فقام فجمعه فيها، فقال عمرو:
- «أذكّرك الله يا أمير المؤمنين أن تخرجني فيها على رؤوس الناس.» فقال عبد الملك:
- «أمكرا يا با أمية وأنت فى الحديد! لا ها الله، ما كنّا لنخرجك فى جامعة على رؤوس الناس ولا نخرجها منك إلّا صعدا [1] .» ثمّ اجتبذه اجتباذة أصاب فمه منها السرير فكسر ثنيّته. فقال عمرو:
- «أذكّرك الله يا أمير المؤمنين، أن يدعوك كسر عظم منّى إلى أن تركب ما هو أعظم منه.» فقال له عبد الملك:
- «والله لو أعلم أنّك تبقّى علىّ أو تفي لى وتصلح قريش لأطلقتك، ولكن ما اجتمع رجلان فى بلدة على مثل ما نحن عليه إلّا أخرج أحدهما صاحبه.» فلما رأى عمرو ما يريد قال:
- «أغدرا يا بن الزرقاء؟» وأذّن المؤذّن العصر، فخرج عبد الملك يصلّى بالناس، وأمر عبد العزيز بن مروان بقتله. فقام إليه عبد العزيز بالسيف، فقال: [286] له عمرو:
- «أذكّرك الله والرحم، دعني يتولّ قتلى من هو أبعد رحما منك.» فألقى عبد العزيز السيف، وجلس وصلّى عبد الملك صلاة خفيفة، ودخل وغلّقت الأبواب. ورأى الناس عبد الملك حيث خرج وليس معه عمرو، فذكروا ذلك ليحيى بن سعيد، فأقبل فى الناس حتّى حلّ بباب عبد الملك ومعه ألف عبد لعمرو وأناس من أصحابه كثير، فجعل من معه يصيحون:
- «أسمعنا صوتك يا با أمية!»
__________
[1] . صعدا: كذا فى الأصل. وفى مط: سعيدا. وهو خطأ.(2/230)
وأقبل مع يحيى جماعة فكسروا باب المقصورة، وضربوا الناس بالسيوف، فضرب الوليد بن عبد الملك ضربة على رأسه، واحتمله إبراهيم بن عربىّ صاحب الديوان، فأدخله بيت القراطيس. ولما دخل عبد الملك داره وجد عمرا حيّا بعد.
فقال لعبد العزيز:
- «ما منعك من قتله؟» قال:
- «إنّه ناشدني الله والرحم، فرققت له.» فقال عبد الملك:
- «أخزى الله أمّك البوّالة على عقبها [1] فإنّك لم تشبه غيرها.» ولم يكونا من أم واحدة.
ثمّ قال عبد الملك:
- «يا غلام ائتني بالحربة.» فأتاه بها فهزّها، ثمّ طعنه بها [287] فلم تجزّ [2] ، ثمّ ثنّى فلم تجزّ. فضرب بيده إلى عضد عمرو، فوجد مسّ الدرع، فضحك، ثمّ قال:
- «ودارع أيضا إن كنت لمعدّا. يا غلام ايتني بالصمصامة.» فأتاه بسيفه، ثمّ أمر بعمرو، فصرع وجلس على صدره، فذبحه وهو يقول:
يا عمرو إن لا تدع شتمي ومنقصتي ... أضربك حيث تقول الهامة اسقوني
وانتفض عبد الملك رعدة فوضع على سريره.
ودخل يحيى بن سعيد ومن معه على بنى مروان، فخرجوا هم ومن معهم من مواليهم، فقاتلوا يحيى وأصحابه. وقام عبد العزيز، فأخذ المال فى البدور، وجعل
__________
[1] . عقبها: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 790) : عقبيها.
[2] . فلم تجزّ (فى كلا الموضعين) : كذا فى الأصل. وما فى مط: لم تجز. وفى الطبري: لم تجز.(2/231)
يلقيها إلى الناس. فلما نظر الناس إلى الأموال ورأوا رأس عمرو، وكان ألقى إليهم، تفرّقوا وانتهبوا المال. ثمّ أمر عبد الملك بعد ذلك بتلك الأموال، فجبيت حتّى عادت كلّها إلى بيت المال.
وفقد عبد الملك ابنه الوليد، فجعل يقول:
- «ويحكم أين الوليد؟ وأبيهم لئن كانوا قتلوه لقد أدركوا ثأرهم.» فأتاه إبراهيم بن عربىّ، وقال:
- «هذا الوليد عندي ليس به [288] بأس.» ثمّ أتى عبد الملك بيحيى بن سعيد، فأمر بقتله، فقام إليه عبد العزيز فقال:
- «جعلني الله فداءك يا أمير المؤمنين. أتراك قاتلا بنى أمية فى يوم واحد؟» فأمر به فحبس. وأتى عبد الملك بجماعة منهم فحبسهم [1] ، وكان همّ بقتلهم، فأشير عليه أن يسيّرهم إلى عدوّه، فإن هم قتلوا، كفى أمرهم، وإن سلموا رأيت رأيك، ولا يكون قد آثرت على نفسك قوما هم اليوم معك.
فألحقهم بمصعب. فلما قدموا عليه ودخل إليه يحيى بن سعيد، قال له ابن الزبير:
- «أفلتّ وانحصّ الذنب [2] .» فقال:
- «والله إنّ الذنب لبهلبه [3] .»
ذكر سبب العداوة والشحناء بين عبد الملك وبين عمرو بن سعيد
كان الشرّ بينهما قديما، لأنّ ابني سعيد وابني مروان أعنى: محمد بن سعيد
__________
[1] . أنظر الطبري (8: 792) .
[2] . انحصّ: انقطع. وذلك مثل يضرب لمن يشرف على الهلكة، ثمّ يفلت منها.
[3] . الهلب: الشعر كلّه، أو: ما غلظ منه وخشن كشعر ذنب الناقة، أو: شعر الذنب وحده.(2/232)
وعمرو بن سعيد، ومعاوية بن مروان، وعبد الملك بن مروان، كانوا وهم غلمان لا يزالون يأتون أمّ مروان بن الحكم الكنانيّة يلعبون عندها. فكانت تصنع لهم الطعام، ثمّ تأتيهم به وتضع بين يدي كلّ واحد صحفة على حدة، ثمّ تؤرّش [1] بين معاوية [289] بن مروان وبين محمد بن سعيد وبين عبد الملك بن مروان وعمرو بن سعيد، فيقتتلون، وربما تصارموا الحين لا يكلّم بعضهم بعضا. فكان ذلك دأبهما كلّما أتوها حتّى ثبتت الشحناء فى صدورهم على الصبى، ثمّ نشأت تلك العداوة معهما.
فذكر أنّ خالد بن يزيد بن معاوية قال لعبد الملك ذات يوم:
- «عجب منك ومن عمرو بن سعيد كيف أصبت غرّته فقتلته!» فقال عبد الملك:
أدنيته منّى ليسكن ذعره ... فأصول صولة حازم مستمكن
ثمّ إن ولد عمرو بن سعيد دخلوا على عبد الملك بعد الجماعة وهم أربعة:
أمية، وسعيد، وإسماعيل، ومحمد. فلما نظر إليهم عبد الملك، قال:
- «إنكم أهل بيت لم تزالوا ترون أنّ لكم على جميع قومكم فضلا لم يجعله الله لكم، وإنّ الذي كان بيني وبين أبيكم لم يكن حديثا، بل كان قديما فى أنفس أوّليكم على أوّلينا فى الجاهليّة.» فأقطع بأميّة بن عمرو وكان أكبرهم سنّا وأنبلهم وأعقلهم، فلم يتكلّم بشيء.
فقام سعيد بن عمرو، وكان الأوسط، فقال: [290]
__________
[1] . أرّش بينهم: أفسد، وأغرى بعضهم ببعض.(2/233)
ذكر كلام نفع عند سلطان حقود [1]
- «يا أمير المؤمنين، ما تبغى علينا أمرا كان فى الجاهليّة، وقد جاء الله بالإسلام فهدم ذلك، ووعد جنّة، وحذّر نارا. فأما الذي بينك وبين عمرو، فإنّ عمرا ابن عمّك، وأنت أعلم وما صنعت، وقد وصل عمرو إلى ربّه وكفى بالله حسيبا. ولعمري لئن أخذتنا بما كان بينك وبينه لبطن الأرض خير لنا من ظهرها.» فرقّ لهم عبد الملك رقّة شديدة، وقال:
- «إنّ أباكم خيّرنى بين أن أقتله أو يقتلني، فاخترت قتله على قتلى. فأما أنتم فما أرغبنى فيكم، وأوصلنى لقرابتكم، وأرعانى [2] لحقّكم!» فأحسن جائزتهم.
مسير عبد الملك إلى العراق لحرب مصعب
ثمّ سار عبد الملك من الشام إلى العراق لحرب مصعب وذلك فى سنة سبعين.
وكان قال له خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد:
- «إن وجّهتنى إلى البصرة مستخفيا فى موالىّ وأتبعتني خيلا يسيرة، رجوت أن أغلب لك عليها.» فأنفذه عبد الملك. فقدمها فى مواليه، ونزل [291] على عمرو بن أصمع، ولم يتمّ له ما أراد، وعلم به، فهرب بعد أن أثار فتنة، وقاتل مدّة. وبادر مصعب إلى البصرة، فوجد خالدا قد خرج بمن معه، فأتبعه بخداش بن يزيد، فأدرك مرّة بن محكان، فأخذه وقتله.
وكتب عبد الملك إلى المروانيّة من أهل العراق، فأجابه كلّهم، وشرط كلّ واحد
__________
[1] . كذا فى الأصل: «فقال:» ثمّ العنوان، ثمّ «يا أمير المؤمنين» .
[2] . أرعانى: كذا فى الأصل والطبري. وما فى مط: أرجانى. وهو خطأ.(2/234)
ولاية إصبهان، فأنعم بها لهم. منهم: حجّار بن أبجر، وعتّاب بن ورقاء، والغضبان بن القبعثرى، وزحر بن قيس، ومحمد بن عمير، وغيرهم.
وسار عبد الملك وعلى مقدمته محمد بن مروان، وعلى ميمنته عبد الله بن يزيد بن معاوية، وعلى ميسرته خالد بن يزيد، وسار مصعب وقد خذله أهل الكوفة، وأشار رؤساء أهل الشام على عبد الملك أن يقيم ويقدّم الجيوش، فطن ظفروا، فذاك. وإن لم يظفروا أمدّهم بالجيوش خشية على الناس، وإن أصيب فى لقائه مصعبا لم يكن وراءه ملك.
فقال عبد الملك:
- «لا يقوم بهذا الأمر إلّا قرشىّ له رأى، ولعلّى أبعث من له شجاعة وليس له رأى، وإنّى أجد فى نفسي [292] أنّى بصير بالحرب، شجاع بالسيف إن ألجيت إليه، ومصعب فى بيت شجاعة، أبوه شجاع قريش وهو شجاع ولا علم له بالحرب، ومعه من يخالفه، ومعى من ينصح لى.» فسار عبد الملك حتّى نزل مسكن، وسار مصعب إلى باجميرا [1] ، وكتب عبد الملك إلى أهل العراق، فأقبل إبراهيم بن الأشتر بكتاب عبد الملك مختوما لم يقرأه، فدفعه إلى مصعب، فقال له مصعب:
- «ما فيه؟» قال:
- «ما قرأته.» فقرأه، فإذا هو يدعوه إلى نفسه، ويجعل له ولاية العراق، فقال لمصعب:
- «إنّه والله ما كان أحد آيس منه منّى. ولقد كتب إلى أصحابك كلّهم بمثل ما كتب إلىّ. فأطعنى فيهم واضرب أعناقهم.» قال:
- «إذا لا يناصحنا عشائرهم.» قال:
__________
[1] . فى الأصل غير واضح. وفى مط: يا حمرا. فأثبتنا ما فى الطبري (8: 805) : باجميرا. وفى حاشيته عن الأصول: با حميرا، با خميرا، با حميراء، با خميراء. قال ياقوت: باجميرى موضع دون تكريت.(2/235)
- «فأوقرهم حديدا وابعث بهم إلى أبيض كسرى فاحبسهم هنالك، ووكّل بهم من إن غلبت، ضرب أعناقهم، وإن غلبت مننت بهم على عشائرهم.» فقال:
- «يا با النعمان، أنا لفى شغل عن ذلك، يرحم الله أبا بحر، إن كان ليحذّرنى غدر أهل العراق، كأنه كان ينظر إلى ما نحن فيه.» وتمثّل مصعب:
وإنّ الأولى بالطفّ من آل هاشم ... تأسّوا [1] ، فسنّوا للكرام التأسّيا
[293] فعلم الناس أنه قد استقتل.
مقتل إبراهيم الأشتر
ولمّا تدانى العسكران تقدّم إبراهيم بن الأشتر، فحمل على محمد بن مروان فأزاله عن موضعه، وهرب، فوجّه عبد الملك عبد الله بن يزيد بن معاوية، والتقى القوم، فقتل إبراهيم بن الأشتر، وقتل مسلم بن عمرو الباهلىّ، وهرب عتّاب بن ورقاء، وكان على الخيل مع مصعب. فقال مصعب لقطن بن عبد الله الحارثىّ:
- «أبا عثمان قدّم خيلك.» قال:
- «ما أرى ذلك.» قال:
- «ولم؟» قال:
- «أكره أن تقتل مذحج فى غير شيء.» فقال لحجّار بن أسيد:
- «قدّم رايتك.» قال:
__________
[1] . كذا فى الأصل ومط والطبري (8: 804) : تأسّوا ... التأسّيا.(2/236)
- «إلى هذه العذرة؟» قال:
- «ما تتأخّر إليه، والله أنتن وألأم.» وقال لعبد الرحمان بن سعيد بن قيس مثل ذلك. فقال:
- «ما أرى أحدا فعل ذلك فأفعله.» فقال مصعب:
- «يا إبراهيم، ولا إبراهيم لى اليوم.» ولما أخبر ابن خازم وهو بخراسان مسير مصعب إلى عبد الملك، قال:
- «أمعه عمر بن عبيد الله؟» قيل:
- «لا، استعمله على فارس.» قال:
- «أمعه [1] المهلّب؟» قيل:
- «استعمله على الموصل.» قال:
- «أمعه عبّاد بن الحصين؟» قيل:
- «لا، استخلفه على البصرة.» فقال:
- «وأنا بخراسان.» ثمّ تمثّل: [294]
خذينى، فجرّينى ضباع [2] وأبشرى ... بلحم امرئ لم يشهد اليوم ناصره
وقال مصعب لابنه عيسى بن مصعب:
- «يا بنىّ اركب أنت ومن معك إلى عمّك بمكة، فإنّى مقتول.» وأخبره بما صنع أهل العراق.
فقال ابنه:
__________
[1] . وفى مط: أفمعه.
[2] . ضباع: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 807) : جعار.(2/237)
- «والله لا أخبر قريشا عنك أبدا، ولكن الحق أنت بالبصرة فإنّهم على الجماعة، أو [الحق] [1] بأمير المؤمنين.» فقال مصعب [2] :
- «لا والله، لا أفرّ، ولكن أقاتل. فلعمرى ما السيف بعار وما الفرار لى بعادة.»
مقتل مصعب بن الزبير وابنه عيسى بن مصعب
ثمّ أرسل عبد الملك إلى مصعب مع أخيه محمد بن مروان:
- «إنّ ابن عمّك يعطيك الأمان.» فقال مصعب:
- «إنّ مثلي لا ينصرف عن مثل هذا الموقف إلّا غالبا أو مغلوبا.» فلما أبى مصعب قبول الأمان، نادى محمد بن مروان عيسى بن مصعب وقال:
- «يا بن أخى، لا تقتل نفسك، لك الأمان.» فقال له مصعب:
- «قد آمنك عمّك، فامض إليه.» قال:
- «لا تحدّث نساء قريش أنّى أسلمتك [للقتل] [3] .» وتقدّم بين يدي مصعب، فقاتل حتّى قتل. وأثخن مصعب، ونظر إليه زائدة بن قدامة، فشدّ عليه، فطعنه، وقال:
__________
[1] . ما بين [] تكملة من الطبري.
[2] . وما فى الطبري (8: 807) : قال مصعب: والله لا تتحدّث قريش أنى فررت بما صنعت ربيعة من خذلانها حتّى أدخل الحرم منهزما، ولكن أقاتل. فإن قتلت فلعمرى ما السيف بعار، وما الفرار لى بعادة ولا خلق ولكن إن أردت أن ترجع فارجع. فرجع فقاتل حتّى قتل.
[3] . ما بين [] تكملة من الطبري.(2/238)
- «يا لثارات المختار.» فصرعه، ونزل إليه عبيد الله بن زياد بن ظبيان، فاحتزّ رأسه، فأتى به [295] عبد الملك، فأمر له بألف دينار، فأبى أن يأخذه، وقال:
- «إنّى لم أقتله على طاعتك. إنما قتلته على وتر صنعه بى.» يعنى بذلك أخاه، لأنّ مصعبا أتى بالنابئ بن زياد بن ظبيان ورجل من بنى نمير قد قطعا الطريق، فقتل النابئ وضرب النميري بالسياط وتركه.
وحدّث ابن عباس عن أبيه قال: إنّا لوقوف مع عبد الملك وهو يحارب مصعبا إذ دنا منه زياد بن عمرو، فقال:
- «يا أمير المؤمنين، إنّ إسماعيل بن طلحة كان لى جار صدق، وقلّ ما أرادنى مصعب بسوء إلّا دفعه عنّى. فإن رأيت أن تؤمنه على دمه.» قال:
- «وهو آمن.» فمضى زياد، وكان ضخما وعلى ضخم حتّى صاح بين الصفّين:
- «أين أبو النحترى [1] إسماعيل بن طلحة؟» فخرج إليه. فقال:
- «إنّى أريد أن أذكر لك شيئا.» فدنا حتّى اختلفت أعناق دوابّهما، وكان الناس يتنطّقون بالحواشى [2] المحشوّة. فوضع زياد يده فى منطقة إسماعيل، ثمّ اقتلعه عن سرجه وكان نحيفا، فقال:
- «أنشدك الله يا أبا المغيرة، فإنّ هذا ليس بالوفاء لمصعب.» فقال:
- «هذا أحبّ إلىّ لك من أن أراك غدا مقتولا.» ولما قتل مصعب [296] وابنه عيسى، قال عبد الملك:
__________
[1] . النحترى: كذا فى الأصل. وفى مط: النحرى. وما فى الطبري (8: 808) : البختري.
[2] . بالحواشى: كذا فى الأصل والطبري. وما فى مط: الجواشن.(2/239)
- «واروه، فقد كانت الحرمة بيننا قديمة، ولكنّ هذا الملك عقيم.» وكان عبد الملك ومصعب يتحدّثان إلى حبّى، وهما بالمدينة. فلمّا قيل لها: قتل مصعب، قالت:
- «تعس قاتله.» قيل:
- «فإنّما قتله عبد الملك.» قالت:
- «بأبى القاتل والمقتول.» وقد روى أنّ مقتل مصعب والحرب بينه وبين عبد الملك كان فى سنة اثنتين وسبعين.
ومن المقامات المشهورة مقام [1] تقدّم فيه رجل بالأدب
لمّا دخل عبد الملك الكوفة، وجاءته القبائل تبايعه، خاطب كلّا بما بسطه حتّى تقدّم إليه عدوان. قال معبد بن خالد الجدلي: فقدّمنا رجلا وسيما جميلا، وتأخّرت ومعبد كان دميما.
فقال عبد الملك: «من؟» فقال الكاتب: «عدوان.» فقال عبد الملك:
غدير الحىّ من عدوا ... ن كانوا حيّة [2] الأرض
بغى بعضهم بعضا ... فلم يرعوا على بعض [297]
__________
[1] . فى الأصل: ومن المقامات المشهورة «ذكر» مقام تقدم فيه رجل بالأدب فحذفنا كلمة «ذكر» . وما فى مط: بدون «ذكر» .
[2] . فى الأصل: حيّة، كما فى الطبري (8: 815) وما فى مط: جنة.(2/240)
ومنهم كانت السادا ... ت والموفون بالقرض
ثمّ أقبل على الرجل، فقال:
- «إيه.» فقال:
- «لا أدرى.» فقلت من خلفه:
ومنهم حكم يقضى ... فلا ينقض ما يقضى
ومنهم من يجيز الحج ... ج [1] بالسنّة والفرض
وهم من ولدوا أشبوا [2] ... بسرّ الحسب المحض
قال: فتركني عبد الملك، ثمّ أقبل على الجميل فقال:
- «من يقول هذا؟» قال:
- «لا أدرى.» فقلت من خلفه:
- «ذو الإصبع.» - «فأقبل على الجميل، فقال:
- «لم سمّى ذا الإصبع؟» فقال:
- «لا أدرى.» فقلت من خلفه [3] :
- «لأن إصبعه قطعت يوم الكلاب. [4] »
__________
[1] . الحجّ: كذا فى الأصل. فككنا الإدغام فى إثبات البيت، لكون مفصل المصراعين بين الجيمين.
[2] . من ولدوا أشبوا: كذا فى الأصل. وما فى الطبري (8: 815) : مذ ولدوا شبّوا. أشبى الرجل: ولد له ولد ذكى، فهو مشبىّ ومشب.
[3] . فى مط: من خلقه (بالقاف!) وهو خطأ تكرر فى المواطن الآتية أيضا.
[4] . الضبط من الأصل: الكلاب.(2/241)
فقال للجميل:
- «وما اسمه؟» فقال:
- «لا أدرى.» فقلت من خلفه:
- «حرثان بن الحارث.» فأقبل على الجميل فقال:
- «من أيّكم كان؟» قال:
- «لا أدرى.» فقلت من خلفه:
- «من بنى تاج» ، وهو يقول:
أبعد بنى تاج وسعيك بينهم ... فلا تتبعن [1] عينيك من كان هالكا
إذا قلت معروفا لأصلح بينهم ... يقول وهيب: لا أصالح ذلكا [298]
فأضحى كظهر العير جبّ سنامه ... يطيف به الولدان أحدب باركا
ثمّ أقبل على الجميل، فقال:
- «كم عطاؤك؟» فقال:
- «سبعمائة.» وقال لى:
- «فى كم أنت؟» قلت:
- «فى ثلاثمائة.» فأقبل على الكاتبين فقال:
- «حطّا من عطاء هذا أربعمائة، وزيداها فى عطاء هذا.»
__________
[1] . فلا تتبعن: كذا فى الأصل والطبري. وما فى مط: فلا تبتغى!(2/242)
فرجعت وأنا فى سبعمائة وهو فى ثلاثمائة.
ثمّ فرّق عبد الملك عمّاله ولم يف لأحد شرط عليه ولاية إصبهان.
وفى هذه السنة، وجّه عبد الملك بن مروان الحجّاج بن يوسف لحرب عبد الله بن الزبير.
توجيه عبد الملك بن مروان الحجّاج بن يوسف لحرب عبد الله بن الزبير
وكان السبب فى توجيه دون غيره أنّ عبد الملك لمّا أراد الرجوع إلى الشام، قام الحجاج بن يوسف، فقال:
- «يا أمير المؤمنين، إنّى رأيت فى منامي أنى أخذت عبد الله بن الزبير فسلخته، فابعثني إليه، وولّنى قتاله.» فبعثه فى جيش من أهل الشام كثيف. فخرج ولم يعرض للمدينة، وسلك طريق العراق، فنزل بالطائف، وكان يبعث البعوث فيقتتلون هناك. فكلّ ذلك تهزم خيل ابن الزبير، وترجع خيل الحجّاج بالظفر.
ثمّ كتب الحجّاج إلى عبد الملك [299] يستأذنه فى دخول الحرم عليه وحصاره، وأخبره أنّ شوكته قد كلّت وتفرّق عنه أصحابه. فأذن له. وكتب عبد الملك إلى طارق بن عمرو يأمره أن يلحق بمن معه من الجند، بالحجّاج وكان بالبصرة واليا عليها. فسار فى خمسة آلاف من أصحابه حتّى لحق بالحجّاج وذلك فى شعبان سنة اثنتين وسبعين.
حصر ابن الزبير ومقتله
لما دخل ذو القعدة، رحل الحجّاج من الطائف حتّى نزل بئر ميمون، وحصر ابن الزبير، وقدم عليه طارق لهلال ذى الحجّة، ولم يطف بالبيت، ولم يصل إليه،(2/243)
وكان يلبس السلاح، ولا يقرب النساء ولا الطيب، إلى أن قتل ابن الزبير ولم يحجّ ابن الزبير ولا أصحابه فى هذه السنة لأنهم لم يقفوا بعرفة.
وحجّ الحجّاج بالناس فى هذه السنة، ثمّ حصر ابن الزبير ثمانية أشهر، ونصب المجانيق على البيت. فلما رمى البيت رعدت السماء وعلا صوت الرعد والبرق صوت الحجارة، فأعظم ذلك أهل الشام وأمسكوا أيديهم. فرفع الحجّاج برقة [1] قبائه فغرزها فى منطقته، ورفع الحجر فوضعه فى المنجنيق، ثمّ مدّه وقال لأصحابه:
- «ارموا!» [300] ورمى معهم. فلما أصبحوا جاءت صاعقة تتبعها أخرى، فقتلت من أصحابه اثنى عشر رجلا. فانكسر أهل الشام، فقال الحجّاج:
- «يا قوم، لا تنكروا ذلك، فإنّى ابن تهامة وهذه صواعقها، وهذا الفتح قد حضرنا، فأبشروا، إنّ القوم سيصيبهم مثل ما أصابكم.» فصعقت من الغد، فأصيب من أصحاب ابن الزبير عدّة. فقال الحجّاج:
- «ألا ترون أنهم قد أصيبوا وأنتم على الطاعة وهم على الخلاف؟» فتفرّق عامّة من كان مع الزبير، وخرجوا إلى الحجّاج فى الأمان حتّى بلغ عدّة المستأمنة عشرة آلاف. وكان فى من خرج إلى الحجّاج فى الأمان حتّى بلغ عدّة المستأمنة عشرة آلاف. وكان فى من خرج إلى الحجّاج ابنا عبد الله ابن الزبير:
حمزة وخبيب، بعد أن أخذا أمانا لأنفسهما.
فدخل على أمّه أسماء بنت أبى بكر، فقال:
ما قالته لابن الزبير أمّه أسماء بنت أبى بكر
«يا أمّه، قد خذلنى الناس حتّى ولدي وأهلى، فلم يبق إلّا اليسير، من ليس
__________
[1] . فى الأصل: برقّة (برقّة؟) . وفى مط: ترقة. وفى الطبري (8: 845) : بركة وفى حواشيه: برقة.(2/244)
عنده من الدفع إلّا صبر ساعة. والقوم يعطونني من الدنيا، فما رأيك؟» فقالت:
- «أنت والله يا بنىّ أعلم بنفسك. إن كنت تعلم أنّك على حقّ فامض له، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكّن من رقبتك تلعّب [1] بها غلمان بنى أميّة، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت. أهلكت [301] نفسك، ومن قتل معك. فإن قلت: إنّى كنت على حقّ، فلما وهن أصحابى، ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين، وكم خلودك فى الدنيا؟ القتل أحسن.» فدنا ابن الزبير، فقبّل رأسها، وقال:
- «هذا رأيى، ولكنّى أحببت أن أعلم رأيك، فزدينى بصيرة، فانظرى يا أمّه، إنّى مقتول من يومى هذا، فلا يشتدّ حزنك، وسلّمى لأمر الله، فإنّ ابنك لم يتعمّد إتيان منكر، ولا عمل بفاحشة، ولم يجر فى حكم، ولم يتعمّد ظلم مسلم ولا معاهد.
اللهمّ، إنّى لا أقول هذا تزكية لنفسي، ولكن تعزية لأمّى لتسلو عنّى.» فقالت أمّه:
- «إنّى لأرجو أن يكون عزائى فيك حسنا. اخرج، حتّى أنظر إلى ما يصير أمرك.» قال:
- «يا أمّه، لا تدعى لى الدعاء قبل وبعد.» قالت:
- «لا أدعه أبدا.» ثمّ قالت:
- «اللهمّ ارحم طول ذلك القيام فى الليل الطويل، وذلك النحيب والظمأ فى هواجر المدينة ومكّة وبرّه بأبيه وبى. اللهمّ إنى قد أسلمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت، فائتني فى عبد الله ثواب الشاكرين الصابرين.» ثمّ دنا عبد الله فقبّلها، فقالت:
__________
[1] . وفى مط: تتلعّب.(2/245)
- «هذا وداع فلا تبعد.» وكان [302] عليه الدرع. فلمّا عانقها وجدت مسّ الدرع، فقالت:
- «ما هذا صنيع [1] من يريد ما تريد.» قال:
- «ما لبسته إلّا لأشدّ منك.» قالت:
- «فإنّه لا يشدّ منّى.» - فنزعها، ثمّ أدرج كمّيه، وأدخل أسفل قميصه وجبّة خزّ عليه فى أسفل المنطقة، وهو يقول:
إنّى إذا أعرف يومى أصبر ... إذ بعضهم يعرف ثمّ ينكر
قال بعضهم: والله لقد رأيت ابن الزبير يخرج وقد كثره الناس، فيحمل فلا يبقى بين يديه أحد، وينهزم الناس، فيقف بالأبطح ما يدنو منه أحد، حتّى ظننت أنّه لا يقتل.
وكان الحجّاج وطارق بن عمرو جميعا فى ناحية الأبطح إلى المروة والبابين، لكلّ طائفة منهم باب. فمرّة يحمل عبد الله بن الزبير فى هذه الناحية ومرّة فى هذه الناحية ولكأنّه أسد فى أجمة، ما يقدم عليه الرجال فيعدو فى أثرهم، ثمّ يصيح:
- «أبا صفوان، ويل أمّة فتحا لو كان له رجال، لو كان قرني واحدا كفيته.» فقال أبو صفوان:
__________
[1] . وفى مط: صنع.(2/246)
- «إى والله وألف.» فلما كان يوم الثلاثاء، وقد أخذت علينا الأبواب، أذّن المؤذّن فصلّى بأصحابه، وقرأ ن وَالْقَلَمِ 68: 1 [1] [303] حرفا حرفا، ثمّ سلّم وقام وحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال:
- «اكشفوا وجوهكم حتّى أنظر.» وعليهم المغافر والعمائم. فكشفوا وجوههم فقال:
- «يا آل الزبير، لو طبتم لى نفسا عن أنفسكم كنّا أهل بيت من العرب اصطلمنا، لم تصبنا ربّانيّة [2] . أما بعد، يا آل الزبير، فلا يرعكم وقع السيوف، فإنى لم أحضر موطنا قطّ إلّا ارتثثت [3] فيه بين القتلى، وما أجد من دواء جراحها أشدّ مما أجد من ألم وقعها. صونوا سيوفكم كما تصونون وجوهكم، لا أعلم امرأ كسر سيفه واستبقى نفسه، فإنّ الرجل إذا ذهب سلاحه فهو كالمرأة. غضّوا أبصاركم عن البارقة، وليشغل كلّ امرئ منكم قرنه، ولا يلهينّكم السؤال عنى. فلا تقولنّ:
أين عبد الله بن الزبير؟ ألا [4] من كان سائلا فإنّى فى الرعيل الأول. احملوا على بركة الله.» ثمّ حمل حتّى بلغ الحجون، فرمى بآجرّة، فأصابت فى وجهه، فأرعش لها، ودمى وجهه. فلما وجد سخونة الدم تسيل على وجهه ولحيته، قال:
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدّما [304]
__________
[1] . س 68 القلم: 1.
[2] . ربّانيّة: كذا فى الأصل. سقطت من مط من قوله: «لو طبتم» إلى: «أما بعد» فسقطت كلمة «ربانيّة» أيضا.
وفى الطبري (8: 850) : زبّاء بتّة. وفى حاشيته: ربانيّة، زبّاء بتّة.
[3] . ارتثثت: كذا فى الأصل. وفى مط: ارتثت. وفى الطبري: «ارتثت فيه من القتلى» بدل: ارتثثت فيه بين القتلى.
[4] . فى الأصل: إلّا. فأثبتناها: ألا، كما فى مط والطبري.(2/247)
وتمثّل أيضا [1] :
عن أىّ يومىّ من الموت أفرّ ... أيوم لم يقدر، أم يوم قدر
وصاحت مولاة لآل الزبير مجنونة:
- «وا أمير المؤمنيناه!» فأشارت لهم إليه، فقتل.
وجاء الخبر إلى الحجّاج، فسجد وجاء هو وطارق حتّى وقفا عليه، فقال طارق:
- «ما ولدت النساء أذكر من هذا.» فقال الحجّاج:
- «أتمدح من يخالف طاعة أمير المؤمنين؟» قال:
- «نعم، هو أعذر لنا، ولولا هذا ما كان لنا عذر. إنّا لمحاصروه وهو فى غير خندق ولا حصن ولا منعة منذ سبعة أشهر، ينتصف منّا بل يفضل علينا فى كلّ ما التقينا.» فبلغ كلامهما عبد الملك، فصوّب طارقا.
ثمّ دخل الحجّاج مكّة، فبايع من بها من قريش، وبعث برأس ابن الزبير وجماعة من أهله إلى المدينة، فنصبت بها، ثمّ ذهب بها إلى عبد الملك بن مروان.
وبعث عبد الملك إلى عبد الله بن خازم، وهو بخراسان يقاتل بحير بن ورقاء الصريمى يدعوه إلى طاعته ويقول له:
__________
[1] . التمثّل بالبيت الآتي لم يرد فى الطبري 8: 851، حيث نجد البيت السابق فيه.(2/248)
- «إنّ خراسان لك طعمة سبع سنين، فبايع لى.» [305] وكان عبد الملك بعث إليه برأس ابن الزبير، فغسله وحنّطه وكفّنه وبعث به إلى أهله بالمدينة. وحلف لا يعطى عبد الملك طاعة أبدا.
فقال ابن خازم للرسول:
- «لولا أنّ الرسل لا تقتل، لأمرت بضرب رقبتك، ولكن كل كتابه.» وأكله.
مقتل ابن خازم فى مرو
وكتب عبد الملك إلى بكير بن وساج [1] أحد بنى عوف بن سعد، وكان خليفة ابن خازم على مرو بعهده على خراسان، ووعده ومنّاه. فخلع بكير عبد الله بن الزبير ودعا إلى عبد الملك بن مروان، فأجابه أهل مرو، وبلغ ابن خازم، فخاف أن يأتيه بكير بأهل مرو، فيجتمع عليه أهل مرو، وأهل أبر شهر الذين مع بحير. فأقبل إلى مرو أن يأتى ابنه بالترمذ، فاتبعه بحير فلحقه بقرية يقال لها: شاه مزغند، بينها وبين مرو ثلاثة فراسخ. فقاتله ابن خازم، فقتل عبد الله بن خازم، وكان الذي ولى قتله وكيع بن عميرة القريعى، اعتون عليه بحير بن ورقاء وعمار بن عبد العزيز الجشمي ووكيع، فطعنوه وصرعوه، فقعد وكيع على صدره فقتله.
فقال بعض الولاة لوكيع:
- «كيف قتلت ابن خازم؟» قال:
- «غلبته بفضل القنا. لمّا صرع قعدت على صدره، فحاول [306] القيام، فلم يقدر عليه، وقلت: يا لثارات دويلة.» ودويلة أخ لوكيع من أمّه، قتل فى تلك الأيام.
قال: فتنخّم فى وجهى، وقال:
__________
[1] . وساج: كذا فى الأصل. وفى مط: وساح. وما فى الطبري (8: 854) : وشاح. وفى حواشيه عن الأصول:
وساج.(2/249)
- «لعنك الله، تقتل كبش مضر بأخيك: علج لا يساوى كفّا من نوى- أو قال:- من تراب؟» قال: فما رأيت أحدا أكثر ريقا منه على تلك الحال عند الموت، لقد ملأ وجهى منه. فذكر ابن هبيرة يوما هذا الحديث، فقال:
- «هذه والله البسالة.» وبعث بحير ساعة قتل ابن خازم رجلا من بنى غدانة إلى عبد الملك بقتل ابن خازم، ولم يبعث بالرأس، وأقبل بكير بن وساج فى أهل مرو حين قتل ابن خازم، فأراد أخذ رأس ابن خازم. فمنعه بحير، فضربه بكير بعمود، وأخذ الرأس، وقيّد بحيرا وحبسه. وبعث بكير بالرأس إلى عبد الملك، وكتب إليه يخبره أنه هو الذي قتله.
ولاية المهلّب حرب الأزارقة من قبل عبد الملك
وفى هذه السنة [1] وجّه عبد الملك أخاه بشر بن مروان من الكوفة إلى البصرة واليا عليها. ثمّ كتب إليه:
- «أمّا بعد، فابعث المهلّب فى أهل مصره إلى الأزارقة لينتخب من أهل مصره ووجوههم وفرسانهم أولى الفضل والتجربة منهم، فإنّه أعرف بهم، وخلّه ورأيه فى الحرب، [307] فإنّى أوثق شيء بتجربته ونصيحته للمسلمين، وابعث من أهل الكوفة بعثا كثيفا، وابعث عليهم رجلا معروفا حسيبا شريفا يعرف بالبأس والنجدة والتجربة للحرب، ثمّ أنهض إليهم أهل المصرين، فليتبعوهم أىّ وجه ما توجّهوا حتّى يبيرهم الله ويستأصلهم، والسلام عليك.» فدعا بشر المهلّب، فأقرأه الكتاب، وأمره أن ينتخب من شاء. فبعث بجذيع بن
__________
[1] . سنة أربع وسبعين.(2/250)
قبيصة وهو خال ابنه يزيد، فأمره أن يأتى الديوان، فينتخب الناس. فشقّ على بشر أنّ إمرة المهلّب جاءت من قبل عبد الملك فلا يستطيع أن يبعث غيره.
فأوغرت صدره عليه حتّى كأنّ له إليه ذنبا. ودعا بشر بن مروان عبد الرحمان بن مخنف، فبعثه على أهل الكوفة، وأمره أن ينتخب فرسان الناس ووجوههم وأولى الفضل منهم والنجدة.
قال عبد الرحمان بن مخنف، قال لى بشر:
- «إنّك قد عرفت منزلتك منّى وأثرتك عندي، وقد ولّيتك هذا الجيش للذي [1] عرفت من جرأتك [2] وغنائك وشرفك وبأسك، فكن عند أحسن ظنّى بك، انظر هذا الكذّاب [3]- يعنى المهلّب ووقع فيه وسبعه [4]- (كذا) فاستبدّ عليه بالأمر، [308] ولا تقبلنّ له مشورة ولا رأيا.» وتنقّصه وقصّر به.
قال عبد الرحمان: فترك أن يوصيني بالجند وقتال العدوّ والنظر لأهل الإسلام، وأقبل يغرينى بابن عمّى حتّى كأنّى سفيه من السفهاء، أو ممّن يستصبى ويستجهل. ما رأيت شيخا فى مثل سنّى ومنزلتي طمع منه فى مثل ما طمع فيه هذا الغلام منّى. شبّ عمرو عن الطوق.
قال: ولما رءانى لست بالنشيط إلى جوابه قال:
- «ما لك؟» قلت:
- «أصلحك الله، وهل يسعني إلّا أن أنقاد لأمرك فى كلّ ما أحببت أو كرهت؟»
__________
[1] . للذي: كذا فى الأصل وهو الصحيح. وما فى مط: الذي.
[2] . جرأتك: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 856) : جزئك.
[3] . أنظر هذا الكذّاب: كذا فى الأصل. وفى مط: أنظر هذا الكتاب! وهو خطأ. وما فى الطبري أنظر هذا الكذا كذا يقع فى المهلّب!
[4] . سبعه: كذا فى الأصل. وفى مط: شيعته. سبعه: ذعره. عابه. شتمه.(2/251)
قال:
- «امض راشدا.» فودّعته وخرجت من عنده.
وخرج المهلّب حتّى نزل رامهرمز، فلقى الخوارج، فخندق عليه، وأقبل عبد الرحمان بن مخنف بأهل الكوفة، فنزل قريبا من المهلّب على ميل، أو ميل ونصف، حيث يتراءى العسكران برامهرمز، فلم يلبث الناس إلّا عشرا حتّى أتاهم نعى بشر، وتوفّى بالبصرة، وارفضّ الناس من أصحاب المهلّب وأصحاب عبد الرحمان بن مخنف، وهم رؤساء أهل البصرة والكوفة، وبقيا فى قلّة. وكان بشر استخلف خالد بن عبد الله بن أسيد، وكان خليفته على الكوفة عمرو بن حريث، وكان ممن انصرف من أهل الكوفة: زحر بن قيس، [309] وإسحاق بن محمد بن الأشعث، ومحمد بن عبد الرحمان بن سعد بن قيس. فبعث عبد الرحمان ابنه جعفرا فى آثارهم، فردّ إسحاق ومحمدا، وفاته زحر بن قيس، فحبسهما يومين، ثمّ أخذ عليهما ألّا يفارقاه. فما لبثا إلّا يوما حتّى انصرفا ولحقا بزحر بن قيس بالأهواز، فاجتمع بها ناس كثير ممن يريد البصرة، فبلغ ذلك خالد بن عبد الله، فكتب إلى الناس كتابا، وبعث رسلا تضرب وجوه الناس وتردّهم. فقدم مولى له، فقرئ الكتاب على الناس وقد جمعوا له، وكان فيه حضّ على الجهاد وتوبيخ للرؤساء، وتهديد لعامّة الناس، ويقول فى آخره:
- «أيها الناس، اعلموا على من اجترأتم ومن عصيتم. إنه عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين الذي ما فيه غميزة، ولا عنده رخصة على من خالفه وعصى أمره، وإنما سوطه سيفه، فلا تجعلوا على أنفسكم سبيلا، فإنّى لم آلكم نصيحة. اذهبوا إلى مكتبكم [1] وطاعة خليفتكم، ولا ترجعوا عاصين مخالفين، فأقسم بالله لا
__________
[1] . مكتبكم: الكلمة تكررت فى موضعين، فى الموضع الأول غموض فأثبتناها كما هي فى الموضع الثاني(2/252)
أثقف عاصيا بعد كتابي هذا إلّا قتلته والسلام.» فلم يلتفت الناس إلى ما فى الكتاب، وأقبل رؤساء [310] الكوفة حتّى نزلوا إلى جانب الكوفة فى قرية لآل الأشعث، وكتبوا إلى عمرو بن حريث:
- «أما بعد، فإنّ الناس لما بلغهم وفاة الأمير رحمه الله، تفرّقوا فلم يبق معنا أحد، فأقبلنا إلى الأمير، وإلى مصرنا، وأحببنا ألّا ندخل الكوفة إلّا بإذن الأمير وعلمه، والسلام.» فكتب إليهم:
- «أما بعد، فإنّكم تركتم مكتبكم وأقبلتم عاصين مخالفين، فليس لكم عندنا أمان ولا إذن.» فلما أتاهم كتابه انتظروا حتّى إذا كان الليل دخلوا إلى رحالهم، فلم يزالوا مقيمين حتّى قدم الحجّاج بن يوسف.
سبب عزل بكير بن وساج عن خراسان
وفى هذه الأيام عزل عبد الملك بكير بن وساج عن خراسان، وولّاها أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد. وكان سبب ذلك أنّ تميما اختلفت بخراسان، فصار منهم قوم يتعصّبون لبحير ويطلبون بكيرا، وصار منهم يعذرون بكيرا ويتعصّبون له. فخاف أهل خراسان أن تعود الحرب وتفسد البلاد ويقهرهم عدوّهم من المشركين. فكتبوا إلى عبد الملك أنّ خراسان لا تصلح بعد الفتنة إلّا على رجل من قريش لا يحسدونه.
فوجّه عبد الملك أمية بن [311] عبد الله، وكان يحبّه ويقول:
__________
[ () ] وكما فى الطبري (8: 858، 859) . وفى حواشي الطبري: أمكنتكم (فى كلا الموضعين) . فى مط:
مكنتكم؟ والموضع الثاني محذوف فى مط.(2/253)
- «هو لدتى [1] .» وكان بحير كما كتبنا فى ما تقدّم من خبره، فى حبس بكير لما كان منه فى رأس ابن خازم حين قتله. فلم يزل محبوسا عنده حتّى استعمل عبد الملك أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد. فلما بلغ ذلك بكيرا أرسل إلى بحير ليصالحه، فأبى عليه وقال:
- «ظنّ بكير أنّ خراسان تبقى له فى الجماعة.» فمشى بينهم السفراء، فأبى بحير.
ذكر رأى صواب أشير به على بحير فقبله
ثمّ دخل عليه ضرار بن حصن الضبّى، فقال:
- «إنّى لا أراك مائقا، يرسل إليك ابن عمّك يعتذر إليك وأنت أسير فى يده فلا تقبل منه! لو قتلك ما حبقت [2] فيه عنز. ما أنت بموفّق، اقبل الصلح، واخرج وأنت على أمرك.» فقبل مشورته وصالح بكيرا.
قال: فأرسل إليه بكير بأربعين ألفا، وأخذ على بحير ألّا يغتاله. فلما بلغ بحيرا أنّ أمية قارب أبرشهر، قال لرجل من عجم مرو:
- «دلّنى على طريق قريب لألقى الأمير قبل قدومه ولك كذا وكذا.» وأجزل له العطيّة. وكان عالما بالطريق. فخرج إلى أرض [312] سرخس فى ليلة، ثمّ مضى به إلى نيسابور.
فوافى أمية حتّى قدم أبر شهر، فلقيه، فأخبره عن خراسان وما يصلح أهلها
__________
[1] . لدتى: كذا فى الأصل ومط. وفى الطبري (8: 861) : هو نتيجتى أى لدتى.
[2] . حبقت: فى الأصل حيقت، ولم نجد لها معنى. وفى مط: حنقت. وما أثبتناه يؤيّده الطبري (8: 861) .
حبقت: ضرطت. وأكثر استعماله فى الإبل والغنم.(2/254)
ويحسن طاعتهم ويخفّ على الموالي مؤونتهم، ورفع على بكير أموالا قد أصابها، وحذّره غدره، وسار معه حتّى قدم مرو. وكان أمية سيّدا كريما. فلم يعرض لبكير ولا لعمّاله، وعرض عليه أن يولّيه شرطته، فأبى بكير، فولّاها بحيرا. وقد كان لام بكيرا رجال من قومه وقالوا [1] :
- «أبيت أن تلى حتّى ولّاها بحيرا، وقد عرفت ما كان بينكما.» قال:
- «كنت أمس والى خراسان تحمل الحراب بين يدىّ وأصبر اليوم على الشرطة أحمل الحربة!» وقال أمية لبكير:
- «اختر ما شئت من عمل خراسان.» قال:
- «طخارستان.» قال:
- «هي لك.» قال: فتجهّز بكير، وأنفق مالا كثيرا، فقال بحير لأميّة:
- «إن أتى بكير طخارستان خلعك.» فلم يزل يحذّره حتّى حذره، وأمره بالمقام.
ذكر تولية [2] عبد الملك الحجّاج بن يوسف العراق وسيرة الحجّاج
ولمّا توفّى بشر بن مروان، كاتب عبد الملك الحجّاج بن يوسف وهو بالمدينة [313] وولّاه العراق. فأقبل فى اثنى عشر راكبا على النجائب، حتّى دخل الكوفة حين انتشر النهار. فجاءه، وكان بشر بعث المهلّب إلى الحروريّة، وانصرف كثير من الناس عنه بعد وفاته. وقد كتبنا أمره فى ما تقدّم. فبدأ الحجّاج بالمسجد،
__________
[1] . فى الأصل ومط: قال. فصحّحناها كما فى الطبري 8: 862.
[2] . ما فى الأصل: ولاية وهو سهو.(2/255)
فدخله، ثمّ صعد المنبر وهو متلثّم بعمامة حمراء خزّ، فقال:
- «علىّ بالناس.» فحسبوه وأصحابه خارجة. فهمّوا به، حتّى إذا اجتمع إليه الناس قام فكشف عن وجهه، ثمّ قال:
«أنا ابن جلا وطلّاع الثّنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
أما والله، إنّى لأحمل الشرّ محمله [1] ، وأخذوه بنعله [2] وأجزيه بمثله، وإنّى لأرى رؤوسا قد أينعت، وحان قطافها، وإنّى لأنظر إلى الدماء ترقرق بين العمائم واللّحى. قد شمّرت عن ساقها تشميرا.
هذا أوان الشدّ، فاشتدّى زيم ... قد لفّها الليل بسوّاق حطم [3]
ليس براعي إبل ولا غنم ... ولا بجرّار [4] على ظهر وضم
قد لفّها الليل بعصلبىّ ... مهاجر ليس بأعرابىّ
إنّى والله، يا أهل العراق ما أغمز تغماز [314] التين، ولا يقعقع لى بالشّنان، ولقد فررت عن ذكاء وفتّشت [5] عن تجربة، وجريت من [6] الغاية. إنّ أمير المؤمنين نثل كنانته، ثمّ عجم عيدانها، فوجدني أمرّها عودا [وأصلبها
__________
[1] . محمله: كذا فى الأصل والطبري (8: 864) . وفى مط: حمله، وهو خطأ.
[2] . بنعله: كذا فى الأصل والطبري، وهو الصحيح. وما فى مط: ينعله.
[3] . الحطم: كذا ضبطت فى الأصل. وضبطها الطبري: «حطم» .
[4] . بجرّار: النقطة التحتانية واحدة فى الأصل: بحرّار؟ بجرّار؟ وما فى الطبري: بجزّار.
[5] . فتّشت عن تجربة: نقط الشين أثبتناها بقرينة ما فى مط، فما فى مط: فنشيت.
[6] . جريت من الغاية: كذا فى الأصل. وفى الطبري: جريت إلى الغاية. والعبارة ساقطة من الطبري.(2/256)
مكسرا] فرماكم بى. فإنّكم طال ما أوضعتم فى الفتن وسننتم سنن الغىّ. والله لألحونّكم لحو العود، ولأعصبنّكم عصب السلمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل. إنّى والله لا أعد إلّا وفيت، ولا أخلق إلّا فريت، فإيّاى وهذه الجماعات وقيلا وقالا وما يقول وفيم أنتم وذاك، والله لتستقيمنّ على سبل الحقّ، أو لأدعنّ لكلّ رجل منكم شغلا فى جسده. من وجدناه بعد ثالثة من بعث المهلّب سفكت دمه وأنهبت ماله.» ثمّ دخل منزله ولم يزد على ذلك.
ويقال: إنّه لمّا طال سكوته تناول محمد بن عمير حصى ليحصبه بها، وقال:
- «قاتله الله، ما أعياه وآدمه [1] !» فلما تكلّم الحجّاج جعل الحصى ينتشر من يده ولا يعقل به.
ثمّ دعا الحجّاج بالعرفاء، وقال:
- «الحقوا بالمهلّب وائتوني بالبراءات بموافاتهم، ولا تغلقنّ أبواب الجسر ليلا ونهارا، فقد بلغني رفضكم للمهلّب وإقبالكم إلى [315] مصركم عصاة مخالفين.
وإنّى لأقسم لكم بالله ما أجد أحدا بعد ثلاثة إلّا ضربت عنقه.» [2] فلما كان اليوم الثالث سمع تكبيرا فى السوق، فخرج حتّى جلس على المنبر، فقال:
- «يا أهل العراق وأهل الشقاق ومساوئ الأخلاق، إنّى سمعت تكبيرا لا يراد به الله فى الترغيب، ولكنّه تكبير يراد به الترهيب. وقد عرفت أنها عجاجة تحتها قصف. يا بنى اللكيعة وعبيد العصا [3] وأبناء الأيامى، إن لا تربع رجل على ظلعه ولا يحسن حقن دمه ويبصر موضع قدمه، فأقسم باللَّه لأوشك أن أوقع بكم وقعة
__________
[1] . آدمه: كذا فى الأصل، وهي ساقطة من مط. الأدمة: السمرة. وفى الطبري: أدّمه.
[2] . تجد الخطبة وتفسير ألفاظها عند الطبري 8: 864.
[3] . العصا: كذا فى الأصل والطبري (8: 868) . وفى مط: الحصى!(2/257)
تكون نكالا لما قبلها وأدبا لما بعدها.» فقام إليه عمير بن ضابئ التميمي ليتكلم بعذره [1] فقال:
- «أسمعت كلامنا بالأمس؟» قال:
- «نعم،» قال:
- «ألست الذي غزا أمير المؤمنين عثمان؟» قال:
- «بلى.» قال:
- «فما حملك على ذلك؟» قال:
- «حبس أبى وكان شيخا كبيرا.» قال:
- «أوليس الذي يقول:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكى حلائله
إنّى لأحسب فى قتلك صلاح المصرين. قم إليه يا حرسىّ فاضرب عنقه.» فقام إليه [316] الحرسىّ، فأخرجه وضرب عنقه، وأنهب ماله، وأمر مناديا فنادى:
- «ألا إنّ عميرا أتى بعد ثالثة وقد كان سمع النداء، فأمرنا بقتله. ألا إنّ ذمّة الله بريئة ممن بات الليلة من جند المهلّب.» فخرج الناس، فازدحموا على الجسر، فعبر فى تلك الليلة أربعة آلاف مذحج.
وخرج العرفاء إلى المهلّب، وهو برامهرمز، فأخذوا كتبه بالموافاة.
وقال المهلّب لأصحابه:
- «قدم العراق أمير ذكر، اليوم قوتل العدوّ.»
__________
[1] . بعذره: كذا فى الأصل. وفى مط: بغدره.(2/258)
قال عمرو بن سعيد: فو الله إنّى لأسير بين الكوفة والحيرة إذ سمعت زجرا [1] مضريا، فعدلت إليه وقلت:
- «ما الخبر؟» قالوا:
- «قدم علينا رجل من شرّ أحياء العرب، من هذا الحىّ، من ثمود، أسقف الساقين، أشرح [2] الجاعرتين، أخفش العينين. فقدّم سيد الحىّ عمير بن ضابئ فضرب عنقه.» ولقى ابن الزبير إبراهيم بن عامر، فسأله عن الخبر، فقال وذلك فى السوق:
أقول لإبراهيم لمّا لقيته ... أرى الأمر أضحى [3] منصبا متشعّبا
تجهّز وأسرع فالحق الجيش، لا أرى ... سوى الجيش، إلّا فى المهالك مذهبا
تخيّر فإمّا أن تزور ابن ضابئ ... عميرا وإمّا أن تزور المهلّبا [317]
هما خطّتا حتف نجاؤك منهما ... ركوبك حوليّا من الثلج أشهبا
فأمسى ولو كانت خراسان دونه ... رءاها مكان السوق، أو هي أقربا
ثمّ أسرع الحجّاج إلى البصرة
ولما قتل الحجّاج عمير بن ضابئ، خرج من فوره حتّى قدم البصرة، فقام فيهم بخطبة، مثل التي [4] قام بها فى أهل الكوفة، وتوعّدهم مثل وعيده إيّاهم. فأتى برجل من بنى يشكر، وقيل له:
- «هذا عاص.» فقال:
__________
[1] . فى الطبري: رجزا. وفى مط: زحرا.
[2] . أشرح: كذا فى الأصل. وفى مط: أشرع. وما فى الطبري (8: 871) : ممسوح الجاعرتين.
[3] . أضحى: سقطت من الأصل. فأثبتناها كما فى مط. وما فى الطبري: أمسى.
[4] . فى الأصل ومط والطبري (8: 873) : الذي. وفى حاشية الطبري: التي. وهو الصحيح.(2/259)
- «إنّ لى فتقا، وقد رءاه بشر فعذرنى، وهذا عطائي مردود فى بيت المال.» فلم يقبل منه، وقدّمه فضرب عنقه. ففزع أهل البصرة، فخرجوا حتّى تداكّوا على العارض برامهرمز، فقال المهلّب:
- «جاء الناس أمر ذكر.»
ذكر وثوب الناس بالحجّاج
خرج الحجّاج بالناس حتّى نزل رستقباذ، ومعه وجوه أهل البصرة، وكان بينه وبين المهلّب ثمانية عشر فرسخا. فقام فى الناس، فقال:
- «إنّ ابن الزبير زادكم فى أعطياتكم زيادة فاسق منافق ولست أجيزها.» فقام إليه عبد الله بن الجارود العبدى، فقال:
- «ولكنّها زيادة أمير المؤمنين عبد الملك، وقد [318] أثبتها لنا.» فكذّبه وتوعّده، فخرج ابن الجارود على الحجّاج، وبايعه وجوه الناس.
فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل عبد الله بن الجارود وجماعة ممن ثار معه، وبعث الحجّاج برأسه ورؤوس عدّة من أصحابه إلى المهلّب، ونصب برامهرمز ثمانية عشر رأسا من وجوه الناس. فساء ذلك الخوارج، وكانوا رجوا أن يكون من الناس فرقة واختلاف. وانصرف الحجّاج إلى البصرة، وكتب إلى المهلّب وإلى عبد الرحمان بن مخنف:
- «أما بعد، إذا أتاكم كتابي هذا، فناهضوا الخوارج. والسلام.» فناهض المهلّب وعبد الرحمان الأزارقة، فأجلوهم عن رامهرمز من غير قتال شديد، ولكنّهم زحفوا إليهم حتّى أزالوهم، وخرج القوم كأنهم على حامية، حتّى نزلوا بكازرون.(2/260)
ذكر توان لعبد الرحمان حتّى قتل وقتل معه خلق
وسار المهلّب وعبد الرحمان حتّى نزلوا بهم، فخندق المهلّب ولم يخندق عبد الرحمان، فقال المهلّب لعبد الرحمان:
- «إن رأيت أن تخندق عليك فعلت.» فقال أصحاب عبد الرحمان:
- «خندقنا سيوفنا.» فلما كان الليل زحف الخوارج إلى المهلّب [319] ليبيّتوه، فوجدوه قد أخذ حذره، فمالوا نحو عبد الرحمان، فوجدوه لم يخندق. فنهض عبد الرحمان وقاتلهم وانهزم عنه أصحابه، ونزل فى جماعة من أهل الحفاظ والصبر، فقاتلوا حتّى قتل عبد الرحمان وقتلوا كلّهم حوله.
فلما أصبح المهلّب جاء حتّى دفنه وصلّى عليه، وكتب بمصابه إلى الحجّاج، فكتب الحجّاج بذلك إلى عبد الملك ونعى عبد الرحمان وذمّ أهل الكوفة. وبعث الحجّاج على عسكر عبد الرحمان بن مخنف، عتّاب بن ورقاء، وأمره إذ ضمّتها الحرب أن يسمع للمهلّب ويطيع. فساءه ذلك ولم يجد بدّا من طاعة الحجّاج، ولم يقدر على مراجعته. فجاء حتّى أقام فى ذلك العسكر، وقاتل الخوارج، وأمره إلى المهلّب، وهو فى ذلك يعنى أموره ولا يكاد يستشير المهلّب فى شيء. فلما رأى المهلّب ذلك اصطنع رجالا من أهل الكوفة فيهم بسطام بن مصقلة، فأغراهم بعتّاب.
فلما كان ذات يوم، أتى عتّاب المهلّب يسأله أن يرزق أصحابه. فأجلسه المهلّب معه على مجلسه، فسأله عتّاب سؤالا فيه تجهّم وغلظة وترادّا الكلام حتّى قال [320] له المهلّب:
- «يا بن اللخناء.» وذهب ليرفع القضيب عليه، فوثب إليه ابنه المغيرة، فقبض على القضيب وقال:
- «أصلح الله الأمير، شيخ من أشياخ العرب وشريف من أشرافهم. إن سمعت(2/261)
منه ما تكره فاحتمله.» فقبله وقام عتّاب، فاستقبله بسطام بن مصقلة يشتمه ويقع فيه. فلما رأى عتّاب ذلك كتب إلى الحجّاج يشكو إليه المهلّب ويخبره أنه أغرى به سفهاء أهل البصرة ويسأله أن يضمّه إليه، ووافق ذلك حاجة من الحجّاج إليه فى ما لقى من شبيب، وما لقيه أيضا أشراف الكوفة منه. وسنذكر من خبره ما يليق بهذا الكتاب إن شاء الله. فبعث إليه الحجّاج أن:
- «اقدم واترك أمر ذلك الجيش إلى المهلّب.» فبعث المهلّب ابنه حبيبا، وأقام المهلّب يقاتلهم سنة.
ذكر ما كان من شبيب بن يزيد وما لقى الحجّاج وأشراف الكوفة منه
كان ابتداء أمر شبيب صحبته لرجل يعرف بصالح بن مسرّح، وكان صالح يرى رأى الصفريّة وكان ناسكا مصفرّ الوجه صاحب عباده، وله أصحاب يقريهم القرآن ويفقّههم [321] ويقصّ عليهم، وقدم الكوفة فيقيم بها الشهر أو الشهرين، وكان بأرض الموصل والجزيرة، وله قصص محفوظ [1] وكلام مستحسن، وكان إذا فرغ من التحميد والصلاة على محمد ذكر أبا بكر فأثنى عليه، وثنّى بعمر، وذكر عثمان وما كان من أحداثه، ثمّ عليّا وتحكيمه الرجال فى أمر الله، ويتبرّأ من عثمان وعلىّ، ثمّ يدعو إلى مجاهدة أئمّة الضلال ويقول:
- «تيسّروا يا إخوانى للخروج من دار الفناء، إلى دار البقاء، واللحاق بإخواننا المؤمنين الذين باعوا الدنيا بالآخرة، ولا تجزعوا من القتل فى الله، فإنّ القتل أيسر من الموت، والموت نازل بكم عند ما ترجم [2] الظنون، فيفرّق بينكم وبين آبائكم
__________
[1] . قصص محفوظ: كذا فى الأصل. وما فى مط: قصص محفوظة.
[2] . الرجم: أن يتكلّم بالظن. ومنه قولهم: «رجّم بالغيب» ، أو: «رجما بالغيب» .(2/262)
وأبنائكم وحلائلكم ودنياكم، وإن اشتدّ لذلك جزعكم. ألا، فبيعوا أنفسكم طائعين وأموالكم، تدخلوا الجنّة.» وأشباه ذلك من الكلام. وكان فى من يحضره من أهل الكوفة سويد والبطين.
فقال يوما لأصحابه:
- «ما تنتظرون؟ ما يزداد أئمّة الجور إلّا عتوّا وعلوّا وتباعدا من الحقّ، وجرأة على الربّ، فراسلوا إخوانكم حتّى يأتوكم وننظر ما نحن صانعون وأىّ وقت إن خرجنا [322] نحن خارجون.» فبينا هو كذلك، إذ أتاه المحلّل [1] بن وائل بكتاب شبيب وقد كتب إلى صالح:
- «أما بعد، فقد كنت دعوتني إلى أمر استجبت له، فإن كان ذلك، فإنّك شيخ المسلمين، ولم نعدل بك منّا أحدا، وإن أردت تأخير ذلك، أعلمتنى، فإنّ الآجال غادية ورائحة، ولا آمن أن تخترمنى المنيّة ولمّا أجاهد الظالمين. جعلنا الله وإيّاك ممّن يريد الله بعمله، والسلام عليك.» فأجابه صالح بجواب جميل يقول فيه:
- «إنّه لم يمنعني من الخروج مع ما أنا فيه من الاستعداد إلّا انتظارك، فاقدم علينا ثمّ اخرج بنا، فإنّك ممن لا تقصّى الأمور دونه، والسلام.» فلما ورد كتابه على شبيب دعا نفرا من أصحابه فجمعهم إليه، منهم: أخوه مصاد بن يزيد والمحلّل بن وائل، والصفر بن حاتم، وإبراهيم بن حجر، وجماعة مثلهم. ثمّ خرج حتّى قدم على صالح بن مسرّح، وهو بدارا من أرض الموصل.
فبثّ صالح رسله، وواعدهم الخروج فى هلال صفر ليلة الأربعاء سنة ست وسبعين. فاجتمع بعضهم إلى بعض، واجتمعوا عنده فى تلك الليلة.
فتحدّث فروة بن لقيط قال: إنّى لمعهم تلك الليلة وكان رأى استعراض الناس
__________
[1] . المحلل: ضبط هذا الإسم مضطرب فى الأصل، فتارة بالحاء المهملة وأخرى بالجيم المعجمة. فأثبتناه بالحاء المهملة كما فى الطبري ومط.(2/263)
[323] لما رأيت من المنكر والفساد فى الأرض. فقمت إليه، فقلت:
- «يا أمير المؤمنين، كيف ترى السيرة فى هؤلاء الظلمة؟ أنقتلهم قبل الدعاء، أم ندعوهم قبل القتال؟ فإنّى أخبرك برأيى فيهم قبل أن تخبرني برأيك فيهم. إنّا نخرج على قوم طاغين باغين، قد تركوا أمر الله، أو راضين بذلك، فأرى أن تضع [1] فيهم السيف.» فقال:
- «لا، بل ندعوهم، فلعمرى، لا يجيبك إلّا من يرى رأيك، وليقاتلنّك من يزرى عليك، والدعاء أقطع لحجّتهم، وأبلغ فى الحجة لك عليهم.» قال: فقلت له:
- «فكيف ترى فى من قاتلنا فظفرنا به، وما تقول فى دمائهم وأموالهم؟» فقال:
- «إن قاتلنا وغنمنا فلنا، وإن تجاوزنا وعفونا، فموسّع علينا ولنا.» فأحسن لنا القول.
ثمّ قال صالح لأصحابه ليلته:
- «اتّقوا الله عباد الله، ولا تعجلوا إلى قتال أحد من الناس إلّا أن يكونوا يريدونكم، فإنّكم خرجتم غضبا لله حيث انتهكت محارمه، وعصى فى الأرض، وسفكت الدماء بغير حقّها، وأخذت الأموال غصبا، فلا تعيبوا على قوم أعمالا ثمّ تعملوا بها. وهذه دوابّ لمحمد بن مروان فى هذا الرستاق، فابدءوا بها، فاحملوا رجلكم وتقوّوا بها على عدوّكم.» [324] ففعلوا ذلك وتحصّن منهم أهل دارا، وبلغ خبرهم محمد بن مروان، وهو يومئذ أمير الجزيرة، فاستخفّ بأمرهم، وبعث إليهم عدىّ بن عميرة فى خمسمائة، وكان صالح فى مائة وعشرة، فقال عدىّ:
- «أصلح الله الأمير، تبعثني إلى رأس الخوارج ومعه رجال سمّوا لى، وإنّ
__________
[1] . نضع: كذا فى الأصل وهو الصحيح. وما فى مط: تصنع. وهو خطأ.(2/264)
الرجل منهم خير من مائة فارس فى خمسمائة.» فقال له:
- «فإنّى أزيدك خمسمائة، فسر إليهم فى ألف فارس.» فسار من حرّان فى ألف رجل وكأنما يساق إلى الموت. وكان عدىّ رجلا يتنسّك. فلما نزل ذوغان نزل بالناس وأنفذ إلى صالح بن مسرّح رجلا دسّه إليه.
فقال له:
- «إنّ عديّا بعثني إليك يسألك أن تخرج من هذا البلد وتأوى بلدا آخر وتقاتل أهله، فإنّ عديّا للقائك كاره.» فقال صالح:
- «ارجع إليه، فقل له: إن كنت ترى رأينا فأرنا من ذلك ما نعرف، ثمّ نحن مدلجون عنك، وإن كنت على رأى الجبابرة وأئمّة السوء، رأينا رأينا. فإمّا بدأنا بك، وإمّا رحلنا إلى غيرك.» فانصرف إليه الرسول، فأبلغه. فقال عدىّ:
- «ارجع إليه فقل له: إنّى والله لا أرى رأيك، ولكنّى أكره قتالك وقتال غيرك من المسلمين، فقاتل غيرى.» [325]
ذكر مكيدة صالح على عدىّ
فقال صالح لأصحابه: اركبوا. فركبوا. وحبس الرجل عنده حتّى خرجوا، ثمّ تركه ومضى بأصحابه حتّى أتى عديّا فى سوق ذوغان وهو قائم يصلّى الضحى، فلم يشعر إلّا والخيل طالعة عليهم. فلما دنا صالح منهم رءاهم على غير تعبئة، وقد تنادوا، وبعضهم يجول فى بعض. فأمر شبيبا، فحمل عليهم فى كتيبة، ثمّ أمر سويدا، فحمل فى كتيبة، وكانت هزيمتهم. وأتى عدىّ بدابّته فركبها، ومضى على وجهه، واحتوى صالح على عسكره وما فيه. وذهب فلّ عدىّ حتّى(2/265)
لحقوا بمحمد بن مروان. فغضب، ثمّ دعا خالد بن جزء [1] السلمى، فبعثه فى ألف وخمسمائة، ودعا الحارث بن جعونة فبعثه فى ألف وخمسمائة، وقال لهما:
- «أخرجا إلى هذه الخارجة القليلة الخبيثة وعجّلا. فأيكما سبق فهو الأمير على صاحبه.» فخرجا، وأغذّا السير، وجعلا يسألان عن صالح، فقيل لهما [2] :
- «توجّه نحو آمد.» فاتّبعاه حتّى انتهيا إليه بآمد، فنزلا ليلا وخندقا وهما يتساندان كلّ واحد منهما على حدته. فوجّه صالح شبيبا إلى الحارث بن جعونة فى شطر أصحابه، وتوجّه هو [326] نحو خالد السلمى، فاقتتلوا أشدّ قتال اقتتله قوم، حتّى حجز بينهم الليل وقد انتصف بعضهم من بعض.
فتحدّث بعض أصحاب صالح قال: كنّا إذا حملنا عليهم استقبلتنا رجّالتهم بالرماح، ونضحتنا [3] رماتهم بالنبل وخيلهم تطاردنا فى خلال ذلك، فانصرفنا عند الليل وقد كرهناهم وكرهونا. فلمّا رجعنا وصلّينا وتروّحنا وأكلنا من الكسر دعانا صالح وقال:
- «يا أخلّائى ماذا ترون؟» فقال شبيب:
- «أنا أرى إن قاتلنا هؤلاء وهم معتصمون بخندقهم لم ننل منهم طائلا. والرأى أن نرحل عنهم.» فقال صالح:
__________
[1] . جزء: كذا فى الأصل والطبري (8: 889) . وما فى مط: حرّ.
[2] . فى الأصل: له. وفى مط: إنّه.
[3] . نضحتنا: غير واضحة فى الأصل ومط. فأثبتناها كما فى الطبري (8: 889) . نضح القوم ونضحهم بالنبل: رماهم ففرّقهم.(2/266)
- «أنا أرى ذلك.» فخرجوا من تحت ليلتهم حتّى قطعوا أرض الجزيرة وأرض الموصل، ومضوا حتّى قطعوا الدسكرة. فلما بلغ ذلك الحجّاج سرّح إليهم الحارث بن عميرة فى ثلاثة آلاف. فسار، وخرج صالح نحو جلولا وخانقين، واتّبعه الحارث حتّى انتهى إلى قرية يقال لها: الريح [1] وصالح يومئذ فى تسعين رجلا. فعبّى الحارث بن عميرة أصحابه ميمنة وميسرة، وجعل صالح أصحابه كراديس ثلاثة، فهو فى كردوس وشبيب فى [327] ميمنته فى كردوس، وسويد بن سليم [2] فى كردوس من ميسرته، وفى كلّ كردوس منهم ثلاثون رجلا. فلما شدّ عليهم الحارث بن عميرة انكشف سويد بن سليم وثبت صالح، فقتل، وضارب شبيب حتّى صرع عن فرسه، فوقع فى رجاله، فجاء حتّى انتهى إلى موقف صالح، فوجده قتيلا، فنادى:
- «يا معشر المسلمين.» فلاذوا به، وقال لأصحابه:
- «ليجعل كلّ رجل منكم ظهره إلى ظهر صاحبه، وليطاعن عدوّه إذا أقدم عليه حتّى ندخل هذا الحصن ونرى من رأينا.» ففعلوا ذلك حتّى دخلوا الحصن وهم سبعون رجلا مع شبيب، وأحاط بهم الحارث بن عميرة ممسيا، وقال لأصحابه:
- «أحرقوا الباب، فإذا صار جمرا فدعوه، فإنّهم لا يقدرون على خروجهم حتّى نصبّحهم [3] فنقتلهم.» ففعلوا ذلك بالباب، ثمّ انصرفوا إلى معسكرهم. فقال شبيب لأصحابه:
__________
[1] . الريح: كذا فى الأصل ومط. وفى الطبري (8: 890) المذبج. وفى حواشيه: المديح، المدبح.
[2] . فى الطبري: سليم. وما فى مط: مسلم. وما فى الأصل مضطرب حيث ضبط على وجهين: سليم وسلم.
فوحدنا الضبط كما فى الطبري.
[3] . فى الأصل: تصبّحهم فتقتلهم.(2/267)
- «ما تنظرون يا هؤلاء؟ فو الله، لئن صبّحوكم إنه لهلاككم.» فقالوا:
- «مرنا بأمرك.» فقال لهم:
- «بايعوني إن شئتم، أو من شئتم منكم، ثمّ اخرجوا بنا حتّى نشدّ عليهم فى عسكرهم [328] فإنّهم آمنون منكم، فإنّى أرجو أن ينصركم الله.» قالوا:
- «فابسط يدك.» فبايعوه. فلما جاءوا إلى الباب وجدوه جمرا، فأتوا باللبود، فبلّوها بالماء، ثمّ ألقوها عليه، وخرجوا، ولم يشعر الحارث بن عميرة إلّا وشبيب وأصحابه يضربونهم بالسيوف فى جوف عسكرهم. فضارب الحارث حتّى صرع، واحتمله أصحابه وانهزموا وخلّوا لهم العسكر وما فيه، ومضوا حتّى نزلوا المدائن. وكان ذلك الجيش أول جيش هزمه شبيب.
فأما صالح بن مسرّح فإنّه أصيب من سنة كما حكينا من أمره، ثمّ ارتفع فى أدانى أرض الموصل، ثمّ ارتفع نحو آذربيجان يجبى الخراج.
وكان سفيان بن أبى العالية قد أمر أن يدخل فى خيل معه طبرستان، فأمر بالقفول، فصالح صاحب طبرستان، وأقبل فى نحو من ألف، وورد عليه كتاب الحجّاج:
- «أما بعد، فأقم بالدسكرة فى من معك حتّى يأتيك جيش الحارث بن عميرة من ذى الشغار، وهو الذي قتل صالح بن مسرّح، ثمّ سر إلى شبيب حتّى تناجزه.» ففعل سفيان ذلك ونزل الدسكرة، ونودى فى جيش الحارث بن عميرة بالكوفة [329] والمدائن:
- «برئت الذمّة من رجل من جيش الحارث بن عميرة لم يواف ابن العالية بالدسكرة.» قال: فخرجوا حتّى أتوه، وارتحل سفيان فى طلب شبيب، ثمّ ارتفع عنهم كأنه(2/268)
يكره لقاءهم وقد أكمن لهم مصادا فى خمسين رجلا فى هزم من الأرض. فلمّا رأوه جمع أصحابه، ثمّ مضى فى سفح من الجبل مشرقا. فقالوا:
- «هرب عدوّ الله.» واتّبعوه.
ذكر رأى رءاه عدىّ بن عميرة فى تلك الحال فلم يقبل حتّى هلك الجيش
فقال لهم عدىّ بن عميرة الشيبانى:
- «أيها الناس، لا تعجلوا عليهم حتّى نضرب فى الأرض فنستبرئها، فإن يكونوا كمنوا كمنا حذرناه، وإلّا كان طلبهم [1] بأيدينا، لن يفوتنا.» فلم يسمع منه الناس، وأسرعوا فى آثارهم. فلما رأى شبيب أنهم قد تجاوزوا الكمين خرجوا إليهم. فحمل شبيب من أمامهم، وصاح بهم الكمين من وراءهم.
فلم يقاتل أحد وكانت الهزيمة وثبت ابن أبى العالية فى نحو مائتي رجل، فقاتلهم قتالا شديدا حتّى انتصف من شبيب، فقال سويد بن [331- 330] [2] سليم:
- «أمنكم من يعرف أمير القوم ابن أبى العالية؟» فقال شبيب:
- «أنا من أعرف الناس به. أما ترى صاحب الفرس الذي دونه المرامية، فإنه هو. فإن كنت تريده فأمهله قليلا.» ثمّ قال:
- «يا قعنب، اخرج فى عشرين، ثمّ ائتهم [3] من وراءهم.» فخرج قعنب فى عشرين، فارتفع عليهم. فلما رأوه يريد أن يأتيهم من ورائهم
__________
[1] . طلبهم: كذا فى الأصل. وما فى مط: طلبتهم.
[2] . طفر المرقم من رقم 329 إلى رقم 331 فأثبتنا الرقمين لصفحة واحدة، حتّى لا نغيّر أرقام الصفحات.
[3] . ائتهم: أثبتناها كما فى مط والطبري (8: 898) . وما فى الأصل: آتهم. وهو خطأ.(2/269)
جعلوا ينقصون ويتسلّلون. وحمل سويد بن سليم على سفيان بن أبى العالية، فطاعنه، فلم يصنع رمحاهما شيئا، ثمّ اضطربا بسيفيهما، ثمّ اعتنق كلّ أحد منهما، فوقعا إلى الأرض يعتركان، ثمّ تحاجزا [1] ، وحمل عليهم شبيب، فانكشف من كان معه. ونزل غلام لسفيان، يقال له غزوان [نزل] [2] عن برذونه، وقال لسفيان:
- «اركب يا مولاي.» فركب سفيان وأحاط به أصحاب شبيب، فقاتل دونه غزوان حتّى قتل، وكانت معه رايته. وأقبل سفيان بن أبى العالية منهزما حتّى انتهى إلى بابل مهروذ، فنزل بها، وكتب إلى الحجّاج، وكان الحجّاج أمر سورة بن أبجر أن يلحق بسفيان، فكاتب سورة سفيان وقال: انتظرنى. فلم يفعل، وعجّل نحو الخوارج. فلما عرف الحجّاج خبر سفيان، وقرأ كتابه، قال للناس:
- «من صنع كما صنع هذا وأبلى [332] كما أبلى، فقد أحسن.» ثمّ كتب إليه يعذره ويقول له:
- «إذا خفّ عليك الوجع، فأقبل مأجورا إلى أهلك.» وكتب إلى سورة:
- «أما بعد، يا بن أمّ سورة، فما كنت خليقا أن تجتزئ على ترك عهدي وخذلان جندي، فإذا أتاك كتابي فابعث رجلا ممن معك صليبا [3] إلى المدائن، فلينتخب من الخيل التي بها خمسمائة رجل، ثمّ ليقدم بهم عليك، ثمّ سر بهم حتّى تلقى [4] هذه المارقة، وأخبرنى فى أمرك، وكد عدوّك، فإنّ أفضل أمر الحرب المكيدة. والسلام.»
__________
[1] . تحاجزا: كذا فى مط. وفى الطبري: تحاجزوا. وما فى الأصل غامض، ويشبه أن يكون: تحاجزنا.
[2] . نزل: سقطت من الأصل ومط. فأثبتناها نقلا عن الطبري.
[3] . صليبا: كذا فى الأصل والطبري (8: 898) . وما فى مط: صلبا. والصليب: الخالص النسب. يقال: هو عربي صليب. أى: خالص النسب.
[4] . فى الأصل: نلقى. وما أثبتناه يؤيّده مط.(2/270)
فلما أتى سورة كتاب الحجّاج، بعث عدىّ بن عميرة إلى المدائن وكان بها ألف فارس، فانتخب منهم خمسمائة رجل، ثمّ رحل بهم حتّى قدم على سورة ببابل مهروذ. فخرج فى طلب شبيب، وخرج شبيب يجول فى جوخى، وسورة فى طلبه. فجاء شبيب إلى المدائن وتحصّن منه أهلها وهي أبنية المدائن الأولى، فدخل المدائن وأصاب دوابّ من دوابّ الجند، وقتل من ظهر له، ولم يدخلوا البيوت، فأتى فقيل:
- «هذا سورة بن أبجر قد أقبل إليك.» فخرج فى أصحابه حتّى انتهى إلى النهروان، فنزل به، وتوضّأ هو وأصحابه، ثمّ أتوا [333] مصارع إخوانهم الذين قتلهم علىّ بن أبى طالب، رضى الله عنه، فاستغفروا لإخوانهم، وتبرّأوا من علىّ وأصحابه، وبكوا فأطالوا البكاء، ثمّ عبروا جسر النهروان، فنزلوا من جانبه الشرقي، وجاء سورة حتّى نزل بقطراثا [1] ، وجاءته عيونه، فخبّرته بمنزل شبيب بالنهروان.
ذكر سوء رأى سورة فى الإقدام حتّى هزم وفلّ
فدعا سورة رؤساء أصحابه، فقال لهم:
- «إنّهم قلّ ما يلقون مصحرين أو على ظهيرة إلّا انتصفوا، وقد حدّثت أنهم لا يزيدون على مائة رجل، وقد رأيت أن أنتخبكم وأسير فى ثلاثمائة رجل منكم من أقويائكم وشجعانكم فأبيّتهم، فإنّهم آمنون لبياتكم. فإنّى والله أرجو أن يصرعهم الله مصرع إخوانهم بالنهروان من قبل.» فقالوا:
- «اصنع ما أحببت.» فاستعمل على عسكره حازم بن قدامة، وانتخب ثلاثمائة من شجعاء أصحابه،
__________
[1] . قطراثا: كذا فى الأصل والطبري (8: 900) . فى مط: قطرانا. وفى حواشي الطبري: قطرانا، قطرابا، قطراثا.(2/271)
ثمّ أقبل بهم حتّى قرب من النهروان، وبات وقد أذكى الحرس [1] ثمّ بيّتهم. فلما دنا أصحاب سورة منهم نذروا بهم. فاستووا على خيولهم، وتعبّوا بتعبئتهم. فلما انتهى إليهم سورة وأصحابه أصابوهم قد حذروا. فحمل عليهم سورة، ثمّ [334] صاح شبيب بأصحابه، فحمل عليهم حتّى تركوا العرصة، وحمل شبيب وجعل يضرب ويقول:
من ينك العير ينك نيّاكا ... [جندلتان اصطكّتا اصطكاكا] [2]
ورجع سورة إلى أصحابه مفلولا قد هزم فرسانه وأهل القوّة من أصحابه.
فضحك بهم وأقبل نحو المدائن، وتبعهم شبيب حتّى انتهى سورة إلى بيوت المدائن، ودفع شبيب إليهم وقد دخل الناس، وخرج ابن أبى العصيفر [3] ، وهو أمير على المدائن، فرماهم الناس بالنبل ومن فوق البيوت بالحجارة، ثمّ سار إلى تكريت. فبينا ذلك الجند بالمدائن إذ أرجف الناس بينهم فقالوا:
- «هذا شبيب قد أقبل يريد أن يبيّت أهل المدائن.» فارتحل عامّة الجند، فلحقوا بالكوفة، وإنّ شبيبا لبتكريت. ولما أتى الحجّاج خبره قال:
- «قبّح الله سورة، ضيّع العسكر، وخرج يبيّت الخوارج. والله لأسوءنّه.» ثمّ دعا الحجّاج الجزل وهو عثمان بن سعيد، فقال له:
- «تيسّر للخروج إلى هذه المارقة، فإذا لقيتهم، فلا تعجل عجلة الخرق النزق، ولا تحجم إحجام الوانى الفرق. هل فهمت؟» قال:
__________
[1] . الحرس: كذا فى الأصل والطبري. وما فى مط: الحرث. وهو خطأ.
[2] . المصراع تكملة من الطبري (8: 901) .
[3] . أبى العصيفر: كذا فى الأصل والطبري. وما فى مط: أبى الغصيفن. وهو خطأ.(2/272)
- «نعم، أصلح الله الأمير، قد فهمت [1] ما قال.» [335] قال:
- «فاخرج، فعسكر بدير عبد الرحمان حتّى يخرج إليك الناس.» فقال:
- «أصلح الله الأمير، لا تبعثنّ معى أحدا من الجند المفلول [2] المهزوم، فإنّ الرعب قد دخل قلوبهم، وقد خشيت أن لا ينفعك والمسلمين منهم أحد.» قال:
- «ذلك لك ولا أراك إلّا وقد أحسنت الرأى ووفّقت.» ثمّ دعا أصحاب الدواوين، فقال:
- «اضربوا على الناس بالبعث، فأخرجوا أربعة آلاف من الناس وعجّلوا.» فجمعت العرفاء، وأجلس أصحاب الدواوين، وضربوا البعث [وأخرجوا أربعة] [3] آلاف. فأمرهم بالعسكر، ثمّ نودى فيهم بالرحيل. ثمّ ارتحلوا ونادى منادى الحجّاج أن:
- «برئت الذمّة من رجل أصبناه من بعث الجزل متخلّفا.» فمضى الجزل بهم حتّى أتى المدائن، فأقام بها ثلاثا، ثمّ خرج وبعث إليه ابن أبى عصيفر بفرس وبرذون وألفى درهم، ووضع للناس من الجزر والعلف ما كفاهم ثلاثة أيام، وأصاب الناس من ذلك ما شاءوا.
ثمّ إنّ الجزل خرج بالناس فى أثر شبيب، فطلبه فى أرض جوخى، فجعل شبيب يريه الهيبة، فيخرج من رستاق إلى رستاق، ومن طسّوج إلى طسوج يريد بذلك أن يفرّق [336] الجزل أصحابه، ويتعجّل إليه فيلقاه فى عدد يسير على غير تعبئة.
فجعل الجزل إلّا على تعبئة، ولا ينزل إلّا خندق على أصحابه. فلما طال ذلك على شبيب دعا يوما أصحابه، وهم مائة وستون رجلا، فجعل على كلّ أربعين
__________
[1] . سقط من مط، من قوله: «قد فهمت» إلى قوله: «لا تبعثنّ» .
[2] . المفلول: كذا فى الأصل. وفى مط: المفلوك! وهو خطأ.
[3] . انمحاء فى الأصل. فأثبتنا ما بين [] كما فى مط.(2/273)
منهم رجلا، فهو فى أربعين، ومصاد أخوه فى أربعين، وسويد بن سليم فى أربعين، والمحلّل [1] بن وائل فى أربعين، وقد أتته عيونه أنّ الجزل بن سعيد قد نزل بئر سعيد، فقال لأخيه وللأمراء الذين ذكرناهم:
- «إنّى أريد أن أبيّت الليلة هذا العسكر، فائتهم أنت يا مصاد من قبل حلوان، وسآتيهم أنا من أمامهم من قبل الكوفة، وائتهم أنت يا محلّل من قبل المغرب، وليلحّ [2] كلّ امرئ منكم على الجانب الذي يحمل عليه، ولا تقلعوا عنهم حتّى يأتيكم أمرى.» قال فروة بن لقيط: وكنت أنا فى الأربعين الذين كانوا معه، فقال لجماعتنا:
- «تيسّروا، وليسر كلّ امرئ منكم مع أميره، ولينظر ما يأمر به أميره فليتّبعه.» فلمّا قضمت دوابّنا، وذلك أوّل ما هدأت العيون، خرجنا حتّى انتهينا إلى دير الخرّارة [3] ، فإذا للقوم مسلحة عليهم عياض بن أبى لينة [337] فما هو إلّا أن رءاهم مصاد أخو شبيب حتّى حمل عليهم فى أربعين رجلا، وكان أمام شبيب، أراد أن يرتفع عليهم حتّى يأتيهم من ورائهم كما أمره. فلما لقى هؤلاء قاتلهم، فصبروا ساعة، وقاتلوهم. ثمّ إنّا دفعنا إليهم جميعا فهزمناهم، وأخذوا الطريق الأعظم، وليس بينهم وبين عسكرهم بدير يزدجرد إلّا نحو ميل. فقال لنا شبيب:
- «اركبوا معاشر المسلمين أكتافهم [4] حتّى تدخلوا معهم عسكرهم إن استطعتم.» فاتّبعناهم ملظّين بهم، ملحّين عليهم، ما نرفّه عنهم وهم منهزمون، ما لهم همّة
__________
[1] . وفى الأصل يأتى هذا الإسم بالجيم. وما فى الطبري (8: 903) : المحلل، بالمهملة.
[2] . وليلحّ: كذا فى الأصل. وما فى مط والطبري (8: 904) : وليلج.
[3] . الخرّارة: كذا فى الأصل والطبري (8: 904) . وفى مط: الحرارة. وفى حواشي الطبري: الجرارة.
الجرارة.
[4] . أكتافهم: نقطة الحرف الثالث زالت فى الأصل. فأثبتناها كما فى مط. وما فى الطبري (8: 905) :
أكتافهم. ويبدو أنّ الصحيح هو ما فى مط. بدليل قوله فى الأسطر الآتية: «وأحطنا بعسكرهم» .(2/274)
إلّا عسكرهم. ومنعهم أصحابهم أن يدخلوا عليهم ورشقوهم بالنبل، وكانت لهم عيون قد أتتهم فأخبرتهم بمكاننا. وكان الجزل قد خندق عليه وتحرّز، ووضع هذه المسلحة الذين لقيناهم، ووضع مسلحة أخرى مما يلي حلوان. فلما اجتمعت المسالح، ورشقوهم أصحابهم بالنبل، ومنعونا من خندقهم، نظر شبيب أنه لا يصل إليهم، فقال لأصحابه:
- «سيروا ودعوهم.» فلما سار عنهم أخذ الطريق حلوان حتّى كان منهم على سبعة أميال. قال لأصحابه:
- «انزلوا، فأقضموا دوابّكم [338] وقيلوا وتروّحوا، وصلّوا ركعتين، ثمّ اركبوا.» ففعلوا. ثمّ أقبل بهم راجعا إلى عسكر أهل الكوفة، وقال:
- «سيروا على تعبئتكم التي عبّأتكم عليها أول الليل، وأطيفوا بعسكرهم كما أمرتكم.» فأقبلنا معه، وقد أدخل أهل العسكر مسالحهم إليهم، وقد أمنوا، فما شعروا حتّى سمعوا وقع حوافر خيولنا، فانتهينا إليهم قبل الصبح، وأحطنا بعسكرهم، ثمّ صحنا بهم من كلّ ناحية، فإذا هم يقاتلوننا ويرموننا بالنبل من كلّ جانب، فقال شبيب لأخيه مصاد:
- «خلّ لهم سبيل الكوفة.» وكان يقاتلهم من ذلك الوجه. فلما راسله أخوه شبيب بهذا، أقبل إليه، وجعلنا نقاتلهم من الوجوه الثلاثة، فلم نقدر أن نستفلّ منهم أحدا. فسرنا، فتركناهم، وخرج الجزل مع الصبح يتبعهم ويطلبهم، وجعل لا يسير إلّا على تعبئة، ولا ينزل إلّا على خندق، وكان شبيب يدعه ويضرب فى أرض جوخى وغيرها يكسر الحجّاج، فطال ذلك على الحجّاج.(2/275)
ذكر عجلة للحجّاج وسوء رأى له حتّى أهلك ذلك العسكر [339]
فكتب الحجّاج إلى الجزل كتابا قرئ على الناس، نسخته:
- «أما بعد، فإنّى قد بعثتك فى فرسان أهل المصر ووجوه الناس، وأمرتك باتّباع هذه المارقة وأن لا تقلع عنها حتّى تقتلها أو تفنيها. فوجدت التعريس [1] فى القرى والتخييم فى الخنادق أهون عليك من المضىّ لمناهضتهم ومناجزتهم.» فشقّ ذلك على الجزل.
قال: فأرجفنا بأميرنا وقلنا: يعزل. فما لبثنا أن بعث الحجّاج على ذلك الجيش سعيد بن المجالد وعهد إليه أنه، إذا لقى المارقة، أن يزحف إليهم ولا يناظرهم ولا يطاولهم ولا يصنع صنيع الجزل. وكان الجزل يومئذ قد انتهى فى طلب شبيب إلى النهروان وقد لزم عسكره وخندق عليه.
وجاء سعيد حتّى دخل عسكر أهل الكوفة أميرا. فقام فيهم خطيبا. فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال:
- «يا أهل الكوفة، إنكم قد عجزتم ووهنتم وأغضبتم عليكم أميركم. أنتم فى طلب هذه الأعاريب العقف [2] منذ شهرين، قد أخربوا بلادكم وكسروا خراجكم وأنتم حذرون فى جوف هذه الخنادق ولا تزايلونها إلّا أن يبلغكم أنهم قد ارتحلوا عنكم [340] ونزلوا بلدا سوى بلدكم. أخرجوا على اسم الله إليهم.» فخرج وأخرج الناس معه، وجمع إليه خيول أهل العسكر، فقال له الجزل:
- «ما تريد أن تصنع؟» قال:
__________
[1] . التعريس: كذا فى مط والطبري 8: 907. وما فى الأصل قريب إلى كونه التعريش (بالشين المعجمة) .
عرّس المسافرون: نزلوا آخر الليل للراحة. عرّش فلان: بنى عريشا. والعريش: السقف. أو ما يستظلّ به.
[2] . العقف: كذا فى الأصل ومط. وفى الطبري: العجف. وفى حواشيه: العفف.(2/276)
- «أريد أن أقدم على شبيب فى هذه الخيل.» فقال له الجزل:
- «أقم أنت فى جماعة الناس فارسهم وراجلهم ودعني أصحر له، ولا تفرّق أصحابك، فإنّ ذلك شرّ لهم وخير لك.» فقال له:
- «قف أنت فى الصفّ.» فقال:
- «يا سعيد بن مجالد، ليس فى ما صنعت رأى، أنا بريء من رأيك هذا. سمع الله ومن حضر من المسلمين.» فقال:
- «هو رأى إن أصبت فالله وفّقنى، وإن يكن غير صواب فأنتم منه برءاء.» قال: فوقف الجزل فى صفّ أهل الكوفة، وقد أخرجهم من الخندق. وجعل على ميمنتهم عياض بن أبى لينة الكندي، وعلى ميسرتهم عبد الرحمان بن عوف أبا حميد الراسبي [1] . ووقف الجزل فى جماعتهم واستقدم سعيد بن مجالد، فخرج وأخرج الناس معه وقد أخذ شبيب إلى براز الروز، فنزل قطيطا [2] ، وأمر دهقانها أن يشترى لهم ما يصلحهم ويتخذ لهم غذاء.
ففعل. فدخل مدينة قطيطا، وأمر بالباب فأغلق، فلم يفرغ [341] [من الغداء] [3] حتّى أتاه سعيد بن مجالد فى أهل العسكر. فصعد الدهقان ثمّ نزل قد تغيّر لونه، فقال:
- «ما لك؟» قال:
- «قد والله جاءك جمع عظيم.» فقال:
- «بلغ شواؤك؟» قال:
- «لا.» قال:
- «دعه.»
__________
[1] . الراسبي: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 908) : الرواسي.
[2] . قطيطا: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 909) : قطيطيا.
[3] . ما بين [] تكملة من الطبري (8: 909) .(2/277)
قال: ثمّ أشرف إشرافة أخرى، فقال:
- «قد أحاطوا بالجوسق.» قال:
- «هات شواءك.» فجعل يأكل غير مكترث لهم. فقال لمّا فرغ:
- «قوموا إلى الصلاة.» وقام وتوضّأ وصلّى بأصحابه الأولى، ولبس درعه وتقلّد سيفه وأخذ عمود حديد، ثمّ قال:
- «أسرجوا لى البغلة.» فقال أخوه مصاد:
- «أخى هذا اليوم تسرج بغلة؟» قال:
- «نعم، أسرجوها.» فركبها، ثمّ قال:
- «يا فلان أنت على الميمنة، وأنت يا فلان على الميسرة.» وقال لمصاد:
- «أنت على القلب.» وأمر الدهقان، ففتح الباب فى وجوههم، فخرج إليهم وهو يحكّم. فجعل سعيد وأصحابه يرجعون القهقرى حتّى صار بينهم وبين الدير ميل، وجعل سعيد يصيح:
- «يا معشر همدان، أنا ابن ذى مرّان، إلىّ إلىّ.» ونزع سرابانة [1] كانت عليه. فنظر شبيب إلى مصاد فقال له:
- «استعرضهم استعراضا، فإنّهم قد تقطّعوا. فإنّى حامل على أميرهم، وأثكلنيك الله إن لم أثكل ولده.» ففعل مصاد ما أمره به [342] وحمل هو على سعيد بن مجالد، فعلاه بالعمود، فسقط ميّتا وانهزم أصحابه، وما قتل منهم يومئذ إلّا قتيل واحد. وانكشف
__________
[1] . سرابانة: كذا فى الأصل. وما فى مط: سربانة. وفى الطبري (8: 910) : وأخذ قلنسوته ووضعها على قربوس سرجه.(2/278)
أصحاب سعيد بن مجالد حتّى انتهوا إلى الجزل، فناداهم الجزل:
- «أيها الناس، إلىّ إلىّ.» وناداهم عياض بن أبى لينة:
- «أيها الناس، إن يكن أميركم هذا القادم هلك، فهذا أميركم الميمون النقيبة [1] .
أقبلوا إليه.» فأقبلوا إليه. فمنهم من أقبل إليه، ومنهم من ركب رأسه منهزما. وقاتل الجزل قتالا شديدا حتّى صرع، وقاتل عنه خالد بن نهيك وعياض بن أبى لينة حتّى استنقذاه وهو مرتثّ. وأقبل الناس منهزمين حتّى دخلوا الكوفة، وأتى بالجزل حتّى دخل المدائن، وكتب إلى الحجّاج بن يوسف:
- «أما بعد، فإنّى أخبر الأمير، أصلحه الله، أنّى خرجت من الجند الذي وجّهنى فيه إلى عدوّه، وقد كنت حفظت عهد الأمير إلىّ فيهم ورأيه. فكنت أخرج إليهم إذا رأيت الفرصة، وأحبس الناس عنهم إذا خشيت الورطة، فلم أزل كذلك وقد أرادنى العدوّ بكلّ ريدة، فلم يصب منّى غرّة حتّى قدم علىّ سعيد بن مجالد رحمه الله، فأمرته بالتؤدة، ونهيته عن العجلة، وأمرته ألّا يقاتلهم إلّا فى جماعة الناس عامّة [343] فعصاني وتعجّل إليهم فى الخيل، وكنت أشهدت الله عليه وأهل المصرين، أنّى [2] بريء من رأيه الذي رأى، وأنّى لا أهوى ما صنع. فمضى، تجاوز الله عنه، ودفع الناس إلىّ، فنزلت ودعوتهم إلىّ، ورفعت لهم رايتي، وقاتلت حتّى صرعت فحملني أصحابى من بين القتلى، فما أفقت إلّا وأنا فى أيديهم على رأس ميل من المعركة، فأنا اليوم بالمدائن فى جراحات قد يموت الإنسان من دونها، ويعانى من مثلها. فليسأل الأمير، أصلحه الله، عن نصيحتي له ولجنده، وعن مكايدتى عدوّه، وعن موقفي يوم البأس. فإنّه يستبين له عند ذلك
__________
[1] . الميمون النقيبة: كذا فى الأصل والطبري (8: 910) . وما فى مط: الميمون التعبئة!
[2] . فى الأصل: وأنّى (بزيادة الواو) والواو ليست فى الطبري (8: 913) .(2/279)
أنّى قد صدقته ونصحت له. والسلام.» فكتب إليه الحجّاج:
- «أما بعد، فقد أتانى كتابك وقرأته وفهمت كلّ ما ذكرته فيه من أمر سعيد وأمر نفسك وقد صدّقتك فى نصيحتك لأميرك، وحيطتك على أهل مصرك، وشدّتك على عدوّك وقد رضيت عجلة سعيد وتؤدتك. فأما عجلته فانّها أفضت به إلى الجنة وأما تؤدتك فإنها ما لم تدع الفرصة إذا أمكنتك، حزم، وقد أحسنت وأصبت وأجرت، وأنت عندي من أهل السمع، والطاعة والنصيحة، وقد أشخصت إليك حيّان [1] بن أعسر [344] ليداويك ويعالج جراحتك، وبعثت إليك بألفي درهم، فأنفقها فى حاجتك وما ينوبك. والسلام.» وبعث عبد الله بن أبى عصيفر إلى الجزل بألف درهم، وكان يعوده ويتعاهده باللّطف والهديّة.
وأقبل شبيب حتّى قطع دجلة عند الكرخ، وبعث إلى سوق بغداد، وكان ذلك يوم سوقهم، فآمنهم، وكان بلغه أنهم يخافونه، وهو وأصحابه يريدون أن يشتروا من السوق دوابّ وثيابا وأشياء ليس لهم منها بدّ، ثمّ أخذ بهم نحو الكوفة، فساروا، وبلغ الحجّاج مكانه بحمّام [أعين] [2] فبعث إلى سويد بن عبد الرحمان السعدي، فجهّزه فى ألفى فارس نقاوة وقال له:
- «اخرج إلى شبيب، فالقه واجعل ميمنة وميسرة، ثمّ انزل إليهم فى الرجال، فإن استطرد لك فدعه ولا تتّبعه.» فخرج، فعسكر بالناس بالسبخة، وبلغه أنّ شبيبا قد أقبل. فسار نحوه وكأنما يساقون إلى الموت. وأمر الحجّاج عثمان بن قطن فعسكر بالناس فى السبخة، ونادى:
__________
[1] . حيّان بن أعسر: كذا فى الأصل. حبان اعرا! وما فى الطبري: حيّان بن أبجر.
[2] . بحمّام [أعين] : الأصل غير واضح. وما أثبتناه بين [] من مط.(2/280)
- «ألا، برئت الذمّة من رجل من هذا الجند بات الليلة بالكوفة ولم يخرج إلى عثمان بن قطن بالسبخة.» فبينا سويد بن عبد الرحمان يسير فى الألفين الذين معه وهو يعبّئهم [345] ويحرّضهم، إذ قيل له:
- «قد غشيك شبيب.» فنزل، ونزل معه جلّ أصحابه، وقدّم رايته، فأخبر أنّ شبيبا لمّا أخبر بمكانك، تركك، ووجد مخاضة فعبر الفرات يريد الكوفة من غير الوجه الذي أنت به.
ثمّ قيل لهم:
- «أما تراهم؟» فنادى فى أصحابه، فركبوا فى آثارهم وإنّ شبيبا أتى دار الرزق، فنزلها، فقيل له:
- «إنّ أهل الكوفة بأجمعهم معسكرون.» فلمّا بلغ مكان شبيب، ماج بعضهم فى بعض، وجالوا وهمّوا بدخول الكوفة حتّى قيل لهم:
- «هذا سويد بن عبد الرحمان فى آثارهم قد لحقهم وهو يقاتلهم فى الخيل.» ومضى شبيب حتّى أخذ على شاطئ الفرات، ثمّ أخذ على الأنبار، ثمّ دخل وقوقا، ثمّ ارتفع إلى أدانى آذربيجان. فتركه الحجّاج، وخرج إلى البصرة، واستخلف على الكوفة عروة بن شعبه. فما شعر الناس بشيء حتّى جاء كتاب مادر واسب دهقان بابل مهروذ إلى عروة بن المغيرة بن شعبة أنّ تاجرا من تجّار أهل بلادي أتانى يذكر أنّ شبيبا يريد أن يدخل الكوفة فى أول هذا الشهر المستقبل، وأحببت إعلامك لترى رأيك ثمّ لم ألبث أن جاءني جائيان [346] من(2/281)
جيراني، فحدّثانى أنه قد نزل خانيار [1] .
فأخذ عروة كتابه، فأدرجه وسرّح به إلى الحجّاج بالبصرة. فلما قرأه الحجّاج أقبل جادّا إلى الكوفة، وأقبل شبيب حتّى انتهى إلى قرية يقال لها: حزى، على شاطئ دجلة، فعبر منها، وقال لأصحابه:
- «يا هؤلاء، إنّ الحجّاج ليس بالكوفة وليس دون الكوفة شيء إن شاء الله، فسيروا بنا.» فخرج يبادر الحجّاج إلى الكوفة.
وكتب عروة إلى الحجّاج:
- «إنّ شبيبا أقبل مسرعا يريد الكوفة، فالعجل العجل.» فطوى الحجّاج المنازل، واستبقا إلى الكوفة: فنزلها الحجّاج صلاة العصر، ونزل شبيب السبخة صلاة المغرب والعشاء الآخرة، ثمّ أصاب هو وأصحابه من الطعام شيئا يسيرا، ثمّ ركبوا خيولهم. فدخل الكوفة، وجاء شبيب حتّى انتهى إلى السوق. ثمّ شدّ حتّى ضرب باب القصر بعموده.
قال: فحدّثنى جماعة أنهم رأوا ضربة شبيب باب القصر، ثمّ أقبل حتّى وقف عند المصطبّة [2] وقال:
وكأنّ حافرها بكلّ خميلة ... فرق [3] يكيل به شحيح معدم
ثمّ اقتحم أصحابه المسجد، وكان لا يفارقه قوم يصلّون فيه، فقتل جماعة.
ومرّ بدار [347] حوشب وهو على الشرط، فوقفوا على با به وقالوا:
__________
[1] . وفى الطبري: خانيجار، بدل: خانيار.
[2] . المصطبّ: سندان الحدّاد. المصطبة والمصطبّة: مكان ممهّد قليل الارتفاع عن الأرض يجلس عليه.
[3] . فرق: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 917) : كيل. وفى بعض الأصول: قرو.(2/282)
- «إنّ الأمير يدعو حوشبا.» فأخرج ميمون غلامه برذون حوشب فكأنّه أنكرهم وأراد أن يدخل إلى صاحبه، فقالوا له:
- «كما أنت حتّى يخرج صاحبك.» فسمع حوشب الكلام، فأنكر القوم، فلما رأى جماعتهم أنكرهم وذهب لينصرف فعجّلوا نحوه، ودخل وأغلق الباب وقتلوا غلامه ميمونا وأخذوا برذونه ومضوا. حتّى مرّوا بالجحّاف بن بسيط الشيبانى من رهط حوشب. فقال له سويد:
- «انزل إلينا.» فقال:
- «ما تصنع بنزولى؟» قال سويد:
- «انزل أقضك ثمن البكرة التي كنت ابتعتها منك بالبادية.» فقال له الجحّاف:
- «بئس ساعة القضاء هذه الساعة، وبئس المكان لقضاء الدين، أما ذكرت أداء أمانتك إلّا والليل مظلم وأنت على متن فرسك! قبّح الله دينا لا يصلح ولا يتمّ إلّا بقتل وسفك لدماء أهل القبلة.» ثمّ مرّوا بمسجد بنى ذهل، فلقوا ذهل بن الحارث، وكان يصلّى فى مسجد قومه فيطيل الصلاة، فصادفوه منصرفا إلى منزله، فقتلوه. ثمّ خرجوا متوجّهين نحو الردمة، وأمر الحجّاج فنودي:
- «يا خيل الله اركبي وأبشرى.» وهو فوق القصر [348] وهناك مصباح مع غلام له قائم. فكان أول من جاء من الناس عثمان بن قطن ومعه مواليه وناس من أهله، فقال:
- «أعلموا الأمير مكاني، أنا عثمان بن قطن، ليأمرنى بأمره.» فناداه ذلك الغلام:(2/283)
- «قف مكانك حتّى يأتيك أمر الأمير.» وجاء الناس من كلّ جانب، وبات عثمان فى من اجتمع إليه من الناس حتّى أصبح.
وكان عبد الملك بن مروان قد بعث محمد بن موسى بن طلحة على سجستان، وكتب له عليها عهده، وكتب إلى الحجّاج:
- «إذا قدم عليك محمد بن موسى بن طلحة فجهّز معه ألفى رجل، وعجّل سراحه إلى سجستان.» فلما قدم محمد بن موسى الكوفة جعل يتحبّس ويتجهّز. فقال له نصحاؤه:
- «تعجّل أيها الرجل إلى عملك، فإنّك لا تدرى ما يحدث.» فأقام على حاله وحدث من أمر شبيب ما حدث.
حيلة الحجّاج على محمد بن موسى حتّى حارب الخوارج وقتل
فقيل للحجّاج:
- «إن سار هذا إلى سجستان مع نجدته وصهره لعبد الملك فلجأ إليه ممن تطلب أحد، منعك منه؟» قال:
- «فما الحيلة؟» قالوا:
- «تأتيه فتسلّم عليه وتذكر نجدته وبأسه وأنّ شبيبا فى طريقه وقد أعياك، وأنّك ترجو أن يريح الله منه على [349] يديه، فيكون له ذكر ذلك [1] وشهرته.» فكتب إليه الحجّاج:
- «إنّك عامل على كلّ بلد مررت به، وهذا شبيب فى طريقك تجاهد ومن معه ولك ذكره وصيته، ثمّ تمضى إلى عملك.» فاستجاب له.
__________
[1] . ذلك: كذا فى الأصل. وفى مط: لك. وهو خطأ.(2/284)
ثمّ إنّ الحجّاج بعث بشر [1] بن غالب الأسدىّ فى ألفى رجل وزيادة بن قدامة فى ألفين، وأبا الضريس مولى تميم فى ألف من الموالي، وأعين صاحب حمّام أعين مولى بشر بن مروان فى ألف، وجماعة غيرهم. واجتمع تلك الأمراء فى أسفل الفرات، فترك شبيب الوجه الذي فيه جماعة أولئك القوّاد، وأخذ نحو القادسيّة. فوجّه الحجّاج زحر بن قيس فى جريدة خيل نقاوة ألف وثمانمائة فارس، وقال له:
- «اتّبع شبيبا حتّى تواقعه حيث ما أدركته ما لم يعطف عليك وينزل فيقيم لك فلا تبرح حتّى تواقعه.» فخرج زحر حتّى انتهى إلى السيلحين، وبلغ شبيبا مسيره إليه، فأقبل نحوه فالتقيا، فجعل زحر على ميمنته عبد الله بن كناز [2] اليهودىّ، وكان شجاعا وعلى ميسرته عدىّ بن عميرة الكندىّ، وجمع شبيب خيله كلّها كبكبة واحدة، ثمّ اعترض بها الصفّ يوجف وجيفا حتّى انتهى إلى زحر بن قيس. فنزل زحر فقاتل [350] حتّى صرع وانهزم أصحابه. فظنّ القوم أنّهم قتلوه. فلما كان فى السحر وأصابه البرد قام يمشى حتّى دخل قرية فبات فيها وحمل منها إلى الكوفة وبوجهه أربع [3] عشرة ضربة، فمكث أياما ثمّ أتى الحجّاج وعلى وجهه القطن، فأجلسه معه على السرير.
وقال أصحاب شبيب لشبيب، وهم يظنّون أنّهم قتلوا زحرا:
- «قد هزمنا لهم جندا، وقتلنا أميرا من أمرائهم عظيما. انصرف بنا الآن وافرين [4] .» فقال لهم:
__________
[1] . بشر بن غالب، كذا فى الأصل والطبري (8: 923) . وما فى مط: بشير بن غالب.
[2] . كذا فى الأصل: كناز. وما فى مط: كنان.
[3] . فى الأصل: أربعة (بالتأنيث) فصححنا العدد كما فى مط.
[4] . وافرين: فى الأصل غموض. وما أثبتناه يؤيده الطبري (8: 922) ومط. وفى بعض الأصول: واقرين.(2/285)
- «إنّ قتلنا هذا الرجل وهزيمتنا هذا الجند قد أرعبت هذه الأمراء، فاقصدوا بنا قصدهم، فو الله لئن نحن قتلناهم، ما دون قتل الحجّاج وأخذ الكوفة شيء.» فقالوا:
- «نحن طوع أمرك، فرأيك.» قال: فانقضّ [1] بهم جوادا حتّى أتى نجران الكوفة بناحية عين التمر، ثمّ استخبر عن القوم فعرّف اجتماعهم بروذآباد فى أسفل الفرات على رأس أربعة وعشرين فرسخا من الكوفة، وبلغ الحجّاج مسير شبيب إليهم، فبعث إليهم يقول لهم:
- «إن جمعكم قتال، فأميركم زايدة بن قدامة.» قال عبد الرحمن: فانتهى إلينا شبيب وفينا سبعة أمراء، على جماعتهم زايدة بن قدامة، وقد عبّى [351] كلّ أمير أصحابه على حدة وهو واقف فى أصحابه.
فأشرف على الناس شبيب وهو على فرس له كميت أغرّ، فنظر إلى تعبئتهم، ثمّ رجع إلى أصحابه، فأقبل فى ثلاث كتائب يوجفون، حتّى إذا دنا من الناس مضت كتيبة فيها سويد بن سليم، فيقف فى ميمنتنا، وفيها زياد بن عمرو العتكىّ، ومضت كتيبة فيها مصاد أخو شبيب، فوقفت بإزاء ميسرتنا، وفيها بشر بن غالب الأسدى، وجاء شبيب فى كتيبة حتّى وقف مقابل القلب.
قال: فخرج زايدة بن قدامة يسير فى الناس بين الميمنة والميسرة يحرّض الناس ويقول:
- «عباد الله، إنكم الطيّبون الكثيرون، وقد نزل بكم الخبيثون القليلون. اصبروا، جعلت لكم الفداء لكرّتين أو ثلاث، ثمّ هو النصر، ليس دونه شيء إلّا ترونهم.
والله ما يكونون مائتي رجل، إنما هم أكلة رأس، وهم السرّاق المرّاق، إنّما
__________
[1] . فانفضّ بهم جوادا: كذا فى الأصل والطبري، وما فى مط: فانقض بهم جادا! وفى بعض الأصول: فما نفضوا لهم.(2/286)
جاءوكم ليهريقوا دماءكم ويأخذوا فيئكم [1] ، فلا يكونوا على أخذه أقوى منكم على منعه، وهم قليل وأنتم كثير، وهم أهل فرقة وأنتم أهل جماعة، وغضّوا الأبصار واستقبلوهم بالأسنّة، ولا تحملوا عليهم حتّى آمركم.» ثمّ انصرف إلى موقفه. [352] وحمل سويد بن سليم على زياد بن عمرو، فانكشف صفّهم، وثبت زياد فى جماعة، ثمّ ارتفع عنهم سويد قليلا، ثمّ كرّ عليهم ثانية.
قال فروة بن لقيط: إطّعنّا ساعة وصبروا لنا حتّى ظننت أنهم لن يزولوا. وقاتل زياد بن عمرو قتالا شديدا. فلقد رأيت سويد بن سليم يومئذ وإنّه لأشدّ العرب قتالا وأشجعهم وما يعرض [2] لهم. قال: ثمّ ارتفعنا عنهم، فإذا هم يتقوّضون، فقال لنا أصحابنا:
- «ألا تراهم يتقوّضون؟ احملوا عليهم.» فراسلنا شبيب:
- «خلّوهم حتّى يخفّوا.» فتركوهم قليلا، ثمّ حمل عليهم الثالثة، فانهزموا. فنظرت إلى زياد بن عمرو وإنّه ليضرب بالسيوف، وما من سيف يضرب به إلّا نبا عنه، ولقد اعتوره أكثر من عشرين سيفا وهو مجفّف، فما ضرّه شيء منها. ثمّ إنّه والله انهزم. ثمّ انتهينا إلى محمد بن موسى بن طلحة عند المغرب، فقاتلنا قتالا شديدا وصبرنا. ثمّ إنّ مصادا حمل على بشر بن غالب فى الميسرة، فصبر وأبلى وكرم، ونزل معه رجال من أهل الصبر نحو خمسين، فضاربوا بأسيافهم حتّى قتلوا. فلما قتلوا انهزم أصحابه.
__________
[1] . فيئكم: كذا فى الأصل والطبري (8: 923) . وما فى مط: فيكم.
[2] . ما يعرض لهم: كذا فى الأصل. وفى مط: وما تعرض لهم. والعبارة فى الطبري (8: 934) : وانّه لأشجع العرب وأشدّه قتالا وما يعرض له.(2/287)
قال: وشددنا على أبى الضريس فهزمناه حتّى انتهى إلى موقف أعين. [353] ثمّ شددنا عليه وعلى أعين فهزمناهم حتّى انتهوا إلى زايدة بن قدامة. فلما انتهوا إليه، نزل ونادى:
- «يا أهل الإسلام، الأرض الأرض، إلىّ إلىّ. لا يكونوا على كفرهم أصبر منكم على إيمانكم.» فقاتل عامة الليل إلى السحر.
ثمّ إنّ شبيبا شدّ عليه فى جماعة من أصحابه، فقتله وربضة [1] حوله من أهل الحفاظ.
وقال شبيب لأصحابه:
- «ارفعوا السيف عن الناس وادعوهم إلى البيعة.» فدعوهم عند الفجر إلى البيعة. قال عبد الرحمن بن جندب: فكنت ممن قدّم فبايعته وهو واقف على فرس وخيله واقفة دونه. فكلّ من جاء ليبايعه نزع سيفه عن عاتقه وأخذ سلاحه، ثمّ يدنى من شبيب فيسلّم عليه بأمير المؤمنين، ثمّ يبايع.
فإنّا لكذلك، إذا أضاء الفجر، ومحمد بن موسى بن طلحة فى أقصى العسكر مع أصحابه قد صبروا. وأمر مؤذنه فأذّن، فلما سمع الأذان قال:
- «ما هذا؟» قالوا:
- «هذا محمد بن موسى بن طلحة، لم يبرح.» قال:
- «ظننت أنّ حمقه وخيلاءه سيحمله على هذا. نحّوا هؤلاء عنّا، وانزلوا بنا فلنصلّ.»
__________
[1] . والعبارة فى الطبري (8: 925) : فقتله وأصحابه وتركهم ربضة [وربضة- الهامش] حوله من أهل الحفاظ. وفى مط: وقتلوه وربضة حوله من أهل الحفاظ. والضبط فى الأصل: «وربضة» فضبطنا حسب الطبري: «ربضة» . الربضة: مقتل كلّ قوم قتلوا فى موقعة واحدة. والربضة: الجثة. الجماعة من الغنم والناس.(2/288)
فنزل، وأذّن هو، ثمّ استقدم، فصلّى بأصحابه، فقرأ: وَيْلٌ لِكُلِّ [354] هُمَزَةٍ 104: 1 [1] ، و: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ 107: 1 [2] . ثمّ سلّم وركبوا.
فأرسل شبيب إلى محمد:
- «إنك امرؤ مخدوع، قد اتقى بك الحجّاج وأنت جار لى، ولك حقّ. فانطلق لما أمرت به ولك الله ألّا أريبك.» فأبى إلّا محاربته. فأعاد إليه الرسول، فأبى إلّا قتاله. فقال له شبيب:
- «كأنّى بأصحابك لو التقت حلقتا البطان، لأسلموك، فصرعت مصرع أصحابك فأطعنى وانطلق لشأنك، فإنّى أنفس بك عن القتل.» فأبى ودعا إلى البراز، فبرز له البطين، ثمّ قعنب، ثمّ سويد، فأبى إلّا شبيبا.
فقالوا لشبيب:
- «قد رغب عنّا إليك.» قال:
- «فما ظنّكم؟ هم الأشراف.» فبرز له شبيب، وقال:
- «أنشدك الله فى دمك، فإنّ لك جوارا.» فأبى. فحمل عليه بعموده الحديد، وكان فيه اثنى عشر رطلا. فهشم بيضة عليه ورأسه، ثمّ نزل إليه فكفنه ودفنه. وابتاع ما غنموا له من عسكره، فبعث به إلى أهله واعتذر إلى أصحابه. قال:
- «هو جارى بالكوفة، ولى أن أهب ما غنمت لأهل الردّة.» فقال له أصحابه:
- «مادون الكوفة أحد يمنعها.» فنظر، فإذا أصحابه قد جرحوا. فقال لهم:
- «ما عليكم أكثر مما فعلتم.» [355]
__________
[1] . س 104 الهمزة: 1.
[2] . س 107 الماعون: 1.(2/289)
وخرج بهم إلى نفّر، ثمّ خرج بهم إلى بغداد نحو خانيجار، فأقام بها. ولما بلغ الحجّاج أنّ شبيبا قد أخذ نحو نفّر، ظنّ أنّه يريد المدائن وهي باب الكوفة، ومن أخذ المدائن كان ما فى يديه من أرض الكوفة أكثر. فهال ذلك الحجّاج، وبعث إلى عثمان بن قطن، وسرّحه إلى المدائن وولّاه منبرها والصلاة ومعونة جوخى كلها وخراج الأستان. فخرج مسرعا حتّى نزل المدائن، وعزل الحجّاج ابن أبى عصيفر، وكان بها الجزل مقيما يداوى جراحاته، وكان ابن أبى عصيفر يعوده ويكرمه ويلطفه. فلما قدم عثمان بن قطن لم يكن يتعاهده ولا يلطفه بشيء.
فكان الجزل يقول:
- «اللهمّ زد ابن أبى عصيفر جودا، وزد عثمان بن قطن ضيقا وبخلا.» ثمّ إنّ الحجّاج دعا عبد الرحمان بن محمد بن الأشعث، فقال له:
- «انتخب الناس.» وأخرج من قومه ستمائة من كندة، ومن سائر الناس ستة آلاف، واستحثّه الحجّاج، فعسكر بدير عبد الرحمان. فلما أراد الحجّاج إشخاصهم كتب إليهم كتابا قرئ عليهم. [356]- «أما بعد، فقد اعتدتم [1] عادة الأذلّاء وولّيتم الدبر [2] يوم الزحف دأب الكافرين. وإنّى قد صفحت عنكم مرّة بعد مرّة، وتارة بعد أخرى. وإنّى أقسم لكم باللَّه قسما صادقا، لئن عدتم لذلك لأوقعنّ بكم إيقاعا أكون به أشدّ عليكم من هذا العدوّ الذي تهربون منه فى بطون الأودية والشعاب، وتسترون منه بأفناء الأنهار وألواذ الجبال. فخاف من كان له معقول على نفسه، ولم يجعل عليها سبيلا، وقد أعذر من أنذر، والسلام.» وارتحل عبد الرحمان فى الناس حتّى مرّ بالمدائن، فنزل بها يوما حتّى تشرّى
__________
[1] . اعتدتم: كذا فى الأصل. وما فى مط: أعدتم.
[2] . الدبر: كذا فى الأصل. وما فى مط: الدبور.(2/290)
به أصحابه حوائجهم، ثمّ نادى فى الناس بالرحيل، فارتحلوا. ثمّ أقبل حتّى دخل على عثمان بن قطن، ثمّ أتى الجزل، فسأله عن [1] جراحته. وحدّثه ساعة. فقال له الجزل:
- «يا ابن عمّ، إنّك تسير إلى فرسان العرب، وأبناء الحرب، وأحلاس الخيل [2] والله لكأنّما خلقوا من ضلوعها، ثمّ بنوا على ظهورها، ثمّ هم أسد الأجم [3] الفارس منهم أشدّ من مائة، إن لم يبدأ به بدأ، وإن هجهج أقدم. وإنّى قد قاتلتهم وبلوتهم، [357] فإذا أصحرت لهم انتصفوا منّى وكان لهم الفضل علىّ وإذا خندقت علىّ أو قاتلتهم فى مضيق نلت منهم ما أحبّ، وكان لى عليهم، فلا تلقهم وأنت تستطيع، إلّا فى تعبئة أو خندق.» ثمّ ودّعه، وقال له الجزل:
- «هذه فرسي الفسيفساء، خذها فإنّها لا تجارى.» فأخذها. ثمّ خرج بالناس نحو شبيب، فلما دنا منه ارتفع عنه شبيب إلى دقوقا وشهرزور. فخرج عبد الرحمان فى طلبه حتّى إذا كان على التخوم، أقام، وقال:
- «إنما هو فى أرض الموصل، فليقاتلوا عن بلادهم أو ليدعوا [4] .» فكتب إليه الحجّاج:
- «أما بعد، فاطلب شبيبا واسلك فى أثره أين سلك، حتّى تدركه فتقتله، أو تنفيه. فإنّما السلطان سلطان أمير المؤمنين، والجند جنده. والسلام.»
__________
[1] . فى الأصل: فسأله به من جراحته: وفى مط والطبري: فسأله عن جراحته، فأثبتنا العبارة كما فى الأخيرين.
[2] . أحلاس الخيل: كذا فى الأصل والطبري (8: 931) . وما فى مط: اجلاس الحبل!
[3] . الأجم: كذا فى الأصل والطبري. وما فى مط: الآجام.
[4] . ليدعوا: كذا فى الأصل ومط. ومفى الطبري (8: 931) : ليدعوه. وفى بعض الأصول: ليدعوا.(2/291)
فخرج عبد الرحمان حتّى قرأ الكتاب فى طلب شبيب. فكان شبيب يدعه حتّى إذا دنا منه يبيّته فيجده قد خندق، وحذر، فيمضى ويدعه، فيتبعه عبد الرحمان. فإذا بلغه أنه قد تحمّل، وأنه يسير، أقبل فى الخيل. فإذا انتهى إليه، وجده قد صفّ الخيل والرجّالة المرامية، [358] فلا تصيب له غرّة ولا غفلة، فيمضى ويدعه. ولما رأى شبيب أنه لا يصيب غرّته، ولا يصل إليه، جعل يخرج، كلّما دنا منه عبد الرحمان حتّى ينزل على مسيرة عشرين فرسخا منه، ثمّ يقيم فى أرض غليظة خشنة، فيجيء عبد الرحمان فى خيله وثقله، حتّى إذا دنا من شبيب ارتحل عنه شبيب، فسار خمسة عشر فرسخا أو عشرين فرسخا، فنزل منزلا غليظا خشنا. ثمّ يقيم حتّى يدنو عبد الرحمان. فكان شبيب قد عذّب ذلك العسكر، وشقّ عليهم، وأحفى دوابّهم، ولقوا منه كلّ بلاء. فلم يزل عبد الرحمان يتبعه حتّى مرّ به على خانقين، ثمّ جلولاء، ثمّ تامرّا [1] ، ثمّ أقبل إلى البتّ ونزل بها، وعلى تخوم الموصل، ليس بينها وبين سواد الكوفة إلّا نهر حولايا. وجاء عبد الرحمان حتّى نزل شرقىّ حولايا وهو فى راذان الأعلى من أرض جوخى، ونزل فى عواقير [2] من النهر، ونزلها عبد الرحمان حيث نزلها وهي تعجبه، يرى أنها مثل الخندق والحصن، وأرسل إلى عبد الرحمان:
- «هذه الأيام أيّام عيد لنا ولكم، فإن رأيتم أن توادعونا حتّى تمضى هذه الأيام فعلتم.» فأجابه عبد الرحمان [359] إلى ذلك ولم يكن شيء أحبّ إلى عبد الرحمان من المطاولة والموادعة.
__________
[1] . تامّرا: كذا فى الأصل ومط والطبري (8: 932) . وفى بعض الأصول: سامرّا. تامرّا: نهر كبير تحت بغداد شرقيّها، مخرجه من جبال شهرزور مما يجاورها وينسب إليه طسوج من طساسيج بغداد (مراصد الاطلاع) .
[2] . عواقير: كذا فى الأصل. وفى مط: عولقير. وما فى الطبري: عواقيل.(2/292)
فكتب عثمان بن قطن إلى الحجّاج:
- «أما بعد، فإنّى أخبر الأمير، أصلحه الله، أنّ عبد الرحمان بن محمد بن الأشعث قد حفر جوخى كلّها خندقا واحدا، وخلّى شبيبا، وكسر خراجها، فهو يأكل أهلها. والسلام.» وكتب إليه الحجّاج:
- «قد فهمت ما ذكرت، وقد- لعمري- فعل عبد الرحمان غير مرضىّ، فسر إلى الناس، فأنت أميرهم، وعاجل المارقة حتّى تلقاهم.» وبعث الحجّاج إلى المدائن مطرّف بن المغيرة بن شعبة، وخرج عثمان حتّى قدم على عبد الرحمان ومن معه وهم معسكرون على نهر حولايا قريبا من البتّ وذلك يوم التروية عشاء. فنادى الناس وهو على بغله:
- «أيها الناس، أخرجوا إلى عدوّكم.» فوثب إليه الناس فقالوا:
- «ننشدك الله، هذا المساء قد غشينا، والناس لم يوطّنوا أنفسهم على القتال.
فبت الليلة، ثمّ اخرج على تعبئة.» فجعل يقول:
- «لأناجزنّهم، فلتكوننّ الفرصة لى أولهم.» فأتاه عبد الرحمان، فأخذ بعنان بغلته وناشده الله لما نزل، وقال له عقيل بن شدّاد السلولي:
- «إنّ الذي تريد من مناجزتهم الساعة، أنت فاعله غدا وهو خير لك وللناس.
[360] إنّ هذه ساعة ريح [1] وغبرة وقد أمسيت، فانزل، ثمّ ابكر بنا غدوة.» فنزل، فسفت عليه الريح، وشقّ عليه الغبار، ودعا صاحب الخراج العلوج،
__________
[1] . فى مط: ربح.(2/293)
فبنوا له قبّة وبات فيه. ثمّ أصبح وخرج بالناس، فاستقبلهم ريح شديدة وغبرة.
فصاح الناس إليهم وقالوا:
- «ننشدك الله أن تخرج بنا فى هذا اليوم، فإنّ الريح علينا.» فأقام ذلك اليوم، وكان شبيب يخرج إليهم. فلما رءاهم لم يخرجوا إليه أقام.
فلما كان من الغد خرج عثمان يعبّئ الناس على أرباعهم، وسألهم:
- «من كان على ميمنتكم وميسرتكم؟» قالوا:
- «كان خالد بن نهيك بن قيس الكندي على ميسرتنا، وعقيل بن شدّاد السلولي كان على ميمنتنا.» فقال لهما:
- «قفا مواقفكما التي كنتما بها، فقد ولّيتكما المجنّبتين، فاثبتا ولا تفرّا، فو الله لا أزول حتّى تزول نخيل راذان عن أصولها.» فقالا:
- «فنحن والله الذي لا إله إلّا هو، لا نفرّ حتّى نظفر أو نقتل.» فقال لهما:
- «جزاكما الله خيرا.» ثمّ أقام حتّى صلّى بالناس الغداة، ثمّ خرج بالخيل، ونزل يمشى فى الرجال.
وخرج شبيب وهو يومئذ فى مائة [361] وأحد وثمانين رجلا. فقطع إليهم النهر، وكان هو فى ميمنة أصحابه، وجعل على ميسرته سويد بن سليم، وجعل فى القلب مصادا أخاه، وزحفوا. وكان عثمان بن قطن يقول فيكثر:
- «لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل، وإذا لا تمتّعون إلّا قليلا [1] .» ثمّ قال شبيب لأصحابه:
- «إنّى حامل على ميسرتهم مما يلي النهر، فإذا هزمتها فليحمل صاحب ميسرتى على ميمنتهم، ولا يبرح صاحب القلب حتّى يأتيه أمرى.»
__________
[1] . س 33 الأحزاب: 16.(2/294)
وحمل [1] فى ميمنة أصحابه مما يلي النهر على ميسرة عثمان بن قطن، فانهزموا، ونزل عقيل بن شدّاد مع طائفة من أهل الحفاظ، فقاتل حتّى قتل، وقتلوا معه. ودخل شبيب عسكرهم، وحمل سويد بن سليم فى ميسرة شبيب على ميمنة عثمان بن قطن، فهزمها وعليها خالد بن نهيك الكندي. فنزل خالد فقاتل قتالا شديدا، وحمل عليه شبيب من ورائه، فلم ينثن حتّى علاه بالسيف فقتله.
ومشى عثمان بن قطن، وقد نزلت معه العرفاء وأشراف الناس والفرسان نحو القلب، وفيه أخو شبيب فى نحو من ستين رجلا. فلما دنا منهم عثمان بن قطن شدّ عليهم فى الأشراف وأهل الصبر، فضربوهم حتّى فرّقوا بينهم. [362] وحمل شبيب من ورائهم بالخيل، فما شعروا إلّا والرماح فى أكتافهم يكبّهم لوجوههم.
وعطف عليهم سويد بن سليم أيضا فى خيله، ورجع مصاد وأصحابه، وقاتل عثمان بن قطن، فأحسن القتال. ثمّ إنهم شدّوا عليه، فأحاطوا به، وحمل عليه مصاد أخو شبيب، فضربه ضربة بالسيف استدار لها، وقال:
- «وكان أمر الله قدرا مقدورا [2] .» ثمّ إنّهم قتلوه، وقتل معه العرفاء ووجوه الناس، فقتل من كندة يومئذ مائة وعشرون رجلا، وقتل من سائر الناس نحو من ألف، ووقع عبد الرحمان بن محمد بن الأشعث، فعرفه ابن أبى سبرة، فنزل وناوله الرمح وقال له: اركب، فركب وارتدف ابن أبى سبرة وقال له عبد الرحمان:
- «ناد فى الناس: الحقوا بدير ابن أبى مريم.» فنادى. ثمّ انطلقا ذاهبين، وأمر شبيب أصحابه، فرفعوا عن الناس السيف ودعاهم إلى البيعة، فأتاه من بقي من الرجال، فبايعوه. وبات عبد الرحمان بدير
__________
[1] . وحمل: كذا فى الأصل. والكلمة سقطت من مط.
[2] . س 33 الأحزاب: 38.(2/295)
النعار [1] ، فأتاه فارسان. فخلا أحدهما بعبد الرحمان طويلا يناجيه، وقام الآخر قريبا منهما، ثمّ مضى مع صاحبه، فكان الناس يتحدّثون أنّ ذاك كان شبيبا وأنه كان كاتبه. [363] ثمّ خرج عبد الرحمان آخر الليل، فسار حتّى أتى دير ابن أبى مريم، فإذا هو بأصحاب الخيل قد وضع لهم ابن أبى سبرة صبر [2] الشعير والقتّ كأنّها القصور ونحر لهم من الجزر ما شاءوا، واجتمع الناس إلى عبد الرحمان فقالوا له:
- «إن علم شبيب بمكانك أتاك وكنت له غنيمة، قد تفرّق عنك الناس وقتل خيارهم، فالحق أيها الرجل بالكوفة.» فخرج، وخرج معه الناس، وجاء حتّى اختبأ [3] من الحجّاج، إلى أن أخذ له الأمان بعد ذلك.
ثمّ إنّ شبيبا اشتدّ عليه الحرّ وعلى أصحابه، فأتى ماه بهراذان [4] ، فتصيّف بها ثلاثة أشهر. وأتاه ناس ممن كان يطلب الدنيا كثير، ولحق به ناس ممن كان يطلبهم الحجّاج بمال وتباعات. فمنهم رجل يقال له: الحرّ بن عبد الله بن عوف، كان قتل دهقانين من أهل درقيط [5] كانا ضيفين عليه، ولحق بشبيب حتّى شهد معه مواطنه، حتّى قتل شبيب، وله مقام عند الحجّاج وكلام سلم به من القتل يجب أن نثبته. وهو أنّ الحجّاج، لمّا آمن بعد قتل شبيب كلّ من خرج إليه من أصحاب المال، خرج إليه الحرّ فى من خرج. فجاء أهل الدهقانين يستعدون عليه
__________
[1] . النعار: كذا فى الأصل ومط. وفى الطبري (8: 939) : اليعار. وفى حواشي الطبري: البقار، النعار، النعار وصور أخرى مهملة.
[2] . صبر: جمع مفرده الصبرة: الكومة من الطعام. يقال: اشترى الطعام صبرة: أى: جزافا بلا كيل أو وزن.
[3] . اختبأ: كذا فى الأصل. وفى مط: احتبا. وما فى الطبري: اختبى. اختبأ: اختبى.
[4] . ماه بهزاذان: ما فى الأصل مهمل فى الأول والثالث فضبطناه حسب الطبري (8: 941) . وفى حواشي الطبري عن الأصول والمخطوطات: نهراذان، بهزاذان، بهزادان.
[5] . درقيط: نهر درقيط: كورة ببغداد من جهة الكوفة (ياقوت) .(2/296)
الحجّاج. فأتى به. [364]
كلام للحرّ، لمّا أتى به ليقتل، سلم به
فقال له الحجّاج:
- «يا عدوّ الله قتلت رجلين من أهل الخراج؟» فقال له:
- «قد كان- أصلحك الله- منّى ما هو أعظم من هذا.» قال:
- «وما هو؟» قال:
- «خروجي من الطاعة وفراقي الجماعة. ثمّ إنّك آمنت كلّ من خرج إليك وهذا أمانى وكتابك لى.» فقال له الحجّاج:
- «قد لعمري فعلت أولى لك.» وخلّى سبيله.
رجعنا إلى حديث شبيب. ثمّ إنّه لمّا انفسخ الحرّ عن شبيب خرج من ماه فى نحو من ثمانمائة رجل. فأقبل نحو المدائن وعليها مطرف بن المغيرة بن شعبة.
فجاء حتّى نزل قناطر حذيفة بن اليمان. فكتب ماذرواسب، وهو عظيم بابل مهروذ، إلى الحجّاج يخبره خبر شبيب. فقام الحجّاج فى الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال:
- «أيها الناس، لتقاتلنّ عن بلادكم وعن فيئكم [1] أو لأبعثنّ إلى قوم هم أطوع وأسمع وأصبر على البلاء منكم، فيقاتلون عدوّكم ويأكلون فيئكم.» فقام إليه الناس من كلّ جانب يقولون:
- «نحن نقاتلهم ونعتب الأمير، فليندبنا إليهم، فإنّا حيث سرّه.»
__________
[1] . فيئكم: كذا فى الأصل. وما فى مط: فيكم.(2/297)
وقام إليه زهرة [365] بن حويّة. وهو يومئذ شيخ كبير، لا يستتمّ قائما حتّى يؤخذ بيده، فقال:
- «أصلح الله الأمير. إنّك إنما تبعث الناس متقطّعين، فاستنفر الناس إليهم كافّة، وابعث عليهم رجلا متينا شجاعا، محربا مجرّبا ممن يرى الفرار هضما وعارا، والصبر مجدا وكرما. 2 فقال له الحجّاج:
- «فأنت ذاك. فاخرج!» فقال له:
- «أصلح الله الأمير. إنما يصلح الناس فى هذا رجل يحمل الرمح والدرع، ويهزّ السيف ويثبت على متن الفرس، وأنا لا أطيق من هذا شيئا. قد ضعفت وضعف بصرى، ولكن أجرى [1] فى الناس مع أمير، فإنّى أثبت على الرحالة، فأكون مع الأمير فى عسكره وأشير عليه برأى.» فقال له الحجّاج:
- «جزاك الله عن الإسلام والطاعة فى أوّل الإسلام وآخره خيرا. فقد نصحت وصدقت. أنا مخرج الناس كافّة، ألا، فسيروا أيها الناس.» فانصرف الناس وجعلوا يتيسّرون [2] ولا يدرون من أميرهم.
ذكر رأى سديد للحجّاج
وكتب الحجّاج إلى عبد الملك بن مروان:
- «أما بعد، فإنّى أخبر أمير المؤمنين، أكرمه الله، [366] أنّ شبيبا قد شارف المدائن، وإنّما يريد الكوفة، وقد عجز أهل الكوفة عن قتاله فى مواطن كثيرة، فى كلّها تقتل أمراؤهم وتفلّ جنودهم. فإن رأى أمير المؤمنين أن يبعث إلىّ أهل الشام
__________
[1] . أجرى: كذا فى الأصل. وما فى مط: أخرنى.
[2] . كذا فى الأصل: يتيسّرون. وفى مط: يسيرون.(2/298)
فيقاتلوا عدوّهم ويأكلوا بلادهم، فليفعل.» فلما أتى عبد الملك كتابه، بعث إليه سفيان بن الأبرد فى أربعة آلاف، وبعث إليه حبيب بن عبد الرحمان بن مذحج فى ألفين، فسرّحهم حين أتاه كتاب الحجّاج، وكان بعث الحجّاج إلى عتّاب بن ورقاء ليأتيه، وكان على خيل الكوفة مع المهلّب وهم الجيش الذي كان بشر بن مروان بعث عليهم عبد الرحمان بن مخنف إلى قطري، وقد أخبرنا فى ما مضى بمقتل عبد الرحمان بن مخنف. فبعث الحجّاج عتّاب بن ورقاء على ذلك الجيش الذي أصيب فيهم عبد الرحمان، وكان جرى لعتّاب مع المهلّب كلام تأدّى إلى وحشة.
فلما أن جاء فى هذا الوقت كتاب الحجّاج إلى عتّاب بن ورقاء بأن يأتيه، سرّ بذلك، ودعا الحجّاج أشراف الكوفة، فيهم: زهرة بن حويّة، وقبيصة بن والق، فقال:
- «من ترون أن أبعث على هذا الجيش؟» فقالوا:
- «رأيك أيها الأمير [367] أفضل.» - «فإنّى قد بعثت إلى عتّاب بن ورقاء، وهو قادم [1] عليكم الليلة، فيكون هو الذي يسير فى الناس.» قال زهرة بن حويّة:
- «أصلح الله الأمير، رميتهم بحجرهم، لا والله، ما يرجع إليك حتّى يظفر أو يقتل.»
ذكر رأى جيّد رءاه قبيصة بن والق
فقال قبيصة بن والق:
__________
[1] . قادم: كذا فى الأصل. وفى مط: قادر. وهو خطأ.(2/299)
- «إنّى أشير عليك برأى اجتهدته نصيحة لأمير المؤمنين، وللأمير ولعامة المسلمين. إنّا قد تحدّثنا وتحدّث الناس. إنّ جيشا فصل إليك من أهل الشام، وإنّ أهل الكوفة قد هزموا، وهان عليهم الفرار والعار من الهزيمة، فقلوبهم كأنّما هي فى قوم آخرين. فإن رأيت أن تبعث إلى جيشك الذي أمددت به من أهل الشام فيأخذوا حذرهم، ولا يلبثوا إلّا وهم يرون أنهم ميّتون، فعلت. فإنّك تحارب حوّلا قلّبا، طعّانا رحّالا، وقد جهّزت إليه أهل الكوفة، ولست واثقا بهم كلّ الثقة، وإنّما إخوانهم هؤلاء القوم الذين بعثوا إليك من الشام. إنّ شبيبا، بينا هو فى أرض، إذ هو فى أرض أخرى، ولا آمن أن يأتيهم [368] وهم غارّون [1] . وإن يهلكوا نهلك وتهلك العراق.» فقال:
- «لله أنت! ما أحسن ما رأيت لى، وما أحسن ما أشرت به علىّ.» فبعث إلى من أقبل إليه من الشام، فأتاهم كتاب الحجّاج وقد نزلوا هيت، فقرءوه، فإذا فيه:
- «أما بعد، فإذا حاذيتم هيت فدعوا طريق الفرات والأنبار وخذوا على عين التمر حتّى تقدموا الكوفة إن شاء الله.» فأقبل القوم سراعا، وقدم عتّاب بن ورقاء فى الليلة التي قال الحجّاج إنه قادم. فأمره الحجّاج، فخرج بالناس وعسكر بحمّام أعين، وأقبل شبيب حتّى انتهى إلى كلواذى، فقطع منها دجلة. ثمّ أقبل حتّى نزل مدينة بهر سير، وصار بينه وبين مطرّف بن المغيرة بن شعبة جسر دجلة، فقطع مطرّف الجسر، وبعث إلى شبيب أن ابعث رجالا من وجوه أصحابك.
__________
[1] . غارّون: كذا فى الأصل والطبري (8: 944) . وفى مط: غازون.(2/300)
مكيدة للمطرّف بن المغيرة كاد بها شبيبا حتّى حبسه عن وجهه
وأظهر مطرّف أنّه يريد أن يدار سهم القرآن وينظر فى ما يدعو إليه، فإن وجده حقّا تبعه. فبعث إليه شبيب رجالا فيهم قعنب وسويد والمحلّل، ووصّاهم [369] شبيب ألّا يدخلوا السفينة حتّى يرجع رسوله من عند مطرّف، وبعث إلى مطرّف أن:
- «ابعث إلىّ من أصحابك بعدّة أصحابى يكونوا رهنا فى يدي حتّى ترد على أصحابى.» فقال مطرّف لرسوله:
- «القه وقل له: كيف آمنك على أصحابى إذا بعثت بهم الآن وأنت لا تأمننى على أصحابك.» فأبلغه الرسول، فقال شبيب:
- «إنّك قد علمت أنّا لا نستحلّ الغدر فى ديننا، وأنتم تستحلّونه وتفعلونه.» فبعث إليه مطرّف جماعة من وجوه أصحابه. فلما صاروا فى يد شبيب، سرّح إليه أصحابه. فأتوا مطرّفا، فمكثوا أربعة أيّام يتناظرون [1] ، ثمّ لم يتّفقوا على شيء.
فلما تبيّن لشبيب أن مطرّفا غير تابعه [2] ، تعبّى للمسير، وجمع أصحابه وقال لهم:
- «إنّ هذا الثقفىّ قطعني عن رأيى منذ أربعة أيام. وذاك أنّى هممت أن أخرج فى جريدة من الخيل حتّى ألقى هذا الجيش المقبل من الشام، رجاء أن أصادف غرّتهم قبل أن يحذروا، وكنت ألقاهم متقطّعين عن المصر ليس عليهم أمير كالحجّاج يستندون إليه، ولا مصر كالكوفة يعتصمون به، وقد جاءتني عيون أنّ
__________
[1] . يتناظرون: كذا فى الأصل. ما فى مط: يناظرون.
[2] . غير تابعه: هكذا قرأناها، وليست واضحة تماما فى الأصل. وما فى مط: غير تابعة!(2/301)
أوائلهم قد دخلوا [370] عين التمر، فهم الآن قد شارفوا الكوفة [1] . وجاءتني أيضا عيوني من نحو عتّاب أنّه قد نزل بجماعة أهل الكوفة والبصرة. فما أقرب ما بيننا وبينهم. فتيسّروا بنا للمسير إلى عتّاب بن ورقاء.» وكان عتّاب يومئذ قد أخرج معه جماعة أهل الكوفة مقاتلتهم وشبّانهم، فوافى معه أربعون ألفا من المقاتلة، وعشرة آلاف من الشباب. فكانوا خمسين ألفا. وهدّدهم الحجّاج إن هربوا كعادة أهل الكوفة، وتوعّدهم.
وعرض شبيب أصحابه فى المدائن، فكانوا ألف رجل، فخطبهم، وحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال:
- «يا معشر المسلمين، إنّ الله عزّ وجلّ قد كان ينصركم وأنتم مائة ومائتان، وأنتم اليوم مئون ومئون. ألا، إنّى مصلّ الظهر ثمّ سائر بكم إن شاء الله.» فصلّى، ثمّ نودى فى الناس، فأخذوا يتخلّفون ويتأخّرون.
قال فروة بن لقيط: فلما جاز بنا ساباط، ونزلنا معه قصّ علينا، وذكّرنا بأيام الله وزهّدنا فى الدنيا، ورغّبنا فى الآخرة. ثمّ أذّن مؤذّنه، فصلّى بنا العصر، ثمّ أقبل حتّى أشرف بنا على عتّاب بن ورقاء. فلما رءاهم نزل من ساعته، وأمر مؤذّنه فأذّن، ثمّ تقدّم، فصلّى بهم المغرب، وخرج [371] عتّاب بالناس كلّهم، فعبّأهم، وكان قد خندق أول أيّام نزل. وكان يظهر أنه يريد أن يسير إلى شبيب بالمدائن.
فلما صفّ عتّاب الناس بعث على ميمنته محمد بن عبد الرحمان بن سعيد بن قيس، وقال له:
- «يا بن أخى، إنّك شريف، فاصبر وصابر.» فقال له:
- «أمّا أنا فو الله لأقاتلنّ ما ثبت معى إنسان.» وقال لقبيصة بن والق:
__________
[1] . سقط من مط، من قوله: «وقد جاءتني» إلى قوله: «قد شارفوا الكوفة.»(2/302)
- «اكفنى الميسرة.» فقال:
- «أنا شيخ كبير. غايتي أن أثبت تحت رايتي..» وكان يومئذ على ثلث بنى تغلب.
- «.. أما تراني لا أستطيع القيام، إلّا أن أقام؟ وأخى نعيم بن عليم وهو ذو جزء [1] وغناء.» فبعثه على ميسرته، وبعث حنظلة بن الحارث، ابن عمّ عتّاب وشيخ أهل بيته على الرجّالة، وبعث معه ثلاثة صفوف فيه الرجّالة معهم السيوف، وصفّ هم أصحاب الرماح، وصفّ فيه المرامية. ثمّ سار بين الميمنة والميسرة، ويمرّ بأهل راية راية، فيحثّهم على الصبر ويقصّ عليهم. وقال فى ما حفظ من كلامه:
- «إنّ أعظم الناس نصيبا فى الجنة الشهداء، وليس الله لأحد من خلقه بأحمد منه للصابرين. ألا ترون أنه يقول: اصْبِرُوا، إِنَّ الله مَعَ الصَّابِرِينَ 8: 46 [2] » ؟ وليس [372] الله لأحد أمقت منه لأهل البغي. ألا ترون أنّ عدوّكم هذا يستعرض المسلمين بسيفه. لا يرون ذلك إلّا قربة لهم عند الله، فهم شرار أهل الأرض وكلاب أهل النار. أين القصّاص؟» قال ذلك مرارا، فلم يجبه أحد منّا. فلما رأى ذلك، قال:
- «أين من يروى شعر عنترة؟» قال: فلا والله ما ردّ عليه أحد كلمة. فقال:
- «إنّا لله، كأنّى بكم قد فررتم عن عتّاب، وتركتموه تسفى فى استه الريح.» ثمّ أقبل حتّى جلس فى القلب معه زهرة بن حويّة جالس وعبد الرحمان بن محمد بن الأشعث.
وأقبل شبيب وهو فى ستمائة وقد تخلّف عنه من الناس أربعمائة، فقال:
__________
[1] . ذو جزء: كذا فى الأصل. وما فى مط: ذو حر! والجزء: الكفاية. وفى الطبري (8: 950) : ذا حزم وعزم وغناء.
[2] . س 8 الأنفال: 46.(2/303)
- «ما تخلّف عنّى إلّا من لا أحبّ أن أراه فينا.» فبعث سويد بن سليم فى مائتين إلى الميسرة، وبعث المجلّل بن وائل فى مائتين إلى القلب. ومضى هو فى مائتين إلى الميمنة، وذلك بين المغرب والعشاء الآخرة حين أضاء القمر فناداهم:
- «لمن هذه الرايات؟» قالوا:
- «رايات ربيعة.» فقال شبيب:
- «رايات طال ما نصرت الحقّ، وطال ما نصرت الباطل، لها فى كلّ نصيب.
أنا أبو المدلّه، أثبتوا إن شئتم.» ثمّ حمل عليهم وهم على مسنّاة [373] أمام الخندق، ففضّهم، وثبت أصحاب رايات قبيصة بن والق. فجاء شبيب حتّى وقف عليه، وقال لأصحابه:
- «مثل هذا ما قال الله عزّ وجلّ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا، فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ، فَكانَ من الْغاوِينَ 7: 175 [1] .» ثمّ حمل على الميسرة وفيها عتّاب بن ورقاء، وحمل سويد بن سليم على الميمنة، وعليها محمد بن عبد الرحمان، فقاتل فى الميمنة فى رجال تميم وهمدان، فأحسن القتال. فمازالوا كذلك حتّى أتوا، فقيل لهم:
- «قتل عتّاب بن ورقاء.» قال: فانفضّوا، ولم يزل عتّاب جالسا على طنفسة فى القلب هو وزهرة بن حويّة [2] إذ غشيهم [3] شبيب، فانفضّ عنه الناس وتركوه، فقال عتّاب:
- «يا زهرة، هذا يوم كثر فيه العدد وقلّ فيه الغناء. لهفي على خمسمائة فارس معى من وجوه الناس من نحو رجال تميم. ألا صابر لعدوّه! ألا مواس بنفسه؟»
__________
[1] . س 7 الأعراف: 175.
[2] . فى مط: جويه (بالجيم) .
[3] . فى مط: غنيهم.(2/304)
فمضى الناس على وجوههم. فلمّا دنا منه شبيب وثب فى عصابة قليلة صبرت معه، فقال له بعضهم:
- «أصلحك الله، إنّ عبد الرحمان [374] بن محمّد قد هرب عنك وانصفق معه ناس كثير.» فقال:
- «قد فرّ قبل اليوم، وما رأيت ذلك الفتى يبالى ما صنع.» ثمّ قاتلهم ساعة وهو يقول:
- «ما رأيت كاليوم قطّ موطنا لم أبل بمثله أقلّ ناصرا ولا أكثر هاربا خاذلا.» فرءاه رجل من بنى تغلب من أصحاب شبيب، وكان أصاب دما فى قومه، ولحق بشبيب، فقال لشبيب:
- «والله، إنّى لأقتلنّ هذا المتكلّم عتّاب بن ورقاء.» فحمل عليه وطعنه، فوقع ووطئت الخيل زهرة بن حويّة. فأخذ يذبّ بسيفه وهو شيخ كبير لا يستطيع أن ينهض. فجاءه الفضل بن عامر الشيبانى، فقتله، وانتهى إليه شبيب، فوجده صريعا، فعرفه وقال:
- «من قتل هذا؟» فقال الفضل:
- «أنا قتلته.» فقال شبيب:
- «هذا زهرة بن حويّة. أما والله، لئن كنت قتلت على ضلالة لربّ يوم من أيّام المسلمين قد حسن فيه بلاؤك، وعظم فيه غناؤك، ولربّ خيل للمشركين هزمتها وسريّة له ذعرتها، ومدينة لهم فتحتها، ثمّ كان فى علم الله أن تقتل ناصرا للظالمين.» وقتل وجوه العرب فى المعركة، واستمكن شبيب من أهل العسكر، فقال:
- «ارفعوا عنهم السيف!» [375] ودعا إلى البيعة. فبايعه الناس من ساعتهم، وأخذ شبيب يبايعهم ويقول:(2/305)
- «إلى ساعة يهربون.» [1] فلما كان فى الليل هربوا، واحتوى شبيب على ما فى العسكر وبعث إلى أخيه وهو بالمدائن، فأتاه وأقام شبيب ببيت قرّة يومين وقد دخل سفيان بن الأبرد وحبيب بن عبد الرحمان من مذحج فى من معها، فشدّوا ظهر الحجّاج، واستغنى بهم عن أهل الكوفة. فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال:
- «أما بعد، يا أهل الكوفة، فلا أعزّ الله من أراد بكم العزّ، ولا نصر من أراد منكم النصر، أخرجوا عنّا، فلا تشهدوا معنا قتال عدوّنا، الحقوا بالحيرة فانزلوا مع اليهود والنصارى، ولا يقاتلن معنا إلّا من كان عاملا لنا ومن لم يشهد قتال عتّاب بن ورقاء.» ثمّ إنّ شبيبا خرج يريد الكوفة، فانتهى إلى سورا، فقال لأصحابه:
- «أيّكم يأتينى برأس عامل سورا؟» فانتدب إليه بطين وقعنب وسويد ورجلان من أصحابه، وساروا مغذّين، حتّى انتهوا إلى دار الخوارج والعمّال فى سمّرجه [2] ، وكادوا الناس بأن قالوا:
- «أجيبوا الأمير!» فقال الناس:
- «أىّ الأمراء» فقالوا:
- «أمير قد خرج [376] من قبل الحجّاج يريد هذا الفاسق شبيبا.» فاعترّ بذلك العامل منهم. فلما قربوا شهروا السيوف وحكّموا حين وصلوا إليه، فضربوا عنقه، وقبضوا ما وجدوا من مال، ولحقوا بشبيب. فلما رأى شبيب المال، قال:
- «أتيتمونا بفتنة المسلمين؟ هلمّ الحربة يا غلام!» فحزّت بها البدور، وأمر أن تنخس الدوابّ التي كانت عليها. فمرّت والمال
__________
[1] . إلى ساعة يهربون: كذا فى الأصل. وما فى مط: إلى ساعة تهربون.
[2] . سمّرجه: كذا فى الأصل. وما فى مط: سمرحه (بتخفيف الميم والحاء المهملة) .(2/306)
يتناثر من بدوره حتّى وردت الصراة، فقال:
- «إن كان بقي شيء فاقذفوه فى الماء.»
ذكر دخول شبيب الكوفة دخلته الثانية
وإنّ أبا سفيان بن الأبرد أتى الحجّاج فقال:
- «ابعثني إليه حتّى أستقبله قبل أن يأتيك.» فقال:
- «ما أحبّ أن نفترق حتّى ألقاه فى جماعتكم الكوفة فى ظهورنا والحصن فى أيدينا.» وأقبل شبيب حتّى نزل موضع حمّام أعين، ودعا الحجّاج الحارث بن معاوية بن أبى زرعة بن مسعود الثقفي، فوجّهه فى ناس من الشرط لم يكونوا شهدوا يوم عتّاب، ونحو من مائتي رجل من أهل الشام، فخرج فى ألف رجل، فنزل زرارة [1] . وبلغ ذلك شبيبا فتعجّل إليه. فلما انتهى إليه، حمل عليه فقتله وانهزم أصحابه [377] وجاءوا حتّى دخلوا المدينة، وأقبل شبيب حتّى قطع ودنا من الكوفة، فبعث البطين فى عشرة فوارس يرتاد له منزلا على شاطئ الفرات فى دار الرزق. فوجّه الحجّاج حوشب بن يزيد فى جمع من أهل الكوفة، فأخذوا بأفواه السكك، فقاتلهم البطين، فلم يقو عليهم. فبعث إلى شبيب، فأمدّه بفوارس، فعقروا فرس حوشب وهزموه، ونجا ومضى البطين إلى دار الرزق فى أصحابه وعسكر على شاطئ الفرات، فلم يوجّه إليه الحجّاج أحدا. فمضى شبيب حتّى نزل السبخة وأقام ثلاثا لا يوجّه إليه الحجّاج أحدا، فابتنى مسجدا فى أقصى السبخة عند الإيوان، وكانت امرأته غزالة نذرت أن تصلّى فى مسجد الكوفة ركعتين تقرأ فيها البقرة وآل عمران. فجاء شبيب مع امرأته حتّى وفت
__________
[1] . زرارة: كذا فى مط والطبري 8: 957. وما فى الأصل غير واضح تماما.(2/307)
بنذرها فى المسجد.
وأشير على الحجّاج أن يخرج بنفسه، فقال الحجّاج لقتيبة بن مسلم:
- «اخرج، فإنّى خارج، وارتد لى معسكرا.» فخرج ثمّ رجع إليه فقال:
- «وجدت المدى [1] سهلا، فسر على اسم الله والطائر الميمون.» فخرج بأصحابه، فأتى على مكان فيه بعض القذر والكناسات [378] فقال:
- «ألقوا لى هاهنا.» فقيل له:
- «إنّ الموضع قذر.» فقال:
- «ما تدعونني إليه أقذر الأرض، تحته طيّبة والسماء فوقه طيّبة.» وأخرج الحجّاج مولى له يقال له أبو الورد عليه تجفاف [2] ، وأخرج مجفّفة كثيرة وغلمانا له وقالوا:
- «هذا الحجّاج!» فحمل عليه شبيب فقتله، ثمّ قال:
- «إن كان الحجّاج، فقد أرحتكم منه.» ثمّ إنّ الحجّاج أخرج اليه طهمان فى مثل ذلك من العدّة والعدد والهيئة. فحمل عليه شبيب، فقتله، وقال:
- «إن كان هذا الحجّاج فقد أرحتكم منه.» [3] ثمّ إنّ الحجّاج دلف إليه بنفسه وعلى ميمنته مطر بن ناجية وعلى ميسرته خالد بن عتّاب بن ورقاء وهو فى زهاء أربعة آلاف. فقيل له:
- «أيها الأمير، لا تعرّفه موضعك.»
__________
[1] . المدى: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 966) : المأتى.
[2] . التجفاف (بكسر التاء وفتحها) : آلة للخرب يتّقى بها كالدرع، للفرس، والإنسان.
[3] . سقط من مط من قوله: «ثمّ إنّ الحجّاج أخرج إليه طهمان» إلى قوله: «فقد أرحتكم منه» .(2/308)
فتنكّر وأخفى مكانه وغفّل له مولى له، فنظر إليه شبيب وظنّه الحجّاج، فحمل عليه وضربه بعمود فقتله، فغفّل له أعين صاحب حمّام أعين بالكوفة، فقتله. فقال الحجّاج:
- «علىّ بالبغلة!» فأتى ببغل محجّل، فقيل له:
- «أصلح الله الأمير، إنّ الأعاجم تتطيّر أن تركب فى مثل هذا اليوم مثل هذا البغل.» فقال:
- «أدنوه منّى، فإنّ اليوم يوم أغرّ محجّل. [379] فركبه ودنا، ثمّ طرحت له عباءة فنزل وجلس، ودعا بكرسىّ له، ثمّ نادى:
- «يا أهل الشام، يا أهل السمع والطاعة، لا يغلبنّ باطل هؤلاء الأرجاس حقّكم، غضّوا الأبصار، واجثوا على الركب، واستقبلوا القوم بأطراف الأسنّة.» فجثوا على الركب وكأنّهم حرّة سوداء. فأقبل إليه، شبيب حتّى إذا دنا منهم عبّى أصحابه ثلاثة كراديس: كتيبة معه وكتيبة مع سويد بن سليم وكتيبة مع المحلّل [1] بن وائل.
فقال لسويد:
- «احمل عليهم فى خيلك.» فحمل عليهم فثبتوا له حتّى إذا غشى أطراف الأسنّة وثبوا فى وجهه ووجوه [2] أصحابه، فطعنوهم قدما، حتّى انصرف، وصاح الحجّاج:
- «يا أهل السمع والطاعة، هكذا فافعلوا! قدّم كرسىّ يا غلام.» وأمر شبيب المحلّل بن وائل، فحمل عليهم، ففعلوا به مثل ما فعل بسويد.
__________
[1] . وفى الأصل يأتى هذا الإسم بالجيم تارة وبالحاء المهملة تارة أخرى. وفى الطبري: المحلل بن وائل (بالحاء المهملة) .
[2] . سقط من مط من قوله «ووجوه أصحابه» إلى قوله «وثبوا فى وجهه» .(2/309)
فناداهم الحجّاج:
- «يا أهل السمع والطاعة، هكذا فافعلوا! قدّم كرسىّ.» ثمّ إنّ شبيبا حمل عليهم فى كتيبته، فثبتوا له حتّى إذا غشى أطراف الأسنّة وثبوا فى وجهه، فقاتلهم طويلا. ثمّ إنّ أهل الشام طاعنوه قدما، حتّى ألحقوه بأصحابه. [380] فلما رأى صبرهم نادى:
- «يا سويد احمل فى خيلك على هذه السكّة- يعنى سكّة لحّام بن حرير [1]- لعلّك تزيل أهلها، فتأتى الحجّاج من ورائه ونحمل نحن من أمامه.» فانفرد سويد بن سليم، فحمل على أهل تلك السكّة، فرمى من فوق البيوت وأفواه السكك. فانصرف وقد كان جعل الحجّاج عروة بن المغيرة بن شعبة فى نحو من ثلاثمائة رجل من أهل الشام ردءا له ولأصحابه، لئلّا يؤتى من ورائه.
ثمّ إنّ شبيبا قال لأصحابه:
- «يا أهل الإسلام، إنّما شرينا للَّه، ومن شرى لله لم يكن عليه ما أصابه من أذى وألم، الصبر الصبر، شدّة كشدّاتكم فى مواطنكم الكريمة.» ثمّ جمع أصحابه وقال:
- «الأرض الأرض، دبّوا تحت تراسكم حتّى إذا كانت أسنّتهم فوقها فأدلفوها [2] صعدا، ثمّ ادخلوا تحتها لتستقبلوا أقدامهم وهي الهزيمة بإذن الله.» فأقبلوا يدبّون إليهم.
رأى جيّد رءاه خالد بن عتّاب
فقال خالد بن عتّاب بن ورقاء للحجّاج:
- «ائذن لى فى قتالهم، فإنّى موتور وأنا ممّن لا يتّهم فى نصيحة.» قال:
__________
[1] . حرير: كذا فى الأصل. وفى مط: حرسه! وما فى الطبري: جرير.
[2] . فأدلفوها: كذا فى الأصل. وما فى مط: فارلقوها. وفى الطبري (8: 9655) : فأزلقوها.(2/310)
- «فقد أذنت لك.» قال:
- «فإنّى آتيهم من ورائهم حتّى أغير على عسكرهم.» [381] فقال له:
- «إفعل ما بدا لك.» فخرج معه بعصابة من أهل الكوفة مع مواليه وشاكريّته [1] حتّى دخل عسكرهم من ورائهم، فقتل مصادا أخا شبيب، وقتل غزالة امرأته، وحرق فى عسكره. وأتى ذلك الخبر الحجّاج وشبيبا والتفتوا فرأوا النار فى بيوتهم. فأما الحجّاج وأصحابه فكبّروا، وأما شبيب فوثب هو وكلّ راجل معه على خيولهم.
وقال الحجّاج لأصحابه:
- «شدّوا عليهم، فقد أتاهم ما أرعبهم قلوبهم [2] .» فشدّوا عليهم فهزموهم. وتخلّف شبيب فى حامية الناس حتّى خرج من الجسر، وتبعه خيل الحجّاج.
قال: فجعل يخفق [3] برأسه. قال أصغر الخارجي: كنت معه لمّا انهزم فقلت:
- «يا أمير المؤمنين، التفت فانظر من خلفك.» قال: فالتفت غير مكترث، وجعل يخفق برأسه. قال: فدنوا منّا فقلت:
- «يا أمير المؤمنين، قد دنوا منك.» قال: فالتفت- والله- غير مكترث وجعل يخفق برأسه. فبينا هو كذلك إذ بعث الحجّاج إلى خيله أن:
__________
[1] . شاكريّته: كذا فى الأصل والطبري (8: 965) . وما فى مط: شاكريه. والشاكرية: جماعة الشاكريّين.
والشاكرىّ الشاكر: معرّب چاكر) LChakar (Ker) تركي؟ - فارسي.) بمعنى الخادم والعبد (فم) . قال فى متن اللغة: الشكارة (مولّد أو دخيل) معناها: الشيء القليل، وغلّبت على بقعة الأرض الصغيرة تزرع للأجير. وهي عند العامة أرض تزرع للأجير من أصل أجرته وكأنّها مأخوذة من الشاكرىّ.
[2] . قلوبهم: غير موجودة فى مط.
[3] . يخفق: وفى الأصل يحفق (بالحاء المهملة فى المواضع الثلاثة) فأثبتناها كما فى مط والطبري 8:
961. يخفق برأسه: يحرّكه وهو ناعس.(2/311)
- «دعوه فى حرق الله.» قال: فتركوه ورجعوا.
ومضى شبيب ومن معه حتّى قطعوا جسر المدائن، فدخلوا ديرا هنالك وخالد يقفوهم، فحصرهم فى الدير، فخرجوا عليه، فهزموه نحوا [382] من فرسخين فألقى خالد نفسه بفرسه، فمرّ به ولواؤه فى يده.
قال شبيب:
- «قاتله الله فارسا وفرسه. هذا أشدّ الناس، وفرسه أقوى فرس فى الأرض.» فقيل له:
- «هذا خالد بن عتّاب.» فقال:
- «معرق [1] له فى الشجاعة، والله، لو علمت لأقحمت خلفه ولو دخل النار.» وإنّ الحجّاج دخل الكوفة حين انهزم شبيب، ثمّ صعد المنبر، فقال:
- «والله ما قوتل شبيب قطّ قبلها [مثلها] [2] . ولّى هاربا، وترك امرأته يكسّر فى استها القصب.» ثمّ دعا حبيب بن عبد الرحمان الحكمي، فبعثه فى أثره فى ثلاثة آلاف من أهل الشام. وقال له الحجّاج:
- «احذر بياته، وحيث ما لقيته [3] فنازله، فإن الله قد فلّ حدّه وقصم نابه.» فخرج حبيب فى أثر شبيب حتّى نزل الأنبار.
وبعث الحجّاج إلى العمّال أن:
- «دسّوا إلى أصحاب شبيب: أنّ من جاءنا منكم فهو آمن.» فكان كلّ من ليست له بصيرة ممّن هدّه القتال يجيء فيؤمن. وقبل ذلك ما كان
__________
[1] . معرق: كذا فى الأصل ومط والطبري (8: 968) . وفى حواشيه: معرّق، معرف.
[2] . مثلها: سقطت من الأصل ومط. فزدناها كما فى الطبري 8: 969.
[3] . لقيته: كذا فى الأصل والطبري. وما فى مط: ألفيته.(2/312)
الحجّاج نادى فيهم يوم هربوا أنّ:
- «من جاء منكم فهو آمن.» فتفرّق عنه ناس كثير من أصحابه.
وبلغ شبيبا منزل [1] حبيب بن عبد الرحمان [383] الأنبار، فأقبل بأصحابه حتّى دنا من عسكرهم ونزل، فصلّى بهم المغرب.
قال أبو زيد السكسكي: أنا والله فى أهل الشام ليلة جاء شبيب، فبيّتنا. قال:
فلما أمسينا، جمعنا حبيب بن عبد الله، فجعلنا أرباعا وعلى كلّ ربع أمير، وقال لكلّ ربع منّا:
- «ليجزئ كلّ ربع جانبه، فإن قتل هذا الربع فلا يعنهم [2] هذا الربع الآخر.
فإنّه بلغني أنّ الخوارج منّا قريب، فوطّنوا أنفسكم على أنكم مبيّتون ومقاتلون.» فمازلنا على تعبئتنا حتّى جاءنا شبيب، فبيّتنا، فشدّ على ربع منّا، فضاربهم طويلا. فما زالت قدم إنسان منهم، ثمّ تركهم وأقبل إلى الربع الآخر، فقاتلهم طويلا، فلم يظفر بشيء. قال: ثمّ أطاف بنا يحمل علينا حتّى ذهب ثلاثة أرباع الليل، وألزّ بنا حتّى قلنا: لا يفارقنا. ثمّ نازلنا راجلا طويلا، فسقطت والله بيننا وبينهم الأيدى والأرجل، وفقئت الأعين، وكثر القتلى. قتلنا منهم نحوا من ثلاثين، وقتلوا منّا نحوا من مائة، وو الله لو كانوا يزيدون على مائة رجل لأهلكونا، وأيم الله على ذلك ما فارقونا حتّى مللناهم وملّونا، وكرهناهم وكرهونا. ولقد رأيت الرجل ما يضرب الرجل منهم [384] فما يضرّه شيئا من الإعياء والضعف. ولقد رأيت الرجل منّا يقاتل جالسا ينفح [3] بسيفه، ما يستطيع أن يقوم من الإعياء.
__________
[1] . منزل: الضبط من الأصل.
[2] . فلا يعنهم: كذا فى الأصل. وما فى مط: فلا بينهم. وهو خطأ. وفى الطبري (8: 969) : فلا يغثهم. وفى تعاليقه: فلا يعنهم، فلا يعنهم، فلا يغنهم.
[3] . ينفح: مهملة فى الأصل. فأثبتناها حسب الطبري (8: 970) .(2/313)
فلما يئسوا ركب شبيب وقال لمن كان نزل معه:
- «اركبوا!» وتوجّه منصرفا عنّا.
قال فروة بن لقيط- وكان شهد معه مواطنه كلّها- قال لنا ليلتئذ، وقد رأى بنا كآبة ظاهرة، وجراحة شديدة:
- «ما أشدّ هذا الذي بنا، لو كنّا إنّما نطلب الدنيا، وما أيسر هذا فى طاعة الله وثوابه.» فقال أصحابه:
- «صدقت يا أمير المؤمنين.» قال: فما أنسى منه إقباله على سويد بن سليم، ولا مقالته له:
- «يا سويد! قتلت أمس منهم رجلين [1] : أحدهما أشجع الناس والآخر أجبن الناس. خرجت عشيّة أمس طليعة لكم، فلقيت منهم ثلاثة نفر دخلوا قرية يشترون منها حوائجهم، فاشترى أحدهم حاجته، ثمّ خرج قبل أصحابه، وخرجت معه، فقال لى:
- «كأنّك لم تشتر علفا.» فقلت:
- «إنّ لى رفقاء قد كفونى ذلك.» فقلت له:
- «أين ترى عدوّنا هذا؟» فقال:
- «بلغني أنه نزل قريبا منّا، وأيم الله، لوددت أنّى قد لقيت شبيبهم هذا.» قلت:
- «فتحبّ ذاك؟» قال:
- «نعم.» قلت:
__________
[1] . قس بما فى الطبري (8: 971) .(2/314)
- «فخذ حذرك، فأنا والله شبيب.» وانتضيت سيفي، فخرّ والله ميّتا. [385] فقلت له:
- «ارتفع ويحك!» وذهبت أنظر، فإذا هو قد مات. فانصرفت راجعا، فاستقبل الآخر راجعا من القرية، فقال:
- «أين تذهب هذه الساعة، وإنّما يرجع الناس إلى عسكرهم.» فلم أكلّمه، ومضيت يقرّب [1] بى فرسي، واتّبعنى حتّى لحقني، فعطفت عليه، وقلت له:
- «ما لك؟» قال:
- «أنت والله من عدوّنا.» فقلت:
- «أجل والله.» فقال:
- «إذا لا تبرح والله حتّى أقتلك أو قتلتني.» وحملت عليه، فحمل علىّ، فاضطربنا بسيفنا ساعة، فو الله ما فضلته فى شدّة نفس ولا إقدام، إلّا أنّ سيفي كان أقطع من سيفه فقتلته.
ذكر مكيدة لشبيب
بلغ شبيبا أنّ جند الشام الذين مع حبيب حملوا معهم حجرا وحلفوا ألّا يفرّون من شبيب حتّى يفرّ هذا الحجر. فلما سمع شبيب ذلك أراد أن يكيدهم. فدعا بأربعة أفراس وربط فى أذنابها ترسه فى ذنب كلّ فرس ترسين، ثمّ ندب معه ثمانية نفر من أصحابه ومعه غلام له يقال له: حيّان، كان بئيسا [2] شجاعا، وأمره أن يحمل معه إداوة من ماء، ثمّ سار حتّى يأتى ناحية من العسكر، فأمر أصحابه
__________
[1] . قرّب الفرس: عدا تقريبا، وهو ضرب من العدو دون الإسراع.
[2] . وفى مط: رئيسا.(2/315)
[386] أن يكونوا فى نواحي العسكر، وأن يجعلوا مع كلّ رجلين فرسا، ثمّ يمسّوها الحديد حتّى يجد حرّه ويخلّوها فى العسكر، وواعدهم تلعة قريبة من العسكر، فقال:
- «من نجا منكم فإنّ موعده هذه التلعة.» وكره أصحابه الإقدام على ما أمرهم به. فنزل حيث رأى ذلك منهم حتّى صنع بالخيل مثل الذي أمرهم به. ثمّ وغلبت فى العسكر، ودخل هو يتلوها محكّما، فضرب الناس بعضهم ببعض وماجوا.
فقام حبيب بن عبد الرحمان فنادى:
- «أيها الناس إنّ هذه مكيدة، فالزموا الأرض حتّى يبين [1] لكم الأمر.» ففعلوا، وبقي شبيب فى عسكرهم، فلزم الأرض حيث رءاهم قد سكنوا، وقد أصابته ضربة عمود أوهنه. فلما هذأ الناس، ورجعوا إلى أبنيتهم خرج فى غمارهم حتّى أتى التلعة، فإذا هو بحيّان، فقال:
- «أفرغ على رأسى من الماء يا حيّان.» فلما مدّ رأسه ليصبّ عليه من الماء، همّ حيّان بضرب عنقه وقال لنفسه:
- «لا أجد مكرمة لى ولا ذكرا أرفع من قتل هذا فى هذه الخلوة، وهو أمانى عند الحجّاج.» فأخذته الرعدة حيث همّ بما همّ به. فلما أبطأ بحلّ الإداوة، قال:
- «ما يبطئك بحلّها.» وتناول السكين [387] من موزجه [2] ، فخرقها به، ثمّ ناوله إيّاها، فأفرغ عليه من الماء.
قال حيّان: منعني والله الجبن وما أخذنى من الرعدة أن أضرب عنقه بعد ما
__________
[1] . وفى مط: يتبيّن.
[2] . الموزج: الخفّ. معرّب موزه.(2/316)
هممت به، وما كنت أعهد نفسي جبانا.
ثمّ خلا [1] شبيب بأصحابه وعسكره.
ذكر هلاك شبيب فى هذه السنة باتّفاق سىّء
ثمّ إنّ الحجّاج أخرج الناس إلى شبيب، وقسم فيهم أموالا عظيمة، وأعطى الجرحى خاصّة، وكلّ ذى جزء وبلاء، وأمر سفيان بن الأبرد أن يسير بهم. فبلغ ذلك حبيب بن عبد الرحمان، فشقّ عليه، وقال:
- «تبعث سفيان إلى رجل قد فللته وقتلت فرسانه!» وكان شبيب قد أقام بكرمان حتّى حبروا واستراش هو وأصحابه. ومضى سفيان بعد شهرين واستقبله شبيب بجسر دجيل الأهواز، فعبر شبيب إلى سفيان، فوجد سفيان قد نزل فى الرجال، وبعث مصاص بن صيفي على الخيل، وبعث على ميمنته بشر بن حسّان الفهري، وعلى ميسرته عمر بن هبيرة الفزاري. وأقبل شبيب فى ثلاثة كراديس: هو فى كتيبة، وسويد فى كتيبة، وقعنب [388] فى كتيبة، وخلّف المحلّل فى عسكره. فلما حمل سويد وهو فى ميمنته، على ميسرة سفيان، وقعنب وهو فى ميسرته، على ميمنة سفيان، وحمل هو على سفيان، اضطربوا مليّا حتّى رجعت الخوارج إلى المكان الذي كانوا فيه.
قال يزيد السكسكىّ: والله لقد كرّ علينا هو وأصحابه أكثر من ثلاثين كرّة كلّ ذلك لا نزول من صفّنا.
فقال لنا سفيان:
- «لا تفرّقوا، ولكن ليزحف الرجال إليهم زحفا.» ففعلنا وما زلنا نطاعنهم حتّى اضطررناهم إلى الجسر. فلما انتهى شبيب إلى
__________
[1] . خلا: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 979) : لحق.(2/317)
الجسر، نزل ونزل معه نحو من مائة رجل، فقاتلناهم إلى المساء أشدّ قتال يكون لقوم قطّ. فما هو إلّا أن نزلوا أوقعوا لنا من الطعن والضرب شيئا ما رأينا مثله قطّ، ولا ظننّاه يكون. فلما رأى سفيان أنه لا يقدر عليهم ولم يأمن ظفرهم، دعا الرماة فقال:
- «ارشقوهم بالنبل.» وذلك عند المساء. وكان التقاؤهم نصف النهار، فرماهم أصحاب النبل، وقد كان صفّهم سفيان بن الأبرد على حدة وعليهم أمير. فلما رشقوهم شدّوا عليهم.
فلما شدّوا على رماتنا شددنا عليهم فشغلناهم عنهم. فلما رأوا ذلك ركب شبيب وأصحابه، ثمّ كرّوا على أصحاب النبل كرّة صرعوا [389] منهم أكثر من ثلاثين رجلا. ثمّ عطف علينا يطاعننا حتّى اختلط الظلام. ثمّ انصرف عنّا.
فقال سفيان بن الأبرد لأصحابه:
- «أيها الناس، دعوهم، لا تتبعوهم حتّى نصبّحهم.» قال: فكففنا عنهم وليس شيء أحبّ إلينا من أن ينصرفوا عنّا.
قال فروة بن لقيط: فما هو إلّا أن انتهينا إلى الجسر، فقال:
- «اعبروا معاشر المسلمين، فإذا أصبحوا باكرناهم إن شاء الله.» فعبرنا أمامه وتخلّف فى آخرنا، فأقبل [على] [1] فرس وكانت بين يديه فرس أنثى ماذيانة، فنزا فرسه عليها وهو على الجسر، فاضطربت الماذيانة، وزلّ حافر فرس شبيب عن حرف [2] السفينة، فسقط فى الماء. فلما سقط قال:
- «لِيَقْضِيَ الله أَمْراً كانَ مَفْعُولًا.» 8: 42 [3] واغتمس فى الماء. ثمّ ارتفع فقال:
__________
[1] . على: كذا فى مط والطبري (8: 974) . وما فى الأصل: فى. فصحّحناه.
[2] . حرف: كذا فى الأصل والطبري. وما فى مط: جوف.
[3] . س 8 الأنفال: 42، 44.(2/318)
- «ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ.» 6: 96 [1] فهذا حديث أكثر الناس. وقد قال غيره من أصحاب شبيب إنه كان معه رجال كثير ممّن أصاب من عشائرهم وساداتهم. فلما تخلّف فى أخريات الناس من أصحابه، قال بعضهم لبعض:
- «هل لكم أن نقطع به الجسر فندرك ثأرنا الساعة؟» فقطعوا الجسر، فمالت [390] به السفن، ففزع الفرس ونفر ووقع فى الماء فغرق. والحديث الأول أشهر.
فتحدّث جماعة من أصحاب سفيان، قالوا: لما سمعنا صوت القوم: «غرق أمير المؤمنين،» عبرنا إلى عسكرهم، فإذا ليس فيه صافر ولا آثر. فنزلنا فيه فإذا أكثر عسكر خلق الله خيرا. فطلبنا شبيبا حتّى استخرجناه وعليه الدرع فسمعت الناس يزعمون أنه شقّ عن بطنه وأخرج قلبه. فكان مجتمعا صلبا كأنّه صخرة وانّه كان يضرب به الأرض فيثب قامة الإنسان.
فيحكى أن أمّ شبيب كانت لا تصدّق أحدا نعاه إليها. وكان قيل مرارا: «قتل» فلا تقبل. فلما قيل: إنّه غرق، قبلت وبكت. فقيل لها فى ذلك، فقالت:
- «إنّى رأيت فى المنام حين ولدته أنه خرج من قبلي شهاب نار، فعلمت أنّه لا يطفئه إلّا الماء.»
ذكر ما كان من المهلّب والأزارقة
كان المهلّب مقيما بسابور يقاتل قطريا فى الأزارقة بعد ما صرف الحجّاج عتّاب بن ورقاء عن عسكره نحوا من سنة. ثمّ إنّه زاحفهم يوم البستان [391] فقاتلهم قتالا شديدا، وكانت كرمان فى أيدى الخوارج، وفارس فى يد المهلّب.
__________
[1] . س 6 الأنعام: 96، س 36 يس: 38، س 41 فصّلت: 12.(2/319)
وكان لا يأتيه من فارس مادّة، فضاق الأمر عليه. فحازهم المهلّب حتّى خرجوا إلى كرمان، وتبعهم المهلّب حتّى نزل بجيرفت وقاتلهم أكثر من سنة قتالا شديدا حتّى حازهم عن فارس كلّها. فلما صارت فارس كلّها فى يد المهلّب، بعث الحجّاج عليها عمّاله وأخذها من المهلّب.
فبلغ ذلك عبد الملك فكتب إلى الحجّاج:
- «أمّا بعد، فدع بيد المهلّب خراج فارس وحيالها، فإنّه لا بدّ للجيش من قوّة، ولا لصاحب الجيش من معونة، ودع له كورة فسّا ودار بجرد، وكورة إصطخر.» فتركها للمهلّب. فبعث المهلّب عليهما عمّاله وكانتا قوّة له، وأقام المهلّب على قتال الأزارقة.
ذكر اختلاف كلمة الخوارج إلى أن هلكوا بأجمعهم
فلم يزالوا يقتتلون إلى أن بعث قطرىّ عاملا له على ناحية كرمان يقال له المقعطر، فقتل رجلا كان ذا بأس من الخوارج، فوثبت الخوارج [392] إلى قطرىّ، فذكروا ذلك له وقالوا له:
- «أمكنّا من المقعطر نقتله بصاحبنا.» فقال لهم:
- «ما أرى أن أفعل. رجل تأوّل فأخطأ فى التأويل. ما أرى أن تقتلوه وهو من ذوى الفضل والسابقة فيكم.» قالوا:
- «بلى!» فقال لهم:
- «لا!» فوقع الاختلاف بينهم. فولّوا عبد ربّ الكبير [1] وخلعوا قطريّا، وبقي مع القطرىّ عصابة نحو من ربعهم. وبلغ ذلك الحجّاج فكتب إلى المهلّب:
__________
[1] . كذا فى الأصل والطبري (8: 1006) : عبد ربّ الكبير، وما فى مط: عند ربّ الكبير!(2/320)
- «أما بعد، فقد بلغني كتابك تذكر فيه اختلاف الخوارج بينها. فإذا أتاك كتابي فناهضهم على حال اختلافهم وافتراقهم، قبل أن يجتمعوا فتكون مؤونتهم عليك أشدّ. والسلام.» فكتب إليه:
- «أمّا بعد، فقد بلغني كتاب الأمير وكلّ ما فيه قد فهمت، ولست أرى أن أقاتلهم ما دام بعضهم يقتل بعضا، وينقص بعضهم عدد بعض، فإن تمّوا على ذلك فهو الذي نريد وفيه هلاكهم، وإن اجتمعوا لم يجتمعوا إلّا وقد رقّق بعضهم بعضا، فأناهضهم على بقيّة ذلك وهم أوهى ما كانوا شوكة إن شاء الله.» فكفّ عنه الحجّاج وتركهم المهلّب، فقاتلوه قتالا [393] شديدا. ثمّ إنّه فلّهم وقتلهم، فلم ينج منهم إلّا قليل وسباهم، لأنّهم كانوا يسبون المسلمين.
ذكر سبب هلاكهم
كان سبب ذلك ما ذكرنا من تشتّتهم بالاختلاف. ولما وهي أمر قطرىّ توجّه مريدا طبرستان وبلغ أمره الحجّاج، فوجّه سفيان بن الأبرد مع جيش عظيم من أهل الشام، فأقبل سفيان حتّى أتى الرىّ، ثمّ اتبعهم. وكتب الحجّاج إلى إسحاق بن محمد بن الأشعث، وهو بطبرستان على جيش لأهل الكوفة أن:
- «اسمع وأطع لسفيان.» فأقبل إلى سفيان، وسار معه فى طلب قطرىّ حتّى لحقوه فى شعب من شعاب طبرستان. فقاتلوه، فتفرّق عنه أصحابه، ووقع عن دابّته فى أسفل الشعب، فتدهدأ حتّى خرّ إلى أسفله، وأتاه علج من أهل البلد، فقال له قطري:
- «اسقنى ماء.» وقد اشتدّ عطشه. فقال العلج له:
- «أعطنى شيئا حتّى أسقيك.» فقال:(2/321)
- «ويحك! ما معى والله إلّا ما ترى من سلاحي، وأنا مؤتيكه إذا أتيتنى بماء.» قال:
- «لا، بل أعطنيه الآن» قال:
- «لا، ولكن ائتني بماء قبل.» فانطلق العلج حتّى أشرف [394] على قطرىّ، ثمّ حدّر عليه حجرا عظيما من فوقه، دهدأه عليه، فأصاب إحدى وركيه، فأوهنه، وصاح بالناس، فأقبلوا نحوه، والعلج حينئذ لا يعرف قطريّا، غير أنه يظنّ [1] أنه من أشرافهم لحسن هيئته وكمال سلاحه، فدفع إليه نفر من أهل الكوفة، فقتلوه، وادّعى قتله جماعة.
وفى هذه المدّة التي جرى فيها ما جرى من أمر الأزارقة كان قتال أمية بن عبد الله بكير بن وساج بخراسان ذكر السبب فى ذلك
حقد حقده عتّاب اللّقوة [2] ، وكان فى صحبة بكير. وكنّا ذكرنا أمر بكير مع أميّة، وأنّ أميّة لمّا ولى خراسان سامح بكيرا، ولم يقبل فيه سعاية، ولا حاسب له عاملا، ولكنّه ولّاه طخارستان بعد أن عرض عليه شرطته فأباها. فتجهّز بكير للخروج إليها، وأنفق نفقة كثيرة. ثمّ وشا به بحير بن ورقاء وقال لأميّة:
- «إنّه إن عبر النهر خلع الخليفة ودعا إلى نفسه.» فراسله أميّة:
- «أقم، لعلّى أغزو، فتكون معى.» فغضب بكير وقال:
__________
[1] . يظنّ: كذا فى الأصل. وما فى مط: نظر. وهو تصحيف.
[2] . عتّاب اللّقوة: كذا فى الأصل ومط. وفى الطبري (8: 1022) : عتّاب اللّقوة الغدانى.(2/322)
- «كأنّه يريد أن يضارّنى [1] .» [395] وكان عتّاب اللّقوة استدان وأنفق نفقة كثيرة ليخرج مع بكير. فلما أقام بكير أخذه غرماؤه فحبس حتّى أدّى عنه بكير.
ثمّ إنّ أميّة أجمع بعد مدّة على الغزو ليغزو بخارى، ثمّ يأتى موسى بن خازم بالترمذ. فتجهّز الناس معه واستخلف ابنه زيادا على خراسان وسار معه بكير.
فقال له بحير:
- «إنّى لا آمن إن أستخلف أحدا، أن يتخلّف عنّى الناس، فقل لبكير، فليكن فى الساقة وليحشر الناس.» فأمره به، فكان على الساقة، حتّى أتى النهر.
وقال أميّة لبكير:
- «اقطع يا بكير.» فقال عتّاب اللّقوة:
- «أصلح الله الأمير، اعبر أنت، ثمّ يعبر الناس بعدك.» فعبر، ثمّ عبر الناس. فقال أميّة لبكير:
- «قد خفت ألّا يضبط ابني عمله وهو غلام حدث. فارجع إلى مرو، فاكفنيها فقد ولّيتكها، فزيّن ابني وقم بأمره.» فانتخب بكير فرسانا من فرسان خراسان قد كان عرفهم ووثق بهم، وعبر، ومضى أميّة إلى بخارى. فقال عتّاب اللّقوة لبكير لمّا عبر وقد مضى أميّة:
- «إنّا قتلنا أنفسنا وعشائرنا حتّى ضبطنا خراسان [396] ثمّ طلبنا أميرا من قريش يجمع أمرنا، فجاء يلعب بنا، يحوّلنا من سجن إلى سجن.» قال:
- «فما ترى؟» قال:
__________
[1] . يضارّنى: كذا فى الأصل والطبري (8: 1022) . وما فى مط: نصارنى! ضارّه: خالفه.(2/323)
- «أحرق هذه السفن، وامض إلى مرو، فاخلع أميّة وتقيم بمرو وتأكلها إلى يوم ما.» فقال بكير:
- «إنّى أخاف أن يهلك هؤلاء الفرسان الذين معى.» فقال:
- «أيخاف عدم الرجال؟ أنا آتيك من أهل مرو بما شئت، إن هلك هؤلاء الذين معك.» قال:
- «يهلك المسلمون.» قال:
- «إنّما يكفيك مناد ينادى: «من أسلم رفعنا عنه الخراج، فيأتيك خمسون ألفا من المسلمين أسمع من هؤلاء وأطوع منهم.» قال:
- «فيهلك أميّة ومن معه.» قال:
- «ولم يهلك والناس معه لهم عدّة وعدد ونجدة وسلاح كامل ليقاتلوا عن أنفسهم حتّى يبلغوا الصين.» فلم يزل عتّاب بهذا وأشباهه حتّى [حرق] [1] بكير السفن ورجع إلى مرو، فأخذ ابن أميّة فحبسه، ودعا الناس إلى خلع أميّة، فأجابوه. وبلغ أميّة فصالح أهل بخارى على شيء يسير، وبادر بالرجوع، وأمر باتخاذ السفن فاتّخذت، وقال لمن معه من وجوه تميم:
- «ألا تعجبون من بكير؟ [397] إنّى قدمت خراسان، فحذّرته، ورفع عليه وشكا منه، وذكروا أموالا أصابها، فأعرضت عن ذلك كلّه ولم أفتّشه عن شيء، ولا أحدا من عمّاله، ثمّ عرضت عليه شرطتي، فأبى، فأعفيته، ثمّ ولّيته، فحذّرته، وأمرته بالمقام، وما كان ذلك إلّا نظرا له، ثمّ رددته إلى مرو، وولّيته الأمر، فكفر ذلك، وكافأنى بما ترون.»
__________
[1] . فى الأصل ومط: قطع. وما أثبتناه فمن الطبري (8: 1024) .(2/324)
فقال له قوم:
- «تعرفون أمره أيها الأمير، لم يكن هذا من شأنه. إنّما أشار عليه بإحراق السفن عتّاب اللقوة.» ثمّ إنّ أميّة لمّا تهيأت له السفن عقد وعبر، وأقبل إلى مرو، وترك موسى بن عبد الله بن خازم.
فقال شمّاس بن دثار، وكان غزا مع أميّة:
- «أيها الأمير، قدّمنى فإنّى أكفيه إن شاء الله.» فقدّمه أميّة فى ثمانمائة فارس. وسار إليه بكير فقال:
- «أما كان فى تميم أحد يحاربني غيرك؟» ولامه. فأرسل إليه شمّاس:
- «أنت ألأم وأسوأ صنيعا منّى، لم تف لأميّة ولم تشكر صنيعه بك.» قال: فبيّته بكير، ففرّق جمعه وقال:
- «لا تقتلوا منهم أحدا وخذوا سلاحهم.» فكانوا إذا أخذوا رجلا سلبوه وخلّوا عنه. فتفرّقوا. وقدّم أميّة كشماهن ورجع إليه شمّاس بن دثار. ثمّ أقبل [398] أميّة فى الناس، فقاتله بكير مدّة، ثمّ انحاز بكير يوما، فدخل الحائط، فنزل السوق. ونزل أميّة باشان [1] ، وكانوا يلتقون فى ميدان يزيد. فانكشفوا يوما، فحماهم بكير، ثمّ التقوا يوما آخر فى الميدان، فضرب رجل من تميم على رجله، فجعل يسحبها وهريم يحميه. فقال الرجل:
- «اللهمّ أيّدنا بالملائكة.» فقال له هريم:
- «أيها الرجل، قاتل عن نفسك، فإنّ الملائكة فى شغل عنك.»
__________
[1] . باشان: كذا فى الأصل. وفى مط: بإنسان وهو خطأ. وفى الطبري (8: 1026) : باسان. (بالسين المهملة) . باشان (بالشين المعجمة) : من قرى هراة (يا) .(2/325)
فتحامل، ثمّ أعاد قوله مرارا:
- «اللهمّ أيّدنا بالملائكة.» فقال لهم هريم:
- «لتكفّنّ عنّى، أو لأدعنّك والملائكة.» فسكت، وحماه حتّى ألحقه بالناس. فكانوا كذلك مدة يتقاتلون، وكان أصحاب بكير يغدون متفضّلين، فى ثياب مصبّغة، وملاحف وأزر صفر وحمر، فيجلسون على نواحي المدينة يتحدّثون وينادى مناد:
- «من رمى بسهم، رمينا إليه برأس رجل من أهله وولده.» فلا يرميهم أحد. وأشفق بكير وخاف، إن طال الحصار، أن يخذله الناس.
فطلب الصلح، وأحبّ أصحاب أميّة ذلك، لمكان عيالاتهم بالمدينة، وكان يحبّ أميّة العافية، فصالحه على أن يقضى عنه أربعمائة ألف، ويصل إليه أصحابه ويولّيه أىّ كورة خراسان شاء، ولا يسمع [399] قول بحير فيه، وإن راب منه ريب فهو آمن أربعين يوما حتّى يخرج من مرو.
وقال: وأخذ الأمان لبكير، وكتب إليه أميّة كتابا، ودخل أميّة المدينة، ووفى لبكير، وعاد إلى ما كان له من الإكرام وحسن الأدب. فأرسل إلى عتّاب اللّقوة فقال:
- «أنت صاحب المشورة؟» قال:
- «نعم، أصلح الله الأمير.» قال:
- «ولم؟» قال:
- «خفّ ما كان فى يدي، وكثر ديني، وأعديت على غرمائي.» قال:
- «ويحك! فضرّبت بين المسلمين، وأحرقت السفن والمسلمون فى بلاد العدوّ، وما خفت الله.» قال:
- «قد كان ذاك وأستغفر الله.» قال:
- «كم كان دينك؟» قال:(2/326)
- «عشرون ألفا.» قال:
- «تكفّ عنّى وعن المسلمين غشّك وأقضى دينك.» قال:
- «نعم، جعلني الله فداءك.» فضحك أميّة وقال:
- «ظنّى بك غير ما تقول، وأرجو أن تفي.» فأدّى عنه عشرين ألفا.
- «وكان أميّة سهلا ليّنا سخيّا لم يعط أحد بخراسان ما أعطاه، وكان مع ذلك ثقيلا على الناس لزهو كان فيه شديد. وكان يقول:
- «ما أكتفى بخراسان وسجستان لمطبخى!» وعزل أميّة بحيرا عن شرطته، وكتب إلى عبد الملك بما كان من بكير وصفحه عنه، وعزله بحيرا طلب مرضاته. [400]
عاقبة أمر بكير
وأخذ أميّة الناس بالخراج واشتدّ عليهم فيه. فجلس يوما بكير فى المسجد وعنده ناس من بنى تميم، فذكر شدّة أميّة على الناس، فذمّوه وقالوا:
- «سلّط علينا الدهاقين فى الجباية.» وكان بكير وضرار بن حصن وعبد العزيز بن حارثة فى ناحية من المسجد.
فنقل بحير ذلك إلى أميّة، فكذّبه، فادّعى شهادة هؤلاء وشهادة مزاحم بن المحشر [1] . فدعا أميّة مزاحما، فسأله، فقال:
- «إنّما كان يمزح.» فأعرض عنه. ثمّ إنّ بحيرا أتاه، فقال:
__________
[1] . المحشر: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 1029) : المجشر (بالجيم المعجمة وتشديد الشين) .(2/327)
- «أصلحك الله، إنّ بكيرا دعاني إلى خلعك، وقال: لولا مكانك لقتلت هذا القرشىّ وأكلت خراسان.» فقال أميّة:
- «ما أصدّق بهذا وقد فعل وفعلت ما فعلت.» فأتاه بضرار بن حصن وعبد العزيز بن حارثة، فشهدا أنّ بكيرا قال لهما: لو أطعتمانى قتلت هذا القرشىّ المخنّث، ودعانا إلى الفتك بك.» فقال أميّة:
- «أنتم أعلم وما شهدتم، وما أظنّ هذا به، وإنّ تركه- وقد شهدتم بما شهدتم به- عجز.» فقال له:
- «إنّ عتّابا يحمله على ذلك.» فقال لحاجبه وصاحب حرسه، وكان يومئذ عطاء بن أبى السائب:
- «إذا دخل بكير وبدل [1] وشمر دل ابنا أخيه فنهضت [401] فخذوهم.» وجلس أميّة للناس وجاء بكير وابنا أخيه. فلما جلسوا قام أميّة عن سريره، فدخل وخرج الناس، فلما همّ بكير بالخروج حبسوه وابني أخيه. فدعا أميّة ببكير وقال:
- «أنت القائل كذا وكذا؟» فقال:
- «تثبّت أصلحك الله ولا تسمع قول ابن المحلوقة.» فحبسه وأخذ جاريته، وكانت تسمّى: العارمة [2] ، فحبسها معه، وحبس الأحنف بن عبد الله العنبري. فلما كان من الغد، أخرج بكيرا، فشهد بحير وضرار وعبد العزيز أنّه دعاهم إلى خلعه والفتك به. فقال:
__________
[1] . بدل: كذا فى الأصل والطبري. وما فى مط: بدا. وهو خطأ.
[2] . العارمة: كذا فى الأصل والطبري (8: 1030) . وما فى مط: العارضة.(2/328)
- «أصلحك الله، فإنّ هؤلاء أعدائى.» فقال أميّة لبحير:
- «أتقتله؟» قال:
- «نعم.» فقام إليه، ونهض أميّة. فقال بكير:
- «يا بحير، إنّك تفرّق أمر بنى سعد إن قتلتني، فدع هذا القرشىّ يلي منّى ما يريد.» فقال بحير:
- «لا والله، يا بن الإصبهانيّة! لا تصلح بنو سعد ما دمنا حيّين.» فقال:
- «فشأنك يا بن المحلوقة.» وقتل أميّة ابن أخى بكير، ووهب جاريته العارمة لبحير.
ثمّ وجّه أميّة رجلا من خزاعة إلى موسى بن عبد الله بن خازم، فقتله عمرو بن خالد بن حصن الكلابي غيلة، فتفرّق جيشه، واستأمن طائفة منهم إلى موسى ورجع بعضهم إلى أميّة. [402] وعزل عبد الملك بن مروان أميّة عن خراسان وولّاها المهلّب من قبل الحجّاج، وسنذكر سببه.
وأخذ الأبناء تحضّ على قتل بحير فى الشعر وفى غير الشعر، فتعاقد جماعة منهم على الفتك ببحير. فخرج فتى منهم يقال له الشمر دل من البادية حتّى قدم خراسان. فنظر إلى بحير واقفا، فشدّ عليه، فطعنه، فصرعه وظنّ أنّه قتله. فتنادى الناس:
- «خارجىّ.» فراكضهم، فعثر فرسه وندر عنه فقتل. فكان بحير بعد ذلك يتحرّز من الغيلة، إلى أن خرج صعصعة بن حرب العوفىّ من البادية وقد باع غنيمات له واشترى(2/329)
حمارا، ومضى إلى سجستان فحاور قرابة لبحير هناك ولا طفه وقال:
- «أنا رجل من بنى حنيفة من أهل اليمامة.» فلم يزل يأتيهم ويجالسهم حتّى أنسوا به.
ذكر حيلة صعصعة على بحير حتّى اغتاله وقتله
ثمّ إنه قال لهم:
- «إنّ لى بخراسان ميراثا قد غلبت عليه، وبلغني أنّ بحيرا هو عظيم القدر بخراسان، فاكتبوا لى إليه كتابا يعينني على طلب حقّى.» فكتبوا إليه وخرج حتّى قدم مرو والمهلّب غاز [1] . فلقى قوما من بنى عوف، فأفشى إليهم سرّه، فأقبل [403] إليه مولى لبكير، فقبّل رأسه، وكان صقيلا، فقال له صعصعة:
- «اتّخذ لى خنجرا.» ففعل، وأحماه وغمسه فى لبن أتان مرارا، ثمّ شخص من مرو وقطع النهر حتّى أتى عسكر المهلّب. فلقى بحيرا بالكتاب، وقال له:
- «إنّى رجل من بنى حنيفة، كنت من أصحاب ابن أبى بكرة، وقد ذهب مالي بسجستان، ولى ميراث بمرو، فقدمت لأبيعه وأرجع إلى اليمامة.» فأمر له بنفقة وأنزله معه. وقال له:
- «استعن بى على ما أحببت.» قال:
- «أقيم عندك حتّى يقفل الناس.» فأقام شهرا أو نحوا من شهر يحضر معه باب المهلّب ومجلسه حتّى عرف به.
وكان بحير مع تحرّزه وخوفه الفتك قد أنس بصعصعة هذا لأجل الكتاب الذي
__________
[1] . والعبارة فى مط: حتّى قدم ووجد المهلّب غازيا.(2/330)
صحبه من عند أصحابه، وظنّه رجلا من بكر بن وائل، فأمنه [1] . فجاء يوما وبحير جالس فى مجلس المهلّب، عليه قميص ورداء فى نعلين. فقعد خلفه، ثمّ دنا منه فأكبّ عليه كأنّه يكلّمه. فوجأه بخنجره فى خاصرته فغيّبه فى جوفه وخضخضه.
فقال الناس:
- «خارجىّ!» وقال صعصعة:
- «يا لثارات بكير! أنا ثائر ببكير.» فأخذه صاحب شرطة المهلّب فى الطريق، فأتى به المهلّب، فقال المهلّب:
- «بؤسا لك. ما أدركت بثأرك وقتلت نفسك وما على بحير بأس.» فقال:
- «والله قد طعنته [404] طعنة لو قسمت بين الناس لماتوا. ولقد وجدت ريح بطنه فى يدي.» فحبسه. ودخل عليه السجن قوم من الأبناء فقبّلوا رأسه. ومات بحير من غد، فقيل لصعصعة:
- «مات بحير.» فقال:
- «اصنعوا ما بدا لكم الآن. أليس قد حلّت نذور نساء بنى عوف وأدركت ثأرى؟ أما والله لقد أمكننى منه خاليا غير مرّة، فكرهت أن أقتله سرّا.» فقال المهلّب:
- «ما رأيت رجلا أسخى نفسا بالموت صبرا من هذا.» وقتله.
وقال المهلّب:
- «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. 2: 156 غزوة أصيب فيها بحير فغضبت عوف بن كعب
__________
[1] . ما فى الأصل: آمنه. وهو سهو. فأثبتناه كما فى مط، والطبري (8: 1050) : أمنه.(2/331)
والأبناء.» وقال:
- «علام قتل صاحبنا؟ وإنّما طلب بثأره.» فنازعتهم مقاعس والبطون حتّى خاف الناس أن يعظم البأس، إلى أن تلطّف أهل الحجى والرأى وقالوا:
- «احملوا دم صعصعة واجعلوا دم بحير بواء [1] ببكير.» فودّوا صعصعة.
ذكر خروج عبد الرحمان بن الأشعث على الحجّاج وسبب خلعه لعبد الملك واجتماع الناس عليه
ولمّا فرغ الحجّاج من شبيب، قدم عليه المهلّب وقد فرغ من الأزارقة.
فأجلسه معه، ودعا بأصحاب البلاد من أصحاب المهلّب، فحباهم ووصلهم.
وكاتب عبد الملك بن مروان [405] بالفتح، وكتب عبد الملك إلى الحجّاج بولاية خراسان وسجستان مع العراق، وعزل أميّة عن خراسان، فبعث الحجّاج المهلّب إلى خراسان من قبله، وبعث عبيد الله بن أبى بكرة إلى سجستان، وذلك فى سنة ثماني وسبعين، فمكث ابن بكرة بقيّة سنته، ثمّ غزا رتبيل، وقد كان مصالحا، وكانت العرب قبل ذلك تأخذ منه خراجا، وربما امتنع. فبعث الحجّاج إلى عبيد الله بن أبى بكرة أن ناجزه بمن معك من المسلمين من أهل الكوفة والبصرة، وكان على أهل الكوفة شريح بن هانئ، وكان من أصحاب علىّ بن أبى طالب عليه السلام، وكان عبيد الله على أهل البصرة، وهو أمير الجماعة.
فمضى عبيد الله حتّى وغل فى بلاد رتبيل، فأصاب من الأموال والغنم ما شاء،
__________
[1] . بواء: كذا فى الأصل والطبري (8: 1051) . وهي غير موجودة فى مط. البواء: السواء والكفء. يقال:
دم فلان بواء لدم فلان.(2/332)
وهدم قلاعا وحصونا، وغلب على أرض من أرضيهم كثيرة. وأصحاب رتبيل من الترك. فلما أمعنوا فى بلادهم ودنوا من مدينتهم وصاروا منها على ثمانية عشر فرسخا أخذوا على المسلمين بالعقاب والشعاب، فسقط فى أيدى المسلمين، وظنّوا أن قد هلكوا.
فراسل ابن أبى بكرة رتبيل على أن يصالحه على سبعمائة ألف. فلقيه [406] شريح فقال له:
- «إنّك لا تصالح على شيء إلّا حبسه السلطان عنكم واحتسبه فى أعطياتكم.» فقال الناس:
- «لو منعنا العطاء ما حيينا، كان أهون علينا من هلاكنا.» فقال له شريح:
- «والله لقد بلغت سنّا وقد هلكت لداتي [1] ، وما يأتى علىّ ساعة فأظنّها تمضى حتّى أموت، ولئن فاتتنى الشهادة وأنا أطلبها منذ زمان ما أخالنى أدركها.
يا أهل الإسلام، تعاونوا على عدوّكم.» فقال له ابن أبى بكرة:
- «إنّك شيخ وقد خرفت.» فقال له شريح:
- «إنّما حسبك أن يقال: بستان أبى بكرة، وحمّام أبى بكرة. يا أهل الإسلام من أراد الشهادة فإلىّ.» فاتّبعه ناس من المتطوّعين كثير وفرسان البأس وأهل الحفاظ، فقاتلوا حتّى أصيبوا. وقتل شريح ونجا ابن بكرة فى من نجا من المسلمين.
وبلغ ذلك الحجّاج، فأخذه ما تقدّم وتأخّر وبلغ منه كلّ مبلغ، فكتب إلى
__________
[1] . كذا فى الأصل. وما فى مط: لذاتي. وفى الطبري (8: 1037) : لذّاتى. لداتي: أترابى. أى الذين ولدوا معى. ولكلا الضبطين وجه من الصحة.(2/333)
عبد الملك:
- «أمّا بعد، فإنّ جند أمير المؤمنين الذين كانوا بسجستان أصيبوا، فلم ينج إلّا القليل منهم، وقد اجترأ العدوّ على الإسلام، وأردت أن أوجّه إليهم جندا كثيفا من أهل المصرين، وأحببت أن أستطلع رأى أمير المؤمنين فى ذلك، فإن رأى ذلك أمضيته، وإن لم يرد ذلك [407] فأمير المؤمنين أعلى بجنده عينا، مع أنّى أتخوّف أنّه إن لم يأت رتبيل ومن معه جند كثيف عاجلا، أن يستولوا على ذلك الفرج كلّه.» فكتب إليه عبد الملك:
- «أمّا بعد، فقد أتانى كتابك تذكر فيه مصاب المسلمين بسجستان، وأولئك قوم كتب عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم [1] وعلى الله ثوابهم. وأما رأيى فى توجيه الجنود، فإنّى أرى إمضاء عزمك، فرأيك راشدا موفّقا.» فأخذ الحجّاج فى جهاز عشرين ألفا من أهل البصرة وعشرين ألفا من أهل الكوفة، وجدّ فى ذلك وشمّر وأعطى الناس أعطياتهم، وأخذهم بالخيول الروابع والسلاح الكامل، وأخذ فى عرض الناس، فلا يرى رجلا تذكر فيه شجاعة إلّا أحسن معونته. ولمّا استتمّ له الأمر بعث عليهم عبد الرحمان بن محمد بن الأشعث، فقدم ابن الأشعث سجستان بمن معه فى سنة ثمانين، وكان عبيد الله [2] بن أبى بكرة قد مات قبل قدوم عبد الرحمان.
ويقال: إنّ الحجّاج أنفق على ذلك العسكر، سوى الأعطيات والأرزاق، ألفى ألف [000، 000، 2] درهم. وكان يدعى ذلك الجيش جيش الطواويس، لحسن هيآتهم. [408] فندب عبد الرحمان الناس وعسكر بهم فى ظاهر سجستان، ونادى مناديه:
__________
[1] . س 3 آل عمران: 154.
[2] . عبيد الله: كذا فى الأصل والطبري. وما فى مط: عبد الله.(2/334)
- «أىّ رجل تخلّف فقد أحلّ بنفسه العقوبة.» فخرج الناس كلّهم إلى معسكرهم ووضعت [1] لهم [الأسواق] [2] وأخذوا فى الجهاد والتهيّؤ للحرب.
فبلغ ذلك رتبيل، فكتب إلى عبد الرحمان يعتذر إليه مصاب المسلمين ويخبره أنّه كان لذلك كارها وأنهم ألجئوه إلى قتالهم ويسأله الصفح ويعرض عليه الخراج، فلم يجبه ولم يقبل منه. وسار عبد الرحمان فى الجنود حتّى دخل أوّل بلاده، وأخذ رتبيل يضمّ إليه جنده ويدع له الأرض رستاقا رستاقا وحصنا حصنا.
وكان ابن الأشعث كلّما حوى بلدا بعث إليه عاملا وبعث معه أعوانا ووضع البرد بين كلّ بلد وبلد، وجعل الأرصاد على العقاب والشعاب، ووضع المسالح بكلّ مكان مخوف حتّى إذا حاز من أرضه شيئا عظيما وملأ يده من البقر والغنم والغنائم العظيمة، حبس الناس عن الوغول فى أرض رتبيل، وقال:
- «نكتفي بما أصبنا العام من بلادهم حتّى نجيئها ونعرفها ويجترئ المسلمون على طرقها، ثمّ نتعاطى فى العام المقبل ما وراءها، ثمّ لا نزال ننتقصهم حتّى [409] نقاتلهم آخر ذاك على كنوزهم وذراريّهم وممتنع حصونهم، ثمّ لا نزايل بلادهم حتّى يهلكهم الله.» ثمّ كتب إلى الحجّاج بما فتح من بلاد العدوّ وبما صنع للمسلمين وبهذا الرأى الذي رءاه لهم.
ذكر رأى خطأ للحجّاج أفسد به أولئك الجند وعبد الرحمان حتّى ألجأهم إلى مخالفته وخلعه
وكتب الحجّاج جواب كتابه:
__________
[1] . ووضعت: كذا فى مط والطبري (8: 1045) . وما فى الأصل غامض ويشبه أن يكون: ورصعت، وليس له معنى.
[2] . الأسواق: سقطت من الأصل ومط، فأثبتناها كما فى الطبري.(2/335)
- «أما بعد، فإنّ كتابك أتانى وفهمته وهو كتاب امرئ يحبّ الهدنة ويستريح إلى الموادعة. قد صانع عدوّا ذليلا أصابوا من المسلمين جندا كان بلاؤهم حسنا وغناؤهم عظيما، ولعمرك يا بن أمّ عبد الرحمان، إنّك حيث تكفّ عن ذلك العدوّ بجندي وحدّى، لسخىّ النفس عمّن أصيب من المسلمين، وإنّى لم أعذر رأيك الذي زعمت أنّك رأيته رأى مكيدة، ولكنّى رأيتك أنّه لم يحملك عليه إلّا ضعفك والتياث [1] رأيك. فامض لما أمرتك به من الوغول فى أرضهم والهدم لحصونهم، وقتل مقاتليهم، وسبى ذراريّهم.» ثمّ أردفه كتابا آخر قال فيه: [410]- «أمّا بعد، فأمر من قبلك من المسلمين فليحرثوا [2] وليقيموا، فإنّها دارهم، حتّى يفتح الله عليهم.» ثمّ أردفه كتابا آخر فيه:
- «أمّا بعد، فامض لما أمرتك من الوغول فى أرضهم، وإلّا فإنّ إسحاق بن محمد أمير الناس، فخلّه وما ولّيته.» - يعنى أخاه.
فلما قرأ كتابه، قال:
- «أنا أحمل ثقل إسحاق.» ثمّ دعا الناس وجمعهم فحمد الله وأثنى عليه وقال:
- «أيها الناس، قد عرفتم نصحى لكم ومحبتي لصلاحكم ولكلّ ما يعود عليكم نفعه. وقد كان من رأيى لكم فى ما بينكم وبين عدوّكم، رأى استشرت فيه ذوى أحلامكم وأولى التجربة فى الحرب منكم، فرضوه لكم رأيا، ورأوه لكم فى العاجل والآجل صلاحا، فكتبت بذلك إلى أميركم الحجّاج وهذا جوابه، يعجّزنى ويضعّفنى ويأمرنى بتعجيل الوغول بكم فى أرض العدوّ، وهي البلاد التي هلك
__________
[1] . التياث: كذا فى الأصل والطبري 8: 1053. وما فى مط: السيات. وهو خطأ.
[2] . فليحرثوا: فى الأصل غموض وفى مط إهمال كامل وما أثبتناه من الطبري.(2/336)
فيها إخوانكم بالأمس، وإنّما أنا رجل منكم، أمضى إذا مضيتم، وآبى إذا أبيتم.» فثار إليه الناس من كلّ جانب.
- «لا بل نأبى على عدوّ الله ولا نستمع له ولا نطيع.» وتكلّم وجوه الناس، فكان أولهم واثلة الكناني، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه:
- «إنّ الحجّاج ما يرى لكم إلّا ما يقول القائل الأوّل إذ قال [411] لأخيه:
احمل عبدك على الفرس، فإن هلك هلك، وإن نجا فلك. إنّ الحجّاج والله ما يبالى أن يخاطر بكم فيقحمكم بلادا كثيرة اللهوب واللّصوب، فإن ظفرتم وغنمتم، أكل البلاد وحاز الأموال، وكان ذلك زيادة فى سلطانه، وإن ظفر عدوّكم كنتم الأعداء البغضاء الذين لا يبالى عتبهم [1] ، ولا يبقى عليهم. اخلعوا عدوّ الله الحجّاج وبايعوا الأمير عبد الرحمان، فإنّى أشهدكم أنّى أوّل خالع له.» فنادى الناس من كلّ جانب:
- «فعلنا فعلنا وخلعنا عدوّ الله.» وقام عبد المؤمن بن شبث بن ربعىّ ثانيا، وكان على شرطته، فقال:
- «عباد الله، إنّكم إن أطعتم الحجّاج جعل هذه البلاد بلادكم ما بقيتم، وجمّركم تجمير فرعون، فإنّه بلغني أنّه أوّل من جمّر البعوث، ولم تعاينوا والله الأحبّة فى ما أرى، أو يموت أكثركم. فبايعوا أميركم، وانصرفوا إلى عدوّ الله فانفوه عن بلادكم.» فوثب الناس إلى عبد الرحمان ليبايعوه فقال:
- «أتبايعوننى على خلع الحجّاج عدوّ الله وعلى النصرة لى والجهاد معى حتّى ننفيه من العراق؟»
__________
[1] . عتبهم: كذا فى الأصل. فى مط: عيشهم. وهو خطأ. وما فى الطبري (8: 1054) : عنتهم.(2/337)
فبايعه الناس على ذلك، ولم يذكر عبد الملك إذ ذاك بشيء. ثمّ استخلف على بست عياض بن همدان، وعلى زرنج عبد الله [412] بن عامر التميمي. وبعث إلى رتبيل، فصالحه على أنّ ابن الأشعث إن ظهر فلا خراج عليه أبدا ما بقي، وإن هزم فأراده، ألجأه عنده وآواه.
خروج عبد الرحمان نحو العراق
وخرج عبد الرحمان نحو العراق وبعث على مقدّمته عطيّة بن عمرو العنبري، وبعث الحجّاج إليه الخيل، فجعل لا يلقى خيلا إلّا هزمها، حتّى دخل فارس واجتمع الناس بعضهم إلى بعض وقالوا:
- «إنّا إذا خلعنا الحجّاج فقد خلعنا عبد الملك.» فاجتمعوا إلى عبد الرحمان، وكان أوّل من خلع عبد الملك تيحان بن أبجر قام فقال:
- «أيها الناس إنّى قد خلعت أبا دبّان كخلعي قميصي.» فخلعه الناس ووثبوا إلى عبد الرحمان فبايعوه وكانت بيعته:
- «تبايعوني على كتاب الله، وسنّة نبيّه، وخلع أئمة الضلالة، وجهاد المحلّين.» فإذا قالوا: نعم، بايع.
فلما بلغ الحجّاج ذلك، كتب إلى عبد الملك يخبره، ويسأله أن يعجّل بعثة الجنود إليه. وجاء حتّى نزل البصرة، وكان المهلّب بخراسان حين بلغه شقاق عبد الرحمان، فكتب إليه:
- «أما بعد، فإنّك يا ابن محمّد قد وضعت رجلك فى غرز [1] طويل الغىّ. الله الله، فى نفسك لا تهلها، وفى دماء المسلمين فلا تسفكها، والجماعة فلا تفرّقها،
__________
[1] . الغرز: ركاب الرحل من جلد.(2/338)
[413] والبيعة فلا تنكثها. فإن قلت: إنّى أخاف الناس على نفسي، فاللَّه أحقّ أن تخافه عليها من الناس. والسلام.»
رأى سديد رءاه المهلّب للحجّاج فعصاه
وكتب المهلّب إلى الحجّاج:
- «أما بعد، فإنّ أهل العراق قد أقبلوا إليك وهم مثل السيل المنحدر من عل ليس يردّه شيء حتّى ينتهى إلى قراره. إنّ لأهل العراق شرّة فى أول مخرجهم وصبابة إلى أبنائهم ونسائهم. فليس شيء يردّهم حتّى يسقطوا إلى أهليهم ويشمّوا أولادهم، فافرج [1] لهم، ثمّ واقعهم فإنّ الله ناصرك عليهم إن شاء الله.» فلمّا قرأ كتابه قال:
- «فعل الله به وصنع. لا والله، ما لي نظر، ولكنّ ابن عمّه نصح.» وتجهّز الحجّاج للقاء عبد الرحمان، وترك رأى المهلّب. وكان فرسان أهل الشام يسقطون إلى الحجّاج مائة مائة وخمسين خمسين [2] وعشرة عشرة، وأقلّ على البرد من قبل عبد الملك وهو فى كلّ يوم يساقط إلى عبد الملك كتبه ورسله يخبر أنّ ابن الأشعث أىّ كورة نزل، ومن أىّ كورة رحل، [414] وأىّ الناس إليه أسرع. وكان بكرمان أربعة آلاف من فرسان أهل البصرة وأهل الكوفة فلمّا مرّ بهم عبد الرحمان انجفلوا معه.
وسار الحجّاج بأهل الشام حتّى نزل قريبا من تستر، وقدّم بين يديه مطهّر بن حيىّ [3] . وكان لعبد الرحمان مسلحة عليها عبد الله بن أبان الحارثىّ فى ثلاثمائة فارس. فلما انتهى إليهم مطهّر أقدم عليه فهزمته مسلحة عبد الرحمان، وأتت
__________
[1] . فافرج لهم: كذا فى الأصل. وفى مط: وما فى الطبري (8: 1059) : ثمّ واقفهم عندها.
[2] . ما فى الأصل ومط خمسون خمسون فصحّحناه.
[3] . حيىّ: كذا فى الأصل. وفى مط: حىّ. وما فى الطبري (8: 1061) : حرّ. وفى تعاليقه: حي، جى.(2/339)
الحجّاج الهزيمة وهو يخطب. صعد إليه رجل فأخبره بهزيمة الناس، فقال:
- «أيها الناس، ارتحلوا إلى البصرة، إلى معسكر ومعقل وطعام ومادّة، فإنّ هذا المكان الذي نحن فيه لا يحتمل الجند.» ثمّ انصرف راجعا وتبعه خيول أهل العراق. فكلّ من أدركوه قتلوه وكلّ ما أصابوا من ثقل حووه. ومضى الحجّاج لا يلوى على شيء حتّى نزل الراوية، وبعث إلى طعام التجار بالكلّاء [1] ، فأخذه وحمله إليه، وخلّى البصرة لأهل العراق، وكان عامله عليها الحكم [2] بن أيّوب بن الحكم بن عقيل الثقفي. وجاء أهل العراق حتّى دخلوا البصرة. وكان الحجّاج حين صدم تلك الصدمة وأقبل راجعا، دعا بكتاب [415] المهلّب وقرأه وقال:
- «لله أبوه، أىّ صاحب حرب هو! لقد أشار علينا بالرأى وكلّنا لم نقبل.» وكان مع الحجّاج يوم انهزم من المال مائة وخمسون ألف ألف [000، 000، 150] ففرّقها فى قوّاده، وضمّنهم إياها. ولمّا بلغ أهل البصرة هزيمة الحجّاج أراد عبد الله بن عامر بن مسمع أن يقطع الجسر فرشاه الحكم بن أيوب مائة ألف درهم. فكفّ عنه. ودخل الحجّاج البصرة، فأرسل إلى ابن عامر، فانتزع المائة الألف منه.
ولمّا دخل البصرة عبد الرحمان بن محمد بن الأشعث بايعه أهلها، كلّهم قرّاؤها وكهولها، على خلع الحجّاج، وخلع عبد الملك جميع أهلها من القرّاء والشيوخ.
وخندق الحجّاج عليه وخندق عبد الرحمان على البصرة، واقتتلوا فى المحرم سنة اثنتين وثمانين. فكانت خيل العراق تهزم أبدا خيل الشام حتّى إذا كان فى آخر المحرّم هزم أهل العراق على عادتهم أهل الشام فنكصت ميمنتهم
__________
[1] . الكلّاء: اسم محلّة مشهورة وسوق بالبصرة أيضا سمّيت بذلك (معجم البلدان) . أنظر الطبري (8:
1061) .
[2] . الحكم (فى كلا الموضعين) : كذا فى مط والطبري. ما فى الأصل: الحلم (باللّام) .(2/340)
وميسرتهم، واضطربت رماحهم، وتقوّضت صفوفهم. فلما رأى ذلك الحجّاج جثا على ركبتيه وانتضى نحوا من شبر من سيفه وقال:
- «لله درّ مصعب، ما كان أكرمه حين نزل به!» قال: [416] فعلمنا أنّه لا يفرّ.
قال أبو الزبير الهمدانىّ: فغمزمت أبى بعيني ليأذن لى فأضرب الحجّاج بسيفي.
فغمزني غمزة شديدة، فسكتّ [1] ، وحانت منّى التفاتة، فإذا سفيان بن الأبرد قد حمل عليهم فهزمهم من قبل الميمنة، فقلت:
- «أبشر أيّها الأمير، فإنّ الله قد هزم العدوّ.» فقال لى:
- «قم فانظر.» قال: فقمت فنظرت فقلت له:
- «قد هزمهم الله.» فقال:
- «قم يا زياد فانظر.» فقام فنظر فقال:
- «الحقّ- أصلحك الله- يقينا، قد هزموا.» [2] فخرّ ساجدا.
قال: فلمّا رجعت شتمني أبى وقال:
- «أردت أن تهلكني وأهل بيتي.» قال: فانهزم الناس، وأقبل عبد الرحمان إلى الكوفة، وتبعه أهل القوّة من أصحاب الخيل من أهل البصرة.
ولمّا مضى عبد الرحمان إلى الكوفة وثب أهل البصرة إلى عبد الرحمان بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، فبايعوه، فقاتل بهم خمس ليال أشدّ
__________
[1] . فسكتّ: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 1064) فسكنت. وهو أنسب.
[2] . العبارة توافق ما فى الطبري (8: 1064) .(2/341)
قتال رءاه الناس. ثمّ انصرف فلحق بابن الأشعث، وقتل الحريش بن هلال وجماعة من الأشراف والوجوه.
قال أبو الزبير: كنت قد أصابتنى جراحة وخرج أهل الكوفة يستقبلون ابن الأشعث حين أقبل، فاستقبلوه عنده قنطرة [417] زبارا [1] . فقال لى:
- «إن رأيت أن تعدل عن الطريق فلا يرى الناس جراحتك فإنّى لا أحبّ أن يستقبلهم الجرحى.» ففعلت، ودخل الناس، فلمّا دخل الكوفة مال إليه الناس كلّهم ودخلوا إليه فبايعوه، وسقط إليه أهل البصرة، وتقوّضت إليه المسالح والثغور، وجاءه فى من جاءه من أهل البصرة عبد الرحمان بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. وكنّا ذكرنا أنّه قاتل الحجّاج بالبصرة بعد خروج ابن الأشعث. فبلغ ذلك عبد الملك بن مروان، فقال:
- «قاتل الله عدىّ [2] الرحمان، قد فرّ وقاتل غلام من غلمان قريش بعده ثلاثا.» وأقبل الحجّاج من البصرة، فسار فى البرّ حتّى مرّ بالقادسيّة والعذيب، وبعث إليه عبد الرحمان بن الأشعث عبد الرحمان بن العباس فى خيل عظيمة من خيل البصرة، فمنعوه من نزول القادسيّة. ثمّ سايره حتّى ارتفعوا على وادي السباع، ثمّ تسايرا حتّى نزل الحجّاج دير قرّة، ونزل عبد الرحمان دير الجماجم. ثمّ جاء ابن الأشعث فنزل دير الجماجم. فكان الحجّاج بعد ذلك يقول:
- «ما [3] كان عبد الرحمان يزجر الطير، حيث رءانى نزلت دير قرّة ونزل دير
__________
[1] . زبارا: كذا فى الأصل. وفى مط: زمارا. قال ياقوت: زبارا موضع أظنّه من نواحي الكوفة، ذكر فى قتال القرامطة أيّام المقتدر.
[2] . عدىّ: كذا فى الأصل والطبري. وما فى مط: عبدى.
[3] . ما كان: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 1072) : أما كان.(2/342)
الجماجم.» واجتمع القرّاء من أهل [418] المصرين وأهل الثغور والمسالح وجماعة أهل الكوفة والبصرة على حرب الحجّاج والذي جمعهم على حربه بغضهم له وإجماعهم على عدوانه وظلمه، وهم إذ ذاك مائة ألف مقاتل ممّن يأخذ العطاء ومعهم مثلهم مواليهم. وجاءت الحجّاج أمداده من قبل عبد الملك. فكان الحجّاج مخندقا فى عسكره والناس يخرجون فى كلّ يوم فيقتتلون، فلا يزال أحدهما يدنى خندقه نحو صاحبه، فإذا رءاه الآخر أدنى خندقه أيضا من صاحبه واشتدّ القتال.
ذكر وقعة دير الجماجم
لمّا بلغ أهل الشام ورؤوس قريش قبل عبد الملك مخالفة أهل العراق الحجّاج اجتمعوا إليه، وقالوا [1] :
- «إن كان إنّما يرضى أهل العراق أن تنزع عنهم الحجّاج فإنّ نزع الحجّاج أهون من حرب أهل العراق فانزعه عنهم تخلص [2] لك طاعتهم وتحقن به دماءنا ودماءهم.» بعث عبد الملك ابنه عبد الله بن عبد الملك وأخاه محمد بن مروان فى خيل إلى أرض العراق، وأمرهما أن يعرضا على أهلها نزع الحجّاج عنهم وأن يجرى عليهم أعطياتهم [419] كما يجرى على أهل الشام وأن ينزل ابن محمد بن الأشعث أىّ بلد شاء من العراق يكون عليه واليا ما كان حيّا وكان عبد الملك واليا. فإن هم قبلوا ذلك فاعزل عنهم الحجّاج ومحمد بن مروان أمير العراق، وإن أبوا أن يقبلوا فالحجّاج أمير جماعة أهل الشام وولىّ القتال، ومحمد بن مروان وعبد الله بن
__________
[1] . فى الأصل: قال. وهو خطأ. وما فى مط والطبري (8: 1073) : قالوا. كما أثبتناه.
[2] . فى الأصل ومط: وتخلص (بزيادة الواو) فحذفناها كما فى الطبري.(2/343)
عبد الملك فى طاعته.
فلم يأت الحجّاج قطّ أمر كان أشدّ عليه ولا أغيظ له ولا أوجع لقلبه من هذا الأمر مخافة أن يقبلوا فيعزل عنهم. فكتب إلى عبد الملك:
- «يا أمير المؤمنين، والله لئن أعطيت أهل العراق نزعى عنهم لا يلبثون إلّا قليلا حتّى يخالفوك ويسيروا إليك، ولا يزيدهم ذلك إلّا جرأة عليك. ألم تر وتسمع بوثوب أهل العراق مع الأشتر على ابن عفّان؟ فلما سألهم: ما الذي تريدون؟ قالوا: نزع سعيد بن العاص. فلما نزعه، لم تتمّ لهم السنة حتّى ساروا إليه، فقتلوه. إنّ الحديد بالحديد يقرع. وخار الله لك فى ما ارتأيت والسلام.» فأبى عبد الملك إلّا عرض هذه الخصال على أهل العراق طلبا للعافية من الحرب. فلما اجتمعا مع الحجّاج خرج عبد الله بن عبد الملك [420] فنادى أهل العراق وقال:
- «أنا عبد الله بن أمير المؤمنين وهو يعطيكم كذا وكذا.» وذكر الخصال التي ذكرناها.
وقال محمد بن مروان:
- «أنا رسول أمير المؤمنين إليكم وهو يعرض عليكم كذا وكذا.» وذكر هذه الخصال. فقالوا:
- «نرجع العشيّة وننظر.» فرجعوا واجتمعوا عند ابن الأشعث، فلم يبق قائد ولا رأس ولا فارس إلّا أتاه.
ذكر رأى رءاه عبد الرحمان عند هذه الحال
لمّا اجتمع هؤلاء كلّهم عند ابن الأشعث حمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال:
- «أمّا بعد، أعطيتم اليوم أمرا انتهازكم إيّاه اليوم فرصة، ولا آمن أن يكون على(2/344)
ذى [1] الرأى غدا حسرة. وإنّكم اليوم على النصف، وإن كانوا اعتدّوا عليكم بالزاوية فأنتم تعتدّون عليهم بيوم تستر. فاقبلوا ما عرض عليكم وأنتم أعزّاء أقوياء، والقوم لكم هائبون وأنتم لهم منتقصون. فلا والله لا زلتم عليهم جرّاء وعندهم أعزّاء أبدا، إن قبلتم.» فوثب إليه الناس من كلّ جانب، فقالوا:
- «إنّ الله قد أهلكهم، فأصبحوا فى الأزل والضنك والمجاعة والقلّة والذلّة، ونحن ذوو العدد [421] الكثير والسعر الرفيع [2] والمادة القريبة. لا والله، لا نقبل.» فأعادوا خلعه ثانيا. وكان اجتماعهم على خلعه بالجماجم، أجمع من خلعهم إيّاه بفارس.
فرجع محمد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك إلى الحجّاج، فقالا:
- «شأنك بعسكرك وجندك، فقد أمرنا أن نسمع لك ونطيع.» فقال الحجّاج:
- «قد قلت لكما أنّه لا يراد بهذا الخلاف غيركما.» ثمّ قال:
- «إنّما أقاتل لكما وسلطاني سلطانكما.» فكانوا إذا لقياه سلّما عليه بالإمرة، وكان أيضا يسلّم عليهما بالإمرة، وخلّياه والحرب، فتولّاها وبرزوا للقتال.
فجعل الحجّاج على ميمنته عبد الرحمان بن سليم الكلبي، وعلى ميسرته عمارة بن تميم اللخمي، وعلى خيله سفيان بن الأبرد الكلبي، وعلى رجاله
__________
[1] . ذى الرأى: كذا فى الأصل ومط والطبري. وفى بعض الأصول: ذا الرأى.
[2] . السعر الرفيع: كذا فى الأصل. وما فى الطبري (8: 1075) : السعر الرفيغ (بالغين المعجمة) . وما فى مط:
الشعر الرفيع! والرفيغ: الهنيء. الرغيد. الواسع. وما فى الأصل أنسب. وأما ابن الأثير ففيه: الشعر الرخيص (4: 471) .(2/345)
عبد الرحمان بن حبيب الحكمي. وجعل ابن الأشعث على ميمنته الحجّاج بن جارية الخثعمي، وعلى ميسرته الأبرد بن قرّة التميمي، وعلى خيله عبد الرحمان بن العباس بن عامر الشعبي، وسعيد بن جبير، وأبو البختري الطائىّ، وعبد الرحمان بن أبى ليلى. فكانوا يتزاحفون كلّ يوم ويقتتلون. [422] فأما أهل الكوفة والبصرة فتأتيهم موادّهم من السواد فهم فى ما شاءوا من خصب. وأما أهل الشام ففي ضيق شديد قد غلب عليهم الأسعار وقلّ عندهم الطعام وفقدوا اللحم وكانوا كأنّهم فى حصارهم [1] وهم على ذلك يغادون أهل العراق ويراوحون فيقتتلون أشدّ القتال. وكان الحجّاج يدنى خندقه مرّة وهؤلاء أخرى.
فعبّى ذات يوم الحجّاج أصحابه وزحف فيها. وخرج ابن الأشعث فى سبعة صفوف بعضها فى أثر بعض وعبّى الحجّاج لكتيبة القرّاء التي فيها جبلة بن زحر ثلاث كتائب وعليهم الجرّاح بن عبد الله الحكمي، فأقبلوا نحوهم.
فتحدّث أبو يزيد السكسكي قال: أنا والله فى الخيل التي عبّئت لجبلة بن زحر كلّ كتيبة تحمل حملة، فو الله ما استفضضناهم ولا شيئا منهم [2] .
وقال أبو الزبير الهمداني: كنت فى خيل جبلة بن زحر. فلمّا حمل علينا أهل الشام مرّة بعد مرّة نادانا عبد الرحمان بن أبى ليلى الفقيه، فقال:
- «يا معشر القرّاء، إنّ الفرار ليس بأحد من الناس أقبح منه بكم. إنّى سمعت عليّا- رفع الله درجته فى الصالحين والشهداء [423] والصدّيقين- يقول يوم لقينا أهل الشام: أيها المؤمنون، إنّه من رأى عدوانا يعمل به ومنكرا يدعى إليه فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ، ومن أنكره بلسانه فقد أجر وهو أفضل من صاحبه، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله العليا [3] وكلمة الظالمين السفلى فذلك الذي
__________
[1] . فى حصارهم: كذا فى الأصل والطبري 8: 1076. وما فى مط: فى عصارهم!
[2] . منهم: كذا فى الأصل. وما فى مط: منها. والعبارة فى الطبري (1077) : وما استنقصنا منهم شيئا.
[3] . اقتباس من: س 9 التوبة: 40.(2/346)
أصاب سبيل الهدى ونوّر قلبه باليقين. فقاتلوا المحلّين المبتدعين الذين قد جهلوا الحقّ فلا يعرفونه وعملوا بالعدوان فليس ينكرونه.» وتكلّم أبو البختري بنحو من هذا الكلام وحضّ على قتالهم، وكذلك الشعبىّ، وسعيد بن جبير.
وقال جبلة:
- «إذا حملتم عليهم فاحملوا حملة صادقة لا تردّوا فيها وجوهكم حتّى تخالطوا صفّهم.» قال: فحملنا حملة بجدّ منّا فى قتالهم وقوّة منّا عليهم. فضربنا الكتائب الثلاث حتّى تكسّرت بعضها فى بعض وتفرّقت. ثمّ مضينا حتّى واقعنا [1] صفّهم فضاربناهم حتّى أزلناهم عنه. ثمّ انصرفنا، فمررنا بجبلة صريعا لا ندري كيف قتل.
قال: فهدّنا ذلك وجئنا فوقفنا موقفنا الذي كنّا به وإنّ قرّاءنا لمتوافرون ونحن نتناعى جبلة بن زحر، كأنّما فقد [424] كلّ واحد منّا أباه أو أخاه، بل هو فى ذلك الموطن كان أشدّ علينا فقدا.
فقال لنا أبو البخترىّ:
- «لا يستبيننّ عليكم قتل جبلة بن زحر، فإنّما كان كرجل منكم أتته منيّته ليومها، وكلّكم ذائق ما ذاق، ومدعوّ فمجيب.» قال: فنظرت فى وجوه القرّاء، فإذا الكآبة على وجوههم بيّنة، وإذا ألسنتهم منقطعة، وإذا الفشل قد ظهر فيهم. فسرّ أهل الشام ما رأوا فينا، ثمّ نادونا:
- «يا أعداء [الله،] [2] قد هلكتم والله، وقتل الله طاغيتكم.» وقدم علينا، ونحن على تلك الحال، بسطام بن مصقلة بن هبيرة الشيبانى،
__________
[1] . واقعنا: كذا فى الأصل بشيء من الغموض. وما فى مط: أيضا: واقعنا.
[2] . ما بين [] تكملة من مط.(2/347)
فشجّع الناس مقدمه وقالوا:
- «هذا يقوم مقام جبلة.» فسمع هذا الكلام من بعضهم أبو البختري، فقال:
- «قبحتم [1] ، إن كان كلّما قتل رجل واحد ظننتم أن قد أحيط بكم، فإن قتل الآن مصقلة ألقيتم بأيديكم [2] وقلتم: لم يبق أحد نقاتل معه. ما أخلقكم أن يخلف رجاؤنا فيكم.» وكان قدم بسطام من الرىّ.
قال أبو المخارق: قاتلناهم مائة يوم أعدّها عدّا لا يزيد يوما ولا ينقص يوما وما كنّا قطّ [425] أجرأ عليهم ولا هم أهون علينا منهم فى ذلك اليوم. وذلك أنّا قاتلناهم عامة يومنا أحسن القتال قاتلناهم قطّ ونحن آمنون من الهزيمة عالون القوم، إذ خرج سفيان بن الأبرد الكلبي فى الخيل من ميمنة أصحابه حتّى دنا من الأبرد بن قرّة التميمي وعلى ميسرة عبد الرحمان بن محمد. فو الله ما قاتله كبير قتال حتّى انهزم. فأنكرها الناس منه، وكان شجاعا، ولم يكن الفرار له بعادة.
فطن [3] الناس أنّه كان أو من وصولح على أن ينهزم بالناس. فلما فعلوا تقوّضت الصفوف من نحوه، وركب الناس رؤوسهم وأخذوا فى كلّ وجه.
فصعد عبد الرحمان بن محمد المنبر، وأخذ ينادى الناس:
- «إلىّ إلىّ، أنا محمد.» فأتاه عبد الله بن رزام الحارثي، فوقف تحت منبره فى خيل له، وجاءه عبد الله
__________
[1] . قبحتم: الضبط من الأصل كما فى الطبري (8: 1088) . قبحتم [عن الخير] : أى نحّيتم عنه.
[2] . ألقيتم بأيديكم. كذا فى الأصل ومط. وفى الطبري: ألقيتم بأيديكم إلى التهلكة. كما جاء فى التنزيل:
ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة (س 2 البقرة: 195) .
[3] . فطن الناس: كذا فى الأصل ومط. ولم نجدها فى الطبري ولا ابن الأثير. ويبدو أنها تصحيف من «فظنّ» مع أنّ ل «فطن» أيضا وجها أقوى، لولا وحدة الفاء، لأن السياق يتطلّب أن تتكرر الفاء: ففطن.(2/348)
بن ذؤاب السلمى فى خيل له، فوقف قريبا منه وثبت حتّى دنا منه أهل الشام، فأخذت نبالهم تحوزه. فقال:
- «يا ابن رزام، احمل على هذه الرجّالة.» فحمل عليهم حتّى أمعنوا. ثمّ جاءت خيل أخرى ورجّالة، فقال:
- «احمل عليهم يا ابن ذؤاب.» فحمل عليهم [426] حتّى أمعنوا وثبت لا يبرح. ودخل أهل الشام العسكر، فصعد إليه عبد الله بن يزيد بن المغفّل الأزدى، فقال:
- «انزل، فإنّى أخاف عليك إن لم تنزل أن تؤسر، ولعلّك إن انصرفت اليوم أن تجمع لهم جميعا فى غد يهلكهم الله.» وكانت بنت عبد الله بن يزيد تحت عبد الرحمان بن محمد. فنزل وخلّى أهل العراق العسكر وانهزموا لا يلوون. ومضى عبد الرحمان مع أناس من أهل بيته.
فقال الحجّاج:
- «أتركوهم، فليبتدروا [1] ولا تتبعوهم.» ونادى المنادى:
- «من رجع فهو آمن.» ورجع محمد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك إلى الشام بعد الوقعة، وخلّيا العراق والحجّاج.
دخول الحجّاج الكوفة وجلوسه للناس
وجاء الحجّاج حتّى دخل الكوفة وجلس للناس. فكان لا يبايعه أحد من أهل العراق إلّا قال:
__________
[1] . فليبتدروا: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 1096) : فليتبدّدوا.(2/349)
- «أتشهد أنّك قد كفرت؟» فإذا قال: «نعم،» بايعه، وإلّا قتله.
فجاء رجل من خثعم، وكان معتزلا للناس جميعا من وراء الفرات. فسأله عن حاله فقال:
- «ما زلت معتزلا وراء هذه النطفة منتظرا أمر الناس حتّى ظهرت، فأتيت لأبايعك مع الناس.» فقال:
- «أمتربّص؟ [427] أتشهد أنّك كافر؟» - «بئس الرجل أنا إذا! إن كنت عبدت الله ثمانين سنة ثمّ أشهد على نفسي بالكفر.» قال:
- «إذا أقتلك.» قال:
- «فإن قتلتني، والله ما بقي من عمرى إلّا كظمء حمار [1] ، وإنّى لأنتظر الموت صباح مساء.» قال:
- «اضربوا عنقه.» فلما ضربوا عنقه لم يبق أحد حوله من الحرس إلّا رحمه ورثى له من القتل.
قتله كميل بن زياد النخعي وما دار بينهما من كلام
ودعا بكميل بن زياد النخعي، وكان ركينا فى الحرب حليما صاحب نجدة وحفاظ من أصحاب علىّ بن أبى طالب عليه السلام، فقال:
- «أنت المقتصّ من أمير المؤمنين عثمان؟ قد كنت أحبّ أن أجد عليك سبيلا.» فقال:
- «والله ما أدرى على أيّنا أنت أشدّ غضبا: عليه حين أقاد من نفسه، أم علىّ
__________
[1] . قال فى متن اللغة: ظمء الحياة: ما بين سقوط الولد إلى حين موته. ويكنى بظمء الحمار عن قصر المدة لأنه أقل الحيوان صبرا على العطش.(2/350)
حين عفوت عنه؟» فراجعه الحجّاج. فقال:
- «أيها الرجل! لا تصرف علىّ أنيابك، ولا تتهدّم علىّ تهدّم الكثيب، ولا تكشر كشران الذئب. والله ما بقي من عمرى إلّا مثل ظمئ الحمار، فإنّه يشرب غدوة، ويموت عشيّة ويشرب عشيّة ويموت غدوة. اقض ما أنت قاض، فإنّ الموعد الله، وغدا الحساب.» فقال الحجّاج:
- «فإنّ [428] الحجّة عليك.» قال:
- «إن كان القضاء إليك.» قال:
- «اقتلوه!» فقتل رحمه الله.
وأتى برجل آخر من بعده طلبه الحجّاج. فقال الحجّاج:
- «إنّى أرى وجه رجل ما أظنّه يشهد على نفسه بالكفر.» قال:
- «أخادعى أنت عن نفسي؟ بلى أنا أكفر أهل الأرض، وأكفر من فرعون ذى الأوتاد.» فضحك الحجّاج وخلّى سبيله.
وتوفّى فى هذه السنة المهلّب منصرفه من كسّ [1] يريد مرو وأصابته الشوصة فدعا حبيبا ومن حضر من ولده فوصّاهم.
__________
[1] . فى الأصل وحواشي الطبري (8: 80- 1078) : كس. من دون ضبط. وفى ياقوت بكسر الكاف وتشديد الشين. وفى مط: كسر. وهو تصحيف. وفى الطبري وابن الأثير (4: 473) : كشّ. اسم لمدينة بما وراء النهر يقال لها اليوم: «شهر سبز» أى: المدينة الخضراء (فم، مد) . قال البلاذري: كسّ هي الصغد، تكسر فيه الكاف وتفتح، وربما صحّفه بعضهم فقاله: كشّ. قال ابن ماكولا: لمّا عبرت نهر جيحون وحضرت بخارى وسمرقند وجدت جميعهم يقولون: كسّ. قال: المقدسي: «كسّ تعريب كشّ» (نقلا عن معجم البلدان بالتلخيص) .(2/351)
وصيّة المهلّب إلى ولده حين حضرته الوفاة
قال:
- «عليكم بتقوى الله، وصلة الرحم. اجمعوا أمركم ولا تختلفوا. تبارّوا لتجتمع أموركم. إنّ بنى الأمّ يختلفون وكيف ببني العلّات [1] . وعليكم بالطاعة والجماعة، ولتكن أفعالكم أفضل من أقوالكم، فإنّى أحبّ الرجل أن يكون لعمله فضل على لسانه. واتّقوا الجواب [2] وزلّة اللسان، فإنّ الرجل تزلّ قدمه فينتعش من زلّته، ويزلّ لسانه فيهلك. وآثروا الجود على البخل [429] وأحبّوا العرب، واصطنعوا العرف. فإنّ الرجل تعده العدة فيموت دونك، فكيف الصنيعة عنده! عليكم فى الحرب بالأناة والمكيدة، فإنّها أنفع من الشجاعة، وإذا كان [اللقاء] [3] ، ونزل القضاء. فإن أخذ رجل بالحزم وظهر على العدوّ، قيل: [أتى] الأمر [4] من وجهه ثمّ ظفر. وإن لم يظفر بعد الأناة، قيل: ما فرّط ولا ضيّع، ولكنّ القضاء غالب.
وعليكم بقراءة القرآن وتعلّم السنن وآداب الصالحين. وإيّاكم والخفّة وكثرة الكلام فى مجالسكم. اعرفوا حقّ من يغشاكم، فكفى بغدوّ الرجل ورواحه إليكم تذكرة له. وقد استخلفت عليكم يزيد.» فقال المفضّل:
- «لو لم تقدّم يزيد لقدّمناه.» ومات المهلّب وصلّى عليه حبيب، ثمّ سار بالجند إلى مرو. فكتب يزيد إلى
__________
[1] . العلّات: (بفتح العين المهملة وهي مكسورة فى الطبري) جمع مفرده: العلّة: وهي الضرّة. يقال: بنو علّات: أى بنو أمّهات شتى من رجل واحد. وعكسها: أولاد الأخياف. ويقال: هم إخوة أخياف، أى: بنو أخياف. أى أمّهم واحدة والآباء شتى.
[2] . واتقوا الجواب: كذا فى الأصل ومط والطبري (8: 1083) .
[3] . فى الأصل ومط: القضا، وهو سهو. وفى الطبري (8: 1083) : اللقاء.
[4] . فى الأصل ومط: أتاه الأمر. وفى الطبري (8: 1083) : أتى الأمر.(2/352)
عبد الملك بوفاة أبيه واستخلافه إيّاه، فأقرّه الحجّاج. وذلك فى سنة اثنتين وثمانين.
ذكر وقعة الحجّاج وابن الأشعث بمسكن
لمّا انهزم ابن الأشعث من دير الجماجم، وتفرّق أصحابه حصل خلق منهم بالمدائن [430] مع محمد بن أبى وقّاص وجماعة مع عبيد الله بن عبد الرحمان بن أبى سمرة بن جندب. وخرج الحجّاج فى آثارهم، فبدأ بالمدائن. فلمّا بلغ محمد بن سعد عبوره خرج مع أصحابه حتّى لحق بابن الأشعث. وخرج إليه عبيد الله بن عبد الرحمان أيضا، واجتمع إليه الناس من كلّ أوب [1] حتّى عسكروا معه على دجيل بمسكن، وأتاه فلّ الكوفة، وتلاوم الناس على الفرار، وبايع أكثرهم بسطام بن مصلقة على الموت، وخندق عبد الرحمان على أصحابه، وبثق [2] الماء من جانب، فوجّه القتال من وجه واحد.
وقدم عليه خالد بن حرير بن عبد الله القسري من خراسان فى ناس كانوا معه من بعث الكوفة، فاقتتلوا خمس عشرة ليلة من شعبان أشدّ قتال حتّى قتل زياد بن عثيم من أصحاب الحجّاج وكان على مسالحه، فهدّه ذلك وهدّ أصحابه. وعبّى أصحابه وحضّهم على القتال، وباكرهم بقاتل لم ير مثله قطّ. وجاءه عبد الملك بن المهلّب مجفّفا [3] وقد كشفت خيل سفيان بن الأبرد.
فقال له الحجّاج:
__________
[1] . أوب: ما فى الأصل: لوب (باللّام) والمثبت من مط. الأوب: القصد والعادة والطريق. يقال: «جاءوا من كلّ أوب» أى: من كل جهة.
[2] . بثق: كذا فى الأصل والطبري (8: 1099) وما فى مط: نتق. بثق النهر: كسر سدّه ليفيض منه الماء.
[3] . مجفّفا: كذا فى الأصل. وما فى مط مهمل من دون نقط. وفى الطبري: محفّفا (بالحاء المهملة) . جفّفه:
ألبسه التجفاف: آلة للحرب يتّقى بها كالدرع، للفرس والإنسان. حفّفه القوم (بالحاء المهملة) : أحدقوا به.(2/353)
- «ضمّ إليك يا عبد الملك هذا النشر [1] لعلّى أحمل عليهم.» ففعل، وحمل الناس [431] من كلّ جانب، فانهزم أهل العراق أيضا وقتل أبو البختري الطائىّ وعبد الرحمان بن أبى ليلى، وكانا قالا قبل أن يقتلا:
- «إنّ الفرار كلّ ساعة لقبيح بنا.» فصبرا وأصيبا.
ومشى بسطام بن مصقلة فى أربعة آلاف ممّن بايعوه على الموت، فهزم أهل الشام مرارا وكشفهم حالا بعد حال، ولم يكن الحجّاج يعرف إليهم طريقا إلّا الطريق الذي يلتقون فيه. فأتى بشيخ كان راعيا، فدلّه على طريق من وراء أجمة فى الكرخ طوله ستّة فراسخ فى ضحضاح من الماء. فبات الحجّاج الليلة وانتخب من جلد أهل الشام أربعة آلاف، وقال لقائدهم:
- «ليكن هذا العلج أمامك وهذه خمسة آلاف درهم. فان أقامك على عسكرهم فادفع إليه المال، وإن كذبنا فاضرب عنقه. فإن رأيتهم فاحمل عليهم فى من معك وليكن شعاركم: يا حجّاج يا حجّاج.» فانطلق القائد صلاة العصر، والتقى عسكر الحجّاج وعسكر ابن الأشعث حين فصل القائد بمن معه. فاقتتلوا إلى الليل، فانكشف الحجّاج من جهة بسطام بن مصقلة كما حكينا من أمره قبل، حتّى عبر السّيب ودخل ابن الأشعث [432] عسكره فانتهبه.
ذكر تكاسل كان من ابن الأشعث عاد بوبال عليه واتّفاق محمود للحجّاج
قيل لابن الأشعث:
__________
[1] . النشر: كذا فى الأصل ومط والطبري (8: 100) . النشر: القوم المتفرقون لا يجمعهم رئيس. يقال: اللهم اضمم نشرى. أى: ما تفرّق من أمرى.(2/354)
- «الرأى أن تتبعه ولا تنفّس عنه.» فقال:
- « [قد] تعبنا ولحقنا نصب.» فرجع إلى عسكره، وألقى أصحابه السلاح وباتوا آمنين، فى أنفسهم لهم الظفر، وهجم القوم عليهم نصف الليل يصيحون بشعارهم. فجعل الرجل من أصحاب ابن الأشعث لا يدرى أين يتوجّه، دجيل من يساره وجدلة أمامه ولها جرف منكر.
فكان من غرق أكثر ممن قتل. وسمع الحجّاج الصوت، فعبر السيب، وكان قد قطعه إلى عسكره، ثمّ وجّه خيله إلى القوم، فالتقى العسكران على ابن الأشعث، فانهزم فى ثلاثمائة. فمضى على شاطئ دجلة حتّى أتى دجيلا، فعبره فى السفن وعقروا دوابّهم، وانحدر فى السفن إلى البصرة. فدخل الحجّاج عسكره وقتل من وجد، حتّى قتل أربعة آلاف، فيهم بسطام بن مصقلة وجماعة من أهل الشرف والصبر.
وخرج ابن الأشعث بمن معه من الفلّ منهزمين نحو سجستان فلمّا [433] دخل كرمان تلقّاه عمرو بن لقيط وكان عامله عليها. فسأله نزلا، ونزل.
فقال له شيخ من عبد القيس يقال له معقل:
- «والله، لقد بلغنا عنك يا بن الأشعث أنّك جبان فى مواطنك.» فقال عبد الرحمان:
- «ما جبنت، والله لقد دلفت إلى الرجال بالرجال، ولففت الخيل بالخيل، ولقد قاتلت وقاتلت راجلا، فما انهزمت، ولا تركت العرصة للقوم فى موطن حتّى لا أجد مقاتلا، ولا أرى معى مقاتلا، ولكنّى زاولت ملكا مؤجّلا.» ثمّ مضى ابن الأشعث بمن معه حتّى فوّز فى مفازة كرمان وخيل الشام تتبعه، ثمّ مضى حتّى خرج إلى زرنج [1] مدينة سجستان، وفيها رجل من بنى تميم كان
__________
[1] . زرنج: مدينة هي قصبة سجستان، وسجستان اسم الكورة كلّها (معجم البلدان) . اسم قديم لمدينة كانت(2/355)
استعمله عبد الرحمان عليها يقال له عبد الله بن عامر بن بنى مجاشع. فلمّا قدم عليه ابن الأشعث منهزما أغلق باب المدينة دونه، ومنعه دخولها. فأقام عبد الرحمان أيّاما رجاء افتتاحها ودخولها. فلمّا رأى أنه لا يصل إليها خرج حتّى أتى بست [1] ، فكان استعمل عليها رجلا يقال له: عياض بن هميان السدوسي، فاستقبله وقال له:
- «انزل.» [434]
ذكر طمع عياض فى ابن الأشعث
فجاء ابن الأشعث حتّى نزل به وانتظر حتّى غفل أصحاب عبد الرحمان، وتفرّقوا عنه وثب عليه، فأوثقه وأراد أن يأمن بها عند الحجّاج ويتخذ بها عنده مكانا، وقد كان رتبيل حين سمع بمقدم عبد الرحمان عليه استقبله فى جنوده، وجاء حتّى أحاط ببست، وبعث إلى البكرىّ، والله، لئن آذيته بما يقذى عينه أو ضررته ببعض المضرّة، أو رزأته حبلا من شعر، لا أبرح العرصة حتّى أستنزلك فأقتلك وجميع من معك، ثمّ أسبى ذراريّكم، وأقسّم بين الجند أموالكم، وأقتل من عاند [2] منكم.» فأرسل إليه البكري أن:
- «أعطنا أمانا على أنفسنا وأموالنا ونحن ندفعه إليك سالما وما كان له من مال موقّرا.»
__________
[ () ] مركز سجستان. وقد تبدّل هذا الإسم فى ما بعد إلى مدينة سجستان (شهر سيستان) والإسم الأخير كان عليها حتّى الأيام التي خربت المدينة فيها على يد تيمور. (لسترنج: 60- 359) .
[1] . بست: مدينة بين سجستان وغزنين وهراة وأظنّها من أعمال كابل (معجم البلدان) ، وتقع على ملتقى رافدى نهر هيرمند فى أفغانستان (فم) .
[2] . عاند: كذا فى الأصل وهو الصحيح. وما فى مط: عاد.(2/356)
فصالحه على ذلك وآمنهم. ففتحوا لابن الأشعث وخلّوا سبيله، فأتى رتبيل فقال له بعد ما أنس وتساءلا:
- «هذا الرجل كان عاملي على هذه المدينة، وركب منّى ما رأيت، فأذن لى فى قتله؟» قال:
- «آمنته وأكره الغدر به.» فقال:
- «فأذن لى فى لهزه ودفعه والتصغير [1] به.» [435] فقال:
- «أمّا هذا فنعم.» ففعل به عبد الرحمان، ثمّ مضى مع رتبيل حتّى دخل بلاده، فأنزله رتبيل وأكرمه وعظّمه وكان معه ناس من الفلّ كثير.
ذكر ما اغترّ به عبد الرحمان حتّى فارق رتبيل ثمّ اضطرّ إلى معاودته
كان جماعة من أصحاب عبد الرحمان وعظم فلوله ممّن لم يقبلوا أمان الحجّاج وناصبوه فى مواطنه لم يكن لهم عنده وجه، فاضطرّوا إلى الخروج فى إثر عبد الرحمان، فلم يزالوا يتساقطون إلى نواحي سجستان حتّى اجتمع منهم وممّن اتّبعهم من أهل البلد نحو من ستين ألفا. فنزلوا على عبد الله بن عامر، فحصروه وكتبوا إلى عبد الرحمان يخبرونه بعددهم وجماعتهم وهو عند رتبيل، وكان يصلّى بهم عبد الرحمان بن العبّاس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطّلب، وكتبوا إليه أن:
- «أقبل، لعلّنا نسير إلى خراسان، فإنّ بها منّا جندا عظيما، فلعلّهم يبايعوننا [2] على قتال أهل الشام وهي بلاد واسعة عريضة فيها حصون.»
__________
[1] . التصغير: كذا فى مط والطبري (8: 1103) . وما فى الأصل: التصعير (بالعين المهملة) .
[2] . يبايعوننا: ما فى الأصل ومط: يبايعونا، والمثبت يوافق الطبري.(2/357)
فخرج إليه عبد الرحمان بمن معه، فحصروا عبد الله بن عامر حتّى استنزلوه، فأمر به عبد الرحمان، فضرب وعذّب وحبس. ثمّ إنّه توجّه [436] إليهم خيل الشام، عليهم عمارة بن تميم اللخمىّ.
ذكر آراء أشير بها على ابن الأشعث ورأى رءاه وحده سديد لو ساعدوه عليه
أشار أصحاب عبد الرحمان عليه أن يخرج عن سجستان، وقالوا له:
- «هلمّ بنا، نأتى خراسان وندع لهم سجستان.» فقال عبد الرحمان:
- «على خراسان يزيد بن المهلّب وهو شابّ شجاع صارم وليس بتارك سلطانه، ولو قد دخلتموها وجدتموه سريعا إليكم، ولن يدع أهل الشام اتّباعكم، [1] فأكره أن يجتمع عليكم أهل خراسان وأهل الشام، وأخاف ألّا تنالوا ما تظنّون.» فقالوا:
- «إنّما أهل خراسان منّا، ونحن نرجو أن لو دخلناها أن يكون من يتّبعنا منهم أكثر ممّن يقاتلنا، وهي أرض طويلة عريضة نتنحّى [2] فيها حيث شئنا ونمكث حتّى يهلك الله الحجّاج أو عبد الملك، أو نرى رأينا.» فقال لهم عبد الرحمان:
- «سيروا على اسم الله.» فساروا حتّى بلغوا هراة. فلم يشعروا بشيء حتّى خرج من عسكره عبيد الله بن عبد الرحمان [437] بن سمرة بن جندب القرشىّ فى ألفين، ففارقه وأخذ طريقا سوى طريقهم.
__________
[1] . الضبط من الأصل، وهو يوافق الطبري (8: 1105) .
[2] . نتنحّى: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 1105) : ننتحى.(2/358)
فلمّا أصبح ابن الأشعث خطبهم، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال:
- «أمّا بعد، فإنّى قد شهدتكم فى هذه المواطن، وليس منها مشهد لا أصبر لكم فيه [1] نفسي حتّى لا يبقى فيه منكم أحد، وقد كنت لمّا رأيتكم لا تصبرون ولا تصدقون القتال، أتيت ملجأ ومأمنا فكنت فيه. فجاءتني كتبكم بأن: أقبل إلينا فإنّا قد اجتمعنا وأمرنا واحد، لعلّنا نقاتل عدوّنا. فأتيتكم، فرأيتم أن أمضى إلى خراسان وزعمتم أنّكم مجتمعون لى، وأنّكم لن تتفرّقوا عنّى، فحسبي منكم يومى هذا. قد صنع عبيد الله ما قد رأيتم، فاصنعوا أنتم أيضا ما بدا لكم. أما أنا فمنصرف إلى صاحبي الذي أتيتكم من قبله. فمن أحبّ منكم أن يتبعني فليتبعني، ومن كره ذلك فليذهب حيث أحبّ فى كنف الله.» فتفرّقت منهم طائفة ونزلت معه طائفة وبقي عظم العسكر. فوثبوا إلى عبد الرحمان بن عباس الهاشمىّ لما انصرف ابن الأشعث، فبايعوه ثمّ مضى عبد الرحمان بن الأشعث إلى رتبيل ومضوا هم إلى خراسان حتّى انتهوا إلى هراة، فلقيهم الرقاد بن عبيد العتكىّ، فقتلوه [438] وخرج إليهم يزيد بن المهلّب، وأرسل إليهم وإلى الهاشمىّ:
- «قد كان لك فى البلاد متّسع ومن هو أكلّ منّى حدّا وأهون شوكة، فارتحل إلى بلد ليس [لى] [2] فيه سلطان، فإنّى أكره قتالك. وإن أحببت أن أمدّك بمال لسفرك أعنتك عليه.» فأرسل إليه:
- «ما نزلنا هذه البلاد لمحاربة ولا انتقام، ولكنّا أردنا أن نريح ثمّ نشخص إن شاء الله، وليست بنا حاجة إلى ما عرضت.» فانصرف رسول يزيد إليه، وأقبل الهاشمىّ على الجباية وبلغ يزيد، فقال:
__________
[1] . فيه: كذا فى الطبري (8: 1105) ومط. وما فى الأصل: فيها. وهو سهو.
[2] . ما بين [] تكملة من الطبري (8: 1106) تطلّبه سياق العبارة، فأضفناه.(2/359)
- «من أراد أن يريح ثمّ يجتاز لم يجب الخراج.» فقدّم المفضّل فى خمسة آلاف ثمّ أتبعه فى أربعة آلاف.
ووزن يزيد نفسه بسلاحه، فكان أربعمائة رطل، فقال:
- «ما أرانى إلّا قد ثقلت عن الحرب. أىّ فرس يحملني!» ثمّ دعا بفرسه الكامل، فركبه حتّى أتى هراة، وأرسل إلى الهاشمىّ:
- «قد أرحت وأسمنت وجبيت، فلك ما جبيت، وإن أردت زيادة زدناك.
فاخرج، فو الله ما أريد أن أقاتلك.» فأبى إلّا القتال، ودسّ الهاشمىّ إلى جند يزيد يمنّيهم ويعدهم إلى نفسه. فأخبر بعضهم يزيد، فقال:
- «جلّ [439] الأمر عن العتاب. أتغدّى بهذا قبل أن يتعشّى بى.» فسار إليه حتّى تدانى العسكران وتأهّبوا للقتال، وألقى ليزيد كرسىّ، فقعد عليه، وولّى الحرب أخاه المفضّل، وقال له:
- «قدّم خيلك.» فتقدّم بها وتهايجوا، فلم يكن بينهم كبير قتال حتّى تفرّق الناس عن عبد الرحمان الهاشمىّ، وصبر وصبرت معه طائفة من أهل الحفاظ، فكثرهم الناس، فانكشفوا. فأمر يزيد بالكفّ عن اتّباعهم، وأخذوا ما كان فى عسكرهم، وأسروا منهم أسرى فيهم سعيد بن أبى وقّاص، وموسى بن عمر بن عبيد الله بن معمر، وعيّاش بن الأسود بن عوف الزهري، والهلقام بن نعيم [1] بن القعقاع بن معبد بن زرارة، ويزيد بن الحصين، وعبد الرحمان بن طلحة بن عبيد الله بن خلف، وعبد الله بن فضالة الزهراني. ولحق الهاشمي بالسند، وابن سمرة قصد مرو.
ثمّ انصرف يزيد إلى مرو، وبعث بالأسرى إلى الحجّاج مع ابن عمّ له، وخلّى عن
__________
[1] . فى مط: «الرهوى والهلف أم نعيم» بدل: «الزهري والهلفام بن نعيم» ، والتحريف غريب!(2/360)
ابن طلحة وعبد الله بن فضالة.
وسعى قوم عبيد الله بن عبد الرحمان بن سمرة، فأخذه يزيد، وحبسه. فأمّا محمد بن سعد بن أبى وقّاص، فيقال: إنّه قال ليزيد:
- «أسألك بدعوة أبى لأبيك.» ولقوله هذا حديث فيه طول. [440]
ذكر ما تقدّم به الأسرى عند الحجّاج
لمّا قدم الأسرى على الحجّاج، قدّم موسى بن عمر بن عبد الله بن معمر، فقال:
- «أنت صاحب عدىّ الرحمان.» فقال:
- «أصلح الله الأمير، كانت فتنة شملت البرّ والفاجر، فدخلنا فيها، وقد أمكنك الله منّا، فإن عفوت فبحلمك وبفضلك، وإن عاقبت، عاقبت ظلمة [1] مذنبين.» فقال الحجّاج:
- «أمّا قولك: شملت البرّ والفاجر فكذبت، ولكنّها شملت الفجّار وعوفي منها الأبرار، وأمّا اعترافك بذنبك فعسى أن ينفعك.» فعزل، ورجا له الناس العافية. حتّى قدّم الهلقام بن نعيم، فقال له الحجّاج:
- «أخبرنى عنك، ما رجوت اتّباع عبد الرحمان بن محمد، أرجوت أن يكون خليفة؟» قال:
- «نعم، رجوت ذلك وطمعت أن ينزلني منزلتك من عبد الملك.» فغضب الحجّاج، وقال:
- «اضربوا عنقه!» ونظر إلى موسى بن عمر بن عبد الله بن معمر وقد كان نحّى [2] عنه، فقال:
__________
[1] . فى مط: «وإن عاقبت فظلمة» بدل: «إن عاقبت، عاقبت ظلمة» .
[2] . نحىّ: كذا فى الأصل وهو الصحيح. وما فى مط: يحى. وهو خطأ.(2/361)
- «اضربوا عنقه!» وقتل، وقتل بقيّتهم.
كلام للشعبىّ لمّا حمل إلى الحجّاج
كان الحجّاج لمّا هزم الناس نادى مناديه:
- «من لحق بقتيبة بن مسلم بالرىّ فهو أمانه.» فلحق ناس كثير بقتيبة وفيهم عامر الشعبىّ. فذكره الحجّاج يوما وقال:
- «أين هو، [441] وما فعل؟» قال له يزيد بن أبى مسلم، وهو كاتب الحجّاج:
- «بلغني أيها الأمير أنّه لحق بقتيبة.» فكتب الحجّاج إلى قتيبة أن يبعث إليه بالشعبى حين ينظر فى كتابه. فسرّحه إليه.
قال الشعبي: كنت لابن أبى مسلم صديقا. فلمّا قدم بى على الحجّاج لقيته وقلت له:
- «أشر علىّ.» قال:
- «ما أدرى ما أشير به عليك، غير أن: اعتذر ما استطعت من عذر.» فلمّا دخلت سلّمت بالإمرة ثمّ قلت:
- «أيها الأمير إنّ الناس قد أمرونى أن أعتذر إليك بغير ما يعلم الله أنه الحق.
وأيم الله لا أقول فى هذا المقام إلّا حقا. قد والله سوّدنا عليك، وخرجنا واجتهدنا عليك كلّ الجهد فما ألونا [1] . فما كنّا بالفجرة الأقوياء، ولا بالبررة الأتقياء. ولقد نصرك الله علينا، وأظفرك بنا، فإن سطوت فبذنوبنا وما جرّت إلينا أيدينا، وإن
__________
[1] . ألونا: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 1112) : آلونا. وهو خطأ. وقوله: فما ألونا أى: فما قصرنا، وما أبطأنا. ومنه قولهم: لم نأل جهدا.(2/362)
عفوت عنّا فبحلمك. وبعد فالحجّة [1] لك علينا.» فقال له الحجّاج:
- «أنت والله أحبّ إلىّ ممّن يدخل علىّ يقطر سيفه من دمائنا ثمّ يقول: ما فعلت وما شهدت. قد أمنت عندنا يا شعبىّ.» قال: فانصرفت. فلما مشيت قليلا، قال:
- «هلّم يا شعبىّ!» [442] قال: فوجل لذلك قلبي، ثمّ ذكرت قوله: «قد أمنت» . فاطمأنّت نفسي. قال:
- «كيف وجدت الناس بعدنا يا شعبىّ؟» وكان لى مكرما. فقلت:
- «أصلح الله الأمير، اكتحلت والله بعدك السهر، واستوعرت الجناب واستحلست الخوف وفقدت صالح الإخوان، ولم أجد من الأمير خلفا.» قال:
- «انصرف يا شعبىّ.» فانصرفت.
فيروز يمنع الحجّاج أن ينال ماله
وقيل: إنّ الحجّاج لمّا أتى بالأسرى من عند يزيد بن المهلّب، قال لحاجبه:
- «إذا دعوت بسيّدهم فأتنى بفيروز فأبرزوا سريره.» وهو حينئذ بواسط القصب، قبل أن تبنى مدينة واسط. ثمّ قال لحاجبه:
- «جئني بسيّدهم.» فقال لفيروز:
- «قم!»
__________
[1] . فالحجّة: ما فى الأصل: الحجة. بدون الفاء. والفاء أضفناها من مط.(2/363)
فقال له الحجّاج:
- «أبا عثمان ما أخرجك [1] مع هؤلاء؟ فو الله ما لحمك من لحومهم، ولا دمك من دمائهم.» فقال:
- «فتنة عمّت الناس فكنّا فيها.» فقال:
- «أكتب لى أموالك.» قال:
- «ثمّ ماذا؟» قال:
- «أكتبها أوّل.» قال:
- «ثمّ أنا آمن على دمى؟» قال:
- «أكتبها، ثمّ أنظر.» قال:
- «أكتب يا غلام: ألف ألف [000، 000، 1] ، ألفى ألف [000، 000، 2] .» حتّى ذكر مالا عظيما. فقال الحجّاج:
- «أين هي، وعند من هذه الأموال؟» قال:
-[ «عندي.» قال:
- «فأدّها.» قال:
- «وأنا آمن على دمى؟» قال:
- «والله، لتؤدّينّها، ثمّ لأقتلنّك.» قال:] [2]- «لا والله لا، جمعت [3] مالي ودمى.» فقال الحجّاج للحاجب:
- «نحّه!»
__________
[1] . ما أخرجك مع هؤلاء: كذا فى الأصل. وما فى مط: ما أحوجك مع هؤلاء. وهو خطأ.
[2] . ما بين [] تكملة من الطبري (8: 1120) . والعبارة سقطت من الأصل ومط. وهي موجودة فى ابن الأثير (4: 487) . أيضا.
[3] . لا جمعت: كذا فى الأصل. وفى مط: لا اجتمعت. وهو خطأ. وما فى الطبري: لا تجمع.(2/364)
فنحّاه ثمّ أمر به فعذّب. وكان فى ما عذّب به أن كان يشدّ عليه [443] القصب الفارسىّ المشقّق، ثمّ يجرّ حتّى تحزّز [1] جسده، ثمّ ينضح عليه الخلّ والملح.
فلما أحسّ بالموت، قال لصاحب العذاب:
- «إنّ الناس لا يشكّون أنّى قتلت. ولى ودائع أموال عند الناس لا تؤدّى إليكم أبدا. فأظهرونى للناس ليعلموا أنّى حىّ فيؤدّوا المال.» فأعلم الحجّاج فقال:
- «أظهروه.» فأخرج، فصاح فى الناس:
- «من عرفني فقد عرفني، ومن أنكرنى فأنا فيروز الحصين [2] . إنّ لى عند أقوام مالا. فمن كان لى عنده شيء فهو له وهو فى حلّ فلا يؤدّينّ أحد منه درهما. ليبلغ الشاهد الغائب.» فأمر به الحجّاج فقتل.
ذكر خديعة للحجّاج ظنّ الناس بها أنّه آمنهم حتّى قتلهم
كان الحجّاج أمر مناديا فنادى عند الهزيمة يوم الزاوية:
- «ألا لا أمان لفلان ولا لفلان.» سمّى رجالا من الأشراف ولم يقل: الناس آمنون. فقال الناس:
__________
[1] . حتّى تحزّز: كذا فى الأصل. وفى مط: ثمّ يحرز. وفى الطبري (8: 1122) : حتّى يخرّق. وفى تعاليقه:
يحرز. وفى ابن الأثير (4: 489) : حتّى يجرح.
[2] . فى الأصل ومط: فيروز بن حصين. كتب فى هامش الأصل: «فيروز ليس ابن الحصين. وإنّما هو من أولاد أكابر العجم، أسلم طوعا على يدي الحصين العنبري، فولاؤه له، وهو يسمى: فيروز حصين، يعرف به.» وفى الطبري (8: 1122) وابن الأثير 4: 489: «فيروز حصين» بدل «فيروز بن حصين» ، ولذلك حذفنا «بن» .(2/365)
- «قد آمن الناس كلّهم إلّا هؤلاء النفر.» فأقبلوا إلى حجرته. فلما اجتمعوا أمرهم بوضع أسلحتهم، ثمّ قال:
- «لآمرنّ بكم اليوم رجلا ليس بينه وبينكم قرابة.» فأمر بهم عمارة بن تميم اللخمىّ، ففرّقهم وقتلهم.
فروى النضر بن شميل عن هشام بن حسّان أنّه قال يوما: قتل [444] الحجّاج صبرا مائة ألف وعشرين ألفا، أو مائة ألف وثلاثين ألفا، منهم يوم الزاوية أحد عشر ألفا، ما استبقى منهم إلّا رجلا واحدا كان ابنه فى الكتّاب [1] مع ابن الحجّاج، فدعا الصبىّ وقال:
- «أهبه لك» ، قال:
- «نعم.» فخلّى سبيله.
ذكر هلاك عبد الرحمان بن الأشعث ورأى لبعض أصحابه صحيح
كان مع عبد الرحمان بن الأشعث لمّا انصرف من هراة راجعا إلى رتبيل، رجل من أود يقال له: علقمة بن عمرو. فقال له:
- «إنّى ما أريد أن أدخل معك.» قال له عبد الرحمان:
- «ولم؟» قال:
- «لأنّى أتخوف عليك وعلى من معك.» قال:
- «وكيف؟» قال:
- «والله لكأنّى بكتاب من الحجّاج قد جاء فوقع إلى رتبيل يرغبه ويرهبه، فإذا
__________
[1] . الكتّاب: سقطت من مط، وهي موجودة فى الأصل.(2/366)
هو قد بعث بك سلما [1] أو قتلك ومن معك. ولكن هاهنا خمسمائة رجل قد تبايعنا على أن ندخل مدينة فنتحصّن [2] فيها ونقاتل حتّى نعطى أمانا، أو نموت كراما.» فقال عبد الرحمان:
- «كلّا، فادخل معى، فإنّى أواسيك وأكرمك.» فأبى عليه. ودخل عبد الرحمان إلى رتبيل وخرج هؤلاء الخمسمائة. فبعثوا عليهم مودودا [3] البصرىّ. فأقاموا [445] حتّى قدم عليهم عمارة بن تميم اللخمىّ، فحاصرهم، فقاتلوه، وامتنعوا منه حتّى آمنهم. فخرجوا إليه، فوفى لهم.
وتتابعت كتب الحجّاج إلى رتبيل فى عبد الرحمان أن:
- «ابعث به إلىّ، فو الله لأوطينّ أرضك ألف ألف مقاتل.» وكان عمارة قد انتهى إلى سجستان فى ثلاثين ألفا، وكان عند رتبيل رجل من تميم من بنى يربوع يقال له: عبيد بن أبى سبيع، وكان مع ابن الأشعث، فخصّ برتبيل، وكان قديما رسول ابن الأشعث فخفّ عليه. فلمّا رأى رتبيل لا يسلم ابن الأشعث خلا به وخوّفه الحجّاج، وقال:
- «أنا آخذ لك من الحجّاج عقدا ليكفّنّ الحجّاج عن أرضك سبع سنين على أن تدفع إليه ابن الأشعث.» فقال رتبيل:
- «فإنّى أفعل.» فكاتب الحجّاج وأعلمه أنّ رتبيل لا يعصيه وأنّه يتوصّل له إلى أخذ ابن الأشعث، وأخذ من الحجّاج مالا، وخرج إلى عمارة بن تميم، فاستجعل منه ألف
__________
[1] . ضبط الأصل: سلما (بكسر السين) وأما عند ابن الأثير (4: 501) سلما (بالفتح) .
[2] . فنتحصّن فيها: كذا فى الأصل والطبري (8: 1133) وهو الصحيح. وما فى مط: فشخص فيها.
[3] . مودودا البصرىّ: كذا فى الأصل ومط وابن الأثير (4: 501) وما فى الطبري (8: 1133) : مودودا النضري.(2/367)
ألف [000، 000، 1] درهم، وأخذ من رتبيل [1] أيضا مالا، واشترط لرتبيل ألّا يغزى بلاده عشر سنين، وأن يؤدّى بعد العشر سنين فى كلّ سنة تسعمائة [446] ألف درهم. فأعطى هو وابن أبى سبيع، وأرسل رتبيل إلى ابن الأشعث، فأحضره وثلاثين من أهل بيته وقد أعدّ لهم الجوامع والقيود، فألقى فى عنقه جامعة، وفى عنق أخيه القاسم بن محمد بن الأشعث جامعة، وأرسل بهم إلى أدنى مسلحة عمارة منه. وقال لجماعة من كان مع ابن الأشعث:
- «تفرّقوا إلى حيث شئتم.» ولمّا قرب ابن الأشعث من عمارة، ألقى نفسه من فوق قصر، فمات واحتزّ رأسه، فأتى به وبالأسرى عمارة فضرب أعناقهم، وأرسل برأس الأشعث وبرؤوس أهله إلى الحجّاج، فأرسل به الحجّاج إلى عبد الملك، فأرسل به عبد الملك إلى أخيه عبد العزيز وهو يومئذ على مصر.
فحكى ابن عائشة: انّه لمّا أتى عبد الملك برأس ابن الأشعث، أرسل به مع خصىّ له إلى امرأة من بنات عمر بن الأشعث كانت تحت رجل من قريش. فلمّا وضع بين يديها نهضت إليه وقالت:
- «مرحبا برأس [2] لا يتكلّم، ملك ابن ملوك [3] ، طلب ما هو أهله، فأبت المقادير.» فذهب الخصىّ ليأخذ الرأس واجتذبته من يده وقالت:
- «لا والله حتّى أبلغ حاجتي منه.» ثمّ دعت بخطمىّ [447] فغسلته وغلّفته، ثمّ قالت:
__________
[1] . رتبيل: كذا فى الأصل والطبري وابن الأثير فى جميع المواطن. وما فى مط: «زنبيل» فى المواطن كلها.
وهو تصحيف.
[2] . برأس لا يتكلّم: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (1168) : بزائر لا يتكلّم.
[3] . فى الأصل ومط: ملك ابن ملوك. فى الطبري: ملك من الملوك.(2/368)
- «شأنك به الآن.» فأخذه. ثمّ أخبر عبد الملك، فلما دخل عليه زوجها قال له:
- «إن استطعت أن تصيب منها سحلة [1] .»
ذكر سبب عزل يزيد بن المهلّب عن خراسان
كان الحجّاج يهاب ناحية يزيد بن المهلّب بعد فراغه من عبد الرحمان بن محمد ويعرف منزلته من عبد الملك فيخشاه على موضعه وقد كان أذلّ أهل العراق كلّهم، إلّا آل المهلّب، فأكثر على عبد الملك فى شأن يزيد بن المهلّب، وخوّفه غدره وعيّره، فإنّه وأهل بيته زبيريّون.
فكتب إليه عبد الملك:
- «قد أكثرت فى معنى يزيد، وإنّ الذي دعا آل المهلّب إلى الوفاء لابن الزبير هو الذي يدعوهم إلى الوفاء لى.» وبلغ يزيد بن المهلّب ما يريد الحجّاج. فكان يكثر الغزوات ويعتلّ على الحجّاج إذا استقدمه أنّه بإزاء عدوّ وحروب. إلى أن أذن عبد الملك فى عزل يزيد وتقليد قتيبة بن مسلم خراسان.
فكتب الحجّاج إلى يزيد بن المهلّب أن:
- «استخلف أخاك المفضّل.» وكتب إلى المفضّل بولاية خراسان. فجعل المفضّل [448] يستحثّ يزيد. فقال له يوما يزيد:
- «يا أخى، إنّ الحجّاج لا يقرّك بعدي، وإنما دعاه [إلى] [2] ما صنع مخافة أن
__________
[1] . سحلة: كذا فى الأصل ومط. السحل: الثوب الأبيض الرقيق. أو: ثوب لا يبرم غزله. وفى الطبري:
سخلة (بالخاء المعجمة) . والسخلة: الذكر والأنثى من ولد الضّأن والمعز ساعة يولد.
[2] . إلى: سقطت من الأصل ومط. فأخذناها عن الطبري (8: 1141) .(2/369)
أمتنع عليه.» قال:
- «بل حسدتني.» قال يزيد:
- «أنا أحسدك يا بن بهلة [1] ؟ ستعلم.» وقد كان يزيد قال لنصحائه:
- «من ترون الحجّاج يولّى خراسان؟» قالوا:
- «رجلا من ثقيف.» قال:
- «كلّا، ولكنّه يكتب إلى رجل منكم بعهده. فإذا قدمت عليه عزله، فولّى رجلا من قيس، وأخلق بقتيبة.» قال: فلمّا قال له أخوه ما قال وولّاه الحجّاج بعد يزيد تيقّن يزيد ما كان يظنّه قبل ذلك. فاستشار الحصين [2] بن المنذر، فقال له:
- «أقم واعتلّ، فإنّ أمير المؤمنين حسن الرأى فيك، وإنّما أتيت من قبل الحجّاج، فإن أقمت رجوت أن يكتب إليه بإقرارك.» قال يزيد:
- «إنّا أهل بيت بورك لنا [3] فى الطاعة، وأنا أكره المعصية والخلاف.» فقال الحصين بن المنذر:
أمرتك أمرا حازما فعصيتني ... فأصبحت مسلوب الإمارة نادما
فما أنا بالباكى عليك صبابة ... وما أنا بالدّاعى لترجع سالما
__________
[1] . بهلة: كذا فى الأصل ومط. وفى الطبري بصورتين: بهلة (فى النثر) وبهلّة (فى النظم) وفى بعض الأصول: بهلّة.
[2] . الحصين (بالصاد المهملة) كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري وابن الأثير: الحضين (بالضاد المعجمة) .
[3] . بورك لنا: العبارة سقطت من مط. وتجدها عند الطبري (8: 1141) أيضا.(2/370)
فلمّا قدم قتيبة خراسان، قال لحصين:
- «كيف قلت ليزيد؟» قال: قلت له: [449]
أمرتك أمرا حازما فعصيتني ... فنفسك ولّ اللّوم إن كنت لائما
فإن يبلغ الحجّاج أن قد عصيته ... فإنّك تلقى أمره متفاقما
قال:
- «فماذا أمرته فعصاك؟» قال:
- «أمرته ألّا يدع صفراء ولا بيضاء إلّا حملها إلى الأمير.» فقال رجل لعباط [1] بن الحصين:
- «أمّا أبوك فوجده قتيبة حين فرّه [2] قارحا بقوله: أمرته ألّا يدع صفراء ولا بيضاء إلّا حملها إلى الأمير.» فكان عزل يزيد عن خراسان وخروج قتيبة إليها فى سنة خمس وثمانين، وذلك أنّه لمّا حصل يزيد عند الحجّاج عزل المفضّل وولّى قتيبة.
وفى هذه السنة قتل موسى بن عبد الله بن خازم بالتّرمذ ذكر السبب فى ذلك
كنّا ذكرنا ما كان من عبد الله بن خازم من قبل مع بنى تميم. فتفرّق عنه عظم من كان معه منهم، فخرج إلى نيسابور، وخاف بنى تميم على ثقله بمرو، فقال
__________
[1] . لعباط: ما فى الأصل بدون نقط ونقطة الباء من مط. وفى الطبري (8: 1142) : عياض، بدل: عباط.
[2] . فرّه قارحا: كذا فى الأصل والطبري. وما فى مط: فره وارجا.(2/371)
لابنه موسى:
- «حوّل ثقلي من مرو، واقطع نهر بلخ حتّى تلجأ إلى حصن تثق به فتقيم فيه.» فشخص موسى فى مائتين وعشرين فارسا من الصعاليك، فصار فى أربعمائة [450] وانضمّ إليه رجال من بنى سليم، فقطع النهر وأتى بخارى [1] فسأل صاحبها أن يلجأ إليه فأبى وخافه وقال:
- «رجل فاتك وأصحابه مثله طالبو [2] حرب وشرّ، ولا آمنهم.» فبعث إليهم بصلة من عين ودوابّ وكسوة، فنزل على عظيم من عظماء بخارى فى نوقان [3] ، فقال له الرجل:
- «إنّه لا خير لك فى المقام وهم لا يأمنونك.» فخرج يلتمس ملكا يلجأ إليه أو حصنا. فلم يأت بلدا إلّا كرهوا مقامه فيهم، وسألوه أن يخرج عنهم حتّى أتى سمرقند وصاحبها طرخون. فأنزله وأكرمه.
فجرى بينهما ما استوحش منه طرخون، فقال له:
- «لولا أنّى أعطيتكم الأمان لقتلتكم، فاخرجوا عن بلدي.» ووصله وأخرجه. فخرج موسى وأتى كسّ. فكتب صاحب كسّ إلى طرخون يستنصره. فأتاه فخرج إليه موسى فى سبعمائة، فقاتلهم حتّى أمسوا وتحاجزوا وبأصحاب موسى جراح كثير.
فلمّا أصبحوا أمرهم موسى فحلقوا رؤوسهم كما تصنع الخوارج، وقطعوا
__________
[1] . بخارى: فى الأصل: بخارا. خلافا للمواطن الأخرى فى الأصل. فوحّدنا الضبط وكتبناها بالياء كما هو فى كلّ المواطن فى هذا النصّ.
[2] . طالبو حرب: كذا فى مط وهو أصحّ. وفى الأصل: طالبي حرب (بتقدير «يكونون» ؟) وما فى الطبري (1146) : أصحاب حرب.
[3] . نوقان: لا نقطة على النون الأولى فى الأصل ومط. وهي من الطبري (8: 1146) . وفى حواشيه عن بعض الأصول: بوقان، موقان.(2/372)
صفنات [1] أقبيتهم كما تصنع العجم إذا استماتوا، ودسّ إلى طرخون زرعة بن علقمة، فقال:
- «إنّ القوم مستقبلون، فما حاجتك إلى أن تقتل من لا تصل إليه حتّى يقتل من أصحابك عدّتهم، ولو قتلته وإيّاهم جميعا [451] ما نلت حظّا، لأنّ له قدرا فى العرب، فلا يلي أحد خراسان إلّا طالبك بدمه، فإن سلمت من واحد لا تسلم من آخر.» قال:
- «ليس إلى ترك كسّ عليه سبيل.» قال:
- «فكفّ عنه حتّى يرتحل.» فكفّ عنه. وأتى موسى الترمذ وبها حصن يشرف على النهر. فنزل موسى على بعض الدهاقين خارجا من الحصن، والدهقان مجانب لترمذ شاه. فقال لموسى:
- «إنّ صاحب الترمذ متكرّم شديد الحياء، فإن ألطفته وهاديته أدخلك حصنه.» فأهدى له وألطفه موسى حتّى لطف الذي بينهما. وخرج فتصيّد معه وكثر ألطاف موسى له. فصنع يوما صاحب الترمذ طعاما، وأرسل إليه:
- «إنّى أحبّ أن أكرمك، فتغدّ عندي، وائتني فى مائة من أصحابك.» فانتخب موسى مائة من أصحابه، فدخلوا على خيولهم، فقيل لهم:
- «انزلوا.» فنزلوا، وأدخلوا بيتا خمسين فى خمسين، وغدّوهم. فلمّا فرغوا من الغداء
__________
[1] . صفنات أقبيتهم: كذا فى الأصل ومط. وفى الطبري (8: 1147) : صفنات أخبيتهم. الصّفنة والصّفن:
السّفرة تجمع بالخيط كالعيبة يكون فيها متاع الرجل وأداته. خريطة للراعي يكون فيها زاده وزناده وما يحتاج إليه كالسفرة من أدم لأهل البادية يجعلون فيها زادهم، وربما استقوا بها الماء كالدلو. والأخبية:
جمع مفرده الخباء: ما يعمل من وبر أو صوف أو شعر للسّكن.(2/373)
اضطجع موسى. فقالوا له:
- «اخرج.» قال:
- «لا أصيب منزلا مثل هذا. فلست بخارج منه حتّى يكون بيتي أو قبرى.» وقاتلوهم فى المدينة. فقتل خلق من أهلها وهرب الآخرون. فدخلوا منازلهم وغلب موسى على المدينة [452] وقال لترمذشاه:
- «اخرج، فإنّى لست أعرض لك ولا لأحد من أصحابك.» فخرج الملك وأهل المدينة، فأمّوا الترك يستنصرونهم. فقالوا:
- «دخل عليكم مائة رجل فأخرجوكم عن بلادكم، وقد قاتلناهم بكسّ، فعرفناهم، فنحن لا نقاتل هؤلاء.» وأقام ابن خازم بالترمذ، ودخل إليه أصحابه، وكانوا سبعمائة. فلمّا قتل أبوه انضمّ إليه من أصحاب أبيه أربعمائة فارس، فقوى، فكان يخرج ويغير على من حوله. فراسله الترك بقوم ليعلموا ما الذي يريد، ويتقرّر أمورهم على صلح، ويكفّوا [1] عن الغارة.
فلمّا قدموا قال موسى لأصحابه:
- «إنّ هؤلاء يسمّونكم جنّا [2] وأريد أن أكيدهم بمكيدة، وذلك فى أشدّ ما يكون من زمان الحرّ.»
ذكر مكيدة ضعيفة تمّت على قوم أغتام
ثمّ أمر موسى بنار، فأجّجت، وألبس أصحابه ثياب الشتاء، ولبسوا فوقها لبودا، ومدّوا أيديهم إلى النار كأنّهم يصطلون، وأذن موسى للترك، فدخلوا. فلمّا رأوهم على تلك الحال فزعوا وقالوا:
__________
[1] . يتقرّر ... ويكفّوا..: عطف على مجرور اللّام فى «ليعلموا» بتقدير «أن» أى: ليتقرّر، وليكفّوا.
[2] . جنّا: كذا فى الأصل. وما فى مط «حيا» وهو خطأ.(2/374)
- «ما هذا، ولم صنعتم ما نرى؟» قالوا:
- «إنّا نجد البرد فى هذا الوقت [453] ونجد الحرّ فى الشتاء.» فلمّا رجعوا أخبروا أصحابهم، فقالوا:
- «هذا صنيع الجنّ، ولا خير فى قتال هؤلاء، والرأى مقاربتهم.» ولمّا ولى بكير بن وساج خراسان لم يعرض له ولم يوجّه إليه أحدا.
ثمّ قدم أميّة، فسار بنفسه يريده. فخالفه بكير وخلع ورجع إلى مرو، كما حكينا فى ما تقدّم. فلمّا صالح أميّة بكيرا وحال الحول، وجّه إلى موسى رجلا من خزاعة فى جمع كثير. فعاد أهل الترمذ [1] إلى الترك، فاستنصرهم، وقالوا:
- «نجتمع عليهم مع من غزاهم منهم فنظفر بهم.» فسارت الترك مع أهل الترمذ فى جمع كثير، فأطاف بموسى الترك والخزاعىّ.
فكان يقاتل الخزاعىّ أوّل النهار والترك آخره. فقاتلهم ثلاثة أشهر على ذلك.
ثمّ قال موسى لعمرو بن خالد بن حصن الكلبي، وكان فارسا:
- «قد طال أمرنا هؤلاء، وقد أجمعت أن أبيّت عسكر الخزاعىّ، فإنّهم للبيات آمنون، فما ترى؟» قال:
- «البيات نعمّا هو، فليكن ذلك بالعجم، فإنّ العرب أشدّ حذرا وأسرع فزعا وأجرأ [2] على الليل من العجم.» فعمل موسى على بيات الترك. فلمّا ذهب الليل ثلثه خرج فى أربعمائة، وقال لعمرو بن خالد:
- «اخرجوا بعدنا وكونوا قريبا، فإذا سمعتم التكبير [454] فكبّروا.» وأخذ على شاطئ النهر حتّى ارتفع فوق العسكر. ثمّ أخذ من ناحية كفنان [3] .
__________
[1] . الترمذ (بالذال المعجمة) : كذا فى الأصل فى جميع المواطن، وما فى مط: الترمد (بالدال المهملة) .
[2] . أجرأ: كذا فى الأصل. وما فى مط: اجراء. وهو خطأ.
[3] . كفنان: كذا فى الأصل. فى مط: كنعان! وما فى الطبري (8: 1150) : كفتان، وفى حواشيه عن الأصول:
كفنان، كفتان، كفيان.(2/375)
فلمّا قرب من عسكرهم جعل أصحابه أرباعا. ثمّ قال:
- «أطيفوا بعسكرهم، فإذا سمعتم تكبيرنا فكبّروا.» وأقبل وقدّم حمرا بين يديه ومشوا خلفه. فلمّا رءاهم أصحاب الأرصاد قالوا:
- «من أنتم؟» قالوا:
- «عابروا سبيل.» فقال لهم صاحب الرصد:
- «جوزوا.» فلمّا جازوا الرصد تفرّقوا وأطافوا بالعسكر وكبّروا، فلم يشعر الترك إلّا بوقع السيوف. فثاروا، وأقبل بعضهم يقتل بعضا. ثمّ ولّوا وحووا عسكرهم وأصابوا سلاحا ومالا، وأصبح الخزاعىّ [1] وأصحابه وقد كسرهم ذلك وخافوا مثلها من البيات، فتحرّزوا.
ذكر مكيدة لعمرو بن خالد
فقال عمرو بن خالد لموسى:
- «إنّك لا تظفر إلّا بمكيدة، وأرى لهم أمدادا فهم يكثرون. فتناولني بضرب فلعلّى أصيب من صاحبهم فرصة فأقتله ويتفرّق عنك هؤلاء الجمع.» فقال له:
- «تتعجّل الضرب، ثمّ تتعرض للقتل.» قال:
- «أمّا القتل فأنا متعرّض له فى كلّ يوم، وأمّا الضرب فما أيسره فى جنب ما أريد.» فتناوله بالضرب، ضربه [455] خمسين سوطا، فخرج من عسكره موسى،
__________
[1] . الخزاعي: كذا فى الأصل وما فى مط: الحراحى. وهو خطأ.(2/376)
فأتى عسكر الخزاعىّ مستأمنا، وقال:
- «أنا رجل من أهل اليمن، كنت مع عبد الله بن خازم. فلمّا قتل أتيت ابنه، فلم أزل معه. فلمّا قدمت اتّهمنى وتنكّر لى، ثمّ تغضّب علىّ وقال: أنت عين له، فضربني ولم آمن القتل وقلت: ليس بعد الضرب إلّا القتل، فهربت منه.» فآمنه الخزاعىّ، وأقام معه إلى أن دخل يوما وهو خال، ولم ير عنده سلاحا، فقال له كأنّه يتنصّح له:
- «إنّ مثلك فى مثل حالك لا ينبغي أن يكون فى حال من أحواله بغير سلاح.» فقال:
- «إنّ معى سلاحا.» ورفع صدر فراشه، وإذا سيف منتضى. فتناوله عمرو فضربه به حتّى قتله.
وخرج فركب فرسه ونذر به الناس وقد أمعن. فطلبوه، ففاتهم ورجع إلى موسى، وتفرّق ذلك الجيش وأتى بعضهم موسى مستأمنا، فآمنه.
ولم يوجّه إليه أميّة أحدا إلى أن قدم المهلّب، فلم يعرض له ووصّى بنيه، فقال:
- «إيّاكم وموسى، فإنّكم لا تزالون ولاة هذا الثغر ما أقام هذا الرجل بمكانه، فإنّ قتل كان أوّل طالع عليكم أميرا على خراسان رجل من قيس.» فمات المهلّب، وولّى [456] يزيد فلم يعرض له.
وكان المهلّب ضرب حريث بن قطبة الخزاعىّ، فخرج هو وأخوه ثابت إلى موسى. فلمّا ولى يزيد بن المهلّب أخذ أموالهما وحرمهما، وقتل أخا لأمّهما يقال له الحارث بن منقذ. فبلغهما صنيع يزيد، وكان ثابت محبّبا فى العجم بعيد الصوت فيهم يعظّمونه ويثقون به، حتّى إنّهم كانوا يحلفون بحياته فلا يكذبون.
فخرج ثابت إلى طرخون، فشكا إليه ما صنع به، فغضب له طرخون، وجمع له(2/377)
نيزك [1] والسّيل [2] وأهل بخارى والصغانيان، فقدموا مع ثابت إلى موسى بن عبد الله وقد سقط إلى موسى فلّ عبد الرحمان بن عباس القرشي من هراة وفلّ ابن الأشعث من العراق وغيرهم.
فاجتمع إلى موسى ثمانية آلاف من تميم وقيس وربيعة واليمن. فقال له ثابت:
- «سر حتّى تقطع النهر، فتخرج يزيد بن المهلّب من خراسان ونولّيك، فإنّ طرخون ونيزك والسيل وأهل بخارى معنا.» فهمّ أن يفعل، فقال له نصحاؤه:
- «إنّ ثابتا وأخاه خائفان من يزيد، وإن أخرجت يزيد عن خراسان تولّيا الأمر وغلباك على خراسان، فأقم بمكانك.» فقبل رأيهم، وأقام بالترمذ وقال لثابت:
- «إن أخرجنا يزيد قدم عامل عبد الملك [457] ولكنّا نخرج عمّال يزيد من وراء النهر ما يلينا، ونحصّل لنا ما وراء النهر [3] فنأكلها.» ورضى ثابت، وأخرج عمّال يزيد من وراء النهر، وحملت إليهم الأموال، فقوى أمرهم.
وانصرف طرخون ونيزك والسيل وأهل بخارى إلى بلادهم وتدبير الأمر كلّه لثابت وحريث، والأمير موسى ليس له غير الإسم. فألحّ أصحاب موسى عليه فى الفتك بثابت وحريث، فأبى وقال:
- «ما كنت لأغدر بهم.» فبيناهم على ذلك إذ أخرجت عليهم الهياطلة والتبّت والترك فى سبعين ألفا لا
__________
[1] . نيزك: كذا فى الأصل والطبري (8: 1152) . وما فى مط: نيزل (بدون نقطتي الياء) .
[2] . والسّيل: كذا فى الأصل. وما فى مط: السبيل. وفى الطبري: السبل. والسبيل: موضع فى بلاد الرباب قرب اليمامة (ياقوت) .
[3] . وزاد فى مط: «وحملت إليهم» .(2/378)
يعدّون الحاسر ولا صاحب بيضة جمّاء إلّا أن تكون البيضة ذات قونس [1] .
فخرج موسى لقتالهم إلى ربض المدينة، ووقف ملك الترك على تلّ فى مائة ألف.
فقال موسى لأصحابه:
- «إن أزلتم هؤلاء، فليس الباقون بشيء.» فقصد لهم حريث، وألحّ عليهم حتّى أزالهم عن التلّ، ورمى حريث فى جبهته بنشّابة. ثمّ بيّتهم موسى، وحمل أخوه خازم بن عبد الله بن خازم حتّى وصل إلى شمعة [2] ملكهم، فقتله وقتل العجم قتلا ذريعا، ونجا من نجا منهم بشرّ. ومات حريث بعد يومين، وحملوا الرؤوس إلى الترمذ، فبنوا من تلك [458] الرؤوس جوسقين [3] .
فقال أصحاب موسى:
- «وقد كفيت أمر حريث، فأرحنا من أمر ثابت.» فأتى وبلغ ثابتا بعض ما يخوضون فيه، فدسّ غلاما كان فى خدمة موسى وأعطاه مالا وقال له:
- «إيّاك أن تتكلّم بالعربيّة، وإن سألوك: من أنت؟ فقل: من سبى باميان [4] .» فكان الغلام ينقل إلى ثابت خبرهم إلى أن واقفوا [5] يوما موسى على الفتك بثابت. فقال موسى:
- «قد أكثرتم، وفيه هلاككم، فعلى أىّ وجه تفتكون به وأنا لا أغدر به؟» فقال نوح بن عبد الله بن خازم:
__________
[1] . القونس والقونوس: أعلى بيضة الحديد. أعلى الرأس.
[2] . شمعة: كذا فى الأصل ومط والطبري (8: 1154) . وفى حواشي الطبري عن بعض الأصول: سمعة (بالسين المهملة) .
[3] . جوسق: معرّب أصله الفارسي: كوشك:Kushk البناء العالي. القصر.
[4] . باميان: كذا فى الأصل والطبري (8: 1155) وما فى مط: باسيان.
[5] . واقفوا: كذا فى الأصل. وما فى مط: وافقوا. واقفه على كذا: سأله الوقوف والثبات عليه.(2/379)
- «إذا غدا إليك غدوة عدلنا به إلى بعض الدور فضربنا عنقه فيها قبل أن يصل إليك.» فقال:
- «أما والله، إنّه لهلاككم.» فخرج الغلام، فأعلمه، فخرج من تحت ليلته، وأصبحوا وقد ذهب وفقد الغلام.
فعلموا أنّه كان عينا له عليهم، وخرج إلى ثابت قوم، فقصد خشوان [1] . فقال موسى:
- «قد فتحتم على أنفسكم بابا فسدّوه.» وسار إليه موسى، وراسل ثابت طرخون، فأقبل معينا له، وبلغ موسى مجيء طرخون، فرجع إلى الترمذ، وصار ثابت فى ثمانين ألفا، فحصروا موسى وقطعوا عنه المادة [459] حتّى جهدوا. فلما اشتدّ عليهم الحصار، قال يزيد بن هذيل:
- «إنّما مقام هؤلاء مع ثابت، والله أفتكنّ بثابت، أو لأموتنّ، فالقتل أحسن من الموت جوعا.» فخرج إلى ثابت مستأمنا، فقال ظهير لثابت:
- «أنا أعرف بهذا منك، والله ما أتاك رغبة فيك، ولا جزعا منك، ولقد جاءك بغدرة، فخلّنى وإيّاه.» فقال:
- «ما كنت لأقدم على رجل أتانى لا أدرى أكذلك هو أم لا.» قال:
- «فدعني أرتهن منه رهنا.» قال:
- «أمّا هذا فنعم.» فقال ثابت ليزيد بن هذيل:
- «أمّا أنا فواثق بك وابن عمّك أعلم بك منّى، فانظر ما يقول لك.» فقال يزيد لظهير:
__________
[1] . خشوان: كذا فى الأصل. وما فى مط: خوان. والعبارة فى الطبري: ولحق ثابت إلى بخشورا فنزل المدينة وخرج إليه قوم كثير من العرب والعجم. فقال موسى لأصحابه: قد فتحتم على أنفسكم.(2/380)
- «أبيت يا با سعيد إلّا حسدا. ما يكفيك ما ترى من الذلّ، تشرّدت عن العراق عن أهلى، وصرت بخراسان على ما ترى، أما يعطفك الرحم؟» فقال له ظهير:
- «أما والله، لو تركت ورأيى فيك لما كان هذا، ولكن أرهنّا [1] ابنيك قدامة والضحّاك.» فدفعهما، فكانا فى يدي ظهير. فأقام يزيد يلتمس غرّة ثابت، فلا يجدها حتّى مات ابن لزياد القصير الخزاعي، أتاه نعيه من مرو. فخرج ثابت متفضّلا إلى زياد ليعزّيه ومعه ظهير وطائفة من أصحابه [460] وفيهم يزيد بن هذيل وقد تقدّم ظهير فى أصحابه، فدنا من ثابت وضربه، فعضّ السيف برأسه، فوصل إلى الدماغ، ورمى يزيد بنفسه فى نهر الصغانيان، فنجا سباحة، وحمل ثابت إلى منزله.
فلمّا أصبح طرخون أرسل إلى ظهير:
- «ائتني بابني يزيد.» فأتاه بهما فقتلهما. وكان يزيد بن هذيل سخيّا شجاعا شاعرا، وعاش ثابت سبعة أيّام، ثمّ مات، وقام بأمر العجم طرخون، وقام ظهير بأمر أصحاب ثابت قياما ضعيفا وانتشر أمرهم، وأجمع موسى على بياتهم. فجاء رجل فأخبر طرخون، فضحك وقال:
- «موسى يعجز أن يدخل متوضّأه، فكيف يبيّتنا، لقد طار قلبك، لا يحرسنّ الليلة أحد العسكر.» فلمّا ذهب من الليل ثلثه خرج موسى فى ثلاثمائة، وأخوه فى ثلاثمائة، ويزيد بن هذيل فى ثلاثمائة، ورقبة بن الحرّ فى ثلاثمائة، وقال لهم:
- «تفرّقوا أرباعا حتّى تدخلوا عسكرهم من أربع نواحي، ولا يمرّ أحد منكم
__________
[1] . أرهنّا: كذا فى الأصل والطبري (8: 1158) . وما فى مط: أرهن.(2/381)
بشيء إلّا ضربه.» فدخلوا عسكرهم من النواحي لا يمرّون بدابّة ولا رجل ولا خباء، ولا جوالق إلّا ضربوه، وهجم نوح بن عبد الله بن [461] خازم على سرادق طرخون.
فبرز إليه فتجاولا، وطعن طرخون فرس نوح فى خاصرته فشبّ ودلّى بنوح حتّى سقط فى نهر الصغانيان، وراسل طرخون موسى:
- «كفّ أصحابك، فإنّا نرتحل إذا أصبحنا.» فرجع موسى إلى عسكره، وارتحل طرخون وجميع من معه، فأتى كلّ قوم بلادهم.
فكان أهل خراسان يقولون:
- «ما رأينا قطّ مثل موسى بن عبد الله بن خازم، ولا سمعنا به، قاتل مع أبيه سنتين، ثمّ خرج يسير فى بلاد خراسان، حتّى أتى ملكا، فغلبه على مدينته، ثمّ سار إليه الجنود من العرب والعجم والترك.» فكان يقاتل العرب [1] فى أول النهار والعجم آخر النهار، وأقام فى حصنه خمس عشرة سنة، وصار ما وراء النهر لموسى لا يعازّه فيه أحد.
فلمّا ولى المفضّل خراسان أخرج عثمان بن مسعود من الحبس، وقال:
- «إنّى أريد أن أوجّهك إلى موسى بن عبد الله.» قال:
- «والله، لقد وترني [2] ، وإنّى لثائر بابن عمّى ثابت وما يد أبيك وأخيك عندي وعند أهل بيتي بالحسنة، لقد حبستمونى، وشرّدتم بنى عمّى، واصطفيتم أموالهم.» فقال له المفضّل:
- «دع عنك هذا، وسر، فأدرك بثأرك.»
__________
[1] . العرب: كذا فى الأصل. وما فى مط: العراب. والعراب من الخيل والإبل: كرائم سالمة من الهجنة.
[2] . لقد وترني: كذا فى الأصل والطبري (8: 1161) . وما فى مط: لقد ترى. وهو خطأ.(2/382)
فوجّهه [462] فى ثلاثة آلاف، وقال له:
- «مر مناديا فليناد: من لحق بنا فله ديوان.» فنادى بذلك فى السوق، فتسارع الناس، وكتب المفضّل إلى أخيه مدرك وهو ببلخ أن يسير معه. فنزل عثمان جزيرة بالترمذ يعرف اليوم بجزيرة عثمان، فى خمسة عشر ألفا، وكتب إلى السّيل وطرخون، فقدموا عليه، وحصروا موسى، فضيّقوا عليه وعلى أصحابه، وخندق عثمان وحذر البيات، فلم يقدر موسى منه على غرّة، فقال يوما لأصحابه:
- «حتّى متى؟ أخرجوا بنا، فاجعلوه يومكم، إمّا ظفرتم وإمّا قتلتم.» وقال لهم:
- «اقصدوا للصّغد والترك.» وخلّف النضر بن سليمان بن عبد الله بن خازم فى المدينة وقال له:
- «إن قتلت فلا تسلمنّ المدينة إلى عثمان، بل ادفعها إلى مدرك بن المهلّب.» وخرج، وصيّر بإزاء عثمان قوما من أصحابه وقال:
- «لا تهايجوه حتّى يقاتلكم.» وقصد لطرخون، فصدقه، فانهزم طرخون والترك، وأخذوا عسكرهم، فجعلوا ينقلونه، وكرّت الصغد [1] والترك راجعة، فحالوا بين موسى وبين الحصين، فقاتلهم، فعقر به، فسقط، فنادى مولى له:
- «احملنى ويحك.» فقال:
- «الموت كريه، ولكن ارتدف [463] فإن نجونا نجونا معا، وإن هلكنا هلكنا معا.»
__________
[1] . الصغد: فى الأصل: السغد (بالسين بدل الصاد) فبدّلنا السين بالصاد توحيدا للضبط. وفى مط: السند.
وما فى الطبري يوافق ما أثبتناه (8: 1162) .(2/383)
فارتدف ونظر إليه عثمان حين وثب، فقال:
- «وثبة موسى وربّ الكعبة.» فخرج من الخندق، وحمل وكشف أصحاب موسى، وقصد لموسى، فعثرت دابّة موسى، فسقط هو ومولاه، فابتدروه فقتلوه وبقيت المدينة فى يد النضر، فدفعها إلى مدرك وآمنه، وكتب المفضّل بالفتح إلى الحجّاج، وذلك فى سنة خمس وثمانين.
ثمّ دخلت سنة ستّ وثمانين
وفيها مات عبد الملك بن مروان. فكانت خلافته ثلاث عشرة سنة وخمسة أشهر.
أسماء وزراء عبد الملك بن مروان وما نقل إلينا من آرائهم وتدابيرهم التي يليق ذكرها بهذا الكتاب [1] قبيصة بن ذؤيب
كان يكتب لعبد الملك قبيصة بن ذؤيب الخزاعىّ، ويكنّى أبا إسحق، وكان خاصّا به، وكان يتولّى ديوان الخاتم. وبلغ من لطافة محلّه منه أنّ الكتب الواردة على عبد الملك كان يقرأها قبيصة قبل أن تصل إلى عبد الملك، ثمّ يدخل بها إليه مفضوضة الختم فيقرأها.
وكان مروان عهد إلى أخيه عبد العزيز [464] بعد عبد الملك، فهمّ عبد الملك، لمّا تمكّن واستقام أمره، بخلعه والعقد لابنيه الوليد وسليمان، فنهاه قبيصة بن ذؤيب كاتبه، وقال:
__________
[1] . لم نجد فى الطبري أسماء الوزراء والكتّاب الآتية أسماؤهم، والروايات هذه أخذها مسكويه من مصدر آخر.(2/384)
- «انتظر، فلعلّ الموت يأتى عليه فيكفيكه.» وكان قلّده مصر، فورد الكتاب بوفاته سنة خمس وثمانين، فقرأه قبيصة على عادته، ثمّ دخل على عبد الملك فعزّاه بأخيه، وعقد لابنيه الوليد وسليمان العهد بعده، وكتب إلى البلدان بذلك فبايعوه.
أبو الزعيزعة
وكان يكتب له أبو الزعيزعة مولاه. فيحكى أنّه حضر زفر بن الحارث يوما عند عبد الملك وبحضرته أبو الزعيزعة بعد أن اجتمع إليه، فقال لزفر بن الحارث:
- «كيف ترى ما ساقه الله إلينا؟» فقال زفر:
- «الحمد لله الذي نصرك على كره من كره.» فقال أبو الزعيزعة:
- «ما كره ذلك إلّا كافر.» فقال له زفر:
- «كذبت! قال الله عزّ وجلّ لنبيّه: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ من بَيْتِكَ بِالْحَقِّ، وَإِنَّ فَرِيقاً من الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ 8: 5 [1] ، أمؤمنين سمّاهم أم كفّارا؟» فغضب عبد الملك، فقال زفر:
- «يا أمير المؤمنين، أرأيت لو قلت: الحمد لله الذي نصرك، فقد كنت مسرورا بذلك، أما كنت تمقتني [465] ويمقتني الله وأنا أقاتلك تسع سنين؟» فقال له:
- «صدقت.»
__________
[1] . س 8، الأنفال: 5.(2/385)
روح بن زنباع
وكان يكتب له روح بن زنباع. وروح هذا هو الذي همّ به معاوية، فقال له:
- «يا أمير المؤمنين، لا تشمتنّ بى عدوّا أنت وقمته [1] ، ولا تسوءنّ فىّ صديقا أنت سررته، ولا تهدمنّ ركنا أنت بنيته. هلّا أتى حلمك وإحسانك على جهلي وإساءتى!» فأمسك عنه.
ربيعة الغار الحرشىّ
وكان يكتب له ربيعة الغار الحرشي. وكان استشاره عبد الملك فى تقليد الوليد ابنه العهد، فقال:
- «أمهلنى سنة.» فأمهله. فلمّا انقضت عاوده وقال:
- «إنّى عزمت أن أوليّه شيئا من النواحي، فإذا مضت له مدّة قلّدته العهد.» فقال:
- «يا أمير المؤمنين، إنّك بعثت الوليد يقسم الأموال بين الناس ما رضوا عنه، فكيف تبعثه جابيا؟ إن احتاط ذمّ، وإن رفق عجز، وأنت تريد أن تجبيه، فولّه المعاون والصوائف [2] ، فيكون ذلك شرفا وذكرا.»
صالح بن عبد الرحمان وهو الذي نقل الدواوين من الفارسيّة إلى العربيّة
وكتب له صالح بن عبد الرحمان مولى بنى مرة بن عبيد بن تميم من سبى
__________
[1] . وقم الدابّة: جذب عنانها لتقف. وقم الرجل: قهره وردّه عن حاجته أقبح الردّ.
[2] . المعاون والصوائف: المعاون جمع مفرده المعونة: العون. الصوائف جمع مفرده الصائفة: الغزوة فى الصيف. صائفة القوم: ميرتهم فى الصيف.(2/386)
سجستان، ويكنّى صالح أبا الوليد، وهو الذي نقل الدواوين من الفارسيّة إلى العربيّة. وكان ذلك أنّ الدواوين [466] كانت تجرى فيها وجوه الأموال بالفارسيّة.
وكان بالبصرة والكوفة ديوان بالعربيّة لإحصاء الناس وأرزاقهم وأعطياتهم، وهو الذي كان عمر رسمه. وكان بالشام أيضا ديوانان: أحدهما بالروميّة، والآخر بالعربيّة، فجرى الأمر عليه إلى أيّام عبد الملك، وكان إذ ذاك يتقلّد ديوان الفارسيّة زادان فرّوخ، فخلفه عليه صالح بن عبد الرحمان، فخفّ [1] على قلب الحجّاج وحضّ به. فقال لزادان فرّوخ:
- «إنّى قد خففت على قلب الحجّاج، ولست آمن أن أزيلك عن محلّك [2] لتقديمه إيّاى [3] ، وأنت ربيبى.» فقال له زادانفرّوخ:
- لا تفعل، فإنّه إلىّ أحوج منّى إليه.» فقال له:
- «وكيف ذلك؟» قال:
- «لا يجد من يكفيه الحساب.» فقال له صالح:
- «لو شئت حوّلته إلى العربيّة.» فقال له:
- «فحوّل منه سطرا.» فحوّل منه شيئا كثيرا.
فقال زادانفرّوخ لأصحابه:
- «التمسوا كسبا غير هذا.»
__________
[1] . خف. فى الأصل ومط: حفّ (بالحاء المهملة) فأعجماها بقرينة تكرار الكلمة بشكل «خففت» أدناه.
خفّ على الأمير: قبله وأنس به.
[2] . محلّك: كذا فى الأصل وهو الصحيح. وفى مط: محلّه.
[3] . سقط من مط قوله: «إيّاى» إلى قوله «لا يجد من» ، أى أكثر من عشرين كلمة.(2/387)
فلمّا بلغ الحجّاج ذلك أمر صالحا بنقل الدواوين، فنقلها إلى العربيّة فى سنة ثمان وسبعين. وكان عامّة كتّاب العراق تلامذة صالح.
ولمّا هم صالح بنقل [467] الدواوين، قال له بعض كتّاب الفرس:
- «كيف تصنع بواذ [1] .» قال:
- «أكتب: أيضا.» فقال:
- «كيف تصنع بدهيازده [2] ؟» قال:
- «أكتب عشرا.» فقال:
- «كيف تصنع بدهبوذه [3] ، وبنجبوذه [4] ؟» قال:
- «أكتب عشيرا [5] ونصف عشير.» قال له:
- «قطع الله أصلك من الدنيا، كما قطعت الفارسيّة.» وقال الحجّاج يوما لصالح، وكان متّهما برأى الخوارج:
- «إنّى فكّرت فيك فوجدت مالك ودمك حلالين لى وأنّنى غير آثم إن تناولتهما.» فقال صالح:
- «إنّ أغلظ ما فى الأمر- أعزّ الله الأمير- أنّ هذا القول بعد الفكر.» فضحك منه ولم يقل له شيئا.
__________
[1] . واذ: كذا فى الأصل وما فى مط: واد (بالدال المهملة) . ولعله مصحّف من: «واز» وهو لغة فى «باز» ومن معاني «باز» فى الفارسية: الإعادة والتكرار و «أيضا» .
[2] . دهيازده: كذا فى الأصل. وفى مط: دهيارده (بالراء المهملة) .
[3] . دهبوذه: الحرفان الثالث والخامس مهملان فى الأصل أعجمناهما كما فى مط.
[4] . بنجبوذه: كذا فى مط. وما فى الأصل: بنجيوذه (بالياء) .
[5] . العشير: العشر، أو عشر العشر.(2/388)
عبيد بن المخارق
ومن كتّاب الحجّاج عبيد بن المخارق، قلّده الحجّاج الفوجتين، فوردها وقال:
- «هل هاهنا دهقان يعاش برأيه؟» فقيل له:
- «هذا جميل بن بصبهرى.» فأحضره وشاوره، فقال له جميل:
- «خبّرنى أقدمت لرضى ربّك، أم رضى نفسك، أم رضى من قلّدك؟» فقال:
- «ما استشرتك إلّا برضى الجميع.» قال:
- «فاحفظ عنّى خلالا: لا يختلف حكمك على الرعيّة، ليكن حكمك على الشريف والوضيع [1] سواء، ولا تتّخذنّ حاجبا ليردّ عنك الوارد [468] من أهل عملك، وليكن على ثقة من الوصول إليك، وأطل الجلوس لأهل عملك يتهيّبك عمّالك، ولا تقبل هديّة، فإنّ صاحبها لا يرضى بثلاثين ضعفا [2] لها، فإذا فعلت ذلك فاسلخ جلودهم من فروعهم إلى أقدامهم.» قال: فعملت بوصيّته، فجبيتها خمسة عشر ألف ألف [000، 000، 15] درهم.
يزيد بن أبى مسلم
وكان يزيد بن أبى مسلم- واسم أبى مسلم دينار من موالي ثقيف- كاتبا للحجّاج، وكان أخاه من الرضاعة. فتقلّد له ديوان الرسائل، وكنيته أبو العلاء.
وكان الحجّاج يجرى له فى كلّ شهر ثلاثمائة درهم، فكان يعطى امرأته خمسين درهما، وينفق فى ثمن اللّحم وما يتّصل به خمسة وأربعين درهما، وينفق باقيها فى ثمن الدقيق وسائر عوارض نفقته، وإن فضل منها شيء ابتاع به ماء وسقاه
__________
[1] . الوضيع: كذا فى الأصل وهو الصحيح. وما فى مط: الرضيع!
[2] . ضعفا لها: فى الأصل ومط: ضعفها لها. وهو سهو نشأ من الخلط بين «ضعفا» و «لها» عند النسخ.(2/389)
المساكين، وربما ابتاع قطفا وفرّقها فيهم وهو مع ذلك يقتل الخلق للحجّاج.
وحكى أنّ الحجّاج عاده من علّة اعتلّها، فوجد بين يديه كانونا من طين ومنارة خشب، فقال:
- «يا أبا العلاء، ما أرى [1] أرزاقك تكفيك.» فقال:
- «إن كانت ثلاثمائة لا تكفيني، فثلاثون ألفا لا تكفيني.» ويزيد بن أبى مسلم [469] هو الذي نبّه الحسن البصري على الاستتار حتّى سلم من الحجّاج، وذلك أنّه لقيه خارجا من عنده فقال له:
- «توار يا با سعيد، فإنّى لست آمن أن تتبعك [2] نفسه.» فتوارى عنه، وسلم منه. وقيل: إنّه استتر تسع سنين.
عبد الملك وكاتب له قبل هديّة
وبلغ عبد الملك أنّ بعض كتّابه قبل هديّة، فقال له:
- «أقبلت هديّة منذ ولّيتك؟» فقال:
- «أمورك، يا أمير المؤمنين، مستقيمة، والأموال دارّة، والعمّال محمودون، وخراجك موفّر.» فقال:
- «أخبرنى عمّا سألتك.» قال:
- «نعم، قد قبلت.» قال:
- «فو الله لئن كنت قبلت هديّة لا تنوي مكافأة للمهدي لها، إنّك لدنىّ ولئيم، وإن كنت قبلتها لتستكفى رجلا لم تكن لتستكفيه لولاها، إنّك لخائن، ولئن كنت نويت تعويض المهدى عن هديّته ولا تخون له أمانة ولا تثلم له [3] دينا، فلقد
__________
[1] . وفى مط: لا أرزاقك، بدل: ما أرى أرزاقك. وهو خطأ.
[2] . تتبعك: مهملة فى الأصل، وما أثبتناه يوافق مط.
[3] . له: سقطت من مط.(2/390)
قبلت ما بسط عليك لسان معامليك، وأطمع فيك ساير مجاوريك، وسلبك هيبة السلطان، وما فى من أتى أمرا لم يخل فيه، من لؤم أو دناءة أو خيانة أو جهل مصنع [1] .» وخلعه عن عمله. [470]
__________
[1] . مصنع: كذا فى الأصل. مع شيء من الغموض. وما فى مط: مضيع.(2/391)
خلافة الوليد بن عبد الملك
وبويع للوليد بن عبد الملك بالخلافة. فخطب الناس لمّا انصرف من دفن أبيه، وقال فى آخر خطبته:
- «أيّها الناس عليكم بالطاعة ولزوم الجماعة، فإنّ الشيطان مع الفرد. أيّها الناس، من أبدى ذات نفسه ضربنا الذي فيه عيناه ومن سكت مات بدائه.» ثمّ نزل وحاز أدوات الخلافة وأثاثها، وكان جبّارا عنيدا.
ورود قتيبة إلى خراسان
وفى هذه السنة وهي سنة ستّ وثمانين، ورد قتيبة بن مسلم إلى خراسان فقدمها والمفضّل يعرض الجند وهو يريد أن يغزو الموضع الذي يقال له: أخرون وشومان. فخطب الناس قتيبة، وحثّهم على الجهاد، وسار، فلمّا كان بالطالقان تلقاه دهاقين بلخ وعظماؤهم، فساروا معه. فلمّا قطع النهر تلقّاه تيش [1] الأعور ملك الصغانيان بهدايا ومفتاح من ذهب. فدعاه إلى بلاده. فمضى مع تيش إلى الصغانيان، فسلّم إليه بلاده. وسار قتيبة إلى أخرون [2] وشومان وهما من
__________
[1] . تيش الأعور: كذا فى الأصل. وما فى مط: تبش الأعور، وأما فى الطبري (8: 1180) بيش الأعور. وفى حواشيه عن الأصول: تيش.
[2] . أخرون وشومان: كذا فى الأصل ومط. والطبري. وما فى ابن الأثير: آخرون وشومان.(2/393)
طخارستان [471] فجاءه صاحبها، فصالحه على فدية أدّاها، فقبلها قتيبة ورضى، وانصرف إلى مرو، واستخلف أخاه صالحا، وفتح صالح بعد رجوع قتيبة باسان انبجغر [1] ، وكان معه نصر بن سيّار، فأبلى يومئذ، فوهب له قرية تدعى تنجابه [2] .
ثمّ قدم صالح على قتيبة بعد ذلك فاستعمله على الترمذ، وغزا قتيبة بعد ذلك بيكند، وهي أدنى مدائن بخارى، فلمّا نزل بعقوتهم استنصروا السغد، واستمدّوا من حولهم، فأتوهم فى جمع كثير، وأخذوا بالطرق، فلم ينفذ لقتيبة رسول ولم يصل إليه خبر نحو شهرين، وأبطأ خبره على الحجّاج، فأشفق على الجند، وأمر الناس بالدعاء لهم فى المساجد وهم يقتتلون فى كلّ يوم. وكان لقتيبة عين يقال له تندر [3] من العجم، فأعطاه أهل بخارى مالا على أن يفتأ [4] عنهم قتيبة.
ذكر حيلة لتندر ما نفذت له وقتل لأجلها
أقبل تندر إلى قتيبة، فقال:
- «أخلنى!» فنهض الناس واحتبس قتيبة ضرار بن حصين الضبّى، فقال تندر:
- «هذا عامل يقدم عليك وقد عزل الحجّاج، فلو انصرفت بالناس [472] إلى مرو.» فدعا قتيبة مولاه سيا، فقال له:
__________
[1] . باسان انبجغر: كذا فى الأصل (بإهمال الحرف الذي يلي النون الثانية) . وفى مط: باسان اتجعر. وما فى ابن الأثير (4: 524) : كاشان وأورشت (أورشيت) .
[2] . تنجابه مهملة فى الأصل إلّا فى الباء. وفى مط: سحابه! وما فى الطبري: (تنجانة (بتخانه؟) وفى حواشيه: بتخايه (بإهمال الحرف الأول) .
[3] . تندر: فى الأصل: تندر بفتح الأول والصحيح كما ضبطناه، لأنه اسم فارسي بمعنى الرعد وضبطه فى القواميس الفارسية.LTondar:وما فى الطبري (8: 1186) : تندر، ومصحفات فى الحواشي.
[4] . يفتأ: من قولهم: فتأه عن الأمر، أى: سكّنه عنه، كفّه عنه.(2/394)
- «اضرب عنق تندر!» فقتله.
ثمّ قال لضرار:
- «لم يعلم هذا الخبر غيرى وغيرك، وإنّى أعطى الله عهدا، إن ظهر هذا الحديث من أحد حتّى تنقضي حربنا، لألحقنّك بتندر، فاملك لسانك، فإنّ انتشار هذا الحديث يفتّ فى أعضاد الناس.» ثمّ أذن للناس، فدخلوا، فراعهم قتل تندر، فوجموا وأطرقوا، فقال قتيبة:
- «ما يردعكم من قتل عبد أحانه [1] الله.» قالوا:
- «كنّا نظنّه ناصحا للمسلمين.» قال:
- «بل كان غاشّا، قد مضى لسبيله بذنبه، فاغدوا على قتال عدوّكم والقوهم بغير ما كنتم تلقونهم به.» فغدا الناس متأهبين، فأخذوا مصافّهم، ومشى قتيبة فحضّ أهل الرايات.
فكانت بين الناس مشاولة. ثمّ إنّهم تزاحفوا والتقوا، وأخذت السيوف مآخذها، فقاتلوهم حتّى زالت الشمس، ثمّ منح الله المسلمين أكتافهم، فانهزم المشركون يريدون المدينة، فاتبعهم المسلمون فشغلوهم عن الدخول، فتفرّقوا، وركبهم المسلمون قتلا وأسرا، واعتصم من دخل المدينة بالمدينة وهم قليل. فوضع قتيبة [473] الفعلة فى أصلها ليهدمها، فسألوه الصلح فصالحهم، واستعمل عليهم رجلا من قيس، وارتحل عنهم يريد الرجوع. فلمّا سار مرحلتين نقضوا، وكفروا، وقتلوا العامل وأصحابه وجدعوا آنفهم [2] وآذانهم، وبلغ ذلك قتيبة، رجع إليهم وقد تحصّنوا، فقاتلهم شهرا، ثمّ وضع الفعلة فى أصل المدينة، فعلّقوها بالخشب وهو يريد إذا فرغ من تعليقها أن يحرق الخشب فينهدم. فسقط الحائط وهم يعلّقونه،
__________
[1] . أحانه الله: أهلكه الله. الحين بمعنى الهلاك والمحنة.
[2] . آنفهم: كذا فى الأصل. وفى مط: آنافهم.(2/395)
فقتل أربعين رجلا من الفعلة، فطلبوا الصلح، فأبى، وقاتلهم، فظفر بها عنوة، فقتل من كان فيها من المقاتلة، وكان فى من أخذوا فى المدينة رجل أعور كان هو الذي استجاش [1] الترك على المسلمين. فقال لقتيبة:
- «أنا أفدى نفسي.» فقال له سليم الناصح:
- «ما تبدل؟» قال:
- «خمسة آلاف حريرة صينيّة قيمتها ألف ألف [000، 000، 1] .» قال قتيبة:
- «ما ترون؟» قالوا:
- «نرى أنّ فداءه زيادة فى غنائم المسلمين وما عسى أن يبلغ من كيد هذا؟» قال:
- «لا والله، لا يروّع بك مسلم أبدا.» وأمر به فقتل. وأصاب فى بيكند من آنية الذهب والفضّة ما لا يحصى. فولّى الغنائم والقسم [474] عبد الله بن وألان، وكان قتيبة يسمّيه الأمين بن الأمين، وإياس بن بيهس، فأذابا الآنية والأصنام ورفعاه إلى قتيبة، ورفعا إليه خبث [2] ما أذابا، فوهبه لهما، فأعطيا به أربعين ألفا، فأعلماه فرجع فيه، فأمرهما أن يذيباه، فأذاباه، فخرج منه خمسون ألف مثقال. وأصابوا فى بيكند شيئا كثيرا، فصار فى أيدى المسلمين من بيكند شيء لم يصيبوا مثله بخراسان.
__________
[1] . استجاش (بالجيم المعجمة) : كذا فى الأصل. وما فى مط: استحاش (بالحاء المهملة) وما فى الأصل هو الصحيح.
[2] . الخبث: ما كان فى الذهب والحديد ونحو هما من الغشّ.(2/396)
ذكر اتّفاق عجيب مع إضاعة حزم وهو السبب الذي سمى به قتيبة عبد الله بن وألان الأمين بن الأمين
كان السبب الذي سمّى قتيبة له عبد الله بن وألان الأمين بن الأمين أنّ مسلما الباهلىّ قال لو ألان:
- «إنّ عندي مالا أحبّ أن أستودعكه.» فقال:
- «أتريد أن يكون مكتوما أو لا؟» فكره أن يعلمه الناس. قال:
- «لا، بل أحبّ أن تكتمه.» قال:
- «ابعث به مع رجل تثق به إلى موضع كذا.» وأمره إذا رأى رجلا جالسا فى ذلك الموضع أن يضع ما معه وينصرف. قال:
- «نعم.» فجعل المسلم المال فى خرج وحمله على بغل [475] وقال لمولى له:
- «انطلق بهذا البغل إلى موضع كذا، فإذا رأيت رجلا جالسا، فخلّ عن البغل وانصرف.» فانطلق الرجل بالبغل، وقد كان وألان أتى الموضع لميعاده، فأبطأ عليه رسول مسلم، ومضى الوقت الذي وعده، فظنّ أنّه قد بدا له، فانصرف، وجاء رجل من بنى تغلب، فجلس فى ذلك الموضع، وحضر الرسول مع البغل والمال، فرأى الرجل جالسا، فخلّى عن البغل ورجع. فقام التغلبىّ، فلما رأى البغل والمال ولم ير معه أحدا قاد البغل إلى منزله وقبض المال إليه.
وكان ظنّ مسلم أنّ المال صار إلى وألان، فلم يسأل عنه حتّى احتاج إليه، فلقيه وقال:
- «ما لي.» قال:
- «ما قبضت شيئا ولا لك عندي مال.»(2/397)
فكان مسلم يشكوه ويتنقّصه. فأتى يوما مجلس بنى ضبيعة، فشكاه، والتغلبىّ جالس. فقام إليه وخلا به وسأله عن المال، فأخبره، فانطلق به إلى منزله، وأخرج الخرج إليه، وقال:
- «أتعرفه؟» قال:
- «نعم،» قال:
- «والخاتم؟» قال:
- «نعم.» قال:
- «فاقبض مالك.» وأخبره الخبر. فكان مسلم بعد ذلك يأتى القبائل وجميع من شكا وألان عندهم وخوّنه فيعذره ويخبرهم الخبر. [476]
ذكر رأى للحجّاج أشار به وهو بواسط على قتيبة وهو بخراسان حتّى فتح بخارى وموقف لأصحاب قتيبة مستحسن
غزا قتيبة وردان خذاه ملك بخارى سنة تسع وثمانين، فلم يظفر من البلد بشيء. فرجع إلى مرو، فكتب إليه الحجّاج:
- «صوّرها لى والطرق إليها.» فبعث إليه بصورتها. فكتب إليه الحجّاج أن:
- «ارجع إلى مراغتك فتب إلى الله عزّ وجلّ ممّا كان منك وائتها من مكان كذا وكذا.» [1] فخرج قتيبة إلى بخارى وذلك فى سنة تسعين، من حيث أشار به الحجّاج،
__________
[1] . وزاد فى الطبري (8: 1199، 1229) : «وقيل: كتب إليه الحجّاج أن: كس بكس، وانسف نسفا، ورد وردان، وإيّاك والتحويط، ودعني من بنيّات الطريق.»(2/398)
فأرسل وردان خذاه إلى السغد والترك ومن حولهم يستنصرهم. فأتوهم وقد سبق إليها قتيبة، فحصرهم. فلمّا جاءتهم أمدادهم خرجوا إليهم يقاتلونهم، فقالت الأزد:
- «اجعلونا على حدة وخلّوا بيننا وبين قتالهم.» فقال لهم قتيبة:
- «شأنكم، تقدّموا.» فتقدّموا، فقاتلوهم وقتيبة جالس عليه رداء أصفر فوق سلاحه، فصبروا جميعا، ثمّ جال المسلمون وركبهم المشركون، فحطّموهم حتّى دخلوا عسكر قتيبة وجازوه حتّى ضرب النساء وجوه الخيل [477] وبكين، وقاتلوهم حتّى ردّوهم. فوقف الترك على نشز [1] ، فقال قتيبة:
- «من يزيلهم لنا عن هذا الموقف؟» فلم يقدم عليهم أحد والأحياء [2] كلّهم وقوف. فمشى قتيبة إلى بنى تميم فقال:
- «يا بنى تميم، أنتم بمنزلة الحطمة [3] ، فيوما كأيّامكم، فداؤكم أبى.» فأخذ اللواء وكيع بيده وقال:
- «يا بنى تميم، أتسلمونى اليوم؟» فقالوا:
- «لا يا با المطرف.» وهريم بن طحفة المجاشعىّ على خيل بنى تميم ووكيع رأسهم. فأحجموا جميعا، فقال وكيع:
- «يا هريم، قدّم!»
__________
[1] . النشر: المكان المرتفع. وفى الطبري أيضا: نشز (بالزاء المعجمة) .
[2] . الأحياء: أى أحياء العرب (أنظر الطبري 8: 1202) .
[3] . الحطمة: كذا فى الأصل. وفى الطبري الحطميّة. وفى حواشيه: الحطمة والحطيّة.(2/399)
ودفع إليه الراية، وقال:
- «قدّم خيلك.» فتقدّم هريم ودبّ وكيع فى الرجال، فانتهى هريم إلى نهر بينه وبين العدوّ، فوقف وقال له وكيع:
- «أقحم يا هريم.» فنظر هريم إلى وكيع نظر الجمل الصؤول [1] وقال:
- «أنا أورد وأقحم خيلى هذا النهر، فإن انكشفت كان هلاكها. والله إنّك لأحمق.» قال:
- «يا بن اللخناء لا أراك تردّ أمرى.» وحدفه [2] بعمود كان معه. فضرب هريم فرسه فأقحمه، وقال:
- «ما بعد هذا أشدّ من هذا.» وعبر هريم فى الخيل، وانتهى وكيع إلى النهر، فدعا بخشب فقنطر على النهر وقال لأصحابه:
- «من وطّن منكم نفسه على الموت فليعبر، ومن لا فليثبت مكانه.» فما عبر معه إلّا [478] ثمانمائة رجل، فدبّ حتّى إذا أعيوا [أقعدهم] [3] فأراحوا حتّى إذا دنوا من العدوّ جعل الخيل مجنّبتين، وقال لهريم:
- «إنّى مطاعن القوم فاشغلهم عنّا بالخيل وقل للناس: شدّوا.» فحملوا، فو الله ما انثنوا حتّى خالطوهم، وحمل هريم [فى] خيله [4] عليهم،
__________
[1] . الجمل الصؤول: الجمل الذي يهجم على الناس ويقتلهم. من قولهم: صؤل (يصؤل صآلة) البعير: أخذ يهجم على الناس ويقتلهم.
[2] . حدفه (بالدال المهملة) : لغة فى حذفه: أى ضربه. الحذف بالعصا كالقذف بالحصى. وما فى الطبري (8: 1202) : حذفه (بالذال المعجمة) .
[3] . ما فى الأصل غير واضح ويشبه أن يكون: «لم تقدهم؟» . وما أثبتناه مأخوذ من الطبري (8: 1202) .
[4] . وحمل هريم خيله عليهم: كذا فى الأصل والطبري. وما فى ابن الأثير (4: 543) : وحمل هريم فى(2/400)
فطاعنوهم بالرماح، فما كفّوا عنهم حتّى حدّروهم عن موقفهم، ونادى قتيبة:
- «من جاء برأس فله مائة.» فزعم موسى بن المتوكل القريعىّ، قال: جاء يومئذ أحد عشر رجلا من بنى قريع كلّ رجل يجيء برأس، فيقال:
- «ممّن أنت؟» فيقول:
- «قريعىّ.» فجاء رجل من الأزد برأس، فقالوا له:
- «من أنت؟» فقال:
- «قريعىّ.» قال: وجهم بن زحر قاعد، فقال:
- «كذب والله، أصلح الله الأمير، والله لابن عمّى.» فقال له قتيبة:
- «ويحك! ما الذي دعاك إلى هذا؟» قال:
- «رأيت كلّ من جاء برأس قال: قريعىّ. فظننت أنّه ينبغي لكلّ من جاء برأس أن يقول ذلك.» فضحك قتيبة حتّى استغرب [1] .
وفتح الله على يديه بخارى، وفضّ أولئك الجمع. فلمّا تمّ له ذلك هابه أهل الصغد، فرجع طرخون ملك الصغد ومعه فارسان حتّى وقف قريبا من عسكر قتيبة [479] وبينهما نهر بخارى، فسأل أن يبعث إليه رجلا يكلّمه، فأمر قتيبة رجلا، فدنا منه فسأل الصلح على فدية يؤدّيها إليهم، فأجابه قتيبة إلى ما طلب،
__________
[ () ] الخيل. فزدنا «فى» بأمارة ما فى ابن الأثير.
[1] . استغرب، واستغرب، وأغرب فى الضحك: بالغ فيه.(2/401)
وصالحه وأخذ منه رهنا حتّى بعث إليه بما صالحه عليه. وانصرف طرخون إلى بلاده، ورجع قتيبة ومعه نيزك.
ذكر غدر نيزك ونقضه عهد قتيبة، وظفر قتيبة به بعد ذلك وقتله إيّاه
أمّا طرخون فقد ذكرنا أنّه هاب قتيبة فصالحه، وأمّا نيزك فإنّه هابه ونقض الصلح. وكان سبب غدره أنّه لمّا فصل من بخارى مع قتيبة رأى ما صنع طرخون فقال لأصحابه وخاصّته:
- «إنّى قد هبت هذا العربىّ لما يتمّ على يده من الفتوح وأنا معه ولست آمنه، وذلك أنّ العربىّ بمنزلة الكلب إذا ضربته نبح، وإذا أرضيته بصبص [1] ، وإن أنا غزوته ثمّ أرضيته شيئا نسى ما صنعت به، وقد قاتله طرخون مرارا، فلمّا أعطاه فدية قبلها، وهو مع ذلك شديد السطوة فلو استأذنته ورجعت، كان الرأى.» قالوا:
- «فافعل.» فاستأذنه فى الرجوع إلى [480] طخارستان فأذن له، فقال لأصحابه:
- «أحدّوا السير.» فساروا سيرا شديدا حتّى أتوا النوبهار [2] . فنزل يصلّى فيه ويتبرّك به، وقال لأصحابه:
- «إنّى لا أشك أنّ قتيبة قد ندم حين فارقنا عسكره على إذنه لى، وسيقدم
__________
[1] . بصبص الكلب: حرّك ذنبه.
[2] . النوبهار: معبد بوذىّ كانت البرامكة يلون سدانته قبل إسلامهم ثمّ وزارتهم للعبّاسيين. ويقال: إنّه كان بيت نار فى بلخ، وكانت له مكانة عند المجوس مثل ما للكعبة عند المسلمين (فم) . أنظر أيضا الطبري (8: 1181، 1205) .(2/402)
الساعة رسوله على المغيرة بن عبد الله يأمره بحبسي فأقيموا ربيئة [1] ينظر، فإذا رأيتم الرسول قد جاوز المدينة وخرج من الباب فإنّه لا يبلغ البروقان حتّى يبلغ طخارستان.» فبعث المغيرة رجلا فلا يدركنا حتّى نبلغ شعب خلم [2] ، ففعلوا، وكان كما قال: وأقبل رسول قتيبة إلى المغيرة يأمره بحبس نيزك. فلمّا مرّ الرسول إلى المغيرة وهو بالبروقان- ومدينة بلخ يومئذ خراب- ركب نيزك فى أصحابه فمضوا، وقدم الرسول على المغيرة وهو بالبروقان فى طلبه، فوجده قد دخل فى شعب خلم، فانصرف المغيرة، وأظهر نيزك الخلع، وكتب إلى إصبهبد بلخ، وإلى باذان ملك مروروذ، وإلى سهرك ملك الطالقان، وإلى شهرك ملك الفارياب، وإلى ملك الجوزجان يدعوهم إلى خلع قتيبة، فأجابوه وواعدهم [481] الربيع أن يجتمعوا ويغزوا قتيبة، وكتب إلى كابل شاه يستظهر به، وبعث إليه بثقله، وسأله أن يأذن له، إن اضطرّ إليه، أن يأتيه ويؤمنه فى بلاده. فأجابه إلى ذلك، وضمّ ثقله.
وكان جبغويه [3] ملك طخارستان ونيزك من عبيده، إلّا أنّه كان ضعيفا واسمه الشذّ [4] ، فأخذه نيزك وقيّده بقيد من ذهب مخافة أن يشغب عليه ويمنعه. فلمّا استوثق منه أخرج عامل قتيبة من بلاد جبغويه وكان العامل محمد بن سليم الناصح، وكان محبّبا مصدّقا عند الناس، وبلغ قتيبة خلع نيزك فى قبل الشتاء، وقد تفرّق عنه الجند، فلم يبق معه إلّا أهل مرو، فبعث أخاه عبد الرحمان إلى بلخ فى اثنى عشر ألفا إلى البروقان وقال:
__________
[1] . الربيئة: الطليعة الذي يرقب العدو من مكان عال لئلّا يدهم قومه. وما فى الطبري: ربئة.
[2] . خلم: كذا ضبط فى الأصل (بفتح الخاء المعجمة) وضبط فى الطبري: خلم (بضم الخاء) .
[3] . جبغويه: الحرف الثاني مهمل من النقط فى الأصل، فأعجمناه كما تكرر فى المواضع التالية. فى مط: جبغويه، وفى متن الطبري (8: 1221) : جيغويه. وفى حواشيه عن الأصول: جبعونة وجيغويه.
[4] . الشذّ: كذا فى الأصل والطبري (8: 1206) : الشذّ.(2/403)
- «أقم ولا تحدث شيئا، فإذا حسر الشتاء فعسكر وسر نحو طخارستان واعلم أنّى قريب منك.» فسار عبد الرحمان، فنزل البروقان، وأمهل قتيبة، حتّى إذا كان فى آخر الشتاء كتب إلى أهل أبر شهر وأبيورد وسرخس، فقدموا عليه مع أهل هراة، فأوقع بالطالقان لأنّ ملكها [482] طابق نيزك على حرب قتيبة وواعده مع من استجاب للنهوض معه من الملوك لحرب قتيبة.
فسار قتيبة إلى الطالقان، فأوقع بأهلها وقتل منهم مقتلة عظيمة وصلب منهم سماطين أربعة فراسخ فى نظام واحد، وبلغ مرزبان مرو الروذ إقباله إلى بلاده، فهرب إلى بلاد الفرس. فقدم قتيبة مرو الروذ، فوجد ابنين له فقتلهما وصلبهما، ومضى إلى ملك الفارياب، فتلقّاه ملكها بالطاعة، فرضي عنه ولم يقتل بها أحدا، واستعمل عليها رجلا، وخرج صاحب الجوزجان هاربا، فترك أرضه ولحق بالجبال.
ثمّ مضى يتبع أخاه عبد الرحمان وكان خلّف نيزك على فم الشعب مقاتلة، وترك أيضا فى قلعة من وراء الشعب مقاتلة، فأقام قتيبة أيّاما يقاتلهم على مضيق الشعب لا يقدم منهم على شيء ولا يقدر على دخوله ولا يعرف طريقا يفضى إلى نيزك إلّا الشعب أو مفازة لا تحمل العساكر. فهو فى ذاك متحيّر إذ قدم عليه [الرؤب خان] [1] ملك الرؤب [2] ، فاستأمنه على أن يدلّه [483] على مدخل القلعة التي من وراء الشعب. فآمنه قتيبة وأعطاه ما سأله، وبعث معه رجالا ليلا، فانتهى بهم إلى القلعة التي من وراء شعب خلم، فطرقوهم وهم آمنون وفلّوهم وهرب من كان فى الشعب، ودخل قتيبة، والناس معه، الشعب، وسار إلى نيزك،
__________
[1] . الرؤب خان: ما فى الأصل ومط: الرومجار. إلّا أنّ الحرف الأخير غير واضح فى الأصل.
[2] . كذا فى الأصل والطبري (8: 1219) . وما فى مط: الروم. وما أثبتناه فى الكلمتين، ترجيح لما فى الطبري. وفى حواشي الطبري: الزوب جار.(2/404)
وقدّم أخاه عبد الرحمان، وبلغ خبره نيزك [1] ، فارتحل من منزله وقطع وادي فرغانه، ووجّه بثقله وأمواله إلى كابل شاه، ومضى حتّى نزل الكرّز وعبد الرحمان بن مسلم يتبعه، وأخذ عليه مضائق الكرّز، فتحرّز نيزك فى الكرّز وليس إليه مسلك إلّا من وجه واحد وذلك الوجه صعب لا تطيقه الدوابّ. فحصره قتيبة شهرين حتّى قلّ ما فى يد نيزك من الطعام، وأصابهم الجدرىّ وجدّر جبغويه، وخاف قتيبة الشتاء، فدعا سليما الناصح فقال له:
- «انطلق إلى نيزك، فاحتل أن يأتينى به بغير أمان، فإن أعياك وأبى فآمنه واعلم أنّى إن عاينتك وليس هو معك صلبتك، فاعمل [2] لنفسك.» قال:
- «فإن كنت فاعلا فاكتب إلى عبد الرحمان لا يخالفني.» [484] وكان بينهما فرسخان. قال:
- «نعم.» فكتب له.
فلمّا قدم على عبد الرحمان، قال:
- «ابعث رجالا، فليكونوا على فم الشعب، فإذا خرجت أنا ونيزك فليعطفوا من ورائنا، فليحولوا بيننا وبين الشعب.» قال: فبعث عبد الرحمان خيلا، فكانت حيث أمرهم سليم، وحمل معه من الأطعمة والأخبصة [3] التي تبقى أيّاما أوقارا حتّى أتى نيزك، فقال له نيزك:
- «خذلتني يا سليم!» قال:
__________
[1] . نيزك: كذا فى الأصل والطبري فى جميع المواطن. وما فى مط: بترك.
[2] . فاعمل: كذا فى الأصل وهي ساقطة من مط.
[3] . الأخبصة: كذا فى الأصل. وما فى مط: الأحبصة (بالحاء المهملة) . والخبيصة الحلواء المخبوصة وهي أخصّ من الخبيص الذي هو حلواء معمولة بالتمر والسمن.(2/405)
- «ما خذلتك، ولكن عصيتني وأسأت إلى نفسك، خلعت وغدرت.» قال:
- «دعني من العتاب، ما لرأى؟» قال:
- «الرأى أن تأتيه، فقد أمحكته [1] وليس ببارح [2] موضعه هذا وقد اعتزم على أن يشتو بمكانه، هلك أو سلم.» قال:
- «يا سليم آتيه من غير أمان.» قال:
- «ما أظنّه يؤمنك، فقد ملأت قلبه غضبا، ولكنّى أرى ألّا يعلم بك حتّى تضع يدك فى يده، فإنّى أرجو إن فعلت ذلك أن يستحى منك ويعفو عنك.» قال:
- «أترى ذاك؟» قال:
- «نعم.» قال:
- «إنّ نفسي لتأبى هذا وهو إن رءانى قتلني.» قال سليم:
- «ما أتيتك إلّا لأشير عليك بهذا، ولو فعلت لرجوت [485] أن تسلم وتعود حالك عنده إلى ما كانت. فأمّا إذا أبيت فأنا منصرف.» قال:
- «فتغذّ الآن.» قال:
- «لأظنّكم فى شغل عن تهيئة الطعام ومعنا طعام كثير.» ودعا سليم بالغداء، فجاؤوا بطعام كثير لا عهد لهم بمثله منذ حصروا، فانتهبه الأتراك، فغمّ ذلك نيزك وتبيّن ذاك فى وجهه. فقال له سليم:
- «يا با الهيّاج، إنّى لك من الناصحين، إنّى أرى أصحابك قد جهدوا، وإن طال بهم الحصار لم آمنهم أن يستأمنوا بك، فانطلق معى حتّى تأتى قتيبة.» قال:
- «ما كنت لآتيه على غير أمان وإنّ ظنّى به أنّه قاتلي وإن آمنني، ولكنّ
__________
[1] . أمحكه: ما حكمه: محكة: خاصمه ولاجّه وتمادى فى اللجاجة. أمحكه: أغضبه.
[2] . ببارح: كذا فى الأصل وهو الصحيح. وما فى مط: تبارح وهو خطأ.(2/406)
[الأمان] [1] أعذر لى وأرجى أن يؤمنني.» قال:
- «فقد آمنك، أفتتّهمني؟» قال:
- «لا.» قال:
- «فانطلق معى.» فقال له أصحابه:
- «اقبل قول سليم، فلم يكن ليقول إلّا حقا.» فدعا بدوابّه وخرج مع سليم فلمّا انتهى إلى الدرجة التي يهبط منها إلى قرار الأرض، قال:
- «يا سليم، من كان لا يعلم متى يموت فإنّى أعلم متى أموت. أموت ساعة أعاين قتيبة.» قال:
- «كلّا!» فركب ومضى معه جبغويه، وقد كان برأ من الجدرىّ. فلمّا خرجوا من الشعب عطفت الخيل التي خلّفها [486] سليم على فوهة الشعب، فحالوا بين الأتراك وبين الخروج، فقال نيزك لسليم:
- «هذا أوّل الشرّ.» قال:
- «لا تفعل، تخلّف [2] هؤلاء عنك خير لك.» وأقبل سليم ونيزك ومن خرج معه حتّى دخلوا على عبد الرحمان بن مسلم.
فأرسل رسولا إلى قتيبة يعلمه، فأرسل قتيبة عمرو بن مهزوم إلى عبد الرحمان أن اقدم بهم. فحبس أصحاب نيزك، ودفع نيزك إلى ابن بسّام الليثي وكتب إلى الحجّاج يستأذنه فى قتل نيزك. فجعل ابن بسّام نيزك فى قبّته وحفر حول القبّة خندقا، فوضع عليه حرسا، ووجّه قتيبة معاوية بن عامر بن علقمة العليمي،
__________
[1] . ما بين [] أخذناه من الطبري (8: 1221) . وهو ساقط من الأصل ومط كليهما.
[2] . تخلّف: كذا فى الأصل بالضبط. وضبطت الكلمة فى الطبري: تخلّف. ولكلا الضبطين وجه من الصحة.(2/407)
فاستخرج ما كان فى الكرّز من المتاع ومن كان فيه فقدم بهم على قتيبة فحبسهم ينتظر كتاب الحجّاج بعد أربعين يوما يأمره بقتل نيزك، فدعا به وقال له:
- «هل لك عندي عقد أو عند عبد الرحمان أو عند سليم؟» قال:
- «لى عند سليم.» قال:
- «كذبت.» وقام ودخل وردّ نيزك إلى حبسه، فمكث ثلاثة أيّام ولا يظهر للناس. وتكلّم الناس فى أمر نيزك، فقال بعضهم:
- «لا يحلّ قتله.» وقال بعضهم:
- «لا يحلّ له [487] تركه.» وخرج قتيبة فى اليوم الرابع، فجلس وأذن للناس، فقال:
- «ما ترون فى قتل نيزك؟» فاختلفوا: فقال قائل:
- «اقتله.» وقال قائل:
- «قد أعطيته [1] عهدا، فلا تقتله.» وقال قائل:
- «لا تأمنه على المسلمين.» فدخل ضرار بن الحصين الصبّى. فقال:
- «ما تقول يا ضرار؟» قال:
- «أقول: إنّى سمعتك تقول: أعطيت الله لئن مكّننى منه لأقتلنّه! فإن لم تفعل لم ينصرك عليه.» فأطرق قتيبة طويلا ثمّ قال:
__________
[1] . قد أعطيته: كذا فى الأصل. ما فى مط: أعطيتم.(2/408)
- «والله، لئن لم يبق من أجلى إلّا ثلاث كلمات لقلت: اقتلوه، اقتلوه، اقتلوه،» وأرسل إلى نيزك، فأمر بقتله وقتل أصحابه. فقتلوا وهم سبعمائة.
وفى رواية أخرى: إنّ قتيبة قال لبكر بن حبيب السهمي من باهلة:
- «هل بك قوّة؟» قال:
- «نعم، وأزيد [1] .» وكانت فى بكر أعرابيّة، قال:
- «دونك هؤلاء الدهاقين.» فقتل يومئذ اثنى عشر ألفا، وصلب نيزك وابني أخيه فى أصل عين تدعى:
وخش خاشان.
ثمّ أذن قتيبة للسيل والشذّ، فانصرفا إلى بلادهما، وأطلق جبغويه ومن عليه، وبعث به إلى الوليد، فلم يزل بالشام حتّى مات الوليد.
وكان الحجّاج يقول:
- «بعثت قتيبة [488] فتى غرّا. فما زدته ذراعا إلّا زادني كراعا.»
فتح شومان وكسّ ونسف
ثم غزا قتيبة شومان وكسّ ونسف، ففتحها عنوة، وسرّح أخاه عبد الرحمان بن مسلم إلى السغد، فسار حتّى نزل بمرج قريب منهم، فراسله ملكها بشيء صالحه عليها، ودفع إليه رهنا كانوا معه، وانصرف عبد الرحمان إلى قتيبة وهو ببخارى، فرجعوا إلى مرو، فقالت السغد لطرخون:
- «إنّك قد رضيت بالذلّ، وأعطيت الجزية وأنت شيخ!» فقال:
- «إنّ عدوّنا قوىّ، وأرى مداراته أدوم لنا وأجمع لشملنا.» فقالوا:
__________
[1] . أزيد: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 1223) : أريد.(2/409)
- «لا حاجة لنا فيك.» قال:
- «فولّوا من أحببتم.» فولّوا غورك [1] وحبسوا طرخون. فقال طرخون:
- «ليس بعد سلب الملك والحبس إلّا القتل، فيكون ذلك بيدي أحبّ إلىّ من أن يليه منّى غيرى.» واتّكأ على سيفه حتّى خرج من ظهره.
فتح خوارزم
وغزا قتيبة خوارزم، فصالحه صاحبها، ومضى منها إلى السغد، وذلك فى سنة ثلاث وتسعين. وكان سبب ذلك أن ملك خوارزم كان ضعيفا، فغلبه أخوه خرّزاذ على أمره، وكان خرّزاذ أصغر منه، فكان إذا بلغه أنّ عند [489] أحد ممّن هو منقطع إلى الملك، جارية أو دابّة أو متاعا فاخرا، أرسل فأخذه، وإذا بلغه أنّ عند أحد منهم بنتا [2] أو أختا جميلة أرسل فغصبه إيّاها، فإذا شكا إلى الملك. قال:
- «لا أقوى عليه.» وقد ملأه مع هذا غيظا. فكتب إلى قتيبة يدعوه [3] إلى أرضه، واشترط عليه أن يدفع إليه أخاه وكلّ من كان يضادّه ليحكم فيه ما يرى. وبعث فى ذلك رسلا ولم يطلع أحدا من مرازبته على ما كتب به. فقدم رسله على قتيبة فى آخر الشتاء وقت الغزو وقد تهيّأ للغزو، فأظهر قتيبة أنّه يريد السغد، ورجع رسل خوارزم شاه إليه بما أحبّ من قبل قتيبة، وجمع خوارزم شاه دهاقنته وأمناءه، فقال لهم:
__________
[1] . غورك: كذا فى الأصل. وما فى مط: عورك (مهملة) . وفى الطبري (8: 1229) : بالضبط: غوزك.
[2] . بنتا: كذا فى الأصل وهو الصحيح. وما فى مط: بنيا!
[3] . سقط من مط من قوله «يدعوه إلى أرضه» إلى قوله: «وبعث فى» . فأصبح النصّ فى مط: «فكتب إلى قتيبة ذلك رسلا» !(2/410)
- «إنّ قتيبة يريد السغد وليس بغازيكم، فهلمّوا نتنعّم فى ربيعنا.» فأقبلوا على الشرب والتنعّم وأمنوا عند أنفسهم الغزو، فلم يشعروا حتّى نزل قتيبة فى هزار دشت [1] ، فقال خوارزم شاه لأصحابه:
- «ما ترون؟» فقالوا:
- «نرى أن نقاتله.» قال:
- «لكنّى لا أرى ذلك، لأنّه عجز عنه من هو أقوى منّا وأشدّ شوكة، ولكنّا نؤدّى إليه شيئا نصرفه به عامنا [490] ونرى رأينا.» قالوا:
- «فرأينا رأيك.» فأقبل خوارزم شاه حتّى نزل فى مدينة الفيل من وراء النهر ومدائن خوارزم ثلاث يطيف بها فارقين واحد [2] ، فمدينة الفيل أحصنهنّ، وقتيبة فى هزار دشت بينهما نهر بلخ، فلم يعبر، فصالحه على عشرة آلاف رأس وعين ومتاع على أن يعينه على ملك خام جرد [3] وأن يفي له بما كتب إليه. فقبل منه قتيبة ووفى له، وبعث أخاه إلى ملك خام جرد، وكان يعادى خوارزم شاه، فقاتله فقتله عبد الرحمان وغلبه على أرضه، وقدم منهم على قتيبة بأربعة آلاف أسير. فلمّا جاء بهم عبد الرحمان أمر قتيبة بسريره، فأخرج فقتل الأسرى بين يديه.
فحكى المهلّب بن إياس أنّه أخذت سيوف الأشراف يضرب بها الأعناق فكان فيها ما لا يقطع ولا يجرح. فأخذ سيفي فلم يضرب به شيء إلّا أبانه. فحسدنى بعض آل قتيبة، فغمز الذي يضرب به أن اصفح بالسيف، فصفح به قليلا، فوقع فى
__________
[1] . هزار دشت: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 1238) : هزار سپ. وفى حواشيه عن الأصول:
هزاست. وفى ابن الأثير (4: 570) : هزار أسب.
[2] . كذا فى الأصل والطبري (8: 1238) أيضا. والعبارة: «ومدائن خوارزم» ، «فارقين واحد» فى ابن الأثير (4: 570) .
[3] . خام جرد: فى الأصل: حام حرد (بالإهمال) . والمثبت من الطبري، ويؤيده ابن الأثير.(2/411)
ضرس المقتول فثلمه.
قال: فرأيت السيف وكان أبو الذيّال يقول: هو [491] عندي بعينه.
فتح السغد
ولمّا أخذ قتيبة صلح صاحب خوارزم قام إليه المجسّر [1] بن مزاحم السلمى فقال:
- «إنّ لى حاجة فأخلنى.» فأخلاه، فقال:
- «إن أردت السغد يوما من الدهر فالآن. فإنّهم آمنون من أن تأتيهم عامك هذا، وإنّما بينك وبينهم عشرة أيّام.» فقال له قتيبة:
- «أشار عليك أحد بهذا؟» قال:
- «لا.» قال:
- «فأعلمته أحدا؟» قال:
- «لا.» قال:
- «فو الله، لئن تكلّم به أحد لأضربن عنقك.» فأقام يومه ذلك. فلمّا أصبح من الغد دعا عبد الرحمان فقال:
- «سر فى الفرسان والمرامية وقدّم الأثقال إلى مرو.» فوجّهت الأثقال إلى مرو، ومضى عبد الرحمان يتبع الأثقال يريد مرو يومه كلّه. فلمّا أمسى كتب إليه:
- «إذا أصبحت فوجّه الأثقال إلى مرو، وسر فى الفرسان والمرامية نحو السغد
__________
[1] . المجسّر: كذا فى الأصل (بالسين المهملة) . وفى الطبري (8: 1241) أيضا: المجسّر، وفى حواشيه عن الأصول: المحسّن. المجشّر.. وفى ابن الأثير (4: 571) : المجشّر.(2/412)
واكتم الأخبار فإنّى بالأثر.» فلمّا أتى عبد الرحمان الخبر أمضى الأثقال إلى مرو، وسار حيث أمره. وخطب قتيبة الناس فقال:
- «إنّ الله، عزّ وجلّ، قد فتح لكم هذه البلدة فى وقت الغزو فيه ممكن وهذه السغد [492] شاغرة برجلها قد نقضوا العهد الذي كان بيننا، ومنعونا من مال الصلح الذي صالحنا عليه صاحبهم، وصنعوا به ما بلغكم. وقال الله، عزّ وجلّ:
فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ 48: 10 [1] . فسيروا على بركة الله فإنّى أرجو أن تكون خوارزم والسغد كالنضير وقريظة.» فأتى السغد وقد سبقه عبد الرحمان بن مسلم فى عشرين ألفا، وقدم عليه قتيبة فى أهل خوارزم بعد ثالثة ورابعة، فقال:
- «إنّا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين [2] .» فحصرهم شهرا، فقاتلوه فى حصارهم من وجه واحد، وخاف أهل السغد طول الحصار، فكتبوا إلى أهل الشاش وإخشيذ [3] فرغانة:
- «إنّ العرب إن ظفروا بنا عادوا عليكم بمثل ما أتونا به، فانظروا لأنفسكم فاجتمعوا على أن تأتوهم.» فأرسلوا إليهم أن:
- «أرسلوا إليهم من يشغلهم حتّى نبيّت عسكرهم.» وانتخبوا فرسانا من أبناء المرازبة والأساورة والأشدّاء الأبطال، فوجّهوهم وأمروهم أن يبيّتوا عسكرهم. وجاءت عيون المسلمين، فأخبروهم، فانتخب
__________
[1] . س 48 الفتح: 10.
[2] . والآية: فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ 37: 177 (س 37 الصافّات: 177) .
[3] . كذا فى الأصل: إخشيذ. وما فى الطبري (8: 1242) وابن الأثير (4: 572) : إخشاد، وفى حواشي الطبري أخشيد (بالدال المهملة) .(2/413)
قتيبة [493] ثلاثمائة أو ستمائة من أهل النجدة واستعمل عليهم صالح بن مسلم.
وكان ملك الشاش وإخشيذ فرغانة وخاقان لمّا أتاهم كتاب غورك قالوا:
- «إنّ صاحب السغد بيننا وبين العرب، فإن وصلوا إليهم كنّا أضعف وأذلّ، فإنّا والله ما نؤتى إلّا من سفلتنا وإنّهم لا يجدون كوجدنا، ونحن معشر الملوك المعنيّون بهذا الأمر.» فانتخبوا أبناء الملوك وفتيانهم وقالوا لهم:
- «أخرجوا حتّى تأتوا على عسكر قتيبة، فإنّه مشغول بحصار السغد.» وولّوا عليهم ابنا لخاقان. وبلغ قتيبة الخبر كما حكيناه من أمره، فانتخب من أهل النجدة والبأس، فكان منهم: شعبة بن ظهير، وزهير بن حيّان، وعدّة من أمثالهم، فقال لهم:
- «إنّ عدوّكم قد رأوا بلاء الله عندكم وتأييده إيّاكم، فأجمعوا على أن يحتالوا ويطلبوا غرّتكم وبياتكم، واختاروا دهاقينهم وملوكهم، وأنتم دهاقين العرب وفرسانهم وقد فضّلكم [الله] [1] بدينه، فأبلوا الله بلاءا حسنا تستوجبون به الثواب مع الذبّ عن أحسابكم.» ووضع قتيبة [494] عيونا على العدوّ، حتّى إذا قربوا منه قدر ما يصلون إلى عسكرهم من الليل، أخرج الذين انتخبهم، واستعمل عليهم صالح بن مسلم.
فخرجوا من العسكر عند المغرب، فساروا فنزلوا على فرسخين من العسكر على طريق القوم الذين وصف لهم.
وفرّق صالح خيله، وأكمن كمينا عن يساره ويمينه، حتّى إذا مضى نصف الليل أو ثلثاه جاء العدوّ باجتماع وإسراع وصمت، وصالح واقف فى خيله. فلمّا رأوه شدّوا عليه حتّى إذا اختلفت الرماح شدّ الكمينان عن يمين وشمال. فلم ير قوم
__________
[1] . ما بين [] تكملة من الطبري (8: 1247) .(2/414)
كانوا أشدّ منهم.
فتحدّث شعبة قال: إنّا لنختلف عليهم بالضرب والطعن إذ تبيّنت قتيبة، فضربت ضربة أعجبتنى وأنا أنظر إلى قتيبة فقلت:
- «كيف ترى بأبى أنت وأمّى؟» فقال:
- «اسكت دقّ الله فاك.» فقتلناهم، فلم يفلت منهم إلّا الشريد، وأقمنا نحوي [1] الأسلاب، ونحتزّ الرؤوس حتّى أصبحنا، ثمّ أقبلنا إلى العسكر. فلم أر قطّ جماعة جاءوا بمثل ما جئنا به، ما منّا رجل إلّا معلّقا رأسا معروفا باسمه، وسلبا من جيّد السلاح [495] وكريم المتاع ومناطق الذهب ودوابّ فره، وجئنا بالرؤوس إلى قتيبة، فقال:
- «جزاكم الله خيرا عن الدين والأحساب.» ثمّ أكرمنى من غير أن يكون باح لى بشيء، وقرن بى فى الصلة والإكرام حيّان العدوى وحليسا الشيبانى. فظننت أنّه رأى منهما مثل الذي رأى منّى.
وكسر ذلك أهل السغد وطلبوا الصلح وعرضوا الفدية، فأبى قتيبة وقال:
- «أنا ثائر بدم طرخون- يعنى صاحبهم- كان مولاي، وفى ذمّتى.» ووضع قتيبة عليهم المجانيق فرماهم وهو فى ذلك لا يقلع عنهم، وناصحه من كان معه من أهل بخارى وأهل خوارزم، وبذلوا أنفسهم.
فأرسل إليهم غورك:
- «إنّك إنّما تقاتلني بإخوتى وأهل بيتي من العجم فأخرج [2] إلى العرب.» فغضب قتيبة ودعا الجدلىّ وقال:
- «اعرض الناس وميّز أهل البأس.» فجمعهم، ثمّ جلس قتيبة يعرضهم بنفسه، ودعا العرفاء، فجعل يدعو برجل
__________
[1] . من قولهم: حوى يحوى.
[2] . الضبط من الأصل.(2/415)
رجل فيقول:
- «ما عندك؟» فيقول العريف:
- «شجاع.» ويقول:
- «ما هذا؟» فيقول:
- «محتضر [1] .» ويقول:
- «ما هذا؟» فيقول:
- «جبان.» فسمّى قتيبة الجبناء الأنتان [2] ، وأخذ خيلهم وجيد سلاحهم [496] فأعطاه الشجعاء والمحتضرين [3] ، فترك لهم رثّ السلاح، ثمّ زحف بهم فقاتل بهم فرسانا ورجالا، ورمى المدينة بالمجانيق، فثلم فيها ثلمة فسدّوها بغرائر الدخن [4] وجاء رجل حتّى قام على الثلمة، فشتم قتيبة شتما قبيحا فضيحا [5] بالعربيّة. وكان مع قتيبة قوم رماة، فقال لهم:
- «اختاروا منكم رجلين.» فاختاروا. فقال:
- «أيّكما يرى هذا الرجل، فإن أصابه فله عشرة آلاف وإن أخطأ قطعت يده.» فتلكّأ أحدهما وتقدّم الآخر، فلم يخطئ عينه. فأمر له بعشرة آلاف.
فتحدّث يحيى بن خالد بن ثابت مولى مسلم بن عمرو قال: كنت فى رماة قتيبة، فلمّا فتحنا المدينة صعدت السور، فأتيت مقام ذلك الرجل الذي كان فيه،
__________
[1] . محتضر: كذا فى الأصل. وما فى الطبري (8: 1244) : مختصر.
[2] . الأنتان: ما فى الأصل غير واضح والمثبت من الطبري.
[3] . المحتضرين: كذا فى الأصل. وما فى الطبري المختصرين.
[4] . الدخن: نبات عشبىّ من النجيليّات، حبّه صغير أملس كحب السمسم ينبت برّيّا ومزروعا.
[5] . وعند الطبري (8: 1249) فى نقل رواية: «قال: فنادى مناد فصيح بالعربية، يشتم قتيبة.»(2/416)
فوجدته ميّتا على الحائط ما أخطأت النشّابة عينه حتّى خرجت من قفاه.
ثمّ أصبحوا من غد فرموا المدينة حتّى ثلموا فيها. وقال قتيبة:
- «ألحّوا عليها حتّى تعبروا الثلمة.» فقاتلوهم، ورماهم السغد بالنشّاب، فوضعوا ترستهم على أعينهم، ثمّ حملوا حتّى صاروا على الثلمة، وكانوا طلبوا الصلح، فقال قتيبة:
- «لا والله! [497] ما نصالحكم إلّا ورجالنا على الثلمة ومجانيقنا تخطر على مدينتكم.» فصالحهم من غد على ألفى ألف ومائتي ألف [1] [000، 200، 2] فى كلّ عام، على أن يعطوه تلك السنة ثلاثين ألف رأس [2] ليس فيه صبىّ ولا شيخ ولا ذو عيب، وعلى أن يخلوا المدينة لقتيبة، فلا يكون لهم فيها مقاتل، فيبنى فيها مسجد فيدخل ويصلّى، ويوضع له فيها منبر، ويتغدّى ويخرج.
فلمّا تمّ الصلح بعث قتيبة بعشرة من كلّ خمس [3] برجلين، فقبضوا ما صالحهم عليه، فقال قتيبة:
- «الآن ذلّوا حين صار أزواجهم وأولادهم فى أيديكم.» ثم أخلوا المدينة وبنوا مسجدا ووضعوا منبرا، فدخلها قتيبة فى أربعة آلاف انتخبهم. فلمّا دخلها أتى المسجد، فصلّى وخطب، ثمّ تغدّى. وأرسل إلى أهل السغد:
- «من أراد منكم أن يأخذ متاعه فليأخذ، فإنّى لست خارجا منها، وإنّما صنعت هذا لكم، ولست آخذ منكم أكثر مما صالحتكم عليه غير أنّ الجند يقيمون فيها.»
__________
[1] . كذا فى الأصل والطبري (8: 1245) . وفى ابن الأثير: « ... ومائتي ألف مثقال..»
[2] . رأس: كذا فى الأصل والطبري. وفى ابن الأثير: فارس.
[3] . من كلّ خمس: كذا فى الأصل (بالضبط) وفى الطبري (8: 1245) أيضا.(2/417)
والباهليّون يقولون: صالحهم قتيبة على مائة ألف رأس [1] وبيوت النيران وحلية الأصنام. فقبض [498] ما صالحهم عليه، وأتى بالأصنام فسلبت ووضعت بين يديه وكانت كالقصر العظيم حين جمعت، فأمر بتحريقها.
فقالت الأعاجم:
- «إنّ فيها أصناما من حرقها هلك.» فقال قتيبة:
- «أنا أحرقها بيدي.» فجاء غورك [2] ، فجثا بين يديه وقال:
- «إنّ شكرك علىّ واجب، لا تعرّض لهذه الأصنام.» فدعا قتيبة بالنار، فأخذ شعلة بيده، وخرج فكبّر، ثمّ أشعلها وأشعل الباب، فاضطرمت، فوجدوا من بقايا ما كان فيها من مسامير الذهب والفضّة خمسين ألف مثقال.
جارية رابعة ليزدجرد أصابها قتيبة
ومن ملح الحديث وإن لم يكن من شرط هذا الكتاب، أنّ قتيبة أصاب بالسغد جارية رابعة من ولد يزد جرد [3] ، فقال:
- «أترون ابن هذه يكون هجينا؟» فقالوا:
- «نعم، يكون هجينا من قبل أبيه.» فبعث بها إلى الحجّاج، فبعث بها الحجّاج إلى الوليد، فولدت له يزيد بن الوليد.
__________
[1] . رأس: كذا فى الأصل والطبري (8: 1246) وفى مط، وابن الأثير (4: 573) : فارس.
[2] . غورك: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 7- 1246) : غوزك. وفى ابن الأثير (4:
573) : غورك.
[3] . تجد الرواية عند الطبري أيضا (8: 7- 1246) .(2/418)
ما أوصى به قتيبة عبد الله بن مسلم
ولمّا فتح قتيبة سمرقند استخلف عليها عبد الله بن مسلم وخلّف عنده جندا كثيفا وآلة من آلات الحرب كثيرة، وقال:
- «لا تدعنّ مشركا يدخل بابا من أبواب سمرقند إلّا [499] مختوم اليد، فإن جفّت الطينة قبل أن يخرج فاقتله، وإن وجدت معه حديدة أو سكّينا فما سواه فاقتله، وإن أغلقت الباب ليلا فوجدت فيها منهم فاقتله.
وقال قتيبة لمّا جمع بين فتح خوارزم وسمرقند:
- «هذا العداء لا عداء العيرين.» لأنّه افتتح خوارزم وسمرقند فى عام واحد، وذلك أنّ الفارس إذا صرع فى طلق واحد عيرين، قيل: عادى بين عيرين.
فتوح أخرى تمّت فى هذه المدّة
وفى هذه المدة التي ذكرنا فيها أمور الحجّاج بالعراق وأخباره مع الخوارج وعبد الرحمان بن الأشعث وغزوات قتيبة والمهلّب قبله كانت غزوات لعبد الله بن عبد الملك أرض الروم، ففتح فيها المصيصة وغيرها، وغزوات لمسلمة بن عبد الملك، ففتح فيها طوانة، وغيرها، وقسطنطنين، وغزالة، وحصن سورية، وعمّورية وهرقلة، وقمولية. وغزا أيضا مسلمة بن عبد الملك فى هذه المدة الترك حين بلغ الباب من ناحية أذربيجان.
وأغزى موسى بن نصير الأندلس، ففتحها، وفتح موسى بن نصير من بلاد الأندلس عدّة مدن، وقتل ملكها، وكان [500] رجلا من أهل إصبهان، وكان ملوك الأندلس يلقّبون كما تلقّب الأكاسرة والقياصرة، فيقال لملكها: الأذرينوق [1] ،
__________
[1] . أنظر ابن الأثير 4: 556.(2/419)
فقتله موسى بعد قتال شديد لم تكن فيها مكيدة، وكانت فيها غزوات العباس بن الوليد أرض الروم.
وغزوات لمروان بن الوليد الروم، فتحوا لهم مدنا وحصونا.
ولم يذكر فى جميع ذلك ما يستفاد منه تجربة.
وقتل الحجّاج سعيد بن جبير فى سنة خمس وسبعين.
ذكر كلام لسعيد بن جبير كان سبب قتله
قال: لمّا أتى الحجّاج بسعيد بن جبير، قال:
- «لعن الله ابن النصرانيّة..» يعنى خالدا القسرىّ وهو الذي كان أرسل به من مكّة.
- «.. أتراني ما كنت أعرف مكانه؟ بلى والله والبيت الذي هو فيه بمكّة.» ثم أقبل على سعيد، فقال:
- «يا سعيد، ما أخرجك علىّ مع عدوّ الرحمان [1] ؟» قال:
- «أصلح الله الأمير، إنّما أنا رجل من المسلمين يخطئ مرّة ويصيب مرّة.» قال: فطابت نفس الحجّاج وتطلّق حتّى رجونا [501] أن يتخلّص منه. عاوده فى شيء، فقال:
- «إنّما كانت له بيعة فى عنقي.» قال: فغضب الحجّاج وانتفخ حتّى سقط أحد طرفي ردائه عن منكبه، وقال:
- «يا سعيد، ألم أقدم مكّة فقتلت ابن الزبير، ثمّ أخذت بيعة أهلها وأخذت بيعتك لأمير المؤمنين عبد الملك؟» قال:
- «بلى.» قال:
__________
[1] . عدو الرحمان: كذا فى الأصل. وما فى مط: عبدى الرحمان.(2/420)
- «ثم قدمت الكوفة واليا على العراق، فجدّدت لأمير المؤمنين البيعة فأخذت بيعتك له ثانية؟» قال:
- «بلى.» قال:
- «فنكثت لأمير المؤمنين بيعتين، ووفيت بواحدة لابن الحائك! يا حرسىّ اضرب [1] عنقه.» ثم قام ليركب، فوضع رجله فى الركاب، وقال:
- «لا والله، لا أركب حتّى تبوّأ مقعدك من النار.» فضربت عنقه، فالتبس عقله مكانه، فجعل يقول:
- «قيودنا قيودنا!» فظنّ أنّه يريد القيود التي فى رجل سعيد بن جبير، فقطعوا رجليه من أنصاف ساقيه وأخذوا القيود. فكان إذا نام يراه فى منامه كأنّه يأخذ بمجامع ثوبه، فيقول:
- «ما لى ولابن جبير؟»
موت الحجّاج بن يوسف
وفيه هذه السنة مات الحجّاج بن يوسف، وكان استخلف فى مرضه [502] على حرب العراقين والصلاة بأهلها يزيد بن كبشة، وعلى خراجها يزيد بن أبى مسلم، فأقرّهما الوليد بعد موت الحجّاج، وكذلك فعل بعمّال الحجّاج، أقرّهم على أعمالهم التي كانوا عليها فى حياته.
ودخلت سنة ستّ وتسعين
من سيرة الوليد بن عبد الملك
وفيها مات الوليد بن عبد الملك فى النصف من جمادى الآخرة منها، وكان
__________
[1] . اضرب عنقه: كذا فى الأصل. وما فى مط: اضربا عنقه.(2/421)
عند أهل الشام أفضل خلائفهم [1] ، وذلك أنّه بنى مساجد منها مسجد دمشق ومسجد المدينة، ووضع المنار وأعطى المجذّمين وأفردهم، وقال:
- «لا تسألوا الناس!» وأعطى كلّ مقعد خادما وكلّ ضرير قائدا.
وفتحت فى ولايته فتوح عظام. أمّا موسى بن نصير ففتح الأندلس، وبلغ قتيبة كاشغر، وهي أوّل مدائن الصين، وفتح محمد بن القاسم الهند.
وكان الوليد صاحب بناء واتخاذ المصانع والضياع. فكان الناس فى أيامه إذا التقوا فإنّما يسأل بعضهم بعضا عن البناء والضياع.
ثم ولى سليمان فكان صاحب نكاح وطعام، وكان الناس [503] يسأل بعضهم بعضا عن التزويج والجواري.
فلمّا ولى عمر بن عبد العزيز، كانوا يلتقون فيقولون:
- «ما وردك؟ وكم تحفظ من القرآن؟ ومتى تختم؟ وكم تصوم من الشهر؟» وكان الوليد وسليمان وليّى عهد عبد الملك. فلمّا أفضى الأمر إلى الوليد أراد أن يبايع لابنه عبد العزيز ويخلع سليمان. فأبى سليمان، فأراده [2] على أن يخلعه من بعده، فامتنع أيضا، فعرض عليه أموالا كثيرة، فأبى. فكتب إلى عمّاله بأن يبايعوا لعبد العزيز، ودعا الناس إلى ذلك فلم يجبه أحد إلّا الحجّاج وقتيبة.
ذكر رأى لعبّاد بن زياد
فقال عبّاد بن زياد:
- «يا أمير المؤمنين، إنّ الناس لا يجيبونك إلى هذا، ولو أجابوك لم آمنهم على الغدر بابنك، فاكتب إلى سليمان فليقدم عليك، فإن لك عليه طاعة، فأرده على
__________
[1] . خلائفهم: فى الأصل ومط: خلائقهم وهو تصحيف. والمثبت من الطبري (8: 1271) .
[2] . فأراده: كذا فى الأصل ومط والطبري (8: 1274) .(2/422)
البيعة لابنك عبد العزيز من بعده، فإنّه لا يقدر على الامتناع وهو عندك، فإن أبى كان الناس عليه.» [504] فكتب الوليد إلى سليمان يأمره بالمسير إليه، فأبطأ، واعتزم الوليد على المسير إليه وعلى أن يخلعه. فأمر الناس بالتأهّب وأخرجت مضاربه ومات قبل أن يسير.
فتح كاشغر وما دار بين مبعوثى قتيبة وملك الصين
وكان قتيبة قد غزا فى هذه السنة مدينة كاشغر وهي أدنى مدائن الصين. فلمّا بلغ فرغانة أتاه موت الوليد، فوغل قتيبة حتّى قرب من الصين، فكتب إليه ملك الصين أن:
- «ابعث إلىّ رجلا من أشراف من معكم يخبرنا عنكم ونسأله عن دينكم.» فانتخب قتيبة من عسكره اثنى عشر رجلا من أفناء [1] القبائل لهم جمال وأجسام وألسن وبأس. وبعد أن سأل عنهم، فوجدهم بحيث أحبّ، فكلّمهم قتيبة وفاطنهم، فرأى عقولا وجمالا، فأمر لهم بعدّة حسنة من السلاح والمتاع والجيّد من الخزّ والوشي والليّن من الثياب والرقيق والبغال والعطر، وحملهم على خيول مطهّمة تقاد معهم، ودوابّ يركبونها، وقال لهم:
- «سيروا على بركة الله، فإذا دخلتم عليه فأعلموه أنّى قد حلفت أن لا [505] أنصرف حتّى أطأ بلادهم و [أختم] [2] ملوكهم وأجبى خراجهم.» فساروا وعليهم هبيرة بن المشمرج [3] ، فلمّا قدموا أرسل إليهم ملك الصين يدعوهم. فدخلوا الحمّام، ثمّ خرجوا، فلبسوا ثيابا بياضا تحتها الغلائل، ثمّ مسّوا
__________
[1] . الأفناء: جمع مفرده الفنء: الجماعة من الناس. تقول: جاء فنء من الناس. والفناء: الكثرة. تقول: مال ذو فنء.
[2] . وأختم: كذا فى مط والطبري (8: 1277) . وما فى الأصل غير واضح.
[3] . المشمرج: ضبطناه كما فى الطبري. وهو غير مضبوط فى الأصل ومط.(2/423)
الغالية، ولبسوا النعال والأردية ودخلوا عليه وعنده عظماء أهل مملكته، فجلسوا، فلم يكلّمهم الملك ولا أحد من جلسائه، فنهضوا فقال الملك لمن حضره:
- «كيف رأيتم هؤلاء؟» قالوا:
- «رأينا قوما هم نساء، ما بقي منّا أحد حين رءاهم ورأى شعورهم ووجد رائحتهم إلّا انتشر ما عنده.» قال: فلمّا كان الغد أرسل إليهم فلبسوا الوشي وعمائم الخزّ والمطارف وغدو عليه. فلمّا دخلوا إليه قيل لهم:
- «ارجعوا!» ثم قال لأصحابه:
- «كيف رأيتم؟» قالوا:
- «هذه الهيئة أشبه بهيئة الرجال من تلك [الهيئة] [1] الأولى وهم أولئك.» فلمّا كان اليوم الثالث أرسل إليهم فشدّوا عليهم سلاحهم ولبسوا البيض والمغافر، وتقلّدوا السيوف، وأخذوا الرماح، وتنكّبوا القسىّ [506] وركبوا خيولهم. فنظر إليهم صاحب الصين من منظرة له، فرأى أمثال الجبال مقبلة. فلمّا دنوا ركّزوا رماحهم، ثمّ أقبلوا مشمّرين، فقيل لهم قبل أن يدخلوا:
- «ارجعوا!» فانصرفوا. فلمّا ركبوا خيولهم اختلجوا رماحهم ثمّ رفعوا خيولهم كأنّهم يتطاردون بها. فقال الملك لأصحابه:
- «كيف ترونهم؟» قالوا:
- «ما رأينا مثل هؤلاء قطّ.» فلمّا أمسى أرسل إليهم أن ابعثوا إلىّ زعيمكم وأفضلكم رجلا.
__________
[1] . سقط ما بين [] من الأصل. فأخذناه عن مط. كما أنّ الكلمة ليست فى الطبري أيضا (أنظر 8: 1278) .(2/424)
فبعثوا إليه هبيرة، فقال له حين دخل عليه:
- «قد رأيتم عظيم ملكي وأنّه ليس أحد يمنعكم منّى وأنتم فى بلادي بمنزلة الخاتم فى كفّى، وأنا سائلكم عن أمر، فإن لم تصدقوني [1] قتلتكم.» قال:
- «سل.» قال:
- «لم صنعتم ما صنعتم من الزىّ [2] فى اليوم الأوّل والثاني والثالث؟» قال:
- «أمّا زيّنا فى اليوم الأوّل فلباسنا فى أهالينا، وأمّا يومنا الثاني، فإذا أتينا أمراءنا، وأمّا يومنا الثالث فزيّنا لعدوّنا، فإذا هاج هيج كنّا هكذا.» قال:
- «ما أحسن ما دبّرتم دهركم! فانصرفوا إلى صاحبكم فقولوا له ينصرف [507] فإنّى قد عرفت حرصه وقلّة أصحابه وإلّا بعثت إليه من يهلكه ويهلككم معه.»
ذكر كلام لهبيرة فى جواب الملك صار سببا لحمله الخراج وتهيّبه الحرب
فأجابه هبيرة وقال:
- «كيف يكون قليل الأصحاب من أوّل خيله فى بلادك وآخرها فى منابت الزيتون، وكيف يكون حريصا من خلّف الدنيا وراءه قادرا عليها وغزاك؟ وأمّا تخويفك إيّانا بالقتل فإنّ لنا آجالا إذا حضرت فلسنا نكرهها ولا نخافها.» فقال بعد أن أطرق:
- «فما الذي يرضى صاحبك؟» قال:
- «إنّه قد حلف ألّا ينصرف حتّى يطأ أرضكم ويختم ملوككم ويعطى
__________
[1] . فى الأصل ومط والطبري: لم تصدقني (بصيغة المفرد) وفى بعض الأصول عن حواشي الطبري:
لم تصدقوني. وهو أنسب.
[2] . الزي: كذا فى الأصل والطبري، وهو الصحيح. وما فى مط: الذي!(2/425)
الجزية.» قال:
- «فإنّا نخرجه من يمينه: نبعث إليه بتراب أرضنا فيطأه، ونبعث إليه ببعض أبنائنا فيختمهم، ونبعث إليه بجزية يرضاها.» قال: فدعا بصحاف من ذهب فيها تراب، وبعث بحرير وذهب وأربعة غلمان من أبناء ملوكهم. ثمّ أجازهم فأحسن جوائزهم، فساروا فقدموا بما بعثوا به.» فقبل الجزية وختم الغلمة وردّهم ووطئ التراب. فقال فى ذلك سوادة بن عبد الله السلولي:
لا عيب فى الوفد الذين بعثتهم ... للصين لو سلكوا طريق المنهج [508]
كسروا الجفون على العدى [1] خوف الرّدى ... حاشا الكريم هبيرة بن مشمرج
لم يرض غير الختم فى أعناقهم ... ورهائن دفعت لحمل سمرّج
أدّى رسالتك التي استرعيته ... وأتاك من حنث اليمين بمخرج
قال: فأوفد قتيبة هبيرة إلى الوليد، فمات بقرية من فارس.
من سيرة قتيبة
وكان من سيرة قتيبة إذا بعث طلائع الفرسان أو غيرهم أن يأمر بلوح منقوش فيشقّ شقّتين، فيعطيهم شقّة ويحتبس شقّة ويأمرهم أن يدفنوها فى موضع يصفه من مخاضة معروفة، أو تحت شجرة معلومة، ثمّ يبعث بعده من يستخرجها ليعلم أصادق طليعته أم لا.
__________
[1] . العدى: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 1279) : القذى. وفى حواشيه عن بعض الأصول: العدى.(2/426)
خلافة سليمان بن عبد الملك بن مروان
وفى هذه السنة بويع سليمان بن عبد الملك وخالف قتيبة بخراسان وتأدّى أمره إلى أن قتل.
ذكر السبب فى ذلك كان سبب ذلك ما حكيناه من إجابة قتيبة الوليد إلى خلع سليمان.
فلمّا مات الوليد وبويع سليمان خافه قتيبة، وأشفق أن يولّى سليمان يزيد بن المهلّب خراسان [509] لمودّة كانت بين يزيد بن المهلّب وبين سليمان.
فكتب قتيبة كتابا إلى سليمان يهنّئه بالخلافة ويعزّيه عن الوليد ويعلمه بلاءه [1] وطاعته لعبد الملك والوليد وأنّه على مثل ذلك له من الطاعة والنصيحة إن لم يعزله عن خراسان، ثمّ كتب كتابا آخر يعلمه فيه فتوحه ونكايته وعظم قدره عند ملوك العجم وهيبته فى صدورهم وبعد صوته فيهم، ويذمّ المهلّب وآل المهلّب، ويحلف بالله لئن استعمل يزيد على خراسان ليخلعنّه.
ثم كتب كتابا ثالثا فيه خلعه.
وبعث بالكتب الثلاثة مع رجل من باهلة وقال:
__________
[1] . بلاءه: كذا فى الأصل والطبري (8: 1284) . وما فى مط: بلاده. وهو خطأ.(2/427)
- «ادفع هذا الكتاب، فإن كان يزيد بن المهلّب حاضرا فقرأه ثمّ ألقاه إليه فادفع إليه هذا الكتاب، فإن قرأه وألقاه إليه فادفع إليه هذا الكتاب الثالث. وإن قرأ الأوّل ولم يدفعه إلى يزيد فاحتبس الكتابين الآخرين.» فقدم رسول قتيبة ودخل على سليمان وعنده يزيد بن المهلّب، فدفع الكتاب الأوّل، فقرأه، ثمّ ألقاه إلى يزيد، ثمّ دفع إليه الكتاب الثاني [510] فقرأه ثمّ رمى به إلى يزيد، ثمّ أعطاه الكتاب الثالث فتمعّر [1] لونه ثمّ دعا بطين فختمه ثمّ أمسكه [بيده] [2] . ثمّ أمر رسول قتيبة أن ينزل. فحوّل إلى دار الضيافة. فلمّا أمسى دعا به سليمان، فأعطاه صرّة فيها دنانير، فقال:
- «هذه جائزتك وهذا عهد صاحبك على خراسان، فسر، وهذا رسولي معك بعهده.» فخرج الباهلىّ و [معه] [3] رسول سليمان. فلمّا كانا بحلوان تلقّاهما الناس بخلع قتيبة واضطراب الأمر. فدفع الرسول العهد إلى رسول قتيبة وانصرف هو.
ذكر عجلة قتيبة بالخلع وما دبّره من أمره
فأمّا قتيبة فإنّه لمّا همّ بالخلع استشار إخوته، فقال عبد الرحمان:
- «اقطع بعثا، فوجّه فيه كلّ من تخافه، ووجّه قوما إلى مرو وسر [4] حتّى تنزل سمرقند، ثمّ قل لمن معك: من أحبّ المقام فله المواساة، ومن أراد الانصراف فغير مستكره ولا متبوع بسوء، فإنّه لا يقيم معك إلّا ناصح.»
__________
[1] . فتمعّر: كذا فى الأصل والطبري 8: 1285. وفى حواشي الطبري عن الأصول: تمغّر. وفى مط: تغيّر.
تمعّر لونه أو وجهه: تغيّر وعلته صفرة: تمغّر: أصبح مغرة. والمغرة: الطين الأحمر يصبغ به.
[2] . ما بين [] غير مقروء فى الأصل، فأخذناه من مط.
[3] . ما بين [] غير مقروء فى الأصل ومأخوذ من مط.
[4] . فى الأصل ومط: «إلى مرو وسرخس حتّى تنزل» من دون «سر» . وفى الطبري: «إلى مرو وسر حتّى تنزل» فرأينا الصواب ما فى الطبري لسياق العبارة، وخلط النسّاخ بين «خس» و «حتى» .(2/428)
وقال أخوه عبد الله:
- «اخلعه مكانك، وادع الناس إلى خلعه، فليس يختلف عليك رجلان.» فأخذ برأى عبد الله [511] فخلع سليمان ودعا الناس إلى خلعه، وخطب:
- «أيها الناس، إنّى قد جمعتكم من عين التمر وفيض البحر، فضممت الأخ إلى أخيه والولد إلى أبيه، وقسمت بينكم فيئكم، وأجريت عليكم أعطياتكم غير مكدّرة ولا مؤخّرة، وقد جرّبتم الولاة [قبلي،] [1] أتاكم أميّة، فكتب إلى أمير المؤمنين أنّ خراج خراسان لا يقيم مطبخى، ثمّ جاءكم أبو سعيد [2] ، فدوّم [3] ثلاث سنين ولا تدرون: أفى طاعة أنتم أم فى معصية، لم يجب فيئا، ولا نكا عدوّا. ثمّ جاءكم بنوه بعده. فحل تنازى [4] إليه النساء، وإنّما خليفتكم يزيد بن ثروان هبنّقة القيسي، فلم يجبه أحد..» فغضب وقال:
- «.. لا أعزّ الله من نصرتم، والله لو اجتمعتم على غير ما كسرتم قرنه يا أهل السافلة- ولا أقول العالية- يا أوباش الصدقة، جمعتكم كما تجمع إبل الصدقة من كلّ أوب، يا معشر بكر بن وائل، يا أهل النفح والكذب والبخل! بأىّ يوميكم تفخرون: بيوم حربكم، أم يوم سلمكم؟ يا أصحاب مسيلمة، يا بنى ذميم- ولا أقول: تميم- يا أهل الخور والقصف والغدر، كنتم تسمّون الغدر [512] فى الجاهليّة كيسا [5] ، يا معشر عبد القيس القساة، تبدّلتم من أبر النخل أعنّة الخيل، يا
__________
[1] . ما بين [] غير مقروء فى الأصل، فزدناه من مط، كما يوافق الطبري.
[2] . كتب فى حاشية الأصل: «يعنى المهلّب.»
[3] . فدوّم ثلاث سنين: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 1287) : فدوّم بكم ثلاث سنين (بزيادة «بكم» )
[4] . تنازى إليه النساء: كذا فى الأصل. وفى مط: ينادى إليه الثناء. وما فى الطبري: تبارى إليه النساء.
[5] . فى الأصل والطبري: كيسان. وما فى مط: كيس.(2/429)
معشر الأزد تبدّلتم من [قلوس] [1] السفن أعنّة الحصن. الأعراب، وما الأعراب! يا كناسة المصرين، جمعتكم من منابت الشيخ [2] والقيصوم ومنابت الفلفل، تركبون البقر والحمر فى جزيرة بنى كاوان [3] ، حتّى إذا جمعتكم كما يجمع قزع [4] الخريف، قلتم كيت وكيت. أما والله، لأعصبنّكم عصب السلمة [5] . يا أهل خراسان! هل تدرون من واليكم؟ يزيد بن ثروان. كأنّى بأمير قد جاءكم، من جاء وحكم فغلبكم على فيئكم وظلالكم. إنّ هاهنا نارا ارموها أرم معكم، ارموا غرضكم الأقصى. قد استخلف عليكم أبو نافع ذو الودعات. الشام أب مبرور، والعراق أب مكفور، حتّى متى ينتطح أهل الشام بأفنيتكم وظلال دياركم. يا أهل خراسان! انسبوني تجدوني عراقىّ الأب، عراقىّ الأمّ، عراقىّ المولد، عراقىّ الهوى والرأى والدين، وقد أصبحتم اليوم فى ما ترون من الأمن والعافية وقد فتح الله لكم البلاد، وآمن سبلكم، فالظعينة تخرج [513] من مرو إلى بلخ بغير جواز، فاحمدوا الله على النعمة، وسلوه المزيد.» ثم نزل.
فأتاه أهل بيته، فقالوا:
- «ما رأينا كاليوم قطّ، والله، ما اقتصرت على العالية وهم شعارك ودثارك،
__________
[1] . أخذنا ما بين [] من الطبري وهو ساقط من الأصل ومط.
[2] . الشيح والقصوم والفلفل: الشيح. نبت سهلي رائحته طيبة قويّة ترعاه الماشية. والقيصوم: نبات طيّب الرائحة يتداوى به. والفلفل: معروف. ولكن فى الأصل ومط: القلقل ولم ننته إلى معنى له. وفى الطبري: الفلفل كما أثبتناه.
[3] . جزيرة بنى كاوان ويقال: جزيرة كادان: جزيرة عظيمة يقال لها جزيرة «لافت» وهي فى بحر فارس بين عمان والبحرين، كان بها قرى ومزارع وهي الآن خراب (مراصد الاطلاع) .
[4] . قزع: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري: قرع. القزع: والواحدة القزعة قطع من السحاب صغار. والقرع معروف.
[5] . السلمة: واحدة السلم، والسلم: جنس شجر أو نبات شائك من فصيلة القطانيات ينمو فى البلدان الحارّة.(2/430)
حتّى تناولت بكرا وهم أعضادك وأنصارك، ثمّ لم ترض بذلك حتّى تناولت تميما وهم إخوتك، ثمّ لم ترض حتّى تناولت الأزد وهم يدك.» فقال:
- «ويحكم! إنّى لمّا تكلّمت فلم يجيبوا غضبت، فلم أدر ما قلت. أما أهل العالية فكإبل الصدقة وقد جمعت من كلّ أوب، وأمّا بكر فإنّها أمة لا تمنع يد لامس، وأمّا تميم فجمل أجرب، وأمّا عبد القيس فما تضرب [1] العير بذنبه، وأمّا الأزد فأعلاج أشرار لو وسمتهم لما أثمت.» فغضب الناس من شتم قتيبة، فأجمعوا على خلافه، وكرهوا أيضا خلع سليمان. فكان أوّل من تكلّم فى ذلك الأزد. فأتوا حصين بن المنذر، فأبى أن يقبل رئاستهم فأرادوا أن يولّوا عبد الله بن ذودان الجهضمي، فأبى وتدافعوها، فرجعوا إلى حصين وقالوا:
- «قد تدافعنا الرئاسة، فنحن نولّيك أمرنا وربيعة [514] تخالفك.» قال:
- «لا ناقة لى فى هذا ولا جمل.» قالوا:
- «فما ترى؟» قال:
- «إن جعلتم هذه الرئاسة فى تميم تمّ أمركم.» قالوا:
- «فمن ترى من تميم؟» قال:
- «ما أرى أحدا غير وكيع.» فقال حيّان النبطىّ وكان حاضرا:
- «إنّ أحدا لا يتقلّد هذا الأمر ثمّ يصلى بحرّه ويبذل دمه ويتعرّض للقتل، فإن قدم أمير أخذه بما جنى وكان المهنأ لغيره إلّا هذا الأعرابى- يعنى وكيعا- فإنّه مقدام لا يبالى ما ركب ولا ينظر فى عاقبة، وله عشيرة كثيرة تطيعه [2] ، وهو
__________
[1] . فما تضرب: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 1289) : فما يضرب.
[2] . تطيعه: كذا فى الأصل والطبري. وما فى مط: قطيعة. وهو خطأ.(2/431)
موتور يطلب قتيبة برئاسته التي صرفها عنه وصيّرها لضرار بن حصين بن زيد الفوارس الضبىّ.» فمشى الناس بعضهم إلى بعض سرّا، وقيل لقتيبة:
- «ليس يفسر أمر الناس إلّا حيّان.» فأراد أن يغتاله. وكان حيّان كثير الملاطفة لحشم الولاة، فلا يخفون عنه شيئا.
فدعا قتيبة رجلا وأمره بقتل حيّان وسمعه بعض الخدم. فأتى حيّان فأخبره.
فأرسل إليه يدعوه، فحذر وتمارض. وأتى الناس وكيعا فسألوه أن يقوم بأمرهم، فقال:
- «نعم.» وتمثّل:
سأجنى ما جنيت وإنّ أمرى ... لمعتمد على نضد ركين [515]
وبخراسان يومئذ من المقاتلة من جميع القبائل نحو من خمسين ألفا ومن الموالي سبعة آلاف، وكان الذي يلي أمر الموالي حيّان. ويقال: إنه ديلمىّ، وقيل:
بل هو من خراسان، وإنّما قيل له نبطىّ للكنته [1] .
فأرسل حيّان إلى وكيع:
- «أرأيت إن كففت عنك وأعنتك، أتجعل لى جانب نهر بلخ خراجه ما دمت واليا؟» قال:
- «نعم.» فقال للعجم:
- «هؤلاء يقاتلون على غير دين، فدعوهم يقتل بعضهم بعضا.» قالوا:
- «نعم.»
__________
[1] . للكنته: كذا فى الطبري (8: 1291) . وما فى الأصل ومط: للكتبة. وليس له معنى.(2/432)
فبايعوا وكيعا سرّا. فأتى ضرار بن حصين قتيبة، فقال له:
- «إنّ الناس يختلفون إلى وكيع ويبايعونه.» فكان وكيع يأتى منزل عبد الله بن مسلم الفقير أخى قتيبة فيشرب عنده، فقال عبد الله:
- «هذا يحسد وكيعا والحديث باطل. وكيع فى بيتي يشرب ويسكر ويسلح [1] فى ثيابه وهذا يزعم أنّهم يبايعونه.» وجاء وكيع إلى قتيبة، فقال:
- «احذر ضرارا، فإنّى لا آمنه عليك.» فأنزل قتيبة ذاك على الحسد الذي بينهما. وتمارض وكيع، فدسّ قتيبة ضرار بن سنان الضبّى إلى وكيع، فبايعه سرّا، فتبيّن لقتيبة أمره، فدعا ضرارا وقال له:
- «كنت صدقتني.» قال:
- «لم أخبرك إلّا بعلم، فأنزلت [516] ذلك منّى على الحسد.» قال:
- «صدقت.» فأرسل قتيبة إلى وكيع يدعوه. فوجده الرسول قد طلى على رجليه مغرة [2] وعلّق عليها خرزا وعنده من يرقيه [3] . فقال له:
- «أجب الأمير.» قال:
- «قد ترى ما برجلي.» فرجع الرسول إلى قتيبة، فأعاده إليه وقال:
__________
[1] . يسلح (بالحاء المهملة) : كذا فى الأصل والطبري. سلح (يسلح سلحا) : تغوّط. وهو خاصّ بالطير والبهائم، واستعماله للإنسان من باب التساهل على التشبيه. وفى مط: يسلج (بالجيم المعجمة) .
سلج (يسلج سلوجا) الإبل: استطلقت بطونها من أكل السلج وهو نبات ترعاه الإبل. سلج اللّقمة: بلعها.
[2] . المغرة والمغرة: طين أحمر يصبغ به. وحمرته ليست ناصعة. أو شقرة بكدرة.
[3] . يرقيه: من قولهم: رقى المريض: عوّذه. ويقال: باسم الله أرقيك، والله يشفيك.(2/433)
- «ايتنى به محمولا على سرير.» قال:
- «لا أستطيع.» فقال قتيبة لشريك بن الصامت، وكان على شرطته، ولرجل آخر من غنىّ [1] :
- «انطلقا إلى وكيع فأتيا به، فإن أبى فاضربا عنقه.» ووجّه معهما خيلا فقال هريم بن طخفة [2] :
- «أنا آتيك به أصلحك الله.» قال:
- «فانطلق.» قال هريم: فركبت برذوني وركضت مخافة أن يردّنى، فأتيت وكيعا وقد سبق إليه الخبر والخيل يأتيه.
فخرج وخرج معه هريم وهو على يمينه. ونادى وكيع فى الناس، فأقبلوا أرسالا من كلّ وجه، وأقبل فى الناس وهو يقول:
قرم إذا حمّل مكروهة ... شدّ الشراسيف لها والحزيم
وأمر قتيبة رجلا فقال:
- «ناد فى الناس: أين بنو عامر؟» فنادى:
- «أين بنو عامر؟» [517] فقال له مجفر [3] بن جزء الكلابىّ:
- «وقد كان جفاؤهم حيث وضعتهم.» قال:
- «ناد: أذكّركم الله والرحم.» قال مجفر:
__________
[1] . آخر من غنّى: كذا فى الأصل والطبري (8: 1292) وما فى مط: ولعلّه «مرغنىّ» .
[2] . هريم بن أبى طخفة: كذا فى الأصل ومط. وفى الطبري: هريم بن أبى طحمة.
[3] . مجفر بن جزء: كذا فى الأصل ومط. وفى الطبري (8: 1294) : محفن بن جزء.(2/434)
- «أنت قطعتها.» قال:
- «ناد لكم العتبى.» فناداه مجفر وغيره:
- «لا أقالنا الله إذا.» فدعا قتيبة ببرذون له مدرّب كان يلجأ إليه فى الزحوف [1] ، فقرّب إليه، فجعل يقمص حتّى أعياه. فلمّا رأى ذلك عاد إلى سريره وقال:
- «دعوه، هذا أمر يراد.» وجاء حيّان النبطي فى العجم، فوقف وقتيبة واجد عليه، فوقف معه عبد الله مسلم، وقال لحيّان:
- «احمل على أحد هذين الطرفين.» قال:
- «لم يأن لى ذلك.» فغضب عبد الله وقال:
- «ناولني قوسي.» فقال:
- «ليس هذا يوم قوس.» وأرسل وكيل إلى حيّان:
- «أين ما وعدتني؟» فقال حيّان لابنه:
- «إذا رأيتنى قد حوّلت قلنسوتي ومضيت، فمل بمن معك من العجم إلىّ.» ففعل، ومالت [2] الأعاجم إلى عسكر وكيع، فكبّر أصحابه. وبعث قتيبة أخاه صالحا إلى الناس، فرمى بسهم فأصاب هامته، فحمل إلى قتيبة مائل الرأس،
__________
[1] . الزحوف: كذا فى الأصل والطبري (8: 1294) . وفى مط: الرحوب! والعبارة فى الطبري: «وكان يتطيّر إليه فى الزحوف.» بدل: «وكان يلجأ إليه فى الزحوف.»
[2] . ومالت الأعاجم: كذا فى الأصل والطبري (8: 1295) . وما فى مط: سالت الأعاجم.(2/435)
وتهايج الناس، وأقبل عبد الرحمان بن مسلم نحوهم، فرماه أهل السوق [518] والغوغاء فقتلوه، ودنوا من قتيبة، فدعا بدابّة فأتى به، فلم يقرّ ليركبه، فقال:
- «إنّ له لشأنا.» ورجع فجلس، وجاء الناس حتّى بلغوا فسطاطه، فخرج عنه من كان حوله فقتل وقتل معه من بنى مسلم [1] أحد عشر رجلا سبعة منهم لصلب مسلم، وأربعة من بنى أبنائهم، فصلبهم وكيع، وهم: قتيبة، وعبد الرحمان وعبيد الله، وعبد الله الفقير، وصالح، ويسار [2] ، ومحمد بنو مسلم، وكثير بن قتيبة، ومفلّس بن عبد الرحمان، ورجلان آخران، ولم ينج من صلب مسلم غير عمرو، وكان عامل الجوزجان، وضرار أخوه استنقذ أخواله، وكانت أمّه الغرّاء بنت ضرار بن القعقاع بن معبد بن زرارة. وسقطت على قتيبة يوم قتل جارية له خوارزميّة، فوضعت بعد ليزيد بن المهلّب، فأخذها، فهي أمّ خليدة.
ولمّا قتل قتيبة صعد وكيع المنابر، فعلم منه أنّه يأتى بآبدة [3] وهوجة [4] .
فصعد معه عمارة بن خئيّه [5] ، فتكلّم فأكثر، فقال وكيع:
- «دعنا من هذرك وقذرك.» وتكلّم وكيع فقال:
- «مثلي ومثل قتيبة، ما قال الأوّل:
__________
[1] . مسلم: كذا فى الأصل والطبري 8: 1296. وما فى مط: سليم. وهو خطأ.
[2] . يسّار: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري: بشّار.
[3] . الآبدة: الأمر العجيب يستغرب له. أوابد الكلام: غرائبه وعجائبه.
[4] . الهوج: الحمق والطيش والشجاعة.
[5] . خئيّة: كذا فى الأصل. وفى مط: حبيبة. وما فى الطبري (8: 1298) : جنيّة.(2/436)
من ينك العير ينك نيّاكا [519]
من أىّ يوميك من الموت تفرّ ... أيوم لم يقدر، أم يوم قدر
«.. أراد قتيبة أن يقتلني وأنا قتّال، والله لأقتلنّ ثمّ لأقتلنّ، ثمّ لأصلبنّ. إنّى لوالغ دماء، إلّا أنّ مرزبانكم هذا ابن الزانية قد أغلى أسعاركم، والله ليصيرنّ القفيز فى السوق غدا بأربعة، أو لأصلبنّه. صلّوا على نبيّكم صلّى الله عليه.» ثم نزل.
وطلب وكيع رأس قتيبة وخاتمه، فقيل له:
- «إنّ الأزد أخذته.» فخرج وكيع وهو يقول:
- «دهدرّين سعد القين! [1] والله الذي لا إله غيره لا أبرح حتّى أوتى بالرأس، أو يذهب برأسى معه.» ودعا بخشب، فقال:
- «إنّ هذه الخيل لا بدّ لها من فرسان يتهدّد بالصلب.» فقال له حصين:
- «يا أبا مطرّف، توتى به فاسكن.» وذهب حصين إلى الأزد، وهو سيّدهم، فقال:
- «أحمقى أنتم؟ بايعناه وأعطيناه المقادة وعرّض نفسه، ثمّ تأخذون الرأس! أخرجوه، لعنه الله من رأس!»
__________
[1] . دهدرّين سعد القين: كذا فى الأصل. والضبط فى الطبري: «ده درّين سعد القين» . قال فى متن اللغة: دهدرّين (دهدرّية) : الرجل الكذوب. وقولهم دهدرّين سعد القين: مثل ومعناه: بطل سعد القين.
لأنّ دهدرّين اسم فعل لبطل. والقين: الحدّاد والصانع. أى بطل الحدّاد لتشاغل الناس عنه بما هم فيه من الشدّة والقحط. (نقل بالتلخيص) .(2/437)
فجاؤوه به، فوهب لمن جاء به ثلاثة آلاف درهم. وبعث بالرأس مع رجال من القبائل وعليهم [520] سليط، ولم يبعث من بنى تميم أحدا.
ووفّى لحيّان النبطي بما كان وعده به.
فقال رجل من عجم خراسان:
- «يا معشر العرب! قتلتم قتيبة، والله لو كان منّا ثمّ مات فينا لجعلناه شهيدا وحفظنا تابوته إلى الحشر نستفتح به إذا غزونا.» وقال الإصبهبذ يوما لرجل:
- «يا معشر العرب! قتلتم قتيبة ويزيد وهما سيّد العرب.» قال:
- «نعم، فأيّهما كان أهيب فى صدوركم وأعظم قدرا عندكم؟» فقال له الإصبهبذ:
- «لو كان قتيبة بالمغرب بأقصى جحر به مكبّلا بالحديد ويزيد معنا فى بلادنا وال علينا، لكان قتيبة أهيب فى صدورنا وأعظم من يزيد.» ورثى الشعراء قتيبة، فأكثروا.
وولّى سليمان يزيد بن المهلّب العراق مكان الحجّاج حربها وخراجها وصلاتها
. ذكر رأى رءاه يزيد لنفسه عاد مكروها عليه
فكرّ يزيد فى نفسه فقال:
- «إنّ العراق قد أخربها الحجّاج، وأنا اليوم رجاء أهل العراق، ومتى قدمتها وأخذت الناس بالخراج وعذّبتهم عليه صرت [520] [1] مثل الحجّاج وأعيد عليهم مثل تلك السجون التي قد عافاهم الله منه أو متى لم آت سليمان بمثل
__________
[1] . رقم الصفحة مكرّر فى مصوّرة الأصل، فكرّرناه نحن أيضا، حرصا على بقاء الأرقام فى الصفحات الآتية كما هي، لتفادى الخلط عند المراجعة.(2/438)
ما جاء به الحجّاج لم يقبل منّى.» فأتى يزيد سليمان وقال له:
- «أدلّك على رجل بصير بالخراج تولّيه إيّاه فتكون أنت الذي تأخذه به؟» قال:
- «نعم.» قال صالح بن عبد الرحمان: قال:
- «قد قبلنا رأيك.» وولّاه. فأقبل يزيد إلى العراق وتقدّم صالح فنزل واسطا. فلمّا قدم يزيد خرج الناس يتلقّونه. وقيل لصالح:
- «هذا يزيد وقد خرج الناس يتلقّونه.» فلم يخرج حتّى قرب يزيد من المدينة، فخرج صالح عليه درّاعة وبين يديه أربعمائة من أهل الشام، فلقى يزيد فسايره، فلمّا دخل المدينة، قال له صالح:
- «قد فرّغت لك هذه الدار.» وأشار إلى دار. فنزلها يزيد واحتمل ذلك، ثمّ ضيّق صالح على يزيد فلم يملكه شيئا.
واتخذ يزيد ألف خوان يطعم الناس عليها، فأخذها صالح. فقال له يزيد:
- «أكتب علىّ ثمنها.» واشترى متاعا كثيرا وصكّ صكاكا إلى صالح لباعتها فلم ينفذ. فرجعوا إلى يزيد، فغضب وقال:
- «هذا عملي بنفسي.» فلم يلبث [أن جاء] [1] صالح، فأوسع له يزيد، فجلس وقال ليزيد:
__________
[1] . فلم يلبث [أن جاء] صالح: سقط ما بين [] من الأصل، فنقلناه من مط.(2/439)
- «ما هذه [521] الصكاك التي لا يقوم لها الخراج. قد أنفذت لك منذ أيّام صكا بمائة ألف [000، 100] درهم وعجّلت لك أرزاقك، ثمّ سألت مالا للجند، فأعطيتك، فهذا لا يقوم له شيء ولا يرضى به أمير المؤمنين وتؤخذ به.» فقال له يزيد:
- «يا با الوليد، أجز هذه الصكاك هذه المرّة.» قال:
- «فإنّى أجيزها، فلا تكثرنّ علىّ.» قال:
- «لا.» وضجر يزيد بصالح [1] ، فكان لا يصل معه إلى شيء. فدعا عبد الله بن الأهتم، فقال له:
- «إنّى أريدك لأمر قد أهمّنى فأحبّ أن تكفينيه ولك مائة ألف.» قال:
- «مرني بما شئت.» قال:
- «أنا فى ما ترى من الضيق، قد أضجرنى ذلك، وبلغني أنّ أمير المؤمنين ذكر خراسان لعبد الملك أخى، فاخرج واحتل حتّى يسمّيها لى.» قال:
- «أفعل، سرّحنى إلى أمير المؤمنين فى بعض الأمور فإنّى أرجو أن آتيك بعهدك عليها.»
ما احتال به الأهتم حتّى قلّد يزيد خراسان
فكتب معه يزيد كتابين إلى سليمان وذكر فى أحدهما أمر العراق وأثنى فيه على ابن الأهتم وعلمه بها. ثمّ وجّهه على البريد وأعطاه ثلاثين ألفا، فسار سبعا.
[522] ثمّ قدم على سليمان فباسطه سليمان وحادثه وقال له:
- «إنّ يزيد بن المهلّب كتب إلىّ يذكّر علمك بالعراق وبخراسان، فكيف علمك
__________
[1] . والعبارة فى الطبري (9: 1308) : «.. فبلغ الخبر يزيد بن المهلّب وقد ضجر بالعراق وقد ضيّق عليه صالح بن عبد الرحمان، فليس يصل معه إلى شيء..»(2/440)
بها [1] ؟» قال:
- «يا أمير المؤمنين، بها ولدت وبها نشأت، فلي بها خبر وعلم.» قال:
- «ما أحوج أمير المؤمنين إلى مثلك، فأخبرنى عن خراسان.» قال:
- «أمير المؤمنين أعلم بمن يريد أن يولّى، فإن ذكر أحدا أخبرته برأى فيه: هل يصلح أم لا.» فسمّى سليمان رجلا من قريش. فقال:
- «يا أمير المؤمنين، ليس من رجال خراسان.» قال:
- «فعبد الملك بن المهلّب.» قال:
- «ولا هو.» حتّى عدّد رجالا كان فى آخرهم وكيع بن أبى سود. فقال:
- «يا أمير المؤمنين، ما أحد أوجب شكرا ولا أعظم عندي يدا من وكيع. لقد أدرك بثأرى وشفاني من عدوّى، ولكنّ أمير المؤمنين أعظم حقّا علىّ وإنّ النصيحة تلزمني له. إنّ وكيعا لم يجتمع له قطّ ثلاثمائة عنان إلّا حدّث نفسه بغدرة. خامل [2] فى الجماعة نابه [3] فى الفتنة.» قال:
- «صدقت. ويحك! فمن لها؟» قال:
- «رجل أعلمه لم يسمّه أمير المؤمنين.» قال:
- «فمن هو؟» قال:
- «لا أبوح به إلى أن يضمن أمير المؤمنين ستر ذلك علىّ وأن يجيرني [4] منه إن
__________
[1] . فكيف علمك بها: كذا فى الأصل. وما فى مط: وكيف علمك. (من دون «بها» ) .
[2] . خامل: كذا فى الأصل والطبري (9: 1311) . وما فى مط: خابل.
[3] . نابه: الكلمة مطموسة فى الأصل، فأثبتناها كما فى مط والطبري.
[4] . أن يجيرني: ما فى الأصل مطموس. وما فى مط والطبري (9: 1310) : يوافق ما أثبتناه. كما يؤيده ما فى الأسطر الآتية فى الأصل: «استجرت» .(2/441)
علم.» قال:
- «نعم، سمّه لى من هو؟» قال:
- «يزيد بن المهلّب.» [523] قال:
- «ويحك! ذاك بالعراق، والمقام بها أحبّ إليه من المقام بخراسان.» قال:
- «قد علمت يا أمير المؤمنين، ولذلك استجرت [1] بك، ولكن تكرهه على ذلك، فتستخلف على العراق، ويسير هو.» قال:
- «أصبت.» فكتب عهده على خراسان، وأنفذه إليه على يد ابن الأهتم. فقدم به على يزيد، فدعا يزيد ابنه مخلدا، فقدّمه إلى خراسان، فسار من يومه، ثمّ سار يزيد، واستخلف على واسط الجرّاح بن عبد الله الحكمي، وعلى البصرة عبد الله بن هلال الكوفي، وصيّر مروان بن المهلّب على أمواله وأموره بالبصرة، وكان أوثق إخوته عنده، وعلى الكوفة بشير بن حسّان النهدي. ولمّا قرب مخلد من مرو تلقّاه الناس، فتثاقل وكيع، وكان مخلد قدّم عمرو بن عبد الله بن سنان العتكي حين دنا من مرو. فأرسل عمرو بن عبد الله إلى وكيع:
- «انطلق إلى أميرك فتلقّه [2] ولا تكن أعرابيّا أحمق جافيا.» وأخرجه على كره. فلمّا بلغ الناس إلى مخلد ترجّلوا له غير وكيع ومحمد بن حمران وعبّاد بن لقيط. فجاءهم قوم، فأنزلوهم.
ولمّا قدم مخلد مرو حبس وكيعا، فعذّبه وأصحابه قبل [524] قدوم أبيه.
فتحدّث إدريس بن حنظلة قال: لمّا قدم مخلد مرو حبسني، فجاءني ابن الأهتم، فقال لى:
__________
[1] . استجرت: كذا فى الأصل. وما فى مط: استحرت (بالحاء المهملة) وهو خطأ (أنظر التعليقة السابقة) .
[2] . فتلقّه ولا تكن: كذا فى الأصل. وما فى مط: فيلقه ولا يكن. تجد الرواية عند الطبري أيضا ولكن بسياق مختلف (أنظر 9: 1312) .(2/442)
- «أتريد أن تنجو؟» قلت:
- «نعم.» قال:
- «أخرج الكتب التي كتبها القعقاع بن خليد العبسي وخريم [1] بن عمرو المرّى إلى قتيبة فى خلع سليمان.» فقلت له:
- «يا بن الأهتم إيّاى تخدع عن ديني؟» قال: فدعا بطومار وقال:
- «إنّك أحمق.» وكتب كتبا عن لسان القعقاع ورجال من قريش إلى قتيبة:
- «إنّ الوليد قد مات وإنّ سليمان باعث هذا المزونىّ [2] على خراسان، فاخلعه.» فقلت:
- «يا بن الأهتم تهلك والله نفسك. لئن دخلت عليه لأعلمنّه أنّك كتبتها.» فلم يحفل وقال:
- «قد قلت: إنّك أحمق.»
ذكر حيلة تمّت على مسلمة بن عبد الملك فى هذه السنة بأرض الروم حتّى كاد يهلك هو والمسلمون
كان وجّه أخاه مسلمة إلى قسطنطينية وأمره أن يقيم عليها حتّى يفتحها أو يأتيه أمره. فشتا [3] بها وصاف، وذلك أنّه لمّا دنى من قسطنطينية أمر كلّ فارس أن يحمل على عجز فرسه مدّين من طعام حتّى يأتى به قسطنطينية. [525] فأمر
__________
[1] . خريم: كذا فى الأصل والطبري (9: 1312) . وما فى مط وحواشي الطبري عن الأصول: خزيم.
[2] . المزونىّ: كذا فى الأصل والطبري. وما فى مط: المرواني.
[3] . فشتابها وصاف: كذا فى الأصل وهو الصحيح. وما فى مط: «فشابها وصاق» ! وهو خطأ. شتا بها وصاف: أقام شتاء وصيفا.(2/443)
بالطعام فألقى ناحية مثل الجبال. ثمّ قال للمسلمين:
- «لا تأكلوا منه شيئا.» فغبروا [1] فى أرضهم وازدرعوا، وعمل بيوتا من خشب، فشتا فيها، وزرع الناس. ومكث ذلك الطعام فى الصحراء لا يكنّه شيء طول الصيف، والناس يأكلون مما أصابوا من الغارات، ثمّ أكلوا من الزرع.
فأقام مسلمة على قسطنطينية قاهرا لأهلها ومعه وجوه أهل الشام. واتفق موت ملك الروم، فراسلوا إليون صاحب أرمينية، فشخص إليون من أرمينية ومكر فى طريقه بمسلمة، ووعده أن يسلّم إليه قسطنطينية، وكانت قد راسلت الروم إليون:
- «إن صرّفت عنّا مسلمة ملّكناك.» ووثّقوا له. فلمّا أتى إليون مسلمة، قال له:
- «إنّك لا تصدقهم القتال ولا تزال تطاولهم ما دام هذا الطعام عندك، وقد أحسّوا بذلك، فلو أحرقت الطعام أعطوا بأيديهم.» فأحرقه، ووجّه مسلمة معه من شيّعه حتّى نزل بقسطنطينية، وملّكه الروم.
فكتب إلى مسلمة يخبره بما جرى من أمره ويسأله أن يأذن له حتّى يدخل من الطعام من النواحي، [526] [وما] [2] يعيش به القوم ويصدّقونه بأنّ أمره وأمر مسلمة واحد وأنّهم فى أمان من [السباء] والخروج من بلادهم، وأن يأذن لهم ليلة واحدة فى حمل الطعام وقد [هيّأ] إليون السفن والرجال. فأذن له، فما بقي
__________
[1] . فغبروا: ما فى الأصل: فغبّروا (بتشديد الباء) وما ضبطناه يوافق مط. وفى الطبري: أغيروا. وفى تعاليقه: أعبروا. فغبروا: مكثوا. بقوا. أغيروا: شنّوا الغارات. ولكلا الضبطين وجه.
[2] . كل كلمة وضعناها بين [] والتي وقعت على صفحة [526] من الأصل فهي كلمات وقعت فى ابتداء سطور تلك الصفحة وغير ظاهرة بكاملها فى التصوير. فأثبتناها كما هي فى مط والطبري (9:
1316) .(2/444)
فى تلك الحظائر إلّا ما لا يذكر، حمل [فى] ليلة واحدة، وأصبح إليون محاربا وقد خدعه خديعة لو كان امرأة لعيب [بها] [1] . فلقى الجند ما لم يلق جند قطّ، حتّى إن كان الرجل ليخاف أن يخرج من عسكره وحده. وأكلوا الدوابّ والجلود وأصول الشجر والعروق [و] الورق، وكلّ شيء حتّى الروث، وسليمان مقيم بدابق ونزل الشتاء، فلم يقدر [على] أن يمدّهم حتّى هلك سليمان.
سليمان يحرّض يزيد بذكر فتوح قتيبة
فأمّا يزيد بن المهلّب فإنّه أقام ثلاثة أشهر، وكان سليمان بن عبد الملك كلّما افتتح قتيبة فتحا قال ليزيد بن المهلّب:
- «أما ترى ما صنع الله على يدي قتيبة؟» فيقول له يزيد بن المهلّب:
- «ما فعلت جرجان [التي] حالت بين الناس والطريق الأعظم وأفسدت قومس وأبر شهر.» ويقول:
- «هذه الفتوح ليست بشيء فى جرجان.» وكذلك كانت حال جرجان، لأنّ سعيد بن العاص [527] كان صالح أهل جرجان. ثمّ إنّهم امتنعوا وكفروا، ولم يأتهم أحد بعد سعيد، ومنعوا ذلك الطريق.
فلم يكن يسلك طريق خراسان من ناحيته إلّا بوجل وخوف. كان الطريق من فارس إلى كرمان، فأوّل من صيّر الطريق من قومس قتيبة بن مسلم. ثمّ غزا مصقلة خراسان فى أيّام معاوية فى عشرة آلاف، فأصيب هو وجنده بالرّويان، فهلكوا فى واد من أوديتها، أخذ العدوّ عليهم بمضائقه، فقتلوا جميعا، فهو يسمّى:
وادي مصقلة، وكان يضرب به المثل: «حتّى يرجع مصقلة من خراسان» .
__________
[1] . لعيب بها: كذا فى الطبري (8: 1316) . وما فى الأصل: لعبت بها. وفى مط: لما تمّ عليها، بدل: لعيب بها.
وفى حواشي الطبري عن الأصول: لعيى بها.(2/445)
اهتمام يزيد بن المهلّب بجرجان
فلمّا ولى يزيد بن المهلّب لم تكن له همّة غير جرجان. فخرج إلى دهستان [1] ، وبها صول التركىّ مع الأتراك، وهناك جزيرة فى البحر بينها وبين دهستان خمسة فراسخ، وهي من جرجان ممّا يلي خوارزم. فكان صول يغير على فيروز مرزبان جرجان، وبينهما خمسة وعشرون فرسخا، فيصيب من أطرافهم، ثمّ يرجع إلى البحيرة ودهستان.
فوقع بين فيروز وبين ابن عمّ له يقال له: المرزبان، منازعة، فاعتزله المرزبان، فنزل المياسان [2] ، فخاف فيروز أن يغير عليه الترك، فخرج إلى يزيد بن المهلّب [528] وأخذ صول جرجان. فلمّا قدم على يزيد بن المهلّب قال له:
- «ما أقدمك؟» قال:
- «خفت صولا فهربت منه.» فقال له يزيد:
- «هل من حيلة لقتاله؟» قال:
- «نعم، وشيء واحد إن ظفرت به قتلته، أو أعطى بيده.» قال:
- «ما هو؟» قال:
- «أن يخرج من جرجان حتّى ينزل البحيرة، فإن أتيته هناك وحاصرته ظفرت به، فاكتب إلى الإصبهبذ كتابا تسأله فيه أن يحتال لصول حتّى يقيم بجرجان، واجعل على ذلك جعلا [3] ومنّه، فإنّه يبعث بكتابك إلى صول يتقرّب به إليه، لأنّه يعظّمه، فيتحوّل على جرجان فينزل البحيرة.»
__________
[1] . دهستان: كذا فى الأصل ومط والطبري (9: 1318) . وفى تعاليق الطبري عن الأصول: قهستان.
[2] . المياسان: كذا فى الأصل. وفى مط: الماسياب. وما فى الطبري: البياسان.
[3] . الجعل والجعالة بتثليث الجيم: أجر العامل. ما يعطى للمحارب إذا حارب.(2/446)
ذكر هذه الحيلة التي احتال بها يزيد بمشورة فيروز حتّى ظفر به
فكتب يزيد بن المهلّب إلى صاحب طبرستان:
- «إنّى أريد أن أغزو صولا وهو بجرجان، فخفت، إن بلغه أنّى أريد ذلك أن يتحوّل إلى البحيرة فينزلها، وإن يتحوّل إليها لم يقدر عليه، وهو يسمع منك ويستنصحك، فإن حبسته العام بجرجان، فلم يأت البحيرة، حملت إليك خمسين ألف مثقال، فاحتل له بكلّ حيلة حتّى تحبسه بجرجان، فإن أقام ظفرت به.» فلمّا أتى الإصبهبذ الكتاب تقرّب به إلى صول. فلمّا أتى [529] صولا الكتاب أمر الناس بالرحيل إلى البحيرة، وحمل الأطعمة ليتحصّن بها وبلغ يزيد مسيره من جرجان إلى البحيرة، وحمل الأطعمة ليتحصّن بها. فخرج إلى جرجان فى ثلاثين ألفا ومعه فيروز، واستخلف على خراسان مخلد بن يزيد، وعلى سمرقند وكسّ ونسف وبخارى ابنه معاوية، وعلى طخارستان حاتم بن قبيصة بن المهلّب.
دخول يزيد بن المهلّب جرجان
وأقبل حتّى أتى جرجان ولم تكن يومئذ مدينة، إنّما هي جبال محيطة بها أبواب ومخارم يقوم عليها الرجل فلا يقدم عليه أحد. فدخلها يزيد لم يعازّه أحد، وأصاب أموالا، وهرب المرزبان عمّ فيروز، وخرج يزيد بالناس إلى البحيرة، وأناخ على صول، فحاصرهم، وكان صول يخرج إليه فى الأيّام فيقاتله ثمّ يرجع إلى حصنه، حتّى عجزوا وانقطعت عنهم المواد.
فأرسل إليه صول يطلب الصلح، فقال يزيد:
- «لا إلّا على حكمى.»(2/447)
فأبى. فأرسل إليه:
- «إنّى أصالحك على نفسي ومالي وثلاثمائة من أهل بيتي وخاصّتى على أن تؤمننا فننزل [1] البحيرة.» فأجابه إلى ذلك. فخرج بماله وغلمانه ممّن أحبّ، وصار مع يزيد. فقتل يزيد من الأتراك جماعة صبرا ومن على آخرين، وقال الجند ليزيد:
- «أعطنا أرزاقنا.» فدعا [530] إدريس بن حنظلة العمّى، فقال له:
- «يا بن حنظلة، أحص لنا ما فى البحيرة حتّى نعطى الجند.» فدخلها إدريس فلم يقدر على إحصاء ما فيها، فقال ليزيد:
- «فيها ما لا يستطاع إحصاؤه فى هذه السرعة. وهناك ظروف. فتحصى الجواليق وتعلم ما فيها، ثمّ تقول للجند: أدخلوا فخذوها. فمن أخذ شيئا عرفنا ما أخذ من حنطة، أو شعير، أو أرز، أو سمسم، أو عسل، فأثبتناه عليه.» قال:
- «نعم ما رأيت.» ففعلوا ذلك، وقال للجند:
- «خذوا.» فكان الرجل يخرج وقد أخذ ثيابا أو طعاما، أو حمل من شيء فيكتب على كلّ رجل ما أخذ، فأخذوا شيئا كثيرا.
طمع يزيد بن المهلّب فى طبرستان
ولمّا فرغ يزيد من صول طمع فى طبرستان أن يفتتحها، وهمّ بالمسير إليها.
فاستعمل عبد الله المعمر اليشكري على دهستان البياسان، وضمّ إليه أربعة آلاف
__________
[1] . فننزل: كذا فى الأصل. والعبارة فى الطبري (9: 1325) : على أن تؤمّننى فتنزل البحيرة ... فقتل يزيد من الأتراك أربعة عشر ألفا.(2/448)
رجل، وسار إلى آخر حدود جرجان مما يلي طبرستان، فاستعمل اندرشان [1] أسد بن عمرو، ويقال: بل ابنا لعبد الله بن المعمّر وضمّ إليه أربعة آلاف، ودخل يزيد بلاد الإصبهبذ، فراسله الإصبهبذ يسأله الصلح، وأن يخرج من طبرستان ولا يتوغّلها. فأبى يزيد، ورجا أن يفتتحها. فوجّه أخاه [531] أبا عيينة من وجه وخالد بن يزيد من وجه وأبا الجهم الكلبي من وجه. وقال:
- «إذا اجتمعتم فأبو عيينة على الناس.» فسار أبو عيينة فى أهل المصرين ومعه هريم بن أبى طحمة، ووصّى يزيد أبا عيينة بأن يشاور هريما وقال:
- «هو ناصح وذو رأى.» وأقام يزيد معسكرا واستجاش الإصبهبذ بأهل جيلان والديلم، فأتوه والتقوا فى سفح جبل، فانهزم المشركون، واتبعهم المسلمون حتّى انتهوا إلى فم الشعب، فدخله المسلمون وصعد المشركون واتّبعهم المسلمون، فرماهم وهم فوقهم بالحجارة والنشّاب، فانهزم أبو عيينة والمسلمون، فركب بعضهم بعضا يتساقطون من الجبل، فلم يثبتوا حتّى انتهوا إلى عسكر يزيد، وكفّ العدوّ عن اتّباعهم.
وكتب الإصبهبذ إلى المرزبان ابن عمّ فيروز وهو بأقصى جرجان مما يلي البياسان:
- «إنّا قد قتلنا يزيد وأصحابه، فاقتل [2] أنت من فى البياسان من العرب.» فخرج إلى البياسان والمسلمون غارّون فى منازلهم فقتلوا جميعا فى ليلة.
وأصبح عبد الله بن المعمّر مقتولا فى أربعة آلاف من المسلمين لم ينج منهم أحدا [532] وقتل من بنى عمّ يزيد خمسون رجلا، وكتب المرزبان إلى الإصبهبذ:
__________
[1] . اندرشان: كذا فى الأصل ومط. ولعلّه تصحيف «اندرستان» كما فى الطبري (9: 1327) .
وهناك تصحيفان آخران أوردا فى حواشي الطبري عن الأصول وهما: أندرسان، أندرسار.
[2] . والعبارة فى مط: فاقبل أنت فى الساسان. فخرج إلى البياسان.(2/449)
- «إنّى قد قتلت من عندي من العرب، فخذ أنت المضائق والطرق على من بقي منهم قبلك.» وبلغ يزيد والمسلمين مقتل عبد الله بن المعمّر وأصحابه، فأعظموا ذلك وهالهم.
ففرغ يزيد إلى حيّان النبطىّ وقال:
- «لا يمنعنّك ما كان منّى إليك من نصيحة المسلمين.» وكان يزيد قد غرّم حيّان مائتي ألف درهم- وسنذكر ذلك- وشكا يزيد إليه ما يرى بالمسلمين من الوهن بما بلغهم عن جرجان ثمّ بما أخذ عليهم الإصبهبذ من الطرق، وقال له:
- «اعمل فى الصلح.» قال:
- «أفعل.» فأتى حيّان الإصبهبذ وقال له:
- «أنا رجل منكم وإن كان الدين فرّق بيني وبينكم، وأنا لك ناصح، فإنّك أحبّ إلىّ على كلّ حال من يزيد، وقد بعث يستمدّ وأمداده منه قريبة، وإنّما أصابوا منه طرفا، ولست آمن أن يأتيك ما لا تقوم له. فأرح نفسك منه وصالحه، فإنّك إن صالحته صيّر حدّه على أهل جرجان بغدرهم وقتلهم من قتلوا.» فقبل الإصبهبذ منه وصالحه على سبعمائة ألف [000، 700] ، ويروى خمسمائة ألف [533] وأربعمائة وقر زعفران أو قيمته من العين وأربعمائة رجل على يد كلّ رجل جام فضّة وسرقة حرير [1] وكسوة. ثمّ رجع إلى يزيد وقال:
- «ابعث من يحمل صلحهم الذي صالحتهم عليه.» قال:
- «من عندهم، أو من عندنا؟» قال:
- «من عندهم.» وكان يزيد قد طابت نفسه أن يعطيهم ما سألوا ويرجع إلى جرجان. فبعث من
__________
[1] . سرقة حرير: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (9: 1229) : سرقة خزّ. السرقة، (وجمعها: السرق) :
الشقّة من الحرير.(2/450)
يحمل ما صالحهم عليه حيّان، وانصرف إلى جرجان.
فأمّا سبب تغريم يزيد حيّان مائتي ألف درهم وخوفه أنّه لا يناصحه، فهو أنّ مخلد بن يزيد كان ببلخ ويزيد يومئذ بمرو، وعرض لحيّان ما احتاج فيه إلى مكاتبة مخلد. فأحضر كاتبه وأملى عليه:
- «من حيّان مولى مصقلة إلى مخلد بن يزيد.» فقال له ابنه مقاتل بن حيّان:
- «يا أبه [1] تكتب إلى مخلد وتبدأ بنفسك.» فقال:
- «نعم يا بنىّ. فإن لم يرض لقى ما لقى قتيبة.» وتمّم كتابه وأنفذه إلى مخلد. فبعث مخلد بالكتاب إلى أبيه يزيد فأغرمه يزيد مائتي ألف درهم.
يزيد بن المهلّب يفتح جرجان الفتح الآخر
ثم إنّ يزيد بعد انصرافه من طبرستان ومصالحة الإصبهبذ قصد جرجان وأعطى الله عهدا لئن ظفر بهم ألّا يقلع عنهم ولا يرفع السيف [534] حتّى يطحن بدمائهم ويختبز من ذلك الطحين ويأكل منه لغدرهم بجنده ونقضهم لعهده.
فلمّا بلغ المرزبان أنّه قد صالح الإصبهبذ وتوجّه إلى جرجان ضاقت به الأرض، فجمع أصحابه وأتى وجاة [2] وتحصّن فيها وصاحبها لا يحتاج إلى عدّة من طعام وشراب، وأقبل حتّى نزل عليها وهم متحصّنون فيها وحولها غياض عظيمة، فليس يعرف لها إلّا طريق واحد. فأقام على ذلك سبعة أشهر لا يقدر منهم على شيء ولا يعرف لهم ما يأتى إلّا من وجه واحد، فكانوا يخرجون إليه
__________
[1] . يا أبه: كذا ضبط فى الأصل. وأمّا فى مط فضبط: يا أبت. كما فى الطبري 9: 1330.
[2] . وجاة (بالتاء المنقوطة) : كذا فى الأصل. وما فى مط: وجا. وفى الطبري: وجاه (بالهاء) وفى تعاليقه عن الأصول وجّاه: (بتشديد الجيم) .(2/451)
فى الأيّام ويقاتلونه ثمّ يرجعون إلى حصنهم.
فبيناهم على ذلك إذ خرج رجل من عسكر يزيد بن المهلّب إلى الصيد ومعه شاكريّة له، فأبصر وعلا فى الطريق يرقى [1] فى الجبل فاتّبعه وقال لمن معه:
- «قفوا مكانكم.» ووقل فى الجبل يتبع الوعل، فما شعر بشيء حتّى اطّلع على عسكر العدوّ، فرجع يريد أصحابه وخاف ألّا يهتدى إن عاد، فجعل يحرق قباءه وعمامته، ويعقد على الشجر علامات حتّى ظفر بأصحابه ينتظرون. [535] ثمّ رجع إلى العسكر وأتى من أوصله إلى يزيد.
فلمّا رءاه يزيد قال:
- «ما عندك؟» فقال:
- «أتريد أن تدخل وجاة [2] بغير قتال؟» قال:
- «نعم.» قال:
- «جعالتى؟» قال:
- «احتكم.» قال:
- «أربعة آلاف.» قال:
- «بل أضعافها.» قال:
- «عجّلوا إلى أربعة آلاف، ثمّ أنتم بعد من وراء الأحساب.» فأمر له بأربعة آلاف، وندب الناس، فانتدب ألف وأربعمائة، فقال:
- «الطريق لا يحتمل هذه الجماعة، لا لتفاف الغياض [3] .»
__________
[1] . يرقى: كذا فى الأصل والطبري (9: 1331) . وما فى مط: يرمى وهو خطأ.
[2] . وجاة: كذا فى الأصل. وما فى الطبري: وجاه (أيضا) وفى مط: فجاة (فجأة؟) .
[3] . الغياض: جمع مفرده: الغيضة: مجتمع الشجر فى مغيض الماء. الأجمة. والمغيض مجتمع الماء ومدخله فى الأرض. غاض الماء: نقص. غار. نضب.(2/452)
فاختار منهم ثلاثمائة رجل، واستعمل عليهم ابنه خالد بن يزيد، وضمّ إليه جهم بن زحر، وقال لابنه:
- «إن غلبت على الحياة، فلا تغلبنّ على الموت، وإيّاك أن أراك عندي منهزما.» وقال للناس:
- «إذا وصلتم إلى المدينة فانتظروا حتّى إذا كان فى السحر فكبّروا، ثمّ توجّهوا نحو باب المدينة فإنّكم تجدوني قد نهضت بجميع الناس إلى بابها.» فلمّا أشرف ابن زحر على المدينة أمهل حتّى إذا كانت الساعة التي أمره يزيد أن ينهض فيها، مشى بأصحابه، فأخذ لا يستقبل من أحراسهم أحدا [1] إلّا قتله.
وكبّر ففزع أهل المدينة فزعا لم يدخلهم مثله قطّ، لم يرعهم [536] إلّا والمسلمون معهم فى مدينتهم يكبّرون. فدهشوا وأقبلوا لا يدرون أين يتوجّهون.
غير أنّ عصابة منهم أقبلوا نحو جهم بن زحر، فقاتلوا ساعة فدقّت يد جهم وصبر لهم هو وأصحابه، فلم يلبّثوهم إلّا قليلا حتّى قتلوهم.
يزيد بن المهلّب يدخل باب جرجان ويبرّ يمينه فى أهلها
وسمع يزيد بن المهلّب التكبير، فوثب فى الناس إلى الباب، فوجدهم قد شغلهم جهم بن زحر عن الباب، فلم يجد من يمنعه ولا يدفع عنه كبير دفع. ففتح الباب ودخلها من ساعته، فأخرج من كان فيها من المقاتلة، فنصب لهم الجوذع فرسخين عن يمين الطريق وعن يساره، فصلبهم أربعة فراسخ وسبى وأصاب ما كان فيها وقاد أربعين ألفا [000، 40] إلى اندر هرز وادي جرجان وقال:
- «من طلبهم بثأر فليقتل.»
__________
[1] . أحدا: تكرّرت الكلمة فى الأصل، فحذفنا إحداهما.(2/453)
فكان الرجل من المسلمين يقتل الجماعة فى الوادي، وأجرى الماء على الدم وعليه أرحاء، ليطحن بدمائهم ولتبرّ يمينه، فطحن واختبز وأكل. وهي مدينة جرجان، ولم يكن جرجان يومئذ مدينة.
وكتب بذلك إلى سليمان بن عبد العزيز بالفتح، وعظّم [537] ذلك قال:
- «إنّ الله فتح لأمير المؤمنين من جرجان وطبرستان ما أعيا سابور ذا الأكتاف، وكسرى بن قباذ، وكسرى بن هرمز، وأعيا الفاروق عمر بن الخطّاب، وعثمان بن عفّان، ومن بعدهما من خلفاء الله.» وكتب فى الكتاب [1] أن:
- «قد صار عندي من خمس ما أفاء الله على المسلمين بعد أن صار إلى كلّ ذى حقّ حقّه من الفيء والغنيمة ستّة آلاف ألف [000، 000، 6] وأنا حامل ذلك إلى أمير المؤمنين إن شاء الله.»
ذكر رأى أشير به على يزيد بن المهلّب فلم يقبله فعاد وبالا عليه
فقال له كاتبه المغيرة بن أبى قرّة:
- «لا تكتب بتسمية مال، فإنّك من ذلك بين أمرين: إمّا استكثره فأمرك بحمله، وإمّا سخت نفسه بذلك به فسوّغكه فتتكلّف له الهديّة ولا يأتيه من قبلك شيء إلّا استقلّه، ويحصّل الكتّاب ما سمّيته فى دواوينهم فيبقى مخلدا عليك، فإن ولى وال بعده أخذك به، وإن ولى من يتحامل عليك لم يرض منك بأضعافه، فلا تمض كتابك، ولكن اكتب بالتفح وسله القدوم عليه، ثمّ تشافهه بما أحببت وتقصّر فى الكتاب. [538] فإنّك إن تقصّر عمّا أصبت أحرى من أن تكثّر.»
__________
[1] . فى الكتاب: كذا فى الأصل وهو صحيح. ولكن فى مط: اكتساب. وهو خطأ.(2/454)
فأبى يزيد وأمضى الكتاب.
ودخلت سنة تسع وتسعين
وفيها توفّى سليمان بن عبد الملك يوم الجمعة لعشر ليال مضين من صفر.
فكانت خلافته سنتين وسبعة أشهر. وكانوا يتبرّكون به ويسمونه مفتاح الخير، وذاك أنّه ذهب عنهم الحجّاج، فأطلق الأسرى وخلّى أهل السجون وأحسن إلى الناس.(2/455)
خلافة عمر بن عبد العزيز
واستخلف سليمان بن عبد الملك عمر بن عبد العزيز على ما سنحكيه. وهو أنّه لمّا مرض مرضته التي مات فيها، عهد فى كتاب كتبه لبعض بنيه وهو غلام لم يبلغ.
قال رجاء بن حبوة [1] : فقلت:
- «ما تصنع يا أمير المؤمنين، إنّه ممّا يحفظ به الخليفة فى قبره أن يستخلف على المسلمين الرجل الصالح.» فقال سليمان:
- «أنا أستخير الله وأنظر فيه، ولم أعزم عليه.» قال: فمكث يوما أو يومين، ثمّ خرّقه ودعاني، فقال:
- «ما ترى فى داود بن سليمان؟» يعنى ابنه. قلت:
- «هو غائب عنك بقسطنطينية وأنت لا تدرى أحيّ [539] هو أم ميّت.» فقال لى:
- «فمن ترى؟» قلت:
__________
[1] . حبوة: كذا فى الأصل. والكلمة مهملة فى مط. وما فى الطبري (9: 1341) : حيوة.(2/457)
- «رأيك يا أمير المؤمنين.» - «وأنا أريد أن أنظر من يذكر [1] .» قال:
- «كيف ترى فى عمر بن عبد العزيز؟» فقلت:
- «أعلمه والله خيّرا فاضلا مسلما.» فقال:
- «هو والله على ذلك.» ثم قال:
- «والله، لئن ولّيته ولم أولّ أحدا سواه، لتكوننّ فتنة، ولا يتركونه يلي أبدا عليهم إلّا أن يجعل أحدهم بعده.» ويزيد بن عبد الملك يومئذ غائب على الموسم. قال:
- «فأجعل يزيد بن عبد الملك بعده، فإنّ ذلك ممّا يسكّنهم ويرضون به.» قلت:
- «رأيك.» فكتب:
- «بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من عبد الله بن سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز. إنّى ولّيتك الخلافة من بعدي. ومن بعدك يزيد بن عبد الملك.
فليسمع المؤمنون له وليطيعوا، وليتّقوا الله ولا يختلفوا، فيطمع فيهم.» وختم الكتاب، وبعث به إلى صاحب شرطته يأمره أن يجمع أهل بيته ولمّا اجتمعوا قال سليمان لرجاء:
- «اذهب بكتابي إليهم، فأخبرهم أنّه كتابي، ومرهم فليبايعوا من ولّيت فيه.» ففعل رجاء. فلمّا قال رجاء ذلك لهم قالوا: [540]- «ندخل ونسلّم على أمير المؤمنين.» قال:
- «نعم.»
__________
[1] . من يذكر: كذا فى الأصل والطبري 9: 1341. وما فى مط: تذكر (بصيغة الخطاب) .(2/458)
فدخلوا. فقال لهم سليمان:
- «فى هذا الكتاب- وهو يشير لهم إليه وهم ينظرون إلى يد رجاء بن حبوة- عهدي. فاسمعوا وأطيعوا وبايعوا لمن سمّيت فى هذا الكتاب.» فبايعوه رجلا رجلا.
قال: ثمّ خرج بالكتاب مختوما.
قال رجاء: فلمّا تفرّقوا جاءني عمر بن عبد العزيز، فقال [1] :
- «إنّى أخشى أن يكون هذا قد أسند إلىّ شيئا من الأمر. فأنشدك الله وحرمتي ومودّتى إلّا أعلمتنى إن كان ذلك حتّى أستعفيه الآن قبل أن تأتى حال لا أقدر فيها على ما أقدر عليه الساعة.» قال رجاء:
- «لا والله، ما أنا بمخبرك حرفا.» فذهب عمر غضبان.
قال رجاء: ولقيني هشام بن عبد الملك، فقال:
- «يا رجاء، إنّ لى بك حرمة ومودّة قديمة وعندي شكر، فأعلمنى فإن كان إلىّ علمت، وإن كان إلى غيرى تكلّمت، فليس مثلي قصّر به ذلك، ولك الله علىّ ألّا أذكر من ذلك شيئا أبدا.» قال رجاء: فأبيت وقلت:
- «لا والله، لا أخبرك حرفا واحدا ممّا أسرّ إلىّ.» قال: فانصرف هشام وقد يئس وضرب بإحدى يديه على الأخرى [541] وهو يقول:
- «فإلى من إذا نحّيت [2] عنّى! أتخرج من بنى عبد الملك؟»
__________
[1] . فقال: كذا فى الأصل وهو الصحيح. وما فى مط: «فقد» بدل «فقال» وهو تصحيف عجيب.
[2] . إذا نحّيت: كذا فى الأصل. والضبط فى الطبري (9: 1343) : إذا نحّيت. وفى مط: تجنّب.(2/459)
قال رجاء: ودخلت على سليمان وهو يجود بنفسه، فلقّنته الشهادة، وحرّفته إلى القبلة، وسجّيته، وأجلست على الباب من أثق به، ووصّيته ألّا يبرح حتّى آتيه، ولا يدخل على الخليفة أحد. ثمّ خرجت وأرسلت إلى صاحب الشرطة حتّى جمع أهل بيت أمير المؤمنين فى مسجد دابق [1] ، وتوسّطتهم إلى المنبر، وقلت:
- «بايعوا!» فقالوا:
- «قد بايعنا مرّة ونبايع أخرى.» قلت:
- «هذا عهد أمير المؤمنين. فبايعوا من سمّى فى هذا الكتاب المختوم.» فبايعوا الثانية رجلا رجلا. فلمّا بايعوا بعد موت سليمان رأيت أنّى قد أحكمت الأمر. قلت:
- «قوموا إلى صاحبكم فقد مات.» قالوا:
- «إنّا لله وإنّا إليه راجعون.» وقرأت الكتاب عليهم. فلمّا انتهيت إلى ذكر عمر بن عبد العزيز، نادى هشام بن عبد الملك:
- «لا نبايعه أبدا.» قلت:
- «أضرب والله عنقك. قم فبايع من [2] قد بايعته مرّتين.» فقام يجرّ رجليه.
قال رجاء: وأخذت بضبعي [3] عمر بن عبد العزيز، فأجلسته على المنبر وهو يسترجع [542] لما وقع فيه وهشام يسترجع لما أخطأه.
ولمّا كفّن سليمان وصلّى عليه عمر ودفنه وأتى بمراكب الخلافة من البراذين
__________
[1] . دابق: كذا فى الأصل والطبري. وما فى مط: داتو. وهو خطأ.
[2] . من: سقطت من مط.
[3] . بضبعي عمر: الضبع: وسط العضد. العضد كلّها. الإبط. يقال: أخذ بضبعه: أى أعانه.(2/460)
والخيل والبغال، ولكلّ دابّة سائس مفرد، فقال:
- «ما هذا؟» قالوا:
- «مراكب الخلافة.» قال:
- «دابّتى أوفق لى.» وركب دابّته وصرفت تلك الدوابّ. ثمّ أقبل سائرا. فقيل له:
- «منزل الخلافة.» فقال:
- «فيه عيال أبى أيّوب- يعنى سليمان- وفى فسطاطى كفاية حتّى يتحوّلوا.» فأقام فى منزله حتّى فرّغوه من بعد.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى العمّال بكلّ بلد بما صار إليه، فأوجز وأحسن.
ثم وجّه إلى مسلمة وهو بأرض الروم يأمره بالقفول منها بمن معه بخيل عتاق وأموال عظيمة.
وعزل يزيد بن المهلّب عن العراق، ووجّه على البصرة عدىّ بن أرطاة الفزارىّ، وبعث على الكوفة عبد الحميد بن عبد الرحمان بن زيد بن الخطّاب من بنى عدىّ بن كعب. فضمّ إليه أبا الزياد [1] ، فكان أبو الزياد كاتب عبد الحميد بن عبد الرحمان. وبعث عدىّ فى إثر يزيد بن المهلّب موسى بن الوجيه [543] الحميري.
ودخلت سنة مائة
وفيها خرجت الخارجة على عمر بن عبد العزيز بالعراق
فكتب عمر إلى عبد الحميد بن عبد الرحمان بن زيد بن الخطّاب عامله على العراق، يأمره أن يدعوهم إلى العمل بكتاب الله وسنّة نبيّه، صلّى الله عليه، ففعل.
__________
[1] . أبا الزياد: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (91: 1347) : أبا الزناد. ولعلّ هذا هو الصحيح.(2/461)
ولمّا أعذر فى دعائهم، بعث إليهم عبد الحميد جيشا فهزمتهم الحروريّة، فبلغ عمر، فبعث إليهم مسلمة بن عبد الملك فى جيش من أهل الشام جهّزهم من الرقّة.
وكتب إلى عبد الحميد:
- «قد بلغني ما فعل جيشك السوء، وقد بعثت مسلمة بن عبد الملك، فخلّ بينه وبينهم.» فلقيهم مسلمة فى أهل الشام، فلم ينشب أن أظهره الله عليهم.
وكان هذا الخارجىّ بسطام من بنى يشكر ويلقّب شوذب، وكان خروجه فى ثمانين فارسا أكثرهم من ربيعة. وكان عمر كتب إلى بسطام يدعوه [1] ويسأله عن مخرجه ويقول فى كتابه:
- «بلغني أنّك خرجت غضبا لله ولنبيّه، صلّى الله عليه، ولست بأولى بذلك منّى. فهلمّ [544] أناظرك، فإن كان الحقّ بأيدينا دخلت فى ما دخل فيه الناس، وإن كان فى يدك نظرنا فى أمرك.» فأمسك بسطام عن الحرب ولم يحرّك ساكنا، وكتب إلى عمر:
- «قد أنصفت. وقد بعثت إليك رجلين يدار سانك ويناظرانك.» فلمّا وصل الرجلان إلى عمر، أطالا معه حتّى قالا له:
- «أخبرنا عن يزيد، لم تقرّه خليفة بعدك.» قال:
- «صيّره غيرى [2] .» قالا:
- «أفرأيت لو وليت مالا لغيرك، ثمّ وكلته [3] إلى غير مأمون عليه، أتراك كنت
__________
[1] . فى الأصل: يدعوهم. والمثبت يوافق مط والطبري، وهو أنسب.
[2] . صيّره غيرى: كذا فى الأصل. وما فى مط: صيّر غيرى (بدون الهاء) .
[3] . وكلته: كذا ضبط ما فى الأصل ومط. وضبط فى الطبري (9: 1349) : وكلّته (بتشديد الكاف) وكل إليه الأمر: فوّضه إليه واكتفى به.(2/462)
أدّيت الأمانة إلى من ائتمنك عليها [1] ؟» فقال:
- «أنظرنى ثلاثا.» فخرجا من عنده. وبلغ ذلك مروان، فخافوا أن يخرج ما فى أيديهم من الأموال وأن يخلع يزيد. فدسّوا إليه من سقاه سمّا. فلم يلبث بعد خروجهما من عنده إلّا ثلاثا حتّى مات.
عمر بن عبد العزيز يحبس يزيد بن المهلّب
ثم عدنا إلى حديث يزيد بن المهلّب. لمّا أقبل يزيد بن المهلّب فنزل واسطا، ركب منها السفن يريد البصرة. فبعث عدىّ من منعه وأوثقه، ثمّ بعث به إلى عمر بن عبد العزيز، وكان عمر يبغض يزيد وأهل بيته ويقول:
- «هم جبابرة، ولا أحبّ أمثالهم.» وكان يزيد يبغض عمر ويقول: [545]- «إنّى لأظنّه مرائيا.» فلمّا ولى عمر عرف يزيد أنّ عمر كان من الرئاء بعيدا.
ولمّا وصل يزيد إلى عمر سأله عن الأموال التي كتب بها إلى سليمان. فقال:
- «كنت من سليمان بالمكان الذي قد علمت، وإنّما كتبت إلى سليمان لأسمع الناس به، وكنت علمت أنّ سليمان لم يكن ليأخذنى بشيء سمّعت به، ولا بأمر أكرهه.» فقال له:
- «لا أجد فى أمرك إلّا حبسك [2] ، فاتّق الله وأدّ ما قبلك، فإنّها حقوق المسلمين ولا يسعني تركها.» وردّه إلى محبسه.
__________
[1] . عليها: فى الأصل ومط: ائتمنك عليه. فأنّثنا الضمير.
[2] . لا أجد ... إلّا حبسك: كذا فى الأصل وهو صحيح. وما فى مط: ما أجدك إلّا حسك!(2/463)
وبعث الجرّاح بن عبد الله الحكمي، فسرّحه إلى خراسان.
وأقبل مخلد بن يزيد من خراسان يعطى الناس، لا يمرّ بكورة إلّا أعطاهم فيها أموالا عظاما، حتّى قدم على عمر بن عبد العزيز. فدخل عليه، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال:
- «إنّ الله، يا أمير المؤمنين، صنع لهذه الأمّة بولايتك عليها، وقد ابتلينا بك، فلا نكن أشقى الناس بولايتك، علام تحبس هذا الشيخ؟ أنا أتحمّل ما عليه، فصالحنى على ما [1] إيّاه تسأل.» فقال عمر:
- «لا، إلّا أن [2] تحمل جميع ما إيّاه نسأل.» فقال:
- «يا أمير المؤمنين، إن كانت لك بيّنة [546] فخذه بها، وإن لم تكن بيّنة فصدّق مقالة يزيد، وإلّا فاستحلفه [3] ، فإن لم يفعل فصالحه.» فقال عمر:
- «ما أجد إلّا أخذه بجميع المال.» فلمّا خرج مخلد من عند عمر، قال:
- «هذا خير عندي من أبيه.» ولمّا أبى يزيد أن يؤدّى إلى عمر شيئا، ألبسه جبّة صوف وحمله على جمل وقال:
- «سيروا به إلى الدهلك [4] .»
__________
[1] . على ما إيّاه تسأل: كذا فى الأصل. وفى مط: على إيّاه تسأل. فسقطت «ما» .
[2] . إلّا أن تحمل: كذا فى الأصل. وما فى مط: إلّا صحان تحمل! وهو خطأ غريب.
[3] . استحلفه (بالحاء المهملة) : كذا فى الأصل. وما فى مط: استخلفه (بالخاء المعجمة) وهو خطأ.
[4] . دهلك، ويقال: دهنك: جزيرة فى بحر اليمن وهو مرسى بين بلاد اليمن والحبشة: بلدة ضيّقة حرجة حارّة كان بنو أميّة إذا سخطوا على أحد نفوه إليها (مراصد الإطلاع) .(2/464)
فلمّا أخرج، فمرّ به على الناس أخذ يقول:
- «أما لى عشيرة؟ ما لي يذهب بى إلى دهلك! وإنّما يذهب إلى دهلك بالفاسق المريب الحارب [1] . سبحان الله! أما لى عشيرة.» فدخل على عمر سلامة بن نعيم الحولاني، فقال:
- «يا أمير المؤمنين، اردد يزيد إلى محبسه، فإنّى أخاف إن أمضيته أن ينتزعه قومه. فإنّى قد رأيت قومه غضبوا له.» فردّه إلى محبسه. فلم يزل فى محبسه ذلك حتّى بلغه مرض عمر. فأخذ يعمل فى الهرب من محبسه مخافة يزيد بن عبد الملك، لأنّه قد كان عذّب أصهاره، وكان يزيد بن عبد الملك قد عاهد الله: لئن أمكنه الله من يزيد ليقطعنّ منه طابقا.
فكان يخشى ذلك. فبعث [547] يزيد بن المهلّب إلى مواليه، فأعدّوا له إبلا، وخرج حتّى حاز مراصد عمر. وكتب إلى عمر بن عبد العزيز:
- «إنّى والله لو علمت أنّك تبقى ما خرجت من محبسى، ولكنّى لم آمن يزيد بن عبد الملك.» وقد قيل: إنّ يزيد بن المهلّب إنّما هرب من سجن عمر بعد موت عمر.
وكانت خلافة عمر سنتين وخمسة أشهر. ومات وهو ابن تسع وثلاثين سنة.
ذكر بعض سيرة عمر بن عبد العزيز
كان الجرّاح بن عبد الله لمّا ولى خراسان استخرج الجزية من كلّ من اتّهم إسلامه. فكتب عمر إليه:
- «أنظر من صلّى إلى القبلة قبلك، فضع عنه الجزية.» فسارع الناس إلى الإسلام. فقيل للجرّاح:
__________
[1] . الحارب (بالحاء المهملة) : كذا فى الأصل. والكلمة ساقطة من مط. وما فى الطبري (9:
1351) : الخارب (بالمعجمة) . والحارب (بالمهملة) : حربه حربا: سلبه جميع ما يملك.(2/465)
- «إنّ الناس قد سارعوا إلى الإسلام. وإنّما ذلك تعوّذ [1] من الجزية، فامتحنهم بالختان.» فكتب الجرّاح بذلك إلى عمر. فكتب عمر إليه:
- «إنّ الله بعث محمّدا صلّى الله عليه داعيا ولم يبعثه خاتنا [2] .» وقال عمر:
- «أبغونى رجلا صدوقا أسأله عن [548] خراسان.» فقيل له:
- «قد أصبته، عليك بأبى مجلز.» وكان الجرّاح لمّا قدم خراسان، كتب إلى عمر: «إنّى قدمت خراسان، فوجدت قوما قد أبطرتهم الفتنة، فهم ينزون فيها نزوا. أحبّ الأمور إليهم أن تعود ليمنعوا حقّ الله عليهم، فليس يكفّهم إلّا السيف والسوط، وكرهت الإقدام على ذلك إلّا بإذنك.» فكتب إليه عمر:
- «يا بن أمّ الجرّاح! أنت أحرص على الفتنة منهم، لا تضربنّ مؤمنا ولا معاهدا سوطا إلّا فى حقّ، واحذر القصاص، فإنّك صائر إلى من يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور [3] ، وتقرأ كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها [4] .» وكتب إليه أن:
- «احمل معك أبا مجلز [5] ، وخلّف على خراسان عبد الرحمان بن نعيم الغامدى، وعلى جزيتها عبد الله بن حبيب.»
__________
[1] . تعوّذ: كذا فى الأصل. وفى مط: تعود. وما فى الطبري: نفورا. وما فى مط خطأ.
[2] . خاتنا: كذا فى مط والطبري. وما فى الأصل غامض و: حابيا؟ خابيا؟.
[3] . س 40 الغافر: 19.
[4] . س 18 الكهف: 49.
[5] . أبا مجلز: كذا فى الأصل. والضبط فى الطبري: أبا مجلز.(2/466)
ولمّا قدم أبو مجلز لاحق ابن حميد على عمر، وكان رجلا لا تأخذه العين، دخل على عمر فى غمار الناس، فلم يثبته عمر، وخرج مع الناس. فقيل لعمر وقد سأل عنه بأنه:
- «دخل مع الناس، ثمّ خرج.» فدعا به عمر، فقال: [549]- «يا با مجلز، إنّى لم أعرفك.» قال:
- «فهلّا- يا أمير المؤمنين- أنكرتنى إذ لم تعرفني.» قال:
- «أخبرنى عن عبد الرحمان بن عبد الله.» قال:
- «يكافئ الأكفاء، ويعادى الأعداء، وهو أمير يفعل ما يشاء، ويقدم، إن وجد من يساعده.» قال:
- «فعبد الرحمان بن نعيم؟» قال:
- «ضعيف ليّن يحبّ العافية، وتأتّى [1] له.» قال:
- «الذي يحبّ العافية وتأتّى له أحبّ إلىّ.» فولّاه الحرب والصلاة، وولّى عبد الرحمان القشيري الخراج.
وكتب إلى أهل خراسان:
- «إنّى استعملت على حربكم عبد الرحمان بن نعيم، وعبد الرحمان بن عبد الله على خراجكم من غير معرفة منّى بهما ولا اختيار إلّا ما أخبرت عنهما، فإن كانا على ما تحبّون فاحمدوا [2] الله، وإن كانا على غير ذلك فاستعينوا بالله ولا حول ولا قوّة إلّا بالله.»
__________
[1] . وتأتّى له: كذا فى الأصل والطبري (8: 1356) . وما فى تعاليق الطبري: تأنّى (بالنون) .
[2] . فاحمدوا الله (بصيغة الجمع) : كذا فى الأصل. وما فى مط: فاحمد الله (بصيغة المفرد) .(2/467)
ابتداء دعوة بنى هاشم [1]
وفى هذه السنة، وهي سنة مائة، وجّه محمد بن علىّ بن عبد الله بن العبّاس من أرض السراة ميسرة إلى العراق، ووجّه محمد بن خنيس وأبا عكرمة السرّاج وحيّان العطّار رجال إبراهيم بن سلمة إلى خراسان دعاة، وعلى خراسان [550] يومئذ الجرّاح بن عبد الله الحكمي، فدعوا إليه وكتبوا بأسماء من استجاب، وبعثوا بالكتاب إلى ميسرة، وبعث به ميسرة إلى محمد بن علىّ. فكان ذلك ابتداء دعوة بنى هاشم.
فاختار أبو محمّد الصادق وهو أبو عكرمة السرّاج لمحمّد بن علىّ، اثنى عشر نقيبا منهم:
سليمان بن كثير الخزاعىّ، ولاهز بن قريط التميمي، وقحطبة بن شبيب الطائىّ، وموسى بن كعب التميمىّ، وخالد بن إبراهيم، والقاسم بن مجاشع، وعمران بن إسماعيل، ومالك بن هيثم الخزاعىّ، وطلحة بن زريق، وأبو حمزة عمرو بن أبى أعين، وشبل بن طهمان وهو أبو على الهروىّ، وعيسى بن أعين.
ثم اختار سبعين رجلا كتب إليهم محمّد بن علىّ كتابا كالسيرة والمثال يسيرون بها.
__________
[1] . العنوان مستخرج من النص فى الأسطر الآتية من دون أى تغيير. والعنوان فى الطبري (9:
1358) : «أوّل الدعوة» . وفى ابن الأثير (5: 53) : «ذكر ابتداء الدعوة العبّاسيّة» .(2/468)
خلافة يزيد بن عبد الملك
ودخلت سنة احدى ومائة
وفيها ولى يزيد بن عبد الملك الخلافة، وكنيته أبو خالد، وهو ابن تسع وعشرين سنة فى قول هشام بن محمّد.
وفيها قتل شوذب الخارجي [1] . [551] ذكر ذلك قد كنّا ذكرنا خروج من خرج من قبل شوذب لمناظرة عمر. فلمّا مات عمر أحبّ عبد الحميد بن عبد الرحمان أن يتحظّى عند يزيد بن عبد الملك. فبعث بمحمّد بن جرير فى ألفين إلى محاربة شوذب، ولم يرجع رسولا شوذب، ولم يعلم بموت عمر. فلمّا طلع عليهم محمّد بن جرير مستعدّا للحرب، قالوا:
- «ما أعجلكم قبل انقضاء المدّة بيننا وبينكم، أليس قد توادعنا إلى أن يرجع الرسولان؟» فأرسل إليه محمّد:
- «إنّه لا يسعنا ترككم.»
__________
[1] . الخارجي: كذا فى الأصل. والكلمة ساقطة من مط.(2/469)
فقالت الخوارج:
- «ما فعل هؤلاء هذا إلّا وقد مات الرجل الصالح.» فبرز لهم شوذب، فأكثروا القتل فى أهل الكوفة وولّوا منهزمين والخوارج فى أكنافهم [1] تقتل حتّى بلغوا أخصاص الكوفة وجرح محمّد بن جرير فى استه.
ورجع شوذب إلى موضعه ينتظر صاحبيه. فجاءا فأخبراه بما جرى وبموت عمر. فأقرّ يزيد بن عبد الملك عبد الحميد على الكوفة، ووجّه من قبله تميم بن الحباب [2] فى [552] ألفين، فراسلهم وأخبرهم أنّ يزيد لا يقارّهم على ما فارقهم عليه عمر. فلعنوه، ولعنوا يزيد. ثمّ حاربوه وقتلوه وهزموا أصحابه. فلجأ بعضهم إلى الكوفة ورجع الآخرون إلى يزيد. ووجّه إليهم نجدة بن الحكم الأزدى فى خلق كثير، فقتلوه وهزموا أصحابه. ووجّه إليهم الشحاج [3] بن وداع فى ألفين من أهل البأس والنجدة، فقتلوه وقتل منهم نفرا منهم هدبة اليشكري ابن عمّ شوذب وكان عابدا، وفيهم أبو شبيل مقاتل بن شيبان، وكان فاضلا فيهم سيّدا.
دخول مسلمة الكوفة ومقتل شوذب الخارجي
فلمّا دخل مسلمة الكوفة فى ما روى هشام شكا إليه أهلها مكان شوذب وخوفهم منه، وما قد قتل منهم. فدعا مسلمة سعيد بن عمرو الحرشي وكان فارسا شجاعا، فعقد له على عشرة آلاف، ووجّهه إليه وهو مقيم بموضعه، فأتاه ما لا طاقة له به. فقال شوذب لأصحابه:
- «من كان يريد الله فقد جاءته الشهادة، ومن كان إنّما خرج للدنيا فقد ذهبت الدنيا، وإنّما البقاء فى الدار الآخرة.» [553]
__________
[1] . أكنافهم: ما فى الأصل مطموس. وفى الطبري (9: 1376) : أعقابهم. والمثبت من مط.
[2] . الحباب: ما فى الأصل مهمل. وما فى مط مهمل أيضا إلّا فى الباء الأخيرة. وما ضبطناه يوافق الطبري.
[3] . الشحّاج: كذا فى الأصل والطبري. وما فى مط وابن الأثير: السحّاج (بالسين المهملة) .(2/470)
فكسروا أغماد سيوفهم وحملوا، فكشفوا [1] سعيدا وأصحابه مرارا حتّى خاف الفضيحة، فذمر أصحابه وقال:
- «أمن هذه الشرذمة- لا أبا لكم- تفرّون؟ يا أهل الشام يوما كأيّامكم!» فحملوا عليهم، فطحنوهم طحنا ولم يبقّوا منهم أحدا وقتلوا شوذبا- وهو بسطام- وفرسانه، والريّان بن عبد الله اليشكري. فرثاهم الشعراء وأكثروا، إلّا أنّا لا نكتب فى هذا الكتاب ما يجرى هذا المجرى، وقد ذكرنا كثيرا منه فى اختيارنا من أشعار العرب.
دخول يزيد بن المهلّب البصرة وخلعه يزيد بن عبد الملك
وفى هذه السنة لحق يزيد بن المهلّب بالبصرة، فغلب عليها وقد كنّا حكينا هربه من محبس عمر.
ولمّا مات عمر وبويع ليزيد بن عبد الملك بلغه هرب يزيد بن المهلّب. فكتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمان يأمره أن يطلبه ويستقبله. وكتب إلى عدىّ بن أرطاة يعلمه هربه ويأمره أن يطلبه ويستقبله.
فأمّا عدىّ بن أرطاة فإنّه أخذ من أولاد المهلّب وعشيرته من وجدهم، فحبسهم. وفيهم: المفضّل، [554] وحبيب ومروان بنو المهلّب، وأفلت محمّد بن المهلّب فلم يقدر عليه.
وأقبل يزيد حتّى ارتفع فوق القطقطانة، وبعث عبد الحميد بن عبد الرحمان هشام بن مساحق القرشىّ فى ناس من أهل الكوفة ذوى [2] بأس، ووجوه الناس وأهل القوّة. فقال:
- «انطلق حتّى نستقبله، فإنّه اليوم يمرّ بجانب العذيب.»
__________
[1] . فكشفوا: كذا فى الأصل والطبري (9: 1378) . وما فى مط: فكسروا.
[2] . ذوى بأس: كذا فى الأصل. وما فى مط ذوو بأس (بالرفع) .(2/471)
فمشى هشام قليلا، ثمّ رجع إلى عبد الحميد، فقال:
- «أجيئك به أسيرا، أم آتيك برأسه؟» فقال:
- «أىّ ذلك شئت.» فكان من سمع ذلك منه تعجّب له.
فلمّا خرج هشام مضى إلى العذيب حتّى نزله. ومرّ به يزيد بن المهلّب غير بعيد، فلم يتجاسر أحد منهما الإقدام عليه حتّى عبروا. ومضى نحو البصرة، وانصرف هشام بن مساحق إلى عبد الحميد.
فجمع عدىّ بن أرطاة أهل البصرة، وخندق عليها.
فقال عبد الملك بن المهلّب لعدىّ بن أرطاة:
- «خذ ابني رهينة، واحبسه مكاني وأنا أضمن لك أن أردّ يزيد أخى عن البصرة حتّى يأتى فارس وكرمان ويطلب لنفسه الأمان [555] ولا يقربك [1] .» فأبى عليه.
وجاء يزيد مع أصحابه الذين أقبل فيهم، والبصرة محفوفة بالرجال، وقد جمع محمّد بن المهلّب- ولم يكن ممّن حبس- رجالا من قومه وأهل بيته وناس من مواليه. فخرج حتّى استقبله فى كتيبة تهول من رءاها، وكان عدىّ قد بعث على كلّ خمسين من أخماس البصرة رجلا مرضيّا، وأقبل يزيد بن المهلّب لا يمرّ بخيل من خيولهم ولا قبيلة من قبائلهم إلّا تنحّوا له عن السبيل تهيّبا وإعظاما.
حتّى انتهى إلى المغيرة بن عبد الله الثقفىّ وهو على الخيل فاستقبله ليردّه. فحمل عليه محمّد بن المهلّب، فأفرج له عن الطريق هو وأصحابه وأقبل يزيد حتّى نزل داره، واختلف الناس إليه. وأخذ يبعث إلى عدىّ بن أرطاة أن:
- «ادفع إلىّ إخوتى وأنا أصالحك على البصرة وأخلّيك وإيّاها حتّى آخذ
__________
[1] . يقربك (يقرنك؟) الحرف الرابع مهمل فى الأصل ومط.(2/472)
لنفسي ما أحبّ من يزيد بن عبد الملك.» فلم يجبه إلى ذلك.
وكان خرج إلى يزيد بن عبد الملك حميد بن عبد الملك بن المهلّب يصلح [556] أمر عمّه يزيد. فبعث معه يزيد بن عبد الملك خالد بن عبد الله القسرىّ [1] وعمر بن يزيد الحكمي بأمان يزيد بن المهلّب وأهل بيته. وأخذ يزيد بن المهلّب، قبل أن يوافيه حميد، يعطى كلّ من أتاه العطايا العظيمة ويقطع لهم قطع الذهب والفضّة. فمال الناس إليه، ولحق به عمران بن مسمع ساخطا على عدىّ. وذلك أنّه نزع منه راية بكر بن وائل وأعطاها ابن عمّه. ومالت إلى يزيد ربيعة كلّها وبقيّة تميم وقيس، وناس بعد ناس فيهم عبد الملك ومالك ابنا مسمع وناس من أهل الشام.
وكان عدىّ لا يعطى إلّا درهمين درهمين ويقول:
- «لا يحلّ لى أن أعطيكم من بيت المال درهما إلّا بأمر يزيد بن عبد الملك، ولكن تبلّغوا بهذا حتّى يأتى الأمر فى ذلك.» وله يقول الفرزدق:
أظنّ رجال [2] الدرهمين يقودهم [3] ... إلى الموت آجال لهم ومصارع
فأحزمهم من كان فى قعر بيته ... وأيقن أنّ الأمر لا بدّ واقع
وخرجت بنو عمرو بن تميم من أصحاب عدىّ، فنزلوا المربد. فبعث إليهم يزيد بن المهلّب [557] مولى له يقال له دارس. فحمل عليهم فهزمتهم. فقال الفرزدق:
__________
[1] . القسري: كذا فى الأصل وهو صحيح. وما فى مط: القرى. وهو خطأ.
[2] . رجال الدرهمين: كذا فى الأصل وهو الصحيح. وما فى مط: الرجال الدرهمين. وهو خطأ.
[3] . يقودهم: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (9: 1383) : يسوقهم. وكلاهما صحيح.(2/473)
تفرّقت الجعراء [1] أن صاح دارس ... ولم يصبروا تحت السيوف الصوارم
جزى الله قيسا عن عدىّ ملامة ... ألا صبروا حتّى تكون تلاحم
وخرج يزيد بن المهلّب حتّى اجتمع له الناس، حتّى نزل جبّانة بنى يشكر وهو المنصف فى ما بينه وبين القصر. وجاءته تميم وأهل الشام، فاقتتلوا هنيهة، فحمل عليهم محمّد بن المهلّب، فضرب مسور بن عباد الحبطىّ بالسيوف، فقطع أنف البيضة، وأسرع السيف فى وجهه، وحمل على هريم بن أبى طحمة، فأخذ بمنطقته فجذبه عن فرسه وتماسك فى السرج حتّى انقطعت المنطقة، وقال:
- «هيهات! عمّك أرزن من هذا.» فانهزم القوم وأقبل يزيد فى أثر القوم يتلوهم حتّى دنا من القصر. وخرج إليه عدىّ بنفسه فى أصحابه، فقاتلوا ساعة وقتل من أصحابه خلق فيهم: الحارث بن مصرّف الأودى، وكان من أشراف أهل الشام وفرسان الحجّاج، وقتل موسى بن الوجيه الحميري [558] وقتل جماعة أمثالهم.
ثم انهزم أصحاب عدىّ، وسمع أخوه يزيد- وهم فى محبس عدىّ- الأصوات تدنو والنشّاب تقع فى القصر والصحن، فقال لهم عبد الملك:
- «إنّى لا أرى يزيد إلّا قد ظهر، ولست آمن من مع عدىّ من مضر ومن أهل الشام أن يأتوا فيقتلونا قبل أن يصل يزيد إلى الدار، فأغلقوا الباب ثمّ أسندوه.
بالثياب والرحل.» ففعلوا، فلم يلبثوا ساعة حتّى جاءهم عبد الله بن دينار مولى بنى عامر وكان على حرس بنى عدىّ. فجاء يشتدّ إلى الباب هو وأصحاب له وقد صنع بنو المهلّب ما قال لهم عبد الملك، ووضعوا متاعا كثيرا على الباب، ثمّ اتّكأوا عليه.
__________
[1] . الجعراء: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (9: 1383) : «الحمراء إذ» بدل: «الجعراء أن» . وفى حواشيه عن الأصول: الجفراء.(2/474)
وأخذ القوم يعالجون الباب فلا يستطيعون الدخول، وأعجلهم الناس فخلّوا عنهم، وجاء يزيد بن المهلّب حتّى نزل دار سليم بن زياد بن أبى سفيان إلى جانب القصر، وأتى بالسلاليم، فلم يلبث سفيان أن فتح القصر. وأتى بعدىّ بن أرطاة، فجيء به، وخاطبه بما يجرى مجرى التبكيت. ثمّ أمر بحبسه وقال له:
- «أما إنّ حبسي إيّاك [559] ليس إلّا لحبسك بنى المهلّب وتضييقك علينا فى ما كنّا نسألك التسهيل عليهم.»
ذكر اتّفاق سىّء اتّفق على يزيد بن المهلّب
خرج الحوارىّ بن زياد بن عمرو العتكي يريد يزيد بن عبد الملك هاربين من يزيد بن المهلّب فلقى فى طريقه خالد بن عبد الله القسري وعمر بن يزيد الحكمي ومعهما حميد بن عبد الملك بن المهلّب قد أقبلوا من عند يزيد بن عبد الملك بأمان يزيد المهلّب وكلّ شيء أراده. فاستقبلهما فسألاه عن الخبر. فلمّا رأى حميد بن عبد الملك معهما خلا بهما وقال:
- «أين تريدان؟» قالا:
- «نريد يزيد بن المهلّب، قد جئناه بكلّ شيء يريد ويقترح.» فقال:
- «هيهات، قد تجاوز الأمر ذلك وما تقدران أن تصنعا بيزيد أو يصنع هو بكما.
قد ظهر على عدوّه عدىّ بن أرطاة وقد قتل سراة الناس ووجوه الفرسان، وحبس [1] عديّا، فارجعا ولا تهديا نفوسكما إلى يزيد.» فعادى مع الحوارىّ بن زياد وأقبلا بحميد معهما إلى يزيد بن عبد الملك.
فقال لهما حميد:
- «أنشدكم الله أن تخالفا فى أمر يزيد وما بعثتما به، فإنّ يزيد قابل منكما وإنّ
__________
[1] . حبس: كذا فى الأصل وهو صحيح. وما فى مط: جلس! وهو خطأ.(2/475)
هذا [560] وأهل بيته لم يزالوا لنا أعداء. فناشدتكما الله أن تسمعا مقالة هذا فينا.» فلم يقبلا قوله وأقبلا به حتّى دفعاه إلى عبد الرحمان بن مسلم الكلبي، وكان يزيد بن عبد الملك بعثه إلى خراسان عاملا عليها. فلمّا بلغه خلع يزيد بن المهلّب، كتب إلى يزيد بن عبد الملك:
- «إنّ جهاد من خالفك [1] أحبّ إلىّ من ولايتي خراسان، فلا حاجة لى فيها، واجعلنى ممّن توجّه إلى يزيد بن المهلّب.» وبعث بحميد بن عبد الملك إلى يزيد، ووثب عبد الحميد بن عبد الرحمان بن زيد بن الخطّاب على خالد بن يزيد بن المهلّب وهو بالكوفة، وعلى حمّال [2] بن زحر وليسا ممّن ينطف [3] بشيء، إلّا أنّه أوثقهما لما عرف بين حمّال وبين بنى المهلّب، وسرّح بهما إلى يزيد بن عبد الملك، فحبسهما جميعا ولم يفارقا السجن حتّى هلكا فيه.
وبعث يزيد بن عبد الملك رجالا من أهل الشام إلى الكوفة يسكّنونهم ويثنون عليهم بطاعتهم ويمنّونهم الزيادات.
ثم إنّ يزيد بن عبد الملك بعث العبّاس بن الوليد بن عبد الملك فى أربعة آلاف فارس جريدة [4] خيل حتّى وافوا الحيرة [561] يبادر إليها يزيد بن المهلّب. أقبل بعد ذلك مسلمة بن عبد الملك فى جنود أهل الشام، فأخذ على الجزيرة على شاطئ الفرات، واستوسق أهل البصرة ليزيد بن المهلّب، وبعث عمّاله إلى الأهواز وفارس. وبعث عبد الرحمان إلى بنى تميم:
__________
[1] . خالفك: كذا فى الأصل وفى مط: خلفك. وهو خطأ.
[2] . حمّال بن زحر: كذا فى الأصل والطبري (9: 1389) . وفى حواشيه عن الأصول: جمال بن زجر.
[3] . ينطف: كذا فى مط والطبري. وما فى الأصل: تنطف.
[4] . الجريدة: جماعة الخيل لا رجّالة فيها وقد جرّدت عن سواها بوجه. قس العبارة بما فى الطبري (9:
1360) .(2/476)
- «إنّ هذا مدرك بن المهلّب يريد أن يلقى بينكم الحرب وأنتم فى بلاد عافية فى طاعة وعلى جماعة.» فخرجوا ليلا يستقبلونه ويكيدونه. وبلغ ذلك الأزد، فخرج منهم نحو ألفى فارس حتّى لحقوهم قبل أن ينتهوا إلى رأس المفازة. فقالوا لهم:
- «ما جاء بكم وما أخرجكم إلى هذا المكان؟» فاعتلّوا عليهم بأشياء ولم يقرّوا أنّهم خرجوا ليكيدوا مدرك بن المهلّب.
فقال لهم الأزد:
- «بل قد علمنا أنّكم لم تخرجوا إلّا لتلقّى صاحبنا وها هو ذا منكم قريب، فما شئتم.» ثم أسرعت الأزد حتّى لقوا مدركا على رأس المفازة، فنصحوا له وأعلموه أنّه يقع فى بلاء لا يدرون ما عاقبته ويشيرون عليه بالانصراف إلى أن يتمّ أمر يزيد.» فقبل ورجع من مكانه.
ثم إنّ يزيد بن المهلّب لمّا استجمع له أهل البصرة، صعد المنبر وخطبهم وأخبرهم أنّه [1] يدعوهم [562] إلى كتاب الله وسنّة نبيّه ويحثّ على الجهاد ويزعم أنّ جهاد أهل الشام أعظم ثوابا من جهاد الترك والديلم.
فكان الحسن البصري حاضرا. فرفع صوته وقال:
- «والله لقد رأيناك واليا ومولّيا [2] عليك، فما ينبغي لك.» فوثب عليه من كان بجنبه، فأخذوا بيده وفمه وأجلسوه، وما شكّ الناس أنّه سمعه ولكنّه لم يلتفت إليه ومضى فى خطبته.
ثم إنّ الحسن خرج يخذّل الناس عنه ويقول:
__________
[1] . ما فى الأصل: أنهم. وهو سهو. فصحّحناه كما فى مط والطبري (9: 1391) .
[2] . مولّيا: كذا فى الأصل ومط والطبري. وما فى بعض الأصول: مواليا.(2/477)
- «كان بالأمس يضرب أعناق هؤلاء الذين ترون [1] يسرّح بها إلى بنى مروان، يريد بهلاك هؤلاء رضاهم.» فلمّا غضب نصب قصبا ووضع عليه خرقا وقال:
- «قد خالفت هؤلاء، فخالفوهم.» وقال:
- «إنّى أدعوكم إلى سنّة العمرين، ألا إنّ سنّة العمرين [2] أن يوضع قيد فى رجليه، ثمّ يردّ إلى محبس عمر الذي حبسه فيه.» فقال ناس من أصحابه ممّن سمعوا قوله:
- «والله، لكأنّك يا با سعيد راض عن أهل الشام.» فقال:
- «أنا راض عن أهل الشام [3] ؟ قبّحهم الله ونزحهم! أليسوا الذين أحلّوا حرم رسول الله، صلّى الله عليه، يقتلون أهله ثلاثة أيّام وثلاث ليال وقد أباحوها لأنباطهم وأقباطهم يحملون الحرائر [563] وذوات الدين لا يتناهون عن انتهاك حرمة، ثمّ خرجوا إلى بيت الله الحرام، فهدموا الكعبة وأوقدوا النيران بين أحجارها وأستارها، عليهم لعنة الله وسوء الدار.» ثم إنّ يزيد خرج من البصرة، واستخلف عليها مروان بن المهلّب، وقدّم بين يديه عبد الملك بن المهلّب، وخرج معه بالسلاح وبيت المال، وأقبل حتّى نزل واسطا. وكان قبل أن يبلغها استشار أصحابه وقال لهم:
- «إنّ أهل الشام قد نهضوا إليكم.»
ذكر آراء أشير بها على يزيد بن المهلّب فما عمل بها
فقال له حبيب وغيره:
__________
[1] . ترون: كذا فى الأصل والطبري (9: 1392) . وفى مط: يرون.
[2] . ألا إنّ سنّة العمرين: العبارة سقطت من مط. وفى الطبري: وإنّ من سنّة العمرين ...
[3] . أنا راض عن أهل الشام! هذه العبارة أيضا سقطت من مط.(2/478)
- «نرى أن تخرج حتّى تنزل فارس وتأخذ بالشعاب والعقاب وتدنو من خراسان وتطاول القوم، فإنّ أهل الجبال ينقضّون إليك وفى يدك القلاع والحصون.» فقال:
- «ليس هذا برأى وليس يوافقني. إنّما تريدون أن تجعلوني طائرا على رأس جبل.» فقال له حبيب:
- «فإنّ الرأى الذي كان ينبغي أن يكون فى أوّل الأمر قد فات. كنت أمرتك حين ظهرت على البصرة أن توجّه خيلا [564] عليها بعض أهل بيتك حتّى يرد الكوفة، فإنّما هو عبد الحميد، مررت به فى سبعين رجلا. فعجز عنك، فهو عن خيلك أعجز فى العدّة، وتسبق إليها أهل الشام وعظم أهلها يرى رأيك ويحبّ أن لا يلي عليهم أهل الشام، فلم تطعني. وأنا اليوم أشير عليك برأى: سرّح مع بعض أهل بيتك خيلا عظيمة، فتأتى الجزيرة وتبادر إليها حتّى تنزل حصنا من حصونها، وتسير فى إثرهم. فإذا أقبل أهل الشام يريدونك لم يدعوا جندا من جندك بالجزيرة ويقبلوا إليك. فيقيمون عليهم، فكانوا حابسيهم عنك حتّى تأتيهم ويأتيك [من] [1] بالموصل من قومك وتبذل المال، ويأتيك أهل الجزيرة، وينقضّ إليك أهل العراق وأهل الثغور وتقاتلهم فى أرض رفيغة [2] السعر، وقد جعلت العراق كلّه وراء ظهرك.» فقال:
- «إنّى أقطع جندي.» فلمّا نزل واسطا أقام بها أيّاما يسيرة.
__________
[1] . من: سقطت من الأصل ومط. وهي موجودة فى الطبري (9: 1394) .
[2] . رفيغة: كذا فى الأصل. وما فى مط والطبري: رفيعة (بالعين المهملة) ، وفى ابن الأثير:
رخيصة. والرفيغة من الرفاغية وهي: سعة العيش وخصبه.(2/479)
ودخلت سنة اثنتين ومائة
قد حكينا ما كان من توجيه يزيد بن عبد الملك، العباس بن الوليد بن عبد الملك [565] ومسلمة بن عبد الملك إلى يزيد بن المهلّب لمحاربته. واستعدّ يزيد للقائهما واستخلف على واسط ابنه معاوية، وجعل عنده بيت المال والخزائن والأسراء، وقدّم بين يديه أخاه عبد الملك، ثمّ سار حتّى مرّ بفم النيل، ثمّ سار حتّى نزل العقر. وأقبل مسلمة يسير على شاطئ الفرات حتّى نزل الأنبار، ثمّ عقد عليها الجسر، فعبر من قبل قرية يقال لها: فارط. ثمّ أقبل حتّى نزل على يزيد بن المهلّب وقد قدّم يزيد عبد الملك نحو الكوفة فاستقبله العباس بن الوليد بسورا [1] ، فاصطفّوا. ثمّ اقتتل القوم فشدّ عليهم أهل البصرة شدّة كشفوهم فيها، وقد كان معهم ناس من بنى تميم وقيس ممّن انهزم من يزيد من البصرة، فكانت لهم جماعة حسنة مع العبّاس بن الوليد فيهم هريم بن أبى طحمة المجاشعىّ. فلمّا انكشف أهل الشام تلك الانكشافة نادى هريم بن أبى طحمة:
- «يا أهل الشام، الله الله! إلى أين؟ أتسلموننا وقد اضطرّهم أصحاب عبد الملك إلى نهر؟» فأخذوا ينادونه:
- «لا بأس عليك، إنّ لأهل الشام جولة فى أوّل القتال [566] أتاك الغوث [2] .» ثم إنّ أهل الشام كرّوا عليهم، فكشف أصحاب عبد الملك وهزموا. وجاءهم عبد الملك حتّى انتهى إلى أخيه بالعقر وسقط إلى يزيد ناس كثير من أهل الكوفة ومن أهل الجبال. فبعث على الأرباع رؤساءهم عبد الله بن المفضّل الأزدىّ، والنعمان بن إبراهيم بن الأشتر، ومحمّد بن إسحاق بن محمّد بن الأشعث،
__________
[1] . سورا (بالألف المقصورة) : موضع بالعراق من أرض بابل وهي مدينة السريانيّين وقد نسبوا إليها الخمر (معجم البلدان) .
[2] . أتاك الغوث: تكررت العبارة فى الأصل، وهي غير مكرّرة لا فى مط ولا فى الطبري (9: 1396) .(2/480)
وحنظلة بن عتّاب بن ورقاء التميمىّ. وجمعهم جميعا مع المفضّل بن المهلّب.
فتحدّث علاء بن زهير قال: والله إنّا لجلوس عند يزيد ذات يوم إذ قال:
- «أترون أنّ فى العسكر ألف سيف يضرب به؟» قال: فيقول له: حنظلة بن العتّاب:
- «إنّهم والله ما ضربوا بألف سيف قطّ، والله لقد أحصى ديوانى مائة وعشرين ألف. والله، لوددت أنّ مكانهم الساعة معى من بخراسان من قومي.» ثم إنّه خطب الناس وحرّضهم، وقال فى كلامه:
- «إنّه ذكر لى أنّ هذه الجرادة الصفراء (يعنى مسلمة بن عبد الملك) وعاقر ناقة ثمود (يعنى العبّاس بن الوليد وكان العباس أزرق أحمر، كانت أمّه [567] روميّة) والله لقد كان سليمان أراد أن ينفيه حتّى كلّمته فيه فأقرّه على نسبه، فبلغني أنّه ليس يهمّهما إلّا التماسي فى الأرض. والله، لو جاءوا بأهل الأرض جميعا، وليس إلّا أنا، ما برحت العرصة حتّى تكون لى أو لهم.» قالوا:
- «إنّا نخاف أن تعنّينا كما عنّانا عبد الرحمان بن محمد بن الأشعث.» قال:
- «إنّ عبد الرحمان فضح الذمار [1] وفضح حسبه، وهل كان يعدو أجله؟» نزل.
قال: ودخل عامر العميثل، وهو من الأزد وقد جمع جموعا، فأتاه فبايعه.
وكانت بيعة يزيد:
- «تبايعوني على كتاب الله وسنّة نبيّه وعلى ألّا يطأ الجنود بلادنا ولا بيضتنا، ولا تعاد علينا سيرة الفاسق الحجّاج. ومن بايعنا على ذلك قبلنا منه، ومن أبى جاهدناه، وجعلنا الله بيننا وبينه.» ثم يقول:
__________
[1] . فضح الذمار: والذمار كل ما يلزمك حمايته والدفاع عنه، وإن ضيّعته لزمك اللّوم. ومن معانيه:
الحرم والأهل. وفى مط: فصح الذمار وفصح حسبه (بالصاد المهملة) وهو خطأ.(2/481)
- «تبايعون؟» فإذا قالوا: «نعم.» بايعهم.
ذكر رأى صواب رءاه يزيد فخالفه فيه أصحابه
دعا يزيد بن المهلّب رؤساء أصحابه، فقال لهم:
- «إنّى قد رأيت أن أجمع اثنى عشر ألف رجل، فأبعثهم مع محمّد بن عبد الملك، حتّى يبيّتوا مسلمة ويحملوا معهم البراذع [1] [568] والأكف والزبل من الخندق الذي حفروه، فيقاتلهم على خندقهم وعسكرهم بقيّة ليلته. وأمدّه بالرجال حتّى أصبح، فإذا أصبحت نهضت إليهم أنا بالناس فناجزتهم. فإنّى أرجو عند ذلك أن ينصرنا الله عليهم.» فقال السميدع (وكان كنديّا [2] يرى رأى الخوارج، قد اعتزل مع طائفة من القرّاء أيّام قتال يزيد مع عدىّ بن أرطاة إلى أن قالت طائفة من أصحاب يزيد وطائفة من أصحاب عدىّ: قد رضينا بحكم السميدع. ثمّ دعاه يزيد إلى نفسه وشرط له العمل بالكتاب والسنّة، فأجابه، واستعمله على الأبلّة فى تلك الأيّام) :
- «إنّا قد دعوناهم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه، وقد زعموا أنّهم قابلون منّا هذا، فليس لنا أن نمكر ولا أن نغدر. ولا أن نريدهم بسوء حتّى يردّوا علينا ما زعموا أنّهم قابلوه منّا.» فقال جماعة من أهل الديانة:
- «هكذا ينبغي.»
__________
[1] . البراذع والأكف والزبل: أمّا البراذع جمع مفرده: البرذعة (والدال لغة) : الحلس: البساط من مسح وغيره يلقى تحت الرحل. والأكف: جمع مفرده الإكاف والأكاف والوكاف: البرذعة. والزبل: جمع مفرده الزبيل، الزنبيل: القفّة. الجراب: الوعاء الذي يحمل فيه.
[2] . كنديّا: الكلمة غير واضحة فى الأصل، والمثبت من مط.(2/482)
قال يزيد:
- «ويحكم! أتصدّقون بنى أميّة أن يعملوا بالكتاب والسنّة وقد ضيّعوا [1] ذلك مذ كانوا! إنّهم لم يقولوا لكم إنّا نقبل منكم، وهم يريدون ألّا يعملوا فى سلطانهم [569] إنّما [2] تأمرونهم وتدعونهم إليه، ولكنّهم أرادوا أن يكفّوهم عنهم حتّى يعملوا فى المكر، فلا يسبقوكم إلى تلك، أبدأوهم بها! إنّى لقيت بنى مروان، فو الله ما لقيت منهم رجلا هو أشدّ تمرّدا ولا أبعد غورا من هذه الجرادة الصفراء.» يعنى: مسلمة. قالوا:
- «لا نرى أن نفعل ذلك حتّى يردّوا علينا ما زعموا أنّهم قابلوه منّا.» وكان مروان بن المهلّب وهو بالبصرة يحثّ الناس على حرب أهل الشام ويسرّح الناس إلى يزيد.
وكان الحسن البصري يثبّط الناس عن يزيد بن المهلّب ويخطب أصحابه بما يقعدهم [3] . فلمّا بلغ ذلك مروان بن المهلّب، قام خطيبا كما كان يقوم، فأمر الناس بالجدّ والاجتهاد والاحتشاد، وقال:
- «لقد بلغني أنّ هذا الشيخ الضالّ المرائى- ولم يسمّه- يثبّط عنّا الناس. والله، لو أنّ جاره نزع من خصّ [4] داره قصبة لظلّ يرعف أنفه، وينكر علينا وعلى أهل مصرنا أن نطلب حقّنا وأن ننكر مظلمتنا! أما والله، ليكفّنّ عن ذكرنا، أو عن جمعه سقّاط الأبلّة وعلوج فرات البصرة، [570] أو لأنحينّ [5] عليه مبردا خشنا.
فلمّا بلغ ذلك الحسن قال:
__________
[1] . ضيّعوا: كذا فى الأصل والطبري (9: 1400) . وما فى مط: صنعوا. وهو خطأ.
[2] . إنّما تأمرونهم وتدعونهم: كذا فى الأصل. وفى مط: إنّما يأمرونهم ويدعونهم. وما فى الطبري: إلّا ما تأمرونهم وتدعونهم.
[3] . أنظر كلام الحسن البصري فى الطبري (9: 1400) . وفى هذا الكتاب وهذا الجزء ص 562- 563.
[4] . الخصّ: البيت من قصب أو شجر. البيت يسقف عليه بخشبة كالأزج: البيت يبنى طولا.
[5] . لأنحينّ: غير معجم فى الأصل. والإعجام من الطبري. وما فى مط: لا نحير! وهو خطأ.(2/483)
- «والله ما أكره أن يكرمني الله بهوانه.» فقال ناس من أصحابه:
- «والله لو أرادك ثمّ شئت لمنعناك.» فقال لهم:
- «قد خالفتكم إذا إلى ما نهيتكم عنه، آمركم أن لا يقتل بعضكم بعضا مع غيرى وأدعوكم أن يقتل بعضكم بعضا دوني!.» فبلغ ذلك مروان، فاشتدّ عليهم وأخافهم، وطلبوا حتّى تفرّقوا، ولم يدع الحسن كلامه ذلك، وكفّ عنه مروان بن المهلّب.
وكانت مدّة إقامة يزيد بن المهلّب منذ اجتمع هو ومسلمة ثمانية أيّام. حتّى إذا كان يوم الجمعة الأربع عشرة خلت من صفر، بعث إلى الوضّاح أن يخرج بالوضّاحيّة فى السفن حتّى يحرق السفن التي فى الجسر، ففعل.
وخرج مسلمة فعبّى جنود أهل الشام ميمنة وميسرة، وازدلف بهم نحو يزيد، وخرج إليه يزيد فى مثل تعبئته.
فحدّث العلاء بن منهال، أنّ رجلا من أهل الشام خرج، فدعا إلى المبارزة، فلم يخرج إليه أحد. فبرز إليه محمّد بن عبد الملك، فحمل عليه، فاتّقاه الرجل بيده وعلى كفّه [1] كفّ [571] وساعد من حديد. فضربه محمّد، فقطع كفّ الحديد وأسرع السيف فى كفّه، واعتنق فرسه. وأقبل محمّد يضربه ويقول:
- «المنجل أعود عليك من مبارزة الفرسان، عليك بالمنجل!» قال: وذكر أنّه كان حيّان النبطىّ. قال: ولمّا أحرق الوضّاح الجسر وسطع دخانه وقد نشبت الحرب ولم يشتدّ القتال نظر الناس إلى الدخان وقيل لهم:
- «أحرق الجسر.»
__________
[1] . سقط من مط قوله: «كفّ وساعد» إلى قوله: «وأسرع السيف» .(2/484)
فانهزموا. وقيل ليزيد:
- «قد انهزم الناس.» قال:
- «وممّ انهزموا؟ وهل كان قتال ينهزم من مثله؟» فقيل له:
- «أحرق الجسر فلم يثبت أحد.» قال:
- «قبّحهم الله.» قال:
- «بقّ دخّن عليه فطار.» فخرج وخرج معه أصحابه ومواليه وناس من قومه. فقال [رجل من أهل بيته:
- «ينهزمون وهم كالجبال.» فقال:] [1]- «اضربوا وجوه المنهزمين.» ففعلوا ذلك حتّى كثروا عليهم، واستقبلهم [2] منهم مثال الجبال.» فقال:
- «دعوهم، فو الله إنّى لأرجو أن لا يجمعني الله وإيّاهم فى مكان واحد أبدا، دعوهم يرحمهم الله. غنم عدا فى نواحيها الذئب.» وكان يزيد لا يحدّث نفسه بالفرار.
ولمّا انهزم الناس قال يزيد للسميدع:
- «يا سميدع! أصحّ أمر رأيك، ألم أعلمك ما يريد القوم؟» قال:
- «بلى، والرأى والله كان رأيك [572] وأنا ذا معك لا أزايلك فمرني بأمرك.» قال:
__________
[1] . ما وضع بين المعقوفتين ساقط من الأصل ولم نجده لا فى الطبري (9: 1403) ولا فى ابن الأثير (5:
82) بل زيادة خاصّة بمط، فأضفناها.
[2] . واستقبلهم منهم مثل الجبال: كذا فى الأصل والطبري. وفى ابن الأثير: استقبله أمثال الجبال. أما فى مط فسقطت العبارة ضمن سقوط عبارة أطول تبدأ بقوله: «اضربوا وجوه» وتنتهي بقوله: «فقال» .(2/485)
- «إمّا لا فانزل.» فنزل فى أصحابه. وجاء يزيد جاء وقال:
- «إنّ حبيبا قد قتل.» فقال:
- «لا خير فى العيش بعده امضوا بنا قدما.» فعلمنا أنّه مستقتل [1] ، فأخذ من يكره القتال ينكص، وأخذوا يتسلّلون، وبقيت مع يزيد بقيّة: جماعة حسنة وهو يزدلف بهم. فكلّما مرّ بخيل أو جماعة من أهل الشام كشفها وعدلوا عن سننه وسنن أصحابه. وأتاه آت وقال له:
- «ذهب الناس.» وهو يسرّ إليه وأنا أسمعه. وقال له:
- «هل لك أن تنصرف إلى واسط، فإنّها حصن حتّى تأتيك الأمداد من البصرة وعمان والبحرين فى السفن وتضرب خندقا.» فقال:
- «قبّح الله رأيك! ألى تقول ذا؟ الموت أيسر علىّ من ذلك.» فقال:
- «ألا ترى من حولك من جبال الحديد؟.» وهو يسرّ إليه. فقال:
- « [أمّا] أنا [فما] أباليها [2] ، جبال حديد كانت أم جبال نار. اذهب عنّا إن كنت لا تريد القتال معنا.» وتمثّل:
أبالموت خشّتنى عباد [3] وإنّما ... رأيت منايا الناس يسعى دليلها
فما ميتة إن متّها [4] غير عاجز ... بعار، إذا ما غالت النفس غولها [573]
__________
[1] . مستقتل: كذا فى الأصل. وما فى مط: مستقبل. وهو تصحيف. والعبارة فى الطبري (9: 1404) : فعلمنا أنّه قد استقتل.
[2] . فى الأصل ومط: «فأنا أباليها» . والتصحيح من الطبري.
[3] . عباد: كذا فى الأصل بالضبط (أى بضمّ العين) وضبط فى الطبري: «عباد» (بكسرها» .
[4] . متّها: كذا فى الأصل والطبري وهو صحيح. وما فى مط: منها!(2/486)
وكان يزيد بن المهلّب على برذون له أشهب. فأقبل نحو مسلمة لا يريد غيره حتّى إذا دنا منه، دعا مسلمة بفرسه ليركب. فعطفت عليه خيول الشام فقتل يزيد بن المهلّب والسميدع، وقتل أخوه محمّد بن المهلّب.
فحكى: أنّ رجلا من كلب يقال له: الفحل بن عيّاش [1] لمّا نظر إلى يزيد قال:
يزيد بن المهلّب والفحل بن عيّاش كلّ قتل صاحبه!
- «يا أهل الشام، هذا يزيد والله لأقتلنّه، أو يقتلني. إنّ معه ناسا، فمن يحمل معى يكفيني أصحابه حتّى أصل إليه؟» فقال ناس من أصحابه:
- «نحن نحمل معك.» ففعلوا، وحملوا بأجمعهم، فاضطربوا ساعة وسطع الغبار وانفرج الفريقان عن يزيد قتيلا وعن الفحل بن عيّاش بآخر رمق. فأومأ إلى أصحابه يريهم مكان يزيد، يقول لهم:
- «أنا قتلته.» ويومى إلى نفسه أنّه:
- «هو قتلني» ! وكان مسلمة لا يصدّق أنّه هو قتله. فبعث برأسه إلى يزيد بن عبد الملك مع خالد بن الوليد بن عقبة بن أبى معيط.
__________
[1] . الفحل بن عيّاش: كذا فى الأصل. وفى مط: الفحل بن عبّاس. وفى الطبري (9: 1405) : القحل بن عيّاش (بالقاف) .(2/487)
وأبلى يومئذ المفضّل بن المهلّب بعد قتل يزيد وإخوته حتّى ظنّ أنّه يتلافى الأمر وحده مع نفر معه يذمر بهم ويقول لهم:
- «غضّوا أبصاركم [574] ولا تلتفتوا، فداءكم أبى وأمّى.» ويحمل الحملات الصادقة حتّى تفرّقت عنه تلك العصابة وبقي وحده. فأخذ الطريق إلى واسط. فقال الناس:
- «ما رأينا من العرب رجلا فى مثل منزلته كان أغشى للبأس [1] بنفسه ولا أضرب بسيفه ولا أحسن تعبئة لأصحابه منه.» وأسر أهل الشام خلقا من أصحاب يزيد، فسرّح بهم إلى محمّد بن عمرو بن الوليد، فحبسهم إلى أن جاء كتاب من يزيد بن عبد الملك إلى محمّد بن عمرو أن:
- «اضرب أعناق الأسرى.» فقال للعريان بن الهيثم وكان على شرطته:
- «أخرجهم عشرين عشرين، وثلاثين ثلاثين.» فقام قوم من بنى تميم وهم لا يدرون ماذا يراد بهم، فقالوا:
- «اتّقوا الله وابدأوا بنا، أخرجونا قبل الناس، فإنّا نحن انهزمنا بالناس.» فقال لهم العريان:
- «اخرجوا على اسم الله!» فأخرجهم إلى المصطبّة، ثمّ أرسل إلى محمّد بن عمرو، ويخبره بإخراجهم وبمقالتهم. فبعث إليه أن:
- «اضرب أعناقهم.» فتحدّث نجيح [2] مولى زهير قال: والله إنى أنظر إليهم وهم يقتلون وإنّهم ليقولون:
__________
[1] . للبأس: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (9: 1407) : للناس.
[2] . نجيح: كذا فى الأصل والطبري (بالجيم ثمّ الحاء) وما فى مط: نحيح (بالحائين) .(2/488)
- «إنّا لله، انهزمنا بالناس وهذا جزاؤنا.» فما هو إلّا أن فرغ منهم جاء رسول [575] مسلمة بكتابه فيه النهى عن قتل الأسرى وإطلاقهم. وكان مسلمة ضمن لهم ضمانات وواطأهم إذا رأوا دخان الحريق من الجسر أن ينهزموا بالناس. ففعلوا، ثمّ قتلوا.
ولمّا جاء فلّ يزيد إلى واسط أخرج معاوية بن يزيد بن المهلّب اثنين وثلاثين أسيرا كانوا فى يديه، فضرب أعناقهم. منهم: عدىّ بن أرطاة، وابنه محمّد بن عدىّ ومالك وعبد الملك ابنا مسمع وغيرهم من الأشراف. وكانوا قالوا له:
- «ويحك! إنّا لا نراك [1] تقتلنا إلّا أنّ أباك قد قتل، وأنّ قتلنا ليس بنافعك فى الدنيا وهو والله ضارّك فى الآخرة.» فقتلهم كلّهم إلّا ربيع بن زياد بن ربيع بن أنس. فقال له قوم:
- «نسيته.» فقال:
- «ما نسيته ولكن لم أكن لأقتله وهو شيخ من قومي له شرف ومعروف، ولست أتّهمه فى ودّ، ولا أخاف بغيه.» ورثى الشعراء يزيد وإخوته المقتولين فأكثروا.
وأقبل معاوية بن يزيد حتّى أتى البصرة معه المال والخزائن. وجاء المفضّل، فاجتمع إليه جميع آل المهلّب بالبصرة، وقد كانوا أعدّوا السفن البحريّة وتجهزوا بكلّ الجهاز، لأنّهم كانوا يتخوّفون [576] ما كان، وقد كان يزيد بن المهلّب بعث وداع بن حميد الأزدىّ على قندابيل [2] أميرا، فقال له:
- «إنّى قد اخترتك من بين قومي لأهل بيتي، فكن عند حسن ظنّى بك.» وأخذ عليه أيمانا غلاظا، وقال:
__________
[1] . نراك: كذا ضبط فى الأصل. وهذا صحيح، لأنّه لم يسمع مضارع «رأى» بمعنى الظن إلّا مجهولا.
[2] . قندابيل: كذا فى الأصل والطبري (9: 1410) . فى مط: فررائيل. وقندابيل مدينة بالسند. قصبة لولاية يقال لها الندهة، من قصدار إليها خمسة فراسخ (مراصد الإطلاع) .(2/489)
- «إنّى سائر إلى هذا العدوّ ولو قد لقيتهم لم أبرح العرصة حتّى يكون لى، أو لهم، وإن ظفرت أكرمتك، وإن تكن الأخرى ولجأ إليك أهل بيتي كنت فى حصن معهم وآويتهم حتّى يأخذوا لأنفسهم أمانا.» ولمّا اجتمعوا بالبصرة حملوا عيالاتهم وأموالهم فى السفن البحرية، ثمّ لجّجوا فى البحر حتّى مرّوا بمهزّم بن الفزر [1] ، وكان يزيد استعمله على البحرين. فقال لهم:
- «أشير عليكم أن لا تفارقوا سفنكم فإنّ ذلك بقاؤكم، وإن خرجتم منها يخطفكم الناس وتقرّبوا بكم إلى بنى مروان.» فخالفوه ومضوا حتّى إذا كانوا بحيال كرمان خرجوا من سفنهم وحملوا عيالهم وأموالهم على الدوابّ. وكان معاوية بن يزيد بن المهلّب حين قدم البصرة بالخزائن والأموال أراد أن يتأمّر عليهم. فاجتمع آل المهلّب، فأمّروا عليهم المفضّل بن المهلّب، وقالوا:
- «المفضّل أكبرنا وسيّدنا وإنّما [577] أنت غلام حدث السن كبعض فتيان أهلك.» فلم يزل المفضّل عليهم حتّى خرجوا إلى كرمان وبكرمان فلول كثيرة.
فاجتمعوا إلى المفضّل.
وبعث مسلمة بن عبد الملك مدرك بن ضبّ الكلبى فى طلب آل المهلّب وفى أثر الفلّ. فأدرك مدرك المفضّل بن المهلّب وقد اجتمعت إليه الفلول بفارس.
فاتّبعهم فأدركهم فى عقبة، فعطفوا عليه، فقاتلوه واشتدّ قتالهم. فقتل ممن كان مع المفضّل: النعمان بن إبراهيم بن الأشتر، ومحمّد بن إسحاق بن الأشعث، وأخذ ابن صول ملك دهستان أسيرا، وجرح عثمان بن إسحاق، ومحمّد بن الأشعث جراحة
__________
[1] . بمهزم بن الفزر: كذا فى الأصل. وما فى مط: بمهزم بن الفرد. وفى الطبري (9: 1410) : بهرم بن القرار.(2/490)
شديدة وهرب حتّى بلغ حلوان. فدلّ عليه هناك فقتل وحمل رأسه إلى مسلمة.
ورجع ناس من أصحاب يزيد بن المهلّب فطلبوا الأمان، فأومنوا، منهم: مالك بن إبراهيم بن الأشتر والزّرد [1] بن عبد الله بن حبيب السعدي من تميم، وكان قد شهد مع عبد الرحمان بن محمّد مواطنه كلّها.
ومضى آل المهلّب ومن سقط إليهم إلى قندابيل، وكان مسلمة ردّ مدركا الضبىّ وسرّح فى أثرهم هلال بن أحوز التميمىّ [578] من بنى مازن بن عمرو بن تميم، فلحقهم بقندابيل. فأراد آل المهلّب دخول قندابيل، فمنعهم وداع بن حميد، وكاتب هلال بن أحوز [2] ولم يباين آل المهلّب فيحذروه. فلمّا التقوا للحرب وصفّوا كان وداع بن حميد على الميمنة وعبد الملك بن هلال على الميسرة وكلاهما أزدىّ. فرفع لهم هلال بن أحوز المازني راية الأمان، فمال إليها وداع بن حميد وغدر بآل المهلّب، وتبعه عبد الملك بن هلال، وارفضّ عنهم الناس فخلّوهم.
فلمّا رأى ذلك مروان بن المهلّب ذهب يريد الانصراف إلى النساء، فقال له المفضّل:
- «أين تريد؟» قال:
- «أدخل إلى النساء من أهلى فأقتلهنّ لئلّا يصل إليهنّ هؤلاء الفسّاق.» فقال:
- «ويحك! أتقتل أخواتك وبنات أخواتك ونساء أهلك؟ إنّا والله ما نخاف عليهنّ منهم.» فردّه عن ذلك.
ثم مشوا بالسيوف وقاتلوا حتّى قتلوا من عند آخرهم إلّا عيينة بن المهلّب وعثمان بن المفضّل بن المهلّب، فإنّهما نجوا، فلحقا بخاقان ورتبيل، وبعث
__________
[1] . الزرد: كذا فى الأصل ومط وما فى الطبري (9: 1411) : الورد.
[2] . أحوز: كذا فى الأصل والطبري (9: 1412) وما فى مط: أحور (بالحاء المهملة) .(2/491)
برؤوسهم ونسائهم وأولادهم إلى مسلمة بن عبد الملك.
منع الجرّاح من بيع ذرّيّة آل المهلّب
وقال مسلمة:
- «والله لأبيعنّ [579] ذرّيّتهم.» وكانوا فى دار الرزق. فقال الجرّاح بن عبد الله:
- «فإنّى أشتريهم منك لأبرّ قسمك.» فاشتراهم منه بمائة ألف درهم. قال:
- «هاتها.» قال:
- «إذا شئت [فخذها] [1] .» ثم تركها عليه ولم يطالبه بها، وخلّى سبيلهم إلّا تسعة فتية منهم أحداثا بعث بهم إلى يزيد بن عبد الملك، فقدم بهم عليه، فضرب أعناقهم. ورثاهم الشعراء.
يزيد بن عبد الملك يولّى مسلمة على الكوفة والبصرة وخراسان بعد قتل يزيد بن المهلّب
ولمّا فراغ مسلمة بن عبد الملك من حرب يزيد بن المهلّب، جمع له يزيد بن عبد الملك ولاية الكوفة والبصرة وخراسان فى هذه السنة.
وفى هذه السنة وجّه مسلمة بن عبد الملك سعيد بن عبد العزيز بن الحارث بن الحكم بن أبى العاص إلى خراسان، وهو الذي يلقّب بسعيد خدينة [2] ، وإنّما استعمله مسلمة لأنّه كان ختنه على ابنته، وقدّم سعيد خدينة قبل شخوصه سورة بن أبجر من بنى دارم، فقدّمها قبله بشهر أو نحوه، واستعمل شعبة بن ظهير
__________
[1] . فخذها: ليست لا فى الأصل ولا فى مط وإنّما أضفناها من الطبري (9: 1414) .
[2] . خدينة: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (9: 1417) : خذينة (بالذال المعجمة) .(2/492)
النهشلىّ على سمرقند، فخرج إليها فى خمسة وعشرين رجلا من أهل بيته. فأخذ على آمل اموية، وأتى بخارى، فصبّحه [1] وصحبه منها مائتا رجل، فقدم السغد وقد [580] كان أهلها ارتدّوا فى ولاية عبد الرحمان بن نعيم، ثمّ عادوا إلى الصلح.
فخطب شعبة أهل السغد ووبّخ سكّانها من العرب وغيرهم بالجبن، وقال:
- «ما أرى فيكم جريحا ولا أسمع فيكم أنّة.» فاعتذروا بأن جبّنوا عاملهم علباء بن حبيب العبدىّ وكان على الحرب. قدم سعيد. فأخذ عمّال عبد الرحمان بن عبد الله الذين ولوا أيّام عمر بن عبد العزيز فحبسهم. فكلّمه فيهم قوم فضمّنهم وأطلق عنهم، ثمّ رفع إليه على عمّال يزيد بن المهلّب وهم ثمانية. فأرسل إليهم وحبسهم فى القهندز بمرو، فقيل له:
- «إنّ هؤلاء لا يودّون إلّا أن يبسط عليهم.» وكان فيهم جهم بن زهر. فأرسل إليه ثمّ ضربه فى ما بعد. وعزل شعبة بن ظهير عن سمرقند، وولّى حربها عثمان بن عبد الله بن مطرّف، وكان الناس يضعّفون سعيدا ولقّبوه خدينة [2] . فطمع فيه الترك، فجمع له خاقان الترك ووجّههم إلى السغد وكان عليهم كورصول، وأقبلوا حتّى نزلوا بقصر الباهلىّ.
سبب طمع الترك فى سعيد خدينة
وقيل: إنّ سبب طمع الترك أنّ بعض [581] عظماء الدهاقين رأى فى ذلك القصر امرأة من باهلة فهويها، فأرسل إليها فخطبها، فأبت فاستجاش ورجا أن يسبوا فيأخذ المرأة قهرا. فأقبل كورصول فى من معه من الترك حتّى حضر
__________
[1] . فصبّحه: كذا فى الأصل. والكلمة ليست لا فى مط ولا فى الطبري (9: 1418) .
[2] . وفى الطبري (9: 1418) : «.. فلقب خذينة. وخذينة هي الدهقانة ربّة البيت.» وفيه (9: 1417) أيضا:
وإنّما لقب بذلك فى ما ذكر لأنّه كان رجلا ليّنا سهلا متنعّما. وإنّما استعمل مسلمة سعيد خذينة على خراسان لأنّه كان ختنه على ابنته. كان سعيد متزوّجا بابنة مسلمة.(2/493)
بالقصر، وفيه مائة أهل بيت بذراريّهم، وعلى سمرقند عثمان بن عبد الله، وخافوا من الترك، وأشفقوا أن يبطئ عنهم المدد. فصالحوا الترك على أربعين ألفا وأعطوهم من الرجال سبعة عشر نفسا رهينة، وندب عثمان بن عبد الله بن مطرّف الشخّير الناس، فانتدب المسيّب بن بشر الرياحىّ وانتدب معه أربعة آلاف من جميع القبائل، فقال شعبة بن ظهير:
- «لو كان هاهنا خيول خراسان بأميرهم ما وصلوا إلى إغاثتهم [1] .» وكان فى من انتدب شعبة بن ظهير وجماعة من الرؤساء، فقال لهم المسيّب بن بشر لمّا عسكروا:
- «إنّكم تقدمون على حلبة الترك وهي حلبة خاقان، والعوض إن صبرتم الجنّة، والعقاب إن فررتم النار، فمن أراد الصبر فليقدم.» فانصرف عنه ألف وثلاثمائة، وسار فى الباقين. فلمّا سار قليلا أقبل على الناس وقال مثل [582] مقالته الأولى، فاعتزل ألف. ثمّ قال بعد ما سار فرسخا مثل ذلك فاعتزل ألف آخر، وسار فى سبعمائة، حتّى إذا كان على فرسخين من القوم نزل.
فأتاهم من [2] ترك خاقان ملك قىّ [3] ، فقال:
- «إنّه لم يبق هاهنا دهقان إلّا وقد تابع [4] الترك غيرى وأنا فى ثلاثمائة مقاتل، فهم معك. وعندي الخبر أنّ القوم قد كانوا صالحوا على أربعين ألفا وأعطوهم سبعة عشر رجلا يكونون فى أيديهم رهنا. فلمّا بلغهم مسيركم إليهم
__________
[1] . إغاثتهم: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (9: 1422) : غايتهم. وفى حواشيه عن الأصول:
غاثتهم.
[2] . من: موجودة فى الأصل ومط. وليست فى الطبري.
[3] . قىّ: كذا فى الأصل ومط والطبري. وفى بعض الأصول: فىّ.
[4] . تابع: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري: بايع.(2/494)
قتل الترك من كان أيديهم من الرهائن.» قال: وكان فيهم نهشل بن يزيد الباهلي فنجا، والأشهب بن عبد الله الحنظلي، وميعادهم أن يقاتلوهم غدا أو يفتحوا القصر.
فبعث المسيّب رجلين من العرب ورجلا من العجم من ساعته- وكان ليلا- على خيولهم، وقال:
- «إذا قربتم فشدّوا دوابّكم بالشجر واعلموا علم القوم.» فأقبلوا فى ليلة مظلمة وقد أجرت الترك الماء فى نواحي القصر. فليس يصل إليه أحد ودنوا من القصر فصاح بهم [1] الربيئة، فقال:
- «لا [583] تصح وادع لنا عبد الملك بن دثار.» فدعوه [2] فقالا له:
- «أرسلنا المسيّب وقد أتاكم الغوث.» قال:
- «أين هو؟» قالا:
- «على فرسخين، فهل عندكم امتناع إلى أن يلحق؟» قال:
- «قد أجمعنا على تسليح [3] نسائنا وتقديمهم للموت أمامنا حتّى نموت جميعا غدا.» فرجعا إلى المسيّب، فأخبراه. فقال المسيّب للذين معه:
- «إنّى سائر إلى هذا العدوّ. فمن بايعنى على الموت، وإلّا فليذهب.» فلم يفارقه أحد وبايعوه على الموت. فلمّا أصبح سار وقد زاد الماء الذي أجروه إلى المدينة تحصينا. فلمّا كان بينه وبينهم نصف فرسخ رأى أن ينزل ويبيّتهم. فلمّا أمسى أمر الناس، فشدّوا على خيولهم وركب فحثّهم على الصبر
__________
[1] . بهم: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري: بهما (9: 1423) .
[2] . فدعوه: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري: فدعاه.
[3] . تسليح نسائنا: كذا فى الأصل ومط. وفى الطبري: تسليم نسائنا. ولكليهما وجه من الصحة.(2/495)
ورغّبهم فى ما يصير إليه أهل الجهاد والاحتساب والصبر وما لهم فى الدنيا من الغنيمة والشرف إن ظفروا، وما لهم فى الآخرة من الثواب والنعيم الأبدىّ إن قتلوا.
ثم قال لهم:
- «اكعموا [1] دوابّكم وقودوها، فإذا دنوتم من القوم فاركبوا وشدّوا شدّة صادقة وكبّروا. وليكن شعاركم: «يا محمّد» ، ولا تتّبعوا مولّيا [584] فتتفرّقوا، وعليكم بالدوابّ فاعقروها، فإنّ دوابّ القوم إذا عقرت أشدّ عليهم منكم.
واعلموا أن القليل الصابر خير من الكثير الفشل، وليست لكم قلّة. إنّ سبعمائة سيف لا تضرب بها فى عسكر إلّا أوهنوه وإن كثر أهله.» وعبّأهم ميمنة وميسرة، وساروا حتّى إذا كانوا على غلوتين [2] كبّروا، وذلك فى السحر، وثار الترك وخالطهم المسلمون وانهزموا، فعقر المسلمون الدوابّ. عاد الترك وصابروا، فجال المسلمون وانهزموا، حتّى إذا صاروا إلى المسيّب وتبعهم الترك فضربوا عجز دابّة المسيّب. فترجّل قوم من المسلمين منهم البخترىّ، ومحمد بن قيس الغنوي وزياد الإصبهانىّ، ومعاوية بن الحجّاج وثابت قطنة، وكان على ميسرة المسيّب. فأمّا البخترىّ فقاتل حتّى قطعت يمينه فأخذ السيف بشماله فقطعت، فجعل يذبّ ببدنه حتّى استشهد. واستشهد أيضا محمّد بن قيس، وشلّت يد الحجّاج الطائىّ. ثمّ لم يصبر الترك وانهزموا. وضرب ثابت قطنة عظيما من عظمائهم، فقتله [585] ونادى منادى المسيّب:
- «لا تتبعوهم، فإنّهم لا يدرون من الرعب أتبعتموهم أم لا، واقصدوا القصر، ولا تحملوا للقوم شيئا من المتاع إلّا المال، واقصدوا من ضعف عن المشي
__________
[1] . كعم الدابّة: شدّ فمه لئلّا يعضّ أو يأكل، أو لأغراض أخرى.
[2] . غلوتين: كذا فى الأصل والطبري (9: 1424) . وما فى مط علوتين (بالعين المهملة) وهو تصحيف.
والغلوة: الغاية وهي رمية سهم أبعد ما تقدر عليه.(2/496)
فاحملوه ولا تحملوا من أطاق على المشي.» وقال المسيّب:
- «من حمل امرأة أو صبيّا أو ضعيفا حسبة [1] فأجره على الله. ومن أبى فله أربعون درهما. وإن كان فى القصر أحد من أهل عهدكم فاحملوه.» قال: فقصدوا جميعا القصر، فحملوا من كان فيه. وانتهى رجل من بنى فقيم إلى امرأة، فقالت:
- «أغثنى [2] أغاثك الله.» فوقف وقال:
- «دونك عجز الفرس!» فوثبت، فإذا هي على عجز الفرس، وإذا هي أفرس من رجل يعجب لها من رءاها. وتناول الفقيمىّ بيد ابنها غلاما صغيرا، فوضعه بين يديه وأتوا ملك قىّ [3] ترك خاقان. فأنزلهم قصره، وأتاهم بطعام وقال:
- «الحقوا بسمرقند.» ثم قال:
- «هل بقي أحد؟» قالوا:
- «نعم، هلال الجديدىّ.» فقال:
- «لا أسلمه.» فأتاه به، وبه بضع وثمانون ضربة. فاحتمله فبرأ، إلى أن أصيب يوم الشعب مع الجند، ورجع الترك من الغد، فلم يروا فى القصر أحدا ورأوا قتلاهم. فقالوا:
- «لم يكن الذين جاءوا [586] بالأمس من الإنس.»
__________
[1] . الحسبة: الأجر والثواب.
[2] . أغثنى: كذا فى مط والطبري (9: 1425) وما فى الأصل: أغثتنى. فرجّحنا ما فى مط والطبري.
[3] . ملك قىّ: كذا فى الأصل وهو صحيح. وما فى مط: ملك فى. وهو تصحيف.(2/497)
فقال بعض من شهد ليلة قصر الباهلي: كنّا فى القصر. فلمّا التقوا ظننّا أنّ القيامة قامت لهول ما سمعنا من هماهم القوم ووقع الحديد.
غزو سعيد الترك
وفى هذه السنة قطع سعيد خدينة نهر بلخ، وغزا الترك، وكانوا قد نقضوا العهد وأعانوا الترك. وذلك بعد ما كلّم الناس سعيدا مرارا وقالوا له:
- «تركت الغزو. فقد كثر الترك، وكفر أهل السغد.» فلمّا عبر سعيد وقصد السغد لقيه الترك وطائفة من السغد. فهزمهم المسلمون.
وقال سعيد:
- «لا تتبعوهم، فإنّ السغد بستان أمير المؤمنين.» فلمّا كان الغد خرجت مسلحة المسلمين- والمسلحة يومئذ من تميم- فما شعروا إلّا بالترك معهم خرجوا عليهم من غيضة، وعلى خيل بنى تميم شعبة بن ظهير، فقتل شعبة. وذاك أنّه أعجل عن الركوب، فقاتلهم راجلا إلى أن قتل، وقتل نحو من خمسين رجلا، وانهزم المسلحة وأتى الناس الصريخ [1] .
فقال عبد الرحمان بن المهلّب العدوىّ: كنت أوّل من أتاهم لمّا أتانا الخبر وتحتي فرس جواد، فإذا عبد الله بن زهير إلى جنب شجرة [587] كأنّه قنفذ من النشّاب وقد قتل. ثمّ لحق الناس وحملوا على العدوّ حتّى كفّوهم. وجاء الأمير والجماعة، فانهزم العدوّ.
ذكر كلمة صارت سبب حتف
كان سعيد عبر النهر مرّتين، فلم يجاوز سمرقند. وكنّا حكينا أنّه لمّا هزم
__________
[1] . الصريخ: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (9: 1429) : الصريح (بالحاء المهملة) .(2/498)
المسلمون الترك وأهل السغد ألحّوا [1] فى طلبهم. فنادى منادى سعيد:
- «لا تطلبوهم، فإنّ السغد بستان أمير المؤمنين.» وقال سعيد:
- «قد هزمتموهم. أفتريدون بوارهم وأنتم يا أهل العراق قد قاتلتم أمير المؤمنين غير مرّة، فعفا عنكم ولم يستأصلكم ورجع.» وكان سعيد إذا بعث سريّة فأصابوا وغنموا وسبوا ردّ السبي ووبخ السريّة.
فقال له يوما حيّان النبطىّ وهو بإزاء العدوّ من أهل السغد:
- «أيها الأمير، ناجز العدوّ.» فقال:
- «لا، هذه بلاد أمير المؤمنين.» فلمّا انهزم أهل السغد تبعهم حيّان، فقال له سورة بن أبجر:
- «انصرف كما أمر الأمير.» فقال:
- «أدع عقيرة الله وأنصرف!» [2] فقال له:
- «يا نبطىّ!» قال:
- «أنبط الله وجهك.» [588] وكان حيّان يكنّى فى الحرب: أبا الهيّاج، وإيّاه عنى الشاعر:
إنّ أبا الهيّاج أريحىّ ... للرّيح فى أثوابه دوىّ
فحقد عليه سورة [وقال:] [3]- «أنبط الله وجهك.»
__________
[1] . ألحّوا: كذا فى الأصل وهو صحيح. وما فى مط: ألحقوا. وهو تصحيف وخطأ.
[2] . فى الطبري (9: 1430) : عقيرة الله أدعها وأنصرف؟ وفى ابن الأثير (5: 95) : عقيرة الله لا أدعها.
[3] . وقال: سقطت من الأصل وأخذناها عن مط.(2/499)
ثم خلا بسعيد فقال:
- «إنّ هذا العبد أعدى الناس للعرب. قد عصى أمرك، وهو الذي أفسد خراسان على قتيبة وهو واثب بل مفسد عليك خراسان، ثمّ يتحصّن فى بعض هذه القلاع.» قال:
- «يا سورة! لا تسمعنّ.»
سعيد يقتل حيّان بإطعامه ذهبا
ثم مكث أيّاما وقد ثقل سعيد على الناس وضعّفوه، فلم يأمن حيّان. فأمر سعيد بذهب فسحل [1] وألقى فى طعام وناوله حيّان. فلمّا علم أنّه قد حصل فى جوفه ركب وركب معه الناس وفيهم حيّان. فركض أربعة فراسخ فنزل حيّان وعاش أربعة أيّام ومات فى الرابع.
وفى هذه السنة عزل مسلمة بن عبد الملك عن العراق وخراسان وانصرف إلى الشام.
ذكر سبب عزل مسلمة عن العراق وخراسان [589]
كان سبب ذلك أنّ مسلمة لمّا ولى أرض العراق وخراسان لم يرفع من الخراج شيئا، وكان يزيد بن عبد الملك يريد عزله فيستحييه، فيكتب بتشوّقه. فشاور مسلمة عبد العزيز بن حاتم بن النعمان فى الشخوص إلى يزيد ليزوره [2] فقال له:
- «أمن تشوّق بك إليه؟ إنّك لطروب.» قال:
- «إنّه لا بدّ من ذاك.» قال:
- «إذا لا تخرج من عملك حتّى تلقى الوالي عليه.»
__________
[1] . سحل الذهب أو الفضّة: سحقهما. بردهما. والسحالة: البرادة.
[2] . ليزوره: كذا فى الأصل وهو صحيح. وما فى مط: لبروزه. وهو تصحيف.(2/500)
فشخص. فلمّا بلغ دورين لقيه عمر بن هبيرة الفزارىّ على خمس من دوابّ البريد. فدخل عليه ابن هبيرة مسلّما، فقال:
- «إلى أين يا ابن هبيرة؟» قال:
- «وجّهنى أمير المؤمنين فى حيازة أموال بنى المهلّب.» فلمّا خرج من عنده أرسل إلى عبد العزيز، فجاءه. فقال:
- «هذا ابن هبيرة قد لقينا كما ترى.» قال:
- «قد كنت أنبأتك.» قال:
- «فإنّه إنّما وجّه لحيازة أموال بنى المهلّب.» قال:
- «هذا أعجب من الأوّل: يصرف عن الجزيرة ويوجّه فى حيازة أموال بنى المهلّب.» قال: فلم يلبث أن جاءه عزل ابن هبيرة عمّاله والغلظة عليهم. فقال الفرزدق:
[590]
راحت بمسلمة الركاب مودّعا ... فارعى فزارة لا هناك المرتع
ولقد علمت لئن فزارة أمّرت ... أن سوف تطمع فى الإمارة أشجع
ظهور أمر الدعاة فى خراسان
وفى هذه السنة غزا عمر بن هبيرة الروم. فسبى سبعمائة أسير وفيها [1] أيضا وجّه ميسرة رسله من العراق إلى خراسان، فظهر أمر الدعاة فيها.
وكان سعيد خدينة يومئذ بخراسان، فأتاه آت فقال:
- «إنّ ها هنا قوما يدعون إلى إمام لهم وقد ظهر منهم كلام قبيح.» فبعث سعيد
__________
[1] . أى سنة اثنتين ومائة. تجد الرواية فى الطبري أيضا (9: 1434) .(2/501)
إليهم فقال:
- «من أنتم؟» قالوا:
- «ناس من التجار.» قال:
- «فما الذي يحكى عنكم؟» قالوا:
- «لا ندري.» قال:
- «جئتم دعاة؟» فقالوا:
- «إنّ لنا فى أنفسنا شغلا عن هذا.» فقال:
- «من يعرف هؤلاء؟» فجاء قوم من خراسان جلّهم من ربيعة واليمن. فقالوا:
- «نحن نعرفهم، وهم علينا إن أتاك منهم شيء تكرهه.» فخلّى سبيلهم.
ثم دخلت سنة ثلاث ومائة
سبب عزل سعيد خدينة عن خراسان
وفيها عزل عمر بن هبيرة سعيد خدينة عن خراسان. وذاك أنّ الناس شكوا [591] سعيد خدينة. فكتب عمر بن هبيرة بذلك إلى يزيد، وكتب بأسماء من أبلى يوم العقر، ولم يذكر سعيد بن عمرو الحرشىّ. فكتب إليه يزيد بن عبد الملك:
- «لم لم تذكر الحرشىّ؟ ولّه خراسان!» فولّاه، وخرج سعيد الحرشىّ وقدم خراسان فى سنة ثلاث ومائة والناس بإزاء العدوّ، وقد كانوا نكبوا. فخطبهم وحثّهم على الجهاد وقال:
- «إنّكم لا تقاتلون عدوّ الإسلام بكثرة ولا بعدّة، ولكن بنصر الله وعزّ الإسلام.»(2/502)
وكان شاعرا، فقال:
فلست [1] لعامر إن لم تروني ... أمام الخيل أطعن بالعوالي
وأضرب هامة الجبّار منهم ... بعضب الحدّ حودث بالصقال
فما أنا فى الحروب بمستكين ... ولا أخشى مصاولة الرجال
أبى لى والدي من كلّ ذمّ ... وخالي فى الحوادث غير خال
إذا خطرت أمامى حىّ كعب ... وزافت كالجبال بنو هلال
وكانت السغد قد أعانت الترك أيّام خدينة. فلمّا وليهم الحرشىّ خافوا [592] على أنفسهم. فأجمع عظماؤهم على الخروج من بلادهم، فقال لهم ملكهم:
- «لا تفعلوا، أقيموا واحملوا إليه خراج ما مضى، واضمنوا له خراج ما تستقبلون، واضمنوا له عمارة أرضكم، والغزو معه، إن أراد ذلك، واعتذروا إليه ممّا كان منكم، وأعطوه رهائن تكون فى يديه.» قالوا:
- «لا نفعل، فإنّه لا يرضى ولا يقبل ذلك منّا. ولكنّا نأتى خجندة فنستجير بملكها ونرسل إلى الأمير فنسأله الصفح عما كان منه ونوثق له ألّا يرى منّا أمرا يكرهه.» فقال:
- «أنا رجل منكم، وما أشرت به فهو خير لكم.» فأبوا وخرجوا إلى خجندة، وخرج كارزنج [2] ، وكشر [3] ، وشاركث [4] ، وثابت
__________
[1] . فلست: فى الأصل ومط: لست. بدون الفاء. والفاء زدناها من الطبري (9: 1439) .
[2] . كارزنج: مهملة فى الأصل ومط، فأعجمناها كما فى الطبري (9: 1440) . وفى حواشي الطبري عن الأصول: كازرنج (بتقديم الزاء على الراء) .
[3] . كشر: كذا فى الأصل وبعض هوامش الطبري. وفى متن الطبري: كشّين. وفى مط: كشبر.
[4] . شاركث: الحرف الأخير مهمل فى الأصل. وما فى الطبري بياركث وفى حواشيه عن الأصول:
شاركث، بياركت شاركمت، وفى مط: شادلب.(2/503)
بأهل إشتيخن [1] . وأرسلوا إلى ملك فرغانة، وهو الطار، يسألونه أن يمنعهم وينزلهم مدينته. فأرسل إليهم:
- «سمّوا لى رستاقا أفرّغه لكم، وأجّلونى عشرين يوما، وإن شئتم فرّغت لكم شعب عصام بن عبد الله الباهلىّ.» وكان قتيبة خلّفه فيه، فقيل: شعب عصام. فأرسلوا إليه:
- «فرّغه لنا.» قال:
- «نعم، وليس لكم علىّ عقد ولا جوار حتّى تدخلوه، وإن أتتكم العرب [593] قبل أن تدخلوه لم أمنعهم.» فرضوا، ففرّغ لهم الشّعب. وقد كان هذا الشعب من رستاق أسفرة، وأسفرة يومئذ إلى ولىّ عهد ملك فرغانة وهو بلاذا، وكان قال لهم كارزنج:
- «أخيّركم [2] ثلاث خصال إن تركتموها هلكتم. إنّ سعيدا فارس العرب، وقد وجّه على مقدّمته عبد الرحمان بن عبد الله القشيرىّ فى كماة [3] أصحابه، فبيّتوه واقتلوه. فإنّ الحرشىّ إن أتاه خبره لم يغزكم.» فأبوا عليه. قال:
- «فاقطعوا إليه نهر الشاش، وسلوه: ما تريدون؟ فإن أجابكم، وإلّا مضيتم إلى سرباب [4] .» قالوا:
- «لا.» قال:
- «فأعطوهم الخراج.»
__________
[1] . اشتيخن: كذا فى الأصل والطبري. وما فى مط: مهمل من النقط. وفى تعاليق الطبري عن الأصول والنسخ: استخر، اسنحنر (بالإهمال الكامل) ، استحن.
[2] . أخيركم (بالياء) : كذا فى الأصل والطبري (9: 1441) . وما فى مط: أخبركم (بالباء الموحدة) .
[3] . كماة: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري: حماة.
[4] . سرباب: ما فى الأصل مهمل من النقط والإعجام من مط. وما فى الطبري: سوياب. وفى تعاليقه عن الأصول: سوتات، سوبات.(2/504)
فأبوا. ولحق كار زنج وأهل السغد بخجندة.
تمّت المجلدة الثانية من كتاب تجارب الأمم وعواقب الهمم. ويتلوها فى المجلدة الثالثة: «ودخلت سنة أربع ومائة.» والحمد لله ربّ العالمين وصلواته على النبىّ محمّد وآله الطيّبين، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
فرغ من انتساخه محمّد بن علىّ بن محمّد أبو طاهر البلخي فى (السابع والعشرين) من شهر ربيع الآخر سنة خمس وخمسمائة.
وفرغ من انتساخه الحسن بن منصور فى منتصف شوّال سنة ست و ( ... ؟) وفرغ من انتساخه ابنه محمد بن الحسن بن منصور فى ثالث جمادى الأولى سنة إحدى وخمسين وخمسمائة.(2/505)
[المجلد الثالث]
[تتمة تجارب العصر الأموي]
[تتمة خلافة يزيد بن عبد الملك]
[2 و 1] بسم الله الرّحمن الرّحيم وحسبنا الله ونعم الوكيل الحمد لله ربّ العالمين، وصلواته على محمّد النّبيّ وآله الأخيار أجمعين
ودخلت سنة أربع ومائة
فغزا الحرشىّ وقطع النّهر وعرض النّاس، ثمّ سار فنزل قصر الرّيح على فرسخين من الدّبوسية ولم يجتمع إليه جنده، وأمر النّاس بالرّحيل.
فقال له هلال بن عليم الحنظلي:
- «يا هناه، إنّك وزيرا خير منك أميرا. إنّ الأرض حرب شاغرة برجلها [1] ، ولم يجتمع لك جندك، وقد أمرت بالرّحيل.» قال:
- «فكيف لى؟» قال:
- «تأمر بالنّزول.» فقبل ونزل.
وخرج ابن عمّ لملك فرغانة يقال له السّلار [2] إلى الحرشىّ، فقال له:
- «إنّ أهل السّغد بخجندة.» وأخبره خبرهم وقال:
- «عاجلهم قبل أن يصيروا إلى الشّعب، فليس علينا لهم جوار حتّى يمضى الأجل.»
__________
[1] . شاغرة: كذا فى الأصل والطبري (9: 1442) . وما فى آ: شاعرة. فى مط: ساغرة.
[2] . السّلار: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (9: 1442) وآ: النيلان.(3/5)
فوجّه الحرشىّ مع السّلار عبد الرّحمن القشيري فى جماعة، ثمّ ندم بعد ما فصلوا، وقال:
- «جاءني علج لا أدرى صدقنى أم كذبني، فغررت بجند من [3] المسلمين.» وارتحل فى أثرهم حتّى نزل بأسروشنة [1] ، فصالحهم على شيء يسير، وسار جادّا مغذّا حتّى لحق القشيرىّ بعد ثالثة، وسار حتّى انتهى إلى خجندة، فاستشار الفضل بن بسّام وقال:
- «ما ترى؟» قال:
- «أرى المعاجلة.» قال:
- «لكنّى لا أرى ذلك، إن جرح رجل فإلى من يرجع، أو قتل قتيل إلى من يحمل؟ ولكنّى أرى النّزول والتّأنّى، والاستعداد للحرب.» فنزل، ورفع الأبنية، وأخذ فى التّأهب، فلم يخرج أحد من الغد، فجبّن النّاس يومئذ الحرشىّ وقالوا:
«كان هذا يذكر رأيه وبأسه بالعراق، فلمّا صار إلى خراسان ماق.» فحمل رجل من العرب، فضرب بعمود باب خجندة حتّى فتح الباب، وقد كانوا حفروا فى ربضهم وراء الباب الخارج خندقا، وغطّوه بقصب وعلّوه بالتّراب مكيدة، وأرادوا، إذا التقوا، إن انهزموا، أن يكونوا قد عرفوا الطّريق، ويشكل على المسلمين، فسقطوا فى الخندق. فلمّا خرجوا قاتلوهم وأخطئوا هم [2] الطّريق، فسقطوا فى الخندق [4] دهشا فأخرجوا من الخندق أربعين
__________
[1] . أسروشنة (ويقال: أشروسنة) : بلدة كبيرة بما وراء النهر من بلاد الهياطلة بين سيحون وسمرقند بينها وبين سمرقند ستّة وعشرون فرسخا (مراصد الاطلاع) .
[2] . وأخطئوا هم: كذا فى الأصل. وفى مط والطبري (9: 1443) : وأخطأوهم. وفى آ: وأخطئوا.(3/6)
رجلا على الرّجل درعان درعان. وحصرهم الحرشىّ ووضع عليهم المجانيق.
فأرسلوا إلى ملك فرغانة:
- «غدرت بنا.» وسألوه النّصر. فقال:
- «أغدر ولا أنصركم. فانظروا لأنفسكم، فقد أتوكم قبل انقضاء الأجل، ولستم فى جواري.» فلمّا يئسوا من نصره طلبوا الصّلح وسألوا الأمان، وأن يردّهم إلى السّغد.
فاشترط عليهم أن يردّوا ما فى أيديهم من نساء العرب وذراريّهم، وأن يؤدّوا ما كسروا من الخراج، ولا يغتالوا أحدا، ولا يتخلّف منهم بخجندة أحد، فإن أحدثوا حدثنا حلّت دماؤهم.
فخرج إليه كارذنج [1] . فقال له:
- «إنّ لى إليك حاجة أحبّ أن تشفعني [2] فيها.» قال:
- «ما هي؟» قال:
- «أحبّ، إن جنى منهم رجل جناية بعد الصّلح، ألّا تأخذنى بما جنى.» فقال الحرشىّ:
- «ولى حاجة فاقضها.» قال:
- «وما هي؟» قال:
- «لا تلحقنّ فى شرطي ما أكره.» ثمّ أخرج التّجّار والملوك من الجانب الشّرقىّ، وترك أهل خجندة الّذين هم
__________
[1] . كارذنج: (هنا بالذال المعجمة وفى ما سبق بالزاء المعجمة) : ما فى الأصل ومط وآ مهمل. والإعجام من الطبري (9: 1444) : وفى بعض المواطن منه: كازرنج، كارزنج (بالزاء) . (9: 1440، 1446) .
[2] . أن تشفعني: كذا فى الأصل ومط والطبري. وما فى آ: تسعفنى. ولكليهما وجه من الصّحة.(3/7)
أهلها على حالهم.
فقال كارذنج للحرشىّ:
- «ما تصنع؟» قال:
- «أخاف عليك معرّة [1] [5] الجند.» فكان عظماؤهم مع الحرشىّ فى العسكر، ونزلوا على معارفهم فى الجند، ونزل كارذنج على أيّوب بن أبى حسّان.
وبلغ الحرشىّ أنّهم قتلوا امرأة من نساء كنّ [2] فى أيديهم. فقال لهم:
- «بلغني أنّ ثابتا صاحب اشتيخنج [3] قتل امرأة ودفنها تحت حائط.» فجحدوا. فأرسل الحرشىّ إلى قاضى خجندة، فنظروا، فإذا المرأة مقتولة.
فدعا الحرشىّ بثابت وأرسل كارذنج غلامه إلى باب السّرادق ليأتيه بالخبر، وسأل الحرشىّ ثابتا وغيره عن المرأة، وكان الحرشىّ تيقّن أنّه قتلها من جهات، فقتله. فرجع غلام كارذنج إليه بقتل ثابت. فجعل يعضّ على لحيته ويقرضها بأسنانه، وخاف كارذنج أن يستعرضهم الحرشىّ، فقال لأيّوب بن أبى حسّان:
- «إنّى ضيفك وصديقك، ولا يجمل بك أن تقتل ضيفك فى سراويل خلق ربما بدا منه عورته.» قال:
- «فخذ سراويلي.» قال:
- «وهذا أيضا لا يجمل، أقتل فى سراويلاتكم! ولكن سرّح غلامي إلى ابن أخى يجيئني بسراويل جديد.»
__________
[1] . معرّة: كذا فى الأصل والطبري وآ. وما فى مط: مغرة. والمعرّة: المساءة والإثم.
[2] . من نساء كنّ: كذا فى الأصل وآ والطبري. وما فى مط: من يساكن!
[3] . اشتيخنج: ما فى الأصل: اشتيخنج (بالإهمال إلّا فى التاء) . وما فى آونمط مهمل تماما. والعبارة فى الطبري (9: 1444) : «بلغني أنّ ثابتا الإشتيخنّى.» فى الجزء الثاني من تجارب الأمم وفى الطبري: اشتيخن.(3/8)
وكان قال لابن أخيه:
- «إذا أرسلت إليك أطلب سراويلا، فاعلم أنّه القتل.» فلمّا بعث [6] بالسّراويل، أخرج قديدة [1] خضراء، فقطّعها عصائب، وعصبها برؤوس شاكريّته. ثم خرج هو وشاكريّته، فاعترض النّاس، فقتل خلقا وتضعضع العسكر، ولقى النّاس منه شرّا، حتّى انتهى إلى ثابت بن عثمان بن مسعود فى طريق ضيّق، فقتله ثابت. وكان فى أيدى السّغد أسرى من المسلمين، فقتلوا خمسين ومائة، وأفلت منهم غلام، فأخبر الحرشىّ، فأرسل من علم علمهم، فوجد الخبر حقّا، فأمر بقتل من عنده، وعزل التّجّار عنهم، وكان التّجار أربعمائة، كان معهم مال عظيم قدموا به من الصّين. فامتنع أهل السّغد، ولم يكن لهم سلاح، فقاتلوا بالخشب، فقتلوا عن آخرهم. فكان عدد الحرّاثين خاصّة سبعة آلاف.
ثمّ أرسل من يحصى أموال التّجّار، وكانوا اعتزلوا وقالوا: لا نقاتل.
فاصطفى أموال السّغد وذراريّهم، فأخذ منه كلّ ما أعجبه. ثمّ دعا مسلم بن بديل العدوىّ، فقال:
- «قد ولّيتك المقسم.» فقال:
- «بعد ما عمل فيه عمّالك ليلة؟ ولّه [2] غيرى.» فولّاه عبيد الله بن زهير بن حيّان العدوىّ، فأخرج الخمس [7] وقسم الأموال، وكتب الحرشىّ إلى يزيد بن عبد الملك ولم يكتب إلى عمر بن هبيرة.
وكان هذا ممّا وجد عليه فيه عمر بن هبيرة.
__________
[1] . قديدة: فى الأصل: فريدة. فى مط والطبري (9: 1445) : فرندة: فأثبتنا ما فى آ، وهو الصحيح. القديدة: الشقّة من الثوب ونحوه. قدّه: شقّه طولا.
[2] . ولّه: فى الأصل ومط وآ: ولّها. فى حواشي آوالطبري (9: 1446) : ولّه. وهو الصحيح كما أثبتناه.(3/9)
عجيب ما حكى فى تلك الحال
فمن عجيب ما حكى فى تلك الحال أنّ رجلا اشترى جونة [1] بدرهمين من صاحب الأقباض، فانصرف بها. فلمّا حلّها، وجد فيها سبائك ذهب، فرجع وهو واضع يده على وجهه وكأنّه رمد. فردّ الجونة وأخذ الدّرهمين. ثمّ طلب، فلم يوجد.
فتح قلعة
وسرّح الحرشىّ سليمان بن أبى السّرىّ، وهو مولى لبنى عوافة، الى قلعة ليفتحها. وكان يمرّ بوادي السّغد من وجه واحد، وأنفذ معه خوارزم شاه، وشوكر بن ختلّ [2] ، وعودم [3] صاحب أجرون. فوجّه سليمان بن أبى السّرىّ على مقدّمته المسيّب بن بشر الرياحىّ. فتلقّاه أصحاب القلعة على فرسخ، فقاتله، فهزمهم المسيّب، حتى ردّهم إلى القلعة، فحصرهم سليمان ودهقانها يقال له: ديوشتى [4] فكتب الحرشىّ إلى سليمان يعرض عليه المدد. فأرسل إليه:
- «ملتقانا ضيّق، فسر أنت إلى كسّ، فأنا فى كفاية إن شاء الله.» [8] .
فلمّا طال الحصار على ديوشتى، طلب النّزول فى أمان. فقال سليمان:
- «لا، إلّا على حكم سعيد الحرشىّ.»
__________
[1] . جونة: كذا فى الأصل ومط والطبري (9: 1446) . فى آ: جوبة. الجونة: سليلة مستديرة مغشّاة بالجلد يحفظ العطار فيها الطيب.
[2] . ختل: كذا فى الأصل ومط. فى آ: حنك. فى الطبري: حميك، خنك.
[3] . عودم: كذا فى الأصل. فى مط وآ: عوذم (بالذال المعجمة) وفى الطبري: عورم (بالراء المهملة) .
[4] . ديوشتى: كذا فى الأصل ومط. ما فى آمهمل، وما فى الطبري (9: 1447) :
ديواشنى.(3/10)
فرضي بذلك، ونزل على أن يوجّهه مع المسيّب بن بشير الحرشىّ. فوفى له سليمان، ووجّهه إلى الحرشىّ، فألطفه وأكرمه مكيدة، وطلب أهل القلعة الصّلح بعد مسيره على ألّا يعرض لمائة أهل بيت منهم ونسائهم وأبنائهم ويسلّمون إليه القلعة. فكتب سليمان إلى الحرشىّ أن يبعث الأمناء لقبض ما فى القلعة، فبعث ثقاته فباعوا ما فى القلعة مزايدة، فأخذ الخمس، وقسم الباقي بينهم.
خروج الحرشىّ إلى كسّ وربنجن
وخرج الحرشىّ إلى كسّ، فصالحوه على عشرة آلاف رأس، وصالح دهقانها على أن يوفيه ذلك فى أربعين يوما على ألّا يأتيه.
فلمّا فرغ من كسّ خرج إلى ربنجن [1] فقتل ديوشتى، وصلبه على ناؤوس، وكتب على أهل ربنجن كتابا بمائة رأس إن فقد من موضعه، وولّى نصر بن سيّار قبض صلح كسّ، ثمّ عزل سورة بن أبجر، وولّى نصر بن سيّار، وبعث برأس ديوشتى إلى العراق.
وكانت خران [2] منيعة لا يطمع فيها [9] فأشير على سليمان أن يوجّه المسربل بن الخرّيت النّاجى، وكان المسربل صديقا لملكها وكان محببا إليهم، فوجّهه، فلما وصل إلى القوم خبّر ملكها بما صنع الحرشىّ بأهل خجندة وخوّفه. قال:
- «فما ترى لى؟» قال:
- «أن تنزل بأمان.» قال:
__________
[1] . ربنجن: ما فى الأصل وآ مهمل، وما فى مط غير واضح. وما أثبتناه يوافق الطبري.
[2] . خران (ويمكن أن تقرأ «خزان» بإعجام الزاء أيضا) : كذا فى الأصل. ما فى مط:
حزان. فى الطبري وحواشيه: خراز، حران، حزّان.(3/11)
- «فما أصنع بمن لحق بى من عوامّ النّاس؟» قال:
- «تصيّرهم معك فى أمانك.» فصالحهم، وآمنوه وبلاده، ورجع الحرشىّ إلى مرو ومعه هذا الملك واسمه سبغرى [1] . فلمّا نزل أسباذ [2] ، قتل سبغرى ومعه أمانه.
ويقال: إنّ دهقان بن ماخر [3] قدم على ابن هبيرة، فأخذ أمانا لأهل السّغد، فحبسه الحرشىّ بمرو. فلمّا قدم دعا به فقتله وصلبه فى الميدان. فقال راجزهم:
إذا سعيد سار فى الأخماس فى رهج يأخذ بالأنفاس دارت على الشّرك أمرّ الكاس وطارت التّرك على الأحلاس ولّوا فرارا عطل [4] القياس وفى هذه السّنة رحل أبو محمّد الصّادق وعدّة من أصحابه من خراسان [10] إلى محمّد بن علىّ بن عبد الله بن العبّاس، وقد ولد له أبو العبّاس قبل ذلك بخمس عشرة ليلة، فأخرجه إليهم فى خرقة وقال لهم:
- «والله، ليتمّنّ هذا الأمر حتّى تدركوا ثاركم من عدوّكم.»
__________
[1] . سبغرى: كذا فى الأصل. فى مط وآ: سبعرى (بالعين المهملة) . فى الطبري (9:
1448) : سبقرى، سبغرى، سبعرى.
[2] . أسباذ: كذا فى الأصل. فى مط: أسباد. ما فى آمهمل. وفى الطبري (9: 1449) :
أسنان. وفى هامشه: اسبان، اسناذ.
[3] . ماخر: كذا فى الأصل وآ. فى الطبرى (9: 1449) : ماجر. وفى هامشه: ماجد.
[4] . عطل: كذا ضبط فى الأصل. والضبط فى الطبري: عطّل.(3/12)
عزل سعيد بن عمرو الحرشىّ عن خراسان.
وفى هذه السّنة، عزل عمر بن هبيرة سعيد بن عمرو الحرشىّ عن خراسان، وولّاها مسلم بن سعيد بن أسلم بن زرعة الكلابي.
ذكر السّبب فى ذلك
كان عمر بن هبيرة وجد [1] على الحرشىّ فى أشياء. أحدها أنّه قد كان كتب إليه بتخلية ديوشتى، فقتله، وكتب أمانا لدهقان بن ماخر، فصلبه، وكان يستخفّ بأمر ابن هبيرة، وإذا ورد عليه له رسول قال له: كيف «أبو المثنّى» ، ويقول لكاتبه: «أكتب إلى أبى المثنّى» ولا يقول: «الأمير.» فبلغ ذلك ابن هبيرة، فدعا جميل بن حمران، وقال له:
- «قد بلغني أشياء عن الحرشىّ، فأخرج إلى خراسان، وأظهر أنّك قدمت تنظر فى الدّواوين، واعلم لى علمه.» فقدم جميل، فقال له الحرشىّ:
- «كيف تركت أبا المثنّى؟» وجعل جميل ينظر فى الدّواوين. فقيل للحرشىّ:
- «إنّ جميلا [11] ما قدم للنّظر فى الدّواوين، وما قدم إلّا ليعلم علمك.» فدسّ إليه طعاما مسموما، فأكله ومرض، وتساقط شعره، وبادر بالخروج إلى هبيرة، فعولج واستبلّ وصحّ، فقال لابن هبيرة:
- «الأمر أعظم ممّا بلغك، ما يرى سعيد إلّا أنّك بعض عمّاله.» فغضب وعزله وعذّبه، حتّى نفخ [2] فى بطنه النّمل.
__________
[1] . وجد عليه: غضب، وفى الطبري (9: 1453) : إنّ سبب ذلك كان من موجدة وجدها عمر على الحرشىّ ... » .
[2] . نفخ (بالخاء المعجمة) : كذا فى الأصل ومط وآ. وما فى الطبري (9: 1454) : نفج(3/13)
وكان سعيد يقول حين عزله عمر:
- «لو سألنى ابن هبيرة درهما يضعه على عينه ما أعطيته.» فلمّا عذّب أدّى شيئا كثيرا. فقيل له:
- «ألم تزعم أنّك لا تعطيه درهما؟» فقال:
- «ما كنت ذقت العذاب [1] .»
ذكر السّبب فى ولاية مسلم بن سعيد خراسان
لمّا قتل سعيد بن أسلم ضمّ الحجّاج ابنه مسلما مع ولده، وهو مسلم بن سعيد بن أسلم بن زرعة بن عمرو بن الصّعق، واسم الصّعق خويلد، فتأدّب ونبل. فلمّا قدم عدىّ بن أرطاة، أراد أن يولّيه لما رأى من أدبه ونبله. فشاور كاتبه فقال- «ولّه ولاية خفيفة، ثمّ ارفعه.» فولّاه ولاية، فقام بها وضبطها [12] وأحسن. فلمّا وقعت فتنة يزيد بن المهلّب، حمل تلك الأموال إلى الشّام. فلمّا قدم عمر بن هبيرة أجمع على أن يولّيه ولاية، فدعاه ولم يكن شاب بعد، ثمّ نظر فرأى شيبة فى لحيته، فكبّر.
قال: ثمّ سمر ذات ليلة ومسلم فى سمره، فتخلّف مسلم بعد السّمّار وفى يد ابن هبيرة سفرجلة، فألقاها إليه تحيّة، وقال:
- «أيسرّك أن أولّيك خراسان؟» قال:
- «نعم.» قال:
__________
[ () ] (بإلجاء المهملة) .
[1] . ذقت العذاب: كذا فى الأصل ومط. وما فى آ: ذقت من العذاب. وفى هامش آ:
مسّ العذاب.(3/14)
- «أغد [1] إلىّ إن شاء الله.» فلمّا أصبح جلس، ودخل النّاس، فدعا مسلما، وعقد له على خراسان، وكتب عهده، وكتب إلى عمّال الخراج أن يكاتبوا مسلم بن سعيد.
فسار مسلم، فقدم خراسان نصف النّهار، ووافى دار الإمارة، فوجد بابها مغلقا، فأتى المسجد، فوجد باب المقصورة مغلقا، فصلّى. وخرج وصيف من باب المقصورة فقيل له: الأمير. فمشى بين يديه حتّى أدخله مجلس الوالي فى دار الإمارة، وأعلم الحرشىّ بمكانه، فأرسل إليه:
- «أقدمت أميرا أو وزيرا أو زائرا؟» فأرسل إليه:
- «مثلي لا يقدم خراسان زائرا ولا [13] وزيرا.» فأتاه الحرشىّ، فشتمه، وأمر بحبسه. فقيل له:
- «إن أخرجته نهارا قتل.» فحبسه عنده حتّى أمسى، ثمّ قيّده.
وبعث مسلم على كورة رجلا من قبله على حربها، وكان ابن هبيرة أخذ قهرمانا ليزيد بن المهلّب، له علمّ بأهل خراسان وبأشرافهم، وأمره أن يكتب له كلّ من عنده مال، وعليه طريق للسّلطان. فلم يدع شريفا إلّا قرفه [2] .
فكتب ابن هبيرة إلى مسلم مع أبى عبيدة العنبري يأمره بجباية تلك الأموال.
فأراد مسلم أخذ النّاس بتلك الأموال الّتى فرّقت [3] عليهم. فقال له نصحاؤه:
__________
[1] . أغد: كذا فى الأصل وآ. وما فى مط: اعد (مهملة) .
[2] . قرفه: كذا فى الأصل وآ والطبري (9: 1459) . وما فى مط مهمل. قرفه: عابه واتهمه.
[3] . فرّقت: ما فى الأصل مهمل إلّا فى الحرف الأخير. فى آ: قرفت. فى الطبري (9:
1460) : قرفت. وفى هامشه: فرّقت، كما فى مط وكما رجّحناه.(3/15)
- «إن فعلت هذا بهؤلاء لم يكن لك بخراسان قرار، وإن لم تعمل فى هذا حتّى يوضع عنهم فسدت عليك وعليهم خراسان، لأنّ هؤلاء أعيان النّاس، قرفوا بالباطل. إنّما كان على مهزم بن جابر ثلاثمائة ألف، فزادوا مائة ألف، فصار أربعمائة ألف، وعامّة من سمّى لك ممّن كثير عليه، هو بمنزلته.» فكتب مسلم بذلك إلى ابن هبيرة، وأوفد وفدا فيهم مهزم بن جابر. فلمّا وصلوا قال مهزم بن جابر: [14]- «أيّها الأمير، إنّ الّذى رفع إليك رفع الباطل والظّلم. ما علينا من هذا كلّه إلّا القليل الّذى لو أخذنا، به أدّيناه.» فقال ابن هبيرة:
- «إنّ الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها.» [1] قال:
- «فليقرأ الأمير ما بعده: وإذا حكمتم بين النّاس أن تحكموا بالعدل.» فقال ابن هبيرة:
- «لا بدّ من هذا المال.» قال:
- «أما والله، إن أخذته لتأخذنّه من قوم شديدة شوكتهم ونكايتهم فى عدوّك وليضرّنّ ذلك بأهل خراسان فى عدّتهم وكراعهم وحلقتهم، ونحن فى ثغر نكابد فيه الأعداء لا تنقضي حربهم، وإنّ أحدنا ليلبس الحديد حتّى يلتبس [2] صدأه بجلده، وحتّى إنّ الخادمة التي تخدمه لتصرف وجهها عن مولاها، أو عمّن تخدمه لسهوكة [3] الحديد، وأنتم فى بلادكم متفضّلون فى الرّقاق وفى المعصفرات، والّذين قرفوا بهذه الأحوال وجوه أهل خراسان،
و
__________
[1] . س 4 النساء: 58.
[2] . يلتبس: كذا فى الأصل. وفى الطبري (9: 1461) : ويخلص صدأه إلى جلده.
[3] . سهوكة الحديد: كذا فى الأصل وآ. فى مط: سهولة الحديد. والسهوكة: ريح كريهة تجدها ممّن عرق، أو من اللحم المنتن، وفى الطبري: ريح الحديد.(3/16)
أهل الولايات والكلف العظام فى المغازي، وقبلنا قوم قدموا علينا، فجاؤوا على الحمرات [1] ، فولّوا الولايات، واقتطعوا [15] الأموال، فهي عندهم موفّرة جمّة.» فكتب ابن هبيرة إلى مسلم بأن يستخرج هذه الأموال ممّن ذكر الوفد أنّها عندهم، وكما ذكروا. فلمّا أتى مسلما كتاب ابن هبيرة أخذ أهل العهد بتلك الأموال فأمر حاجب بن عمرو الحارثي أن يعذّبهم، ففعل حتى استوفى منهم ما قرفوا به.
موت يزيد بن عبد الملك
وفى هذه السّنة مات يزيد بن عبد الملك، وكان بالبلقاء من أرض دمشق، وله ثمان وثلاثون سنة، وكانت خلافته فى قول هشام بن محمّد وأبى معشر أربع سنين وشهرا، ويكنّى أبا خالد، وكان صاحب لهو وطرب، وكانت عنده حبابة [2] ، وهي الّتى تسمّى العالية، وسلامة، وهو الّذي طرب يوما فقال:
- «أطير والله.» فقالت له حبابة:
- «فعلى من تدع الأمّة!»
__________
[1] . الحمرات: كذا فى الأصل وآ والطبري. فى مط: الجرات.
[2] . حبابة: كذا فى الأصل وآ والطبري (9: 1464) . وما فى مط: حنابه (حنانه؟) .(3/17)
خلافة هشام بن عبد الملك
واستخلف هشام بن عبد الملك
أتت هشاما الخلافة وهو بالزّيتونة، فى دويرة صغيرة كانت له. فجاءته الخلافة على البريد، وسلّم إليه العصا والخاتم، وسلّم عليه [16] بالخلافة.
فركب هشام من الرّصافة حتّى أتى دمشق.
قدوم بكير بن ماهان من السّند
وفى هذه السّنة قدم بكير بن ماهان من السّند، وكان بها مع الجنيد بن عبد الرّحمن ترجمانا له. فلمّا عزل الجنيد قدم الكوفة ومعه أربع لبنات من فضّة ولبنة من ذهب. فلقى أبا عكرمة الصّادق، وميسرة، ومحمّد بن خنيس [1] ، وسالما الأعين، وأبا يحيى مولى بنى سلمة. فذكروا له أمر دعوة بنى هاشم، فقبل ذلك ورضيه، وأنفق عليهم ما معه، ودخل إلى محمّد بن علىّ، ومات ميسرة، فوجّه محمّد بن علىّ بكير بن ماهان إلى العراق مكان ميسرة، فأقامه مقامه.
__________
[1] . خنيس: كذا فى الأصل ومط والطبري (9: 1467) . وما فى آ: حبيش.(3/19)
عزل عمر بن هبيرة
وفى هذه السّنة عزل هشام بن عبد الملك عمر بن هبيرة عن العراق، وما كان إليه من عمل المشرق، وولّى ذلك كلّه خالد بن عبد الله القسري.
ودخلت سنة ستّ ومائة
بب الوقعة بين المضريّة واليمانيّة وربيعة ببلخ
وفيها ولد عبد الصّمد بن علىّ، وفيها كانت الوقعة بين المضريّة واليمانيّة وربيعة [1] بالبروقان من أرض بلخ. وكان سبب ذلك [17] أنّ مسلمة بن سعيد غزا، فقطع النّهر، وتباطأ عنه النّاس، وكان ممّن تباطأ عنه البختري [2] بن درهم.
فلمّا أتى النّهر ردّ نصر بن سيّار وسليمان بن موسى بن عبد الله بن خازم وبلعاء [3] بن مجاهد بن عبد الله العنبري وجماعة أمثالهم إلى بلخ، وعليهم جميعا نصر بن سيّار، وأمرهم أن يخرجوا النّاس إليه. فأحرق نصر باب البختري وزياد بن طريف الباهلي، فمنعهم عمرو بن مسلم بن عمرو من دخول بلخ، وكان واليا عليها. فنزل نصر البروقان، وأتاه أهل صغانيان، وأتاه سلمة العقفانى [4] من بنى تميم وحسّان بن خالد الأسدى، وكلّ واحد فى خمسمائة، وأتاه سنان الأعرابى، وزرعة بن علقمة، سلمة بن أوس، والحجّاج بن هارون النّميرى فى أهل بيته.
__________
[1] . وربيعة: كذا فى الأصل ومط والطبري (9: 1472) . وفى آ: والربيعية.
[2] . البختري: الحرف الاول مهمل فى الأصل. فى مط: البحتري (بالحاء المهملة) وفى آ:
الخزي.
[3] . بلعاء: كذا فى الأصل. فى مط: بلغا. فى آ: وما فى الطبري (9: 1473) : أيضا بلعاء وفى هامشه: بلعام.
[4] . سلمة العقفانى: كذا فى الأصل. فى آ: العفغانى. فى مط: مسلمة العفقانى. فى الطبري (9:
1473) : العقفانى (بالضبط) . وفى حواشي الطبري: العفقانى.(3/20)
وتجمّعت بكر والأزد بالبروقان رأسهم البختري، وعسكر أيضا بالبروقان على نصف فرسخ منهم. فأرسل نصر إلى أهل بلخ:
- «قد أخذتم أعطياتكم، فالحقوا بأميركم، فقد قطع النّهر.» فخرجت مضر إلى نصر، وخرجت ربيعة والأزد إلى عمرو بن مسلم بن عمرو [18] ثمّ تكلّم النّاس المكرهون، فقال قوم من ربيعة:
- «إنّ مسلم بن سعد [1] يريد أن يخلع، فهو يكرهنا على الخروج.» واجتمع [2] قوم من تغلب إلى عمرو بن مسلم:
- «إنّك منّا.» وقال بعضهم شعرا ينسب فيه باهلة إلى تغلب. فقال عمرو بن مسلم حين عزاه التّغلبى إلى تغلب:
- «أمّا القرابة فما أعرفها، وأمّا المنع فسأمنعكم.» فسفر [3] الضحّاك بن مزاحم ويزيد [4] بن المفضّل الحدّانى وكلّما نصرا فى الانصراف.
فناشداه بالله، فانصرف. فحمل أصحاب عمرو بن مسلم والبختري، ونادوا:
- «يال بكر [5] .» فكرّ عليهم نصر، فكان أوّل قتيل رجل من باهلة من أصحاب عمرو بن
__________
[1] . مسلم بن سعد: كذا فى الأصل ومط. فى آوالطبري (9: 1473) : مسلم بن سعيد.
[2] . فى الطبري (9: 1473) : «فأرسلت تغلب ... » .
[3] . فسفر: كذا فى الأصل والطبري وآ ومط. وفى حواشي الطبري: فسافر، فنفر.
[4] . كذا فى الأصل ومط وآ والطبري: يزيد. فى هامش الطبري عن بعض الأصول:
زيد.
[5] . يال بكر فكرّ عليهم: والضبط فى الأصل يالبكر. وفى مط: بالتكبير فكبّر. فى آ:
بالتكبير فكرّ. وما أثبتناه يوافق الطبري (9: 1474) .(3/21)
مسلم، وقتل بعده ثمانية عشر رجلا سوى من قتل فى السّكك. وانهزم عمرو بن مسلم إلى القصر، وأرسل إلى نصر:
- «ابعث إلى بلعاء بن مجاهد.» فأتاه بلعاء فقال:
- «خذ لى أمانا.» فآمنه نصر، وقال [1] :
- «لولا أن أشمت بك بكر بن وائل لقتلتك.» وقيل: بل أصابوا عمرو بن مسلم فى طاحونة، وأخذ البختري فى غيضة دخلها، وأخذ زياد بن طريف الباهلي، فضربهم [19] نصر مائة مائة، وحلق رؤوسهم ولحاهم، وألبسهم المسوح.
ثمّ إنّ مسلما غزا فى هذه السنّة، وكان خطب فى ميدان يزيد، فقال:
- «ما أخلّف بعدي شيئا أهمّ عندي من قوم يتخلّفون بعدي مخلّقى [2] الرّقاب، يتواثبون الجدران على نساء المجاهدين، اللهمّ افعل بهم وافعل، وقد أمرت نصرا ألّا يأخذ متخلّقا [3] إلّا قتله، وما أرى لهم من عذاب ينزله الله بهم.» يعنى عمرو بن مسلم وأصحابه.
فلمّا صار ببخارى أتاه الخبر بولاية خالد بن عبد الله القسري على العراق.
ثمّ أتاه كتاب خالد:
- «أتمم غزاتك.»
__________
[1] . قال: كذا فى آوالطبري (9: 1475) . ما فى الأصل ومط: قالوا وهو خطأ.
[2] . مخلّقى الرقاب: كذا فى آوالطبري (9: 1477) بالخاء المعجمة. فى الأصل: محلفى (بالحاء المهملة) . وما فى مط: مهمل من النقط.
[3] . متخلّقا: كذا فى الأصل: متخلّقا. فى آوالطبري (9: 1477) : متخلّفا. فى حواشي الطبري: متخلّفا (كالأصل) .(3/22)
فسار إلى فرغانة، وأتاه الخبر أنّ خاقان قد أقبل، ثمّ أتاه أنّ خاقان معسكر فى موضع كذا. فأمر بالاستعداد للمسير. فلمّا أصبح ارتحل بالعسكر، فسار ثلاث مراحل فى يوم. ثمّ سار من غد حتّى قطع وادي السبّوح، وأقبل إليهم خاقان، وتوافت إليه الخيل، فأنزل عبد الله بن ابى عبد الله قوما [1] من العرفاء والموالي، فأغار التّرك على ذلك الموضع، وعلى [2] الّذين [20] أنزلهم عبد الله، فقتلوهم، وأصابوا دوابّ لمسلم، وقتل المسيّب بن بشر الرياحيّ، وقتل البراء، وكان من فرسان المهلّب، وقتل أخو غورك، وثار النّاس فى وجوههم، فأخرجوهم من العسكر، ودفع مسلم لواءه إلى عامر بن ماعز الحماني [3] ، ورحل هو بالنّاس. فسار ثمانية أيام وهم مطيفون بهم.
فلمّا كان الليلة التاسعة، أراد النّزول. فشاور النّاس، فأشاروا عليه بالنّزول، وقال:
- «إذا أصبحنا وردنا الماء والماء منّا غير بعيد، وإنّك إن نزلت المرج تفرّق النّاس فى الثّمار وانتهب عسكرك.» فقال لسورة بن أبجر:
- «ما ترى يا بالعلاء؟» قال:
- «أرى ما رأى النّاس.» ونزلوا ولم يرفع بناء فى العسكر، وأحرق النّاس ما ثقل من الأبنية والامتعة، فحرّقوا قيمة ألف ألف وأصبح النّاس، فساروا ووردوا الماء، فإذا دون النّهر
__________
[1] . قوما: سقطت من مط وهي موجودة فى الأصل وآ.
[2] . على: سقطت من مط وهي موجودة فى الأصل وآ.
[3] . الحماني: (بكسر الحاء المهملة) : كذا فى الأصل ومط وآ. وما فى الطبري (9:
1479) : الخمّانى (بكسر الخاء المعجمة وتشديد الميم) ، وفى حواشي الطبري: الجمانى (بالجيم المعجمة) .(3/23)
أهل فرغانة والشّاش.
- قال مسلم بن سعيد:
- «أعزم على كلّ رجل إلّا اخترط سيفه.» ففعلوا، فسارت الدّنيا كلّها سيوفا. فتركوا [1] الماء، وعبروا. فأقام يوما، ثم [21] قطع من غد، واتّبعهم ابن لخاقان.
قال: فأرسل حميد بن عبد الله وهو على السّاقة إلى مسلم:
- «قف لى ساعة، فإنّ خلفي مائتي رجل من التّرك، حتّى أقاتلهم.» وهو مثقل جراحة. فوقف النّاس، وعطف على التّرك، فأسر أهل السّغد وقائدهم وقائد التّرك فى سبعة، وانصرف البقيّة، ورمى حميد بنشّابة فى ركبته فمات.
وعطش النّاس بعد قطع النّهر، وكان عبد الرّحمن بن نعيم الغامدى [2] حمل عشرين قربة على إبله. فلمّا رأى جهد النّاس أخرجها، فشربوا جرعا، واستسقى يوم العطش مسلم بن سعيد، فأتوه بإناء، فأخذه جابر، أو حارثة بن كثير من فيه. فقال مسلم:
- «دعوه، فما نازعنى شربتى إلّا من حرّ دخله.» فأتوا خجندة، وقد أصابتهم شدّة ومجاعة. فانتشر النّاس، وورد الخبر بولاية أسد بن عبد الله خراسان، ولّاه خالد القسرىّ وعزل مسلم بن سعيد.
فبينا النّاس بخجندة إذا فارسان يركضان ويسألان عن عبد الرّحمن بن نعيم، فأتياه بعهده من أسد بن عبد الله [22] فأقرأه عبد الرّحمن مسلما، فقال:
- «سمعا وطاعة.»
__________
[1] . فتركوا: كذا فى الأصل. فى مط: ونزلوا. وفى آ: فزلوا وكلاهما خطأ.
[2] . الغامدى (بالغين المعجمة) : كذا فى الأصل. وما فى مط وآ: العامدى (بالعين المهملة) . وفى الطبري (9: 1479) . العامري.(3/24)
فكان عبد الرّحمن أوّل من اتّخذ الحياض فى مفازة آمل [1] .
وقيل: إنّ أعظم النّاس غناء يوم العطش إسحاق بن محمّد الغدانى. وكان عمر بن هبيرة قال لمسلم بن سعيد حين ولّاه خراسان:
- «ليكن حاجبك من صالح مواليك، فإنّه لسانك والمعبّر عنك، وحثّ صاحب شرطتك على الأمانة، وعليك بعمّال العذر.» قال: «ومن عمّال العذر؟» قال:
- «مر أهل كلّ بلد أن يختاروا لأنفسهم. فإذا اختاروا رجلا فولّه، فإن كان خيرا كان لك، وإن كان شرّا كان لهم دونك وكنت معذورا.»
توبة بن أبى أسيد وما كان منه
وكان مسلم بن سعيد كتب [2] إلى ابن هبيرة واستدعى منه توبة بن أبى أسيد مولى بنى العنبر، فكتب ابن هبيرة إلى عامله بالبصرة:
- «احمل إلىّ توبة بن أبى أسيد.» فحمله، فقدم، وكان جميلا وسيما جهيرا له سمت. فلمّا دخل على ابن هبيرة قال:- «مثل هذا فليولّ.» ووجّه به إلى مسلم. فلمّا ورد عليه، قال له مسلم:
- «هذا خاتمي، فاعمل برأيك.» فلم يزل معه حتّى قدم أسد [3] بن عبد الله، [23] فأراد توبة أن يشخص مع مسلم. فقال له أسد:
__________
[1] . مدينة مشهورة فى غربىّ جيحون فى طريق بخارى من مرو.
[2] . كتب: كذا فى الأصل ومط. وما فى آ: وجّه.
[3] . أسد: كذا فى الأصل وآ والطبري (9: 1489) . وما فى مط وحواشي الطبري:
أسيد.(3/25)
- «أقم معى، فأنا أحوج إليك من مسلم.» فأقام معه، فأحسن إلى النّاس، وألان جانبه، وأجمل مع الجند وأعطاهم أرزاقهم. فقال له أسد يوما:
- «أحلفهم بالطّلاق، لا يتخلّف أحد عن مغزاه، ولا يدحل [1] بديلا سواه.» فأبى ذلك توبة ولم يره صوابا وأحلفهم بأيمان أخر. فلمّا قدم عاصم بن عبد الله، أراد أن يحلّف النّاس بالطّلاق، وقالوا:
- «نحلف بأيمان توبة.» فهم يعرفون ذلك له.
حجّ هشام بن عبد الملك وما استحسن له فى هذا الحجّ
وحجّ بالنّاس فى هذه السّنة هشام بن عبد الملك. فممّا [2] استحسن له ما تحدّث به ابن أبى الزّناد عن أبيه، قال: كتب إلىّ هشام بن عبد الملك قبل أن يدخل المدينة أن أكتب لى سنن الحجّ. فكتبتها له.
قال أبو الزّناد: فتلقّيته [3] ، فإنّى لفى موكبه أسير خلفه، إذ لقيه سعيد بن عبد الله بن الوليد بن عثمان بن عفّان. فنزل له، وسلّم عليه، ثمّ سار إلى جنبه.
فصاح هشام:
- «أبو الزّناد!» فتقدّمت، فسرت إلى جانبه الآخر، فأسمع سعيدا يقول:
__________
[1] . لا يدحل: كذا فى الأصل. والدحل: الدهاء فى كيس وحذق. والمداحلة: المخادعة.
ولكنّ ما فى الطبري (9: 1482) ومط وآ: يدخل (بالخاء المعجمة) .
[2] . فمما: كذا فى الأصل وآ. فى مط: فما (من دون «من» ) .
[3] . فتلقّيته: كذا فى الأصل ومط. فى آ: فلقيته.(3/26)
- «يا أمير المؤمنين، إنّ [1] الله [24] لم يزل ينعم على أهل بيت أمير المؤمنين وينصر خليفته المظلوم، ولم يزالوا يلعنون أبا تراب فى هذه المواطن الصّالحة.
فأمير المؤمنين ينبغي أن يلعنه فى هذه المواطن الفاضلة.» قال: فشقّ على هشام، وثقل عليه كلامه، ثمّ قال:
- «إنّا ما قدمنا لشتم أحد ولا لعنه، إنّما قدمنا حجّاجا.» ثمّ قطع كلامه، وأقبل علىّ، فقال:
- «يا عبد الله بن ذكوان، فرغت ممّا كتبت إليك؟» قلت:
- «نعم.» قال: أبو الزّناد: وثقل على سعيد، ما حضرته يتكلّم به عند هشام، فرأيته منكسرا كلّما رآنى.
هشام بن عبد الملك وظلامة إبراهيم وألسنة قريش
وفى هذه السّنة أيضا كلّم إبراهيم بن محمّد بن طلحة هشام بن عبد الملك وهشام قد صلّى فى الحجر، فقال له:
- «أسألك بالله وبحرمة هذا البيت والبلد الّذى خرجت معظّما [2] له ولحقّه لمّا رددت علىّ ظلامتي.» قال:
- «أىّ ظلامة؟» قال:
- «دارى.» قال:
- «فأين كنت عن أمير المؤمنين عبد الملك؟» قال:
- «ظلمني.» قال:
__________
[1] . سقطت من مط من قوله: «إن الله» إلى قوله: «بيت أمير المؤمنين» .
[2] . معظّما: كذا فى الأصل ومط والطبري (9: 1483) : معظّما. فى آ: تعظيما.(3/27)
- «فعن الوليد بن عبد الملك؟» قال:
- «ظلمني.» قال:
- «فعن سليمان بن عبد الملك؟» قال:
- «ظلمني.» قال:
- «فعن عمر بن عبد العزيز؟» قال:
- «رحمة الله عليه، لقد ردّها.» قال:
- «فعن يزيد بن عبد الملك؟» [25] قال:
- «هو قبضها منّى وظلمني بعد قبضي لها وهي اليوم فى يديك.» قال هشام:
- «أما والله، لو كان فيك ضرب لضربتك.» قال إبراهيم:
- «فىّ والله ضرب بالسّيف وبالسّوط.» فانصرف هشام، والأبرش خلفه. فقال:
- «أبا مجاشح، كيف سمعت هذا اللسان [1] ؟» قال:
- «ما أجود لسانه!» قال:
- «هذه قريش وألسنتها، ولا يزال فى النّاس بقايا، ما رأيت مثل هذا.»
قدوم أسد خراسان
وكنّا حكينا قدوم خالد بن عبد الله العراق أميرا، وأنّه ولّى أخاه أسد بن عبد الله خراسان. فقدمها ومسلم غاز بفرغانة. فذكر عن أسد أنّه لمّا أتى النّهر ليقطعه، منعه الأشهب بن عبد الله بن تميم أحد بنى غالب، وكان على السّفن
__________
[1] . اللسان: كذا فى الأصل ومط والطبري. فى آ: الإنسان.(3/28)
بآموية [1] . فقال أسد:
- «أقطعنى.» قال:
- «لا سبيل إلى إقطاعك، لأنّى نهيت عن ذلك.» فقال:
- «لاطفوه وأطمعوه.» فأبى. فقال له:
- «فإنّى الأمير.» - «ففعل حينئذ فقال له أسد:
- «اعرفوا هذا حتّى نشركه [2] فى أمانتنا.» فقطع النّهر وأتى السّغد، فنزل مرج السّغد، وعلى خراج سمرقند هانئ بن أبى هانئ. فخرج فى النّاس يتلقّى أسدا. فلقوه بالمرج وهو جالس [26] على حجر. فتطيّر النّاس وقالوا:
- «أسد على حجر، ما عند هذا خير.» فقال له هانئ:
- «أقدمت أميرا؟» قال:
- «نعم، وما معى إلّا ثلاثة عشر درهما هي فى كمّى، وإنّما أنا رجل منكم.» ودخل سمرقند، وبعث رجلين معهما عهد عبد الرّحمن بن نعيم على الجند، وكان عبد الرّحمن يومئذ على السّاقة، فدفعا إليه العهد والكتاب بالقفول
و
__________
[1] . بآمويه: كذا فى الأصل ومط: آمويه. وفى آ: بآمل آمويه. وفى الطبري (9: 1484) :
بآمل. آمل، آمل زم (رم؟) ، آمل جيحون، وآمل الشطّ (البطّ؟) ، وآمل المغازة، وآمو، وآمويه، كلّها واحدة: مدينة فى غربىّ جيحون فى طريق بخارى من مرو (انظر مراصد الاطلاع ومعجم البلدان) . وهناك مدينة أخرى مسماة بآمل، فى طبرستان جنوبي بحر الخزر.
[2] . نشركه: كذا فى الأصل ومط من دون شكل. وما فى الطبري (9: 1484) : نشركه (بفتح الراء) .(3/29)
الإذن لهم. فقرأ الكتاب، وأتى به مسلم بن سعيد وبعهده [1] . فقال مسلم:
- «سمعا وطاعة.» فقام عمرو بن هلال السّدوسى، فقنعه سوطين لما كان منه إلى بكر بن وائل بالبروقان، وشتمه حسين بن عثمان بن بشر بن المحتفر [2] . فغضب عبد الرّحمن بن نعيم، وزجرهما، وأغلظ لهما، ثمّ أمر بهما فدفعها، وقفل بالنّاس، وشخص معه مسلم. فلمّا قدموا على أسد، وهو بسمرقند، شخص أسد إلى مرو، وعزل هانئا، واستعمل على سمرقند الحسن بن أبى العمرّطة من ولد آكل المرار.
فقدمت على الحسن امرأته وهي الجنوب بنت القعقاع بن الأعلم سيّد الأزد [27] ويعقوب بن القعقاع قاضى خراسان. فخرج يتلقّاها، وغزاهم التّرك، فقيل له:
- «هؤلاء التّرك قد أتوك.» وكانوا سبعة آلاف. فقال:
- «ما أتونا، ولكن أتيناهم، وغلبناهم على بلادهم، واستعبدناهم. وأيم الله، مع هذا، لأدنيّن بعضكم من بعض، ولأقرننّ نواصي خيلكم بنواصي خيلهم. ثمّ خرج، فتباطأ حتّى أغار التّرك وانصرفوا. فقال النّاس:
- «خرج إلى امرأته فتلقّاها [3] مسرعا. وخرج إلى العدوّ متباطئا.» فبلغه ذلك، فلم يحتملها فخرج إليهم، وخطبهم وقال:
- «تقولون وتعيبون. اللهم اقطع آثارهم، وعجّل أقدارهم، وأنزل بهم
__________
[1] . وبعهده: كذا فى الأصل ومط والطبري (9: 1485) : وبعهده فى آ: وتعهده.
[2] . المحتفر: كذا فى الأصل. ما فى مط: غير واضح. والحرفان الأخيران مهملان فى آ. وما فى الطبري (9: 1485) : المحتفز (بالزاء المعجمة) .
[3] . فتلقّاها مسرعا: كذا فى الأصل ومط وآ: فتلقّاها. ما فى الطبري (9: 1487) : يتلقاها مسرعا. وفى تعاليقه: مسرعا يتلقّاها (بالتقديم والتأخير) .(3/30)
الضرّاء، وارفع عنهم السرّاء.» فشتم النّاس جهرا وشتموه سرّا.
خطيب يحصر
وكان استخلف حين خرج إلى التّرك ثابت قطنة، وكان خطيبا شاعرا. فلمّا خطب الناس حصر فقال:
- «من يطع الله ورسوله فقد ضلّ!» وأرتج عليه، فلم ينطق بكلمة. فلمّا نزل عن المنبر قال:
فإلّا أكن فيكم خطيبا فإنّنى ... بسيفي، إذا جدّ الوغى لخطيب [28]
فقيل له:
- «لو قلت هذا على المنبر كنت خطيبا.» فهجاه حاجب الفيل، وكان يهاجيه، فقال:
أبا العلاء، لقد لاقيت معضلة ... يوم العروبة من كرب وتخنيق
لمّا [1] رمتك عيون النّاس ضاحية ... أنشأت تجرض، لمّا قمت، بالرّيق
تلوى اللسان إذا رمت الكلام به ... كما هوى زلق من شاهق النّيق
وقال أيضا:
تقضى الأمور، وبكر غير شاهدة ... بين المجاذيف والسّكان مشغول
ما يعرف النّاس منه غير قطنته [2] ... وما سواها من الآباء مجهول
__________
[1] . هذا البيت ساقط من الأصل وهو موجود فى كل من مط وآ والطبري (9: 1486) .
[2] . قطنة: جاء فى هامش الأصل فى وجه هذه التسمية: سمّى ثابت قطنة، لقطنة كانت على جراحة كانت فى وجهه.(3/31)
ثمّ دخلت سنة سبع ومائة
بكير بن ماهان يوجّه أبا عكرمة وأبا محمّد الصّادق ومحمّد بن خنيس وعمّار دعاة إلى خراسان.
وفيها وجّه بكير بن ماهان أبا عكرمة، وأبا محمّد الصادق [1] ، ومحمّد بن خنيس، وعمّار العبادي فى عدّة من شيعتهم، معهم زياد خال الوليد الأزرق، دعاة إلى خراسان. فجاء رجل من كندة إلى خراسان. فجاء رجل من كندة إلى أسد بن عبد الله، فوشى بهم إليه، فأتى بأبى عكرمه ومحمّد بن خنيس وعامّة أصحابه، ونجا عمّار. فقطع أسد أيدى من ظفر به وأرجلهم [29] وصلبهم. وأقبل عمار إلى بكير بن ماهان، فأخبره الخبر، فكتب إلى محمّد بن علىّ بذلك.
فأجابه:
- «الحمد لله الّذى صدّق مقالتكم ودعوتكم. أما إنّه قتلى ستقتل.»
غزو جبال تمرون
وفى هذه السّنة غزا أسد جبال تمرون ملك الغرشستان ممّا يلي جبال الطّالقان. فصالحه تمرون وأسلم على يديه، فهم اليوم يتولّون اليمن.
غزو الغور
وفيها غزا أسد الغور، وهي جبال هراة. فعمد أهلها إلى أثقالهم، فصيّروها فى كهف ليس إليه طريق. فأمر أسد باتّخاذ توابيت، ووضع فيها الرّجال ودلّاها بالسّلاسل، فاستخرجوا ما قدروا عليه. فقال ثابت قطنة:
__________
[1] . فى الأصل وآ وحواشي الطبري: وأبا محمّد الصادق ومحمّد الصادق. فى مط والطبري (9: 1488) : وأبا محمّد الصادق (من دون تكرار «محمّد الصادق» ) . فما أثبتناه يوافق مط والطبري.(3/32)
أرى أسدا تضمّن مقطعات ... تهيّبها الملوك ذوو الحجاب
سما بالخيل من أكناف مرو ... يوقّرهنّ [1] بين هلا وهاب
إلى غورين حيث حوى أربّ [2] ... وصافح بالسّيوف وبالحراب
هدى ضلّالنا قتلى نراها ... مصلّية بأفواه الشّعاب
وكان إذا أناخ بدار قوم ... أراها المخزيات من العذاب [30]
ودخلت سنة ثمان ومائة غزو الختّل
وفيها غزا أسد بن عبد الله الختّل. فذكر على بن محمّد بإسناده، أنّ خاقان أتى أسدا وقد انصرف إلى القواذيان وقطع النّهر، فلم يكن بينهم قتال، ومضى إلى الغوريان، فقاتلوهم يوما، وصبروا لهم، وبرز رجل من المشركين، فوقف أمام أصحابه، وركز رمحه وقد أعلم بعصابة خضراء، وسلم بن أحوز واقف مع نصر بن سيّار، فقال سلم لنصر:
- «قد علمت سوء رأى أسد، وأنا حامل على هذا العلج، فلعلّى أقتله فيرضى [3] .» قال:
- «شأنك» فحمل عليه، فما اختلج رمحه حتّى غشيه سلم، فطعنه، فإذا هو بين يدي فرسه يفحص برجليه، ورجع سلم، فوقف فقال لنصر:
- «أنا حامل حملة أخرى.»
__________
[1] . يوقّرهن: كذا فى الأصل وآ. فى الطبري (9: 1489) : وتوفزهنّ. فى مط: ويوفرهنّ.
[2] . أربّ: كذا فى الأصل وآ ومط. فى الطبري: أزبّ (بالزاء المعجمة) . وجاء فى هامش آ: الأربّ: أهل الميثاق.
[3] . فيرضى: كذا فى الأصل والطبري (9: 1493) . فى مط وآ: فرضي.(3/33)
فحمل، حتّى إذا دنا منهم اعترضه [1] رجل من العدوّ، فاختلفا ضربتين، فقتله سلم، ورجع سلم جريحا، فوقف. فقال نصر لسلم:
- «قف لى، حتى أحمل عليهم.» فحمل، حتّى خالط العدوّ، فصرع رجلين، ورجع جريحا، ووقف فقال:
- «أترى ما صنعنا يرضيه [2] ، لا رضى الله عنه؟» [31] قال:
- «لا والله، فيما أظنّ.» قال: وأتاهما رسول أسد فقال:
- «يقول لكما الأمير: قد رأيت موقفكما منذ اليوم، وقلّة غنائكما عن المسلمين، لعنكم الله!» فقالا:
- «آمين، إن عدنا لمثل هذا.» وتحاجزوا يومئذ، ثمّ عادوا من الغد. فلم يلبث المشركون أن انهزموا، وحوى المسلمون عسكرهم، وظهروا على البلاد، فأسروا وغنموا. [3]
ثمّ دخلت سنة تسع ومائة
عزل هشام بن عبد الملك خالدا القسرىّ عن خراسان والسبب فى ذلك
وفى هذه السنّة، عزل هشام بن عبد الملك خالد بن عبد الله القسري عن
__________
[1] . اعترضه. كذا فى الأصل والطبري. فى مط: أعرضه. وفى آ: سقطت من قوله: «فوقف وقال» حتى قوله: «لسلم» .
[2] . والعبارة فى مط: «أبرى ما صعنا يرصيه» بتصحيف لا معنى له.
[3] . جاء فى الطبري (9: 1494) : وقال بعضهم: رجع أسد فى سنة 108 مفلولا من الختل فقال أهل خراسان [بالفارسية] : «از ختّلان آمذى برو تباه آمذى بيدل فراز آمذى» .
لقد تكرر ذلك فى مواضع من الطبري باختلاف فى الضبط. (انظر أيضا الطبري: 9: 1492، 1602، 1603) .(3/34)
خراسان، وصرف أخاه أسدا عنها. وكان السّبب فى ذلك أنّ أسدا أخا خالد تعصّب، حتّى أفسد النّاس، وخطب فى يوم جمعة فقال فى خطبته:
- «قبّح الله هذه الوجوه، وجوه أهل الشّقاق والنّفاق والشّغب والفساد.
اللهمّ فرّق بيني وبينهم، وأخرجنى إلى مهاجرى [1] ووطنى.» ثمّ قال:
- «من يروم ما قبلي، أو يترمرم [2] وامير المؤمنين خالي، وخالد بن عبد الله أخى ومعى اثنا عشر ألف سيف يمان؟» ثم نزل عن منبره. فلمّا صلّى ودخل عليه النّاس وأخذوا مجالسهم [32] أخرج كتابا من تحت فراشه، فقرأه على النّاس، فيه ذكر نصر بن سيّار، وعبد الرّحمن بن نعيم، وسورة بن أبجر، والبختري بن أبى درهم من بنى الحارث بن عبّاد. فدعا بهم، وأنبهم، فأرّم [3] القوم، وتكلّم سورة بن أبجر، فذكر حاله وطاعته ومناصحته، وأنّه ليس ينبغي له أن يقبل قول عدوّ مبطل، وأن يجمع بينهم وبين من فوقهم بالباطل. فلم يقبل قوله، وأمر بهم فجرّدوا، فضرب عبد الرّحمن بن النّعيم، وكان رجلا بطينا أرسح. فلمّا ضرب التوى وجعل سراويله يزلّ عن موضعه. فقام بعض أهل بيته، فأخذ رداء له هرويّا، وقام مادّا ثوبه بيديه، وهو ينظر إلى أسد يريد أن يأذن له فيؤزره. فأومأ إليه أن افعل. فدنا منه فأزّره وقال:
- «اصبر أبا زهير، فإنّ الأمير وال مؤدّب.»
__________
[1] . إلى مهاجرى: كذا فى الأصل ومط وآ والطبري (9: 1498) ، والضبط فى الطبري:
«مهاجرى» بضمّ الميم. فى حواشي الطبري: من مهاجرى.
[2] . يترمرم: كذا فى الأصل وآ والطبري. ما فى مط: تبرم. يترمرم: إذا حرّك فاه للكلام ولم يتكلّم. ما أشبهه بقولهم: تزمزم (بالاعجام) . تزمزمت شفتاه بالشيء: تحركتا.
[3] . فأرّم: كذا فى الأصل وآ: أرّم: حك أضراسه بعضها ببعض من الغيظ. فى مط: فادم.
فى الطبري: «فأزم القوم فلم يتكلم أحد، فتكلم سورة ... » أزم على الشيء: عضّ بالفم كلّه عضّا شديدا.(3/35)
ثم ضرب الجميع، وحلّقهم بعد الضّرب، ودفعهم إلى عبد ربّه [1] بن أبى صالح مولى بنى سليم وكان من الحرسي، وعيسى بن بريق، ثمّ وجّههم إلى خالد، وكتب إليه أنّهم أرادوا الوثوب عليه. فكان ابن بريق كلّما نبت شعر أحدهم حلقه.
وكان البختري بن أبى درهم يقول: [33]- «وددت أنّه ضربني وهذا شهرا.» يعنى نصر بن سيّار، لما كان بينهم بالبروقان.
فأرسل بنو تميم إلى نصر:
- «إن شئتم انتزعناكم من أيديهم.» فكفّهم نصر. فلمّا قدم بهم على خالد، لام أسدا، وعنّفه، وقال:
- «ألا بعثت برؤوسهم؟» فقال عرفجة التميمي:
فكيف [2] ، وأنصار الخليفة كلّهم ... عناة وأعداء الخليفة مطلق
بكيت ولم أملك دموعي وحقّ لى ... ونصر شهاب الحرب فى الغلّ موثق
وقال نصر:
بعثت بالعتاب فى غير ذنب ... فى كتاب تلوم أمّ تميم
إن أكن موثقا أسيرا لديهم ... فى هموم وكربة وسهوم
رهن قسر فما وجدت بلاء ... كإسار الكريم عند اللئيم
أبلغ المدّعين قسرا، وقسر ... أهل عود القناة ذات الوصوم
__________
[1] . عبد ربّه: ما فى الأصل وآ يشبه أن يكون «عبدونه» وما أثبتناه يؤيده مط والطبري (9: 1498) .
[2] . فكيف: فى الأصل ومط وآ: كيف، بدون الفاء، فأضفناها من الطبري (9: 1500) .(3/36)
هل فطمتم عن الخيانة والنّك ... ث، أم أنتم كالحاكم [1] المستديم
وقال الفرزدق:
أخالد، لولا الله لم تعط طاعة ... ولولا بنو مروان لم توثقوا نصرا [34]
إذا للقيتم دون شدّ وثاقه ... بنى الحرب لا كشف اللقاء ولا غمرا
وكان قدم خراسان أبو محمّد مولى همدان، داعيا بعثه محمّد بن علىّ بن عبد الله بن عبّاس وقال له:
- «أدع النّاس إلينا، وانزل فى اليمن، والطف بمضر [2] .» ونهاه عن رجل يقال له غالب من أبرشهر، لأنّه كان مفرطا فى حبّ بنى فاطمة. فلمّا قدم زياد أبو محمّد، ودعا إلى بنى العبّاس، وذكر سيرة بنى مروان وظلمهم، وجعل يطعم النّاس الطّعام، توافى إليه خلق، فقدم عليه غالب من أبرشهر، فكانت بينهم منازعة، غالب يفضّل آل أبى طالب، وزياد يفضّل بنى العبّاس. فأخبر بخبرهم أسد بن عبد الله، فدعا بزياد، وكان معه رجل يكنّى أبا موسى. فلمّا نظر إليه أسد قال له:
- «أعرفك، رأيتك فى حانوت بدمشق.» قال:
- «نعم.» قال أسد لزياد:
- «فما هذا الّذى بلغني عنك.» قال:
- «رفع إليك الباطل. إنّما قدمت خراسان فى تجارة لى وقد فرّقت مالي
__________
[1] . كالحاكم: كذا فى الأصل وآ. فى مط: الحاكم وما فى الطبري (9: 1500) : الحاكر.
[2] . والطف بمضر: فى الأصل ومط وآ: مضر (بدون باء) . فأضفنا الباء كافى الطبري (9: 1501) ، وكما هو الصحيح، لأنّ الصحيح لغة: لطف به وله (بالباء أو اللام) .(3/37)
على النّاس ولو قد صار إلىّ خرجت.» قال له أسد:
- «أخرج عن بلادي.» فانصرف عنه، وعاد إلى أمره.
وكان الحسن بن شيخ [1] [35] على خراج مرو، ويبلغه خبره، فدخل على أسد وعظّم عليه أمره، فأرسل إليه. فلمّا نظر إليه قال:
- «ألم أنهك عن المقام بخراسان؟» فقال له زياد:
- «ليس عليك، أيّها الأمير، منّى بأس.» فأحفظه فأمر بقتلهم، وكانوا عشرة.
فقال له أبو موسى:
- «اقض ما أنت قاض.» فازداد غضبا وقال:
- «أنزلتنى منزلة فرعون.» فقال:
- «ما أنزلتك [2] ، ولكن الله أنزلك.» فقتلوا، وكانوا عشرة من أهل الكوفة، ولم ينج منهم يومئذ إلّا غلامان استصغرهما، وصلب الباقون. فأتى من الغد أحدهما [3] وسأله أن يلحقه بأصحابه، فأشرف به على السّوق وهو يقول:
- «رضينا بالله ربّا، وبالقرآن إماما، وبمحمد، صلى الله عليه، نبيّا.»
__________
[1] . فى آ، زيادة بين كلمة «شيخ» و «على» يشبه أن تكون «وفى» وليس لها معنى.
[2] . ما أنزلتك: كذا فى الأصل ومط. وما فى آ: أنزلتم. وهو خطأ. وفى هامش آ:
أنزلتك.
[3] . زاد فى الطبري: ... وأسد فى مجلسه المشرف على السوق بالمدينة العتيقة.(3/38)
فدعا أسد بسيف كان لبخارا خذاه [1] ، وضرب عنقه بيده.
ثمّ قدم بعدهم رجل من أهل الكوفة يقال له كثير. فكان يأتيه الّذين لقوا زيادا فيدعوهم. وكان على ذلك سنة أو سنتين، وكان كثير أمّيّا. فقدم عليه خداش [2] وهو فى قرية يقال لها مرغم، فغلب كثيرا على أمره. ولمّا تعصّب أسد وأفسد النّاس بالعصبيّة، بلغ ذلك هشاما، فكتب إلى خالد: اعزل أخاك.
فعزله، [36] واستأذن له بالحجّ، ففعل. فقفل أسد إلى العراق، واستخلف الحكم بن عوانة الكلبىّ، فأقام الحكم صيفته ولم يغز.
استعمال هشام بن عبد الملك أشرس على خراسان
واستعمل هشام بن عبد الملك على خراسان أشرس بن عبد الله السّلمى، وأمره، أن يكاتب خالدا، وكان أشرس فاضلا خيّرا، كانوا يسمّونه: الكامل، لفضله عندهم.
وقال: ولمّا قدم خراسان، فرح به أهلها، فاستعمل على شرطته عميرة أبا أميّة اليشكري، ثمّ عزله وولّى السّمط، واستقضى محمّد بن زيد وكان أوّل من اتّخذ الرّابطة بخراسان، فاستعمل على الرّابطة عبد الملك بن زياد الباهلىّ.
وتولّى أشرس صغير الأمور وكبيرها بنفسه، وكان يحجّ بالنّاس فى هذه السّنين إبراهيم بن هشام. فيقال: إنّه خطب النّاس بمنى فى غد يوم النّحر وقال:
- «سلوني، فأنا ابن الوحيد، لا تسألون أحدا أعلم منّى.» فقام إليه رجل من العراق فسأله عن الأضحية: أواجبة هي؟ فما درى أىّ
__________
[1] . كان لبخارا خذاه: كذا فى الأصل. فى مط: كان لنحارا حداه. وهو تصحيف. والعبارة ساقطة فى آ. وفى مكانها: فأخذ. وما فى الطبري (9: 1502) يوافق ما فى الأصل.
[2] . خداش: كذا ضبط فى الأصل (بكسر الخاء) . وما فى الطبري (9: 1503) : خدّاش.
زاد فى الطبري: كان اسمه عمارة، فسمّى خداشا لأنّه خدش الدين!(3/39)
شيء يقول، فنزل.
ثمّ دخلت سنة عشر ومائة
وفى هذه السّنة همّ أشرس بأن يدعو أهل الذّمّة ممّا وراء النّهر إلى الإسلام [37] على أن يوضع عنهم الجزية.
ذكر سوء رأى أشرس وفساد تدبيره وحرصه على المال حتّى نصب النّاس له الحرب
ذكر أنّ أشرس قال فى عمله بخراسان:
- «أبغونى رجلا له ورع وفضل أوجّهه إلى من وراء النّهر يدعوهم إلى الإسلام.» فأشاروا عليه بأبى الصّيداء صالح بن طريف مولى بنى ضبّة، فقال:
- «لست بالماهر بالفارسيّة.» فضمّوا إليه الرّبيع بن عمران التّيمى. فقال أبو الصّيداء:
- «فإنّى أخرج على شريطة أنّ من أسلم لم تؤخذ منه الجزية، فإنّما خراج خراسان على رؤوس الرّجال.» قال أشرس: «أجل، ذلك لك.» قال أبو الصيداء لأصحابه: «فإنّى أخرج، فإن لم يف أعنتمونى عليهم.» قالوا: «نعم.» فشخص إلى سمرقند، وعليها الحسن بن أبى العمرّطة الكندي حربها وخراجها. فدعا يومئذ أبو الصّيداء أهل سمرقند ومن حولها إلى الإسلام على أن توضع عنهم الجزية. فتسارع النّاس إلى ذلك، فكتب غورك إلى أشرس أنّ الخراج [38] قد انكسر، وكتب أشرس إلى ابن أبى العمرّطة فى ذلك، فقال ابن(3/40)
أبى العمرّطة لأبى الصّيداء:
- «لست من الخراج فى شيء. فدونك هانئا والاشحيذ [1] .» فقام [2] أبو الصّيداء يمنعهم من أخذ الجزية ممّن أسلم. فكتب هانئ إلى أشرس وقال:
- «ممّن تأخذ الخراج، والنّاس قد أسلموا وبنو المساجد.» فكتب أشرس إلى هانئ والعمّال:
- «إنّ الخراج قوّة للمسلمين، وقد بلغني أنّ أهل السّغد وأشباههم لم يسلموا رغبة وإنّما دخلوا فى الإسلام تعوّذا من الجزية، فانظر من اختتن وأقام الفرائض، وحسن إسلامه، وقرأ من القرآن شيئا فارفع عنه خراجه، وإلّا فاستوفه منه.» فأعاد العمّال الجزية على من أسلم، فامتنعوا، واعتزل من أهل السّغد سبعة آلاف، فنزلوا على ستّة فراسخ من سمرقند، وخرج إليه أبو الصّيداء والرّبيع بن عمران التّيمى، وأقسم الشّيبانى وأبو فاطمة الأزدى وجماعته من العرب لينصرونهم [3] ، ولم يخرج ابن أبى العمرّطة إلى حربهم، فعزل أشرس بن أبى العمرّطة عن الحرب، واستعمل مكانه المجشّر بن مزاحم السّلمى، وضمّ إليه عميرة بن سعد [39] الشّيبانى.
فلمّا قدم المجشّر كتب إلى أبى الصّيداء وثابت قطنة، وكان خرج معه يسألهما أن يقدما عليه فى أصحابهما، فقدم أبو الصّيداء وثابت قطنة، فحبسهما.
__________
[1] . الاشحيذ: كذا فى الأصل والطبري (9: 1508) . فى مط: الاسحيد. وفى آ: الاخشيذ.
[2] . فقام: فى الأصل، ومط، وآ: فقال (بدون المقول) وهو خطأ، فصححناه بما فى الطبري (9: 1508) : فقام.
[3] . لينصرونهم: فى الأصل، ومط، وآ، والطبري (9: 1509) : لينصروهم. وفى حواشي الطبري عن بعض الأصول: لينصرونهم.(3/41)
فقال ابو الصّيداء:
- «أغدرتم ورجعتم عمّا قلتم؟» فقال له هانئ:
- «ليس بغدر ما كان فيه حقن الدّماء.» وحمل أبا الصّيداء إلى الأشرس، وحبس ثابت قطنة عنده. فلمّا حمل ابو الصّيداء اجتمع أصحابه، وولّوا أمرهم أبا فاطمة ليقاتلوا هانئا، فقال لهم:
- «كفّوا، حتى أكتب إلى الأشرس فيأتينا رأيه.» فكتبوا إلى أشرس، فكتب الأشرس:
- «ضعوا عليهم الجزية.» فرجع أصحاب أبى الصّيداء منكسرين وضعف أمرهم، ولم يقدموا على محاربة السّلطان، وتتبّع العمّال الرؤساء منهم وحملوا إلى مرو، وبقي ثابت قطنة محبوسا، وألحّ هانئ والعمّال فى الخراج وجباية الأموال والجزية، حتّى استخفّوا [1] بعظماء العجم، وسلّطوا عليهم من أقامهم، وحرّق ثيابهم، وألقى مناطقهم فى أعناقهم، وأخذوا الجزية من الضّعفاء. فكفرت السّغد وبخارى، واستجاشوا التّرك فلم يزل ثابت قطنة فى حبس المجشّر حتّى قدم نصر بن سيّار واليا [40] على المجشّر، فحمل ثابتا إلى أشرس مع إبراهيم بن عبد الله الليثي، فحبسه، وكان نصر بن سيّار ألطفه وأحسن إليه، فمدحه ثابت وهو محبوس عند أشرس، فقال:
ما هاج شوقك من نؤى وأحجار ... ومن رسوم عفاها صوب أمطار
لم يبق منها ومن أعلام عرصتها ... إلّا صبيح [2] ، وإلّا موقد النّار
__________
[1] . استخفّوا: كذا فى الأصل، ومط: استخفّوا. وما فى آ: واستفتحوا.
[2] . صبيح: كذا فى الأصل ومط وآ: صبيح. وما فى الطبري (9: 1510) : شجيج. وفى حواشيه: شحيج، صبيح (بالإهمال) .(3/42)
وماثل [1] فى ديار الحىّ بعدهم ... مثل الرّبيئة فى أهدامه العاري
ديار ليلى قفار، لا أنيس بها ... دون الحجون وأين الحجن من دارى
بدّلت منها، وقد شطّ المزار بها ... وادي المخافة لا يسرى بها السّارى
بين السّماوة فى حزم مشرّقة ... ومعنق دوننا آذيّة جارى
نقارع [2] التّرك ما تنفك نائحة ... منّا ومنهم على ذى نجدة شار
إن كان ظنّى بنصر صادقا أبدا ... فما أدبّر من نقضي وإمرارى
لا يصرف الجند حتّى يستفيء بهم ... نهبا عظيما ويوفى [3] ملك جبّار
حتّى تروهم ودون [4] السّرح بارقة ... فيها لواء كظلّ الأجدل الضّارى [41]
لا يمنع الضّيم [5] إلّا ذو محافظة ... من الخضارم سبّاق [6] بأوتار [7]
إنّى وإن كنت من جذم الّذى نشرت ... منه الفروع وزندي الثّاقب الواري
لذاكر منك أمرا قد سبقت به ... من كان قبلك يا نصر بن سيّار
ناضلت عنّى نضال الحرّ إذ قصرت ... عنّى لعشيرة واستبطأت أنصارى
وصار كلّ صديق كنت آمله ... ألبا علىّ، ورثّ الحبل من جارى
وما تلبّست بالأمر الّذى وقعوا ... به علىّ ولا دنّست أطمارى
ولا عصيت إماما كان طاعته ... حقّا علىّ، ولا فارقت من عار
ولمّا ارتدّ أهل السّغد وأهل بخارى لأجل الجزية، واستجاشوا التّرك،
__________
[1] . وماثل: كذا فى الأصل ومط وآ: وماثل. وما فى الطبري (9: 1510) : ومائل.
[2] . كذا فى الأصل وآ. فى مط: بقارع. وما فى الطبري (9: 1511) : تقارع.
[3] . ويوفى: كذا فى الأصل ومط وآ: ويوفى. وما فى الطبري (9: 1511) : ويحوى.
[4] . ودون: كذا فى الأصل والنسختين: ودون. وما فى الطبري: دوين.
[5] . الضيم: كذا فى الأصل وآ ومط: الضيم. وما فى الطبري (9: 1511) : الثغر.
[6] . سبّاق: كذا فى الأصل وآ: سبّاق. وما فى مط والطبري: سيّاق.
[7] . بأوتار: كذا فى الأصل ومط والطبري (9: 1511) : باوتار. وما فى آ: بأوتارى.(3/43)
خرج إليهم أشرس، فنزل آمل، وأقام ثلاثة أشهر، وقدم قطن بن قتيبة بن مسلم فعبر النّهر فى عشرة آلاف واقبل التّرك مع أهل بخارى والسّغد فحصروا قطن بن قتيبة فى خندقه، وجعل خاقان ينتخب كلّ يوم فارسا فيعبر، وقطعت قطعة من التّرك النهر فقال قوم:
- «أقحموا [1] دوابّكم عريا.» فعبروا، وأغاروا على سرح النّاس، فأخرج أشرس ثابت قطنة [42] بكفالة عبد الله بن بسطام بن مسعود بن عمرو، ووجّهه مع عبد الله بن بسطام فى خيل، فاتّبعوا التّرك، فقاتلوهم بآمل حتّى استنقذوا ما بأيديهم. ثمّ قطع التّرك النّهر راجعين، ثمّ عبر أشرس بالنّاس إلى قطن بن قتيبة، ووجّه أشرس رجلا يقال له: مسعود، أحد بنى حيّان فى سريّة، فلقيهم العدوّ، فقاتلهم، فهزم مسعود وأصيب رجال من المسلمين، وأقبل العدوّ. فلمّا صاروا بقرب، لقيهم المسلمون، فقاتلوهم، فجال المسلمون، فقتل فى تلك الجولة خلق من المسلمين. ثمّ كرّ المسلمون، وصبروا، فانهزم المشركون، ومضى أشرس بالنّاس حتّى نزل بيكند [2] ، وقطع عنهم العدوّ الماء، فأقام أشرس والمسلمون فى عسكرهم يومهم وليلتهم، فأضحوا وقد نفد ماؤهم، فاحتفروا فلم ينبطوا وعطشوا، فارتحلوا إلى المدينة الّتى منها قطعوا الماء عنهم [3] ، وعلى مقدّمة المسلمين قطن بن قتيبة، فلقيهم العدوّ، فقاتلوهم، فجهدوا من العطش، فمات منهم سبعمائة وعجز النّاس عن القتال، وكاد قوم يوسرون من الجهد، فحضّ الحارث بن سريج [43] النّاس. فقال:
- «أيّها النّاس، القتل بالسّيف أكرم فى الدّنيا وأعظم أجرا عند الله من
__________
[1] . أقحموا: كذا فى الأصل وآ، والطبري (9: 1512) : أقحموا. وفى مط: ألجموا.
[2] . بيكند (بكسر الباء وفتح الكاف) ،: بلد بين بخارى وجيحون. (مراصد الاطلاع) .
[3] . عنهم: كذا فى الأصل وآ: عنهم. وما فى مط: منهم.(3/44)
الموت عطشا.» وتقدّم الحارث بن سريج [1] وقطن بن قتيبة وجماعة من بنى تميم وقيس، فقاتلوا حتّى أزالوا التّرك عن الماء، وابتدره النّاس، فاستقوا ورووا. فمرّ ثابت قطنة بعبد الملك بن دثار الباهلي، فقال:
- «يا عبد الملك، هل لك فى الجهاد؟» قال:
- «أنظرنى ريث ما أغتسل وأتحنّط.» فوقف له، حتّى خرج ومضى. فقال ثابت لأصحابه:
- «أنا أعلم بقتال هؤلاء منكم.» وحضّهم، فحملوا على العدوّ، واشتدّ القتال، فقتل ثابت وعبد الملك فى عدّة من المسلمين فضمّ قطن بن قتيبة وإسحاق بن حسّان خيلا من بنى تميم تبايعوا على الموت، فأقدموا على العدوّ، فقاتلوهم حتّى كشفوهم وركبهم المسلمون يقتلونهم حتّى حجزهم الليل وتفرّق العدوّ. فأتى أشرس بخارى فحاصر أهلها.
وتحدّث قوم شهدوا قتال التّرك لمّا التقوا على الماء وقاتلوا عليه، قالوا:
سمعنا ثابتا يقول:
- «اللهمّ إنّى كنت ضيف ابن بسطام البارحة، فاجعلني ضيفك الليلة، والله لا ينظر إلىّ بنو أميّة [44] مشدودا فى الحديد.» فحمل، وحمل أصحابه، فكذب أصحابه وثبت هو، فرمى برذونه فشبّ، وضربه فأقدم وضرب فارتثّ، فقال وهو صريع:
- «اللهم إنّى أصبحت ضيفا لابن بسطام، وقد أمسيت ضيفك، فاجعل قراي من ثوابك الجنّة.»
__________
[1] . سريج: كذا فى الأصل والطبري (9: 1513) . وما فى آ، ومط: شريح.(3/45)
ولحق غورك فى تلك الوقعة بالتّرك. فيقال: إنّه وقع وسط خيل، فلم يجد بدّا من اللحاق بهم. ويقال: إنّ أشرس كان أرسل إلى غورك يطلب منه طاسا كان عنده. فقال غورك [1] لرسول [2] أشرس:
- «إنّه لم يبق معى شيء أتدهّن [3] به غير هذا الطّاس. فاصفح عنه.» فأرسل إليه:
- «اشرب فى قرعة، وابعث إلىّ بالطّاس.» فكان ذلك سبب فراقه.
فيقال: إنّ أشرس نزل قريبا من مدينة بخارى، ثمّ تحوّل منه إلى كمرجة [4] ، وكانت كمرجة من أشرف آجام خراسان وأعظمها. فمرّ بهم سبّابة [5] مولى قيس وقال:
- «إنّى قصدتكم للنّصيحة. إنّ خاقان مارّ بكم غد، فأرى لكم أن تظهروا عدّتكم ليرى حدّا واحتشادا فينقطع طمعه منكم.» فقال لهم رجل:
- «استوثقوا منه، فإنّه جاءكم ليفت فى أعضادكم.» [45] قالوا:
- «لا تفعل هذا مولانا، وقد عرفناه بالنّصيحة.» فلم يقبلوا منه، وفعلوا ما أمرهم به المولى. وصبّحهم خاقان، فلمّا حاذى بهم ارتفع إلى طريق بخارى، كأنّه يريدها، فانحدر بجنوده من وراء تلّ بينه
و
__________
[1] . غورك: غير موجودة، لا فى الأصل ولا فى آ، فأضفناها من مط.
[2] . لرسول: غير موجودة، لا فى الأصل ولا فى مط، فأضفناها من آ.
[3] . اتدهّن: فى الأصل وآ: أتدهقن. فى مط: ابدهر (وهو تصحيف اتدهن) وما أثبتناه يؤيده الطبري (9: 1516) .
[4] . كمرجه: كذا ضبطت فى الطبري (9: 1517) وابن الأثير (5: 152) .
[5] . سبّابة: كذا فى الأصل. فى آ: سيابة. فى مط: سبابة. وفى الطبري (9: 1516) «سبابة أو شبابة» .(3/46)
بينهم. فنزلوا وتأهّبوا وهم لا يشعرون بهم. فما فاجأهم أن طلعوا على التّلّ، فإذا جبل حديد [1] فيهم أهل فرغانة والطّاربند وأفشينة ونسف وطوائف من أهل بخارا. فسقط فى أيدى النّاس.
فقال لهم كليب بن قبان [2] الذّهلى:
- «هم يريدون مزاحفتكم، فسرّحوا دوّابكم المجفّفة فى طريق النّهر، كأنّكم تريدون أن تسقوها، فإذا حدرتموها [3] فخذوا طريق الباب، وتسرّبوا الأوّل فالأوّل.» فلمّا رءاهم التّرك يتسرّبون، شدّوا عليهم فى مضيق، وكانوا أعلم بالطّريق من التّرك، فسبقوهم إلى الباب، فلحقوهم عنده، وقتلوا رجلا من العرب كان على حاميتهم يقال له المهلّب، وقاتلوهم، فغلبوهم على الباب الخارج من الخندق ودخلوه، فاقتتلوا، وجاء رجل بحزمه قصب قد أشعلها، فرمى بها فى وجوههم، فتنحّوا [4] ، وأجلوا عن قتلى وجراحات [5] . [46] وأمسى القوم.
فانصرف التّرك وأحرق العرب القنطرة.
وجاءهم خسرو بن يزدجرد فى ثلاثين رجلا. فقال:
- «يا معشر العرب، لم تقتلون أنفسكم وأنا الّذى جئت بخاقان ليردّ علىّ مملكة آبائى؟ وأنا آخذ لكم الأمان.» فشتموه، فانصرف.
__________
[1] . جبل حديد: كذا فى الأصل وآ والطبري (9: 1517) : جبل جديد فى مط: خيل حديد.
[2] . ما فى الأصل غير واضح، فأثبتناه الإسم كما جاء فى مط وفى مواطن أخرى من الأصل. فى مط: قبان. وفى آ: فنان. وما فى الطبري (9: 1517) : قنان.
[3] . حدرتموها: كذا فى الأصل ومط وآ. وما فى الطبري (9: 1517) : جرّدتموها.
[4] . فى مط. ففتحوا.
[5] . كذا فى الأصل ومط وآ. وما فى الطبري (9: 1518) : جرحى.(3/47)
فجاءهم بازغرى [1] فى مائتين، وكان داهية، من وراء النّهر، وكان خاقان لا يخالفه، ومعه رجلان من قرابة خاقان، ومعه أفراس من رابطة أشرس، فقال:
- «آمنونا حتّى ندنو منكم، وأعرض عليكم ما أرسلنى به إليكم خاقان.» فآمنوه، فدنا من المدينة، فأشرفوا عليه، ومعه أسرى من العرب، وقال بازغرى:
- «يا معشر العرب، احدروا إلىّ رجلا منكم أكلّمه برسالة خاقان.» فحدروا حبيبا مولى مهرة من أهل درقتين [2] ، فكلّموه، فلم يفهم. فقال:
- «احدروا إلىّ رجلا يعقل عنّى.» فحدروا يزيد بن سعيد الهلالي [3] ، وكان يشدو شيئا من التركية. فقال له:
- «هذه خيل الرّابطة، ووجوه العرب، معه أسرى.» وقال لهم:
- «إنّ خاقان أرسلنى إليكم وهو يقول لكم: إنّى أجعل من كان عطاءه منكم ثلاثمائة، ستّمائه، ومن كان عطاؤه [47] ستّمائة أجعله ألفا، وهو مجمع بعد هذا على الإحسان إليكم.» فقال له يزيد:
- «هذا أمر لا يلتئم، كيف يكون العرب وهم ذئاب، مع التّرك وهم شاء لا يكون بيننا وبينهم صلح.» فغضب بازغرى.
__________
[1] . بازغرى: ما فى الأصل وآ. (بالعين المهملة) وما فى مط غير منقوط. وما أثبتناه يوافق الطبري (9: 1519) : بازغرى. (بالغين المعجمة) .
[2] . درقتين: كذا فى كل من الأصل ومط وآ: درقتين بالإهمال. والنقاط مستفادة من الطبري (9: 1518) .
[3] . الهلالي: كذا فى الأصل ومط: الهلالي. وما فى آوالطبري: الباهلي.(3/48)
فقال التّركيان اللذان معه:
- «ألا تضرب عنقه؟» فقال:
- «لا، نزل إلينا بأمان.» وفهم يزيد ما قالا له، فخاف. فقال:
- «بلى يا بازغرى، إلّا أن تجعلونا نصفين، فيكون نصفنا فى أثقالنا، ويسير النّصف معه، فإن ظفر خاقان فنحن معه، وإن كان غير ذلك كنّا كسائر مدائن سغد.» فرضي بازغرى والتّركيان بما قال [1] . فقال له:
- «اعرض على القوم ما تراضينا به.» وأقبل، فأخذ بطرف الحبل، فجذبوه حتّى صار على السّور، فنادى:
- «يا أهل كمرجه اجتمعوا، فقد جاءكم قوم يدعونكم إلى الكفر بعد الإيمان.» قالوا:
- «لا نجيب ولا نرضى.» قال:
- «يدعونكم إلى قتال المسلمين مع المشركين.» قالوا:
- «نموت جميعا قبل ذلك.» قال:
- «فأعلموهم ذلك.» قال:
- «فأشرفوا عليهم.» فقال:
- «يا بازغرى، أتبيع الأسرى الّذين فى أيديكم فنفادى بهم؟ فأما ما دعوتنا إليه فإنّا لا نجيبكم إليه.» فقال لهم:
- «أفلا تشترون أنفسكم [48] منّا؟ فما أنتم عندنا إلّا بمنزلة من فى أيدينا
__________
[1] . قال: كذا فى مط وآ والطبري (9: 1519) . وما فى الأصل: قالا. وهو خطأ.(3/49)
منكم.» وكان فى أيديهم الحجّاج بن حميد النّضرى.
فقالوا:
- «يا حجّاج، إلا تتكلّم؟» قال:
- «علىّ رقباء.» ثمّ أمر خاقان بقطع الشّجر.»
ذكر حيلة تمّت مع اتّفاق حسن
فكان خاقان يقطع الشّجر الرّطب، ويلقيه فى الخندق، وجعل أهل كمرجة يلقون معه الحطب اليابس، حتّى سوّى الخندق ليقطعوا [1] إليهم. فأشعلوا النّيران، فهاجت ريح شديدة، صنعا من الله عزّ وجلّ، فاشتعلت النّيران فى الحطب، فأحرق ما عملوا فى ستّة أيام، فى ساعة واحدة من نهار، ورميناهم فأوجعناهم، وشغلناهم بالجراحات، فأصابت بازغرى نشّابة فى سرّته، فاحتقن بوله، فمات من ليلته، فقطع أتراكه أذانهم، فأصبحوا بشرّ منكّسين رؤوسهم يبكونه، ودخل عليهم أمر عظيم.
فلمّا امتدّ النّهار، جاءوا بالأسرى، وهم مائة، فيهم أبو العوجاء العتكي وأصحابه، فقتلوهم، ورموا إليهم برأس الحجّاج بن حميد النّضرىّ [2] ، وكان مع المسلمين مائتان من أولاد [49] المشركين كانوا رهائن فى أيديهم، فقتلوهم، واستماتوا، واشتد القتال، وقاموا على باب الخندق، وصار منهم على السّور خمسة أعلام.
__________
[1] . ليقطعوا إليهم: كذا فى الأصل ومط وآ. ليقطعوا إليهم. فى حواشي الطبري: ليقطعوا النهر إليهم.
[2] . النضري: كذا فى الأصل ومط والطبري (9: 1520) . وفى آ: البصري.(3/50)
فقال كليب: «من لى بهؤلاء؟» فقال ظهير بن مقاتل الطّلاوى [1] :
- «أنا لك بهم.» فذهب يسعى وقال لفتيان:
- «امشوا خلفي.» وهو جريح.
فقتل من أصحاب الأعلام اثنان ونجا ثلاثة.
فقال لهم خاقان:
- «عليكم بهذا الغنم وقسمه فى أصحابه.» ثم قال لهم:
- «كلوا لحومها واسلخوا جلودها واملأها ترابا، ثمّ اكبسوا [2] خندقهم بها.» ففعلوا، وبعث الله سحابة فمطرت وسال الخندق، فاحتمل المطر ما ألقوا فيه [3] ، فألقاه فى النّهر الأعظم. فيقال: إنّ خاقان لمّا رأى أنّه لا يصل إليهم، شتم أصحابه، وعيّر أهل السّغد وفرغانة والشّاش والدّهاقين وقال لهم:
- «زعمتم أنّ فى هذه خمسين حمارا وأنّا نفتحها فى خمسة أيّام وقد صارت الخمسة الأيام شهرين.» وشتمهم وأمرهم بالارتحال، فقالوا:
- «ما ندع جهدا، ولكن أحضرنا غدا فانظر.» فلمّا كان الغد جاء خاقان فوقف فقام إليه ملك الطّاربند، واستأذنه [50] فى
__________
[1] . الطلاوى: كذا فى الأصل ومط: الطلاوى. وما فى الطبري (9: 1520) : وآ الطفاوي.
[2] . اكبسوا: كذا فى الأصل وآ: واكبسوا. وما فى مط: اكسوا.
[3] . ضاع من نسخة آ (مخطوطة آستان قدس) ما يعادل ص 50 إلى ص 84 من صفحات الأصل (مخطوطة اياصوفيا) .(3/51)
القتال والدّخول عليهم. قال:
- «لا أرى أن نقاتل فى هذا الموضع.» وكان خاقان يعظّمه، فقال له:
- «اجعل لى جاريتين من جواري العرب وأنا أدخل عليهم.» فأذن لهم، فقاتل حتّى قتل ثمانية، وجاء حتّى وقف على ثلمة، وكان إلى جنب الثّلمة بيت فيه خرق يفضى إلى الثّلمة، وفى البيت رجل مريض من بنى تميم، فرماه بكلّوب، فتعلّق بدرعه، ثمّ نادى النّساء والصّبيان فجذبوه حتّى سقط لوجهه، ورماه رجل بحجر فأصاب أصل أذنه فصرع، وجاء شابّ أمرد من التّرك، فأخذ سيفه، وغلبناهم على جسده [1] . وكانوا قد اتّخذوا أبنية من خشب، فألصقوها بحائط [2] الخندق، ونصبوا قبالة ما اتّخذوا أبوابا، وأقعدوا وراءها الرّماة وجاء رجلان، فاطّلع أحدهما فى الخندق، فرماه واحد منّا، فلم تضرّه الرّمية لكثرة سلاحه، وكان عليه كاسخودة [3] تبّتيّة، فرماه رجل شيبانىّ، وليس يرى منه غير عينيه، ورماه غالب بن المهاجر، فدخلت نشّابة فى عينيه وتنكّس، فلم يدخل خاقان شيء أشدّ منه. فأرسل إلى المسلمين: [51]- «أنّه ليس من رأينا أن نرتحل من مدينة ننزل عليها دون افتتاحها أو نرحلهم [4] عنها.» فقال لهم كليب بن قبان:
- «وليس من ديننا أن نعطى بأيدينا حتّى نقتل، فاصنعوا ما بدا لكم.»
__________
[1] . جسده: كذا فى الأصل ومط والطبري (9: 1521) : جسده. والعبارة فى الطبري:
« ... فقتله وأخذ سلبه وسيفه فغلبناهم على جسده.»
[2] . بحائط: كذا فى الأصل: بحائط الخندق وما فى مط: بحائطى الخندق.
[3] . كاسخودة تبتيّة: فى الطبري (9: 1522) : كاشخودة تبّتيّة. فى مط كاسجودة تبنية!
[4] . نرحلهم: كذا فى الأصل. وما فى الطبري (9: 1522) : ترحّلهم.(3/52)
فرأى التّرك أنّ مقامهم عليهم ضرر، فقالوا:
- «نعطيكم الأمان على أن ترحلوا بأموالكم وأهاليكم إلى سمرقند أو الدّبوسيّة.» ورأى أهل كمرجة ما هم فيه من الحصار والشدّة، فبعثوا إلى أهل سمرقند يشاورونهم. فأشاروا عليهم بالدّبوسيّة وقالوا: هي أقرب.
فرجع إلى أصحابه، فأخذوا من التّرك رهائن لئلّا يعرضوا لهم، وأخذ التّرك من العرب رهائن، وارتحل خاقان، وأظهر أنّه إنّما فعل ذلك من أجل غورك، أنّه مع العرب، وأنّ ابنه المختار طلب إليه فى ذلك مخافة على أبيه. فأجابه إلى ذلك.
وقال المسلمون:
- «أعطونا رجلا كبيرا يكون معنا.» فقال لهم التّرك:
- «اختاروا من شئتم.» فاختاروا كورصول، وكان معهم. فلمّا ارتحل خاقان قال كورصول للعرب:
- «ارتحلوا» .
قالوا:
- «نكره أن نرتحل والتّرك لم يمضوا، فلا [52] نأمنهم أن يعرضوا لبعض النّساء فتحمى العرب، فنصير إلى ما كنّا فيه من الحرب.» قال: فكفّ عنهم حتّى مضى خاقان والتّرك.
فلمّا صلّوا الظّهر أمرهم كورصول بالرّحلة، وقال:
- «إنّما الشّدّة والخوف أن تسيروا فرسخين، ثمّ تصيروا إلى قرى متّصلة، فارتحلوا.» وكان فى أيدى التّرك من العرب خمسة رهائن، وفى أيدى العرب من(3/53)
التّرك خمسة، فارتدف خلف رجل من التّرك رجل من العرب معه خنجر، وليس على التّركى غير قباء، فساروا بهم. ثمّ قال العجم لكورصول:
- «إنّ الدّبوسيّة فيها عشرة آلاف مقاتل، فلا نأمن أن يخرجوا علينا.» فقال لهم العرب:
- «إن قاتلوكم قاتلناهم معكم.» فساروا، فلمّا صار بينهم وبين الدّبوسيّة قدر فرسخ وأقلّ [1] ، نظر أهلها إلى فرسان ورجّالة، فظنّوا أنّ كمرجة قد فتحت، وإنّ خاقان قصدهم. فتهيّأوا للحرب، فوجّه كليب بن قبان رجلا من بنى ناجية يقال له الضّحّاك، على برذون يركض، وعلى الدّبوسيّة عقيل بن ودّان السّعدىّ. فأتاهم الضّحّاك وهم صفوف فرسان ورجّالة، فأخبرهم بالخبر، فأقبل أهل الدّبوسيّة [53] يركضون، فحملوا كلّ من كان يضعف عن المشي ومن كان مجروحا. ثمّ إنّ كليبا أرسل محمّد بن كرّان [2] ومحمّد بن درهم ليعلما سباع بن النّعمان وسعيد بن عطيّة وسائر الرّهائن فى أيدى التّرك، أنّهم قد بلغوا مأمنهم، ثمّ خلّوا عن الرّهن، فجعلت العرب ترسل رجلا من الرّهن الّذين [3] فى أيديهم من التّرك، وترسل التّرك رجلا من الّذين فى أيديهم من العرب، حتّى بقي سباع بن النّعمان فى أيدى التّرك، ورجل من التّرك فى أيدى العرب، وجعل كلّ فريق منهم يخاف على صاحبه الغدر.
فقال سباع:
- «خلّوا رهينة التّرك.» فخلّوه وبقي سباع فى أيديهم. فلمّا التقى مع كورصول قال له:
__________
[1] . وأقلّ: كذا فى الأصل والطبري (9: 1524) : واقلّ. وما فى مط: أقبل.
[2] . كرّان: كذا فى الأصل ومط: كرّان. وما فى الطبري (9: 1524) : كرّاز.
[3] . الذين: ما فى الأصل ومط: الذي. وما فى الطبري: الذين. وهو الصحيح.(3/54)
- «لم فعلت هذا؟» قال:
- «إنّى وثقت برأيك، وقلت: ترفّع نفسك عن الغدر فى مثل هذا.» فوصله وسلّحه، وحمله على برذون، وردّه إلى أصحابه.
وكان حصار كمرجة خمسة وثلاثين [1] يوما. فيزعمون أنّهم لم يسقوا إبلهم خمسة وعشرين يوما.
وفى هذه السّنة جعل خالد بن عبد الله القسري بالبصرة الصّلاة مع الشرط والأحداث، والقضاء إلى بلال بن أبى برده، فجمع ذلك كلّه. [54]
ودخلت سنة احدى عشرة ومائة وفيها عزل هشام أشرس بن عبد الله عن خراسان
وكان السّبب فى ذلك، أنّ شدّاد بن خالد بن عبد الله الباهلي شخص إلى هشام، فشكاه، فعزله واستعمل الجنيد بن عبد الرّحمن على خراسان سنة احدى عشرة ومائة. وكان السّبب فى استعماله إيّاه، أنّه كان أهدى لأمّ حكيم بنت يحيى بن الحكم امرأة هشام قلادة فيها جوهر، فأعجبت هشاما، فأهدى لهشام قلادة أخرى، فاستعمله على خراسان، وحمله على ثمانية من البريد، فسأله أكثر من تلك الدوابّ، فلم يفعل. فقدم خراسان فى خمسمائة وأشرس بن عبد الله يقاتل أهل بخارا والسّغد. فسأل عن رجل يسير معه إلى ما وراء النّهر، فدلّ على الخطّاب بن محرز السّلمى خليفة أشرس. فسار معه، فلمّا قدم آمويه، أشار عليه الخطّاب أن يقيم ويكتب إلى من بزمّ ومن حوله، فقدموا عليه، فأبى وقطع النّهر، وأرسل إلى أشرس أن أمدّنى بخيل، وخاف أن يقتطع قبل أن
__________
[1] . ثلاثين: فى الأصل ثلاثون. خلافا للطبري (9: 1525) ومط.(3/55)
يصل إليه، فوجّه إليه أشرس عامر بن مالك [1] الحمّانى. فلمّا كان ببعض الطّريق، عرض له التّرك والسّغد ليقتطعوه قبل أن [55] يصل إلى الجنيد. فدخل عامر حائطا حصينا، وقاتلهم على ثلمة الحائط ومعه ورد بن زياد بن أدهم بن كلثوم، فرماه رجل من العدوّ بنشّابة عرض منخريه، فأنفذ المنخرين. فقال له عامر بن مالك:
- «يا بالزّاهرية، كأنّك دجاجة مقفّ [2] .» وكان خاقان على تلّ خلفه أجمة عظيمة. فخرج من عسكر أشرس، عاصم بن عمير [3] السّمرقندى وواصل بن عمرو القينى فى شاكريّته، فاستدارا حتّى صارا من وراء الأجمة والماء، فضمّوا خشبا وقصبا وما قدروا عليه، حتّى اتّخذوا طريقا، فعبروا عليه، فلم يشعر خاقان إلّا بالتّكبير من ورائه، وحمل واصل والشاكريّة على العدوّ، فقاتلوهم، فقتل تحت واصل برذونان، وهزم خاقان وأصحابه.
وخرج عامر بن مالك من الحائط، فمضى إلى الجنيد، وهو فى سبعة آلاف، فتلقّى الجنيد، فأقبل معه وعلى مقدّمة الجنيد عمارة بن خزيم [4] فلمّا انتهى إلى فرسخين من بيكند، تلقّته خيل التّرك، فقاتلهم، وكاد الجنيد يهلك ومن معه، ثمّ أظهره الله، فسار حتّى قدم العسكر وقد ظفر بأولئك الأتراك. فزحف [56] إليه خاقان فالتقوا دون رومان [5] من بلاد سمرقند وقطن بن قتيبة على ساقة
__________
[1] . مالك: فى الأصل ملك. وما فى مط والطبري (9: 1528) : مالك.
[2] . مقفّ: كذا فى الأصل ومط: مقفّ. وما فى الطبري (9: 1528) : مقرّق.
[3] . فى الأصل: عمير بن. وما أثبتناه يؤيّده الطبري (9: 1528) .
[4] . خزيم: كذا فى الأصل: خزيم. وما فى مط والطبري (9: 1529) : حريم.
[5] . رومان: كذا فى الأصل ومط: رومان. وفى الطبري (9: 1529) : زرمان. وفى حواشيه: ذرمان، درمان، زرنان، رزمان.(3/56)
الجنيد، وواصل فى أهل بخارا، وكان ينزلها قاسم ملك الشّاش، وأسر الجنيد ابن أخى خاقان فى هذه الغزاة، فبعث به إلى هشام، وأوفد لمّا أصاب فى وجهه ذلك عمّار بن معاوية العدوىّ ومحمّد بن الجرّاح العبدىّ وعبد ربّه بن أبى صالح السّلمى إلى هشام.
ثمّ أتى الجنيد مرو غانما ظاهرا.
فقال خاقان:
- «هذا غلام مترف هرب منّى [1] العام، وأنا مهلكه فى قابل [2] .» واستعمل الجنيد عمّاله، فلم يستعمل إلّا مضريّا، وكان بينه وبين الباهليّين تباعد، لما كان بينهم بالبروقان.
ثمّ دخلت سنة اثنتي عشرة ومائة
وفى هذه السّنة استشهد الجرّاح بن عبد الله الحكمي فى من معه من أهل الشّام بمرج أردبيل، وافتتحت التّرك أردبيل. ولمّا بلغ هشاما أنّ التّرك قتلت الجرّاح بن عبد الله وافتتحت أردبيل، دعا سعيد بن عمرو الحرشىّ، [57] فقال له:
- «أنّه بلغني أنّ الجرّاح بن عبد الله قد انحاز عن المشركين.» فقال:
- «كلّا يا أمير المؤمنين، الجرّاح أعرف بالله من أن ينحاز عن العدوّ، لكنّه قتل.» قال:
- «فما الرأى؟» قال:
- «تبعثني على أربعين دابّة من دوّاب البريد، ثمّ تبعث إلىّ كلّ يوم أربعين
__________
[1] . هرب منّى: كذا فى الأصل ومط: هرب منّى. وما فى الطبري (9: 1529) : هزمنى.
[2] . قابل: كذا فى الأصل ومط والطبري: قابل.(3/57)
دابّة عليها أربعون رجلا. ثمّ اكتب إلى أمراء الأجناد يوافونى.» ففعل ذلك هشام، فأصاب سعيد بن عمرو للتّرك ثلاثة [1] جموع وفودا إلى خاقان بمن أسروا من المسلمين وأهل الذّمّة. فاستنفذ الحرشىّ ما أصابوا، وأكثر القتل فيهم.
ثمّ أنفذ هشام أخاه مسلمة بن عبد الملك فى أثر التّرك، فسار فى شتاء شديد البرد، ومطر وثلوج، فطلبهم، حتّى جاز الباب، وخلّف الحارث بن عمرو الطائىّ بالباب.
وقعة الجنيد مع الترك
وفى هذه السّنة كانت وقعة الجنيد مع التّرك ورئيسهم خاقان بالشّعب. وفيها قتل سورة بن أبجر والأشراف.
وقد قيل: إنّ هذه الوقعة كانت فى سنة ثلاث عشرة.
وكان سبب ذلك أنّ الجنيد بن عبد الرّحمن خرج [58] غازيا فى هذه السّنة يريد طخارستان، فنزل على نهر بلخ، ووجّه عمارة بن خزيم إلى طخارستان فى ثمانية عشر ألفا، وإبراهيم بن بسّام الليثي فى عشرة آلاف فى وجه آخر.
وجاشت التّرك، فأتوا سمرقند، وعليها سورة بن أبجر أحد بنى دارم. وكتب سورة إلى الجنيد:
- «انّ [2] خاقان جاش بالتّرك، فخرجت إليهم، فما قدرت أن أمنع حائط سمرقند، فالغوث!»
__________
[1] . ثلاثة جموع: ما فى الأصل ومط: ثلاث جموع. وما فى الطبري (9: 1531) : ثلاثة جموع.
[2] . فى الأصل ومط وحواشي الطبري: «أن ينزل خاقان جاش بالتّرك» بزيادة «ينزل» وهذه الكلمة زايدة مقحمة، وهي غير موجودة فى الطبري. (9: 1532) .(3/58)
فأمر الجنيد النّاس بالعبور، فقام إليه المجشّر بن مزاحم السّلمى وابن بسطام الأزدى، وابن صبيح الحرقى، فقالوا:
- «إن التّرك ليسوا كغيرهم، لا يلقونك صفّا ولا زحفا وقد فرّقت جندك:
فمسلم بن عبد الرّحمن بالرّوب، والبختي [1] بهراة، ولم يحضرك أهل الطّالقان، وعمارة بن خزيم غائب.» وقال له المجشّر:
- «إنّ صاحب خراسان لا يعبر النّهر فى أقلّ من خمسين ألفا، فأكتب إلى عمارة، فليأتك، وأمهل ولا تعجل.» قال:
- «فكيف بسورة ومن معه من المسلمين، لو لم أكن إلّا فى بنى مرّة، أو من طلع معى من أهل الشّام، لعبرت.» قال: [59]
- «أليس أحقّ النّاس أن يشهد الوغا ... وأن يقتل الأبطال، ضخم [2] على ضخم»
وعبر، ونزل كسّ، وبعث الأشهب بن عبيد الحنظلي ليعلم علم القوم.
فرجع إليه فقال:
- «قد أتوك، فتأهّب.» فبلغ التّرك مسيره، فعوّروا [3] طريق كسّ وما فيه من الركايا.
فقال الجنيد:
- «أىّ الطّرق إلى سمرقند أمثل؟» قالوا:
- «طريق المحترقة.» فقال المجشّر بن مزاحم السّلمى:
__________
[1] . كذا فى الأصل: البختي. ما فى مط مهمل. وما فى الطبري (9: 1532) : البختري.
[2] . ضحم: كذا فى الأصل ومط: ضخم. وما فى الطبري (9: 1533) : ضخما.
[3] . فعوّروا طريق كسّ: كذا فى الأصل والطبري: فعوّروا. وفى مط: فعبروا. وفى حواشي الطبري: «فعوّروا الآبار التي فى ... » . كسّ كشّ.(3/59)
- «القتل بالسّيف أمثل من القتل بالنّار. إنّ طريق المحترقة فيه الشّجر والحشيش، ولم يزرع منذ سنتين، فقد تراكم بعضه على بعض، فإن لقيت خاقان، أحرق ذلك كلّه، فقتلنا بالنّار والدّخان، ولكن خذ طريق العقبة، فهو بيننا وبينهم سواء.» فأخذ الجنيد طريق العقبة، فارتقى فى الجبل [1] . فأخذ المجشّر بعنان دابّته وقال:
- «إنّه كان يقال: إنّ رجلا من قيس مترفا يهلك على يده جند من جنود خراسان، وقد خفنا أن تكونه.» قال: «أفرخ روعك [2] .» فقال المجشّر: «أمّا ما كان بيننا مثلك فلا يفرح.» فبات فى أصل العقبة، ثمّ ارتحل حتّى. أصبح، فصار [60] الجنيد بين مرتحل ومقيم، فتلقّاه فارس. فقال له:
- «ما اسمك؟» قال:
- «حرب.» قال:
- «ابن من؟» قال:
- «ابن محرب.» قال:
- «ممّن؟» قال:
- «من بنى حنظلة.» قال:
__________
[1] . فى بعض الأصول: الخيل.
[2] . روعك: فى الأصل بضمّ الرّاء، وفى الطّبرى (9: 1534) : بفتحها. الرّوع (بضم الرّاء) :
سواد القلب وقيل موضع الفزع منه. يقال أيضا: أفرغ روعك. اى: اسكن واستأمن.
الرّوع (بفتح الراء) : الفزع. الحرب.(3/60)
- «سلّط الله عليك الحرب، والحرب، والكلب [1] .» ومضى بالنّاس حتّى دخل الشّعب وبينه وبين سمرقند أربعة فراسخ.
فصبّحه خاقان فى جمع عظيم، وزحف إليه السّغد، وشاش، وفرغانة. فحمل خاقان على المقدّمة، وعليها عثمان بن عبد الله بن السّخّير [2] ، فرجعوا إلى العسكر والتّرك تتبعهم وجاءوهم من كلّ وجه، وقد كان الإخريد [3] قال للجنيد:
- «ردّ النّاس إلى العسكر، فقد جاءك جمع كثير.» فطلع أوائل الخيل من العدوّ، والنّاس يتغدّون، فرءاهم عبيد الله بن زهير بن حيّان، فكره أن يعلم النّاس حتّى يفرغوا من غدائهم، والتفت أبو الوأل [4] ، فرءاهم، وقال: «العدّو!» فركب النّاس إلى الجنيد. فصيّر تميما والأزد فى الميمنة، وربيعة فى الميسرة ممّا يلي الجبل [5] ، وعلى مجفّفة خيل بنى تميم عبيد الله بن زهير بن حيّان، وعلى المجرّدة عمر بن حرفاس [6] المنقري، وعلى جماعة بنى تميم عامر بن مالك الحمّانى، وعلى الأزد عبد الله بن بسطام [61] بن مسعود، وعلى خيلهم المجفّفة والمجرّدة فضيل بن هنّاد وعبد الله بن حوذان: أحدهما على المجفّفة والآخر على المجرّدة. فالتقوا وربيعة ممّا يلي
__________
[1] . الحرب والكلب. الحرب: الهلاك والويل. حرب الرجل: سلب ماله وتركه بلا شيء.
الكلب: داء يشبه الجنون يأخذ الكلاب فتعضّ النّاس، فيكلب النّاس أيضا. العطش الشديد.
[2] . السّخّير: كذا فى الأصل: السّخير. فى الطبري (9: 1534) : الشّخّير. وما فى مط:
السحر.
[3] . الإخريد: ما فى الأصل ومط مهمل، والإعجام من الطبري.
[4] . ابو الوأل: كذا فى الأصل ومط: ابو الوأل. وما فى الطبري (9: 1534) : ابو الزّيّال.
[5] . الجبل: كذا فى الأصل والطبري ومط. وفى حواشي الطبري (9: 1534) عن الأصول: الخيل.
[6] . حرفاس: كذا فى الأصل ومط: حرفاس. وفى الطبري (9: 1535) : جرفاس.(3/61)
الجبل [1] فى مكان ضيّق، فلم يقدم عليهم أحد. وقصد العدوّ الميمنة، وفيها تميم والأزد فى موضع واسع فيه مجال للخيل، فترجّل حيّان بن عبيد الله بن زهير بين يدي أبيه، ودفع برذونه إلى أخيه عبد الملك.
فقال له أبوه:
- «يا حيّان، انطلق إلى أخيك فإنّه حدث وأخاف عليه.» فأبى، فقال:
- «يا بنىّ، إنّك إن قتلت على حالك هذه، قتلت عاصيا.» فرجع إلى الموضع الّذى خلّف فيه أخاه والبرذون فإذا أخوه قد لحق بالعسكر وقد شدّ البرذون، فقطع حيّان مقوده وركبه، فإذا العدوّ قد أحاطوا بالموضع الّذى خلّف فيه أباه وأصحابه، فأمدّهم الجنيد بنصر بن سيّار وبسبعة فيهم جميل بن غزوان. فدخل عبيد الله بن زهير معهم، وشدّوا على العدوّ، فكشفوهم، ثمّ كرّوا عليهم، فقتلوا جميعا، فلم يفلت أحد ممّن كان فى ذلك الموضع. [62] قتل عبيد الله بن زهير، وابن حوذان، وابن حرفاس، والفضيل [2] بن هنّاد، وجالت الميمنة والجنيد واقف فى القلب، فأقبل إلى الميمنة، فوقف تحت راية الأزد، وقد كان جفاهم.
فقال له صاحب راية الأزد:
- «ما جئتنا لتحبونا ولا لتكرمنا، ولكنّك قد علمت أنّه لا يوصل إليك ومنّا رجل حي، فإن ظفرنا كان لك، وإن هلكنا لم تبك علينا، ولعمري، لئن ظفرنا وبقيت لا أكلّمك كلمة أبدا.» وتقدّم، فقتل، وأخذ الرّاية ابن مجّاعة، فقتل، فتناول الرّاية ثمانية عشر
__________
[1] . الجبل: كذا فى الأصل: و (9: 1535) : الجبل (كما فى الموضع السابق)
[2] . الفضيل: فى الأصل ومط: الفضل. وفى الطبري (9: 1536) : الفضل كما فى الموضع السابق منه، فوحّدنا الضبط.(3/62)
رجلا من الأزد.
قال: وصبر النّاس يقاتلون حتّى أعيوا. فكانت السّيوف لا تحيك ولا تقطع شيئا، فقطع عبيدهم الخشب يقاتلون به! حتّى ملّ الفريقان. فكانت المعانقة، فتحاجزوا. فقتل من الأزد خلق، وفيهم الفضيل الحارثي صاحب الخيل. وقتل يزيد بن الفضل الحدّانى، وكان حمل يوم الشّعب على مائة بعير سويقا للمسلمين، فجعل يسأل عن النّاس، فلا يسأل عن أحد إلّا قيل له: «قتل.» فاستقدم وهو يقول:
- «لا إله إلّا الله.» فقاتل حتّى [63] قتل.
وقاتل يومئذ محمّد بن عبد الله بن حوذان وهو على فرس أشقر، عليه تجفاف مذهّب. فحمل سبع مرّات يقتل فى كلّ مرّة رجلا، ثمّ يرجع إلى موقفه، فهابه كلّ من كان فى ناحيته.
فناداه التّرجمان من قبل خاقان:
- «يقول لك الملك: لا تستقتل، وتحوّل إلينا، فنرفض صنمنا الّذى نعبده، ونعبدك» .
فقال محمّد:
- «إنما أقاتلكم لتتركوا عبادة كلّ شيء، وتعبدوا الله وحده.» وقاتل حتّى استشهد.
وقتل جشم بن قريظ الهلالي، وقتل النّضر بن راشد العبدى، وكان دخل على امرأته والنّاس يقتتلون، فقال لها:
«كيف أنت إذا أتيت بابى ضمرة فى لبد مضرّجا بالدّماء؟» فشقّت جيبها، ودعت بالويل. فقال:
- «حسبك، لو أعولت كلّ أنثى علىّ اليوم، لعصيتها شوقا إلى الجنّة.»(3/63)
وقاتل حتّى استشهد.
وبينا النّاس كذلك، إذ أقبل رهج، وطلعت فرسان.
فنادى منادى الجنيد:
- «الأرض، الأرض.» فترجّل، وترجّل معه النّاس. ثمّ نادى منادى الجنيد:
- «ليخندق كلّ قائد على حياله.» فخندق النّاس فتحاجزوا. [64] وأصبحوا يوم السبت، فأقبل خاقان نصف النّهار، فلم ير موضعا القتال [1] فيه أيسر من موضع بكر بن وائل، وعليهم زياد بن الحارث، فقصدوهم.
فقالت بكر لزياد:
- «إن القوم قد كثروا، فخلّنا نحمل عليهم قبل أن يحملوا علينا.» فقال لهم:
- «قد مارست منذ سبعين سنة أنّكم إن حملتم عليهم فصعدتم [2] انبهرتم، ولكن دعوهم حتّى يقربوا.» ففعلوا. فلمّا قربوا منهم، حملوا عليهم، فأخرجوا لهم، فسجد الجنيد.
وقال خاقان يومئذ:
- «إنّ العرب إذا أحرجوا استقتلوا. فخلّوهم حتّى يخرجوا، ولا تعرّضوا لهم.» وخرج جوار للجنيد يولولن، فانتدب رجال من أهل الشّام، فقالوا:
- «الله الله، يا أهل خراسان، إلى أين؟»
__________
[1] . القتال: كذا فى الأصل: القتال. وما فى مط والطبري (9: 1538) : للقتال.
[2] . فصعدتم انبهرتم: كذا فى الأصل. فى مط: فصعدات انهرتم (!) . وما فى الطبري (9: 1539) : فصعدتم انهزمتم. وفى حواشيه: فصدعتم انهرم.(3/64)
وقال [الجنيد [1]] :
- «ليلة كليلة الجرّاح، ويوم كيومه.» فقيل له:
- «لم، أصلحك الله؟» قال:
- «إن الجرّاح سير إليه بآذربيجان، فقتل [2] أهل الحجى والحفاظ. فلمّا جنّ عليه الليل انسلّ النّاس تحت الظّلمة إلى مدائن لهم بآذربيجان، وأصبح الجرّاح فى قلّة، فقتل.»
سبب قتل سورة بن أبجر
وفى هذه الغزوة، قتل سورة بن أبجر التّميمى. [65] وكان سبب ذلك أنّ عبد الله بن حبيب قال للجنيد:
- «اختر بين أن تهلك أنت أو سورة.» فقال:
- «هلاك سورة أهون علىّ.» قال:
- «فاكتب إليه، فليأتك فى أهل سمرقند، فإنّ التّرك إن بلغهم أنّ سورة قد توجّه إليك انصرفوا إليه، فقاتلوه.» فكتب إلى سورة يأمره بالقدوم عليه، وقيل: كتب إليه: «أغثنى.» فقال عبادة بن السّليل لسورة:
- «انظر أبرد بيت بسمرقند، فنم فيه. فإنّك إن خرجت لا تبالي أسخط عليك الأمير، أم رضى.» وقال له حليس [3] بن غالب الشّيبانى:
- «إنّ التّرك بينك وبين الجنيد، فإن خرجت كرّوا عليك، فاختطفوك.»
__________
[1] . الجنيد: تكملة من الطبري (9: 1539) .
[2] . فقتل: سقطت فى مط من قوله «فقتل» إلى قوله: «بآذربيجان» .
[3] . حليس: كذا فى الأصل والطبري. (9: 1539) فى مط: حلس.(3/65)
فكتب إلى الجنيد:
- «إنّى لا أقدر على الخروج.» فكتب إليه الجنيد:
- «يا بن اللخناء، لتقدمنّ، أو لاوجّهنّ شدّاد بن خالد الباهلي وكان له عدوّا فاقدم، وضع فلانا بفرّخشاذ فى خمسمائة ناشب، والزم الماء، فلا تفارقه.» فأجمع على المسير. فقال له الوجف بن خالد العبدى:
- «إنّك لهلك نفسك والعرب ومن معك بمسيرك.» قال:
- «لا بدّ.» فقال له عبادة [66] وحليس:
- «أمّا إذا أبيت فخذ على النّهر.» فقال:
- «أنا لا أصل إليه على النّهر فى يومين، وبيني وبينه من هذا الوجه ليلة فأصبّحه، فإذا سكنت الرّجل [1] سرّ فصبّحته.»
ذكر إفشاء سرّه فى ذلك حتّى هلك هو ومن معه
فكان خطأه فى هذا الرّأى أن أظهره، وكان ينبغي أن يعرّض بغير الطّريق [الّذى [2]] يسلكه. فلمّا قال ما قاله، جاءت عيون الأتراك إلى خاقان، فأخبروه بما عزم عليه سورة.
وأمر سورة بالرّحيل، واستخلف على سمرقند موسى بن أسود، وخرج فى اثنى عشر ألفا. فأصبح على رأس جبل دلّه عليه علج. فتلقّاه خاقان حين أصبح، وقد سار ثلاثة فراسخ، وبينه وبين الجنيد فرسخ.
__________
[1] . الرّجل: كذا فى مط والطبري (9: 1540) : الرجل. نقطة الجيم غير واضحة فى الأصل.
[2] . الّذى: ساقطة فى الأصل وموجودة فى مط.(3/66)
فقال بعض الرّواة وهو أبو الذّيّال:
- «قاتلهم فى أرض حوّارة.» فصبر، وصبروا حتّى اشتدّ الحرّ. فقال له غورك:
- «يومك يوم حارّ، فلا تقاتلهم حتّى تحمى الشّمس عليهم، وعليهم السّلاح، يثقلهم.» فأخذ خاقان برأيه، وأشعل النّيران فى الحشيش، وواقعهم، وحال بينهم وبين الماء.
فقال سورة لعبادة:
- «ماذا ترى يا أبا السّليل؟» قال:
- «تركت الرّأى.» قال:
- «فما ترى الآن؟» قال:
- «أن تشرع الرّماح، وتزحف [67] زحفا، فإنّما هو فرسخ حتّى تصل إلى العسكر.» قال: «لا أقوى على هذا، ولا يقوى فلان وفلان وعدّد رجالا ولكنّى أرى أن أجمع الخيل ومن أرى أنّه يقاتل، فأصكّهم به، سلمت أم عطبت.» فجمع النّاس، وحملوا، فانكشف التّرك، وثار الغبار، فلم يبصروا. وكان وراء التّرك لهب فسقطوا فيه، سقط فيه العدوّ والمسلمون، وسقط سورة، فاندقّت فخذه، وتفرّق النّاس، فانجلت الغبرة والنّاس متفرّقون. فعطفت التّرك، فقتلوهم لم ينج منهم إلّا ألف رجل.
فانحاز المهلّب بن زياد العجلى فى سبعمائة إلى رستاق يعرف بالمرغاب، فأصيب المهلّب بالمرغاب. لأنّ القوم تبعوهم وقاتلوهم، وقاتلهم أهل قصر من قصور المرغاب. فلمّا أصيب المهلّب، ولّوا أمرهم الوجف بن خالد.
فقال لهم غورك وكان فى من تبعهم مع التّرك:(3/67)
- «يا وجف، لكم الأمان.» فقال قريش بن عبد الله.» - «لا تثقوا بهم. ولكن إذا جنّنا [1] الليل خرجنا عليهم حتّى نأتى سمرقند.
فإنّا إن أصبحنا قتلونا.» فعصوه وأقاموا. فساقوهم إلى خاقان فقال:
- «لا أجيز أمان غورك.» فقال غورك للوجف:
- «أنا عبد لخاقان، من شاكريّته.» قال:
- «فلم غررتنا؟» فقاتلهم الوجف وأصحابه [68] فقتلوا غير سبعة عشر رجلا دخلوا حائطا فأمسوا. فقطع المشركون شجرة فألقوها على ثلمة الحائط، فجاء قريش بن عبد الله العبدى إلى الشّجرة، فرمى بها، فخرج فى ثلاثة، فأتوا ناؤوسا فكمنوا فيه، وجبن الآخرون، فقتلوا حين أصبحوا، وقتل سورة.
وكان الجنيد خرج من الشّعب لمّا اشتغل التّرك بسورة، وبادر بالسّير، وكان خالد بن عبيد الله بن حبيب يقول له:
- «سر، سر.» ومجشّر بن مزاحم السّلمى يقول:
- «أذكّرك الله، أقم.» والجنيد يتقدّم. فلمّا رأى المجشّر ذلك، نزل، فأخذ بلجام دابّة الجنيد. فقال:
- «والله، لا تسير ولتنزلنّ طائعا أو كارها، ولا ندعك تهلكنا بقول [2] هذا
__________
[1] . جنّنا: كذا فى الأصل والطبري (9: 1542) : جنّنا. فى مط: جاءنا. فى حواشي الطبري: أجنّنا.
[2] . بقول: كذا فى الأصل والطبري (9: 1543) : بقول: وما فى مط: يقول.(3/68)
الهجرىّ، انزل.» فنزل، ونزل النّاس، فلم يتتامّ نزولهم حتّى طلع التّرك.
فقال المجشّر:
- «لو لقونا ونحن نسير، ألم يستأصلونا؟» فلمّا أصبحوا تناهضوا، فانكشفت طائفة وجال النّاس.
فقال الجنيد:
- «ايّها النّاس، إنّها النّار.» فتراجعوا، وأمر الجنيد رجلا فنادى:
- «أىّ عبد قاتل فهو حرّ.» فقاتل العبيد قتالا عجبا عجب منه النّاس، وجعل أحدهم يأخذ اللّبد، فيجوبه [1] ، ويجعله فى عنقه يتوقّى به، فسرّ النّاس بما رأوا من صبرهم، [69] وحمل العدوّ، وصبر النّاس حتّى انهزم العدوّ. فقال موسى بن النّعر للنّاس:
- «أتفرحون بما رأيتم من العبيد! والله، إنّ لكم منهم ليوما أرونان [2] .» ومضى الجنيد إلى سمرقند، فحمل عيال من كان مع سورة إلى مرو. وكان المجشّر صاحب رأى فى الحرب يرجع إليه. وأمّا عبيد الله بن حبيب فكان له تعبئة فى القتال وعلم به، وكان عبد الرّحمن بن صبح الحرقىّ إذا نزل الأمر العظيم فى الحرب، لم يكن لأحد مثل رأيه.
ولمّا انصرف التّرك إلى بلادهم بعث الجنيد بنهار بن توسعة مع ابن عمّ له إلى هشام بن عبد الملك يخبره.
__________
[1] . فيجوبه: كذا فى الأصل: يجوبه. فى مط: يحويه يحويه (بالتكرار) . وما فى الطبري (9: 1543) : يجوبه. وفى حواشيه: فيحربه. جاب الثوب: قطعه.
[2] . أرونان: كذا فى الأصل والطبري (9: 1543) : أرونان. فى مط: أروبان. وفى حواشي الطبري: أرونان، أزوفان، أروزبان.(3/69)
- «أنّ سورة عصاني. أمرته بلزوم الماء، فلم يفعل، وتفرّق أصحابه، وأصيب سورة فى جماعة من أصحابه.» فدعا هشام بنهار بن توسعه، فاستخبره الخبر، فأخبره بجميع ما شهد. وكان الجنيد أوفد إلى خالد، وأوفد خالد إلى هشام يحسّن أمره فى قتل سورة.
فقال هشام:
- «إِنَّا لِلَّهِ، وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. 2: 156 مصاب سورة بخراسان، والجرّاح بالباب.» فكان أبلى نصر بن سيّار يوم الشّعب، فانقطع سيفه، وانقطع سير [1] ركابه.
فأخذ سيور [2] ركابه يضرب بها من كان يقاتله [70] حتّى أثخنه، وسقط فى اللهب مع سورة جماعة يومئذ، فلم يشكر الجنيد لنصر ما كان من بلائه.
فقال نصر:
إن تحسدونى على حسن البلاء لكم ... يوما، فمثل بلائي جرّ لى حسدا
يأبى الإله الّذى أعلى بقدرته ... كعبي عليهم، وأعطى فوقكم عضدا
وضربي التّرك عنكم يوم فرقكم ... بالسّيف فى الشّعب، حتّى جاوز السّندا
ذكر آراء أشير بها عليه، فأخذ بأصولها [3]
ولمّا أقام الجنيد بسمرقند، وانصرف خاقان إلى بخارى، وكان عليها قطن بن قتيبة، فخاف النّاس على قطن من التّرك. فشاورهم الجنيد. فقال قوم:
- «الزم سمرقند، واكتب إلى أمير المؤمنين يمدّك بالجنود.» وقال قوم:
- «بل تسير وتأتى ربنجن، ثمّ تسير منها إلى كسّ ثمّ إلى نسف، فتصل منها إلى أرض زمّ، وتقطع النّهر، فتنزل آمل، فتأخذ عليه بالطّريق.»
__________
[1] . سير: كذا فى الأصل والطبري: سير. وفى الطبري (9: 1546) : سيور.
[2] . سيور: كذا فى الأصل والطبري: سيور. وفى مط: سورة!
[3] . نقلنا العنوان إلى فوق بسطرين.(3/70)
فبعث إلى عبد الله بن أبى عبد الله، فقال:
- «قد اختلف النّاس علىّ فأخبره بما قالوا فما [71] الرأى؟» فاشترط عليه ألّا يخالفه فى ما يشير به من ارتحال ونزول أو قتال. قال:
- «نعم.» - «فإنى أطلب إليك خصالا.» قال:
- «ما هي؟» قال:
- «تخندق حيثما نزلت، ولا يفوتنّك حمل الماء ولو كنت على شاطئ نهر، وأن تطيعنى فى نزولك وارتحالك.
فأعطاه ما أراد. فقال:
- «أمّا ما أشاروا به عليك فى مقامك بسمرقند حتّى يأتيك الغياث، فالغياث يبطئ عليك. وإن سرت فأخذت بالنّاس غير الطّريق، فتتّ فى أعضادهم وانكسروا عن عدوّهم، واجترأ عليك خاقان وهو اليوم قد استفتح بخارى ولم تفتح له. فإن أخذت بهم فى غير الطّريق، تفرّق النّاس عنك مبادرين إلى منازلهم، ويبلغ أهل بخارى فيستسلمون لعدوّهم وإن أخذت الطّريق الأعظم، هابك العدوّ. والرّأى أن تعمد إلى عيالات من شهد الشّعب وأصحاب سورة، فتقسمهم على عشائرهم، وتحملهم معك، فإنّى أرجو أن ينصرك الله على عدوّك وتعطى كلّ رجل تخلّف [1] بسمرقند ألف درهم وفرسا.» فأخذ برأيه، وخلّف بسمرقند عثمان بن عبد الله بن الشّخّير فى ثمانمائة رجل فرسانا [72] ورجّالة، وأعطاهم سلاحا.
فشتم النّاس عبد الله بن أبى عبد الله وقالوا:
__________
[1] . كذا فى مط والطبري (9: 1549) تخلّف (بالخاء المعجمة) وما فى الأصل: تخلف (بالمهملة) .(3/71)
- «عرّضنا للهلاك.» وأمر الجنيد بحمل العيال، وخرج معه النّاس، وعلى طلائعه الوليد بن القعقاع، وسرّح الجنيد الأشهب بن عبيد الحنظلي ومعه عشرة من طلائع الجند، وقال له:
- «كلّما مضيت مرحلة، فسرّح إلىّ رجلا يعلمني الخبر.» وسار الجنيد، فلمّا صار بقصر الرّيح، أخذ عطاء [1] الدّبوسىّ [2] بلجام فرس الجنيد، فكبحه فقرع رأسه هارون الشّاشى مولى ابن خازم بالرّمح حتّى كسره على رأسه.
فقال الجنيد لهارون: «خلّ عن الدّبوسىّ.» وقال له:
- «مالك يا دبوسىّ؟» قال:
أنظر أضعف شيخ فى عسكرك، فسلّحه سلاحا تامّا، وقلّده سيفا وجعبة وترسا، وأعطه رمحا، ثم سر بنا على قدر مشيه، فإنّا لا نقدر على السّوق والقتال وسرعة السّير ونحن رجّالة.» ففعل ذلك الجنيد، فلم يعرض النّاس عارض حتّى خرجوا من الأماكن المخوفة، ودنا من الطواويس، فجاءتنا الطلائع بإقبال خاقان، فعرضوا لهم بكرمينية أوّل يوم من شهر رمضان. فلمّا ارتحل الجنيد من كرمينية قدّم محمّد بن زيد [3] فى الأساورة آخر النّهار [73] فلمّا كان فى طرف مفازة كرمينية رأى العدوّ ضعيفا. فرجع إلى الجنيد، فأخبره. فنادى منادى ألّا يخرج المكذّبون [4]
__________
[1] . عطاء: فى الأصل: عطا. من دون همزة.
[2] . الدّبوسى: كذا فى الأصل والطبري (9: 1550) . فى مط: الديوسى.
[3] . زيد: كذا فى الأصل: زيد. فى مط: يزيد. فى الطبري (9: 1550) : الرندى.
[4] . المكذبون: كذا فى الأصل ومط: المكذبون. فى الطبري (9: 1550) : المكتّبون. وفى حواشيه: المكذبون.(3/72)
إلى عدوّهم. فخرج النّاس وشبّت الحرب، وجاء عبد الله بن أبى عبد الله إلى الجنيد يضحك.
فقال له الجنيد:
- «ما هذا بيوم ضحك.» قال:
- «بلى، والحمد للَّه، إذا لم يلقك هؤلاء إلّا فى حال معطشة على ظهر وأنت مخندق آخر النّهار، بل أتوك كالّين وأنت مستريح، معك الزّاد.» فما قاتل التّرك إلّا قليلا، ثم رجعوا.
وكان عبد الله بن أبى عبد الله قال للجنيد وهم يقاتلون:
- «ارتحل.» فقال الجنيد:
- «فهل من حيلة؟» قال:
- «نعم، تمضى برايتك [1] قدر ثلاث غلوات [2] ، فإنّ خاقان يودّ أنّك لو أقمت، فينطوى عليك إذا شاء.» فأمر بالرّحيل وعبد الله بن أبى عبد الله على السّاقة. ثمّ أرسل إليه أن:
«أنزل.» قال:
- «أنزل على غير ماء؟» فأرسل إليه:
- «إن لم تنزل ذهبت خراسان من يدك.» فنزل، وأمر النّاس أن يستقوا. فذهب النّاس الرّجالة والنّاشبة وهما صفّان، فاستقوا، وباتوا، فلمّا أصبحوا ارتحلوا.
فقال عبد الله بن أبى عبد الله:
__________
[1] . برايتك: كذا فى الأصل والطبري: برايتك. وما فى مط: بمراتبك.
[2] . غلوات: كذ فى الأصل: غلوات. فى الطبري (9: 1551) : غلاء. فى مط: غاوات.(3/73)
- «إنكم معشر العرب أربعة جوانب، فليس [74] يغيث [1] بعضكم بعضا، كلّ ربع لا يقدر أن يزول عن مكانه مقدّمة وهم: القلب ومجنّبتان وساقة، فإن جمع خاقان خيله ورجاله، ثمّ صدم جانبا منكم وهم ساقه كان بواركم، وبالحرىّ أن يفعل [2] ، وأنا أتوقّع ذلك فى يومى، فشدّوا السّاقة بخيل.» فوجّه الجنيد بخيل بنى تميم والمجفّفة، وجاءت التّرك، فمالت على السّاقة وقد دنا المسلمون من الطّواويس، فاقتتلوا واشتدّ الأمر بينهم، فحمل سلم بن أحوز على عظيم من عظماء التّرك، فقتله، فتطيّر التّرك وانصرفوا من الطّواويس، ومضى المسلمون فأتوا بخارى يوم المهرجان، فتلقّاهم أهل بخارى بالدّراهم البخاريّة، ففرّق فيهم عشرة عشرة.
وكان الجنيد يذكر خالد بن عبد الله ويقع [3] فيه ويقول:
- «ربذة بن [4] الرّبذ، صنبور [5] بن صنبور، قلّ بن قلّ، هيفة بن [6] الهيف.» وقدمت الجنود على الجنيد مع عمرو بن مسلم الباهلي فى أهل البصرة، ومع عبد الرّحمن بن نعيم الغامدى [7] فى أهل الكوفة وهو بالصّغانيان، وابتدأ الشّعراء يمدحون نصر بن سيّار ويذكرون بلاءه، ويذمّون الجنيد، فتركنا ذكرها. [75]
__________
[1] . يغيث: كذا فى الأصل ومط: يغيث. وما فى الطبري (9: 1551) : يعيب.
[2] . يفعل: كذا فى الأصل والطبري (9: 1552) : يفعل. فى مط: تفعل.
[3] . يقع فيه: يسبّه ويعيبه ويغتابه.
[4] . ربذة بن: كذا فى الأصل: ربذة بن. فى مط والطبري (9: 1552) : ربذة من. وفى حواشي الطبري: زبدة من الزبد.
[5] . صنبور بن صنبور: كذا فى الأصل والطبري (9: 1552) : صنبور بن صنبور. فى مط:
سنّور بن سنّور.
[6] . فى الطبري (9: 1552) : من الهيف.
[7] . الغامدى: كذا فى الأصل: الغامدى. فى مط: العامدى. فى الطبري: العامري.(3/74)
ودخلت سنة ثلاث عشرة ومائه
وفى هذه السّنة هلك عبد الوهّاب بن بخت وهو مع البطّال بأرض الرّوم.
غزا معه فى هذه السّنة، فانهزم النّاس عن البطّال، فانكشفوا، فجعل عبد الوهّاب يكرّ [1] فرسه ويقول:
- «ما رأيت فرسا أجبن منه، سفك الله دمى إن لم أسفك دمك.» ثمّ ألقى البيضة عن رأسه وصاح:
- «أنا عبد الوهّاب بن بخت، إلى أين أيّها النّاس؟ أمن الجنّة تفرّون؟» ثمّ تقدّم فى نحور العدوّ، فمرّ برجل وهو يقول:
- «وا عطشاه!» فقال:
- «تقدّم، الرّىّ أمامك.» قال: فخالط القوم، وقتل وقتل فرسه.
وفى هذه السّنة صار من دعاة ولد العباس جماعة إلى خراسان، فأخذ الجنيد رجلا منهم، فقتله، ثم قال:
- «من أصبت منهم فدمه هدر.»
ودخلت سنة أربع عشرة ومائة
وفيها ولى عاصم بن عبد الله بن يزيد الهلالي خراسان، وتوفّى الجنيد قبل أن يصل إليها.
وكان سبب ولاية عاصم أنّ الجنيد تزوّج الفاضلة بنت يزيد بن [76]
__________
[1] . يكرّ: كذا فى الأصل. يكرّ. فى الطبري (9: 1560) : يكزّ. بالزّاء المعجمة. فى حواشيه:
يكرّ، كما فى الأصل. فى مط: تكرّ.(3/75)
المهلّب، فغضب هشام على الجنيد، وكان بين عاصم وبينه عداوة شديدة، فولّاه خراسان وقال:
- «إن أدركته وبه رمق فأرهق نفسه.» وأنّما قال ذلك، لأنّ الجنيد كان قد استسقى بطنه، فمات الجنيد قبل وصول عاصم.
فقال أبو الجويرية:
هلك الجود والجنيد جميعا ... فعلى الجود والجنيد السّلام
أصبحا ثاويين فى بطن مرو ... ما تغنّى على الغصون الحمام
كنتما نهزة الكرام، فلمّا ... متّ مات النّدى ومات الكرام
وفى هذه السّنة خلع الحارث بن سريج، وكانت الحرب بينه وبين عاصم بن عبد الله. وذلك أنّ عاصما لمّا قدم خراسان، أقبل الحارث بن سريج حتّى قدم بلخ، وعليها نصر بن سيّار، والبختي [1] بن ضبيعة المرّى ولّاهما الجنيد.
فلمّا انتهى إلى قنطرة عطاء، وهي على نهر بلخ على فرسخين من المدينة، تلقّاه نصر بن سيّار فى عشرة آلاف، والحارث بن سريج فى أربعة آلاف.
فدعاهما الحارث إلى الكتاب والسنّة والبيعة للرّضا.
فقال قطن بن عبد الرّحمن بن حرّ [2] الباهلي:
- «يا حارث، أنت تدعو إلى كتاب الله والسّنة. [77] والله، لو أنّ جبرئيل عن يمينك وميكائيل عن يسارك، ما أجبتك.»
__________
[1] . البختي: الأصل يشبه أن يكون هكذا: البختي. ما فى مط مهمل وفى الطبري (9:
1566) : التجيبى. وفى حواشيه: النجي، البخنى (با همال الثالث) ، المحيي، المحتى.
[2] . حرّ: كذا فى الأصل ومط وما فى الطبري (9: 1567) : جزى.(3/76)
وقاتلهم، فأصابته رمية فى عينه، فكان أوّل قتيل، وانهزم إلى المدينة أهل بلخ، واتّبعهم الحارث حتى دخلها وخرج نصر من باب آخر، فأمر الحارث بالكفّ عنهم، وخرج إلى الجوزجان، واستعمل على بلخ رجلا من ولد عبد الله بن خازم.
ثمّ استشار أصحابه فى قصد مرو. فقال له أبو فاطمة:
- «مرو بيضة خراسان، وفرسانهم كثير، لو لم يلقوك إلّا بعبدهم لانتصفوا منك، فأقم، فإن أتوك قاتلتهم، وإن أقاموا قطعت المادّة عنهم.» فعصاه وغيره [1] وسار.
فقال أهل الدّين من مرو:
- «إن مضى إلى أبرشهر ولم يأتنا فرّق جماعتنا، وإن أتانا نكب.» وبلغ عاصما أنّ أهل مرو يكاتبون الحارث، فأجمع على الخروج وقال:
- «يا أهل خراسان، قد بايعتم الحارث بن سريج، وأنّه قصد بلخ والجوزجان والفارياب والطّالقان ومرو الرّوذ ففتحها، وليس يقصد مدينة إلّا خلّيتموها له. أنا لا حق بأرض قومي أبرشهر، وكاتب منها أمير إلى المؤمنين حتّى يمدّنى بعشرين ألفا من أهل الشّام.» فقال له مجشّر بن مزاحم:
- «إن أعطوك بيعتهم بالطّلاق والعتاق [78] فأقم، وإن أبوا، فسر حتّى تنزل أرض أبرشهر وتكاتب أمير المؤمنين.» فقال خالد بن هريم [2] وهلال بن عليم:
- «لا والله، لا نخلّيك والذّهاب، فيلزمنا ذنبك عند أمير المؤمنين، ونحن.
__________
[1] . وغيره: كذا فى الأصل: وغيره. فى مط: وعبر.
[2] . هريم: كذا فى الأصل والطبري (9: 1569) : هريم. فى مط: هزيم (بالزاء المعجمة)(3/77)
معك حتّى نموت إن بذلت الأموال.» قال:
- «فإنّى أفعل.» قال يزيد بن قران الرّياحى:
- «إن لم أقاتل معك ما قاتلت، فبنت الأبرد بن قرّة الرّياحى طالق ثلاثا.» وكانت عنده. فقال عاصم:
- «كلّكم على هذا؟» قالوا:
- «نعم.» وكان سلمة بن أبى عبد الله صاحب حرسه يحلّفهم بالطّلاق.
وأقبل الحارث بن سريج إلى مرو فى جمع كثير يقال ستّون ألفا، ومعه فرسان الأزد وتميم وعدّة من الدّهاقين، وخرج عاصم فى أهل مرو، وغيرهم، فعسكر عند البيعة وقال: فأعطى النّاس دينار دينارا، فخفّ عنهم النّاس، وأعطاهم ثلاثة دنانير ثلاثة دنانير. فلمّا قرب بعضهم من بعض، أمر بالقناطر فكسرت. فجاء أصحاب الحارث، فقالوا:
- «تحصروننا فى البرّيّة [1] ، دعونا نقطع إليكم فنناظركم فى ما خرجنا له.» فأبوا عليهم. وذهبت رجّالتهم يصلحون القناطر، وأتاهم رجّالة مرو يقاتلونهم ويمنعونهم. فمال محمّد بن المثنّى برايته إلى عاصم، فلمّا فعل ذلك بدأ أصحاب الحارث بالحملة، والتقى النّاس، فقتل قوم وانهزم أصحاب الحارث، فغرق بشر كثير من أصحاب [79] الحارث ومضت الدّهاقين إلى بلادهم. فأرسل عاصم بجماعة إلى الحارث يسأله ما يريد. فبعث الحارث إليه بمحمّد بن مسلم وحده، فرجع معهم، وقال لهم:
- «إنّ الحارث وإخوته يقرأون عليكم السّلام ويقولون: قد عطشنا، فدعوا
__________
[1] . البرّيّة: كذا فى الأصل والطبري (9: 1570) : البرّيّه. وفى مط: البويه. وهو خطأ.(3/78)
ننزل الليلة ونتناظر غدا، فإن اتّفقنا، وإلّا كنتم من وراء أمركم.» فأبوا عليه. فقال مقاتل بن حيّان:
- «يا أهل خراسان، كنّا بمنزلة أهل بيت واحد، ثغرنا واحد، ويدنا على عدوّنا واحدة، وقد أنكرنا ما صنع صاحبكم. وجّه إليه أميرنا بجماعة الفقهاء والقرّاء من أصحابه، ووجّه [هو] رجلا واحدا.» قال محمّد:
- «إنّما أتيتكم مبلغا، وسيأتيكم الّذى تطلبون غدا إن شاء الله.» وانصرف محمّد بن مسلم إلى الحارث.
وسار الحارث، فبلغ عاصما، فلمّا أصبح سار إليه، فالتقوا واقتتلوا، فهزم أصحاب الحارث وقتلوا قتلا ذريعا، وقطع الحارث وادي مرو، وضرب رواقا.
فكفّ عنه عاصم، ولو ألحّ فى طلبه لأهلكه.
وكان الحارث قال لأصحابه:
- «لا يردّ لى راية.» فلمّا هزم هذه الهزيمة، أجمع أصحابه على مفارقته.
وكان عاصم لمّا رأى الحارث يستفحل أمره والنّاس يميلون إليه وهو يفتح كلّ يوم [80] مدينة، هابه وانهزم أصحابه، وخشي أن يبطئ عنه المدد من جهة الخليفة فيهلك.
ودخلت سنة سبع عشرة ومائة
وفيها عزل هشام بن عبد الملك عاصم بن عبد الله عن خراسان وضمّها إلى خالد بن عبد الله، فولّاها أخاه أسد بن عبد الله.
ذكر السّبب فى ذلك
كان عاصم كتب إلى هشام بن عبد الملك:
- «أمّا بعد، يا أمير المؤمنين، فإنّ الرّائد لا يكذب أهله. وقد كان من أمير(3/79)
المؤمنين إلىّ ما يحقّ به علىّ النّصيحة له، وإنّ خراسان لا تصلح إلّا أن تضمّ إلى صاحب العراق، فتكون موادّها ومعونتها فى الأحداث والنّوائب من قريب لتباعد أمير المؤمنين عنها وتباطؤ غياثه عمّن يكون بها.» فلمّا أمضى كتابه، أخرج حديثه إلى أصحابه، مثل مجشّر بن مزاحم ويحيى بن حصين وأشباههم. فقال لهم المجشّر بعد ما مضى الكتاب:
- «كأنّك بأسد قد طلع عليك.» فقدم أسد بعد كتاب عاصم بشهرين.
ثمّ عاد الحارث واستعدّ وأراد مناجزة عاصم. فلمّا بلغ عاصما أنّ أسد بن عبد الله قد أقبل، صالح الحارث، وكتب بينه وبينه كتابا على أن ينزل الحارث أىّ كور خراسان [81] شاء، على أن يكتبوا [1] جميعا إلى هشام يسألونه كتاب الله وسنّة نبيّه. صلّى الله عليه فإن أبى، أجمعوا أمرهم جميعا عليه.
فختم على الكتاب جماعة من الرّؤساء ممّن رضى به، وأبى يحيى بن حصين وقال:
- «هذا خلع لأمير المؤمنين.» وكان فى بعث الشّام رجل من اليمانية يعدل بألف رجل، اختارته اليمانية، يكنّى أبا داود، وكان فى خمسمائة. فكان لا يمرّ بقرية من قرى خراسان إلّا قال لأهلها:
- «انتظروني [2] ، فكأنّكم بى قد مررت بكم راجعا حاملا رأس الحارث بن سريج.» فلمّا التقوا خرج ودعاه إلى البراز، فبرز له الحارث بن سريج، فضربه فوق
__________
[1] . يكتبوا: كذا فى الأصل ومط: يكتبوا. فى الطبري (9: 1577) : يكتبا.
[2] . انتظروني: كذا فى الأصل. فى مط: انظرونى.(3/80)
منكبه الأيسر، فصرعه، وحامى أصحابه فحملوه، فخولط فكان يقول:
- «يا أبرشهر [1] ، يا أصحاب العموداه [2] ، الحارث بن سريجاه.» ورمى الحارث بن سريج رجل من أهل الشّام بنشّابة فأصابت لبان فرسه، فاستحضره وألحّ عليه بالضّرب حتّى [3] عرّقه وشغله عن ألم الجراحة، فحمل الشّامى عليه برمحه، حتّى إذا ظنّ أنّ الرّمح قد خالطه، مال الحارث عن فرسه، ثمّ لحق الشّامىّ. فقال له الشّامىّ:
- «بحرمة الإسلام إلّا كففت عن دمى.» قال:
- «انزل عن فرسك.» فنزل، وركبه الحارث.
وعظّم أهل [82] الشّام يحيى بن الحصين لما كان منه فى أمر الكتاب الّذى كتبه عاصم. وكان هشام لمّا بلغه أمر الحارث بن سريج وكتاب عاصم، كتب إلى خالد بن عبد الله:
- «ابعث أخاك ليصلح ما أفسد. فإن كانت وجبة فلتكن به.» فوجّه أخاه أسدا إلى خراسان وما يملك عاصم من خراسان إلّا مرو وناحية أبرشهر، والحارث بن سريج بمرو الرّوذ، وخالد بن عبد الله الهجرىّ بآمل من قبل الحارث. فأقام أسد أيّاما يروّى: أيقصد الحارث بمرو الرّوذ، أم خالدا بآمل؟ حتّى أجمع على توجيه عبد الرّحمن بن نعيم الغامدى فى أهل الكوفة إلى الحارث، وسار أسد إلى آمل، فلقيه خيل عظيمة لأهل آمل عليها
__________
[1] . يا أبرشهر: كذا فى الأصل ومط والطبري (9: 1580) : يا أبرشهر. فى حواشي الطبري: يا ابن شهر.
[2] . العموداه: كذا فى الأصل: العموداه. فى مط: العمود. فى الطبري (9: 1580) : المعموراه.
فى حواشيه: المعموداه.
[3] . حتى عرّقه: فى الطبري: حتى نزّقه وعرّقه.(3/81)
زياد الفرشى [1] فهزمهم، وتحصّنوا فى ثلاث مدائن لهم، ونزل عليهم أسد وحصرهم ونصب المجانيق عليهم وهناك خالد بن عبد الله الهجري من قبل الحارث بن سريج. فلمّا ضاق عليهم الحصار طلبوا الأمان.
فخرج إليهم بعض أصحاب أسد وقال:
- «يقول لكم الأمير: ما تطلبون؟» قالوا:
- «كتاب الله وسنة نبيّه.» قال:
- «فلكم ذلك.» قالوا:
- «على ألّا يأخذ أهل المدن بجنايتنا.» فأعطاهم ذلك.
وسار أسد إلى بلخ فى طريق زمّ، وكان أهل بلخ [83] قد تابعوا [2] سليمان بن عبد الله بن خازم، فقدم بلخ، ثمّ اتّخذ سفنا، وسار منها إلى التّرمذ، فوجد الحارث محاصرا لها، وكان مع الحارث وجوه النّاس ومعه السّيل [3] . فنزل أسد دون النّهر، ولم يطق العبور إليهم، ولا أن يمدّ أهل التّرمذ. إلّا أنّ أهل التّرمذ قد قويت نفوسهم، فهم يخرجون ويقاتلون أشدّ قتال.
فكان أصحاب الحارث من القرّاء يأتون أبواب التّرمذ، فيبكون عندهم، فيشكون جور بنى مروان، ويسألونهم أن يمالئوهم على حرب بنى مروان، حتّى تكون أيديهم واحدة، فيأبون عليهم.
فقال السّيل يوما للحارث وهو معه:
- «يا حار، إنّ التّرمذ بنيت بالطّبول والمزامير، ولا تفتتح بالبكاء، إنّما تفتتح
__________
[1] . الفرشى: كذا فى الأصل: الفرشى (بالفتح) . وما فى الطبري (9: 1582) : القرشي.
[2] . قد تابعوا: كذا فى الأصل: قد تابعوا. فى مط والطبري (1583) : قد بايعوا.
[3] . السّيل: كذا فى الأصل: السّيل. فى مط: السبيل. فى الطبري (9: 1583) : السبل. فى حواشيه: البسيل، السيل.(3/82)
بالسّيف. فقاتل إن كان بك قتال.» فتركه السّيل وأتى بلاده وارتحل أسد إلى بلخ، وخرج أهل التّرمذ إلى حارث، فقاتلوه ووثبوا حتّى هزموه، وقتلوا أبا فاطمة وعكرمة وخلقا من أهل البصائر.
وسار أسد إلى سمرقند على طريق زمّ وكان بزمّ القاسم الشّيبانى بحصن هناك. فلمّا مرّ به أسد لم يعرض له. ولمّا عاد فى هذا الوقت مجتازا به، بعث إلى الهيثم الشّيبانى وهو بزّم أيضا [84] فى طاعة الحارث. فقال له:
- «إنّكم ما أنكرتم على قومكم إلّا سوء سيرتهم، ولم يبلغ ذلك السّبى ولا استحلال الفروج ولا غلبة المشركين على مثل سمرقند، وأنا أريد سمرقند، ولك عهد الله وميثاقه أن لا يبدأك منّى شرّ، ولك المواساة واللطف والكرامة والأمان [1] لمن معك، وإن أنت غمطت ما دعوتك إليه، فعلى عهد الله وميثاقه وذمّة أمير المؤمنين وذمّة خالد، إن أنت رميت بسهم أن لا أومنك أبدا، ولا أفي لك بأمان إن جعلته لك.» فخرج إليه على ما أعطاه من الأمان. فآمنه، وسار معه إلى سمرقند.
قتل دعاة بنى العبّاس بخراسان
وفى هذه السّنة أخذ أسد جماعة من دعاة بنى العبّاس بخراسان، فقتل بعضهم ومثل ببعضهم. فكان فيهم سليمان بن كثير، ومالك بن الهيثم، وموسى بن كعب، ولاهز بن قريط، وعدّة منهم. فأمّا موسى بن كعب، فأمر به فألجم بلجام حمار، وأمر باللجام أن يجذب، فجذب حتّى تحطّمت أسنانه، ثمّ أمر فوجئ لحياه، فندر ضرسه. وضرب لاهز بن قريط بالسّوط، وأمر بصلبه، فتكلّم
__________
[1] . نهاية الصّفحات السّاقطة من مخطوطة آ (آستان قدس) .(3/83)
فيه الحسن بن زيد وقال:
- «هو لى جار وهو بريء [85] ممّا قرف [1] به.» فوهبه له.
فقال:
- «والآخرون أعرفهم بالبراءة.» فخلّى سبيلهم وضمنهم [2] .
ودخلت سنة ثماني عشرة ومائة
وفيها وجّه بكير بن ماهان خداشا على خراسان يدعو إلى محمّد بن علىّ، فصار واليا على شيعة بنى العباس. ويقال إنّ اسمه عمّار بن يزيد، فغيّر اسمه.
فلمّا دعا النّاس تسارعوا إليه، وقبلوا ما جاءهم به، وسمعوا وأطاعوا، حتّى غيّر ما دعاهم إليه، وتكذّب وأظهر دين الخرّمّية ودعا إليه، ورخّص لبعضهم نساء بعض، وأخبرهم أنّ ذلك دين محمّد بن علىّ.
فبلغ ذلك أسد بن عبد الله، فوضع عليه العيون حتّى ظفر به، فأتى به فسأله فلم يلطف به وجعل يغلّظ فى بعض كلامه. فأمر به أسد فقطعت يداه وقلع لسانه وسمل وصلب بآمل.
ثمّ إن أسدا لما انصرف من سمرقند سرّح جديعا الكرماني إلى القلعة الّتى فيها [3] الحارث من طخارستان العليا. فحصرهم وقتل مقاتلتهم، وكان فيها
__________
[1] . قرف: كذا فى الأصل: قرف. فى مط: قرن. فى الطبري (9: 1588) : قذف.
[2] . وضمنهم: فى آ: «وضمنهم إياه» بزيادة «إيّاه» وهي ليست لا فى الأصل ولا فى مط.
[3] . فيها الحارث: كذا فى الأصل ومط وآ: فيها الحارث. فى الطبري (9: 1589) : فيها ثقل الحارث. وفى حواشيه حواشيه عن بعض الأصول: فيها أهل الحارث.(3/84)
أصهار الحارث ورهطه، فسبى عامّة أهلها من العرب والموالي وغيرهم من الذّرارىّ، وباعهم فيمن يزيد بسوق بلخ. [86]
والسّبب فى ذلك
وكان السّبب فى ذلك أنّه كان قد نقم على الحارث نحو من خمسمائة رجل من أصحابه أشياء ورئيسهم جرير بن الميمون القاضي، وهمّوا بمفارقته.
فقال لهم الحارث:
- «إن كنتم لا بدّ مفارقىّ وطلبتم الأمان فاطلبوه وأنا شاهد، فإنّه أجدر أن يجيبوكم، وإن ارتحلت قبل ذلك لم تعطوا الأمان.» فقالوا:
- «ارتحل أنت عنّا وخلّنا.» ثمّ بعثوا من يطلب لهم الأمان، فوصل أسدا الرّسول وأحسن إليه.
فقال الرّسول:
- «إنّ القوم فى القلعة، ليس لهم طعام ولا ماء.» فغدر بهم وسرّح أسد جديعا الكرماني فى ستّة آلاف. فلمّا كان بينه وبين القلعة فرسخ أو دونه، نزل حتّى وافاهم قوم فيهم المهاجر بن ميمون فى جماعة مستأمنة. فتركهم حتّى اجتمعوا. ثمّ خطبهم فقال بعد حمد الله والثّناء عليه:
- «يا أهل بلخ، لا أجد لكم مثلا غير الزّانية من أتاها أمكنته من رجلها.
أتاكم الحارث فى ألف من العجم فأمكنتموه من مدينتكم، فقتل أشرافكم وطرد أميركم. ثمّ سرتم معه مكانفيه [1] إلى مرو فخذلتموه. ثمّ انصرف إليكم منهزما،
__________
[1] . مكانفيه: كذا فى الأصل ومط. فى آ: مكاثفيه. فى الطبري (9: 1591) : من مكانفيه (بزيادة «من» ) .(3/85)
فأمكنتموه من المدينة. والّذى نفسي بيده، لا يبلغني عن رجل منكم [87] كتب كتابا إليهم فى سهم إلّا قطعت يديه ورجليه. فأمّا من كان معى من أهل مرو فهم خاصّتى، ولست أخاف غدرهم.» ثمّ نهد إلى القلعة وحصرها وكان القوم مجهودين، قد جاعوا وعطشوا.
فنادى مناديه أن:
- «قد نبذنا إليكم بالعهد.» وقاتلوهم. فسألوا أن ينزلوا على الحكم وتترك نساؤهم وأولادهم، فنزلوا على حكم أسد. وأقام حتّى رجع إليه جواب كتابه من أسد على يد المهلّب بن عبد العزيز العتكىّ [1] بكتاب يقول فيه:
- «احمل إلىّ خمسين رجلا منهم، وليكن فيهم المهاجر بن ميمون وأمثاله من وجوههم.» ففعل، فقتلهم أسد.
وكتب إلى الكرماني أن يصيّر الّذين بقوا عنده أثلاثا. فثلثا يصلبهم، وثلثا يقطع أيديهم وأرجلهم، وثلثا يقطع أيديهم. ففعل ذلك الكرماني وباع أثقالهم وذراريّهم كما حكينا.
موت علىّ بن عبد الله بن العبّاس
وفى هذه السّنة مات علىّ بن عبد الله بن العبّاس وله ثمان وسبعون سنة، وكان ولد فى الليلة الّتى ضرب فيها علىّ بن أبى طالب- رضى الله عنه [2]- فسمّاه عبد الله بن العبّاس أبوه عليّا وكنّاه أبا الحسن وقال:
__________
[1] . العتكي: كذا فى الأصل وآ، والطبري (9: 1591) : العتكي فى مط: العبلى.
[2] . كذا فى الأصل ومط وآ: رضى الله عنه.(3/86)
- «سمّيته باسم أحبّ النّاس إلىّ.»
ودخلت سنة تسع عشرة ومائة
وفيها لقى أسد صاحب التّرك، فقتله وغنم كلّ ما معه، وقتل خلقا، وسلم أسد والمسلمون [88] .
ذكر الخبر عن هذه الوقعة
لمّا دخل أسد الختل كتب ابن السّائجى [1] إلى خاقان يعلمه دخول أسد الختّل، وتفرّق جنده، وأنّه بحال مضيعة.
وكان ابن السّائجى هذا استخلفه السّيل عند موته وأوصى إليه. وسيجيء خبره إن شاء الله.
فلمّا أتاه كتابه تجهّز، وكان لخاقان مرج وجبل حمى لا يقربها أحد. فصاد ما فى المرج ثلاثة أيام وما فى الجبل ثلاثة أيام. فتجهّزوا ودبغوا جلود الصّيد، واتّخذوا أوعية، واتّخذوا القسّى والنّشّاب، ودعا خاقان ببرذون مسرّج ملجم، وأمر بشاة فقطّعت، ثمّ علّقها فى معاليق سرجه، وأخذ شيئا من ملح، فصيّره فى كيس وجعله فى منطقته، وأمر كلّ تركىّ أن يفعل مثل ذلك وقال:
- «هذا زادكم حتّى تلقوا العرب بالختّل.» فلمّا أحسّ ابن السّائجى بخاقان قد أقبل، بعث إلى أسد:
- «أخرج عن الختّل، فإنّ خاقان قد أظلّك.» فشتم أسد رسوله ولم يصدّقه. فبعث صاحب الختّل:
__________
[1] . السائجى: ما فى الأصل وآ، مهمل وغير مهموز. فى مط: السانحى. وما أثبتناه يوافق الطبري (9: 1593) .(3/87)
- «إنّى لم أكذبك، وأنا الّذى أعلمته دخولك وتفرّق جندك. وأعلمته أنّها فرصة [89] له، وسألته المدد. غير أنّى نظرت فرأيت أنّك قد أمعرت [1] البلاد وأصبت الغنائم. فإن لقيك على هذه الحالة ظفر بك، وعادتنى العرب أيضا ما بقيت، واستطال علىّ خاقان، واشتدّت مؤنته، وأمتنّ علىّ يقول: أخرجت العرب من بلادك ورددت عليك ملك.» فعرف أسد أنّه صدقه، فأمر بالأثقال أن تقدّم، وولّى عليها إبراهيم بن عاصم العقيلىّ، وهو الّذى ولى سجستان بعد، وأخرج معه المشيخة. فسارت الأثقال.
وكتب أسد إلى داود بن شعيب والأصبغ بن ذؤالة [2] الكلبي وقد كان وجّهها فى وجه أنّ خاقان قد أقبل. فانضمّا إلى الأثقال مع إبراهيم بن عاصم. ووقع إلى داود والأصبغ رجل دبوسى، فأشاع أنّ خاقان قد هزم المسلمين وقتل أسدا.
فقال الأصبغ:
- «إن كان أسد ومن معه أصيبوا، فإنّ فيئتنا [3] هشام ننحاز إليه، فإنّ الله حىّ قيّوم وجنود المسلمين كثير.» قال داود:
- « [أ] فلا ننظر ما فعل أسد فنخرج على علم؟» قال: «بلى.» فسارا حتّى شارفا عسكر إبراهيم. فإذا هما بالنّيران.
فقال داود: «هذه نيران المسلمين، لأنّها متقاربة، ونيران الأتراك متفرّقة.»
__________
[1] . قد أمعرت: كذا فى الأصل والطبري (9: 1594) : قد أمعرت. فى مط: أمغرت. فى آ:
أفقرت.
[2] . ذؤالة: كذا فى الأصل: ذؤالة. فى الطبري (9: 1594) : ذواله. فى مط وآ: دواله.
[3] . فيئتنا: كذا فى الأصل: فيئتنا. فى آ. فيئنا. فى مط والطبري (9: 1595) : فينا.(3/88)
فقال الأصبغ: [90]- «هم فى مضيق.» ثمّ دنوا، فسمعوا نهيق الحمير.
فقال داود:
- «أما علمت أنّ التّرك ليس لهم حمير؟» فقال الأصبغ:
- «أصابوها بالأمس، ولم يستطيعوا أكلها فى يوم ولا اثنين.» فقال داود:
- «نسرّح فارسيّين فيكبّران.» فبعثا إلى العسكر بهما. فلمّا دنوا منهم كبّرا، فأجابهما أهل العسكر بالتكّبير.
فأقبلوا إلى العسكر الّذى فيه الأثقال، ومع إبراهيم أهل الصّغانيان وصاغان [1] خذاه. فضامّا إبراهيم بن عاصم.
وأقبل أسد يريد أن يخوض نهر بلخ، وقد كان إبراهيم قطعه بالسّبى وجميع ما أصاب. فلمّا أشرف أسد على النّهر، وقد أتاه أنّ خاقان قد سار من الشومان [2] سبع عشرة ليلة، قام إليه أبو نميلة [3] بن بحر وعبد الرّحمن بن حيفر [4] الأزديان، فقالا:
- «أصلح الله الأمير، إنّ الله قد أحسن بلاءك فى هذه الغزوة، فغنمت
و
__________
[1] . صاغان خذاه: كذا فى الأصل ومط وآ: صاغان خذاه. فى الطبري (9: 1596) : صغان خذاه.
[2] . الشومان: كذا فى الأصل وآ: الشومان. فى مط: السوسات (مهملة) . فى الطبري (9: 1596) :
سويات.
[3] . أبو نميلة بن بحر: كذا فى الأصل. فى الطبري: ابو تمّام بن زحر.
[4] . حيفر: ما فى الأصل ومط مهمل. والإعجام من آ. فى الطبري: خنفر.(3/89)
سلمت، فاقطع هذه النّطفة واجعلها وراء ظهرك.» فأمر بهما، فوجئت رقابهما وأخرجا من العسكر، وأقام يومه.
فلمّا كان من الغد ارتحل وفى النّهر ثلاثة وعشرون موضعا يخوضه النّاس، وموضع فيه مجتمع ماء يبلغ دفّتى السّرج. فخاضه النّاس. وأمر أن يحمل كلّ رجل شاة، وحمل هو نفسه شاة.
وقال له غسّان بن عبيد الله [91] بن مطرّف بن الشّخّير [1] :
- «أيها الأمير، إنّ الّذى أنت فيه من حمل الشّاء، ليس له خطر، وقد فرّقت النّاس، وشغلتهم وأظلّك عدوّك، فدع هذه الشّاء لعنة الله عليها ومر النّاس بالاستعداد.» فقال أسد:
- «والله، لا يعبر رجل ليس معه شاة حتّى تفنى هذه الغنم، الفارس يحملها بين يديه، والرّاجل على عنقه.» وخاض النّاس.
فلمّا حفرت سنابك الخيل النّهر، صار بعض المواضع مخائض يقع فيها الرجل. فأمر أسد بالشّاء أن تقذف ويخوضوا. فما استتمّ النّاس العبور حتّى طلعت عليهم التّرك بالدّهم، فقتلوا من لم يقطع النّهر، وجعل النّاس يقتحمون، وركب أسد إلى النّهر، وأمر بالإبل أن يقطع بها النّهر حتّى يحمل عليها الأثقال. وأقبل رهج من ناحية الختّل، فإذا خاقان. فلمّا توافى معه صدر من جنده حمل على الأزد وبنى تميم، وكانوا على مسلحة خلّفهم أسد على الضّعفة من النّاس.
فلمّا حمل عليهم خاقان انكشفوا، وركض أسد حتّى انصرف إلى عسكره،
و
__________
[1] . الشخير: كذا فى الأصل: الشخير. فى الطبري (9: 1597) : الشّخّير. فى مط: السحر.
فى آ: الشخر.(3/90)
بعث إلى أصحاب الأثقال الّذين كان قد سرّحهم أمامه أن:
- «انزلوا وخندقوا مكانكم فى بطن الوادي.» وأقبل خاقان، [92] فظنّ المسلمون أنّه لا يقطع النّهر إليهم. فلمّا نظر خاقان إلى النّهر أمر الإسكند [1] ، وهو يومئذ اصبهبذ، أن يسير فى الصّفّ. وسأل الفرسان وأهل البصر بالحرب:
- «هل يطاق قطع النّهر والحملة على أسد؟» وكلّهم يقول:
- «لا يطاق.» حتّى انتهى إلى استجن [2] فقال:
- «بلى يطاق، لأنّنا خمسون ألف فارس، فإذا نحن اقتحمنا دفعة واحدة ردّ بعضنا عن بعض الماء، فذهبت جريته.» قال: فضربوا بكوساتهم. فظنّ أسد ومن معه أنّه منهم وعيد، فأقحموا دوابّهم، فجعلت تنخر أشدّ النّخير. فلمّا رأى المسلمون إقحام التّرك ولّوا إلى العسكر، وعبرت التّرك، فسطع رهج شديد لا يبصر الرّجل دابّته ولا يعرف بعضهم بعضا، ودخل المسلمون عسكرهم وحوى التّرك ما كان خارجا، وخرج الغلمان بالبراذع والعمد، فضربوا وجوه التّرك، فأدبروا. وبات أسد وعبّأ من الليل تخوّفا من غدوّ [3] خاخان. فلمّا أصبح لم ير شيئا، ودعا وجوه النّاس واستشارهم.
__________
[1] . الاسكند: كذا فى الأصل: الاسكند. فى الطبري (9: 1597) الاشكند. فى مط وآ:
الإسكندر.
[2] . استجن. كذا فى الأصل: استجن. فى مط: سحر. فى الطبري: اشتيخن.
[3] . من غدوّ: كذا فى الأصل وآ: من غدّو. فى مط: من غدر. فى الطبري (9: 1598) :
من غدر خاقان ومن غدوّه.(3/91)
فقالوا له:
- «اقبل العافية.» قال:
- «ما هذه عافية، بل هذه بليّة، لقينا خاقان أمس، فظفر وأصاب من الجند والسّرح [1] ، فما منعه اليوم منّا إلّا أنّه قد وقع فى يده أسرى [93] فأخبروه بموضع الأثقال.» فكان هذا رأيا جيّدا وحديثا صوابا من أسد، وقد علم العدوّ أنّ الثقل أمامنا، فترك لقاءنا طمعا فيها [2] .
ثمّ ارتحل أسد وبعث أمامه الطّلائع. فرجع بعضهم فأخبره أنّه عاين طوقات الأتراك وأعلاما من أعلام اسكند [3] ، فسار [والدوابّ] [4] مثقلة. فقيل له:
- «انزل أيّها الأمير واقبل العافية.» فقال:
- «واين العافية فأقبلها، إنّما هي بليّة ذهاب الأموال والأنفس.» فلمّا صار الى منزل وأمسى، استشار النّاس:
- «أتنزلون أم تسيرون؟» فقال النّاس:
- «اقبل العافية، وما عسى أن يكون من ذهاب الأثقال بعافيتنا وعافية أهل خراسان» ونصر بن سيّار مطرق.
فقال أسد:
- «مالك يا بن سيّار لا تتكلّم؟»
__________
[1] . والسرح: كذا فى الأصل ومط وآ. فى الطبري: والسلاح.
[2] . الكلام للراوي.
[3] . اسكند: فى الطبري: الاشكند. فى مط: بيكند (بإهمال الاول والثاني) .
[4] . والدّوابّ: ليست الكلمة لا فى الأصل ولا فى مط: ولا فى آ. أضفناها من الطبري (9: 1598) .(3/92)
فقال: «أصلح الله الأمير، خلّتان كلتاهما لك: إن تسر تغث الأثقال وتخلّصهم، وإن أنت انتهيت إليهم وقد هلكوا، فقد قطعت قحمة لا بدّ من قطعها.» فقبل رأيه وسار يومه كلّه.
قال: ودعا أسد قبل أن يسير سعيدا الصّغير، وكان عالما بطريق الختّل فارسا، وكتب معه كتابا إلى إبراهيم يأمره بالاستعداد ويعلمه أنّ خاقان طواه وتوجّه إلى ما قبلك. ثم قال له:
- «سر [94] بالكتاب إلى إبراهيم حيث كان قبل الليل، فإن لم تفعل فأسد بريء من الإسلام إن لم يقتلك، وأنت لحقت بالحارث هربا منّى، فعلىّ مثل الّذى حلفت. إنّى أبيع أمرأتك دلال فى سوق بلخ، وجميع أهل بيتك.» قال سعيد:
- «فادفع إلىّ فرسك الكميت الذّنوب.» قال:
- «لعمري، لئن جدت بدمك وبخلت عليك بالفرس، إنّى للئيم.» فدفعه إليه وسار على دابّة من جنائبه وغلامه على فرس معه فرس أسد يجنبه. فلمّا حاذى غبرة طلائع التّرك تحوّل إلى فرس أسد، فطلبته الطّلائع، فركض ولم يلحقوه. وأتى إبراهيم بالكتاب وتبعه بعض الطّلائع حتّى وافوا عسكر إبراهيم والأثقال. فرجعوا إلى خاقان فأخبروه. فغدا خاقان اليوم الثّانى على الأثقال وقد خندق إبراهيم خندقا والنّاس قيام عليه. فأمر خاقان أهل السّغد بقتالهم. فلمّا دنوا من مسلحة المسلمين، ثاروا فى وجوههم فهزموهم، وقتلوا منهم رجلا.
فقال خاقان:
- «اركبوا.» وصعد تلّا مشرفا، وجعل ينظر العورة، ووجّه المقاتلة وكذا كان يفعل ينفرد فى رجلين [95] أو ثلاثة، فإذا رأى عورة أمر جنوده فحملت من ناحية العورة.(3/93)
ذكر ظفر خاقان ثمّ انهزامه باتّفاق حسن مع تدبير جيّد وجدّ فى المسير من أسد حتّى رجع كيد العدوّ عليه وسلم المسلمون وأثقالهم
ولمّا صعد خاقان التّلّ رأى خلف العسكر جزيرة ودونها مخاضة. فدعا بعض قوّاد التّرك، فأمرهم أن يقطعوا فوق العسكر فى مقطع وصفه، ثمّ ينحدروا، فى الجزيرة، حتى يأتوا عسكر المسلمين من ورائهم، وأمرهم أن يبدءوا بالأعاجم وأهل الصّغانيان وقد عرفهم بأبنيتهم وأعلامهم. وقال لهم:
- «إن أقام القوم فى خندقهم وأقبلوا إليكم دخلنا نحن خندقهم، وإن ثبتوا لنا، فادخلوا من دبره عليهم.» ففعلوا، ودخلوا عليهم من ناحية الأعاجم، فقتلوا صاغان خذاه، ودخلوا عسكر إبراهيم، فأخذوا عامّة ما فيه، وترك المسلمون التّعبئة، واجتمعوا فى موضع وأحسّوا بالهلاك، فإذا رهج قد ارتفع وتربة سوداء، وإذا أسد فى جنده قد أتاهم، فجعلت التّرك ترتفع عنهم إلى الموضع الّذى فيه خاقان وإبراهيم [96] يتعجّب من كفّهم، وقد ظفروا، وقتلوا من قتلوا، بعد [1] إصابتهم الغنيمة، وهو لا يطمع فى أسد.
وكان أسد قد أغذّ السّير، فأقبل أسد حتّى وقف على التّلّ الّذى عليه خاقان، وتنحّى خاقان إلى ناحية الختّل، وخرج إلى أسد من كان بقي من أصحاب إبراهيم وقد قتل منهم بشر كثير ومشيخة من خزاعة. وخرجت امرأة صاغان خذاه إلى أسد فبكت زوجها، وبكى أسد معها حتّى علا صوته.
وانصرف خاقان على طريق طخارستان وهناك الحارث بن سريج، فانضمّ الحارث إلى خاقان، وسار معه فى أصحابه، ومضى أسد إلى بلخ، فعسكر فى
__________
[1] . بعد: فى الأصل: وبعد (بزيادة «و» ) .(3/94)
مرجها حتّى الشّتاء، وكان الحارث يقول لخاقان:
- «إنّه لا نهوض بأسد، وقد تفرّق عنه العسكر.» فبثّ خاقان جنده فى الغارات على النّواحى وأقبل حتّى نزل جزّة، فأمر بالنّيران، فرفعت على أعلى المدينة. فجاء النّاس من الرّساتيق إلى مدينة بلخ.
فأصبح أسد وصلّى، وخطب النّاس وقال:
- «إن عدوّ الله الحارث بن سريج [1] استجلب طاغية التّرك ليطفئ نور الله ويبدّل دينه، وإنّ عدوّكم قد أصاب من إخوانكم ما أصاب، فإن يرد الله نصركم لم يضرركم [97] قلّتكم وكثرتهم، فاستنصروا الله.» ثمّ وضع جبهته لله عزّ وجلّ، ودعا، فأمّنوا عليه، ثمّ رفعوا رؤوسهم وهم لا يشكّون فى الفتح. ثمّ نزل عن المنبر وضحّى، وكان يوم الأضحى، وشاور النّاس فى المسير إلى خاقان.
فقال قوم:
- «أنت شاب [2] لا تتخوّف من غارة على دابّة ولا شاة إلّا ما لا خطر فيه لخروجك [3] .» فقال:
- «والله لأخرجنّ، فإمّا ظفر وإمّا شهادة.» ثمّ أخذ من جبلة بن أبى داود مائة وعشرين ألف درهم، وأمر النّاس بعشرين عشرين، ومعه من جنود خراسان وأهل الشّام سبعة آلاف رجل.
فاستخلف على بلخ الكرمانىّ، وأمره أن لا يدع أحدا يخرج من مدينتها وإن
__________
[1] . سريج: فى مط: شريح.
[2] . شابّ: كذا فى الأصل: شات. فى مط وآ والطبري (9: 1603) : شابّ.
[3] . إلّا ما لا خطر فيه لخروجك: كذا فى الأصل ومط وآ. فى الطبري (9: 1603) : ...
تخاطر بخروجك.(3/95)
ضرب التّرك باب المدينة.
فقال نصر بن سيّار الليثي والقاسم بن بخيت وجماعة أمثالهم وسعيد الصّغير:
- «أصلح الله الأمير، ائذن لنا فى الخروج ولا تهجّن [1] طاعتنا.» فأذن لهم وخرج فنزل بابا من أبواب بلخ، وصلّى بالنّاس ركعتين طوّلهما، ونادى فى النّاس:
- «ادعوا الله.» وأطال الدّعاء بالنّصر وأمّن النّاس على دعائه.
ثمّ انتقل من دعائه فقال:
- «نصرتم وربّ الكعبة إن شاء الله.» ثلاث مرّات.
ثمّ نادى مناديه: [98]- «بريت الذّمّة من رجل حمل امرأة.» وسار، فلمّا كان عند قنطرة عطاء، قال لمسعود بن عمرو:
- «أبغنى خمسين رجلا وراية أخلّفهم على هذه القنطرة، فلا يدع أحدا ممّن جازها أن يرجع.» وكان مسعود هذا يخلف الكرمانىّ بحضرته. فقال مسعود:
- «من أين أجد خمسين رجلا؟» فأمر به فصرع عن دابّته وضرب. ثمّ أمر بضرب عنقه. فتكلّم فيه قوم، فكفّ عنه.
وسار منزلا وأقام حتّى أصبح، فقال له بعضهم:
- «ليتمّ الأمير على المقام يومه حتّى يتلاحق النّاس.»
__________
[1] . ولا تهجّن: كذا فى الأصل وآ والطبري (9: 1603) : لا تهجّن. فى مط: لا نهجن.(3/96)
فأمر بالرّحيل وقال:
- «لا حاجة لنا فى المتخلّفين [1] .» ثمّ جعل على مقدّمته سالم بن منصور تفألا باسمه. فلقى ثلاثمائة من التّرك طليعة لخاقان. فأسر [2] قائدهم وسبعة معه وهرب بقيّتهم، فأتى به أسدا، فبكى التّركىّ. فقال أسد:
- «ما يبكيك؟» فقال:
- «لست أبكى لنفسي، وإنّما أبكى لهلاك خاقان.» قال:
- «وكيف؟» قال:
- «لأنّه فرّق خيله فى ما بينه وبين مرو.» وسار أسد حتّى إذا شارف العين الحارّة استقبله بشر بن رزين، فقال:
- «ما وراءك؟» قال:
- «إن لم تلحقنا [3] غلبنا على مدينتنا.» فقال:
- «قل للمقدام بن عبد الرّحمن يطاول نزّ رمحي [4] .» وسار فنزل مدينة [99] الجوزجان وقد استباحها خاقان. فأتاه المقدام بن عبد الرّحمن فى مقاتلته وأهل الجوزجان، وانصرفت طلائع الخاقان إليه، فأخبرته أنّ رهجا ساطعا من قبل بلخ طلع.
__________
[1] . المتخلّفين: كذا فى الأصل وآ. فى مط: المخلفين.
[2] . فأسر: كذا فى الأصل ومط. فى آ: فأسّر: (بتشديد السين) .
[3] . لم تلحقنا: كذا فى الأصل وآ. لم تلحقنا. فى مط: لم تحلفنا. فى الطبري (9: 1606) :
لم تغثنا.
[4] . نزّ رمحي: كذا فى الأصل وآ. وما فى مط: بطول بز رمحى. فى الطبري (9: 1607) يطاول برمحي. والتشديد فى «نزّ» منّا.(3/97)
فدعا خاقان الحارث فقال:
- «ألم تزعم أنّ أسدا ليس به نهوض؟ وهذا رهج من ناحية بلخ.» فقال الحارث:
- «هذا هو اللصّ الّذى كنت أخبرتك أنّه من أصحابى.» فبعث خاقان طليعة وقال:
- «أنظروا هل ترون على الإبل سريرا وكراسىّ» فجاءته الطلائع، فأخبرته أنّهم عاينوها.
فقال خاقان:
«اللصوص لا يحملون الأسرّة والكراسىّ. هذا أسد قد أتاك.» فسار أسد غلوة، فلقيه سالم بن منصور فقال:
- «أبشر أيّها الأمير، حزرتهم [1] فلا يبلغون أربعة آلاف، وأرجو أن يكون عقيرة الله.» وسار أسد على تعبئة، ميمنة وميسرة وقلبا، وعبّى خاقان مثل ذلك وجعل على ميمنته الحارث بن سريج وأصحابه وملك السّغد وصاحب الشّاش وصاحب الختّل والتّرك كلّهم معه. فلمّا التقوا حمل الحارث ومن معه على الميسرة، وفيها ربيعة وأهل الشّام، فما ثبت له أحد، وانهزموا، فلم يردّهم شيء دون رواق أسد، ثمّ شدّت عليهم ميمنة أسد وهم الأزد وبنو تميم والجوزجان، [100] فانهزم الحارث والأتراك، فحمل النّاس جميعا.
فقال أسد:
- «اللهمّ إنّهم عصوني فانصرهم.»
__________
[1] . حزرتهم: كذا فى الأصل: حزرتهم. فى آوالطبري (9: 1608) : حزرتهم. وما فى مط مهمل. حزره: قدّره بالحدس وخمّنه.(3/98)
وذهب التّرك عباديد لا يلوى بعضهم على، بعض، وتبعهم النّاس يقتلون من لحقوا منهم، حتّى انتهوا إلى أغنامهم، فاستاقوا أكثر من خمسين ومائة ألف رأس، ودوابّ كثيرة، وأخذ خاقان غير طريق الجادّة فى الجبل، والحارث بن سريج يحميه، وهاجت ريح الحرب الّتى تسمّى الهفّافة، فهزمهم الله تعالى.
فقال الجوزجان لعثمان بن عبد الله بن الشّخّير:
- «إنّى أعلم ببلادي وطرقها، فهل لك فى أمر فيه هلاك خاقان ولك فيه ذكر ما بقيت؟ فقال:
- «وما هو؟» قال:
- «تتبعني.» قال:
- «نعم.» فأخذ به طريقا يسمّى ورادك، فأشرفوا على طوقات [1] خاقان وهم آمنون، فأمر خاقان بالكوسات فضربت ضربة الانصراف وقد شبّت الحرب، فلم يقدر التّرك على الانصراف ثمّ ضربت الثّانية، فلم يقدروا لاشتغالهم. فحمل ابن الشّخّير والجوزجان على الطوقات، وولىّ خاقان مدبرا، فحوى المسلمون عسكرهم، وتركوا قدورهم تغلى ونساءهم مع نساء العرب كنّ معهم، ووحل بخاقان دابّته، فحماه الحارث بن سريج، وأراد خصّى لخاقان أن يحمل امرأة خاقان، [101] فأعجلوه عن ذلك، فطعنها [2] بخنجر، فلحقوها وهي تتحرّك، فأخذوا خفّها وهو من لبود مضرّب، ووجد عسكر التّرك مشحونا من كلّ شيء من آنية الفضّة وصنّاجاتهم وأمتعتهم. وبعث أسد بجوارى التّرك إلى دهاقين خراسان، فاستنقذ من كان فى أيديهم من المسلمين، وانصرف أسد إلى
__________
[1] . طوقات: كذا فى الأصل وآ. والطبري (9: 1611) . فى مط: طرقات.
[2] . فطعنها: كذا فى آ. والطبري (9: 1611) . ما فى الأصل ومط: فطعنوها.(3/99)
بلخ اليوم التّاسع من خروجه، فقال ابن السّجف المشاجعى:
لو سرت فى الأرض تقيس الأرضا ... تقيس منها طولها والعرضا
لم تلق خيرا مرّة ونقضا ... من الأمير أسد وأمضى
أفضى إلينا الخير حين أفضى ... وجمع الشّمل وكان رفضا [1]
ما فاته خاقان إلّا ركضا ... قد فضّ من جموعه ما فضّا
يا ابن سريج قد لقيت حمضا ... حمضا به يشفى صداع المرضى
وأصاب أسد أربعة آلاف درع، وكان أسد يوجّه النّاس فى السّرايا، فكانوا لا يزالون يصيبون جماعة من التّرك.
ومضى خاقان إلى بلاده، فلمّا ورد سروشنه، تلّقاه [102] خرّابغره جدّ كاوس أبى الأفشين باللعّابين، وأعدّ له هدايا عظيمة ودوّاب له ولجنده. وكان الّذى بينهما متباعدا، ولكنّه لمّا رجع منكوبا، أحبّ أن يتّخذ عنده يدا، فأتاه بكلّ ما يقدر عليه. فلمّا رجع خاقان إلى بلاده أخذ فى الاستعداد للحرب ومحاصرة سمرقند. وحمل الحارث بن سريج وأصحابه على خمسة آلاف برذون، وفرّق فى أصحابه مثلها.
ثمّ إنّه لاعب يومّا كورصول بالنّرد على خطر تدرجة، فقمر كورصول الرقشى [2] ، فطلب منه التدرجة، فقال أحدهما: أنثى، وقال الآخر: ذكر. وتأدّى التّنازع إلى أن رفع يده فضرب يد خاقان، فأوهنه، فحلف خاقان ليكسرنّ يد كورصول، فتنحّى كورصول من بين يديه، وجمع جمعا، ثمّ بيّت خاقان فقتله، وتفرّق عنه التّرك، فتركوه مجرّدا، حتّى أتاه عظماء التّرك، ودفنوه، وصنع به
__________
[1] . رفضا: كذا فى الأصل ومط وآ: رفضا. فى الطبري: فضّا.
[2] . الرقشى: كذا فى الأصل وآ. فى مط: الرفشى. وما فى الطبري (9: 1613) : الترقشى وفى حواشيه عن ابن خرداد به: التركشى.(3/100)
ما يصنع بمثله، وتفرّقت التّرك فى الغارات بعضها على بعض، وانحاز بعضهم إلى الشّاش. فعند ذلك طمع أهل السّغد فى الرّجعة إليها، فلم يسلم من خيل التّرك الّتى تفرّقت فى الغارات إلّا زرابر [1] الكسّى، فإنّه سلم حين صار إلى طخارستان. [103]
ذكر اتّفاق حسن اتّفق لمقاتل بن حيّان من غير قصد منه
كان أسد بعث من مدينة بلخ رجلا يعرف بسيف بن وصّاف إلى هشام يخبره بما أظلّه من الخطب العظيم، ويستمدّه. فلمّا وصل إليه أخبره، فلم يصدّقه هشام، وقال لحاجبه:
- «ويحك، إنّ هذا الشيخ قد أتانا بالطّامّة الكبرى إن كان صادقا، ولا أظنّه صادقا، اذهب به، فغدّه [2] ، ثمّ سله، وأتنى بما يقول.» ففعل، ثمّ سأله فأخبره بما أخبر به هشاما، فدخل عليه أمر عظيم، وصرفه.
ثمّ دعاه بعد أيّام بسيرة، وقال له:
- «من القاسم [3] بن بخيت منكم؟» قال:
- «ذاك، صاحب العسكر.» قال:
- «فإنّه قد أقبل.» قال:
- «فإن كان قد أقبل، فقد فتح الله عزّ وجلّ على أمير المؤمنين.» وكان أسد وجّهه حين فتح عليه، فأقبل القاسم بن بخيت، فكبّر على الباب، ثمّ دخل يكبّر وهشام يكبّر معه حتّى انتهى إليه. فقال:
- «الفتح يا أمير المؤمنين.»
__________
[1] . زرابر: كذا فى الأصل. فى آ: درنزا. فى مط: زرابرابر. فى الطبري (9: 1614) : زرابن.
[2] . فغدّه: كذا فى الأصل وآ ومط: فغدّه. فى الطبري (9: 1614) : فعده.
[3] . القاسم: فى الأصل ومط وآ: القسم. وما أثبتناه يؤيده الطبري (9: 1614) .(3/101)
وأخبره الخبر. فنزل هشام عن سريره، فسجد سجدة الشّكر، وهي واحدة عندهم. فحسدت القيسيّة أسدا وخالدا، وقالوا لهشام:
- «اكتب إلى خالد فليأمر أخاه أن يوجّه مقاتل بن حيّان.» فكتب إليه، فدعا [104] أسد مقاتل بن حيّان على رؤوس النّاس وقال له:
- «سر إلى أمير المؤمنين، فأخبره بما عاينت، وقل الحقّ، وأنت لا تقول غير الحق إن شاء الله، وخذ من بيت المال حاجتك.» فقال النّاس:
- «إنّه لا يأخذ شيئا، أعطه من المال كذا وكذا، ومن الكسوة كذا.» وجهّزه. فسار حتّى قدم على هشام وهو والأبرش جالسان. فسأله، فقال:
كان من أمرنا كيت وكيت. إلى أن قال:
- «قصدنا خاقان، فساق من الذّرارىّ وأهل البلدان بعد أن قاتلناه كذا يوما، ثمّ واقعناه وهو لا ينتظر، فحملوا على ميسرتنا فكشفوهم، ثمّ حملت ميمنتنا فهزمناهم، ثمّ تبعناهم حتّى استبحنا عسكر خاقان بما فيه من النّساء والذّرارىّ والآلات.» وكان هشام متكئا، فاستوى جالسا عند ذكر خاقان، وقال ثلاثا:
- «أنتم استبحتم عسكر خاقان؟» قال:
- «بلى» قال:
- «حاجتك.» قال:
- «إنّ يزيد بن المهلّب أخذ من أبى حيّان من غير حقّ مائة ألف.» فقال هشام:
- «لا أكلّفك شاهدا، أحلف بالله، إنّه لكما قلت.» فحلف، فردّها عليه من بيت مال خراسان، وكتب إلى خالد أن يكتب إلى(3/102)
أسد فيها. فكتب إليه، فأعطاه مائة ألف، فقسمها بين [105] ورثة حيّان على فرائض الله.
خروج المغيرة بن سعيد على خالد بن عبد الله
وفى هذه السّنة خرج على خالد بن عبد الله المغيرة بن سعيد وبيان [1] فى نفر، فأخذهم وقتلهم.
ذكر السّبب فى ذلك أمّا المغيرة بن سعيد، فكان يتشيّع، ثمّ نسبت إليه أمور شنيعة فيها تزيّد وإسراف.
فأحدها ما حكاه صاحب التّاريخ على ما أخبرنا به القاضي عن محمّد بن جرير الطّبرى، قال: حدّثنا ابن حميد قال: حدّثنا جرير عن الأعمش، قال سمعت المغيرة بن سعيد يقول:
- «لو أراد [2] علىّ أن يحيى عادا وثمود وقرونا بين ذلك كثيرا، لأحياهم.» قال الأعمش:
- «كان المغيرة يخرج إلى المقبرة، فيتكلّم فيرى مثل الجراء على القبور.» ونحو هذا من الكلام.
وحكيت عنه حكايات عظيمة.
فلمّا أخذ خالد المغيرة وأصحابه أتى بهم، وهم سبعة، وأمر بسريره،
__________
[1] . بيان: فى الأصل والطبري (9: 1619) : بيان. ما فى مط مهمل. وما فى آ: وسار.
[2] . فى الطبري (9: 1619) : لو أردت أن أحيى ... » ومخطوطات تجارب الأمم متوافقة فى ذلك، كما أنّ فى حواشي الطبري (نفس الصفحة) أيضا ما يوافق المخطوطات.(3/103)
فأخرج إلى المسجد الجامع، وأمر بأطنان قصب ونفط، فأحضر، ثمّ أمر المغيرة أن يتناول طنّا، فكعّ وتأنّى، فصبّت السّياط على رأسه، فتناول طنّا فاحتضنه، فشدّ عليه، ثمّ صبّ عليه وعلى الطّنّ نفط، [106] ثمّ ألهبت النّار، فاحترقا، ثمّ فعل بالرّهط مثل ذلك. ثمّ أمر بيانا آخرهم، فتقدّم إلى الطّنّ مبادرا، فاحتضنه، فقال خالد:
- «ويلكم، فى كلّ أمركم تحمقون، هلّا رأستم هذا إلّا المغيرة [1] .» ثمّ أحرقه.
وكان هؤلاء يسمّون الوصفاء، وكان ظهورهم وخروجهم بظهر الكوفة، فأخبر خالد القسري بخروجهم وهو على المنبر، فقال:
- «أطعمونى ماء [2] .» وقيل فيه:
أخالد لا جزاك الله خيرا ... وأير فى حر أمّك من أمير
وقلت من المخافة أطعمونى ... شرابا، ثمّ بلت على السّرير
ولمّا قتل خالد المغيرة، أرسل إلى مالك بن أعين الجهني، فسأله، فصدّقه عن نفسه، فأطلقه. فلمّا خلا مالك بمن يثق به وكان فيهم أبو مسلم صاحب الدّعوة قال لهم:
ضربت لهم بين الطريقين لاحبا ... وطنت عليه الشّمس فى من يطينها
وألقيته فى شبهة حين سألنى ... كما اشتبها فى الخطّ سين وشينها
__________
[1] . والعبارة فى الطبري (9: 1620) : «هلّا رأيتم هذا المغيرة» بدل: «هلّا رأستم هذا إلّا المغيرة ونسخ التجارب متوافقة فى ذلك.
[2] . ماء: كذا فى الأصل. ما فى مط: شرابا، كما فى الطبري (9: 1621) .(3/104)
وكان يقول أبو مسلم حين ظهر أمره:
- «لو وجدته لقتلته بإقراره على نفسه. [107]
وفى هذه السّنة حكّم بهلول بن بشر الملقب كثارة فقتل ذكر الخبر عن مخرجه ومقتله
كان بهلول يتألّه [1] ، وكان بدابق، وهو مشهور بالبأس والنّجدة عند هشام بن عبد الملك، فخرج يريد الحجّ. فلمّا كان بسواد الكوفة أمر غلامه أن يبتاع له خلّا بدرهم. فجاء غلامه إليه بخمر، فردّه وقال:
- «استرجع الدّرهم.» فلمّا رجع الغلام لم يجبه البائع إلى ذلك، فجاء بهلول إلى عامل القرية، فكلّمه، فقال العامل:
- «الخمر خير منك [2] ومن قومك.» فمضى البهلول فى حجّه حتّى فرغ منه. ثمّ عزم على الخروج على السّلطان، فلقى بمكة من كان على مثل رأيه، فاتّعدوا قرية من قرى الموصل، واجتمع إليه أربعون رجلا، وأمّروا عليهم بهلول، وأجمعوا على أن لا يمرّوا بأحد إلّا أخبروا أنهم أقبلوا من عند هشام على بعض الأعمال، وجّههم إلى خالد لينفذهم فى أعمالهم. فجعلوا لا يمرّون بعامل إلّا أخبروه بذلك وأخذوا منه دوابّ من [108] دوّاب البريد. فلمّا انتهوا إلى القرية الّتى كان ابتاع الغلام فيها الخلّ فأعطى خمرا، قال له أصحابه:
- «نحن نريد قتل خالد، فإن بدأنا بهذا شهرنا وحذرنا خالد وغيره، ولعلّ
__________
[1] . تجد الرواية عند الطبري أيضا بتصحيف فى بعض ألفاظها (9: 1622) .
[2] . كذا فى آومط. ما فى الأصل غير واضح.(3/105)
خالدا يفلت، وهو الّذى يهدم المساجد ويبنى البيع والكنائس، ويولّى المجوس على المسلمين، وينكح أهل الذّمّة المسلمات.» قال:
- «لا والله، إن [1] تركت هذا وأتيت خالدا لعلّى لا أظفر منه بما أريد ويفوتني هذا، والله يقول: «قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ من الْكُفَّارِ.» 9: 123 قالوا:
- «أنت ورأيك.» فأتاه، فقتله، فنذر بهم النّاس، وعلموا أنهم خوارج، وابتدروا إلى الطّريق هرّابا، وخرجت البرد إلى خالد، فأعلموه أنّ خارجة خرجت وهم لا يدرون من رئيسهم.
فخرج خالد من واسط حتّى أتى الحيرة فى خلق كثير، وكان قدم فى تلك الأيّام قائد من أهل الشّام من بنى القين، قد وجّهوهم مددا لعامل خالد على الهند، فنزلوا الحيرة. فقصدها خالد ودعا رئيسهم وقال له:
- «قاتل هؤلاء المارقة، فإنّى أعطى من قتل منهم واحدا عطاء سوى ما قبض بالشّام وأعفيه من الخروج إلى أرض الهند.» وكان الخروج إلى أرض الهند شاقّا عليهم، فسارعوا إلى ذلك وقالوا:
- «نقتل هؤلاء النّفر ونرجع إلى بلادنا.» فتوجّه [109] القينىّ إليهم فى ستّمائة، وضمّ إليهم خالد مائتين من شرط الكوفه. وقال القائد:
- «لا تكونوا معنا.» وإنّما يريد [2] فى نفسه أن يخلو هو وأصحابه بالقوم، فيكون الظّفر لهم دون غيرهم لما وعدهم خالد.
__________
[1] . فى مط: لا تركت. بدل: إن تركت.
[2] . يريد: كذا فى الأصل وآ: يريد. ما فى مط: يكون.(3/106)
وخرج إليهم بهلول، فسأل عن رئيسهم حتّى عرف مكانه، ثمّ حمل عليه، فطعنه فى فرج درعه فأنفذه، فقال:
- «قتلتني، قتلك الله.» فقال بهلول:
- «إلى النّار أبعدك الله.» وولّى أهل الشّام مع شرط أهل الكوفة منهزمين حتّى بلغوا الكوفة وبهلول وأصحابه يقتلونهم.
فأمّا الشّاميّون، فمن كان منهم على خيول جياد فأتوه.
وأمّا الشرط فإنّه لحقهم، فقالوا:
- «اتّق الله فينا فإنّا مكرهون مقهورون.» فجعل يقرع رؤوسهم برمحه ويقول:
- «الحقوا، النّجا النّجا.» وأصاب البهلول مع القيني بدرة. وكان بالكوفة ستة نفر يرون رأى البهلول، فخرجوا يريدونه، فقتلوا. وخرج إليهم البهلول وحمل البدرة بين يديه، فقال:
- «من قتل هؤلاء النّفر حتّى أعطيه هذه الدّراهم؟» فجعل هذا يقول، أنا، وهذا يقول: أنا. حتّى عرفهم، وهم يرون أنّه [1] من قبل خالد جاء ليعطيهم ثواب ما فعلوا.
فقال بهلول لأهل القرية.
- «أصدق هؤلاء، هم قتلوا هؤلاء النّفر؟» قالوا:
- «نعم.» وكان خشي بهلول [110] أن يكونوا ادّعوا ذلك طمعا فى المال.
__________
[1] . أنّه: كذا فى آ، والطبري (9: 1625) . فى الأصل ومط أنّهم.(3/107)
فقال لأهل القرية:
- «انصرفوا أنتم.» وأمر بأولئك، فقتلوا.
وبلغ هزيمة القوم خالدا، فأنفذ إليهم جيشا مع قائد من بنى شيبان، فلقيهم بين الموصل والكوفة، فشدّ عليه البهلول، فقال:
- «نشدتك الله والرّحم، فإنّى جانح [1] مستجير.» فكفّ عنه وانهزم أصحابه. فأتى خالدا وهو بالحيرة، فلم يرعه إلّا الفلّ قد هجم عليه، وارتحل البهلول يريد الموصل، فكتب عامل الموصل إلى هشام أنّ خارجة خرجت وأنّه يخافهم ويسأله جندا يقاتلهم به.
فكتب إليه هشام:
- «وجّه إليه كثارة بن بشر.» وكان هشام لا يعرف البهلول إلّا بلقبه. فكتب إليه العامل:
- «إن الخارج هو كثارة!» وكان البهلول قال لأصحابه:
- «ما نصنع بابن النّصرانية؟ يعنى خالدا وإنّما خرجت لله، فلم لا نطلب الرّأس الّذى يسلّط خالدا وأشباهه؟» فتوجّه إلى الشّام يريد هشاما، فخاف عمّال هشام موجدته، إن تركوه يجوز بلادهم إليه. فجنّد له خالد جندا من العراق، وجنّد له عامل الجزيرة جندا من الجزيرة، ووجّه إليه هشام جندا من الشّام. فاجتمعوا بدير بين الجزيرة والموصل، وأقبل بهلول [111] حتّى انتهى إليهم، فنزل على باب [2] الدير، فقالوا له:
__________
[1] . جانح: كذا فى الأصل ومط والطبري (9: 1625) . فى آ: جامح.
[2] . باب الدير. كذا فى الأصل ومط. والطبري (9: 1626) . فى آ: أهل.(3/108)
- «تزحزح عن باب الدّير حتّى نخرج إليك.» فتنحّى وخرجوا. فلمّا رأى كثرتهم وهو فى سبعين، جعل من أصحابه ميمنة وميسرة، ثمّ أقبل على أعدائه، فقال:
- «أكلّكم يرجو أن يقتلنا ويسلم فيأتى أهله سالما؟» قالوا:
- «نعم، إنّا نرجو ذلك، إن شاء الله.» فشدّ على رجل عظيم من عظمائهم فقتله، وقال:
- «أمّا هذا، فلا يأتى أهله أبدا.» ولم يزل هذا ديدنه حتّى قتل ستّة، فانهزموا ودخلوا الدّير، وحاصرهم حتّى جاءتهم الأمداد، وكانوا عشرين ألفا.
فقال له أصحابه:
- «ألا نعقر دوابّنا ثمّ نشدّ عليهم شدّة واحدة؟» فقال:
- «لا، حتّى نبلى [1] عذرا ما استمسكنا على دوابّنا.» فقاتلوهم عامّة نهارهم حتّى فشا فيهم القتل والجراح.
ثمّ إنّ بهلولا نزل هو وأصحابه، فعقروا دوابّهم وترجّلوا لهم، وأصلتوا السّيوف [2] وقتل عامة أصحاب البهلول، وهو يقاتل ويذود عن أصحابه، إلى أن حمل عليه رجل يكنّى أبا الموت، فصرعه، فارتثّه من بقي من أصحابه، وقالوا له:
- «ولّ أمرنا من بعدك من يقوم به.» فقال:
- «إن هلكت، فأمير المؤمنين دعامة الشّيبانى.» ومات البهلول [112] فى ليلته، وهرب دعامة قبل الصّبح.
__________
[1] . نبلى عذرا: كذا فى الأصل ومط وآ. وما فى الطبري (9: 1626) : نبلى الله عذرا.
[2] . فى الأصل ومط: بالسيوف. فى آوالطبري: وأصلتوا السيوف.(3/109)
ثمّ دخلت سنة عشرين ومائة
وفيها هلك أسد بن عبد الله من دبيلة كانت فى جوفه، فاستخلف جعفر بن حنظلة البهراني، فعمل أربعة أشهر، وجاء عهد نصر بن سيّار فى رجب سنة احدى وعشرين.
وفى هذه السنّة وجّهت شيعة بنى العبّاس بخراسان إلى محمد بن علىّ بن عبد الله بن العبّاس سليمان بن كثير، ليعلمه أمرهم وما هم عليه.
سبب توجيههم سليمان إلى محمّد
والسّبب فى ذلك موجدة كانت من محمّد بن على، على من كان بخراسان من شيعته من أجل طاعتهم كانت لخداش [1] الّذى ذكرنا خبره وقبولهم منه الكذب الّذى رواه لهم عنه. فلمّا أبطأ كتابه اجتمعوا، فذكروا ذلك منهم، فأجمعوا على الرّضا بسليمان بن كثير ليلقاه بأمرهم ويخبره عنهم ويرجع إليه بما يرد عليه. فقدم سليمان بن كثير على محمّد بن علىّ وهو متنكّر، فأخبره عنهم بطاعة وخير، فعنّفهم وقال:
- «لعن الله خداشا ومن كان على رأيه ومن سمع مقالته فأجابه إليها.» ثمّ صرف سليمان إلى أهل خراسان [113] فسأله أن يكتب إليهم معه كتابا، فكتب كتابا وختمه. فلمّا قدم عليهم سليمان فضّوا خاتم الكتاب، فلم يجدوا فيه إلّا «بسم الله الرّحمن الرّحيم» ، فغلظ ذلك عليهم وعلموا أنّ ما كان من خداش أتاهم به مخالف لأمره. ثمّ أنفذ محمّد بن علىّ بكير بن ماهان إلى شيعته بخراسان وبعث معه بعصىّ مضبّبة [2] بعضها بالحديد وبعضها بالشّبّة [3] .
فقدم بها بكير وجمع النّقباء والشّيعة ودفع إلى كلّ رجل منهم عصا، فعلموا
__________
[1] . خداش: كذا فى الأصل وآ. ما فى مط: حداس.
[2] . مضبّبة: كذا فى الأصل وآ. والطبري (9: 1640) : مضّبّبة. فى مط: مضبة.
[3] . فى حواشي الطبري: النحاس، بدل الشبه.(3/110)
أنهم عصاة، فرجعوا، وتابوا واعتذروا إلى بكير.
وفى هذه السّنة عزل هشام خالد بن عبد الله عن أعماله كلّها ذكر السّبب فى عزل خالد بن عبد الله القسري ونكبته
كان السّبب فى ذلك سكرة عرضت لخالد من طول الولاية وعزّ الإمرة وكثرة ما اجتمع عنده من الأموال. فمن ذلك أنّ كاتبا كان لابنه خلا به يوما فقال له:
- «كم غلّة ابني؟» فقال:
- «قد زاد على عشرة آلاف ألف درهم.» فقال:
- «ابني مظلوم. ما تحت قدمي من شيء إلّا وهو له.» يعنى أنّ عمر بن الخطّاب رضى الله عنه جعل لبجيلة ربع [1] السّواد. [114] وكان خالد قد اتخذ بالعراق أموالا، وحفر أنها را حتّى بلغت غلّته عشرين ألف ألف درهم، وكان كثيرا ما يقول فى خلواته عند من يأنس به:
- «هذا ابن الحمقاء.» يعنى هشاما. وكانت أمّ هشام مستحمقة، فتكلّم فيه أولاد هشام وحسدوه وسبعوه [2] هم [3] وأهل بيت مروان، وكان أحد الأسباب الّذى غاظ هشاما أنّه دخل على خالد رجل من قريش من أولاد سعيد بن العاص، أو عمرو بن العاص، فتبسّط عنده، فاستخفّ به خالد وعضّه بلسانه. فكتب إلى هشام يشكوه.
__________
[1] . ربع السواد: كذا فى الأصل ومط والطبري (9: 1655) : ربع السواد. فى آ: رفع السّواد.
[2] . سبعوه: كذا فى الأصل وآ. ما فى مط: شنّعوه. سبعوه: شتموه.
[3] . هم: كذا فى آ. وما فى الأصل ومط: وهم (بزيادة الواو) .(3/111)
فكتب هشام إلى خالد:
كتاب هشام إلى خالد القسري
- «أمّا بعد، فإنّ أمير المؤمنين، وإن كان أطلق يدك ورأيك فى من استرعاك أمره واستحفظك عليه للّذى من كفايتك ووثق به من حسن تدبيرك، لم يفرشك غرّة أهل بيته لتطأه بقدمك ولا تحدّ إليه بصرك، فكيف بك وقد بسطت عليه لسانك تريد بذلك تصغير خطره واحتقار قدره. زعمت بالنّصفة منه حتّى أخرجك ذلك إلى الإغلاظ له فى اللفظ بمحضر العامّة غير متحلحل [1] له حين رأيته مقذّا [2] من صدر مهادك الّذى مهّدك [115] الله فيه، وفى قومك من يعلوك بحسبه، ويغمرك بأوّليته، فنلت مهادك بما رفع به آل عمرو من ضعتك خاصّة، مساورين [3] بك فروع غرر القبائل وقرومها قبل أمير المؤمنين، حتّى حللت هضبته صرت تنحو بها عليهم مفتخرا. هذا إن لم تدهده بك قلّة شكرك متحطّما وقيذا.
- «فهلا يا ابن محرّشة [4] قومه، أعظمت رجلهم داخلا عليك وخارجا، ووسّعت مجلسه إذا رأيته مقبلا إليك، وتجافيت له عن صدر فراشك مكرما، ثمّ فاوضته مقبلا عليه ببشرك، إكراما لأمير
__________
[1] . متحلحل: كذا فى الأصل: متحلحل. فى مط: متخلّل. فى آ: متحلخل (متخلخل؟) . والأصل يوافق الطبري (9: 1643) .
[2] . مقذّا. فى مط وآ والطبري: مقبلا.
[3] . مساورين. كذا فى الأصل ومط وآ: فى الطبري: مساوين.
[4] . محرّشة: كذا فى الأصل ومط وآ: محرشة ما فى الطبري (9: 1643) : مجرشه (بالجيم المعجمة) .(3/112)
المؤمنين، فإذا اطمأنّ به مجلسه نازعته نجّى [1] السّرار. معظّما لقرابته، عارفا بحقّه. فهو سنّ البيتين ونابهم وابن شيخ آل أبى العاص وحرب وغرّتهم.
- «وبالله يقسم أمير المؤمنين لولا ما تقدّم من حرمتك، وما يكره من شماتة عدوّك بك، لوضع ما رفع من قدرك، حتى [يردّك إلى حال [2]] تفقد بها أهل الحوائج بعراقك، وتزاحم المواكب ببابك، وما أقربنى من أن أجعلك تابعا لمن كان لك تبعا.
- «فانهض على أىّ حال ألفاك رسول أمير المؤمنين وكتابه من ليل أو نهار ماشيا على [116] قدميك بمن معك من حولك، حتّى تقف بباب ابن عمرو صاغرا مستأذنا عليه، متنصّلا إليه، إذن لك أو منعك، فإن حرّكته عواطف رحمه [3] احتملك، وإن احتملته [4] حميّته وأنفته من دخولك عليه، فقف ببابه حولا غير متحلحل ولا زائل، ثمّ أمرك إليه بعد: عزل أو ولّى، انتصر أو عفا.
- «فلعنك الله من متّكل عليه بالثّقة، ما أكثر هفواتك، وأقذع لأهل الشّرف ألفاظك الّتى لا تزال تبلغ أمير المؤمنين من إقدامك بها على من هو أولى بما أنت فيه من ولاية مصرى العراق وأقدم وأقوم، وقد كتب أمير المؤمنين إلى ابن عمّه بما كتب به إليك من إنكاره عليك ليرى فى العفو عنك والسّخط عليك رأيه، مفّوضا
__________
[1] . نجّى: كذا فى الأصل ومط. فى آ: بحى السرار. فى الطبري: بحيى السرار.
[2] . ما بين [] تكملة من الطبري (9: 1643) .
[3] . رحمه: كذا فى الأصل ومط. فى آوالطبري (9: 1644) : رحمة.
[4] . احتملته: كذا فى الأصل والطبري. فى مط: احتمله. وفى آ: احتمته.(3/113)
ذلك إليه، مبسوطة فيه يده، محمودا عند أمير المؤمنين على أيّها [1] أتى إليك موفّقا إن شاء الله.»
وكتابه إلى ابن عمرو:
- «أمّا بعد، فقد بلغ أمير المؤمنين كتابك، وفهم ما ذكرت من بسط خالد عليك لسانه فى مجلس العامّة، محتقرا لقدرك، مستصغرا لقرابتك بأمير المؤمنين، وعواطف رحمه عليك، وإمساكك عنه [117] تعظيما لأمير المؤمنين وسلطانه، وتمسّكا بوثائق عصم طاعته، على مؤلم ما تداخلك من قبائح ألفاظه، وشرارة منطقه، وإكبابه [2] عليك عند إطراقك عنه مروّيا فى ما أطلق أمير المؤمنين من لسانه، وأطال من عنانه، ورفع من ضعته، ونوّه من خموله. كذلك أنتم آل سعيد فى مثلها عند هذر الذّنابى، وطائشة أحلامها، صمت غير [3] ما إفحام، بل بأحلام تخفّ [4] بالجبال، وقد حمد أمير المؤمنين تعظيمك إيّاه، وتوقيرك سلطانه وسكره [5] ، وقد جعل أمر خالد إليك فى عزله وإقراره، فإن عزلته أمضى عزلك إيّاه، وإن أقررته فتلك منّة لك عليه لا يشركك أمير المؤمنين فيها.
__________
[1] . أيها أتى: كذا فى الأصل وآ ومط. فى الطبري: على أيّهما آتى.
[2] . إكبابه: كذا فى الأصل ومط وآ: إكبابه. فى الطبري (9: 1645) : إكثابه.
[3] . فى الأصل: عن ما إفحام. فى آ: غير ما افحام. فى مط: عن ما اتحام. فى الطبري (9:
1645) : من غير افحام.
[4] . فى الطبري تخفّ بالجبال وزنا.
[5] . سكره: كذا فى الأصل وآ: سكره. فى الطبري (9: 1645) ومط: شكره.(3/114)
- «وقد كتب إليه أمير المؤمنين بما يطرد عنه سنة الهاجع عند وصوله له، يأمره بإتيانك، راجلا على أيّة حالة صادفه كتاب أمير المؤمنين وألفاه رسوله الموجّه إليك من ليلة أو نهاره، حتّى يقف ببابك، أذنت له أو حجبته، أقررته أو عزلته.
- «وتقدّم أمير المؤمنين إلى رسوله فى ضربه بين يديك عشرين سوطا على رأسه، إلّا أن تكره أن يناله ذلك بسببك [118] لحرمة خدمته، فأيّهما رأيت إمضاءه كان لأمير المؤمنين فى برّه لك وتعظيمه حرمتك وقرابتك وصلة رحمك موافقا وإليه حبيبا فى ما ينوي من قضاء حقّ آل أبى العاص وسعيد.
- «فكاتب أمير المؤمنين مبتدئا ومجيبا ومحادثا وطالبا، ما عسى أن ينزل بك أهلك من حوائجهم التي تقعد بهم الحشمة عن تناولها من قبله لبعد دارهم عنه، وقلّة إمكان الخروج لإنزالها به غير محتشم من أمير المؤمنين، ولا مستوحش من تكرارها عليه على قدر قرابتهم وأديانهم وأسنانهم [1] ، مستميحا ومسترفدا ومطالبا مستزيدا، تجد إليك أمير المؤمنين سريعا بالبرّ لما يحاول من صلة قرابتهم، وقضاء حقوقهم.
- «وبالله يستعين أمير المؤمنين على ما ينوي، وإليه يرغب فى العون على قضاء حقوق قرابته، وعليه يتوكّل، وبه يثق، والله وليّه ومولاه، والسّلام.»
جناية خالد على نفسه
وممّا جناه خالد على نفسه، أنّ رجلا يقال له: فرّوخ كان قد تقبّل من ضياع
__________
[1] . أسنانهم: كذا فى الأصل. فى الطبري (9: 1646) : أنسباهم. فى مط: لسانهم.(3/115)
هشام بن عبد الملك بموضع يقال له: نهر الرّمان فكان يدعى لذلك: فرّوخ الرمّانى فثقل مكانه على خالد.
فقال خالد لحسّان [119] النّبطى:
- «ويحك، اخرج إلى أمير المؤمنين، وزد على فرّوخ.» فخرج حسّان، فزاد عليه ألف ألف، فبعث معه هشام رجلين من صلحاء أهل الشّام [1] ، فحاز الضياع، فصار حسّان أثقل على خالد من فرّوخ، فجعل يضرّبه ويوذيه، فيقول حسّان له:
- «لا تفسدنى وأنا صنيعتك.» فأبى إلّا الإضرار به حتّى بثق عليه البثوق. فخرج حسّان إلى هشام، فقال:
- إنّ خالدا بثق البثوق على ضياعك.» فوجّه هشام رجلا، فنظر إليها، ثمّ رجع فأخبره.
وأقام حسّان يفسد أمر خالد حتّى قال يوما لخادم من خدم هشام:
- «إن تكلّمت بكلمة أقولها لك حيث يسمع هشام، فلك عندي ألف دينار.» قال:
- «فعجّل لى الألف، وأقول ما شئت.» فعجّلها له وقال له:
- «بكّ صبيّا من صبيان هشام، فإذا بكى فقل له: اسكت والله لكأنّك ابن خالد القسري الّذى غلّته ثلاثة عشر ألف ألف.» ففعل. فسمعها هشام، ودارت فى نفسه. فلمّا دخل عليه حسّان، قال:
- «أدن منّى.» فقال:
- «كم غلّة خالد؟» قال:
__________
[1] . اهل الشام: سقطت الكلمتان من مط.(3/116)
- «عشرون ألف ألف.» قال.
- «فكم غلّة ابنه؟» قال:
- «ثلاثة عشر ألف ألف.» قال:
- «فكيف لم تخبرني [120] بهذا؟» فقال:
- «وهل سألتنى؟» فوقرت [1] فى نفس هشام، حتّى عزله.
وممّا كتب به هشام إلى خالد:
- «قد بلغني يا ابن أمّ خالد أنّك تقول: ما ولاية العراق لى بشرف. فيابن اللخناء، كيف وأنت من بجيلة القليلة الذليلة؟ أما والله، إنّى لأظنّ أن أوّل ما يأتيك صفر [2] من قريش يشدّ يديك إلى عنقك.» وكان من أسباب موجدته أيضا، أنّ رجلا قدم عليه، فقال:
- «إنّى سمعت خالدا ذكر أمير المؤمنين بما لا يلتقى به الشفتان، قال: قال الأحول! قال لا، بل أشدّ من ذلك.» قال:
- «فما هو؟» قال:
- «لا أقوله أبدا.» ولمّا صحّ عزم هشام على عزل خالد، أحب أن يكتم ذلك حتّى يتمّمه.
فاختار لمكانه يوسف بن عمر، وكان يومئذ والى اليمن. فكاتبه، فقدم عليه جندب مولى يوسف بكتاب له. فقرأه، ثمّ قال لكاتبه:
- «أجبه على لسانك.» وكتب هو بخطّه كتابا صغيرا. ثمّ قال لى [3] :
__________
[1] . فوقرت. كذا فى الأصل وآ: فوقرت. وقر فلانا: جرّحه.
[2] . صقرّ: كذا فى الأصل ومط وآ: صقر. فى الطبري (9: 1646) : صغير.
[3] . لى: كذا فى الأصل والطبري (9: 1649) : لى. فى مط: له.(3/117)
- «ايتنى بكتاب سالم.» وكان سالم على الدّيوان، فأتيته به، فأدرج فيه الكتاب الصّغير، ثمّ قال:
- «اختمه.» ففعلت. ثمّ دعا برسول يوسف، فقال:
- «إنّ صاحبك لمتعدّ طوره، ويسأل فوق قدره.» [121] ثمّ قال لى:
- «مزّق ثيابه.» ثمّ أمر بضربه. فضربه أسواطا، وقال:
- «أخرجه عنّى، وادفع إليه كتابه.» فدفعت إليه الكتاب وقلت له:
- «ويلك، النّجا.» فارتاب بشير بن أبى ثلجة [1] بذلك وكان خليفة سالم وقال:
- «هذه حيلة والله.» وقد ولى يوسف العراق. فكتب إلى عياض، وهو صاحب طارق بن أبى زناد، وطارق هذا خليفة خالد على الخراج. وكان كتابه إلى عياض:
- «إنّ أهلك قد بعثوا إليك بالثّوب اليماني، فإذا أتاك فالبسه، واحمد الله، وأعلم ذلك طارقا.» فبعث عياض إلى طارق بالكتاب، وندم بشير على كتابه، فكتب إلى عياض:
- «إن أهلك قد بدا لهم فى إمساك الثّوب، فلا تتّكل عليه.» فجاء عياض بالكتاب الآخر إلى طارق. فقال طارق:
__________
[1] . ثلجة: ما فى الأصل مهمل فى الحرف الأول. ما فى مط مهمل فى الأول أيضا. وما فى آ. يشبه أن يكون: ملحة.(3/118)
- «الخبر فى الكتاب الأوّل، ولكن صاحبك ندم وخاف أن يظهر الكتاب [1] .
فكتب بهذا.» ثمّ ركب طارق من الكوفة إلى خالد، وهو بواسط، فسار يوما وليلة، فصبّحهم، فرءاه داود البربري وكان على حجابة خالد وحرسه وديوان الرّسائل فأعلم خالدا قدومه، فغضب وقال:
- «قدم بغير إذن!» ثمّ أذن له. [122] فلمّا رءاه قال:
- «ما أقدمك؟» [2] قال:
- «أمر كنت أخطأت فيه.» قال:
- «وما هو؟» قال:
- «وفاة أسد. رحمه الله كتبت إلى أمير أعزّيه عنه، وإنّما كان ينبغي أن آتيه ماشيا.» فرقّ خالد، ودمعت عيناه وقال:
- «ارجع إلى عملك.» فقال:
- «أردت أن أذكر للأمير أمرا أسرّه إليه.» قال:
- «ما دون داود سرّ.» قال:
- «أمر من أمرى.» فغضب داود وخرج، فأخبر طارق خالدا. قال:
- «فما الرأى؟» قال:
__________
[1] . الكتاب: كذا فى الأصل ومط وآ: الكتاب. ما فى الطبري (9: 1650) : الخبر.
[2] . ما أقدمك: كذا فى الأصل وآ: ما أقدمك. فى مط: «ما أقدم لك!»(3/119)
ذكر آراء أشير بها على خالد فلم يقبلها
- «تركب إلى أمير المؤمنين، فتعتذر [1] إليه من شيء إن كان بلغه عنك.» قال خالد:
- «ما أركب إليه بغير إذنه.» قال:
- «فشيء آخر.» قال:
- «وما هو؟» قال:
- «تسير فى عملك وأتقدّمك إلى الشّام، فأستاذنه لك. فإنّك لا تبلغ أقصر عملك حتّى يأتيك إذنه.» قال:
- «ولا هذا.» قال:
- «فأذهب، واضمن لأمير المؤمنين جميع ما انكسر فى هذه السّنين، وآتيك بعهدك مستقبلا.» قال:
- «وما مبلغ ذلك؟.» قال:
- «مائة ألف ألف.» قال:
- «ومن أين أجد [2] هذا؟ والله ما أجد عشرة آلاف ألف [3] درهم.» قال:
- «أتحمّل أنا وسعيد بن راشد [123] أربعين ألف ألف درهم، وتفرّق الباقي على العمّال [والزينبي وأبان بن الوليد عشرين ألف ألف درهم [4]] قال:
- «إنّى إذن للئيم إن كنت سوّغت قوما شيئا ثمّ أرجع فيه.» فقال طارق:
- «إنّا نقيك ونقى أنفسنا بأموالنا، ونستأنف الدّنيا، ونبقّى النّعمة عليك
و
__________
[1] . فتعتذر: كذا فى الأصل وآ، والطبري (1650) : فتعتذر. فى مط: فتعذر.
[2] . أجد: كذا فى الأصل ومط وآ: أجد. فى الطبري (9: 1650) : آخذ.
[3] . فى الأصل وآ: عشرة ألف ألف. فى مط والطبري: عشرة آلاف.
[4] . ما بين [] ساقط من الأصل ومط، وهو موجود فى آ، والطبري (9: 1651) .(3/120)
علينا، خير من أن يجيء من يطالبنا بالأموال، وهي عند تجّار أهل الكوفة، فيتقاعسون ويتربّصون بنا، فنقتل نحن ويأكلون تلك الأموال.» فأبى خالد فودّعه طارق وبكى وقال:
- «هذا آخر ما نلتقي فى الدّنيا.»
[مواساة من بلال بن أبى برده لخالد]
وتحدّث ابن عيّاش أنّ بلال بن أبى بردة كتب إلى خالد وهو عامله على البصرة حين بلغه تعتّب هشام عليه:
- «إنّه حدث أمر لا أجد بدّا من مشافهتك به. فإن رأيت أن تأذن لى، فإنّما هي ليلة ويومها إليك، ويوم عندك، وليلة ويومها منصرفا.» فكتب إليه: أن أقبل إذا شئت.
فركب هو وموليان، له الجمّازات. فسار يوما وليلة حتّى صلّى المغرب بالكوفة وهي ثمانون فرسخا. فأخبر خالد بمكانه، فأتاه وقد تعصّب. فقال:
- «أبا عمرو، أتعبت نفسك.» قال:
- «أجل.» قال:
- «متى عهدك بالبصرة؟» قال:
- «أمس.» قال:
- «أحقّ ما تقول؟» قال:
- «هو والله ما قلت.» قال:
- «فما أنصبك؟» قال:
- «بلغني من تعتّب أمير المؤمنين وقوله [124] وما بغاك [1] به ولده وأهل
__________
[1] . بغاك: كذا فى الأصل بغاك. الباء فى آ: مهملة. فى مط: بغاك الله.(3/121)
بيته. فإن رأيت أن تعرض عليه بعض أموالنا ثمّ تدعوه منها إلى أحبّ، فأنفسنا به طيّبة. ثمّ اعرض على مالك، فما أخذ منه فعلينا [1] العوض منه بعد.» قال:
- «ما أتّهمك، وحتّى أنظر.» قال:
- «إنّى أخاف أن تعاجل.» قال:
- «كلّا.» قال:
- «إنّ قريشا من عرفت [2] ولا سيّما سرعتهم إليك.» قال:
- «يا بلال، إنّى والله ما أعطى شيئا قسرا أبدا.» قال:
- «أيّها الأمير، أتكلّم؟» قال:
- «نعم.» قال:
- «إنّ هشاما أعذر [3] منك. يقول: استعملتك وليس لك شيء، فلم تر من الحقّ عليك أن تعرض علىّ بعض ما صار إليك، وأخاف أن يزيّن له حسّان النّبطى ما لا تستطيع إدراكه، فاغتنم هذه الفترة.» قال:
- «أنا ناظر فى ذلك، فانصرف راشدا.» فانصرف بلال وقد يئس منه.
هشام يولّى يوسف بن عمر العراق
وكان رسول يوسف بن عمر لمّا قدم عليه قال له:
- «ما وراءك؟» قال:
- «الشّرّ. أمير المؤمنين ساخط عليك، وقد ضربني ولم يكتب جواب كتابك، وهذا كتاب سالم صاحب الدّيوان.» ففضّ الكتاب وقرأه. فلمّا انتهى إلى آخره قرأ كتاب هشام بخطّه أن:
__________
[1] . فعلينا: كذا فى الأصل. فى آ: لعلينا.
[2] . من عرفت: كذا فى الأصل. فى آ: قد عرفت.
[3] . أعذر: كذا فى الأصل: أعذر. فى آ: أغدر. ما فى مط: مهمل.(3/122)
- «سر إلى العراق، فقد ولّيتكه، وإيّاك أن يعلم بذلك أحد، وخذ ابن النّصرانيّة [125] وعمّاله، فاشفني منهم.» فاستخلف يوسف ابنه على عمله، واختار دليلا عالما بالطّرق [1] وسار.
فسأله ابنه:
- «أين تريد؟» قال له:
- «يا بن اللخناء، أيخفى عليك إذا استقرّ بى منزل» ثمّ سار. فكان إذا أتى طريقين سأل. فإذا قيل: هذا إلى العراق، قال: أعرف، حتّى أتى الكوفة. فقال لغلامه كيسان:
- «انطلق، فأتنى بطارق، فإن كان قد أقبل، فأحمله على أكاف، وإن لم يكن قد أقبل، فأت به سحبا.» قال: فأتيت الحيرة دار عبد المسيح وهو سيّد أهل الحيرة. فقلت له:
- «إنّ يوسف قد قدم على العراق، وهو يأمرك أن تشدّ طارقا وتأتيه به [2] .» فخرج هو وولده وغلمانه حتّى أتوا منزل طارق. وكان لطارق غلام شجاع معه غلمان شجعان، لهم سلاح وعدّة. فقال لطارق:
- «إن أذنت لى خرجت إلى هؤلاء فى من معى فقتلتهم، ثمّ طرت على وجهك حيث شئت.» فقال: «لا.» وأذن لكيسان. فلمّا دخل قال:
- «أخبرنى عن الأمير ما يريد؟» قال:
- «المال.» قال:
__________
[1] . فى آ، والطبري (9: 1652) : الطريق.
[2] . وتأتيه به. كذا فى الأصل ومط وآ والطبري (9: 1653) : وتأتيه به.(3/123)
- «فأنا أعطيه ما سأل.» ثمّ أقبلوا إلى يوسف، فتوافوا بالحيرة. فلمّا عاينه ضربه ضربا مبرّحا، يقال:
خمسمائة، [126] ودخل المدينة- يعنى الكوفة- فخطب بها وتوعّد أهل العراق وقال:
- «والله لأقتلنّ منافقيكم بالسّيف وجناتكم بالعذاب، وفسّاقكم بالسّوط.» ثمّ نزل، ومضى إلى واسط وأتى بخالد وهو بها، فحبسه. فتوسّط بينهما النّاس حتّى صالحه آبان [1] بن الوليد على تسعة آلاف ألف درهم. فندّم [2] يوسف وقيل له:
- «لو لم تفعل لأخذت منه مائة ألف ألف درهم.» قال:
- «ما كنت لأرجع وقد رهنت لساني بشيء.» وأخبر خالد، فقال:
- «أسأتم حين أعطيتموه عند أوّل وهلة تسعة آلاف ألف، ما آمن أن يأخذها ثمّ يعود عليكم، فارجعوا عليه.» فجاؤوه، وقالوا:
- «إنّ خالدا ليس يرضى بما ضمنّا وأخبرنا أنّ الملك لا يمكنه.» فقال:
- «أنتم أعلم وصاحبكم. أما أنا فلا أرجع عليكم. فإن رجعتم لم أمنعكم.» قالوا:
- «فإنّا قد رجعنا.» قال:
- « [أ] [3] فقد فعلتم؟» قالوا:
- «نعم.» قال:
__________
[1] . آبان: كذا فى الأصل: آبان. فى آومط والطبري (9: 1654) : أبان.
[2] . فندّم: كذا فى الأصل فندّم. فى آ: فندم. فى الطبري: ثمّ ندم. فى مط: فتقدّم.
[3] . [أ] : الهمزة: ليست فى الأصل ومط وأضفناها من آ.(3/124)
- «فمنكم أتى النّقص. فو الله لا أرضى بتسعة آلاف ألف، ولا أضعافها.» فأخذ مائة ألف ألف.
كتاب يوسف بن عمر إلى جديع بولاية خراسان
ثمّ كتب يوسف بن عمر إلى جديع بن على الكرماني بولاية خراسان. فأتاه الكتاب بمرو، فخرج إلى النّاس، فخطبهم، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر أسدا وما صنع [127] الله للنّاس على يده بعد ما كانوا فيه من الشّدة والجهد. ثمّ ذكر أخاه خالدا بالجميل، وأثنى عليه، وذكر قدوم يوسف بن عمر إلى العراق، وحثّ النّاس على الطّاعة ولزوم الجماعة، ثمّ قال:
- «غفر الله للميّت- يعنى أسدا- وعافى المعزول، وبارك للقادم.» ثمّ نزل.
وفى هذه السّنة عزل جديع الكرماني عن خراسان وولّيها نصر بن سيّار ذكر السّبب فى ذلك
لمّا انتهت وفاة أسد إلى هشام استشار أصحابه فى من يصلح لخراسان.
فأشير عليه بقوم. فقال:
- «اكتبوا أسماءهم.» فكان ممّن كتب له: عثمان بن عبد الله بن الشّخير، ويحيى بن الحصين بن المنذر، ونصر بن سيّار، والمجشّر بن مزاحم السّلمى، وغيرهم.
- فسأل عن عثمان، فقيل: «هو صاحب شراب.» وسأل عن المجشّر، فقيل: «هو شيخ همّ.» وسأل عن ابن حصين، فقيل: «فيه تيه وعظمة.»(3/125)
وسأل عن قطن بن قتيبة، فقيل: «هو موتور.» فاختار نصر بن سيّار. فقيل:
- «ليست له بها عشيرة.» فقال:
- «أنا عشيرته.» فولّاه، وبعث بعهده. وكان هشام سأل عبد الكريم [128]- وكان أتاه من خراسان من أخبره بموت أسد:
- « [من ترى أن نولّى خراسان؟] [1] بلغني أنّ لك بها وبأهلها علما.» فقال:
- «يا أمير المؤمنين، أمّا رجل خراسان حزما ونجدة فالكرمانى.» فأعرض بوجهه وتطّير من اسمه: «جديع.» وقال:
- «سمّ لى غيره.» قال: قلت:
- «اللّسن المحرب يحيى بن نعيم بن هيبرة الشّيبانى.» قال:
- «ربيعة لا تسدّ بها الثّغور.» فقال عبد الكريم: فقلت فى نفسي، قد كره ربيعة واليمن، فأرميه بمضر.
فقلت:
- «عقيل بن معقل الليثي إن اغتفرت هنة.» قال:
- «ما هي؟» قلت:
- «ليس بالعفيف.» قال:
- «فلا حاجة لى به.» قال: قلت:
- «المجشّر بن مزاحم، عاقل شجاع له رأى.» قال:
- «فيه كذب، ولا خير فى الكذب.»
__________
[1] . ما بين [] تكملة أضفناها من الطبري (9: 1661) .(3/126)
قال عبد الكريم: وأخّرت نصرا وهو أرجل القوم [1] وأعرفهم بالسّياسة.
ثمّ قلت: «نصر بن سيّار الليثي.» فقال:
- «نصر بن سيّار هو لها.» قلت:
- «فإنّ عشيرته بها قليلة.» قال [2] :
- «لا أبا لك، أكثر منّى؟ أنا عشيرته.» فولّى نصرا، وأمره بمكاتبة يوسف بن عمر. وكان يوسف قد أسمى لخراسان جماعة، وأوفد فى ذلك وفدا، فأبى عليه هشام فيهم.
وكان خرج بعهد نصر إلى خراسان عبد الكريم الحنفي، أنفذه هشام مع كاتبه أبى المهنّد، فوصل عبد الكريم بعشرة آلاف درهم. [129] واستعمل نصر خلفاءه على كور خراسان، وعمر خراسان عمارة لم تعمر قطّ مثلها، ووضع الخراج، وأحسن الولاية والجباية، ومدحه الشّعراء، وكان نصر شاعرا خطيبا، فخطب النّاس، وقال فى خطبته:
استمسكوا أصحابنا يحد بكم [3] ... فقد عرفنا خيركم من شرّكم
ثمّ دخلت سنة احدى وعشرين ومائة
وفيها غزا مروان بن محمّد بلاد صاحب السّرير الذّهب، ففتح قلاعه، وخرّب أرضه، فأذعن له بالجزية فى كل سنة ألف رأس يؤدّيه، وأخذ رهائنه، وملّكه [4] على أرضه.
__________
[1] . أرجل القوم: كذا فى الأصل ومط والطبري (9: 1662) . ما فى آ: أرجلهم.
[2] . قال: فى الأصل: قلت وهو خطأ. والصواب هو ما أثبتناه كما فى مط وآ.
[3] . يحدبكم: الضبط فى الأصل. ما فى آ. مهمل. فى مط يجدكم. وفى الطبري (9: 1666) : بجدّتكم. وفى حواشيه: بحدبكم. أى بسيوفكم. وحدا بالإبل: ساقها.
[4] . وملّكه: كذا فى النسخ الثلاث. فى الطبري (9: 1667) : وملّك مروان على أرضه.(3/127)
قتل زيد بن علىّ بن الحسين (ع)
وفيها قتل زيد بن على بن الحسين بن علىّ بن أبى طالب- صلوات الله عليهم [1]- فى قول الواقدي. وفى قول هشام بن محمّد: قتل فى سنة اثنتين وعشرين ومائة.
ذكر السّبب فى مقتله والسّبب فى خروجه كان بين أولاد الحسين والحسن- عليهم السلام [2]- خصومة فى صدقة رسول الله [3]- صلّى الله عليه- وكانوا يتنازعون إلى والى المدينة، وكان واليها يومئذ إبراهيم بن هشام. وانتهت الخصومة إلى زيد بن على، وإلى جعفر بن حسن. فلمّا هلك جعفر قال عبد الله بن حسن بن حسن [130]- «من لزيد؟» [4] قال حسن بن حسن بن حسن:
- «أنا.» قال:
- «إنّا نخاف لسانك ويدك. ولكنّى [أنا أكفيكه [5] .] » قال:
- «إذن لا تبلغ حاجتك [وحجتك [6]] ولكن أبلغ حجّتى.»
__________
[1] . صلوات الله عليهم. كذا فى الأصل. والتصلية مشطوبة فى آوقد كتب مكانها: رضى الله عنهم. فى مط أيضا: رضى الله عنهم.
[2] . عليهم السّلام. كذا فى الأصل. فى مط: رضى الله عنهم. فى آ: عليهما السلام والرضوان.
[3] . صدقة رسول الله: كذا فى الأصل ومط وآ: صدقة رسول الله. وزاد فى هامش الأصل: هو صدقة على، عليه السلام.
[4] . من لزيد؟: فى الطبري (9: 1672) : من يكفينا زيدا؟
[5] . أنا أكفيكه: تكملة من الطبري (9: 1672) .
[6] . وحجّتك. تكملة من الطبري أيضا.(3/128)
فتنازعا يوما، فأغلظ عبد الله لزيد وقال:
- «يا ابن العندكية [1] .» فتضاحك زيد وقال:
- «فعلتها يا با محمد.» ثمّ ذكر أمّه بشيء.
وكانت ولاية المدينة يومئذ لخالد بن عبد الملك وهذه الخصومة كانت عنده. فقال خالد:
- «اغدوا علينا غدا. فلست لعبد الملك إن لم أفصل بينكما.» فباتت المدينة تغلى كالمرجل، يقول قائل: قال زيد كذا، ويقول قائل: قال عبد الله كذا. فلمّا كان الغد، جلس خالد فى المسجد واجتمع النّاس. فمن شامت ومن مهموم. فدعا بهما خالد وهو يحبّ أن يتشاتما فيتبيّن ذلك لهما.
وذهب عبد الله يتكلّم. فقال زيد:
- «لا تعجل يا با محمّد، أعتق زيد ما يملك، إن خاصمك إلى خالد أبدا [2] .» ثمّ قال:
- «يا خالد، لقد جمعت ذرّيّة رسول الله صلّى الله عليه لأمر ما كان يجمعهم عليه أبو بكر ولا عمر. [3] » فقال خالد:
- «ما لهذا السّفيه أحد.» فتكلّم رجل من الأنصار من آل عمرو بن حزم، فقال:
__________
[1] . العندكيه (الغدكية؟) : كذا فى الأصل. فى مط: العذكية. فى الطبري (9: 1673) : يا بن الهندكية. وفى حواشيه عن بعض الأصول: السندية.
[2] . انظر الطبري (9: 1674) .
[3] . زاد فى مط: رضى الله عنهما.(3/129)
- «يا بن أبى تراب وابن حسين السّفيه [1] ، أما ترى للوالي عليك حقّا ولا طاعة! فقال زيد:
- «أسكت أيّها القحطانىّ، فإنّا لا نجيب مثلك.» فقال:
- «ولم؟ أترغب عنّى؟ فو الله، إنّى لخير منك وأبى [131] خير من أبيك، وأمى خير من أمّك.» فتضاحك زيد، ثمّ قال:
- «يا معشر قريش، هذا الدّين قد ذهب، أذهبت الأحساب؟ فو الله، إنّه ليذهب دين القوم وما تذهب أحسابهم.» فتكلّم عبيد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب، فقال:
- «كذبت والله يا قحطانىّ، فهو لخير منك نفسا وأبا وأمّا ومحتدا.» وتناوله بكلام كثير.
فقال القحطانىّ:
- «دعنا منك، يا ابن واقد.» فأخذ ابن واقد كفا من حصباء المسجد، فضرب بها الأرض، ثمّ قال:
- «أف! والله ما لنا على هذا صبر.» وقام فشخص زيد إلى هشام بن عبد الملك. فجعل هشام لا يأذن له، فيرفع إليه القصص. فكلّما قرأ قصّة له كتب هشام فى أسفلها:
- «إرجع إلى أميرك.» فيقول زيد:
- «إنّى والله ما أرجع إلى خالد أبدا، وما أسأل مالا، وإنّما أنا رجل مخاصم.»
__________
[1] . لعن القائل فى هامش آ، بخط آخر.(3/130)
إذن هشام لزيد ومحاجّة جرت بينهما
ثم إنّ هشاما أذن له يوما بعد طول حبس، وجلس فى عليّة له رفيعة، وأمر خادما له أن يتبعه ويتسمّع عليه، فقال له:
- «أنظر لا يرينّك [واسمع ما يقول] [1] » قال: فأتعبته الدّرجة وكان بادنا فوقف فى بعضها وقال:
- «والله ما أحبّ الدنيا أحد إلّا ذلّ.» فلمّا أعيد ذلك على هشام، علم أنّه خارج عليه.
فيقال: إنّ هشاما قال له يوما:
- «لقد بلغني يا زيد، أنّك تذكر الخلافة وتتمنّاها ولست [132] هناك [2] ، فإنّك ابن أمّة.» فقال زيد:
- «إنّ لك يا أمير المؤمنين جوابا.» قال:
- «فتكلّم به.» قال:
- «إنّه ليس أحد أولى بالله، ولا أرفع عنده منزلة من نبىّ ابتعثه، وقد كان إسماعيل من خير الأنبياء وولد خيرهم محمّدا صلّى الله عليه وكان ابن أمة، وأخوه ابن صريحة مثلك، فاختاره الله عليه، فأخرج منه خير البشر، وما على أحد [من ذلك] [3] جدّه رسول الله- صلّى الله عليه ما كانت أمّه.» [4] فقال له هشام:
- «أخرج عنّى.» قال:
__________
[1] . واسمع ما يقول: تكملة من الطبري (9: 1675) .
[2] . لست هناك: كذا فى النسخ وفى الطبري (9: 1676)
[3] . تكملة من الطبري.
[4] . ما كانت أمّه: كذا فى الأصل ومط والطبري (9: 1676) . فى آ: ما كانت أمّه أمة.(3/131)
- «إن خرجت لا تراني إلّا حيث تكره.» فقال له سالم:
«لا يظهرنّ منك هذا.»
بين خالد بن عبد الله القسري وزيد بن على
ثمّ إنّ خالد بن عبد الله القسري ادّعى مالا له قبل زيد بن علىّ، ومحمّد بن عمر بن أبى طالب، وداود بن علىّ بن عبد الله بن العبّاس وإبراهيم بن سعد بن عبد الرّحمن بن عوف الزّهرى، وأيّوب بن سلمة بن عبد الله بن الوليد بن المغيرة المخزومي. فقدمت كتب يوسف بن عمر على هشام بذلك، فبعث إليهم يخبرهم بما ادّعى عليهم خالد، فأنكروا.
فقال لهم هشام:
- «فاخرجوا إليه يجمع بينكم وبينه.» فقال له زيد بن علىّ:
- «أنشدك الله والرّحم، أن تبعث بى إلى يوسف بن عمر.» قال:
- «وما الّذى تخاف منه؟» قال:
- «أخاف أن يعتدى علىّ.» قال هشام:
- «ليس له ذاك.» ودعا كاتبه وقال له: أكتب إلى يوسف بن عمر:
- «أمّا بعد، فإذا قدم [133] عليك فلان وفلان، فاجمع بينهم وبين خالد القسري وابنه يزيد. فإن هم أقرّوا بما ادّعى عليهم، فسرّح بهم إلىّ، وإنّ هم أنكروا، فسله بيّنة، فإن لم يقمها،(3/132)
فاستحلهم بالله الّذى لا إله إلا هو: ما استودعكم خالد ولا ابنه يزيد وديعة، ولا لهما قبلكم شيء. ثمّ خلّ سبيلهم.» فقالوا لهشام:
- «إنّا نخاف تعدّيه لكتابك.» قال:
- «كلّا، إنّى قد صدّقتكم، ولكن لا بدّ من أن تكذّبوا خالدا فى وجهه، وأنا باعث معكم رجلا من الحرس بذلك، حتّى يعجّل الفراغ منه، ويردّكم إلىّ.» قالوا:
- «جزاك الله خيرا.» فوصلهم هشام، وسرّح بهم إلى يوسف. فلمّا قدموا عليه أجلس زيد بن علىّ قريبا منه، وألطفه فى المسألة. ثمّ سألهم عن المال، فأنكروا جميعا، فأخرج يوسف خالدا إليهم فى عباءة، وجمع بينه وبينهم، وقال:
- «هذا زيد بن علىّ وهذا داود بن على، وهذا فلان وفلان الّذين ادّعيت عليهم ما ادّعيت، وقد أمر أمير المؤمنين بكيت وكيت، وهذا الكتاب. فهل عندك بيّنة بما ادّعيت؟» فلم تكن له بيّنة.
فقال يوسف للقوم:
- «أتحلفون أنّ خالدا ما أودعكم ما لا ولا له قبلكم حقّ [134] فقال زيد:
- «أنّى [1] يودعنى هذا مالا وهو يشتم آبائي على منبره؟» وسكت القوم. ثمّ التفتوا بأجمعهم إلى خالد وقالوا:
__________
[1] . أنّى: كذا فى الأصل وآ. وما نفى مط: ان.(3/133)
- «ما دعاك إلى ما صنعت؟» قال:
- «إنّه أغلظ علىّ فى العذاب، فادّعيت ما ادّعيت، وأمّلت أن يأتى الله بفرج قبل قدومكم.» فأطلقهم يوسف، فمضوا، وتخلّف بالكوفة زيد بن علىّ وداود.
إقبال الشّيعة إليه
وأقبلت الشّيعة تختلف إلى زيد ويوسف يأمره بالخروج، وهو يعتلّ عليه.
وبلغ ذلك هشاما. فكتب إلى يوسف:
- «إنّه بلغني أنّ زيدا يحتجّ عليك فى مقامه بخصومة بينه وبين بعض آل طلحة فى مال بينه وبينهم بالمدينة، فليقم جريّا [1] يقوم مقامه.» وأزعجه، وقد كان بايعه سلمة بن كهل، ونصر بن خزيمة العبسي، ومعاوية بن إسحاق الأنصارى وناس من وجوه أهل الكوفة. فلمّا رأى ذلك داود بن علىّ قال:
- «يا ابن عمّ، لا يغرّنك هؤلاء من نفسك. ففي أهل بيتك لك عبرة.» وذكّره بأيّام علىّ وأيّام الحسن والحسين، ولم يزل به حتّى أخرجه معه، فشخصا حتّى بلغا القادسيّة. فاتبعه شيعته حتّى بلغوا الثعلبية، وقالوا له:
نحن أربعون ألفا، وإن رجعت إلى الكوفة لم يتخلّف عنك أحد.» فجعل يقول:
- «إنّى أخاف أن تخذلوني [135] وتسلّمونى كما فعلتم بأبى وجدّى.»
__________
[1] . فليقم جريّا: كذا فى الأصل. فى مط: حربا. ما فى آمهمل. وفى الطبري (9:
1679) : فليجّر جريّا. بدل: فليقم جريا. الجرىّ: الوكيل. الضامن.(3/134)
فيحلفون له ويعطونه المواثيق والأيمان المغلّظة، ويقول له داود:
- «يا بن عمّ، هكذا قالوا لأبيك وجدّك، ثمّ لم يفوا.» فقال لزيد:
- «إنّ هذا لا يحبّ أن تظهر أنت، ويزعم [1] أنّه وأهل بيته أحقّ بهذا الأمر منكم.»
رجوع زيد إلى المدينة
ولم يزالوا عليه بهذا الكلام ونحوه حتّى انصرف معهم إلى الكوفة. فأتاه سلمة بن كهل، فاستأذن عليه، فأذن له. فذكر قرابته برسول الله صلى الله عليه وحقّه، فأحسن. ثمّ تكلّم زيد فأحسن.
فقال سلمة:
- «اجعل لى الأمان حتّى أقول.» قال:
- «سبحان الله! ومثلك يسأل مثلي الأمان؟» وإنّما أراد سلمة أن يسمع ذلك أصحابه.
ذكر رأى أشار به سلمة على زيد، فلم يقبله
فقال:
- «نشدتك الله، كم بايعك [2] ؟» قال:
- «أربعون ألفا.» قال:
- «فكم بايع جدّك؟» قال:
- «ثمانون ألفا.» قال:
__________
[1] . ويزعم: كذا فى الأصل ومط: ويزعم. ما فى آ: وزعم.
[2] . بايعك: كذا فى الأصل وآ: بايعك. فى مط: تابعك. وكذلك فى قوله: «فكم بايع جدّك» .(3/135)
- «فكم حصل معه؟» قال:
- «ثلاثمائة.» قال:
- «نشدتك الله، أأنت خير أم جدّك؟» قال:
- «بل جدّى.» قال:
- «أفقرنك الّذين خرجت فيهم خير، أم القرن [1] الّذين خرج فيهم جدّك؟» قال:
- «بل القرن الّذين خرج فيهم جدّى.» قال:
- «أفتطمع أن يفي لك هؤلاء، وقد غدر أولئك [136] بجدّك؟» قال:
- «إنّهم بايعوني، ووثّقوا لى.» قال:
- «فتأذن لى أن أخرج من البلد؟» قال:
- «ولم؟» قال:
- «آمن أن يحدث فى أمرك حدث، فلا أملك نفسي.» قال:
- «وقد أذنت لك.» فخرج إلى اليمامة.
كتاب عبد الله بن الحسن إلى زيد
وكتب عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علىّ بن أبى طالب إلى زيد:
- «يا بن عمّ، إنّ أهل الكوفة نفج [2] العلانية، خوز السّريرة، تقدّمهم ألسنتهم، ولا تشايعهم قلوبهم. ولقد تواترت إلىّ كتبهم، فصممت عن ندائهم، وألبست قلبي غشاء عن ذكرهم، يأسا منهم، واطّراحا لهم، وما لهم مثل إلّا ما قال على بن أبى طالب»
__________
[1] . القرن: قرن القائد: هم الّذين يتّبعونه ويعاونونه.
[2] . نفج: كذا فى الأصل وآ. نفج. فى مط: نفح. فى الطبري (9: 1681) : نفخ.(3/136)
وذكّره بأشياء قالها فى أهل العراق.
[كيف كانت بيعة زيد]
واستخفى زيد بالكوفة وبثّ دعاته، وأخذ يتنقّل من موضع إلى موضع ويبايع من استجاب له. وكانت بيعته:
- «إنّى أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه صلّى الله عليه وجهاد الظّالمين، والدّفع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين، وقسم هذا الفيء بين أهله بالسّواء، وردّ المظالم، وإقفال المجمّر [1] ، ونصرنا أهل البيت على من نصب لنا. أتبايعون على ذلك؟» فإذا قالوا: نعم، وضع يده على يده، ثمّ يقول:
- «عليك عهد الله وميثاقه وذمّته وذمّة رسوله صلّى الله عليه- لتفينّ ببيعتي، ولتقاتلنّ معى عدوّى، ولتنصحنّ لى فى السّر [137] والعلانية.» فإذا قال: نعم، مسح يده على يده، ثمّ قال:
- «اللهمّ اشهد.» فمكث بذلك عشر شهرا، وبلغ هشاما خبر رجوعه إلى الكوفة بعد خروجه منها. ولم يبلغ ذلك يوسف بن عمر، وظنّ أنّه استمرّ فى خروجه إلى المدينة.
__________
[1] . إقفال المجمّر: كذا فى الأصل والطبري (9: 1687) . فى مط: أفعال المحمر. فى آ:
إنقال المحمر (المجمر) .(3/137)
كتاب هشام إلى يوسف بن عمر فى أمر زيد بن علىّ
فكتب هشام إلى يوسف بن عمر فى أمر زيد كتابا نسخته:
- «أمّا بعد، فقد علمت حال الكوفة فى حبّهم أهل هذا البيت، ووضعهم إيّاهم فى غير مواضعهم، لأنّهم افترضوا طاعتهم على أنفسهم، وضيّقوا [1] عليهم شرائع دينهم، ونحلوهم علم ما هو كائن، حتّى حملوهم من تفريق الجماعة على حال استخفّوهم فيها إلى الخروج، وقد كان قدم زيد بن علىّ على أمير المؤمنين فى خصومة له، فرأى رجلا جدلا لسنا خليقا بتمويه الكلام وصوغه واجترار الرّجال بحلاوة لسانه وكثرة مخارجه فى حججه، وما يدلى به عند لدد الخصام من السّطوة على الخصم بالقوّة الحادّة لنيل الفلج. فعجّل إشخاصه إلى الحجاز، ولا تخلّه والمقام قبلك، فإنّه إن أعاره القوم أسماعهم فحشّاها من لين لفظه وحلاوة منطقه مع ما يدلى به من القرابة برسول الله- صلّى الله عليه- وجدّهم [غير متئدة قلوبهم، ولا ساكنة أحلامهم، ولا مصونة عندهم أديانهم] [2] ، ميّلا إليه، وبعض التحامل عليه [138] فى أذى له [وإخراجه وتركه] [3] مع السّلامة للجميع، والحقن للدماء، والأمن للفرقة، أحبّ إلىّ من أمر فيه سفك دمائهم، وانتشار كلمتهم، وقطع سبلهم، والجماعة حبل الله المتين، ودين
__________
[1] . وضيّقوا: كذا فى الأصل. فى الطبري (9: 168) : ووظّفوا.
[2] . [غير متئدة ... ] تكلمة من الطبري (9: 1683) .
[3] . [وإخراجه ... ] تكملة من الطبري، إلّا أنّ فى متن الطبري: «مع السلامة» وفى حواشيه: «معه السلامة» .(3/138)
الله القويم، وعروته الوثقى. فادع إليك اشراف أهل المصر، فأوعدهم العقوبة فى الأبشار، واستصفاء الأموال. فإنّ من له عقد أو عهد منهم سيبطئ عنه، ولا يخفّ معه إلّا الرّعاع وأهل السّواد ومن تنهضه الحاجة استلذاذا للفتنة، [وأولئك ممّن يستعبد إبليس وهو يستعبدهم] [1] فبادهم بالوعيد، واعضضهم بسوطك، وجرّد منهم سيفك، وأخف الأشراف قبل الأوساط، والأوساط قبل السّفلة. واعلم أنّك قائم على باب ألفة، وداع إلى طاعة، وحاضّ على جماعة، ومشمّر لدين الله، فلا تستوحش لكثرتهم، واجعل معقلك الّذى تأوى إليه، وصغوك الّذى تخرج به، الثّقة بربّك والغضب لدينك والمحاماة على الجماعة ومناصبة من أراد كسر هذا الباب الّذى أمرهم الله، عزّ وجلّ، بالدّخول فيه، والتشاحّ، عليه، فإنّ أمير المؤمنين قد أعذر إليه، وقضى من ذمامه، فليس له منزى [2] إلى ادّعاء حقّ هو له، ظلمه [3] من نصبه فى فيء أوصله لذي قربى، إلّا ما [137] خاف أمير المؤمنين من حمل مدرة السّوء له [4] ، على الّذى عسى أن يكونوا به أشقى وبه أضلّ، ولهم أمرّ، ولأمير المؤمنين أعزّ وأسهل، إلى حياطة الدّين والذبّ عنه، فإنّه لا يحبّ أن يرى فى أمّته حالا متفاوتا، نكالا لهم مفتنا [5] . فهو
__________
[1] . [وأولئك ... ] تكلمة من الطبري.
[2] . منزى: كذا فى الأصل: منزى. فى مط: مبرى. فى آ: مرى.
[3] . ظلمه قربى: والعبارة فى الطبري (9: 1684) : ظلمه من نصيبه نفسه أو فيء، أو صلة لذي قربى.
[4] . فى آ: فى حمل مدده وفى أخرى مدرة السوء له.
[5] . فى الطبري: مفنيا. بدل: مفتنا. وفى حواشيه: مقيتا.(3/139)
يستديم النّظر، ويتأتّى للرّشاد، ويجتبيهم [1] ، على المخاوف، ويستجرّهم إلى المراشد، ويعدل بهم عن المهالك، فعل الوالد المشفق على ولده، والرّاعى الحدب على رعيّته. واعلم أنّ من حجّتك عليهم، واستحقاق نصر الله لك عند معاندتهم، توفيتك أطماعهم وأعطية ذرّيّتهم، ونهيك جندك أن ينزلوا حريمهم ودورهم. فانتهز رضا الله فى ما أنت بسبيله، فإنّه ليس ذنب أسرع تعجيل عقوبة من بغى، وقد أوقعهم الشّيطان، ودلّاهم فيه، ودلّهم عليه، والعصمة بتارك البغي أولى. فأمير المؤمنين يستعين الله عليهم وعلى غيرهم من رعيّته ويسأل إليه ومولاه ووليّه أن يصلح منهم ما كان فاسدا، وأن يسرع بهم إلى النّجاة والفوز، إنّه سميع قريب.» فبعث يوسف فى طلب زيد، فأرشد إلى من يعرف خبره، وجاءه سليمان بن سراقة البارقي، فأخبره أنّه يختلف إلى [140] ابن أخت له، فطلبه يوسف هناك، فلم يوجد عنده، وجاء بالرّجل. فلمّا كلّمه استبان له أمر زيد وأصحابه، وتخوّف زيد أن يؤخذ، فأخذ فى التّعجيل.
نكث بيعة زيد
ولمّا رأى أصحاب زيد أنّ يوسف بن عمر قد بلغه أمر زيد وأصحابه، وأنّه يستبحث [2] عن أمره، اجتمعت إليه جماعة من رؤساء من بايعه، فقالوا:
__________
[1] . ويجتبيهم: كذا فى الأصل. فى الطبري يجتنبهم. فى مط: ويجتنهم عن. ما فى آ:
مهمل.
[2] . يستبحث: كذا فى آ. والطبري (9: 1699) ونقطة الباء غير موجودة فى الأصل. فى مط: يستحثّ.(3/140)
- «رحمك الله، ما قولك فى أبى بكر وعمر؟» [1] قال زيد: «رحمهما الله وغفر لهما، ما سمعت من أهل بيتي أحدا يتبرّأ منهما، ولا يقول فيهما إلّا خيرا.» قالوا: «فلم تطلب إذا بدم أهل هذا البيت، إلّا أنّ هذين وثبا على سلطانكم.
فنزعاه من أيديكم؟» فقال زيد:
- «إنّ أشدّ ما نقول فى ما ذكرتم أنّا كنّا أحقّ بسلطان رسول الله صلى الله عليه من النّاس أجمعين، وأنّ القوم استأثروا علينا ودفعونا عنه، ولم يبلغ ذلك بهم عندنا كفرا. قد ولوا فعدلوا، وعملوا بالكتاب واتّبعوا السّنّة.» قالوا له:
- «فلم يظلمك إذا هؤلاء، فلم تدعونا إلى قتال قوم ليسوا لك بظالمين؟» فقال لهم:
- «إنّهم ليسوا كأولئك. لأنّ هؤلاء ظالمون لأنفسهم، وإنّما ندعوهم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه، وإلى السّنن أن تحيا، وإلى البدع أن تطفأ. فإن أنتم أجبتمونا سعدتم، وإن [141] أنتم أبيتم، فلست عليكم بوكيل.» ففارقوه ونكثوا بيعته وقالوا:
- «سبق الإمام.» وقد كان هلك محمد بن علىّ بن الحسين يومئذ، وكان ابنه جعفر حيّا، فقالوا:
- «جعفر إمامنا وهو أحقّ بالأمر بعد أبيه وليس زيد بإمام.» فسمّاهم زيد الرّافضة. وهم اليوم يزعمون أنّ الّذى سمّاهم الرّافضة المغيرة، وذلك أنّهم فارقوه بالكوفة وتركوه حتّى قتل، وقد حكينا أمره.
__________
[1] . أنظر الطبري (9: 1699) .(3/141)
استتباب الخروج لزيد
واستتبّ لزيد الخروج. فواعد أصحابه ليلة الأربعاء، وهي اوّل ليلة من صفر. يقال سنة اثنتين وعشرين، ويقال سنة احدى وعشرين.
وبلغ يوسف بن عمر أنّ زيدا قد أزمع الخروج. فبعث حكم بن أبى الصّلت [1] ، وأمره أن يجمع أهل الكوفة فى المسجد الأعظم، ثمّ يحصرهم فيه.
فبعث الحكم إلى العرفاء، وإلى الشّرطة، والمناكب، والمقاتلة، فأدخلهم المسجد. ثمّ نادى مناديه أنّ الأمير يقول:
- «من أدركناه فى رحله فقد برئت منه الذمّة. ادخلوا المسجد الأعظم.» فأتى النّاس المسجد يوم الثلاثاء قبل خروج زيد بيوم، وطلبوا زيدا فى المواضع الّتى كان يتنقّل فيها. فخرج ليلة الأربعاء وكانت ليلة شديدة البرد- من دار معاوية بن إسحاق، [142] وكان قد طلب فيها. فرفعوا هرادىّ النّيران من القصب ونادوا بشعارهم:
- «يا منصور أمت» وكلّما أكلت النّار هرديا رفعوا آخر. فما زالوا بذلك حتّى طلع الفجر. فلمّا أصبحوا، بعث زيد القاسم [2] التّبعى ورجلا آخر من أصحابه يناديان بشعارهم.
فلقيهما جعفر بن العبّاس الكندي فى أصحابه. فشدّوا عليهما وقتل الرّجل الّذى كان مع القاسم التّبعى، وارتثّ القاسم، فأتى به الحكم بن أبى الصّلت، فكلّمه، فلم يرد عليه شيئا، فضربت عنقه على باب القصر. فكان هذان أوّل من قتل من أصحاب زيد.
__________
[1] . حكم بن أبى الصلت: كذا فى الأصل ومط. فى آوالطبري (9: 1701) : بدون «أبى» .
[2] . القاسم: فى الأصل: القسم.(3/142)
وأمر الحكم به أبى الصّلت بدروب السّوق، فغلّقت، وغلّقت أبواب المسجد الأعظم على أهل الكوفة، وأمر أصحاب الأرباع بالكوفة أن يصيروا إليه، وبعث إلى يوسف بن عمر، فأخبره الخبر، فبعث يوسف جعفر بن العبّاس الكندي فركب فى خمسين فارسا، ثم قال:
- «اذهب فأتنى بخبرهم.» فلمّا استقبل [1] الرّجلين وكان ما كان من أمرهما، رجع إلى يوسف، فأخبره.
فلمّا أصبح خرج إلى تلّ قريب من الحيرة، فنزل عليه ومعه قريش وأشراف النّاس، وعلى شرطته العبّاس بن سعيد المرّى [2] . فبعث زياد بن سلمة فى ألفين وثلاثمائة من الرّجال معهم النشّاب وأصبح زيد، [143] فكان جميع من وافاه تلك اللّيلة مائتي رجل وثمانية عشر رجلا فقال زيد:
- «سبحان الله! أين النّاس؟» فقيل:
- «هم فى المسجد الأعظم محصورون.» فقال:
- «لا والله، ما هذا بعذر لمن بايعنا.» وسمع نصر بن خزيمة النّداء، فأقبل إليه، فلقى عمرو بن عبد الرّحمن صاحب شرطة الحكم بن أبى الصّلت فى أصحابه. فقال نصر بن خزيمة:
- «يا منصور أمت.» فشدّ عليه نصر وأصحابه، فقتل عبد الرّحمن، وانهزم من كان معه.
وأقبل زيد الى جبّانة الصّيّادين، وبها خمسمائة من أهل الشّام، فحمل عليهم زيد فى من معه، فهزمهم. وكان تحت زيد يومئذ برذون أدهم بهيم، وسار حتّى انتهى إلى دار رجل من الأزد يقال له: أنس بن عمرو، وكان فى من
__________
[1] . كذا فى النسخ: استقبل.
[2] . المرّى: كذا فى الأصل ومط: المري. فى آ. والطبري (9: 1702) : المزني.(3/143)
بايعه، فنودي وهو فى داره، فلم يجب. فناداه زيد:
- «يا أنس، اخرج. فقد جاء الحقّ وزهق الباطل، إنّ الباطل كان زهوقا [1] .» فلم يخرج إليه. فقال زيد:
- «قد فعلتموها، الله حسيبكم.» ثمّ مضى زيد إلى الكناسة، فحمل على جماعة بها من أهل الشّام، فهزمهم.
ثمّ خرج حتّى ظهر إلى الجبّانة، ويوسف بن عمر على التّلّ ينظر إليه هو وأصحابه، وبين يديه نحو من مائتي رجل، وناس من الأشراف لا يبلغ عشرة.
فلو أقبل على يوسف لقتله [144] وتمّم أمره.
ثمّ إن زيد أخذ ذات اليمين على مصلّى خالد بن عبد الله حتّى دخل الكوفة، فأقبل على نصر بن خزيمة وقال:
- «أما ترى خذلان النّاس إيّانا قد جعلوها حسينيّة.» فقال له:
- «جعلني الله فداءك. أمّا أنا، فو الله لأضربنّ معك بسيفي هذا حتّى أموت.» ثمّ إنّ نصرا قال لزيد:
- «جعلني الله فداءك. إنّ النّاس فى المسجد الأعظم محصورون، فاذهب بنا نحوهم.» فخرج بهم زيد نحو المسجد، فمرّ على دار خالد بن عرفطة، وبلغ عبيد الله بن العبّاس الكندي إقباله، فخرج فى أهل الشّام، وأقبل زيد، فالتقوا على باب عمرو بن سعد بن أبى وقّاص، فكعّ [2] صاحب لواء عبيد الله فقال له:
- «احمل يا ابن الخبيثة.» فحمل حتّى خضب لواءه بالدّم.
__________
[1] . س 17 أسراء: 81.
[2] . كعّ: ضعف وجبن.(3/144)
ثمّ إنّ عبيد الله برز، فخرج إليه واصل الحنّاط، فاضطربا بسيفيهما فقال واصل:
- «خذها منّى وأنا الغلام الحنّاط.» فقال:
- «قطع الله يدي إن كلت [1] بقفيز أبدا.» ثمّ ضربه، فلم يصنع شيئا، وانهزم عبيد الله وأصحابه، وبلغ زيد وأصحابه باب المسجد، وجعلوا يدخلون راياتهم من فوق الأبواب ويقولون:
- «يا أهل المسجد، اخرجوا.» وجعل نصر بن خزيمة يناديهم ويقول:
- «يا أهل الكوفة اخرجوا من الذّلّ والصّغار إلى العزّ، اخرجوا الى الدّين والدّنيا.» فأشرف عليهم [145] أهل الشّام، فجعلوا يرمونهم بالحجارة. وانصرف عنهم زيد بن علىّ، فنزل دار الرزق، وخرج اليه ناس من أهل الكوفة، فأتاه ريّان بن سلمه، فقاتله عند دار الرزق قتالا شديدا، فخرج أهل الشّام وقتل منهم وانهزموا، وتبعهم أصحاب زيد من دار الرزق حتّى انتهوا الى المسجد، فرجع أهل الشّام مساء يوم الأربعاء أسوأ شيء ظنّا. فلمّا كان من الغد يوم الخميس دعا يوسف الرّيّان بن سلمه وليس عليه سلاحه فأفّف به وقال:
- «أفّ لك من صاحب خيل، اجلس.» ودعا العبّاس بن سعد المرّى [2] صاحب شرطته، فبعثه فى أهل الشّام، فسار حتّى انتهى الى زيد فى دار الرّزق، وخرج زيد فى أصحابه، وعلى مجنّبته نصر بن خزيمة العبسي، ومعاوية بن إسحاق الأنصارى. فلمّا رءاهم العبّاس
و
__________
[1] . كلت. الضبط فى الطبري (9: 1706) : كلت. وفى حواشيه: كلت.
[2] . سعد المرّى: كذا فى الأصل: وآ ومط: سعد المرّى. فى الطبري (9: 1707) : سعيد المزني.(3/145)
لم يكن معه رجّالة، نادى أهل الشّام:
- «الأرض، الأرض.» فنزل معه ناس كثير، فاقتتلوا قتالا شديدا فى المعركة، فقتل نصر بن خزيمة.
ثمّ اشتدّ القتال، فهزمهم زيد وقتل من أهل الشام نحوا من سبعين رجلا، فانصرفوا وهم بشرّ حال. فلمّا كان العشىّ عبّاهم يوسف بن عمر ثمّ وجّههم.
فأقبلوا حتّى التقوا مع زيد وأصحابه، فحمل عليهم زيد [146] وأصحابه، فكشفهم. ثمّ تبعهم حتّى أخرجهم إلى بنى سليم، ثمّ تبعهم حتّى أخذوا على المسنّاة. ثمّ ظهر لهم زيد فى ما بين بارق ورؤاس [1] ، فقاتلهم هناك قتالا شديدا، فجعلت خيلهم لا تثبت لخيله ولا رجالهم لرجاله. فبعث العبّاس إلى يوسف يعلمه ذلك وقال له:
- «ابعث الىّ النّاشبة.» فبعث إليهم القيقانيّة والبخاريّة، وهم ناشبة، فرموا زيدا وأصحابه، وحرص زيد على أن يصرف أصحابه، فأبوا عليه. فقاتل إسحاق بن معاوية بن إسحاق الأنصارى بين يديه قتالا شديدا حتّى قتل بين يدي زيد وثبت زيد ومن معه، حتّى جنح الليل، فرمى حينئذ بسهم أصاب جبهته اليسرى، فثبت فى الدّماغ، فرجع ورجع أصحابه، ولا يظنّ أهل الشّام أنّهم رجعوا إلّا للمساء والليل. وحمل زيد حتى أدخل بعض دور أرحب وشاكر، وجاءوه بطبيب يقال له: شقّر، فانتزع السّهم، وجعل يضجّ، ولم يلبث أن قضى رحمه الله.
ماذا فعلوا برأسه وجثّته
فتشاور أصحابه: أين يوارى؟ فقال بعضهم:
__________
[1] . الرّؤاس: فى الأصل: الرواس. والهمزة من الطبري (9: 1708) .(3/146)
- «نحتزّ رأسه ونطرحه بين القتلى، فهو أجدر أن لا يعرف، وندفن رأسه حيث يخفى.» فقال ابنه:
- «لا والله، لا تأكل لحم أبى الكلاب.» فقال بعضهم:
- «فننطلق به إلى الحفرة الّتى يؤخذ منها الطّين.» فانطلقوا به. فحفروا له ودفنوه، ثمّ أجروا عليه [147] الماء وتصدّع عنه النّاس، وخرج ابنه نحو النّهرين يعنى نهري كربلاء.
ثمّ بعث يوسف بن عمر لمّا علم بقتل زيد. فأمر أن يطلبوه فى الجرحى فى دور أهل الكوفة. فكانوا يخرجون النّساء إلى صحن الدار ويدخلون جوف البيوت، يلتمسون الجرحى، حتى دلّهم غلام سندىّ كان لزيد حضر دفنه.
وقيل: بل أبصرهم قصّار كان هناك، فدلّ عليه، فاستخرج.
فأمر يوسف بن عمر بحزّ رأسه، وبعث به إلى هشام، وصلب جثّته بالكناسة مع جثّة نصر بن خزيمة، ومعاوية بن إسحاق الأنصارى وزياد النّهدى. فبقى زمانا طويلا يحرس بالكناسة لئلّا ينزل. وأمّا رأسه فإنّ هشاما أمر بنصبه على باب مدينة دمشق. ثمّ أرسل به إلى المدينة. ولم يزل بدنه منصوبا حتّى مات هشام، فأمر به الوليد، فأنزل وأحرق.
كلام يوسف بن عمر بعد قتل زيد بن على
ولمّا قتل زيد بن على أقبل يوسف بن عمر حتّى دخل الكوفة، وجاء إلى المسجد، فصعد المنبر، وقال:
- «يا أهل الكوفة، يا أهل المدرة الخبيثة، إنّى والله ما تقرّن بى(3/147)
الصّعبة، ولا تقعقع لى بالسّنان، ولا أخشى [1] بالذئب. هيهات، [حبيت] [2] بالسّاعد الأشدّ. أبشروا يا أهل الكوفة بالصّغار والهوان [148] فلا عطاء لكم عندنا ولا رزق. لأخربنّ بلادكم، ولأحربنّكم أموالكم. أما والله، ما أطلت منبري إلّا لأسمعكم عليه ما تكرهون، فإنّكم أهل بغى وخلاف، ما منكم إلّا من حارب الله ورسوله. ولقد سألت أمير المؤمنين فيكم. ولو أذن لى لقتلت مقاتلتكم، وسبيت ذراريّكم.»
ما كان من غزوات نصر بن سيّار
وفى هذه السّنة قتل البطّال بن الحسين، واسمه عبد الله، فى جماعة من المسلمين بأرض الرّوم. وقد حكينا ما جرى فى سنة اثنتين [3] ومائة إلّا ما كان من غزوات نصر بن سيّار، فإنى كرهت أن أقطع حديث زيد بحديثه.
وكان من حديث نصر بن سيّار أنّه غزا من بلخ ما وراء النّهر، ثم قفل فخطب النّاس وقال:
- «ألا إنّ فلانا كان مانح [4] المجوس، وفلان مانح اليهود، وفلان مانح النّصارى يحملون أثقال المشركين على المسلمين. ألا، إنّى مانح المسلمين أحمل أثقالهم على المشركين. ألا إنّه لا يقبل منّى إلّا توفير الخراج على ما كتب ورفع، وقد استعملت عليكم منصور بن عمار بن أبى الحرّ، وأمرته
__________
[1] . أخشى: كذا فى الأصل ومط وآ، فى الطبري (9: 1716) : أخوّف.
[2] . حبيت: ما فى الأصل: حشت. فى مط: خشت (بإهمال الأخير) . فى آ: حست. وما أثبتناه هو من الطبري (9: 1716) . حبيت: أعطيت.
[3] . اثنتين ومائة: كذا فى الأصل وآ. ما فى مط: اثنتين وعشرين ومائة.
[4] . مانح: الكلمة مهملة فى الأصل (فى المواضع الثلاثة) . فى آ: ماتح، مانح.(3/148)
بالعدل عليكم. فأيّما رجل منكم من المسلمين كان يؤخذ منه جزية من رأسه، أو ثقّل عليه فى خراجه وخفّف مثل ذلك عن المشركين، فليرفع ذلك [149] إلى منصور بن عمر [1] يحوّله عن المسلم إلى المشرك.» قال: فما كانت الجمعة الثّانية حتّى أتاه ثلاثون ألفا من المسلمين كانوا يؤدّون الجزية عن رؤوسهم، وثلاثون ألف رجل من المشركين قد ألقيت عنهم جزيتهم فحوّل، ذلك إليهم وألقاه عن المسلمين.
ثمّ غزا من مرو الشّاش، فحال بينه وبين قطوع النّهر كورصول فى خمسة عشر ألفا استأجر كلّ رجل منهم كلّ شهر بشقّه حرير، والشّقة يومئذ بخمسة وعشرين درهما. فكانت بينهم مراماة، فمنع نصرا من القطوع إلى الشّاش. وكان الحارث بن سريج يومئذ بأرض التّرك، فأقبل معهم، وكان بإزاء نصر، فرمى نصرا وهو على سريره على شاطئ النّهر بحسبان، [2] فوقع السّهم فى شدق وصيف لنصر يوضّئه، فتحوّل نصر عن سريره ورمى فرس لرجل من أهل الشّام، فنفق وعبر كورصول فى أربعين رجلا، فبيّت أهل العسكر، وساق شاء أهل بخارى وكانوا فى السّاقة، وأطاف بالعسكر فى ليلة مظلمة، ومع نصر أهل بخارى وسمرقند وكسّ وسروشنة وهم عشرون ألفا.
فنادى نصر فى الأخماس:
- «لا يخرجنّ أحد من بنائه، واثبتوا على مواضعكم.» فخرج عاصم بن عميرة [3] [150] وهو على جند سمرقند، حتّى مرّت خيل
__________
[1] . عمر: فى الأصل: عمر. وفى مط: عمار. وفى آ: عمر عمار (كذا) .
[2] . بحسبان: كذا فى الأصل. فى آ: بجبعار (مهملة) وهي ساقطة فى مط. فى الطبري (9:
1689) ايضا: بحسبان.
[3] . عميرة: كذا فى الأصل ومط: عميرة. ما فى آ، والطبري (9: 1690) : عمير. فى حواشي الطبري: عمرو.(3/149)
كورصول، فحمل على آخرهم، فأسر رجلا. فإذا هو ملك من ملوكهم صاحب أربعة آلاف قبّة. فجاؤوا به إلى نصر، فإذا هو شيخ يسحب درعه شبرا، وعليه رانا ديباج فيهما حلق وقباء فرند مكفّف بالدّيباج.
فقال له نصر:
- «من أنت؟» قال:
- «كورصول. فما ترجو من قتل شيخ؟ وأنا أعطيك ألف بعير من إبل التّرك، وألف برذون تقوّى به جندك [1] وخلّ سبيلي.» فقال نصر لمن حوله من أهل الشام وأهل خراسان:
- «ما تقولون؟» قالوا:
- «خلّ سبيله.» فسأله عن سنّة. قال:
- «لا أدرى.» قال:
- «كم غزوة غزوت؟» قال:
- «اثنتين وسبعين غزوة.» قال:
- «أشهدت يوم العطش؟» قال:
- «نعم.» قال:
- «لو أعطيتنى ما طلعت عليه الشمس ما انفلت من يدي بعد ما ذكرت من مشاهدك. [2] » وقالوا لعاصم بن عمير السّعدى:
- «قم إلى سلبه فخذه.»
__________
[1] . به جندك: كذا فى الأصل والطبري وآ: به جندك. فى مط: به على جندك.
[2] . مشاهدك. كذا فى الأصل ومط وآ. ما فى الطبري (9: 1691) : مشاهدتك.(3/150)
فلمّا أيقن بالقتل قال:
- «من أسرنى؟» فقال نصر وهو يضحك:
- «يزيد بن قرّان الحنظلي.» وأشار إليه. قال:
- «هذا لا يقدر أن يغسل استه، فكيف يأسرنى؟ فأخبرنى من أسرنى؟
فإنّى أهل أن أقتل سبع قتلات.» قيل له:
- «عاصم بن عمير.» قال:
- «الآن لست أجد مسّ القتل إذ كان أسرنى فارس من فرسان العرب.» فقتله [151] وصلبه على شاطئ النّهر.
وعاصم بن عمير هذا هو الهزارمرد الّذى قتل بنهاوند أيّام قحطبة.
ولمّا قتل كورصول تجرّدت التّرك، وجاءوا بأبنية له، فحرّقوها، وقطعوا آذانهم، وخدّدوا [1] وجوههم، وتعرّوا يبكون عليه. فلمّا أمسى نصر وأراد الرّحلة بعث إليه بقارورة نفط فصبّها عليه، ثمّ أشعل فيه النّار لئلّا يحملوا عظامه. فكان ذلك أشدّ عليهم من قتله.
فارتفع نصر إلى فرغانة، فسبى منها ثلاثين ألف رأس.
مسير نصر إلى الشّاش
ثمّ إنّ يوسف بن عمر كتب إلى نصر أن:
- «سر إلى هذا الغارز ذنبه بالشّاش. يعنى الحارث بن سريج فإن أظفرك الله به وبأهل الشّاش، فخرّب بلادهم واسب ذراريّهم، وإيّاك وورطة المسلمين.»
__________
[1] . خدّدوا: كذا فى الأصل ومط وآ: خدّدوا. ما فى الطبري (9: 1691) : جرّدوا. فى حواشي الطبري: خدّدوا.(3/151)
فدعا نصر النّاس، فقرأ عليهم الكتاب، وقال:
- «ما ترون؟» فقال يحيى بن حضين:
- «امض لأمر الأمير.» فقال نصر:
- «يا يحيى، تكلمت ليالي عاصم بكلمة فبلغت الخليفة فحظيت بها، وزيد فى عطائك، وفرض لأهل بيتك وبلغت الدّرجة الرّفيعة. فقلت أقول مثلها. سرّ يا يحيى، فقد ولّيتك مقدّمتى.» فأقبل النّاس على يحيى يلومونه. فسار إلى الشّاش، فأتاه الحارث بن سريج، فنصب عرّادتين تلقاء بنى تميم. فقيل له:
- «هؤلاء بنو تميم.» فنقلها ونصبها على الأزد [152] وأغار عليهم الأخرم، وهو فارس الترّك، فقتله المسلمون وأسروا سبعة من أصحابه. فأمر نصر برأس الأخرم، فرمى به إلى عسكرهم فى منجنيق. فلمّا رأوه ضجّوا ضجّة ثم ارتحلوا منهزمين. ورجع نصر وأراد أن يعبر، فحيل بينه وبين ذلك. فأقبل نصر حتّى نزل سمرقند. ثمّ سار إلى الشّاش. فلمّا وافاها تلقّاه نذر ملكها بالصّلح والفدية والرّهن، واشترط عليه إخراج الحارث بن سريج من بلدانه. فأخرجه إلى فاراب [1] واستعمل على الشّاش نيزك بن صالح مولى عمرو بن العاص.
وكان نصر بعث سليمان بن صول إلى صاحب فرغانة بكتاب الصّلح بينهما يعنى ملك الشّاش.
قال سليمان: فقدمت عليه، فقال لى:
- «من أنت؟» قلت:
__________
[1] . فاراب: كذا فى الأصل. مط والطبري (9: 1694) . ما فى آ: فارياب.(3/152)
- «شاكري خليفة كاتب الأمير.» فقال:
- «أدخلوه الخزائن ليرى ما أعددناه.» قال: فأدخلت خزائنه، فقلت فى نفسي يا سليمان، شمت بك حسّادك، ليس هذا إلّا لكراهية الصّلح، وسأنصرف بخفّى حنين. قال: فرجعت إليه فقال لى:
- «كيف رأيت الطّرق فى ما بيننا وبينكم؟» قلت:
- «سهلا كثير الماء والرّعى.» فقال:
- «ما علمك؟» قلت:
- «غزوت غرشستان [1] ، والختّل وطبرستان. فكيف لا اعلم؟» قال:
- «فكيف رأيت ما أعددنا؟» قلت:
- «رأيت عدّة حسنة [153] ولكنّى أعلم أنّ صاحب الحصار لا يسلم من خصال.» قال:
- «وما هنّ؟» قلت:
- «لا يأمن أقرب النّاس إليه وأحبّهم له وأوثقهم فى نفسه أن يثب عليه، ويتقرّب به، أو يفنى ما جمع بطول المدّة، فيسلّم، برمّته، أو تصيبه الأدواء الّتى لا يجد أدويتها ومعالجها فيموت.» فقطب وقال لى:
- «انصرف إلى منزلك.» فانصرفت وأنا لا أشكّ فى تركه الصّلح.
فدعاني بعد يومين، فحملت كتاب الصّلح ومعى غلامي، وقلت له:
- «إن أتاك رسولي فطلب الكتاب فقل: إنّى خلّفته فى منزلي.»
__________
[1] . فى الطبري (9: 1696) : غرشستان وغور، وطبرستان.(3/153)
فدخلت إليه. فسألنى عن الكتاب، فقلت:
- «خلّفته فى منزلي.» فبعثت إلى الغلام أن اذهب فجئنى بالكتاب، وقبل الصّلح وأحسن جائزتي، وسرّح معى أمّه وكانت صاحبة أمره ومدبّرته. فلمّا قدمت على نصر قال:
- «مثلك ما قال الأوّل: أرسل [1] حكيما ولا توصه.»
ودخلت سنة ثلاث وعشرين ومائة
وفى هذه السنة سعى يوسف بن عمر للحكم بن أبى الصّلت فى ضمّ خراسان إلى عمله وعزل نصر بن سيّار
وذلك أنّ أيّام نصر طالت بخراسان ودانت له، فحسده يوسف فكتب [154] إلى هشام يسأله أن يضمّها إلى العراق، ليعمرها ويستغرز دخلها. وأنفذ إليه الحكم بن أبى الصّلت وقال:
- «هو لبيب وله نصيحة ومودّة لأمير لمؤمنين، وقد كان مع الجنيد [2] ، وولى جسام أعمالها [3] . وقد سرّحته إلى باب أمير المؤمنين ليراه.» فلمّا أتاه وقرأ كتاب يوسف بعث إلى دار الضّيافة، فوجد فيها مقاتل بن على السّغدى، فأتوه به، فقال:
- «ابن خراسان أنت؟» قال:
- «نعم، وأنا صاحب الترّك.» وكان قدم على هشام بخمسين ومائة من التّرك. فقال:
__________
[1] . فى الطبري (9: 1696) : فأرسل.
[2] . الجنيد: كذا فى الأصل وآ: الجنيد. فى مط: الجند.
[3] . أعمالها: كذا فى الأصل وآ ومط: أعمالها.(3/154)
- «هل تعرف الحكم بن أبى الصّلت؟» قال:
- «نعم.» قال:
- «فما ولى بخراسان؟» قال:
- «ولى قرية يقال لها: الفاراب، خراجها سبعون ألفا، فأسره الحارث بن سريج.» قال:
- «ويحك! فكيف أفلت من يده؟» قال:
- «عرك أذنه وقفده [1] وخلّى سبيله.» فلمّا قدم الحكم عليه وشاهده رأى جمالا وبيانا. فكتب إلى يوسف:
- «إنّ الحكم قدم، وهو على ما وصفت وفى ما قبلك سعة، فخلّ الكنانىّ وعمله.» ثم أوفد نصر بن سيّار مغراء [2] بن أحمر إلى العراق لمّا غزا فرغانة غزوته الثّانية.
فقال له يوسف بن عمر:
- «يا مغراء، أيغلبكم ابن الأقطع على سلطانكم معشر قيس!» فقال:
- «قد كان ذلك أصلح الله [155] الأمير.» قال:
- «فإذا قدمت على أمير المؤمنين فابقر بطنه.» فلمّا قدموا على هشام وسألهم عن أمور خراسان، تكلّم مغراء، فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر يوسف بن عمر بخير. فقال:
- «ويحك، أخبرنى عن خراسان.» فقال:
__________
[1] . فقده: الحرف الثاني مهمل فى الأصل. فى آ: فقده. وما أثبتناه يوافق الطبري (9:
1719) والكلمة ساقطة فى مط.
[2] . مغراء: كذا فى الطبري أيضا (9: 1719) .(3/155)
- «يا أمير المؤمنين، ليس لك جند أعدّت ولا أحدّ [1] منهم، من سرادق [2] فى السّماء وقراسية [3] مثل الفيل، وعدة [4] وعدد من قوم ليس لهم قائد.» قال:
- «ويحك، فما فعل الكناني؟» قال:
- «لا يعرف ولده من الكبر.» فردّ هشام عليه مقالته، وبعث إلى دار الضيافة، فأتى بشبيل بن عبد الرّحمن المازني.
فقال له هشام:
- «أخبرنى عن نصر.» قال:
- «ليس بالشيخ يخشى خرفه ولا الشابّ يخشى سفهه، المحرب المجرّب، قد ولى عامّة ثغور خراسان وحروبها قبل ولايته.» فكتب إلى يوسف بذلك. فوضع يوسف الأرصاد. فلمّا انتهوا إلى الموصل تركوا طريق البريد، وقد بلغ نصرا قول شبيل، وكان ابراهيم بن يسّار فى الوفد، فمكر به يوسف ونعى إليه نصرا، وأخبره أنّه قد ولّى الحكم بن أبى الصلت خراسان. ففسّر له أمر خراسان كلّه، حتّى قدم ابراهيم بن زياد رسول نصر، فعرف أنّ يوسف قد مكر به، وقال:
- «أهلكنى [156] يوسف، أهلكه الله.» وكان بعد ذلك إذا ذكر انسان نصرا بين يدي هشام، قال:
__________
[1] . أعدّ ولا أحدّ: كذا فى الأصل وآ ومط: أعدّ وأحدّ. وفى الطبري (9: 1720) : أغدّ ولا أنجد.
[2] . سرادق: كذا فى الأصل وآ ومط: سرادق. وما فى الطبري (9: 1720) : سوادق.
[3] . قراسية: كذا فى الأصل. فى مط: فراسة. فى آ: فراسة؟ فى الطبري: فراسية. القراسية:
الضخم الشديد. يقال: لهم ملك قراسية وعزّ قراسية، اى شديد.
[4] . وعدّة: مجرور فى الأصل ومرفوع فى الطبري (9: 1720) .(3/156)
- «معلّم وهذا من جهة يوسف.» ويقال: إنّ مغراء لمّا كلّفه يوسف الوقيعة فى نصر، قال له مغراء:
- «كيف أعيب نصرا مع بلائه وآثاره الجميلة عندي وعند قومي.» فلم يزل به حتّى قال:
- «فبأىّ شيء أعيبه؟ أعيبه تجربته، أو طاعته، أمّ يمن نقيبته، أم حسن سياسته؟» قال:
- «بواحدة من هذه. عبه بالكبر.» فلمّا قدم مغراء وكان منه ما كان، قال ليوسف:
- «قد علمت بلاء نصر عندي، وقد صنعت به ما قد علمت. فليس لى فى صحبته خير، ولا لى بخراسان مقام.» فأمره بالمقام. وكتب إلى نصر:
- «إنّى قد حوّلت اسمه، فأشخص إلىّ من كان قبلك من أهله.»
ثمّ دخلت سنة أربع وعشرين ومائة
ولم يجر على ما بلغنا، فيها ما تستفاد منه تجربة.
ثمّ دخلت سنة خمس وعشرين ومائة
وفاة هشام بن عبد الملك
وفيها كانت وفاة هشام بن عبد الملك. وكانت خلافته تسع عشرة سنة وثمانية أشهر، [157] وسنّة خمس وخمسون سنة. فتحدّث سالم قال:
- «خرج علينا هشام بن عبد الملك يوما وهو كئيب، يعرف ذلك فى وجهه، مسترخ ثيابه، قد أرخى عنان دابّته. فلمّا سار ساعة انتبه، فجمع ثيابه وأخذ(3/157)
بعنان دابّته، وقال للرّبيع:
- «أدع الأبرش.» فسار بيني وبين الأبرش فقال له الأبرش:
- «يا أمير المؤمنين، لقد رأيت منك اليوم ما غمّنى.» قال:
- «وما هو؟» فوصف حاله. قال:
- «وكيف لا أكون كذلك وقد زعم أهل العلم أنّى ميّت إلى ثلاثة وثلاثين يوما؟» قال سالم: فلمّا عدت إلى منزلي كتبته فى قرطاس: زعم أمير المؤمنين يوم كذا أنّه يسافر إلى ثلاثة وثلاثين يوما. فمات فى اليوم الثّالث والثّلاثين.
قال: فأغلق الخزّان الأبواب لما سنذكره. فطلبوا قمقما يسخن فيه الماء لغسله. فما وجد، حتّى استعاروه من بعض الجيران.
فقال الحاضرون:
- «إنّ فى هذا لمعتبرا لمن اعتبر.» وكانت وفاته بالذّبحة.
ذكر بعض سيرة هشام
حكى عقّال بن شبّة [1] قال: دخلت على هشام حين وجّهنى إلى خراسان وعليه قباء [158] أخضر عليه فنك. فجعل يوصيني وأنا أنظر إلى القباء وأتأمّله. ففطن وقال:
- «مالك؟» قلت:
__________
[1] . شبّة: كذا فى الأصل ومط والطبري (9: 1730) : شبّة. فى آ: شبيبة.(3/158)
- «إنّى رأيت عليك قبل أن تلى الخلافة قباء فنك أخضر، فأنا أتأمّل هل هو ذاك.» قال:
- «هو- والله الّذى لا إله غيره- ذاك. ما لي قباء غيره وما ترون من جمعى هذا المال وصونه إلّا لكم.» وكان عقّال يقول: دخلت على هشام، فرأيت رجلا محشوّا عقلا.
ولم يكن يسير أيّام هشام أحد فى موكب إلّا مسلمة بن عبد الملك. ورأى هشام يوما سالما فى موكب. فزجره وقال:
- «لا أعلمنّ [1] متى سرت فى موكب!» فكان بعد ذلك إذا قدم الرّجل الغريب، فسار مع سالم، وقف له سالم ويقول: حاجتك؟ ويمنعه أن يسير معه. هذا وسالم يرى كأنّه هو أمرّ هشاما.
ولم يكن أحد يأخذ العطاء إلّا ألزمه الغزو، فمنهم من يغزو، ومنهم من يخرج بديلا.
وولّى هشام بعض مواليه ضيعة، فعمرها، فجاءت بغلّة كثيرة، ثمّ عمرها أيضا، فأضعفت الغلّة، وبعث بها مع ابنه فجزاه خيرا ووجد ابن هذا المولى منه انبساطا، فقال:
- «يا أمير المؤمنين، إنّ لى حاجة.» قال:
- «ما هي؟» قال:
- «زيادة عشرة دنانير فى العطاء.» فقال:
- «ما يخيّل إلى أحدكم [160] عشرة دنانير زيادة إلّا بقدر الجوز [2] . لا لعمري، لا أفعل.»
__________
[1] . لا أعلمنّ: كذا فى الأصل ومط وآ: لا أعلمنّ. فى الطبري (9: 1731) : لأعلمنّ متى سرت فى موكب.
[2] . فى الأصل. وآ، ومط. الجود. ما فى الطبري (9: 1732) : الجوز، وهو الصحيح.(3/159)
وقال غسّان بن عبد الحميد: لم يكن أحد من بنى مروان أشدّ نظرا، ولا أشدّ مبالغة فى الفحص عن أمور أصحابه ودواوينه من هشام.
وكان أقطع هشام قبل الخلافة أرضا يقال لها: دورين. فلمّا أرسل فى قبضها، وجدها خرابا. فقال لكاتب كان بالشّام يقال له. دويد: [1]- «ويحك! كيف الحيلة؟» قال:
- «ما تجعل لى؟» قال:
- «خمسمائة دينار.» فكتب دويد دورين وقراها. ثمّ أمضاها فى الدّواوين، فأخذ شيئا كثيرا.
فلمّا ولى هشام دخل عليه دويد. فقال:
- «يا دويد، دورين وقراها لا والله، لا تلى لى ولاية أبدا.» فأخرجه من الشّام.
وقال له بعض آل مروان يوما:
- «أتطمع فى الخلافة وأنت بخيل جبان؟» قال:
- «ولم لا أطمع، وأنا عليم عفيف سائس؟» وأتى هشاما محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب فقال:
- «مالك عندي شيء.» ثم قال:
- «إيّاك أن يغرّك أحد فيقول: لم يعرفك أمير المؤمنين. أنت محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب. فلا تقيمنّ وتنفق ما معك. فليس عندي صلة.
فبادر، والحق بأهلك!» [160] وحجّ هشام، فأخذ الأبرش مخنّثين معهم برابط. فقال هشام:
__________
[1] . دويد: كذا فى الأصل وآ ومط: دويد. بالدال المهملة. فى الطبري (9: 1735) : ذويد بالذال المعجمة.(3/160)
- «احبسوهم وبيعوا متاعهم هذا وما أدرى ما هو، وصيّروا ثمنه فى بيت المال، فإذا صلحوا فردّوا الثّمن عليهم.» وكان هشام ينزل الرّصافة. وكان سبب ذلك أنّ الخلفاء وأبناءهم كانوا يهربون من الطاعون، فينزلون البرّيّة. فعزم هشام على نزول الرّصافة. فقيل له:
- «لا تخرج، فإنّ الخلفاء لا يطعنون، لم نر خليفة طعن!» فقال:
- «أفتريدون أن تجرّبوا بى؟» فخرج إلى الرّصافة، وهي برّيّة. فابتنى بها قصرين. والرّصافة كانت مدينة روميّة بنتها الرّوم فى القديم، ثمّ خربت.
وبعث يوسف بن عمر إلى هشام بياقوتة حمراء يخرج طرفاها من كفّ القابض، وحبّة لؤلؤ أعظم ما يكون الحبّ على يد كاتبه قحذم.
قال: فدخلت عليه، ودنوت منه، فلم أر وجهه من طول السّرير وكثرة الفرش. فتناول الحجر والحيّة فقال:
- «أكتب معك وزنهما.» قلت:
- «يا أمير المؤمنين، هما أجلّ من أن يكتب بوزنهما ومن أين يوجد مثلهما؟» قال:
- «صدقت.» وكانت الياقوتة لجارية خالد بن عبد الله القسري [161] ويقال لها: رائقة، اشترتها بثلاثة وسبعين ألف دينار. [1]
__________
[1] . انظر الطبري 9: 1739.(3/161)
خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك [1]
وفى هذه السّنة ولى الخلافة بعد موت هشام، الوليد بن يزيد بن عبد الملك. وكان يزيد بن عبد الملك عقد له الخلافة بعد أخيه هشام. وذاك أنّ ابنه هذا كان صغيرا يوم عقد لهشام. ثمّ لم يمت يزيد حتّى بلغ ابنه خمس عشرة سنة، فندم على استخلافه هشاما. وكان إذا نظر إلى ابنه الوليد يقول:
- «الله بيني وبين من جعل هشاما بيني وبينك.» وولى هشام وهو للوليد مكرم معظّم مقرّب، ولم يزل ذلك من أمرهما حتّى ظهر من الوليد مجون وشرب الشّراب، حمله على ذلك عبد الصّمد بن عبد الأعلى، وكان مؤدّبه. واتخذ الوليد ندما، فأراد هشام أن يقطعهم عنه، فولّاه الحجّ سنة ستّ عشرة ومائة. فحمل معه كلابا فى صناديق، فسقط صندوق منها، فأحالوا [2] على الكرىّ السّياط فأوجعوه ضربا. وكان حمل معه قبّة عملها على قدر الكعبة ليضعها فوق الكعبة، وحمل معه خمرا. وأراد أن ينصب القبّة على الكعبة ويجلس فيها للشّرب. فخوّفه أصحابه وقالوا:
__________
[1] . العنوان زدناه من الطبري (9: 1740) .
[2] . أحالوا: كذا فى الأصل، وآ، ومط: أحالوا. ما فى الطبري (9: 1741) : أجالوا (بالجيم المعجمة)(3/163)
- «لا نأمن النّاس [162] عليك وعلينا.» فلم يحرّكها. وظهر للنّاس تهاون بالدّين واستخفاف به، وبلغ ذلك هشاما فطمع فى خلعه والبيعة لابنه مسلمة بن هشام، فأراده على أن يخلعها ويبايع لمسلمة، فأبى. فقال له:
- «فأجعلها له من بعدك.» فأبى فتنكّر له هشام وأضرّ به، وعمل سرّا فى البيعة لابنه. فأجابه جماعة فيهم خالاه محمد وإبراهيم. وتمادى الوليد فى شرب الشّراب وطلب اللذّات، فأفرط.
فقال له هشام يوما:
- «ويحك يا وليد، والله ما أدرى أعلى الإسلام أنت، أم لا؟ لا تدع شيئا من المنكر إلّا أتيته غير متحاش ولا مستتر به.
قال: فكتب إليه الوليد:
يا أيّها السّائل عن ديننا ... نحن على دين أبى شاكر
نشربها صرفا وممزوجة ... بالسّخن أحيانا وبالفاتر
يعنى بأبى شاكر، مسلمة بن هشام، وكان يكنّى أبا شاكر.
فغضب هشام على ابنه وقال:
- «يعيّرنى بك الوليد، وأنا أرشّحك للخلافة، فالزم الأدب، واحضر الجماعة.» وولّاه الموسم سنة تسع عشرة، وأظهر النّسك والوقار [163] واللين والجود. وقسم بالمدينة ومكّة أموالا. فقال الشّاعر:(3/164)
يا أيّها السائل عن ديننا ... نحن على دين أبى شاكر
الواهب الجرد بأرسانها ... ليس بزنديق ولا كافر
يعرّض بالوليد.
وأخذ هشام يعيب الوليد ويتنقّصه، وزاد حتى قصد أصحابه. فخرج الوليد لمّا رأى ذلك مع خاصّته حتّى نزل بالأزرق على ماء يقال له: الأعدف، وخلّف كاتبه عياض بن مسلم مولى عبد الملك بن مروان بالرّصافة، ووصّاه أن يكاتبه بما يحدث، وأخرج معه عبد الصّمد بن عبد الأعلى. فقطع هشام عن الوليد ما كان يجرى عليه، وكتب إليه:
- «بلغني أنّك اتّخذت عبد الصّمد خدنا ونديما، وقد حقّق ذلك عندي أشياء بلغتني عنك، ولم أبرّئك من سوء، فأخرج عبد الصّمد مذموما مدحورا.» فأخرجه إليه، وكتب إليه:
- «إنّى قد أخرجت إليك عبد الصّمد.» واعتذر إليه ممّا بلغه.
وبلغ هشاما أنّ عياض بن مسلم يكاتب الوليد بالأخبار، فأخذه، وضربه ضربا مبرّحا، والبسه المسوح. [164] فبلغ الوليد، فقال:
- «من يثق بالنّاس ويصطنع المعروف؟ هذا الأحول المشؤوم قدّمه أبى على أهل بيته، ثمّ صيّره ولىّ عهده، ويصنع بى ما ترون! اللهمّ أجزنى منه.
وقال:
أنا النذير لمسدى نعمة أبدا ... إلى المقاريف ما لم تخبر [1] الدخلا
إن أنت أكرمتهم ألفيتهم بطرا ... وإن أهنتهم ألفيتهم ذللا
__________
[1] . لم تخبر: كذا فى الأصل. ومط. وفى الطبري (9: 1745) : لم تخبر.(3/165)
أتشمخون ومنّا رأس نعمتكم ... ستعلمون إذا صارت لنا دولا
أنظر، فإن أنت لم تقدر على مثل ... له سوى الكلب، فاضربه له مثلا
بينا يسمّنه للصّيد صاحبه ... حتّى إذا ما نوى من بعد ما هزلا
عدا عليه، فلم تضرره عدوته ... ولو أطاق له أكلا لقد أكلا
وكتب إلى هشام:
- «قد بلغني الّذى أحدث أمير المؤمنين من قطع ما قطع عنّى ومحو من [1] محا من أصحابى وحرمتي وأهلى، ولم أكن أخاف أن يبتلى الله أمير المؤمنين بذلك، ولا إيّاى [2] منه. فان يكن منّى ذنب [3] ، فيحسب الغير أن يكون على قدر الذّنب، وإن يكن ذلك لشيء فى نفس أمير المؤمنين علىّ فقد سبّب الله لى من العهد وكتب لى من العمر وقسم لى من الرّزق ما لا يقدر أحد [165] على قطع شيء منه دون مدّته، ولا صرف شيء عن مواقعه، فأمر الله يجرى بمقاديره فى ما أحبّ النّاس أو كرهوا.
فالنّاس بين ذلك يقترفون الآثام على أنفسهم من الله، أو يستوجبون الأجور عليه، وأمير المؤمنين أحقّ أمّته بالبصر لذلك [4] والتحفّظ به، والله الموفّق لأمير المؤمنين.»
__________
[1] . من محا: كذا فى الأصل وآ ومط: من محا. فى الطبري: ما محى.
[2] . ولا إيّاى: فى الأصل وآ ومط: ولا إيّاى. وما فى الطبري (9: 1746) : ولا أبالى به منه.
[3] . والعبارة فى الطبري (9: 1746) : فإن يكن ابن سهيل كان منه ما كان فيحسب العير أن يكون قدر الذّئب.
[4] . فى الطبري: بذلك.(3/166)
فكتب هشام فى الجواب إلى الوليد:
- «قد فهم أمير المؤمنين ما كتبت به فى قطع ما قطع عنك وغير ذلك، وأمير المؤمنين يستغفر الله من إجرائه ما كان يجرى عليك، وأمير المؤمنين أخوف على نفسه فى اقتراف المآثم حيث أجرى عليك ممّا أحدثه فى قطع ما قطع ومحو من محا من صاحبتك لأمرين: أحدهما إيثار أمير المؤمنين ايّاك بما كان يصل إليك وهو يعلم وضعك له فى غير موضعه، والآخر اثبات أصحابك وإدرار أرزاقهم، وهم لا ينالهم ما ينال المسلمين فى كلّ عام من مكروه الغزو، وهم معك تجول بهم فى سفهك، ولأمير المؤمنين أخرى بالتّقصير فى الغير عليك، منه فى الاعتداء عليك، مع أنّ الله قد بصّر أمير المؤمنين فى قطع ما قطع عنك من ذلك ما يرجوا به تكفير ما يتخوّف مما سلف فيه.
وأمّا ما ذكرت ممّا [166] سبّب الله لك، فإنّ الله ابتدأ أمير المؤمنين بذلك واصطفاه له، والله بالغ أمره. فقد أصبح أمير المؤمنين وهو على اليقين من ربّه، لا يملك لنفسه فى ما أعطاه الله من كرامته ضرّا ولا نفعا، وأنّ الله ولىّ ذلك منه، وأنّه لا بدّ له من مزايلته، والله أرأف بعباده وأرحم من أن يولّى أمرهم غير الرّضا له منهم، وأنّ أمير المؤمنين من حسن ظنّه بربّه- لعلى أحسن الرّجاء أن يولّيه من هو أهله، فإنّ بلاء الله عند أمير المؤمنين أعظم من أن يبلغه ذكره أو يؤدّيه شكره إلّا بعون منه له [1] . ولعمري، إنّ كتابك إلى أمير المؤمنين بما كتبت به، لغير مستنكر من سفهك
و
__________
[1] . منه له: كذا فى الأصل وآ: منه له. فى مط والطبري: منه. (بدون «له» ) .(3/167)
حمقك. فاربع على نفسك من غلوائها، وارق على ظلعك، فإنّ لله سطوات يصيب بها من يشاء، ويأذن فيها لمن يشاء، وأمير المؤمنين يسأل الله العصمة والتّوفيق.» فكتب الوليد إلى هشام
رأيتك تبنى جاهدا فى قطيعتي ... ولو كنت ذا إرب لهدّمت ما تبنى
تثير على الباقين مجنى ضغينتى ... فويل لهم إن متّ من شرّ ما تجنى [167]
كأنّى بهم واللّيت أفضل قولهم ... ألا ليتنا كنّا إذ اللّيت لا يغنى
ولم يزل الوليد مقيما فى تلك البرّيّة حتّى مات هشام.
ولما كان صبيحة اليوم الّذى جاءته فيه الخلافة دعا أبا الزّبير المنذر بن أبى عمرو. فقال له:
- «يا أبا الزّبير، ما أتت علىّ ليلة، منذ عقلت، أطول من هذه الليلة، عرضت لى هموم وحدّثت نفسي فيها بأمور من أمر هذا الرّجل الّذى قد أولع بمكروهى يعنى هشاما فاركب بنا نتنفّس.» فركبا وسارا ميلين. فبينا هو يشكو حاله إذا برهج [1] . فقال:
- «أسأل الله خير الأمور. هؤلاء رسل هشام.» فلمّا دنا القوم نزل موليان يعدوان حتّى دنوا. فسلّما عليه بالخلافة، فوجم، وجعلا يكرّران عليه ذلك. فقال:
- «ويحكما! أمات هشام؟» قالا:
__________
[1] . برهج: كذا الأصل ومط: برهج. فى آ: ترهج(3/168)
- «نعم.» قال:
- «فممّن كتابكما؟» قالا:
- «من مولاك، سالم بن عبد الرّحمن صاحب ديوان الرّسائل.» ثمّ سأل عن كاتبه عياض بن مسلم. فقالا:
- «يا أمير المؤمنين. لم يزل محبوسا» حتّى نزل بهشام أمر الله، فلمّا صار فى حدّ لا يرجى الحياة لمثله أرسل عياض إلى الخزّان: احتفظوا بما فى أيديكم، فلا يصلنّ أحد منه إلى شيء.
فمنعوه بعض ما التمسه. [168] فقال: أرءانا كنّا خزّانا للوليد. فمات من ساعته.
فخرج عياض من السّجن وختم أبواب الخزائن وأمر بهشام، فأنزل عن فرشه. فما وجدوا قمقما يسخّن له فيه الماء حتّى استعاروه، ولا وجدوا كفنا من الخزائن، فكفّنه غالب مولى هشام.
استعمال الوليد العمّال
واستعمل الوليد العمّال، وجاءته بيعته من الآفاق، وكتب إليه العمّال، وجاءته الوفود، وجاءه كتاب من مروان بن محمّد وكان إليه ارمينية وآذربايجان بليغ يثنى عليه، ويذكر أنّه قد بايع له من قبله ويستأذنه فى المصير إليه لمشاهدته.
إجراء على الزّمنى والعميان
وأجرى الوليد على الزّمنى والعميان، وأمر لكلّ إنسان منهم بخادم، وأخرج لعيالات النّاس الطّبيب والكسوة، وزاد النّاس جميعا فى العطاء عشرات، ثمّ زاد أهل الشّام بعد زيادة العشرات عشرة عشرة، وأضعف جوائز أهل بيته ولم يقل قطّ فى شيء سئله: لا.(3/169)
عقد الوليد بن اليزيد للخلافة بعده لابنيه: الحكم وعثمان وفى هذه السنة عقد الوليد لابنيه: الحكم وعثمان، بعده وجعلهما وليّى عهده، أحدهما بعد الآخر، وكتب بذلك إلى الأمصار، إلى يوسف بن عمر بالعراق، وإلى نصر بن سيّار بخراسان.
ونسخة البيعة: [169]- «تبايع [1] لعبد الله [2] بن الوليد أمير المؤمنين وللحكم بن أمير المؤمنين إن كان بعده، وعثمان بن أمير المؤمنين إن كان بعد الحكم، على السّمع والطّاعة. فإن حدث بواحد منهما حدّث، فأمير المؤمنين أملك فى ولده ورعيّته، يقدّم من أحبّ ويؤخّر من أحبّ. عليك بذلك عهد الله وميثاقه.» وفى هذه السنّة ولّى الوليد نصر بن سيّار خراسان كلّها وأفرده بها.
وفيها كتب يوسف بن عمر إلى نصر بن سيّار يأمره بالقدوم عليه، وبحمل ما قدر عليه من الهدايا والأموال، وبعياله أجمعين.
فلمّا أتى نصرا كتابه قسم على أهل خراسان الهدايا وعلى عمّاله، ولم يدع بخراسان جارية، ولا عبدا: ولا برذونا فارها، إلّا أعدّه، واشترى ألف مملوك وأعطاهم السّلاح، وحملهم على الخيل، وأعدّ خمسمائة وصيفة، وأمر بصنعة أباريق الذّهب والفضة، وتماثيل الظباء، ورؤوس السباع والأيائل، وغير ذلك. فلمّا فرع من جميع ذلك كتب الوليد يستحثّه، فسرّح
__________
[1] . تبايع: كذا فى الأصل وآ والطبري (9: 1756) : تبايع. فى مط يبايع.
[2] . لعبد الله الوليد: فى الأصل ومط وآ: لعبد الله بن الوليد (بزيادة ابن) وما أثبتناه يوافق الطبري.(3/170)
أوائلها حتّى بلغ ذلك بيهق، وكتب الوليد إليه يأمره أن يبعث إليه برابط وطنابير، وأن يجمع له كلّ صنّاجة بخراسان يقدر عليها [170] وكلّ باز هناك، ثمّ يسير بذلك كلّه بنفسه، مع ما أعدّه، وبوجوه أهل خراسان.
وكان المنجّمون يخبرون نصرا بفتنة تكون. فبعث نصر إلى صدقة بن وثّاب، وكان منجّما محذقا [1] ببلخ فأحضره فكان مقيما عنده، وألحّت عليه الكتب. فلم يزل يتباطأ حتّى وجّه إليه يوسف رسولا وأمره بلزومه واستحثاثه، فإن أبطأ، أشاع فى الناس أنّه خلع.
فلمّا جاء الرسول أجازه وأرضاه، وتحوّل إلى قصره الذي هو دار الإمارة اليوم. فلم يأت لذلك إلّا يسير، حتّى وقعت الفتنة، فحوّل نصر إلى قصره بماجان، واستخلف عصمة بن عبد الله الأسرى على خراسان، وولّى كلّ كورة ثقة له، وأمرهم، إذا بلغهم خروجه من مرو، أن يستجلبوا [2] الترك، وأن يغيروا على ما وراء النهر لينصرف بعد خروجه، يعتلّ بذلك. فبينا هو يسير يوما إلى العراق طرقه ليلا مولى لبنى ليث وناجاه [3] .
فلمّا أصبح أذن للناس، وبعث إلى رسل الوليد، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
- «قد كان من مسيري ما رأيتم، وبعثني بالهدايا ما علمتم، فطرقنى فلان ليلا وأخبرنى أنّ الوليد قد قتل، ووقعت الفتنة بالشام، وقدم منصور بن جمهور العراق، [171] وقد هرب يوسف بن عمر منه، ونحن فى بلاد قد علمتم حالها وكثرة عدوّها.»
__________
[1] . محذقا: كذا فى الأصل: محذقا. فى مط وآ: محدقا. فى الطبري (9: 1766) : وكان منجّما. (بدون «محذقا» )
[2] . فى الطبري (9: 1767) : يستحلبوا. (بالحاء المهملة) .
[3] . ناجاه: كذا فى الأصل ومط: ناجاه. فى آ: فاجاه.(3/171)
ثمّ دعا بالقادم، فأحلفه أنّ ما جاء به حقّ. فحلف.
فقال سلم بن أحوز [1] :
- «أصلح الله الأمير، لو حلفت لكنت صادقا أنّه بعض مكايد قريش، أرادوا تهجين طاعتك. فسر ولا تهجّنّا.» فقال:
- «يا سلم، أنت رجل لك علم بالحروب، ولك مع ذلك حسن طاعته لبنى أميّة. فأمّا مثل هذا من الأمور فرأيك فيه رأى أمة هتماء.» ثم قال لمن حضر:
إنّى لم أشهد بعد ابن خازم أمرا مفظعا إلّا كنت المفرع [2] فى الرأى.» فقال الناس:
- «قد علمنا ذلك، فالرأى رأيك.»
يوسف الثقفي يولّى المدينة ومكّة
وفى هذه السنة وجّه الوليد بن يزيد خاله يوسف بن محمد بن يوسف الثقفي واليا على المدينة ومكّة، ودفع إليه إبراهيم ومحمّدا ابني هشام بن إسماعيل المخزومي موثقين فى عباءتين. فقدم بهما المدينة وأقامهما للناس ثمّ بعث بهما إلى يوسف بن عمر وهو يومئذ عامله على العراق فعذّبهما حتّى قتلهما وقد كان رفع عليهما عند الوليد أنّهما أخذا مالا كثيرا.
__________
[1] . احوز: كذا فى الأصل: أحوز. فى مط. وآ: أحوز.
[2] . المفرع: كذا فى الأصل وآ، ومط والطبري (9: 1768) : المفرع (بالراء المهملة.) المفرع: المصلح بين الناس.(3/172)
ذكر أبى مسلم
وفى هذه السنة قدم سليمان بن كثير ومالك بن الهيثم ولاهز بن قريظ وقحطبة بن شبيب مكّة على محمّد بن علىّ وأخبروه [172] بقصّة أبى مسلم وما رأوا منه. فقال لهم:
- «أحرّ هو أم عبد؟» قالوا:
- «أمّا عيسى فيزعم أنّه عبد وأمّا هو فيزعم أنّه حرّ.» قال:
- «فاشتروه وأعتقوه وأعطوا محمّد بن علىّ مائتي ألف درهم.» وكسى بثلاثين ألف درهم. فقال لهم:
- «ما أظنّكم تلقوني بعد عامي هذا فإن حدث بى حدث فصاحبكم إبراهيم بن محمّد فانّه مأمون وأنا أثق به لكم وأوصيكم به خيرا وقد أوصيته بكم.» فصدروا من عنده.
وفى هذه السنة قتل يحيى بن زيد بن علىّ بخراسان.
ذكر مقتل يحيى بن زيد والسبب فيه
أقام يحيى بن زيد ببلخ عند الحريش بن عمر بن داود حتّى هلك هشام وولى الوليد بن يزيد بن عبد الملك. فكتب يوسف بن عمر إلى نصر بن سيّار بمسير يحيى بن زيد وبمنزله [1] ببلخ حتّى قال أنّه عند الحريش وقال له:
- «ابعث إليه فخذه أشدّ الأخذ.»
__________
[1] . بمنزله: كذا فى الأصل والطبري (9: 770) . فى آ: مزله.(3/173)
فبعث نصر إلى عقيل بن معقل يأمره أن يأخذ الحريش فلا يفارقه حتّى يزهق نفسه أو يأتيه بيحيى بن زيد، فبعث إليه عقيل فسأله عنه فقال:
- «لا علم لى به.» فجلده ستمائة سوط. فقال له الحريش:
- «والله لو أنّه كان تحت قدمي ما رفعتها لك عنه.» فلمّا رأى ذلك قريش بن الحريش [173] أتى عقيلا فقال له:
- «لا تقتل أبى وأنا أدلّك عليه.» فأرسل معه فدلّه عليه وهو فى بيت جوف بيت فأخذه فأتى به نصر بن سيّار فحبسه وكتب إلى يوسف بن عمر يخبره بذلك فكتب بذلك يوسف إلى الوليد بن يزيد فكتب الوليد إلى نصر بن سيّار يأمره أن يؤمنه ويخلّى سبيله وسبيل أصحابه وكان معه نفر خرجوا معهم [1] من الكوفة فظفر بهم فدعاه نصر بن سيّار وأمره بتقوى الله وحذّره الفتنة وأمره أن يلحق بالوليد بن يزيد وأمر له بألفي درهم وبغلين فخرج هو وأصحابه إلى سرخس وأقام بها فكتب نصر إلى عامله بسرخس أن يشخصه منه وكتب إلى عامله بطوس:
- «انظر يحيى بن زيد إذا مرّ بك فلا تدعه يقيم بطوس.» وأمرهما إذا مرّ بهما أن لا يفارقاه حتّى يدفعاه إلى عمرو بن زرارة بأبرشهر ففعل به ذلك ووكّل به سرحان بن فرّوخ بن مجاهد بن بلعاء العنبري.
قال سرحان: فدخلت يوما عليه فذكر نصر بن سيّار وما أعطاه وإذا هو يستقلّه وذكر الوليد فأثنى عليه ثمّ اعتذر من مجيئه بأصحابه. وأنّه لم يأت بهم إلّا مخافة أن يسمّ أو يغمّ ثمّ عرض [174] بيوسف وذكر أنّه يتخوّفه وهمّ
__________
[1] . معهم: كذا فى الأصل وفى آ: معه.(3/174)
بالوقوع فيه ثمّ أمسك فبسطته وقلت:
- «قل ما أحببت يرحمك الله، فليس عليك منّى عين.» ثمّ اعتذرت إليه من مسيري معه وكنت أسير معه على رأس فرسخ حتى تلقّانا عمرو بن زرارة فدفعنا إليه فأشخاصه إلى بيهق وهي أقصى خراسان وأدناه من قومس فأقبل فى سبعين رجلا وكان يخاف اغتيال يوسف إيّاه ومرّ به قوم تجّار فأخذ دوابّهم وقال:
- «علينا أثمانها.» وكتب عمرو بن زرارة إلى نصر: أنّ يحيى قد أقبل وفعل كيت وكيت.
فكتب نصر إلى عبد الله بن قيس وإلى الحسن بن زيد أن يمضيا إلى عمرو بن زرارة فهو عليهم ثمّ يقاتلوا يحيى بن زيد حتّى يقتلوه أو يأخذوه أسيرا فانتهوا إلى عمرو بن زرارة وكانوا عشرة آلاف وأتاهم يحيى وليس معه إلّا سبعون رجلا فهزمهم وقتل عمرو بن زرارة وأصاب دوابّ ومتاعا كثيرا.
وأقبل يحيى بن زيد حتى مرّ بهراة، وعليها مغلّى بن زياد فلم يعرض له ولا عرض هو [1] لمغلّى وقطع هراة فسرّح نصر بن سيّار سلم بن أحوز فى طلب يحيى فتبعه حتّى لحقه بالجوزجان بقرية منها [2] وقد لحق [175] بيحيى نفر من الشيعة فصافّه سلم بن أحوز وأمر سلم جماعة بتعبئة الناس فتباطؤوا عليه حتّى عبّأهم سورة بن محمد بن عزير [3] الكندي واقتتلوا فقتل أصحاب يحيى من عند آخرهم ومرّ سورة بيحيى صريعا فأخذ رأسه وبعث به إلى يوسف بن عمر فنصبه فكتب الوليد بن يزيد إليه أن أحرقه ثمّ انسفه فى اليمّ نسفا. فأمر
__________
[1] . ولا عرض هو: كذا فى الأصل. وفى آ: ولا عرض له.
[2] . منها: كذا فى الأصل، والطبري (9: 1773) . وفى آ: فيها.
[3] . عزيز: كذا فى الأصل: عزيز، وما فى الطبري (9: 1773) : عزيز.(3/175)
يوسف بإنزاله من جذعه وأحرقه بالنار ثمّ رضّه وجعله فى قوصرة وأمر بأن يذّر فى الفرات.
ودخلت سنة ستّ وعشرين ومائة
وفيها قتل الوليد بن يزيد قتله يزيد بن الوليد.(3/176)
خلافة يزيد الناقص
ذكر السبب فى قتل الوليد وخلافة يزيد الناقص
كان سبب اضطراب أمره وفساد نيّات الناس له اشتغاله بالمجون والخلاعة وتهاونه بأمر الدين واستخفافه به وقد حكى عنه ما لا يلفظ به ولا فائدة فى ذكره وكان من أعظم ما جنى على نفسه إفساده بنى عمّيه: ولد هشام وولد الوليد ابني [1] عبد الملك بن مروان وأفسد أيضا على نفسه اليمانية [2] [176] وهم عظم أهل الشام.
وكان قد اشتدّ على الجند وعلى بنى هشام [3] ضربه سليمان بن هشام مائة سوط وحلق رأسه ولحيته، وغرّبه إلى عمان وكان يتعرّض لجوارى أبيه وأولادهم وأراد خالد بن عبد الله القسري على البيعة لابنيه فأبى فقال له أهله:
- «ويحك أبيت على أمير المؤمنين.» قال:
- «ويحكم كيف أبايع من لا أصلّى خلفه ولا أقبل شهادته وهم صبيان [4] .» قالوا:
__________
[1] . ابني: كذا فى الأصل وفى الطبري (9: 1775) . وفى آ: بنى.
[2] . اليمانية: فى الأصل مهملة فى الاول. فى آ: الثمانية. فى الطبري (9: 1775) : اليمانية.
[3] . هشام: كذا فى الأصل والطبري (9: 1776) ومط. وفى آ: هاشم.
[4] . وهم صبيان. كذا فى الأصل وآ. والعبارة ليست فى الطبري (9: 1776) .(3/177)
- «فالوليد تقبل شهادته مع فسقه؟» قال:
- «أمر الوليد مغيّب عنّى ولا أعلمه يقينا إنّما هي أخبار الناس.» فغضب الوليد على خالد وحبسه ثمّ رمى الناس الوليد بكلّ [1] فاحشة واتهموه بالزندقة وكان أشدّ الناس عليه يزيد بن الوليد الذي لقّب فيما بعد بالناقص وكان الناس يميلون إليه لأنّه كان يظهر النسك ويتواضع فكان يحمل الناس على الفتك به وأجمع قوم من اليمانية وقضاعة من أهل [2] دمشق خاصّة على قتل الوليد فاجتمع رؤساؤهم إلى خالد بن عبد الله فدعوه إلى أمرهم فلم يجبهم فسألوه أن يكتم عليهم قال:
- «لا أسمّى أحدا منكم.» وأراد الوليد الحجّ فخاف خالد أن يفتكوا به فى الطريق، فأتاه فقال:
- «يا أمير المؤمنين أخّر الحجّ العام.» قال:
- «ولم؟» فلم يخبره فأمر [177] بحبسه وأن يستأدى ما عليه من بقايا أموال العراق.
وهمّ الوليد بعزل يوسف عن العراق فكتب إليه:
- «إنّك كنت [3] كتبت إلى أمير المؤمنين بتخريب ابن النصرانية البلاد وقد كنت تحمل إلى هشام ما تحمل وقد ينبغي أن تكون عمرت البلاد ووفّرت الدخل فاشخص إلى أمير المؤمنين وصدّق ظنّه بك فيما تحمل إليه لعمارتك البلاد وليعرف أمير المؤمنين فضلك على غيرك، فانّك خاله وأحقّ الناس بالتوفير [4] وقد علمت ما أمر به أمير المؤمنين لأهل الشام وغيرهم من الزيادة
__________
[1] . بكل: كذا فى الأصل. وفى مط: على.
[2] . من أهل دمشق: كذا فى الأصل. فى آ: من دمشق.
[3] . إنّك كنت كتبت: كذا فى الأصل. وفى آ. والطبري (9: 1778) : إنّك كتبت.
[4] . التوفير: كذا فى الأصل والطبري (9: 1779) . وفى آومط: التوفر.(3/178)
فى أعطياتهم [1] وما وصل به أهل بيته لطول جفوة هشام إيّاهم حتّى أضرّ ذلك ببيوت الأموال.» فخرج يوسف واستخلف عمّه يوسف بن محمد وحمل من الأموال والأمتعة والآنية ما لم يحمل من العراق مثله، فقدم يوسف وخالد بن عبد الله محبوس فلقيه حسّان النبطي ليلا فأخبره أنّ الوليد عازم على تولية عبد الملك بن محمد بن الحجّاج بن يوسف. وقال له:
- «لا بدّ لك من إصلاح أمر وزرائه.» فقال:
- «ليس عندي فضل درهم.» قال:
- «فعندي خمسمائة ألف درهم إن شئت فهي لك وإن شئت فارددها إذا تيسّرت.» قال:
- «فأنت أعرف بالقوم ومنازلهم من [178] الخليفة منّى ففرّقها على قدر علمك [2] فيهم.» ففعل. فقدم يوسف والقوم يعظّمونه. فقال له حسّان:
- «لا تغد إلى أمير المؤمنين ولكن رح إليه رواحا واكتب على لسان خليفتك كتابا إليك: إنّى كتبت ولا أملك إلّا القصر ثمّ ادخل على الوليد والكتاب معك متحازنا فأقرئه الكتاب وأمر ابان بن عبد الرحمن أن يشترى منه خالدا بأربعين ألف ألف.» ففعل يوسف فقال له الوليد:
- «إرجع إلى عملك.» فقال ابان بن عبد الرحمن:
- «ادفع إلىّ خالدا وأحمل إليك أربعين ألف ألف.» قال:
__________
[1] . أعطياتهم: كذا فى الأصل وآ. فى مط: إعطائهم.
[2] . علمك: كذا فى الأصل. فى آ: عملك.(3/179)
- «ومن يضمن عنك؟» قال:
- «يوسف.» فقال:
- «أتضمن عنه؟» قال:
- «بل ادفعه إلىّ فأنا أستأديه خمسين ألف ألف.» فدفعه إليه فحمله فى غير وطاء فى محمل مكشوف وقدم به الكوفة فقتله بالعذاب.
وكانت اليمانية أتت يزيد بن الوليد فأرادوه على البيعة فشاور فقيل:
- «لا يبايعك الناس فشاور أخاك العبّاس بن الوليد فإنّه سيّد بنى مروان فإن بايعك لن [1] يخالفك أحد وإن أبى كان الناس أطوع له [2] ، فإن أبيت إلّا المضىّ على رأيك فأظهر أنّ العبّاس قد بايعك.» وكانت الشام وبيئة تخرج الملوك منها إلى البوادي [179] وكان يزيد بن الوليد بن عبد الملك متبدّيا وكذلك العبّاس بن الوليد وبينهما أميال يسيرة فأتى يزيد أخاه العبّاس فشاوره وعاب الوليد.
فقال له العبّاس:
- «مهلا يا يزيد فإنّ فى نقض عهد الله فساد الدين والدنيا.» فرجع يزيد إلى منزله ودبّ فى الناس فبايعوه سرّا، وبثّ ثقاته يدعون إليه ويلعنون الوليد وبلغ العبّاس أخاه، فقال له:
- «لئن عاودت لما يبلغني لأشدّنّك وثاقا ولأحملنّك إلى أمير المؤمنين.» فلم ينته يزيد وبلغ معاوية بن عمرو بن عتبة خوض الناس فأتى الوليد فقال:
__________
[1] . لن: كذا فى الأصل. فى آ، ومط: لم.
[2] . أطوع له: كذا فى الأصل. فى آ: له أطوع.(3/180)
- «يا أمير المؤمنين إنّك تبسط لساني بالأنس بك وأكفّه بالهيبة لك وأنا أسمع ما لا تسمع وأخاف عليك ما أراك تأمن. أفأتكلّم ناصحا أم أسكت مطيعا؟» قال:
- «كلّ مقبول منك ولله فينا علم غيب نحن صائرون إليه، ولو علم بنو مروان أنّ ما يوقدون علىّ رضف [1] يلقونه فى أجوافهم ما فعلوا، ونعود فأسمع منك.» وبلغ مروان بن محمد بأرمينية أنّ يزيد يؤلّب الناس ويدعوا إلى خلع الوليد فكتب إلى سعيد بن عبد الملك يأمره أن ينهى الناس ويكفّهم وكان سعيد يتألّه، فقال:
- «إنّ الله جعل لكلّ أهل بيت أركانا يعتمدون عليها [180] ويتّقون بها المخاوف وأنت بحمد [2] ربّك ركن من أركان أهل بيتك وقد بلغني أنّ قوما من سفهاء أهل بيتك قد أسّسوا [3] أمرا إن تمّت لهم رؤيّتهم فيه على ما أجمعوا عليه من نقض بيعتهم، استفتحوا بابا لن يغلقه الله عنهم حتّى يسفك دماء كثير منهم، وأنا مشغول بأعظم الثغور فرجا، ولو جمعتني وإيّاهم لرممت فساد أمرهم بيدي ولساني، ولخفت الله فى ترك ذلك لعلمي بما فى عواقب الفرقة وأنّه لن ينتقل سلطان قوم إلّا بتشتت كلمتهم وأنّ كلمتهم إذا تشتّتت طمع فيهم عدوّهم وأنت أقرب إليهم منّى فاحتل لعلم ذلك بإظهار المتابعة لهم فإذا صرت إلى علم ذلك
__________
[1] . علىّ رضف: كذا فى الأصل: رضف. فى الطبري (9: 1785) : على رضف.
[2] . بحمد: كذا فى الأصل: بحمد. فى آ: محمد.
[3] . أسّسوا: كذا فى الأصل: أسّسوا. ما فى الطبري (9: 1786) استنّوا.(3/181)
فتهدّدهم بإظهار إسرارهم وخذهم بلسانك وخوّفهم العواقب لعل الله أن يرد عليهم ما قد عزب [1] من أحلامهم فإنّ فيما سعوا فيه تغيّر النعم وذهاب الدولة فعاجل الأمر وحبل الألفة مشدود والناس سكون والثغور محفوظة وقد أمّل القوم فى الفتنة أملا لعلّ أنفسهم تهلك دون ما أمّلوا ولكلّ أهل بيت مشائيم يغيّر الله بهم النعمة فأعاذك الله من ذلك وحفظ عليك دينك.» فأعظم سعيد ذلك وبعث بكتابه إلى العبّاس فأعاد العبّاس موعظة يزيد [181] وتهديده وقال:
- «يا أخى أخاف أن يكون بعض من حسدنا على هذه النعمة أراد أن يغرى بيننا.» وحلف له أنّه لم يفعل. فصدّقه.
فلمّا اجتمع ليزيد أمره وهو متبدّ أقبل إلى دمشق وبينه وبينها أربع ليال متنكّرا فى سبعة على حمر وكان أهل دمشق قد بايعوا ليزيد سرّا، إلّا معاوية بن مصاد وكان سيّد أهل المزّة، وبين المزّه وبين دمشق ميل.
فمضى يزيد من ليلته ما شاء فى نفير من أصحابه إلى مزّة فأصابهم مطر شديد فأتوا منزل معاوية فضربوا بابه ففتح لهم فلمّا رأى يزيد قال:
- «إلى الفراش أصلحك الله.» قال:
- «إنّ فى رجلي طينا وأكره أن أفسد بساطك.» قال:
- «إنّ الذي تريدنا عليه أفسد.» وكلّمه يزيد، فبايعه، ورجع يزيد إلى دمشق ونزل دار سليمان بن سعيد
__________
[1] . عزب من أحلامهم: كذا فى الأصل. فى آ: عزب من أخلاقهم. فى الطبري (9:
1786) : عزب من دينهم وعقولهم.(3/182)
الجشمي [1] وكان على دمشق عبد الملك بن محمد بن الحجّاج بن يوسف فخاف الوباء وخرج واستخلف ابنه وكان على شرطته أبو العاج كثير بن عبد الله السّلمى، فأجمع يزيد على الظهور. وقيل للعامل: إنّ يزيد خارج. فلم يصدّق، وأرسل يزيد أصحابه بين المغرب والعشاء ليلة الجمعة سنة ستّ وعشرين ومائة، فكمنوا عند باب الفراديس حتّى سمعوا أذان العتمة، فدخلوا المسجد وصلّوا وللمسجد [182] حرس قد وكّلوا بإخراج الناس من المسجد باليل. فلما صلّى الناس صاح الحرس وتباطأ أصحاب يزيد وجعلوا يخرجون من باب ويدخلون من باب حتّى لم يبق إلّا الحرس وأصحاب يزيد.
فأخذوا الحرس ومضى ابن عنبسة إلى يزيد بن الوليد وقال:
- «قم يا أمير المؤمنين وأبشر بنصر الله تعالى وعونه.» فقام وقال:
- «اللهم إن كان هذا لك رضا فأعنّى عليه وإن كان غير رضا فاصرفه عنّى بموت.» وأقبل فى اثنى عشر رجلا فلمّا كانوا عند سوق الحمر لقوا أربعين رجلا من أصحابهم. فلمّا كانوا عند سوق القمح لقيهم زهاء مائتي رجل من أصحابهم فمضوا إلى المسجد ودخلوه فضربوا باب المقصورة وقال [2] رسل الوليد: ففتح لهم خادم الباب فأخذوه ودخلوا فأخذوا أبا العاج وهو سكران وأخذوا خزّان بيت المال وصاحب البريد. وأرسل إلى كلّ من يحذره، فأخذوه [3] . وتوجّه رسل يزيد من ليلته إلى محمد بن عبيد وهو
__________
[1] . الجشمي: كذا فى الأصل: الجشمي. فى الطبري (9: 1789) : الخشني.
[2] . وقال: كذا فى الأصل ومط. فى الطبري (9: 1790) ، وآ: وقالوا.
[3] . آ: فأخذوا رسل يزيد من ليلته. والعبارة فى الطبري (9: 1790) : «وأرسل إلى كلّ من كان يحذره، فأخذ وأرسل يزيد.»(3/183)
على بعلبك فأخذه وأرسل من ليلته إلى محمد بن عبد الملك بن الحجّاج بن يوسف، فأخذه وقال:
- «استدعوا أصحابنا من النواحي.» وقال للبوّابين:
- «لا تفتحوا الباب غدوة إلّا لمن أخبركم بشعارنا.» فتركو الأبواب [183] بالسلاسل فلمّا أصبحوا جاء أهل المزّة وغيرهم فما انتصف النهار حتّى تتابع الناس وكان فى المسجد سلاح كثير قدم به سليمان بن هشام من الجزيرة فلم يكن الخزّان قد قبضوه فأصابوا سلاحا كثيرا عتيدا وتتابع الناس من كلّ ناحية وأرسل يزيد بن الوليد إلى عبد العزيز بن الحجّاج بن عبد الملك وأمره أن يقف بباب الجابية [1] وقال:
- «من كان له عطاء فليأت إلى عطاءه ومن لم يكن له عطاء فله ألف درهم معونة.» وقال لبنى الوليد بن عبد الملك وكان معه منهم ثلاثة عشر:
- «تفرقوا فى الناس يروكم، وحضّوهم.» ونادى مناديه:
- «من ينتدب إلى الفاسق وله ألف درهم؟» فانتدب ألف رجل. ثمّ نادى مناديه:
- «من ينتدب وله ألف وخمسمائة؟» فانتدب نحو من ألفين. فعقد لجماعة. وجعل عليهم جميعا عبد العزيز بن الحجّاج عبد الملك. فخرج عبد العزيز حتّى عسكر بالحيرة. وبلغ الخبر الوليد فأنفذ أبا محمّد ابن عبد الله بن يزيد بن معاوية وأجازه وجهّزه ووجهه إلى
__________
[1] . الجابية: كذا فى الأصل والطبري (9: 1791) : الجابية. فى آ، ومط: الحابية (بالحاء المهملة) .(3/184)
دمشق. فخرج أبو محمّد. فلمّا انتهى إلى ذنبة [1] أقام فوجّه إليه يزيد بن الوليد عبد الرحمن بن مصاد [2] فسالمه أبو محمّد وبايع ليزيد بن الوليد وأتى الوليد الخبر وهو بالأعدف [3] . [184]
ذكر آراء أشير بها على الوليد فساقه الحين إلى أحدهما
فقال له يزيد بن خالد بن يزيد بن معاوية:
- «يا أمير المؤمنين سر حتّى تنزل حمص فإنّها حصينة ووجّه الجنود إلى يزيد فإنّه يقتل أو يؤسر.» فقال عبد الله [4] بن عنبسة بن سعد [5] بن العاص:
- «ما ينبغي للخليفة أن يدع عسكره ونساءه قبل أن يقاتل ويعذر، والله مؤيّد أمير المؤمنين وناصره.» فقال يزيد بن خالد:
- «وماذا تخاف على حرمه؟» وإنّما أتاه عبد العزيز بن الحجّاج بن عبد الملك وهو ابن عمّهنّ. فأخذ بقول ابن عنبسة.
فقال له الأبرش:
__________
[1] . ذنبة: الضبط من الطبري (9: 1795) . فى آ: مهملة فى كل الحروف.
[2] . مصاد: كذا فى الأصل ومط والطبري (9: 1795) . وفى آ: معاد.
[3] . بالأعدف: كذا فى الأصل وآ: بالأعدف. فى مط: الأغدف. فى الطبري (9: 1795) :
بالأغدف.
[4] . عبد الله: فى الأصل مطموس، كذا فى آ، ومط، والطبري (9: 1795) : عبد الله.
[5] . سعد: كذا فى الأصل. فى آ، ومط، والطبري (9: 1795) : سعيد.(3/185)
- «يا أمير المؤمنين تدمر حصينة وبها قومي يمنعونك.» فقال:
- «أهلها بنو عامر وهم الذين خرجوا علىّ ولكن دلّنى على منزل حصين.» قال:
- «أنزل القرية.» قال- «أكرهها.» قال:
- «فهذا الهريم [1] قال:
- «أكره اسمه.» قال:
- «فهذا البخراء [2] قصر النعمان بن بشير.» قال:
- «ويحك ما أقبح أسماء مياهكم.» وأقبل فى طريق السماوة فقال له بيهس بن زميل:
- «أمّا إذ أبيت أن تمضى إلى حمص وتدمر فهذا الحصن البخراء وهو حصين وهو من بناء العجم فأنزله.» فنزله.
وندب يزيد بن الوليد الناس إلى الوليد ونادى مناديه:
- «من سار فله ألفان.» فانتدب [185] ألفا رجل فأعطاهم ألفين ألفين وقال: موعدكم بذنبة وسار فوافاه بذنبة ألف ومائتان ثمّ سار، فتلقاهم ثقل الوليد فأخذوه ونزلوا قريبا من الوليد وأرسل العبّاس إلى الوليد:
- «إنّى آتيك، فاختر بين أن آتيك، أو آتى يزيد فأكفّه.»
__________
[1] . الهريم: كذا فى الأصل وآ، وفى مط مهملة. فى الطبري (9: 1796) : الهزيم. وفى هامش الطبري: الهريم، الحزيم.
[2] . البخراء: الضبط من الطبري (9: 1796) . فى الأصل ومط غموض وإهمال. فى آوحواشي الطبري: النجراء.(3/186)
فاتهمه وقال:
- «بل ائتني.» فبلغ عبد العزيز مسير العبّاس بن الوليد فأرسل إليه منصور بن جمهور فى خيل وقال:
- «إنّكم ستلقون العبّاس بن الوليد فى الشّعب ومعه بنوه فخذوهم وجيئوني بهم.» فخرج منصور فى خيل فلمّا صاروا فى الشّعب إذا هم بالعبّاس فى ثلاثين من أهل بيته.
فقالوا له:
- «اعدل إلى عبد العزيز.» فشتمهم. فقال له منصور:
- «والله لئن تقدّمت لأنفذنّ حصينك [1] .» - «ويقال بل الذي لقيه، يعقوب بن عبد الرحمن بن سليم وقال له:
- «والله لئن أبيت لأضربنّ ما فيه عيناك.» ولم يكن مع العبّاس أصحابه، لأنّه تقدّمهم وكان معه بنوه فقال:
- «إنّا لله.» وأتوا به عبد العزيز. فقال:
- «بايع لأخيك يزيد بن الوليد.» فبايع.
وكان عبد العزيز قد أخرج أصحابه وعبّأهم فقاتل أصحاب الوليد وقد قتل من أصحابه جماعة. وحملت رؤوسهم إلى الوليد والوليد على باب البخراء جالس [285] ينتظر العبّاس فلمّا بايع الناس على الكره وعلى سبيل
__________
[1] . أو حضنيك. وفى مط: حصبتك. وفى الطبري (9: 1798) : «حصينك يعنى درعك»(3/187)
المكر به، قال:
- «إنّا لله، خدعة من خدع الشيطان هلك بنو مروان ونصب عبد العزيز راية.» وقالوا:
- «هذه راية العبّاس بن الوليد وقد بايع لأمير المؤمنين يزيد.» فتفرّق الناس عن الوليد، ودخلوا فى الأمان إلى عبد العزيز والعبّاس.
وظاهر الوليد بين درعين، وأتوه بفرسين: السندي والذائد [1] . فقاتلهم، فناداهم رجل:
- «اقتلوا عدوّ الله قتلة قوم لوط، ارموه بالحجارة.» فلمّا سمع ذلك دخل القصر وتبعه الناس يطلبونه. فدنا الوليد من الباب.
فقال:
- «أما فيكم رجل شريف له حسب وحياء أكلّمه؟» فقال له يزيد بن عنبسة السّكسكىّ:
- «كلّمنى.» قال:
- «من أنت؟» قال:
- «يزيد بن عنبسة.» قال [2] :
- «يا أخا السكاسك، ألم أزد فى أعطياتكم، ألم أرفع المؤن عنكم، ألم أعط فقراءكم، ألم أخدم زمناكم؟» - «فأجابه وقال:
- «ما ننقم عليك فى أنفسنا، ولكن ننقم عليك فى انتهاك ما حرّم الله،
و
__________
[1] . الذائذ: كذا فى الأصل. فى الطبري (9: 1799) : الزائد، وفى حواشيه: الزابد. الرابد الذائد.
[2] . نجد الحوار فى الطبري (9: 1799) .(3/188)
شرب الخمر، ونكاح أمّهات أولاد أبيك، واستخفافك بالدين.» قال:
- «حسبك يا أخا السكاسك، فلعمرى لقد أكثرت وأغرقت. فإنّ فيما أحلّ الله لسعة عمّا ذكرت وو الله [187] لا اجتمعت [1] كلمتكم بعدي.» ورجع إلى القصر. وأخذ مصحفا فنشره وجلس يقرأ. وقال:
- «يوم كيوم عثمان.» وكان أول من علا الحائط يزيد بن عنبسة. فتحدّث المثنى بن معاوية قال:
دخلت القصر فإذا الوليد قائم فى قميص قصب وسروايل وشى ومعه سيف فى غمد والناس يشتمونه. ثمّ كثر الناس عليه وتعاوروه بأسيافهم فقتل.
رأس الوليد وما فعل به
وكان جعل يزيد بن الوليد فى رأس الوليد مائة ألف فانتهب الناس عسكر الوليد وخزائنه وأمر يزيد بنصب الرأس على رمح وطيف به فى مدينة دمشق ثمّ قال:
- «ادفعوه إلى سليمان [2] أخى الوليد.» وكان سليمان أخو الوليد ممّن سعى على أخيه. فغسل الرأس ووضع فى سفط وأتى به سليمان فنظر إليه ثمّ قال:
- «بعدا له وسحقا أشهد أنّه كان شروبا للخمر فاسقا ماجنا ولقد أرادنى الفاسق على نفسي.» فخرج حامل الرأس وهو ابن فروة من الدار فتلقّته مولاة للوليد. فقال لها:
__________
[1] . لا تجتمع: فى الأصل وآ: لا اجتمعت. فى مط: ما اجتمعت. وما أثبتناه يوافق الطبري (9: 1801)
[2] . سليمان: كذا فى الأصل وآ: سليمان. فى مط: سلمان.(3/189)
- «ويحك ما أشدّ ما شتمه [1] زعم أنّه أراده على نفسه.» قالت:
- «كذب الخبيث ولئن كان أراده على نفسه لقد فعل. ما كان ليقدر على الامتناع منه.»
هرب المغنّين
وكان مع الوليد مالك بن أبى السمح المغنّى وعمر الوادي [2] . [188] فلمّا تفرّق الوليد عن أصحابه وحصر قال مالك لعمر:
- «اذهب بنا.» فقال عمر:
- «ليس هذا من الوفاء ونحن لا يعرض لنا لأنّا لسنا ممّن يقاتل.» فقال مالك:
- «ويلك والله لئن ظفروا بنا لا يقتل قبلي وقبلك أحد فيوضع رأسه بين رأسينا ويقال للناس: انظروا من كان معه فى هذه الحال فلا يعيبونه [3] بشيء أشدّ من هذا.» فهربا، وكان معهما أبو كامل العزيل المغنّى، وكان سبقهما إلى الهرب.
من صفات الوليد
وكان قتل الوليد يوم الخميس لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة ستّ وعشرين ومائة وكانت خلافته سنة وثلاثة أشهر وكان له من السنين نيّف
__________
[1] . شتمه. كذا فى الأصل وآ، ومط والطبري (9: 1808) : ما شتمه. (بصيغة الغائب) .
[2] . عمر الوادي: كذا فى الأصل: عمر الوادي. فى آ، والطبري (9: 1809) عمرو الوادي. وزاد فى هامش الأصل بخطّ المتن: «عمر الوادي مغنّ، ومالك مله.»
[3] . يعيبونه: كذا فى الأصل والطبري (9: 1810) : يعيبونه. فى مط وآ: يعنونه.(3/190)
وأربعون سنة وقد اختلف فى النيّف. وكان شديد البطش طويل أصابع الرجلين وكان يوتد له سكة حديد فيها خيط قوى فيشدّ الخيط فى رجله ثمّ يثب على الدّابّة فينتزع السكّة ويركب ما يمسّ الدابّة بيده.
وكان شاعرا شروبا للخمر، أحصى عليه فى ليلة سبعون قدحا، وكان صاحب صيد، ولمّا أفضت إليه الخلافة انهمك وأولع بالصيد، وكره الجلوس للناس وحجبهم وفعل تلك الأمور التي زادته بغضا إلى الناس حتّى قتل ولم يتمتّع بملكه. [189]
مقتل خالد بن عبد الله القسري فى العذاب
وفى هذه السنة قتل خالد بن عبد الله القسري. وقد كنّا ذكرنا عزل هشام له وأنّه استعمل يوسف بن عمر وطالبه واستخرج منه مالا وعذّبه. ولكن كان مع ذلك يحامى عليه هشام ويوصّى به. ولم يزل يوسف يكثر ويعتلّ بانكسار الخراج وذهاب الأموال حتّى أذن له وبعث حرسيّا يشهد أمره، وحلف لئن أتى على خالد أجله وهو فى يده ليقتلنّه. وكان يوسف يطالبه ويبقى عليه بعض الإبقاء إلى أن بسط عليه يوما بحضرته فلم يكلّمه خالد [1] حتّى شتمه يوسف وقال:
- «يا ابن الكاهن» يعنى، شق بن صعب الكاهن فقال له خالد:
- «إنّك لأحمق تعيّرنى بشر فى ولكنّك ابن سبّاء [2] ، إنّما كان أبوك يبيع الخمر.»
__________
[1] . خالد: كذا فى الأصل ومط: خالد. فى آ: أحد. فى الطبري (9: 1813) واحدة.
[2] . السبّاء: بتشديد الباء: بائع الخمر. والسباء: بتخفيف الباء: الخمر.(3/191)
فردّ إلى محبسه ثمّ كتب إليه هشام بتخلية سبيله. فخرج حتّى ورد دمشق.
وكان يقصد بها ويؤذى من جهة أعداء كانوا له، نصبهم يوسف عليه، حتّى قال يوما:
- «والله ليكفّنّ عنّى هشام أو لأدعونّ إلى عراقىّ الهوى، شامىّ الدار، حجازىّ الأصل، يعنى محمّد بن علىّ بن عبد الله بن العبّاس وقد أذنت لكم أن تبلّغوا هشاما.» فلمّا بلغه ما قال. قال:
- «خرف أبو الهيثم.» [190] وأقام خالد بدمشق حتّى هلك هشام، وقام الوليد، وقدم عليه يوسف بن عمر بمال العراق، وتكلّم أبان بن عبد الله النمري [1] فى خالده فقال يوسف:
- «أنا أشتريه بخمسين ألف ألف.» [2] فقال الوليد لخالد:
- «إن كنت تضمنها، والّا دفعتك يا خالد إليه.» فقال خالد:
- «ما عهدت العرب تباع والله لو سألتنى أن أضمن هذا. ورفع عودا من الأرض ما ضمنته، فرأيك.» فدفعه إلى يوسف فنزع ثيابه ودرّعه عباءة ولحفه أخرى وحمله فى محمل بغير وطاء ثمّ دعا به وذكر أمّه.
فقال:
- «ما ذكر الأمّهات لعنك الله، والله لا أكلّمك كلمة أبدا.»
__________
[1] . النمري: كذا فى الأصل: النمري. فى مط: التمري. فى آ، والطبري (9: 1821) :
النميري.
[2] . فى آ: ألف ألف درهم.(3/192)
فبسط عليه العذاب وعذّبه عذابا شديدا لا يكلّمه كلمة ومكث خالد يوما فى العذاب. فحدّث أبو نعيم قال: شهدت خالدا حين أتى به يوسف فدعا بعود يعرف بالمضرّسة فوضعه على قدميه ثمّ قامت عليه الرجال حتّى كسر قدماه فو الله ما تكلّم ولا عبس، ثمّ على ساقيه حتّى كسرتا، ثمّ على فخذيه، ثمّ على حقويه، ثمّ على صدره حتّى مات. فو الله ما تكلّم ولا عبس، وو الله ما نصره طول أيّام حبسه أحد من عشيرته ولا من صنائعه، بيد ولا لسان، إلّا رجل من [191] بنى عبس فإنّه قال [1] :
ألا أنّ بحر الجود أصبح ثاويا أسير ثقيف موثقا فى السّلاسل فإن تسجنوا القسرىّ لا تسجنوا اسمه ولا تسجنوا معروفه فى القبائل
__________
[1] . انظر الطبري (9: 1817) .(3/193)
خلافة يزيد بن الوليد بن عبد الملك
اضطراب حبل بنى مروان
وفى هذه السنة بويع ليزيد بن الوليد بن عبد الملك الذي يقال له: الناقص، وإنّما قيل له الناقص لنقصه الناس الزيادة التي زادهموها الوليد بن يزيد فى أعطياتهم وذلك عشرة عشرة. وفى هذه السنة اضطرب حبل بنى مروان [1] وهاجت الفتنة.
ذكر الفتن وأسبابها
كان سبب ذلك وثوب سليمان بن هشام بن عبد الملك بعمان- وكان محبوسا بها فأخذ ما كان بعمان من الأموال وأقبل إلى دمشق يلعن الوليد ويعيبه ويرميه بالكفر- ووثوب أهل حمص بأسباب العبّاس بن الوليد وهدمهم داره وإظهارهم الطلب بدم الوليد بن يزيد.
وأمّا أهل حمص فكان وإليهم مروان بن عبد الله من قبل الوليد. وكان نبيلا فاضلا كريما له جمال وروعة [192] فلمّا قتل الوليد أغلق أهل حمص أبوابها وأقاموا النوائح والبواكي على الوليد، وسألوا عن قتله. فقال بعض من
__________
[1] . انظر الطبري 9: 1825.(3/195)
حضر الأمر:
- «ما زلنا منتصفين من القوم قاهرين لهم حتّى جاء العبّاس بن الوليد فمال إلى عبد العزيز بن الحجّاج بن الوليد فوثب أهل حمص إلى دار العبّاس، فانتهبوها وسلبوا حرمه، وأخذوا بنيه وحبسوهم، وطلبوه فخرج إلى يزيد بن الوليد.» وبلغ ذلك مروان بن عبد الله بن عبد الملك فوافقه ذلك وتابعهم وكتب أهل حمص بينهم كتابا وتواثقوا فيه على ألّا يدخلوا فى طاعة يزيد وكاتبوا رؤساء الأجناد [1] ودعوا إلى وليّى العهد وكانا صبيّين بعد، فلمّا بلغ يزيد بن الوليد خبرهم وجّه إليهم رسلا فيهم يعقوب بن هاني وكتب معه:
- «إنّه ليس يدعو إلى نفسه، ولكن يدعوهم إلى الشّورى.» فقال عمرو بن قيس السّكونى:
- «قد رضينا بولىّ عهدنا.» يعنى ابن الوليد.
فأخذ يعقوب بلحيته. فقال:
- «أيّها الغشمة، إنّك قد خرفت وذهب عقلك. إنّ الذي تعنى لو كان يتيما فى حجرك لم يحلّ لك أن تدفع إليه ماله فكيف أمر الأمة؟» فوثب [193] أهل حمص على رسل يزيد بن الوليد فطردوهم.
ثمّ أقبل أهل حمص، فنزلوا قرية كانت لخالد بن يزيد بن معاوية، وأمرهم إلى رجل يعرف بأبى محمّد السفياني. فتكلّم مروان بن محمّد بشيء اتّهموه فيه، فوثبوا عليه وقتلوه. ولمّا بلغ يزيد أمر أهل حمص دعا عبد العزيز بن الحجّاج، فوجّهه فى ألف وخمسمائة ووعده أن يمدّه وكان سليمان بن هشام قد بادرهم فنزلوا بالسليمانية وكان أهل حمص قد نزلوها قبلهم وأراحوا دوابّهم
__________
[1] . الأجناد: كذا فى الأصل. ما فى مط: الأخبار.(3/196)
وجعلوا الزيتون عن أيمانهم والجبل عن شمائلهم والجباب [1] خلفهم وليس لهم مأتى إلّا من وجه واحد.
قال من حضر: ودفعنا إليهم ونحن معيون قد كلّت دوّابنا وثقل علينا الحديد فحاربناهم فهزموا ميمنتنا وميسرتنا أكثر من غلوتين وسليمان كان فى القلب فثبت وحمل عليهم حتّى ردّهم إلى مواضعهم. فبينا نحن نحمل مع سليمان ويحملون علينا إذا طلع عبد العزيز من الثنيّة فشدّ عليهم حتّى دخل عسكرهم وقتل ثمّ نفذ إلينا فلمّا تشتتوا واستحرّ فيهم القتل نادوا يزيد بن خالد بن عبد الله القسري:
- «الله الله فى قومك.» فكفّ الناس عنهم على أن [194] يبايعوا ليزيد بن الوليد فلمّا خرجوا إلى دمشق أعطاهم يزيد وأجاز الأشراف.
ووثب فى هذه السنة أهل فلسطين والأردن على عاملهم فطروده. ذكر السبب فى ذلك
كان سبب ذلك أن سعيد بن عبد الملك كان عاملا للوليد على فلسطين وكان حسن السيرة وكان يزيد بن سليمان سيّد ولد أبيه وكان ولد سليمان بن عبد الملك ينزلون فلسطين وكان أهل فلسطين يحبّونهم لجوارهم فلمّا ورد قتل الوليد ورأس أهل فلسطين يومئذ سعيد بن روح بن زنباع [2] فكتب إلى يزيد بن سليمان:
- «انّ الخليفة قد قتل فاقدم علينا نولّك أمرنا.»
__________
[1] . الحباب: كذا فى الأصل. فى آ: الجبات. فى مط: الجناب. فى الطبري (9: 1828) :
الجبات.
[2] . زنباع: الضبط فى الطبري (9: 1831) : كذا، زنباع، بكسر الزّاء.(3/197)
فقدم فجمع له سعيد قومه وكتب إلى سعيد بن عبد الملك وهو نازل بالسبع:
- «ارتحل عنّا فإنّ الأمر قد اضطرب وقد ولّينا أمرنا رجلا قد رضيناه.» فخرج إلى يزيد بن الوليد.
ودعا يزيد بن سليمان أهل فلسطين إلى قتال يزيد بن الوليد وبلغ أهل الأردن أمرهم فولّوا عليهم محمّد بن عبد الملك وأمر أهل فلسطين إلى سعيد بن روح بن زنباع [1] وضبعان بن روح وبلغ يزيد أمرهم فوجّه إليهم [195] سليمان بن هشام فى أهل دمشق.
فقال محمّد بن راشد: كان سليمان بن هشام يرسلني إلى سعيد وضبعان ابني روح وإلى الحكم وهاشم [2] ابنى حرو [3] من بلقين فأعدهم وأمنّيهم على الدخول فى طاعة يزيد بن الوليد.
وقال عثمان بن داود الخولاني: أنفذنى يزيد بن الوليد ومعى حذيفة بن سعيد إلى محمّد بن عبد الملك ويزيد بن سليمان يدعوهما إلى طاعته ويعدهما ويمنّيهما فبدأنا بأهل الأردن ومحمّد بن عبد الملك، فاجتمع إليه جماعة وقال بعضهم:
- «أصلح الله الأمير، أقتل [4] هذا القدرىّ الخبيث، فكفّهم عنّى الحكم بن جرو [5] القينى. وأقيمت الصلاة فخلوت به وقلت:
__________
[1] . روح بن زنباع: كذا فى الأصل ومط. فى آوالطبري (9: 1831) : روح، دون «بن زبناع» .
[2] . هاشم: كذا فى الأصل وآ ومط: هشام. فى الطبري (9: 1832) : راشد.
[3] . فى الطبري (9: 1832) : جرو من بلقين، بالجيم المعجمة. فى حواشيه: حرو، مهملة.
فى. آ: حرو بن بلقيس.
[4] . اقتل هذا القدرىّ الخبيث: كذا فى الأصل (بالضبط) فى آومط: أقبل. فى الطبري:
«أقبل هذا الفتى»
[5] . جرو القينى: كذا فى الأصل: حرو (مهملة) . فى آومط: حرو القينى، بالحاء المهملة.(3/198)
- «إنّى رسول يزيد إليك والله ما تركت ورائي راية تعقد إلّا على رأس رجل من قومك، ولا درهما يخرج من بيت المال إلّا فى يد رجل منهم وهو يجعل [1] لك كذا وكذا.» فقال:
- «أنت بذاك.» قلت: «نعم.» ثمّ خرجت فأتيت ضبعان بن روح فقلت له مثل ذلك وقلت:
- «يولّيك فلسطين ما بقي.» فأجابنى فما أصبحت حتّى رحل بأهل فلسطين.
فلمّا أتيت يزيد قال:
- «أخبرنى كيف قلت لضبعان بن روح؟» فأخبرته. قال:
- «فما صنع؟» قلت:
- «ارتحل.» قال:
- «فليسا [2] بأحقّ [196] بالوفاء منّى، ارجع.» فأمره ألّا ينصرف حتّى ينزل الرملة فيبايع أهلها. وقد استعملت إبراهيم بن الوليد على الأردن وضبعان بن روح على فلسطين ومسرور بن الوليد على قنّسرين وابن الحصين على حمص.
خطبة خطبها يزيد استمال بها الناس
خطب يزيد بن الوليد الناس بعد قتل الوليد فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه:
__________
[1] . يجعل: كذا فى الأصل ومط وآ: يجعل. فى الطبري (9: 1832) : يحمل.
[2] . فليسا: كذا فى الأصل وآ ومط: فليسا. فى الطبري (9: 1833) : فليس.(3/199)
- «أيّها الناس إنّى والله ما خرجت أشرا ولا بطرا ولا حرصا على الدنيا ولا رغبة فى الملك وما بى إطراء لنفسي. إنى لظلوم لنفسي إن لم يرحمني ربّى ولكنّى خرجت غضبا لله ورسوله ودينه، وداعيا إلى الله وكتابه وسنّة نبيّه لمّا هدمت معالم الهدى وأطفئ نور أهل التقوى وظهر الجبّار العنيد المستحلّ لكلّ حرمة والراكب كلّ بدعة مع أنّه والله ما كان يصدّق بالكتاب، ولا يؤمن بيوم الحساب وأنّه لابن عمّى فى النسب [1] وكفئى فى الحسب [2] .
فلمّا رأيت ذلك استخرت الله فى أمره وسألته ألّا يكلني إلى نفسي ودعوت إلى ذلك من أجابنى من أهل ولايتي وسعيت فيه [197] حتّى أراح الله منه العباد والبلاد بحول الله وقوّته لا بحولي وقوّتى.
«أيّها الناس إنّ لكم علىّ ألّا أضع حجرا على حجر ولا لبنة على لبنة، ولا أكرى نهرا، ولا أكنز مالا ولا أعطيه زوجة ولا ولدا، ولا أنقل مالا من بلد حتّى أسدّ ثغر ذلك البلد، وخصاصة أهله بما يغنيهم [3] فإن فضل فضل نقلته إلى البلد الذي يليه ممّن هو أحوج إليه ولا أجمركم على ثغوركم فأفتنكم وأفتن عليكم أهليكم ولا أغلق بابى دونكم، فيأكل قوّيكم ضعيفكم، ولا أحمل على أهل جزيتكم ما يجليهم عن بلادهم ويقطع نسلهم، وإنّ لكم أعطياتكم عندي فى كل سنة وأرزاقكم فى كل شهر،
__________
[1] . فى النسب. كذا فى الأصل ومط وآ: فى النسب. فى الطبري (9: 1834) : فى النسب.
[2] . فى الطبري: فى النسب.
[3] . يغنيهم: كذا فى الأصل ومط: يغنيهم (بالغين المعجمة) . وما فى آوالطبري (9: 1835) : يعنيهم (بالعين المهملة) .(3/200)
حتّى تستدرّ المعيشة بين المسلمين فيكون أقصاهم كأدناهم. فإن أنا وفيت لكم بما قلت فعليكم السمع والطاعة وحسن المؤازرة وإن أنا لم أف لكم أن تخلعونى إلّا أن تستتيبونى فإن تبت قبلتم منّى وإن علمتم أحدا ممّن يعرف بالصلاح يعطيكم من نفسه مثل ما أعطيكم فأردتم أن تبايعوه فأنا أوّل من يبايعه ويدخل فى طاعته» [1] [198] «أيّها الناس، إنّه لا طاعة للمخلوق فى معصية الخالق ولا وفاء له بنقض عهد. إنّما الطاعة طاعة الله فمن أطاع فأطيعوه بطاعة الله ما أطاع، فإذا عصى الله ودعا إلى معصيته، فهو أهل أن يعصى ويقتل. أقول قولي هذا وأستغفر الله لى ولكم.» [2] ثمّ دعا إلى تجديد البيعة له فكان أوّل من بايعه الأفقم يزيد بن هشام وبايعه قيس بن هانئ فقال:
- «يا أمير المؤمنين، اتّق الله ودم على ما أنت عليه فما قام مقامك أحد من أهل بيتك، وإن قالوا: عمر بن عبد العزيز، فأنت أخذتها بحبل صالح وإنّ عمر أخذها بحبل سوء.» فلمّا بلغ قوله مروان بن محمّد قال:
- «ما له قاتله الله ذمّنا جميعا وذمّ عمر وحقدها [3] .»
__________
[1] . تجد الخطبة فى الطبري أيضا (9: 35- 1833) .
[2] . تجد النصّ فى الطبري أيضا (9: 1835) .
[3] . وحقدها: كذا فى الأصل وآ ومط: حقدها. والعبارة ليست فى الطبري (9: 1836) ، ولعلّ الصحيح: حقده أو: حقدنا.(3/201)
فلمّا ولى [1] بعث رجلا وقال له:
- «إذا دخلت مسجد دمشق فانظر قيس بن هانئ فإنّه طالما صلّى فيه فاقتله.» - «فانطلق الرجل، فدخل المسجد، فرأى قيسا يصلّى، فقتله.
عزل يزيد يوسف بن عمر عن العراق وتولية منصور بن جمهور
وفى هذه السنة عزل يزيد بن الوليد يوسف بن عمر عن العراق وولّاها منصور بن جمهور. [2] ولمّا استوسق أهل الشام ليزيد بن الوليد على الطاعة عزل يوسف عن العراق وولّاها منصور بن جمهور، [199] فسار وهو سابع سبعة. فبلغ خبره يوسف بن عمر، فهرب وقدم منصور بن جمهور الحيرة فى رجب، وكان منصور أعرابيّا جافيا غيلانىّ الرأى [3] وإنّما صار مع يزيد لرأيه فى الغيلانيّة وحميه لقتل يوسف خالدا فلمّا ولّاه يزيد، وصّاه وقال:
- «اتق الله وسر وأنت تستشعر التقوى، وأعلم إنّى إنّما قتلت الوليد لفسقه ولما أظهر من الجور، فلا تركب مثل ما قتلناه عليه.» فلمّا صار بالحيرة، كتب إلى سليمان بن سليم بن كيسان:
- «أمّا بعد، فإن الله لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا 13: 11
__________
[1] . ولى: كذا فى الأصل وآ ومط: ولى. فى الطبري: (9: 1836) : ولى مروان
[2] . السطران الأخيران ليسا في آ، وهما موجودان فى الطبري (9: 1836) .
[3] . غيلانى الرأى: وزاد فى الطبري (9: 1837) : ولم يكن من أهل الدين.(3/202)
أَرادَ الله بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ. 13: 11 [1] وإنّ الوليد بدّل نعمة الله كفرا، فسفك الله دمه وعجّله إلى النار وولّى خلافته من هو خير منه وأحسن هديا وقد بايعه الناس. وولّى على العراق الحارث بن العبّاس بن الوليد وجّهنى العبّاس لأخذ يوسف وعمّاله، وقد [2] نزل الأبيض وهو ورائي. فخذ يوسف وعمّاله ولا يفوتنّك منهم أحد فاحبسهم قبلك، وإيّاك أن تخالف فيحلّ بك وبأهل بيتك ما لا قبل لك ولهم به. فاختر لنفسك أو دع.» فلمّا ورد الكتاب على سليمان بن سليم مع كتب كتبها إلى جماعة [200] من قوّاد الشام، أوصلت الكتب كلّها سليمان بن سليم وسئل أن يفرّقها فى الجند.
فدخل سليمان على يوسف بن عمر، وأقرأه كتاب منصور إليه، فبعل [3] به وقال:
- «ما الرأى؟» فقال:
- «ليس لك إمام تقاتل معه ولا تقاتل أهل الشام، الحارث بن العبّاس معك، ولا آمن من منصور إن قدر عليك لما فى نفسه من أجل خالد، وما الرأى إلّا أن تلحق بشامك.» قال:
- «هو رأيى. فكيف الحيلة؟» قال:
- «تظهر الطاعة ليزيد، وتدعو له فى خطبتك، فإذا قرب منصور بن جمهور وجّهت معك من أثق به.»
__________
[1] . س 13 الرعد: 11.
[2] . فى آ، سقط من «وقد» إلى «عمّاله» .
[3] . فبعل به: كذا فى الأصل وآ والطبري (9: 1838) : فبعل. بعل: دهش وتحيّر. فى مط: فتعديه!(3/203)
ففعل. فلمّا نزل منصور بحيث يصبّح البلد، خرج يوسف إلى منزل سليمان فأقام أيّاما ثمّ وجّه معه من أخذ به طريق السماوة حتّى صار إلى البلقاء. وكان يوسف وجّه رجلا من بنى كلاب فى خمسمائة وقال لهم:
- «إن مرّ بكم يزيد بن الوليد نفسه فلا تدعنّه يجوز.» فأتاهم منصور بن جمهور فى سبعة فلم يهيجّوه فانتزع سلاحهم منهم وأدخلهم الكوفة.
ولمّا بلغ يوسف البلقاء رفع خبره إلى يزيد بن الوليد فوجّه قائدا فى خمسين رجلا وقال له:
- «ائتني بيوسف.» فأتى البلقاء وطلبه فى منزله فلم يجده ورأى ابنا فرهّبه. [1] فقال:
- «أنا أدلّك عليه.» وذهب [201] به إلى مزرعة فوجدوه فى ثياب النساء جالسا مع نسوة، فألقين عليه قطيفة خزّ، وجلسن على حواشيها حاسرات، فجرّوا برجله وأقبلوا به إلى يزيد، فلقيه عامل ليزيد على نوبة من نوائب الحرس، فأخذ بلحيته وهزّها ونتف بعضها- وكان من أعظم الناس لحية وأصغرهم قامة- فلمّا دخل على يزيد قبض على لحيته وكانت حينئذ تجوز سرّته وجعل يقول:
- «نتف والله يا أمير المؤمنين لحيتي فما بقّى فيها شعرة.» فأمر يزيد بحبسه فى الخضراء، فدخل عليه محمّد بن راشد فقال له:
- «أما تخاف أن يطلع عليك بعض من قد وترت فيلقى عليك حجرا فيقتلك؟» قال:
- «لا والله ما فطنت لهذا فنشدتك الله إلّا كلّمت أمير المؤمنين فى تحويلي
__________
[1] . فى الطبري (9: 1842) : فرهّبا ابنا له، بدل «فرهّبه» .(3/204)
إلى محبس [1] غير هذا وإن كان أضيق منه.» - «ما غاب عنك من حمقه أكثر [2] ، وما حبسته إلّا لأردّه إلى العراق فيقام للناس وتؤخذ منه المظالم من ماله ودمه.» فأخبرت يزيد. فقال وأمّا منصور بن جمهور فإنّه فتح الخزائن وفرّق فى الناس استحقاتهم وأحسن إلى جميعهم.
امتناع نصر بن سيّار لعامل منصور بن جمهور
وفى هذه السنة امتنع نصر بن سيّار بخراسان لعامل منصور بن جمهور وكان يزيد بن الوليد [202] قد ولّاها منصورا مع العراق.
ذكر الخبر عن ذلك
كنّا ذكرنا ما أعدّه نصر من الهدايا وشخوصه متوجّها إلى يوسف بن عمر بالعراق وتباطئه فى سفره حتّى ورد عليه الخبر بقتل الوليد. فحكى بشير بن نافع وكان على سكك العراق قال: لمّا أقبل منصور بن جمهور أميرا على العراق هرب يوسف بن عمر، فوجّه منصور أخاه منظور بن جمهور على الرىّ، فأقبلت مع منظور إلى الرىّ وقلت: اقدم على نصر فأخبره. لمّا وردت على نصر وأخبرته كان الخبر عنده، فأمر حميدا مولاه أن يحملني إلى عنده، وأكرمنى وأمر لى بجارية [3] . ثمّ دخل إلى نصر قوم فيهم يونس بن عبد الله وعبيد الله بن هشام وسلم بن أحوز، فأرسل إلىّ وقال: أخبرهم.
__________
[1] . محبس: كذا فى الأصل ومط: محبس. فى آ، والطبري (9: 1843) : مجلس.
[2] . أكثر: كذا فى آ، ومط والطبري (9: 1843) : أكثر.
[3] . بجارية: كذا فى الأصل: بجارية. ما فى آ، ومط والطبري (9: 1846) بجائزة.(3/205)
فلمّا أخبرتهم كذّبونى فقلت: أستوثق من هولاء. فلمّا مضت ثلاث وكّل بى ثمانين رجلا من الحرس، فأبطأ الخبر إلى الليلة التاسعة، ثمّ جاءهم الخبر ليلة النيروز على ما وصفت، فصرف عامّة تلك الهدايا إلى أربابها وأعتق الرقيق وقسّم روقة [1] الجواري فى ولده [203] وخاصّته، وقسّم تلك الأوانى فى الناس ووجّه العمّال وأمرهم بحسن السيرة.
وأرجفت الأزد بخراسان أن منظور بن جمهور قادم خراسان. فخطب نصر وقال فى خطبته:
- «إن جاءنا أمير ظنين قطعنا يديه ورجليه.» ثمّ باح به بعد وقال:
عدوّ الله المخذول المتبور.» وولّى نصر [2] ربيعة واليمن وولّى كلّ من ظنّ عنده خيرا وأمرهم بحسن السيرة ودعا الناس إلى البيعة وكان نصر ولىّ عبد الملك بن عبد الله السلمى خوارزم فخطبهم وقال فى خطبته:
- «والله ما أنا بالأعرابىّ الجلف، ولا القروىّ [3] المستنبط، ولقد كدمتنى الأمور وكدمتها. [4] أما والله لأضعنّ السيف موضعه،
و
__________
[1] . روقة الجواري: الروقة: الجميل جدّا من الغلمان والجواري. للمذكر والمؤنث والمفرد والمثنّى والجمع. روقة الناس: خيارهم وسراتهم.
[2] . وولّى نصر ربيعة: كذا فى الأصل ومط والطبري (9: 1847) : وولّى نصر. فى آ:
نصر بن ربيعة.
[3] . القروىّ: كذا فى الأصل وآ: القروىّ. فى الطبري (9: 1849) : الفزارىّ.
[4] . كدمتنى الأمور وكدمتها: كذا فى الأصل. كدمه: عضّه. ما فى الطبري (9: 1849) :
كرّمتنى الأمور وكرّمتها.(3/206)
السوط مضربه، والسجن مدخله. ثمّ لتجدنّى غشمشما أعشبى [1] الشجر ولتستقيمنّ لى على الطريقة رقص [2] البكارة فى السّنن الأعظم، ولأصكّنّكم صكّ القطامىّ القطا القارب. [3] »
وقوع اختلاف بخراسان
وفى هذه السنة وقع الاختلاف بخراسان بين اليمانية والنزارية.
وأظهر فيها الكرمانىّ الخلاف لنصر بن سيّار واجتمع مع كلّ واحد منهما جماعة لنصرته.
وفيها [204] أظهر مروان بن محمّد الخلاف وكتب إلى الغمر بن يزيد أخى الوليد بن يزيد كتابا بليغا يأمره بالطلب بدم أخيه الوليد.
تولية عبد الله بن عمر العراق
وفيها عزل يزيد منصور بن جمهور عن العراق وولّاها عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بن مروان. وكان عبد الله بن عمر هذا متألّها فدعاه يزيد بن الوليد وقال:
- «إنّ أهل العراق يميلون [4] إلى أبيك فسر إليها فقد ولّيتكها.» فلمّا شخص قدّم بين يديه رسلا وكتب إلى قوّاد الشام الّذين بالعراق، وخاف إلّا يسلّم منصور بن جمهور العمل، فانقاد له الكلّ، وسلّم منصور بن
__________
[1] . أعشى الشجر: كذا فى الأصل: أعشى الشجر. فى الطبري (9: 1849) : أغشى الشجر.
[2] . رقص البكاره: كذا فى الأصل والطبري (9: 1849) : رقص البكارة. فى آ: بعض البكارة.
[3] . وزاد فى الطبري (9: 1849) : يصكّهنّ جانبا فجانبا.
[4] . يميلون: كذا فى الأصل. وزاد فى آ: إليك.(3/207)
جمهور، وانصرف إلى الشام وفرّق عبد الله بن عمر عمّاله وأعطى الناس أرزاقهم وأعطياتهم. وكتب إلى نصر بعهده على خراسان. وكان المنجّمون ذكروا لنصر أنّ خراسان ستكون بها فتنة. فأمر نصر برفع حاصل بيت المال، وأعطى الناس بعض أعطياتهم ورقا وذهبا من الآنية التي كان اتّخذها للوليد [1] بن يزيد.
وكان أوّل من تكلّم رجل من كندة أفوه طوال فقال:
- «العطاء، العطاء.» فلمّا كانت الجمعة، أمر نصر رجلا من الحرس، فلبسوا السلاح، وفرّقهم فى المسجد مخافة أن يتكلّم متكلّم، فقام الكندىّ فقال:
- «العطاء، العطاء.» وقام مولى للأزد [205] يلقّب أبا الشياطين فتكلّم، وقام آخرون فقالوا:
- «العطاء، العطاء.» فقال نصر:
- «عليكم بالطاعة والجماعة، اتّقوا الله واسمعوا ما توعظون.» فصعد سلم بن أحوز وهو على المنبر فكلّمه فقالوا:
- «ما يغنى كلامك هذا شيئا.» ووثب أهل السوق إلى أسواقهم، فغضب نصر وقال:
- «إيّاى والعصبيّة [2] ما لكم عندي عطاء بعد يومكم هذا.» ثمّ قال:
__________
[1] . اتخذها للوليد بن يزيد: فى الأصل يشبه أن يكون: للوليد من يزيد. فى الطبري (9: 1856) : للوليد بن- يزيد. فى آ: اتخذها الوليد بن يزيد.
[2] . والعصبيّة: وزاد فى آ: وحميّة الجاهليّة، فإنّهما يورثان النفاق، ويعقبان الشقاق، ولا تظالموا فتمقتوا ولا تنازعوا فتفشلوا ...(3/208)
- «كأنّى بالرجل منكم قد قام إلى أخيه وابن عمّه، فلطم وجهه فى حمل يهدى له، وثوب يكساه، ويقول مولاي وظئرى فأذلّوا هذه السفلة، وكأنّى بهم قد نبغ الشر من تحت أرجلهم. وكأنّى بكم مطرّحين فى الأسواق كالجزر المنحورة، إنّه لم تطل ولاية رجل قطّ إلّا ملّوه. وأنتم يا أهل خراسان مسلحة فى نحر العدوّ، فإيّاكم أن يختلف فيكم سيفان.» فقال الكرماني:
- «أنتم فى فتنة، فانظروا لأموركم رجلا.» وإنّما سمّى الكرمانىّ لأنّه ولد بكرمان واسمه جديع بن علىّ بن شبيب المعنىّ. [1] فقالوا: «أنت لنا.» فاجتمعت المضريّة إلى نصر وقالوا له:
- «إنّ الكرمانىّ يفسد الناس عليك، فأرسل إليه فاقتله أو فاحبسه.» فقال: «لا، ولكنّ لى ولدا ذكورا وإناثا، وله ولد فأزوّج بنىّ ببناته، وبنيه ببناتى.» [206] قالوا: «ليس ينفع ذلك شيئا.» - «فابعث إليه بمائة ألف فإنّه بخيل ولا يعطى أصحابه شيئا ويعلمون بها فيتفرّقون عنه.» قالوا: «لا، هذه تصير قوّة له.» قال: «فدعوه على حاله يتّقينا ونتّقيه.»
__________
[1] . المعنىّ: كذا فى الأصل والطبري (9: 1858) : المعنىّ. فى آ: المغني.(3/209)
قالوا: «لا.» [1] وبلغ نصر بأنّ الكرمانىّ يقول: كانت غايتي فى طاعة بنى مروان أن يتقلّد ولدي [2] السيوف فأطلب بثأر بنى المهلّب معما لقينا من نصر وجفائه وطول حرمانه ومكافأته إيّانا بما كان من صنيع أسد إليه.
فقال عصمة بن عبد الله الأسدى لنصر:
- «إنّها بدئ فتنة، فتجنّ عليه، واحبسه، وأظهر أنّه مخالف، ثمّ اضرب عنقه، وعنق سباع بن النعمان الأزدى، والفرافصة [3] بن ظهير البكرىّ، فانّه لم يزل غضبان على الله، عزّ وجلّ، بتفضيله مضر على ربيعة.» وكثر على نصر الكلام فى أمر الكرمانىّ، حتّى قال له أصرم بن قبيصة:
لو أنّ جديعا لم يقدر على السلطان والملك إلّا بالنصرانيّة واليهوديّة، لتنصّر أو لتهوّد.» وكان نصر والكرماني متصافين وكان الكرماني أحسن إلى نصر فى ولاية أسد بن عبد الله، فلمّا ولى نصر خراسان عزل الكرماني عن الرئاسة، وصيّرها لحرب بن عامر الواشجى. ثمّ مات حرب، فأعاد الكرمانىّ عليها، ولم يلبث إلّا يسيرا حتّى عزله [207] وصيّرها لجميل بن النعمان، فتباعد ما بين نصر والكرمانىّ، فحبس نصر الكرمانىّ فى القهندز، وكان على القهندز مقاتل بن علىّ المرّى [4] ولمّا همّ نصر بحبس الكرمانىّ تكلّم قوم فخاف نصر الفتنة لأنّ الأزد تعصّب له فقال نصر:
__________
[1] . انظر الطبري (9: 1858) حيث فيه بعض الاختلاف فى عبارات الحوار هنا.
[2] . فى الطبري (9: 1858) : أن تقلّدنى السيوف.
[3] . فى الأصل: فرافصة، بضمّ الفاء وفى الطبري بفتحها. فى آ: مهملة تماما.
[4] . المرّى: كذا فى الأصل: المرّى. فى الطبري (9: 1859) : المراءىّ، ويقال: المرّىّ.(3/210)
- «أحلف بالله أنّى أحبسه ثمّ لا ينداه [1] منّى مكروه فإن خشيتم عليه فاختاروا رجلا يكون معه.» فاختاروا يزيد النحوي وكان معه فى القهندز وصيّر حرسه بنى ناجية.
فبيناهم كذلك إذا جاءهم رجل من أهل نسف فقال لغلام الكرمانىّ، يقال له جعفر:
- «ما تجعلون لى إن أنا أخرجته؟» قالوا:
- «لك ما سألت» .
فأتى مجرى الماء فى القهندز، فدخله ووسّعه، وأتى ولد الكرماني وقال لهم:
- «أكتبوا إلى أبيكم يستعدّ للخروج الليلة.» فكتبوا إليه وأدخلوا الكتاب مع الطعام فدعا الكرمانىّ يزيد النحوىّ وحصين بن حكيم، فتعشّيا معه وخرجا. ودخل الكرمانىّ السرب، وأخذوا بضبعه [2] فيقال: إنّه انطوت على بطنه حيّة فلم تضرّه، وانتهى إلى موضع ضيق فسحبوه فسحج منكبه وجنبه، ثمّ خرج.
وكان الكرمانىّ أرسل إلى محمّد بن المثنّى وعبد الملك بن حرملة: [208]- «إنّى خارج الليلة فاجتمعوا بعلطان [3] .» - «فتوافوا على باب الرّيان بن سنان اليحمدى بنوس فى المرج، وكان مصلّاهم فى العيد، وخرج إليهم الناس من قراهم، فصلى بهم الغداة وهم زهاء ألف رجل. فما ترجّلت الشمس حتّى صاروا ثلاثة آلاف، فسار وأتاهم أهل
__________
[1] . لا ينداه: كذا فى الأصل: لا ينداه. فى الطبري (9: 1859) : ينداه.
[2] . بضبعه: كذا فى الأصل: بضبعه. فى الطبري: بعضده. الضّبع: الإبط.
[3] . بعطلان (بالعين المهملة) : كذا في الأصل. ما في الطبري (9: 1862) : بغلطان (بالغين المعجمة) .(3/211)
السقاذم فأتوا حوزان.
وكان الأزد اجتمعوا إلى عبد الملك بن حرملة فبايعوه على الكتاب والسنة قبل خروج الكرمانىّ بليلة. فلمّا اجتمعوا فى مرج نوس أقيمت الصلاة فاختلف عبد الملك والكرمانىّ فى التقدّم ساعة، ثمّ قدّمه عبد الملك وصيّر الأمر له، فصلّى بهم الكرمانىّ.
ولمّا أتى نصرا هرب الكرمانىّ استخلف عصمة بن عبد الله الأسدى، وخرج إلى القناطر الخمس بباب مرو الرود وخطب الناس، فنال من الكرمانىّ، وذكره بالقبيح [1] ، ثمّ ذكر الأزد فقال:
- «إن يستوسقوا فأذلّ قوم وإن يأبوا فهم كما قال الأخطل:
ضفادع فى ظلماء ليل تجاوبت ... فدلّ عليها صوتها حيّة البحر.»
ثمّ ندم على ما فرط منه فقال:
- «اذكروا الله فإنّ ذكر الله شفا، ذكر الله خير لا شرّ فيه، [209] ذكر الله براءة من النفاق.» واجتمع إلى نصر بشر كثير فوجّه سلم بن أحوز [2] إلى الكرمانىّ فى المجفّفة وهم خلق كثير فسفر الناس بين نصر والكرمانىّ وسألوا نصرا أن يؤمنه ولا يحبسه. وضمن قومه ألّا يخالفه وأتاه القاسم [3] بن بخيت [4] فكلّمه فيه فآمنه وقال له:
__________
[1] . آ: القبح. وما فى مط كالأصل.
[2] . مط: الأحور (بالراء المهملة) .
[3] . ضبط الأصل: القسم. وضبطنا يوافق الطبري (9: 1863) .
[4] . كذا فى الأصل. فى مط: بخيب. فى الطبري (9: 1863) : نجيب.(3/212)
- «إنّ شئت خرج لك عن خراسان وإن شئت أقام فى داره.» وكان رأى نصر إخراجه فقال له سلم:
- «إن أخرجته نوّهت باسمه وقال الناس: أخرجه إنّه هابه.» فقال نصر:
- «إنّ الذي أتخوّفه منه إذا خرج أيسر ممّا أتخوّفه منه إذا أقام والرجل إذا نفى عن بلده صغر أمره.» فأبوا عليه، فكفّ عنه وأعطى من كان معه عشرة عشرة.
وأتى الكرمانىّ نصرا، فدخل سرادقه فآمنه ولحق عبد العزيز بن عبد ربّه بالحارث بن سريج [1] وهو بالترك. وأتى نصرا عزل منصور بن جمهور وولاية عبد الله بن عمر بن عبد العزيز. فخطب الناس وذكر ابن جمهور بسوء وقال:
- «قد علمت أنّه لم يكن من عمّال العراق وقد عزله الله واستعمل الطّيب بن الطيّب.» فغضب الكرمانىّ لابن جمهور فعاد فى جمع الرجال واتخاذ السلاح، وكان يحضر الجمعة فى ألف وخمسمائة وأكثر [210] وأقلّ، فيصلّى خارجا من المقصورة ثمّ يدخل على نصر، فيسلّم عليه ولا يجلس. ثمّ ترك إتيان نصر وأظهر الخلاف. فأرسل إليه نصر سلم بن أحوز وقال:
- «إنّى والله ما أردت بك فى حبسك سوءا، ولكنّى خفت أن تفسد أمر الناس فأتنى.» فقال الكرمانىّ لسلم:
- «لولا أنّك فى منزلي لقتلتك، ولولا ما أعرف من حمقك لأحسنت أدبك.
__________
[1] . مط وآ: شريح.(3/213)
فارجع إلى ابن الأقطع فأعلمه ما شئت من خير وشر.» فرجع إلى نصر فأخبره. قال:
- «عد إليه.» قال:
- «لا وما بى هيبة له، ولكن [أكره] [1] أن يسمعني فيك ما أكره.» فبعث إليه عصمة بن عبد الله الأسدىّ فقال:
- «يا با علىّ، إنّى أخاف عليك خصالا فانطلق إلى أميرك يعرضها عليك وما يريد بذلك إلّا الإعذار إليك.» فقال الكرمانىّ:
- «إنّى أعلم أنّ نصرا لم يقل هذا لك ولكنّك أردت أن يبلغه فتحظى، والله لا أكلّمك كلمة بعد انقضاء كلامي حتّى ترجع إلى أميرك [2] فيرسل من أحبّ غيرك.» فرجع عصمة فقال:
- «ما رأيت علجا أعدى لطوره من الكرمانىّ، وما أعجب منه ولكنّى أعجب من يحيى بن حصين وأصحابه لعنهم الله والله لهم أشدّ تعظيما له من أصحابه.» فقال سلم بن أحوز لنصر:
- «إنّى أخاف فساد [211] هذا الثغر والناس.» فأرسل إليه قديدا فقال نصر لقديد بن منيع:
- «انطلق إليه.» فأتاه فقال:
__________
[1] . زدناها من آ، والطبري (9: 1864) .
[2] . فى الطبري (9: 1865) : إلى منزلك.(3/214)
- «يا با علىّ قد لحجت وأخاف أن يتفاقم الأمر فنهلك جميعا وتشمت بنا هذه الأعاجم.» قال:
- «يا قديد، إنّى لا أتّهمك، وقد جاء من لا أثق معه بنصر. وقد قال رسول الله صلّى الله عليه: البكرىّ أخوك ولا تثق به.» قال:
- «أما وقد وقع هذا فى نفسك فأعطه رهنا.» قال:
- «أعطيه عليّا وعثمان فمن يعطيني ولا خير فيه؟» فقال:
- «يا با علىّ نشدتك الله أن يكون خراب هذه البلدة على يديك.» ورجع إلى نصر. فقال نصر لعقيل بن معقل الليثي:
- «ما أخوفنى أن يقع بهذا الثغر بلاء فكلّم ابن عمّك.» فقال عقيل لنصر:
- «أيّها الأمير. أنشدك الله أن تشأم عشيرتك. إنّ مروان بالشام تقاتله الخوارج والناس فى فتنة، والأزد أخفّاء سفهاء، وهم جيرانك.» قال:
- «فما أصنع إن علمت أمرا يصلح الناس فدونك وقد زعم أنّه لا يثق بى.» قال: فأتى عقيل الكرمانىّ فقال:
- «يا با علىّ قد سننت للسفهاء سنّة تطلب بعدك من الأمراء. إنّى أرى أمرا أخاف أن تذهب فيه العقول.» قال الكرمانىّ:
- «إنّ نصرا يريد أن آتيه ولا آمنه، وأريد أن يعتزل [212] ونعتزل، و(3/215)
نختار رجلا من بكر بن وائل نرضاه جميعا، فيلي أمرنا حتّى يأتى أمر الخليفة وهو يأبى هذا.» قال:
- «يا با علىّ إنّى أخاف أن يهلك أهل هذا الثغر فأت أميرك وقل ما شئت تجب إليه ولا تطمع سفهاء قومك فيما دخلوا فيه.» فقال الكرمانىّ:
- «إنّى لا أتّهمك فى نصيحة ولا عقل ولكنّى لا أثق بنصر، فليحمل من المال ما شاء وليشخص.» قال:
- «فهل لك فى أمر يجمع الأمر بينكما، تتزوّج إليه ويتزوّج إليك؟.» قال:
- «لا آمنه على حال.» قال:
- «ما بعد هذا خير وإنّى لخائف أن يهلك غدا بمضبعة.» قال:
- «لا حول ولا قوّة إلّا بالله.» فقال له عقيل:
- «أعود إليك؟» قال:
- «لا ولكن أبلغه عنّى وقل له لا آمن أن يحملك قوم من أمرى على غير ما تريد فتركب منّا ما لا بقيّة [1] بعده. فإن شئت خرجت عنك لا من هيبة لك ولكن أكره أن أشأم أهل هذه البلدة وأسفك الدماء.» وتهيّأ ليخرج إلى جرجان.
__________
[1] . بقية: فى الأصل غموض، وما أثبتنا من الطبري (9: 1866) .(3/216)
وفى هذه السنة آمن يزيد بن الوليد الحراث بن سريج وكتب له بذلك وكتب إلى عبد الله بن عمر يأمره بردّ ما كان أخذ منه من ماله وولده. [213]
ذكر السبب فى ذلك
إنّ الفتنة لمّا وقعت بخراسان بين نصر والكرمانىّ خاف نصر قدوم الحارث بن سريج عليه بأصحابه والترك فيكون أمره أشدّ عليه من الكرمانىّ وغيره وطمع أن يناصحه فأرسل إليه مقاتل بن حيّان النبطي وثعلبة بن صفوان البنانىّ وجماعة ليردّه من بلاد الترك. وقيل: إنّ قوما خرجوا إلى يزيد بن الوليد فطلبوا منه أمانا للحارث بن سريج فكتب له أمانا ولمن معه وأمر نصرا بردّ ما كان أخذ له ولأصحابه. ثمّ نفذ القوم إلى الحارث فلقوا مقاتل بن حيّان وأصحابه الذين وجّههم نصر إلى الحارث وأقبل الحارث يريد مرو وكان مقامه بأرض الترك اثنتى عشرة سنة.
فيقال: إنّ نصرا كتب إلى الحراث من غير إذن الخليفة فكتب إليه ابن عمر:
- «إنّك آمنت الحارث بغير إذنى ولا إذن الخليفة. [1] » فسقط فى يديه فبعث يزيد بن الأحمر وأمره أن يفتك بالحارث إذا صار معه فى السفينة.
وفى هذه السنة وجّه إبراهيم بن محمّد الإمام أبا هاشم بكير بن ماهان إلى خراسان وبعث معه [214] بالسيرة والوصيّة فقدم بمرو وجمع النقباء ومن بها من الدعاة. فنعى إليهم الإمام محمّد بن علىّ، ودعاهم إلى إبراهيم، فقبلوه ودفعوا إليه ما اجتمع عندهم من نفقات الشيعة.
__________
[1] . فى مط: ولا أمن الخليفة.(3/217)
ولاية عهد ابراهيم الوليد
وفى هذه السنة أخذ يزيد بن الوليد البيعة لأخيه إبراهيم بن الوليد وجعله ولّى عهده ولعبد العزيز بن الحجّاج بن عبد الملك من بعد إبراهيم بن الوليد.
ذكر السبب فى ذلك كان سبب ذلك أنّ يزيد مرض فاجتمع إليه القدريّة وكان يرى رأيهم وأشاروا عليه بذلك وقالوا:
- «لا يحلّ لك أن تهمل أمر الأمة فبايع لأخيك.» حتّى بايع لإبراهيم وعبد العزيز من بعده.
وفى هذه السنة أظهر مروان بن محمّد بن مروان الخلاف على يزيد بن الوليد وانصرف من أرمينية إلى الجزيرة مظهرا أنّه طالب بدم الوليد بن يزيد.
فلمّا صار بحرّان [1] بايع ليزيد.
ذكر السبب فى خلاف مروان ثمّ دخوله فى الطاعة ومبايعته
لمّا بلغ مروان قتل الوليد أقبل يريد الجزيرة وكان ابنه عبد الملك بن مروان بن محمّد [215] قد وثب على حرّان [2] ومدائن الجزيرة فضبطها وكتب إلى أبيه بأرمينية يعلمه بذلك ويشير عليه بتعجيل السير والقدوم. فتهيّأ مروان للمسير وأظهر أنّه يطلب بدم الوليد وكره أن يدع الثغر معطّلا فوجّه إلى أهل الباب إسحاق بن مسلم العقيلي وهو رأس قيس وثابت بن نعيم الجذامىّ وهو
__________
[1] . فى مط: بخراسان.
[2] . فى مط: خراسان.(3/218)
رأس اليمن وكان سبب صحبة ثابت إيّاه أنّ مروان كان خلّصه من حبس هشام وأحسن إليه وحباه. فلمّا كتب مروان إلى أهل الباب على أيديهما وحمل معهما إليهم أعطياتهم ورغّبهم فى الجهاد، ثبتوا. ثمّ بلغه أنّ ثابتا كان يدسّ إلى قوّاده بالانصراف إلى ثغرهم واللحاق بأجنادهم فلمّا انصرف [1] إليه تهيّأ مروان للمسير وعرض جنده فدسّ ثابت بن نعيم إلى من معه من أهل الشام بالانخزال عن مروان والانضمام إليه ليسير بهم إلى أجنادهم فتولّى أمرهم فانخزلوا عن عسكر مروان ليلا وعسكروا على حدة، فبات ليلته ومن معه فى السلاح يتحارسون حتّى أصبح. ثمّ خرج إليهم بمن معه ومن مع ثابت يضعفون من مع مروان. فصافّوهم ليقاتلوهم فأمر مروان مناديين فبرزا بين الصفّين [216] فنادوهم [2] :
- «يا أهل الشام ما دعاكم إلى الاعتزال وما الذي نقمتم علىّ ألم ألكم بما تحبّون وأحسن السيرة فيكم والولاية عليكم ما الذي دعاكم إلى سفك دمائكم؟» فأجابوه ب [قولهم] :
- «إنّا إنّما كنّا نطيعك بطاعة خليفتنا فقد قتل خليفتنا وبايع أهل الشام يزيد بن الوليد فرضينا بولاية ثابت ورأسناه ليسير بنا على ألويتنا حتّى نردّ أجنادنا.» فأمر مناديه فنادى:
- «أن قد كذبتم وليس تريدون الذي قلتم وإنّما أردتم أن تركبوا رؤوسكم فتغصبوا من مررتم به من أهل الذّمة أموالهم وأطعمتهم وأعلافهم. وما بيني
و
__________
[1] . فى آوالطبري (9: 1872) : انصرفا
[2] . كذا فى الأصل ومط: فنادوهم (بصيغة الجمع) . فى آ: فناداهم.(3/219)
بينكم إلّا السيف حتّى تنقادوا إلىّ، فأسير بكم حتّى أوردكن الفرات، ثمّ أخلّى عن كلّ قائد وجنده حتّى يلحقوا بأجنادهم. [1] » فلمّا الجدّ منه انقادوا له، ومالوا إليه، وأمكنوه من ثابت بن نعيم وأولاده وهم أربعة رجال [2] فأمر بهم، فأنزلوا عن فيولهم، وسلبوا سلاحهم، ووضع فى أرجلهم السلاسل، ووكّل بهم عدّة من حرسه يحتفظون بهم، وشخص بجماعة الجند من أهل الشام والجزيرة، وضمّهم إلى عسكره، وضبطهم فى مسيره، فلم يقدر أحد منهم على أن يشذّ ولا أن يظلم [217] أحدا من أهل القرى ولا يرزأه [3] شيئا إلّا بثمن حتّى ورد حرّان. ثمّ أمرهم باللحاق بأجنادهم وحبس ثابتا معه ودعا أهل الجزيرة إلى الفرض ففرض لستّة [4] وعشرين ألفا من أهل الجلد منهم وتهيّأ للمسير إلى يزيد. فكاتبه يزيد على أن يبايعه ويوليّه ما كان عبد الملك بن مروان ولّى أباه محمّد بن مروان من الجزيرة وأرمينية والموصل وآذربيجان. فبايع له بحرّان [5] ووجّه إليه بنفر من وجوه الجزيرة.
موت يزيد بن الوليد
وفى هذه السنة مات يزيد بن الوليد وكانت وفاته سلخ ذى القعدة [6] سنة ست وعشرين ومائة. فكانت خلافته ستّة أشهر. واختلف فى مبلغ سنّه فقيل نيّف وثلاثون [7] وقيل نيّف وأربعون [8] . وكان أسمر طويلا صغير الرأس
__________
[1] . فى الطبري (9: 1873) : فتلحقون بأجنادكم.
[2] . وهم أربعة رجال: رفاعة، ونعيم، وبكر، وعمران (الطبري 9: 1873) .
[3] . رزأ الرجل ماله: أصاب منه شيئا مهمّا.
[4] . فى الطبري (9: 1873) : لنيّف.
[5] . فى الطبري (9: 1873) : مروان
[6] . فى الطبري (9: 1873) : ذى الحجّة.
[7] . فى الأصل: ثلاثين.
[8] . فى الأصل: أربعين.(3/220)
جميلا وإنّما سمّى الناقص فى قول أكثر الناس لأنّه نقصهم أعطياتهم التي كان الوليد زادها الناس. وقال بعضهم إنّما سمّى الناقص لأنّ مروان بن محمّد سبّه فقال: الناقص بن الوليد. فسمّى الناقص.
ثمّ كان إبراهيم غير أنّه لم يتمّ له أمر وسلّم عليه جمعة [9] بالخلافة. وجمعة بالإمرة وجمعة لا بالخلافة ولا بالأمرة. فكان على ذلك [أمره] حتى قدم مروان بن محمّد [218] فخلعه وقتل عبد العزيز بن الحجّاج بن عبد الملك.
ودخلت سنة سبع وعشرين ومائة
مسير مروان إلى الشام
فسار مروان بن محمّد إلى الشام فى جند الجزيرة وخلف ابنه عبد الملك فى أربعة آلاف بالرقّة. فلمّا انتهى إلى قنّسرين وبها أخ ليزيد بن الوليد يقال له بشر، كان ولّاه قنّسرين، فخرج إليه وصافة، وتنادى الناس، ودعاهم مروان إلى بيعته. فمال إليه يزيد بن عمر بن هبيرة فى القيسيّة، وأسلموا بشرا وأخا له يقال له مسرور، فأخذهما مروان وحبسهما وسار متوجّها إلى حمص وكان أهل حمص قد امتنعوا حين مات يزيد أن يبايعوا إبراهيم. فوجّه إليهم إبراهيم [10] عبد العزيز بن الحجّاج فى جند أهل دمشق فحاصرهم فى مدينتهم وأغذّ مروان السير، فلمّا دنا من مدينة حمص رحل عبد العزيز عنهم وخرجوا إلى مروان فبايعوه وساروا بأجمعهم معه.
ووجّه إبراهيم بن الوليد الجيوش مع سليمان بن هشام فسار بهم حتّى نزل عين الجرّ فى عشرين ومائة ألف وأتاه مروان فى نحو من ثمانين ألفا فدعاهم
__________
[9] . جمعه: زيادة من آوالطبري (9: 1875) .
[10] . آ: ابراهيم بن.(3/221)
مروان إلى الكفّ عن قتاله والتخلية عن ابني الوليد [219] الحكم وعثمان وكانا فى سجن دمشق وضمن لهم عنهما ألّا يؤاخذاهم بقتلهم أباهما ولا يطلبا أحدا ممّن ولى قتله. فأبوا عليه وجدّوا فى قتاله، فاقتتلوا ما بين ضحوة النهار إلى العصر واستحرّ القتل وكثر فى الفريقين. وكان محربا [1] مكايدا، فدعا ثلاثة نفر من قوّاده أحدهم أخ لإسحاق بن مسلم، فأمرهم بالمسير خلف صفّه فى خيلهم وهم ثلاثة آلاف، ووجّه معهم فعلة بالفؤوس وقد ملأ الصفّان من أصحابه وأصحاب سليمان ما بين الجبلين المحيطين بالمرج، وبين العسكرين نهر خرّار. وأمرهم إذا انتهوا إلى الجبل أن يقطعوا الشجر فيعقدوا جسورا فيجيزوا إلى عسكر سليمان ويغيروا فيه فلم تشعر خيول سليمان وهم مشغولون بالقتال إلّا بالخيل والبارقة [2] والتكبير فى عسكرهم من خلفهم فلمّا رأوا ذلك انكسروا وكانت هزيمتهم. ووضع أهل حمص السلاح فيهم، فقتلوا منهم نحوا من سبعة عشر ألفا، وكفّ أهل الجزيرة وأهل قنّسرين عن قتلهم، وأتوا مروان من أسراهم بمثل عدّة القتلى وأكثر، واستبيح عسكرهم فأخذ مروان عليهم العهد للغلامين: الحكم وعثمان، وخلّى عنهم بعد أن قوّاهم بدينار [220] دينار وألحقهم بأهاليهم.
ومضى سليمان ومن معه من الفلّ حتّى صبّحوا دمشق واجتمع إليه وإلى إبراهيم وعبد العزيز بن الحجّاج رؤوس [من] [3] معهم فقال بعضهم لبعض:
- «إن بقي الغلامان ابنا الوليد حتّى يقدم مروان فيخرجهما من الحبس ويصير الأمر إليهما لم يستبقيا أحدا من قتلة أبيهما والرأى أن نقتلهما.»
__________
[1] . فى الطبري (9: 1877) : فجرّبا.
[2] . البارقة: السيوف.
[3] . من: زيادة من الطبري ليست لا فى الأصل ولا فى مط.(3/222)
فولّوا ذلك يزيد بن خالد ومعهما فى الحبس أبو محمّد السفياني ويوسف بن عمر.
فأرسل يزيد مولى لخالد يكنّى أبا الأسد فى عدّة من أصحابه فدخل السجن، فشدخ الغلامين بالعمد، وأخرج يوسف بن عمر فضرب عنقه وأرادوا أبا محمّد ليقتلوه فدخل بيتا من بيوت السجن فأغلقه وألقى خلفه المتاع [1] واعتمد على الباب فلم يقدروا على فتحه ودعوا بنار ليحرقوه فلم يؤتوا بها حتّى قيل قد دخلت خيل مروان المدينة. وهرب إبراهيم بن الوليد وتغيّب، ونهب سليمان ما كان فى بيت المال من المال وقسمه فيمن معه من الجنود وخرج من المدينة.
وفى هذه السنة دعا إلى نفسه عبد الله بن [221] معاوية بن عبد الله بن جعفر بن ابى طالب بالكوفة وحارب بها عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بن مروان فهزمه عبد الله بن عمر فلحق بالجبال وتغلّب عليها.
ذكر سبب خروج عبد الله بن معاوية وطمعه فى الخلافة
كان سبب خروجه أنّه قدم الكوفة زائرا لعبد الله بن عمر بن عبد العزيز يلتمس صلته ولا يطمع فى غيرها. فلمّا وقعت العصبيّة قال له أهل الكوفة:
- «أدع إلى نفسك فبنو هاشم أولى بالأمر من بنى مروان لا سيّما وقد اختلفوا.» فدعا سرّا بالكوفة وابن عمر بالحيرة وبايعه قوم وكان فيهم ابن ضمره:
الخزاعي فدسّ إليه ابن عمر فأرضاه. فأرسل إليه:
__________
[1] . الفرش والوسائد (الطبري 9: 1879) .(3/223)
- «إذا نحن التقينا انهزمت بالناس.» وبلغ ابن معاوية فلمّا التقى الناس قال ابن معاوية:
- «إنّ ابن ضمرة قد غدر ووعد ابن عمر أن ينهزم بالناس فلا يهولنّكم انهزامه فإنّه عن غدر ما يفعل.» فلمّا اقتتلوا [1] انهزم ابن ضمرة، وانهزم الناس، فلم يبق مع ابن معاوية أحد فرجع ابن معاوية إلى الكوفة [222] ثمّ خرج ومعه نفر، فغلب على حلوان، ثمّ على همذان والرىّ وإصفهان.
__________
[1] . فى الطبري (9: 1880) : التقوا. بدل: اقتتلوا(3/224)
خلافة مروان بن محمد
وفى هذه السنة بويع لمروان بن محمّد بدمشق بالخلافة.
وقد ذكرنا ما كان من هرب إبراهيم وأنّ سليمان انتهب ما كان فى بيت المال وفرّقه فى جنده ودخل مروان دمشق وأتى بالغلامين مقتولين وبيوسف [1] بن عمر فأمر بهم فدفنوا وأتى بأبى محمّد فى كبوله فسلّم عليه بالخلافة ومروان يسلّم عليه يومئذ بالإمرة فقال له: «مه» فقال أبو محمد:
- «إنّهما جعلاها لك بعدهما.» وكانا قد بلغا أبا الحكم. وهو أكبرهما، وكان قد ولد له وأمّا الآخر فكان قد احتلم قبل ذلك بسنتين فأنشده شعرا قاله الحكم:
ألا من مبلغ مروان عنّى ... وعمّى الغمر، [2] من كبدي حنينا
بأنّى قد ظلمت وصار قومي ... على قتل الوليد متابعينا
أيذهب كلبهم بدمى ومالي ... فلا غثّا أصبت ولا سمينا
__________
[1] . فى الأصل وآ، ومط: ويوسف.
[2] . الغمر: بتثليث الغين: من لم يجرّب الأمور. الجاهل.(3/225)
ومروان بأرض بنى نزار ... كليث الغاب مفترشا عرينا
ألم يحزنك قتل فتى قريش ... وشقّهم عصا للمسلمينا [223]
ألا فاقرا السّلام على قريش ... وقيس بالجزيرة أجمعينا
وسار الناقص القدرىّ فينا ... وألقى الحرب بين بنى أبينا
فلو شهد الفوارس من سليم ... وكعب، لم أكن لهم رهينا
ولو شهدت ليوث بنى تميم ... لما بعنا [1] تراث بنى أبينا
أينكث بيعتي من أجل أمّى ... فقد بايعتم بعدي هجينا
فليت خؤولتى فى غير كلب ... وكانت فى ولادة آخرينا
فإن أهلك أنا ووليّى عهدي ... فمروان أمير المؤمنينا
ثمّ قال:
- «ابسط يدك أبايعك.» وسمعه من تبع مروان من أهل الشام. فكان أوّل من نهض معاوية بن يزيد بن حصين بن نمير، وتبعه الناس فبايعوه. فلمّا استوت لمروان بن محمّد الشام انصرف إلى منزله من حرّان [2] وطلب منه الأمان إبراهيم بن الوليد وسليمان بن هشام فآمنهما. فقدم عليه سليمان وكان يتذمّر فى إخوته وأهل بيته ومواليه فبايعوا مروان.
وفى هذه السنة انتقض على مروان أهل حمص وسائر أهل الشام. [224] ذكر السبب فى ذلك
كان الذي دعاهم إلى ذلك ثابت بن نعيم، كان يراسلهم، ويكاتبهم ومروان
__________
[1] . فى الأصل غموض. وفى آومط إهمال. وما أثبتناه يوافق الطبري (9: 1891) .
[2] . فى الطبري (9: 1892) : بحرّان.(3/226)
بحماة [1] ليس بينه وبين مدينة حمص إلّا ثلاثون ميلا. فأتاه خبرهم صبيحة الفطر، فجدّ فى السير، ومعه يومئذ إبراهيم بن الوليد المخلوع وسليمان بن هشام. كان آمنهما وكان يكرمهما ويجلسان معه على غدائه وعشائه ويسيران معه فى موكبه. فانتهى إلى مدينة حمص بعد الفطر بيومين وقد ردم القوم أبوابها من داخل، فأحدقت خيله بالمدينة ووقف حذاء باب [2] منها، فأشرفت عليه جماعة من الحائط. فناداهم مناديه:
- «ما دعاكم إلى النكث؟» قالوا:
- «فإنّا على طاعتك لم ننكث.» فقال لهم:
- «إن كنتم على ما تذكرون فافتحوا.» ففتحوا له الباب فاقتحم عمرو بن الوضّاح فى الوضّاحية وهم نحو من ثلاثة آلاف. فقاتلوهم داخل المدينة. ثمّ كثرتهم خيل مروان، فخرجوا من باب من أبواب المدينة فقاتلهم داخل المدينة من كان عليه، فقتل عامّتهم وأسر منهم قوم، فأتى بهم مروان فقتلهم. ثمّ أمر بجمع قتلاهم وهم خمسمائة أو ستّمائة فصلبوا حول المدينة [225] وهدم من حائط مدينتها نحو غلوة، [3] وثار أهل الغوطة إلى مدينة دمشق فحاصروا أميرهم زامل بن عمرو، وولّوا عليهم يزيد بن خالد القسرىّ.
وثبت زامل مع أهل المدينة، فوجّه إليهم مروان بن حمص أبا الورد بن الكوثر بن زفر بن الحارث وعمرو بن الوضّاح فى عشرة آلاف. فلمّا دنوا من المدينة حملوا عليهم وخرج من فى المدينة فحملوا عليهم فهزموهم واستباحوا عساكرهم ولجأ يزيد بن خالد وأبو علاقة إلى رجل من لخم من
__________
[1] . فى الأصل وآ، ومط: بحمه، فضبطناها حسب الطبري (9: 1893) .
[2] . فى آ: «مات» بدل: «باب» .
[3] . الغلوة: أقصى الغاية لرمي السهم.(3/227)
أهل مزّة فدلّ عليهما زامل فأرسل إليهما فقتلا وبعث برأسيهما إلى مروان بحمص.
وخرج ثابت بن نعيم فى أهل فلسطين حتّى أتى طبرية، فحاصر أهلها فقاتلوه [1] أيّاما. وكتب مروان إلى أبن الورد أن يشخص إليهم، ورحل من حمص إلى دمشق بعد أيّام. فلمّا بلغهم دنوّه خرجوا من المدينة على ثابت ومن معه، فاستباحوا عسكرهم وانصرف ثابت منهزما إلى فلسطين. فجمع قومه وجنده ومضى إليه أبو الورد، فهزمه ثانية وتفرّق من معه، وأسر ثلاثة من ولده وهم نعيم وبكر وعمران. فبعث بهم إلى مروان، فقدم بهم عليهم وهو بدير أيّوب جرحى، فأمر بمداواتهم.
وتغيّب ثابت وأفلت [226] من ولده رفاعة بن ثابت وكان أخبثهم، فلحق بمنصور بن جمهور بالسند فأكرمه وولّاه وخلّفه مع أخ له يقال له منظور بن جمهور فوثب عليه فقتله فبلغ منصورا وهو متوجّه إلى الملتان وكان أخوه بالمنصورة فرجع إليه وظفر به فبنى له أسطوانة من آجرّ مجوّفة، وأدخله فيها وسمّره إليها وبنى عليه.
وكتب مروان إلى واليه على فلسطين وهو الرماحس [2] فى طلب ثابت والتلطّف له. فدلّ عليه رجل من قومه فأخذ ومعه نفر فأتى به مروان بعد شهرين فأمر به وببنيه الذين كانوا فى يديه فقطعت أيديهم وأرجلهم. ثمّ حملوا إلى دمشق وأقيموا على باب مسجدها، لأنّهم كانوا يرجفون بثابت ويقولون: أتى مصر فغلب عليها وقتل عامل مروان بها.
وأقام مروان بدير أيّوب حتّى بايع لابنيه عبيد الله وعبد الله واستقامت له
__________
[1] . آ: فقاتلهم.
[2] . آ: رماجس. والأصل والطبري متفقان (9: 1895) .(3/228)
الشام كلّها ما خلا تدمر. وأمر بثابت وبنيه الذين قطعوا، فقتلوا وصلبوا على أبواب دمشق.
وسار حتّى نزل القسطل من أرض حمص ممّا يلي تدمر وبينهما مسيرة ثلاثة أيّام وبلغه أنّهم عوّروا ما بينه وبينها من الآبار وطمّوها [227] بالصخر، فهيّأ المزاد والقرب والعلف والإبل له ولمن معه. فكلّمه الأبرش بن الوليد وسليمان بن هشام وغيرهما، وسألوه أن يعذر إليهم. فأجابه، ووجّه الأبرش إليهم أخاه، وكتب إليهم يحذّرهم ويعلمهم أنّه يتخوّف أن يكون هلاكه وهلاك قومه، فطردوه ولم يجيبوه. فسأله الأبرش أن يأذن له فى التوجّه إليهم ويؤجّله أيّاما ففعل وأتاهم وكلّمهم وأعلمهم أنّهم حمقى ولا طاقة لهم به وبمن معه.
فأجابه عامّتهم وهرب من لم يثق به منهم.
فكتب الأبرش إلى مروان يعلمه ذلك، فكتب إليه مروان أن:
- «اهدم حائط مدينتهم، وانصرف إلىّ بمن تابعك.» [1] ففعل وقدم عليه بالرصافة.
ثمّ شخص إلى الرقّة ومضى حتّى نزل عند واسط على شاطئ الفرات فأقام ثلاثا. ثمّ مضى إلى قرقيسيا وابن هبيرة بها ليقدّمه إلى العراق لمحاربة الضحّاك بن قيس الشيبانى الحروري وكان خرج محكّما.
وأقبل جماعة نحو عشرة آلاف ممّن كان مروان قطع عليهم البعث بدير أيّوب لغزو العراق مع قوّادهم، حتّى حلّوا بالرّصافة. فدعوا [228] سليمان إلى خلع مروان ومحاربته.
وفى هذه السنة دخل الضّحك بن قيس الشيبانى الكوفة. ذكر السبب فى خروج الضحّاك وقوّته [1] حتّى دخل الكوفة
__________
[1] . تابعك: كذا فى الأصل وآ، ومط. ما فى الطبري (9: 1896) : بايعك.(3/229)
يقال: إنّ سبب خروج الضحّاك أنّه كان خرج بالجزيرة حرورىّ يقال له:
سعيد بن بهدل الشيبانى، فى مائتين من أهل الجزيرة فيهم الضحّاك، وقتل الوليد فى تلك الأيّام فاغتنم ذلك واشتغال مروان بالشام، فخرج فى أرض بكفرتوثا وخرج بسطام البيهسى وهو مفارق لرأيه فى مثل عدّتهم من ربيعة، فسار كلّ واحد منهما إلى صاحبه. فلمّا تقارب العسكران وجّه سعيد بن بهدل الخيبري وهو أحد قوّاده وهو الذي هزم مروان فى نحو من مائة وخمسين فارسا ليبّيته، فانتهى إلى عسكره وهم غارّون وقد أمر كلّ رجل منهم أن يكون معه ثوب أبيض يجلّل به دابّته [2] ليعرف بعضهم بعضا فكبّروا فى عسكره وقتلوا بسطاما وجميع من معه إلّا أربعة عشر رجلا ثمّ مضى فلحقوا بمروان فكانوا معه وأثبتهم وولّى [229] عليهم رجلا منهم يكنّى أبا النعثل.
ثمّ مضى سعيد بن بهدل نحو العراق لما بلغه من تشتت الأمر بها واختلاف أهل الشام وقتال بعضهم بعضا مع عبد الله بن عمر والنضر [3] بن سعيد الحرشي.
وكانت اليمانية من أهل الشام مع عبد الله بن عمر بالحيرة، والمضريّة مع ابن الحرشي بالكوفة، فهم يقتتلون فيما بينهم غدوة وعشية. فمات سعيد بن بهدل فى وجهه ذلك من طاعون أصابه.
واستخلف الضحّاك بن قيس من بعده، فاجتمع مع الضحّاك نحو من ألف. ثمّ توجّه إلى الكوفة ومرّ بأرض الموصل فاتّبعه منها ومن السواد نحو من ثلاثة آلاف وبالكوفة يومئذ النضر بن سعيد الحرشي ومعه المضريّة وبالحيرة
__________
[1] . فى آ، ومط: قومه.
[2] . دابّته. ما فى الطبري (9: 1898) : رأسه.
[3] . سقطت من آ: «النضر» إلى «بن عمر» .(3/230)
عبد الله بن عمر فى اليمانية فهم متعصّبون يقتتلون فيما بين الكوفة والحيرة.
وكان سبب قتال عبد الله بن عمر النضر بن سعيد الحرشي أنّ مروان ولّى النضر العراق وعزل عبد الله بن عمر فأبى عبد الله أن يسلّم وقاتل النضر ووجد أعوانا من اليمانية للعصبيّة التي بينهم وبين المضريّة.
فلمّا دنا الضحّاك فيمن معه من الكوفة اصطلح ابن عمر [230] والحرشىّ وصار أمرهما واحدا ويدا على قتال الضحّاك، وخندقا ومعهما يومئذ من أهل الشام نحو من ثلاثين ألفا لهم قوّة وعدّة ومعهم قائد من أهل قنّسرين يقال له، عبّاد بن العزيل، [1] فى ألف فارس قد كان مروان أمدّ به ابن الحرشي فبرزوا لهم فقاتلوهم فقتل يومئذ عاصم بن عمر بن عبد العزيز وجعفر بن عبّاس الكندي وهزموهم أقبح هزيمة.
ولحق عبد الله بن عمر فى جماعتهم بواسط، وتوجّه ابن الحرشىّ، وجماعته المضريّة، وإسماعيل بن عبد الله القسرىّ، إلى مروان واستولى الضحّاك بن قيس والحروريّة على الكوفة وأرضها، وجبوا السواد.
ثمّ استخلف الضّحاك رجلا من أصحابه يقال له: ملحان، على الكوفة فى مائتي فارس ومضى فى أصحابه إلى عبد الله بن عمر بواسط، فحاصره بها، وكان عبد الله بن عمر يأمل أن يقتل مروان لحديث سمعه وهو:
- «إنّ عين بن عين بن عين، يقتل ميم بن ميم بن ميم.» فكان يروى هذا الحديث ويظنّه هو حتّى تبيّن بعد ذلك فقتله عبد الله بن علىّ بن عبد الله بن العبّاس بن عبد المطلب [2] .
فذكر أنّ أصحاب ابن عمر لمّا انهزموا فلحقوا بواسط، [231] قالوا لابن عمر:
__________
[1] . فى الطبري (9: 1899) : الغزيل (بالغين المعجمة) .
[2] . فأصبحت العينات خمسا وهي فى هذا الحديث ثلاث.(3/231)
- «علام تقيم، قد هرب الناس؟» قال:
- «أتلوّم وأنظر.» فأقام يوما أو يومين لا يرى إلّا هاربا قد امتلأت قلوبهم رعبا من الخوارج.
فأمر عند ذلك بالرحيل إلى واسط وجمع خالد بن العزيل أصحابه، فلحق بمروان وهو بالجزيرة مقيم.
ونظر عبيد الله بن العبّاس الكندي إلى ما لقي الناس فلم يأمن على نفسه فجنح إلى الضحّاك فبايعه وكان فى عسكره.
فقال أبو عطاء السندي يعيّره باتباعه الضحّاك وقد قتل أخاه:
فقل [1] لعبيد الله لو كان جعفر ... هو الحىّ لم يجنح وأنت قتيل
ولم يتبع المرّاق والثّار فيهم ... وفى كفّه عضب الذّباب صقيل
إلى معشر أردوا أخاك وأكفروا ... أباك فماذا بعد ذاك تقول
فلمّا بلغ عبيد الله هذا البيت قال:
- «أقول: أعضّك الله ببظر أمّك.» وأقام عبد الله بن عمر يقاتل الضحّاك أيّاما فاقتتلوا فى بعض الأيّام واشتدّ قتالهم. فشدّ منصور بن جمهور على قائد من قوّاد الضحّاك عظيم القدر فى الشراة يقال له: عكرمة، من بنى شيبان فضرب فقطّه باثنين، فقتله.
ثمّ إنّ [232] منصورا قال بعد ذلك وقد لقى جهدا لابن عمر:
- «ما رأيت فى الناس مثل هولاء قطّ- يعنى الشراة- فلم تحاربهم أنت وتشغلهم عن مروان؟ أعطهم الرضا واجعلهم بينك وبين مروان. فإنّك إن
__________
[1] . فى الأصل: قل. وما أثبتناه يوافق مط والطبري (9: 1904) .(3/232)
أعطيتهم الرضا خلّوا عنك ومضوا إلى مروان فكان حدّهم وبأسهم به وأقمت أنت مستريحا بموضعك هذا فإن ظفروا به كان ما أردت، وكنت عندهم آمنا، وإن ظفر بهم وأردت خلافه وقتاله قاتلته جامّا مستريحا مع أنّ أمره معهم سيطول.» فقال ابن عمر:
- «لا تعجل حتّى نتلوّم وننظر.» فقال:
- «أىّ شيء ننتظر؟ فو الله ما نستطيع أن نطلع معهم ولا نستقرّ. فإن خرجنا إليهم لم نقم لهم فواقا فما الذي ننتظر ومروان فى راحة وقد كفيناه حدّهم وشغلناهم عنه وهو يتربّص بنا وبهم. أمّا أنا فخارج إليهم ولا حق بهم ومعطيهم الرضا.» قال: فخرج فواقف حيال صفّهم وناداهم:
- «إنّى خارج أريد أن أسلم وأسمع كلام الله.» قال: وهي محنتهم فلحق بهم وبايعهم وقال لهم:
- «قد أسلمت.» فدعوا لهم بغذاء فتغذّى معهم وتحرّم.
ثمّ خرج إليهم [233] عبد الله بن عمر أيضا فى شوّال فبايعهم.
خلع مروان بن محمد
وفى هذه السنة خلع سليمان بن هشام بن عبد الملك، مروان بن محمّد بن مروان، ونصب له الحرب. [1]
__________
[1] . فى آ: «الحرث» بدل: الحرب.(3/233)
لمّا شخص مروان من الرصافة إلى الرقّة لتوجيه ابن هبيرة إلى العراق لمحاربة الضحّاك بن قيس الشيبانى استأذنه سليمان بن هشام فى المقام أيّاما لإجمام ظهره وإصلاح أمره. فأذن له ومضى مروان، فجاء إلى سليمان نحو من عشرة آلاف ممّن كان مروان قطع عليهم البعث لغزو العراق مع قوّادهم حتّى حلّوا بالرّصافة، ودعوا سليمان إلى خلع مروان ومحاربته وقالوا:
- «أنت أرضى عند أهل الشام منه وأولى بالخلافة.» فاستزلّه الهوى فأجابهم، وخرج إليهم بإخوته وولده ومواليه، فعسكر بهم، وسار بجميعهم إلى قنّسرين، وكاتب أهل الشام فانقضّوا إليه من كلّ وجه وجند.
فعاد [1] مروان بعد أن شارف قرقيسيا منصرفا إليه وكتب إلى ابن هبيرة يأمره بالثبوت فى عسكره واجتمع من كان بالهنيء من موالي سليمان [234] وولد هشام، فدخلوا حصن الكامل بذراريهم وغلقوا الأبواب دونه. فأرسل إليهم:
- «لم خلعتم طاعتي ونقضتم بيعتي بعد ما أعطيتمونى من العهود ومن المواثيق؟» فردّوا على رسله:
- «إنّا مع سليمان كنّا ومع سليمان نحن.» فردّ إليهم:
- «فإنّى أنذركم أن تعرضوا لأحد ممّن يتبعني من جندي أو يناله منكم أذى، فاحذروا ألّا تحلّوا [2] بأنفسكم، فلا أمان لكم حينئذ عندي.»
__________
[1] . فى الطبري: «غادر» بدل «عاد» .
[2] . آ: تخلّوا. (بالخاء المعجمة) .(3/234)
فأرسلوا إليه:
- «إنّا سنكفّ.» ومضى مروان [1] ، وجعلوا يخرجون من حصنهم فيغيرون على من اتّبعه من أخريات الناس وشذّان [2] الجند فيسلبونهم خيولهم وسلاحهم.
وبلغه ذلك فتحرّق عليهم غيظا، فاجتمع إلى سليمان نحو من سبعين ألفا.
فلمّا دنا منه مروان قدّم إليه السكسكي فى سبعة آلاف، ووجّه مروان عيسى بن مسلم فى نحو من عدّتهم، فالتقوا فيما بين العسكرين واقتتلوا قتالا شديدا، ثمّ التقى السكسكي وعيسى وكلّ واحد منهما فارس بطل، فاطّعنا حتّى تقصّفت الرماح، ثمّ صارا إلى السيوف، فضرب السكسكي عيسى على مقدم فرسه فسقط لجامه وجال به فرسه فاعترضه السكسكي فضربه بالعمود [235] فصرعه ثمّ نزل إليه فأسره، وبارز [3] غيره فأسره، وانهزمت مقدمة مروان، وبلغه الخبر وهو فى مسيره فمضى وطوى على تعبئة ولم ينزل حتّى انتهى إلى سليمان وقد تعبّأ وتهيّأ لقتاله فلم يناظره حتّى واقعه، فانهزم سليمان ومن معه واتبعتهم خيوله يقتلهم ويأسرهم حتّى انتهوا إلى عسكرهم فاستباحوه.
ووقف مروان موقفا، وأمر ابنيه حتّى وقفا موقفين آخرين، وأمر كوثرا صاحب شرطته فوقف فى موضع آخر، ثمّ أمرهم ألّا يؤتوا بأسير إلّا قتلوه، إلّا أن يكون عبدا مملوكا. فأحصى قتلاهم يومئذ فزاد على ثلاثين ألفا.
قتل ابن لسليمان يقال له إبراهيم وهو أكبر ولده.
وأتى بخال لهشام بن عبد الملك يقال له خالد وكان بادنا كثير اللحم فأدنى إليه وهو كالّ متعب يلهث فقال:
__________
[1] . آ: مروان بن محمد.
[2] . شذّان الجند: متفرّقوهم.
[3] . آ: بارزه.(3/235)
- «أى [1] فاسق، أما كان لك فى خمر المدينة وقيانها ما يكفّك عن الخروج مع الحرّاء [2] تقاتلني؟» قال:
- «يا أمير المؤمنين، أكرهنى فأنشدك الله والرحمن.» قال:
- «وتكذب أيضا. كيف أكرهك وقد خرجت بالقيان والزقاق والبرابط معك فى عسكره؟» صمّ أمر به فقتل. وادّعى كثير من الأسراء أنّهم [236] رقيق، فكفّ عن قتلهم وأمر ببيعهم مع ما بيع ممّا أصيب فى معسكرهم.
ومضى سليمان مفلولا حتّى انتهى إلى حمص، فانضمّ إليه من أفلت، فعسكر بها وبنى ما كان مروان أمر بهدمه من سورها، ووجّه مروان يوم هزمه خيلا إلى الكامل جريدة ووصّاهم أن يسبقوا كلّ خبر حتّى يحدقوا به.
ثمّ أقبل مروان نحوهم حتّى نزل معسكره من واسط ثمّ راسلهم بأن:
- «انزلوا على حكمى.» فقالوا:
- «لا حتّى تؤمننا بأجمعنا.» فنصب عليهم المجانيق، [3] فلمّا تتابعت عليهم نزلوا على حكمه فمثل بهم. وكانت عدّتهم نحو ثلاثمائة.
ثمّ عاد إلى ناحية سليمان بحمص فلمّا دنا منهم اجتمعوا إلى سليمان وقال بعضهم لبعض بحضرته:
- «حتّى متى ننهزم من مروان؟ هلموا، فلنبايع على الموت ولا نفترق بعد معاينته حتّى نقتله أو نموت جميعا.»
__________
[1] . الضبط فى الأصل «أى» بكسر الهمزة مع أنّ «أى» هنا للنداء لا للجواب.
[2] . فى الطبري (9: 1910) : الخرّاء (بالخاء المروحمة) .
[3] . فى الطبري (9: 1911) : «مناجيق» بدل: «مجانيق» .(3/236)
فوطّن على الموت نفسه قوم، وولّى سليمان السكسكي على شطرهم وعلى الشطر الباقي. ثبيتا [1] البهراني فتوجّهوا إليه مجتمعين على أن يبيّتوه فإن أصابوا منه غرّة، فوجدوه متحرزا فى الخنادق يسير على تعبئة. فتهيّبوا [2] وكمنوا فى زيتون على طريقه، فخرجوا عليه وهو يسير على تعبئة، فوضعوا السلاح [237] فيمن معه وانتبذ، ثمّ فنادى فى خيوله، فثابت إليه من المقدمة والمجنّبتين والساقة فقاتلوهم.
والتقى السكسكي وفارس من فرسانه من بنى سليم، فصرعه السلمى عن فرسه وأسره وأتى به إلى مروان فقال:
- «الحمد لربّ أمكن منك فطال ما بلغت منّا.» قال:
- «استبقني فإنّى فارس العرب.» قال:
- «كذبت، الذي جاء بك أفرس منك.» فأمر به فأوثق، وقتل ممّن صبر معه نحو من سبعة آلاف. [3] وأفلت ثبيت ومن انهزم معه فلمّا أتوا سليمان خلّف أخاه سعيد بن هشام فى مدينة حمص، وعلم أنّه لا طاقة له به، ومضى هو إلى تدمر ونزل مروان بحمص فحاصرهم عشرة أشهر، ونصب عليها نيّفا وثمانين منجنيقا تخطر عليهم حجارتها ليلا ونهارا، وهم فى ذلك يخرجون إليه كلّ يوم فيقاتلونه، وربّما بيّتوا نواحي عسكره. ولمّا تتابع عليهم البلاء ولزمهم الذّل سألوه الأمان على أن يمكّنوه من سعيد أخى سليمان وابنيه عثمان ومروان ومن قوم كانوا يغيرون على عسكره ويشتمونه من السور. فآمنهم واستوثق من سعيد وابنيه ومثل بالباقين، ثمّ أقبل متوجّها إلى الضحّاك؟
__________
[1] . فى آ: «نبيتا» .
[2] . فى آ: فتهيّبوا. والطبري كالأصل.
[3] . فى الطبري (9: 1911) : ستة آلاف.(3/237)
وقد روى أيضا أنّ سليمان لمّا انهزم من مروان أقبل إلى ابن عمر، [238] ثمّ خرج معه إلى الضحّاك وبايعه. وفى ذلك يقول شاعرهم: [1]
ألم تر أنّ الله أظهر دينه ... وصلّت قريش خلف بكر بن وائل
ولمّا استقام لمروان الشام ونفى عنها من كان يخالفه وقتل بها تلك المقتلة العظيمة أقبل حتّى نزل نهر سعيد بن عبد الملك، وبلغ ذلك ابن عمر فأعلم ذلك الضحّاك، فارتحل الضحّاك وأقام ابن عمر بواسط، وبلغ خبر مروان ملحان الشيبانى وكان عامل الضحّاك على الكوفة، فخرج إليه يقاتله وهو فى قلّة من الشراة، فلقى النضر وكان النضر قد توجّه إليه وبلغ القادسيّة وصبر فى المعركة حتّى قتله النضر.
وبلغ الضحّاك قتل ملحان، فاستعمل على الكوفة المثنّى بن عمران من بنى عائذة. وسار الضحّاك، فأخذ على الموصل، لأنّ أهل الموصل كاتبوه ودعوه ليمكّنوه منها. فسار فى جماعة جنوده حتّى انتهى إليها وعليها يومئذ عامل لمروان من بنى شيبان يقال له: القطران بن أكمة [2] ففتح أهل الموصل المدينة للضحّاك، وقاتلهم القطران فى قومه وجماعة يسيرة من أهل بيته وثبتوا حتّى قتلوا واستولى الضحّاك على الموصل. [239] وبلغ خبره مروان فكتب إلى ابنه عبد الله وهو خليفته على الجزيرة يأمره أن يسير فيمن معه ومن قدر على جمعه، إلى نصيبين ليشتغل الضحّاك عن توسط البلاد.
فشخص عبد الله إلى نصيبين فى جماعة روابطه [3] وهو نحو من سبعة آلاف
__________
[1] . هو شبيل بن عزرة الضّبعىّ (الطبري 9: 1913) .
[2] . القطران بن أكمة: كذا فى الأصل والطبري (9: 1938) .
[3] . كذا فى الأصل والطبري (9: 1939) : فى جماعة روابطه.(3/238)
أو ثمانية آلاف.
وسار الضحّاك من الموصل إلى عبد الله بنصيبين فقاتله فلم يطقه لكثرة من مع الضحّاك، وذاك أنّ عدّتهم بلغت عشرين ومائة ألف يرزق الفارس مائة وخمسين والراجل والبغّال مائة وما دونها إلى السبعين فى كلّ شهر.
وأقام الضحّاك على نصيبين محاصرا لها ووجّه بخيل له إلى الرقّة وكان بها خيل لمروان، ولمّا بلغ مروان نزولهم بالرقّة وجّه خيلا إليها، فلمّا دنوا منها انقشع أصحاب الضحّاك منصرفين إليه واتبعتهم خيل مروان فاستسقطوا من ساقتهم نيّفا وثلاثين رجلا فقطع مروان أيديهم ومضى صامدا إلى الضحّاك فى جموعه حتّى التقيا بموضع يقال له: الغذّ، من أرض كفرتوثا، فقاتله عامّة نهاره.
فلمّا كان عند المساء ترجّل الضحّاك وترجّل معه من ذوى النيّات نحو من ستة آلاف، وأهل عسكره [240] لكثرتهم لا يعلمون بما كان منه. فأحدقت بهم خيل مروان وألحّوا عليهم حتّى قتلوهم عند المعتمة، وقتل فيهم الضحّاك، وانصرف من بقي من أصحاب الضحّاك إلى عسكرهم، وكذلك أصحاب مروان ولا يعلم مروان ولا أصحاب الضحّاك بمقتل الضحّاك حتّى فقدوه فى منتصف الليل وجاءهم بعض من عاينه حين ترجّل، فأخبرهم بمقتله فبكوا عليه وناحوا وخرج عبد الملك وهو القائد الذي كان وجّهه إلى الرّقة من عسكرهم حتّى دخل عسكر مروان وتقرّب إليه بقتل الضحّاك فأرسل معه رسلا من حرسه معهم النيران والشموع إلى موضع المعركة، فقلّبوا القتلى حتّى استخرجوه وأتوا به مروان وفى وجهه ورأسه أكثر من عشرين ضربة، فكبّر أهل عسكر مروان، فعرف أهل عسكر الضحّاك أنّهم قد علموا بذلك. وبعث مروان برأسه من ليلته إلى مدائن الجزيرة يطاف به فيها.
ولمّا قتل الضحّاك بايع أهل عسكره الخيبرىّ وعاودوا مروان القتال من الغد وصافّهم وسليمان بن هشام يومئذ وأهل بيته ومواليه مع الخيبرىّ- وقد(3/239)
كان قدم على الضحّاك فى أكثر من ثلاثة آلاف [241] من أهل بيته ومواليه، وتزوّج إليهم أخت شيبان الحرورىّ وهو الذي بايعوه بعد الخيبري. فحمل الخيبرىّ على مروان فى نحو من أربعمائة فارس من الشّراة فهزم مروان وهو فى القلب وخرج مروان من العسكر منهزما ودخل الخيبري فيمن معه عسكره، وجعلوا ينادون بشعارهم:
- «يا خيبرى، يا خيبرى.» ويقتلون من أدركوا حتّى انتهوا إلى حجرة مروان فقطعوا أطنابها.
وجلس الخيبري على فرسه [1] وميمنة مروان على حيالها وعليها ابنه عبد الله، وميسرته أيضا ثابتة، عليها مسلم بن عقيل، [2] فلمّا رأى أهل عسكر مروان قلّة من مع الخيبري ثار إليه عبيد أهل العسكر بعمد الخيام، فقتلوا الخيبرىّ وأصحابه جميعا فى حجرة مروان وحولها.
وبلغ مروان الخبر وقد جاز العسكر بنحو ستة أميال منهزما فانصرف إلى عسكره، وردّ خيوله عن مواقفها، وبات تلك الليلة فى عسكره، وانصرف أيضا عسكر الخيبري. فولّوا عليهم شيبان وبايعوه، فقاتلهم مروان بعد ذلك بالكراديس وأبطل تعبئه الصفّ منذ يومئذ.
توجيه يزيد بن عمر بن هبيرة إلى العراق لحرب الخوارج
وفى هذه السنة وجّه مروان يزيد بن عمر بن هبيرة إلى العراق لحرب من بها من الخوارج. [249] وكان بالعراق عمّال الضحّاك وفيهم عبد الله بن عمر، كما حكينا من أمره، ومضى ابن هبيرة، فأخذ على الموصل وانحطّ على غزّة
__________
[1] . آ، والأصل: فرسه. مط والطبري (9: 1941) : فرشه.
[2] . كذا فى الأصل وآ: مسلم بن عقيل. وما فى الطبري (9: 1941) : إسحاق بن مسلم العقيلىّ.(3/240)
من عين التمر، وبلغ ذلك المثنّى بن عمران [1] عامل الضحّاك على الكوفة، فسار إليه فيمن كان معه من الشّراة ومعه منصور بن جمهور وقد كان صار إليه حين بايع الضحّاك. فالتقوا بغزّة، واقتتلوا قتالا شديدا أيّاما متوالية، فقتل المثنّى مع عدّة من رؤساء أصحاب الضحّاك وهرب منصور بن جمهور وانهزمت الخوارج.
وأقبل منصور بن جمهور حتّى دخل الكوفة فجمع بها جمعا من اليمانية والصفرّية ومن كان تفرّق منهم يوم قتل ملحان [2] ومن تخلّف منهم عن الضحّاك فجمعهم منصور جميعا ثمّ سار بهم حتّى نزل الروحاء.
وأقبل ابن هبيرة فى أجناده حتّى لقيهم بها فقاتلهم أيّاما ثمّ هزمهم وقتل خلق من أصحاب الضحّاك وهرب منصور بن جمهور، وأقبل ابن هبيرة حتّى نزل الكوفة ونفى الخوارج عنها.
وفى هذه السنة وافى الحارث بن سريج مرو من بلاد الترك بأمان الخليفة فصار إلى نصر، ثمّ خالفه وتابعه خلق.
ذكر الخبر عن أمره وأمر نصر بن سيّار [243]
إنّ الحارث سار إلى مرو ومخرجه من بلاد الترك فقدمها يوم الأحد سنة سبع وعشرين ومائة، ويقال ثمان وعشرين ومائة، فتلقّاه سلم بن أحوز والناس بكسماهن [3] فقال له محمّد بن عطية العبسي:
__________
[1] . فى الطبري (9: 1914) : عمران العائذىّ.
[2] . الضبط من الطبري (9: 1915) .
[3] . كسماهن: كذا فى الأصل. فى آ: كشماهن. وتسمى: كش ميهن أيضا. كانت دون مرو بمنزل، على طريق بخارا، واشتهرت بزبيبها حسب اليعقوبي (لى سترنغ) .(3/241)
- «الحمد لله الذي أقرّ عيوننا بقدومك وردّك إلى قبّة الإسلام وإلى الجماعة.» قال:
- «يا بنىّ، أما علمت أنّ الكثير إذا كانوا على معصية الله لم يكونوا جماعة، وأنّ القليل إذا كانوا على طاعة الله كانوا جماعة؟ وما قرّت عيني منذ خرجت إلى [1] يومى هذا وما قرّة عيني إلّا أن يطاع الله.» فلمّا دخل مرو قال:
- «اللهم إنّى لم أنو قطّ فى شيء بيني وبينهم إلّا الوفاء، فإن أرادوا الغدر فانصرني عليهم.» وتلقّاه نصر وأجرى عليه نزلا [2] خمسين درهما فى كلّ يوم، فكان يقتصر على لون واحد وأطلق له نصر من كان عنده من أهله، فلمّا أتاه ابنه محمّد قال:
- «اللهم اجعله برّا تقيّا.» وكان قدم الوضّاح بن حبيب بن بديل على نصر من عند عبد الله بن عمر.
فأتى الحارث وعنده جماعة من أصحابه فقال:
- «إنّا بالعراق نشهر عظم [3] عمودك وثقله وإنّى أحبّ أن أراه.» قال:
- «ما هو إلّا كبعض ما ترى- وأشار إلى عمده مع قوم وقوف على رأسه-[244] ولكنّى إذا ضربت به شهرت ضربتي.» وكان فى عموده ثمانية عشر رطلا.
وعرض نصر على الحارث أن يولّيه ويعطيه مائة ألف فلم يقبل وقال:
__________
[1] . كتب فى الأصل تحت «إلّا» وبخط آخر: إلى.
[2] . النّزل: العطاء.
[3] . فى آ: شهر عظيم!(3/242)
- «إنّى لست من [أهل] [1] هذه اللذّات ومن [أهل] تزويج عقائل العرب فى شيء أنا أسأل كتاب الله والعمل بالسنّة واستعمال أهل الخير، فإن فعلت ساعدتك على عدوّك.» ثمّ قال لنصر:
- «خرجت من هذه البلاد منذ ثلاث عشرة سنة إنكارا للجور، وأنت تريدني عليه» وأرسل الحارث إلى الكرماني:
- «إن أعطانى نصر العمل بكتاب الله وما سألته من استعمال أهل الخير والفضل عضدته وقمت بأمر الله، وإن لم يفعل استعنت بك عليه وتضمن لى ما أريد من القيام بالعدل والسنّة.» وكان كلّما دخل عليه بنو تميم دعاهم إلى نفسه، فبايعه قوم من رؤساءهم وانضمّ إلى الحارث ثلاثة آلاف.
ودخلت سنة ثمانية وعشرين ومائة
وفيها قتل الحارث بن سريج ذكر الخبر عن مقتله وسبب ذلك [245]
لمّا ولى ابن هبيرة العراق، كتب إلى نصر بعهده، فبايع لمروان. وقال الحارث:
- «إنّما آمنني يزيد بن الوليد، ومروان لا يجيز [2] أمان يزيد فلا آمنه.» فلمّا دعا الحارث قوما إلى مبايعته أتاه سلم بن أحوز وخالد بن هريم
و
__________
[1] . مزيدة من آ، فى كلا الموضعين.
[2] . ما فى الأصل مهمل فى الأخير، والإعجام من الطبري (9: 1917) .(3/243)
قطن بن محمّد وأمثالهم فكلموه وقالوا:
- «ألم يصيّر نصر سلطانه وولايته فى أيدى قومك، ألم يخرجك من أرض الترك ومن حكم خاقان،- وعدّدوا عليه ما اصطنعه إليه- أتخالفه فتفرّق أمر عشيرتك وتطمع فيهم عدوّهم؟ فنذكّرك الله أن تفرّق جماعتنا.» فقال الحارث:
- «إنّى لا أرى فى عشيرتي شيئا من الولاية.» ولم يجبهم بما أرادوا.
وخرج فعسكر وأرسل إلى نصر يسأله أن يجعل الأمر شورى. فأبى نصر، وخرج الحارث، فأتى منازل آل يعقوب بن داود. وكان الحارث يظهر أنّه صاحب الرايات السود. فأرسل إليه نصر:
- «إن كنت كما تزعم وإنّكم تهدمون سور دمشق وتزيلون أمر [1] بنى أميّه فخذ منّى خمسمائة رأس من الدوابّ ومائتي بعير واحمل إليك من الأموال ما شئت ومن آلة الحرب وسر، فلعمرى لئن كنت الإمام صاحب الأمر إنّى لفى يدك، وإن كنت لست ذلك [246] فقد أهلكت عشيرتك.» فقال الحارث:
- «قد علمت أنّ هذا حقّ، ولكن لا يبايعني عليه من صحبني.» فقال نصر:
- «فقد استبان لك أنّهم ليسوا على رأيك ولا لهم مثل بصيرتك وأنّهم فسّاق ورعاع فأذكّرك الله فى عشرين ألفا من ربيعة واليمن سيهلكون فيما بينكم.» وعرض نصر على الحارث أن يوليه ما وراء النهر ويعطيه ثلاثمائة ألف فلم يقبل. فقال له نصر:
__________
[1] . فى مط: أثر.(3/244)
- «إن شئت فابدأ بالكرمانىّ فإن قتلته فأنا فى طاعتك وإن شئت فخلّ بيني وبينه فإن ظفرت به رأيت رأيك، وإن شئت فسر بأصحابك، فإذا جزت الرّىّ فأنا فى طاعتك.» فخالفه الحارث وأبى إلّا أن يجعل الأمر شورى فأخذ نصر فى التأهّب وصيّر سلما فى المدينة وضمّ إليه الرابطة مع فرسان ضمّهم إلى هدبة بن عامر وحوّل السلاح والدواوين إلى القهندز، وجلس للناس.
وكان اتهم قوما من أصحابه أنّهم كاتبوا الحارث بن سريج، فأجلس عن يساره من اتّهم منهم وأجلس الذين اصطنعهم عن يمينه ثمّ تكلّم وذكر بنى مروان ومن خرج عليهم كيف أظفر الله به ثمّ قال لمن عن يمينه:
- «إنّى أحمد الله وأذمّ من عن يساري [247] وليت خراسان ففعلت وصنعت- وذكر حسن بلائه- وأمرتكم أن ترفعوا ما أصبتم لمّا أردت المسير إلى الوليد، فمنكم من رفع ألف ألف وأكثر وأقلّ وفرددتها عليكم ثمّ فعلت وفعلت فكان جزائي أن مالأتم [1] الحارث علىّ، فهلّا نظرتم إلى هولاء الأحرار- وأومأ إلى من عن يمينه- الذين لزمونى مواسين [2] لى على غير بلاء.» واعتذر إليه الناس فقبل عذرهم وصرفهم.
ولمّا انتشر فى كور خراسان أمر الفتنة قدم على نصر جماعة من رؤساء الناس ووجوههم وكتب الحارث بن سريج سيرته فكانت تقرأ فى طرق مرو وفى المساجد. فأجابه قوم كثير وأمر نصر [الحسن بن سعد مولى قريش] [3] فنادى فى المدينة.
- «إنّ الحارث عدوّ الله قد نابذ وحارب، فاستعينوا الله، ولا حول ولا قوّة
__________
[1] . الممالأة: المعاونة، المساعدة.
[2] . فى الطبري (9: 1920) : موأسير (كذا) ، بدل: المواسين.
[3] . تكملة من الطبري (9: 1920) .(3/245)
إلّا بالله.» فأرسل نصر من ليلته إلى جماعة أصحابه:
- «تهيّئوا للقتال.» فقال له أصحابه:
- «ما نجعل شعارنا؟» فقال مقاتل بن سليمان:
- «شعارنا شعار رسول الله صلّى الله عليه: حم [1] لا ينصرون.» وعلامتهم على الرماح الصوف.» وكان الذي هاج القتال أنّ غلاما للنضر بن محمّد الفقيه يقال له: عطيّة، صار إلى أصحاب سلم [248] فقال أصحاب الحارث:
- «ردّوه علينا.» فأبوا فاقتتلوا فهزمهم أصحاب سلم فانتهوا إلى الحارث وهو يصلّى الغداة، فلمّا قضى الصلاة دنا منهم فرجعوا. ثمّ دنا من الحارث رجلان فناداهما عاصم.
- «عرقبا [2] برذونه.» فبادر الحارث أحدهما بعموده فقتله ورجع الحارث فأتبعه حمّاد بن عامر ومحمّد بن زرعة وهو فى سكّة أبى عصمة فكسر رمحيهما بعموده وحمل على مرزوق مولى سلم، فلمّا دنا منه رمى بنفسه عن فرسه ودخل حانوتا وضرب برذونه على مؤخّره فنفق. [3] وركب سلم حين أصبح وأمر بالخندق فخندقوا وأمر مناديا فنادى:
- «من جاء برأس فله ثلاثمائة.»
__________
[1] . ضبط ما فى الطبري هكذا: حم.
[2] . عرقب الدّابة: قطع عرقوبها، والعرقوب عصب غليظ فوق العقب.
[3] . نفق الرجل أو الدابة: خرجت روحهما.(3/246)
فلم تطلع الشمس حتّى انهزم أصحاب الحارث ومضى سلم حتّى انتهى إلى عسكر الحارث ووجد فيه قوما فقتلهم وفيهم كاتب الحارث واسمه يزيد بن داود فقتل. ومضى سلم إلى باب بيق [1] ففتحه وقتل رجلا كان دلّ الحارث على نقب فى الحائط دخل منه.
وأرسل نصر إلى الكرمانىّ فأتاه على عهد جرى بينهما على يد القاضي محمّد بن ثابت وحضر القاضي ومقدام ونعيم وسلم بن أحوز فدعا نصر إلى الجماعة. فقال الكرمانىّ: [249]- «أنت أسعد الناس بذلك.» فوقع بين سلم بن أحوز وبين المقدام كلام فأغلظ له سلم فأعانه أخوه وغضب لهم عبد الرحمن الجرمي السغدى فقال له سلم:
- «لقد هممت أن أضرب أنفك بالسيف.» فقال السغدى:
- «لو مسست السيف لم ترجع إليك يدك.» فخاف الكرمانىّ أن يكون مكرا من نصر. فقام فتعلّقوا به، فلم يجلس، ومضى إلى باب المقصورة قال: فتلقّوه بفرسه، فركب فى المسجد. وقال:
- «أراد نصر الغدر بى.» فأرسل الحارث إلى نصر:
- «إنّا لا نرضى بك إماما.» فأرسل إليه نصر:
- «كيف يكون لك عقل وقد أفنيت عمرك فى أرض الشرك، وغزوت
__________
[1] . الضبط من الطبري (9: 1922) ، وفى حواشيه: ينق، وما فى الأصل مهمل فى الوسط.
فى مط: نيو (؟)(3/247)
المسلمين بالمشركين، أترانى أتضرّع إليك أكثر ممّا تضرّعت؟» وأسر يومئذ جهم بن صفوان صاحب الجهمية فقال لسلم:
- «إنّ لى عقدا [1] من ابنك حارث.» قال:
- «ما كان ينبغي له أن يفعل، ولو فعل ما آمنتك ولو ملأت لى هذه الملاءة كواكب والله لو كنت فى بطني لشققت بطني حتّى أقتلك لا والله لا تقوم علينا مع اليمانية أكثر ممّا قمت.» وأمر عبد ربّه بن سيسن [2] فقتله.
ولمّا هزم نصر الحارث أتى الحارث فازة [3] الكرماني حتّى دخلها [250] ومع الكرماني داود بن شعيب الحدانى، ومحمد بن المثنّى، فأقيمت الصلوة، فصلّى بهم الكرماني. فلمّا كان من الغد سار الكرماني إلى ناحية باب ميدان يزيد، فقاتل أصحاب نصر، فقتل جماعة، وأخذوا علم عثمانى الكرماني وتقاتلوا يوم الأربعاء، ثمّ تحاجزوا ولم يكن بينهم يوم الخميس قتال، والتقوا يوم الجمعة، فانهزمت الأزد حتّى وصلوا إلى الكرمانىّ فأخذ اللواء بيده فقاتل به.
وحمل خضر [4] بن تميم فرموه بالنشّاب وحمل عليه خنيس [5] مولى نصر فطعنه فى حلقه. فأخذ الخضر السنان بيده اليسرى فشبّ به فرسه وطعن خنيسا فأذراه [6] عن برذونه وقتلته رجّالة الكرمانىّ بالعصىّ وانهزم أصحاب
__________
[1] . فى الطبري (9: 1924) : وليا. بدل «عقدا» . الولي: القرب.
[2] . الضبط من الطبري.
[3] . الفازة: مظلّة بعمودين. يقال: «ضرب الفازة بالمفازة» .
[4] . آ: حصين.
[5] . فى الطبري (9: 1925) : حبيش.
[6] . أذراه: أطاره. فى مط: أرداه. أى: أسقطه وأهلكه.(3/248)
نصر وصرع تميم بن نصر وأخذوا له برذونين أخذ أحدهما السغدى والآخر الخضر.
ولحق الخضر سلم بن أحوز فتناول من ابن أخيه عمودا فضربه وصرعه.
فحمل عليه رجلان من تميم فهرب فرمى سلم بنفسه تحت القناطر وبه بضع [1] عشرة ضربة على بيضته [2] فسقط فحمله رجل إلى عسكر نصر وانصرفوا.
فلمّا كان فى بعض الليل خرج نصر عن مرو، وقتل عصمة بن عبد الله الأسدى [251] وكان يحمى أصحاب نصر. ولمّا هزمت اليمانية المضريّة أرسل الحارث إلى نصر:
- «إنّ اليمانية يعيّروننى بانهزامكم وأنا كافّ، فاجعل حماة أصحابك بإزاء الكرمانىّ.» فبعث إليه نصر يزيد النحوىّ أو خالدا [3] يتوثّق منه أن يفي بما بذله من الكفّ. وإنّما كفّ الحارث عن قتال نصر لأنّ عمر بن الفضل الأزدى وأهل بيته وعبد الجبّار بن العدوى وخالد بن عبيد الله وعامّة أصحابه كانوا نقموا على الكرمانىّ ما فعله أهل التبوشكان. وذلك أنّ أسدا كان وجّه إليهم فنزلوا إليه على حكم أسد فبقر بطون جماعة وألقاهم فى نهر بلخ وقطع أيدى ثلاثمائة منهم وأرجلهم وقتل ثلثا وصلب ثلثا وباع أثقالهم فيمن يزيد. فنقموا على الحارث معاونته الكرمانىّ وقتاله نصرا.
فأقام نصر بمرو أربعة أيّام ثمّ خرج إلى نيسابور ومعه سلم بن أحوز وسلم بن عبد الرحمن وقال نصر لنسائه:
- «إنّ الحارث سيخلفنى فيكنّ ويحميكنّ.»
__________
[1] . فى الأصل: بضعة عشر.
[2] . كذا فى الطبري (9: 1926) .
[3] . فى الأصل وآ، ومط: خالد. والمضبوط فى الطبري (9: 1928) : أو خالدا.(3/249)
فلمّا قرب من نيسابور أرسل إليه أهلها:
- «ما أقدمك، وقد أظهرت العصبية وكان أمرا قد أطفأه الله؟» وكان عامل نصر على نيسابور ضرار بن [252] عيسى العامرىّ فأرسل إليهم نصر بن سيّار سنانا الأعرابىّ ومسلم بن عبد الرحمن وسلم بن أحوز فكلّموهم حتّى خرجوا وتلقّوا نصرا بالمواكب والهدايا والجواري.
وقدم من مكّة على نصر عبد الحكم [1] بن سعد وأبو جعفر عيس. فقال نصر لعبد الحكم:
- «أما ترى ما صنع سفهاء قومك؟» فقال عبد الحكم:
- «بل سفهاء قومك، طالت ولايتك وصيّرت الولاية لقومك دون ربيعة واليمن فبطروا، وفى ربيعة واليمن حلماء وسفهاء فغلب سفهاؤهم حلماءهم.» فقال عبّاد:
- «أتستقبل الأمير بهذا الكلام؟» فقال:
- «دعه فقد صدق.» فقال أبو جعفر عيسى لنصر:
- «أيّها الأمير حسبك من الولاية، فإنّه قد أظلّ أمر عظيم سيقوم رجل مجهول النسب يظهر السواد ويدعوا إلى دولة لا محالة ستكون فيغلب على الأمر وأنتم تنظرون وتضطربون.» فقال نصر:
- «ما أشبه أن يكون ما تقول لقلّة الوفاء وسوء ذات البين. وجّهت إلى
__________
[1] . فى الطبري (9: 1929) : الحليم، وفى حواشيه: الحكم.(3/250)
الحارث وهو بأرض الترك فعرضت عليه الولاية والأموال فأبى إلّا الشغب [1] ثمّ ظاهر علىّ.» فقال أبو جعفر عيسى:
- «إنّ الحارث مقتول مصلوب، وما الكرمانىّ من ذلك [253] ببعيد.» ولمّا خرج نصر من مرو وغلب الكرمانىّ عليها.
قال الحارث:
- «إنّما أريد كتاب الله.» فقال مقاتل بن حيّان:
- «فى كتاب الله هدم الدور وإنهاب الأموال.» فبلغ الكرمانىّ فحبسه فى خيمة فى العسكر فكلّمه معمر بن مقاتل بن حيّان أو معمر بن حيّان أخوه فخلّاه. وأتى الكرمانىّ المسجد ووقف الحارث فخطب الكرمانىّ الناس وآمنهم.
وعسكر الكرمانىّ فى مصلّى أسد. ومضى الحارث إلى باب دروازق [2] سرخس فبعث إلى الحارث فأتاه فأنكر الحارث هدم الدور والإنهاب، فهمّ به الكرمانىّ ثمّ كفّ عنه.
وخرج بشر بن جرموز الضبّى بخرقان [3] فدعا إلى كتاب الله والسنّة وقال للحارث:
- «إنّما قاتلت معك طلب العدل، فأمّا إذ كنت مع الكرمانىّ فقد علمت أنّك إنّما تقاتل ليقال: غلب الحارث. وهذه عصبيّة وليست مقاتلا معك.»
__________
[1] . فى الطبري (9: 1930) : فأبى وشعّث.
[2] . فى الطبري (9: 1930) : باب دوران وسرخس. والصواب باب دروازق سرخس.
دروازق: معرب الأصل الفارسي: دروازه، أى: الباب.
[3] . بخرقان: الضبط بالإعجام من الطبري (9: 1931) .(3/251)
واعتزل فى خمسة آلاف [1] وقال:
- «نحن الفئة العادلة ندعو إلى الحق ولا نقاتل إلّا من قاتلنا.» وأتى الحارث مسجد عياض فأرسل إلى الكرمانىّ يدعوه إلى أن يكون الأمر شورى. فأبى الكرمانىّ. وكتب أصحاب الحارث إلى الكرمانىّ وأصحابه:
- «نوصيكم بتقوى الله [254] وطاعته وتحريم ما حرّم الله عزّ وجلّ من دمائكم أمّا بعد، فإنّ اجتماعنا كان إلى الحارث ابتغاء الوسيلة إلى الله، ونصيحة لله فى عباده، فعرّضنا أنفسنا للحرب، ودماءنا للسفك، وأموالنا للتلف، وصغر ذلك كلّه عندنا فى جنب ما نرجو من ثواب الله ونحن وأنتم إخوان فى الدين وأنصار على العدوّ، فاتّقوا الله وارجعوا إلى الحقّ فإنّا لا نريد سفك الدماء بغير حقّها.» وأقاموا أيّاما. فأتى الحارث بن سريج ثلمة فى الحائط فوسّعها عند دور آل هشام بن أبى الهيثم فتفرّق عن الحارث أهل البصائر وقال: «غدرت.» وأقام معه نفر ودخل الكرمانىّ من باب سرخس فحاذى بالحارث ومرّ به المنخّل الأزدى فقتله السّميدع ونادى:
- «يا لثارات لقيط.» واقتتلوا وعبّى الكرمانىّ ميمنته وميسرته واشتدّ الأمر بينهما فانهزم أصحاب الحارث وقتلوا ما بين الثلمة وعسكر الحارث وكان الحارث على بغل فنزل عنه وركب فرسا فحرن [2] وانهزم. صحابه فبقى فى مائة فقتل وقتل أخوه سوادة وجماعة معه نحو مائة.
وكفّ الكرمانىّ وكان قد قتل من أصحاب الكرمانىّ أيضا مائة. [255]
و
__________
[1] . فى الطبري (9: 1931) : خمسة آلاف وخمس مائة.
[2] . فى الطبري (9: 1932) : فضربه فجرى.(3/252)
صلب الحارث عند باب مدينة مرو بغير رأس وكان قتله بعد خروج نصر من مرو بثلاثين يوما. قتل يوم الأحد لستّ بقين من رجب.
وأصاب الكرمانىّ صفائح ذهب للحارث، فأخذها وأخذ أموال من خرج مع نصر، واصطفى متاع عاصم بن عمير، فقال إبراهيم:
- «بأىّ شيء تستحلّ ماله؟» فقال صالح من آل الوضّاح:
- «اسقني دمه.» فحال بينه وبينه مقاتل بن سليمان وأتى به منزله.
وكان الحارث قبل مكاشفته الكرمانىّ ندم على اتباعه إيّاه. فلمّا همّ الكرمانىّ بقتال بشر بن جرموز، وكان عسكره خارجا عن المدينة، قال له الحارث:
- «لا تعجل إلى قتالهم، فإنّى أردّهم إليك.» فخرج من العسكر فى عشرة فوارس حتّى أتى عسكر بشر وهو فى خمسة آلاف. فأقام معهم وقال:
- «ما كنت لأقاتلكم مع اليمانية.» وجعل المضريّون يتسلّلون من عسكر الكرمانىّ إلى الحارث حتّى لم يبق مع الكرمانىّ مضرىّ إلّا سلمة بن أبى عبد الله مولى بنى سليم فإنّه قال:
- «لا أتبع الحارث أبدا فإنّى لم أره إلّا غادرا والمهلّب بن إياس.» وقال:
- «لا أتبعه فإنّى لم أره قطّ إلّا فى خيل تطرد.» فقاتلهم الكرمانىّ مرارا يقتتلون [256] ثمّ يرجعون إلى خنادقهم فمرّة تكون لهولاء ومرّة لهولاء
.(3/253)
برذون الحارث
فالتقوا يوما وقد شرب مرثد بن عبد الله المجاشعي فخرج سكران على برذون للحارث فطعن فصرع وحماه فوارس تميم حتّى تخلّص وعار البرذون.
فلمّا رجعوا لامه الحارث وقال:
- «كدت تقتل نفسك.» فقال للحارث:
- «إنّما تقول هذا لمكان برذونك، امرأته [1] طالق إن لم آتك بأفره برذون فى عسكرهم.» فالتقوا من غد فقال مرثد:
- «أىّ برذون فى عسكرهم أفره؟» قال:
برذون عبد [2] الله بن ديسم الغنوي.» وأشاروا له إلى موقفه فقاتل حتّى وصل إليه فلمّا غشيه رمى ابن ديسم بنفسه عن برذونه وعلّق مرثد عنان البرذون فى رمحه وقاده حتّى أتى به الحارث وقال:
- «هذا مكان برذونك.» فلقى مخلّد بن الحسن مرثدا فقال له يمازحه:
- «ما أهيأ برذون بن ديسم تحتك!» فنزل عنه فقال:
- «خذه.» قال [3] :
- «أردت أن تفضحني، أخذته منّا فى الحرب وآخذه منك فى السلم.»
__________
[1] . كذا فى الأصل ومط والطبري (3: 1934) : امرأته.
[2] . كذا فى الأصل والطبري (9: 1933) : عبد. فى آ: عبيد.
[3] . فى الأصل: «وقال» بزيادة الواو. فى آوالطبري (9: 1934) : بدون الواو.(3/254)
ويقال: إنّ الحارث لمّا أتى حائط مرو ليلا فنقب فيه بابا ودخله، وأصبح الكرمانىّ فى أثره داخلا من الباب، قالت المضريّة للحارث:
- «قد تركنا الخنادق فهو يومنا وقد فررت غير مرّة.» فترجّل، فقال:
- «أنا فارسا [257] خير لكم منّى راجلا.» قالوا:
- «لا نرضى إلّا أن تترجّل فترجّل، فقتل هو وأخوه بشر بن جرموز، وعدّة من فرسان تميم، وانهزم الباقون، وصلب الحارث وصفت مرو لليمن. فهدموا دور المضريّة. فقالت أمّ كثير الضبّيّة:
لا بارك [1] الله فى أنثى وعذّبها ... تزوّجت مضريّا آخر الدهر
أبلغ رجال تميم قول موجعة ... أحللتموها بدار الذّلّ والفقر
إن أنتم لم تكرّوا بعد جولتكم ... حتّى تعيدوا رجال الأزد فى الطمر
إنّى استحيت لكم من بذل طاعتكم ... هذا المزونىّ [2] يحبيكم على قهر
توجيه أبى مسلم إلى خراسان
وفى هذه السنة وجّه إبراهيم بن محمّد أبا مسلم إلى خراسان. وكتب إلى أصحابه:
- «إنّى قد أمرته بأمرى، فاسمعوا منه واقبلوا قوله. فإنّى قد أمّرته على
__________
[1] . الأبيات تجدها فى الطبري (9: 1935) .
[2] . فى مط: المروذى.(3/255)
خراسان وما غلب عليه بعد ذلك.» فأتاهم فلم يقبلوا قوله ولا كتابه حتّى خرجوا من قابل فالتقوا بمكّة عند إبراهيم، فأعلمه أبو مسلم أنّهم لم ينفذوا كتابه ولا أمره. فقال إبراهيم:
- «إنّى عرضت هذا الأمر على غير واحد فأبوه علىّ فأجمعت رأيى على هذا.» وأشار عليه، وأمرهم بالسمع [258] والطاعة له. وكان إبراهيم عرض ذلك على سليمان بن كثير فقال:
- «لا إلى أمر اثنين أبدا.» ثمّ عرضه على إبراهيم بن سلمة فأبى. ثمّ قال إبراهيم لأبى مسلم:
- «يا عبد الرحمن، إنّك رجل منّا أهل البيت، فاحفظ وصيّتى: انظر هذا الحىّ من اليمن، فأكرمهم وحلّ بين أظهرهم فإنّ الله عزّ وجلّ لا يتمّم هذا الأمر إلّا بهم. وانظر هذا الحىّ من ربيعة، فاتهمهم فى أمرهم. وانظر هذا الحىّ من ربيعة، فاتهمهم فى أمرهم. وانظر هذا الحىّ من مضر، فإنّهم العدوّ القريب الدار، واقتل من شككت فى أمره ومن كان فى أمره شبهة ومن وقع فى نفسك منه شيء. وإن استطعت ألّا تدع بخراسان لسانا عربيّا فافعل. وأيّما غلام بلغ خمسة أشبار تتّهمه فاقتله.
ولا تخالف هذا الشيخ يعنى سليمان بن كثير ولا تعصه، وإذا أشكل عليك أمر فاكتف به منّى.»
أبو حمزة الخارجي يدعو الناس إلى خلاف مروان بن محمد
وفى هذه السنة لقى أبو حمزة الخارجي عبد الله بن يحيى طالب الحقّ فدعاه إلى مذهبه. وكان أبو حمزة واسمه المختار بن عوف الأزدى من أهل البصرة يوافى الموسم كلّ سنة يدعو الناس إلى خلاف مروان بن محمّد وآل(3/256)
مرون، حتّى وافى عبد الله بن يحيى فى آخر سنة. فقال لعبد الله بن يحيى:
- «يا رجل، [259] إنّى أسمع كلاما حسنا وأراك تدعو إلى حقّ، فانطلق معى فإنّى رجل مطاع فى قومي.» فخرج به حتّى ورد به حضرموت، فبايعه أبو حمزة على الخلافة ودعا إليه.
وكان أبو حمزة مرّ بمعدن سليم [1] وكثير بن عبد الرحمن عامل على المعدن فسمع بعض كلامه فأمر به فجلد أربعين سوطا، ثمّ مضى إلى مكّة فلمّا قدم أبو حمزة المدينة وافتتحها تغيّب كثير حتّى كان من أمرهم ما كان.
ثمّ دخلت سنة تسع وعشرين ومائة
وفيها كان هلاك شيبان بن عبد العزيز [2] ذكر السبب فى ذلك
كان السبب فى ذلك أنّ الناس الخوارج لمّا قتل الضحّاك بن قيس الشيبانى رئيسهم ثمّ الخيبري بعده، ولّوا أمرهم شيبان وبايعوه. فكان مروان يقاتلهم.
فقال سليمان بن هشام بن عبد الملك للخوارج وهو يومئذ معهم فى عسكرهم:
- «إنّ الذي تفعلون ليس برأى فإن أخذتم، برأيى وإلّا انصرفت عنكم.» قالوا: «وما الرأى؟» قال: «إنّ أحدكم يظفر ثمّ يستقتل فيقتل. فأرى أن تنصرف على حاميتك حتّى تنزل [260] الموصل وتخندق.» فقبل منه وارتحل واتّبعه مروان فكان إذا رحل عن منزل نزل موضعه حتّى أتى الموصل فنزل شيبان بشرقىّ دجلة من الموصل وخندق ونزل مروان
__________
[1] . فى الطبري (9: 1943) : بنى سليم. فى مط: بعدن سليم
[2] . العنوان غير موجود فى مط.(3/257)
بإزائه من غربيّها وخندق. فأقام سنة يقاتلهم بكرة وعشية. فبرز يوما ابن أخى سليمان بن هشام، وكان مع عمّه سليمان فى عسكر شيبان، فبارزه رجل من فرسان مروان، فأسره الرجل، وأتى به مروان فقال:
- «أنشدك الله والرحم يا عمّ.» فقال: «ما بيني وبينك اليوم رحم.» فأمر به، وعمّه سليمان وأخوته ينظرون، فقطعت يداه ورجلاه وضربت عنقه.
وكتب مروان إلى يزيد بن عمر بن هبيرة يأمره بالمسير من قرقيسيا بجميع من معه إلى عبيدة بن سوّار خليفة الضحّاك بالعراق فلقى خيوله بعين التمر.
فقاتلهم فهزمهم وعليهم يومئذ المثنى بن عمران. ثمّ تجمّعوا له بالنخيلة من الكوفة فهزمهم، ثمّ تجمّعوا له بالصراة، ومعهم عبيدة فقتل عبيدة، وهزم أصحابه واستباح عسكرهم. فلم تكن لهم بقية بالعراق، واستولى ابن هبيرة عليها.
وكان منصور بن جمهور معهم فمضى حتّى غلب على الماهين والجبل وسار سليمان بن هشام حتّى لحق بابن معاوية الجعفري بفارس. وبقي ابن عمر [261] بواسط حتى سار إليه ابن هبيرة فأخذه وحبسه. فكتب مروان إلى ابن هبيرة لمّا صفت له العراق أن: أمدّنى بعامر بن ضبارة فى أهل الشام. فأمدّه به فسار فى أهل الشام حتّى انتهى إلى السنّ [1] ، فلقيه بها الجون بن كلاب الخارجي، فهزم ابن ضبارة [2] حتّى أدخله السن فتحصّن وجعل مروان يمدّه بالجنود من طريق البرّ حتّى ينتهوا إلى السنّ، ثمّ يقطعوا دجلة إلى ابن ضبارة،
__________
[1] . السّنّ: مدينة على دجلة فوق تكريت عند مصبّ الزاب الأسفل (مراصد الإطلاع) .
[2] . كذا ضبط فى الأصل: ضبارة (بالفتح) فى الطبري (9: 1947) : ضبارة.(3/258)
حتّى كثروا. فنهض إلى الجون فقتله.
وسار ابن ضبارة مصعدا إلى الموصل. فلمّا انتهى خبر الجون وقتله إلى شيبان ومسير عامر انخزل، وكان شيبان لمّا بلغه مسير ابن ضبارة خاف أن يأتيه من ورائه. فأرسل الجون مع عدّة وافرة ليشغله فحصره حتّى كان من أمره ما كان.
ولحق أصحاب الجون بشيبان وابن ضبارة فى آثارهم. فكان شيبان والخوارج يقاتلون من وجهين. نزل ابن ضباره من ورائهم ممّا يلي العراق ومروان أمامهم ممّا يلي الشام فقطع عنهم المادّة والميرة وغلت أسعارهم حتّى بلغ الرغيف درهما. ثمّ ذهب الرغيف فلا شيء يشترى بغال ولا رخيص. فانتقل إلى شهرزور [262] من أرض الموصل فعاب عليه ذلك أصحابه واختلفت كلمتهم وارتحل شيبان ومن معه وأخذوا على حلوان إلى الأهواز وفارس ووجّه مروان إلى ابن ضبارة ثلاثة من قواده فى ثلاثة آلاف من رابطته [1] .
أحدهم مصعب والآخر شقيق وعطيف.
وكتب إليه يأمرهم بأتّباعهم وألّا يقلع عنهم حتّى يبيرهم ويستأصلهم، فلم يزل يتبعهم حتّى وردوا فارس وخرجوا منها وهو فى ذلك يستسقط من لحق من أخرياتهم حتّى تفرّقوا، وأخذ شيبان فى فرقة إلى البحرين فقتل بها.
وأقبل عامر بن ضبارة حتّى نزل بإزاء ابن معاوية، وناهضه القتال، فانهزم ابن معاوية ولحق بهراة. وسار سليمان إلى جيرفت فركب السفن فيمن معه من مواليه وأهل بيته إلى السند، وانصرف مروان إلى منزله من حرّان وأقام بها إلى أن شخص منها إلى الزاب.
__________
[1] . آ: من روابطه.(3/259)
إبراهيم بن محمد يأمر أبا مسلم بإظهار الدعوة والتسويد بخراسان وفى هذه السنة أمر إبراهيم بن محمد أبا مسلم وكان شخص من خراسان يريده حتّى بلغ قومس، بالانصراف إلى شيعته بخراسان وأمره بإظهار الدعوة إليهم والتسويد.
ذكر الخبر عن ذلك وعن مبدأ أمرهم
لم يزل أبو مسلم [1] يختلف إلى خراسان حتّى وقعت العصبيّة بها. فلمّا اضطرب الحبل كتب سليمان بن كثير إلى أبى سلمة الخلّال يسأله أن يكتب إلى الإمام حتّى يوجّه رجلا من أهل بيته فكتب أبو سلمة إلى إبراهيم. فبعث أبا مسلم، وقد كتبنا خبره فيما تقدّم، ثمّ كتب إبراهيم إلى أبى مسلم يأمره بالقدوم عليه، يسأله عن أخبار الناس. فخرج فى النصف من جمادى الآخرة مع سبعين نفرا من النقباء بالدّندانقان [2] من أرض خراسان. فعرض له كامل أو ابن كامل فقال:
- «أين تريدون؟» قالوا:
- «الحجّ.» ثم خلا به أبو مسلم فدعاه فأجابه وكفّ عنه. ومضى أبو مسلم إلى بيرود [3] فأقام بها. ثمّ سار إلى نسا [4] وعليها سليمان بن قيس السلمى عاملا لنصر بن
__________
[1] . انظر الطبري (9: 1949) .
[2] . فى الأصل: بانداندانقان (بالإهمال والتصحيف) . ولعلّ الصواب ما أثبتناه، وهو من الطبري (9: 1950) .
[3] . بيرود: مهملة فى الأصل. وقد تكررّت فى ص [265] فصاعدا. وما فى الطبري (9: 1950) : بيرود.
[4] . فى الأصل: «نسّاء» بكسر الأول وتشديد الثاني والمدّ هنا او فى المواضع الآنية بالقصر. وفى الطبري (9: 1950) والمعجم والمراصد: «نسا» بالفتح والتخفيف والقصر.
فوحّدنا الضبط حسب الطبري والمعجم والمراصد.(3/260)
سيّار، وكان قد تعرّض قبل ورود أبى مسلم لقوم من الشيعة فأخذهم. وبلغ أبا مسلم فتنكّب الطريق وأخذ فى أسفل القرى حتّى أتى قومس وعليها بيهس بن بديل العجلى فأتاهم بيهس فقال:
- «أين تريدون؟» قالوا:
- «نريد الحجّ.» قال:
- «معكم فضل برذون تبيعونه؟» قال أبو مسلم:
- «أمّا بيعا فلا ولكن خذ أىّ دوابّ شئت.» قال:
- «أعرضوها علىّ.» فعرضوها عليه فأعجبه برذون [264] منها سمند. فقال أبو مسلم:
- «هو لك.» قال:
- «لا أقبله إلّا بثمن.» قال:
- «احتكم.» قال:
- «سبعمائة.» قال:
- «هو لك.» فأتاه وهو بقومس كتاب من الإمام وكتاب إلى سليمان بن كثير. فكان فى كتاب أبى مسلم:
- «إنّى قد بعثت إليك براية النصر، فارجع من حيث لقيك كتابي ووجّه قحطبة بما معك يوافنى به بالمواسم.» فانصرف أبو مسلم إلى خراسان، ووجّه قحطبة إلى الإمام فلمّا كانوا بنسإ.
عرض لهم صاحب مسلحة فى قرية من قرى نسا فقال لهم:
- «من أنتم؟» قالوا:
- «أردنا الحجّ. فبلغنا عن الطريق شيء خفناه.»(3/261)
فرفعهم إلى عاصم بن قيس الشامي، فسألهم عن خبرهم فأخبروه فقال:
- «ارتحلوا.» وأمر المفضّل وكان على شرطته أن يزعجهم فخلا أبو مسلم بالمفضّل، فأجابه، وقال:
- «ارتحلوا على مهل ولا تعجلوا.» وأقام عندهم حتّى ارتحلوا. فقدم أبو مسلم مرو فى أوّل يوم من شهر رمضان سنة تسع وعشرين ومائة. فدفع كتاب الإمام إلى سليمان بن كثير. وكان فيه أن:
- «أظهر دعوتك ولا تربّص.» فنصبوا أبا مسلم وقالوا:
- «رجل من أهل البيت.» ودعوا إلى طاعة بنى العبّاس، وأرسلوا إلى من قرب منهم ومن بعد [265] ممّن أجابهم فأمروهم بإظهار أمرهم والدعاء. فنزل أبو مسلم قرية من قرى خزاعة يقال لها سيكيذنج [1] وشيبان وابن الكرماني يقاتلان نصر بن سيّار.
فبثّ أبو مسلم دعاته فى الناس وظهر أمره وقال الناس:
- «قدم رجل من بنى هاشم.» فاتوه من كلّ وجه، وظهر يوم الفطر فى قرية خالد بن إبراهيم. فصلّى بالناس يوم الفطر القاسم بن مجاشع المري ثمّ ارتحل فنزل باللين وهي قرية لخزاعة فوافاه فى يوم واحد أهل ستين قرية.
فأقام إثنين وأربعين يوما. وكان أوّل فتح أتى أبا مسلم من قبل موسى بن
__________
[1] . كذا فى الأصل: سيكيذنج (بالإهمال) . فى الطبري (9: 19529: سفيذنج، وفى حواشيه صور كثيرة من الضّبط والتصحيف ولعلّ الصواب ما فى الطبري حيث تكرّر الاسم فى مواضع آتية فيه وفى هذا النّص أيضا.(3/262)
كعب فى بيرود [1] وتشاغل بقتل عاصم بن قيس ثمّ جاء فتح من قبل مرو الرود.
وكان أبو مسلم وجّه أبا الجهم ابن عطيّة إلى العلاء بن حريث بخوارزم بإظهار الدعوة فى شهر رمضان لخمس تبقى [2] من الشهر، فإن أعجلهم عدوّهم دون الوقت فعرضوا لهم بالأذى والمكروه، فقد حلّ لهم أن يدفعوا عن أنفسهم، وأن يظهروا السيوف ويجرّدوها من أغمادها ويجاهدوا أعداء الله، وإن شغلهم عدوّهم عن الوقت فلا حرج عليهم [266] أن يظهروا بعد الوقت.
الظلّ والسحاب
فلمّا كان ليلة الخميس لخمس تبقى من شهر رمضان سنة تسع وعشرين ومائة اعتقد [3] اللواء الذي بعث به الإمام الذي يدعى: الظلّ، على رمح طوله أربع عشرة ذراعا، وعقد الراية التي بعث بها الإمام التي تدعى: السحاب، على رمح طوله ثلاثة عشر ذراعا وهو يتلو: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ الله عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ.» 22: 39 [4] ولبس السواد هو وسليمان بن كثير وأخوه سليم ومواليه ومن كان أجاب الدعوة من أهل إسفيدنج [5] وأوقد النيران ليلته للشيعة وكانت العلامة، فتجمّعوا له حين أصبحوا معدّين. وتأويل هذين الإسمين: الظلّ والسحاب، أنّ السحاب
__________
[1] . انظر التعليق الذي مرّ.
[2] . فى الطبري (9: 1953) : تبقين.
[3] . فى مط: عقد.
[4] . س 22 الحجّ: 39.
[5] . كذا فى الطبري (9: 1953) بالضبط وما فى الأصل كان مهملا فأعجمناه حسب الطبري. والهمزة تحذف فى المواضع الآتية من النّص. وسقيذنج من قرى مرو (مراصد الإطلاع) .(3/263)
يطبّق الأرض فكذلك دعوة ولد العبّاس تطبّق الأرض، وتأويل الظلّ أنّ الأرض لا تخلو من الظلّ أبدا، فكذلك لا تخلو الأرض من خليفة عبّاسىّ أبد الدهر.
وقدمت على أبى مسلم الدعاة من أهل مرو بمن أجاب الدعوة فكان أوّل من قدم عليه أهل التقاذم مع أبى الوضّاح فى تسع مائة راجل وأربعة فرسان. وقدم أهل السقاذم مع أبى القاسم محرز بن إبراهيم فى ألف وثلاثمائة راجل وستّة عشر فارسا، فجعل أهل التقاذم [1] يكبّرون من ناحيتهم [267] وأهل السقاذم يجيبونهم بالتكبير. فلم يزالوا كذلك حتّى دخلوا عسكر أبى مسلم بسيفيذنج [2] وذلك يوم السبت من بعد ظهور أبى مسلم بيومين.
وأمر أبو مسلم أن يرمّ حصن سيفيذنج وتحصّن وتدرّب سيفيذنج بالدروب. فلمّا حضر العيد من يوم الفطر بسيفيذنج أمر أبو مسلم سليمان بن كثير أن يصلّى به وبالشيعة، ونصب له منبرا فى العسكر، وأمره أن يبدأ بالصلاة قبل الخطبة، بغير أذان ولا إقامة. وكانت يومئذ تبدأ بالخطبة بأذان ثمّ الصلاة بإقامة على رسم صلاة يوم الجمعة، فيخطبون على المنابر جلوسا فى الجمع والأعياد. وأمر أبو مسلم سليمان بن كثير فى الركعة الأولى أن يكبّر ستّ تكبيرات تباعا. ثمّ يقرأ ويركع السادسة [3] ويفتتح الخطبة بالتكبير ثمّ يختمها بالقرآن، وكانت بنو أميّة تكبّر فى الركعة الأولى أربع تكبيرات يوم العيد، وفى الثانية ثلاث تكبيرات. فلمّا قضى سليمان بن كثير الخطبة والصلاة انصرف أبو مسلم والشيعة إلى طعام قد أعدّه لهم أبو مسلم فطعموا مستبشرين.
__________
[1] . فى مط والطبري (9: 1955) : السقادم (فى كلا الموضعين) . وفى حواشي الطبري:
التقادم.
[2] . ضبط الاسم فى الأصل بالذال وبالدال كليهما. فوحّدنا الضبط على الذال المعجمة.
[3] . فى آ: ويركع بالسابعة. ويكبّر فى الركعة الثانية خمس تكبيرات تباعا، ثم يركع بالسادسه.(3/264)
وكان أبو مسلم وهو فى الخندق، إذا كتب إلى نصر بن سيّار، يكتب:
«للأمير نصر» فلمّا قوى بمن اجتمع إليه [268] فى خندقه من الشيعة بدأ بنفسه.
وكتب إلى نصر:
- «أمّا بعد، فإنّ الله، تباركت أسماؤه وتعالى ذكره، عيّر قوما فقال:
«وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى من إِحْدَى الْأُمَمِ، فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً، اسْتِكْباراً في الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ، وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ، فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ، فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَبْدِيلًا، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَحْوِيلًا.» 35: 42- 43 [1] فتعاظم نصر الكتاب، وأنّه بدأ بنفسه وكسر له إحدى عينيه [2] وأطال الفكرة ثمّ قال:
- «هذا كتاب له أخوات.» ولمّا استقرّ بأبى مسلم معسكره بالماخوان [3] أمر محرز بن إبراهيم أن يخندق خندقا بجيرنج، [4] ويجمع إليه أصحابه ومن نزع إليه من الشيعة فيقطع مادّة نصر بن سيّار من مرو الرود ومن بلخ من كور طخارستان. ففعل ذلك محرز واجتمع إليه فى خندقه نحو من ألف رجل. فأمر أبو مسلم كامل بن مظفّر
__________
[1] . س 35 الفاطر: 42- 42.
[2] . لعلّه من قولهم: كسر من طرفه وعلى طرفه: غضّ منه شيئا.
[3] . الماخوان: كذا فى الأصل بفتح الخاء المعجمة. وفى الطبري (9: 1956) بضمها. وفى حواشيه: المارخوان. فى آ: ماجوان.
[4] . كذا فى الطبري أيضا.(3/265)
أن يوجّه رجلا إلى خندق محرز بن إبراهيم لعرض من فيه وإحصاءهم فى دفتر بأسمائهم وأسماء آباءهم وقراهم. فوجّه كامل حميدا الأرزق الكاتب، فأحصى فى خندق محرز ثمانمائة رجل وأربعة رجال [269] وأسماء آباءهم وقراهم، فوجّه من أهل الكفّ، فكان يجلب له الغنم من هراة إلى مرو، ومن ربع خرفان [1] ومن ربع [2] السقاذم. ظم يزل محرز مقيما فى خندقه حتّى دخل أبو مسلم حائط مرو وعطّل الخندق بماخوان وإلى أن عسكر بباب سرخس يريد نيسابور فضمّ إليه محرزا وأصحابه.
نصر يوجّه يزيد لمحاربة أبى مسلم أوّل حرب وقعت بين العباسية وبنى مروان
ثمّ إنّ نصر بن سيّار وجّه مولى له يقال له: يزيد [3] ، فى خيل عظيمة لمحاربة أبى مسلم، وذلك بعد ثمانية عشر شهرا من ظهوره. فوجّه إليه أبو مسلم أبا نصر مالك بن الهيثم الخزاعي ومعه مصعب بن قيس. فالتقوا بقرية تدعى: آلين، فدعاهم مالك إلى الرضا من آل رسول الله صلّى الله عليه، فاستكبروا عن ذلك.
فصافّهم مالك وهو فى نحو من مائتين من أوّل النهار إلى وقت العصر.
وقدم على أبى مسلم، صالح بن سليمان الضبّى، وإبراهيم بن يزيد، وزياد بن عيسى، فوجّههم إلى مالك بن الهيثم، فقدموا عليه مع العصر، فقوى بهم.
فقال يزيد مولى نصر بن سيّار لأصحابه:
- «إن تركنا هولاء الليلة، أتتهم الأمداد، فاحملوا على القوم.» ففعلوا، فترجّل أبو نصر، وحضّ أصحابه، فاجتلدوا جلادا صادقا، وصبر
__________
[1] . فى مط والطبري (9: 1957) 2: طرقان. فى آ: خروان.
[2] . الضبط من الأصل وفى الطبري غير مضبوط.
[3] . انظر الطبري 9: 1957.(3/266)
الفريقان فقتل من شيعة [270] بنى مروان نفر وأسر جماعة. وحمل عبد الله الطائي على يزيد مولى نصر وهو عميد القوم، فأسره، وانهزم أصحابه. فوجّه أبو نصر بالأسير مع عبد الله الطائي وعدّة من أصحابه ومعهم الأسرى والرؤوس. وأقام أبو نصر فى معسكره، فقدم الوفد على أبى مسلم فى معسكره بسيفيذنج. فأمر أبو مسلم بالرؤوس فنصبت على باب الحائط الذي فى معسكره، ودفع يزيد والأسرى إلى أبى إسحاق خالد بن عثمان، وأمره أن يعالج يزيد مولى نصر من جراحات كانت به ويحسن تعهّده.
وكتب إلى أبى نصر مالك بالقدوم عليه. فلمّا اندمل يزيد مولى نصر من جراحاته دعاه أبو مسلم فقال:
- «إن شئت أن تقيم معنا وتدخل فى دعوتنا، فقد أرشدك الله، وإن كرهت فارجع إلى مولاك سالما وأعطنا عهدك بالله ألّا تحاربنا أبدا، ولا تكذب علينا، وأن تقول فينا ما رأيت.» فاختار الرجوع إلى مولاه. فخلّى له الطريق وقال أبو مسلم لأصحابه:
- «إنّ هذا سيردّ عنكم الورع والصلاح فإنّا عندهم على غير الإسلام.» وكذلك كانوا عندهم يرجفون عليهم بعبادة الأوثان واستحلال الدماء والأموال [271] والفروج. فلمّا قدم يزيد على نصر قال له:
- «لا مرحبا بك، والله ما استبقاك القوم إلّا ليتّخذوك حجّة علينا.» قال يزيد:
- «فهو والله ما ظننت. وقد استحلفونى الّا أكذب عليهم. وأشهد: لقد رأيتهم يصلّون الصلاة الخمس لمواقيتها بأذان وإقامة، ويتلون القرآن ويذكرون الله كثيرا ويدعون إلى ولاية آل رسول الله صلّى الله عليه، وما أحسب أمرهم إلّا سيعلوا ويظهر.» فهذه أوّل حرب كانت بين الشيعة العبّاسية وشيعة بنى مروان.(3/267)
وقد روى فى مبدأ خبر أبى مسلم رواية أخرى، وهي أنّ أبا مسلم لمّا قدم خراسان كان حديث السنّ، فلم يقبله سليمان بن كثير وتخوّف ألّا يقوى على أمرهم وخاف على نفسه وأصحابه فردّه.
احتجاج أبى داود
وكان أبو داود خالد بن إبراهيم غائبا وراء نهر بلخ. فلمّا انصرف وقدم مرو أقرأوه [1] كتاب الإمام فسأل عن الرجل الذي وجّهه فأخبروه أنّ سليمان بن كثير ردّه.
فأرسل إلى جميع النقباء فاجتمعوا فى منزل عمران بن إسماعيل. فقال لهم أبو داود:
- «أتاكم كتاب الإمام إبراهيم فيمن وجهّه إليكم فرددتموه، فما حجّتكم فى ردّه؟» فقال سليمان بن كثير:
- «لحداثة سنّه، وتخوّفنا ألّا [272] يقدر على القيام بهذا الأمر وأشفقنا على من دعونا إليه وعلى أنفسنا.» فقال أبو داود:
- «هل فيكم من يشكّ أنّ الله، عزّ وجلّ، اختار محمدا صلّى الله عليه، وانتخبه واجتباه، وبعثه برسالته إلى جميع خلقه؟» قالوا:
- «لا.» قال:
- «أفتشكّون أنّ الله أنزل عليه كتابه فأتاه به الروح الأمين، أحلّ فيه حلاله،
و
__________
[1] . فى الأصل: أقرؤه. طبطناها هكذا مع أن رسم «أقرؤوه» متّبع أيضا.(3/268)
حرّم فيه حرامه وشرع [فيه] [1] شرائعه وسنّ فيه سننه وأنبأه فيه بما كان قبله وما هو كان كائن بعده إلى يوم القيامة؟» قالوا: «لا.» قال:
- «أفتشكّون أنّ الله قبضه إليه بعد ما أدّى ما [2] عليه من رسالة ربّه؟» قالوا: «لا.» قال:
- «أفتظنّون أنّ ذلك العلم الذي أنزله عليه ليقوّمنا به رفع مع أو خلّفه؟» قالوا: «بل خلّفه.» قال:
- «أفتظنّونه خلّفه عند غير عترته وأهل بيته الأقرب فالأقرب؟» قالوا: «لا.» قال:
- «فهل فيكم من إذا رأى من هذا الأمر إقبالا ورأى الناس مجيبين إليه، بدا له أن يصرف ذلك إلى نفسه؟» قالوا: «اللهم لا، وكيف يكون ذلك؟» قال:
- «لست أقول إنّكم فعلتم، ولكن الشيطان ربّما نزغ النزغة فيما يكون وفيما لا يكون.» قال:
- «فهل فيكم أحد بدا له [273] أن يصرف هذا الأمر عن أهل البيت إلى غيرهم من عترة النبىّ صلّى الله عليه؟» قالوا: «لا.» قال:
- «أفتشكون فى أنّهم معدن العلم وأصحاب ميراث رسول الله صلّى الله عليه؟» قالوا:
- «اللهم لا» قال:
__________
[1] . فيه: زيادة من نصّ الطبري (9: 1961) .
[2] . فى مط: عمّا.(3/269)
- «فأراكم قد شككّتم فى أمركم، ورددتم عليهم علمهم، ولو لم يعلموا أنّ هذا الرجل هو الذي ينبغي له أن يقوم بأمرهم لم يبعثوه إليكم وهو لا يتّهم فى موالاتهم ونصرتهم والقيام بحقّهم.»
ردّ أبى مسلم من قومس وتولية الأمر إيّاه
فبعثوا إلى أبى مسلم [1] وردّوه من قومس بقول أبى داود، وولّوه أمرهم وسمعوا له وأطاعوا. فلم تزل تلك فى نفس أبى مسلم على سليمان بن كثير ولم يزل يعرفها لأبى داود.
وأطاعت الشيعة من النقباء وغير هم أمر أبى مسلم. فبثّ الدعاة فى أقطار خراسان ودخل الناس أفواجا. وكتب إليه إبراهيم فى إظهار دعوته وأن يوجّه إليه [2] بقحطبة بن شبيب ويحمل إليه ما اجتمع عنده من الأموال، فكان اجتمع عنده ثلاثمائة ألف وستون ألف درهم، فاشترى بها متاع التجار من القوهىّ والمروىّ والحرير والفرند، وجعلها بعضها سبائك ذهب وفضّة وجعلها فى الأقبية المحشوّة وأشباهها. فبعث [274] جميع ذلك مع قحطبة حين اجتمعت القوافل وأمن على ما أنفذه.
تحالف عامّة قبائل العرب فى خراسان على قتال أبى مسلم
وفى هذه السنة تحالفت عامّة من كان بخراسان من قبائل العرب على قتال أبى مسلم وذلك حين كثر أتباع أبى مسلم وقوى أمره.
__________
[1] . فى الطبري (9: 1962) : فبعثوا آل أبى مسلم.
[2] . فى مط: إليهم.(3/270)
ذكر السبب فى ذلك لمّا ظهر أبو مسلم، سارع إليه الناس، وجعل أهل مرو يأتونه لا يعرض لهم أحد، وكان الكرمانىّ وشيبان لا يكرهان أمر أبى مسلم لأنّه دعا إلى خلع بنى مروان وأبو مسلم فى آلين فى خباء ليس له حرس ولا حجّاب. فعظم أمره عند الناس وقالوا:
- «ظهر رجل من بنى هاشم له حلم ووقار وعليه سكينة.» فانطلق عند ذلك فتية من أهل مرو نسّاك، كانوا يطلبون الفقه، فأتوا أبا مسلم فى عسكره. فسألوه عن نسبه فقال:
- «خبري خير لكم من نسبي.» وسألوه عن أشياء من الفقه فقال:
- «إنّ أمركم بالمعروف ونهيكم عن المنكر خير لكم من هذا ونحن فى شغل [1] فاعفونا لنتوفّر [2] على ما أنتم أحوج ونحن إليه.» قالوا:
- «والله ما نعرف لك نسبا ولا نظنّك تبقى إلّا قليلا حتى تقتل [275] وما بينك وبين ذلك إلّا أن يتفرّغ لك أحد هذين الأميرين.» قال أبو مسلم:
- «بل أنا أقتلهما إن شاء الله.» ورجع الفتية فأتوا نصرا فحدّثوه. فقال:
- «جزاكم الله خيرا مثلكم تفقّد هذا وعرفه.» وأتوا شيبان فأعلموه. فقال:
__________
[1] . ونحن إلى عونكم أحوج منّا إلى مسألتكم فاعفونا. (الطبري 9: 1965) .
[2] . فى مط: ليتوفى.(3/271)
- «نحن قد أشجى بعضنا بعضا.» فأرسل إليه نصر:
- «إن شئت فكفّ عنّى حتّى أقاتله وإن شئت فجامعنى [1] على حربه حتّى أقتله أو أنفيه، ثمّ نعود لأمرنا.» فهمّ شيبان أن يفعل ذلك وظهر فى العسكر، [2] وأتت عيون أبى مسلم أبا مسلم فأخبروه. فقال سليمان لأبى مسلم:
- «ما هذا الأمر الذي بلغهم تكلّمت عند أحد بشيء؟» فأخبره بخبر الفتية فقال:
- «هذا إذا لذاك.» فكتبوا إلى على بن الكرمانىّ: إنّك موتور. قتل أبوك ونحن نعلم أنّك لست على رأى شيبان، وإنّما تقاتل لثأرك، فامنع شيبان من صلح نصر.
فدخل على شيبان فكلّمه وثناه عن رأيه. فأرسل نصر إلى شيبان:
- «إنّك مغرور، وأيم الله إنّى أرى هذا الأمر يتفاقم حتّى تستصغرنى فى جنبه.» فبينا هم فى أمرهم إذ بعث أبو مسلم النضر بن نعيم الضبّى إلى هراة وعليها عيسى بن عقيل بن معقل الليثي، فطرده من هراة. فقدم عيسى بن علىّ على نصر منهزما، [276] وغلب النضر على هراة، وغلب خازم بن خزيمة على مرو الروّد، وقتل عامل نصر بن سيّار، وكتب بالفتح إلى أبى مسلم مع ابنه خزيمة بن خازم.
فقال يحيى بن نعيم بن هبيرة الشيبانى:
__________
[1] . فى مط: فجيء معى، بدل «جامعني» . والطبري (9: 1966) كالأصل.
[2] . والعبارة فى الطبري: فهمّ شيبان أن يفعل، فظهر ذلك فى العسكر (نفس الصحفة) .(3/272)
- «اختاروا إمّا أن تهلكوا أنتم قبل مضر أو تهلك مضر قبلكم.» قالوا:
- «وكيف ذلك؟» قال:
- «إنّ هذا الرجل إنّما ظهر منذ شهر وقد صار فى عسكره مثل عسكركم.» قالوا: «فما الرأى؟» قال:
- «صالحوا نصرا فإنّكم إن صالحتموه قاتلوا نصرا وتركوكم، لأنّ الأمر فى مضر، وإن لم تصالحوا نصرا صالحوه وقاتلوكم ثمّ عادوا عليكم.» قالوا: «فما الرأى؟» قال:
- «قدّموهم قبلكم ولو بساعة. فتقرّ أعينكم بقتلهم.» فأرسل شيبان إلى نصر يدعوه إلى الموادعة فأجابه. وأرسل إليه سلم بن أحوز، فكتب بينهم كتابا وأتى به شيبان وعن يمينه ابن الكرمانىّ وعن يساره يحيى بن نعيم. فقال سلم لابن الكرمانىّ:
- «يا أعور، ما أخلقك أن تكون الأعور الذي بلغنا أن هلاك مضر يكون على يده.» ثمّ توادعوا سنة، وكتبوا بينهم كتابا، فبلغ أبا مسلم، فأرسل إلى شيبان:
- «إنّا نوادعك أشهرا.» فتوادعا ثلاثة أشهر. فقال ابن الكرماني:
- «فانّى والله ما صالحت نصرا وإنّما صالحه [277] شيبان وأنا لذلك كاره وأنا موتور ولا أدع قتاله.» فعاوده القتال وأبى شيبان أن يعينه وقال:
- «لا يحلّ الغدر.» فأرسل ابن الكرماني إلى أبى مسلم يستنصره على نصر بن سيّار، فأقبل أبو(3/273)
مسلم حتّى نزل الماخوان [1] . فأرسل إلى ابن الكرماني شبل بن طهمان يعرّفه أنّى قد أقبلت وأنّى معك على نصر. فقال ابن الكرماني لشبل:
- «إنّى أحبّ أن يلقاني أبو مسلم.» فأبلغه ذلك شبل، فأقام أبو مسلم أربعة عشر يوما، ثمّ سار إلى ابن الكرماني وخلّف عسكره بالماخوان، فتلقّاه عثمان الكرماني فى خيل وسار معه حتّى دخل العسكر وأتى حجرة علىّ، فوقف حتّى أذن له. فدخل وسلّم على علىّ بالإمرة وقد اتّخذ علىّ له منزلا فى قصر لمخلد بن الحسن الأزدى فأقام يومين ثمّ انصرف إلى عسكره بالماخوان وكان احتفر بها خندقا وجعل له بابين ووكلّ بكل باب ثقة واستعمل على الشّرط أبا نصر مالك بن الهيثم، وعلى الحرس أبا إسحاق خالد بن عثمان، وعلى ديوان الجند كامل بن مظفّر ويكنى أبا صالح، وعلى الرسائل أسلم بن صبيح، وعلى القضاء القاسم بن مجاشع النقيب.
فكان القاسم بن مجاشع يصلّى بأبى مسلم فى الخندق [278] الصلوات ويقصّ القصص بعد العصر. فيذكر فضل بنى هاشم ومعايب بنى أميّة. ولم يزل أبو مسلم كرجل من الشيعة فى الهيئة حتّى أتاه عبد الله بن بسّام بالأروقة والفساطيط وبآلة المطابخ [2] والمعالف للدوابّ وحياض الأدم للماء.
فاستعمل أبو مسلم داود بن كرّاز على العبيد وأفردهم عن عسكره واحتفر لهم خندقا ثمّ أمر أبو مسلم كامل بن مظفّر أن يعرض الجند فى الخندق بأسمائهم وأسماء آباءهم وحلاهم وأن ينسبهم إلى القرى ويجعل ذلك فى دفتر. ففعل، وبلغت عدّتهم سبعة آلاف رجل. فأعطى كل رجل ثلاثة دراهم. ثمّ
__________
[1] . الخاء مشكولة بالضمّ فى الطبري (9: 1967) وهي مفتوحة فى الأصل فى أغلب المواضع. فى آ: ماجوان.
[2] . المطابخ: هذه الكلمة تكررت فى الأصل ومط.(3/274)
أعطاهم بعد ذلك أربعة أربعة على يدي أبى صالح كامل [1]
القبائل يضعون الحروب ويتّفقون على محاربة أبى مسلم
ثمّ إنّ القبائل من مضر وربيعة وقحطان تواعدوا على وضع الحروب وعلى أن تجتمع كلمتهم على محاربة أبى مسلم. فإذا نفوه عن مرو نظروا فى أمر أنفسهم وعلى ما يجتمعون عليه وكتبوا على أنفسهم بذلك كتابا وثيقا. وبلغ أبا مسلم الخبر فأفظعه ذلك وأعظمه. فنظر أبو مسلم فى أمره، فإذا ماخوان سافلة الماء. فتخرّف أن يقطع نصر بن سيّار عنه الماء. فتحوّل إلى آلين قرية أبى منصور [279] طلحة بن زريق النقيب، وخندق بآلين خندقا وجعل شربه وشرب أهل آلين من نهر يدعى الخرقان [2] لا يمكن قطعه عنهم.
وخرج [3] نصر بن سيّار إليه فعسكر على نهر عياض وفرّق قوادّه حول أبى مسلم ليواقعه. فكان أحد قوادّه أبو الذيّال فأنزل جنده بطوسان وكان عامّة أهلها مع أبى مسلم فى الخندق فآذوا أهل طوسان وعسفوهم وذبحوا بقرهم ودجاجهم وحمامهم، وكلّفوهم الطعام والعلف. فشكت الشيعة ذلك إلى أبى مسلم، فوجّه معهم خيلا، فلقوا أبا الذيّال فهزموه وأصحابه وأسروا منهم جماعة، فكساهم أبو مسلم وداوى جرحاهم وخلّى سبيلهم.
فى هذه السنة قتل جديع بن علىّ الكرماني وصلب.
ذكر مقتل جديع الكرماني وصلبه
قد ذكرنا مقتل الحارث بن سريج وأنّ الكرماني هو الذي قتله. ولمّا قتله
__________
[1] . فى آ: كامل بن مظفّر.
[2] . فى آ: الخرفان، بدل: الخرقان.
[3] . فى آ: وخرج إليه.(3/275)
خلصت له مرو وتنحّى نصر بن سيّار عنها إلى أبر شهر وقوى أمر الكرماني فوجّه نصر إليه سلم بن أحوز، فسار فى رابطة نصر وفرسانه حتّى لقى الكرماني، فوجد يحيى بن نعيم واقفا [280] فى ألف رجل من ربيعة ومحمّد بين المثنّى فى سبعمائة من فرسان الأزد وجماعة أخرى فى ألف من فتيانهم والصغرى فى ألف من أبناء اليمن. فلمّا تواقفوا قال سلم بن أحوز لمحمّد بن المثنّى:
- «يا محمّد، مر هذا الملّاح بالخروج إلينا.» فقال محمد لسلم:
- «يا بن الفاعلة، لأبى علىّ تقول هذا؟» ودلف القوم بعضهم إلى بعض، فاجتلدوا بالسيوف، وانهزم سلم بن أحوز، وقتل من أصحابه خلق وقدم أصحاب نصر عليه فلولا. فقال له عقيل:
- «يا نصر، شأمت العرب. فأمّا إذ صنعت ما صنعت فشمّر عن ساق وجدّ.» فوجّه عصمة بن عبد الله فوقف سلم بن أحوز فنادى:
- «يا محمّد، لتعلمنّ أنّ السمك لا يغلب اللخم [1] .» فقال محمد:
- «لتعلمن، فقف لنا إذا.» وأمر محمّد الصغرى فخرج إليه فى أهل اليمن. فاقتتلوا قتالا شديدا وانهزم عصمة حتّى أتى نصرا وقد قتل من أصحابه أربعمائة. ثمّ أرسل نصر مالك بن عمرو التميم فأقبل فى أصحابه فنادى:
- «يا ابن المثنّى، ابرز لى إن كنت رجلا.»
__________
[1] . فى الأصل وآ: اللحم (بالحاء المهملة) وما أثبتناه هو من الطبري (9: 1971) . وجاء فى حواشيه: واللخم دابّة من دوابّ الماء تشبه السبع يأكل السمك.(3/276)
فبرز له فضربه التميمي على حبل عاتقه فلم يصنع شيئا وضربه محمّد بن المثنّى بعمود فشدخ رأسه. والتحم القتال فاقتتلوا قتالا شديدا وانهزم أصحاب نصر وقد قتل منهم سبعمائة رجل، وقد قتل [281] من أصحاب الكرمانىّ ثلاثمائة رجل. فلم يزل الشرّ بينهم حتّى خرجوا جميعا إلى الخندقين فاقتتلوا قتالا شديدا.
حيلة لأبى مسلم تمّت له
فلمّا علم أبو مسلم أنّ كلا الفريقين قد أثخن صاحبه وأنّه لا مدد لهم جعل يكتب الكتاب إلى شيبان، ثمّ يقول للرسول:
- «انطلق، فاجعل طريقك على المضريّة، فانّهم سيعرضون لك ويأخذون كتبك.» فكانوا يأخذونها فيجدون فيها: إنّى رأيت أهل اليمن لا وفاء لهم ولا خير فيهم فلا تثقنّ بهم ولا تطمئنّ إليهم فإنّى أرجوا أن يريك الله فى اليمانية ما تحبّ، ولئن بقيت لا أدع لهم شعرا ولا ظفرا.» ويرسل رسولا آخر فى طريق آخر فيه ذكر المضريّة بمثل ذلك حتّى صار هوى الفريقين جميعا معه. وجعل يكتب إلى نصر بن سيّار وإلى الكرماني:
- «إنّ الإمام قد وصّانى بكم، ولست أعدوا رأيه فيكم.» وكتب إلى الكور بإظهار الأمر، فكان أوّل من سوّد أسيد [1] بن عبد الله الخزاعي بنسّا ونادى:
- «يا محمد، يا منصور.» وسوّد معه مقاتل بن الحكم وغيره، وسوّد أهل أبيورد وأهل مرو الرود.
__________
[1] . أسيد: الضبط من الطبري (9: 1972) .(3/277)
وأقبل أبو مسلم حتّى نزل بين خندق نصر بن سيّار وخندق جديع الكرماني وهابه الفريقان وكثر [282] أصحابه. وكتب نصر بن سيّار إلى مروان يعلمه حال أبى مسلم، وكثرة من معه، وإظهاره أمره، وأنّه يدعو إلى إبراهيم بن محمّد.
وكتب بأبيات شعر:
أرى خلل [1] الرماد وميض جمر ... ويوشك أن يكون له ضرام
فإنّ النار بالعودين تذكى ... وإنّ الحرب أوّلها [2] الكلام
فقلت من التعجّب ليت شعري ... أأيقاظ أميّة أم نيام
فإن يك قومنا أمسوا رقودا ... فقل هبّوا، فقد حان القيام
وكتب إليه مروان:
- «الشاهد يرى ما لا يرى الغائب فأحسم الثؤلول قبلك.» فقال نصر:
- «أمّا صاحبكم فقد أعلمكم أن لا نصر عنده.» فكتب إلى يزيد بن عمر بن هبيرة يستمدّه وكتب إليه:
أبلغ يزيد وخير القول أصدقه ... وقد تبيّنت أن لا خير فى الكذب
إنّ خراسان أرض قد أصبت بها ... بيضا لو أفرخ قد حدّثت بالعجب
فراخ عامين إلّا أنّها كثرت ... لمّا يطرن وقد سربلن بالزّغب
__________
[1] . فى الطبري (9: 1973) : بين الرماد: بدل: خلل: بين.
[2] . فى الطبري: مبدأها.(3/278)
وإن [1] يطرن ولم يحتل لهنّ بها ... يلهبن نيران حرب أيّما لهب [283]
فقال يزيد:
- «لا غلبة إلّا بكثرة، [2] فليس عندي رجل.» ولمّا كتب نصر إلى مروان بخبره وخبر أبى مسلم وظهوره وقوّته، وأنّه يدعو إلى إبراهيم بن محمّد، ألقى [3] ورود كتاب نصر على مروان وقدوم رسول لأبى مسلم كان أرسله إلى إبراهيم بن محمّد ومعه جواب إبراهيم عن كتاب لأبى مسلم إليه يلومه ألّا يكون واثب نصرا والكرمانىّ إذ أمكناه، ويأمره ألّا يدع بخراسان متكلّما بالعربية إلّا قتله.
فدفع الرسول الكتاب إلى مروان فكتب مروان إلى الوليد بن معاوية بن عبد الملك، وهو على دمشق، أن يكتب إلى عامل البلقاء، فيسير إلى كراد والحميمة، [4] فليأخذ إبراهيم بن محمّد، فيشدّه وثاقا ويبعث به فى حبل. [5] فوجّه الوليد إلى عامل البلقاء فأتى إبراهيم وهو فى مسجد القرية فأخذه وكتفه وحمله إلى الوليد، محمله الوليد إلى مروان فحبسه فى السجن.
رجع الحديث إلى قصّة نصر والكرمانىّ وما كان من قتل نصر الكرمانىّ وصلبه إيّاه
وأظهر أبو مسلم، لمّا تفاقم الأمر بين الكرماني وبين نصر، أنّه مع الكرمانىّ،
__________
[1] . هذا البيت ليس فى الطبري.
[2] . فى الأصل وآ: لا عليه إلّا يكثر. والظاهر أنّه تصحيف لما فى الطبري (9: 1974) :
لا غلبة إلّا بكثرة.
[3] . فى الطبري (9: 1974) : فألفى الكتاب مروان.
[4] . فى الطبري (9: 1975) . كزر الحميمه. وفى حواشيه: كرار والحميمه. آ، كالأصل.
[5] . كذا فى الأصل: فى حبل. وما فى الطبري (9: 1975) : فى خيل.(3/279)
فقبل ذلك الكرماني، وانضمّ إليه أبو مسلم. فاشتدّ ذلك على نصر وأرسل إلى الكرمانىّ: [284]- «ويلك لا تغترّ، فو الله إنّى لخائف عليك وعلى أصحابك منه، ولكن هلمّ إلى الموادعة فندخل مرو ونكتب بيننا كتابا بالصلح.» وهو يريد أن يفرّق بينه وبين أبى مسلم.
فدخل الكرماني منزله وأقام أبو مسلم فى العسكر وخرج الكرمانىّ حتّى وقف فى الرحبة فى مائة فارس وعليه قرطق [1] خشكشويه [2] ثمّ أرسل إلى نصر:
- «أخرج لنكتب بيننا ذلك الكتاب.» فأبصر نصر منه غرّة، فوجّه إليه ابن الحارث بن سريج فى نحو ثلاثمائة فارس، فالتقوا فى الرحبة فاقتتلوا بها طويلا. ثمّ إنّ الكرمانىّ طعن فى خاصرته فخرّ عن دابّته وحماه أصحابه حتّى جاءهم ما لا قبل لهم به، فقتل نصر الكرمانىّ وصلبه وصلب معه سمكة. [3] فأقبل ابنه علىّ وقد كان صار إلى أبى مسلم، فقاتله حتّى أخرجه من دار الإمارة، فمال إلى بعض دور مرو، فأقبل أبو مسلم حتّى دخل مرو، وأتاه علىّ بن جديع فسلّم عليه بالإمرة وأعلمه أنّه معه على ما يريد من مساعدته وقال:
- «مرني بأمرك.» قال:
__________
[1] . قرطق: كذا فى الأصل وآ والطبري (9: 1975) . القرطق والقرطق: هو تعريب «كرته» : القباء. (لسان العرب)
[2] . خشكشويه: كذا فى الأصل. وما فى آمهمل فى ما قبل الأخير: وفى الطبري (9:
1975) : خشكشونه.
[3] . انظر الطبري (9: 1975) .(3/280)
- «أقم على ما أنت عليه حتّى آمرك بأمرى.»
وفى هذه السنة غلب عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبى طالب على [285] فارس. ذكر السبب فى ذلك.
لمّا هزم عبد الله بن معاوية بالكوفة، شخص إلى المدائن فبايعه أهلها وقصده قوم من الكوفة، فخرج إلى الجبال فغلب عليها وعلى حلوان وقومس والرىّ وإصبهان.
وكان محارب بن موسى مولى يشكر عظيم القدر بفارس قد تمكّنت له منزلة ورئاسة جليلة. فجاء يمشى فى نعلين إلى دار الإمارة بإصطخر، فطرد العامل الذي كان بها من جهة ابن عمر، وقال لبعض الرؤساء يقال له عمارة:
- «بايع الناس.» فقال أهل إصطخر:
- «على ما تبايع؟» قال:
- «على ما أحببتم وكرهتم.» فبايعوه لابن معاوية. وخرج محارب إلى كرمان فأغار عليهم وأصاب فى غارته إبلا لثعلبة بن حسّان المازني فاستاقها ورجع. فخرج ثعلبة فى طلب إبله ومع ثعلبة مولى له. فقال له مولاه:
- «هل لك أن تفتك بمحارب فإن شئت ضربته وكفيتني الناس. وإن شئت ضربته وكفيتك الناس.» قال: «ويحك، أردت أن نقتل وتذهب الإبل؟» ولم يلق الرجل. ثمّ دخل على محارب، فرحّب به وقال:(3/281)
- «حاجك» قال: «أبلى.» قال: «نعم، لقد أخذت وما أعرفها وقد عزلتها [286] فدونك إبلك.» فأخذها وقال لمولاه:
- «هذا خير أم ما أردت؟» قال: «هذا خير، وذاك كان أشقى.» فقال: «بمثل رأيك تزول النعم وتزول النفوس.» ثمّ إنّ عبد الله بن معاوية قوى بفارس وأتاه الناس، بنو هاشم وغيرهم، وجبى المال. وكان معه منصور بن جمهور، وسليمان بن هشام بن عبد الملك، وشيبان بن عبد العزيز الخارجي. وذلك قبل أن يصير إلى خراسان.
ولم يزل عبد الله بن معاوية بإصطخر حتّى أتاه ابن ضبارة وقد حكينا أمره وما كان من هزيمة ابن معاوية وهرب شيبان ومنصور بن جمهور وغيرهما.
موافاة أبى حمزة الخارجي
وفى هذه السنة وافى الموسم أبو حمزة الخارجي من قبل عبد الله بن يحيى طالب الحقّ محكّما مظهرا الخلاف على مروان بن محمّد.
ذكر الخبر عن ذلك لمّا كان تمام سنة تسع وعشرين ومائة لم يكن عند الناس خبر بعرفة [1] حتّى طلعت أعلام وعمائم سود فى رؤوس الرماح وهم سبعمائة ففزع الناس منهم وقالوا لهم:
__________
[1] . انظر الطبري (9: 1981) .(3/282)
- «ما لكم، ما حالكم؟» فأخبروهم بخلافهم مروان وآل مروان والتبرّؤ منهم. فراسلهم عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك، وهو يومئذ على مكّة والمدينة، فى الهدنة. فقالوا:
- «نحن [287] أضنّ بحجّنا.» وصالحهم على أنّهم جميعا آمنون بعضهم من بعض حتّى ينفر الناس النفر الآخر ويصبحوا من الغد.
فوقفوا على حدة بعرفة، ودفع بالناس عبد الواحد. فلمّا كانوا بمنى ندّموا عبد الواحد وقالوا له:
- «أخطأت لو حملت الحاجّ عليهم ما كانوا إلّا أكلة رأس.» ولمّا كان فى النفر الأوّل نفر عبد الواحد وخلّى مكّة لأبى حمزة فدخلها بغير قتال وهجا الشعراء عبد الواحد ومضى إلى المدينة فضرب على الناس البعث وزادهم فى العطاء عشرة عشرة. [1]
ثمّ دخلت سنة ثلاثين ومائة
وفيها دخل أبو مسلم حائط مرو ونزل دار الإمارة ذكر السبب فى ذلك
كان السبب فى ذلك مصير علىّ بن جديع الكرماني إليه وسبب مصير علىّ معه أنّ سليمان بن كثير كان يقول لعلىّ بن الكرماني:
- «يقول لك أبو مسلم، أما تأنف من مصالحة نصر بن سيّار وقد قتل أباك بالأمس وصلبه، وما كانت أحسبك تصلّى مع نصر فى مسجد واحد؟» [288] فأدرك عليّا الحفيظة، فرجع عن رأيه، وانتقض صلح العرب.
__________
[1] . انظر الطبري (9: 1983) .(3/283)
فبعث نصر بن سيّار إلى أبى مسلم يلتمس منه أن يدخل مع مضر، وبعث ربيعة وقحطان إليه بمثل ذلك. فتراسلوا أيامّا. فأمرهم أبو مسلم أن يقدم عليه وفد الفريقين حتّى يختار أحدهما. ففعلوا وأمر أبو مسلم الشيعة أن تختار ربيعة وقحطان، فإنّ السلطان فى مضر وهم عمّال مروان وهم قتلة [1] يحيى بن زيد، فقدم الوفدان.
فكان فى وفد مضر عقيل بن معقل، وعبيد الله بن عبد ربّه، فى رجال منهم.
وكان فى وفد قحطان عثمان بن الكرمانىّ ومحمّد بن المثنّى فى رجال منهم.
فلمّا دخلوا إلى أبى مسلم كان معه فى البيت سبعون رجلا من الشيعة وكان أبو مسلم كتب كتابا يقرأ على الشيعة ليختاروا أحد الفريقين. فلمّا فرغ من قراءة الكتاب، قام سليمان بن كثير فتكلّم وكان خطيبا مفوّها فاختار علىّ بن الكرماني وأصحابه ثمّ قام رجل بعد رجل من وجوه الشيعة فتكلّموا نحو كلام سليمان. ثمّ قام مزيد بن شقيق فقال:
- «مضر قتلة آل النبىّ وأعوان بنى أميّة وشيعة مروان، ودماؤنا فى أعناقهم، وأموالنا فى أيديهم، ونصر بن سيّار عامل مروان على [289] خراسان ينفذ أموره ويدعو له على منبره، ويسمّيه أمير المؤمنين، ونحن من ذلك براء، وقد اخترنا علىّ بن الكرمانىّ وأصحابه من قحطان وربيعة.» فضجّ من كان فى البيت بأنّ:
- «القول ما قال مزيد بن شقيق.» فنهض وفد مضر عليهم الكآبة والذلّة. ووجّه معهم أبو مسلم القاسم بن مجاشع فى خيل حتّى بلغوا مأمنهم، ورجع وفد علىّ بن الكرمانىّ مسرورين منصورين.
__________
[1] . فى مط: قتلة.(3/284)
وقال أبو مسلم للشيعة:
- «استعدّوا للشتاء. فقد أعفاكم الله من اجتماع كلمة العرب وصيّرهم إلى افتراق، وكان ذلك من الله قدرا مقدورا.
ذكر السبب فى دخوله حائط مرو
كان حائط مرو فى يد نصر، لأنّه عامل خراسان. فأرسل علىّ بن الكرمانىّ إلى أبى مسلم أن:
- «ادخل الحائط من قبلك وأنّا أدخل مع عشيرتي من قبلي فتغلب على الحائط.» فأرسل إليه أبو مسلم:
- «إنّى لست آمن أن تجتمع يدك ويد نصر على محاربتى ولكن ادخل أنت فأنشب [1] الحرب بينك وبين أصحاب نصر بن سيّار.» فدخل علىّ بن الكرماني [290] فأنشب الحرب. وبعث أبو مسلم. أبا علىّ شبل بن طهمان النقيب فى خيل، فدخلوا الحائط، وبعثوا إلى أبى مسلم. أن:
ادخل، فدخل أبو مسلم من خندق الماخوان وعلى مقدّمته أسيد بن عبد الله، وعلى ميمنته مالك بن الهيثم، وعلى ميسرته القاسم بن مجاشع. حتّى دخل الحائط والفريقان يقتتلان. فأمرهما بالكفّ وهو يتلو من كتاب الله تعالى: «وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ من أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا من شِيعَتِهِ وَهذا من عَدُوِّهِ» 28: 15 [2] ومضى أبو مسلم حتّى نزل قصر الإمارة الذي ينزله عمّال خراسان، وهرب نصر بن سيّار وصفت مرو لأبى مسلم. فأمر أبا منصور
__________
[1] . آ: وأشب الحرب.
[2] . س 28 القصص: 15(3/285)
طلحة بن زريق أن يأخذ البيعة على الناس من الهاشميّه خاصّة. وأبو منصور هذا أحد النقباء الاثني عشر الذين اختارهم محمّد بن علىّ من السبعين الذين استجابوا له سنة ثلاث ومائة.
وكان مفوّها، نبيلا، فصيحا، عالما بحجج الهاشميّة وكان أبوه حيّا، يكنّى أبا زينب، وكان شهد حرب عبد الرحمن بن الأشعث وصحب المهلّب بن أبى صفرة، فكان أبو مسلم يشاوره فى الأمور، ويدعوه بالكنية:
- «يا با طلحة ما تقول، وما رأيك؟» وكانت بيعته [291] :
- «أبايعكم على كتاب الله وسنّة نبيّه صلّى الله عليه، والطاعة للرضا من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه، عليكم بذلك عهد الله وميثاقه والطلاق والعتاق والمشي إلى بيت الله عزّ وجلّ وعلى ألّا تسألوا رزقا ولا طعما [1] حتّى يبدأكم به ولاتكم وإن كان عدوّ أحدكم تحت قدمه ألّا يهيّجوه إلّا بأمر ولاتكم.» ولمّا حبس أبو مسلم سلم بن أحوز، ويونس بن عبد ربّه، وعقيل بن معقل، وأصحابهم، وشاور أبا طلحة فيهم، فقال له:
- «اجعل سوطك السيف وسجنك القبور.» فأقدم عليهم أبو مسلم فقتلهم. وكانت عدّتهم أربعة وعشرين رجلا صناديد.
ويقال: إنّ أبا مسلم لمّا دخل دار الإمارة بمرو، أرسل إلى نصر مع لاهز بن
__________
[1] . طعما: فى الأصل وآ ومط والطبري (9: 1989) : «طمعا» . ولعلّ الصواب ما فى حواشي الطبري: «طعما» كما أثبتناه.(3/286)
قريظ، وقريش بن شقيق، وعبد الله بن البختري [1] ، يدعوه إلى كتاب الله والطاعة للرضا من آل محمّد. فلمّا رأى نصر ما جاءه من اليمانية والربعيّة والعجم، وأنّه لا طاقة له بهم، أظهر قبول ما بعث به إليه على أن يأتيه فيبايعه.
فجعل يريّثهم لما همّ به من الغدر والهرب، إلى أن أمسى، فأمر أصحابه أن يخرجوا من ليلتهم فلم يتيسّر لهم الخروج فى تلك الليلة. [292] وقال له سلم بن أحوز- «إنّه لا يتيسّر لنا الخروج الليلة ولكن [نخرج] [2] القابلة.» فلمّا كان صبح تلك الليلة، عبّأ أبو مسلم كتائبه، فلم يزل فى تعبئتها إلى بعد الظهر. وأرسل إلى نصر لاهز بن قريظ، وقريش بن شقيق، وعبد الله بن البختري، وعدّة من أعاجم الشيعة فدخلوا على نصر فقال لهم:
- «ما أسرع ما عدتم؟» فقال له لاهز بن قريظ: «لا بدّ من ذلك.» فقال نصر: «أمّا إذا كان لا بدّ منه، فإنى أتوضّأ وأخرج إليه، وأرسل إلى أبى مسلم، فإن كان هذا رأيه أتيته ونعمى عين [3] وكرامة وأنا أتهيّأ إلى أن يجيء رسولي.» فقام نصر كأنّه يتوضّأ. فلمّا قام، قرأ لاهز هذه الآية: «يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ من النَّاصِحِينَ.» 28: 20 [4] فدخل نصر حجرته ومعه تميم ابنه والحكم بن نميلة وحاجبه فخرج من
__________
[1] . البختري: فى الأصل وآ ومط فى هذا الموضع: البختري (بالحاء المهملة) وفى موضع آت: البختري (بالخاء المعجمة) فرجّحنا الإعجام وفقأ للطبري (9: 1993) .
[2] . نخرج: تكملة زدناها عن الطبري (9: 1993) .
[3] . فى الطبري (9: 1994) : لعينه.
[4] . س 28 القصص: 20.(3/287)
خلف حجرته عند دخول وقت الصلاة حين أظلم الوقت وانطلقوا هرّابا. فلمّا استبطأه لاهز وأصحابه دخلوا منزله، فوجدوه قد هرب. فلمّا بلغ ذلك أبا مسلم سار إلى معسكر نصر فأخذ ثقات أصحابه وصنادير مضر الذين كانوا فى عسكر نصر فكتفهم، وكان فيمن أخذ سلم بن أحوز [293] وغيره، واستوثق منهم بالحديد ووكّل بهم حتّى قتلهم كما حكينا قبيل.
ومضى نصر حتّى نزل سرخس فيمن اتّبعه، وكانوا ثلاثة آلاف. ومضى أبو مسلم وعلىّ بن جديع فى طلبه. فركضا ليلتهما حتّى أصبحا فى قرية تدعى:
نصرانيّة، فوجدا نصرا قد خلّف امرأته المرزبانة فيها ونجا بنفسه. فرجع أبو مسلم وعلىّ بن جديع إلى مرو، فقال أبو مسلم للقوم الذين كان وجّههم إلى نصر:
- «ما الذي ارتاب به منكم؟» قالوا: «لا ندري.» قال: «فهل تكلّم أحد منكم؟» قالوا: «لا ندري.» قال بعضهم:
- «تلا لاهز: إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج. [1] » قال: «هذا الذي [2] دعاه إلى الهرب.» ثمّ قال:
- «يا لاهز، أتدغل فى الدين؟» ثمّ قدّمه فضرب عنقه.
__________
[1] . س 28 القصص: 20
[2] . الذي: كذا فى آومط والطبري. ما فى الأصل يشبه أن يكون: الذائى، الزاني؟(3/288)
وفى هذه السنة قتل شيبان الحرورىّ ذكر الخبر عن مقتله وسببه
كان علىّ بن جديع وشيبان مجتمعين على قتال نصر بن سيّار، لمخالفة شيبان نصرا. لأنّ شيبان خارجى وعلىّ بن جديع يخالف نصرا، لأنّه يمان ونصر مضرىّ، ولأنّ نصرا قتل أباه وصلبه. فلمّا صالح علىّ بن الكرماني أبا مسلم وفارق شيبان تنّحى شيبان [294] عن مرو لأنّه علم أن لا طاقة له بأبى مسلم وعلىّ بن جديع مع تآلفهما واجتماعهما على خلافه، وقد هرب نصر من مرو. فأرسل إليه أبو مسلم يدعوه إلى بيعته، فأرسل إليه شيبان:
- «بل أنا أدعوك إلى بيعتي.» فأرسل إليه أبو مسلم:
- «إن لم تدخل فى أمرنا، فارتحل عن منزلك.» فأرسل شيبان إلى ابن الكرماني يستنصره فأبى. فسار شيبان إلى سرخس، واجتمع إليه جمع من بكر بن وائل. فبعث إليه أبو مسلم تسعة من الأزد فيهم المنتجع بن الزبير، يدعوه إلى المسالمة. فأرسل شيبان إلى رسل أبى مسلم فحبسهم. فكتب أبو مسلم إلى بسّام بن إبراهيم مولى بنى ليث ببيورد يأمره أن يسير إلى شيبان فيقاتله، ففعل، فهزمه بسّام واتّبعه حتّى دخل المدينة، فقتل شيبان وعدّة من بكر بن وائل. فقيل لأبى مسلم:
- «إنّ بسّام ثائر بأبيه وهو يقتل البريء والسقيم.» فكتب إليه أبو مسلم، فقدم واستخلف على عسكره.
ولمّا قتل شيبان مرّ رجل من بكر بن وائل يقال له: خفاف، [1] برسل أبى مسلم الذين كان حبسهم شيبان، فأخرجهم وقتلهم.
__________
[1] . الضبط فى الطبري: خفاف (بفتح الخاء) .(3/289)
أبو مسلم يقتل ابني جديع الكرماني وفى هذه السنة قتل أبو مسلم عليّا وعثمان ابني جديع الكرماني. [295] ذكر السبب فى قتله إيّاهما
كان السبب فى ذلك أنّ أبا مسلم وجّه أبا داود إلى بلخ وبها زياد بن عبد الرحمن القشيري فلمّا بلغه قصد أبى داود بلخ، خرج فى أهل بلخ وغيرها من كور طخارستان إلى الجوزجان، فلمّا دنا أبو داود منهم انصرفوا منهزمين إلى التّرمذ.
ودخل أبو داود مدينة بلخ بمن معه، فكتب إليه أبو مسلم يأمره بالقدوم عليه، ووجّه مكانه يحيى بن نعيم. فخرج أبو داود وكاتب زياد بن عبد الرحمن يحيى بن نعيم بما دهم العرب من أبى مسلم وسأله أن تصير أيديهم واحدة فأجابه.
فرجع زياد بن عبد الرحمن القشيري، ومسلم بن عبد الرحمن بن مسلم الباهلي، وأهل بلخ والتّرمذ، وملوك طخارستان وما خلف النهر ودونه. فنزل زياد وأصحابه على فرسخ من مدينة بلخ، وخرج إليه يحيى بن نعيم ومن معه حتّى اجتمعوا، فصارت كلمتهم واحدة مضريّهم يمانيّهم وربعيّهم ومن معهم من العجم على قتال المسوّدة، وجعلوا الولاية عليهم لمقاتل بن حيّان النبطي كراهة أن تكون لواحد من الفرق الثلاث.
وكتب أبو مسلم إلى أبى داود [296] يأمره بالانصراف. فانصرف أبو داود بمن كان معه حتّى اجتمعوا على نهر السّرخيان [1] .
__________
[1] . هنا فى الأصل: الشرخيان وفى الموضع الآتي: السرخيان. مط: السرجان. فى الطبري (9: 1998) : السرجنان وفى حواشيه عن بعض الأصول: السرخان فرجّعنا السين على الشين.(3/290)
وكان زياد بن عبد الرحمن وأصحابه قد وجّهوا أبا سعيد القرشىّ مسلحة فيما بين الفود [1] وبين قرية يقال لها: بامديان، [2] لئلا يأتيهم أصحاب أبى داود من خلفهم.
ذكر اتفاق عجيب وقع على أصحاب زياد حتّى انهزموا وقتلهم أبو داود
لمّا اجتمع أبو داود وزياد وأصحابهما واصطفّوا للقتال أمن أبو سعيد القرشي أن يؤتى زياد وأصحابه من خلفهم، فرجع وكانت أعلام أبى سعيد وراياته سودا. فلمّا خرج عليهم من سك الفود من وراءهم نظروا إلى الرايات السود، فظنّوها كمينا لأبى داود، وكان القتال قد نشب بين الفريقين، فانهزم زياد وأصحابه واتبعهم أبو داود، فوقع عامّه أصحاب زياد فى نهر السّرخيان، وقتل عامّة رجالهم المتخلّفين، ونزل أبو داود عسكرهم، [3] وحوى ما فيه ولم يتبعهم.
وأقام أبو داود يومه ذلك ومن الغد، ولم يدخل بلخ واستصفى أموال من قتل بالسّرختان ومن هرب من العرب وغيرهم واستقامت بلخ لأبى داود.
ثمّ كتب إليه أبو مسلم [297] يأمره بالقدوم عليه، ووجّه النضر بن صبيح المرّىّ على بلخ، وقدم أبو داود، فاجتمع رأى أبى داود ورأى أبى مسلم على أن يفرّق بين علىّ وعثمان ابني الكرماني. فبعث أبو مسلم عثمان عاملا على بلخ فلمّا توجّه إليها استخلف الفرافصة [4] بن ظهير على مدينة بلخ. وأقبلت
__________
[1] . فى الطبري (9: 1998) : العود
[2] . فى الطبري (9: 1998) : امديان.
[3] . فى الأصل: وعسكرهم. (بزياد الواو) وما فى آ، والطبري من دون واو.
[4] . الفرافصة: كذا فى الأصل وآ والطبري (9: 1999) . فى مط: الفراقصة.(3/291)
المضريّة من الترمذ عليهم مسلم بن عبد الرحمن الباهلي. فالتقوا مع أصحاب عثمان بن جديع، فهزموا أصحاب عثمان وغلب على بلخ المضريّة، وأخرجوا الفرافصة، وبلغ الخبر عثمان بن جديع والنضر بن صبيح وهما بمرو الرود فأقبلا نحوهم. وبلغ أصحاب زياد بن عبد الرحمن فهربوا من تحت ليلتهم، فقصّر النضر فى طلبهم رجاء أن يفوتوا، وجدّ أصحاب عثمان حتّى لقوهم.
فاقتتلوا قتالا شديدا، وانهزم أصحاب عثمان وأكثر فيهم القتل ومضت المضريّة إلى أصحابهم، ورجع أبو داود من مرو إلى بلخ، وسار أبو مسلم ومعه علىّ بن جديع إلى نيسابور، واتّفق رأى أبى مسلم ورأى أبى داود على أن يقتل أبو مسلم عليّا ويقتل أبو داود عثمان فى يوم واحد. فلمّا قدم أبو داود بلخ، بعث عثمان إلى الختّل فيمن معه [298] من أهل مرو ويمانية أهل بلخ وربعيّهم. فلمّا خرج من بلخ خرج أبو داود فاتبع الأثر فلحقه على شاطئ نهر بوخش [1] من أرض الختّل فوثب أبو داود على عثمان وأصحابه، فحبسهم، ثمّ ضرب أعناقهم جميعا.
وقتل أبو مسلم فى ذلك اليوم علىّ بن جديع، وقد كان أبو مسلم أمره أن يسمّى له خاصّته ليولّيهم ويأمر لهم بجوائز، فسمّاهم له فقتلهم جميعا.
قدوم قحطبة بن شبيب على أبى مسلم
وفى هذه السنة قدم قحطبة بن شبيب على أبى مسلم خراسان منصرفا من عند إبراهيم بن محمّد، ومعه لواء عقده له إبراهيم. فوجّهه أبو مسلم على مقدّمته، وضمّ إليه الجيوش، وجعل إليه العزل والولاية، وكتب إلى الجنود بالسمع له والطاعة.
__________
[1] . فى مط: بوخس. ومكان العبارة فى الطبري (9: 2000) بياض.(3/292)
فتوجّه قحطبة إلى نيسابور للقاء نصر. وكان أصحاب شيبان الحرورىّ بعد قتله لحقوا بنصر وهو بنيسابور، وتوجّه قحطبة فى قوّاده، فأخذ جهور بن مرّار وهو أحد القوّاد على ناحية بيورد، وأخذ القاسم بن مجاشع وهو أحد القوّاد على ناحية سرخس، وتوجّه قحطبة نحو طوس ومعه وجوه القوّاد كأبي عون وخالد بن برمك وخازم بن خزيمة [299] وعثمان بن نهيك وأمثالهم. فلقى من بطوس، فانهزموا، ودفعوا إلى مضيق، فكان من مات منهم فى الزحام أكثر ممّن قتل وبلغ عدّة القتلى يومئذ بضعة عشر ألفا.
وتوجّه قحطبة إلى السودقان وهو معسكر تميم بن نصر والنابى. وكان قحطبة قد وجّه على مقدّمته أسيد بن عبد الله الخزاعي فى ثلاثة آلاف رجل فسار إليه وتعبّأ تميم والنابى لقتاله. وكتب أسيد إلى قحطبة يعلمه ما أجمعوا عليه من قتاله وأنّه إن لم يعجل القدوم عليه حاكمهم إلى الله، وأعلمه أنّهما فى ثلاثين ألفا من صناديد أهل خراسان وفرسانهم. فوجّه قحطبة مقاتل بن حكيم العكىّ فى ألف وخالد بن برمك فى ألف. فقدما عليه وقوى أسيد بهما، وبلغ ذلك تميما النابى فكسرهما.
ثمّ قدم عليهم قحطبة بمن معه وعبّأ ميمنته وميسرته ثمّ زحف إليهم ودعاهم إلى كتاب الله تعالى وسنّة نبيّه وإلى الرضا من آل محمّد صلّى الله عليه، فلم يجيبوه. فأمر الميمنة والميسرة أن يحملوا. فاقتتلوا قتالا شديدا، وقتل تميم بن نصر فى المعركة، وقتل منهم مقتلة عظيمة، واستبيح عسكرهم [300] وانهزم النابى فتحصّن فى المدينة وأحاطت به الجنود، فنقبوا المدينة ودخلوها، فقتلوا النابى ومن كان معه، وهرب عاصم بن عمير وسالم بن راوية إلى نصر بن سيّار بنيسابور، فأخبراه بقتل تميم والنابى ومن كان معهما.
فصيّر قحطبة قبض ما فى العسكر المهزوم إلى خالد بن برمك. وارتحل نصر هاربا فى أهل أبرشهر حتّى نزل قومس وتفرّق عنه أصحابه فسار إلى جرجان،(3/293)
وبها نباتة بن حنظلة من قبل يزيد بن عمر بن هبيرة.
ذكر مقتل نباتة بن حنظلة
كان يزيد بن عمر بن هبيرة بعث نباتة بن حنظلة الكلابي إلى نصر مددا له فى خيل وعدّة وعتاد. فسار إلى إصبهان، ثمّ سار إلى الرىّ، ومضى إلى جرجان، ولم ينضمّ إلى نصر. وخندق نباتة، وكان إذا وقع الخندق فى دار قوم رشوه فأخّره [1] حتّى صار خندقه نحوا من فرسخ.
وأقبل [2] قحطبة إلى جرجان فى سنة ثلاثين ومائة وذلك فى ذى القعدة منها. وقد تعبّأ وجعل على مقدّمته الحسن بن قحطبة. [301] وقال قحطبة:
- «يا أهل خراسان، استبصروا فإنّكم تسيرون إلى بقية قوم حرّقوا بيت الله.» وأقبل الحسن بن قحطبة حتّى نزل على تخوم خراسان، وأنفذ قوما إلى مسلحة نباتة وعليها رجل يقال له: ذويب، فبيّتوهم وقتلوا ذويبا وسبعين من أصحابه. ثمّ رجعوا إلى عسكر الحسن. وقدم قحطبة فنزل بإزاء نباتة، وكان أهل الشام فى عدّة لم ير الناس مثلها. فلمّا رآهم أهل خراسان هابوهم حتّى تكلّموا بذلك، وبلغ ذلك قحطبة فقام خطيبا.
خطبة لقحطبة قوّت قلوب أصحابه
قام فقال:
- «يا أهل خراسان، إنّ هذه البلاد كانت لآباءكم الأوّلين، وكانوا
__________
[1] . انظر الطبري (9: 2004) فهو كالأصل.
[2] . فى الأصل ومط: أرسل. وتحتها بخطّ ناعم: أقبل. فى آوالطبري (9: 2004) :
أقبل.(3/294)
ينصرون على أعداءهم، لعدلهم وحسن سيرتهم. فلمّا بدّلوا وظلموا سخط الله عليهم، فانتزع سلطانهم وسلّط عليهم أذلّ أمّة كانت فى الأرض عندهم، فغلبوهم على بلادهم واستنكحوا نساءهم، واسترقّوا أولادهم، وقتلوا آباءهم. فكانوا على ذلك يحكمون بالعدل ويوفون بالعهد وينصرون المظلوم. ثمّ بدّلوا وغيّروا وجاروا فى الحكم وأخافوا أهل البرّ والدين من عترة رسول الله صلّى الله عليه. فسلّطكم الله عليهم لينتقم منهم بكم ليكونوا أشدّ عقوبة لأنّكم طلبتموهم بالثأر. وقد عهد إلىّ الإمام عليه السلام أنّكم تلقونهم فى مثل هذه العدّة فينصركم الله عليهم فتهزمونهم وتقتلونهم.» وكان قرئ على قحطبة كتاب من أبى مسلم:
- «أمّا بعد فناهض عدوّك بجدّ، فإنّ الله ناصرك. فإذا ظهرت عليهم فأثخن فى القتل.» فالتقوا فى متسهل ذى الحجّة واقتتلوا وصبر بعضهم لبعض. فقتل نباتة وانهزم أهل الشام فقتل منهم أكثر من عشرة آلاف وبعث إلى ابى مسلم برأس نباتة وابنه حيّة [1] .
وكان من عجيب [2] ما شوهد فى تلك الحرب أمر سالم بن راوية التميمي، وكان ممّن هرب من أبى مسلم وخرج مع نصر، ثمّ صار مع نباتة فقاتل قحطبة بجرجان فى هذه الوقعة، فلمّا انهزم الناس بقي فثبت وقاتل وحده، فحمل عليه
__________
[1] . كذا فى الطبري (9: 2006) : حيّة. وفى مط: حبة.
[2] . فى مط: عظيم.(3/295)
عبد الله الطائىّ وهو من الفرسان، فضربه سالم بن راوية على وجهه فأندر [303] عينه. ثمّ قاتلهم حتّى اضطرّ إلى مسجد، فدخله ودخلوا عليه، فكان لا يشدّ فى ناحية إلّا كشفهم. فعطش فجعل ينادى- «شربة، فو الله لأنقعنّ لهم شرا يومى هذا.» فلم يقدر عليه أحد، حتّى حرقوا عليه سقف المسجد، ورموه بالحجارة، حتّى قتلوه، وجاءوا برأسه إلى قحطبة، وليس فى وجهه ولا رأسه مصحّ.
فقال قحطبة والناس:
- «ما رأينا مثل هذا قطّ.»
وقعة قديد
وفى هذه السنة كانت الوقعة بقديد بين أبى حمزة الخارجي وأهل المدينة.
ذكر الخبر عن ذلك كنّا حكينا أنّ عبد الواحد بن سليمان رجع إلى المدينة، وضرب على البعوث، واستعمل عبد العزيز بن عمرو بن عثمان على الناس، فخرجوا حتّى نزلوا قديد وكانت الحياض هناك وهم قوم مغترّون ليسوا بأصحاب حرب فلم يرعهم إلّا القوم قد خرجوا عليهم فقتلوهم، وكانت المقتلة على قريش، كانوا أكثر الناس، وبهم كانت الشوكة.
ودخل أبو حمزة مدينة رسول الله صلّى الله عليه، وهرب عبد الواحد [304] إلى الشام، فأحسن السيرة وخطب فذكر جور بنى مروان وآل أميّة، واستمال الناس حتّى سمعوه يقول فى خطبته:
- «يا أهل المدينة، من زنا فهو كافر ومن سرق فهو كافر.» ثمّ إنّ مروان انتخب من عسكره أربعة آلاف واستعمل عليهم ابن عطيّة و(3/296)
أمره بالجدّ فى المسير وأعطى كلّ رجل منهم مائة دينار، وفرسا عربيّا وبغلا لثقله، وأمرهم أن يقاتلهم فإذا ظفر مضى حتّى يبلغ اليمن، ويقاتل عبد الله بن يحيى، ومن تبعه. فخرج حتّى نزل بالمعلّى. [1] ثمّ سار إلى وادي القرى فلقيهم حمزة فقال حمزة:
- «لا تقاتلوهم حتّى تختبروهم.» قال: فصاحوا بهم:
- «ما تقولون فى القرآن والعمل به؟» فصاح ابن عطيّة:
- «وما عليك يا فاجر؟» قالوا [2] : «نحن مسلمون ولا نقاتلكم إلّا ببيان، فأخبرونا عن القرآن وفرائضه.» فصاحوا: «نضعه فى بيوتنا ثمّ نقاتلكم.» ثمّ سألوهم عن أشياء أجابوهم عنها بقبائح، إلى أن قالوا:
- «فما تقولون فى مال اليتيم؟» فصاح صائح:
- «نأكل ماله ونفجر بأمّه.» فحينئذ قاتلوهم حتّى أمسوا. ثمّ صاحوا:
- «ويحك يا ابن عطيّة، إنّ الله جعل [305] الليل سكنا فاسكن نسكن.» فأبى. وقال لأصحابه:
- «هذا وهن منهم فجدّوا.»
__________
[1] . المعلّى: كذا فى الأصل ومط وآ. ما فى الطبري (9: 2013) بالعلا، وفى حواشيه:
العلاء، العراء.
[2] . فى الأصل ومط: قال.(3/297)
ففعلوا حتّى قتلهم، وانهزم من انهزم منهم. فلمّا رجعوا إلى المدينة منهزمين تلقّاهم أهلها فقتلوهم.
مضىّ ابن عطيّة إلى مكّة واليمن
ومضى ابن عطيّة إلى مكّة واستخلف على المدينة عروة بن الوليد [1] بن محمّد بن عطيّة، ثمّ مضى من مكّة إلى اليمن واستخلف على مكّة ابن ماعز- رجل من أهل الشام- وبلغ عبد الله بن يحيى وهو بصنعاء مسيره فأقبل إليه بمن معه وقاتله فقتل عبد الله بن معاوية، وتفرّق أصحابه. ودخل ابن عطية صنعاء وبعث برأس عبد الله بن يحيى بن معاوية إلى مروان.
قتل قحطبة أهل جرجان
وفى هذه السنة قتل قحطبة من أهل جرجان زهاء ثلاثين ألف رجل وذلك أنّ أهل جرجان كان أجمع رأيهم بعد مقتل نباتة بن حنظلة على الخروج على قحطبة فبلغه ذلك. فدخل فاستعرضهم [2] فقتل منهم من ذكرت.
رجع الحديث إلى قصّة نصر مع أبى مسلم وقحطبة
ولمّا بلغ نصر بن سيّار، قتل نباتة ومن قتل من أهل جرجان وهو بقومس.
ارتحل [3] [306] حتّى نزل خوار الرىّ [4] . وكتب أبو مسلم إلى زياد بن زرارة
__________
[1] . فى الطبري (9: 2014) : الوليد بن عروة.
[2] . كذا فى الأصل وآ والطبري (9: 2016) . فى مط: فاستصغرهم.
[3] . تكرّرت «ارتحل» فى الأصل.
[4] . خوار: مدينة كبيرة من أعمال الرىّ، بينها وبين سمنان، تجوز القوافل فى وسطها،(3/298)
القشيري بعهده على نيسابور، وكتب إلى قحطبة يأمره أن يتبع نصرا فوجّه قحطبة العكّى على مقدّمته وسار حتّى نزل نيسابور فأقام قحطبة بها شهر رمضان وشوّالا، ونصر نازل بقرية من قومس. فكتب نصر إلى ابن هبيرة يستمدّه ويعظّم الأمر عليه، فحبس ابن هبيرة رسله.
فكتب نصر إلى مروان:
- «إنّى وجّهت إلى ابن هبيرة بوجوه أهل خراسان ليعلموه شدّة الأمر عندنا وسألته المدد فاحتبس رسلي ولم يمدّنى بأحد، وإنّما أنا بمنزلة من أخرج من حجرته إلى داره، ثمّ أخرج من داره إلى فناء داره، فإن أدركه من يعينه فعسى أن يعود إلى داره، وإن أخرج إلى الطريق فلا بقيّة له.» فكتب مروان إلى ابن هبيرة يأمره أن يمدّ نصرا، وأجاب نصرا يعلمه ذلك.
فكتب نصر إلى ابن هبيرة يسأله أن يعجّل إليه الجند، فإنّى قد كذبت أهل خراسان حتّى ما يصدّق أحد منهم لى قولا فأمدّنى بعشرة آلاف [1] قبل أن تمدّنى بمائة ألف ثمّ لا تغنى شيئا. [307]
ثمّ دخلت سنة إحدى وثلاثين ومائة
وارتحل نصر من قومس حتّى نزل الخوار وأميرها أبو بكر العقيلي وكان قحطبة وجّه ابنه الحسن إلى قومس ثمّ وجّه قحطبة أبا كامل وأبا القاسم بن محرز بن إبراهيم وأبا العبّاس المروزي إلى الحسن فى سبعمائة، فلمّا كانوا قريبا منه انحاز أبو كامل وترك عسكره وأتى نصرا فصار معه، وأعلمه مكان الجند الذين خلفهم، فوجّه نصر إليهم جندا، فأتوهم وهم فى حائط، فحصروهم
__________
[ () ] بينها وبين الرىّ نحو عشرين فرسخا وقد خرب أكثرها (مراصد الإطلاع) .
[1] . فى الأصل: بعشر ألف.(3/299)
فنقّب عليهم فهرب القوم وخلّفوا متاعهم، فأخذه أصحاب نصر، فبعث به نصر إلى ابن هبيرة.
وكان ابن هبيرة قد أمدّ بغطيف فى ثلاثة آلاف وقد بلغ الرىّ فعرض غطيف لمّا أنفذه نصر وأخذ الكتاب من رسول نصر والمتاع وبعث به مع صاحبه إلى ابن هبيرة، فغضب نصر وقال:
- «أبى يتلعّب ابن هبيرة؟ أيشغب علىّ بضغابيس [1] قيس؟ أما والله لأدعنّه، فليعرفنّ أنّه ليس بشيء ولا ابنه الذي تربّض [2] له الأشياء.» وسار نصر نحو الرىّ وعلى الرىّ حبيب بن بديل النهشلي، فلمّا بلغ غطيفا قرب نصر من الرىّ خرج متوجّها إلى همذان، وفيها مالك بن أدهم بن محرز الباهلي، فلمّا رأى غطيف مالكا فى همذان عدل منها إلى إصبهان، إلى عامر بن ضبارة. [308] ولم يلتق نصر مع غطيف، ثمّ مرض نصر، وكان يحمل حملا وتوجّه إلى همذان فمات فى الطريق.
وبلغ الحسن موت نصر، فبعث خزيمة بن خازم إلى سمنان، وأقبل قحطبة من جرجان، وقدّم أمامه زياد بن زرارة القشيري وكان زياد ندم على اتباع أبى مسلم، فانخزل عن قحطبة وأخذ طريق إصبهان يريد عامر بن ضبارة.
فوجّه قحطبة خلفه المسيّب بن زهير، فلحقه من غد العصر، فقاتله وانهزم زياد، وقتل عامّة من صحبه، ورجع المسيّب إلى قحطبة. ثمّ سار قحطبة إلى قومس، وبها ابنه الحسن، وقدم خزيمة بن خازم من الوجه الذي كان وجّهه فيه الحسن، وقدّم قحطبة ابنه الحسن إلى الرىّ، وبلغ حبيب بن بديل النهشلي
و
__________
[1] . الضّغبوس: ولد الثعلب. الرجل الضعيف.
[2] . فى الأصل وآ: تربّض. فى مط والطبري (10: 2) تربّص. تربّض: تربّص.(3/300)
من معه من أهل الشام مسير الحسن فخرجوا عن الرىّ، فقدمها الحسن وأقام حتّى قدم أبوه، وكتب قحطبة إلى أبى مسلم بنزوله الرىّ.
تحوّل أبى مسلم من مرو إلى نيسابور
وفى هذه السنة تحوّل أبو مسلم من مرو إلى نيسابور، وذلك لما ورد عليه كتاب قحطبة بنزوله الرىّ، ووجّه قحطبة ابنه الحسن بعد نزوله [309] الرىّ بثلاث إلى همدان، فلمّا توجّه إليها خرج منها مالك بن أدهم فترك قوم من أصحاب مالك دواوينهم بعد أن بذلها لهم.
وسار مالك إلى نهاوند فيمن تبعه، وسار الحسن فنزل على أربعة فراسخ من المدينة، فأمدّه أبوه قحطبة بأبى الجهم بن عطية مولى باهلة فى سبعمائة ووصّاه أن يحاصر المدينة. فذهب حتّى حاصرها.
وفى هذه السنة قتل عامر بن ضبارة واستبيح عسكره. ذكر الخبر عن ذلك وسببه
كان سبب ذلك أنّ ضبارة لمّا هزم عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر، تبعه إلى كرمان ليلحقه، وورد على يزيد بن عمر بن هبيرة مقتل نباتة بن حنظلة بجرجان فكتب إلى عامر بن ضبارة وإلى ابنه داود بن يزيد بن عمر أن يسيرا إلى قحطبة وكان بكرمان، فسار فى خمسين ألفا حتّى نزلوا إصبهان بمدينة جىّ، فكان يقال لعسكر ابن ضبارة: عسكر العساكر.
فبعث قحطبة مقاتلا وأبا حفص المهلّبى وموسى بن عقيل ومالك بن طريف فى جماعة أمثالهم وعليهم [310] جميعا العكّىّ، فسار حتّى نزل قم.
وبلغ ابن ضبارة نزول الحسن على أهل نهاوند فأراد أن يأتيهم مغيثا لهم، وبلغ الخبر العكّى فبعث إلى قحطبة يعلمه ووجّه زهير بن محمّد إلى قاسان. و(3/301)
خرج العكّى من قم وخلّف بها طريف بن عجلان فكتب إليه يأمره أن يلبث بقم متلوّما حتّى يقدم عليه. وأقبل قحطبة من الرّى وبلغه تلاقى طلائع العسكرين، فلمّا لحق قحطبة بمقاتل بن حكيم العكّى، ضمّه مع عسكره إلى عسكره وسار عامر بن ضبارة إليهم و [بينه وبين] [1] وعسكر قحطبة فرسخ. ثمّ نهد إليه فالتقوا وكان قحطبة فى عشرين ألفا وابن ضبارة [2] فى مائة وخمسين ألفا، فأمر قحطبة بمصحف، فنصب على رمح ثمّ نادى:
- «يا أهل الشام، ندعوكم إلى ما فى هذا المصحف.» فشتموه وأفحشوا له فى القول.
فقال قحطبة:
- «احملوا على اسم الله.» فحمل عليهم العكي، فلم يكن بينهم كثير قتال حتّى انهزم أهل الشام وقتلوا قتلا ذريعا، وحووا عسكرهم فأصابوا شيئا لا يدرى ما عدده من السلاح والمتاع والرقيق، وبعث بالفتح إلى ابنه الحسن. [311]
ذكر السبب فى ذلك
وكان السبب فى هزيمة ابن ضبارة أنّه كان فى خيل لا رجّالة، معه، وكان قحطبة معه خيل ورجّالة فلمّا رمى الرجّالة الخيل بالنّشاب، انهزم أصحاب ابن ضبارة، فنزل ابن ضبارة [3] فى العسكر ونادى:
- «إلىّ، إلىّ.» فمضى أصحابه وطووه وقحطبة فى أثرهم حتّى انتهوا إلى ابن ضبارة فقتله.
__________
[1] . تكملة من الطبري (10: 5) لا يستقيم المعنى بدونها.
[2] . زاد فى آ: على ما حكى.
[3] . ضباره: الضبط فى الطبري بضمّ الضاد وفى الأصل بفتحها فى كلّ المواضع.(3/302)
وكان داود بن يزيد بن عمر بن هبيرة فيمن انهزم. فسأل عامر عنه، فقيل:
انهزم. فقال:
- «لعن الله شرّنا منقلبا.» فقاتل حتّى قتل.
وقعة قحطبة بنهاوند
وفى هذه السنة كانت وقعة قحطبة بنهاوند بمن كان لجأ إليها من جنود مروان بن محمّد.
ذكر الخبر عن هذه الوقعة لمّا قتل ابن ضبارة، وورد خبره على الحسن بن قحطبة، كبّر وكبّر جنده.
فقال عاصم بن عمير:
- «ما صاح هولاء إلّا بقتل ابن ضبارة، فافرجوا [1] عن الحسن بن قحطبة قبل أن يأتيه أبوه أو مدد من قبله.» فلا تقومون [2] له.
فقال الرّجالة:
- «تخرجون وأنتم فرسان على خيول فتذهبون وتخلّوننا.» فقال لهم مالك بن أدهم الباهلي [312] :
- «كتب إلىّ ابن هبيرة ولا أبرح حتّى يقدم علىّ.» فأقاموا وأقام قحطبة بإصبهان عشرين يوما، ثمّ سار حتّى قدم على الحسن بنهاوند، فحصرهم ودعاهم إلى الأمان فأبوا، فوضع عليهم المجانيق. فلمّا اشتدّ
__________
[1] . فى الأصل وآ: فافرحوا (بالحاء المهملة) . فى مط: فافرجوا. وما فى الطبري (10:
6) : فاخرجوا.
[2] . فى الأصل: يقومون. ما فى آمهمل فى الأول. فى مط والطبري (10: 6) : تقومون.(3/303)
عليهم الأمر، طلب مالك الأمان لنفسه ولأهل الشام، وأهل خراسان لا يعلمون.
فأعطاه الأمان فوفى لهم قحطبة ولم يقتل منهم أحدا وقتل من كان بنهاوند من أهل خراسان إلّا الحكم بن ثابت بن أبى مسعر. وقتل من أهل خراسان أبا كامل، وحاتم بن الحارث بن سريج، وابن نصر بن سيّار، وعاصم بن عمير، وعلىّ بن عقيل، وبيهس بن بديل، ورجلا من ولد عمر بن الخطّاب يقال له:
البخترىّ. ويقال إنّ قحطبة كان أرسل إلى أهل خراسان بنهاوند يدعوهم إلى الخروج إليه وأعطاهم الأمان. فأبوا ذلك. ثمّ أرسل إلى أهل الشام بمثل ذلك، فقبلوا الأمان وبعثوا إلى قحطبة أن:
- «اشغل أهل المدينة حتّى نفتح الباب وهم لا يشعرون.» ففعلوا ذلك.» وشغل قحطبة أهل المدينة بالقتال ففتح أهل الشام الباب الذي كانوا عليه، فلمّا رأى أهل خراسان الذين فى المدينة خروج أهل الشام [313] سألوهم عن سبب خروجهم فقالوا:
- «أخذنا الأمان لنا ولكم.» فخرج رؤساء أهل خراسان، فدفع قحطبة كل رجل منهم إلى رجل من قوّاد أهل خراسان، ثمّ أمر مناديه أن ينادى:
- «من كان فى يده أسير ممّن خرج إلينا من المدينة فليضرب عنقه وليأتنا برأسه.» ففعلوا فلم يبق أحد من الذين كانوا هربوا من أبى مسلم وصاروا فى ذلك الحصن إلّا قتل ما خلا أهل الشام، فإنّه خلّى سبيلهم وحلّفهم ألّا يمالئوا عليه عدوّا.
ووجّه قحطبة الحسن ابنه إلى مرج القلعة فقدّم الحسن خازم بن خزيمة إلى حلوان وعليها عبيد الله بن العلاء الكندي، فهرب من حلوان وخلّاها. ووجّه(3/304)
قحطبة أبا عون عبد الملك بن يزيد الخراساني، ومالك بن طواف [1] الخراساني فى أربعة آلاف إلى شهرزور وبها عثمان بن سفيان على مقدّمته عبد الله بن مروان، فقدم ابن عون وقاتل عثمان قتالا شديدا ثمّ هرب عثمان واستباح ابن عون عسكره.
ولمّا بلغ مروان خبر ابن عون وهو بحرّان ارتحل ومعه جنود الشام والجزيرة والموصل وحشرت معه بنو أميّة أبناءهم، وسار مقبلا حتّى انتهى إلى الموصل. [314] ثمّ أخذ فى حفر الخنادق من خندق إلى خندق حتى نزل الزاب الأكبر. وأقام ابن عون بشهرزور وفرض بها لخمسة آلاف رجل.
مسير قحطبة نحو ابن هبيرة
وفى هذه السنة سار قحطبة نحو ابن هبيرة. ولمّا قدم على ابن هبيرة ابنه منهزما من حلوان، خرج يزيد بن عمر بن هبيرة إلى قتال قحطبة فى عدد كثير لا يحصى وكان مروان أمدّ ابن هبيرة بحوثرة بن سهيل الباهلي، فسار ابن هبيرة حتّى نزل جلولا [2] الوقيعة وخندق، فيقال: إنّه احتفر [الخندق] [3] الذي كانت العجم الحتفرته أيام وقعة جلولا فأقام وأقبل قحطبة فارتفع إلى عكبرا [4] ، وأجاز قحطبة دجلة ومضى حتّى نزل دمّما دون الأنبار وارتحل ابن هبيرة بمن معه منصرفا يبادر قحطبة إلى الكوفة حتّى نزل فم الفرات فى شرقيّة وقدّم حوثرة فى خمسة عشر ألفا إلى الكوفة وقطع قحطبة الفرات من دممّا حتّى
__________
[1] . طواف: كذا فى الأصل ومط. فى آ: طران. فى الطبري (10: 9) : طريف. فى حواشيه: طراف، طرافة.
[2] . فى الطبري (10: 10) : بالمدّ: جلولاء.
[3] . زيادة فى آوالطبري (10: 10) .
[4] . فى الطبري: بالمدّ: عكبراء.(3/305)
صار فى غربيّه، ثمّ سار يريد الكوفة حتّى انتهى إلى الموضع الذي فيه ابن هبيرة. فيقال: إنّ حوثرة بن سهيل أشار على ابن هبيرة وقال له:
- «إنّ قحطبة قد مضى إلى الكوفة، فاقصد أنت لخراسان ودعه ومروان، فإنّك [315] تكسره وبالحرىّ أن يتبعك.» فأبى وقال:
- «ما كنت لأدعه والكوفة بل أبادره إليها.» وقال قحطبة لأصحابه:
- «هل تعلمون طريقا يخرجنا إلى الكوفة لا يمرّ بابن هبيرة؟» فقال بعضهم:
- «نعم، تعبر تامرّا من روستقباد وتلزم الجادّة إلى برزج سابور وعكبرا ثمّ تعبر دجلة إلى أوانا.» ويقال: إنّه لمّا بلغ الفرات سأل:
- «هل هناك مخاضة؟» فدّلوه عليها. فنزل قحطبة الجازية [1] وقال:
- «صدقنى الإمام، أخبرنى أنّ النصر بهذا المكان.» وأعطى الجند أرزاقهم، فردّ عليه كاتبه ستّة عشر ألف درهم من فضل الدرهم والدرهمين وأقل وأكثر فقال:
- «لا تزالون بخير ما كنتم على هذا.» ووافته [2] مقدّمة خيول ابن هبيرة فلمّا انتهى ابن هبيرة إلى المخاضمة اقتحم فى عدّة، فحملوا على أصحاب ابن هبيرة حتّى انهزموا ومضى حوثرة حتّى
__________
[1] . فى مط: الحازنة.
[2] . فى آ: ووافقه.(3/306)
نزل قصر ابن هبيرة، وأصبح أهل خراسان وقد فقدوا أميرهم فألقوا بأيديهم، وعلى الناس الحسن بن قحطبة.
واختلف الناس فى هلاك قحطبة، فزعم بعضهم أنّه غرق، وادّعى قتله غير واحد ممّن كان وتره، زعم [1] كلّ واحد أنّه أصاب [316] فرصته منه فى الماء فقتله.
فقال الناس:
- «أيّها الناس، من كان عنده عهد من قحطبة فليخبرنا به.» فقال مقاتل بن مالك العكّىّ:
- «سمعت قحطبة يقول: إن حدث بى حدث فالحسن أمير الناس.» فبايع الناس حميد بن قحطبة للحسن أخيه، وأرسلوا إلى الحسن، فلحقه الرسول دون قرية شاها [2] فرجع الحسن فأعطاه أبو الجهم خاتم أبيه، وبايعه الناس. فقال الحسن:
- «إن كان قحطبة قد مات فأنا ابن قحطبة.» وكان أحد من ادّعى قتل قحطبة معن بن زائدة ويحيى بن حصين. وقال قوم: وجد قحطبة قتيلا فى جدول، وحرب بن سلم بن أحوز قتيل إلى جنبه.
فظنّوا أنّ كلّ واحد منها قتل صاحبه.
وحكى عن قحطبة أنّه قال:
- «إذا قدمتم الكوفة فوزير الإمام أبو سلمة، فسلّموا الأمر إليه.» ورجع ابن هبيرة إلى واسط بعد أن انهزم حوثرة. وأمر الحسن بن قحطبة بإحصاء ما وجد فى عسكر ابن هبيرة، وأمر بحمل الغنائم فى السفن إلى الكوفة.
__________
[1] . فى آ: وزعم. (بزيادة الواو) .
[2] . كذا فى الأصل ومط وآ: شاها. وما فى الطبري (10: 15) شاهي.(3/307)
وخرج محمّد بن خالد بن يزيد السرى بالكوفة وسوّد قبل أن يدخلها الحسن بن قحطبة وضبطها. [317]
ذكر الخبر عمّا كان من أمره وضبطه الكوفة إلى أن وصل الحسن
ظهر محمّد بن خالد بالكوفة وسوّد وسار إلى القصر وعلى الكوفة يومئذ زياد بن صالح الحارثي. فارتحل زياد ومن معه من أهل الشام وخلّوا القصر، فدخله محمّد بن خالد فلمّا أصبح يوم الجمعة من غد يوم دخوله- وهو اليوم الثاني من مهلك قحطبة- بلغه نزول حوثرة ومن معه مدينة ابن هبيرة، وأنّه تهيّأ للمسير إليه. فتفّرق عن محمّد عامّة من معه حيث بلغهم ذلك، إلّا فرسانا من أهل الشام من اليمن كانوا هربوا من مروان ومواليه.
وراسله [1] أبو سلمة الخلّال من غير أن يظهر له يأمره بالخروج من القصر واللحاق بأسفل الفرات وأنّه يخاف عليه لقلّة من معه وكثرة من مع حوثرة ولم يبلغ واحدا منهما هلاك قحطبة، فأبى محمّد بن خالد أن يفعل وتعالى النهار فتهيّأ حوثرة للمسير إلى محمّد بن خالد حيث بلغه قلّة من معه وخذلان العامّة إيّاه. فبينا محمّد فى القصر إذ أتاه بعض طلائعه وقال:
- «خيل قد جاءت من أهل الشام.» فوجّه إليهم عدّة من مواليه، فأقاموا بباب دار عمر بن سعد [318] إذ طلعت رايات أهل الشام فتهيّأوا لقتالهم فنادى أهل الشام:
- «نحن بجيلة وفينا مليح بن خلف البجلي جئنا لندخل فى طاعة الأمير محمّد.»
__________
[1] . فى آ. وأرسله. والعبارة فى الطبري (10: 19) : وأرسل إليه أبو سلمة الخلّال.(3/308)
فتركوهم ودخلوا ثمّ جاءت خيل أعظم من تلك فيها جهم بن الأصفح الكلبي. ثمّ جاءت خيل أعظم منها مع رجل من آل بحدل [1] فلمّا رأى ذلك حوثرة من صنيع أصحابه ارتحل نحو واسط بمن معه.
وكتب محمّد بن خالد من ليلته إلى قحطبة وهو لا يعلم بهلاكه يعلمه أن قد ظفر بالكوفة، وعجّل به مع فارس، فقدم على الحسن بن قحطبة فقرأه على الناس. ثمّ ارتحل إلى الكوفة، وأقام محمّد بالكوفة الجمعه والسبت والأحد، وصبّحه الحسن يوم الإثنين، فأتوا أبا سلمة وهو فى بنى مسلمة [2] فاستخرجوه، فعسكر بالنخيلة يومين، ثمّ ارتحل إلى حمّام أعين.
ووجه الحسن بن قحطبة إلى واسط لقتال ابن هبيرة. وكان أبو سلمة يعرف بوزير آل محمّد حتّى اتّهم.
حسن بن قحطبة يوجّه إلى قتال ابن هبيرة
ولمّا وجّه الحسن بن قحطبة إلى قتال ابن هبيرة ضمّ إليه ستّة عشر قائدا منهم خازم بن خزيمة ومقاتل العكّى، وخفاف بن منصور، وأشباههم من الوجوه ووجّه حميد بن قحطبة إلى المدائن فى قوّاد، وبعث خالد بن برمك [319] إلى دير قنّى، [3] وبعث شراجيل إلى عين التمر، ووجّه بسّام بن إبراهيم بن بسّام إلى الأهواز- وبها عبد الواحد بن عمر بن هبيرة- وبعث مع حفص بن سبيع إلى سفيان بن معاوية بعهده على البصرة وتقدّم إليهم بإظهار دعوة بنى العبّاس ويدعو إلى الإمام القائم منهم.
__________
[1] . فى مط: مجدل. فى آ: محدل (بالإهمال) . فى الأصل والطبري (19: 10) : بحدل.
[2] . فى الطبري: سلمة. وفى حواشيه: مسلمة.
[3] . قنّى: الضبط من الطبري (10: 21) .(3/309)
فأمّا بسّام فإنّه لمّا أتى الأهواز خرج منها عبد الواحد إلى البصرة. وأمّا سفيان فإنّه لمّا قدم عليه الكتاب والعهد قاتله سلم بن قتيبة ولم يسلّم له، وكان مبدأ قتاله إيّاه أنّ سفيان كتب إليه يأمره بالتحوّل عن دار الإمارة ويخبره بما أتاه من رأى أبى سلمة، فامتنع سلم وحشد إليه سفيان [1] اليمانيّة وحلفاءهم من ربيعة وغيرها، وجنح إليه قائد من قوّاد ابن هبيرة كان بعثه مددا لسلم فى ألفى رجل فأجمع السير إلى سلم بن قتيبة فاستعدّ سلم له وحشد من قدر عليه من قيس ومضر وموالي بنى أميّة وأشياعهم.
وسارت بنو أميّة الذين بالبصرة إلى نصره فقدم- سفيان فى صفر، فأتى المربد سلم، فوقف منه فى سوق الإبل، ووجّه الخيول فى سكك البصرة للقاء [320] من وجّه إليه سفيان. ونادى:
- «من جاء برأس فله خمسمائة، ومن جاء بأسير فله ألف درهم.» ومضى ابن سفيان واسمه معاوية فى ربيعة خاصّة، فلقيه خيل [2] من تميم فى سكّة فطعن رجل [منهم] فرس معاوية، فشبّ به وصرعه. ونزل إليه آخر فقتله وحمل رأسه إلى سلم بن قتيبة فأعطاه عشرة آلاف درهم فانكسر سفيان لقتل ابنه، فانهزم ومن معه وخرج من فوره هو وأهل بيته حتّى أتوا القصر الأبيض فنزلوه، ثمّ ارتحلوا منه إلى كسكر. وتغلّب على البصرة سلم، ثمّ أتاه كتاب ابن هبيرة أن يصير إلى الأهواز، وتغلّب بالبصرة جماعة بقوا فيها أيّاما يسيرة. وقام أبو العبّاس السفّاح فولّاها سفيان بن معاوية.
__________
[1] . فى مط: ابنه سفيان اليمانية.
[2] . خيل: كذا فى الأصل. فى مط: فى خيل. فى الطبري (10: 22) : رجل.(3/310)
تجارب العصر العبّاسىّ(3/311)
خلافة أبى العباس السفّاح
وفى هذه السنة [1] بويع لأبى العبّاس عبد الله بن محمّد بن علىّ بن عبد الله بن العبّاس بن عبد المطلب، ليلة الجمعة لثلاث عشرة مضت من شهر ربيع الآخر. وقيل كان ذلك سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
ذكر الخبر عن خلافة أبى العباس وسببها
كان بدء ذلك- فيما ذكر- أنّ [2] رسول الله صلّى الله عليه أعلم العبّاس عمّه أنّ الخلافة [321] تؤول إلى ولده. فلم يزل ولده يتوقّعون ذلك ويتداولون أخبارا بينهم ويسمون محمّد بن على: أبا الأملاك. ولمّا خالف ابن الأشعث وكتب الحجّاج إلى عبد الملك أرسل عبد الملك إلى خالد بن يزيد فأخبره فقال:
أمّا إذا كان الفتق من سجستان فليس عليك بأس. إنّما كنّا نتخوّف لو كان من خراسان.
وكان محمّد بن علىّ بن عبد الله بن العبّاس ينتظر أوقاتا معلومة عنده وينتظر الأمر لولده ولا يسمّى أحدا وكنّا أخبرنا خبر محمّد بن علىّ وخبر
__________
[1] . سنة 132.
[2] . فى الطبري (10: 23) : عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(3/313)
الدعاة الذين وجّههم إلى خراسان. ثمّ مات محمّد بن علىّ وجعل وصيّه من بعده إبراهيم بن محمّد [1] ابنه، فبعث إبراهيم أبا سلمة حفص بن سليمان مولى السّبيع وكتب معه إلى النقباء بخراسان، فقبلوا كتبه إلى أن قام بأمرهم أبو مسلم.
ثمّ كان من وقوع كتاب إبراهيم إلى أبى مسلم فى يد مروان ما كان، وقد ذكرناه. فوجّه إليه مروان وهو بالحميمة، فأخذه وحبسه.
فحكى أنّ عبد الحميد بن يحيى كاتب مروان قال لمروان بن محمّد:
- «هل تتّهمنى؟» قال: «لا.» قال: «أيحطّك مصاهرة إبراهيم بن محمّد بن علىّ؟» قال: «لا.» قال: «فإنّى أرى أمره تبيّغ [2] فأنكحه وأنكح إليه، فإن ظهر [322] كنت أعلقت بينك وبينه سببا لا يريبك [3] معه وإن كفيته لم يشنك صهره.» فقال: «ويحك لو علمته صاحب ذاك سبقت إليه ولكن ليس بصاحبه.» فذكر أنّ إبراهيم حين أخذ ليمضى به إلى مروان نعى نفسه إلى أهل بيته حين شيّعوه، وأمرهم بالمسير إلى الكوفة مع أخيه أبى العبّاس عبد الله بن محمّد بن علىّ وأوصى إلى أبى العبّاس أخيه، وجعله الخليفة من بعده، وتقدّم إلى الباقين بالسمع له والطاعة.
فشخص أبو العبّاس عند ذلك ومن معه من أهل بيته حتّى قدموا الكوفة فى صفر. فأنزلهم أبو سلمة دار الوليد بن سعد مولى بنى هاشم فى بنى أود. وكتم أمرهم من جميع القوّاد والشيعة نحوا من أربعين ليلة.
__________
[1] . سقط من آ: بن محمد.
[2] . آ: قد نبغ. مط: ينبع. فى الطبري (10: 26) : تبيّغ. تبّغ: هاج.
[3] . فى الأصل ومط: لا يريبك. آ: مهملة لا تقرأ. فى الطبري (10: 26) : لا ترتبك.(3/314)
وأراد أبو سلمة فيما ذكر تحويل الأمر إلى آل أبى طالب لمّا بلغه موت إبراهيم بن محمّد. فأتى أبا سلمة أبو الجهم وقال له:
- «ما فعل الإمام؟» قال: «لم يقدم بعد.» ثمّ عاوده أبو الجهم وألحّ عليه فى السؤال. قال:
- «قد أكثرت وليس هذا زمان خروجه.» فلقى أبو حميد خادما لأبى العبّاس يقال له: سابق الخوارزمي. فسأله عن أصحابه [323] فأخبره أنّهم بالكوفة. وإنّ أبا سلمة أمرهم أن يختفوا. فجاء به إلى أبى الجهم فأخبروه خبرهم فسّرح أبو الجهم أبا حميد مع سابق، حتّى عرف منزلهم بالكوفة ثمّ رجع ومعه إبراهيم بن سلمة فأخبر أبا الجهم عن منزلهم ونزول الإمام فى بنى أود، وشكا أنّه أرسل الإمام حين قدموا إلى أبى سلمة يسأله مائة دينار لأجرة الحمّالين، فلم يفعل. فحمل أبو الجهم وأبو حميد على يد إبراهيم مائتي دينار إلى الإمام، ثمّ مضوا إلى أبى سلمة وسألوه عن الإمام فقال:
- «ليس هذا وقت خروجه، واسط بعد ما فتحت.» فاجتمع الشيعة على أن يلقوا الإمام وائتمروا بينهم وقالوا:
- «قد شاع فى العسكر أنّ مروان قد قتل إبراهيم وأنّ أخاه أبا العبّاس هو الخليفة من بعده.» ومشى القوّاد والشيعة تلك الليلة ثمّ تسلّلوا من الغد، فمضى جماعة منهم إلى الإمام وبلغ أبا سلمة وأتى القوم أبا العبّاس فقالوا:
- «أيّكم عبد الله بن محمّد بن الحارثيّة؟
قالوا: «هذا.» فسلّموا عليه بالخلافة، ورجع أبو الجهم وموسى بن كعب وأقام الباقون(3/315)
عند الإمام. فأرسل أبو سلمة [324] إلى أبى الجهم:
- «أين كنت ركبت؟» قال: «ركبت إلى إمامى.» فحينئذ ركب أبو سلمة إليهم. فأرسل أبو الجهم إلى أبى حميد: أنّ أبا سلمة قد أتاكم فلا يدخلنّ على الإمام إلّا وحده.
فلمّا انتهى إليهم أبو سلمة منعوه أن يدخل معه أحد. فدخل وحده وسلّم بالخلافة على أبى العبّاس.
وخرج أبو العبّاس على برذون أبلق يوم الجمعة، فصلّى بالناس.
فيقال: إنّ أبا سلمة لمّا سلّم على أبى العبّاس بالخلافة قال له أبو حميد:
- «على رغم أنفك، يا ماصّ بظر أمّه [1] .» فقال أبو العبّاس:
- «مه.»
أبو العباس يريد أن يجعلها شورى بين ولد علىّ والعباس
وروى من عدّة وجوه أنّ أبا العبّاس السفّاح قدم هو وأهله سرّا على أبى سلمة الخلّال بالكوفة فستر أمرهم وعزم على أن يجعلها شورى بين ولد علىّ والعبّاس حتّى يختاروا منهم من أرادوا. ثمّ قال:
- «أخاف ألّا يتفقوا.» فعزم أن يعدل بالأمر إلى ولد الحسين أو الحسن عليهم السلام. فكتب إلى ثلاثة نفر [2] منهم جعفر بن محمّد بن علىّ بن الحسين وعمر بن علىّ بن
__________
[1] . انظر الطبري (10: 28) .
[2] . كذا فى الأصل. فى آ: مائة نفر.(3/316)
الحسين بن علىّ وعبد الله بن الحسن بن الحسن بن علىّ عليهم السلام. ووجّه بكتبهم مع رجل من مواليهم من ساكني الكوفة.
فبدأ بجعفر بن محمّد فلقيه ليلا فأعلمه أنّه رسول [325] أبى سلمة وأنّ معه كتابا إليه.
فقال:
- «وما أنا وأبو سلمة؟ هو شيعة لغيري.» فقال الرسول: «تقرأ الكتاب وتجيب بما رأيت.» فقال جعفر لخادمه: «قرّب السراج منّى.» فقرّبه فوضع عليه كتاب أبى سلمة فأحرقه.
قال: «ألا تجيبه؟» قال «قد رأيت الجواب.» ثمّ أتى عبد الله بن الحسن، فقرأ كتابه وركب إلى جعفر بن محمّد. فقال له جعفر:
- «أمر جاء بك يا با محمّد؟ لو أعلمتنى لجئتك.» قال: «وأىّ أمر؟ هو ممّا يجلّ عن الوصف.» قال: «وما هو؟» قال: «هذا كتاب أبى سلمة يدعوني إلى الخلافة ويراني أحقّ الناس به. وقد جاء به شيعتنا من خراسان.» فقال له جعفر عليه السلام:
- «ومتى صاروا شيعتك؟ أنت وجّهت أبا مسلم إلى خراسان وأمرته بلبس السواد. هل تعرف أحدا منهم باسمه ونسبه؟ كيف يكونون شيعتك وأنت لا تعرف أحدا منهم ولا يعرفونك؟» فقال عبد الله:(3/317)
- «ما هذا الكلام منك إلّا لشيء.» فقال له جعفر:
- «قد علم الله أنّى أوجب النصح على نفسي لكلّ مسلم وكيف أدّخره عنك فلا تمنّينّ نفسك إلّا الأباطيل فإنّ هذه الدولة تتمّ لهم وما هي لأحد من ولد أبى طالب. وقد جاءني ما جاءك، فلم أجبّ إلّا [326] بما ستعرف خبره.» فانصرف غير راض بما قاله.
وأمّا عمر بن علىّ بن الحسين فإنّه ردّ الكتاب وقال:
- «ما أعرف كاتبه. [1] » وأبطأ أمر أبى سلمة على أبى العبّاس ومن معه. فخرج أصحاب له يطوفون بالكوفة فلقى حميد بن قحطبة ومحمد بن صول رجلا من مواليهم فعرفاه. إنّه كان يحمل كتب محمّد بن علىّ وإبراهيم بن محمّد إليهما. فسألاه عن الخبر وأعلمهما أنّ القوم قد قدموا منذ أيّام وأنّهم فى سرداب يعرف ببني أود، فصار إلى الموضع وسلّما عليهم وقالا:
- «أيّكما عبد الله؟» فقال أبو العبّاس وأبو جعفر:
- «كلانا عبد الله.» فقالا:
- «أيّكما ابن الحارثية؟» فقال أبو العبّاس: «أنا.» فقالا: «السلام عليك يا أمير المؤمنين.» ودنوا منه فبايعاه، وأخرجاهم إلى المسجد الجامع فصعد أبو العبّاس المنبر،
__________
[1] . زاد فى آ: فأجيبه.(3/318)
فحصر، فصعد عمّه داود بن علىّ، وقام دونه بمرقاة، وخطب [1] خطبته المشهورة.
أوّل خطبة خطبها أبو العبّاس السفّاح
ولمّا صعد أبو العبّاس المنبر حين بويع له بالخلافة قام فى أعلاه، فقال:
- «الحمد الله الذي اصطفى الإسلام لنفسه فكرّمه وشرّفه واختاره لنا، وأيّدنا به، وجعلنا [327] أهله وكهفه وحصنه، والقوّام به والذابّين عنه والناصرين له، وألزمنا كلمة التقوى، وجعلنا أحقّ بها وأهلها، خصّنا برحم رسول الله صلّى الله عليه وقرابته، وأنشأنا من آباءه وأنبتنا من شجرته واشتقّنا من نبعته وجعله من أنفسنا عزيزا عليه ما عنتنا حريصا علينا بالمؤمنين رؤوفا رحيما وأنزلنا من الإسلام وأهله بالموضع الرفيع وأنزل بذلك كتابا يتلى فقال تبارك وتعالى: إِنَّما يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً 33: 33 [2] . وقال: [قُلْ] لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ في الْقُرْبى 42: 23 [3] . وقال: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ 26: 214 [4] . وقال:
__________
[1] . فى آ: فقال: «إن أمير المؤمنين يكره أن يتقدم قوله فعله ... [غير مقروء] حسبكم بكتاب الله فيكم وابن عم نبيكم خليفة عليكم، قسما برا ما أريد به غير الله، ما قام هذا المقام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق به من على بن أبى طالب ومنه فليظن ظانكم وليهمس هامسكم، والسلام.»
[2] . س 33 الأحزاب: 33.
[3] . س 42 السورى: 23.
[4] . س 26 الشعراء: 214.(3/319)
ما أَفاءَ الله عَلى رَسُولِهِ من أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى 59: 7 [1] .
فأعلمهم جلّ وعزّ فضلنّا، وأوجب عليهم حقّنا ومودّتنا، وأجزل من الفيء والغنيمة نصيبنا، تكرمة علينا وفضلا علينا، والله ذو الفضل العظيم.» ثمّ ذكر جور بنى أميّه وظلمهم ووعد الناس من نفسه خيرا وقال فى آخر كلامه:
- «وقد زدتكم فى أعطياتكم مائة درهم فاستعدّوا فإنّى أنا السفّاح المبيح والثائر المبير.
وكان موعوكا فاشتدّ به الوعك، فجلس على المنبر. [328] وصعد داود بن علىّ، فقام دونه على مراقى وقال:
- «الحمد لله شكرا شكرا، الذي أهلك عدوّنا وأصار إلينا ميراثنا من نبيّنا محمّد صلّى الله عليه.
- «أيّها الناس، الآن أقشعت حنادس الدنيا، وانكشف غطاؤها، وأشرقت أرضها وسماؤها، وطلعت الشمس من مطلعها، وبزغ القمر من مبزغه، وأخذ القوس باريها وعاد السهم إلى منزعه ورجع الحقّ فى نصابه فى أهل بيته أهل الرأفة والرحمة بكم والعطف عليكم.
__________
[1] . س 59 الحشر: 7.(3/320)
«أيها الناس، إنّا والله ما خرجنا فى هذا الأمر لنكنز لجينا ولا ذهبا ولا لنحفر نهرا أو نبنى قصرا وإنّما أخرجنا الأنفة من ابتزازهم حقّنا، والغضب لبنى عمّنا وما كرثنا من أمورنا وبهظنا [1] من شؤونكم. [2] » ثمّ وعد الناس خيرا وقال:
- «أيها الناس، إنّ أمير المؤمنين- نصره الله نصرا عزيزا- إنّما قطعه عن استتمام الكلام شدّة الوعك، فادعوا الله لأمير المؤمنين بالعافية.» فعجّ له الناس بالدعاء. ثمّ قال:
- «أيها الناس، إنّه ما صعد منبركم هذا خليفة [3] بعد رسول الله صلّى الله عليه إلّا أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب وأمير المؤمنين هذا- وأشار بيده إلى أبى العبّاس [4]- واعلموا أنّ هذا الأمر فينا
__________
[1] . الضبط فى كلا الفعلين من الأصل ويؤيّده الطبري (10: 31) .
[2] . وزاد فى آ: « ... يظنّ عدوّ الله أن لن يقدر عليه حين أرخى له فى زمامه، حتى عثر فى خطامه. فالآن عاد الحقّ إلى مقرّه، ورجع إلى أهل بيت نبيّكم. إنّا والله ما زلنا مظلومين مقهورين حتّى أناخ الله [كذا. ولعله: أتاح الله] لنا ولموالينا وشيعتنا من أهل خراسان، وربّ هذه البينة لا يظلم منكم أحد.
[3] . من هنا إلى «وأمير المؤمنين هذا» ساقط من آ.
[4] . وزاد فى آ: وانّ الكلام بعد الإفحام كالإشراق بعد الظلام وقد يغرب البيان ويعتقم(3/321)
[329] ليس بخارج منّا حتّى نسلّمه إلى عيسى بن مريم عليه السلام.» ثمّ نزل داود بن علىّ، ونزل أبو العباس حتّى دخل القصر، وأجلس أبا جعفر أخاه يأخذ البيعة على الناس فى المسجد، فلم يزل يأخذها حتّى صلّى بهم العصر، ثمّ صلّى بهم المغرب وجهنّم الليل، فدخل.
وذكر [1] أنّ داود بن علىّ وابنه كانا بالعراق أو بغيرها، فخرجا يريدان الشراة، فلقيهما أبو العبّاس ومعه أخوه أبو جعفر ومعهما عبد الله بن علىّ، وعيسى بن موسى، وصالح وعبد الصمد، وإسماعيل، وعبد الله بنو علىّ، ويحيى بن محمّد، وعبد الوهّاب ومحمّد ابنا إبراهيم، وموسى بن داود، ويحيى بن جعفر بن تمام بن العبّاس، ونفر من مواليهم بدومة الجندل. فقال لهم داود:
- «أين تريدون وما قصّتكم؟» فقصّ عليه أبو العبّاس فصّتهم وأنّهم يريدون الكوفة ليظهروا بها ويظهروا أمرهم.
فقال له داود:
- «يا با العبّاس، تأتى الكوفة وشيخ بنى مروان بحرّان- يعنى مروان بن محمّد- وهو مظلّ [2] على العراق فى أهل الشام والجزيرة وشيخ العرب
__________
[ () ] الصواب، وانّما اللسان بضعة من الإنسان، يعز بفتوره (؟) إذا بكل، ويثوب بانبساط إذا ارتجل، إنّا لا ننطق أشرّا، ولا نسكت حصرا، بل ننطق مرشدين، ونسكت معتبرين. وبعد فإنّا أمراء القول، فينا وشحت اعراقه، وإلينا تعطفت أغصانه، وعلينا تهرّأت ثمرته، فنجني منها ما احلولى وعذب، ونترك منه ما أملح وخبث، ومن بجد مقامنا مقام، وأيامنا أيّامنا أيّام ...
[1] . انظر الطبري (10: 33)
[2] . مظلّ: كذا فى الأصل ومط. فى آوالطبري (10: 33) مطل (بالطاء المهملة) .(3/322)
يزيد بن عمر بن هبيرة بالعراق فى حلبة العرب.
فقال له أبو العباس:
- «يا عمّ، من أحبّ الحياة ذلّ.» ثمّ تمثّل بقول الأعشى. [330]
فما ميتة إن متّها غير عاجز ... بعار إذا ما غالت النفس غولها
فالتفت داود إلى ابنه موسى فقال:
- «صدق والله ابن عمّك، ارجع بنا معه نعش أعزّاء أو نموت كراما.» فرجعوا معه. وكان عيسى بن موسى إذا ذكر خروجهم من الحميمة يريدون الكوفة يقول:
- «إنّ ركبا أربعة عشر خرجوا من دارهم وأهليهم يطلبون ما طلبنا [1] لعظيمة هممهم، كبيرة أنفسهم، شديدة قلوبهم.» وخرج [2] أبو العبّاس بحمّام أعين فى عسكر أبى سلمة فنزل معه فى حجرته وحاجب أبى العبّاس عبيد الله بن بسّام واستخلف على الكوفة وأرضيها داود بن علىّ وبعث عمّه عبد الله بن علىّ إلى أبى عون وبعث ابن أخيه عيسى بن موسى إلى الحسن بن قحطبة وهو يومئذ بواسط محاصر ابن هبيرة، وبعث يحيى بن جعفر بن تمّام بن العبّاس إلى حميد بن قحطبة بالمدائن، وبعث أبا اليقظان عثمان بن عروة بن محمّد بن عمّار بن ياسر إلى بسّام بن إبراهيم بن بسّام بالأهواز، وبعث سلمة بن عمرو بن عثمان إلى مالك بن طوّاف [3] .
__________
[1] . فى الطبري (10: 34) : مطالبنا ويعظم همّهم.
[2] . انظر الطبري (10: 37) .
[3] . فى الطبري (10: 37) : طريف. فى آ: طوّاف. فى مط: طوف.(3/323)
وأقام أبو العبّاس فى العسكر أشهرا، ثمّ ارتحل فنزل المدينة الهاشميّة فى قصر الإمارة [1] ، وقد كان تنكّر لأبى سلمة قبل [331] تحوّله حتّى عرف بذلك.
وفى هذه السنة هزم مروان بن محمّد.
هزيمة مروان بن محمد ذكر الخبر عن هذه الوقعة وسببها
كان أبو عون وجّهه قحطبة إلى شهرزور وبها عثمان بن سعيد من قبل مروان فقتله أبو عون وأقام بناحية الموصل وبلغ ذلك مروان، فأقبل من حرّان حتّى سار إلى الموصل فنزل على الزاب وحفر خندقا، فسار إليه أبو عون، فنزل الزاب، ووجّه أبو سلمة إليه مددا وعدّة من القوّاد. فلمّا ظهر أبو العبّاس، بعث إليه أيضا عدّة من القوّاد ومددا آخرين.
ثمّ قال أبو العبّاس:
- «من يسير إلى مروان من أهل بيتي؟» فقال عبد الله بن علىّ:
- «أنا.» فقال:
- «سر على بركة الله.» فسار عبد الله بن علىّ حتّى قدم على أبى عون فتحوّل له أبو عون عن سرادقه وخلّاه له بما فيه. فسأل عبد الله بن علىّ عن مخاضة فدلّ عليها بالزاب، فأمر عيينة بن موسى فعبر فى خمسة آلاف، وانتهى إلى عسكر مروان، فقاتلهم حتّى أمسوا، ورفعت لهم النيران فتحاجزوا، فرجع عيينة إلى عسكر عبد الله بن علىّ، فأصبح مروان فعقد جسرا، وسرّح ابنه عبد الله وقال له:
__________
[1] . فى الطبري (10: 37) : قصر الكوفة.(3/324)
- «امض [332] حتّى تكون أسفل من عسكر ابن علّى.» وبعث إليه من ورائه من يشغله، ففعل ذلك وبعث عبد الله بن علىّ المخارق بن عفّان فى أربعة آلاف حتّى نزل على خمسة أميال من عسكر عبد الله بن مروان. فبعت عبد الله بن مروان الوليد بن معاوية، وسار إليه مروان فقال مروان لمّا التقى العسكران لعبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز:
- «إن زالت الشمس اليوم فلم يقاتلونا، كنّا الذين ندفعها إلى عيسى بن مريم، وإن قاتلونا قبل الزوال فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.» وأرسل مروان إلى عبد الله بن علىّ يسأله المواعدة فقال عبد الله:
- «كذب ابن زريق، لا تزول الشمس حتّى أوطئه الخيل إن شاء الله.» فقال مروان لأهل الشام:
- «لا تبدأوهم.» وجعل ينظر إلى الشمس. فحمل الوليد بن معاوية بن مروان وهو ختن [1] مروان على ابنته. فغضب وشتمه وتمّم الوليد حملته، فهزم أبا عون فانحاز إلى عبد الله بن علىّ. فقال موسى بن كعب:
- «مر الناس أن ينزلوا.» فنودي:
- «الأرض، الأرض.» فنزل الناس وأشرعوا الرماح وجثوا على الركب فحمل أهل الشام كأنهم جبال حديد، ومالوا على أصحاب عبد الله بن علىّ كأنّهم سحابة فصبروا لهم على حالهم. [333] فقال [2] :
__________
[1] . ختنه: تزوّج إليه وصاهره.
[2] . كذا فى الأصل. فى آ: فيقال. فى مط: فقيل.(3/325)
- «إنّ مروان كان لا يدبّر شيئا إلّا عرض فيه خلل وفساد.» حتّى قال:
- «أخرجوا إلى الناس الأموال.» فأخرجت وقال للناس:
- «اصبروا وقاتلوا، وهذه الأموال لكم.» فجعل ناس يصيبون من ذلك المال، فأرسل إليه:
- «إنّ الناس قد مالوا إلى هذا المال، ولا نأمنهم أن يذهبوا به.» فأرسل إلى ابنه عبد الله أن:
- «سر إلى مؤخّر عسكرك، فمن مرّ بك ومعه شيء من المال فاقتله وامنعهم.» فمال عبد الله برايته وتبعه أصحابه. فقال الناس:
- «الهزيمة.» فانهزموا.
قتل ابراهيم محمد وما قالوه فى سبب قتله
وفى هذه السنة كان قتل إبراهيم بن محمّد بن عبد الله بن علىّ بن العبّاس. وقد اختلف الناس فيه فقال بعضهم: لم يقتل ولكن مات فى السجن بالطاعون. وقيل: لمّا انهزم مروان بالزاب عاد إلى حرّان، فاستعرض أهل السجن، فوجدهم قد هلكوا وقتل خليفة مروان بعضهم. فأطلق مروان من بقي منهم، وكان إبراهيم الإمام ممّن هلك. ويقال: بل هدم مروان عليه بيتا فقتله. وحكى بعض خدم إبراهيم ممّن كان يخدمه فى محبسه قال: كان معه فى الحبس عبد الله بن عمر بن عبد العزيز وشراحيل بن معاوية بن هشام بن عبد الملك [334] فخصّ بين إبراهيم وشراحيل، وكانا يتزاوران، فأتاه رسول من شراحيل يوما بلبن فقال:
- «يقول لك أخوك إنّى شربت من هذا اللبن فاستطبته، فأحببت أن تشرب منه.»(3/326)
فتناوله، فشرب منه فتوصّب من ساعته وتكسّر جسده. وكان يوما يأتى فيه شراحيل، فأبطأ عليه.
فأرسل إليه: «جعلت فداك قد أبطأت فما حبسك؟» فأرسل إليه: «إنّى لمّا شربت اللبن الذي أرسلت به إلىّ أخلفنى.» فأتاه شراحيل مذعورا وقال:
- «لا والله الذي لا اله إلّا هو، ما شربت اليوم لبنا ولا أرسلت به إليك فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، أحتيل لك والله.» قال: فما بات إلّا ليلته وأصبح من الغد ميّتا. [1] وفى هذه السنة قتل مروان بن محمّد.
ذكر الخبر عن مقتل مروان وما عومل به فى طريقه وهو هارب وما لقي من أصحابه
حكى أبو هاشم مخلّد بن محمّد قال: لمّا هزم مروان من الزاب كنت فى عسكره، وكان معه مائة وعشرون ألفا، وكان عبد الله بن علىّ فى عشرين ألفا، فلمّا انهزم مروان سار إلى الموصل وعليها هشام بن عمرو وبشر بن خزيمة، فقطعا الجسر ومنعاه.
فناداهم [335] أهل الشام:
- «هذا مروان.» قالوا: «كذبتم، أمير المؤمنين لا يفرّ.» فسار إلى بلد فعبر دجلة، ثمّ أتى دمشق وخلّف بها الوليد بن معاوية، وقال:
- «قاتلهم حتّى يجتمع أهل الشام.»
__________
[1] . انظر الطبري (10: 44) .(3/327)
ومضى مروان إلى فلسطين فنزل نهر أبى فطرس وقد غلب على فلسطين الحكم بن ضبعان الجذامي وسوّد. فأرسل مروان إلى عبد الله بن يزيد بن روح بن زنباع فأجازه وكتب أبو العبّاس إلى عبد الله بن علىّ يأمره باتباع مروان.
فسار عبد الله إلى الموصل فتلقّاه هشام بن عمرو، وبشر بن خزيمة قد سوّد فى أهل الموصل، وفتحوا له المدينة، وولّى الموصل ابن صول. ثمّ سار إلى حرّان، فهدم الدار التي حبس فيها إبراهيم بن محمد. ثمّ سار من حرّان إلى منبج وقد سوّدوا، فنزل مدينة منبج وقدم عليه أبو حميد المروروذى، وبعث إليه أهل قنّسرين ببيعتهم كما أتاه به عنهم أبو أميّة. وقدم عليه عبد الصمد بن علىّ أمدّه به أبو العبّاس فى أربعة آلاف فأقام يومين بعد قدوم عبد الصمد. ثمّ سار إلى قنّسرين فأتاها وقد سوّد سار إلى بعلبك فأقام يومين ثمّ ارتحل [336] فنزل مزّة قرية من قرى دمشق، وقدم عليه صالح بن علىّ مددا فنزل مرج عكبراء فى ثمانية آلاف، وفرّق أصحابه على أبواب دمشق وحاصروها والبلقاء، وتعصّب الناس بالمدينة وقتل بعضهم بعضا، وقتلوا الوليد، وفتحوا المدينة سنة إثنتين وثلاثين ومائة.
وكان أوّل من صعد السور من باب الشرقي عبد الله الطائي ومن قبل باب الصغير بسّام بن إبراهيم فقتل بها ثلاث ساعات. ثمّ أمر بالكفّ.
وأقام عبد الله بن علىّ بدمشق ثمانية عشر يوما. ثمّ سار يريد فلسطين فنزل بهم الكسوة [1] ، ووجّه منها يحيى بن جعفر الهاشمي إلى المدينة ثمّ ارتحل إلى الأردن، فأتوه وقد سوّدوا. ثمّ سار إلى مرج الروم ثمّ أتى نهر أبى فطرس.
وقد هرب مروان فأقام بفلسطين وجاءه كتاب أبى العبّاس أن وجّه صالح
__________
[1] . فى الطبري (10: 48) : نهر الكسوة.(3/328)
بن علىّ فى طلب مروان. فسار صالح بن علىّ من نهر أبى فطرس ومعه ابن قنّان وعامر بن إسماعيل وأبو عون. فقدّم أبا عون وعلى [1] مقدّمته وسار فنزل الرملة، ثمّ سار فنزل ساحل البحر وجمع صالح بن علىّ السفن وتجهّز يريد مروان وهو بالفرما، فسار [337] على الساحل والسفن حذاءه فى البحر، حتّى نزل العريش، وبلغ مروان، فأحرق ما كان حوله من علف وطعام، وهرب.
ومضى صالح بن علىّ، فنزل النيل، ثمّ سار حتّى نزل الصعيد. وبلغه أن خيلا لمروان بالساحل يحرقون الأعلاف، فوجّه إليهم قوّادا فأخذوا رجالا وقدموا بهم على صالح وهو بالفسطاط، فعبر مروان النيل وقطع الجسر وحرق ما حوله. ومضى صالح يتبعه فالتقى هو وخيل لمروان على النيل، فاقتتلوا، فهزمهم صالح، ثمّ مضى إلى خليج فصادف عليه خيلا لمروان فأصاب منهم طرفا وهزمهم ثمّ ارتحل فنزل موضعا يقال له ذات الساحل. وقدّم أبا عون ومعه شعبة بن كثير المازني، فلقوا خيلا لمروان فهزموهم فأسروا منهم رجالا، فقتلوا بعضهم واستحيوا بعضا وسألوهم عن مروان، فقالوا:
- «إن آمنتمونا دللناكم على مكانه.» فآمنوهم، فأخبروهم به. وساروا فوجدوه نازلا فى كنيسة بوصير، ووافوه فى آخر الليل، فهرب الجند وخرج إليهم مروان فى نفر يسير، فأحاطوا به فقتلوه.
اتفاق عجيب
ومن عجيب الأمور التي جرت [338] هناك أنّ أبا عون عامر بن إسماعيل
__________
[1] . فى الأصل: وعلى. وفى مط: على (بدون الواو) .(3/329)
تحدّث فقال: لقينا مروان ببوصير ونحن فى جماعة يسيرة، فشدّوا علينا فانضوينا إلى نخيل، ولو يعلمون بقلّتنا لأهلكونا، فقلت لأصحابى:
- «إن أصبحنا فرأونا ونحن نفر يسير لم ينج منّا أحد.» وذكرت قول بكير بن ماهان:
- «أنت والله تقتل مروان، كأنّى أسمعك تقول: دهيذ يا جوانكان [1] .» فكسرت جفن سيفي وكسر أصحابى جفون سيوفهم وقلت: دهيذ يا جوانكان، فكأنّها نار صبّت عليهم، فانهزموا.» وحمل رجل على مروان فضربه بسيفه فقتله.
وكتب عامر بن إسماعيل إلى صالح بن علىّ فكتب صالح بن علىّ إلى أمير المؤمنين أبى العبّاس:
- «إنّا اتّبعنا عدوّ الله الجعدىّ حتّى ألجأناه إلى أرض عدوّ الله شبيهه فرعون، فقتله [2] بأرضه.» وبعث صالح برأسه مع يزيد بن هانئ، وكان على شرطة أبى العبّاس يوم الأحد لثلاث بقين من ذى الحجّة سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
ورجع صالح إلى الفسطاط ثمّ انصرف إلى الشام فدفع الغنائم إلى أبى عون، والسلاح والأموال والرقيق إلى أبى الفضل ابن دينار، وخلّف أبا عون على مصر.
وقتل مروان وهو ابن نيّف وستين سنة واختلف [339] الناس فى النيّف، فلذلك لم أثبته.
فكانت ولايته من حين بويع إلى أن قتل خمس سنين وعشرة أشهر وستّة عشر يوما.
__________
[1] . انظر الطبري (10: 50) .
[2] . فى الأصل ومط: فقتله. وما صححناه يؤيّده الطبري (10: 50) .(3/330)
وكانت أمّه أمّة لإبراهيم بن الأشتر، أصابها محمد بن مروان بن الحكم يوم قتل ابن الأشتر، فأخذها من ثقله وهي نس، [1] فولدت مروان على فراشه. ولمّا بويع أبو العبّاس دخل عليه ابن عياش المنتوف فقال:
- «الحمد لله الذي أبدلنا بحمار الجزيرة وابن أمة النخع، ابن عمّ رسول الله وابن عبد المطلب.» وفى هذه السنة خلع أبو الورد أبا العبّاس بقنّسرين، فبيض وبيّضوا معه.
ذكر الخبر فى تبييض أبى الورد وانتقاض تلك النواحي كلّها وما آل إليه أمرهم
كان سبب ذلك أنّ أبا الورد واسمه مجزأة بن الكوثر بن زفر بن الحارث الكلابي كان من أصحاب مروان وفرسانه وقوادّه، فلمّا هزم مروان وأبو الورد بقنّسرين قدمها عبد الله بن علىّ، فبايعه فدخل فيما دخل فيه الناس من الطاعة وكان ولد مسلمة بن عبد الملك مجاورين له ببالس والناعورة، فقدم بالس قائد من قوّاد عبد الله بن علىّ [340] من الأزاذ مرديّة [2] فى مائة وخمسين فارسا، فتعرّض لنساء مسلمة بن عبد الملك وعبث بولد مسلمة، فشكا بعضهم ذلك إلى أبى الورد وذكّره الحقّ والحرمة فخرج من مزرعة له تعرف بخساف فى عدّة من أهل بيته حتّى هجم على ذلك القائد وهو نازل حصن مسلمة، فقاتله حتّى قتله ومن معه، وأظهر التبييض والخلع، ودعا أهل قنّسرين إلى ذلك، فتسارعوا إليه، وبيّضوا بأجمعهم وعبد الله بن علىّ مشغول. بحرب ابن حبيب
__________
[1] . فى الأصل وآ: نس. فى مط: نسر. فى الطبري (10: 51) : وهي تتنيّق.
[2] . كذا فى الأصل وآ: أزاذمرديّة. فى الطبري (10: 52) : أزار مردين. وفى حواشي الطبري عن المقدسي: إزار: هزار.(3/331)
بن مرّة فى أيلة بأرض البلقاء والبثنيّة [1] وحوران.
وكان قد لقيه عبد الله بن علىّ فى جموعه فقاتله، وكان بينه وبينهم وقعات وكان من قوّاد مروان وفرسانه، وكان سبب تبييضه الخوف على نفسه وقومه فبايعته قيس وغيرهم ممّن يليهم من أهل تلك الكور. فلمّا بلغ عبد الله بن علىّ تبييض أهل قنّسرين دعا حبيب بن مرّه إلى الصلح فصالحه وآمنه ومن معه، وخرج متوجّها نحو قنّسرين للقاء أبى الورد، فمّر بدمشق، فخلّف عليها أبا غانم عبد الحميد بن ربعي فى أربعة آلاف رجل من جنده، وكان بدمشق يومئذ امرأة عبد الله بن علىّ أمّ البنين بنت محمّد بن عبد المطلّب النوفلية وأمّهات الأولاد [341] لعبد الله بن علىّ وثقل له، فلمّا قدم حمص فى وجهه انتقض عليه بعده أهل دمشق، فبيّضوا ونهضوا مع عثمان بن عبد الله بن سراقة الأزدى، فنهضوا إلى أبى غانم ومن معه فقاتلوه وهزموه، وقتلوا من أصحابه مقتلة عظيمة، وانتهبوا ما كان عبد الله بن علىّ خلّفه من ثقله ومتاعه ولم يعرضوا لأهله، وبيّض أهل دمشق واستجمعوا على الخلاف.
ومضى عبد الله بن علىّ وقد كان تجمّع مع أبى الورد جماعة من أهل قنّسرين وكاتبوا من يليهم من أهل حمص وتدمر، فقدم منهم ألوف وعليهم أبو محمّد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية بن أبى سفيان، فرأسوا عليهم أبا محمّد ودعوا إليه وقالوا:
- «هو السفياني الذي كان يذكر.» وهم نحو من أربعين ألفا.
فلمّا دنا منهم عبد الله بن علىّ، وأبو محمد معسكر [2] بجماعتهم فى مرج
__________
[1] . كذا فى الأصل والطبري (10: 52) .
[2] . فى الأصل ومط والطبري (10: 53) : فعسكر.(3/332)
يقال له: مرج الأخرم، وأبو الورد المتولّى لأمر العسكر وهو صاحب القتال والوقائع، وجّه عبد الله بن علىّ أخاه عبد الصمد بن علىّ فى زهاء عشرة آلاف فارس، فناهضهم أبو الورد ولقيهم بين العسكرين واستحرّ القتل فى الفريقين، وثبت القوم حتّى انهزم [342] عبد الصمد ومن معه. وقتل منهم يومئذ ألوف.
وأقبل عبد الله حيث أتاه عبد الصمد ومعه حميد بن قحطبة وجماعة من معه من القوّاد، فالتقوا واقتتلوا ثانية بمرج الأخرم قتالا شديدا فانكشف منهم جماعة ممّن كان مع عبد الله، ثمّ ثابوا، وثبت لهم عبد الله وحميد بن قحطبة فهزموهم وثبت أبو الورد فى نحو من خمسمائة من أهل بيته وقومه فقتلوا جميعا، وهرب أبو محمّد ومن معه حتّى لحقوا بتدمر.
وآمن عبد الله أهل قنّسرين، وسوّدوا وبايعوا. ثمّ انصرف راجعا إلى أهل دمشق لما كان من تبييضهم عليه وتوثّبهم على أبى غانم. فلمّا دنا من دمشق، هرب الناس وتفرّقوا ولم يكن بينهم وقعة فآمن عبد الله أهلها وبايعوه، ولم يأخذهم بما كان منهم [1] .
وأمّا أبو محمّد فلم يزل متغيّبا، ولحق بأرض الحجاز وبلغ زياد بن عبيد الله الحارثي عامل أبى جعفر على المدينة مكانه الذي تغيّب فيه، فوجّه إليه خيلا فقاتلوه حتّى قتل وأخذوا ابنين له، فبعث بهما إلى أبى جعفر، وهو يومئذ أمير المؤمنين فأمر بتخلية سبيلهما وآمنهما.
وفى هذه السنة بيّض [2] أهل الجزيرة وخلعوا أبا العبّاس [343] ذكر الخبر عن ذلك
كان الناس يظنّون ببيعة المسوّدة أنّها تردّ عليهم سنّة الصدر الأوّل، فلمّا رأوا
__________
[1] . فى آ: بينهم.
[2] . فى مط: نهض.(3/333)
سيرتهم شبيهة بسيرة من تقدّمهم، ثمّ هجم عليهم عسكر غريب منهم، لهم معرّات وأطماع فيهم تبرّموا بهم، فلمّا خرج أبو الورد لما ذكرنا، غيرة وحميّة على نساء مسلمة، انتقض الناس من كل ناحية، وكان بحرّان يومئذ موسى بن كعب فى ثلاثة آلاف من الجند، صاحب عبد الله بن علىّ، وسار إليه الناس مبيّضين من كل وجه، فحاصروه ومن معه، وأمرهم متشتت ليس عليهم رأس يجمعهم وقدم على بقيّة [1] ذلك إسحاق بن مسلم من أرمينيه كان شخص عنها حين بلغته هزيمة مروان فرأسته جنود الجزيرة حتّى حاصر موسى بن كعب.
فوجّه أبو العبّاس أخاه أبا جعفر بمن معه من الجنود التي كانت بواسط محاصرة ابن هبيرة، فمضى حتّى مرّ بقرقيسيا وأهلها مبيّضون قد غلّقوا أبوابها دونهم، ثمّ قدم مدينة الرقّة وهم على مثل ذلك، وبها بكّار بن مسلم، فمضى نحو حرّان، ورحل إسحاق بن مسلم إلى الرها [2] فى سنة ثلاث وثلاثين [344] ومائة، وخرج موسى بن كعب فيمن معه من مدينة حرّان فلقوا أبا جعفر، وقدم بكّار على أخيه [إسحاق [3]] مسلم بن عقيل.
فوجّهه إلى رجل من الحروريّة يقال له: بريكة، وهو فى جماعة ربيعة، فصمد له أبو جعفر، فقاتلوه قتالا شديدا وقتل بريكة، وانصرف بكّار إلى أخيه بالرّها فخلفه إسحاق بها، ومضى شميشاط [4] ، فخندق على عسكره، وأقبل أبو جعفر حتّى قاتله بكّار بالرها فكانت بينهم وقعات.
وكتب أبو العبّاس إلى عبد الله بن علىّ فى المسير بجنوده إلى إسحاق بشميشاط، فأقبل حتّى نزل عليه وهم في ستّين ألفا من أهل الجزيرة جميعا.
و
__________
[1] . بقية: كذا فى آومط. وهي مهملة فى الأصل. فى الطبري (10: 56) : تفيئة.
[2] . الكلمة مقصورة فى الأصل وممدودة فى الطبري (10: 57) وبضمّ الرّاء فى كليهما.
[3] . إسحاق: أضفناه من الطبري (10: 57) وهو غير موجود فى الأصل وآ ومط.
[4] . فى الأصل: شميشاط. فى الطبري (10: 75) : سميساط (بالإهمال) .(3/334)
بينهما الفرات وأقبل أبو جعفر من الرها، فكاتبهم إسحاق وطلب الصلح فأبوا، فطلب الأمان فأجابوه. وكتبوا إلى أبى العبّاس فأمرهم أن يؤمنوه ومن معه، فكتبوا بينهم كتابا ووثّقوا له فيه، فخرج أبو إسحاق إلى أبى جعفر وتمّ الصلح، وكان مع أبى جعفر، ينزل معه منزلة كبيرة، وآثره على جميع أصحابه.
وكان إسحاق بن مسلم العقيلي حيث حاصره أبو جعفر يقول:
- «فى عنقي بيعة ولست أدعها حتّى أعلم أن صاحبها قد مات أو قتل.» فأرسل إليه أبو جعفر:
- «إنّ مروان قد قتل.» فقال:
- «حتّى أتيقّن.» [345] ثمّ لمّا طلب الصلح قال:
- «قد أيقنت أنّ مروان قد قتل.» وولّى أبو العبّاس أبا جعفر الجزيرة وأرمينية وآذربيجان، ولم يزل عليها حتّى استخلف.
وفى هذه السنة شخص أبو جعفر إلى خراسان لاستطلاع رأى أبى مسلم فى قتل أبى سلمة حفص بن سليمان الذي يقال له: وزير آل محمّد.
ذكر السبب فى مسير أبى جعفر وما كان من أمره وأمر أبى مسلم
قد ذكرنا تنكّر أبى العبّاس لأبى سلمة وما كان همّ به. فحكى أبو جعفر قال:
لمّا ظهر أبو العبّاس سمرنا ذات ليلة فذكرنا صنيع أبى سلمة فقال رجل منّا:
- «ما يدريكم لعّل ما صنع أبو سلمة كان عن رأى أبى مسلم؟» فلم ينطق منّا أحد. فقال أمير المؤمنين أبو العبّاس:
- «لئن كان هذا عن رأى أبى مسلم إنّا بعرض [1] بلاء، إلّا أن يدفعه الله عنّا.»
__________
[1] . كذا فى الأصل. فى الطبري (10: 58) : لبغرض البلاء (بالغين المعجمة) .(3/335)
فأشار عليه داود بن علىّ بأن يكتب إلى أبى مسلم ما همّ به من الغشّ وما عامله به من القبيح وما يتخوّفه منه، ففعل فأجاب أبو مسلم:
- «إن كان أمير المؤمنين قد اطلع على ذلك منه فليقتله.» - «فقال داود بن علىّ لأبن العبّاس:
- «لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإنّ [346] أبا مسلم يحتّج بها وكذلك أهل خراسان الذين معك وحاله فيهم حاله، ولكن ابعث إلى أبى مسلم من يعرف نيّته ويطّلع على سريرته، ثمّ تكلّفه أن يبعث هو إلى أبى سلمة من يقتله.» قال أبو جعفر: فأرسل إلىّ أبو العبّاس وقال:
- «ما ترى؟.» فقلت:
- «الرأى رأيك.» قال:
- «إنّه ليس أحد أخصّ بأبى مسلم منك. فاخرج إليه حتّى تعلم ما رأيه فليس يخفى عليك لو قد لقيته، فإن كان عن رأيه صدر أبو سلمة احتلنا لأنفسنا، وإن لم يكن عن رأيه طابت أنفسنا.» فخرجت على وجل شديد، فلمّا انتهيت إلى الرىّ إذا صاحب أبى سلمة قد أتاه كتاب أبى مسلم:
- «إنّه بلغني أن عبد الله بن محمّد قد توجّه إليك، فإذا قدم فأشخصه ساعة يقدم عليك.» فأقرأنى كتابه وأمرنى بالرحيل. فازددت وجلا وخرجت من الرىّ وأنا خائف حذر، فسرت، فلمّا كنت بنيسابور إذا عاملها قد أتانى بكتاب أبى مسلم:
- «إذا قدم عليك أبو جعفر [1] فأشخصه، ولا تدعه يقيم، فإنّ أرضك أرض خوارج ولا آمن عليه.»
__________
[1] . فى آ: عبد الله بن محمد.(3/336)
فطابت نفسي وقلت: أراه يعنى بأمرى، فسرت.
فلمّا كنت من مرو على فرسخين، تلقّانى أبو مسلم فى الناس، فلمّا دنا منّى نزل وأقبل يمشى إلىّ حتّى قبّل [347] يدي فقلت:
- «اركب.» فركب ودخلت مرو فنزلت دارا أفردها لى، ومكثت ثلاثة أيّام لا يسألنى عن شيء، ثمّ قال لى فى اليوم الرابع:
- «ما أقدمك؟» فأخبرته. قال:
- «فإنّى قد كاتبت أمير المؤمنين فى ذلك.» فقلت:
- «إنّ أمير المؤمنين يحبّ أن تلى منه ما ترى.» فقال:
- «سمعا وطاعة.» ثمّ دعا مرار بن أنس الضبّى فقال:
- «انطلق إلى الكوفة فاقتل أبا سلمة حيث لقيته وانته [1] فى ذلك إلى رأى الإمام.» فقدم الكوفة، وكان أبو سلمة يسمر عند أبى العبّاس، فقعد له فى طريقه، فلمّا خرج قتله، وقالوا: قتلته الخوارج. فقال سليمان بن المهاجر:
إنّ الوزير وزير آل محمّد ... أودى فمن يشناك كان وزيرا
وكان يقال لأبى سلمة: وزير آل محمّد، ولأبى مسلم: أمين آل محمّد.
__________
[1] . كذا فى الأصل والطبري (10: 59) . فى مط: دابته. فى آ: وآيته.(3/337)
فحكى عن سالم قال: صحبت أبا جعفر من الرىّ إلى خراسان، وكنت حاجبه، فكان أبو مسلم يأتيه فينزل على الباب ويجلس فى الدهليز ويقول لى:
- «استأذن لى عليه.» فغضب أبو جعفر علىّ وقال:
- «ويلك إذا رأيته، فافتح له الباب وقل له يدخل على دابّته.» فلمّا رأيته [348] مقبلا قلت لأبى مسلم: إنّه قال كذا وكذا، وفتحت له الباب. قال:
- «نعم وإن قال، أعلمه واستأذن لى عليه.» وفى هذه السنة وجّه أبو العبّاس أخاه أبا جعفر لحرب يزيد بن عمر بن هبيرة بواسط.
ذكر آراء أشير بها على ابن هبيرة فخالفها
لمّا انهزم ابن هبيرة وتفرّق عنه الناس، خلّف على أثقاله قوما، فذهبوا بتلك الأموال. فقال له حوثرة:
- «أين تذهب وقد قتل صاحبهم- يعنى قحطبة- امض إلى الكوفة فمعك جند كثير، فقاتلهم حتّى تقتل أو تظفر.» فقال: «بل آتى واسطا فأنظر وأستعدّ.» فقال له: «إنّك ما تزيد على أن تمكّنه من نفسك حتّى تضعف وتقتل.» وقال له يحيى بن حسن:
- «إنّك لا تأتى مروان بشيء أحبّ إليه من هذه الجنود، فالزم الفرات حتّى تقدم عليه، وإيّاك وواسطا فتصير فى حصار، فليس بعد الحصار إلّا القتل.» فأبى، لأنّه كان يخاف مروان وذاك أنّه كان يكتب إليه فى الأمر فخالفه،(3/338)
فخافه، فأتى واسطا [1] وتحصّن وسرّح إليه أبو سلمة الحسن بن قحطبة، فخندق [349] الحسن، ونزل بين الفرات ودجلة، فكانت بينهم وقائع.
ثمّ وجّه أبو العبّاس أخاه أبا جعفر لحرب ابن هبيرة، وكتب إلى الحسن:
- «إنّ أمر الجند إليك ولكنّى أحببت أن يكون أخى حاضرا.» فلمّا قدم أبو جعفر واسطا تحوّل له الحسن عن حجرته فقاتلهم أبو نصر مالك الخزاعي يوما، فخرج إليه أهل واسط وحاربوه، ثمّ انهزم أهل الشام وقد أكمنوا معن بن زايدة وغيره، فلمّا جازهم أهل خراسان خرجوا عليهم، فقتلوا منهم. فترجّل أبو نصر، واقتتلوا عند الخنادق ورفعت لهم النيران وابن هبيرة على برج باب الخلّالين، فبقوا يقتتلون ما شاء الله من الليل.
وسرّح ابن هبيرة إلى معن: أن انصرف، فانصرف. فلمّا طال عليهم الحصار جاءهم قتل مروان فطلبوا الصلح. وكان ابن هبيرة قد همّ أن يدعو إلى محمّد بن عبد الله بن حسن بن حسن، فكتب إليه، وأبطأ عليه الجواب.
وجرت السفراء بينه وبين أبى جعفر فى الصلح حتّى جعل له أمانا وكتب به كتابا مكث يشاور فيه العلماء أربعين يوما حتّى رضيه، ثمّ أنفذه إلى أبى جعفر فأنفذه أبو جعفر إلى أبى العبّاس فأمره بإمضائه.
وكان أبو العبّاس لا يقطع أمرا دون أبى مسلم. وكان أبو الجهم عينا لأبى مسلم على أبى العبّاس يكتب إليه بأخباره. فكتب أبو مسلم إلى أبى العبّاس:
- «إنّ الطريق السهل إذا ألقيت فيه الحجارة فسد، ولا والله، ما صلح ملك فيه ابن هبيرة.» وخرج ابن هبيرة إلى أبى جعفر فى ألف وثلاثمائة من البخاريّة [2] ، فأراد
__________
[1] . فى الطبري (10: 62) : واسط.
[2] . فى مط: النجارية. والطبري (10: 67) مثل الأصل.(3/339)
أن يدخل الحجرة بدابّته، فقام إليه سلّام بن سليم فقال:
- «مرحبا بك أبا خالد، انزل راشدا.» وقد أطاف بالحجرة نحو من عشرة آلاف من أهل خراسان.
فنزل، وأجلسه على وسادة، ثمّ دعا له بالقوّاد فدخلوا. ثمّ قال سلّام:
- «ادخل أبا خالد.» فقال: «أنا ومن معى؟» فقال: «إنّما استأذنت لك وحدك.» فقام ودخل، فوضعت له وسادة فجلس عليها وحدّثه ساعة، ثمّ قام. ثمّ مكث يقيم عنه يوما ويأتيه يوما فى خمسائة فارس وثلاثمائة راجل. فقال يزيد بن حاتم:
- «أيها الأمير، إنّ ابن هبيرة ليأتى فيتضعضع له العسكر، وما نقص من سلطانه شيء.» فقال أبو جعفر لسلّام:
- «قل لا بن هيبرة يدع هذه الجماعة ويأتينا فى حاشيته.» فقال له ذلك سلّام، فتغيّر وجهه وجاء فى نحو من ثلاثين من حاشيته. فقال [351] له سلّام:
- «كأنك تأتينا مباهيا!» فقال: «إن أمرتمونا أن نمشي إليكم مشينا.» فقال: «ما أردنا بك استخفافا، ولكن نظرا لك.» فكان بعد ذلك يأتى فى ثلاثة نفر.
فقال: إن ابن هبيرة كلّم يوما أبا جعفر فقال:
- «يا هناه.» [1] ثم قال:
__________
[1] . وزاد فى الطبري (10: 68) : «أويا أيّها المرء» .(3/340)
- «ايه لله أنت.» ثمّ رجع فقال: «أيها الأمير، إنّ عهدي بكلام الناس مثل ما خاطبتك به قريب فسبقني لساني إلى العادة ولم أرده.» - «فتبسّم أبو جعفر وقال:
- «صدقت.» وألحّ أبو العبّاس على أبى جعفر فى قتل ابن هبيرة وهو يراجعه حتّى كتب إليه:
- «والله لتقتلنّه أو لأرسلنّ إليه من يخرجه من حجرك [1] ويتولّى قتله.» فتقدّم أبو جعفر بختم بيوت الأموال، ثمّ بعث إلى وجوه من معه، فلمّا حضروا نزعت سيوفهم وكتفوا. ثمّ أرسل إلى ابن هبيرة:
- «إنّا نريد حمل المال.» فقال ابن هبيرة لحاجبه:
- «يا با عثمان، انطلق فدلّهم عليه.» فوكلّوا بكل بيت نفرا ثمّ جعلوا ينظرون فى نواحي الدار ومع ابن هبيرة ابنه داود وكاتبه وحاجبه وعدّة من مواليه وبنّى له صغير فى حجره، فجعل ينكر نظرهم، وقال:
- «أقسم بالله، إنّ فى وجوه القوم لشرّا.» فأقبلوا نحوه، فقام حاجبه فى وجوههم [352] فقال:
- «وراءكم!» فضربه الهيثم بن شعبة على حبل عاتقه فصرعه وقاتل ابنه داود، فقتل وقتل مواليه، ونجّى ابن هبيرة الصبىّ من حجره وقال:
- «دونكم هذا الصبىّ.»
__________
[1] . كذا فى الأصل. ما فى آ: مهمل. فى مط: حجر له. فى الطبري (10: 68) : من حجر ك.(3/341)
وخرّ ساجدا، فقتل وهو ساجد.
ومضوا برؤوسهم إلى أبى جعفر، فنادى بالأمان للناس. وقال أبو عطاء السندىّ يرثيه:
ألا إنّ عينا لم تجد يوم واسط ... عليك بجاري دمعها لجمود
عشيّة قام النائحات وشقّقت ... جيوب بأيدي مأتم وخدود
فإن تمس [1] مهجور الفناء فربّما ... أقام به بعد الوفود وفود
وإنّك لم تبعد على متعهّد ... بلى كلّ من تحت التراب بعيد
وقال منقذ بن عبد الرحمن الهلالي يرثيه:
منع العزاء حرارة الصدر ... والحزن عقد عزيمة الصبر
أفنى الحماة الغرّ أن عرضت ... دون الوفاء حبائل الغدر
مالت حمائل أمرهم بفتى ... مثل النجوم حففن بالبدر
عالى بنعيهم فقلت له ... مهلا [2] أتيت بصيحة الحشر [353]
من للمنابر بعد هلكهم ... أو من يشدّ [3] مكارم الفخر
قتلى بدجلة ما يجنّهم ... إلّا عباب زواخر البحر
وفى هذه السنة وجّه أبو العبّاس عمّه عيسى بن علىّ على فارس، وكان عليها محمّد بن الأشعث من قبل أبى مسلم، فهمّ بعيسى فحذّره ثقاته وقالوا له:
__________
[1] . فى الأصل: نمس. والتصحيح من آوالطبري (10: 70) . فى مط: يمس.
[2] . فى آوالطبري: هلّا.
[3] . فى الطبري: يسدّ.(3/342)
- «هذا لا يسوغ لك.» فقال:
- «بلى، أمرنى أبو مسلم ألّا يقدم علىّ أحد يدّعى الولاية من غيره إلّا ضربت عنقه.» ثمّ ارتدع عن ذلك، واستدعى عيسى فاستحلفه بالأيمان المحرّجة، ألّا يعلو منبرا ولا يتقلّد سيفا إلّا فى جهاد. فلم يل عيسى بعد ذلك عملا ولا تقلّد سيفا إلّا فى غزوة.
ثمّ استعمل بعد ذلك أبو العبّاس إسماعيل بن علىّ واليا على فارس.
ثمّ دخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائة
وفيها قتل داود بن علىّ من وجد من بنى أميّة بمكة والمدينة.
وفيها مات داود بن علىّ بالمدينة.
وفيها خرج شريك بن شيخ المهري على أبى مسلم بخراسان ببخارى وقال:
- «ما على هذا اتبعنا آل محمّد، على أن تسفك الدماء، ويعمل بغير الحقّ.» وتبعه على رأيه أكثر من ثلاثين ألفا. [354] فوجّه إليه أبو مسلم زياد بن صالح فقاتله وقتله.
وخرج جماعة على أبى مسلم فقتلهم. ولم يجر فى حروبهم ما تستفاد منه تجربة، بل كان جميع ذلك يجرى بحسب الجدّ [1] والإقبال فتركنا ذكرها إذ كانت أسمارا فقط.
ثمّ دخلت سنة أربع وثلاثين ومائة
وفيها خالف بسّام بن إبراهيم بن بسّام وخلع، وكان من فرسان أهل
__________
[1] . الجدّ: الحظّ.(3/343)
خراسان، فوجّه إليه أبو العبّاس خازم بن خزيمة فناجزه القتال، وانهزم بسّام، واستبيح عسكره وطلبهم خازم إلى أن قتل أكثرهم، ثمّ انصرف من وجهه، فمرّ فى قرية فيها قوم من أخوال أبى العبّاس عدد هم خمسة وثلاثون رجلا من بنى عبد المدان، وهناك مواليهم وغيرهم، فلم يسلّم عليهم، فلمّا جاز شتموه لشيء كان فى قلوبهم عليه، فكّر راجعا، فسألهم عمّا بلغه من نزول المغيرة بهم، وكان من قوّاد بسّام. فقالوا:
- «مرّ بنا رجل مجتاز لا نعرفه، فأقام فى قريتنا ليلة ثمّ خرج عنها.» فقال لهم:
- «أنتم أخوال أمير المؤمنين، ويأتيكم عدوّه فيأمن فى قريتكم فهلّا اجتمعتم فأخذتموه؟» فأغلظوا له الجواب، فأمر بهم، فضربت أعناقهم جميعا، وهدمت دورهم ونهبت أموالهم. [355] ثمّ انصرف إلى أبى العبّاس، وبلغ ما كان من فعل خازم اليمانية، فأعظموا ذلك واجتمعت كلمتهم. فدخل زياد بن عبد الله الحارثي على أبى العبّاس مع عبيد الله بن الربيع الحارثي وعثمان ببن نهيك وأمثالهم فقالوا:
- «يا أمير المؤمنين، إنّ خازما اجترأ عليك بأمر لم يكن أقرب ولد أبيك ليجترئ عليك به من قتل أخوالك الذين قطعوا البلاد إليك معتزّين بك، طالبين معروفك، حتّى إذا صاروا إلى جوارك ودارك وثب عليهم خازم، فضرب أعناقهم، وهدم دورهم، ونهب أموالهم، وأخرب ضياعهم، بلا حدث أحدثوه.» فهمّ بقتل خازم، فبلغ ذلك موسى بن كعب وأبا الجهم بن عطيّة، فدخلا عليه وفثأه [1] عن رأيه. قالا:
__________
[1] . فثأ القدر: سكّن غليانها. فثأ الغضب: سكّن حدّته. ما فى الأصل: وفثاآه.(3/344)
- «نعيذك بالله يا أمير المؤمنين من الإصغاء إلى من يحملك على قتل خازم مع طاعته وسابقته وغنائه وهو يحتمل لك ما صنع لكيت وكيت، فإن كنت لا بدّ مجمعا على قتله فلا تتولّ ذلك بنفسك، وعرّضه من المباعث لما إن قتل فيه كنت قد بلغت منه الذي أردت، وإن ظفر كان ظفره لك.» وأشاروا عليه بأن يوجّهه إلى عمان وبها الجلندى [1] والخوارج معه وإلى الخوارج الذين [356] بجزيرة ابن كاوان مع شيبان بن عبد العزيز اليشكرىّ فأمر أبو العبّاس بتوجيهه مع سبعمائة رجل، وكتب إلى سليمان بن علىّ وهو على البصرة، بحملهم فى السفن إلى جزيرة ابن كاوان وعمان. فشخص إلى هناك مع ابنه خزيمة، فأوقع بمن فيها من الخوارج وغلب على ما قرب منها من البلدان وقتل شيبان الخارجىّ.
ذكر السبب فى ذلك والحيلة التي تمّت له عليهم
أمّا فى أوّل مقدمه، فإنّه لمّا أرسى إلى ساحل عمان لقيهم الجلندى وأصحابه، فاقتتلوا قتالا شديدا وكثر القتل فى أصحاب خازم، وقتل أخ له من أمّه مع تسعين رجلا. ثمّ أشار عليه رجل ممّن كان وقع إلى تلك الناحية أن يجعلوا على أطراف أسنّتهم المشاقة ويروّوها النفط ويشعلوا فيها النيران، ثمّ يمشوا بها حتّى يضرموها فى بيوت أصحاب الجلندى، وكانت من خشب. فلمّا فعل ذلك، وأضرمت بيوتهم بالنيران وشغلوا بها وبمن فيها من أولادهم وأهاليهم، شدّ عليهم خازم وأصحابه، فوضعوا فيهم السيوف وهم غير ممتنعين، وقتل [357] الجلندى فيمن قتل، وبلغ عدّة من قتل عشرة آلاف.
وبعث خازم برؤوسهم إلى البصرة، وبعث منها إلى أبى العبّاس، وأقام خازم
__________
[1] . الجلندى: والضبط من الطبري. (10: 77) .(3/345)
شهرا حتّى أتاه كتاب أبى العبّاس بإقفاله، فقفلوا.
وفى هذه السنة وجّه أبو العبّاس موسى بن كعب إلى الهند [1] لقتال منصور بن جمهور وفرض له ثلاثة آلاف رجل من العرب فشخص حتّى ورد السند، فلقى منصور بن جمهور فى اثنى عشر ألفا، فهزمه، فمضى ومات عطشا فى الرمال.
وفى هذه السنة تحوّل أبو العبّاس من الجزيرة إلى الأنبار، وفيها ضرب المنار من الكوفة إلى مكّة والأميال.
ثمّ دخلت سنة خمس وثلاثين ومائة
ولم يجر فيها شيء يستفاد منه تجربة فى جملة ما انتهى إلينا.
ثمّ دخلت سنة ستّ وثلاثين ومائة
قدوم أبى مسلم العراق من خراسان
وفيها قدم أبو مسلم العراق من خراسان. وكان استأذن أبا العبّاس فى القدوم عليه وفى الحجّ بعد ذلك. فأذن له، وتوجّه إلى أبى العبّاس [358] فى جماعة عظيمة من أهل خراسان ومن معه من غيرهم، فكتب إليه أن:
- «اقدم فى خمسمائة من الجند.» فكتب إليه أبو مسلم:
- «إنّى قد وترت الناس ولست آمن على نفسي.» فكتب إليه أن:
- «أقبل فى ألف، فإنّما أنت فى سلطان أهلك ودولتك، وطريق مكّة لا يحتمل العسكر.»
__________
[1] . انظر الطبري (10: 80) .(3/346)
وكان فى ثمانية آلاف، ففرّقهم بالرّى، وقدم بالأموال والخزائن، فتركها بالرىّ، وجمع أموال الجبل، وشخص منها فى ألف. فلمّا قرب تلقّاه القوّاد والناس حتّى دخل على أبى العبّاس، فأعظمه وأكرمه ثمّ استأذن فى الحجّ، فقال:
- «لولا أنّ أبا جعفر يحجّ لاستعملناك على الموسم.» وكان ما بين أبى جعفر وأبى مسلم متباعدا، لإنّ أبا العبّاس لمّا صفت له الأمور، بعث أبا جعفر إلى خراسان بعهد أبى مسلم على خراسان وبالبيعة لأبى العبّاس ولأبى جعفر من بعده. فبايع له أبو مسلم وأهل خراسان، فأقام أبو جعفر إلى أن أحكم أمره، فجرى عليه من أبى مسلم استخفاف، فلمّا عاد شكاه إلى أخيه، فلمّا قدم أبو مسلم هذه القدمة للحجّ قال أبو جعفر لأبى العبّاس:
- «يا أمير المؤمنين، أطعنى واقتل أبا مسلم، فو الله إنّ [359] فى [1] رأسه لغدرة.» قال: «يا أخى [2] ، قد عرفت بلاءه وما كان منه.» فقال أبو جعفر: «يا أمير المؤمنين، إنّما كان بدولتنا، والله لو بعثت سنّورا لقام مقامه وبلغ ما بلغ.» فقال أبو العبّاس: «كيف نقتله؟» قال: «إذا دخل عليك وحادثته وأقبل عليك، دخلت فتغفّلته فضربته من خلفه ضربة أتيت بها على نفسه.» فقال أبو العبّاس: «فكيف بأصحابه الذين يؤثرونه على دينهم ودنياهم؟» قال: «يؤول ذلك كلّه إلى ما تريد وعلىّ إصلاحه.»
__________
[1] . فى الأصل: لفى. (بلام التأكيد) .
[2] . ما فى الأصل: يا خى.(3/347)
قال: «عزمت عليك إلّا كففت عن هذا الحديث.» قال: «أخاف والله إن لم تتغدّه اليوم أن يتعشّاك غدا.» قال: «دونكه.» [1] فلمّا دخل أبو مسلم على أبى العبّاس، بعث أبو العبّاس خصيا له، فقال له:
- «اذهب فانظر ما يصنع أبو جعفر.» فأتاه فوجده محتبيا بسيفه.
فقال للخصىّ: «أجالس أمير المؤمنين؟» قال: «إنّه قد تهيّأ للجلوس.» ثمّ رجع الخصىّ إلى أبى العبّاس فأخبره بما رأى منه فردّه إلى أبى جعفر وقال:
- «قل له: الأمر الذي عزمت عليه لا تنفذه.» فكفّ أبو جعفر.
وفى هذه السنة حجّ بالناس أبو جعفر المنصور وحجّ معه أبو مسلم.
وفيها توفّى أبو العبّاس أمير المؤمنين بالأنبار لثلاث عشرة [360] خلت من ذى الحجة، وكانت وفاته فيما قيل بالجدرىّ. وكانت سنّه ثلاثا [2] وثلاثين سنة، وكانت ولايته من لدن قتل مروان إلى أن توفّى أربع سنين، ومن لدن بويع بالخلافة إلى أن مات أربع سنين وثمانية أشهر. وكان طويلا أبيض أقنى الأنف حسن الوجه واللحية ذا شعرة جعدة وأمّه ريطة بنت عبد الله [3] بن عبد المدان بن الحارثي وكان وزيره أبو الجهم بن عطيّة.
__________
[1] . فى الطبري (10: 86) فدونكه، أنت أعلم.
[2] . فى الأصل: ثلاث.
[3] . فى الطبري (10: 88) : عبيد الله بن عبد الله بن عبد المدان الديّان الحارثي.(3/348)
خلافة أبى جعفر المنصور
بيعة الناس لأبى جعفر بأمر من أبى العبّاس حين حضرته الوفاة ولمّا حضرته الوفاة أمر الناس بالبيعة لعبد الله بن محمّد أبى جعفر، فبايع الناس بالأنبار، وقام بأمر الناس عيسى بن موسى وأرسل عيسى بن موسى إلى أبى جعفر وهو بمكّة رسولا بموت أبى العبّاس وبالبيعة له، فلمّا أتاه الكتاب كتب إلى أبى مسلم:
- «العجل العجل فقد حدث أمر.» وكان بينه وبن أبى مسلم منزل أبدا، فجاءه أبو مسلم، فلمّا جلس إليه ألقى إليه الكتاب فبكى واسترجع، ثمّ نظر أبو مسلم إلى أبى جعفر وقد جزع جزعا شديدا، فقال:
- «ما هذا الجزع وقد أتتك الخلافة؟» قال:
- «أتخوّف شرّ عبد الله بن علىّ وشيعته.» قال:
- «لا تخفه فأنا أكفيك أمره إن شاء الله. إنّما عامّة جنده ومن معه أهل خراسان [361] وهم لا يعصوننى.» فسرّى عن أبى جعفر، وبايع له أبو مسلم وبايع الناس. وأقبلا حتّى وردا الكوفة.
وفى هذه السنة بعث عيسى بن علىّ وأبو الجهم إلى عبد الله بن علىّ(3/349)
ببيعته [1] المنصور فبايع لنفسه وأبى بيعة المنصور.
ثمّ دخلت سنة سبع وثلاثين ومائة
عبد الله بن علىّ يدعو إلى نفسه
كان نفذ إلى عبد الله بن علىّ أبو غسّان واسمه يزيد بن زياد، وهو حاجب أبى العبّاس بأمر أبى العبّاس قبيل موته ليبايع أبا جعفر، وكان عبد الله قد أدرب متوجّها إلى الروم، فلمّا قدم عليه أبو غسّان جمع أصحابه ونادى مناديه:
- «الصلاة جامعة.» واجتمع إليه القوّاد والجند فقرأ عليهم الكتاب بوفاة أبى العبّاس ودعا الناس إلى نفسه وأخبرهم أنّ أبا العبّاس حين أراد أن يوجّه الجنود إلى مروان بن محمّد دعا بنى أبيه وأرادهم على المسير إلى مروان وقال:
- «من انتدب منكم فسار إليه فهو ولىّ عهدي فلم ينتدب له غيرى.» وعلى هذا خرجت من عنده وقتلت من قتلت.
فقام أبو غانم الطائىّ وخفاف المروروذى فى عدّة قوّاد فشهدوا [362] له بذلك، فبايعه أبو غانم وخفاف [2] وأبو الأصبغ وتتابع القوّاد عليه فيهم حميد بن قحطبة وغيره من أهل خراسان والشام والجزيرة، فلمّا فرغ من البيعة ارتحل فنزل حرّان وفيها مقاتل العكّى، وكان أبو جعفر استخلفه لمّا قدم على أبى العبّاس، فلم يجبه فتحصّن منه فأقام عليه حتّى استنزله من حصنه فقتله.
وسرّح أبو جعفر لقتال عبد الله بن علىّ أبا مسلم، فلمّا بلغ عبد الله إقبال أبى مسلم أقام بحرّان، وجمع إليه الجنود والسلاح، وخندق، وأعدّ الطعام
و
__________
[1] . كذا فى الأصل: ببيعته. فى آوالطبري (10: 91) : ببيعة.
[2] . فى الطبري (10: 93) : خفاف الجرجاني.(3/350)
الأعلاف وما يصلحه. ومضى أبو مسلم لم يتخلّف عنه أحد من القوّاد، وبعث على مقدّمته مالك بن الهيثم الخزاعي وكان معه الحسن وحميد ابنا قحطبة، وكان حميد فارق عبد الله بن علىّ لأنّه أخافه وأراد قتله.
وكان أبو مسلم استخلف على خراسان خالد بن إبراهيم أبا داود، وكان عبد الله بن علىّ خشي ألّا يناصحه أهل خراسان، فقتل منهم نحوا من سبعة عشر ألفا ضروب القتل.
وكتب لحميد بن قحطبة كتابا وجّهه إلى حلب وعليها زفر بن عاصم وفى الكتاب:
- «إذا ورد عليك حميد بن قحطبة فاضرب عنقه.» فسار حميد، ثمّ فكّر فى كتابه فلم ير من الصواب [363] له أن يوصله ولم يقرأه، ففكّ الطومار وقرأه، فلمّا عرف ما فيه دعا قومه من خاصّته، فأفشى إليهم أمره وشاورهم وقال:
- «من أراد أن ينجو ويهرب فليسر معى فإنّى أريد أن آخذ طريق العراق، ومن لم يحمل نفسه على السير فلا يفشينّ سرّى وليذهب حيث أحبّ.» واتّبعه قوم وفوّز بهم ونجا.
ولمّا وافى أبو مسلم مكان عبد الله بن علىّ وهو بنصيبين يخندق لم يعرض له وأخذ طريق الشام وكتب إلى عبد الله:
- «إنّى لم أومر بقتالك ولم أوجّه له ولكن أمير المؤمنين ولّانى الشام وأنا أريدها.» فقال من كان مع عبد الله:
- «كيف نقيم معك وهذا يأتى بلادنا وفيها حرمنا فيقتل من قدر عليه من رجالنا ويسبى ذراريّنا؟ ولكنّا نخرج إلى بلادنا فنمنعه ونقاتله إن قاتلنا.» فقال لهم عبد الله بن علىّ:
- «إنّه والله ما يريد الشام، وما وجّه إلّا إلى قتالكم، ولئن أقمتم ليأتينّكم.»(3/351)
فلم تطب أنفسهم. فأبوا إلّا المسير إلى الشام.
وكان أبو مسلم قد عسكر قريبا منه فارتحل عبد الله بن علىّ متوجّها نحو الشام. وتحوّل أبو مسلم حتّى نزل فى معسكر عبد الله بن علىّ [364] فى موضعه وعوّر ما كان حوله من المياه وألقى فيها الجيف، وبلغ عبد الله بن علىّ ذلك فقال لأصحابه:
- «ألم أقل لكم؟» ثمّ أقبل عبد الله فلم يجد غير موضع عسكر أبى مسلم الذي كان به فاقتتلوا ستّة أشهر.
فحكى من شهد مع أبى مسلم هذه الحرب: أنّه لمّا كان بعد ستّة أشهر التقينا فحمل علينا أصحاب عبد الله، فصدمونا صدمة أزالونا عن مواقفنا وانصرفوا.
وشدّ علينا عبد الصمد فى خيل مجرّدة فقتلوا منّا قوما، ثمّ رجعوا، ثمّ تجمّعوا ورموا بأنفسهم علينا، فأزالوا صفّنا، وجلنا جولة، فقلت لأبى مسلم:
- «لو حرّكت دابّتى حتّى أشرف على هذا التلّ فأصيح بالناس، فقد انهزموا.» قال: «افعل.» قال، قلت: «وأنت أيضا، لو حرّكت دابّتك معى.» فقال: «إنّ أهل الحجى لا يعطفون دوابّهم فى مثل هذه الحال. ناد: يا أهل خراسان، ارجعوا، فإنّ العاقبة للمتّقين.» ففعلت، فتراجع الناس وارتجز أبو مسلم:
من كان ينوي أهله فلا رجع ... فرّ من الموت وفى الموت وقع
وقد كان عمل لأبى مسلم عريش، فكان يجلس فيه [1] إذا التقى الناس
__________
[1] . فى الطبري (10: 97) : عليه.(3/352)
فينظر إلى القتال، فإن رأى خللا فى الميمنة والميسرة، أرسل إلى صاحبها:
- «إنّ فى ناحيتك انتشارا فاتّق [1] الله لا نؤتى [365] من قبلك، افعل كذا، قدّم خيلك إلى موضع كذا، تأخّر إلى موضع كذا.» فإنّما رسله تختلف برأيه إليهم حتّى ينصرف بعضهم عن بعض.
فلمّا كان يوم التقوا، فاقتتلوا قتالا.
فلمّا رأى ذلك أبو مسلم مكر بهم، فأرسل إلى الحسن بن قحطبة، وكان على ميمنته، أن:
- «أعر ميمنتك وضمّ أكثرها إلى الميسرة، وليكن فى الميمنة حماة أصحابك وأشدّاؤهم.» فلمّا رأى ذلك أهل الشام أعروا ميسرتهم وانضمّوا إلى ميمنتهم بازاء ميسرة أبى مسلم.
ثمّ أرسل أبو مسلم إلى الحسن أن:
- «مر أهل القلب فليحملوا مع من بقي فى الميمنة على ميسرة أهل الشام.» قال: فحملوا عليهم فحطّموهم. وجال أهل القلب والميمنة وركبهم أهل خراسان فكانت الهزيمة.
فحكى ابن سراقة الأزدى قال: كنت مع عبد الله بن علىّ، فقال لى:
- «يا سراقة ما ترى؟» قلت: «أرى أن تصير وتقاتل فإنّ الفرار قبيح بمثلك حتّى تقتل وقد [2] عبته على مروان.» قلت: «قبّح الله مروان، جزع من الموت ففرّ.»
__________
[1] . فى آ: بدون «الله» . فى الطبري (10: 97) : فاتّق ألّا توتى.
[2] . كذا فى الأصل: وقد. فى الطبري (10: 98) : وقبل.(3/353)
فقال: «بل آتى العراق.» قلت: «فإنّى معك.» فانهزم مع الناس وتركوا عسكرهم فاحتواه أبو مسلم، وكتب إلى أبى جعفر بالفتح. فأرسل أبو جعفر أبا الخصيب مولاه يحصى ما أصابوا فى [366] عسكر عبد الله بن علىّ، فغضب من ذلك أبو مسلم، ولم يظهر غضبه.
فأمّا عبد الله بن علىّ فإنّه أتى سليمان بن علىّ بالبصرة، وأمّا عبد الصمد فقدم الكوفة، فاستأمن له عيسى بن موسى، فآمنه أبو جعفر وأمر أبو مسلم الناس بالكفّ، فلم يقتل أحدا بعد الهزيمة، وبقي عبد الله بن علىّ متواريا عند سليمان زمانا.
وفى هذه السنة قتل أبو مسلم
حكى مسلم بن المغيرة: أنّه كان مع الحسن بن قحطبة بأرمينية، فلمّا وجّه أبو مسلم إلى الشام، كتب أبو جعفر إلى الحسن أن يوافيه ويسير معه. فقدمنا [1] على أبى مسلم وهو بالموصل، فأقام أيّاما، فلمّا أراد أن يسير استأذنته فى المصير إلى العراق وقلت:
- «أنتم تسيرون إلى القتال، وليس بك إلىّ حاجة.» قال: «نعم، لكن أعلمنى إذا أردت الخروج.» قلت: «نعم.» فتهيّأت، فلمّا فرغت أعلمته وقلت:
- «أتيتك مودّعا.» قال: «قف بالباب حتّى أخرج إليك.»
__________
[1] . انظر الطبري (10: 99: 10: 101) .(3/354)
فخرجت فوقفت، فخرج وقال:
- «أريد أن ألقى إليك شيئا لتبلغه أبا أيّوب، ولولا ثقتي بك [1] لم أخبرك، فأبلغ أبا أيّوب أنّى قد ارتبت بأبى مسلم منذ قدمت عليه. إنّه يأتيه الكتاب من أمير المؤمنين فيقرأه ثمّ يلوى شدقه ويرمى بالكتاب إلى أبى نصر مالك بن الهيثم فيقرأه [367] ثمّ يضحكان ويستهزئان به.» قلت: «نعم.» ومضيت عنه، فلمّا لقيت أبا أيّوب وأنا أرى أنّى قد أتيته بشيء أخبرته، [2] ضحك وقال:
- «نحن لأبى مسلم أشدّ تهمة منّا لعبد الله بن علىّ، إلّا أنّا نرجو واحدة: نعلم أنّ أهل خراسان لا يحبّون عبد الله وقد قتل منهم من قتل.»
ذكر مقتل أبى مسلم صاحب الدولة وسبب ذلك
لمّا ظفر أبو مسلم بعسكر عبد الله بن علىّ، بعث أبو جعفر يقطين بن موسى وأمره بإحصاء ما فى العسكر، فلمّا قدم عليه، وكان يسمّيه: يك دين، قال له أبو مسلم:
- «يا يك دين، أمين على الدماء خائن فى الأموال.» وشتم أبا جعفر، فأبلغه يقطين ذلك.
وأقبل أبو مسلم من الجزيرة مجمعا على الخلاف، وخرج من وجهه معارضا يريد خراسان. وخرج أبو جعفر من الأنبار إلى المدائن، وكتب إلى أبى مسلم فى المصير إليه.
__________
[1] . فى مط: ولولا تقرّبك.
[2] . انظر الطبري (10: 101) .(3/355)
فكتب أبو مسلم وهو على الرواح إلى طريق حلوان:
- «إنّه لم يبق لأمير المؤمنين- أكرمه الله عدوّ إلّا مكّنه الله منه. وقد كنّا نروى عن ملوك آل ساسان أنّ أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء، فنحن نافرون من قربك حريصون على [368] الوفاء بعدك ما وفيت، حريّون بالسمع والطاعة لك، غير أنّها من بعيد حيث تقارنها السلامة، فإنّ أرضاك ذلك فإنّا كأخسّ [1] عبيدك، وإن أبيت إلّا أن تعطى نفسك إرادتها، نقضت ما أبرمت من عهدك ضنّا بنفسي.» فلمّا وصل الكتاب إلى المنصور، كتب إلى أبى مسلم:
«قد فهمت كتابك، وليست صفتك صفة أولئك الوزراء الغششة ملوكهم الذين يتمنّون اضطراب حبل الدولة لكثرة جرائمهم، فإنّما راحتهم فى انتشار نظام الجماعة. فلم سوّيت نفسك بهم وأنت فى طاعتك ومناصحتك واضطلاعك بما حمّلت من أعباء هذا الأمر على ما أنت به، وليس مع الشريطة التي أوحشت [2] منك سمع ولا طاعة. وقد حمّل إليك أمير المؤمنين عيسى بن موسى رسالة لتسكن إليها إن أصغيت، وأسأل الله أن يحول بين الشيطان ونزعاته وبينك، فإنّه لم يجد بابا يفسد به نيّتك أوكد عنده وأقرب
__________
[1] . فى الطبري (10: 104) : كأحسن.
[2] . فى الطبري (10: 104) : أوجبت، بدل «أوحشت» .(3/356)
من ظنّه [1] من الباب الذي فتحه عليك.» وأمر أبو جعفر عيسى بن موسى ومن حضره:
- «اكتبوا إليه تعظمون أمره وتشكرون ما كان منه وتسألونه أن يتمّ ما كان [369] منه وعليه من الطاعة وتحذّرونه عاقبة الغدر وتأمرونه بالرجوع إلى أمير المؤمنين وأن يلتمس رضاه.» ودعا أبا حميد ثمّ قال له:
- «كلّم أبا مسلم بالين ما تكلّم به أحدا، ومنّه، وأعلمه أنّى رافعه وصانع به ما لم يصنعه أحد بأحد إن هو راجع [2] ما أحبّ فإن أبى أن يرجع فقل له: يقول لك أمير المؤمنين نفيت من العبّاس، وأنا بريء من محمّد صلّى الله عليه إن مضيت مشاقا ولم تأتنى إن وكلت أمرك إلى أحد سواي، وإن لم أل طلبك وقتالك إلّا بنفسي، ولو خضت البحر لخضته، ولو اقتحمت النار لاقتحمتها، حتّى أقتلك أو أموت قبل ذلك. ولا تقولّن هذا الكلام حتّى تأيس من رجوعه، ولا تطمع منه فى خير.» فسار أبو حميد فى ناس من أصحابه ممّن يثق بهم حتّى دخل على أبى مسلم، فدفع إليه الكتاب، ثمّ قال:
- «إنّ الناس يبلّغونك عن أمير المؤمنين ما لم يقله، وخلاف ما عليه رأيه
__________
[1] . فى الطبري (10: 104) : من طبّه. فى حواشيه عن الأصول: من ظنّه.
[2] . الضبط من الطبري (10: 105) .(3/357)
فيك، حسدا وبغيا. يريدون إزالة هذه النعمة وتغييرها فلا تفسد ما كان منك.
وكلّمه بأشباه هذا وقال له:
- «يا أبا مسلم، إنّك لم تزل أمين آل محمّد، يعرفك بذلك الناس [370] وما ذخر الله لك من الأجر عنده أعظم ممّا أنت فيه من دنياك، فلا تحبط أجرك ولا يستهوينّك الشيطان.» قال له أبو مسلم:
- «متى كنت تكلّمنى بهذا الكلام.» وأقبل على أبى نصر مالك بن الهيثم. فقال:
- «يا مالك، ألا تسمع؟» .
ذكر آراء أشير بها على أبى مسلم فخالفها
قال: «لا تسمع قوله ولا يهولنّك هذا منه فلعمرى لقد صدقت ما هذا بكلامه فامض لأمرك ولا ترجع، فو الله لقد وقع فى نفسه منك شيء لا يأمنك معه أبدا.» فقال للرسل: «قوموا.» فنهضوا. فأرسل أبو مسلم إلى نيزك وقال:
- «يا نيزك، إنّى والله ما رأيت طويلا أعقل منك، فما ترى؟ فقد جاءت هذه الكتب وقد قال القوم ما قالوا.» قال:
- «لا أرى أن تأتيه وأرى أن تأتى الرىّ فتقيم بها فتصير ما بين خراسان والرىّ لك وهم جندك لا يخالفك أحد، فإن استقام لك استقمت وإن أبى كنت فى جندك، وكانت خراسان من وراءك، فرأيت رأيك.» فدعا أبا حميد فقال:
- «ارجع إلى صاحبك، فليس من رأيى أن آتيه.» قال: «قد اعتزمت على خلافه.»(3/358)
قال: «نعم.» قال: «لا تفعل.» قال: «ما أريد أن ألقاه.» فلمّا آيسه من الرجوع [371] قال له ما أمره به أبو جعفر، فوجم طويلا ثمّ قال:
- «قم.» فكسره ذلك القول ورعّبه.
وكان أبو جعفر قد كتب إلى أبى داود وهو خليفة أبى مسلم على خراسان حين أتّهم أبا مسلم:
- «إنّ لك إمرة خراسان ما بقيت.» فكتب أبو داود إلى أبى مسلم:
- «إنّك لم تخرج لمعصية خلفاء الله وأهل بيت نبيّنا صلّى الله عليه، فلا تخالفنّ إمامك ولا ترجعنّ إلّا بإذنه.» فوافاه كتابه على تلك الحال، فزاده رعبا وهمّا. وأرسل إلى أبى حميد وأبى مالك فقال لهما:
- «إنّى قد كنت معتزما على المضىّ إلى خراسان ثمّ رأيت أن أوجّه أبا إسحاق إلى أمير المؤمنين فيأتينى برأيه فإنّه ممّن أثق به» فوجّه، فلمّا قدم أبو إسحاق تلقّاه بنو هاشم بكل ما يحبّ، وقال له أبو جعفر:
- «اصرفه عن وجهه، ولك ولاية خراسان.» وأجازه، فرجع أبو إسحاق إلى أبى مسلم فقال له:
- «ما أنكرت شيئا، رأيتهم معظّمين لحقّك، يرون لك ما يرون لأنفسهم.»(3/359)
ثمّ أشار عليه بأن يرجع إلى أمير المؤمنين فيعتذر إليه ممّا كان منه [1] .
فأجمع أبو مسلم على ذلك، فقال له نيزك:
- «قد أجمعت على الرجوع؟» قال: «نعم.» وتمثّل:
ما للرجال مع القضاء محالة ... ذهب القضاء بحيلة الأقوام [379]
وقال: «أمّا إذا عزمت على هذا، فاحفظ عنّى واحدة خار الله لك، إذا دخلت عليه فاقتله، ثمّ بايع لمن شئت، فإنّ الناس لا يخالفونك.» وكتب أبو مسلم إلى أبى جعفر يخبره أنّه ينصرف إليه.
قالوا: فقال أبو أيّوب: فدخلت على أبى جعفر وهو فى خباء شعر بالروميّة جالسا على مصلّى بعد العصر، وبين يديه كتاب أبى مسلم، فرمى به إلىّ، فقرأته، ثمّ قال:
- «والله لئن ملأت عيني منه لأقتلنّه.» فقلت فى نفسي: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. 2: 156 طلبت الكتابة حتّى إذا بلغت غايتها، فصرت كاتبا للخليفة وقع هذا بين الناس، والله ما أرى أنّه إن قتل يرضى أصحابه بقتله، ولا يدعون هذا حيّا ولا أحدا ممن يتّصل بهم.
وامتنع منّى النوم.
ثمّ قلت: لعلّ الرجل يقدم وهو آمن، فإن كان آمنا فعسى أن تناول [2] ما تريد وإن قدم وهو حذر لم تقدر عليه. فلو التمست حيلة.»
__________
[1] . فى الأصل: منك. وما أثبتناه يؤيّده السياق والطبري (10: 108) .
[2] . فى الطبري (10: 108) : ينال. وكذلك باقى الأفعال، فى هذه العبارة، فهي كلّها بصيغة الغائب، وآ كالأصل: تنال. المتكلم يخاطب نفسه.(3/360)
ذكر حيلة احتال بها أبو أيّوب المورياني على أبى مسلم حتّى ترك التحرّز
قال أبو أيوب:
فأرسلت إلى سلمة بن سعيد بن جابر وكان يأنس به أبو مسلم فقلت:
- «هل عندك شكر؟» قال: «نعم.» قلت: «إن ولّيتك ولاية تصيب منها ما يصيب صاحب العراق [373] تدخل معك أخى حاتم بن أبى سليمان؟» قال: «نعم.» قلت- وأردت أن يطمع ولا ينكر منه شيئا-: وتجعل له النصف؟» قال: «نعم.» قلت: «إنّ كسكر كالت عاما أوّل كذا وكذا، وفيها العام أضعاف ما كان عام أوّل، [1] فإن دفعت إليك بقبالتها التي كانت عاما أوّل أو بالأمانة أصبت ما تضيق به ذرعا؟» قال: «فكيف لى بهذا؟» قلت: «تأتى أبا مسلم فتلقاه وتكلّمه وتسأله أن يجعل فيما يرفع من حوائجه أن تولّاها أنت بما كانت فى العام الأوّل، فإنّ أمير المؤمنين يريد أن يولّيه إذا قدم ما وراء بابه ويريّح نفسه.» قال: «فكيف لى فى لقاءه ومن لى به؟» قلت: «أنا.» ودخلت على أبى جعفر، فحدّثته الحديث كلّه فلم أخرم منه شيئا. قال:
__________
[1] . كذا فى الأصل والطبري (10: 109) .(3/361)
- «فادع سلمة.» فدعوته. فقال له أبو جعفر:
- «إنّ أبا أيّوب استأذن لك أفتحبّ أن تلقى أبا مسلم؟» قال: «نعم» قال: «فقد أذنت لك فأقرئه السلام وأعلمه تشوّقنا إليه.» قال: فخرج سلمة حتّى لقى أبا مسلم. فقال له:
- «إنّ لى حاجة.» ثمّ قصّ عليه حديث كسكر، وقال له،- «أمير المؤمنين أحسن الناس فيك رأيا.» فطابت نفسه وكان قبل ذلك كئيبا، فلمّا قدم عليه من سلمة ما قدم، سرّى عنه وصدّقه. [374] فلمّا دنا أبو مسلم من المدائن أمر أمير المؤمنين الناس، فتلقّوه. فلمّا كان عشيّة قدم، دخلت على أمير المؤمنين فقلت:
- «هذا الرجل يدخل العشيّة، فما تريد أن تصنع؟» قال: «أريد أن أقتله حين أنظر إليه.» قلت:
- «أنشدك الله، إنّه يدخل معه الناس، وقد علموا ما صنع، فإن دخل عليك ولم يخرج لم آمن البلاء، ولكن إذا دخل عليك، فأذن له حتّى ينصرف، فإذا غدا عليك رأيت رأيك.» وما أردت إلّا دفعه بها، وما ذاك إلّا من خوفي عليه وعلينا جميعا من أصحاب أبى مسلم.
فدخل عليه من عشيّته، وسلّم وقام قائما بين يديه، فقال:
- «انصرف يا عبد الرحمن، فأرح نفسك وادخل الحمّام فإنّ للسفر قشفا، ثمّ أغد علىّ.»(3/362)
فانصرف أبو مسلم، وانصرف الناس، فافترى [1] علىّ أمير المؤمنين حين خرج أبو مسلم وقال:
- «متى أقدر على مثل هذه الحال منه التي رأيته قائما على رجليه ولا أدرى ما يحدث فى ليلتي.» فانصرف، فلمّا أصبحت غدوت عليه، فلمّا رآني قال:
- «يا بن اللخناء، لا مرحبا بك، والله ما غمّضت الليلة.» ثمّ شتمني حتّى خفت أن يقتلني. ثمّ قال:
- «ادع لى عثمان بن نهيك.» فدعوته. فقال:
- «يا عثمان، كيف [375] بلاء أمير المؤمنين عندك؟» قال: «يا أمير المؤمنين، إنّما أنا عبدك، والله لو أمرتنى أن أتّكىء على سيفي حتّى يخرج من ظهري، لفعلت.» قال: «كيف أنت إن أمرتك بقتل أبى مسلم؟» فوجم ساعة لا يتكلّم. فقلت:
- «مالك لا تتكلّم؟» فقال قولة ضعيفة: «أقتله.» قال: «انطلق، فجئنى بأربعة من وجوه الحرس جلداء [2] .» فمضى. فلمّا كان عند الرواق ناداه:
- «يا عثمان، ارجع.» فرجع.
قال: «اجلس.» فجلس.
__________
[1] . كذا فى الطبري (10: 110) فافترى.
[2] . فى الطبري (10: 110) جلد.(3/363)
قال: «أرسل إلى من تثق به من الحرس، فليحضر منهم أربعة.» فقال لوصيف له:
- «انطلق، فادع شبيب بن واج، وادع أبا حنيفة.» حتّى عدّد أربعة، فدخلوا فقال لهم أمير المؤمنين نحو ما قال لعثمان، فقالوا:
- «نقتله.» قال: «كونوا خلف الرواق، فإذا صفّقت، فاخرجوا إليه، فاقتلوه.» ثمّ أرسل إلى أبى مسلم رسلا، بعضهم على إثر بعض، فقالوا:
- «قد ركب.» وأتاه وصيف فقال له:
- «إنّه أتى عيسى بن موسى.» فقلت: «يا أمير المؤمنين، ألا أخرج فأطوف العسكر فأنظر ما يقول الناس، هل ظنّ أحد ظنّا أو تكلّم أحد بشيء.» قال: «بلى.» فخرجت، وتلقّانى أبو مسلم داخلا، فتبسّم، وسلّمت عليه، ودخل، ورجعت، فإذا هو منبطح لم ينتظر به رجوعي [1] . ودخل أبو الجهم، فلمّا راه مقتولا قال:
- «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا [376] إِلَيْهِ راجِعُونَ.» 2: 156 فأقبلت على أبى الجهم فقلت له:
- «أمرته بقتله حين خالف، حتّى إذا قتل قلت هذه المقالة.» فنبّهت رجلا عاقلا [2] فتكلّم بكلام أصلح ما كان منه.
__________
[1] . كذا فى الأصل انظر الطبري (10: 111) .
[2] . كذا فى الأصل وآ: عاقلا. فى مط: غافرا. فى الطبري (10: 111) : غافلا. وفى حواشيه: عاقلا.(3/364)
قال: «يا أمير المؤمنين، ألا أردّ الناس؟» قال: «بلى.» قال: «فأمر بمتاع يحوّل لك إلى رواق آخر من أرواقك هذه.» فأمر بفرش، فأخرجت كأنّه يريد أن يهيّأ له رواق آخر. فخرج أبو الجهم وقال:
- «انصرفوا فإنّ الأمير يريد أن يقيل عند أمير المؤمنين.» ورأوا المتاع ينقل، فظنّوه صادقا، فانصرفوا، ولمّا دخل أبو مسلم قال له:
- «أخبرنى عن نصلين [1] أصبتهما فى متاع عبد الله بن علىّ.» قال: «هذا أحد هما الذي علىّ.» قال: «أرنيه.» فانتضاه، فناوله، فهزّه أبو جعفر، ثمّ وضعه تحت فراشه، وأقبل عليه يعاتبه ويعدّد ذنوبه. فقال:
- «أخبرنى عن كتابك إلى أبى العبّاس تنهاه عن الموات [2] ، أردت أن تعلّمنا الدين؟» قال: «ظننت أنّه لا يحلّ، وكان كتب إلىّ فيه، فأجبته بما عندي.» قال: «فأخبرنى عن تقدمك إيّاى فى طريق مكّة.» قال: «كرهت أن نجتمع على الماء، فيضرّ ذلك بالناس، فتقدّمت توطئه والتماس المرفق.» فقال: «فقولك حين أتاك الخبر بموت أبى العبّاس لمن أشار عليك أن تنصرف [377] إلى أن نقدم فنرى رأينا فمضيت، فلا أنت أقمت حتّى ألحقك،
__________
[1] . النصل فى أحد معانيه: السيف.
[2] . انظر الطبري (10: 113) .(3/365)
ولا أنت رجعت إلىّ.» قال: «منعني من ذلك ما أخبرتك به من طلب المرفق للناس، وقلت يقدم الكوفة وليس عليه منّى خلاف.» قال: «فجارية عبد الله بن علىّ، أردت أن تتّخذها؟» قال: «لا، ولكنّى خفت ضياعها فحملتها فى قبّة ووكلّت بها من يحفظها.» قال: «فمراغمتك إيّاى والخروج إلى خراسان.» قال: «خفت أن يكون قد دخلك شيء منّى، فقلت آتى خراسان وأكتب بعذري وإلى ذاك ما قد ذهب ما فى نفسك علىّ.» قال: «فلم قتلت سليمان بن كثير مع أثره فى دعوتنا وهو أحد نقباءنا [1] .» قال: «إنّما أراد الخلاف فقتلته.» قال: «تقتله وحاله عندنا حاله بتهمة لم تتحقّقها؟» ثمّ قال: «ألست الكاتب إلىّ تبدأ بنفسك، والكاتب إلّى تخطب أمينة بنت علىّ وتزعم أنّك ابن سليط بن عبد الله بن عبّاس؟» فقال أبو مسلم: «يا أمير المؤمنين، لا تتحفّظ علىّ أمثال هذه بعد بلائي وما كان منّى.» وكان أبو مسلم قتل فى دولته وحروبه ستمائة ألف انسان صبرا.» فقال له:
- «يا بن الخبيثة، والله لو كانت أمة مكانك لأجزأت، إنّما عملت ما عملت بريحنا وفى دولتنا، ولو كان ذلك إليك [378] ما قطعت فتيلا.» ثمّ قال أبو جعفر:
- «إنّك لتزيدني بكلامك واحتجاجك غيظا.»
__________
[1] . كذا فى الأصل وآ والطبري (10، 114) : نقباءنا. فى مط: ثقاتنا.(3/366)
وصفّق بيده، وكانت العلامة بينه وبين الحرس [1] ، فخرجوا عليه وضربوه حتّى قتلوه وأدرج فى بساط وأمر أبو جعفر لأصحابه بمال، ونثر دراهم لبقية جنده فاشتغلوا بها، ورمى إليهم برأسه.
ثمّ دعا أبو جعفر بأبى إسحاق صاحب حرس أبى مسلم، فقال:
- «أقسم بالله لئن قطعوا طنبا من أطنابى لأضربنّ عنقك ثمّ لأجاهدنّهم.» فخرج إليهم أبو إسحاق وهم يشغّبون فقال:
- «انصرفوا يا كلاب.» وكان أبو مسلم خلّف أبا نصر فى ثقله وقال:
- «أقم حتّى يأتيك كتابي.» قال:
- «فاجعل بيني وبينك علامة أعرفها وأثق بكتابك معها.» قال:
- «إن أتاك كتابي مختوما بنصف خاتمي، فإنا كتبته وإن أتاك بختمى كلّه فلم أكتبه، ولم أختمه.» فلمّا دنا من المدائن، تلقّاه رجل من قوّاده، فسلّم عليه وقال:
- «أطعنى وارجع، فإنّه إن قدر عليك قتلك.» قال: «أمّا وقد قربت من القوم، فإنّى أكره الرجوع.» وكتب أبو جعفر كتابا عن لسان أبى مسلم إلى أبى نصر يأمره بحمل ثقله وما خلّف عنده، وأن يقدم، وختم الكتاب بخاتم أبى مسلم، فلمّا رأى أبو نصر نقش الخاتم تامّا علم [379] أنّ أبا مسلم لم يكتب به. قال:
- «أفعلتموها؟»
__________
[1] . فى مط: الحرث.(3/367)
وانحدر إلى همذان وهو يريد خراسان.
فكتب أبو جعفر بعهده على شهرزور، ووجّه إليه رسولا بالعهد، فأتاه خبره بعد نفوذ الرسول بالعهد انّه قد توجّه إلى خراسان.
وكتب إلى زهير بن التركيّ وهو على همذان:
- «إن مرّ بك أبو نصر، فاحبسه.» ثمّ كتب إليه كتابا آخر:
- «إن كنت أخذت أبا نصر فاقتله.» وقدم صاحب العهد بالكتاب فوصلت الكتب إلى زهير وأبو نصر بهمذان، فأخذه وحبسه، ثمّ خلّاه لهواه فيه، واحتجّ بأنّ كتاب العهد سبق إلىّ فخلّيت سبيله.
وفى هذه السنة ولّى أبو جعفر أبا داود خالد بن إبراهيم خراسان، وكتب إليه بعهده.
خروج سنباذ طلبا بثأر أبى مسلم
وفيها خرج سنباذ بخراسان يطلب بدم أبى مسلم وكان هذا الرجل مجوسيّا، وأظهر غضبا لقتل أبى مسلم، فطلب بثأره، وكثر أتباعه فتسمّى:
بفيروز اصبهبذ، وغلب على نيسابور، وقومس، والرىّ، وقبض خزائن أبى مسلم التي خلّفها، فوجّه إليه أبو جعفر، جهور بن مرّار [1] العجلى فى عشرة آلاف، فالتقوا بين همذان والرىّ، فهزم سنباذ وقتل من أصحابه نحو من ستين.
ألفا [380] وسبيت ذراريّهم ونساؤهم، ثمّ قتل سنباذ بين طبرستان وقومس.
فكان بين خروجه إلى يوم قتل سبعون ليلة.
__________
[1] . فى مط: مران.(3/368)
خروج ملبّد
وفى هذه السنة خرج ملبّد بن حرملة الشيبانى فحكّم بناحية الجزيرة فخرج إليه ألف رجل من روابط الجزيرة، فقتلهم ملبّد وهزمهم، ثمّ سار إليه روابط الموصل فهزمهم، ثمّ سار إليه يزيد بن حاتم المهلّبى فهزمه ملبّد بعد قتال شديد وقتل ذريع. ثمّ وجّه إليه أبو جعفر المهلهل بن صفوان فى نخب الجند فهزمهم ملبّد، واستباح عسكرهم ثمّ خرج إليه نزار فى عدّة من قوّاد خراسان، فقتله ملبّد وهزم أصحابه، ثمّ وجّه إليه زياد بن مشكان فى جمع كثير فهزمهم ملبّد. ثمّ وجّه صالح بن صبيح فى عسكر كثيف وعدّة من صناديد فهزمهم الملبّد. ثمّ سار إليه حميد بن قحطبة فلقيه الملبّد فهزمه، وتحصّن حميد منه وأعطاه مائة ألف درهم على أن يكفّ عنه.
ثمّ دخلت سنة ثمان وثلاثين ومائة حوادث عدة
وفيها دخل قسطنطين ملك الروم ملطية عنوة فقهر أهلها وملك سورها [381] وهدمه ثمّ عفى عمّن فيها.
وفيها غزا العبّاس بن محمّد بن علىّ بن عبد الله بن العبّاس مع صالح بن علىّ، فوصله صالح بأربعين ألف دينار وخرج معهم عيسى بن علىّ، فوصله أيضا بأربعين ألف دينار فبنى صالح بن علىّ ما كان صاحب الروم هدم من ملطية.
وفى هذه السنة خلع جهور بن مرّار [1] العجلى المنصور وكان سبب ذلك أنّ جهورا لمّا هزم سنباذ وحوى ما فى عسكره وفى جملته خزائن أبى مسلم،
__________
[1] . فى مط: مران.(3/369)
خاف فخلع، فأنفذ إليه المنصور محمّد بن الأشعث الخزاعىّ، فلقيه فقاتله قتالا شديدا، فهزم جهور وقتل من أصحابه خلق كثير وهرب جهور [1] إلى آذربيجان فأخذ بعد ذلك باسفيدروا.
وفى هذه السنة قتل الملبّد الخارجي قتله خازم بن خزيمة بعد قتال شديد وحروب كثيرة لا تستفاد من ذكرها تجربة.
ثمّ دخلت سنة تسع وثلاثين ومائة [2] عبد الرحمن يصير إلى الأندلس
وفى هذه السنة صار عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان إلى الأندلس فملّكه أهلها أمرهم، فولده ولاتها إلى اليوم.
وفيها عزل سليمان بن علىّ [382] عن البصرة، وولّى سفيان بن معاوية، فتوارى عبد الله بن علىّ وأصحابه فبعث أبو جعفر إلى سليمان وعيسى ابني علىّ وكتب إليهما فى إشخاص عبد الله بن علىّ وعزم عليهما أن يفعلا ذلك ولا يؤخّراه، وأعطاهما من الأمان لعبد الله ما رضياه ووثقا به، وجرى فى ذلك ما سنذكره إن شاء الله.
ثمّ استحثّهما بالخروج بعبد الله وبعامّة قوّاده وخواصّ أصحابه فخرجا بعبد الله والجماعة التي التمسها حتّى قدموا على المنصور فلمّا دخل سليمان وعيسى على المنصور سألاه فى عبد الله بن علىّ وأعلماه حضوره، فأنعم لهما وشغلهما بالحديث.
وقد كان هيّأ لعبد الله محبسا فى قصره، وأمر أن يصرف إليه بعد دخول
__________
[1] . كذا فى الطبري (10: 122) أيضا: جهور. فى مط: جمهور.
[2] . فى آ: تسع وستّين ومائة. وهو سهو.(3/370)
سليمان وعيسى، ففعل ذلك به، ثمّ نهض أبو جعفر من مجلسه وقال لسليمان وعيسى:
- «سارعا بعبد الله.» فلمّا خرجا، افتقدا عبد الله بن علىّ من المجلس الذي خلّفاه فيه، فعلما أن قد حبس، فانصرفا راجعين إلى أبى جعفر، فحيل بينهما وبين الوصول إليه، وأخذت عند ذلك سيوف من حضر من أصحاب عبد الله بن علىّ من عواتقهم وحبسوا. [383]
ثمّ دخلت سنة أربعين ومائة هلاك أبى داود عامل خراسان
فمما جرى فيها هلاك أبى داود خالد بن إبراهيم عامل خراسان لخطيئة أخطأها على نفسه، وذلك أنّ ناسا من جنده ثاروا به ليلا وهو نازل بباب كشمهان [1] من مدينة مرو حتّى وصلوا إلى المنزل الذي هو فيه فأشرف أبو داود من الحائط، وجعل ينادى أصحابه ليعرفوا صوته، ووطئ حرف آجرّة خارجة عن الحائط، فانكسرت الآجرّة ووقع على سترة أمامها فانكسر ظهره ومات.
وقام عصام صاحب شرطة أبى داود بخلافته حتّى قدم عبد الجبّار بن عبد الرحمن الأزدى.
ثمّ دخلت سنة إحدى وأربعين ومائة
فمّا جرى فى هذه السنة أمر الرونديّة وما كان من أبى جعفر فى أمرهم.
__________
[1] . فى الطبري (10: 128) : كشماهن. فى آ: كشميهن. وكشميهن قرية كانت عظيمة من قرى مرو فى آخر عملها على طرف البرية لمن يقصد آمل جيحون، خرّبها الرمل (مرا صد الاطلاع) .(3/371)
ذكر أخبار الرونديّة وخروجهم ومقتلهم
الرونديّة قوم كانوا من أهل خراسان على رأى أبى مسلم صاحب دعوة بنى هاشم، يقولون بتناسخ الأرواح، ويزعمون أنّ روح آدم فى عثمان بن نهيك وأنّ جبريل هو الهيثم بن معاوية. [384] وأنّ ربّهم الذي يطمعهم ويسقيهم هو أبو جعفر المنصور، ويعدّدون أرواح قوم مضوا فيدّعون أنّها الآن منتقلة فى أجساد أخرين [1] هم فلان وفلان، ولا تزال تنتقل فى كلّ زمان إلى أجساد قوم فتعاقب فيها أو تثاب.
وكانوا أتوا قصر المنصور فجعلوا يطوفون به ويقولون:
- «هذا قصر ربّنا.» فحكى أبو بكر الهذلي قال: إنّى لواقف بباب أمير المؤمنين إذ طلع فقال لى رجل إلى جانبي:
- «هذا ربّ العزّة، هذا الذي يرزقنا ويطعمنا ويسقينا.» فلمّا رجع أمير المؤمنين ودخل الناس ودخلت وخلا وجهه قلت له:
- «سمعت اليوم عجبا.» وحدّثته، فنكت فى الأرض وقال:
- «يا هذلي، يدخلهم الله عزّ وجلّ النار فى طاعتنا ويقتلهم أحبّ إلينا من أن يدخلهم الجنّة بمعصيتنا.» قال: وأتوا قصر المنصور للطواف حتى شاع خبرهم فأرسل المنصور إلى رؤساء هم فحبس منهم مائتين فغضب أصحابهم وقالوا:
- «علام حبسوا؟» وأمر المنصور ألّا يجتمعوا، فأعدّوا نعشا وحملوا السرير وليس فى النعش
__________
[1] . فى الأصل: أجساد آخر.(3/372)
أحد. ثمّ مرّوا فى المدينة الهاشمية بالكوفة حتّى صاروا على باب السجن، فأخرجوا أصحابهم، وقصدوا نحو المنصور يريدونه [385] وهم يومئذ ستمائة رجل، فتنادى الناس، وغلّقت أبواب المدينة، فلم يدخل أحد فخرج المنصور من القصر ماشيا ولم يكن فى القصر دابّة، فجعل بعد ذلك يرتبط فرسا يكون فى دار الخليفة معه فى قصره.
ولمّا خرج المنصور أتى بدابّة فركبها وهو يريدهم. وجاء معن بن زايدة وانتهى إلى المنصور وقال:
- «أنشدك الله يا أمير المؤمنين إلّا رجعت فانّك تكفى.» وجاء أبو نصر مالك بن الهيثم فوقف على باب القصر وقال:
- «أنا اليوم بوّاب.» ونودى فى السوق، فرموهم وقاتلوهم حتّى أثخنوهم وفتح بابا المدينة فدخل الناس وجاء خازم بن خزيمة على فرس محذوف فقال:
- «يا أمير المؤمنين، أقتلهم؟» قال: «نعم.» فحمل عليهم حتّى ألجأهم إلى حائط، ثمّ كرّوا على خازم، حتّى كشفوه وأصحابه ثمّ كرّ عليهم فاضطرّوهم إلى حائط المدينة وقال للهيثم بن شعبة:
- «إذا كرّوا علينا فاسبقهم إلى الحائط، وإذا رجعوا فاقتلهم.» فحملوا على خازم فاطّرد لهم وصار الهيثم بن شعبة من وراءهم فقتلوا جميعا. وجاءهم يومئذ عثمان بن نهيك وكلّمهم، فرموه، فرجع، فرموه بنشّابة وقعت بين كتفيه فمرض أيّاما ومات.
وأبلى يومئذ برزين [1] بن المصمغان ملك [386] دنباوند. وكان خالف أخاه
__________
[1] . فى آ: برزين الجمعان وهو تصحيف. فى الطبري (10: 130) : أبرويز المصغان.(3/373)
وقدم على أبى جعفر، فأكرمه وأجرى عليه رزقا، فلمّا كان يومئذ أتى المنصور فكفّر له ثمّ قال:
- «أقاتل هولاء؟» قال له: «نعم.» فقاتلهم. فكان إذا ضرب رجلا فصرعه تأخّر عنه، فلمّا قتلوا وصلّى المنصور دعا بالعشاء وقال:
- «اطلبوا معن بن زايدة.» وأمسك عن الطعام حتّى جاء معن، فقال لقثم:
- «تحوّل إلى هذا الموضع.» وأجلس معنا مكان قثم.» فلمّا فرغوا من العشاء قال لعيسى بن علىّ:
- «يا با العبّاس، أسمعت بأسد الرجال؟» قال: «نعم.» قال: «لو رأيت معنا علمت أنّه من تلك الآساد.» قال معن: «والله يا أمير المؤمنين، لقد أتيتك وإنّى لوجل القلب، فلمّا رأيت ما عندك من الاستهانة بهم وشدّة الإقدام عليهم، ورأيت أمرا لم أره من خلق فى حرب، شدّ ذلك من قلبي وحملني على ما رأيت منّى.» قال الفضل بن الربيع: حدّثنى أبى قال: سمعت المنصور يقول:
المنصور يتحدّث عن ثلاث خطيئات- «أخطأت ثلاثة خطيئات وقى الله شرّها: قتلت أبا مسلم وأنا فى خرق ومن حولي يقدّم طاعته على طاعتي ويؤثرها، ولو هتكت الخرق لذهبت ضياعا، وخرجت يوم الرونديّة، ولو أصابنى سهم غرب لذهبت ضياعا، و(3/374)
خرجت إلى الشام ولو اختلف سيفان [387] بالعراق ذهبت الخلاقة ضياعا.» وفى هذه السنة خلع عبد الجبّار بن عبد الرحمن عامل أبى جعفر على خراسان.
ذكر الخبر عن خلع عبد الجبّار وما آل إليه أمره
بلغ المنصور أنّ عبد الجبّار يقتل رؤساء أهل خراسان وكاتبه بعض قوّاده بكتاب فيه: قد نغل الأديم [1] . فقال لكاتبه أبى أيّوب الخورىّ:
- «إنّ عبد الجبّار قد أفنى شيعتنا، وما فعل هذا إلّا وهو يريد أن يخلع.» فقال له:
- «ما أيسر حيلته؟ اكتب إليه: إنّك تريد غزو الروم فيوجّه إليك الجنود من خراسان وعليهم فرسانهم ووجوههم، فإذا خرجوا منها فابعث إليه من شئت فليس به امتناع.» فكتب إليه بذلك، فأجابه:
- «إنّ الترك قد جاشت، وإن فرّقت الجنود ذهبت خراسان.» فألقى الكتاب إلى أبى أيوّب وقال له:
- «ما ترى؟» قال:
- «قد أمكنك من قياده، اكتب إليه: أنّ خراسان أهمّ إلىّ من غيرها، وأنا موجّه إليك الجنود من قبلي. ثمّ وجّه إليه الجنود ليكونوا بخراسان، فإن همّ بخلع، أخذوا بعنقه.» فلمّا ورد على عبد الجبّار هذا الكتاب، كتب إليه:
- «إن خراسان [388] لم تكن قطّ أسوأ حالا منها فى هذا العام، وإن دخلها
__________
[1] . قد نغل الاديمة: انظر الطبري (10: 134) .(3/375)
الجنود هلكوا لضيق ما هم فيه من غلاء السعر.» فلمّا أتاه الكتاب ألقاه إلى أبى أيّوب فقال له:
- «قد أبدى صفحته، وقد خلع، فلا تناظره.» فوجّه إليه محمّدا ابنه وقدّم لحربه خازم بن خزيمة، ثمّ شخص محمّد المهدىّ، فنزل نيسابور وتوجّه خزيمة بن خازم إلى عبد الجبّار، وبلغ ذلك أهل مرو الروذ فقاتلوه وجاهدوا فيه حتّى هرب وتوارى. ثمّ طلبوه حتّى أخذوه أسيرا. فلمّا قدم خازم أتاه [به] [1] فألبسه خازم مدرعة صوف وحمله على بعير وجعل وجهه من قبل عجز البعير حتّى انتهى به إلى المنصور ومعه ولده وأصحابه، فبسط عليهم العذاب حتّى استخرج منه ما قدر عليه من الأموال. ثمّ أمر المسيّب بقطع يدي عبد الجبّار ورجليه وضرب عنقه، ففعل المسيّب وأمر المنصور بتسيير ولده إلى دهلك وهي جزيرة بناحية اليمن.
فتح طبرستان
ولمّا وجّه المنصور محمّدا المهدىّ إلى قتال عبد الجبّار بن عبد الرحمن، فكفى المهدىّ أمر عبد الجبّار بمن حاربه كره المنصور أن تبطل نفقاته التي أنفقت على المهدىّ [389] وجنوده. فكتب إليه: أن يغزو طبرستان وينزل الرىّ ويوجّه أبا الخصيب وخازم بن خزيمة والجنود إلى الإصبهبذ، والإصبهبذ كان يومئذ محاربا للمصمغان ملك دنباوند معسكرا بإزاءه. فبلغه أنّ الجنود دخلت بلاده وأنّ أبا الخصيب دخل سارية، فساء المصمغان ذلك، وقال للإصبهبذ:
- «متى صاروا إليك، صاروا إلىّ.»
__________
[1] . به: الزيادة من الطبري (10: 135) .(3/376)
فأجمعا على محاربة المسلمين. وانصرف الإصبهبذ إلى بلاده. فحارب المسلمين وطالت الحروب. فأشار برزين [1] أخو المصمغان على المنصور بتوجيه عمر بن العلاء، وكان برزين قد عرف عمر أيّام رستقباذ [2] وأيّام الرونديّة وقال:
- «يا أمير المؤمنين، إنّ عمر أعلم الناس ببلاد طبرستان فوجّهه.» وعمر بن العلاء هو الذي يقول فيه بشّار:
فقل للخليفة إن جئته ... نصيحا ولا خير فى المتّهم
إذا أيقظتك حروب العدى ... فنبّه لها عمرا ثمّ نم
فتى لا ينام على دمنة ... ولا يشرب الماء إلّا بدم
فوجّهه المنصور وضمّ إليه خزيمة بن خازم [3] فدخل الرويان وفتحها وأخذ [390] قلعة الطاق وما فيها.
وطالت الحرب وألحّ خزيمة على القتال، ففتح طبرستان وقتل منهم فأكثر.
وصار الإصبهبذ إلى قلعته وطلب الأمان على أن يسلّم القلعة بما فيها من ذخائره. فكتب بذلك المهدىّ إلى أبى جعفر، فوجّه أبو جعفر بصالح صاحب المصلّى وعدّة معه، فأحصوا ما فى الحصن ثمّ انصرفوا. وبدا للإصبهبذ، فدخل بلاد جيلان من الديلم، فمات بها، وأخذت ابنته، فهي أمّ إبراهيم بن العبّاس بن محمّد، وصمدت الجيوش للمصمغان، فظفروا به وبالبحتريّة أمّ منصور بن
__________
[1] . فى الطبري (1: 136) : فى الطبري: أبر.
[2] . فى الطبري: (10: 137) : سنباذ، بدل رستقباذ. فى حواشيه: رستقباذ.
[3] . كذا فى الأصل ومط وآ: خزيم بن خازم. فى الطبري (10: 137) : خازم بن خزيمة.(3/377)
المهدىّ وبصمير [1] أمّ علىّ بن ريطة بنت المصمغان فهذا فتح طبرستان الأوّل.
ثمّ دخلت سنة اثنتين وأربعين ومائة
وفيها نقض إصبهبذ طبرستان، العهد بينه وبين المسلمين، وقتل من كان ببلاده من المسلمين فبلغ ذلك المنصور، فوجّه خازم بن خزيمة وروح بن حاتم، وأبا الخصيب مولى أبى جعفر فقاتلوهم حتّى طال عليهم. فاحتال أبو الخصيب فى ذلك وقال لأصحابه:
- «اضربونى واحلقوا رأسى ولحيتي.» ففعلوا ذلك به، ولحق بالإصبهبذ صاحب [391] الحصن وقال:
- «إنّه ركب منّى ما ترى بتهمة ألحقوها بى وظنّوا أنّ هواى معك.» وأخبره أنّه اليوم معه وأنّه يدلّه على عورة العسكر. فقبل منه الإصبهبذ ذلك وجعله فى خاصّته وألطفه ووكّل به من يتعرّف أخباره فصبر، ولم يزل يظهر طاعته ونصيحته حتّى وثق به وتمكّن ممّا أراد. فراسل أصحابه بل كاتبهم فى نشّابة وواعدهم أن يفتح لهم الباب يوما بعينه. ففعل، فدخلوا وقتلوا من فيها وسبوا الذرارىّ وظفروا ببيت الإصبهبذ وبشكلة [2] أمّ إبراهيم بن المهدىّ وهي بنت كاتب المصمغان، ومصّ الإصبهبذ خاتما له فيه سمّ، فقتل نفسه.
ودخلت سنة ثلاث وأربعين ومائة
ولم يجر فيها ما تستفاد منه تجربة.
__________
[1] . فى الأصل: صمير: فى مط: قمصير. وما فى آ: مهمل. فى الطبري (10: 137) : صمر.
[2] . الضبط من الطبري (10: 140) .(3/378)
ودخلت سنة أربع وأربعين ومائة
محمد وإبراهيم يهمّان المنصور
وفيها أهمّ أبا جعفر المنصور أمر محمّد وإبراهيم ابني عبد الله بن حسن بن حسن بن علىّ بن أبى طالب عليهم السلام.
وكانا قد تخلّفا عنه عام حجّ فى حياة أخيه ولم يحضرا مع من حضر من بنى هاشم.
وكان يقال: إنّ أبا جعفر كان بايع محمّد بن عبد الله ليلة تشاور بنو هاشم [392] بمكّة فيمن يعقدون له الخلافة وذلك حين اضطرب أمر بنى مروان.
فلمّا كان بعد ذلك، واستخلف أبو جعفر لم تكن له همّة إلّا طلب محمّد، والمسألة عنه وعن أخيه فسأل عنهما بنى هاشم رجلا رجلا يخليهم، فيسألهم، فيقولون:
- «يا أمير المؤمنين، قد علم أنّك عرفته يطلب هذا الشأن قبل اليوم. فهو يخافك على نفسه وهو لا يريد لك خلافا ولا يحبّ لك معصية وما أشبه هذا من الكلام، إلّا حسن بن زيد فإنّه أخبره خبره وقال: والله ما آمن وثوبه عليك، فإنّه ممّن لا يغفل عنك، فر رأيك.» فأيقظ من لا ينام، وأخذ فى تتبّعه، ودعا بزياد بن عبيد الله وكان خليفة محمّد بن خالد القسرىّ على المدينة، فبحث عن أمر محمّد، وسأل عنه وعن أخيه فقال زياد:
- «ما يهمّك من أمرهما، أنا آتيك بهما.» فرّده وضمّنه محمّد بن إبراهيم.
وكان يحيى بن خالد بن برمك يقول: اشترى أبو جعفر رقيقا من رقيق الأعراب، ثمّ أعطى الرجل البعير والبعيرين، وربّما أعطى الرجل الذود وفرّقهم فى طلب محمّد فى ظهر المدينة، فكان الرجل منهم يرد الماء كالمارّ وكالضالّ(3/379)
وينقّرون [1] عنه ويتحسسون. [393]
وممّا احتال به أبو جعفر حتّى وقف على أخبارهم
كان عمر بن حفص أوفد وفدا من السند منهم عقبة بن سلم، فدخلوا على أبى جعفر، فلمّا قضوا حوائجهم فأرادوا النهوض ونهضوا، استردّ عقبة، فأجلسه ثمّ قال:
- «من أنت؟» قال: «رجل من جند أمير المؤمنين وخدمه، صحبت عمر بن حفص.» قال: «ما اسمك؟» قال: «عقبة بن سلم بن نافع.» قال: «ممّن أنت؟» قال: «من الأزد، من بنى هناة [2] .» قال: «إنّى لأرى لك هيئة وموضعا وإنّى لأريدك لأمر أنا به معنىّ لم أزل أرتاد له رجلا عسى أن تكونه إن كفيتنيه رفعتك.» فقال: «أرجو أن أصدّق ظنّ أمير المؤمنين فىّ.» قال: «فأخف شخصك واستر أمرك، وأتنى فى يوم كذا وكذا، فى وقت كذا وكذا.» فأتاه فى ذلك الوقت، فقال له:
- «إنّ بنى عمّنا هولاء قد أبوا إلّا كيدا لملكنا واغتيالا له، ولهم شيعة
__________
[1] . فى آ: فينقرون عنه ويتجسسون. فى مط: فينفرون. فى الطبري (10: 145) فيفرّون عنه وو يتجسسون. وما فى الأصل بالحاء المهملة.
[2] . فى الأصل وآ: هناة (من دون مدّ) فى الطبري (10: 146) : هناءة (: هنآة) .(3/380)
بخراسان بقرية كذا، يكاتبونهم، ويرسلون إليهم بصدقات أموالهم وألطاف بلادهم، فاخرج بكتبي [1] مع ألطاف وعين حتّى تأتيهم متنكّرا بكتاب تكتبه عن أهل هذه القرية ثمّ تسير ناحيتهم، فإن كانوا نزعوا عن رأيهم [394] فأحبب والله بهم وأقرب، وإن كانوا على رأيهم علمت ذلك وكنت على حذر فاشخص حتّى تلقى عبد الله بن حسن متقشّفا فإن جبهك وهو فاعل فاصبر وعاوده، فإن عاد فاصبر حتّى يأنس بك ويلين لك ناحيته فإذا ظهر لك ما قبله [2] فأعجل علىّ.» فشخص. حتّى قدم على عبد الله بن حسن فلقيه بالكتاب فأنكره ونهره وقال:
- «ما أعرف هولاء القوم.» فلم ينصرف ويعود إليه حتّى قبل كتابه [3] وألطافه وأنس به، فسأله عقبة الجواب، فقال:
- «أمّا الكتاب، فإنّى لا أكتب إلى أحد ولكن أنت كتابي إليهم، فأقرئهم السلام وأخبرهم أنّ ابنيّ خارجان لوقت كذا وكذا.» قال: فشخص عقبة حتّى قدم على أبى جعفر فأخبره الخبر وبأشياء كان ينتظرها منه. فقال له أبو جعفر:
- «إنّى أريد الحجّ فإذا صرت بمكان كذا وكذا لقيني بنو حسن فيهم عبد الله فأنا مبجّله ورافع [4] مجلسه وداع بالغداء، فإذا فرغنا من طعامنا، فلحظتك فامثل بين يديه، فإنّه سيصرف بصره عنك، فدر حتّى تغمز ظهره بإبهام رجلك
__________
[1] . بكتبي: كذا فى الأصل وآ. ومط. فى الطبري (10: 146) : بكسى.
[2] . فى الطبري (1: 146) : ما فى قلبه.
[3] . كذا فى الطبري (10: 146) أيضا: كتابه.
[4] . فى الأصل: وأرفع. فى آ: ورافع.(3/381)
حتّى تملأ عينه منك ثمّ حسبك وإيّاك أن يراك ما دام يأكل.» فخرج حتّى إذا ترفّع فى البلاد لقيه بنو حسن فأجلس عبد الله [395] إلى جانبه ثمّ دعا بالغداء فأصابوا منه ثمّ أمر به فرفع فأقبل على عبد الله فقال:
- «يا با محمّد قد علمت ما أعطيتنى من العقود والمواثيق ألّا تبغيني سوءا ولا تكيد لى سلطانا.» قال: «فأنا على ذلك يا أمير المؤمنين.» قال: فلحظ أبو جعفر عقبة، فاستدار حتّى قام بين يدي عبد الله فأعرض عنه، ثمّ استدار حتّى قام من وراء ظهره، فغمزه بإصبعه فرفع رأسه فملأ عينه منه، ثمّ وثب حتّى جثا بين يدي أبى جعفر فقال:
- «أقلنى يا أمير المؤمنين أقالك الله.» قال: «لا أقالنى الله إن أقلتك.» وأمر بحبسه.
فحكى أبو حنين قال: دخلت على عبد الله بن حسن وهو محبوس، فقال:
- «هل حدث اليوم خبر؟» قلت:
- «نعم، قد أمر ببيع متاعك ورقيقك، ولا أرى أحدا يقدم على شرائه.» فقال: «ويحك يا با حنين، والله لو خرج بى وببناتى مسترقّين لاشترينا.» فشخص أبو جعفر، وبقي عبد الله بن الحسن فى الحبس ثلاث سنين.
وكان أخوه محمّد وأصحابه أجمعوا على اغتيال أبى جعفر فى سنة أربعين لمّا حجّ، وقال لهم الأشتر عبد الله بن محمّد بن عبد الله:
- «أنّا أكفيكموه.» فقال: محمّد: «لا والله لا أقتله أبدا غيلة حتّى أدعوه.» فنقض أمرهم ذلك، [396] وما كانوا أجمعوا عليه.
وكان دخل معهم قائد من قوّاد أبى جعفر من أهل خراسان، فنمّ بهم إسماعيل بن جعفر بن محمّد الأعرج، فأرسل المنصور فى طلب القائد فلم يظفر(3/382)
به وأفلت مع غلام له بمال فأتى محمّدا به فقسّمه بين أصحابه.
وكان السبب فى ذلك
أنّ أبا جعفر أنفذ عينا له وكتب معه كتبا على ألسن الشيعة بعلامات لهم وقف عليها يذكرون موالاتهم وحسن طاعتهم ومعه مال، فقدم الرجل المدينة، فدخل على عبد الله بن حسن بن حسن فسأله عن محمّد وأعطاه العلامات، فذكر له أنّه فى جبل جهينة وقال:
- «امرر فى طريقك بعلىّ بن الحسن، الرجل الصالح الذي يدعى الأغرّ، فإنّه يرشدك.» فأتاه فأرشده. وكان لأبى جعفر كاتب على سرّه، وكان متشّيعا، فكتب إلى عبد الله بن الحسن بأمر ذلك العين وما بعث له. فقدم الكتاب على عبد الله بن الحسن، فارتاع وبعث أبا هيّار [1] إلى علىّ بن الحسن وإلى محمّد يحذّرهما الرجل، فخرج أبو هيّار حتّى نزل بعلىّ بن الحسن، فسأله عن الرجل فأخبره:
أن قد أرشده.
قال أبو هيّار: فجئت محمّدا فى موضعه [397] الذي هو به فإذا هو جالس فى كهف معه قوم، والرجل معهم أعلاهم صوتا وأشدّهم انبساطا، فلمّا رآني ظهر عليه بعض التكرّه، وجلست مع القوم، فتحدّثت مليّا، ثمّ أصغيت إلى محمّد فقلت:
- «إنّ لى حاجة.» فنهض، ونهضت معه، فأخبرته خبر الرجل. فاسترجع وقال:
- «فما الرأى؟»
__________
[1] . فى الطبري (10: 157) : هبار (بالباء الموحدة) .(3/383)
فقلت: «إحدى ثلاث أيّها شئت فافعل.» قال: «وما هي؟» قلت: «تدعني حتّى أقتل الرجل.» قال: «سبحان الله، ما أقرب دما إلّا وأنا مكره، أو ماذا؟» قلت: «توقّره حديدا أو تنقله حيث انتقلت.» قال: «وهل بنا فراغ له مع الخوف والإعجال؟ أو ماذا؟» قلت: «تشدّه وتضعه عند بعض أهل ثقتك من جهينة.» قال: «هذا إذا.» فرجعنا وقد نذر الرجل، فهرب فقلت:
- «فأين الرجل؟» قالوا: «قام بركوة فاصطبّ ماء، ثمّ توارى بهذا الظرب [1] يتوضّأ.» قال: فجلنا فى الجبل وما حوله، فكأنّ الأرض التأمت عليه. وكان سعى على قدميه حتّى شرع على الطريق، فمّر به أعراب معهم حمول إلى المدينة، فقال لبعضهم:
- «فرّغ هذه الغرارة فأدخلنيها أكن عدلا لصاحبها ولك كذا وكذا.» قال: «نعم.» ففرّغها، وحمله إلى المدينة. ثمّ قدم [398] على أبى جعفر فأخبره الخبر كلّه وعمى عن اسم أبى هيّار وكنيته وعلّق وبرا. فكتب أبو جعفر فى طلب وبر المزني فحمل إليه رجل يدعى وبرا فسأله عن قصّة محمّد وما حكى عنه العين، فحلف أنّه ما يعرف من ذلك شيئا فأمر به، فضرب سبعمائة سوط وحبس حتّى مات.
__________
[1] . كذا فى الطبري (10: 157) . فى آ: الطرف.(3/384)
من غريب الحكايات
فمن الحكايات الغريبة فى ذلك الوقت أنّ المنصور كان عنده قوم يتكهّنون فيخبرونه بموضع محمّد. فكتب بعض أصحاب محمّد ممّن كان يتشيّع ويصحب أبا جعفر:
- «لا تقيمنّ فى موضعك إلّا قدر ما يسير إليك البريد من العراق.
فكان يقال لأبى جعفر: نرى محمّدا ببلاد فيها الأترج والأعناب. فيكون بالمدينة وينتقل، ثمّ يرونه بالبيضاء وهي من وراء الغابة على عشرين ميلا وهي لأشجع، فيكتب إليها، فيقال له: قد خرج. ثمّ يقال له: إنّه ببلاد الجبال والقلات [1] ، فيطلبه فيقال: خرج، ثمّ يقال له: هو ببلاد الحبّ والقطران، فيقول:
هذه بلاد رضوى، فيطلبه ولا يجده.
وكان الناس يقولون: عند أبى جعفر مرآة ينظر فيها فيعلم الغيب منها، ويكثرون من الأحاديث، [399] ولا يشكّون فى أنّ أبا جعفر يطّلع الغيب ويعلمون لذلك خرافات مختلفه من أخبار الجنّ والمرآة التي ذكرتها.
ولمّا طلب محمّد فى شعاب رضوى من جبل جهينة بخيل ورجال، فزع محمّد وكان هناك، فأحضر شدّا فأفلت. وكان له ابن صغير ولد فى خوفه ذلك وكان مع جارية له فهوى من الجبل فتقطّع. فقال محمّد:
منخرق السربال يشكو الوجى ... تنكبه أطراف مرو حداد
شرّده الخوف فأزرى به ... كذاك من يكره حرّ الجلاد
قد كان فى الموت له راحة ... والموت حتم فى رقاب العباد
وقال محمّد: لمّا ظهر، بينا أنّا بالحرّة مصعدا ومنحدرا، إذا أنا بخيل أبى
__________
[1] . جمع قلت، وهو النقرة تكون فى الجبل يستنقع فيه الماء. (مراصد الإطلاع) .(3/385)
جعفر ورجاله وعليهم رياح بن عثمان يطلبني فعدلت إلى بئر فوقفت بين قرنيها أستقى، فلقيني رياح صفحا فقال:
- «قاتله الله أعرابيا، ما أحسن ذراعه.» وحكى بعضى أصحاب محمّد قال: غدوت يوما مع محمّد وعليه قميص غليظ ورداء قرقبي مفتول، فخرجنا من موضع كان فيه، وذكره، حتّى إذا كان قريبا التفت فإذا رياح فى جماعة أصحابه ركبان فقلت:
- «إِنَّا لِلَّهِ [400] وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. هذا رياح.» فقال غير مكترث:
- «امضه.» فمضيت وما تقلّنى رجلاي، وتنحّى هو عن الطريق، فجلس وجعل ظهره ممّا يلي الطريق وسدل هدب رداءه على وجهه وكان جسيما، فلمّا حاذاه رياح قال لأصحابه:
- «امرأة رأتنا فاستحيت.» فأعرض ومضى.
أخذ جماعة بنى حسن بن حسن
ولمّا أعيا المنصور محمّد وإبراهيم تقدّم بأخذ جماعة بنى حسن بن حسن فأخذ رياح، وكان والى المدينة، حسن بن حسن بن حسن [1] ، وإبراهيم أخاه، وحسن بن جعفر بن حسن، وسليمان بن عبد الله ابني داود بن حسن بن حسن، وعبّاس بن حسن بن حسن بن حسن، وكان صغيرا، فقالت أمّه عائشة بنت طلحة بن عمر بن عبيد الله بن معمر:
__________
[1] . انظر الطبري (10: 170- 169) .(3/386)
- «دعوني أشمّه.» وكان أخذ من باب داره. قالوا:
- «لا والله ما كنت حيّة.» وحبس معهم موسى بن عبد الله وعلىّ بن محمّد بن عبد الله، وحملوا إلى أبى جعفر، وكان محمّد أتى أمّه هند وقال:
- «إنّى قد حملّت أبى وعمومتي ما لا طاقة لهم به، وقد هممت أن أضع يدىّ فى أيديهم، فعسى أن يخلّى عنهم.» فتنكّرت ولبست أطمارا، ثمّ جاءت السجن، فعرفها بعضهم فقام إليها فأخبرته عن محمّد فقالوا:
- «كلّا بل نصبر فإنّا نرجو أن يفتح الله له خيرا، قولي له ليدع إلى أمره، وليجدّ فيه فإنّ فرجنا بيد الله.» فانصرفت وتمّ محمّد على بغيته.
وكان [401] محمّد وإبراهيم يراسلان أباهما ويستأذنانه فى الخروج فيقول:
- «لا تعجلا إن منعكما أبو جعفر أن تعيشا كريمين فلن يمنعكما أن تموتا كريمين.»
رأس محمد بن عبد الله يبعث إلى خراسان
ووردت على المنصور كتب عمّاله بخراسان أنّ أهل خراسان قد تقاعسوا عنّا وطال عليهم أمر محمد بن عبد الله فأمر أبو جعفر بمحمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، فضربت عنقه، وبعث برأسه إلى خراسان، وحلف أنّه رأس محمّد بن عبد الله. وكان المنصور قد ضربه بالسوط قبل ذلك وعذّبه. وكان جميلا وضيئا، فأمر المنصور أن يدخل عليه حين قدم به، وكان عليه قميص و(3/387)
إزار وثوب رقيق تحت قميصه، فلمّا وقف قال:
- «إيّها يا ديّوث!» قال محمّد: «سبحان الله، والله لقد عرفتني بغير ذلك صغيرا وكبيرا.» قال: «فمّمن حملت ابنتك وكانت تحت إبراهيم بن عبد الله بن حسن، وقد أعطيتنى الأيمان بالطلاق والعتاق ألّا تغشّنى ولا تمالئ علىّ عدوّى ثمّ أنت تدخل على ابنتك مختضبة متعطّرة ثمّ تراها حاملا يعجبك حملها، فأنت بين أن تكون حانثا أو ديّوثا، وأيم الله إنّى لأهمّ برجمها.» فقال محمّد:
- «أمّا أيمانى فهي علىّ إن كنت دخلت لك فى أمر غشّ علمته. وأمّا ما رميت به هذه الجارية فإنّ الله قد أكرمها عن ذلك بولادة [402] رسول الله صلّى الله عليه إيّاها، ولكنّى قد ظننت حين ظهر حملها أنّ زوجها ألمّ بها على حين غفلة منّا.» فأحفظ المنصور كلامه وأمر بشقّ ثيابه فشقّ قميصه عن إزاره فأشفّ عن عورته ثمّ أمر به فضرب خمسين ومائة سوط فبلغت منه كلّ مبلغ وأبو جعفر يفترى عليه ولا يكنى فأصاب سوط منها وجهه فقال:
- «ويحك، اكفف عن وجهى فإنّ له حرمة برسول الله صلّى الله عليه.» قال: فأغرى أبو جعفر بأن يقول للجلّاد:
- «الرأس، الرأس.» فضرب على رأسه نحو من ثلاثين فكان السوط ينثني فيصيب وجهه فأصاب بعضها إحدى عينيه فندرت ثمّ أخرج فى ساجور [1] شدّ فى عنقه وقيود فى رجليه حتّى ردّ إلى أصحابه.
__________
[1] . فى الطبري (10: 176) : فى ساجور من خشب.(3/388)
وكان أوّل ما حصل فى قلب أبى جعفر منه أنّ رياحا قال له يوما:
- «يا أمير المؤمنين، أمّا أهل خراسان فشيعتك وأنصارك وأمّا أهل العراق فشيعة آل أبى طالب، وأمّا أهل الشام فو الله ما علىّ عندهم إلّا كافر وما يعتّدون بأحد من ولده ولكن أخاهم محمّد بن عبد الله بن عمرو لو دعا أهل الشام ما تخلّف عنه منهم أحد.» فوقعت فى نفس أبى جعفر إلى أن حجّ، فكان من أمره ما كان.
بنى على الديباج وهو حىّ
وكان [403] محمّد بن إبراهيم بن حسن بن حسن يقال له الديباج. فلمّا أدخل على أبى جعفر، نظر إليه وقال:
- «أنت الديباج؟» قال: «نعم.» قال: «أما والله لأقتلنّك قتلة ما قتلها أحد من أهل بيتك.» ثمّ أمر باسطوانة مبنيّة فعرقبت وأمر حتّى أدخل فيها ثمّ بنى عليه وهو حىّ.
وكان محمّد هذا ممّن يختلف إليه الناس ينظرون إلى حسنه.
ثمّ إنّ أبا جعفر المنصور كان يسقى واحدا بعد واحد فماتوا جميعا إلّا ثلاثة نفر: فأمّا عبد الله بن حسن فاختلف فيه فقال قوم قتل وقال آخرون بل دسّ إليه المنصور من أخبره أنّ محمّدا ابنه قد ظهر فقتل، فانصدع قلبه فمات.
ودخلت سنة خمس وأربعين ومائة
ظهور محمد بن عبد الله من المذار
وفيها ظهر محمّد بن عبد الله من المذار فى مائتين وخمسين رجلا، وجاء(3/389)
حتّى استبطن السوق وأتى السجن فدقّه وأخرج من كان فيه. وقيل إنّ عبيد الله بن عمر، وابن أبى ذيب وعبد الحميد بن جعفر دخلوا على محمّد قبل خروجه وقالوا:
- «ما تنظر بالخروج، والله ما نجد فى هذه الأمّة أشأم [1] عليها [404] منك، ما يمنعك أن تخرج وحدك.» فلمّا خرج أقبل إلى الدار فامتنعت عليه فجعل يقول لأصحابه:
- «لا تقتلوا واقصدوا [2] باب المقصورة.» فأتوها وحرّقوا الباب، فلم يستطع أحد أن يجتاز فوضع رزام مولى القسرىّ ترسه على النار، ثمّ تخطّى عليه، فصنع الناس ما صنع، ودخلوا فأفلت قوم وأخذ قوم وتعلّق رياح فى مشرفة [3] فى دار مروان وأمر بدرجها فهدمت فصعدوا إليه فأنزلوه وحبسوه فى دار مروان مع أخيه عبّاس بن عثمان. وكان محمّد بن خالد القسريّ وابن أخيه النذير بن يزيد ورزام فى الحبس فأخرجهم محمّد وأمر النذير بالاستيثاق من رياح وأصحابه فقال رزام للنذير:
- «دعني وإيّاه فقد رأيت عذابه له.» قال: «شأنك به.» وقام ليخرج، فتعلّق بثوبه رياح وضرع إليه وقال له:
- «يا با قيس، قد كنت أفعل بكم ما أفعل وأنا بسؤددكم عالم.» فقال له النذير:
- «فعلت ما كنت أهله، ونفعل ما نحن أهله.» وخرج فتناوله رزام فلم يزل [405] رياح يطلب إليه حتّى كفّ وقال:
__________
[1] . فى مط: أشار، بدل «أشأم» .
[2] . فى مط: لا تقصدوا واطلبوا.
[3] . فى آ: مشرفة. فى الطبري (10: 196) : مشربة.(3/390)
- «والله إن كنت لبطرا عند القدرة لئيما عند البليّة.» ولمّا صعد محمّد المنبر حمد الله وأثنى عليه ثمّ قال:
- «أمّا بعد، أيها الناس، فإنّه كان من أمر هذه الطاغية عدوّ الله أبى جعفر ما لم يخف عليكم من بنائه القبّة الخضراء التي بناها معاندة لله فى ملكه وتصغيرا لكعبة الله الحرام، وإنّ أحقّ الناس بالقيام فى هذا الدين أبناء المهاجرين الأولين والأنصار المواسين.
- «اللهم إنّهم قد أحلّوا حرامك وحرّموا حلالك وآمنوا من أخفت وأخافوا من آمنت.
- «اللهم فأحصهم عددا واقتلهم بددا ولا تغادر منهم أحدا.
- «أيّها الناس، إنّى والله ما خرجت بين أظهركم وأنتم عندي أهل قوّة ولا شدّة، ولكنّى اخترتكم لنفسي، والله ما جئت هذه وفى الأرض مصر يعبد الله فيه إلّا وقد أخذ لى [1] .» ونزل ثمّ استعمل على المدينة عثمان بن محمّد بن خالد بن الزبير وعلى قضاءها عبد العزيز بن المطلّب المخزومي [406] وعلى ديوان العطاء عبد الله بن جعفر بن المسور بن مخرمة وعلى الشرط أبا القلمّس عثمان بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب. وأرسل محمّد إلى إسماعيل بن عبد الله بن جعفر، وكان قد بلغ عمرا طويلا، فدعاه إلى البيعة له، فقال:
- «يا بن أخى، أنت والله مقتول، فكيف أبايعك؟» فارتدع الناس قليلا.
__________
[1] . زاد فى الطبري (10: 197) : فيه البيعة.(3/391)
وحكى عن محمد بن خالد القسرىّ، قال:
- «لمّا ظهر محمّد وأنا محبوس أطلقنى، ولمّا سمعت دعوته التي دعا إليها على المنبر قلت: هذه دعوة حقّ والله لأبلينّ فيها بلاء حسنا.
فقلت: يا أمير المؤمنين، إنّك قد خرجت بهذا البلد وو الله لو وقف على نقب من أنقابه مات أهله جوعا وعطشا فانهض معى فإنّما هي عشر حتّى أضربه بمائة ألف سيف.» فأبى علىّ. فإنّى لعنده يوما إذ قال:
- «ما وجدنا من حرّ المتاع أجود من شيء وجدناه عند ابن أبى فروة ختن أبى الخصيب وكان انتهبه.» قال: فقلت فى نفسي: ألا أراك قد أبصرت حرّ المتاع؟ فكتبت إلى أمير المؤمنين فأخبرته بقلّة من معه، فعطف علىّ فحبسني حتّى أطلقنى عيسى بن موسى بعد قتله إيّاه.
وكان محمّد آدم شديد الأدمة، أدلم جسيما عظيما، وكان يلقّب القاري [407] من أدمته حتّى كان يسميه أبو جعفر محمما.
وقال إبراهيم بن زياد بن عنبسة: كان محمّد عظيم الخلق ما رأيته رقا المنبر قطّ إلّا سمعت تقعقعه من تحته وإنّى لبمكانى ذلك.
وتحدّث جماعة حضروه: أنّ محمّدا خطب يوما فاعترض فى حلقه بلغم.
فتنحنح، فذهب ثمّ عاد فتنحنح فذهب، ثمّ عاد فتنحنح، ونظر فلم ير موضعا فرمى بنخامته سقف المسجد فألصقها به. ولمّا خرج محمّد جزع أبو جعفر وأشفق منه فجعل الحارثىّ المنجم يقول له:
- «يا أمير المؤمنين ما يجزعك منه؟ فو الله لو ملك الأرض ما لبث إلّا تسعين يوما.» ولمّا ظهر محمّد وإبراهيم ابنا عبد الله أرسل أبو جعفر إلى عمّه عبد الله بن(3/392)
علىّ وهو محبوس، وقال: إنّه لذو رأى، فاستشاره. وقال:
- «إنّ هذا الرجل قد خرج فإن كان عندك رأى فأشربه.» فقال:
- «إنّ المحبوس محبوس الرأى، فأخرجنى يخرج رأيى.» فأرسل إليه أبو جعفر:
- «لو جاءني حتّى يضرب بابى ما أخرجتك، فأنا خير لك منه وهو ملك أهل بيتك.» فأرسل إليه عبد الله:
- «ارتحل الساعة حتّى تأتى الكوفة فاجثم على أكبادهم [408] فإنّهم شيعة هذا البيت وأنصارهم. ثمّ احففها بالمسالح فمن خرج منها أو أتاها فاضرب عنقه، ثمّ ابعث إلى سلم بن قتيبة ينحدر عليك- وكان بالرّى- واكتب إلى أهل الشام فمرهم أن يوجّهوا إليك أهل البأس والنجدة ما يحمل البريد، فأحسن جوائزهم، ووجّههم مع سلم.» ثمّ قال لرسل أبى جعفر وهم أخوته:
- «ويحكم إنّ البخل قد قتله فمروه فليخرج الأموال وليعط الأجناد فإن غلب فما أوشك ما يعود إليه ماله، وإن غلب لم يقدم صاحبه على درهم.»
رسائل بين محمد بن عبد الله وأبى جعفر
وتحدّث محمّد بن يحيى قال: نسخت هذه الرسائل من محمّد بن بشير، وكان يصححها، وحدّثنيها غير واحد من كتّاب العراق، وكانوا يصححونها.
قالوا: وردت رسالة لمحمّد على أبى جعفر، فقال أبو أيّوب الخوزىّ كاتبه:
- «دعني أجبه عنها.» فقال: «لا، إذا تقارعنا على الأحساب فدعني وإيّاه.»(3/393)
وكتب إليه: [1] بسم الله الرحمن الرحيم
رسالة أبى جعفر المنصور إلى محمد بن عبد الله
«من عبد الله عبد الله أمير المؤمنين، إلى محمّد بن عبد الله. إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ في الْأَرْضِ [409] فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ من خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا من الْأَرْضِ، ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ في الدُّنْيا وَلَهُمْ في الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا من قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ. [2] 5: 33- 34- «ولك علىّ الله وعهده وميثاقه وذمّته وذمة رسوله عليه السلام، إن تبت ورجعت من قبل أن أقدر عليك أن أومنك وجميع ولدك وإخوتك وأهل بيتك ومن اتّبعكم على دماءكم وأموالكم وأسوّغك ما أصبت من دم أو مال، وأعطيك ألف ألف، وما سألت من الحوائج، وأنزلك من البلاد حيث شئت، وأن أطلق من فى حبسي من أهل بيتك وأن أؤمن كلّ من جاءك أو بايعك واتبعك، أو دخل فى شيء من أمرك، ثمّ لا أتبع أحدا منهم بشيء كان منه أبدا فإن أردت أن توثق لنفسك فوجّه إلىّ بمن أحببت يأخذ لك منّى الأمان والعهد والميثاق وما تثق به.»
__________
[1] . انظر الطبري 208: 10.
[2] . س 5 المائدة: 33.(3/394)
وكتب على العنوان من عبد الله عبد الله أمير المؤمنين، إلى محمّد بن عبد الله.
فكتب إليه محمّد بن عبد الله:
جواب محمد بن عبد الله
- «من عبد الله المهدى [410] محمّد بن عبد الله إنى عبد الله بن محمّد: طسم، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ نَتْلُوا عَلَيْكَ من نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا في الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ 28: 1- 4- إلى قوله- وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ 28: 6 [1] وأنا أعرض عليك من الأمان مثل ما عرضت علىّ، فإنّ الحقّ حقّنا، وإنّما ادّعيتم هذا بنا وخرجتم له بشيعتنا وحظيتم بفضلنا، وإنّ أبانا عليّا كان الوصىّ وكان الإمام وكيف ورثتم ولايته وولده أحياء.
- «ثمّ قد علمت أنّه لم يطلب هذا الأمر أحد له مثل نسبنا وشرفنا وحالنا وشرف آباءنا. لسنا من أبناء اللعناء ولا الطرداء ولا الطلقاء وليس يمتّ أحد من بنى هاشم بمثل الذي نمت به من القرابة والسابقة والفضل، فإنّا بنو أمّ رسول الله صلّى الله عليه فاطمة بنت عمرو فى الجاهلية وبنو ابنته فاطمة فى الإسلام دونكم. إنّ الله اختارنا واختار لنا، فوالدنا من النبيّين محمّد صلّى الله عليه وسلّم أفضلهم ومن السلف أوّلهم إسلاما علىّ ومن الأزواج أفضلهن [411] خديجة الطاهرة وأوّل من صلّى القبلة ومن البنات خيرهن فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة ومن المولودين
__________
[1] . س 28 القصص: 3(3/395)
فى الإسلام حسن وحسين سيّدا شباب أهل الجنّة وإنّ هاشما ولد عليّا مرّتين، وإنّ عبد المطلب ولد حسنا مرتين وإنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولدني مرتين من قبل حسن وحسين، فانّى أوسط بنى هاشم نسبا، وأصرحهم أبا، لم تعرق فىّ العجم، ولم تنازع فىّ أمّهات الأولاد، فما زال الله يختار لى الآباء والأمّهات فى الجاهلية والإسلام، حتّى اختار لى فى النار. فأنا ابن أرفع الناس درجة فى الجنّة، وابن أهونهم عذابا فى النار، وأنا ابن خير الأخيار، وابن خير الأشرار، وابن خير أهل الجنّة وابن خير أهل النار.
- «ولك الله، إن دخلت فى طاعتي وأجبت دعوتي، أن أومنك على نفسك ومالك وعلى كلّ أمر أحدثته إلّا حدا من حدود الله أو حقا لمسلم أو معاهد، فقد علمت ما يلزمك من ذلك وأنا أولى بالأمر منك وأوفى بالعهد لأنّك أعطيتنى من العهد [412] والأمان ما أعطيته رجالا قبلي، فأىّ الأمانات تعطيني أمان ابن هبيرة، أم أمان عمّك عبد الله بن علىّ، أم أمان أبى مسلم!»
فكتب إليه أبو جعفر
- «بسم الله الرحمن الرحيم أمّا بعد، فقد بلغني كلامك، وقرأت كتابك، فإذا جلّ فخرك بقرابة النساء لتضلّ به الجفاة والغوغاء، ولم يجعل الله النساء كالعمومة والآباء، ولا كالعصبية والأولياء لأنّ الله جعل العمّ أبا وبدأ به فى كتابه على الوالدة الدنيا ولو كان اختيار الله لهن على قدر قرابتهن كانت آمنة أقربهنّ رحما وأعظمهنّ حقّا أوّل من يدخل الجنّة غدا، ولكن اختيار الله لخلقه(3/396)
على علمه الماضي فيهم واصطفائه لهم.
«وأمّا ما ذكرت من فاطمة أمّ [1] أبى طالب وولادتها، فإنّ الله لم يرزق أحدا من ولدها الإسلام لا ابنة ولا ابنا، ولو أنّ أحدا من ولدها رزق الإسلام بالقرابة رزقه عبد الله بن عبد المطلب أولاهم بكلّ خير فى الدنيا والآخرة، ولكنّ الأمر إلى الله [413] يختار لدينه من يشاء وهو أعلم بالمهتدين ولقد بعث الله محمّدا صلّى الله عليه وله عمومة أربعة، فأنزل الله: وأنذر عشيرتك الأقربين [2] ، فدعاهم وأنذرهم، فأجاب اثنان أحدهما أبى، وأبى اثنان أحدهما أبوك فقطع الله ولايتهما منه ولم يجعل بينه وبينهما إلّا ولا ذمّة ولا ميراثا.
- «وزعمت أنّك ابن خير أهل النار، وأنّك ابن خير الأشرار، وابن أخفّ أهل النار عذابا وليس فى الكفر بالله صغير ولا فى عذاب الله خفيف ولا يسير، وليس فى الشرّ خيار ولا ينبغي لمؤمن يؤمن بالله أن يفخر بالنار. وسترد فتعلم وسيعلم الذين ظلموا أىّ منقلب ينقلبون [3] .
- «وأمّا ما فخرت به من فاطمة أمّ علىّ، فإنّ هاشما ولده مرتين ومن فاطمة أمّ حسن وأنّ عبد المطلب ولده مرتين، وأنّ النّبى صلّى الله عليه وسلّم ولدك مرتين، فخير الأوّلين والآخرين رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، لم يلده هاشم إلّا مرة واحدة ولا عبد المطلب إلّا مرّة.
__________
[1] . فى آ: بنت أبى طالب
[2] . س 26 الشعراء: 214
[3] . س 26 الشعراء. آيه: 227(3/397)
- «وزعمت أنّك أوسط [414] بنى هاشم نسبا وأصرحهم أبا وأنّه لم تلدك العجم، ولا تعرق فيك أمّهات الأولاد فقد رأيتك فخرت على بنى هاشم طرّا، فانظر ويحك أين أنت من الله غدا، فإنّك قد تعدّيت طورك وفخرت على من هو خير منك نفسا وأبا وأولا وآخرا إبراهيم بن رسول الله، صلّى الله عليه وعلى والده، وما خيار بنى أبيك خاصّة وأهل الفضل منهم إلّا بنو أمّهات الأولاد ما ولد فيكم بعد وفاة رسول الله، صلّى الله عليه، أفضل من علىّ بن الحسين وهو لأمّ ولد، ولهو خير من جدّك حسن بن حسن وما كان فيكم بعده مثل ابنه محمّد بن علىّ وجدّته أمّ ولد، ولهو خير من أبيك، ولا مثل ابنه جعفر، وجدّته أم ولد، ولهو خير منك.
- «وأمّا قولك إنّكم بنو رسول الله، صلّى الله عليه، فإنّ الله عزّ وجلّ قال فى كتابه: ما كان محمّد أبا أحد من رجالكم [1] ولكنّكم بنو ابنته وإنّها لقرابة قريبة ولكنّها لا تحوز الميراث ولا ترث الولاية ولا تجوز لها الإمامة وكيف تورث بها ولقد طلبها أبوك بكل وجه فأخرجها جهارا ومرّضها سرّا ودفنها ليلا، فأبى الناس إلا [415] الشيخين وتفضيلهما. ولقد جاءت السنّة التي لا خلاف فيها بين المسلمين أنّ الجدّ أبا الأمّ والخال والخالة لا يرثون ولا يورثون.
- «وأمّا ما فخرت به من علىّ وسابقته، فقد حضرت رسول الله، صلّى الله، عليه الوفاة فأمر غيره بالصلاة، ثمّ أخذ الناس رجلا
__________
[1] . س 33 الأحزاب: 40(3/398)
بعد رجل ولم يأخذوه، وكان فى الستّة، فتركوه كلّهم دفعا له عنها، ولم يروا له حقّا.
- «أمّا عبد الرحمن فقدّم عليه عثمان، وقتل عثمان وهوله متّهم، وقاتله طلحة والزبير، وأبى سعد بيعته، وأغلق دونه بابه.
ثمّ بايع معاوية بعده، ثمّ طلبها بكلّ وجه فقاتل عليها وتفرّق عنه أصحابه وشكّ فيه شيعته قبل الحكومة. ثمّ حكّم حكمين رضى بهما، وأعطاهما عهده وميثاقه، فاجتمعا على خلعه.
- «ثمّ كان حسن فباعها من معاوية بخرق ودراهم، ولحق بالحجاز، وأسلم شيعته بيد معاوية، ودفع الأمر إلى غير أهله، وأخذ مالا من غير ولاته ولا حلّه، فإن كان لكم فيه شيء فقد بعتموه، وأخذتم ثمنه.
- «ثمّ خرج [416] عمّك حسين بن علىّ على ابن مرجانة فكان الناس معه عليه حتّى قتلوه، وأتوا برأسه. ثمّ خرجتم على بنى أميّة فقتلوكم وصلبوكم على جذوع النخل، وأحرقوكم بالنيران، ونفوكم من البلدان، حتّى قتل يحيى بن زيد بخراسان، ثمّ قتلوا رجالكم وأسروا الصبية والنساء، وحملوهم بلا وطاء فى المحامل، كالسبي المجلوب إلى الشام، حتّى خرجنا عليهم وطلبنا ثاركم، وأدركنا بدمائكم فأورثناكم أرضهم وديارهم، فاتخذت ذلك علينا حجّة، وظننت أنّا إنّما ذكرنا أباك وفضّلناه للتقدمة منّا له على حمزه والعبّاس وجعفر، وليس ذلك كما ظننت، ولكن خرج هؤلاء من الدنيا سالمين متسلّما منهم مجتمعا عليهم بالفضل وابتلى أبوك بالقتال والحرب فكانت بنو أميّه تلعنه كما يلعن الكفرة فى الصلاة المكتوبة، فاحتججنا له وذكّرناهم فضله، وعنّفناهم، و(3/399)
ظلّمناهم فيما نالوا منه.
- «ولقد علمت أنّ مكرمتنا فى الجاهليّة سقاية الحجيج الأعظم [417] وولاية بئر زمزم، فصارت للعبّاس من بين أخوته فنازعنا فيها أبوك، فقضى لنا عليه عمر، فلم نزل نليها فى الجاهلية والإسلام. ولقد قحط أهل المدينة فلم يتوسّل عمر إلى ربّه ولم يتقرّب إليه إلّا بأبينا حتّى نعشهم الله وسقاهم الغيث به، وأبوك حاضر لم يتوسل به. ولقد علمت أنّه لم يبق أحد من بنى عبد المطلب بعد النبىّ، صلّى الله عليه، غيره وكان وارثه من عمومته، ثمّ طلب هذا الأمر غير واحد من بنى هاشم فلم ينله إلّا ولده فالسقاية سقايته، وميراث النبىّ صلّى الله عليه، له والخلافة فى ولده فلم يبق شرف ولا فضل فى جاهليّة ولا إسلام فى دنيا ولا آخرة إلّا والعبّاس وارثه ومورثه.
- «وأمّا ما ذكرت من بدر، فإنّ الإسلام جاء والعبّاس يمون آل أبى طالب وعياله وينفق عليهم للأزمة الّتى أصابته ولولا أنّ العبّاس أخرج إلى بدر كارها لمات طالب وعقيل جوعا وللحسا [1] جفان عتبة وشيبة، ولكنّه كان من المطعمين، فأذهب الله عنهم [418] العار والسبّة، وكفاكم المؤونة والنفقة. ثمّ فدى عقيلا يوم بدر، فكيف تفخر علينا وقد علناكم فى الكفر، وفديناكم من الأسر، وحزنا عليكم مكارم الآباء، وورثنا دونكم خاتم الأنبياء، وطلبنا بثأركم، وأدركنا منه ما عجزتم عنه، ولم تدركوه لأنفسكم، والسلام عليك ورحمة الله.»
__________
[1] . كذا فى الطبري (214: 10) : للحسا جفان.(3/400)
عيس بن موسى يندب لقتال محمد
وندب أبو جعفر عيسى بن موسى لقتال محمّد وقال:
- «لا أبالى أيّهما قتل صاحبه.» وضمّ إليه أربعة آلاف من الجند. وكان أبو جعفر دعا جعفر بن حنظلة البهرائى [1] وكان أبرص طوالا أعلم الناس بالحروب، وقد شهد مع مروان حروبه. فقال له:
- «يا جعفر، قد ظهر محمّد فما عندك؟» قال: «وأين ظهر؟» قال: «بالمدينة.» قال: «فاحمد الله، ظهر حيث لا مال ولا رجال ولا سلاح ولا كراع. ابعث مولى لك تثق به حتّى ينزل بوادي القرى فيمنعه ميرة الشام فيموت مكانه جوعا.» ففعل ولمّا دنا عيسى بن موسى حفر محمد خندق النبىّ، صلّى الله عليه، الذي كان حفره للأحزاب، وركب إليه وعليه قباء أبيض ومنطقة [419] وركب معه الناس، فلمّا أتى الموضع نزل فيه، فبدأ هو فحفر بيده فأخرج لبنة من خندق رسول الله، صلّى الله عليه، فكبّر وكبّر الناس معه وقالوا:
- «أبشروا بالنصر، هذا خندق جدك رسول الله صلّى الله عليه.» ويقال: إنّه اجتمع مع محمّد جمع لم ير أكثر منه، حتّى قال عثمان بن محمّد الزبيري:
- «إنّى لأحسبنا كنّا مائة ألف.» فلمّا قرب عيسى خطبنا فقال:
__________
[1] . كذا فى الأصل: البهرائى. فى الطبري (10: 223) وآ: الطبراني، ومهمل ما فى مط.(3/401)
- «أيّها الناس، إنّ هذا الرجل قد قرب منكم فى عدد وعدّة، وقد حللتكم من بيعتي، فمن أحبّ المقام فليقم ومن أحبّ الانصراف فلينصرف.» فتسلّلوا حتّى بقي فى شرذمة ليست بالكثيرة.
وحكى أنّ محمدا دعا الغاضرىّ فقال له:
- «أنا أعطيك سلاحا فهل تقاتل معى به؟» قال: «نعم، إن أعطيتنى [1] رمحا أطعنهم به وهم بالأعوص.» قال الغاضري: ثمّ قال لى:
- «ما تنتظر؟» قلت: «ما أهون عليك، أبقاك الله، أن أقتل ويمروّا بى فيقال والله كان لبادنا.» قال: «ويحك، قد بيّض أهل الشام وأهل العراق وأهل خراسان.» قلت: «اجعل الدنيا زبدة وأنا فى مثل صوفة الدواة ما ينفعني، [420] هذا عيسى بن موسى بالأعوص.» وكان وجّه أبو جعفر مع عيسى بن موسى بابن الأصمّ ينزّله المنازل، فلمّا قدموا نزلوا على ميل من مسجد رسول الله، صلّى الله عليه، فقال ابن الأصمّ:
- «إنّ الخيل لا عمل لها مع الرجّالة، وإنّى أخاف إن كشفوكم أن يدخلوا عسكركم.» فرفعهم إلى سقاية سليمان بن عبد الملك بالجرف وهي على أربعة أميال من المدينة وقال:
- «لا يهرول الرجل أكثر من ميلين أو ثلاثة حتّى تأخذه الخيل.» فتحدّث محمّد بن أبى الكرام بن عبد الله بن علىّ بن عبد الله بن جعفر قال:
أرسلنى عيسى لمّا قرب من المدينة بأمانه إلى محمّد. فقال محمّد:
__________
[1] . فى مط: أطعنى، بدل «أعطيتنى» .(3/402)
- «علام تقاتلوننى وتستحلّون دمى؟ وإنّما أنا رجل فرّ من أن يقتل.» قال: فقلت:
- «القوم يدعونكم إلى الأمان، فإن أبيت إلّا قتالهم قاتلوك على ما قاتل عليه خير آباءك علىّ طلحة والزبير على نكث بيعتهم وكيد ملكهم والسعى عليهم.» فبلغ ذلك أبا جعفر، فقال لى:
- «بعد والله ما سرّنى أنّك قلت له غير ذلك وأنّ لى ملك كذا.» وبقي عيسى ثلاثة أيّام [421] يبرز بنفسه ويدعو أهل المدينة إلى الأمان ويقول:
- «نحن إخوانكم مسلمون فلا تهريقوا بيننا الدماء، ادخلوا فى الأمان واخرجوا من المدينة وأنتم آمنون، وخلّوا بيننا وبين صاحبنا.» فيشتمونه الشتيمة القبيحة حتّى حارب اليوم الثالث.
فلقى أبو القلمّس محمّد بن عثمان أخا أسد بن المرزبان بسوق الحطّابين، فاجتلدا بسيفيهما حتّى تقطّعا، ثمّ تراجعا إلى مواقفهما وأخذ أخو أسد سيفا وأخذ أبو القلمّس أثفيّة، فوضعها على قربوس سرجه وسترها بدروعه، ثمّ تعاودا، فلمّا تدانيا قام أبو القلمّس فى ركابيه، ثمّ ضرب بها صدره وصرعه ونزل فاحتزّ رأسه.
وبدر رجل من أهل المدينة مولى لآل الزبير يدعى القاسم بن وائل، فدعا للبراز فبرز له رجل لم أر أكمل عدّة منه، فلمّا رآه ابن وائل انصرف عنه. قال:
فوجد أصحاب محمّد من ذلك وجدا شديدا. فإنّا لعلى ذلك إذ [1] سمعت حفيف رجل ورائي، فالتفتّ فإذا أبو القلمّس، فسمعته يقول:
- «لعن الله أمّ السفهاء إن ترك هذا اجترأ علينا وإن خرج [422] رجل خرج
__________
[1] . فى مط: أن، بدل «إذ» .(3/403)
إلى أمر عسى ألّا يكون من شأنه.» ثمّ برز له فقتله وكان الرجل هزار مرد، وضربه أبو القلمّس على حبل عاتقه وقال:
- «خذها وأنا ابن الفاروق.» فسمعت رجلا من أصحاب عيسى يصيح به:
- «قتلت خيرا من ألف فاروق.» ثمّ قال عيسى لحميد بن قحطبة:
- «تقدّم.» فتقدّم فى مائة كلّهم راجل غيره معهم القسّى والنشّاب والترسة، فلم يلبثوا أن زحفوا إلى جدار دون الخندق عليه أناس من أصحاب محمّد، فكشفوهم ووقفوا عند الجدار، وأرسل حميد إلى عيسى أن يهدم الجدار. قال:
- «فأرسل إلىّ فعلة.» فأرسلهم فهدموه وانتهوا إلى الخندق، فأرسل إلى عيسى:
- «إنّا قد انتهينا إلى الخندق.» فأرسل إليه عيسى أن:
- «اطرح حقائب الإبل فى الخندق.» وأمر ببابي دار سعد بن مسعود التي فى الثنيّة فطرحا على الخندق فجازت الخيل، فالتقوا عند منابح [1] خشرم واقتتلوا إلى العصر، وانصرف محمّد يومئذ قبل الظهر حتّى جاء إلى دار مروان فاغتسل وتحنّط ثمّ خرج، [423] فدنا منه عبد الله بن جعفر فقال له:
- «بأبى أنت، إنّه والله ما لك بما رأيت طاقة، وما معك أحد يصدق القتال،
__________
[1] . الرابع مهمل فى الأصل وآ ومط. فى الطبري (10: 240) : مفاتح.(3/404)
فاخرج الساعة حتّى تلحق بمكّة فإنّ بها الحسن بن معاوية ومعه جلد [1] أصحابك.» فقال:
- «يا أبا جعفر، والله لو خرجت لقتل أهل المدينة حتّى لا يبقى بها صافر، ولست أرجع حتّى أقتل أو أغلب، وأنت فى حلّ منّى وسعة، فاذهب حيث شئت.» قال: فخرجت معه حتّى جاء إلى دار ابن مسعود فى سوق الظهر، وركضت فأخذت على الزياتين، ومضى إلى الثنيّة وقتل أصحابه بالنّشاب، وجاءت العصر فصلّى.
قال: فرأيت محمّدا راكبا وإلى جانبه ابن حضير يناشده الله إلّا مضى إلى البصرة أو غيرها ومحمّد يقول:
- «والله لا يبتلون بى مرّتين، ولكن اذهب حيث شئت فأنت فى حلّ.» قال ابن حضير:
- «وأين المذهب عنك؟» ثمّ مضى، فأحرق الديوان وقتل رياحا ثمّ لحقه بالثنيّة وقاتل بين يديه حتّى قتل. وكان ابن حضير ذبح رياحا ولم يجهز عليه، فجعل يضرب برأسه الجدار حتّى مات [424] أقبح ميتة.
ثمّ صلّى محمّد العصر، ونزل عن دابّته وكسر غمد سيفه، ولم يبق معه أحد إلّا وكسروا أغماد سيوفهم، ثمّ أقبل على ابن حضير فقال:
- «أحرقت الديوان؟»
__________
[1] . كذا فى الأصل وآ: جلد. فى مط: جلّة. فى الطبري (10: 241) : جلّة، وفى حواشيه: جلد، جلّ.(3/405)
قلت: «نعم. خفت أن يؤخذ الناس عليه.» قال: «أصبت.» ثمّ حمل.
قال أزهر: فحدّثنى أخواى قالا: هزمنا يومئذ أصحاب عيسى مرّتين أو ثلاثا، ولكنّا لم نكن نعرف الهزيمة. ولقد سمعنا يزيد بن معاوية بن عبد الله بن جعفر يقول:
- «وقد هزمناهم، ويل أمّه فتحا لو كان له رجال.» فبينا هم كذلك، إذ صعد رجل إلى ظهر سلع ومعه رمح قد نصب عليه رأس رجل متّصلا بحلقومه وكبده وأعفاج بطنه، فرأيت منظرا هائلا وذعر منه الناس والأعاريب فأجفلت هاربة حتّى أسهلت وعلا الرجل الجبل، ونادى أصحابه رطانة لهم بالفارسيّة: كوهبان [1] ، فصعد إليه أصحابه حتّى علوا سلعا فنصبوا عليه راية سوداء، ثمّ انصبّوا إلى المدينة فدخلوها.
وأمرت أسماء بنت حسن بن عبد الله بن عبيد الله [425] بن عبّاس بن عبد المطلّب، وكانت تحت عبيد الله بن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العبّاس بخمار أسود فنصب على منارة مسجد رسول الله، صلّى الله عليه، فلمّا رأى ذلك أصحاب محمّد تنادوا:
- «دخلت المدينة، دخلت المدينة.» وهربوا. وبلغ الناس الذين تنادوا [2] دخول الناس من ناحية سلع. فقال.
الناس الذين مع محمّد:
- «لكلّ قوم جبل يعصمهم ولنا جبل لا نؤتى إلّا منه.»
__________
[1] . كذا فى الأصل. كوهبان. ما فى آومط: مهمل. فى الطبري (10: 244) : كوهبان أيضا.
وفى حواشيه: كوهيان.
[2] . فى الأصل ومط: تدوا. والتصحيح اقتراح منّا، والعبارة لا توجد فى الطبري (244: 10) .(3/406)
وكان ابن حضير يحمل راجلا، ويخالط العدوّ، فكانت الخراسانية إذا نظروا إلى ابن حضير تنادوا بينهم:
- «خضير آمذ، خضير آمذ.» فيتضعضعون إلى أن خالد الناس مرّة فضرب ضارب على أليته فحلّها، فرجع إلى أصحابه فشقّ ثوبا، ثمّ عصبها بظره، ورجع فضارب حتّى ضرب على حجاج عينه وخرّ، فابتدره القوم فحزّوا رأسه. وأقبل محمّد راجلا فجعل يقاتل على جيفته فضربه رجل على أذنه اليمنى فبرك لركبته وتعاودا عليه وصاح حميد بن قحطبة:
- «لا تقتلوه.» فكفّوا.
وجاء حميد فاحتزّ رأسه.
وحكى [426] أخو الفضل بن سليمان النميري قال: كنّا مع محمّد قد أطفنا به وكان قد أطاف بنا أربعون ألفا أو أكثر، وكانوا حولنا كالحرّة السوداء، فقلنا له:
- «لو حملت لانفرجوا عنك.» فقال: «إنّ أمير القوم لا يحمل، إنّه إن حمل لم تكن بقيّة.» حتّى أصاب ابن حضير ما أصابه فحمل والتقوا عليه فقتلوه.
قال أبو الحجّاج الحمّال: كنت يوما قائما على رأس أبى جعفر وهو يسائلني عن مخرج محمّد إذ أتاه الخبر أنّ عيسى هزم، وكان متّكئا، فجلس فضرب بقضيب معه مصلّاه وقال:
- «كلّا، فأين لعب صبياننا بها على المنابر ومشورة النساء ما أنى لذلك بعد.» [1]
__________
[1] . انظر الطبري (10: 250) . وفى حواشي الطبري عن الأصول: «ما أتى كذلك بعد» .(3/407)
ولمّا قتل محمّد هجم الناس على دور المدينة فقتل خلق كثير إلى أن قتل أبو الشدائد وجيء برأسه فاستعظم من كان عند عيسى ذلك واسترجعوا، ثمّ قالوا:
- «ما بقي بالمدينة أحد بعد قتل هذا.» فأمر عيسى بألوية ففرّقها على باب باب من أبواب العبّاسيين وأهل الفقه ممّن عرفهم وقال: ليناد المنادى:
- «من دخل تحت لواء منها أو دخل دارا من هذه الدور فهو آمن.» - «من جاءنا برأس ضربنا رأسه.» [427] فتحدّث عيسى قال: حدّثتنى أمّ حسين بنت عبد الله بن محمّد بن علىّ بن الحسين قالت: قلت لعمّى جعفر بن محمّد:
- «أبى [1] فديتك ما أمر محمّد هذا؟» قال: «فتنة يقتل محمّد [2] بن عبد الله عند بيت رومىّ ويقتل أخوه إبراهيم بالعراق وحوافر فرسه فى ماء.» وحمل رأس محمّد إلى أبى جعفر وهو بالكوفة، فأمر فطيف به فى طبق أبيض.
وتحدّث الحسن بن زيد قال: غدوت يوما على أبى جعفر فإذا هو قد أمر بعمل دكّان ثمّ أقام عليه جلّادا وأتى بعلّى بن المطّلب بن عبد الله بن حنطب [3] فأمر به فضرب خمسمائة سوط، ثمّ أتى بعبد العزيز بن إبراهيم بن عبد الله بن مطيع، فأمر به فجلد خمسمائة سوط، فما تحرّك واحد منهما فأقبل علّى وقال لى:
__________
[1] . كذا فى الأصل: أبى. فى آ: أنى. فى الطبري (10: 254) : أنى
[2] . والعبارة فى الطبري (10: 254) : «قال: فتنته يقتل فيها محمد ... » .
[3] . الحرف الثاني مهمل فى الأصل ومط. والتصحيح يوافق الطبري (10: 264) وفى حواشي الطبري: جنطب.(3/408)
- «هل رأيت أصبر من هذين قطّ؟ والله إنّا لنؤتى بالذين قاسوا غلظ المعيشة وكدّها فما يصبرون هذا الصبر وهولاء أهل الخفض والكنّ والنعمة.» قال: فقلت:
- «يا أمير المؤمنين، هولاء قومك أهل الشرف والقدر.» فأعرض عنّى وقال:
- «أبيت إلّا العصبيّة.» فلمّا كان بعد أيّام أعاد عبد العزيز بن إبراهيم ليضربه، فقال:
- «يا أمير المؤمنين، الله، الله، فينا، فو الله إنّى لمكبّ على وجهى منذ [428] أربعين ليلة، ما صلّيت لله صلاة.» - «أنتم صنعتم ذلك بأنفسكم.» قال:
- «فأين العفو يا أمير المؤمنين؟» قال:
- «فالعفو إذا.» ثمّ خلّى سبيله.
وفى هذه السنة ثارت السودان بالمدينة وكان وإليها عبد الله بن الربيع.
ذكر خبر وثوب السودان بالمدينة والسبب الذي هيّج ذلك
وكان رياح بن عثمان استعمل أبا بكر بن أبى سبرة على صدقة قوم، فلمّا خرج محمّد صار إليه أبو بكر بما كان جبى وشمّر معه، فلمّا قدم عيسى وهزم محمّدا استخلف كثير بن حصين على المدينة، فأخذ كثير أبا بكر بن أبى سبرة، فضربه سبعين سوطا وقيّده وحبسه، ثمّ قدم عبد الله بن الربيع واليا من قبل أبى جعفر المنصور، فكان الجند ينازعون التّجار ويتعدّون عليهم، فاجتمعوا إلى أميرهم ابن الربيع، فشكوا ذلك إليه، فنهرهم وشتمهم، فطمع فيهم الجند إلى أن(3/409)
صاروا يأخذون من بين أيديهم الشيء فلا يعطونهم الثمن، ولا ينكر عبد الله بن الربيع ذلك، فجاء يوما رجل من الجند، فاشترى من جزّار لحما يوم جمعة ثمّ أبى أن [429] يعطيه ثمنه وشهر عليه السيف، فخرج عليه الجزّار من تحت الوضم بشفرة فطعن بها خاصرته فخّر عن دابّته واعتوره الجزّارون فقتلوه. وتنادى السودان على الجند وهم يروحون إلى الجمعة فقتلوهم بالعمد فى كل ناحية، ولم يزالوا على ذلك حتّى أمسوا، فلمّا كان الغد هرب ابن الربيع، ونفخ السودان فى بوق لهم. فذكر أهل المدينة أنّه كان الأسود فى بعض عمله يسمع نفخ البوق، فيصغى له حتّى يتيقّنه، ثمّ يوحش بما فى يده ويؤمّ نحو الصوت حتّى يأتيه، فلمّا اجتمعوا غدوا على ابن الربيع، فخرج إليهم والناس فى الجمعة فأعجلوه عن الصلاة واستطردوا له حتّى أتى السوق، فمرّ بخمسة من المساكين يسألون فى الطريق، فحمل عليهم بمن معه حتّى قتلوهم، ثمّ مرّ بأصيبية [1] على سطح فاستنزلهم وآمنهم، فلمّا نزلوا ضرب أعنا قهم، ثمّ وقف عند الحنّاطين وحمل عليه السودان فأجلى هاربا واتبعوه حتّى صاروا إلى البقيع ورهقوه، فنثر لهم دراهم فشغلوا بها، ومضى على وجهه حتّى نزل ببطن نخل على [430] ليلتين من المدينة ورؤساء السودان ويتوا [2] وحذيا وعنقود، ولمّا هزموا ابن الربيع وقع السودان فى طعام وأمتعة لأبى جعفر المنصور، فانتهبوه وأغاروا على دار مروان وفيها طعام وأشياء للجند، فانتهبوه وباعوا الحمل من الدقيق بدرهمين وراوية الزيت بأربعة دراهم، وقتلوا الجند فهابوهم حتّى إن كان الفارس ليلقى الأسود وما على الأسود إلّا خرقتان على عورته فيولّى الفارس دبره احتقارا له، ثمّ ما يلبث أن يعود بعمود من عمد السوق التي بقرب منه
__________
[1] . انظر الطبري (10: 267) .
[2] . مهمل ما فى الأصل هنا ومعجم فى الموطن الآتي. وما فى الطبري (10: 267) :
وثيق.(3/410)
فيقتله به. فكانوا يقولون:
- «ما هولاء إلّا شياطين.» يعنون السودان.
ثمّ مضى السودان حتّى أخرجوا أبا بكر بن أبى سبرة، فخطب الناس ودعاهم إلى الطاعة وصلّى بالناس، ثمّ أرسل إلى محمّد بن عمران ومحمّد بن عبد العزيز فاجتمعوا عنده فقال:
- «أنشدكم الله وهذه البليّة التي وقعت، فو الله لئن ثبتت علينا عند أمير المؤمنين بعد الفعلة الأولى إنّه لاصطلام البلد وأهله، وهولاء العبيد فى السوق بأجمعهم، فأنشدكم الله إلّا ذهبتم إليهم وكلّمتوهم فى الرجعة والفيئة إلى طاعتكم، فإنّهم لا نظام [431] لهم ولم يقوموا بدعوة وإنّما هم قوم أخرجتهم الحميّة.» فذهبوا إلى العبيد وكلّموهم فقالوا:
- «مرحبا بكم يا موالينا، والله ما قمنا إلّا أنفا لكم ممّا عمل بكم، فأيدينا فى أيديكم وأمرنا إليكم.» فأقبلوا بهم إلى المسجد، فقالوا:
- «أيها الناس، إنّه قد وقع الأمر بما ترون، ونعلم أنّهم لا يبقون علينا، فدعونا نشفيكم وأنفسنا.» فأبينا. ولم نزل بهم حتّى تفرّقوا، وقيل لويتوا [1] وخليفته يعقل [2] الجزّار:
- «إلى من تعهدنا ويتوا؟
قال: «إلى أربعة من بنى هاشم وأربعة من قريش وأربعة من الأنصار وأربعة من الموالي. ثمّ الأمر شورى.»
__________
[1] . ما فى آومط: لوثبوا. فى الطبري (10: 267) : وثيق
[2] . يعقل: اسم الخليفة.(3/411)
فقال ابن عمران:
- «اسأل الذي ولّاك أمرنا أن يرزقنا عدلك ويعطف بقلبك علينا.» قال: «فقد ولّانيه الله.» فلمّا حضرت العشاء الآخرة، وقد ثاب الناس واجتمع القرشيّون فى المقصورة، وأقام الصلاة المؤذّن. قال المؤذّن للقرشيّين:
- «من يصلّى منكم بالناس؟» فلم يجبه أحد، فقال:
- «ألا تسمعون؟» فلم يجيبوه، فقال:
- «يا بن عمران، ويا فلان.» فلم يجبه أحد، فقام الأصبغ [1] بن سفيان [432] بن عاصم بن عبد العزيز بن مروان، فقال:
- «أنا أصلّى.» فقام فى المقام، فقال للناس:
- «استووا.» فلمّا استوت الصفوف، أقبل عليهم بوجهه ونادى بأعلى صوته:
- «ألا تسمعون، أنا أصبغ [2] بن سفيان بن عاصم بن عبد العزيز بن مروان، أصلّى بالناس على طاعة أبى جعفر.» فردّد ذلك مرّتين أو ثلاثا، ثمّ كبّر فصلّى، ثمّ اجتمع القرشيّون، فركبوا إلى ابن الربيع، وهو بنخل، فناشدوه الله إلّا رجع إلى عمله فيأبى، فخلا به عبد العزيز
__________
[1] . ما فى الأصل مهمل فى الأخير. ما فى آ، والطبري (10: 270) : الأصبغ (بالغين المعجمة) .
[2] . كذا فى الأصل. ما فى آ: الا صبغ.(3/412)
ولم يزل به حتّى سكن ورجع فهدأ الناس.
وفى هذه السنة أسّست مدينة بغداد وهي التي تدعى مدينة المنصور. ذكر السبب فى بناء أبى جعفر بغداذ
لمّا ثارت الرونديّة بأبى جعفر فى مدينته التي تسمّى الهاشميّة التي بناها إلى جنب الكوفة والمدينة التي سمّاها الرّصافة، كره سكانها ولم يأمن أهلها، فأراد أن يبعد، فتردّد بين الموصل وجرجرايا، واختار موضع بغداذ، وقال: هذا موضع معسكر صالح، هذه دجلة، ليس بيننا وبين الصين شيء [433] يأتينا فيها كلّ ما فى البحر وتأتينا الميرة من الجزيرة وأرمينية وما حول ذلك [1] ، فنزل وضرب عسكره على الصراة وخطّ المدينة، ووكّل بكلّ ربع قائدا.
وكان الناس أشاروا عليه بموضع قريب من بارمّا، وذكروا له عنه غذاء وطيبا فخرج إليه بنفسه حتى نظر إليه وبات فيه فرآه موضعا طيبا. فدعا جماعة من أصحابه وقال لهم:
- «ما رأيكم فى هذا الموضع؟» فقالوا: «ما رأينا مثله، وهو طيب صالح موافق.» فقال: «صدقتم، هو كذا ولكنّه لا يحمل الجند والناس والجماعات، وإنّما أريد موضعا يرتفق به الناس ويوافقهم مع موافقته لى، ولا تغلو [2] عليهم الأسعار، فإنّى إن أقمت فى موضع لا يجلب إليه فى البرّ والبحر غلت الأسعار وقلّت المادّة، فاشتدّت المؤونة وشقّ ذلك على الناس.» ثم عاد إلى موضع بغداذ، وأحضر جماعة من سكان القرى التي حواليها
و
__________
[1] . هنا زيادة فى مط كالآتى: وهذا الفرات يجيء فيه كلّ شيء بالشام والرقّة وما حول ذلك.
[2] . فى الأصل: لا تغلوا.(3/413)
صاحب بغداذ فيهم فسألهم عن مواضعهم وكيف هي فى الحرّ والبرد والأمطار والوحول والبقّ والهوامّ [434] فأخبره كلّ واحد بما عنده. فوجّه من قبله رجالا حصفاء فبات كلّ رجل منهم فى قرية منها، ثمّ تنحّر [1] أخبارهم واختيارهم فاجتمعوا على صاحب بغداذ.
فيحكى أنّ الراهب الذي كان قريبا من بغداذ قال لأبى جعفر:
- «إنّ الذي يبنى هاهنا مدينة اسمه مقلاص.» فقال أبو جعفر:
- «فأنا والله كنت أدعى فى حداثتي مقلاصا ثمّ انقطعت عنّى.» ووجّه المنصور فى حشر الصنّاع والفعلة من الشام والموصل وأهل الجبل ومن الكوفة والبصرة وسائر المدن وأمر باختيار قوم من أهل الأمانة والعدالة والفقه والمعرفة، فكان ممّن أحضر الحجّاج بن أرطاة وأبو حنيفة النعمان بن ثابت، وأمر بخطّ المدينة وحفر الأساسات، وضرب اللبن وطبخ الآجر، فبدئ بذلك سنة خمس وأربعين ومائة ثمّ خطّت له بالرماد، فدار عليها وعلى سورها وسككها وخنادقها، فلمّا فعل ذلك مرارا، أمر أن يجعل على تلك الخطوط من الرماد [435] حبّ القطن ويصب عليه النفط، فنظر إليها والنار تشتعل فيها، ففهمها وعرف رسمها وأمر بحفر أساسها وبناءها وإحكام الأساس. وأمر أن يجعل عرض السور من أسفله خمسين ذراعا وقدّر أعلاه عشرين ذراعا، وجعل فى البناء حوائر [2] قصب مكان الخشب فى كلّ طوفة فلمّا بلغ الحائط مقدار قامة أتاه خروج محمّد فقطع البناء.
وكان المنصور قد أرضى أصحاب القرى والمزارع، أمّا مدينته وهي بغداذ فكانت لستين رجلا، فأعطاهم العوض عنها وأرضاهم. وأمّا ما كانت حواليها،
__________
[1] . انظر الطبري (10: 274) .
[2] . الحائرة: الهزيلة. ما فى الطبري (10: 278) : جوائز.(3/414)
فكانت قرى متّصلة فأقطعها قوّاده واشتروها، ثمّ اشترى الناس.
وقال المنصور: يكتب إلى مصر بقطع المادّة عن الحرمين ما دام بها محمّد، فإنّما هم فى مثل حرجة إذا انقطعت عنهم المير، وأمر بالكتاب إلى الجزيرة وغيرها أن يمدّ الكوفة بالرجال، وكتب إلى العبّاس بن محمّد، وكان على الجزيرة، أن يمدّه فى كلّ يوم بما قدر عليه من الرجال، وكذلك كتب إلى أمراء الشام وقال:
- «لو ورد [436] علىّ فى كلّ يوم رجل واحد من كل واحد منكم لكثّرت به من معى وإن بلغ الخبر الكذّاب كسره ذلك.»
وفى هذه السنة ظهر [1] إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن أخو محمّد بالبصرة فحارب المنصور. ذكر الخبر عن مخرجه وسبب ذلك وعن مقتله
لمّا قبض أبو جعفر على عبد الله بن حسن أشفق محمّد وإبراهيم فافترقا وتواريا وتقلّب إبراهيم فى البلدان.
فحكى إبراهيم لبعض أصحابه قال:
- «اشتدّ الطلب لى وأنا بالموصل، فاضطرّنى الزمان حتّى دخلت وجلست على موائد أبى جعفر وذاك أنّه كان قدمها وطلبنى فتحيّرت ولفظتني الأرض وجعلت لا أجد مساغا، ودعى الناس إلى غدائه، ودخلت فيمن دخل، والطرق مشحونة بمن تطلبنى، فجلست وأكلت، ثمّ خرجت وقد كفّ الطلب.
__________
[1] . فى مط: خرج. انظر الطبري (10: 282) .(3/415)
وتحدّث عبد الله بن محمّد البوّاب قال: أمر أبو جعفر ببناء، قنطرة الصراة العتيقة ثمّ خرج ينظر إليها، فوقعت عينه على إبراهيم وخنس إبراهيم فذهب [437] فى الناس، فأتى فاميا [1] فلجأ إليه، فأصعده غرفة له، وجدّ أبو جعفر فى طلبه، ووضع المراصد، فنشب إبراهيم بمكانه وطلبه أبو جعفر أشدّ ما يكون من الطلب، وكان مع إبراهيم رجل من بنى العمّ، فتحدّث العّمّى هذا قال: قلت لإبراهيم:
- «قد نزل ما ترى ولا بدّ من التغرير والدخول تحت المخاطرة.» قال: «فأنت وذلك.» قال: فأقبلت إلى الربيع فسألته الإذن، قال:
- «ومن أنت» قال: «سفيان العمّى.» فأدخله على أبى جعفر، وكان أبو جعفر يعرفه بصحبة إبراهيم، فلمّا راه شتمه فقال:
- «يا أمير المؤمنين، أنا أهل لما تقول، غير أنّى أتيتك نازعا تائبا ولك عندي كلّ ما تحبّ إن أعطيتنى ما أسألك.» قال: «وما لي عندك؟» قال: «آتيك بإبراهيم، إنّى قد بلوته وأهل بيته فلم أجد فيهم خيرا، فما لى عندك إن فعلت؟» قال: «كلّ ما تشاء، فأين إبراهيم؟» قال: «دخل بغداذ أو هو داخلها عن قريب، فإنّى تركته بعبدسىّ [2] فاكتب لى
__________
[1] . فى الطبري (10: 285) : فاميّا (بالتشديد) .
[2] . فى مط: بعد شيء، وما فى الطبري (10: 286) : يوافق الأصل.(3/416)
جوازا ولغلام لى وقرانق واحملنى على البريد.» فكتب له جوازا وضمّ إليه جندا وقال:
- «هذا ألف دينار فاستعن به.» قال: «لا حاجة لى فيه كلّه.» فأخذ ثلاثمائة دينار. وأقبل [438] حتّى أتى إبراهيم وهو فى غرفة عليه مدرعة صوف زىّ العبيد، فصاح به:
- «قم يا فلان.» فوثب كالفزع، وجعل يأمره وينهاه حتّى قدم المدائن، فمنعه صاحب القنطرة فدفع إليه جوازه.
قال: «فأين غلامك؟» قال: «هذا.» فلمّا نظر فى وجهه قال:
- «والله ما هذا بغلام وإنّه لإبراهيم، ولكن اذهب راشدا.» فأطلقهما وهرب [1] وركبا سفينة حتّى قدما البصرة فجعل يأتى بهم الدار لها بابان فيقعد العشرة منهم على أحد البابين ويقول:
- «لا تبرحوا حتّى آتيكم.» ثمّ يدخل الدار فيخرج من الباب الآخر ويتركهم، حتّى فرّق الجند عن نفسه وبقي وحده واختفى حتّى بلغ سفيان بن معاوية، وهو على البصرة، خبر الجند، فأرسل إليهم فجمعهم فطلب العمّى فأعجزه.
وحكى الحسن بن حبيب الديلي [2] قال: كان إبراهيم مختفيا عندي على
__________
[1] . انظر الطبري (10: 286) .
[2] . كذا فى الأصل وآ. فى مط: الديلمي. والكلمة غير موجودة فى الطبري (10: 288) .(3/417)
شاطئ دجيل فى ناحية مدينة الأهواز وكان محمّد بن حصين يطلبه فقال يوما:
إنّ أمير المؤمنين كتب إلىّ يخبرني أنّ المنجمين يخبرونه أنّ إبراهيم نازل فى جزيرة بين نهرين [439] وقد اعتزمت أن أطلبه غدا فى المدينة لعلّ أمير المؤمنين يعنى بين دجيل والمسرقان.
قال: فأتيت إبراهيم وقلت:
- «أنت غدا مطلوب فى هذه الناحية.» قال: فأقمت معه يومى، فلمّا غشيني الليل خرجت به حتّى أنزلته فى دشت أربك دون الكثّ ورجعت من ليلتي، فأقمت أنتظر محمّدا أن يغدو فى طلبه فلم يفعل، فتصرّم النهار كلّه وطفّلت الشمس فخرجت حتّى جئت إبراهيم فأقبلت به فوافينا المدينة مع العشاء الآخرة، ونحن على حمارين، فلمّا دخلنا المدينة فصرنا عند الجبل المقطوع لقينا أوائل خيل ابن حصين، فرمى إبراهيم بنفسه عن حماره وتباعد وجلس يبول، وطوتنى الخيل فلم يعرّج علىّ أحد منهم حتّى صرت إلى ابن حصين، فقال لى:
- «أبا محمّد، من أين فى هذا الوقت؟» قلت: «إنّى تمسّيت عند بعض أهلى.» فقال: «ألا أرسل معك من يبلّغك؟» قلت: «لا، قد قربت من أهلى.» فمضى يطلب، وتوجّهت على سنني حتّى انقطع آخر أصحابه، ثمّ كررت راجعا إلى إبراهيم، والتمست [440] حماره حتّى وجدته فركب وانطلقنا فبتنا فى أهلنا فقال إبراهيم:
- «تعلم والله لقد بلت البارحة دما، فأرسل من ينظر.» فأتيت الموضع فوجدته قد بال دما.
وقال أبو جعفر: ما زال يظهر أمر إبراهيم لى حتّى اشتملت عليه طفوف البصرة.(3/418)
وحصل إبراهيم بالبصرة، فدعا الناس، واستجاب له خلق، واستتر فى بنى راسب. وكان سفيان بن معاوية عامل المنصور يومئذ على البصرة قد مالأ إبراهيم بن عبد الله على أمره فلا ينصح لصاحبه. فتحدّث جماعة من أشياخ البصرة أنّهم شهدوا دفيف بن أسد [1] مولى يزيد بن حاتم أتى سفيان بن معاوية قبل خروج إبراهيم بليلة فقال:
- «ادفع إلىّ فوارس، آتك بإبراهيم وبرأسه.» قال: «أو ما لك عمل؟ اذهب إلى عملك.» فخرج دفيف من ليلته، فلحق بيزيد بن حاتم بمصر.
وقال عدّة من الأزد: إنّ جابر بن حمّاد كان على شرطة سفيان، فأتاه قبل خروج سفيان بيوم وقال:
- «إنّى مررت فى مقبرة بنى يشكر، فصيّحوا بى ورموني بالحجارة.» فقال له:
- «أما كان لك طريق آخر؟» فمرّ سفيان بعد [441] قتل إبراهيم وانقضاء تلك الأيّام بأبى جعفر المنصور فى سفينة له وأبو جعفر مشرف من قصره، فقال:
- «إنّ هذا سفيان؟» قالوا: «نعم.» قال: «والله للعجب كيف يفلتنى [2] هذا ابن الفاعلة؟» وكان المنصور أنفذ قائدين كبيرين مع أصحابهما إلى سفيان مددا له، فلمّا قدما عليه صيّرهما بالقرب منه، فلمّا واعده إبراهيم الخروج أرسل إليهما
__________
[1] . فى الطبري (10: 297) : دفيف بن راشد.
[2] . كذا فى الأصل: يفلتنى. فى آ: يقتلني.(3/419)
فاحتبسهما عنده تلك الليلة حتّى خرج، فأحاط به وبهما فأخذهم وقيّد سفيان وحبسه فى القصر يرى أبا جعفر أنّه بريء من التهم.
وكان أبو جعفر المنصور يبعث إلى سفيان كلّ يوم قوما إلى البصرة فجعلوا يتزيدون ويردون، فأشفق إبراهيم أن يكثروا بها، فظهر وبلغ جعفرا ومحمّدا ابني سليمان بن علىّ، وكانا يومئذ بالبصرة، مصير إبراهيم إلى دار الإمارة وحبسه سفيان، فأقبلا فيما قال غير واحد فى ستمائة من الرّجالة والفرسان يريدانه [1] فوجّه إليهما المضاء بن القاسم فى ثمانية عشر فارسا وثلاثين راجلا، فهزمهم المضاء ولحق محمّدا رجل من [442] أصحاب المضاء فطعنه فى فخذه ونادى منادى إبراهيم:
- «لا تتبعوا مدبرا.» وأصاب إبراهيم فى بيت المال ألفى ألف درهم، فقوى بذلك وفرض لكلّ رجل خمسين خمسين ووجّه إبراهيم بن المغيرة إلى الأهواز فى نحو مائتي رجل، وعامل الأهواز يومئذ من قبل أبى جعفر محمّد بن الحصين، فلمّا بلغه دنّو المغيرة خرج إليه فى أربعة آلاف، فالتقوا على ميل من قصبة الأهواز بموضع يقال له: دشت أربك، فانكشف ابن حصين وأصحابه، ودخل المغيرة الأهواز. ويقال إنّ أصحاب ابن حصين قد كانوا واطأوا إبراهيم. ووجّه إبراهيم إلى فارس [2] عمرو بن شدّاد عاملا عليها.
فلمّا قرب من فارس بلغ إسماعيل بن علىّ، وكان عاملا عليها من قبل أبى جعفر [3] ومعه أخوه عبد الصمد بن علىّ إقبال عمرو بن شدّاد فبادرا إلى دارا بجرد فتحصّنا بها وكانا بإصطخر وصارت فارس والأهواز والبصرة فى
__________
[1] . فى آ: يريد ابنه.
[2] . فى مط وآ: فارس بن عمرو. وهو خطأ.
[3] . فى آ: ابى جعفر المنصور.(3/420)
سلطان إبراهيم.
ولمّا ظهر محمّد بالمدينة، أرسل أبو جعفر إلى جعفر بن حنظلة، وكان ذا رأى، فقال:
- «هات رأيك.» قال: «وجّه الأجناد إلى البصرة.» فقال: «انصرف حتّى أرسل إليك.» وقال أبو جعفر:
- «اختبل والله [443] جعفر، أسأله عن المدينة فيجيبني عن البصرة.» فلمّا صار إبراهيم إلى البصرة قال [1] :
- «إيّاها خفت، بادره بالجنود.» قال:
- «وكيف خفت البصرة؟» قال: «لأنّ محمّدا ظهر بالمدينة، وليسوا بأهل حرب، بحسبهم أن يقيموا شأن أنفسهم، وأهل الكوفة تحت قدمك، وأهل الشام أعداء آل أبى طالب، فلم يبق إلّا البصرة.» ولمّا [2] شخص جعفر ومحمّد ابنا سليمان من البصرة، أرسلا إلى أبى جعفر وأخبراه خبرهما فقال أبو جعفر:
- «والله ما أدرى كيف أصنع، والله ما فى عسكري إلّا ألفا رجل، فرّقت جندي، فمع المهدى بالرىّ ثلاثون ألفا، ومع محمّد بن الأشعث بإفريقية أربعون ألفا، والباقون مع عيسى بن موسى، والله لئن سلمت من هذه لا يفارق عسكري ثلاثون ألفا.
__________
[1] . والعبارة فى آ: فلمّا صار إبراهيم إلى البصرة أرسل إليه وقال: صار إبراهيم إلى البصرة وقال:
[2] . انظر الطبري (10: 304) .(3/421)
وقال عبد الله بن راشد: ما كان فى عسكر أبى جعفر كبير أحد، ما هم إلّا سودان وناس يسير. وكان يأمر بالحطب فيحزم، ثمّ يوقد بالليل فيراه الرائي فيحسب هناك ناسا، وما هي إلّا نار تضرم، وليس عندها أحد.
وكتب أبو جعفر إلى عيسى بن موسى وهو بالمدينة:
- «إذا قرأت كتابي فأقبل ودع [444] ما أنت فيه.» فلم ينشب أن قدم، فوجّهه على الناس، وكتب إلى سلم بن قتيبة، فقدم عليه من الرىّ، فضمّه إلى جعفر بن سليمان.
فحكى سلم بن قتيبة قال: لمّا دخلت على أبى جعفر قال لى:
- «خرج ابنا عبد الله بن حسن، فاعمد لإبراهيم ولا يروعنّك جمعه، فو الله إنّهما لجملا بنى هاشم المقتولان جميعا، فابسط يدك، وثق بما أعلمتك، وستذكر مقالتي لك.» قال: فو الله ما هو إلّا أن قتل إبراهيم، فجعلت أتذكّر مقالته فأعجب.
وكتب المنصور إلى المهدى وهو يومئذ بالرىّ يأمره بتوجيه خازم بن خزيمة إلى الأهواز، فوجّهه المهدى فى أربعة آلاف من الجند، فصار إليها وحارب بها المغيرة بن الفزر، فهزم المغيرة وانصرف المغيرة إلى البصرة ودخل خازم الأهواز فأباحها ثلاثا.
وحكى السندىّ قال: كنت وصيفا أيّام حرب محمّد، فكنت أقوم على رأس المنصور بالمدينة، فرأيته لمّا كثف أمر إبراهيم وغلظ، أقام على مصلّى نيّفا وخمسين ليلة، ينام عليه، ويجلس عليه، وعليه جبّة ملوّنة قد اتّسخ جيبها وما تحت لحيته منها ما غيّر الجبّة ولا هجر [445] المصلّى حتّى فتح الله عليه، إلّا أنّه كان إذا ظهر للناس علىّ الجبّة بالسواد وقعد على فراشه، فإذا بطن عاد إلى هيئته.(3/422)
قال: فأتته ريسانة [1] فى تلك الأيّام وقد أهديت إليه امرأتان من المدينة، إحداهما فاطمة بنت محمّد بن عيسى بن طلحة بن عبيد الله، والأخرى أمة الكريم [2] بنت عبد الله من ولد خالد بن أسيد بن أبى العيص فلم ينظر إليهما، فقالت:
- «يا أمير المؤمنين، إنّ هاتين المرأتين قد خبثت أنفسهما وساءت ظنونهما لما ظهر من جفائك بهما.» فانتهرها وقال:
- «ليست هذه الأيّام من أيّام النساء، لا سبيل إليهما حتّى أعلم: رأس إبراهيم لى، أو رأسى لإبراهيم.» فهذه كانت عزيمة أبى جعفر.
فأمّا إبراهيم فذكر أبو عبيدة أنّ يونس الحرمي كان يقول: قدم هذا يريد إبراهيم وهو يقصد إزالة ملك، فألهته بنت عمرو بن سلمة عمّا جاء له، وكان إبراهيم تزوّج بعد مقدمه البصرة بهكنة بنت عمر بن سلمة. وكانت تأتيه فى مصبّغاتها وألوان ثيابها.
وورد كتاب من جعفر ومحمّد ابني سليمان يعلمانه خروجهما عن البصرة، وكان كتابهما فى قطعة جراب، ولم يقدرا [446] على شيء يكتبان فيه غير ذلك، فلمّا وصل الكتاب إليه، فرأى قطعة جراب بيد الرسول قال:
- «خلع والله أهل البصرة مع إبراهيم.» ثمّ قرأ الكتاب ودعا بعبد الرحمن الختلىّ وبأبى يعقوب ختن مالك بن الهيثم، فوجّههما فى خيل كثيفة إليهما وأمرهما أن يحبساهما حيث لقياهما،
و
__________
[1] . كذا فى الطبري (10: 306) : ريسانة. وفى حواشيه: ربسانة.
[2] . كذا فى الأصل. وفى الطبري (10: 306) ام الكريم، وفى حواشيه: ابنة العريم. فى آأيضا: أمة الكريم.(3/423)
أن يعسكرا معهما، ويسمعا ويطيعا لهما. وكتب إليهما يعجزّهما ويضعفهما ويوبّخهما على طمع إبراهيم فى الخروج إلى مصرهما فيه واستتار خبره عنهما حتّى ظهر. وكتب فى آخر كتابه:
أبلغ بنى هاشم عنّى مغلغلة ... فاستيقظوا إنّ هذا فعل نوّام
تعدو الذئاب على من لا كلاب له ... وتتّقى مربض المستنفر الحامى
قال جعفر بن ربيعة: قال الحجّاج: لقد دخلت على المنصور فى ذلك اليوم مسلّما، وما أظنّه يقدر على ردّ السلام لتتابع الفتوق والخروق عليه، وللعساكر المحيطة به، ولمائة ألف سيف كامنة له بالكوفة بإزاء [447] عسكره ينتظرون به صيحة واحدة فيثبون، فوجدته صقرا أحوزيّا مشمّرا قد قام إلى ما نزل به من النوائب يعركها ويمرسها، فقام بها ولم تقعد به نفسه.
ذكر آراء أشير بها على إبراهيم بن عبد الله
لمّا وجّه أبو جعفر عيسى بن موسى إلى إبراهيم، كان معه خمسة عشر ألفا، وجعل على مقدّمته حميد بن قحطبة فى ثلاثة آلاف. فأراد إبراهيم الشخوص نحو أبى جعفر، فدخل إليه جماعة من قوّاده، فقالوا له:
- «إنّك قد ظهرت على أهل البصرة والأهواز وفارس وواسط، فأقم بمكانك ووجّه الأجناد، فإن هزم لك جند أمددتهم بجند، فخيف مكانك واتّقاك عدوّك وجبيت الأموال وثبتت، ثم [1] رأيك بعد.»
__________
[1] . كذا فى آأيضا: ثمّ.(3/424)
فقال له المشائيم الكوفيّون:
- «أصلحك الله، إنّ بالكوفة رجالا لو قد رأوك ماتوا دونك، وإن لم يروك قعدت بهم أسباب شتّى، والرأى أن تخرج.» فقال له آخر:
- «إنّ هذه بلادي وبلاد [448] قومي وأنا أعلم بها، فلا تقصد عيسى بن موسى ومعه هذه العساكر التي ضمّت إليه، ولكن دعني أسلك بك طريقا لا يشعر بك أبو جعفر إلّا وأنت معه بالكوفة.» فأبى عليه. قال:
- «فإنّا معشر ربيعة أصحاب بيات، فدعني أبيّت أصحاب عيسى.» قال:
- «إنّى أكره البيات.» فقال له هريم:
- «أصلحك الله، إنّك غير ظاهر على هذا الرجل حتّى تأخذ الكوفة، وإن صارت لك مع تحصّنه بها لم تقم له بعدها قائمة، ولى بعد بها أهيل، فدعني أسر إليها مختفيا فأدعو إليك فى السرّ، ثمّ أجهر، فإنّ القوم إن سمعوا داعيا أجابوه، وإن سمع أبو جعفر الهيعة بأرجاء الكوفة وليس معه رجال، لم يردّ وجهه شيء دون حلوان.» فأقبل على بشير الرحّال. فقال:
- «ما ترى يا با محمّد؟» فقال: «إنّا لو وثقنا بالذي يصف لكان رأيا، ولكنّا لا نأمن أن يجيبك طائفة منهم فيرسل إليهم أبو جعفر خيلا فتطأ البريء والنّطف والصغير والكبير، فتكون قد تعرّضت لمأثم، ولم تبلغ منه ما أمّلت.» قال هريم: فقلت لبشير:
- «أفخرجت حين [449] خرجت لقتال أبى جعفر وأصحابه وأنت تتوقّى(3/425)
قتل الصغير والضعيف والمرأة والرجل، أو ليس قد كان رسول الله، صلّى الله عليه، يوجّه السريّة فيقاتل فيكون فى ذلك نحو ما كرهت؟» فقال: «إنّ أولئك كانوا مشركين، وإنّ هولاء أهل ملّتنا ودعوتنا وقبلتنا، حكمهم غير حكم أولئك.» فاتّبع إبراهيم رأيه، وسار حتّى نزل باخمرى [1] فلمّا نزلها أرسل إليه سلم بن قتيبة حكيم بن عبد الكريم:
- «انّك قد أصحرت ومثلك أنفس به على الموت، فخندق على نفسك حتّى لا تؤتى إلّا من مأتى واحد، فإن أنت لم تفعل فقد أعرى أبو جعفر عسكره فتخفف [2] فى طائفة حتّى تأتيه فتأخذ بقفاه.» فدعا إبراهيم أصحابه، فعرض ذلك عليهم فقالوا:
- «نخندق على أنفسنا ونحن ظاهرون عليهم؟ لا والله لا نفعل.» قال: «فنأتيه.» قالوا: «ولم، وهو فى أيدنا متى ما أردناه؟» فقال لى إبراهيم:
- «قد سمعت.» قال حكيم: فانصرفت وقد تحقّقت ضعفه باستسلامه لأصحابه.
وحكى إبراهيم بن سلم عن أخيه قال: حدّثنى أبى قال: التقينا [450] مع عيسى بن موسى، فخرجت من بين صفّهم وقلت لإبراهيم:
- «إن الصفّ إذا انهزم بعضه تداعى فلم يكن له نظام، فاجعلهم كراديس، فإن انهزم كردوس ثبت كردوس.»
__________
[1] . فى الأصل هنا: با حمزى، وفى موطن آخر: با خمرى. فى مط والطبري (10: 311) :
باخمرى. وما فى آمهمل.
[2] . وما فى الأصل ومط مهمل فى الثالث.(3/426)
فتنادوا [1] :
- «لا، إلّا قتال أهل الإسلام، يريد قوله: إنّ الله يحبّ الذين يقاتلون فى سبيله صفّا.» [2] وقال المضاء: لمّا نزلنا باخمرى أتيت إبراهيم فقلت:
- «إنّ هولاء مصبّحوك بما يسدّ عليك مغرب الشمس من السلاح والكراع، وإنّما معك رجال عراة من أهل البصرة، فدعني أبيّته فو الله لأشتّتنّ جموعه.» فقال، «إنّى أكره القتل.» فقلت: «تريد الملك وتكره القتل!» فالتقوا بباخمرى [3] وهي على ستّة عشر فرسخا من الكوفة، فاقتتلوا بها قتالا شديدا، وانهزم حميد بن قحطبة، وكان على مقدّمة عيسى، وانهزم الناس معه، فعرض لهم عيسى يناشدهم الله والطاعة، فلا يلوون ويمرّون منهزمين.
وأقبل حميد بن قحطبة منهزما، فقال له عيسى بن موسى:
- «يا حميد، الله، الله والطاعة.» قال: «لا طاعة فى الهزيمة.» [451] ومرّ الناس كلّهم، فلم يبق مع عيسى أحد، وثبت عيسى فلم ينهزم، وكان يحفظ وصيّة لأبى جعفر، وهو أنّه لمّا أراد توجيهه، قال عيسى: قال لى المنصور: إنّ هولاء الخبثاء يعنى المنجّمين يزعمون أنّك لاقى الرجل، وأنّ لك جولة حين تلقاه، ثمّ يفيء [4] إليك أصحابك وتكون العاقبة لك.
__________
[1] . فى الأصل: فتنادى. فى آوالطبري (10: 312) : فتنادوا.
[2] . 61 الصف: 4
[3] . باخمرا (بالراء) : موضع بين الكوفة وواسط، وهو إلى الكوفة أقرب، به قبر إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن الحسن، قتله بها أصحاب المنصور (مراصد الإطلاع) .
[4] . ما فى الأصل مهمل وبدون همزة. فى مط: تفي. وفى آ: يفي وما فى الطبري(3/427)
فكان كما قال لم يبق معى إلّا ثلاثة.
فأقبل علىّ مولى لى وقال:
- «جعلت فداءك علام تقيم وقد ذهب أصحابك؟» فقلت: «لا والله، لا ينظر أهل بيتي إلى وجهى أبدا وقد انهزمت عن عدوّهم، فو الله ما كان عندي أكثر من أن أقول لمن مرّبى ممّن أعرف من المنهزمة:
اقرأوا أهل بيتي منّى السلام وقولوا لهم: إنّى لم أجد فداء لكم أفديكم به أعزّ علىّ من نفسي وقد بذلتها دونكم.» قال: فو الله إنّا لعلى ذلك منهزمون ما يلوى أحد على أحد.» وكان إبراهيم قد مخر ماء ليكون قتاله من وجه واحد وقيل بل كان مخره آل طلحة.
ذكر اتفاق غريب سيّء اتّفق على إبراهيم بعد أن ظفر حتّى هزم وقتل [452]
حكى إسحاق بن عيسى بن علىّ قال: سمعت عيسى بن موسى يومئذ يقول لأبى: والله يا با العبّاس لولا ابنا سليمان يومئذ لافتضحنا، وذاك أنّ من صنع الله كان لنا أنّ أصحابنا لمّا انهزموا اعترض لهم نهر ذو ثنيّتين مرتفعتين، فحالتا بينهم وبين الوثوب ولم يجدوا مخاضة، فكرّوا راجعين بأجمعهم على عرض النهر، فظنّ القوم أنّها كرّة فانهزموا وتبعهم ابنا سليمان ومعها مواليه.
ونظر إليه أصحابنا ورأوا هزيمة الأعداء بين يديه، فكرّوا بأجمعهم.
وأقبل حميد بن قحطبة نحو إبراهيم لا يعرّج على شيء، حتّى خالط القوم وجعل يرسل بالرؤوس إلى عيسى حتّى كثرت الرؤوس إلى أن أتى برأس معه
__________
[ () ] (10: 313) هو الصحيح: «يفيء» بقرينة «إلى» .(3/428)
جماعة كثيرة وضجّة وصياح فقالوا:
- «رأس إبراهيم.» فدعا عيسى بن موسى ابن أبى الكرام الجعفري فأراه إيّاه، فقال:
- «ليس به.» وجعلوا يقتتلون يومهم ذلك. فذكر عبد الحميد: أنّه سأل أبا صلاية:
- «كيف قتل إبراهيم؟» فقال: أسمعه ممّن نظر إليه، وعاينه. كان واقفا على دابّته ينظر إلى أصحاب عيسى قد ولّوا وانهزموا بأجمعهم، ونكص عيسى دابّته القهقرّى وأصحابه يقتلونهم ولم يبق [453] لهم بقيّة، حتّى رأيت قوما ينصرفون ويكرّون ليسوا بشيء. وكان على إبراهيم قباء زرد فأذاه الحرّ، فحلّ أزرار قبائه، فسال الزرد حتّى حسر لبّته، وأتته نشّابة عائرة فأصابت لبّته فرأيته اعتنق فرسه وكرّ راجعا فأطافت به الزيديّة وأصحابه يحمونه، فرأى حميد بن قحطبة اجتماعهم، فأنكره وقال لأصحابه:
- «شدّوا على تلك الجماعة حتّى تزيلوهم عن موضعهم وتعلموا ما اجتمعوا عليه.» فشدّوا عليهم وقاتلوهم أشدّ قتال حتّى أفرجوهم عن إبراهيم، فحزّوا رأسه وأتوا به عيسى، فأراه ابن أبى الكرام الجعفري فقال:
- «نعم، هذا رأسه.» فنزل عيسى إلى الأرض فسجد وبعث به إلى أبى جعفر.
وذكر أنّ أوائل المنهزمين من أصحاب عيسى دخلوا الكوفة وتأخّر أبو جعفر فقال لحاجبه:
- «لا تكشفّن ذلك وأعدد على كلّ باب من أبواب المدينة إبلا ودوابّ، فإن أتينا من ناحية، صرنا إلى الناحية الأخرى.»(3/429)
فسئل سلم بن فرقد حاجبه:
- «إلى أين أراد أبو جعفر يذهب لو دهمه أمر؟» قال: «كان عزم على إتيان الرىّ.» [454] فبلغني [1] أنّ نيبخت المنجّم دخل على أبى جعفر، فقال له:
- «يا أمير المؤمنين، الظفر لك، وستقتل إبراهيم.» فلم يقبل ذلك منه. فقال له:
- «احبسنى عندك، فإن لم يكن الأمر كما قلت فاقتلني.» فبينا هو كذلك إذ جاءه الخبر بهزيمة إبراهيم، فتمثّل ببيت معمر [2] البارقىّ:
فألقت عصاها واستقرّ بها النّوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر
وأقطع نيبخت ألفى جريب بنهر جوبر.
رأس إبراهيم بين يدي أبى جعفر وما جرى إذ ذاك
ويقال: إنّ أبا جعفر لمّا أتى برأس إبراهيم فوضع بين يديه، بكى، ثمّ قال:
- «أما والله لقد كنت كارها لهذا، ولكنّى ابتليت بك، وابتليت بى.» وحكى صالح، مولى المنصور: أنّ المنصور لمّا أتى برأس إبراهيم بن عبد الله وضعه [3] بين يديه، وجلس مجلسا عامّا، وأذن للناس، وكان الداخل يدخل فيسلّم ويتناول إبراهيم فيسيء فيه القول، ويذكر منه القبيح التماس رضى أبى جعفر، وأبو جعفر ممسك متغيّر لونه، حتّى دخل جعفر بن حنظلة
__________
[1] . انظر الطبري (10: 317)
[2] . فى الطبري (10: 317) المعقّر. وفى حواشيه: معمر.
[3] . فى الأصل: ووضعه.(3/430)
البهرائى، فوقف فسلّم ثمّ قال:
- «عظّم الله أجرك يا أمير المؤمنين فى ابن عمّك، وغفر له ما فرّط فيه من حقّك.» فأسفر [1] لون أبى جعفر فأقبل [455] عليه وقال:
- «أبا خالد، ها هنا، مرحبا وأهلا.» فعلم الناس أنّ ذلك وقع منه، فدخلوا فقالوا مثل ما قال جعفر.
ثمّ دخلت سنة ستّ وأربعين ومائة معاودة بناء بغداد
لمّا فرغ المنصور من أمر إبراهيم ومحمّد، عاود بناء بغداد وإتمامه. وكان خالد بن برمك خطّ المدينة وأشار بها. واحتاج المنصور إلى الآلات والأنقاض لأنّ ما كان جمعه قبل ذلك من ساج وغيره أحرقه مولى له يقال له أسلم، وذلك حين بلغه أنّ إبراهيم هزم أبا جعفر.
فقال أبو جعفر لخالد:
- «ما ترى فى نقض بناء كسرى بالمدائن وحمل نقضه إلى مدينتي هذه؟» فقال له خالد:
- «ما أرى ذلك يا أمير المؤمنين.» قال: «ولم؟» قال: «لأنّه علم من أعلام الإسلام يستدلّ به الناظر على أنّه لم يكن ليزال مثل أصحابه عنه بأمر دنيا، وإنّما هو أمر دين، ومع هذا، يا أمير المؤمنين، فإنّ
__________
[1] . كذا فى الأصل وآ: فأسفر. فى مط والطبري (10: 318) : فاصفر. أسفر الوجه، حسن وأشرق.(3/431)
فيه مصلّى علىّ بن أبى طالب عليه السلام.» قال: «هيهات يا خالد، أبيت إلّا الميل إلى أصحابك العجم.» وأمر أن ينقض القصر الأبيض. فنقض ناحية منه ونظر فى مقدار [456] ما يلزمهم من النفقة للنقض والحمل، فوجدوا ذلك أكثر من الجديد لو عمل، فرفع ذلك إلى المنصور، فدعا بخالد، فأعلمه ذلك وقال:
- «ما ترى؟» قال: «يا أمير المؤمنين، قد كنت أرى قبل ألّا تفعل، فأمّا إذ بدأت، فأرى أن تتمّم وتهدمه حتّى تلحق بقواعده لئلا يقال: عجزت عن هدم ما بناه غيرك.» فأعرض المنصور عنه، وأمر ألّا يهدم.
وكان اللبن الذي لبنه المنصور اللبنة منها ذراع فى ذراع، وقد وزنت لبنة منها بعد ما تهدّم السور وكانت لبنة مكتوب عليها بمغرة [1] : وزنها مائة وسبعة عشر رطلا، فلمّا وزنت وجدت على ما كان مكتوبا عليها من الوزن.
ولمّا استتمّ المنصور بناءها قدم عليه بطريق من البطارقة وافدا، فأمر الربيع أن يطوّف به فى المدينة وما حولها ليرى العمران والبناء، فطاف به الربيع، فلمّا انصرف قال:
- «كيف رأيت؟» وقد كان أصعد إلى السور وقباب الأبواب، فقال: «رأيت بناء حسنا، إلّا أنّى رأيت أعداءك معك فى مدينتك.» قال: «فمن هم؟» قال: «السوقة.» فأضبّ عليها أبو جعفر، فلمّا انصرف البطريق أمر بإخراج السوق من
__________
[1] . انظر الطبري (10: 322) .(3/432)
المدينة. ويقال: إنّ السبب كان [457] فى إخراج التّجار من المدينة إلى الكرخ وما قرب منها أنّه قيل لأبى جعفر: إنّ الغرباء وغيرهم يبيتون فيها ولا يؤمن أن تكون فيهم جواسيس أو تفتح أبواب المدينة ليلا لموضع السوق، فأمر بإخراج السوق من المدينة وجعلها للشرط والحرس. وبنى للتجّار باب الكرخ، وباب الشام، وطاق الحرّانى، وباب الشعير، وباب المحوّل. ولمّا طاف أبو جعفر مدينته وأبنيتها استحسن الجميع واستنظفه، غير أنّه استكثر النفقة، وكان مبلغ ذلك على ما وجد فى خزائن المنصور ودواوينه أنّه أنفق على مدينة السلام ومسجد جامعها [1] وقصر الذهب والأسواق والفصلان والخنادق وقبابها وأبوابها أربعة ألف [2] درهم وثمانمائة درهم وثلاثة وثلاثون درهما، ومبلغها من الفلوس مائة ألف [3] فلس وثلاثة وعشرون ألف فلس، وذلك أنّ الأستاذين البنّائين كان الرجل منهم يعمل يومه بقيراط فضّة، والروز جارين [4] بحبّتين إلى الثلاث حبّات، وذلك لرخص الأسعار وعوز الفضّة، لأنّ المنصور حصّل الأموال فى خزائنه. [458]
ثمّ دخلت سنة سبع وأربعين ومائة
وفى هذه السنة، كان مهلك عبد الله بن علىّ عمّ أبى جعفر. ذكر السبب فى ذلك
حجّ أبو جعفر سنة سبع، بعد تقدمته المهدىّ على عيسى بن موسى وسنذكر
__________
[1] . كذا فى الأصل وآ: ومسجد جامعها. فى الطبري (10: 326) : وجامعها.
[2] . فى الطبري: آلاف ألف.
[3] . فى الطبري: ألف ألف. آومط والأصل فى كلا الموضعين: أربعة آلاف درهم.
[4] . فى الطبري: والروز كارى.(3/433)
ذلك فيما بعد، وكان عزل عيسى بن موسى عن الكوفة وأرضها، وولّى مكانه محمّد بن سليمان بن علىّ، واستدعاه ودفع إليه عبد الله بن علىّ سرّا فى جوف الليل ثمّ قال له:
- «يا عيسى، إنّ هذا أراد أن يزيل النعمة عنّى وعنك، وأنت ولىّ عهدي بعد المهدىّ والخلافة صائرة إليك، فخذه إليك واقتله، وإيّاك أن تخور أو تضعف فتنقض علىّ أمرى الذي دبّرت.» ثمّ مضى لوجهه من الحجّ، وكتب إليه من طريقه ثلاث مرات يسأله ما فعل فى الأمر الذي أوعز إليه، فكان يكتب إليه: قد أنفذت ما أمرت به. فلم يشكّ أبو جعفر فى أنّه قتل عبد الله بن علىّ.
وكان عيسى حين دفعه إليه، ستره، ودعا كاتبه يونس بن فروة، فقال له:
- «إنّ هذا الرجل دفع إلىّ عمّه، وأمرنى فيه بكذا.» فقال [459] له:
- «أراد أن يقتلك ويقتله، إنّه أمرك بقتله سرّا، ثمّ يدّعيه عليك علانية، ثمّ يقيدك به.» قال: «فما الرأى؟» قال: «أن تستره فى منزلك ولا تطلع على أمره أحدا فإن طلبه منك علانية دفعته إليه علانية ولا تدفعه إليه سرّا أبدا.» ففعل ذلك عيسى، وقدم المنصور ودسّ على عمومته من يحرّكهم على مسألته هبة عبد الله بن علىّ لهم، وأطمعهم فى أنّه سيفعل. فجاؤوا إليه وكلّموه ورفقوا وذكروا له الرحم، فقال:
- «نعم، علىّ بعيسى بن موسى.» فأتاه، فقال:
- «يا عيسى، قد علمت أنّى دفعت إليك عمّى وعمّك عبد الله بن علىّ قبل(3/434)
خروجي إلى الحجّ وأمرتك أن يكون فى منزلك.» قال: «قد فعلت ذلك.» قال: «فقد كلّمنى فيه عمومتك، فرأيت الصفح عنه وتخلية سبيله، فأتنا به.» قال: «يا أمير المؤمنين، ألم تأمرنى بقتله؟ فقتلته.» قال: «لا، ما أمرتك بقتله، إنّما أمرتك بحبسه عندك.» قال: «قد أمرتنى بقتله.» فقال له المنصور:
- «كذبت.» ثمّ قال لعمومته:
- «إنّ هذا قد أقرّ لكم بقتل أخيكم، وادّعى أنّى أمرته بذلك [460] وقد كذب.» قالوا: «فادفعه إلينا فإنّا نقيده به.» قال: «شأنكم به.» فأخرجوه إلى الرحبة. فاجتمع الناس، وشهر الأمر، فقام أحدهم فشهر سيفه وتقدّم إلى عيسى ليضربه، فقال له عيسى:
- «أفاعل أنت؟» قال: «إى والله.» قال: «فلا تعجلوا، فإنّ عمّى حىّ، ردّونى إلى أمير المؤمنين.» فردّوه إليه. فقال:
- «إنّما أردت بقتله أن تقتلني، هذا عمّك حىّ سوىّ، إن أمرتنى بدفعه إليك دفعته.» قال: «ائتنا به.» فأتاه به، فجعله فى بيت، وكان من أمره ما كان من سقوط البيت عليه،(3/435)
فمات وهو ابن اثنتين وخمسين سنة.
حوار بين المنصور وابن عياش
فحكى أنّ المنصور ركب يوما بعد موت عبد الله بن علىّ، ومعه ابن عيّاش المنتوف، [1] فقال له وهو يحادثه:
- «هل تعرف ثلاثة خلفاء مبدأ أسمائهم العين قتلوا ثلاثة ادّعوا الخلافة مبدأ أسمائهم العين؟» قال:
- «لا أعرف إلّا ما تقول العامّة أنّ عليّا قتل عثمان وكذبوا، وعبد الملك بن مروان قتل عبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن الأشعث، وسقط البيت على عبد الله بن علىّ.» فقال له المنصور:
- «فسقط البيت على عبد الله بن علىّ، فأنا ما ذنبي؟» قال: «ما قلت إنّ لك ذنبا.»
وفى هذه السنة خلع [461] المنصور عيسى بن موسى وبايع لابنه المهدىّ وجعله ولىّ عهده بعد المهدىّ ذكر الخبر عن ذلك والحيلة فيه
كان أبو جعفر أقرّ عيسى على ما كان أبو العبّاس ولّاه، وكان له مكرما مبجّلا إلى أن عزم على تقديم المهدىّ فى الخلافة عليه فلمّا عزم المنصور على
__________
[1] . ما فى الأصل مهمل. فى آ: المنتوف. فى مط: ابن عباس المنتوق. فى الطبري (10: 331) : ابن عياش.(3/436)
ذلك كلّم عيسى بن موسى فى تقديم ابنه المهدىّ عليه برقيق الكلام ولطيفه فقال عيسى:
- «يا أمير المؤمنين، فكيف بالأيمان والمواثيق التي علىّ وعلى المسلمين لى من الطلاق والعتق وغير ذلك من مؤكّد الأيمان، ليس إلى ذلك سبيل يا أمير المؤمنين.» فلمّا رأى أبو جعفر ذلك باعده بعض المباعدة، وقصّر به فى منزلته، فكان يؤذن لعيسى بعد جماعة، ويجلس دون منزلته، وكان مرتبته عن يمين أبى جعفر. ثمّ يخلّط عليه فى أمثال هذه الأشياء، وعيسى صامت لا يتشكّى ولا يستغيث [1] . ثمّ صار إلى أغلظ من ذلك فكان يكون فى المجلس ومعه بعض ولده فيسمع الحفر فى أصل الحائط ويخاف أن يخرّ عليه، وينتثر عليه التراب وربّما [462] نظر إلى الخشبة من سقف المجلس الذي يجلس فيه قد حفر عن أحد طرفيها فيسقط التراب على قلنسوته وثيابه، فيأمر من معه من ولده بالتحوّل ويقوم هو إلى الصلاة، ثمّ يأتيه الإذن فيقوم بهيئته والتراب عليه لا ينفضه، فإذا رآه المنصور قال له:
- «يا عيسى، ما يدخل علىّ أحد بمثل هيأتك من كثرة الغبار والتراب عليك، أفكلّ هذا من الشارع؟» فيقول:
- «أحسب ذاك يا أمير المؤمنين.» وإنّما يكلّمه بذلك يستطمعه أن يشكو إليه شيئا، فلا يشكو.
وكان المنصور قد أرسل إليه فى بعض أحواله بعض ما يتلفه من السموم، أو دسّه إليه بحضرته، فنهض من المجلس، فقال له المنصور:
__________
[1] . فى الطبري (10: 332) : لا يسعتب. فى حواشيه: لا يستغيث (كالأصل) .(3/437)
- «إلى أين؟» قال: «أجد غمزا.» قال: «ففي الدار إذا.» قال: «الذي أجده أشدّ من أن أقيم معه فى الدار.» ونهض فصار إلى حرّاقته، [1] ونهض المنصور فى أثره متفزّعا إلى الحرّاقة، فاستأذنه عيسى فى المصير إلى الكوفة، فقال:
- «بل تقيم، فتعالج ها هنا.» فأبى وألحّ حتّى أذن له وكان الذي حداه على ذلك طبيبه بختيشوع فإنّه قال له:
- «أنت مسموم، وو الله ما أجترئ على معالجتك بالحضرة.» [463] فاستأذنه، فأذن له، وبلغت العلّة بعيسى كلّ مبلغ حتّى تمعّط [2] شعره، ثمّ أفاق. ويقال إنّ عيسى إنّما كان يمتنع على أبى جعفر لأنّه كان يريّض الأمر لابنه موسى، فبعث أبو جعفر إلى موسى من يخوّفه على نفسه وعلى أبيه، فقال موسى:
- «إنّى قد أرى ما يسام أبى من إخراج هذا الأمر من عنقه وتصييره للمهدىّ، وقد نصبت عليه وجوه الحتوف من السمّ مرّة، وبهدم الحيطان مرّة، وبضروب الإهانات، وليس يعطى على هذا شيئا، ولكن ها هنا وجه واحد لعلّه يعطى عليه إن أعطى، وإلّا فلا.» قال له الواسطة بينه وبين أبى جعفر:
- «وما هو؟» قال: «إنّما أقوله إذا أمنت على نفسي، وإنّما هو روحي اجعله فى يده، ولا بدّ
__________
[1] . الحرّاقة: السفينة فيها مرامي نيران يرمى بها العدوّ.
[2] . تمعّط الشعر: سمط من داء عرض له.(3/438)
لى ممّا أثق به وأطمئنّ إليه.» فأعطاه كلّ ما أحبّ من ذلك، فقال:
- «يقبل عليه أمير المؤمنين وأنا شاهده، فيقول له: يا عيسى، إنّى قد علمت أنّك لست تضنّ بهذا الأمر عن المهدىّ لنفسك لتعالى سنّك، وإنّما تضنّ به لمكان ابنك، أفترى أنّى أدع ابنك يبقى بعدك؟ كلّا والله، ولآتينّ عليه وأنت تنظر إليه حتّى تيأس [464] منه ثمّ يأمر بى، فإمّا خنقت، وإمّا شهر علىّ سيف، فإن أجاب إلى شيء فعسى أن يفعل فى ذلك الوقت، وإلّا فلا.» فقال له:
- «جزاك الله خيرا، فديت أباك بنفسك، نعم الرأى رأيت، ونعم المسلك سلكت.» ثمّ أتى أبا جعفر فأخبره، فجزّى موسى خيرا وقال:
- «قد والله أحسن وأجمل، وسأفعل ما أشار به، ويسّره الله بعاقبة ذلك إن شاء الله.» فلمّا اجتمعوا أقبل المنصور على عيسى بن موسى وقال:
- «يا عيسى إنّى لا أجهل مذهبك الذي تضمره ولا مداك الذي تجرى إليه فى الأمر الذي سألتك، إنّما تريد [1] هذا الأمر لا بنك هذا المشؤوم عليك وعلى نفسه، أما والله لأعجلّن لك فيه ما يسوءك. يا ربيع، اخنق موسى بحمائله حتّى تأتى على نفسه.» وقد كان واطأ الربيع على الرفق به. فضمّ الربيع حمائله على عنقه فجعل يخنقه خنقا رويدا وموسى يصيح:
- «الله، الله فىّ يا أمير المؤمنين وفى دمى، فو الله إنّى لبعيد ممّا تظنّ بى، وما
__________
[1] . فى الأصل: يريد. فى آ: تريد، وهو الصحيح.(3/439)
يبالى عيسى أن تقتلني وله بضعة عشر ذكرا كلّهم عنده [1] مثلي أو يتقدمني.» وهو يقول:
- «اشدد يا ربيع ائت على نفسه.» والربيع يوهم [465] أنّه يريد تلفه وهو يراخى خناقه وموسى يصيح صياح من بلغت نفسه التراقي.
فلمّا رأى عيسى ذلك قال:
- «يا أمير المؤمنين، والله ما ظننت الأمر يبلغ منك هذا كلّه، فمر بالكفّ عنه، فإنّى لم أكن لأرجع إلى أهلى وقد قتل بسبب هذا الأمر عبد من عبيدي، فكيف بولدي، فها أنا ذا أشهدك أنّ نسائي طوالق ومماليكي أحرار، وما أملك فى سبيل الله، يصرف ذلك فيمن رأيته يا أمير المؤمنين وهذه يدي بالبيعة للمهدىّ.» فأخذ بيعته على ما أحبّ ثمّ قال له:
- «يا با موسى، إنّك قد قضيت حاجتي هذه كارها، ولى حاجة أحبّ أن تقضيها فتغسل بها ما فى نفسي من الحاجة الأولى.» قال: «وما هي يا أمير المؤمنين؟» قال: «تجعل الأمر من بعد المهدىّ لنفسك.» قال: «ما كنت لأدخل فيها بعد إذ خرجت منها.» فلم يدعه هو ومن حضره من أهل بيته حتّى قال:
- «وأمير المؤمنين أعلم.» فقال بعض أهل الكوفة وقد مرّ به [2] عيسى فى مواكبه:
__________
[1] . فى الأصل: عندي. فى آوالطبري (10: 337) : عنده وهو صحيح.
[2] . فى الأصل: بى. فى آ: به. وفى الطبري (10: 338) : عليه.(3/440)
- «هذا الذي كان غدا فصار بعد غد.»
قول آخر فى وجه خلع المنصور عيسى
وقد قيل فى وجه خلع المنصور عيسى قول آخر [1] . وذلك أنّهم ذكروا [466] أنّ عيسى لمّا امتنع أن يجيب المنصور إلى ما أراد وأعياه الأمر، بعث إلى خالد بن برمك فقال له:
- «كلّمه يا خالد، فقد اشتدّ امتناعه وإن كانت عندك حيلة فيه فاذكرها، فقد ضلّ عنّا وجه الرأى فيه.» قال: «نعم، يا أمير المؤمنين، تضمّ إلىّ ثلاثين رجلا من كبار الشيعة ممّن تختاره.» فركب خالد وركبوا معه، فصاروا إلى عيسى، فأبلغوه رسالة أبى جعفر، فقال:
- «ما كنت لأخلع نفسي وقد جعل الله لى الأمر.» فأداره خالد بكلّ وجه من وجوه الطمع والحذر، فأبى عليه، فخرج خالد عنه وخرج الشيعة بعده، فقال [لهم] [2] خالد:
- «ما عندكم فى أمره؟» قالوا: «نبلغ أمير المؤمنين رسالته ونخبره ما كان منك ومنه.» قال: «لا، ولكنّا نخبر أمير المؤمنين أنّه أجاب ونشهد عليه إن أنكره.» فقالوا: «نفعل.» فقال لهم:
__________
[1] . انظر الطبري (10: 345) .
[2] . زيادة من آ.(3/441)
- «ذا هو الصواب، وأبلغ لأمير المؤمنين فيما حاول وأراد.» قال: فصاروا إلى أبى جعفر وخالد معهم، فأعلموه أنّه قد أجاب فأخرج التوقيع بالبيعة للمهدىّ. وكتب بذلك إلى الآفاق.
قال: وأتى عيسى بن [467] موسى لمّا بلغه الخبر أبا جعفر منكرا لما ادّعى عليه من الإجابة إلى تقديم المهدىّ على نفسه وذكّره الله فيما همّ به، فدعاهم أبو جعفر، فسألهم، فقالوا:
- «نشهد عليه أنّه قد أجاب وليس له أن يراجع [1] .» فأمضى أبو جعفر الأمر وشكر لخالد ما كان منه.
وكان المهدىّ يعرف ذلك ويصف جزالة الرأى منه فيه.
ولمّا رأى عيسى الأمر يتمّ، راسل المنصور وقال:
- «يا أمير المؤمنين، أما وقد أبيت، فاجعل لرضاي فيه نصيبا.» فوجّه إليه خالد بن برمك فقرّر أمره على عشرة آلاف ألف درهم له، وثلاثمائة ألف درهم بين أولاده، وسبعمائة ألف لنسائه.
وحضر عيسى مجلس المنصور، وحضر معه جماعة الوجوه والأشراف والجند فتكلّم عيسى وقال:
- «اشهدوا أنّى خلعت نفسي ممّا كان إلىّ من ولاية العهد، وسلّمته للمهدىّ محمّد بن أمير المؤمنين، وقدّمته على نفسي.» فقال له أبو عبد الله كاتب المهدىّ:
- «ليس هكذا أعزّ الله الأمير، ولكن قل ذلك بحقّه وصدقه وأخبر بما رغبت فيه وأعطيته.» قال: «نعم، بعت نصيبي من ولاية العهد [468] من عبد الله أمير المؤمنين،
__________
[1] . كذا فى الأصل وآ: يراجع. فى الطبري (10: 346) : يرجع. وفى حواشيه: يراجع.(3/442)
لابنه محمّد المهدىّ بن أمير المؤمنين، بعشرة آلاف ألف وثلاثمائة ألف لولدي وسبعمائة ألف لنسائي- وسمّاهم واحدا واحدا- بطيب من نفسي وحبّ لتصييرها إليه، لأنّه أولى بها وليس لى يحقّ [1] التقدمة قليل ولا كثير فما ادّعيته بعد يومى هذا منها فإنّى مبطل لا حقّ لى فيه، ولا دعوى ولا طلبة.» وكان ربما ترك الشيء بعد الشيء فيوقفه عليه أبو عبيد الله حتى كتب الكتاب وختم وشهد عليه الشهود.
ودخلت سنة ثمان وأربعين ومائة
ولم يجر فيها شيء ممّا بلغنا تستفاد منه تجربة.
ودخلت سنة تسع وأربعين ومائة
ولم يجر فيها شيء يكتب وتستفاد منه تجربة.
ودخلت سنة خمسين ومائة
فممّا جرى فيها [2] خروج اشتادسيس فى أهل هرات وبادغيس وسجستان وغيرها من الكور بخراسان. فكان فيما ذكر، فى زهاء ثلاثمائة ألف مقاتل، فغلبوا على عامّة خراسان. وخرج إليهم جماعة أهل بلدان وأمراء فهزمهم [469] وقتلهم. فوجّه المنصور خازم بن خزيمة إلى المهدىّ، فولّاه المهدىّ محاربة اشتادسيس وضمّ إليه القّواد.
وكان المهدىّ يومئذ بنيسابور وكان كاتب المهدىّ أبو عبيد الله ووزيره
__________
[1] . فى الأصل: بحقّ وما فى آومط مهمل. والعبارة فى الطبري (10: 351) : وليس فيها حقّ التقدمة.
[2] . انظر الطبري (10: 354) .(3/443)
يوهن أمر خازم، ويخرج الكتب إلى خازم وغيره من القوّاد بالأمر والنهى.
حيلة خازم فى ذلك
فاعتلّ خازم وهو فى عسكره يشرب الدواء، ثمّ ركب البريد حتّى قدم على المهدىّ، وأبو عبيد الله يظنّه فى المعسكر ولا يعرف خبره. فلمّا قدم خازم نيسابور ودخل على المهدىّ، استخلاه، فدخل أبو عبيد الله، فأمسك خازم فقال المهدىّ:
- «لا عيق [1] عليك من معاوية، فقل ما بدا لك.» فأبى خازم أن يخبره أو يكلّمه، حتّى قام أبو عبيد الله. فلمّا خلا به شكا إليه [2] أبا عبيد الله معاوية وأخبره بعصبيته وتحامله وما كانت ترد من كتبه عليه وعلى من قبله من القوّاد، وما صاروا إليه بذلك من الفساد والتأمّر بأنفسهم والاستبداد بآرائهم وقلّة السمع والطاعة، وأنّ أمر الحرب لا يستقيم إلّا برأس ولا يكون [470] فى عسكره لواء يخفق على رأس أحد إلّا لواؤه أو لواء هو عقده. وأعلمه أنّه غير راجع إلى قتال استادسيس [3] إلّا بتفويض الأمر إليه وإعفائه من معاوية أبى عبيد الله، وأن يسمع منه أو يداخله فيما يدبّره، وأن يكتب إليهم بالسمع والطاعة له.
فأجابه المهدىّ إلى كلّ ما سأل، فانصرف خازم إلى عسكره، فعمل برأيه وحلّ لواء من رأى حلّ لوائه من القوّاد، وعقد لمن أراد، وضمّ إليه من كان انهزم من الجند وجعلهم حشوا يكثّر بهم من معه فى أخريات الناس، ولم يقدّ
__________
[1] . فى الأصل وآ ومط: لا عين. فى الطبري (10: 355) : لا عيق عليك من أبى عبيد الله ... وفى حواشيه: لا عين لا غبن.
[2] . وفى الطبري (10: 355) : شكا إليه أمر معاوية بن عبيد الله.
[3] . فى الطبري (10: 355) : استاذسيس.(3/444)
مهم لما فى قلوبهم من روعة الهزيمة.
وكان من ضمّ إليه من هذه الطبقة اثنين وعشرين ألفا، ثمّ انتخب ستّة آلاف من الجند فضمّهم إلى اثنى عشر ألفا كانوا معه متخيّرين، وكان بكّار بن مسلم العقيلي فيمن انتخب ثمّ تعبّأ للقتال وخندق وجعل بكّارا على مقدّمته، وسمّى لميمنته وميسرته وساقته من ارتضاهم. ثمّ سار إلى موضع اختاره، فنزله وخندق عليه، وأدخل خندقه جميع ما أراد، وأدخل إليه جميع أصحابه، وجعل له أربعة أبواب وجعل على كلّ [471] باب منها من أصحابه الذين انتخب وهم أربعة آلاف وجعل مع صاحب مقدّمته، وهو بكّار، ألفين تكملة لثمانية عشر ألفا.
فأقبل الأعداء معهم المرور والزبل [1] والفؤوس يريدون دفن الخندق ثمّ الهجوم عليهم. فأتوا الخندق من قبل بكّار بن مسلم، فشدّوا عليه شدّة لم تكن لأصحاب بكّار نهاية دون أن انهزموا، حتّى دخلوا عليهم الخندق، فلمّا رأى ذلك بكّار رمى بنفسه، فترجّل على باب الخندق، ثمّ نادى أصحابه:
- «يا بنى الفواجر، أمن قبلي يؤتى المسلمون؟» فترجّل معه من عشيرته وأهله نحو من خمسين رجلا، فمنعوا بابهم حتّى أجلوا الناس عنه، وأقبل إلى الباب الذي كان عليه خازم رجل كان مع استاد سيس [2] من أهل سجستان يقال له الحريش وهو الذي كان يدبّر أمرهم.
حيلة لخازم حتّى هزم عدوّه
فلمّا رآه خازم مقبلا بعث إلى الهيثم بن شعبة وهو فى الميمنة أن:
- «اخرج من بابك الذي أنت عليه، فخذ غير الطريق الذي يوصلك إلى الباب
__________
[1] . فى آ: المروز والزمل. ما فى الطبري (10: 356) : كالأصل.
[2] . ما فى الأصل: مهمل.(3/445)
الذي عليه [472] بكّار، فإنّ القوم قد شغلوا بالقتال وبالإقبال علينا، فإذا علوت فجزت مبلغ أبصارهم فأتهم من خلفهم.» وقد كانوا فى تلك الأيّام يتوقّعون قدوم أبى عون وعمر بن سلم بن قتيبة من طخارستان.
وبعث خازم إلى بكّار بن مسلم:
- «إذا رأيت رايات الهيثم بن شعبة قد جاءتك من خلف فكبّروا وقولوا: قد جاء أهل طخارستان.» ففعل ذلك الهيثم وخرج خازم فى القلب على الحريش السجستاني فاجتلدوا بالسيوف جلادا شديدا وصبر بعضهم لبعض فبينا هم على تلك الحال إذ نظروا إلى أعلام الهيثم وأصحابه فتنادوا فيما بينهم:
- «جاء أهل طخارستان.» فلمّا نظر أصحاب الحريش إلى تلك الأعلام ونظر من كان بإزاء بكّار بن مسلم إليها شدّ عليهم [1] أصحاب خازم فكشفوهم ولقيهم أصحاب الهيثم فطعنوهم بالرماح ورموهم بالنشّاب وخرج عليهم أصحاب الميسرة وبكّار بن مسلم وأصحابه من ناحيتهم، فهزموهم ووضعوا فيهم السيوف فقتلهم المسلمون وأكثروا. فكان من قتل منهم فى تلك المعركة نحوا من سبعين ألفا، وأسروا أربعة عشر ألفا ولجأ اشتادسيس [2] إلى جبل فى عدّة من أصحابه يسيرة.
[473] فقدّم خازم الأربعة عشر الألف فضرب أعناقهم.
وسار إلى المكان الذي لجأ إليه اشتادسيس من الجبل فحصره حتّى نزلوا على حكم أبى عون. وكان أبو عون قدم بعد الوقعة، وقالوا:
__________
[1] . فى مط: عليه.
[2] . اشتادسيس. مهمل فى الأصل فى كل الأمكنة إلّا هنا فهو هنا معجم فى الثاني وإعجام الياء من الطبري.(3/446)
- «لا نرضى إلّا بأبى عون.» فرضي خازم وأعطاهم النزول على حكم أبى عون، فلمّا نزلوا أمر أبو عون أن يوثق اشتادسيس وبنوه وأهل بيته بالحديد وأن يعتق الباقون وهم ثلاثون ألفا، فأنفذ ذلك خازم من حكم أبى عون.
وكتب خازم بالفتح إلى المهدىّ، وكتب به المهدىّ إلى المنصور.
ثم دخلت سنة إحدى وخمسين ومائة وفيها بنى المنصور الرّصافة فى الجانب الشرقىّ من بغداذ [1] لابنه المهدىّ. ذكر السبب فى ذلك
انصرف المهدىّ من خراسان إلى بغداد وشغّبت الروندية وحاربوه على باب الذهب، فدخل قثم بن العبّاس بن عبيد الله بن العبّاس، على المنصور وهو يومئذ شيخ كبير مقدّم عند القوم، فقال له أبو جعفر:
- «أما ترى ما نحن فيه من التياث الجند علينا [474] قد خفت أن تجتمع كلمتهم فيخرج هذا الأمر عنّا، فما ترى؟» قال:
- «يا أمير المؤمنين، عندي فى هذا رأى إن أنا أظهرته لك فسد، وإن تركتني أمضيه صلحت لك خلافتك وهابك جندك.» قال له: «أفتمضي فى خلافتي أمرا لا تعلمني ما هو؟» فقال: «إن كنت عندك متّهما على دولتك فلا تشاورنى، وإن كنت مأمونا عليها فدعني أمضى رأيى.»
__________
[1] . بغداذ: هو فى الأصل بالذال المعجمة حينا وبالمهملة أحيانا كثيرة.(3/447)
قال له: «فأمضه.» قال: فانصرف قثم إلى منزله، فدعا غلاما له فقال:
- «إذا كان غدا فتقدمني فاجلس فى دار أمير المؤمنين، فإذا رأيتنى قد دخلت وتوسّطت أصحاب المراتب، فخذ بعنان بغلتي، واستوقفنى واستحلفني بحقّ رسول الله صلّى الله عليه وحقّ العبّاس وحقّ أمير المؤمنين، لمّا وقفت لك، وسمعت مسألتك، وأجبت عنها، فإنّى أنتهرك وأغلّظ لك القول، فلا يهولنّك ذلك منّى، وعاودني بالمسألة، فإنّى سأشتمك فلا يهولنّك، وعاودني القول والمسألة، فإنّى سأضربك بالسوط فلا يشقّنّ ذلك عليك، وقل لى:
- «أىّ الحيّين أشرف، اليمن أم مضر؟» فإذا أجبتك فخلّ عنان بغلتي وأنت حرّ.» قال: فغدا الغلام، فجلس حيث أمره به مولاه [475] من دار الخليفة، فلمّا جاء الشيخ فعل الغلام ما أمره به، وفعل المولى ما كان قال له وقال:
- «أىّ الحيّين أشرف، اليمن أم مضر؟» فقال له قثم:
- «مضر، منها رسول الله صلّى الله عليه وفيها كتاب الله، وفيها بيت الله، ومنها خليفة الله.» قال: فامتعضت اليمن إذ لم يذكر لها شيئا من شرفها. فقال قائد من قوّاد أهل اليمن لغلامه:
- «قم، فخذ بعنان بغلة الشيخ فاكبحها كبحا عنيفا تطامن [1] منه.» ففعل الغلام ما أمر به مولاه حتّى كاد يقعيها [2] على عراقيبها فامتعضت من
__________
[1] . فى الطبري (10: 366) تطامن به منه.
[2] . كذا فى الأصل والطبري (10: 366) : يقعيها. فى مط: يعقبها (بتقديم العين) .(3/448)
ذلك مضر فقالت:
- «أيفعل هذا بشيخنا؟» فأمر رجل منهم غلامه فقال:
- «اقطع يد العبد.» فقام إلى غلام اليمانىّ فقطع يده فنفر الحيّان وضرب قثم بغلته، فدخل على أبى جعفر، وافترق الجند، وصارت مضر فرقة واليمن فرقة وربيعة فرقة والخراسانية فرقة. فقال قثم:
- «قد فرّقت بين جندك وجعلتهم أحزابا كلّ حزب منهم يخاف أن يحدث حدثا عليك فتضربه بالحزب الآخر، وقد بقي عليك فى التدبير بقيّة.» قال: «وما هي؟» قال: «اعبر بابنك، فابن له فى ذلك الجانب قصرا، وحوّل معه من جيشك قوما، فيصير [476] ذلك بلدا، وهذا بلدا، فإن فسد عليك أهل هذا الجانب، ضربتهم بأهل ذلك الجانب، وإن فسدت عليك مضر، ضربتها بمن أطاعك من اليمن وربيعة والخراسانية، وإن فسدت عليك اليمن، ضربتها بمن أطاعك من مضر وغيرها.» فقبل رأيه ومشورته، فاستوى له ملكه، وكان [ذلك] [1] السبب فى بناء الجانب الشرقىّ وهي الرصافة أوّلا وإقطاع القوّاد هناك.
ثمّ دخلت سنة اثنتين وخمسين [ومائة] [2]
ولم يجر فيها ما تستفاد منه تجربة.
__________
[1] . ما بين المعقوفتين اضفناها من الطبري (10: 367) .
[2] . أضفناها عن آومط والطبري (10: 369)(3/449)
ودخلت سنتا ثلاث وأربع [وخمسين ومائة] : [1]
ولم يجر فيها أيضا شيء تستفاد منه تجربة.
ثمّ دخلت سنة خمس وخمسين ومائة
وفيها بنى المنصور مدينة الرافقة، ووجّه ابنه المهدىّ لبنائها، فبناها على [بناء] [2] مدينة بغداد فى أبوابها وفصولها ورحابها وشوارعها وخندق أبو جعفر على الكوفة والبصرة. وجعل ما أنفق على ذلك من أموال أهلها.
فيحكى: أنّه لمّا أراد بناء سور الكوفة وحفر الخندق لها، أمر بقسمة خمسة دراهم [3] خمسة دراهم على أهل الكوفة، وأراد بذلك علم عددهم، فلمّا عرف عددهم أمر بجبايتهم أربعين درهما من كلّ إنسان، [477] فجبوا [4] . ثمّ أمر بإنفاق ذلك على سور الكوفة وحفر الخندق لها، فقال شاعرهم:
يا لقوم [5] ما لقينا ... من أمير المؤمنينا
قسم الخمسة فينا ... وجبانا الأربعينا
عزل أسيد عن الجزيرة
وفيها عزل المنصور يزيد بن أسيد عن الجزيرة وولّاها أخاه العبّاس بن محمّد، فشكا يزيد إلى أبى العبّاس فقال:
__________
[1] . أضفناها عن آومط والطبري (10: 367)
[2] . تكلمة من الطبري (10: 373)
[3] . فى الأصل وآ: درهم فى كلا الموضعين.
[4] . الضبط من الأصل.
[5] . فى الطبري (10: 374) : تقومى.(3/450)
- «يا أمير المؤمنين، إنّ أخاك أساء عزلى وشتم عرضي.» فقال له المنصور:
- «اجمع بين إحسانى إليك وإساءة أخى يعتدلا.» فقال يزيد:
- «يا أمير المؤمنين، إذا كان إحسانكم جزاء بإساءتكم، كانت طاعتنا لكم تفّضلا منّا عليكم.»
ودخلت سنتا ستّ وسبع وخمسين ومائة
ولم يجر فيهما ما تستفاد منه تجربة.
ثمّ دخلت سنة ثمان وخمسين ومائة
وفيها غضب المنصور على محمّد بن إبراهيم بن محمّد بن علىّ وكان أمير مكّة.
غضب المنصور على محمد بن ابراهيم
وكان السبب فى ذلك أنّ المنصور كتب إليه يأمره بحبس رجل من آل أبى طالب وبحبس الثوري وابن جريح وعبّاد بن كثير، فحبسهم [1] وكان له سمّار بالليل فلمّا كان وقت سمره [478] أبلس وأكبّ على الأرض ينظر إليها ولم ينطق بحرف، حتّى تفرّقوا. قال: فدنوت منه فقلت:
- «قد رأيت ما بك، فما لك؟» قال:
__________
[1] . وزاد فى الطبري (10: 385) : فأطلقهم بغير إذن أبى جعفر.(3/451)
- «عمدت إلى ذى رحم برسول الله، صلّى الله عليه، فحبسته، وإلى عيون من عيون المسلمين فحبستهم ويقدم أمير المؤمنين السنة، فلا أدرى ما يكون، ولعلّه أن يأمر بقتلهم فيقوى سلطانه وأهلك ديني.» قال: فقلت: «فتصنع ماذا؟» قال: «أوثر الله، وأطلق القوم، اذهب إلى إبلى فخذ راحلة منها، وخذ خمسين دينارا، فأت بها الطالبي، فأقرئه السلام وقل له: ابن عمّك يسألك أن تحلّه من ترويعه إيّاك، وتركب هذه الراحلة وتأخذ هذه النفقة.» قال: فلمّا أحسّ بى، جعل يتعوّذ بالله من شرّى، فلمّا أبلغته الرسالة قال:
- «هو فى حلّ ولا حاجة بى إلى النفقة ولا إلى الراحلة.» قال: فقلت له:
- «إنّ أطيب لنفسه أن تأخذ.» ففعل.
ثمّ جئت إلى ابن جريح وإلى سفيان وعبّاد فأبلغتهم ما قال، قالوا:
- «هو فى حلّ.» قال: قلت لهم:
- «لا يظهرنّ أحد منكم ما دام المنصور مقيما.» فلمّا قرب المنصور، وجّهنى محمّد بن إبراهيم بألطاف، فلمّا أخبر المنصور أنّ رسول محمّد بن إبراهيم قدم، أمر بالإبل فضربت وجوهها. فلمّا صار إلى بئر ميمون لقيه محمّد بن إبراهيم [479] فلمّا أخبر بذلك أمر بدوابّه فضربت وجوهها، فعدل محمّد فكان يسير فى ناحية، وعدل بأبى جعفر عن الطريق فى الشقّ الأيسر فأنيخ به، ومحمّد واقف قبالته ومعه طبيب له، فلمّا ركب أبو جعفر وسار، أمر محمّد الطبيب، فمضى إلى مناخ أبى جعفر فرأى نجوه، فقال لمحمّد:
- «رأيت نجو رجل لا تطول به الحياة.»(3/452)
فلمّا دخل مكّة لم يلبث أن مات، وسلم محمّد.
ولمّا مات المنصور، وكان ذلك لستّ خلون من ذى الحجّة، كتمه الربيع، وأحضر أهل بيته وذوى الأسنان منهم، ثمّ أحضر عامّتهم، وأخذ بيعتهم للمهدىّ، ثمّ لعيسى بن موسى من بعده. فلمّا فرغ من بيعتهم، دعا بالقوّاد حتّى بايعوا. ولم يتكلّم أحد إلّا علىّ بن عيسى بن ماهان، فإنّه أبى عند ذكر عيسى بن موسى أن يبايع، فلطمه محمّد بن سليمان وأمصّه [1] وقال:
- «من هذا العلج؟» وهمّ بضرب عنقه، فبايع، ثمّ تتابع الناس بالبيعة.
وتوفّى وله نيّف وستون سنة، واختلف فى النيّف، وكانت ولايته اثنتين وعشرين سنة.
ذكر بعض سير المنصور [480]
ذكر الفضل بن الربيع حكاية عن أبيه قال: بينا أنا قائم بين يدي المنصور إذ أتى بخارجى قد هزم له جيوشا، فأقامه ليضرب عنقه، ثمّ اقتحمته عينه فقال:
- «يا بن الفاعلة، مثلك يهزم الجيوش؟» فقال له الخارجي:
- «ويلك، سوءة لك، بيني وبينك أمس السيف والقتل، واليوم القذف والسبّ، ما كان يؤمنك أن أردّ عليك وقد يئست من الحياة فلا تستقيلها أبدا.» قال: فاستحيى منه المنصور فأطلقه، وما رأى أحد وجهه حولا.
وحكى سلّام الأبرش قال: كنت وأنا وصيف [2] وغلام آخر نخدم المنصور، وكان من أحسن الناس خلقا ما لم يخرج للناس وأشدّهم احتمالا
__________
[1] . فى آومط: وأمضه. والطبري (10: 389) كالأصل.
[2] . فى آ: كنت أنا ووصيف وغلام.(3/453)
لما يكون من عبث الصبيان، فإذا لبس ثيابه تغيّر لونه وترّبد وجهه واحمرّت عيناه، فيخرج ويكون منه ما يكون، فإذا رجع، عاد لمثل ذلك فنستقبله فى ممشاه، فربّما عاتبنا، وقال لى يوما:
- «يا بنىّ، إذا رأيتمونى قد لبست ثيابي أو رجعت من مجلسي فلا يدنونّ أحد منكم منّى لا أعرّه بشرّ [1] .» وقال المنصور يوما:
- «ما كان أحوجنى أن يكون على بابى أربعة نفر لا يكون أعفّ منهم.» قيل له:
- «ومن هم يا أمير المؤمنين؟» [481] قال: «هم أركان الملك، ولا يصلح الملك إلّا بهم، كما أنّ السرير لا يصلح إلّا بأربع قوائم إن نقصت قائمة واحدة لم تستقم، أمّا أحدهم فقاض لا تأخذه فى الله لومة لائم، والآخر صاحب شرطة يأخذ للضعيف من القوىّ، والثالث، صاحب خراج يستقصى لى ولا يظلم الرعيّة، فإنّى غنّى عن ظلمهم.» ثمّ عضّ على إصبعه السبّابة وقال:
- «آه، آه.» قيل له: «يا أمير المؤمنين، ومن هو [2] ؟» قال: «صاحب بريد يكتب إلىّ بخبر هولاء على الصّحة.» وقدّم إلى المنصور رجلان أحدهما شامىّ والآخر عراقىّ وقد ولّاهما خراج ناحيتهما، فقال للشامىّ بعد ما وصّاه وتقدّم إليه بما أراد:
- «ما أعرفنى بما فى نفسك، كأنّى بك وقد خرجت من عندي فقلت الزم
__________
[1] . فى الطبري (10: 393) : مخافة أن أعرّه بشيء.
[2] . فى مط: ومن هو الرابع.(3/454)
الصحّة يلزمك العمل.» وقال للعراقىّ بعد ما وصّاه:
- «ما أعرفنى بما فى نفسك كأنّى بك وقد خرجت من عندي فقلت: من عال بعدها فلا انجبر [1] اخرج عنّى وامض إلى عملك، وو الله لئن تعرّضت لذلك لأبلغنّ من عقوبتك ما تستحقّه.» قال: فولّيا جميعا وناصحا.
وذكر إسحاق بن عيسى بن موسى أنّ المنصور ولّى [482] رجلا من العرب حضرموت، [2] فكتب إليه صاحب البريد:
إنّه يكثر الخروج فى طلب الصيد وقد أعدّ بزاة وكلابا كثيرة.
فكتب إليه:
- «ثكلتك أمّك وعدمتك عشيرتك ما هذه العدّة التي جمعتها، للنكاية فى الوحش؟ إنّما استكفيناك أمور المسلمين ولم نستكفك أمور الوحش، سلّم ما كنت تلى من عملنا إلى فلان، والحق بأهلك ملوما مدحورا.» وذكر الهيثم بن عدىّ أنّ ابن عيّاش حدّثه أنّ ابن هبيرة أرسل إلى المنصور وهو محصور بواسط والمنصور بإزائه:
- «إنّى خارج يوم كذا وكذا وداعيك إلى المبارزة، فقد بلغني تجبينك إيّاى.» فكتب إليه:
- «يا بن هبيرة، إنّك متعدّ طورك، جار فى عنان غيّك، يعدك الشيطان ما الله مكذّبه، ويقرّب لك ما الله مباعده، فرويدا تتمّ الكلمة، ويبلغ الكتاب أجله،
و
__________
[1] . فى الطبري (10: 399) : اجتبر. وفى حواشيه: الخبر، انجبر. فى آ: انجبر
[2] . كذا فى الأصل وآ والطبري (10: 399) : من العرب حضرموت.(3/455)
قد ضربت لك مثلي ومثلك: بلغني أنّ أسدا لقى خنزيرا، فقال له الخنزير:
قاتلني. فقال له الأسد: إنّما أنت خنزير، ولست لى بكفؤ ولا نظير، ومتى فعلت الذي دعوتني إليه فقتلتك، قيل: قتل الأسد خنزيرا، [483] فلم أعتقد [1] بذلك فخرا ولا ذكرا، وإن نالني منك شيء كان سبّة علىّ. فقال: إن أنت لم تفعل رجعت إلى السباع، فأعلمتها أنّك نكلت عنّى، وجبنت عن قتالي. فقال الأسد:
احتمالي عار كذبك أيسر من لطخ شاربي بدمك.» وذكر لأبى جعفر تدبير هشام بن عبد الملك فى حرب كانت له، فبعث إلى رجل يصحبه قديما ينزل [2] رصافة هشام، يسأله عن تلك الحرب، فقدم عليه فقال:
- «أنت صاحب هشام؟» قال: «نعم يا أمير المؤمنين.» قال: «فأخبرني كيف صنع فى حرب دبّرها فى سنة كذا؟» فقال:
- «إنّه عمل فيها، رحمة الله عليه، كذا وكذا، ثمّ أتبع بأن فعل، رضى الله عنه، كذا وكذا.» فأحفظ ذلك المنصور فقال:
- «قم، غضب الله عليك، تطأ بساطي وتترحّم على عدوّى.» فقام الشيخ وهو يقول:
- «إنّ لعدوّك قلادة فى عنقي ومنّة فى رقبتي لا ينزعها عنّى إلّا غاسلى.» فأمر بردّه وقال:
__________
[1] . كذا فى آوالطبري (10: 412) .
[2] . فى الطبري (10: 412) : ينزل الرصافة، رصافة هشام.(3/456)
- «اقعد، هيه، كيف قلت وما صنع بك؟» فقال:
- «إنّه كفاني الطلب، وصان وجهى عن السؤال، فلم أقف على باب عربىّ ولا عجمىّ منذ رأيته، أفلا يجب علىّ أن أذكره بخير وأتبعه [484] بثنائى؟» قال: «بلى والله، لله أمّ نهضت عنك وليلة أدّتك، أشهد أنّك نهيض حرّة وغراس كريم.» ثمّ استمع منه، وأمر له ببرّ. فقال:
- «يا أمير المؤمنين، ما آخذه لحاجة، وما هو إلّا تشرّف بحبائك وتبّجح بصلتك.» وأخذ الصلة وخرج. فقال المنصور:
- «لمثل هذا تحسن الصنيعة، ويوضع المعروف. ويجاد بالمصون، وأين فى عسكرنا مثله!» وأبطأ المنصور عن الخروج إلى الناس والركوب، فقال الناس: هو عليل وكثّرا. قال: فدخل الربيع عليه، فقال:
- «يا أمير المؤمنين، لأمير المؤمنين طول البقاء والناس يقولون ... » قال: «ما يقولون؟» قال:
- «يقولون: عليل.» قال: فأطرق قليلا وقال:
- «يا ربيع، مالنا وللعامّة، إنّما تحتاج العامّة إلى ثلاث خلال، فإذا فعل بهم فما حاجتهم إذا أقيم لهم من ينظر فى أحكامهم، وينصف بعضهم من بعض، ويؤمن سبلهم حتّى لا يخافوا ليلهم ونهارهم، ويسدّ ثغورهم وأطرافهم حتّى لا يجيئهم عدوّهم، وقد فعلنا ذلك بهم.»(3/457)
ثمّ مكث أيّاما وقال:
- «يا ربيع، اضرب الطبل.» فركب حتّى رأته [485] العامّة.
وظفر المنصور برجل من كبراء بنى أميّة فقال:
- «إنّى أسألك عن أشياء فاصدقني ولك الأمان.» قال: «نعم.» فقال له المنصور:
- «من أين أتى بنو أميّة حتّى انتشر أمرهم؟» قال: «من تضييع الأخبار.» وكان المنصور يقول: ليس بإنسان من أسدى إليه معروف فنسيه قبل الموت.
وكان يقول: العرب تقول: العرى القادح خير من الزّى الفاضح.
ودخل على المنصور رجل من أهل العلم فازدراه واقتحمته عينه فجعل لا يسأله عن شيء إلّا وجده عنده. فقال له:
- «أنّى لك هذا العلم.» قال: «لم أبخل بعلم علمته، ولم أستحى من علم أتعلّمه.» قال: «فمن هناك.» وكان المنصور كثيرا ما يقول: من فعل بغير تدبير، وقال فى غير تقدير، لم يعدم من الناس هازئا أو لاحيا.
وكان المنصور يقول: الملوك تحتمل كلّ شيء من أصحابها إلّا ثلاثا: إفشاء السرّ، والتعرّض للحرمة، والقدح فى الملك.
ولمّا حمل عبد الجبّار بن عبد الرّحمن الأزدى إلى المنصور بعد خروجه عليه، قال له:
- «يا أمير المؤمنين، قتلة كريمة.» [486] قال:(3/458)
- «تركتها وراءك يا بن الخناء» .
وخطب يوما بمدينة السلام سنة اثنتين وخمسين ومائة، فقال:
- «لا تظالموا، فإنّها ظلمة يوم القيامة. والله لولا يد خاطئة، وظلم ظالم، لمشيت بين أظهركم وأسواقكم، ولو علمت مكان من هو أحقّ منّى بهذا الأمر، لأتيته حتّى أدفعها إليه.» وقال يوما: «من علم أنّه إنّما صنع إلى نفسه، لم يستبطئ الناس فى شكرهم ولم يستزدهم فى مودّتهم، فلا تلتمس من غيرك شكر ما أتيته إلى نفسك ووقيت به عرضك، واعلم أنّ طالب الحاجة إليك لم يكرم وجهه عن مسألتك، فأكرم وجهك عن ردّه.
وخطب يوما فقال:
- «الحمد لله أحمده واستعين به وأتوكلّ عليه، وأشهد أن لا إله إلّا الله، وحده لا شريك له ... » فاعترض معترض عن يمينه فقال:
- «أيها الإنسان، أذكّرك من ذكّرت به.» فقطع الخطبة وقال:
- «سمعا، سمعا لمن حفظ عن الله، وذكّر به، وأعوذ بالله أن أكون جبّارا عنيدا، [1] وأن تأخذنى العزّة بالإثم، [2] لقد ضللت إذا وما [487] أنا من المهتدين. [3]
__________
[1] . انظر، س 14 ابراهيم: 15.
[2] . انظر، س 2 البقرة: 206.
[3] . انظر، س 6 الانعام: 56.(3/459)
- «وأنت أيّها القائل، فو الله ما أردت بهذا صلاحا، ولكنّك حاولت أن يقال:
قام، فقال، فعوقب فصبر، وأهون بها. ويلك لو هممت فاهتبلها إذ غفرت. وإيّاك وإيّاكم [1] أيّها الناس وأختها، فإنّ الحكمة علينا نزلت ومن عندنا فصلت فردّوا الأمر إلى أهله يوردوه موارده ويصدروه مصادره.» ثمّ عاد فى خطبته كأنّما يقرأها من راحته:
- «و ... أشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله ... » وخطب المنصور بالمدائن عند قتل أبى مسلم فقال:
- «أيّها الناس، لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وحشة المعصية، ولا تسرّوا غشّ الأئمّة، فإنّه لم يسرّ أحد منكم قطّ منكرة إلّا ظهرت فى آثار يده أو فلتات لسانه، وأبداها الله لإمامه بإعزاز دينه وإعلاء حقّه. إنّا لم نبخسكم حقوقكم ولم نبخس الدين حقّه عليكم، إنّه من نازعنا عروة هذا القميص أجزرناه خبئ [2] هذا الغمد، وإنّ أبا مسلم بايعنا وبايع لنا على أنّه من نكث بنا فقد أباح دمه. ثمّ نكث بنا، فحكمنا عليه حكمه على غيره لنا [3] ولم نمنعنا رعاية الحقّ له من إقامة [488] الحقّ عليه.» وكتب صاحب أرمينية [4] إلى المنصور، إنّ الجند شغبوا عليه وكسروا أقفال بيت المال، فأخذوا ما فيه.» فوقّع فى كتابه:
- «اعتزل عملنا مذموما، فلو عقلت لم يشغّبوا، ولو قويت لم ينتهبوا.»
__________
[1] . فى الأصل: تكرر «إيّاكم» وما أثبتناه يؤيده آوالطبري (10: 427) .
[2] . فى الطبري (10: 433) : خبىّ.
[3] . انظر الطبري (10: 433) .
[4] . انظر الطبري (10: 436) .(3/460)
خلافة المهدى
وفى هذه السنة بويع للمهدىّ واسمه محمّد بن عبد الله بن محمّد بن علىّ بن عبد الله بن العبّاس.
ودخلت سنة تسع وخمسين ومائة
وفيها أمر المهدىّ بإطلاق من كان فى سجن المنصور، إلّا من كان قبله تباعة فى دم أو قتل، أو من كان معروفا بالسعي فى الأرض بالفساد وكان لأحد قبله مظلمة أو حقّ، فأطلقوا.
وكان ممّن أطلق من المطبق يعقوب بن داود مولى بنى سليم، وكان معه فى ذلك الحبس محبوسا الحسن بن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علىّ بن أبى طالب عليهم السلام فلم يطلق.
وارتفع يعقوب بن داود واختصّ بالمهدىّ حتّى سمّاه أخا فى الله. ذكر السبب فى ذلك
لمّا أطلق يعقوب بن داود ولم يطلق الحسن بن إبراهيم ساء ظنّ الحسن وخاف على نفسه [489] فالتمس مخرجا لنفسه وخلاصا، فبعث إلى بعض ثقاته(3/461)
فحفر له سربا من موضع مسامت للموضع الذي هو فيه محبوس.
وكان يعقوب بن داود بعد أن أطلق يطيف با بن علّاثة وهو قاضى المهدىّ بمدينة السلام ويلزمه حتّى أنس به، وعرف يعقوب ما عزم عليه الحسن بن إبراهيم من الهرب، فأتى ابن علّاثة فأخبره أنّ عنده نصيحة للمهدىّ، وسأله إيصاله إلى أبى عبيد الله، فسأله عن تلك النصيحة، فأبى أن يخبره وحذّره فوتها، فانطلق ابن علّاثة إلى أبى عبيد الله، فأخبره خبر يعقوب وما جاءه به، فأمر بإدخاله عليه.
فلمّا دخل سأله إيصاله إلى المهدى ليورد عليه النصيحة التي له عنده، فأدخله عليه، فلمّا دخل على المهدىّ، شكر له بلاءه عنده فى إطلاقه إيّاه، ثمّ أخبره أنّ له عنده نصيحة، فسأله عنها بمحضر من أبى عبيد الله وابن علّاثة، فاستخلاه منهما، فأعلمه المهدىّ ثقته بهما، فأبى أن يبوح له بشيء حتّى يقوما، فأقامهما، فأخلاه، فأخبره خبر الحسن بن إبراهيم وما أجمع به، وإنّ ذلك كائن من ليلته المستقبلة. فوجّه المهدىّ من وثق به ليأتيه بخبره فأتاه بتحقيق ما أخبره به [490] يعقوب، فأمر بتحويله إلى نصير، فلم يزل فى حبسه إلى أن احتال أو أحتيل له، فخرج هاربا وافتقد فشاع هربه، فطلب فلم يظفر به، وتذكّر المهدىّ دلالة يعقوب إيّاه كانت عليه، فرجا عنده من الدلالة عليه مثل الذي كان منه فى أمره، فسأل أبا عبيد الله عنه، فأخبره أنّه حاضر. وقد كان لزم أبا عبيد الله فدعا به المهدىّ خاليا فذكر له ما كان من فعله فى أمر الحسن بن إبراهيم أولّا، ونصحه له فيه، وأخبره بما حدث من أمره، فأخبره يعقوب أنّه لا علم له بمكانه، وأنّه إن أعطاه أمانا [1] يثق به، ضمن له أن يأتيه به، على أن يتمّ له على أمانه ويصله ويحسن إليه. فأعطاه المهدىّ ذلك فى مجلسه وضمنه له.
__________
[1] . أمانا: فى آ: ضمانا. والطبري (10: 463) كالأصل.(3/462)
فقال له يعقوب:
- «فاله يا أمير المؤمنين عن ذكره، ودع طلبه، فإنّ ذلك يوحشه، ودعني وإيّاه حتّى أحتال له فآتيك به.» قال يعقوب:
- «يا أمير المؤمنين، قد بسطت عدلك لرعيّتك وأنصفتهم وعممتهم بخيرك وفضلك، فعظم رجاؤهم، وانفسحت آمالهم، وقد بقيت أشياء لو ذكرتها لم تدع [491] النظر فيها بمثل ما فعلت فى غيرها، وأشياء مع ذلك وخلف بابك يعمل بها لا تعلمها، فإن جعلت لى السبيل إلى الدخول عليك، وأذنت لى فى رفعها إليك، فعلت.» فأعطاه المهدىّ ذلك وجعله إليه وصيّر سليما الخادم الأسود خادم المنصور سببه [فى] [1] إعلام المهدىّ بمكانه كلّما أراد الدخول. فكان يعقوب يدخل على المهدىّ ليلا ويرفع إليه النصائح فى الأمور الحسنة الجميلة من أمر الثغور وبناء الحصون وتقوية الغزاة وتزويج العزّاب وفكاك الأسارى والمحبّسين والقضاء على الغارمين والصدقة على المتعفّفين. فحظى بذلك عنده وربما رجا أن ينال به من الظفر بالحسن بن إبراهيم، واتخذه أخا فى الله وأخرج بذلك توقيعا ثبت فى الدواوين ووصله بمائة ألف، وكانت أوّل صلة وصله بها، فلم تزل منزلته تنمى وتعلو صعدا إلى أن صيّر الحسن بن إبراهيم فى يد المهدىّ.
تحرّك الشيعة ووجوه أهل خراسان
وفى هذه السنة [2] تحرّك قوم من الشيعة ووجوه أهل خراسان، وسعوا فى
__________
[1] . فى الأصل: واعلام. ولا يستقيم معه المعنى. وما بين المعقوفتين من الطبري (10: 464) . فى عح (271) : يعلم المهدىّ.
[2] . سنته 159.(3/463)
خلع عيسى بن موسى وتصيير ولاية العهد [492] لموسى بن المهدىّ. فكتب المهدىّ إلى عيسى بن موسى وهو بالكوفة، فى القدوم عليه. فأحسّ عيسى بما يراد منه، فامتنع حتّى خشي من انتقاضه وألحّ المهدىّ عليه حتّى كتب إليه:
- «إنّك إن امتنعت من المجيء استحللت منك لمعصيتك ما يستحلّ من العاصي، وإن أجبتنى وخلعت نفسك حتّى أبايع لموسى وهارون عوّضتك ما هو أجدى عليك وأعجل نفعا.» فأجابه فبايع لهما، وأمر له بعشرة آلاف ألف، [1] ويقال بعشرين ألف ألف وقطائع كثيرة.
فامتنع وراوغ، فوجّه إليه محمّد بن فرّوخ وهو أبو هريرة القائد فى ألف رجل من أصحابه ذوى البصائر فى التشيّع، وجعل مع كلّ رجل منهم طبلا، وأمرهم أن يضربوا جميعا بطبولهم عند قدومهم الكوفة، فدخلها ليلا فى وجه الصبح، فضرب أصحابه بطبولهم، فراع ذلك عيسى بن موسى روعا شديدا. ثمّ دخل عليه أبو هريرة فأمره بالشخوص، فاعتلّ بالشكوى، فلم يقبل ذلك منه وأشخصه من ساعته إلى مدينة السلام.
ودخلت سنة ستين ومائة
قدوم عيسى بن موسى
وفيها قدم عيسى بن موسى مع أبى هريرة لستّ خلون من المحرّم، وأقام أيّاما [493] يختلف إلى المهدىّ على رسمه لا يكلّم ولا يرى جفوة ولا مكروها حتّى أنس بعض الأنس. ثمّ حضر الدار يوما قبل جلوس المهدىّ، فدخل مجلسا كان يكون للربيع فى مقصورة صغيرة عليها باب، وقد اجتمع
__________
[1] . وزاد فى مط: درهم.(3/464)
رؤساء الشيعة فى ذلك اليوم على خلعه والوثوب به، ففعلوا ذلك وضربوا الباب بجرزهم وعمدهم، فهشموا الباب وكادوا يكسرونه، وشتموه أقبح شتم، وأظهر المهدىّ إنكارا لذلك فلم يزعهم [1] ذلك، بل زادوا إلى أن كاشفه ذوو الأسنان من قومه وأهل بيته بحضرة المهدىّ وأبوا إلّا خلعه وشتموه فى وجهه وكان أشدّهم عليه محمّد بن سليمان.
فلمّا رأى المهدىّ ذلك من رأيهم، أمر عيسى بموافقتهم، ودعاه إلى الخروج ممّا له من العهد فى أعناق المسلمين وتحليلهم منه، فأبى، وذكر أنّ عليه أيمانا محرّجة فى ماله وأهله فأحضر له من الفقهاء والقضاة، منهم محمّد بن عبد الله بن علاثة [2] وغيره من أفتاه بأن يبتاع أمير المؤمنين ما له فى أعناق الناس بما له فيه رضاه ممّا يخرج منه من ما له لما يلزمه من الحنث فى يمينه، وهو عشرة آلاف ألف درهم، وضياع بالزاب الأعلى وكسكر، فقبل ذلك [494] عيسى وخلع نفسه على المنبر، وبويع لموسى بعد المهدىّ.
وكتب عليه بذلك كتاب قرئ عليه بحضرة الأشراف والقضاة والعدول، فاعترف به، وبذل خطّه [3] فيه وشهد فيه أربعمائة وثلاثون رجلا من بنى هاشم والصحابة من قريش والموالي والوزراء والكتّاب والقضاة.
حجّ المهدىّ وما كان منه فى مكّة والمدينة
وفى هذه السنة حجّ المهدىّ بالناس وحجّ معه ابنه هارون وجماعة من أهل بيته. وكان ممّن شخص معه يعقوب بن داود على منزلته الرفيعة التي كانت
__________
[1] . فى الأصل: يزعمهم. وهو خطأ. فى آومط: يزعهم. فى الطبري (10: 471) وعح (271) : يرعهم.
[2] . لا شدّة عليه هنا فى الأصل وفى الطبري (10: 472) .
[3] . انظر الطبري (10: 474) .(3/465)
عنده، فأتاه حين وافى مكّة بالحسن بن إبراهيم بن عبد الله الذي كان استأمن له، فأحسن المهدىّ صلته وجائزته وأقطعه مالا من الصوافي بالحجاز.
وفيها نزع المهدىّ كسوة الكعبة التي كانت عليها، وكساها كسوة جديدة، وذلك أنّ حجبة الكعبة رفعوا إليه أنّهم يخافون أن تنهدم لكثرة ما عليها من الكسوة، فأمر بتنحية ما عليها [1] حتّى بقيت مجرّدة ثمّ طلى البيت بالخلوق وكسى.
وحكى أنّهم لمّا بلغوا إلى كسوة هشام وجدوها ديباجا ثخينا جدا، ووجدوا كسوة من كان قبله عامّتها من متاع اليمن.
وقسّم المهدىّ فى هذه السنة مالا عظيما فى أهل مكّة والمدينة. فذكر أنّه قسّم فى تلك السفرة [495] ثلاثين ألف ألف درهم حملت معه ووصل إليه من مصر ثلاثمائة ألف دينار، ومن اليمن مائتا ألف دينار، فوهب ذلك كلّه وفرّق من الثياب مائة ألف وخمسين ألف ثوب، ووسّع مسجد رسول الله، صلّى الله عليه، وأمر بنزع المقصورة التي فى المسجد فنزعت وأراد أن ينقض منبر رسول الله، صلّى الله عليه، فيعيده إلى ما كان عليه ويلقى منه ما كان معاوية زاد فيه، فشاور فى ذلك مالك بن أنس، فقيل له:
- «إنّ المسامير قد سلكت فى الخشب الذي أحدثه معاوية فى الخشب الأوّل وهو عتيق ولا نأمن إن خرجت المسامير التي فيه وزعزعت أن ينكسر، فتركه المهدىّ على ذلك.
ثمّ دخلت سنة إحدى وستين ومائة
خروج المقنّع بخراسان
وفيها خرج حكيم المقنّع بخراسان، وكان يقول بتناسخ الأرواح، فاستغوى
__________
[1] . «فأمر بتخية ما عليها.» غير موجودة لا فى الأصل ولا فى آ، زدناها من مط. فى الطبري: فأمر أن يكشف عنها.(3/466)
بشرا كثيرا، وقوى وسار إلى ما وراء النهر، فوجّه المهدىّ لقتاله عدّة من قوّاده فيهم معاذ بن مسلم، وهو يومئذ على خراسان، ثمّ أفرد المهدىّ لمحاربته سعيدا الحرشىّ، وضمّ إليه هولاء القوّاد. وابتدأ المقنّع بجمع الطعام فى قلعة [496] بكسّ [1] عدّة للحصار.
ظفر بشر بعبد الله بن مروان
وفيها ظفر بشر بن محمّد بن الأشعث الخزاعي بعبد الله بن مروان بالشام فقدم به على المهدىّ فجلس المهدىّ مجلسا عامّا فى الرصافة وقال:
- «من يعرف هذا؟» فقام عبد العزيز بن مسلم العقيلي فصار معه قائما ثمّ قال له:
- «أبا الحكم؟» قال: «نعم.» قال: «كيف كنت بعدي؟» ثمّ التفت إلى المهدىّ فقال:
- «نعم يا أمير المؤمنين، هذا عبد الله بن مروان.» فعجب الناس من جرأته ولم يعرض له المهدىّ بشيء. ثمّ جاء بعد ذلك بأيّام عمرو بن سهلة الأشعرى فادّعى أنّ عبد الله بن مروان قتل أباه وكثرت الحيل على عبد الله بن مروان. فقدّم عمرو بن سهلة عبد الله بن مروان إلى عافية القاضي وادّعى عليه، فتوجّه الحكم أن يقاد به، وأقام عليه البيّنة. فلمّا كاد الحكم يبرم، جاء عبد العزيز بن مسلم العقيلي إلى عافية القاضي يتخطّى رقاب الناس حتّى صار إليه فقال:
__________
[1] . فى الطبري (10: 484) بالشين المعجمة: بكشّ.(3/467)
- «يزعم عمرو بن سهلة أنّ عبد الله بن مروان قتل أباه. كذب والله، ما قتل أباه غيرى أنا، قتلته بأمر مروان، وعبد الله بن مروان من دمه بريء.» فزالت عن عبد الله بن مروان [1] ولم يعرض المهدىّ لعبد العزيز بن مسلم، لأنّه قتله بأمر مروان. [497] وفيها أمر المهدىّ يعقوب بن داود بتوجيه الأمناء من قبله إلى جميع الآفاق، ففعل. وكان لا ينفذ للمهدىّ كتاب إلى عامل فيجوز حتّى يكتب يعقوب إلى ثقته وأمينه بإنفاذ ذلك.
واتّضعت منزلة أبى عبيد الله وزير المهدىّ ذكر السبب فى ذلك
كان الربيع يخلف أبا عبيد الله عند المنصور بجميل أيّام مقامه بالرىّ مع المهدىّ وكان الموالي يسعون أبا عبيد الله عند المهدىّ، فكان أبو عبيد الله يخاف تغيّر رأى المهدىّ له، فيكتب إلى الربيع دائما ولا ينقطع رسله عنه، فلا يزال الربيع يذكره بجميل عند المنصور ويعلمه ثقته وكفايته ويتنجّز له الكتب من المنصور إلى المهدىّ بالوصاة به وترك قبول قول الموالي فيه.
قال الفضل بن الربيع: فلمّا حجّ أبى مع المنصور فى السنة التي مات فيها، وقام أبى بما فام به [498] من أمر البيعة وتلافيه بنفسه تلك الأمور وتجديده البيعة للمهدىّ على أهل بيت أمير المؤمنين والقوّاد والموالي وقدم، تلقّيته بعد المغرب، فلم أزل معه حتّى تجاوز منزله وترك دار أمير المؤمنين ومضى إلى أبى عبيد الله فقلت له:
__________
[1] . فى مط: ... مروان الحكومة.(3/468)
- «تترك أمير المؤمنين وتأتى أبا عبيد الله؟» فقال: «يا بنىّ هو وزير الرجل، وليس ينبغي أن نعامله بما كنّا نعامله به ولا نحاسبه بما كان منّا فى أمره ونصرتنا له.» قال: فمضينا حتّى أتينا باب أبى عبيد الله. فما زال واقفا حتّى صلّيت العتمة فخرج الحاجب فقال:
- «ادخل.» فثنى رجله وثنيت رجلي فقال:
- «إنّما استأذنت لك وحدك يا با الفضل.» قال: «فاذهب وأخبره أنّ الفضل معى ثمّ اقبل علىّ.» فقال: «وهذا أيضا من ذاك.» فخرج الحاجب فأذن لنا جميعا، فدخلنا وإذا أبو عبيد الله فى صدر مجلسه متكئ.
فقلت: يقوم إلى أبى ويتلقّاه فلم يقم. فقلت: يستوى جالسا إذا دنا، فلم يفعل فقلت: يدعو له بمصلّى [1] فلم يفعل.
قال: فقعد أبى بين يديه على البساط وهو متكئ، فجعل يسائله عن مسيره وسفره [499] وحاله، وجعل أبى يتوقّع أن يسأله عمّا كان منه فى أمر المهدىّ وتجديده بيعته، فأعرض عن ذلك، فذهب أبى يبتدئ بذكره فقال:
- «قد بلغنا نبأكم.» قال: فذهب أبى لينهض، فقال له:
- «لا أرى الدروب إلّا وقد غلّقت فلو أقمت.» فقال أبى: «إنّ الدروب لا تغلق دوني.»
__________
[1] . فى آ: بالمصلّى.(3/469)
فقال: «بلى، قد أغلقت.» قال: فظنّ أبى أنّه يريد أن يحتبسه ليسكن من مسيره، ثمّ يسائله، فقال:
- «يا غلام، اذهب، فهيّئ لأبى الفضل فى منزل محمّد بن أبى عبيد الله مبيتا.» فلمّا رأى أنّه يريد أن يخرج من الدار، قال:
- «فليس تغلق الدروب دوني.» ثمّ قام، فلمّا خرجنا من الدار أقبل علىّ فقال:
- «يا بنىّ، أنت أحمق.» قلت: «وما حمقى؟» قال: «تقول فى نفسك كان ينبغي ألّا تجيء وكان ينبغي إذ جئت فحجبنا ألّا تقيم حتّى صلّيت العتمة، وأن ترجع فتنصرف ولا تدخل، وكان ينبغي إذ دخلت فلم يقم لك، أن ترجع ولا تقيم عليه ولا تجلس بين يديه، ولم يكن الصواب إلّا ما عملته كلّه ولكن والله الذي لا إله إلّا هو- واستغلق فى اليمين- لأخلقنّ جاهي ولأنفقنّ مالي حتّى أبلغ مكروه أبى عبيد الله.» قال: ثمّ جعل [500] يضطرب بجهده فلا يجد مساغا إلى مكروهه ويحتال الحيل، حتّى ذكر القشيري الذي كان أبو عبيد الله حجبه، وكان هذا الرجل فى مسامرى المهدىّ بنيسابور وبالرىّ وفيمن يأنس به، فعارض أبا عبيد الله يوما بين يدي المهدىّ فى أمر، فتقدّم أبو عبيد الله بأن يحجب عن المهدىّ، وأسقط اسمه، فأرسل إليه أبى فجاءه فقال:
- «إنّك قد علمت ما ركبك به أبو عبيد الله، وقد بلغ منّى كلّ غاية من المكروه وقد أرغت أمره بجهدى فما وجدت عليه طريقا فعندك حيلة فى أمره؟» فقال: «إنّما يؤتى أبو عبيد الله من أحد وجوه أذكرها لك. يقال: هو جاهل(3/470)
بصناعته، فأبو عبيد الله أحذق الناس. أو يقال: هو ظنين فيما يتقلّده، فأبو عبيد الله أعفّ الناس لو أنّ بنات المهدىّ فى حجره كان لهنّ موضعا. أو يقال: هو يميل إلى أن يخالف السلطان فليس يؤتى أبو عبيد الله من ذلك الّا أنّه يميل إلى القدر [1] . أو يقال: هو متّهم فى الله. فأبو عبيد الله ذو عقد وثيق ولكن هذا كلّه مجتمع لك فى ابنه.» قال: فتناوله الربيع، فقبّل بين عينيه، ثمّ دبّ [501] لابن أبى عبيد الله. فو الله ما زال يحتال ويدّس إلى المهدىّ ويتّهمه ببعض حرم المهدىّ، ويحقّق عليه الزندقة حتّى استحكم عند المهدىّ الظنّة بمحمّد بن أبى عبيد الله، فأمر فأحضر وأخرج أبو عبيد الله فقال:
- «يا محمّد، اقرأ القرآن.» فذهب ليقرأ، فاستعجم عليه، فقال:
- «يا معاوية، ألم تعلمني أنّ ابنك جامع للقرآن؟» قال: «قد أخبرتك يا أمير المؤمنين، ولكنّه فارقنى منذ سنين، وفى هذا المدّة نسى القرآن.» قال: «قم، فتقرّب إلى الله تعالى بدمه.» قال: فذهب يقوم فوقع، فقال العبّاس بن محمّد:
- «إن رأيت يا أمير المؤمنين أن تعفى الشيخ، فإنّه يضعف عن ذلك.» قال: ففعل، وأمر به فأخرج وضربت عنقه. قال: واتهمه المهدىّ فى نفسه.
فقال له الربيع:
- «قتلت ابنه، وليس ينبغي أن يكون معك ولا أن تثق به.» قال: فأوحش المهدىّ منه، وكان من أمره ما كان. وبلغ الربيع ما أراد
و
__________
[1] . انظر الطبري (10: 490) .(3/471)
اشتفى وزاد.
ودخلت سنة اثنين وستين ومائة [502]
وتتابعت السنون إلى سنة ستّ وستين ومائة لم يجر فيها ما يكتب ويستفاد به شيء.
غضب المهدى على يعقوب بن داود
ولمّا كانت سنه ستّ وستّين ومائة، غضب المهدىّ على يعقوب بن داود.
ذكر السبب فى ذلك كان يعقوب بن داود محبوسا فى المطبق حتّى من عليه المهدىّ. وسبب حبسه أنّ أباه داود بن طهمان وإخوته كانوا كتّابا لنصر بن سيّار، ولمّا كانت أيّام يحيى بن زيد، كان يدسّ إليه وإلى أصحابه ما يسمع من نصر ويحذّرهم.
فلمّا خرج أبو مسلم يطلب بدم يحيى بن زيد ويقتل قتلته والمعينين عليه، أتاه داود بن طهمان مطمئنّا إليه لما كان يعلم ممّا جرى بينهما فأمنه أبو مسلم ولم يعرض له فى نفسه، لكنّه أخذ أمواله التي استفادها أيّام نصر، وترك له ضيعة كانت له قديمة.
فلمّا مات داود خرج ولده أهل أدب وعلم بأيّام الناس وسيرهم وأشعارهم، ونظروا فإذا ليس لهم عند بنى العبّاس منزلة، فلم يطمعوا فى خدمتهم لحال أبيهم من كتابة نصر. فأظهروا مقالة الزيدية ودنوا من [503] آل الحسن طمعا فى أن تكون لهم دولة فيعيشوا فيها.
فكان يعقوب منفردا يجول البلاد، وكان مع إبراهيم بن عبد الله أحيانا فى طلب البيعة لمحمّد بن عبد الله. فلمّا ظهر إبراهيم بالبصرة كان معه، فلمّا قتل محمّد وإبراهيم تواروا، فأمر المنصور بطلبهم، فأخذ يعقوب وأخوه علىّ(3/472)
فحبسهما فى المطبق، فبقوا أيّام حياة المنصور إلى أن من المهدىّ عليهما وأطلقهما.
ثمّ لم تزل منزلته ترتفع عند المهدىّ حتّى استوزره وتجاوز مرتبة الوزارة، حتّى فوّض إليه أمر الخلافة، فأرسل إلى الزيديّة، فأتى بهم من كلّ أوب وولّاهم من أمور الخلافة فى الشرق والغرب كلّ عمل جليل نفيس والدنيا كلّها فى يده، فكثر حسّاده وسعى عليه الموالي حتّى قيل للمهدىّ:
- «إنّ الشرق والغرب فى يد يعقوب وأصحابه، وقد كاتبهم وإنّما يكفيه أن يكتب إليهم فيثوروا فى يوم واحد على ميعاد فيأخذوا الدنيا كلّها لمن شاء.» فكان ذلك ملأ قلب المهدىّ.
وكان يعقوب بن داود قد عرف من المهدىّ [504] خلقا واستهتارا بذكر النساء والجماع. وكان يعقوب يصف له من نفسه شيئا كثيرا، وكذلك كان المهدىّ، فيقول خدم المهدىّ:
- «هو على أن يصبح فيثور بيعقوب.» فإذا أصبح غدا عليه يعقوب وقد بلغه الخبر، فإذا نظر إليه تبسّم فيقول:
- «اقعد بحياتى فحدّثنى.» فيقول:
- «خلوت بجاريتي فلانة، فكان فكان، وقالت وقلت.» فيضع لذلك حديثا، فيحدّث المهدىّ بمثل ذلك ويفترقان على الرضا، فيبلغ ذلك من يسعى على يعقوب فيتعجّب منه.
ذكر السبب فى تمكّن السعاة على يعقوب مع حظوته
خرج ليلة يعقوب من عند المهدىّ وقد ذهب من الليل أكثره، وعليه(3/473)
طيلسان يتقعقع، فصادف غلاما آخذا بعنان دابّة معه أشهب وقد نام الغلام، فذهب يعقوب يسوّى طيلسانه، فتقعقع، فنفر البرذون وسقط يعقوب ودنا منه يعقوب فاستدبره وضربه ضربة على ساقه فكسرها [1] . وسمع [505] المهدىّ [2] الوجبة، فخرج حافيا فلمّا رأى ما به أظهر الجزع والتفزّع، ثمّ أمر به فحمل فى محفّة إلى منزله، ثمّ غدا عليه المهدىّ مع الفجر، وبلغ ذلك الناس، فغدوا عليه فعادوه ثلاثة متتابعة مع أمير المؤمنين ثمّ قعد عن عيادته وأقبل يرسل إليه يسأله عن حاله، فلمّا فقد وجهه تمكّن السعادة من المهدىّ فلم يأت عاشره حتّى أظهر سخطه.
وأمّا السبب الذي يحدّث به يعقوب نفسه بعد موت المهدىّ فهو ما حكاه ابنه علىّ بن يعقوب عن أبيه قال: بعث [3] المهدىّ إلىّ يوما، فدخلت عليه، فإذا هو فى مجلس مفروش بفرش مورّد متناه فى السرو على بستان فيه شجر رؤوس الشجر من صحن المجلس، وقد اكتسى ذلك الشجر بالأوراد والأزهار من الخوخ والتفّاح وكلّ ذلك مورّد يشبه فرش المجلس الذي كان فيه، فما رأيت شيئا أحسن منه، وإذا عنده جارية ما رأيت أحسن منها ولا أسد قواما ولا أحسن اعتدالا، عليها نحو تلك الثياب، فما رأيت أحسن من جملة ذلك المجلس فقال لى:
- «يا يعقوب، [506] كيف ترى مجلسنا هذا؟» فقلت: «على غاية الحسن، فمتّع الله أمير المؤمنين به وهنّأه إيّاه.» قال: «هو لك، أحمله بما فيه، وهذه الجارية ليتمّ سرورك.» قال: فدعوت له بما يحبّ.
__________
[1] . انظر الطبري (10: 515) .
[2] . تكرر «المهدى» فى الأصل.
[3] . تجد الرواية عند الطبري (10: 510) .(3/474)
قال: ثمّ قال لى:
- «يا يعقوب، ولى إليك حاجة.» قال: فوثبت قائما، ثمّ [1] قلت:
- «يا أمير المؤمنين، ما هذه إلّا لموجدة، وأنا أستعيذ بالله من سخط أمير المؤمنين.» قال: «لا ولكن أحبّ أن تضمن لى قضاءها، فإنّى لم أسلكها من حيث تتوهّم، وإنّما قلت ذلك على الحقيقة، فأحبّ أن تضمن لى هذه الحاجة أن تقضيها لى.» قلت: «الأمر لأمير المؤمنين، وعلىّ السمع والطاعة.» قال: «والله؟» قلت: «والله ثلاثا» .
قال: «وحياة رأسك.» قال: «فضع يدك عليه واحلف به.» قال: فوضعت يدي عليه وحلفت به لأعملنّ بما قال ولأقضيّن حاجته. فلمّا استوثق منّى فى نفسه قال:
- «هذا فلان بن فلان من ولد علىّ أحبّ أن تكفيني مؤونته وتريحني منه وتعجّل ذلك.» فقلت: «أفعل.» قال: «فخذه إليك.» قال: فحوّلته إلىّ وحوّلت الجارية وجميع ما كان فى البيت والمجلس من
__________
[1] . زيادة فى آوالطبري (10: 511) .(3/475)
فرش وآلة وأمر لى بمائة ألف درهم. [507] قال: فحملت ذلك جملة ومضيت به، فلشدّة سروري بالجارية صيّرتها فى مجلس بيني وبينها ستر، وبعثت إلى العلوىّ فأدخلته إلىّ وسألته عن حاله، فأخبرنى بها وإذا ألبّ الناس وأحسنهم إبانة.
قال: وقال لى فى بعض ما يقول:
- «ويحك يا يعقوب، تلقى الله بدمى وأنا رجل من ولد فاطمة بنت محمّد، صلّى الله عليه؟» قال: قلت: لا والله، فهل فيك أنت خير» قال: «إن فعلت خيرا شكرت ولك عندي دعاء واستغفار.» قال: قلت له:
- «فإنّى أطلقك، فأىّ الطرق أحبّ إليك؟» قال: «طريق كذا.» قلت: «فمن هاهنا ممّن تأنس [1] به وتثق بموضعه.» قال: «فلان وفلان.» قلت: «فابعث إليهما، وخذ هذا المال وامض معهما مصاحبا فى ستر الله، وموعدك وموعد هما للخروج من دارى إلى موضع كذا وكذا الذي اتفقنا عليه فى وقت كذا وكذا من الليل.» فإذا الجارية قد حفظت علىّ قولي، فبعثت به مع خادم لها إلى المهدىّ وقالت:
- «هذا جزاؤك من الذي آثرته على نفسك، صنع وفعل.» حتّى ساقت الحديث كلّه.
__________
[1] . فى آ: ستأنس به.(3/476)
قال: وبعث المهدىّ من وقته [508] فشحن تلك الطرق والمواضع التي وصفها يعقوب والعلوىّ برجال، فلم يلبث أن جاءوه بالعلوىّ بعينه وصاحبيه والمال على النسخة [1] التي حكتها الجارية.
قال: وأصبحت من غد ذلك اليوم، فإذا رسول المهدىّ يستحضرني. قال: وكنت خالي الذرع غير ملق إلى أمر العلوىّ بالا حتّى أدخل على المهدىّ وأجده على كرسىّ فى يده مخصرة.
فقال: «يا [2] يعقوب ما حال الرجل؟» قلت: «يا أمير المؤمنين، قد أراحك الله منه.» قال: «مات؟» قلت: «نعم.» قال: «والله؟» قلت: «والله؟» قال: «فقم وضع يدك على رأسى.» قال: فوضعت يدي على رأسه وحلفت له به.
قال: فقال:
- «يا غلام، أخرج إلينا ما فى هذا البيت.» قال: ففتح بابه عن العلوي وصاحبيه والمال بعينه.
قال: فبقيت متحيّرا وسقط فى يدي، وامتنع منّى الكلام، فما أدرى ما أقول.
قال: فقال المهدىّ:
- «لقد حلّ لى دمك لو آثرت إراقته، لكن احبسوه فى المطبق [3] .»
__________
[1] . فى الطبري (10: 512) : على السجيّة.
[2] . يا: ناقصة فى الأصل وآ، أضفنا عن الطبري (10: 513) .
[3] . الضبط من الأصل.(3/477)
فأتّخذ لى فيه بئر، فدلّيت فيها فكنت كذاك طول مدّة لا أعرف عددها، وأصبت ببصرى وطال شعري واسترسل [509] كهيئة شعور البهائم. قال: فإنّى لكذلك إذ دعى بى، فمضيت [1] وحملت إلى حيث لا أعلم أين هو، فلم أعد أن قيل لى:
- «سلّم على أمير المؤمنين.» فسلّمت. قال:
- «أىّ أمير المؤمنين أنا؟» قلت: «المهدىّ.» قال: «رحم الله المهدىّ» قلت: «الهادي.» قال: «رحم الله الهادي.» قلت: «الرشيد.» قال: «نعم.» قلت: «ما أشكّ فى وقوف أمير المؤمنين على خبري وعلّتى وما تناهت إليه حالي.» قال: «أجل، كلّ هذا قد عرف أمير المؤمنين، فسل حاجتك.» قال: قلت: «المقام بمكّة.» قال: «نفعل ذاك، فهل غير ذاك؟» قال: قلت:
- «ما بقي فىّ مستمتع لشيء ولا بلاغ.» قال: «فراشدا.»
__________
[1] . فى الطبري (10: 513) فمضى بى.(3/478)
قال: فخرجت، فكان وجهى إلى مكّة.
قال ابنه ولم يزل بمكّة ولم تطل أيّامه بها حتّى مات.
ثمّ دخلت سنة سبع وستّين ومائة
ولم يجر فيها على ما بلغنا شيء يستفاد منه تجربة.
ثمّ دخلت سنة ثمان وستّين ومائة وتلك سبيلها ثمّ دخلت سنة تسع وستّين ومائة [510] وفيها كانت وفاة المهدىّ سبب وفاة المهدىّ
وكان سبب ذلك [1] أنّه كان عزم على تقديم ابنه هارون على ابنه موسى، فبعث إليه وهو بجرجان يحارب ونداذهرمز وشروين صاحبي طبرستان. وكان وجّهه المهدىّ فى جيش كثيف لم ير مثله وهيئة لم ير أحسن منها، فلمّا استدعاه علم ما يريد منه، فأبى عليه، فبعث إليه رسولا من الموالي، فضربه موسى، فخرج المهدىّ بسبب موسى فتوفّى فى طريقه.
واختلف فى سبب وفاته، فذكر عن واضح قهرمانه أنّه قال:
خرج المهدىّ يتصيّد بماسبذان بقرية يقال لها: الرّذّ، فطردت الكلاب صيدا وأظنّه قال ظبيا، فلم يزل يتبعها، فاقتحم الظبى باب خربة واقتمحت الكلاب واقتحم الفرس خلف الكلاب فدقّ ظهره فى باب الخربة فمات من ساعته.
وذكر غيره: أنّ المهدىّ كان جالسا فى علية قصر بما سبذان يشرف من منظرة فيها على سفله، وكانت جاريته حسنة [2] قد عمدت إلى كمثّرى كبير
__________
[1] . انظر الطبري (10: 523) .
[2] . فى الأصل: حسنة. على أنّه وصف، وليس كذلك. وانما هو اسم الجارية كما يأتى فى الأسطر الآتية.(3/479)
فجعلته فى صينية وسمّت واحدة منها وهي أحسنها [511] وأنضجها بأن نزعت فمعها الذي فى أسفلها وأدخلت فيه سمّا، ثمّ ردّت القمع فيه ووضعتها على أعلى الصينية.
وكان المهدىّ يعجبه كمّثرى وأرسلت بذلك مع وصيفة لها إلى جارية للمهدىّ كان يتحظّاها، تريد بذلك قتلها، فلمّا مرّت الوصيفة بالصينيّة التي أرسلتها حسنة رآها المهدىّ من المنظرة فدعاها ومدّ يده إلى الكّمثراة التي فى أعلى الصينيّة وهي المسمومة، فأكلها فلمّا وصلت إلى الجوف صرخ:
- «جوفي!» وسمعت حسنة الصوت وأخبرت الخبر، فجاءت تلطم وجهها وتبكى وتقول:
- «أردت أن أتفرّد بك، فقتلتك يا سيّدى.» فمات من يومه.
وكانت خلافته عشر سنين وكسرا، ومات وهو ابن ثلاث وأربعين سنة ولم يوجد له جنازة يحمل عليها، فحمل على باب ودفن تحت جوزة.
ذكر بعض سيره
كان المهدىّ إذا جلس للمظالم قال:
- «أدخلوا علىّ القضاة، فلو لم يكن [512] ردّى المظالم [1] إلّا للحياء منهم [لكفى] [2] .» وجلس المهدىّ يوما يعطى جوائز تقسم بحضرته فى خاصّه من أهل بيته
و
__________
[1] . كذا فى الأصل وآ: المظالم. فى الطبري (10: 527) : للمظالم.
[2] . زيادة من الطبري (نفس الصفحة) وليست لا فى الأصل ولا فى آولا فى مط.
كما لم تكن فى أصل الطبري أيضا وانّما زادها مصحّحوه نقلا عن الفخرى (ص 212) .(3/480)
قوّاده، فكان تقرأ عليه الأسماء فيأمر بزيادة عشرة آلاف وعشرين ألفا وما أشبه ذلك. فعرض عليه بعض القوّاد فقال:
- «هذا يحطّ خمسمائة درهم.» قال: «لم حططتنى يا أمير المؤمنين؟» قال: «لأنّى وجّهتك إلى عدّو لنا فانهزمت.» قال: «كان يسرّك أن أقتل ولا ينفعك؟» قال: «لا.» قال: «فو الله الذي أكرمك بالخلافة لو ثبتّ لقتلت.» فاستحى منه المهدىّ و [1] قال:
- «زده خمسمائة آلاف [2] درهم.»
مسور والمهدى بين يدي القاضي
وتحدّث مسور بن مساور قال: ظلمني وكيل للمهدىّ وغصبني ضيعة لى فأتيت سلّاما صاحب المظالم فتظلّمت، فأوصل لى رقعة إلى المهدىّ وعنده عمّه العبّاس بن محمّد، وابن علاثة القاضي وعافية القاضي. قال: فقال لى المهدىّ:
- «ادن [3] .» فدنوت.
فقال: «ما تقول؟» قلت: «ظلمتني.» قال: «فترضى بأحد هذين.»
__________
[1] . لا واو فى الأصل وهي من آومط والطبري (10: 527) .
[2] . آلاف: زيادة فى آوالطبري، وليت فى الأصل.
[3] . ادن: فى آوالطبري (10: 529) : أدنه (بهاء السكت) .(3/481)
قال: قلت: «نعم.» قال: «فادن منّى.» فدنوت منه حتّى التزقت بالفراش.
قال [1] : «تكلّم.» قلت: «أصلح الله القاضي، إنّه ظلمني فى ضيعتي.» فقال القاضي: [513]- «ما تقول يا أمير المؤمنين؟» قال: «ضيعتي وفى يدي.» قال: قلت: «أصلح الله القاضي، سله، صارت الضيعة إليه قبل الخلافة أو بعدها؟» قال: فسأله «ما تقول يا أمير المؤمنين؟» قال: «صارت إلىّ بعد الخلاقة.» قال [2] : «فأطلقها له.» قال: «قد فعلت.» فقال العبّاس: «والله يا أمير المؤمنين، لهذا المجلس أحبّ إلىّ من عشرين ألف ألف درهم.»
وصيّة عجيبة تعرض على المهدىّ
وقال أبو الخطّاب: لمّا حضرت القاسم بن مجاشع التميميّ من أهل مرو الوفاة، أوصى إلى المهدىّ، فكتب:
- «شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا 3: 18
__________
[1] . والقائل هو القاضي.
[2] . والقائل القاضي.(3/482)
هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ الله الْإِسْلامُ ... » 3: 18- 19 [1] ثمّ كتب:
- «والقاسم بن مجاشع يشهد بذلك، ويشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله، صلّى الله عليه، وأنّ علىّ بن أبى طالب، عليه السلام، وصيّه ووارث الإمامة بعده.» قال: فعرضت الوصيّة على المهدىّ، فلمّا بلغ هذا الموضع رمى بها ولم ينظر فيها.
قال [2] : فلم يزل ذلك فى قلب أبى عبيد الله. فلمّا حضرته الوفاة كتب فى وصيّته هذه الآية. [3] وقال المهدىّ يوما: ما توسّل إلىّ أحد بوسيلة ولا تذرّع بذريعة هي أقرب من تذكيره إيّاى [514] يدا سلفت منّى إليه أتبعها أختها فأحسن ربّها [4] لأنّ منع الأواخر يقطع شكر الأوائل.
__________
[1] . س 3 آل عمران: 18.
[2] . والقائل ابو الخطاب.
[3] . انظر الطبري (10: 532) .
[4] . وفى مط: وبها.(3/483)
خلافة موسى الهادي
وفى هذه السنة بويع لموسى الهادي بما سبذان. [1] ذكر رأى سديد رآه خالد بن يحيى فى تلك الحال
اجتمع القوّاد ووجوه الموالي إلى هرون يوم توفى المهدىّ، فقالوا له:
- «إن علم الجند بوفاة المهدىّ لم نأمن الشغب، والرأى أن تتحرّك وتنادى فى الجند وبالقفل، حتّى تواريه ببغداد.» فقال هرون:
- «ادعوا إلىّ أبى [2] يحيى بن خالد.» وكان المهدىّ ولّى هارون المغرب كلّه من الأنبار إلى افريقية، وأمر يحيى بن خالد أن يتولّى ذلك، فكانت إليه أعماله ودواوينه إلى أن توفّى. فصار يحيى بن خالد إلى هارون فقال له:
- «يا أبه، ما تقول فيما يقول عمر بن بزيع ونصير والمفضّل؟.
قال: «وما قالوا؟» فأخبره. قال:
__________
[1] . انظر الطبري (10: 545) .
[2] . أبى: لا فى مط. فى آ: ادعوا إلىّ باب يحيى بن خالد.(3/485)
- «ما أرى ذلك.» قال: «ولم؟» قال: «لأنّ هذا لا يخفى، ولا آمن إذا علم الجند أن يتعلّقوا بمحمله ويقولوا لا نخلّيه حتّى نعطى لثلاث سنين ويتحكّموا ويشتطّوا، ولكن أرى أن يوارى [1] ، رضى الله عنه، هاهنا ويوجّه نصير إلى أمير المؤمنين الهادي [515] بالخاتم والقضيب والتهنئة والتعزية، فإنّ البريد إلى نصير، فلا ينكر خروجه أحد إذا كان على بريد الناحية، وأن تأمر لمن معك من الجند بجوائز مائتين مائتين وتنادى فيهم بالقفول، فإنّهم إذا قبضوا الدراهم لم يكن لهم همّة سوى أهاليهم وأوطانهم ولا عرجة على شيء دون بغداد.» قال: ففعل ذلك. وصاح الجند لمّا قبضوا الدراهم:
- «بغداذ، بغداذ.» ينادون إليها ويبعثون على الخروج من ماسبذان. فلمّا وافوا بغداد وعلموا خبر الخليفة، صاروا إلى باب الربيع فأحرقوه، وطالبوا بالأرزاق وضجّوا.
قدوم هارون بغداد
وقدم هارون بغداذ. فبعثت الخيزران إلى الربيع وإلى يحيى بن خالد تشاورهما فى ذلك، فأمّا الربيع، فدخل عليها، وأمّا يحيى فلم يفعل ذلك لعلمه بشدّة غيرة موسى.
قال: وجمعت الأموال حتّى أعطى الجند لسنتين فسكنوا. وبلغ الخبر الهادي، فكتب إلى الربيع كتابا يتوعّده فيه، وكتب إلى يحيى يجزّيه الخير ويأمره أن يقوم من أمر هارون بما لم يزل يقوم به وأن يتولّى أموره وأعماله
__________
[1] . الضبط من الأصل والطبري (10: 545) .(3/486)
على [516] ما لم يزل يتولّاه.
قال: فبعث الربيع إلى يحيى بن خالد، وكان يودّه ويثق به ويعتمد على رأيه:
- «يا با علىّ، ما ترى، فإنّه لا صبر لى على جرّ الحديد.» قال:
- «أرى ألّا تبرح موضعك وأن توجّه الفضل ابنك ليستقبله ومعه من الهدايا والطرف ما أمكنك، فإنّى لأرجو ألّا يرجع إلّا وقد كفيت ما تخاف إن شاء الله.» ولمّا قدم هارون كان الجند قد شغبوا على الربيع، وأخرجوا من كان فى حبسه. وكان العبّاس بن محمّد، وعبد الملك بن صالح، ومحرز بن إبراهيم، حضروا ورأوا أن يرضوا ويطيّب بأنفسهم وتفرّق جماعتهم بإعطاءهم أرزاقهم، فبذل ذلك لهم، فلم يرضوا ولم يثقوا بما ضمن لهم من ذلك حتّى ضمنه محرز بن إبراهيم، فقنعوا بضمانه فتفرّقوا. فوفى لهم وأعطوا رزق ثمانية عشر شهرا.
وأخذ هارون البيعة لموسى الهادي وله بولاية العهد من بعده وضبط أمر بغداذ.
ثمّ قدم الهادي وكان فى نفسه على الربيع ما ذكرناه ومن إعطائه الجنود قبل قدومه. ولمّا وجّه الربيع ابنه الفضل فتلقّاه بما أعدّ له من الهدايا بهمذان، أدناه وقرّبه وقال:
- «كيف [517] خلّفت مولاي؟» فكتب بذلك إلى أبيه، فاستقبله الربيع، فعاتبه الهادي، فاعتذر إليه وأعلمه السبب الذي دعاه إلى ذلك، وولّاه الوزارة مكان عبد الله بن زياد بن أبى ليلى، وضمّ إليه ما كان عمر بن بزيع يتولّاه من الزمام.
وهلك الربيع فى هذه السنة.(3/487)
ثمّ دخلت سنة سبعين ومائة [1]
وفيها كانت وفاة موسى الهادي وكانت وفاته من قبل جوار لأمّه الخيزران كانت أمر تهنّ بقتله.
ذكر السبب فى ذلك وما حملها على قتل ابنها
لمّا صارت الخلافة إلى الهادي، كانت الخيزران تفتات عليه فى أموره وتسلك به مسلك أبيه من قبله فى الاستبداد بالأمر والنهى فأرسل إليها:
- «لا تخرجي من خفر الكفاية إلى بذاذة [2] التبذّل، فإنّه ليس من قدر النساء الاعتراض فى أمر الملك، وعليك بصلاتك وسبحتك، ولك بعد هذا طاعة مثلك [518] فيما يجب لك.» وكانت كثيرا ما تكلّمه فى أمر الحوائج، فكان يجيبها إلى كلّ ما تسأل، حتّى مضى لذلك أربعة أشهر من خلافته، وانثال الناس عليها وطمعوا فيها، فكانت المواكب تغدو إلى بابها. فكلّمته يوما فى أمر لم يجد إلى إجابتها فيه سبيلا، فاعتلّ بعلّة.
فقالت: «لا بدّ من إجابتى.» قال: «لا أفعل.» قالت: «فإنّى قد تضمّنت هذه الحاجة لعبد الله بن مالك.» قال: فغضب موسى وقال:
- «ويلي على ابن الفاعلة، قد علمت أنّه صاحبها، والله لا قضيتها لك.»
__________
[1] . بداية المجلد الرابع حسب تجزئة مخطوطة مط كما جاء فى هامش مط.
[2] . فى مط: بلاده. وآكالأصل. بذّ فلان: ساءت حالته. رثّت هيئته.(3/488)
قالت: «إذا والله لا أسألك حاجة أبدا.» قال: «إذا والله لا أبالى.» وحمى وغضب فقامت مغضبة، فقال:
- «مكانك تستوعبى كلامي والله وإلّا فإنّى نفىّ من قرابتي من رسول الله، صلّى الله عليه، لئن بلغني أنّه وقف ببابك أحد من قوّادى أو أحد من خاصّتى وخدمي لأضربنّ عنقه ولأقبضنّ ماله، فمن شاء فليرم ذلك. ما هذه المواكب التي تغدو وتروح إلى بابك فى كلّ يوم؟ أما لك مغزل يشغلك، أو مصحف يذكّرك، أو بيت يصونك؟ إيّاك، ثمّ إيّاك، ما فتحت بابك لملّىّ أو ذمّىّ.» فانصرفت وهي [519] لا تعقل ما تطأ [1] ، فلم تنطق عنده بحلوة ولا مرّة بعدها.
فحكت خالصة: أنّه لمّا صارت الخلافة إلى الهادي، صرت إليه وقلت له:
- «إنّ أمّك تستكسيك.» فأمر لها بخزانة مملوّة كسوة. قالت: ووجد للخيزران فى منزلها من قراقر الوشي ثمانية عشر ألف قرقرة.
وحكى بعضهم: أنّه سمع خالصة تقول للعبّاس بن الفضل بن الربيع: بعث موسى إلى أمّه الخيزران بأرزّة وقال:
- «استطبتها.» وذلك بعد سخطه عليها، وذكر أنّه أكل منها فتنغّص لها.
قالت خالصة: فقلت لها:
- «أمسكى حتّى تنظرى، فإنّى أخاف أن يكون فيها شيء تكرهينه.» فجاؤوا بكلب، فأكل منها فتساقط لحمه. فأرسل إليها بعد ذلك:
__________
[1] . فى مط: ما تطأ عليه.(3/489)
- «كيف رأيت الأرزّة؟» قالت: «وجدتها طيّبة.» فقال: «لم تأكلى، ولو أكلت كنت استرحت منك، متى أفلح خليفة له أمّ!» ثمّ إنّ الهادي جمع قوّاده يوما وذلك أعياه أمر الأمّ فقال لهم:
- «أيّما خير: أنا أم أنتم؟» قالوا: «بل أنت يا أمير المؤمنين.» قال: «فأيمّا خير: أمّى أم أمّهاتكم؟» قالوا: «بل أمّك يا أمير المؤمنين.» قال: «فأيّكم يحبّ أن يتحدّث الرجال بخبر أمّه [520] فيقولوا فعلت أمّ فلان، وصنعت أمّ فلان، وقالت أمّ فلان؟» فقالوا: «ما أحد منّا يحبّ ذلك.» قال: «فما بال رجال يأتون أمّى فيتحدّثون إليها ثمّ ينقلون حديثها؟» فلمّا سمعوا ذلك انقطعوا عنها البتّة. فشقّ ذلك عليها، فاعتزلته وحلفت ألّا تكلّمه، فما دخلت إليه حتّى حضرته الوفاة.
موسى يهمّ بخلع أخيه هارون
وهمّ موسى [1] بخلع أخيه هارون، ثمّ جدّ فيه. وكان يحيى بن خالد بن برمك يلي لهارون أعمال المغرب، فلمّا جدّ موسى الهادي فى البيعة لابنه جعفر بن موسى وتابعه القوّاد مثل يزيد بن مزيد، وعبد الله بن مالك، وعلى بن عيسى، ومن أشبههم، وخلعوا هارون ودسّوا إلى الشيعة، فتكلّموا فى أمره وتنقّصوه، وقالوا: لا نرضى به، وظهر ذلك، أمر [2] الهادي ألّا يسار قدام الرشيد
__________
[1] . آ: موسى الهادي.
[2] . جواب فلمّا.(3/490)
بحربة. فاجتنبه الناس وتركوه، فلم يكن يجترئ أحد أن يسلّم عليه ولا يقربه.
وكان يحيى بن خالد يقوم بأنزال [1] الرشيد وينزل منه منزلة الوالد ويسّميه أبى. فكان يشير عليه بأن يدافع ولا يستجيب للخلع. فسعى بيحيى إلى الهادي، وقيل له: إنّه ليس عليك من هارون [521] خلاف، وإنّما يفسده يحيى، فابعث إليه وتهدّده بالقتل وارمه بالكفر. فبعث الهادي إلى يحيى ليلا، فيئس من نفسه، وودّع أهله وتحنّط وجدّد ثيابه ولم يشكّ أنّه يقتله. فلمّا أدخل عليه قال:
- «يا يحيى ما لي ولك؟» قال: «أنا عبدك يا أمير المؤمنين، فما يكون من العبد إلى مولاه إلّا طاعته!» قال: «لم تدخل بيني وبين أخى وتفسده علىّ؟» قال: «يا أمير المؤمنين، من أنا حتّى أدخل بينكما، إنّما صيّرنى المهدىّ معه وأمرنى بالقيام بأمره، ثمّ أمرتنى بذلك، فانتهيت إلى أمرك.» قال: «فما الذي صنع هارون؟» قال: «ما صنع شيئا ولا عنده شيء.» فسكن غضبه.
وقد كان هارون طاب نفسا بالخلع. فقال له يحيى:
- «لا تفعل.» قال هارون: «أليس تترك لى الهنيئة والمريئة فهما يسعاننى وأعيش. [2] فقال يحيى:
- «وأين الهنيئة والمريئة من الخلافة، ولعلّك الا [3] يترك هذا فى يدك.» وكان يحيى ينادم الهادي بعد ذلك، فكلّمه الهادي فى أمر الرشيد وخلعه، فقال:
__________
[1] . الضبط من الطبري (10: 572) .
[2] . فى الطبري (10: 573) : وأعيش مع ابنة عمّى.
[3] . فى الطبري: ألّا (بالضبط) آكالأصل. فى مط: الّا (بالضبط) .(3/491)
- «يا أمير المؤمنين، إنّك إن حملت الناس على نكث الأيمان هانت عليهم أيمانهم، وإن تركتهم على بيعة أخيك ثمّ بايعت [522] لجعفر من بعده كان ذلك أوكد لبيعته.» قال: «لقد صدقت ونصحت، ولى فى هذا الأمر تدبير.» وكان محمّد بن يحيى بن خالد يقول: كان أبى يقول: ما كلّمت أحدا من الخلفاء أعقل من موسى. وقال: كان حبسني موسى الهادي على ما أراده من خلع الرشيد، فرفعت إليه رقعة: إنّ عندي نصيحة. فدعاني، فقال لى:
- «هات ما عندك.» فقلت: «أخلنى.» فأخلانى، فقلت:
- «يا أمير المؤمنين، أرأيت إن كان الأمر الذي أسأل الله أن لا نبلغه وأن يقدّمنا قبله، أتظنّ أنّ الناس يسلّمون لجعفر وهو لم يبلغ الحنث [1] أو يرضون به لصلاتهم وحجّهم وغزوهم؟» قال: «والله ما أظنّ ذلك.» قلت:
- «فتأمن يا أمير المؤمنين أن يسمو إليها أكابر أهلك وجلّتهم مثل فلان وفلان، ثمّ يطمع فيها غيرهم فيخرج من ولد أبيك؟» فأطرق ثمّ قال:
- «نبّهتنى يا يحيى على أمر لم أكن أنتبه له.» قال: فقلت:
- «لو أنّ هذا الأمر لم يعقد لأخيك، أما كان ينبغي أن تعقده له؟ فكيف بأن تحلّه وقد عقده المهدىّ، ولكن تقرّ الأمر يا أمير المؤمنين [523] على حاله،
__________
[1] . فى الطبري (10: 574) : الحلم. الحنث: الإدراك.(3/492)
فإذا بلّغ جعفر وبلغ الله به أتيته [1] بالرشيد، فخلع نفسه له، وكان أوّل من يبايعه ويعطيه صفقة يده.» فقبل الهادي قوله وأطلقه.
فلمّا كان بعد أيّام، خرج موسى الهادي إلى الحديثة حديثة الموصل فمرض بها، فانصرف بعد ما كتب إلى جميع عمّاله شرقا وغربا بالقدوم عليه، فلمّا ثقل اجتمع القوم الذين كانوا بايعوا لجعفر ابنه فقالوا:
- «إن صار الأمر إلى يحيى قتلنا ولم يستبقنا.» وتآمروا [2] على أن يذهب بعضهم إلى يحيى بأمر الهادي فيضرب عنقه. ثمّ قال بعضهم:
- «فإنّ أمير المؤمنين ما بلغ حدّ اليأس منه، فلعلّه يفيق من مرضه، فما عذرنا عنده؟» فأمسكوا.
ثمّ بعثت الخيزران إلى جواريها بالجلوس على وجهه وغمّه حتّى يموت، لأنّها أشفقت أن يفيق فيخلع هارون، ففعلن ذلك. وبعثت إلى يحيى تعلمه أنّ الرجل لما به [3] فجدّ فى أمرك ولا تقصّر. فأمر يحيى بإحضار الكتّاب، فحضروا وجمعوا فى منزل الفضل بن يحيى، فكتبوا ليلتهم كتبا من الرشيد إلى العمّال بوفاة الهادي وأنّه قد ولّاهم الرشيد ما كانوا يلون. ولمّا أصبحوا [524] أنفذوها على البرد.
__________
[1] . أتيته: الضبط فى الأصل بصيغة المتكلم وفى الطبري (10: 575) : بصيغة الخطاب.
[2] . فى الأصل: توامروا.
[3] . فى الأصل وآ ومط: لما به. والمدّ من الطبري (10: 578) .(3/493)
رواية أخرى فى سبب قتل موسى الهادي
وقد روى عن هرثمة [1] بن أعين فى موت الهادي ما رواه علىّ بن هشام المعروف بأبى قيراط عن محمّد بن أحمد بن الفضل الجرجرائى المعروف بقلنسوة، وكان وزير المتوكّل، قال: حدّثنى خالي الحسن بن رجاء بن أبى الضحّاك. قال: حدّثنى الحسن بن سهل قال: حدّثنى أبو خاتم هرثمة بن أعين بمرو قال: كنت اختصصت بموسى الهادي، وكنت مع ذلك شديد الحذر منه لإقدامه على الدماء، فاستدعاني فى نصف نهار يوم شديد الحرّ قبل أكلى، فارتعت وبادرت إليه فأدخلت من دار إلى دار حتّى قرّبت من دار حرمه. ثمّ نحّى عنّا جميع من كان بحضرته وقال لى:
- «اخرج، فأغلق باب هذه الحجرة وعد إلىّ.» فازددت جزعا وفعلت وعدت، فقال:
- «قد تأذيّت بهذا الكلب الملحد يحيى بن خالد، ليس له شغل إلّا تضريب الرجال علىّ واجتذابهم إلى صاحبه هارون. يريد أن يقتلني ويسوق الخلافة إليه، وأريد منك أن تمضى الليلة إلى هارون فتقبض عليه وتجيئني برأسه، إمّا أن تحتاط فى التدبير حتّى لا يفوتك وتفعل ذلك به فى دارك [525] أو تخرجه [2] من داره برسالة منّى تستدعيه فيها إلى حضرتى، ثمّ تعدل به إلى حيث تقتله فيه وتجيئني برأسه.» فورد علىّ أمر عظيم وقلت:
- «يأذن أمير المؤمنين فى الكلام؟» قال: «قل.»
__________
[1] . لم نجد الرواية فى الطبري.
[2] . فى آ: اختلاف فى اللفظ كالآتى: إمّا أن تفعل ذاك فى داره وتحتاط فى التدبير حتى لا يفوتك، أو تخرجه ...(3/494)
قلت: «يا أمير المؤمنين، أخوك وابن أمّك وأبيك وله عهد بعدك، فكيف يكون صورتنا عند الله أوّلا، ثمّ عند الناس؟» قال: «عليك أن تسمع لى وتطيع، وإلّا ضربت عنقك.» فقلت: «السمع والطاعة.» قال: «وإذا [1] فرغت من هذا أخرجت جميع الطالبيين من الحبس فضربت أعناقهم وغرّقت من يبقى إن كثر عددهم.» فقلت: «السمع والطاعة.» قال: «ثمّ ترحل إلى الكوفة بجميع من معك من الجيش وتضمّ إليهم من ترى من الجند المقيمين بالباب فتخرج من تجد فيها من العباسيّين وشيعتهم والعمّال المتصرفين معهم، ثمّ تنهب ما فيها من الأموال، وتضربها بالنار حتّى تحترق هي وجميع من فيها وتخرّبها حتّى لا يبقى لها أثر.» فقلت: «يا مولاي، هذا أمر عظيم، ففكّر فيه.» فقال: «لا بدّ من ذلك، فإنّ كلّ آفة ترد على ملكنا إنّما هي من هذه الجهة.» ثم قال: [526]- «لا تبرح من مكانك حتّى إذا انتصف الليل بدأت بهارون.» فقلت: «سمعا وطاعة.» ونهض من موضعه ودخل إلى دار النساء، وجلست مكاني ولم أشك أنّه قد قبض علىّ وأنّه سيقتلني ويدبّر هذا الأمر على يد غيرى لما ظهر له من جزعى فى كلّ باب والردّ عليه والتخطئة لرأيه، ثمّ إجابتى إيّاه كارها، وكنت- يعلم الله- قد عملت على أن أركب فرسي من حضرته وألحق بطرف من الأرض وأخرج من نعمتي وأكون بحيث لا يصل إلىّ، حتّى يموت أحدنا. فلمّا
__________
[1] . سقط من آ: من «إذا» إلى والطاعة.(3/495)
دخل دار النساء، عرض لى أنّه قبض علىّ ليقتلني لئلا يفشو السرّ، فورد علىّ غمّ شديد وذهب علىّ أمرى، فلمّا انتصف الليل جاءني خادم وقال:
- «أجب أمير المؤمنين.» فقمت وأنا أتشهّد، ومشيت مع الخادم إلى ممرّ سمعت فيه كلام النساء فقلت: عزم على قتلى بحجّة فهو يدخلني دور الحرم ثمّ يقول: من أذن لك فى الدخول على حرمي. فوقفت، فقال الخادم:
- «ادخل.» فقلت: «لا أفعل.» فقال: «ويحك، ادخل.» فصحت وقلت:
- «لا والله، ما أدخل حتّى أسمع كلام مولاي أمير المؤمنين بالإذن لى فى الدخول.» [527] فإذا بامرأة تصيح وتقول:
- «ويلك يا هرثمة، أنا الخيزران، وقد حدث أمر عظيم استدعيتك له، فادخل.» فورد علىّ ما لم يكن فى حسابي، وتحيّرت ثمّ دخلت، فإذا بستارة ممدودة، فقالت لى من وراءها:
- «إنّ موسى قد مات، وقد أراحك الله والمسلمين منه، فقم فانظر إليه.» فإذا هو مسجّى، فمست مجسّه وقلبه ومناخره فإذا هو ميت.
ثمّ قالت الخيزران:
- «إنّى كنت بحيث أسمع خطابه لك فى أمر ابني هارون وغيره، فلمّا دخل استعطفته، ثمّ سألته ألّا يفعل ما همّ به، فصاح علىّ، فكشفت له رأسى وبكيت وأقسمت عليه ألّا يفعل، فانتهرنى وقال:(3/496)
- «إن أمسكت، وإلّا ضربت عنقك.» فخفته وقمت وصلّيت وضرعت إلى الله فى قبضه إليه، فما كان بأسرع ممّا شرق، فتداركناه بكوز ماء فازداد شرقه حتّى تلف. فقم إلى يحيى بن خالد وعرّفه ما كان خاطبك به والخبر كلّه، وعجّل بهارون قبل أن ينتشر الخبر وجدّدا له البيعة.» قال: فقمت، ففعلت ذلك. وما أصبحنا حتّى فرغنا من البيعة واستقام أمره [528] وكفاني الله والناس شرّ موسى.
ولمّا [1] أتى الخيزران الخبر بوفاة موسى وجاءها به الرسول قالت:
- «وما أصنع به؟» فقالت لها خالصة:
- «قومي أملى، ستّى، [2] إلى ابنك، فليس هذا وقب تعتّب.» [3] فقالت:
- «أعطونى ماء أتوضّأ للصلاة.» ثمّ قالت:
- «أما إنّا كنّا نتحدّث أنّه يموت فى هذه الليلة خليفة ويملك فيها خليفة ويولد فيها خليفة، فمات موسى وملك هارون وولد المأمون.» فكانت ولايته أربعة عشر شهرا، ومات وهو ابن ستّ وعشرين سنة. [4]
ذكر بعض سيره ما كان من أمر عبد الله بن مالك مع الهادي
ذكر عن عبد الله بن مالك، أنّه قال: كنت على شرطة المهدىّ، وكان المهدىّ
__________
[1] . وزاد هنا فى آ: وفى الرواية الأولى لمّا ...
[2] . فى آ: قومي يا ستّى. فى مط: قومي امشى. فى الطبري (10: 578) : قومي ايّتها الحرّة.
[3] . فى آ: تعنّت. والطبري كالأصل.
[4] . انظر الطبري (10: 580) .(3/497)
يبعث إلىّ فى ندماء الهادي ومغنّيه فى ضربهم وحبسهم صيانة له عنهم، فبعث إلىّ الهادي يسألنى الرفق بهم والترفيه لهم، فلا ألتفت إلى ذلك وأمضى لما يأمرنى به المهدىّ. قال: فلمّا ولى الهادي الخلافة أيقنت بالتلف، فبعث إلىّ يوما، فدخلت إليه متكفّنا متحنّطا وإذا هو على كرسىّ [529] والسيف والنطع بين يديه، فسلّمت، فقال:
- «لا سلّم الله على الآخر، [1] تذكر يوم بعثت إليك فى أمر الحرّانى وما أمر به أمير المؤمنين رضى الله عنه، من ضربه وحبسه فلم تجبني، وفى فلان وفى فلان- فجعل يعدّد ندماءه- فلم تلتفت إلى قولي وأمرى؟» قلت: «نعم يا أمير المؤمنين، أفتأذن فى استيفاء الحجّة؟» قال: «نعم.» قلت: «نشدتك الله يا أمير المؤمنين، أيسرّك أنّك ولّيتني ما ولّانى أبوك فأمرتنى بأمر فبعث إلىّ بعض بنيك بأمر مخالف به أمرك، فاتبعت أمره وعصيت أمرك؟» قال: «لا.» قلت: «فكذلك أنا لك، وكذلك كنت لأبيك.» فاستدنانى، فقبّلت يده، فأمر بخلع، فصبّت علىّ، وقال:
- «قد ولّيتك ما كنت تتولّاه، فامض راشدا.» فخرجت من عنده، فصرت إلى منزلي مفكّرا فى أمرى وأمره وقلت:
حدث يشرب والقوم الذين عصيته فى أمرهم ندماؤه ووزراؤه وكتّابه وكأنّى بهم حين يغلب عليه الشراب قد أزالوا رأيه فىّ وحملوه فى أمرى على ما كنت أتّخوفه.
__________
[1] . كذا. فى آومسط والطبري أيضا (10: 583) .(3/498)
قال: فإنّى لجالس [530] وبين يدىّ بنيّة لى فى وقتى ذلك والكانون بين يدىّ ورقاق [1] أشطره [2] بكامخ [3] وأسخّنه وأطعمه الصبيّة حتّى توهمت أنّ الدنيا قد اقتلعت وزلزلت لوقع الحوافر وكثرة الضوضاء فقلت: هاه، كان والله ما ظننت، ووافاني من أمره ما تخوّفت. فإذا الباب قد فتح، وإذا الخدم قد دخلوا، وإذا أمير المؤمنين الهادي على حمار فى وسطهم، فلمّا رأيتهم وثبت من مجلسي مبادرا، فقبّلت يده ورجله وحافر حماره فقال لى:
- «يا عبد الله، إنّى فكّرت فى أمرك، فقلت: يسبق إلى قلبك أنّى إذا شربت وحولي أعداؤك، أزالوا ما حسن من رأيى فيك، فأقلقك وأوحشك، فصرت إلى منزلك لأونسك وأعلمك أنّ السخيمة قد زالت عن قلبي لك، فهات فأطعمنى ما كنت تأكل، وافعل فيه ما كنت تفعل، لتعلم أنّى قد تحرّمت بطعامك وأنست بمنزلك، فيزول خوفك ووحشتك.» فأدنيت إليه ذلك الرقاق والسّكرّجة التي فيها الكامخ فأكل منها، ثمّ قال:
- «هاتوا الزّلّة التي [531] أزللتها لعبد الله من مجلسي.» [4] فأدخل إلىّ أربعمائة بغل موقرة دراهم وقال:
- «هذه زلّتك، فاستعن بها على أمرك واحفظ لى هذه البغال عندك لعلّى أحتاج إليها لبعض أسفارى.» ثمّ قال: «أظلّك الله بخير.» ثمّ انصرف راجعا.
__________
[1] . الرّقاق: خبز رقيق، أو عجنه رقيقه.
[2] . فى الأصل ومط: أشطره. فى آوالطبري (10: 584) : أسطره. شطره: جعله نصفين.
سطره: قطعه نصفين.
[3] . الكامخ: إدام يؤتدم به.
[4] . الزّلة (بفتح الزاء وضمّها) : الصنيعة. الوليمة. العرس.(3/499)
فذكر موسى بن عبد الله بن مالك: أنّ أباه أعطاه بستانه الذي كان وسط داره ثمّ بنى حوله معالف لتلك البغال وكان هو يتولّى النظر إليها والقيام عليها أيّام حياة الهادي كلّها.
وأتى موسى برجل، فجعل يقرّره [1] بذنوبه ويتهدّده، فقال الرجل:
- «يا أمير المؤمنين، اعتذاري ممّا تقرّعنى به ردّ عليك وإقرارى يوجب علىّ ذنبا ولكنّى أقول:
إذا كنت ترجو فى العقوبة رحمة ... فلا تزهدن عند المعافاة فى الأجر
فأمر بإطلاقه.
حقده على الربيع وسمّه
وقد كنّا حكينا عن موسى الهادي ما حقده على الربيع من دخوله على أمّه.
فلمّا تجاوز عنه وجد أعداء الربيع طريقا إليه من طريق غيرة الهادي.
وكان الربيع أهدى إلى المهدى جارية حسناء [532] فائقة الجمال، حسنة القدّ والشعر ناهدة الثدي. فلمّا رآها المهدى قال:
- «هذه تصلح لموسى.» فوهبها له فشعف بها الهادي واستولدها، فهي أمّ أكابر أولاده. فقال حسّاد الربيع:
- «يا أمير المؤمنين، إنّ الربيع يتفوّه فى خلوته بما هو أعظم ممّا أنكرته.» قال: «وما هو؟»
__________
[1] . فى الطبري (10: 585) : يقرّعه.(3/500)
قالوا: «إنّه يقول: ما وضعت بيني وبين الأرض أطيب من فلانة- يعنى أمّ أولاد الهادي.» فالتهب الهادي وتركه حتّى إذا كان يوم أنسه دعا الربيع إلى مجالسته وسقاه بيده كأسا مسموما، فأحسّ الربيع بذلك وبما رقّى إليه من كلامه، فلم يقدر على الامتناع وخاف أن يمتنع فيضرب عنقه، فشرب الكأس، فتوصّب من ساعته وقام فأظهر الهادي شفقة عليه وعرض عليه المقام، فأبى وقال:
- «ما أجده يا أمير المؤمنين أكبر من أن أقيم معه.» ثمّ بادر إلى منزله، فأوصى ومات من ليلته [1] .
__________
[1] . انظر الطبري (10: 598) .(3/501)
خلافة هارون الرشيد
وفى هذه السنة استخلف هارون بن محمّد بن عبد الله بن محمّد بن علىّ بن عبد الله بن العبّاس بن عبد المطلّب الرشيد فبويع له ليلة [1] الجمعة وهي الليلة التي توفّى [533] فيها الهادي وكانت سنّه يوم ولى اثنتين وعشرين سنة، وأمّه أمّ ولد يمانية ثمّ جرشيّة يقال لها خيزران، وولد بالرّى سنة تسع وأربعين ومائة.
وكان هرثمة بن أعين هو الذي أخرج هارون الرشيد ليلا فأقعده للخلافة.
ويقال: إنّ هارون لمّا جلس للخلافة حلف ألّا يصلّى الظهر إلّا ببغداذ وأنّه لا يصلّى بعيساباذ إلّا على المهدى، وأنّه لا يصلّى ببغداذ إلّا ورأس أبى عصمة بين يديه. ثمّ لبس ثيابه وخرج، فصلّى على أبيه، وقدّم أبا عصمة فضربت عنقه وشدّ جمّته [2] فى رأس قناة ودخل بها بغداذ وذاك أنّه كان مضى هو وجعفر بن موسى الهادي راكبين، فبلغا إلى قنطرة من قناطر عيساباذ فالتفت أبو عصمة إلى هارون فقال له:
- «مكانك حتّى يجوز ولىّ العهد.»
__________
[1] . آ: يوم الجمعة، والطبري (10: 599) كالأصل.
[2] . الجمّة: مجتمع شعر الرأس.(3/503)
فقال هارون:
- «السمع والطاعة للأمير.» فوقف حتّى جاز جعفر، فكان هذا سبب قتل أبى عصمة.
ويقال: إنّه لمّا توفّى موسى، هجم خزيمة بن خازم فى تلك الليلة فأخذ جعفرا من قرابته، وكان خزيمة [534] فى خمسة آلاف من مواليه معهم السلاح.
فقال: «والله لأضربنّ عنقك أو تخلعها.» وذاك أنّ موسى قد كان أمر جماعة فبايعوه، فلمّا كان الصبح ركب الناس إلى باب جعفر، فأتى به خزيمة فأقامه على باب الدار فى العلو والأبواب مغلّقة فأقبل جعفر ينادى:
- «يا معشر الناس، من كانت لى فى عنقه بيعة فقد أحللته منها والخلافة لعمّى هارون ولا حقّ لى فيها.» فكانت سبب مشى عبد الله بن مالك الخزاعي إلى مكّة على اللبود، وحظى خزيمة بذلك عند الرشيد [1] .
هارون يقلّد خالدا الوزارة
وقلّد هارون يحيى بن خالد الوزارة وقال له:
- «قد قلّدتك أمر الرعيّة وأخرجته من عنقي إليك، فاحكم فى ذلك بما ترى من الصواب واستعمل من رأيت، واعزل من رأيت وأمض الأمور على ما ترى.» ودفع إليه خاتمه، وكانت خيزران هي الناظرة فى الأمور، وكان يحيى
__________
[1] . انظر الطبري (10: 603) .(3/504)
يعرض عليها ويصور عن رأيها [1] .
ثمّ دخلت سنتا إحدى واثنتين وسبعين ومائة
ولم يجر فيهما ما يستفاد منه تجربة [535] .
ودخلت سنة ثلاث وسبعين ومائة
وفيها كانت وفاة محمّد بن سليمان بالبصرة
فوجّه الرشيد إلى كلّ ما خلّفه رجلا أمره باصطفائه، فأرسل إلى ما خلّف من الصامت من قبل صاحب بيت ماله رجلا، وإلى الكسوة بمثل ذلك، وإلى الفرش والرقيق والدوابّ والخيل والإبل وإلى الطيب والجواهر وكلّ آلة برجل من قبل الذي يتولّى كلّ صنف من الأصناف، فأخذوا جميع ما كان لمحمّد ممّا يصلح للخلافة ولم يتركوا شيئا إلّا الخرثىّ [2] الذي لا يصلح للخلفاء وأصابوا له فى خزانة لباسه أصناف الثياب منذ كان صبيّا فى الكتّاب إلى أن مات على مقادير السنين وكان من ذلك ما عليه آثار النقس [3] وأصابوا له ستين ألف ألف، فحملوها مع ما حمل، فلمّا صارت فى السفن، أخبر الرشيد بمكان السفن التي حملت ذلك، فأمر أن يدخل جميع ذلك خزائنه إلّا المال، فإنّه أمر بصكاك فكتبت للندماء وكتبت للمغنين صكاك صغار لم تدوّن [536] فى الديوان ثمّ دفع إلى كلّ رجل صكّ بما رأى أن يهب له، فأرسلوا وكلاءهم
__________
[1] . فى آ: رأيهما.
[2] . الخرثّى: أردأ المتاع وسقطه.
[3] . كذا فى الأصل والطبري (10: 608) : النّقس. والنقّس المداد الذي يكتب به. وفى آ: النقش (بالشين الموجمة) .(3/505)
إلى السفن فأخذوا المال على ما أمر لهم به فى الصكاك أجمع لم يدخل بيت ماله منه درهم واحد واصطفى ضياعه.
موت الخيزران
وفيها ماتت الخيزران فخرج الرشيد وعليه جبّة سعيديّة وطيلسان خرق أزرق قد شدّ به وسطه وهو آخذ بقائمة السرير حافيا يمشى فى الطين حتّى أتى مقابر قريش، فغسل رجليه ودعا بخفّ وصلّى عليها ودخل قبرها، فلمّا خرج دعا الفضل بن الربيع وقال له:
- «وحقّ المهدىّ- وكان لا يحلف به إلّا إذا اجتهد- إنّى لأهمّ لك من الليل بشيء من التولية وغيرها، فتمنعني هذه، رحمها الله، وأطيع أمرها.» وولّاه نفقات العامّة والخاصّة وبادوريا والكوفة ولم تزل حاله تنمى إلى سنة سبع وثمانين.
ودخلت سنة أربع وسبعين [ومائة]
ولم يجر فيها على ما بلغنا شيء يليق بهذا الكتاب إثباته. [537]
ودخلت سنة خمس وسبعين ومائة محمد الأمين يصبح وليّا للعهد
وفيها عقد الرشيد لابنه محمّد ولاية العهد من بعده وأخذ له بذلك بيعة القوّاد والجند وسمّاه الأمين، وله يومئذ خمس سنين. وكان جماعة من بنى العبّاس قد مدّوا أعناقهم للخلافة بعد الرشيد لأنّه لم يكن له ولىّ عهد، فلمّا بايع له، أنكروا بيعته لصغر سنّه.
ولمّا صار الفضل بن يحيى إلى خراسان فرّق هناك أموالا عظيمة وأعطى(3/506)
الجند أعطيات متتابعة، ثمّ أظهر البيعة لمحمّد بن الرشيد، فبايع له الناس وسمّاه الأمين، فلمّا تناهى إلى الرشيد خبره وأنّ أهل المشرق بايعوا لمحمّد، كتب إلى الآفاق فبويع له فى جميع الأمصار.
ثمّ دخلت سنة ستّ وسبعين ومائة
ظهور يحيى بن عبد الله
وفيها ظهر يحيى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن حسن بن علىّ بن أبى طالب، [1] فنزع إليه الناس من الأمصار، واشتدّت شوكته وقوى أمره، فاغتمّ لذلك الرشيد فندب إليه الفضل بن يحيى فى خمسين ألف رجل ومعه صنادد القوّاد [538] وولّاه كور الري، والجبل، وجرجان، وطبرستان، وقومس، ودنباوند، والرويان، وحملت معه الأموال، فشخص الفضل واستخلف منصور بن زياد بباب أمير المؤمنين تجرى كتبه على يده وتنفذ الجوابات عنها إليه.
وكانوا يثقون بمنصور وابنه فى جميع أمورهم لقديم صحبته لهم وحرمته بهم. ثمّ مضى من معسكره ولم تزل كتب الرشيد تتابع إليه بالبرّ واللطف والجوائز والخلع، فكاتب يحيى ورفق به واستماله وناشده وحذّره وأشار عليه وبسط أمله، وكاتب صاحب الديلم وجعل له ألف ألف درهم على أن يسهّل خروج يحيى إلى ما قبله [2] ، وحملت إليه، فأجاب يحيى إلى الصلح والخروج على يديه على أن يكتب له الرشيد أمانا بخطّه على نسخة يبعث بها إليه، فكتب الفضل بذلك إلى الرشيد، فسره وعظم موقعه، وكتب يحيى أمانا وأشهد عليه الفقهاء والقضاة وجلّة بنى هاشم ومشايخهم منهم: عبد الصمد بن
__________
[1] . انظر الطبري (10: 612) .
[2] . الظبط من الأصل.(3/507)
علىّ، والعبّاس بن محمّد، وموسى بن عيسى، ومحمّد بن إبراهيم، ومن أشبههم، ووجّه معه جوائز وكرامات [539] وهدايا. فوجّه الفضل بذلك إليه، فقدم يحيى بن عبد الله عليه وورد به الفضل بغداذ: فلقيه الرشيد بكلّ ما أحبّ، وأمر له بمال كثير وأجرى له أرزاقا سنيّة، وأنزله منزلا سريّا، بعد أن أقام فى منزل يحيى بن خالد أيّاما، وكان يتولّى أمره بنفسه ولا يكل ذلك إلى غيره.
وبلغ الرشيد الغاية فى إكرام الفضل، ومدحه الشعراء فأكثروا. فمنها ما قاله مروان بن أبى حفصة:
ظفرت فلا شلّت يد برمكيّة ... رتقت بها الفتق الذي بين هاشم
على حين أعيا الراتقين التئامه ... فكفّوا وقالوا ليس بالمتلائم
فأصبحت قد فازت يداك بخطّة ... من المجد باق ذكرها فى المواسم
وما زال قدح الملك يخرج فائزا ... لكم كلّما ضمّت قداح المساهم
وتركت ذكر غيره من المدائح لأنّها كثيرة ولا طائل فيها من جهة الاختيار.
فحكى أحمد بن محمّد بن جعفر بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن حسن بن حسن، قال: لمّا قدم بيحيى من الديلم أتيته وهو فى دار علىّ بن أبى طالب عليه السلام [1] فقلت له:
- «يا عمّ، ما بعدك [540] مخبر، ولا بعدي مخبر، فأعلمنى خبرك.» فقال:- «يا ابن أخى، والله إن كنت إلّا كما قال حيىّ بن أخطب:
لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه ... ولكنّه من يخذل الله يخذل
__________
[1] . فى مط: رضى الله عنه. انظر الطبري (10: 615)(3/508)
لجاهد حتّى أبلغ النّفس عذرها ... وقلقل يبغى العزّ كلّ مقلقل
ذكر عقوبة سريعة بعقب إقدام على يمين كاذبة
وحكى [1] بعض المشايخ من النوفليين قال: وشى قوم بيحيى بن عبد الله، فحبسه الرشيد، قال: فدخلنا على عيسى بن جعفر وقد وضعت له وسائد بعضها فوق بعض وهو قائم متّكئ عليها، وإذا هو يضحك من شيء فى نفسه متعجّبا منه فقلنا:
- «ما الذي يضحك الأمير، أدام الله سروره؟» قال: «لقد دخلني اليوم سرور ما دخلني مثله قطّ.» فقلنا: «تمّم الله للأمير سروره.» فقال:
- «والله لا أحدّثكم [2] به إلّا قائما.» واتّكأ على فرش كانت هناك قائما، وهو قائم، فقال:
كنت اليوم عند أمير المؤمنين الرشيد، فدعا بيحيى بن عبد الله فأخرج من السجن مكبّلا بالحديد وعنده بكّار بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير- وكان بكّار هذا شديد البغض لآل أبى طالب، وكان [541] يبلّغ هارون الرشيد عنهم ويشى بهم، وكان الرشيد ولّاه المدينة وأمره بالتضييق عليهم- فلمّا دعى بيحيى قال له الرشيد:
- «هيه هيه- متضاحكا- وهذا أيضا يزعم أنّا سممناه.»
__________
[1] . انظر الطبري (10: 616) .
[2] . ضبط الكلمة من الطبري (10: 616) . ما فى الأصل لا حدّثتكم. وما فى آمهمل تماما.(3/509)
فقال يحيى: «ما معنى يزعم، ها هو ذا لساني.» وأخرج لسانه أخضر مثل السلق.
قال: فتربّد هارون، واشتدّ غضبه، فقال يحيى:
- «يا أمير المؤمنين، إنّ لنا قرابة ورحما ولسنا بترك ولا ديلم، يا أمير المؤمنين، إنّا وأنتم أهل بيت واحد، فأذكّرك الله والقرابة والرحم برسول الله، صلّى الله عليه، علام تعذّبنى وتحبسني؟» قال: فرقّ له هارون الرشيد، وأقبل بكّار الزبيري على الرشيد، فقال:
- «يا أمير المؤمنين، لا يغرّك كلامه، فإنّه شاقّ عاص، وهذا منه مكر وخبث، إنّ هذا أفسد علينا مدينتنا وأظهر فيها العصيان.» قال: فأقبل يحيى عليه، فو الله ما استأذن أمير المؤمنين فى الكلام حتّى قال:
- «أفسدوا عليكم مدينتكم؟ ومن أنتم عافاكم الله؟» قال الزبيري: هذا كلامه قدّامك، فكيف إذا غاب عنك؟ يقول: ومن أنتم عافاكم الله، واستخفافا بنا.» قال: [542] فأقبل يحيى عليه، فقال:
- «نعم، ومن أنتم عافاكم الله، المدينة كانت مهاجر عبد الله بن الزبير، أم مهاجر رسول الله صلّى الله عليه، ومن أنت حتّى تقول: أفسدوا علينا مدينتنا، وإنّما بآبائى وأباء هذا هاجر أبوك إلى المدينة.» ثمّ قال:
- «يا أمير المؤمنين، إنّما الناس نحن وأنتم، فإن خرجنا عليكم قلنا أكلتم وأجعتمونا، ولبستم وأعريتمونا، وركبتم وأرجلتمونا فوجدنا بذلك مقالا فيكم، ووجدتم بخروجنا عليكم مقالا فينا، فتكافأ فيه القول، ويعود أمير المؤمنين على أهله فيه بالفضل يا أمير المؤمنين، فلم يجترئ هذا وضرباؤه(3/510)
على أهل بيتك يسعى بهم عندك. إنّه، والله، ما يسعى بنا إليك نصيحة منه لك وإنّه ليأتينا فيسعى بك عندنا عن غير نصيحة منه لنا يريد أن يباعد بيننا ويشتفى من بعض ببعض [1] والله يا أمير المؤمنين، لقد جاء إلىّ هذا حيث قتل أخى محمّد بن عبد الله،- فقال: لعن الله قاتله- وأنشدنى فيه مرثية قالها نحوا من عشرين بيتا وقال: إن تحرّكت فى هذا الأمر فأنا أول من يبايعك وما يمنعك [543] أن تلحق بالبصرة فأيدينا مع يدك.» قال: فتغيّر وجه الزبيري واسودّ. وأقبل عليه هارون فقال:
- «أىّ شيء يقول هذا؟» قال: كاذب يا أمير المؤمنين، ما كان ممّا قال حرف.» قال: فأقبل على يحيى بن عبد الله، فقال:
- «تروى القصيدة التي رثاه بها؟» قال: نعم يا أمير المؤمنين، أصلحك الله.
فأنشدها إيّاه.
فقال الزبيري:
- «والله يا أمير المؤمنين، الذي لا إله إلّا هو- حتّى أتى على اليمين الغموس- ما كان ممّا قال شيء، ولقد تقوّل علىّ ما لم أقل.» قال: «فأقبل الرشيد على يحيى بن عبد الله فقال:
- «قد حلف، فهل من بيّنة سمعوا هذه المرثية منه؟» قال: «لا يا أمير المؤمنين، ولكنّى استحلفه بما أريد.» قال: فاستحلفه. فقال:
- «قل أنا بريء من حول الله وقوّته موكّل إلى حولي وقوّتى إن كنت قلته.»
__________
[1] . آ. لبعض. والطبري (10: 617) كالأصل.(3/511)
قال الزبيري:
- «يا أمير المؤمنين، أىّ شيء هذا من الحلف [1] ؟ احلف بالله الذي لا إله إلّا هو، وتستحلفنى بشيء لا أدرى ما هو.» قال يحيى بن عبد الله:
- «يا أمير المؤمنين، إن كان صادقا فما عليه أن يحلف بما استحلفه به، فقال هارون:
- «احلف له ويلك.» قال: فقال: «أنا بريء من حول الله وقوّته موكّل إلى [544] حولي وقوّتى.» قال: فاضطرب منها وأرعد، فقال:
- «يا أمير المؤمنين، ما أدرى أىّ شيء هذا اليمين التي [2] يستحلفني بها، وقد حلفت بالله أعظم الأشياء.» قال: فقال هارون:
- «لتحلفنّ له أو لأصدّقنّ قوله عليك ولأعاقبنّك.» قال: فقال: «أنا بريء من حول الله وقوّته موكّل إلى حولي وقوّتى إن كنت قلته.» قال: فخرج من عند هارون، فضربه الله بالفالج فمات من ساعته.» قال: فقال عيسى بن جعفر:
- «وما يسرّنى أنّ يحيى [ما] [3] نقصه حرفا ممّا كان جرى بينهما ولا قصّر فى شيء من مخاطبته إيّاه.»
__________
[1] . فى آ: من الخلاف.
[2] . فى الأصل: الذي. آوالطبري (10: 618) : التي.
[3] . ما بين المعقوفتين أضفناه من الطبري (10: 618) وما فى الأصل ومط وآ: «نقصه» من دون «ما» .(3/512)
وذكر أبو يونس قال: سمعت عبد الله بن العبّاس بن علىّ الذي يعرف بالخطيب قال [1] : كنت يوما على باب الرشيد أنا وأبى، وحضر ذلك اليوم الجند والقوّاد ما لم أر مثلهم على باب خليفة قطّ لا قبله ولا بعده، فخرج الفضل بن الربيع إلى أبى، فقال له: «ادخل.» ومكث ساعة، ثمّ خرج إلّى فقال:
- «ادخل.» فدخلت فإذا أنا بالرشيد معه امرأة يكلّمها، فأومأ إلى أبى أنّه لا يريد اليوم أن يدخل أحدا وإنّما استأذنت لك لكثرة من رأيت حضر الباب، فإذا دخلت هذا [545] المدخل زادك ذلك نبلا عند الناس. فما مكثنا إلّا قليلا حتّى جاء الفضل بن الربيع فقال:
- «إنّ عبد الله بن مصعب الزبيري يستأذن فى الدخول.» فقال: «إنّى لا أريد أن أدخل اليوم أحدا إلىّ.» فقال: إنّه يقول: «إنّ عندي شيئا أذكره.» فقال: «قل له يقله لك.» قال: «قد قلت له ذاك، فزعم أنّه لا يقوله إلّا لك.» قال: «أدخله.» وخرج ليدخله، وعادت المرأة، وشغل بكلامها وأقبل علىّ أبى فقال:
- «إنّه ليس عنده شيء يذكره وإنّما أراد الفضل بهذا أن يوهم من على الباب أنّ أمير المؤمنين لم يدخلنا لخاصيّة خصصنا بها وإنّما أدخلنا لأمر نسأل عنه كما دخل هذا الزبيري.» وطلع الزبيري فقال:
__________
[1] . انظر الطبري (10: 620) .(3/513)
- «يا أمير المؤمنين، ها هنا شيء أذكره.» فقال: «قل.» فقال له: «إنّه سرّ.» فقال: «ما من العبّاس سرّ.» فنهضت. فقال:
- «ولا منك يا حبيبي.» فجلست. فقال:
- «قل.» قال: «إنّى والله قد خفت على أمير المؤمنين زوجته وابنته وجاريته التي تلى فراشه وخادمه الذي يلي ثيابه وأخصّ خلق الله به من قوّاده وأبعدهم منه.» قال: فرأيته قد تغيّر لونه وقال له:
- «من ماذا.» قال: «جاءتني دعوة يحيى بن عبد الله [546] بن الحسن فعلمت أنّه لم يبلغني مع العداوة بيننا وبينهم حتّى لم يبق على بابك أحد إلّا وقد أدخله فى الخلاف عليك.» فقال: «أتقول هذا فى وجهه؟» قال: «نعم.» قال الرشيد: «علىّ بيحيى.» فدخل فأعاد القول بحضرته. فقال يحيى:
- «والله يا أمير المؤمنين، قد جاء بشيء لو قبل لمن هو دونك فيمن هو أكبر منّى وهو قادر عليه لما أفلت منه أبدا، ولكن لى رحم وقرابة فلو أخّرت هذا الأمر ولم تعجل لكفيت مؤونتي بغير يدك ولسانك، وعسى بك أن تقطع رحمك وإنّى أباهله بين يديك وتصبر قليلا.»(3/514)
فقال: «يا عبد الله، قم فصلّ إن رأيت ذاك.» وقام يحيى فاستقبل القبلة وصلّى ركعتين خفيفتين [1] ، وصلّى عبد الله ركعتين [1] . ثمّ برك يحيى وقال:
- «ابرك.» ثمّ شبّك يمينه فى يمينه [2] ، ثمّ قال:
- «اللهمّ إن كنت تعلم أنّى دعوت عبد الله بن مصعب إلى الخلاف على هذا- ووضع يده عليه وأشار إليه- فأسحتنى بعذاب من عندك ولكنى إلى حولي وقوّتى، وإلّا فكله إلى حوله وقوّته وأسحته بعذاب من عندك، آمين ربّ العالمين.
فقال: «آمين ربّ العالمين.» فقال يحيى بن عبد الله لعبد الله بن مصعب: [547]- «قل كما قلت.» فقال عبد الله:
- «اللهم إن كنت تعلم أنّ يحيى بن عبد الله لم يدعني إلى الخلاف على هذا، فكلنى إلى حولي وقوّتى وأسحتنى بعذاب من عندك، وإلّا فكله إلى حوله وقوّته وأسحته بعذاب من عندك، آمين ربّ العالمين.» وتفرّقا.
فأمر الرشيد بيحيى بن عبد الله فحبس فى ناحية من الدار. فلمّا خرج وخرج عبد الله بن مصعب أقبل الرشيد على أبى فعدّد عليه مننه على يحيى وأياديه عليه فكلّمه أبى بما لا يدفع به عن عصفور خوفا على نفسه، فأمرنا
__________
[1] . 2. ناقص فى الأصل ومط. زدناه من آوالطبري (10: 622) .
[2] . فى مط: ثمانية فى ثمانية.(3/515)
بالانصراف، فانصرفنا، فدخلت مع أبى أنزع عنه سواده، وكان ذلك من عادتي، فبينا أنا أحلّ منطقته إذ دخل عليه الغلام، فقال:
- «رسول عبد الله بن مصعب. [1] » فقال: «أدخله.» فدخل. وقال:
- «يقول لك مولاي: أنشدك الله إلّا بلغت إلىّ.» فقال أبى: «قل له أجد مسّ تعب، وقد وجّهت إليك بعبد الله، فما أردت أن تلقيه إلى فألقه إليه.» فخرج الغلام. وقال لى [2] :
- «إنّما دعاني ليستعين بى على الإفك، فإن أعنته قطعت رحم رسول الله صلّى الله عليه، وإن خالفته سعى بن، فاذهب إليه [548] فكلّ ما قال لك فليكن جوابك له: أخبر أبى.» وخرجت فى إثر الرسول. فلمّا صرت فى بعض الطريق وأنا مغموم بما أقدم عليه، قلت للرسول:
- «ويحك، ما أمره وما أزعجه بالإرسال إلى أبى الفضل فى مثل هذا الوقت؟» فقال: «إنّه جاء من الدار فما هو إلّا أن نزل [3] عن الدابّة، حتى صاح: بطني، بطني.» قال:
__________
[1] . وزاد فى آ: على الباب.
[2] . لى. زيادة من آوالطبري (10: 623) .
[3] . فى الأصل ومط فهو الذي نزل عن الدّابة: كذا فى آ: فما هو إلّا أن نزل عن الدابة حتّى. فى الطبري (10: 623) : فساعة نزل عن الدابة صاح.(3/516)
فما حفلت بقول الغلام. فلمّا صرنا على باب الدار، وكان فى درب لا منفذ له، فتح البابين، وإذا النساء خرجن منشورات الشعور متحزّمات بالحبال يلطمن وجوههنّ وينادين بالويل، وقد مات الرجل، فعجبت من ذلك، وعطفت راجعا أركض ركضا لم أركض قبله مثله، والغلمان والحشم ينتظروننى لتعلّق قلب الشيخ بى. فلمّا رأونى دخلوا يتعادون، فاستقبلني مرعوبا فى قميص ومنديل ينادى:
- «ما وراءك يا بنّى؟» قلت: «إنّه مات.» قال: «الحمد لله الذي قتله وأراحك وإيّانا منه.» فما قطع كلامه حتّى ورد خادم للرشيد يأمر أبى بالركوب وإيّاى معه، فقال أبى ونحن نسير:
- «لو جاز أن يدّعى ليحيى نبوّة لادّعاها أهله له رحمه الله، [549] وعند الله نحتسبه ولا والله ما نشكّ أنّه قتل.» فمضينا حتّى دخلنا على الرشيد، فلمّا نظر إلينا قال:
- «يا عبّاس، أما عندك الخبر؟» فقال أبى:
- «بلى يا أمير المؤمنين، فالحمد لله الذي صرعه بلسانه ووقاك يا أمير المؤمنين قطع أرحامك.» فقال الرشيد:
- «الرجل والله سليم على ما تحبّ [1] .» ورفع الستر فدخل يحيى وأنا والله أتبيّن الارتباع فى الشيخ، فلمّا نظر إليه
__________
[1] . تحبّ: كذا فى الأصل وآ. فى الطبري (10: 625) : يحبّ.(3/517)
الرشيد صاح به:
- «يا أبا محمّد، إنّ الله قد قتل عدوّك الجبّار.» قال:
- «الحمد لله الذي أبان لأمير المؤمنين كذب عدوّه علىّ وأعفاه من قطع رحمه، والله يا أمير المؤمنين لو كان هذا الأمر ممّا أطلبه وأصلح له وأريده، ولم يكن الظفر به إلّا بالاستعانة به، ثمّ لم يبق فى الدنيا غيرى وغيرك وغيره ما تقويّت به عليك أبدا، فكيف وأنا لا أطلب هذا الأمر ولا أريده ولا أصلح له.» ثمّ قال:
- «وهذا والله من أحد آفاتك- وأشار إلى الفضل بن الربيع- والله لو وهبت له عشرة آلاف درهم ثمّ طمع فى زيادة تمرة لباعك بها.» فقال:
- «أمّا العبّاسىّ [1] ، فلا تقل فيه إلّا خيرا.» وأمر له فى هذا اليوم بمائة ألف دينار [550] وكان حبسه بعض يوم.
هياج العصبيّة فى الشام بين النزاريّة واليمانيّة
وفى هذه السنة هاجت العصبيّة بالشام بين النزاريّة واليمانيّة، فقتل بينهما بشر كثير. فولّى الرشيد موسى بن يحيى بن خالد الشام، وضمّ إليه، من القوّاد والأجناد ومشايخ الكتّاب جماعة فلمّا ورد الشام أصلح بين أهلها وسكنت الفتنة، فردّ الرشيد الحكم فيهم إلى يحيى، فعفا عنهم وصفح عن جناياتهم، فمدحه الشعراء وأكثروا.
__________
[1] . العباسىّ: كذا فى الأصل والطبري (10: 624) .(3/518)
عزل موسى بن عيسى عن مصر
وفيها عزل الرشيد موسى بن عيسى عن مصر، وولّى جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك مصر، فولّاها جعفر عمر بن مهران.
ذكر السبب فى ولايته وما كان منه كان قد بلغ الرشيد أنّ موسى بن عيسى بن موسى قد تجبّر بمصر وعزم على الخلع، فقال:
- «والله لا أعزله إلّا بأخسّ من على بابى، انظروا لى رجلا.» فذكر عمر بن مهران، وكان إذ ذاك يكتب للخيزران ولم يكتب قطّ لغيرها، وكان رجلا أحول مشنوء الوجه، وكان لباسه خسيسا أرقع [1] ثيابه طيلسانه، وكانت قيمته ثلاثين درهما وكان يشمّر ثيابه ويقصّر كمامه ويركب بغلا وعليه رسن [551] ولجام حديدىّ ويردف غلامه خلفه. فدعا به وولّاه مصر حربها وخراجها وضياعها. فقال:
- «يا أمير المؤمنين، أتولّاها على شريطة.» قال: «وما هي؟» قال: «يكون إذنى إلىّ إذا أصلحت البلاد انصرفت.» فجعل له ذلك، فمضى إلى مصر، واتصلت ولاية عمر بموسى بن عيسى، فكان يتوقّع قدومه. فدخل عمر بن مهران مصر على بغل وغلامه أبو درّة على بغل، فقصد دار موسى والناس عنده. فدخل وجلس فى أخريات الناس، فلمّا تفرّق الناس قال موسى بن عيسى:
__________
[1] . فى آ: أرفع، بدل «أرقع» .(3/519)
- «ألك حاجة يا شيخ؟» قال: «نعم.» وأخرج الكتب، فدفعها إليه، قال: «يقدم أبو حفص أبقاه الله.» قال: «فأنا أبو حفص.» قال: «أنت عمر بن مهران؟» قال: «نعم.» فقال: «لعن الله فرعون حين قال: أليس لى ملك مصر؟ [1] » ثمّ سلّم إليه العمل ورحل، فتقدّم عمر بن مهران إلى أبى درّة غلامه فقال:
- «لا تقبل من الهدايا إلّا ما يدخل فى الجراب، لا تقبل دابّة ولا جارية ولا غلاما.» وجعل الناس يبعثون بضروب الهدايا والألطاف فلا يقبل إلّا المال والثياب ويأتى بها [552] عمر فيوقّع عليها أسماء من بعث بها. ثمّ وضع الجباية وكان بمصر قوم قد اعتادوا المطل وكسر الخراج، فبدأ برجل منهم فلواه فقال:
- «والله لا أدّيت [2] ما عليك من الخراج إلّا فى بيت المال بمدينة السلام إن سلمت.» قال: «فإنّى أؤدّى.» وتحمّل عليه، فقال:
- «قد حلفت ولا أحنث.» فأشخصه مع ثلاثة من الجند، وكتب معهم إلى الرشيد. وكان العمّال يكاتبون إذ ذاك الخليفة:
__________
[1] . س 43 الزخرف: 51. وزاد فى آ: ... وهذه الأنهار تجرى من تحتي.
[2] . فى الطبري (10: 627) : لا تؤدّى.(3/520)
- «أنّى دعوت بفلان بن فلان، وطالبته بما عليه من الخراج فلوانى واستنظرنى فأنظرته، ثمّ دعوته، فدافع ولوانى، فعل ذلك مرارا، فآليت إلّا يؤدّيه إلّا فى بيت المال بمدينة السلام، وجملة ما عليه من المال كذا وكذا وقد أنفذته مع فلان وفلان، فإن رأى أمير المؤمنين أن يكتب إلىّ بوصوله فعل إن شاء الله.» فلم يلوه أحد بشيء من الخراج، واستأدى النجم الأوّل والنجم الثاني، فلمّا كان النجم الثالث وقعت المطاولة والمطل. فأمر بإحضار الهدايا التي بعث بها إليه، فنظر فى الأكياس وأحضر الجهبذ، فوزن ما فيها وأجراها [1] عن أهلها، ثمّ دعا بالأسفاط فنادى على [553] ما فيها فباعها وأجرى أثمانها عن أهلها.
ثمّ قال:
- «يا قوم، حفظت هداياكم إلى وقت حاجتكم إليها فأدّوا إلينا مالنا.» فأدّوا إليه حتّى أغلق مال مصر، فانصرف ولا يعلم أنّه أغلق [2] مال مصر غيره. وانصرف فخرج على بغل وأبو درّة على بغل وكان إذنه إليه.
ودخلت سنة سبع وسبعين ومائة
ولم يجر فيها على ما بلغنا شيء يكتب فى هذا الكتاب.
ودخلت سنة ثمان وسبعين ومائة الفضل بن يحيى يولّى خراسان أيضا
وفيها ولّى الفضل بن يحيى بن خالد خراسان مضافا إلى ما كان إليه من ولاية الجبل وجرجان وطبرستان. فشخص إليها، فأحسن بها السيرة وبنى
__________
[1] . أجراها: كذا فى الأصل وآ ومط. فى الطبري (10: 628) : اجزاها (بالزاء المعجمة) .
[2] . فى الأصل: أعلق. (با همال العين) مع أنّه: «أغلق» (بالإعجام) فى الموطن السابق.(3/521)
المساجد والرباطات وغزا ما وراء النهر، فخرج إليه خاراخرّة ملك اسروشنة وكان ممتنعا.
واتخذ الفضل بن يحيى جندا من عجم خراسان سمّاهم العبّاسيّة، وجعل ولاءهم له، وبلغت عدّتهم خمسمائة ألف رجل، وقدم بغداذ منهم عشرون ألف رجل فسمّوا ببغداذ الكرنبيّة، وخلّف الباقي بخراسان على [554] على أسمائهم ودفاترهم.
وفرّق الفضل من الأموال ما هو بالسرف أليق منه بالجود. وقد ذكرنا من ذلك طرفا. فمّما جرى له من هذا النمط أنّ إبراهيم بن جبريل كان خرج مع الفضل مكرها، فأحفظ الفضل ذلك عليه. قال إبراهيم: فدعاني يوما بعد ما أغفلنى حينا، فلمّا صرت بين يديه سلّمت، فما ردّ علىّ، فقلت فى نفسي: شرّ والله، وكان مضطجعا فاستوى جالسا ثمّ قال:
- «ليفرخ [1] روعك يا إبراهيم فإنّ قدرتي عليك تمنعني منك.» قال: ثمّ عقد لى على سجستان فلمّا حملت خراجها وهبه لى وزادني خمسمائة ألف درهم.
وكان معه عمّه إبراهيم فوجّهه إلى كابل فافتتحها وغنم غنائم كبيرة ووصل إليه فى ذلك الوجه سبعة آلاف ألف [2] درهم، وكان عنده من مال الخراج أربعة آلاف درهم [3] . فلمّا قدم بغداد وبنى داره واستزار الفضل ليريه نعمته عليه وأعدّ له الهدايا والطرف وآنية الذهب والفضّة، وأمر بوضع الأربعة آلاف ألف فى ناحية من الدار. فلمّا قال الفضل بن يحيى، قدّم اليه الهدايا والطرف فأبى أن يقبل منها شيئا وقال:
__________
[1] . فى الطبري (19: 634) ليفرج. فى آ: ليفرخ عن روعك، بزيادة «عن» .
[2] . فى الأصل: سبعة ألف ألف.
[3] . وكان «درهم» : سقط من الأصل، فزدناها من آوالطبري (10: 634) .(3/522)
- «لم آتك [555] لأسلبك.» قال: «إنّها نعمتك أيّها الأمير.» قال: «ولك عندنا مزيد.» فلم يأخذ من جميع ذلك إلّا سوطا سجزيّا. وقال:
- «هذا من آلة الفرسان.» فقال له: «هذا المال من مال الخراج.» قال: «هو لك.» فأعاد عليه، فقال: «أما لك بيت يسعه؟» وانصرف.
ولمّا قدم الفضل بن يحيى من خراسان خرج الرشيد إلى بستان أمّ جعفر يستقبله وتلقّاه بنو هاشم والناس على مراتهم، فجعل يصل الرجل بألف ألف وبخمسمائة آلاف درهم. وأعطى الشعراء فأكثر. فحكى مروان بن أبى حفصة وكان قد زاره: أنّه وصل إليه فى مدّة مقامه عليه سبعمائة ألف درهم.
ودخلت سنة تسع وسبعين ومائة
قتل ابن طريق
وفيها رجع الوليد بن طريف الشاري إلى الجزيرة واشتدّت شوكته، وكثر تبعه، فوجّه الرشيد إليه يزيد بن مزيد الشيبانى فراوغه يزيد إلى أن ظنّ أنّه كرهه، ثمّ التمس غرّته حتّى وجدها فقتله وجماعة كانوا معه وتفرّق الباقون.
وقالت الفارعة أخت الوليد بن طريف: [556]
أيا شجر الخابور ما لك مورقا ... كأنّك لم تحزن [1] على ابن طريف
__________
[1] . كذا فى الأصل وآ ومط: لم تحزن. فى الطبري (10: 638) : لم تجزع.(3/523)
فتى لا يحبّ الزّاد إلّا من التّقى ... ولا المال إلّا من قنا وسيوف
واعتمر الرشيد فى هذه السنة فى شهر رمضان شكرا لله عزّ وجلّ على ما أبلاه فى الوليد بن طريف. ثمّ انصرف إلى المدينة فأقام بها إلى وقت الحجّ، ثمّ حجّ بالناس فمشى من مكّة إلى منى، ثمّ إلى عرفات، وشهد المشاهد كلّها، والمشاعر ماشيا.
ثمّ دخلت سنة ثمانين ومائة هياج العصبيّة بين أهل الشام
وفيها هاجت العصبيّة بالشام بين أهلها، وتفاقم أمرها فقلق الرشيد واغتمّ لذلك، وقال لجعفر بن يحيى:
- «إمّا أن تخرج أنت، أو أخرج أنا.» فقال له جعفر: «بل أقيك بنفسي.» فشخص فى جلّة القوّاد والكراع والسلاح وعقد له على الشام. فلمّا أتاهم أصلح بينهم وقتل زواقيلهم والمتلصّصة منهم، ولم يدع به رمحاً ولا فرسا، فعادوا إلى الأمن والطمأنينة، وأطفأ النائرة، وعاد إلى جعفر، واستخلف على الشام عيسى بن العكّى فزاد الرشيد [557] فى إكرامه ومدحه الشعراء.
ويقال: إنّه لمّا عاد ومثل بين يدي الرشيد، قبّل يديه ورجليه ثمّ مثل بين يديه فقال:
- «الحمد لله الذي آنس وحشتي بأمير المؤمنين، وأجاب دعوتي، ورحم تضرّعى ونسأ فى أجلى، حتى أرانى وجه سيّدى، وأكرمنى بقربه وأمتنّ علىّ بتقبيلى يده، وردّني إلى خدمته، فو الله إن كنت لأذكر غيبتي عنه ومخرجي و(3/524)
المقادير [1] التي أزعجتنى فأعلم أنّها كانت بمعاص لحقتني وخطايا قد أحاطت بى، ولو طال مقامي عنك يا أمير المؤمنين لخفت أن يذهب عقلي إشفاقا على قربك، وأسفا على فراقك، وأن يعجل بى عن إذنك الاشتياق إلى رؤيتك.
فالحمد لله الذي عصمنى فى حال الغيبة، وأمتعنى بالعافية، ومسكنى بالطاعة وحال بيني وبين استعمال المعصية، ولم أشخص إلّا عن رأيك ولم أقدم إلّا عن إذنك ولم يخترمنى أجلى دونك، والله يا أمير المؤمنين، فلا أعظم من اليمين بالله، لقد عاينت ما لو تعرض لى الدنيا كلها، لاخترت قربك ولما رأيتها عوضا من المقام معك.» ثمّ أثنى عليه [558] ثناء طويلا.
ثمّ ولّى الرشيد جعفرا خراسان وسجستان، فاستعمل جعفر عليها محمّد بن الحسن بن قحطبة.
ودخلت سنة إحدى وسنة اثنتين وثمانين ومائة
ولم يجر فيهما على ما بلغنا ما يليق ذكره بهذا الكتاب.
ودخلت سنة ثلاث وثمانين ومائة
خروج خاقان الخزر
وفيها كان خروج ملك الخزر من باب الأبواب وإيقاعهم بالمسلمين هنالك وأهل الذمّة وسبيهم أكثر من مائة ألف فانتهكوا أمرا عظيما لم يسمع فى الأرض بمثله [2] .
__________
[1] . كذا في آوالطبري (10: 642) : ومخرجي والمقادير. ما فى الأصل غير واضح.
[2] . وفى آ: سبب مثله، بزيادة «سبب» .(3/525)
ذكر السبب فى ذلك وكان سبب ذلك أنّ الفضل بن يحيى خطب بنت خاقان الخزر، فحملت إليه، فماتت ببرذعة. وكان على أرمينية يومئذ سعيد بن سلم بن قتيبة فرجع من كان معها من الطراخنة إلى أبيها فأخبروه أنّ ابنته قتلت غيلة، فحنق لذلك وعمل ما عمل.
فولّى الرشيد أرمينية يزيد بن مزيد مع آذربيجان، وضمّ إليه قوّاد الجند ووجّهه، وأنزل خزيمة بن خازم نصيبين ردءا لأهل أرمينية.
وقيل أيضا: أنّ سبب دخول الخزر أرمينية فى زمن هارون كان أنّ سعيد بن سلم ضرب عنق [559] المنجّم السلمىّ بفاس، فدخل ابنه بلاد الخزر فاستجاشهم، فدخلوا أرمينية من الثلمة، فانهزم سعيد، ونكحوا المسلمات وأقاموا سبعين يوما، فلمّا صار يزيد بن مزيد إلى أرمينية، خرج الخزر وسدّت الثلمة.
استقدام الرشيد علىّ بن عيسى من خراسان
وفيها استقدم الرشيد علىّ بن عيسى بن هامان من خراسان وكان سبب ذلك أنّه أبلغ عنه أمور عظام. وقيل: إنّه أجمع على الخلاف، فاستخلف علىّ بن عيسى ابنه يحيى ووافى حضرة الرشيد بأموال عظيمة، فردّه الرشيد إلى خراسان من قبل ابنه المأمون لحرب أبى الخصيب، فرجع. [1]
ودخلت سنة أربع وثمانين ومائة
ولم يجر فيها ما يكتب.
__________
[1] . فى آ: ما يستفاد منه تجربة. انظر الطبري (11: 649) .(3/526)
وكذلك سنة خمس وثمانين ومائة
ودخلت سنة ستّ وثمانين ومائة حوادث عدّة
وفيها خرج علىّ بن عيسى بن ماهان من مرو لحرب أبى الخصيب إلى نسّا، [1] فقتله بها وسبى نساء وذراريّه، واستقامت خراسان.
وحجّ هارون الرشيد وأخرج معه ابنيه محمّدا الأمين، وعبد الله المأمون، وليّى عهده.
فبدأ بالمدينة [560] وأعطى أهلها ثلاثة أعطية، كانوا يقدمون [2] إليه فيعطيهم عطاء، ثمّ إلى محمّد فيعطيهم عطاء ثانيا، ثمّ إلى المأمون فيعطيهم عطاء ثالثا.
ثمّ صار إلى مكّة، فأعطى أهلها عطاء. فبلغ ذلك ألف ألف دينار وخمسين ألف دينار.
وكان الرشيد عقد لابنه محمّد بن زبيدة وسمّاه الأمين وضمّ إليه الشام والعراق فى سنة خمس وسبعين، ثمّ بايع لعبد الله المأمون بالرّقة فى سنة ثلاث وثمانين ومائة، وولّاه من حدّ همذان إلى آخر المشرق.
وكان القاسم بن الرشيد فى حجر عبد الملك بن صالح، فلمّا بايع الرشيد لمحمّد وعبد الله، كتب إليه عبد الملك بن صالح يسأله فى أبيات شعر أن يجعل القاسم ثالثا فى ولاية العهد، فبايع له وسمّاه المؤتمن، وولّاه الجزيرة والثغور والعواصم.
ولمّا قسم الأرض بين أولاده الثلاثة قال بعض الناس: قد أحكم أمر الملك،
__________
[1] . فى الطبري (11: 651) نسا. دون تشديد.
[2] . فى الأصل بتشديد الدال. ولا تشديد عليها فى الطبري (11: 651) .(3/527)
وقال بعضهم: بل ألقى بأسهم بينهم وسيختلفون، فقال بعضهم:
رأى الملك الرّشيد أضلّ رأى [1] ... بقسمته الخلافة والبلادا [561]
أراد به ليقطع عن بنيه ... خلافهم ويبتذلوا الودادا
فقد غرس العداوة غير آل ... وأورث شمل ألفتهم بدادا
فويل للرّعيّة عن قليل ... لقد أهدى لها الكرب الشدادا
ستجرى من دمائهم بحور ... زواخر لا يرون لها نفادا
ولمّا قضى هارون الرشيد مناسكه، تقدّم إلى الفقهاء والقضاة وأهل العلم أن يجهدوا آراءهم فى كتابين، أحدهما على محمّد الأمين يشترط عليه الوفاء لعبد الله المأمون بما إليه من الأعمال وما صيّر له من الضياع والجواهر والأموال، والآخر نسخة البيعة التي أخذها على الخاصّة والعامّة والشروط على محمّد وعبد الله من الأحكام والسياسات، وأشهد أهل بيته ووزراءه وقوّاده ومواليه وكتّابه ومن كان فى الكعبة معه، وكان جميع ذلك فى البيت الحرام. ثمّ رأى أن يعلّق الكتاب فى الكعبة، فلمّا رفع ليعلّق، سقط، فقال الناس:
«هذا أمر سريع الانتقاض لا يتمّ.» ونسخة [562] هذين الكتابين فيهما طول وهي موجودة فى كتب التواريخ وغيرها فلم أشتغل بنسخهما، وكتب كتبا بذلك إلى سائر العمّال فى الأمصار. [2]
__________
[1] . فى الطبري (11: 653) رأى الملك المهذّب شرّ رأى.
[2] . انظر الطبري (11: 655- ... )(3/528)
ودخلت سنة سبع وثمانين ومائة
وفيها قتل الرشيد جعفر بن يحيى، وأوقع بالبرامكة ذكر السبب فى ذلك
كانت أسباب تغيّره لهم كثيرة.
فمن ذلك أنّ الرشيد سلّم يحيى بن عبد الله بن حسن بن حسن إلى جعفر، فحبسه عنده ثمّ دعا به ليلة، فسأله عن شيء من أمره. فأجابه إلى أن قال:
- «اتّق الله فى أمرى ولا تتعرّض أن يكون خصمك غدا محمّد، صلّى الله عليه، فو الله ما أحدثت حدثا، ولا آويت محدثا.» فرق له وقال:
- «اذهب حيث شئت من بلاد الله.» فقال:
- «كيف أذهب ولا آمن أن أؤخذ فأردّ إليك أو إلى غيرك؟» فوجّه معه من يؤدّيه إلى مأمنه، وبلغ الخبر الرشيد من عيون كانت له عليه، فدعاه ودعا بالغداء، فأكلا وجعل يلقّمه ويحادثه [563] إلى أن كان آخر ما دار بينهما أن قال:
- «ما فعل يحيى بن عبد الله؟» قال:
- «بحاله يا أمير المؤمنين فى الحبس والضيق والأكبال الثقيلة.» قال: «بحياتى؟» فأحجم جعفر، وكان من أرّق الناس ذهنا وأصحّهم فكرا. فهجس فى نفسه أنّه قد علم بما جرى فى أمره. فقال:
- «لا وحياتك يا سيّدى، ولكن أطلقته لمّا علمت أنّه لا حياة به ولا مكروه عنده.»(3/529)
قال: «نعمّا فعلت ما عدوت ما كان فى نفسي.» فلمّا خرج أتبعه بصره حتّى كاد يتوارى عن عينه وقال:
- «قتلني الله إن لم أقتلك.» ومن أسباب ذلك أنّ الرشيد قلب [1] جارية ارتضى عقلها وأدبها، وكانت حسنة الغناء، جزلة الشعر، مليحة الكتابة، بارعة الجمال، فلمّا رأى كمالها استام صاحبها فيها واستام بها مائة ألف دينار وقال:
- «يا أمير المؤمنين، علىّ يمين بعتقها ألّا أنقصها [2] من ذلك شيئا.» فتقدّم بإطلاق ذلك لمولاها.
فقال جعفر لأبيه وأخيه:
- «إنّ هذا إن أقدم على مثل هذه الأشياء أفنى بيوت الأموال. وقد رأيت أن أتقدّم بحمل قيمة هذه الدنانير دراهم فتوضع فى طريقه مبدّدة فإنّه الآن لا يعلم ما قيمة ما أطلق، وإذا رآها حلّت فى عينه ولعلّه أن ينصرف عن هذا الرأى.» [564] ففعل ذلك وأمر بالمال ووضع فى ممرّ له، فلمّا نظر إليه الرشيد قال:
- «من أين هذا الحمل؟» قال له الخازن:
- «إنّه ليس بحمل، ولكنّه أخرج من الخزانة وهو ثمن الجارية وقد أحلّ
__________
[1] . قلبه: أصاب قلبه.
[2] . فى مط: انتقصها.(3/530)
مكانه ببيت المال.» فأمر بعض خدمه أن يرفعه عنده وأودعه بيتا وسمّاه بيت مال العروس، وبحث عن الأموال، فوجد البرامكة قد استهلكوها فتغيّر لهم حتّى أوقع بهم.
وكان أيضا من أسباب ذلك ما تحدّث به إبراهيم بن المهدىّ قال: أتيت جعفر بن يحيى [1] يوما فقال:
- «أما تعجب من منصور بن زياد؟» قلت: «فى ماذا؟» قال: «سألته: هل ترى فى دارى عيبا؟ قال: نعم، ليس فيها لبنة ولا صنوبرة.» قال إبراهيم: فقلت:
- «الذي يعيبها عندي أنّك أنفقت عليها عشرين ألف ألف، وهي شيء لا آمنه عليك غدا عند أمير المؤمنين.» قال: «هو يعلم أنّه قد وصلني بأضعاف ذلك سوى ما عرّضنى له.» قال: قلت:
- «إنّ العدوّ إنّما يأتيه فى هذا من جهة أن يقول: يا أمير المؤمنين، إذا أنفق على دار عشرين ألف ألف فأين نفقاته. وأين صلاته، وأين النوائب التي تنوبه، وما ظنّك يا أمير المؤمنين بما وراء ذلك وهذه [565] جملة [2] سريعة إلى
__________
[1] . فى آ: يحيى بن برمك.
[2] . كذا فى الأصل: جملة: وفى آومط: حملة (بالحاء المهملة) .(3/531)
القلب والتوقّف على الحاصل منها صعب.» فقال جعفر: «إن سمع منّى.» قلت: «إنّ لأمير المؤمنين نعما على قوم قد كفروها بالستر لها أو بإظهار القليل من كثيرها وأنا رجل نظرت إلى نعمته عندي فوضعتها فى رأس جبل ثمّ قلت للناس: تعالوا فانظروا.» قلت: «نعم إنّ ناظرك قلت.» وكان من أسباب ذلك أيضا أنّ الرشيد كان لا يصبر على الجدّ ويحبّ الأنس. وكان قد أنس بجعفر وكان لا يصبر عن أخته العبّاسه بنت المهدىّ، وكان يحضرهما إذا جلس للشرب، وذلك بعد أن أعلم جعفرا قلّة صبره عنه وعنها، وقال لجعفر:
- «أزوّجكها ليحلّ لك النظر إليها إذا أحضرتها مجلسي.» وتقدّم إليه [1] إلّا يمسّها ولا يكون منه شيء ممّا يكون من الرجل إلى زوجته، فزوّجها منه على ذلك، فكان يحضرهما مجلسه إذا جلس للشرب، ثمّ يقوم عن مجلسه ويخلّيهما فيثملان من الشراب وهما شابّان، فيقوم إليها جعفر فيجامعها، حتّى حملت منه وولدت ولدا ذكرا، فخافت على نفسها من الرشيد إن علم بذلك، فوجّهت بالولد مع حواضن [566] من مماليكها إلى مكّة فلم يزل الأمر مستترا عن هارون إلى أن وقع بين عبّاسة وبين بعض جواريها شرّ، فأنهت أمرها وأمر الصبىّ [إلى الرشيد] [2] وأخبرته بمكانه ومع من هو من
__________
[1] . فى الأصل وآ: إليها، وهو سهو. وما أثبتناه يؤيّده الطبري ايضا (11: 677) .
[2] . أضفناه من الطبري (11: 677) .(3/532)
جواريها وما معه من الحلي الذي زينّته به أمّه. فأمسك هارون حتّى حجّ هذه الحجّة التي ذكرناها فأرسل إلى الموضع الذي كانت الجارية أخبرته به، واستدعاه ومن معه من الحواضن، فلمّا أحضروا سأل اللواتي مع الصبىّ، فأخبرنه بمثل القصّة التي أخبرته به الرافعة على عبّاسة فأراد قتل الصبى، ثمّ تحوّب [1] من ذلك.
وكان جعفر يتّخذ للرشيد طعاما كلما حجّ بعسفان، فلمّا كان فى هذه السنة اتّخذ الطعام على الرسم، واستزار الرشيد، فاعتلّ عليه ولم يحضر طعامه. ولم يزل معه حتّى جرى عليه ما جرى، وسنذكر ذلك فيما بعد إن شاء الله.
وقد كان الرشيد قبل إقدامه بالقتل على جعفر بن يحيى وحبسه ليحيى وأولاده تنكّر لهم حتّى عرف ذلك أكثر من يليه، وعرفه البرامكة أيضا.
فمن ذلك ما ذكر بختيشوع بن جبريل [567] عن أبيه أنّه قال: إنّى لقاعد يوما فى مجلس الرشيد إذ طلع يحيى بن خالد، وكان فيما مضى يدخل بلا إذن، فلمّا دخل فصار بالقرب من الرشيد وسلّم، ردّ عليه ردّا ضعيفا. فعلم يحيى أنّ أمرهم قد تغيّر، ثمّ أقبل علىّ الرشيد، فقال:
- «يا جبريل، أيدخل عليك وأنت فى منزلك أحد بلا أذنك؟» فقلت: «لا والله، ولا يطمع فى ذلك.» قال: «فما بالنا، يدخل إلينا بلا إذن.» فقام يحيى فقال:
__________
[1] . تحوّب منه: توجّع وتحزّن.(3/533)
- «يا أمير المؤمنين، قدّمنى الله قبلك، والله ما ابتدأت ذلك الساعة وما هو إلّا شيء كان خصّنى به أمير المؤمنين ورفع به ذكرى حتّى إنّى كنت لأدخل وهو فى فراشه مجرّدا حينا وحينا فى بعض إزاره، وما علمت أنّ أمير المؤمنين كره ما كان يحبّ، وإذ قد علمت فإنّى أكون فى الطبقة الثانية من أهل الإذن، أو الثالثة، إن أمرنى سيّدى بذلك.» فاستحيى، وكان من أرّق الخلفاء وجها وعيناه فى الأرض ما يرفع طرفه إليه، ثمّ قال:
- «ما أردت ما تكره، ولكنّ الناس يقولون.» قال جبريل: فظننت أنّه لم يسنح له جواب يرتضيه. فأجاب بهذا القول، ثمّ أمسك عنه وخرج [568] يحيى.
ومن ذلك أنّ الرشيد رأى يحيى بن خالد يوما وقد دخل الدار، فقام الغلمان له، فقال الرشيد لمسرور الخادم:
- «مر [1] الغلمان إلّا يقوموا ليحيى إذا دخل الدار.» فلمّا دخل بعد ذلك، لم يقم له أحد، فاربدّ لونه فكان الغلمان والحجّاب بعد إذا رأوه أعرضوا عنه. وكان ربّما استسقى الشربة من الماء أو غيره، فلا يسقونه، وبالحرىّ إن سقوه أن يكون ذاك بعد أن يدعو بها مرارا.
__________
[1] . فى مط: من، بدل «مر» .(3/534)
ومن ذلك [1] ما تحدّث به إبراهيم بن المهدىّ وكان مختصّا به لأنّ جعفرا هو الذي قدّمه وقرّبه من الرشيد، وكان صاحبه وولىّ نعمته.
قال إبراهيم: قال لى جعفر يوما:
- «إنّى قد استربت بأمر هذا الرجل- يعنى الرشيد- وقد ظننت أنّ ذلك شيء سبق إلى نفسي منه، فأردت أن أعتبر ذلك بغيري، فكنت أنت، فارمق ذلك فى يومك هذا وأعلمني ما ترى منه.» قال: ففعلت ذلك فى يومى، فلمّا نهض الرشيد من مجلسه كنت أوّل أصحابه نهض عنه حتّى صرت إلى شجر فى طريقي، فدخلتها ومن معى، فأمرتهم بإطفاء الشمع، وأقبل الندماء يمرّون بى واحدا [569] واحدا فأراهم ولا يرونني، حتّى إذا لم يبق منهم أحد إذا أنا بجعفر قد طلع، فلمّا حاذى الشجر قال:
- «اخرج يا حبيبي.» فخرجت، فقال:
- «ما عندك؟» فقلت: «حتّى تعلمني كيف علمت أنّى هاهنا.» قال: «عرفت عنايتك بى وبما أعنى به، وإنّك لم تكن لتنصرف أو تعلمني ما رأيت منه، وعلمت أنّك تكره أن ترى واقفا فى هذا الوقت وليس فى طريقك موضع أستر منه فقضيت بأنّك فيه.» قلت: «نعم.» قال [2] : «فهات ما عندك.»
__________
[1] . انظر الطبري (11: 673) .
[2] . قال: سقط من الأصل وهو من آومط والطبري (11: 674) .(3/535)
قلت: «رأيت الرجل يهزل إذا جددت، ويجدّ إذا هزلت.» قال: «كذا هو، فانصرف يا حبيبي.» فانصرفت.
ذكر الخبر عن مقتله
لمّا انصرف الرشيد من مكّة فوافى الحيرة فى المحرّم سنة سبع وثمانين، أقام فى قصر عون العبادىّ أيّاما، ثمّ شخص فى السفن حتّى نزل العمر [1] الذي بناحية الأنبار، فلمّا كانت ليلة السبت لانسلاخ المحرّم أرسل مسرورا الخادم فى جماعة من خواصّه وقال:
- «اذهب فأتنى بجعفر وانظر ألّا يحسّ حتّى تقيّده [570] أولا ثمّ تأتينى برأسه.» قال مسرور: فأتيته وعنده أبو زكّار الأعمى المغنّى وهو فى لهوه ويغنّيه أبو زكّار:
فلا تبعد فكلّ فتى سيأتي ... عليه الموت يطرق أو يغادى [2]
قال: فقلت له:
- «يا با الفضل، الذي جئت له من ذلك قد والله طرقك فأجب أمير المؤمنين.» قال: فرفع يديه، ثمّ وقع على رجلىّ فقبّلهما وقال:
__________
[1] . فى آ: الغمر (بالغين المعجمة) .
[2] . انظر الطبري (11: 678) .(3/536)
- «حتّى أدخل فأوصى.» قلت:
- «أمّا الدخول فلا سبيل إليه، ولكن أوص بما شئت.» فتقدّم فى وصيّته بما أراد، وأعتق مماليكه. ثمّ أتتنى رسل أمير المؤمنين يستحثّنى به. قال: فمضيت به إليه فأعلمته فقال لى وهو فى فراشه:
- «ائتني برأسه.» قال: فمضيت به إليه. فلمّا عرف أنّه مقتول، قال:
- «الله الله يا با هاشم، والله ما أمرك بما أمرك به إلّا وهو سكران فدافع بالأمر حتّى أصبح، فإنّه سيندم ويؤاخذك بى.» فقلت: «لا أجسر على ذلك.» قال: «فوامره فىّ ثانية.» فعدت لأوامره، فلمّا سمع حسّى قال:
- «يا ماصّ بظر أمّه، ائتني برأس جعفر.» فعدت إلى جعفر، فقال:
- «عاوده ثالثة.» فعدت [571] فحذفنى بعمود ثمّ قال:
- «نفيت من المهدىّ، لئن لم تأتنى برأسه لأرسلنّ إليك من يأتينى برأسك أولا.» قال: فخرجت، فأتيته برأسه.
الإحاطة بيحيى بن خالد وسائر البرامكة
وأمر الرشيد فى تلك الليلة بتوجيه من أحاط بيحيى بن خالد وجميع ولده ومواليه ومن كان منه بسبيل، فلم يفلت منهم أحد، وأخذ ما وجد لهم من مال(3/537)
وضياع ومتاع وغير ذلك، ومنع أهل العسكر أن يخرج منهم خارج إلى مدينة السلام أو إلى غيرها. ووجّه من ليلته قوما إلى الرقّه فى قبض أموالهم. وكتب إلى جميع البلدان وإلى العمّال بها فى قبض أموالهم وأخذ وكلائهم.
فتحدّث السندىّ بن شاهك قال: إنّى لجالس يوما فإذا أنا بخادم قد قدم على البريد ودفع إلىّ كتابا صغيرا ففضضته فإذا كتاب الرشيد بخطّه فيه:
- «بسم الله الرحمن الرحيم، يا سندىّ، إذا نظرت فى كتابي فإن كنت قاعدا فقم، وإن كنت قائما فلا تقعد حتّى تصير إلىّ.» قال السندىّ: فدعوت بدوابّى ومضيت وكان الرشيد بالعمر، فحدّثنى العبّاس بن الفضل بن الربيع قال: جلس الرشيد فى الزوّ بالفرات [572] ينتظرك حتّى ارتفعت غبرة، فقال لى:
- «يا عبّاسىّ، ينبغي أن يكون هذا السندىّ وأصحابه.» فقلت: «ما أشبهه أن يكون يا أمير المؤمنين.» قال: «فطلعت.» فقال السندىّ: فنزلت ووقفت، فأرسل إلىّ الرشيد:
- «ادن.» فصرت إليه، ووقفت ساعة بين يديه، فقال لمن كان عنده من الخدم:
- «قوموا.» فقاموا، فلم يبق إلّا العبّاس بن الفضل وأنا. فمكث ساعة ثمّ قال للعبّاس:
- «اخرج ومر برفع التخاتج [1] المطروحة على الزوّ.» ففعل ذلك. فقال لى:
- «ادن منّى.»
__________
[1] . ما فى الأصل مهمل فى الأخير. انظر الطبري (11: 682) .(3/538)
فدنوت منه، فقال:
- «تدرى فيم أرسلت إليك؟» قلت: «لا والله يا أمير المؤمنين.» قال: «فى أمر لو علم به زرّ قميصي رميت به فى الفرات، يا سندىّ، من أوثق قوّادى عندي؟» قلت: «هرثمة [1] .» قال: «صدقت، فمن أوثق خدمي عندي؟» قلت: «مسرور الخادم الكبير.» قال: «صدقت، امض من ساعتك هذه، وجدّ فى سيرك حتّى توافى مدينة السلام، فاجمع ثقات أصحابك وأرباعك، ومرهم أن يكونوا على أهبة، فإذا انقطعت الرجل [2] فصر إلى دور البرامكة فوكّل بكلّ باب من أبوابهم صاحب ربع ومره أن يمنع من يدخل [573] ويخرج إلّا باب محمّد بن خالد حتّى يأتيك رأيى.» قال: ولم يكن قد حرّك البرامكة فى ذلك الوقت.
قال السندىّ: فجئت أركض حتّى أتيت مدينة السلام، فجمعت أصحابى وفعلت ما أمرنى به، فلم ألبث أن قدم علىّ هرثمة بن أعين ومعه جعفر بن يحيى على بغل أكّاف [3] مضروب العنق، وإذا كتاب أمير المؤمنين يأمرنى أن أشطره باثنين وأن أصلبه على ثلاثة [4] جسور. ففعلت ذلك ولم يزل مصلوبا حتّى أراد الرشيد الخروج إلى خراسان، فمضيت فنظرت إليه، فلمّا مرّبه الرشيد التفت إلىّ
__________
[1] . فى مط: هرثمة بن أعين.
[2] . فى الطبري (11: 682) : الزّجل. ما فى الأصل وآ مهمل. وفى حواشيه: الرّجل.
[3] . فى الطبري (11: 683) أكاف، بالتخفيف.
[4] . «باثنين» على ثلاثة جسور» كذا فى الأصل وآ ومط والطبري (11: 683) .(3/539)
فقال:
- «ينبغي أن تحرق هذا- يعنى جعفرا.» فلمّا مضى الرشيد أحرقه.
فمن غريب ما سمع من أمره
إنّ بعض الكتّاب قال: كنت أنظر فى ديوان النفقات وما يخرج من الخزائن، فانتهيت يوما إلى ورقة، فيها:
«وفى هذا اليوم أخرج إلى الأمير أبى الفضل جعفر بن يحيى أدام الله كرامته ما أمر أمير المؤمنين، بإخراجه إليه من الورق كذا، ومن العين كذا، ومن الفرش كذا، ومن الكسوة والطيب كذا، حتّى بلغ ما مقداره ثلاثون ألف ألف درهم.» [574] ثمّ تصفّحت الأوراق، فانتهيت إلى ورقة فيها:
- «وفى هذا اليوم أخرج فى ثمن البواري والنفط الذي أحرق به جعفر بن يحيى أربعة دراهم ونصف وربع.» وقال سلّام: لمّا دخلت على يحيى فى ذلك الوقت وقد هتكت الستور وجمع المتاع قال لى:
- «يا با سلمة، هكذا تقوم القيامة.» قال سلّام: فحدّثت بذلك الرشيد بعد ما انصرفت إليه، فأطرق وبقي مفكّرا.
ووجدت فى بعض الكتب [1] : أنّ البرامكة قصدت عبد الله بن مالك الخزاعي بالعداوة، وكان الرشيد حسن الرأى فيه، وكانوا يغرونه [2] به حتّى قالوا:
__________
[1] . لم نجد هذه الرواية عند الطبري.
[2] . فى مط: يعزونه.(3/540)
- «لا بدّ من نكبته.» فقال: «ما كنت لأنكبه ولكنّى أبعده عنكم.» فقالوا: «ينفى؟» قال: «لا، ولكنّى أوّليه ولاية دون قدره عندي وأخرجه إليها.» فرضوا بذلك، وكتبوا له على حرّان والرها فقط، وأمروه عن الخليفة بالخروج، قال عبد الله: فودّعتهم واحدا واحدا حتّى إذا صرت إلى جعفر لأودّعه قال:
- «ما على الأرض عربىّ أنبل منك يا با العبّاس، يغضب عليك الخليفة فيولّيك.» قلت: «فما ذنبي حتّى غضب، وأىّ شيء جزاء ذنبي الذي ترضى أن يعمل بى؟» فاستشاط [575] من قولي ثمّ قال:
- «ينبغي أن يضرب وسطك وتصلب نصفا فى جانب ونصفا فى جانب آخر.» فنهضت من عنده مغضبا، وأقبلت أتردد فى أمرى، إلّا أنّى لم أجد بدّا من الخروج، فقطعت طريقي بالهمّ والغمّ لأنّى كنت لا آمنهم مع غيبتي علىّ بالسعاية بى. فبينا أنا عشية على باب الدار التي كنت نزلتها، جالسا على كرسىّ، إذ أقبل إلىّ مولى لى، فقال لى سرّا:
- «قد قتل جعفر بن يحيى البرمكىّ.» فتوهّمت أنّه قد دسّه إلىّ جعفر ليجد علىّ حجّة بكلام ينكبنى بها، فبطحته وضربته ثلاثمائة مقرعة، وحبسته بليلة طويلة على سطح دارى. فلمّا كان فى السحر، إذا صوت حلق الحديد، فارتعت ونزلت عن السطح وقلت فى نفسي:
إن هجم علىّ صاحب البريد فهي نكبة عظيمة وإن ترجّل واستأذن ففرح. فلمّا(3/541)
بصر بى صاحب البريد، ترجّل فطابت نفسي، ودفع إلىّ كتابا من الرشيد يخبرني فيه بقتله البرامكة وقبضه عليهم، ويأمرنى بالشخوص إليه. فشخصت، فلمّا وصلت عاملني من الإنعام والإكرام ما زاد على أمنيّتى.
وخرجت، فأتيت الجسر، فوجدت جعفرا قد ضرب وسطه، نصفه من جانب [576] والنصف الآخر من جانب آخر [1] ، فأكثرت حمد الله وعجبت من الصنع اللطيف ورجوع الكيد عليه.
قال أيّوب بن هارون بن سليمان: كنت أميل إلى يحيى وأنزل معه، فكنت معه تلك العشيّة، فلمّا كان فى السحر وافانا خبر مقتل جعفر وزوال أمرهم، قال: فكتبت إلى يحيى أعزّيه، فكتب إلىّ:
- «أنا بقضاء الله راض، وبالخيار منه عالم، ولا يؤاخذ الله العباد إلّا بذنوبهم وما ربّك بظلّام للعبيد.» وأكثرت الشعراء فى مراثيهم وأطالت.
وفى هذه السنة غضب الرشيد على عبد الملك بن صالح وحبسه ذكر السبب فى ذلك
كان لعبد الملك بن صالح ابن يقال له عبد الرحمن من رجال البأس [2] له لسان على فأفأة فيه وكان كاتبه قمامة يصادقه فجرت بينهما وبين أبيه
__________
[1] . قس هذه العبارة بالعبارة السابقة.
[2] . مهمل الثاني فى الأصل وآ. فى مط: البأس. فى الطبري (11: 688) : الناس. ورجّحنا ما فى مط.(3/542)
وحشة، فواطأ الكاتب قمامة، فسعيا به إلى الرشيد وقالا له:
- «إنّه يطلب الخلافة ويطمع فيها.» فذكر أنّه دخل على الرشيد فقال له:
- «أكفرا للنعمة وجحودا لجليل [577] المنّة والتكرمة؟» فقال: «يا أمير المؤمنين، لقد بؤت إذا بالندم، وتعرّضت لاستحلال النقم، وما ذاك إلّا بغى حاسد نافسني فيك مودّة القرابة وتقديم الولاية. إنّك يا أمير المؤمنين خليفة رسول الله صلّى الله عليه، فى أمّته، وأمينه على عترته [1] لك عليها فرض الطاعة وأداء النصيحة، ولها عليك العدل فى حكمها والتثبّت فى حادثها والغفران لذنوبها.» فقال له الرشيد:
- «أتضع لى من لسانك وترفع لى من جناحك؟ هذا كاتبك قمامة يخبر عنك بغلّك وفساد نيّتك، فاسمع كلامه.» فقال عبد الملك:
- «أعطاك ما ليس فى عقده، ولعلّه لا يقدر أن يعضهنى ولا يبهتني بما لا يعرفه منّى» فأحضر قمامة، فقال له الرشيد:
- «تكلّم غير هائب ولا خائف.» قال: «نعم يا أمير المؤمنين، إنّه عازم على الغدر بك والخلاف عليك.» فقال عبد الملك:
- «أهو كذلك يا قمامة؟» قال قمامة: «نعم، لقد أردت ختل [2] أمير المؤمنين.»
__________
[1] . فى آ: عشيرته.
[2] . فى آ: خيل.(3/543)
فقال عبد الملك:
- «كيف لا يكذب علىّ من خلفي وهو يبهتني فى وجهى؟» فقال له الرشيد:
- «وهذا ابنك عبد الرحمن يخبرني بعتوّك [578] وفساد نيّتك ولو أردت أن أحتجّ عليك بحجّة لم أجد أعدل من هذين لك فبم تدفعهما عنك؟» فقال عبد الملك:
- «هو مأمور أو عاقّ مجبور. فإن كان مأمورا فمعذور، وإن كان عاقّا ففاجر كفور. أخبر الله بعداوته وحذّر منه بقوله: إنّ من أزواجكم وأولادكم عدوّا لكم فاحذروهم. [1] » قال: فنهض الرشيد وهو يقول:
- «أمّا أمرك فقد وضح، ولكنّى لا أعجل حتّى أعلم الذي يرضى الله فيك، فإنّه الحكم بيني وبينك.» فقال عبد الملك:
- «رضيت بالله حكما وبأمير المؤمنين حاكما، فإنّى أعلم أنّه يؤثر كتاب الله على هواه وأمر الله على رضاه.» فلمّا كان بعد ذلك جلس مجلسا آخر، فسلّم لمّا دخل فلم يردد عليه، فقال عبد الملك:
- «ليس هذا يوما أحتجّ فيه، ولا أجاذب منازعا وخصما.» قال: «ولم؟» قال: «لأنّ أوّله جرى على غير السنّة، فأنا أخاف آخره.» قال: «وما ذاك؟»
__________
[1] . س 64 التغابن: 14.(3/544)
قال: «لم تردّ علىّ السلام، أنصف نصفة العوامّ. [1] » قال: «السلام عليكم اقتداء بالسنّة وإيثارا للعدل واستعمالا للتحيّة.» ثمّ التفت نحو سليمان بن أبى جعفر فقال وهو يخاطب بكلامه عبد الملك:
[579]
أريد حباءه ويريد قتلى ... عذيرك من خليلك من مراد [2]
ثمّ قال: «أمّا والله لكأنّى أنظر إلى شؤبوبها وقد همع، وعارضها وقد لمع، وكأنّى بالوعيد قد أورى نارا تستطع، فأقلع عن براجم بلا معاصم، ورؤوس بلا غلاصم، فمهلا مهلا فبي سهل لكم الوعر، وصفا لكم الكدر، وألقت إليكم الأمور أثناء أزمّتها، ونذار لكم نذار قبل حلول داهية خبوط باليد، لبوط بالرّجل.» فقال عبد الملك:
- «اتّق الله يا أمير المؤمنين فيما ولّاك، وفى رعيّته التي استرعاك، ولا تجعل الكفر مكان الشكر، ولا العقاب موضع الثواب، فقد نخلت لك النصيحة، ومحضت لك الطاعة، وسددت أواخى ملكك بأثقل من ركني يلملم، وتركت عدوّك مشغولا بنفسه. فالله الله فى ذى رحمك أن تقطعه بعد أن بللته بظنّ أفصح الكتاب لى بغضه [3] أو ببغى باغ ينهس [4] اللحم، ويالغ الدمّ فقد والله سهّلت لك
__________
[1] . انظر الطبري (11: 690) .
[2] . ينسب هذا البيت إلى الإمام علىّ عليه السلام وهو موجود فى الديوان المنسوب إليه الذي نشرته أخيرا، باختلاف. فى «حباءه» فالمثبت فى الديوان «حياته» كما هو فى نقل الزمخشري فى أساس البلاغة فى «عذر» والطبري (11: 690) .
[3] . فى الأصل بغضه فى الطبري (11: 691) : يعضهه. فى حواشيه: بغضه. بعضه. بعصه. يعضه: يكذب. ينمّم. يبهت.
[4] . كذا فى آوالطبري (11: 691) . فى مط: ينهش. والمعنى واحد.(3/545)
الوعور، وذلّلت لك الأمور، وجمعت على طاعتك القلوب فى الصدور. فكم من ليل تمام فيك كابدته [5] ، ومقام ضيّق لك قمته، كنت فيه كما [580] قال أخو بنى جعفر بن كلاب:
ومقام ضيّق فرّجته ... بلساني وبيانى وجدل
لو يقوم الفيل أو فيّاله ... زلّ عن مثل مقامي وزحل [6]
ما ذكره زيد بن على بن الحسين العلوي فى الرشيد وحبسه ابن صالح
وذكر زيد بن علىّ بن الحسين العلوىّ قال: لمّا حبس الرشيد عبد الملك بن صالح، دخل عليه عبد الله بن مالك وهو يومئذ على شرطه قال:
- «أفى أذن أنا فأتكلّم؟» قال: «تكلّم.» قال: «لا والله العظيم الرحمن الرحيم يا أمير المؤمنين، ما علمت عبد الملك إلّا ناصحا فعلام حبسته؟» قال: «ويحك، أوحشنى حتّى لم آمنه أن يضرّب بين ابنىّ هذين- يعنى الأمين والمأمون، فإن كنت ترى أن نطلقه من الحبس، أطلقناه.» قال: «أمّا إذا حبسته يا أمير المؤمنين فإنّى لست أرى فى قرب المدّة أن تطلقه. ولكن تحبسه محبسا كريما يشبه محبس مثلك.»
__________
[5] . فى مط: كامدته.
[6] . فى مط: رحل (بالراء المهملة) .(3/546)
قال: «فإنّى أفعل.» قال: فدعا الرشيد الفضل بن الربيع، فقال:
- «امض إلى عبد الملك بن صالح إلى محبسه وقل له: انظر ما تحتاج إليه فى محبسك. فآمر به أن يقام لك.» فذكر ما يحتاج إليه فأقيم له.
كلام بين الرشيد وابن صالح
وقال [581] الرشيد يوما لعبد الملك بن صالح فى بعض ما كلّمه:
- «ما أنت لصالح.» قال: «فلمن أنا؟» قال: «لمروان الجعدىّ.» قال: «ما أبالى أىّ الفحلين غلب علىّ.» ولم يزل محبوسا حتّى توفّى الرشيد فأطلقه محمّد وعقد له على الشام.
فكان مقيما بالرقّه وجعل لمحمّد عهد الله وميثاقه لئن قتل وهو حىّ لا يعطى المأمون طاعة أبدا. فمات قبل محمّد، فدفن فى دار من دور الإمارة. فلمّا صار الأمر إلى المأمون أرسل إلى ابن له:
- «حوّل أباك من دارى.» فنبش وحوّل.
استعلام الرشيد يحيى بن خالد فى عبد الملك بن صالح
وكان الرشيد بعث فى بعض أيّامه إلى يحيى بن خالد:
- «أنّ عبد الملك بن صالح أراد الخروج علىّ ومنازعتي فى الملك، وقد صحّ عندي ذلك، فأعلمنى ما عندك فيه، فإنّك إن صدقتني أعدتك إلى حالك.» فقال:(3/547)
- «والله يا أمير المؤمنين، ما اطّلعت من عبد الملك على شيء من هذا، ولو اطّلعت عليه لكنت صاحبه دونك لأنّ ملك كان ملكي، وسلطانك كان سلطاني والخير والشرّ كان فيه علىّ، فكيف يجوز لعبد الملك أن يطمع فى ذلك منّى، وهل كنت إذا فعلت ذلك به يفعل بى أكثر من فعلك بى أعيذك [582] بالله أن تظنّ بى هذا الظنّ. ولكنّه كان رجلا محتملا يسرّنى أن يكون فى أهلك مثله فولّيته لما أحمدت من مهذبه، وملت إليه لأدبه واحتماله.» قال: فلمّا أتاه الرسول بهذا، أعاده إليه، فقال:
- «إن أنت لم تقرّ عليه قتلت الفضل ابنك.» فقال له: «أنت مسلّط علينا فافعل ما أردت على أنّه إن كان من هذا الأمر شيء فالذنب فيه لى، فما يدخل الفضل فى هذا.» فقال الرسول للفضل:
- «قم، فإنّه لا بدّ لى من إنفاذ أمر أمير المؤمنين فيك.» فلم يشكّ أنّه قاتله، فودّع أباه وقال:
- «ألست راضيا؟» قال: «بلى، فرضي الله عنك.» ففرّق بينهما ثلاثة أيّام فلمّا لم يجد عنده فى ذلك شيئا، جمعهما كما كانا.
وكان يأتيهم منه أغلظ رسائل لما كان أعداؤهم يقرفونهم به.
أسئلة وأجوبة بين الرشيد وعبد الملك بن صالح
وكان عبد الملك حاضر الجواب، جيّد الرويّة، وهو الذي قال للرشيد وقد مرّ به بمنبج [1] مستقر عبد الملك. فسأله:
__________
[1] . منبج: بلد قديم كبير واسع، بينه وبين الفرات ثلاثة فراسخ وإلى حلب عشرة فراسخ (مراصد الإطلاع) .(3/548)
- «أهذا منزلك؟» قال: «هو لك يا أمير المؤمنين ولى بك.» قال: «كيف هو؟» قال: «دون بناء أهلى، وفوق منازل منبج.» قال: «كيف ليلها.» قال: «سحر كلّه.»
انتقاض الصلح بين المسلمين والروم
وفى هذه السنة انتقض الصلح بين المسلمين وبين الروم [583] لأنّ ملك الروم الذي كان صالح المسلمين على الجزية وحمل مال للصلح قتل وملك الروم نقفور.
وكان نقفور هذا من أولاد جفنة من غسّان، فلمّا ملك واستوسقت له الأمور، كتب إلى الرشيد:
- «من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب [1] أمّا بعد، فإنّ الملك الذي كان قبلي كان يحمل إليك من أمواله ما كنت حقيقا بحمل أمثاله إليه، فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قبلك من أمواله وافتد نفسك بما تقع به المصادرة لك وإلّا فالسيف بيننا وبينك.» فلمّا قرأ الرشيد الكتاب، استفزّه الغضب حتّى لم يمكن أحدا [2] أن ينظر إليه دون أن يخاطبه، وتفرّق جلساؤه خوفا من زيادة قول يكون منهم، واستعجم
__________
[1] . العرب: فى الأصل: المغرب. وهو خطأ وما أثبتناه من آوالطبري (11: 695) .
[2] . فى الأصل: أحد. فى آوالطبري (11: 695) : أحدا.(3/549)
الرأى على الوزير أن يشير عليه أو يتركه برأيه.
فدعا هارون بدواة وكتب على ظهر الكتاب:
- «بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه دون ما تسمعه والسلام.» ثمّ شخص من يومه وسار حتّى أناخ بباب هرقلة، ففتح وغنم واصطفى وأفاد [584] واصطلم وخرّب وأحرق. فطلب نقفور الموادعة على خراج يؤدّيه كل سنة فأجابه إلى ذلك. فلمّا رجع من غزوته وصار بالرقّة نقض نقفور العهد وخان الميثاق، وكان البرد شديدا، فيئس نقفور من رجعته إليه، وجاء الخبر بارتداده عمّا أخذ عليه، فما تهيّأ لأحد إخباره بذلك إشفاقا عليه وعلى أنفسهم من الكرّة فى مثل تلك الأيّام، فاحتيل له بشاعر فقال:
نقض الّذى أعطيته نقفور ... وعليه دائرة البوار تدور
فى أبيات كثيرة. فلمّا فرغ من إنشاده، قال:
- «أو قد فعل نقفور؟» وعلم أنّ الوزراء قد احتالوا له فى ذلك. فكّر راجعا فى أشدّ محنة وأعظم كلفة حتّى أناخ بفنائه فلم يبرح حتّى رضى وبلغ ما أراد.
قتل عثمان بن نمهيك
وفى هذه السنة قتل إبراهيم بن عثمان بن نهيك.(3/550)
ذكر السبب فى ذلك كان إبراهيم بن عثمان كثيرا ما يذكر جعفر بن يحيى والبرامكة، فيبكي جزعا عليهم وحبّا لهم [1] إلى أن خرج من حدّ البكاء ودخل فى باب طالبي الثأر والإحن [2] ، فكان إذا خلا [585] بجواريه وشرب وقوى عليه النبيذ قال:
- «يا غلام سيفي ذو المنيّة.» فيجيئه غلامه بالسيف، ثمّ يقول:
- «وا جعفراه، وا سيّداه، والله لأقتلنّ قاتلك ولأثأرنّ برمك.» فلمّا كثر هذا من فعله جاء ابنه عثمان إلى الفضل بن الربيع، فأخبره بقوله.
فدخل الفضل، فأخبر الرشيد فقال:
- «هاته.» [3] فدخل، فقال:
- «ما الذي قال الفضل عنك؟» فأخبره بقول أبيه وفعله.» فقال له الرشيد:
- «فهل سمع هذا أحد معك؟» قال: «نعم، خادمه نوال.» فدعا خادمه سرّا، فسأله، فقال:
- «قد قال غير مرّه.» فقال الرشيد:
- «ما يحلّ لى أن أقتل وليّا من أوليائى بقول غلام وخصىّ لعلّهما تواطئا
__________
[1] . وفى مط: الأجر.
[2] . انظر الطبري (11: 699) .
[3] . فى الطبري: (11: 699) : «أدخله» بدل «هاته» .(3/551)
على ذلك بمنافسة الابن على المرتبة، ومعاداة الخادم، وملله طول الصحبة.» فترك ذاك أيّاما، ثمّ أراد أن يمتحن إبراهيم بن عثمان بمحنة تزيل الشكّ عن قلبه، والخاطر عن وهمه. فدعا الفضل بن الربيع فقال:
- «إنّى أريد محنة إبراهيم بن عثمان فيما رفع ابنه عليه، فإذا رفع الطعام فادع بالشراب وقل له: أحبّ أمير المؤمنين أن ينادمك إذ كنت منه بالمحلّ [586] الذي أنت به، فإذا شرب، فانصرف وخلّنى وإيّاه.» ففعل ذلك الفضل بن الربيع، وقعد إبراهيم للشرب، ثمّ وثب حين وثب الفضل للقيام، فقال له الرشيد:
- «مكانك يا إبراهيم.» فقعد، فلمّا طابت نفسه، أومأ الرشيد إلى الغلمان، فتنحّوا عنه، ثمّ قال:
- «يا إبراهيم، كيف أنت وموضع السرّ منك؟» قال: «يا سيّدى، إنّما أنا أدون عبيدك وأطوع خدمك.» قال: «إنّ فى نفسي أمرا من الأمور أريد أن أودعكه، وقد ضاق صدري به وأسهرت [1] له ليلى.» قال: «يا سيّدى، إذا لا يرجع عنّى إليك أبدا، أخفيه عن جيبي ونفسي.» قال: «ويحك، إنّى قد ندمت على قتل جعفر بن يحيى ندامة ما أحسن أن أصفها، فوددت أنّى خرجت من ملكي وأنّه كان بقي لى، [2] فما وجدت طعم النوم منذ فارقته ولا لذّة العيش منذ قتلته.» قال: فلمّا سمعها إبراهيم أسبل دموعه وأذرى عبرته ولم يملك نفسه وقال:
- «رحم الله أبا الفضل وتجاوز عنه، والله يا سيّدى، لقد أخطأت فى قتله
و
__________
[1] . الضبط من الطبري (11: 700) .
[2] . انظر الطبري (11: 700) .(3/552)
أوطئت العشوة فى أمره ولن يوجد فى الدنيا مثله، وقد كان منقطع القرين زينا فى الناس أجمعين.» فقال الرشيد:
- «قم عليك لعنة الله يا بن الفاجرة. [587] فقام ما يعقل ما يطأ، فانصرف إلى أمّه وقال:
- «يا أمّ، ذهبت والله نفسي.» قالت: «كلّا إن شاء الله، وما ذاك يا بنىّ؟» قال: «إنّ الرشيد امتحنني محنة. والله ولو كانت لى ألف نفس لم أنج بواحدة منها.» فما كان بين هذا وبين أن أدخل عليه فضرب بالسيف إلّا ليال وقتله. [1]
ثمّ دخلت سنة ثمان وثمانين ومائة
ولم يجر فيها ما يثبت.
ودخلت سنة تسع وثمانين ومائة. شخوص الرشيد إلى الري وسببه
وفى هذه السنة شخص الرشيد إلى الرىّ، وكان سبب ذلك أنّ الرشيد كان استشار يحيى فى تولية علىّ بن عيسى بن ماهان، فأشار عليه ألّا يفعل، فإنّه غشوم، فخالفه الرشيد وولّاه إيّاها. فلمّا شخص علىّ بن عيسى إليها، ظلم الناس وعسف عليهم وجمع مالا جليلا، ووجّه إلى هارون منها هدايا لم ير
__________
[1] . والعبارة فى الطبري (11: 701) هكذا: فما كان بين هذا وبين أن دخل عليه ابنه فضربه بسيفه حتى مات إلّا ليال قلائل.(3/553)
مثلها قطّ من الخيل والرقيق والثياب والمسك والأموال. فقعد هارون بالشماسيّة على دكّان مرتفع حين وصل إليه ما بعث به علىّ إليه، وأحضرت تلك الهدايا فعرضت عليه فعظمت فى عينه وجلّ قدرها عنده وإلى جانبه يحيى بن خالد، فقال له:
- «يا با علىّ، [588] هذا الذي كنت تشير علينا إلّا نولّيه هذا الثغر، فقد خالفناك فيه، فكان فى خلافك البركة- وهو كالمازح معه وكان إذ ذاك على مرتبته الجليلة وموضعه اللطيف- فقد ترى الآن ما صحّ من رأينا فيه وفال [1] من رأيك.» فقال يحيى:
- «يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداءك أنا وإن كنت أحبّ أن أصيب فى رأيى وأوّفق فى مشورتي، فأنا أحبّ مع ذلك أن يكون رأى أمير المؤمنين أعلى، وفراسته أثقب، وعلمه أكثر من علمي، ومعرفته فوق معرفتي، وما أحسن هذا وأكثره إن لم يكن وراءه ما يكره أمير المؤمنين، وما أسأل الله أن يعيذه من سوء عاقبته وتباع مكروهه.» قال: «وما ذاك؟» قال: «ذاك أنّى أحسب هذه الهدايا ما اجتمعت له حتّى ظلم فيها الأشراف وأخذ أكثرها ظلما وتعدّيا، ولو أمرنى أمير المؤمنين لأتيته بأضعافها الساعة من بعض تجّار الكرخ.» قال: «وكيف ذاك؟» قال: «قد ساومنا عونا على السفط الذي جاءنا به من الجوهر، فأعطيناه به سبعة آلاف ألف فأبى أن يبيعه. فابعث إليه الساعة بحاجبى، فأمر أن يردّه إلينا
__________
[1] . فال رأيه: أخطأ وضعف.(3/554)
لنعيد فيه نظرنا فإذا جاء به جحدناه وربحنا سبعة آلاف [589] ألف، ثمّ نفعل هذا بتاجرين من كبار التّجار، وعلى أنّ هذا أسلم عاقبة وأستر أمرا من فعل علىّ بن عيسى فى هذه الهدايا بأصحابها، فأجمع لأمير المؤمنين فى ثلاث ساعات أكثر من قيمة هذه الهدايا بأهون سعى وأيسر أمر وأجمل جباية كما جمع علىّ فى ثلاث سنين.» فوقرّت فى نفس الرشيد، وأمسك عن ذكر علىّ بن عيسى، فلمّا عاث علىّ بن عيسى بخراسان ووتر أشرافها فأخذ أموالهم واستخفّ برجالهم، خفّت رجال من كبرائها إلى الرشيد، وكتبت جماعة من كورها إلى أصحابها وقراباتها ببغداد، تشكو سوء سيرته وخبث طعمته ورداءة مذهبه وتسأل أمير المؤمنين أن يبدلها به من أحبّ من كفاته وأنصاره وأبناء دولته وقوّاده.
فدعا يحيى بن خالد، وشاوره فى أمر علىّ بن عيسى وفى صرفه وقال:
- «أشرّ علىّ برجل ترضاه لذلك الثغر يصلح ما أفسد الفاسق، ويرتق ما فتق.» فأشار عليه بيزيد بن مزيد، فلم يقبل مشورته.
ثمّ دخلت سنة تسعين ومائة
ظهور رافع بن الليث بسمرقند مخالفا هارون
وفى هذه السنة ظهر رافع بن الليث بن نصر بن سيّار بسمرقند مخالفا هارون [590] وخالعا له، ونزع يده من طاعته.
ذكر السبب فى ذلك كان يحيى بن الأشعث بن يحيى الطائي تزوّج بخراسان بنتا لعمّه، وكانت(3/555)
ذات يسار [1] ، فأقام بمدينة السلام وتركها بسمرقند وبلغها أنّه قد اتّخذ أمّهات أولاد، وطال عليها أمره، فالتمست شيئا للتخلّص منه، فعىّ عليها وبلغ رافعا خبرها، فطمع فيها وفى مالها، فدسّ إليها من قال لها: إنّه لا سبيل لها إلى التخلّص من صاحبها إلّا أن تشرك بالله وتحضر لذلك قوما عدولا وتكشف شعرها بين أيديهم، ثمّ تتوب فتحلّ للأزواج، ففعلت ذلك وتزوّجها رافع، وبلغ الخبر يحيى بن الأشعث فرفع ذلك إلى الرشيد، فكتب إلى علىّ بن عيسى يأمره أن يفرّق بينهما وأن يعاقب رافعا بجلد الحدّ ويقيّده، ثمّ يطوف به مدينة سمرقند مقيّدا على حمار حتّى يكون عظة لغيره.
فدرأ سليمان بن حميد الأزدى عنه الحدّ وحمله على حمار مقيّدا حتّى طلّقها، ثمّ حبسه فى حبس سمرقند، فهرب من [591] الحبس ليلا من عند حميد بن المسيح وهو يومئذ على شرطة سمرقند، فلحقّ بعلىّ بن عيسى ببلخ فطلب الأمان فلم يجبه علىّ إليه وهمّ بضرب عنقه، فكلّمه فيه ابنه عيسى بن علىّ، وجدّد طلاق المرأة، وإذن له فى الانصراف إلى سمرقند، فانصرف إليها.
ووثب بسليمان بن حميد عامل علىّ بن عيسى فقتله. فوجّه إليه علىّ بن عيسى ابنه، فمال الناس إلى سباع بن مسعدة، فوثب على رافع فقيّده، واجتمع الناس عليه فقيّدوه ورأسوا رافعا وبايعوه، وطابقه من كان بوراء النهر، ووافاه عيسى بن علىّ بن عيسى، فلقيه رافع، فهزمه ثمّ قتله، فأخذ علىّ بن عيسى فى فرض الرجال والتأهّب للحرب.
فتح الرشيد هرقلة بأرض الروم
وفى هذه السنة فتح الرشيد هرقلة بأرض الروم وكان دخلها فى مائة ألف
__________
[1] . يسار. كذا فى الأصل. ما فى الطبري (11: 707) : لسان. وفى حواشيه: يسار.(3/556)
وخمسة وثلاثين ألف مرتزق سوى الأتباع وسوى المطوّعة ومن لا ديوان له. ووجّه داود بن عيسى بن موسى سائحا فى أرض الروم فى سبعين ألفا، وأخرب هارون الرشيد هرقلة وسبى أهلها بعد مقام ثلاثين يوما عليها، وولّى حميد بن معيوف سواحل بحر الشام [592] إلى مصر فبلغ حميد قبرس، فهدم وحرّق وسبى من أهلها ستّة عشر ألفا فأقدمهم الرافقة فتولّى بيعهم أبو البختري [1] القاضي، فبلغ أسقف قبرس ألفى دينار، وبعث نقفور إلى الرشيد بالخراج والجزية عن رأسه وولىّ عهده وبطارقته وأهل بلده خمسين ألف دينار، منها عن رأسه أربعة دنانير، وعن رأس ابنه دينارين، وعن الباقين على حسب مراتبهم.
كتاب نقفور لهارون فى جارية من سبى هرقلة
وكتب نقفور مع بطريق من بطارقته فى جارية من سبى هرقلة كتابا نسخته:
- «لعبد الله هارون أمير المؤمنين من نقفور ملك الروم، سلام عليك، أمّا بعد، أيّها الملك، إنّ لى إليك حاجة لا تضرّك فى دينك ولا دنياك، هيّنة يسيرة أن تهب لابني جارية من بنات أهل هرقلة قد كنت خطبتها على ابني، فإن رأيت أن تسعفنى بحاجتي فعلت، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.» واستهداه طيبا وسرادقا من سرادقاته.
فأمر الرشيد بطلب الجارية فأحضرت وزيّنت وأجلست على فراش فى
__________
[1] . كذا فى الأصل وآ والطبري (11: 709) : ابو البختري. وفى مط: البختري.(3/557)
مضربه الذي كان نازلا فيه، وسلّمت الجارية والمضرب بما فيه من الآنية والمتاع إلى رسول نقفور وبعث إليه أيضا بما سأل من [593] العطر، وبعث إليه من التمور والزبيب والأخبصة والترياق. فسلّم ذلك إليه رسول الرشيد فأعطاه نقفور وقر دراهم إسلاميّة وحمله على بزدون كميت، فكان مبلغ المال خمسين ألف درهم، ومائة ثوب ديباج، ومائتي ثوب بزيون، واثنى عشر بازيّا، وأربعة أكلب من كلاب الصيد، وثلاثة براذين.
وكان نقفور اشترط ألّا يخرّب ذا الكلاع، ولا صملّة، ولا حصن سنان، واشترط الرشيد عليه إلّا يعمر هرقلة، وعلى أن يحمل نقفور ثلاثمائة ألف دينار. [1] تمّت المجلّدة الثالثة والحمد لله ربّ العالمين وصلواته على محمّد النبىّ وآله الطاهرين أجمعين.
ويتلوه فى المجلدة الرابعة: «ثمّ دخلت سنة إحدى وتسعين ومائة.» فرغ من انتساخ هذه المجلّدة محمّد بن علىّ بن محمّد أبو طاهرين البلخي فى جمادى الآخرة سنة خمس وخمسمائة.
__________
[1] . انظر الطبري (11: 711) .(3/558)
فرغ من انتساخه الحسن بن منصور فى جمادى الآخرة سنة سبع وثلاثين [1] .
فرغ من انتساخه ابنه محمّد بن الحسن بن منصور ثامن عشر من جميدى (كذا) الآخرة سنة إحدى وخمسين وخمسمائة.
__________
[1] . ثلاثين: لم نتأكّد من صحّة قراءة الكلمة، فإنّها غير واضحة فى الأصل.(3/559)
[المجلد الرابع]
[تتمة تجارب العصر العباسي]
[تتمة خلافة هارون الرشيد]
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله واهب العقل
ثمّ دخلت سنة إحدى وتسعين ومائة
وفيها قوى رافع بن الليث واشتدّت شوكته
وقد ذكرنا قبل هلاك [1] ابن علىّ بن عيسى: ولمّا قتل ابنه، خرج من بلخ حتّى أتى مرو، مخافة أن يصير إليها رافع بن الليث فيستولى عليها. وكان ابنه عيسى دفن فى بستان داره ببلخ مالا عظيما قيل: إنّه كان ثلاثين ألف ألف درهم، ولم يعلم بها علىّ بن عيسى ولا اطّلع على ذلك إلّا جارية كانت له.
فلمّا شخص علىّ عن بلخ أطلعت الجارية على ذلك بعض الخدم، وتحدّث به الناس، فاجتمع قراء أهل بلخ ووجوهها فدخلوا البستان وانتهبوه وأباحوه للعامّة [2] وبلغ الرشيد الخبر فقال:
- «خرج علىّ عن بلخ عن غير أمرى وخلّف مثل هذا المال وهو يزعم أنّه قد أفضى إلىّ حلى نساءه فيما أنفق على محاربة رافع.» فعزله عند ذلك وولّى هرثمة بن أعين واستصفى أموال علىّ بن عيسى، فبلغت ثمانين ألف ألف. ووردت خزائنه [2] التي أخذت على الرشيد، فكانت على ألف وخمسمائة بعير.
__________
[1] . انظر الطبري (11: 713) .
[2] . فى الأصل وآ: العامّة. فى مط: وأباحوا العامّة. وفى الطبري (11: 713) : للعامّة.(4/5)
وكان علىّ بن عيسى قد أذلّ جبابرة أهل خراسان وأشرافهم، حتّى خرج منهم مثل الحسن بن مصعب إلى مكّة واستجار بالرشيد من علىّ بن عيسى فأجاره، وأظهر مثل هذا هشام بن فرخسروا، [1] أنّ الفالج قد أصابه حتّى أمكنه لزوم منزله. وكانت كتب حمويه وردت على هارون: أنّ رافعا لم يخلع ولا نزع السواد ولا من شايعه، وأنّ غايتهم عزل علىّ بن عيسى الذي سامهم المكروه.
ولمّا عزم الرشيد على عزل علىّ بن عيسى دعا هرثمة بن أعين مستخليا [2] به فقال:
- «إنّى لم أشاور فيك أحدا، ولم أطلعه على سرّى فيك غيرك، وقد اضطرب علىّ ثغر المشرق وأنكر أهل خراسان أمر علىّ بن عيسى إذ خالف عهدي ونبذه وراء ظهره، وقد كتب يستمدّ ويستجيش وأنا كاتب إليه فأخبره أنّى أمدّه بك وأوجّه إليه معك من الأموال والسلاح والقوّة والعدّة ما يطمئن إليه قلبه، وتتطلّع إليه نفسه، وأكتب معك كتابا بخطّى فلا تفضّنّه [3] ولا تطلعنّ فيه حتّى تصير إلى مدينة نيسابور، فإذا نزلتها فاعمل بما فيه وامتثله، ولا تجاوزه إن شاء الله.
- «وأنا موجّه معك رجاء الخادم بكتاب أكتبه إلى علىّ بن عيسى بخطّى ليتعرّف ما يكون منك ومنه ومورّ عنه [3] أمر علىّ فلا تظهرنّه عليه ولا تعلمنّه ما عزمت عليه فيه وتأهّب للمسير
__________
[1] . كذا فى الأصل وآ: فرخسروا. فى الطبري (11: 714) : فرخسرو.
[2] . فى الأصل: مستحلبا به. وما أثبتناه يؤيّده مط والطبري (11: 715) .
[3] . فى آومط: ومود عنه. فى الطبري (11: 716) : وهوّن.(4/6)
واظهر لخاصّتك وعامتك أنّى أوجّهك مددا لعلىّ بن عيسى وعونا له.» ثمّ كتب إلى علىّ بن عيسى كتابا بخطّه نسخته:
- «بسم الله الرحمن الرحيم يا ابن الزانية، رفعت من قدرك ونوّهت باسمك وأوطأت سادة العرب عقبك وجعلت أبناء ملوك العجم خولك، وكان من جزائي أن خالفت عهدي ونبذت وراء ظهرك أمرى، حتّى عشت فى الأرض وظلمت الرعيّة وأسخطت الله عزّ وجلّ وخليفته بسوء سيرتك ورداءة طعمتك وظاهر [1] خيانتك. وقد ولّيت هرثمة بن أعين مولاي ثغر خراسان وأمرته أن يشدّد وطأته عليك وعلى ولدك وكتّابك وعمّالك ولا يترك وراء ظهورهم درهما واحدا ولا حقّا لمسلم ولا معاهد إلّا أخذكم به، [4] حتّى تردّه إلى أهله، فإن أبيت ذلك وأباه ولدك وعمّالك، فله أن يبسط عليكم العذاب ويصبّ عليكم السياط ويحلّ بكم ما يحلّ بمن نكث وغيّر وبدّل وخالف وظلم وتعدّى وغشم، انتقاما لله بادئا، ولخليفته ثانيا، وللمسلمين والمعاهدين ثالثا فلا تعرّض نفسك للّتى لا سوى [2] لها، واخرج ممّا يلزمك طائعا أو مكرها.» وكتب عهد هرثمة بخطّه:
__________
[1] . فى الأصل غموض. وما أثبتناه يؤيّده آوالطبري (11: 716) .
[2] . فى الأصل: شوى (بالشين المعجمة) . فى مط وآ: سوى (القصد والاعتدال) .(4/7)
- «هذا ما عهد هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى هرثمة بن أعين حين ولّاه ثغر خراسان وأعماله وخراجه. أمره بتقوى الله وطاعته ورعاية أمر الله وموافقته وأن يجعل لكتاب الله إماما فى جميع ما هو بسبيله فيحلّ حلاله ويحرّم حرامه ويقف عند متشابهه ويسأل عنه أولى الفقه فى دين الله وأولى العلم بكتاب الله أو يردّه إلى إمامه ليريه الله فيه رأيه ويعزم له على رشده.
- «وأمره أن يستوثق من الفاسق علىّ بن عيسى وولده وعمّاله وكتّابه وأن يشدّ عليهم وطأته ويحلّ بهم سطوته ويستخرج منهم كلّ مال يصحّ عليهم من خراج أمير المؤمنين وفيء المسلمين، فإذا [5] استنظف ما عندهم وقبلهم، نظر فى حقوق المسلمين والمعاهدين وأخذهم بحقّ كلّ ذى حقّ، حتّى يردّوه إليه، فإن ثبت قبلهم حقّ لأمير المؤمنين وحقوق للمسلمين فدافعوا بها أو جحدوها، أن يصبّ عليهم سوط عذاب الله وأليم نقمته، حتّى يبلغ بهم الحال التي أن تخطّاها بأدنى أدب، تلفت أنفسهم وبطلت أرواحهم. فإذا خرجوا من حقّ كلّ ذى حقّ أشخصهم كما يشخص العصاة من خشونة الوطأ وخشونة المطعم والمشرب وغلظ الملبس مع الثقات من أصحابه إلى باب أمير المؤمنين إن شاء الله.
- «فاعمل يا أبا حاتم بما عهدت إليك فإنّى آثرت الله وديني على هواى وإرادتى فكن كذلك وعليه فليكن عملك وأمرك ودبّر فى أعمال الكور التي تمرّ بها وعمّالها فى صعودك بما لا يستوحشون معه إلى أمر يريبهم وظنّ يرعبهم وابسط من آمال أهل ذلك الثغر ومن أمانيهم وعذرهم ثمّ اعمل بما يرضى الله(4/8)
فيك وخليفته ومن ولّاك الله أمره إن شاء الله.
- «هذا عهدي وكتابي بخطّى وأنا أشهد الله وملائكته وحملة عرشه وسكّان سماواته وكفى [6] بالله شهيدا. وكتب أمير المؤمنين بخطّه ولم يحضره إلّا الله وملائكته.» ثمّ أمر أن تكتب كتب هرثمة إلى علىّ بن عيسى فى معاونته وتقويته وتقوية أمره والشدّ على يديه، فكتبت وظهر الأمر بها.
ثمّ دخلت سنة إثنتين وتسعين ومائة
وفيها شخص هرثمة بن أعين إلى خراسان واليا عليها
وكان ذلك فى اليوم السادس من اليوم الذي كتب له الرشيد عهده، وشيّعه الرشيد وأوصاه بما احتاج إليه. فمضى وبعث إلى علىّ بن عيسى فى الظاهر أموالا وسلاحا وخلعا وطيبا، حتّى إذا نزل نيسابور جمع جماعة من نصحاء أصحابه وأولى السنّ والتجربة منهم فدعا كلّ رجل منهم، سرّا وخلا به، ثمّ أخذ عليهم العهود والمواثيق أن يكتموا أمره ويطووا سرّه. وولّى كلّ رجل كورة على نحو ما كانت منزلته عنده، وأمر كلّ رجل منهم بعد أن دفع [1] إليه عهده بالمصير إلى عمله الذي ولّاه على أخفى الحالات وأسترها والتشبّه بالمجتازين فى ورودهم إلى الوقت الذي سمّاه لهم. ثمّ مضى حتّى إذا صار من مرو على مرحلة، دعا جماعة من ثقات [7] أصحابه وكتب لهم أسماء ولد علىّ بن عيسى وأهل بيته وكتّابه وغيرهم فى رقاع، ودفع إلى كلّ رجل منهم رقعة باسم من وكّله بحفظه إذا هو دخل عليه مرو، خوفا من أن يهربوا
__________
[1] . دفع: كذا فى آومط والطبري (11: 719) . ما فى الأصل مطموس.(4/9)
إذا ظهر أمره.
ثمّ وجّه إلى علىّ بن عيسى: إن أحبّ الأمير- أكرمه الله- أن يوجّه ثقاته لقبض ما معى من أمواله فعل فإنّه إذا تقدّمنى المال كان أروح لقلبي وأفتّ فى عضد أعدائه وأجدر ألّا يشيع به الخبر. وأيضا فإنّى لا آمن عليه إن خلّفته وراء ظهري أن يطمع فيه بعض من شئموا [1] نفسه أن يقتطع بعضه ويغتنم غفلتنا عند دخول المدينة.
فوجّه علىّ بن عيسى جهابذته وقهارمته لقبض المال وقال هرثمة لخزّانه:
- «اشغلوهم هذه الليلة وأعلّوا عليهم بعلّة تقرب من أطماعهم وتزيل الشكّ عن قلوبهم.» ففعلوا وقال لهم الخزّان: حتّى نؤامر أبا حاتم فى دوابّ المال والبغال.
ثمّ ارتحل نحو مدينة مرو، فلمّا صار منها على ميلين تلقّاه علىّ بن عيسى فى ولده وأهل بيته وقوّاده بأحسن لقاء وآنسه. فلمّا وقعت [8] عين هرثمة عليه، ثنى رجله لينزل عن دابّته فصاح به علىّ:
- «والله لئن نزلت لأنزلنّ.» فثبت على سرجه ودنا كلّ واحد من صاحبه فاعتنقا وسارا وعلىّ يسأل هرثمة عن أمر الرشيد وحاله وهيأته وحال خاصّته وقوّاده وأنصار دولته، وهرثمة يجيبه حتّى إذا صار إلى قنطرة لا يجوزها إلّا فارس. فحبس هرثمة لجام دابّته وقال لعلىّ:
- «سر على بركة الله.» فقال علىّ:
- «لا والله لا أفعل حتّى تمضى أنت.»
__________
[1] . كذا فى الأصل: شئموا. وفى مط: سئموا (بالسين المهملة) . وشئموا لغة فى شأموا.(4/10)
فقال: «إذا والله لا أمضى وأنت الأمير وأنا الوزير.» فمضى وتبعه هرثمة حتّى دخلا مرو، وصار إلى منزل علىّ ورجاء الخادم ما يفارق هرثمة فى ليل ولا نهار ولا ركوب ولا جلوس. فدعا علىّ بالغداء فطعما، وأكل رجاء الخادم معهما، وكان عازما ألّا يأكل معهما. فغمزه هرثمة فلمّا رفع الطعام قال له علىّ:
- «قد أمرت أن يفرّغ لك قصر على الماشان [1] فإن رأيت أن تصير إليه فعلت.» فقال له هرثمة:
- «إنّ معى من الأمور ما لا يحتمل تأخير المناظرة فيها.» ثمّ أومأ إلى رجاء وقال:
- «ادفع [9] الكتاب إليه.» فأخرج رجاء كتاب الرشيد فدفعه إليه وأبلغه رسالته. فلمّا فضّ الكتاب فنظر فى أوّل حرف فيه، سقط فى [2] يده وعلم أن قد حلّ به ما يحذره. ثمّ أمر هرثمة بتقييده وتقييد ولده وكتّابه وعمّاله، وقد كان حصّل عنده ثقاته وجهابذته وخزّانه، ووكّل بهم- كما حكينا- قبل دخوله مرو، وكان معه رجل يصحبه وقر قيود وأغلال [3] فلمّا استوثق منه صار إلى المسجد، الجامع فخطب وبسط من آمال الناس وأخبر أنّ أمير المؤمنين ولّاه ثغورهم لمّا انتهى إليه من سوء سيرة الفاسق علىّ بن عيسى، وما أمرنى به وفى أعوانه من كلّ ما سأنتهى إليه، ومن إنصاف العامّة والخاصّة وحملهم على
__________
[1] . الماشان كذا فى آومط والطبري (11: 720) . والماشان نهر يجرى فى وسط مدينة مرو، عليه محلّة، وهم يقولون بالجيم (مراصد الاطلاع) .
[2] . فى آ، والأصل: من يده. والتصحيح من الطبري (11: 721) .
[3] . فى آ: وكان رحل معه وقر قيود وأغلال. فى الطبري (11: 721) : ... ومعه ...(4/11)
الحقّ، وأمر بقراءة عهده عليهم. فأظهر الناس السرور بذلك وانفسحت آمالهم وعظم رجاؤهم وعلت بالتكبير والتهليل أصواتهم وكثر الدعاء لأمير المؤمنين بالبقاء وحسن الجزاء.
ثمّ انصرف ودعا بعلىّ بن عيسى وولده وعمّاله وكتّابه فقال:
- «اكفوني مؤنكم [1] واعفونى من الإقدام بالمكروه [10] عليكم.» ونادى فى أصحاب ودائعهم ببراءة الذمّة من رجل كانت لعلىّ عنده وديعة، ولأحد من ولده أو كتّابه أو عمّاله فأخفاها ولم يظهر عليها، فأحضره الناس ما كانوا أودعوا إلّا رجلا من أهل مرو، وكان من أبناء المجوس، فإنّه لم يزل يتلطّف للوصول إلى علىّ حتّى صار إليه فأسرّ إليه وقال:
- «لك عندي مال فإن احتجت إليه حملت إليك أوّلا أوّلا وصبرت للقتل إيثارا للوفاء وطلبا للجميل من الثناء، وإن استغنيت عنه، حبسته عليك حتّى ترى فيه رأيك.» فعجب علىّ منه وقال:
- «لو اصطنعت مثلك قوما ما طمع فىّ السلطان ولا الشيطان أبدا.» ثمّ سأل عن قيمة ما عنده. فذكر أنّه أودعه مالا وثيابا ومسكا، وأنّه لا يدرى ما قيمة ذلك، غير أنّ ما أودعه بخطّه وأنّه محفوظ لم يشذّ منه شيء فقال له:
- «دعه فإن ظهر عليه، سلّمته ونجوت بنفسك وإن سلمت به رأيت فيه رأيى.» وجزاه الخير وشكر له فعله ذلك أحسن شكر، وكافأه عليه وبرّه. وكان يضرب به المثل وبوفائه. [11] فذكر أنّه لم يشذّ على هرثمة من مال علىّ
__________
[1] . فى آ، ومط والطبري (11: 721) : مئونتكم.(4/12)
بن عيسى إلّا ما كان أودعه هذا الرجل، وكان يقال له: العلاء بن ماهيار، فاستنظف هرثمة ما وراء ظهورهم حتّى حلىّ نسائهم وحتّى أنّ الرجل كان يضرب يده إلى مغابن [1] المرأة وأرفاغها، فيطلب فيها ما يظنّ أنها قد سترته.
فلمّا أحكم هذا كلّه وجّهه على بعير لا وطاء تحته، فى عنقه سلسلة وفى رجليه قيود ثقال، ما يقدر معها على نهوض واعتمال. [2] ويقال أنّه لمّا فرغ هرثمة من مطالبة علىّ بن عيسى وأولاده، أقامهم لمظالم الناس، وكان إذا برد للرجل عليه حقّ أو على أحد أولاده أو أصحابه قال:
- «اخرج للرجل من حقّه وإلّا بسطت عليك العذاب، فيقول علىّ: أصلح الله الأمير أجّلنى يوما أو يومين. فيقول: ذاك إلى صاحب الحقّ، فإن شاء فعل. فيقبل على الرجل فيقول: أترى أن تدعه؟ فإن قال: نعم قال:
فانصرف وعد إليه. فيبعث علىّ إلى العلاء بن ماهيار فيقول: صالح فلانا عنّى من كذا وكذا على كذا وكذا وعلى ما رأيت فيصالحه ويصلح أمره.
وذكر أنّه قام إلى هرثمة رجل فقال:
- «أصلح الله الأمير إنّ هذا الفاجر [12] أخذ منّى درقة [3] تبتية [4] لم يملك أحد مثلها، فاشتراها على كره منّى ولم أرد بيعها بثلاثة آلاف درهم، فأتيت قهرمانه أطلب ثمنها فلم يعطني، فأقمت حولا أنتظر ركوبه، فلمّا ركب عرضت له وصحت: أيّها الأمير، أنا صاحب الدّرقة ولم آخذ لها ثمنا إلى هذه الغاية. فقذف أمّى ولم يعطني حقّى، فخذ لى بحقّى من ماله وقذفه
__________
[1] . المغبن: كلّ مطوى من الجسد. الإبط. الرّفع: كلّ مجتمع وسخ فى الجسم.
[2] . اعتمل: اضطرب فى العمل. عمل عملا متعلّقا بنفسه. فى آ، والطبري (11: 723) : اعتماد.
[3] . الدرقة: الترس من جلود ليس فيه خشب ولا عقب.
[4] . فى الطبري (11: 723) : ثمينة.(4/13)
أمّى.» فقال: «بيّنة؟» قال: «جماعة حضروا كلامه.» فأحضرهم فشهدوا على دعواه. فقال هرثمة:
- «وجب عليك الحدّ.» قال: «ولم؟» قال: «بقذفك أمّ هذا.» قال: «من فهّمك وعلّمك هذا؟» قال: «هذا دين المسلمين.» قال: «فأشهد أنّ أمير المؤمنين قد قذفك غير مرّة ولا مرتين وأشهد أنّك قد قذفت بنيك ما لا أحصى، مرّة حاتما ومرّة أعين، فمن يأخذ لهؤلاء بحدودهم منك، ومن يأخذ من مولاك؟» قال: فالتفت هرثمة إلى صاحب الدرقة فقال:
- «أرى لك أن تطالب هذا الشيطان بدرقتك أو ثمنها، وتترك مطالبته بقذف أمّك.»
ثمّ دخلت سنة اثنتين وتسعين ومائة [13]
وفيها قدم هارون من الرقّة إلى مدينة السلام فى السفن يريد الشخوص إلى خراسان لحرب رافع واستخلف ابنه محمّدا بمدينة السلام واستخلف ابنه القاسم بالرقّة وضمّ إليه خزيمة بن خازم فأشار ذو الرئاستين على المأمون أن يطلب إلى الرشيد فى أن يشخصه معه.(4/14)
ذكر رأى سديد رءاه ذو الرئاستين
قال له: إنّ أمير المؤمنين شاخص لحرب رافع ولا يدرى ما يحدث به وخراسان ولايتك ومحمّد المقدم عليك وإنّ أحسن ما يصنع بك أن يخلعك وهو ابن زبيدة وأخواله بنو هاشم وزبيدة وأموالها [ردء له.] [1] فاطلب إليه يشخصك معه فسأله الأذن فأبى فقال له:
- «عد إليه وقل: له أنت عليل وإنّما أردت أن أخدمك ولست أكلّفك شيئا من مؤنى.» فأذن له.
ذكر منام عجيب رءاه الرشيد
قال جبرائيل بن بختيشوع: كنت مع الرشيد بالرقّة، وكنت أوّل من يدخل عليه فى كلّ غداة أتعرّف حاله فى ليلته، فإن أنكر شيئا وصفه، وربّما انبسط فحدّثنى [14] بما عمله فى ليلته ومقدار شربه وجلوسه، ويسألنى عن أخبار العامّة. فدخلت يوما فلم يرفع طرفه إلىّ، ورأيته مفكّرا مهموما، فوقفت بين يديه مليّا. فلمّا طال ذلك أقدمت عليه فقلت:
- «يا أمير المؤمنين جعلني الله فداءك، ما حالك؟ أعلّة فأخبرنى بها فلعلّ عندي دواءها، أو حادث لا يستطاع دفعه فليس إلّا التسليم، والغمّ لا درك فيه أو فتق ورد عليك فى ملكك، فلم تخل الملوك من ذلك فتروّح بالمشورة.» قال: «ويحك يا جبرائيل ليس غمّى لشيء ممّا ذكرت، لكن لرؤيا رأيتها
__________
[1] . ما بين المعقوفتين ناقص فى كلّ من الأصل وآ والطبري، أضفناه من حواشي الطبري (11: 730) .(4/15)
فى ليلتي هذه قد أفزعتنى وملأت صدري.» قلت: «فرّجت عنّى يا أمير المؤمنين.» فدنوت وقبّلت رجله وقلت:
«أهذا الغمّ كلّه لرؤيا؟ والرؤيا إنّما تكون من خاطر تقدم أو بخارات رديئة من أطعمة وأخلاط ومن تهاويل السوداء.» قال: «فأقصّها عليك: رأيت كأنّى جالس على سريري هذا، إذ بدت من تحتي ذراع أعرفها وكفّ أعرفها ولا أفهم اسم صاحبها، وفى الكفّ تربة حمراء. فقال لى قائل أسمعه ولا أرى شخصه:
«هذه التربة التي تدفن فيها.» فقلت: «وأين هي؟» قال: «بطوس. [15] وغابت اليد وانقطع الكلام وانتبهت.» فقلت: «يا سيّدى هذه والله رؤيا بعيدة ملتبسة، أظنّك أخذت مضجعك ففكّرت فى أمر خراسان وفى حروبها وما ورد عليك من انتقاض بعضها.» قال: «قد كان ذاك.» قلت: «فذلك الفكر ولّد هذه الرؤيا، ولا تحفل بها جعلني الله فداءك وأتبع هذا الهمّ سرورا يخرجه من قلبك لا يولّد علّة.» قال: فما برحت أطيّب نفسه بضروب من الحيل حتّى سلا وانبسط وأمر بإعداد ما يشتهيه وتزيّد فى ذلك اليوم فى لهوه ومرّت الأيّام فنسي ونسينا تلك الرؤيا.
ثمّ رحل الرشيد وكان اتهم هرثمة بن أعين فوجّه ابنه المأمون قبل وفاته بثلاث وعشرين ليلة ومعه عبد الله بن مالك ويحيى بن معاذ وأسد بن يزيد بن مزيد وجماعة أمثالهم وابتدأ بهارون المرض وكانت بين هرثمة وأصحاب رافع وقعة فتح فيها بخارى وأسر أخا لرافع يقال له بشير بن الليث فبعث به(4/16)
إلى الرشيد وقد بلغ الرشيد طوس.
قال: فأدخل إليه وهو على سرير فى بستان وفى يده مرآة ينظر فيها وهو يقول:
- «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» 2: 156 [16] وكأنّه كان أنكر شيئا من لونه. ثمّ رفع رأسه إلى أخى رافع وقال:
- «أما والله يا ابن اللخناء إنّى لأرجو ألّا يفوتني خامل [1] يريد رافعا كما لم تفتني.» فقال له:
- «يا أمير المؤمنين قد كنت لك حربا وقد أظفرك الله بى، فافعل ما يحبّ الله من الصلح والعفو، فلعلّ الله أن يليّن قلب رافع إذا علم أنّك قد مننت علىّ.» فغضب وقال:
- «لو لم يبق من أجلى إلّا أن أحرّك شفتي بكلمة لقلت: اقتلوه.» ثمّ دعا بقصّاب فقال له:
- «لا تشحذ مديتك، اتركها على حالها وفصّل أعضاء هذا الفاسق وعجّل، لا يحضرنّ أجلى وعضوان من أعضائه فى جسمه.» ففصّله حتّى جعله أشلاء فقال:
- «عدّوا أعضائه.» فإذا هي أربعة عشر عضوا فرفع يديه إلى السماء وقال:
- «اللهم كما مكّنتنى من ثأرك وعدوّك فبلغت فيه رضاك، فمكّنى من أخيه.»
__________
[1] . فى الأصل: حامل. فى آوالطبري (11: 734) : خامل (بالخاء المعجمة) .(4/17)
ثمّ أغمى عليه وتفرّق من حضره.
قال جبرائيل: فلمّا أفاق، ذكر تلك الرؤيا فوثب متحاملا يقوم ويسقط فاستمعنا إليه، كلّ يقول:
- «يا سيّدى ما حالك وما دهاك؟» وليس يخطر لأحد منّا تلك الرؤيا ببال فقال:
- «يا جبرائيل تذكر رؤياى بالرقّة فى طوس؟ [17] هذه طوس، وأحسبها تلك التربة.» ثمّ رفع رأسه إلى مسرور فقال:
- «جئني من تربة هذا البستان.» فمضى مسرور فأتى بالتربة فى كفّه حاسرا عن ذراعه. فلمّا نظر إليه قال:
- «هذه والله الذراع التي رأيتها فى منامي وهذه والله الكفّ بعينها وهذه والله التربة الحمراء ما حرمت [1] شيئا.» وأقبل على البكاء والنحيب. ثمّ مات بعد ثالثة، ودفن فى ذلك البستان.
وتحدّث سهل بن صاعد قال: كنت عند الرشيد فى اليوم الذي قبض فيه، مع خواصّه، وجعل يجود بنفسه ويقاسى كرب الموت، فدعا بملحفة فاحتبى بها، فنهضت فقال لى:
- «أقعد يا سهل.» فقعدت، وجعل لا يكلّمني والملحفة تنحلّ فيعيد الاحتباء بها. فلمّا طال جلوسي نهضت فقال:
- «إلى أين يا سهل؟» فقلت: «يا أمير المؤمنين ما يتسع قلبي أن أراك تعانى، من العلّة ما تعانى
__________
[1] . الضبط فى الكلمة من الأصل. ولا ضبط فى آ. فى مط: جزمت. فى الطبري (11: 737) :
خرمت (بالخاء المعجمة) .(4/18)
فلو اضطجعت يا أمير المؤمنين كان أودع لك.» قال: فضحك ضحك صحيح، ثمّ قال:
- «يا سهل، إنّى أذكر فى هذه الحال قول الشاعر:
وإنّى لمن قوم كرام تزيدهم ... شماسا وصبرا شدّة الحدثان [18]
وتوفّى ليلة الأحد غرّة جمادى الأولى، فكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة وشهرين، وكان سنّه سبعا وأربعين سنة وخمسة أشهر وأيّام، وكان جميلا وسيما جعدا قد وخطه الشيب.
ذكر بعض سيرة الرشيد ومستحسن أخباره
ذكر عن يحيى بن خالد أنّه ولّى رجلا بعض أعمال الخراج بالسواد، فدخل إلى الرشيد فودّعه وعنده يحيى وجعفر بن يحيى. فقال الرشيد ليحيى وجعفر:
- «أوصياه.» فقال له يحيى: «وفّر واعمر.» وقال له جعفر: «أنصف وانتصف.» فقال له الرشيد: «اعدل واحمل [1] .» وحكى بعض حجبة البيت، قال: لمّا حجّ الرشيد دخل الكعبة وقام على أصابعه وقال:
__________
[1] . كذا فى الأصل وآ ومط: اعدل واحمل. وما فى الطبري (11: 748) : اعدل وأحسن.(4/19)
- «يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمير الصامتين، فإنّ لكلّ مسألة منك ردّا حاضرا وجوابا عتيدا، ولكلّ صامت منك علم محيط باطن بمواعيدك الصادقة، وأياديك الفاضلة، ورحمتك الواسعة، صلّ على محمد وآله، واغفر لنا ذنوبنا وكفّر عنّا سيئاتنا، يا من لا تضرّه [19] الذنوب ولا تخفى عليه العيوب ولا تنقصه مغفرة الخطايا. يا من خشعت له الأصوات بألوان اللغات، يسألونك الحاجات، إنّ من حاجتي إليك أن تغفر لى إذا توفّيتنى وصرت فى لحدي، وتفرّق عنّى أهلى وولدي.
اللهم لك الحمد حمدا يفضل كلّ حمد كفضلك على جميع الخلق. اللهم صلّ على محمّد صلاة تكون له رضى، وصلّ على محمد صلاة تكون له حرزا، واجزه عنّا الجزاء الأوفى. اللهم أحينا سعداء وتوفّنا شهداء واجعلنا سعداء مرزوقين ولا تجعلنا أشقياء محرومين.» وذكر الفضل بن الربيع أنّ الرشيد أمره أن يحضر [1] ابن السمّاك ليعظه قال: وأحضرته واستأذنته فى الدخول إليه فقال:
- «أدخله.» فلّما دخل قال له:
- «عظني.» قال: «يا أمير المؤمنين، اتقّ الله وحده لا شريك له واعلم أنّك موقوف غدا بين يدي ربّك، ثمّ مصروف إلى إحدى منزلتين لا ثالث لهما: جنّة أو نار.» فبكى هارون حتّى اخضلّت لحيته.
__________
[1] . فى الأصل: يحضره. والهاء زائدة.(4/20)
فأقبل الفضل على ابن السمّاك فقال:
- «سبحان الله وهل يتخالج أحدا شكّ أنّ أمير المؤمنين مصروف إلى الجنّة، إن شاء الله، لقيامه بحقّ الله وعدله فى عباده وفعله.» قال: فلم يحفل بذلك ابن السمّاك [20] ولم يلتفت إليه، وأقبل على الرشيد فقال:
- «يا أمير المؤمنين إنّ هذا- يعنى الفضل بن الربيع- ليس والله معك ولا عندك فى ذلك اليوم، فاتّق الله وانظر لنفسك.» قال: فبكى هارون حتّى أشفقنا عليه، وافحم الفضل فلم ينطق بحرف.
واستدعاه يوما آخر، فبينا هو عنده إذ استسقى الرشيد ماء فلمّا حمل إليه وأهوى بالاناء إلى فيه، قال له ابن السمّاك:
- «على رسلك يا أمير المؤمنين، بقرابتك من رسول الله صلى الله عليه، لو منعت هذه الشربة بكم كنت تشترى؟» قال: «بنصف ملكي [1] .» قال: «اشرب هنّأك الله.» فلمّا شربها قال:
- «فأسألك بقرابتك من رسول الله صلى الله عليه لو منعت خروجها من بدنك بماذا كنت تشتريها؟» قال: «بجميع ملكي.» قال ابن السمّاك:
- «إن ملكا قيمته شربة ماء لجدير أن لا ينافس فيه.»
__________
[1] . الضبط من الأصل.(4/21)
فبكى هارون حتّى أشار الفضل إلى ابن السمّاك بالانصراف، فانصرف.
وذكر بعضهم أنّهم كانوا مع الرشيد بالرقّة، فخرج يوما إلى الصيد، فعرض له رجل من النسّاك، فقال:
- «يا هارون اتق الله.» فقال لإبراهيم بن عثمان بن نهيك:
- «خذ هذا الرجل إليك حتّى أنصرف.» فلمّا رجع دعا بغذائه، ثمّ أمر أن يطعم [21] الرجل من خاصّ طعامه.
فلمّا أكل وشرب دعا به فقال:
- «يا هذا أنصفنى فى المخاطبة والمسألة.» قال: «ذاك أقلّ ما تحبّ.» قال: «فأخبرنى أنا شرّ وأخبث أم فرعون؟» قال: «بل فرعون.» قال، قال:
- «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [1] .» 79: 24 وقال: «ما عَلِمْتُ لَكُمْ من إِلهٍ غَيْرِي [2] .» 28: 38 قال: «صدقت.» قال: «فأخبرني، فمن خير، أنت [3] أم موسى بن عمران؟» قال: «موسى بن عمران كليم الله وصفيّه اصطنعه لنفسه وائتمنه على خلقه.»
__________
[1] . س 79 النازعات: 24.
[2] . س 28 القصص: 38.
[3] . أنت: كذا فى الأصل وآ والطبري (11: 757) . وسياق السؤال والكلام يتطلّب «أنا.»(4/22)
قال: «صدقت أفما تعلم أنّه لمّا بعثه الله وأخاه إلى فرعون قال لهما:
فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً. 20: 44 [1] فذكر المفسرون أنّه أمرهما أن يكنّياه، وهذا وهو فى عتوّه وجبريّته على ما قد علمت، وأنا بهذه الحال الذي علمت، أؤدّى أكثر فرائض الله علىّ ولا أعبد أحدا سواه أقف عند أكثر حدوده وأمره ونهيه، فوعظتني بأغلظ الألفاظ وأبشعها وأخشن الكلام وأفظعه، فلا بأدب الله تأدّبت ولا بأخلاق الصالحين أخذت، فما كان يؤمنك أن أسطو بك، فإذا أنت قد عرضت نفسك لما كنت عنه غنيّا.» فقال له الزاهد:
- «أخطأت يا أمير المؤمنين وأنا أستغفر الله.» قال: «غفر الله لك.» [22] وأمر له بعشرين ألف درهم، فأبى أن يأخذها وقال:
- «لا حاجة لى فى المال، أنا رجل سائح.» فقال هرثمة وزجره:
- «تردّ على أمير المؤمنين، يا جاهل، صلته؟» فقال الرشيد:
- «أمسك عنه.» ثمّ قال له:
- «لم نعطك هذا المال لحاجتك إليه، ولكن من عادتنا ألّا يخاطب أحد الخليفة ليس من أوليائه ولا من أعدائه، إلّا وصله ومنحه، فاقبل من صلتنا ما شئت وضعها حيث أحببت.» فأخذ من المال ألفى درهم وفرّقها على الحجّاب ومن حضر بالباب.
__________
[1] . س 20 طه: 44.(4/23)
وحكى أنّ الرشيد قال يوما لابنه القاسم وقد دخل عليه:
- «ليت للمأمون بعض لحمك هذا.» فقال: ببعض حظّه.
وقال يوما للقاسم قبل البيعة له:
- «قد أوصيت بك الأمين والمأمون.» قال: «أما أنت يا أمير المؤمنين، فقد تولّيت النظر لهما، ووكّلت النظر لى إلى غيرك.» ومات هارون وفى بيت المال تسعمائة ألف ألف آلاف ونيّف. [1]
__________
[1] . انظر الطبري (11: 764) .(4/24)
خلافة الأمين
وكتب حمّويه [1] مولى المهدى صاحب البريد بطوس إلى سلام مولاه وخليفته ببغداد على البريد وعلى الاخبار، يعلمه وفاة الرشيد. فدخل على محمد فعزّاه وهنّأه [23] بالخلافة، وكان أوّل الناس فعل ذلك. ثمّ قدم عليه رجاء الخصّى يوم الأربعاء لأربع عشرة خلت من جمادى الآخرة وكان أنفذه صالح بن الرشيد، فانتقل محمد من قصره بالخلد إلى قصر أبى جعفر بالمدينة، وأمر الناس بالحضور ليوم الجمعة، فحضروا وصلّى بهم، ثمّ صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ونعى [2] الرشيد وعزّى نفسه والناس، ووعدهم خيرا وبسط الأمان للأسود والأبيض، وبايعه جلّة أهل بيته وخاصّته ومواليه وقوّاده.
ثمّ دخل ووكّل ببيعته على من بقي منهم عمّه [3] سليمان بن أبى جعفر.
__________
[1] . انظر الطبري (11: 764) .
[2] . فى مط: نغى (بالغين المعجمة) .
[3] . عمّه: كذا فى الأصل وآ: عمّه. فى مط: عنه: فى الطبري (11: 764) : عمّ أبيه سليمان بن أبى جعفر، فبايعهم.(4/25)
بدء الخلاف بين الأمين والمأمون
وفى هذه السنة كان بدأ الخلاف بين الأمين والمأمون وعزم كلّ واحد منهما بالخلاف على صاحبه فيما كان والدهما هارون أخذ عليهم العمل به فى الكتاب الذي ذكرناه أنّه كان كتب بينهما.
ذكر السبب الذي أوجب اختلافهما
كان الرشيد جدّد حين شخص إلى خراسان البيعة للمأمون على القوّاد الذين معه وأشهد من معه من القوّاد وسائر الناس غيرهم أنّ جميع من معه من القوّاد [24] والجند مضمومون إلى المأمون وأنّ جميع ما معه من مال وسلاح وآلة وغير ذلك للمأمون. فلمّا بلغ محمدا الأمين أنّ أباه قد اشتدّت علّته وأنّه لمآبه، [1] بعث من يأتيه بخبره فى كلّ يوم وأرسل بكر بن المعتمر وكتب معه كتبا وجعلها فى قوائم صناديق منقورة وألبسها جلود البقر وقال:
- «لا يظهرنّ أمير المؤمنين ولا أحد ممّن فى عسكره على شيء من أمرك وما توجّهت فيه ولا على ما معك ولو قتلت، حتى يموت أمير المؤمنين، فإذا مات فادفع إلى كلّ إنسان منهم كتابه.» فلمّا قدم بكر بن المعتمر طوس بلغ هارون قدومه فدعا به فسأله:
- «ما أقدمك؟» قال: «بعثني محمد لأعلم له علم خبرك وآتيه به.» قال: «فهل معك كتاب؟» قال: «لا.»
__________
[1] . فى الأصل وآ: لما به. والضبط من الطبري (11: 765) .(4/26)
فأمر بما معه، ففتّش فلم يصيبوا معه شيئا. فتهدّده بالضرب فلم يقرّ بشيء، فأمر به فحبس وقيّد. فلمّا كان فى الليلة التي مات فيها هارون أمر الفضل بن الربيع أن يصير إلى محبس بكر بن المعتمر فيقرّره، فإن أقرّ وإلّا ضرب عنقه، فصار إليه يقرّره فلم يقرّ بشيء. ثمّ غشى على هارون فصاح النساء فأمسك الفضل عن قتله وصار [25] إلى هارون ليحضره، ثمّ أفاق وهو ضعيف قد شغل عن بكر وعن غيره لحسّ الموت، ثمّ غشى عليه غشية ظنّوا أنّها هي، وارتفعت الصيحة فأرسل بكر بن المعتمر برقعة منه إلى الفضل بن الربيع يسأله ألّا يعجلوا بأمر، ويعلمه أنّ معه أشياء يحتاجون إلى علمها.
وكان بكر محبوسا عند حسين الخادم.
فلمّا توفّى هارون دعا الفضل ببكر فى الوقت والساعة فسأله عمّا عنده فأنكر أن يكون عنده، شيء وخشي على نفسه من أن يكون هارون حيّا، حتّى صحّ عنده موت هارون، وأدخله عليه فأخبره أنّ عنده كتبا من أمير المؤمنين محمد وأنّه لا يجوز له إخراجها وهو على حاله من قيوده وحبسه.
فأطلقه الفضل فأتاهم بالكتب فى قوائم المطابخ المجلّدة بجلود البقر، فدفع إلى كلّ إنسان منهم كتابه. وكان فى تلك الكتب كتاب من محمد بن هارون إلى الحسين الخادم بخطّه يأمره بتخلية سبيل بكر بن المعتمر وإطلاقه، فدفعه إليه، وكتاب إلى المأمون، فاحتبس كتاب المأمون عنده لغيبته بمرو، وأرسلوا إلى صالح بن الرشيد وكان مع أبيه بطوس [26] وكان أكبر من يحضره هارون من ولده، فأتاهم فى تلك الساعة فسألهم عن أبيه هارون فأعلموه.
فجزع جزعا شديدا، ثمّ دفعوا كتاب أخيه الذي جاء به بكر وكان الذين حضروا وفاة هارون هم الذين ولوا غسله وتجهيزه وصلّى عليه ابنه صالح.
ولمّا قرأ الذين وردت عليهم كتب محمد بطوس من القوّاد والجند وأولاد(4/27)
هارون فتشاوروا [1] فى اللحاق بمحمد وأحبّوه لأجل أهاليهم ومنازلهم.
وقال الفضل بن الربيع:
- «لا أدع ملكا حاضرا لآخر لا ندري ما يكون من أمره.» وأمر الناس الناس بالرحيل.
فوافقهم ذلك وسرّوا به وتركوا العهود التي أخذت عليهم للمأمون.
فانتهى الخبر بذلك من أمرهم إلى المأمون بمرو، فجمع من معه من قوّاد أبيه وكان فيهم عبد الله بن مالك، ويحيى بن معاذ وشبيب بن حميد بن قحطبة والعبّاس بن مسيّب بن زهير وهو على شرطته وأيّوب بن أبى سمير، ومعه من أهل بيته عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح، وذو الرئاستين عنده من أعظم الناس قدرا فشاورهم. [27]
ذكر آراء أشير بها على المأمون فى تلك الحال
فأشار عليهم أكثرهم أن يلحقهم بنفسه فى ألفى فارس جريدة، فيردّهم، فعمل على ذلك وسمّى له قوما فدخل عليه ذو الرئاستين فقال له:
- «إن فعلت ما أشاروا به عليك جعلك هؤلاء هدية إلى محمد، ولكن الرأى أن تكتب إليهم كتابا، وتوجّه إليهم رسول فتذكّرهم البيعة، وتسألهم الوفاء وتحذّرهم الحنث، وما يلزمهم فى ذلك فى الدين والدنيا.» وقال: قلت له:
- «إنّ كتابك ورسلك تقوم مقامك، فتستبرئ ما عند القوم وتوجّه سهل بن صاعد- وكان على قهرمته- فإنّه يأملك ويرجو أن ينال أمله فلن يألوك نصحا، وتوجّه نوفلا الخادم مولى موسى أمير المؤمنين.»
__________
[1] . كذا فى آ، وما فى الأصل: شاوروا.(4/28)
وكان عاقلا. فكتب كتابا ووجّههما فلحقاهم بنيسابور قد رحلوا ثلاث مراحل. قال سهل بن صاعد: فأوصلت إلى الفضل بن الربيع كتابه فقال:
- «إنّما أنا واحد منهم.» قال سهل: فشدّ علىّ عبد الرحمن بن جبلة الأبناوى [1] بالرمح. فأمرّه على جبيني [2] ثمّ قال لى:
- «قل لصاحبك والله لو كنت حاضرا [28] لوضعت الرمح فى فيك. هذا جوابي.» قال ذو الرئاستين: فقلت للمأمون:
- «أعداء قد استرحت منهم ولكن افهم عنّى ما أقول لك إنّ هذه الدولة لم تكن قطّ أعزّ منها أيّام المنصور أبى جعفر، فخرج عليهم المقنّع وهو يدّعى الربوبية، وقال بعضهم طلب بدم أبى مسلم، فتضعضع له بخروجه من بخراسان، ثمّ كفاه الله المؤونة، ثمّ خرج بعده يوسف البرم، [3] وهو عند بعض المسلمين كافر، فكفاه الله المؤونة، ثمّ خرج اشادشنس يدعو إلى الكفر، فسار المهدى من الرىّ إلى نيسابور، فكفوا المؤونة، ولكن ما أصنع أكثر عليك، أخبرنى كيف رأيت الناس حين ورد عليهم خبر رافع.» قال: «رأيتهم اضطربوا اضطرابا شديدا.» قلت: «فكيف بك وأنت نازل فى أخوالك وبيعتك فى أعناقهم كيف يكون اضطراب أهل بغداد، اصبر فأنا أضمن لك الخلافة.» قال: «قد فعلت وجعلت الأمر إليك فقم به.» قال: فقلت:
__________
[1] . كذا فى الأصل. فى مط: الأناوى. وهو ساقط من آ، وليس موجودا فى الطبري (11: 773) .
[2] . كذا فى الأصل، وما فى آمهمل. فى الطبري (11: 773) : جنبي.
[3] . ما فى الأصل مهمل، ويشبه أن يكون البرمر. والضبط من الطبري (11: 773) وفى آ: الزم.(4/29)