى ما صنعت؟» قال: «الشقوة وأنت الحبل الممدود بين الله وخلقه وإنّ لى فيك لظنّين أسبقهما إلى قلبي أولاهما بك وهو العفو.» ثمّ اندفع بلا فصل:
أبى الناس إلّا أنّك اليوم قاتلي ... إمام الهدى والعفو [1] فى الله أجمل [326]
وهل أنا إلّا جبلة من خطيئة ... وعفوك من نور النّبوّة يجبل
فإنّك خير السابقين إلى العلى ... ولا شكّ أن خير الفعالين تفعل
فالتفت المتوكّل فقال لمن عنده:
- «إنّ معه لأدبا.» فقال بعضهم وبادر:
- «بل يفعل أمير المؤمنين خيرهما ويمنّ عليك.»
__________
[1] . كذا فى الأصل وتد (541) وآ: والعفو. فى الطبري (11: 1387) : والصفح.(4/293)
فقال المتوكّل:
- «ارجع إلى منزلك.» ويقال إنّ ابن البعيث لمّا تكلّم بما تكلّم به شفع فيه المعتزّ واستوهبه فوهبه له.
وكان محمد بن البعيث أحد شجعان أذربيجان وله شعر كثير جيّد بالعربية والفارسية. [1] وحجّ فى هذه السنة إيتاخ وكان والى مكّة والمدينة والموسم، ودعى له على المنابر.
ذكر سبب ذلك كان إيتاخ غلاما طبّاخا خزريّا لسلام الأبرش، فاشتراه منه المعتصم، وكان لإيتاخ بأس ورجلة، فرفعه المعتصم ومن بعده الواثق وولّى الأعمال الكبار، وكان من أراد المعتصم أو الواثق قتله حبس عند إيتاخ.
فلمّا ولى المتوكّل كان إلى إيتاخ الحبس والمغاربة والأتراك والبريد والحجابة ودار الخلافة. فخرج المتوكّل بعد الخلافة متنزّها [327] إلى ناحية القاطول فشرب ليلة فعربد على إيتاخ، فهمّ إيتاخ بقتله. فلمّا أصبح المتوكّل قيل له، فاعتذر إلى إيتاخ والتزمه وقال:
- «أنت أبى وأنت ربّيتنى.» فلمّا صار المتوكّل إلى سرّ من رأى دسّ إليه من يشير عليه بالاستئذان للحجّ ففعل وأذن له وصيّره أمير كلّ بلدة يدخلها وخلع عليه وركب القوّاد معه، فحين خرج صيّرت الحجابة إلى وصيف.
__________
[1] . انظر الطبري (11: 1388) .(4/294)
ودخلت سنة خمس وثلاثين ومائتين
وفيها كان مقتل إيتاخ ذكر سبب مقتله
لمّا انصرف إيتاخ من مكّة راجعا إلى العراق وجّه المتوكّل إليه سعيد بن صالح [1] الحاجب مع كسوة وألطاف، وأمره أن يلقاه بالكوفة وقد تقدّم المتوكل إلى عامله على الشرطة ببغداد بأمره فيه.
فذكر إبراهيم بن المدبّر أنّه خرج مع إسحاق بن إبراهيم فى تلقّى إيتاخ وكان أراد أن يأخذ طريق الفرات إلى الأنبار ثمّ يخرج إلى سرّ من رأى.
فكتب إليه إسحاق:
- «إنّ أمير المؤمنين قد أمر أن يدخل بغداد وأن يلقاك بنو هاشم ووجوه الناس وأن تقعد لهم فى دار خزيمة بن خازم فتأمر لهم بجوائز.» قال: فخرجنا حتّى إذا كنّا بالياسريّة [328] وقد شحن إسحاق بن إبراهيم الجسرين بالجند والشاكرية، وخرج فى خاصّته وطرح له بالياسرية صفّة فجلس عليها وأقبل قوم قد رتّبهم فى الطريق. كلّما صاروا إلى موضع أعلموه، حتّى قالوا:
- «قد قرب منك.» فركب فاستقبله. فلمّا نظر إليه أهوى إسحاق لينزل. فحلف عليه إيتاخ أن لا يفعل. وكان إيتاخ فى نحو ثلاثمائة من أصحابه وعليه قباء أبيض متقلّدا سيفا بحمائل، فسارا جميعا حتّى إذا صار عند الجسر تقدّمه إسحاق عند الجسر وعبر حتّى وقف على باب خزيمة بن خازم. فقال لإيتاخ:
__________
[1] . انظر الطبري (11: 1388) .(4/295)
- «تدخل أعزّ الله الأمير.» وكان الموكّلون بالجسر كلّما مرّ بهم غلام من غلمانه قدّموه حتّى بقي فى خاصّة غلمانه، فدخل بين يديه قوم وقد فرشت له دار خزيمة بن خازم، وتأخّر إسحاق وأمر ألّا يدخل الدار من غلمانه إلّا ثلاثة أو أربعة وأخذت عليه الأبواب وأمر بحراسته من ناحية الشطّ وكسرت كلّ درجة فى قصر خزيمة، فحين دخل أغلق الباب، خلفه فنظر فإذا ليس فيه إلّا ثلاثة غلمان.
فقال:
- «قد فعلوها.» ولو لم يؤخذ [1] ببغداد ما قدروا على أخذه، ولو صار إلى سرّ من رأى فأراد بأصحابه قتل جميع من خالفه أمكنه ذلك.
ثمّ ركب إسحاق حرّاقة وأعدّ [329] لإيتاخ أخرى. ثمّ أرسل إليه أن يصير إلى الأخرى وأمر بأخذ سيفه، فحدّروه إلى الحرّاقة وصيّر قوم معه بالسلاح، وصاعد إسحاق إلى منزله، وأخرج إيتاخ حين بلغ دار إسحاق فأدخل ناحية منها، ثمّ قيّد وثقّل بالحديد فى عنقه ورجليه، ثمّ قدم بابنيه:
منصور والمظفّر وبكاتبيه: سليمان بن وهب وقدامة بن زياد النصراني بغداد وكان سليمان على أعمال السلطان وقدامة على ضياع إيتاخ خاصّة فحبسوا ببغداد.
وذكر ترك مولى إسحاق قال: وقفت على باب البيت الذي فيه إيتاخ محبوس فقال:
- «يا ترك» .
قلت:
__________
[1] . فى مط: لم يوجد.(4/296)
- «ما تريد؟» قال: «أقرأ على الأمير السلام وقل له قد علمت ما كان يأمرنى به المعتصم والواثق فى أمرك فكنت أدفع عنك ما أمكننى فلينفعنى ذلك عندك، أمّا أنا فقد مرّ بى شدّة ورخاء فما أبالى ما أكلت وما شربت، وأمّا هذان الغلامان فإنّهما عاشا فى نعمة ولم يعرفا البؤس فصيّر لهما لحما ومرقة وشيئا يأكلان منه.» قال ترك: فذهبت إلى مجلس إسحاق فوقفت، فقال لى:
- «ما تريد؟ فأرى فى وجهك كلاما.» قلت: «نعم.» قال لى:
- «إيتاخ كذا وكذا.» وكانت وظيفة إيتاخ فى كلّ يوم رغيفا وكوزا من ماء، ويؤمر لابنيه بخوان [330] عليه سبعة أرغفة وخمسة ألوان [1] فلم يزل ذلك قائما حياة إسحاق.
ثمّ هلك إيتاخ بالعطش فإنّه أطعم ومنع الماء حتّى مات وأحضر إسحاق القضاة والفقهاء وعرضه عليهم لا ضرب به ولا أثر.
وأمّا ابناه فبقيا فى الحبس حياة المتوكّل. فلمّا أفضى الأمر إلى المنتصر أخرجهما.
ما عامل به المتوكّل أهل الذمّة فى ملابسهم ومنازلهم
وفى هذه السنة أمر المتوكّل بأخذ النصارى وأهل الذمّة بلبس العسلىّ
__________
[1] . كذا فى الأصل وتد (545) وآ: ألوان. فى الطبري (11: 1386) : عرف.(4/297)
والزنانير وركوب السروج بركب الخشب وبتصيير كرتين على مؤخر السرج، وبتغيير القلانس لمن لبس قلنسوة، وبتغيير زىّ النساء فى أزرهن العسلية ليعرفن، وكذلك مماليكهم، ومنعهم لبس المناطق، وإن دخلوا الحمام كان معهم جلاجل ليعرفوا، وأمر بهدم بيعهم المستحدثة وبأخذ العشر من منازلهم.
فإن كان الموضع واسعا صيّر مسجدا وإن لم يصلح أن يكون مسجدا صيّر فضاء. وأمر أن يجعل على أبواب دورهم صور شياطين من خشب مسمورة تفريقا بين منازلهم ومنازل المسلمين، ونهى أن يستعان بهم فى الدواوين وأعمال السلطان التي تجرى فيها أحكامهم على المسلمين، ونهى أن يتعلّم أولادهم فى كتاتيب المسلمين [331] وألّا يعلّمهم مسلم، ونهى أن يظهروا فى أعيادهم صليبا وأن يشمعوا [1] فى الطريق، وأمر بتسوية قبورهم مع الأرض لئلّا يشبه قبورهم قبور المسلمين، وكتب إلى العمّال فى الآفاق بذلك.
عقد المتوكل البيعة لبنيه الثلاثة
وفى هذه السنة عقد المتوكّل البيعة لبنيه [2] الثلاثة: لمحمد وسمّاه المنتصر، ولأبى عبد الله واسمه الزبير وسمّاه المعتزّ، ولإبراهيم وسمّاه المؤيد، بولاية العهد. وذكر ذلك للشعراء وكتبت بينهم كتب وفرّقت فى الأمصار.
ودخلت سنة ستّ وثلاثين ومائتين
ومن حوادثها هدم قبر الحسين عليه السلام
وفيها توجّه الفتح بن خاقان عند المتوكّل وولّى أعمالا منها أخبار الخاصّة
__________
[1] . كذا فى الأصل: يشمعوا. شمع: لعب ومزح. فى تد (545) والطبري (1390) : يشمعلوا.
شمعلوا: تفرّقوا مرحا ونشاطا.
[2] . فى الأصل: لابنيه، وهو سهو. ما أثبتناه يوافق ما فى تد (545) وآ.(4/298)
والعامّة بسرّ من رأى وما يليها.
وفيها أمر المتوكّل بهدم قبر الحسين عليه السلام وما حوله من المنازل والدور وأن يبذر ويمنع الناس من إتيانه. [1] وفيها هلك أبو سعيد محمد بن يوسف فجأة، وكان قد ولّى أذربيجان فعسكر بكرخ فيروز، وأراد الركوب فلبس أحد خفّيه ومدّ الآخر ليلبسه فسقط ميّتا، فولّى المتوكّل ابنه يوسف ما كان يتولّاه أبوه من الحرب وولّاه مع ذلك خراج الناحية وضياعها، فشخص إلى الناحية فضبطها. [332]
ثمّ دخلت سنة سبع وثلاثين ومائتين
وفيها وثب أهل ارمينية بيوسف بن محمد بن يوسف فيها ذكر السبب فى ذلك
كان السبب فى ذلك أنّه لمّا صار إلى عمله من أرمينية خرج رجل من البطارقة يقال له بقراط بن أشوط وكان يقال له: بطريق البطارقة. فطلب الأمان فأخذه يوسف بن محمد وقيّده وبعث به إلى باب السلطان. فأسلم بقراط وابنه واجتمع على يوسف ابن أخى بقراط بن أشوط وجماعة من بطارقة أرمينية فتحالفوا ونذروا دمه لمّا حمل بقراط فنهى أصحاب يوسف يوسف عن المقام وعرّفوه اجتماع القوم فلم يقبل، وأقام فحاصروه من كلّ وجه.
وسقطت الثلوج فخرج يوسف إلى ظاهر المدينة وكان أصحابه متفرّقين فى الأعمال، فقاتلهم فقتلوه وقتلوا من معه. فأمّا من لم يقاتل فإنّه قالوا لهم:
- «ضع ثيابك وانج عريانا.»
__________
[1] . انظر الطبري (11: 1407) .(4/299)
فطرحوا ثيابهم ونجوا عراة حفاة فمات أكثرهم من البرد وسقطت أصابع قوم منهم ونجوا.
فوجّه المتوكّل بغا الكبير إلى أرمينية طالبا بدم يوسف. فشخص إليها فبدأ بأرزن. وكان موسى بن زرارة قد واطأ قتلة يوسف فقبض بغا على موسى واخوته وحملهم إلى السلطان ثمّ سار فأناخ على الخويثيّة [1] وهم جمّة أهل أرمينية، وقتلة يوسف بن محمد. فحاربهم فظفر بهم وقتل منهم زهاء ثلاثين ألفا وسبى خلقا فباعهم. ثمّ سار إلى بلاد الباق فأسر أشوط بن حمزة أبا العباس، ثمّ سار إلى ديبل ثمّ إلى تفليس.
غضب المتوكّل على أبى دؤاد
وفيها غضب المتوكّل على أحمد بن أبى دؤاد وأمر بالتوكيل بضياعه وحبسه وأولاده واخوته، فحمل أبو الوليد مائة ألف وعشرين ألف دينار وجوهرا كثيرا، وصولح بعد على ستّة عشر ألف ألف درهم وأشهد عليهم جميعا ببيع كلّ ضيعة لهم وكان أحمد بن أبى دؤاد قد فلج فقال أبو العتاهية:
لو كنت فى الرّأى منسوبا إلى رشد ... وكان عزمك عزما فيه توفيق
لكان فى الفقه شغل لو قنعت به ... عن أن تقول: كتاب الله مخلوق
ماذا عليك وأصل الدين يجمعهم ... ما كان فى الفرع لولا الجهل والموق
ثمّ دخلت سنة ثمان وثلاثين ومائتين
وفيها ظفر بغا الكبير بإسحاق بن إسماعيل مولى بنى أميّة بتفليس فأحرق
__________
[1] . الخويثيّة: كذا فى تد (547) والطبري (11: 1409) : فى الأصل الحوتنية.(4/300)
مدينة تفليس. وكان [334] إسحاق بن إسماعيل- ويكنى أبا العباس- قد تحصّن بتفليس وهي مدينة أكثر بنائها خشب الصنوبر. فلمّا قصدها بغا أمر النفاطين فضربوها بالنار وهاجت الريح وأحاطت النار به بقصر إسحاق وجواريه.
ثم أتاه الأتراك والمغاربة فأخذوه أسيرا مع ابنه وأتوا به بغا، فأمر بضرب عنقه صبرا، وصلب جثّته واحترق فى المدينة نحو خمسين ألف إنسان.
ثمّ نهض بغا إلى عيسى بن يوسف ابن أخت اصطفانوس فحاربه فى كورة السلطان ثمّ تحصّن فى قلعة كتيش [1] ، ففتحها وأخذه وحمله وحمل ابنه وسنباط بن أشوط بطريق أرّان، وحمل معه آذرنرسى بن إسحاق.
ثمّ دخلت سنة تسع وثلاثين ومائتين
ولم يجر فيها ما يكتب.
ودخلت سنة أربعين ومائتين
وتلك سبيلها.
ودخلت سنة إحدى وأربعين ومائتين
إغارة البجّة وحرب المتوكّل إيّاهم
وفيها أغارت البجّة على حرش [2] من أرض مصر، فوجّه المتوكّل لحربهم محمد بن عبد الله القمي.
__________
[1] . كذا فى الأصل: كتيش. فى تد (548) : كبيش. وفى حواشيه عن ابن خلدون: كيش.
[2] . كذا فى الأصل: حرش. ما فى تد (548) حوش.(4/301)
ذكر ما آلت إليه أمورهم
كانت البجّة لا تغزو المسلمين ولا يغزوهم المسلمون لهدنة بينهم قديمة [335] وهم جنس من أجناس الحبشة وفى بلادهم معادن ذهب. فهم يقاسمون من يعمل فيها ويؤدّون إلى عمّال مصر فى كلّ سنة شيئا معلوما.
فلمّا كان فى أيّام المتوكّل امتنعت البجّة عن أداء ذلك الخراج سنين متوالية وهذه المعادن منها ما هو على التخوم فيما بين أرض مصر وبلاد بجّة. فقتلوا عدّة من المسلمين ممّن كان يعمل فى المعادن ويستخرج الذهب، وسبوا عدّة من ذراريهم ونسائهم. وذكروا أنّ المعادن لهم فى بلادهم وأنهم لا يأذنون للمسلمين فى دخولها، وانّ ذلك أوحش المسلمين الذين كانوا يعملون هناك حتّى انصرفوا عنه، فانقطع ما كان يؤخذ للسلطان بحقّ الخمس الذي كان يستخرج من المعادن.
فلمّا بلغ ذلك المتوكّل أحفظه، وشاور فى أمر البجّة فأنهى إليه أنّهم قوم أهل بدو وأصحاب إبل وماشية، وأنّ الوصول إلى بلادهم صعب لا يمكن أن تسلك إليهم الجيوش لأنّها مفاوز وصحار، وبين أرض الإسلام وبينها مسيرة شهر فى أرض قفر وجبال وعرة لا ماء فيها ولا زرع ولا معقل ولا حصن، وأنّ من يدخلها من أولياء السلطان [336] يحتاج أن يتزوّد لجميع من معه المدّة التي يتوهّم أنّه يقيمها فى بلادهم حتّى يخرج إلى أرض الإسلام. فإن تجاوز تلك المدّة هلك وجمع من معه وأخذتهم البجّة بالأيدى دون المحاربة، وأنّ أرضهم لا تردّ على السلطان شيئا من خراج ولا غيره.
فأمسك المتوكّل عن التوجيه إليهم وجعل أمرهم يتزيّد وحربهم يكثر حتّى خاف أهل الصعيد من أرض مصر على أنفسهم وذراريّهم. فولّى المتوكّل محمد بن عبد الله القمي محاربتهم وولّاه معادن تلك الكور، وتقدّم إليه فى(4/302)
محاربة البجّة وكتب إلى عنبسة بن إسحاق الضبّى العامل على حرب مصر بإعطائه جميع ما يحتاج إليه من الجند والشاكريّة بمصر. فأزاح عنبسة علّته فى ذلك، وخرج إليه من جميع ما اقترحه عليه، وانضمّ إليه جميع من كان يعمل فى المعادن وقوم كثير من المطوّعة، وكانت عدّة من معه نحوا من عشرين ألف إنسان بين فارس وراجل، ووجّه إلى القلزم فحمل فى البحر سبعة مراكب موقّرة بالدقيق والزيت والتمر والسويق والشعير، وأمر قوما من سبعة مراكب موقّرة بالدقيق والزيت والتمر والسويق والشعير، وأمر قوما من أصحابه أن يلجّجوا بها فى البحر حتّى يوافوه فى سواحل البحر [337] من أرض البجّة.
ولم يزل محمد بن عبد الله القمّى يسير فى أرض البجّة حتّى جاوز المعادن التي يعمل فيها وصار إلى حصونهم وقلاعهم، وخرج إليه ملكهم واسمه: على بابا، وله إبن يسمّى بغسى [1] فى جيش كثير وعدد أضعاف من كان مع القمّى وكانت البجّة على إبلهم ومعهم الحراب وإبلهم فرّه تشبه المهارى فى النجابة. فجعلوا يلتقون أيّاما متوالية فيتناوشون ولا يصحّحون القتال.
وجعل ملك البجّة يتطارد للقمّى ويطوّل الأيّام طمعا فى نفاد الأزواد والعلوفة التي معهم فلا يكون لهم قوّة، فتأخذهم البجّة بالأيدى. فلمّا توهّم عظيم البجّة أنّ الأزواد قد نفدت أقبلت المراكب السبعة التي حملها القمّى حتّى خرجت إلى ساحل من سواحل البحر فى موضع يعرف بصنجة فوجّه القمّى إلى ما هناك من أصحابه يحمون المراكب من البجّة وفرّق ما كان فيها على أصحابه فاتّسعوا فى الزاد والعلوفة.
فلمّا رأى ذلك على بابا رئيس البجّة قصد لمحاربتهم وجمع لهم. فالتقوا
__________
[1] . كذا فى الأصل: بغسى. فى تد (550) : بغشى. وفى الطبري (11: 1431) : لعيس.(4/303)
واقتتلوا قتالا شديدا وكانت إبلهم زعرة تكثر الفزع من كلّ شيء. فلمّا رأى ذلك محمّد بن عبد الله القمّى جمع أجراس الإبل [338] والخيل، التي فى معسكره كلّها فجعلها فى أعناق الخيل ثمّ حمل على البجّة فنفرت إبلهم واشتدّ رعبهم فحملتهم على الجبال والأودية فمزّقتهم كلّ ممزّق، واتبعهم القمّى بأصحابه قتلا وأسرا حتّى غشاهم الليل ولم يقدر على إحصاء القتلى لكثرتهم. فلمّا أصبح القمّى وجدهم قد جمعوا جمعا من الرجّالة ثمّ صاروا إلى موضع أمنوا فيه طلب القمّى.
فوافاهم القمّى فى الليل فى خيله فهرب ملكهم وأخذ تاجه ومتاعه ثمّ طلب الأمان على أن يردّ إلى بلاده ويؤدّى الخراج للسنين التي عليه. فأعطاه القمّى ذلك وأدّى ما عليه واستخلف على مملكته ابنه بغسى.
وانصرف القمّى بعلى بابا إلى المتوكّل فوصل إليه فى آخر سنة إحدى وأربعين فكانت غيبته دون سنة.
وكسا القمّى على بابا درّاعة ديباج وعمّامة سوداء وكسا جمله رحلا مدبّجا وجلال ديباج ليتميّز عن أصحابه، ووقف بباب العامّة مع قوم من البجّة على الإبل بالحراب وفى رؤوس حرابهم رؤوس القوم الذين قتلهم القمّى. فأمر المتوكّل أن يقبضوا من القمّى.
ثمّ ولّى المتوكّل البجّة وطريق ما بين مصر ومكّة سعدا الخادم [339] الإيتاخى. فولّى سعد محمد بن عبد الله القمّى، فخرج القمّى بعلى بابا وهو مقيم على دينه.
ودخلت سنة اثنتين وأربعين وثلاثة وأربعين [ومائتين]
ولم يجر فيهما ما يكتب.(4/304)
ودخلت سنة أربع وأربعين ومائتين
وفيها دخل المتوكّل دمشق وكان عزم على المقام بها، ووصف له من فضائلها وطيبها ما شوّقه إليها. فأمر بالبناء فيها ونقل دواوين الملك إليها ثمّ استوبأ البلد وذلك أنّ الهواء بها بارد ندىّ [1] ، والماء ثقيل والريح تهبّ مع العصر، فلا تزال تشتدّ حتى تمضى عامّة الليل، وهي كثيرة البراغيث، وغلت الأسعار وحال [2] الثلج بين السابلة والميرة وتحرّكت الأتراك يطلبون أرزاقهم وأرزاق عيالاتهم.
فرجع المتوكّل إلى سرّ من رأى وكان مقامه بدمشق شهرين وأيّاما.
ودخلت سنة خمس وأربعين ومائتين
وفيها أمر المتوكّل ببناء الجعفري وأقطع قوّاده وأصحابه فيها وجدّ فى بنائها وأنفق عليها ألفى دينار، وكان يسمّيها هو وأصحابه المتوكّلية.
وفيها كان هلاك [340] نجاح بن سلمة الكاتب. ذكر سبب هلاكه
كان نجاح إليه ديوان التوقيع والتتبّع على العمّال فكان العمّال. يتّقونه ويقضون حوائجه ولا يمنعونه من شيء يريده. وكان المتوكّل ربّما نادمه وكان عبيد الله بن خاقان وزير المتوكّل والأمور مفوّضة إليه، وكان الحسن بن مخلد وموسى بن عبد الملك منقطعين إلى الوزير، وكان الحسن بن مخلد على ديوان الضياع وموسى على ديوان الخراج.
__________
[1] . وضبط ما فى الأصل وآ وتد: ند. فصحّحنا الضبط كما فى الطبري (11: 1436) .
[2] . كذا فى الأصل وآ ومط وتد: حال. وفى الطبري (11: 1436) : حلّ.(4/305)
وكتب نجاح بن سلمة رقعة إلى المتوكّل يذكر له، أنّه يعرف وجه أربعين ألف ألف درهم يستخرجها من وجوهها من خيانات [1] قوم، فيتّسع بها أمير المؤمنين فى نفقة البناء. فأدناه المتوكّل وشاربه تلك العشيّة وقال:
- «سمّ لى من تستخرج منه الأموال.» فسمّى الحسن بن مخلد وموسى بن عبد الملك وقال:
- «يصحّ من جهة هذين أربعون ألف ألف درهم.» ثمّ سمّى قوما آخرين من الكتّاب وضمن مالا عظيما يصحّ بعد ذلك منهم. فوقع ذلك من المتوكّل موقعا عظيما وأعجبه وقال له:
- «أغد علىّ.» فلمّا أصبح لم يشكّ فى أمره.
وناظر المتوكّل عبيد الله بن يحيى وزيره فى ذلك فقال:
- «يا أمير المؤمنين هؤلاء أعيان المملكة وكتّابك وعمّالك. فإن أوقعت بهم فمن يقوم بأعمالك وأنا أدبّر [341] ذلك.» فلمّا غدا نجاح إلى المتوكّل وقد رتّب أصحابه وقال: «يا فلان خذ أنت الحسن وأصحابه ويا فلان خذ أنت موسى وأصحابه،» حجبه عبيد الله وتقدّم فى ذلك فلقى، نجاح عبيد الله فقال له:
- «انصرف يا أبا الفضل حتى ننظر وأنا أشير عليك بأمر لك فيه صلاح.» فقال: «ما هو؟» قال: «أصلح بينك وبينهما وتكتب رقعة إلى أمير المؤمنين تذكر فيها أنّك كنت شاربا وأنّك تكلّمت بما يحتاج إلى معاودة النظر فيها، وأنا أصلح أمرك عند المتوكّل.»
__________
[1] . كذا فى الأصل: خيانات. فى آ: جنايات. فى تد (553) ومط: جبايات. والعبارة فى الطبري (11: 1441) : يذكر أنّهما قد خانا وقصّرا ...(4/306)
فلم يزل يخدعه حتى كتب ما قال. ثمّ دعا عبيد الله الحسن بن المخلد وموسى بن عبد الملك وقال لهما:
- «ابذلا خطّا فى نجاح وأصحابه بألفي ألف دينار، وإلّا فإنّه سيسلمكما إليه ويهلككما.» فكتبا له ذلك ودخل عبيد الله على المتوكّل وقال:
- «يا أمير المؤمنين قد رجع نجاح عمّا قاله البارحة وهذا خطّه وهذه رقعة موسى بن الحسن يتقبّلان به ممّا بذلا به خطوطهما فتأخذ ما ضمنا عنه ثمّ تعطف عليهما فتأخذ قريبا ممّا ضمن لك عنهما.» فسرّ المتوكّل وطمع فيما قال عبيد الله وقال:
- «ادفعه إليهما.» فأمرا بأن تؤخذ قلنسوته، وقبضا على كتّابه فاستخرجا من يومهما ذلك مائة وأربعين ألف دينار اعترف بها [342] ابنه، وذلك سوى قيمة ضياعه وقصوره وفرشه ومستغلاته وآلاته. فقبض جميع ذلك وضرب مرارا بالمقارع وعذّب ثمّ خنق أو عصرت خصاه فأصبح ميّتا. وطولب أولاده ووكلاؤه، وأخذ بسببه قوم ببغداد وبسرّ من رأى وبمكّة وبناحية السواد فحبسوا وصودروا. [1]
ثمّ دخلت سنة ستّ وأربعين [2] ومائتين
ولم يجر فيها شيء يكتب.
__________
[1] . انظر الطبري (11: 1348) .
[2] . فى الطبري (11: 1452) : ثلاثين. وهو سهو.(4/307)
ودخلت سنة سبع وأربعين ومائتين
وفيها كان مقتل المتوكّل على الله ذكر السبب فى قتله
كان سبب ذلك أنّ المتوكّل أمر بقبض ضياع وصيف بإصبهان والجبل وأقطعها الفتح بن خاقان، فكتب الكتب بذلك وبلغ ذلك وصيفا.
وكان المتوكّل واقف الفتح بن خاقان على أن يفتك بابنه المنتصر لأشياء كانت تبلغه عنه ويفتك أيضا بوصيف وبغا وغيرهما من قوّاد الأتراك ممّن كان يتّهم فكثر عتب المتوكّل قبل الموعد على ابنه المنتصر. كان يقول له:
- «سمّيتك: المنتصر، فسمّاك الناس لحمقك: المنتظر.» فمرّة كان يشتمه ومرّة يسقيه فوق طاقته ومرّة يصفعه.
فتحدّث بعض من كان [343] فى ستارة المتوكّل قالت: التفت المتوكّل إلى الفتح وهو ثمل فقال:
- «برئت من الله ومن قرابتي من رسول الله إن لم تلطمه.» - يعنى المنتصر.
فقام الفتح فلطمه. ثمّ قال:
- «اصفعه.» فأمرّ يده على قفاه.
ثمّ قال المتوكّل لندمائه:
- «اشهدوا جميعا أنّى قد خلعت المستعجل» - يعنى المنتصر.
فقال المنتصر [1] :
__________
[1] . كذا فى آومط وتد (555) والطبري (11: 1457) : المنتصر. فى الأصل: «الفتح» المغيّر إلى «المنتصر» فى كلمة واحدة، بحيث يقرأ كلاهما على حدة ووضوح.(4/308)
- «يا أمير المؤمنين لو أمرت بضرب عنقي كان أسهل علىّ ممّا تفعله بى.» فقال: «اسقوه.» وأمر بالعشاء فأحضر وذلك فى جوف الليل فجعل يأكل هو والفتح وهو سكران يلقم ويسقى المنتصر وهو يشتمه.
ثمّ خرج المنتصر وأخذ بيد زرافة الحاجب وقال:
- «امض معى.» قال: «يا سيّدى، إنّ أمير المؤمنين لم يقم بعد.» فقال: «إنّ أمير المؤمنين قد أخذ منه الشراب، والساعة يخرج بغا والندماء، وقد أحببت أن تجعل أمر ولدك إلىّ فإنّ أوتامش سألنى أن أزوّج ابنه من ابنتك وابنك من ابنته.» قال له زرافة:
- «نحن عبيدك يا سيّدى فمر بأمرك.» وأخذ المنتصر بيده وانصرف به معه فقال بنان المغنّى [1] :
فما بعد المنتصر حتى سمعنا الضجّة والصراخ وكنت مع المنتصر قد قمت لأشهد الأملاك والنثار.
فلمّا سمع المنتصر الصراخ خرج فاستقبله بغا فقال له المنتصر:
- «ما هذه الضجّة.» قال: [344]- «خير يا أمير المؤمنين.» قال: «ما تقول ويلك؟»
__________
[1] . فى مط: المعنى.(4/309)
قال: «أعظم الله أجرك فى سيّدنا أمير المؤمنين. كان عبد الله دعاه فأجابه.» فجلس المنتصر وأمر بباب البيت الذي قتل فيه المتوكّل والمجلس فأغلق وغلّقت الأبواب كلّها وبعث إلى وصيف يأمره بإحضار المعتزّ والمؤيد عن رسالة المتوكّل.
فذكر عثعث أنّ المتوكّل بعد قيام المنتصر استدعى رطلا وكان بغا الصغير المعروف بالشرابى قائما عند الستر وبغا الكبير يومئذ بسميساط وخليفته موسى ابنه فدخل بغا الصغير وأمر الندماء بالانصراف إلى حجرهم. فقال له الفتح:
- «ليس هذا وقت انصرافه.» فقال بغا:
- «إنّ أمير المؤمنين أمرنى إذا جاوز السبعة أرطال ألّا أترك أحدا فى المجلس، وقد جاوز العشرة.» فكره الفتح قيامهم. فقال له بغا:
- «إنّ حرم أمير المؤمنين خلف الستارة وقد سكر، فقوموا فاخرجوا.» فقاموا ولم يبق إلّا عثعث والفتح وأربعة من خدم الخاصّة وغلق بغا الصغير الأبواب كلّها إلّا باب الشطّ ومنه دخل القوم الذين وقفوا [1] على قتله فلمّا دخل القوم وسلّوا سيوفهم نظر إليهم عثعث فقال المتوكّل:
- «قد فرغنا من الحيّات والعقارب والأسد وصرنا إلى السيوف.» [345] وذلك أنّ المتوكّل كان ربّما أرسل هذه الأشياء على ندمائه ليفزّعهم ويضحك هو، فلمّا ذكر عثعث السيوف قال:
__________
[1] . كذا فى الأصل: ووقفوا. فى آومط: وقفوا. فى تد (557) : ووفقوا (بتقديم الفاء) . فى الطبري (11: 1459) : عيّنوا لقتله.(4/310)
- «ويلك ما تقول أىّ سيوف؟» فما استتمّ كلامه حتّى دخلوا عليه، فابتدره بغلون فضربه ضربة على كتفيه وأذنه فقدّه، فقام الفتح فى وجهه ووجوه القوم وقال:
- «وراءكم يا كلاب.» فقال له بغا:
- «لا [1] تسكت يا جلفى [2] .» فرمى الفتح بنفسه على المتوكّل، فاعتوره القوم بسيوفهم فقتلوهما معا وقطّعوهما حتّى اختلطت لحومهما. وهرب عثعث بعد ما أصابته ضربة ونجا الخدم وراء الستارة وتطايروا وكان عبيد الله بن يحيى فى حجرته لا يعلم بشيء من أمر القوم وهو ينفّذ الأمور بالشموع.
وذكر أنّ بعض نساء الأتراك ألقت رقعة بما عزم عليه القوم فوصلت إلى عبيد الله بن يحيى وشاور الفتح فيها وعرف الخبر أيضا أبو نوح كاتب الفتح واتفق رأيهم على كتمان المتوكّل يومهم ذلك لما كانوا رأوا من سروره فكرهوا أن ينغّصوا يومه، وهان عليهم أمر القوم، وكانوا وثقوا بأنّ ذلك لا يجسر عليه ولا يتمّ. فبينا عبيد الله ينفّذ الأمور إذ طلع عليه بعض الخدم فقال:
- «يا سيّدى أنت ما [346] جلوسك؟» قال: «وما ذاك؟» قال: «الدار سيف واحد.» فأمر بعض خدمه بالخروج. فخرج ونظر، ثمّ عاد فأخبره أنّ المتوكّل والفتح قد قتلا. فخرج فى من معه من خدمه وخاصّته. فأخبر أنّ الأبواب
__________
[1] . فى الأصل وآ ومط والطبري (11: 1460) : لا تسكت. فى تد (556) : ألا تسكت.
[2] . كذا فى الأصل وآ ومط: يا حلقى. فى تد (556) والطبري (11: 1460) : يا جلفىّ.(4/311)
مغلّقة، فأخذ نحو الشطّ فإذا أبوابه أيضا مغلقة، فأمر بكسر ما كان يلي الشطّ فكسرت ثلاثة أبواب حتى خرج إلى الشطّ ووجد زورقا، فقعد فيه ومعه جعفر بن حامد وغلام له. فصار إلى منزل المعتزّ فسأل عنه فلم يصادفه فقال:
- «إنّا لله وإنا إليه راجعون قتلني وقتل نفسه.» وتلهّف عليه.
واجتمع إلى عبيد الله أصحابه غداة غد من الأبناء والعجم والأرمن [1] والزواقيل من الأعراب وغيرهم وقد اختلف فى عدّتهم. فقال بعضهم كانوا عشرة آلاف، وزاد بعضهم ونقص بعض. فقالوا:
- «إنّما كنت تصطنعنا لهذا اليوم فأمر بأمرك وأذن لنا نمل على القوم ميلة فنقتل المنتصر ومن معه من الأتراك وغيرهم.» فأبى وقال:
- «ليس فى هذا حيلة، والرجل فى أيديهم» .- يعنى المعتزّ.
وكانت خلافته أربع عشرة سنة وعشرة أشهر، وكان أسمر نحيفا حسن العينين خفيف العارضين.
__________
[1] . فى مط: والأرصن. آومط وتد (557) كالأصل: والأرمن.(4/312)
خلافة محمد بن جعفر المنتصر
وبويع للمنتصر يوم الأربعاء لأربع خلون من شوّال وهو ابن خمس وعشرين سنة. [1] [347] واستوزر أحمد بن الخصيب وهو الذي قرأ على الناس كتابا، فخبّر [2] عن أمير المؤمنين المنتصر أنّ الفتح بن خاقان قتل أباه جعفر المتوكّل فقتله به وحضر [3] عبيد الله بن الفتح بن خاقان فبايع وانصرف.
ودخلت سنة ثمان وأربعين ومائتين
وفيها أغزى المنتصر وصيفا التركي صائفة أرض الروم ذكر السبب فى ذلك
كان السبب فى ذلك أنّه كان بين أحمد بن الخصيب وبين وصيف شحناء [4] وتباغض، فأشار على المنتصر بإخراجه غازيا. فقال المنتصر:
- «ائذن لمن حضر الدار؟»
__________
[1] . انظر الطبري (12: 1471) .
[2] . كذا فى الأصل ومط: فخبّر. فى آ: بخبر. فى تد (557) : يخبر.
[3] . فى مط: حصر (بالصاد المهملة) .
[4] . فى مط: شحنا (دون الهمزة) .(4/313)
فأذن لهم، وفيهم وصيف. فأقبل عليه وقال:
- «يا وصيف أتانا عن طاغية الروم أنّه أقبل يريد الثغور، وهذا أمر لا يمكن أن يمسك عنه، فإمّا شخصت وإمّا شخصت.» فقال وصيف:
- «بل أشخص يا أمير المؤمنين.» فقال لأحمد بن الخصيب:
- «انظر ما تحتاج إليه على أبلغ ما يكون فأقمه له.» قال: «نعم يا أمير المؤمنين.» قال: «ما معنى نعم، قم الساعة يا وصيف ومر كاتبك أن يواقفه [1] على جميع ما يحتاج إليه حتّى تزيح علّته.» فقام أحمد ووصيف حتّى خرج فما أفلح [2] .
وكتب المنتصر [348] كتابا إلى محمد بن عبيد الله بن طاهر وكان ببغداد منصرفا من الحجّ يعرّفه فيه إغزاءه وصيفا ويعلمه أنّه خارج إلى ثغر ملطية للنصف من حزيران ويأمره أن يكاتب عمّاله فى نواحي عمله، ليقرأ كتاب أمير المؤمنين على من قبلهم ويحثّهم على الجهاد ويستفزهم ويلحقهم به فى الوقت المحدود.
ثمّ كتب عن المنتصر كتاب إلى وصيف يأمره بالمقام ببلد الثغر أربع سنين يغزو فى أوقات إلى أن يأتيه رأى أمير المؤمنين.
خلع المعتزّ والمؤيّد أنفسهما
وفى هذه السنة خلع المعتزّ والمؤيّد أنفسهما وأظهرا ذلك.
__________
[1] . فى الطبري (12: 1481) : أن يوافقه.
[2] . فى الطبري (12: 1481) : فما أفلح ولا أنجح.(4/314)
ذكر سبب خلعهما لمّا استقامت الأمور للمنتصر بالله قال أحمد بن الخصيب لبغا:
- «إنّا لا نأمن الحدثان، وأن يموت أمير المؤمنين، فيلي الأمر المعتزّ فلا يبقى منّا باقية. والرأى أن نعمل فى خلع هذين الغلامين قبل أن يظفرا بنا.» فجدّ الأتراك فى ذلك وألحّوا على المنتصر بالله وقالوا:
- «نخلع هذين ونبايع لابنك عبد الوهاب.» وكان مكرما للمؤيّد والمعتزّ. فلم يزالوا به حتّى أحضرهما الدار، وذلك بعد أربعين يوما من ولايته. فلمّا حصلا فى [349] دار واحدة من الدار قال المعتزّ للمؤيّد:
- «يا أخى لم أحضرنا؟» قال: «يا شقىّ للخلع.» فقال: «لا أظنّه يفعل بنا ذلك.» فبينا هم فى ذلك إذ جاءتهم الرسل بالخلع.
فقال المؤيّد:
- «السمع والطاعة.» وقال المعتزّ:
- «ما كنت لأفعل. فإن أردتم قتلى فشأنكم.» فرجعوا إليه فأخبروه. ثم عادوا بغلظة شديدة وأخذوا المعتزّ بعنف وأدخلوه إلى بيت فأغلقوا عليه. فقال لهم المؤيّد بجرأة واستطالة:
- «ما هذا يا كلاب قد ضريتم على دمائنا، تثبون على مواليكم هذا الوثوب، اغربوا قبّحكم الله، دعوني حتّى أكلّمه.» فكاعوا عن جوابه، ثمّ قالوا:(4/315)
- «القه إن أحببت.» - فيظنّ أنّهم استأمروه لأنهم أقاموا ساعة ثمّ أذنوا له.
فقام إليه.
قال المؤيّد: فوجدته يبكى فقلت:
- «يا جاهل، تراهم قد نالوا من أبيك ما نالوا ثمّ تمتنع [1] اخلع ويلك.» فقال: «سبحان الله أمر قد طار فى الآفاق ووثق منه. أخلعه؟» قلت: «هذا قد قتل أباك وسيقتلك، فاخلعه وعش. فو الله لئن كان فى سابق علم الله أن تلى لتلينّ.» قال: «أفعل.» فخرجت وقلت:
- «قد أجاب.» فمضوا وعادوا فجزّونى خيرا. ودخل معهم كاتب ومعه دواة وقرطاس.
فجلس ثمّ أقبل على أبى عبد الله [350] المعتزّ، فقال:
- «اكتب بخطّك.» فتلكّأ، فقال المؤيّد للكاتب:
- «هات قرطاسك، أملل ما شئت.» فأمّل عليه كتابا للمنتصر يعلمه فيه ضعفه عن هذا الأمر، وأنّه قد علم أنّه لا يحلّ له تقلّده، ويكره أن يأثم المتوكّل بسببه، إذ لم يكن موضعا له ويقول: «إنّى قد خلعت نفسي وأحللت الناس من بيعتي.» ثمّ قال المؤيّد:
- «اكتب يا أبا عبد الله.» فكتب وخرج الكاتب.
__________
[1] . وزاد فى الطبري (12: 1487) : عليهم.(4/316)
قال المؤيّد: ثمّ دعا بنا، فدخلنا عليه وهو فى مجلسه والناس على مراتبهم، فسلّمنا فردّ علينا وأمر بالجلوس ثمّ قال:
- «هذا كتابكما.» فبدرت وقلت:
- «نعم يا أمير المؤمنين هذا كتابي بمسألتى ورغبتي.» وقلت للمعتزّ:
- «تكلّم.» فقال مثل ذلك. فأقبل علينا والأتراك وقوف، فقال:
- «أتريانى خلعتكما طمعا فى أن أعيش ويكبر ولدي وأصيّر الخلافة إليه؟ والله ما طمعت فى ذلك قطّ وإذا لم يكن لى فى ذلك طمع فو الله لأن يلي بنو أبى أحبّ إلىّ من أن يليها بنو عمّى ولكنّ هؤلاء- وأومأ إلى سائر الموالي ممّن هو قائم وقاعد- ألحّوا علىّ فى خلعكما فخفت إن لم أفعل أن يعترضكما بعضهم بحديدة. فما ترياني صانعا؟ أقتله فو الله ما تفي دماؤهم كلّهم بدم بعضكم فإنّ إجابتهم إلى ما سألوا [351] أسهل علىّ.» فأكبّا على يده فقبّلاها وضمهما إليه، ثمّ انصرفا.
وكتب بنسخة خلعهما وبما أنشئ عن المنتصر بالله فى ذلك كتب إلى العمّال فى الآفاق.
وفى هذه السنة توفّى المنتصر بالله.
ذكر وفاة المنتصر وسرعة الإدالة منه
قد اختلف الناس فى وفاته. فقال قوم أصابته الذبحة. وقال آخرون أصابه ورم فى معدته وقال آخرون فصد بمبضع مسموم وأنّ طبيبه لمّا فصده دهش(4/317)
فلم يميّز [1] مبضعه المسموم. ثمّ اعتلّ هو ففصده تلميذه به فمات. وقيل وجد علّة فى رأسه فقطّر طبيبه ابن طيفور فى أذنه دهنا، فورم رأسه فعولج فمات.
ولم يزل الناس منذ ولى الخلافة وإلى أن مات يقولون:
إنّما مدّة حياته ستة أشهر مدّة شيرويه بن كسرى قاتل أبيه.» مستفيضا ذلك على السن العامّة والخاصّة.
وكان المنتصر استفتى فى قتل أبيه الفقهاء من غير أن يسمّيه، وحكى أمورا قبيحة لا تكتب فى كتاب [2] ، فأفتوا بقتله.
فلمّا قتله رآه فى النوم وكأنّه يقول:
- «ويلك يا محمد، قتلتني وظلمتني، والله لا تمتّعت بالخلافة إلّا أيّاما يسيرة، ثمّ مصيرك إلى النار.» فانتبه وهو لا [352] يملك عينه ولا جزعه، فكان يسلّى ويقال له:
- «هذا استشعار وهو حديث النفس.» فلا يسلو، وما زال منكسرا إلى أن توفّى.
ولمّا اشتدّت علّته خرجت العامّة فسألته عن حاله، فقال:
- «ذهبت والله منى الدنيا والآخرة.» وتوفّى وهو ابن خمس وعشرين سنة وستّة أشهر. فكانت خلافته ستّة أشهر.
وكان أعين قصيرا جيّد البضعة، وكان مهيبا. وطلبت أمّه أن يظهر قبره.
فهو أوّل خليفة من بنى العباس عرف قبره، وكنيته أبو جعفر.
ومن طريف ما اتفق عليه أنّ محمد بن هارون كاتب محمد بن على برد
__________
[1] . انظر الطبري (12: 1496) .
[2] . انظر الطبري (12: 1496) ، حيث استقبحت ولم تذكر تلك الأمور.(4/318)
الخبّاز [1] ، وخليفته على ديوان ضياع إبراهيم المؤيّد أصيب مقتولا على فراشه، به عدّة ضربات بالسيف. أحضر ولده خادما أسود كان له، ووصيفا.
فأقرّ الوصيف على الأسود فأدخل إلى المنتصر وأحضر قاضى القضاة وهو يومئذ جعفر بن عبد الواحد الهاشمي، فسئل الأسود عن قتله فأقرّ ووصف فعله به وسبب قتله إيّاه. فقال له المنتصر:
- «ويلك لم قتلته؟» فقال له الأسود:
- «كما قتلت أنت أباك المتوكّل.» فتقدّم بضرب عنقه عند خشبة بابك.
وفى هذه السنة تحرّك يعقوب الصفّار من سجستان [353] فصار إلى هراة.
__________
[1] . الكلمتان مهملتان فى الأصل. فأعجمناهما حسب ما فى تد (561) وفيها: بن برد الخبّاز. فى الطبري (12: 1499) برد الخبار. وفى حواشيه تصحيفات متناقضة.(4/319)
خلافة أبى العبّاس المستعين
وفيها بويع أحمد بن محمد بن المعتصم. ذكر السبب فى بيعة المستعين والعدول عن ولد المتوكّل
لمّا توفّى المنتصر اجتمع الموالي وفيهم بغا الكبير وبغا الصغير وأوتامش ومن معهم. فاستحلفوا جميع القوّاد على أن يرضوا بمن رضى به بغا الكبير وبغا الصغير وأوتامش، وذلك بتدبير أحمد بن الخصيب. فحلفوا كلّهم وتشاوروا بينهم وكرهوا أن يتولّى الخلافة أحد من ولد المتوكّل، لقتلهم المتوكّل وخوفهم أن يغتالهم من يتولّى الخلافة منهم.
فأجمع أحمد بن الخصيب ومن حضر من الموالي على أحمد بن محمد بن المعتصم وقالوا:
- «لا نخرج الخلافة من ولد مولانا المعتصم.» فبايعوه وله ثمان عشرة سنة، ويكنى أبا العباس، ولقّب: المستعين بالله.
فاستكتب أحمد بن الخصيب [1] واستوزر أوتامش.
__________
[1] . فى مط: الخضيب (بالضاد المعجمة) .(4/321)
فلمّا صار إلى دار العامّة فى زىّ الخلافة وقد صفّ أصحابه صفّين وقام منهم مع وجوه أصحابه وحصر الدار ولد المتوكّل والعبّاسيون والطالبيون وأصحاب المراتب، إذا صيحة من ناحية الشارع وجماعة من الفرسان، ذكر أنّهم من أصحاب أبى العبّاس محمد بن عبد الله بن طاهر، [354] وفيهم فرسان من الطبرية وأخلاط من الناس والغوغاء والسوقة، قد شهروا السلاح وصاحوا:
- «معتزّ يا منصور.» وشدّوا فتضعضعوا [1] وانضمّ بعضهم إلى بعض. ثمّ حملوا عليهم ونشبت الحرب بينهم، وأقبلت المعتزّية والغوغاء يكثرون، فوقع بينهم قتلى، ثمّ تحاجزوا.
وخرج المستعين- وقد بايعه من حضر الدار من أصحاب المراتب- إلى الهاروني ودخل الغوغاء والمنتهبة دار العامّة، فانتهبوا الخزانة التي فيها السلاح والدروع والسيوف الثغرية والتراس الخيزران، ثمّ جاءهم جماعة من الأتراك فيهم بغا الصغير فأجلوهم من الخزانة وقتلوا منهم عدّة وخرج العامّة والغوغاء وكان لا يمرّ بهم أحد من الأتراك يريد باب العامّة إلّا انتهبوا سلاحه وقتلوا جماعة منهم.
وكان عامّة من انتهب أصحاب الناطف والفقّاع وأصحاب الحمّامات وغوغاء الأسواق.
ثمّ وضع العطاء فى ذلك اليوم الذي بويع فيه وبعث بكتاب البيعة إلى محمد بن عبد الله بن طاهر، فبعث إلى الهاشميّين والقوّاد والجند ووضع الأرزاق.
__________
[1] . فى مط: فعطعطوا. آتوافق الأصل. ما فى تد بالصادين المهملتين.(4/322)
وورد فى هذه السنة نعى طاهر بن عبد الله [355] بخراسان فى رجب، فعقد المستعين لابنه أبى عبد الله محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر على خراسان، وعقد لمحمد بن عبد الله بن طاهر عمّه على العراق وجعل إليه الحرس والشرطة ومعاون السواد برأسه وأفرده به.
وفيها مات بغا الكبير فعقد المستعين لابنه على أعمال أبيه كلّها واسمه موسى.
وفيها ابتاع المستعين من المعتزّ والمؤيّد جميع مالهما من الدور والمنازل والقصور والفرش والآلة وغير ذلك من الضياع والعقار وأشهد عليهما القضاة والعدول ووجوه الهاشميّين، وترك لأبى عبد الله المعتزّ قيمة عشرين ألف دينار، ولإبراهيم المؤيّد ما قيمته خمسة آلاف دينار وذلك فى السنة الواحدة. فكان ما ابتيع من أبى عبد الله بعشرة آلاف ألف [1] دينار وعشر حبّات لؤلؤ، ومن إبراهيم بثلاثة آلاف ألف دينار وثلاث حبّات لؤلؤ. وكان الشراء باسم الحسن بن مخلد للمستعين. ووكّل بهما وجعل أمرهما إلى بغا الصغير، وكان الأتراك قد أرادوا حين شغب الشاكرية والغوغاء قتلهما، فمنعهم أحمد بن الخصيب وقال: ليس لهما ذنب.
وفيها غضب الموالي على أحمد بن الخصيب فاستصفى ماله ومال [356] ولده ونفى إلى اقريطش، وصيّر المستعين شاهك الخادم على داره وكراعه وحرمه وخزائنه وخاصّ أموره، وقدّمه أوتامش على جميع الناس.
__________
[1] . كذا فى الأصل والطبري (12: 1507) : آلاف ألف. وكذلك ما بعده. فى تد (564- 563) :
آلاف. وكذلك ما بعده.(4/323)
ودخلت سنة تسع وأربعين ومائتين
وفيها شغب الجند والشاكرية ذكر السبب فى شغبهم
كان السبب فى ذلك أنّ جعفر بن دينار كان غزا الصائفة، فاستأذنه عمر بن عبيد الله الأقطع فى المصير إلى ناحية من الروم ومعه خلق كثير من الروم نحو مائة ألف. فقتل عمر ومن معه من المسلمين وبلغ خبر مقتله علىّ بن يحيى الأرمنى وسمع بما جرى على حرم المسلمين من الروم واستكلابهم على الثغور الخزرية بعد عمر فنفر إليهم مع جماعة من أهل ميّافارقين، فقتل أيضا فى جماعة من المسلمين.
فلمّا اتصل خبرهما بأهل مدينة السلام وسرّ من رأى وسائر مدن الإسلام، فعظم عليهم مقتل هذين وهما نابان من أنياب المسلمين، شديد بأسهما عظيم نكايتهما وغناؤهما فى الثغور. فشقّ على الناس ذلك [357] وعظم فى الصدور وانضاف إلى ذلك ما لحقهم من الأتراك وفى قتلهم المتوكّل واستيلائهم على أمور المسلمين وقتلهم من أرادوا قتله من الخلفاء واستخلافهم من أحبّوا استخلافه من غير رجوع منهم إلى ديانة ولا نظر للمسلمين.
فأجمعت العامّة ببغداد بالصراخ والنداء بالنفير، وانضمّت إليها الأبناء والشاكريّة. تظهر أنّها تطلب الأرزاق. ففتحوا السجون وأخرجوا رفوغ [1] خراسان والصعاليك من أهل الجبال والمحمّرة وغيرهم، وقطعوا أحد الجسرين وضربوا الآخر بالنار، وانتهبت الدواوين وقطعت الدفاتر وألقيت فى
__________
[1] . ما فى الأصل: رفوع (بالعين المهملة) . فى تد (565) والطبري (12: 1510) : رفوغ. الرّفع:
سعة العيش وطيبه.(4/324)
الماء وانتهب عدّة دور. ثمّ أخرج أهل اليسار من أهل بغداد وسرّ من رأى أموالا كثيرة من أموالهم. فقوّوا من خفّ للنهوض إلى الثغور لحرب الروم، وأقبل الناس من كلّ ناحية من نواحي الجبل وفارس والأهواز وغيرها ولم يكن من السلطان فيه معونة ولا نكير [1] على الروم.
ووثب العامّة بسرّ من رأى على أصحاب السجون فأخرجوا من فيها فأركب زرافة ووصيف وأوتامش فوثبت العامّة بهم فهزمتهم وألقى على وصيف [358] قدر مطبوخة فأمر وصيف النفّاطين فرموا ما قرب من ذلك الموضع من حوانيت التجّار ومنازل الناس بالنار فاحترق ذلك كلّه وقتل من العامّة خلق وانتهبت دور جماعة منهم.
وفى هذه السنة قتل أوتامش وكاتبه شجاع ذكر السبب فى قتلهما
لمّا أفضت الخلافة إلى المستعين أطلق يد أوتامش وشاهك الخادم فى بيوت الأموال وأباحهما إيّاها. وفعل ذلك أيضا بأمّ نفسه، فكانت الأموال التي ترد على السلطان من الآفاق إنّما تصير إلى هؤلاء.
فأمّا أوتامش فأنه عمد إلى ما فى بيوت الأموال فاكتسحه. وكان المستعين جعل ابنه العبّاس فى حجر أوتامش وكان وصيف وبغا من ذلك بمعزل. فأغريا الموالي به ولم يزالا يدبّران الأمر عليه حتّى أحكما التدبير.
فتذمّرت الأتراك والفراغنة على أوتامش وخرج إليه أهل الدور والكرخ إلى المعسكر، ثمّ زحفوا إليه وهو فى الجوسق مع المستعين، فأراد الهرب فلم يمكنه واستجار بالمستعين فلم يجره. فأقاموا على ذلك يومى [359]
__________
[1] . كذا فى الأصل وآ: نكير. فى تد (654) : نكبّر. فى الطبري (12: 1511) : تغيير. وفى حواشيه:
تغيّر.(4/325)
الخميس والجمعة.
فلمّا كان يوم السبت دخلوا الجوسق فاستخرجوا أوتامش من الموضع الذي توارى فيه فقتل وقتل كاتبه شجاع بن القاسم وانتهبت دورهم فأخذ منها أموال جليلة ومتاع وفرش وآنية.
فلمّا قتل أوتامش استوزر المستعين أبا صالح عبد الله بن محمد بن يزداد، وعزل الفضل بن مروان عن ديوان الخراج ووليه عيسى بن فرّخانشاه ثمّ غضب بغا الصغير على أبى صالح ابن يزداد فهرب أبو صالح إلى بغداد، وصيّر المستعين مكانه محمد بن الفضل الجرجرائى [1] .
ودخلت سنة خمسين ومائتين
ظهور يحيى بن عمر فى الكوفة وقتله فيها
وفيها ظهر يحيى بن عمر بن يحيى بن حسين بن زيد بن علىّ بن الحسين بن علىّ بن أبى طالب عليهم السلام المكنّى بأبى الحسين بالكوفة وقتل فيها [2] .
ذكر السبب فى خروجه كان السبب فى ذلك أنّ أبا الحسين يحيى بن عمر نالته ضيقة شديدة، ولزمه دين ضاق به ذرعا. فلقى عمر بن فرج وهو يتولّى أمر الطالبيّين عند مقدمه من خراسان [360] وكلّمه فى صلة. فأغلظ له عمر فى القول. فقذفه يحيى فى مجلسه فحبس فلم يزل محبوسا إلى أن كفل به أهله فأطلق. ثمّ صار إلى سرّ من رأى فلقى وصيفا فى رزق يجرى له. فأغلظ له وصيف فى
__________
[1] . كذا فى الأصل وآ وتد (566) والطبري (12: 1514) : الجرجرائى. فى مط: الجرجاني.
[2] . انظر الطبري (12: 1515) .(4/326)
الردّ، وقال:
- «لأىّ شيء يجرى على مثلك.» فانصرف عنه.
فذكر الصوفىّ الطالبىّ أنّه أتاه فى الليلة التي خرج فى صبيحتها، فبات عنده ولم يعلمه بشيء ممّا عزم عليه، وأنّه عرض عليه الطعام وتبيّن فيه أنّه جائع، فأبى أن يأكل، وقال:
- «إن عشنا أكلنا.» قال: فتبيّنت أنّه قد عزم على فتكة. وخرج من عندي فجعل وجهه إلى الكوفة، وجمع جمعا كثيرا من الأعراب وأهل الكوفة وأتى الفلّوجة فصار إلى قرية تعرف بالعمد. فكتب صاحب الخبر يخبره، فكتب محمد بن عبد الله بن طاهر إلى عامله على معاون السواد وهو عبد الله بن محمود السرخسي وإلى عامل الكوفة وهو أيّوب بن الحسن بن موسى بن جعفر بن سليمان، فأمرهما بالاجتماع على محاربته.
فمضى يحيى بن عمر فى تسعة نفر من الفرسان إلى الكوفة فدخلها وصار إلى بيت مالها، فأخذ ما فيه وبه سبعون ألفا وألفا دينار، وأظهر أمره بالكوفة [361] وفتح السجون وأخرج عمّال السلطان عنها. فلقيه عبد الله بن محمود [وكان] فى عداد [1] من الشاكرية، فضربه يحيى على وجهه ضربة أثخنه.
فانهزم ابن محمود مع أصحابه وحوى يحيى ما كان مع ابن محمود من الدوابّ والمال.
ثمّ خرج يحيى من الكوفة إلى سوادها ولم يقم بالكوفة ولحقه جماعة من الزيديّة وأعراب أهل الطفوف والسيب إلى ظهر واسط، وكثر جمعه. ووجّه
__________
[1] . كذا فى الأصل وآ ومط والطبري (12: 1517) : عداد. فى تد (567) : عباد.(4/327)
محمد بن عبد الله بن طاهر الحسين بن إسماعيل بن إبراهيم بن مصعب وضمّ إليه من ذوى البأس والنجدة من قوّاده جماعة، وشخص الحسين بن إسماعيل فنزل بإزاء يحيى بن عمر لا يقدم عليه.
فمضى يحيى بن عمر فى شرقىّ السيب والحسين فى غربيّه حتّى عبر إلى ناحية سورا، وسار حتّى قرب من جسر الكوفة، فلقيه عبد الرحيم بن الخطّاب وجه الفلس، فقاتله قتالا شديدا وانهزم وجه الفلس، فصار إلى ناحية شاهي ووافاه الحسين بن إسماعيل فعسكر بها.
ودخل يحيى بن عمر الكوفة واجتمعت إليه الزيدية وكثف أمره واجتمعت إليه جماعة من الناس وأحبّوه وتولّاه العامّة من أهل بغداد خاصّة، ولا نعلم أنهم تولّوا من أهل [362] بيته غيره، وتديّن الناس فى تشيّعهم. وأقام الحسين بن إسماعيل بشاهى واستراح وأراح أصحابه دوابّهم واتصلت بهم الميرة والأمداد والأموال.
وأقام يحيى بالكوفة يعدّ العدد ويطبع السيوف ويجمع السلاح. فاجتمع عامّة من الزيدية ممّن لا علم لهم بالحرب وأشاروا على يحيى بن عمر بمعاجلة الحسين وألحّت عليه عوامّ أصحابه بمثل ذلك، فزحف إليه من ظهر الكوفة من وراء الخندق ومعه الهيضم العجلى فى فرسان بنى عجل وأناس من بنى أسد ورجّالة من أهل الكوفة ليسوا بذوي علم ولا شجاعة ولا تدبير.
فصبّحوا الحسين وأصحابه وأصحاب الحسين مستريحون مستعدّون.
فثاروا إليهم وذلك فى الغلس، فرموا ساعة ثمّ حمل عليهم فرسان الحسين، فانهزموا، ووضع فيهم السيف. فكان أوّل أسير الهيضم بن العلاء بن جمهور العجلى، وانهزم رجّالة أهل الكوفة وأكثرهم عراة بغير سلاح ضعفاء القوى خلقان الثياب فداستهم الخيل وانكشف العسكر عن يحيى بن عمر وقد تقطّر(4/328)
به البرذون الذي أخذه من عبد الله بن محمود وعليه [363] جوشن تبّتىّ.
فوقف عليه ابنان لخالد بن عمران ولم يعرفه أحدهما وظنّ أنّه خراسانى لأجل الجوشن فقال له الآخر:
- «يا أخى هذا والله أبو الحسين قد انفرج قلبه وهو نازل ما يعرف القصّة لانفراج قلبه.» فأمرا رجلا من أصحابهما فنزل إليه وأخذ رأسه وادّعى قتله جماعة، وحمل رأسه إلى دار محمد بن عبد الله وقد تغيّر. فطلبوا من يقور رأسه ويخرج الحدقة والغلصمة. فلم يقدروا عليه، وهرب الجزّارون وطلب ممّن فى السجن من الخرّمية الذبّاحين من يفعل ذلك، فلم يقدم عليه أحد إلّا رجل من عمّال السجن الجديد [1] فإنّه جاء فتولّى إخراج دماغه وعينيه وقوّره وحشى بالصبر والكافور.
ثمّ أمر بحمل الرأس إلى المستعين وكتب إليه بيده بالفتح ونصب رأسه بباب العامّة بسرّ من رأى. فاجتمع الناس وتذمّروا فحطّ وردّ إلى بغداد لينصب هناك، فلم يتهيّأ ذلك. وذكر لمحمد أنّ الناس قد كثروا واجتمعوا على أخذه فلم ينصبه.
فحكى بعض الطاهريين أنّه حضر مجلس محمد بن عبد الله بن طاهر وهو يهنّئ بقتل يحيى وبالفتح وعنده جماعة الهاشميّين من [364] العبّاسيّين والطالبيّين وغيرهم من الوجوه. فدخل عليه أبو هاشم داود بن الهيثم الجعفري فسمعهم يهنّئونه، فقال:
- «أيّها الأمير، إنّك لتهنّأ بقتل رجل لو كان رسول الله، صلّى الله عليه، حيّا لعزّى به.»
__________
[1] . فى الأصل: الحديد. فأثبتناه كما فى تد (566) والطبري (1521) .(4/329)
فما ردّ عليه محمد شيئا فحلم عنه. فخرج وهو يقول:
يا بنى طاهر كلوه وبيّا ... إنّ لحم النّبىّ غير مرىّ
وكان المستعين قد وجّه كلباتكين التركىّ مددا للحسين ومستظهرا به، فلحق حسينا بعد أن انهزم القوم وقتل يحيى بن عمر ولحق فى طريقه قوما معهم الأسوقة والأطعمة يريدون عسكر يحيى. فوضع فيهم السيف فقتلهم ودخل الكوفة وأراد أن ينهبها ويضع السيف فى أهلها، فمنعه من ذلك الحسين وآمن الأسود والأبيض بها وأقام أيّاما حتّى أمن الناس ثمّ انصرف عنها.
خروج الحسن بن زيد
وفى هذه السنة كان خروج الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسين بن علىّ بن أبى طالب عليهم السلام [1] .
ذكر السبب فى خروجه [365] كان سبب ذلك أنّ محمد بن طاهر لمّا جرى على يده ما جرى من قتل يحيى بن عمر ودخول أصحابه الكوفة، أقطعه المستعين من صوافي السلطان بطبرستان قطائع، وكان فيها قطيعة تقرب من ثغرى طبرستان ما يلي الديلم وهما كلار [2] وشالوس وكان بحذائها أرض لأهل تلك الناحية فيها مرافق
__________
[1] . انظر الطبري (12: 1523) .
[2] . فى الأصل: كلان. وهو تصحيف «كلار» كما فى تد (571) والطبري (12: 1524) . وكذلك فى المواضع الآتية.(4/330)
محتطبهم ومراعى مواشيهم ومسرح سارحتهم ليس لأحد عليها ملك وإنّما هي صحراء من موتان الأرض، غير أنّها غياض وأشجار وكلأ. وكان وجّه محمد بن عبد الله بن طاهر أخا لكاتبه بشر بن هارون النصراني يقال له:
جابر، لحيازة ما أقطع هناك، وعامل طبرستان سليمان بن عبد الله خليفة محمد بن طاهر بن عبد الله ابن أخى محمد بن عبد الله بن طاهر والمستولى على سليمان بن عبد الله والغالب على أمره محمد بن أوس البلخي، وقد فرّق محمد بن أوس ولده فى مدن طبرستان وجعلهم ولاتها وهم أحداث سفهاء.
فتأذّى بهم الرعيّة وأنكروا منهم ومن والدهم ومن سليمان بن عبد الله سيرهم وسوء أثرهم فيهم، ووتر مع ذلك محمد بن أوس الديلم بدخوله إليهم من حدود طبرستان وهم أهل سلم وموادعة [366] على اغترار من الديلم، فأغار عليهم وسبى منهم وقتل فكان ذلك ممّا زاد أهل طبرستان عليه حنقا وغيظا.
فلمّا صار النصراني إلى طبرستان لحيازة ما أقطع صاحبه محمد حاز أيضا ما اتصل به من موات الأرض الذي يرتفق به أهل تلك الناحية، وكان بقرب ثغرين كما ذكرت، وكان بتلك الناحية يومئذ رجلان معروفان بالشجاعة والرأى مذكوران قديما بضبط تلك الناحية ممّن رامها من الديلم، وبإطعام الناس والإحسان إلى من ضوى إليهما يقال له: محمد وجعفر ابنا رستم، فأنكرا ما فعل جابر من حيازة الموات الذي ذكرت وقطع مرافق الناس منه.
وكان ابنا رستم مطاعين، فاستنهضا من أطاعهما وقصدا جابرا ليمنعاه، فهرب جابر ولحق بسليمان بن عبد الله بن طاهر وأيقن محمد وجعفر ابنا رستم فى منعهما جابرا ممّا حاوله بالشر وذلك أنّ عامل طبرستان كلّها سليمان بن عبد الله بن طاهر وهو أخو محمد بن عبد الله وعمّ محمد بن طاهر بن عبد الله وإلى خراسان والرىّ والمشرق. فلمّا أيقنا بالشرّ راسلا(4/331)
الديلم وذكّراهم [367] وفاءهما لهم بالعهد الذي بينهم وما ركبهم به محمد بن أوس من الغدر والقتل والسبي وأنّهم لا يأمنون عودته ويسألانهم مظاهرتهما عليه وعلى من معه.
فأعلمهم الديلم أنّ ما يلي أرضهم من جميع نواحيها من الأرضين هم عمّال آل طاهر والسلطان الأعظم وأنّ ما سألوا من معاونتهم لا سبيل إليه إلّا بزوال الخوف عنهم من أن يؤتوا من قبل ظهورهم إذا هم اشتغلوا بحرب من بين أيديهم من عمّال سليمان بن عبد الله، فأعلماهم أنّهما لا يغفلان عن كفايتهم ذلك حتّى يأمنوا ما خافوه. فأجابهم الديلم إلى ما سألوه وتعاقدوا وأهل كلار وشالوس على حرب من قصدهم. ثمّ أرسل ابنا رستم إلى رجل من الطالبيّين المقيمين يومئذ بطبرستان يقال له: محمد بن إبراهيم، يدعونه إلى البيعة له، فأبى وقال لهم:
- «أنا لا أجيب إلى ما سألتم، ولكنّى أدلّكم على رجل منّا هو أقوم بما دعوتموني إليه.» فقالوا: «من هو؟» فأخبرهم أنّه الحسن بن زيد، ودلّهم على منزله بالرىّ. فوجّه القوم إلى الرىّ برسالتهم ورسالة العلوىّ محمد بن إبراهيم، يدعونه إلى الشخوص إلى طبرستان [368] فشخص إليهم الحسن بن زيد وقد صارت كلمة الديلم وأهل كلار وشالوس والرويان على بيعة واحدة فلمّا وافاهم بايعه ابنا رستم وجماعة أهل الثغرين ورؤساء الديلم كجايا والاشلام [1] ووهسوذان بن جستان.
ثمّ ناهضوا من فى تلك النواحي من عمّال ابن أوس فطردوهم عنها
__________
[1] . كذا فى الأصل: لجايا والاشلام. فى تد (572) : كجاباق الإسلام. فى الطبري (12: 1528) :
كجايا ولا شام.(4/332)
فلحقوا بابن أوس وسليمان بن عبد الله وهما بمدينة ساريه، وانضوى إلى الحسن بن زيد مع من بايعه لمّا بلغهم ظهوره كلّ من بجبال طبرستان، كلّها إلّا سكّان جبل فريم، فإنّ ملكهم قارن بن شهريار كان ممتنعا بجبله وأصحابه، فلم ينقد للحسن بن زيد وقوّاده نحو مدينة آمل وهي أوّل مدينة طبرستان ممّا يلي كلار وسالوس من السفح.
وأقبل ابن أوس من سارية إليها يريد دفعه عنها فالتقى جيشاهما فى بعض نواحي مدينة آمل ونشبت الحرب بينهم وخالف الحسن بن زيد وجماعة معه موضع المعركة إلى ناحية أخرى، فدخلوها واتصل خبرهم بابن أوس وهو مشغول بحرب من هو فى وجهه من رجال الحسن بن [369] زيد. فلم يكن له همّ إلّا النجاء بنفسه واللحاق بسليمان وسارية.
فلمّا دخل الحسن بن زيد آمل كثف جيشه وغلظ أمره وانقضّ إليه كلّ طالب نهب من الصعاليك والحوزيّة وغيرهم. فأقام الحسن بن زيد بآمل أيّاما حتّى جبى الخراج واستعدّ.
ثمّ نهض بمن معه نحو سارية مريدا سارية ومن بها من سليمان وابن أوس، فخرجوا بمن معهم والتقى القوم خارج مدينة سارية ونشبت الحرب بينهم، فخالف الوجه الذي التقى فيه الجيشان بعض قوّاد الحسن بن زيد إلى وجه آخر من وجوه سارية فدخلها برجاله، وانتهى الخبر إلى سليمان ومن معه فطاروا على وجوههم ونجوا بأنفسهم وترك سليمان أهله وعياله وثقله وكلّ ما كان له بسارية من مال وأثاث، فلم تكن له عرجة دون جرجان، وغلب جند الحسن بن زيد على ما كان له ولغيره.
فأمّا عيال سليمان وأهله وآباؤه فإنّ الحسن أمر لهم بمركب حملهم فيه حتّى ألحقهم بسليمان وهو بجرجان واجتمع للحسن أمره بطبرستان كلّها.
ثمّ وجّه الحسن خيلا مع رجل من أهل بيته يقال له: الحسن بن زيد، إلى(4/333)
الرىّ فصار إليها وطرد عنها عاملها [370] من قبل الطاهرية واستخلف بها بعض الطالبيّين وانصرف عنها فاجتمعت للحسن بن زيد مع طبرستان الرىّ إلى حدّ همذان.
فورد الخبر بذلك على المستعين ومدبّر أمره وصيف التركىّ وكتابه أحمد بن صالح بن شيرزاد. فوجّه إسماعيل بن فراشة فى جمع كثير إلى همذان وأمره بالمقام بها وضبطها وذلك أنّ ما وراء عمل همذان كان إلى محمد بن طاهر، بن عبد الله بن طاهر وبه عمّاله وإليه إصلاحه.
فلمّا استقرّ بخليفة الحسن بن زيد القرار بالرىّ واسمه محمد بن جعفر، ظهرت منه أمور كرهها أهل الرىّ. فوجّه محمد بن طاهر قائدا من خراسان يقال له: محمد بن ميكال وهو أخو الشاه بن ميكال، فى جمع عظيم من الخيل والرجّالة إلى الرىّ فالتقى هو ومحمد بن جعفر العلوي. فأسر محمد بن ميكال محمد بن جعفر وفضّ جمعه ودخل الرىّ.
فوجّه إليه الحسن بن زيد خيلا عليها ويجن قائد من قوّاد أهل الأرز [1] فخرج إليه محمد بن ميكال فهزمه ويجن والتجأ محمد بن ميكال إلى الرىّ معتصما، بها فاتبعه ويجن قبل أن يشخص حتّى قتله وعادت الرىّ إلى أصحاب الحسن بن زيد. [371]
ودخلت سنة إحدى وخمسين ومائتين
وفيها قتل وصيف وبغا الصغير باغر التركىّ واضطرب الموالي ذكر السبب فى قتله
كان سبب ذلك [2] أنّ باغر كان أحد قتلة المتوكّل فزيد فى أرزاقه وأقطع
__________
[1] . فى تد (574) والطبري (12: 1532) : اللارز.
[2] . انظر الطبري (12: 1535) .(4/334)
قطائع. فكان ممّا أقطع ضياع بسواد الكوفة، فتضمن تلك الضياع رجل من دهاقين باروسما ونهر الملك بألفي دينار. فوقع بين هذا الدهقان وبين رجل بتلك الناحية يقال له ابن مارمّة شرّ فتناوله ابن مارمّه بمكروه. فحبس ابن مارمّه وقيّد فعمل حتّى تخلّص من الحبس وصار إلى سرّ من رأى، فلقى دليل بن يعقوب النصراني وهو يومئذ كاتب بغا الشرابي وصاحب أمره وإليه العسكر يركب إليه القوّاد والعمّال، وكان ابن مارمّه صديقا لدليل وكان باغر أحد قوّاد بغا فمنع دليل باغر من ظلم أحمد بن مارمّه وانتصف له منه فأوغر ذلك بصدر باغر وباين كلّ واحد من دليل وباغر صاحبه بذلك السبب.
وكان باغر شجاعا بطلا [372] عظيم القدر فى الأتراك يتوقّاه بغا وغيره ويخافون شرّه، فجاء باغر يوم الثلاثاء لأربع بقين من ذى الحجّة سنة خمسين ومائتين إلى بغا وهو فى الحمّام وباغر سكران فانتظره حتّى خرج من الحمّام، ثم دخل إليه فقال له:
- «والله ما لى من قتل دليل من بدّ.» ثمّ شتمه. فقال له بغا:
- «لو أردت قتل ابني فارس ما منعتك منه، فكيف دليل النصرانىّ، ولكن أمر الخليفة وأمرى فى يده فتصبر حتّى أصيّر مكانه إنسانا ثمّ شأنك به.» ثمّ وجّه بغا إلى دليل يأمره ألّا يركب فاستخفى، وبعث بغا إلى محمد بن يحيى بن فيروز، وكان ابن فيروز يكتب له قديما، فجعله مكان دليل يوهم باغر أنّه قد عزل دليلا فسكن باغر. ثمّ أصلح بغا بين باغر ودليل، وباغر يتهدّد دليلا إذا خلا بأصحابه، ثمّ تلطّف باغر للمستعين ولزم الخدمة فى الدار وكره المستعين مكانه لجرأته وقتله المتوكّل. فلمّا كان نوبة بغا فى منزله قال المستعين:
- «أىّ شيء كان إلى إيتاخ من الأعمال؟»(4/335)
فأخبره وصيف فقال:
- «ينبغي أن تصيّر هذه الأعمال إلى أبى محمد باغر.» فقال وصيف:
- «نعم.» وبلغت القصّة دليلا فركب إلى بغا وقال له:
- «أنت فى بيتك وهم فى تدبير عزلك عن جميع أعمالك، وإذا عزلت فما بقاؤك [373] إلّا أن يقتلوك.» فركب بغا إلى دار الخليفة فى اليوم الذي نوبته فى منزله بالعشي فقال لوصيف:
- «أردت أن تحطّنى عن مرتبتي فتجيء بباغر وتصيّره مكاني، وإنّما باغر عبد من عبيدي.» فقال وصيف:
- «ما أردت ذلك ولا علمت ما أراد الخليفة من ذلك.» ثمّ تعاقد وصيف وبغا على تنحية باغر من الدار وأرجفوا أنّه يؤمّر ويضمّ إليه جيش سوى جيشه ويخلع عليه ويجلس مجلس بغا ووصيف وهما يسمّيان الأميرين، وكان قصد المستعين التقرّب إليه ليأمن ناحيته فأحسّ هو ومن فى جنبته [1] بالشرّ فجمع إليه الذين كانوا بايعوه على قتل المتوكّل مع غيرهم. ثمّ ناظرهم ووكّد البيعة عليهم كما كان وكّدها فى قتل المتوكّل. ثم قال:
- «الزموا الدار حتّى نقتل المستعين وبغا ووصيفا ونجيء بمن نقعده خليفة ليكون الأمر لنا كما هو لهذين اللذين قد استوليا على الدنيا وبقينا نحن فى
__________
[1] . كذا فى الأصل وآ وتد (576) : فى جنبته. فى الطبري (12: 1537) : فى ناحيته.(4/336)
غير شيء.» فبعث إلى المستعين ووصيف فقال لهما:
- «إنّى ما طلبت إليكما أن تجعلانى خليفة وإنّما فعلتما أنتما ذلك وأصحابكما ثم تريدون أن تقتلوني؟» فحلفا أنّهما ما علما بذلك.
فيقال: إنّ امرأة مطلّقة لباغر بعثت إلى المستعين [374] وبغا بما عزم عليه باغر وبكّر دليل إلى بغا، ووصيف حاضر منزل بغا مع كاتبه، فاتّفق رأيهم على أخذ باغر ونفسين من الأتراك معه وحبسهم حتّى يروا رأيهم. فأحضر باغر فأقبل فى عدّة.
فلمّا دخل دار بغا منع من الوصول إلى وصيف وبغا وعدل به إلى حمّام فحبس فيه ودعى له بقيد فامتنع عليهم. وبلغ ذلك الأتراك ووثبوا على إصطبل السلطان فأخذوا ما فيه من الدوابّ وانتهبوها وركبوا وحضروا الجوسق بالسلاح. فلمّا أمسوا بعث بغا ووصيف إلى باغر بجماعة وشدخوه بالطبرزينات حتّى برد وعملوا على أن يرموا برأسه إليهم إن أقاموا على الشغب.
فلمّا انتهى قتله إلى الأتراك أقاموا على ما هم عليه وأبوا أن ينصرفوا واجتمع رأى المستعين ووصيف وبغا وشاهك على أن ينحدروا إلى بغداد ففعلوا ذلك وانكسر الأتراك لذلك وأظهروا الندم.
ثمّ صاروا إلى دار دليل بن يعقوب ودور أهل بيته وانتهبوها ونقضوها ثمّ منعوا من الانحدار إلى بغداد من همّ بذلك، وأخذوا ملّاحا قد أكرى سفينته فصلبوه على دقل سفينته، [375] فامتنع الملّاحون من الانحدار بعده.
واجتمع من كان من الجند والأتراك بسرّ من رأى على المعتزّ فبايعوه(4/337)
وأقام من كان ببغداد على الوفاء للمستعين. [1]
ذكر الفتنة التي وقعت بين الأتراك وأهل بغداد وما انتهى إليه
لمّا انحدر المستعين وبغا ووصيف وشاهك وأحمد بن صالح بن شيرزاد إلى بغداد نزل المستعين على محمد بن عبد الله بن طاهر فى داره. ثمّ وافى بغداد القوّاد سوى جعفر بن دينار وسليمان بن يحيى بن معاذ مع جلّة الكتّاب والعمّال وبنى هاشم. ووافى أيضا قوّاد الأتراك الذين فى ناحية وصيف وبغا.
وكانت رسل وصيف وبغا تتردد إلى سرّ من رأى باستدعاء من بها وإصلاح نيّاتهم وكان كلّ من يرد بغداد يؤمر أن ينزل الجزيرة التي حيال دار محمد بن عبد الله بن طاهر وألّا يصيروا إلى الجسر فيرعبوا العامّة، فإذا اجتمعوا وجّه إليهم زواريق حتّى يعبروا فيها.
فلمّا دخل الأتراك الواردون من سرّ من رأى إلى المستعين رموا بأنفسهم بين يديه وخلعوا مناطقهم من أوساطهم تذلّلا وخضوعا وكلّموا المستعين وسألوه الصفح عنهم فقال لهم:
- «أنتم أهل بغى وبطر [376] واستقلال للنعم. ألم ترفعوا إلىّ فى أولادكم فألحقتهم بكم، وهم نحو من ألفى غلام، وفى بناتكم فأمرت باجرائهن مجرى المتزوّجات وهنّ نحو من أربعة آلاف صبيّة، سوى المدركين، وأدررت عليكم الأرزاق حتّى سبكت لكم آنية الذهب والفضّة، ومنعت نفسي شهواتها ولذّاتها، كلّ ذلك طلبا لرضاكم وصلاحكم وأنتم تزدادون بغيا وفسادا وتهديدا
__________
[1] . انظر الطبري (12: 1542) .(4/338)
وإبعادا.» فتضرّعوا وقالوا:
- «أمير المؤمنين صادق وقد أخطأنا ونحن الآن نسأله العفو.» فقال المستعين:
- «قد عفوت عنكم.» فقال له بايكباك [1] :
- «فإن كنت رضيت عنّا وصفحت، فقم معنا إلى سرّ من رأى، فإنّ الأتراك ينتظرونك.» فأومأ محمد بن عبد الله إلى محمد بن أبى عون، فلكز فى حلق بايكباك وقال له:
- «هكذا يقال لأمير المؤمنين: قم معنا فاركب؟» فضحك المستعين وقال:
- «هؤلاء قوم عجم، لا يؤخذون بمعرفة حدود الكلام وأدائه.» ثمّ قال لهم المستعين:
- «يصير [2] من بسرّ من رأى فأرزاقهم دارّة عليهم، وأنظر أنا فى أمرى هاهنا.» فانصرفوا وقد أغضبهم ما كان من محمد بن عبد الله ومضوا إلى سرّ من رأى وحرّضوا الأتراك على مخالفته، واجتمع رأيهم على إتمام البيعة [377] لأبى عبد الله المعتزّ فأخرجوه والمؤيّد من الحبس فأخذوا من شعرهما، وكان قد طال، وبايعوه وأمر لهم بمال البيعة وكان المستعين خلّف بسرّ من
__________
[1] . ما فى الأصل مهمل، مع احتمال الأخير منه أن يكون لاما. فى تد (578) : بابكباك. فأثبتناه حسب ما فى الطبري (12: 1544) .
[2] . فى تد (579) : يصبر. فى الطبري (12: 1545) : تصيرون إلى سامرّا.(4/339)
رأى ما كان حمل من الموصل ومن الشام وهو خمسمائة ألف دينار وفى بيت مال أمّ المستعين قيمة ألفى ألف دينار وفى بيت مال ابن المستعين قيمة ستمائة ألف دينار وكتب نسخة البيعة التي أخذت للمعتزّ بسرّ من رأى على النسخة المعروفة.
وأحضر أبو أحمد بن الرشيد محمولا فى محفّة وأمر بالبيعة فامتنع، وقال للمعتزّ:
- «بل كنت مكرها وخفت السيف.» فقال أبو أحمد:
- «ما علمت أنّك أكرهت وقد بايعنا هذا الرجل. أفتريد أن نطلّق نسائنا وتخرجنا عن أموالنا ولا ندري ما يكون أن تركتني على أمرى حتّى يجتمع الناس وإلّا فهذا السيف.» فقال المعتزّ:
- «اتركوه.» فردّ إلى منزله من غير بيعة.
ولمّا بايع المعتزّ الأتراك ولّى عمّاله وأصحاب دواوينه، واتصل محمد بن عبد الله خبر البيعة للمعتزّ وتوجيهه العمّال. فأمر بقطع الميرة عن أهل سرّ من رأى وكتب إلى مالك [1] بن طوق بالمصير إلى بغداد هو ومن معه من [378] أهل بيته وجنده والى نجوبة [2] بن قيس وهو على الأنبار بالجمع والاحتشاد وإلى سليمان بن عمران الموصلي فى جمع السفن ومنع الميرة أن تنحدر إلى سرّ من رأى ومنع أن يصعد شيء من الميرة من بغداد، وأخذت سفينة فيها أرز وسقط فهرب الملّاح وبقيت حتّى غرقت.
__________
[1] . ضبط الأصل: ملك.
[2] . كذا فى تد (579) والطبري (12: 1550) : نجوبة. ما فى الأصل: بحونة.(4/340)
وأمر المستعين محمد بن عبد الله بأن تحصّن بغداد فتقدّم فى ذلك فأدير عليها السور من دجلة من باب الشمّاسية إلى سوق الثلاثاء حتّى أورده دجلة، ومن باب قطيعة أمّ جعفر حتّى أورده قصر حميد. ورتّب على كلّ باب قائدا وجماعة من أصحابه وغير أصحابه، وأمر بحفر الخنادق حول السورين كما يدوران فى الجانبين جميعا ومظلّات يأوى إليها الفرسان فى الحرّ والمطر. فبلغت النفقة على السورين والخنادق والمظلّات ثلاثمائة ألف دينار وثلاثين ألف دينار، وجعل على باب الشماسية خمس شدّاخات بعرض الطريق فيها العوارض والألواح والمسامير الطوال الظاهرة، وجعل من خارج الباب الثاني بابا معلّقا [1] بقدر الباب ثخينا وقد ألبس صفائح الحديد وشدّ بالحبال كي إن وافى أحد من ذلك الباب أرسل عليه الباب المعلّق فقتل من تحته [379] وجعل على الباب الآخر عرّادة، وعلى الباب الآخر خمسة مجانيق كبارا وفيها واحد كبير سمّوه: الغضبان، وستّ عرّادات يرمى بها إلى ناحية رقّة الشمّاسية وصيّر على باب البردان ثماني عرّادات فى كلّ ناحية أربع، وأربع شدّاخات، وكذلك كلّ باب من أبواب بغداد فى الجانب الشرقىّ والغربىّ، ووكّل بكل باب قوّاد برجالهم وجعل لكلّ باب من أبوابها دهليزا عليه السقائف يسع مائة فارس ومائة راجل، ولكلّ منجنيق وعرّادة رجالا مرتبين يمدّون حباله، وراميا يرمى إذا كان قتال، وفرض فروضا من قوم من أهل خراسان قدموا حجّاجا فسئلوا المعونة على قتال الأتراك فأعانوا.
وأمر محمد بن عبد الله أن تفرض من العيارين فروض وأن يجعل عليهم عريف ويعمل لهم تراس من البواري المقيّرة وأن تعمل لهم مخال تملأ
__________
[1] . فى الأصل: مغلقا. فى تد (580) والطبري (12: 1551) : معلّقا، وهو الصحيح.(4/341)
حجارة. ففعل ذلك وكان الرجل منهم يقوم خلف البارية فلا يرى منها عملت نسائجات أنفق عليها زيادة على مائة دينار، وكان العريف على أصحاب المقيّرة من العيّارين رجلا يقال له: ينتويه.
خليفتان فى زمن واحد
وكتب المستعين إلى عمّال الخراج بكلّ بلدة وبكلّ موضع أن يكون حملهم [380] ما يحملون من الأموال إلى السلطان ببغداد دون غيرها، وكتب إلى الأتراك والجند الذين بسرّ من رأى يأمرهم بنقض بيعة المعتزّ ومراجعة الوفاء ببيعتهم، ويذكّرهم أياديه عندهم وينهاهم عن معصيته ونكث بيعته.
وكتب المعتزّ إلى محمد بن عبد الله يدعوه إلى خلع المستعين ويذكره بما أخذه أبوه المتوكّل عليه بعد أخيه المنتصر من العهد وعقد الخلافة.
وأجابه محمد يدعوه إلى الرجوع إلى طاعة المستعين. واحتجّ كلّ واحد منهما باحتجاجات يطول شرحها وبثق محمد بن عبد الله المياه بطسّوح الأنبار وبادوريّا ليقطع طريق الأتراك حين تخوّف ورودهم الأنبار.
وكتب كلّ واحد من المعتزّ والمستعين إلى موسى بن بغا وهو مقيم بأطراف الشام لأنّه كان أخرج إلى حمص لقتال أهلها حين قتلوا عاملهم وعصوا وامتنعوا على السلطان.
وبعث كلّ واحد منهما بعدّة ألوية يعقدها لمن أحبّ. [1] فانصرف إلى المعتزّ وصار معه ولم يزل الأتراك الكبار يصيرون مرّة من حزب المستعين ومرّة من حزب المعتزّ.
وعقد المعتزّ لأخيه أبى أحمد إبن المتوكّل على حرب المستعين وابن
__________
[1] . وزاد فى الطبري (12: 1554) : «ويأمره المستعين بالانصراف إلى مدينة السلام ويستخلف على عمله من رأى، فانصرف ... »(4/342)
طاهر وضمّ إليه الجيش وجعل إليه [381] الأمر والنهى وتدبير الحرب إلى كلباتكين فعسكر بالقاطول فى خمسة آلاف من الأتراك والفراغنة وألفين من المغاربة فوافوا عكبرى فصلّى أبو أحمد ودعا للمعتزّ وكتب بذلك فتحا إلى المعتزّ وجعل الأتراك ينتهبون القرى ما بين عكبرى وبغداد وأوانا وهرب الناس منهم وجلّوا عن الغلّات والضياع فخربت وهدمت المنازل وسلب الناس وجرى فى ذلك أمر فظيع قبيح.
ولمّا وافى الحسن بن الأفشين مدينة السلام وكّل بباب الشماسية. ثمّ وافى أبو أحمد فى عسكر الشماسية ووافت طلائع الأتراك إلى قريب من باب الشماسية فوجّه محمد بن عبد الله الحسين بن إسماعيل والشاه بن ميكال فيمن معهما.
فلمّا عاين الأتراك الأعلام والرايات قد أقبلت نحوهم انصرفوا إلى معسكرهم وانصرف الحسين والشاه. ثمّ وافى باب الشماسية إثنا عشر فارسا من الأتراك فشتموا من هناك ورموهم بسهامهم، وكان محمد تقدم ألّا يبدأهم بقتال، فلمّا فعلوا ذلك وأكثروا من الشتم والرمى أمر علّك [1] صاحب المنجنيق. فرموا بحجر أصاب فقتل واحد منهم فنزل أصحابه فحملوه وانصرفوا إلى معسكرهم. ثمّ وافى الأتراك باب [2] الشماسية فرموا بالسهام [382] وبحجارة المنجنيق والعرّادات وكان بينهم قتلى وجرحى.
وحمل محمد بن عبد الله الصلات لمن أبلى فى الحرب، وأطوقة وأسورة من ذهب، وكان الجرحى فى الفريقين متقاربين فى العدد، وانهزم عامة أهل بغداد وثبت أصحاب البواري وأحضرت الأتراك منجنيقا فغلبهم عليه الغوغاء وكسروا قائمة من قوائمه وأمر بحمل الآجرّ من قصر الطين وتلك الناحية إلى
__________
[1] . كذا فى الأصل: علّك. فى الطبري (13: 1559) : علك (دون تشديد) .
[2] . حذف من تد ما يعادل عدة صفحات.(4/343)
باب الشماسية، وفتح باب الشماسية وأخرج إلى الآجر من لقطه وردّوه إلى هذا الجانب من السور.
ثمّ وجّه محمد بن عبد الله الشاه بن ميكال من باب القطيعة وبندارا وخالدا وأمددا بالمبيّضة من أهل بغداد، فحمل الشاه والمبيّضة حملة أزالوا بها الأتراك والمغاربة ومن معهم عن موضعهم وحملت عليهم المبيّضة، فأصحروا بهم. وحمل عليهم الطبرية فخالطوهم وخرج عليهم المبيّضة، فأصحروا بهم. وحمل عليهم الطبرية فخالطوهم وخرج عليه بندار وخالد بن عمران من الكمين وكانوا كمناء من ناحية باب قطربل. فوضعوا فى أصحاب أبى أحمد السيف فقتل الأتراك وغيرهم فقتلوهم أبرح قتل ولم يفلت منهم إلّا القليل.
وانتهب المبيّضة عسكرهم وما كان فيه من المتاع والأنفال والمضارب والخرثىّ. فكان من أفلت منهم من السيف [383] ورمى بنفسه فى دجلة ليعبر إلى عسكر أبى أحمد أخذه أصحاب السميريات [1] وكانت السميريات قد شحنت بالمقاتلة فقتلوا وأسروا وجعلت القتلى والرؤوس من الأتراك والمغاربة وغيرهم فى الزواريق، فنصبت بعضها فى الجسر وبعضها على باب محمد بن عبد الله.
وأمر محمد لمن أبلى فى هذا اليوم بالأسورة. فسوّر قوم كثير من الجند وغيرهم وطلبت المنهزمة فبلغ بعضهم أوانا وبعضهم إلى عسكر أبى أحمد، وبعضهم نفذ إلى سرّ من رأى. وخلع محمد على قوّاده على كلّ واحد أربع خلع وخرج المبيّضة والعيّارون فى طلب ما خلّفه المنهزمة.
فوجّه محمد فى آخر هذا اليوم أخاه عبيد الله بن عبد الله فى إثرهم حياطة لأهل بغداد لأنّه لم يأمن رجعتهم عليهم وأشير على محمد بن عبد
__________
[1] . فى الطبري (12: 1563) : الشّبّارات.(4/344)
الله أن يتبعهم بعسكر فى اليوم الثاني وفى تلك الليلة ليوغل فى آثارهم، فأبى ولم يتبع مولّيا ولم يأمر أن يجهز على جريح، وقبل أمان من استأمن وأمر سعيد بن حميد فكتب كتابا يذكر هذه الوقعة، فقرئ على أهل بغداد فى مساجد جوامعها.
وقدم محمد بن خالد بن يزيد بلد [1] ينتظر من يصير إليه وكان بالجزيرة.
فلمّا كان اضطراب الأتراك ودخول المستعين بغداد [384] لم يمكنه المصير إلى بغداد إلّا من طريق الرقّة، فصار إليها بمن معه من خاصّته. ثمّ انحدر منها إلى بغداد، فصار إلى محمد بن عبد الله فخلع عليه خمس خلع: ديبقي وملحم وخزّ ووشى وسواد، ثمّ وجّه به فى جيش كثيف لمحاربة أيّوب بن أحمد، فأخذ على طريق الفرات فحاربه أيّوب فى نفر يسير فهزمه. فلمّا انتهى خبر هزيمته إلى محمد بن عبد الله قال:
- «ليس يفلح أحد من العرب إلّا أن يكون معه نبىّ ينصره الله به.» وكان للأتراك وقعات بباب الشمّاسية كثيرة يكون مرّة لهم ومرّة عليهم.
وإنّما تركنا ذكرها لأنّها لم تجر بحيلة ولا مكيدة ولا تدبير صائب، وإنّما كانت كالفتن التي تجرى على ما يتفق. [2] وكان الغوغاء اجتمعوا بسرّ من رأى بعد هزيمة الأتراك الأولى لما رأوا ضعف المعتزّ، فانتهبوا سوق أصحاب الحلي والصيارف، فأخذوا جميع ما وجدوا فيها. فاجتمع التجّار إلى إبراهيم المؤيّد أخى المعتزّ فشكوا ذلك وأعلموه أنّهم قد كانوا ضمنوا لهم أموالهم وحفظها عليهم. فقال لهم المؤيّد:
- «كان ينبغي لكم أن تحوّلوا متاعكم إلى منازلكم ولم تكن عنده لذلك نكيرة.»
__________
[1] . بلد: اسم مدينة. انظر الطبري (12: 1577) .
[2] . ينبّه مسكويه على منهجه فى كتابة التاريخ مرّة أخرى.(4/345)
وورد من البصرة سفن بحريّة تسمّى البوارج وهي عشرة، فيها [385] نفّاطون وفى كلّ واحدة نجّار وخبّاز ومقاتلة. فكانوا يرمون الأتراك وعساكرهم بالنيران فانتقلوا من معسكرهم.
ظفر سليمان بعسكر الحسن بن زيد
وفى هذه السنة ظفر سليمان بن عبد الله بعسكر الحسن بن زيد فتنحّى الحسن عن طبرستان ولحق بالديلم. ووردت الكتب على السلطان بالفتح، وكتب نسخة كتاب الفتح على يد محمد بن طاهر. وكان سبب ذلك أنّ أهل آمل لقوا من عسكر الحسن بن زيد عبئا فأتوا سليمان بن عبد الله مظهرين توبة وإنابة، وتاب إليهم خلق كثير من جيشه فنهض إلى الحسن بن زيد بتعبئة وعدّة فهزمه واستولى على بلاد طبرستان وانقطعت أسباب الفتنة عنه.
وظفر محمد بن طاهر أيضا بالطالبىّ الذي كان بالري وأخذه أسيرا وكتب بالفتح.
وفرّق محمد بن عبد الله فى الكافر كوبات واستعمل منها شاكرا فرّقه فيهم.
فأثّروا فى الأتراك أثرا كبيرا وأحضر ينتويه رئيس العيّارين وسوّر ووصل بخمسمائة درهم وقدم من ناحية الرقّة مزاحم بن خاقان فتلقاه بنو هاشم وكان قدم معه من الخراسانية والأتراك والمغاربة ألف رجل معهم عتاد الحرب من كل صنف. فدخل بغداد ووصيف عن يمينه وبغا عن شماله ولمّا وصل خلع [386] عليه سبع خلع وقلّد سيفا وخلع على كلّ واحد من ابنيه خمس خلع.
ثمّ كثرت الوقعات أيضا من أصحاب محمد بن عبد الله وأصحاب أبى أحمد وضرى العيّارون وأصحاب السواري عليهم، فكانوا ينتصفون منهم فرئي غلام لم يبلغ الحلم معه مخلاة فيها حجارة ومقلاع يرمى عنه فلا(4/346)
يخطئ وجوه الأتراك ووجوه دوابّهم واجتمع عليه أربعة من الفرسان الناشبة جعلوا يرمونه فيخطئونه وجعل يرميهم فلا يخطئ وتتقطّر بهم دوابّهم من رميه. فمضوا وحملوا معهم أربعة من رجّالة المغاربة بالرماح، فداخله اثنان منهم فرمى بنفسه فى الماء ودخلا خلفه فلم يلحقاه وعبر إلى الجانب الشرقي وصيّح بهما وكبّر الناس فرجع جميعهم ولم يصلوا إليه.
قدوم أبى الساج
وفى هذه السنة قدم أبو الساج من طريق مكة فى نحو من سبعمائة فارس ومعه ثمانية عشر محملا فيها ستة وثلاثون أسيرا من أسارى الأعراب فى الأغلال فدخل هو وأصحابه بغداد فى زي حسن وسلاح ظاهر فخلع عليه خمس خلع وانصرف إلى منزله.
وقدم أيضا بغداد حبشون ومعه يوسف بن يعقوب قوصرّة مولى الهادي فيمن كان مع موسى بن بغا من الشاكرية وانضمّ [387] إليه عامّة الشاكرية المقيمون بالرقّة وهم ألف وثلاثمائة، فخلع عليه خمس خلع وعلى جماعة من الوجوه وانصرفوا إلى منازلهم.
وخلع على أبى الساج ديوداذ وعلى ابن فراشه، وعسكر أبو الساج فى سوق الثلاثاء وأعطى بغالا من بغال السلطان حمل عليها الرجّالة وأمر بالخروج إلى المدائن لضبطها. فحكى أنّ أبا الساج لمّا أمره محمد بن عبد الله بالشخوص إلى المدائن قال له:
- «أيّها الأمير عندي مشورة أشير بها.» قال: «قل يا أبا جعفر فإنك غير متّهم.» قال: «إن كنت تريد أن تجادّ هؤلاء القوم فالرأى لك ألّا تفارق قوّاده ولا تفرقهم، واجمعهم حتّى تفضّ هذا العسكر الذي بازائك، فإنك إذا فرغت من(4/347)
هؤلاء فما أقدرك على من وراءك.» فقال: «لى تدبير والله الكافي.» فقال له أبو الساج:
- «السمع والطاعة.» ومضى لما أمره به.
فلمّا صار إلى المدائن ثمّ إلى الصيّادة ابتدأ فى حفر خندق كسرى وكتب يستمدّ فوجّه إليه خمسمائة رجل. وكان شخوصه فى ثلاثة آلاف فارس وراجل ثمّ استمدّ حتّى حصل فى عسكره ثلاثة آلاف فارس وألفا راجل.
ووجّه محمد بن عبد الله إلى الأنبار نجوبة بن قيس فى الأعراب وأمره بالمقام بها والفرض [388] لأعراب الناحية، فأثبت نحوا من ألفى رجل وأقام بالأنبار وضبطها فبلغه أنّ قوما من الأتراك قصدوه فبثق الماء من الفرات إلى خندق الأنبار وفاض من الصحارى إلى ناحية السيلحين. فصار ما يلي الأنبار بطيحة، وقطع القناطر وكتب يستمدّ فندب للخروج إليه رشيد بن كاوس أخو الأفشين فى ألف رجل وأمدّه ابن طاهر بثلاثمائة رجل انتخبهم من القادمين من الثغور. فرحل، وأخرج المعتزّ أبا نصر بن بغا من سرّ من رأى على طريق الإسحاقى فسار يومه وليلته، وصبّح الأنبار ساعة وصل رشيد فنزل رشيد خارج المدينة وكان نجوبة نازلا المدينة.
فلمّا وافى أبو نصر عاجل رشيدا وهم غارّون على غير تعبئة فوضع فيهم السيف وثار أصحاب رشيد إلى سلاحهم فقاتلوا الأتراك والمغاربة أشدّ قتال وقتلوا منهم جماعة، ثمّ انهزم الشاكرية ورشيد على الطريق الذي جاءوا منه وبلغ نجوبة [1] ما لقى رشيد وأصحابه، فعبر إلى الجانب الغربي وقطع جسر
__________
[1] . فى الأصل: بحونة: والضبط من الطبري وتد، كما سبق. ما فى آمهمل دون أىّ نقط.(4/348)
الأنبار وصار رشيد إلى المحوّل وسار نجوبة فى الجانب الغربي حتّى وافى بغداد ودخل رشيد فى هذه العشية إلى دار ابن طاهر وأعلم نجوبة محمد بن عبد الله أنّه عند [389] مصير الأتراك إلى الأنبار وجّه إلى رشيد يسأله أن يوجّه إليه مائة رجل من الناشبة ليرتّبهم قدّام أصحابه فأبى ذلك، ثمّ سأل أن يضمّ إليه ناشبة ليصير إلى بنى عمّه فإنّهم مقيمون على الطاعة فى الجانب الغربي وضمن أن يتلافى ما كان منه، فضمّ إليه ثلاثمائة رجل من الناشبة والفرسان مع رجّالة منهم.
فمضى إلى قصر أبى هبيرة يستعدّ هناك واختار محمد بن عبد الله الحسين بن إسماعيل للأنبار ووجّه معه محمد بن رجاء الحصارى وعبد الله بن نصر بن حمزة ورشيد بن كاوس وجماعة من أهل النجدة وأمر للناس برزق أربعة أشهر ممّن يخرج مع الحسين. فامتنع من قدم من الثغور من قبض رزق أربعة أشهر لأنّ أكثرهم كانوا بغير دوابّ وقالوا نحتاج أن نقوّى فى أنفسنا ونشتري دوابّ، فوعدهم. ثمّ أرضوا برزق أربعة أشهر كما بدءوهم.
ثمّ أحضر الحسين مع قوّاده الكبار وهم نحو من عشرين قائدا فخلع عليه وقدّمت مرتبته إلى الفوج الثاني وكان فى الفوج الرابع وصيّر رشيد على المقدّمة ومحمد بن رجاء على الساقة وخرج الحسين إلى معسكره وأمر وصيف وبغا بتشييعه وأخرج لأهل العسكر من المال ستّة وثلاثون ألف دينار [390] وسار الحسين وكان أهل الأنبار حين تنحّى نجوبة ورشيد وصار الأتراك والمغاربة إلى الأنبار ونادوا:
- «الأمان.» وأمروا بفتح حوانيتهم والتسوّق فيها، اطمأنّوا إلى ذلك منهم وسكنوا وطمعوا فى أن يفوا لهم، فأقاموا بذلك يومهم وليلتهم حتّى أصبحوا ووافت الأنبار سفن من الرقّة فيها دقيق وأطواف فيها زيت، فأخذوا جميعه وانتهبوا(4/349)
ما وجدوا وأخذوا الإبل والبغال والحمير ووجّهوا بذلك مع من يؤدّيه إلى منازلهم بسرّ من رأى مع رؤوس من قتل من أصحاب رشيد ومن أسروا، وكان الأسارى مائة وعشرين رجلا والرؤوس سبعين رأسا، وسار الحسين وانضمّ إليه نجوبة وكان بقصر ابن هبيرة وسأل لأصحابه مالا، فحمل إلى عسكر الحسين ثلاثة آلاف دينار لأصحاب بجونه [1] وحمل إلى الحسين مال وأطواق وأسورة لمن أبلى وأمدّ بالرجال فجاءه أبو السنا محمد بن عبدوس والجحّاف بن سوادة فى ألف فارس وراجل وجند انتخبوا من قيادات [2] شتّى ونزل الحسين بعسكره إلى قريب من دممّا. [3]
ذكر رأى أشير به عليه صواب
فأشار عليه رشيد والقوّاد أن ينزل عسكره بذلك الموضع لسعته وحصانته وأن يسير [391] فى قوّاده فى خيل جريدة. فإن كان الأمر له كان قادرا أن ينقل عسكره، وإن كان عليه انحاز إلى عسكره ثمّ راجع عدوّه.
فلم يقبل الرأى وحملهم على المسير من موضعهم ومن الموضعين فرسخان. فلمّا بلغوا الموضع الذي أراد الحسين النزول فيه أمر الناس بالنزول وكانت جواسيس الأتراك فى عسكر الحسين فصاروا إليهم فأعلموهم رحيل الحسين، وضيق معسكره الذي نزل به، فوافوهم والناس يحطّون أثقالهم.
فثار أهل العسكر فكانت بينهم قتلى، ثمّ حمل أصحاب الحسين عليهم فكشفوهم كشفا قبيحا وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وغرق منهم خلق. وكان
__________
[1] . نهاية ما حذف من تد (582) .
[2] . فى تد (583 الصفحة الأخيرة) : بنادات.
[3] . الى هنا تنتهي تد، وهي القطعة التي نشرها دى خويه من أجزاء تجارب الأمم مشفوعة بقسم من كتاب العيون والحدائق (بريل 71- 1869) .(4/350)
الأتراك قد كمنوا قوما فخرج الكمين على بقية العسكر فلم تكن لهم همّة إلّا الهرب ولا ملجأ إلّا الفرات. فغرق خلق وقتل جماعة. فأمّا الفرسان فضربوا دوابّهم لا يلوون على شيء والقوّاد ينادونهم يسألونهم الرجعة فلم يرجع أحد. وأبلى محمد بن رجاء ورشيد ونجوبة بلاء حسنا ولم يكن لمن انهزم معقل دون الياسرية على باب بغداد فلم يملك القوّاد أمور أصحابهم فأشفقوا حينئذ على أنفسهم فانثنوا راجعين وراءهم يحمونهم من أدبارهم أن يتبعوا وحوى الأتراك عسكر الحسين. [392] ولقى رجل من التجّار فى جماعة ممّن ذهبت أموالهم فى عسكر الحسين.
فقال له:
- «الحمد لله الذي بيّض وجهك أصعدت فى اثنى عشر يوما ورجعت فى يوم واحد.» فتغافل عنه.
وأمر ابن طاهر الشاه بن ميكال فى صبيحة الليلة التي وافى فيها الحسين أن يتلقاه ويمنعه من دخول بغداد، فلقيه فى الطريق فردّه إلى بستان الحروى فأقام يومه. فلمّا كان الليل صار إلى دار ابن طاهر فوبّخه ابن طاهر وأمره بالرجوع إلى الياسرية، ثمّ أمر بإخراج مال لإعطاء شهر واحد لأهل هذا العسكر، فحملت تسعة آلاف دينار وصار كتاب ديوان العطاء وديوان العرض إلى الياسريّة لعرض الجند وإعطاءهم.
ونودى ببغداد فيمن يدخلها من الجند الذين فى عسكر الحسين أن يلحقوا بالحسين فى عسكره وأجّلوا ثلاثة أيّام فمن وجد منهم ببغداد بعد ثالثة ضرب ثلاثمائة سوط وقرض اسمه من الديوان فخرج الناس.
وأمر خالد بن عمران فى الليلة التي قدم فيها الحسين أن يعسكر بأصحابه بالمحوّل ورحل الحسين وكتب إلى خالد بن عمران أن يرحل متقدّما أمامه(4/351)
فامتنع خالد من ذلك وذكر أنّه لا يبرح حتّى يأتيه قائد فى جند كثيف فيقيم مكانه لأنّه يتخوّف أن [393] يأتيه الأتراك من خلفه من عسكرهم. وصار إلى الحسين رجل فأخبره أنّ الأتراك قد دلّوا على عدّة مواضع من الفرات تخاض إلى عسكره. فأمر بضرب الرجل مائتي سوط ووكّل بمواضع المخاوض رجلا من قوّاده يقال له الحسن بن علىّ بن يحيى الأرمنى فى مائة فارس ومائة راجل، فطلع أوّل القوم فخرج إليهم وقد أتاه منهم أربعة عشر علما، فقاتل أصحابه ساعة ووكّل بالقنطرة أبا السنا وأمر أن يمنع من انهزم من العبور فأبى الأتراك المخاضة فرأوا الموكّل بها فتركوه واقفا وصاروا إلى مخاضة أخرى من خلف المتوكّل فصبر الحسين بن على وقاتل وقيل للحسين بن إسماعيل، فقصد نحوه فلم يصل إليه حتّى انهزم وانهزم خالد بن عمران ومنعهم أبو السنا من العبور على القنطرة، فرجع الرجّالة والخراسانية فرموا بأنفسهم فى الفرات فغرق من لم يكن يحسن السباحة وعبر من كان يحسنها فنجا عريان، وخرج إلى جزيرة لا يصل منها إلى الشاطئ لما عليه من الأتراك.
فذكر عن بعض جند الحسين أنّه قال: بعث الحسين بن علىّ الأرمنى إلى الحسين بن إسماعيل:
- «إنّ الأتراك قد وافوا المخاضة.» فأتاه الرسول فقال الحاجب:
- «الأمير نائم.» فرجع الرسول [394] فأعلمه فردّ رسولا ثانيا. فقال له الحاجب:
- «الأمير فى المخرج.» فرجع فأخبره فردّ رسولا ثالثا فقال:
- «قد خرج من المخرج ونام.»(4/352)
وجاءت الصبيحة وعبر الأتراك فقعد الحسين فى زورق وانحدر واستأمن قوم من الخراسانية رموا ثيابهم وسلاحهم وقعدوا على الشاطئ عراة وشدّ أصحاب أعلام الأتراك حتّى ضربوا أعلامهم على مضرب الحسين واقتطعوا السوق ولحق الأتراك أصحاب الحسين فوضعوا فيهم السيف فقتلوا وأسروا نحوا من مائتين وغرق خلق كثير ووافى الحسين والمنهزمة نصف الليل ووافى فلّهم وبقيّتهم بالنهار وفيهم جرحى كثير وفقد جماعة من القوّاد.
وورد كتاب أبى الساج بوقعة كانت له مع الأتراك ورئيسهم بايكباك فهزم الأتراك وقتل بايكباك وغرق منهم خلق كثير فحمل إليه محمد بن عبد الله بن طاهر عشرة آلاف دينار صلة ومعونة وخمسة أبواب خلعية وسيف.
وفى هذه السنة نقبت الأتراك السور الذي عليه أصحاب ابن طاهر من ناحية بغواريا [1] فى موضعين ودخلوهما وقاتلهم أصحاب ابن طاهر فهزموهم حتّى وافوا باب الأنبار وعليه إبراهيم بن محمد بن مصعب وابن أبى خالد وغيره وهم لا يعلمون بما وراءهم ويقاتلون من بين أيديهم [395] قتالا شديدا. ثمّ إنّهم علموا بهم فانهزموا لا يلوون على شيء فضرب الأتراك باب الأنبار بالنار فاحترق وأحرقوا ما كان هناك من المجانيق والعرّادات ودخلوا بغداد حتّى صاروا إلى باب الحديد من الشارع إلى موضع الدواليب فأحرقوا كلّ شيء قرب من ذلك الموضع من أمامهم ووراءهم ونصبوا أعلامهم وانهزم الناس.
فركب محمد بن طاهر فى السلاح ووافاه القوّاد فوجههم إلى باب الأنبار وباب بغواريا وجميع الأبواب التي فى الجانب الغربي وشحنها بالرجال، وركب بغا ووصيف والشاه بن ميكال وتوجّهوا إلى هذه الأبواب. فقتل من
__________
[1] . انظر الطبري (12: 1621) .(4/353)
الأتراك خلق كثير ووجّه برؤوسهم إلى ابن طاهر وكاثرهم الناس حتّى أخرجوهم من بغداد بعد أن قتل منهم خلق كثير. فلمّا انصرفوا وكّل بغا بالباب من يحفظه ووجّه فى حمل الآجر والجصّ وأمر بسده.
وفيها وافى بغداد بالفردك بن ابرنكجيل [1] الأسروشنى فأمر له محمد بن عبد الله بفرض وضمّ إليه رجالا من الشاكرية وأمر أن يعسكر بالكناسة ويجمع مع المظفر بن سيسل [2] بالياسرية فى ضبط تلك الناحية ويكون أمرهما واحدا فاختلفا وكتب كلّ واحد [396] منهما يشكو الآخر ويستعفى من المقام بالكناسة فأفرد بالموضع بالفردك وأعفى المظفّر.
مقتل بالفردك
وفى آخر ليلة بقيت من شهر رمضان من هذه السنة قتل بالفردك.
ذكر السبب فى ذلك كان سبب قتله أنّ أبا نصر ابن بغا لمّا غلب على الأنبار وهزم جيوش ابن طاهر من تلك الناحية فأجلاهم [عنها] بثّ خيله ورجاله فى أطراف بغداد وصار إلى قصر ابن هبيرة وبها نجوبه بن قيس من قبل ابن طاهر، فهرب منه من غير قتال. ثمّ صار أبو نصر إلى نهر صرصر واتصل بابن طاهر خبره وخبر وقعة كانت بين أبى الساج والأتراك بجرجرايا وخذلان من معه إيّاه ندب بالفردك إلى اللحاق بأبى الساج والمصير إليه بمن معه، فسار فى أصحابه لليلتين بقيتا من شهر رمضان فسار يومه وصبّح المدائن فوافاها مع موافاة الأتراك وبالمدائن أصحاب إبن طاهر، فقاتلهم الأتراك فانهزموا ولحق
__________
[1] . فى الأصل غموض وما فى الطبري أغمض. انظر الطبري (12: 1623) .
[2] . انظر الطبري (12: 1621) .(4/354)
من فيها من القوّاد بأبى الساج وقاتل قتالا شديدا. فلمّا رأى انهزام من هناك مضى متوجّها نحو أبى الساج فأدرك فقتل وقيل إنّه غرق.
انهزام الترك فى وقعة بغداد
وفى هذه السنة كانت وقعة عظيمة لأهل بغداد هزموا فيها الأتراك وانتهبوا فيها عسكرهم.
وكان سبب ذلك أنّ أبواب بغداد كلّها فتحت من الجانبين ونصبت المجانيق والعرّادات فى الأبواب كلّها والسيارات [1] فى دجلة وخرج منها الجند كلهم وخرج ابن طاهر وبغا ووصيف وتزاحف الفريقان واشتدّت الحرب إلى باب القطيعة، ثمّ عبروا إلى باب الشمّاسية وقعد ابن طاهر فى قبّة ضربت عليه وأقبلت الرماة من بغداد بالناوكية فى الزواريق، فربّما انتظم السهم الواحد عدّة منهم فقتلهم فهزم الأتراك وتبعهم أهل بغداد حتّى صاروا إلى عسكرهم، فانتهبوا سوقهم وهرب الأتراك على وجوههم لا يلوون على شيء وحملت الرؤوس حتّى كثرت. فجعل وصيف وبغا يقولان:
- «كلّما جيء برأس ذهب والله الموالي واتّبعهم أهل بغداد إلى الروذبار.» ووقف أبو أحمد ابن المتوكّل يردّ الموالي ويخبرهم أنّهم إن لم يكرّوا لم يبق لهم بقيّة وأنّ القوم يتبعونهم إلى سرّ من رأى. فتراجعوا وثاب بعضهم وأقبلت العامّة تحزّ رؤوس من قتل وجعل محمد بن عبد الله يطوّق كلّ من جاء برأس ويصله حتّى كثر ذلك وبدت الكراهة [398] فى وجوه من كان مع بغا ووصيف من الأتراك والموالي.
__________
[1] . فى الطبري (12: 1626) : الشبّارات.(4/355)
للأتراك يقدمها علم أحمر [1]
وأقبلت أعلام للحسن بن الأفشين مع الأعلام التي قد استلبه غلام لشاهك فنسي أن ينكسه، فلمّا رأى الناس العلم الأحمر ومن خلفه توهّموا أنّ الأتراك قد رجعوا عليهم فانهزموا وأراد بعض من وقف أن يقتل غلام شاهك، ففهمه ونكس العلم والناس قد ازدحموا منهزمين وتراجع الأتراك إلى معسكرهم ولم يعلموا بهزيمة أهل بغداد، فحملوا عليهم ووضعت الحرب أوزارها فلم تكن بعد ذلك وقعة.
ذكر السبب فى ذلك كان السبب فى ذلك أنّ ابن طاهر كان يكاتب المعتزّ فى الصلح. فلمّا كانت هذه الوقعة أنكرت فكتب أنّه لا يعود بعدها.
ثمّ أغلقت أبواب بغداد فاشتدّ عليهم الحصار فصاحوا على أبواب ابن طاهر:
- «الجوع، الجوع.» وكان الناس يجتمعون فى الجزيرة التي تلقاء دار ابن طاهر ويشتمونه.
فراسل ابن طاهر المعتزّ فى الصلح واضطرب أمر أهل بغداد فوافى من سرّ من رأى حمّاد بن إسحاق بن حمّاد [399] ووجّه مكانه رهينة عنه أبو سعيد الأنصارى، فلقى حمّاد ومحمد بن طاهر فخلا به ولم يذكر ما جرى بينهما.
ثمّ انصرف حمّاد إلى عسكر أبى أحمد ورجع أبو سعيد إلى بغداد وأمر ابن طاهر بإطلاق جميع من فى الحبوس ممّن كان حبس بسبب ما كان بينه
__________
[1] . فى الأصل وآ بدل ما بين المعقوفتين: «التي للحسن بن الأفشين» (بالتكرار) ، مع أنّ العبارة ناقصة. فحذفنا المكرّر واكملنا العبارة بما فى الطبري (12: 1627) .(4/356)
وبين أبى أحمد من الحروب ومعاونته إيّاه فأطلقوا.
وفى غد هذا اليوم اجتمع قوم من رجّالة الجند وكثير من العامّة. أمّا الجند فطلبوا أرزاقهم وأمّا العامّة فشكت سوء الحال التي هم بها من الضيق وغلاء السعر وشدّة الحصار وقالوا:
- «إمّا خرجت فقاتلت وإمّا تركتنا نمضي فى البلاد.» فوعدهم الخروج أو فتح الباب للصلح ورفق بهم ومنّاهم، ثمّ اجتمع الجند والناس من العوامّ مرّة أخرى، وكان ابن طاهر قد شحن الجزيرة بالخيل وكذلك باب داره والجسر، فحصر الجزيرة بشر كثير فطردوا من كان ابن طاهر رتّبهم فيها.
ثمّ صاروا إلى الجسر فطردوا من كان هناك من أصحاب ابن طاهر وصاروا إلى الحبس فمانعهم أبو مالك الموكّل بالمحبس الشرقي فشجّوه وجرجوا دابّتين لأصحابه فدخل داره وخلّاهم فانتهبوا ما فى مجلسه. [400] ثمّ عبر إليهم محمد بن أبى عون فضمن للجند رزق أربعة أشهر فانصرفوا.
ووجّه أبو أحمد خمس سفائن من دقيق وحنطة وشعير وقتّ إلى ابن طاهر فوصلت إليه، ثمّ علم الناس بما عليه ابن طاهر من خلعه المستعين وبيعته للمعتزّ ووجّه ابن طاهر قوّاده إلى أبى أحمد حتّى بايعوه للمعتزّ فخلع على كلّ واحد منهم أربع خلع، وظنّت العامّة أن الصلح جرى بأنّ الخليفة المستعين وانّ المعتزّ ولى عهده بعده.
فلمّا كان بعد ذلك خرج رشيد بن كاوس مع قائدين آخرين ووجّهوا إلى الأتراك بأنّه على المصير إليهم ليكون معهم فوافاه من الأتراك زهاء ألف فارس فخرج إليهم على أنّ الصلح قد وقع فسلّم عليهم وعانق من عرف منهم وأخذوا بلجام دابّته ومضوا به وبابنه فى إثره. فلمّا كان من الغد صار رشيد إلى باب الشمّاسية وقال حين كلّم الناس:(4/357)
- «إنّ أمير المؤمنين وأبا أحمد يقرءان عليكم السلام ويقولان لكم: من دخل فى طاعتنا قرّبناه ووصلناه ومن أبى ذلك فهو أعلم.» فشتمه العامّة ثمّ طاف على جميع الأبواب الشرقية بمثل ذلك وهو يشتم [401] فى كلّ باب [ويشتم] [1] المعتزّ. فلمّا فعل رشيد ذلك علمت العامّة ما عليه ابن طاهر، فمضت إلى الجزيرة التي بحيال دار ابن طاهر فصاحوا به وشتموه أقبح شتم، ثمّ صاروا إلى بابه ففعلوا مثل ذلك. فخرج إليهم راغب الخادم فحضّهم على ما فعلوا بالمستعين ثمّ مضى إلى الحظيرة التي فيها الجيش فحضّهم، فصاروا إلى باب ابن طاهر فكشفوا من عليه وردّوهم فلم يبرحوا وقاتلوهم حتّى صاروا إلى دهليزه وأرادوا حرق الباب الداخل فلم يجدوا نارا وقد كانوا بالجزيرة الليل كلّه يشتمونه ويتناولونه بالقبيح.
فذكر عن ابن شجاع البلخي قال: كنت عند الأمير ويحدّثنى ويسمع ما يقذف به من كلّ إنسان حتّى ذكروا اسم أمّه. فضحك ثمّ قال:
- «يا با عبد الله والله ما أدرى كيف عرفوا اسم أمّى. ولقد كان كثير من جواري أبى العباس عبد الله بن طاهر لا يعرفون اسمها» فقلت له:
- «أيّها الأمير ما رأيت أوسع من حلمك.» فقال لى:
- «ما رأيت أوفق من الصبر عليهم، ولا بدّ من ذلك.» فلمّا أصبحوا وافوا الباب وصاحوا وصار ابن طاهر إلى المستعين يسأله أن يطّلع عليهم ويسكنهم ويعلمهم ما هو عليه.
- «فأشرف عليهم من أعلى الباب [402] وعليه البردة والطويلة وابن طاهر
__________
[1] . ما بين المعقوفتين من الطبري (12: 1631) .(4/358)
إلى جانبه. فحلف لهم بالله: ما أتّهمه وإنّى لفى عافية، ما علىّ منه باس وأنّه لم يخلع.» ووعدهم أن يخرج فى غد وهو يوم الجمعة فيصلّى بهم ويظهر لهم.
فانصرف عامّتهم بعد قتلى وقعت.
فلمّا كان يوم الجمعة بكّر الناس بالصياح يطلبون المستعين وانتهبوا دوابّ علىّ بن جهشيار وجميع ما كان فى منزله وهرب ولم يزل الناس وقوفا إلى أن ارتفع النهار، فوافى وصيف وبغا وأولادهما وقوّادهما ومواليهما وأخوال المستعين، فصاروا مع الناس جميعا إلى الباب فدخل وصيف وبغا فى خاصّتهما ودخل أخوال المستعين معهم إلى الدهليز فوقفوا على دوابّهم وأعلم ابن طاهر بمكان الأخوال فأذن لهم فأبوا وقالوا:
- «ليس هذا يوم نزول عن ظهور دوابّنا إلّا بعد أن نعرف نحن والعامّة حقيقة أمرنا.» فلم تزل الرسل تختلف إليهم وهم يأبون. فخرج إليهم محمد بن عبد الله بنفسه وسألهم النزول والدخول إلى المستعين فأعلموه أنّ العامّة قد ضجّت ممّا يبلغها وصحّ عندها ما أنت عليه من خلع المستعين والبيعة للمعتزّ وإرادتك [403] التهويل ليصير الأمر إليه وإدخال الأتراك والمغاربة بغداد فيحكموا فيهم بحكمه واستراب بك أهل بغداد واتّهموك على خليفتهم وأموالهم وأولادهم وأنفسهم وسألوا إخراج الخليفة إليهم ليروه ويكذّبوا ما بلغهم فيه. [1] فلمّا تبيّن محمد بن عبد الله ذلك الأمر ونظر إلى كثرة اجتماع الناس وضجّتهم سأل المستعين الخروج إليهم فخرج إلى دار العامّة التي كان يدخلها
__________
[1] . انظر الطبري (12: 1633) .(4/359)
جميع الناس فنصب له فيها كرسىّ وأدخل إليه جماعة من الناس فنظروا إليه.
ثمّ خرجوا إلى من وراءهم فأعلموهم صحّته فلم يقنعوا بذلك وعرف ابن طاهر كثرة الناس وأنّهم لا يسكنون فأمر بإغلاق باب الحديد الخارج فأغلق وصار هو وأخواله ومحمد بن موسى المنجّم وغيرهم إلى الدرجة التي تفضى إلى سطوح دار العامّة وخزائن السلاح. ثمّ نصبت لهم سلاليم على سطوح المسجد الذي يجلس فيه محمد بن عبد الله فأشرف المستعين على الناس وعليه سواد وفوق السواد بردة النّبى صلى الله عليه ومعه القضيب وتكلّم الناس وكلّمهم وناشدهم وسألهم بحقّ صاحب هذه البردة إلّا انصرفوا، فإنّه فى أمن وسلامة [404] ولا بأس عليه من محمد بن عبد الله.
فسألوه الركوب معهم والخروج من دار محمد بن عبد الله، فإنّهم لا يأمنونه عليه. فأعلمهم أنّه على النقلة منها إلى دار عمّته أمّ حبيب بنت الرشيد بعد أن يصلح له ما ينبغي، وبعد أن تحوّل أمواله وخزائنه وسلاحه وفرشه وجميع ما له فى دار محمد. فانصرف الناس وسكن أهل بغداد.
ولمّا فعل أهل بغداد ما فعلوا من اجتماعهم على ابن طاهر مرّة بعد مرّة وإسماعهم إيّاه المكروه وتقدّم إلى أصحاب المعاون ببغداد بتسخير ما قدروا عليه من الإبل والبغال والحمير لينتقل عنهم وأشيع أنّه يقصد المدائن، فاجتمع إلى بابه مشايخ الحربية والأرباض يعتذرون إليه ويسألونه الصفح ويذكرون أنّ ذلك كان من فعل الغوغاء والسفهاء لسوء الحال التي كانوا عليها من الضرّ. فردّ عليهم ردّا جميلا وأثنى عليهم وصفح عمّا كان منهم وتقدّم إليهم بالتقدّم إلى شبابهم وسفهاءهم والأخذ على أيديهم، وأجابهم إلى ترك النقلة وكتب إلى أصحاب المعاون بترك التسخير.
وانتقل المستعين من دار محمد بن عبد الله وصار إلى دار رزق الخادم فى الرصافة فوصل إليها مساء فأمر [405] للفرسان من الجند حين صار إليها(4/360)
بعشرة دنانير لكلّ فارس وللراجل بخمسة دنانير لكلّ واحد، وركب بركوب المستعين ابن طاهر وبيده الحربة يسير بها بين يديه والقواد خلفه، وأقام مع المستعين ليلة ثمّ انصرف، ولمّا انتقل المستعين اجتمع الناس والقوّاد وبنو هاشم للمصير إلى ابن طاهر والتسليم عليه وأن يسيروا معه إذا ركب إلى الرصافة. فصاروا إليه وحضر الضحى الأكبر من ذلك اليوم، فركب ابن طاهر وجميع قوّاده فى تعبئة وحوله ناشبة رجّالة. فلمّا خرج من داره وقف الناس فعاتبهم ثمّ حلف لهم أنّه ما أضمر لأمير المؤمنين أعزّه الله ولا لولد له ولا لأحد من الناس سوءا وأنّه ما يريد إلّا إصلاح أحوالهم وما تدوم به النعمة عليهم وأنّهم قد توهّموا عليه ما لم يعرفه حتّى أبكى عيون الناس فدعوا له.
ثمّ ركب وعبر الجسر فصار إلى المستعين.
وذكر أنّ المستعين كان كارها للنقلة عن دار محمد بن عبد الله ولكنّه انتقل من أجل أنّ الناس ركبوا الزواريق بالنفّاطين ليضربوا روشن ابن طاهر بالنار لما صعب عليه فتح الباب وكان يسمع دائما شتم الناس له وتناولهم عرضه بالقبيح. [406] ثمّ إنّ قوما وقفوا بباب الشمّاسية من قبل أبى أحمد فطلبوا ابن طاهر ليكلّموه. فكتب صالح إلى وصيف يعلمه خبر القوم ويسأله أن يعلم المستعين ذلك ليأمر فيه بما يرى، فردّ المستعين الأمر فيه إليه وقال:
- «إنّ التدبير فى جميع أموره مردود إليه.» فتقدّم فيه محمد بما رأى.
ولم يزل بعد ذلك أحمد بن إسرائيل والحسن بن مخلد وعبد الله بن يحيى يفتلون فى الذروة والغارب ويشيرون على محمد بالصلح. فذكر قوم أنّهم سألوا سعيد بن حميد بعد ذلك بدهر وقالوا:
- «ما ينبغي أن يكون محمد إلّا مداهنا وأنّه كان انطوى على غلّ فى أوّل(4/361)
أمره.» فقال: «وددت أنّه كان كذلك، لا والله ما هو إلّا أن هزم أصحابه من المدائن والأنبار حتّى توالت الهزائم عليه.» فأجاب القوم بعد أن كان قد جادّهم.
وحكى أحمد بن يحيى النحوي وكان يؤدّب ولد ابن طاهر: أنّ محمد بن عبد الله لم يزل جادّا فى نصرة المستعين حتّى أحفظه عبد الله بن يحيى بن خاقان، فقال له:
- «أطال الله بقاءك، إنّ هذا الذي تنصره بجدك وجهدك من أشدّ الناس نفاقا وأخبثهم دينا. والله لقد أمر وصيفا وبغا بقتلك فاستعظما [407] ذلك ولم يفعلاه فإن شككت فى ذلك فسل تخبر، ومن ظاهر نفاقه أنّه كان بسرّ من رأى لا يجهر فى صلاته ب: بسم الله الرحمان الرحيم، فلمّا صار إليك جهر بها مراءاة لك، ويترك نصرة وليّك وتربيتك وصهرك.» ونحو ذلك من الكلام.
فقال محمد بن عبد الله:
- «هذا ما يصلح لدين ولا لدنيا.» فكان أوّل ما صدّ محمدا عن الجدّ فى أمر المستعين. ثمّ ظاهر عبد الله بن يحيى على ذلك أحمد بن إسرائيل والحسن بن مخلد حتّى صرفوه عن رأيه فى نصرة المستعين.
وركب محمد بن عبد الله يوما إلى المستعين وحضر عدّة من الفقهاء والقضاة. فقال للمستعين:
- «قد كنت فارقتني على أن تنفذ أمرى فى كلّ ما أعزم عليه، ولك عندي بخطّك رقعة بذلك.» فقال المستعين:(4/362)
- «أحضر الرقعة.» فأحضرها فإذا فيها ذكر الصلح وليس فيها ذكر الخلع. فقال:
- «نعم أنفذ الصلح.» فقام ابن الجبلي فقال:
- «يا أمير المؤمنين إنّه يسألك أن تخلع قميصا قمّصكه والله عزّ وجل.» وتكلّم قوم وتكلّم علىّ بن يحيى المنجّم فأغلظ لمحمد بن عبد الله فاحتمله ثمّ ضرب لمحمد بن عبد الله بباب الشمّاسية مضرب كبير أحمر وخرج مع مائتي فارس ومائتي راجل إلى المضرب، وجاءه أبو أحمد فخرج إليه ودخل معه المضرب [408] ووقف الجند الذين مع كلّ واحد منهما ناحية. فتناظر ابن طاهر وأبوه أحمد طويلا ثمّ خرجا من المضرب وانصرف ابن طاهر إلى داره فى زلال. ثمّ ركب من داره ومضى إلى المستعين يخبره بما دار بينه وبين أبى أحمد، فأقام عنده إلى العصر ثمّ انصرف.
فحكى أنّه فارقه على أن يعطى خمسين ألف دينار ويقطع غلّة ثلاثين ألف دينار فى السنة على أن يكون مقامه ببغداد حتّى يحمل له مال يعطى الجند وعلى أن يولى بغا مكّة والمدينة والحجاز ووصيف الجبل، ويكون ثلث ما يجيء من المال لمحمد بن عبد الله وجند بغداد والثلثان للموالي والأتراك.
ثمّ ركب ابن طاهر فى ذى الحجّة من هذه السنة ليناظره فى الخلع، فناظره فامتنع عليه، وظنّ المستعين أنّ بغا ووصيفا معه فكاشفاه. فقال المستعين:
- «هذه عنقي والسيف [والنطع] [1] .» فلمّا رأى امتناعه انصرف عنه.
__________
[1] . زيادة من الطبري (12: 1641) .(4/363)
وبعث المستعين إلى ابن طاهر بعلىّ بن يحيى وقوم من ثقاته وقال لهم:
- «قولوا: اتّق الله إنّما جئتك لتدفع عنّى فإن لم تدفع عنّى فكفّ عنّى.» فردّ عليه:
- «أمّا أنا فأقعد فى بيتي ولكن لا بدّ لك من خلعها طائعا أو مكرها.» وذكر عن علىّ بن يحيى [409] أنّه قال:
- «قل له إن خلعتها فلا بأس عليها فو الله لقد تمزّقت تمزّقا لا ترقع أبدا وما تركت فيها فضلا.»
إجابة المستعين إلى الخلع
فلمّا رأى المستعين ضعف أمره ولم يجد ناصرا أجاب إلى الخلع على شريطة أشياء سألها. ولم يقنع المستعين إلّا بخروج ابن كردية إلى المعتزّ وهو من ولد المنصور وجماعة معه من ثقاته، وكان فى شروطه أن ينزل مدينة الرسول عليه السّلام وأن يكون مضطربه من مكّة إلى المدينة ومن مدينة إلى مكّة. فأجابه إلى ذلك. وكان سبب استجابة المستعين إلى الخلع أنّ وصيفا وبغا وابن طاهر أشاروا عليه بذلك فأغلظ لهم، فقال له وصيف:
- «أنت أمرتنا بقتل باغر فصرنا إلى ما نحن فيه وأنت عرّضتنا لقتل أوتامش وقلت إنّ محمدا ليس بناصح فاقتلوه.» فقال محمد:
- «وقد قلت إنّ الأمر لا يصلح إلّا بالاستراحة من هذين.» فلمّا اجتمعت كلمتهم أذعن بالخلع.
ولمّا كان يوم السبت لعشر بقين من ذى الحجّة، ركب محمد بن عبد الله إلى الرصافة وجميع القضاة والفقهاء، فأدخلهم إلى المستعين فوجا فوجا وأشهدهم عليه أنّه قد صيّر أمره إلى محمد بن عبد الله، ثمّ أدخل البوّابين(4/364)
والخدم وأخذ منه جوهر الخلافة [410] وأقام عنده حتّى مضى هوّى [1] من الليل وأرجف الناس ضروب الأراجيف. ثمّ بعث ابن طاهر إلى قوّاده فجاء كلّ قائد ومعه عشرة من وجوه أصحابه فأدخلهم إليه ومنّاهم وقال:
- «إنّما فعلت ما فعلت طلب صلاحكم وسلامتكم وحقن الدماء.» ثمّ أخرج قوما ثقات إلى المعتزّ، فمضوا إليه بالكتاب الذي فيه شروط المستعين ومحمد، فوقّع فيه المعتزّ بخطّه وأمضى كلّ ما سألاه وشهدوا عليه بإقراره لهما بذلك كلّه، وخلع المعتزّ على الرسل [2] ولم ينظر لهم فى حاجة ولا أطلق لهم جائزة ولم يأمر للجند بشيء.
وحمل إلى المستعين أمّه وابناه وعياله، بعد ما فتّش عياله، فأخذ منهم ما كان معهم.
__________
[1] . هوىّ من الليل: هزيع أو قسم منه.
[2] . والعبارة فى الطبري (12: 1643) : وخلع المعتزّ على الرسل وقلّدهم سيوفا وانصرفوا بغير جائزة.(4/365)
خلافة المعتزّ
ثمّ دخلت سنة اثنتين وخمسين ومائتين
وفيها خلع المستعين أحمد بن محمد بن المعتصم نفسه من الخلافة وبايع المعتزّ محمد بن جعفر المتوكّل بن محمد المعتصم فدعى للمعتزّ على منبري بغداد [1] ومسجدى جانبيها الشرقي والغربي، وأخذت البيعة على من كان بها من الجند.
فذكر أنّ ابن طاهر دخل على المستعين، ومعه سعيد بن حميد، حين كتب شروط الأمان [411] فقال له:
- «يا أمير المؤمنين قد كتب سعيد بن حميد كتاب الشرط ووكّده غاية التوكيد فيقرأه عليك وتسمعه.» فقال له المستعين:
- «لا عليك إلّا توكّده يا با العباس، فما القوم بأعلم بالله منك، وقد وكّدت على نفسك قبلهم، فكان ما قد علمت.» فما ردّ عليه محمد شيئا.
ولمّا بايع المستعين المعتزّ نقل من الرّصافة إلى قصر الحسن ووكّل به
__________
[1] . فى الأصل: بغداد (بإعجام الأخير) .(4/367)
وأخذ منه البردة والخاتم والقضيب ووجّه بها مع عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، وكتب معه كتابا من محمد، نسخته:
«بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله متمّم النعم والهادي إلى شكره وصلّى الله على محمد عبده ورسوله الذي جمع له من الفضل ما فرّقه فى الرسل قبله، وجعل تراثه راجعا إلى من خصّه بخلافته وسلّم تسليما. كتابي إلى أمير المؤمنين، وقد تمّم الله له أمره وتسلّمت تراث رسول الله صلى الله عليه ممّن كان عنده وأنفذته إلى أمير المؤمنين مع عبيد الله بن عبد الله مولى أمير المؤمنين وعبده.» ومنع المستعين الخروج إلى مكّة فاختار البصرة فنزلها.
واستوزر المعتزّ أحمد بن إسرائيل وخلع عليه ووضع على رأسه تاجا، وشخص أبو أحمد إلى سرّ من رأى [412] من معسكره وشيّعه محمد بن عبد الله، وخلع على محمد بن عبد الله خمس خلع وسيفا ورجع من الروذبار.
ولمّا وصل أبو أحمد إلى سرّ من رأى خلع عليه ستّ خلع وسيف وتوّج بتاج وقلنسوة مجوهرة ووشّح بوشاحى ذهب مجوهر وقلّد سيفا آخر مرصّعا بالجوهر وأجلس على كرسىّ وخلع على القوّاد الذين كانوا معه.
وكتب المعتزّ إلى محمد بن عبد الله أن يسقط وصيف وبغا ومن برسمهما من الدواوين. وتكلّم أبو أحمد بن المتوكّل فى قتلهما وخاطب محمد بن أبى عون فى ذلك فوعده بقتلهما، فكوتب وصيف وبغا بالخبر فركبا إلى ابن طاهر وقالا:
- «قد بلغنا أيّها الأمير ما ضمنه ابن أبى عون من قتلنا والقوم قد غدروا، وو الله لو أرادوا قتلنا ما قدروا عليه.»(4/368)
فحلف محمد لهما أنّه ما علم بشيء من ذلك. وتكلّم بغا بكلام شديد ووصيف يكفّه. ثمّ نهضا وأخذا فى الاستعداد وشرى السلاح وتفرقة الأموال.
وكان وصيف وجّه أخته فأخرجت من قصر أخيها وصيف ألف ألف دينار كانت مدفونة فيه. فدفعتها إلى المؤيّد فكلّم المؤيّد المعتزّ فى الرضا عن وصيف، فكتب بالرضا عنه.
وتكلّم أبو أحمد [413] فى الرضا عن بغا. ثمّ اجتمع الأتراك على المعتزّ فسألوه الأمر بإحضارهما، وقالوا:
- «هما كبيرانا ورئيسانا.» فكتب إليهما بذلك، فلمّا صار إلى سرّ من رأى اجتمع الموالي، وسألوا ردّهما إلى مراتبهما، فأجيبوا الى ذلك وبعث إليهما فخلع عليهما خلع المرتبة ورتّبا فى مرتبتهما التي كانت قبل مصيرهما إلى بغداد وأمر بردّ ضياعهما.
وفى هذه السنة شغب الجند على محمد بن عبد الله بن طاهر، وطالبوا بأرزاقهم وعظم الخطب فى ذلك حتّى خرجوا إلى باب حرب وباب الشمّاسية ومعهم الأعلام والطبول وضربوا المضارب والخيم، وبنوا بيوتا من بوارىّ وقصب، وجمع ابن طاهر أصحابه فبيّتهم فى داره.
فلمّا كان يوم الجمعة اجتمعوا وعزموا على المصير إلى المدينة ليمضوا إلى المسجد الجامع فيمنعوه من الدعاء للمعتزّ. فأعلمهم جعفر أنّه لا يقدر على الخروج إلى الصلاة، فانصرفوا عنه وصاروا إلى الشارع النافذ إلى دار الرقيق ثمّ قصدوا الجسر.
فوجّه إليهم محمد بن عبد الله بن طاهر جماعة من القوّاد والجند ليناظروهم ويدفعوهم دفعا رفيقا. فحملوا عليهم وجرحوا منهم جماعة وجرحوا أبا السنا [414] وكبّروا وصاروا إلى دار ابن طاهر فقوتلوا، وقتل من الفريقين جماعة.(4/369)
وصار جماعة من الغوغاء إلى مجلس الشرطة، فكسروا بيت الرفوع وانتهبوا ما فيه، وكان هناك أصناف من المتاع، كبير جليل [1] ، وأحرق محمد بن طاهر الجسرين لمّا رأى الجند يعبرون وقد ظهروا على أصحابه وضرب عدّة من الحوانيت بالنار للتجّار فيها متاع كثير لهم، فحالت النار بين الفريقين، وانصرف القوم إلى مضاربهم بباب حرب والشمّاسية. وانضمّ إلى ابن طاهر جماعة وعاد إليه قوم من المشغّبة وعبّأهم تعبئة الحروب خوفا من كثرة الجند، فلم تكن لهم عودة، وتلطّف القوّاد فى التضريب بينهم، حتّى تفرّقوا وصاروا إلى منازلهم.
خلع المعتزّ أخاه المؤيّد من ولاية العهد
وفى رجب من هذه السنة خلع المعتزّ أخاه المؤيّد من ولاية العهد بعده.
ذكر السبب فى ذلك كان السبب فى ذلك أنّ عامل أرمينية وأذربيجان، وهو العلاء بن أحمد، بعث إلى إبراهيم بن المتوكّل المؤيّد بخمسة آلاف دينار ليصلح بها أمره.
فبعث ابن فرّخان شاه إليها [415] فأخذها. فأغرى المؤيّد الأتراك بعيسى بن فرّخانشاه، فشكا ذلك إلى المعتزّ وعرّفه الحال.
فبعث المعتزّ إلى أخويه المؤيّد وأبى أحمد فحبسهما فى الجوسق، وقيّد المؤيّد وصيّره فى حجرة ضيّقة وأدرّ العطاء للأتراك والمغاربة وحبس كنجور صاحب [2] المؤيّد، وتوفّى إبراهيم المؤيّد.
__________
[1] . كذا فى الأصل: كبير جليل. فى آ: كثير جليل. وليست العبارة موجودة فى الطبري (11: 1665) .
[2] . فى الطبري (12: 1668) : حاجب.(4/370)
ذكر سبب وفاة المؤيّد
ذكر أنّ امرأة من نساء الأتراك [1] جاءت إلى محمد بن راشد المغربىّ، فأخبرته أنّ الأتراك يريدون إخراج المؤيّد من الحبس فركب محمد بن راشد إلى المعتزّ، فأعلمه ذلك، فدعا بموسى بن بغا وسأله فأنكر وقال:
- «يا أمير المؤمنين إنّما أرادوا أن يخرجوا أبا أحمد بن المتوكّل لأنسهم كان به فى الحرب التي كانت، فأمّا المؤيّد فلا.» فلمّا كان يوم الخميس لثمان بقين من رجب، دعا بالقضاة والفقهاء والوجوه فأخرج إليهم إبراهيم المؤيّد ميتا لا أثر به ولا جرح. فذكر أنّه أدرج فى لحاف سمّور، ثمّ أمسك طرفاه حتّى مات. وقيل: إنّه أجلس على الثلج ونضّدت حجارة الثلج عليه، فجمد بردا.
وفى شوّال منها قتل المستعين ذكر السبب فى قتله [416]
اختلف فى قتله. [2] فقال قوم: كوتب محمد بن عبد الله بتسليم المستعين إلى منصور بن حمزة وهو على واسط، ثمّ وجّه أحمد بن طولون التركىّ فى جيش فوافى به القاطول. وقيل بل كان أحمد بن طولون موكّلا بالمستعين، فوجّه سعيد بن صالح فى حمله فصار إليه سعيد فحمله. فيقال: إنّه قتله سعيد بالقاطول. ويقال: بل حمله سعيد إلى منزله بسرّ من رأى فعذّبه حتّى مات. ويقال: بل غرّقه، ويقال: بل قتله. وأتى المعتزّ برأسه وهو يلعب بالشطرنج فقيل:
__________
[1] . انظر الطبري (12: 1669) .
[2] . انظر الطبري (12: 1670) .(4/371)
- «هذا رأس المخلوع.» فقال: «ضعوه هناك.» ثمّ فرغ من لعبه فدعا به فنظر إليه ثمّ أمر بدفنه وأمر لسعيد بخمسة آلاف درهم وولّاه معونة البصرة.
وفى هذه السنة كانت بين المغاربة والأتراك ملحمة ذكر السبب فى ذلك
كانت الأتراك وثبت على عيسى بن فرّخانشاه فتناولوه بالضرب وأخذوا دوابّه. فاجتمعت المغاربة وتكلّمت ورئيسهم محمد بن راشد ونصر بن سعيد.
فقالوا:
- «فى كلّ يوم تقتلون خليفة وتخلعون خليفة وتقتلون وزيرا وتثبون بآخر.» [1] [417] فغلبوا الأتراك على الجوسق وأخرجوهم منه. ثمّ وثبوا على بيت المال، وأخذوا دوابّ للأتراك وأرسلوا إلى من بالكرخ والدور منهم. فالتقوا مع المغاربة وتقاتلوا، فقتل من المغاربة رجل واحد وأخذت المغاربة قاتله وأعانت العامّة المغاربة. فأصلح جعفر بن عبد الواحد بين الفريقين فاصطلحوا على أن يكون فى كلّ موضع يكون فيه واحد من قبل أحد الفريقين يكون معه آخر من الفريق الآخر. فمكثوا على ذلك مدة مديدة [2] ثمّ اجتمع الأتراك إلى بايكباك فقالوا:
- «نطلب هذين الرأسين، فإن ظفرنا بهما فليس ينطق أحد.» يعنون محمد بن راشد ونصر بن سعيد. فبلغ أمر الأتراك هذين، فصارا
__________
[1] . فى آ: وتثبتون آخر.
[2] . فى الأصل: مدّيدة! وهو إمّا سهو من الكاتب، أو بحذف الموصوف: «مدة» . فى آ: مديدة.(4/372)
إلى محمد بن عزّون فغمز بهما إلى بايكباك رجل، وقيل: بل كان ابن عزّون هو الذي دسّ إلى الأتراك من دلّهم عليها فقتلوهما. وبلغ ذلك المعتزّ من فعل ابن عزّون، فهمّ بقتله. ثمّ كلّم فيه فنفاه إلى بغداد ثمّ خاف فخرج إلى ضيعة له بالكوفة لها حصن. فوافاه فيها الأعراب فقتلوه.
وذكر أنّ أرزاق الأتراك والمغاربة والشاكرية قدّرت فى هذه السنة، فكان مبلغ [418] ما يحتاجون إليه فى السنة مائتي ألف ألف دينار وذلك خراج المملكة لسنتين.
ودخلت سنة ثلاث وخمسين ومائتين
وفيها عقد المعتزّ فى اليوم الرابع من رجب لموسى بن بغا الكبير على الجبل لحرب عبد العزيز بن أبى دلف، ومع موسى يومئذ من الأتراك ومن يجرى مجراهم ألفان وأربعمائة وثلاثة وثلاثون رجلا، منهم مع مفلح ألف ومائة وثلاثون رجلا. فأوقع مفلح- وهو على مقدّمة موسى بن بغا- بعبد العزيز بن أبى دلف لثمان بقين من رجب من هذه السنة، وعبد العزيز فى زهاء عشرين ألفا. وكانت الوقعة بينهما خارج همذان، فهزمه مفلح ثلاث فراسخ يقتلون ويأسرون. ثمّ رجع مفلح موفورا بمن معه وكتب بالفتح.
فلمّا كان فى شهر رمضان عبّأ مفلح خيله وتوجّه نحو الكرج [1] ، ووجّه عبد العزيز عسكرا فى أربعة آلاف. وكمن مفلح كمينين، فقاتلهم مفلح وخرج الكمينان فانهزم أصحاب عبد العزيز ووضع فيهم السيف. وأقبل عبد العزيز
__________
[1] . كرج: قرية فى ناحية روزراور بالقرب من همذان من نواحي الجبال بين همذان ونهاوند. وهذه كرج أبى دلف، لأنّه مصّرها واستوطنها. كرج دلان: من قرى الرّىّ. كرج، وأهلها يسمّونها «كره» : وهذه فى رستاق يقال له «فاتق» عرّب عن «هفته» ، فيض من احدى كورتى أصفهان (مراصد الإطلاع- بتصرّف) .(4/373)
فى جيش ليعين أصحابه، فانهزم بانهزامهم [419] وترك الكرج ومضى إلى قلعة له فى جبل الكرج يقال لها: الزر [1] ، ونزل مفلح الكرج وأخذ جماعة من آل أبى دلف ونساء من نساءهم. فذكر أنّه وجّه سبعين حملا من الرؤوس إلى سرّ من رأى، وأعلاما كثيرة.
وفى هذه السنة قتل وصيف التركىّ ذكر الخبر عن ذلك
كان الأتراك والفراغنة شغّبوا. وطلبوا أرزاقهم لأربعة أشهر. فخرج إليهم بغا ووصيف وسيما الشاربى فى نحو مائة إنسان، فكلّمهم وصيف وقال:
- «ما تريدون.» قالوا: «أرزاقنا.» فقال: «خذوا ترابا، وهل عندنا مال؟» فقال لهم بغا:
- «نعم نسأل أمير المؤمنين ذلك، ثمّ ينصرف عنكم من ليس منكم، ونتناظر فى دار أشناس.» فدخلوا إلى أشناس، ومضى سيما منصرفا إلى سرّ من رأى وتبعه بغا لاستئمار الخليفة فى إعطاءهم، وصار وصيف فى أيديهم. فضرب ضربتين بالسيف واحتمله نوشرى وهو أحد قوّاده إلى منزله، ثمّ أبطأ عليهم. فظنّوا أنّه فى التعبئة عليهم وقصدهم. فاستخرجوه من منزل نوشرى وضربوه بالطبرزينات حتّى كسروا عضديه. ثمّ ضربوا عنقه [420] ونصبوا رأسه على محراك تنّور، وقصدت العامّة بسرّ من رأى لانتهاب منازل وصيف وولده،
__________
[1] . فى الطبري (12: 1687) : دز.(4/374)
فرجع بنو وصيف فمنعوا منازلهم.
وجعل المعتزّ ما كان إليه، إلى بغا الشرابي.
وفى هذه السنة مات محمد بن عبد الله بن طاهر، ليلة كسوف القمر، وذلك لثلاث عشرة خلت من ذى القعدة، غرق القمر كلّه، ومات محمد مع انتهاء غرقه. وكانت علّته من قروح ذبحته فى حلقه.
انهزام الكوكبىّ
وفيها لقى موسى بن بغا بقزوين الكوكبيّ الطالبىّ على فرسخ من قزوين، فهزمه، ولحق الكوكبي بالديلم.
ذكر الخبر عن ذلك كان أصحاب الكوكبي من الديلم أقاموا تراسهم فى وجوههم. فلمّا نظر موسى ورأى سهام أصحابه لا تصل إليها أمر بما معه من النفط، فصبّ فى الأرض على حشيش كان هناك. ثمّ أمر أصحابه بالاستطراد لهم. فلمّا فعلوا ذلك ظنّ الكوكبي وأصحابه أنّهم قد انهزموا فتبعوهم، فلمّا علم موسى أنّهم قد توسّطوا النفط أمر بالنار فأشعلت فأحدقت النار فيه، وخرجت من تحت أقدامهم، فجعلت تحرقهم وهرب [421] الباقون، فصارت هزيمة، ودخل موسى قزوين.
ودخلت سنة أربع وخمسين ومائتين
وفيها كان مقتل بغا الشرابىّ.(4/375)
ذكر مقتل بغا الشرابىّ
كان بغا يحضّ المعتزّ على المصير إلى بغداد والمعتزّ يأبى ذلك. ثمّ انّ بغا اشتغل مع صالح بن وصيف فى خاصّته لعرس جمعة بنت بغا وكان صالح بن وصيف تزوّجها. فركب المعتزّ ليلا ومعه أحمد بن إسرائيل إلى كرخ سرّ من رأى يريد بايكباك ومن كان على رأيه فى الانحراف عن بغا مستخفيا منه.
فلمّا وافى المعتزّ بمن معه الكرخ اجتمع مع بايكباك أهل الكرخ والدور، ثمّ أقبلوا مع المعتزّ إلى الجوسق [1] بسرّ من رأى، وبلغ ذلك بغا فخرج فى غلمانه وهم زهاء خمسمائة ومثلهم من ولده وأصحابه وقوّاده. فصار إلى نهر نيزك ثمّ تنقّل إلى مواضع، ثمّ صار إلى السنّ ومعه من العين تسع عشرة بدرة ومائة بدرة دراهم أخذها من بيت ماله وبيوت أموال السلطان، فأنفق منها يسيرا إلى أن قتل.
ولمّا بلغه أنّ المعتزّ قد صار إلى الكرخ مع أحمد بن إسرائيل، خرج فى خاصّته [422] إلى تلّ عكبر [2] ، ثمّ مضى إلى السنّ فشكا أصحابه بعضهم إلى بعض ما هم فيه من العسف، وأنّهم لم يخرجوا معهم مضارب ولا ما يتدثّرون به من البرد وإنّهم فى شتاء. وكان بغا فى مضرب له صغير على دجلة فكان يكون فيه، فأتاه أساتكين فقال:
- «أصلح الله الأمير، قد تكلّم أهل العسكر وخاضوا فى كذا وأنا رسولهم إليك.» فقال: «كلّهم يقولون مثل قولك؟» قال: «نعم وإن شئت فابعث إليهم حتّى يقولوا مثل قولي.»
__________
[1] . الجوسق: فارسىّ معرّب. أصله بالفارسيّة: كوشك، أى القصر.
[2] . كذا فى الأصل وآ ومط: عكبر. فى الطبري (12: 1695) : عكبراء.(4/376)
قال: «دعني حتّى أنظر ويخرج إليكم أمرى بالغداة.» فلمّا جنّه الليل دعا بزورق فركبه مع خادمين معه وحمل معه شيئا من المال ولم يحمل معه سلاحا ولا سكّينا ولا عمودا، ولا يعلم أهل عسكره بذلك من أمره، والمعتزّ فى غيبة بغا لا ينام إلّا فى ثيابه وعليه السلاح ولا يشرب نبيذا وجميع جواريه على رجل. فصار بغا إلى الجسر فى الثلث الأوّل. فلمّا قرب الزورق من الجسر بعث الموكلون به من ينظر من فى الزورق. ثمّ صاحوا بالغلام فرجع إليهم وخرج بغا فى البستان الخاقاني، فلحقه عدّة منهم، فوقف لهم وقال:
- «أنا بغا.» ولحقه وليد المغربىّ فقال له:
- «ما لك جعلت فداك؟» [423] قال: «إمّا أن تذهب بى إلى منزل صالح بن وصيف وإمّا أن تصيروا معى حتّى أحسن إليكم.» فوكّل به وليد المغربي، ثمّ مرّ يركض إلى الجوسق فاستأذن على المعتزّ، فأذن له فقال:
- «يا سيدي هذا بغا قد أخذته وقد وكّلت به.» قال: «ويلك جئني برأسه.» فرجع الوليد إليه فقال للموكّلين:
- «تنحّوا عنّى حتّى أبلغه الرسالة.» وضربه ضربة على جبهته ثمّ على يده فقطعها. ثمّ ضربه حتّى صرعه وذبحه وحمل رأسه فى بركة [1] قبائه، وأتى به المعتزّ، فوهب له عشرة آلاف
__________
[1] . كذا فى الأصل وآ والطبري (12: 1694) : بركة. فى مط: تركة.(4/377)
دينار، وخلع عليه.
ونصب رأس بغا بسرّ من رأى ثمّ ببغداد، ووثبت العامّة على جسده فأحرقوه بالنار.
وكان عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قد جعل مكان محمد بن عبد الله بن طاهر بوصيّته، فتتبع بنيه وكانوا صاروا إليها هرّابا مع قوم يثقون بهم.
فأثارهم وحبس قوما فى المطبق وقوما فى قصر الذهب، وكان سبب انحدار بغا إلى سرّ من رأى مستترا أنّه أشير عليه أن يصير إلى دار صالح بن وصيف، فإذا قرب العيد دخل أهل العسكر وخرج هو وأصحابه فوثبوا بالمعتزّ.
وفى هذه السنة وافى الأهواز دلف بن عبد العزيز بن أبى دلف العجلى بتوجيه والده [424] عبد العزيز إيّاه، فجبى منها ومن جنديسابور وتستر مائتي ألف دينار وانصرف.
ودخلت سنة خمس وخمسين ومائتين
وفيها دخل مفلح طبرستان وواقع الحسن بن زيد الطالبىّ، فهزم مفلح الحسن فلحق بالديلم فى طلب الحسن بن زيد.
وقعة بين يعقوب بن الليث وطوق بن المغلّس
وفيها كانت بين يعقوب بن الليث وطوق بن المغلّس وقعة خارج كرمان أسر فيها يعقوب طوقا. [1]
__________
[1] . انظر الطبري (12: 1698) .(4/378)
ذكر السبب فى ذلك كان السبب فى ذلك أنّ علىّ بن الحسين بن قريش بن شبل كتب إلى السلطان يخطب كرمان، وكان قبل من عمّال آل طاهر، ثمّ كتب إلى السلطان يذكر ضعف آل طاهر وقلّة ضبطهم ما إليهم من البلاد، وأنّ يعقوب بن الليث قد غلبهم على سجستان، وتباطأ على السلطان بتوجيه خراج فارس.
فكتب السلطان إليه بولايته كرمان وكتب أيضا إلى يعقوب بولايتها يلتمس بذلك إغراء كلّ واحد منهما بصاحبه لتسقط مؤونة الهالك منهما عنه ويتفرّد بمؤونة الآخر، إذ كان كلّ واحد منهما عنده حربا له وفى غير طاعته. [425] فلمّا فعل ذلك بهما زحف يعقوب من سجستان يريد كرمان ووجّه علىّ بن الحسين طوق بن المغلّس وقد بلغه خبر يعقوب وفصوله من سجستان.
فصار من كرمان على مرحلة وبقي فى معسكره ذلك شهرا أو أكثر يتجسّس أخبار طوق ويسأل عن أمره كلّ من مرّ به خارجا من كرمان إلى ناحيته، ولا يدع أحدا يجوز بعسكره من ناحيته إلى كرمان. فلا يزحف طوق إليه ولا هو إلى طوق.
ثمّ أظهر يعقوب الارتحال عن عسكره إلى ناحية سجستان فارتحل عنه مرحلة وبلغ طوقا ارتحاله. فظنّ أنّه قد بدا له فى حربه وترك عليه كرمان وعلى علىّ بن الحسين، فوضع آلة الحرب وقصّر وقعد للشرب ودعا بالملاهي ويعقوب فى كلّ ذلك لا يغفل عن البحث عن أخباره. فاتّصل به وضع طوق آلة الحرب وإقباله على الشرب واللهو لارتحاله، فكرّ راجعا وطوى المرحلتين إليه فى يوم واحد فلم يشعر طوق وهو فى لهوه وشربه فى آخر يومه إلّا بغبرة قد ارتفعت من خارج المدينة التي هو فيها من كرمان.
فقال لأهل القرية:(4/379)
- «ما هذه الغبرة.» فقيل: «هذه غبرة مواشى أهل القرية منصرفة إلى أهلها.» ثمّ لم يكن إلّا كلّا ولا [1] حتّى [426] وافاه يعقوب فى أصحابه فأحاط به وبأصحابه. فذهب أصحاب طوق لمّا أحيط بهم يريدون المدافعة عن أنفسهم.
فقال يعقوب لأصحابه:
- «أفرجوا عن القوم.» فأفرجوا لهم فمرّوا هاربين على وجوههم وخلّوا كلّ شيء لهم، وأسر يعقوب طوقا. وكان علىّ بن الحسين وجّه طوقا وحمّله صناديق فى بعضها أطوقة وأسورة وفى بعضها أموال وفى بعضها قيود وأغلال ليطوّق ويجوّز ويسوّر من أبلى وأحسن وليقيّد من أسر وأخذ من أصحاب يعقوب.
فلمّا أسر يعقوب طوقا ورؤساء جيشه أمر بحيازة كلّ من كان مع طوق وأصحابه من المال والأثاث والكراع والسلاح، فحيز ذلك كلّه وجمع إليه.
فلمّا أتى بالصناديق أمر بفتح بعضها فإذا فيه قيود وأغلال فقال لطوق:
- «يا طوق ما هذه القيود والأغلال؟» قال: «حمّلنيها علىّ بن الحسين على رسم العساكر لأقيّد بها الأسرى وأغلّهم.» فقال يعقوب: «يا فلان اجعل أكبرها وأثقلها فى رجل طوق وعنقه، والباقية فى أرجل أصحابه وأعناقهم.» ولم يزل يفتح الباقية من الصناديق حتّى فتحت صناديق الأطواق والأسورة فقال:
- «يا طوق ما هذه؟»
__________
[1] . كذا فى الأصل وآ ومط والطبري (12: 1700) : إلّا كلّا ولا.(4/380)
قال: «حمّلنيها علىّ [427] لأطوّق وأسوّر أهل البلاء والإحسان.» فقال: «يا فلان خذ هذه الأطواق والأسورة فطوّق فلانا وسوّره، وفلانا وفلانا.» حتّى فرّق تلك الأطواق كلّها ثمّ نظر إلى ذراع طوق وعليها عصابة فقال:
- «يا طوق ما هذا؟» قال: «أصلح الله الأمير، كنت وجدت حرارة ففصدت.» فدعا يعقوب بعض من معه فأمر بمدّ خفّه، فتناثر من خفّه كسر خبز يابسة فقال:
- «يا طوق هذا خفّى لم أنزعه من رجلي منذ شهر وكسر خبزى فى خفّى، ما وطأت فراشي ولا تودعت وأنت جالس فى الشرب والملاهي.
أفبهذا التدبير أردت حربى وقتالي.» ثمّ دخل يعقوب كرمان فحازها وصارت من عمله مع سجستان.
دخول يعقوب بن الليث فارس
وفيها دخل يعقوب بن الليث فارس فملكها وأسر علىّ بن الحسين بن قريش.
ذكر الخبر عن ذلك
ورد على علىّ بن الحسين خبر وقعة يعقوب بن الليث بصاحبه طوق بن المغلّس ودخول يعقوب كرمان واستيلائه عليها ورجع أهل الفلّ. فأيقن بإقبال يعقوب إلى فارس وعلىّ يومئذ بشيراز من أرض فارس. فضمّ إليه جيشه والفلّ وغيرهم [428] وأعطاهم السلاح ثمّ برز من شيراز فصار إلى الكرّ خارج شيراز بين آخر طرقه عرضا ممّا يلي أرض شيراز وبين عرض(4/381)
جبل بها من الفضاء، قدر ممرّ رجل أو دابّة، لا يمكن أن يمرّ فيه أكثر من واحد من ضيقه. فأقام فى ذلك الموضع وضرب عسكره على شاطئ الكرّ ممّا يلي شيراز، وأخرج معه السوقة والتجّار من مدينة شيراز إلى معسكره وقال:
- «إن جاء يعقوب لم يجد موضعا يجوز فيه الفلاة إلينا لأنّه لا طريق له إلّا ذلك الفضاء الذي بين الجبل والكرّ وإنّما هو ممرّ رجل إذا قام عليه رجل واحد منع من يريد أن يجوزه وإذا لم يقدر أن يجوز إلينا بقي فى البرّ بحيث لا طعام له ولا لأصحابه ولا علف لدوابّهم.» فأقبل يعقوب حتّى قرب من الكرّ، فأمر أصحابه بالنزول أول يوم على نحو ميل من الكرّ ممّا يلي كرمان. ثمّ أقبل هو وحده بيده رمح عشاري، ما معه إلّا رجل واحد. فنظر إلى الكرّ والجبل والطريق، وتأمّل عسكر علىّ بن الحسين، فجعل أصحاب علىّ يشتمونه ويقولون:
- «لنردنّك إلى تشعيب [1] القماقم والمراجل يا صفّار.» وهو ساكت لا يردّ عليهم شيئا. فلمّا تأمّل كلّ ما أراد [429] ورآه انصرف راجعا إلى أصحابه. فلمّا كان من الغد عند الظهر أقبل بعسكره ورجاله حتّى صار إلى شاطئ الكرّ ممّا يلي برّ كرمان فأمر أصحابه فنزلوا عن دوابّهم وحطّوا أثقالهم.
ثمّ فتح صندوقا كان معه والناس ينظرون إليه فأخرجوا منه كلبا ذئبيّا، ثمّ ركبوا دوابّهم أعراء وأخذوا رماحهم بأيديهم. قال: وقيل ذلك ما قد عبّأ علىّ بن الحسين أصحابه وأقاموا صفوفا على الممرّ الذي بين الجبل والكرّ، وهم يرون أنّه لا سبيل ليعقوب ولا طريق له يمكنه أن يحوزه غيره، ثمّ جاءوا
__________
[1] . فى الطبري (12: 1703) : إلى شعب المراجل. التشعيب والشعب: الإصلاح.(4/382)
بالكلب فرموا به فى الكرّ وأصحاب علىّ ينظرون إليه ويضحكون منه ومنهم.
فلمّا رموا بالكلب فيه جعل الكلب يسبح فى الماء إلى جانب عسكر علىّ بن الحسين، واقتحم أصحاب يعقوب دوابّهم خلف الكلب، وبأيديهم رماحهم يسيرون فى أثر الكلب. فلمّا رأى علىّ بن الحسين أنّ يعقوب قد قطع عامّة الكرّ إليه انتقض عليه تدبيره وتحيّر فى أمره. ولم يلبث أصحاب يعقوب إلّا أيسر ذلك حتّى خرجوا من الكرّ من وراء أصحاب علىّ بن الحسين. فلم يكن بأسرع من أن خرج أوائلهم منه حتّى هرب أصحاب علىّ يطلبون [430] الهرب إلى مدينة شيراز. لأنّهم كانوا إذا خرج أصحاب يعقوب من الكرّ بين جيش يعقوب وبين الكرّ، فلا يجدون ملجأ. فلمّا أن هزموا تقطّر بعلىّ دابّته فسقط إلى الأرض، ولحقه بعض السجزية، فرفع عليه سيفه ليضربه فصاح عليه غلام لعلىّ:
- «الأمير، الأمير.» فنزل إليه السجزىّ فوضع عمامته فى عنقه، ثمّ جرّه إلى يعقوب. فلمّا أتى به أمر بتقييده وأمر بما كان فى عسكر علىّ من آلة الحرب من السلاح والكراع وغير ذلك، فجمع إليه. ثمّ أقام بموضعه حتّى أمسى وهجم عليه الليل.
ثمّ رحل من موضعه ودخل مدينة شيراز ليلا وأصحابه يضربون بالطبول، فلم يتحرّك أحد. فلمّا أصبح أنهب أصحابه دار علىّ بن الحسين ودور أصحابه، ثمّ نظر إلى ما اجتمع فى بيت المال من مال الخراج والضياع، فاحتمله ووضع الخراج فجباه.
ثمّ شخص متوجّها إلى سجستان وحمل معه علىّ بن الحسين بن قريش ومن أسر معه من قوّاده.
ووجّه يعقوب بن الليث إلى المعتزّ بدوابّ وبزاة ومسك وثياب هدية.(4/383)
وفيها ورد سليمان بن عبد الله بن طاهر [431] سرّ من رأى من خراسان ودخل على المعتزّ، فخلع عليه وانصرف، ثمّ ولّاه شرطة بغداد والسواد.
وفيها أخذ صالح بن وصيف أحمد بن إسرائيل والحسن بن مخلد وأبا نوح عيسى بن إبراهيم، وهرب أحمد بن صالح بن شيرزاد إلى بغداد، فاستخفى عند كاتب له يقال له: ابن واضح، فقيّدهم وطالبهم بالأموال.
ذكر السبب فى ذلك
كان هؤلاء الكتّاب اجتمعوا على شراب لهم يوم الأربعاء. فلمّا كان من الغد ركب أحمد بن إسرائيل فى جمع عظيم إلى دار السلطان التي يقعد فيها، وركب ابن مخلد إلى دار قبيحة [1] أمّ المعتزّ وهو كاتبها. وحضر أبو نوح الدار والمعتزّ نائم. فانتبه قريبا من نصف النهار وأذن لهم. فحمل صالح بن وصيف على أحمد بن إسرائيل فى الكلام فقال للمعتزّ:
- «يا أمير المؤمنين ليس للأتراك عطاء ولا فى بيت المال مال، وقد ذهب ابن إسرائيل وأصحابه بأموال الدنيا.» فقال له أحمد:
- «يا عاصي بن العاصي.» وتراجعا الكلام.
وكان الأتراك قد شغبوا قبل ذلك وطلبوا أرزاقهم. فقال أبو نوح لصالح عند مراجعته أحمد بن إسرائيل وقول أحمد: يا عاصي بن العاصي:
- «هذا الشغب أيضا تدبيرك على الخليفة.» فغشى على صالح وسقط [432] إلى الأرض ممّا داخله من الغيظ
__________
[1] . تسمية باسم الضّدّ، كما سيأتي.(4/384)
والغضب، حتّى رشّوا على وجهه الماء وأفاق، وجرى بينهم كلام كثير وبلغ ذلك أصحابه وهم على الباب. فصاحوا صيحة واحدة واخترطوا سيوفهم ودخلوا على المعتزّ مصلتين فلمّا رأى ذلك المعتزّ دخل وتركهم فأخذ صالح ابن وصيف بن إسرائيل وابن مخلد وأبا نوح عيسى فقيّدهم وثقّلهم بالحديد وحملهم إلى داره.
فقال المعتزّ لصالح قبل أن يحملهم:
- «هب لى أحمد، فانّه كاتبي وهو ربّانى.» فلم يفعل ذلك صالح ثمّ ضرب ابن إسرائيل حتّى كسرت أسنانه وبطح ابن مخلد فضرب مائة مقرعة. وكان عيسى بن إبراهيم محتجما فلم يزل يصفع حتّى جرت الدماء من محاجمه وأخذت خطوطهم بمال جليل قسّط [1] عليهم.
وبعث المعتزّ إلى أبى عبد الله بن محمد بن يزداذ المروزي فحمل ليستوزره.
وبعثت قبيحة أمّ المعتزّ إلى صالح بن وصيف فى ابن إسرائيل:
- «إمّا حملته إلى المعتزّ وإمّا ركبت إليك فيه.» ثمّ قدم جعفر بن محمود ومال إليه الأتراك، ولم يكن للمعتزّ فيه أرب فولى الأمر والنهى.
خلع المعتزّ وموته
ولثلاث بقين من رجب خلع المعتزّ ولليلتين خلتا من شعبان أظهر موته. [2] [433]
__________
[1] . كذا فى الأصل والطبري (2: 1707) : قسّط. فى مط: فسقط عليهم.
[2] . وزاد فى الأصل وآ: «وكان السبب فى خلعه» فحذفناه، لأنّ العنوان الأنسب يأتى بعده، وما(4/385)
ذكر سبب خلعه
لمّا جرى فى أمر الكتاب وأمر الأتراك ما جرى، لم يرتفع من حصّتهم ما ظنّه الأتراك وتقاعد بهم الكتاب فصاروا إلى المعتزّ يطلبون أرزاقهم. وقال الأتراك:
- «وفّنا أرزاقنا حتّى نقتل لك صالح بن وصيف وينتظم أمرك.» فأرسل المعتزّ إلى أمّه يطلب منها مالا يرضى به الأتراك فقالت:
- «ما عندي مال.» فلمّا نظر الأتراك إلى امتناع الكتّاب من أن يعطوهم شيئا ولم يجدوا فى بيوت المال شيئا والمعتزّ وأمّه قد امتنعا من أن يسمحا لهم بشيء، صارت كلمتهم واحدة وكلمة الفراغنة والمغاربة معهم، فاجتمعوا على خلع المعتزّ.
فصاروا إليه، فلم يرعه إلّا صياح القوم، وإذا صالح بن وصيف وبايكباك ومحمد بن بغا أبو نصر قد دخلوا فى السلاح، فجلسوا على باب المنزل الذي ينزله المعتزّ. ثمّ بعثوا إليه:
- «اخرج إلينا.» فبعث إليهم:
- «إنّى أخذت أمس دواء وقد أخلفنى اثنى [1] عشر مجلسا، وما أقدر على الكلام من الضعف، فإن كان لا بدّ منه، فليدخل إلىّ بعضكم وليعلمني.» وهو يرى أنّ أمره واقف على حاله.
فدخل إليه جماعة من أهل الكرخ والدور [434] من خلفاء القوّاد، فجرّوا
__________
[ () ] حذفناه غير موجود فى مط.
[1] . فى الأصل: اثنا عشر.(4/386)
برجله إلى باب الحجرة. قال: وأحسب أنّهم تناولوه بالضرب. فإنّه خرج وقميصه مخرّق فى مواضع وآثار الدم على منكبه. فأقاموه فى الشمس فى الدار فى وقت شدّة الحرّ. فجعل يرفع قدمه ساعة بعد ساعة من حرارة الموضع الذي قد أقيم فيه. ثمّ قام بعضهم إليه وجعل يلطمه وهو يتّقى بيده.
وقالوا له:
- «اخلعها.» وكان الأتراك قبل مكاشفته التمسوا منه خمسين ألف دينار ليقتلوا صالح بن وصيف ويستقيم أمره. فطلب من أمّه قبيحة هذا المقدار، فتنحّت عليه به ومنعته وقالت:
- «ليس عندي مال.» ثمّ وجد لها من المال الصامت من العين والجوهر ثلاثة آلاف دينار سوى الآلات وسنذكر بعض ذلك فى المستأنف.
وكانت قبيحة حظيّه المتوكّل، وسمّيت قبيحة لحسنها على طريق الضدّ.
ويقال: أنّه لم ير مثلها حسنا.
ثمّ إنّ الأتراك أحضروا ابن أبى الشوارب مع جماعة من أصحابه. فقال له صالح:
- «اكتب عليه كتاب الخلع.» - يعنى المعتزّ.
فقال: «لا أحسنه.» وكان معه رجل إصبهانى فقال:
- «أنا أكتب ويتخلّص الرجل.» فكتب وشهدوا عليه.
فقال ابن أبى الشوارب:
- «إنّهم شهدوا [435] على أنّ له ولأخيه ولابنه وأمّه الأمان.»(4/387)
فقال صالح بكفّه:
- «أى نعم.» ووكّلوا به وبأمّه نساء، وكانت أمّه قد اتخذت فى الدار سربا تنفذ إلى حيث تأمن وتخرج منه، فدخلت السرب وفرّت هي وأخت المعتزّ.
ثمّ عذّب المعتزّ بعد الخلع، فلم يوجد له شيء. فمنعه المعذّب الطعام والشراب ثلاثة أيّام فطلب حسوة من ماء البئر فمنعوه. ثمّ جصّصوا له سردابا بالجصّ الثخين [1] وأدخلوه فيه وأطبقوا عليه بابه، فأصبح ميّتا.
فكانت خلافته أربع سنين وستّة أشهر وأربعة عشر يوما وكان عمره كلّه أربعا وعشرين سنة. وكان أبيض، أسود الشعر كثيفه، حسن الوجه والعينين، ضيّق الجبين، أحمر الوجنتين، حسن الجسم طويلا.
__________
[1] . كذا فى الأصل وآ ومط والطبري (12: 1711) : الثخين (بالثاء المثلثة) .(4/388)
خلافة المهتدى بالله ابن الواثق
وفى يوم الأربعاء لليلة بقيت من رجب بويع محمد بن الواثق وسمّى المهتدى بالله، وكنيته أبو عبد الله. ولم يقبل بيعة أحد حتّى أتى بالمعتزّ فخلع نفسه وبايع محمد بن الواثق. وكانت نسخة الرقعة بخلع المعتزّ نفسه:
«بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما شهد عليه الشهود المسمّون فى هذا الكتاب، شهدوا جميعا: أنّ أبا عبد الله بن أمير المؤمنين المتوكّل على الله أقرّ عندهم [436] وأشهدهم على نفسه فى صحّة من عقله وبدنه وجواز من أمره طائعا غير مكره، وأنّه نظر فيما كان تقلّده من الخلافة والقيام بأمور المسلمين، فرأى أنّه لا يصلح لذلك ولا يكمل له، وأنّه عاجز عن القيام بما يجب عليه فيها، ضعيف عنه. فأخرج نفسه من الخلافة وبرّأ منها وخلع نفسه وبرّأ [1] كلّ من كانت له فى عنقه بيعة من جميع أوليائه وسائر الناس ممّا كان له فى رقابهم من البيعة والعقود والمواثيق والأيمان بالطلاق والعتاق والصدقة وسائر الأيمان، وحلّلهم من جميع ذلك، وجعلهم فى سعة منه فى الدنيا والآخرة بعد أن تبيّن له أنّ الصلاح له وللمسلمين فى خروجه عن الخلافة والتبرّؤ منها. وأشهد على نفسه بجميع ما فى هذا الكتاب جميع الشهود من
__________
[1] . فى مط: تبرّأ.(4/389)
حضر بعد أن قرأ عليه حرفا حرفا، فأقرّ بفهمه ومعرفة ما فيه طائعا غير مكره. وذلك يوم الإثنين لثلاث بقين من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين.» فوقّع المعتزّ فى ذلك. أقرّ أبو عبد الله بجميع ما فى هذا الكتاب وكتب بخطّه.
وكتب محمد بن الواثق المهتدى بالله إلى سليمان بن عبد الله بن طاهر بمدينة السلام، أنّ الناس [437] قد بايعوه. وكان هناك أبو أحمد بن المتوكّل، فبعث سليمان إليه فأحضره داره، وسمع من ببغداد من الجند والغوغاء بالخبر، فاجتمعوا إلى باب سليمان وضجّوا فخوطبوا أنّه لم يرد علينا خبر نثق به. فانصرفوا إلى يوم الجمعة وخطبوا للمعتزّ. فلمّا كان يوم السبت اجتمعوا وهجموا على دار سليمان فى داره وسألوه أن يريهم أبا أحمد بن المتوكّل فأظهره لهم. ثمّ وعدهم أن يصير إلى محبّتهم إن تأخّر عنهم ما يحبّونه فأكّدوا عليه فى حفظه وانصرفوا عنه.
ثمّ قدم بارجوخ ومعه ثلاثون ألف دينار لإعطاء الجند. فضجّ الناس ورجع بارجوخ ووقعت الفتنة والعصبية ببغداد، وقصد دار سليمان وكان قد شحنها بمن يحفظها. فحاربهم أهل بغداد فى شارع دجلة وعلى الجسر، فقتل خلق وغرق خلق. ثمّ وجّه إلى بغداد مال رضوا به، وبايع الناس واستقامت الأمور وسكنت الفتنة.
وفى شهر رمضان من هذه السنة ظهرت قبيحة ودلّت على الأموال التي لها والذخائر والجواهر.
ذكر سبب ظهور قبيحة [438]
كانت قبيحة قدّرت الفتك بصالح بن وصيف وواطأت على ذلك النفر من(4/390)
الكبار الذين أوقع بهم صالح. فلمّا حصلوا فى يد صالح وعذّبوا، علمت أنهم لا يطوون عن صالح شيئا من الخبر بسبب ما نالهم به من العذاب. فأيقنت بالهلاك وكانت قد أطلعت الكتّاب على ما تبذله فى قتل أولئك الأتراك فعملت فى التخلّص.
فبادرت إلى صالح بن وصيف ووسّطت بينها وبينه العطّارة وكانت تثق بها وكان لها مال ببغداد. فكتبت فى حمله فاستخرج وحمل قدر خمسمائة ألف وخمسين ألف دينار ووقعوا على خزائن لها ببغداد، فحمل إلى السلطان منها متاع عظيم. ولم تزل خزائنها وأموالها متصلة والبيع منها دائما وحوالة الجند عليها ببغداد وسرّ من رأى عدّة شهور. ثمّ وقف صالح على خزانة قبيحة فأرسل إلى رجل جوهرى قال الرجل: فدخلت إليه فقال:
- «إنّ لقبيحة [1] خزانة فى موضع يرشدك إليها هذا. فامض ومعك أحمد بن خاقان وصر إلىّ معه.» قال: فمضينا إلى الصفوف بحضرة المسجد الجامع وجاء بنا ذلك الرجل إلى دار صغيرة معمورة نظيفة فدخلناها وفتّشنا كل موضع [439] فيها فلم نجد شيئا. وجعل ذلك يغلظ على أحمد بن خاقان ويتهدّد الرجل ويتوعّده ويشتمه. فأخذ الرجل فأسا وجعل ينقر به الحيطان يطلب موضعا قد صيّر فيه المال. فلم يزل كذلك حتّى وقع الفأس على موضع من الحائط استدلّ بصوته على أنّ فيه شيئا. فهدمه وإذا من ورائه باب ففتحناه ودخلنا فأدّانا إلى سرب، وصرنا إلى دار تحت الدار التي دخلناها على بنائها وقسمتها.
فوجدنا من المال على رفوف فى أسفاط ألف ألف دينار. فأخذ أحمد ومن كان معه قدر ثلاثمائة ألف دينار.
__________
[1] . انظر الطبري (12: 1715) .(4/391)
ووجدنا ثلاثة أسفاط: سفطا فيه مقدار مكّوك زمرّدا لم أر للمتوكّل ولا لغيره مثله، وسفطا دونه فيه نصف ملوك حبّا كبارا ما ظننت والله أنّ مثله يكون، وسفطا دونه فيه مقدار كيلجة ياقوتا أحمر لم أر مثله ولا ظننت أنّ مثله يوجد فى الدنيا. فقوّمت الجميع على البيع ألفى ألف دينار، فحملناه كلّه إلى صالح. فلمّا رآه جعل لا يصدّق ولا يوقن حتّى أحصى بحضرته ووقف عليه. فقال عند ذلك:
- «فعل الله بها وصنع، عرّضت ابنها للقتل فى خمسين ألف دينار وعندها مثل هذا فى خزانة واحدة من خزائنها» . [440] ولم تزل قبيحة مقيمة إلى أن حضر وقت الحجّ، فسيّرت إلى مكّة مع أصحاب المهتدى بالله. فحكى من سمعها فى طريقها وهي تقول أتدعو الله على صالح بن وصيف بصوت:
- «اللهم أخز صالح بن وصيف كما هتك سترى وقتل ولدي وبدّد شملي وأخذ مالي وغرّبنى عن بلدي وركب الفاحشة منى.» ولمّا انصرف الناس عن الموسم احتبست بمكّة.
وفى هذه السنة قتل أحمد بن إسرائيل وأبو نوح. ذكر السبب فى قتلهما
إنّ صالح بن وصيف لمّا استصفى أموالهما وأموال الحسن بن مخلد عذّبهم وقرّب كوانين الفحم المشعلة منهم فى شدّة الحرّ ومنعهم كلّ راحة، ولم يعارضه المهتدى، وكان عبد الله بن محمد بن يزداذ يقول لصالح:
- «اقتلهم فإنّهم إن أفلتوا لم تؤمن بوائقهم فى الأعقاب فضلا عمّا وترهم.» فحكى الحسن بن مخلد قال: كان داود بن أبى العبّاس الطوسي يحضرنا(4/392)
عند صالح بجميل فيقول:
- «وما هؤلاء- أعزّك الله- حتّى يبلغ منك الغضب بسببهم هذا المبلغ، فنظنّه يرفقه [1] علينا حتّى يقول، على أنّى والله أعلم [441] أنّهم إن تخلّصوا انتشر منهم شرّ كثير وفساد فى الإسلام عظيم، فينصرف والله وقد أفتى بقتلنا وأشار عليه بإهلاكنا فيزداد علينا برأيه وكلامه غيظا.» ثمّ وكّل بأحمد بن إسرائيل وأبى نوح، عيسى أحمد بن محمد بن حمّاد دنقش فأسرف فى تعذيبهما ثمّ أقام أحمد بن إسرائيل يضرب وابن دنقش يقول:
- «أوجع.» فكان كلّ جلّاد يضربه سوطين يتنحّى، حتّى وفّوه خمسمائة سوط. ثمّ أقاموا أبا نوح فضربوه كذلك أيضا ضرب التلف. ثمّ حملا على بغلين من بغال السّقائين على بطونهما منكّسة رؤوسهما ظاهرة ظهورهما للناس، فتلفا فى الطريق.
وأمّا الحسن بن مخلد فتخلّص بخصلتين إحداهما أنّه صدقه عن جميع ما سأله عنه والآخر أنّ المهتدى كلّمه فيه وقال:
- «لأهله حرمة وأنا أحبّ صلاح شأنه.» فنجا من بينهم.
انصراف مفلح من طبرستان
وفيها انصرف مفلح من طبرستان بعد أن كان دخلها، وأخرج الحسن بن زيد.
__________
[1] . كذا فى آوالطبري (12: 1724) : يرفقه. فى الأصل ومط: يرققه.(4/393)
ذكر السبب فى ذلك كان السبب فى ذلك أنّ قبيحة كتبت إلى موسى بن بغا- لمّا رأت من الأتراك اضطرابا [442] وأنكرت أمرهم- تسأله القدوم إلى ما قبلها وأمّلت بوروده فرجا لها ولابنها. فعزم موسى على الانصراف إليها وكتب إلى مفلح وهو بطبرستان يأمره بالانصراف إليه وهو بالرىّ. فورد عليه كتاب موسى وقد توجّه نحو أرض الديلم فى طلب الحسن بن زيد.
فلمّا ورد عليه الكتاب انصرف راجعا. فعظم ذلك على رؤساء طبرستان ومن كان هاربا قبل قدوم مفلح، وكانوا قد رجوا [1] بقدومه الرجوع إلى منازلهم وأموالهم. وذلك أنّ مفلحا كان يعدهم اتّباع الحسن بن زيد حتّى يظفر به أو يخترم [2] دونه، فلمّا رأى الناس انصرافه من غير عسكر للحسن بن زيد ولا أحد من الديلم، سألوه عن السبب الذي صرفه وجعلوا يكلّمونه وهو كالمسبوت [3] لا يجيبهم فلمّا أكثروا عليه قال لهم:
- «ورد علىّ كتاب موسى بعزيمة منه أن لا أضع كتابه من يدي حتّى أقبل إليه، وأنا مغموم بأمركم، ولكن لا سبيل إلى مخالفة الأمير.» ولم يتهيّأ لموسى الشخوص من الرىّ إلى سرّ من رأى حتّى وافاه الكتاب بهلاك المعتزّ وقيام المهتدى بعده بالأمر. ففثاه ذلك عمّا عزم عليه من الشخوص، لفوت ما كان قدّر إدراكه من أمر المعتزّ. [443] ثمّ إنّ الموالي الذين فى عسكر موسى بلغهم ما استخرج صالح بن وصيف من أموال الكتّاب وأسباب المعتزّ والمتوكّل، فحسدوا المقيمين بسرّ من رأى.
__________
[1] . فى مط: رجعوا.
[2] . يخترم: كذا فى آومط والطبري (12: 1737) والثاني مهمل فى الأصل.
[3] . سبت الرجل: أخذه السّبات.(4/394)
فدعوا موسى إلى الانصراف بهم إلى سرّ من رأى. فأمر موسى أن يستخرج من أهل الري خراج سنة ستّ وخمسين ومائتين. فأصبح الخراج فى شهر رمضان فجبى فى يوم واحد خمسمائة ألف درهم فاجتمع أهل الرىّ وقالوا:
- «أصلح الله الأمير ما سبب انصرافك عن هذا الثغر؟» فقال: «إنّ الجند والموالي أبوا أن يقيموا، وإذا انصرفوا فما أقلّ غنائى عنكم.» فقالوا: «أصلح الله الأمير. إنّ الموالي يرجعون لما يقدّرون هناك من كثرة العطاء وأنت وأصحابك ها هنا فى أكثر وأوسع ممّا فيه أولئك هناك. فإن رأيت أن تقيم وتسدّ هذا الثغر وتحتسب فى أهله الأجر والثواب وتلزمنا من خراجنا فى خاصّ أموالنا لمن معك ما ترى أنّنا نحتمله فعلت.» فلم يجبهم إلى ما سألوا.
فقالوا: «أصلح الله الأمير فإذا كان الأمير على تركنا و [1] الانصراف عنّا، فما معنى أخذنا بالخراج لسنة لم نبدأ بعمارتها بعد، وأكثر غلّة سنة خمس وخمسين التي قد استوفى الأمير خراجها منا فى الصحراء لا يمكننا [444] الوصول إليها، إن خرج الأمير عنّا.» فلم يلتفت إلى كلامهم وخرج.
واتصل خبر انصرافه بالمهتدى، فكتب إليه فى ذلك كتبا كثيرة فلم يؤثّر شيئا. فلمّا نظر [2] المهتدى أنّ موسى يسير ويخلّ بموضعه وأنّ كتبه إليه لا تعنى شيئا، وجّه إليه رسولين من بنى هاشم وحمّلهما رسائل إلى موسى ووجوه قوّاده وإلى سائر عسكره يصدّهم فيها عن الحركة ويصدّقهم عن الحال بالحضرة وعن ضيق الأموال بها وما يحاذر من ذهاب ما يخلّفونه
__________
[1] . كذا فى آوالطبري (12: 1739) : والانصراف. فى الأصل: من الانصراف.
[2] . إلى هنا تنتهي مخطوطة آ (آستان قدس) .(4/395)
وراءهم وغلبة الطالبىّ وأتباعه من الديلم عليه. فشخص الهاشميّان مع جماعة من الوجوه والموالي وأقبل موسى يسير وصالح بن وصيف يعظّم ذلك على المهتدى وينسبه إلى العصيان والخلاف.
وكان المهتدى قد هجر الشرب وكسر آلات الشراب، وكان ينسك ويجلس على اللبود ويجلس للمظالم ويشتغل بالصوم والصلاة ودرس القرآن. فذكر أنّ كتاب صاحب البريد بهمذان ورد عليه بفصول [1] موسى عنها. فرفع المهتدى يده إلى السماء وقال بعد حمد الله والثناء عليه:
- «اللهم إنّى أبرأ إليك من فعل موسى بن بغا وإخلاله بالثغر وإباحته العدوّ وقد [445] أعذرت إليه فيما بيني وبينه اللهم تولّ [2] من كاد المسلمين.
وانصر جيوش المسلمين حيث كانوا. اللهم إنّى شاخص نفسي إلى حيث نكب فيه المسلمون ناصرا لهم ودافعا عنهم، فاجزني اللهم بنيّتى إذ فقدت صالح الأعوان وعدمت الناصرين.» ثمّ تحدّرت دموعه يبكى.
فذكر عمّن حضر مجلس المهتدى، أنّه رأى سليمان بن وهب فى ذلك اليوم يقول:
- «يا أمير المؤمنين، أتأذن لى أن أكتب إلى موسى بما أسمع منك؟» فقال: «نعم أكتب بما تسمع منّى وإن أمكنك أن تنقشه فى الصخر فافعل.» ولمّا تلقّاه الهاشميّان والرسل لم يغنيا، وضجّ الموالي وكادوا يثبون بالرسل وردّ موسى فى جواب الرسالة يعتذر بما عاين الرسل الموجّهون إليه، وأنّه ليس يرضى القوم إلّا بورود باب أمير المؤمنين، وإن رام التخلّف عنهم لم
__________
[1] . فى مط: بفضول.
[2] . كذا فى الأصل ومط: تولّ من كاد. فى الطبري (12: 1740) : تولّ كيد من كاد.(4/396)
يأمنهم على نفسه.
وأوفد موسى مع الرسل وفدا من عسكره.
وكان كنجور نفى أيّام المعتزّ إلى فارس ثمّ لحق بأبى دلف وأثّر بالأهواز آثارا قبيحة. فلمّا أقبل موسى انضمّ إليه فبلغ ذلك صالحا فكتب عن المهتدى فى حمل كنجور مقيّدا، فأبى ذلك الموالي. ووجّه المهتدى أخاه إبراهيم لامه فى كنجور يعلمه أنّ [446] الموالي لا يقارّون كنجور ويأمره بتقييده وحمله إلى بغداد. فكان جوابهم أن قالوا:
- «إذا دخلنا سرّ من رأى امتثلنا رأى أمير المؤمنين فى كنجور وغيره.» وفى شوّال من هذه السنة ظهر فى فرات البصرة رجل علوىّ فجمع زنج البصرة الذين [كانوا] [1] يكسحون السّباخ ثمّ عبر إلى دجلة.
ذكر خبر العلوىّ صاحب الزنج ومبدأ أمره وسبب خروجه
هذا الرجل مولده قرية من قرى الرىّ يقال لها ورزنين وقد شكّ قوم فى نسبه [2] وسمعت من لا أرتاب بخبره أنه صحيح النسب. وهو علىّ بن محمد بن أحمد بن علىّ بن عيسى بن زيد بن علىّ بن الحسين بن علىّ بن أبى طالب عليهم السلام.
واتصل بقوم من حاشية المنتصر وغيرهم من كتّاب السلطان فكان يمدحهم ويستميحهم بشعره. ثمّ شخص إلى البحرين ودعا قوما إلى طاعته، فاتبعه جماعة من أهلها ووقعت بسببه عصبيّة قتل فيها جماعة. فانتقل إلى الأحساء. فحدث مثل ذلك بها فانتقل إلى البادية وادّعى النبوّة ومعجزات
__________
[1] . ما بين المعقوفتين هو من الطبري (12: 1742) .
[2] . فى الأصل: نفسه. فى مط: نسبه. كما يؤيّد الطبري (12: 1742) .(4/397)
ذكرها عن نفسه. أحدها أنّه زعم أن سحابة أظلّته [447] بالبادية، فبرقت ورعدت، فاتصل صوت الرعد بسمعه قال: فخوطبت فقيل:
- «اقصد البصرة.» فقلت لأصحابى وهم مطيفون بى:
- «أمرت بكذا. وكان سبب خروجي إلى البصرة.» فتبعه قوم بالبصرة منهم علىّ بن أبان المهلّبى وأخوه محمد بن الخليل وغيرهم وعامل البصرة يومئذ محمد بن رجاء الحضارى من قبل السلطان ووافق [ذلك] [1] فتنة البلاليّة والسعديّة. فطمع فى أحد الفريقين ووافى برنجل قصرا فعرف بقصر القرشىّ. وأظهر أنّه وكيل لولد الواثق فى بيع السباخ، وأقام أيّاما.
فذكر عن ريحان وهو أحد غلمان الشورجيّين [2] وهو أوّل من صحبه أنّه قال: كنت موكّلا بغلمان مولاي، أنقل الدقيق إليهم من البصرة وأفرّقه فيهم.
فحملت إليهم يوما الرسم فمررت به وهو مقيم ببرنجل فى قصر القرشىّ.
فأخذنى أصحابه فصاروا بى إليه، وأمرونى بالتسليم عليه بالإمرة. ففعلت فسألنى عن الموضع الذي جئت منه، فقلت:
- «من البصرة.» قال: «هل سمعت لنا بالبصرة خبرا؟» فقلت: «لا.» قال: «فما خبر البلاليّة والسعديّة؟» قلت: «لا أعرف خبرهم.»
__________
[1] . ما بين المعقوفتين هو من الطبري (12: 1745) .
[2] . كذا فى الأصل ومط: السورجين. فى الطبري (12: 1747) : الشورجين. [نسبة إلى الشورج الآتي ذكره] .(4/398)
فسألنى عن أخبار الشورجيّين وما يجرى لكلّ غلام منهم من الدقيق والتمر، وعمّن يعمل فى الشورج [448] من الأحرار والعبيد، فأعلمته ذلك.
فدعاني إلى ما هو عليه فأجبته. فقال لى:
- «احتل فيمن قدرت عليه من الغلمان فأقبل بهم إلىّ.» ووعدني أن يقوّدنى على من آتيه به منهم وأن يحسن إلىّ، واستحلفني ألّا أعلم أحدا بموضعه وأن أرجع إليه، فخلّى سبيلي فأتيت بالدقيق الذي معى إلى الموضع الذي كنت قصدته، وأقمت فيه يومى، ثمّ رجعت إليه من غد فوافيته وقد قدم عليه غلمان كان وجّههم إلى البصرة فى حوائج له وفيما حمل له حريرة يتّخذها لواء [1] فأمر أن يكتب عليها بحمرة وخضرة: «إِنَّ الله اشْتَرى من الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ.» 9: 111 إلى آخر الآية. [2] وكتب اسمه واسم أبيه وعلّقها فى رأس مردىّ [3] وخرج فى السحر من ليلة السبت لليلتين بقيتا من شهر رمضان.
فلمّا صار فى مؤخّر القصر الذي كان فيه لقيه غلمان رجل من الشورجيّين متوجّهين إلى أعمالهم. فأمر بأخذهم فأخذوا وكتف وكيلهم وأخذه معهم، وكانوا خمسين غلاما، وكان أهل البصرة فى ذلك الزمان يشترون الزنوج ويخرجونهم إلى السباخ فيكسحونها حتّى يصلوا إلى التربة الطيّبة فيعمرونها، وكسوح الزنج [449] بالبصرة معروفة تشاهد فيها تلال كالجبال وكان فى أنهار البصرة منهم عشرات ألوف يعذّبون بهذه الخدمة، وتجرى عليهم أقواتهم من الدقيق والتمر.
ثمّ إنّ هذا الرجل العلوىّ سار من موضعه الذي ذكرنا، فصار إلى الموضع
__________
[1] . فى مط: وفيما حمل إليه ليتّخذها لواء. (بحذف «حريرة» ) .
[2] . س 9 التوبة: 111.
[3] . المردىّ: خشبة تدفع بها السفينة.(4/399)
الذي يعمل فيه البستاني، فأخذ منه خمسمائة غلام وأخذ وكيلهم فكتفه، ثمّ إلى موضع السيرافىّ فأخذ منه خمسمائة غلام، ولم يزل يومه يفعل ذلك حتّى اجتمع له خلق من غلمان الشورجيّين، ثمّ جمعهم وقام فيهم خطيبا.
فمنّاهم ووعدهم أن يقوّدهم ويملّكهم الأموال. وحلف لهم بالأيمان الغلاظ ألّا يغدر بهم ولا يخذلهم ولا يدع ممكنا من الإحسان إلّا أتى إليهم.
ثمّ دعا مواليهم فقال:
- «أردت أن أضرب أعناقكم لإساءتكم إلى هؤلاء الغلمان الذين استضعفتموهم وفعلتم بهم ما حرّم الله عليكم وحمّلتموهم ما لا يطيقون فكلّمنى أصحابى فيكم فرأيت إطلاقكم.» فقالوا: «إنّ هؤلاء الغلمان أبّاق وهم يهربون منك، فلا يبقون عليك ولا علينا. فخذ منّا مالا وأطلقهم لنا.» فأمر غلمانه فأحضروا شطبا، ثمّ بطح كلّ قوم مولاهم، فضرب كلّ رجل خمسمائة شطب، وأحلفهم بطلاق [450] نسائهم ألّا يعلموا أحدا بموضعه ولا بعدد أصحابه. فأطلقهم.
ثمّ سار حتّى عبر دجيلا وصار إلى نهر ميمون فى سفن سماد وجدها، وأقام بجمع السودان إلى يوم الفطر. فلمّا أصبح نادى فى أصحابه بالاجتماع لصلاة الفطر فاجتمعوا وركّز المردىّ الذي عليه لواءه وصلّى وخطب خطبة ذكر فيها ما كانوا عليه من سوء الحال، وأنّ الله قد استنقذهم من ذلك وأنّه يريد أن يرفع أقدارهم ويملّكهم العبيد والأموال والمنازل ويبلغ بهم أعلى الأمور، ثمّ حلف لهم على ذلك.
فلمّا فرغ من صلاته وخطبته أمر الذين فهموا عنه قوله أن يفهّموه من لم يفهم من عجمهم لتطيب بذلك أنفسهم ففعلوا ذلك ودخل القصر.
ثمّ إنّ الحميري قصد جماعة من أصحابه فأخرجوهم إلى الصحراء.(4/400)
فلحقهم صاحب الزنج فيمن معه فأوقع بالحميرى وأصحابه فانهزموا، واستأمن إليه رجل من رؤساء الزنج يكنّى بأبى صالح فى ثلاثمائة من الزنج، فمنّاهم ووعدهم خيرا.
وكان ابن أبى عون قد قلّد الأبلّة وكور دجلة، وانتهى إليه أنّ عقيلا والحميري مع خليفة ابن أبى عون قد أقبلوا نحوه ونزلوا نهر طين، فأمر أصحابه بالمصير [451] إلى الزريقية فوصلوا إليها مع صلاة الظهر فصلّوا بها ثمّ استعدّوا للقتال وليس فى عسكره يومئذ إلّا ثلاثة أسياف ونهض راجعا نحو المحمدية فوافاها، وتلاحق إليه أصحابه وكان جعل علىّ بن أبان فى آخر أصحابه وأمره أن يتعرّف خبر من يأتيه من ورائه. فأتاه وقال له:
- «كنّا نرى من ورائنا بارقة ونسمع حسّا لقوم يتبعوننا فلسنا ندري أرجعوا عنّا أم هم قاصدون إلينا.» فلم يستتمّ كلامه حتّى لحق القوم وتنادى الزنج:
- «السلاح.» فيبدر مفرّج النوبى وريحان وفتح الحجّام- وكان فتح يأكل- فلمّا نهض تناول طبقا كان بين يديه، وتقدّم أصحابه فلقيه رجل فحمل عليه وحذفه [1] بالطبق الذي كان فى يده، وذهب ليكبّ عليه فرمى الرجل بسلاحه وولّى وانهزم أصحابه، وكانوا أربعة آلاف، رجل فذهبوا على وجوههم وقتل من قتل منهم ومات بعضهم عطشا وأتى منهم بأسرى فأمر بضرب أعناقهم وحملت الرؤوس على بغال كان أخذها من الشورجيّين كانت تنقل الشورج، ومضى حتّى وافى القادسيّة وقت المغرب. فخرج رجل من موالي الهاشميّين فقتل رجلا من السودان وأتاه الخبر [452] فقال له أصحابه:
__________
[1] . حذفه بالعصا أو الحجر: ضربه ورماه.(4/401)
- «ايذن لنا فى انتهاب القرية وطلب قاتل صاحبنا.» فقال: «لا سبيل إلى ذلك دون أن نعرف ما عند القوم، وهل كان ذلك عن رأيهم، ونسألهم أن يدفعوه إلينا، فإن فعلوا وإلّا ساغ لنا قتالهم.» وأعجلهم المسير حتّى مضى إلى نهر ميمون إلى المسجد الذي كان فيه، فى بدأته، وأمر بالرؤوس التي حملت معه فنصبت، وأمر بالأذان أبا صالح النوبى، فأذّن وسلّم عليه بالإمرة فقام وصلّى بأصحابه العشاء الآخرة وبات بها.
ثمّ مضى إلى الكرخ فطواها. ثمّ عبر دجيلا بجبّى [1] فى مخاضة دلّ عليها ولم يدخل القرية وأقام خارجا منها وأرسل إلى من فيها فأتاه رؤساؤهم ورؤساء الكرخ فأمرهم بإقامة الأتراك له ولأصحابه فأقيم لهم ما أراد وبات ليلته.
فلمّا أصبح أهدى له رجل من أهل جبّى فرسا كميتا فلم يجد له سرجا ولا لجاما. فركبه بحبل وشنقه [2] بليف وسار حتّى انتهى إلى العباس فأخذ منه دليلا إلى السيب وهرب أهل القرية فدخلها ونزل دار جعفر بن سليمان وهي فى السوق وتفرّق أصحابه فى القرية، فأتوه برجل فسأله عن وكلاء الهاشميّين فأخبره أنّهم فى الأجمة فوجّه وأحضر رئيسهم [453] فسألهم وإيّاه عن المال فقال:
- «لا مال عندي.» فأمر بضرب عنقه. فلمّا خاف القتل أقرّ بمال دفنه. فوجّه معه قوما، فأتاه بمائتي وخمسين دينارا وبألف درهم [3] . فهذا أوّل مال صار إليه. ثمّ سأله
__________
[1] . جبّى: قرية، انظر الطبري (12: 1753) .
[2] . شنقه: جذبه بزمامه وهو راكبه ورفع رأسه. فى الطبري (12: 1753) : سنفه.
[3] . فى الطبري (12: 1754) : دينار.(4/402)
عن دوابّ وكلاء الهاشميّين فدلّه على ثلاثة براذين فدفعها إلى رؤساء أصحابه. ووجدوا دارا لبعض بنى هاشم فيها سلاح فانتهبوه وصار فى أيدى الزنج سيوف وآلات وزقايات وتراس وبات ليلته.
فلمّا أصبح أتاه الخبر أنّ رميسا والحميري وعقيلا قد وافوا السيّب فوجّه يحيى بن محمد فى خمسمائة رجل فيهم سليمان وريحان وصالح النوبىّ الصغير فلقوا القوم فهزموهم وأخذوا سميريّة وسلاحا وهرب من كان هناك ورجع يحيى بن محمد فأخبره الخبر فأقام يومه ثمّ سار يزيد المذار. فلمّا صار ببامداد [1] وهو نهر جاوزه حتّى أصحر فرأى بستانا وتلّا فقصد التلّ فقعد عليه وانبثّ [2] أصحابه فى الصحراء وجعل لنفسه طليعة فأتاه الطليعة أو أرسل إليه يخبره أنّ رميسا بشاطئ دجلة يطلب رجلا يؤدّى عنه رسالة.
فوجّه إليه علىّ بن أبان ومحمد بن سلم وسليمان بن جامع، فلمّا أتوه قال:
- «اقرأوا [454] على صاحبكم السلام وقولوا له: أنت آمن على نفسك حيث سلكت من الأرض. أردد هؤلاء العبيد على مواليهم وآخذ لك عن كلّ رأس خمسة دنانير.» فأتوه فأعلموه ما قال لهم رميس فغضب وآلى ليرجعنّ فليبقرنّ بطن امرأة رميس وليحرقنّ داره وليخوضنّ الدماء هناك. فذهبوا إليه فأجابوه فانصرف عنه.
ثمّ تعرّض له رميس والحميري وصاحب ابن أبى عون مرارا فى كلّ ذلك يهزمهم ويقتل أصحابهم ويأسر منهم ويغنم وكان يجمع الرؤوس ويأمر بالاحتفاظ بها، حتّى إذا رجع إلى موضعه من نهر ميمون نصبها هنالك.
ثمّ إنّه صار إلى القرية التي قتل فيها رجل من أصحابه فأمر من يصير إليها
__________
[1] . ما فى الأصل مهمل. فأعجمناه كما فى الطبري (12: 1755) .
[2] . فى مط والطبري (12: 1755) : وأثبت.(4/403)
فيسأل أهلها أن يسلّموا إليه القاتل فى ممرّه كان بهم. فرجع إليه فأخبره أنّهم زعموا أنّه لا طاقة لهم بذلك الرجل لولائه من الهاشميّين ومنعهم له، فصاح بالغلمان وأمرهم بانتهاب القرية فانتهب منها مالا عظيما عينا وورقا وجوهرا وحليّا وأوانى ذهبا وفضّة وسبى يومئذ غلمانا ونسوة، وذلك أوّل شيء سبى.
وأتى بمولى الهاشميّين القاتل فضرب عنقه [455] وأخذ أصحابه شرابا وجدوه وبلغه ذلك فحرّم النبيذ عليهم وقال لهم:
- «أنتم تلاقون الجيوش فدعوا شرب النبيذ.» فأجابوه إلى ذلك.
وواقع من غد هذا اليوم أصحاب رميس وأصحاب عقيل على الشطّ والدنبلا [1] فى السفن يرمون بالنشّاب فحمل عليهم الزنج فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وهبّت ريح من غربىّ دجيل فحملت السفن إلى الشطّ فوثب إليها السودان فقتلوا من فيها وهرب رميس فنزل سفينة فأنهبها أصحابه وأحرقها.
وقعته مع بعض الأتراك
وكثر بعد ذلك عيثه وعظمت شوكته وسبى وأفسد وعظمت نكايته.
فمن عظيم ما كان له من الوقائع مع السلطان وقعة كانت مع بعض الأتراك يكنّى أبا هلال فى سوق الريّان أو ذلك أنّ هذا التركىّ وافاهم فى هذه السوق ومعه أربعة آلاف رجل أو يزيدون وفى مقدّمته قوم عليهم ثياب مشهرة وأعلام وطبول. فحمل عليهم السودان حملة صادقة وانتهى بعض السودان إلى صاحب علم القوم فضربه بخشبتين كانتا فى يده فصرعه وانهزم القوم وتلاحق السودان فقتلوا من أصحاب [456] ابن هلال ألف وخمسمائة ونجا
__________
[1] . فى الطبري (12: 1763) : الدبيلا. فى مط: الربدلا. وهو تصحيف.(4/404)
أبو هلال على دابّة عربىّ [1] وحالت ظلمة الليل بينهم. فلمّا أصبح أمر بتتبّعهم ففعلوا وجاءوا بأسرى ورؤوس، فقتل الأسرى كلّهم.
وكانت له وقعة أخرى بعد هذه الوقعة شبيهة بهذه ظفر فيها بأصحاب السلطان وكانت له وقعات عظام تركنا ذكرها لأنّنا لم نجد فيها غير إقدام الزنج بجهلهم وطمعهم وسوء ثبات [2] الجند لهم وأنّهم تهيّبوهم فكانوا كالجزّارين يقعون فى الغنم فيقتلون كيف شاءوا ومثل هذه الحروب لا يستفاد منها تجربة، فلذلك أعرضت عن ذكرها إلى أن أضعف أهل البصرة فلم يبق فيهم من يخرج إليه وقتل أصحاب السلطان فتهيّبه الناس.
أشدّ يوم لقيه صاحب الزنج
فحكى صاحب الزنج أنّه لم يلق يوما أشدّ من يوم الشذاة وهو يوم استشدّ له أهل البصرة فلم يبق فيها سعدىّ ولا بلالىّ ولا أحد من أصحاب السلطان ولا غيرهم إلّا جمعوا له. وكان هناك رجل يعرف بحمّاد الساجىّ وكان من غزاة البحر فى الشذوات وله علم بالحروب فيها، فجمع فى شذاءاته المطوّعة ورماة الأهداف ولم يبق بالبصرة من يحمل [457] السلاح إلّا خرج. إمّا فى الشذاءات وإمّا على الظهر، وانضمّ إليه النظّارة ومن لا سلاح معه ولم يشكّوا فى اصطلام صاحب الزنج وأصحابه، فدخلت الشذاءات والسفن التي معها النهر المعروف بأمّ حبيب، ومرّت الرجّالة والنظّارة على شاطئ النهر وقد سدّوا ما ينفذ فيه البصر تكاثفا وكثرة. فقال بعد ذلك صاحب الزنج:
«إنّى لمّا رأيت ذلك الجمع عانيت أمرا هائلا وراعني ذلك وملأ صدري
__________
[1] . فى الطبري (12: 1766) : عرى.
[2] . كذا فى مط: ثبات.(4/405)
رهبة وجزعا وفزعت إلى الدعاء وليس منّا أحد إلّا وقد خيّل إليه مصرعه فجعل مصلح يعجبني من كثرة الجمع وأنا أومئ إليه بالسكوت وعيّنت أصحابى وجعلت لهم كمينين وقلت لمن لقى القوم:
- «اجثوا لهم واستتروا بتراسكم ولا يثورنّ أحد منكم حتى يوافيكم القوم ويومئوا إليكم بأسيافهم فحينئذ ثوروا.» وأمرت نساء الزنج بجمع الآجر وإمداد الرجال به. ففعلوا [1] ذلك. فلمّا رأوا أصحابى وخرج الكمينان من جنبتي النهر ومن وراء السفن فصاحوا بهم.
رأيت سميريّة قد انقلبت. وتبعها آخر. وانهزم من كان على الشطّ.
فقتلت طائفة وهربت طائفة وغرقت طائفة ومن هرب طمعا فى النجاة أدركه السيف والغرق [458] فأبير ذلك الجمع ولم ينج منهم إلّا الشريد وكثر المفقودون من البصرة وهذا يوم الشذا الذي عظّمته الناس وذكروا كثرة من قتل فيه. فكان فيهم من ولد جعفر بن سليمان عدّة فى خلق لا يحصى عددهم. وأمر الخبيث بجمع الرؤوس وذهب إليه أولياؤه فعرضها عليهم فأخذوا ما عرفوا منها وعبّأ ما بقي عنده فى سفينة وأخرجها من النهر وأطلقها مع الماء فوافت البصرة فوقفت فى مشرعة تعرف بمشرعة القيّار.
فجعل الناس يأخذون ما عرفوا.
وقوى الخبيث بعد هذا اليوم وضعف طالبوه بل لم يبق له طالب. فقال له أصحابه:
- «إنّا قتلنا مقاتلة البصرة ولم يبق فيها إلّا من لا حراك به فأذن لنا فى تقحّمها.» فزبرهم وهجّن آراءهم وقال:
__________
[1] . كذا فى الأصل ومط: ففعلوا.(4/406)
- «بل ابعدوا عنهم فقد أرعبناهم وأحفظناهم، والرأى أن تدعوا حربهم حتّى يكونوا هم الذين يطلبونكم.» ثمّ انصرف بأصحابه إلى سبخة أى قرّة، وهي بين نهرين وأمر أصحابه باتّخاذ الأكواخ وهذه السبخة بين النخل والقرى والعمارات فكان أصحابه يغيرون يمينا وشمالا ويسوقون مواشى الأكرة وينتهبون أموالهم.
ثمّ دخلت سنة ستّ وخمسين ومائتين [459]
موافاة موسى بن بغا سرّ من رأى
وفيها وافى موسى بن بغا سرّ من رأى واستخفى صالح بن وصيف لمقدمه وعبّأ موسى أصحابه ميمنة وميسرة وقلبا فى السلاح حتّى صار إلى باب الجسر ممّا يلي الجوسق. وكان المهدى ذلك اليوم جالسا للمظالم فأعلم بمكانه فأمسك عن الإذن لهم ساعة ثمّ أذن لهم. فدخلوا فجرى كلام نحو ما جرى يوم قدم الوفد. فلمّا طال الكلام تراطن الترك فيما بينهم وقالوا بالتركيّة:
- «هذه المطاولة إنّما هي حيلة حتّى يكبسنا صالح.» فخافوا ذلك فأقاموه من مجلسه وحملوه على دابّة من دوابّ الشاكرية وانتهبوا ما كان فى الجوسق من دوابّ الخاصة ومضوا به إلى دار ياجور. ثمّ أخذوا هناك عليه العهود والمواثيق ألّا يمايل صلحا عليه ولا يضمر لهم إلّا مثل ما يظهره، وجدّدوا البيعة ووجّهوا إلى صالح أن يحضرهم للمناظرة فوعدهم أن يصير إليهم وقال لهم بعض رؤساء الفراغنة:
- «ما الذي تطلبون من صالح بن وصيف؟» فقال موسى:
- «دماء الكتّاب وأموالهم ودم المعتزّ وأمواله.»(4/407)
فاستتر صالح بن وصيف فمضى ياجور فأتى بالحسن بن مخلد من الموضع الذي كان فيه محبوسا من دار صالح بن وصيف، وردّ المهتدى [460] إلى الجوسق ودفع عبد الله بن محمد بن يزداذ إلى الحسن بن مخلد وولّى سليمان بن عبد الله بن طاهر بغداد وأظهر النداء على صالح.
وفى هذه السنة لثمان بقين من صفر قتل صالح بن وصيف.
ذكر السبب فى ظهور صالح وقتل الموالي وموسى إيّاه
كان سبب ذلك أنّ امرأة جاءت بكتاب فدفعته إلى كافور الخادم الموكّل بالحرم وقالت [1] :
- «فيه نصيحة ومنزلي فى موضع كذا من مكان كذا، فإن أردتمونى فاطلبونى هناك.» فأوصل الكتاب إلى المهتدى وأمر بطلب المرأة فى الموضع الذي وصفت فلم يعرف لها خبر ولم يوقف لها على أثر. فدعا المهتدى بسليمان بن وهب بحضرة جماعة فيهم موسى بن بغا ومفلح وياجور وبايكباك وغيرهم وقال له:
- «تعرف هذا الخطّ؟» قال: «نعم هذا خطّ صالح يذكر فيه أنّه مستخف بسرّ من رأى وأنّه إنّما استتر طلبا للسلامة وإبقاء على الموالي وخوفا من اتصال الفتن لحرب إن حدثت بينهم.» ثمّ ذكر ما صار إليه من الأموال للكتّاب وغيرهم وقال:
__________
[1] . انظر الطبري (12: 1791) .(4/408)
- «إنّ علم ذلك عند الحسن بن مخلد وهو [461] أحدهم.» ثمّ ذكر ما وصل إليه وتولّى تفريقه، وذكر ما صار إليه من أموال قبيحة وأنّ علم ذلك عند أبى صالح بن يزداذ. ثمّ ذكر أشياء فى هذا المعنى بعضها اعتذاراته وبعضها احتجاجاته.
فلمّا فرغ سليمان من قراءة الكتاب وصله المهتدى بقول يحثّ فيه على الألفة والصلح ويكرّه إليهم الفرقة والتفانى والتباغض. فدعاهم هذا الكلام منه إلى تهمته وأنّه يعلم بمكان صالح. فكان بينهم فى هذا كلام كثير ومناظرات طويلة.
ثمّ أصبحوا من الغد كلّهم فى دار موسى فى داخل الجوسق يتراطنون بالتركية فسمع بعضهم يقول:
- «أجمع القوم على خلع المهتدى.»
كلام المهتدى للمجمعين على خلعه
واتصل الخبر بالمهتدى فخرج إلى مجلسه متقلّدا سيفا وقد لبس ثيابا نظافا وتطيّب ثمّ أمر بإدخالهم إليه فأبوا ذلك مليّا ثمّ دخلوا عليه فقال لهم:
- «إنّه قد بلغني ما أنتم عليه ولست كمن تقدّمنى مثل أحمد بن محمد المستعين ولا مثل ابن قبيحة والله ما خرجت إليكم إلّا وأنا متحنّط وقد وصّيت وهذا سيفي فو الله لأضربنّ به ما أستمسك قائمه فى يدي. ويحكم إمّا دين إمّا حياء كم يكون الخلاف على الخلفاء [462] والإقدام والجرأة على الله سواء عندكم من أبقى عليكم وأراد صلاحكم ومن إذا بلغه مثل هذا عنكم دعا بأرطال الشراب فشربها سرورا بمكروهكم وحبّا لبواركم. خبّرونى عنكم، هل تعلمون أنّه وصل إلىّ من دنياكم شيء أمّا إنّك لتعلم يا بايكباك أنّ بعض المتصلين بك أيسر من جماعة إخوتى وولدي. وانظروا هل ترون(4/409)
فى منزل أحد منهم فرشا أو وصائف أو خدما أو جواري أو لهم ضياع أو مستغلات؟ سوءة لكم، ثمّ تقولون أنّى أعلم علم صالح، وهل صالح إلّا رجل من الموالي كواحد منكم، فكيف أكون معه إذا ساء رأيكم فيه؟ إن آثرتم الصلح كان ذلك ما أهوى لجميعكم وإن أبيتم إلّا ما أنتم عليه فشأنكم.
اطلبوا صالحا وابلغوا شفاء أنفسكم منه فأمّا أنا فما أعلم علمه.» قالوا: «فاحلف لنا على ذلك.» قال: «أنا أبذل لكم يميني ولكن أؤخّرها حتّى تكون بحضرة الهاشميين والقضاة والعدول وأصحاب المراتب فى غد إذا صلّيت الجمعة.» فكأنّهم لانوا قليلا ووجّه في إحضار الهاشميين فحضروا فى عشيّته فلم يذكر لهم شيئا وأمروا بالمصير إلى الدار لصلاة الجمعة فانصرفوا وغدا الناس فلم يحدثوا شيئا [463] وصلّى المهتدى وسكن الناس وانصرفوا هادئين.
وحكى بعضهم ممّن سمع كلام المهتدى مع موسى والجماعة أنّ المهتدى قال:
- «إن كان صالح قد أخذ من مال قبيحة والكتّاب شيئا فقد أخذ مثل ذلك بايكباك ومحمد بن بغا، فقد كانا حاضرين وهم شركاء فى جميع ما جرى.» فأحفظ ذلك أبا نصر محمد بن بغا وبايكباك وقد كان القوم من لدن قدم موسى بن بغا مضمرين هذا المعنى من الغلّ وإنّما منعهم من المطالبة قلّة الأموال وخوف الاضطراب. فلمّا ورد عليهم مال فارس ومال الأهواز تحرّكوا وكان ورود ذلك لثلاث بقين من المحرّم ومبلغه سبعة عشر ألف ألف درهم وخمسمائة ألف درهم. وانتشر الخبر فى العامّة أنّهم على خلع المهتدى والفتك به وأنّهم أرادوه على ذلك وأرهفوه. فكتبت رقاع وألقيت فى المسجد الجامع والطرقات فذكر بعض من قرأ رقعة منها أنّه كان فيها:(4/410)
- «بسم الله الرحمن الرحيم، يا معشر المسلمين، ادعوا الله لخليفتكم العدل الرضا المضاهي لعمر بن الخطّاب أن ينصره على أعدائه ويكفيه مؤونة ظالمه ويتمّ النعمة عليه وعلى هذه الأمّة ببقائه، فإن الموالي قد أخذوه [464] بأن يخلع وهو يعذّب والمدبّر لذلك أحمد بن محمد بن ثوابة والحسن بن مخلد. رحم الله من أخلص إليه ودعا.» ثمّ تحرّك الموالي ووجّهوا إلى المهتدى:
- «إنّا نحتاج أن نلقى إلى أمير المؤمنين شيئا.» وسألوا أمير المؤمنين أن يوجّه إليهم أحد إخوته فوجّه إليهم أخاه عبد الله أبا القاسم ومحمد بن ياس المعروف بالكرخىّ فمضيا إليهم فسألاهم عن شأنهم فذكروا أنهم سامعون مطيعون لأمير المؤمنين، وأنّه بلغهم أنّ موسى بن بغا وبايكباك وجماعة من قوّادهم يريدونه على الخلع وأنّهم يبذلون دماءهم دون ذلك، وأنّهم قرأوا رقاعا فى المساجد بذلك وشكوا مع ذلك سوء حالهم وتأخّر أرزاقهم وما صار من الإقطاعات إلى قوّادهم التي قد أجحفت بالخراج وغيره وما صار لكبرائهم من المعاون والزيادات على الرسوم القديمة مع الدخلاء فيهم الذين استغرقوا أكثر أموال الخراج وكثر كلامهم. فقال أبو القاسم:
- «اكتبوا بذلك كتابا إلى أمير المؤمنين أتولّى إيصاله لكم.» فكتبوه فأوصله إلى المهتدى وكتب جوابه بخطّه وختمه بخاتمه وغدا به أبو القاسم وقد اجتمعوا فقال:
- «يقول لكم أمير المؤمنين: هذا كتابي إليكم بخطّى وخاتمي [465] فاسمعوه وتدبّروه.» فقرءوه وإذا فيه:(4/411)
- «بسم الله الرحمن الرحيم، أرشدنا الله وإيّاكم وكان لنا ولكم وليّا وحافظا. فهمت كتابكم وسرّنى ما ذكرتم من طاعتكم وما أنتم عليه، فأحسن الله جزاءكم وتولّى حياطتكم. فأمّا ما ذكرتم من خلّتكم وحاجتكم فعزيز علىّ ذلك فيكم، ووددت لو أنّ صلاحكم قد تهيّأ بألّا أطعم ولا أطعم ولدي وأهلى إلّا القوت الذي لا شبع دونه ولا ألبس أحدا من ولدي إلّا ما ستر العورة ولا والله حاطكم الله، ما صار إلىّ منذ تقلّدت أمركم، لنفسي وأهلى وولدي ومتقدّمى غلماني وحشمى إلّا خمسة عشر ألف دينار، وأنتم تقفون على ما ورد ويرد وكلّ ذلك مصروف إليكم غير مذخور عنكم.
- «وأمّا ما ذكرتم ممّا بلغكم وقرأتم به الرقاع التي ألقيت فى المساجد والطرق وما بذلتم من أنفسكم فأنتم أهل ذلك، وأين تبعدون ممّا ذكرتم، وإنّما نحن نفس واحدة فجزاكم الله عن أنفسكم وعهودكم وأماناتكم خيرا، وليس الأمر كما بلغكم فعلى هذا فليكن عملكم.
- «وأمّا ما ذكرتم من الإقطاعات والمعاون وغيرها، فأنا أنظر فى ذلك وأصير منه [466] إلى محبّتكم إن شاء الله، والسلام عليكم.» فلمّا قرأوا الكتاب كثر الكلام وقالوا أشياء. فقال لهم أبو القاسم:
- «اكتبوا بذلك كتابا ثانيا.» فكتبوا وقالوا:
- «إنّ الذي تسألون أن تردّ الأمور إلى أمير المؤمنين، وألّا يعترض عليه معترض وأن تردّ رسومهم إلى ما كانت عليه وهو أن يكون على كلّ سبعة منهم عريف وعلى كلّ خمسين خليفة(4/412)
وعلى كلّ مائة قائدا وأن تسقط النساء والزيادات والمعاون وألّا يدخل مولى فى قبالة ولا غيرها وأن يوضع لهم العطاء فى كلّ شهرين على ما لم يزل وأن تبطل الإقطاعات وأن يكون أمير المؤمنين يزيد من يشاء ويرفع من يشاء.» وذكروا أنّهم صائرون إلى باب أمير المؤمنين، فمن خالف أمير المؤمنين فى شيء أخذوا رأسه وإن سقط من رأس أمير المؤمنين شعرة قتلوا موسى بن بغا وياجور وغيرهما، ودعوا الله لأمير المؤمنين.
ودفعوا الكتاب إلى أبى القاسم فأوصله وتحرّك الموالي واضطرب القوّاد جدّا وقعد المهتدى للمظالم فسبق أبو القاسم فقرأ المهتدى الكتاب قراءة ظاهرة وخلا بموسى ثمّ وقّع فى كلّ باب بما أحبّوا. فقال أبو القاسم لموسى ومحمد ابني بغا وبايكباك: [467]- «وجّهوا معى إليهم رسولا تعتذرون إليهم ممّا بلغهم عنكم.» فوجّه كلّ واحد منهم رجلا وصار أبو القاسم [إليهم] وهم فى زهاء أربعة آلاف رجل وثلاثة آلاف راجل فأقرأهم من أمير المؤمنين السلام ودفع إليهم الكتاب فقرءوه وكتبوا كتابا آخر يلتمسون أن ينفذ إليهم خمس توقيعات:
توقيع بحطّ الزيادات وتوقيع بردّ الإقطاعات وتوقيع بإخراج الموالي البرّانيين من الخاصّة وتوقيع بردّ الرسوم إلى ما كانت عليه وتوقيع بردّ التلاجىّ ثمّ يصيّر أمير المؤمنين الجيش إلى أحد أخوته أو غيرهم ممّن يرى ليسفر بينه وبينهم ولا يكون رجلا من الموالي وأن يؤمر أن يحاسب صالح بن وصيف وموسى بن بغا على ما عندهما من الأموال ويعجّل لهم عطاء شهرين ويدرّ ذلك عليهم فى كلّ شهر.
وكتبوا كتابا آخر إلى موسى بن بغا ومحمد بن بغا وبايكباك ومفلح(4/413)
وياجور وغيرهم من القوّاد يقولون إنّهم قد كتبوا بما كتبوا وإنّ أمير المؤمنين لا يمنعهم ما سألوا إن لم يعترضوا عليه وإنّهم إن فعلوا ذلك وخالفوه لم يصبروا عليهم وإنّ أمير المؤمنين إن شاكته شوكة وأخذ من رأسه شعرة [468] أخذوا رؤوسهم جميعا وإنّه ليس يقنعهم إلّا أن يظهر صالح بن وصيف حتّى يجمع بينه وبين موسى فينظر أين مواضع الأموال، فإنّ صالحا وعدهم أن يعطيهم رزق ستّة أشهر.
ثمّ دفعوا الكتاب إلى رسول موسى ووجّهوا مع أبى القاسم عدّة منهم ليوصل كتاب أمير المؤمنين وليسمعوا كلامه. فانصرفوا إلى المهتدى فأمر بإنشاء التوقيعات الخمس وأنفذها فى درج كتاب بخطّه إليهم.
وكتب القوّاد أيضا جواب كتابهم وأنفذوه إليهم بإجابتهم إلى ما سألوه.
وكتب أمان لصالح بن وصيف فيه: إنّ موسى وبايكباك سألا أمير المؤمنين ذلك وأكدّ ذلك غاية التأكيد وحمل إليهم.
وقال لهم أبو القاسم:
- «علام اجتماعكم وقد أجبتم إلى كلّ ما سألتم؟» فانصرف القوم وتفرّق القوّاد.
فلمّا كان يوم السبت ركب ولد وصيف وأصحابهم وتنادى الناس:
السلاح، واجتمعوا وعسكروا وركب أبو القاسم يريد دار المهتدى فمرّ بهم فتعلّقوا به وقالوا:
- «قل لأمير المؤمنين إنّا نريد صالحا.» فمضى فأدّى ذلك فقال موسى:
- «أراهم يطلبون صالحا منّى كأنّى أخفيته أو هو عندي [469] إن كان عندهم له خبر فينبغي أن يظهروه.» وصحّ عندهم أنّ القوم قد تواطئوا وأنّ الناس يتحلّبون إليهم، فتهايجوا من(4/414)
دار أمير المؤمنين فركبوا فى السلاح واتصل [الخبر] بالأتراك فانصرفوا ركضا وعدوا لا يلوى فارس على راجل ولا كبير على صغير حتّى لحقوا بمنازلهم وزحف [موسى وأصحابه جميعا] [1] فلم يبق بسرّ من رأى قائد يركب إلى دار أمير المؤمنين إلّا ركب معه وكان تقدير الجيش الذين ركبوا مع موسى فى هذا اليوم أربعة آلاف فارس فى السلاح والقسىّ الموتّرة والدروع والجواشن والرماح والطبرزينات يريدون محاربة من يريد صالحا وكان أكثرهم هواة مع صالح. فمضوا إلى الجوسق ونادوا بأنّ من لم يظهر من قوّاد صالح وأهله وأصحابه ويحضر دار أمير المؤمنين أسقط اسمه وخرّب منزله وفعل به وصنع.
ثمّ جدّ هؤلاء فى طلب صالح فهجم بسببه على جماعة ممّن كان متصلا به قبل ذلك، إلى أن عثر به غلام من موالي وصيف. فحكى الغلام قال:
دخلت دارا فى زقاق أطلب ماء لأشربه، فسمعت قائلا يقول بالفارسية:
- «أيّها الأمير تنحّ فقد جاء غلام يطلب ماء.» فلمّا سمعت ذلك جمعت ثلاثة أنفس وهجمت [470] عليه فإذا صالح بيده مرآة ومشط وهو يسرّح لحيته. فلمّا رآني بادر فدخل بيتا فخفت أن يكون قصد لأخذ سيف أو سلاح فتلوّمت ثمّ نظرت إلى البيت فإذا هو قد لجأ إلى زاوية فدخلت إليه فاستخرجته فلم يزدني على التضرع شيئا، فقلت له:
- «ليس إلى تركك سبيل ولكنّى أمّرتك على أبواب إخوتك وقوّادك وصنائعك فإن اعترض علىّ منهم اثنان أطلقتك فى أيديهم.» قال: فأخرجته فما لقيت أحدا إلّا من أعان على مكروهه. وحمل إلى دار
__________
[1] . زيادة من الطبري (12: 1807) .(4/415)
موسى فأتاه القوّاد ليذهبوا به إلى الجوسق وهو على بغل باكاف. فلمّا صاروا به إلى حدّ المنارة ضربه رجل من أصحاب مفلح ضربة من ورائه على عاتقه كاد يقذّه ثمّ احتزّوا رأسه فوافوا به المهتدى وهو فى بركة قباء رجل من غلمان مفلح يقطر دما وقد قام لصلاة المغرب فلم يره فلمّا قضى صلاته وجاءوه برأسه لم يزدهم على أن قال:
- «واروه.» وأخذ فى تسبيحه.
فلمّا كان من الغد طيف به على قناة ونودى عليه:
- «هذا جزاء من قتل مولاه وأمر بقتل مولاه.» ونصب بباب العامّة، فعل ذلك [471] به ثلاثة أيّام.
وفى رجب من هذه السنة خلع المهتدى وقتل ذكر سبب خلعه وقتاله الأتراك وظفرهم به وقتلهم إيّاه
كان ظهر مساور الشاري بناحية الموصل فكثر اتباعه وعيثه وهزم عدّة جيوش للسلطان. فندب له موسى بن بغا فوضع موسى العطاء لأصحابه وكان على مناجزة الشاري وقصده طريق خراسان.
فقال بعضهم:
سبب ذلك أنّ المهتدى استمال بايكباك وهو مقيم مع موسى فى وجه مساور الشاري وكتب إليه أن يضمّ العسكر الذي مع موسى إلى نفسه وأن يكون هو الأمير، وأراد منه أن يفتك بموسى ومفلح ويقيّدهما ويحملهما إليه.
فمضى بايكباك بالكتاب إلى موسى وقال:
- «إنّى لست أفرح بهذا وإنّما هذا تدبير علينا جميعا وإذا فعل بك شيء(4/416)
اليوم فعل بى غدا مثله.» فاجتمعوا على خلعه والفتك به. فتوجّه موسى نحو طريق خراسان وقال له بايكباك:
- «اذهب إليه وأظهر له الطاعة.» ودبّرا فى ذلك تدبيرا بلغ المهتدى، وظنّ أنّ بايكباك أتاه فى الفتك به.
فلمّا دخل إليه أمر بحبسه وأخذ سلاحه. [472] وقال بعضهم:
كان السبب فى ذلك إنّ المهتدى تكلّم فى موسى ومحمد ابني بغا وقال للموالي:
- «قد احتجبنا الأموال.» فتخوّفه أبو نصر وهرب. ثمّ كتب إليه المهتدى وآمنه فرجع وظهر وقعد له المهتدى فوصل إليه هو ومن جاء معه. فسلّم فقال له المهتدى:
- «ما تقول فيما يقول الموالي؟» قال: «وما يقولون؟» قال: «إنّهم يقولون إنّكم احتجزتم الأموال واستبددتم بالأعمال فما تنظرون فى شيء من مصالحهم.» قال: «يا أمير المؤمنين وما أنا والأموال ولست كاتب ديوان ولا جرى على يدي عمل.» فقال: «وأين الأموال هل هي إلّا عندك وعند أخيك وكتّابكم.» ودنا الموالي وأخذوا بيد محمد وقالوا:
- «هذا عدوّ أمير المؤمنين. لا ينبغي أن تقوم بين يديه بسيف.»(4/417)
فأخذوا سيفه. فوثب غلام لأبى نصر كان حاضرا يقال له: تيتك [1] ، فسلّ سيفه وخطا ليمنعهم من أبى نصر، فكانت خطوته تلى الخليفة فسبقه عبد الله بن تكين فضرب رأسه بالسيف فما بقي أحد إلّا سلّ سيفه. وقام المهتدى فدخل بيتا كان يقربه.
وأخذ محمد بن بغا فأدخل حجرة وحبس أصحابه وأجمعوا على أن يكتبوا إلى موسى بن بغا بالانصراف وتسليم العسكر إلى من فيه من القوّاد [473] وأن يكتبوا إلى القوّاد بتسليم العسكر إليهما ويكتبوا إلى الصغار بمثل ما سأل أصحابهم بسرّ من رأى وما أجيبوا إليه، وأن ينظروا فإن سارع موسى ومفلح إلى ما أمروا به من الإقبال إلى الباب فى غلمانهم وتسليم العسكر إلى من أمر بتسليمه إليه وإلّا شدّوهما وثاقا وحملوهما إلى الباب فى غلمانهم، ووجهوا بهذه الكتب واجتمع فى الدار منهم قوم فأجرى على كلّ واحد منهم درهمان وأخذت عليه بيعة جديدة بالنصرة والثبات.
وأصبح الموالي يلتمسون أن يعزل عنهم أمراؤهم وأن يلي عليهم بعض أخوة أمير المؤمنين وأن تؤخذ أمراؤهم وكتّابهم بالخروج ممّا اختانوه من مال السلطان، وذكروا أنّ مبلغه خمسون ألف ألف درهم. فأجابهم إلى ذلك ومضى يومهم على هذا.
ثمّ أصبحوا يطالبون بما وعدوا به فقيل لهم: إنّ هذا الذي تريدونه أمر صعب وإخراج الأمر عن أيدى هؤلاء ليس بسهل فكيف إذا جمع إلى ذلك أخذ أموالهم فانظروا فى أموركم فإن كنتم تظنّون أنّكم تصبرون على هذا الأمر حتّى بلغ منه غايته أجابكم أمير المؤمنين وإن تكن الأخرى فإنّ أمير المؤمنين [474] يحسن لكم النظر.»
__________
[1] . فى مط: فقال له نفتك. بدل يقال له: تيتك. فى الطبري (12: 1826) : ثيتل.(4/418)
فأبوا إلّا ما سألوا أوّلا. فأخذت عليهم البيعة وأقبلت الرسل تختلف بين العسكرين والذي يريد موسى بن بغا أن يولّى ناحية ينصرف إليها والذي يريد القوم من موسى أن يقبل فى غلمانه ليناظرهم. فلمّا كان من الغد أخذ موسى ومفلح طريق خراسان ومضى بايكباك- فى هذه الرواية- ومن معه من القوّاد حتّى دخلوا الدار، فأخذت سيوفهم ومناطقهم، وأقبل المهتدى على بايكباك يعدّد ذنوبه من الإسلام وأبطأ خبره على أصحابه فقال لهم حاجبه أحمد بن خاقان:
- «اطلبوا صاحبكم قبل أن يحدث به حدث.» فجاشت الترك وأحاطوا بالدار، فاستشار المهتدى صالح بن علىّ بن يعقوب بن أبى جعفر المنصور فقال:
- «يا أمير المؤمنين، هو حديث أبى مسلم مع المنصور، فلو فعلت ما فعل لسكتوا.» فأمر المهتدى بضرب عنقه ورمى برأسه إليهم. ففعل ذلك فتناجزوا [1] وجاشوا وشدّ واحد منهم على من رمى بالرأس إليهم فقتله.
ووجّه المهتدى إلى الأسروشنية والمغاربة والفراغنة والأتراك الذين بايعوه على الدرهمين فجاءوه وكثر القتلى فيقال: [475] إنّه قتل من الأتراك نحو من أربعة آلاف.
ثمّ اجتمع الأتراك كلّهم وصار أمرهم واحدا فكانوا نحو عشرة آلاف وكان مع ما اجتمع من الأتراك إلى المهتدى نحو خمسة عشر ألفا.
فخرج المهتدى والمصحف فى عنقه، وعبّأ الناس وقاتل ودعا الناس إلى أن ينصروا خليفتهم. فلمّا التحم الشرّ مال الأتراك الذين مع المهتدى إلى
__________
[1] . فى مط: فتأخروا.(4/419)
أصحابهم الذين مع أخى بايكباك وبقي المهتدى فى أصحابه لا أتراك معه.
فحمل طغبا [1] أخو بايكباك حملة ثائر موتور فنقض جمعهم وهزمهم وأكثر فيهم القتل وولّوا منهزمين. ومضى المهتدى يركض منهزما فى الأسواق والسيف فى يده مشهور وهو ينادى:
- «يا معشر الناس انصروا خليفتكم.» حتّى صار إلى دار أبى صالح محمد بن يزداذ وفيها أحمد بن جميل صاحب المعونة فدخلها ووضع سلاحه ولبس البياض ليعلو الدار وينزل إلى أخرى ويهرب.
وجاء أحمد بن خاقان فى ثلاثين فارسا يسأل عنه حتّى وقف على خبره فى دار ابن جميل فبادرهم ليصعد فرمى بسهم وبعج [2] ، ولم يجد المهتدى لنفسه حيلة فاستسلم فأخذه أحمد بن خاقان على دابّة وأردف خلفه سائسا حتّى صار به إلى داره.
وانتهب الجوسق فلم يبق فيه شيء. وأخرجوا [476] أحمد بن المتوكّل المعروف بابن فتيان وكان محبوسا فى الجوسق وكتبوا إلى موسى بن بغا وسألوه الانصراف إليهم وجمعوا الهاشميين والخاصّة حتّى بايعوا أحمد بن المتوكّل ابن فتيان وسمّوه: المعتمد على الله.
وأرادوا المهتدى على الخلع قبل ذلك فأبى ولم يجبهم فخلعوا أصابع يديه ورجليه ثمّ أمروا من وطى على خصيته حتّى قتله ولمّا أيقن المهتدى بالقتل قال:
أهمّ بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنّزوان
__________
[1] . فى مط: طغيا. فى الطبري (12: 1816) : طغوتيا.
[2] . بعج البطن: شقّه.(4/420)
وكانت خلافته كلّها أحد عشر شهرا وخمسة عشر يوما، وعمره ثمان وثلاثين سنة، وكان رحب الجبهة أجلح [1] ، جهم الوجه، أشهل العينين عظيم البطن عريض المنكبين طويل اللحية قصيرا.
__________
[1] . الأجلح: من انحسر شعره عن جانبي رأسه.(4/421)
خلافة المعتمد على الله
موافاة جعلان البصرة لحرب صاحب الزّنج
وفى هذه السنة وافى جعلان البصرة لحرب صاحب الزنج. فزحف بعسكره حتّى صار بينه وبين صاحب الزنج فرسخ، فخندق على نفسه وأصحابه ووجّه إلى الزينبي وبنى هاشم وكان يواعدهم للقائه فإذا التقوا لم يكن بينهم إلّا الرمى بالنشاب والحجارة لضيق الموضع بما فيه من النخل والدغل، ولم يكن للخيل [477] مجال. فبقوا كذلك ستّة أشهر.
فلمّا رأى صاحب الزنج ذلك هيّأ من أصحابه جماعة يأخذون على جعلان مسالك الخندق وبيّته فى خندقه فقتل جماعة من رجاله وريع الباقون روعا [1] شديدا فترك جعلان عسكره وانصرف إلى البصرة وظهر عجز السلطان.
وازداد أمر صاحب الزنج عظم شأن، فأخذ أربعة وعشرين مركبا بحريّة كانت اجتمعت تريد البصرة. وكانت هذه المراكب تنتظر أن ينفصل أمر السلطان مع صاحب الزنج. فلمّا انهزم السلطان رأوا أن تشدّ المراكب بعضها إلى بعض حتّى تصير كالجزيرة ويتّصل أوّلها بآخرها ثمّ يسيروا بها فى
__________
[1] . كذا فى الأصل والطبري (12: 1835) : روعا. فى مط: ريعا.(4/423)
دجلة. فندب صاحب الزنج أصحابه وحرّضهم عليها وقال:
- «هذه غنيمة لم تروا مثلها.» فانتدب لها الزنج فلم يلبث أن جرّوها وقتلوا مقاتلتها وسبوا ما فيها من الرقيق وغنموا منها أموالا عظاما لا تحصى ولا يعرف قدرها. فأنهب ذلك أصحابه ثلاثة أيّام ثمّ أمر بما بقي فحيز له.
ثمّ دخل صاحب الزنج الأبلّة بعد حرب قتل فيها خلقا وأغرقها وكانت مبنيّة بناء متكاثفا بالساج فأسرعت فيه النار ونشأت ريح عاصف فأطارت الشرر إلى شاطئ عثمان [478] واحترق وقتل خلق كثير بالأبلّة وغرق خلق وكان ما احترق من الأمتعة أكثر ممّا انتهب. ولمّا جرى ذلك على الأبلّة جزع أهل عبّادان فاستسلموا لصاحب الزنج وسلّموا إليه بلدهم وحصنهم.
وفيها ملك أصحابه الأهواز.
ذكر دخول الزنج الأهواز
لمّا فتح الأبلّة وعبّادان وأخذ مماليكهم وفرّق فيهم السلاح طمع فى الأهواز. فاستنهض أصحابه نحو جبّى فلم يثبت له أهلها فدخلها وانتهب وقتل ووافى الأهواز وبها سعيد بن تكسين وإليه حربها وإبراهيم بن المدبّر وإليه الخراج والضياع فانحاز سعيد بن تكسين [1] فى من معه من الجند وثبت إبراهيم فيمن معه من غلمانه فدخل الزنج المدينة وأسروا إبراهيم بن المدبّر بعد أن ضرب ضربة على وجهه وحووا كلّ ما ملك.
فلمّا ملك الأهواز رعب أهل البصرة رعبا شديدا، فانتقل كثير من أهلها [عنها] وكثرت الأراجيف من عوامّها.
__________
[1] . كذا فى الأصل: تكسين. فى مط: تكسير. فى الطبري (12: 1838) : يكسين.(4/424)
وفى رجب من هذه السنة وافى البصرة سعيد بن صالح الحاجب من قبل السلطان لحرب صاحب الزنج.
وفيها ظهر بالكوفة علىّ بن زيد الطالبي فوجّه إليه [479] الشاه بن ميكال فى عسكر كثيف فهزمه أصحابه ونجا الشاه.
وفيها وثب محمد بن واصل بن إبراهيم التميمي وهو من أهل فارس ورجل من أكرادها يقال له: أحمد بن الليث، بعامل فارس وهو الحارث بن سيما الشاربانى [1] فحارباه وقتلاه وغلب محمد بن واصل على فارس.
وفيها غلب الحسن بن زيد على الرىّ وشخص موسى بن بغا إلى الري لحربه وشيّعه المعتمد.
وفيها كانت بين باجور وابن لعيسى بن شيخ وقعة على باب دمشق. وكان خرج باجور مرتادا لنفسه معسكرا وابن عيسى بن شيخ وقائد لعيسى فى عسكر لهما بالقرب من دمشق. فاتصل بهما خبر باجور وأنّه فى عدد يسير، فزحفا إليه ولا يعلم باجور بهما حتّى لقياه فقتل القائد الذي مع ابن عيسى وهزم وقتل خلق من أصحابه وكان فى عشرين ألفا باجور فى نحو من مائتين إلى ثلاثمائة.
ودخلت سنة سبع وخمسين ومائتين
وفيها صار يعقوب بن الليث إلى فارس
فبعث إليه المعتمد طغّبا وإسماعيل بن إسحاق وأبا سعيد الأنصارى. وكتب إليه أبو أحمد بن المتوكّل بولاية بلخ وطخارستان إلى ما يلي [480] ذلك من كرمان وسجستان والسند وجعل له مال فى كلّ سنة من هذه الأعمال فقبل
__________
[1] . كذا فى الأصل: الشاربانى. فى مط: الساربانى.(4/425)
ذلك وانصرف.
وعقد المعتمد لأخيه أبى أحمد على الكوفة وطريق مكّة ثمّ، عقد له على بغداد والسواد وواسط وكور دجلة والبصرة والأهواز وفارس فولّى خلفاءه وأمر أن يعقد ليارجوخ [1] على البصرة وكور دجلة واليمامة والبحرين فولّى منصور بن جعفر بن دينار البصرة وكور دجلة.
واستحثّ سعيد الحاجب فى المصير إلى دجلة والإناخة على صاحب الزنج ففعل ذلك ومضى إلى نهر معقل وكان هناك جيش لصاحب الزنج بالنهر المعروف بالمرغاب وهو معترض فى نهر معقل فأوقع بهم وهزمهم واستنقذ ما فى أيديهم من النساء وأصاب سعيدا جراحات منها جراحة فى فيه. ثمّ سار سعيد إلى الموضع المعروف بعسكر أبى جعفر واستعدّ للقاء صاحب الزنج بالفرات فقصدهم وهزمهم واستأمن إليه عمران وهو زوج جدّة ابن صاحب الزنج وتفرّق ذلك الجمع.
فحكى من حضر ذلك الموضع قال: لقد لقيت المرأة من سكّان الفرات تجد الزنجىّ مستترا بتلك الأدغال [481] فتخرجه وتحمله إلى عسكر سعيد ما به عنها امتناع.
ثمّ أوقع الخبيث وقعات متوالية. ثمّ إنّ الخبيث وجّه إلى يحيى بن محمد البحراني صاحبه وهو مقيم بنهر معقل جيشا وأمره بتوجيه سليمان بن جامع وابن الليث الإصبهانى ليلا مع عسكر قوىّ حتّى يوقعا بسعيد وقت طلوع الفجر، ففعل ذلك فصادفا منهم غرّة وغفلة فأوقعا بهم وقتلا منهم مقتلة عظيمة. وأحرق الزنج عسكر سعيد فضعف سعيد ومن معه ودخل أمرهم خلل لهذا البيات وقد كانت أرزاقهم احتبست عنهم من جهة منصور بن جعفر
__________
[1] . ما فى الأصل ومط مهمل. والإعجام من الطبري (12: 1842) .(4/426)
بن الخيّاط وهو يومئذ بالأهواز، إليه حربها وله يد فى الخراج.
فلمّا اضطرب أمر سعيد وضعف أمر بالانصراف إلى باب السلطان وتسليم الجيش إلى منصور بن جعفر. وذلك انّ سعيدا ترك بعد ما اتّفق عليه من البيات حرب صاحب الزنج وكان بغرا [1] يحمى البصرة ومنصور يجمع السفن التي تحمل المير، ثمّ يبذرقها إلى البصرة فضاق بالزنج الميرة.
ثمّ عبّأ منصور أصحابه وقصد صاحب الزنج فى عسكره وصعد قصرا على دجلة فأحرقه وما حوله ودخل [482] عسكر الخبيث من ذلك الوجه ووافاه الزنج وكمّنوا له كمينا فهزموه وقتلوا من أصحابه مقتلة عظيمة وألجئ الباقون إلى الماء فغرقوا وحملت الرؤوس إلى يحيى بن محمد البحراني بنهر معقل فأمر بنصبها هناك.
ثمّ أوقع الخبيث شاهين وإبراهيم بن سيما بالأهواز فقتل شاهين وهزم إبراهيم.
وكاتب علىّ بن أبان بالمصير إلى البصرة لحرب أهلها.
ذكر الخبر عن دخول الزنج البصرة
لمّا ضعف منصور لم يعد لقتال الزنج واقتصر على بذرقة السفن لوصول المير إلى البصرة، فامتنع أهل البصرة. فوجّه الخبيث علىّ بن أبان فشغل منصورا عن بذرقة السفن وعاد أهل البصرة إلى الضيق، وألحّ أصحاب الخبيث عليها بالحرب وأحسّ الخبيث بضعف القوم وإضرار الحصار بهم وتخريبه ما حولها من القرى.
وكان نظر فى النجوم ولا يفارقه الأصطرلاب وكتب النجوم، فوقف على
__________
[1] . كذا فى الأصل: بغرا. فى مط: نعر الحمى بدل «بغرا يحمى» فى الطبري (12: 1844) : بغراج.(4/427)
كسوف القمر فقال لأصحابه:
ادّعاء له
- «إنّى قد ابتهلت إلى الله فى الدعاء على أهل البصرة [483] وتعجيل خرابها فخوطبت وقيل لى: إنّما البصرة خبزة لك تأكلها من جوانبها، فإذا انكسر نصف الرغيف خربت البصرة. فأوّلت انكسار الرغيف انكساف القمر فى نصفه.» فكان هذا حديث عسكره كلّ يوم. فكثر على الأسماع.
وندب قوما للخروج إلى الأعراب، ففرضوا قوما بينهم. وأتاه خلق عظيم فوجّههم الخبيث إلى ناحية منها وأمرهم بتطرّق البصرة والإيقاع بهم من تلك الجهة. فلمّا ابتدأ القمر بالكسوف انهض علىّ بن ابان فى عسكر ضخم وطائفة من العرب إلى البصرة ممّا يلي بنى سعد وكتب إلى محمد بن يحيى البحراني فى إتيانها ممّا يلي نهر عدىّ وضمّ إليه سائر العرب فواقع بغرا علىّ بن أبان يومين ومال الناس نحوه فدخل علىّ بن أبان من ناحيته ودخل يحيى من ناحيته وتفرّق الجند وانحاز بغرا بمن معه، فلم يكن فى وجهه أحد. ولقيه إبراهيم بن يحيى المهلّبى فاستأمنه لأهل البصرة فآمنهم ونادى منادى إبراهيم بن يحيى:
- «من أراد الأمان فليحضر دار إبراهيم.» فحضر أهل البصرة حتّى ملؤوا الرحاب. فلمّا رأى اجتماعهم أمر بأخذ أفواه السكك والطرق لئلّا يتفرّقوا، ثمّ غدر بهم ووضع فيهم السيوف [484] فقتلوا بأجمعهم ولم يفلت إلّا الشاذّ. فيقال إنّ أصوات الناس الذين قتلوا(4/428)
ارتفعت بالتشهّد لما أخذهم السيف فسمعهم من بالطّفاوة. [1] فلمّا فرغ من قتلهم أتى علىّ بن أبان المسجد الجامع فأحرقه وراح إلى الكلّاء فأحرقه من الحبل إلى الجسر وأخذت النار فى كلّ شيء مرّت به من إنسان وبهيمة ومتاع وآلة. ثمّ ألّحوا على من وجدوا بعد ذلك غدوّا وعشيّا ليسوقونهم إلى يحيى بن محمد البحرانىّ وهو يومئذ بسيحان [2] . فمن كان ذا مال قرّره حتّى يستخرج ماله ثم يقتله ومن كان فقيرا عاجله بالقتل.
ثمّ نادى محمد بن يحيى بالأمان فلم يظهر له أحد.
فكتب الخبيث إلى محمد، أن: «استخلف على البصرة شبلا فإنّهم يسكنون إليه ليظهر الناس، فإذا آمنوا وظهروا أخذوا بالدلالة على ما دفنوا وأخفوا من أموالهم.» ففعل ذلك حتّى استنظف أهل البصرة وقتلهم وهرب الباقون على وجوههم فصرف الخبيث جيشه حينئذ عن البصرة.
ادّعاء آخر له
فحكى قوم عن الخبيث أنّه، لمّا انتهى إليه عظيم ما فعل أصحابه بالبصرة وكثرة ما سفك من الدماء وخرّب وأفسد هاله ذلك- وكان أمرا فظيعا هائلا- ادّعى أنّه [485] دعا عليهم فرأى خيلا [3] بين السماء والأرض وقد خفضوا أيديهم اليسرى ورفعوا أيديهم اليمنى. قال: فعلمت انّ الملائكة تتولّى إخرابها دون أصحابى، ولو كان أصحابى يتولون ذلك لما بلغوا هذا الأمر العظيم المفرط.
__________
[1] . انظر الطبري (12: 1855) .
[2] . كذا فى مط والطبري (12: 1855) . ما فى الأصل مهمل.
[3] . والرواية تختلف فى الطبري (12: 1856) .(4/429)
وعقد المعتمد لأخيه أبى أحمد على ديار مضر وقنّسرين والعواصم وخلع عليه وعلى مفلح وشخصا إلى البصرة لقتال الخبيث.
وظفر الخبيث بمنصور بن جعفر بعد قتال عظيم وبعد ما جاهد منصور جهادا شديدا فقتله وعامّة من معه.
ذكر مقتل مفلح
ولمّا شخص أبو أحمد ومفلح لحرب الخبيث تجهّز الجيش وعدّة لم ير مثله وحكى المشايخ من أهل بغداد الذين شاهدوا الجيوش أنّه ما رأوا ولا سمعوا بمثل ذلك الجيش كثرة وقوّة وآلة وسلاحا. وتبعهم خلق عظيم من متسوّقة بغداد وكان أصحاب الخبيث متفرّقين فى النواحي قد استأكلوها.
فليس مع الخبيث يومئذ إلّا القليل من أصحابه فهو على ذلك حتّى وافاه أبو أحمد فى جيشه، وهرب من كان من أصحابه بنهر معقل فلحقوا به [486] مرعوبين، فدعا الخبيث رئيسين من رؤساء عسكره ممّن هرب من نهر معقل، فقال لهما:
- «ما الذي دعا كما إلى الإخلال بموضعكما؟» فقالا:
- «رأينا شيئا لم نر مثله.» ووصفا عظم ذلك الجيش وعدّتهم وكثرتهم. فوجّه الخبيث من يأتيه بخبر الجيش وخبر من يقوده. فرجعت رسله بتعظيم الأمر وتفخيمه ولم يقدروا أن يقفوا على خبر من يقوده. فزاد ذلك فى جزعه وبادر بالرسل إلى علىّ بن أبان يستدعيه ومن معه من الجيش وورد العسكر مع أبى أحمد فأناخ بإزائه واستدعى الخبيث دواة وقرطاسا ليكاتب علىّ بن أبان ويستعجله.
فإنّه فى ذلك إذ أتاه المكتنى بأبى دلف وهو من قوّاد السودان يخبره أنّ(4/430)
القوم قد صعدوا وانهزم عنهم الزنج فليس فى وجوههم من يردّهم فصاح به وانتهره وقال:
- «اغرب عنّى، فقد دخلك الجزع وانخلع قلبك فلست تدرى ما تقول.» وقد كان أمر جعفرا السجّان بالنداء فى الزنج وتحريكهم للخروج إلى موضع الحرب، فأتاه السجّان فأخبره أنّه ندب الزنج فخرجوا وظفروا بسميريّتين [1] . فأمره بالرجوع لتحريك الرجّالة. فرجع ولم يلبث إلّا يسيرا حتّى أصيب [487] مفلح بسهم غرب لا يعرف الرامي، ووقعت الهزيمة وكرّ الزنج وقووا على محاربتهم فقتلوا منهم مقتلة عظيمة ووافى الخبيث زنجه بالرؤوس قابضين عليها بأسنانهم حتّى ألقوها بين يديه. فكثرت الرؤوس يومئذ حتّى ملأت كلّ شيء. وأتى الخبيث بأسير من أبناء الفراغنة، [2] فسأله عن الجيش فأعلمه بمكان أبى أحمد الموفّق، ومفلح فارتاع لذكر الموفّق وكان إذا راعه أمر كذّب به، فقال:
- «كذبت، ليس غير مفلح ولو كان فى الجيش من ذكر هذا الأسير لكان صوته أبعد ولما كان مفلح إلّا تابعا له، وأنا لست أسمع إلّا باسم مفلح.» ولم يلبث مفلح أن مات.
ووافى علىّ بن أبان فى أصحابه وقد استغنى عنه.
وهرب أبو أحمد الموفّق إلى الأبلّة، فأخذ يجمع من فرّقت الهزيمة ويجدّد الاستعداد. ثمّ مضى إلى نهر أبى الأسد وكان الخبيث لا يدرى كيف قتل مفلح. فلمّا بلغه أنّه أصيب بسهم ولم ير أحدا ينتحله ادّعى أنّه هو كان الرامي له فسمعه. من يقول:
- «سقط بين يدي سهم فأمرت خادمي راحا أن يرفعه إلىّ، فرميت به
__________
[1] . فى مط: بتسمرتين. وهو تصحيف وخطأ.
[2] . انظر الطبري (12: 1864) .(4/431)
فأصبت مفلحا وكانت الهزيمة.» قال محمد بن الحسن:
- «وكذب، فإنّى كنت حاضرا وما زال عن فرسه [488] حتّى أتاه خبر الهزيمة وأتى بالرؤوس.»
أسر يحيى بن محمد وقتله وادعاء صاحب الزنج فى نبوّته
وفيها أسر يحيى بن محمد البحرانىّ قائد الزنج. وذلك أنّه وافى نهر العباس فلقيه بفوهة النهر ثلاثمائة وسبعون فارسا من أصحاب العامل بالأهواز فاستقلّهم وكان هو فى جمع عظيم فترك الاستعداد لهم، فرشقوهم حتّى أكثروا فيهم الجراح.
وكان بلغ أبا أحمد خبره فأنفذ طاشتمر [1] التركىّ فى جيش، فلمّا أشرفوا عليهم ألقى الزنج نفوسهم فى الماء وبقي يحيى فى بضعة عشر رجلا، فنهض يحيى عند ذلك فأخذ درقته وسيفه واحتزم بمنديل وتلقّى القوم بمن معه، فرشقهم أصحاب طاشتمر بالسهام فجرح البحراني بثلاثة أسهم.
ولمّا رآه أصحابه جريحا تفرّقوا عنه ولم يعرف. فرجع حتّى دخل سفينة وعبر به إلى ناحية أصحابه. فلمّا راه الزنج مثقلا بالجراحات ضعفت قلوبهم فتركوا القتال وهربوا وقتل منهم خلق كثير وحاز أصحاب السلطان الغنائم التي كانت فى السفن.
ومشى يحيى البحرانىّ وهو مثخن حتّى ألقى نفسه فى موضع وبات ليلته ومعه عبّاد المتطبّب، فنهض عبّاد لمّا أصبح وجعل يمشى متشوّفا لأن يرى
__________
[1] . طاشتمر: هناك خلط فى رسم هذا الإسم بين كونه «طاشتم» وكونه «طاشتمر» ويرجع ذلك إلى كتابة الميم، أو التخفيف فى التعريب فى مط: طاشتم، وفى الطبري (12: 1868) : طاشتمر.(4/432)
إنسانا، فرأى بعض أصحاب السلطان [489] فأشار فأخبرهم بمكان يحيى وأتاه بهم حتّى سلّمه إليهم.
وانتهى خبره إلى صاحب الزنج فاشتدّ جزعه عليه وعظم عليه توجّعه.
ثمّ حمل يحيى البحرانىّ إلى ابى أحمد الموفّق فحمله إلى سرّ من رأى إلى المعتمد. فأمر المعتمد ببناء دكّة بالحير فى مجرى الحلبة، ثمّ رفع للناس حتّى أبصروه، ثمّ ضرب مائتي سوط بثمارها [1] ، ثمّ قطعت يداه ورجلاه، ثمّ خبط بالسيوف، ثمّ ذبح وأحرق. ولمّا بلغ خبره صاحب الزنج قال:
- «كان عظم علىّ ما أصابه واشتدّ اهتمامي به، فخوطبت وقيل لى: قتله خير لك، إنّه كان شرها.» ثمّ حكى عنه حكايات فى غنائم خان فيها فاطّلع عليها، فوهبها له.
وكان أصحابه يحكون عنه أنّه كان يقول:
- «عرضت علىّ النبوّة فأبيتها.» فقيل له:
- «ولم؟» قال: «لأنّ لها عبئا خفت ألّا أطيقها.»
وفى هذه السنة انحاز أبو أحمد الموفّق من قرب الزنج إلى واسط ذكر السبب فى ذلك
كان السبب فى ذلك انّ الموفّق لمّا صار إلى نهر أبى الأسد كثرت العلل
__________
[1] . ثمرة السوط: عقدة فى طرفه، تشبيها بالثمر فى الهيئة والتدلّى. ومنه: «أمر الجلّاد أن يدقّ ثمرة سوطه» أى لتلين، تخفيفا على الذي يضرب.(4/433)
فى أصحابه وفشا فيهم الموت. فلم يزل مقيما حتّى أبلّ [1] من نجا من الموت.
ثمّ انصرف إلى باذآورد [2] [490] فعسكر به وأمر بتجديد الآلات وإعطاء من معه الأرزاق، وأصلح الشذاءات والمعابر وشحّنها بالقوّاد، ونهض يريد عسكر الخبيث وأنفذ قوما إلى نهر أبى الخصيب، فمال أكثر الناس حين وقعت الحرب إلى نهر أبى الخصيب. وتأمّل الزنج قلّة مع من هو فى جانب أبى أحمد الموفّق، فأكبّوا عليه وكثر القتل فى الجانبين.
ثمّ صار أبو أحمد الموفّق إلى شذاءة وتوسّط الحرب وحرّض أصحابه فكثر عليه الزنج وعلم أنّه لا طاقة له بهم، وانقطع عنه جماعة حجز الزنج بينه وبينهم واقتطعوهم عنه. فقاتلوا قتالا شديدا، ثمّ قتلهم الزنج بأسرهم وانصرف القوم إلى باذاورد وحملت الرؤوس إلى صاحب الزنج فوقعت نار فى طرف من أطراف عسكره وذلك فى عصوف الرياح، فاحترق العسكر، ورحل أبو أحمد الموفّق إلى واسط. فلمّا صاروا إلى واسط تفرّق عنه من بقي معه وتشتّت ذلك الجمع العظيم.
ودخلت سنة تسع وخمسين ومائتين [491]
انصراف أبى أحمد واستخلاف أحمد المولّد لحرب صاحب الزنج
وفيها انصرف أبو أحمد بن المتوكّل من واسط إلى سرّ من رأى واستخلف على حرب الخبيث أحمد المولّد.
وكان خفى على صاحب الزنج أمر الحريق الذي كان فى أصحاب أبى
__________
[1] . أبلّ من مرضه: برئ وصحّ.
[2] . فى مط: باداورد. فى المراصد، باذورد: اسم مدينة كانت قرب واسط، بينها وبين البصرة.(4/434)
أحمد فلم يعرف خبره إلّا بعد ثلاثة أيّام فوجّه على بن أبان وضمّ إليه أكثر الجيش الذي كان مع يحيى بن محمد إلى الأهواز وبها رجل يعرف باصغجور [1] يتولّى حربها ومعه نيزك فى جماعة من القوّاد.
فلمّا التقى العسكران لم يثبت القوم للزنج، إنّما استشعروه من الرعب فانهزم اصغجور وقتل نيزك وأسر خلق من القوّاد فيهم الحسن بن هرثمة، وقتل من الجند عدد كثير وحملت الرؤوس إلى صاحب الزنج.
وكتب علىّ بن أبان بالفتح وحمل أعلاما كثيرة وأسرى ودخل علىّ بن أبان الأهواز وأقام فيها يعيث ويجيء إلى أن ندب السلطان موسى بن بغا لحرب الخبيث. فلمّا شخص موسى شيّعه المعتمد وأخرج عبد الرحمن بن صالح إلى الأهواز وأشخص إسحاق بن كنداجيق إلى البصرة وإبراهيم بن سيما إلى باذاورد، كلّهم من قبل موسى لحرب صاحب الزنج.
فأمّا عبد الرحمن بن مفلح فإنّه وافى قنطرة ارمق وأقام عشرة أيّام [492] ثمّ واقع المهلّبى فهزمه المهلّبى فانصرف واستعدّ ثمّ عاد لمحاربته فأوقع به وقتل من الزنج قتلا ذريعا وانهزم علىّ بن أبان بمن معه من الزنج إلى بيّان.
وكان إبراهيم بن سيما بالباذاورد فقصده وكان المهلّبى قد سار يريد الموضع المعروف بالأوكر [2] فواقعه إبراهيم فهزمه وانتهى خبر هزيمته إلى عبد الرحمن فوجّه إليه طاشتمر فى جمع من الموالي فلم يصل إلى المهلّبى لأنّه كان سلك طريق الآجام والأدغال والقصب فأضرمه عليهم نارا فخرجوا منه هاربين وأسر معهم قوما.
وصار المهلّبى إلى نهر السدرة وكتب إلى صاحبه يستمدّه ويسأله التوجيه إليه بالشذاءات، فوجّه إليه ثلاث عشرة شذاة فيها جمع كثير من المقاتلة.
__________
[1] . فى الطبري (12: 1875) : اصغجون.
[2] . كذا فى الأصل: بالأوكر. فى مط: بالانكر. فى الطبري (12: 1878) : بالدكر.(4/435)
فسار المهلّبى حتّى وافى عبد الرحمن فلم يكن بينهما قتال وتواقف الجيشان يومهما.
فلمّا كان الليل انتخب المهلّبى جماعة يثق بهم وبجلدهم وصبرهم وترك عسكره بمكانه ليخفى أمره ومضى حتّى صار من وراء عبد الرحمن ثمّ بيّته فقتل وانتهب وهرب عبد الرحمن على وجهه حتّى وافى الدولاب. ثمّ أعدّ رجالا وولّى عليهم طاشتمر [493] فوافوه وأوقعوا به وهزموه إلى نهر المدرة.
ثمّ صار إليه طاشتمر بنهر المدره فأوقع به وانهزم علىّ إلى الخبيث مغلولا قد أخذت شذاءاته وغنم عسكره.
وكان عبد الرحمن بن مفلح وإبراهيم بن سيما يتناوبان المصير إلى الخبيث وإسحاق بن كنداجيق يومئذ بالبصرة مقيم، وأقاموا كذلك بضعة عشر شهرا إلى أن صرف موسى بن بغا عن حرب الخبيث وولّى مسرور البلخي.
وفيها دخل يعقوب بن الليث نيسابور.
ذكر دخول يعقوب نيسابور
ذكر أنّ يعقوب بن الليث صار إلى هراة. ثمّ قصد نيسابور، فلمّا قرب منها وجّه إليه محمد بن طاهر بن محمد يستأذنه فى تلقّيه فلم يأذن له، فبعث بعمومته وأهل بيته يتلقّونه. ثمّ دخل نيسابور فنزل طرفا من أطرافها يعرف بداودآباذ فركب إليه محمد بن طاهر فدخل إليه فى مضربه فساءله ثمّ أقبل على توبيخه وتفريطه فى عمله وقال:
- «مثلك لا يكمل لتدبير خراسان.» وأمر بالتوكيل به وصرفه وحبسه. وولّى عزيزا نيسابور وقبض على أهل بيت طاهر. وورد الخبر بذلك على السلطان.
ووردت [494] رسل يعقوب على المعتمد فجلس له جعفر المعتمد وأبو(4/436)
أحمد الموفّق وحضر القوّاد وأذن لرسول يعقوب. فذكر رسول يعقوب ما لا يزال يتناهى إلى يعقوب من حال أهل خراسان فى الشراة والخارجين عليهم حتّى غلبوا عليها وضعف محمد بن طاهر عن ضبطها ومكاتبة أهل خراسان يعقوب ومسألتهم إيّاه أن يقدم عليهم واستعانتهم به وأنّه صار إليها فتلقّاه أهلها على عشرة فراسخ وسلّموها إليه وأحضر رأسا على قناة فيه رقعة مكتوب فيها:
- «هذا رأس عدوّ الله الخارجي بهراة ينتحل الخلافة منذ ثلاثين سنة قتله يعقوب بن الليث.» فتكلّم أبو أحمد وعبيد الله بن يحيى وقالا لرسل يعقوب:
- «إنّ أمير المؤمنين لا يقارّ يعقوب على ما فعل وهو يأمره بالانصراف إلى العمل الذي ولّاه إيّاه فليرجع، فإنّه إن فعل كان من الأولياء وإلّا لم يكن إلّا ما للمخالفين.» وصرف رسله وخلع عليهم.
ودخلت سنة ستين ومائتين
وفيها قتل صاحب الزنج صاحب الكوفة علىّ بن زيد العلوي.
وفيها واقع [495] يعقوب بن الليث الحسن بن زيد بطبرستان فهزمه، وكان ليعقوب بها ظفر ومحنة.
محاربة يعقوب بن الليث الحسن بن زيد بطبرستان ذكر السبب فى ذلك
وكان السبب فى ذلك أنّه كان بسجستان رجل يعرف بعبد الله رئيس ينافس يعقوب، فقهره يعقوب فهرب منه إلى محمد بن طاهر بنيسابور. فلمّا(4/437)
ملك يعقوب نيسابور هرب عبد الله فلحق بالحسن بن زيد وشخص يعقوب فى طلبه.
فلمّا صار إلى قرب سارية لقيه الحسن بن زيد وكان يعقوب بعث إليه أن يوجّه إليه بعبد الله السجزىّ حتّى ينصرف عنه فإنّه إنّما قصد طبرستان لأجله لا لحربه. فأبى الحسن تسليمه إليه.
فلمّا التقى عسكراهما لم يكن إلّا كلا ولا، حتّى انهزم الحسن إلى أرض الديلم ودخل يعقوب سارية ثمّ مضى منها إلى آمل، فجبى أهلها خراج سنة، ثمّ شخص فى طلب الحسن بن زيد. فلمّا صار فى بعض جبال طبرستان تتابعت عليه الأمطار نحوا من أربعين يوما فلم يتخلّص منه إلّا بمشقة شديدة ولم يمكنه النزول إلّا على ظهور الرجال [1] وهلك ما معه من الظهر.
ثمّ رام الدخول خلف الحسن بن زيد [496] [إلى الشرز [2]] فأخبر بعض من شاهده أنّه كان يقدم عسكره وأمرهم بالوقوف ليتأمّل الطريق فلمّا رآه عاد إلى أصحابه وأمرهم بالانصراف وقال:
- «إن لم تكن إليه طريق غير هذا فلا طريق إليه.» وكان نساء تلك الناحية قلن لرجالهن: دعوه يدخل فإنّه إن دخل كفيناكم وعلينا أخذه وأخذ من معه.» فانصرف وقد ذهب معظم خيله وإبله وأثقاله ورجاله، وكتب إلى السلطان بفتح طبرستان وهزيمة الحسن بن زيد.
وسار يعقوب إلى الرىّ وبها الصلابىّ من قبل موسى بن بغا.
__________
[1] . والعبارة فى الطبري (12: 1884) : صعد جبلا، لمّا رام النزول عنه لم يمكنه ذلك إلّا محمولا على ظهور الرجال.
[2] . كذا فى الطبري (12: 1884) . وفى المراصد، الشرّر [بالراء المهملة] : جبل فى بلاد الديلم.(4/438)
ذكر السبب فى مسيره
كان سبب مسيره إلى الرىّ انّ عبد الله السجزىّ صار بعد هزيمة الحسن بن زيد إلى الرىّ مستجيرا بالصلابىّ. فلمّا صار يعقوب إلى جوار الرىّ كتب إلى الصلابىّ يخيّره بين تسليم عبد الله السجزىّ إليه حتّى ينصرف عنه ويرتحل إلى عمله وبين أن يأذن بحربه. فاختار الصلابىّ تسليم عبد الله فسلّمه إليه فقتله يعقوب وانصرف عن الصلابىّ.
ودخلت سنة إحدى وستين ومائتين [497]
وفيها جمع السلطان [1] حاجّ خراسان والرىّ وطبرستان وجرجان فى صفر وقرئ عليهم كتاب يعلمون فيه أنّ السلطان ما ولّى يعقوب بن الليث خراسان وانّه عاص ويأمرهم بلعنه، وذلك لدخوله خراسان وأسره محمد بن طاهر وآل طاهر.
فيها كانت وقعة بين محمد بن واصل وبين عبد الرحمن وطاشتمر برامهرمز فقتل ابن واصل طاشتمر وأسر ابن مفلح. ذكر السبب فى ذلك
كان السبب فى ذلك أنّ ابن واصل قتل بفارس الحارث بن سيما عامل السلطان وتغلّب عليهم وضمّ إلى موسى بن بغا فارس والأهواز والبصرة واليمامة إلى ما كان إليه من عمل المشرق. فوجّه موسى عبد الرحمن بن مفلح إلى الأهواز وولّاه إيّاها وفارس وضمّ إليه طاشتمر، فاتصل بابن واصل
__________
[1] . وهو عبيد الله بن عبد الله بن طاهر. انظر الطبري (12: 1887) .(4/439)
ذلك وكان مقيما بالأهواز على حرب الخارجي بناحية البصرة، فلمّا بلغه أنّ ابن مفلح قد توجّه إلى فارس زحف إليه ابن واصل والتقيا برامهرمز وانضمّ ابو داود الصعلوك إلى ابن واصل معينا له [498] فظفر ابن واصل بابن مفلح فأسره وقتل واصطلم [1] عسكره وبعث السلطان إسماعيل بن إسحاق إلى ابن واصل فى إطلاق ابن مفلح فلم يجبه إلى ذلك، ثمّ لم يزل ابن مفلح فى يده حتّى قتله.
ولمّا فرغ ابن واصل من ابن مفلح أقبل مظهرا أنّه يريد واسطا لحرب موسى حتّى انتهى إلى الأهواز وبها إبراهيم بن سيما فى جمع كثير، فلمّا رأى موسى بن بغا شدّة الأمر وكثرة المتغلّبين على نواحي المشرق وأن لا قوام له بهم ولا طاقة، سأل حينئذ أن يعفى عن أعمال المشرق، فأعفى عنها وضمّ ذلك إلى أبى أحمد، وانصرف موسى بن بغا إلى باب السلطان وصرف عمّاله عن المشرق.
وولّى أبو الساج الأهواز وحرب صاحب الزنج، فقدّم أبو الساج صهره عبد الرحمن فقتل، وانحاز أبو الساج إلى عسكر مكرم ودخل الزنج الأهواز فسبوا أهلها وقتلوا وانتهبوا.
ثمّ صرف أبو الساج وولّى إبراهيم بن سيما.
وفيها ولّى نصر بن أحمد ما وراء نهر بلخ وكتب إليه بولاية ذلك.
وفيها زحف يعقوب بن الليث إلى فارس وابن واصل بالأهواز فانصرف منها إلى فارس [499] والتقى هو ويعقوب فهزمه يعقوب وحصر قلعة ابن واصل بخرّمة [2] فأخذها وحصّل ما فيها- فبلغت قيمة ما أخذه يعقوب منها أربعين ألف ألف درهم- وأسر مرداسا خال ابن واصل وأوقع بالأكراد الذين
__________
[1] . فى مط: واصحكم، بدل: واصطلم.
[2] . خرّمة: ناحية من نواحي فارس قرب إصطخر (مراصد الاطلاع) .(4/440)
مالئوا [1] ابن واصل.
وفيها جلس المعتمد فى دار العامّة فولّى ابنه جعفرا العهد وسمّاه المفوّض إلى الله وولّاه المغرب وضمّ إليه موسى بن بغا وولّاه إفريقية ومصر والشام والجزيرة والموصل وأرمينية وطريق خراسان وحلوان ومهرجانقذق.
وولّى أخاه أبا أحمد العهد من بعد جعفر وولّاه المشرق وضمّ إليه مسرور البلخي وولّاه بغداد والسواد والكوفة وطريق مكّة والمدينة واليمن وكسكر وكور دجلة والأهواز وفارس وقم وأصبهان والكرج والدينور والرىّ وزنجان وقزوين وخراسان وجرجان وطبرستان وكرمان وسجستان والسند.
ثمّ دخلت سنة اثنتين وستّين ومائتين
وفيها وافى يعقوب بن الليث رامهرمز
فوجّه السلطان إليه إسماعيل بن إسحاق [500] وبغراج وأخرج من كان محبوسا من أسباب يعقوب لأنّه لمّا حبس يعقوب محمد بن طاهر، حبس السلطان صاحبه وصيفا ومن كان قبله من أسبابه، فأطلق عنهم عند موافاة يعقوب رامهرمز، ثمّ قدم إسماعيل بن إسحاق من عند يعقوب برسالته.
فجلس أبو أحمد بغداد ودعا بجماعة من التجار وأعلمهم أنّ أمير المؤمنين أمر بتولية يعقوب بن الليث خراسان وطبرستان وجرجان والرىّ وفارس والشرطة ببغداد، وذلك بمحضر صاحب يعقوب.
ثمّ انصرف الرسل الذين وجّهوا إلى يعقوب إلى السلطان فأعلموه أنّه يقول: لا يرضيه ما كتب إليه دون أن يصير إلى الباب السلطانىّ. وارتحل يعقوب من عسكر مكرم، فصار إليه أبو الساج فقبله وأكرمه ووصله، ولمّا
__________
[1] . كذا فى الأصل بالضبط. فى مط: مالوا لابن واصل.(4/441)
رجع الرسول بجواب يعقوب عسكر المعتمد بخارج سرّ من رأى واستخلف ابنه جعفرا ثم وافى بغداد فاشتقّها [1] وجازها إلى الزعفرانية فنزلها، وقدّم أخاه أبا أحمد الموفّق وسار يعقوب بجيشه حتّى صار من واسط على فراسخ فصادف هناك بثقا بثقه مسرور [501] البلخىّ من أجله حتى لا يجوزه. فأقام عليه حتّى سدّه وعبره وصار إلى باذبين ووافى واسطا.
وسار محمد بن كثير من قبل مسرور البلخىّ فنزل بإزائه بالنعمانية وسار المعتمد حتّى صار إلى سيب بنى كوما وأقام المعتمد حتّى اجتمعت إليه عساكره. وزحف يعقوب من واسط إلى دير العاقول ثمّ زحف إلى عسكر السلطان. فأقام المعتمد ومعه عبيد الله بن يحيى وأنهض أخاه لحرب يعقوب، فجعل يعقوب يعبّئ أصحابه وجعل أبو أحمد موسى بن بغا على ميمنته ومسرور البلخىّ على ميسرته وصار هو فى نخب الرجال فى القلب.
فالتقى العسكران بين سيب بنى كوما ودير العاقول. فشدّت ميسرة يعقوب على ميمنة أبى أحمد فهزمتها وقتلت جماعة منها من القوّاد بينهم إبراهيم بن سيما وغيره، وسائر عسكر أبى أحمد ثابت. ثمّ ثابت المنهزمة فحملوا على عسكر يعقوب فثبتوا وحاربوا حربا شديدة، فقتل منهم جماعة وأصاب يعقوب ثلاثة أسهم فى حلقه وبدنه ولم تزل الحرب قائمة بين الفريقين إلى آخر وقت العصر.
ثمّ ظهر فى كثير من أصحاب يعقوب كراهة قتال السلطان لمّا رأوه بإزائهم. [502] ثمّ حمل جميع أصحاب أبى أحمد على يعقوب ومن ثبت معه فانهزم أصحاب يعقوب وثبت يعقوب فى حامية أصحابه، حتّى مضوا وفارقوا موضع الحرب وغنم عسكر السلطان عسكر يعقوب. فيقال: إنّه أخذ
__________
[1] . فى مط: واستقّها. فى الأصل: واشتفّها. فى الطبري (12: 1892) : واشتقّها.(4/442)
من عسكره من الدوابّ والبغال أكثر من عشرة آلاف رأس ومن العين والورق ما يكلّ عن حمله ومن جرب [1] المسك أمر عظيم.
وتخلّص محمد بن طاهر وكان مثقلا بالحديد، خلّصه الذي كان موكّلا به، وكتب كتاب الفتح إلى بغداد وقرئ على الناس، ورجع المعتمد إلى المدائن ومضى أبو أحمد الموفّق وقبض على ما لأبى الساج من المنازل والضياع فأقطعها مسرور البلخي، وقدم محمد بن طاهر بن عبد الله بغداد وقد ردّ إليه العمل وخلع عليه على مرتبته، فنزل دار عبد الله بن طاهر فلم يعزل أحدا ولم يولّ، وأمر له بخمسمائة ألف درهم.
وفيها وجّه صاحب الزنج جيوشه إلى البطيحة ودست ميسان ذكر الخبر عن طمعه فى ذلك
لمّا انصرف موسى بن بغا عن أعمال المشرق وصار النظر لأبى أحمد الموفّق وضمّ أبو أحمد [503] كور دجلة إلى مسرور البلخىّ وتشاغلوا بحرب يعقوب، خلت كور دجلة من عمّال السلطان وعساكره سوى المدائن.
فوجّه صاحب الزنج أحمد بن مهدى من أهل جبّى فى سميريّات فيها رجال رماة إلى نهر المرأة [2] ، فجعل الجبّائى يوقع بالقرى.
فكتب إلى صاحبه:
- «إنّ البطيحة خالية من رجال السلطان، لانصراف مسرور وأصحابه إلى محاربة يعقوب بن الليث.» فأمر صاحب الزنج رجلا من باهلة يقال له عمير بن عمّار- كان عالما
__________
[1] . فى مط: حرق المسك. والطبري (12: 1894) كالأصل: جرب.
[2] . نهر المرأة: نهر بالبصرة، حفره أردشير الأصغر، والمرأة اسمها: طماهيج (مراصد الإطلاع) .(4/443)
بطرق البطيحة ومسالكها- إلى أن يسير مع الجبّائى حتّى يستقرّ بالحوانيت.
وكاتب سليمان بن جامع أن يسير إلى الحوانيت فسار الجبّائى فى طريق الماذيان فتلقّاه رميس فواقعه الجبّائى فهزمه وأخذ أربعا وعشرين سميرية ونيّفا وثلاثين صاخة [1] وأفلت رميس ووافق خروجه منهزما مع أصحابه خروج سليمان بن جامع من النهر العتيق. فتلقّاه فأوقع به فيمن أفلت معه وانحاز رميس إلى بئر مساور ولحق بسليمان من مذكورى البلالية وأنجادهم جماعة فى نحو من مائة وخمسين سميريّة فاستخبرهم الخبر فقالوا:
- «ليس بينك وبين واسط أحد من عمّال السلطان وولاته.» فاغترّ سليمان بذلك وسار حتّى [504] انتهى إلى الجازرة [2] فتلقّاه رجل يقال له أبو معاذ القرشي، فواقعه فانهزم سليمان عنه وقتل أبو معاذ جماعة وأسر جماعة فيهم قائد من قوّاد الزنج يقال له: رباح، وانصرف سليمان إلى موضعه الذي كان معسكرا به فأتاه رجلان من البلالية فقالا:
- «ليس بواسط أحد يدافع عنها غير أبى معاذ فى الشذاءات التي لقيتك.» فاستعدّ سليمان وكتب إلى الخبيث مع البلاليّة الذين استأمنوا إليه واحتبس الإثنين اللذين أخبراه عن واسط بما أخبراه، وسار قاصدا لنهر أبان فاعترض له أبو معاذ فى طريقه ونشبت الحرب بينهما وعصفت الريح فاضطربت شذاة أبى معاذ وقوى عليه سليمان وأصحابه فأدبر عنهم.
ثمّ مضى سليمان فافتتح نهر أبان فأحرق وانتهب وسبى النساء والصبيان ثمّ وجّه رجلا يعرف له خبر واسط، فأخبره أنّ مسرورا قد توجّه إليه وأنّه بواسط. فتحمّل سليمان من موضعه وطلب موضعا يقرب عليه قصد صاحبه
__________
[1] . كذا فى الأصل: صاخة. فى الطبري (12: 1901) : صلغة.
[2] . فى الأصل الجارزة فى الطبري (12: 1901) : الجارزة.(4/444)
منه متى لحقه الطلب. فأشير عليه بطيها [1] فتحصّن فيها وجمع إليه كلّ من ظهر منه مكاشفة للسلطان ويثق به من أهل الطفوف وغيرهم وكاتب صاحبه [505] بذلك وبما دبّره، فكتب إليه يصوّب رأيه.
ثمّ إنّه وجّه الجبّائى فى عسكر فبلغه أنّ أغرتمش وخشيشا قد أقبلا فجزع منهما وأخذ فى الاستعداد للقائهما. ورجع إليه الجبّائى منهزما وصعد سليمان سطحا فأشرف منه فرأى الجيش فنزل مسرعا وعبر النهر وأمر السودان أن يستتروا حتّى لا يظهر منهم أحد ويتواروا بالأدغال وتدعوا القوم حتّى يتوغّلوا ولا يتحرّك واحد إلى أن يسمعوا أصوات طبوله فإذا سمعوها خرجوا. وقصد أغرتمش لجيشه وشغلهم قائد من قوّاد الزنج عن دخول العسكر يقال له: أبو الندى، وشدّ سليمان من وراء القوم وضرب الزنج بطبولهم وألقوا أنفسهم فى الماء للعبور إليهم فانهزم أصحاب أغرتمش، وخرج إليهم من كان بطميشا من السودان فوضعوا فيهم سيوفهم وانهزم خشيش على أشهب كان تحته يريد الرجوع إلى عسكره. فتلقّاه السودان فصرعوه وأخذته سيوفهم فقتل وحمل رأسه إلى سليمان.
وقد كان خشيش حين أسرعوا إليه قال لهم:
- «أنا خشيش فلا تقتلوني واذهبوا بى إلى صاحبكم.» فلم يسمعوا قوله. وانهزم أغرتمش وظفر الزنج بعسكره [506] وشذاءاته ودوابّه وأسلابه وكتب إليه صاحبه بالفتح وحمل إليه رأس خشيش وخاتمه، فأمر فطيف به فى عسكره ونصب ثمّ حمله إلى علىّ بن أبان وهو يومئذ مقيم بنواحي الأهواز، وأمر بنصبه هناك.
__________
[1] . فى الأصل: بطيها. وفى الموضع الآتي: بطيها. فى الطبري (12: 1905) طهيثا. (فى كلا الموضعين) فى مط. طميشا (فى كلا الموضعين) .(4/445)
وفيها كانت وقعة بين أحمد بن ليثويه صاحب مسرور وبين علىّ بن أبان
فهزم الزنوج وقتل منهم مقتلة عظيمة وذلك أنّ مسرورا وجّه أحمد بن ليثويه إلى ناحية الأهواز وكان علىّ بن أبان بتستر فقصده ابن ليثويه فزحف علىّ بن أبان إليه وهو يبشّر أصحابه ويعدهم الظفر ويحكى ذلك لهم عن الخبيث. فلمّا وافى الباهليون- وهي قرية تعرف بذلك [1]- تلقّاه ابن ليثويه فى جماعة كثيفه من خيل السلطان واستأمن إليه جماعة من العرب فانهزم علىّ بن أبان ثمّ كرّ عليهم مع جميعة من رجّالته فاشتدّ القتال وترجّل علىّ بن أبان فباشر القتال بنفسه راجلا وبين يديه غلام يقال له فتح، وبصر بعلىّ بن أبان قوم فعرفوه وأنذروا الناس به، فانصرف هاربا حتّى لجأ إلى المسرقان، فألقى نفسه فيه وتلاه فتح فغرق فتح ولحق علىّ بن أبان نصر الرومي فتخلّصه [507] من الماء وكان أصاب ساقه سهم، فانصرف مفلولا من أنجاد السودان وأبطالهم عدد كثير.
ودخلت سنة ثلاث وستين ومائتين ظفر يعقوب بن الليث بمحمد بن واصل
وفيها ظفر يعقوب بن الليث بمحمد بن واصل أخذه ابن عزيز بن السرىّ فجاء به إلى يعقوب أسيرا.
وملك يعقوب فارس وسار إلى الأهواز، فلمّا صار إلى النوبندجان انصرف أحمد بن ليثويه عن تستر وارتحل عن بلدان الأهواز كلّ من كان بها من قبل
__________
[1] . أى الباهليون اسم قرية. انظر الطبري (12: 1911) .(4/446)
السلطان.
ثمّ أقام علىّ بن أبان بنهر السدرة إلى أن دخل صاحب يعقوب الأهواز واسمه الخضر. فجعل يغير عليه وأغار صاحب يعقوب عليه ولم يزل كذلك الأمر مدّة.
ثمّ تجاسر عليه أعنى علىّ بن أبان على الخضر فسار إليه وأوقع به وقتل من أصحاب يعقوب خلقا وهرب الخضر إلى عسكر مكرم، فلمّا استباح علىّ عسكره والأهواز رجع إلى نهر السدرة وكتب إلى بهبوذ يأمره بأصحاب الصفّار أن يوقع بهم وهم بالدورق. فمضى بهبوذ إلى الدورق وأوقع بأولئك.
فكان علىّ يتوقّع بعد ذلك مسير يعقوب إليه فلم يسر.
وأمدّ الخضر بأخيه الفضل وأمرهما [508] بالكفّ عن قتال أصحاب الخبيث والاقتصار على المقام بالأهواز. فأبى ذلك علىّ دون نقل طعام هناك، فتجافى له الصفّار عن ذلك الطعام وتجافى علىّ للصفّار عن علف كان بالأهواز. فنقل علىّ الطعام وترك العلف وتكافّ الفريقان: أصحاب علىّ وأصحاب الصفّار.
ودخلت سنة أربع وستين ومائتين
وفيها مات عبيد الله بن يحيى بن خاقان من صدمة خادم له وصلّى عليه أبو أحمد ومشى فى جنازته واستوزر من الغد الحسن بن مخلد، ثمّ قدم موسى بن بغا فهرب الحسن بن مخلد واستوزر مكانه سليمان [1] بن وهب.
وفيها توجّه جيش من قبل الصفّار إلى الصيمرة ونفذوا إليها وأخذوا صيغون وحملوه أسيرا.
__________
[1] . فى الأصل: لسليمان بن وهب. وما أثبتناه يؤيّده الطبري (12: 1915) .(4/447)
وفيها مات موسى بن بغا ببغداد وحمل إلى سرّ من رأى فدفن بها.
محاربة محمد المولّد وسليمان بن الجامع
وفيها ولى محمد المولّد واسطا فحاربه سليمان بن جامع وهو قريب من تلك الناحية، فهزمه وأخرجه من واسط ودخلها.
ذكر السبب فى ذلك كان السبب فى ذلك أنّ علىّ بن أبان لمّا هزم بأغرتمش وجعلان، أشار عليه أحمد بن مهدى [509] الجبّائى بتطرّق عسكر البخارىّ وهو على خمسة فراسخ من عسكر تكين فلمّا وافى ذلك الموضع قال له الجبّائى:
- «الرأى أن نقيم هاهنا وأمضى أنا فى السميريّات فأحتر القوم وأتعبهم فيأتوك لغبين فتنال حاجتك.» فأقام سليمان وعبّأ خيله ورجّالته بموضعه ومضى الجبّائى فقاتلهم ساعة وأعدّ تكين حيلة وتطارد له الجبّائى وطال على علىّ بن أبان انتظار الجبّائى.
فأقبل يقفوا إثر الجبّائى. فأنفذ الجبّائى غلاما له إلى سليمان بن جامع أنّ أصحاب تكين واردون عليك بخيلهم.
فتلقّاهم الرسول فردّه إلى معسكره وجعل علىّ كمينا ممّا يلي الصحراء فى ميسرة تكين وقال:
- «إذا جاوزتكم خيل تكين فاخرجوا من ورائهم.» فلمّا علم الجبّائى أنّ سليمان قد أحكم أمره رفع صوته وقال لأصحابه ليسمع أصحاب تكين:
- «غررتموني وأهلكتمونى، وقد كنت أمرتكم ألّا تدخلوا هذا المدخل، فأبيتم إلّا أن تلقوني وأنفسكم فى هذه الورطة التي لا نرى أنّا ننجو منها.»(4/448)
فطمع أصحاب تكين لمّا سمعوا كلامه وجدّوا فى طلبه وجعلوا ينادونه:
- «بلبل فى قفص.» وسار الجبّائى سيرا حثيثا واتبعوه بجدّ يرشقونه [510] حتّى جاوز الكمين وقارب عسكر سليمان، وهو أيضا كامن وراء الجدر فى خيله ورجله.
فزحف سليمان وخرج الكمين من وراء الخيل وعطف الجبّائى فأتاهم الروع من الوجوه كلّها فانهزموا. وركبهم الزنج يقتلونهم ويأسرونهم ويسلبونهم حتّى قطعوا ثلاثة فراسخ.
ثمّ وقف سليمان وقال للجبّائى:
- «نرجع فقد غنمنا وسلمنا والسلامة أفضل من كلّ شيء.» فقال الجبّائى:
- «كلّا قد نفذت حيلتنا فيهم ونخبت قلوبهم. والرأى أن نكبسهم فى ليلتهم هذه فلعلّنا أن نفضّ جمعهم ونجتاحهم.» فاتبع سليمان رأى الجبّائى وصار إلى عسكر تكين فقاتلهم تكين قتالا شديدا حتّى انكشف عنه سليمان. ثمّ وقف سليمان وعبّأ أصحابه ثانية ووجّه شبلا فى خيل ورجّالة إلى الصحراء وأمر الجبّائى فسار فى السميريّات فى بطن النهر وسار هو فيمن معه من أصحابه حتّى وافى تكين، فلم يثبت له أحد وانكسفوا فتركوا فى عسكرهم. فغنم ما فيه وأحرق الباقي وانصرف وكان استأذن صاحبه فى الإلمام به فألفى فى منصرفه ورود الإذن له، فاستخلف الجبّائى وحمل الأعلام التي أصابها من عسكر تكين والشذاءات [511] التي كان أخذها من خشيش وأصحابه اغرتمش ومن كان معهم إلى عسكر الخبيث.
ثمّ كانت لعلىّ بن أبان والجبّائى وغيرهما من أصحاب الخبيث وقعات منكرات وأمور هائلة ما كتبتها لخلوّها ممّا بنيت عليه كتابي هذا إلى أن(4/449)
دخل أصحابه واسطا.
وفيها خرج سليمان بن وهب والحسن بن وهب إلى سرّ من رأى
فلمّا وصل إليها حبسه المعتمد وقيّده وأنهب داره ودور بنيه واستوزر الحسن بن مخلد. وكان أبو أحمد الموفّق حسن الرأى فى آل وهب فشخص من بغداد ومعه عبيد الله بن سليمان بن وهب. فلمّا قرب الموفّق من سرّ من رأى، تحوّل المعتمد إلى العسكر الغربي فعسكر به واختلف الرسل بينهما.
فلمّا كان بعد أيّام صار المعتمد إلى حرّاقة فى دجلة وصار إليه أخوه الموفّق فى زلّال، فخلع على الموفّق وعلى مسرور البلخي وكيغلغ وأحمد بن موسى بن بغا.
ثمّ عبر أهل عسكر أبى أحمد إلى عسكر المعتمد يوم التروية من ذى الحجّة فأطلق سليمان بن وهب ورجع المعتمد إلى الجوسق وهرب الحسن بن مخلد وأحمد بن صالح بن شيرزاد وكتب فى قبض أموالهما وأسبابهما ومن يتصل بهما وهرب القوّاد [512] المقيمون كانوا بسرّ من رأى إلى تكريت. ثمّ شخص إلى الموصل ووضعوا أيديهم فى الجباية.
وكان عبيد الله بن سليمان كاتب الموفّق فأصلح بين سليمان بن وهب والحسن بن مخلد.
ودخلت سنة خمس وستين ومائتين
وفيها كانت بين أحمد بن ليثويه وسليمان بن جامع قائد الزنج وقعة بناحية جنبلاء فقتل من أصحاب سليمان سبعة وأربعون قائدا وخلق من الجند لا يحصى عددهم، واستباح عسكره وأحرق سفنه ومضى مفلولا حتّى(4/450)
وافى طميشا [1] .
وفيها لحق محمد المولّد بيعقوب بن الليث فصار إليه وقبض السلطان على أمواله وضياعه.
وفيها قبض الموفّق على سليمان بن وهب وابنه عبيد الله وأمر بقبض ضياعهما وأسبابهما وصولحا على تسعمائة ألف دينار.
واستكتب الموفّق صاعد بن مخلد واستوزر إسماعيل بن بلبل.
وفيها مات يعقوب بن الليث بالأهواز وخلفه أخوه عمرو بن الليث وكتب عمرو إلى السلطان بأنّه سامع مطيع.
وفيها لحق العباس بن أحمد بن طولون مع من تبعه ببرقة مخالفا لأبيه أحمد وكان [513] أبوه استخلفه على عمله بمصر لمّا توجّه إلى الشام. فلمّا انصرف أحمد عن الشام راجعا إلى مصر حمل العباس ما فى بيت المال بمصر وما كان لأبيه هناك من مال وأثاث وغير ذلك ومضى إلى برقة. فوجّه إليه أبوه جيشا فظفروا به ووجّهوه إلى أبيه فحبسه عنده وقتل بسببه وما كان منه جماعة كانوا شايعوا ابنه على ذلك.
وفيها دخل الزنج جبّل والنعمانية فأحرقوا وسبوا وصاروا إلى جرجرايا ودخل أهل السواد بغداد.
وفيها ولّى أبو أحمد، عمرو بن الليث خراسان وفارس وأصبهان وسجستان وكرمان والسند وأشهد له بذلك ووجّه إليه العهد والخلع.
وفيها صار مسرور البلخي إلى النيل وكان هناك عبد الله بن ليثويه وكان يظهر الخلاف على السلطان. فلمّا قصده مسرور ومن معه تلقّوه وترجّلوا له وانقادوا له بالسمع والطاعة وعبد الله بن ليثويه قد نزع سيفه ومنطقته وعلّقهما
__________
[1] . فى الأصل طهيا. وما أثبتناه من مط.(4/451)
فى عنقه وهو يعتذر ويحلف أنّه كان محمولا على ما فعل. فقبل منه وخلع عليه وعلى عدّة من قوّاده.
ودخلت سنة ستّ وستين ومائتين [514]
وفيها ولّى عمرو بن الليث عبيد الله بن عبد الله بن طاهر خلافته على الشرطة ببغداد وسرّ من رأى وخلع أبو أحمد عليه. فلمّا صار عبيد الله إلى منزله خلع عليه فيه خلعة عمرو بن الليث. وبعث إليه عمرو مع خلعته عمودا من ذهب.
وفيها غلب اساتكين على الرىّ وأخرج العامل كان عليها. ثمّ صار هو وابنه اذكوتكين إلى قزوين وعليها ايزون أخو كيغلغ. فصالحاه وأخذا قزوين ثمّ عادا إلى الرىّ. [1] وفيها مات أبو الساج وكان منصرفا من الأهواز عن عسكر عمرو بن الليث إلى بغداد.
وفيها ولّى عمرو بن الليث، أحمد بن عبد العزيز بن دلف أصبهان وولّى محمد بن أبى الساج الحرمين وطريق مكّة.
وفيها وجّه مسرور إلى الأهواز أغرتمش ومطر بن جامع وأبا لحرب علىّ بن أبان صاحب الزنج. فكانت بينهم وقعات بنهر السدرة ثمّ ظفر على تكمين كمنه [2] وأكبّ الزنج على أصحاب السلطان فهزمهم وأسر مطر بن جامع وأتى به علىّ بن ابان فاستبقاه مطر فقال له علىّ:
- «لو كنت أبقيت على صاحبنا جعفرويه بتستر لأبقينا عليك.» وكان جعفرويه محبوسا بتستر فلمّا صار إليها مطر أخرجه وقتله فقام
__________
[1] . انظر الطبري (12: 1936) .
[2] . كذا فى الأصل ومط.(4/452)
علىّ [515] بيده [السيف] [1] إلى مطر فضرب عنقه وأفلت أغرتمش وأبّا ووجّه علىّ بن أبان بالرؤوس إلى الخبيث.
وفيها كانت بين الأكراد وبين علىّ بن أبان وقعة، فغلبه الأكراد وقتلوا من الزنج مقتلة عظيمة. ذكر السبب فى ذلك
كان السبب فى ذلك أنّه كان بين محمد بن عبيد الله بن آزاذمرد الكردي وبين علىّ بن أبان شحناء، ثمّ تلاقيا على صالح وكان علىّ يرصده بشرّ، وقد عرف محمد بن عبيد الله ذلك فكان يروم النجاة منه. فكاتب ابن الخبيث المعروف بأنكلاى وسأله مسألة أبيه ضمّ ناحيته إليه فأذن له الخبيث فاستعدّ له علىّ وسار إليه وأوقع برامهرمز ومحمد بن عبيد الله يومئذ مقيم بها. فلم يكن بمحمد فيه امتناع. فهرب فاستباح علىّ رامهرمز وكتب محمد إلى علىّ يطلب المسالمة على مال يحمله إليه، فكتب علىّ إلى الخبيث بذلك، فكتب إليه بقبول ذلك وحمل المال، فحمله وأمسك علىّ عن محمد وأعماله.
ثمّ كتب إليه يسأله أن يعينه على جماعة من الأكراد بموضع يقال له:
الداريان على أن يجعل له ولأصحابه غنائمهم. فكتب علىّ إلى الخبيث يستأذنه فى النهوض إلى ذلك فكتب إليه [516] أن:
- «وجّه الخليل بن أبان أخاك وبهبوذ وأقم أنت لا تنفذ جيشك حتّى تتوثّق من محمد بن عبيد الله برهائن تكون فى يدك تأمن بهم من غدره، فقد وترته وهو غير مأمون.»
__________
[1] . ما بين المعقوفتين أضفناه بوحي السياق.(4/453)
فكتب علىّ إلى محمد بذلك وسأله الرهائن، فأعطاه محمد الأيمان والعهود، ودافعه عن الرهائن.
ذكر عجلة وحرص كانا سبب ترك الحزم
فدعا عليّا الحرص على الغنائم التي أطمعه فيها محمد إلى أن أنفذ الجيش قبل تحصيل الرهائن. فساروا ومعهم رجال محمد حتّى وافوا الموضع المقصود، فخرج إليهم أهله فنشبت الحرب وظهر الزنج على الأكراد. ثمّ خذلهم أصحاب محمد بن عبيد الله وصدقهم الأكراد فانهزموا، وكان محمد أعدّ لهم قوما فعارضوهم وهم منهزمون، فأوقعوا بهم وسلبوهم وقتلوهم، فرجعوا بأسوإ حال فكتب المهلّبى إلى الخبيث بما ركبه محمد، فكتب إليه يعنّفه ويقول:
- «خالفتني وتركت الحزم وتبعت هواك، فذاك الذي أردى جيشك.» وكتب الخبيث إلى محمد أنّه:
- «لم يخف علىّ تدبيرك على جيش علىّ بن أبان ولن تعدم المكافأة على ما كان منك.» فارتاع محمد ممّا ورد عليه وكتب إليه بالتضرّع [517] والخضوع وكتب:
- «إنّى ارتجع جميع ما ذهب من عسكر الخليل بن أبان وأتوعّد [1] من فعل ذلك وأقصده بكلّ مكروه.» فأظهر الخبيث غضبا وكتب إليه يتهدّده، فأعاد محمد الكتاب بالاستكانة وكتب إلى بهبوذ يضمن له مالا ولغيره ممّن يقرب من الخبيث فلم يزالوا به حتّى سلّوا سخيمته [2] على محمد وأظهر الخبيث الرضا عن محمد وقال:
__________
[1] . فى مط: توعّد.
[2] . يقال: سللت سخيمته باللطف والترضّى، أى أفرجت ضغينته من صدره.(4/454)
- «لست أقبل ما يقول أو يخطب لى على منابر أعماله.» فأجابه محمد إلى ما أراد. ثمّ راوعه وقصد علىّ متّوث [1] فلم يطقها لحصانتها فاتّخذ لها سلاليم وآلات الحروب. وكان مسرور عرف قصد علىّ متّوث، فلمّا صار إليها وافاه قبيل المغرب وهو مقيم عليها. فلمّا عاين أصحاب علىّ أوائل خيل مسرور انهزموا وتركوا عسكرهم وجمع الآلات التي أعدّوها وقتل منهم جمع كثير وانصرف علىّ مذعورا مفلولا ولم يلبث حتّى تتابعت الأخبار بإقبال أبى أحمد الموفّق إلى سوق الخميس وطميشا [2] وفتح أبى أحمد إيّاها.
ثمّ ورد عليه كتاب يحفزه حفزا شديدا بالمصير إليه فى عسكره.
ودخلت سنة سبع وستين ومائتين [518]
وفيها غلب أبو العباس ابن الموفّق على عامّة ما كان سليمان صاحب الزنج غلب عليه من قرى دجلة ذكر الخبر عن ذلك
إنّ الزنج لمّا دخلوا واسطا- وكان منهم ما ذكرنا- واتصل الخبر بأبى أحمد استعظمه، فخفّ للنهوض ابنه أبو العباس. فلمّا استجمع أمره ركب أبو أحمد يعرض أصحابه ووقف على عدّتهم فكان جميع الفرسان والرجّالة عشرة آلاف رجل فى أحسن زىّ وأجمل هيئة وأكمل عدّة ومعهم الشذاءات والسميريّات والمعابر للرجّالة. فنهض أبو العباس وانصرف أبو أحمد من تشييعه وأقام أبو العباس بالفرك حتّى تكامل أصحابه وأقام أيضا بالمدائن، ثمّ رحل إلى دير العاقول. فورد عليه كتاب نصير أبى حمزة صاحب الشذاءات
__________
[1] . كذا فى الأصل ومط والطبري (13: 1946) .
[2] . فى الأصل: طهيا، والمثبت من مط.(4/455)
والسميريّات وكان أمضاه على مقدّمته يعلمه أنّ سليمان بن جامع قد وافى فى خيله ورجاله وشذاءاته والجبّائى يقدمه حتّى نزل الجزيرة التي بحضرة بردودا، فرحل أبو العباس حتّى وافى جرجرايا ثمّ فم الصّلح ثمّ ركب الظهر حتّى وافى الصّلح ووجّه طلائعه لتعرف الخبر، فأخبروه بموافاة القوم وجمعهم وأنّ أوّل [519] جيشهم بالصّلح وآخرهم ببستان موسى بن بغا أسفل واسط. فلمّا عرف ذلك عدل عن سنن الطريق وسار معترضا ولقى أصحابه أوائل القوم فتطاردوا لهم وأمعن الزنج فى طلبهم فجعل الناس يقولون:
- «اطلبوا أميرا للحرب فإنّ أميركم مشغول بالصيد.» فلمّا قربوا من أبى العباس بالصّلح خرج عليهم فيمن معه من الخيل والرجل وأمر فنودي:
- «نصير، إلى أين تتأخّر عن هؤلاء الكلاب؟ ارجع إليهم.» فرجع نصير وركب أبو العباس فى سميرية وحمل الناس من كلّ جهة فانهزم الزنج وأصحاب أبى العباس يقتلونهم إلى أن وافى بهم قرية عبد الله وهي على ستّة فراسخ من الموضع الذي لقوهم. وأخذوا عدّة شذاءات وسميريّات واستأمن قوم وغرق قوم.
فكان ذلك أول فتح فتح على أبى العباس. وأشار على أبى العباس قوّاده ونصحاؤه أن يجعل معسكره بالموضع الذي كان انتهى إليه، إشفاقا عليه من مقاربة القوم. فأبى وقال:
- «فأين التيقّظ.» فنزل واسطا.
ولمّا انهزم سليمان بن جامع وأصحابه توافوا بنهر الأمير.
وكان القوم حين لقوا أبا العباس أجالوا الرأى بينهم فقالوا:(4/456)
- «هذا فتى حدث لم تطل ممارسته للحروب [520] فالرأى أن نرميه بحدّنا كلّه، فإنّه سيرتاع ويكون سببا لانصرافه عنّا أو أسره.» ففعلوا ذلك وحشدوا فكاد يتمّ لهم ما دبّروه، ثمّ كانت الدبرة عليهم.
ودخل أبو العباس واسطا من غد يوم الوقعة فى أحسن زىّ واستأمن إليه قوم ثمّ انحدر إلى العمر وهو على فرسخ من واسط فقدّم فيه عسكره وكان الناس أشاروا عليه أن يعسكر فوق واسط فأبى ونزل العمر ثمّ أخذ فى بناء الشذاءات وآلات الماء وجعل يراوح القوم القتال ويغاديهم.
ثمّ إن سليمان استعدّ له مرة أخرى وحشد فلقيهم أبو العباس فهزمهم وقتل وأسر. ثمّ أتاه مخبر فأخبره أنّ الزنج قد اجتمعوا واستعدّوا لكبس عسكره من ثلاثة أوجه، وأنّهم قالوا فيما بينهم:
«إنّه حدث غرّ قد خاطر وغرّر بنفسه فاتفق له ولا يتمّ له ذلك أبدا.» فلمّا علم بتدبيرهم حذر وكانوا كمنوا له عشرة آلاف فى موضعين وأطمعوه فى أنفسهم فمنع [1] أبو العباس من اتباعهمم. فلمّا علموا أنّ كيدهم لم ينفذ اجتمعوا له وكاثروه فهزمهم وأفلت سليمان راجلا ومضى جيشهم لا يلوى أحد على أحد. ورجع أبو العباس إلى مكانه بالعمر ثمّ إنّ الجبّائى كان يجيئه فى الطلائع فى كلّ ثلاثة أيّام.
ذكر حيلة للجبّائى ما تمّت له
أمر الجبائي بحفر آبار وصيّر فيها سفافيد [2] حديد وغشّاها بالبواري وواراها بالتراب وأخفى مواضعها وجعلها على سنن مسير الخيل ليتهوّر فيها المجتازون وكان يوافى متعرّضا ويهيج الناس. فجاء يوما فطلبته الخيل فتقطّر
__________
[1] . ما فى الأصل مطموس، وما أثبتناه من مط.
[2] . السفّود: حديدة يشوى عليها اللحم.(4/457)
فرس قائد فى بئر منها فوقف أصحاب أبى العباس على حيلته فحذروا ذلك السمت ولم يمتحن غير ذلك القائد الواحد.
ثمّ عاودوا التعرّض للحرب فى كلّ يوم إلى أن استجرأ عليهم جند أبى العباس فكان أبو العباس يقصدهم ويقتل ويأسر ويستنقذ نساء المسلمين وصبيانهم ويردّهم إلى أهليهم إذ عرض لأبى العباس كركىّ يطير، فرماه بسهم فشكّه فسقط بين أيدى الزنج ورأوا موقع السهم منه، فعلموا أنّه سهم أبى العباس، فاستشعروا الرعب منه فكانوا إذا رأوا علامته انهزموا.
ثمّ عزم أبو أحمد الموفّق على المصير إلى الجيش ومباشرة الأمر بنفسه فعزم [522] أبو العباس على قصد نهر سوق الخميس قبل موافاة أبيه.
فقال له نصير:
- «إنّ ذلك النهر ضيق فأقم أنت وأذن لى فى المسير إليه.» فأبى أن يدعه حتى يعاينه [1] فقيل له: إن كنت لا بدّ فاعلا فلا تكثر عدد من يحمل معك فى الشذاءات.
فاستعدّ أبو العباس وسار نصير بين يديه واستأذنه رجل من قوّاده يقال له موسى دالحوا [2] أن يكون بين يديه فأذن له وسار حتّى انتهى إلى فوهة النهر المؤدّى إلى مدينة سليمان بن موسى الشعراني وغاب عنه نصير حتّى خفى خبره وخرج عليه فى ذلك الموضع خلق فتحدّث من كان معه قال: لمّا حالوا بيننا وبين الانتهاء إلى السور- وكان بيننا وبينه مقدار فرسخين- حاربناهم فاشتدّت الحرب وخفى أمر نصير علينا والزنج يهتفون بنا:
- «أخذنا نصيرا وأنتم فى قبضتنا.» فاغتمّ أبو العباس لذلك ورحل منه فاستأذنه محمد بن شعيب أن يأتيه
__________
[1] . كذا فى الأصل والطبري (13: 1958) : يعانيه. فى مط: يعاتبه.
[2] . فى مط: والخوا. فى الطبري (13: 1958) : دالجويه.(4/458)
بخبر نصير فأذن له فمضى فى سميريّة بعشرين جذّافا، فإذا هو بنصير وقد قرب من سكر كانوا سكروه، فأضرمه بالنار وهو يحارب حربا شديدة وقد رزق الظفر. فرجع وأخبر أبا العباس وبشّره بسلامة نصير ومن [523] معه وأنّه ظافر غانم فسرّ به سرورا شديدا.
وكان الزنج قد علقوا بشذاءة، فركب أبو العباس فى سميريّة حتّى وافى تلك الشذاءة وعلى أبى العباس كبر [1] تحته درع فانتزع الشذاة وخلّصها. قال محمد: فنزعنا من كبر أبى العباس خمسا وعشرين نشّابة ومن لبابيد الملّاحين مثل ذلك وأقلّ وأكثر.
وظفر أبو العباس بالزنج وهزمهم وعاد إلى معسكره بالعمر إلى أن وافى الموفّق.
خروج الموفّق لحرب صاحب الزّنج
وخرج الموفّق من مدينة السلام قاصدا حرب صاحب الزنج وذلك حين بلغه أنّ صاحب الزنج كتب إلى صاحبه علىّ بن أبان المهلّبى يأمره بالمصير بجميع من معه إلى ناحية سليمان بن جامع ليجتمعا على حرب أبى العباس بن أبى أحمد.
فأعدّ أبو أحمد الشذاءات وآلات الماء وسار فى فرسانه ورجّالته وغلمانه إلى أن نزل على فرسخ من واسط فأقام هناك يوما وليلة، فتلقّاه أبو العباس ابنه فى جريدة خيل فيها قوّاده ووجوه جنده فسأله أبوه عن خبر أصحابه فأثنى عليهم ووصف نصحهم وبلائهم، فخلع عليه وعليهم.
وانصرف أبو العباس إلى معسكره ورحل أبو أحمد من غد ذلك اليوم فى
__________
[1] . كذا فى الأصل ومط ولم نجده فى الطبري.(4/459)
الماء وتلقّاه أبو العباس وجميع الجند فى هيئة الحرب [524] ثمّ سار أمامه إلى أن نزل أبو أحمد ثمّ سار أبو أحمد وولّى ابنه أبا العباس مقدّمته ووضع العطاء فأعطى الجيش. ثمّ سار على تعبئة وأمامه أبو العبّاس فأتاه بأسرى.
وذلك أنّه وافى عسكرا للشعرانى قبل مجيء أبيه فأوقع به وقتل منه مقتلة عظيمة، فأمر الموفّق بضرب أعناق الأسارى. ثمّ رحل أبو أحمد يريد مدينة صاحب الزنج التي سمّاها المنيعة من سوق الخميس بمن معه من الجيش وآلة الماء.
فلمّا رأى سليمان ومن معه من الزنج مسير الخيل والرجّالة على حافتي النهر قد ملؤوا الأرض ومسير الشذاءات والسميريّات فى الماء انهزموا، وعلا أصحاب أبى العباس السور ووضعوا فيهم السيوف ودخلوا المدينة وقتلوا خلقا وأسروا خلقا وحووا ما فى المدينة وهرب الشعراني واتبعوهم حتّى وقعوا فى البطائح وغرق منهم خلق ولجأ الباقون إلى الآجام، واستنقذ من المسلمات خمسة آلاف امرأة سوى الزنجيّات، فأمر أبو أحمد بحفظهن ليدفعن إلى أوليائهن.
وبات أبو أحمد بإزائها فلمّا أصبح أمر بأخذ جميع ما فيها وهدم سورها وطمّ خندقها واحرق آلاتها وسفنها، وبلغ خبر الوقعة صاحب الزنج فعظمت [525] مصيبته واشتدّ جزعه وكتب إلى سليمان بن جامع يحذّره مثل ما نزل بالشعراني ويأمره بالتيقّظ.
وتعرّف أبو أحمد خبر الشعراني فقيل: إنّه بالحوانيت [1] ، فأنفذ إليه جيشا فألفوا هناك قوّاده ولم يصادفوه فقتلوا قوّاده وانتهبوا هناك غلّات كثيرة.
وتعرّف أبو العباس خبر سليمان بن جامع فأعلم بمكانه من مدينته التي
__________
[1] . الحوانيت: قرية. انظر الطبري (13: 1965) .(4/460)
سمّاها: المعمورة، فى الموضع الذي يعرف بطميشا [1] فرحل إليها أبو أحمد بعد أن أصلح سفن الجسور واستكثر من الضياع والآلات التي يسدّ بها الأنهار والطرق للخيل وتوطئة الأرض لسلوكها.
دفن الجبّائىّ وادّعاء آخر لصاحب الزنج
وفى هذه السنة دخل أبو أحمد طميشا وأخرج منها سليمان بن جامع وقتل بها أحمد بن مهدى الجبّائى وذلك بعد حروب كثيرة.
ولمّا حمل الجبّائى إلى الخبيث اشتدّ جزعه عليه وصار إليه حتّى ولى غسله وتكفينه والصلاة عليه والوقوف على قبره حتّى دفن ثمّ أقبل على أصحابه وقال:
- «قد علمت بوفاته وقت قبض روحه قبل وصول خبره إلىّ، بما سمعت من زجل الملائكة بالدعاء والترحّم عليه.» ثمّ إنّ أبا أحمد أمر أهل عسكره بالتحارس ليلتهم وصحّ سور [526] المدينة بكتائب يتلو بعضها بعضا ورتّب غلمانه وأصحابه فى المواضع التي يخشى خروج الزنج منها ورتّب الفرسان فى المواضع التي يخاف خروج الكمناء منها وقدّم ابنه وتبعه بنفسه وحضّ الغلمان على الحرب وجسّرهم على الإقدام.
وقد كان حصّن الزنج السور بخمسة خنادق وجعلوا أمام كلّ خندق سورا ووكّلوا بها رجالهم فما أغنى جميع ذلك شيئا عند الجدّ، فهدمت الأسوار وطمّت الخنادق وهجم على الزنج وكلّ ذلك بالمصاولة من غير حيلة، سوى أنّ الموفّق كان إذا أتى بالواحد منهم عفا عنه وخلع عليه وأقامه حيث يراه
__________
[1] . هنا فى الأصل: طهيثا. مثل الطبري (13: 1966) . ونحن وحدنا الضبط كما فى مط: طميشا.(4/461)
أصحابه حتّى استمالهم وكثر فى أصحابه منهم وكان يفوّقهم على أصحابه ويأمر بالإحسان إليهم حتّى فتح المدينة وهدم أسوارها وحوى ما فيها.
ذهاب الموفّق إلى الأهواز للإيقاع بالمهلّبى
ثمّ رحل نحو الأهواز بعد أن أحكم ما أراد إحكامه ليوقع بالمهلّبى واستخلف على عسكره بواسط ابنه هارون وشخص فى خفّ من رجاله وتقدّم إلى ابنه هارون فى أن يحدر الجيش الذي خلفه فى السفن إذا كاتبه بذلك وسار حتى أتى وادي السوس وقد عقد له عليه جسر فعبره ووافى [527] السوس وكاتب مسرورا فى المبادرة إليه فقدم عليه فى جيشه فخلع عليه وعلى قوّاده وأقام ثلاثا.
وصلّت خيل الخبيث وانتقض عليه تدبيره فحمله فرط الهلع على أنّ كاتب المهلّبى وهو يومئذ بالأهواز فى ثلاثين ألفا بترك ما قبله كلّه والإقبال إليه. فترك ما كان جمعه من المير والأموال والأثاث وصار إليه، واستخلف محمد بن يحيى بن سعيد الكرنبائى، فوجل من المقام وخرج يتبع المهلّبى وكان يجبّى والأهواز يومئذ من أصناف الحبوب والتمر والمواشي شيء عظيم. فخرجوا عن ذلك كلّه جبنا وإدبارا فحوى جميعه الموفّق. فصار قوّة على الخبيث ولو أراد جمع ذلك فى ذلك الوقت ما قدر على شيء منه.
وكتب أيضا الخبيث إلى بهبوذ وإليه يومئذ عمل الفندم والباسيان وما يتصل بهما من القرى التي بين الأهواز وفارس يأمره بالقدوم عليه. فترك بهبوذ أيضا ما كان قبله من التمر والطعام وكان شيئا عظيما فحوى جميعه أبو أحمد وقوى به على الخبيث.
وتخلّف عن المهلّبى قوم من الفرسان والرجّالة وكتبوا إلى أبى أحمد يسألونه الأمان لما انتهى إليهم [528] عفوه عن من ظفر به بطميشا فبذله لهم(4/462)
وأحسن إليهم.
وأمر الموفّق بجباية الأهواز من جميع كورها. ووجّه إلى محمد بن عبيد الله الكردىّ من يؤنسه وعفا عنه وتقدّم إليه فى جمع الأموال وتعجيلها نحوه والمسير إليه، وتأخّرت الميرة عن أبى أحمد بالأهواز وغلظ الأمر فسأل عن السبب فوجد الجند قد قطعوا قنطرة قديمة كانت بين سوق الأهواز ورامهرمز يقال لها: قنطرة أرمق، [1] فامتنع التجّار من حمل الميرة لأجل ذلك.
فركب إليها أبو أحمد وهي على فرسخين من سوق الأهواز فجمع من كان فى العسكر من السودان وأمرهم بنقل الصخر وبذل لهم الأموال فلم يرم [2] حتّى أصلحت القنطرة فى يوم واحد وردّت كما كانت، فسلكها الناس ووافت الميرة والقوافل فعاش أهل العسكر وحسنت أحوالهم.
وأمر أبو أحمد بجمع السفن لعقد جسر على دجيل فجمعت من جميع كور الأهواز الآلات.
فلما تمّ عقده وتراجعت نفوس الناس والدوابّ باتصال المير والأعلاف سار وقدّم أبا العباس إلى الموضع المعروف بنهر المبارك من فرات البصرة وكتب إلى ابنه هارون بأن يحدّر إليه جميع [529] الجيش إلى نهر المبارك لتجتمع العساكر هناك.
ونزل أبو أحمد بقورج العباس ثمّ نزل الجعفرية وهذه قرية ليس فيها ماء إلّا ماء الآبار التي كان أبو أحمد تقدّم بحفرها فى عسكره فحفرت له وكان أعدّ بها بئرا، فوافاها والأمور مصلحة معدّة، ثمّ رحل حتّى ورد نهر المبارك، واستأمن قوم إلى أبى أحمد طمعا فيما بلغهم من إحسانه إلى المستأمنه فأبلغوه أنّ صاحب الزنج قد جمع آلات الماء وفيها خلق من السودان
__________
[1] . فى الطبري (13: 1977) : أربك.
[2] . فى مط: ولم يزم.(4/463)
ليقصدوا نصيرا وهو بنهر المرأة ويسلكوا موضعا يخرجهم من ورائه. فأنفذ إلى نصير وأخبره بذلك فبادر نصير إلى شقّ بئرين، فلقى هناك القوم فزرق الظفر بعد مجاهدة عظيمة، فقتل وأسر وأخذ ثلاثين سميريّة. وانصرف أصحاب أبى أحمد ظافرين إلى واسط واستأمن إلى نصير زهاء ألفى رجل، فكتب بالخبر إلى أبى أحمد فأمره بقبولهم وإجراء الأرزاق عليهم وتفريقهم على أصحابه ومناهضة العدوّ بهم.
ثمّ كتب إليه بموافاته إلى نهر المبارك ففعل.
كتاب أبى أحمد إلى صاحب الزنج للأمان والتوبة مما ركب وادّعى
وكتب أبو أحمد إلى الخبيث كتابا يدعوه إلى الدخول فى الأمان والنزوع عمّا هو عليه [1] من ادعاء النبوّة وسبى المسلمات [530] والمسلمين والفساد فى الأرض، فإنّ التوبة مبذولة له. وأطال الكتاب فى هذا المعنى.
فلمّا وصل إلى الخبيث رمى بالكتاب من يده ولم يجبه بشيء، وأقام على إصراره فعرض أبو أحمد شذاءاته وجمع آلات الماء ورتب قوّاده ومواليه وتخيّر الرماة منهم فرتّبهم فى الشذاءات وسار إلى مدينة الخبيث المسماة:
المختارة، فى نهر أبى الخصيب فأشرف عليها وتأمّلها فرأى من حصانتها وأسوارها وخنادقها ووعورة الطرق المؤدية إليها من كلّ وجه وكثرة من أعدّ عليها من الرماة بالقسّى الناوكيّة والمجانيق والعرّادات وسائر الآلات ما لم ير مثله. فاستغلظ أمره واستعدّ الوصول إليه.
ولمّا عاين الزنج أبا أحمد ارتفعت ضجّتهم بما ارتجّت له الأرض وتقدّم
__________
[1] . انظر الطبري (13: 1981) .(4/464)
إلى بعض الشذاءات أن تقرب من السور من قصر الخبيث فتتابعت سهامهم وأحجار منجنيقاتهم وغير ذلك من عرّاداتهم ومقاليعهم حتّى ما كان يقع طرف ناظر من الشذاءات إلّا على سهم أو حجر فأمر أبو أحمد بردّ تلك الشذاءات ومعالجة من أصابه جرح أو وهن.
واستأمن فى تلك الحال سميريّتان فيها مقاتلة السودان ومعهما آلات الماء فأمر أبو أحمد [531] للمقاتلين بخلع ديباج ومناطق محلّاة ووصلهما، وأمر للملّاحين بخلع حرير حمر وثياب بيض وخضر وأمر لهم بصلات وأمر بإدنائهم من الموضع الذي يراه منه نظراؤهم. فكان هذا من أنجع المكائد التي كادهم بها، وذلك أنّهم لمّا رأوا ذلك حسدوهم على ما صاروا إليه من الإحسان مع الدعة والأمن فتنافسوا فيه وابتدروا إليه وحرصوا على المسارعة إليه.
فصار إلى أبى أحمد فى يومه ذلك عدّة سميريات فأمر لأصحابها بمثل ما أمر لمن تقدّمهم. فتتابع القوم إلى الأمان رغبة ورهبة ثمّ استأمن أصحاب الشذاءات. وجاءه السودان والبيضان فكان يصلهم ويكتب أسماءهم ويضمّهم إلى ابنه أبى العباس.
ثمّ تقدم أبو أحمد إلى موضع يقرب من القصر يعرف بحطى [1] بعد ما أصلح الطرق إليه وعقد القناطر على أنهارها- وعسكر أبى أحمد فى ذلك الوقت زهاء خمسين ألفا وعسكر الخبيث زهاء ثلاثمائة ألف، ممّن يقاتل أو يدافع من بين ضارب بسيف وطاعن برمح ورام عن قوس وقاذف بحجر عن منجنيق أو عرّادة أو مقلاع- وأضعفهم الرماة باليد وهم النظّارة الذين يكثرون السواد [2] والمعينون بالنعير والصياح [532] فأمر أبو أحمد فنودي:
__________
[1] . كذا فى الأصل: بحطى. وما فى مط مهمل. فى الطبري (13: 1983) : جطّى.
[2] . كذا فى الأصل ومط: السواد.(4/465)
- «إنّ الأمان مبسوط للناس أسودهم وأحمرهم إلّا الخبيث.» وأمر بسهام فلفت عليها رقاع مكتوب فيها من الأمان مثل الذي نودى به.
فأقبل إليه المستأمنة تترى.
حصانة مواضع صاحب الزنج ومطاولة أبى أحمد
ورأى أبو أحمد من حال الخبيث وحصانة موضعه وكثرة عدّته ما لا بدّ له من المطاولة والمحاصرة. فاستعدّ لذلك وفرّق أصحابه حول الخبيث ووكّل بكلّ ركن قوّادا وقوّاهم بالرجال والآلات وأنفذ إلى عمّاله فى النواحي فى حمل الأموال والمير وسائر الأمتعة، وبنى مدينة سمّاها: الموفّقية، وعمل فيها بيت مال وأمر بحمل الأموال إليه من جميع البلدان. وبنى دور الضرب فضرب فيها دنانير ودراهم وجلب إليها الذهب والفضّة، وأرسل إلى سيراف من يأتيه بآلات الماء ويبنى فيها السفن والشذاءات ويجلب متاع البحر وكان قد انقطع جلب البحر منذ أكثر من عشر سنين لإخافة الخبيث السبل.
وكتب بإثبات كلّ من يصلح للجندية إلى عمّاله فى الأمصار، ورغّب فى ذلك والمدينة الموفّقية تبنى والكتب تنفذ بما يعمرها والتجّار يجهزون [1] إليها والأسواق تكثر وأقبلت إليها مراكب البحر.
وبنى أبو أحمد المسجد الجامع [533] فصارت مدينة كبيرة وحملت إليها الأموال وأدّر العطاء فى أوقاته ورغب الناس فى حلولها والمصير إليها من كلّ أوب، والخبيث يرصد غرّة يصيب فيها فرصته من أبى أحمد فلا يجد لتيقّظ الناس وتحارسهم ولحفظ الموكّلين بالمواضع المخوفة مواضعهم.
وكان أبو العباس لا يغفل ليلا ولا نهارا وإذا أمكنه قصد ناحية أوقع بها
__________
[1] . انظر الطبري (13: 1989) .(4/466)
وبمن رتّب فيها من الزنج وإن أتاه مستأمن قبله وأحسن إليه والخبيث ينفذ أصحابه ويبثّ رجاله فى اقتطاع ما يرد المدينة من السفن وغيرها. فربّما أصاب من ذلك حاجته فيعوّض أبو أحمد التجّار ويشحن المواضع التي يقصد منها بالرجال. وندب لحفظ الطرق أبا العباس فكان يوقع بأصحاب الخبيث ويحمل رؤوسهم إلى الموفّقية ويرتّب الرجال فى الماء والبرّ حتّى ضاق الأمر بالخبيث، فعزم على كبس الموفّق.
فاستأمن بعض قوّاد الزنج وأخبر الموفّق بذلك فأعدّ له قوما، فلمّا أتاه البيان كان مستعدا، فظهر على الزنج وأصابه مثل ذلك مرّات فى كلّ مرّة يجيئه من ينذره [534] فيستعدّ لهم حتّى ظفر يوما برجال بيّتوه وأسر وقتل من السودان نحوا من خمسة آلاف ونصب الرؤوس على سور الموفّقية.
فأشاع الخبيث فى أصحابه أنّ ذلك زور وأنّ تلك رؤوس المستأمنة. فأمر الموفّق برمي تلك الرؤوس إليهم بالمنجنيقات والعرّادات التي كانت منصوبة فى السفن معمولة لأوقات الحرب فتبيّن لأصحابه كذبه، وصار سببا لضعف نيّاتهم.
ثمّ زحف الموفّق بنفسه إلى المدينة المختارة ذكر السبب فى خروجه
كان السبب فى خروجه أنّ قوّاد الخبيث كاتبوا أبا أحمد الموفّق يعلمونه أنّهم على الخروج إليه فى الأمان وأنّهم ليس يجدون السبيل إلى ذلك وأنّه لو قدّم قوما إلى الحرب لخرجوا ووجدوا بهم سبيلا إلى مفارقة الخبيث. [1] فأنهض الموفّق أبا العباس فى آلات الماء والشذاءات وانتخب له الرجال
__________
[1] . فى الطبري (13: 2000) : المعروف بأنكلاى.(4/467)
الشجعان وأهل النجدة والبأس وقدّمه. ثمّ سار بنفسه مع نصير [535] ورشيق وزيرك واستقبلهم أصحاب الخبيث فى أكثر من معدّاتهم وآلاتهم وخرج ابن الخبيث انكلانى [1] ومعه علىّ بن أبان وسليمان بن جامع مع السفن التي فيها المجانيق والعرّادات والقسّى الناوكية.
فلمّا التقى الجمعان أمر الموفّق أصحابه بالحملة والدنو من الركن الذي فيه الجمع الأكثر وبينه وبينهم نهر يعرف بنهر الأتراك وهو نهر عريض غزير الماء. فلمّا انتهوا إليه أحجموا، فصيح بهم وحرّضوا على العبور فعبروا سباحة والزنج يرمونهم بما استطاعوا من المجانيق والعرّادات والمقاليع والسهام وحجارة الأيدى فصبروا على جميع ذلك حتّى عبروا النهر وانتهوا إلى السور، ولم يكن لحقهم من الفعلة ما كان أعدّ لهدمه. فتولّى الغلمان تشعيث السور بما كان معهم من السلاح وتسنّموه وحصرهم بعض السلاليم بعد أن قتل فيهم مقتلة عظيمة ونصب هناك علم وأسلم الزنج سورهم وأحرق ما كان عليه من منجنيق وعرّادة وآلة حرب واستلحقوا الفعلة حتّى وسّعوا المدخل فى عدّة مواضع وملكوا السور [536] الأوّل بعد مدافعات هلك فيها من الفريقين خلق ولا يعدم كلّ يوم مستأمنة يحسن إليهم فيتنصّحون ويأتون بالأخبار والتدابير التي يدبّرها الخبيث فينتقض عليه أمره.
ودخلت سنة ثمان وستين ومائتين
استئمان جعفر السجّان وهروب ريحان إلى أبى أحمد
وفيها استأمن جعفر السجّان وهرب ريحان بن صالح المغربىّ من عسكر الخبيث إلى أبى أحمد. فأمر لهما بجوائز وصلات وأقيمت لهما الأنزال وحملا
__________
[1] . كذا فى الأصل ومط: أنكلانى.(4/468)
حتّى ظهرا لأصحاب الخبيث وعليهم الخلع فاستأمن ذلك اليوم خلق كثير.
ثمّ وقعت وقعات كثيرة بعد ذلك بعضها للزنج وبعضها للموفّق، إلى أن منع من ميرة السمك الذي كان يأتيه من البطيحة ومنع العرب من حمل الميرة من جهة البادية وقتل منهم خلق وسلبوا ما كان معهم ومن ظفر به ممّن يسفر أو يعين عليه أخذ وعوقب وعذّب ثمّ قتل حتّى ضاق على الزنج الأمر وانقطعت عنهم كلّ مادّة وضعفوا جدا. فكان الأسير أو المستأمن إذا سئل عن الخبر تعجّب ويزعم بعضهم أنّ عهدهم به سنتين وأقلّ وأكثر. فولى الموفّق أن يتابع الإيقاع بهم ليزيدهم ضرا وجهدا.
وأمر الموفّق [537] بعرض الزنج لمّا كثروا وصاروا أكثر من جنده فمن كان لا يستصلح للقتال مثل الشيخ الضعيف والمجروح والزمن ومن أشبه هؤلاء أن يوهب لهم شيء ويردّوا إلى عسكر الزنج فلمّا عادوا وصفوا خصب عسكر الموفّق وإحسانه إلى المستأمنة فخرج أيضا بهذا السبب خلق فى الأمان.
ثمّ إنّ بهبوذ أخال بحيلة حتّى ظفر بخيل للموفّق فقتلهم وأخذ شذاءات كثيرة ونقل ميرة كبيرة.
ذكر حيلته هذه
احتال بأن أخذ شذاءات كثيرة فنصب عليها أعلاما كأعلام الموفّق وحمل فيها فوجا فى زىّ قومه ورجاله. ثمّ اجتهد فى أن وقع إلى معترض يؤدّى إلى نهر اليهودي. ثمّ سلك نهر نافذ حتّى خرج إلى نهر الأبلّة فانتهى إلى الشذاءات والسميريّات المرتّبة لحفظ النهر وهم غارّون، فأوقع بهم وقتل قتلا ذريعا وأسر الباقون وجمع شيئا كبيرا من الميرة وأتى أصحابه فى معترضات وأنهار غامضة.(4/469)
ثمّ إنّه طمع فى المعاودة.
ذكر طمعه هذا
فأمره لصاحبه أن يسلك [538] فى مواضع غامضة إلى أن يوافى القندل والبرشان. [1] ففعل ذلك فوقع على سميريّة فيها طعام فقصدها بهبوذ فحاربه أهلها فأصابته طعنه فى بطنه هلك منها. فعظمت فجيعة الخبيث وأحضر الموفّق الغلام فوصله وطوّقه وزاد فى أرزاقه، وأمر لمن كان معه فى سميرية بجوائز وصلات.
ودخلت سنة تسع وستين ومائتين
ولمّا قتل بهبوذ طمع صاحبه فى كنوزه وأمواله وكان قد صحّ عنده موضع مائتي ألف دينار وجواهر وضياعات ذهب لها قدر. فطلب أمواله وذخائره وحبس أولياءه وأصحابه وضربهم بالسياط وأباد دورا له وهدم أبنية من أبنيته طمعا فى شيء يجده من دفائنه. فكان ذلك أحد ما أفسد قلوب أتباعه ودعاهم إلى الهرب [2] منه والزهد فى صحبته.
فأمر أبو أحمد بالنداء فى أصحاب بهبوذ بالأمان فسارعوا إليه ووصلهم.
ورأى أبو أحمد أنّ هدم السور الذي يفضى إلى الخبيث قد امتنع عليه فأزمع أن يباشره بنفسه ليكون ذلك أدعى إلى جدّه أصحابه. فباشر الحرب حتّى وصل إلى السور [539] وأحرق قناطر كانت تحول بين أصحابه وبين السور ويعتصم بها الزنج، واستظهر ذلك اليوم.
فبينا هو فى جدّه وتشميره وقد ولج أصحابه السور وهدموا المسجد
__________
[1] . كذا فى الأصل ومط: القندل والبرشان. فى الطبري (13: 2023) .
[2] . كذا فى الأصل ومط: الهرب. فى الطبري (13: 2029) : الحرب.(4/470)
الجامع الذي بناه الخبيث ووصلوا إلى دواوينه وخزائنه وظهرت تباشير الفتح، إذ أتاه سهم غلام رومىّ كان مع الخبيث يقال له: قرطاس، فأصاب صدر الموفّق فستر ذلك عن أصحابه وانصرف إلى موضعه من الموفّقية وعولج تلك الليلة.
فلمّا كان من الغد غادي الحرب على ما به ليشدّ من قلوب أوليائه ولئلّا يدخلهم وهن. فزاد ما حمله نفسه من الحركة فى قوّة الجراحة فعظم أمرها حتّى خيف عليه واضطرب العسكر والجند والرعيّة وخافوا قوّة الخبيث عليهم. فأشار الأطباء وأهل الشفقة بأن يرجع إلى مدينة السلام، فأبى وأشفق أن ينتظم أمر الخبيث بعد ما وهن، وبلغ الغاية. ولم يبق فى أمره إلّا اليسير فأقام على صعوبة علّته وغلظ الحادثة فى سلطانه إلى أن عوفي فظهر لخاصّته وقد كان أطال الاحتجاب عنهم والخبيث فى تلك الأيّام يعد أصحابه العدات ويمنّيهم الأمانى الكاذبة.
فلمّا استقل الموفّق وتماثل وقوى على [540] النهوض للحرب جعل [1] يحلف على منبره أنّ ذلك باطل لا أصل به وأنّ الذي ظهر لهم فى الشذاءة مثال مموّه. وكان أعاد بناء ما خرّب من مدينته ودواوينه ودوره.
فركب الموفّق وعاود الموضع بالحرب ووصل إلى تلك المواضع فهدمها ثانية ووصل أصحابه إلى قصر من قصوره فانتهبوا ما كان فيه وأخربوه وأحرقوه واستنقذوا عددا من النساء المسلمات اللواتي كان سباهنّ وأخذوا خيلا له، ولم يبق إلّا الوصول إلى قصره.
فصعب مرام ذلك على الموفّق وكثر المحامون عليه، ووافت الحرب ودامت حتّى وصل إلى الفريقين من القتل والجراح أمر عظيم، وحتّى لقد عدّ
__________
[1] . أى الخبيث.(4/471)
الجرحى فى بعض الأيّام فوجدوا زهاء ألفى جريح فى أصحاب الموفّق وذلك لتقارب الفريقين فى وقت القتال، ومنع الخنادق كلّ واحد من الفريقين من الدنو من صاحبه، وكانت الشذاءات إذا قربت من قصره رموا من سوره ومن أعلى القصر بحجارة المنجنيقات وغيرها وبالنشّاب، وأذيب الرصاص وأفرغ عليهم، حتّى أعدّ الموفّق للشذاءات أغطية طلاها بعقاقير تمنعها من الاحتراق وأحكمها وحمل فيها شجعان أصحابه وفتّاكهم، وأمر ابنه أبا العباس بقصد دار على شاطئ [541] دجلة من نهر أبى الخصيب كانت بإزاء دار الخبيث ليشغل من فيها عن منعه من دار الخبيث، وأمر أصحاب الشذاءات المطليّة بما وصفنا أن يلصقوا شذاءاتهم بحائط القصر. فحاربهم الفسقة أشدّ حرب بالنيران وغيرها وصبر لهم من فيها حتّى أزالوهم عن الرواشن وأحرقها غلمان الموفّق وسلم من كان فيها من الحجارة والرصاص المذاب، وتمكّنوا من دار الخبيث وأحرقوا البيوت التي كانت تشرع إلى دجلة من قصر الفاسق واتصلت النار بالستائر فقويت وأعجلت الخبيث ومن معه عن التّوقف على شيء من أمواله وذخائره وخرج هاربا على وجهه واستنقذ جماعة من النساء اللواتي استرقّهنّ.
وانصرف الموفّق وأبو العباس وقت المغرب بأجمل ظفر وغرق نصير فى هذا اليوم. ذكر الخبر عن ذلك وسببه
وكان سبب غرقه أنّه كان دخل فى أوّل المدّ نهر أبى الخصيب فحمل الماء شذاءته فألصقها بالقنطرة ودخلت خلفه عدّة شذاءات فيها غلمان الموفّق ممّن لم [542] يكن أمر بالدخول. فحملهم الماء فألقاهم على شذاة(4/472)
نصير فصكّت بعضها ببعض حتّى لم يكن للاشتيامين [1] والجذّافين فيها عمل، ورأى الزنج ذلك فأحاطوا بها من جانبي النهر فألقى الجذّافون أنفسهم فى الماء ذعرا ودخل الزنج الشذاءات فقتلوا المقاتلة وغرق بعضهم وحاربهم نصير فى شذاءته حتّى خالف الأسر فقذف نفسه فى الماء فغرق.
وأصاب الموفّق علّة فاشتغل بها عن الخبيث فأعاد القنطرة التي لجّج فيها نصير وأحكم ما كان هدم من قصره، وأفاق الموفّق من علّته فعاود الحرب وخرج الخبيث بنفسه للقتال مع ابنه انكلائى وعلى بن أبان وسليمان بن جامع واشتبكت الحرب وقاتلوا أشدّ قتال رئي، وقطعت القنطرة وأحرقت واستعلى عند ذلك أصحاب الموفّق ونشط غلمانه فوسّعوا المسلك وظفروا بدوره وقصوره فأحرقوها. وانتقل الخبيث من غربىّ نهر أبى الخصيب إلى شرقيّه وجمع عياله وولده حوله وضعف أمره ضعفا شديدا.
تفاقم الجوع وأكل بعضهم بعضا
وتهيّب الناس جلب الميرة إليهم. فبلغ الرطل من الخبز عشرة دراهم فأكلوا أصناف الحبوب ثمّ لم يزل يتفاقم الأمر بهم [543] إلى أن أكلوا لحوم الناس فكان الزنج يتبعون الناس فإذ خلا أحدهم بامرأة أو صبي وثب عليه فأكله، ثمّ قوى ذلك فصار بعضهم يأكل بعضا، ثمّ أكلوا لحوم أولادهم، ثمّ كانوا ينبشون الموتى فيبيعون أكفانهم ويأكلون لحومهم.
فقصدهم الموفّق وأحرق الشرقىّ من جانب النهر كما أحرق الغربىّ وقصده من ثلاثة أوجه. فطرحوا فيها النيران فاحترق الناس من أصحاب الخبيث مع منازلهم وأسواقهم وهرب من أطاق ذلك فأخذته السيوف وهرب الخبيث
__________
[1] . كذا فى الأصل والطبري (13: 2047) : للاشتيامين. فى مط: للاستيامين (بالسين المهملة) .(4/473)
وحاز أصحاب الموفّق جميع ما كان فى نهر أبى الخصيب من الشذاءات والمراكب البحرية والسفن الصغار والحرّاقات والزلّالات وغيرها. [1] وصار بعد ذلك رؤساء أصحاب الخبيث إذا وكّلهم بحراسة موضع أسلموه واستأمنوا حتّى استأمن الشعراني وشبل وكانا من قدماء أصحابه وذوى البصائر فى طاعته، وأمرهما الموفّق لمحاربة الخبيث لما علم أنّه لا وجه لهما عنده وضمّ إليهما قوما فكانا يأتيانه من الوجوه التي يأمنها حتّى كثر القتل فى أصحابه وذعره أمرهما ومنع ذلك أصحابه النوم ودخلهم له وحشة [544] .
هزيمة الزنج وهروب صاحبهم
عظيمة ثمّ جمع الموفّق السفن وفيها عشرة آلاف من الملّاحين وعرض الجند وحرّضهم حتّى شحذ نيّاتهم وهجم على مدينة الخبيث واستقبله الخبيث فى جميع أصحابه فاشتدّ القتال وحامى الخبثاء عن ديارهم وعيالاتهم فمنح الله الموفّق النصر، وهزم الزنج وقتلوهم مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها وأسروا منهم جمعا كبيرا وأتى الموفّق بالأسرى فضرب أعناقهم.
وقصد دار الخبيث فدافع عنها ثمّ لم يغنه ذلك شيئا فأسلمها فانتهب ما كان فيها من الأموال والأثاث وأخذوا حرمه وأولاده فبلغ عدّتهم أكثر من مائة امرأة وصبي، وتخلّص الخبيث ومضى هاربا نحو دار المهلّبى لا يلوى على أهل ولا مال وأحرقت داره، وأتى الموفّق بنسائه وأولاده، فوكّل بهم وأمر بالإحسان إليهم فحملوا إلى الموفّقيّة.
وفى ذى الحجّة من هذه السنة وافى صاعد بن مخلد كاتب الموفّق
__________
[1] . انظر الطبري (13: 2068) .(4/474)
حضرته منصرفا إليه من سرّ من رأى ووافى معه بجيش كثيف بلغ عدد الفرسان والرجّالة فيها عشرة آلاف. فأمر الموفّق بإزاحة عللهم فى أرزاقهم وأمرهم بتجديد أسلحتهم والتأهّب لحرب الزنج. فهم فى ذلك إذ ورد [545] عليه كتاب لؤلؤ صاحب ابن طولون [1] وكان فارق صاحبه يسأله فيه الإذن له فى القدوم عليه ليشهد حرب الفاسق فأجابه وأذن له وأخّر ما كان عزم عليه من مناجزة الخبيث انتظارا للؤلؤ وكان لؤلؤ بالرقّة فى جمع عظيم من نخبة أصحاب ابن طولون.
فشخص لؤلؤ حتّى ورد مدينة السلام، ثمّ وافى عسكر أبى أحمد فجلس له أبو أحمد وحضر ابنه أبو العباس وصاعد بن مخلد والقوّاد على مراتبهم وأدخل عليه لؤلؤ فى أحسن زىّ فأمره أبو أحمد أن ينزل معسكرا كان أعدّ له بإزاء نهر أبى الخصيب، فنزله فى أصحابه، وتقدّم إليه فى مباكرة دار الموفّق ومعه قوّاده وأصحابه للسلام. فغدا مع أصحابه فى السواد فوصل وسلّم وقرّبه وأدناه ووعده وأصحابه الإحسان، وأمر أن يخلع عليه وعلى خمسين ومائة قائد من قوّاده وحمله على خيل كثيرة بالسروج واللجم المحلّاة بالذهب والفضّة وحمل بين يديه من أصناف الكسى والأموال فى البدر ما يحمله مائة غلام، وأمر لقوّاده من الصلات والكسوة على قدر محل كلّ إنسان منهم، وأقطعه ضياعا جليلة وصرفه إلى معسكره وأعدّت له ولأصحابه الأنزال [546] والعلوفات وأمره برفع جرائد لأصحابه ليعطوا رسومهم عند رفع الجرائد. ثمّ تقدّم إلى لؤلؤ فى التأهّب للعبور إلى غربىّ دجلة لمحاربة الخبيث.
وكان الخبيث لمّا غلب على نهر أبى الخصيب أحدث سكرا فى النهر من
__________
[1] . انظر الطبري (13: 2070) .(4/475)
جانبيه وجعل فى وسط السكر بابا ضيّقا ليتحدّ فيه جرية الماء فيمنع الشذاءات من دخوله فى الجزر ويتعذّر خروجها فى المدّ.
فرأى أبو أحمد الموفّق أنّ الحرب لا تتم إلّا بقلع هذا السكر، فحاول ذلك فرام أمرا صعبا بمحاماة الزنج عليه فهم يزيدون فيه كلّ يوم وهو متوسط دورهم، فالمؤونة تسهل عليهم وتغلظ على من حاوله. فرأى الموفّق أن يحارب بفريق بعد فريق من أصحاب لؤلؤ ليضروا بمحاربة الزنج ولينظر إلى مقدار غنائهم وشدّة بأسهم. فأمر لؤلؤا بأن يحضر فى جماعة من أصحابه للحرب على هذا السكر وأمر بإحضار الفعلة لقلعه. ففعل.
فرأى الموفّق من نجدة لؤلؤ وإقدامه وشجاعة أصحابه وصبرهم على ألم الجراح وثبات العدّة اليسيرة فى وجوه الجمع الكثير من الزنج ما سرّه، وكره أن يبذلهم فيكون الحرّة بهم ثمّ الظفر ألّا خير لهم فيذهبوا باسم الفتح. [547] فأمر لؤلؤا أن يصرف أصحابه وأظهر إشفاقا عليهم وضنّا بهم، ووصلهم وردّهم إلى معسكرهم.
ثمّ ألحّ الموفّق على السكر فهو يخرّب وهم يبنون والمستأمنة يكثرون إلى آخر هذه السنة.
وفى هذه السنة أدخل عيال صاحب الزنج وولده بغداد.
وفيها سمّى صاعد ذا الوزارتين.
المعتمد يريد اللحاق بمصر
وفيها شخص المعتمد يريد اللحاق بمصر، وذلك قبل انحدار صاعد إلى الموفّق. وقدم قائدان لابن طولون من الرقّة فى ذلك. فلمّا صار المعتمد إلى عمل إسحاق بن كنداجيق، وهو العامل على الموصل والجزيرة، وثب عليه ابن كنداجيق وعلى جميع من معه، فقيّدهم وأخذ جميع ما صحبهم من مال(4/476)
ورقيق.
وكان كتب إليه فى القبض على المعتمد ومن معه وأقطع ضياع فارس بن بغا ومن صحب المعتمد من القوّاد. فاحتال ابن كنداجيق وأظهر أنّه معهم، وفى طاعة المعتمد إذ كان الخليفة ولا يجوز له الخلاف عليه وسار معهم فلمّا نزل موضعا بينه وبين عمل ابن طولون منزلان ارتحل التّبّاع ومن شخص مع المعتمد إلّا القوّاد وأشخص ابن كنداجيق فقال لهم ابن كنداجيق:
- «إنّى أحبّ أن أخلو بكم وأشير عليكم بما فى نفسي.» وقال لهم:
- «قد قربتم من ابن طولون [548] والمقيم بالرّقّة من قوّاده وأنتم إذا صرتم إلى ابن طولون فالأمر أمره وأنتم من تحت يده. أفترضون بذلك وقد علمتم أنّه اليوم كواحد منكم؟» وأطال مناظرتهم حتّى تعالى النهار فقال لهم ابن كنداجيق:
- «قوموا بنا، فإنّ الشمس قد ارتفعت حتّى نتمّ حديثنا فى غير هذا الموضع ونكرم مجلس أمير المؤمنين عن ارتفاع الصوت.» وكان المعتمد فى مضربه ومضرب ابن كنداجيق وسائر المضارب قد سارت فأدخلهم إلى مضرب نفسه. وكان قد تقدّم قبل ذلك إلى فرّاشيه وغلمانه وحاشيته فى ذلك اليوم ألّا يبرحوا. فلمّا صاروا إلى مضربه دخل جلد غلمانه وأصحابه على القوّاد ومعهم القيود فقيّدوهم.
فلمّا فرغ منهم مضى إلى المعتمد فعذله على شخوصه عن دار ملكه وملك آبائه وفراقه أخاه على الحال التي هو فيها من حرب من يحاول قتله وقتل أهل بيته وإزالة ملكهم، ثمّ حمله ومن معه مقيّدين إلى سرّ من رأى.(4/477)
تسمية كنداجيق بذي السيفين
وفيها خلع على ابن كنداجيق وقلّد سيفين بحمائل أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره وسمّى ذا السيفين وخلع عليه أيضا بعد ذلك بيومين قباء ديباج ووشاحان وتوّج بتاج وقلّد سيفا، [549] كلّ ذلك مرصّع بالجوهر.
وشيّعه هارون بن الموفّق وصاعد بن مخلد والقوّاد إلى منزله وتغدّوا عنده.
ودخلت سنة سبعين ومائتين
مقتل صاحب الزنج وأسر سليمان بن جامع وابراهيم بن جعفر الهمداني
وفيها قتل الخبيث وأسر سليمان بن جامع وإبراهيم بن جعفر الهمداني واستريح من أسباب الفاسق، وذلك بعد حروب كبيرة ومنازلات شديدة ومباشرة للحرب منه ومن الموفّق بأنفسهما، ومخاطرات منهما عظيمة لم يكن فى جميعها ما يستفاد منه تجربة سوى احتمال المكاره فى الحروب والصبر على شدائدها وأخطارها.
وحمل رأس هذا الخائن إلى بين يدي الموفّق فى صفر من هذه السنة وهو يحارب مع أهل الشدّة والبأس من أصحابه، فقتل وهو يجاهد على حاله غير مستسلم ولا معط بيده، وكان قد بذل له الأمان مرارا فأباه وأقام على حاله صابرا حتّى أسلمه رجاله وخانه ثقاته وذاب ذوبا [1] حتّى هلك ومضى مقتولا.
__________
[1] . كذا فى الأصل: ذاب ذوبا. فى مط: دأب دؤوبا.(4/478)
ثمّ تتابع مجيء الزنج [1] الذين كانوا أقاموا مع الخبيث إلى آخر أمره وصبروا معه حتّى وافى ذلك اليوم الذي قتل فيه ألف من الأبطال. فرأى الموفّق أن يبذل لهم الأمان لمّا رأى من كثرتهم وشجاعتهم [550] ولئلّا يبقى منهم بقية يخاف معرّتهم ويجتمعون على رئيس يعظم خطبه بهم.
ثمّ وافى من الزنج فى غد هذا اليوم خمسة آلاف زنجى وانقطع منهم نحو ألفى زنجى إلى البرّ فماتوا عطشا، وظفر الأعراب بقوم منهم فاسترقّوهم. فأمّا من قتل وغرق وأسر فى الوقعة فخلق لا يوقف على عددهم.
وانتهى إلى الموفّق خبر المهلّبى وانكلائى ومقامهما بحيث أقاما فيه مع من تبعهما من جلّة قوّادهم ورجالهم فبثّ أبطال أصحابه فى طلبهم فلمّا علموا ألّا ملجأ لهم أعطوا بأيديهم فظفر بهم الموفّق فلم يشذّ منهم أحد وأمر الموفّق بحبس المهلّبى وانكلاى والاستيثاق منهما.
استئمان درمويه
وفيها استأمن درمويه [2] ، الزنجي وكان أحد الأنجاد الأبطال وكان الخبيث قبل هلاكه بمدّة طويلة وجّهه إلى أواخر نهر الفهرج وهي من البصرة فى غربىّ دجلة.
فلمّا هلك الخبيث أقام درمويه هناك فى موضع وعر كثير الدغل والآجام متصل بالبطيحة فكان يقطع الطريق بمن معه فى زواريق خفاف اتخذوها، فإذا طلبهم الشذاءات ولجوا فى الأنهار الضيّقة واعتصموا بالأدغال وإذا تعذّر
__________
[1] . انظر الطبري (13: 2094) .
[2] . كذا ضبط فى الأصل: درمويه على غرار ليثويه، كما سبق. وهو ضبط حسب الأصل الفارسي لهذه اللاحقة (أويه) ، التي نجدها أيضا فى لقب المصنف: مشكويه (مسكويه) حسب ضبطه الفارسىّ.(4/479)
عليهم مسلك [551] نهر لضيقه خرجوا من سفنهم وحملوها على ظهورهم ولجؤوا إلى هذه المواضع الممتنعة، وفى خلال ذلك يغيرون على ما قرب منهم من القرى ويسلبون من ظفروا به. فكان ذلك دأب درمويه قبل هلاك الخبيث وبعده.
وقد كان ابتدأ شرار الناس وفسّاقهم يصيرون إليه للمقام معه على مثل ما هو عليه، وكان الموفّق عزم على المقام عليه حتّى وافاه رسوله يطلب الأمان لنفسه وأصحابه، فرأى الموفّق أن يؤمنه ليقطع مادّة الشرّ الذي كان فيه الناس من الخبيث وأتباعه.
ولمّا ورد عليه الأمان وافى قطعة حسنة كثيرة العدد لم يصبهم بؤس الحصار وضرّه لما كان يصل إليهم من أموال الناس. فذكر أنّ درمويه لمّا أؤمن وأحسن إليه وإلى أصحابه أظهر كلّ ما فى يده وأيديهم من أموال الناس وأمتعتهم وردّ كلّ شيء إلى أهله ردّا ظاهرا مكشوفا، فظهرت أمانته، فاستدعاه الموفّق وقرّبه وخلع عليه وعلى وجوه أصحابه ووصلهم وضمّهم إلى ابنه أبى العباس.
وأقام الموفّق بعد ذلك بالموفّقيّة حتّى أنس الناس وعاودوا أوطانهم ووثقوا بالراحة [552] من أسباب الخبيث.
وولّى البصرة والأبلّة وكور دجلة من حمد مذهبه ووقف على حسن سيرته وولّى قضاء البصرة والأبلّة وكور دجلة محمد بن حمّاد.
ثمّ قدّم ابنه أبا العباس إلى بغداد ومعه رأس الخبيث فطيف به.
وكان خروج صاحب الزنج سنة خمس وخمسين ومائتين وقتل سنة سبعين ومائتين. [1]
__________
[1] . انظر الطبري (13: 2098) .(4/480)
وفيها مات أحمد بن طولون والحسن بن زيد العلوي.
ودخلت سنة إحدى وسبعين ومائتين وقعة الطواحين
وفيها كانت بين أبى العباس ابن الموفّق وبين خمارويه [1] بن أحمد بن طولون وقعة بالطواحين فهزم أبو العباس خمارويه فركب حمارويه [2] حمارا وهرب إلى مصر. ووقع أصحاب أبى العباس فى النهب ونزل أبو العباس مضرب خمارويه وهو لا يرى انّه بقي له طالب، فخرج كمين خمارويه كان كمنه وأصحاب أبى العباس قد وضعوا السلاح ونزلوا. فشدّ كمين خمارويه عليهم فانهزموا وتفرّق القوم، ومضى أبو العباس إلى طرسوس منهزما وذهب كلّ ما فى العسكرين: عسكر أبى العباس وعسكر خمارويه من السلاح والكراع والأثاث والأموال، وانتهب الجميع.
ودخلت سنة اثنتين وسبعين ومائتين [553]
وفيها أخرج أهل طرسوس أبا العباس ابن الموفّق من طرسوس لخلاف وقع بين يازمار [3] وبينه فخرج يريد بغداد فقدمها.
وفيها قدم صاعد بن مخلد من فارس ودخل واسطا. فأمر الموفّق جميع أصحابه من القوّاد أن يستقبلوه، فترجّلوا له وقبّلوا يده وكمّه.
__________
[1] . كذا فى الأصل والطبري (13: 2106) : خمارويه. فى مط: حمارويه (بالحاء المهملة فى كلّ المواضع) وأثبت الإسم فى الأصل بالشكلين العربي والفارسي: خمارويه، خمارويه، فاحتفظنا هنا بكليهما للاعتبار.
[2] . الحاء مهملة فى الأصل، هنا. ولعلّ الحقّ مع مط فى ضبط هذا الإسم.
[3] . فى الطبري (13: 2108) : يا زمان.(4/481)
ثمّ قبض عليه الموفّق وعلى أسبابه كلّهم ببغداد وسرّ من رأى فى يوم واحد، فاستكتب الموفّق إسماعيل بن بلبل.
ودخلت سنة ثلاث وسبعين ومائتين قدوم لؤلؤ من مصر
وفيها قيّد أبو العباس لؤلؤا القادم عليه [1] من مصر ووجد له أربعمائة ألف دينار. فذكر لؤلؤ أنّه لا يعرف لنفسه ذنبا إلّا كثرة ماله وأثاثه.
وفيها كانت بين أبى الساج وبين إسحاق بن كنداجيق وقعة فانهزم إسحاق. ثمّ واقعه وقعة أخرى فانهزم إسحاق أيضا.
ودخلت سنة أربع وسبعين ومائتين
ولم يحدث فيها حادثة تكتب.
ودخلت سنة خمس وسبعين ومائتين حبس الموفّق ابنه
وفيها حبس الموفّق ابنه أبا العباس فشغب أصحابه وحملوا السلاح وركب غلمانه واضطربت بغداد فركب أبو أحمد الموفّق حتى بلغ باب الرصافة وقال لأصحاب أبى العباس [554] وغلمانه:
- «ما شأنكم، أترونكم أشفق على ابني منّى؟ هو ولدي واحتجت إلى تقويمه.» فانصرف الناس وهدأت بغداد.
__________
[1] . وزاد فى الطبري (13: 2112) : بالأمان من عند ابن طولون، واستصفى ماله.(4/482)
ودخلت سنة ستّ وسبعين ومائتين
شخوص أبى أحمد
وفيها شخص أبو أحمد من بغداد إلى الجبل وكان سبب ذلك انّ المادرائى كاتب اذكوتكين أخبره انّ له هناك مالا عظيما، وأنّه إن شخص صار ذلك إليه. فشخص أبو أحمد، فلم يجد من ذلك شيئا.
فشخص من هناك إلى الكرج ثمّ إلى إصبهان يريد أحمد بن عبد العزيز فتنحّى، له أحمد بن عبد العزيز عن البلد بجيشه وعياله وترك له داره بفرشها وآلتها لينزلها إذا قدم. وكان مع الموفّق محمد بن أبى الساج، وذلك أنّه قدم عليه هاربا من ابن طولون قبل شخوص الموفّق عن بغداد بعد أن كانت بينه وبين ابن طولون وقعات كثيرة ضعف ابن أبى الساج فى آخرها عن مقاومته.
لقلّة من كان معه وكثرة من مع ابن طولون، فلحق بأبى أحمد فخلع عليه أبو أحمد وأخرجه معه إلى الجبل.
انفراج تلّ عن سبعة أقبر
وفيها ورد الخبر [1] بانفراج تلّ بنهر الصلة يعرف بتلّ بنى شقيق عن سبعة أقبر، فيها أبدان صحيحة وعليها أكفان جدد، لها أهداب تفوح منها رائحة المسك، أحدهم شابّ له جمّة وجبهته [555] وأذناه وخدّاه وأنفه وشفتاه ورقبته وأشفار عينه صحيحة وعلى شفتيه بلل كأنّه شرب الماء فأخرج الثقات لينظروا إلى ذلك فأخبروا أنّهم شاهدوا ذلك وانّ بعضهم جذب شعر بعضهم فوجده قوىّ الأصل قريبا من شعر الحىّ.
__________
[1] . قس بما فى الطبري (13: 2116) .(4/483)
وكان هذا التلّ انفرج عن شبه حوض من حجر فى لون المسنّ عليه كتاب لا يدرى ما هو. فأحضر أصحاب الأديان فلم يعرف أحد منهم الخطّ.
ودخلت سنة سبع وسبعين ومائتين
ولم يجر فيها ما يكتب.
ودخلت سنة ثمان وسبعين ومائتين
وفيها انحدر وصيف خادم أبن أبى الساج إلى واسط بأمر أبى الصقر ذكر السبب فى ذلك
كان سبب ذلك أنّ أبا الصقر أتلف ما فى بيوت أموال أبى أحمد، حتّى لم يبق فيها شيء، بالهبات والصلات العظام التي كان يجيز بها القوّاد، والخلع التي يخلعها عليهم. فاستدعى وصيفا هذا ليكون عدّة له إن طالبه أبو أحمد، وكان اصطنع وصيفا وأجازه بجوائز كثيرة [556] وأدرّ على أصحابه أرزاقهم.
ولما نفد ما فى بيوت الأموال طالب أرباب الضياع بخراج سنة مبهمة عن أرضهم، وحبس بذلك جماعة وكان الذي يتولّى له ذلك المعروف بالزغل [1] .
فعسف الناس وقدم الموفّق قبل أن يسنتظف [2] أداء ذلك، فشغل عنه بقدومه.
انصراف أبى أحمد من الجبل إلى العراق
وانصرف أبو أحمد من الجبل إلى العراق، فاشتدّ به وجع النقرس حتّى لم يقدر على الركوب. فاتّخذ له سرير عليه قبّة، فكان يقعد فيه ويجلس معه
__________
[1] . كذا فى الأصل ومط: الرغل. فى الطبري (13: 2119) : الزغل (بالزاء المعجمة) .
[2] . كذا فى الأصل ومط. فى الطبري (13: 2119) : يستوظف.(4/484)
خادم يبرّد رجله بالأشياء الباردة وبالثلج. ثمّ صار به داء الفيل وكان يحمل سريره أربعون رجلا يتناوب عشرون عشرون. فإذا اشتدّ به الألم أمرهم أن يضعوه. فقال يوما للذين يحملونه وقد سمع منهم ما يدلّ على ضجر:
- «قد ضجرتم بحملي وبودّى [1] إنّى كواحد منكم أحمل على رأسى وانّى فى عافية.» وقال يوما [2] :
- «أطبق دفترى على مائة ألف مرتزق ما أصبح فيهم أسوأ حالا منّى.» ولمّا ورد النهروان تلقّاه الناس فركب الماء فى النهروان ثمّ فى نهر ديالى ثمّ فى دجلة، ودخل داره لليلتين خلتا من صفر، فأرجف الناس بموته.
وكان تقدّم فى حفظ أبى العباس فغلّقت عليه أبواب دون أبواب. وانصرف أبو الصقر إلى منزله واعترت أبا أحمد غشية [557] فازداد إرجاف الناس بموته.
فحمل المعتمد ولده فجيء بهم إلى داره ولم يصر ابو الصقر إلى الموفّق. فلمّا رأى غلمان أبى أحمد المائلون إلى أبى العباس والرؤساء من غلمان أبى العباس ما نزل بأبى أحمد، كسروا أقفال الأبواب المغلقة على أبى العباس.
فذكر الغلام الذي كان مع أبى العباس فى الحجرة أنّ أبا العباس لمّا سمع صوت الأقفال تكسر قال:
- «إنّا لله، ما يريد هؤلاء إلّا نفسي.» فأخذ سيفا كان عنده وقعد مستوفزا، فلمّا فتح الباب كان أوّل من دخل إليه وصيف موشكير وهو غلامه. فلمّا رآه رمى بالسيف من يده وعلم انّهم لم يقصدوه إلّا بخير، فأخرجوه حتّى أقعدوه عند أبيه، وكان أبوه بعقب علّته.
__________
[1] . كذا فى الأصل: أحمل. فى مط: أحمد. والعبارة فى الطبري (13: 2130) : أحمل على رأسى وأكلّ (خ. وآكل) وانّى فى عافية.
[2] . زاد فى الطبري (13: 2130) : فى مرضه هذا.(4/485)
فلمّا فتح عينه بعد إفاقته رآه فقرّبه وأدناه.
ووافى المعتمد وقد كان وجّه إليه، فحضر ومعه ابنه جعفر المفوّض إلى الله ولىّ العهد وعبد العزيز ومحمد وإسحاق بنوه فنزل على أبى الصقر.
ثمّ بلغ أبا الصقر أنّ أبا أحمد لم يمت. فوجّه إسماعيل بن إسحاق يتعرّف له الخبر، وجمع أبو الصقر القوّاد والجند وشحن داره وما حولها بالرجال والسلاح. فرجع إسماعيل فأعلم أبا الصقر أنّ أبا أحمد حىّ. فأوّل من مضى إليه من القوّاد محمد بن أبى الساج. [558] ثمّ جعل الناس يتسلّلون منهم من يعبر إلى باب أبى أحمد ومنهم من يرجع إلى منزله ومنهم من يخرج إلى بغداد.
فلمّا صحّ عند أبى الصقر حياة أبى أحمد انحدر هو وابناه إلى دار أبى أحمد فما ذاكره أبو أحمد. شيئا ممّا جرى ولا سأله عنه. وأقام هناك فانتهبت دار أبى الصقر وكلّ ما حوته حتّى خرج حرمه حفاة بغير أزر وانتهبت دور كتّابه وأسبابه وكسرت أبواب السجون فأخرج من كان فى المطبق وانتهب مجلسا الجسر. ثمّ خلع أبو أحمد على ابنه أبى العباس وعلى أبى الصقر وركبا جميعا والخلع عليهما من سوق الثلاثاء إلى باب الطاق ومضى أبو الصقر مع أبى العباس إلى دار صاعد. ثمّ انصرف إلى منزله فلم يجد فيه شيئا يجلس عليه حتّى أتوه من دار الشاه بحصير فجلس عليه.
وولّى أبو العباس غلامه بدرا الشرطة على الجانب الشرقىّ وعيسى النوشرى الجانب الغربىّ.
وفاة أبى أحمد الموفّق
وفيها توفّى أبو أحمد الموفّق ودفن فى الرصافة وجلس أبو العباس للتعزية وبايع الغلمان والقوّاد لأبى العباس بولاية العهد بعد المفوّض ولقّب(4/486)
بالمعتضد بالله، وأخرج العطاء للجند وخطب يوم الجمعة للمعتمد ثمّ للمفوّض ثم للمعتضد.
وقبض على أبى الصقر وأسبابه [559] وطلب بنو الفرات وكان إليهم ديوان السواد فاختفوا.
وخلع على عبد الله [1] بن سليمان بن وهب وولّى الوزارة.
وبعث بمحمد بن أبى الساج إلى واسط ليردّ غلامه وصيفا إلى بغداد. فأبى وصيف ومضى إلى الأهواز فعاث بالسوس وأنهب الطيّب. [2]
ابتداء امر القرامطة
وفيها وردت الاخبار بحركة قوم يعرفون بالقرامطة بسواد الكوفة. وكان ابتداء أمرهم قدوم رجل من ناحية خوزستان سواد الكوفة. فأظهر الزهد والتقشّف وكان يسفّ الخوص ويأكل من كسبه ويكثر الصلاة، فأقام على ذلك مدّة، فكان إذا قعد إليه إنسان ذاكره أمر الدين وزهّده فى الدنيا وأعلمه أنّ الصلاة المفترضة على الناس خمسون صلاة فى كلّ يوم وليلة، حتّى فشا ذلك عنه.
ثمّ أعلمهم أنّه يدعو إلى إمام من أهل بيت رسول الله، صلى الله عليه، فلم يزل على ذلك، يقعد إليه الجماعة فيخبرهم من ذلك بما يعلّق قلوبهم.
وكان يقعد إلى بقّال فى القرية بموضع يقال له: النهرين، وكان بالقرب من البقّال نخل اشتراه قوم من التجّار واتخذوا حظيرة فجمعوا فيها ما صرموا من النخل. وجاء التجّار إلى البقّال فسألوه أن يطلب لهم رجلا يحفظ ما صرموا من النخل فأومأ لهم إلى هذا الرجل وقال:
__________
[1] . فى مط: على ابن عبد الله بن سليمان. فى الطبري (13: 2123) : خلع على عبيد الله بن سليمان.
[2] . كذا فى الطبري أيضا. (13: 2123) .(4/487)
- «إن أجابكم إلى حفظه فإنّه بحيث تحبّون.» [560] فناظروه فى ذلك فأجابهم إلى حفظه بدراهم معلومة، وكان يحفظ لهم ويصلّى أكثر نهاره ويصوم ويأخذ عند إفطاره من البقّال رطل تمر فيفطر عليه ويجمع نوى ذلك التمر. فلمّا حمل التجّار تمرهم صاروا إلى البقال فحاسبوا أجيرهم هذا على أجرته فدفعوها إليه فحاسب الأخير البقّال على ما أخذه من التمر وحطّ من ذلك ثمن النوى، ورآه أولياء التجّار فوثبوا عليه وضربوه وقالوا:
- «ألم ترض أن أكلت تمرنا حتّى بعت النوى؟» فقال لهم البقّال:
- «لا تفعلوا فإنّه ما مسّ تمركم.» وقصّ عليهم قصّته، فندموا على ضربهم إيّاه، وسألوه أن يجعلهم فى حلّ، ففعل وازداد بذلك نبلا عندهم لما وقفوا عليه من زهده. ثمّ مرض فمكث مطروحا على الطريق، وكان فى القرية رجل يحمل على ثور له أحمر العينين، فكان أهل القرية يسمّونه كرميثه [1] ، وهو بالنبطية أى حارّ العينين [2] فكلّم البقّال كرميثه هذا أن يحمل العليل إلى منزله ويوصى أهله بالإشراف عليه. ففعل وأقام عنده حتّى برأ فكان يأوى إلى منزله.
ودعا أهل القرية ووصف لهم مذهبه، فأجابه أهل تلك الناحية. وكان يأخذ من الرجل إذا دخل فى دينه دينارا ويزعم أنّ ذلك [561] للإمام فلمّا كثر أصحابه اتخذ منهم اثنى عشر نقيبا وأمرهم أن يدعوا الناس إلى دينهم وقال لهم:
- «أنتم كحواريّى عيسى بن مريم.»
__________
[1] . كذا فى الأصل ومط: كرميثه. فى الطبري: (13: 2125) كرميته.
[2] . فى الطبري (13: 2125) : أحمر العينين. وفى حواشيه: حارّ العينين.(4/488)
فاشتغل أكرة تلك الناحية بالصلوات الخمسين التي وظّفها عليهم.
وكان للهيصم فى تلك الناحية ضياع فوقف على تقصير أكرته فى العمارة.
فسأل عن سبب ذلك فأخبر بخبر هذا الرجل وأنّه قد شغلهم بالصلاة فشغلهم عن أعمالهم. فوجّه إليه وجيء به فسأله عن أمره فأخبره. فحلف أنّه يقتله وأمر به فحبس فى بيت وأقفل عليه الباب ووضع المفتاح تحت وسادته.
وتشاغل بالشرب. وسمع بعض من فى داره من الجواري يمينه [1] فرقّت له، فلمّا نام الهيصم أخذت المفتاح من تحت وسادته وفتحت الباب وأخرجته وردّت المفتاح إلى موضعه. فلمّا أصبح الهيصم طلب الرجل فلم يجده وشاع الخبر ففتن به أهل تلك الناحية وقالوا:
- «رفع.» ثمّ ظهر فى موضع آخر، فقصده قوم من أصحابه، فسألوه عن قصّته فكتمهم وقال:
- «ليس يمكن أحدا من البشر أن يبدأنى بسوء.» فعظم فى عيونهم.
ثمّ خاف على نفسه فخرج إلى الشام فلم يعرف له خبر. وسمّى باسم الرجل الذي كان فى منزله: كرميثه ثمّ عرّب وخفّف [562] فقيل قرمط. ثمّ كثر مذهبه بسواد الكوفة.
ووقف أحمد بن محمد الطائي وكان إليه النظر فى سواد الكوفة على أمرهم فوظّف على كلّ رجل منهم فى كلّ سنة دينارا فكان يجيء ذلك فيجتمع له منه مال جليل.
ثمّ قدم الكوفة قوم من الكوفة، فرفعوا إلى السلطان أمر القرامطة وانّهم قد
__________
[1] . كذا فى الأصل: يمينه. فى مط: منه. وفى الطبري (13: 2126) : بقصّته. وفى حواشيه عن العيون: أنينه. ولعل هذا هو الصحيح.(4/489)
أحدثوا دينا غير الإسلام، وانّهم يرون السيف فى أمّة محمد إلّا من تابعهم على دينهم، وأنّ الطائي يخفى أمرهم عن السلطان فلم يلتفت إليهم.
مذهبهم كما جاء فى كتاب لهم
ثمّ جاءوا بكتاب فيه مذهبهم ونسخته:
- «بسم الله الرحمن الرحيم، يقول الفرج بن عثمان: إنّه داعية إلى المسيح، وهو عيسى وهو الكلمة وهو المهدىّ وهو أحمد بن محمد الحنفية وهو جبرائيل. وحكى أنّ المسيح تصوّر له فى جسم إنسان وقال له: انّك الداعية وانّك الحجّة وانّك الناقة وانّك الدابّة وانّك روح القدس وانّك يحيى بن زكريا. ثمّ يوظّف صلاة ويقرأ فيها شيئا ليس من القرآن، ويذكر قبلة غير قبلة المسلمين، ويحكى أشياء عن لسان الإمام وينسب إلى الله أشياء ويحرّم النبيذ، وألّا غسل من جنابة، ولا صوم إلّا يومين فى السنة: [563] يوم النيروز ويوم المهرجان، وكلّ من حاربه وجب قتله.» [1]
مناظرة بين قرمط وصاحب الزنج
وكان مصير قرمط إلى سواد الكوفة قبل قتل صاحب الزنج.
ويحكى عن قرمط أنّه قال: صرت إلى صاحب الزنج وقلت له:
- «إنّى على مذهب وورائي مائة ألف سيف، فناظرني فإن اتفقّنا على
__________
[1] . انظر الطبري (13: 2128) .(4/490)
المذهب ملت بمن معى كلّهم إليك، وإن تكن الأخرى انصرفت عنك.» وطلبت منه الأمان فأعطانيه. فناظرته إلى الظهر فتبيّن فى آخر مناظرتي أنّه مخالف. فقام إلى الصلاة وانسللت وخرجت من عنده إلى سواد الكوفة.
ثمّ دخلت سنة تسع وسبعين ومائتين
وفاة المعتمد
وفيها توفّى المعتمد وكان شرب على الشطّ فى الحسنىّ شربا كثيرا وتعشّى فأكثر، فاختنق ومات ليلا. فكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة. [1]
__________
[1] . انظر الطبري (13: 2133) .(4/491)
خلافة المعتضد
وبويع لأبى العباس المعتضد بالخلافة، فولّى غلامه بدرا الشرطة وعبيد الله بن سليمان الوزارة ومحمد بن الشاه بن ميكال الحرس وصالحا الأمين حجبة الخاصّة والعامّة فاستخلف صالح خفيفا السمرقندىّ.
قدوم رسول عمرو بن الليث بهدايا
وفيها قدم على المعتضد رسول عمرو بن الليث الصفّار بهدايا وسأل ولاية [564] خراسان، فوصلوا إليه فى شهر رمضان من هذه السنة فخلع عليه ونصب اللواء فى صحن داره ثلاثة أيّام.
وورد الخبر بموت نصر بن أحمد وقام مكانه وبما كان إليه من العمل وراء نهر [1] بلخ أخوه إسماعيل بن أحمد.
ورود رسول خمارويه من مصر فى تزويج بنت خمارويه من المعتضد
وفيها ورد من مصر الحسين بن عبد الله المعروف بابن الجصّاص رسولا
__________
[1] . فى مط: النهر.(4/493)
لخماروية بن أحمد بن طولون ومعه هدايا من العين عشرون حملا على بغال فى عشرة من الخدم، وصندوقان فيهما نمران، [1] وعشرون غلاما على عشرين نجيبا بسروج محلاة بحلية فضّة كثيرة ومعهم حراب فضّة وعليهم أقبية الديباج والمناطق المحلّاة، وسبع عشر دابّة بسروج ولجم منها خمسة بذهب والباقي بفضّة، وسبع عشرة دابّة بجلال مشهرة، وخمسة أبغل بسروج ولجم وزرّافة فوصل إلى المعتضد فخلع عليه وعلى سبعة نفر معه. وسفر ابن الجصّاص فى تزويج بنت خمارويه من علىّ بن المعتضد. قال المعتضد:
- «أتزوّجها.» فتزوّجها.
وفيها كتب إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبى دلف بمحاربة رافع بالرىّ.
فزحف إليه أحمد، فالتقوا فانهزم رافع وخرج عن الرىّ ودخلها أحمد بن عبد العزيز.
ودخلت سنة ثمانين ومائتين [565]
قبض المعتضد على عبيد الله بن المهدىّ وشيلمة
وفيها قبض المعتضد على عبيد الله بن المهدى ومحمد بن الحسن بن سهل المعروف بشيلمة.
وكان شيلمة هذا من أصحاب صاحب الزنج وكان سبب قبضه عليهما أنّه سعى بهما ساع إلى المعتضد وقال: أنّه يدعو إلى رجل لم يوقف على اسمه وانّه قد استفسد جماعة من الجند وغيرهم. وأخذ معه رجل صيدنانىّ، فقرّره المعتضد فلم يقرّ بشيء وسأله عن الرجل الذي يدعو إليه فلم يظهره عليه
__________
[1] . كذا فى الأصل: نمران. فى الطبري (13: 2133) : طراز.(4/494)
وقال:
- «لو كان تحت قدمىّ ما رفعتهما عنه ولو جعلتني كردناك [1] ما أخبرتك به.» فأمر بنار فأوقدت، ثمّ شدّ على خشبة من خشب الخيم وأدير على النار حتى تقطّع جلده، ثم ضربت عنقه وصلب عند الجسر. وحبس ابن المهتدى إلى أن وقف على براءته فأطلق.
وقال لشيلمة:
- «بلغني انّك تدعو إلى ابن المهتدى.» قال: «المأثور عنّى غير هذا أنا أتولّى آل أبى طالب.» وكان قرّر ابن أخيه، فأقرّ فقال:
- «قد أقرّ ابن أخيك.» فقال: «هذا غلام حدث، تكلّم بهذا خوفا من القتل، فلا تقبل قوله.» فأطلقهما بعد مدّة.
شخوص المعتضد إلى بنى شيبان
ثمّ شخص المعتضد من بغداد إلى بنى شيبان وكانوا بناحية من الجزيرة اتخذوها معقلا فلمّا بلغه قصده إليهم ضمّوا إليهم أموالهم وعيالاتهم. [566] فأسرى إليهم المعتضد فأوقع بهم وقتل منهم مقتلة عظيمة وغرق منهم خلق كثير فى الزابين. فأخذ النساء والذرارىّ وغنم أهل العسكر من أموالهم ما أعجزهم حمله وأخذ من غنمهم وإبلهم حتّى بيعت الشاة بدرهم والجمل بخمسة دراهم، وأمر بحفظ النساء والذرارىّ.
__________
[1] . كذا فى الأصل والطبري (13: 2136) : كردناك. فى مط وحواشي الطبري: كردباك.(4/495)
ثمّ لقيه بنو شيبان وسألوه الصفح عنهم وبذلوا رهائنهم فأخذ منهم خمسمائة رجل.
ووافاه أحمد بن أبى الأصبغ بما فارق عليه أحمد بن عيسى بن شيخ من المال الذي أخذه من مال إسحاق بن كنداجيق وبهدايا وبغال ودوابّ.
وفيها ورد الخبر بأنّ محمد بن أبى الساج افتتح المراغة بعد حصار شديد وحرب عظيمة، وأنّه أخذ عبد الله بن الحسين بعد أن آمنه وأصحابه فقيّده وحبسه وقرّره بجميع أمواله ثمّ قتله.
وفيها ورد الخبر بوفاة أحمد بن عبد العزيز بن أبى دلف، وتنازع الرئاسة عمر وبكر ابنا عبد العزيز، ثمّ قام بالأمر عمر.
وفيها توفّى جعفر بن المعتمد.
وفيها ورد الخبر بغزو إسماعيل بن أحمد بلاد الترك وافتتاحه مدينة ملكهم وأسره إيّاه وامرأته خاتون ونحوا من عشرة آلاف، وقتل خلقا لا يحصى وغنم من الأموال والدوابّ ما لا يوقف على عدده، وأصاب الفارس من المسلمين [567] من الغنيمة فى المقسم ألف درهم.
ثمّ دخلت سنة احدى وثمانين ومائتين
شخوص المعتضد إلى الجبل وخروجه الثاني إلى الموصل
وفيها شخص المعتضد إلى الجبل فعقد ناحية الدينور، وقلّد ابنه أبا محمد علىّ بن المعتضد الرىّ وقزوين وزنجان وأبهر وقم والدينور. وقلّد كتبه أحمد بن أبى الأصبغ ونفقات عسكره، وقلّد عمر بن عبد العزيز بن أبى دلف إصبهان ونهاوند والكرج، وتعجّل الانصراف من أجل غلاء السعر.
وفيها خرج المعتضد الخرجة الثانية إلى الموصل قاصدا حمدان بن حمدون. ذلك أنّه بلغه أنّه مائل إلى هارون الشاري داع له، فورد كتابه على(4/496)
نجاح الحرمي يذكر الوقعة:
«بسم الله الرحمن الرحيم، كتابي هذا وقت العتمة ليلة الجمعة وقد نصر الله وله الحمد على الأعراب والأكراد وأظفرنا بعالم منهم وبعيالاتهم، ولقد رأيتنا نسوق البقر والغنم كما كنا نسوقها عام أوّل، ولم تزل السيوف والأسنة تأخذهم حتّى حال بيننا وبينهم الليل، ومن غد يومنا يقع الاستقصاء وكان وقاعنا بهم وقتلنا لهم خمسين ميلا. فلم يبق منهم مخبر [568] والحمد لله كثيرا وصلّى الله على محمد وآله وسلّم.» وكانت الأعراب والأكراد لمّا بلغهم خروج المعتضد تحالفوا أنّهم يقتلون على دم واحد، واجتمعوا وعبّأوا عسكرهم ثلاثة كراديس فكان من أمرهم ما ذكرت.
قصد المعتضد قلعة ماردين ثمّ الحسينيّة
ثمّ قصد المعتضد قلعة ماردين وكانت فى يد حمدان بن حمدون. فلمّا بلغه خروج المعتضد إليها هرب وخلّف ابنه فيها، فنزل عسكر المعتضد على القلعة ذلك اليوم. فلمّا كان من الغد ركب المعتضد وصعد حتّى وصل إلى باب القلعة ثمّ صاح:
- «يا بن حمدان.» فأجابه فقال:
- «افتح الباب.» ففتحه ولم يجر بينهما غير ذلك فقعد المعتضد فى الباب ولم يدخل، وأمر من دخل فنقل ما فى القلعة من المال والأثاث. ثمّ أمر بهدمها فهدمت، ويشبه أن يكون راسله قبل ذلك.
ثمّ وجّه خلف حمدان بن حمدون فطلب أشدّ الطلب وأخذت أمواله(4/497)
وكانت مودعة ثمّ ظفر به بعد.
ثمّ قصد المعتضد مدينة يقال لها الحسنية وفيها رجل يقال له شدّاد فى جيش عظيم يقال انّهم عشرة آلاف وكان له قلعة فى المدينة فظفر به المعتضد فأخذه وهدم قلعته. [569]
ودخلت سنة اثنتين وثمانين ومائتين
المعتضد وتغيير موقع النيروز
وفيها أحدث المعتضد النيروز الذي يقع فى اليوم الحادي عشر من حزيران وأنشأت الكتب إلى جميع العمّال فى النواحي والأمصار بترك افتتاح الخراج فى النيروز الذي كان للعجم.
وورد كتابه على يوسف بن يعقوب يعلمه أنّه إنّما أراد بذلك الترفيه على الناس والرفق بهم، وأمر أن يقرأ كتابه على الناس ففعل. [1] وفيها كتب المعتضد من الموصل إلى إسحاق بن أيّوب وحمدان بن حمدون فى المصير إليه. فأمّا إسحاق بن أيّوب سارع إلى ذلك وأمّا حمدان بن حمدون فتحصّن فى قلاعه وغيّب أمواله وحرمه.
فوجّه إليه المعتضد الجيوش، فصادفوا الحسن بن علىّ كوره [2] وأصحابه منيخين على قلعة لحمدان محاصرين لها وفيها الحسين بن حمدان.
فلمّا رأى الحسين أوائل العسكر مقبلين طلب الأمان، فأومن وسلّم القلعة وصار إلى المعتضد فأمر بهدمها. وأعدّ الجيش فى طلب حمدان وكان قد صار بباسورين من دجلة ونهر عظيم. فكان الماء زائدا فعبر الجيش إليه، فهرب وقتل أكثر أصحابه وألقى حمدان نفسه فى زورق فى دجلة مع كاتبه
__________
[1] . انظر الطبري (13: 2143) .
[2] . كذا فى الأصل والطبري (13: 2144) : كوره. ولا توجد الكلمة فى مط.(4/498)
وحمل معه مالا [570] وعبر إلى الجانب الغربىّ من دجلة وقدّر اللحاق بالأعراب لمّا حيل بينه وبين أكراده فى الجانب الشرقي، وعبر فى إثره نفر يسير من الجند فاقتصّوا اثره حتّى أشرفوا على دير كان نزله. فلمّا بصر بهم خرج هاربا ومعه كاتبه وألقيا أنفسهما فى زورق وخلّفا المال فى الدير فحمل إلى المعتضد وانحدر أصحاب السلطان فى طلبه على الظهر وفى الماء.
فلحقوه فخرج من الزورق حاسرا [1] إلى ضيعة له فى شرقىّ دجلة فركب دابّة لوكيله وسار ليله أجمع حتّى وافى مضرب إسحاق بن أيّوب فى عسكر المعتضد مستجيرا به.
فأحضره إسحاق مضرب المعتضد فأمر بالاحتفاظ [به] وبثّ الخيل فى طلب أصحابه وظفر بكاتبه وكثير من قراباته وغلمانه وتتابع رؤساء الأكراد وغيرهم فى الدخول فى الأمان.
نقل بنت خمارويه إلى المعتضد
وفيها نقلت بنت خمارويه بن أحمد إلى المعتضد ونودى فى جانبي بغداد ألّا يعبر أحد دجلة وغلقت الأبواب التي تلى الشطّ ومدّ على الشوارع النافذة إلى دجلة الشرائج ووكّل بحافتى دجلة من يمنع الناس من أن يظهروا فى دورهم على الشطّ.
فلمّا صليت العتمة وافت شذاة من دار المعتضد وفيها خدم معهم الشموع فوقفوا [571] بإزاء دار صاعد، وكانت أعدّت أربع حرّاقات شدّت مع دار صاعد. فلمّا جاءت الشذاة حدرت الحرّاقات وصارت الشذاة بين أيديهم.
وأقامت الحرّة فى يوم الإثنين فى دار المعتضد وجليت عليه [2] يوم الثلاثاء.
__________
[1] . فى الطبري (13: 2145) : خاسرا.
[2] . يقال: جليت العروس على زوجها، أى عرضت عليه مجلوّة.(4/499)
هروب يوسف بن أبى الساج إلى أخيه بالمراغة
وفيها هرب يوسف بن أبى الساج فى من أطاعه إلى أخيه محمد بالمراغة ولقى مالا للسلطان فى طريقه فأخذه فقال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر وكتب به إلى المعتضد:
إمام الهدى أنصاركم آل طاهر ... بلا سبب يجفون والدهر يذهب
وقد خلطوا صبرا بشكر ورابطوا ... وغيرهم يعطى ويحبى ويهرب
معاملة المعتضد، محمد بن زيد العلوي
وفيها وجّه محمد بن زيد العلوي من طبرستان إلى محمد بن ورد العطّار باثنين وثلاثين ألف دينار ليفرّقها ببغداد والكوفة والمدينة على أهله. فسعى به وأحضر دار بدر وسئل عن ذلك فاعترف به، وذكر أنّه يوجّه إليه فى كلّ سنة مثل هذا المال فيفرّقه على من يأمره بالتفرقة عليهم من أهله. فأعلم بدر المعتضدي صاحبه المعتضد بذلك وأعلمه أنّ الرجل والمال فى يده. فقال المعتضد:
- «يا بدر أما تذكر الرؤيا التي خبّرتك [572] بها؟» فقال: «لا يا أمير المؤمنين.» فقال: «ألا تذكر أنّ الناصر- يعنى الموفّق- دعاني وقال: إنّى أعلم أنّ هذا الأمر سيصير إليك، فانظر كيف تكون مع آل أبى طالب.» ثمّ قال: رأيت فى النوم كأنّى خارج من بغداد أريد ناحية النهروان فى جيش وقد تشوّف الناس إلىّ، إذ مررت على رجل واقف على تلّ يصلّى لا يلتفت إلىّ، فعجبت منه، فلمّا فرغ من صلاته قال لى:(4/500)
- «أقبل.» فأقبلت إليه، فقال:
- «أتعرفنى؟» قلت: «لا.» قال: «أنا علىّ بن أبى طالب، خذ هذه المسحاة فاضرب بها الأرض.» لمسحاة [1] بين يديه فأخذتها، فضربت بها ضربات. فقال:
- «إنّه سيلي من ولدك هذا الأمر قدر ما ضربت، فأوصهم بولدي خيرا.» قال بدر: فقلت:
- «بلى يا أمير المؤمنين قد ذكرت.» قال: فأطلق الرجل وأطلق المال، وتقدّم إليه أن يكتب إلى صاحبه بطبرستان أن يوجّه ما يوجّه به إليه ظاهرا وأن يفرّق هذا الرجل ما يفرّقه ظاهرا، وتقدّم بمعونته على ما يلتمسه.
ذبح خمارويه فى مصر
وفيها ورد الخبر على المعتضد من مصر فى أحد عشر يوما على طريق البرّ انّ خمارويه بن أحمد ذبح على فراشه، ذبحه بعض خدمه الخاصّة، وقتل من خدمه الذين [573] اتهموا بقتله نيّف وعشرون خادما.
وكان المعتضد بعث ابن الجصّاص إلى خمارويه بهدايا فلمّا بلغ سرّ من رأى اتصل خبر مهلك خمارويه بالمعتضد فكتب إليه يأمره بالرجوع، فرجع.
__________
[1] . انظر الطبري (13: 2147) .(4/501)
ودخلت سنة ثلاث وثمانين ومائتين
وفيها شخص المعتضد بسبب هارون الشاري إلى ناحية الموصل فظفر به. ذكر هذا الظفر
وجّه الحسين بن حمدان بن حمدون فى خيل من الفرسان والرجّالة إليه.
فقال الحسين:
- «نعم يا أمير المؤمنين إن أنا جئت به فلي ثلاث حوائج يقضيها لى أمير المؤمنين.» فقال: «اذكرها.» قال: «أوّلها إطلاق أبى، وحاجتان أسألهما بعد مجيئي به [1] .» فقال المعتضد:
- «لك ذلك، فامض.» فقال الحسين:
- «أحتاج إلى ثلاثمائة فارس أنتخبهم أنا.» فمكّنه من ذلك وأنفذهم مع موشكير فقال:
- «أريد أن يأمره أمير المؤمنين ألّا يخالفني فيما آمره به.» فأمر المعتضد موشكير بذلك. فمضى الحسين حتّى انتهى إلى مخاضة فى دجلة فقدم إلى وصيف ومن معه بالوقوف على المخاضة وقال:
- «ليس لهارون طريق إن هرب غير هذا فلا تبرحنّ [574] من هذا الموضع حتّى يمرّ بك هارون أو أجيئك أنا أو يبلغك أنّى قد قتلت.»
__________
[1] . وفى الطبري (13: 2149) : مجيئي به إليه.(4/502)
ومضى حسين فى طلب هارون فلقيه وواقعه، فكانت بينهما قتلى وانهزم هارون وأقام وصيف على المخاضة ثلاثة أيّام فقال له أصحابه:
- «قد طال مقامنا بهذا القفر وأضرّ بنا ولسنا نأمن أن يأخذ الحسين الشاري فيكون الفتح له دوننا والصواب أن نمضي فى آثارهم.» فأطاعهم ومضى وجاء هارون منهزما إلى المخاضة فعبر وجاء حسين فى إثره فلم ير وصيفا ولا أحدا من أصحابه ولا عرف لهم خبرا ولا رأى لهم أثرا، وجعل يسأل عن خبر هارون حتّى وقف على عبوره فعبر فى أثره وجاء إلى حىّ من أحياء العرب فسألهم عنه، فكتموا أمره فهمّ بالإيقاع بهم ثمّ. قال:
- «إنّ المعتضد فى إثرى.» فأعلموه أنّه اجتاز بهم فأخذ بعض دوابّهم وترك دوابّه عندهم وكانت قد كلّت وأعيت واتبع أثره فلحقه بعد أيّام والشاري فى نحو من مائة. فناشده الشاري وتوعّده، فأبى إلّا محاربته فحاربه ورمى حسين بن حمدان بنفسه عليه وابتدره أصحاب الحسين، فأخذوه وجاء به إلى المعتضد سليما بغير عقد ولا عهد. فأمر المعتضد حين بلغه الخبر بحلّ قيود حمدان بن حمدون والتوسعة عليه [575] إلى أن يقدم ابنه فيطلقه ويخلع عليه.
فلمّا وصل الشاري إلى المعتضد انصرف راجعا إلى بغداد فنزل باب الشماسية، وعبّأ الجيش هناك وخلع على الحسين بن حمدان وطوّقه بطوق ذهب، وخلع على جماعة من أهله وزيّن الفيل وأدخل الشاري عليه مشهرا ببرنس حرير طويل.
غزو الصقالبة الروم
وفيها ورد الخبر من طبرستان أنّ الصقالبة غزت الروم فى خلق عظيم،(4/503)
فقتلوا منهم وهزموا ملكهم حتّى وصلوا إلى قسطنطينية وألجئوا الروم إليها، ثمّ وجّه ملك الروم إلى ملك الصقالبة:
- «إنّ ديننا ودينك واحد فعلام نقتل الناس بيننا؟» فأجابه ملك الصقالبة:
- «إنّ هذا ملك آبائي ولست منصرفا عنك إلّا بغلبة أحدنا الآخر.» فلمّا لم يجد ملك الروم مخلصا عنه جمع من عنده من المسلمين، وسألهم معونته على الصقالبة، فأجابوه إليه، فأعطاهم السلاح فهزموا الصقالبة. فلمّا رأى ملك الروم ذلك خافهم على نفسه. فبعث إليهم فردّهم وأخذ منهم السلاح وفرّقهم فى البلدان فرقا من أن يجنوا عليه.
وثوب الجيش فى مصر
وورد الخبر من مصر أنّ الجند وثبوا على جيش ابن خمارويه وقالوا:
- «لا نرضى بك أميرا علينا فتنحّ عنّا حتّى نولّى عمّك.» فكلّمهم [576] كاتبه علىّ بن أحمد الماذرائى [1] وسألهم أن ينصرفوا يومهم ذلك فانصرفوا، وعادوا من غد، فعدا جيش على عمّه الذي ذكروا أنّهم يؤمّرونه، فضرب عنقه وعنق عمّ له آخر ورمى برؤوسهما إليهم. فهجم الجند على جيش ابن خمارويه، فقتلوه وقتلوا أمّه وانتهبوا داره وانتهبوا مصر وأحرقوها، ثمّ أقعدوا هارون بن خمارويه مكان أخيه.
وفيها ورد كتاب بدر وعبيد الله بن سليمان وكانا بالجبل قرئ فى مسجد الجامع ببغداد: «انّ عمر بن عبد العزيز بن أبى دلف صار إليهما فى الأمان منقادا لأمير المؤمنين بالطاعة، وانّ عبيد الله بن سليمان تلقّاه وخلع عليه
__________
[1] . كذا فى الأصل والطبري (13: 2153) .(4/504)
وعلى رؤساء أهل بيته وأخذ عليهم البيعة.
وكان بكر بن عبد العزيز قبل ذلك استأمن إليهما، فولّياه عمل أخيه عمر على أن يمضى فيحاربه. فلمّا دخل عمر فى الأمان قالا لبكر:
- «إنّ أخاك قد دخل فى طاعة السلطان وإنّما ولّيناك عمله على أنّه عاص والرأى لكما أن تمضيا إلى باب أمير المؤمنين ليرى رأيه فى أمركما.» وولّى عيسى النوشرى [1] إصبهان على أنّه من قبل عمر، فهرب بكر وكتب إلى المعتضد بخبره. فكتب إلى بدر يأمره بالمقام إلى أن يعرف خبر بكر.
وخرج الوزير عبيد الله بن سليمان إلى الرىّ وبها علىّ بن [577] المعتضد ولحق بكر بالأهواز فوجّه المعتضد فى طلبه وصيفا موشكير فخرج إليه.
فلمّا قرب منه رجع بكر ومضى إلى إصبهان ورجع وصيف إلى بغداد. فكتب المعتضد إلى بدر يأمره بطلب بكر وحربه فتقدّم بدر إلى عيسى النوشرى بمحاربته فخرج إليه وحاربه وقتل أصحاب بدر وهزم بكرا.
ودخل عمر بن عبد العزيز [بغداد] [2] قادما من إصبهان فأمر المعتضد باستقباله فاستقبله القاسم بن عبيد الله والقوّاد وقعد له المعتضد فوصل إليه وخلع عليه وحمله على دابّة بسرج ولجام محلّى بالذهب وخلع على ابنين كانا له وعلى [3] أخيه أحمد بن عبد العزيز وعلى قوم من قوّاده وأنزل فى دار كانت لعبيد الله بن عبد الله [عند] رأس الجسر وكانت فرشت له.
وفيها ورد كتاب من عمرو بن الليث بأنّه واقع رافع بن هرثمة فهزمه ووجّه فى أثره بقوّاده وكان صار إلى طوس من نيسابور فانهزم ولحق
__________
[1] . كذا فى الأصل والطبري (13: 2155) : النوشرى.
[2] . زيادة عن الطبري (13: 2159) .
[3] . فى الطبري (13: 2159) : وعلى ابن أخيه.(4/505)
بخوارزم فقتل بخوارزم وإنّه يحمل رأسه.
يتلوه فى المجلّدة الخامسة:
«ودخلت سنة أربع وثمانين ومائتين، وفيها قدم رسول عمرو بن الليث برأس رافع بن هرثمة فى المحرّم» .
والحمد لله وصلواته على خير خلقه محمد وعترته الطاهرين وحسبنا الله ونعم الوكيل، طه طسم.
فرغ من انتساخه محمد بن علىّ بن محمد ... [1] البلخي فى السابع عشر من رجب سنة خمس وخمسمائة.
فرغ من انتساخه محمد بن حسن بن منصور فى ... والعشرين من رجب سنة إحدى وخمسين وخمسمائة.
نقله علىّ بن حنظلة.
__________
[1] . كلمة غير مقروءة.(4/506)
[المجلد الخامس]
[تتمة العصر العباسي]
[تتمة خلافة المعتضد]
بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله واهب العقل
ودخلت سنة أربع وثمانين ومائتين [1]
قدوم رسول عمرو بن الليث برأس ابن هرثمة
وفيها قدم رسول عمرو بن الليث برأس رافع بن هرثمة فى المحرّم. فأمر المعتضد برفعه ونصبه فى الجانب الشرقىّ، ثمّ تحويله إلى الجانب الغربىّ إلى الليل، ثمّ ردّه إلى دار السلطان. [2]
أمور قام بها المعتضد
وفى هذه السنة عزم المعتضد على لعن معاوية بن أبى سفيان على المنابر، وأمر بإنشاء كتاب يقرأ على الناس.
فخوّفه عبيد الله بن سليمان ذلك وقال:
- «إنّ العامّة تضطرب.»
__________
[1] . أسقط ايمدروز من ابتداء هذا الجزء، أى من سنة 284 إلى ابتداء خلافة المقتدر بالله فى سنة 295، ما يشغل 56 صفحة من صفحات الجزء الخامس من مخطوطة أيا صوفيا (الأصل) ، وهو يريد أن يبدأ نشر تجارب الأمم من حيث ينتهى الطبري، فبدأ بآخر خليفة ذكر فى تاريخ الطبري.
[2] . انظر الطبري (13: 2160) .(5/1)
فلم يلتفت إليه.
فكان أوّل ما ابتدأ به من ذلك أن تقدّم [1] إلى العامّة بلزوم أعمالهم، وترك الاجتماع والعصبيّة والشهادات عند السلطان، وأن لا يسألوا عن شهادة إن كانت عندهم، ومنع القصّاص من الجلوس على الطرقات، وعملت بذلك نسخ قرئت [2] بالجانبين بمدينة السلام وفى الأرباع والمحالّ والأسواق.
ثمّ منع يوم الجمعة أهل الجانبين من أهل الحلق والفتيا وغيرهم من القعود فى المسجد الجامع، ومنع الباعة [3] من القعود فى رحابها، ونودى فى المسجد الجامع بنهي الناس عن الاجتماع على قاصّ وغيره، ثمّ نودى فى الجانبين والجامعين بأنّ الذمّة بريئة [3] ممّن اجتمع على مناظرة أو جدل، وأنّ من فعل ذلك أحلّ بنفسه. [4] وتقدّم إلى من يسقى الماء وأمثالهم فى الجامعين ألّا يترحّموا على معاوية ولا يذكروه.
إخراج كتاب اللعن
ثمّ تقدّم المعتضد بإخراج الكتاب الذي كان المأمون أمر بإنشائه وفيه مثالب معاوية، ولعنه بعد ذلك فأخرج وهو كتاب طويل [5] .
فحكى أنّ عبيد الله بن سليمان أحضر يوسف بن يعقوب القاضي وأمره أن يعمل الحيلة فى إبطال ما عزم عليه المعتضد خوفا من فتنة تقع. [6]
__________
[1] . كذا فى الأصل: تقدّم. فى مط: يقدم. وهو خطأ.
[2] . فى مط: قربت. وهو خطأ.
[3] . ضبط الأصل: بريّة.
[4] . فى الطبري: بنفسه الضرب. (13: 2160) .
[5] . انظر الطبري (13: 3165) .
[6] . انظر الطبري (13: 2177) .(5/2)
فمضى القاضي يوسف فكلّم المعتضد وقال:
- «إنّى أخاف أن تضطرب العامّة عند سماع هذا الكتاب، وتكون لها حركة.» فقال: «إن تحركت العامّة أو نطقت، وضعت سيفي فيها.» فقال: «يا أمير المؤمنين فما تصنع بالطالبيّين الذين هم فى كلّ ناحية يخرجون ويميل إليهم خلق كثير ومآثرهم [1] فى هذا الكتاب، وإذا سمع الناس هذا كانوا إليهم أميل أو كانوا هم أبسط ألسنة وأثبت حجّة [4] منهم اليوم.» .
فأمسك عنه المعتضد فلم يردّ عليه جوابا ولم يأمر بعد ذلك فى الكتاب بشيء.
لحوق بكر بمحمد بن زيد العلوي بطبرستان
وفيها لحق بكر بن عبد العزيز بمحمّد بن زيد العلوي بطبرستان وبدر مقيم بالجبل [2] ينتظر أمر بكر إلى ماذا يؤول. فورد الخبر بعد زمان أنّه مات بطبرستان.
وثوب أبى ليلى على شفيع الخادم وقتله
وورد الخبر من إصبهان بوثوب أبى ليلى الحارث بن عبد العزيز على شفيع الخادم الموكّل به وقتله.
__________
[1] . فى الأصل: وما آثرهم والتصحيح منّا بوحي من الطبري حيث قال: ويميل إليهم كثير من الناس لقرابتهم من الرسول ومآثرهم وفى هذا الكتاب اطراؤهم. (الطبري 13: 2178) .
[2] . الجبل: فى الأصل: بالحبل. وما أثبتناه عن الطبري (13: 2178) .(5/3)
ذكر الخبر عن ذلك كان أخوه عمر أخذه فقيّده وحمله إلى قلعة لأبى دلف بالزّز [1] وحبسه فيها وكلّ ما كان لأبى دلف من مال ومتاع نفيس وجوهر كان فى هذه القلعة، وشفيع مولاهم يحفظ القلعة وكلّ ما فيها [2] ومعه جماعة من غلمان عمر وثقاته. فلمّا استأمن عمر إلى السلطان وهرب بكر عاصيا للسلطان بقيت القلعة بما فيها فى يد شفيع وأبو ليلى مقيّد مسلّم إليه.
فكلّمه أبو ليلى فى إطلاقه فأبى وقال:
- «لا أخون صاحبي عمر.» فحكت جارية لأبى ليلى فى الحبس، أنّه كان معه غلام صغير يخدمه وآخر يخرج فى حوائجه ولا يبيت عنده، فأمّا الصغير فيبيت عنده. فقال أبو ليلى [5] لغلامه الذي يدخل ويخرج فى حوائجه:
- «احتل لى فى مبرد كيف شئت.» ففعل الغلام وأدخله فى شيء من طعامه. وكان شفيع يجيء فى كلّ ليلة إذا أراد أن ينام إلى البيت الذي فيه أبو ليلى، حتّى يراه، ثمّ يقفل عليه باب البيت هو بنفسه ويمضى فينام وتحت فراشه سيف مسلول. وكان أبو ليلى قد سأل أن تدخل إليه جارية، فأدخلت إليه جارية صغيرة السن.
فذكر عن دلفاء [3] جارية أبى ليلى عن هذه الجارية الصغيرة أنّها قالت:
برد أبو ليلى مسمار قيده، حتّى كان يخرجه من رجله إذا شاء ويردّه.
__________
[1] . بالزّز. كذا فى الأصل. وما فى الطبري: بالدّز (الطبري 13: 2180) . والزّز ناحية بهمذان مشهورة (مراصد الإطلاع) .
[2] . فيها. فى الأصل: فيه. والتصحيح منّا.
[3] . فى الأصل: دلفا. بدون الهمزة. والضبط من (الطبري 13: 2181) .(5/4)
قالت: وجاء شفيع عشيّة من العشايا إلى أبى ليلى فقعد معه يحدّثه، فسأله أبو ليلى أن يشرب معه أقداحا، ففعل. ثمّ قام الخادم لحاجته، فأمرنى أبو ليلى ففرشت فراشه فجعل عليه ثيابا فى موضع الإنسان من الفراش، وصيّره كهيئة الرجل النائم وغطّاه، وأمرنى أن أقعد عند رجل ذلك الشيء المعمول من الثياب كأنّى أغمّزه [1] . وقال:
- «إذا جاء شفيع لينظر إلىّ فقولي: هو نائم. ليقفل الباب على عادته، ويظنّ أنّى فى الفراش.» ثمّ خرج أبو ليلى واختفى فى موضع فيه [6] متاع فى صفّة فيها باب هذا البيت، وجاء شفيع فنظر إلى الفراش وسأل الجارية عن خبر أبى ليلى، فأخبرته أنّه نائم وأقفل الباب. فلمّا [2] نام الخادم ومن معه فى الدار التي فى القلعة خرج أبو ليلى، فأخذ السيف من تحت فراش شفيع وضربه به حتّى برد. ووثب الغلمان الذين كانوا حوله نياما فزعين، فاعتزلهم أبو ليلى والسيف بيده، وقال لهم:
- «أنا أبو ليلى وقد قتلت شفيعا ولئن تقدّم إلىّ واحد منكم لأقتلنّه، وأنتم آمنون، فاخرجوا من هذه الدار حتّى أكلّمكم بما أريد.» ففتحوا باب القلعة واجتمع كلّ من كان فى القلعة فكلّمهم ووعدهم بالإحسان وأخذ عليهم الأيمان. فلمّا أصبح نزل ووجّه إلى الأكراد وأهل الرموم [3] فجمعهم وفرّق فيهم مالا وخرج مخالفا على السلطان.
ثمّ مضى إلى إصبهان، فواقعه عيسى النّوشرى، فأصاب أبا ليلى سهم فى
__________
[1] . أغمّزه: أجسّه وأكبسه لأختبره.
[2] . فى مط: «فامّا» بدل «فلمّا» . وهو خطأ.
[3] . الرموم. كذا فى الأصل. وفى مط: الزوم. وفى الطبري (13: 2182) : الزموم. وفى حواشي الطبري: الدمور.(5/5)
حلقه فنحره، فسقط إلى الأرض، وانهزم أصحابه فحمل إلى إصبهان.
ودخلت سنة خمس وثمانين ومائتين
خروج صالح بن مدرك على الحاجّ
وفيها خرج صالح بن مدرك على الحاجّ فى جماعة من طىّ بالأجفر [1] فى المحرّم. فحاربه الجنّى [2] [7] وكان أمير القافلة فهزمه الأعراب وظفروا بالقافلة فأخذوا جميع ما فيها وأخذوا جماعة من النساء الحرائر. وبلغ قيمة ما أخذوا من الناس ألفى ألف دينار.
حمل رأس أبى ليلى إلى بغداد
وحمل رأس أبى ليلى المقتول بإصبهان إلى بغداد، فاستوهبه أخوه عمر من المعتضد، فوهبه له، فدفنه، وخلع على عمر [3] فى هذا اليوم.
ورود الخبر بوفاة ابن عيسى
وفيها ورد الخبر بوفاة محمّد بن عيسى بن شيخ، وقام ابنه أحمد [4] بن محمّد بن عيسى بما كان فى يد أبيه [5] بآمد على سبيل التغلّب. فخرج إليه المعتضد قاصدا لحربه.
__________
[1] . الأجفر. كذا فى الأصل والطبري (13: 2183) . ما فى مط: بالأحف.
[2] . الجنّى. كذا فى الأصل ومط. فى الطبري (13: 2183) : الحىّ. وفى حواشيه: حبى، الحبى.
[3] . على عمر. كذا فى الأصل. ما فى مط: ابن عمر.
[4] . فى مط: محمد بن محمد.
[5] . فى مط: ابنه.(5/6)
هارون بن خمارويه يوجّه رسلا إلى المعتضد
وفيها وجّه هارون بن خمارويه بن أحمد ومن معه رسلا إلى المعتضد، يلتمسون مقاطعتهم على ما فى أيديهم من مصر والشام، ويسألونه إجراء هارون على ما كان يجرى عليه أمر أبيه. [1] فردّ المعتضد رسله مع رسول له بمشافهات وشروط.
ودخلت سنة ستّ وثمانين ومائتين
توجيه محمد بن أبى الساج ابنه إلى بغداد رهينة
وفيها وجّه محمّد بن أبى الساج ابنه المعروف بأبى المسافر إلى بغداد رهينة، بما ضمن له من الطاعة والمناصحة. فقدم فى المحرّم منها ومعه هدايا والمعتضد غائب. [8] وكان المعتضد فى السنة المتقدمة قد حمل إليه الخلع وكتب الولاية على ما كان تغلّب عليه من بلاد أذربيجان.
وصول المعتضد إلى آمد
وفيها وصل المعتضد إلى آمد، فأناخ بجنده عليها وأغلق محمّد بن أحمد بن شيخ أبواب مدينة آمد وعلى من فيها من أشياعه. ففرّق المعتضد جيوشه حولها وحاصرهم وذلك لأيّام بقيت من شهر ربيع الأوّل.
ثمّ جرت بينهم حروب، ونصب أهل آمد على سورهم المجانيق، ونصب المعتضد عليها المجانيق وتراموا بها.
__________
[1] . فى مط: يجرى عليه مراتبه. فى الطبري (13: 2185) : يجرى عليه أبوه.(5/7)
وفى يوم السبت لإحدى عشرة بقيت من جمادى الأولى، توجّه [1] محمّد بن أحمد بن شيخ فى هذا اليوم ومن معه من أصحابه وأوليائه، فوصلوا إلى المعتضد فخلع عليه وعلى رؤساء أصحابه وانصرفوا إلى مضرب قد أعدّ [2] لهم، وتحوّل المعتضد من معسكره إلى منازل ابن عيسى بن شيخ ودوره، وكتب بذلك كتابا إلى مدينة السلام.
ورود كتب هارون بن خمارويه إلى المعتضد
ووردت كتب هارون بن خمارويه يبذل أعمال قنّسرين والعواصم ويحمل إلى بيت المال بمدينة السلام فى كلّ سنة أربعمائة وخمسين ألف دينار، ويسأل أن يحدّد له ولاية مصر والشام، وأن يوجّه المعتضد بخادم من خدمه إليه بذلك. فأجابه إلى ما [9] سأل وتسلّم المعتضد أعمال قنّسرين والعواصم من أصحاب هارون، وارتحل نحو الرقّة، وخلّف ابنه عليّا بآمد مع جيوش ضمّهم إليه، ليضبط الناحية وأعمال قنّسرين والعواصم وديار ربيعة ومضر.
وكان كاتب علىّ بن المعتضد يومئذ الحسين بن عمرو النصراني، وأمر المعتضد بهدم سور آمد فهدم.
موافاة هديّة من عمرو بن الليث من نيسابور
وفيها وافت هديّة عمرو بن الليث من نيسابور. فكان مبلغ ما أنفذه أربعة آلاف ألف درهم وعشرين من الدوابّ بالسروج واللجم المغرقة بالجلال المشهرة وكسوة وطيب وبزاة.
__________
[1] . ما فى الأصل: وجّه. والتصحيح من مط.
[2] . ما فى الأصل: أحدّ، ورجّحنا ما فى مط: أعدَّ.(5/8)
ظهور أبى سعيد الجنّابى بالبحرين على مذهب القرامطة
وفيها ظهر أبو سعيد الجنّابى بالبحرين على مذهب القرامطة فاجتمع إليه القرامطة والأعراب. فقوى أمره وكثر عيثه وأظهر أنّه يريد البصرة. وكتب عامل البصرة إلى المعتضد بذلك، فكتب إليه بعمل سور على البصرة فقدّرت النفقة عليه أربعة عشر ألف دينار، فأمر ببنائه. [1]
ودخلت سنة سبع وثمانين ومائتين
غلظة أمر القرامطة
وفيها غلظ أمر القرامطة بالبحرين وأغاروا على نواحي هجر وقرب بعضهم من نواحي البصرة. وولّى المعتضد العبّاس بن عمرو الغنوي اليمامة والبحرين ومحاربة [10] أبى سعيد الجنّابى والقرامطة وضمّ إليه زهاء ألفى رجل فشخص العبّاس إلى البصرة ومنها إلى البحرين واليمامة. [2]
أسر عمرو بن الليث الصفّار
وفيها ورد الخبر على المعتضد بأنّ إسماعيل بن أحمد أسر عمرا الصفّار واستباح عسكره. [3]
__________
[1] . انظر الطبري (13: 2188) .
[2] . انظر الطبري (13: 2192) .
[3] . انظر الطبري (13: 2203) .(5/9)
ذكر الخبر عن ذلك كان عمرو سأل المعتضد أن يولّيه ما وراء النهر، فولّاه ذلك، ووجّه إليه وهو بنيسابور بالخلع واللواء، فخرج عمرو لمحاربة إسماعيل بن أحمد، فكتب إليه إسماعيل:
- «إنّك قد ولّيت دنيا عريضة، وإنّما فى يدي ما وراء النهر وأنا فى ثغر، فاقنع بما فى يدك واتركني بهذا الثغر.» فأبى إجابته، فذكر له أمر نهر بلخ وشدّة عبوره فقال:
- «لو شئت أن أسكره ببدر الأموال وأعبره لفعلت.» فلمّا يئس إسماعيل من انصرافه عنه جمع من معه من الجند والتّنّاء [1] والدهاقين وعبر النهر إلى الجانب الغربي. وجاء عمرو فنزل بلخ وأخذ إسماعيل عليه النواحي فصار كالمحاصر، وندم على ما فعل وطلب المحاجزة، فأبى إسماعيل عليه ذلك. فلم يكن بينهما كثير قتال حتى هزم عمرو فولّى هاربا ومرّ بأجمة فى طريقه [11] قيل له: إنّها أقرب. فقّال لعامّة من معه:
- «امضوا فى الطريق الواضح.» ومضى فى نفر يسير فدخل الأجمة، فوحلت دابّته ولم يكن له فى نفسه حيلة. ومضى من معه ولم يلووا عليه، وجاءت أصحاب إسماعيل فأخذوه أسيرا.
وبلغ المعتضد خبرهما فمدح إسماعيل وذمّ عمرا.
__________
[1] . التنّاء: المقيمون.(5/10)
ورود الخبر بهروب وصيف
وفيها ورد الخبر على المعتضد بأنّ وصيفا خادم ابن أبى الساج هرب من برذعة [1] ومضى إلى ملطية مراغما لمحمّد بن أبى الساج فى أصحابه. وكتب إلى المعتضد يسأله أن يولّيه الثغور ليقوم بها فكتب المعتضد إليه: يأمره أن يصير إليه، فتباطأ، وكان رسله بحضرة المعتضد.
فذكر أنّ المعتضد أمر بتقرير الرسل ليخبروه عن السبب الذي من أجله فارق وصيف صاحبه ابن أبى الساج وقصد الثغور فأقرّوا بالضرب.
وذكروا أنّه فارقه على مواطأة بينه وبين صاحبه على أنّه إذا استقرّ فى موضعه الذي هو به لحق به صاحبه فصارا جميعا الى مصر وتغلّبا عليها، وشاع ذلك فى الناس وتحدّثوا به.
وفيها ولّى حامد بن العبّاس أعمال فارس الخراج والضياع، وكانت فى يد العبّاس بن عمرو الغنوي.
خروج العباس بن عمرو الغنوي
وفيها خرج العبّاس بن عمرو الغنوي [12] عن البصرة بمن ضمّ إليه من الجند مع من خفّ معه من مطوّعة البصرة نحو أبى سعيد الجنّابى، فلقيتهم طلائع أبى سعيد، فخلّف العبّاس سواده وسار نحوهم، فلقى أبا سعيد وأصحابه مساء، فتناوشوا ثمّ حجز الليل بينهم، فانصرف كلّ فريق منهم إلى موضعهم.
فلمّا كان الليل انصرف من كان مع العبّاس من الأعراب والمطوّعة وأصبح
__________
[1] . فى مط: بردعة (بالدال المهملة) .(5/11)
العبّاس، فغادى القرامطة الحرب، فاقتتلوا قتالا شديدا.
ثمّ إنّ صاحب ميسرة العبّاس حمل فى زهاء مائة من أصحابه على ميمنة أبى سعيد، فوغلوا فيهم فقتل هو وجميع من معه، وحمل الجنّابى وأصحابه على العبّاس فانهزم أصحابه واستأسر العبّاس وأسر من أصحابه زهاء سبعمائة رجل، واحتوى الجنّابى على ما فى عسكر العبّاس.
فلمّا كان الغد من يوم الوقعة أحضر الجنّابى من أسر من أصحاب العبّاس، فقتلهم جميعا ثمّ أمر بحطب فطرح عليهم وأحرقهم.
وصار الجنّابى إلى هجر وآمن أهلها وانصرف فلّ العبّاس يريدون البصرة ولم يكن أفلت منهم إلّا القليل بغير أزواد. فخرج إليهم جماعة من البصرة بنحو من أربعمائة راحلة عليها [13] الأطعمة والكسى والماء فخرج عليهم بنو أسد فأخذوا تلك الرواحل بما عليها، وقتلوا جماعة ممّن كان مع تلك الرواحل ممّن أفلت من أصحاب عمرو، فاضطربت البصرة لذلك اضطرابا شديدا وهمّوا بأن ينتقلوا عنها وخافوا هجوم القرامطة عليهم.
ثمّ وردت على السلطان خريطة من الأبلّة بموافاة العبّاس بن عمرو فى مركب من مراكب البحر، وأنّ أبا سعيد أطلقه خادما له. [1] ثمّ ورد العبّاس بن عمرو مدينة السلام وصار إلى دار المعتضد بالثريّا.
فذكر أنّه بقي عند الجنّابى أيّاما بعد الوقعة ثمّ دعا به فقال:
- «أتحب أن أطلقك؟» قال: «نعم.» قال: «امض وعرّف الذي وجّه بك ما رأيت.» وحمله على رواحل وضمّ إليه قوما من أصحابه وحمّلهم ما يحتاجون إليه
__________
[1] . انظر الطبري (13: 2197) .(5/12)
من الزاد والماء وأمر الرجال الذين وجّههم معه أن يردّوه إلى مأمنه فساروا به إلى بعض سواحل [1] البحر فصادف به مركبا فحمله حتّى صار إلى الأبلّة فخلع عليه المعتضد وصرفه إلى منزله.
فتحدّث القاضي أبو الحسين محمّد بن عبد الواحد الهاشمي قال [2] :
سمعت العبّاس بن عمرو الغنوي يقول: لمّا أسرنى أبو سعيد الجنّابى القرمطى وكسر العسكر الذي كان أنفذه [14] المعتضد لقتاله وجعلت أسيرا فى يده، يئست من الحياة. فإنّى يوما على ذلك إذ جاءني رسوله فأخذ قيودي وغيّر ثيابي وأدخلنى إليه فسلّمت وجلست فقال:
- «أتدرى لم استدعيتك؟» قلت: «لا.» قال: «أنت رجل عربي ومن المحال أن أستودعك أمانة فتخفرها ولا سيما مع منّى عليك بنفسك.» فقلت: «هو كذلك.» قال: «إنّى فكّرت فى قتلك فلم أر فيه طائلا وفى نفسي رسالة إلى المعتضد لا يجوز أن يؤدّيها غيرك فرأيت إطلاقك وتحميلك إيّاها فإن حلفت لى إنّك تؤدّيها سيّرتك إليه.» فحلفت له، فقال:
- «تقول للمعتضد: يا هذا لم تخرق [3] هيبتك وتقتل رجالك وتطمع أعداءك فى نفسك بإنفاذ الجيوش إلىّ، وإنّما أنا
__________
[1] . فى مط: رواحل. وهو خطأ.
[2] . لم نجد لهذا الخبر وللرسالة الآتية ذكرا فى الطبري، فى حوادث هذه السنة: 287.
[3] . فى مط: تحرق (بالحاء المهملة) .(5/13)
رجل فى فلاة لا زرع عندي ولا ضرع، ولا لى بلد وقد رضيت بخشونة العيش والأمن على المهجة والعزّ بأطراف الرماح.
- «وانظر فإنّى ما اغتصبتك بلدا كان فى يدك ولا أزلت سلطانك عن عمل جليل ومع هذا فوالله لو أنفذت إلىّ جيشك كلّه ما جاز أن تظفر بى ولا تنالني. لأنّى رجل نشأت فى هذا القشف فتعوّدته أنا ورجالي، فلا مشقّة علينا فيه ونحن فى أوطاننا مستريحون [15] وأنت تنفذ جيشك من الحموش [1] والثلج والرياحين والندّ ثمّ يجيئون من مسافة بعيدة وطريق شاقّ وقد قتلهم السفر قبل قتالنا، وإنّما غرضهم أن يبلوا عذرا فى قتالنا ومواقعتنا ساعة ثمّ يهربون. فإن حقفوا مع ما قد لحقهم من وعثاء السفر وشدّة الجهد كان أكبر أعوانى عليهم، فما هو إلّا أن حققت عليهم حتّى ينهزموا،- «وتقول وأكثر ما يقدرون عليه أن يجيئوا فيستريحوا ثمّ تكون عدّتهم كثيرة وبصيرتهم قويّة، فحينئذ لا تكون لى بهم قبل فانهزم، فلا يقدر جيشك أن يتبعوني إلّا مسافة قريبة، فما هو [إلّا] [2] أن أبعد عشرين فرسخا أو ثلاثين وأجول فى الصحراء شهرا أو شهرين، ثمّ أكبسهم على غرّة حتّى أقتل جميعهم. وإن لم يتمّ لى هذا وكانوا متحرزين فما يمكنهم أن
__________
[1] . لم نتأكّد من صحّة قراءة الكلمة. ما فى مط: الحوش، أو الحبوش (بإهمال الثاني) .
[2] . زيادة منّا بوحي من السياق.(5/14)
يطوفوا حولي وخلفي فى البراري ولا يتبعني الطلب فى البوادي.
- «ثمّ لا يحملهم البلد فى المقام ولا الزاد إن كانوا كثيرين، فلا بدّ أن ينصرف الجمهور ويبقى الأقلّ فهم قتلى سيوفى أوّل يوم نلتقي فيه. هذا إن سلموا من وباء هذه الناحية ورداءة ماءها وهواءها الذي نشأوا فى غيره وضدّه.
- «ففكّر فى هذا ونحوه وانظر هل يفيء [16] تعبك وتغريرك بعسكرك وجيشك وإنفاقك الأموال وتجهيزك الرجال وتكلّفك هذه الأخطار بطلبي وأنا مع هذا خالي الذرع منها سليم النفس والأصحاب من جميعها. فأمّا هيبتك فتنخرق، وأمّا الأطراف فتنتقض، وأمّا الملوك من الأعداء فتتجاسر. ثمّ لا تظفر من بلدي بطائل ولا تصل إلى حال ولا مال. فإن اخترت بعد هذا محاربتى فأقدم على بصيرة وأنفذ من شئت واضطرب كيف أحببت، وإن أمسكت فذاك إليك.» قال: ثمّ جهّزنى وأنفذ معى عشرة من أصحابه إلى الكوفة، فسرت منها إلى الحضرة ودخلت على المعتضد [1] فتعجّب من سلامتي، وسألنى عن خبري سؤالا حفيّا فقلت:
- «أخبرك يا أمير المؤمنين سرّا.» فتشوّق إليه وخلا بى. فلم أزل أقصّ عليه الخبر وهو يتمعّط [2] غليظا
__________
[1] . فى مط: المعتصم، وهو سهو من الكاتب.
[2] . فى مط: يتمغط (بالغين المعجمة) .(5/15)
حتّى ظننت أنّه سيسير إليه بنفسه وخرجت من بين يديه، فما رأيته بعد ذلك ذكره بحرف.
ورود الخبر بقتل محمد بن زيد العلوىّ
وفيها ورد الخبر على السلطان بأنّ محمّد بن زيد العلوي قتل. [1] ذكر مقتله ذكر أنّ محمّد بن زيد العلوي لمّا اتصل به أسر إسماعيل بن أحمد عمرو بن الليث، خرج فى جيش [17] كثيف نحو خراسان طامعا فيها، ظنّا منه أنّ إسماعيل لا يتجاوز عمله الذي كان يتولّاه وأنّه لا دافع له عن خراسان إذ كان عمرو قد أسر ولا عامل للسلطان بها.
فلمّا صار إلى جرجان، واستقرّ بها كتب إليه يسأله الرجوع إلى طبرستان وترك جرجان فأبى ذلك محمّد بن زيد فندب [2] إسماعيل له محمّد بن هارون خليفة كان لرافع، وضمّ إليه جيشا كثيفا، فشخص نحو ابن زيد فالتقيا على باب جرجان فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم عسكر محمّد بن هارون.
ثمّ رجع محمّد بن بكر وقد انتقضت صفوف العلوي فانهزم عسكر محمّد بن زيد وقتل منهم بشر كثير وأصابت محمّد بن زيد ضربات وأسر ابنه زيد، وحوى محمّد بن هارون عسكره. ثمّ مات محمّد بن زيد من تلك الضربات وحمل ابنه إلى إسماعيل. ودخل محمّد بن هارون جرجان ثمّ شخص إلى طبرستان.
__________
[1] . انظر الطبري (13: 2200) .
[2] . فى مط: بدر.(5/16)
ودخلت سنة ثمان وثمانين ومائتين ذكر حوادث حدثت فيها
وفيها توفّى محمّد بن أبى الساج فاجتمع غلمانه وجماعة أصحابه فأمّروا عليهم ديوداذ بن محمّد واعتزلهم يوسف بن أبى الساج مخالفا لهم.
وفيها جيء بعمرو بن الليث. وذكر أنّ إسماعيل بن أحمد خيّره بين المقام عنده وبين توجيهه إلى باب أمير المؤمنين، فاختار توجيهه، فوجّهه [18] وأرسل المعتضد برسول إسماعيل مع رسوله وحمل معه إليه بدنة [1] وتاجا وسيفا من ذهب مركّب على جميع ذلك الجواهر وهدايا وثلاثة آلاف ألف درهم يفرّقها فى جيوش خراسان. وقيل كان المال عشرة آلاف ألف وجّه بعض ذلك من بغداد وكتب بباقيه على عمّال الجبل وأمروا أن يدفعوا ذلك إلى الرسل.
وفيها أوقع يوسف بن أبى الساج وهو فى نفر يسير بابن أخيه ديوداذ، فهزم عسكره وبقي ديوداذ فى جماعة قليلة فعرض عليه يوسف بن أبى الساج المقام معه فأبى وقال:
- «أمضى إلى باب السلطان.» فجعل يسايره مدّة ويسأله المقام معه، فأبى وأخذ طريق الموصل حتّى وافى بغداد.
ودخلت سنة تسع وثمانين ومائتين
انتشار القرامطة بسواد الكوفة
وفيها انتشر القرامطة بسواد الكوفة فوجّه إليهم شبل غلام أحمد بن محمّد
__________
[1] . البدنة: قميص لا كمّين له.(5/17)
الطائي فشخص إليهم فظفر بجماعة منهم وظفر برئيس لهم يعرف بابن أبى القوس [1] فوجّه به وبهم فدعا به المعتضد وساءله ثمّ أمر به فقلعت أضراسه ثمّ خلّع مدّت إحدى يديه ببكرة وعلّق فى الأخرى صخرة وترك على حاله تلك ثلاثة ساعات ثمّ قطعت يداه ورجلاه [19] من غد هذا اليوم وضربت عنقه وصلب.
سياسة المعتضد فى الشيخ والمرأة المغصوبة والرجل الغاصب
ومن سياسة المعتضد التي تستفاد منها تجربة ما حدّث به أبو الحسين محمّد بن عبد الواحد الهاشمي أنّ شيخا من التجار كان له على بعض القوّاد مال جليل، فماطله ثمّ جحده. قال: فعملت على التظلّم إلى المعتضد لأنّى كنت تحمّلت عليه وتظلّمت إلى عبيد الله بن سليمان فلم ينفعني ذلك فقال لى بعض إخوانى:
- «علىّ أن آخذ المال لك ولا تحتاج إلى الظلامة إلى الخليفة، قم معى الساعة.» قال: فقمت معه فجاء بى إلى خيّاط فى سوق الثلاثاء وهو جالس يخيط ويقرأ القرآن فى مسجد. فقصّ عليه قصّتى، فقام معنا. فلمّا مشيت تأخّرت وقلت لصديقى:
- «إنّك قد عرّضت هذا الشيخ ونفسك وإيّاى لمكروه عظيم.» قال: «كيف؟» قلت: «لأنّه قد استخفّ بى مرارا وبجماعة من شفعائي مرارا كثيرة ولم
__________
[1] . فى الطبري (13: 2206) : ابى فوارس. وفى حواشيه: أبى الفوارس.(5/18)
يلتفت إلى مثل فلان وفلان ولا إلى الوزير، وأخاف أن يصفعنا صفعا [1] وجيعا ويطردنا.» فضحك الرجل وقال:
- «لا عليك، امش واسكت.» فجئنا إلى باب القائد فحين رآه غلمانه أعظموه وأرادوا تقبيل يده فمنعهم، وقالوا:
- «ما جاء بك أيّها الشيخ فإنّ صاحبنا راكب؟» فقال: «أدخل وأجلس إلى أن [20] يحضر.» فبادروا إلى الإذن له وأجلسوه فى أرفع موضع. فقويت نفسي وجاء الرجل، فلمّا رأى الخيّاط أعظمه إعظاما شديدا وقال:
- «لا أنزع ثيابي حتّى تأمر بأمرك.» فخاطبه فى أمرى فقال:
- «والله ما عندي إلّا خمسة آلاف درهم.» فسأله أن يأخذها فى الوقت ويأخذ رهنا بباقي ماله إلى أن تجيئني غلّتى.
فبادرت إلى الإجابة فأحضر الدراهم وخرجنا. فلمّا بلغنا موضع الخيّاط طرحت المال بين يديه وقلت:
- «يا شيخ إنّ الله قد ردّ المال علىّ لسعيك وبركتك، فأحبّ أن تأخذ من المال نصفه أو ثلثه حتّى تطيب نفسي.» فقال: «ما أسرع ما كافأتنى على الجميل بالقبيح. انصرف بمالك، بارك الله لك فيه.» فقلت: «قد بقيت لى حاجة.»
__________
[1] . فى مط: أن يضعفنا ضعفا. وهو تصحيف.(5/19)
قال: «قل.» قلت: «تخبرني عن سبب طاعته لك مع تهاونه بأكثر أهل هذه الدولة؟» فقال: «يا هذا، قد بلغت مرادك، فلا تقطعني عن شغلي ومعاشي.» تفألححت عليه.
قال: «أنا رجل أؤمّ وأقرأ [1] فى هذا المسجد منذ أربعين سنة، ومعاشي من هذه الخياطة، وكنت منذ دهر قد صلّيت المغرب، وخرجت أريد منزلي، فاجتزت برجل تركىّ كان فى هذه الدار وقد تعلّق بامرأة مجتازة وكانت جميلة، وأدخلها إلى داره وهي تستغيث وليس أحد يغيثها.» [21] قال: «فرفقت بالتركىّ وسألته تركها، فضرب رأسى بدبّوس وشجّنى وشتمني، ويئست من المرأة وخلاصها، وصرت إلى المنزل وغسلت الدم وشددت الشجّة واستروحت، وخرجت أصلّى العشاء الآخرة. فلمّا فرغنا قلت لمن حضر: قوموا معى إلى عدوّ الله، هذا التركىّ، لننكر عليه ولا نبرح حتّى نخرج المرأة. فقاموا معى وجئنا وصحنا على بابه فخرج إلينا فى عدّة من غلمانه، وقصدني من بين الجماعة فضربني ضربا مبرّحا كدت أتلف منه.
فحملني الجيران إلى منزلي وعالجنى أهلى ونوّمت فلم أنم إلى نصف الليل.
فقلت فى نفسي هذا قد شرب إلى الآن ولا يعرف الأوقات، فلو أذّنت لوقع له أنّه الفجر، فلعلّه يطلق عن المرأة. وكانت المرأة لمّا تعلّق بها قالت: إنّ زوجي قد حلف بطلاقى ألّا أبيت عن منزلي وأعظم ما علىّ أن أطلّق وأبين منه فطمعت أن تلحق المرأة بمنزلها قبل الفجر وتسلم من أحد المكروهين.
فخرجت متحاملا حتّى صعدت المنارة، فأذّنت وجلست أتطلّع منها إلى الطريق أرقب خروج المرأة، فإن خرجت وإلّا أقمت الصلاة لئلا يشكّ فى
__________
[1] . فى مط: أقرئ.(5/20)
الصبح ويخرجها. فما مضت إلّا ساعة فإذا الشارع قد امتلأ خيلا ورجلا ومشاعل وشموعا وهم يصيحون:
- «من هذا [22] الذي أذّن الساعة، أين هو.» ففزعت وسكتّ ثمّ قلت أخاطبهم لعلّى أستعين بهم على إخراج المرأة.
فصحت من المنارة:
- «أنا أذّنت.» فقالوا: «انزل فأجب أمير المؤمنين.» فقلت: قد دنا الفرج، ونزلت فإذا بدر مع الجماعة فحملني وأدخلنى إلى المعتضد. فلمّا رأيته هبته وارتعدت فسكّن منّى وقال:
- «ما حملك على أن تغزّ المسلمين بأذانك فى غير وقته فيخرج ذوو الحاجة فى غير حينها، ويمسك المريد للصوم فى وقت قد أتيح [1] له الإفطار، وينقطع العسس عن الطوف والحرس؟» فقلت: «يؤمنني أمير المؤمنين لأصدق؟» قال: «أنت آمن.» فقصصت عليه قصّة التركىّ والمرأة وأريته الشجّة وآثار الضرب بى.
فقال:
- «يا بدر، علىّ بالغلام والمرأة الساعة.» فعزلت فى موضع. ومضى بدر وأحضر الغلام والمرأة فسألها المعتضد عن الصورة فأخبرته بمثل ما قلته. فقال لبدر:
- «بادر بها الساعة إلى زوجها مع ثقة من الخدم يدخلها دارها ويشرح لزوجها خبرها ويأمره عنّى بالتمسك بها والإحسان إليها.» ثمّ استدعاني فوقّفت، فجعل يخاطب الغلام وأنا قائم أسمع. وكان فيما
__________
[1] . فى مط: قد أبيح له.(5/21)
خطبه به أن قال:
- «كم جرايتك؟» فقال: «كذا.» قال: «وكم عطاؤك؟» قال: «كذا.» [23] قال: «أفما كان لك فى جواريك وجاريك وفى هذه النعمة الواسعة كفاية عن معصية الله تعالى، وعن خرق هيبة السلطان، حتّى استعملت القحة وتجاوزت ذلك إلى الوثوب على من أمرك بالمعروف؟» فأسقط الغلام فى يده ولم يحر جوابا. فقال:
- «هاتوا جوالقا وقيدا وغلّا ومداقّ الجصّ.» فأتى بها كلّها. فأدخله الجوالق وأمر الفرّاشين بدقّه، وأنا أرى ذلك كلّه، وهو يصيح. ثمّ انقطع صوته ومات. وأمر به فغرّق فى دجلة وتقدّم إلى بدر بحمل ما فى داره، ووصلني بألف درهم. ثمّ قال لى:
- «يا شيخ أىّ شيء رأيت من أجناس المنكر ولو على هذا- وأشار بيده إلى بدر- فإن لم يقبل منك، فالعلامة بيننا أن تؤذّن فى هذا الوقت، فإنّى أسمع صوتك وأستدعيك وأفعل مثل هذا بمن لا يقبل منك أو يؤذيك.» قال: فدعوت له وانصرفت.
وانتشر الخبر فى غلمان الدار والحاشية ثمّ الأولياء والجند والعامّة. فما خاطبت أحدا منهم بعدها فى إنصاف لأحد أو كفّ عن القبيح، إلّا طاوعنى- كما رأيت- خوفا من المعتضد وما احتجت أن أؤذن فى غير وقت الأذان إلى الآن. [1]
__________
[1] . هذه الحكاية، لا توجد فى الطبري فى حوادث هذه السنة. انظر الطبري (13: 2206 2251) .(5/22)
خلافة المكتفي بالله
وفيها توفّى المعتضد [1] ليلة الإثنين من ربيع الآخر. وفى صبيحتها أحضر دار السلطان عبد الحميد بن عبد العزيز [24] أبو حازم ويوسف بن يعقوب وأبو عمر محمّد بن يوسف، فتولّى غسل المعتضد محمّد بن يوسف، وتولّى الصلاة عليه يوسف بن يعقوب، وحضر الصلاة عليه الوزير القاسم بن عبيد الله وأبو حازم وأبو عمر والخدم والخاصّة.
وجلس القاسم بن عبيد الله بن سليمان فى دار السلطان، وأذن للناس، فعزّوه [2] بالمعتضد، وهنّأوه بالمكتفى، وتقدّم فى تجديد البيعة للمكتفى بالله، ففعلوا.
وكتب بالخبر إلى المكتفي وكان بالرقّة فتقدّم إلى كاتبه بأخذ البيعة على من فى عسكره، ووضع العطاء لهم. ففعل وشخص إلى بغداد فدخلها وكنّى بلسانه القاسم بن عبيد الله وخلع عليه.
وفى اليوم الثاني من مقدمه هذا هلك عمرو بن الليث الصفّار.
__________
[1] . انظر الطبري (13: 2206) .
[2] . فى مط: فعزروه، وهو خطأ.(5/23)
هلاك عمرو بن الليث الصفّار ذكر الخبر عن هلاكه
وكان المعتضد لمّا امتنع من الكلام عند موته أمر صافيا الحرمي بقتل عمرو بالإشارة والإيماء، ووضع يده على عينه وعلى رقبته، أى: اذبح الأعور. فلم يفعل ذلك صافى لقرب وفاة المعتضد وكره قتله. فلمّا دخل المكتفي سأل القاسم بن عبيد الله عن عمرو:
- «أحيّ هو؟» قال: «نعم.» فسرّ بحياته وقال:
- «أريد أن أحسن إليه.» وكان عمرو يهدى إلى المكتفي ويبرّه برّا [25] كثيرا فأراد مكافأته. فكره القاسم ذلك، ودسّ إلى عمرو من قتله. [1] وفيها كان مقتل بدر غلام المعتضد.
مقتل بدر غلام المعتضد ذكر السبب فى ذلك
كان سبب ذلك [2] أنّ القاسم بن عبيد الله كان همّ بنقل الخلافة عن ولد المعتضد- وناظر بدرا فى ذلك بعد أن استكتمه واستحلفه. فامتنع بدر وقال:
- «ما كنت لأصرفها عن ولد مولاي وولىّ نعمتي.» فلمّا علم القاسم ألّا سبيل له إلى مخالفة بدر- إذ كان بدر صاحب
__________
[1] . انظر الطبري (13: 2208) .
[2] . انظر الطبري (13: 2209) .(5/24)
الجيش والمستولى على أمر المعتضد والمطاع فى خدمه- اضطغنها على بدر.
فلمّا حدث بالمعتضد حدث الموت، كان بدر بفارس لأنّه أخرج إلى محاربة طاهر بن محمّد بن عمرو بن الليث، وكان طاهر قد تغلّب على فارس فعقد القاسم للمكتفى عقد الخلافة وبايع له وهو بالرقّة، لما كان بين المكتفي وبين بدر من التباعد والتباغض فى حياة والده.
فقدم المكتفي، وبدر بعد بفارس. فلمّا قدم عمل القاسم فى هلاك بدر حذرا على نفسه أن يطلع بدر المكتفي إذا قدم على ما كان همّ به القاسم.
فوجّه المكتفي جماعة من القواد برسائل وكتب إلى القوّاد الذين مع بدر يأمرهم أن يفارقوا بدرا ويصيروا إلى حضرته وذلك فى السرّ من بدر.
فأوصلت [26] الكتب إليهم. ثمّ وجّه إليه بياسر خادم الموفّق ومعه عشرة آلاف ألف ليفرّقها فى عطاء أصحابه للبيعة للمكتفى، فخرج بها ياسر. فلمّا كان بالأهواز وجّه إليه بدر من قبض المال منه، فرجع ياسر إلى بغداد.
ولمّا وصلت الكتب إلى القوّاد من المكتفي فارق بدرا جماعة منهم وانصرفوا عنه إلى مدينة السلام. فلمّا دخلوا بغداد وصلوا [1] إلى المكتفي وخلع على نيّف وثمانين رجلا وأجاز جماعة من رؤساءهم كلّ واحد بمائة ألف، وأجاز قوما بدون ذلك، وخلع على بعضهم ولم يجزه بشيء. وانصرف بدر قاصدا واسط، واتّصل الخبر بالمكتفى بإقبال بدر. فوكّل بدار بدر وقبض على جماعة من أصحابه وقوّاده فحبسوا مثل نحرير الكبير وعريب الجبلي وغيرهما، وأمر بمحو اسم بدر من الأعلام والتراس، وكان عليها أبو النجم مولى المعتضد بالله.
ودعا المكتفي القوّاد وقال لهم:
__________
[1] . فى الأصل: ووصلوا (بزيادة الواو) . ما فى مط: وصلوا. دون الواو.(5/25)
- «لست أؤمّر عليكم أحدا، فمن كانت له حاجة فليلق الوزير، فقد تقدّمت إليه فى قضاء حوائجكم.» وكتب بدر إلى المكتفي كتابا على يد الرنداق [1] وحمله على الجمّازات.
فلمّا وصل إلى المكتفي قبض عليه ووكّل به وأشخص جيشا إلى واسط وقيل: إنّه قدّمهم مقدمة له.
وكان المكتفي أرسل إلى بدر [27] حين فصل من أرض فارس فعرض عليه ولاية [2] أىّ النواحي شاء إن أحبّ إصبهان أو الرىّ أو الجبل، ويأمره بالمصير إلى أىّ موضع أحبّ من هذه النواحي مع من أحبّ من الفرسان والرجّالة، فيقيم بها واليا عليها معهم. فأبى بدر وقال:
- «لا بدّ لى من المصير إلى باب مولاي.» فوجد القاسم مساغا للقول فيه وقال للمكتفى:
- «قد عرضنا عليه الولايات، فأبى إلّا المجيء.» ثمّ خوّفه غائلته وحرّض المكتفي على محاربته وقال:
- «قد أظهر العصيان واتصل ببدر أنّه قد وكّل بداره وحبس غلمانه.» - «فأيقن بالشرّ فوجّه من تحتال فى تخليص ابنه هلال وحدره إليه.
فوقف القاسم بن عبيد الله على ذلك، فأمر بالتحفّظ به، ودعا أبا خازم القاضي على الشرقيّة، وأمره بالمصير إلى بدر ولقاءه وتطييب نفسه وإعطاءه الأمان من أمير المؤمنين على نفسه وماله وولده. فقال أبو خازم:
- «أحتاج إلى سماع ذلك من أمير المؤمنين حتّى أؤدّيه عنه.» فقال له: «انصرف حتّى أستأذن فى ذلك أمير المؤمنين.»
__________
[1] . كذا فى الأصل: الرنداق. فى مط: الديدان. فى الطبري (13: 2211) زيدان. وفى حواشيه:
زنداق، رنداق.
[2] . فى مط: عليهم واليه.(5/26)
ثمّ دعا بأبى عمر محمّد بن يوسف وأمره بمثل الذي أمر به أبا خازم.
فسارع إلى إجابته. ودفع القاسم إلى أبى عمر كتاب أمان عن المكتفي، فمضى به نحو بدر. فلمّا فصل بدر عن واسط ارفضّ عنه أصحابه وأكثر غلمانه [28] وصاروا إلى المكتفي فى الأمان.
وخرج المكتفي إلى مضربه بنهر ديالى ومعه جميع جيوشه فعسكر هناك ولقى أبو عمر محمّد بن يوسف بدرا بالقرب من واسط. فدفع إليه الأمان وخبّره عن المكتفي ثمّ ما قال [1] له القاسم وصاعد معه فى حرّاقة بدر، واستقرّ الأمر بين بدر وبين أبى عمر على أن يدخل بغداد سامعا مطيعا. وعبر بدر دجلة وصار إلى النعمانيّة وأمر أصحابه وغلمانه الذين بقوا معه أن ينزعوا [2] سلاحهم ولا يحاربوا أحدا وأعلمهم ما ورد عليه به أبو عمر من الأمان. فبينا هو يسير إذ وافاه محمّد بن إسحاق بن كنداجيق [3] فى شذاءة ومعه جماعة من الغلمان فتحوّل إلى الحرّاقة وسأله بدر عن الخبر فطيّب بنفسه وقال قولا جميلا وهم فى ذلك يؤمّرونه وكان القاسم وصّاه وقال له:
- «إذا اجتمعت مع بدر [4] فى موضع واحد فأعلمنى.» فوجّه إلى القاسم فأعلمه. فدعا القاسم لؤلؤا أحد غلمان السلطان النجباء، فقال له:
- «قد ندبتك لأمر» .
فقال له:
- «سمعا وطاعة.»
__________
[1] . فى مط: وخبّره عن المكتفي بما قال له القاسم، كما فى الطبري (13: 2212) .
[2] . فى مط: أن ينزحوا.
[3] . فى الطبري (13: 2213) : إسحاق بن كنداج.
[4] . هنا بياض فى الأصل. وما أثبتناه عن مط والطبري (13: 2213) .(5/27)
قال له:
- «امض فتسلّم بدرا من ابن كنداجيق وجئني برأسه.» فمضى فى طيّار حتّى استقبل بدرا ومن معه بناحية سيب بنى كوما.
فتحوّل من الطيّار إلى الحرّاقة وقال لبدر:
- «قم.» قال: «وما الخبر؟» قال: «إنّه لا بأس عليك.» [29] فحوّله إلى طيّاره ومضى به إلى جزيرة، ونحّى الناس ودعا بسيف فاستلّه.
فلمّا أيقن بدر بالقتل سأله أن يمهله حتّى يصلّى ركعتين. فأمهله فصلّاهما، ثمّ قدّمه فضرب عنقه وذلك يوم الجمعة قبل الزوال لستّ خلون من شهر رمضان. ثمّ أخذ رأسه ورجع إلى طيّاره وترك جثّته هناك فبقيت أيّاما ثمّ وجّه عياله من أخذ جثّته سرّا فجعلوها فى تابوت وحملوها أيّام الموسم إلى مكّة فدفنوها بها، وكان أوصى بذلك. وأعتق قبل أن يقتل مماليكه كلّهم وتسلّم السلطان ضياع بدر ودوره ومستغلاته.
وورد الخبر على المكتفي بقتل بدر لتسع خلون من شهر رمضان، فرحل منصرفا إلى مدينة السلام، وجيء برأس بدر، فأمر به فنظّف ووضع فى خزانة الرؤوس. ورجع أبو عمر القاضي إلى داره حزينا كئيبا. فتكلّم الناس فيه، وقالوا أشعارا كثيرة. فممّا قيل فيه:
قل لقاضى مدينة المنصور ... بم أحللت أخذ رأس الأمير
بعد إعطاءه المواثيق والعهد ... وعقد الأمان فى منشور
أين أيمانك الّتى شهد الله ... على أنّها يمين فجور [30]
يا قليل الحياء يا أكذب الأم ... مة يا شاهدا شهادة زور(5/28)
ليس هذا فعل القضاة ولا يحسن أمثاله ولاة الجسور
في أبيات كثيرة. [1] وفيها ظهر بالشام رجل جمع جموعا كثيرة من الأعراب وغيرهم، فأتى بهم دمشق وبها طغج بن جفّ من قبل هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون فكانت بينه وبين طغج وقعات وقتل بينهما خلق كثير.
ذكر خبر القرامطة ومبدأ أمرهم ومآله
[2] كان زكرويه بن مهرويه داعية لقرمط. فلمّا تتابعت من المعتضد توجيه الجيوش إلى سواد الكوفة وألحّ فى طلب القرامطة وأثخن فيهم القتل ورأى أنّه لا مدفع عن أنفسهم عند أهل السواد ولا غناء [3] سعى فى استغواء من قرب من الكوفة من أعراب أسد وطىّ وتميم وغيرهم ودعاهم إلى رأيه وزعم أنّ من بسواد الكوفة من القرامطة يطابقونهم على أمره إن استجابوا له، فلم يستجيبوا له.
وكانت جماعة من كلب تخفر الطريق على البرّ بالسماوة فيما بين الكوفة ودمشق على طريق تدمر وغيرها. فأرسل زكرويه [31] أولاده إليهم فبايعوهم وخالطوهم وانتموا [4] إلى علىّ بن أبى طالب، وإلى محمّد بن
__________
[1] . انظر الطبري (13: 2215) .
[2] . فى الأصل وما آله. فى مط: وماله.
[3] . فى مط: غنى.
[4] . فى مط: وانتهوا.(5/29)
إسماعيل بن جعفر، منهم، [1] وذكروا أنّهم خائفون من السلطان وأنّهم لجأوا إليهم. فقبلوهم على ذلك ثمّ دبّوا فيهم بالدعاء إلى رأى القرامطة، فلم يقبل ذلك أحد منهم إلّا الفخذ المعروفة ببني العليص ومواليهم خاصّة، فبايعوا فى آخر سنة تسع وثمانين ومائتين ناحية السماوة ابن زكرويه المسمّى: يحيى والمكنّى: أبا القاسم ولقّبوه: الشيخ على مامويه، وزعم لهم:
أنّه أبو عبد الله محمّد بن إسماعيل بن جعفر بن محمّد، وأنّ له بالسواد والمشرق والمغرب مائة ألف تابع، وأنّ ناقته التي يركبها مأمورة، وأنّهم إذا اتّبعوها فى مسيرها ظفروا، وتكهّن لهم.
وانحازت إليه جماعة من بنى الإصبع، وأخلصوا له وتسمّوا بالفاطميين، ودانوا بدينهم.
فقصدهم سبك الديلمي مولى المعتضد بناحية الرصافة فى غربىّ الفرات وديار مضر. فاغترّوه وقتلوه وحرّقوا مسجد الرصافة، واعترضوا كلّ قرية اجتازوا بها حتّى صعدوا إلى أعمال الشام، فأناخ عليها وهزم كلّ عسكر لقيه لطغج حتّى حصره فى مدينة دمشق. فأنفذ المصريّون إليه بدرا الكبير وواقعوهم قريبا من دمشق، فقتل يحيى بن زكرويه.
ثمّ دارت الحرب [32] على المصر فانحازت واجتمعت موالي بنى العليص ومن معهم من الأصبعيين على نصب الحسين بن زكرويه أخى المقتول، وزعم لهم أنّه أحمد بن عبد الله بن محمّد، بن إسماعيل بن جعفر بن محمّد وهو ابن نيّف وعشرين سنة. فبايعوه بعد أخيه، وأظهر له شامة فى وجهه ذكر أنّها آيته. وطرأ إليه ابن عمّه عيسى فلقّبه بالمدّثّر، وعهد إليه، وذكر أنّه
__________
[1] . كذا في الأصل ومط: منهم. ما فى الطبري (13: 2218) دون «منهم» .(5/30)
المعنىّ فى السورة التي ذكر فيها المدّثّر، وقلّد غلاما له قتل أسرى المسلمين، ولقّبه المطوّق، وظهر على جند حمص وغيرها من أرض الشام وتسمّى بأمير المؤمنين على منابرها.
وفيها أوقع إسماعيل بن أحمد بمحمّد بن هارون بالرىّ فهزمه وكان فى ثمانية آلاف، فمضى نحو الديلم، ودخل إسماعيل الرىّ وصار ألف رجل من المنهزمة إلى باب السلطان. [1]
ودخلت سنة تسعين ومائتين
وفيها ورد كتاب علىّ بن عيسى من الرقّة يذكر فيها أنّ القرمطى ابن زكرويه وافى في جمع كثير، فخرج إليه جماعة من أصحاب السلطان وبينهم سبك غلام المكتفي، فواقعوه فقتل سبك وانهزم أصحاب السلطان. [2] ثمّ إنّ طغج بن جفّ أخرج من دمشق [33] جيشا إلى القرمطى عليهم غلام يقال له: بشير، فواقعه القرمطى فهزم الجيش وقتل بشيرا.
ثمّ خلع السلطان على أبى الأغرّ وبعث به لحرب القرمطى بناحية الشام، فمضى في عشرة آلاف إلى حلب. ووردت كتب التجار من دمشق إلى بغداد أنّ القرمطى قد هزم من طغج غير مرّة وقتل أصحابه إلّا القليل وأنّه بقي فى قلّة وامتنع من الخروج وإنّما تجتمع العامّة ثمّ تخرج للقتال وأنّهم قد أشرفوا على الهلكة فاجتمع التجار ومضوا إلى يوسف بن يعقوب فأقرأوه الكتاب وسألوه أن يخبر الوزير ذلك.
__________
[1] . انظر الطبري (13: 2220) .
[2] . انظر الطبري (13: 2221) .(5/31)
وفيها قوطع صاحب طاهر بن محمّد بن عمرو بن الليث على أموال فارس، ثمّ عقد المكتفي لطاهر على أعمال فارس وخلع على صاحبه وحمل إليه الخلع مع العقد.
وفيها ورد الخبر وكتاب قرأ فى جوامع بغداد بأنّ يحيى بن زكرويه قتله المصريّون على باب دمشق بعد أن اتصلت الحروب بينه وبين جند دمشق ومددهم من أهل مصر وكسر لهم جيوشا وقتل منهم خلقا.
وكان يحيى هذا يدّعى النبوّة والكهانة.
خبر الحسين أخى يحيى بن زكرويه
[1] فلمّا قتل يحيى انحاز أصحابه إلى أخيه الحسين بن زكرويه فطلبوا أخاه في القتلى فلم يجدوه. وكان أخوه قد سبق إليه ودعا الحسين [34] إلى مثل ما دعا إليه أخوه، فأجابه أكثر أهل البوادي وغيرهم من سائر الناس واشتدّت شوكته.
وظهر وصار إلى دمشق، فصالحه أهلها على خراج دفعوه إليه، فانصرف عنهم وسار إلى أطراف حمص فتغلّب عليها وخطب له على منابرها، ثمّ سار إلى حمص فأطاعه أهلها وفتحوا له بابها خوفا على أنفسهم فدخلها. ثمّ سار إلى حماة ومعرّة النعمان وغيرهما فقتل أهلها وقتل النساء والأطفال. ثمّ سار إلى بعلبك فقتل عامّة أهلها حتّى لم يبق منهم إلّا اليسير. ثمّ سار إلى سلمية فحارب أهلها ومنعوه الدخول. ثمّ أعطاهم الأمان ففتحوا له بابها. فدخلها وبدأ بمن فيها من الهاشميين فقتلهم أجمعين، وقتل بعدهم الرجال أجمعين، ثمّ قتل البهائم، وقتل صبيان الكتاتيب، ثمّ خرج منها وليس بها عين
__________
[1] . انظر الطبري (13: 2225) .(5/32)
تطرف [1] وسار فيما حولها يقتل ويسبى ويخيف السبل.
وحكيت عنه حكايات في إباحة الفروج [2] لأصحابه، وأنّ جماعة منهم كانوا يجتمعون على مرأة واحدة إذا استحسنوها لا يتحاشون ذلك فيما بينهم.
المكتفي والتأهّب للشخوص إلى حرب القرمطىّ
ولليلتين خلتا من شهر رمضان من هذه السنة أمر المكتفي بالله بإعطاء الجند أرزاقهم والتأهّب [35] للشخوص إلى حرب القرمطى بناحية الشام.
فأطلق للجند في دفعة واحدة مائة ألف دينار، وذلك أنّ أهل مصر والشام كتبوا يشكون ما لقوا من ابن زكرويه المعروف بصاحب الشامة، وأنّه قد أخرب البلاد وقتل الناس. وحكوا أشياء عظيمة ممّا لقوه منه ومن أخيه قبله وقتلهم الرجال، وأنّه لم يبق منهم إلّا عدد قليل.
فأخرجت مضارب المكتفي فضربت بباب الشمّاسية ومعه قوّاده وغلمانه وجيوشه.
ثمّ رحل وسلك طريق الموصل ومضى أبو الأغرّ، فنزل وادي بطنان قريبا من حلب. فلمّا استقرّ ونزل معه جميع من معه نزع أكثرهم ثيابهم ودخلوا الوادي يتبرّدون بمائه وكان يوما شديد الحرّ. فبينا هم كذلك إذ وافاهم جيش القرمطى صاحب الشامة وقد تقدّمهم المطوّق فكبسهم على تلك الحال، فقتل منهم خلقا كثيرا وانتهب العسكر، وأفلت أبو الأغرّ فدخل حلب، وأفلت معه ألف رجل وكانوا عشرة آلاف.
وصار القرمطى إلى باب حلب فحاربهم أبو الأغرّ فيمن بقي معه من أصحابه وأهل البلد، فذهبوا وانصرفوا عنه بما أخذوا من عسكره من الكراع
__________
[1] . فى مط: تطوف.
[2] . فى مط: الفراج.(5/33)
والسلاح والأموال والمتاع بعد حرب كانت بينهم. [36] ومضى المكتفي بمن معه من الجيش حتّى انتهوا إلى الرقّة فنزلها وسرّح الجيوش إلى القرمطى جيشا بعد جيش.
ثمّ ورد كتاب من بدر الحمامي صاحب ابن طولون يخبر فيه، أنّه واقع القرمطى صاحب الشامة فهزمه ووضع في أصحابه السيف ومضى من أفلت منهم نحو البادية، وأنّ أمير المؤمنين وجّه في إثره الحسين بن حمدان بن حمدون.
وورد كتاب آخر من البحرين من ابن بانو يذكر فيه أنّه واقع قرابة لأبى سعيد الجنّابى وولىّ عهده من بعده فهزمه وكان مقامه بالقطيف فوجد قتيلا بين القتلى، فاحتزّ رأسه، وأنّه افتتح القطيف فدخلها.
وفيها وجّه القاسم بن عبيد الله الجيوش إلى صاحب الشامة، وولّى حربه محمّد بن سليمان الكاتب وكان إليه ديوان الجيش، وضمّ إليه جميع القوّاد وكتب إلى من تقدّمه من القوّاد بالانضمام إليه وأن يسمع الجميع له ويطيعوه.
ودخلت سنة إحدى وتسعين ومائتين
ولمّا توجّه محمّد بن سليمان مع جيوش المكتفي وتولّى حرب صاحب الشامة، والمكتفي بالرقّة، كتب إليه بمناهضة صاحب الشامة بمن معه فنهض إليه. [37]
ذكر مسيره وظفره بالقرمطى
[1] فلمّا صار بينه وبين حماة اثنا عشر ميلا لقوا أصحاب القرمطى. وكان
__________
[1] . انظر الطبري (13: 2237) .(5/34)
القرمطى قدّم أصحابه وتخلّف هو فى جماعة من أصحابه لأجل حفظ مال كان جمعه وجعل سواده وراءه. فالتحمت الحرب بين العسكرين واشتدّت، فهزم أصحاب القرمطى فقتلوا وأسر منهم خلق كثير وتفرّق الباقون فى البوادي، وتبعهم السلطان.
فلمّا رأى القرمطى هزيمة أصحابه حمّل فيما قيل أخا له يكنّى أبا الفضل مالا وتقدّم إليه أن يلحق بالبوادي إلى أن يظهر فى موضع فيصير. إليه وركب هو وابن عمّه المسمّى: المدّثّر والمطوّق صاحبه وغلام له رومىّ وأخذ دليلا وسار يريد الكوفة عرضا في البرّيّة حتّى انتهى إلى موضع يعرف بالدالية من أعمال الفرات وقد نفد ما كان معهم من الزاد، فوجّه بعض من كان معه ليأخذ لهم بعض ما يحتاجون إليه.
فدخل الدالية المعروفة بدالية ابن طوق ليشتري ما يحتاج إليه فأنكر زيّه وسئل عن أمره فجمجم [1] فأعلم المتولّى مسلحة هذه الناحية خبره، وكان يعرف بأبى خبزة خليفة ابن كشمرد عامل [38] المكتفي بالرحبة وطريق الفرات. فركب فى جماعة وسأل هذا الرجل عن خبره وهدّده فأخبره أنّ صاحب الشامة خلف رابية هنالك فى ثلاثة نفر. فمضى إليهم فأخذهم وصار بهم إلى صاحبه. فوجّه بهم ابن كشمرد إلى المكتفي بالرقّة.
ورجعت الجيوش من الطلب بعد أن قتلوا وأسروا أكثر أولياء القرمطى وأشياعه.
وكتب محمّد بن سليمان بالفتح وكان المباشر للحرب وصاحب الظفر الحسين بن حمدان فقرّظه [2] محمّد بن سليمان فى كتاب الفتح وأثنى عليه وعلى أصحابه.
__________
[1] . فى مط: فحمحم (بإهمال الحائين) . والطبري (13: 2238) كالأصل.
[2] . فى الأصل: قرطه (بإهمال الطاء) . فى مط: وظفّر.(5/35)
وأدخل صاحب الشامة إلى الرقّة ظاهرا للناس على فالج وعليه برنس حرير ودرّاعة ديباج وبين يديه المدّثّر والمطوّق على جملين.
رجوع المكتفي إلى بغداد بالقرمطىّ والمدّثّر والمطوّق وعاقبة أمرهم
ثمّ إنّ المكتفي خلّف عساكره مع محمّد بن سليمان وشخص هو فى خاصّته وغلمانه وشخص معه القاسم بن عبيد الله من الرقّة إلى بغداد وحمل معه القرمطى والمدّثّر والمطوّق وحمل من أسر فى الوقعة، وذلك فى أوّل صفر من هذه السنة.
وأراد المكتفي أن يدخل القرمطى إلى بغداد على دقل [1] منصوب على ظهر الفيل، فلم يمكن ذلك إلّا بهدم طاقات للأبواب التي يجتاز بها الفيل مثل باب الطاق [39] وباب الرصافة. ثمّ استسمج [2] الهدم فعمل حينئذ كرسىّ نصب على ظهر الفيل وكان ارتفاع الكرسىّ ذراعين ونصفا ودخل المكتفي بغداد وقدّم الأسرى بين يديه على جمال مقيّدين عليهم دراريع حرير وبرانس حرير والمطوّق وسطهم [3] غلام ما خرجت لحيته قد جعل فى فيه خشبة مخروطة وشدّت إلى قفاه كهيئة اللجام، وذلك أنّه لمّا دخل الرقّة كان يشتم الناس إذا دعوا عليهم ويبصق عليهم، ففعل ذلك به ببغداد. ثمّ أمر المكتفي ببناء دكّة فى المصلّى العتيق من الجانب الشرقىّ تكسيرها عشرون ذراعا فى عشرين ذراعا، وارتفاعها نحو من عشرة أذرع، وبنى لها درج يصعد إليها.
__________
[1] . الدقل: خشبة طويلة تشدّ فى وسط السفينة ويمدّ عليها الشراع، وأصله الفارسي: دكل.
[2] . فى الطبري: استسمج، وفى حواشيه: استقبح (13: 2243) .
[3] . فى الطبري (13: 2243) : فى وسطهم.(5/36)
وكان محمّد بن سليمان لمّا خلّفه المكتفي بالرقّة يلقط من كان فى تلك النواحي من قوّاد القرمطى وقضاته وأصحاب شرطه فأخذهم وقيّدهم وانحدر مع من معه من الجيش إلى بغداد على طريق الفرات، وأمر القوّاد الذين ببغداد بتلقى محمّد بن سليمان والدخول معه. فدخل بغداد وبين يديه الأسراء حتّى صار إلى الثريّا فخلع عليه وطوّق بطوق من ذهب وسوّر بسوارين من ذهب وخلع على جميع القوّاد وسوّروا. [40] ثم إنّ صاحب الشامة أخذ وهو فى الحبس سكرّجة عن المائدة التي تدخل إليه فكسرها وأخذ شظيّة منها فقطع بها بعض عروقه من يد نفسه فخرج منه دم كثير ثمّ شدّ يده فلمّا وقف المتولّى خدمته على ذلك منه سأله:
- «لم فعل ذلك؟» فقال: «هاج بى الدم فأخرجته.» فترك حتّى صلح ورجعت إليه قوّته.
ثمّ أمر المكتفي القوّاد والغلمان بحضور الدكّة التي أمر ببنائها، وخرج من الناس خلق كثير لحضورها فحضروها. فحمل الأسرى وقوم كانوا ببغداد على رأى القرامطة وقوم من الرفوع [1] من سائر البلدان من غير القرامطة، فجيء بهم على جمال ووكّل بهم على كلّ رجل اثنان. ويقال إنّهم كانوا ثلاثمائة وستين.
وجيء بالقرمطى الحسين بن زكرويه المعروف بصاحب الشامة وابن عمّه المعروف بالمدّثّر على بغل عماريّة وقد أسبل عليهما الغشاء ومعهما جماعة من الفرسان والرجّالة. فصعد بهما إلى الدكّة وأقعدا، ثمّ قدّم بين يديه جماعة
__________
[1] . فى الطبري (13: 2245) : الرفوغ (بالغين المعجمة) .(5/37)
فقطعت أيديهم وأرجلهم وضربت أعناقهم كان يؤخذ الواحد فيبطح على وجهه فتقطع يمنى يديه ويحلّق بها إلى أسفل ليراها الناس، ثمّ رجله اليسرى ثمّ يده اليسرى ثمّ رجله اليمنى، ويحلّق بما يقطع إلى أسفل، ثمّ يقعد [41] فيمدّ رأسه فيضرب عنقه ويرمى برأسه وجثّته. وكانت جماعة قليلة من الأسرى يضجّون ويستغيثون ويزعمون أنّهم ليسوا من القرامطة.
ثمّ قدّم المدّثّر ففعل به ذلك ثمّ قدّم القرمطى فضرب مائتي سوط ثمّ قطعت يداه ورجلاه وكوى فغشى عليه ثمّ أخذ خشب فأضرمت عليه النار ووضع فى خواصره وبطنه فجعل يفتح عينيه ثمّ يغمضهما. فلمّا خافوا أن يموت ضربت عنقه. وانصرف القوّاد وأكثر النظّارة وأقام صاحب الشرطة إلى وقت العشاء الآخرة حتّى ضربت أعناق باقى الأسرى ثمّ انصرف.
فلمّا كان الغد حملت الرؤوس إلى الجسر، وصلب بدن القرمطى هناك، أعنى الجسر وحفرت لأجساد القتلى آبار إلى جانب الدكّة فطرحت فيها وطمّت، ثمّ هدمت الدكّة عليها.
ثمّ استأمن قوم من القرامطة إلى القاسم بن سيما خوفا من القاسم [1] فقتلوا وأجريت لهم الأرزاق. فلمّا أمنوا همّوا بالغدر فوضعت فيهم السيوف وقتلوا كلّهم. ثمّ ذلّوا وارتدع قوم من بنى العليص ولزموا أرض السماوة مدّة حتّى راسلهم الخبيث زكرويه وأعلمهم أنّ ممّا أوحى إليه أنّ المعروف بالشيخ وأخاه يقتلان، فإنّ إمامه الذي يوحى إليه يظهر [42] بعدهما ويظفر.
وفيها خلع المكتفي على محمّد بن سليمان كاتب الجيش وعلى جماعة من القوّاد منهم محمّد بن إسحاق بن كنداجيق وأبو الأغرّ خليفة ابن المبارك وابن كيغلغ وغيرهم وأمرهم بالسمع والطاعة لمحمّد بن سليمان فخرجوا
__________
[1] . كذا فى مط: قس بما فى الطبري (13: 2247) .(5/38)
معسكرين نحو دمشق ومصر لقبض الأعمال من هارون بن خمارويه لما تبيّن من ضعفه وذهاب رجاله بقتل من قتل القرمطى. وكان عدّة من مع محمّد بن سليمان لمّا دخل من باب الشمّاسية عشرة آلاف رجل.
ودخلت سنة اثنتين وتسعين ومائتين
محمد بن سليمان يخرج لحرب هارون بن خمارويه
وفى المحرّم منها صار محمّد بن سليمان إلى حدود مصر لحرب هارون بن خمارويه. ووجّه المكتفي دميانة من بغداد وأمره بركوب البحر والمضىّ إلى مصر ودخول النيل وقطع الموادّ عمّن بمصر. ففعل ذلك وضيّق عليهم.
وزحف محمّد بن سليمان إليهم في الجيوش على الظهر حتّى دنا من الفسطاط وكاتب القوّاد الذين بها. فكان أوّل من خرج إليه بدرا الحمّامىّ [1] ، وكان رئيس القوم، فكسرهم ذلك، ثمّ تتابع من يستأمن إليه من قوّاد المصريّين. فلمّا رأى ذلك هارون وبقية من معه زحفوا إلى محمّد بن [43] سليمان فكانت بينهم وقعات. ثمّ وقع من أصحاب هارون عصبيّة فاقتتلوا وخرج هارون يسكّنهم فرماه واحد برانة [2] فقتله. وبلغ الخبر محمّد بن سليمان، فدخل بمن معه الفسطاط واحتوى على آل طولون وأسبابهم فقيّدهم واستصفى أموالهم، وكتب بالفتح فكوتب بأن يشخصهم إلى بغداد، ولا يترك أحدا منهم بمصر ولا بالشام ففعل. ثمّ إنّ قائدا من قوّاد مصر يعرف بالخليجى تخلّف عن محمّد بن سليمان فى آخر حدود مصر واستمال جماعة من الجند وعاد إلى مصر وحشر فى طريقه جماعة من محبّي الفتنة حتّى كثر جمعه وواقع عامل السلطان بها، وهو عيسى النوشرى، فانحاز عنه
__________
[1] . ما فى الأصل بتخفيف الميم. ما فى الطبري (13: 2253) : الحمّامىّ (بالتشديد) .
[2] . فى مط: بزانة.(5/39)
وأخلى مصر. فدخلها الخليجي فندب السلطان لمحاربة الخليجي. فاتكأ مولى المعتضد وضمّ إليه بدرا الحمّامى وجعله مشيرا [1] عليه فيما يعمل به وضمّ إليه قوّادا وجندا كثيرا وأمر بسرعة السير.
ودخلت سنة ثلاث وتسعين ومائتين
وفيها ورد الخبر بأنّ الخليجي المتغلّب على مصر واقع كيغلغ وجماعة من القوّاد بالقرب [44] من العريش فهزمهم أقبح هزيمة.
وفيها ورد بغداد قائد من أصحاب طاهر بن محمّد بن عمرو بن الليث الصفّار مستأمنا يعرف بأبى القابوس مفارقا عسكر السجزيّة مع جماعة كثيرة من أصحابه.
ذكر السبب فى ذلك
كان السبب في ذلك أنّ طاهر بن محمّد بن عمرو بن الليث تشاغل باللهو والصيد ومضى إلى سجستان للصيد والنزهة فاستولى على فارس الليث بن علىّ بن الليث وسبكرى مولى عمرو بن الليث، فدبّر الأمور والإسم لطاهر، فوقع بينهما وبين أبى قابوس خلاف، فصار إلى باب السلطان فقبله وخلع عليه وعلى جماعة معه وأكرمه. وكتب طاهر إلى السلطان يسأله ردّ أبى قابوس إليه ويذكر أنّه كان استكفاه بعض أعمال فارس، وأنّه جبى المال فخرج به معه ويسأله، إن لم يردّ إليه، أن يحتسب له بما ذهب به من مال فارس ممّا صودر عليه. فلم يجبه السلطان إلى شيء من ذلك.
__________
[1] . فى الأصل: مسيرا (بالسين المهملة) . والتصحيح من مط.(5/40)
ظهور أخ للحسين بن زكرويه صاحب الشامة
وفيها ظهر أخ للحسين بن زكرويه صاحب الشامة فى طريق الفرات، واجتمع إليه نفر من الأعراب فسار إلى ناحية دمشق [45] على طريق البرّ، فعاث وسلك سبيل أخيه فندب للخروج إليه الحسين بن حمدان، فخرج فى جماعة من الجند. ثمّ ورد الخبر بمصير هذا القرمطى إلى طبريّة وأنّ أهلها امتنعوا عليه فحاربهم فقتل عامّة من بها من الرجال والنساء ونهبها.
وكان لهم داعية بنواحي اليمن فصار إلى مدينة صنعاء فحاربه أهلها فظفر بهم وقتلهم ولم يفلت منهم إلّا القليل وتغلّب على سائر مدن اليمن.
ثمّ إنّ زكرويه بن مهرويه [1] بعد ما قتل ابنه صاحب الشامة أنفذ صاحبا له معلّما كان يعلّم الصبيان يسمّى: عبد الله بن سعيد ويكنّى: أبا غانم فتسمّى:
نصرا ليعمّى أمره. فاستغوى طائفة من بطون كلب وقوم من بنى العليص، فقصد دمشق وأحمد بن كيغلغ يحارب ابن الخليجي الذي ذكرنا أمره.
فاغتنم ذلك عبد الله وسار إلى مدينتي بصرى وأذرعات من كور حوران والبثنيّة، [2] فحارب أهلها ثمّ آمنهم. فلمّا استسلموا له قتل مقاتلتهم وسبى ذرارّيهم وأخذ أموالهم. فقصدوا طبريّة فواقعهم عامل أحمد بن كيغلغ فكسروه، ثمّ بذلوا الأمان، فلمّا سكن إليهم [46] غدروا به وقتلوه وانتهبوا مدينة الأردن وسبوا النساء والصبيان وقتلوا الرجال.
واتصل بهم مسير الحسين بن حمدان نحوهم فخرجوا نحو السماوة وتبعهم الحسين فى برّيّة السماوة وهم ينتقلون من ماء إلى ماء ويعورونه حتّى انقطع الحسين عن اتباعه لعدم الماء فعاد إلى الرحبة وأسرى القرامطة إلى هيت،
__________
[1] . انظر الطبري (13: 2256) .
[2] . فى مط: والسنة.(5/41)
فنهبت ربضها وقتلت وأحرقت وانتهبت السفن التي فى الفرات، فأوقرت ثلاثة ألف راحلة كانت معها زهاء مائتي كرّ حنطة ومن البزّ والعطر والسّقط جميع ما احتاجوا إليه وأقاموا بها يومين. ثمّ رحلوا عنها ولمّا أصابوا ما أصابوا من الربض وتحصّن منهم أهل المدينة بسورها وندب لهم محمّد بن إسحاق بن كنداجيق ثمّ اتبع بمونس الخازن فهرب القرامطة وكتب إلى الحسين بن حمدان أن يقصدهم من ناحية الرحبة ليجتمع هو وابن كنداجيق على الإيقاع بهم.
فلمّا أحسّ الكلبيّون بالجند قد قصدوهم ائتمروا بينهم، فوثبوا على المسمّى: نصرا وقتلوه وتقرّبوا به إلى السلطان ورئيسهم رجل يعرف بالذئب فأسنيت له الجائزة وكفّ [47] عن طلب قومه فمكث أيّاما ثمّ هرب.
فكتب السلطان إلى الحسين بن حمدان فى معاودتهم واجتثاث أصولهم.
فبعث إليهم زكرويه داعية له يعلمهم أنّ الذئب قد نفّره عنهم وثقّل قلبه عليهم وأنّهم قد ارتدّوا عن الدّين، وأنّ وقت ظهورهم قد حضر وقد بايع له بالكوفة أربعون ألفا، وأنّ يوم موعدهم اليوم الذي ذكره الله تعالى وهو يوم الزينة [1] وأنّ زكرويه يأمرهم أن يخفوا أمرهم ويظهروا الانقلاع نحو الشام، ثمّ يسيروا إلى الكوفة حتّى يصبّحوها يوم النحر، فإنّهم لا يمنعون منها وأنّه يظهر لهم وينجز وعده الذي كانت رسله تأتيهم به وأن يحملوا داعيتهم وهو القاسم بن أحمد معهم. فامتثلوا أمره ووافوا باب الكوفة وقد انصرف الناس عن مصلّاهم.
وكان إسحاق بن عمران عامل السلطان بها فأوقعوا بمن لحقوه وسلبوهم وبادر الناس إلى الكوفة وتنادوا بالسلاح ونهض إسحاق بن عمران فى
__________
[1] . س 20 طه: 59.(5/42)
أصحابه، فدخل مدينة الكوفة من القرامطة نحو مائة فارس من الباب المعروف بباب كندة، فاجتمعت العوامّ وأصحاب السلطان [48] فرموهم بالحجارة وألقوا عليهم السّتر فقتل منهم جماعة وأخرجوهم عن المدينة ثمّ صافّهم إسحاق خارج المدينة وأمر أهل المدينة بالتحارس فلم تزل الحرب قائمة إلى العصر وانهزمت القرامطة وأصلح أهل الكوفة السور والخندق.
وكتب إسحاق يستمدّ السلطان فأمدّه بجماعة من القوّاد فيهم وصيف بن صوراتكين والفضل بن موسى بن بغا وجنى الصفواني وجماعة أمثالهم، فشخصوا إلى زكرويه وخلّفوا إسحاق بن عمران بالكوفة لضبطها وصاروا إلى قريب من القادسيّة إلى موضع يعرف بالصوان [1] وهو فى العرض، فلقيهم زكرويه هناك فصافّوه واشتدّت الحرب فكانت الدبرة فى أوّل الأمر على القرمطى. وكان زكرويه قد كمن لهم كمينا فخرج الكمين عليهم فانهزم أصحاب السلطان أقبح هزيمة ووضع القرمطى فيهم السيف فقتلوهم كيف شاءوا وصبر جماعة من غلمان الحجر، فقتلوا عن آخرهم بعد أن نكوا فى القرامطة نكاية عظيمة.
وأخذ للسلطان من الجمّازات التي عليها السلاح والآلة ثلاثمائة جمّازة ومن البغال خمسمائة بغل، فقتل من أصحاب السلطان نحو ألفىّ رجل. فقوى القرمطى ثمّ تطرّق البيادر فأخذ من الغلّات ما حملت البغال.
ووافى قوم [49] من العرب باب الكوفة فدخلوا أبياتها وكانوا ضربوا على الداعية الذي يقال له: القاسم بن أحمد قبّة ودعوا:
- «يا لثارات الحسين.» يعنون الحسين بن زكرويه المصلوب وشعارهم:
__________
[1] . فى الطبري (13: 2266) : بالصوار.(5/43)
- «يا أحمد يا محمّد.» يعنون ابني زكرويه المقتولين، وأظهروا أعلاما بيضا وقدّروا أنّهم يستغوون الرعاع بالكوفة لما أظهروه. فأسرع إسحاق بن عمران ومن معه نحوهم فدفعهم وقتل من ثبت له منهم وعاونه أهل البلد فانصرف عنهم القرامطة وما تمّت حيلتهم.
وكان زكرويه قد ظهر فى أهل قرية الصوان ينقلونه على أيديهم ويسمّونه:
ولىّ الله، فلمّا رأوه سجدوا له فقال لهم:
- «إنّ القاسم بن أحمد أعظم الناس منّة عليهم، فإنّه ردّكم إلى الدين بعد خروجكم منه.» وتقدّم إليهم بأن يمتثلوا أمره، فإنّه حينئذ ينجز مواعيده [1] ويبلّغهم آمالهم.
وتلا عليهم آيات من القرآن رمزها لهم، فاغترّوا به وقويت قلوبهم وأيقنوا بالنصر وبلوغ الأمل. وسار بهم وهو محجوب عنهم يدعونه: السيّد، ولا يبرزونه لمن فى عسكره والقاسم يتولّى الأمور دونه ويمضيها على رأيه.
وكان عنده أنّ أهل الكوفة وسوادها يخرجون إليه، فأعلم أصحابه ذلك وأقام نيّفا وعشرين سنة يبثّ رسله فى السواد فلم يلحق به [50] إلّا خمسمائة رجل ممّن لحقته الشهوة بنسائهم وأولادهم. [2] وسرّب إليه السلطان الجنود وتسرّع إليه جماعة من القوّاد منهم جنى الصفوانىّ وبشر الأفشينى ورائق فتى أمير المؤمنين والحجريّة من الغلمان، فأوقعوا بالقرامطة وقتلوا جماعة من فرسانهم ورجّالتهم فأسلموا بيوتهم فانهزموا، ودخلوا البيوت وتشاغلوا بها. فعطفت القرامطة عليهم فهزموهم.
وأعظم الناس ما جرى على أصحاب السلطان بالصوان وغيرها، وأهمّ
__________
[1] . فى مط: ينحرموا عنده. بدل: ينجز مواعيده.
[2] . انظر الطبري (13: 2265) .(5/44)
السلطان أمر مصر بسبب ابن الخليجي. فأمر المكتفي بإخراج مضاربه إلى باب الشمّاسيّة ثمّ وردت خريطة من قبل فاتك يذكر أنّهم رجعوا إلى ابن الخليجي، فكانت بينهم وقعات وحروب. وفى آخرها هزم ابن الخليجي وقتل أصحابه وإنّه هرب إلى مصر ودخل الفسطاط فاستتر بها عند رجل من أهل البلد، ودخل أصحاب السلطان الفسطاط فاستثاروه [1] وجمع من كان بالبلد.
فكتب إلى فاتك بحمل ابن الخليجي ومن أسر معه إلى بغداد. وردّت مضارب المكتفي بالله إلى بغداد فحمل ابن الخليجي إلى بغداد مع أحد وعشرين رجلا على الجمال مشهرين ببرانس ودراريع حرير. وخلع المكتفي على وزيره العبّاس بن الحسن خلعا [51] لحسن تدبيره فى هذا الفتح. [2] ثمّ حمل رأس القرمطى المسمّى نصرا الذي انتهب هيت منصوبا على قناة فطيف به فى الجانبين.
ودخلت سنة أربع وتسعين ومائتين
زكرويه وقصده قافلة الحجيج
وفيها ورد الخبر بأنّ زكرويه بن مهرويه القرمطى ارتحل من موضعه يريد الحاجّ. فذكر أنّه مضى فى البرّ من جهة المشرق قريبا من الواقصة ووافت القافلة واقصة لسبع خلون من المحرّم. فأنذرهم أهل المنزل وأخبروهم أنّ بينهم وبين القوم أربعة أميال فلم يقيموا وارتحلوا فنجوا. فأمعنت القافلة فى السير وصار القرمطى إلى واقصة فسألهم عن القافلة، فأخبروه أنّها لم تقم بواقصة، فاتّهمهم بإنذارهم فقتل من العلّافين بها جماعة وأحرق العلف وتحصّن أهلها فى حصنهم. ثمّ ارتحل نحو زبالة وسارت العساكر فى طلب
__________
[1] . فى مط: فاستشاروه.
[2] . انظر الطبري (13: 2268) .(5/45)
زكرويه مدّة ثمّ انصرفت عنه.
ومرّ زكرويه فى طريقه بطوائف من بنى أسد فأخذها معه وقصد الحاجّ المنصرفين عن مكّة وقصد الجادّة، ثمّ اعترضهم يوم الأحد لإحدى عشرة خلت من المحرّم من هذه السنة بالعقبة [52] من طريق مكّة فحاربوه حربا شديدة فسايلهم وقال:
- «أفيكم السلطان؟» قالوا: «نعم معنا سلطان ونحن الحاجّ.» فقال لهم:
- «فامضوا فلست أريدكم.» فلمّا سارت القافلة تبعها فأوقع بهم وجعل أصحابه ينخسون الجمال بالرماح ويبعجونها بالسيوف، فنفرت واختلطت القافلة وأكبّ أصحاب زكرويه على الحاجّ يقتلونهم كيف شاءوا فقتلوا الرجال والنساء وسبوا من النساء من أرادوا واحتووا على ما فى القافلة. وقد كان لقى بعض من أفلت من هذه القافلة علّان بن كشمرد وكان فى قطعة من فرسان جيش السلطان أعدّ لقصد القرامطة، فسأله عن الخبر فأعلمه ما نزل بقافلة الخراسانية وقال:
- «ما بينك وبين القوم إلّا قليل، والليلة أو فى غد توافى القافلة الثانية، فإن رأوا علما للسلطان قويت نفوسهم والله الله فيهم.» فرجع علّان من ساعته وأمر من معه بالرجوع وقال:
- «لا أعرّض أصحاب السلطان للقتل.» ثمّ أصعد زكرويه ووافته القافلة الثانية والثالثة ومن كان فيها من القوّاد والكتّاب مع جماعة من الرسل تنكّبوا طريق الجادّة وكتبوا بخبر الفاسق وفعله بالحاجّ ويعلمهم بالتحرّز منه والعدول عن الجادّة نحو واسط [53](5/46)
والبصرة أو الرجوع إلى فيد [1] أو المدينة [2] إلى أن تلحق بهم الجيوش.
ووصلت الكتب إليهم فلم يسمعوا ولم يتلبّثوا، وتقدّم أهل القافلة الثانية وفيها المبارك القمّى وأحمد بن نصر العقيلي فوافوا الفجرة وقد رحلوا عن الواقصة وعوّروا مياهها وملأوا بركها وآبارها بجيف الإبل والدوابّ التي كانت معهم مشقّقة بطونها، ووردوا منزل العقبة لاثنتي عشرة خلت من المحرّم فحاربهم أهل القافلة الثانية.
وكان أبو العشائر مع أصحابه فى أوّل القافلة ومبارك القمي فيمن معه فى ساقتها. فجرت بينهم حرب شديدة حتّى كشفوهم وأشرفوا على الظفر بهم، فوجد الفجرة من ساقتهم غرّة فركبوهم من جهتها ووضعوا رماحهم فى جنوب إبلهم وبطونها فطحنتهم الإبل فتمكّنوا منهم فوضعوا السيف فيهم فقتلوهم عن آخرهم إلّا من استعبدوه.
ثمّ أنفذوا إلى ما دون العقبة فوارس لحقوا من كان أفلت من السيف، فأعطوهم الأمان، فرجعوا فقتلوهم عن آخرهم وسبوا من اختاروا من النساء وحملوا الأموال والأمتعة، وقتلوا مباركا القمّى والمظفّر ابنه وأسر أبو العشائر وجمع القتلى فوضع بعضهم على بعض [54] حتّى صاروا كالتلّ العظيم ثمّ قطعت يدا أبى العشائر ورجلاه وضربت عنقه. وأطلقوا من النساء ما لم يرغبوا فيه وأفلت من الجرحى قوم، ووقعوا بين القتلى، فتحاملوا فى الليل ومضوا. فمنهم من مات فى الطريق ومنهم من نجا وهم قليل. وكانت نساء القرامطة مع صبيانهم يطفن فى القتلى يعرضون عليهم الماء، فمنهم من كلّمهم فأجهزوا عليه.
وكان فى القافلة زهاء عشرين ألف رجل قتل جميعهم غير نفر يسير ممّن
__________
[1] . فى مط: قيد. والضبط من الطبري (13: 2271) .
[2] . الكلمة مطموسة فى الأصل.(5/47)
قوى على العدوّ بغير زاد ومن وقع فى القتلى وهو مجروح فأفلت يعدو أو من استعبدوه لخدمتهم.
وكانت كتب الضرّابين بمصر إلى الضرّابين بالعراق فى هذه السنة ترد أنّهم يستغنون وذاك أنّ آل طولون والقوّاد المصريّين الذين شخصوا إلى مدينة السلام ومن كان فى مثل حالهم، قد وجّهوا فى حمل مالهم من مصر إلى مدينة السلام وقد سبكوا أوانى الفضّة والذهب والحلي نقارا [1] وحمل إلى مكّة ليوافوا مدينة السلام مع الحاجّ فحمل فى القوافل الشاخصة إلى بغداد فذهب ذلك كلّه.
ولمّا فرغ القرمطى من الحاجّ وأخذ الأموال واستباح الحرم، رحل من وقته من العقبة بعد أن ملأ البرك والآبار بالجيف من الناس والدوابّ. [55]
ورود خبر القافلة على السلطان
وورد الخبر بذلك على السلطان فاستعظم الناس جميعا ذلك.
وندب السلطان أيّوب بن محمّد بن داود صاحب الخراج والضياع بالمشرق وديوان الجيش للخروج إلى الكوفة والمقام بها لإنفاذ الجيوش إلى القرمطى. فخرج وحمل أموالا كثيرة لإعطاء الجند.
ثمّ سار زكرويه إلى زبالة [2] فنزلها وبثّ الطلائع أمامه ووراءه خوفا من أصحاب السلطان المقيمين بالقادسيّة أن يلحقوه ومتوقّعا ورود القافلة الثالثة التي فيها الأموال والتجار.
ثمّ ساروا إلى الثعلبيّة ثمّ إلى الشقوق وأقام هناك ينتظر القافلة وفيها جماعة من القوّاد: نفيس وصالح ومعه الشمسة. وكان المعتضد جعل فى
__________
[1] . انظر الطبري (13: 2273) .
[2] . فى مط: زيالة.(5/48)
الشمسة جوهرا نفيسا. وكان فى القافلة جماعة من وجوه الكتّاب وغيرهم.
فلمّا صار أهل هذه القافلة إلى فيد بلغهم خبر زكرويه وأصحابه، فأقاموا بفيد أيّاما ينتظرون تقوية لهم من قبل السلطان.
وصار زكرويه إلى فيد وبها عامل السلطان. فلجأ منه إلى أحد حصنيها مع مائة رجل وشحن الحصن الآخر بالرجال. فجعل زكرويه يراسل أهل فيد فى أن يسلّموا عاملهم ومن فيهم من الجند وأنّهم إن فعلوا ذلك آمنهم [56] فلم يجيبوه إلى ما سأل، فحاربهم فلم يظفر منهم بشيء. فتنحّى إلى النّباج ثمّ إلى حفر أبى موسى.
ثمّ أنهض المكتفي وصيف بن صوراتكين ومعه من القوّاد جماعة إليه، فلقيه يوم السبت لثمان بقين من شهر ربيع الأوّل. فاقتلوا يومهم ثمّ حجز بينهم الليل، فباتوا ليلتهم يتحارسون. ثمّ عاودهم القتال فظفر بهم جيش السلطان فقتل منهم مقتلة عظيمة وخلصوا إلى زكرويه فضربه بعض الجند بالسيف، وهو مولّ على قفاه، ضربة اتصلت بدماغه. فأخذ أسيرا وخليفته وجماعة من أقربائه وخاصّته فيهم ابنه وكاتبه وزوجته. وعاش زكرويه خمسة أيّام ثمّ مات، فشقّ [1] ثم حمل بهيئته. وانصرف وصيف بمن كان حيّا فى يده من الأسرى ثم التقطت القرامطة واستأمن قوم منهم. [2]
ودخلت سنة خمس وتسعين ومائتين
وفيها خرج عبد الله بن إبراهيم المسمعي عن إصبهان فى نحو عشرة آلاف من الأكراد وغيرهم مظهرا الخلاف على السلطان.
وفيها توفّى أبو إبراهيم إسماعيل بن أحمد عامل خراسان وما وراء النهر
__________
[1] . فى الطبري (13: 2275) : فشقّ بطنه.
[2] . انظر الطبري (13: 2275) .(5/49)
وقام أحمد بن إسماعيل ابنه مقامه. [57] وفيها عقد المكتفي بيده لواء لأحمد بن إسماعيل وحمله إليه.
وفيها روسل المسمعي وخوّف عاقبة الخلاف وأرعب فصار إلى باب السلطان. فرضي عنه المكتفي ووصله وخلع عليه.
وفاة المكتفي
وفيها توفّى المكتفي، فكانت خلافته ستّ سنين وستّة أشهر وتسعة عشر يوما وله اثنتان وثلاثون سنة، ويكنّى: أبا محمّد، وكان ربعة جميلا رقيق اللون حسن الشعرة وافر اللحية، وامتدّت [1] علّته شهورا ودفن فى دار ابن طاهر.
__________
[1] . وامتدت..: زيادة فى تجارب الأمم، ليست فى الطبري (13: 2280) .(5/50)
خلافة المقتدر بالله
وبويع [1] جعفر بن المعتضد بالله وهو ابن ثلاث عشرة سنة وكنيته أبو الفضل
ذكر ما جرى فى ذلك
لمّا ثقل المكتفي فى علّته فكّر العبّاس بن الحسن وهو الوزير فى من يقلّده الخلافة وترجّح رأيه، وكان يركب من داره إلى دار السلطان ويسايره واحد من الأربعة الذين يتولّون الدواوين، وهم: أبو عبد الله محمّد بن داود بن الجرّاح، وأبو الحسن محمّد بن عبدون، وأبو الحسن بن الفرات، وأبو الحسن علىّ بن عيسى.
فركب معه محمّد بن داود فشاوره العبّاس، فأشار بأبى العبّاس عبد الله بن المعتزّ بالله [2] فقرّظه [3] ووصفه.
ثمّ ركب معه فى اليوم الثاني أبو الحسن علىّ بن محمّد بن الفرات
__________
[1] . ابتداء نشرة ايمدروز (Amedroz) من تجارب الأمم، مع العلم بأنّ المقتدر آخر خليفة جاء ذكره فى تاريخ الطبري (13: 2280) .
[2] . فى مد: المعتزّ، دون «الله» .
[3] . وفى مط: فرضية، بدل «فقرّضه» .(5/51)
فشاوره.
فقال له:
- «هذا شيء ما جرت به عادتي.» [58] واستعفاه وقال:
- «إنّما أشاور فى العمّال.» فأظهر العبّاس غضبا وقال:
- «هذه محاجزة وليس يخفى عليك [1] .» وألحّ عليه فقال له:
- «إن كان رأى الوزير قد تقرّر على إنسان بعينه فليستخر الله ويمضى عزمه.» قال ابن الفرات: فعلم أنّى قد عنيت ابن المعتزّ لاشتهار الخبر به فقال لى:
- «ليس أريد منك إلّا أن تمحضنى النصيحة.» فقلت له:
- «إذا أراد الوزير ذلك فإنّى أقول: اتق الله ولا تنصب فى هذا الأمر من قد عرف دار هذا ونعمة هذا وبستان هذا وجارية هذا وضيعة هذا وفرس هذا، ومن لقى الناس ولقوه وعرف [2] الأمور وتحنّك وحسب حساب نعم الناس.» قال: فاستعاد ذلك منّى الوزير دفعات، ثمّ قال:
- «فى من تشير؟» فقلت: «بجعفر بن المعتضد.» فقال: «ويحك جعفر صبىّ.»
__________
[1] . وزاد فى مد: الصحيح.
[2] . فى مط: تعرّف.(5/52)
قلت: «إلّا أنّه ابن المعتضد ولم تجيء برجل يأمر وينهى ويعرف ما لنا، وبمن يباشر التدبير بنفسه ويرى أنّه مستقلّ ولم لا تسلّم هذا الأمر إلى من يدعك [1] تدبّره أنت.» ثمّ شاور أبا الحسن علىّ بن عيسى فى اليوم الثالث واجتهد به أن يسمّى له أحدا، فامتنع وقال:
- «أنا لا أشير بأحد، ولكن ينبغي أن يتّقى الله وينظر للدين.» فمالت نفس العبّاس بن الحسن إلى رأس أبى الحسن ابن الفرات [59] ووافق ذلك ما كان المكتفي عهد به من تقليد أخيه جعفر الخلافة.
فلمّا مات المكتفي آخر نهار يوم السبت الثاني عشر من ذى القعدة، نصب الوزير العبّاس جعفرا [2] فى الخلافة على كراهية منه لصغر سنه.
ومضى صافى الحرمي فحدره من دار ابن طاهر. فلمّا اجتازت الحراقة التي حدر فيها وانتهت إلى [دار] [3] العبّاس بن الحسن صاح غلمان العبّاس بالملّاح أن: ادخل. [4] فوقع لصافى الحرمي أنّ العبّاس إنّما يريد أن يدخله إلى داره لتغيّر [5] رأيه فيه وأشفق أن يعدل عنه إلى غيره، فمنع الملّاح من الدخول وجرّد سيفه وقال للملّاح:
- «إن دخلت رميت برأسك.» فانحدر وجها واحدا إلى دار السلطان.
__________
[1] . فى مط: توغل.
[2] . فى مط: العباس بن جعفر.
[3] . زيادة من مد.
[4] . سقط من مط، من «ادخل» إلى «وقال الملّاح» .
[5] . فى مد: لتغبر.(5/53)
وثمّ أمر جعفر ولقبّ: المقتدر بالله. وأطلق السلطان يد العبّاس فأخرج المال للبيعة.
وحكى القاضي أبو الحسن محمّد بن صالح الهاشمي: أنّ القاضي أبا عمر محمّد بن يوسف حدّثه أنّ العبّاس بعد إتمامه أمر المقتدر استصباه، وكثر كلام الناس. فعمل على أن يحلّ أمره ويقلّد أبا عبد الله محمّد بن المعتمد على الله. وكان أبو عبد الله بن المعتمد حسن الفعل جميل المذاهب، فوسّط الوزير أمره بينه وبينه [1] القاضي أبا عمر وسامه اليمين، فقال [60] ابن المعتمد:
- «إن لم تصحّ نيّته لم تغن فيه اليمين وإن صحّت استغنى عنها وله الله [2] راع وكفيل، على أنى لا أغدر به ولا أنكبه.» وكان العبّاس ينتظر بأمره قدوم بارس الحاجب غلام إسماعيل بن أحمد صاحب خراسان، فإنّه كان ورد كتابه وقدّر أنّه يستظهر به وبمن معه على غلمان المعتضد. فتمادت الأيّام بقدوم بارس ووقع بين ابن عمرويه صاحب الشرطة ببغداد وبين أبى عبد الله محمّد بن المعتمد منازعة فاجتمعا يوما [3] فى مجلس الوزير العبّاس بن الحسن وجرى بينهما خطاب فأربى عليه ابن عمرويه فى الكلام، ولم يكن علم بما رشّح له، ولم يمكن أبا عبد الله أن ينتصف منه لمحله، فاغتاظ غيظا شديدا كظمه فغشى عليه وفلج فى المجلس. فاستدعى العبّاس عمارية [4] وأمر بحمله فيها إلى داره، فحمل ولم يلبث أن مات. فعمل العبّاس على تقليد أبى الحسين من ولد المتوكّل على
__________
[1] . فى مط: بين. وما فى الأصل هو الصحيح.
[2] . فى مط: وله. دون «الله» .
[3] . فى مد: يومئذ. بدل «يوما» .
[4] . فى مط: حماريه.(5/54)
الله مكانه. فمات أيضا وتمّ أمر المقتدر.
ودخلت سنة ستّ وتسعين ومائتين
وفيها كانت فتنة عبد الله بن المعتزّ ذكر الخبر عن ذلك
كان التدبير وقع [1] بين محمّد بن داود بن الجرّاح مع الحسين بن حمدان على إزالة أمر المقتدر [61] بالله ونصب عبد الله بن المعتزّ مكانه، [2] وواطأ على ذلك جماعة من القوّاد والكتّاب والقضاة. [3] فركب يوما العبّاس بن الحسين يريد بستانه المعروف ببستان الورد، فاعترضه الحسين بن حمدان وعلاه بالسيف وقتله. وكان إلى جانبه فاتك المعتضدي يسايره فصاح بالحسين منكرا عليه، فعطف عليه الحسين وقتله.
واضطرب الناس، وركض الحسين بن حمدان قاصدا إلى الحلبة مقدّرا أن المقتدر هناك يضرب بالصوالجة فيقتله فلمّا سمع المقتدر الضجّة بادر بالدخول إلى داره وغلّقت الأبواب دون الحسين، فانصرف إلى الدار المعروفة بسليمان بن وهب بالمخرّم، وبعث إلى عبد الله ابن المعتزّ يعرّفه تمام التدبير فنزل عبد الله من داره التي على الصراة وعبر إلى المخرّم، وحضر القوّاد والجند وأصحاب الدواوين وفيهم علىّ بن عيسى ومحمّد بن عبدون، وحضر القضاة ووجوه الناس سوى أبى الحسن ابن الفرات وخواص المقتدر فبايع من حضر عبد الله بن المعتزّ وخوطب بالخلافة وانعقد له الأمر ولقّب:
المرتضى بالله.
__________
[1] . فى مد: يقع. خلافا للأصل.
[2] . سقط من مط: مكانه.
[3] . سقط من مط: القضاة.(5/55)
واستوزر أبا عبد الله محمّد بن داود بن الجرّاح وقلّد علىّ بن عيسى الدواوين والأصول ومحمّد بن عبدون دواوين [62] [1] الأزمّة، ونفذت الكتب إلى الأمصار كلّها عن عبد الله بن المعتزّ، ووجّه إلى المقتدر بالله يأمره بالانصراف إلى دار ابن طاهر مع والدته لينتقل هو إلى دار الخلافة، فأجيب بالسمع والطاعة.
وعاد الحسين بن حمدان من غد إلى دار الخلافة فقاتله من فيها من الخدم والغلمان والحشم ومن كان هناك من الرجّالة من وراء السور، ودفعوه عن الدار. فانصرف فى آخر النهار وحمل ما قدر عليه من ماله وحرمه وولده، وسار بالليل إلى الموصل، ولم يكن بقي مع المقتدر من رؤساء القوّاد غير مونس الخادم ومونس الخازن وغريب الخال [2] والحاشية.
فلمّا راسل ابن المعتزّ المقتدر بالانصراف إلى دار ابن طاهر، قالت هذه الجماعة بعضها لبعض:
- «يا قوم، نسلّم الأمر هكذا، لم لا نجرّد أنفسنا فى دفع ما قد أظلّنا؟
فلعلّ الله أن يكشفه عنّا.» فأجمع رأيهم على أن يصعدوا فى شذاءات ومعهم جماعة، ففعلوا ذلك وألبسوا الجماعة الجواشن والخوذ والسلاح وصاروا إلى دار المخرّم. فلمّا قربوا منها ورآهم من كان فيها على شاطئ دجلة قالوا:
- «شذاءات مصعدة من دار السلطان.» ووقع الرعب فى قلوبهم [3] فتطايروا [63] على وجوههم قبل أن تجرى بينهم حرب وقبل وصول الشذاآت إلى الدار. وخرج عبد الله بن المعتزّ ومعه
__________
[1] . تأخّر الترقيم فى مد بقدر خمس كلمات، أى جاء بعد كلمة «الأصول» .
[2] . فى مط، وص: غريب الجمال. هو غريب الخال، أى خال المقتدر. انظر، صلة عريب ص 42.
[3] . فى مط: فى صدورهم.(5/56)
وزيره محمّد بن داود وحاجبه يمن وقد شهر يمن سيفه وهو ينادى:
- «معشر العامّة ادعوا الله لخليفتكم.» وأخذوا طريق الصحراء تقديرا منهم أن يتبعهم الجيش ويصيروا إلى سرّ من رأى فيثبت أمرهم فلم يتبعهم أحد، فلمّا رأى محمّد بن داود نزل عن دابّته لمّا حاذى داره ودخلها واستتر ونزل عبد الله بن المعتزّ فى موضع آخر ومشى إلى دجلة وانحدر إلى دار أبى عبد الله بن الجصّاص ودخلها واستجار به، ففرّ الناس على وجوههم ووقعت الفتنة والنهب والغارة والقتل ببغداد.
وكان محمّد بن عمرويه صاحب الشرطة فركب وقاتله العامّة لأنّه كان من أكبر أعوان عبد الله بن المعتزّ فهزموه، وقلّد المقتدر مكانه من يومه مونسا الخازن.
وكان خرج فى الوقت الذي خرج فيه ابن المعتزّ من داره أبو الحسن علىّ بن عيسى ومحمّد بن عبدون مع من خرج من دار عبد الله بن المعتزّ، واستتروا فى منزل رجل يبيع البقل، ونذر بهما العامّة، فكبسوهما وأخرجوهما وسلّموهما إلى بعض خدم المقتدر [64] المجتازين فى الطرق، فأركبهما جميعا على بغل أكاف [1] كان معه، ولحقهما فى الطريق من العامّة أذى شديد حتّى حصلا فى الدار ووكّل بهما.
وقبض فى ذلك اليوم على وصيف بن صوراتكين وخرطامش ويمن وفاتك وجماعة ممّن كان حاضرا دار ابن المعتزّ وفيهم القاضي أبو عمر محمّد بن يوسف والقاضي أبو المثنّى أحمد بن يعقوب والقاضي محمّد بن خلف بن وكيع واعتقل الكلّ فى دار الخلافة وسلّموا إلى مونس الخازن. ثمّ أمر بقتلهم أجمعين. فقتلهم تلك الليلة سوى علىّ بن عيسى ومحمّد بن
__________
[1] . الأكاف: البرذعة (البردعة) : وهي كساء يلقى على ظهر الدابّة.(5/57)
عبدون والقاضي أبو عمر والقاضي محمّد بن خلف فإنّ هؤلاء سلموا.
وزارة أبى الحسن علىّ بن محمد بن الفرات
وأنفذ المقتدر مونسا الخازن إلى دار أبى الحسن علىّ بن محمّد بن الفرات التي كان ينزلها بسوق العطش بعد أن أعطاه خاتمه وأعلمه أنّه يريد أن يستوزره. وكان ابن الفرات مستترا بالقرب من داره. فلم يظهر له فأعيد إليه مرّة أخرى، فرفق بالجيران وأعلمهم أنّه يستوزر فظهر له وقت العصر من ذلك اليوم وصار به إلى دار السلطان ووصل إلى المقتدر وقلّده وزارته ودواوينه وعاد إلى داره بسوق العطش. وبكّر يوم الإثنين وهو غد ذلك اليوم، فخلع عليه خلع الوزارة وسار بين يديه [65] القوّاد بأسرهم، وخلع فى ذلك اليوم على مونس الخازن بسبب تقلّده الشرطة، وأطلق ابن الفرات للجند مالا لصلة ثانية وجدّد البيعة للمقتدر.
ذكر الخبر عن الظفر بعبد الله بن المعتزّ
صار خادم لأبى عبد الله بن الجصّاص يعرف بسوسن إلى صافى الحرمي يسعى بأنّ عبد الله بن المعتزّ مستتر فى دار مولاه فأنفذ المقتدر بالله صافيا الحرمي فى جماعة حتّى كبس منزل ابن الجصّاص واستخرج منه عبد الله بن المعتزّ، فحمله وحمل معه أبا عبد الله بن الجصّاص [1] إلى دار السلطان. ثمّ صودر ابن الجصّاص على مال بذله وأطلقه إلى منزله بعد أن تكفّل به الوزير أبو الحسن ابن الفرات.
وسلّم علىّ بن عيسى ومحمّد بن عبدون إلى أبى الحسن ابن الفرات
__________
[1] . فى مط: الحصاص (بالحاء المهملة) .(5/58)
وناظرهما بمراسلة وصادرهما، وخفّف عن علىّ بن عيسى ونقلها على محمّد بن عبدون لعداوة كانت بينهما وقال للمقتدر:
- «لم يكن لهذين فى أمر ابن المعتزّ صنع وتكفّل بهما وبالقاضي محمّد بن خلف بن وكيع وخلّصهم.» ثمّ نفى محمّد بن عبدون إلى الأهواز وأمر بتسليمه إلى محمّد بن جعفر العبرتاى ونفى علىّ بن عيسى إلى واسط بعد أن افتداه من ماله بخمسة آلاف دينار دفعها [66] إلى سوسن الحاجب واستكفّه بها عنه فإنّه كان يغرى به ويقول: كان مطابقا لعمّه.
موت عبد الله بن المعتزّ وثبات أمر المقتدر
وظهر موت عبد الله بن المعتزّ فى دار السلطان ودفع إلى أهله ملفوفا فى زلىّ برذون [1] وتمّ ما كان فى سابق علم الله عزّ وجلّ وحكم به من ثبات أمر المقتدر وبطل اجتهاد المخلوقين وحيلهم فى إزالته.
قتل محمد بن داود
فأمّا محمّد بن داود فحكى أبو علىّ محمّد بن علىّ بن مقلة قال: كنّا بحضرة الوزير أبى الحسن فى يوم هو فيه متخلّ، [2] ودخل إليه بعض غلمانه فسارّه فظهر منه غمّ شديد وإذا هو قد أبلغ قتل محمّد بن داود وقال:
- «كان مع عداوته لى رجلا عاقلا كثير المحاسن يجمع إلى صناعته كتابة الخراج والجيش والبلاغة والفقه والأدب والشعر، وكان كريما سخيّا وقد جرى عليه من القتل أمر عظيم.»
__________
[1] . فى مط: برمون.
[2] . فى مط: متبجل.(5/59)
ثمّ لعن علىّ بن الحسين القنّاى النصراني وقال:
- «هو غرّ هذا الرجل، فإنّ ما كان بينه وبينه من المودّة مشهور، فخلّص نفسه وقتل صديقه.»
ذكر ما عمله القنّاى فى أمر محمّد بن داود
كان سوسن عدوّا لمحمّد بن داود وكذلك صافى الحرمي. فأغريا المقتدر بالله وقالا له: [67]- «إنّ علىّ بن الحسين القنّاى يعرف موضعه.» فقبض عليه وهدّد بالقتل فحلف أنّه لا يعرف الموضع الذي استتر فيه محمّد بن داود وإنّما تأتيه رقاعه يد [1] امرأة تجيء إلى امرأة نصرانية تجيئه بها، وضمن أنّه يحتال فى إثارته فأطلق.
وكاتب محمّد بن داود وأعلمه أنّه قد سفر له مع سوسن فى أمر يكون به خلاصه، وأنّ ما جرى فى ذلك لا تحتمله المكاتبة، وأنّ الوجه أن يأذن له فى المصير إليه فى الموضع الذي هو فيه مستتر. فإن لم يأذن فى ذلك صاحب داره خرج متنكّرا وصار إليه.
فكتب إليه محمّد بن داود أنّه يصير إليه فى ليلة ذكرها. فمضى علىّ بن الحسين برقعته إلى سوسن وصاف، فأقرأهما إيّاها، فترصّدا تلك الليلة وأمرا صاحب الشرطة أن يتقدّم إلى أصحاب الأرباع وأصحاب المسالح بترصّده.
فلمّا خرج تلك الليلة ظفر به وسلّم إلى مونس الخازن، فقتله ثمّ طرحه على الطريق، حتّى أخذه أهله فدفنوه.
__________
[1] . كذا فى الأصل: يد. فى مد: بيد (بزيادة الباء) . فى مط: على يد.(5/60)
وحكى أبو علىّ ابن مقلة وأبو عبد الله زنجى [1] الكاتب: أنّ محمّد بن داود [2] كتب إلى ابن الفرات رقعة وصلت إليه، فلم يقدر أن يكتب الجواب بخطّه وقال لموصلها وكان ثقة عنده:
- «تقرأ عليه السلام وتقول له: ليس جرمك يسيرا [68] والعهد به قريب والاستتار صناعة، فينبغي أن تصبر على استتارك أربعة أشهر حتّى تنسى قصّتك، ثمّ دعني والتدبير فى أمرك، فإنّى بإذن الله أسفر بعد هذه المدّة فى صلاحك وآخذ لك أمان الخليفة بخطّه وأقول: إنّه دخل فيما دخل فيه القوّاد وكتّابهم، وقد دعت الضرورة إلى الصفح عنهم، ولهذا بهم أسوة، وأشير عليه بما يصلح أمرك.» فلم يصبر محمّد بن داود فجرى ما حكيته.
وحكى أيضا ابن زنجى: أنّه كان بحضرة أبى الحسن ابن الفرات إذ كتب إليه صاحب الخبر، بأنّ متنصّحا حضر وذكر أنّ عنده نصيحة لا يذكرها إلّا للوزير، فتقدّم الوزير إلى حاجبه أن [3] يخرج إليه ويسأله عنها. فخرج وسأله فأبى أن يخبره بها وقال:
- «أريد أن أشافه بها الوزير.» قال: وكنّا بين يديه جماعة فأومأ إلينا، فقمنا وخلا به. ثمّ دعا بحاجبه العبّاس الفرغاني وقال له:
- «اجمع الرجال الذين برسم الدار.» ثمّ دعا أبا بشر ابن فرحويه [4] وقال له سرّا:
__________
[1] . فى مط: ونحى.
[2] . وزاد فى مط: عبد الله بن داود. بدل «أنّ محمد بن داود» .
[3] . فى الأصل: لمن. والتصحيح من مط، كما يؤيّده مد، وسياق العبارة.
[4] . كذا فى الأصل ومط: فرحويه (بإهمال الثالث) فى مد: فرجويه.(5/61)
- «إنّ هذا الرجل تنصّح إلىّ فى أمر محمّد بن داود، وذكر أنّه يعرف موضعه وأنّه بات البارحة عنده والتمس أن أنفذ معه من يسلّمه إليه، وقد بذلت على ذلك ألف دينار إن كان صحيحا، أو نيله [1] بالعقوبة إن كان باطلا.
فصر على ذلك فاكتب [69] إليه الساعة أن ينتقل عن موضعه، فإنّى أبعث إلى مكانه من يكبسه ويلتمسه.» ولم يزل يستعجل الحاجب فى جمع الرجال فيقول:
- «قد فرّقت النقباء فى طلبهم فإنّهم فى أطراف البلد منهم من ينزل فى قصر عيسى ومنهم من ينزل بباب الشمّاسية.» ولم يزل يدافع بالأمر إلى أن عاد الجواب إلى أبى بشر بشكره، وأنّه قد انتقل من موضعه إلى غيره. فتقدّم حينئذ إلى المتنصّح أن يمضى إلى الموضع مع القوم، وتقدّم بالاحتياط عليه وعلى ما يليه. وكبسه بعد ذلك وحمله، فإن لم تجده فتّش الدور التي تلى الموضع، وأن يستظهر بحفظ أفواه الدروب حتّى لا تفوته الحرم [2] ويأخذ معه السلاليم.
فمضى العبّاس الحاجب والمتنصّح والرجال ووكّل بأفواه الدروب والدور المجاورة للموضع، ودخل الدار التي ذكرها المتنصّح فلم يجده. فقال المتنصّح:
- «فى هذا الموضع والله العظيم خلّفته وهاهنا كان بائتا.» وأقبل يسير إلى موضع موضع وما عمله فيه. ثمّ التمسه فى الدار المجاورة فلم يجده. وعاد به إلى حضرة الوزير فأنكر على المتنصّح سعايته بالباطل، وأمر بحمله إلى باب العامّة وضربه مائتي مقرعة وأن يشهر على جمل وينادى عليه:
__________
[1] . فى مط: أرسله.
[2] . كذا فى الأصل بالضبط. فى مط: حتى لا يفوته الحزم.(5/62)
- «هذا جزاء من يسعى بالباطل.» [70] وكتب إلى المقتدر وعرّفه الصورة، وأنّه كبس على محمّد بن داود عدّة دور فلم يجده، فأوقع العقوبة بالساعى حتّى لا يقدم نظراؤه على السعاية بالباطل.
فلمّا عاد الساعي إلى داره، تقدّم بأن يحمل إليه مائتي دينار وأن يحدر [1] إلى البصرة، وقال لنا:
- «قد صدق الرجل فيما حكاه وقد عاقبناه ولو لم أفعل ما فعلته، لم آمن أن يمضى إلى دار السلطان.» وكان أبو بشر يعرف موضع محمّد بن داود بن الجرّاح وعرف الوزير موضعه فكتمه الوزير ولم يظهره. وهذا ممّا لا ينكر من أبى الحسن ابن الفرات مع كرمه وجلالة قدره ونبل أفعاله.
وفيها قبض على محمّد بن عبدون وسوسن الحاجب وقتلا ذكر السبب فى ذلك
كان السبب فى ذلك أن سوسن الحاجب كان مع ابن المعتزّ فى تدبيره، وظنّ أنّه يقرّره على الحجبة، فلمّا عدل عنه إلى يمن [2] استوحش وصار إلى دار السلطان. وكان سوسن يدخل مع العبّاس بن الحسن فى التدبير بحضرة المقتدر بالله. فلمّا تقلّد أبو الحسن ابن الفرات الوزارة تفرّد بالتدبير دون [3] سوسن فظهرت الوحشة بين سوسن وبين أبى الحسن [71] ابن الفرات لأجل
__________
[1] . كذا فى الأصل ومط: أن يحدر. فى مد: أن يجدر.
[2] . فى مط: بمن.
[3] . تفرّد بالتدبير دون: كذا فى مط ومد. وفى الأصل غموض.(5/63)
ذلك. وذاع الخبر بصحة عزم سوسن على الفتك بابن الفرات بمواطأة عدّة من الغلمان الحجريّة على ذلك، ودبّر أن يكون الوزير محمّد بن عبدون، وأشار بذلك على المقتدر بالله، وبذل على ذلك مالا عظيما، وأنفذ بنىّ بن نفيس [1] إلى الأهواز لإحضار محمّد بن عبدون بغير مواقفة ابن الفرات وأظهر بنىّ أنّه إنّما أنفذ لأخذ أموال كانت مودعة للعبّاس بن الحسن بالبصرة.
ولم يصل محمّد بن عبدون إلى واسط حتّى ظهر الخبر لابن الفرات. فقرّر ابن الفرات فى نفس المقتدر أنّ سوسنا عمل على الإيقاع به أوّلا ثمّ به، وأنّه كان من أكبر أعضاد عبد الله بن المعتزّ، وإنّما خالفه أخيرا لما علم أنّه قد استحجب غيره. وواقف [2] المقتدر على القبض عليه فقبض عليه وقتله من يومه. وكان المتولّى لذلك تكين الخاصّة وكان تكين هذا مرشّحا للحجبة ومدبّرا لها.
ثمّ أنفذ الوزير إلى محمّد بن عبدون من أزعجه فى الطريق واعتقله فى دار السلطان وصادره مصادرة مجدّدة، ثمّ سلّم إلى مونس الخازن فقتله.
وقلق أبو الحسن علىّ بن عيسى لذلك وهو بواسط، فكتب إلى الوزير كتابا يحلف فيه أنّه على قديم عداوته لمحمّد بن عبدون، إلّا أنّه لا يدع الصدق من فعله، وأنّ محمّد بن عبدون لم يكن ليسعى [72] على دم نفسه بتضمّنه الوزارة، بل كان راضيا بالسلامة بعد فتنة عبد الله بن المعتزّ، وأنّ سوسنا عمل ذلك بغير رأيه ولا مواقفته، وسأل فى أمر نفسه أن يبعده إلى مكّة ليسلم من الظنّة ولينسى السلطان ذكره.
فأجابه ابن الفرات إلى ذلك وأخرجه من واسط إلى مكّة على حال جميلة. فشخص إليها على طريق البصرة.
__________
[1] . كذا فى الأصل. فى مط: وأنفذ بنى أبى قيس.
[2] . فى الأصل: واقف. والواو الزائدة هي من مط.(5/64)
وكتب علىّ بن عيسى هذا الكتاب مقدّرا أن يتخلّص به محمّد بن عبدون من القتل، ويسلم هو. فوقاه [1] الله فى نفسه بجميل نيّته، وحضر أجل محمّد بن عبدون، فلم ينفعه اجتهاد علىّ بن عيسى فى خلاصه.
استقرار أمر المقتدر وتفويضه الأمور إلى أبى الحسن بن الفرات
ولمّا استقرّ أمر المقتدر بالله فى الخلافة فوّض الأمور إلى أبى الحسن ابن الفرات فدبّرها أبو الحسن كما يدبّرها الخلفاء. وتفرّد المقتدر على لذاته متوفّرا واحتشم الرجال واطّرح الجلساء والمغنين وعاشر النساء فغلب على الدولة الحرم والخدم فما زال أبو الحسن ينفق الأموال من بيت مال الخاصّة ويبذّر تبذيرا مفرطا إلى أن أتلفها.
ومن محاسن ابن الفرات أنّه افتتح أمره بإخراج أمر المقتدر بمكاتبة العمّال فى جميع النواحي بإفاضة العدل فى الرعيّة وإزالة الرسوم الجائرة عنهم وإخراج أمره لجماعة [73] بنى هاشم بجار [2] ثمّ أخرج أمره بزيادة جميعهم ثمّ أخرج أمره بالصفح عن جميع من كان خرج عن طاعته ووالى ابن المعتزّ وإلحاقهم فى الصلة بمن لم تكن له جناية وتلطّف فى أمر الحسين بن حمدان وإبراهيم بن كيغلغ حتّى رضى المقتدر عنهما وقلّدهما الأعمال وفعل ذلك بابن عمرويه.
ذكر التدبير الصواب فى ذلك
إنّه عرّف المقتدر بالله أنّه متى عاقب جميع من دخل فى أمر ابن المعتزّ
__________
[1] . كذا فى الأصل: فوقاه. فى مط ومد: فوفاه.
[2] . فى الأصل: بجاز. ما فى مط مهمل تماما. فى مد: بجار.(5/65)
فسدت النيّات وكثر الخوارج ومن يخشى على نفسه فيطلبون الحيل للخلاص بإفساد المملكة، وأشار بإحراق جميع الجرائد التي وجد فيها أسماء المتابعين [1] لابن المعتزّ فاستجاب إلى ذلك، وأمر ابن الفرات بتغريق الجرائد فى دجلة ففعل ذلك وسكن الناس وكثر الشاكرون.
ذكر ما جرى فى أمر القاضي أبى عمر
كان القاضي يوسف بن يعقوب شيخا كبير السن يلزم ابن الفرات ويبكى بحضرته ويسأله تخليص ابنه أبى عمر من القتل. فيذكر له أبو الحسن أنّه لا يتمكّن من ذلك إلّا بإطماع المقتدر بالله فى مال جليل من جهته. فبذل أبوه أن يفقر نفسه وابنه طلبا للحياة. فسأل [74] ابن الفرات المقتدر بالله الصفح عنه وأطمعه فى ماله ومال ولده. فسلّمه المقتدر إليه فصادره على مائة ألف دينار، واعتقله فى ديوان بيت المال ليؤدّى المال، فأدّى أكثره ودخل فيما أدّاه وديعة. قيل إنّها كانت عنده للعبّاس بن الحسن، مبلغها خمسة وأربعون ألف دينار فلمّا أدّى تسعين ألف دينار أمر ابن الفرات بإطلاقه إلى منزله وترك له العشرة الآلاف الدينار وأمره بملازمة منزله وأن لا يخرج منه.
ذكر خيانة واتفاق سيىء اتّفق فيه
كان سليمان بن الحسن بن مخلد متحقّقا بأبى الحسن ابن الفرات ومدلّا [2] بأحوال كانت بين أبيه وبين والد الوزير أبى جعفر محمّد بن موسى بن الفرات. وكان سليمان يختصّ لذلك بأبى الحسن ابن الفرات. ووجد أبو الحسن كتبا فى البيعة لعبد الله بن المعتزّ بخطّ سليمان لتحقّقه كان بمحمّد بن
__________
[1] . فى مط: المبايعين.
[2] . فى مط: وملا بأحوال.(5/66)
داود بن الجرّاح وللقرابة بينهما فلم يظهر أبو الحسن ذلك للمقتدر ولا ذكره.
ونوّه باسم سليمان وقلّده مجلس العامّة رئاسة.
ثمّ إن سليمان جنى على نفسه بالسعي لأبى الحسن أحمد بن محمّد بن عبد الحميد فى الوزارة، وعمل فى ذلك نسخة بخطّه عن نفسه إلى المقتدر بالله [75] يسعى فيها بأبى الحسن وبأمواله وضياعه وكتّابه وأسبابه وكانت الرقعة فى كمّه ودخل دار ابن الفرات وهي معه وقام ليصلّى صلاة المغرب مع جماعة من الكتّاب فى دار ابن الفرات، فسقطت الرقعة من كمّه وظفر بها الصقر بن محمّد الكاتب لأنّه كان يصلّى إلى جنبه. فأقبل بها مبادرا إلى الوزير من وقته، فقبض عليه وأحدره فى زورق مطبق إلى واسط، ووكّل به وصودر وجرى على طبعه وشاكلته، فأحسن إليه وقلّده.
وفيها كوتب أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان فى قصد أخيه الحسين ومحاربته وأمدّ بالقاسم بن سيما فى أربعة آلاف، فاجتمعا ولقيا الحسين فانهزما وانحدر إبراهيم بن حمدان لإصلاح أمر أخيه الحسين، فأجيب إلى ما التمس. وكتب للحسين أمان وصار إلى الحضرة ونزل فى الصحراء من الجانب الغربي ولم يدخل دار السلطان، وقلّد أعمال الحرب بقم وحملت إليه الخلع، فلبسها ونفذ إلى قم وانصرف عنها العبّاس بن عمرو.
وفيها قدم بارس غلام إسماعيل بن أحمد صاحب خراسان فى أربعة آلاف غلام أتراك وغيرهم وصار إلى بغداد مستأمنا وكان مولاه اتبعه إلى الرىّ مظهرا الاستيحاش من قبول السلطان غلامه. فكاتبه [76] ابن الفرات بما سكّن منه حتّى عاد إلى خراسان وقلّد بارس دار ربيعة فأنفذه إليها وقلّد يوسف بن أبى الساج أعمال أرمينية وأذربيجان وعقد له عليها وضمّنه إيّاها بمائة ألف وعشرين ألف دينار فى كلّ سنة محمولة إلى بيت مال العامّة بالحضرة، فسار من الدينور إليها.(5/67)
ودخلت سنة سبع وتسعين ومائتين
وفيها أدخل طاهر ويعقوب ابنا محمّد بن عمرو بن الليث بغداد أسيرين فى قبّة على بغل وقد كشف جلالها وهما بين يدي أبى الفضل عبد الرحمان بن جعفر الشيرازي كاتب سبكرى المتقلّد فارس ووصل إلى حضرة المقتدر ووصلا معه بعد أن حلّت قيودهما وخلع على عبد الرحمن بن جعفر ورتّب فى الفوج الأوّل وركب عبد الرحمان فى الخلع وأنزل فى دار فى مربعة الخرسى [1] وحبس طاهر ويعقوب فى دار السلطان.
وكان سبكرى متغلّبا على فارس. فلمّا قدم عبد الرحمن كاتبه قرّر أمر سبكرى مع السلطان على شيء يحمله عن فارس، ثمّ عاد إلى صاحبه.
فورد الخبر بعد ذلك بأنّ الليث بن علىّ خرج من سجستان وقصد فارس، فدخلها وخرج سبكرى، فندب مونس الخادم للشخوص [77] إلى فارس وخلع عليه، وسار فوجد سبكرى برامهرمز واجتمع مع مونس وسار بمسيره وسار الليث إلى أرجان ليلقى مونسا.
ذكر عجلة واتفاق سيّء
ثمّ إنّه بلغ ليثا أنّ الحسين بن حمدان قد سار من قم إلى البيضاء فخاف أن تؤخذ منه شيراز. فوجّه أخاه مع قطعة من جيشه إلى شيراز ليحفظها وأخذ هو دليلا يدلّه على طريق مختصر قريب إلى البيضاء ليوقع بالحسين بن حمدان. فأخذ به الدليل فى طريق الرجّالة وهو طريق صعب ضيق لا يحمل الجيوش، فلقى فى طريقه مشقّة عظيمة حتّى تلفت دوابّه وتلف رجاله فقتل
__________
[1] . فى مط: الحرشي وجلس طاهر. بدل «الخرسى وحبس طاهر» .(5/68)
الدليل وعدل عن الطريق فخرج إلى خوابذان [1] وقد وصل إليها مونس. فلمّا أشرف الليث على عسكر مونس قدّر أنّه عسكر أخيه الذي أنفذه إلى شيراز.
فكبّر أصحابه فخرج إليه مونس فأوقع به وأخذه أسيرا. فلمّا حصل فى يده أشار عليه قوّاده بالقبض على سبكرى. فلم يفعل وألحّ عليه أصحابه فأظهر القبول منهم وقال:
- «إذا صار إلينا فى غد قبضنا عليه.» وكان سبكرى كلّ يوم يركب من مضربه إلى مونس. فيسلّم [78] عليه.
فوجّه إليه مونس سرّا وعرّفه ما أشار عليه قوّاده وأشار عليه بالمسير إلى شيراز والإسراع. ففعل سبكرى بما أشار به. فلمّا أصبح وتعالى النهار قال:
- «يا قوم ما جاءنا سبكرى اليوم فوجّهوا إليه وتعرّفوا خبره.» وعاد الرسول وعرّفه أن سبكرى قد سار إلى شيراز من أوّل الليل. فعاد باللوم على قوّاده وقال لهم:
- «من جهتكم شاع الخبر وبلغه فاستوحش.» وسار مونس ومعه الليث راجعا إلى مدينة السلام، وانصرف الحسين إلى قم.
ذكر تدبير فاسد وما آل إليه
لمّا حصل سبكرى بشيراز كان معه قائد يقال له القتّال، فضرّبه على كاتبه عبد الرحمن بن جعفر وأعلمه أنه فى جنبة [2] السلطان وأنّه قد أحلف قوّاده كلّهم للسلطان وأخذ له البيعة عليهم، وليس يتعذّر عليه متى شاء أن يورد كتابا من السلطان بالقبض عليه. ففزع سبكرى من هذه الحال وقبض على
__________
[1] . ما فى مط مهمل تماما.
[2] . فى مط: فى حثة السلطان.(5/69)
عبد الرحمن بن جعفر واستكتب مكانه رجلا يعرف بإسماعيل بن إبراهيم البمّى، [1] فحمله إسماعيل هذا على الخلاف وقال له:
- «قد انصرف عنك عسكر السلطان وليس يمكنه أن يعود إليك سريعا، فاربح ما كنت تحمله إلى السلطان وأصلح أمورك [79] وأرض جندك، ثمّ تنظر.» واحتال عبد الرحمن بن جعفر من محبسه حتّى كتب إلى ابن الفرات بخبره وما جرى عليه وبخلاف سبكرى على السلطان، فكتب ابن الفرات إلى مونس وقد صار إلى واسط كتابا يقول فيه:
- «إن كنت فتحت فقد أغلقت، وإن كنت قد أسرت فقد أطلقت، ولا بدّ من أن تعود فتحارب سبكرى.» فعاد مونس إلى الأهواز وأخذ سبكرى فى ملاطفة مونس ومهاداته ومسألته أن يبذل للسلطان عن أعمال فارس وكرمان زيادة على ما كان مقاطعا عليه القاسم بن عبيد الله فى أيّام المكتفي بالله، فإنّه كان مقاطعا على أربعة آلاف ألف. ففعل مونس ذلك وبذل عنه سبعة آلاف ألف، فلم يرض بذلك ابن الفرات. فلم يزل يزيد ألف ألف حتّى بلغ تسعة آلاف ألف خالصة للحمل، وذكر أنّ باقى الارتفاع يحتاج إليه سبكرى لإعطاء الجند بفارس وكرمان وأعلمه كثرة المؤن هناك. فأقام ابن الفرات على أنّه لا يقنع إلّا بثلاثة عشر ألف ألف فأشار مونس على سبكرى بأن يقارب السلطان والوزير، فأبى سبكرى أن يزيد على عشرة آلاف ألف شيئا. فاغتاظ الوزير من تماتن سبكرى، واتّهم مونسا بالميل إليه. [80]
__________
[1] . فى مط: التيمىّ.(5/70)
ودخلت سنة ثمان وتسعين ومائتين
ذكر ما جرى على سبكرى من الأسر
ثمّ إنّه عدل إلى إنفاذ وصيف كامه [1] مع عدّة قوّاد من مدينة السلام، وإنفاذ محمّد بن جعفر العبرتاى معهم وعوّل عليه فى فتح فارس.
وكتب إلى مونس: أنّه لا يثق بأحد سواه فى حفظ الليث، وأنّ سبيله أن يوافى به إلى مدينة السلام ويدع أكثر قوّاده وأصحابه مع محمّد بن جعفر بالقرب من نواحي فارس، لئلّا ينجذبوا بأسرهم إلى بغداد قبل أن يتقرّر الأمر مع سبكرى فى مال المفارقة، فيطمع سبكرى فى السلطان.
فخرج مونس عن الأهواز وكتب الوزير حينئذ إلى محمّد بن جعفر العبرتاى والقوّاد بالمبادرة إلى شيراز مع جماعة من بالأهواز من القوّاد، وانضمّ إليه وصيف كامه، [2] ثمّ أمدّه بسيما الخزري وفاتك المعتضدي ويمن الطولونى.
فلمّا تكامل الجيش لمحمّد بن جعفر سار إلى سبكرى وواقعه على باب شيراز فانهزم سبكرى إلى بمّ وتحصّن بها، وتبعه إلى هناك فهزمه أيضا، ودخل مفازة خراسان وأسر القتّال.
وورد الكتاب بالفتح، فخلع السلطان على الوزير عند ذلك، وقلّد محمّد بن جعفر العبرتاى فتيحا خادم الأفشين أعمال الحرب والمعاون بفارس وكرمان وكان يميل إلى فتيح [81] لحسن وجهه.
وفيها ورد كتاب أحمد بن إسماعيل صاحب خراسان بفتحه سجستان وأسره محمّد بن علىّ بن الليث.
__________
[1] . كامه: كذا فى الأصل ومط ومد.
[2] . فى مد: كأمه.(5/71)
ثمّ ورد كتابه بأسره سبكرى، فكتب إلى أحمد بن إسماعيل بحمل سبكرى ومحمّد بن علىّ بن الليث إلى الحضرة.
فلمّا كان فى شوّال من هذه السنة أدخل سبكرى ومحمّد بن علىّ بن الليث مشهّرين على فيلين. فخلع على الوزير ابن الفرات، ثمّ على المرزباني خليفة صاحب خراسان، وحمل مع الرسل الذين حملوا سبكرى ومحمّد بن علىّ بن الليث هدايا وخلع وطيب وجواهر إلى صاحب خراسان.
وفيها ورد الخبر بوفاة العبرتاى ثمّ بوفاة فتيح، [1] وقلّد عبد الله ابن إبراهيم المسمعي أعمال المعاون بفارس.
وفيها غرقت فاطمة القهرمانة فى طيّارها تحت الجسر فى يوم ريح عاصف وكانت زوّجت ابنتيها من بنىّ بن نفيس وقيصر، [2] فحضرا جنازتها وحضرها خلق من القوّاد والقضاة، وجعلت السيّدة مكانها أمّ موسى الهاشميّة قهرمانة، فكانت تؤدّى رسائلها ورسائل المقتدر إلى ابن الفرات.
ودخلت سنة تسع وتسعين ومائتين
القبض على الوزير ابن الفرات
وفيها قبض على الوزير ابن الفرات، ووكّل بداره، وهتك حرمه أقبح هتك، ونهبت داره [82] ودور كتّابه وأسبابه. وافتتنت بغداد ونهب الناس.
وكان مونس الخازن يلي شرطة بغداد وتحت يده برسمها تسعة آلاف فارس وراجل. فكان يركب إذا اشتدّت الفتنة وزاد النهب فيسكن الناس ويكفّ النهب هيبة له. فإذا نزل من ركوبه عادت الحال إلى ما كانت عليه.
فلقى الناس من ذلك شدّة شديدة ثلاثة أيّام بلياليها ثمّ سكنت الفتنة.
__________
[1] . فى مط: قبيح.
[2] . فى مط: فنصر.(5/72)
فكانت مدّة وزارة أبى الحسن ابن الفرات هذه الأولى ثلاث سنين وثمانية أشهر وثلاثة عشر يوما.
وزارة أبى على محمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان
وقلّد أبو علىّ محمّد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان الوزارة، وذلك فى ذى الحجّة سنة تسع وتسعين ومائتين.
فقلّد أصحاب الدواوين ورتّبهم فى مجالسهم وردّ مناظرة أبى الحسن ابن الفرات وأسبابه وكتّابه إلى أبى الحسن أحمد بن يحيى بن أبى البغل، وقلّده ديوان المصادرين وديوان الضياع العبّاسيّة وديوان زمام الفراتيّة.
استتار أصحاب ابن الفرات
واستتر من أصحاب ابن الفرات أبو علىّ محمّد بن علىّ بن مقلة وأبو الطيب الكلواذى وأبو القاسم هشام وأبو بشر ابن فرجويه [1] وقبض على الباقين ونهبت دورهم وهدمت، واعتقل هؤلاء الباقون وناظرهم أحمد بن أبى البغل وعذّبهم وناظر ابن الفرات، غير أنّه [83] لم يمكّن من إيقاع مكروه به ومكّن من جميع أسبابه وكتّابه.
ذكر ما دبّره ابن أبى البغل وانعكاسه عليه
كان أبو الحسن بن أبى البغل مبعدا فى أيّام ابن الفرات بإصبهان، فلمّا افتتنت بغداد وقلّد أخوه مناظرة ابن الفرات وأسبابه سفر أخوه لمّا تمكّن من
__________
[1] . كذا فى الأصل ومد: فرجويه. فى مط: فرحويه (بالحاء المهملة) .(5/73)
ملاقاة أمّ موسى فى الوزارة وبذل فيها مالا جليلا يثيره ويوفّره. فأطمع المقتدر فى ذلك فأرجف له بها وكاتبه أخوه بالإسراع إلى الحضرة ونفذ إليه أبو بكر أخو أمّ موسى، فخاطبه قوم بالوزارة فى طريقه، وتلقّاه القوّاد وغيرهم عند ورود بغداد.
فركب أبو علىّ الخاقاني فى عشيّة من العشايا إلى دار السلطان والتمس الإذن فى الوصول فأذن له وأوصل إلى المقتدر بالله فوصف له:
أنّ الأمور قد اضطربت، والأموال قد تأخّرت، والدنيا قد خربت بكثرة الأراجيف به. لأنّ ابن أبى البغل يذكر أنّه قد استحضر للوزارة.
فخاطبه المقتدر بجميل، وأذن له فى إبعاد ابن أبى البغل وأخيه عن الحضرة. فقبض عليهما وأبعدهما وتنكّرت أمّ موسى القهرمانة للوزير أبى علىّ الخاقاني، فخافها وأشفق أن تفسد عليه أمره، فأرضاها بأن قلّد أبا الحسين منها [1] [84] أعمال الخراج والضياع بإصبهان، وقلّد أبا الحسن أخاه أعمال الصلح والمبارك. [2]
الخاقاني يناظر ابن الفرات
وكتب الوزير بإطلاق أبى الهيثم العبّاس بن ثوابة وكان معتقلا بالموصل وكان ابن الفرات نقله إليها فى نكبة محمّد بن عبدون لقرابة بينهما، وكان ابن ثوابة هذا يكتب لمحمّد بن ديوداذ وكان من الموصوفين بالشرّ، فورد بغداد فى سنة ثلاثمائة وقلّده الوزير أبو علىّ الخاقاني ديوان المصادرين والضياع العبّاسيّة والفراتيّة، وردّ إليه مناظرة أبى الحسن ابن الفرات وأسبابه وكتّابه.
فأسرف ابن ثوابة فى إيقاع المكروه بهم وعذّبهم بأنواع العذاب، فجرت بينه
__________
[1] . فى مط: أبا الحسن منهما. فى مد: أبا الحسين منهما. وفى الأصل: منها.
[2] . فى الأصل إهمال وغموض. فى مط: المبارك.(5/74)
وبين أبى الحسن ابن الفرات مناظرات هاتر فى بعضها ابن الفرات وشتمه بحضرة أمّ موسى، فردّ عليه ابن الفرات أقبح ردّ، وشتمه أغلظ شتيمة، ونسبه فى نفسه إلى كلّ حال قبيحة، فراسل ابن ثوابة المقتدر بأنّ ابن الفرات لم يقدم على هذا إلّا لشدة بطره وكثرة أمواله واستأذن فى معاقبته، فبسط يده عليه فقيّده وغلّه وألبسه جبّة صوف، وأقامه فى الشمس مدّة أربع ساعات فكاد يتلف. فأنهى بدر الحرمي فى حاله إلى المقتدر، فأنكرها وأمر بنقله إلى بعض الحجر التي فى يد زيدان [85] القهرمانة للحرم الخواصّ، وأحسن إليه ورفّهه. وذلك بعد أن حلف له ابن الفرات بأغلظ يمين بأنّه لم يبق له مال ولا ذخيرة ولا متاع فاخر إلّا وقد أقرّ به وقت مناظرة إبن أبى البغل، فقبل المقتدر بالله قوله ومنع ابن ثوابة من مناظرته.
ابن الفرات مشاورا
ثمّ صار المقتدر بعد ذلك يشاور ابن الفرات فى الأمور ويقرأه رقاع الوزراء إليه ويجيبهم عنها برأيه ثمّ كثرت السعايات بأبى علىّ الخاقاني وتمكّن أبو القاسم ابن الحوارى.
ذكر فساد تدبير الخاقاني لأمر الوزارة
كان أبو علىّ الخاقاني متشاغلا بخدمة السلطان ومراعاة أعداءه، لا يقرأ الكتب الواردة عليه ولا النافذة، واعتمد على ابنه أبى القاسم عبد الله، وقلّده مع العرض على الخليفة خلافته على الأعمال والتنفيذ للأمور. وكان ابنه هذا متشاغلا بالشراب، إنّما يراعى أمر القوّاد والجيوش والولايات للعمّال ويدع ما سوى ذلك، وكان قد نصب لقراءة الكتب الواردة أبا نصر مالك بن الوليد،(5/75)
ولقراءة الكتب النافذة أبا عيسى يحيى بن إبراهيم المالكي.
وكانت لأبى علىّ الخاقاني وابنه الجوامع بما يرد وينفذ، فلا يقرأها أحد منهم [86] إلّا بعد فوت الأمر الذي وردت فيه الكتب، وتبقى الكتب بالحمول والسفاتج فى خزانتهما، لا تفضّ ولا يعرف حال ما فيها. ففسدت الأمور بولاية أبى علىّ الخاقاني وضاعت.
وكان يقلّد فى أسبوع واحد الكورة عدّة من العمّال، حتّى قيل: إنّه قد قلّد أعمال ماه الكوفة فى مدّة عشرين يوما سبعة من العمّال، واجتمعوا فى خان بحلوان وقلّد أعمال قردى وبريدى [1] خمسة من العمّال اجتمعوا فى خان بعكبرا فى يوم واحد وسبب ذلك ارتفاق أولاده وكتّابه من العمّال الذين يولّونهم. فسطّرت الأحاديث وحفظت له النوادر، وأطلق يده بالتوقيعات وفى الزيادات والنفل والإثبات [2] يوقّع بذلك هو وابناه وبنان ويحيى بن إبراهيم المالكي وأحمد ومحمّد ابنا سعيد.
وكان أبو علىّ الخاقاني يتقرّب إلى قلوب الخاصّة والعامّة، فمنع خدم السلطان ووجوه القوّاد أن يترجموا رقاعهم بالتعبّد، ويتقرّب إلى العامّة بأن يصلّى معهم فى المساجد التي على الطرق، فكان إذا رأى جمعا من الملّاحين أو غيرهم من العامّة يصلّون فى مسجد على الشط قدّم طيّاره وصعد وصلّى معهم. فاتّضعت الوزارة بأفعاله وذلّت.
وكان [87] إذا سأله إنسان حاجة دقّ صدره وقال:
- «نعم وكرامة.» فسمّى: دقّ صدره.
وضاقت الأموال فقصّر فى إطلاق أموال أصحاب التفاريق والقوّاد القدماء ومن يجرى مجراهم، فشغبوا عليه وقصدوا المصلّى فأقاموا فيه وأخرجوا
__________
[1] . ليس الأصل واضحا تماما. فى مط: فردي ويد يدي. فى مد: قردى بزيذى.
[2] . فى مط: والنقل الأثاث. فى الأصل: والنفل والإثبات.(5/76)
معهم أكثر القوّاد واستفحل أمرهم وبسطوا فيه ألسنتهم.
فأمره المقتدر بإطلاق أرزاقهم فاعتذر بقصور الأموال ونقصان الارتفاع، وذكر أنّ الأموال المستخرجة من ابن الفرات وأسبابه قد حصلت فى بيت المال الخاصّة، وأنّه ليس ينفذ له صاحب بيت مال الخاصّة أمرا فيها، فأمر بإخراج خمسمائة ألف دينار من بيت مال الخاصّة لينفق فى الجند المشغّبين.
وقلّد ديوان البريد بمدينة السلام والإشراف على الوزير وعلى الجيش وأصحاب الدواوين والقضاة وأصحاب الشرطة شفيع اللؤلؤىّ [1] .
فلمّا رأى ابن ثوابة ضعف أمر الوزير تقرّب إلى المقتدر برقاع أوصلتها أمّ موسى يذكر فيها أنّه يستخرج من العمّال أموالا جليلة أهملها الخاقاني، وذكر أنّه يستخرج من محمّد بن علىّ الماذرائى وأخيه إبراهيم وحدهما سبعمائة ألف دينار. فخرج الأمر إلى الخاقاني بتقوية يد ابن ثوابة، ففعل ذلك [88] واستخرج أموالا بالعسف، وتغلّب على الأمور، وكان يصرف عمّال الوزير ويولّى من يرى، وتوصّل الأشرار إلى كتب الرقاع على يد أمّ موسى إلى المقتدر يخطبون [2] الأعمال ويتضمّنون الأموال. فخرج الأمر إلى الخاقاني بتقليدهم ذلك، فانتشر أمره وشاركه الأشرار فى النظر واستخرجوا الأموال من كلّ وجه بكلّ عسف.
وكان حامد بن العبّاس قد تضمّن أعمال واسط ونواحيها أربع سنين فعمل الكتّاب له عملا وحصّلوا عليه فى كلّ سنة مائتين وأربعين ألف دينار وألفين وأربعمائة كرّ بالمعدّل شعيرا للكراع فى كلّ سنة يستوفى منه مع المال الذي ذكرنا مبلغه. وإنّما كان حامد ضمن على عبرة السنة المتقدّمة وزيادة يسيرة، وكان التقصير والإضاعة والتخليط يقع من الخاقاني.
__________
[1] . فى مد: اللؤلؤىّ (بضمّ الياء) والفتح أوجه.
[2] . فى مط: يحطون.(5/77)
وذلك أنّ الخاقاني كان يتقلّد فى أيّام عبيد الله بن سليمان وما بعدها إلى وقت استتاره فى أيّام وزارة ابن الفرات الأولى أعمال البريد والمظالم والخرائط بما سبذان. فلمّا ولى الوزارة تحيّر لقلّة الدربة ونقصان المعرفة بالأعمال، فشرع مونس فى تقليد علىّ بن عيسى.
ودخلت سنة ثلاثمائة [89] يرتأى المقتدر فى إعادة ابن الفرات إلى الوزارة
ولمّا رأى المقتدر بالله اضطراب الأمور وفساد التدبير وانتقاض المملكة، شاور مونسا الخادم، وعرّفه أنّ الصورة تقود إلى ردّ أبى الحسن ابن الفرات وتقليده الوزارة.
وكان مونس مستوحشا من ابن الفرات لأمور حكينا بعضها فى حكاية أمره مع سبكرى وتقريره أمر فارس ونقض ابن الفرات عليه.
فقال مونس للمقتدر بالله:
- «إنّه يقبح أن يعلم أصحاب الأطراف أنّ السلطان صرف وزيرا ثمّ اضطرّ إليه وردّه بعد شهور من صرفه، ثمّ لا ينسبون ذلك إلّا إلى المطمع فى ماله فقط.» وقال: إنّ كتّاب الدنيا الذين دبّروا المملكة دواوينها منذ أيّام المعتضد بالله، هما ابنا الفرات، وأبو العبّاس منهما قد مات، وتقلّد الآخر الوزارة إلى أن صرف عنها، ومحمّد بن يزداذ [1] ومحمّد بن عبدون وقد قتلا فى فتنة ابن المعتزّ، وعلىّ بن عيسى بن داود بن الجرّاح، ولم يبق من يصلح لتدبير المملكة غيره.
__________
[1] . كذا فى الأصل: يزداذ. وصححه فى مد ب «داود» ، وهو ساقط من مط.(5/78)
ووصفه بالثقة والأمانة والديانة والنزاهة والصيانة والصناعة.
فأمره المقتدر بإنفاذ يلبق إليه ليحمله إلى الحضرة، وأظهر للخاقانى أنّه يحضره ليستخلفه لابنه عبد الله على الدواوين.
وكان الخاقاني يقول فى مجلسه:
- «إنّى قد كتبت بحمل علىّ بن عيسى [90] إلى الحضرة لأستخلفه لعبد الله.» فلمّا كان يوم الإثنين لعشر خلون من المحرّم سنة إحدى وثلاثمائة ركب الخاقاني إلى دار السلطان، فقبض عليه وعلى ابنيه عبد الله وعبد الواحد وأبى الهيثم ابن ثوابة ويحيى بن إبراهيم المالكي وأحمد ومحمّد ابني سعيد الحاجبين وبنان وسعيد بن عثمان النفّاط واعتقلوا فى يد نذير الحرمي. وكان سعيد بن عثمان النفّاط أحد من سعى للخاقانى فى الوزارة، فقضى حقّه بأن قلّده أعمالا كثيرة جليلة.
وفى هذه السنة صرف عبد الله بن إبراهيم المسمعي عن أعمال المعاون بفارس وتقلّدهما بدر الحمامي وكان بدر يتقلّد أعمال المعاون بإصبهان فنقل إلى أعمال فارس وكرمان وقلّد مكانه علىّ بن وهسوذان الديلمي.
ودخلت سنة إحدى وثلاثمائة
وزارة أبى الحسن علىّ بن عيسى الوزارة
وفيها تقلّد أبو الحسن علىّ بن عيسى الوزارة وقت قدومه من مكّة وخلع عليه، وركب من دار السلطان إلى داره، وركب معه مونس الخادم وغريب الخال وسائر القوّاد والغلمان، وسلّم إليه فى يوم الخلع محمّد بن عبيد الله الخاقاني وابناه، وجميع من سمّيتهم [91] فيما تقدّم، فصادرهم مصادرات قريبة الأمر، واستخرج منهم جميع ما صادرهم عليه.(5/79)
ثمّ أطلق الخاقاني إلى منزله، ووكّل به فيه، وصان حرمه أتمّ [1] صيانة، وأوقع بأبى الهيثم ابن ثوابة مكروها.
ثمّ صار ينظر فى أمر الأعمال فى دار الوزارة بالمخرّم يبكّر إليها فى كلّ يوم، ويعمل فيها إلى آخر أوقات صلاة العشاء الآخرة ثمّ ينصرف إلى داره.
وكتب إلى كلّ واحد من العمّال بما جرت العادة به من تشريف أمير المؤمنين إيّاه بالخلع، وردّ أمر الدواوين والمملكة إليه، ويقرّرهم على مواضعهم ويأمرهم بالجدّ والاجتهاد فى العمارة، ويقول فى آخر كتابه:
- «وهذا عنفوان السنة وأوّل الافتتاح ووقت حموم الخراج، ولست أعلم ما يجب أن أطالبك به فاذكره وأخاطبك عليه، ولكنّى آمرك أن تحمل صدرا من المال يتوفّر مقداره، وتنفذ الرسائل بذلك مع الجواب عن كتابي هذا عند نظرك فيه وتكتب إلىّ بشرح الحال فى أمور نواحيك وتنفذ مواقفه نقف عليها وبها على موقع أثرك فيها ومخائل تدبيرك فى توفيرها وتثميرها، وتتوقف عن إمضاء التسبيبات وما يجرى مجراها إلى أن ترد عليك كتبي وتوقيعاتى فى استماراتك [2] [92] عمّا يكون عملك عليه، وتمكّن فى نفسك أنّه لا رخصة عندي ولا هوادة فى حقّ من حقوق أمير المؤمنين أغضى عنه، ولا درهم من ماله أسامح فيه ولا تقصير فى شيء من أمور العمل أصبر لقريب أو بعيد عليه، ولا تكون بإظهار أثر جميل فى ذلك أشدّ عناية منك بإنصاف الرعيّة والعدل عليها ورفع صغير المؤن وكبيرها عنها، فإنّى أطالبك بذلك كما أطالبك بتوفير حقوق السلطان وتصحيحها وصيانة الأموال وحياطتها. وتابع كتبك بما يكون منك وقتا وقتا لأعرفه إن شاء الله.» وقلّد بعد ذلك الدواوين جماعة وعزل جماعة، وفعل مثل ذلك بالعمّال،
__________
[1] . فى مط: أىّ صيانة.
[2] . فى مط: فى استنماء رأيك. فى مد: فى استبار رأيك. والرسم فى الأصل لا يحتمل ذلك.(5/80)
ونظر إلى من تعوّد اقتطاع الأموال السلطانية، وإقامة مروّات نفسه منها، وقصر فى العمارة، واعتمد غيره، فعزل أمثال هؤلاء.
ثمّ عمر الثغور والبيمارستانات وأدرّ الأرزاق لمن ينظر فيها وأزاح علل المرضى والقوّام، وعمر المساجد الجامعة، وكتب إلى جميع البلدان بذلك ووقّع إلى العمّال به، وكتب إلى العمّال فى أمر المظالم كتابا نسخته:
«بسم الله الرحمن الرحيم، سبيل ما يرفعه إليك كلّ واحد من المتظلمين قبل النوروز من مظلمته، ويدّعى أنّه تلف بالآفة من غلّته، أن تعتمد فى كشف حاله على أوثق ثقاتك [1] [93] وأصدق كفاتك حتّى يصحّ لك أمره، فتزيل [2] بالظلم فيه، فترفعه وتضع الإنصاف موضعه، وتحتسب من المظالم بما يوجب الوقوف عليه حسبه، وتستوفى الخراج بعده، من غير محاباة للأقوياء ولا حيف على الضعفاء، فاعمل فيما رسم لك ما يظهر ويذيع ويشتهر ويشيع، ويكون العدل به على الرعيّة كاملا، والإنصاف لجميعهم شاملا، إن شاء الله.» وكتب فى إسقاط مال التكملة بفارس كتابا وفى جميع ما يشبه ذلك كتابا مشهورة مستحسنة.
فساس أبو الحسن علىّ بن عيسى الدنيا أحسن سياسة، ورسم للعمّال
__________
[1] . فى مط: أوثق نقلك.
[2] . فى الأصل: فيزيل. والتصحيح من مط.(5/81)
الرسوم [1] الجميلة وأنصف الرعيّة، وأزال السنن الجائرة، ودبّر أمر الوزارة والدواوين وسائر أمور المملكة بكفاية تامّة، وعفاف وتصوّن وديانة، ونظر فى المظالم وأبطل المكس بمكّة، والتكملة بفارس وسوق بحر بالأهواز، وجباية الخمور بديار ربيعة فبانت بركته على الدنيا، وعمر البلاد وتوفّر الارتفاع، واستقام أمر السلطان وعادت هيبة الملك، وصلح أمر الرعيّة.
ثمّ أسقط علىّ بن عيسى الوزير أكثر ما زاده الخاقاني فى وزارته فى دواوين الجند وإقطاعاتهم، وكانت هذه الزيادة قد لحقت القوّاد وسائر أصناف الجند، ولحقت الخدم والحاشية [94] وجميع الكتّاب والمتصرّفين، وكانت كثيرة.
فلمّا أسقطها عاداه أكثر الناس وشنّعوا عليه بالضيق والشحّ وقطع الأرزاق، وإنّما اضطرّ إلى ذلك لمّا رأى نفقات السلطان زائدة على دخله زيادة مفرطة تحوج إلى هدم بيوت الأموال وصرفها فى نفقات يستغنى عنها.
مناظرة بين على بن عيسى وابن الفرات
وحكى ثابت بن شيبان [2] عن علىّ بن عيسى أنّه قال: كنت عملت عملا لارتفاع المملكة وما علىّ من الخرج، فكان الخرج زائدا على الدخل بشيء كثير، فقال لى ابن الفرات يوما بعد صرفه إيّاى وقد أخرجت إليه فى دار السلطان ليناظرنى:
- «أبطلت الرسوم وهدمت الارتفاع» فقلت له:
- «أىّ رسم أبطلت؟»
__________
[1] . فى مط: الرسولة الجميلة.
[2] . كذء فى مط: سنان. وما فى الأصل ومد: شيبان، والرواية موجودة فى كتاب الوزراء: 323.(5/82)
قال: «المكس بمكة والتكملة بفارس.» فقلت: «وهذا وحده أبطلت؟ وقد أبطلت أشياء كثيرة فمنها ومنها- وعددت أشياء مبلغ جميعها خمسمائة ألف دينار فى السنة- ولم أستكثر هذا المقدار فى جنب ما حططته عن أمير المؤمنين من الأوزار وغسلت به عن دولته من الدرن والعار ولكن انظر مع ما حططت وأبطلت إلى ارتفاعي وارتفاعك ونفقاتى ونفقاتك.» قال ثابت: فقلت: [95]- «فبأىّ شيء أجابك؟» فقال: «خرج الخادم ففرّق بيننا قبل أن يجيب.» قال: وحدّثنى أحمد بن محمّد بن سمعون وكان ينظر فى أعمال النهروانات، قال:
- «مسحنا على الناس غلّاتهم فإذا بعض التّنّاء قد ذهب إلى باب الوزير علىّ بن عيسى ونحن لا نعلم، فتظلّم أنّا زدنا عليه فى مساحة قراح له، فلم نشعر بشيء إلّا وقد جاءنا عامل يعرف بابن البدّال ومعه فوج [1] من مسّاح بادوريا وفرسان ورجّالة، فلم نشكّ فى أنّه صارف لنا، فقال لى صاحبي:
أحبّ أن تتلقاه وتتنسّم الخبر. ففعلت وتلقيته وعرفت خبر المتظلّم، فعرّفت صاحبي ذلك، فقال لى:
- «لا تدرى كيف جرى أمر مساحته؟» فقلت: «لا.» قال: «فاخرج حتّى تواقف وتجتهد.» قال: فخرجت ومعى مسّاح البلد الذين مسحنا بهم واستقصيت معهم، وما
__________
[1] . فى مط: نوح.(5/83)
زلت ألطف إلى أن تقرّرت المساحة، وكنّا مسحنا القراح باثنين وعشرين جريبا فخرجت مساحته احدى وعشرين جريبا وقفيز، فاحتججت بأنّ القراح مسح وفيه غلّة قائمة ومسح فى هذا الوقت بعد الحصاد، وليس بمنكر أن يكون بين [1] المساحتين فى الحالتين هذا المقدار وانصرف ابن البدّال. [2] [96] وورد عليه كتاب علىّ بن عيسى بالصواعق فى الإنكار والتوعّد، بأنّه إن وقف على أنّ أحدا من الرعية حيف عليه فى معاملة أو مساحة فعل وصنع.
قال: فما جسرنا أن نستقصى على أحد فى معاملة، فلمّا كان فى السنة القابلة زاد الارتفاع فى العشرة ثلاثة لأنّ الخبر انتشر بالعدل وقيل: قد رفع الحيف والظلم فنشط الناس للازدياد من العمارة وفعل مثل ذلك فى المظالم.
وحكى ابن المشرف أنّ بعض عمّال بادوريا طالب بالخراج وبقايا عليهم وحبس أهله فصبروا على الحبس فقيّدهم فصبروا على القيد ولم يجسر أن يوقع بهم خوفا من علىّ بن عيسى، فكتب بحضرتهم إلى علىّ بن عيسى يضرّبه عليهم غاية التضريب ويقول:
- «إنّ هؤلاء قوم يدلّون بالجلد، وعليهم أموال وقد ألطّوا وصبروا على الحبس والقيد، ومتى لم تطلق اليد فى تقويمهم واستخراج المال منهم كسروه وتأسّى بهم أهل السواد فبطل الارتفاع والوزير أعلى عينا وما يراه [3] .» قال القوم: فجزعنا وخفنا أن يطلق يده فينا فيتلفنا لما كان فى نفسه علينا، وهممنا بأن نذعن له. ثمّ اجتمع رأينا على التوقّف إلى أن يرد الجواب. قال: فورد وإذا هو قد وقّع بخطّه على ظهر الرقعة:
__________
[1] . بين، سقطت من مط.
[2] . فى مط: البقال.
[3] . فى مط: والوزير عبثا وما يراه.(5/84)
- «إخراج- عافاك الله- دين وليس يجب فيه غير الملازمة فلا تتعدّ [97] ذاك إلى غيره، والسلام.» قالوا: ففرّج عنّا وأدّينا الصحيح ممّا علينا. فلمّا كانت السنة القابلة زاد ارتفاع بادوريا فى العشرة اثنين وزرعنا حتّى السطوح ثقة بالعدل والإنصاف.
تزوير توقيعات الوزير المصروف
ولمّا صرف أبو علىّ الخاقاني عن الوزارة أكثر الناس التزويرات عليه وعرضت توقيعاته على علىّ بن عيسى، فأنكرها وجمعها وأنفذ بها إلى أبى علىّ الخاقاني وقال:
- «أنظر فى هذه التوقيعات وعرّفنى الصحيح منها والباطل الذي زوّر عليك.» واتفق [1] أن حضر رسوله وأبو علىّ الخاقاني يصلّى. فوضع الرسول التوقيعات بين يدي أبى القاسم ابنه وأدّى الرسالة، فأخذ أبو القاسم يميّزها ويفرد الصحيح منها، فأومأ إليه أبوه بالتوقّف فتوقّف، فلمّا فرغ من الصلاة أخذها فتصفّحها، ثمّ خلطها ودفعها إلى الرسول وقال:
- «تقرأ على الوزير السلام وتعرّفه أنّ هذه التوقيعات كلّها صحيحة وأنا أمرت بها فما رأيت أن تمضيه أمضيته وما رأيت إبطاله أبطلته.» فلمّا انصرف الرسول قال لابنه:
- «يا بنىّ، أردت أن تبغضنا إلى الناس بلا معنى ويكون الوزير قد التقط الشوك بيدك؟ نحن قد صرفنا فلم لا تتحبّب إلى الناس بإمضاء كل ما زوّر علينا، فان أمضاه كان الحمد لنا والضرر عليه، وإن أبطله كان الحمد لنا والذمّ
__________
[1] . فى مط: واتقوا.(5/85)
له.» فاستحسن الناس هذا الفعل [98] من أبى علىّ، إلّا أنّ علىّ بن عيسى تذمّم إلى الخلق من الخاصّة والعامّة والحاشية بإسقاطه [1] الزيادات التي صارت عند أصحابها كالأصول واطّراحه النفقات التي تعود بتمزيق الأموال بغير فائدة، فثقلت وطأته وكره الناس أيّامه وقصدوا التشنيع عليه، وثلبوه عند المقتدر بالله، وسعى قوم لأبى الحسن ابن الفرات فى الوزارة.
القبض على الحسين بن منصور الحلّاج بالسوس
وفى هذه السنة قبض على الحسين بن منصور الحلّاج بالسوس، وأدخل بغداد مشهّرا على جمل، [2] وكان حمل إلى علىّ بن أحمد الراسبي، فحمله علىّ إلى الحضرة، فصلب وهو حىّ، وصاحبه وهو خال ولده معه فى الجانبين جميعا، وحبس الحلّاج وحده فى دار السلطان وظهر عنه بالأهواز وبمدينة السلام أنّه ادّعى أنّه إله وأنّه يقول بحلول اللاهوت فى الأشراف من الناس.
حوادث أخرى
وفيها أطلق الوزير أبا علىّ الخاقاني وأزال عنه التوكيل.
وفيها مات علىّ بن أحمد الراسبي بدور الراسبي، وتقدّم مونس الخادم بمشورة علىّ بن عيسى لقبض أمواله، وكتب إلى النعمان بن عبد الله بالمصير إليه والاجتماع معه على ذلك، فكتب أنّه حصّل منها نحو ألف ألف دينار.
وفيها خلع على الأمير أبى العبّاس بن المقتدر بالله، وقلّد أعمال الحرب
__________
[1] . فى مط: بانتقاصه.
[2] . فى مط: مشتهرا على الحمل.(5/86)
بمصر والمغرب واستخلف [99] له على مصر مونس الخادم.
وقلّد الأمير على ابن المقتدر بالله الصلات وأعمال المعاون والأحداث والحرب بكور الرىّ ودنباوند وقزوين وزنجان وأبهر والطرم.
وفيها ورد الخبر بقتل [1] إسماعيل بن أحمد صاحب خراسان على شاطئ نهر بلخ، قتله غلمانه، وقام مقامه أبو الحسن نصر ابنه، فنفذ العهد إليه من المقتدر بالله والكتاب بتقليده خراسان مكان أبيه.
قتل أبى سعيد الجنّابى
وفيها ورد الخبر بأنّ خادما لأبى سعيد الجنّابى الحسن بن بهرام المتغلّب على هجر قتله. ثمّ إنّ ذلك الخادم خرج بعد قتله مولاه، فدعا رجلا من رؤساء أصحابه وقال:
- «السيد يدعوك.» فلمّا دخل قتله وما زال يفعل ذلك بواحد واحد إلى أن قتل أربعة من الرؤساء. ثمّ دعا بالخامس فأحسّ الخامس بالقتل، فصاح وأطلع النساء عليه وصحن، فقبض على الخادم قبل أن يقتل الخامس. وقتل الخادم وكان صقلابيا وقد كان أبو سعيد عهد إلى ابنه سعيد فلم يضطلع بالأمر فغلبه أخوه الأصغر أبو طاهر سليمان بن الحسن.
وقد كان القرامطة وافوا إلى باب البصرة فى سنة تسع وتسعين ومائتين، وكان المتقلّد لأعمال المعاون بالبصرة محمّد بن إسحاق بن كنداجيق وكان يوم جمعة والناس فى الصلاة، فصاح الصائح: [100]- «القرامطة القرامطة.»
__________
[1] . وزاد فى مد: أحمد بن.(5/87)
فخرج إليهم الموكّلون بالباب فوجدوا فارسين قد نزل أحدهما عند الميل، فنظر إليه البوّابون جالسا متّكئا قد وضع إحدى رجليه على الأخرى والآخر بإزائهم فصاحوا به، وبدر إليه رجل من الخول، فطعنه القرمطى وقتله وتراجعوا، فبكى أخوه فقالوا له:
- «ارجع فجرّ برجله وخذه لعنكما الله.» قالوا: «ومن أنتما؟» قالوا: «نحن المؤمنون.» ثمّ تنحّى فحبا حتّى أخذ أخاه ودخلوا فأغلقوا الباب، وركب ابن كنداجيق بمن معه من الجيش حتّى صار إلى الموضع فنظر الديذبان عند صهاريج الحجّاج إليهم فقالوا:
- «إنّهم نحو ثلاثين فارسا.» فخرج إليهم عطارد ابن شهاب العنبري وخواصّه وغلمان من شحنة البصرة والمطوّعة، فقتل أكثرهم ولم ينج منهم إلّا من هرب قبل المعاينة، وسلبوهم ولم يتركوا عليهم شيئا إلّا السراويلات بغير تكك ثمّ ضربوهم ضربات قبيحة ورجع ابن كنداجيق وغلّق الباب وجنّة الليل.
فلمّا أصبح لم ير منهم أحدا، فكتب إلى ابن الفرات- وكان هو الوزير فى الوقت- يستنجده، فأمدّه بمحمّد بن عبد الله الفارقي فى جيش كثيف وقائد من الرجال يعرف بقورويه، وجعفر الزّرنجى فى نفر من الرجالة معونة لابن كنداجيق.
علىّ بن عيسى الوزير والقرامطة
فلمّا تقلّد أبو الحسن [101] علىّ بن عيسى الوزارة شاوره المقتدر فى أمر القرامطة فأشار بمكاتبة أبى سعيد الحسن بن بهرام الجنّابى، فتقدّم إليه(5/88)
بمكاتبته وإنفاذ الكتاب على يدي من يرى، فكتب كتابا طويلا جدّا يذكّرهم بالله ويدعوهم إلى الطاعة ويقول فى آخره:
- «إنّ أمير المؤمنين جعل كتابه هذا ظهريّا [1] عليك وحجّة من الله بيّنة فيك، وقاطعا لعللك، وبابا يعصمك إن صدقت عمّا أراده من الخير بك، وعظمت النعمة فيما بذله من العهد لك.» ونفذ الرسل، فلمّا وصلوا إلى البصرة انتهى إليهم قتل أبى سعيد، فتوقّفوا عن المسير وكاتبوا الوزير علىّ بن عيسى بذلك واستطلعوا رأيه، فعاد الجواب إليهم بالمسير إلى أولاده ومن قام بعده مقامه، فتمّموا المسير وأوصلوا الكتاب وأدّوا الرسالة، فأجابوا عن الكتاب وأطلقوا الأسرى الذين تكلّم فيهم الرسل، وعاد بهم الرسل إلى بغداد.
ودخلت سنة اثنتين وثلاثمائة
وفيها قبض على أبى عبد الله الحسين بن عبد الله المعروف بابن الجصّاص الجوهري وأنفذ إلى داره جماعة حتّى حملوه إلى دار السلطان فأخذ منه من المال والجواهر ما قيمته أربعة آلاف [2] [102] وكان هو يدّعى أكثر من ذلك بكثير ويتجاوز فى ذلك عشرين ألف ألف دينار وأكثر.
وفيها خرج الحسين بن علىّ العلوي [3] وتغلّب على طبرستان ولقب الداعي فوجّه إليه أخو صعلوك جيشا فلم يثبتوا له وانصرفوا فعاد العلوي إليها.
__________
[1] . فى الأصل: ضهريّا. والصواب «ظهيرا» كما جاء فى حواشي مد.
[2] . والمبلغ كان ستّة آلاف ألف دينار. انظر، صلة عريب، ص 48. وربما سقط من الأصل: «ألف» .
ومط هنا ناقصة.
[3] . هو الأطروش. انظر، صلة عريب: 47.(5/89)
ودخلت سنة ثلاث وثلاثمائة
خروج الحسين بن حمدان عن طاعة السلطان وما كان من عاقبته
وفيها ورد الخبر بأنّ الحسين بن حمدان قد خالف وخرج عن طاعة السلطان. وكان مونس الخادم غائبا قد أخرج إلى مصر لمحاربة العلوىّ صاحب المغرب [1] لمّا قصد مصر فى نيّف وأربعين ألفا.
فندب له الوزير علىّ بن عيسى رائقا الكبير وخلع عليه، وكتب إلى مونس يعرّفه الخبر ويأمره بالمسير إلى ديار مضر إذا انصرف من مصر، وأن يجذب معه أحمد بن كيغلغ وعلىّ بن أحمد بن بسطام والعبّاس بن عمرو ليصلح الديار فيزيل الاختلال ويحفظ الثغور وخاصّة الخزرية منها. فقد كان جرى على حصن منصور من قصد الروم إيّاه وسبيهم كلّ من كان فى نواحيه أمر عظيم لتشاغل الناس بالحسين بن حمدان عن الغزاة الصائفة.
ولمّا صار رائق إلى الحسين بن حمدان أوقع به الحسين، فصار رائق إلى مونس واتصلت [103] كتب علىّ بن عيسى الوزير إلى مونس بالإسراع نحو الحسين، فجدّ مونس فى المسير، ولمّا قرب من الحسين جاءه مروان [2] كاتب الحسين وجرت بينه وبينه خطوب، كتب بها مونس إلى علىّ بن عيسى، وذكر أنّ مروان أوصل إليه كتابا من الحسين يتضمّن خطابا طويلا قد افتتحه وختمه وكرّر القول فى فصوله:
- «إنّ السبب فى خروجه عمّا كان عليه من الثقة والطاعة عدول الوزير
__________
[1] . هو المهدى أبو القاسم عبيد الله. انظر حواشي مد.
[2] . فى الأصل: مرون (بالضبط) فقرئ فى مد: «هرون» ثم: هارون (دون توجيه) فأثبتناه «مروان» كما يقرأ من رسم الأصل.(5/90)
- أيّده الله- عمّا كان عليه فى أمره إلى ما أوحشه وأنّه لم يف له بضمانات ضمنها له.» وذكر أنّه قد اجتمع له من قبائل العرب ورجال العشيرة ثلاثون ألف رجل، وأنّه سأل الرسول عمّا حمله الحسين من الرسالة إليه، فذكر أنّه يسأله المقام بحرّان إذ كانت تحمل عسكره، وأن يكاتب الوزير- أعزّه الله- فى أمره ويسأله صرفه عمّا يتقلّده من الأعمال، وتركه مقيما فى منزله وتقليد أخيه ديار ربيعة، وأنّه عرّفه أنّ هذا متعذّر غير ممكن، إذ كانت كتب الوزير متّصلة إليه بالإنجذاب، وأنّ مخالفته غير جائز وأنّه لا يدع الكتاب فيما سأله، ولا يثنيه ذلك عمّا رسمه الوزير- أعزّه الله- فإن عزم على اللقاء فبالله يستعين على كلّ من خالف السلطان- أعزّه الله- وجحد نعمته وإن انقاد للحقّ وسلك سبيله وصار [104] إليه فنزع عمّا هو عليه كان ذلك أشبه به، وإن أبى وأقام على حاله من التعزّز والمخرقة لقيه بمضر بأسرها، وصان رجال السلطان مع وفور عددهم عن التعرّض لطغامه، لا لنكول عنه منه، لكن لاستهانته بأمره، وأنّه وكلّ بكاتبه هذا المترسّل عنه، وأنّه لا يأذن له فى الانصراف إلّا بعد أن يعرف خبر الحسين.
ثمّ وردت الأخبار برحيل مونس حتّى نزل بإزاء جزيرة بنى عمر ورحيل الحسين نحو أرمينية مع ثقله وأولاده وأمواله.
ثمّ انفلّ عسكر الحسين وصاروا إلى مونس أوّلا أوّلا.
وورد كتاب مونس بأنّه قد صار إليه من أقرباء [1] الحسين وغلمانه وثقاته ووجوههم سبعمائة فارس، وأنّه خلع على أكثرهم ونفد ما كان معه من الخلع والمال، وأنّه فى احتيال باقى ما يحتاج إليه.
__________
[1] . كذا فى الأصل: أقرباء: فى مد: أمراء (خلافا للأصل) .(5/91)
ثمّ ورد كتابه بأسر الحسين بن حمدان وجميع أهله وأكثر من صحبه، وقبض على أملاك بنى حمدان بأسرهم ودخل مونس ومعه الحسين وابنه بغداد.
فلمّا كان بعد يومين حمل الحسين من باب الشمّاسية إلى دار السلطان مصلوبا على نقنق، [1] منصوبا بأعلى ظهر فالح [2] وابنه مشهور على جمل آخر والبرانس على رؤوسهما، وسار بين يديه الأمير أبو العبّاس ابن المقتدر بالله، [105] والوزير أبو الحسن علىّ بن عيسى، والأستاذ مونس الخادم وأبو الهيجاء عبد الله بن حمدان وإبراهيم بن حمدان وسائر القوّاد والجيش والفيلة، فلمّا وصلوا إلى دار السلطان وقف الحسين بين يدي المقتدر بالله، ثمّ أمر بتسليمه إلى زيدان القهرمانة وحبس عندها فى دار السلطان.
وشغّب الرجّالة والحجرية بعد حصول الحسين بن حمدان، وأحرقوا إصطبل الوزير وطالبوه بالزيادة فى أرزاقهم، فزيد بكلّ غلام ثلاثة دنانير فى كلّ شهر من شهورهم، وزيد الرجّالة كلّ راجل [3] نصف وربع دينار فى كلّ شهر، فسكن الشغب.
وقبض على أبى الهيجاء عبد الله بن حمدان وجميع أخوته وحبسوا فى دار السلطان. وكان هرب ابن للحسين [4] بن حمدان فى جماعة من أصحابه وبلغت هزيمته آمد، فأوقع بهم الجزري وقتل ابن الحسين وجماعة من أصحابه، وحملت رؤوسهم إلى الحضرة وصلب قوم من أصحاب الحسين بن حمدان.
__________
[1] . نقنق: كذا فى الأصل ومط: نقنق.
[2] . كذا فى الأصل: فالح (بالحاء المهملة) . فى مط ومد: فالج.
[3] . كذا فى الأصل: راجل. فى مط ومد:
[4] . فى مط: ابو الحسين، بدل «ا(5/92)
ودخلت سنة أربع وثلاثمائة
غلام وهسوذان يقتل أحمد بن سياه
وفيها لقى بإصبهان غلام لعلّى بن وهسوذان الديلم وكان يتقلّد أعمال المعاون بها أحمد بن سياه عامل الخراج بها، أنفذه صاحبه إليه فى حاجة، واتفق أنّه لقيه وهو [106] راكب، فكلّمه فى الحاجة، فاشتدّ ذلك على أحمد بن سياه، وقال له:
- «يا مؤاجر تخاطبني فى حاجة على ظهر الطريق؟» فانصرف الغلام إلى مولاه محفظا، وحدّثه بما جرى، فقال له:
- «صدق فيما قال، ولولا أنّك مؤاجر لضربت رأسه بالسيف لمّا خاطبك بذلك، فعاد الغلام ووجد أحمد بن سياه منصرفا فعلاه بالسيف وقتله، فأنكر السلطان ذلك عليه وصرف علىّ بن وهسوذان لأجل ذلك من إصبهان بأحمد بن مسرور البلخي، فاستأذن علىّ بن وهسوذان فى الانصراف إلى بلد الديلم، فأذن له، ثمّ سأل بعد ذلك فى أمره مونس الخادم فرضي عنه وأقام بنواحي الجبل.
وفيها قدم محمّد بن علىّ بن صعلوك مدينة السلام وهو ابن عمّ صاحب خراسان مستأمنا فخلع عليه.
زبزب على السطوح وحيلة للسلطان
وفيها فى فصل الصيف تفزّعت العامّة من حيوان كانوا يسمّونه الزّبزب، [1]
__________
[1] . فى الأصل ومط: الرّبرب (بالرائين المهملتين. فى مط ومد: الزّبزب (بالإعجام) . والزبزب: دابّة كالسنّور، أى الهرّ. والرّبرب: قطيع من بقر الوحش.(5/93)
ذكروا أنّهم يرونه فى الليل على سطوحهم، وأنّه يأكل أطفالهم. قالوا: وربّما قطع يد الإنسان إذا كان نائما، أو ثدي المرأة فيأكله. وكانوا يتحارسون طول الليل ولا ينامون ويتزاعقون ويضربون الطسوت والصوانى والهواوين ليفزّعوه.
وارتجّت بغداد لذلك، حتّى أخذ السلطان حيوانا غريبا أبلق، كأنّه من كلاب الماء، وقال:
- «هو الزّبزب، وإنّه صيد.» فصلب [107] على نقنق عند الجسر الأعلى، وبقي مصلوبا إلى أن مات.
فلم يغن ذلك إلى أن انبسط القمر، وتبيّن للناس أنّه لا حقيقة لما توهّموه، فأمسكوا. إلّا أنّ اللصوص وجدوا فرصتهم بتشاغل الناس فى سطوحهم، فكثرت النقوب.
الوزير يصلّى على جنازة شار على أنّها جنازة ابن الفرات
وفيها تقرّر عند أبى الحسن علىّ بن عيسى الوزير أنّه قد سعى لابن الفرات فى الوزارة وتحققه، فاستعفى منها، ولم يعفه المقتدر، وأظهر فى دار السلطان أنّ ابن الفرات عليل شديد العلّة.
واتفق أن مات الشاري الذي كان محبوسا فى دار السلطان، والتدبير فى أمر الشراة [1] أن يكتم موت من يؤخذ منهم، ممّن تسميه الشراة إماما، فإنّه ما دام حيّا فليس ينصبون إماما غيره، فإن صحّ عندهم موته نصبوا غيره.
فأظهر فى دار السلطان أنّ ابن الفرات مات، وكفّن الشاري وأخرجت جنازته على أنّها جنازة ابن الفرات، وصلّى عليه الوزير علىّ بن عيسى، ثمّ انصرف
__________
[1] . الشّراة: الخوارج.(5/94)
إلى منزله متوجّعا وقال لخواصه:
- «اليوم ماتت الكتابة.» ثمّ مضت الأيّام ووقف علىّ بن عيسى من جهات كثيرة على تمام السعى لابن الفرات، وأنّه حىّ، فقال لخواصّه:
- «ليس ينبغي للإنسان أن يتحدّث بكلّ ما يسمعه.»
صرف على بن عيسى عن الوزارة
وكان يضجر فى أوقات من سوء [108] أدب الحاشية والمطالبة بالمحالات، واستعفى من الوزارة ويخاطب المقتدر فى ذلك، فينكر عليه استعفاءه.
إلى أن اتفق يوما أن صارت إليه أمّ موسى القهرمانة فى آخر ذى القعدة من سنة أربع وثلاثمائة لتواقفه [1] على ما يطلق فى عيد الأضحى للحرم والحاشية، وكان علىّ بن عيسى محتجبا، فلم يجسر سلامة حاجبه عليه أن يستأذن لها فصرفها صرفا جميلا. فغضبت من ذلك وعلم علىّ بن عيسى بحضورها وانصرافها، فأمر أن تلتمس ويعتذر إليها لترجع، فأبت أن تعود، وصارت إلى المقتدر والسيّدة، فأغرت به وتخرّصت عليه الأحاديث، فصرفه المقتدر بالله وقبض عليه غداة الإثنين لثمان خلون من ذى الحجّة سنة أربع وثلاثمائة عند ركوبه إلى دار الخلافة، ولم يعرض لشيء من أملاكه وضياعه وضياع أسبابه، ولا لأحد من أولاده، واعتقل عند زيدان القهرمانة.
فكانت مدّة وزارته هذه ثلاث سنين وعشرة أشهر وثمانية وعشرين يوما.
__________
[1] . كذا فى الأصل: لتواقفه. فى مط: لتوافقه.(5/95)
وزارة أبى الحسن علىّ بن محمّد ابن الفرات الثانية
وفيها تقلّد أبو الحسن الوزارة والدواوين لثمان خلون من ذى الحجّة، وخلع عليه وصار [109] إلى داره بالمخرّم [1] التي كان أقطعها فى وزارته الأولى، وكتب إلى الأطراف والبلدان عن المقتدر بالله بخبر إعادته إلى الوزارة على نسخة أنشأها أبو الحسين محمّد بن جعفر بن ثوابة، وفى فصل منه:
- «ولمّا لم يجد أمير المؤمنين غنى عنه ولا للملك بدّا منه، وكان كتّاب الدواوين على اختلاف أقدارهم وتفاوت ما بين أخطارهم مقرّين برئاسته معترفين بكفايته متحاكمين إليه إذا اختلفوا واقفين عند غايته إذا استبقوا مذعنين بأنّه الحوّل القلّب المحنّك المجرّب العالم بدرّة المال كيف تحلب ووجوهه كيف تطلب، انتضاه من غمده، فعاد ما عرف من حدّه، فنفّذ الأعمال كأن لم يغب عنها، ودبّر الأمور كأن لم يخل منها. ورأى أمير المؤمنين ألّا يدع سببا من أسباب التكرمة كان قديما جعله له إلّا وفّاه إيّاه، ولا نوعا من أنواع المثوبة والجزاء كان أخّره عنه إلّا حباه به وآتاه.» فخاطبه بالتكنية وكان وكان.
وقبض ابن الفرات على أسباب علىّ بن عيسى واخوته وكتّابه وجميع
__________
[1] . فى مط: المحرم (بالحاء المهملة) .(5/96)
عمّاله بالسواد وبالمشرق والمغرب، وصادرهم سوى أبى الحسين وأبى الحسن ابنى أبى البغل، فإنّه أقرّهما على ما كانا يتولّيانه من أعمال إصبهان والبصرة، لعناية أمّ موسى [110] بهما. وقبض على أبى علىّ الخاقاني وتتبّع أسبابه، وألزم جميعهم مصادرة ثانية أدّوها، وطالب العمّال المصروفين بالمصادرة وأن يظهروا المرافق ويؤدّوها، ونصب ديوانا للمرافق، وكان ضمن للمقتدر ووالدته من هذه الجهة كلّ يوم ألفا وخمسمائة دينار، وكانت تنسب إلى مال الخريطة، فكان يحملها ولا يمكنه الإخلال بها وكان منها للمقتدر فى كلّ يوم ألف دينار، وللسيّدة فى كلّ يوم ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون دينارا، وثلث، وللأميرين أبى العبّاس وهارون ابني المقتدر فى كلّ يوم مائة وستّ وستّون دينارا وثلثا.
وكان ابن الفرات قد اتّسع بما كان استسلفه [1] علىّ بن عيسى من الخراج، فإنّه قد كان جبى قطعة منه قبل الافتتاح وابتدأ بذلك قبل صرفه بعشرة أيّام، وأعدّ المال فى بيت المال لينفقه فى العيد فى إعطاء الحشم والفرسان والأتراك، فقويت نفس ابن الفرات به وانضاف إلى ذلك جملة عظيمة راجت له من مال المصادرات والضمانات، وأموال سفاتج وردت من فارس وإصبهان ونواحي المشرق فى درج كتب بحمول كتبت على أنها تصل إلى علىّ بن عيسى، فأطلق جميع ذلك فى الفرسان والحشم والخدم ومهمّ النفقات.
وكان الغالب [111] على أمر الدواوين والأعمال فى أيّام وزارة ابن الفرات هذه من بين سائر كتّابه أبو بشر عبد الله بن فرجويه، وكان السبب فى ذلك أنّه سلم من النكبة وقت القبض على ابن الفرات فى الدفعة الأولى، واستتر
__________
[1] . فى مط: استلفه.(5/97)
مدّة وزارة الخاقاني وعلىّ بن عيسى، وواصل بعد ما مضت سنة واحدة من وزارة علىّ بن عيسى مكاتبة ابن الفرات على يد عيسى المتطبّب، وكان ابن الفرات يجيبه عن رقاعة ويرسم له ما يكاتب به المقتدر عن نفسه، فى معايب علىّ بن عيسى وكتّابه وعمّاله، وأنّه ليس يصادر أحدا من عمّاله ويقول:
- «لا أخوّن عاملا بعد أن ائتمنته.» ويذكر تأخّر أرزاق الولد والحرم والحشم، حتّى إنّه اقتصر بالولد والحرم على جارى ثمانية أشهر فى السنة، والخدم والحشم بستّة أشهر من السنة، واقتصر بالفرسان من مائة وخمسين ألف دينار تطلق لهم فى الشهر على خمسين ألف دينار.
وكان المقتدر يواقف ابن الفرات على تلك الرقاع، فيعرّفه أنّ ابن فرجويه خبر بالأمور، وأنّه صادق فى كلّ ما ذكره فيهم المقتدر بصرف علىّ بن عيسى، فإذا شاور مونسا فى ذلك أشار عليه أن لا يفعل. ووصف علىّ بن عيسى بالديانة والأمانة.
فلمّا خرج مونس إلى مصر لمحاربة العلوي [112] صاحب المغرب، تمكّن ابن فرجويه من الجدّ فى السعى على علىّ بن عيسى، وكان غريب الخال ونصر الحاجب يدفعان عن علىّ بن عيسى لمّا غاب مونس. فلمّا تبيّن ابن [1] فرجويه دفع غريب ونصر عن علىّ بن عيسى، كتب رقعة بخطّه إلى المقتدر، يذكر فيها أنّه إن صرف علىّ بن عيسى عن الوزارة، وقلّد مكانه علىّ بن محمّد ابن الفرات، أطلق للولد والحرم والحشم ولمن بالحضرة من تفاريق الفرسان مثل ما كان يطلقه فى أيّام وزارته الأولى على التمام
__________
[1] . كذا فى الأصل ومط: ابن. فى مد لابن.(5/98)
والكمال والإدرار، وأن [1] يوفّر بعد ذلك من مال مصادرات العمّال ومال مرافقهم والاستثبات فى النواحي فى كلّ شهر من شهور الأهلّة خمسة وأربعين ألف دينار.
فواقف المقتدر ابن الفرات على هذه الرقعة، فذكر أنّ جميع ما تضمّنته صحيح، وبذل خطّه بضمانه جميع ذلك. فكانت هذه الرقاع من أكبر أسباب التحاقه على ابن فرجويه فى وزارته هذه واختصاصه به.
واتفق له مع ذلك أنّ ابن الفرات أودع على يده عند جماعة من التجار والكتّاب أموالا جليلة، ولم يقرّ ابن الفرات بما كان أودعه ابن فرجويه، لأنّه لم يكن يعرف أسماء من أودع ذلك عنده. فلمّا عاد إلى الوزارة استخرج له ابن فرجويه جميع ما كان أودعه له من غير [113] أن يذهب له شيء منه.
وكان أبو علىّ بن مقلة متعطّلا فى أيّام وزارة الخاقاني، وعلىّ بن عيسى ملازما منزله واستتر أيّام الخاقاني، ثمّ آمنه علىّ بن عيسى، فلزم منزله فشكر له ابن الفرات واختصّ به لهذه الحال.
ذكر ما جرى من ابن أبى الساج عند تداول الوزارة الأيدى الكثيرة
لمّا وقف يوسف بن أبى الساج على الخبر فى صرف علىّ بن عيسى عن الوزارة، وكان مقيما بأذربيجان ومتقلّدا أيّام وزارة ابن الفرات الأولى أعمال الصلاة والحرب والمعاون والخراج والضياع العامّة بأرمينية وأذربيجان، ومقاطعا على مال يحمله فى كلّ سنة عنها إلى بيت المال بالحضرة، وكان يزيح العلّة فى ذلك المال مدّة أيّام وزارة ابن الفرات الأولى. فلمّا ولى أبو
__________
[1] . أن: تبدو زائدة. وهي موجودة فى كلّ من الأصل ومط.(5/99)
علىّ الخاقاني الوزارة ثمّ علىّ بن عيسى، طمع فأخّر أكثر المال الذي كان يقاطع عليه، واجتمع له من ذلك ما قوى به وحمله على العصيان.
ذكر ما دبّره ابن أبى الساج واحتال به
أظهر أنّ علىّ بن عيسى أنفذ إليه اللواء والعهد عن المقتدر بالله بتقليده أعمال الحرب [114] بالرىّ وقزوين وأبهر وزنجان قبل صرفه عن الوزارة، وسار مبادرا إليها. فلمّا قرب منها انصرف عنها محمّد بن علىّ صعلوك، [1] وهرب إلى نواحي خراسان، وكان محمّد بن علىّ هذا متغلّبا على هذه النواحي، ثمّ قاطع عن الضياع والخراج مقاطعة خفيفة ولم يف بذلك أيضا.
فلمّا وقف ابن الفرات على ما فعله ابن أبى الساج أنهى ذلك إلى المقتدر، ثمّ ورد كتاب ابن أبى الساج بعد أيّام يعتدّ بما فعله من إخراج محمّد بن علىّ صعلوك عن الرىّ وما يليها، ويبشّر السلطان بفتحه هذه النواحي، ويصف أنّه لمّا ورد عليه العهد واللواء من جهة علىّ بن عيسى سار إليها فرزقه الله الفتح والنصر، فاغتاظ المقتدر بالله من ذلك وتقدّم إلى ابن الفرات بمواقفة علىّ بن عيسى على ما كتب به ابن أبى الساج، فأخرجه من محبسه [2] ورفق به وخاطبه بجميل وقال له:
- «قد يجوز أن تكون دبّرت بهذا الفعل على صعلوك وهذا غير منكر.» فحلف أنّه ما ولّاه ولا أنفذ إليه لواء ولا عهدا وقال:
- «ولا بدّ للواء والعهد أن ينفذ مع خادم من خدم السلطان، أو قائد من قوّاده. وهؤلاء الخدم والقوّاد بين أيديكم، سلوهم عن ذلك، ولديوان الرسائل
__________
[1] . فى مط: علىّ بن معلوك.
[2] . فى مط: مجلسه.(5/100)
[115] كاتب يتقلّده بكتب العهود والولايات، سلوه هل كتب بشيء؟» فأخذ منه ابن الفرات خطّا بما حكاه وعرضه على المقتدر بالله فازداد المقتدر غيظا على ابن أبى الساج.
وكتب ابن الفرات عن المقتدر بالله وعن نفسه إلى ابن أبى الساج فى هذا المعنى أغلظ كتب وتوعّده، وأنفذ إليه من الحضرة لمحاربته خاقان المفلحى، وضمّ إليه الرجال، وأنفذ بعده عدّة من القوّاد مددا له وأنفق الأموال فيهم.
وكان فيهم مثل محمّد بن مسرور [1] البلخي وسيما الخزري ونحرير الصغير وجماعة أمثالهم، فواقعه ابن أبى الساج وهزمه وأسر جماعة من أصحابه وأدخلهم مشهّرين إلى الرىّ.
وقدم مونس الخادم من الثغر، فندب لحرب ابن أبى الساج وشخص إليه، وكتب إلى جميع القوّاد فى طريقه بالانضمام إليه واستأمن إليه أحمد ابن علىّ صعلوك [2] فأحسن قبوله، وصرف خاقان المفلحى عمّا كان إليه من أعمال الجبل، وقلّد مكانه نحرير الصغير.
واتصلت كتب ابن أبى الساج يلتمس الرضا عنه ويبذل سبعمائة ألف دينار عن أعمال الخراج والضياع بكورة الرىّ وما يليها خالصة، سوى أرزاق الأولياء فى تلك الأعمال، وسوى النفقات [116] الراتبة، فلم يجبه المقتدر بالله إلى ما التمس فكتب يبذل أن يقيم بالرىّ متقلّدا أعمال المعاون والحرب بها فقط حتّى ينفذ السلطان إلى تلك النواحي من يتقلّد أعمال الصلاة والخراج والضياع والأحكام والبريد والخبر والخرائط والصدقات. فأقام المقتدر على أنّه لو بذل كلّ بذل لما أقرّه على الرىّ يوما واحدا لإقدامه على أن سار إليها بغير أمر.
__________
[1] . كذا فى الأصل ومط. فى مد: سرور.
[2] . فى مط: علىّ بن صعلوك.(5/101)
فلمّا رأى ابن أبى الساج هذه الحال انصرف عن الرىّ وأعمالها بعد أن أخربها وجبى مالها لسنة أربع وثلاثمائة فى مدّة قريب، وقلّد مونس الرىّ وقزوين وصيفا البكتمرّى، ورضى ابن أبى الساج بأن يجدّد له العهد والولاية للأعمال التي كانت إليه أوّلا، وأشار ابن الفرات بقبول ذلك منه وضمن أن يلزمه بهذا السبب حمل جملة من المال إلى بيت المال يحسن موقعها، فعارض ذلك نصر الحاجب وابن الحوارى وقالوا:
- «لا يجوز أن يقرّ على أرمينية وأذربيجان إلّا بعد أن يرد الحضرة ويطأ البساط.» ونسبوا ابن الفرات إلى مواطأته، فأقام المقتدر على أنّه لا بدّ من محاربته، أو يرد الحضرة، وكتب إلى مونس بالتعجّل إليه لمحاربته. [117] فلمّا رأى ابن أبى الساج أنّ دمه على خطر، حارب مونسا بسراة من بلد أذربيجان فانهزم مونس إلى زنجان، وقتل من قوّاد السلطان سيما، واستأسر ابن أبى الساج جماعة من قوّاد مونس فيهم هلال بن بدر، وأدخلهم إلى أردبيل مشهرين وأقام مونس بزنجان يجمع ليوسف، وهو مع ذلك يكاتبه ويراسله، وابن أبى الساج يلتمس منه الصلح ومونس لا يقبل منه إلّا المصير إلى الحضرة.
وكان ابن أبى الساج أبقى على مونس لمّا انهزم حتّى سلم فى ثلاثمائة غلام، ولو أراد ابن أبى الساج لأسره فكان مونس يشكر [1] ابن أبى الساج على هذه الحال.
فلمّا كان فى المحرّم بعد ذلك فى أيّام وزارة حامد بن العبّاس واقع مونس يوسف بن أبى الساج الوقعة الأخرى بأردبيل، فأسر يوسف وبه
__________
[1] . فى مط: يشكو.(5/102)
ضربات، وانصرف به مونس إلى بغداد. فلمّا كان سنة سبع وثلاثمائة حمل يوسف بن أبى الساج على جمل من باب الشمّاسية وأدخل بغداد مشهرا، على رأسه برنس وبين يديه الجيش إلى أن وصل إلى دار السلطان ووقّف بين يدي المقتدر، ثمّ حبس فى دار السلطان فى يد زيدان القهرمانة، ووسّع عليه ثمّ خلع على مونس وطوّق وسوّر [118] وخلع على جماعة من قوّاده وزيد الرجّالة نصف دينار لكلّ واحد فى الشهر.
ولمّا بعد مونس من أذربيجان وانكفأ راجعا إلى مدينة السلام ومعه يوسف بن يوداذ [1] غلب سبك غلام يوسف عليها، فأنفذ مونس إليه محمّد بن عبد الله الفارقي وقلّده البلد، وكان فى حدود أرمينية، فسار إلى سبك وحاربه فانهزم الفارقي وصار إلى بغداد وتمكّن سبك من البلد. ثم كتب إلى السلطان يسأل أن يقاطع عن الناحية، فأجيب وفورق [2] على أن يحمل فى كلّ سنة مائتين وعشرين ألف دينار، وأنفذت إليه الخلع والعقد ولم يف بما ووقف عليه.
وكان مونس لمّا ظفر بيوسف بن أبى الساج وقبل انصرافه عن أذربيجان قلّد بن وهسوذان أعمال الحرب بالرىّ ودنباوند [3] وقزوين وزنجان وأبهر وسلّمها إليه وجعل أموالها له ولرجاله، وقلّد أحمد بن علىّ صعلوك أعمال المعاون بإصبهان وقم وجعل مال الخراج والضياع بقم وساوة له ولرجاله، مبلغه فى كلّ سنة أكثر من مائتي ألف دينار.
ثمّ وثب أحمد بن مسافر صاحب الطرم على ابن أخيه علىّ بن وهسوذان وهو معه مقيم بناحية قزوين فقتله على فراشه [119] وهرب فى الوقت إلى
__________
[1] . فى مط: ديوداذاد.
[2] . فى مط: فأجيب بورق.
[3] . كذا فى الأصل ومط: دنباوند. حاء فى مد: ديناوند، وهو خطأ.(5/103)
بلده وكان أحمد بن علىّ أخو صعلوك مقيما بقم، فسار منها إلى الرىّ ودخلها فأنكر عليه السلطان فعله، وقلّد وصيف البكتمرى أعمال علىّ بن وهسوذان وقلّد محمّد بن سليمان صاحب الجيش أعمال الخراج والضياع وكوتب أحمد بن علىّ بالانصراف إلى قم، ففعل.
ثمّ جرت بينه وبين محمّد بن سليمان وحشة، فأظهر الخلاف وصرف عمّال الخراج والضياع عن قم، وأخذ فى الاستعداد للمسير إلى الرىّ.
وكوتب نحرير الصغير وهو متقلّد همذان بالمسير إلى الرىّ والاجتماع مع وصيف البكتمرى ومحمّد بن سليمان على دفع أحمد بن علىّ. وسار أحمد بن علىّ إلى باب الرىّ فواقعوه، وانهزم وصيف ونحرير إلى همذان، وقتل محمّد بن سليمان فى الوقعة، وحصلت الرىّ فى يد أحمد بن علىّ، فشرع فى إصلاح ما بينه وبين السلطان وعنى به نصر الحاجب فقاطع عن عمال الخراج بالرىّ ودنباوند وقزوين وزنجان وو أبهر على مائة وستّة وستين ألف دينار محمولة فى كلّ سنة إلى الحضرة، وقلّد الناحية، وقلّد محمّد بن خلف النيرمانى الضياع بهذه النواحي وأخرج أحمد بن علىّ عن قم فقلّد من نظر فيها.
ونعود إلى حديث ابن الفرات.
[120] لمّا تبيّن الوزير أبو الحسن ابن الفرات عداوة نصر الحاجب وأبى القاسم ابن الحوارى وشفيع اللؤلؤي ونسبهم إيّاه إلى مواطأة ابن أبى الساج على العصيان عاداهم ومنعهم أكثر حوائجهم وصرف نصرا وشفيعا عن أكثر أعمالهم.
وكان ابن الفرات قلّد أبا علىّ ابن مقلة كتابة نصر الحاجب، ثمّ استوحش أبو علىّ ابن مقلة من ابن الفرات لأجل استخدامه سعيد بن إبراهيم التستري(5/104)
فذكر لنصر أنّ ابن الفرات قد استخرج من ودائعه التي سلمت له خمسمائة ألف دينار بعد أن حلف فى وقت نكبته أنّه ما بقيت له وديعة لم يقرّ بها، فذكر نصر للمقتدر ذلك ليغيظه على ابن الفرات وغرّ نصر وابن الحوارى أبا علىّ ابن مقلة وأطمعاه فى الوزارة ليستخرجا ما عنده من أخبار ابن الفرات التي يضرّبون بها المقتدر عليه، حتّى ظهر الأمر فى ذلك واشتهر وكثرت به الأراجيف، فذهب أبو الخطّاب ابن أبى العبّاس ابن الفرات إلى عمّه فشرح له ما يتحدّث به الناس فقال له:
- «إن شككت فى أبى علىّ ابن مقلة مع تربيتي له ورفعي [1] منه شككت فى ولدي وفيك.» ثمّ تبيّن ابن الفرات بعد ذلك صحة ما نسب إلى ابن مقلة وأطلع [121] أبا علىّ ابن مقلة على بعض ما وقع إليه من الخوض فى أمره على طريق التعجّب ليصرفه عمّا شرع فيه، فاستوحش أبو علىّ منه وخاف معاجلته إيّاه بالنكبة، فجدّ فى السعى عليه واعتصم بنصر الحاجب.
ودخلت سنة خمس وثلاثمائة ورود رسولين لملك الروم بهدايا وألطاف كثيرة التماسا للهدنة
وفيها ورد رسولان لملك الروم إلى مدينة السلام على طريق الفرات بهدايا عظيمة وألطاف كثيرة يلتمسان الهدنة.
وكان دخولهما يوم الإثنين لليلتين خلتا من المحرّم، فأنزلا فى دار صاعد بن مخلد، وتقدّم أبو الحسن ابن الفرات بأن يفرش لهما ويعدّ فيه كلّ ما
__________
[1] . ويحتمل أن يقرأ: ودفعى، كما قرئ فى مد.(5/105)
يحتاجان إليه من الآلات والأوانى وجميع الأصناف، وأن يقام لهما ولمن معهما الأنزال الواسعة والحيوان الكثير والحلاوة، حتّى يتّسع بذلك كلّ من معهما، والتمسا الوصول إلى المقتدر بالله ليبلّغاه الرسالة التي معهما.
فأعلما أنّ ذلك معتذّر صعب لا يجوز إلّا بعد لقاء وزيره ومخاطبته فيما قصد إليه وتقرير الأمر معه والرغبة إليه فى تسهيل الإذن على الخليفة [122] والمشورة عليه بالإجابة إلى ما التمسا.
فسأل أبو عمر عدىّ بن عبد الباقي الوارد معهما من الثغر أبا الحسن ابن الفرات الإذن لهما فى الوصول إليه فوعده بذلك فى يوم ذكره له.
وتقدّم الوزير بأن يكون الجيش مصطفّا من دار صاعد إلى الدار التي أقطعها بالمخرّم، وأن يكون غلمانه وحده وخلفاء الحجّاب المرسومين بداره منتظمين من باب الدار إلى موضع مجلسه، وبسط له فى مجلس عظيم مذهّب السقوف فى دار منها يعرف بدار البستان بالفرش الفاخر العجيب، وعلّقت الستور التي تشبه الفرش واستزاد فى الفرش والبسط والستور ما بلغ ثمنه ثلاثين ألف دينار، ولم يبق شيء تجمّل [1] به الدار ويفخّم به الأمر إلّا فعل، وجلس على مصلّى عظيم من ورائه مسند عال والخدم بين يديه وخلفه وعن يمينه وشماله، والقوّاد والأولياء قد ملأوا الصحن، ودخل إليه الرسولان فشاهدوا فى طريقهما من الجيش وكثرة الجمع ما هالهما.
ولمّا دخلا دار العامّة أجلسهما الحاجب فى رواقها والرجال قد امتلأت بهم الدار، ثمّ أخذ بهما فى ممرّ طويل من وراء هذا الرواق حتّى أخرجهما إلى صحن البستان، ثمّ عدل بهما إلى المجلس الذي كان [123] الوزير جالسا فيه، فشاهدا من بهاء المجلس والفرش الذي فيه وكثرة الجمع منظرا
__________
[1] . فى مط: فحمل.(5/106)
عجيبا جليلا.
وكان معهما أبو عمر بن [1] عبد الباقي يترجم عنهما ولهما.
وحضر نراد بن محمّد صاحب الشرطة فى جميع رجاله فأقيما بين يدي الوزير أبى الحسن ابن الفرات، فسلّما وترجم لهما، ابن عبد الباقي ما قالا فأجابهما بما ترجمه لهما ورغبا إليه، فى إيقاع الفداء ومسألة المقتدر بالله الإجابة إليه فأعلمهما أنّه يحتاج إلى مخاطبته فيما ذكراه، ثمّ العمل فيه بما يرسمه، والتمسا منه إيصالهما إليه فوعدهما به.
وأخرجا من بين يديه وأخذ بهما فى الطريق الذي دخلا منه وعادا إلى دار صاعد والجيش منتظم طول الطريق بأحسن زىّ وأكمل هيأة. وكان زيّهما دراريع ديباج ملكيّة ووقايات وفوق الوقايات قلانس ديباج محدودة الرؤوس.
وخاطب ابن الفرات المقتدر بالله فى إيصالهما إليه، وواقفه على ما يجيبهما به، وتقدّم إلى سائر الأولياء والقوّاد وسائر أصناف الجند بالركوب إلى دار السلطان، وأن يكونوا منتظمين للظهر من دار صاعد إلى دار السلطان.
فركبوا ووقفوا فى الطريق على هذا الترتيب [124] فى الزىّ الحسن والسلاح التامّ، وتقدّم بأن تشحن رحاب [2] الدار والدهاليز والممرّات بالرجال والسلاح وأن يفرش سائر القصر بأحسن الفرش ولم يزل يراعى ذلك حتّى فرغ من جميعه.
ثمّ أنفذ إلى الرسولين بالحضور، فركبا إلى الدار على الظهر وشاهدا فى طريقهما من الجيش وكثرته وحسن زيّه وتكامل عدّته أمرا عظيما، ولمّا
__________
[1] . فى مط: أبو عمران عبد الباقي.
[2] . فى مط: رجات.(5/107)
وصلا إلى الدار أخذ بهما فى ممرّ يقضى إلى صحن من تلك الصحون، ثمّ عدل بهما إلى ممرّ آخر، وأخرجا منه إلى صحن أوسع من الأوّل، ولم تزل الحجّاب يخترقون بهما فى الصحون والممرّات حتّى كلّا من المشي وانبهرا.
وكانت تلك الصحون والممرّات محشوّة بالغلمان والخدم.
إلى أن قربا من المجلس الذي فيه المقتدر بالله والأولياء وقوف على مراتبهم، والمقتدر جالس على سرير ملكه، وأبو الحسن ابن الفرات واقف بالقرب منه، ومونس الخادم، ومن دونه من الخدم وقوف عن يمينه ويساره.
فلمّا دخلا إلى المجلس قبّلا الأرض ووقفا حيث استوقفهما نصر الحاجب، وأدّيا إليه رسالة صاحبهما فى الفداء، ورغبا إليه فى إيقاعه فأجابهما الوزير عنه بأنّه يفعل ذلك رحمة للمسلمين ورغبة فى فكّهم وإيثارا لطاعة الله عزّ وجلّ [125] وخلاصهم، وأنّه ينفذ مونسا لحضور ذلك.
ولمّا خرجا من حضرته خلع عليهما مطارف خزّ مذهّبة وعمائم خزّ، وخلع على أبى عمر أيضا وانصرف على الظهر معهما والجيش على حاله منتظم للفداء.
فتأهّب لذلك وابتيع من التمس الرسل ابتياعه من الروم المطلوبين وأطلق له وللقوّاد الشاخصين معه من بيت المال بالحضرة مائة ألف وسبعون ألف دينار. وكتب إلى العمّال فى طريقه بإزاحة علّته فيما يلتمسه، وحمل إلى كلّ واحد من الرسولين عشرون ألف درهم صلة لهما، وخرجا مع مونس ومعهما أبو عمر وتمّ الفداء فى هذه السنة على يد مونس.
وفيها أطلق أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان وإخوته من الحبس فى دار السلطان وخلع عليهم خلعة الرضا.
وفيها مات العبّاس بن عمرو الغنوي، وكان متقلّدا أعمال الحرب والمعاون(5/108)
بديار مضر، [1] فقلّد مكانه وصيف البكتمرى فلم يضبط العمل فقلّد مكانه جنّى الصفواني فضبطه أحسن ضبط.
ودخلت سنة ست وثلاثمائة
القبض على ابن الفرات وانتهاء وزارته الثانية
وفيها قبض على الوزير أبى الحسن ابن الفرات وكانت مدّة وزارته هذه الثانية سنة واحدة [126] وخمسة أشهر وتسعة عشر يوما.
ذكر السبب فى ذلك كان السبب الظاهر فى صرف ابن الفرات عن وزارته هذه الثانية، أنّه أخّر إطلاق أرزاق الفرسان الذين مع القوّاد واحتجّ بضيق الأموال، لأجل ما احتيج [2] إليه من صرفها إلى محاربة ابن أبى الساج، وأيضا لأجل نقصان الارتفاع بأخذ يوسف مال الرىّ، فشغب الفرسان فى أوّل سنة ستّ وثلاثمائة شغبا عظيما، وخرجوا إلى المصلّى. والتمس ابن الفرات من المقتدر بالله إطلاق مائتي ألف دينار من بيت مال الخاصّة ليضيف إليها مائتي ألف دينار ينفق فى الفرسان، فغلظ ذلك على المقتدر وراسله بأنّه قد كان ضمن له أن يقوم بسائر النفقات على رسمه كان فى وزارته الأولى، وبحمل ما ضمن حمله إلى حضرته مفردا، وأنّه لم يظنّ أنّه يقدم عليه بطلب مال. فاحتجّ ابن الفرات بما ذكرته فلم يسمع حجّته وتنكّر له.
وكان عبد الله بن جبير لمّا أقام فى وزارة علىّ بن عيسى بواسط، وقد عرف مقدار ارتفاع أعمالها وما يحصل لحامد بن العبّاس من الفضل على
__________
[1] . فى مط: بديار مصر.
[2] . فى مط: احتج.(5/109)
الضمان، شرح ذلك لابن الفرات [127] وبيّن له وجوهه لمّا عاد إلى بغداد وعند عوده إلى مجلس الأصل فى ديوان السواد. فعظم ذلك فى نفس ابن الفرات. فلمّا أتى على ذلك مدّة استأذن ابن جبير ابن الفرات فى أن يكاتب حامدا فى بعض ما كان أنهاه إليه من ضمان حامد، فأذن له فيه إذنا ضعيفا فكتب من مجلسه- وهو مجلس الأصل فى ديوان الخراج- إلى حامد وأجاب حامد وتردّدت بينهما مكاتبات فى هذا المعنى.
وتبع ذلك كتب بشر بن علىّ، وهو خليفة حامد، يعتب على ابن جبير لما كان يتكلّم به فى مجلسه، فاستوحش حامد من ذلك وتخوّف أن يكون ما يظهره ابن جبير عن مواطأة الوزير ابن الفرات ولشيء قد عرفه من نيّته، فأنفذ من يسفر له فى الوزارة ويخاطب له نصرا الحاجب، فسعى له فى ذلك وعرّف نصر سعة نفس حامد وضمن له تصحيح أموال جليلة من جهة ابن الفرات وأسبابه، وراسل أيضا السيّدة فى هذا الباب.
ووافق ما سعى له فيه وما بذله له سوء رأى نصر فى ابن الفرات وتخوّفه منه والإضافة التي عرضت فى الوقت حتّى طلب ما طلب، فتمّ لحامد ما قدّره بما اجتمع من هذه الأحوال. فروسل حامد بالخروج إلى الحضرة من واسط [128] وأن يكتب كتابا بخروجه إلى أجنحة الطير.
فلمّا وقف عليه المقتدر أنفذ نصرا الحاجب وشفيعا المقتدري فقبضا على ابن الفرات وعلى ابنه المحسّن وموسى بن خلف وعيسى بن جبير وسعيد بن إبراهيم التستري وأمّ ولد له وابنها منه، وحملوا إلى دار السلطان فاعتقل أبو الحسن ابن الفرات وحده فى يد زيدان القهرمانة واعتقل الباقون فى يد نصر.
ووصل حامد إلى مدينة السلام وأقام ليلته فى دار الحجبة من دار السلطان، وتحقّق به أبو القاسم ابن الحوارى. وجلس حامد يتحدّث، فبان للقوّاد وجميع خواصّ المقتدر حدّته وقلّة خبرته بأمر الوزارة.(5/110)
وحدّث المقتدر بذلك فاستدعى أبا القاسم ابن الحوارى وعاتبه على مشورته به، فوصفه ابن الحوارى باليسار العظيم وباستخراج الأموال وهيبته عند العمّال ونبل النفس وكثرة الغلمان. وكان مع حامد لمّا قدم أربعمائة غلام يحملون السلاح فيهم عدّة يجرون مجرى وجوه القوّاد وأكابر أصحاب السلطان.
وأشار ابن الحوارى على المقتدر فى عرض كلامه بإطلاق علىّ بن عيسى وتقليده الدواوين بأسرها ليخلف حامدا عليها فامتنع المقتدر من ذلك إلّا بعد أن يلتمسه حامد [129] منه، فاحتال ابن الحوارى على حامد وقال له:
- «التمس ذلك من المقتدر إذا وصلت إلى حضرته وعظّم عليه أمر الأعمال والدواوين وحوائج الحاشية وخوّفه من سوء أدبهم [1] وصوّر لحامد أنّه إن لم يفعل ذلك فعل مراغمة له.» وحلف أنّه ناصح له. فلمّا وصل حامد إلى المقتدر بالله وتقلّد وزارته قبّل الأرض بين يديه، وبعقب ذلك سأله إطلاق علىّ بن عيسى والإذن له فى استخلافه على الدواوين والأعمال.
فقال له المقتدر بالله:
- «ما أحسب علىّ بن عيسى يجيب إلى ذلك ولا يرضى أن يكون تابعا بعد أن كان متبوعا رئيسا.» فقال حامد بحضرة الناس:
- «لم لا يستجيب إلى ذلك وإنّما مثل الكاتب مثل الخيّاط يخيط ثوبا قيمته ألف دينار ويخيط ثوبا بعشرة دراهم.» فضحك الناس منه.
__________
[1] . فى مط: من سوادهم. بدل «من سوء أدبهم» .(5/111)
وزارة حامد بن العباس
ولمّا خلع على حامد خلع الوزارة صار إلى دار الوزارة بالمخرّم، فنزلها وجلس فيها للتهنئة ولم يقرّر شيئا من الدواوين فتركها مختومة ذلك اليوم، وتحقّق به أبو علىّ بن مقلة واختصّ به واستحضر حامد أبا عبد الله زنجىّ الكاتب فألزمه داره وردّ إليه مكاتبة العمّال عنه على رسمه مع ابن الفرات.
وتحقّق بجميع الأمور ابن الحوارى [130] وصار هو السفير بين حامد وبين المقتدر بالله، وكتب عن المقتدر إلى جميع أصحاب الأطراف وعمّال المعاون بخبر تقليده حامدا الوزارة، أنشأ ذلك أبو الحسن محمّد بن جعفر بن ثوابة.
ثمّ قرّر حامد وعلىّ بن عيسى أمر الدواوين على اتفاق منهما جميعا ثمّ ابتدأ بعد ذلك يغيّر ما رأى تغييره.
وكان علىّ بن عيسى فى أوّل أيّام وزارة حامد بن العبّاس يحضر دار حامد فى كلّ يوم دفعتين [1] مدّة شهرين، ثمّ صار يحضر فى كلّ أسبوع دفعة واحدة ثمّ سقطت منزلة حامد عند المقتدر بالله أوّل سنة سبع وثلاثمائة وتبيّن هو وخواصّه أنّه لا فائدة فى الاعتماد عليه فى شيء من الأمور، فتفرّد حينئذ أبو الحسن علىّ بن عيسى بتدبير سائر أمور المملكة، وأبطل حامدا فصار لا يأمر فى شيء بتّة حتّى قيل فيه:
هذا وزير بلا سواد ... وذا سواد بلا وزير
فلمّا رأى حامد بن العبّاس نفسه لا يأمر ولا ينهى ولا يزيد على لبس السواد والركوب فى أيّام المواكب إلى دار السلطان، فإذا حضر لم يدخله المقتدر فى شيء من التدبير، وكان الخطاب كلّه مع علىّ بن عيسى، شرع
__________
[1] . فى مط: مرفقين.(5/112)
فى تضمّن أعمال الخراج والضياع [131] والخاصّة والعامّة المستحدثة والعبّاسيّة والفراتيّة بالسواد والأهواز وإصبهان، وتردّدت بينه وبين علىّ بن عيسى فى ذلك بحضرة المقتدر مناظرات إلى أن تضمّن هذه الأعمال.
فضمّن حامد أبا علىّ أحمد بن محمّد بن رستم إصبهان بزيادة مائة ألف دينار فى كلّ سنة على ما كان يرتفع به على يده ويد ابن أبى البغل ويد أحمد بن سياه، ولمّا زال ضمان حامد عقد علىّ بن عيسى على أبى علىّ ابن رستم إصبهان بهذه الزيادة ثمّ شرح أبو الحسين ابن أبى البغل عظيم ما يرتكب [1] أبو علىّ ابن رستم من الظلم لأهل إصبهان، فبحث عنه علىّ بن عيسى حتّى تحقّقه، فاستشار ابن أبى البغل فأشار بعقد الضمان على صاحبين له كانا يتولّيان له بإصبهان مدّة تقلّده إيّاها وهما أبو مسلم محمّد بن بحر وأبو الحسين أحمد بن سعد. فعقد ذلك عليهما بثمانين ألف دينار زيادة وحطّ من جملة المائة الألف عشرين ألفا، ليكون فى ذلك ترفيه للرعيّة، وسلّم إليهما ابن رستم.
ولمّا تبيّن حامد اتّضاع [2] حاله عند المقتدر ورأى أنّه لا يأمر ولا ينهى فى شيء من أمر المملكة استأذن فى العود إلى واسط ليدبّر أمر ضمانه الأوّل، فأذن له [132] المقتدر فى ذلك وأقام بواسط وله اسم الوزارة فقط.
ذكر ما عامل به حامد بن العبّاس علىّ بن محمّد بن الفرات وأسبابه
ركب حامد بن العبّاس وعلىّ بن عيسى ثالث يوم تقلّد حامد الوزارة إلى
__________
[1] . فى مط: ما يركب.
[2] . فى مط: اقطاع.(5/113)
المقتدر ووصل الناس ووصلا [1] إليه، والتمس حامد الإذن لرجل من الجند وذكر أنّه وجده قبل تقلّده الوزارة وأقرّ له بأنّه كان رسول ابن الفرات إلى يوسف بن أبى الساج فى العصيان، فأحضره كتابا منسوبا إلى ابن أبى الساج من ابن الفرات فغلظ ذلك على المقتدر واغتاط على ابن الفرات وأقبل على أبى عمر القاضي وقال له:
- «ما عندك فى هذا الفعل من ابن الفرات؟» قال له:
- «يا أمير المؤمنين لئن صحّ أنّه أقدم على هذا الفعل لقد سعى فى إفساد أمر المملكة.» ثمّ أقبل بعده على أبى جعفر ابن البهلول القاضي فقال له:
- «ما عندك فى هذا؟» قال له:
- «عندي أنّ الله عزّ وجلّ قد أمر بالتثبّت ونهى عن قبول قول الفاسق.» ثمّ ناظر ابن البهلول الرجل مناظرة أدّت إلى أنّه كذب، فأقرّ الرجل بالكذب فيما ادّعاه فسلّم الرجل إلى صاحب الشرطة وأمر بضربه مائة سوط، فضرب [133] وحبس فى المطبّق ثمّ نفى إلى مصر.
ثمّ إنّ حامدا وعلىّ بن عيسى أحضرا أبا علىّ الحسين بن أحمد المادرائى مناظرة ابن الفرات فى دار السلطان، فكاشف الحسين بن أحمد المادرائى ابن الفرات بأنّه حمل إليه فى وزارته الأولى أربعمائة ألف دينار من مال المرافق بأجناد الشام وإنّ أبا العبّاس بن بسطام وأبا القاسم ابنه بعده حملا إليه ثمانمائة ألف دينار من مال الاستثناء والمرافق بكور مصر حسابا فى كلّ
__________
[1] . قرئ الكلمة فى مد: ودخلا. فى مط: ووصلا، كما أثبتناه.(5/114)
سنة مائتي ألف دينار.
وحضر المناظرة القضاة والكتّاب وجلس المقتدر بحيث يسمع ما يجرى ولا يراه أحد واحتجّ ابن الفرات بأن قال:
- «إنّ هذا العامل قد تولّى أعمال مصر والشام فى أيّام وزارة علىّ بن عيسى وقد اعترف بأنّ هذه أموال واجب استخراجها وادّعى أنّه حمل بعضها إلىّ حيث كان متقلّدا أعمال أجناد الشام وأنّ ابني بسطام حملا إلىّ ما ذكره.» وقد ولى علىّ بن عيسى الوزارة مدّة أربع سنين وليس يخلو هذا المال من أن يكون حمله إلى علىّ بن عيسى فهو واجب عليه أو لم يحمله فهو واجب على هذا العامل فى نفسه.
ثمّ قد اعترف أنّه قد جبى فى أيّام وزارتي الأولى ما قال وهو أربعمائة ألف دينار [134] وادّعى حملها إلىّ فصار مقرّا على نفسه ومدّعيا علىّ وأنا أقول إنّه كاذب فى ادّعائه علىّ وحكم الله تعالى ورسوله والفقهاء معروف فى أمثاله. فأسمعه حامد ما يكره وشتمه شتما قبيحا، فقال له ابن الفرات:
- «أنت على بساط السلطان وفى دار المملكة وليس هذا الموضع ممّا تعرفه من بيدر تقسمه [1] ولا هو مثل أكّار تشتمه ولا عامل تلاكمه.» ثمّ أقبل على شفيع اللؤلؤي وقال له:
- «يجب أن تكتب عنّى بما أقوله إلى مولانا، أيّده الله: إنّ حامدا إنّما حمله على الدخول فى الوزارة وليس من أهلها أنّى أوجبت عليه أكثر من ألف ألف دينار من فضل ضمانه أعمال واسط وجدّدت فى مطالبته بها فقدّر بدخوله فى الوزارة أن يفوز بذلك الفضل وبما يحصّله مستأنفا وقد كان ينبغي
__________
[1] . فى مط: من يبدر بقسمه.(5/115)
له وهو وزير أمير المؤمنين أن يدع ضمان أعمال واسط حتّى يتبيّن أمربح هو أم مخسر [1] فيدبّره أبو الحسن علىّ بن عيسى فإنّه لا يشكّ أحد فى بعد ما بينه وبين حامد فى الصناعة والاحتياط، فأمّا وهو وزير وهو ضامن فهذا أوّل خيانته واقتطاعه.» فأمر حامد بن العبّاس أن تنتف لحيته فلم يمتثل أحد أمره، فوثب هو بنفسه إليه وجذب لحيته.
وكان [135] الخطاب قد انتهى أن بذل الحسين بن أحمد المادرائى خطّه بخمسمائة ألف دينار سلّم إليه ابن الفرات، وكان ذلك قبل شتيمة حامد له ومدّ يده إلى لحيته. وكان حامد أحضر أبا علىّ ابن مقلة وواقفه على أن يواجه ابن الفرات بأنّه قد استخرج من ودائعه التي كتمها فى وزارته خمسمائة ألف دينار فلم يبرز أبو علىّ صفحته لابن الفرات وراسله حامد فى المجلس أن [2] يفي بوعده ويوافقه فى وجهه فقال أبو علىّ:
- «أنا أكتب خطّى بذلك فأمّا أن أواجه ابن الفرات فلا أفعل.» فغلظ ذلك على حامد وتنكّر لابن مقلة منذ هذا اليوم.
وكان علىّ بن عيسى لا يزيد على أن يكلّم ابن الفرات فى مواضع الحجّة بكلام جميل وحامد مشغول بالسفه والشتم. وكان ابن الحوارى يرى ابن الفرات أنّه متوسّط بينه وبين حامد وتبيّن فى خطابه أنّه متحامل على ابن الفرات ولمّا سمع المقتدر شتم حامد لابن الفرات و [3] وقف على مدّ يده إلى لحيته أنفذ خادما [4] أقام ابن الفرات من مجلسه وردّه إلى محبسه، فقال علىّ
__________
[1] . فى مط: أيربح، أم يخسر.
[2] . تكررت «أن» فى الأصل.
[3] . فى مط: وقف (دون الواو) .
[4] . كذا فى الأصل: خادما. وفى مط: حامدا.(5/116)
بن عيسى وابن الحوّارى لحامد:
- «قد جنيت علينا بما فعلته بابن الفرات.» وكان الحسين بن أحمد المادرائى بعد مكاشفته لابن الفرات قال له:
- «إن تأدّى إلى المصادرة [136] تحمّلت عنك خمسين ألف دينار.» فلمّا خرج من المجلس قال له نصر الحاجب وعلىّ بن عيسى وابن الحوارى:
- «دخلت لتناظر الرجل فلم تبرح حتّى بذلك له مرفقا وصانعته.» فقال لهم:
- «أدخلتمونى إلى رجل قال لى بعضكم لمّا دخلت إليه: أنظر لمن تخاطب. وقال آخر: أنظر بين يديك. وقال آخر: الله الله فى نفسك. فلم أجد شيئا أقرب إلى الصواب ممّا فعلته بعد أن سمعت كلامه.» فمن جميل ما عمله ابن الفرات أنّه لمّا تقلّد بعد هذا الوقت الوزارة وهي وزارته الثالثة قبض على ابن الحسين بن أحمد [1] المادرائى وهو أكبر أولاده فأخذ خطّه بخمسة [2] وعشرين ألف دينار كانت واجبة عليه من مال السلطان ولم يطالبه بها واعتقله إلى أن وافى أبوه الشام، فذكّره ابن الفرات ما كان بذله من الخمسين الألف الدينار التي تحمّلها عنه وقال له:
- «قد كنت مخيّرا أن تفعل وأن لا تفعل وإنّما وعدت وعدا وهذه رقعة بخطّ ابنك بخمسة وعشرين ألف دينار وهي واجبة عليه حاصلة قبله ولا حجّة له ولا لك فيها وقد رددتها عليك مكافأة لك على ما بذلت.
وقد كان أنفذ أبو أحمد بن حمّاد لمناظرة ابن الفرات بحضرة شفيع اللؤلؤي وغيره فافتتح ابن حمّاد الخطاب بأن قال:
__________
[1] . سقط من مط «بن أحمد» .
[2] . فى مط: بخمس.(5/117)
- «إنّ [137] الوزير والرئيس أدام الله عزّهما يقولان لك: أصدق نفسك فقد وصل إليك من ضياعك وغلّاتك فى كلّ سنة ألف ألف ومائتا ألف دينار ومن وجوه ارتفاقاتك مثلها وهذا مال عظيم، فاكتب خطّك بألف ألف دينار معجّلة تقدّمها إلى أن ينظر فى أمرك حتّى تسلم نفسك وإلّا سلّمت إلى من يعاملك بما يعامل به مثلك من الخونة الذين دبّروا على المملكة فقد صحّ عند السلطان أنّك كاتبت ابن أبى الساج وأمرته بالعصيان.» فقال له ابن الفرات:
- «قد كان ينبغي أن يشغلك أمرك وما عليك فى نفسك عن تحمّل الرسائل قد تصرّفت لعلّى بن عيسى أربع سنين واقتطعت أموالا، فلمّا نظرت فى الأمر استترت عنّى وكتبت إلىّ من تصرّف مكانك باستدراكات عليك وارتفاقات لك كثيرة والكتب بأعيانها فى ديوان السلطان محفوظة.» فأقبل شفيع على ابن حمّاد فقال له:
- «لست من رجال ابن الفرات، فقم إلى ابنه المحسّن فناظره.» فقام وأخذ خطّ المحسّن بثلاثمائة ألف دينار. ثمّ ناظر موسى بن خلف وسأله عن ودائع ابن الفرات وأمواله فقال له موسى:
- «ما له عندي وديعة ولا أعرف أخبار ودائعه ولا [138] له على يدي مال ولا وليت له عملا سلطانيا وإنّما كنت أنظر فى نفقات داره.» وكان موسى ابن خلف شيخا كبيرا قد أتت عليه نحو تسعين سنة وكان مع ذلك عليلا به ذرب لا فضل فيه [1] للمكروه فشتمه ابن حمّاد. وكان يتردّد بعد ذلك إلى أصحاب ابن الفرات ويناظرهم فلا يرتفع له شيء. وكان علّق المحسّن بفرديد من حبل الستارة فلم يصح له من جهته شيء. فلمّا رأى
__________
[1] . فى مط: درب لا فصل فيه. وفى مد: لا فضل له (خلافا للأصل) .(5/118)
ذلك استعفى منهم فأعفى وأحضر حامد موسى بن خلف فقال له:
- «دلّ على أموال ابن الفرات فإنّك تعرفها ولا تحوج إلى مكروه يقع بك.» فقال له: «أحلف بما شئت من الأيمان إنّى لا أعرف شيئا من ودائعه.» فأمر بصفعه فصفع إلى أن سأل علىّ بن عيسى فيه وأشار إلى الغلمان بالكفّ. ثمّ عاوده حامد بالمكروه مرّات حتّى أحضره ليلة بين يديه وضربه حتّى مات تحت الضرب فقيل له:
- «إنّه قد تلف [1] .» فقال: «اضربوه.» فضرب بعد موته سبعة عشر [سوطا] [2] فلمّا علم بموته أمر بجرّ رجله، فجرّ وتعلّقت أذنه فى رزّ عتبة الباب فانقلعت وحمل إلى منزله ميتا.
واستحسن من فعل موسى بن خلف ووفائه أنّه كان يقف على أموال مودعة لصاحبه عند جماعة فلم يقرّ عليه [139] إلى أن تلف.
وأحضر حامد المحسّن وطالبه فذكر المحسّن أنّه لا يقدر على أكثر من عشرين ألف دينار فأمر بصفعه فصفع فرأى على رأسه شعرا كثيرا فقال:
- «هذا لا يتألم بالصفع، هاتوا من يحلق شعره.» فأخرج من بين يديه فحلق شعره ثمّ أعيد [3] إليه فصفعه حتّى كاد يتلف وذلك بين أيدى جماعة كثيرة، فشفع إليه علىّ بن عيسى وسأله أن يقتصر منه على خمسين ألف دينار، فحلف أنّه لا يقنع منه بدون سبعين ألف دينار، فبذل خطّه بها وألبسه جبّة صوف وعذّبه ألوانا ثمّ سلّمه إلى أبى الحسن
__________
[1] . فى مط: أتلف.
[2] . زدناه كما زيد فى مد.
[3] . كذا فى الأصل: أعيد. وفى مط: اعتد.(5/119)
الثعبانى فأدّى ستين ألف دينار بعد أن استماح الناس وأسعفه علىّ بن عيسى بعشرة آلاف درهم وأقام شهورا كثيرة يستميح الناس حتّى صحّح ما بذل خطّه به وكثرت الشفاعات فيه فردّه حامد إلى منزله.
وجهد حامد فى أن يسلّم إليه ابن الفرات فقال المقتدر:
- «أنا أسلّمه إليك وأوكّل به خادما يحفظ نفسه.» فقال حامد:
- «إذا علم ابن الفرات أنّه يحرس من المكروه تماتن.» فقال المقتدر:
- «أنا أسلّمه [1] إلى علىّ بن عيسى أو إلى شفيع اللؤلؤي فإنّى أثق بهما.» وكان المقتدر يروّى [2] فى أمر ابن الفرات فتارة تشره نفسه إلى [140] المال وتارة يكره أن يتلف فى يد حامد. فعرفت زيدان القهرمانة هذه الحالة من المقتدر وأعلمتها ابن الفرات، فأظهر ابن الفرات أنّه رأى أخاه أبا العبّاس فى النوم ووصّاه وقال له:
- «أدّ المال فإنّ القوم ليس يريدون نفسك وإنّما يريدون مالك.» وأنّه قال:
- «قد أدّيت إليهم جميع مالي.» وأنّ أخاه أجابه بأن قال [3] :
- «لم تؤد إليهم المال الفلاني.» فقلت: «إنّ معظم ذلك لورثتك.» فقال: «أدّه فإنّا جمعناه من أسلافهم وادّخرناه لمثل هذا اليوم.»
__________
[1] . أسلّمه: كذا فى الأصل. وما فى مط: أصله.
[2] . يروّى فى أمر ابن الفرات: العبارة سقطت من مط، ولا بدع.
[3] . فى مد: قال له: بزيادة «له» على الأصل.(5/120)
ثمّ كتب إلى تاجرين بحمل ما عندهما وهو سبعمائة ألف دينار إلى حضرة المقتدر. وكتب إلى أبى بكر ابن قرابة بشيء آخر وإلى ابن إدريس الحمّال بشيء آخر، فأنفذ المقتدر رقاعة إلى حامد وعلىّ بن عيسى فغلظ ذلك عليهما ويئسا معهما [1] من تسلّم ابن الفرات وقال علىّ بن عيسى وابن الحوارى لحامد:
- «أىّ شيء عندك فيما فعله ابن الفرات؟» فقال حامد:
- «هذا من إقبال مولانا أمير المؤمنين.» فقال له علىّ بن عيسى:
- «هذا لا شكّ فيه كما قال الوزير، أيّده الله، ولكن ما أشكّ أنّ ابن الفرات ما فعل هذا حتّى توثّق بنفسه ولا سمح بهذا المال العظيم عفوا بغير مكيدة [2] وقد كان يجوز أن يقنع [3] منه [141] ببعضه إلّا لشروعه فى تضمّن أنفسنا وأحوالنا.» فقال حامد وابن الحوارى:
- «هذا لا شكّ فيه.» ثمّ تشاغل حامد وعلىّ بن عيسى باستحضار من عليه المال وأوصلوا إليهم رقاع ابن الفرات فاعترفوا بحصّته سوى ابن قرابة فإنّه قال فى عشرة آلاف دينار كان أودعه إيّاها:
- «قد كان أودعنى [4] هذا المال ثمّ ابتاع منّى فى أوّل سنة ستّ وثلاثمائة
__________
[1] . فى مد: معها (تغييرا للأصل) .
[2] . فى مط: عفوا بغير تعيين مكروه. بدل «عفوا بغير مكيدة» .
[3] . فى الأصل: يقنع (بشيء من الغموض) فى مط أيضا: يقنع. فى مد: يقع.
[4] . فى مط: أوجعنى، بدل «أودعنى» .(5/121)
عنبرا ومسكا كثيرا أهدى أكثره إلى المقتدر بالله واليسير منه لنفسه ومعى توقيعاته بخطّه بتواريخ أوقاته.» واستدعى أن يجمع بينه وبين ابن الفرات فأنفذه حامد إلى دار السلطان وأوصله مفلح إلى ابن الفرات حتّى ذكر له ذلك فصدّقه وقال له:
- «لا تلمني على ما كتبت به فقد كنت أنسيت ما جرى فيه ولعمري لقد كنت جعلت مال الوديعة محسوبا لك فى ثمن العطر.» وكتب ابن الفرات خطّه بصحة ما قاله ابن قرابة فسلّمت الدنانير لابن الفرات وكان هذا الفعل من ابن قرابة أوكد أسباب تحقّقه فيما بعد ذلك بابن الفرات. وقد كان ابن الفرات أودع القاضي أبا عمر مالا لابنه الحسن بن دولة فلحقت أبا عمر رهبة شديدة من حامد لبسطه يده على القضاة والشهود [142] فاعترف أبو عمر القاضي أنّ لابن الفرات عنده وديعة لمّا سأله حامد هل عنده وديعة. فأمر بإحضاره فأحضره وأدّاه وبلغ ذلك ابن الفرات فتنكّر لأبى عمر.
فحكى أنّ أبا بكر ابن قرابة قال: لمّا خلع على ابن الفرات للوزارة الثالثة كنت أوّل من لقيه فى دهليز الحجبة المتصل بباب الخاصة فقال:
- «يا با بكر تقرّب أبو عمر بوديعتى وعرّضنى [1] .» قال: فقلت:
- «الوزير أيّده الله صادق فمن أخبره؟» فأومأ إلى زيدان القهرمانة وأن القاضي أبا عمر عرف تنكّر الوزير له.
ووصل إلى منزله وقت العشاء الآخرة فإذا فأبى عمر وابنه جالسين فى مسجد على [2] بابه فأكبر ذلك ونزل إليهما فحلفا عليه أن يدخل إلى منزله
__________
[1] . فى مط: وغرضي.
[2] . على: سقطت من مط.(5/122)
ودخلاه بدخوله فقالا له:
- «خبر المجلس عندنا، فما الذي ترى؟» فقال لهما:
- «إزالة الاعتذار والإحتجاج وردّ المال.» فاستجابا، وكان مبلغ المال ثلاثة آلاف دينار وسألاه التسكين عنهما لئلا يعاجلا فبكّر ابن قرابة إلى ابن الفرات فقال له:
- «قد جاءني أبو عمر القاضي وابنه قلقين، وذكرا أنّ المال بحاله.» فقال:
- «الحمد لله ربّ العالمين.» فلمّا كان فى اليوم الثاني من ذلك حمل أبو بكر الثلاثة الآلاف الدينار فى برنيّة [1] كانت ضمّنت الوديعة فلمّا رآها ابن الفرات عجب [143] وأمر بتسلّمها:
وعدنا إلى خبر حامد فى وزارته
ولمّا رأى حامد وعلىّ بن عيسى تمكّن ابن الحوارى من المقتدر بالله خرج توقيع حامد بخطّ علىّ بن عيسى بتقليد ابن الحوارى جميع أعمال الإعطاء [2] فى العساكر لسائر نواحي المغرب من حدّ هيت إلى آخر حدود مصر، وأن يقام له من الرزق مثل ما كان يقام لجميع من كان ينظر فى ذلك فى آخر أيّام وزارة ابن الفرات الثانية، وأن يقلّد ابنه- وكانت سنّة فى الحال نحو عشر سنين- ويجرى عليه ما مبلغه فى الشهر مائة وخمسون دينار وقلّد ابنه هذا بيت مال الإعطاء بالحضرة بحقّ الأصل بجاري مائة وثمانين
__________
[1] . الكلمة مهملة تماما فى مط.
[2] . كذا فى الأصل: الإعطاء.(5/123)
دينارا فى الشهر واستخلف له عليه المعروف بقاطر ميز الكاتب.
وزاد بعد ذلك اختصاص ابن الحوارى وخدمته له فى خلواته وكان يشاوره فى أموره فقلّد أعمالا أخر وأجرى عليه واستخلف له عليها. فكان يصل إليه مال عظيم ولا يباشر شيئا من الأعمال ولا يدرى ما يجرى فيها.
وصرف نزار عن الشرطة بمدينة السلام وقلّد نجح الطولونى واستخلف عليها وأقام فى الأرباع فقهاء يعمل أصحاب الشرط فى أمر الجناة بما يفتون به فى أمرهم فضعفت هيبة الشرطة بذلك واستلان [1] اللصوص والعيّارون جانب نجح [144] فكثرت الجراحات والفتن وتفاقم الأمر فى التلصّص وكان العيّارون يقولون:
أخرج ولا تبالي ... ما دام نجح والى.
ودخلت سنة سبع وثلاثمائة
كان غرض حامد فى الضمانات على النواحي التي ذكرناها تفرّد علىّ ابن عيسى بتدبير المملكة وإبطاله أمر حامد. فتضمّن حامد بهذه النواحي ليكون له بالحضرة أمر ونهى وليوفّر من هذه الأعمال ما يبطل به السوق التي قامت لعلىّ بن عيسى عند المقتدر بالكفاية والعفاف. وإنّما لم يدخل أعمال فارس فى ضمانه لأنّها كانت فى ضمان أبى القاسم ابن بسطام وكان النعمان يشير على حامد بترك الدخول فى الضمان فإنّه زعم أنّه تسقط هيبته عند الناس ويصير علىّ بن عيسى المطالب له بالأموال والمتحكّم عليه.
وكان أبو عيسى أخو أبى صخرة قديم الصداقة لحامد وكان يشير عليه بالضمان ليتبيّن أثره وأن يتضمّن بعبرة سنى علىّ بن عيسى خاصّة ليكون ما
__________
[1] . فى مط: واستيلاء.(5/124)
يثيره- وهو شيء كثير وافر- استدراكا على علىّ بن عيسى. فمال حامد إلى هذا الرأى وخاطب علىّ بن عيسى بحضرة المقتدر وقال له:
- «قد تفرّدت بتدبير الأمور دوني وليس ترى أن تشاورنى فى شيء تعمله ولا بدّ من صدق أمير المؤمنين. فقد أضعت بالسواد والأهواز وإصبهان أربعمائة [145] ألف دينار فى كلّ سنة وأنا أضمن هذه الأعمال أربع سنين بعبرة المحمول والمسبّب [1] فى سنى وزارتك وزيادة أربعمائة ألف دينار فى كلّ سنة.» فأجابه علىّ بن عيسى بأنّه لا يستصوب تضمينه هذه الأعمال لأنّ مذهبه فى خبط [2] الرعيّة وإحداث السنن وضرب الأبسار معروف ومن عمل بهذه السيرة فهو لا محالة يوفّر سنة أو أكثر ثمّ تخرّب خرابا لا يتلافى فى سنين فيبطل الارتفاع ويسيء الذكر. فتخاصما خصومة طويلة فقال المقتدر:
- «هذا توفير من حامد ولا يجوز تركه فإن ضمنت أنت هذه النواحي بما ضمنه حامد ضمّنتك.» فقال علىّ بن عيسى:
- «أنا كاتب وليست بعامل وحامد أولى بالضمان لا سيّما وقد بذل ما بذل راغبا والأثر فى ذلك يا أمير المؤمنين، لأنّى قد عمرت البلدان لرفقى بالرعيّة وتقليدي من العمّال من أزال المؤن عنهم، وسنة سبع قد تناهت عمارتها وليس يقدر أن يقول إنّه يتضمّنها ليستزيد فى عمارتها لأنّ أيّام العمارة قد انقضت منذ مدّة.» فأمر المقتدر بعقد الضمان على حامد وأخذ خطّه به فخرجا.
وتقدّم علىّ بن عيسى إلى أصحاب الدواوين بإخراج العبر من دواوينهم
__________
[1] . ما فى الأصل نصف مطموس. وما أثبتناه هو من مط. فى مد أيضا: المسبّب.
[2] . فى مط: خط الرعية.(5/125)
بعبر السنين القريبة لأنّها أوفر [146] فأخرج عبرة المحمول والمسبّب مع مال النفقات الراتبة فى نواحي السواد والأهواز لسنة من ثلاث سنين أولاهن سنة ثلاث وأخراهن [1] سنة خمس وثلاثمائة- ثلاثة وثلاثين ألف ألف درهم. وأخرج عبرة الضياع الخاصّة والمستحدثة والعبّاسيّة والفراتيّة للمحمول والمسبّب ثمانية آلاف ألف درهم وثمانمائة ألف درهم وأخرج عبرة مال إصبهان مع النفقات الراتبة بقسط سنة واحدة من ثلاث سنين ستّة آلاف ألف وثلاثمائة [2] ألف درهم تصير الجميع لسنة واحدة ثمانية وأربعين ألف ألف درهم ومائة ألف درهم والزيادة التي بذلها حامد وهي عن قيمة أربعمائة ألف دينار خمسة آلاف ألف وثمانمائة ألف درهم مبلغ الجميع ثلاثة وخمسون ألف ألف وتسعمائة ألف درهم.
والتمس حامد بن العبّاس من المقتدر بالله أن يأمر بتسليم جماعة من الكتّاب إليه ليوليهم كتابته على ديوان ضمانه واختار عبيد الله بن محمّد الكلواذى وأحمد بن محمّد بن زريق وغيرهما، فتقدّم المقتدر بإجابته إلى ما سأله بعد أن عقد علىّ بن عيسى عليه الضمان باسم صاحبه محمّد بن منصور وأخذ خطّ حامد بتضمّنه عنه ما عقده باسمه واعتمد حامد بن العبّاس على عبيد الله بن محمّد الكلواذى فكان ينظّم الأعمال التي يخرجها كتّاب حامد ويتولّى المواقفة عن [147] حامد فى دار السلطان ويرفق فى المناظرة ويستعمل الحجّة فقط.
واعتمد علىّ بن عيسى على الصقر بن محمّد فى مناظرة كتّاب حامد، فكان حامد إذا حضر لا يزيد على الشتم والسبّ لعلىّ بن عيسى وذكره بالقبيح فى نفسه وأسلافه واستعمل فى ذلك ما فضح به المملكة وشاع فى
__________
[1] . فى مط: أخواهنّ، وهو تصحيف.
[2] . فى مط: ستّمائة ألف.(5/126)
الخاصّ والعامّ الخبر به ثمّ أصلح المقتدر بينهما بحضرته.
وأسرف علىّ بن عيسى فى الإلحاح على حامد فى حمل المال واحتاج حامد إلى أن يستأذن فى الخروج إلى الأهواز فأذن له وذكر أبو القاسم الكلواذى أنّه يضعف عن مقاومة علىّ بن عيسى عند غيبته، فنصب حامد صهره أبا الحسين محمّد بن أحمد ابن بسطام للنيابة عنه فى دار السلطان عند المناظرة ولإعزار [1] الكلواذى ليستوفى حجّته وظهرت فى ذلك الوقت صناعة الكلواذى وكفايته وصحة عمله فكان ذلك من أكبر أسباب نباهته.
وجرى خلاف كثير بين كتّاب حامد وبين كتّاب علىّ بن عيسى يطول ذكرها، ورضى حامد بوساطة النعمان فيها وكتب بذلك وتوسّط النعمان وقرّر الأمر من سائر أبواب الخلاف على مائة ألف دينار بقسط سنة واحدة.
وكتب ابن بسطام والكلواذى إلى حامد وهو [148] بالأهواز بصورة ما تقرّرت عليه الحكومة، فدبّر حينئذ حامد فى ذلك تدبير الشيوخ المجرّبين.
فكتب إلى المقتدر كتابا وأنفذ مع غلام له فأوصل نصر الكتاب مختوما إلى المقتدر فوجده قد ذكر فيه أنّه لم يدخل فى هذا الضمان لاستجلاب فائدة لنفسه ولا للربح على السلطان وإنّما أراد أن يبيّن عن خبرته بالأعمال وحفظ الأموال وقبح آثار علىّ بن عيسى فيما تولّاه قديما وحديثا وأنّه كان بذل زيادة أربعمائة ألف دينار فى كلّ سنة، وأنّه لمّا صار بالأهواز لاحت له زيادة مائتي ألف دينار فى سنة سبع على أربعمائة ألف دينار، فوفّر ذلك وكتب كتابه بخطّه حجّة عليه لينضاف ذلك إلى الزيادة الأولى ويثبت فى الدواوين.
فسرّ المقتدر بذلك وأمر بتقوية يد حامد وأن يقتصر بعلىّ بن عيسى على
__________
[1] . لم نتأكّد من صحّة القراءة. ما فى مط مهمل دون أىّ نقط. وقرئ فى مد: اغرار. والنقطة فى الأصل على الراء بفاصلة غير معتادة. والإعزار: الإعانة.(5/127)
النظر فى حوائج القوّاد والحاشية والاحتياط فيما يطلق من الأموال فى النفقات فإنّه بذلك أبصر من حامد، وبإفراد حامد بجباية الأموال والنظر فى النواحي.
وخاف علىّ بن عيسى أن تقوى يد حامد فيسلّم إليه. واتفق بعقب ذلك أن تحرّكت العامّة ثمّ الخاصّة بسبب زيادة السعر وشغبوا [149] شغبا عظيما متصلا أشفى به الملك على الزوال وبغداد على الخراب. فادّعى كتّاب حامد وأسبابه ومن يميل إليه أنّ علىّ بن عيسى حمل العامّة وأكثر الخاصّة على الشغب لأنّ السعر لم يكن زاد زيادة توجب ما خرجوا إليه وإنّما بلغ الخبز الحوارى ثمانية أرطال بدرهم.
ذكر ما اضطرب لأجله أمر حامد بن العبّاس حتّى فسخ ضمانه
تجمّع الناس وقوم من أماثل العامّة فتظلّموا من زيادة السعر وضجّوا فى وجه علىّ بن عيسى لمّا ركب، ثمّ نهب العامّة دكاكين الجماعة من الدقّاقين ببغداد ثمّ اجتمعوا إلى باب السلطان فضجّوا.
فتقدّم المقتدر إلى ابن الحوارى بأن يكتب إلى حامد بأن يبادر إلى الحضرة [1] وينظر فى أمر الأسعار فيزيل التربّص ببيع الغلّات لتنحطّ الأسعار، فنفذ الكتاب بذلك فخرج حامد من الأهواز وأنفذ المقتدر ماهر [2] الخادم لاستعجاله.
وخرج أصحاب الدواوين والقوّاد لتلقّيه وخرج نصر وابن الحوارى فتلقّياه وخرج علىّ بن عيسى فتلقّاه، ووصل إلى المقتدر بالله فخاطبه بجميل وعرّفه
__________
[1] . فى مد: الحضور (تغييرا للأصل) .
[2] . فى مط: ما هو.(5/128)
إحماده إيّاه على ما وفّره وأمر بأن يخلع عليه فخلع عليه وحمل على شهرىّ وانصرف إلى منزله. [150] وتحرّك الجند لغد [1] ذلك اليوم فى دار السلطان وضجّوا لارتفاع السعر، وتحرّكت العامّة فى المساجد الجامعة ببغداد وكسروا المنابر وقطعوا الصلاة بعد الركعة الأولى واستلبوا الثياب ورجموا بالآجرّ وكثرت الجراحات واجتمع منهم فى المسجد الجامع الذي فى دار السلطان عدد كثير على نصر الحاجب فوثبوا عليه ورجموه بالآجرّ.
ثمّ صاروا فى ذلك اليوم إلى دار حامد بن العبّاس فأخرج إليهم غلمانه فرموهم بالآجرّ والنشّاب وقتل خلق من العامّة فحملوا على الجنائز وشنّعوا بهم.
ووجّه حامد جماعة من غلمانه ومعهم ديوداذ بن محمّد وهو ابن أخى يوسف بن أبى الساج، فدخلوا المسجد الجامع بالجانب الغربي على دوابّهم فقتلوا جماعة وقتل أيضا من الجند عدّة وبات الناس ليلة السبت على صورة قبيحة من الخوف على أنفسهم وأموالهم وحرمهم وضعف صاحب الشرطة عن مقاومتهم لكثرة من تجمّع من العامّة.
فلمّا أصبحوا يوم السبت صار من العامّة عدد كثير إلى الجسور فأحرقوها وفتحوا السجون ونهبوا دار صاحب الشرطة ودار غيره، فأنفذ المقتدر جماعة من الغلمان الحجرية [151] فى شذاءات عدّة لمحاربة العامّة وركب هارون بن غريب [2] الخال فى جيش عظيم إلى باب الطاق فأحرق مواضع وتهارب العامّة من بين يديه إلى المسجد الجامع بباب الطاق ووكّل هارون بباب المسجد وقبض على جميع من وجده ولم يفرّق بين المستور والعيّار وحملهم
__________
[1] . قرئ الأصل فى مد: بعد.
[2] . فى مط: عريب الحال.(5/129)
إلى مجلس الشرطة فضرب بعضهم بالسوط وبعضهم بالدرّة وقطع أيدى قوم عرفوا بالإفساد.
ثمّ ركب يانس [1] الموفقى يوم الأحد فسكّن الناس ونادى فيهم وزالت الفتنة، ثمّ ركب حامد فى طيّاره يريد دار السلطان فقصده العامّة ورجموه بالآجرّ، فأمر المقتدر شفيعا المقتدري بالركوب لتسكين العامّة، فركب وسار فى الجانب الغربي وفيه كانت الفتنة، فسكّن الناس ثمّ قبض على جماعة من العامّة فضرب بعضهم بالسوط وقطعت أيدى قوم عرفوا بالرجم.
وضجّت الرجّالة المصافية [2] فى دار السلطان من زيادة السعر فتقدّم المقتدر بالله بفتح الدكاكين والبيوت التي لحامد وللسيّدة والأمراء أولاد الخليفة والوجوه من أهل الدولة وبيع الحنطة بنقصان خمسة دنانير فى الكرّ وبيع الشعير بحسب ذلك وبمطالبة التجار والباعة أن يبيعوا بمثل هذا [152] السعر فركب هارون بن غريب ومعه إبراهيم بن بطحاء المحتسب فسعّر الكرّ المعدّل بخمسين دينارا وتقدّم إلى الدقّاقين بذلك فرضي العامّة وسكنوا وانحلّ السعر.
فسخ الضمان عن حامد بن العبّاس
وخرج توقيع المقتدر إلى حامد بن العبّاس بفسخه عنه الضمان لأجل الفتنة وضجيج العامّة من زيادة السعر وتوقيع إلى علىّ بن عيسى بأن يدبّر هو الأعمال بالسواد والأهواز وإصبهان ويقلّدها [3] العمّال من قبله وأن يكتب عنه كتابا إلى العامّة يقرأ فى الشوارع والأسواق ثمّ على المنابر بأنّه قد زال
__________
[1] . ما فى مط: مهمل من دون نقط.
[2] . فى مط: المصافة.
[3] . قرئ الأصل فى مد: وتقليدها.(5/130)
ضمان حامد بن العبّاس وحظر على جميع الوجوه والقوّاد والغلمان أن يتضمّنوا بشيء من الأعمال. وكتب حامد إلى عمّاله بالانصراف من الأعمال وتسليمها إلى عمّال علىّ بن عيسى وانخزل حامد بن العبّاس لذلك.
ودخلت سنة ثمان وثلاثمائة
وفيها ورد الخبر من مصر بحركة الفاطمي إليها فأخرج مونس الخادم إليها.
وفيها خلع على أبى الهيجاء عبد الله بن حمدان وقلّد طريق خراسان والدينور وخلع على أخويه أبى العلاء وأبى السرايا.
وفيها ورد رسول أخى صعلوك [1] بالمال والهدايا فخلع [153] عليه.
ودخلت سنة تسع وثلاثمائة
وفيها وردت الكتب وقرأت على المنابر بهزيمة المغربي واستباحة عسكره.
وفيها لقّب مونس: المظفّر، وأنشئت [2] الكتب به عن المقتدر بالله إلى أمراء النواحي وعقد له على مصر والشام.
وفيها دخل رسول صاحب خراسان برأس ليلى بن النعمان الديلمي الذي خرج بطبرستان.
وفيها اشتهر أمر الحلّاج واسمه الحسين بن منصور حتّى قتل وأحرق.
__________
[1] . والعبارة فى مط: وفيها وصل أخى صعلوك (بتغيير وإسقاط) .
[2] . فى مط: وأنبثّت.(5/131)
ذكر خبر الحسين بن منصور الحلّاج وما آل إليه أمره من القتل والمثلة
انتهى إلى حامد بن العبّاس فى أيّام وزارته أنّه قد موّه على جماعة من الحشم والحجّاب وعلى غلمان نصر الحاجب وأسبابه وأنّه يحيى الموتى وأنّ الجنّ يخدمونه فيحضرونه ما يشتهيه وأنّه يعمل ما أحبّ من معجزات الأنبياء. وادّعى جماعة أنّ نصرا مال إليه وسعى قوم بالسمرّى وببعض الكتّاب وبرجل هاشمىّ أنّه نبىّ الحلّاج وأنّ الحلّاج إله- عزّ [1] الله وتعالى عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.
فقبض عليهم وناظرهم حامد فاعترفوا بأنّهم يدعون إليه وأنّه قد صحّ عندهم أنّه إليه يحيى الموتى وكاشفوا الحلّاج بذلك [154] فجحده وكذّبهم وقال:
- «أعوذ بالله أن أدّعى الربوبيّة والنبوّة وإنّما أنا رجل أعبد الله عزّ ذكره وأكثر الصوم والصلاة وفعل الخير ولا غير.» واستحضر حامد بن العبّاس أبا عمر القاضي وأبا جعفر ابن البهلول القاضي وجماعة من وجوه الفقهاء والشهود واستفتاهم فى أمره، فذكروا أنّهم لا يفتون فى قتله بشيء إلى أن يصحّ عندهم ما يوجب عليه القتل وأنّه لا يجوز قبول قول من ادّعى عليه ما ادّعاه- وإن واجهه- إلّا بدليل وإقرار منه.
فكان أوّل من كشف أمره رجل من البصرة تنصّح فيه وذكر أنّه يعرف أصحابه وأنّهم متفرّقون فى البلدان يدعون إليه وأنّه كان ممّن استجاب له ثمّ
__________
[1] . فى مط: أعز الله.(5/132)
تبيّن مخرقته ففارقه وخرج عن جملته وتقرّب إلى الله بكشف أمره.
واجتمع معه على هذه الحال أبو علىّ هارون بن عبد العزيز الأوارجى [1] الكاتب الأنبارى وقد كان عمل كتابا ذكر فيه مخاريق الحلّاج وحيله فيه وهو موجود فى أيدى جماعة والحلّاج حينئذ مقيم فى دار السلطان موسّع عليه مأذون لمن يدخل إليه وهو عند نصر الحاجب.
وللحلّاج اسمان: أحدهما الحسين بن منصور والآخر محمّد بن أحمد الفارسي، وكان استهوى [155] نصرا وجاز عليه تمويهه وانتشر له ذكر عظيم فى الحاشية فبعث به المقتدر إلى علىّ بن عيسى ليناظره فأحضر مجلسه وخاطبه خطابا فيه غلظة فحكى أنّه تقدّم إليه وقال له فيما بينه وبينه:
- «قف حيث انتهيت ولا تزد عليه شيئا وإلّا قلبت عليك الأرض.» وكلاما فى هذا المعنى. فتهيّب علىّ بن عيسى مناظرته واستعفى منه ونقل حينئذ إلى حامد بن العبّاس.
الحلّاج وبنت السّمرّيّ
وكانت بنت السمرّى صاحب الحلّاج قد أدخلت إلى الحلّاج وأقامت عنده فى دار السلطان مدّة وبعث بها إلى حامد ليسألها عمّا وقفت عليه من أخباره وشاهدته من أحواله.
فذكر أبو القاسم بن [2] زنجى [3] أنّه حضر دخول هذه المرأة إلى حامد بن العبّاس وأنّه حضر ذلك المجلس أبو علىّ أحمد بن نصر البازيار من قبل أبى
__________
[1] . فى مط: الأوراحى (بالحاء المهملة) .
[2] . فى الأصل ومط: ابو القاسم الزّنجى. وفى المواطن الآتية: ابو القاسم بن زنجىّ، فوحّدنا الضبط.
وهو يوافق ما فى صلة عريب: 88، 91.
[3] . الزنجي: كذا فى الأصل ومط. فى مد: زنجى.(5/133)
القاسم ابن الحوارى ليسمع ما تحكيه. فسألها حامد عمّا تعرفه من أمر الحلّاج، فذكرت أنّ أباها السمرّى حملها إليه وأنّها لمّا دخلت إليه وهب لها أشياء كثيرة عدّدت أصنافها.
قال أبو القاسم: وهذه المرأة كانت حسنة العبارة عذبة الألفاظ مقبولة الصورة فكان ممّا أخبرت عنه أنّه قال لها:
- «قد زوّجتك من سليمان ابني وهو أعزّ أولادى علىّ [156] وهو مقيم بنيسابور وليس يحلو أن يقع بين المرأة والرجل [1] كلام أو تنكر منه حالا من الأحوال وأنت تحصلين عنده وقد وصّيته [2] بك فإن جرى منه شيء تنكرينه فصومي يومك واصعدي آخر النهار إلى السطح وقومي على الرماد والملح الجريش [3] واجعلي فطرك عليهما واستقبليني بوجهك واذكري لى منه ما تنكرينه منه، فإنّى أسمع وأرى.» قالت: وأصبحت يوما وأنا أنزل من السطح إلى الدار ومعى ابنته وكان قد نزل هو فلمّا صرنا على الدرجة بحيث يرانا ونراه قالت لى ابنته:
- «اسجدي له.» فقلت لها:
- «أو يسجد أحد [4] لغير الله؟» قالت: فسمع كلامي لها فقال:
- «نعم، إله فى السماء وإله فى الأرض.» قالت: ودعاني إليه وأدخل يده فى كمّه وأخرجها مملوءة مسكا ودفعه
__________
[1] . فى مط: الزوج، بدل «الرجل» .
[2] . فى مط: قصته.
[3] . فى مط: وملح الحريش.
[4] . أحد: الكلمة سقطت من مط.(5/134)
إلىّ ثمّ أعادها ثانية إلى كمّه وأخرجها مملوءة مسكا ودفعها إلىّ وفعل ذلك مرات ثمّ قال:
- «واجعلي هذا فى طيبك فإنّ المرأة إذا حصلت عند الرجل احتاجت إلى الطيب.» قالت: ثمّ دعاني وهو جالس فى بيت على بواري فقال:
- «ارفعى جانب البارية من ذلك الموضع وخذي ممّا تحته ما تريدين.» وأومأ إلى زاوية البيت فجئت إليها ورفعت البارية فوجدت تحتها الدنانير مفروشة [157] ملء البيت، فبهرني ما رأيت من ذلك. فأقيمت المرأة وحصلت فى دار حامد إلى أن قتل الحلّاج.
الجدّ فى طلب أصحاب الحلّاج
وجدّ حامد فى طلب أصحاب الحلّاج وأذكى العيون عليهم وحصل فى يده منهم حيدرة والسمرّى ومحمّد بن علىّ القنّاى [1] والمعروف بأبى المغيث الهاشمي، واستتر ابن حمّاد وكبس منزله فأخذت منه دفاتر كثيرة وكذلك من منزل محمّد بن علىّ القنّاى فكانت مكتوبة فى ورق صينى وبعضها مكتوب بماء الذهب مبطّنة بالديباج والحرير مجلّدة بالأدم الجيّد. ووجد فى أسماء أصحابه ابن بشر وشاكر. فسأل حامد من حصل فى يده من أصحاب الحلّاج عنهما فذكروا أنّهما داعيان له بخراسان.
قال أبو القاسم بن زنجى: فكتبا فى حملهما إلى الحضرة أكثر من عشرين كتابا فلم يرد جواب أكثرها. وقيل فيما أجيب عنه منها: إنّهما يطلبان ومتى حصلا حملا، ولم يحملا إلى هذه الغاية.
__________
[1] . فى مط: الفناى.(5/135)
وصاياه للدّعاة إليه
وكان فى الكتب الموجودة له عجائب من مكاتبات أصحابه النافذين إلى النواحي وبوصيته إيّاهم بما يدعون إليه الناس وبما يأمرهم به من نقلهم من حال إلى حال أخرى ومرتبة إلى مرتبة حتّى يبلغوا الغاية القصوى وأن يخاطبوا [158] كلّ قوم على حسب عقولهم وأفهامهم وعلى قدر استجابتهم وانقيادهم وجوابات لقوم كاتبوه بألفاظ مرموزة لا يعرفها إلّا من كتبها ومن كتبت إليه.
كلام غريب من غلام حامد فى الحلّاج
وحكى أبو القاسم بن زنجى قال: كنت أنا وأبى يوما بين يدي حامد إذ نهض من مجلسه وخرجنا إلى دار العامّة وجلسنا فى رواقها وحضر هارون بن عمران الجهبذ بين يدي أبى ولم يزل يحادثه فهو فى ذلك إذ جاء غلام حامد الذي كان موكّلا بالحلّاج وأومأ إلى هارون بن عمران أن يخرج إليه فنهض مسرعا ونحن لا ندري ما السبب، فغاب عنّا قليلا ثمّ عاد وهو متغير اللون جدّا فأنكر أبى ما رأى منه فسأله عن خبره فقال:
- «دعاني الغلام الموكّل بالحلّاج فخرجت إليه فأعلمنى أنّه دخل إليه ومعه الطبق الذي رسمه أن يقدّم إليه فى كلّ يوم فوجده قد ملأ البيت بنفسه فهو من سقفه إلى أرضه وجوانبه حتّى ليس فيه موضع. فهاله ما رأى ورمى بالطبق من يده وعدا مسرعا وأنّ الغلام ارتعد وانتفض وحمّ.
فبينا نحن نتعجب من حديثه إذ خرج إلينا رسول حامد وأذن فى الدخول إليه فدخلنا وجرى حديث الغلام فدعا به وسأله عن خبره فإذا هو محموم، وقصّ [159] عليه قصّته فكذّبه وشتمه وقال:(5/136)
- «فزعت من نيرنج الحلّاج- وكلاما فى هذا المعنى- لعنك الله اعزب عنّى.»
كيف حلّ دم الحلّاج
فانصرف الغلام وبقي على حالته من الحمّى مدّة طويلة. ثمّ وجد حامد كتابا من كتبه فيه:
- «إنّ الإنسان إذا أراد الحجّ فلم يمكنه أفرد فى بيته بناء مربعا لا يلحقه شيء من النجاسات ولا يتطرّقه أحد. فإذا حضرت أيّام الحجّ طاف حوله وقضى من المناسك ما يقضى بمكّة، ثمّ يجمع ثلاثين يتيما ويعمل لهم أسرى [1] ما يمكنه من الطعام ويحضرهم ذلك البيت ويقدّم لهم ذلك الطعام ويتولّى خدمتهم بنفسه، ثمّ يغسل أيديهم ويكسو كلّ واحد منهم قميصا ويدفع إلى كلّ واحد سبعة دراهم أو ثلاثة دراهم- الشكّ من أبى القاسم بن زنجى- وإنّ ذلك يقوم له مقام الحجّ.» قال: وكان أبى يقرأ هذا الكتاب فلمّا استوفى هذا الفصل التفت أبو عمر القاضي إلى الحلّاج وقال له:
- «من أين لك هذا.» قال: «من كتاب الإخلاص للحسن البصري.» قال له أبو عمر:
- «كذبت يا حلال الدم.» قد سمعنا كتاب الإخلاص للحسن البصري بمكّة وليس فيه شيء ممّا ذكرت. فكلّما [2] قال له أبو عمر: «يا حلال الدم» قال له حامد:
__________
[1] . الأسرى: الأسخى. من قولهم: سرا، أى كان سريّا، أى صاحب مروءة وسخاء.
[2] . فكلّما: كذا فى الأصل ومط: وقرئ فى مد: فكما.(5/137)
- «أكتب ما قلت.» فتشاغل أبو عمر بخطاب الحلّاج فلم يدعه حامد يتشاغل [160] وألحّ عليه إلحاحا لم يمكنه معه المخالفة، فكتب بإحلال دمه وكتب بعده من حضر المجلس. فلمّا تبيّن الحلّاج الصورة قال:
- «ظهري [1] حمى ودمى حرام وما يحلّ لكم أن تتأوّلوا علىّ بما يبيحه.
اعتقادي الإسلام، ومذهبي السنّة، ولى كتب فى الورّاقين موجودة فى السنّة، فالله الله فى دمى.»
كتاب القوم وجواب المقتدر
ولم يزل يردّد هذا القول والقوم يكتبون خطوطهم حتّى كمل الكتاب بخطوط من حضر فأنفذه حامد إلى المقتدر بالله.
فخرج الجواب:
- «إذا كان فتوى القضاة فيه بما عرضت فأحضره مجلس الشرطة واضربه ألف سوط، فإن لم يمت فتقدّم بقطع يديه ورجليه، ثمّ اضرب رقبته وانصب رأسه وأحرق جثّته.» فأحضر حامد صاحب الشرطة وأقرأه التوقيع وتقدّم إليه بتسلّم الحلّاج وإمضاء الأمر فيه. فامتنع من ذلك، وذكر أنّه يتخوّف أن ينتزع من يده.
فوقع الاتفاق على أن يحضر بعد العتمة [2] ومعه جماعة من غلمانه وقوم على بغال يجرون مجرى الساسة [3] ليجعل على بغل منها ويدخل فى غمار القوم. وأوصاه بأن لا يسمع كلامه. وقال له:
__________
[1] . فى مط: طهرى. وضبط العبارة من الأصل.
[2] . فى مط: المعتمد بدل «العتمة» !
[3] . فى مط: الثلة، بدل: الساسة.(5/138)
- «لو قال لك: أجرى لك دجلة والفرات ذهبا وفضّة فلا ترفع عنه [161] الضرب حتّى تقتله كما أمرت.»
تنفيذ أمر المقتدر فى الحلّاج
ففعل محمّد بن عبد الصمد صاحب الشرطة ذلك وحمله تلك الليلة على الصورة التي ذكرت وركب غلمان حامد معه حتّى أوصلوه إلى الجسر وبات محمّد بن عبد الصمد ورجاله حول المجلس.
فلمّا أصبح يوم الثلاثاء لستّ بقين من ذى القعدة أخرج الحلّاج إلى رحبة المجلس واجتمع من العامّة خلق كثير لا يحصى عددهم وأمر الجلّاد بضربه ألف سوط فضرب وما تأوّه ولا استعفى.
قال: فلمّا بلغ ستمائة سوط قال لمحمّد بن عبد الصمد:
- «ادع بى إليك فإنّ عندي نصيحة تعدل عند الخليفة فتح قسطنطينية.» فقال: «قد قيل لى إنّك ستقول هذا وما هو أكثر منه، وليس إلى رفع الضرب عنك سبيل.» فسكت حتّى ضرب ألف سوط ثمّ قطعت يده ثمّ رجله ثمّ يده ثمّ رجله [1] ثمّ ضرب عنقه وأحرقت جثّته ونصب رأسه على الجسر، ثمّ حمل رأسه إلى خراسان.
وادّعى أصحابه أنّ المضروب كان عدوّا للحلّاج ألقى شبهه عليه. وادّعى بعضهم أنّه رآه وخاطبه فى هذا المعنى بجهالات لا يكتب مثلها. وأحضر الورّاقون وأحلفوا أن لا يبيعوا شيئا من كتب الحلّاج [162] ولا يشتروها.
__________
[1] . ثم يده ثمّ رجله. جاء فى الأصل أيضا بالتكرار. وليس هذا من خطأ الناسخ. بل للتعبير عن ترتيب القطع. وحذف التكرار فى مد ظنّا أنّه تكرار زائد.(5/139)
ودخلت سنة عشر وثلاثمائة
إطلاق يوسف بن أبى الساج والعقد له على أعمال
وفيها إطلاق يوسف بن أبى الساج بمسألة مونس المظفّر من الحبس وشفاعته ثمّ حمل إليه مال وكسوة ثمّ وصل إلى المقتدر بالله وكان ركب فى سواد فقبّل البساط ثمّ يد المقتدر وخلع عليه خلع الرضا وحمل على فرس بمركب ذهب.
ثمّ جلس المقتدر فى دار العامّة بعد أيّام وعقد له على أعمال الصلاة والمعاون والخراج والضياع بالري وقزوين وأبهر وزنجان وأذربيجان وركب معه مونس المظفّر ونصر الحاجب وشفيع ومفلح وجميع من بالحضرة من القوّاد والغلمان وكانت الدار قد شحنت له بالرجال والسلاح واحتشد له.
واستكتب يوسف بن أبى الساج محمّد بن خلف النيرمانى وقوطع عن الأعمال التي تقلّدها على خمسمائة ألف دينار محمولة فى كلّ سنة على أنّ عليه القيام بمال الجيش الذي فى هذه الأعمال والنفقات الراتبة. وخلع على وصيف البكتمرى وعلى طاهر ويعقوب ابني محمّد بن عمرو بن الليث.
من بعض حوادث السنة
وفيها قلّد نازوك الشرطة ببغداد وخلع عليه وعزل عنها محمّد بن عبد الصمد وخلع عليه وعزل عنها محمّد بن عبد الصمد وخلع على وصيف البكتمرى خلعة أخرى [163] وضمّ إلى يوسف بن أبى الساج وشخص يوسف بن أبى الساج إلى عمله على طريق الموصل، فلمّا وصل إلى أردبيل وجد غلامه سبك قد مات.
وفيها وصل إلى بغداد هدية أبى زنبور الحسين بن أحمد المادرائى من(5/140)
مصر وفيها بغلة معها فلوّ [1] وكان يتبعها ويرتضع منها وغلام طويل اللسان يلحق طرف أرنبته.
وفيها قبض على أمّ موسى القهرمانة وعلى أختها وأخيها ذكر السبب فى ذلك
كان السبب فى ذلك أنّ أمّ موسى زوّجت بنت أخيها أبى بكر أحمد بن العبّاس من أبى العبّاس بن محمّد بن إسحاق بن المتوكّل على الله، وكان من أولاد الخلفاء النجباء وكانت له نعمة حسنة ظاهرة وكان حسن المروءة واللبسة والدوابّ والمراكب، وكان صديقا لعلىّ بن عيسى حتّى قيل: إنّه كان يرشّحه للخلافة.
فلمّا وقعت المصاهرة بينه وبين أمّ موسى أسرفت فيما نثرت من المال وفيما أنفقت على دعوات دعت فيها الصغير والكبير من أهل المملكة فى بضعة عشر يوما. فتمكّن أعداؤها من السعى عليها ومكّنوا فى نفس المقتدر بالله ووالدته السيدة أنّها إنّما صاهرت ابن المتوكّل ليزيلوا المقتدر بالله عن [164] الخلافة وينصبوا فيها ابن المتوكّل.
فتمّت النكبة عليها وسلّمت إلى ثمل القهرمانة مع أختها وأخيها. وكانت ثمل موصوفة بالشر لأنّها كانت قهرمانة أحمد بن عبد العزيز بن أبى دلف وكان أحمد يسلّم إليها من يسخط عليه من جواريه وخدمه فاشتهرت بالقسوة والسرف فى العقوبات.
واستخرجت ثمل منها ومن أختها وأخيها أموالا عظيمة وجواهر نفيسة ومن الثياب والكسوة والفرش والطيب ما يعظم مقداره حتّى نصب علىّ بن عيسى لذلك ديوانا وسمّاه: ديوان المقبوضات عن أمّ موسى وأسبابها، أجرى
__________
[1] . كذا فى الأصل: فلوّ. ما فى مط مهمل. والفلوّ: ولد الجحش والمهر والبغل فى سنّ سنة.(5/141)
فيها أمر ضياعهم وأملاكهم وقلّده أبا شجاع المعروف بابن أخت أبى أيّوب أبى الوزير وقلّد الزمام عليه أبا عبد الله اليوسفى الكاتب. ويقال: إنّه حصل من جهتهم نحو ألف ألف دينار.
ولمّا قبض على أمّ موسى صرف علىّ بن عيسى ابن أبى البغل عن أعماله بفارس وقلّدها أبا عبد الله جعفر بن القاسم الكرخي وصادره. ثمّ لمّا تقلّد ابن الفرات الوزارة الثالثة كتب إلى الكرخي بتجديد مصادرة ابن أبى البغل واعتقاله.
ذكر وفاة محمد بن جرير الطبري
وفيها توفّى محمّد بن جرير الطبري وله نحو تسعين سنة، ودفن ليلا، لأنّ العامّة اجتمعت ومنعت من دفنه نهارا، وادّعت عليه الرفض [165] ثمّ ادّعت عليه الإلحاد.
وفيها دعا المقتدر مونسا المظفّر فشرب بين يديه وخلع عليه خلع منادمة وكانت مثقلة بالذهب.
ودخلت سنة إحدى عشرة وثلاثمائة
وفيها صرف حامد بن العبّاس عن الوزارة وعلىّ بن عيسى عن الدواوين.
ذكر صرف حامد بن علىّ بن عيسى وردّ الوزارة [1] إلى ابن الفرات
كانت لذلك أسباب كثيرة منها أنّ حامدا شرع [2] فى تضمن علىّ بن
__________
[1] . هي الوزارة الثالثة لابن الفرات.
[2] . فى مط: أنّ حامدا أسر.(5/142)
عيسى لمّا فسخ ضمانه لتلك الأعمال والبلدان التي ذكرناها وبذل أن يقوم بالأمور ويدبّر الأعمال. وكان الذي حمله على ذلك ما كان يبلغه من عزم المقتدر بالله على تقليد ابن الفرات لمّا كثر ضجيج الحاشية من علىّ بن عيسى لتأخيره عنهم أرزاقهم وأرزاق الحرم والولد، واقتصر بالخدم والحاشية والفرسان على البعض من استحقاقاتهم وحطّ من أرزاق العمّال شهرين فى كلّ سنة ومن أرزاق المنفقين وأصحاب الأجناد والبرد [1] والقضاة أربعة أشهر فزادت عداوة الناس له وخشي حامد بن العبّاس من ابن الفرات لمّا سلف [166] منه إليه ولما عامل به ابنه المحسّن وسائر كتّابه وأسبابه.
فأمره المقتدر أن يكتب رقعة بخطّه بما يضمنه ويبذله وبتسمية من يقلّده الدواوين، ففعل حامد ذلك وعرض المقتدر بالله رقعته على ابن الفرات وهو فى حبسه وشرح له أمره.
فقال ابن الفرات:
- «لو اجتمع مع حامد بن العبّاس الحسن بن مخلد وأحمد بن إسرائيل وسائر من شهر بالكفاية لما كان موضعا لتدبير المملكة ولا لضبط أعمال الدواوين وأنّه إن قلّد ذلك انخرقت الهيبة وزالت الحشمة وإن علىّ بن عيسى على تصرّف أحواله أقوم منه وأعرف بالأعمال والتدبير.» ثمّ إنّه قال:
- «أنا أتضمّن خمسة أضعاف ما ضمنه حامد إن أعاده ومكّنه ممّا يريد.» فوعده المقتدر بذلك. وكان حامد مقيما ببغداد لا يدخل نفسه فى شيء من الأمور ولا يزيد على أن يحضر فى أيّام المواكب وينصرف. وضجر حامد من مقامه ببغداد لقبح حاله فى الذلّ، ولأنّه افتضح بما كان يعامله به علىّ
__________
[1] . ما فى الأصل: البرد، بفتح الباء. والبرد جمع البريد.(5/143)
بن عيسى فى توقيعاته، وذلك أنّه كان يوقّع إلى كتّاب الوزير حامد وإلى كتّاب الدواوين إذا ذكره بما لا صبر له عليه، وكان يوقّع:
- «ليطالب جهبذ الوزير- أسعده الله- بحمل وظيفة واسط» .
- «وليكتب إلى الوزير- أسعده الله- بأن يبادر بحمل شعير الكراع» .
[167] وإذا تظلّم إليه متظلّم من أعمال حامد وعمّاله وقّع على ظهر رقعة:
- «هذا ممّا ينظر فيه الوزير، أسعده الله.» وذكر علىّ بن عيسى أنّه يحتجّ فى ذلك برسم قديم كان للوزراء.
فاستأذن حامد المقتدر فى الخروج إلى واسط والمقام بها لينظر فى أمور ضمانه بنواحيها فأذن له وخرج.
ومنها [1] ما جرى من أمّ موسى وما ذكرناه من خبرها وما تحدّث به الناس من أمر ابن المتوكّل وأنّ ابن الحوارى دبّر ذلك لميل أمّ موسى إليه وكشفها له أسرار الخلافة.
وكان بعض أسباب ابن الفرات طرح رقعة فى دار المقتدر فيها بيت شعر:
يهنيك يهنيك هذا ... يا ديك دار الخليفة [2]
ولم يذكر فى الرقعة غير هذا البيت وهي أبيات فاحشة ليست فيها أصلح من هذا البيت، وتعمّد أن جعلت الرقعة فى ممرّ الخليفة إلى دار حرمة له.
فقرأ المقتدر الرقعة وقبّحت عنده صورة ابن الحوارى جدّا واعتقد فيه ذلك اليوم استحلال دمه وسفكه ونكبة أمّ موسى، ويظنّ أنّ هذا البيت كان من أوكد أسباب نكتبها ونكبته.
ومنها أنّ مفلحا الأسود كان شديد التحقّق بالمقتدر مثابرا على خدمته ثمّ
__________
[1] . فى مط: وفيها.
[2] . فى مط: ناديك دار الخلافة.(5/144)
عظم أمره حتّى [168] أقطع الإقطاعات وملّك الضياع الجليلة ووقعت بينه وبين حامد مماحكة وذكر مفلح حامدا بالقبيح وقال حامد:
- «لقد هممت أن أشترى مائة خادم أسود وأسمّى كلّ واحد منهم مفلحا وأهبهم لغلماني.» فحقد مفلح ذلك عليه ووقف على ذلك المحسّن وعلى ما يشبه ذلك، فوجّه إلى كاتب مفلح واجتمع معه وضمن له الأعمال والأموال والولايات حتّى عقد حالا بينه وبين مفلح.
تضريب من ابن الفرات عند المقتدر
وكتب المحسّن رقعة إلى المقتدر بالله على يد مفلح يذكر فيها أنّه إن سلم منه حامد وعلىّ بن عيسى ونصر الحاجب وشفيع اللؤلؤي وابن الحوارى وأمّ موسى وأخوها والمادرائيون استخرج منهم سبعة آلاف ألف دينار، وكان أبو الحسن ابن الفرات لا يقصّر وهو فى الحبس فى التضريب على هؤلاء وإطماع المقتدر فيهم.
وكان من طريف ما عمله وعجيبة أن راسل المقتدر يوما على يدي زيدان القهرمانة يلتمس منه قيمة اثنى عشر ألف دينار أو هذا المقدار دنانير بعينها لشيء من أمره، فتذمّم المقتدر مع ما أخذه من أمواله أن يمنعه. فحملها إليه، ثمّ سأله أن يدخل إليه إذا اجتاز بموضعه ليلقى إليه شيئا لا تحتمله المكاتبة ولا المراسلة، وكان المقتدر كثيرا [169] ما يدخل إليه ويشاوره فدخل إليه.
فلمّا رآه ابن الفرات قام وأخذ الكيس الذي فيه الدنانير، ففتحه وفرّغه بين يديه وقال له:
- «يا أمير المؤمنين قد عرّفتك أن أموالك تنتهب وتضيّع وتقضى بها الذمامات. ما تقول فى رجل واحد يرتزق فى كلّ شهر من شهور الأهلّة هذا(5/145)
المقدار من مالك وهو اثنا عشر ألف دينار؟» فاستعظم المقتدر ذلك واستهوله وقال:
- «ويحك، من هذا الرجل؟» قال له: «علىّ بن محمّد ابن الحوارى، وهذا سوى ما يصل إليه من المنافع لمكانه منك وموضعه من الإختصاص بك، وسوى ارتفاع ضياعه وسوى المرافق التي تصل إليه من الأعمال التي يتولّاها وسوى وسوى.» وردّ الدنانير إلى المقتدر بالله وقال:
- «إنّما أردت أن تشاهد ما يصنع بك وتراه بعينك فليس الخبر كالمعاينة.» فقام المقتدر بالله وقد عظم عنده أمر ما يجرى واعتقد لابن الحوارى غاية المكروه.
خرج المحبوس وزيرا
فلمّا اجتمعت هذه الأسباب قوى عزم المقتدر على ردّ الوزارة إلى ابن الفرات. فلمّا كان يوم الخميس لتسع [1] بقين من شهر ربيع الآخر وقد انحدر علىّ بن عيسى إلى دار السلطان قبض عليه وحبس عند زيدان القهرمانة فى الحجرة التي كان فيها ابن الفرات، فأخرج منها [170] ابن الفرات ليقلّد الوزارة.
ابن الفرات يتحدّث فى أيّام وزارته الثانية
قال أبو محمّد علىّ بن هشام: كنت حاضرا مع أبى مجلس أبى الحسن
__________
[1] . فى مط: لسبع.(5/146)
ابن الفرات فسمعته يتحدّث فى وزارته الثانية قال:
- «دخل إلىّ أبو الهيثم العبّاس بن محمّد بن ثوابة الأنبارى فى محبسى [1] من دار المقتدر بالله فطالبني أن أكتب خطّى بثلاثة عشر ألف ألف دينار.» فقلت: «ما جرى قدر هذا على يدي للسلطان فى طول ولايتي فكيف أصادر على مثله؟» فقال: «إنّى حلفت بالطلاق أن تكتب خطّك بذلك.» فكتبت بثلاثة عشر ألف ألف من غير أن أذكر ما هي أو ضمانا فيها.
فقال:
- «فاكتب دينارا لتبرّئنى من يميني.» فلمّا كتبت دينارا ضربت عليه وأكلت الرقعة وقلت:
- «قد برئت عن يمينك ولا سبيل لك إلى غير هذا.» فاجتهد جهده فلم أجبه إلى شيء، فلمّا كان من الغد دخل إلى الحبس ومعه أمّ موسى فطالب بذلك وأسرف فى سبّى وشتمي ورمانى بالزنا، فحلفت بالطلاق والعتاق والأيمان المغلظة أنّى ما دخلت فى شيء من محظور هذا الجنس منذ نيّف وثلاثين سنة وسمته [2] أن يحلف بمثل ذلك إنّ غلامه القائم على رأسه لم يأته فى ليلته تلك. فأنكرت أمّ موسى هذه الحال وغطّت وجهها حياء منه.
فقال لها ابن ثوابة:
- «هذا إنّما تبطره الأموال التي وراءه، ومثله فى ذلك [171] مثل المزيّن مع كسرى والحجّام مع الحجّاج بن يوسف، فاستأمرى السادة فى إنزال المكروه به حتّى يذعن بالأموال.»
__________
[1] . فى مط: فى مجلس.
[2] . سمته: كذا فى الأصل. وفى مط: شتمه. سامه الأمر: كلّفه إيّاه.(5/147)
قال أبو الحسن: يعنى بالسادة المقتدر ووالدته وخالته وخاطف ودستنبويه أمّ ولد المقتدر [1] لأنّهم إذ ذاك يدبّرون الأمر معا لحداثة المقتدر.
قال ابن الفرات: فمضت أمّ موسى ثمّ عادت فقالت لابن ثوابة:
- «يقولون لك قد صدقت ويدك مطلقة فيه وكنت فى حجرة ضيّقة وحرّ شديد فأمر بكشف البواري حتّى صرت فى الشمس ونحّى الحصير من تحتي وأغلقت أبواب البيوت حتّى حصلت فى الشمس ثمّ قيّدنى بقيد ثقيل وألبسنى جبّة صوف قد نقّعت فى ماء الأكارع وغلّنى بغلّ وأقفل باب الحجرة وانصرف فأشرفت على التلف. فلمّا مضت نحو أربع ساعات إذا صوت غلمان مجتازين فى الممرّ الذي فى الحجرة التي أنا فيها محبوس.» فقال لى الخدم الموكّلون:
- «هذا بدر الخادم الحرمي وهو لك صنيعة.» فاستغثت به فصحت:
- «يا أبا الخير، الله الله فىّ، لك مكان من السادة ولى عليك حقوق، وقد ترى حالي والموت أسهل علىّ ممّا أنا فيه.
فخاطب السيّدة [2] وذكّرهم حرمتي وخدمتي فى تثبيت دولهم إذ خذلهم الناس وافتتاحى [172] البلدان والمنغلقة وإثارتى الأموال المنكسرة فإن كان ذنبي يوجب القتل فالموت أروح.» فرجع إليهم فخاطبهم ورقّقهم ولم يبرح حتّى حلّ الحديد كلّه عنّى ثمّ أذنوا فى إدخالى الحمّام وأخذ شعري وتغيير لباسى وتسليمي إلى زيدان وترفيهى فجاءني مبشّرا بذلك فلم يبرح حتّى فعل جميع ذلك وقال:
- «يقولون لك: لن ترى بعدها بؤسا.»
__________
[1] . لعلّ الصحيح: المعتضد، كما أشار إليه مد.
[2] . كذا فى الأصل ومط: السيّدة. ولعلّ الصحيح: السادة، كما اقترح فى مد.(5/148)
ذكر الخبر عن وزارة أبى الحسن ابن الفرات الثالثة
وتقلّد أبو الحسن علىّ بن محمّد بن الفرات الوزارة الثالثة فى ذلك اليوم وخلع عليه واستدعى المقتدر بالله المحسّن ابنه من منزله بسوق العطش فخلع عليه مع أبيه [1] ولم يوصل المقتدر بالله إليه فى ذلك اليوم أبا القاسم ابن الحوارى وظهر أولاد ابن الفرات وأسبابه واستتر بعض أسباب حامد وقبض المحسّن فى طريقه على جماعة من أسباب حامد.
وكان أبو علىّ ابن [2] مقلة يتقلّد لعلىّ بن عيسى زمام السواد طول أيّام وزارة حامد، فلمّا تقلّد ابن الفرات هذه الوزارة تجلّد ولم يستتر وصار إليه وظهر من إعراض ابن الفرات عنه ما غضّ منه ولم يقبض [3] عليه للمودّة التي بينه وبين [173] ابن الحوارى فلمّا قبض بعد ذلك على ابن الحوارى قبض عليه.
وانتقل ابن الفرات إلى داره الأولى التي بالمخرّم وركب إليه ابن الحوارى ليهنّئه فأطال عنده وآنسه ابن الفرات وشاوره وخلا به فتحقّق به وأظهر السرور بولايته مع ما يبطنه من الخوف الشديد منه.
وكان أسباب أبى القاسم ابن الحوارى قد أشاروا عليه بالاستتار وقالوا له:
- «إنّ المقتدر بالله لم يأذن لك عند تقليده ابن الفرات مع علمه بالعداوة بينكما إلّا لسوء رأيه فيك.» فقال ابن الحوارى:
__________
[1] . فى مط: ابنه.
[2] . فى مط: وكان علىّ بن مقلة، بإسقاط «أبو» .
[3] . فى مط: ولم يقض عليه المودّة.(5/149)
- «لو كان كذلك لقبض علىّ قبل تقليد ابن الفرات.» فلمّا كان يوم الإثنين ركب ابن الفرات وركب ابن الحوارى إلى دار السلطان فأذن لابن الفرات ولم يؤذن لابن الحوارى فاستوحش ابن الحوارى.
ثمّ صرف الأمر إلى ابن الفرات وقد كان شرط على ابن الفرات أن يجريه على رسمه فى وزارته الثانية، فإنّه لم يكن يصل مع ابن الحوارى ظاهرا وإنّما كان يصل سرّا. فلمّا خرج ابن الفرات من عند المقتدر بالله وانفرد دخل إليه ابن الحوارى فأقبل عليه وشاوره فى جميع أموره وقال:
- «قد غبت عن مجاري الأمور منذ خمس سنين وأنت عارف بها وأريد أن تعاضدنى وتستعمل ما يلزمك بحقّ المودّة.» فتلقّى ابن الحوارى [174] قوله بالشكر وإظهار المناصحة وأنشأ ابن الفرات معه حديثا طويلا ونهض قبل أن يستتمّه [1] ونزل إلى طيّاره وأنزل معه ابن الحوارى وأحمد بن نصر البازيار ابن أخيه ومحمّد بن عيسى صهره وعلىّ بن مأمون الإسكافى كاتبه وعلىّ بن خلف النيرمانى.
وكان أخوه محمّد بن خلف مصاهرا له وأظهر لجماعتهم الإكرام والإختصاص وما زال يضاحكهم إلى أن حصل فى داره. ثمّ أسرّ إلى العبّاس الفرغاني حاجبه بأن يقبض على ابن الحوارى وجميع أسبابه، فقبض عليهم واعتقلهم فى حجرة الدار واستحضر ابن الفرات فى الوقت شفيعا اللؤلؤي فأنفذه إلى دار ابن الحوارى ليحفظها من النهب وضمّ إليه جماعة من الفرسان والرجّالة وأمر بمعاملته بالجميل فى مطعمه ومشربه وأفردت له دار واسعة وفرشت بفرش نظيف وأفرده عن كتّابه ومن يأنس به وراسله ابن الفرات فى
__________
[1] . فى مط: فتفرّدت.(5/150)
المصادرة وتوسّط ابن قرابة بينهما.
وكان ابن قرابة متحقّقا بابن الفرات وشديد الأنس بابن الحوارى، فتقرّرت [1] مصادرته بعد خطاب كثير على سبعمائة ألف دينار فى نفسه دون كتّابه وأسبابه واشترط إطلاق أحمد بن نصر البازيار لينصرف فى أداء مال التعجيل [175] وهو مائتان وخمسون ألف دينار فأطلق وأزيل التوكيل [2] عن دار ابن الحوارى وأسبابه وسلّم جميعها إلى أحمد بن نصر.
وأمر ابن الفرات بكبس مواضع فيها أسباب حامد وكتّابه فأثارهم، وكان المحسّن يسرف فى المكروه الذي يوقعه بمن يحصل فى يده منهم حتّى إنّه أحضر ابن حمّاد الموصلي وأخذ خطّه بمائتي ألف دينار وسلّمه إلى مستخرجه، فصفعه المستخرج صفعا عظيما فلم يرض المحسّن ذلك وأخرجه إلى حضرته وصفعه على رأسه حتّى خرج الدم من أنفه وفمه ومات ولم ينكره المقتدر وقد كان أشفق المحسّن من إنكاره وخافه خوفا شديدا.
فلمّا كان بعد أيّام أنفذ المقتدر إلى المحسّن خلع منادمته وأجرى عليه من الرزق كلّ شهر ألفى دينار زيادة على رزق الدواوين، فضرى المحسّن على مكاره الناس وأسرف المقتدر فى استصابة أفعاله إلى أن بلغ الأمر فيه إلى أن غنّى الجواري بحضرته:
أحسن المحسِّن أحسن وكان استتر أبو الحسين محمّد بن أحمد بن بسطام صهر حامد بن العبّاس فاستخرجه واستخرج منه ستين ألف دينار وأخذ خطّه بمائتي ألف دينار بعد مكروه غليظ وغضبه على خادم يعرف بموج [3] كان مشهورا بالميل [176]
__________
[1] . فى مط: فتفرّدت.
[2] . فى مط: التوكيد.
[3] . كذا فى الأصل ومط: موج. فى مد: مرج.(5/151)
إليه وقبض على جماعة فأخذ خدمهم وغلمانهم الروقة وأوقع بهم المكاره.
ذكر الخبر عن قبض الوزير ابن الفرات على حامد بن العبّاس
كان المقتدر قد شرط على ابن الفرات أن لا ينكب حامدا وأن يناظره على ما يجب عليه من فضل الضمان فإذا وجب عليه شيء بقول الكتّاب والقضاة أخذ بعضه وقال:
- «قد خدمني ولم يأخذ منّى إلّا رزق سنة واحدة وشرط علىّ أن لا أسلمه لمكروه ولا أدع عليه حقّا.» فاضطرّ ابن الفرات إلى إقراره على أعمال واسط وخاطبه بأجلّ دعاء، ثمّ عمل له الأعمال واستقصى عليه الحجّة وخرّج عليه أموالا عظيمة وكاتب أصحابه بمطالبته والإلحاح عليه فإن تقاعد بها وكّل به من يطالبه بالمال الواجب عليه للمصالح والبذور إذ كان ممّا لا سبيل إلى تأخيره، فإنّ أمير المؤمنين ليس يأذن فى تضمينه مستأنفا.
فأظهر صاحب الوزير ابن الفرات هذا الكتاب فى مجلسه وبلغ حامدا [1] الخبر فى الوقت فأظهر بواسط أن كتاب المقتدر ورد عليه يأمر فيه بالمسير إلى بغداد وخرج من واسط مع جميع كتّابه وحاشيته ورجّالته وحمل معه من الفرش والآلات والكسوة جميع ما كان يخدم به بعد أن احتاط [177] فى أمواله وأمتعته الفاخرة وأودعها عند ثقاته بواسط وضرب عند خروجه بالبوقات وأجلس غلمانه وحاشيته بأسرهم فى الزواريق والسميريّات وبادر بخبره على أيدى الفيوج [2] وعلى أجنحة الطير إلى ابن الفرات وقاد دوابّه
__________
[1] . فى الأصل: حامد (من دون الالف) .
[2] . الفيوج: جمع فيج، فارسىّ معرّب، أصله الفارسىّ «پيك» ، وأصبح بالإنجليزية. «Lpage» :الفيج:(5/152)
ودوابّ حاشيته. وأصحابه على الشطّ فوصل خبره إلى ابن الفرات فاستشار ابنه المحسّن ومن يختصّه فيما يعمل به فأشاروا عليه بأن يبادر إلى المقتدر ويقرئه [1] كتاب حامد ففعل ذلك.
وقال المقتدر:
- «ما وقفت على ما عمله حامد ولا كتبت بشيء ممّا ادّعاه علىّ.» فقال ابن الفرات:
- «فإن كان كذلك فالصواب أن ينفذ نازوك فى جمع من الغلمان الحجريّة والفرسان والرجّالة بعضهم فى الماء وبعضهم فى الظهر حتّى يقبض على حامد وأسبابه.» فأذن له فى ذلك فانصرف ابن الفرات إلى داره وأنفذ نازوك وتقدّم إليه بالمبادرة حتّى يقبض على حامد وعلى أسبابه حتّى لا يفوته أحد منهم.
فسار نازوك وأخطأ بأن قبض على أوّل من لقيه من أسباب حامد وعلى دوابّه وغلمانه وبلغ حامدا خبره فاستتر من الطريق ونهب أسباب نازوك بعض ما كان مع القوم [178] من الأمتعة واستظهر نازوك على الكتب والحسبانات والأعمال وصار بالجميع إلى الحضرة.
فأمر المقتدر بتسليم جميع الكتب والأعمال إلى ابن الفرات وفرّق الأمتعة فى خزائنه والدوابّ فى اصطبلاته، ووجد ابن الفرات فى الكتب المحمولة إليه عجائب من كتب من تقرّب إليهم فقبض عليهم، وكان حين ورد كتاب حامد بالمسير من واسط واستظهر بالتوكيل بجهبذه إبراهيم الذي كان بالحضرة.
__________
[ () ] رسول السلطان الذي يسعى على رجليه.
[1] . يقرئه: كذا فى الأصل ومط. وغيّر فى مد إلى «ويقرأه» وليس بصحيح.(5/153)
فلمّا تمّ قبض نازوك على أسباب حامد أمر ابن الفرات هشاما بالرفق بهذا الجهبذ مرّة وبالغلظة أخرى ويسأل عن ودائع حامد، ففعل هشام به ذلك فأقرّ عفوا أنّ لحامد عنده مائة ألف دينار عينا ثمّ حلف على أنّه ليس عنده لحامد ولا لأحد من أسبابه وديعة غيرها. فآمنه ابن الفرات على نفسه وأن لا يسلّمه [1] إلى المحسّن ولم يطلع ابن الفرات المقتدر بالله على خبر هذه المائة الألف إلّا بعد أن تسلّم [2] حامدا.
وانتشر الخبر فى رجب أنّ حامدا إنّما استتر لأنّ المقتدر كتب إليه ينكر خروجه من واسط على تلك الحال التي خرج عليها ويأمره أن يستتر ويوافى بغداد حتّى يتوثّق منه ويأخذ خطّه بما بذل أن يضمن [179] به ابن الفرات والمحسّن وكتّابهما وأسبابهما ليسلّم الجماعة إليه فاستتر المحسّن والفضل والحسين والحسن أولاد أبى الحسن ابن الفرات وحرمهم وأكثر الكتّاب ولم يبق فى دار ابن الفرات من كتّابه الذين يحضرون مجلسه إلّا أبو القاسم ابن زنجى وحده.
وكانت مدّة سعادة حامد قد انقضت فصار إلى دار السلطان فى زىّ الرهبان ومعه يونس خادمه وصعد إلى دار الحجبة [3] التي فيها نصر الحاجب فاستأذن له فارس بن رنداق [4] على نصر وقال:
- «حامد بن العبّاس قد حضر الباب وهو يستأذن على الأستاذ.» فقال:
- «قل له يدخل.»
__________
[1] . فى مط: يسأله، بدل «يسلّمه» .
[2] . فى الأصل ومط: يسلّم.
[3] . فى مط: دار الحجة.
[4] . فى مط: ريداق.(5/154)
فلمّا دخل قال له قبل أن يجلس:
- «إلى أين جئت؟» قال: «جئت بكتابك.» فقال له:
- «فإلى هاهنا كتبت إليك أن تجيء.» ولم يقم له، واعتذر إليه أنّه تحت سخط الخليفة، ووجّه نصر إلى مفلح يسأله الخروج إليه، وكان مفلح يتولّى الاستئذان على المقتدر إذا كان عند حرمه. فخرج مفلح وكلّمه نصر فى أمر حامد وقال له:
- «هو فى هذا الوقت فى حال رحمة ومثلك من استعمل معه الجميل ولم يؤاخذه بما كان منه فى تلك الأمور.» ثمّ قال حامد لمفلح:
- «تقول لمولانا أمير المؤمنين [180] عنّى، بأنّى أرضى أن أكون معتقلا فى دار أمير المؤمنين كما اعتقل فيها علىّ بن عيسى ويناظرني الوزير والمحسّن والكتّاب بحضرة الفقهاء والقضاء ووجوه القوّاد، فإن وجب علىّ مال خرجت منه بعد أن أكون مالكا لاستيفاء حججي [1] ومحروسا فى نفسي ولم يمكّن المحسّن من دمى فيجازينى على المكاره التي كنت أوقعها به فى طاعة مولانا أمير المؤمنين وهو شابّ وأنا شيخ قد بلغت هذه السنّ العالية واليسير من المكروه يتلفنى.» فوعده مفلح بذلك ودخل على المقتدر بالله فخاطبه فى أمره بضدّ ما وعده به، فتكلّمت السيّدة فى أمر حامد وقالت:
- «لا يضرّ أن يعتقل فى الدار ويناظر حتّى تحرس نفسه.»
__________
[1] . كذا فى الأصل ومط: حججي. فى مد: حجّتى.(5/155)
فقال مفلح:
- «إن فعل هذا لم يتمّ لابن الفرات عمل، لأنّ الأراجيف قد كثرت به وخربت الدنيا وبطلت الأموال.» فقال المقتدر لمفلح:
- «صدقت.» وأمره أن يخرج إلى نصر فيأمره أن ينفذ حامدا إلى ابن الفرات. فخرج مفلح إلى نصر بذلك فأخذ نصر يطيّب نفس حامد بأن يقول:
- «لا بدّ من أن تصير إلى حضرة الوزير مع ثقة لى ثمّ أردّك إلى دار أمير المؤمنين.» فالتمس حامد من نصر ثيابا يغيّر بها ما عليه من زىّ الرهبان، فامتنع مفلح من الإذن له فى ذلك وقال:
- «قد أمرنى مولاي أن أوجّه به [181] فى الزىّ الذي حضر فيه.» فما زال نصر يشفع له حتّى أذن له فى تغيير زيّه وأنفذه مع ابن رنداق الحاجب وبادر مفلح بإنفاذ كاتبه إلى ابن الفرات يبشّره بحصول حامد وما أمر به المقتدر من تسليمه إليه.
وكان ابن الفرات على قلق وانزعاج لمّا وقف على حصول حامد فى دار السلطان واستتر كتّابه وأولاده كلّهم. فلمّا جاءته رسالة مفلح سكن بعض السكون وصلّى الظهر وجلس وليس بين يديه غير ابن زنجى وهو ينظر فى العمل نظرا خفيفا إلى أن ذكر بعض الغلمان أنّ طيّارا من طيّارات الخدمة قد أقبل، ثمّ قدّم عند درجة داره وبادر البوّابون بخبره ودخل ابن الرنداق ومعه حامد بن العبّاس فلمّا رآه ابن الفرات قال له:
- «لم تركت عملك وجئت؟» قال: «بكتابك جئت.»(5/156)
قال: «فلم لم تقصد دارى إن كنت جئت بكتابي؟» قال: «حرمت التوفيق.» ولم يزل يخاطبه بالكاف [1] من غير ذكر الوزارة. وأخرج ابن الرنداق رقعة نصر الحاجب إلى الوزير بإنفاذ حامد إليه فألقاها إلى ابن زنجى وقال:
- «اكتب بوصوله.» فكتب وسلّم الجواب إلى ابن رنداق فنهض من المجلس. فلمّا انصرف ضعفت نفس حامد وأقبل يخاطب ابن الفرات بالوزارة ولان كلامه وبان فيه [182] الخضوع.
وأمر ابن الفرات يحيى بن عبد الله قهرمان داره بأن يفرد لحامد دارا واسعة فى داره، ويفرشها فرشا حسنا ويتفقّده فى طعامه وشرابه وطيبه، حتّى يخدم [2] بمثل ما [3] كان يخدم به وهو وزير، وأن يقطع له كسوة فاخرة ويجعل معه لخدمته إذا كان خاليا خادمين أسودين أعجميين، وأمره أن يؤنسه عند الأكل وأن يخدمه فى تلك الحال من الخدم والفرّاشين من يوثق به. ففعل يحيى ذلك.
ذكر ما عومل به حامد وما عمله هو
دخل إلى حامد وقت العصر من ذلك اليوم عبد الله بن فرجويه وأحمد بن الحجّاج بن مخلد صهر موسى بن خلف وقد كان حامد استعمل معهما فى أيّام وزارته من المكاره ما لم يسمع بمثله قطّ. فوبّخاه على ما فعل بهما فجحد أن يكون رآهما أو وقع بصره عليهما. فلمّا أكثرا عليه قال لهما:
__________
[1] . الكاف: كاف الخطاب: «ك» ، مثل قوله: بكتابك جئت.
[2] . فى مط: حتّى يخدمه بمثل ما كان يخدمه به وهو وزير.
[3] . ما: ساقطة من الأصل، وهي موجودة فى مط ومزيدة فى مد، كما هو الصحيح.(5/157)
- «قد أكثرتما علىّ، وأنا أجمل القول لكما. إن كان ما استعملته من الأحوال التي تصفان وما عاملت الناس به قد أثمر لى خيرا فاستعملا مثله وزيدا عليه، وإن كان قبيحا وهو الذي أصارونى إلى أن تمكّنتم منّى فتجنّبوه.
فإن السعيد من وعظ بغيره.» [183] فذهبا وأعادا ذلك على ابن الفرات فاسترجح حامدا وقال:
- «ما أدفع رجلته [1] ولا أنكر دربته ولكنّه رجل من أهل النار يقدم على الدماء ومكاره الناس.» قال ثابت [2] فى كتابه فى التاريخ: ومن أعجب العجب أن يقول أبو الحسن ابن الفرات هذا القول ويصدّق قول حامد ويستجيده ويقول إنّه بأفعاله القبيحة من أهل النار وهو لا ينكر مع كرم طبعه وجلالة قدره وسلامة أخلاقه وإيثاره الإحسان إلى كلّ أحد على المحسّن ابنه طرائقه [3] المنكرة وأفعاله العظيمة التي أنكرها على حامد بن العبّاس وقد زاد عليها للواحد واحدا ولا ينهاه ولا يعظه بما لحق حامدا فيرجع ويكون السعيد الذي وعظ بغيره فإنّ من يقدم على الله تعالى على بصيرة وبعد التنبيه والتذكير خلاف من يقدم وهو مغترّ غافل.
ثمّ راسل ابن الفرات حامد بن العبّاس فى الإقرار بماله بمائتي ألف دينار منها المائة التي كانت له عند إبراهيم جهبذه، لأنّه قد كان وقف على حصول هذا المال من جهة الجهبذ فى يد ابن الفرات.
وأخذ المحسّن شيئا آخر من جهة مونس خادمه إلى حضرة المقتدر بالله، وكتب إليه أنّه أخذ ذلك عفوا بغير مناظرة ولا مكروه [184] وأطمع المقتدر
__________
[1] . فى مط: رحلته.
[2] . فى مط: فأنت!
[3] . فى مط: طرائفه المنكرة!(5/158)
من جهة حامد فى أموال كثيرة واستخرج من مونس بعد ذلك بعد مكروه كثير أربعين ألف دينار وصودر جماعة من حاشيته بأموال أخر [1] .
واستحضر ابن الفرات حامد بن العبّاس بحضرة الفقهاء والقضاة والكتّاب وناظره مناظرة طالت واستوفى حامد حججه إلى أن أخرج ابن الفرات عملا وجده فى صناديق غريب غلام حامد. وكان هذا الغلام يتولّى لحامد بيع غلّاته فى الفرضة، فواقف حامدا عليه وأحضر غريبا فاعترف بذلك العمل وكان حمله سهوا منه، لأنّ حامدا كان فى كلّ سنة يجمع جميع حسباناته ويغرّقها فى دجلة.
فلمّا جرى المقدار على حامد بما جرى أنسى أن يطلب من هذا الغلام هذا العمل وكان فى جملة الظهور. فكان ما ثبت فى ذلك العمل من أثمان الغلّات لسنة واحدة خمسمائة ألف دينار ونيّفا وأربعين ألف دينار سوى شعير الكراع المحمول إلى الحضرة.
فبان أنّ فى الضمان من الفضل أكثر من الضعف وظهر أيضا أنّ أسعار تلك السنة الثانية فى العمل أسعار مناقصة وأنّ أسعار السنين التي بعدها بأسرها أزيد، واتّجهت حجّة ابن الفرات على حامد وأخذ ابن الفرات خطوط القضاة والكتّاب وشفيع اللؤلؤي بما ظهر من الحجّة على حامد.
وكان [185] ابن الفرات يرفق فى المناظرة ولا يسمعه [2] ولا يخرق به ولا يزيد على إيجاب الحجّة عليه ويدعه حتّى يستوفى منه لنفسه الحجّة.
وكان المحسّن ابنه يشتمه بحضرة الناس أقبح شتم ويقول:
- «ليس يخرج المال منك إلّا مثل المكاره التي كنت تجريها على الناس.»
__________
[1] . وغبّره فى مد إلى «أخرى» .
[2] . فى مط: ولا يمنعه.(5/159)
ويقول: «إنّى أعطى خطّى إن سلّم منّى أن أستخرج منه ألفى ألف دينار معجّلة ويبذل دمه إن لم يف بذلك.» ويستكفّه [1] أبوه وينهاه عن الشتم فلا ينتهى. فقال حامد:
- «أيّها الوزير قد أكثر من شتمي واحتملته وليس الاحتمال له وإنّما أكرم مجلس الوزير وليس بعد الحال التي أنا فيها شيء يخاف أعظم من القتل فلولا ما يلزمني من توقير مجلس الوزير لرددت عليه.» فحلف أبو الحسن لئن عاد المحسّن لشتم حامد ليستعفينّ الخليفة من مناظرته. فحينئذ أمسك عن الشتم ثمّ أعاده إلى المناظرة مرّات وكان يحصل فى آخره أنّه لا مال له وكان قد باع ضياعه ومستغلاته وفرشه وداره ولم يبق له حيلة.
فلمّا أعيت [2] ابن الفرات الحيلة فيه خلا به فى داره من دور حرمه من حيث لم يحضر معهما أحد من خلق الله ورفق به وحلف له على أنّه إن صدقه عن أمواله وذخائره لم يسلّمه إلى المحسّن ولم يخرجه عن داره [186] وحفظ نفسه. فإمّا أقام فى داره مكرما وإمّا خرج إلى فارس متقلّدا لها أو إلى أىّ بلد أحبّ مع خادم من خدم السلطان يحفظ نفسه، ووكّد اليمين على ذلك. ثمّ قال له:
- «أنت تعلم أنّك ضمنتنى من أمير المؤمنين لأسلّم إليك فافتديت نفسي بسبعمائة ألف دينار وأقررت بها عفوا من مالي حتّى سلمت منك وأنت فقد تناسيت كلّ جميل فعلته وفعله أخى بك، والخليفة الآن مقيم على أن يسلّمك إلى المحسّن وهو حدث وقد أسلفته من المكاره ما لم يستعمله أحد مع وزير ولا مع ولد وزير، وأنا أرى لك أن تفتدى نفسك بمالك حتى تلحقك الصيانة
__________
[1] . فى مط: وسكّته أبوه.
[2] . فى مط: أحبّ.(5/160)
من التسليم إلى المحسّن.» ووكّد له الأيمان.
فعند ذلك ركن حامد إلى قوله ويمينه وأقرّ له من الدفائن فى البلاليع احتفرها وتولّى هو بنفسه دفن المال فيها بخمسمائة ألف دينار، وأقرّ بأنّ له عند جماعة من الوجوه والشهود نحو ثلاثمائة ألف دينار وأقرّ بأنّ له كسوة وطيبا مودعة بواسط.
فأخذ ابن الفرات خطّه بذلك وبادر بالركوب إلى المقتدر من غير أن يحضر معه المحسّن ولا عرّفه شيئا من الخبر.
فسرّ المقتدر بذلك ووعده أن يسلّم إليه كلّ من ضمنه من نصر الحاجب وشفيع اللؤلؤي وغيرهما وأشار ابن الفرات [187] بإنفاذ شفيع لتسلّم هذا المال بواسط. فخرج شفيع فوجد تلك الأموال المدفونة واستخرج تلك الودائع وصار بها إلى المقتدر بالله.
وما زال حامد فى دار ابن الفرات مصونا إلى أن توصّل المحسّن إلى المقتدر بالله على يد مفلح، فالتمس منه أن يوقّع إلى أبيه بأن يستخلفه على سائر الدواوين وجميع أمر المملكة. فتردّد [1] مفلح برسائل من المقتدر بالله إلى أبى الحسن ابن الفرات وتنكّر ابن الفرات لابنه وجرت فيه ألوان مناظرات إلى أن خلع على المحسّن وركب معه أبوه والقوّاد ثمّ انصرف أبوه إلى داره ومضى المحسّن إلى داره.
ثمّ ركب المحسّن مع أبيه إلى دار السلطان وخاطب الخليفة بحضرة أبيه وقال:
- «قد بقيت على حامد جملة وافرة من مال مصادرته، وإن سلّم إلىّ
__________
[1] . فى مط: فيردّه.(5/161)
استخرجت منه خمسمائة ألف دينار.» فأمر المقتدر أبا الحسن بتسليمه إليه. فقال ابن الفرات:
- «قد عاهدته أن لا أسلّمه إليه.» فراجع المحسّن المقتدر إلى أن أمر المقتدر أمرا لم يمكن أبا الحسن مخالفته فيه. فسلّمه إليه وحمله المحسّن إلى داره وطالبه وأوقع به مكروها وأقام حامد على أنّه لم يبق له مال ولا حال، فأمر بصفعه فصفع خمسين صفعة وسقط كالمغشى عليه وما زال [188] يصفع إلى أن تكلّم وقال:
- «أىّ شيء تريد [1] منّى؟» قال: «أريد المال.» قال: «ما بقي غير ضيعتي.» قال: «فاكتب بوكالة لابن مكرم- وكان أحمد بن كامل القاضي حاضرا- تقرّ فيها أنّك قد وكّلته فى بيعها.» فكتب ذلك ووقعت الشهادة على حامد.
ثمّ إنّ المحسّن عامله بعد ذلك بمعاملة تجرى مجرى السخف من إذلاله والوضع منه. ثمّ سلّمه إلى خادم له مع خمسة من الفرسان وعشرة من الرجّالة ليحدروا به إلى واسط، ويبيع ضياعه وأملاكه.
وشاع ببغداد أنّ حامدا طلب ليلة انحداره بيضا فحمل إليه وتحسّى منه وقت إفطاره عشر بيضات، وأنّ خادم المحسّن الموكّل به طرح فيه سمّا فما استقرّ فى جوفه حتّى صاح ولحقه ذرب عظيم ودخل واسط وهو لمآبه [2] .
فسلّمه الخادم إلى محمّد بن علىّ البزوفري وجعله فى داره وبادر الخادم بالانصراف، وقام حامد أكثر من مائة مجلس ولم يتغذّ إلّا بسويق السّلت.
__________
[1] . فى الأصل: تريدين، وهو سهو. فى مط: تريدون، وله وجه من الصّحّة.
[2] . فى الأصل ومط ومد: لمابه، والتصحيح منّا، أى دخل واسط وهو مشرف على الموت.(5/162)
وأراد البزوفري الاستظهار لنفسه فاستحضر القاضي والشهود بواسط وكتب كتابا يقول فيه:
- «إنّ حامدا وصل إلى واسط وتسلّمه البزوفري وهو عليل من ذرب شديد لحقه فى طريقه بين بغداد وواسط وإنّه إن تلف من ذلك الذرب فإنّما مات [189] حتف أنفه، ولا صنع للبزوفرى فى شيء من أمره.» ووجّه بالكتاب إلى حامد فأظهر له حامد الاستجابة إلى الإشهاد على نفسه بما فيه. فلمّا دخل إليه القاضي والشهود قال لهم:
- «ابن الفرات الكافر الفاجر المجاهر بالرفض عاهدني وحلف لى بأيمان البيعة والطلاق، على أنّى إن أقررت بجميع أموالى لم يسلّمنى إلى ابنه المحسّن وصانني عن كلّ مكروه وأطلقنى إلى منزلي وولّانى أجلّ الأعمال، فلمّا أقررت له بجميع ما ملكته سلّمنى إلى ابنه المحسّن فعذّبنى بأصناف العذاب وأخرجنى مع فلان الخادم واحتال علىّ وسقاني بيضا وطرح فيه سمّا فلحقني الذرب [1] ولا صنع للبزوفرى فى دمى فى هذا الوقت، ولكنّه فعل وصنع. ثمّ أخذ قطعة من أموالى وأمتعتى وجعل يحشوها فى المساور [2] البزيون المخلقة [3] فتباع المسورة بخمسة دراهم وفيها أمتعة تساوى ثلاثة آلاف دينار فيشتريها هو فاشهدوا على ما شرحته لكم.» وتبيّن البزوفري حينئذ أنّه أخطأ فيما فعله.
وكتب صاحب الخبر بواسط إلى ابن الفرات بجميع ما تكلّم به حامد.
وتوفّى حامد بن العبّاس ليلة الثالثة عشر من شهر رمضان سنة إحدى عشرة وثلاثمائة. [190]
__________
[1] . كذا فى الأصل: الذرب. فى مط: الكرب.
[2] . المسور: متكأ من جلد.
[3] . والعبارة فى مط: وجعل نحوها فى المساور النريون المخلفة.(5/163)
ما جرى فى أمر علىّ بن عيسى وتسليمه إلى ابن الفرات
لمّا قبض المقتدر على علىّ بن عيسى وجعله فى يد زيدان القهرمانة، راسله بأن يقرّ بأمواله. فكتب رقعة يقول فيها: إنّه لا يقدر على أكثر من ثلاثة آلاف دينار.
واتفق أن ورد الخبر بدخول أبى طاهر سليمان بن الحسن الجنّابى إلى البصرة سحر يوم الإثنين لخمس بقين من شهر ربيع الآخر فى ألف وسبعمائة راجل، وأنّه وصل إليها بسلاليم نصبها بالليل على سورها وصعد إلى أعلى السور، ثمّ نزل إلى البلد وقتل البوّابين الذين على أبواب السور وفتح الأبواب وطرح بين كلّ مصراعين منها حصى ورملا كان معه على الجمال لئلا يمكن إغلاق الباب عليه، وأنّه لم يعرف سبك المفلحى والى البصرة إلّا فى سحر يوم الإثنين ولم يعلم أنّه ابن أبى سعيد الجنّابى، وقدّر أنّهم أعراب. فركب مغترّا ولقيه وجرت بينهم حرب شديدة وقتل سبك ووضع أبو طاهر فى أهل البصرة السيف وأحرق المربد وبعض المسجد الجامع ومسجد قبر طلحة ولم يعرض للقبر.
وهرب الناس إلى الكلّاء [1] ، فكانوا يحاربونهم عدّة أيّام ثمّ أخذهم السيف فطرحوا أنفسهم فى الماء فغرق أكثرهم. وأقام أبو طاهر بالبصرة [191] سبعة عشر يوما ويحمل على جماله كلّ ما يقدر عليه من الأمتعة والنساء والصبيان، ثمّ انصرف إلى بلده فأنفذ إلى ابن الفرات فى الوقت الذي ورد فيه
__________
[1] . فى الأصل: كلّا (دون مدّ) . وما فى مط دون تشديد. كلّاء: محلّة مشهورة وسوق بالبصرة (مراصد الإطلاع) .(5/164)
خبر القرمطى بنىّ بن نفيس وجعفرا الزّرنجى إلى البصرة وقلّد محمّد بن عبد الله الفارقي أعمال المعاون بالبصرة وخلع عليه وانحدر فى الطيّارات والشذاءات. وورد الخبر بوصوله إليها بعد انصراف أبى طاهر الجنّابى عنها فأقام فيها الفارقي رجاله وانصرف بنىّ والزّرنجى.
وكان بنىّ بن نفيس أنفذ جماعة من القرامطة إلى بغداد ذكر أنّهم استأمنوا إليه وأنّهم زعموا أنّ علىّ بن عيسى كاتبهم بالمصير إلى البصرة وأنّه وجّه إليهم فى عدّة أوقات بهدايا وسلاح فوافوا بغداد وأنهى ابن الفرات الحال فى ذلك إلى المقتدر بالله.
ذكر مناظرة ابن الفرات علىّ بن عيسى
وعرض الكتاب بعينه عليه فأمره المقتدر بإخراج علىّ بن عيسى إليه ليناظره، والجمع بينه وبين القرامطة حتّى يواجهوه بما قالوا فيه، ففعل ابن الفرات فاحتجّ علىّ بن عيسى بأن قال:
- «إنّه من كان فى مثل حالتي وتحت سخط السلطان كاشفه الناس بالكذب [192] والباطل لا سيّما إذا كان الوزير منحرفا [1] ومغتاظا.» ثمّ أخذ ابن الفرات يخاطبه فى أمر الأعمال وكان فيما ناظره عليه أمر المادرائيين وقال:
- «قد كان [2] أخذ ابن بسطام خطوطهما فى أيّام وزارتي الثانية صلحا عمّا وجب عليهما من خراج ضياعهما بمصر والشام وما أخذاه من المرافق بها مدّة تقلّدهما فى أيّامك الأولى بألفي ألف دينار وثلاثمائة ألف دينار وأدّيا
__________
[1] . كذا فى الأصل ومط ومد: منحرفا. ولعله «منخرقا» .
[2] . قد كان: ساقط من مد.(5/165)
فى أيّامى نحو خمسمائة ألف دينار فصرفت على ابن [1] بسطام ساعة وليت الدواوين وقلّدت هذين العاملين المجاهرين باقتطاع مال السلطان وأنشأت إليهما كتابا عن أمير المؤمنين أطال الله بقاءه بإسقاط ذلك بأسره عنهما، ثمّ ادّعيت أنّ أمير المؤمنين أمر بذلك وقد أنهيت هذه الحال إلى أمير المؤمنين أطال الله بقاءه. فقال:
- «لم آمر بشيء من هذا ولا ظنّ أنّ أحدا يقدم عليه بمثلها.» فأجاب علىّ بن عيسى بأنّه كان فى الوقت [كاتبا] [2] لحامد بن العبّاس يخلفه على العمل، وكان أمير المؤمنين أمرنى بقبول قوله وأنّ حامدا ذكر أنّ أمير المؤمنين أمر بإسقاط هذا المال عن هذين العاملين ووقّع بذلك توقيعا فوقّعت تحت توقيع حامد بامتثال أمره كما يفعل خليفة الوزير فيما يأمره به صاحبه.
فقال [193] ابن الفرات:
- «أنت كنت تعارض حامدا وتخاصمه أبدا فى اليسير تخرجه عليه فى عبرة ما كان ضمنه حتّى جرى بينكما ما تحدّث به الناس. فكيف تركت أن تستأذن أمير المؤمنين فى هذا المال العظيم الجسيم؟» فقال علىّ بن عيسى:
- «كنت فى أوّل الأمر كاتبا لحامد مدّة سبعة أشهر، ثمّ بان لأمير المؤمنين ما أوجب أن يعتمد علىّ، وكان الذي جرى من أمر المادرائيين فى صدر أيّام حامد.» فقال له ابن الفرات:
- «فلمّا اعتمد عليك أمير المؤمنين ألّا صدقّته عن خطأ حامد فى هذا
__________
[1] . فى الأصل: بن. وفى مط: ابن.
[2] . ما بين المعقوفتين غير موجود فى الأصل، أضفناه من مط.(5/166)
الباب وتلافيته؟» فقال: «أغضيت عن ذلك لأنّى كنت فى ذى القعدة سنة ستّ أوصلت الحسين بن أحمد إلى حضرة أمير المؤمنين وأخذت خطّه فى مجلسه بما عقدته عليه من ضمان أعمال الخراج والضياع لمصر [1] والشام فى كلّ سنة [2] بعد النفقات الراتبة وإعطاء الجيش فى تلك النواحي وهو ألف ألف دينار فى كلّ سنة خالصة للحمل إلى بيت المال لا ينكسر منه درهم واحد وذلك بعد أن أخذت خطّه بجميع ما تصرّف فيه من عطاء الجيش والنفقات الراتبة فى ناحية ناحية ووقفت عليه أيضا فى كلّ سنة لما ينكسر ويتأخّر فى هذه الأعمال مائة وثلاثين ألف دينار [194] وخطّه بذلك فى ديوان [3] المغرب وهذا غاية ما قدرت عليه.» فقال ابن الفرات:
- «أنت تعمل أعمال الديوان منذ نشأت وقد وليت ديوان المغرب سنين كثيرة ثمّ تولّيت الوزارة ودبّرت أمر المملكة مدّة طويلة هل رأيت من يدع مالا واجبا يؤدّى معجّلا ويأخذ عوضا منه مالا مؤجّلا يحال به على ضمان، وهبك أغضيت كما ذكرت ورأيت ذلك صوابا فى التدبير، فهل استوفيت مال هذا الضمان من هذا الضامن [4] فى مدّة خمس سنين دبّرت فيها المملكة؟» فأجاب عن ذلك بأنّه قد كان ورد من مال الضمان للسنة الأولى جملة.
ثمّ سار العلوي من إفريقية حتّى تغلّب على أكثر النواحي بمصر فنفذ مونس المظفّر إلى مصر لمحاربته فانصرف أكثر المال إلى أعطيات الجند ونفقات
__________
[1] . كذا فى الأصل: لمصر. وفى مط ومد: بمصر.
[2] . فى كل سنة: العبارة سقطت من مد.
[3] . فى الأصل: الديوان.
[4] . فى مط: الضمان.(5/167)
العساكر وانكسر باقيه لأجل استخراج العلوىّ ما استخرجه من أموال النواحي المجاورة لمصر.
- «فقال ابن الفرات:
- «فقد انهزم العلوىّ منذ صفر سنة تسع ووجب على هذا الضامن مال سنتين كاملتين بعد هزيمة العلوىّ فهل استخرجت من هذا الضامن ألفى ألف دينار؟» فأجاب عن ذلك ما لم يحفظ.
ثمّ قال له فى آخر خطابه:
- «فقد [195] أمر أمير المؤمنين بمطالبتك بالأموال التي جمعتها وخنته فيها فينبغي أن تقرّ بها عفوا وتصون نفسك عن المكروه.» فقال علىّ بن عيسى:
- «لست من ذوى المال وما أقدر على أكثر من ثلاثة آلاف دينار.» ثمّ ناظره على أموال الحاشية، فقال لعلىّ بن عيسى:
- «أنت قد أسقطت من أرزاق الحرم والولد والحشم والفرسان الذين كنت أوفّيهم أرزاقهم على الإدرار فى أيّامى الأولى والثانية مدّة خمس وسنين دبّرت فيها أمر المملكة ما يكون مبلغه فى كلّ شهر مع ارتفاع الضياع التي هي ملك خاصّة خمسة وأربعين ألفا يكون فى السنة خمسمائة وأربعين [1] ألف دينار وفى هذه المدّة ستّة آلاف ألف دينار ولست تخلو من أن تكون احتجنتها [2] لنفسك أو أضعتها.» فقال علىّ بن عيسى:
- «ما استغللته من هذه الضياع، ووفّرته من أرزاق من يستغنى عنه تمّمت
__________
[1] . فى الأصل ومط ومد: أربعون (فى كلا الموضعين) .
[2] . كذا فى الأصل: احتجنتها. وفى مط: احتججتها. احتجن المال: ضمّه إلى نفسه واحتواه.(5/168)
به عجز الدخل عن النفقات المسرفة حتّى اعتدلت الحال فلم أمدّ يدي إلى بيت مال الخاصّة فأمّا الخمسة والأربعون الألف الدينار التي كنت تحملها من أموال المرافق فإنّى ما استصوبت [1] ما استصوبته أنت من أخذها والإذن للعمّال فى أن يرتفقوا، بل حضرتها ورفعتها فلم أعرض لها، لأنّها كانت طريقا إلى تلف أموال السلطان وظلم الرعيّة [196] وخراب البلاد، وأنت كنت تعوّل فى النفقات على ما كنت تحوّله من بيت مال الخاصّة إلى بيت مال العامّة، فترضى به الحاشية وتخرب به بيت المال.» وتكرّر الخطاب فى هذا المعنى.
ثمّ ناظره على ما حمله إلى القرامطة من الهدايا والسلاح وما تردّد بينه وبينهم من المكاتبات مرّة والمقاربات أخرى فقال:
- «أردت استمالتهم وإدخالهم فى الطاعة وكففتهم عن الحاجّ وأعمال الكوفة والبصرة مدّة ولايتي دفعتين، وأطلقوا من الأسارى الذين كانوا من المسلمين عدّة.» فقال له ابن الفرات:
- «فأىّ شيء أعظم من أن تشهد أنّ أبا سعيد وأصحابه الذين جحدوا القرآن ونبوّة النبي عليه السلام واستباحوا عمان وقتلوا أهلها وسبوهم مسلمين وتكاتبهم بذلك وتؤخّر إطلاق أرزاق من يحفظ السور بالبصرة حتّى أخلوا بمراكزهم فدخلها القرمطى وقتل أهلها.» فاحتجّ بحجج يطول شرحها.
فسأل نصر الحاجب والمحسّن أبا الحسن ابن الفرات أن يدعهما يخلوان به، فخلوا وأشارا عليه بالمصادرة فاستجاب إليها، وألزماه ثلاثمائة ألف دينار
__________
[1] . كذا فى الأصل ومط: ما استصوبت. وفى مد: ما أستصوب.(5/169)
يعجّل منها فى مدّة شهر مائة ألف دينار [1] أوّلها يوم خروجه من دار السلطان إلى حيث يأمن فيه على نفسه ويصل إليه الناس. [197] فأخذ ابن الفرات خطّه بذلك وأنفذه إلى المقتدر بالله فأمضاه.
ثمّ كتب ابن الفرات كتبا عن نفسه إلى كلّ واحد من أصحاب الدواوين يذكر فيها خيانة علىّ بن عيسى وسرقته وما واجهه به وما بذله من المصادرة.
وحكى أبو الفرج ابن هشام عن ابن المطوّق أنّ أبا الحسن علىّ بن عيسى كان سأل أبا الحسن ابن الفرات أن يتجافى له عن ارتفاع ضيعته لسنة إحدى عشرة وثلاثمائة ليؤدّيه من جملة المصادرة وأنّ ابن الفرات قال له:
- «هو خمسون ألف دينار.» فقال علىّ بن عيسى:
- «قد رضيت بعشرين ألف دينار.» وذكر أنّه دون ذلك. فلمّا نفى إلى مكّة وجد فى ضيعته نحو الخمسين الألف الدينار [2] .
قال أبو الفرج: فسمعت الهمانى الواسطي يقول: سمعت أبا الحسن علىّ بن عيسى يوبّخ أبا عبد الله البريدي ويقول له:
- «يا با عبد الله، أما خفت الله حيث حلفت بما حلفت به ونحن مجتمعون فى دار السلطان أطال الله بقاءه أنّ استغلالك واستغلال إخوتك من ضيعتكم بواسط عشرة آلاف دينار وقد وجدته من حساب رفعه إلىّ- يعنى الهمانى [3]- ثلاثين ألف دينار.»
__________
[1] . فى مط: ألف دينار. بإسقاط «مائة» .
[2] . فى مط: الألف الألف الدينار.
[3] . فى مط: إليهما فى. بدل «الهمانى» .(5/170)
فقال أبو عبد الله:
- «افتديت بسيّدنا- أيّده الله- حيث سأله أبو الحسن ابن الفرات عن ارتفاع ضيعته فلم يصدقه وساتره [198] وعلمت أنّه مع ديانته لو لم يعلم أنّ التقيّة مباحة عند من يخاف ظلمه، لما حلف بتلك اليمين.» فكأنّه ألقم علىّ بن عيسى حجرا.
ونعود إلى تمام خبر علىّ بن عيسى مع ابن الفرات
امتنع المقتدر من تسليم علىّ بن عيسى إلى ابن الفرات. فذكر علىّ بن عيسى أنّه لا يمكنه أن يؤدّى مال مصادرته إلّا بعد أن يخرج من دار الخليفة. وأحضره المحسّن دفعتين وطالبه ورفق به فلم يؤدّ إلّا ثمن دار باعها فقيّده المحسّن، فلمّا رأى نصر ذلك نهض عن المجلس وطالب المحسّن علىّ بن عيسى فقال:
- «لو كنت أقدر هاهنا على أداء المال لما قيّدت.» فألبسه جبّة صوف وأقام على أمره فحينئذ صفعه عشر صفعات.
فقام نازوك من المجلس، فقال المحسّن:
- «إلى أن تقوم؟» فقال: «ما أحبّ أن أحضر مكروه هذا الشيخ.» وأعيد علىّ بن عيسى إلى محبسه، وبلغ أبا الحسن ابن الفرات ما عامل به المحسّن علىّ بن عيسى فأقلقه ذلك وقال لابنه:
- «قد جنيت علينا بما فعلته، كان يجب أن تقتصر على القيد.»
ابن الفرات يشفع لعلىّ بن عيسى
ثمّ كاتب المقتدر بالله يشفع لعلىّ بن عيسى وذكر أنّه لمّا وقف على ما(5/171)
جرى عليه لحقه من الغمّ أمر لا يذكر مثله وأنّه لم يطعم طعاما منذ عرف خبره، لأنّه شيخ من مشايخ الكتّاب وقد خدم أمير المؤمنين [199] وتحرّم بداره ومثله يخطئ وأمير المؤمنين أولى بالصفح، وسأل أن يزال عنه القيد والجبّة الصوف.
فأجابه المقتدر بأنّ علىّ بن عيسى مستحقّ لأضعاف ما جرى عليه وأنّ المحسّن قد أصاب فيما عامله به، وأنّه قد شفعه فى أمره، وأمر بحلّ قيده ونزع جبّة الصوف عنه، وتقدّم بعد ذلك بتسليم علىّ بن عيسى إلى ابن الفرات ليؤدّى مال التعجيل من مصادرته.
فلمّا حمل إليه [قال] [1] :
- «لست أحبّ أن يكون فى دارى لئلّا يلحقه مرض وهو شيخ فينسب إلىّ، وأنا أسأل أمير المؤمنين أن يأذن فى تسليمه إلى شفيع.» فقيل للمقتدر ذلك. فقال:
- «أنا أسلّمه إليك لأنّك الوزير فاحفظ نفسه ولا تسلّمه إلى المحسّن، فأمّا غير هذا فأنت أولى وما تراه.» فأنفذ ابن الفرات إلى شفيع وأحضره. وأخذ ابن الفرات فى توبيخ علىّ بن عيسى وعاتبه على أمر وقوف وقّع أمير المؤمنين بردّها عليه وأنّ مالها كان ينصرف إلى أشياء يتقرّب بها إلى الله- عزّ وجلّ- وينصرف بعضها إلى ولده وغلمانه وأنّ ما فعله لا يجوز فى الدين ولا فى المروءة.
فأخذ علىّ بن عيسى يعترف بالتفريط الذي وقع منه وسأله قبول عذره، وكان المحسّن حاضرا [200] فأطنب فى توبيخه وتقريعه على هذا الباب، فأجابه بمثل ما أجاب به والده وزيادة. وقال فى عرض كلامه:
__________
[1] . ما بين المعقوفتين ساقط فى الأصل، فأضفناه من مط.(5/172)
- «أنا والله أستحليك. [1] .» فقامت على المحسّن القيامة من هذه الكلمة وغلظت على أبيه أيضا، فأجابه المحسّن بجواب فيه غلظة وأقبل أبوه يسكّنه ويرفق به، ثمّ قال لعلىّ بن عيسى:
- «أبو أحمد كاتب أمير المؤمنين وصنيعته.» وأخذ يصف محلّه منه وتفويضه إليه. وأخذ علىّ بن عيسى فى الاعتذار من تلك الكلمة. ونهض علىّ بن عيسى مع شفيع فأجلسه شفيع فى صدر طيّاره وحمله إلى داره.
وحكى أبو الحسن ابن أبى هشام أنّه كان حاضرا المجلس وأنّه رأى الحسن بن دولة ابن أبى الحسن ابن الفرات خرج فى تلك الحال، فقام له علىّ بن عيسى وقبّل رأسه وعينيه فاستكثر ذلك ابن الفرات وقال له:
- «لا تفعل يا أبا الحسن، هذا ولدك.» ثمّ فتح دواته ووقّع إلى هارون بن عمران الجهبذ أن يحمل إلى أبى الحسن علىّ بن عيسى بلا دعاء ألفى دينار يستعين به على أمره فى مصادرته، وقال لابنه المحسّن:
- «وقّع أنت أيضا بشيء.» فوقّع بألف دينار، ثمّ أحضرا بشر [2] بن هارون وكتب قبضا لعلىّ بن عيسى من مال مصادرته بهذه الثلاثة الآلاف الدينار. [201] فانصرف علىّ بن عيسى شاكرا.
ولم يقبل علىّ بن عيسى من أحد من الكتّاب معونة فى مصادرته مع بذل جماعتهم له وحملهم إليه ما أطاق كلّ واحد منهم، إلّا من ابن فرجويه وابني
__________
[1] . كذا فى الأصل: استحليك. فى مط: استحلّك. والمثبت فى مد: يستجليك.
[2] . فى مط: بسر (بالسين المهملة) .(5/173)
أبى الحسن بن الفرات الفضل والحسين، فإنّه قبل من كلّ واحد منهما خمسمائة دينار وحمل إليه أبو الهيجاء ابن حمدان عشرة آلاف دينار، فردّها وقال:
- «لو كنت متقلّدا فارس لقبلتها منك ولكنّى أعلم أنّ هذه جميع حالك [1] وما أحبّ أن أثلمك.» فحلف أبو الهيجاء أن لا يرجع إلى ملكه، ففرّقت فى الطالبيين وفى الصدقة على الضّعفى وبذل له شفيع اللؤلؤي ألفى دينار، فامتنع من قبولها وقال:
- «لا أجمع عليك مؤونتي ومعونتى فى مصادرتى.» وقبل من هارون بن غريب ومن نصر الحاجب وشفيع والمقتدري.
إبعاد على بن عيسى إلى مكّة ثمّ إلى صنعاء
فلمّا أدّى علىّ بن عيسى أكثر مال مصادرته قال ابن الفرات للمقتدر:
- «إنّ فى مقام علىّ بن عيسى فى دار شفيع ضررا عليه، فإنّ الأراجيف قد كثرت وإن ردّ إلى دار السلطان زاد الإرجاف.» والتمس الإذن فى إبعاده إلى مكّة فأذن له المقتدر فى ذلك، فأطلق ابن الفرات لما قدر [2] له من نفقته وما يحتاج إليه سبعة آلاف درهم، فخرج إليها. ثمّ كتب ابن الفرات بإبعاده إلى صنعاء اليمن [202] فأبعد إليها.
ابن الفرات وأسباب علىّ بن عيسى
ثمّ استخرج ابن الفرات من أسباب علىّ بن عيسى وعمّاله وكتّابه مالا
__________
[1] . ما فى الأصل يشبه أن يكون «حلك» . وفى مط: حالك. ما فى مد: مالك.
[2] . فى مط: ورد، بدل «قدر» .(5/174)
عظيما بالمكاره وبسط يد ابنه فأنكر الناس أخلاقه وما كان يعرف من كرمه ونبله.
فأمّا أبو علىّ ابن مقلة فإنّه كتب إلى أبى عبد الله محمّد بن إسماعيل [بن] [1] زنجى رقعة وكانت بينهما مودّة وضمّنها أبياتا له ما أثبتها لأنّى لم أستجدها. وكتب رقعة إلى ابن الفرات يذكّره بحرمته وقديم خدمته ويستعطفه وجعلها فى درج تلك الرقعة وسأله إيصالها فلمّا وقف ابن الفرات عليها تقدّم بحلّ قيده وتقرّير مصادرته على ما ينهض به ثمّ خفّف عنه بعد ذلك وأطلقه.
فأمّا ابن الحوارى فإنّ ابن الفرات سلّمه إلى ابنه المحسّن فصفعه صفعا عظيما فى دفعات وضربه بالمقارع ثمّ أخرجه إلى الأهواز مع مستخرج له، فلمّا وصل إليها قتله المستخرج.
فأمّا المادرائيّان فانّه كتب بإشخاصهما، فحمل الحسين بن أحمد وهو أبو زنبور [2] فاعتقله ابن الفرات فى داره واستحضر القضاة وأصحاب الدواوين إلى داره وحضر المحسّن وأحضروا أعمالا عملوها لأبى زنبور وناظره ابن الفرات عليها وأخذ خطّه من الأبواب التي نوظر عليها بألفي ألف وأربعمائة ألف دينار. ثمّ استكثر [203] ابن الفرات هذا المال فقرر مصادرته على ألف ألف وسبعمائة ألف دينار وعرض خطّه بذلك على المقتدر بالله فاستصاب فعله. وتناهى ابن الفرات فى معاملته بالجميل، وكان يسترجله ويصف فهمه ويقول: إنّه ما خاطب عاملا أفهم منه ولا أجلد، وسامه أن يواجه علىّ بن
__________
[1] . ما بين المعقوفتين ساقط فى الأصل ومط، وأضيف فى مد أيضا.
[2] . فى مط: أبو دينور.(5/175)
عيسى بأنّه أرفقه فى أيّام تقلّده ديوان المغرب وفى أيّام وزارته فاستعفاه من ذلك.
فقال له ابن الفرات:
- «فكيف واجهتني أنا بأمره ولا تواجهه بأمرى؟» فقال: «ما حمدت معه تلك الحال ولا أستحسنها إلى أحد مع الظاهر من إساءة الوزير إلىّ بتسليمه إيّاى إلى ابن بسطام وبسطه يده علىّ فى أيّام وزارته الثانية، فكيف تستحسنون لى هذه الحال فى معاملة علىّ بن عيسى مع قديم وحديث إحسانه إلىّ.» فأعفاه ابن الفرات من ذلك.
ثمّ قدم محمّد بن علىّ المادرائى ولم يكن تقلّد فى أيّام وزارة حامد ابن العبّاس شيئا من الأعمال، فناظره ابن الفرات على المال الباقي عليه وعلى الحسين بن أحمد من ضمان أجناد الشام ومصر وعن حقّ بيت المال فى ضياعه [1] وهو حينئذ شريك للحسين بن أحمد فى الضمان فاحتجّ فى بعضه.
فقال له ابن الفرات:
- «لست بأفهم من الحسين وقد احتجّ بأكثر ما ذكرت [204] فلم تثبت له حجّة.» وأخذ خطّه بلا تهديد ولا مكروه بألف ألف وسبعمائة ألف دينار، ثمّ سلّمه إلى المحسّن وكان فى داره على أتمّ صيانة، وأقام فيها يوما واحدا. وكان المحسّن يتطاول عليه [2] إذا حضر. ثمّ أطلقه وكان السبب فى ذلك أنّه حمل إليه مالا جليلا وثيابا فاخرة وجواهر نفيسة وخدما روقة.
__________
[1] . كذا فى الأصل ومط: ضياعه. وما فى مد: ضمانه.
[2] . فى الأصل: يتطاول عليه له. فى مط: يتطاول له.(5/176)
ذكر ما دبّره ابن الفرات فى أمر مونس حتّى أبعده
كان ورد مونس من الغزو بعد أن ظفر بالروم ظفرا حسنا، فتلقّاه المحسّن ونصر الحاجب وشفيع ومفلح وسائر القوّاد ولقى المقتدر بالله، فتحدّث الناس أنّ مونسا أنكر ما جرى على الكتّاب والعمّال من المكروه العظيم من ابن الفرات والمحسّن وما ظهر من وفاة حامد بن العبّاس، وأنّ أكثر الفرسان التفاريق بالحضرة قد عملوا على الانضمام إلى عسكر مونس المظفّر لتروج أرزاقهم.
فغلظ ذلك على ابن الفرات وصار إلى المقتدر بالله بعد أسبوع من قدوم مونس المظفّر فخلا به وأعلمه ما عمل مونس عليه من ضمّ الرجال إليه، وأنّه إن تمّ له ذلك صار أمير الأمراء وتغلّب على أمر المملكة ولا سيّما والقوّاد [205] والغلمان منقادون له. وعظّم عليه الأمر وأغراه به إغراء شديدا.
فلمّا ركب مونس المظفّر إلى دار المقتدر بالله، قال له المقتدر بحضرة ابن الفرات:
- «ما شيء أحبّ إلىّ من مقامك، لأنّى أجمع إلى الأنس بك والتبرّك برأيك الانتفاع بحضورك فى أمر الحضرة كلّه، ولكن أرزاق الفرسان برسم التفاريق عظيمة، وما يتهيّأ أن تطلق أرزاقهم على الإدرار ولا النصف من استحقاقهم وليس يطيعون فى الخروج إلى نواحي مصر والشام، لأنّهم يحتجّون بقصور أحوالهم عن ذلك. وقد علمت أنّ الرىّ وأبهر وزنجان متعلّقة بأخي صعلوك وكذلك أرمينية وأذربيجان بيوسف بن أبى الساج، وإن أقمت ببغداد التمس الرجال الانضمام إليك، فإن لم أجبهم شغبوا وأفتنوا البلد، وإن(5/177)
أقمت لم يرج [1] من مال ديار ربيعة ومضر [2] والشام شيء، وليس يفي مال السواد والأهواز وفارس بنفقات الحضرة ومال عسكرك. والوجه أن تخرج إلى الرقّة وتتوسّط عملك وتنفذ عمّالك فى اقتضاء الأموال وتستخرج ما يجب على المادرائيّين من الأموال العظيمة التي بذلوا بها خطوطهم وتهابك [3] عمّال المعاون والخراج بمصر والشام فيستقيم أمر [206] الملك.» ورسم له الشخوص من وقته [4] فى سائر الغلمان الحجريّة والساجيّة برسمه.
فعلم مونس أنّ هذا من رأى ابن الفرات وتدبيره وعرف شدّة عداوته له، فسأل المقتدر بالله أن يأذن له فى المقام بقية شهر رمضان حتّى يعيّد ببغداد، فأجابه إلى ذلك. فلمّا عيّد صار إلى ابن الفرات لوداعه، فقام له قياما تامّا فاستعفاه مونس وحلف عليه أن يجلس فى المصلّى فامتنع، وسأله مونس فى عدّة أمور فوقّع له بجميع ما التمسه وأراد القيام عند خروجه من حضرته فاستحلفه برأس الخليفة ألّا يفعل، ثمّ ودّع الخليفة وخرج إلى مضربه فى يوم مطير.
ما دبّره ابن الفرات بعد مونس فى أمر الحاشية
ولمّا فرغ ابن الفرات من مصادرة جميع الكتّاب وأخرج مونسا شرع فى القبض على نصر الحاجب وشفيع المقتدري. فوصف للمقتدر ما فى جنب
__________
[1] . الضبط من الأصل.
[2] . ما فى الأصل يحتمل «مصر» و «مضر. فى مط: مصر. وفى مد: مضر.
[3] . كذا فى الأصل: تهابك.
[4] . فى الأصل ومط: من وقته. فى مد: من رقّة.(5/178)
نصر خاصّة من الأموال والضياع وكثرة ما يصل إليه من الأعمال التي يتولّاها، ثمّ من سائر وجوه مرافقه فأجابه المقتدر إلى تسليمه إليه، واتّصل الخبر بنصر فلجأ إلى السيّدة واستغاث إليها. [207] فكلّمت ابنها وقالت له:
- «قد أبعد ابن الفرات مونسا عنك وهو سيفك وثقتك ويريد الآن أن ينكب حاجبك ليتمكّن منك فيجازيك على ما عاملته به من إزالة نعمه وهتك حرمه. فليت شعري بمن تستعين عليه إن أراد بك مكروها من خلعك والتدبير عليك، لا سيّما مع ما أظهر من شرّه وإقدام ابنه المحسّن على كلّ عظيمة.» وقد كان نصر مضى إلى منزله واستظهر بتفريق ماله فى الودائع واستتره فراسلته السيّدة بالرجوع إلى داره، فوثق وعاد وهو مع ذلك شديد التذلّل لابن الفرات وابنه وابن الفرات يعرّف المقتدر من أحواله ومن إفساده ابن أبى الساج حتّى ضيّع على الخلافة خمسة آلاف ألف دينار من ارتفاع نواحيه ما يهمّ معه المقتدر بتسليمه إليه.
فلمّا كان فى ذى الحجّة من هذه السنة ورد الخبر على ابن الفرات بإيقاع ابن أبى الساج بأحمد بن علىّ أخى صعلوك وقتله إيّاه وأنّه أخذ رأسه وهو على حمله إلى بغداد.
فركب المحسّن إلى المقتدر والتمس من مفلح أن يوصله إليه من غير حضور نصر الحاجب فأوصله وبشّره بالفتح وبشّره بالفتح وأعلمه أنّ نصر الحاجب يكره ذلك وأنّه عدوّ لابن أبى الساج وهو الذي [208] أفسده على السلطان فلذلك كتمه الخبر.
ودخلت سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة
فلمّا كان بعد أيّام ظهر فى دار للسيّدة كان المقتدر يكثر الجلوس فيها(5/179)
عند والدته رجل أعجمى على سطح مجلس من مجالسها وعليه ثياب فاخرة وتحتها ممّا يلي بدنه قميص صوف ومعه محبرة ومقدحة وسكّين وأقلام وورق وسويق وحبل، يقال إنّه دخل مع الصّنّاع فحصل فى الموضع وبقي أيّاما فعطش وخرج ليطلب الماء فظفر به وسئل عن خبره فقال:
- «ليس يجوز أن أخاطب غير صاحب الدار.» فأخرج إلى الوزير أبى الحسن ابن الفرات فقال له:
- «أنا أقوم مقام صاحب الدار فقل ما شئت.» فقال: «ليس يجوز غير خطابه فى نفسه ومسألته عمّا احتاج إليه.» فرفق به فلم يغن الرفق. فلمّا لم تكن فيه حيلة أخذ الخدم يقرّرونه بالضرب والعنف فعدل عن الكلام بالعربية فقال بالفارسية:
- «ندانم [1] .» فصلب ولفّ عليه حبل من قنّب ومساقة [2] ولطّخ بالنفط وضرب بالنار.
وخاطب ابن الفرات نصرا الحاجب بحضرة [209] المقتدر فى أمر هذا الرجل، وقال له:
- «ما أحسبك ترضى لنفسك أن يجرى عليك فى دارك مثل هذا الذي جرى على أمير المؤمنين وأنت حاجبه وحافظ داره وما تمّ مثل هذا على أحد من الخلفاء فى قديم ولا حديث وهذا الرجل هو صاحب أحمد بن علىّ أخى صعلوك لا محالة، والدليل على ذلك أنّه أعجمى، فإمّا أن يكون أحمد
__________
[1] . ندانم: الضّمة من الأصل. ولا ضمّة فى مط. ندانم: لست أعرف.
[2] . كذا فى الأصل ومط: مساقة. فى مد: مشاقة (بإعجام الثاني) .(5/180)
بن علىّ- قبل أن يقتل- واطأك [1] حتّى أوصلته إلى هذا الموضع وإمّا أن تكون أنت دسسته ليفتك بأمير المؤمنين لتخوّفك على نفسك منه ولأجل عداوتك لابن أبى الساج وصداقتك لأحمد بن علىّ ولأجل عظيم ما وصل إليك من أحمد بن علىّ من الأموال.» فقال له نصر الحاجب:
- «ليت شعري أدبّر على أمير المؤمنين لأنّه أخذ أموالى وهتك حرمي أو قبض ضياعي أو حبسني عشر سنين؟» فقال المقتدر:
- «لو تمّ هذا على بعض العوامّ لكان عظيما.» وتمكّن ابن الفرات منه واندفع عنه المكروه بما ورد به الخبر ممّا جرى على الحاجّ من القرمطى وسنشرحه فيما بعد. فشغل ابن الفرات بنفسه وقوى أمر نصر وسلم من ابن الفرات.
وفى هذه السنة ورد الكتاب بشرح الخبر فى مصير ابن أبى الساج من أذربيجان إلى الرىّ ومحاربته [210] أحمد بن علىّ وحمل رأس أحمد بن علىّ وجثّته إلى مدينة السلام.
تفريق المال على طلّاب الأدب
وفيها فرّق ابن الفرات على طلّاب الأدب مالا وعلى من يكتب الحديث مثله، وكان السبب فى ذلك أنّه جرى حديثهم فى مجلسه فقيل لعلّ الواحد منهم يبخل على نفسه بدانق [2] فضّة أو دونها ويصرفه إلى ثمن ورق وحبر.
__________
[1] . فى مط: واصلك. بدل «واطأك» .
[2] . كذا فى مط ومد. وما فى الأصل: بدنق.(5/181)
وكان ابن الفرات موصوفا بسعة الصدر وحسن الخلق، وكان فرّق فى الشعراء مالا. فقال لمّا جرى حديث هؤلاء:
- «أنا أولى من عاونهم على أمرهم.» وأطلق لهم لما يصرفونه إلى ذلك عشرين ألف درهم.» فذكر أنّه لم يسبق ابن الفرات إلى ذلك إلّا ما حدّث به الضبعي عن رجاله أنّ مسلمة بن عبد الملك أوصى عند وفاته بالثلث من ثلثه لطلّاب الأدب وقال:
- «هم مجفوءون [1] .» وكان يستعمل كلّ يوم فى مطبخ ابن الفرات من لحوم الحيوان وفى دوره من الثلج الكثير ومن الأشربة التي تعرض على كلّ من دخل ومن الشمع ومن القراطيس ما لم يستعمله أحد قبله ولا بعده. وكان إذا ولى الوزارة ارتفعت أسعار الشمع والثلج والقراطيس خاصّة وإذا عزل رخصت.
وكان أهدى إلى مونس [211] المظفّر عند موافاته من المغرب وإلى بشرى ويلبق وإلى نازوك وغيرهم من الغلمان والخدم لمّا حضر النوروز هدايا عظيمة لم تسمح نفس أحد بمثلها وقدّر أنّهم يستكفّهم بها فلم يقع موقعه الذي أراد.
ذكر السبب فى ضعف أمر ابن الفرات بعد تناهيه فى القوّة والاستقامة
اتّفق أن ورد الخبر إلى بغداد على ابن الفرات بأنّ أبا طاهر ابن أبى سعيد
__________
[1] . فى مط: محفوفون.(5/182)
الجنّابى ورد إلى الهبير ليتلقّى حاجّ سنة إحدى عشرة وثلاثمائة فى رجوعهم، فأوقع [1] بقافلة فيها خلق كثير من أهل بغداد وغيرها واتّصل خبره بهم وهم بفيد [2] فأقاموا حتّى فنى زاد من فيها وضاق بهم البلد فارتحلوا على وجوههم.
وأشار عليهم أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان- وكان إليه طريق الكوفة وطريق مكّة وبذرقة الحاجّ- لمّا بلغهم خبر الهجري، أن يعدل بهم من فيد إلى وادي القرى لئلّا يجتازوا بالهبير فضجّوا من ذلك وامتنعوا عليه وساروا وسار معهم ضرورة إلى الهبير.
فلمّا قربوا من الهبير عارضهم أبو طاهر ابن أبى سعيد الجنّابى وقاتلهم فظفر بهم وقتل [212] منهم خلقا كثيرا وأسر أبا الهيجاء عبد الله بن حمدان وأحمد بن كشمرد وغرير العمرى وأحمد بن بدر عمّ السيّدة أمّ المقتدر وجماعة من خدم السلطان وحرمه.
وأخذ أبو طاهر جمال الحاجّ فى سائر القوافل وسبى ممّن كان فيها من اختار من النساء والرجال والصبيان وسار بهم إلى هجر وترك باقى الحاجّ فى مواضعهم بلا زاد ولا جمال. وكانت سنّ أبى طاهر فى ذلك الوقت سبعة عشر سنة ومات أكثر من خلّف من الحاجّ بالعطش والحفا والرجلة.
وانقلبت بغداد وطرقها فى الجانبين وخرج النساء حفاة منشّرات الشعور مسوّدات الوجوه يلطمن ويصرخن فى الشوارع وانضاف إليهن حرم المنكوبين الذين نكبهم ابن الفرات وذلك فى يوم السبت لسبع خلون من صفر فكانت صورة فظيعة [3] قبيحة شنعة لم ير مثلها.
__________
[1] . والعبارة فى مط: ما وقع فقابله لها ...
[2] . فى مط: يفيد.
[3] . فى مط: فضيعة.(5/183)
وتقدّم ابن الفرات إلى نازوك بالركوب إلى المساجد الجامعة فى الجانبين ببغداد بسبب حركة العامّة فركب فى جميع جيشه من الفرسان والرجّالة والنفّاطين حتّى سكّن العامّة.
ثمّ قدم سائق الحاجّ فشرح الصورة [213] لابن الفرات، فركب ابن الفرات آخر هذا اليوم وقد ضعفت نفسه إلى المقتدر وشرح له الحال واستدعى نصرا الحاجب وأدخله فى المشاورة وتمكّن نصر من خطاب ابن الفرات بحضرة المقتدر وانبسط لسانه عليه وقال له:
- «الساعة تقول: أىّ شيء الرأى، بعد أن زعزعت أركان الدولة وعرّضتها للزوال بإبعادك مونسا الذي يناضل الأعداء ويدفع عن الدولة، فمن يمنع الآن هذا الرجل عن السرير ومن الذي أسلم رجال السلطان وقوّاده وحرمه وخدمه إلى القرمطى سواك وقد ظهر الآن أمر الأعجمىّ الذي وجد فى دار السلطان وأنّه إنّما كان صاحب القرمطى.» وأشار نصر على المقتدر بمكاتبة مونس بالتعجّل إلى الحضرة، فأمر أن يكتب بذلك. ووثبت العامّة على ابن الفرات ورجمت طيّاره وبالآجرّ، وركب المحسّن من داره يريد طيّاره فرجموه وضجّت العامّة فى الطرقات بأنّ:
- «ابن الفرات القرمطى الكبير وليس يقنعه إلّا إتلاف أمّة محمّد.» وتحرّكت العامّة فامتنعت من الصلاة فى المساجد الجامعة ذلك اليوم وارتجّت بغداد بأسرها من الجانبين. [214] وأشار ابن الفرات بإنفاذ ياقوت إلى الكوفة لضبطها لئلّا تردها الهجريّة [1] ويضمّ الغلمان الحجريّة ووجوه القوّاد إليه وإن كان الهجري مقيما سار لمحاربته.
__________
[1] . هجر (الهجر) : هي قاعدة البحرين، أو ناحية البحرين كلّها (مراصد الإطلاع) .(5/184)
فتقدّم المقتدر إلى ياقوت بالشخوص، وإلى ابن الفرات بإزاحة علّته فالتزم ابن الفرات له ولولديه وهما المظفّر ومحمّد وللزيادة فى إقطاعهم وموائدهم ولمن ضمّ إليه أموالا عظيمة.
وخرج ياقوت بمضربه إلى باب الكناسة، وورد الخبر على ابن الفرات بانصراف الهجري إلى بلده. فوقّع إلى ياقوت بالرجوع فرجع وبطل نفوذه إلى الكوفة.
وأصلح المقتدر بين ابن الفرات وبين نصر وأمر الجماعة بالتضافر على ما فيه الصلاح للدولة وكفاية الهجري.
دخول مونس بغداد
ودخل مونس بغداد وتلقّاه الناس فلم يتأخّر عنه أحد وركب إليه ابن الفرات للسلام عليه ولم تجر له بذلك عادة ولا لأحد قبله. فلمّا عرف مونس خبره خرج إلى باب داره وتلقّاه وسأله أن ينصرف فلم يفعل، وصعد إليه من طيّاره حتّى هنّاه بمقدمه. فلمّا خرج لينصرف خرج معه مونس إلى أن نزل إلى طيّاره. [215]
ما عامل به المحسّن المنكوبين لمّا اضطرب أمره وأمر أبيه
استوحش المحسّن بعد إيقاع الهجري بالحاجّ من المنكوبين ونظر إلى سقوط حشمته [1] ، فخاف أن يظهر ما أخذه وارتفق به وما أسقطه من أداء المصادرين وفاز به، فنصب أبا جعفر محمّد بن علىّ الشلمغاني المعروف
__________
[1] . فى مط: خشيته.(5/185)
بابن أبى العزاقر [1] وكان هذا يدّعى من حلول اللاهوت فيه ما ادّعاه الحلّاج.
وكان المحسّن قد غنى بهذا الرجل فاستخلفه بالحضرة لجماعة من العمّال وكان له صاحب يعرف بملازمته مقدام على الدماء من أهل البصرة. فسلّم المحسّن إلى صاحب ابن الفرات هذا البصري جماعة فيهم النعمان بن عبد الله وعبد الوهّاب ابن ما شاء الله ومونس خادم حامد وأظهر أنّه يطالبهم بما بقي عليهم من المال، فلمّا حصلوا فى يده ذبحهم كما يذبح الغنم. وكان جماعة مستترين، فكتب ابن الفرات إليهم كتبا جميلة حتّى ظهروا، ثمّ صادرهم واستخرج منهم أموالا كثيرة.
ذكر القبض على أبى الحسن ابن الفرات وهرب ابنه المحسّن [216]
واشتدّ الإرجاف بابن الفرات حتّى استتر أولاده وكتّابه فراسله المقتدر على لسان نسيم.
فحكى أبو القاسم ابن زنجى أنّه كان بين يديه إذ جاءه نسيم فتقدّم إليه فأدّى الرسالة التي كانت معه، فسمعته يقول فى جوابها:
- «قل له: أنت تعلم يا أمير المؤمنين أنّى عاديت فى استيفاء حقوقك الصغير والكبير واستخرجت لك المال من الدنيء والشريف وبلغت غاية ما أمكننى فى تأييد دولتك ولم أفكّر فى أحد مع سلامة نيّتك وما قرّبنى منك واجتلب لى حسن رأيك، فلا تقبل فىّ قول من يريد إبعادى عن خدمتك ويغريك بما لا فائدة فيه ويدعوك إلى ما تذمّ [2] عواقبه.
__________
[1] . فى الأصل ومط: الغواقر، وهو تصحيف. تجد ذكره فى إرشاد الأريب 1: 298 وذكر قصّة للوزير المهلّبى مع العزاقريّة بالبصرة، عند ابن الأثير فى حوادث سنة 340 (مد) .
[2] . فى مط: ندم.(5/186)
«وبعد فطالعى وطالعك واحد وليس يلحقني شيء ولا يلحقك مثله، فلا تلتفت إلى ما يقال، فقد علمت الخاصّة والعامّة أنّى أطلقت للرجال النافذين إلى طريق مكّة ما لم يطلقه أحد تقدّمنى واخترت رؤساء الجند والقوّاد وشجعان الرجال وأزحت العلّة فى كلّ ما التمس منّى، فحدث من قضاء الله عزّ وجلّ على الحاجّ ما قد حدث مثله فى أيّام المكتفي بالله رحمه الله فما أنكره [217] على وزيره ولا ألزمه جريرته ولا أفسد عليه رأيه.» وتكلّم فى هذا المعنى بما يشاكله وانصرف نسيم والغلمان بانصراف نسيم.
واحتدّت الأراجيف وكثرت بأبى الحسن ابن الفرات والمحسّن ابنه، وأراد المقتدر أن يسكّن منهما فكتب إليهما رقعة يحلف فيها على ما هو عليه لهما وما يعتقده من الثقة بهما، وأنّه ينبغي لهما أن يثقا بما تقرّر فى نفسه من موالاتهما وأمرهما أن يظهرا رقعته إليهما لأهل الحضرة ويكتب بنسختها إلى جميع عمّال الحرب والخراج فى البلدان.
ثمّ ركب بعد ذلك ابن الفرات والمحسّن إلى الدار، فوصلا إلى المقتدر فى شهر ربيع الأوّل سنة اثنتي عشرة، ولمّا خرجا أجلسهما نصر الحاجب وكان راسل الغلمان الحجريّة المقتدر فى القبض عليهما فدخل مفلح برسالتهم، ثمّ أشار عليه بتأخير الأمر وقال له:
- «إنّ صرف [1] الوزير بكلام الأعداء خطر وخطأ فى التدبير وإطماع للغلمان.» فأمره أن يتقدّم إلى نصر بإطلاقهما ويعرّف الغلمان أنّ الأمر يجرى فيما راسلوه على محبّتهم فتقدم مفلح وقال:
- «لينصرف الوزير.»
__________
[1] . فى مط: انصرف، بدل «إنّ صرف» .(5/187)
فأذن نصر للوزير وابنه فى الانصراف [218] فقام [1] ابن الفرات فى الممرّات كالمهزول حتّى وصل إلى طيّاره وكذلك ابنه المحسّن. فلمّا وصلا إلى دار الوزير دخل إليه المحسّن فسارّه سرارا طويلا ثمّ خرج من عنده وانصرف إلى منزله وجلس فيه ساعة وتقدّم بما أراد ثمّ خرج فاستتر.
وجلس أبوه غير مكترث ينظر فى العمل وبين يديه وجوه الكتّاب وانصرفوا آخر النهار وقد تشكّكوا فيما بلغهم من صورة الأمر لمّا رأوه من نشاطه وانبساطه وجريه على رسمه فى الحديث والأنس والأمر والنهى.
وتحدّث بعض خواصّه قال: سمعته يقول فى آخر الليل وهو فى مرقده يتمثّل بهذا البيت:
وأصبح لا يدرى وإن كان حازما ... أقدّامه خير له أم وراؤه [2]
فدلّ ذلك على سهره وتفكّره فى أمره، وجلس من الغد ينظر فى أمره.
قال أبو القاسم ابن زنجى: فبينا هو كذلك إذ وردت رقعة لطيفة مختومة فقرأها فما عرفت ممّن هي فى الوقت ثمّ عرفت أنّها كانت من مفلح. ثمّ وردت رقعة أخرى من رجل يجرى مجرى الجند كان ملازما لدار السلطان.
فلمّا قرأها أمسك [219] قليلا ثمّ دعا يحيى قهرمانه فأسرّ إليه بشيء وانصرف. ثمّ صرف الناس وواعدهم البكور ونهض ابن الفرات عن مجلسه إلى دور حرمه وتفرّق الناس.
فلمّا صرت إلى الرّوشن ذكرت شغلا علىّ كان شغلي به فانصرفت وجلست لذلك، فإذا بنازوك قد دخل عليه سيفه وبيده دبّوس وإذا بيلبق
__________
[1] . فى مط: مقام.
[2] . فى مط: أو مراؤه.(5/188)
يتلوه وهما بخلاف ما أعهدهما [1] من الانبساط ومع كلّ واحد منهما نحو خمسة عشر غلاما بسلاح. فلمّا لم يجدوه فى مجلسه دخلوا إلى دار حرمه فأخرجوه منها حاسرا وأجلس فى طيّار وحمل إلى دار نازوك وقبض معه على ابنيه الفضل والحسين ومن وجد من كتّابه.
ومضى نازوك [2] ويلبق إلى مونس المظفّر وعرّفاه الخبر وكان قد خرج إلى باب الشمّاسية وأظهر أنّه خرج للنزهة، فانحدر معه هلال بن بدر وجماعة من قوّاده وذهب يلبق إلى دار نازوك وأخرج ابن الفرات من هناك مع ولديه وأسبابه وأخرج نازوك من داره رداء قصب وطرحه على رأسه لأنّه كان حاسرا. فلمّا رأى ابن الفرات مونسا أظهر الاستبشار [220] بحصوله فى يده فأجلسه معه فى الطيّار وخاطبه بجميل مع عتاب وتذلّل ابن الفرات وخاطبه بالأستاذيّة فقال له مونس:
- «الساعة تخاطبني بالأستاذيّة وبالأمس تخرجني على سبيل النفي إلى الرقّة والمطر يصبّ على رأسى ثمّ تذكر لمولانا أمير المؤمنين أنّى أسعى فى فساد مملكته!» وانحدر به إلى دار السلطان وتقدّم بحمل ولديه وكتّابه إليها وتسليمهم إلى نصر. فتكاثر العامّة على ابن الفرات ومعهم أسباب المنكوبين يدعون عليه ويضجّون واجتهد مونس فى دفعهم فما قدر على ذلك ورجموا طيّار مونس لمكان ابن الفرات فيه وصاحوا:
- «قد قبض على القرمطى الكبير وبقي القرمطى الصغير.» ولمّا وصلوا إلى باب الخاصّة صعد جمع عظيم من السميريّات لرجم ابن الفرات وولديه وكتّابه بالآجر حتّى حوربوا واحتيج إلى رميهم بالسهام وجرح
__________
[1] . فى مط: عهدهما.
[2] . فى مط: باروك.(5/189)
بعضهم فانصرفوا وتسلّمهم نصر.
فكانت مدّة ابن الفرات فى هذه الوزارة الثالثة عشرة أشهر وثمانية عشر يوما.
تسليم ابن الفرات إلى شفيع اللؤلؤىّ
ثمّ اجتمع وجوه القوّاد إلى دار السلطان وأقاموا [221] على أنّ ابن الفرات إن حبس [1] فى دار الخلافة خرجوا بأسرهم إلى المصلّى وأسرفوا فى التهدّد.
فدعا المقتدر مونسا ونصرا وشاورهما فأشارا بتسكين القوّاد وبأن يخرج ابن الفرات ويسلّم إلى شفيع اللؤلؤي ويعتقل عنده. فاستحضر شفيع وسلّم إليه.
ذكر توصّل أبى القاسم عبد الله بن محمّد بن عبيد الله الخاقاني إلى الوزارة
كان أبو القاسم عبد الله بن محمّد الخاقاني استتر فى أيّام وزارة ابن الفرات الثالثة وأبوه أبو علىّ شديد العلّة وقد أسنّ وتغيّر فهمه [2] ولمّا اضطرب أمر ابن الفرات عند ما جرى على الحاجّ ما جرى، سعى عليه أبو القاسم الخاقاني وعلى ابنه المحسّن وعمل لهما عملا وسعى له فى ذلك نصر الحاجب وثمل القهرمانة وغيرهما [3] . وكان مونس أشار بأبى القاسم الخاقاني قبل ذلك.
فقال المقتدر:
- «أبوه خرّب الدنيا وهو شرّ من أبيه ولكن نقلّد الحسين بن أحمد
__________
[1] . فى الأصل ومط: جلس. انظر صلة عريب: 120.
[2] . فى مط: ويغرفهم، بدل «وتغيّر فهمه» .
[3] . كذا فى الأصل ومط ومد: وغيرهما، ولعله: وغيرهما.(5/190)
المادرائى.» فعرّفه مونس أنّه قد نفذ إلى مصر وأنّ استحضاره يبعد. ثمّ ساعده نصر وابن الخال [222] فى ذلك، ثمّ استحضره المقتدر وشافهه بتقليده الوزارة والدواوين وخلع عليه وركب معه مونس المظفّر وهارون بن غريب إلى داره.
ذكر ما جرى عليه أمر ابن الفرات وأسبابه بعد تقلّد أبى القاسم الخاقاني الوزارة
ذكر أبو الحسن أنّه سلّم إلى شفيع كما ذكرنا فراسله شفيع على يد المعروف بالجمل كاتبه، فيما يبذله من المصادرة عن نفسه ليسلم من أعدائه ومن تسليمه إلى الخاقاني وأبى العبّاس ابن [1] بعد شرّ وهو كاتب الخاقاني فأجابه ابن الفرات بأنّه لا يفعل أو يثق من المقتدر بالله فى حفظ نفسه من تسليمه إلى أحد من هذه الطبقة. وقال للكاتب الملقّب بالجمل:
- «قل لصاحبك إنّى قد خلّفت فى يد هارون الجهبذ وابنه مائة ونيّفا وستين ألف دينار حاصلة قبلهما من المصادرين ليعرف الخليفة ذلك ويتقدّم بحملها إلى بيت مال الخاصّة من وقته هذا حتّى لا يوهمه الخاقاني أنّه هو استخرجه ثمّ يصرفه فى النفقات التي سبيلها أن ينفق من بيت مال العامّة.» فركب شفيع للوقت وأنهى ذلك إلى المقتدر [223] فوجّه إلى الجهبذين وكانا فى دار الخاقاني لم يكلّمهما بعد لتشاغله بالتهنئة فأحضرا واعترافا بالمال وحملاه وصحّحاه فى بيت مال الخاصّة.
وتقدّم المقتدر إلى نصر الحاجب بتسليم أولاد ابن الفرات وكتّابه وأسبابه إلى الخاقاني، فسلّمهم إليه وأخذ خطّه بتسلّمهم وسلّمهم الخاقاني إلى أبى
__________
[1] . ابن: ساقطة فى مط. وأبقيت فى مد أيضا.(5/191)
العبّاس ابن بعد شرّ فقيّدهم وأجلسهم على الأرض فى الحرّ الشديد ثمّ أخذ خطّ كلّ واحد من ولدي ابن الفرات بمائة ألف دينار وخطّ سعيد بن إبراهيم بمائتي ألف وخطّ أبى غانم كاتب المحسّن بمائتي ألف دينار، ووقع النداء على المحسّن وهشام وابني فرجويه والتهديد لمن وجدوا عنده بعد النداء بالنهب وإحراق المنازل وضرب ألف سوط. وواقف أبو الحسن شفيعا على أن يضمن عنده مالا إن ردّ إلى دار السلطان ولم يسلّم إلى أحد.
فذهب شفيع فخاطب فى ذلك المقتدر فقال له المقتدر:
- «إنّ مونسا ونصرا وهارون بن غريب قد أجمعوا [1] على أنّه لا يمشى للخاقانى أمر إلّا بتسليم ابن الفرات إليه وضمن أن يستخرج منه ومن ابنه وأسبابه [224] ألفى ألف دينار.
فانصرف شفيع ووجّه إلى ابن الفرات بكاتبه يشرح الصورة له.
كلام لابن الفرات فى وزارة الخاقاني
فقال هذا الكاتب وهو الملقّب بالجمل: كنت أدخل إلى ابن الفرات فى كلّ يوم لتفقّد أحواله. فكنت أجده أقوى الناس نفسا وأصبرهم على نوائب الدهر. قال:
ولقد سألنى: عمّن تقلّد الوزارة.
فعرّفته أنّه أبو القاسم بن أبى على الخاقاني.
فقال: «السلطان نكب وما نكبت أنا.» وسألنى: «عمّن تقلّد الديوان- يعنى ديوان السواد، فقلت:
- «محمّد بن جعفر بن حفص.»
__________
[1] . كذا فى الأصل ومط: أجمعوا. فى مد: اجتمعوا.(5/192)
فقال: «رمى بحجره [1] .» وسألنى: عمّن تقلّد باقى الدواوين.
فعرّفته أنّهم يحيى بن نعيم المالكي ومحمّد بن يعقوب المصري وإسحاق بن علىّ القنّاى. فقال:
- «لقد أيّد الله هذا الوزير بالكفاة.»
مناظرة ابن الفرات لاستخراج ماله
وكان المناظر لابن الفرات ابن بعد شر فرفق به فوعده أن يتذكّر ودائعه ويعرّفه إيّاها فعاوده بالرفق فأقرّ أنّ له عند التجّار مائة وخمسين ألف دينار.
وكان المقتدر رسم أن يكون مال مصادرة ابن الفرات وحده يحصّل فى بيت المال الخاصّة ومال مصادرة أسبابه فى بيت مال العامّة.
ولمّا [225] استخرج ما ذكره ابن الفرات من التجّار أعاد ابن بعد شر مطالبة ابن الفرات، فذكر أنّه لم يبق له مال فأوقع به مكروها يسيرا، ولم يكن ابن الفرات ممّن يستجيب بالمكروه فتقاعد وامتنع دفعة واحدة من أداء شيء.
فمضى هارون بن غريب إلى المقتدر وعرّفه أن الخاقاني جنى على السلطان بتسليمه ابن الفرات إلى ابن بعد شر وأنّه كان ينبغي أن يرفق به ويداريه، فإنّه ممّن لا يستجيب بالمكروه. فتقدّم المقتدر إلى الخاقاني بأن تكون مناظرة ابن الفرات بحضرة هارون بن غريب وأن يرفق به. وكان ابن بعد شر قد ضيّق على ابن الفرات فى مطعمه ومشربه حتّى أنّه أدخل إليه خبز خشكار [2] وقثّاء وماء الهواء، فوجّه إليه بطعام واسع وشراب وثلج كثير
__________
[1] . كذا فى الأصل ومط: رمى بحجره. فى مد: بحجره رمى (بالتقديم والتأخير) .
[2] . فى الأصل: خشكاز. وفى مط ومد: خشكار. وهي فارسية. خبز من دقيق غير منخول.(5/193)
وفاكهة واعتذر إليه عمّا جرى وحلف أنّه لم يعلم بما عومل به.
ثمّ إنّ الخاقاني راسله على يد خاقان بن أحمد بن يحيى برفق ومداراة بأن يقرّ بماله ولا يلاجّ السلطان فليس ذلك بمحمود. فأجابه بأن قال:
- «قل للوزير ليست حدثا غرّا فتحتال علىّ فى المناظرة، ولست [226] أقول إنّى لا أقدر على المال ولكن إذا وثقت لنفسي بالحياة فديتها بالمال.
وإنّما أثق بذلك إذا كتب أمير المؤمنين بخطّه لى أمانا وشهد الوزير والقضاة بخطوطهم ويكتب لى الوزير أيّده الله أمانا بخطّه ويسلّمنى إلى أحد رجلين:
إمّا مونس المظفّر وإن كان عدوّى وإمّا شفيع اللؤلؤي فإن لم يفعل ذلك فقد وطّنت [1] نفسي وعلى التلف.» فوجّه إليه الخاقاني:
- «بأنّى لو قدرت على التوثّق لك لتوثّقت، ولكن إن تكلّمت فى هذا المعنى عاداني خواصّ الدولة لأجلك، ثمّ لم تنتفع أنت بذلك وقد ردّ الخليفة أمرك إلى هارون بن غريب.» فتواعدوا إلى دار الخاقاني بالمخرّم واستحضر ابن الفرات وناظره ابن بعد شر بحضرته فتماتن ابن الفرات. فبدأ ابن بعد شر يسمعه المكروه فأنكره هارون وزبره [2] وقال:
- «بهذا تريد أن تستخرج مال ابن الفرات؟» وأقبل هو على ابن الفرات وداراه وخاطبه بجميل وقال له:
- «أنت أعرف بالأمور من كلّ من يخاطبك والخلفاء لا يلاجّهم وزراؤهم إذا سخطوا عليهم.» فقال له ابن الفرات:
__________
[1] . كذا فى الأصل ومط: وطّنت. فى مد: وطئت.
[2] . زبره: منعه.(5/194)
- «أشر علىّ أيّها الأمير فإنّ من كان فى مثل حالي عزب عنه الرأى.» فلم يزل معه فى مناظرات إلى أن أخذ [227] خطّه بمصادرة ألفى ألف دينار على أن يعجّل منها الربع وعلى أن يحتسب له من الربع بما أدّاه وما أخذ بعد ذلك ممّا لعلّه استخرج من ودائعه بغير إقرار منه ويطلق له بيع أملاكه وما يستبيع من ضياعه وأمتعته وينقل إلى دار شفيع اللؤلؤي أو غيره من ثقات السلطان ويطلق الكلوذانى ليتصرّف فى جمع أمواله ويطلق له الدواة ليكاتب من يرى مكاتبته فأخذ هارون بن غريب خطّه بجميع ما كتب به وحمله إلى المقتدر بالله.
ذكر اتّفاق سيّء اتّفق على المحسّن حتّى ظفر به وصودر وقتل
كان المحسّن استتر عند حماته حنزابة وهي حماته ووالدة الفضل بن جعفر بن الفرات فكانت تحمله كلّ يوم، بكرة إلى المقابر فى زىّ النساء وتردّه إلى المنازل التي يثق بها بالليل.
فمضت به يوما إلى مقابر قريش فى زىّ النساء على رسمه وأمست فبعد عنها الطريق إلى الكرخ فوصفت لها امرأة كانت معها منزل امرأة تثق بها ليس معها رجل لأنّ زوجها مات منذ سنة. فصارت حنزابة [1] مع النسوة والمحسّن [228] إلى هناك فقالت لصاحبه الدار:
- «إنّ معنا امرأة لم تتزوّج بعد، وقد عادت من مأتم وضاقت عليها [2] فأفردى لها بيتا.»
__________
[1] . فى مط: جيرانه.
[2] . كذا فى الأصل ومط ومد.(5/195)
فأفردت لها [1] بيتا فى صفّة وأدخلت إليه المحسّن ثمّ ردّت عليه الباب وجلس النسوة مع المحسّن فى البيت. فجاءت جارية سوداء بسراج معها فوضعته فى الصفّة وأدخلت حنزابة إلى المحسّن بسويق وسكّر وكان المحسّن قد نزع ثيابه فاطّلعت الجارية السوداء من حيث لا يشعر المحسّن ولا حنزابة فى البيت، وعلمت أنّه رجل، فانصرفت وأخبرت مولاتها.
فلمّا جنّ الليل جاءت مولاتها وطالعت البيت فرأت المحسّن وكان ذلك من نحس المحسّن وخذلان الله إيّاه، لأنّ تلك المرأة كانت زوجة لمحمّد بن نصر وكيل علىّ بن عيسى وكان المحسّن طلبه فأدخل إلى ديوانه فرأى ما يلحق الناس من المكاره بحضرة المحسّن فمات من الفزع فجأة من غير أن يكلّمه المحسّن.
فمضت المرأة فى الوقت إلى دار السلطان حتّى وصلت إلى دار نصر الحاجب وشرحت له الصورة فأنهى نصر الحاجب الخبر إلى المقتدر بالله، فتقدّم بالبعثة إلى نازوك ليركب إلى الموضع ويقبض على المحسّن.
فركب [229] نازوك من وقته إلى الموضع وكسبه وقبض على المحسّن، وضربت الدبادب لذلك نصف الليل عند الظفر به حتّى ارتاع الناس ببغداد وظنّوا أنّ القرمطى قد كبس بغداد.
وحمل المحسّن إلى دار الوزارة بالمخرّم وتسلّمه ابن بعد شر [وجرّعه] [2] فى وقته مكروها عظيما وأخذ خطّه بثلاثة آلاف ألف دينار. وحضرت هارون بن غريب دار المخرّم وناظر المحسّن فوعده أن يتذكّر وودائعه ويقرّ بها ولحقه فى يومين متواليين مكروه عظيم فلم يذعن بدرهم واحد وقال:
- «ليس يجمع بين نفسي ومالي.»
__________
[1] . التأنيث بناء على أنّ المحسّن مرأة.
[2] . زيادة من مط.(5/196)
وحضر بعد ذلك هارون بن غريب ومعه شفيع اللؤلؤي وأحضر المحسّن والكتّاب وابن بعد شرّ وناظر المحسّن وأوقع به مكروها عظيما وقال له:
- «هبك لا تقدر أن تؤدّى المال الذي أخذ خطّك به [1] لا تقدر أن تؤدّى مائة ألف دينار.» فقال له:
- «بلى إذا أمهلت وزال عنّى المكروه.» فقال له:
- «نحن نمهلك فاكتب خطّك بمائة ألف دينار.» وكتب [2] بذلك خطّه وأنّه يؤديها فى مدّة ثلاثين يوما.
فلمّا قرأ هارون بن غريب الرقعة قال:
- «كأنّك ترجو أن تعيش ثلاثين يوما.» فخضع له المحسّن وقال له: [230]- «أفعل ما يأمر به الأمير.» قال: «أكتب بأنّك تؤدّيها فى مدّة سبعة أيّام.» فارتجع الرقعة ليكتب بدلها. فلمّا حصلت فى يده مضغها وبلعها وامتنع أن يكتب غيرها. فقيّد وغلّ وألبس جبّة صوف وضرب على رأسه بالدبابيس على أن يكتب ما كان كتبه فلم يكتب، فأعيد إلى محبسه وعذّب فيه بأنواع العذاب فلم يذعن بدرهم واحد.
الخاقاني يناظر ابن الفرات
فلمّا كان بعد ذلك حضر الأستاذ مونس ونصر الحاجب والقضاة والكتّاب
__________
[1] . فى مط: ولا تدر، بزيادة الواو.
[2] . كذا فى الأصل ومط: وكتب. وفى مد: وثبت.(5/197)
مجلس الوزير الخاقاني وأحضر أبو الحسن ابن الفرات وناظره الخاقاني ولم يكن الخاقاني من رجاله، فكاد أبو الحسن ابن الفرات أن يأكله فكان فيما قال له:
- «إنّك استغللت ضياعك فى مدّة أحد عشر شهرا ألف ألف دينار.» فقال: «قد كانت هذه الضياع فى يد علىّ بن عيسى عشر سنين أيّام وزارته وأيّام وزارة حامد بن العبّاس وما ارتفع له منها إلّا أربعمائة ألف دينار فقد ادّعيت لى [1] المعجزات.» فقال له:
- «أضفت حقوق ضياع السلطان إلى ضياعك.» فقال: «الدواوين لا يمكن أن يكتم ما فيها فتنظر فى ارتفاع النواحي السلطانية فى أيّام نظري فيها وفى ارتفاعها أيّام علىّ بن عيسى ووزارة [231] حامد بن العبّاس ووزارة أبيك التي دبّرتها أنت حتّى تعلم هل زادت ارتفاع ضياع السلطان فى أيّامى أم نقصت.» ونوظر فيمن قتل وشنّع عليه بهم فقال:
- «ليس يخلو من ذلك من أحد أمرين: إمّا أن يقال إنّى أنا قتلتهم فلم أغب عن الحضرة والقتل لا ينسب إلىّ والمدّعى قتله بالبعد منها، وإمّا أن يقال كتبت خطّك بقتلهم وهؤلاء أصحاب المعاون وثقات السلطان وعمّال الخراج ووجوه متصرّفى عمّال السلطان قد حكّمتهم على نفسي.» فقيل له:
- «قد قتلهم ابنك.» فقال: «أنا غير ابني وأنتم تناظروننى.»
__________
[1] . فى مط: فى المعجزات.(5/198)
فقال له ابن بعد الشرّ [1] :
- «إذا قتل ابنك الناس فأنت قتلتهم.» فقال له ابن الفرات:
- «هذا غير ما حكم الله ورسوله، فإنّه عزّ وجلّ يقول: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى 6: 164. [2] وقال النبي عليه السلام لرجل من أصحابه: أهذا ابنك؟
فقال: نعم. قال: أما إنّه لا يجنى عليك ولا تجنى عليه، ومع هذا فهو فى أيديكم سلوه فإن وجب عليه قود بادّعاء قتل [3] فى موضع ناء عنه يقال فيه إنّ غيره تولّى قتله فالحكم فى هذا معروف.» فتحيّر القوم فى الجواب.
فقال عثمان بن سعيد صاحب ديوان الجيش لنصر الحاجب:
- «إن رأى الحاجب أن يقول له حيث كنت تقول لمن تطالبه: إن أدّيت وإلّا سلّمتك [232] إلى المحسّن، أكنت تسلّمه ليسقيه [4] السويق والسكّر أو ليعذّبه؟ ومن أطلق التعذيب فقد أطلق القتل، لأنّ الإنسان قد يتلف بمقرعة واحدة يضرب بها فضلا عن غيرها.» فخاطبه نصر بذلك فقال فى الجواب:
- «إنّ الخليفة أطال الله بقاءه ولّى المحسّن وأنا إذ ذاك محبوس وهو مطلق فضمن ما ضمنه وجرى ذلك على يد مفلح وتوسّطه جماعة من ثقات السلطان. ثمّ لمّا تقلّدت الأمر كنت أحبّ الرفق بالناس وإذا ناظرتهم ورفقت بهم لم يذعنوا بما يلزمهم فإذا أقاموا على الامتناع سلّمتهم إلى من نصبه
__________
[1] . بعد الشرّ: كذا فى الأصل. بعد الشرّ. وفى مط: بعد شرّ، كما هو فى سائر المواطن.
[2] . 6 الأنعام: 164، 17 الإسراء: 15، 35 فاطر: 18، 39 الزمر: 7، 53 النجم: 38.
[3] . فى الأصل: قيل. وفى مط: قبل، وكلاهما خطأ.
[4] . فى مط: ليسفه.(5/199)
السلطان وأمر بتسليمهم إليه.» فقال له مونس:
- «كأنّك تحيل على الخليفة فى قتل الناس فإنّ الخليفة قال: ما أمرت بقتل أحد سوى ابن الحوارى فقط.» ثمّ أقبل نصر عليه فقال له:
- «معى رسالة من الخليفة إليك فتسمعها وتجيب عنها.» قال: «وما هي؟» قال: «يقول: سلّمت إليك قوما بمال ضمنته لى وأريد منك أحد أمرين:
إمّا وفّيتنى المال أو رددت علىّ القوم.» فقال ابن الفرات:
- «أمّا المال فقد صحّ فى بيت المال، وأمّا الرجال فما ضمنت أرواحهم ولا بقاءهم وقد تلفوا حتف آنافهم.» فقال له مونس المظفّر:
- «هب [1] أنّ لك فى كلّ شيء عذرا وحجّة، أىّ عذر [233] لك فى إخراجى إلى الرقّة حتّى كأنّى من العمّال المصادرين أو من أعداء دولة أمير المؤمنين؟» قال: «أنا أخرجتك؟» قال: «فمن أخرجنى؟» قال: «مولاك [2] أمرنى بإخراجك.» قال: «مولاي لم يأمر بذلك.» قال: «معى حجّة بخطّه كتب إلىّ رقعة احتفظت بها لأنّها بخطّه يشكو
__________
[1] . فى مط: هب لك أنّ لك.
[2] . كذا فى الأصل ومط: مولاك. وفى مد: مولانا.(5/200)
فيها أفعالك وقتا بعد وقت وفتحك البلدان بالمؤمن الغليظة ثمّ إغلاقك إيّاها بسوء تدبيرك وآثارك القبيحة.» قال: «وأين الرقعة؟» قال: «فى أيديكم فى جملة المهمّات التي أمرت بحفظها فى السفط الخيزران المكتوب عليه بخطّى بالتحفّظ به من المهمات وفيها الأمر بإخراجك إلى الرقّة والتوكيل [1] بك حتّى تخرج.» فأمر الخاقاني بإحضار السفط فوجده مختوما بخاتم ابن الفرات ووجد فيه الرقعة بعينها وفيها جميع ما ذكر ابن الفرات بخطّ المقتدر فأخذها.
ومضى مونس من وقته إلى المقتدر حتّى لقيه وأقرأه الرقعة فاغتاظ المقتدر على ابن الفرات غيظا شديدا، فأمر هارون بضربه بالسوط. فمضى هارون حتّى ضرب ابن الفرات بين الهنبازين خمس درر فقط وقال له:
- «يا هذا أذعن بمالك.» فأعطى خطّه بعشرين ألف دينار وقال:
- «هذا مالي.» ثمّ أخرج المحسّن [234] فى الوقت فضربه ضرب التلف، فلم يذعن بشيء بتّة.
فصار هارون بن غريب إلى المقتدر بالله واستعفى من مناظرة ابن الفرات وابنه وقال:
- «هؤلاء قوم ليس فى عزمهم أن يؤدّوا شيئا البتّة وقد استقتلوا.» فأمر بتسليمهما إلى نازوك وبسط المكروه عليهما فأوقع نازوك بالمحسّن أنواع المكاره حتّى تدوّد بدنه ولم يبق فيه فضل لمكروه. وضرب أبا الحسن
__________
[1] . فى مط: التوكل.(5/201)
ابن الفرات ثلاث دفعات بالقلوس [1] فلم يذعن بدرهم واحد.
واستبطأ المقتدر بالله أبا القاسم الخاقاني الوزير وقال له:
- «ما رأيت شيئا ممّا ضمنته من أموال ابن الفرات وابنه صحّ.» فقال: «لأنّه لم يترك والتدبير.» وإنّ ابن الفرات لمّا عدل به عن مناظرة الكتّاب وسلّم إلى أصحاب السيوف يئس من الحياة فضنّ [2] بالمال ونظر إليه ابنه فاقتدى به.» وقال نازوك للمقتدر:
- «قد انتهيت بهؤلاء القوم من المكاره إلى الغاية حتّى إنّ المحسّن مع ترفه [3] قد تدوّد بدنه وصبر بعد ذلك على مكاره عظام لم يسمع بمثلها وقد مضت له الآن أيّام لم يطعم طعاما وإنّما يشرب الماء شربا يسيرا وهو فى أكثر أوقاته مغشىّ عليه.» فقال المقتدر بالله:
- «إذا كان الأمر كذلك فلا بدّ من حملهما إلى دارى.» فأظهر مونس [235] والجماعة:
- «إنّ الصواب فى ذلك.» وقال الخاقاني:
- «قد وفّق الله [4] أمير المؤمنين.» وخرجت الجماعة من حضرته.
فأسرّ الخاقاني إليهم وهم بعد مجتمعون فى دار السلطان وقال:
__________
[1] . فى مط: بالفلوس. والقلس: حبل للسفينة ضخم.
[2] . فى مط: نص. بدل «فضنّ» وهو تصحيف.
[3] . فى مط: ترفهه.
[4] . وزاد فى مد: رأى.(5/202)
- «إن حمل ابن الفرات إلى دار الخليفة بذل أسبابه [1] عنه وعن ابنه الأموال، وإذا وثق مع ذلك بالخليفة وحصل فى داره أخرج أمواله وتوثّق لنفسه ولابنه، فإذا أمن على نفسه تضمّن الجماعة وحمل الخليفة على تسليمها إليه ويطمعه فى أن يوفّر أرزاقها وإقطاعاتها وضياعها ويجمع له أموالا جليلة خطيرة. والوجه أن يقع التجمّع من القوّاد واليمين على أنّهم إن وقفوا على أنّ ابن الفرات وابنه حملا إلى دار الخليفة [2] خلعوا الطاعة.» فقال مونس:
- «هذا شيء إن لم نفعله لم يصف لنا عيش.» وتجرّد لهذه الحال هارون بن غريب ونازوك فجمعا القوّاد ووجوه الغلمان الحجريّة وكان يلبق [3] يستحلفهم.
ذكر مقتل أبى الحسن ابن الفرات وابنه المحسّن
ثمّ اجتمعوا بأسرهم إلى مونس ونصر وأظهروا ما فى نفوسهم. فأشار مونس بأن يلتمس القوّاد نقل ابن الفرات وابنه إلى دار مونس فإن مات المحسّن استبقى أبوه. فقال له [236] هارون بن غريب:
- «إذا مات المحسّن لم يصلح أن يستبقى أبوه وكيف يوثق به وقد قتل ابنه حتّى يؤمن على الملك؟» ثمّ كاشفوا المقتدر بالله وقالوا بأجمعهم:
- «إن لم يقتل ابن الفرات وابنه خلع الأولياء بأسرهم الطاعة.»
__________
[1] . فى مط: اشابه، وهو تصحيف.
[2] . فى مد: دار الخليفة.
[3] . فى مط: بليق.(5/203)
وواصل هارون بن غريب مخاطبة المقتدر فى قتل هذين وقال:
- «ليست آمن أن يجتمع الأولياء على البيعة لبعض بنى هاشم، ثمّ لا يتلافى الأمر.» وأرادت الجماعة من الوزير الخاقاني التجريد فى ذلك فقال:
- «لست أدخل فى سفك الدماء وإنّما أشرت بألّا يحملا إلى دار السلطان، فأمّا قتله فخطأ، لأنّه ليس ينبغي أن يسهّل على الملوك ولا يحسّن لهم قتل أحد، فإنّهم متى فعلوا ذلك خفّ عليهم قتل خواصّهم حتّى يأتوا عليهم بأدنى ذنب وخطإ يكون منهم.» فلمّا كان يوم الأحد لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر قدّم إلى ابن الفرات طعامه فأمر برفعه وقال:
- «أنا صائم.» وحضر وقت الإفطار فقدّم إليه لمّا حضر وقت الطعام فقال:
- «لست أفطر الليلة.» فحضر عنده من اجتهد به أن يفطر فقال:
- «أنا مقتول فى غد لا محالة.» فقيل له: [237]- «أعيذك بالله.» فقال: «بلى رأيت البارحة أخى أبا العبّاس رحمه الله فى النوم وقال لى:
أنت تفطر عندنا يوم الإثنين بعد غد وما قال قطّ فى النوم [1] شيئا إلّا صحّ وغدا الإثنين وهو اليوم الذي قتل فيه الحسين بن علىّ صلوات الله عليه [2] .» فلمّا كان من الغد وهو يوم الإثنين انحدر الناس إلى دار الخليفة، فلم
__________
[1] . فى الأصل: اليوم. وفى مط: النوم، كما أثبتناه.
[2] . فى مط: رضي الله عنهما.(5/204)
يصلوا [1] فكتب هؤلاء الرؤساء بقتل ابن الفرات وابنه فأجابهم المقتدر أن:
- «دعوني أنظر فى ذلك.» فكتبوا إليه: أنّه إن تأخّر قتل ابن الفرات وابنه عن هذا اليوم جرى على المملكة ما لا يتلافى.
وكتب المقتدر إلى نازوك بأن يضرب أعناقهما ويحمل رؤوسهما إلى حضرته فقال نازوك:
- «هذا أمر عظيم لا يجوز أن أعمل فيه بتوقيع.» فأمر المقتدر الأستاذين والخدم بالخروج إليه برسالته بإمضاء ما كتب به فخرجوا إليه بذلك فقال:
- «لا أعمل على رسالة ولا بدّ من مشافهة بذلك.» وابن الفرات يراعى الخبر فلمّا قيل له إنّ الناس قد انصرفوا وإنّ نازوك انصرف إلى منزله سكن قليلا ثمّ قيل له:
إنّ نازوك قد عاد إلى دار السلطان.
فاضطرب جدا وصار نازوك إلى دار الوزارة بعد الظهر من ذلك اليوم فجلس [238] فى الحجرة التي كان ابن الفرات معتقلا فيها ووجّه بعجيب خادمه ومعه السودان حتّى ضرب عنق المحسّن وصار برأسه إلى أبيه فوضعه بين يديه فارتاع لذلك ارتياعا شديدا وعرض هو على السيف فقال لنازوك:
- «يا با منصور ليس إلّا السيف؟ راجع أمير المؤمنين فى أمرى فإنّ لى أموالا عظيمة وودائع كثيرة وجواهر جليلة.» فقال له نازوك:
- «قد جلّ الأمر عن هذا.»
__________
[1] . كذا فى الأصل ومط.(5/205)
وأمر به فضربت عنقه وحمل رأسه ورأس ابنه إلى المقتدر بالله فأمر بتغريقهما، فغرّقا فى الفرات وغرّقت الجثتان فى التمارين [1] ببغداد.
وكانت سنّ أبى الحسن ابن الفرات رحمه الله يوم قتل إحدى وسبعين سنة وشهورا وسنّ ابنه المحسّن ثلاثا وثلاثين سنة.
حكم المنجّم فى ابن الفرات وابنه
وقد كان حكم العاصمي المنجّم فى تلك السنة أنّه يخاف فيها على ابن الفرات نكبة وتلفا بالسيف وذكر ذلك فى مولده الذي كان بين يديه، وحكم على مولد المحسّن أنّ عمره ثلاث وثلاثون سنة، فصحّ حكمه.
إطلاق القرمطىّ الحاجّ الأسرى عنده
وفى هذه السنة ورد كتاب الفارقي من البصرة يذكر أنّ كتاب أبى الهيجاء ابن حمدان ورد عليه من هجر يذكر أنّه كلّم أبا طاهر القرمطى فى أمر من استأسر من الحاجّ [239] وسأل إطلاقهم فوعده بهم وأنّه أحصى من عنده منهم فكانوا من الرجال ألفين ومائتين وعشرين رجلا ومن النساء نحو خمسمائة امرأة.
ثمّ وردت الأخبار بورود قوم بعد قوم إلى أن كان آخر من ورد منهم أبو الهيجاء وأحمد بن بدر عمّ السيّدة. وقدم بقدوم أبى الهيجاء رسول أبى طاهر القرمطى يستدعى الإفراج عن البصرة والأهواز ونواح أخر فأنزل الرسول وأكرم وأقيمت له الأنزال الواسعة ثمّ صرف ولم يقع إجابة إلى شيء ممّا التمس.
__________
[1] . كذا فى الأصل ومط: التمارين. فى مد: الثمانين.(5/206)
عدة حوادث
وفيها خلع على نجح الطولونى وردّ إلى إصبهان لولاية أعمال المعاون بها.
وفيها ورد رسول ملك الروم ومعه أبو عمير ابن عبد الباقي ووصل إلى السلطان وأوصله معه هدايا والتمس الهدنة والفداء فأجيب إلى ذلك بعد الغزاة الصائفة وخلع عليهما ورجع الرسول إلى بلد الروم.
وفيها خلع على جنّى الصفواني وكان ورد من ديار مضر واستدعى محاربة أبى طاهر القرمطى.
قدوم سليمان وابن مقلة وعلىّ بن عيسى إلى بغداد
وكان سليمان بن الحسن بن مخلد وأبو علىّ ابن مقلة مبعدين بشيراز فى يد أبى عبد الله جعفر بن القاسم الكرخي. فذكر أبو علىّ أنّه كان مجتمعا مع سليمان فى دار [240] واحدة مصونين مكرمين، فورد عليه الخبر بالقبض على ابن الفرات، وكان أبو الحسن ابن أبى البغل معتقلا فى يد صارفه جعفر بن القاسم الكرخي. قال: فاطّلعت الجماعة على الخبر وكان ابن أبى البغل قد وقف على ما كان رسمه ابن الفرات والمحسّن فى أمره فحين وقف على الخبر وقّع فى حاشية التقويم:
- «وفى هذا اليوم ولد محمّد بن أحمد بن يحيى وله إحدى وثمانين سنة.» ولمّا وقف الكرخي على الخبر أطلق أبا علىّ ابن مقلة وسليمان بن الحسين وهنّأهما بالسلامة قبل أن يرد عليه كتاب بإطلاقهما، ثمّ ورد كتاب الخاقاني على المسمعي والكرخي بإطلاقهما ومراعاتهم حتّى لا يخرجا من(5/207)
شيراز فأقام سليمان مدّة أسبوع حتّى أحكم أمره.
ودعا المسمعي جعفر بن القاسم الكرخي دعوة عظيمة وأقام على حال سرور [1] يومين متواليين، فخفى عنهما الخبر فى خروج سليمان وكان خرج فى زىّ الفيوج. فلمّا كتبا إلى الخاقاني بهرب سليمان عظم عليه واشتدّت الأراجيف بوزارة سليمان ودخل سليمان بغداد مستترا وأقام أبو علىّ ابن مقلة بشيراز إلى أن توصّلت زوجته إلى أسباب الخاقاني وعنى به شفيع المقتدري وأمر الخاقاني بإطلاقه [241] والإذن له فى المصير إلى الأهواز، وكتب له بإجراء مائتي دينار فى كلّ شهر عليه ومنعه من الخروج، فأقام مدّة ثمّ أذن له فى قدوم بغداد بشفاعات الناس له [2] .
وفيها خاطب مونس المظفّر الوزير الخاقاني فى أمر علىّ بن عيسى وأن يكتب إلى أبى جعفر صاحب اليمن بالإذن له بالرجوع إلى مكّة فكتب إليه بذلك فأذن له أبو جعفر وحمل إليه طيبا وكسوة وآلات نحو خمسين ألف دينار وعاد علىّ بن عيسى إلى مكّة مع حاجّ اليمن.
فلمّا حصل بها قلّده الخاقاني بمسألة مونس الإشراف على مصر والشام.
وكتب علىّ بن عيسى لمّا وصل إلى مكّة وقبل تقلّده الإشراف على مصر والشام إلى الوزير الخاقاني كتابا يهنّئه فيه بالوزارة ويعزّيه بأبى على أبيه ويسأله صيانة أهله وولده والعناية بهم فى ضيعته ومعيشته. فأجابه الخاقاني بجواب جميل وأنّه قد رعى [3] حقّه فى أهله وولده وحاشيته غير معتدّ عليه ولا متحمّد به.
__________
[1] . كذا فى الأصل: سرور. وفى مط: مرور.
[2] . فى مط: إليه.
[3] . كذا فى الأصل ومط: يديه. وفى مد: بدنه.(5/208)
ذكر الأسباب التي اتّفقت على الخاقاني حتّى صرف عن الوزارة
كان أبو العبّاس ابن الخصيبى وقف على مكان زوجة المحسّن بنت حنزابة فسأل أن يولّى النظر [242] فى أمرها واستخراج مالها. ففعل ذلك واستخرج منها سبعمائة ألف دينار وصحّحها فى بيت مال الخاصّة. فتمهّدت له بذلك حال جليلة عند المقتدر ورشّحه للوزارة وبلغ ذلك الخاقاني فحمل ابن بعد شرّ على أن بذل خطّه أنّه يستخرج من الخصيبى [1] مائة ألف دينار معجّلة وصلت إليه من مال المحسّن وزوجته زيادة على ما صحّحه من هذه الجهة.
وعرض الخاقاني الرقعة فلم تقع موقعها واتصل الخبر بأبى العبّاس الخصيبى فكتب إلى المقتدر رقعة يذكر فيها معايب الخاقاني وابنه وكتّابه وضياع الأموال وفساد التدبير وسلّمها إلى من يعرضها على المقتدر والسيّدة.
وبلغ ذلك الخاقاني واشتدّت به الأراجيف وضعفت نفسه وكان عليلا فزادت عليه حتّى أقام شهورا لا يقدر على أكل لحم حمل ولا طائر وكان يأكل كلّ يوم وزن أربعين درهما خبزا، ثمّ صار عشرين درهما، وظهر به ورم فى يديه [2] ورجليه ووجهه وكان يتجلّد ويركب فى كلّ شهر مرّة أو مرّتين إلى دار السلطان وينوب عنه ابنه فى أيّام المواكب.
فشغب الفرسان لطلب أرزاقهم وخرجوا إلى المصلّى فوعدوا به وتأخّر عنهم [243] فعادوا وطمعوا فى النهب.
وأشرفت بغداد على فتنة عظيمة وخرج إليهم ياقوت بتوقيع المقتدر بالله
__________
[1] . فى مط: الحصنى.
[2] . كذا فى الأصل ومط: يديه. وفى مد: بدنه.(5/209)
إلى الخاقاني بإطلاق رزقة تامّة لهم وضمن ياقوت ذلك. فراسل المقتدر الوزير الخاقاني بإطلاق نفقاتهم، فذكر أنّه لا يقدر على ذلك وكان عليلا، فعاوده برسالة يأمره فيها أن يحتال فى مائة ألف دينار ليضيف إليها مائتي ألف دينار ينفق فيهم. فأقام على أنّه لا يقدر على احتيال مائة ألف درهم وأنّ له فى توجيه مال النوبة للرجّالة ومال الغلمان الحجريّة والحشم وخلفاء الحجّاب شغلا طويلا. فتقدّم المقتدر بإخراج ثلاثمائة ألف دينار من بيت مال الخاصّة واعتمد على ياقوت فى تفرقتها.
وكان مونس المظفّر بواسط فاستدعاه المقتدر لمّا شغب الفرسان فوافى [1] وتلقّاه الأمير أبو العبّاس والوزير الخاقاني ونصر وسائر الأستاذين والقوّاد ولقى المقتدر فعرّفه ضيق الأموال وتبلّح الخاقاني وشاوره فى صرفه، فأشار عليه بالتوقف ليلقاه ويواقفه. فلقيه مونس فعرّفه الخاقاني أنّه لا حيلة له فى شيء يصرفه فى المهمّ واحتجّ بأنّه عليل لا فضل فيه للعمل.
فأشار مونس [244] لمّا رأى تبلّح الخاقاني الشديد باستحضار علىّ بن عيسى وتقليده الوزارة، فاستبعد المقتدر ذلك فأشارت السيدة والخالة بأبى العبّاس الخصيبى فقبض على الخاقاني واستتر ابنه عبد الوهّاب وإسحاق بن على القنّاى وأخوه وابن بعد شرّ وخاقان بن أحمد بن يحيى بن خاقان وظهر الباقون.
فكانت مدّة وزارته سنة واحدة وستة أشهر.
ذكر سبب وزارة أبى العبّاس الخصيبى
واستحضر المقتدر أبا العبّاس الخصيبى وهو أحمد بن عبيد الله يوم
__________
[1] . فى مط: فوافاه.(5/210)
الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر رمضان. فقلّده الوزارة والدواوين وخلع عليه وركب معه هارون بن غريب وياقوت ونازوك وأكثر القوّاد، واستكتبت ثمل القهرمانة مكانه على ديوان ضياع السيّدة أبا يوسف عبد الرحمن بن محمّد وكان قد تاب من عمل السلطان. فلمّا أسند إليه هذا العمل الجليل كسر التوبة فسمّاه الناس المرتد، واستدرك أموالا جليلة كان الخصيبى أضاعها، فتنكّرت ثم للخصيبى فى الباطن.
وكان أبو العبّاس الخصيبى يواصل شرب النبيذ بالليل والنوم [245] بالنهار فى أيّام وزارته كلّها، وإذا انتبه يكون مخمورا لا فضل فيه للعمل، فردّ فضّ الكتب الواردة من عمّال الخراج والمعاون وقراءتها والتوقيع عليها وإخراجها إلى الدواوين، وقراءة الكتب النافذة والتعليم عليها إلى مالك بن الوليد، ويعمل جوامع مختصرة للمهمّ ممّا يرد وينفذ فيعرضه عليه إذا انتبه فربّما قرأه وربّما لم يقرأه فيقرأه أبو الفرج إسرائيل ويوقّع فيه على حسب رأيه.
وكانت الجوامع تعمل بخطّ أبى سعيد وهب بن إبراهيم بن طازاذ فتبقى أيّاما بحضرته فإذا كثرت تقدّم بأن يقرأ عليه ويتقدّم بالتوقيع تحت كلّ فصل بما عنده فيه ويخرج ذلك الجامع إلى مالك بن الوليد فيبقى عنده يوما أو يومين ثمّ يخرج إلى صاحب الديوان فيقرأه ويوقّع تحته بما يراه ويجاب عن الكتاب من الديوان بما ينفذ إلى صاحب الديوان فيقرأه ويعلم عليه وإلى أن ينفذ الجواب ما قد تمرّدت البثوق واتسعت [1] الفتوق واحتملت الأعراب الغلّات وحدثت الحوادث المفسدة لمعنى ذلك الكتاب.
فلمّا رأى الكلوذانى ذلك ورأى الضرر يزيد والخطأ لا يتلافى كتب إلى العمّال بأن ينفذوا نسخة لما يكتبونها إلى الوزير إليه [246] فكانوا يكتبون
__________
[1] . فى مط: وانشقّت.(5/211)
إليه نسخا بما ينفذ منهم إلى الوزير فيوقّع على ظهرها بما يجابون به وتخرج إليه الكتب المكتوبة عن الوزير بعد جمعة وأكثر.
وتقدّم الوزير الخصيبى إلى الحسن بن ثوّابة بأن يقرأ قصص المتظلّمين ويوقّع عنه فيها فى غير يوم المظالم ويجمع القصص فى يوم المظالم ويختصر ما فى الرقعة فإذا قرأها وقّع بحسبه وكان أكثر اعتماده على أموال المصادرين. وكان أوّل المصادرين أبو القاسم الخاقاني واعتنق مونس أمره وذكر للمقتدر أنّه لا فضل فيه للحركة [1] وأنّه قد قرّر أمر مصادرته عن نفسه وابنه وكتّابه المختصين به على مائتي ألف وخمسين ألف دينار. فأمضى المقتدر ذلك وأنفذ خطّه به إلى الخصيبى ووضع الخصيبى، يده على العمّال والكتّاب وجازفهم [2] فيما صادرهم عليه، فصادر جعفر بن قاسم الكرخي على مائة وخمسين ألف دينار وقبض على المالكي وعلى هشام وعلىّ بن الحسين بن هندي وورثة أبى أحمد الكرخي والحسن بن أبى الحسن ابن الفرات ويحيى بن عمرويه وأبى الحسن بن مابنداذ وإسحاق بن إسماعيل النوبختي ومحمّد بن يعقوب المصري وورثة نصر بن الفتح صاحب بيت المال [247] وابن عبد الوهّاب وعبد الله بن جبير.
وكثرت الأراجيف بالخصيبى وأنّه مصروف عن الوزارة، لأنّه حمار لا يحسن شيئا غير المصادرات وهو مشغول بالشرب واللعب وأنّ الأمور كلّها ضائعة والمهمّات واقفة، وأرجف بالوزارة لجماعة.
وفيها كانت وقعة أبى طاهر سليمان بن الحسن القرمطى بالكوفة وأسر قوّاد السلطان.
__________
[1] . فى مط: لا فضل للحركة.
[2] . فى مد: جاذمهم، خلافا للأصل ومط.(5/212)
ذكر الخبر عن دخول القرمطى الكوفة
كان جعفر بن ورقاء يتقلّد أعمال الكوفة وطريق مكّة. فلمّا شخص الحاجّ من بغداد تقدّمهم خوفا من أبى طاهر القرمطى وكان معه ألف رجل من بنى عمّه من بنى شيبان، ثمّ خرج فى القافلة الأولى ثمل صاحب البحر وفى قافلة الشمسة [1] جنّى الصفواني وطريف السبكرى وسياشير الديلمي. فكانت عدّة من بذرق بالقوافل من أصحاب السلطان ستة آلاف رجل [2] فتلقاهم أبو طاهر الجنّابى وكان أوّل من لقى جعفر بن ورقاء فناوشه قليلا، ثمّ طلع على جعفر قوم من أصحاب أبى طاهر على نجب يقودون خيلا فنزلوا عن النجب وركبوا الخيل وخالطوا جعفر بن ورقاء فلم يثبت لهم وانهزم [248] بمن معه من بنى شيبان فلق القافلة وقد نزلوا من العقبة فردّهم وأخبرهم الخبر فولّوا مبادرين حتّى دخلوا الكوفة.
وتبع أبو طاهر رجال السلطان والقوافل حتّى بلغ باب الكوفة فخرج قوّاد السلطان الذين ذكرناهم، فأوقع بهم وهزمهم وأسر جنّيّا الصفواني، وأقام أبو طاهر بظاهر الكوفة ستّة أيّام يدخل البلد بالنهار ويخرج بالليل فيبيت فى معسكره ويحمل كلّ ما قدر على حمله. فكان فى جملة ما حمل أربعة آلاف ثوب وشى وثلاثمائة راوية زيت. فلمّا حمل كلّ ما قدر عليه رحل إلى بلده.
ودخل جعفر بن ورقاء وجماعة المنهزمين إلى بغداد فتقدّم المقتدر بالله إلى مونس بالخروج إلى الكوفة لمحاربة القرمطى، واضطرب أهل بغداد اضطرابا شديدا وانتقل أكثر أهل الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي ودخل
__________
[1] . وفى صلة عريب (ص 119) : وأسر مازج الخادم صاحب الشمسة ... وأخذت القرامطة الشمسة.
[2] . فى مط: فى ألف رجل، بدل «ستة آلاف رجل» .(5/213)
مونس الكوفة وقد رحل أبو طاهر الجنّابى عنها فاستخلف مونس بها ياقوتا وسار هو إلى واسط ولم يتمّ الحجّ لأحد.
ودخلت سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة [249]
وفيها ورد الخبر بمسير [1] علىّ بن عيسى إلى مكّة حاجّا فى هذه السنة من مصر وورد سلامة حاجبة بغداد ومعه سفاتج بمائة ألف وسبعة وأربعين ألف دينار وبآثار واستدراكات أثرها. وكان الخصيبى قد أقرّ علىّ بن عيسى على ما كان إليه من الإشراف على مصر والشام.
وفيها فتح إبراهيم المسمعي ناحية القفص [2] وأسر منهم خمسة آلاف إنسان وحملهم إلى فارس.
وفى هذه السنة كثرت الأرطاب ببغداد حتّى عمل منها التمور وحملت إلى البصرة فنسبوا إلى البغي.
وفيها كتب ملك الروم إلى أهل الثغور يرسم لهم أداء الخراج إليه ويقول:
- «إن فعلتم ذلك طائعين وإلّا قصدتكم فقد صحّ عندي ضعفكم.»
ودخلت سنة أربع عشرة وثلاثمائة
وفيها دخل الروم ملطية فأخرجوا وسبوا وأقاموا ستّة عشر يوما.
وفيها وصل ثمل إلى عمله من الثغور عند انصرافه من بغداد.
وفيها مات أبو القاسم عبد الله بن محمّد الخاقاني وكان أطلق إلى منزله.
فلمّا ارتفعت الصرخة [250] بوفاته كبست داره لطلب عبد الوهّاب ابنه فلم
__________
[1] . فى الأصل: بمصير. فى مط: بمصر. والأنسب والأصحّ: بمسير.
[2] . القفص (القفس) : جبل بكرمان أهله كالاكراد. يصفه صاحب المراصد بقلّة الرحمة والفساد فى الأرض.(5/214)
يوجد.
وفيها دخل أهل ملطية بغداد مستغيثين ممّا نزل بهم من الروم.
وفيها خرج أهل مكّة منها ونقلوا حرمهم وأموالهم لاتصال خبر القرمطى بهم وأنّه قريب منهم فتخوّفوا على أنفسهم وأموالهم منه.
وكتب الكلوذانى [1] إلى الخصيبى بأنّ أبا طالب زيد بن علىّ النوبندجانى قد صار يجرى مجرى أصحاب الأطراف وأنّه قد تغلّب على ضياع السلطان وأنّه يلزمه ممّا استغلّه منها ثلاثة آلاف ألف درهم.
وعمل بذلك عملا أحال فيه على ما كان كتبه أبو القاسم علىّ بن أحمد بن بسطام وقت تقلّده فارس. وكتب إلى الحسن بن إسماعيل وكان شخص ليقرّر خلافا كان بين المسمعي والكرخي بأن يصادره على مائة ألف دينار فاستدعى الحسن بن إسماعيل أبا طالب زيد بن علىّ وأخذ خطّه بمائة ألف دينار.
ذكر تدبير سيئ دبّره الخصيبى أخرج به أكثر المماليك عن يده ولم يمكن تلافيه
دبّر الوزير أبو العبّاس الخصيبى أن يقلّد يوسف بن ديوداذ جميع نواحي المشرق ليسلّم أموالها إليه فيكون مع مال ضمانه أرمينية وأذربيجان مصروفة إلى قوّاده وجنده [251] وغلمانه، وكاتبه فى المصير إلى واسط لينفذه إلى هجر لمحاربة أبى طاهر الجنّابى وأشار بتكنيته وبأن يكون مونس المظفّر ببغداد ليقوى بمكانه أمر الخلافة وتعظم الهيبة فى قلوب الأعداء.
فلمّا قرب [2] ابن أبى الساج من واسط وكان فيها مونس المظفّر رحل
__________
[1] . فى مط: الكلواذاني.
[2] . فى مط: خرب.(5/215)
مونس إلى بغداد ودخل ابن أبى الساج واسط وأنفذ قبل وصوله إليها أبا علىّ الحسن بن هارون كاتبه وكان يخدمه فى خاصّ أمره على سبيل الخلافة لأبى عبد الله محمّد بن خلف النيرمانى كاتبه واختصّ به وخفّ على قلبه، فصار إلى بغداد ليواقف الخصيبى على مال رجاله وأموال الأعمال التي كانت معقودة عليه والأموال التي جعل مالها مصروفا إلى رجاله زيادة على الأموال المتقدّم ذكرها، فإنّ الخصيبى جعل أموال الخراج والضياع بنواحي همذان وساونة ورونة وقمّ وماه البصرة وماه الكوفة والإيغارين [1] وما سبذان ومهرجانقذق لابن أبى الساج لمائدته لمحاربة الجنّابى.
فأمضى المقتدر ذلك وتقدّم بتقليده أعمال الصلاة والمعاون والخراج والضياع بسائر كور [2] الجبل وأنفذ إليه اللواء وكنّاه. فكان يوسف يتكنّى [252] على جميع الناس إلّا على الوزير ومونس المظفّر.
والتمس الحسن بن هارون أن يجعل لابن أبى الساج مائدة مبلغها فى الشهر خمسة ألف دينار وقال:
- «ليس هو بدون أحمد بن صعلوك.» وكان قد جعلت له مائدة فى أيّام وزارة حامد بن العبّاس مبلغها ثلاثة آلاف دينار فى الشهر وجعل له عشرة آلاف دينار فى كلّ شهرين من شهور المماليك لأرزاق غلمان لا يحضرون. وسام الكتاب الحسن بن هارون أن يشرط على نفسه أن ينفذ السلطان منفقا ينفق أموال تلك النواحي فى رجالة غلمانه، [3] فاستجاب إلى جميع ما طالبوه به وأعطى خطّه إلّا أمر المنفق [4]
__________
[1] . الإيغاران: سمّيا بذلك، لأنّهما أوغرا لعيسى ومعقل، وهما: الكرج والبرج (مراصد الإطلاع) .
[2] . فى مط: كون.
[3] . فى مد: رجاله وغلمانه. وما أثبتناه مطابق لما فى الأصل ومط.
[4] . كذا فى الأصل: أمر المنفق. فى مط: الأمر المتفق. وفى مد: إلّا بأمر المنفق.(5/216)
فانّه زعم أنّ صاحبه لا يصوّر نفسه عند أصحاب الأطراف بصورة من لم يوثق به على مال رجاله.
ولمّا عقد لابن أبى الساج على الجبل وندب لمحاربة القرمطى عقد لصاحب خراسان على الرىّ فصار إلى الرىّ وأنفذ إليه من يخاطبه على المال الذي ووقف على حمله من الرىّ. وصار ابن أبى الساج إلى الرىّ وحمل إليه المقتدر خلعا سلطانيّة وسيفا ومنطقة ذهب وخيلا بمراكب ذهب وفضّة وطيبا وسلاحا. [253]
ذكر الخبر عن القبض على الخصيبى وتقليد علىّ بن عيسى الوزارة
أضاق أبو العبّاس إضاقة شديدة واضطرب أمره وأشار مونس بعلىّ بن عيسى فأنفذ ضحوة نهار يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من ذى القعدة إلى الخصيبى حتّى قبض عليه وعلى ابنه وكتّابه وحملوا إلى دار السلطان وحبسوا عند زيدان القهرمانة. وفرّق بين الخصيبى وبين ابنه وحمل باقى المعتقلين إلى دار الوزارة بالمخرّم فاعتقلوا فيها، وأنفذ نازوك وقت قبضه على الخصيبى حتّى حفظت داره القديمة من النهب.
واستدعى المقتدر أبا القاسم عبيد الله بن محمّد الكلوذانى وأوصله إلى حضرته وعرّفه أنّه قد قلّد أبا الحسن علىّ بن عيسى الوزارة وأنّه قد استخلفه له ويقدم إليه بالنيابة عنه واستحضر سلامة الطولونى وتقدّم إليه بالنفوذ فى البرّيّة إلى دمشق واستحضار علىّ بن عيسى منها.
وانصرف أبو القاسم الكلوذانى من دار السلطان فى الطيّار الذي قبض على الخصيبى إلى دار الوزارة بالمخرّم ونظر فى الأعمال وكتب إلى العمّال فى النواحي وإلى جميع الأمراء وأصحاب البرد والخبر والقضاة بما قلّد علىّ بن(5/217)
عيسى من [254] الوزارة واستخلاف أمير المؤمنين إيّاه وأمر ونهى وصرف وولّى.
وظهر فى ذلك اليوم أبو علىّ ابن مقلة وأبو الفتح الفضل بن جعفر ابن حنزابة وصارا إلى الكلوذانى وسلّما عليه.
ذكر خلافة أبى القاسم الكلوذانى لعلىّ بن عيسى وتمشيته للأمور
قد كان جمع الخصيبى عنده جميع رقاع المصادرين وكفالات من كفل منهم وضمانات العمّال بما ضمنوا من المال بالسواد والأهواز وفارس والمغرب، وكان عنده خطّ كاتب المسمعي عن مال فارس [1] بما يعجّله عن الزيادة فى ضمانه وهو ألف ألف درهم وخطّ سليمان بن الحسن بما استدركه على ابن [2] عبد الوهّاب وهو أربعمائة ألف دينار وكسر، وما ضمن حمله عن أعمال الشام وهو خمسمائة ألف دينار، وخطوط ضمناء واسط والبصرة وطريق خراسان والنهروانات ونهر بوق والذئب الأسفل وجازر والمدينة والعتيقة وغيرهم. فحفظ جميع ذلك الكلوذانى إلى أن قدم علىّ بن عيسى فسلّمه إليه.
وأدّى نصير بن علىّ إليه مائتي ألف درهم وأحمد بن إسحاق بن زريق عشرة آلاف دينار وورد بعد أسبوع من صرف الخصيبى فيج بكتب سليمان بن الحسن وفى درجها سفاتج [255] بثمانين ألف دينار. وورد ما كان حمله علىّ بن عيسى على الظهر من مال مصر ووصل من جهة البرجمالى من قمّ عشرة آلاف دينار ووردت من جهة أبى علىّ ابن رستم من مال الضمان
__________
[1] . فى مط: على حال فارس، بدل «عن مال فارس» .
[2] . كذا فى الأصل ومط: ابن عبد الوهّاب. فى مد: ابني عبد الوهّاب.(5/218)
سفاتج بأربعمائة ألف درهم فكان ذلك سبب تمشيته الأمور.
واتفق الكلوذانى فى سائر المرتزقة وفى الفرسان قبل العيد ولم يزل أبو القاسم الكلوذانى يدبّر الأمور وقد تمكّنت الهيبة لعلىّ بن عيسى فى الصدور فاستعان بذلك على أمره.
وسار علىّ بن عيسى من دمشق إلى جسر منبج [1] ، ثمّ انحدر فى الفرات إلى بغداد وشخص الناس فى استقباله سنة خمس عشرة، فمنهم من أبعد إلى الرقّة.
ودخلت سنة خمس عشرة وثلاثمائة [2]
ذكر ما دبّره علىّ بن عيسى فى وزارته هذه وما جرى فى أيّامه
وصل علىّ بن عيسى إلى بغداد وبدأ بدار المقتدر ووصل إلى حضرته بعد عشاء الآخرة ومعه مونس. فخاطبه أجمل خطاب وانصرف إلى منزله ووجّه المقتدر إليه فى ليلته بكسوة فاخرة وفرش ومال يقال إنّه بقيمة عشرين ألف دينار، وخلع عليه [256] من الغد، وسار معه مونس المظفّر إلى أن بلغ داره وحلف عليه علىّ بن عيسى فنزل فى داره، وسار بين يديه هارون ابن غريب وشفيع ومفلح ونسيم وياقوت ونازوك وجميع القوّاد حتّى وصل إلى داره بباب البستان.
وكان قد ضرّب علىّ بن عيسى على هشام فتأخّر عنه واستوحش فكاتبه وونّسه حتّى حضر مجلسه ثمّ قال له:
__________
[1] . منبج: على وزن مسجد، بلد قديم كبير واسع بينه وبين الفرات ثلاثة فراسخ، وإلى حلب عشرة فراسخ (مراصد الإطلاع) .
[2] . السطر ساقط فى مط.(5/219)
- «ما مذهبي أن أذكر إساءة لأحد من الناس ولما خلّصنى الله من صنعاء وعدت إلى مكّة عاهدت الله على ترك الإساءة إلى أحد ممّن سعى علىّ فى ولايتي ونكبتى ووكلت جميعهم إلى الله ولك خدمة متقدّمة توجب لك [1] حقّا وعليك أضعافه فإن كنت لا ترعى ذلك فلن أدع رعايته.» وقلّد علىّ بن عيسى الكلوذانى ديوان السواد وقال له:
- «هذا أجلّ الدواوين ومتى تشاغلت بخلافتى اختلّ وليس يقوم به أحد كقيامك.» ثمّ نظّم الأعمال [2] وقلّد العمّال ورتّب الدواوين واعتمد على إبراهيم بن أيّوب فى إثبات أمر المال [3] بحضرته وفى موافقه صاحب بيت المال على ما يطلقه وينفقه فى كلّ يوم ومطالبته بالرّوزنامجات [257] فى كلّ أسبوع ليتعجّل معرفة ما حلّ وما قبض وما بقي. وكان الرسم إذا عملت الختمة لم يرفع إلى الديوان للشهر الأوّل إلّا فى النصف من الثاني.
وقلّد أبا الفتح الفضل بن جعفر بن حنزابة ديوان المشرق، وأبا بكر محمّد بن جنّى ديوان المغرب، وأبا علىّ ابن مقلة ديوان الضياع الخاصة والمستحدثة، وأبا محمّد الحسين بن أحمد المادرائى ديوان الضياع الفراتيّة، وأبا محمّد بن روح ديوان زمام الخراج والضياع العامّة بالسواد والأهواز وفارس وكرمان وما يجرى فيه.
وقلّد أبا القاسم ابن النّفاط ديوان زمام النفقات والخزائن. وأبا جعفر القمّى ديوان الدار، وأبا أحمد عبد الوهّاب بن الحسن ديوان البرّ وديوان الصدقات، وأبا الفتح محمّد بن أحمد قلنسوة ديوان زمام الجيش، ومحمّد بن عيسى
__________
[1] . فى مط: ذلك، بدل «لك» .
[2] . فى مط: الأموال.
[3] . فى مط: الحال.(5/220)
ديوان الحرم، وأبا يوسف ديوان الفصّ والخاتم.
وقلّد أيضا كفاة العمّال واقتصر فى أرزاقهم على عشرة أشهر فى كلّ سنة وبأصحاب البرد والمنفقين على ثمانية أشهر فى كلّ سنة. وحطّ من مال الرجّالة برسم النوبة ومن مال الفرسان وجميع أرزاق من كان يرتزق بهذين الرسمين [258] من الكتّاب والتجار ومن لا يحمل السلاح. وحطّ أولاد المرتزقة الذين فى المهود وحطّ من مال الخدم والحشم وجميع أرزاق الجلساء والندماء والمغنّين والتجّار وأصحاب الشفاعات، وحطّ أرزاق غلمان وأسباب أصحاب الدواوين. ولازم النظر بنفسه فى العمل ليلا ونهارا والجلوس لأصحاب الدواوين فى الليل وكان يسهر أكثر الليل حتّى استقامت الأمور وتوازن الدخل والخرج.
وكان إلى أبى عبد الله البريدي فى الوقت الضياع الخاصّة ضمانا واقطاع الوزراء. وكان أبو يوسف البريدي يتولّى لعلىّ بن عيسى الخراج برامهرمز سهلها وجبلها.
شرح ما جرى بين الوزير أبى الحسن علىّ بن عيسى وبين أبى العبّاس أحمد بن عبيد الله من المناظرة
تقدّم المقتدر إلى أبى الحسن علىّ بن عيسى بمناظرة أبى العبّاس الخصيبى. فأخرج إليه وناظره فى دار السلطان بحضرة الأستاذين والقوّاد والقضاة مناظرة جميلة وسأله عن مبلغ ما أنفق بالحضرة من بيت المال فلم يحفظه، وسأله عمّا صحّ له من مال المصادرين وعن رقاعهم [259] بالمصادرات وعن كفالات من كفل منهم وعن ضمانات ما ضمنه عنهم.
فقال:(5/221)
- «أمّا المصادرات فقد صحّ لى منها فى مدّة أربعة عشر شهرا تولّيت فيها الوزارة نحو ألف ألف دينار.» فقال له:
- «كم منها من جهة الخاقاني فإنّ أمير المؤمنين عرّفنى أنّك ضمنتهم بخمسمائة ألف دينار.» فقال: «دفع [1] عنه مونس المظفّر.» فردّت الجماعة قوله وقالوا له:
- «قد سلّم إليك حتّى شنّع عليك بأنّك سممته ثمّ أطلقته.» ثمّ قال له علىّ بن عيسى:
- «لأىّ شيء استحضرت يوسف بن أبى الساج إلى واسط وسلّمت إليه أعمال المشرق بأسرها سوى إصبهان وكيف وقع لك أنّه يجوز أن يخرج هو مع قوم اعتادوا الجبل والمقام فيه فى طريق البرّ يقصدون طريق السواحل فى بلدان حوالى [2] هجر؟» قال: «كان عندي أنّ هذا صواب.» فقال له:
- «فحيث فعلت ذلك لم لم تقتصر على أن يعرض [3] رجاله وغلمانه ويجرى مال عسكره مجرى مال عسكر مونس المظفّر، فانّه يسبّب له مال ويطلق على أيدى منفقين من قبل السلطان ويرفع الحساب بذلك إلى دواوين الجيش ولا يقتصرون على ديوان منها دون جميعها ولا يزاد أحد [260] ولا ينقل عنه من رسم إلى رسم إلّا على استقبال معروف ثمّ يوفّر المعطون كلّ
__________
[1] . فى مط: أرفع، بدل «دفع» وهو خطأ ليس فريدا من مط.
[2] . فى مط: حوال.
[3] . فى مط: تعرض.(5/222)
شهر من التوفيرات بسبب الغرم ولأجل سقوط من يسقط جملة من المال ولم لم تترك الأعمال فى أيدى عمّال السلطان ويسبّب له عليهم مال رجاله كما يسبّب مال رجال أبى الحسن مونس المظفّر؟» قال: «لم أفعل هذا لأنّه تكلّف من هذا الأمر عظيما احتيج معه إلى فضل مسامحة.» فقال له:
- «فلأىّ سبب ضمّنت إبراهيم بن عبد الله المسمعي أعمال فارس وكرمان؟» فقال: «لأجل زيادة بذلها.» فقال له:
- «أما علمت أنّ حفظ الأصول أولى من طلب الأرباح؟ وهبك رغبت [1] فى الزيادة لم لم تستدعه إلى الحضرة فإذا وردها وأردت تضمينه أقام بها واستعمل على العمل خلفاءه وأقام لك الضمناء الثقات بالمال ومضى بعد ذلك.» فقال: «إنّما رغب فى الضمان ليعمله بنفسه.» فقال علىّ بن عيسى:
- «أرجو أن يسلّم الله.» ثمّ قال:
- «لم قبضت جارى ابنك محمّد ألفى دينار فى كلّ شهر وهو لا يقرأ كتابا ولا يحضر ديوانا ولا يحسن أن يعمل شيئا؟» قال: «سألت أمير المؤمنين له رزق المحسّن وعبد الوهّاب بن الخاقاني
__________
[1] . فى مط: رغبة، بدل «رغبت» .(5/223)
[261] فأجابنى إليه.» قال: «المحسن ربّى فى الدواوين ودبّر الأمور وكان مع شرّه واستحلاله وقبح ديانته كاتبا، وابن الخاقاني كان ينوب عن أبيه ويأمر وينهى ويخدم وهو فهم وابنك لا يجرى مجرى واحد منهما فاكتب خطّك انّك تردّ ما قبضه.» فقال: «كيف أردّ مالا قبضه ابني وأنفقه؟» فقال له:
- «على أىّ شيء أنفقه؟» قال: «على ما ينفق مثله الأحداث.» ثمّ سأله عن أموال المصادرين وما صحّ من جهتهم فقال:
- «لا أحفظه إلّا انّه ثابت فى ديوان المصادرين.» قال: «فعنه أسألك.» قال: «هو عند هشام وإن سئل عنه خبّر به، [1] فإنّ رقاع المصادرين والكفالات والأعمال فى يده.» فقال له:
- «ما سبقك أحد إلى تسليم خطوط المصادرين إلى صاحب ديوان المصادرات لأنّ سبيل الخطوط أن تكون فى خزائن الوزراء محفوظة يتسلّمها وزير بعد وزير فإن كنت أردت عمارة الديوان فكان ينبغي أن تأخذ [2] الخطوط على نسختين: نسخة للديوان ونسخة تكون عندك، فلو باع صاحب الديوان رقاع المصادرين والكفالات وضمانات الضّمناء هل كان على السلطان مضرّة [262] فى هذا المال أعظم منك، وإذا كان هذا تدبيرك
__________
[1] . والعبارة فى مط: وإن سأل عنه خبّرته، بدل «وإن سئل عنه خبّر به» .
[2] . فى مط: أن أخذ.(5/224)
فيما لم تكن تحسن سواه فأىّ شيء دبّرت غيره من أعمال الدواوين؟ فإمّا أن تكون خنت الأمانة وإمّا أن لم تحسن ضبط شيء من الأعمال؟» وكلّ ذلك يخاطبه به عن غير إسماع مكروه ولا صياح.
ثمّ قال:
- «غررت المملكة فضرب النساء والحرم بالمقارع وهتكت الستور بما فعلت من تسليمهنّ إلى الرجال فلأيّة حال سلّمت بنت جعفر بن الفرات إلى أفلح وهو رجل شاب جميل الوجه يتصنّع حتّى تزوّج بها فى حبسك [1] ولأيّة حال ضربت دولة وإنها بحضرتك، ثمّ لم ترض بذلك حتّى اعتقلت الجماعة فى يد غلمانك وحجّابك عدّة شهور؟» ثمّ قال:
- «ارتزقت لنفسك خمسة آلاف دينار فى الشهر يكون فى مدّة أربعة عشر شهرا سبعين ألف دينار سوى ما ارتزقه ابنك وأخذت من أقطاعك فى مدّة سنة وشهرين ما ثبت فى الختمات الموجودة لجهبذك [2] فى ديوانك مائة وثمانين ألف دينار يصير الجميع مائتين وخمسين ألف دينار.» ثمّ أخرج عملا بخطّ علىّ بن محمّد بن روح بهذا المبلغ وبأنّه أنفق فى كلّ شهر من النفقات الراتبة ألفى وخمسمائة دينار تكون فى أربعة عشر شهرا خمسة وثلاثين ألف دينار [263] وفى النفقات الحادثة والصلات والمؤونة مع ثمن [3] الطيب والكسوة عشرين ألف دينار وفى ثمن عقارات أضافها إلى داره مع ما أنفقه على البناء أربعين ألف دينار وفى ثمن الهدايا فى النوروز والمهرجان إلى الخليفة وإلى الأميرين أبى العبّاس وهارون ابنيه وإلى السيدة
__________
[1] . فى مط: جيشك، بدل «حسبك» .
[2] . والعبارة فى مط: ما ثبت فى الضمانات الموجودة لجندك.
[3] . فى مط: الثمن الطيب.(5/225)
والخالة وزيدان ومفلح خمسة وثلاثين ألف دينار. وفى ثمن بغال ودوابّ وجمال وخدم وغلمان عشرة آلاف دينار.
وفيما يحتاج إلى إنفاقه وصرفه إلى من برسم [1] دار الوزارة من خلفاء الحجّاب والبوّابين وأصحاب الرسائل وإنزال الفرسان والرجّالة عشرين ألف دينار.» فقال فى الجواب:
- «هذا عمل صحيح وليس كلّ ما أنفقته كتبته فقد كنت أصوغ لحرمي وأولادى وأنفق نفقات أسترها عن كاتبي وما سرقت ولا خنت.» فقال له علىّ بن عيسى:
- «ما يقول أحد أنّك سرقت أو خنت ولكنّك أضعت وأسأت التدبير ودخلت فيما لا تحسنه ولو أخذت أضعاف ما أخرجناه وعليك لما ناظرك أمير المؤمنين فيه لا سيّما وهو منسوب إلى أرزاقك وإقطاعك ونفقات معروفة لك، وكيف نناظرك فى ذلك وما نعيش [264] ولا أحد من كتّاب أمير المؤمنين إلّا فى نعمته وإحسانه ولنا ضياع استفدناها فى خدمته وخدمة أسلافه رضى الله عنهم.» ولم يزل يرفق به إلى أن أخذ خطّه بأربعين ألف دينار يؤدّيها فى مدّة أربعين يوما بعد أن حلف إنّه لا يتّجه له حيلة فى غيرها، وسلّم علىّ بن عيسى رقعته بها إلى مفلح وقال له:
- «تعرضها على أمير المؤمنين وتقول: إنّ هذا وإن كان قد غرّ [2] من نفسه وأضاع وأهمل فقد تحرّم بخدمة أمير المؤمنين وحلف بأيمان بيعته على أنّه غاية ما يقدر عليه وليس له ذنب وإنّما الذنب لمن غرّك منه ولم ينصحك
__________
[1] . فى مط: يرسم.
[2] . فى مط: غيّر من نفسه.(5/226)
فى أمره.» ثمّ كتب رقعة إلى المقتدر بقبول ما بذله الخصيبى ويحمله إلى ثمل القهرمانة إلى أن يؤدّى ما فورق عليه.
ذكر ما دبّره علىّ بن عيسى من الأمور فى وزارته هذه
لمّا نظر علىّ بن عيسى فى الأمور وجد أهمّ ما يحتاج إليه أمر الرجّالة المصافيّة وكان مبلغ مالهم فى أيّامه ثمانين ألف دينار ومال رجال مونس المظفّر وهو ستمائة ألف دينار فى كلّ سنة سوى مال الرجّالة معه ومال الحجريّة برسمه فانّه يطلق [265] مع أرزاق نظرائهم.
وكان يسبّب مال رجال مونس [1] على نواح اختارها مونس فإذا أزاح العلّة فيما ذكرناه نظر بعد ذلك فى أمر مال خلفاء الحجّاب والحشم والمتطبّبين والفرسان برسم التفاريق والمنجّمين والفرّاشين والطبّاخين والساسة وسائر المرتزقة من الخدم. فخرج علىّ بن عيسى يوما من حضرة المقتدر بالله ليركب فى طيّاره فوثب به الخدم والحشم بألسنتهم وثوبا قبيحا.
وورد الخبر على علىّ بن عيسى بأنّ إبراهيم بن المسمعي اعتلّ علّة حادّة وتوفّى بالنوبندجان فأشار علىّ بن عيسى بتقليد ياقوت أعمال الحرب والمعاون بفارس وتقليد أبى طاهر محمّد بن عبد الصمد أعمال المعاون بكرمان فخلع عليهما وعقد لهما لواءان.
وكتب علىّ بن عيسى إلى القاسم بن دينار بالمبادرة إلى فارس وقلّده أعمال الخراج والضياع بها وقلّد ما كان إليه من أعمال الأهواز أبا الحسن
__________
[1] . فى مط: يونس.(5/227)
أحمد بن محمّد بن مابنداذ وابن السلاسل.
فحكى أبو الفرج ابن هشام قال: لمّا بلغ أبا عبد الله البريدي ما تقلّده هؤلاء من أعمال الأهواز وما حولها قال:
- «يقلّد هؤلاء هذه الأعمال ويقتصر بأخي أبى يوسف على سرّق [1] وبى على ضمان الضياع [266] الخاصّة، خذ يا أبا هشام هذا الكتاب- يعنى الكتاب الوارد عليه بما قلّد- وأعطه ابنك حتّى يمثّل عليه ويتعلّم منه الخطّ، فإنّ لطبلى صوتا سوف تسمعه بعد أيّام.» وكان أبو عبد الله البريدي أنفذ أخاه أبا الحسين إلى الحضرة لمّا بلغه اضطراب أمر علىّ بن عيسى ووافقه على أن يخطب له عمل الأهواز إذا تجدّدت وزارة لمن يرتفق، فإنّ علىّ بن عيسى يعفّ ولا يرتفق.
فلمّا تمّت الوزارة لأبى علىّ ابن مقلّة صار أبو الحسين إلى أبى أيّوب السمسار وبذل له عشرين ألف دينار فقلّد أخوه أبو عبد الله البريدي أعمال الأهواز سوى السوس وجنديسابور وقلّد أبو الحسين الفراتيّة وأبو يوسف الخاصّة والأسافل على أن يكون المال فى ذمّته إلى أن يقع الوفاء لهم فوفى لهم وقبض المال.
وكتب أبو علىّ ابن مقلة فى القبض على أبى السلاسل فخرج أبو عبد الله بنفسه إلى تستر حتّى حصله وأسبابه ووجد له فى صناديقه وعند جهبذه عشرة آلاف دينار فأخذها ووافقه على أن يصكّ بما كان عند الجهبذ بنفقات باطلة وأخذ من كاتبه ألفى دينار ومن خليفته ثلاثة آلاف دينار [267] ومن حاجبه ألفى دينار.
وكان أبو عبد الله البريدي أحد دجّالى الدنيا وشياطينها.
__________
[1] . فى مط: على سوق.(5/228)
ثمّ كثّر على أبى علىّ ابن مقلة بأنّه أهلّه لما لا يستحقّه فصرفه بأبى محمّد الحسين بن أحمد المادرائى وقلّده إشرافا وقلّد الأصل جماعة من العمّال فما أحلى أبو محمّد ولا أمرّ وكان كاتبه علىّ بن يوسف وخليفته صحبته من الحضرة فبان من تجلّفه [1] وسقوطه ما صار به نكالا وحديثا.
وحسبك أنّ أبا عبد الله البريدي أخذ عليه الطرقات فكان كلّ ما كتب به يؤخذ من رسله فما قرئ له كتاب منذ دخل الأهواز إلى أن صرف عنها.
ثمّ صرفه بعد ذلك أبو علىّ بأبى عبد الله البريدي وقال:
- «اغتررت بطلل ذلك الشيخ وما كلّ من يصلح للكتابة ينفذ فى العمالة [2] .»
وعدنا إلى تمام حديث علىّ بن عيسى وما دبّره به المملكة
ولمّا أخرج إليه الارتفاعات كان فيه مبلغ ارتفاع لضياع إقطاع الوزراء بعد نفقاتهم الراتبة مائة وسبعين ألف دينار. فكتب إلى المقتدر بأنّه غنىّ عن هذا الإقطاع وأنّه قد وفّر ماله فإنّ أمر ضيعته قد صلح وكذلك [268] وقفه [3] بإعادته إيّاه إلى خدمته وأنّه يوفّر أيضا رزق الوزارة وهو مع ألفى دينار أجريت لابن الخصيبى سبعة آلاف دينار فى كلّ شهر.
وكتب إليه المقتدر بالشكر وانّه لا بدّ من أن يقبض الرزق على الرسم فحلف علىّ بن عيسى إنّه لا يقبض رزقا لهذه الخدمة لأنّ مذهبه ترك التنعّم.
__________
[1] . فى الأصل إهمال وغموض (تخلّف، تجلّفه؟) . فى مط: تخلّفه. ورجّح فى مد: تجلّفه. وهو أنسب للسياق.
[2] . الضبط فى الأصل: العمالة، بضم العين.
[3] . كذا ضبط ما فى الأصل.(5/229)
حوادث أخرى
وفيها شغب الفرسان برسم التفاريق وخرجوا إلى المصلّى فنهبوا القصر المعروف بالثريّا وذبحوا الوحش الذي فى الحائر وذبحوا البقر التي لأهل القرى التي حوله وخرج إليهم مونس وضمن لهم أرزاقهم فرجعوا إلى منازلهم.
وفيها خلع على مونس للخروج إلى الثغر لأنّ ملك الروم دخل سميشاط وضرب فى مسجد الجامع بالنواقيس وصلّى فيه الروم صلاتهم.
وفيها ظهرت وحشة مونس المظفّر ذكر السبب فى ذلك
كان السبب فى ذلك أنّ خادما من خدم المقتدر بالله حكى لمونس انّ المقتدر تقدّم إلى خواصّ خدمه بحفر زبية [1] فى الدار المعروفة بدار الشجر من دار [269] السلطان حتّى إذا حصل مونس فيها عند الوداع إذا أراد الخروج إلى الثغر، حجب الناس وأدخل مونس وحده إلى ذلك الصحن، فإذا اجتاز على تلك الزبية وهي مغطاة وقع فيها ونزل إليه الخدم وخنقوه ويظهر أنّه وقع فى سرداب فمات. فامتنع مونس من دار السلطان وركب إليه جميع القوّاد والغلمان والحاشية وعبد الله بن حمدان وأخوته وأكثر العرب وخلت دار السلطان من الجند.
وقال عبد الله بن حمدان:
- «نقاتل بين يديك أيّها الأستاذ إلى أن تنبت لك لحية.»
__________
[1] . الزّبية: الحفرة تحفر لصيد السباع، أو حفيرة يشتوى فيها ويخبز.(5/230)
فوجّه إليه المقتدر بنسيم الشرابي ومعه رقعة بخطّة إليه يحلف له فيها على بطلان ما بلغه. فصرف مونس جميع من اجتمع إليه من الجيش وأجاب عن الرقعة بما يجب فى مثل ذلك وانّه لا ذنب له فى حضور من حضر عنده، لأنّه لم يستدعهم. وامتنع ابن حمدان من الانصراف وحلف إنّه لا يبرح من دار مونس ليلا ونهارا إلى أن يركب معه إلى دار السلطان ويطمئن إلى سلامته، ولازم مونسا أيّاما كثيرة.
وانضاف إلى ذلك أنّ إسحاق بن إسماعيل كان سبّب عليه مال مونس [270] ومال رجاله فبلّح [1] فيها. وكان علىّ بن عيسى متنكّرا له لأشياء بلغته عنه فى غيبته فشغب الفرسان لتأخّر أموالهم، فجدّ علىّ بن عيسى بإسحاق بن إسماعيل واعتقله وأخذ خطّه بخمسين ألف دينار من مال ضمانه واعتقل أحمد بن يحيى الجلخت كاتبه وعدّة من أصحابه حتّى استوفى ذلك، ثمّ صرفه عن أعماله وجدّ بعمّال السواد حتّى صحّ له فى مدّة ثلاثة أيّام ما أنفقه فى أصحاب مونس.
وكتب المقتدر إلى جماعة من وجوه القوّاد بأنّه قد صفح عمّا كان منهم فى نهب الثريّا وإحراقها وقرئت عليهم فشكروا وسألوا أن يضمّ جماعة منهم ممّن اتّهم بذلك إلى مونس المظفّر لينحدر معهم إلى حضرته. فانحدر معهم ووصل إلى المقتدر بالله وقبّل الأرض بحضرته وحلف المقتدر له على صفاء نيّته وودّعه مونس.
وقرأ عليه علىّ بن عيسى كتابا ورد عليه من وصيف البكتمرى بأنّ المسلمين عقبوا على الروم وظفروا بهم وبجميع من فى عسكرهم وقتلوا منهم وغنموا غنائم جليلة. وخرج مونس من داره إلى مضربه بباب الشماسيّة
__________
[1] . بلّح: أعيا وعجز ولم يوجد عنده شيء.(5/231)
وشيّعه الأمير أبو العبّاس والوزير علىّ بن عيسى ونصر الحاجب وهارون ابن غريب. [271] وورد رسول ملك الروم ومعه كتاب من وزير الملك وهو اللعثيط [1] إلى الوزير علىّ بن عيسى يلتمس فيه الهدنة.
ظهور الديلم
وفى هذه السنة [2] ظهر الديلم، وكان أوّل من غلب على الرىّ منهم بعد خروج ابن أبى الساج منها، ليلى بن النعمان ثمّ ما كان بن كاكى. ودخل هذا الرجل فى طاعة صاحب خراسان لأنّه كتب إليه واستدعاه، فمضى إليه وغلب على الرىّ أسفار بن شيرويه وكان مرداويج بن زيار أحد قوّاده.
عاقبة عسف أسفار بن شيرويه
وكان اسفار بن شيرويه لمّا غلب على قزوين ألزم أهلها مالا جليلا وعسفهم عسفا شديدا وخبطهم وأحلّ بهم من تسليط الديلم [3] على مهجهم وأموالهم واستباحتهم وتعذيب عمّالهم ما استعظمه هو فى نفسه فضلا عن غيره، ورقّت القلوب منه وضاقت النفوس وبلغت الحناجر ويئس الناس من الحياة وتمنّوا الموت. فخرج الرجال والنساء والأطفال إلى المصلّى مستغيثين إلى الله تعالى وراغبين إليه فى كشف ضرّهم فمضى لهم يوم على ذلك. وأنهى الخبر إلى اسفار فتهاون بالدعاء.
__________
[1] . كذا فى الأصل: اللعثيط (بإهمال العين) . وفى مط: اللعيط. وفى مد: اللغثيط، (بالغين المعجمة) .
[2] . سنة 315.
[3] . والعبارة فى مط: وخطبهم وحذّرهم من تسليط الديلم.(5/232)
فلمّا كان فى اليوم الثاني خرج عليه مرداويج فواقعه وهزمه [272] فمرّ على وجهه فتبعه يومه أجمع فلم يظفر به، ولحقت أسفار مجاعة فى اليوم الثاني فأوى إلى رحى طحّان فى قرية وسأله أن يطعمه فأخرج إليه خبزا ولبنا، وكان يأكل وأطلّ مرداويج على الموضع فوجد آثار الحافر قد انقطع هناك، فوقف يتأمّل فرأى أكّارا فتشبّث به وسأله عن اسفار فأنكر وأرهبه فقال له:
- «ما أعرفه ولكنّى رأيت فارسا قد دخل إلى هذه الرحى.» وكبس مرداويج الموضع فوجده يأكل خبزا فاحتزّ رأسه، وعاد إلى قزوين فسكّن أهلها وتلافاهم وأزال تلك المطالبة عنهم ووعدهم بالجميل وانصرف عنهم ووهب [1] دعاءهم.
ثمّ أنّ مرداويج ذهب فتغلّب على الرىّ وإصبهان وأساء السيرة بإصبهان خاصّة وتبسّط فى أخذ الأموال وانتهاك الحرم وطغى وجلس على سرير ذهب دونه سرير فضّة يجلس عليه من يرفع منه وأقام جنده يوم السلام عليه صفوفا بالبعد منه.
وسام مرداويج رجاله الخسف [2] وكانوا يرهبونه رهبة عظيمة وكان يقول:
- «أنا سليمان بن داود وهؤلاء الشياطين.» وكان يغضّ من الأتراك [273] غضّا شديدا. فساءت نيّاتهم له فطلبوا كيدا يكيدونه به وتمكّنت له فى نفوس الخاصّ والعامّ البغضاء وضجروا منه وضعفت نفوس أهل مملكته فى أيّامه.
__________
[1] . فى مط: ورهب.
[2] . فى الأصل: الخشف. وما فى مط: الخسف، كما أثبتناه.(5/233)
مقتل مرداويج
قال: وركب يوما فى موكب عظيم وخرج إلى الصحراء وكان ينفرد عن جيشه ويسير وسطا لا يجسر أحد على القرب منه فكان العالم يتعجّبون منه ومن تمرّده وطغيانه إذ اشتقّ العسكر رجل شيخ لا يعرف، على دابّة، فقال:
- «زاد أمر هذا الكافر واليوم تكفونه [1] قبل تصرّم النهار ويأخذه الله اليه.» فلحقت الجماعة دهشة وتبلّدوا.
قال أبو مخلد عبد الله بن يحيى:
وكنت فى الموكب فنظر بعض الناس إلى بعض ولم ينطق أحد منهم بحرف ومرّ الشيخ كالريح، ثمّ قال الناس:
- «لم لا نتبعه ونستعيده الحديث ونسأله من أين علم أو نأخذه ونمضي به إلى مرداويج لئلّا يبلغه الخبر فيلومنا على تركه.» فركضوا يمينا وشمالا إلى كلّ طريق وسبيل فى طلبه فلم يوجد وكأنّ الأرض ابتلعته.
ثمّ عاد مرداويج ولم يلو على أحد ودخل داره ونزع ثيابه، ثمّ دخل الحمّام وأطال، وكان كورتكين قريبا منه وخصّيصه [2] يحرسه ويراعيه فى خلواته وحمّامه فأمره أن لا يتبعه وتأخّر عنه مغضبا فتمكّن منه الأتراك [274] وهجموا عليه فى الحمّام فقتلوه بعد أن مانع عن نفسه وقاتل بكرنيب فضّة [3] كان فى يده، فشقّ بعض الأتراك بطنه. فلمّا خرجت حشوته ظنّ أنّه
__________
[1] . تكفونه: كذا فى الأصل. وفى مط: تكفر به. وفى مد: تكفنونه. وليس الأصل كذلك.
[2] . فى مط: وخصّصه.
[3] . فى مط: بكسر فضّة.(5/234)
قد قتله فلمّا خرج إلى أصحابه قالوا له:
- «أين رأسه؟» فعرّفهم أنّه قد شقّ بطنه. فلم يرضوا بذلك وعاوده لحزّ رأسه فوجدوه قد قام على سريرين فى الحمّام وردّ حشوة بطنه وأمسكها بيده وكسر جامة الحمّام وعاونه قيّم الحمّام وهمّ بالخروج من ذلك الموضع إلى سطح الحمّام.
فلمّا رأوه كذلك حزّوا رأسه فظهر أمره بين الظهر والعصر بخروج الأتراك الذين كانوا معه إلى رفقائهم وإخبارهم إيّاهم بخبره وركوبهم إلى الإصطبلات للنهب.
وفيها ارتفع ذكر أبى جعفر بن شيرزاد وعنى به علىّ بن عيسى. ذكر السبب فى ذلك
كان السبب فى ذلك أنّ ابن شيرزاد كان يكتب لهارون بن غريب وينظر فى جميع أموره. فأطمع هارون فيه وقرّف بجنايات عظيمة فقبض عليه يوم الثلاثاء لثمان خلون من جمادى الأولى سنة خمس عشرة وثلاثمائة، وسلّمه إلى خادمه [275] مونس وأمره بالتضييق عليه ومنعه من الدواة فتأخّرت رقعته عن أخيه أبى الحسن زكريّا.
وكان يكتب للخالة على ديوان ضياعها. فعرف الخالة صورة أخيه فشكت الخالة ذلك إلى السيدة فوجّهت السيدة بخادم لها إلى هارون حتّى انتزعه من يده وحمله إلى دار السلطان وتقدّمت بإطلاقه.
وخاطب هارون بن غريب علىّ بن عيسى فى أمر ابن شيرزاد وقال له:
- «قد كان اقترض منّى للخاقانى أموالا كثيرة وأخذ بها تسبيبات وفاز بها وقد عمل له المومّل كاتبي بمال عظيم وأنا أرضى بنظر ثقة من ثقات الوزير(5/235)
فى العمل.» فتقدّم الوزير علىّ بن عيسى إلى أبى يوسف كاتب السيّدة بالمصير إلى دار هارون وحضر المؤمّل وكتّابه فنظروا فى العمل.
فكان أوّل باب فيه أنّه وجد فى دفتر من دفاتر ديوانه ثبت [1] ما قبض من التسبيبات التي سبّبها الخاقاني لابن شيرزاد من مال القروض التي اقترضها من مال هارون بن غريب.
وقد حكى فيه أنّه قبض خمسة عشر ألف دينار وأنّه لم يجد هذا المال فى ختمات الجهبذ الثابتة فى الديوان. وكان كاتب ابن شيرزاد على ذلك الديوان ابن أبى الميمون، فقال [276] ابن أبى الميمون:
- «قد صحّ فى ختمة الجهبذ ومع صاحبي خطّ الأمير بقبضه إيّاه، لأنّه حمله إلى حضرته وصرفه فى ثمن دار المحسّن التي ابتيعت [2] من وكيل الخليفة فى وزارة أبى القاسم الخاقاني.» فأخرجت الختمة بعينها فوجد ذلك فيها. ووجد محرّر هذه الختمة قد كتب هذا المال كأنّه تفصيل المال المتقدّم وكان سبيله أن يكون مخرجا بارزا عن التفصيل الأوّل. فوجد أبو يوسف ومحمّد بن جنّى الأمر على ما قال كاتب ابن شيرزاد وأخرج ابن شيرزاد خطّ هارون بن غريب بصحّة هذا المال منسوبا إلى تلك الجهة وأنّه أدّى فى بيت المال لثمن الدار وأحضر قبض صاحب بيت المال به.
ثمّ نظر فى الباب الثاني أنّ المطلق للفرسان فى عسكر هارون من مالهم فيه الربع الدراهم [3] تساوى ستّة عشر درهما بدينار وأنّه لم يضع الصرف من
__________
[1] . ثبت: كذا فى الأصل. وفى مط: ثلث.
[2] . فى مط: تتبعت.
[3] . كذا فى مط. وما فى الأصل: الربع دراهم.(5/236)
مال الرجال وأنّه يلزمه منه فى مدّة ولايته كتابة هارون نيّف وعشرون ألف دينار، فأخرجوا الختمات فوجدوا الجهبذ قد احتسب بما صرفه فى أعطيات الرجال ورقا من غير أن يوضع منه شيء لفضل الصرف. فاحتجّ كاتب ابن شيرزاد بأنّ فضل [277] الصرف فى ختمة تورد فى أصول الأموال فى آخر باب من أبواب الأصول وهو ما يتوفّر من هذا الباب وغيره من سائر نفقات هارون بن غريب فأخرج ذلك من الختمات.
فلمّا بطل هذان البابان وهما معظم ما كان فى العمل نهض أبو يوسف ومحمّد بن جنّى وقام معهما ابن شيرزاد وأقبل عليه هارون فقال:
- «قد هتكني كاتبي هذا الجاهل الناقص قبّحه الله وقد جنيت على نفسي بصرفك ولكن إن تصرّفت لأحد فعلت وصنعت.» وتهدّده.
فذهب ابن شيرزاد وشرح لعلىّ بن عيسى ذلك فصار ذلك سببا لعناية علىّ بن عيسى به واشتهر حديثه وفاض فى الكتّاب.
وفيها ورد الخبر وكتاب الفارقي من البصرة بأنّه قد اجتاز بباب البصرة ممّا يلي البريّة جيش للقرمطى كثير العدد يقصد الكوفة فكتب المقتدر إلى مونس المظفّر يأمره بالرجوع إلى بغداد فرجع من تكريت ودخل بغداد بعد صلاة العصر بعد أن أنفذ قطعة من جيشه إلى الثغر.
وخرج ياقوت إلى مضربه بالزعفرانيّة متوجّها إلى عمله بفارس.
القبض على ابن أبى الساج وتقليد الحسن بن هارون
وفى هذه السنة قبض يوسف بن أبى الساج على كاتبه [278] أبى عبد الله(5/237)
محمّد بن خلف النيرمانى وقلّد مكانه أبا علىّ الحسن بن هارون وقيّد محمّد بن خلف بقيود ثقال وأخذ منه يوم قبض عليه من المال والفرش والكسوة والغلمان ما قيمته مائة ألف دينار وأخذ خطّه بخمسمائة ألف دينار مصادرة عن نفسه.
ذكر السبب فى ذلك
كان السبب فى ذلك ما استعمله بواسط من السرف فى التكبّر والتجبّر والتوسّع فى النفقات حتّى إنّه جعل فى داره بواسط فى شراب العامّة ثلاثين غلاما وفى شراب الخاصّة عشرين غلاما وكان يخرج من داره إلى دار صاحبه يوسف ويبكّر إليه جميع قوّاد ابن أبى الساج ورؤساء غلمانه ورؤساء العمّال ويسلّمون عليه كما يفعل الناس ببغداد بالوزراء فى أيّام المواكب.
وكان قبل ذلك فى مسير ابن أبى الساج من الرىّ إلى واسط قد لبس القباء والسيف والمنطقة إلّا أنّه لم يكن يركب إلى دار صاحبه بسواد فرقا بينه وبين وزير السلطان واحتمله ابن أبى الساج على ذلك.
ثمّ أطمع نفسه أيّام مقامه بواسط فى الوزارة للسلطان، وتبيّن [279] عداوة نصر الحاجب لابن أبى الساج فكاتبه ووجّه إليه بمن يثق به يلتمس منه أن يشير على المقتدر بتقليده الوزارة مكان علىّ بن عيسى وضمن أن يستخرج من علىّ بن عيسى وأخيه وسليمان بن الحسن وأبى زنبور المادرائى والكلوذانى وأسبابهم ألف ألف دينار ويقوم بنفقات السلطان وأرزاق الأولياء.
سعاية
وسعى بصاحبه وقال: إنّه كان يستر عنه مذهبه فى الدين وإنّه لمّا سار(5/238)
إلى واسط أنس به وانبسط إليه فكشف له أنّه يتديّن بأن لا طاعة عليه للمقتدر ولا لبنى العبّاس على الناس طاعة وأنّ الإمام المنتظر هو العلوي الذي بالقيروان وأنّ أبا طاهر الهجري صاحب ذلك الإمام، وإنّه قد صحّ عنده أنّه يتديّن بدين القرامطة وإنّه إنّما صيّر العلوي متحقّقا به وبجميع أسراره بهذا السبب، وإنّه ليس له نيّة بالخروج إلى هجر، وإنّه إنّما يحتال بالوعد بالخروج إلى هجر حتّى يتمّ له أخذ الأموال، وإنّه قال فى شهر ربيع الآخر:
- «أىّ شيء بقي لنا على الخليفة ووزيره من الحجّة ولم ليس تخرج إلى هجر ولا أراك تستعدّ لذلك؟» فقال له فى الجواب:
- «لم لا تكون لك معرفة [280] بالأمور من فى نيّته [1] الخروج إلى هجر.» وإنّه قال له:
- «فلم غررت السلطان من نفسك ووعدته بهذه الحال حتّى سلّم إليك جميع أعمال المشرق؟» فأجابه بأنه يرى انتقاض الخليفة وسائر ولد العبّاس الغاصبين أهل الحقّ فرضا لله- عزّ وجلّ عليه- وأنّ طاعته طاغية الروم أصلح من طاعته الخليفة.» وإنّه قال:
- «فهبك فعلت ذلك، ما الذي يؤمنك من القرمطى أن يوافى إلى واسط وإلى الكوفة فلا تجد بدّا من لقائه ومحاربته؟» فقال فى الجواب:
__________
[1] . كذا فى الأصل: فى نيّته. وفى مط: فى بيته.(5/239)
- «ويحك كيف أحارب رجلا هو صاحب الإمام وعدّة من عدده؟» فقال له:
- «فإن أراد هو حربك أى شيء تعمل؟» فقال له:
- «ليس لهذا أصل، وقد ورد عليه كتاب الإمام من القيروان بأن لا يطأ بلدا [1] أكون فيه ولا يحاربني بوجه ولا بسبب.» وإنّه ختم القول بأن قال:
- «إنّى إنّما انتظر أن يقبض رجالي بأسرهم أموال سنة أربع عشرة وثلاثمائة فإذا قووا بذلك منعت أوّلا من أعمال واسط والكوفة وسقى الفرات وأنفذت إليها العمّال، فلا بدّ للسلطان أن ينكر حينئذ ما أفعله فأكاشفه وأخطب للإمام وأظهر [281] الدعوة وأسير إلى بغداد، فإنّ من بها من الجند قوم يجرون مجرى النساء قد ألفوا الدور على دجلة والشراب والثلج والخيش [2] والمغنيات فآخذ نعمهم وأموالهم ولا أدع الهجري يفوز بالاسم وأكون أنا سائق الدولة إلى الأمام، فإنّ أبا مسلم خرّاز النعال لم يكن له أصل وقد بلغ ما بلغ ولم يكن معه لمّا ارتفع النصف ممّن معى. وما هو إلّا أن أظهر الدعوة حتّى قد اجتمع مائة ألف ضارب سيف.» ويقول محمّد بن خلف:
- «قد صدقت أمير المؤمنين عن هذا الأمر، فإن ولّانى الوزارة انقمع ابن أبى الساج وبطل عليه تدبيره وأخبّب [3] حينئذ رجاله وغلمانه: فإمّا أسروه
__________
[1] . وفى مط: وقد ورد عليه كتاب ابن المعتز ولا يطأ بلدا» بدل «وقد ورد عليه كتاب الإمام من القيروان بأن لا يطأ بلدا» .
[2] . الخيش: الرجل الدنىّ.
[3] . خبّبه: خدعه وأفسده. يقال: «خبّب على فلان صديقه» أى أفسده عليه.(5/240)
وإمّا هرب طائرا على وجهه إلى أذربيجان. فإنّى إذا تولّيت الوزارة جدّدت به فى المطالبة بالخروج إلى هجر فإن كاشف دبّرت عليه.» فأنهى نصر الحاجب كلّه إلى المقتدر وعرّفه انّ محمّد بن خلف قد كتب إليه يحلف له على أنّه ما حمله على هذا الفعل إلّا الغضب للدين أوّلا ثمّ الأنفة من أن يتمّ لهذا القرمطى على الخليفة وسائر الخاصّة والعامّة ما دبّره.
وكان الحسن بن هارون يخلف محمّد بن خلف [282] ويقف دائما بين يديه على رجله ويخدمه كما يخدم ابن أبى الساج. فلمّا رأى اختصاصه بابن أبى الساج تنكّر له وعمل على القبض عليه وإتلافه وأظهر ذلك لأبى بكر ابن المنتاب وكان قد اختصّ به وغلب عليه. فاتّفق أن شرب ابن المنتاب مع جماعة من إخوانه بواسط وفيهم عبد الله بن علىّ الجرجرائى عامل الصلح والمبارك، فسأله عبد الله بن علىّ أن يشكر له أبا علىّ الحسن بن هارون لما يوليه من الجميل وقال له:
- «تعرض لى رقعة على سيّدنا أبى عبد الله محمّد بن خلف أسأله فيها أن يعرّفه شكرى ويأمره بالزيادة فيما شكرته عليه.» فقال له ابن المنتاب:
- «اتّق الله فى نفسك ولا تفعل، فإنّ أبا عبد الله على غاية التنكّر للحسن بن هارون ولن يبعد أن يقبض عليه ويبلغه [1] .» فحفظ ذلك عبد الله بن علىّ وتقرّب به إلى الحسن بن هارون.
ووقعت بين محمّد بن خلف وبين عبد الله بن علىّ مماحكة فيما سبّب عليه لقوم يعتنى بهم محمّد بن خلف فشتمه محمّد بن خلف وهدّده وأمر بإخراجه من مجلسه على أقبح صورة.
__________
[1] . فى الأصل: ويبلغه (بضمّ الغين) .(5/241)
فاجتمع عبد الله بن علىّ والحسن بن هارون على التدبير على محمّد بن خلف ونصبا عليه أصحاب الأخبار إلى أن وقفا [283] على ما عمله فى السعى فى تقلّد الوزارة للمقتدر وسعايته بصاحبه. فاطلع عبد الله بن علىّ ابن أبى الساج على ذلك وتقرّب إليه فنصب يوسف بن أبى الساج أصحاب أخبار على محمّد بن خلف إلى أن وقف على أنّ خادما له يثق به قد أنفذه دفعات إلى بغداد وأظهر أنّه إنّما ينفذه لابتياع كسوة وفرش ودوابّ وغلمان له وأنّه هو السفير بينه وبين نصر الحاجب فى التدبير على ابن أبى الساج فتقدّم ابن أبى الساج إلى عبد الله بن علىّ فى أخذ الطرق على هذا الخادم وإلى الحسن بن هارون بمراعاة الوقت الذي ينفذ فيه الخادم. فلمّا نفذ من واسط عرّفه الحسن ذاك فوجّه بثقاته وأمرهم أن يرصدوا الخادم فى الطريق، فإذا عاد من بغدا قبضوا عليه وسلّموه إلى صاحب عبد الله بن علىّ بجرجرايا.
وتقدّم إلى عبد الله بن علىّ بأن يوجّه بمن ينتظره بجرجرايا وأنفذت الكتب التي معه إلى ابن أبى الساج فوجدها بخطّ كاتب نصر جوابات عن كتب محمّد بن خلف إليه تدلّ على إشارات ورموز وتراجم وفيها كلّ مكروه وسعى على دم [1] ابن أبى الساج وحاله وإطماع فى ماله وحاله [284] وتحذير من تأخّر القبض على علىّ بن عيسى. فبادر ابن أبى الساج فى إنفاذ الحسن بن هارون إلى الحضرة بكتب ورسائل إلى علىّ بن عيسى على رسمه ووجّه بتلك الكتب بعينها وقال له:
- «تقول للوزير عنّى: قد سعى هذا الرجل على دمى ودمك ودماء أصحابك وأريد أن أقبض عليه وأكثر ذنوبه عندي سعيه عليك.» فلمّا وقف علىّ بن عيسى على جميع كتبه ورسائله تعجّب وقال له:
__________
[1] . فى مط: ذم (بالذال المعجمة) .(5/242)
- «تقول لأخى أبى القاسم: إن كنت تريد أن تفعل ذلك لتريح نفسك من هذا الرجل الخائن المستحلّ فالله يوفّقك ويحسن معونتك. وإن كنت تفعل هذا بسببي فو الله ما أشكر أحدا كما أشكر من يسعى فى صرفى عن الوزارة، فالحبس والنفي أسهل ممّا أقاسيه منها.» وزوّر عبد الله بن علىّ عن الخادم كتبا على أنّها من بغداد إلى محمّد بن خلف بأنّه: قد أحكم أكثر ما تحتاج إليه وأنّه سريع العود إلى واسط.
فسكنت نفس محمّد بن خلف إلى ذلك. وصار عبد الله بن علىّ إلى محمّد بن خلف وترضّاه وبذل له أن يحمل إليه من ماله مائة ألف درهم مرفقا ليزول ما فى نفسه عليه. فظنّ محمّد بن خلف أنّ ذلك صحيح ودعا عبد الله بن علىّ وواكله وشاربه. [285] ولم يلبث الحسن بن هارون أن عاد من بغداد فبدأ بدار محمّد بن خلف ووقف بين يديه فقال محمّد بن خلف:
- «يا عاضّ [1] ، قد بلغني أنّك شنّعت علىّ عند علىّ بن عيسى وذكرت له أنّى أطلب الوزارة مكانه وأنّك مع ذلك قد ضرّبت علىّ حاشية الأمير وغلمانه. وو الله يا كلب لأضربنّك خمسمائة سوط ولآخذنّ منك ثلاثين ألف دينار قد أبطرتك.» والحسن بن هارون لا يزيد على أن يقول له:
- «الله بيني وبين من أغرى مولاي ومن أنا عبده وغرسه.» ومحمّد بن خلف يشتمه إلى أن قال له:
- «لقيت الأمير؟» فقال الحسن بن هارون:
__________
[1] . فى مط: يا عاصي.(5/243)
- «ما لقيته بعد.» فقال له:
- «فامض إلى لعنة الله فالقه وعد إلىّ.» فمضى إلى ابن أبى الساج وشرح له جميع ما وقف عليه من سعى محمّد بن خلف عليه وما خاطبه به لمّا لقيه بعد قدومه من بغداد.
فقال ابن أبى الساج لخازنه الذي يتسلّم من محمّد بن خلف الأموال المحمولة إليه التي ينفقها فى رجاله وغلمانه ونفقاته:
- «قد كنت أحضرتنى منذ مدّة مالا نصفه غلّة ودراهم بهرجة [1] وخراسانيّة، وذكرت أنّ ابن خلف حمله إليك لتنفقه فى الأولياء [286] وغيره، وذكرت أنّ الأمر [2] مسرف فى فضل الصرف وأنّه كثير فعرّفنى الآن الحال فيما يحمله إليك؟» فقال: «الذي يحمله الآن شرّ من كلّ ما تقدّم وقد أخرجت من مائة ألف درهم حملها اليوم ألف وخمسمائة درهم جديد وألفى درهم صحاح لا سيّئة [3] واثنين وأربعين ألف درهم غلّة رديّة.» وعظم عليه الأمر فى فضل الصرف فى ذلك فقال له:
- «فإذا حضر محمّد بن خلف العشيّة فادخل إلىّ واحمل المال كهيئته وعرّفنى أنّ جميع غلماني ورجالي قد فسدت نيّاتهم بهذا السبب.» ففعل الخازن ذلك. فقال ابن أبى الساج:
- «يا أبا عبد الله أنت تعلم أنّ هذا المال لا يجوز لأحد أن يقبض مثله وإذا فوّت رجالي شهرا وأعطيتهم مالا جيّدا أو مقاربا للجودة كان أصلح من
__________
[1] . فى مط: نهردية.
[2] . فى مط: الأمير.
[3] . فى مط: لا شبه (بإهمال ما قبل الأخير) ، وفى الأصل غموض.(5/244)
هذا.» فغضب محمّد بن خلف وقال له:
- «ما جرّأ هذا الكلب على خطابي بحضرتك فى هذا الباب إلّا لأنّه قد وقف على فساد رأيك فىّ، وإنّما أفسدك علىّ من قدّر أن يتولّى كتابتك وهو هذا العلج الحسن بن هارون وأهون به وبهذا الخازن وبجميع غلمانك ورجالك علىّ، وأنا عقدت لك هذه الحال وهذا الأمر [287] والآن فو الله لا نظرت فى شيء من أمرك، فاعمل ما شئت.» ونفض يده فى وجهه وخرج من مجلسه. فجعل ابن أبى الساج يحلف له أن يعود فلا يفعل ويحلف إنّه لا يرجع.
فلمّا طال ذلك بينهما وبلغ أن يعطف إلى دهليز يغيب به عن عينه قال ابن أبى الساج لغلمانه:
- «ضعوا أيديكم فى قفا الكلب اللاحد الخنزير [1] فأسمعونى صوته بالصفع.» فصفع نحو من مائة صفعة وأخذ سيفه ومنطقته. واستدعى ابن أبى الساج عبد الله بن علىّ وأحضر للوقت فوجّه به إلى دار محمّد بن خلف ليحفظها ويقبض على سائر غلمانه وأسبابه وخزائنه، وكان عبد الله بن علىّ مشهورا بالعفاف والثّقة. وتقدّم إلى الحسن بن هارون بأن يتقلّد كتابته مكانه واستحلفه أن يدخل إلى الحجرة التي اعتقل فيها ويقيّده بخمسين رطلا ويلبسه قميص بايباف ففعل به الحسن بن هارون ذلك فقال له:
- «يا محمّد بن خلف أخبرنى أغرّك أنّى أقول لك: يا مولاي؟ إنّما كنت أسخر منك، أيّنا كان أبعد غورا وتدبيرا، أنا أم أنت؟»
__________
[1] . كذا فى مط ومد: الخنزير. وفى الأصل: الجنزير. واللاحد: الذي يعمل اللحد.(5/245)
وأخذ الحسن بن هارون خطّه بستمائة ألف دينار بعد أن أهانه وصفعه وضربه بالمقارع، فأدّى نحو خمسين ألف دينار [288] إلى أن رحل ابن أبى الساج من واسط إلى الكوفة لمحاربة الهجري وحمله معه مقيّدا وشغل عنه بالحرب وأسر، فأفلت محمّد بن خلف.
ذكر وقعة ابن أبى الساج مع القرمطى وما استعمله من ترك الحزم واستهانته بالعدوّ حتّى أسر وما اتفق عليه بعد الأسر حتّى قتل
كتب يوسف بن ديوداذ من واسط إلى الوزير أبى الحسن علىّ بن عيسى يلتمس منه حمل مال إليه ليصرفه فيما يحتاج من إعداد الأنزال [1] والعلوفات بين واسط والكوفة ويحتجّ بأنّ أموال المشرق [2] متأخّره عنه وأنّ الأمر ليس يحتمل مع قرب موافاة الهجري بأن ينتظر ورود مال من الجبل ويقول إنّه لا يقنعه لذلك أقلّ من مائة ألف دينار. فعرض علىّ بن عيسى كتابه على المقتدر، فتقدّم بأن يحمل من بيت المال الخاصّة سبعون ألف دينار وينفذ إليه.
وورد الخبر بخروج أبى طاهر من هجر بنفسه يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان، فنزل فى الموضع المعروف بالحس وبينه وبين الاحساء مسيرة يومين وأقام به إلى يوم السبت ورحل من غد وكتب [289] السلطان إلى ابن أبى الساج بما ورد من خبره ويأمره بالمبادرة إلى الكوفة.
وكتب علىّ بن عيسى إلى عمّال الكوفة باعداد الميرة والعلوفات ليوسف.
__________
[1] . فى مط: فى اعذار الأتراك.
[2] . فى مط: المسرف.(5/246)
وسار يوسف من واسط يوم الأربعاء لليلة بقيت من شهر رمضان نحو الكوفة وعاد سلامة الطولونى منصرفا من عنده وكان حمل إليه المال.
ولمّا قرب أبو طاهر الهجري من الكوفة أطلق جميع من كان معه من أسارى الحاجّ وهرب عمّال السلطان من الكوفة فأخذ أبو طاهر جميع ما أعدّ ليوسف من المير والعلوفات وهو مائة كرّ دقيقا وألف كرّ شعيرا وقد كان خفّ ما مع أبى طاهر من الميرة، ولحقه وأصحابه [1] شدّة فقوى ومن معه بما صار إليهم. ووافى يوسف إلى ظاهر الكوفة يوم الجمعة لثمان خلون من شوّال وقد سبقه أبو طاهر إليها بيوم واحد فحال بينها وبينه.
وحكى عن أبى طاهر أنّه قال: إنّ عسكره قرب من عسكر يوسف فى الطريق بين واسط والكوفة، وكان يوم ضباب، فلم ير أحدهما صاحبه وانّه أحسّ به [2] ولو شاء لأوقع به.
ووجّه يوسف إلى أبى طاهر يدعوه [290] إلى الطاعة، فإن أبى فإنّ الوعد للحرب يوم الأحد.
فحكى الرسول: انّه لمّا صار إليه حمل إلى موضع فيه جماعة متشاكلو الزىّ وقيل له:
- «تكلّم فإنّ السيّد يسمع.» ولم يعرف من هو منهم. فأدّى الرسالة فأجيب بأنّه غير مستجيب لما دعاه إليه ولا لتأخير المناجرة. فكانت الحرب بينهما يوم السبت لتسع خلون من شوّال سنة خمس عشرة وثلاثمائة على باب الكوفة. فيقال إنّ ابن أبى الساج لمّا عاين عسكر أبى طاهر ووقف على عزّته أزرى عليه واحتقره [3]
__________
[1] . فى مط: وأصابه.
[2] . فى مط: وأنّه أحر به، بدل «وأنّه أحسّ به» .
[3] . فى مط: وأصغره.(5/247)
وقال:
- «من هؤلاء الكلاب؟ هؤلاء بعد ساعة فى يدي.» وتقدّم بأن يكتب كتاب الفتح قبل اللقاء تهاونا به وزحف كلّ واحد منهما إلى صاحبه.
فلمّا سمع الهجري صوت البوقات والدّبادب والزّعقات عن عسكر ابن أبى الساج- وكانت عظيمة جدّا- التفت رجل منهم إلى رفيق له وهو يسايره فقال له:
- «ما هذا الزجل؟» فقال له رفيقه: «فشل.» فقال له: «أجل.» ما زاده لفظة.
ورسم عسكر أبى طاهر أن لا تكون فيه بوقات ولا دبادب ولا صياح.
وعبّأ ابن أبى الساج رجاله وانفرد هو مع غلمانه على عادة له فى الحرب وكان ابتداء الحرب بينهما مذ ضحوة نهار يوم السبت إلى وقت غروب [291] الشمس. وما قصّر ابن أبى الساج فى الثبات وأثخن أصحاب أبى طاهر بالنشّاب وجرح منهم خلقا.
فلمّا رأى أبو طاهر ذلك وكان واقفا فى عمّاريّة له مع من يثق به من أصحابه نحو مائتي فارس بالقرب من حيطان الحيز نزل من العمّاريّة فركب فرسا له وحمل بنفسه مع ثقاته وحمل يوسف بنفسه وغلمانه عليه واشتبكت الحرب بينهما فأسر ابن أبى الساج آخر النهار وبه ضربة على جبينه بعد أن اجتهد به غلمانه أن ينصرف فامتنع عليهم وحصل أسيرا فى يد أبى طاهر مع جماعة من غلمانه بعد أن قتل من أصحابه عدد كثير وانهزم الباقون.
ولمّا أسر يوسف وقت المغرب حمل إلى معسكر أبى طاهر وضربت له خيمة وفرش له فيها ووكّل به وأحضر رجل معالج يعرف بابن السبيعي. فقال(5/248)
ابن السبيعي هذا: لمّا دخلت إليه إلى الخيمة التي حبس فيها وجدته جالسا وعليه درّاعة ديباج فضّى وجرّبانها [1] ولبّتها [2] من ديباج أحمر وقد تلوّنت [3] بالدم الذي سال من الضربة التي فى جبينه، ووجدت الدم قد جمد على وجهه، فالتمست ماء حارّا. فقال لى بعض أصحاب أبى طاهر:
- «والله ما ذاك عندنا، ولا عندنا ما يسخن فيه.» وكانوا [292] خلّفوا سوادهم بالقرب من القادسيّة وتجردوا للقتال، فغسلت وجهه بماء بارد وغسلت موضع الضربة وعالجته وسألنى عن اسمى وبأىّ شيء أعرف، فذكرت له ذلك فوجدته يعرف أهلى أيّام كان بالكوفة وهو صبىّ مع أخيه الأفشين وكان يتقلّد الكوفة، فعجبت من ذكره وفهمه وقلّة اكتراثه بما هو فيه.
وورد خبر الوقعة وأسر ابن أبى الساج على علىّ بن عيسى، فراح إلى دار السلطان واجتمع مع نصر الحاجب ومونس المظفّر على إنهاء الخبر إلى المقتدر بالله وانتشر الخبر، فدخلت الخاصّة والعامّة لأبى طاهر هيبة عظيمة ورهبة شديدة، وعملت الجماعة على الهرب إلى واسط ثمّ إلى الأهواز، وابتدأ المنهزمون بالدخول إلى بغداد، وأخرج مونس المظفّر مضربه إلى ميدان الأشنان وخرج على أن يمضى إلى الكوفة.
وورد كتاب العامل بقصر ابن هبيرة على علىّ بن عيسى بأنّ أبا طاهر وأصحابه رحلوا عن الكوفة يوم الثلاثاء لاثنى عشرة خلت من شوّال قاصدين عين التمر، وورد كتابه بعد ذلك بنزولهم عين التمر، فبادر علىّ بن عيسى باستئجار خمسمائة سميريّة وجعل فيها ألف رجل ومعها عدّة [293]
__________
[1] . جرّبانها: والجرّبان: طوق القميص. فارسيّة أصلها: گريبان. واللّبّة: موضع القلادة من الصدر.
[2] . فى مط: وجريانها ولبنها.
[3] . فى مط: تلوّثت.(5/249)
من شذاءات وطيّارات وحوّلها من دجلة إلى الفرات وفيها جماعة من الغلمان الحجريّة لمنع الهجري من عبور الفرات، وتقدّم إلى جماعة من القوّاد بالمسير على الظهر من بغداد إلى الأنبار لضبطها.
فلمّا كان يوم الجمعة رأى أهل الأنبار ومن بها من القوّاد خيل أبى طاهر مقبلة من الجانب الغربي فبادروا إلى قطع جسر الأنبار وأقام أبو طاهر إلى أن أمكنه العبور بالسفن فعبر يوم الثلاثاء نحو مائة رجل ولا يعلم بهم أصحاب السلطان إلى ان حصلوا بالأنبار ونشبت الحرب بينهم وبين جماعة من القوّاد.
فلمّا خلا البلد من أصحاب السلطان عقد أبو طاهر جسر الأنبار وعبر وخلّف سواده فى الجانب الغربي وفيه ابن أبى الساج، ولمّا علم من فى الشذاءات من أصحاب السلطان أنّ أبا طاهر قد عقد الجسر ساروا إليه بالليل فضربوه بالنار فبقى أبو طاهر فى جماعة من أصحابه فى الجانب الشرقي من الفرات وسواده فى الجانب الغربي منه وحالت الشذاءات والطيّارات بينهم.
ولمّا ورد الخبر بعبور أبى طاهر إلى الأنبار وقتله من بها من القوّاد خرج نصر الحاجب ومعه [294] الحجريّة والرجّالة المصافيّة وجميع من كان بقي ببغداد من القوّاد وبين يديه علم الخلافة وهو شبيه باللواء أسود وعليه كتابة بياض:
- «محمّد رسول الله.» وكان مونس قد صار بباب الأنبار واجتمع مع نصر وكان عدد من معهما من الفرسان والرجّالة وغيرهم يزيد على أربعين ألف رجل، وخرج أبو الهيجاء ومن إخوته أبو الوليد وأبو العلاء وأبو السرايا فى أصحابه وأعرابه وسار نصر وسبق مونسا على قنطرة النهر المعروف بزبارا بناحية عقرقوب [1]
__________
[1] . كذا فى الأصل ومد: عقرقوب. فى مط: عقرقوق (بإهمال الأخير) وفى المراصد: عقرقوف، وهي قرية من نواحي نهر عيسى، بينها وبين بغداد أربعة فراسخ.(5/250)
على نحو فرسخين من بغداد ولحق به مونس واجتمعا على النهر وأشار أبو الهيجاء على نصر الحاجب بقطع قنطرة نهر زبارا وألحّ عليه فى ذلك. فلمّا رآه يتثاقل عن قبول رأيه قال له:
- «أيّها الأستاذ اقطعها واقطع لحيتي معها.» فقطعها حينئذ.
وسار أبو طاهر ومن حصل معه من أصحابه من الجانب الشرقي من الفرات قاصدين نهر زبارا. فلمّا صار على فرسخ واحد من عسكر السلطان آخر يوم الاثنين لعشر خلون من ذى القعدة بات بموضعه ليلته وباكر المسير إلى قنطرة نهر زبارا.
وتقدّم من رجّالته راجل أسود يقال له: صبح، [1] فكان أمام عسكره فما زال نشّاب أصحاب السلطان تأخذه وهو يتقدّم ولا يهوله وقد صار بالنشّاب كالقنفذ، فلمّا صعد القنطرة ورآها مقطوعة رجع، وما زال أصحاب أبى طاهر يمتحنون غور [2] الماء فى النهر، فلمّا علموا انّه ليس يخيض انصرفوا راجعين القهقرى من غير أن يولّوا ظهورهم وصاروا إلى الحسينية فوجدوا الماء قد أحاط به لأنّ نصرا ومونسا وجّها قبل ذلك بمن بثق هناك بثوقا كبارا فصار الماء المخر محيطا بعسكر أبى طاهر. فأقام هناك يوم الثلاثاء وسار هو وأصحابه إلى الأنبار ولم يجسر أحد من أصحاب السلطان أن يتبعه أو يصلح قنطرة زبارا أو يعبرها.
وكان ما أشار به أبو الهيجاء من قطع هذه القنطرة توفيقا من الله فانّها لو كانت صحيحة لعبر أصحاب القرمطى عليها وما هالهم وفور عسكر السلطان ولا نهزم أصحاب السلطان وملك القرمطى بغداد. وذاك انّ أكثر أصحاب
__________
[1] . فى مط: صيح.
[2] . فى مط: غرر.(5/251)
السلطان كرّوا إلى بغداد منهزمين لمّا بلغهم وصول أبى طاهر إلى النهر من غير أن يروهم أو يقع عين عليهم لعظيم ما تداخل القلوب من الرعب بعد الحادث بابن أبى الساج. [296] ولم يحدّث أحد نفسه بعد ذلك أن يجوز له أن يثبت فى وجهه.
وكان مع أبى طاهر جماعة من الأولاد فعدلوا به عن المخر وسار نحو الأنبار ولمّا ولّى أبو طاهر وأصحابه عن موضع العسكر بزبارا ارتفع التكبير والتهليل من أصحاب السلطان ليذيع الخبر به وبادر أصحاب الأخبار إلى علىّ بن عيسى بالسلامة وبانصراف أبى طاهر ورجوعه إلى الأنبار وبأنّه لا طريق له ولا مخاضة ولا حيلة فى الوصول إلى معسكر عسكره ولا إلى نواحي بغداد.
وطمع مونس فى الظفر بسواده وباقى رجاله الذين خلّفهم فى الجانب الغربي من الأنبار وفى تخليص ابن أبى الساج فأنفذ يلبق حاجبه وجماعة من القوّاد ومن غلمان ابن أبى الساج فى ستّة آلاف رجل وظنّوا أنّه لا يتم لأبى طاهر العبور إلى خيله وسواده. وبلغ أبا طاهر ذلك فاحتال حتّى انفرد عن رجاله ومشى مشيا طويلا حتّى خرج عن الأنبار إلى الصحراء التي تتّصل بالفرات، ثمّ عبر فى زورق صيّاد يقال: إنّه دفع إليه ألف دينار حتّى عبر به إلى سواده. فلمّا حصل فى سواده واجتمع مع أصحابه حارب يلبق ومن معه [297] فلم يثبت له يلبق وانهزم ومن معه وقتل جماعة من أصحابه.
وبصر أبو طاهر فى الوقت بابن أبى الساج وقد خرج من خيمته التي كان معتقلا فيها متطلّعا إلى الطريق لينظر ما يكون من حال الوقعة فوقع له انّه أراد أن يهرب فدعا به إلى حضرته وقال:
- «أردت الهرب؟»(5/252)
ويقال: إنّ غلمانه كانوا نادوه فقال له القرمطى:
- «طمعت أن يخلّصك غلمانك؟» فأمر به فضربت عنقه بحضرته وضرب أعناق جماعة كانوا فى الأسر.
واحتال بعد ذلك أبو طاهر حتّى عبر جميع أصحابه الذين كانوا معه فى الجانب الشرقي من الفرات بالأنبار فحصلوا معه فى الجانب الغربي الذي يلي البرّيّة وعاد يلبق منهزما مفلولا إلى مونس المظفّر.
وحكى أبو القاسم ابن زنجى أنّه كان عدّة أصحاب أبى طاهر ألف وخمسمائة رجل منهم سبعمائة فارس وثمانمائة راجل وأنّه عرف ذلك من رجل أنبارىّ كان يقيم له ولرجاله الخبر. وقد قيل: إنّهم كانوا ألفى وسبعمائة.
قال: وسمعت بعض مستأمنة أبى طاهر وقد سئل عن السبب فى سرعة هزيمة أصحاب السلطان وثباتهم هم [298] فقال:
- «السبب فى ذلك انّ أصحاب السلطان يقدّرون أنّ السلامة فى الهرب فيقدّمونه ونحن نقدّر أنّ السلامة فى الصبر فنثبت ولا نبرح.» ورتب علىّ بن عيسى بين بغداد ونهر زبارا [1] المرتبين وسلم إليهم مائة طير إلى مائة رجل منهم يكتبون على أجنحتهم كتبا بخبر العدوّ فى كلّ ساعة.
وكان السبب فى سلامة بغداد وأهلها يوم قصد القرمطى زبارا مع كثرة العيارين والمتشبّهه بالجند وتشوّقهم إلى النهب أنّ علىّ بن عيسى تقدّم إلى نازوك بمواصلة الركوب والتطواف فى جميع جيشه كلّ يوم غدوة وعشيّة فى الجانبين ففعل ذلك. ثمّ تقدّم إليه فى يوم موافاة أبى طاهر إلى نهر زبارا أن
__________
[1] . زبارا: يقال: إنها من نواحي الكوفة (مراصد الإطلاع) .(5/253)
يبكّر إلى باب حرب بجميع جيشه ويقيم فيه إلى وقت العتمة وأن يواصل النداء فى الجانبين بأنّه:
- «من ظهر من العيّارين والمتشبّهه بالجند ومن وجد معه حديد ضرب عنقه.» فانجحر العيارون وأغلق أهل باب المحوّل ونهر طابق والقلائين وغيرهم دكاكينهم وتحرّز الناس فنقلوا أمتعتهم إلى منازلهم.
وأمّا وجوه الناس فأكثروا والزواريق وجعلوها فى [299] الشوارع فى دجلة ونقلوا إليها أمتعتهم ومنهم من حدرها إلى واسط. ونقل قوم من المهجّرين أمتعتهم إلى حلوان لتحمل إلى خراسان مع الحاجّ ولم يكن عند أحد من الخواصّ والعوامّ شكّ فى أنّ القرمطى يملك بغداد.
وأقام نازوك فى ذلك اليوم كما رسم له علىّ بن عيسى، على ظهر دابّته من أوّل النهار إلى أن مضى صدر من الليل لا ينزل [1] هو ولا أحد من أصحابه عن دوابّهم إلّا للصلاة وضربت له ولهم الخيم فنزلوها بالليل وكان ذلك سببا لسلامة البلد.
وقصد القرمطى إلى هيت وبادر هارون بن غريب وسعيد بن حمدان إلى هيت لدفعه عنها فسبقا القرمطى إلى هيت وصعدا إلى سورها وقويت بهما قلوب أهل هيت. فلمّا وصل القرمطى إليها قاتلوه بالمنجنيقات فقتل من القرامطة جماعة وانصرف أبو طاهر عنها.
وورد الخبر بذلك إلى بغداد فسكنت النفوس واطمأنّت القلوب وتصدّق المقتدر والسيّدة لمّا بلغهما خبر انصرافه بمائة ألف درهم.
وكان مونس ونصر أحضرا جرائد جميع الرجال الذين اجتمعوا على نهر
__________
[1] . فى مط: لا يترك.(5/254)
زبارا ممّا يلي بغداد سوى [300] الأعراب فوجدوهم إثنين وأربعين ألف رجل سوى غلمانهم وأسبابهم فانّهم كانوا أضعاف هذه العدّة.
وكان علىّ بن عيسى لمّا بلغه أسر ابن أبى الساج بادر فى الوقت إلى المقتدر وقال له:
- «إنّما جمع الخلفاء المتقدّمون الأموال ليقمعوا بها أعداء الدين والخوارج وليحفظوا بها الإسلام والمسلمين ولم يلحق المسلمين منذ قبض النبي- صلّى الله عليه وسلّم- شيء أعظم من هذا الأمر، لأنّ هذا الرجل كافر وقد أوقع بالحاجّ فى سنة اثنتي وثلاثمائة ما لم يعهد مثله وقد تمكّنت له هيبة فى قلوب الأولياء والخاصّ والعامّ.
- «وانّما جمع المعتضد والمكتفي فى بيت مال الخاصّة ما جمعوا لمثل هذه الحوادث والآن فلم يبق فى بيت مال الخاصّة كبير شيء، فاتّق الله يا أمير المؤمنين.» - «وتخاطب السيّدة فانّها ديّنة فاضلة فإن كان عندها مال قد ذخرته لشدّة تلحقها أو تلحق الدولة فهذا وقت إخراجه، وإن تكن الأخرى فاخرج أنت وأصحابك إلى أقاصى خراسان فقد صدّقتك ونصحتك.» فدخل إلى والدته ثمّ عاد فأخبر أنّ السيّدة استرأته وأمرت بإخراج خمسمائة ألف دينار من مالها إلى بيت [301] مال العامّة لينفق فى الرجال.
وسأل علىّ بن عيسى عن مقدار ما بقي فى بيت مال الخاصّة من المال فعرّفه علىّ بن عيسى أنّ فيه خمسمائة ألف دينار.
وتجرّد علىّ بن عيسى لحفظ الأموال وتقدّم ألّا يضيّع منها درهم واحد فى قضاء الذّمامات، وجمع أموال النواحي وأنفذ المستحثين إلى العمّال فاجتمعت له جملة أخرى.
وتنصّح إلى علىّ بن عيسى رجل من التجّار بأنّه وقف على خبر رجل(5/255)
شيرازى يتخبر للقرمطى ويكاتبه. فأنفذ معه جماعة فقبض عليه وحمل إلى دار السلطان وناظره علىّ بن عيسى بحضرة القاضي أبى عمر والقوّاد وقال:
- «أنا صاحب أبى طاهر وما صحبته إلّا على انّه على حقّ وأنت وصاحبك ومن يتبعكم كفّار مبطلون ولا بدّ لله فى أرضه من حجّة وإمام عدل وإمامنا المهدىّ فلان بن فلان بن إسماعيل بن جعفر الصادق وليس نحن مثل الرافضة الحمقى الذين يدعون إلى غائب منتظر.» فقال له علىّ بن عيسى:
- «اصدقنى عمّن يكاتب القرمطى من أهل بغداد والكوفة.» قال: «ولم أصدقك عن قوم مؤمنين حتّى أسلّمهم إلى قوم كافرين فيقتلونهم؟ [302] لا أفعل ذلك أبدا.» فأمر بصفعه بحضرته وضربه بالمقارع وقيّده وغلّه بغلّ ثقيل [1] وجعل فى فمه سلسلة وسلّمه إلى نازوك وحبسه فى المطبق فمات بعد ثمانية أيّام لأنّه امتنع من أن يأكل ويشرب حتّى مات وشغب الجند.
ودخلت سنة ستّ عشرة وثلاثمائة
ودخل مونس المظفّر بغداد من الأنبار ودخل بعد نصر وذلك يوم الخميس لثلاث خلون من المحرّم وكان الجند قد شغبوا بالأنبار لطلب الزيادة فى أرزاقهم فأقاموا ببغداد على مطالبتهم، فزيد كلّ واحد منهم دينارا وأنفق فيهم على الزيادة.
وورد الخبر بدخول أبى طاهر القرمطى الدالية من طريق الفرات فلم يجد فيها شيئا وقتل من أهلها جماعة ثمّ سار إلى الرحبة فدخلها بعد أن حارب
__________
[1] . ما فى الأصل غير واضح. فى مد: ثقيف. وفى مد: ثقيل، كما أثبتناه.(5/256)
أهلها ووضع السيف فيهم بعد أن ملكهم وندب مونس المظفّر للخروج إليهم بالرقّة، وكان أهل قرقيسيا وجّهوا إلى القرمطى يطلبون الأمان منهم ووعدهم بجميل. ثمّ أنفذ إليهم من نادى بقرقيسيا ألّا يظهر بها أحد بالنهار فلم يجسر أحد بها أن يظهر [303] فعبرت سريّة له إلى الأعراب على جسر عقده بالرحبة فأوقع بهم وقتل منهم مقتلة عظيمة وأخذ جمالهم وأغنامهم فرهبه الأعراب رهبة شديدة، وصاروا لا يسمعون بذكره إلّا تطايروا، وجعل عليهم أتاوة إلى هذه الأيام وهي من كلّ بيت دينار فى السنة. ثمّ أصعد من الرحبة إلى الرقّة.
وسار مونس المظفّر إلى الموصل ومنها إلى الرقّة فانصرف أبو طاهر عن الرقّة على طريق الفرات ووصل إلى الرحبة فحمل ما معه من الزاد وغيره فى زواريق وانحدر فى الماء وعلى الظهر ليعاود هيتا. وكان أهلها قد نصبوا على سورها عرّادات ومنجنيقات، فحاربوه وقتلوا من أصحابه، فانصرف عنها إلى ناحية الكوفة، وورد [1] الخبر بذلك فأخرج بنىّ بن نفيس وهارون بن غريب على مقدّمة نصر.
وجاءت خيل القرمطى ومعها ابن سنبر إلى قصر ابن هبيرة وعبروا الفرات بمخاضة فقتلوا جماعة من أهل القصر. فخرج نصر الحاجب ومعه القوّاد والرجّالة المصافيّة يريدون مواقعة أبى طاهر وحمّ نصر حمّى حادّة فلم يمنعه ذلك من المسير إلى سورا. ووافى [304] أبو طاهر إلى شاطئ سورا وقت المغرب، فلم يكن فى نصر نهوض للركوب لشدّة علّته، فاستخلف أحمد بن كيغلغ وأنفذ معه الجيش فانصرف القرمطى قبل أن يلقاه أحمد بن كيغلغ.
واشتدّت علّة نصر وجفّ لسانه من شدّة الحمّى فردّ إلى بغداد فى عمارية
__________
[1] . كذا فى الأصل ومط: وورد الخبر. وفى مد: وزاد الخبر.(5/257)
ومات فى الطريق. فخرج شفيع المقتدري برسالة المقتدر إلى الجيش الذي كان مع نصر بأنّه قد جعل الرئيس عليهم مكان نصر هارون ابن غريب فدخل هارون بن غريب مع الجيش بغداد.
ذكر الحال التي أدّت إلى صرف علىّ بن عيسى وتقليد أبى علىّ ابن مقلة
لمّا رأى علىّ بن عيسى اختلال النواحي فى أيّام وزارة الخاقاني والخصيبى ونقصان الارتفاع وزيادة النفقات وما لحق من زيادة الرجّالة بعد انصرافهم من الأنبار من حرب القرمطى وأنّ زيادتهم بلغت مائتي وأربعين ألف دينار فى السنة مضافة إلى النفقات المفرطة هاله ذلك واستعظمه ووجد رجال السلطان قد ضعفوا عن القرمطى وتبيّن انحراف نصر الحاجب عنه، وذلك لميل مونس إليه، استعفى [305] المقتدر من الوزارة فأمره بالصبر وقال له:
- «أنت عندي بمنزلة المعتضد بالله ولى عليك حقوق.» فواصل الاستعفاء فشاور المقتدر مونسا المظفّر وأعلمه أنّه قد سمّى له ثلاثة: الفضل بن جعفر ابن حنزابة فلم يشر به لأجل من قتل [1] من آل الفرات، وأبو علىّ ابن مقلة فلم يشر به لحداثته وقال:
- «لا يصلح للوزارة إلّا شيخ له ذكر وفيه فضل.» ، ومحمّد بن خلف النيرمانى فلم يشر به، وعرّفه أنّه جاهل لا يحسن [2] أن يتهجّى اسمه وأنّه متهوّر، وأشار بمداراة علىّ بن عيسى.
__________
[1] . قتل: الشكل من الأصل.
[2] . فى مط: لا يحس أن ينهى اسمه، بدل «لا يحسن أن يتهجّى اسمه» .(5/258)
ثمّ لقى مونس علىّ بن عيسى ورفق به وداراه فقال له علىّ بن عيسى:
- «لو كنت مقيما بالحضرة لاستعنت بك وعملت ولكنّك خارج إلى الرقّة.» وبلغ أبا علىّ ابن مقلة ذلك فجدّ فى السعى، وشاور المقتدر نصر الحاجب فى أمر الثلاثة فقال:
- «أمّا الفضل بن جعفر فلا يدفع عن صناعة ومحلّ ولكنّك بالأمس قتلت عمّه وبنو الفرات يدينون بالرفض، وأمّا ابن مقلة فلا هيبة له.» وأشار بمحمّد بن خلف لما كان بينهما ممّا ذكرناه فيما تقدّم. فنفر المقتدر منه لما عرفه من جهله وتهوّره، وواصل ابن مقلة [306] مداراة نصر الحاجب فأشار على المقتدر به وقال:
- «يقلّد، فإن قام بالأمر كما يجب وإلّا فالصرف العاجل بين يديه.» واضطرّ المقتدر إلى أن استوزر أبا علىّ بن مقلة.
وكان ما مال به المقتدر إلى أبى علىّ أنّ أبا طاهر القرمطى لمّا قرب من الأنبار تشوّف إلى علم خبره ولم يكن يكاتب بشيء من خبره غير الحسن بن إسماعيل الإسكافى عامل الأنبار. فلمّا عرف أبو علىّ ابن مقلة الصورة طلب أطيارا وأنفذها إلى الأنبار وكوتب عليها أخبار القرمطى وقتا بعد وقت فكان ينفذها إلى نصر لوقته ويعرضها نصر على المقتدر ووجد بذلك نصر السبيل إلى تقريظ [1] ابن مقلة وقال للمقتدر:
- «إن كان هذه مراعاته لأمورك ولا تعلّق له بخدمتك فكيف يكون إذا اصطنعته؟»
__________
[1] . فى مط: تفريط.(5/259)
ذكر القبض على علىّ بن عيسى وتقليد ابن مقلة
فلمّا كان يوم الثلاثاء للنصف من شهر ربيع الأوّل سنة ستّ عشرة وثلاثمائة أنفذ هارون ابن غريب للقبض على علىّ بن عيسى فصار هارون إلى دار علىّ بن عيسى ومعه أبو جعفر بن شيرزاد وكان أبو جعفر متعطّلا فى الوقت فوجّه بأبى جعفر إليه لأنّه [307] استحيا منه وعرّفه ما أمر فيه. فلمّا أدّى إليه الرسالة قال له:
- «أنا جالس متوقّع له.» وكان قد لبس علىّ بن عيسى خفّا وعمامة وطيلسانا وفى كمّه مصحف ومقراض وسأل هارون أن يصون حرمه وولده ففعل، وحمله مع أخيه أبى علىّ عبد الرحمن إلى دار السلطان فسلّم علىّ بن عيسى إلى زيدان القهرمانة واعتقل عبد الرحمن عند نصر فكانت وزارته هذه سنة واحدة وأربعة أشهر ويومين.
فلمّا كان فى آخر نهار يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر أحدر أبو علىّ ابن مقلة الحاجب فى دار السلطان ولم يصل إلى المقتدر وأقام عند نصر الحاجب فى دار السلطان. وجدّ محمّد بن خلف فى طلب الوزارة وضمن ثلاثمائة ألف دينار [1] معجّلة غير أموال النواحي. فقلق أبو علىّ ابن مقلة لذلك وحضر من غد دار السلطان ولم يصل أيضا.
واجتمعت الألسن على المقتدر بإمضاء أمره وبالذمّ لمحمّد بن خلف، فأمضاه وحضر يوم الخمسين للنصف من الشهر ووصل وخلع عليه وحمل
__________
[1] . كذا فى الأصل ومط: ثلاثمائة ألف دينار.(5/260)
إليه من دار السلطان طعام على رسم الوزراء إذا تقلّدوا.
وكان أبو الحسن [308] علىّ بن عيسى قبل صرفه عن الوزارة بعشرين يوما كتب إلى أبى عبد الله البريدي يأمره باستخراج ما كتب به ابن ما بنداذ [1] أنّه قد اجتمع فى بيت مال الأهواز من مال الأهواز وهو ألف ألف وخمسون ألف درهم وانضاف إلى ذلك ما حمله القاسم بن دينار من مال فارس وكرمان على الظهر وهو سبعمائة ألف درهم سوى ما حمله أبو على ابن رستم من مال إصبهان وهو أربعمائة وخمسون ألف درهم فيصير الجميع ألفى ألف ومائتي ألف درهم.
وكان فى أبى عبد الله البريدي حركة ورجلة يحتاج إليهما فى ذلك الوقت.
فكتب إلى ابن مابنداذ يطالبه بالمال فكتب بأنّ المال حاصل. وكان ابن مابنداذ بتستر، فوجّه إليه يستعجله ولم ينتظره واستحضر كاتبه فحمل فى الشذاءات ألفى ألف ومائتي ألف درهم، وكتب أنّه إن عادت الشذاءات حمل فيها باقى المال، فصرف علىّ بن عيسى قبل موافاة بقية المال.
وقد كنّا ذكرنا انحراف نصر الحاجب عن علىّ بن عيسى لميل مونس المظفّر إليه، فلمّا نكب علىّ بن عيسى ادّعى نصر الحاجب أنّه وجد رجلا يعرف بالجوهرى أقرّ أنّه صاحب القرمطى [309] وأنّه جعل سفيرا بينه وبين علىّ بن عيسى.
وحكى عنه أنّ علىّ بن عيسى كان يكاتب القرمطى على يده وجمع بينه وبين علىّ بن عيسى حتّى واجهه بذلك فقال له علىّ بن عيسى:
- «بهتني وما خلق الله لما يقوله أصلا.» وعاون أبو علىّ ابن مقلة نصرا الحاجب فى هذه القصّة إلى أن كاد يتمّ
__________
[1] . فى مط: مابيداذ.(5/261)
المكروه على علىّ بن عيسى وهمّ المقتدر أن يضربه بالسوط على باب العامّة بحضرة الفقهاء والقضاة وأصحاب الدواوين، فاحتالت السيّدة واستكشفت الحال فيما ادّعى عليه فوقفت على بطلانه وقررت ذلك فى نفس ابنها وأزالت ما كان أمره به فيه.
وأخذ أبو علىّ ابن مقلة خطوط العمّال والضمناء بنحو مائة ألف دينار وبلغ أبا عبد الله البريدي وهو بالأهواز تقلّد أبى على ابن مقلة الوزارة وكان بينهما مودّة فأنفذ إليه من وقته سفاتج بثلاثمائة ألف دينار من حمله الباقي بالأهواز بعد ما كان حمله.
وكان القاسم بن دينار وأحمد بن محمّد بن رستم قد حملا إلى علىّ بن عيسى سفاتج بستمائة ألف درهم، فوصلت بعد صرفه [1] فقبضها ابن مقلة فمشى أمر أبى علىّ ابن مقلة بهذه الاتفاقات. وكتب [310] أبو علىّ ابن مقلة كتابا برفع كلّ الجبايات [2] والمصادرات وسكّن من الناس لينبسطوا فى أعمالهم.
وفى هذه السنة وقعت حرب بين نازوك وهارون بن غريب خال ذكر السبب فى ذلك
كان السبب فى ذلك أنّ سوّاس هارون بن غريب وسوّاس نازوك تغايروا على غلام أمرد ووقع الشّر بينهم وأخذ نازوك سوّاس هارون بن غريب وأودعهم حبس الجرائم بعد أن ضربهم، فصار أصحاب هارون بن غريب إلى مجلس الشرطة ووثبوا على أبى الجود خليفة نازوك وانتزعوا أصحابهم من
__________
[1] . فى مط: صرفها.
[2] . الجبايات. كذا فى الأصل. وفى مط: الجبات. وفى مد: الجنايات.(5/262)
يده.
وركب نازوك إلى المقتدر وشكا إليه هذه الحال فلم يكن من المقتدر إنكار رضيه [1] نازوك فانصرف محفظا وجميع رجاله وجمع هارون ابن غريب رجاله وباتا جميعا مستعدين.
فلمّا أصبحوا زحف أصحاب نازوك إلى دار هارون بن غريب وأغلق هارون بابه دونهم وخارج الباب جماعة من غلمان هارون وأصحابه فقتل منهم قوم وفتح باب هارون حينئذ وخرج أصحابه واستحكمت الحرب بينهم واشتدّت. فوجّه نازوك إلى أصحابه بمن صرفهم، ثمّ ركب [311] الوزير أبو علىّ ومعه مفلح الأسود لتوسط القصّة، فبدأ بابن الخال وأدّى إليه رسالة المقتدر بالكفّ. ثمّ صار الى نازوك فأدّى إليه مثل ذلك فسكنت القصّة.
واستوحش نازوك وأقام فى داره وفيها غلمانه وأصحابه ورجاله وظهر فى ساقه توتة [2] وقلعها وجعلها سببا فى ترك الركوب وبعد ثلاثة أيّام صار إليه هارون بن غريب بدرّاعة فاصطلحا وأقام نازوك فى داره وصار هارون بن غريب إلى البستان النجمى فأقام فيه ليبعد عن نازوك وكثر الناس عليه وأرجفوا له بإمرة الأمراء فاشتدّ ذلك على أسباب مونس المظفّر وكتبوا به إليه وهو بالرقّة فأسرع الشخوص منها على طريق الموصل إلى بغداد ووصل إليها ولم ينحدر إلى المقتدر ولا لقيه وصاعد إليه الأمير أبو العبّاس والوزير أبو علىّ فسلّما عليه وانحدر نازوك.
ظهور الوحشة بين مونس والمقتدر
وأقام هارون بن غريب فى دار السلطان منابذا لمونس المظفّر ودخل أبو
__________
[1] . رضيه: فى الأصل غموض، وما أثبتناه يوافق مط ومد.
[2] . فى مط: قومه، بدل «توتة» .(5/263)
الهيجاء عبد الله بن حمدان من الجبل وصار إلى مونس المظفّر وما زالت المراسلات تتردد بين مونس والمقتدر. [312]
ودخلت سنة سبع عشرة وثلاثمائة
ذكر فتنة نازوك وأبى الهيجاء التي أدّت إلى خلع المقتدر وذكر قتلهما ورجوع المقتدر بالله إلى الخلافة
لمّا كان يوم السبت لثمان خلون من المحرّم خرج مونس المظفّر إلى الشمّاسيّة وخرج الجيش معه وركب نازوك من داره فى غلمانه وأصحابه فى السلاح. فلمّا وصل إلى الجسر وجده مقطوعا فأقام بمكانه إلى أن أصلح وعبر هو وأصحابه عليه وصاروا إلى مونس وخرج أبو الهيجاء ابن حمدان إليه وسائر القوّاد، ثمّ انتقلوا من باب الشمّاسيّة إلى المصلّى وشحن المقتدر داره بهارون بن غريب وأحمد بن كيغلغ والحجريّة والرجّالة المصافيّة. فلمّا كان آخر النهار انفضّ أكثر من كان فى دار السلطان وصاروا إلى مونس وصرف مونس نحرير الصغير عن الدينور وردّها إلى أبى الهيجاء مضافة إلى أعماله.
وراسل مونس المقتدر بأنّ الجيش عاتب منكر للسرف فيما يصير إلى الخدم والحرم من الأموال والضياع ولدخولهم فى الرأى والتدبير ويطالبون بإخراجهم من الدار [313] وإبعادهم وأخذ ما فى أيديهم.
فكتب المقتدر إلى مونس رقعة نسختها:
- «بسم الله الرحمن الرحيم، أمتعنى الله بك ولا أخلانى منك ولا(5/264)
أرانى سوء فيك. تأمّلت الحال التي خرج أولياؤنا [1] وصنائعنا وشيعتنا إليها وتمسّكوا بها وأقاموا عليها، فوجدتهم لم يريدوا [2] إلّا صيانة نفسي وولدي وإعزاز أمرى وملكي واجتلاب الخير والمنفعة من كلّ جهة وتطلبها بكلّ سبيل، بارك الله عليهم وأحسن إليهم وأعاننى على صالح ما أنويه فيهم.
- «وأمّا أنت يا أبا الحسن المظفّر- لا خلوت منك- فشيخى وكبيرى ومن لا أزول ولا أحول عن الميل إليه والتوفّر عليه والتحقق به والإيجاب له اعترض ما بيننا هذا الحادث أم لم يعترض. وانتقض الأمر الذي يجمعنا أم لم ينتقض، وأرجو ألّا تشكّ فى ذلك إذا صدقت نفسك وحاسبتها وأزلت الظنون السيّئة عنها أدام الله حراستها والقوّة بالله والذي خاض لأصحابنا فيه من أمر الخدم والحرم الذين يخرجون من الدار ويباعدون عنها وتسقط رسومهم فى الخدمة ويمنعون منها ويبرّءون من نعمهم ويحال بينهم وبينها إلى أن يفرجوا عمّا فى أيديهم من المال [314] والضياع ويردّوها إلى حقوقها قول إذا تبيّنوه حقّ تبيّنه وتصفّحوه كنه تصفّحه علموا أنّه قول جاف والبغي علىّ فيه غير مستتر ولا خاف.
- «ولإيثارى موافقتهم واتّباعى مسرّتهم ما أجبتهم إلى المتيسّر فى أمر هذه الطبقة خاصّة، فأتقدم بقبض بعض
__________
[1] . أولياؤنا: كذا فى الأصل. وفى مط: آباؤنا.
[2] . لم يريدوا: كذا فى الأصل. وفى مط: لم يدبّروا.(5/265)
إقطاعاتهم وحظر تسويغاتهم وبسط إيغاراتهم وإخراج من يجوز إخراجه من دارى ولا أطلق للباقين الدخول فى تدبيري ورأيى وأوعز بمكاتبة العمّال فى استيفاء [1] حقّ بيت المال فى ضياعهم الصحيحة الملك دون ما يقال إنّه قد لابسه [2] الريب والشكّ.
- «وأنظر بنفسي فى أمر الخاصّة والعامّة وأبلغ فى إنصافها والإحسان إليها الغاية، ولا أعتمد فى ذلك على وزير ولا سفير البتّة وانتصب لإثارة الأموال وجمعها ووضعها فى مواضعها وأحميها من كلّ ما يثلمها وينتقصها وأشمّر فى ذلك وأبلغ فى مناهضة الأعداء قربا وبعدا وهذا إنّما قعدت عنه اعتمادا عليكم وتفويضا إليكم وثقة بأنّكم شركائى وسهمائى والمخصوصون بخير أيّامى شرّها وحلوها ومرّها ولو علمت انّه يجعل ذلك ذنبا لى وجرما يتجنّى به علىّ لكنت أوّل شاخص إلى كلّ [315] تعب وأوّل مبادر نحوه من غير إبطاء عنه ولا ريث.
- «فأمّا أنتم فمعظم نعمكم منّى وما كنت لأغور عليكم فى شيء سمحت به لكم ورأيته فى وقته وأراه الآن زهيدا فى جنب استحقاقكم وأنا بتثميره أولى وبتوفيره أحرى والله المطّلع على جميل معتقدي للجماعة فيها والشاهد على محبّتى لإيصالها إلى أقصى أمانيها.
- «ونازوك، فلست أدرى من أىّ شيء عتب ولا لأيّة حال
__________
[1] . استيفاء: كذا فى الأصل. وفى مط: استيفاد.
[2] . لابسه: كذا فى الأصل. وفى مط. لا يشتبه.(5/266)
استوحش واضطرب لأنّى لم ألمه على محاربة هارون بن غريب الخال ولم أمنعه من الإنتصار منه والأخذ بثأره عنده ولا أمرت بمعاونة هارون عليه ولا قبضت يده عمّا كانت طويلة إليه منبسطة فيه متمكّنة منه ولا غيّرت له حالا ولا حزت له مالا ولا سمع منّى ولا بلغه عنّى ما يسوء موقعه وينفر منه والله يغفر لنا وله.
- «وعبد الله بن حمدان فالذي أحفظه صرفه عن الدينور وقد كان يتهيّأ إعادته إليها إن كان راغبا فيها فيسعف بمسألته وأن يستدعى تعويضه من الأعمال ما هو أعظم خطرا من الدينور فلا نقصر عن إرادته وما عندي له ولنازوك وللعصاة كلّها إلّا التجاوز والإبقاء والإغضاء وقبل هذا وبعده، فلي فى أعناقكم بيعة قد [316] وكّدتموها على أنفسكم دفعة بعد دفعة، ومن بايعنى فإنّما بايع الله ومن نكث إنّما نكث عهد الله.
- «ولى أيضا عليكم نعم وأياد وعندكم صنائع وعوارف آمل أن تعترفوا بها وتلتزموها ولا تكفروها وتشكروها وإن راجعتم الجميل وتلافيتم هذا الخطب الجليل وفرّقتم جموعكم ومزّقتموها وعدتم إلى منازلكم واستوطنتموها وأقبلتم على شئونكم وتشاغلتم بها وأجريتم فى الخدمة على عادتكم فلم تقصروا فيها كنتم بمنزلة من لم يبرح من موضعه ولم يأت بما يعود بتشعث [1] محله وموقعه وكنت الذي تعرفونه فى الثقة بكم والإيثار لكم والسكون إليكم
__________
[1] . بتشعّث: كذا فى الأصل. وفى مط: ويتشعّث.(5/267)
والاشتمال عليكم لكم بذلك عهد الله إن عهده كان مسئولا.
- «وإن أبيتم إلّا مكاشفة ومخالفة وإثارة فتنة وتجديد محنة فقد ولّيتكم ما تولّيتم وأغمدت سيفي منكم وتبرّأت إلى الله أن أمدّ باعى إلى أحد منكم ولجأت فى نصرى ومعونتى وكفايتي إلى الله عزّ وجلّ ولم أخرج من منزلي ولم أسلّم الحقّ الذي جعله الله لى إلّا كما خرج عثمان بن عفّان عن داره وكما سلّم حقّه لمّا خذله عامّة ثقاته وأنصاره وكان ذلك حجّة فيما بين الله عزّ وجلّ وبيني ومعذرة وسببا [317] بإذن الله لما أؤمّله من الفوز فى الدنيا والآخرة والله بصير بالعباد وللظالمين بالمرصاد وحسبي الله ونعم الوكيل.» ولمّا وصلت هذه الرقعة إلى مونس ووقف نازوك وأبو الهيجاء على ما تضمّنت عدلوا إلى مكاتبته بإخراج هارون بن غريب عن بغداد، فأجابهم إلى ذلك وقلّد هارون الثغور الشاميّة والجزريّة من يومه ومضى إلى قطربّل [1] فأقام بها.
ولمّا كان يوم الاثنين لعشر خلون من المحرّم دخل مونس المظفّر والجيش بغداد وعدلوا عن دار السلطان كراهية لمعرّة الجند وظهر عند الناس ظهورا بيّنا وأرجفوا إرجافا قويّا أنّ نازوك وأبا الهيجاء واقفا مونسا المظفّر على الاستبدال به ونصب غيره فى الخلافة.
فلمّا كان يوم الأربعاء لاثنى عشرة ليلة خلت من المحرّم خرج مونس
__________
[1] . قطربّل: قرية بين بغداد والمرزقة، وهي الآن خراب (مراصد الإطلاع) .(5/268)
إلى باب الشمّاسيّة دفعة ثانية وخرج معه أبو الهيجاء ونازوك وبنىّ بن نفيس وجميع القوّاد والجيش وزحفوا إلى دار السلطان.
ذكر الخبر عن خلع المقتدر بالله وتقليد القاهر بالله الخلافة
لمّا زحف القوم بأسرهم إلى دار السلطان هرب المظفّر بن ياقوت وسائر الحجّاب والحشم [318] والخدم والوزير أبو علىّ ابن مقلة منها ودخل مونس من باب الزاوية وحصل الجيش كلّه فى دار السلطان. فلمّا كان بعد عتمة بساعة أخرج المقتدر ووالدته وخالته وخواصّ جواريه من الدار وأصعد بهم إلى دار مونس المظفّر ودخل هارون بن غريب من قطربّل سرّا إلى بغداد واستتر بها.
ومضى أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان إلى دار ابن طاهر ليحدر منها محمّد بن المعتضد بالله فلم يفتح له كافور الموكّل بحفظ الدار وطالبه بعلامة من مونس، فلم تكن معه فانصرف، وأصعد ونازوك بعد أن أخذ العلامة وطرح فى طريقه النار فى دار هارون بن غريب وأحدر محمّد بن المعتضد ووصل إلى دار السلطان فى الثلث الأخير من ليلة السبت للنصف من المحرّم وسلّم عليه بالخلافة وبايعه مونس والقوّاد ولقّب القاهر بالله.
وزارة على بن مقلة
وأخرج مونس علىّ بن عيسى من الحبس فى دار السلطان وأطلقه إلى منزله وأحضر أبا علىّ ابن مقلة وقلّده وزارة القاهر بالله وقلّد نازوك الحجبة مضافة إلى ما إليه من الشرطة بمدينة السلام وأضاف إلى ما كان إلى أبى(5/269)
الهيجاء من أعمال طريق خراسان وحلوان والدينور وطريق [319] سرّ من رأى وبزرج سابور والراذانين ودقوقاء [1] وخانيجان والموصل أعمال المعاون بهمذان ونهاوند والصيمرة والسيروان وماسبذان ومهرجانقذق وأرزن.
ووقع النهب فى دار السلطان ومضى بنىّ بن نفيس إلى تربة السيدة بالرصافة فوجد لها هناك ستّمائة ألف دينار فحملها إلى دار السلطان. وخلع المقتدر بالله من الخلافة يوم السبت النصف من المحرّم وأشهد على نفسه بذلك القضاة وسلّم الكتاب بذلك إلى القاضي أبى عمر محمّد بن يوسف.
ذكر حزم استعمل وانتفع به
فحدّث أبو الحسين ابن أبى عمر أنّ أباه سلّم الكتاب إليه بالخلع وقال له:
- «يا بنىّ احفظه واستره ولا يراه أحد من خلق الله عندك.» قال: فقلت له:
- «وما الفائدة فى كتمانه وقد علم به الخلق؟» قال: فقال لى:
- «وما الفائدة فى إظهاره ومن أين تعلم ما يكون؟» قال: فامتثلت أمره. فلمّا أعيد المقتدر بالله إلى الخلافة بعد يومين أخذ القاضي أبو عمر ذلك الكتاب فسلّمه إلى المقتدر بالله من يده إلى يده وحلف له على أنّه [320] ما رآه أحد من خلق الله عنده غيره. فحسن موقع ذلك من المقتدر جدّا وشكره له وقلّده بعد مديدة قضاء القضاة.
قال: فقال لى:
- «يا بنىّ ما ضرّنا كتمان الكتاب وستره شيئا»
__________
[1] . دقوقاء (بالمدّ) بلدة بين أربل وبغداد (مراصد الإطلاع) .(5/270)
وانصرف الناس من دار السلطان يوم السبت ولمّا كان من غد وهو يوم الأحد جلس القاهر بالله وحضر الوزير أبو علىّ ابن مقلة ووصل إليه وأمره بالجلوس بين يديه وسكن النهب وكتب أبو علىّ ابن مقلة بخبر تقليد القاهر بالله الخلافة كتابا أنشأه إلى الولاة فى النواحي. وأمر نازوك الرجّالة المصافيّة بقلع خيمهم من دار السلطان وأقام رجّالته مكانهم فاضطربوا من ذلك ثمّ تقدّم إلى خلفاء الحجّاب والبوّابين ألّا يدخل الدار إلّا من كانت له مرتبة فاضطربت [1] الحجريّة من ذلك وتكلّموا وصار ذلك سببا لردّ المقتدر إلى الخلافة.
ذكر السبب فى ردّ المقتدر إلى الخلافة
فلمّا كان يوم الإثنين السابع عشر من المحرّم بكرّ الناس إلى دار السلطان لأنّه يوم موكب ودولة جديدة، فامتلأت الدهاليز والممرّات والرحاب وشاطئ دجلة [321] منهم وحضر الرجّالة المصافيّة بالسلاح يطالبون بالبيعة ورزق سنة ولم ينحدر مونس إلى دار السلطان ذلك اليوم وأقام فى منزله.
وارتفعت زعقات الرجّالة وسمعها نازوك وأشفق أن يجرى بين أصحابه وبينهم قتال، فتقدّم إلى غلمانه وأصحابه ألّا يعرضوا لهم. وزاد شغب الرجّالة وهجموا يريدون الصحن التسعينى فلم يمنعهم أحد لما كان نازوك تقدّم به إلى أصحابه ودخل منهم من كان على الشطّ من الروشن بالسلاح المشهور وقربت زعقاتهم من مجلس القاهر بالله وكان جالسا فى رواق التسعينى وبين يديه أبو علىّ ابن مقلة ونازوك وأبو الهيجاء، فوجّه نازوك ليخاطبهم وكان نازوك مخمورا كالسكران قد شرب طول ليلته، فلمّا برز إلى الروشن ونظر
__________
[1] . كذا فى الأصل: فاضطربت. وفى مط: فيضطرب.(5/271)
إليه الرجّالة أسرعوا نحوه فخافهم لأنّهم شهروا السلاح عليه، فولّى منهم وعدا وأطمعهم فى نفسه وعدوا خلفه وانتهى به الهرب منهم إلى باب كان هو سدّه أمس ذلك اليوم بالآجر والجصّ ولم يمكنه النفوذ ووصلوا إليه وقتلوه وقد كانوا قتلوا قبله [1] عجيبا وصاحوا:
- «مقتدر يا منصور.» فتهارب كلّ من فى الدار من الوزير والحجّاب والحشم وسائر الطبقات حتّى بقيت الدار خالية.
وصلب [322] الرجّالة نازوك وعجيبا على خشب الستارة التي على شاطئ دجلة [ثمّ صار [2] الرجّالة إلى] دار مونس يطالبون بالمقتدر بالله، وبادر الخدم فى دار السلطان فغلقوا أبوابا وكان جميعهم خدم المقتدر وحاشيته وصنائعه، وأراد أبو الهيجاء أن يخرج من الدار فتعلّق به القاهر وقال:
- «يا أبا الهيجاء تسلّمنى؟» فدخلت أبا الهيجاء الحميّة والأنفة، فرجع معه وقال:
- «والله لا أسلمتك.» وعاد فوجد الأبواب مغلقة فدخلا دار السلام وارتفعت ضجّة وتكبير.
فقال فائق وجه القصعة، لبعض الخدم الصغار الرسائليّة [3] :
- «أنظر ما هذه الضجّة؟» فمضى وعاد وقال:
- «قتل أبو الهيجاء.»
__________
[1] . قبله: كذا فى الأصل: وفى مط: قتله.
[2] . فى مط: وصار إلى مونس. بدل «ثم صار الرجّالة إلى دار مونس» . وما بين المعقوفتين من مد.
[3] . فى مط: رساطية.(5/272)
فقال له:
- «أنظر ويلك ما تقول.» فأعاد ذلك ثلاثا فقال أبو الهيجاء:
- «هو ذا أنا [1] ويلك.» فقال الخادم:
- «غلطت، قتل نازوك.» فقال القاهر لوجه القصعة:
- «افتح لى الباب لأخرج إلى الشطّ.» فقال: «إنّ وراءه أبوابا كثيرة يتعذّر منها الوصول إلى الشطّ، ولكن نفتحه على كلّ حال.» ففتح فأفضى بالقاهر المشي إلى درجة الدواليب المنصوبة على دجلة فوق موضع التاج فصعدها ويده فى يد أبى الهيجاء ابن حمدان، وأشرفا على دجلة، فرأيا الرجّالة فى السلاح من نهر المعلّى منتظمين متراصّين إلى التاج وإلى باب الخاصّة لا يحصيهم [323] العدد فنزل مبادرا فقال له أبو الهيجاء:
- «امض يا مولاي فو تربة حمدان لا فارقتك أو أقتل دونك.» ومضيا حتّى دخلا الفردوس وخرجا من باب الفردوس إلى الرحبة، فلقيا غلاما لمقبل الخادم راكبا فلمّا رآهما ترجّل وقالا له:
- «من أين جئت؟» قال:- «من باب النوبى [2] .» فنزع أبو الهيجاء سواده ومنطقته ودفعها إلى الغلام وقال له:
- «أعطنى جبّتك.»
__________
[1] . فى الأصل غموض. وفى مط: أنا.
[2] . كذا فى الأصل: النوبى. وفى مط: النونى.(5/273)
وكانت عليه جبّة صوف مصرى فأعطاه إيّاها فلبسها وركب دابّة الغلام وترك القاهر مع الخدم وقال:
- «يا مولاي قف بمكانك حتّى أعود إليك.» فلم يطل أبو الهيجاء حتّى عاد فقال له القاهر:
- «ما وراءك؟» فقال: «صرت إلى باب النوبى [1] فلقيني جعفر البوّاب فقلت له:
- «افتح الباب.» فقال: «لا يمكنني لأنّ وراءه من الرجّالة والجيش من لا يحصى لأنّه قد جيء برأس نازوك إلى ها هنا.» ثمّ قال للقاهر:
- «هذا أمر من السماء فعد بنا.» ودخلا الفردوس فجالا فيه ثمّ خرجا إلى القرب من القلّاية ثمّ دخلا الصحن الحسنى الصغير ثمّ دخلا إلى دار الأترجّة وخفّ من معهما من الخدم وتأخّر هناك فائق وجه القصعة وقال لمن وقف بوقوفه من الخدم:
- «ادخلوا إليهما فافرغوا من عدوّ مولاكم.» فدخل نحو عشرة منهم بعضهم بقسىّ وبعضهم [324] بدبابيس. فلمّا رآهم أبو الهيجاء صاح بهم وجرّد سيفه ونزع الجبّة الصوف التي كانت عليه، فلفّها على يده وأسرع نحوهم فانجفلوا من بين يديه ودهشوا وسقط بعضهم فى البركة وغشيهم فرموه ضرورة، فرجع ودخل بيت ساج فى بستان دار الأترجّة. فلمّا حصل فى البيت خرج من كان فى البركة من الخدم وصاروا إلى قرب البيت وأحسّ بهم فخرج إليهم بسيفه فولّوا بين يديه إلى جانب من
__________
[1] . فى مط: النونى.(5/274)
الصحن وفتحوا بابا من زاوية هذا الصحن فدخل منه خمارجويه [1] أحد أكابر الغلمان بسيفين ودرقتين وأقبل على الخدم وقال لهم:
- «أين هو يا أصحابنا؟» فقالوا:
- «هو فى البيت الساج.» فقال لهم:
- «تحرّشوا به حتّى يخرج.» فشتموه فخرج كالجمل الهائج وقال:
- «يا آل تغلب أأقتل بين الحيطان، أين الكميت أين الدهماء؟» فرماه خمارجويه بسهم أصابه تحت ثديه وأتبعه بسهم آخر فأصاب ترقوته ورماه بسهم ثالث وقد اضطرب فشكّ فخذيه.
قال بشرى وهو الحاكي لهذه الصورة عن مشاهدة: فقد رأيت أبا الهيجاء وقد ضرب السهم الذي [325] شكّ فخذيه فقطعه وجذب السهم الذي أصابه تحت ثديه فانتزعه ورمى به ومضى نحو البيت فسقط قبل أن يصل إليه على وجهه فأسرع إليه أحد الأسودين فضرب يده اليمنى فقطعها وفيها السيف وأخذ السيف وغشيه الأسود الآخر فحزّ رأسه فأسرع بعض الخدم فأنتزع الرأس من يد الأسود ومضى مبادرا به.
وكان الرجّالة لما انتهوا إلى دار مونس وسمع زعقاتهم قال:
- «ما الذي يريدون؟» فقيل له:
- «يريدون المقتدر بالله.»
__________
[1] . خمارجويه: كذا فى الأصل. وفى مط: كمارحوته.(5/275)
فقال: «سلّموه إليهم.» فلمّا قيل للمقتدر:
- «امض معهم إلى الدار حتّى تعود إلى أمرك.» خاف أن يكون حيلة عليه فامتنع فحمل حملا على رقاب الرجال من دار مونس إلى الطيّار ومن الطيّار إلى درجة الصحن التسعينى فحين وضع رجله فى الدار صار إلى دار زيدان القهرمانة وقال:
- «ما فعل أبو الهيجاء؟» فقيل: «هو فى دار الأترجّة.» فدعا بدواة فأبطأ بها الغلمان ولم يزل يطلبها حتّى جاءوه بها فكتب له أمانا بخطّه ودفعها إلى بعض الخدم وقال:
- «ويلك بادر به لئلّا يحدث عليه حادثة.» فلقى الخادم الخادم الذي معه الرأس فعاد معه فلمّا رآه قال له:
- «ويحك [326] ما وراءك؟» قال: «عمر الله أمير المؤمنين.» فقال: «ويلك من قتله؟» فغمزه مفلح الأسود فقال:
- «لا أدرى من قتله ولا يعرف قاتله فإنّ أخلاط الرجّالة قاتلوه.» قال: «فإنّا لله.» وأقبل يكرّرها وقال:
- «ما كان يدخل إلىّ فى هذه الأيام وأنا فى دار مونس من يسلّينى [1] ويظهر لى الغمّ حتّى كأنّه بعض أهلى سواه. هذا إلى ما له ولأهله من
__________
[1] . يسلّينى ... : والعبارة فى مط: يسلمني ويظهر لى العمر.(5/276)
الحقوق.» وظهر فيه من الكآبة أمر عظيم.
فبينا هو كذلك إذ ارتفعت ضجّة فشغل عن أمر أبى الهيجاء وقال:
- «ما هذا؟» فجاءه خادم يعدو وقال:
- «محمّد» - يعنى القاهر بالله.
وقد أخذ وجيء به.
فأحضر القاهر بالله فأجلسه بين يديه واستدناه ثمّ جذبه إليه وقبّل جبينه وقال له:
- «يا أخى أنت لا ذنب لك وقد علمت أنّك قهرت.» والقاهر بارك يقول: «نفسي نفسي الله الله يا أمير المؤمنين.» فلمّا كرّر ذلك قال له:
- «وحقّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا جرى [1] عليك سوء منّى أبدا ولا وصل أحد إلى مكروهك وأنا حىّ، ولأحرصنّ على انصرافك إلى منزلك من دار ابن طاهر فى هذه الليلة، فطب نفسا ولا تجزع.» وأخرج رأس نازوك ورأس أبى الهيجاء وشهرا [327] فى الشوارع ونودى عليهما:
- «هذا جزاء من عصى مولاه وكفر نعمته.»
سكون الهيج ورجوع الخلافة إلى المقتدر
وسكن الهيج وعاد أبو علىّ ابن مقلة إلى وزارته وكتب عن المقتدر بالله
__________
[1] . فى مط: لا اجرى.(5/277)
برجوع الخلافة إليه وتجديد البيعة له إلى الولاة فى النواحي.
ولمّا تمكّن المقتدر من دار الخلافة وأقرّ أبا علىّ ابن مقلة على وزارته أطلق للجند البيعة. أمّا للرجّالة فستّ نوائب وزيادة دينار لكلّ راجل، وأمّا الفرسان فثلث رزق وزيادة ثلاثة دنانير لكلّ فارس. ولمّا نفذت الأموال فى ذلك أخرج ما فى الخزائن من الكسوة وغيرها فباع ذلك ثمّ أطلق لهم بها العهد بالأشرية [1] على وكيل نصبه المقتدر وهو علىّ بن العبّاس النوبختي وأشهد على نفسه بتوكيله إيّاه فى البيع، وشرط للمبتاعين فى كتب الأشرية أن يحملوا فى حقّ بيت المال فيما اشتروه على معاملة القطائع المعشورة، ثمّ بيع منهم بالصلة فضل ما بين المعاملتين فى أملاك الرعيّة وهو فضل ما بين الأستان [2] والقطيعة ووقعت لهم الشهادة بذلك على علىّ بن العبّاس وحسبت عليهم الضياع والأملاك بأرخص الأثمان.
فحكى ثابت بن سنان أنّه حضر مجلس [328] الوزير أبى علىّ ابن مقلة ولم يكن له شغل غير التوقيع للجند ببيع الضياع وفضل ما بين المعاملتين بالصلة ولا كان لأصحاب الدواوين عمل غير إخراج العبر لما يباع. وكان الناس مجتمعين عليه وهو يوقّع إذ استؤذن لعلىّ بن عيسى عليه فأذن له، فلمّا رآه قام له قياما تامّا وأجلسه معه على دسته وأقبل عليه وترك ما كان فيه، فلمّا سأله عن خبره رأى الناس منكبّين عليه فقال له:
- «يشتغل الوزير أيّده الله بشغله.» وأقبل أبو على ابن مقلة على الناس يوقّع لهم، فلمح علىّ بن عيسى خرجا قد أخرج بعبرة ضياع جبريل والد بختيشوع فوجد الثمن بالإضافة إلى ما اشترى نزرا يسيرا فقال:
__________
[1] . فى مط: بالأشربة.
[2] . فى الأصل: الأستار. وفى مط ومد: الاستان.(5/278)
- «لا إله إلّا الله، بلغ الأمر إلى هذا؟» فترك ابن مقلة ما كان فى يده وأقبل عليه فقال:
- «حدّثنى شيخنا أبو القاسم رحمه الله- يعنى عيسى بن داود- أنّ المتوكّل على الله لمّا غضب على بختيشوع المتطبّب أنفذ إلى داره لإحصاء ما فى خزائنه فوجد فى خزانة كسوته رقعة فيها ثبت ما اشتراه من الضياع وهو ببضعة عشر آلاف ألف درهم فقد آل أمرها إلى أن تباع بهذا القدر النزر، فعجبا جميعا من ذلك وعاد ابن مقلة إلى شغله وقام علىّ بن عيسى لينصرف [329] فقام له الوزير أبو علىّ كما قام لدخوله.
وفى هذه السنة خلع على أبى على ابن مقلة وكنّى وكتب إلى جميع النواحي.
وفيها قلّد أبو عمر قضاء القضاة وكتب عهده.
وفيها أوقع القرمطى بالحاجّ فى البيت الحرام بمكّة وقتل أميرها.
ذكر الخبر عن إيقاع القرمطى بالحاجّ وتخريبه مكّة
كان منصور الديلمي بذرق بالحاجّ فى هذه السنة فسلموا فى طريقهم فلمّا وصلوا إلى مكّة وافاهم أبو طاهر الهجري إلى مكّة يوم التروية فقتل الحاجّ فى المسجد الحرام وفى فجاج [1] مكّة وفى البيت قتلا ذريعا، وقلع الحجر الأسود، وقتل ابن محلب [2] أمير مكّة وعرّى البيت وقلع الباب وأصعد رجلا من أصحابه ليقلع المرزاب فتردّى الرجل على رأسه ومات، وأخذ أموال
__________
[1] . فى مط: ومن يحاج. بدل «وفى فجاج» .
[2] . كذا فى الأصل ومط: محلب. فى مد: مجلب.(5/279)
الناس وطرح القتلى فى بئر زمزم ودفن باقيهم فى مصارعهم فى المسجد الحرام وغيره من غير أن يصلّى عليهم، وأخذ أسلاب أهل مكّة وانصرف إلى بلده وحمل معه الحجر الأسود.
وفيها قلّد ابنا رائق شرطة بغداد مكان نازوك.
ودخلت سنة ثماني عشرة وثلاثمائة [330]
وشغّب الفرسان وتهدّدوا بأمور عظيمة، فأحضر المقتدر قوّادهم وخاطبهم بجميل ووعدهم بإطلاق أرزاقهم فى الشهر الجديد، فانصرفوا وسكنوا، وشغّب الرجّالة فأطلقت أرزاقهم.
وفى شوّال منها خلع المقتدر على الأمير هارون ابنه وركب معه الوزير والجيش وكانت ولاية فارس وكرمان وسجستان ومكران إليه.
وفى ذى القعدة منها خلع المقتدر على ابنه الأمير أبى العبّاس وركب معه الوزير، مونس المظفّر وجميع الجند وكان مرسوما بولاية المغرب ومونس يخلفه عليه.
وفيها صرف ابنا رائق عن الشرطة وقلّدها أبو بكر محمّد بن ياقوت.
وفى هذه السنة كان هلاك الرجّالة المصافيّة. ذكر السبب فى هلاكهم
كان قد عظم الأمر فى تسحّب [1] الرجّالة المصافيّة وأدلوا بأنّهم كانوا
__________
[1] . فى مط: تشحب.(5/280)
السبب فى ردّ المقتدر إلى الخلافة بعد ما خلع وثقل مالهم واحتدّت مطالبتهم وكثر شغبهم وزاد تعدّيهم وبلغ ما لهم فى كلّ شهر من شهور الأهلّة مائة وثلاثين ألف دينار. فاتّفق أن شغّب الفرسان وطالبوا بأرزاقهم وناوشهم [1] الرجّالة فقتل منهم جماعة واحتجّ [331] السلطان على الفرسان بأنّ المال منصرف إلى الرجّالة، فحاربوهم حتّى طردوهم من دار السلطان، وركب محمّد بن ياقوت فنادى فيهم ألّا يقيموا ببغداد وكان من وجد منهم بعد النداء قبض عليه وأودع حبس الجرائم.
وهدمت دور عرفاء الرجّالة وركب فى ذلك ابن ياقوت وجدّد النداء فيهم ثمّ ظفر بنفر منهم فضربوا وشهّروا وقبضت أملاك الرجّالة المصافيّة وهدمت دورهم.
ثمّ هاج السودان بباب عمّار فركب محمّد بن ياقوت والقوّاد الحجريّة فأوقعوا بهم وضربوا الصقع بالنار. وكانت لأبى سعيد بن حمدان فيهم نكاية مشهورة وهربوا متفرّقين ثمّ اجتمع منهم جماعة من البيضان من رجّالة المصافيّة وغيرهم فكثر عددهم وانحدروا إلى واسط ورأّسوا على أنفسهم رجلا من الفرسان يعرف بنصر الساجي وطردوا عمّال السلطان بواسط، فانحدر إليهم مونس وأوقع بهم بواسط وقتلهم فلم يرتفع لهم راية بعد ذلك.
وفيها قبض على الوزير أبى علىّ ابن مقلة ذكر السبب فى القبض عليه
كان المقتدر متّهما لابن مقلة لممايلة [332] مونس المظفّر وكان مستوحشا من مونس يظهر له الجميل، وانحرف عنه ياقوت لميل مونس
__________
[1] . فى مط: وناق سهم. بدل «وناوشهم» .(5/281)
إليه. واتفق أن خرج مونس المظفّر إلى أوانا [1] متنزّها وانحدر أبو علىّ ابن مقلة إلى دار السلطان فتغنّم المقتدر بالله فيه غيبة مونس فقبض عليه. وكان محمّد بن ياقوت معاديا له، فلمّا قبض عليه أنفذ إلى داره بالليل من أحرقها [2] .
وكان المقتدر قد عمل على أن يستوزر الحسين بن القاسم بن عبيد الله فرحل مونس من أوانا ودخل بغداد وراسل المقتدر بالله بكراهته للحسين ابن القاسم وسأله ردّ أبى علىّ ابن مقلة، فاغتاظ المقتدر وعزم على قتل ابن مقلة. وكان السفير علىّ بن عيسى. فكان يداريه إلى ان سكّنه وقال:
- «ما ذنب وزيرك فى شفاعة مونس له؟» ولم يزل به حتّى انصرف عن رأيه.
وكان المقتدر من محبته لأن يستوزر [3] الحسين بن القاسم، استحضره وبيّته عنده وخلع عليه ووعده أن يصل فى غد تلك الليلة بحضرة الناس ويخلع عليه الوزارة. فلمّا اتصل ذلك بمونس غلظ عليه أن يتفرّد المقتدر بهذا التدبير ولا يشاوره فيه وقد كان طعن عليه قديما وقال:
- «لا يصلح للوزارة.» فترددت الرسائل بينه وبين [333] المقتدر على لسان علىّ بن عيسى، فاستشار المقتدر علىّ بن عيسى. فأشار بردّ أبى علىّ ابن مقلة موافقة لمونس وذلك بعد أن سأله أن يتقلّدها هو فامتنع فقال المقتدر:
- «هذا غير ممكن، فاذكر سواه.» فذكر سليمان بن الحسن وأشار به أو عبد الرحمن بن عيسى. فمال
__________
[1] . أوانا: بليدة من دجيل بينها وبين بغداد عشرة فراسخ (مراصد الإطلاع) .
[2] . فى مط: احرافها.
[3] . فى مط: لا يستوزر، بدل «لأن يستوزر» .(5/282)
المقتدر إلى سليمان لما كان قدّمه من الطعن على ابن مقلة وما ظهر من عداوته له، فأمره بإحضاره وانصرف الحسين بن القاسم من دار السلطان واستتر.
وكانت مدّة وزارة أبى علىّ محمّد ابن علىّ ابن مقلة سنتين وأربعة أشهر.
ذكر ما جرى فى أمر الوزارة بعد أبى علىّ وتقلّد سليمان بن الحسن لها
أحضر سليمان بن الحسن يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى دار السلطان ولم يوصله المقتدر بالله إليه فى ذلك اليوم وعاد من غد وهو يوم الخميس فوصل وخلع عليه. وتقدّم المقتدر إلى علىّ بن عيسى بالإشراف على سائر الأمور من الأعمال والدواوين وبمعاضدة سليمان وألّا يتراخى فى ذلك فصار يصل مع سليمان إلى المقتدر ولا يقلّد سليمان أحدا ولا يصرفه ولا يعمل شيئا إلّا بموافقة علىّ بن عيسى. [334]
وفيها قبض على البريديين وصودروا ذكر الخبر عن ذلك
حكى أبو الفرج ابن أبى هشام قال: كان أبى يكتب لأحمد بن نصر القشوري وكان أحمد يطمع أن يجعل مكان أبيه نصر ويستحجب. قال:
فبينا [1] نحن بين يدي أحمد بن نصر بالأهواز- وكان يتولّى أعمال المعاون بها- إذ ورد عليه توقيع من المقتدر بالله بخطّه مع ركابىّ يعرفه سرّا يقول فيه:
__________
[1] . كذا فى الأصل ومط: فبينا. وفى مد: فبينما.(5/283)
- «يا أحمد قد عرفت ذنبك الذي جنيته وحرمت به نفسك رأيى، وقد تيسّر لك تلافيه بامتثال أمرى فيما أضمّنه توقيعى هذا، اقبض على البريديين الثلاثة وحصّلهم فى دارك، وإيّاك أن تفرج عنهم إلّا بتوقيع يرد عليك بخطّ كهذا الخطّ الذي فى هذا التوقيع وثق منّى بالعود لك إذا فعلت ذلك إلى ما يرفع منك ويصلح حالك ويعيد منزلتك.» قال: فأقرأنى أحمد بن نصر هذا التوقيع وسجد شكرا لله على ثقة المقتدر به وعبر فى الوقت إلى دار أبى عبد الله وأنفذ حاجبه أبا يعقوب إلى دار أبى يوسف وأنفذ أحمد بن مقبل إلى دار أبى الحسين فوجدوهم قد خرجوا قبل ركوبه بلحظة وركبوا طيّاراتهم. وكان الخبر قد سبق إليهم فأظهروا أنّهم يريدون مسجد [335] الرضا المتصل بالشاذروان بالأهواز فاتبعهم وعرف أنّهم ساروا إلى البصرة، فقامت قيامته من ذلك.
وأنفذ أبا يعقوب والغلمان وراءهم، فاتّفق أن عصفت الريح على البريديين فمنعتهم عن السير ولحقهم الطلب فأخذوا.
وبذل أبو عبد الله لأبى يعقوب خمسين ألف دينار على أن يفرج عنهم فما أجابه، ثمّ سأله أن يفرج عن أحد أخويه ويقبل منه عشرين ألف دينار فأبى، وردّهم وحصلوا فى دار أحمد بن نصر ولم تمض خمسة أيّام حتّى ارتفعت ضجّة. فقال لى أحمد بن نصر:
- «اخرج فاعرف ما سبب هذه الضجّة.» قال: وكان سلّم إليهم داره الشطيّة واعتزل فى حجرة، فخرجت مبادرا فرءانى أبو عبد اله فقال:
- «قل له وبشّره أنّ الفرج قد أتى وأنّ هذا كتاب الوزير بالإطلاق وإقرارى وأن أنظر فى الأعمال.» وأعطانى الكتاب وبادرت به إلى أحمد بن نصر فقرأه وخرج إليه وإلى(5/284)
أخويه وقال:
- «هذه نعمة يلزمني فيها الشرك والصدقة والوفاء بالنذر ولكن هذا خطّ أمير المؤمنين إلىّ بما رسمه وأريد خطّا مثله بما ينقضه.» فتغيّرت وجوه الأخوة من ذلك واضطربوا حتّى ظهر على وجوههم ما فى قلوبهم ثمّ أخذوا فى مداراته ومسألته الرفق. [336] فلمّا كان من الغد شغّب الرجّالة بالأهواز تعصّبا لهم وقالوا:
- «لا بدّ من إطلاقهم.» وحملوا السلاح وكان مع أحمد بن نصر طوائف من البصريّة وعدّة كثيرة من السودان والغلمان والحجريّة فجمعهم ثمّ حلف بالطلاق أنّه إن هجم على داره أحد منهم قتلهم وأخذ رؤوس الثلاثة وحملها إلى الخليفة. وقال:
- «هذا كتاب مزوّر وإلّا فلم لا يقع [1] تثبّت وإنّما ضرّبتم علىّ الرجّالة وراسلتموهم فى حمل السلاح وأخذكم من منزلي لئلّا [2] يظهر ما زوّرتموه وتتعجّلون الخروج والهرب.» فلمّا رأوا المصدوقة اعتذروا ووضعوا جنوبهم له وأرسلوا الرجّالة فى الانصراف بعد أن حلفوا أنّهم تبرّعوا بالتعصّب لهم وأقاموا بمكانهم.
ووافى بعد عشرة أيّام ابن موسى دانجو بتوقيع مثل ذلك التوقيع وذلك الخطّ فتسلّمهم وحملهم وعلم أنّهم كانوا زوّروا واحتالوا وتأكّدت الوحشة بينهم وبين أحمد بن نصر القشوري ولم يزالوا عليها حتّى فرّق بينهم الدهر.
ولمّا ورد البريدون الحضرة نوظروا على المصادرة فقال أبو زكريا يحيى بن سعيد السوسي وكان فى الوقت عدوّا لهم:
- «بكرت إلى أبى جعفر محمّد بن القاسم الكرخي وقلت له: الأهواز
__________
[1] . فى مط: لا يقلع، بدل «لا يقع» .
[2] . فى مط: ليلا.(5/285)
[337] خطّة القاسم أبيك وهي دارك ودار أخيك وأنتم تتصرّفون فيها منذ ستين سنة فلم تركتموها لهؤلاء الفعلة الصنعة [1] وهلّا سعيت على سحقهم وسحبهم حتّى لا يبقى لهم جناح يطيرون به؟» فقال: «يا أبا زكريا ما الذي تقدّره فى مصادرتهم التي تؤدّيهم إلى هذه الحال؟» فقلت معظما [2] : «ثلاثمائة ألف دينار يزهق الله به نفوسهم.» فقال لى:
- «يا أخ قم بنا حتّى نعبر إلى دار الوزير.» وكان يومئذ أبو القاسم سليمان بن الحسن. فخرجت معه فنزلنا الطيّار فلمّا وصلنا وتوسّطنا الدار وجدنا أبا القاسم الكلوذانى فى جانب منها والبريديّين بين يديه والكتّاب. فقال لى أبو جعفر:
- «ترى أن نقضي حقّه ونعرّج عليه ونعرف الصورة من أمرهم فنبنى ما نخاطب الوزير به بحسبه [3] ؟» فقلت: «صواب.» فعدلنا إلى أبى القاسم وجلسنا عنده فقال لأبى جعفر:
- «قد فصلنا أمر أصحابنا وأنت وجه الحضرة وتاجها وحرّها وهم إخوتك وما أحقّك بمعونتهم؟» فقال: «إنّ أيسر ما يكون لهم أيّدهم الله مشاركتهم فى المحنة فأمّا المعونة فما أقنع من نفسي بها فعلام انفصل أمرهم؟» فقال: «على تسعة آلاف ألف درهم.»
__________
[1] . فى مط: الفعل الصنيعة، بدل «الفعلة الصنعة» .
[2] . فى مط: فقلت معظما: ...
[3] . به بحسبه: كذا فى الأصل. وفى مط: فحسب.(5/286)
قال أبو زكريا: [338] فنظر إلىّ أبو جعفر وقد بهت. ونهضنا فقال:
- «يا أبا زكريا هذا خلاف ما كان عندك.» فقلت: «هذا الأمر يراد والله ما يملكون هذا المال فإنّى أعرف بمكاسبهم ولكن لأبى [1] عبد الله نفس أبيّة وهمة عليّة فعرفت نفسه على سلطانه فأعطاه أكثر ممّا أطمع فيه وممّا سعى به أعداؤه متربّصا بالأيّام والأوقات ومتوقّعا الدوائر وإن يسمع الخليفة التزامه هذا المال الجليل فيستكثر قدره ويرغب فى تجديد الصنيعة عنده وما كلّ أحد يغرّر هذا التغرير وما هذا آخر أمره وسيكون له شأن عظيم كفافا الله شرّه.» قال أبو زكريا: وعدلت مذ ذلك اليوم إلى مداراته وخدمته واستصلاحه.
مناظرة أبى على بن مقلة
وتقدّم المقتدر بالله إلى سليمان بن الحسن وأبى الحسن علىّ بن عيسى بمناظرة أبى علىّ ابن مقلة فاختارا لذلك أحمد بن محمّد بن صالح العكبري وأنفذه إلى دار السلطان فناظره ولم يزد على توبيخه ومواقفته على قبيح آثاره.
فالتمس أبو علىّ ابن مقلة أن يكون المناظر له علىّ بن عيسى. فاجتمع الوزير سليمان وعلىّ بن عيسى على مناظرته فى دار الحجبة بحضرة ياقوت الحاجب، فاغلظ له سليمان فى الخطاب [339] والتخطئة والاحتقار ونسبه إلى التضريب بين السلطان وأوليائه إلى أن قرّر علىّ بن عيسى أمره على مائتي ألف دينار على جمل [2] ، يعجّل منه النصف ويؤدّى الباقي فى نجوم المصادرات، وكانت تلك النجوم إنّما هي رسم لا يطالب من يؤخذ خطّه بها.
__________
[1] . فى مط: أبا، بدل «لأبى» .
[2] . جمل: وفى الأصل: جميل، والكلمة ساقطة من مط، فأثبتناها كما أثبتت فى مد.(5/287)
فكتب مونس المظفّر إلى المقتدر يشفع لابن مقلة ويسأله أن يعفيه من المصادرة وأن يكون معتقلا فى يد مرشد الخادم فأجابه إلى ذلك.
ودخلت سنة تسع عشرة وثلاثمائة
وفى هذه السنة استوحش مونس المظفّر زيادة استيحاش. ذكر السبب فى استيحاش مونس وخروجه
كان محمّد بن ياقوت منحرفا عن سليمان ومائلا إلى الحسين بن القاسم ومونس المظفّر، وأسبابه [1] يميلون إلى سليمان لمكان علىّ بن عيسى وثقتهم به وينحرفون عن الحسين بن القاسم. وقوى أمر محمد بن ياقوت وقلّد مع الشرطة الحسبة [ببغداد] [2] واستضمّ رجالا وقويت بهم شوكته فشقّ ذلك على مونس وسأل المقتدر صرفه عن [340] الحسبة وتقليد ابن بطحاء ففعل ذلك.
وتقدّم مونس إلى أصحابه بالاجتماع إليه، فلمّا فعل ذلك جمع ياقوت وابنه الرجال فى دار السلطان وفى دار محمّد بن ياقوت. وقيل لمونس إنّ محمّد بن ياقوت قد عمل على كبس داره بالليل وما فارقه أصحابه حتّى أخرجوه إلى باب الشمّاسيّة وخرجوا معه وصار إليه علىّ بن عيسى فعرّفه خطأ هذا الرأى وأشار عليه بأن يعود إلى داره فلم يقبل منه وأقام على أمره.
وطالب بصرف محمّد بن ياقوت عن الحسبة والشرطة وياقوت عن الحجبة وإبعادهما عن الحضرة، فوجّه المقتدر قاضى القضاة أبا عمر وابنه الحسن وابن أبى الشوارب وجماعة من شيوخ الهاشميين أصحاب المراتب
__________
[1] . وفى مط: اشبابه.
[2] . الزيادة من مط.(5/288)
إلى مونس برسالة يرفق فيها ويسأله الرجوع إلى داره، فقال قاضى القضاة:
- «الوجه أن يكتب رقعة بما حمّلناه من الرسالة نرجع إليها ونثنى الكلام على معانيها، فإنّا جماعة والقول يختلف والنسيان غير مأمون.» فقال الوزير:
- «وما معنى هذا؟» فقال علىّ بن عيسى:
- «هذا هو الصواب.» وكتب بذلك رقعة.
وقعد الوزير وعلىّ بن عيسى فى دار السلطان ينتظران عود الجماعة، فعادوا وذكروا أنّهم [341] لم يصلوا إلى مونس وأنّهم أجلسوا فى الحديدى وراسلهم مونس فى إعلامه بما وردوا فيه فذكروه له فصار إليهم كتّابه يخاطبونهم خطابا جميلا عنه.
فبينا [1] هم كذلك إذا هجم الجيش على الحديدى فكادوا يغرقونه وقالوا:
- «لا نرضى إلّا بإخراج ياقوت وابنيه.» وتكلّموا بكلام قبيح فراح فى آخر النهار الوزير سليمان بن الحسن وعلىّ بن عيسى ومن معهما من الخدم الخاصّة إلى باب الشمّاسيّة فشافهوا مونسا بالرسالة فلم يبعد [2] عليهم وخرجوا من عنده فقبض عليهم عند مغيب الشمس وحبسهم فى الحديدى.
فخرج ياقوت فى تلك الليلة ونزل المدائن ومعه ابناه فلمّا كان من غد ذلك اليوم وعرفت المونسيّة انّ ياقوتا وابنيه قد خرجوا عن الحضرة أفرجوا
__________
[1] . فبينا: كذا فى الأصل ومط: فبينا. والمثبت فى مد: فبينما، وكلاهما صحيح، إلّا أنّ للترجيح ليس من مرجّح.
[2] . كذا فى الأصل ومط ومد: فلم يبعد. وفى حاشية مد: لعله «لم يعتد» .(5/289)
عن الوزير والجماعة وانصرفوا إلى منازلهم.
وقلّد المقتدر ياقوتا أعمال الخراج والمعاون بفارس وكرمان وكتب إلى أبى طاهر محمّد بن عبد الصمد بالانضمام إليه وانضمّ إليه وخاطبه بالأستاذيّة، وقلّد المظفّر بن ياقوت إصبهان وتقلّد ابنا رائق: إبراهيم ومحمّد، مكان ياقوت وأقام ياقوت بشيراز مدّة وكان علىّ بن خلف [342] بن طيّاب [1] متضمنا أموال الضياع والخراج بها فتظافروا وتعاقدوا فقطعا الحمل عن السلطان إلى أن ملك علىّ بن بويه الديلمي فارس يوم السبت سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة.
وفيها دخلت قوافل الحاجّ من مكّة سالمين مع مونس الورقائى فاستبشر الناس بتمام الحجّ وانفتاح الطريق وضربت له القباب ببغداد.
وفيها قبض على الوزير سليمان بن الحسن ذكر السبب فى ذلك
كان السبب فى ذلك أنّ سليمان أضاق إضافة شديدة وكثرت عليه المطالبات وبلّح واتصلت الرقاع ممّن يلتمس الوزارة بالسعاية فقبض على سليمان بن الحسن وأبى القاسم عبيد الله بن محمّد الكلوذانى فشقّ [2] من ذلك وجزع جزعا عظيما وحملا إلى دار السلطان.
وكان المقتدر شديد الشهوة لتقليد الحسين بن القاسم الوزارة فامتنع عليه مونس وأشار بتقليد الكلوذانى فاضطرّ المقتدر إلى تقليده. وكانت مدّة وزارة سليمان سنة واحدة وشهرين وأيّاما.
__________
[1] . طيّاب: كذا فى الأصل: طيّاب. وما فى مط مهمل فى الثاني، والمثبت فى مد: طناب.
[2] . فشقّ: كذا فى مط: فشق، والأصل غير واضح.(5/290)
استحضار الكلوذانى لتقليده الوزارة
واستحضر المقتدر أبا القاسم عبيد الله بن محمّد الكلوذانى من دار مونس يوم السبت لخمس بقين من رجب وخرج إليه [343] مفلح برسالة المقتدر بأنّه قد قلّده وزارته ودواوينه ولم يوصله إليه وتقدّم إليه بأن ينحدر إليه يوم الإثنين ليخلع عليه. فخاف الكلوذانى من حيلة تتمّ للحسين بن القاسم فى تقلّده الوزارة لأنّه بلغه أنّ الحسين قد جدّ بعد القبض على سليمان وراسل مونسا المظفّر وقال:
- «لا يؤمن أن يحتجّ الخليفة فى تأخّر الخلع على الكلوذانى بأنّه لم تعدّ له الخلع.» وأشار بأن يوجّه مونس بخلع من عنده إلى دار السلطان ليخلعها عليه، ففعل مونس ذلك وخلع المقتدر على أبى القاسم عبيد الله بن محمّد الكلوذانى يوم الإثنين وخاطبه بتقليده الوزارة والدواوين وتقدّم إليه بأن يقلّد الحسين بن القاسم ديوانا جليلا ليظهر ويزول عنه الأراجيف بالوزارة.
ووصل علىّ بن عيسى بوصول الكلوذانى فأمره المقتدر بحضرة الكلوذانى بأن يجرى على عادته فى الإشراف على الأمور والحضور معه وعرّفه أنّه قد أفرده بالنظر فى المظالم دون الكلوذانى فركب الكلوذانى فى الخلع من دار السلطان إلى داره فأخذ خطّ سليمان بن الحسن بمائتي ألف دينار.
وقدم أبو الفتح الفضل بن جعفر [344] من الشام وأبو جعفر محمّد بن القاسم بن عبيد الله من نواحي جند قنّسرين والعواصم وكان أبو الفتح منصرفا إلى ناحية قومس فأشار مونس بتقليده ديوان السواد فقلّده الكلوذانى مكرها وانقطعت بتقليده موادّ كانت تصل إلى الكلوذانى وأبى الفياض من أرزاق قوم(5/291)
لا يحصرون [1] وتسبيبات بأسماء قوم لم يخلقوا وما كان يسبّب للغلمان والوكلاء فى الدار والحاشية برسم الفقهاء والكتّاب وما كان يستطلق لهم من الورق والقراطيس ويبتاع ببعضه ما يحتاج إليه وأشياء تشبه هذه ولم تنبسط يد [2] الكلوذانى على قوم لعناية مونس المظفّر بهم.
وكان أبو بكر ابن قرابة متحققا بمفلح الأسود فأوصله مفلح إلى المقتدر وجعله واسطة للمرافق التي أخلق بها الخلافة. وكان ابن قرابة ذكر له أنّ الوزراء كانوا يرتفقون بها وأنّ الضمناء قد بذلوا أن يرفقوا به الخليفة ليصرفه فى مهمّ نفقاته لشدّة الإضافة.
وكان ابن قرابة يظهر للمقتدر ولمفلح الأسود أنّه يمشّى أمر الوزارة وأنّ الوزراء لا يتمّ أمرهم من دونه وكان يلزم دار الكلوذانى ويقرضه عن [345] بنى البريدي وغيرهم بربح درهم فى كلّ دينار فأقرضه مائتي ألف دينار مشّى بها أمر الكلوذانى وبمال المصادرات.
مرداويج يملك الجبل بأسره
وفيها ورد الخبر بوقعة كانت بين هارون بن غريب وبين مرداويج بنواحي همدان وأنّ هارون انهزم وملك مرداويج الجبل بأسره إلى حلوان [3] ونزل هارون بدير العاقول.
قصد لشكرى الديلمي إصبهان
وفيها قصد لشكرى الديلمي إصبهان وحاربه أحمد بن كيغلغ فانهزم أحمد
__________
[1] . فى الأصل ومد: لا يحضرون، وفى مد: لا يحصرون.
[2] . فى مط: ولم يبسط الكلوذانى، بدل «ولم تنبسط يد الكلوذانى» .
[3] . فى مط: هلوان.(5/292)
وملك لشكرى إصبهان وهذا لشكرى من أصحاب أسفار بن شيرويه، فلمّا قصد هارون بن غريب ابن الخال أسفار استأمن إليه لشكرى، ثمّ لمّا انهزم ابن الخال انهزم لشكرى بانهزامه إلى قنسرين، فلمّا تأهّب ابن الخال ثانيا وجهزت إليه العساكر من بغداد لحرب مرداويج أنفذ لشكرى إلى نهاوند من الدينور مع جماعة من الغلمان لحمل مال إليه ورسم أن يحمل المال إلى همذان ويقيم بها حتّى يلحقه هناك فلمّا صار لشكرى إلى نهاوند رأى يسار أهلها وكثرة أموالها وطمع فيهم وصادرهم على نحو ثلاثة آلاف ألف درهم واستخرجها فى مدّة أسبوع وأثبت جندا ثمّ خرج إلى الكرج ففعل مثل ذلك.
[346] واتّصل الخبر بابن الخال فطلبه فرحل من بين يديه وسار حتّى وقع إلى إصبهان والوالي عليها أبو العبّاس أحمد بن كيغلغ.
ذكر اتّفاق حسن لأحمد بن كيغلغ بعد هزيمته ودخول أصحاب لشكرى إصبهان
حكى أبو الحسن المافرّوخى أنّه كان بإصبهان فى الوقت وأنّ أحمد بن كيغلغ انهزم أقبح هزيمة ثمّ لجأ إلى بعض القرى فى ثلاثين نفسا معه وراء حصنها.
ودخل أصحاب لشكرى إصبهان ونزلوا فى الدور والخانات [1] والحمّامات وتأخّر لشكرى بنفسه عن العسكر ثمّ سار قليلا ونزل عن دابّته لإهراق ماء فرأى كوكبة أنكرها وقال:
- «ما هذه؟»
__________
[1] . كذا فى الأصل ومد: وفى مط: الخانات (بالحاء المهملة) .(5/293)
فقيل: «شرذمة من الكيغلغية.» فركب فى الوقت يريدها فلمّا قرب منها أسرع أحمد بن كيغلغ إليه بعد أن علم أنّه هو فتناوشا وكاد لشكرى يستأسره فخرج أهل تلك القرية فزعقوا به فضعفت نفس لشكرى وتقارب وهو أحمد فضربه أحمد بسيفه ضربة قدّ المغفر والخوذة ونزل السيف فى رأسه فقتله وخرّ لشكرى ساقطا فنزل أحمد إليه وحزّ رأسه وعرف أصحابه الخبر فطاروا [347] هاربين وكان فتحا طريفا واتفاقا عجيبا. وكانت سنّ [1] أحمد بن كيغلغ يومئذ تجاوز سبعين سنة.
وفيها صرف الكلوذانى عن الوزارة وقلّدها الحسين بن القاسم.
ذكر السبب فى تقلّد الحسين بن القاسم الوزارة وما تمّ له من الحيلة فيها
كان أبو القاسم ابن زنجى يحكى فى توصّل الحسين بن القاسم إلى الوزارة خبرا طريفا ويقول: كان أبو علىّ الحسين بن القاسم يعرف بأبى الجمال وكان لى صديقا يسكن [2] إلىّ ويستدعينى إلى الموضع الذي كان مستترا فيه ويشاورني فالزمنى بذلك حقّا وحرمة فاجتهدت فى السعى له والتوصّل بكلّ سبب وحيلة إلى أن تقلّد الوزارة.
فكان من أنجع ما عملته أنّ رجلا بمدينة السلام يعرف بالدانيالى كان يلزمني ويبيت عندي ويخرج إلىّ بسرّه [3] ويحدّثنى أنّه يظهر كتبا ينسبها إلى دانيال بخطّ قديم ويودع تلك الكتب أسماء قوم من أرباب الدولة على حروف مقطّعة إذا جمعت فهمت واستوى له بذلك جاه وقامت له به سوق.
__________
[1] . فى مط: بين.
[2] . وفى مط: فشكا.
[3] . وفى مط: ويخرج إلى سرّى.(5/294)
ووصلت إليه جملة من القاضي أبى عمر وابنه أبى حسين ووجوه الدولة وغلب على مفلح واختصّ به [348] لأنّه عرّفه أنه وجد فى الكتب أنّه من ولد جعفر بن أبى طالب فجاز ذلك عليه ووصل إليه منه برّ كثير.
فانفتح لى أن سألته إثبات فصل فى كتب يكتبها بشرح ما أسأله فأجابنى إلى ذلك فوصفت له الحسين بن القاسم واقتصرت من وصفه على ذكر قامته وآثار الجدري فى وجهه والعلامة التي فى شفته العليا وخفة الشعر هناك وأنّه إن وزر للثاني عشر من خلفاء بنى العبّاس استقامت أموره كلّها وعلا على أعدائه وانفتحت البلاد على يده وعمرت الدنيا فى أيّامه.
ودفعت النسخة إلى الدانيالى وواقفنى على عمل دفتر يذكر فيها أشياء ويجعل هذا الباب فى تضاعيفها فسألته تقديم ذلك ولم أزال أطالبه حتّى أعلمنى أنّه لا يستوى على ما يريد حتّى لا يشكّ فى قدمه وعتقه فى أقلّ من عشرين يوما وأنّه يحتاج أن يجعله فى التبن أيّاما ثمّ يجعله فى الخفّ ويمشى فيه أيّاما وأنّه يصفرّ ويعتق.
فلمّا بلغ المبلغ الذي قدّر صار إلىّ وهو معه وأرانيه فوقفت على الفصل ورأيت دفترا لولا ما عرفته من الأصل فيه لحلفت على أنّه قديم [349] لا شكّ فيه.
ومضى بذلك إلى مفلح فقرأه عليه فى جملة أشياء قرأها، فقال له مفلح:
- «أعد علىّ هذا الفصل.» فأعاده. ومضى مفلح إلى المقتدر بالله فذكر له ذلك فطلب الدفتر منه فأحضره إيّاه فقال له:
- «من تعرف بهذه الصفة؟» وأقبل المقتدر يكرّرها فذكر مفلح أنّه لا يعرف أحدا بها وحرص المقتدر على أن يعرف إنسانا يوافق هذه الصفة صفته. فقال مفلح:(5/295)
- «لست أعرف بهذه الصفة إلّا الحسين بن القاسم الذي يقال له: أبو الجمال.» فقال له المقتدر:
- «إن جاءك صاحب له برقعة فخذها منه وإن حمّلك رسالة فعرّفنيها واكتم [1] ما يجرى فى أمره ولا تعلم أحدا به.» وخرج مفلح إلى الدانيالى فقال له:
- «هل تعرف أحدا بهذه الصفة؟» فأنكر أن يعرف ذلك وقال:
- «إنّما قرأت ما وجدته فى كتب دانيال ولا علم لى بغير ذلك.» وانصرف إلىّ فحدّثنى بهذا الحديث فقمت من فورى إلى الحسين بن القاسم فأعدته عليه فسرّ به غاية السرور وابتهج نهاية الإبتهاج وظهر فى وجهه استبشار عظيم وقال لى:
- «اعلم أنّ أبا بشر الكاتب [350] كان أمس عند مفلح برسالة لى إليه فانصرف كاسف البال ظاهر الانخزال مغموما بما شاهده من إعراضه عنه.» فغمّنى ذلك. فقلت:
- «الآن يتبيّن لنا صدق الدانيالى من كذبه. ابعث بأبى بشر فى غد إلى مفلح برسالة منك فإنّه سيتبيّن له فيما يعامله به صحّة ما حكاه من بطلانه.» فدعا أبا بشر النصراني كاتبه وحمّله إليه رسالة ووكّد عليه فى البكور إليه. فلمّا كان من غد آخر النهار مضيت إليه أتعرّف خبره وما جرى، فدعا أبا بشر وقال له:
- «أعد عليه خبرك.»
__________
[1] . واكتم: كذا فى الأصل ومد: واكتم. وفى مط: واكتب.(5/296)
فأعلمنى أنّه دخل إليه وفى مجلسه جماعة فرفعه عليهم فأجلسه إلى جانبه وأقبل عليه يحدّثه ثمّ استدناه وسأله سرّا عن خبر الحسين بن القاسم واستمع رسالته وقال:
- «تقرأ عليه سلامي وتعرّفه تكفّلى بأمره وقيامي به.» وكلاما فى هذا المعنى، وأن ينفذ إليه رقعة [1] ليوصلها وينوب معه.
قال لى أبو بشر: وانصرفت وأنا فى نهاية قوّة النفس والثقة بالله عزّ وجلّ وبتمام ما يسفر فيه. فأعلمت الحسين أنّ الرجل قد صدق فيما ذكره وقد بان لنا أثره.
قال: [351] ثمّ إنّ الدانيالى طالبني بالمكافأة فطيّبت نفسه واستمهلته إلى أن تقلّد الحسين الوزارة فأذكرته حقّ الرجل فقلّده الحسبة ببغداد وأجرى له مائة دينار فى كلّ شهر واختصّ به وكان يحضر مجلسه فيجلسه إلى جانب مسورته. ثمّ مضت أيّام فقال:
- «لا يقنعني ما أجرى لى.» وسأله زيادة. فكلّمت الحسين بن القاسم فى أمره فأجرى له مائة دينار أخرى تسبّب برسم الفقهاء.
وكان ما ذكرته من حديث الدانيالى من أوكد الأسباب فى تقليد الحسين الوزارة مع كثرة الكارهين له والمعارضين فى أمره.
وانضاف إلى هذا الخبر [2] الذي أخبر به أبو القاسم ابن الزنجي أنّ الكلوذانى عمل عملا لما يحتاج إليه من مهمّ النفقات وأخذ خطّ صاحبي ديوان الجيش والنفقات بأعمال أخر مفردة عملوها لما يحتاج إليه بزيادة
__________
[1] . فى مط: رقاعة، والأصل مطموس غير واضح بعد الحرف الثاني.
[2] . والعبارة فى مط: وأيضا فهذا الخبر الذي.(5/297)
مائتي ألف دينار على ما عمل هو حتّى تبيّن [1] للمقتدر بالله وقوع الاحتياط منه فيما عمل واقتصر عليه فكان العجز سبعمائة ألف دينار وعرض ذلك على المقتدر وقال له:
- «ليس لى معوّل إلّا على ما يطلقه أمير المؤمنين [352] لأنفقه.» فعظم ذلك على المقتدر. فلمّا بلغ الحسين بن القاسم خبر العمل الذي عمله الكلوذانى كتب رقعة إلى المقتدر يضمن فيها القيام بجميع النفقات من غير أن يطلب منه شيئا وانّه يستخرج سوى ذلك ألف ألف دينار يكون فى بيت مال الخاصّة.
فأنفذ المقتدر رقعته إلى الكلوذانى وقال:
- «هذه رقعة فلان ولست أسومك الاستظهار بالمال وما أريد منك إلّا القيام بالنفقات فقط.» فقال الكلوذانى:
- «قد يجوز أن يتمّ لهذا الرجل ما لم يتمّ لى.» وسأله تقليد من [2] ضمن هذا الضمان فأعفاه من الأمر. فلمّا وقف المقتدر على تبلّح الكلوذانى وحصل فى نفسه ما بذله الحسين بن القاسم عمل على أن يستوزره وعلم شدّة كراهية مونس المظفّر لذلك فراسله على يد مفلح بأن يجتهد فى إصلاح أعدائه فابتدأ الحسين بنى رائق فكان [3] يمضى بنفسه إلى كاتبهم إبراهيم النصراني ويضمن لهم الضمانات حتّى صلحوا له ثمّ فعل ذلك بأبى نصر الوليد بن جابر كاتب شفيع ثمّ فعل مثله باصطفن بن يعقوب كاتب مونس وقال له:
__________
[1] . فى مط: يئس المقتدر، بدل «تبيّن للمقتدر» .
[2] . فى مط: فى، بدل «من» .
[3] . فى مط: فقال، بدل «فكان» .(5/298)
- «إن تقلّدت الوزارة فأنت قلّدتنيها.» فأشار عليه بملازمة أبى علىّ يحيى بن عبد الله الطبري كاتب يلبق ففعل ذلك. وكان يلبق قد سمع أنّه متّهم فى دينه شرير فجمع أبو علىّ الطبري بينه وبين يلبق حتّى حلف له الحسين بكلّ يمين يحلف مسلم ومعاهد إنّه مكذوب عليه فى كلّ ما يطعن به عليه فى ديانته أوّلا ثمّ فى عداوته لمونس وخاصّته وأصحابه لا ينوي لأحد من الناس سوء ولا يأخذ الأموال إلّا من بقايا صحيحة على تجار ملاء [1] كسروا مال السلطان من أثمان الغلّات ومن ضمناء قد ربحوا ربحا عظيما.
وضمن الحسين ليلبق ضياعا جليلة كذلك لكاتبه فسعى له يلبق وسأل مونسا فى أمره وسأل مونس المقتدر فتقرّرت الوزارة له وبلغ ذلك الكلوذانى فواصل الاستعفاء.
واتّفق أن دخل خمسمائة فارس كانوا مقيمين بالجبل فى ماه الكوفة وحلوان وهذه نواح لم يتغلّب عليها مرداويج وكانت أرزاقهم قد تأخّرت فطالبوا الكلوذانى وأمرهم الكلوذانى بالرجوع لينفق فيهم هناك فلم يسمعوا ورجموه بالآجر وهو منصرف فى طيّاره فجعل ذلك حجّة وأغلق بابه وحلف على أنّه لا ينظر فى أعمال [354] الوزارة.
فكانت مدّة وزارته شهرين وثلاثة أيّام.
وزارة الحسين بن القاسم
وكتب المقتدر إلى الحسين بن القاسم توقيعا بتقليد الوزارة وركب إليه وجوه الكتّاب والعمّال والقوّاد وبلغ ذلك أبا الفتح الفضل بن جعفر فصار إليه
__________
[1] . الملاء: مفرده المليء: الغنىّ المقتدر.(5/299)
مع قاضى القضاة أبى عمر محمّد بن يوسف وابنه والقاضي ابن أبى الشوارب وكتب عن المقتدر بخبر تقليده الوزارة إلى خراسان وجميع النواحي والأطراف وكان تقلّده للوزارة يوم الجمعة لليلتين بقيتا من شهر رمضان فعدل عن الجلوس للتهنئة وتشاغل بالنظر فى أمر المال وما يحتاج إليه فى نفقة العيد ولزمه الفضل بن جعفر وهشام بن عبد الله لأنّهما كانا يتولّيان ديوان المشرق وزمامه وديوان بيت المال وأخذ خطوط عدة من العمّال [1] والضمناء بسبعين ألف دينار.
وصار إليه علىّ بن عيسى آخر النهار فهنّأه وقد كان الحسين شرط لنفسه ألّا ينظر علىّ بن عيسى فى شيء من الأمور ولا يجلس للمظالم فأجيب إلى ذلك. وتبسط كاتب بنى رائق وكلّ من كان سعى له فى الوزارة فى طلب الأموال حتّى قبضوا على شذاءة وردت من الأهواز [355] فيها مال الأهواز وإصبهان وفارس. فكتب الحسين الوزير إلى المقتدر يشكو هذه الحال فلم ينكر كلّ الإنكار. فوقع الاتفاق بين الحسين وبين ابني رائق على أن يأخذوا من المال النصف ويفرجوا عن الباقي ففعلوا ذلك.
وكانت دمنة جارية المقتدر حظيّة عنده وكانت توصل رقاع الحسين إلى مولاها وتقوم بأمره فحمل إليها جملة عظيمة من المال وبعث إلى ابنها وهو الأمير أبو أحمد إسحاق أيضا جملة. واستأذن المقتدر أن يستكتب له ابنه القاسم بن الحسين فأذن له فى ذلك وضمن لدمنة أن تحمل إلى ابنها [2] فى كلّ يوم مائة دينار وتدفع عن صرفه.
واختصّ به بنو البريدي وأبو بكر ابن قرابة وقدّم له جملة من المال عن الضمناء بربح درهم فى كلّ دينار على رسمه. واختصّ به من القوّاد جعفر
__________
[1] . فى مط: العلماء، بدل «العمال» .
[2] . فى مط: إلى أبيها.(5/300)
بن ورقاء وأبو عبد الله محمّد بن خلف النيرمانى وقلّده أعمال الحرب والخراج والضياع بحلوان ومرج القلعة وماه الكوفة وألبسه القباء والسيف والمنطقة وتسمّى بالأمارة وخوطب بها وضمن أن يجمع الرجال ويفتح أعمال كور [356] المشرق وينتزعها من يد مرداويج.
وكان قد احتجن أموال السلطان من بقايا ضمان كانت [1] عليه فى أيّام سليمان بن الحسن لأعمال الضياع والخراج الخاصّة والعامّة وكانت جملة عظيمة. وكان تقلّد كرمان فى بعض الأوقات واستخرج من مالها شيئا كثيرا فحملها وانصرف فكتب صارفه أنّه ما أنفق منها درهما واحدا وأنفقت له أشياء تجرى هذا المجرى.
وتجرّد الحسين بن القاسم لإخراج علىّ بن عيسى وأخيه عبد الرحمن إلى مصر والشام فراسل المقتدر علىّ بن عيسى فى ذلك ودفع عنه مونس المظفّر وقال:
- «هذا شيخ يرجع إلى رأيه ويعتضد بمكانه.» إلى أن تقرّر أمره على أن يخرج إلى الصافية فخرج.
وابتدأ مونس فى الاستيحاش والتنكر فى يوم السبت لثلاث خلون من ذى الحجّة.
ذكر السبب فى ذلك
كان السبب فى ذلك ما بلغه من اجتماع الوزير الحسين بن القاسم مع جماعة من القوّاد على التدبير عليه.
وبلغ الحسين تنكّر مونس له وأنّه عزم على كبسه بجماعة من خواصّه
__________
[1] . فى مط: كاتب، بدل «كانت» .(5/301)
فى الليل للقبض عليه [357] فتنقّل فى مدّة عشرة أيّام فى نحو عشرة مواضع وكان لا يعرف له دار ولا موضع يلقاه فيه أحد وكان لا تلقاه أصحاب الدواوين إلّا إذا طلبهم ثمّ ختم الأمر بأن أقام فى دار الخليفة.
وراسل مونس المظفّر المقتدر بالله فى صرف الحسين بن القاسم عن الوزارة فأجابه إلى صرفه والتقدّم إليه بلزوم منزله فلم يقنع مونس بذلك وطالب بالقبض عليه ونفيه إلى عمان فامتنع المقتدر من ذلك وتردّدت بينهما فيه رسائل.
وأوقع الحسين بن القاسم للمقتدر أنّ مونسا قد عمل على أخذ الأمير أبى العبّاس من داره بالمخرّم والخروج به إلى مصر والشام ليعقد له الأمر فى الخلافة هناك وأشار بردّ الأمير أبى العبّاس إلى داره من دار الخلافة ففعل المقتدر ذلك. ووقف الأمير أبو العبّاس على ما فعله الحسين ابن القاسم فحقد عليه فى نفسه إلى أن أفضت إليه الخلافة فأنزل به من المكروه ما سنشرحه فى موضعه إن شاء الله.
وكتب الحسين بن القاسم إلى هارون بن غريب وهو بدير [1] العاقول بعد هزيمته من بين يدي مرداويج بالمبادرة إلى الحضرة فزادت وحشة مونس بهذه الأحوال وصحّ عنده أنّ الحسين بن القاسم [358] فى تدبير عليه فخرج من داره لخمس خلون من المحرّم وجلس فى حديدي وامتدّ إلى باب الشمّاسيّة وخرج أكثر رجاله وضربوا مضاربهم هناك.
وكتب مونس إلى المقتدر بأنّ مفلحا الأسود مطابق للحسين بن القاسم فى التدبير عليه وأنّ نفسه لا تسكن إلّا بإنفاذ مفلح إليه ليقلّده أجلّ الأعمال ويخرج. فكتب المقتدر بأنّ مفلحا خادم يثق به فى خدمته وأنّه ليس ممّن
__________
[1] . وفى مط: يدبر العاقول. قال فى المراصد: بين مدائن كسرى والنعمانيّة، كان، وأمّا الآن فقد بعدت دجلة عنه وكان عنده بلد عامر وأسواق أيّام عمارة النهروان، وأظنّه من شرقىّ دجلة.(5/302)
يدخل نفسه فيما ظنّه به وبلغ مونسا أنّ الحسين قد جمع الرجال والغلمان الحجريّة فى دار السلطان وأنّه قد ابتدأ بالنفقة فيهم وأنّ هارون بن غريب قد قرب من بغداد فأظهر الغضب وسار إلى الموصل ووجّه ببشرى خادمه ليؤدّى رسالة إلى المقتدر. فلمّا حصل بشرى فى دار السلطان بحضرة الحسين ابن القاسم قال له الحسين:
- «هات الرقعة التي معك.» فقال له:
- «ليس معى رقعة وانّما معى رسالة.» قال: «فتذكرها.» فقال: «قد أمرت ألّا أذكرها إلّا للخليفة.» فوجّه الحسين إلى المقتدر بالله وعرّفه ذلك فوجّه المقتدر إلى بشرى يأمره أن يؤدّى الرسالة إلى الحسين فقال بشرى:
- «حتّى أمضى وأستأذن صاحبي [359] فى ذلك وأعود.» فشتمه الحسين وشتم صاحبه وأمر به فقبض عليه وضربه بالمقارع وقال:
- «لا أرفع عنك الضرب أو تكتب خطّك بثلاثمائة ألف دينار.» فكتب وأمر به إلى الحبس ثمّ وجّه للوقت إلى داره وقبض على امرأته وصادرها وحمل ما فيها.
ولمّا بلغ مونسا ما جرى على خادمه بشرى امتدّ وأصعد ومعه من كان برسمه من قوّاده وأصحابه، وكتب الحسين بن القاسم إلى من كان معه من القوّاد والغلمان بالانصراف عنه والمصير إلى باب السلطان، فانصرف عنه جماعة منهم ومضى مونس فى خواصّه وغلمانه مسرعا إلى الموصل ووقّع الحسين بقبض أملاك مونس وضياعه وضياع أسبابه وأفرد لها ديوانا سمّاه(5/303)
ديوان المخالفين وردّه إلى محمّد بن جنّى [1] .
وزاد محلّ الحسين بن القاسم عند المقتدر وأنفذ إليه طعاما من بين يديه وأمر بأن يكنّى ويلقّب عميد الدولة وأن يضرب لقبه على الدنانير والدراهم، ففعل ذلك وخلع عليه يوم الاثنين لأربع بقين من المحرّم وأنشأ فى ذلك كتابا نفذ إلى جميع الأعمال والأطراف.
وصرف قوما وقلّد قوما فكان فيمن قلّد [360] أبو يوسف يعقوب بن محمّد البريدي وذلك بمسألته فقلّده أعمال البصرة من الخراج والضياع والمراكب وسائر وجوه الجبايات بها فضمنه ذلك بمقدار نفقات البصرة وفضل له بعده ثلاثون ألف دينار وقّع بتسبيبها على مال الأهواز.
فلمّا وقف أبو الفتح الفضل بن جعفر على ذلك استعظم ألّا يفي ارتفاع البصرة بنفقاتها حتّى يحتاج إلى أن يسبّب على غيرها وتقدّم بإخراج الجماعات والحسبانات إليه وتقدّم إلى كلّ واحد من أصحاب المجالس أن يخرج إليه ما عنده من ارتفاع البصرة لثلاث سنين وأخرجت الجماعات إليه وهو ينظر فيها وفى أعمال كتّاب المجالس ويضيف من عمل إلى عمل ويعمل بيده من صلاة الغداة إلى بعد العتمة إلى أن انتظم العمل على ما أراد.
ثمّ أحضر أبا يوسف البريدي وواقفه [2] عليه ولم يتهيأ له انكار شيء ممّا أخرجه فأعطاه خطّه بالقيام بجميع ما يجب للأولياء وأن يثبت لحفظ السور ألف رجل زيادة على رسم من يحفظه ومن ينضمّ إليه وسائر النفقات الراتبة ويحمل إليه بعد ذلك كلّه ستين ألف دينار إلى بيت المال [361] بالحضرة.
فصار الفضل بن جعفر بالخطّ إلى الوزير الحسين بن القاسم متبجّحا به وعرضه عليه وعرّفه ما جرى بينه وبين ابن البريدي حتّى تقرّر على ما كتب
__________
[1] . جنّى: ما فى مط مهمل تماما.
[2] . واقفة: كذا فى الأصل. وفى مط: وافقه.(5/304)
به خطّه. فلم يقع ذلك من الحسين بن القاسم الموقع الذي قدّره الفضل وتبين منه تكرّها له وظنّ أنّه كالتوبيخ والتقريع وكالزيادة على عمله. فلمّا تبيّن الفضل الصورة راسل المقتدر بما فعله فوقع ذلك عنده أحسن موقع وشاع [1] ما عمله فى الدواوين وتناقلته الرؤساء والكتّاب بينهم.
واتّصل ذلك بالحسين فغلظ عليه وأراد أن يضع منه، فواقف ابن جبير على مهاترته فى المجلس والغضّ منه ففعل ابن جبير ذلك حتّى تكلّم بما لم تجر العادة بمثله والحسين ممسك عن الجميع لا يكفّ أحدهما عن الآخر، فلمّا تبيّن أبو الفتح ذلك وعرف الغرض نهض عن المجلس وقال:
- «ليس المكلّم لى أنت بل المكلّم غيرك.» فلمّا ولّى خارجا عرف الحسين الخطأ فيما جرى فقال لأبى عبد الله بن زنجى:
- «إنّ أبا الفتح صديقك وهو يطيعك وما أحبّ أن يخرج على هذه الجملة فأحبّ أن تلحقه وترضيه وتردّه.» فبادر إليه أبو عبد الله وما زال يرفق به حتّى [362] ردّه واعتذر إليه الحسين من خطاب ابن جبير له. وانصرف وهو مستوحش واستتر عند أبى بكر ابن قرابة وبقي ديوانه شاغرا إلى أن يئس الحسين من ظهوره فقلّد أبا القاسم الكلوذانى الديوان ولم يزل أبو الفتح يسعى له فى طلب الوزارة حتّى تمّ له كما سنذكره.
ولمّا لم يعد [2] مونس إلى بغداد وجّه الحسين إلى ابن مقلة فصادره وكان معتقلا فأعطى خطّه بمائتي ألف دينار وأنفذ إلى علىّ بن عيسى وهو بالصافية
__________
[1] . شاع: كذا فى الأصل. وفى مط: ساغ.
[2] . فى الأصل ومط: ولمّا يعد.(5/305)
يستحضره وأطمع المقتدر من [1] جهته فى مائتي ألف دينار. فلمّا وصل الرسول إلى الصافية وجد بها هارون بن غريب وكان هارون شديد العناية بعلىّ بن عيسى فمنعه من حمله وقال:
- «أنا أخاطب أمير المؤمنين فى أمره.» فلمّا وقف الحسين على عناية هارون بعلىّ بن عيسى أمسك عنه. ولمّا وصل هارون بن غريب إلى دار السلطان وصل إليه فى خلوة وانصرف إلى داره فقصده الوزير وابنا رائق [2] ومحمّد بن ياقوت ومفلح وشفيع وعظم أمره فخاطب المقتدر فى أمر علىّ بن عيسى فأعفاه من المصادرة وخاطبه فى أمر أبى علىّ ابن مقلة فحطّ من مصادرته خمسين ألف دينار وأمر بحمله إليه.
ثمّ لم يستصوب ذلك [363] وخاف أن يكاتب مونسا أو يراسله فسأل ابن مقلة هارون أن يعاود الخطاب فى بابه ويستحلفه بأيمان مغلّظة ألّا يكاتب ولا يراسل مونسا ولا أحدا من أسبابه ففعل ذلك وحمل إليه.
قال: فحدّثنا أبو علىّ ابن مقلة فى وزارته للراضى [3] أنّه أخذ فى استماحة الناس وأدّى المال كلّه بما وصل إليه من المال من الجهات وفضل له عشرون ألف دينار وأنّه اشترى بها ضياعا باسم عبد الله بن علىّ النّفّرى [4] ووقفها على الطالبيين.
وكتب الحسين إلى ياقوت بالقبض على الخصيبى وحمله وكان بشيراز فبادر خليفته علىّ بن محمّد بن روح بالخبر إليه فخرج من يومه من شيراز
__________
[1] . فى مط: فى جهته.
[2] . رائق: كذا فى الأصل ومد. وفى مط: راتق وهو تصحيف، كما هو معهود من مط فى أكثر المواضع.
[3] . فى مط: المراضي.
[4] . فى مط: المقري، بدل «النّفّرى» .(5/306)
مستترا حتّى وافى بغداد واستتر عند أبى بكر ابن قرابة وكان الفضل بن جعفر مستترا عنده أيضا فلم يعلم أحدهما خبر صاحبه وقدم محمّد بن ياقوت من الأهواز وقبض على محمّد بن المعتضد بالله وعلى أبى أحمد ابن المكتفي بالله وحدرا إلى دار السلطان واعتقلا فيها ولم تقصر السيّدة فى التوسعة على محمّد بن المعتضد وفى إكرامه وأهدت إليه عدّة من الجواري.
وابتدأ أمر الحسين الوزير بالاضطراب [364] ذكر السبب فى ذلك
اشتدّت الإضافة فباع الحسين من الضياع نحو خمسمائة ألف دينار واستسلف من مال سنة عشرين وثلاثمائة شطره قبل افتتاحها بشهور ولم يبق له وجه حيلة لتمام نفقات سنة تسع عشرة وثلاثمائة الخراجيّة. وعرف هارون بن غريب ذلك فصدق المقتدر عنه فعزم على تقليد الخصيبى الوزارة وكتب له أمانا، فظهر فخوطب فى تقلّد الوزارة فذكر أنّه لم يبق للسلطان فى النواحي من مال سنة تسع عشرة شيء وقد بقي منها نحو ثلاثة أشهر وأنّ الحسين قد استسلف من مال سنة عشرين قطعة وافرة وأنّه لا يغرّ السلطان من نفسه فأشار عليه هارون أن يتقلّد أزمّة الدواوين من قبل المقتدر وتكون دواوين الأصول فى يد الحسين ليضبط الأموال مستأنفا فرضي الحسين بذلك وتقلّد الخصيبى دواوين الأزمّة وأجرى عليه وعلى كتّابه ألفى وسبعمائة دينار فى كلّ شهر. وخلع المقتدر على الحسين ليزول عنه الأرجاف [1] .
ثمّ إنّ الحسين بن القاسم عمل أعمالا أخذ فيها [365] خطوط أصحاب الدواوين الأصول والأزمّة بصحّتها وفيها ارتفاع الأموال من النواحي وما
__________
[1] . فى مط: الإرجاف، بدل «الإرجاف» .(5/307)
يرجى حصوله منها وقدّر النفقات تقديرا متقاربا للارتفاع، فسكن بذلك قلب المقتدر فسلّم المقتدر ذلك العمل إلى الخصيبى وأمر بتتبّعه، فوجد الخصيبى الحسين بن القاسم قد احتال بأن أضاف إلى ما يقدّر حصوله من النواحي أموال نواح قد خرجت عن يد السلطان بتغلّب من تغلّب عليها مثل الديلم على أعمال الرىّ والجبل ومونس على أعمال الموصل والشام منذ أربع سنين وذلك جملة عظيمة، وأسقط من النفقات الزيادات التي زادها هو للجند والحاشية وغيرهم ولم يسقط من الأموال التي يقدّر حصولها من النواحي ارتفاع ما باع من الضياع، فعمل الخصيبى عملا عرضه على المقتدر فأمر المقتدر أن يواقف عليه الوزير [1] فاجتمع الكتّاب وأمره المقتدر بمناظرتهم فلمّا خاطبوه أخذ فى التشنيع عليهم وأنّهم سعوا به وقال:
- «فى أىّ شيء غالطت السلطان؟ أليس هذه خطوط الضمناء؟» فقالوا: «معاذ الله أن يقول [366] أحد فى الوزير ذلك ولكن العمل أخرج بما اضطر الوزير أيّده الله إلى التسبيب به على مال سنة عشرين وثلاثمائة من الأموال المستحقّة فى سنة تسع عشرة وقد رفع الضمناء إلى ديوان الزمام أعمالا لما أطلقوه من مال سنة عشرين وما كانوا ضمنوا إطلاقه من مال هذه التسبيبات عند إدراك الغلّات ولهذا أحضرنا.» فقال الحسين:
- «أفتعلم كم مبلغه؟» فقال: «نعم.» وأحضر عملا كان عمله بمبلغ ذلك فوجد أنّ الذي سبّب على مال السواد والأهواز وفارس لسنة عشرين وثلاثمائة قبل افتتاحها بشهور، أربعون ألف
__________
[1] . وفى مط: الغرير، بدل «الوزير» .(5/308)
ألف درهم وأنّ الذي يبقى إلى آخر سنة عشرين على الضمناء إلى افتتاح سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة وعشرون ألف ألف درهم وقد كان قيل فى العمل:
إنّ هذا ما لم يجر به فى قديم الدهر ولا حديثه رسم بمثله.
فلمّا وقف الحسين على ذلك استعظمه وأراد أن يقطع المجلس بالمشاغبة [1] وقال:
- «يكتب فى الأعمال التي عملت ما لم يعمله أحد من الوزارء قطّ ثمّ يعرض علىّ.» فقال هشام:
- «هذا غلط كتب على سبيل السهور وليس ممّا يزيد فى المال ولا ينقص منه.» وضرب على تلك الحكاية وقال:
- «إنّما أحضرنا لننظر فى أمر المال [367] ونصدق الوزير عنه.» فعدل إلى الخصيبى يهاتره فترك الحجّة فنهض الخصيبى عن المجلس لمّا ظهرت الحجّة على الحسين وصار مع الضمناء ومع أبى جعفر ابن شيرزاد إلى هارون بن غريب فشرحوا له ما جرى. وأعيد المجلس كهيئته [2] إلى المقتدر ثمّ شافه الخصيبى بمثله الحسين بحضرة المقتدر فانحلّ أمر الحسين وقبض عليه فكانت وزارته سبعة أشهر.
وزارة أبى الفتح الفضل بن جعفر
واستوزر أبو الفتح الفضل بن جعفر وخلع عليه يوم الاثنين لليلتين بقيتا من شهر ربيع الآخر فركب فى الخلع وركب معه القوّاد وخواصّ المقتدر
__________
[1] . فى مط: الساعية.
[2] . فى مط: لهيئة.(5/309)
وسلّم المقتدر الحسين بن القاسم إلى الوزير أبى الفتح الفضل بن جعفر فأجمل عشرته وقرر أمره على أربعين ألف دينار فلمّا أدّاها استأذن الوزير أبو الفتح المقتدر فى تقليد الإشراف على مصر والشام فأذن له فى ذلك.
ثمّ ظهر أنّه أراد أن ينقب الموضع الذي كان فيه. وقال الخصيبى [1] :
- «هذا رجل فى جنبه للسلطان مال عظيم وليس يصلح أن يخرج وأن يدبّر شيئا من الأعمال.» فتأخّر أمره وصودر أيضا ثمّ تسلّمه الوزير فبقى عنده مدّة ثمّ أبعده إلى البصرة وأقام له فى كلّ شهر خمسة آلاف درهم.
مناظرة عن مرداويج
وفى هذه السنة حضرت من ناظر عن مرداويج بن زيار [2] والتمس [368] أن يقاطع عن الأعمال التي غلب عليها من أعمال المشرق وتكفّل هارون بن غريب بأمره فقرّره على أن يسلّم إلى السلطان أعمال ماه الكوفة وهمذان ويقلّد باقى الأعمال ويحمل عنها مالا وكتب له العهد وأنفذ إليه اللواء ومعه خلع.
المقتدر يهمّ بتقليد ابن مقلة الوزارة
ثمّ إنّ المقتدر همّ بتقليد أبى على ابن مقلة الوزارة وبلغ ذلك هارون بن غريب فكره ذلك لميل أبى على إلى مونس فاجتمع مع الوزير أبى الفتح وألزما أبا عبد الله البريدي مائة ألف دينار وسلّم ابن مقلة إليه فمشى أمر الوزير أبى الفتح وحمل ابن مقلة إلى شيراز مع رشيق الأيسر.
__________
[1] . فى مط: الحضيني، بدل «الخصيبى» . فى عدة فى مواضع.
[2] . كذا فى الأصل: زيار. وفى مط: زياد.(5/310)
موت أبى عمر القاضي
وفيها مات أبو عمر القاضي فأغرى أبو بكر ابن قرابة بورثته إغراء شديدا وقال للمقتدر:
- «ينبغي لابنه أن يحمل مائة ألف دينار فانّه من ورائها وإلّا حضر من يتقلّد قضاء القضاة ويوفّر هذا المال من جهته.» فرسم المقتدر لهارون بن الخال أن ينفذ كاتبه وللوزير أن يضمّ إليه ثقته حتّى يصيرا مع ابن قرابة إلى أبى الحسين ابن أبى عمر ويخاطبه بحضرتهما.
فمضى أبو بكر ابن قرابة ومعه أبو جعفر ابن شيرزاد وأبو على أحمد بن نصر البازيار. فلمّا حصلوا عند أبى الحسين القاضي وجدوا عنده عالما من الناس معزّين له فعزّوه وجلسوا وأمسكوا [369] كما يحسن أن يعمل فى المصائب.
فقال ابن قرابة:
- «ما لهذا حضرنا، قم يا أبا الحسين معنا حتّى نخلو.» فنهض واستوفى عليه ابن قرابة استيفاء شديدا فقال أبو الحسين:
- «إنّ نعمت ونعمة والدي من أمير المؤمنين المقتدر ولست أدّخر دونه شيئا.» وسأل أن يمهل يومه حتّى يحصّل أمره ويبكّر فيصدق عنه. وكان شهر رمضان فلمّا جنّة الليل قصد أبا بكر ابن قرابة وقت الإفطار فاستأذن عليه ودخل والمائدة بين يديه فدعاه إلى الإفطار فغسل يده وسمّى وأكل ومصيبته طرية وأنّها ليومه ولكنّه ليستكفى شرّه. فلمّا انقضى الإفطار قال له:
- «يا سيدي قد جئتك مستسلما إليك فدبّرنى بما تراه.» فقال له:
- «قم فامض بسلام وما بك حاجة إلى أن توصيني ولا تفكّر فى أمرك(5/311)
فانّى أفصله وأعمل فيه ما يرضيك.» وكان على مائدة أبى بكر ابن قرابة أبو عبد الله وأبو يوسف ابنا البريدي.
فلمّا فرغوا من الأكل قرب البريديّان من القاضي أبى الحسين كالمتوجّعين له ووصفا مشاركتهما إيّاه واستصوبا قصده أبا بكر وإفطاره معه وقالا له:
- «أنت مقبل.» وعرض عليه أبو يوسف ثلاثة آلاف دينار وقال:
- «إن احتجت إليها فخذها وافتد نفسك وإن أوجبت الصورة أن تستتر [370] فأنفقها فى استتارك فلن ينفذ حتّى يأتيك الفرج.» ولم يحتج أبو الحسين إلى الاستتار وتعطّف عليه المقتدر بالله وعاونه البريديون وإخوانه أحسن معاونة فقلّده قضاء القضاة فقويت نفسه ومشى أمره.
ثمّ إنّ المقتدر وصف لابن قرابة الإضاقة [1] ، فقال له:
- «يا أمير المؤمنين لم لا يعاونك هارون بن الخال وعنده آزاج مملوءة مالا؟» فأعاد المقتدر ذلك على ابن الخال فقال:
- «يا أمير المؤمنين إن كنت أملك ما قال فلست أبخل عليك به لأنّى أسلم بسلامتك وفى جيشك أنفقه وإليك معاده، وابن قرابة معه من المال ما لا يحتاج أبدا إليه وأنا أستخرج لك منه خمسمائة ألف دينار وليس بينه وبين أمير المؤمنين الذي يجمعني وإيّاه، فلم يترك عليه وأنا أؤدّيها [2] من ماله إليك؟» فقال له:
__________
[1] . كذا فى الأصل ومد: الإضاقة. وفى مط: الإضافة.
[2] . فى مط: وأنا أورد بها، بدل: وأنا أؤدّيها.(5/312)
- «اذهب فتسلّمه.» فقبض عليه وجرى عليه من المكروه ما أشفى به على التلف حتّى قتل المقتدر بالله فتخلّص ولا عجب من أمر الله.
وكان قد وقّع الوزير أبو الفتح بأن يعمل لابن قرابة عمل بما صار إليه من الربح فى الأموال التي قدّمها عن الضمناء وبقايا مصادرته فى أيّام عبد الله الخاقاني وما يجب عليه من الفضل فيما ابتاعه من الضياع فأخرج عليه من هذه الجهات [371] ألف ألف دينار فصحّ له من هذه الجملة تسعون ألف دينار.
ثمّ شغل الوزير وهارون بورود الخبر عليهما بانحدار مونس من الموصل وكان هارون قيّده وسلّمه إلى حاجبه وعدّة من غلمانه ليخرجوه إلى واسط فقتل المقتدر فى ذلك اليوم فهرب من كان موكّلا به وبقي معه غلامان كان هو اشتراهما لابن الخال فعنيا به وصارا معه إلى فرضة جعفر وأدخلاه إلى مسجد وأحضرا حدّادا وحلّا قيوده وأطلقاه فمشى إلى منزله بسويقة غالب [1] ووهب لهما خمسمائة دينار.
استشارة فى الأمر الواضح وعاقبة المستشير
وحكى ثابت بن سنان فى كتابه أنّ أباه سنان بن ثابت كانت بينه وبين أبى بكر ابن قرابة مودّة فصرنا إليه لنهنّئه بخلاصه فقال لوالدي:
- «يا أبا سعيد قد اجتمع لى فيك المحبّة والعقل وجودة الرأى وأريد أن أستشيرك فى أمرى.» فقال له أبى:
__________
[1] . سويقة غالب: هي من محالّ بغداد (مراصد الإطلاع) .(5/313)
- «قل فانّى أمحضك [1] النصيحة.» فقال: «أنت تعلم أنّى كنت فى بحار من التخليط وكانت علىّ تبعات فيما كنت أدخل فيه وأقدّمه من مالي عن الضمناء لم يكن على أحد مثلها، وقد غسلت هذه النكبة وما أدّيت [2] فيها من المصادرة دون ما كنت فيه وقد حصل لى الآن ما يرتفع منه عشرون ألف دينار خالصة وحصل لى من البساتين [372] والمستغلات بعد ذلك ما ليس لأحد مثله ولى من الفرش والآلات والبلور والمخروط والصيني والجوهر والطيب والكسوة ما ليس لأحد مثله ومن الرقيق والخدم الروقة [3] والغلمان والكراع ما ليس لأحد مثله، ولى بعد ذلك كلّه ثلاثمائة ألف دينار صامت لا أحتاج إليها وبيني وبين هذا الوزير- يعنى أبا علىّ ابن مقلة وقد كان القاهر استوزره وهو بفارس- مودّة وكيدة فهل ترى لى إذا قدم أن أقتصر على لقائه فى الأوقات لعمارة الحال بيني وبينه ولا أداخله ولا أعاود ما كنت فيه أو أعاود وأرجع إلى التخليط.» فقال له والدي:
- «ما رأيت أعجب من هذه المشاورة وإنّما يشاور فى المشكل من الأمر فأمّا الواضح فيستغنى فيه عن الرأى. انظر- أعزّك الله- فإن كان ذلك التخليط أثمر لك ما تحبّ فارجع إليه وإن كان إنّما أثمر ما تكره وعرضك لزوال المهجة وزوال النعمة فلا تعاوده ومع هذا فإنّ الإنسان إنّما يكدّ ويكدح ويتعرّض للمكاره ليحصل له بعض ما حصل لك فاحمد الله وتمتّع بالنعمة وقد حصل لك من الجاه ما يحرسها واربح [4] الصيانة وحسن
__________
[1] . فى مط: أنصحك، بدل «أمحضك» .
[2] . فى مط: أذنت.
[3] . فى مط: والروقة.
[4] . كذا فى الأصل ومد: واربح. وفى مط: وارتج.(5/314)
العافية [1] .» فسمع ذلك كلّه [و] قال:
- «قد علمت والله أنّك قد نصحت وبالغت ولكنّ لى نفسا مشؤومة لا تصبر [373] وسأعاود ما كنت فيه.» فقال له والدي:
- «خار الله لك.» وانصرفنا فقال لى والدي:
- «يا بنىّ ما رأيت قطّ أجهل من هذا الرجل ولا يموت مثله إلّا مقتولا أو فقيرا بأسوأ حال.» فكان الأمر على ما قدّر وأدّاه التخليط إلى أن قبض عليه القاهر فأزال نعمته وقبض أملاكه وهدّمت داره وأراد قتله حتّى زال أمر القاهر. ثمّ عاد أيضا إلى التخليط ومضى إلى البريديين لمّا خالفوا السلطان، ثمّ مضى إلى أبى الحسين أحمد بن بويه لمّا غلب على الأهواز، ثمّ وقع أسيرا لمّا انصرف الأمير أبو الحسين من نهر ديالى وصودر حتّى لم يبق له بقية واضطرّ إلى أن يخدم ناصر الدولة أبا محمّد ابن حمدان برزق مائة دينار فى كلّ شهر فكثرت فى عينه وكان ينفق مثلها كلّ يوم. ومات بالموصل، ونعوذ بالله من الجهل والإدبار.
ودخلت سنة عشرين وثلاثمائة
وفيها انحدر مونس من الموصل إلى بغداد وقتل المقتدر بالله ذكر السبب فى ذلك
كان السبب فى ذلك ما ذكرناه من استيحاش مونس. فلمّا تمّ له الانصراف إلى الموصل كتب الحسين بن القاسم إلى داود وسعيد ابني [374] حمدان
__________
[1] . العاقبة: كذا فى الأصل. وفى مط: العافية، كما أثبت فى مد.(5/315)
والحسن بن عبد الله بن حمدان بمحاربة مونس ودفعه عن الموصل فإنّه عاص.
وكان مونس يكتب فى طريقه إلى رؤساء العرب فى ديار ربيعة بأنّ السلطان أنفذه لمحاربة بنى حمدان يريد بذلك أن يقعدهم عنهم فامتنع داود من لقاء مونس لإحسانه إليه فإنّه كان عظيما جدّا، فما زال أهله به حتّى فثؤوا [1] رأيه وقالوا له:
- «نحن بعد ما غسلنا قبيح ما عمله الحسين بن حمدان ثمّ ما عمله أبو الهيجاء بالأمس نريد أن نعمل لنا حديثا ثالثا.» وما زالو به حتّى استجاب على تكرّه شديد وقال:
- «يا قوم! بأىّ وجه ألقى مونسا مع إحسانه العظيم إلىّ؟» وكان يعدّدها ثم يقول:
- «والله ما آمن أن يجيئني سهم عائر [2] فيقع فى هذا الموضع منّى- يعنى حلقه- فيقتلني.» قال: فو الله ما هو إلّا أن لقيه مونس حتّى أتاه السهم العائر فوقع فى موضع إصبعه فذبحه ولم يقتل غيره.
وكان بنو حمدان فى ثلاثين ألفا ومونس فى ثمانمائة رجل فانهزموا وقتل داود.
وكان مونس إذا قيل له:
- «قد أقبل داود لمحاربتك.» يعجب ويقول:
__________
[1] . من قولهم: فثأ القدر، أى سكّن غليانها، وقولهم: فثأ الغضب، اى سكّن حدّته. وفى مط: ثنوا، بدل «فثؤوا» .
[2] . فى مط: منهم غابر، بدل «سهم عائر» .(5/316)
- «يا قوم يلقاني داود وفى حجري طهّر [1] ولى عليه من الحقّ ما ليس لوالده.»
خروج مونس وقصده بغداد
فلمّا ملك مونس أموال بنى حمدان وغلّاتهم وضياعهم [375] واستولى على أعمال الموصل خرج إليه الناس من الأولياء إرسالا وكثروا عنده فحملوه على الخروج من الموصل وقصد [2] بغداد وكان أقام بالموصل تسعة أشهر.
فانحدر مونس وبلغ الجند بالحضرة ذلك فشغبوا وطالبوا بالرزق فأطلق المقتدر المال وجلس فى الجوسق وأنفق فيهم وأخرج مضربا ليه يسمّى مضرب الدم إلى باب الشمّاسيّة.
ووافى مونس وأصحابه إلى باب الشمّاسيّة وكان المقتدر قد وجّه أبا العلاء سعيد بن حمدان وصافيا البصري فى خيل إلى سرّ من رأى ثمّ أنفذ أبا بكر محمّد بن ياقوت فى ألفى فارس ومعه الغلمان الحجريّة [إلى المعشوق] [3] .
ثم أنفذ مونسا الورقائى على سبيل الطلائع، فلمّا قرب مونس أقبلوا يراجعون حتّى اجتمعت الجماعة بعكبرا، فلمّا قرب مونس من عكبرا انكفأت الجماعة مع محمّد بن ياقوت إلى البردان، فلمّا نزل مونس عكبرا انكفأت [4] الجماعة إلى باب الشمّاسيّة فعسكروا هناك. واضطربت الأمور وتقاعد الضمناء
__________
[1] . فى مط: ظهر.
[2] . فى مط: فصل، بدل «قصد» .
[3] . ما بين المعقوفتين إضافة من مد، ولا يوجد لا فى الأصل ولا فى مط والمعشوق قصر عظيم بالجانب الغربىّ من سامرّا دون تكريت، هو الآن يسكنه الفلّاحون وغيرهم، وهو عظيم مكين، عمّره المعتمد بالله (مراصد الإطلاع) .
[4] . فى مط: انكفاف، وهو تصحيف مع إسقاط سطر من «انكفأت» الأولى إلى «انكفأت» الثانية» .(5/317)
والعمّال بحمل الأموال.
واجتهد المقتدر بهارون أن يشخص إلى حرب مونس فتقاعد واحتجّ بأنّ معظم أصحابه ممّن انضمّ إليه من رجال مونس أو ممّن كان معه فى وقت محاربته مرداويج [376] فى المشرق أو من استأمن إليه من عسكر الديلم وقد عرف محاربتهم وأنّهم ينهزمون ولا يثبتون للحرب وليس يثق بأحد منهم لأنّه يعلم أنّهم يستأمنون ويسلّمونه ودافع بالخروج إلى أن صار أصحاب مونس بباب الشمّاسيّة بإزاء عسكر محمّد ابن ياقوت. فجاء محمّد بن ياقوت إلى الوزير الفضل بن جعفر فانحدر [1] إلى المقتدر ومعهما ابنا رائق ومفلح فشرح محمّد بن ياقوت الصورة وقال له:
- «إنّ الرجال لا يقاتلون إلّا بالمال وإن أخرج استغنى عن القتال واستأمن أكثر رجال مونس ودفعت الضرورة مونسا إلى الهرب أو الاستتار.» وقال له:
- «إنّ الوزير أطلق مالا لم يعمّ.» وسألوه أن يحتال مائتي ألف دينار من جهته وجهة والدته ليصرف فى المهمّ. فعرّفه أنّه لم يبق له ولا للسيّدة حيلة فى مال يطلق وتقدّم الشذاءات والطيّارات لينحدر هو وحرمه إلى واسط ويسلّم البلد إلى مونس ويكتب من واسط إلى من بالبصرة والأهواز وفارس يستنجدهم ويستحضرهم لقتال مونس ودفعه.
فقال له محمّد بن ياقوت:
- «اتّق الله يا أمير المؤمنين فى جماعة غلمانك وخدمك ولا تسلّم بغداد بغير حرب.»
__________
[1] . فى مط: فانحدا، بدل «فانحدر» .(5/318)
وجعل يفثأه [1] عن رأيه [377] ويشير بأن يخرج بنفسه إلى المعسكر حتّى يراه الناس ويقاتلون وقال له:
- «إن رآك رجال مونس وأحجموا عن محاربتك.» فقال له المقتدر:
- «أنت والله رسول إبليس.» ثمّ أمر هارون على لسان الوزير الفضل بن جعفر أن يخرج ووبّخه فمضى إليه ووافقه [2] على أن يخرج يوم الأربعاء لثلاث بقين من شوّال إلى دار السلطان.
وركب المقتدر وهم معه وعليه البردة التي توارثها الخلفاء وبيده القضيب وبين يديه الأمير أبو علىّ بن المقتدر والأنصار ومعهم المصاحف المنشورة والقرّاء يقرأون القرآن وحوله جميع رجاله بالسلاح وخلفه جميع القوّاد مع الوزير واشتقّ بغداد إلى الشمّاسيّة وكثر دعاء الناس له جدّا وسار فى الشارع الأعظم إلى المعسكر، فلمّا وصل إليه أشير عليه أن يقوم إلى موضع عال بعيد عن موضع الحرب.
واشتدّت الحرب بين أصحاب مونس وأصحاب المقتدر بالله وكان مونس مقيما بالراشديّة لم يحضر الحرب وثبت محمّد بن ياقوت وهارون بن غريب واشتبكت الحرب، وصار أبو العلاء سعيد بن حمدان إلى المقتدر بالله برسالة هارون بن غريب ومحمّد بن ياقوت بأن يحضر الحرب. وقال له:
- «إنّ [378] رآك أصحاب مونس استأمنوا.» فلم يبرح من موضعه ومضى أبو العلاء ووافاه صافى البصري فقال له مثل هذا القول فلم يسمع منه.
__________
[1] . فى مط: هناه (كذا) .
[2] . فى الأصل: واقفه (بتقديم القاف) . وفى مط ومد: وافقه (بتقديم الفاء) .(5/319)
ثمّ حضر محمّد بن أحمد القرايطى كاتب محمّد بن ياقوت فاستدعى الوصول إلى المقتدر بالله فأوصل إليه وهو واقف على ظهر دابّته فقبّل الأرض وقال له:
- «يا أمير المؤمنين، القوّاد وعبدك محمّد بن ياقوت يقول: يا مولانا أمير المؤمنين الله الله سر بنفسك إلى الموضع فإنّ الناس إذا رأوك انفلّوا.» فلم يبرح وبقي واقفا على دابّته وخلفه الوزير أبو الفتح ومفلح الأسود وجماعة من الغلمان الخاصّة.
فهم على تلك الحال إذ وافت رسالة القوّاد المحاربين فتقدّم بعضها بأن ينادى بين يديه:
- «من جاء بأسير فله عشرة دنانير ومن جاء برأس فله خمسة دنانير.» فنودي بذلك. ثمّ جاءته رقعة فسلّمت إليه فقرأها ثمّ استدعى مفلحا والقراريطى فسارّهما [1] ثمّ استدعى الوزير فسارّه وأجابه بشيء ما سمع به.
ثمّ وردت رقعة أخرى فقرأها ثمّ وافته الرسائل علانية من القوّاد تؤدّى إليه ويسمع الناس أنّ الرجال فى الحرب يقولون:
- «نريد أن نرى مولانا حتّى نرمي بأنفسنا على هؤلاء الكلاب.» ولم يزل [379] القراريطى وغيره يسهّلون عليه ويسألونه المسير حتّى سار مع مفلح ومن بقي معه.
وتخلّف الفضل بن جعفر عنه وسار نحو الشطّ [2] وانكشف أصحاب المقتدر وانهزموا من قبل أن يصل المقتدر إلى موضع المعركة وكان آخر من ثبت وحارب حربا شديدا محمّد بن ياقوت واستؤسر أحمد بن كيغلغ وجماعة من القوّاد.
__________
[1] . فى مط: فشاورهما.
[2] . فى مط: النيط.(5/320)
ولقى علىّ بن يلبق المقتدر وهو فى الطريق لم يصل إلى المعركة فى صحراء منبسطة، فلمّا وقعت عينه عليه ترجّل وعليه سلاحه وقال:
- «مولاي أمير المؤمنين.»
بربرىّ من أصحاب مونس يقتل المقتدر
وقبّل الأرض ثمّ قبّل ركبته، ووافى البربر من أصحاب مونس فأحاطوا بالمقتدر وضربه رجل منهم من خلفه ضربة سقط منها إلى الأرض وقال:
- «ويحكم أنا الخليفة.» فقال البربري:
- «إيّاك أطلب.» وأضجعه فذبحه بالسيف. وكان معه رجل من خلفاء الحجّاب طرح نفسه عليه فذبح أيضا ووقع رأس المقتدر على سيف ثمّ على خشبة وسلب ثيابه حتّى سراويله وترك مكشوف العورة إلى أن مرّ به رجل من الأكرة فستر عورته بحشيش ثمّ حفر له فى الموضع ودفن حتى عفا أثره. [380] ونزل يلبق وعلىّ ابنه فى المضارب وأنفذ للوقت إلى دار السلطان من يحفظها وانحدر مونس من الراشديّة إلى الشمّاسيّة فبات [1] بها ومضى عبد الواحد بن المقتدر ومفلح وهارون بن غريب ومحمّد بن ياقوت وابنا رائق على الظهر إلى المدائن.
فكان ما فعله مونس من ضربه وجه المقتدر بالسيف وقتله إيّاه ودخوله بغداد على تلك السبيل سببا لجرأة الأعداء وطمعهم فيما لم تكن أنفسهم تحدّثهم [2] به من الغلبة على الحضرة، وانخرقت الهيبة وضعف أمر الخلافة مذ
__________
[1] . فى مط: مات، بدل «مات» .
[2] . فى مط: تحديهم.(5/321)
ذلك وتفاقم حتى انتهى إلى ما نشرحه فيما بعد إن شاء الله.
تبذير المقتدر
وحكى ثابت حكاية فى تبذير المقتدر للأموال ما رأيت أن أثبته مشروحا لئلّا يغترّ أحد من الملوك ومدبّرى أمر المملكة بكثرة الأموال فيترك تثميره ويعدل عن التعب به إلى الراحة اليسيرة فإنّه حينئذ يتبدّد [1] ولا يلحق ويكون مثله مثل البثق الذي ينفجر بمقدار سعة الدرهم ثمّ يتّسع فلا يضبط.
قال صاحب الكتاب: ولقد ووعظت أنا بذلك بعض مدبّرى الملك فأكثرت عليه فتبسّم تبسّم المدلّ بكثرة الذخائر والأموال [381] فما أتت عليه سنتان [2] حتّى رأيته فى موضع الرحمة لا ينفعه الرحمة، وسأشرح خبره وحاله إذا انتهيت إليه بمشيئة الله. [3] فأمّا المقتدر فإنّه أتلف نيّفا وسبعين ألف ألف دينار سوى ما أنفقه فى موضعه وأخرجه فى وجوهه وهذا أكثر ممّا جمعه الرشيد وخلّفه. ولم يكن فى ولد العبّاس من جمع أكثر ممّا جمعه الرشيد، فإنّ القاسم بن عبيد الله قال للمعتضد وقد سأله عن مقدار ما خلّفه واحد واحد [4] من ولد العبّاس من المال:
- «إنّه لم يكن فيهم من خلّف أكثر ممّا خلّفه هارون الرشيد فإنّه خلّف فى بيت المال ثمانية وأربعين ألف ألف دينار.» وهذه نسخة لما أثبته بعض كتّاب أبى الحسن ابن الفرات لمّا وزّره
__________
[1] . يتبدّد: كذا فى الأصل ومط، والمثبت فى مد: يبتدر، خلافا للأصل.
[2] . من «ولقد ووعظت» إلى قوله «سنتان» ساقط فى مط.
[3] . انظر إلى حرص مسكويه على الإعتبار بالتاريخ، واستخراج تجاربه الواعظة. وإلى مستوى صلته بأعاظم زمانه.
[4] . كذا فى الأصل: واحد واحد (بالتكرار) ولا تكرار فى مط.(5/322)
المقتدر بالله.
- «بسم الله الرحمن الرحيم. الذي كان فى بيت مال [1] الخاصّة لمّا تقلّد المقتدر الخلافة أربعة عشر ألف ألف دينار، وافتتح أبو الحسن ابن الفرات أعمال فارس وكرمان سنة تسع وتسعين ومائتين فارتفع من مال الخراج والضياع العامّة والمعروف بالأمراء فى كلّ سنة ثلاثة وعشرون ألف ألف درهم وثمانمائة ألف درهم، منها من مال فارس ثمانية عشر ألف ألف درهم، ومن مال كرمان خمسة آلاف ألف درهم، [382] يكون ذلك فى مدّة احدى وعشرين سنة آخرها سنة عشرين وثلاثمائة الخراجيّة بعد وضع ثمانمائة ألف درهم كانت تنكسر فى كلّ سنة من مال البقايا أربعمائة ألف ألف درهم وثلاثة وثمانين ألف درهم.
«وإذا وضع من ذلك ما كان يحمله من يتغلّب [2] على فارس وكرمان إلى بيت مال العامّة بالحضرة وهو نحو أربعة آلاف ألف درهم فى السنة ومبلغه فى هذه السنين ثلاثة وثمانين ألف ألف درهم وكان الباقي بعد ذلك أربعمائة ألف ألف درهم قيمتها ثمانية وعشرون ألف ألف دينار.
«ومن أموال مصر والشام فى هذه السنين زيادة على ما كان يحمل منها فى أيّام المعتضد: ثلاثة آلاف ألف وستمائة ألف دينار.
__________
[1] . فى مط: المال.
[2] . فى مط: معك، بدل «من يتغلّب» .(5/323)
«وأخذ المقتدر من أموال علىّ بن محمّد بن الفرات فى مصادرته ومصادرات كتّابه وأسبابه: أربعة آلاف ألف وأربعمائة ألف دينار، منها فى الدفعة الأولى: ألفى ألف وثلاثمائة ألف دينار، وفى الدفعة الثانية: ألف ألف ومائة ألف دينار، وفى الثالثة مع ما أخذ من زوجة المحسّن دولة: تسعمائة ألف دينار.
«وما حصل من ارتفاع ضياع ابن الفرات الملك سوى الإقطاع والإيغار [1] فى مدّة سبع عشرة سنة مع ما انصرف فى ذلك من المبيع والمقطع والموغر للحاشية حسابا [383] فى السنة مائتي وخمسين ألف دينار: أربعة آلاف ألف ومائتي وخمسون ألف دينار.
«وما صحّ ممّا أخذ لأبى عبد الله الجصّاص الجوهري دون ما كان يذكره وهو يتكثّر به من العين: ألفى ألف دينار.
- «وما حصل من ضياع العبّاس بن الحسن بعد قتله فى مدّة أربع وعشرين سنة حسابا فى السنة مائة وعشرين ألف دينار:
ألفى ألف وثمانمائة ألف دينار.
- «وما أخذ من أموال حامد بن العبّاس وأسبابه ومع ما يرتفع من ضياعه إلى أن ردّت على ولده ألفى ألف ومائتي ألف دينار.
«وما أخذ من أموال الحسين بن أحمد ومحمّد بن علىّ المادرائيين فى أيّام وزارة أبى علىّ الخاقاني ووزارات ابن
__________
[1] . فى مط: الابعاد، بدل «الإيغار» .(5/324)
الفرات الثلاث وأيّام أبى القاسم الخاقاني وأبى العبّاس الخصيبى [1] وأبى الحسن علىّ بن عيسى الثانية وأبى علىّ ابن مقلة: ألف ألف وثلاثمائة ألف دينار.
«وما أخذ من أموال علىّ بن عيسى وابن الحوارىّ وسائر الكتّاب ووجوه العمّال المصادرين: ألفى ألف دينار.
«وما أخذ من تركة الراسبي، خمسمائة ألف دينار.
«وما أخذ من تركة إبراهيم المسمعي: ثلاثمائة ألف دينار.
«وما حصل من ثمن المبيع فى أيّام الوزراء وازداده الفضل بن جعفر: ثلاثة ألف ألف دينار.
«وما حصل من أموال أمّ موسى [384] وأخيها وأختها وأسبابها: ألف ألف دينار.
«فصار الجميع من العين: ثمانية وستين ألف ألف وأربعمائة وثلاثين ألف دينار. وضع [2] من ذلك لارتفاع ما خرج من المبيع منذ سنة سبع عشرة وثلاثمائة إلى آخر سنة عشرين وثلاثمائة حسابا فى السنة على التقريب تسعمائة ألف دينار: ثلاثة ألف آلاف وستّمائة ألف دينار.» الباقي بعد ذلك ممّا حصل فى خزانة المقتدر زائدا على ما كان يحمل إلى بيت مال الخاصّة فى أيّام المعتضد والمكتفي من أموال الضياع والخراج بالسواد والأهواز والمشرق والمغرب: أربعة وستين ألف ألف وثمانمائة وثلاثين ألف دينار.
__________
[1] . كذا فى الأصل ومد: الخصيبى. وفى مط: الحصيني.
[2] . فى مط: ومع، بدل «وضع» .(5/325)
وقد كان كلّ واحد من المعتضد والمكتفي يستفضل فى كلّ سنة من سنى [1] خلافته من أموال النواحي بعد الذي يصرف فى أعطيات الرجال والغلمان والخدم والحشم وجميع النفقات الحادثة مع ما كان يحصّله فى بيت مال الخاصّة: ألف ألف دينار.
وكان سبيل المقتدر أن يستفضل مثلها فيكون مبلغه فى خمسة وعشرين سنة: خمسة وعشرين ألف ألف دينار. فيكون جملة ما يجب أن يحضر فى بيت مال الخاصّة للمقتدر بالله فى هذه السنين إلى آخر سنة عشرين: [385] تسعة وثمانين ألف ألف دينار وثمانمائة ألف وثلاثين ألف دينار.
خرج من ذلك ما ليس يجرى مجرى التبذير وهو ما أطلق فى البيعة ثلاث [2] دفعات وما أنفق على فتح فارس وكرمان: بضعة عشر ألف [3] ألف دينار. وبقي [4] بعد ذلك ما بذّر وأتلف: نيّف وسبعون ألف ألف دينار.» وكانت مدّة وزارة أبى الفتح الفضل بن جعفر للمقتدر خمسة أشهر وتسعة وعشرين يوما.
__________
[1] . فى مط: من سبى.
[2] . فى مط: ثلاثة.
[3] . فى مط: آلاف ألف.
[4] . من هنا إلى «سبعون ألف ألف دينار» ساقط فى مط. وأمثال ذلك وغيره كثيرة فى مط.(5/326)
خلافة القاهر بالله أبى منصور محمّد بن المعتضد سنة عشرين وثلاثمائة
لمّا قتل المقتدر بالله وحمل رأسه إلى بين يدي مونس بكى وقال:
- «قتلتموه والله لتقتلنّ [1] كلّنا فأقلّ ما يكون أن تظهروا بأن ذلك جرى بغير قصد منكم ولا أمر به وأن تنصبوا فى الخلافة ابنه أبا العبّاس فإنّه تربيتي وإذا جلس فى الخلافة سمحت نفس جدّته والدة المقتدر وإخوته وغلمان أبيه بإخراج المال.» فعارض هذا الرأى أبو يعقوب إسحاق بن إسماعيل النوبختي لحينه [2] وما سبق له فى حكم الله تعالى وقال:
- «بعد الكدّ استرحنا ممّن له والدة وخالة وخدم فنعود إلى تلك الحالة؟» وما زال بمونس [386] وأسبابه حتّى فثأ رأيهم [3] عن أبى العبّاس وعدل به إلى محمّد بن المعتضد بالله ليتمّ المقدار من جرى [4] قتله على يده.
وحضر فائق وجه القصعة الحرمي فذكر لمونس أنّ والدة المقتدر لمّا بلغها
__________
[1] . فى مط،: ليقتلنّ.
[2] . لحينه: كذا فى الأصل ومط وهو الصحيح. وما فى مد: لحسنه.
[3] . فى مط: فشاراتهم، وهو تصحيف قبيح.
[4] . ضبط العبارة من الأصل.(5/327)
قتل ابنها أرادت الهرب وأنّه وكّل بها وتوثّق منها. وذكر أنّ محمّد بن المعتضد ومحمّد بن المكتفي معتقلان فى يده. فوجّه به مونس وأمره بإحضارهما وأصعد بهما إلى دار مونس بعد أن أطلق بشرى خادمه.
وابتدأ مونس بخطاب محمّد بن المكتفي فامتنع من قبول الأمر وقال:
- «عمّى أحقّ به.» فخاطب حينئذ محمّد بن المعتضد فاستجاب واستحلف لمونس المظفّر وليلبق ولعلىّ ابنه وليحيى بن عبد الله الطبري كاتب يلبق.
فلمّا توثقوا منه بالأيمان والعهود بايعوه وبايعه من حضر من القضاة والقوّاد ولقّب: «القاهر بالله» . وكان ذلك سحر يوم الخميس لليلتين بقيتا من شوّال. وأشار مونس بأن يستوزر له علىّ بن عيسى ووصف سلامته واستقامة أموره ومذهبه ودينه فقال يلبق وابنه:
- «الحال الحاضرة لا تحتمل أخلاق علىّ بن عيسى وأنّه يحتاج إلى من هو أسمح منه وأوسع أخلاقا.» فأشار بأبى علىّ ابن [387] مقلة وبأن يستخلف له إلى أن يقدم من فارس أبو القاسم الكلوذانى. فأمضى مونس ذلك وكتب إلى أبى على ابن مقلة بالإسراع، وإلى ياقوت بحمله وتعجيله.
وانحدر القاهر إلى دار الخلافة وصعد الدرجة. وانحدر مونس وأسبابه إلى دورهم وصرف محمّد بن المكتفي إلى داره فى دار ابن طاهر واستحجب القاهر بالله علىّ بن يلبق واستكتب علىّ بن يلبق أبا علىّ الحسن بن هارون.
ووجّه مونس المظفّر فاستقدم علىّ بن عيسى من الصافية فراسله القاهر على يد الحسن بن هارون واستدعاه فلقى مونسا ثمّ انحدر إلى القاهر فوصل إليه وخاطبه بجميل وذلك قبل ورود ابن مقلة.
واستحضر مونس أبا القاسم الكلوذانى وانحدر معه إلى دار السلطان(5/328)
وأوصله إلى القاهر فعرّفه أنّه قد استوزر أبا علىّ ابن مقلة واستخلفه له إلى أن يقدم وأمره أن ينتقل [1] إلى دار مفلح ليقرب عليه إذا طلبه ففعل ولقيه أصحاب الدواوين وهنّأوه وأمر ونهى.
تشاغل القاهر بالبحث عمّن استتر
وتشاغل القاهر بالبحث عمّن استتر من أولاد المقتدر وحرمه وبمناظرة والدته وكانت فى علّة عظيمة من فساد مزاج وابتداء [388] استسقاء ولمّا وقفت على ما لحق ابنها من القتل وأنّه لم يدفن جزعت جزعا شديدا ولطمت رأسها ووجهها وامتنعت من المطعم والمشرب حتّى كادت تتلف ورفق بها رفقا كثيرا إلى أن اغتدت بيسير من الخبز والملح وضربت الماء.
ثمّ دعاها القاهر فقررها بالرفق مرّة وبالتهديد مرّة فحلفت له على أنّه لا مال لها ولا جوهر إلّا صناديق فيها صياغات وثياب وفرش وطيب وأنّ هذه الصناديق فى دار تتصل بالدار التي كانت تسكنها من دار السلطان ووقفته على تلك الدار وتلك الصناديق وقالت:
- «لو كانت عندي مال لما سلّمت ولدي للقتل.» فضربها حينئذ بيده وعلّقها بفرد رجل وأسرف فى ضربها على المواضع الغامضة من بدنها [2] ولم يرع لها إحسانها وقت اعتقال المقتدر إيّاه ولمّا أوقع بها المكروه لم يجد زيادة على ما اعترفت به طوعا.
فلمّا كان مستهلّ ذى القعدة حضر يلبق وعلىّ ابنه ومعهما أبو القاسم الكلوذانى دار السلطان فأوصلهم إلى حضرته فطالبوه بحمل مال إلى مونس المظفّر لينفق فى صلة البيعة فحدّثهم بما فعله بوالدة المقتدر [389] وأنّه
__________
[1] . فى مط: يقفل، بدل «ينتقل» .
[2] . فى مط: يديها، بدل «بدنها» .(5/329)
ضربها بيده مائة مقرعة ضرب التقرير على المواضع الغامضة من بدنها فما أقرّت بدرهم واحد غير ما كانت أقرّت به عفوا وقال لهم:
- «هي بين أيديكم.» ثمّ أدخلهم إلى الدار التي فيها الصناديق فإذا فيها ثياب وشى وديباج رومي [1] وتسترىّ مثقّلة بالذهب وفرش أرمنىّ [2] وخزّ رقم وديباج وصناديق فيها ثياب فاخرة وصياغات يسيرة ذهب وصياغات كثيرة فضّة وطيب كثير من عود هندىّ وعنبر ومسك وكافور وتماثيل كافور [3] قيمة ذلك نحو مائة وثلاثين ألف دينار وقيمة التماثيل نحو ثلاثمائة ألف درهم فتسلّم أكثر ذلك مونس المظفّر ليباع فتركوا بعضه ليخدم به القاهر.
وصودر جميع أسباب المقتدر وظهر الفضل بن جعفر فعنى به مونس ويلبق وابنه وخاطبوا فيه القاهر فقال:
- «هذا كان وزير المقتدر ولا بدّ من مصادرته.» فبذل عشرين ألف دينار عاجلة فقال مونس:
- «أنا أزن هذا المال عنه فإنّه ثقة عفيف كاتب ديّن.» ورسم أن يقلّد ديوان الضياع المقبوضة عن والدة المقتدر وديوان أولاد المقتدر وما قبض عنهم وعن سائر الأسباب وأكرم كل إكرام وصار إلى [390] الكلوذانى فقام له لمّا حضر ولمّا انصرف ووقّع له القاهر بجميع تلك الدواوين التي ذكرتها فتسلّم الدواوين ولم يؤثر فيها شيئا لأنّه لم يستحسن وكان بالأمس وزير المقتدر أن يتقلّد اليوم ديوان المقبوضات عن والدته وأولاده وأسبابه فاستحضر الكلوذانى هشاما وقلّده ذلك أزمّة وقلّد أبا محمّد
__________
[1] . فى مط: ثقفىّ، بدل «رومىّ» .
[2] . كذا فى الأصل ومط: أرمنىّ. والمثبت فى مد: ادمىّ، خلافا للأصل.
[3] . تماثيل كافور: كذا فى الأصل ومط ومد.(5/330)
المادرائى ديوان الأصول فكانت مدّة ولاية الفضل هذه الدواوين سبعة عشر يوما.
وكانت مصادرة أبى بكر ابن ياقوت قد اشتهرت وأنّه لم يؤدّ منها إلّا تسعين ألف دينار فطولب بتمامها. وأخرج القاهر والدة المقتدر لتشهد على نفسها القضاة والعدول بأنّها قد حلّت وقوفها ووكّلت فى بيعها علىّ بن العبّاس النوبختي ونوظرت على ذلك فامتنعت منه وذكرت أنّها وقفته على مكّة والثغور على الضعفى [1] والمساكين ولا أستحل حلها فأمّا أملاكى الطلق فقد وكّلت علىّ بن العبّاس فى بيعها.
فنهض القاضي عمر بن محمّد والشهود إلى حضرة القاهر فأشهدهم على نفسه بأنّه قد حلّ وقوفها ووكّل فى بيعها علىّ بن العبّاس النوبختي وفى بيع سوى ذلك من الضياع الخاصّة والفراتيّة والعبّاسية [391] والمستحدثة والمرتجعة وما يجرى مجراها فى سائر النواحي ووكّل أبا طالب النوبختي وإسحاق بن إسماعيل وأبا الفرج جلخت فى بيع المستغلات بالحضرة المقبوضة وما أمكنهم بيعة من فضل ما بين المعاملتين. ورأى أسباب مونس أنّه لا يتمّ البيع إلّا بأن يبتدءوا بالشراء منهم فابتاعوا أشياء بنحو خمسمائة ألف دينار.
وزارة ابن مقلة
وقدم أبو على ابن مقلة من شيراز فى يوم النحر وكان كتب إلى القاهر بالله ويسأله أن يجلس له فى الليل لأنّه كان اختار لنفسه أن يلقاه بطالع الجدى وفيه أحد السعدين والآخر فى وسط السماء فوصل فى الوقت الذي
__________
[1] . الضعفى: كذا فى الأصل ومط. فى مد: الضعفاء، خلافا للأصل، وكلاهما بمعنى واحد.(5/331)
قدّره وصادف القاهر ينتظره فلقيه وخرج من عنده وقد أعدّت له دار هارون بن المقتدر وفرشت فدخلها ووقّع فيها بتقليد قوم وخلع عليه من الغد خلع الوزارة وصار إلى مونس المظفّر فسلّم عليه وانصرف إلى داره.
وحضر الناس للتهنئة وراح إليه فى آخر النهار علىّ بن عيسى فلم يقم له واستقبح الناس له ذلك وصار إليه أبو بكر ابن قرابة ووفى بوعده فى مداخلته إيّاه والعود إلى التخليط كما كنّا شرحناه من أمره.
ودخلت سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة [392]
كان أبو علىّ ابن مقلة عاتبا على الكلوذانى وذاك أنّه لم يعرف خبر أحد من إخوته وولده وحرمه وأسبابه بعد تقليده خلافته ولا صار إلى داره ولا قلّد أحدا من أسبابه شيئا من الأعمال ولا تفقّد حرمه وولده بشيء، وأعظم من هذا كلّه أنّ أبا عبد الله ابن ثوابة استأذن أبا القاسم الكلوذانى فى وقت خلافته أبا علىّ فى ذكر كنيته على الكتب النافذة إلى العمّال فلم يأذن له فقبض على الكلوذانى وأسبابه وكان هذا أوّل ما وبّخه به وأخذ خطّه بمائتي ألف دينار ونقله مع كاتبه وأسبابه إلى أبى بكر ابن قرابة ثمّ قبض على جماعة من العمّال وكتّاب الدواوين وقبض على إسحاق بن إسماعيل النوبختي وعلى بنى البريدي وضمن أعمالهم من محمّد بن خلف النيرمانى بما كانت عليهم وزيادة ثلاثمائة ألف دينار وضمن أيضا أن يصادرهم على ستمائة ألف دينار وتسلّمهم وحملهم إلى داره وجميع ذلك بتوسط ابن قرابة فاعتقلهم محمّد بن خلف فى داره وفرّق بينهم.
وجمع أبو على ابن مقلة لمحمّد بن خلف مع هذه الأعمال أعمال المعاون فخاف إسحاق بن إسماعيل وبنو البريدي على أنفسهم لما يعرفونه من شدّة(5/332)
إقدام محمّد بن خلف وتهوّره [1] فأمّا أبو عبد الله البريدي [393] فإنّه دارى محمّد بن خلف ورفق به وأوهمه أنّه يعمل من قبله ويقوم بمال النواحي وبالزيادة التي بذلها وأن يطيعه فى المال كلّه ويعمل بما يأمره فيه ولا يخالفه فرفّهه من بين الجماعة وأوقع بأخويه وعلّق عليهما الجرار المملوءة ودهقهما [2] فلم يذعنا بشيء وضيّق على إسحاق بن إسماعيل ولم يوقع به مكروها.
وكانت بين أبى جعفر ابن شيرزاد وبين إسحاق بن إسماعيل مودّة وكيدة فخاطب أبو جعفر الوزير أبا علىّ فى لقاء إسحاق وقال:
- «أحتاج أن أواقفه على ما سبّب لصاحبي هارون بن غريب عليه فى أيّام المقتدر وما أطلقه حتّى لا يحيل علىّ بما لم يطلقه.» فوجّه معه بحاجب من حجّاب الوزارة فأوصله إلى إسحاق فلمّا وقعت عين إسحاق عليه قال له:
- «يا سيدي الله الله فى أمرى بادر إلى الأستاذ المظفّر ولا تفارقه حتّى يخلصني من يد هذا المجنون.» فمضى أبو جعفر إلى مونس ولم يزل يسأله حتّى دعا يلبق وأمره أن يمضى إلى أبى على ابن مقلة ويخاطبه فى أمره فإن أطلقه وإلّا انتزعه من يد محمّد بن خلف وحمله إليه. فمضى يلبق إلى ابن مقلة فخاطبه فلم يجد ابن مقلة بدّا من الاستجابة لتقريب أمر إسحاق.
فحكى أبو الفرج ابن أبى هشام عن أبى سعيد ابن قديدة أنّ السبب فيما لحقهم عتب أبى بكر ابن قرابة [394] عليهم لتأخيرهم مالا كان له عليهم وهو الذي قدّمه عنهم فتقاعدوا عن الوفاء له فعاهد محمّد بن خلف يوم
__________
[1] . كذا فى الأصل ومط: تهوّره. والمثبت فى مد: قهوره، خلافا للأصل.
[2] . دهقه: ضربه. دهق الشيء: كسره.(5/333)
تضمّنهم من أبى علىّ ابن مقلة بستمائة ألف دينار على أن يستوفى له من جماعتهم ما قدّمه عنهم ويردّه عليه. فلمّا حصلوا فى يد محمّد بن خلف استخرج من أبى عبد الله وأخويه عشرين ألف دينار وأنفذ قبض بعض الصيارف بدرب عون إلى أبى بكر ابن قرابة بها وجعل ذلك من دينه عليهم وجدّ بهم.
واستسلم له أبو يوسف وأبو الحسين ولحقهما منه مكاره عظيمة وأطمعه أبو عبد الله إطماعا لم يصحّ ورفق به. فلمّا كان فى اليوم الثالث ركب محمّد بن خلف إلى أبى علىّ ابن مقلة فقال له أبو علىّ:
- «يا أبا عبد الله غررتنا والقوم فى يدك فنفذت مخاريقهم عليك وذهبت بريحك.» فخجل محمّد واغتاظ وقال:
- «قد حملت من جهتهم عشرين ألف دينار وإنّما ضمنت المال فى مدّة ثلاثة أشهر فأىّ عتب للوزير علىّ حتّى يخاطبني بهذا الخطاب البشع.» فقال الوزير:
- «ما سمعت بهذا إلّا منك فإلى من سلّمت المال؟» قال:- «إلى ابن قرابة.» فدعا بابن قرابة وسأله [1] عمّا ذكر محمّد بن خلف فقال:
- «أنفذ أيّها الوزير هذا الخط وو الله ما قبضت [395] ماله من الصيرفي وزعم أنّه من دين لى عليهم ولو قال إنّه من الحمل لأنهيت حاله فى الوقت وإذ قد بدا له فها هي الرقعة بارك الله له فيها.» وسلّمهما إلى محمّد بن خلف فقال محمّد:
__________
[1] . كذا فى الأصل ومط: وسأله. والمثبت فى مد: وهنّأ له، خلافا للأصل.(5/334)
- «ولا والله ما جعلتها من دينك وكيف يجوز أن أقدّم مالك على مال السلطان؟» فاستوحش كلّ واحد منهما من صاحبه وبلغ أبا عبد الله البريدي خبر المجلس فسرّى عنه واجتهد فى أن يكتب رقعة إلى ابن قرابة يسأله فيها المصير إليه فلم يجد دواة ولا من يحملها واتفق أن أنفذ أبو سعيد ابن قديدة غلامه أحمد ليشاهد حاله فاستأمن إليه أبو عبد الله ورغّبه فى الإصطناع والإحسان ووعده أن يغنيه إذا أوصل رقعة له إلى ابن قرابة فاستجاب له الغلام واحتال له فى جوزة جعل فيها كرسفا [1] وأحضره قلما صغيرا وقطعة من كاغذ فكاتب أبا بكر ابن قرابة وحلف له إنّه إن أخذه إليه وفّاه ماله عن آخره وخدمه أحسن خدمة.
فبكر أبو بكر ابن قرابة إلى محمّد بن خلف وأظهر له أنّه قد قصده لمعاتبته حتّى استوفى المفاوضة معه. ثمّ قال له:
- «أخرج ابن البريدي إلىّ فإنّه يستقيم إلى كلامي حتّى أقرر مصادرته وأعرف ما عنده [396] فى ديني.» فأخرج إليه أبا عبد الله فقال أبو عبد الله:
- «أوّل إقبالى إن قلت لمحمّد بن خلف: لم يبق من السحر إلّا السرار فيتفضّل الأمير ويخلى لنا مجلسنا.» فنهض محمّد بن خلف من مجلسه وسلّمه إلىّ برقاعته وقال:
- «أنا داخل إلى دار الحرم.» فتخاطبنا وجلست مجلسه وقعدت مقعده فتفاءلت وقلت:
- «هذا مجلس كان لى فأنتقل إليه وقد عاد إلىّ.»
__________
[1] . فى مط: كرفسا. والكرسف: القطن. ليقة الدواة.(5/335)
فاستصلحت أبا بكر ابن قرابة ووعدني بتخليصى ووفى ومضى ففصل أمرنا وضمن الوفاء عنّا.
فلمّا كان فى اليوم الثاني رضى عنّا أبو علىّ ابن مقلة واستدعاني وإخوتى فدعانا محمّد بن خلف وسكّن منّا [1] وأنفذنا إليه فلمّا أردت الخروج قلت لمحمّد ابن خلف:
- «أيّها الأمير، أبو يعقوب إسحاق بن إسماعيل خادمك ومونس يعتنى به وسينفذ الساعة من يأخذه فدعني حتّى أستصلحه لك وأعقد بينك وبينه عهدا ويمينا.» فقال: «افعل.» فخلوت بإسحاق بن إسماعيل وقلت له:
- «قد سخرت من هذا النفس [2] وأنا منصرف فعاقده واحلف له ثمّ قل له: بيننا الآن عهد ولا بدّ من صدقك ابن مقلة يبغضك ويتّهمك بأنّك تطلب الوزارة وإنّما أراد أن يستنفر لك الأعداء ويأخذ أموالنا بيدك ثمّ يحملنا على أن نتضمّنك وقد ضمنك أبو عبد الله البريدي [397] بثلاثمائة ألف دينار وحدّثنى بهذا فلا تركب أيّاما فإن كان الوزير سأل عنك فقد حماك منه الخليفة وإن طلبك فإنّما يريد أن يسلّمك إليه.» ثمّ انعطفت إلى محمّد بن خلف وقلت:
- «قد فرغت من القصّة والرجل يخدم الأمير كما يريد.» وخرجنا فأعاد عليه إسحاق ما سمعه منّى فانصرف قبل العصر بعدي.
فلمّا جلس محمّد بن خلف فى منزله ولم يركب إلى أبى علىّ ابن مقلة مضى أبو عبد الله البريدي إلى ابن مقلة وقال له:
__________
[1] . كذا فى الأصل: منّا. فى مد: بنا. وفى مط: وتمكن منّا، بدل «وسكّن منّا» .
[2] . فى مط: البلس، بدل «النفس» .(5/336)
- «قد عرفت من دار محمّد أنّه يطلب الوزارة وأنّ رسله منبثّون إلى أسباب مونس وإلى القاهر فلا تدعه يقيم فى البلد.» وكان ابن مقلة جبانا فطلبه وكان ذلك القول الأوّل قد تقدّم إلى محمّد بن خلف، فوثب بخدم ابن مقلة وغلمانه وحاجبه وضربهم وحصّلهم فى بيت وقفل الباب عليهم وتسوّر السطوح وهرب فلم يظهر إلّا فى وزارة أبى جعفر محمّد بن القاسم بن عبيد الله للقاهر بالله.
وكان أبو عبد الله البريدي مقيما بالأهواز وعرف محمّد بن خلف من بعد أنّ الحيلة تمّت عليه، فقال لمن بلّغ أبا عبد الله البريدي:
- «ظننت بك ظنّا جميلا ولم أعلم أنّك فى الحيلة علىّ وكنت قد صدقت عنك فلم أقبل.» [398] فقال أبو عبد الله البريدي لأبى علىّ الكاتب:
- «اكتب إلى فائق الغلام بأن يقول لمحمّد بن خلف: هذه الحيلة يجوز أن تخفى عليك، فقد خفى مثلها على من هو أكبر منك ولكنّ أعظم من ذلك أنّه كان لنا من الموضع الذي حسبنا فيه طرق إلى دور حرمك وذهبت عليك ولم تعرفها فاحترس منها فى المستأنف.» وتوسّط أبو بكر ابن قرابة أمور الجماعة وفصلها مع ابن مقلة فوقّع ابن مقلة بإعادة ابني البريديين إلى أعمالهم فاستقامت أمورهم. ولمّا بطل ضمان محمّد بن خلف ما كان ضمنه من ضمانات البريديين وإسحاق بن إسماعيل صرف أيضا عن أعمال المعاون فى هذه النواحي وطلبه ابن مقلة وكان من وثوبه برسله وحاجبه واستتاره ما ذكرناه.
ووجّه ابن مقلة إلى دار محمد بن خلف من [1] فتح الباب عن خدمه
__________
[1] . من فتح: فى الأصل ومد: ثمّ فتح. والتصحيح من مط.(5/337)
وغلمانه وحاجبه وانصرفوا.
بين ابن مقلة وأبى الخطّاب
وكان أبو علىّ ابن مقلة يعادى أبا الخطاب ابن أبى العبّاس ابن الفرات ولم يكن يجد إلى القبض عليه طريقا ديوانيّا لأنّه كان ترك التصرف عشرين سنة ولزم منزله وقنع بدخل ضيعته. وكان سبب عداوة أبى علىّ له أنّه كان استسعفه أيّام نكبته فاعتذر بالإضاقة ولم يسعفه. [399] ثمّ إنّ أبا الخطّاب طهّر أولاده فتجمّل كما يتجمّل مثله ودعا أولاد أبى علىّ ابن مقلة فشاهدوا مروّة تامّة وآلات جليلة وصياغات كثيرة وكان بعضها عارية فانصرفوا وحدّثوا أباهم الحديث وعظّموا وكثّروا وصار أبو الخطّاب ابن أبى العبّاس ابن الفرات إلى الوزير أبى علىّ ابن مقلة على رسمه يوم الموكب للسلام عليه فقبض عليه.
فحكى أبو الفرج ابن أبى هشام أنّ أبا زكريا يحيى بن أبى سعيد السوسي حدّثه أنّه كان حاضرا حين قبض على أبى الخطّاب وأنّ الوزير أبا علىّ أنفذ إليه وسائط وأنّه كان فيهم وطالب بثلاثمائة ألف دينار وأنّ أبا الخطّاب قال:
«بماذا يتعلّق الوزير علىّ وقد تركت التصرف منذ عشرين سنة ولمّا تصرفت كنت عفيفا سليما ما آذيت أحدا ولى على الوزير حقوق وليس يحسن به أن يتناساها مع اشتهاره بالكرم ويقبح(5/338)
بى أن أهجّنه بخطوط له عندي قبل هذه الحال الغالية [1] فقولوا له: أيّها الوزير أبو علىّ، ذكّرتك بما لو طالبتك برعايتها أو بالمجازاة على ما أسلفتك فى أوقات انحراف الزمان عنك أو سألتك ولاية أو إماحة أو إحسانا فى معاملة فى ضيعة أو إرفادا [400] وهل من الجميل ألّا أجد عندك إذا رفّهتك من هذا كلّه سلامة فى نفسي فيما قد ركبته منّى ممّا إذا صدقت نفسك خفت العقوبة من الله عزّ وجلّ ثمّ قبح الأحدوثة من الناس.
- «أما ما ظننته عندي، فما الأمر كما وقع لك لأنّ هذا المال إن كان موروثا عن أبى رحمه الله فلست وارثه وحدي ولو كان لاقتسمناه ونحن عدّة فلم يكن بدّ من أن يشيع ويعرف خبره وإن ظننته من كسبي فتصرفى وما وصل إلىّ منه معروف وما خفيت عنك نزارته ومن بحضرتك من أصحاب الدواوين يشهدون لى بأنّى ما حظيت ببعض مؤونتي [2] وإن ظننته من استغلال فما استغلّه مقسوم بين الورثة وإن رجعت إليهم بالمسألة لم تجد ما يخصّنى فى زمان تصرفى إلّا بعض ما انصرف إلى مئونتي ومروّتى.
- «وقد خلف الوزراء والأكابر وأولادا مثلي فى كفايتي ودوني فتعرضوا لمواقف واستشرفوا لرتب وراسلوا وروسلوا فهل رأيتنى إلّا فى طريق التسلّم وراضيا بامتداد ستر الله تعالى والزهد فى هذه الدنيا. فأىّ شيء تقول الله تبارك اسمه، ثمّ لعباده إذا
__________
[1] . فى مط: العالية (بالعين المهملة) .
[2] . كذا فى الأصل ومط: مؤونتي. وفى مد: مروءتى.(5/339)
أسأت إلىّ؟» فلمّا أعيد هذا الكلام على ابن مقلة من غير جهتنا فإنّه كان [401] أنفذ من يتسمع، خجل وتبلّد وتحيّر ثمّ قال:
- «هذا يدلّ علىّ بالفراتيّة وأمير المؤمنين ليس يمكّننى من رعاية حقوق أمثاله وأنا أنفذه إلى الخصيبى فإنّه أعرف بدوائه.» فقمنا وجئت إلى الخصيبى فحدّثته بما جرى فى المجلس وقلت له:
- «أعيذك بالله أن تنتصب للتشرّر [1] على الناس وأن يقال: إنّ النعم تزال بك وأنت وزير ابن وزير وقد رفع الله قدرك من ذلك وأجلّك بصناعتك وعفافك وأبوّتك.» فقال: «أحسن الله جزاءك ستعلم أنّى أردّه إليه بعد أن أعذر باليسير إليه.» ثمّ إنّ أبا علىّ ابن مقلة استدعى الخصيبى وسلّمه إليه بعد أن اضطرّه إلى كتب خطّه بثلاثمائة ألف دينار يصحّحها فى مدّة عشرين يوما. فأحضر له الخصيبى صاحب الشرطة وجرّده وضربه عشر درر وخلّع تخليعا يسيرا، ثمّ ضربه بالمقارع، فأقام على أنّه لا مال له وأنّ ضياعه قد وقفها ولا يمكنه بيعها. فاستعفى الخصيبى منه وردّه إلى دار ابن مقلة فحبسه ثمّ سلّمه إلى المعروف بابن الجعفري النقيب وأحضر له غلاما من غلمان القاهر وذكر له أنّه قد أمر بضرب عنقه إن لم يؤدّ قدرا من المال.
فما زال يعلّلهم إلى آخر الوقت ولم يؤدّ [402] شيئا. فلمّا حضر الوقت أحضره السيف وشدّ رأسه وعينيه. فقال له أبو الخطّاب:
- «وجّهنى رحمك الله إلى القبلة.»
__________
[1] . فى مط: للشرّ، بدل «التشرّر» .(5/340)
فوجّهه.
ثمّ قال له:
- «برفق [1] » .
وتشاهد.
فبادر بالخبر ابن الجعفري إلى ابن مقلة فقال ابن مقلة:
- «لا يجوز أن يكون بعد هذا شيء.» وقال مونس المظفّر لابن مقلة:
- «أىّ طريق على رجل لم يعمل عملا منذ آخر سنة تسع وتسعين ومائتين؟» فأخذه ابن مقلة وسلّمه إلى حاجبه وأمره أن يعتقله. فأقام فيه يومين وحضر أبو يوسف البريدي فشكا إليه ابن مقلة ما أقام عليه أبو الخطّاب من التجلّد ووسّطه بينه وبينه. فصار إليه أبو يوسف وقرّر أمره على عشرة آلاف دينار فحلف أبو الخطّاب ألّا يؤدّى منها درهما ولو قتل أو يطلق إلى منزله.
فوجّه إليه ابن مقلة بخلعة من ثيابه وحمله على دابّة بمركب واستدعاه ووثب إليه حتّى كاد أن يقوم له ثمّ قال له:
- «كثّر على الخليفة فى أمرك وعزيز علىّ ما لحقك فامض مصاحبا إلى منزلك.» فانصرف وأدّى المال فى مدّة عشرة أيّام وأطلق ضياعه وأملاكه.
وأحضر ابن مقلة إسحاق بن إسماعيل وأخذ خطّه بأن يحمل [403] فى كل شهر من شهور الأهلّة مثل ما كان يحمله إلى المقتدر بالله لخريطته على
__________
[1] . فى مط: ترفّق.(5/341)
سبيل المرفق وهو ألفا دينار وأخذ خطّ أبى عبد الله البريدي بحمل ثلاثة آلاف دينار فى كلّ شهر على هذه السبيل وخطّ أبى يوسف وأبى الحسين أخويه بألف وخمسمائة دينار فى كلّ شهر.
ذكر ما جرى فى أمر الذين هربوا من قوّاد المقتدر وما آل أمرهم إليه
كتب هارون بن غريب إلى أبى جعفر محمّد بن يحيى بن شيرزاد من واسط بأن يقطع أمره على مصادرة ثلاثمائة ألف دينار على أن يطلق له ضياعه الملك فى سائر النواحي ومستغلّاته دون الإجارات والوقوف التي كانت فى يده وعلى أن يؤدّى حقوق بيت المال على الرسوم القديمة ويرتجع إقطاعاته. وعنى به مونس المظفّر وأسبابه وكتب له القاهر أمانا وقبلت مصادرته التي بذلها وقلّد أعمال المعاون بماه الكوفة وماسبذان ومهرجانقذق.
وخرج عبد الواحد بن المقتدر ومحمّد بن ياقوت الباهلي وابنا رائق وسرور ومفلح من واسط مفارقين [404] لهارون بن غريب من واسط إلى السوس وجنديسابور فأفسدوا أمر الأعمال هناك وعاثوا وخرّبوا ومدّوا أيديهم إلى التنّاء والتّجار ثمّ خرجوا على الظهر إلى سوق الأهواز. فلمّا طال مقامهم بالأهواز شخص يلبق والجيش معه نحوهم فلقيه هارون بن غريب بجرجرايا ثمّ نفذ لحرب القوم.
فأمّا ما حكاه أبو الفرج ابن أبى هشام عن مشاهدة وعيان فإنّه قال: إنّ الهاربين من قوّاد المقتدر مع عبد الواحد ابنه دخلوا سوق الأهواز من طريق الطيب وما دخلوا السوس ولا جنديسابور واستبدّ محمّد بن ياقوت بالأمور على ابني رائق والجماعة.
وقلّد أبا إسحاق القراريطى كاتبه النظر فاستخرج وأمر ونهى وكانت(5/342)
الأموال تنصبّ إلى ابن ياقوت ويعطى منها ابنا رائق وغيرهما ما يريد فتغيرت له القلوب واعتقدوا الخلاف عليه.
وتحقق أبو عبد الله البريدي بأبى علىّ ابن مقلة. وكانت الكتب ترد عليه من الأهواز بجميع ما يجرى فأشار بأن يتلاحق أمرهم وقال:
- «إنّ القوم متخاذلون وابن ياقوت مستبدّ عليهم وقلوبهم شتّى وإنّ ابني رائق صديقاه فإن أخرج إليهم جيش اختلفت كلمتهم [405] وإن تركوا قويت شوكتهم بأموال الأهواز وعقدوا لعبد الواحد الخلافة وطلبوا الحضرة.» فأنفذ أبو علىّ إبن مقلة أبا عبد الله البريدي إلى مونس حتّى شافهه بذلك كلّه فقال مونس:
- «قد ترى الحيرة فى مال البيعة وقد استحقّ الناس رزقه لأنّ الحادثة المقتدر منذ ثلاثة أشهر فمن أين المال؟» فقال أبو عبد الله البريدي:
- «أنا أضمنه ويسبّب علىّ وأقدّم بالحضرة ثلاثين ألف دينار وأصحّح [1] بالسوس خمسين ألف دينار وبتستر عشرين ألف دينار والباقي بالأهواز.» وأحضر صاحب ديوان الجيش وعمل جريدة لمن تجرّد مع يلبق وأجمل ما لهم فبلغ مائتي وخمسين ألف دينار فحمل أبو عبد الله الثلاثين الألف الدينار التي ضمن تعجيلها بالحضرة وخوطب القوّاد وتكاثرت العساكر مع يلبق وأبو عبد الله البريدي معه.
وخرج بدر الخرشنى [2] فى الماء وكوتب أحمد بن نصر القشوري وكان يتقلّد البصرة أن يسير معه فلمّا تحصّلت الجيوش بواسط تغيّرت القلوب على محمّد بن ياقوت وتبيّن ذلك فقال للجماعة:
__________
[1] . فى مط: أضح.
[2] . فى مط: الحرشي.(5/343)
- «أنا واحد منكم ولست أخالفكم فى رأى ولكنّ الوجه أن نجتمع بتستر [406] فإنّها حصينة منيعة وندبّر أمرنا بما يوفق الله عزّ وجلّ له ولا نحارب.» وواقفهم على مال يعطيهم وساروا للوقت إلى عسكر مكرم وأفرجوا عن قصبة الأهواز فعمل القراريطى بها ما لا يعمله الدمستق وفتح الدكاكين بالليل وبعث إليها البغال وحمل منها أمتعة التجّار وصادر الأسود والأبيض.
ولمّا ورد الخبر بنزول يلبق السوس نفذت الجماعة إلى تستر وورد البريدىّ وسلك طريق القراريطى وزاد وما زال يحتال حتّى وفّى الخمسين الألف الدينار ثمّ وافى يلبق والجيوش جسر تستر فوجده مقطوعا وحال بينه وبين تستر دجيل.
فحكى عن أبى عبد الله البريدىّ بعد ذلك أنّه قال: هممت بالتغلّب ووضعت فى نفسي الإمرة وتدبير الرجال منذ ذلك لمّا رأيت انحلال يلبق وسقوط ابن الطبري كاتبه لأنّى رأيتهما متخلّفين ساقطين. وكان الشارد قد طار وضجّ يلبق واضطرب رجاله فهمّ بالانصراف فثبّته أبو عبد الله البريدىّ وما زال يتردّد إلى القوّاد ويهزّهم ويهاديهم ويسكّنهم ويكاتب ابني رائق بالمودة ويشير عليهما بمفارقة ابن ياقوت ويذكر لهما سوء أخلاقه وشدّة عجبه وتطاوله [407] عليهما حتّى استجابا إلى تقلّد البصرة والانصراف عن تستر.
فما عرف ابن ياقوت الخبر حتّى ضربا بالبوق بكرة ورحلا فلم يكن له بهما يدان لأنّه لو كاشفهما لعبر العسكر الذي بازائه إليه وقتل أو أسر. ولمّا توجّه ابنا رائق إلى البصرة استأذن مفلح وسرور فى العبور بعبد الواحد إلى يلبق وقالوا لمحمّد بن ياقوت:
- «قد ضعفت نفوسنا وأنت معتصم برجالك ونحن فلا عدّة لنا ولأصحابنا(5/344)
إلّا غلماننا.» فردّ الإختيار إليهم، كاتبوا وتوثّقوا لنفوسهم من يلبق وعبروا إليه وتحيّر محمّد بن ياقوت فراسل يلبق فى أن يحلف بسلامة نيّته إذا لقيه ليعبر إليه ويفاوضه ويعود إلى معسكره. فأجابه وحلف له على ذلك وعبر إليه محمّد بن ياقوت بدرّاعة بيضاء وعمامة وجمشك [1] فى رجله ومعه غلام واحد وقت العصر فقام له يلبق وتفرّدا وتطاولا حديثا ما عرف فى الوقت.
واشتعلت النيران فى ثياب البريدي وتردّد دفعات إلى ابن الطبري يشير بالقبض على ابن ياقوت وراسل ابن الطبري يلبق بذلك وقال له:
- «البريدي خليفة الوزير وثقة الأستاذ مونس يشير بذلك ولست أقول أنا شيئا.» فقال يلبق:
- «ما كنت بالذي أخفر أمانتى [408] وأحنث فى يميني ولو ذهبت نفسي.» وحضر وقت الصلاة فقام محمّد بن ياقوت تحت الفازة فى موضع فسيح فأذّن وأقام وتقدّم للصلاة يلبق وأكثر العسكر وراءه ولمّا استتمّ المكتوبة انثنى إلى يلبق معانقا له فقام إليه وودّع كلّ واحد منهما صاحبه وعاد محمّد بن ياقوت إلى عسكره [2] وظهر السرّ وكان تعاتبهما أوّلا ثمّ تحالفا وتعاقدا واصطلحا على أن يسيرا إلى الحضرة بشروط الأمان على أن يكون بينهما فى المسير منزل فمنزل.
ورحل محمّد بن ياقوت بعد ثلاثة أيّام من تستر إلى عسكر مكرم ودخل
__________
[1] . فى مط: حمل، بدل «جمشك» بضم الجيم كما ضبط فى الأصل. أصلها الفارسي: جمشك (چمشك) ، أى الحذاء.
[2] . فى مط: معسكره.(5/345)
يلبق تستر فعمل بها البريدي أعظم ممّا عمل القراريطى بكثير لأنّ الناس توقّوا منه، فلمّا رأوا أصحاب السلطان أنسوا. فأتى البريدي عليهم وكبس اليهود وهم معظم التّجار وتجاوز كلّ قبيح ووفى بالمائة الألف الدينار.
وسار يلبق إلى الأهواز وأهلها هاربون من محمّد بن ياقوت فسلّموا لأنّهم مضوا إلى البصرة. وابتلى بالبريدى [1] أهل عسكر مكرم وتستر. فأيسر ما عمل أن ركب إلى دور الصيارف فأخذ ما وجد من الأموال لهم ولمن يضاربهم وخسف بالسواد حتّى صحّح ليلبق مائتي ألف دينار [409] وبقيت على البريدىّ خمسون ألف دينار وعنى به ابن الطبري لأنّ البريدىّ خدمه خدمة تامّة حتّى إنّه كان يحضر أبواب البيع فى البلدان ويجلس على غاشيته ينتظر خروجه، فإذا خرج سأله أن يعطيه برشائه فإذا أعطاه قبّله وجعله فى كمّه وأشهد له بضياع ارتفاعها عشرة آلاف دينار فكان ذلك سبب عناية ابن طبرى به.
وخاطب له يلبق وقال له:
- «أبو عبد الله ثقة ونجعل هذه الخمسين الألف الدينار فيما يخصّ الأمير- وكان ماله فى الجملة- وقد خدم وبيّض وجه الأمير فيما خدم ودبّر وبدّد شمل هؤلاء وإنّه لأحقّ بمجلس أبى علىّ ابن مقلة منه وأنفذ فى التدبير والأمور.» فأجابه يلبق إلى ما سأل وخلّف غلاما عند البريدي يقال له ايتاخ.
ورحل ابن ياقوت إلى شابرزان [2] وتبعه يلبق ودخلوا مدينة السلام.
وأطلقت أملاك ابني رائق ومحمّد بن ياقوت ومفلح وسرور دون إقطاعاتهم وأطلق لعبد الواحد بعض أملاكه القديمة وأعفى هو ووالدته من المصادرة
__________
[1] . كذا فى الأصل ومط: بالبريدى. وما فى مد: البريدىّ.
[2] . شابرزان: بليدة بين السّوس والطّيب من أعمال خوزستان (مراصد الإطلاع) .(5/346)
وعادت يد ابن البريدي إلى عمالة الأهواز واستقامت الأمور وخلع القاهر على يلبق وطوّقه وسوّره [410] بطوقين وسوارين مرصّعين بالجواهر.
وخرج أمر القاهر ببيع دار المخرّم التي كانت برسم الوزارة وكانت قديما لسليمان بن وهب فقطعت وبيعت من جماعة من الناس بمال عظيم لأنّ ذرعها يشتمل على أكثر من ثلاثمائة ألف ذراع وصرف ثمنها فى مال الصلة لبيعة القاهر بالله.
وورد الخبر بموت تكين الخاصّة بمصر فأشار الوزير أبو علىّ ابن مقلة بإنفاذ علىّ بن عيسى إليها للإشراف عليها فابتدأ بالاستعداد للخروج، ثم صار إلى أبى علىّ ابن مقلة فى بعض العشايا وصادفه خاليا فعرّفه كبر سنه وضعف حركته ونقصان قوّته وأنّه لا يستشفع إليه بغير كرمه ولا يوسّط بينه وبينه أحدا غيره وحلف على موالاته أيمانا أكّدها وسأله إعفاءه من الشخوص وتذلل له وانكبّ على يده ليقبّلها فمنعه من ذلك وخاطبه بمعرفته بحقّه وعلمه بمكانه فأعفاه من الشخوص فانصرف علىّ بن عيسى شاكرا.
وورد كتاب محمّد بن تكين يخطب مكان أبيه فأجيب إلى ذلك وحمل إليه الخلع والعهد. وكتب القاهر رقعة بخطّه إلى أبى علىّ ابن مقلة بالتكنية وبزيادة فى التشريف والرتبة وأمره [411] أن يكتب بذلك إلى الأمصار والأعمال كلّها، ففعل ذلك ثمّ حمل إليه خلعة بعد خلعة للمنادمة وحمل إليه صينية فضّة مذهّبة فيها ندّ [1] وعنبر وغالية ومسك وصينية أخرى فيها رطلية بلّور فيها شراب مطبوخ عتيق وقدح بلّور وكوز ومغسل فضّة.
وشغب الجند بمصر على محمّد بن تكين فقاتلهم وهزموه [2] .
__________
[1] . النّدّ: عود يتبخّر به (فارسية) .
[2] . فى مط: وهزموا.(5/347)
استيحاش مونس ويلبق وابنه وابن مقلة من القاهر
وفى هذه السنة استوحش مونس المظفّر ويلبق وعلىّ ابنه والوزير أبو علىّ ابن مقلة من القاهر بالله فضيّقوا عليه وعلى أسبابه.
ذكر السبب فى ذلك
كان السبب فى ذلك انحراف الوزير أبى علىّ ابن مقلة عن محمّد بن ياقوت فمكّن فى قلب مونس المظفّر ويلبق وعلى ابنه أنّه فى تدبير عليهم مع القاهر بالله وأنّ عيسى المتطبّب يترسّل للقاهر إليه فوجّه مونس بعلىّ بن يلبق إلى دار السلطان وسأل عن عيسى فعرّف أنّه بحضرة القاهر فهجم عليه غلمان علىّ بن يلبق فوجدوه واقفا بحضرة القاهر فقبضوا عليه وأخرجوه إليه فنفاه من وقته إلى الموصل.
واجتمع رأى مونس ويلبق وابنه والوزير أبى علىّ على الإيقاع بمحمّد بن ياقوت والنداء فى أصحابه [412] ألّا يقيموا ببغداد.
فلمّا كان يوم الأربعاء لليلة خلت من جمادى الآخرة خرج علىّ بن يلبق فى الجيش ومعه طريف السبكرى للإيقاع بمحمّد بن ياقوت وبلغ محمّد ابن ياقوت ذلك فانكشف من معسكره من ميدان الأشنان وطلبه علىّ بن يلبق فلم يقف على خبره وذلك أنّه دخل إلى بغداد واستتر بها وتفرّق رجاله وانصرف علىّ ابن يلبق من فوره إلى دار السلطان وأوقع التشدّد على القاهر ووكّل بالدار أحمد بن زيرك وأمره أن يفتّش كلّ من يدخل ويخرج من الرجال والنساء والخدم ويفتّش كلّ ما يدخل إلى القاهر ففعل أحمد بن زيرك ما أمره به حتّى بلغ الأمر به أن فتّش لبنا حمل إلى القاهر وأدخل يده فيه لئلّا يكون فيه رقعة.(5/348)
ونقل علىّ بن يلبق المحبوسين فى دار السلطان إلى داره من والدة المقتدر وغيرها ومنع القاهر أرزاق حشمه وأكثر ما كان يقام له، وطالب علىّ بن يلبق القاهر أن يسلّم إليه ما بقي عنده من الفرش وأمتعة والدة المقتدر وابن الخال، فسلّم ذلك إليه وبيع وحصّل ثمنه فى بيت المال وأطلق للجند.
وباع أبو علىّ ابن مقلة من الضياع وأملاك السلطان لتمام [413] الصلة للبيعة بألفي ألف وأربعمائة ألف دينار مع ما باعه الكلوذانى أيّام خلافته إيّاه قبل قدومه من شيراز.
ومكثت والدة المقتدر عند والدة علىّ بن يلبق مكرّمة مرفّهة مدّة عشرة أيّام وماتت لستّ خلون من جمادى الآخرة لزيادة العلّة عليها ولما جرى عليها من مكاره القاهر فحملت إلى تربتها بالرصافة ودفنت فيها.
وفيها همّ علىّ بن يلبق والحسن بن هارون كاتبه بلعن معاوية بن أبى سفيان على المنابر فاضطربت العامّة من ذلك وتقدّم علىّ بن يلبق بالقبض على البربهارى [1] رئيس الحنبليّة فنذر به وهرب وقبض على جماعة من كبار أصحابه وجعلوا فى زورق مطبق وأحدروا إلى البصرة.
تدبير ابن مقلة وحيلة القاهر
وفيها نفذت حيلة القاهر على مونس المظفّر وانعكس ما دبّره الوزير أبو علىّ ابن مقلة من القبض على القاهر حتّى قبض على مونس ويلبق وابنه وهرب أبو علىّ بن مقلة والحسن بن هارون.
ذكر انعكاس هذا التدبير
لمّا ضيّق علىّ بن يلبق على القاهر وعومل بما ذكرناه أخذ القاهر فى
__________
[1] . فى مط: البرنهارى.(5/349)
الحيلة على مونس وأصحابه وبلغه فساد نيّة طريف السبكرى وبشرى [1] ليلبق وابنه [414] ومنافستهما إيّاهما على مراتبهما الجليلة ثمّ علم أنّ مونسا ويلبق أكثر اعتمادهما إنّما هو على الساجيّة وكانا وعداهم بالموصل إذا دخلا بغداد أن يجعلاهم برسم الحجريّة وأنهما ما وفيا لهم بذلك وأنّ نيّاتهم متغيّرة لهما. فراسل القاهر الساجيّة وهزّ بهم على مونس ويلبق وضمن لهما أن ينقلهم إلى رسم الحجريّة- وكان الساجيّة يقبضون فى كلّ ستين يوما برسم المماليك، والحجريّة يقبضون فى كلّ خمسين يوما- وأن يلحقهم فى النزل والعلوفة بالحجريّة.
وكان بين اختيار القهرمانة وبين أبى جعفر محمّد بن القاسم بن عبيد الله معرفة قديمة وبينها وبين والدته مخالطة، فأشارت على القاهر بمكاتبته أن يعده بوزارته ليعاونه على التدبير على مونس وأصحابه وأشارت على محمّد بن القاسم بأن يكاتب القاهر ويصدقه عن تدبير أبى علىّ ابن مقلة وابن يلبق عليه. وكانت اختيار هذه تخرج من دار السلطان إلى دار القاهر القديمة التي فى دار ابن طاهر وتظهر أنّ خروجها فى حوائج حرم القاهر وولده، فإذا كان بالليل صارت إلى محمّد بن القاسم ولقيته.
وبلغ أبا علىّ ابن مقلة أنّ القاهر قد جدّ فى التدبير عليه وعلى مونس ويلبق وابنه [415] والحسن بن هارون وحملهم على الجدّ والمبادرة إلى خلعه من الخلافة واتّفق رأيهم على تقليدها أبا أحمد ابن المكتفي بالله وواقفوا شاذمروز [2] حماة إبراهيم بن خفيف صاحب ديوان النفقات وكانت متحققة بأبى أحمد على ما دبّروه وعقدوا الأمر سرّا لأبى أحمد ابن المكتفي بالله وحلف له يلبق وابنه وأبو علىّ ابن مقلة والحسن بن هارون ثمّ كشفوا ما
__________
[1] . فى مط: تسترى، بدل «بشرى» .
[2] . فى مط: ساده مرور.(5/350)
فعلوه لمونس فقال لهم مونس:
- «لست أشكّ فى شرّ القاهر وقد أسرفتم فى الاستهانة وبه وأخطأتم فى تقليده الأمر فلا تعجلوا الآن وترفّقوا حتّى تؤنسوه ويأنس وينبسط إليكم ثمّ حينئذ تقبضون عليه.» فقال علىّ بن يلبق والحسن بن هارون:
- «الحجبة إلينا والدار فى أيدينا وما نحتاج أن نستعين بأحد فى القبض عليه لأنّه بمنزلة طائر فى قفص.» وعملوا على معاجلته.
فاتّفق أن ركب يلبق إلى الميدان فصدمه خادم له فسقط واعتلّ ولزم منزله وتمكّن علىّ بن يلبق من متابعة ابن مقلة وحسنوا الأمر عند مونس وهوّنوه عليه وعلى يلبق حتّى أذنا فيه. فلمّا كان يوم السبت سلخ رجب انصرف أبو علىّ ابن مقلة من دار السلطان واجتمع إليه كتّابه وأخوه ومن جرى عادته بمواكلته [416] وفيهم أبو بكر ابن قرابة فلمّا فرغ من طعامه التفت إلى أبى بكر ابن قرابة فقال له:
- «قد وافى صديقك القرمطى إلى الكوفة فى ثلاثة آلاف راحلة ومعه صاحبه فلان ودخل الكوفة ونادى بأنّه قد آمن الرعيّة سوى أصحاب المعروف بمحمّد المتلقّب بالقاهر.» فقال ابن قرابة:
- «أيّها الوزير هذا باطل لأنّ ابن بسر [1] الكوفي جارى واليوم كان عندي وقد وقعت عليه أطيار بأخبار السلامة.» فقال أبو علىّ:
__________
[1] . كذا فى الأصل: بسر. وفى مط: بشير.(5/351)
- «سبحان الله أنت وابن بسر أعرف من صاحب المعونة بالكوفة وقد سقط من عنده طائر على أبى الحسن ابن يلبق وقد جاءني سعيد بن حمدان ومعه رجل من الأعراب قد قتل نفسه وقطع عدّة من الأفراس فخبر عن معاينة ومشاهدة.» وكان ابن مقلة قد واطأ سعيد بن حمدان على ذلك. ثمّ دعا بالدواة وثلث قرطاس وكتب بخطّه إلى القاهر رقعة يقول فيها:
«إنّ القرمطى الهجري المعروف بأبى طاهر قد وافى الكوفة فى ثلاثة آلاف راحلة فنزلها وسقط علىّ من عامل الخراج وعلى علىّ بن يلبق من عامل المعونة طائران بكتابين بتاريخ يومنا هذا بنزوله ونزول أصحابه بها وأنّى أنا ويلبق سترنا ذلك عن القوّاد [417] والجند وخواصّ الدولة لئلّا يذيع الخبر وتضعف قلوب الأولياء وقد اتفقت مع مونس على إخراج علىّ بن يلبق مع أكثر قوّاده وقوّاد أبيه إلى نواحي الكوفة ليدفع القرمطى عن الرحيل منها إلى بغداد وهو يخرج فى سحر غد مارّا إلى صرصر من حيث لا يضرب بباب بغداد مضربا حتّى يلحق به الرجال. وقد وجّه النقباء فى عشية يومنا وقد واقفت علىّ بن يلبق على الرواح إلى دار مولانا أمير المؤمنين ليصل إليه ويودّعه وعملت على التأخّر لئلّا يشيع الخبر بحضوري فى غير وقت حضور مثلي الدار ويفسد التدبير فى خروج علىّ بن يلبق بكرة غد، وأنهيت ذلك إلى أمير المؤمنين ليقف عليه ويسكن إلى ما دبّرته وينعم بإيصال علىّ بن يلبق إذا حضر(5/352)
العشيّة إن شاء الله.» وأنفذ الرقعة ونام.
فكتب القاهر فى جوابها:
- «وإنّه استصوب فعله وبأنّه يوصل ابن يلبق إذا حضر.» ولمّا انتبه ابن مقلة من النوم لم ينتظر ورود جواب رقعته إلى القاهر وأعاد إليه رقعة ثانية بمثل ما كتب به. فلمّا وصلت الثانية إلى القاهر ولم تكن الحال تقتضيها لنفوذ جوابه عن الأولى استراب وخاف أن تكون حيلة عليه.
ثمّ نمّ إليه [418] الخبر من جهة طريف السبكرى بما عمل عليه علىّ بن يلبق من القبض عليه إذا أوصله إليه فأخذ القاهر حذره وراسل الساجيّة بالحضور وعرّفهم أنّ علىّ بن يلبق يحضر لحيلة يوقعها، فحضروا متفرّقين.
فلمّا كان بعد العصر حضر علىّ بن يلبق وفى رأسه نبيذ ومعه عدد يسير من غلمانه بسلاح خفيف فى طيّاره، وأنفذ جماعة من غلمانه بسلاح إلى دار السلطان وصعد من طيّاره فى الروشن وراسل القاهر يسأله إيصاله إليه فدافعه القاهر إلى أن حضر الساجيّة كلّهم بالسلاح فبرزوا إليه وشتموه وعملوا على القبض عليه وحامى عنه غلمانه وحاجبه ابن خندقوقى [1] وحالوا بينه وبينهم ونادى بهم وطرح نفسه من الروشن إلى الطيّار وعبر واستتر من ليلته.
وبلغ ابن مقلة الخبر فاستتر من ليلته واستتر الحسن بن هارون وأبو بكر ابن قرابة وانحدر يلبق إلى دار السلطان وانحدر بانحداره جميع من حضر دار مونس من القوّاد وقدّر يلبق أنّه يمسح القاهر ويعتذر لابنه فلمّا حصل
__________
[1] . ما فى مط مهمل تماما.(5/353)
فى الدار قبض عليه وحبس وقبض على أحمد بن زيرك وعلى يمن الأعور [1] صاحب الشرطة وحصل الجيش [419] كلّه فى دار السلطان.
فراسل حينئذ القاهر مونسا وسأله الانحدار إليه ليشاوره فيما يعمل وقال له:
- «أنت عندي كالوالد وما أحبّ أن أعمل شيئا ولا أمضى عزما إلّا عن رأيك.» فاعتذر مونس بثقل الحركة عليه وألحّ القاهر فى طلبه وسأله الحمل على نفسه فاستقبح له طريف السبكرى التأخّر وحمله على الانحدار. فلمّا حصل فى الدار قبض [2] عليه وحبس.
فكانت وزارة علىّ ابن مقلة للقاهر تسعة أشهر وثلاثة أيّام.
وزارة أبى جعفر محمّد بن القاسم
ووجّه القاهر إلى أبى جعفر محمّد بن القاسم بن عبيد الله فاستحضره يوم الأحد مستهلّ شعبان فلقّبه وقلّده وزارته ودواوينه وخلع عليه من غد وهو يوم الإثنين خلع الوزارة، ووجّه القاهر من يومه بمن استقدم عيسى المتطبب من الموصل وطرحت النار فى دار أبى علىّ ابن مقلة بباب البستان وأحرقت ووقع النهب ببغداد.
وظهر محمّد بن ياقوت وصار إلى دار السلطان وخدم فى الحجبة يومه ذاك ثمّ وقف على كراهية طريف السبكرى والساجيّة والحجريّة فاحتال إلى أن تمّ له الهرب واستتر وانحدر إلى أبيه وهو بفارس [420] فلم يتجاوز كورة أرّجان ولا لقى أباه.
__________
[1] . فى مط: ابن الأعور، بدل «يمن الأعور» .
[2] . فى مط: قنص، بدل «قبض» .(5/354)
وكان جلس فى الماء بزىّ أصحاب المحابر [1] وركب البحر ووافى مهروبان وجاء ليلا إلى أرّجان فنزل على أبى العبّاس ابن دينار وحمل إليه أبوه مالا وكسوة ودوابّ وكانت له على فارس تسبيبات فاستوفاها ولحق به رجاله، وكاتبه القاهر بما يسكّته منه وأعلمه أنّه عجّل على نفسه واستوحش وقلّده المعاون بكور الأهواز فأقام بارجان حتّى اعتلّ وكان يفسد مزاجه ثمّ انتقل إلى رامهرمز.
وكان القاهر قد كاتب مرداويج بالإفراج عن إصبهان ليقلّده الرىّ والجبل ويصير فى جملة الأولياء ويزول عنه العصيان فأتمر [2] له، وكاتب وشمكير بالانصراف عن إصبهان فانصرف وبقيت شاغرة سبعة عشر يوما خالية من مدبّر. وكاتب القاهر محمّد ابن ياقوت بتقليده إصبهان وأمره أن يسير إليها وكان ذلك بعقب هزيمة المظفّر بن ياقوت وبعد انصراف علىّ بن بويه من إصبهان. فأخذ محمّد بن ياقوت فى التأهّب فبقى هو كذلك إذ ورد عليه الخبر بخلع القاهر فانتكث أمره.
ولمّا استتر علىّ بن يلبق وهرب محمّد بن ياقوت استحجب القاهر سلامة الطولونى وطلب المستترين وقلّد أبا العبّاس أحمد بن [421] خاقان الشرطة ببغداد وطلب أبا أحمد ابن المكتفي فوجده مستترا فى دار عبد الله بن الفتح فقبض عليه وتقدّم القاهر بأن يقام فى فتح باب ويسدّ عليه بالجصّ والآجرّ وهو حىّ، ففعل، وأمر بنهب دور بنى مقلة ودار الحسن بن هارون ودار أبى بكر ابن قرابة.
ووجد علىّ بن يلبق مستترا بقرب باب المقبرة وكبس وأخذ من تنور كان دخله لمّا أحسّ بالكابس وأطبق على نفسه بغطاء التنور وقد كان خفى أمره
__________
[1] . فى مط: المخاور.
[2] . فأتمر: كذا فى الأصل ومط. والمثبت فى مد: فأتمّ.(5/355)